موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام

اشارة

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني

كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

مشخصات کتاب : 4ج

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق.

2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود.

3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود.

ص :1

المجلد 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد

لسنة 2010-1660

الحسني، نبيل، 1965 - م.

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني. - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

4 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 52).

المصادر.

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق. 2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود. 3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود. 4. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - نساءه - شبهات وردود. 5. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - الأولاد - دراسة وتحقيق. 6. علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 ق. - فضائل - شبهات وردود. 7. فاطمة الزهراء (علیها السلام)، 8؟ - 11 ق. - السيرة - دراسة وتحقيق. ألف. الحلو، محمدعلي، مقدم. ب. العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. اللجنة العلمية. ج. عنون. د. عنوان: خديجة بنت خويلد أمّة جُمعت في امرأة.

4 خ 5 ح / 26/208 BP

الطبعة الأولى

1432 ه - 2011 م

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

ص:4

الإهداء

سيدي يا رسول الله: سلكتُ في حب بنيك كلَّ سبيل؛ ولم أزل أدعو لنصرهم بكل دليل.

سيدي: لا ينال رضا الله إلا برضا حبيبه المصطفى الرسول، وحبيبه لا يرضى إلا برضا فاطمة البتول.

سيدي: بأم فاطمة أتوسل إليك أن تُقْبِل بوجهك الكريم على خادمك، وتمن عليّ بلطفك، كما منّ سليمان على رعيته حينما قال له ربه:

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ .)

ولقد آتاك الله خير ما آتى المرسلين فخاطبك سبحانه:

(وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) .

فبالسبع المثاني والقرآن العظيم أقسم عليك، وبحب بني الزهراء أتوسل إليك، في قبول عملي وقضاء حاجتي، فقد أجهدني الانتظار.

خادمك وولدك نبيل

ص:5

ص:6

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1))

الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2))

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3))

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4))

إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5))

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6))

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ (7))

ص:7

ص:8

مقدمة الكتاب

اشارة

وفيها ثلاثة مسائل:

المسألة الأولى: اعتذار لابد منه

(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

«الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر بما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، جم عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها»(2).

ص:9


1- أقول: لم يكن مما عليه أصحاب المنهج البحثي التعرض إلى بيان ما عليه الباحث من عقيدة يؤمن بها كي يبدو البحث حيادياً في استدلاله وبيانه، إذ القارئ في غنى عما يعتقده الباحث. ولكن... لست الآن في هذا الموضع من الكتاب في محل استدلال أو مناقشة، وإنما كون الكتاب يتحدث عن أهم المراحل التي مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ما ملئت به هذه المراحل من أحداث كانت مفاصل في تكوين العقيدة الإسلامية فقد أصبح لزاماً علينا الحديث عن أن هذا الكتاب سيكون أولاَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحسب ما دلت عليه الآية الكريمة:(وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ .) وعليه: كان واجباً على الباحث التأدب بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلما كان لزاماً عليه التمسك بالمنهج العلمي للبحث.
2- هذا ما ابتدأت به بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم خطبتها الاحتجاجية التي ألقتها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجمع من المهاجرين والأنصار.

وصلى الله على خير الأنام ومجلي الظلام، ومنير الأفهام أبي القاسم محمد وعلى آله الهداة إلى السلام ومثبّتي الإسلام، وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد؛ لابد من تقديم الاعتذار أولاً: إلى صاحب المقام المحمود والمنزل المشهود، المحفوف بالرضوان والمجلل بأنوار الرحمان، الذي سيعطيه ربه حتى يرضى في يوم لا يبقى فيه حتى الأشقى وهو يرجو فضله وشفاعته.

سيدي يا رسول الله، أعتذر إليك إن أنا قصرت في الكتابة عن أم عيالك، وحبيبة قلبك، فخانني البيان، وأعياني النسيان، فقصرت في التتبع والمطالعة، وأسلمتني نفسي إلى الدعة والراحة، أو قادني التململ إلى التفريط في القراءة، والاسراع في الكتابة، فبدا هذا الكتاب لا يليق بشخص مولاتي خديجة.

وأعتذر ثانياً: إلى من دلني الرحمان إليهم، وألزمني الدليل إلى الاعتقاد بهم، والتمسك بحجزتهم، والممات - بلطف ربي - على دينهم، من التقصير فيما كتبت في هذه الوريقات.

وأعتذر ثالثا: من القارئ الكريم.

إن كان الكتاب لا يرقى إلى المستوى الذي يليق بهذه الشخصية، أو قد يكون مشتملاً على بيان غير وافٍ ، أو استدلال غير تامٍ ، أو نقص في التتبع، فهذا ما مكنني عليه ربي، وهذا حدُ مقداري من التوفيق.

(وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ،) وهذا حد جهدي وسعيي.

ص:10

(وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ،) فبالله استعنت، وعليه توكلت؛ وأستغفره لتقصيري في نصرة دينه، وحججه على شريعته، إنه هو التواب الرحيم.

المسألة الثانية: إنّ خديجة كانت أُمّة قد جمعت في امرأة

اشارة

حينما يكون الحديث عن الأمم فهو حديث لا يمكن حصره في جهة واحدة، ولا يمكن جمعه في خزانة منفردة، لما يشكله من قراءة ناقصة، وصورة مشوهة، لا تُمَكِّنُ الناظر من التشخيص، ولا المتدبر من التبصر؛ فضلاً عن ضياع الحقائق، وتضليل المتابع، وتبرير الجاهل الطامع، في النيل من الرموز، وحجب أنوار الشموس، وتمرير ضعاف النفوس في ثغور المباحث، والاستئناس بما هو ليس بمتجانس، فيقول قائل: هذا ما جاء به الكاتب لهذه السطور، فيكون الجاهل معذورا، والعارف ملوماً.

ولذا: كان لزاماً علينا أن نضع بين يدي القارئ في هذا الحديث عن خديجة الأُمّة، مجموعة محاور، شكلت بمجموعها نوافذ للنظر إلى هذه الحضارة.

المحور الأول: خصوصيتها كامرأة

في البدء ينبغي أن نستحضر على مادة البحث أننا نخوض غمار الحديث عن المرأة بما لها من خصوصية خاصة على مرّ تاريخ الإنسانية فهي بين كونها الكائن الذي يراه الرجل دون مستواه بما تفرضه عليه الأنا الذكورية من شعور بالفوقية فساد بها المجتمعات السكانية، وبين كونها الكائن الذي لا يمكن

ص:11

الاستغناء عنه مهما أوتي الرجل من صفات ذكورية انسجمت مع ما تفرضه الحياة من قساوة وخشونة.

والمرأة بما تفرضه عليها أنوثتها من الالتجاء للسكن، والانجذاب للدعة، والانسجام مع الرقة، قد كونت لديها حالة من الضعف والاستكانة، دفعت بها لأن تكون المستهدف في أطماع كثير من الرجال، فنشأت في جو لا تجد فيه إلا العنف والاضطهاد والاستغلال على مرّ التاريخ وإن اختلفت هذه المظاهر الحياتية على الأرض بين مكان وآخر.

والمرأة في الوقت نفسه - وفي كثير من المجتمعات والثقافات - كانت ولا تزال السيّاط الذي أراض الكثير من الرجال بما تفرضه الحاجة الذكورية عليهم من سلطان، فكانت الحاكم الذي لا يرد له أمر، والمالك الذي يتودد إليه المحتاج، ويتذلل إليه المغرم، فإن أعطى قوبل بالثناء والمديح، وإن استعصى فلا ينال منه إلا برضاه، ولا يرضى حتى ينال ما يريد.

وفيما تريد المرأة هلكت أمم وضاعت ملل وهدمت أركان كما كان في أمر قطام بنت الأخضر بن شجنة من بني تيم الرباب، التي قتل أمير المؤمنين علي عليه السلام أباها وأخاها بالنهروان، وكانت من أجمل نساء زمانها، فلما رآها عبد الرحمن بن ملجم - لعنه الله - شغف بها واشتد إعجابه، فخبر خبرها فخطبها، فقالت له: ما الذي تسمي لي من الصداق ؟

فقال لها: احتكمي ما بدا لك.

فقالت: أنا محتكمة عليك ثلاثة آلاف درهم، ووصيفا وخادماً، وقتل

ص:12

علي بن أبي طالب!! فقال لها: لك جميع ما سألت(1).

والمرأة لن تكون الأمومة إلا بها، والزوجية إلا معها، والنسل إلا منها، وهي مع هذا وذاك جلست على العرش، وتقلدت التاج والصولجان، وحكمت البلاد، وساست العباد، كبلقيس السبأية وزنوبيا التدمرية وكليوباترا المصرية وغيرهن.

إلا أننا هنا: نتحدث عن امرأة بما لها من خصوصية المرأة، إلا أنها ليست كبقية نساء الدنيا منذ أن وطئتها قدم بني آدم وإلى يوم انقضائها.

إنها امرأة حازت من الفضائل في عالمها أفضلها، ومن الخيرات أخيرها، ومن السيادات أسيدها.

امرأة: لبست التاج في الدنيا والآخرة، فانفردت بذاك عن بني جنسها، فمَنْ مِنْهنَّ قد جمعت فيها الأضداد فنالت بها الأمجاد التي فشل فيها صناديد الرجال وتقهقر فيها الأبطال، حينما تعرض لهم الدنيا فيجلسون على عروشها لينالوا بسلطانها تيجان العزة في آجالها.

نعم: إنها خديجة، وأنى للزمان أن يأتي بمثل خديجة عليها السلام ؟.

المحور الثاني: الدور السيادي في مجتمع قبلي
اشارة

قد لا يكون غريباً على القارئ المسلم - لاسيما العربي - ما للجزيرة العربية من طبيعة اجتماعية قبلية كانت سائدة في معظمها قبل بعث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:13


1- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني: ص 19.

في حين لا يخفى أيضاً أن هذا النظام الاجتماعي ما زال سائداً في كثيرٍ من مناطق الجزيرة والعراق واليمن والخليج وغيرها مما يعطي صورة أوضح لمن أراد أن يعي ما لهذا النظام الاجتماعي من سلطة تطبق بقوانينها وأعرافها على تحرك المرأة وتحديد دورها في المجتمع.

هذا إذا أردنا أن ننظر إلى هذه القوانين والأعراف الاجتماعية على وفق تأثرها بالتعاليم الإسلامية في وقتنا الحاضر التي منحت المرأة عزّتها وشأنيتها.

في حين يكفي القارئ والباحث من الشواهد على تردي وضع المرأة قبل البعثة النبوية وانعدام دورها في المجتمع فضلاً عن بيان طبيعة هذا المجتمع القبلي ما رواه الثعلبي والواحدي والبغوي وابن حجر في تفسير قوله تعالى:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.)

(إنّ أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا مات رجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألقى ثوبه عليها أو على خبائها فصار أحق بها من نفسها ومن غيره فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها فلم يعطها منه شيئا، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج فطول عليها وضارها، لتفتدي نفسها بما ورثت من الميت أو تموت هي فيرثها، وإن ذهبت المرأة إلى منزل أهلها قبل أن يلقي عليها وليّ زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها.

فكانوا يفعلون ذلك حتى توفي أبو قيس بن صلت الأنصاري وترك امرأته

ص:14

كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن لها من غيرها يقال له حصن فطرح ثوبه عليها فولي نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها بذلك لتفتدي منه بمالها، وكذلك كانوا يفعلون إذا كانت جميلة موسرة دخل بها وإلا طول عليها لتفتدي منه؛ فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فقالت يا رسول الله إنّ أبا قيس توفي وولي ابنه نكاحي وقد أضر بي وطول عليّ فلا هو ينفق عليّ ولا هو يدخل بي ولا هو يخلي سبيلي ؟

فقال لها:

«أقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله».

قال: فانصرفت وسمع النساء بذلك فأتين رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وهو في مسجد الفضيخ، فقلن يا رسول الله، ما نحن إلا كهيئة كبيشة غير أنه لم ينكحنا الأبناء وإنما نكحنا بنو العم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية)(1).

فهذه الصورة عن المجتمع القبلي في الجزيرة قبل الإسلام تدفع بالباحث إلى الوقوف طويلاً عند إدراك معنى أن تسود المرأة في هذا المجتمع القبلي؛ تتحكم في الرجال ويتسارع بين يديها الغلمان وهي بين هذا الجلال والهيبة قد حازت على مجموعة من العوامل السيادية التي لم ينل كثير من أشراف مكة على بعضها مما عزز في نفوذها وسيادتها على مكة جميعاً كما سيمر بيانه مفصلاً.

أما هذه العوامل السيادية التي بها تقوم المجتمعات القبلية فكانت كالآتي:

ص:15


1- تفسير الثعلبي: ج 3، ص 275؛ أسباب النزول للواحدي: ص 98؛ تفسير البغوي: ج 1، ص 408؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني: ج 2، ص 849.
أولا: النسب

عرف العرب بشغفهم بالأنساب، وتفاخرهم بالأحساب حتى عُدًّتْ مفاخر الآباء خيراً مما يقدمه الأبناء، ولذلك كان الرجل منتسباً إلى قبيلة قد كبر حجمها واشتهر حسبها كلما كانت لهذا الرجل حظوة من السيادة في مكة.

وحيث إن بني عبد مناف لا منازع لهم في شرافتهم ونسبهم وسمو حسبهم فإن خديجة قد حازت على هذا العامل السيادي، فهي من بني عبد مناف بن قصي القرشي.

ثانياً: المال

يُعد المال في الماضي والحاضر والمستقبل أحد العوامل الأساسية لبلوغ الإنسان المراتب السيادية في المجتمعات البشرية سواء كانت بدوية أو حضرية، قبلية أو مدنية، وإن تعددت الثقافات والمفاهيم والرؤى وكفى بالماضي والحاضر - منذ أن خلق الدرهم والدينار وإلى انقضاء الدنيا -، دليلاً على أثر المال السيادي في المجتمعات.

بل لا يخفى على القارئ ما للاقتصاد من أثر في قيام دول وسقوط أخرى، وإن تعددت اليوم الأنظمة الاقتصادية العالمية إلى ثلاثة أنظمة (النظام الرأسمالي، النظام الاشتراكي، النظام الاقتصادي المختلط ، وهو الذي يحاول التوليف بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي وتجنب عيوبهما البارزة والتوكيد على جوانبهما الايجابية)(1).

ص:16


1- مجلة العلوم الاجتماعية، النظم الاقتصادي العاصرة: www.al-mostafa.info/data.

ولا يخفى أيضا ما للدول المتقدمة اقتصادياً من سيطرة على الدول النامية حتى أصبح هذا الاحتياج لتلك المعلومات والتطور الاقتصادي ضرباً من ضروب الاستعمار شاءت هذه الدول أم لم تشأ، فللعولمة الاقتصادية دورها السيادي على العالم.

ومن هنا:

حازت السيدة خديجة عليها السلام أهم العوامل السيادية في المجتمع المكي من خلال التجارة والسوق وما يرتبط باقتصاد مكة وتعاملاتها التجارية بين الشام واليمن.

ثالثا: العفة والطهارة

كونها امرأة فقد شكل العامل الأخلاقي من أهم السمات التي تمنح المرأة السيادة في قومها ومجتمعها لاسيما أنها قد حازت على العاملين السابقين، أي نسب الآباء وحسبهم، والمال الوفير من خلال النظام الاقتصادي لمكة - ولعل هذا الوصف - أي النظام الاقتصادي لمكة يراه البعض مبالغاً فيه أو في غير محله، بلحاظ ما يحمله هذا المصطلح من تعريفات مختلفة عند أهل الاقتصاد، إلا أن ذلك لا يعني انعدام النظام الاقتصادي في مكة، وإن كان محدوداً، بالنظر للدول المعاصرة، فلمكة نظامها الاقتصادي الدقيق الذي شمل معاهدات (دولية) كما سيمر بيانه ضمن البحث.

وعليه:

فقد امتازت خديجة عليها السلام عن بقية النساء اللاتي مضين بالسيادة في

ص:17

مجتمعاتهن بسمة العفة والطهارة حتى عرفت في المجتمع المكي (بالطاهرة).

وهي بهذا تكون قد مزجت بين هذه العوامل السيادية، بل أضفت عليها بهذه السمة لوناً خاصاً ومفهوماً جديداً لم يفهمه النظام الاقتصادي في العالم بما تفرضه السياسة الاقتصادية من شريعة خاصة قائمة على الربح والخسارة.

إلا أن خديجة عليها السلام كانت مثالاً للنظام الاقتصادي الأخلاقي وهو ما لم يمكن مشاهدته إلا عند الشرائع السماوية وأمنائها.

المحور الثالث: الرجولة في شريك الحياة هي الفضيلة

تختلف نظرة المرأة للرجولة عن نظرة الرجل لها، أي لسمة الرجولة؛ بل تتمايز بنات حواء بشكل خاص في مفهومهنَّ للرجولة بما تفرضه عليهنَّ المكونات الشخصية والنشوئية فضلاً عن المعطيات الثقافية.

حتى بتنا اليوم لا نجد مفهوماً خاصاً عند بنات حواء للرجولة مع ما تفرضه شاشات التلفاز ومقاطع خشبة السوق؛ بل باتت الحياة أقرب ماتكون إلى مسرحية لا يعرف الناظر إليها من هم أصحاب الأدوار الأساسية ؟ وبِمَ يختلفون عن الماكثين خلف الستار؟!.

إلا أن تلك المفاهيم حينما تعرض على شخصية السيدة خديجة أو الفكر الخديجي تصطف أمامه تلك المفاهيم، فينساب منها ما كان ثانوياً ويصمد منها ما كان معها موافقا للفطرة الإنسانية والذوق السليم.

فالرجولة في الفكر الخديجي هي الفضيلة الأخلاقية لا بجسم مفتول، أو

ص:18

شارب مبروم، أوعيون حمراء، وحنجرة تسمع الصماء حينما يعلو صاحبها رأس المرأة بالصراخ.

ولذلك:

وجدت أن مَنْ أمضِّ أنواع التعسف والتردي بالعقل البشري هو وصف خديجة عليها السلام بالزواج من رجلين من صعاليك العرب مع كل هذه الحضارة التي تلاطمت على ضفتي هذه الشخصية.

وهذا ليس بالغريب على تلك العقول التي ملأت التاريخ العربي وهي تفصح بفعلها وقولها عن أخس المخلوقات على وجه الأرض.

فما يقول العاقل حينما يقرأ في التاريخ أن رجلاً يرد على سؤال علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يقول:

«سلوني قبل أن تفقدوني، فو الله ما تسألوني عن فئة تضل مائة وتهدي مائة إلا نبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة ؟».

فيرد هذا المسخ البشري على هذا السؤال بسؤال آخر يقول فيه: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟!

ولذلك من أجمل الأوصاف وأتم البيان ما نطقت به حفيدة خديجة الكبرى وشبيهتها زينب ابنة أمير المؤمنين علي عليه السلام حينما قدمت للقارئ صورة عن مستوى هذه العقول؛ إذ خاطبت المسلمين في الكوفة قائلة:

«كمرعى على دمنة أو كقصعة على ملحودة».

بمعنى: أن الإنسان المسلم قد وصل إلى مرحلة من التردي وانعدام الحس

ص:19

البشري إلى المستوى الذي أصبحوا فيه يأكلون على لحود القبور، وهذا مخالف لأبسط دلائل وجود هذا الكائن الذي يسمى بالإنسان.

وعليه:

كيف لهؤلاء المسوخ مجرد النظر إلى هذا السمو والرفعة والعزة والمجد، وكيف لهذه اللحود السائرة التجانس مع كل هذه الحياة والنمو والبناء والحيوية.

إنهما عالمان مختلفان ومتنافران كتنافر الموت والحياة، ولذلك لا يبالي هؤلاء في القول والاعتقاد بأن خديجة كانت متزوجة من رجلين من صعاليك العرب!!

في حين أن الرجولة في قاموسها الحضاري هي الفضيلة بكل ما تحمل هذه الكلمة من مصاديق خارجية، وأن الخُلق في شريك الحياة هو الذي تكتمل به دورة الحياة الإنسانية.

ولذا: فقد اختارت سيد الأخلاق في بني آدم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أعرضت عن كل أصناف الرجال التي اختلفت فيهم مظاهر الرجولة.

المحور الرابع: الدور الإصلاحي لبني الإنسان

قليلون هم الذين يأخذون على عاتقهم إصلاح الإنسان والمضي به نحو السمو والرقي؛ كي يبلغ الغاية التي من أجلها خلقه الله تعالى، وكرمه على كثير مما خلق؛ والقلة في أولئك المصلحين راجعة إلى نفس هذا الكيان الإنساني بما ركب الله فيه من قوى مختلفة تسعى به إلى ما يرضيها ويسد حاجتها.

ص:20

بمعنى: اقتضت حكمة الله تعالى أن تجعل الاصلاح سمة ملازمة للكمال، فكيف يستطيع من به نقص إصلاح ناقص آخر.

ولذا: اقترن الإصلاح بمن اختارهم الله لهذه المهمة وفضلهم على بني جنسهم بالاصطفاء والاختيار، فجعل فيهم النبوة والرسالة والإمامة ابتداءً من آدم وختاماً بسيدهم أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم هيّأَ لهم أعواناً وأنصاراً وأوصياء وحملة لهذه المهمة حتى انقضاء الحياة الدنيا التي شاء الله تعالى أن تشهد كل هذه التجاذبات بين الكمال والنقص والصلاح والفساد.

وخديجة عليها السلام هي من أولئك الذين اصطفاهم الله تعالى لممارسة الدور الإصلاحي في زمنٍ اختاره الله لخير خلقه وخصه بسيد رسله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي مكان انتُجب كأول بيت وضع للناس لتكون فيه الأداة والسند في إتمام ما أمر الله به محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.

المحور الخامس: تشخيص دورها الرسالي
اشارة

حينما يكون الأمر منووطاً بخير الأديان وخاتمها فإن الأدوار التي قام بها أهل هذه الرسالة كانت متوازية مع حجم هذه الرسالة، ولأن خديجة ممن اختارها الله لأن تكون من أهل هذه الرسالة فقد جهدت على أداء دورها الرسالي في المجالات التي حددت لها المرحلة التأسيسية من عمر الرسالة الإسلامية.

فكانت كالآتي:

ص:21

أولا: الرسالية في حمل التكاليف الشرعية

تتلقى خديجة عليها السلام ثقل التكليف الشرعي بكل طمأنينة وثبات وعزم حتى أصبحت المعين الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي الأمر الإلهي منذ نزول جبرائيل عليه السلام بالوحي وإلى يوم فارقت الدنيا.

ثانيا: الرسالية في الحياة الزوجية

لم يشهد البيت النبوي حياة نموذجية يظللها الهدوء والمودة والطمأنينة مثلما شهده بيت خديجة خلال ربع قرن أعطت فيه خديجة منهاجاً خاصاً في التربية الأسرية ينبغي بكل أسرة الأخذ به والعمل بسننه، حتى ترك هذا التعامل الرسالي أثره في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي تكشَّف لنا من خلال حزنه الشديد على فقدها حتى كاد يُخشى عليه من الحزن.

ثالثا: الرسالية في الأمومة

قد لا يلمس الإنسان فرقاً في مشاهدة الصور الحياتية للمرأة وهي تمر بدور الأمومة باعتبار انقياد المرأة لغريزتها الأمومية وفطرتها الأنثوية؛ إلاّ أن الأمومة في بيت خديجة عليها السلام اختلفت عن غيرها، وذلك في إغداق من لم تلده خديجة بالأمومة والحنان والعاطفة؛ بمعنى أنها أعطت أمومتها بفعل سجيتها النفسية لا الغريزية الهرمونية، وهذا جانب رسالي تتفاضل فيه النساء، حينما تحنو على أبناء غيرها فضلاً عن حرمانها وابتلائها بموت الولد وصبرها على ذلك كما سيمر بيانه.

ص:22

رابعاً: الرسالية في الصبر والجهاد

ربما يتصور الكثير أن الصبر خصوصية خاصة لدى الرجال بما عرف عنهم من القوة في التحمل إلا أن الحياة بتجاربها أثبتت أن المرأة أقدر من الرجل في الصبر وحبس الألم ومواصلة الحياة على ما فيها من ضنك، ولولا صبر المرأة على جدب الحياة، وقلة ذات اليد عند كثير من الرجال، لحرّم الرجال على أنفسهم أن يظلهم سقف أو ينتسب لهم ولد.

في حين أن خديجة عليها السلام مع كثرة مالها ووفرة ثرائها، وصل بها الحال مع رسول الله في شعب أبي طالب عليه السلام، حينما فرض المكيّون على بني هاشم الحصار أن قامت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التصدي لهذا الظلم بالصبر والتحمل إلى الحد الذي أكلت فيه ورق الأشجار حتى كادت تهلك جوعاً.

خامسا: الرسالية في الدفاع عن القيم

كثيرون هم الذين يدافعون عن قيمهم ومبادئهم على اختلاف المفهوم والثقافات عند أصحاب المبادئ فقد يكون الربح مبدأ من مبادئ السوق، وقد يكون السَفور مبدأ من مبادئ العصرَنة إلا أننا هنا نتحدث عن الرسالية التي كانت دليلاً على الرسالة الإلهية الخاتمة لجميع الأديان.

ومن هنا: كان دفاع خديجة عليها السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رساليا بحيث لم تحْظَ امرأة غيرها بهذا الامتياز لدرجة أنها كانت تقف أمام الحجارة تتلقاها ببدنها ووجهها كي لا يصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأذى - كما سيمر بيانه -.

ص:23

المحور السادس: الاصطناع المولوي

يقدم لنا القرآن الكريم في معرض بيانه عن الرساليين حقيقة خاصة تكشف عن سر هذا التمايز فيما بينهم حتى تفاضلَ بعضهم على بعض.

على أن الاصطناع المولوي لم يكن ليستثني أحداً منهم وإن كان الخطاب المولوي موجّهاً لموسى الكليم عليه السلام؛ قال تعالى:

(وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي1.)

هذه الحقيقة الخاصة في أولئك الرساليين دلّ عليها صريح قول أمير المؤمنين عليه السلام:

«فإنا صنايع ربنا»(1).

من هنا: كانت خديجة عليها السلام هي إحدى مظاهر الاصطناع المولوي الذي ظهر جلياً في الشأنية التي لها في القرآن الكريم في جملة من الآيات المباركة - كما سيمر بيانه -.

كما أن هذه الشأنية لم تقتصر على كتاب الله تعالى بل ظهرت كذلك عند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً في حياتها وبعد وفاتها.

وظهرت هذه الشأنية أيضا عند كثير من أئمة العترة عليهم السلام وعلماء المدارس الإسلامية، فضلاً عما حملته السُنة النبوية من بيانات واضحة حول شأنيتها عليها السلام في الآخرة في مختلف مراتبها ومحطاتها ابتداءً من البرزخ

ص:24


1- تحف العقول للحراني: ص 7 (المقدمة)؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 260.

والنشور والمحشر والصراط والجنة ضمن عناوين اختصت بهذه المسأل وتحت لفظ (منزلة خديجة عليها السلام) كما سيمر بيانه.

ولم يتوقف هذا الاصطناع الرباني عند تلك الشواهد، بل ظهر كذلك في دارها الذي تزوجت فيه، وماتت فيه، وليكون محلاً خصه الله تعالى بما لم يخص به بيتاً آخر من بيوتات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى عد أفضل الأماكن بعد المسجد الحرام، فضلاً عن أن دار خديجة قد خصه الله تعالى بأهم الأحداث الإسلامية في سير النبوة منذ البعثة وحتى الهجرة النبوية.

المحور السابع: التصدي لمغول الفكر الإنساني

شهدت حياة السيدة خديجة عليها السلام أهمّ الأحداث الإسلامية في الحقبة المكية والتي كانت هي المرحلة الأصعب والأشد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن آمن معه.

ولأن هذه المرحلة ضمت بين دفتيها وقائع شكلت مفصلا من مفاصل العقيدة الإسلامية، فقد هوجمت على مر التاريخ بهجمات عديدة لمغول الفكر الإنساني الذين دأبوا على زرع الشبهات، وإضلال الناس عن جادة الإسلام، وزرع طريقهم بالمكائد والفخاخ التي تحول دون تقدم الناس إلى الإسلام ومعرفة نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا كان لزاماً علينا أن نتصدى لهذه الحملة المغولية وبيان كذبها ورد سهامها إلى نحورها وقطع الطريق على أحفادها في بث هذه الشبهات، فعلى الرغم من تصدي كثير من أهل الفضل والعلم لها إلا أن ذلك لا يعني التوقف

ص:25

في الرد وأضافة بعض الحقائق الجديدة إلى طلاب العلم وعشاق الحقيقة.

ولذلك: اشتمل الكتاب على بعض المسائل العقائدية في رد الشبهات ودفع الأباطيل وإظهار الوقائع التاريخية على حقيقتها وكشف التلاعب بها.

وأخيراً: لم يكن هذا الكتاب ليتغافل عن حق هذه الوالدة على بنيها في بيان ما لزيارتها وإتيان قبرها من الحق والواجب الأمومي الذي ألقي في أعناق الأبناء، فضلاً عمّا في هذا العمل من تعظيم لهذه الشخصية وتأسٍّ بها في بناء الحياة والانضمام إلى نخبة المصلحين لبني الإنسان.

المسألة الثالثة: منهجنا في الدراسة التحليلية والتحقيق

إنّ مما اتفقت عليه كلمة الباحثين هو تضمين أبحاثهم بفقرة تتحدث عن المنهج الذي اتبعه الباحث أو المحقق في إخراج هذا العمل إلى النور ووضعه بين يدي القراء.

وحيث إن عملنا في هذه الدراسة اشتمل أيضاً على تحقيق كثير من النصوص التاريخية المرتبطة بحياة السيدة خديجة وتحليلها مع ملاحظة ان لفظ (التحقيق) مناط بعمل الباحث فيما احتواه (المخطوط ) من مادة تفرض على المحقق السعي في اثبات نسبتها لمصنفها مع بذل الجهد في تقابل النسخ وبيان ما جاء في كلام المصنف فيكون حينها المحقق أسيراً لما أملاه المصنف.

كان عملنا التحقيقي في هذا الكتاب لا يشتمل على ذلك المنهج الذي تعاهده المحققون في المخطوط من الكتب، وإنما منهجنا هو التتبع الحثيث لكل حدث اقترن بشخص السيدة خديجة ودراسته حسب الضوابط الآتية:

ص:26

1 - حفظ الحدود الشرعية التي تحيط بها.

فقد يرد على القارئ حديث لا يتجانس مع تلك الشأنية والرسالية التي أحيطت، بها مما يدفع بالباحث إلى التحقيق في هذه الحادثة؛ ومثال ذلك ما روي عنها عليها السلام من إشعار قبل زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مما يعد مخالفاً للمروءة، ولا يتسق مع ما اشتهر عنها من العفة والحياء حتى لقبت بالطاهرة بنت خويلد، فضلاً عن أن الرواية مرسلة كما صرح بذلك العلامة المجلسي رحمه الله.

2 - تجزئة الرواية أو الحديث إلى أجزاء عديدة والوقوف عند هذه الأجزاء ودراستها كلا على حدة.

3 - المقابلة فيما بين النصوص والتوقف عند المؤتلف والمختلف.

4 - التدبر في دلالة الألفاظ الواردة عنها أو فيها.

5 - تسليط الضوء على شخصيات الرواية أو الحدث وفهم الغرض الذي يحمله الراوي أو الدافع من وراء إيراد هذه الحادثة؛ فالراوي لا يمكن أن يكون طرفاً محايداً مع ما شهدته الأمّة الإسلامية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من متغيرات عقائدية وتحزبات ومصالح.

6 - الوقوف عند الزمان والمكان الذين شهدتهما الحادثة، فمبيت علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه زماناً ومكاناً ليس كخروج أبي بكر ونزوله في الغار؛ فقد كان في حادثة المبيت زماناً ومكاناً شواهد قرآنية وتاريخية ممثلة بالحيثية المكانية بأهل مكة جميعاً وبالحيثية الزمانية في حدث شغل أهل مكة

ص:27

والمدينة لأيام عديدة في حين اقتصرت حادثة الغار على الشاهد القرآني الذي يتجاذبه أئمة التفسير بين التدليل والتأويل، والرواية والدراية كما هو ثابت في كتب الفريقين.

7 - عدم التغافل عن وجود طبقة كبيرة من الأعداء للإسلام تعمل بكل قوة على تشويه كل ما له علاقة بالإسلام، من ثَمَّ لا ينبغي بالباحث والمحقق غض الطرف عن دراسة الحالة الاجتماعية والسياسية للمجتمع الذي نشأت فيه الرواية وانطلقت منه إلى الناس.

فالرواية حينما يرويها الراوي وهو يسكن الشام، وفي حكم معاوية بن أبي سفيان غير الرواية التي يرويها الراوي في زمن عمر بن الخطاب أو في زمن هارون العباسي.

8 - أما بالنسبة إلى المنهج الرجالي فإننا لم نعتمد في تشخيص رتبة الراوي من حيث الوثاقة، والصدق، والكذب، والضعف، والميل، والتدليس، والنسيان، والحفظ ، والمشايخ، وغيرها على منهاج الرازي، أو الذهبي، أو ابن حجر، أو المزي، أوغيرهم.

وإنما اعتمدنا في تشخيص الراوي على منهاج أجمعت الأمّة الإسلامية على صحته وهو حب علي بن أبي طالب عليه السلام وبغضه، لما وضعه النبي الأكرم من ميزان في معرفة الرجال وطبقتهم، حينما قال لعلي عليه السلام:

«لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».

فالحكم الذي يطلقه ابن تيمية الذي ملئ نصباً من قرنه إلى ظفره لعلي

ص:28

عليه السلام غير الحكم الذي يطلقه الإمام الشافعي.

وعليه: فقد استلزم هذا المنهاج من الدراسة والتحقيق إلى:

ألف: مراجعة أكثر من ثلاثة آلاف كتاب بين مخطوط ومطبوع فضلاً عن استخدام الحاسوب والتجول في الشبكة المعلوماتية.

باء: تم الاعتماد على ما يقارب الخمسمائة مصدر من هذه المجموعة.

جيم: السفر إلى دمشق الشام حيث كانت من مكتبة الأسد الوطنية باكورة العمل، ثم الانتقال إلى بيروت، ثم إلى العراق، ثم إيران، ثم العراق، ليكتمل البحث بلطف الله وسابق عنايته في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة.

دال: كان العون والسند في هذا العمل هو الله تعالى وحب نبيه وأهل بيته، والتمسك بقراءة سورة الحمد وإهدائها إلى سيدتي ومولاتي خديجة الكبرى عليها السلام ومناشدتها الدعاء لي، إذ إن دعاء الوالدة لولدها مستجاب، وإذا استعصت علي مسألة أقسمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها، فسرعان ما تنجلي.

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )

السيد نبيل قدوري حسن علوان الحسني

كربلاء المقدسة / مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

في يوم مولد الإمام محمد الجواد عليه السلام

الموافق: 10 رجب الأصب لسنة 1431 للهجرة النبوية

المصادف: 23 حزيران 2010 للسنة الميلادية

ص:29

ص:30

الفصل الاول: سيدة قريش

اشارة

ص:31

ص:32

حينما نريد أن نتحدث عن السيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام فإننا نحتاج إلى الحديث عن أُمّة جمعت في امرأة.

ولأن التاريخ (الإسلامي) لم ينصف النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وسرى ذلك على الإسلام وحملته الحقيقيين فإن أول من غُبِنَ من أولئك الحملة هي السيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام.

ولعل مرد ذلك يعود إلى أمور، منها:

1 - نظرة الأعراب للمرأة قبل الإسلام وبعده، فهم لم يتقبلوا وضعها الجديد بسبب عدم إيمانهم أصلاً بالإسلام فأصبحوا في مجتمع فرض عليهم قوانين جديدة تختلف عما نشأوا عليها فباتوا في صراع مع هذا الواقع الجديد فانعطفوا على الكيد لرموزه وعناصره الفاعلة سواء أكانوا من الرجال أم النساء.

وهو ما بيّنه القرآن الكريم حينما أشار إلى دور هؤلاء في الخراب الاجتماعي، فقال تعالى:

ص:33

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ1.)

فإذا كان هذا حالهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مسدد بالوحي فكيف بهم وبما يكيدون للإسلام بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - لم يكن الأعراب وغيرهم من أهل مكة قد اعتادوا على تملُّك المرأة للمال والرجال والتحكم بعصب الاقتصاد، فضلا عن السيادة والعزّة والجلالة التي شابهت بها خديجة عليها السلام ملكة سبأ مما انعكس سلبا على أرباب المال، وتجار العبيد، والمتحكمين في أندية قريش؛ فهؤلاء ممن استمكلتهم الأنفة من النساء فوجدوها مقضى حاجاتهم، وموضع شهواتهم، فكيف بهم الآن يرون بين ظهرانيهم امرأة تتملك أشباههم، وتستأجر نظراءهم، فضلا عن التكسب بمالها، فأنى يروق لهم ذلك ؟

ولذا: أصبحوا بين صورتين كلتاهما تتقاطع مع نفوسهم وأهوائهم وطباعهم، فالصورة الأولى تتحدث عن خديجة وهي سيدة قريش، والصورة الثانية تتحدث عنها وهي سيدة البيت النبوي.

حينها لم يبق أمام تلك العقول سوى تقليب الحقائق، وتزييف الوقائع، كي لا يرى القارئ - المسلم أو غير المسلم - سيرة الأمّة التي جمعت في امرأة فكانت خديجة بنت خويلد عليها الصلاة والسلام.

3 - إنّ تمكن أولئك الأعراب من التقرب إلى السلطة والتحكّم - بقدر ما - في صناعة القرار مكنهم من وضع أيديهم على رواية السيرة وتدوينها، وصياغة

ص:34

ملامحها حسب ما تشتهيه أنفسهم، فكانت صورة مشوهة لاسيما عن أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - كما سيمر بيانه - بغية الوصول إلى أهداف سياسية وشخصية تمكنهم من البقاء في السلطة حينما يتم ضرب حملة الإسلام الحقيقيين وإبعاد الناس من حولهم ونسب جهادهم وجهودهم إلى أعداء الإسلام.

ولكن قبل أن نعرض للقارئ الكريم بعض ملامح هذه الشخصية العظيمة والمشرّفة لكل مسلم لابد من المرور بمباحث وهي كالآتي:

المبحث الأول: الحالة الاجتماعية في مكة قبل الإسلام

اشارة

ربما تمر على مسامع بعض من الناس كلمة (سيدة قريش) مرور الكرام فلم تحرك فيه ساكناً، لأنه لا يكون محيطاً بذاك المجتمع، أو لعله يرى فيها نظيراً لما اعتاد عليه من سماع لهذه الكلمة هذه الأيام، فتلك سيدة القصر الرئاسي، وهذه سيدة أعمال، وتلك سيدة منزل، فأصبحت كلمة (السيدة) لا تحمل من الدلالة سوى التشريفات البروتوكولية، أو هي من المفاهيم المستوردة، والألفاظ المبذولة، في مجتمعات تساوت فيها المظاهر الحياتية، فلم يعد الإنسان ينجو من جدلية الأصلي والمقلد، كما لم ينج من التمييز، أو الخلط بين (السيدة) التي سادت بالفضيلة والعلم مجتمعها؛ وبين (السيدة) التي سادت بالموظة وعرض الأزياء، وسلعنة المفاتن.

ولذا: أصبحت المفردات تحتاج إلى قرائن تكشف عن مدلولاتها فترشد السامع إلى معانيها.

ص:35

ومن هنا: ينبغي بنا إن أردنا بأنفسنا الانصاف أن نعرج إلى قراءة الحالة الاجتماعية والاقتصادية لمكة قبل الإسلام كي نعي معنى أن خديجة كانت تلقب ب - (سيدة قريش)(1).

المسألة الأولى: الاصطفاء الرباني لقريش

قد لا يختلف اثنان من العرب أن قريشاً هي عشيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها من أعظم قبائل العرب، لكن السؤال كيف كانت عظمتها؟ وبم حازت شرفها وعزتها؟ أسئلة ننطلق معها لنبين للقارئ المسلم ماذا يعني له حينما يقرأ في كتب التاريخ والسيرة والتراجم وغيرها (أن خديجة بنت خويلد كانت تلقب (بسيدة قريش).

ونقول:

ربما تكون الرفعة والعظمة والشرافة والعزّة عند بعض الناس - وبحسب اعتقادهم وثقافتهم - هي نتيجة العمل الذاتي للفرد دون أن تكون لمشيئة الله تعالى مدخلية فيها، وقد تكون هذه المزايا لا تنال - وبحسب اعتقاد كثير من الناس - إلاّ حينما تكون مقرونة بل وملاصقة لمشيئة الله جل وعلا -.

وحينما نأتي إلى قراءة تاريخ قريش نجدها، أي قريشاً، لم تنل ما نالت من الرفعة والعظمة والظهور إلا من خلال مشيئة الله تعالى، وعمل من

ص:36


1- عمدة القاري في شرح صحيح البخاري للعيني: ج 1، ص 64؛ السيرة الحلبية: ج 1، ص 224. تاريخ الخميس للدياربكري: ج 1، ص 265؛ المواهب اللدنية للأزرقي: ج 1، ص 199؛ الروض الاُنف للسهيلي: ج 1، ص 25.

اختارهم الله لبناء هذه الرفعة وتشييدها، وأعني: لابد من وجود الكفاءات الشخصية إلى جانب المشيئة الإلهية والتي، أي هذه الكفاءات، لم تكن لتتحقق بدون التوفيق الإلهي، فسبحان من بيده كل شيء، وله الأمر من قبل ومن بعد.

وقريش في حقيقة الأمر قد نالت العناية الإلهية كما دلّ على ذلك الحديث النبوي - كما سيمر - ونالت تلك العناية بظهور بعض الرموز المتميزة؛ بل والفريدة من بين الرجال لتكون أداة تصنع للبشرية حضارتهم وتمدنهم.

فأما المشيئة الإلهية فقد كشف عنها حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حينما بيَّن أن الله تعالى اصطفى من بين خلقه ملائكة، وأنبياء، ورسلاً، وشعوباً، وقبائل، وبيوتات، وأفراداً، وديناً، وغيرها مما يصرح به الكتاب العزيز. قال تعالى:

(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 1.)

وقال سبحانه:

(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ 2.)

وقال سبحانه:

ص:37

(وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 1.)

وقال تعالى:

(قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى 2.)

وقال سبحانه:

(اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ3.)

وغيرها من الآيات التي تظهر هذه السنة الإلهية، التي جرت في الأشياء، وحينما نأتي إلى قريش نجدها مما شملتها سنة الاصطفاء الإلهية، كما دلَّ عليها حديث النبي الأكرم حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل عليه السلام واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»(1).

وبهذا يكون النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم خلاصة الاصطفاء الرباني لخلقه وذلك من خلال تلك السلسلة الاصطفائية التي عرضها الحديث الشريف.

ص:38


1- مسند أحمد: ج 4، ص 107؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 243.
المسألة الثانية: رموز تجسّد فيها الاصطفاء
اشارة

إن تلك المشيئة الإلهية التي جعلت قريشاً موضعاً للاصطفاء من بين بني إسماعيل عليه السلام فقد أوجدت فيها رجالاً تبلورت فيها مظاهر هذا الاصطفاء لتثمر ثمرتها في بني عبد المطلب من بني هاشم.

وهم كالآتي:

أولا: قصي بن كلاب
اشارة

وهو الجد الرابع للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فنسب النبي هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن خضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن نضر، بن نزار بن معد بن عدنان(1).

وكنانة، هو الذي اصطفاه الله تعالى من بين ذرية إسماعيل عليه السلام.

ويعد كلٌّ من (فهر بن مالك)(2) وجده (نضر بن كنانة)(3) هما اللذين لقبا بقريش.

كما أن قصي بن كلاب هو أيضاً لقب بقريش، لتمكنه من جمع القبائل التي تعود إلى نضر بن كنانة بعد أن تفرقوا وأسكنهم مكة(4).

ص:39


1- الأنساب للسمعاني: ج 1، ص 25.
2- عمدة القاري للعيني: ج 1، ص 81.
3- الإنباه على قبائل الرواة لابن عبد البر: ص 45.
4- تحفة الأحوذي للمباكفوري: ج 10، ص 53.
ألف: سبب تسميتهم بقريش

يرجع سبب تسمية قريش بهذا الاسم إلى مجموعة من الأقوال:

1 - إن سبب التسمية مأخوذ من التقرّش، وهو التجمع يقال: تقرّش القوم إذا اجتمعوا؛ ولذلك سمي قصي بن كلاب مجمعاً، قال الشاعر:

أبوكم قصي كان يدعى مجمِّعا به جمع الله القبائل من فهر

2 - إنه مأخوذ من القرش، وهو الكسب: لأنهم كانوا كاسبين بتجاراتهم وضربهم في البلاد.

3 - إنهم كانوا يسدون خلة محاويج الحاج، فسموا بذلك قريشا(1).

4 - وقيل: إن قريشاً؛ دابة تسكن البحر تغلب سائر الدواب، وقريش: هي التي تسكن البحر ربيبها فسميت قريش: قريشا(2) ؛ ومن هذا المعنى ذهب الفخر الرازي إلى أن السيادة على الأمّة منهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إنّ الأئمة من قريش»(3).

وقد ذهب ابن عبد البر إلى أن (التجمع) هو الأصح، وبهذا يكون قصي ابن كلاب هو من سمي بقريش؛ لأنه جمع القبائل وأسكنها مكة.

أما لمن يعود أصل هذه القبائل: فقد ذهب الفقهاء، وعلماء الأنساب، إلى أن أصل قريش يعود إلى النضر بن كنانة، ويستند النسابون في ذلك إلى قول

ص:40


1- تفسير الرازي: ج 32، ص 106؛ معجم قبائل العرب لعمر رضا كحالة: ج 3، ص 947.
2- معجم مقاييس اللغة لابن فارس: ج 5، ص 70.
3- تفسير الرازي: ج 32، ص 106.

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا»(1).

فيما ذهب الفقهاء في تعريف (المرأة القرشية) إلى أنها من انتسب إلى النضر بن كنانة(2).

قال السيد محسن الحكيم قدس سره: (ذكر ذلك جماعة من الأعاظم مرسلين له إرسال المسلمات من غير إشارة منهم للخلاف فيه، كالمحدث البحراني في الحدائق، وشيخنا في الجواهر، والنراقي في المستند، وشيخنا الأعظم في طهارته، وغيرهم، وهو المنقول عن الصحاح، وفي النفحة العنبرية لابن أبي الفتوح: (ومن ولد كنانة، النضر) وهو الملقب بقريش، وبعد ذلك أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النضر، قال: وهو قريش.

لكن في مجمع البحرين - وبعد أن ذكر ذلك - قال: وقيل، قريش هو فهر ابن مالك؛ وعن سبائك الذهب: أنه النضر على المذهب الراجح؛ وفي العقد الفريد: (جد قريش كلها فهر بن مالك، فما دونه قريش، وما فوقه عرب.. إلى أن قال: (وأما قبائل قريش فإنما تنتهي إلى فهر بن مالك لا تتجاوزه).

وفي سبل الذهب: (كل من ولده (فهر) فهو قريش ومن لم يلده فليس بقريش)؛ ونحوه ما في المختصر من أخبار البشر لأبي الفداء؛ وذكر ذلك أيضا في الشجرة المحمّدية لأبي علي الجواني النسابة، وكذا في السيرة النبوية لابن

ص:41


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 5، ص 212؛ الأنساب للسمعاني: ج 1، ص 27.
2- كتاب الطهارة للسيد أبو القاسم (الخوئي) قدس سره: ج 6، ص 93.

دحلان؛ وفي السيرة الحلبية: (فهر، اسمه قريش، قال الزبير بن بكار: أجمع النسابون من قريش وغيرهم أن قريشاً إنما تفرقت عن فهر).

ويظهر من غير واحد احتمال أنه قصي، لكنه ضعيف جدا، لأن أكثر قبائل قريش من غيره، إنما الإشكال في تعيين أحد الأولين، لكن يهون الأمر خروج الفرض عن محل الابتلاء)(1).

وقال السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره معقبا على هذه الأقوال في بيان ما يترتب على المرأة القرشية من أحكام الطهارة عند الحيض: (والذي يوهن الخطب أن القرشية لا وجود لها غير أولاد عباس - بن عبد المطلب - وعلي عليه السلام إذ لم يعلم لأولاد مالك غير فهر أولاد حتى يتكلم في أنه قرشي أو غير قرشي، فمحل الابتلاء معلوم القرشية على كل حال، وغيره خارج عن محل الابتلاء)(2).

باء: دور قصي بن كلاب في جمع القبائل وحيازة الفضائل

لم تشهد مكة قبل قصي بن كلاب رجلاً قد سادت له قبائل قريش والحكم عليها مثلما سادت لقصي بن كلاب، بعد أن جمعها وقسمها على قسمين عظيمين، فأسكن بطاح مكة قسماً فسموا بقريش البطاح، وهي قبائل كعب بن لؤي، وهم: (بنو عبد مناف، بنو عبد العزى، بنو عبد الدار، بنو زهرة، بنو تيم، بنو مخزوم، بنو جمع، بنو سهم ابني عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو عدي بن كعب.

ص:42


1- مستمسك العروة الوثقى للسيد محسن الحكيم قدس سره: ج 3، ص 155.
2- كتاب الطهارة للسيد أبو القاسم (الخوئي) قدس سره: ج 6، ص 93.

وأما القسم الثاني، وهي القبائل التي نزلوا خارج مكة، وقد سموا بقريش الظواهر، وهي قبائل بني عامر بن لؤي بن يخلد بن النضر، وهم: الحارث ومالك وقد درجا(1) ، والحارث ومحارب ابنا فهر، وتيم الأدرم بن غالب بن فهر، وقيس بن فهر وقد درج)(2).

جيم: أنه أول من أصاب ملكاً فأطاع له به قومه

وقد امتاز قصي بن كلاب بخصائص فريدة لم ينلْها أحد من العرب من قبله.

قال ابن سعد: (أخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان قصي بن كلاب أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكاً أطاع له به قومه، فكان شريف أهل مكة لا ينازع فيها، فابتنى دار الندوة وجعل بابها إلى البيت ففيها كان يكون أمر قريش كله وما أرادوا من نكاح أو حرب أو مشورة فيما ينوبهم حتى إن كانت الجارية تبلغ أن تدرع فما يشق درعها إلا فيها ثم ينطلق بها إلى أهلها، ولا يعقدون لواء حرب لهم ولا من قوم غيرهم إلا في دار الندوة يعقده لهم قصي، ولا يعذر لهم غلام إلا في دار الندوة، ولا تخرج عير من قريش فيرحلون إلا منها، ولا يقدمون إلا نزلوا فيها، تشريفا له وتيمنا برأيه ومعرفة بفضله، ويتبعون أمره كالدين المتبع لا يعمل بغيره في حياته وبعد موته؛ وكانت إليه الحجابة، والسقاية، والرفادة، واللواء، والندوة، وحكم مكة كله، وكان يعشر من دخل مكة سوى أهلها.

ص:43


1- قال الأصمعي: درج الرجل، إذا لم يخلف نسلاً؛ الصحاح للجوهري: ج 3، ص 948.
2- معجم قبائل العرب لعمر رضا كحالة: ج 3، ص 948.

قال: وإنما سميت دار الندوة: لان قريشا كانوا ينتدون فيها أي: يجتمعون للخير والشر، والندي مجمع القوم إذا اجتمعوا)(1).

دال: تقسيمه مكة أرباعا وجمعه لقريش

قال ابن سعد:

(وقطّع قصي مكة رباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم التي أصبحوا فيها اليوم، ضاق البلد وكان كثير الشجر (العضاه والسلم)، فهابت قريش قطع ذلك في الحرم فأمرهم قصي بقطعه وقال: إنما تقطعونه لمنازلكم ولخططكم بهلة الله على من أراد فسادا، وقطع هو بيده وأعوانه، فقطعت حينئذ قريش.

وسمته مجمعا، لما جمع من أمرها وتيمنت به وبأمره؛ وشرفته قريش وملكته؛ وأدخل قصي بطون قريش كلها الأبطح فسموا قريش البطاح، وأقام بنو معيص بن عامر بن لؤي، وبنو تيم الأدرم بن غالب بن فهر، وبنو محارب ابن فهر، وبنو الحارث بن فهر، بظهر مكة، فهؤلاء الظواهر، لأنهم لم يهبطوا مع قصي إلى الأبطح، إلا أن رهط أبي عبيدة بن الجراح وهم من بني الحارث ابن فهر نزلوا الأبطح فهم مع المطيبين أهل البطاح.

وقد قال الشاعر في ذلك وهو ذكوان مولى عمر بن الخطاب للضحاك بن قيس الفهري حين ضربه:

فلو شهدتني من قريش عصابة قريش البطاح لا قريش الظواهر

ص:44


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 70.

وقال حذافة بن غانم العدوي لأبي لهب بن عبد المطلب:

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر

فدعي قصي مجمعا بجمعه قريشا، وبقصي سميت قريش قريشا؛ وكان يقال لهم قبل ذلك بنو النضر، قال ابن سعد: إنّ عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير: متى سميت قريش قريشا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش، فقال عبد الملك: ما سمعت هذا ولكن سمعت أن قصيا كان يقال له القرشي ولم تسم قريش قبله.

وقال أيضا: لما نزل قصي الحرم وغلب عليه فعل أفعالا جميلة فقيل له القرشي فهو أول من سمي وقال الأخنسي: سميّت قريش وكنانة وخزاعة ومن ولدته قريش من سائر العرب بالحمس.

والتحمس أشياء أحدثوها في دينهم تحمسوا فيها أي: شددوا على أنفسهم فيها، فكانوا لا يخرجون من الحرم إذا حجوا فقصروا عن بلوغ الحق، والذي شرع الله تبارك وتعالى لإبراهيم وهو موقف عرفة وهو من الحل؛ وكانوا لا يسلؤون السمن، ولا ينسجون مظال الشعر، وكانوا أهل القباب الحمر من الادم.

وشرعوا لمن قدم من الحاج أن يطوف بالبيت وعليه ثيابه، ما لم يذهبوا إلى عرفة، فإذا رجعوا من عرفة لم يطوفوا طواف الإفاضة بالبيت إلا عراة أو في ثوبي أحمسي، وان طاف في ثوبيه لم يحل له أن يلبسهما)(1).

ص:45


1- الطبقات لابن سعد: ج 1، ص 71-72.
هاء: إنه أول من أوقد ناراً بالمزدلفة

قال محمد بن عمر: (وقصي أحدث وقود النار بالمزدلفة حين وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة فلم تزل توقد تلك النار تلك الليلة يعني ليلة جمع في الجاهلية.

وكانت تلك النار توقد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان؛ قال محمد بن عمر وهي توقد إلى اليوم)(1).

واو: إنه أول من فرض السقاية والرفادة على قريش خدمة لحجاج بيت الله

(وفرض قصي على قريش السقاية والرفادة فقال: يا معشر قريش إنكم جيران الله، وأهل بيته، وأهل الحرم، وان الحاج ضيفان الله، وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم؛ ففعلوا، فكانوا يخرجون ذلك كل عام من أموالهم خرجا يترافدون ذلك فيدفعونه إليه، فيصنع الطعام للناس أيام منى وبمكة، ويصنع حياضا للماء من أدم، فيسقي فيها بمكة ومنى وعرفة فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام؛ ثم جروا في الإسلام على ذلك إلى اليوم.

فلما كبر قصي ورق، وكان عبد الدار بكره وأكبر ولده، وكان ضعيفا، وكان إخوته قد شرفوا عليه، فقال له قصي: أما والله يا بني لألحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل أحد منهم الكعبة حتى تكون أنت الذي تفتحها له، ولا تعقد قريش لواء لحربهم إلا كنت أنت الذي تعقده بيدك، ولا

ص:46


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 72.

يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما بمكة إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك، فأعطاه: دار الندوة، وحجابة البيت، واللواء، والسقاية، والرفادة، وخصه بذلك ليلحقه بسائر إخوته.

وتوفي قصي فدفن بالحجون فقالت تخمر بنت قصي ترثي أباها

طرق النعي بعيد نوم الهجد فنعى قصيا ذا الندى والسؤدد

فنعى المهذب من لؤي كلها فانهل دمعي كالجمان المفرد

فأرقت من حزن وهم داخل أرق السليم لوجده المتفقد(1)

ثانيا: عبد مناف بن قصي

أما الرجل الثاني الذي ظهر فيه الاصطفاء لسيادة قريش ورفع شأنها، فهو عبد مناف بن قصي، فكان من خبره: أنه قام بعد أبيه على أمر قريش، (فاختط بمكة رباعا بعد الذي كان قصي قطع لقومه.

وعلى - بني - عبد مناف اقتصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أنزل الله تبارك وتعالى:

(وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 2.)

قال ابن عباس: (لما أنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )

ص:47


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 70-73.

خرج حتى علا المروة ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل فهر.

فجاءته قريش، فقال أبو لهب بن عبد المطلب: هذه فهر عندك، فقل.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل غالب؛ فرجع بنو محارب وبنو الحارث ابنا فهر.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل لؤي بن غالب فرجع بنو تيم الأدرم ابن غالب فقال يال كعب بن لؤي فرجع بنو عامر بن لؤي.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل مرة بن كعب. فرجع بنو عدي بن كعب، وبنو سهم، وبنو جمح ابنا عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل كلاب بن مرة. فرجع بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو تيم بن مرة.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل قصي. فرجع بنو زهرة بن كلاب.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل عبد مناف، فرجع بنو عبد الدار بن قصي، وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو عبد بن قصي.

فقال أبو لهب هذه بنو عبد مناف عندك فقل.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وأنتم الأقربون من قريش، وإني لا أملك لكم من الله حظا، ولا من الآخرة نصيبا، إلا أن تقولوا لا إله إلا الله، فأشهد بها لكم عند ربكم، وتدين لكم بها العرب، وتذل لكم بها العجم.

فقال أبو لهب: تبا لك فلهذا دعوتنا.

ص:48

فأنزل الله تبت يدا أبي لهب، يقول: خسرت يدا أبي لهب.

قال أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، قال ولد عبد مناف بن قصي ستة نفر، وست نسوة؛ المطلب بن عبد مناف، وكان أكبرهم وهو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشي في متجرها إلى أرضه، وهاشم بن عبد مناف، واسمه عمرو، وهو الذي عقد الحلف لقريش من هرقل، لان تختلف إلى الشام آمنة؛ وعبد شمس بن عبد مناف، وتماضر بنت عبد مناف، وحنة، وقلابة، وبرة، وهالة، بنات عبد مناف، وأمهم عاتكة الكبرى بنت مرة بن هلال بن فالج بن ثعلبة بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر.

ونوفل بن عبد مناف وهو الذي عقد الحلف لقريش من كسرى إلى العراق؛ وأبا عمرو بن عبد مناف، وأبا عبيد درج؛ وأمهم واقدة بنت أبي عدي، وهو عامر بن عبد نهم بن زيد بن مازن بن صعصعة؛ وريطة بنت عبد مناف، ولدت بني هلال بن معيط من بني كنانة بن خزيمة وأمها الثقفية)(1).

ثالثا: هاشم بن عبد مناف
اشارة

وهو الذي نص عليه الحديث النبوي الشريف في الاصطفاء، وبه تجلت المفاخر والمآثر، وسادت قريش القبائل، وعلى يديه بنت اقتصادها، وعلاقاتها الخارجية مع ملك الحبشة، وقيصر الروم؛ وإليه ينسب النبي وأهل بيته، فيقال له النبي الهاشمي، وفي ذريته جعلت الإمامة التي نص عليها قوله صلى الله

ص:49


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 74-75.

عليه وآله وسلم:

«أن الأئمة من قريش».

وبهم تأمن الأمّة من الغرق، وتنجو من الضلال؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

ولقد تناولت أكثر كتب التاريخ والتراجم حياة هاشم بن عبد مناف، فمما جاء فيها:

ألف: إنه أول من سنّ الرحلتين لقريش

(كان إسم هاشم عمراً وكان صاحب إيلاف قريش، وكان أول من سن الرحلتين لقريش، ترحل إحداهما في الشتاء إلى اليمن، وإلى الحبشة إلى النجاشي فيكرمه ويحبوه؛ ورحلة في الصيف إلى الشام إلى غزة، وربما بلغ أنقرة فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه)(1).

باء: سبب تسميته بهاشم

(أصابت قريشا سنوات ذهبن بالأموال، فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير، فخبز له فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة فهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثرده، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة؛ فكان ذلك أول الحيا بعد السنة التي أصابتهم

ص:50


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 75.

فسمي بذلك: هاشما وقال عبد الله بن الزبعرى في ذلك:

عمرو العلى هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

وقال وهب بن عبد قصي في ذلك:

تحمل هاشم ما ضاق عنه وأعيا أن يقوم به بن بيض

أتاهم بالغرائر متأقات من أرض الشام بالبر النفيض

فأوسع أهل مكة من هشيم وشاب الخبز باللحم الغريض

فظل القوم بين مكللات من الشيزاء حائرها يفيض(1)

جيم: سبب عداوة أمية لهاشم

ويذكر المؤرخون أن (أول سبب للعداوة بين هاشم وأمية كانت حينما حسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي وكان ذا مال فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه فشمت به ناس من قريش فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم ذلك لسنه وقدره.

فلم تدعه قريش واحفظوه، قال فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مكة والجلاء عن مكة عشر سنين؛ فرضي أمية بذلك وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفر هاشما عليه فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية)(2).

ص:51


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 75-76
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 76-77.
دال: سبب تسمية بني هاشم بالمطيبين وبني أمية بلعقة الدم

ثم أن هاشما وعبد شمس والمطلب ونوفلاً بني عبد مناف أجمعوا أن يأخذوا ما بأيدي بني عبد الدار بن قصي مما كان قصي جعل إلى عبد الدار من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية والندوة، ورأوا أنهم أحق به منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم؛ وكان الذي قام بأمرهم هاشم بن عبد مناف، فأبت بنو عبد الدار أن تسلم ذلك إليهم، وقام بأمرهم عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.

فصار مع بني عبد مناف بن قصي بنو أسد بن عبد العزى بن قصي وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم بن مرة وبنو الحارث بن فهر؛ وصار مع بني عبد الدار بنو مخزوم وسهم وجمح وبنو عدي بن كعب وخرجت من ذلك بنو عامر بن لؤي ومحارب بن فهر فلم يكونوا مع واحد من الفريقين.

فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا الا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة فأخرجت بنو عبد مناف ومن صار معهم جفنة مملوءة طيبا فوضعوها حول الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا ومسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسموا المطيبين.

وأخرجت بنو عبد الدار ومن كان معهم جفنة من دم فغمسوا أيديهم فيها وتعاقدوا وتحالفوا ألا يتخاذلوا ما بل بحر صوفة فسموا الاحلاف ولعقة الدم؛ وتهيأوا للقتال وعبئت كل قبيلة لقبيلة؛ فبينما الناس على ذلك إذ تداعوا إلى الصلح إلى أن يعطوا بني عبد مناف بن قصي السقاية والرفادة وتكون الحجابة

ص:52

واللواء ودار الندوة إلى بني عبد الدار كما كانت؛ ففعلوا وتحاجز الناس فلم تزل دار الندوة في يدي بني عبد الدار حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي من معاوية بن أبي سفيان فجعلها معاوية دار الامارة فهي في أيدي الخلفاء إلى اليوم)(1).

هاء: أول من سنّ ضيافة حجّاج بيت الله من ماله الخاص حتى يرحلوا من مكة

قال ابن سعد (أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي قال فحدثني يزيد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي عن أبيه قال فاصطلحوا يومئذ أن ولي هاشم بن عبد مناف بن قصي السقاية والرفادة وكان رجلا موسرا وكان إذا حضر الحج قام في قريش فقال: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته فهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه وقد خصكم الله بذلك وأكرمكم به وحفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره فأكرموا ضيفه وزوره يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كأنهن القداح قد أزحفوا وتفلوا وقملوا وأرملوا فأقروهم واسقوهم.

فكانت قريش ترافد على ذلك، حتى أن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير على قدرهم؛ وكان هاشم بن عبد مناف بن قصي يخرج في كل عام مالا كثيرا، وكان قوم من قريش أهل يسارة يترافدون؛ وكان كل إنسان يرسل بمائة مثقال هرقلية، وكان هاشم يأمر بحياض من أدم فتجعل في موضع زمزم ثم يستقي فيها الماء من البئار التي بمكة فيشربه الحاج، وكان يطعمهم أول ما يطعم

ص:53


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ص 77.

قبل التروية بيوم بمكة وبمنى وجمع وعرفة؛ وكان يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن، والسويق والتمر، ويجعل لهم الماء فيسقون بمنى؛ والماء يومئذ قليل في حياض الادم إلى أن يصدروا من منى فتنقطع الضيافة ويتفرق الناس لبلادهم)(1).

واو: أول من أخذ الحلف لقريش من قيصر الروم، وملك الحبشة

قال ابن سعد: (وأخبرنا محمد بن عمر الأسلمي قال حدثني القاسم بن العباس اللهبني عن أبيه عن عبد الله بن نوفل بن الحارث قال: كان هاشم رجلا شريفا وهو الذي أخذ الحلف لقريش من قيصر لان تختلف آمنة من على الطريق فألفهم على أن تحمل قريش بضائعهم ولا كراء على أهل الطريق، فكتب له قيصر كتابا وكتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا أرضه وكانوا تجارا.

فخرج هاشم في عير لقريش فيها تجارات، وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا بسوق النبط فصادفوا سوقا تقوم بها في السنة يحشدون لها، فباعوا واشتروا؛ ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق، فرأى - هاشم - امرأة تأمر بما يشترى ويباع لها، فرأى امرأة حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشم عنها: أأيم هي، أم ذات زوج ؟

فقيل له أيم، كانت تحت أحيحة بن الجلاح، فولدت له عمرا ومعبدا، ثم فارقها؛ وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها فإذا كرهت رجلا فارقته؛ وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد ابن

ص:54


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 78.

خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، فخطبها هاشم فعرفت شرفه ونسبه فزوجته نفسها.

ودخل بها وصنع طعاما ودعا من هناك من أصحاب العير الذين كانوا معه، وكانوا أربعين رجلا من قريش، فيهم رجال من بني عبد مناف ومخزوم وسهم، ودعا من الخزرج رجالا؛ وأقام بأصحابه أياما؛ وعلقت سلمى بعبد المطلب، فولدته وفي رأسه شيبة، فسمي شيبة.

وخرج هاشم في أصحابه إلى الشام، حتى بلغ غزة، فاشتكى فأقاموا عليه حتى مات، فدفنوه بغزة ورجعوا بتركته إلى ولده. ويقال ان الذي رجع بتركته إلى ولده أبو رهم بن عبد العزى العامري وعامر بن لؤي وهو يومئذ غلام ابن عشرين سنة)(1).

زاي: وصيته وما خلف من الأولاد

قال ابن سعد أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال: أوصى هاشم بن عبد مناف إلى أخيه المطلب بن عبد مناف فبنو هاشم وبنو المطلب يد واحدة إلى اليوم؛ وبنو عبد شمس وبنو نوفل ابنا عبد مناف يد إلى اليوم.

قال وأخبرنا هشام بن محمد عن أبيه قال: وولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمس نسوة، شيبة الحمد وهو عبد المطلب، وكان سيد قريش حتى هلك؛ ورقية بنت هاشم ماتت وهي جارية لم تبرز، وأمها سلمى بنت عمرو

ص:55


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 78.

ابن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأخواهما بأمهما عمرو، ومعبد، ابنا أحيحة بن الجلاح.

وأبا صيفي بن هاشم واسمه عمرو، وهو أكبرهم؛ وصيفيا، وأمهما هند بنت عمرو بن ثعلبة بن الحارث، وأخوهما لأُمهما مخرمة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي.

وأسد بن هاشم وأمه قيلة، وكانت تلقب الجزور بنت عامر بن مالك بن جذيمة وهو المصطلق من خزاعة.

ونضلة بن هاشم، والشفاء، ورقية؛ وأمهم أميمة بنت عدي بن عبد الله ابن دينار بن مالك بن سلامان بن سعد من قضاعة؛ وأخواهما لإمهما نفيل بن عبد العزى العدوي، وعمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي.

والضعيفة بنت هاشم، وخالدة بنت هاشم، وأمها أم عبد الله، وهي واقدة بنت أبي عدي، ويقال: عدي وهو عامر بن عبد نهم بن زيد بن مازن بن صعصعة.

وحنة بنت هاشم وأمها عدي بنت حبيب بن الحارث بن مالك بن حطيط ابن جشم بن قسي وهو ثقيف.

قال وكان هاشم يكنى أبا يزيد، وقال بعضهم: بل كان يكنى بابنه أسد بن هاشم؛ ولما توفي هاشم رثاه ولده بأشعار كثيرة فكان مما قيل فيما أخبرنا محمد بن عمر عن رجاله قالت خالدة بنت هاشم ترثي أباها وهو

ص:56

شعر فيه ضعف:

بكر النعي بخير من وطئ الحصى ذي المكرمات وذي الفعال الفاضل

بالسيد الغمر السميدع ذي النهى ماضي العزيمة غير نكس واغل

زين العشيرة كلها وربيعها في المطبقات وفي الزمان الماحل

بأخي المكارم والفواضل والعلى عمرو بن عبد مناف غير الباطل

ان المهذب من لؤي كلها بالشام بين صفائح وجنادل

فأبكي عليه ما بقيت بعولة فلقد رزئت أخا ندى وفواضل

ولقد رزئت قريع فهر كلها ورئيسها في كل أمر شامل

وقالت الشفاء بنت هاشم ترثي أباها:

عين جودي بعبرة وسجوم واسفحي الدمع للجواد الكريم

عين واستعبري وسحي وجمي لأبيك المسود المعلوم

هاشم الخير ذي الجلالة والمجد وذي الباع والندى والصميم

وربيع للمجتدين وحرز ولزاز لكل أمر عظيم

شمري نماه للعز صقر شامخ البيت من سراة الأديم

شيظمي مهذب ذي فضول أريحي مثل القناة وسيم

غالبي سميدع أحوذي باسق المجد مضرحي حليم

صادق الناس في المواطن شهم ماجد الجد غير نكس ذميم(1)

ص:57


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 76-81.
رابعا: عبد المطلب بن هاشم
اشارة

جد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وكفيله، واسمه شيبة الحمد وهو أحد الرجال الذين تجلى فيهم الاصطفاء لسيادة مكة، بل ظهر في جبينه نور النبوة، وهيبة السلاطين، وجلالة الملوك، وعزة الأولياء، فحفظ الله بدعائه البيت الحرام، وعلى يديه ظهرت الآيات والدلائل على اختصاصه بالاصطفاء، فأكرمه الله بزمزم، ورد كيد أصحاب الفيل، وغيرها من الكرامات.

ألف: لماذا سمي شيبة الحمد بعبد المطلب

روى ابن سعد عن محمد بن عمر الأسلمي، قال: (كان المطلب بن عبد مناف بن قصي أكبر من هاشم ومن عبد شمس، وهو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشي في متجرها، وكان شريفا في قومه مطاعا، سيدا، وكانت قريش تسميه الفيض، لسماحته، فولي بعد هاشم السقاية والرفادة، وقال في ذلك:

أبلغ لديك بني هاشم بما قد فعلنا ولم نؤمر

أقمنا لنسقي حجيج الحرام إذ ترك المجد لم يؤثر

نسوق الحجيج لأبياتنا كأنهم بقر تحشر

قال: وقدم ثابت بن المنذر بن حرام وهو أبو حسان بن ثابت الشاعر مكة معتمرا فلقي المطلب وكان له خليلا، فقال له: لو رأيت ابن أخيك شيبة فينا لرأيت جمالا وهيبة وشرفا، لقد نظرت إليه وهو يناضل فتيانا من أخواله فيدخل مرماتيه جميعا في مثل راحتي هذه ويقول كلما خسق: أنا ابن عمرو العلى.

فقال المطلب: لا أمسي حتى أخرج إليه فأقدم به؛ فقال ثابت: ما أرى

ص:58

سلمى تدفعه إليك، ولا أخواله، هم أضن به من ذلك، وما عليك أن تدعه فيكون في أخواله حتى يكون هو الذي يقدم عليك إلى ما ههنا راغبا فيك.

فقال المطلب: يا أبا أوس، ما كنت لأدعه هناك، ويترك مآثر قومه وسطته ونسبه وشرفه في قومه ما قد علمت.

فخرج المطلب فورد المدينة، فنزل في ناحية وجعل يسأل عنه، حتى وجده يرمي في فتيان من أخواله، فلما رآه عرف شبه أبيه فيه ففاضت عيناه وضمه إليه وكساه حلة يمانية وأنشأ يقول:

عرفت شيبة والنجار قد حفلت أبناؤها حوله بالنبل تنتضل

عرفت أجلاده منا وشيمته ففاض مني عليه وابل سبل

فأرسلت سلمى إلى المطلب فدعته إلى النزول عليها، فقال: شأني أخف من ذلك ما أريد أن أحل عقدة حتى أقبض ابن أخي وألحقه ببلده وقومه.

فقالت: لست بمرسلته معك، وغلظت عليه.

فقال المطلب: لا تفعلي فإني غير منصرف حتى أخرج به معي، ابن أخي قد بلغ، وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف قومنا، والمقام ببلده خير له من المقام ههنا، وهو ابنك حيث كان.

فلما رأت أنه غير مقصر حتى يخرج به، استنظرته ثلاثة أيام، وتحول إليهم فنزل عندهم فأقام ثلاثا ثم احتمله وانطلقا جميعا، فأنشأ المطلب يقول:

أبلغ بني النجار إن جئتهم أني منهم وابنهم والخميس

رأيتهم قوما إذا جئتهم هووا لقائي وأحبوا حسيسي

ص:59

ودخل به المطلب مكة ظهرا فقالت قريش هذا عبد المطلب، فقال: ويحكم إنما هو ابن أخي شيبة بن عمرو؛ فلما رأوه قالوا: ابنه لعمري؛ فلم يزل عبد المطلب مقيما بمكة حتى أدرك)(1).

باء: اصطفاؤه لحفر بئر زمزم

قال ابن سعد: (وخرج المطلب بن عبد مناف تاجرا إلى أرض اليمن فهلك بردمان من أرض اليمن، فولي عبد المطلب بن هاشم بعده الرفادة والسقاية، فلم يزل ذلك بيده يطعم الحاج ويسقيهم في حياض من أدم بمكة، فلما سقي زمزم ترك السقي في الحياض بمكة وسقاهم من زمزم حين حفرها، وكان يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقيهم.

وكانت زمزم سقيا من الله أتي في المنام مرات فأمر بحفرها ووصف له موضعها؛ فقيل له: أحفر طيبة، قال: وما طيبة ؟ فلما كان الغد أتاه فقال: أحفر برة، قال: وما برة ؟ فلما كان الغد، أتاه وهو نائم في مضجعه ذلك فقال: أحفر المضنونة.

قال: وما المضنونة، أبن لي ما تقول ؟! قال: فلما كان الغد أتاه فقال، أحفر زمزم، قال: وما زمزم ؟

قال: لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، قال: غراب أعصم لا يبرح عند الذبائح، مكان الفرث والدم، وهي شرب لك ولولدك من بعدك.

ص:60


1- الطبقات لابن سعد: ج 1، ص 79.

قال فغدا عبد المطلب بمعوله ومسحاته معه ابنه الحارث بن عبد المطلب وليس له يومئذ ولد غيره، فجعل عبد المطلب يحفر بالمعول ويغرف بالمسحاة في المكتل فيحمله الحارث فيلقيه خارجا فحفر ثلاثة أيام، ثم بدا له الطوي، فكبر وقال: هذا طوي إسماعيل.

فعرفت قريش أنه قد أدرك الماء فأتوه فقالوا: أشركنا فيه. فقال: ما أنا بفاعل هذا أمر خصصت به دونكم فاجعلوا بيننا وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه.

قالوا: كاهنة بني سعد هذيم، وكانت بمعان من أشراف الشام، فخرجوا إليها وخرج مع عبد المطلب عشرون رجلا من بني عبد مناف، وخرجت قريش بعشرين رجلا من قبائلها، فلما كانوا بالفقير من طريق الشام أو حذوة، فني ماء القوم جميعا فعطشوا، فقالوا لعبد المطلب: ما ترى ؟ فقال: هو الموت، فليحفر كل رجل منكم حفرة لنفسه، فكلما مات رجل دفنه أصحابه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فيموت ضيعة أيسر من أن تموتوا جميعا فحفروا ثم قعدوا ينتظرون الموت.

فقال عبد المطلب: والله ان القاءنا بأيدينا هكذا لعجز ألا نضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض هذه البلاد فارتحلوا؛ وقام عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجر تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه وشربوا جميعا.

ثم دعا القبائل من قريش فقال هلموا إلى الماء الرواء فقد سقانا الله، فشربوا واستقوا وقالوا قد قضي لك علينا الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو

ص:61

الذي سقاك زمزم، فوالله لا نخاصمك فيها أبدا، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبين زمزم)(1).

جيم: تحالفه مع خزاعة ورعايته لحفظ الجوار

قال ابن سعد: (وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وعن عبد المجيد بن أبي عبس وأبي المقوم وغيرهم قالوا وكان عبد المطلب أحسن قريش وجها وأمده جسما وأحلمه حلما وأجوده كفا وأبعد الناس من كل موبقة تفسد الرجال ولم يره ملك قط إلا أكرمه وشفعه وكان سيد قريش حتى هلك فأتاه نفر من خزاعة فقالوا نحن قوم متجاورون في الدار هلم فلنحالفك فأجابهم إلى ذلك وأقبل عبد المطلب في سبعة نفر من بني عبد المطلب والأرقم بن نضلة بن هاشم والضحاك وعمرو ابني أبي صيفي بن هاشم ولم يحضره أحد من بني عبد شمس ولا نوفل فدخلوا دار الندوة فتحالفوا فيها على التناصر والمواساة وكتبوا بينهم كتابا وعلقوه في الكعبة وقال عبد المطلب في ذلك:

سأوصي زبيرا إن توافت منيتي بإمساك ما بيني وبين بني عمرو

وأن يحفظ الحلف الذي سن شيخه ولا يلحدن فيه بظلم ولا غدر

هم حفظوا الآل القديم وحالفوا أباك فكانوا دون قومك من فهر

قال: فأوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير بن عبد المطلب وأوصى الزبير إلى أبي طالب وأوصى أبو طالب إلى العباس بن عبد المطلب)(2).

ص:62


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 84.
2- الطبقات لابن سعد: ج 1، ص 86.
دال: زواجه وابنه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني زهرة

قال ابن سعد: (أخبرنا هشام بن محمد بن السائب قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري عن أبيه عن جده قال: كان عبد المطلب إذا ورد اليمن نزل على عظيم من عظماء حمير فنزل عليه مرة من المرات فوجد عنده رجلا من أهل اليمن قد أمهل له في العمر وقد قرأ الكتب فقال له يا عبد المطلب تأذن لي أن أفتش مكانا منك قال ليس كل مكان مني آذن لك في تفتيشه قال إنما هو منخراك قال فدونك قال فنظر إلى (يار) وهو الشعر في منخريه فقال أرى نبوة وأرى ملكا وأرى أحدهما في بني زهرة فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف ابن زهرة وزوج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فولدت محمدا صلى الله عليه وسلم فجعل الله في بني عبد المطلب النبوة والخلافة والله أعلم حيث وضع ذلك)(1).

هاء: إن عبد المطلب أول من خضب لحيته وشعره بالوسمة ولم تعرف قريش بذلك

قال ابن سعد أخبرنا هشام بن محمد قال حدثني أبي قال هشام وأخبرني رجل من أهل المدينة عن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة عن أبيه قالا: (كان أول من خضب بالوسمة من قريش بمكة عبد المطلب بن هاشم فكان إذا ورد اليمن نزل على عظيم من عظماء حمير فقال له يا عبد المطلب هل

ص:63


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 86.

لك أن تغير هذا البياض فتعود شابا قال ذاك إليك قال فأمر به فخضب بحناء ثم علي بالوسمة فقال له عبد المطلب زودنا من هذا فزوده فأكثر فدخل مكة ليلا ثم خرج عليهم بالغداة كأن شعره حلك الغراب فقالت له نتيلة بنت جناب بن كليب أم العباس بن عبد المطلب يا شيبة الحمد لو دام هذا لك كان حسنا فقال عبد المطلب:

لو دام لي هذا السواد حمدته فكان بديلا من شباب قد انصرم

تمتعت منه والحياة قصيرة ولا بد من موت فتيلة أو هرم

وماذا الذي يجدي على المرء خفضه ونعمته يوما إذا عرشه انهدم

فموت جهيز عاجل لا شوى له أحب إلي من مقالهم حكم

قال فخضب أهل مكة بالسواد.

قال: وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال أخبرني رجل من بني كنانة يقال له ابن أبي صالح ورجل من أهل الرقة مولى لبني أسد وكان عالما قالا تنافر عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي الحبشي فأبى أن ينفر بينهما فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب فقال لحرب يا أبا عمرو أتنافر رجلا هو أطول منك قامة وأعظم منك هامة وأوسم منك وسامة وأقل منك لأمّة وأكثر منك ولدا وأجزل منك صفدا وأطول منك مذودا فنفره عليه فقال حرب: ان من انتكات الزمان أن جعلناك حكما)(1).

ص:64


1- الطبقات لابن سعد: ج 1، ص 86-87.
واو: إنّ الله تعالى يكرمه بتفجير عين ماء عند أقدام بعيره

قال ابن سعد:

(أخبرنا هشام بن محمد عن أبيه قال: كان عبد المطلب نديما لحرب بن أمية حتى تنافرا إلى نفيل بن عبد العزى جد عمر بن الخطاب فلما نفر نفيل عبد المطلب تفرق فصار حرب نديما لعبد الله بن جدعان.

قال: أخبرنا هشام بن محمد عن أبي مسكين، قال: كان لعبد المطلب بن هاشم ماء بالطائف يقال له ذو الهرم، وكان في يدي ثقيف دهراً ثم طلبه عبد المطلب منهم فأبوا عليه، وكان صاحب أمر ثقيف جندب بن الحارث بن حبيب ابن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم بن ثقيف فأبى عليه وخاصمه فيه فدعاهما ذلك إلى المنافرة إلى الكاهن العذري؛ وكان يقال له عزى سلمة وكان بالشام فتنافرا على إبل سموها.

فخرج عبد المطلب في نفر من قريش ومعه ابنه الحارث ولا ولد له يومئذ غيره، وخرج جندب في نفر من ثقيف فنفد ماء عبد المطلب وأصحابه فطلبوا إلى الثقفيين أن يسقوهم فأبوا ففجر الله لهم عينا من تحت جران بعير عبد المطلب فحمد الله عز وجل وعلم أن ذلك منة، فشربوا ريهم وحملوا حاجتهم؛ ونفد ماء الثقفيين فبعثوا إلى عبد المطلب يستسقونه فسقاهم وأتوا الكاهن فنفر عبد المطلب عليهم فأخذ عبد المطلب الإبل فنحرها وأخذ الهرم ورجع وقد فضله عليه وفضل قومه على قومه)(1).

ص:65


1- المصدر السابق: ج 1، ص 88.
زاي: نذر عبد المطلب في نحر ولده عبد الله

ولم يتوقف اللطف الإلهي بعبد المطلب عند هذا الحد وإنما تعدى ذلك إلى أمور أخرى اقترب فيها عبد المطلب من فعل الأنبياء عليهم السلام حينما أحاطت بهم الكرامات.

قال ابن سعد (أخبرنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمي أخبرنا محمد بن عبد الله عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن ابن عباس قال الواقدي وحدثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن شيبة بن نصاح عن الأعرج عن محمد بن ربيعة بن الحارث وغيرهم قالوا: لما رأى عبد المطلب قلة أعوانه في حفر زمزم وانما كان يحفر وحده وابنه الحارث هو بكره نذر لئن أكمل الله له عشرة ذكور حتى يراهم أن يذبح أحدهم؛ فلما تكاملوا عشرة، فهم: الحارث، والزبير وأبو طالب، وعبد الله، وحمزة، وأبو لهب، والغيداق، والمقوم، وضرار، والعباس، جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء لله به فما اختلف عليه منهم أحد، وقالوا: أوف بنذرك وافعل ما شئت.

فقال: ليكتب كل رجل منكم اسمه في قدحه، ففعلوا فدخل عبد المطلب في جوف الكعبة، وقال للسادن: أضرب بقداحهم؛ فضرب فخرج قدح عبد الله أولها؛ وكان عبد المطلب يحبه فأخذ بيده يقوده إلى المذبح ومعه المدية فبكى بنات عبد المطلب وكن قياما وقالت إحداهن لأبيها اعذر فيه بأن تضرب في إبلك السوائم التي في الحرم.

فقال للسادن: إضرب عليه بالقداح وعلى عشر من الإبل، وكانت الدية

ص:66

يومئذ عشرا من الإبل؛ فضرب فخرج القدح على عبد الله، فجعل يزيد عشرا عشرا، كل ذلك يخرج القدح على عبد الله حتى كملت المائة، فضرب بالقداح فخرج على الإبل؛ فكبر عبد المطلب والناس معه واحتمل بنات عبد المطلب أخاهن عبد الله، وقدّم عبد المطلب الإبل فنحرها بين الصفا والمروة.

قال أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني سعيد بن مسلم عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نحرها عبد المطلب خلى بينها وبين كل من وردها من انسي أو سبع أو طائر لا يذب عنها أحدا ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئا.

قال أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن عكرمة عن ابن عباس قال كانت الدية يومئذ عشرا من الإبل و عبد المطلب أول من سن دية النفس مائة من الإبل فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل وأقرها رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم على ما كانت عليه)(1).

حاء: عبد المطلب يستسقي الغمام بوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم

قال ابن سعد: (أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال حدثني الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري عن ابن لعبد الرحمن بن موهب بن رباح الأشعري حليف بني زهرة عن أبيه قال حدثني مخرمة بن نوفل الزهري قال: سمعت أمي رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف تحدث وكانت والدة عبد المطلب قالت تتابعت على قريش سنون ذهبن بالأموال وأشفين على

ص:67


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 88-89.

الأنفس، قالت فسمعت قائلا في المنام: يا معشر قريش ان هذا النبي المبعوث منكم وهذا أبان خروجه وبه يأتيكم الحيا والخصب فانظروا رجلا من أوسطكم نسبا طوالا عظاما أبيض مقرون الحاجبين أهدب الأشفار، جعدا، سهل الخدين، رقيق العرنين، فليخرج هو وجميع ولده وليخرج منكم من كل بطن رجل فتطهروا وتطيبوا ثم استلموا الركن ثم ارقوا رأس أبي قبيس ثم يتقدم هذا الرجل فيستسقي وتؤمنون فإنكم ستسقون.

فأصبحت فقصت رؤياها عليهم فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبد المطلب، فاجتمعوا إليه وخرج من كل بطن منهم رجل ففعلوا ما أمرتهم به ثم علوا على أبي قبيس ومعهم النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم وهو غلام، فتقدم عبد المطلب وقال: اللهم هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك وإماؤك وبنات إمائك وقد نزل بنا ما ترى وتتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف والخف وأشفت على الأنفس فأذهب عنا الجدب وائتنا بالحيا والخصب.

فما برحوا حتى سالت الأودية وبرسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم سقوا فقالت رقيقة بنت أبي صيفي بن هشام بن عبد مناف:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر

فجاد بالماء جوني له سبل دان فعاشت به الأنعام والشجر

منا من الله بالميمون طائره وخير من بشرت يوما به مضر

مبارك الأمر يستسقى الغمام به ما في الأنام له عد ولا خطر(1)

ص:68


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 90.
طاء: كرامة عبد المطلب في حفظ بيت الله من أبرهة الحبشي

قال ابن سعد: (كان النجاشي قد وجه أرياط أبا أصحم في أربعة آلاف إلى اليمن فأداخها وغلب عليها فأعطى الملوك واستذل الفقراء فقام رجل من الحبشة يقال له إبرهة الأشرم أبو يكسوم فدعا إلى طاعته فأجابوه فقتل أرياط وغلب على اليمن، فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم للحج إلى بيت الله الحرام، فسأل: أين يذهب الناس ؟ فقال: يحجون إلى بيت الله بمكة، قال: مم هو؟ قالوا: من حجارة، قال: وما كسوته ؟ قالوا: ما يأتي من ههنا الوصائل؛ قال: والمسيح لأبنين لكم خيرا منه.

فبنى لهم بيتا عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود وحلاه بالذهب والفضة، وحفه بالجوهر، وجعل له أبوابا عليها صفائح الذهب ومسامير الذهب وفصل بينها بالجوهر، وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة، وجعل له حجابا؛ وكان يوقد فيه بالمندلي، ويلطخ جدره بالمسك فيسود حتى يغيب الجوهر، وأمر الناس فحجوه؛ فحجه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيه رجال يتعبدون ويتألهون ونسكوا له.

وكان نفيل الخثعمي يورض له ما يكره فأمهل فلما كان ليلة من الليالي لم ير أحدا يتحرك فقام فجاء بعذرة فلطخ بها قبلته وجمع جيفا فألقاها فيه فأخبر أبرهة بذلك فغضب غضبا شديدا وقال إنما فعلت هذا العرب غضبا لبيتهم لأنقضنه حجرا حجرا وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ويسأله أن يبعث إليه بفيله محمود وكان فيلا لم ير مثله في الأرض عظما وجسما وقوة فبعث به إليه.

ص:69

فلما قدم عليه الفيل سار أبرهة بالناس ومعه ملك حمير ونفيل بن حبيب الخثعمي فلما دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس فأصابوا إبلا لعبد المطلب وكان نفيل صديقا لعبد المطلب فكلمه في إبله، فكلم نفيل أبرهة فقال: أيها الملك قد أتاك سيد العرب وأفضلهم وأعظمهم شرفا، يحمل على الجياد ويعطي الأموال ويطعم ما هبت الريح، فأدخله على أبرهة.

فقال له: حاجتك. قال ترد علي إبلي. قال: ما رأى ما بلغني عنك الا الغرور وقد ظننت أنك تكلمني في بيتكم هذا الذي هو شرفكم.

قال: عبد المطلب أردد علي أبلي ودونك والبيت فان له ربا سيمنعه.

فأمر برد إبله عليه، فلما قبضها قلدها النعال وأشعرها وجعلها هديا وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب رب الحرم، وأوفى عبد المطلب على - جبل - حراء ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ومطعم بن عدي وأبو مسعود الثقفي فقال عبد المطلب:

لا همّ ان المرء يمنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا محالك

ان كتب تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك

قال: فأقبلت الطير من البحر أبابيل مع كل طائر ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره، فقذفت الحجارة عليهم لا تصيب شيئا الا هشمته، وإلاّ نفط ذلك الموضع، فكان ذلك أول ما كان الجدري والحصبة، والأشجار المرة؛ فأهمدتهم الحجارة، وبعث الله سيلا أتيا، فذهب بهم فألقاهم في البحر.

ص:70

قال وولى أبرهة ومن بقي معه هرابا، فجعل أبرهة يسقط عضوا عضوا؛ وأما محمود الفيل، فيل النجاشي، فربض ولم يشجع على الحرم فنجا؛ وأما الفيل الآخر فشجع فحصب. ويقال: كانت ثلاثة عشر فيلا، ونزل عبد المطلب من حراء فأقبل عليه رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا له: أنت كنت أعلم)(1).

ولقد كانت لعبد الله خمس من السنن أجراها الله في الإسلام: 1 - حرم نساء الآباء على الأبناء، 2 - سن الدية في القتل مائة من الإبل، 3 - وكان يطوف بالبيت سبعة أشواط ، 4 - ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس، 5 - وكان أول من بني معبداً بحراء وكان يدخل فيه إذا أهل شهر رمضان إلى آخر الشهر.

وعليه: فهذه هي الرموز التي تجسد فيها الاصطفاء الرباني وبها كان مصداق سيادة قريش لقبائل العرب وشرفها على بقية القبائل العربية.

المسألة الثالثة: السمات التي أهلت قريشاً لسيادة المجتمع المكي

فهذه القراءة الموجزة لتاريخ قريش تكشف عن مجموعة من السمات التي اتسمت بها هذه العشيرة وهي كالآتي:

1 - إنها فرضت سيادتها وسلطانها على مكة مع مالها من مكانة دينية تأخذ بأعناق العرب على اختلاف معتقداتهم ففيهم الموحدون على ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وفيهم اليهود والنصارى والوثنيون فجميع هؤلاء ينظرون إلى مكة على أنها محل مقدس، فاكتسبت قريش خصوصيتها من هذه النظرة.

ص:71


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 81-92.

2 - إنها أي: قريش، تتحكم بالمال والأسواق والاقتصاد لأهل مكة، بوصفها أي: أهل مكة قبائل تعتمد على موسم الحاج فضلاً عن التبادل التجاري مع الشمال والجنوب، أي الشام واليمن، ممثلا ذلك في إيلاف قريش الذي أخبر عنه القرآن الكريم، وبالتالي فزمام المال والتجارة والسوق بيد قريش.

3 - إنّ قريشاً ومن خلال عبد المطلب قد أوجدت نظاماً إقليمياً يعتمد على العلاقات الخارجية مع الإمبراطوريات العالمية الثلاث آنذاك.

إذ تمكن عبد المطلب ومن قبله هاشم بن عبد مناف من مدّ جسور التعاون التجاري والاقتصادي إلى هذه الممالك أو الإمبروطوريات وذلك من خلال عقد اتفاقيات مع قيصر الروم، والنجاشي ملك الحبشة، وكسرى الفرس، لغرض تسهيل سير هذه التجارة، مما عمل على نقل الصناعات بين هذه الممالك وقريش.

4 - انعكاس التبادل التجاري بين المجتمعات الثلاثة وهي الرومانية والفارسية والزنجية على طبيعة الحياة الثقافية والاجتماعية لدى قريش وظهور حالة الترف عند الطبقة الثرية فيها ممثلا ذلك في لبس الحرير والأكسية اليمانية والتيجان والحلي الرومية والفارسية؛ فاتخذ التجار أنماط عيش الأباطرة فكثر لديهم العبيد والإماء فضلا عن بناء الدور وما يرافقها من مظاهر الغنى والتبطر وإرضاء الشهوات، وبالتالي اتسمت قريش من الناحية الاجتماعية بأنها صورة ظهرت فيها ملامح متنوعة لمجتمعات أربعة وهي العربية والفارسية والرومية

ص:72

والحبشية مما انعكس على طبيعة العلاقات داخل مكة فضلاً عن تفاخرهم بالاحساب والأنساب.

5 - في المقابل نشأت طبقة في المجتمع المكي من المعدمين والفقراء جلهم من العبيد الذين جلبوا إلى مكة إما عن طريق النخاسين الذين يتاجرون بهم وإما عن طريق الغزو القبائلي وسلب القوافل، بمعنى لم يتوقف الرق على العرق وانحصاره في الزنج وإنما تعداه إلى العرب أنفسهم وإلى الروم والفرس فبلال الحبشي مظهر واحد من مظاهر الرق في المجتمع المكي وكذا صهيب الرومي، وسلمان الفارسي (المحمدي) رضي الله تعالى عنه فهؤلاء كانوا قبل الإسلام يمثلون الحالة الاجتماعية والطبقية لدى أهل مكة.

6 - كما وتدل بعض النصوص على وجود طبقة من المجتمع المكي كانت تعتمد أنماطاً خاصة في معيشتها مع بعضها وتسلك عادات اتسمت بسمة حياة القفار (الصحراء) يأكلون ورق الأشجار وجلود الحيوانات مما انعكس على سلوكهم الحياتي والمعاملاتي حتى أصبح هذا النمط من المعيشة عائقا في فهم هؤلاء للإسلام، بل اتخذوه مغرما يحاربون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته كما دل عليه حديث بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته حينما منعت ارثها، فمما جاء في خطبتها الاحتجاجية:

«وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام تشربون الطرق، وتقتاتون القد والورق، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم،

ص:73

فانقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

7 - كما تدل الروايات التاريخية على أن قريشاً قد كانت تمتاز بالقوة العسكرية وإيجاد فنون الحرب وقد عرفت هذه الحروب بأسماء أيام وقوعها ف - (أيام الفجار كان عددها أربعة أفجرة في الأشهر الحرم كانت بين قريش، ومن معها من كنانة، وبين قيس بن عيلان، وكانت الدبرة على قيس، فلما قاتلوا قالوا: فجرنا، فسميت فجارا.

ومن أيامهم: أيام العنب كان بينهم وبين بني عامر؛ ويوم نكيف من نواحي مكة، كان بين قريش وبين بني كنانة، فهزمت قريش بني كنانة، وكان صاحب أمر قريش عبد المطلب - رحمه الله -)(2).

8 - أما بلاغة قريش فقد أجمع العلماء بكلام العرب، والرواة لاشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم، أن قريشاً أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، فكانت قريش مع فصاحتها، وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب(3).

فهذه الشواهد تكشف عن طبيعة المجتمع القرشي في مكة وما ظهر فيه من سمات خاصة تميزوا بها من بين قبائل العرب كافة، وتظهر حقيقة الاصطفاء

ص:74


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 135؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16، ص 250؛ بلاغات النساء.
2- معجم قبائل العرب لعمر رضا كحالة: ج 3، ص 948.
3- المصدر السابق.

الإلهي لقريش ولبني هاشم وللحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على بني إسماعيل.

كما تكشف عن معنى أن تلقب السيدة الصديقة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السلام ب - (سيدة قريش) ودلالتها الاجتماعية والسلطوية والجاهوية وقريش هذه صفاتها ومنزلتها وشأنها في العرب قبل الإسلام، فضلا عن أن منزلة خديجة عليها السلام بعد الإسلام ازدادت سمواً ورفعة فهي أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والزوجة الصالحة التي نالت رتبة في الجنة تضاهي رتبة آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما يدل عليه قول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد أخرج الحاكم عن عروة عن عائشة أنها قالت لفاطمة - عليها السلام -: (ألا أبشرك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

«سيدات نساء أهل الجنة أربع مريم بنت عمران وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة بنت خويلد وآسية»)(1).

وبذلك يتضح جلياً لدى القارئ الكريم معنى أن تكون لقريش السيادة على المجتمع المكي ومعنى أن تكون خديجة بنت خويلد (سيدة قريش) وعليه: فإن خديجة هي سيدة مكة بما لقريش من السيادة على المجتمع المكي.

ص:75


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 186.

المبحث الثاني: قرابتها النسبية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

أن من السمات الخاصة التي اتسمت بها السيدة خديجة الكبرى عليها السلام هي قرابتها النسبية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهاشم وأسد أولاد عم وجدهم قصي بن كلاب.

وبذاك تكون خديجة قد جمعت النسب والسبب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، - كما سيمر بيانه -.

المسألة الأولى: نسبها

وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن كعب بن مرّة بن لؤي بن غالب بن فهر. وأمها: فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر.

وأم فاطمة: هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عمرو بن منقذ بن عمرو ابن معيص بن لؤي بن غالب بن فهر.

وأم هالة: قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر(1).

ومن خلال هذا النسب يظهر لنا:

ص:76


1- سيرة ابن إسحاق: ص 60؛ سيرة ابن هشام: ج 1، ص 122؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 42، ط مؤسسة الأعلمي، و ص 45، ط دار السلفية.

1. إنّها عليها السلام تتصل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجد الرابع وهو قصي بن كلاب.

2. إنّ أمها وجدَّتها الأولى والثانية، يتصلن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجد الثامن وهو «لؤي بن غالب»، وهذا يعدّ من النسب القريب أيضاً.

3. وبهذا عُدّت خديجة عليها السلام بأن لها رحماً ماسة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولقد جاء في الحديث:

«إن الرحم شجنة من الرحمن فقال الله من وصلك وصلته ومن قطعكِ قطعته»(1)).

4. إنّ لهذا النسب القريب أثره الكبير والبالغ في انتقال الجينات الوراثية إلى الأبناء، ولقد أشارت كثير من الأحاديث إلى ضرورة عملية انتقاء المرأة وخطورة أثرها في تحديد نوعية الذّرية وصلاح أمرها كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس»(2).

وقوله عليه السلام:

ص:77


1- أخرجه البخاري في الصحيح: ج 7، ص 73، كتاب الآداب، باب: من وصل وصله، برقم (5988)؛ مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار لابن ملك: ج 1، ص 213؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 14، ص 35.
2- السرائر لابن إدريس الحلي: ج 2، ص 559؛ الينابيع الفقهية لعلي أصغر مرواريد: ج 19، ص 386، باب الكفاءة في النكاح؛ إعانة الطالبين للبكري الدمياطي: ج 3، ص 312.

«إن الخال أحد الضجيعين»(1).

وقد أكد هذه الخطورة كثير من المصادر العلمية، حتى بلغ الأمر من الأهمية ما جعل لهذا الجانب علماً خاصاً أُطلق عليه اسم: علم الهندسة الوراثية.

وكلما تقدم العلم كلما ازداد الإنسان اكتشافا لهذه الحقائق، وكان الاختصاص أعمق وأدق.

ومن خلال هذا نلمس مقدار العناية الإلهية، والحكمة الربانية، التي اختارت خديجة عليها السلام بأن تكون أماً لأولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلقد ولدت له أولاده كلهم، إلا إبراهيم فإن أمه كانت مارية القبطية ولقد مات صغيراً(2).

5. وأما ذريته صلى الله عليه وآله وسلم المباركة، فلقد جعلها الله عز

ص:78


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 100، ص 236؛ مستدرك سفينة البحار لعلي النمازي: ج 4، ص 342 و ج 10، ص 46؛ الكافي للشيخ الكليني رحمه الله: ج 5، ص 332، ح 2، باب فضل من تزوج ذات دين وكراهية من تزوج للمال؛ تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي رحمه الله: ج 7، ص 407، ح (1603) 12، باب اختيار الأزواج؛ وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 20، ص 48، ح (24999) 2، باب استحباب اختيار الزوجة الكريمة الأصل، ج 14، ص 29، ح 2؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 20، ص 57، باب ما ورد في اختيار الزوجة.
2- البداية والنهاية للحافظ ابن كثير الدمشقي: ج 2، ص 359 و ج 3، ص 158؛ المغني لعبد الله بن قدامة: ج 12، ص 488؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 193؛ الشرح الكبير لعبد الرحمن بن قدامة: ج 12، ص 488.

وجل من ابنته فاطمة عليها السلام التي ولدتها أم المؤمنين خديجة عليها السلام.

وعليه:

يظهر لنا جلياً السر في أن تكون خديجة عليها السلام بهذا القرب النسبي من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لكي يحفظ الله عز وجل نسل خاتم الأنبياء والمرسلين من التهجين ويبقى سالماً محافظاً على صفاته النبوية من إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام.

وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحقيقة للناس حتى لا يلتبس الأمر على الكثير منهم لان السائد عند جميع البشر أن ذرية الرجل إنما تكون من صلبه، إلا ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد جعلها الله من صلب علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن رحم فاطمة عليها السلام.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن الله جعل ذرية كل نبي في صلبه وجعل ذريتي في صلب علي ابن أبي طالب»(1).

ص:79


1- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 1، ص 316؛ وذكره محب الدين الطبري في الرياض النضرة وقال أخرجه أبو الخير الحاكمي، وفي: ص 213، قال: وأخرجه أبو خير القزويني، وذكره ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 93، وقال: أخرجه أبو خير الحاكمي، وصاحب كنوز المطالب في بني طالب؛ غاية المرام للسيد هاشم البحراني: ج 1، ص 126، الباب الثاني عشر في نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على علي بن أبي طالب عليه السلام بأنه الإمام بعده؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 7، ص 504 و ج 17، ص 295؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 23، ص 144، ح 98؛ نيل الأوطار

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«كل بني أم فان عصبتهم لأبيهم ماخلا ولد فاطمة فاني عصبتهم وأنا أبوهم»(1).

وفي رواية:

«إن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فانا وليهم، فهم عترتي خلقوا من طينتي ويلٌ للمكذبين بفضلهم، ومن أحبهم أحبه الله تعالى ومن أبغضهم أبغضهُ الله تعالى»(2).

ص:80


1- المعجم الوجيز للميرغني: ص 286 حديث 568؛ ورواه الطبراني في الجامع الصغير: حديث 694، ج 2، ص 278؛ والمناوي بفيض القدير: ج 5، ص 23؛ والسيوطي في الجامع الصغير: حديث 6293 و 6294، ج 2، ص 278؛ والشوكاني في نيل الأوطار: ج 6، ص 139.
2- أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 164؛ وذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: ج 11، ص 285، بطريقين عن فاطمة بنت الحسين عليهما السلام، وذكره المتقي الهندي في كنز العمال: ج 6، ص 220، بطرق ثلاث، وقال: أخرجه ابن عساكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والطبراني عن فاطمة، وأيضاً عن عمر بن الخطاب؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 36، ص 313؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 18، ص 332، و ج 33، ص 63 و 39.

وغيرها من الأحاديث الشريفة التي تكشف عن أهمية اختيار الزوجة وآثار ذلك الاختيار على الذرية فكيف إذا كان الأمر متعلقاً بذرية الأنبياء عليهم السلام فضلاً عمن اصطفاهم الله تعالى لحملة شرعه وجعلهم حججاً على خلقه وهداة للناس إلى دينه، قال تعالى:

(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ 1.)

المسألة الثانية: منزلتها في مكة تمنعها من الزواج وتلزمها حسن الاختيار

لقد بلغت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السلام قبل الإسلام منزلةً سامية في مكة، وبين قريش؛ ولقد ذكرها أهل السير والتاريخ بكلمات تكشف عن عظم هذه المنزلة وسمو تلك المكانة.

فكانت - كما ذكروا -: امرأة حازمة، ضابطة، جلدة، قوية، شريفة، مع ما أراد الله لها من الكرامة والخير.

وهي يومئذٍ: أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، وأحسنهم جمالاً(1).

ص:81


1- راجع طبقات ابن سعد: ج 1، ص 105؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 1، ص 213؛ السيرة النبوية لابن جرير الطبري: ص 38؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 2، ص 294، ط دار الكتب العلمية، و ج 2، ص 359، ط دار إحياء التراث العربي - بيروت؛ أسد الغابة لابن

وكانت تدعى في الجاهلية «بالطاهرة»(1).

ويقال لها: «سيدة قريش»(2).

وكل قومها كان حريصاً على الاقتران بها لو يقدر عليه(3).

ص:82


1- تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 193؛ التبيين في انساب القرشيين: ص 71؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 263-264؛ سمط النجوم العوالي للعاصمي: ج 1، ص 365؛ السيرة الحلبية: ج 1، ص 223؛ مختصر تاريخ دمشق لابن منظور قسم السيرة النبوية: ص 264؛ رفع الخفا شرح ذات الشفا لمحمد بن حسن الآلاني الكردي: ج 1، ص 133؛ تهذيب الأسماء واللغات: ج 1، ص 432؛ المواهب اللدنية: ج 1، ص 199، علل ذلك قائلاً: «سميت بالطاهرة لشدة عفتها وصيانتها»؛ الخصائص الفاطمية، للشيخ الكجوري: ج 1، ص 161.
2- تاريخ الخميس: ج 1، ص 265؛ المواهب اللدنية للقسطلاني: ج 1، ص 199؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 1، ص 25.
3- راجع في ذلك السيرة لابن هشام: ج 1، ص 226؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، ص 117؛ السيرة النبوية لابن جرير: ص 38؛ وفي حدائق الأنوار: ج 1 ص 155؛ عيون التواريخ لابن شاكر الدمشقي: ج 1، ص 38؛ وفي الوفا: ج 1، ص 144؛ المواهب اللدنية: ج 1، ص 200.

وقد خطبها رجال من قريش برزوا في ساحتها وبذلوا لها الأموال(1).

وممن خطبها: عقبة بن أبي معيط ، والصلت بن أبي يهاب، وأبو جهل، وأبو سفيان(2).

ويبدو أن السبب في رفضها هو عدم توفر الصفات الخيرة والسجايا الطيبة والنفس الكريمة في مثل هؤلاء! لأن أي امرأة تتوفر فيها مثل هذه الصفات من النسب الرفيع، والمال الكثير، مع مالها من الجمال البالغ، لا توافق على احد ممن تقدموا لخطبتها.

لأن مثل هذه الأمور غالباً ما تكون هي الدافع الكبير لكل رجل أو امرأة في الزواج في ذلك الوقت أو غيره.

فلذلك لم يكن عندها دافع آخر يدفعها من الزواج سوى البحث عن الفضيلة بأسمى درجاتها؛ وهذا ما لا يمكن توفره في مثل هذه الشخصيات التي ذكرت والتي لم تذكر، باستثناء شخصية النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الذي سرى ذكره بالمحاسن وعلا خبره بالفضائل في مكة حتى عُرف بالصادق الأمين قبل أن يبعث نبياً، فضلاً عما ظهر له من الكرامات التي طأطأت لها رؤوس الأشراف فكان هذا ما تبحث عنه سيدة قريش.

ص:83


1- راجع طبقات ابن سعد: ج 1، ص 105؛ الوفا: ج 1، ص 144؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 263؛ المنتظم: ج 2، ص 314؛ المواهب اللدنية: ج 1، ص 200؛ السيرة النبوية لمحمد أبو شبهة: ج 1، ص 220؛ عيون التواريخ: ج 1، ص 38؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، ص 71.
2- راجع البحار للمجلسي: ج 16، ص 22.

ص:84

الفصل الثاني: زواجها من رسول الله صلى الله عليه و سلم

اشارة

ص:85

ص:86

يُعد زواج السيدة خديجة عليها السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بداية تاريخ جديد في حياتها، إن لم يكن هذا الزواج هو بداية مولد جديد لخديجة بدأ فيها التاريخ يسجل منذ هذه اللحظة معنى أن تكون أمّة ستجمع في امرأة.

ولذلك لا يمكن جمع كل تفاصيل حياة هذه الأمّة، بل لا يمكن إيصال هذا الحجم من التحول الفكري في حياة الأمم من خلال مجموعة من الوريقات دون أن يكون هناك همٌ مشتركٌ وسعيٌ دؤوبٌ في تتبع هذه الموارد الفكرية والنهضوية التي امتازت بها حياة خديجة عليها السلام.

ولذلك: نلتمس العذر إن لم نوفق في تسلسل الفكرة أو إيصال المفردة المناسبة لغرض بيان المعنى أو إظهار الدلالة على ما شملته هذه الأمّة من رقيّ وخزين فكري يدعم الأجيال على مر العصور.

وعليه:

فإنّ من الواجب علينا أن نزيل الغبار عن بعض العناوين التي شملتها هذه الخزانة الحياتية والبنائية للإنسان وهو يطالع بشغف حياة السيدة خديجة عليها السلام وينهل من معينها الفكري، فكانت كالآتي:

ص:87

المبحث الأول: هل تزوجت قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟!

اشارة

هذا السؤال ربما خطر على ذهن بعض القراء، أو ربما هو لم يخطر على ذهن البعض الآخر، لان الجواب عند البعض ممن قرأوا كتب التاريخ، والسيرة النبوية كان واضحاً.

بل ربما أن الإجابة على هذا السؤال كانت عند البعض من المسلمات! وحينئذ لا داعي لطرح مثل هذا السؤال.

لكن نحن طرحنا هذا السؤال على مائدة البحث العلمي والموضوعي فوجدنا، أن الإجابة هي: عكس ما ذكرته كتب التاريخ والسيرة من خلال المسائل الآتية:

المسألة الأولى: التعارض بين أقوال المؤرخين في زواجها وإعراضها عن الزواج

إنّ الرجوع إلى أقوال المؤرخين وحفاظ المسلمين الذين ذكروا شأن خديجة ومكانتها في مكة، وإن: «كل قومها كان حريصاً على الاقتران بها لو قدر عليه». ورفضها لشخصيات قريش وتجارها مع بذلهم الأموال الكثيرة لها.

فهذه الأقوال لا يمكن أن تنسجم مع ما جاءت به بعض المصادر لتخبرنا: أن «سيدة قريش» «الطاهرة» قد تزوجت من رجلين من الأعراب هما: (عتيق ابن عائذ بن عبد الله المخزومي) و (أبي هالة التميمي) وأن لخديجة عليها السلام منهما أولاداً.

ص:88

ثم تنزل الستار عليهما ولم تعد تذكرهما في أي مكان، ولم تبين أي حال من أحوالهما! فلعلنا نلمس من خلال هذا الحال، المبرر والدافع لهذا الزواج ؟

لكن يبدو أن الغرض المقصود من هذه الرواية هو الإشارة إلى أن خديجة عليها السلام لم تكن باكراً عندما تزوجها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فتحظى غيرها بهذه المنقبة ؟

أو لعل الراوي كان من المقربين من أهل الساسة فأراد كسب مودتهم وإرضاءهم! وأياً كان هو الغرض فإن هذه المصادر ما أنصفت أم المؤمنين خديجة عليها السلام في كتاباتها.

المسألة الثانية: الاختلاف في تحديد هوية الرجلين

إنّ الاختلاف الكبير في الروايات التي تحدثت عن هذين الرجلين يدعو إلى الاعتقاد بأن هذين الرجلين هما من نسج خيال بعض الرواة، فقد اختلف ابن حجر والزبيدي والحلبي والمامقاني، وابن سعد، والطبراني في صحة اسم أحدهما، ولم يعلم أيهما قد تزوجت به خديجة عليها السلام قبل الآخر، ولم يتأكد عندهم أن المدعو: هند، هو ابن هذا الزوج أو الزوج الآخر، وهل هو ذكر أو بنت(1) ؟

ص:89


1- راجع الإصابة: ج 3، ص 611 و 612؛ نسب قريش للزبيدي: ص 22؛ السيرة الحلبية: ج 1، ص 140؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، ص 12؛ الأوائل: ج 1، ص 159؛ الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم للسيد جعفر مرتضى: ج 2، ص 132.

أما ابن حزم الأندلسي فلقد ذكر أن لها من عتيق بن عائذ ولدا اسمه (عبد الله) ومن أبي هالة ثلاثة: ولدين وهما (هند والحارثاً وبنتاً وهي زينب)(1).

المسألة الثالثة: اعتراض أبي القاسم الكوفي

اعترض أبو القاسم الكوفي (المتوفى سنة 352)(2) على هذه المقولة وعدها

ص:90


1- جوامع السيرة النبوية لابن حزم الأندلسي: ص 30.
2- هو السيد أبو القاسم علي بن أحمد بن موسى ابن الإمام محمد بن علي بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام هكذا سرد نسبه الشيخ حسين بن عبد الوهاب المعاصر للسيدين الرضي والمرتضى في أواخر كتابه عيون المعجزات. وقد أطراه الأعلام في المعاجم المؤلفة في تراجم العلماء والمؤلفين وأثنوا عليه ثناء جميلاً، قال الشيخ الطوسي في فهرسه: علي بن أحمد الكوفي يكنى أبا القاسم كان إماميا مستقيم الطريقة وصنف كتبا كثيرة سديدة، ثم أورد كتبه؛ وقال ابن النديم في الفهرست (ص 273) أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي من الإمامية من أفاضلهم وله من الكتب كتاب الأوصياء... الخ، وقال الميرزا عبد الله أفندي المتوفى حدود سنة 1130 في رياض العلماء (مخطوط ) وهذا السيد قد ألف في زمان استقامة أمره كتبا عديدة على طريقة الشيعة الإمامية منها كتاب الإغاثة في بدع الثلاثة، ويقال له كتاب الاستغاثة، وكتاب البدع، وكتاب البدع المحدثة أيضا، (ثم قال) اعتمد الشيخ حسين بن عبد الوهاب وهو أبصر بحاله عليه وعلى كتابه وألف كتابه عيون المعجزات، تتميما لكتابه تثبيت المعجزات وكتبه جلها بل كلها معتبرة عند أصحابنا حيث كان في أول أمره مستقيما محمود الطريقة وقد صنف كتبه في تلك الأوقات ولذا اعتمد علماؤنا المتقدمون على كثير منها إذ كان معدودا من جملة قدماء علماء الشيعة برهة من الزمان. (أقول) - القول للشيخ الطوسي -: كأنه يشير بقوله (كان في أول أمره مستقيما محمود

من الفظائع مع استحالة وقوعها عند أهل العقل والتمييز، فقال: «إن الإجماع من الخاص والعام، من أهل الآثار ونقلة الأخبار: على أنه لم يبقَ من أشراف قريش ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم إلا من خطب خديجة ورام تزويجها، فامتنعت على جميعهم من ذلك، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضب عليها نساء قريش وهجرنها، وقلن لها: خطبك أشراف قريش

ص:91

وأمراؤهم فلم تتزوجي أحداً منهم، وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب، فقيراً لا مال له ؟!

فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة، يتزوجها إعرابي من تميم، وتمتنع من سادات قريش، وأشرافها على ما وصفناه ؟! إلا يعلم ذوو التمييز والنظر: أنه من أبين المحال وافظع المقال»؟!(1)

المسألة الرابعة: وعند (ابن شهر) الخبر اليقين

فقال رحمه الله: وروى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر في التلخيص: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج بها، وكانت عذراء(2).

المسألة الخامسة: دلالة آية التطهير على عدم زواجها قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم

إن اختصاص فاطمة الزهراء عليها السلام بآية التطهير فيه دلالة على

ص:92


1- الاستغاثة لأبي القاسم الكوفي: ج 1، ص 70؛ الصحيح من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسيد جعفر مرتضى: ج 2، ص 132؛ أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 6، ص 309.
2- مناقب آل أبي طالب لأبن شهر آشوب: ج 1، ص 159؛ في البحار: ج 22، ص 52؛ قال العلامة المجلسي: (وفي الأنوار، والكشف، واللمع، وكتاب البلاذري: أن زينب ورقية كانتا ربيبتي جحش، نقلاً عن المناقب)؛ موسوعة التاريخ الإسلامي لمحمد هادي اليوسفي: ج 1، ص 337؛ الدر النظيم للعاملي: ص 186.

عدم زواج خديجة بأحدٍ قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك بمقتضى الإرادة الربانية، المخبرة عنها الآية في قوله تعالى:

(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ 1) .

هذه الإرادة حفظت خديجة من أن تمسها يد الشرك، أو تدنسها الأرجاس.

لأن رحمها الطاهر أُعد لكي يستقبل الطهر صلى الله عليه وآله وسلم فتولد المطهرة فاطمة صلوات الله عليها وهكذا هي سنة الله مع أنبيائه عليهم السلام، فكما ان الله قد ربط على قلب أم موسى إذ كادت لتبدي به فحفظها وحفظ نبيه الكليم - عليه السلام - ثم حفظه وهو طفل رضيع موضوع في تابوت مقفل تقذفه الأمواج كما شاءت إرادة الله تعالى.

فكان محفوظاً بالعناية الإلهية، سائراً بمقتضى الإرادة الربانية، حتى أرجعه الله إلى أمه كي تقر عينها، كذلك هو الحال مع خديجة فقد كانت محفوظة من الأرجاس، مشمولة بلطف الرحمن، سائرة بعين الله، مصونة بمقتضى إرادة الله من أن يتعرض لها أي شكل من أشكال الدنس، حتى لقبت بين قومها ب - (الطاهرة)(1) قبل أن تزف إلى الطهر الطاهر المطهر خير الورى وسيد البشر

ص:93


1- تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 193؛ التبيين في انساب القرشيين: ص 71؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 263-264؛ مختصر تاريخ دمشق لابن منظور قسم السيرة

لتحمل بسيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام، فتكون وعاءً للإمامة وأماً لحجج الله على خلقه وحملة شرعه.

المسألة السادسة: إنها من الأرحام المطهرة

وفي قول الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وهو يخاطب جده الإمام الحسين بن علي عليهما السلام سيد شباب أهل الجنة بهذه الكلمات:

«أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها»(1)).

دلالة أخرى تسير جنباً إلى جنب مع القرآن لتبين حصانة خديجة عليها السلام من الأرجاس بدلالة قوله عليه السلام:

«والأرحام المطهرة».

والمتتبع سيرة الأولياء، ومناهج الأنبياء، يجد الشواهد الكثيرة في نجاة عباد الله المخلصين وبخاصة عندما يكون الأمر متعلقاً بعناصر تكوين الرسالة، وبقية النبوة.

ص:94


1- وهذا قول مأخوذ من الزيارة المعروفة بزيارة وارث من زيارات سيد الشهداء سلام الله عليه وقد أوردها الشيخ الطوسي في المصباح، وورد ذكرها في كتاب المزار لابن قولويه.
المسألة السابعة: السنن الكونية تنفي زواجها قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم

ولعل كثيراً من الناس لا يجد أهمية لهذه القضية من حيث إن خديجة عليها السلام تزوجت قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لم تتزوج فنقول:

إن الله سبحانه وتعالى عندما سن السنن، وقدر المقدورات، جعل هناك ثوابت من خلالها تجري الأمور، فشجرة الليمون لا يمكن أن تعطينا التفاح مع أن الشجرتين تزرعان في نفس التربة! والسبب: هو ان السنن والقوانين التي ركبت في الجينات الوراثية لهذه النبتة أو تلك لا تتغير، فكانت من ضمن الثوابت التي جعلها الله في خلقها؛ ولكن لو فرضنا ان تغيراً حدث في الشريط الوراثي الذي تحمله هذه الجينة فإنه لا يمكن أن نحصل على ثمرة الليمون بشكلها وهيأتها التي خلقها الله، مع حفظ النتائج الإيجابية التي قدرها الله لهذه الثمرة.

فكيف إذا كان الأمر متعلقاً بالنبوة والأنبياء الذين جعلهم الله الخلفاء في الأرض. قال عز وجل:

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً 1.)

ولكي تحفظ هذه المنزلة فإن الله جعل لها ثوابتَ وسنناً لا يمكن تجاوزها أو تغييرها، لأن التغير في هذه السنن لو حصل مجازاً بسبب عوامل دخيلة فإنه لا يمكن أن تتحقق النتائج المطلوبة المتمثلة في الخلافة الإلهية على الأرض. وذلك من خلال تجسيد الشرع الإلهي في تلك الشخوص المصطفاة.

ص:95

ولأجل الحفاظ على هذه النتائج جعل الله قانون «حفظ الأصلاب وطهارة الأرحام» للحيلولة دون دخول عوامل سلبية تؤثر على التكوين الخلقي والخُلقي لأصحاب هذه المنزلة، وكلما كانت المنزلة أكبر كلما كانت القوانين والسنن الإلهية التي تحيط بها أكثر وأدق.

وعليه: فإننا عندما نأتي إلى مسألة زواج خديجة عليها السلام نجد أن هناك سنناً وقوانين أحاطت هذه السيدة العظيمة عليها السلام، لأنها الموضع الذي اختاره الله لكي تحمل ثمرة النبوة... لكي تحمل بسيدة نساء العالمين... لكي تحمل بفاطمة صلوات الله عليها ولأجل هذا أجرى الله سنته في حفظ هذا الرحم.

وسوف نعرض - إن شاء الله - في أحد فصول هذا الكتاب كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اتبع منهاجاً خاصاً من العبادات المختلفة قبل أن يباشر أم المؤمنين خديجة عليها السلام لتحمل بفاطمة صلوات الله عليهم أجمعين.

وكما قلنا لأن الأمر متعلق بأوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وثقله الأصغر الذي أوصى الأمّة بالتمسك به مع الثقل الأكبر وهو القرآن الكريم.

المبحث الثاني: عمرها حينما تزوجها النبي صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

عند مراجعة كتب السيرة والتاريخ نجد أن هناك تفاوتاً كبيراً في الروايات التي ذكرت عمر خديجة عليها السلام حين اقترانها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان العمر الذي ابتدأت به هذه الروايات (خمساً وعشرين سنة)(1).

ص:96


1- دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، ص 71. المواهب اللدنية للقسطلاني: ج 1، ص 200. والبداية والنهاية: ج 2، ص 294. السيرة الحلبية: ج 1، ص 140. مسار الشيعة، الشيخ المفيد: ص 49. مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي: ص 791.

بينما العمر الذي انتهت به كان (ستاً وأربعين سنة)(1) ومن خلال هذا التفاوت نلمس انه هناك حقيقة ضائعة وهي التي تحدد لنا حقيقة عمرها حينما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكي نتمكن من الوصول إلى هذه الحقيقة اعتمدنا على الأمور التالية:

المسألة الأولى: رواية البيهقي (المتوفى سنة 458 ه -)

(2)

ذكر البيهقي في الدلائل: أن عمر خديجة عليها السلام حين الوفاة كان (خمسين) سنة، ولقد عدّه العمر الصحيح وهذا قوله: (لقد بلغت خديجة خمساً وستين سنة، ويقال خمسين وهو أصح)(3).

ص:97


1- انساب الأشراف للبلاذري، قسم حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ص 98.
2- أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي من أئمة الحديث ولد في خسروجرد (من قرى بيهق نيسابور) ونشأ في بيهق ورحل إلى بغداد ثم إلى الكوفة ومكة وغيرها، وطلب إلى نيسابور، فلم يزل بها إلى أن مات ونقل جثمانه إلى بلده. ومما قيل فيه: 1 - قال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي فضل عليه غير البيهقي، فإن له المنة والفضل على الشافعي لكثرة تصانيفه في نصرة مذهبه وبسط موجزه وتأييد آرائه. 2 - قال الذهبي: لو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهبا يجتهد فيه لكان قادراً على ذلك لسعة علومه ومعرفته بالاختلاف، صنف زهاء ألف جزء، منها السنن الكبرى، والسنن الصغرى، والمعارف، والأسماء والصفات، ودلائل النبوة، والآداب في الحديث، والترغيب والترهيب وغيرها. الأعلام للزركلي: ج 1، ص 116.
3- دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، ص 71.
المسألة الثانية: رواية الحافظ ابن كثير (المتوفى سنة 774 ه -)

(1)

ولقد اعتمد الحافظ ابن كثير أيضاً على رواية البيهقي، إذ ذهب إلى أن عمر خديجة عليها السلام حين الوفاة كان خمسين سنة(2).

المسألة الثالثة: رواية الحاكم النيسابوري (المتوفى سنة 405 ه -)

أما الحاكم النيسابوري(3) فقد عدّ القول الذي ذكر أن عمر خديجة حين

ص:98


1- عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي ولد سنة سبعمائة في بصرى سمع الحجار والطبقة وأجاز له الوافي والختني وتخرج بالمزي ولازمه؛ له من التصانيف تفسير القرآن الكريم الذي عرف بتفسير ابن كثير، والبداية والنهاية، وغيرها. ذيل طبقات الحفاظ للسيوطي: ص 362؛ معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة: ص 283. وجاء في الموسوعة العربية العالمية: سمع من علماء دمشق وأخذ عنهم مثل الأحدي، وابن تيمية الذي كانت تربطه به علاقة خاصة تعرض ابن كثير للأذى بسببها. ( http://www.mowsoah.net).
2- سيرة ابن كثير: ج 1 ص 264. البداية والنهاية: ج 2، ص 234.
3- ترجم له الذهبي في التذكرة فمما جاء فيها: الحافظ الكبير أمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع صاحب التصانيف، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاث مائة طلب الحديث من الصغر فسمع سنة ثلاثين ورحل إلى العراق وهو ابن عشرين وحج ثم جاء في خراسان وما وراء النهر وسمع بالبلاد من ألفي شيخ أو نحو ذلك. حدث عنه الدار قطني، وأبو الفتح ابن أبي الفوارس، وأبو العلاء الواسطي، والبيهقي، والقثيري، وغيرهم؛ قال الخطيب أبو بكر: أبو عبد الله الحاكم، كان ثقة، كان يميل إلى التشيع فحدثني إبراهيم بن محمد الأرموي وكان صالحاً عالماً، قال: جمع الحاكم أحاديث

الوفاة كان خمساً وستين قولاً شاذاً وأضاف: (إنّ الذي عندي أنها لم تبلغ الستين سنة)(1).

ص:99


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 182.
المسألة الرابعة: رواية محمد بن إسحاق المطلبي صاحب السير (المتوفى سنة 151 ه -)

(1)

لكنّ الحاكم النيسابوري قد بيّن العمر الذي بلغته خديجة حين الوفاة وذلك من خلال الرواية التي أخرجها عن محمد بن إسحاق الذي ذكر أن خديجة كان لها يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمان وعشرون سنة، ولم يذكر سواها.

وهذا يعني أن عمرها حين الوفاة كان اثنين وخمسين سنة، لأن الفترة التي عاشتها خديجة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت خمساً وعشرين سنة(2).

ص:100


1- محمد بن إسحاق بن يسّار بن خيار، وقيل: ابن يسار بن كوتان المدني المطلبي القرشي مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف وكان جده يسار من سبي عين التمر. ولد في المدينة المنورة ثم رحل إلى الاسكندرية سنة 115 ه - وعاد بعد سنوات إلى مسقط رأسه حيث التقى سنة 132 ه - بالمحدث سفيان بن عيينة واضطر بعد ذلك أن يهاجر إلى بغداد. عدّه الشيخ الطوسي من أصحاب الإمامين أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق عليهما السلام وذكر أيضا: أن والده إسحاق بن يسار كان من أصحاب أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين عليهم السلام. قال فيه إمام الشافعية: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق. أنظر: تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين: ج 2، ص 88؛ رجال الطوسي: ص 277، وص 109؛ تهذيب الكمال: ج 24، ص 413.
2- تاريخ الخميس: ج 1، ص 264؛ المواهب اللدنية للقسطلاني: ج 1 ص 296؛ التبيين في انساب القرشيين: ص 71؛ السيرة النبوية لمحمد أبو شهبة: ج 1، ص 397؛ سمط النجوم العوالي: ج 1، ص 367؛ حدائق الأنوار للشيباني: ج 1، ص 155.

أي: إن محمد بن إسحاق يشير إلى أن عمر خديجة عليها السلام حين الوفاة كان: اثنين وخمسين سنة.

المسألة الخامسة: رواية الحافظ ابن عساكر الدمشقي (المتوفى سنة 571 ه -)
اشارة

(1)

أما ابن عساكر فقد ذكر: أنها توفيت عن عمر ناهز الخمس والخمسين سنة(2).

إذن:

هذه الأقوال تدل على ان العمر الذي بلغته أم المؤمنين خديجة عليها السلام حين الوفاة كان في الخمسين، فلْنأتِ الآن وننظر إلى أقوال المؤرخين في تحديد السنة التي توفيت فيها كي نصل إلى معرفة السنة التي تزوجت فيها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكم كان لها من العمر حين الزواج ؟.

ص:101


1- علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي الشافعي صاحب التصانيف والتاريخ الكبير لدمشق. قال عنه السمعاني: أبو القاسم حافظ ، ثقة، متقن، دين، خير، حسن السمت، جمع بين معرفة المتن والاسناد وكان كثير العلم غزير الفضل صحيح القراءة متثبتا، رحل وتعب وبالغ في الطلب وجمع ما لم يجمعه غيره. توفي في دمشق ودفن في باب الصغير في حادي عشر رجب سنة إحدى وسبعين وخمس مائة. تذكرة الحفاظ للذهبي: ج 4، ص 1328.
2- كتاب الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين لابن عساكر الدمشقي: ص 52.
أولاً: وفاتها في السنة العاشرة من البعثة

ذكر أكثر المؤرخين أن خديجة توفيت في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين(1).

وهذا يعني: أن عمرها حينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أربعين سنة، وهو العمر الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

بمعنى أدق: أنها كانت بعمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ثانيا: زواجها قبل البعثة بخمس عشرة سنة

أما عمرها حين الزواج فقد ذكروا: «أنها تزوجت قبل البعثة بخمسة عشر عاماً»(2) مما يدل على أنها حينما اقترنت بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان عمرها خمساً وعشرين سنة ؟

لأنها عليها السلام عاشت مع النبي الأكرم (خمساً وعشرين) سنة منها خمس عشرة سنة قبل البعثة وعشر سنوات بعدها وتوفيت ولها من العمر خمسون سنة.

ص:102


1- التبيين في أنساب القرشيين: ص 73؛ سمط النجوم العوالي للعاصمي: ج 1، ص 367؛ المواهب اللدنية للقسطلاني: ج 1، ص 296؛ الاصابة لابن حجر: ج 7، ص 605، ط دار صادر؛ المصنف لعبد الرزاق: ج 7، ص 492، ح 14003، ط المكتب الإسلامي؛ القوانين الفقهية لابن الكلبي: ص 408.
2- حدائق الأنوار: ج 1، ص 155؛ المواهب اللدنية: ج 1، ص 296؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 265؛ التبيين في أنساب القرشيين: ص 71؛ سمط النجوم العوالي: ج 1، ص 367؛ البداية والنهاية: ج 2، ص 295؛ السيرة النبوية لمحمد أبو شهبة: ج 1، ص 397.
ثالثا: عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان خمساً وعشرين سنة

وإذا أخذنا بأكثر الأقوال شهرةً في عمر النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عندما تزوج بها عليها السلام وهو «خمس وعشرون سنة»(1) فان عمر خديجة حين الزواج سيكون مساوياً لعمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

رابعا: إن عمره صلى الله عليه وآله وسلم حينما تزوج خديجة عليها السلام كان خمساً وثلاثين سنة

أما في حال الأخذ بالروايات التي ذكرت عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين الزواج كان (ثلاثين)(2) و (خمسة وثلاثين)(3) و (سبعة وثلاثين)(4) فهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أكبر من خديجة عليها السلام عندما اقترن بها ب -:

1. خمس سنوات لأن عمرها كان خمساً وعشرين سنة وعمر النبي ثلاثين وذلك وفق الرواية الأولى.

2. أو انه صلى الله عليه وآله وسلم أكبر من خديجة بعشر سنوات على

ص:103


1- الوفا: ج 1، ص 145؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 263؛ التاريخ الصغير للبخاري: ج 1، ص 43؛ العقد الثمين: ج 1، ص 224؛ زاد المعاد: ج 1، ص 76؛ تهذيب الأسماء واللغات: ج 1، ص 341، وغيرهم.
2- تاريخ الخميس: ج 1، ص 263؛ مختصر تاريخ دمشق، قسم السيرة النبوية: ص 275؛ الروض الأنف: ج 1، ص 216.
3- الأوائل لأبي هلال العسكري: ج 1، ص 161.
4- العقد الثمين: ج 1، ص 224؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 263؛ المنتخب من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للزبير بن بكار: ص 33.

وفق الرواية الثانية.

3. أو أنه يكبرها ب - «اثنتي عشرة» سنة على وفق الرواية الثالثة.

وهو عكس ما ذكر من أنها عليها السلام كانت أسن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وعليه:

فإننا نستدل من خلال ما ذكر أن عمر خديجة عليها السلام وقت الزواج كان خمساً وعشرين سنة وهو نفس العمر الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الزواج والذي قال به أكثر المؤرخين والمحققين وما نسخته أيدي أهل السير.

فضلاً عن أن كثيراً من المصادر قد ذكرت أن عمر خديجة عليها السلام كان «خمساً وعشرين»(1) سنة؛ وبعضهم قد اقتصر على رواية واحدة وهي: أن عمرها كان (ثمانياً وعشرين)(2) مما يدل على أنهم يرون أن عمرها كان مقارباً لعمر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يكن هو أكبر منها لما ذكر سابقاً.

أما ما ذكره البعض من ان أم المؤمنين خديجة عليها السلام كان عمرها في الأربعين حين تزوجها النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وانها تزوجت

ص:104


1- المواهب اللدنية: ج 1، ص 200؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 1، ص 265؛ السيرة الحلبية: ج 1، ص 140.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 82؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 183؛ بهجت المحافل: ج 1، ص 48؛ مختصر تاريخ دمشق لقسم السيرة النبوية: ص 275.

قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رجلين لم تعرفهما شعاب مكة ولم تطأ أقدامهما بواديها.

فهو مما صاغته يد المتزلفة للحكام الأمويين وغيرهم من أصحاب الأغراض والأمراض - زادهم الله مرضا - وهو غيض من فيض مما عصفت به تلك الأكاذيب بمقدرات الإسلام والمسلمين.

بالوسائل الإعلامية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية كافة حتى سجل التاريخ الإسلامي بذلك سابقة فريدة لم يشهدها تاريخ أمّة من الأمم، فأي أمّة اجتمعت على أن تشن حرباً ضروساً ضد امرأة وهي لا تملك من الناصر سوى بعلها حتى ماتت مقتولة، ومضت إلى ربها شهيدة ومحتسبة(1).

المبحث الثالث: مراسم خطبتها وزواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

أشارت بعض المصادر إلى أن خديجة عليها السلام قد أبدت رغبتها في الزواج من النبي صلى الله عليه وآله وسلم(2).

ص:105


1- ما زال العمل جارياً - بعون الله تعالى وسابق لطفه ومنِّه - في دراسة حياة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها أفضل الصلاة وأزكى السلام؛ وقد اشتملت الدراسة على مباحث عديدة في التحقيق والتحليل ورد الشبهات، نسأل الله أن يوفقنا لإخراجه في القريب العاجل.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 131؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 101؛ عيون الاثر لابن سيد الناس: ج 1، ص 72.

وبما أنها امرأة شريفة، عفيفة، لبيبة، فقد جعلت الإفصاح عن هذا الزواج من خلال امرأة أخرى هي نفيسة بنت منية، وقد أرسلتها دسيساً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرت النبي برغبة خديجة في الزواج منه، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعلم عمّه أبا طالب عليه السلام، فذهب شيخ الأبطح في أهل بيته ونفر من قريش إلى ولي خديجة وهو عمها عمرو بن أسد، وليس إلى أبيها كما ذكره ابن إسحاق وصححه السهيلي في أن خويلداً قد مات في حرب الفجار قبل ذلك(1).

وخطبها أبو طالب لابن أخيه؛ إلا أن سياق بعض الروايات التي تناولت هذه الحادثة قد تجاوزت حدود اللياقة والأدب فضلاً عن التعدي على مقام السيدة خديجة عليها السلام.

المسألة الأولى: التطاول على أم المؤمنين خديجة عليها السلام في تزويج نفسها بالحيلة ؟ والرد على ذلك
اشارة

إنّ ما روي من أن خديجة عليها السلام قد سقت أباها خمراً وألبسته حلة ونثرت عليه طيباً حتى لا يعارض أمر زواجها(2) ؛ فهذا لا يتناسب مع الذوق، وغير مقبول عقلاً.

وذلك:

ص:106


1- الروض الأنف: ج 1، ص 213؛ مناقب خديجة الكبرى لمحمد بن علوي المالكي: ص 14.
2- السيرة الحلبية: ج 1، ص 224؛ وفي مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 354؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 132.
أولا: مخالفة ذلك لسيرة العقلاء

فلو أن مثل هذا الفعل حدث في أصغر البيوتات لاستهجن أحد الطرفين الأمر، سواء كانوا من أهل الخاطب أو المخطوب؛ فكيف إذا كان الخاطبون من أهل الشرف والرفعة، وبيدهم سقاية الحاج ورفادة البيت الحرام، أن يخطبوا إلى رجل قد غلب عليه السكر، فهو لا يعلم ما يقول.

ثانياً: سقوط إلزام الولي بما قال

وكيف سيلزم ولي خديجة بقول لا يدرك القصد فيه! فيقال له: لقد زوجت خديجة فيقول: لم أفعل ؟

ثالثاً: خطبة أبي طالب في الزواج ترد هذه الفِرية

كما أن الخطبة التي ذكرها أبو طالب عليه السلام المشتملة على الخصال الكريمة والسجايا الفضيلة، تستدعي من السامع أن يعي معاني كلماته، ولو كان ولي خديجة مخموراً فعندها يكون كلامه في محل ترجيح بلا مرّجح، وبيان ما لا يلزم بيانه، وهذا مخالف لسيرة العقلاء.

وتنقل الرواية أيضاً: أن ولي خديجة عندما أفاق من سكره وعرف بأمر زواج خديجة قال: لم أفعل؛ لكنه عندما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الآن قبلت ؟!

وهذا غير مقبول أيضاً:

1. لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عُرِفَ بين قريش بالصادق الأمين واشتهر بالأمانة والخلق الكريم، وتحدثت بأمانته الجماعات المكية في

ص:107

سمرها، وفي مجالسها(1). وهذا يعني أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مجهولاً وبخاصة بالنسبة لولي خديجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له صلة القرابة مع خديجة كما مرّ بيانهُ سابقاً.

2. فضلاً عما ذكر فإن والد خديجة قد مات قبل ذلك في حرب الفجار فمن أين أتت به خديجة حتى تسقيه خمراً؟! وكفى بهذا دليلاً على بطلان الرواية.

المسألة الثانية: كلام أبي طالب في خطبته لتزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكشف عن اعتقاده بنبوته قبل أن يبعث

إن هذه الفرية في حق أم المؤمنين خديجة عليها السلام، أي: أنها سقت أباها خمراً، يكشف بطلانها كلام أبي طالب الذي يعلن أمام الحاضرين عظيم منزلة ابن أخيه وإن له بعد حين نبأ عظيماً، وخطراً جليلاً، وهي النبوة؛ التي لمس آثارها من قبله عبد المطلب حينما استسقى بوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغيرها من المعاجز والكرامات التي لازمته من قبل أن يولد، منذ أن كان جنيناً في بطن أمه.

فصلى الله عليه وآله (يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)

وعليه:

فقد خطب شيخ الأبطح رضوان الله تعالى عليه لابن أخيه الصدّيقة

ص:108


1- خاتم النبيين: ج 1، ص 198.

الطاهرة من عمرو بن أسد بهذه المعاني العميقة والكلمات الجليلة، التي يكشف فيها تصريحاً وتلميحاً إلى اعتقاده بنبوة ابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل إنه أول من دعا الناس إلى الاعتقاد به؛ وإلا فما وجه الضرورة في ذكره رضوان الله عليه لبيان حقيقة ابن أخيه حتى يقسم بالله على ذلك فيقول: (وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل) وأي نبأ أعظم من النبوة، وأي خطر أجل من الرسالة، أما خطبته فقد كانت (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ(1) معد، وعنصر مضر؛ وجعلنا حضنة بيته، وَسَواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يوزن برجل إلا رجح به، وإن كان في المال قلاّ، فإن المال ظلٌ زائل، وأمرٌ حائِل، ومحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وقد بذل لها من الصِدَاق ما آجله وعاجله اثنتا عشرة أوقية ذهباً ونشاً(2) ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل)(3).

ص:109


1- ضئضئ: الأصل: أي أصل معد وهم العرب. «لسان العرب لابن منظور: ج 8، ص 6»؛ الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لابن طاووس: ص 307؛ تفسير الآلوسي: ج 18، ص 51.
2- نشا، أي: نصف أوقية. السيرة الحلبية: ج 1، ص 226.
3- أنظر الخطبة في: الكافي للكليني: ج 5، ص 375/374؛ تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 20؛ المنتظم لابن الجوزي: ج 2، ص 315؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 264؛ سمط النجوم العوالي: ج 1، ص 366؛ تاريخ ابن خلدون: ج 2، ص 409 / و ج 2، ص 6؛ السيرة
المسألة الثالثة: مراسيم زفافها إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

لعل العلامة المجلسي رحمه الله يكاد ينفرد في نقله تفاصيل مراسيم زفاف السيدة خديجة عليها السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتمداً في ذلك على ما رواه أبو الحسن البكري في كتابه اللمع.

إلا أن هذه التفاصيل لم تكد تخلو من الموضوعات الكثيرة التي بالغت في تلك المراسيم والتي لا تنسجم مع سمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته مما يدعو إلى التوقف في نقلها وإيرادها.

أما العلامة المجلسي فقد ظهر لديه عدم الاطمئنان بهذه الرواية وقد صرح بذلك فقال: (إنما أوردت تلك الحكاية لاشتمالها على بعض المعجزات والغرائب، وإن لم نثق بجميع ما اشتملت عليه لعدم الاعتماد على سندها)(1).

وعليه:

يمكن للقارئ الكريم الرجوع إلى البحار للاطلاع على هذه الرواية التي لا تخلو من الحقائق الكاشفة عن علو منزلة خديجة عليها السلام وعظم شأنها في

ص:110


1- البحار للمجلسي: ج 16، ص 77.

المجتمع المكي وإنها بحق كانت سيدة قريش التي أظهرت من الجلالة والحفاوة في مراسيم زفافها ما يليق بالملوك وزعماء القوم وأشرافهم، ولعل الرواية لا تخلو أيضا من الزيادات التي يمكن أن تكون من كلام الرواة الذي يرافق وصف الحادثة والمبالغة في مجرياتها.

أما ما ورد عن العترة النبوية عليهم السلام في بيان مراسيم الزواج ابتداءً من الخطبة إلى الزفاف، فقد روى الشيخ الكليني رحمه الله عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:

«لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوج خديجة بنت خويلد أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل عم خديجة فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال: الحمد لرب هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرية إسماعيل وأنزلنا حرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم إن ابن أخي هذا - يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ممن لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه ولا عدل له في الخلق وإن كان مقلا في المال فإن المال رفد جار وظل زائل وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها والمهر علي في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله، وله ورب هذا البيت حظ عظيم ودين شائع ورأي كامل.

ثم سكت أبو طالب وتكلم عمها وتلجلج وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر وكان رجلا من القسيسين فقالت

ص:111

خديجة مبتدئة: يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود فلست أولى بي من نفسي، قد زوجتك يا محمد نفسي، والمهر علي في مالي فأمر عمك فلينحر ناقة فليولم بها وادخل على أهلك قال أبو طالب: أشهدوا عليها بقبولها محمدا وضمانها المهر في مالها.

فقال بعض قريش يا عجباه المهر على النساء للرجال، فغضب أبو طالب غضبا شديدا وقام على قدميه وكان ممن يهابه الرجال ويكره غضبه، فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي.

ونحر أبو طالب ناقة ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأهله، وقال رجل من قريش يقال له: عبد الله بن غنم:

هنيئا مريئا يا خديجة قد جرت لك الطير فيما كان منك بأسعد

تزوجته خير البرية كلها ومن ذا الذي في الناس مثل محمد

وبشر به البر أن عيسى بن مريم وموسى بن عمران فيا قرب موعد

أقرت به الكتاب قدما بأنه رسول من البطحاء هاد ومهتد(1)

وتدل الروايات الشريفة عن العترة الطاهرة عليهم السلام في زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة عليها السلام على أمور، منها:

ص:112


1- الكافي للشيخ الكليني: ج 5، ص 374-375؛ وسائل الشيعة للعاملي: ج 20، ص 264؛ عوالي اللآلي للاحسائي: ج 3، ص 298؛ البحار للمجلسي: ج 16، ص 13؛ المهذب البارع لابن فهد الحلي: ج 3، ص 176.
أولاً: اتخاذ يوم زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام يوماً للبركة والسرور

فقد أشارت الروايات الشريفة أيضا إلى تحديد يوم الزواج فكان مناسبة يجدد فيها أتباع أهل البيت عليهم السلام أفراحهم ويتخذون هذا اليوم، يوم بركة وعافية، وبخاصة حينما يتعلق هذا اليوم بالزواج؛ إذ يحرص كثير من المؤمنين على أن يكون بناء حياتهم الأسرية في هذا اليوم تيمناً بما دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السرور فيه.

وعليه:

فلقد كان يوم العاشر من ربيع الأول يوم بركة وسرور عند أتباع أهل البيت عليهم السلام وذلك لأنه اليوم الذي تزوج فيها رسول الله بالسيدة الطاهرة خديجة الكبرى عليها السلام.

وهو ما أخرجه الشيخ الطوسي في المصباح في أعمال شهر ربيع الأول(1).

ثانيا: استحباب تعجيل الزفاف بعد الخطوبة

تدل الروايات على استحباب تعجيل الزفاف بعد الخطوبة ولا تترك فاصلة طويلة من الوقت بين الخطوبة والزفاف، ولعل ذلك يؤدي إلى عدم الاستقرار النفسي بين المرأة والرجل حينما يتم التأخير، فضلاً عمّا يترتب عليه من حرج أو ريبة عند اللقاء بين الخطيبين.

ولذلك نرى أن الروايات أشارت إلى أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن خطب أبو طالب له خديجة دخل بها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله

ص:113


1- مصباح المتهجد للطوسي: ص 55، ط الأعلمي.

وسلم من الغد، كما نصّ عليه الصدوق(1) ، والشيخ الكليني(2) رحمهما الله.

المبحث الرابع: إسلامها

اشارة

إن هذا العنوان هو مما كان يرافق تلك النخبة التي منّ الله عليها بالإيمان في أول ظهور رحمة الله للعالمين في مكة، حتى إن خديجة عليها السلام باتت الملكة المتربعة على رتبة السبق إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعد علي بن أبي طالب عليه السلام، فضلاً عن ذلك فإن الحديث عن وقت إسلام أولئك السابقين إلى الإيمان بالله ورسوله يكشف عن حقيقة قلوب هؤلاء وطهارة باطنهم وسلامة فطرتهم وتعقلهم للأمور وحنكتهم في اتباع الحق.

ولذلك كان الغرض من هذا العنوان هو بيان هذه الجوانب الكمالية في شخص أم المؤمنين خديجة عليها السلام، وامتيازها على غيرها من نساء المسلمين ورجالهم.

المسألة الأولى: وقت إسلامها

إنّ من السمات الخاصة التي ظهرت في حياة السيدة خديجة عليها السلام هي سمة إيمانها بالله وتصديقها برسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

والسبب في ذلك يعود إلى أن الله تعالى قد اختار لها أن تكون ممن يشهد هذه الرحمة الإلهية من الأمّة فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل

ص:114


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 3، ص 251، ط دار الأضواء.
2- الكافي للكليني: ج 5، ص 375.

البعثة بخمس عشرة سنة - كما مرّ بيانه -.

مما جعلها أول من يتلقى هذا الأمر ليؤمن به ويعين صاحبه ويناصره ويؤازره حتى لحقت بربها مؤمنة مجاهدة محتسبة بعد أن قضت مع رسول الله عشر سنوات أخرى ليكون حصيلة ما عاشته مع النبي الأعظم خمساً وعشرين سنة.

هذه السنوات العشر كانت فيها خديجة قد عايشت حركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولاحقته في جهاده ومعاناته وآلامه ونشر رسالته.

ولذا: فقد اختار اللهُ لها أن تكون أول من آمن به وصدق برسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فعن ابن عباس أنه قال: (كان علي بن أبي طالب أول من آمن من الناس بعد خديجة)(1) ، أي: أنها عليها السلام كانت أول من آمن بالله وصدق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم(2).

وقد جاء في الحديث الشريف، عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (خديجة بنت خويلد سابقة نساء العالمين إلى الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

ص:115


1- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 1091؛ وجاء فيه قوله: (هذا اسناد لا مطعن فيه لأحد لصحته وثقة نقلته).
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 184؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 53، تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، ص 128.
3- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 184؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 207؛ الجامع الصغير للسيوطي: ج 1، ص 599.
المسألة الثانية: إنها أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم

مثلما جعل الله تعالى لحياة هذه المرأة العظيمة من السمات الخاصة قبل الإسلام، جعل لها كذلك من السمات بعد الإسلام.

فبعد أن سبقت الناس إلى الإيمان بالله تعالى وتصديق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك سبقتهم إلى الصلاة معه؛ فقد روي أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث يوم الاثنين، وصلت خديجة معه في نفس اليوم(1).

بل وتفيد بعض الروايات أنها صلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام أول صلاة جماعة في الإسلام؛ فقد أخرج الحاكم النيسابوري عن عفيف الكندي قال: (كنت امرأً تاجراً وكنت صديقا للعباس ابن عبد المطلب في الجاهلية، فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى، فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي، ثم جاءت امرأة فقامت تصلي، ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي.

فقلت للعباس من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب.

ص:116


1- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 183؛ الفصول المختارة للشريف المرتضى: ص 280؛ البحار للمجلسي: ج 38، ص 286.

قال عفيف الكندي، وأسلم وحسن إسلامه، لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام)(1).

والرواية واضحة الدلالة على اختصاص السيدة خديجة الكبرى بهذه المنقبة في أسبقيتها إلى طاعة الله واتباع رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فضلا عن سمات أخرى سيمر بيانها.

المبحث الخامس: مال خديجة عليها السلام

اشارة

أشارت العديد من المصادر التاريخية وغيرها إلى كثرة مال خديجة عليها السلام وآثاره في تحريك الاقتصاد في مكة ودوره في دعم الرسالة المحمدية، وما رافق ذلك من امتعاض لبعض الكتّاب الذين وجدوا مغرمهم في إثارة الشبهات حول هذا المال، ولذا وجدت لزاما مناقشة هذه الأقوال والرد على هذه الشبهات.

المسألة الأولى: حجم مالها

لقد تناول المؤرخون وغيرهم حجم مال خديجة عليها السلام فكان كالآتي:

1 - روى الشيخ الطوسي في أماليه في أمر مبيت علي عليه السلام في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمما ذكر: (وأمر أن يبتاع رواحل له وللفواطم ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم.

ص:117


1- المستدرك - الحاكم النيسابوري: ج 3، ص 83.

قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله - يعني ابن أبي رافع - أو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجد ما ينفقه هكذا؟

فقال: إني سألت أبي عما سألتني، وكان يحدث بهذا الحديث، فقال: فأين يذهب بك عن مال خديجة عليها السلام)(1).

2 - قال المسعودي: وكانت خديجة بنت خويلد من مياسير قريش وتجارها تستأجر الرجال وتبعثهم في مالها(2).

3 - قال السيد ابن طاووس: (ولما كان بمكة كان له مع ماله ومال كفيله وعمه أبي طالب مال خديجة التي يضرب بكثرة مالها الأمثال)(3).

4 - قال المجلسي: (كانت أكثر قريش مالاً وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفق منه ما شاء في حياتها)(4).

ونقل في وصفها: (بأنها كانت ملكة عظيمة، وكان لها من الأموال والمواشي ما لا يحصى)(5).

5 - قال التستري: (إن أهل الأثر مجمعون على أن خديجة كانت أيسر قريش وأكثرهم مالا وتجارة)(6).

ص:118


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 468.
2- البدء والتاريخ للمسعودي: ج 1، ص 226.
3- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس: ص 406.
4- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 16، ص 20.
5- مستدرك سفينة البحار للنمازي الشاهرودي: ج 9، ص 478.
6- الصوارم المهرقة لنور الله التستري: ص 326.

6 - قال الشيخ أبو الحسن البكري: (كان لخديجة في كل ناحية عبيد ومواشٍ ، حتى قيل: إن لها أزيد من ثمانين ألف جمل متفرقة في كل مكان)(1).

المسألة الثانية: خديجة تهب جميع ما تملك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

هذه الصورة التاريخية عن حجم المال الذي تملكه السيدة خديجة عليها السلام قد انتقل إلى ملكية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من خلال ما قامت به خديجة عليها السلام من تقديمها هذا المال هبة إليه صلى الله عليه وآله وسلم بعد زواجها منه ليتصرف فيه كيفما يشاء، فقد روى المجلسي قدس سره: (إن خديجة قالت لعمها ورقة: خذ هذه الأموال وسر بها إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقل له: إن هذه جميعها هدية له، وهي ملكه يتصرف فيها كيف شاء، وقل له: إن مالي وعبيدي وجميع ما أملك، وما هو تحت يدي فقد وهبته لمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - إجلالاً وإعظاماً له، فوقف ورقة بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته: يا معاشر العرب إن خديجة تشهدكم على أنها قد وهبت نفسها ومالها وعبيدها وخدمها وجميع ما ملكت يمينها والمواشي والصداق والهدايا لمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وجميع ما بذل لها مقبول منه وهو هدية منها إليه إجلالاً له وإعظاماً ورغبة فيه، فكونوا عليها من الشاهدين(2).

ص:119


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 16، ص 22، نقلا عن أبي الحسن البكري في كتابه اللمع؛ الخصائص الفاطمية للكجوري: ج 1، ص 449.
2- بحار الأنوار للمجلسي: ج 16، ص 22.

والسؤال المطروح هو: ماذا عمل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المال ؟

أولاً: لم تشر الروايات الصحيحة إلى أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد استفاد من هذا المال لغرض التجارة، أي أنه لم يستخدمه في التجارة بعد أن انتقل إليه من خديجة عليها السلام.

بمعنى آخر: لم يستخدمه صلى الله عليه وآله وسلم خلال الفترة التي سبقت البعثة النبوية والبالغة خمس عشرة سنة، وهذا يدل على حكمته البالغة، فقد قطع بهذا الصنيع الطريق على أعدائه في مختلف الأزمنة من التقول والافتراء عليه في غرضه من الزواج بخديجة عليها السلام على الرغم من هذه السنين.

ثانيا: أما بعد البعثة فقد استخدم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هذا المال في الانفاق في سبيل الله تعالى ونشر كلمة التوحيد.

حتى قال:

«ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة عليها السلام»(1).

(وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفك من مالها الغارم، والعاني، ويحمل الكل، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة)(2).

ص:120


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 468؛ حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني: ج 1، ص 140؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 19، ص 63؛ التعجب لابي الفتح الكراكجي: ص 103؛ مستدرك سفينة البحار: ج 3، ص 34. مستدركات علم الرجال للشاهرودي: ج 8، ص 572.
2- الأمالي للطوسي: ص 468.
المسألة الثالثة: أبمال خديجة انتفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم بمال أبي بكر؟ شبهات وردود
اشارة

إنّ مما أثار أضغان المنافقين وأصحاب المصالح والأغراض الشخصية والقلوب المريضة هو قيام أم المؤمنين خديجة عليها السلام ببذل هذا المال في نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقاموا ببث الشبهات حول هذا المال ومصادرة دوره في قيام هذا الدين، فكان مما قالوا:

أولاً: (رد شبهة) انتفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مال أبي بكر

إن مما قام به أولئك المغرضون هو نسبهم هذا الدور المتميز والحيوي والجهادي في سبيل الله تعالى الذي قامت به أم المؤمنين خديجة عليها السلام إلى أبي بكر وتقولوا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مال خديجة إلى أبي بكر كما أخرجه أحمد في المسند عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر»(1).

ولقد أجاد أبو جعفر الاسكافي المعتزلي (المتوفى سنة 220 ه -) وهو شيخ ابن أبي الحديد، ونقله عنه الجاحظ (المتوفى سنة 255 ه -) - على الرغم من موالاته لبني أمية - في الرد على هذه الرواية، وإظهار زيفها، وبيان بطلانها، فقال:

(أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق هذا المال، وفي أي وجه وضعه

ص:121


1- مسند أحمد: ج 2، ص 253، من مسند أبي هريرة.

فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه، وينسى ذكره ؟ وأنتم فلم تقفوا على شيء أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مائة درهم.

وكيف يدعى له الانفاق الجليل، وقد باع من رسول الله صلى الله عليه وآله بعيرين عند خروجه إلى يثرب، واخذ منه الثمن في مثل تلك الحال، وروى ذلك جميع المحدثين ؟!

وقد رويتم أيضا: انه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا، ورويتم عن عائشة أنها قالت هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم، وقلتم: إن الله تعالى انزل فيه:

(وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى 1.)

قلتم هي في أبي بكر ومسطح بن أثاثة، فأين الفقر الذي زعمتم انه أنفق حتى تخلل بالعباءة ؟!

ورويتم: أن لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباءة! وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم رآهم ليلة الإسراء، فسأل جبرائيل عنهم فقال هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة صديقك في الأرض، فإنه سينفق عليك ماله، حتى يخلل عباءة في عنقه ؟!

وأنتم أيضا رويتم أن الله تعالى لما انزل آية النجوى.

فقال:

ص:122

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ1.)

الآية لم يعمل بها إلا على بن أبي طالب وحده، مع إقراركم بفقره وقلة ذات يده، وأبو بكر في الحال التي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته، فعاتب الله المؤمنين في ذلك، فقال:

(أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ 2.)

فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه، وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة، فكيف سخت نفسه بإنفاق أربعين ألفا وامسك عن مناجاة الرسول، وإنما كان يحتاج فيها إلى إخراج درهمين ؟!!

وأما ما ذكر من كثرة عياله ونفقته عليهم، فليس في ذلك دليل على تفضيله، لان نفقته على عياله واجبة، مع أن أرباب السيرة ذكروا انه لم يكن ينفق على أبيه شيئا، وانه كان أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذبان(1).

قال الجاحظ : وقد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي صلى الله عليه

ص:123


1- العثمانية للجاحظ : ص 318؛ كتاب الاستغاثة لأبي القاسم الكوفي: ج 2، ص 29؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13، ص 273-275.

وآله وسلم ببطن مكة من المشركين، وحسن صنيع كثير منهم، كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته، وأبو جهل يومئذ سيد البطحاء ورئيس الكفر، وامنع أهل مكة، وقد عرفتم أن الزبير سل سيفه، واستقبل به المشركين، لما أرجف أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل، وأن عمر بن الخطاب قال حين أسلم لا يعبد الله سرا بعد اليوم، وان سعدا ضرب بعض المشركين بلحى جمل، فأراق دمه - وغيرها - فكل هذه الفضائل لم يكن لعلي ابن أبي طالب فيها ناقة ولا جمل، وقد قال الله تعالى:

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا1.)

فإذا كان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح، لأنه لا هجرة بعد الفتح، على من أنفق بعد الفتح، فما ظنك بمن قاتل وأنفق من قبل الهجرة، ومن لدن مبعث النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم إلى الهجرة أعظم من القيام بأمر الإسلام بعد الهجرة، وأفضل من القيام بأمر الإسلام بعد الفتح(1).

ثانياً: (رد شبهة) أن الإنفاق في سبيل الله لم يكن إلا بعد الهجرة

ومما يؤسف له أن هذه الحملة ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما زالت مستمرة ولم تكن العلوم الشرعية والمعارف العقلية لتجد طريقها لتلك الأفهام المتقوقعة على ما يعبده الآباء.

ص:124


1- العثمانية للجاحظ : ص 39؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 13، ص 275.

فمما قاله المتأخرون من الشبهات في صرف الأذهان عن دور مال خديجة عليها السلام حينما سئلوا عن القول المشهور:

«إن الإسلام قام على مال خديجة».

أن قالوا: (غير صحيح، لأن الإنفاق في سبيل الله لم يكن إلا بعد الهجرة، وخديجة رضي الله عنها توفيت قبل الهجرة)(1).

ونقول:

1 - إنّ قولهم (غير صحيح)، هو في الواقع غير صحيح ما انطوت عليه قلوبهم وطريقة تفكيرهم.

2 - لم يحددوا عدم (الصحة) أفي السند هي، أم في المتن، أم أنهم لا دراية لهم بذلك ؟!

3 - لم يأتوا ولو بدليل واحد يثبت أن الإنفاق في سبيل الله لم يكن قبل الهجرة.

4 - كما أنهم لم يأتوا بقرينة تبين معنى عدم إمكانية الإنفاق، أهي إمكانية وقوعية، أم إمكانية عينية ؟ بمعنى: أن أصل عملية الإنفاق لم تقع، وهذه الإمكانية الوقوعية أو لم يتم تعيين من أنفق قبل الهجرة وتشخيصه وهي إمكانية تشخيصية ؟ أي لم تكن هناك إمكانية من التعرف على شخص واحد من المسلمين كان قد أنفق قبل الهجرة وتشخيصه وأنه أنفق ولو بدرهم واحد؛

ص:125


1- فتاوى اللجنة الدائمة للافتاء لجمع أحد بن عبد الرزاق الدرويش: ج 2، ص 468، السؤال الثامن برقم (17882).

والأمر في كلا الحالين يدل على أنه كذب واضح من اللجنة الدائمة للافتاء، إذ أشارت روايات أهل السنة والجماعة إلى أن أبا بكر كان ينفق من ماله، وأنه أعتق بلالاً وغيره واستنقذهم من قريش، كما أن عثمان بن عفان - على قولهم - هاجر إلى الحبشة فعلى حساب من هاجر، ومن دفع له أجرة السفر ونفقاته، أهو قام بذلك فأنفق من ماله، أم أن أحداً أنفق عليه ؟ وإذا كان كذلك، فما الدافع للإنفاق والغاية منه، أكان في سبيل الله والجهاد بالأموال، أم كان مجاملة، أم لغرض المصالح التجارية، أو المحسوبية وغيرها؟!

5 - وإذا كان الإنفاق في سبيل الله قبل الهجرة غير صحيح لأن خديجة توفيت قبل الهجرة ؟!! فقولكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر».

غير صحيح أيضا، بل هو حديث مكذوب فيه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لاسيما وأن الحافظين الذهبي(1) ، وابن حجر العسقلاني(2) ، قد صرحا بكذبه وزيفه.

فما يجري من الصحة في إنفاق مال خديجة قبل الهجرة يجري كذلك في مال أبي بكر؛ فالعلة مثلما هي قائمة هناك، قائمة هنا وهذا ما ألزمتم به أنفسكم، وبه يتضح كذبكم وتدليسكم للحقائق.

6 - إن قولكم هذا هو مخالف للقرآن الكريم فقد نص الكتاب الحكيم على

ص:126


1- ميزان الاعتدال للذهبي: ج 3، ص 171.
2- لسان الميزان لابن حجر العسقلاني: ج 2، ص 23.

أهمية الإنفاق وفضله في سبيل الله قبل الهجرة والفتح على الإنفاق بعده، بمعنى أن الله فضل الإنفاق قبل الهجرة على الانفاق بعدها؛ وذلك أن الانفاق الأول كان يوضع في بناء الأسس وقيام الدعائم وتشييد الجدران، أما الإنفاق بعد الهجرة فكان من المكملات التي لا يؤدي فقدانها إلى انهيار في البناء وهذه سنة كونية وعقلانية لا يختلف فيه اثنان ذَوَا عقلين.

لاسيما وأن القرآن الكريم قد أثنى على الإنفاق قبل الفتح وفضله على الانفاق بعده.

قال تعالى شأنه:

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا1) .

فكيف يكون فضل من أنفق من أول البعثة النبوية إلى حين الهجرة، كمن جاء مستفيداً من خير الإسلام ومنعته.

أو يكون حال خديجة التي أنفقت مالها في سبيل الله حينما وهبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستعان به على قيام دين الإسلام من خلال الإنفاق على المسلمين الأوائل الذين سبقوا للإسلام بعد أن عذبوا وحوربوا ومنعوا من كل وسائل المعيشة حتى أذن الله لرسوله بالهجرة فجهز أصحابه من هذا المال وزودهم بما يحتاجون إليه وكذا صنع لنفسه صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن السنوات القاسية من الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي فرضته

ص:127

قريش على رسول الله وأصحابه، كحال معاوية وأبي سفيان وأبناء الطلقاء الذين جاءوا إلى الإسلام بعد عام الفتح ؟!

فمن أين يا ترى كان ينفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السابقين الأولين من المسلمين الذين يرزحون تحت الحصار مع أطفالهم ونسائهم أمن مال المسلمين أم من مال خديجة عليها السلام ؟!

إذن:

يتضح مما تقدم أن صحة القول المشهور:

«إن الإسلام قام على سيف علي ومال خديجة عليها السلام».

لا يشك فيه (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).

وإن ما عداه هو القول الزائف الذي لم يستند إلى دليل أو قرينة تحقق وجوده في الخارج؛ فما هو إلا مجرد أباطيل لم ترق حتى إلى الظن، على الرغم من (إن الظن لا يغني من الحق شيئا).

ثالثاً: (رد الشبهة) القائلة بأن مصدر مالها كان من زوجيها السابقين!!

إنّ من سخيف القول الذي أثير حول مال أم المؤمنين خديجة عليها السلام هو من أين حصلت على هذا المال إن لم تكن متزوجة قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ونقول:

1 - لم نجد في المصادر التاريخية أن مكة كانت تحتوي على جمعية اقتصادية أو هيئة مالية أو جماعة عشائرية أو نفر واحد كان يتتبع أصحاب

ص:128

الأموال من قريش فيدوّن لنا مصادر حصول هذا المال، وبخاصة أن قريشاً هي صاحبة القرار فيها، فضلا عن انحصار أمر بيت الله الحرام وحجاجه بيد بني هاشم ممثلاً بهاشم بن عبد مناف بن قصي وابنه عبد المطلب وحفيده أبي طالب، مما تطلب اهتمامهم بالوضع الاقتصادي لمكة وتحسين أسواقها وتأمين تجارتها وطرق حجاجها ومع هذا لم يدون التاريخ مصادر حصول التجار على أموالهم.

فغاية ما في الأمر أنه كان يدون أسماء أصحاب الثروة والنفوذ في مكة، فذكر أن هاشماً كان ثرياً وكذا ابنه عبد المطلب في حين ذكر أن أبا طالب كان مكثر العيال والإنفاق حتى أصبح صاحب فاقة لحكمة إلهية شاءت أن يكون علي بن أبي طالب في كنف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - إذا كان زوجا خديجة عليها السلام بهذا الثراء المالي فكيف يغفل التاريخ عن ذكرهم لماذا لم يحط بهم علماً، ولم يتعرف عليهم في مكة، حالهم في ذلك حال صعاليك العرب في الصحراء.

3 - وإذا كان التاريخ يسجل لنا فقر أبي بكر وأنه كان أجيراً لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذباب(1).

فكيف يغفل عن رجلين كان لهما من الثراء ما كان لخديجة التي انتقل إليها مالهما بوصفها وريثتهما؟ ألا يعد ذلك من الجهل، وضيق الأفق، والغفلة

ص:129


1- العثمانية للجاحظ : ص 318؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13، ص 275.

فضلاً عن البلادة.

وعليه:

لم يتحدث لنا التاريخ عن مصادر أموال التجار واكتفى فقط بالإشارة إلى ذكر أصحاب الثراء في مكة وأن أهلها أهل تجارة وتبضع؛ ولذا لا يكون عدم العلم بمصدر مال خديجة سبباً في نفي الغنى عنها فحالها حال عبد المطلب وهاشم عليهما السلام اللذين ذكرهما التاريخ في سجل الأثرياء والجاه والنفوذ والشرف والرفعة.

وفضلاً عن ذلك نص التاريخ على أنها من أهل بيت عرفوا بالثراء واتخاذ التجارة مورداً للغنى فهاهو حكيم بن حزام كان قد عرف باشتغاله بالتجارة وهو الذي أمرته عمّته خديجة أن يبتاع لها غلاماً ظريفاً عربياً فلما قدم سوق عكاظ وجد زيد بن حارثة رضي الله عنه يباع فيها وهو غلام عمره ثماني سنوات فاشتراه لها بأربعمائة درهم وقدم به إليها فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).

فضلاً عن أنه كان من التجار الذين يحتكرون السلع كي ترتفع أثمانها، ولم يكن قرب خديجة منه بمانعه عن الجشع واستغلال ظروف حصارها في الشعب، وعليه: فقد كان أهلها قوم تجارة(2).

ص:130


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 497؛ السيرة الحلبية: ج 1، ص 438.
2- سيرة ابن هشام: ج 1، ص 379؛ دعائم الإسلام: ج 2، ص 35؛ التوحيد للصدوق: ص 389.
المسألة الرابعة: القرآن الكريم يمتدح مال خديجة عليها السلام
أولا: إنّ الله تعالى أغنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة عليها السلام

لم يكن القرآن الكريم بزاهد في بيان ما لخديجة عليها السلام من مقام وكرامة عند الله تعالى لاسيما وأنه تعالى قال في محكم كتابه الكريم:

(أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى 1) .

فكيف بمن صدق الله في نفسه وجاهد في سبيله ونصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال تعالى مخاطباً حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:

(أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)2.)

فهذه الآيات الكريمة في تفسيرها الظاهري تتحدث عن مرحلة من مراحل حياة النبي الأعظم وتظهر نعمة الله عليه في هذه المراحل، فهو اليتيم الذي هيّأ الله له في بيت جده عبد المطلب وعمه أبي طالب خير مأوى، وهو الذي ضل عنه قومه فلم يهتدوا إليه وقد شب بين ظهرانيهم، وهو الفقير الذي أغناه الله تعالى (بمال خديجة بنت خويلد عليها السلام)(1).

ص:131


1- أنظر في اختصاص هذه الآية بمال خديجة عليها السلام وأن الله تعالى أغناه بهذا المال: الإفصاح للشيخ المفيد: ص 212؛ الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي: ج 3،
ثانيا: رد شبهة (إن الغنى في الآية تنزيل على غنى النفس)

إلا أن البعض لم يسعهم استيعاب هذا الذكر ولم يَرُق لهم هذا الفضل الذي أحرزته أم المؤمنين خديجة عليها السلام، فقاموا بصياغة أخرى لمعنى الآية في محاولة واهية لصرف الأذهان عن دور هذا المال في نصرة الإسلام، فقالوا:

(والغنى الوارد في قوله:

(وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى 1.)

تنزيل على غنى النفس، فإن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تفتح عليه خيبر وغيرها)(1).

ونقول:

أولاً: حينما يكون البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام هو المحرك في قراءة القرآن والسنة النبوية فإنها ستكون قراءة ناقصة تؤدي إلى الانحراف عن الحق فضلاً عن تردي حال صاحبها وضلاله.

ص:132


1- فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 11، ص 233.

إذ كيف يمكن حمل الغنى في الآية على غنى النفس والمخاطب هو سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم الذي أتم الله له الفضائل الأخلاقية والكمالات الروحية، حتى شهد له - عزّ شأنه - بذلك في محكم كتابه فقال سبحانه:

(وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )

فحمل الآية على غنى النفس - كما قال ابن حجر العسقلاني - يستلزم التحول والانتقال كما يحتمل النقص والكمال، أي: إنه لم يكن غني النفس قبل نزول الآية ثم استحصل ذلك، وهذا عيب مشين فيمن وصف بالكمال ومجمع الفضائل في كل حال.

ثانياً: لو كان تنزيل الآية على (غنى النفس) لا المال - كما زعمتم - فهذا يستلزم استمرار الفقر مع النبي حتى آخر حياته المقدسة بعلة حصول الغنى النفسي فلا حاجة له للمال في حين أن الواقع الحياتي له يثبت عكس ذلك.

ثالثاً: لو كان الغنى، غنى النفس فلماذا يبيح الله له الخمس من الغنائم وما حاجته إليها ونفسه غنية.

رابعاً: سياق الآيات الثلاث يتحدث عن ضروريات الحياة البشرية التي لا غنى للإنسان عنها فشاء الله تعالى أن تجري حكمته في حياة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالصورة التي يعرضها القرآن، فقدر الله تعالى له أن يولد يتيماً، ثم أنعم عليه بالمأوى ممثلاً في جده عبد المطلب وعمه أبي طالب.

ص:133

وأن ينشأ بين قومه فيؤيده الله بالآيات والدلائل على أنه نبي هذه الأمّة ليهتدي إليه الناس، إلا أن الله (وجدك ضالاً بين الناس لا يعرفون حقك فهداهم إليك ودلهم عليك)(1).

ووجدك عائلاً، أي فقيرا لا مال لك تستعين به على أمرك فأغناك الله بهذا المال، وهو مال خديجة.

خامساً: أما أن الآية مكية فهذا أدعى لاختصاص الآية بالمال وليس بالنفس، إذ احتياجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى المال كان في مكة قبل الهجرة لينفق منه على أمر الرسالة، ويستعين به على قيام دينه، فيواجه به ظلم قريش وحصارهم الاقتصادي عليه وعلى أصحابه.

أما حاله بعد الهجرة فقد اختلف فقد نصره الله بالسيف، وخصه الله تعالى بالغنائم وعندها بدأت مرحلة جديدة من النهوض بهذه الرسالة ترتكز على الجهاد والحرب الذي نصر الله فيها دينه وفي جميع المواطن بسيف علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن صدق الله في عهده، وما أقلهم!

إذن: كون الآية مكية فهذا دليل على اختصاصها بمال خديجة، وليس كما ذهب إليه ابن حجر العسقلاني الذي اعتقد خلو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغنى في مرحلة من مراحل حياته والعياذ بالله.

سادساً: إن النظر إلى الآيات الثلاث التي تحدثت عن نعم الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الحقبة الزمنية يقابلها ثلاثة أوامر إلهية

ص:134


1- تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج 20، ص 311.

تبعت هذه النعم، وكأن السياق القرآني هنا يشير إلى مقابلة هذه النعم بما يقابلها من الشكر الذي حددته الآيات ضمن آليات خاصة.

فكانت نعمة الإيواء يقابلها قوله تعالى:

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ1.)

فيكون رعايته صلى الله عليه وآله وسلم لليتيم منهاجاً للشكر على ما أنعم الله عليه حينما كان يتيما فآواه.

وكانت نعمة الهداية يقابلها قوله تعالى:

(وَ أَمَّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ2.)

والنسق الدلالي في الآية يشير إلى احتياج السائل إلى من يهديه إلى ما يعينه على مسألته، كأن يكون السائل لا يهتدي إلى الطريق، أو إلى أمر دينه، أو مال يعينه على حياته، فهو في هذه الحالات لا يهتدي الجهة التي تعينه على أمر نفسه.

ولذا: سير السياق النعمي في الموطنين يقتضي التماثل في الحاجة إلى الهداية ليتذكر حينها نِعَمَ المُنعم بالخيرات وهو الله تعالى.

أما ما يخص نعمة الغنى فقد قابلها قوله تعالى:

(وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 3.)

ص:135

وظاهر الآية والفعل النبوي يدلان على أن هذه النعمة أكبر النعم الثلاث السابقة بدلالة اختصاصها بلفظ (النعمة) ولم تطلق الآية على (المأوى والهداية) لفظ النعمة.

وبدلالة الأمر الإلهي بالتحدث بها، في حين كان الفعلان السابقان أي (قهر اليتيم)، و (نهر السائل) فعلين صامتين؛ بمعنى: لا يشتملان على استخدام جارحة اللسان في تحقيق شكر المنعم كما هو الحال بالنسبة لفعل (حدّث).

ولقد دلت السنة النبوية بنصوص صريحة وصحيحة على تحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنعمة زواجه من خديجة عليها السلام؛ بل لقد دأب على التحديث بنعمة ربه هذه حتى أثار ذلك غيرة عائشة، التي لم تجد صبراً على السكوت والاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة ذكره لخديجة عليها السلام، ولتصرّح للتاريخ عن حجم هذا التحديث؛ فقالت:

(ما غرت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكره إياها وما رأيتها قط )(1).

وفي رواية أخرى كشاهد على تحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنعمة ربه تعالى، أنها قالت:

(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم

ص:136


1- صحيح مسلم: ج 7، ص 134.

من ثناء عليها واستغفار لها؛ فذكرها ذات يوم فاحتملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن. قالت: فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم غضب غضباً شديدا وسقطت في يدي فقلت: أللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد لذكرها بسوء ما بقيت.

قالت: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لقيت قال:

«كيف قلت ؟ والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس ورزقت مني الولد حيث حرمتموه»(1).

وفي لفظ آخر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني في مالها إذ حرمني الناس ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء»(2).

وغير ذلك من الروايات التي تكشف عن تحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه النعمة نعمة اقترانه بأم المؤمنين خديجة عليها السلام التي كانت نِعمَ الزوجة الصالحة المناصرة له طيلة خمس وعشرين سنة لم يتزوج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها كرامة لها ودليلاً قاطعاً على حبه الكبير لها، وهو الذي صرح بذلك حينما امتعضت عائشة من كثرة ذكره لها فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

ص:137


1- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 53؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 195؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 112؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 24.
2- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1824.

«إني قد رزقت حبها»(1).

وعليه:

لم تكن الآية دالة على غنى النفس كما ذهب ابن حجر العسقلاني وغيره وإنما على نعمة غنى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة عليها السلام.

المسألة الخامسة: (رد شبهة) أن يكون رسول الله أجيراً لدى أحد من الناس ؟

ومن الشبهات التي لازمت حركة مال خديجة عليها السلام هي: اشتغاله أجيراً لديها بمالها قبل أن يبعث نبياً، أو أنه ضاربها على بعض مالها، أو كان شريكاً مع أحد أبناء قريش يعملان معاً في مالها؟!

والسؤال المطروح: هل يصح أن يعمل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أجيراً أو مضارباً أو شريكاً لدى أحد من الناس(2) ؟

ونقول:

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتكون من نقاط :

1 - من البديهي أن يحتاج الإنسان إلى العمل لينفق على نفسه فيسد جوعته، ويكسو بدنه، ويصل أهله وأرحامه وغير ذلك.

ص:138


1- صحيح مسلم: ج 7، ص 134؛ العمدة لابن البطريق: ص 393.
2- الروض الأنف للسهيلي: ج 1، ص 321.

وحينما لا يجد الإنسان عملاً يوفر له هذه الاحتياجات فإنه سيلتجئ إلى الاتكال على غيره لغرض تأمين احتياجاته، أو أنه يسلك طريقاً سلبياً ومستهجناً في حال فقدان العمل والمعيل، هكذا هي الطبيعة البشرية وما تفرضه ضروريات العيش.

ولكن إذا كان الإنسان قد تهيأ له كل ذلك وهو لديه أفضل الأطعمة وأزكاها، كحال مريم بنت عمران عليها السلام كما صرّح القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى:

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 1.)

فهل تحتاج مريم عليها السلام إلى العمل حينئذ؛ أم هل تراها تنتظر المعيل والكفيل وقد تعاهدتها الملائكة باحضار الطعام ؟!

من البديهي أنها لا تحتاج إلى الطعام على الرغم من تصريح القرآن بوجود كفيل لها وهو نبي الله زكريا.

ولكن حينما يكون الإنسان في ضيافة الرحمن سبحانه فحينها يستغني عما سواه، وإذا كان هذا حال مريم فكيف حال من هو حبيب الله سبحانه، وكيف سيكون رزقه من ربه ؟ ألا يكون الرازق الذي وصف نفسه بالكريم رازقاً حبيبه بما يليق ومقام الحبيب ؟!

ص:139

ولذا: من حيث المبدأ هو لا يحتاج إلى العمل أو المعيل، لأن العلة منتفية في وجودهما، فرزقه صلى الله عليه وآله وسلم مضمون من ربه، حاضر بين يديه، وإن كان الذين من حوله لا يرون ذلك، فهذا لا يدل على عدم نزول الطعام إليه بل يدل على اختلاف سنخية الرائي وحجب الرؤية عنه.

بمعنى: لو كان الداخل عليه له من المقام كما لدى زكريا عليه السلام لرأى ما يخطف الأبصار، في حضرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - ولعل بعض المسلمين قد ثبتت لديه حقيقة حاله صلى الله عليه وآله وسلم حينما نهاهم في شهر رمضان عن إتيان أزواجهم كي لا يصيبهم الضعف، فقالوا: إنك تواصل يا رسول الله ؟، قال:

«إني لست كأحدكم إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني»(1).

كما رواه الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه.

وفي صحيح البخاري عن عائشة بلفظ :

«إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقين»(2).

فمن كان يطعمه ربه ويسقيه ما حاجته إلى ما في أيدي الناس ؟!

3 - ولعل قائلاً يقول: إنّ هذا حاله بعد أن بعث نبياً، فما المانع أن يعمل قبل أن يبعث نبياً سواء لدى خديجة عليها السلام أو غيرها من أهل مكة أو عند عمه أبي طالب عليه السلام ؟

ص:140


1- من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق، كتاب الصوم، حرمة صوم الوصال: ج 2، ص 172.
2- صحيح البخاري، كتاب الصوم: ج 2، ص 243.

وجواب ذلك من شقين:

أولا: ما زال المدار في الشبهة حول احتياج الإنسان للعمل أو المعيل، أي سد الحوائج الحياتية سواء أكان عمله لدى خديجة أم غيرها، فلما ثبت عدم احتياجه إلى العمل بعد البعثة لغرض استحصال لوازم الحياة فإن الحال نفسه يجري أيضاً قبل البعثة كما دلت عليه النصوص الآتي ذكرها:

ألف: لم يحتج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة إلى العمل كي يسد احتياجاته الحياتية، فأما طعامه فقد روي أنه كان يكتفي بشرب ماء زمزم ولا يأكل بعدها شيئا وهذا من الآيات والدلائل على نبوته قبل أن يهبط عليه الوحي.

فعن أم أيمن - وكانت أمة عند أبي طالب عليه السلام ثم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أنها قالت:

«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شكا جوعا قط ولا عطشا، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة، فربما عرضنا عليه الغداء، فيقول:

«لا أريد، أنا شبعان»(1).

باء: روى ابن سعد قائلاً: (وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبعوا، فكان إذا أراد أن يغذّيهم، قال: كما أنتم حتى يحضر ابني فيأتي رسول الله

ص:141


1- امتاع الأسماع للمقريزي: ج 4، ص 99.

صلى الله عليه وآله وسلم فيأكل معهم فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعوا فيقول أبو طالب إنك مبارك)(1).

جيم: وكان عيال أبي طالب إذا جاءهم باللبن شرّب أولهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يتناول العيال القعب فيشربون منه فيروون عن آخرهم من القعب الواحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعبا وحده)(2).

وهذه الروايات تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو محل نزول الخير وصدوره إلى الناس لا العكس.

ثانيا: إن أصل القضية مبنيٌّ على الفساد في الرأي، فكيف يصح أن يكون سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم أجيرا لدى أحد من الناس وهو محل نزول الخير وصدوره للخلق أجمعين ؟! أفعَجَزَ الله سبحانه أن يكفي حبيبه ورسوله وخيرته من خلقه مؤونته أم تراه سبحانه جعل للناس فضلاً على رسله، والعياذ بالله.

ولذلك: فإن رسل الله تعالى وأنبياءه إذا عملوا فهم لا يعملون أجراء لدى أحدٍ من الناس وإنما يعملون - إن عملوا - بما يحتاج إليهم الناس لا العكس كما في حال نبي الله داود عليه السلام:

(وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ 3.)

ص:142


1- الطبقات لابن سعد: ج 1، ص 120.
2- عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، ص 61؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 4، ص 99.

إذن: يبقى الأصل في عملهم هو أنهم محل نزول الخير من الله وصدوره إلى الخلق أجمعين وهي حقيقة دلّ عليها القرآن الكريم، قال تعالى لنبيه سليمان بعد أن آتاه الملك:

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ 1.)

وعليه:

لا يصح أن يكون النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أجيراً لدى أحدٍ من الناس سواء عمه أبو طالب أو خديجة بنت خويلد، وهذا لا يعني امتناعه عن العمل كما كان يعمل داود عليه السلام، وإنما الكلام في كونه يعمل أجيراً وله سيد يحسن إليه أو إذا أساء يعاقبه أو يوبِّخه - والعياذ بالله، ونستجير به من غضبه وغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -.

ص:143

ص:144

الفصل الثالث: اولاد السيدة خديجة عليها السلام

اشارة

ص:145

ص:146

بعدما قدمنا في الفصلين السابقين من مباحث شملت بعض الجوانب المهمة في حياة السيدة الصدّيقة أم المؤمنين خديجة عليها السلام، لاسيما ونحن ما زلنا في دائرة الأحداث التي سبقت البعثة النبوية، والتي قد بينا من خلالها الحقائق التي لم يطلع عليها كثير من الناس.

ننتقل إلى جانب آخر من حياة أم المؤمنين خديجة وهذا الجانب هو في غاية الأهمية لما يحويه من التباس كبير.

وعليه:

فقد أفردت لكل مولود من أبنائها قسماً خاصاً به، يشتمل على مباحث عدة تتناول النقاط المهمة التي من خلالها ظهرت حقيقة جديدة وهي أن خديجة عليها السلام لم تلد من البنات إلاّ فاطمة عليها السلام.

ولكي يسهل الأمر على القارئ ويتوصل من خلال البحث إلى حقيقة هذه الشخصيات فقد أوردت هذه المباحث بشكل بسيط ، مع التأكيد على صحة المعلومة ودقتها... والله ولي التوفيق.

ص:147

المبحث الأول: القاسم بكر خديجة عليهما السلام

المسألة الأولى: الابن الأكبر

إن المتصفح لكتب التاريخ، والسيرة النبوية المباركة، يجد حقيقة ظاهرة أمام عينيه وهي:

أن أكبر أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القاسم عليه السلام.

وبمعنى أكثر دقة فهو: (أول مولود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

ص:148


1- راجع في هذه الحقيقة: الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 133، وجاء فيه: «عن ابن عباس قال: كان أول من ولد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل النبوة القاسم وبه كان يكنى)؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 467، ط إيران و ج 4، ص 188، ط دار الكتاب العربي، بيروت؛ سيرة ابن هشام: ج 1، ص 227؛ السيرة الحلبية: ج 3، ص 319؛ ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: ص 152؛ تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 8، ص 652؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 217؛ المعارف لابن قتيبة: ص 141؛ نور الأبصار للشبلنجي: ص 79؛ الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي: ج 2، ص 655؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 273؛ التاريخ الصغير للبخاري: ج 1، ص 43، (جعلهم من حيث الترتيب هو الأول)؛ المنتظم لابن الجوزي: ج 2، ص 316؛ مختصر تاريخ دمشق قسم السيرة النبوية: ص 262، وجاء فيه: «كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القاسم»؛ تاريخ دمشق لابن العساكر: ج 3، ص 125 و 126؛ خاتم النبيين للشيخ محمد أبو زهرة: ج 1، ص 198؛ نسب قريش للزبيدي: ص 21؛ جوامع السيرة النبوية لابن حزم الأندلسي: ص 35؛ مروج الذهب للمسعودي: ج 2، ص 291؛ نهاية الارب للنويري: ج 18، ص 208؛ الثقات لابن حبان: ج 2، ص 142؛ دلائل النبوة للبيهقي: ص 70؛ الاكتفاء للكلاعي: ج 1، ص 199؛ السيرة النبوية لابن كثير:
المسألة الثانية: القاسم عليه السلام ولد ومات في الإسلام
اشارة

أما الخطوة الثانية، فلقد كانت من خلال معرفة زمن ولادة القاسم، لأن معرفة الزمن الذي ولد فيه القاسم له الأثر الكبير في كشف الالتباس الذي أحاط بعدد أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وللوصول إلى هذه الحقيقة الكاشفة عن زمن ولادة القاسم، اعتمدنا على هذه الشواهد الثلاثة:

ص:149

أولا: الاختلاف في عدد أولاد خديجة عليها السلام

اختلف المؤرخون في عدد أولاد أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السلام الذين أنجبتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فبعضهم قال: إنها أنجبت (أحد عشر نفراً) سبعة من الذكور وأربعاً من الإناث(1).

وبعضهم قال: أربعة من الذكور وأربعاً من الإناث(2).

وقسم قال: أنجبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة ذكور وأربع إناث(3).

والقسم الآخر قال: أنجبت غلامين وأربع بنات، وهو الأكثر شهرة(4).

والمتأمل في هذه الروايات يجد ما يلي:

ص:150


1- تاريخ الخميس: ج 1، ص 272؛ الذخائر العقبى: ص 152.
2- صفوة الصفوة: ج 1، ص 69؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 272؛ ذخائر العقبى: ص 152.
3- السير والمغازي لابن إسحاق: ص 82؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 65، حديث 41؛ سيرة ابن هشام: ج 1، ص 202؛ السيرة النبوية لابن جرير الطبري: ص 39؛ جوامع السيرة النبوية لابن حزم الأندلسي: ص 35؛ سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم السيرة النبوية: ج 1، ص 63؛ نور الأبصار للشبلنجي: ص 43؛ إعانة الطالبين، البكري الدمياطي: ج 1، ص 35.
4- دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، ص 70؛ وفي المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 397؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 66، حديث 45؛ الروض الانف للسهيلي: ج 1، ص 214؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 349، حديث 15243.

1. اختلف المؤرخون في عدد الذكور(1) ولم يختلفوا في عدد الإناث، وهذا يدعو للاستغراب!

2. اختلفوا في زمن ولادة الإناث! حتى إن كثيراً منهم لم يُشر إلى زمن ولادة أي بنت من بنات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بشكل محدد.

3. اختلفوا في الكبرى والصغرى من بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أياً تكون(2).

ص:151


1- صفة الصفوة: ج 1، ص 69؛ تاريخ الخميس للديار بكري: ص 272؛ السيرة الحلبية: ج 3، ص 391؛ عيون الأثر: ج 2، ص 363؛ ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: ص 152.
2- السيّر والمغازي لابن إسحاق: ص 82، وقد قال: إن الكبرى هي زينب؛ الذرية الطاهرة للدولابي، وقد جعل الصغرى (أم كلثوم) والكبرى (رقية) حديث (44-47)، سيرة ابن هشام جعل الكبرى (رقية): ج 1، ص 202؛ الروض الانف للسهيلي: ج 1، ص 215، وجاء فيه: أن الكبرى هي: (زينب)؛ وفي سيرة ابن جرير الطبري جعل الصغرى: (فاطمة عليها السلام)؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 397؛ كذلك: الوفا لسبط ابن الجوزي: ج 2، ص 656، وقد قال إن الصغرى هي (فاطمة عليها السلام)؛ التبيين في أنساب القريشيين للمقدسي: ص 91؛ إن الصغرى هي: (فاطمة عليها السلام). أما ابن عبد البر فقد أشار إلى هذه الحقيقة قائلاً: وقد اضطرب مصعب والزبير في بنات النبي أيتهن أكبر وأصغر اضطراباً يوجب ألا يلتفت إليهما في ذلك، والذي تسكن إليه النفس على ما تواتر به الأخبار في ترتيب بنات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إن زينب الأولى، ثم الثانية رقية، ثم الثالثة أم كلثوم، ثم الرابعة فاطمة الزهراء عليها السلام. الاستيعاب: ج 4، ص 1818.

ولكن على الرغم من هذه الاختلافات بين المؤرخين، إلاّ أن الثابت عندهم جميعاً أنّ : القاسم هو بكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي: أول مولود ولد له؛ وأما زمن ولادته فقد أشار بعض الحفاظ في مصنفاتهم إلى أنه ولد ومات في الإسلام.

وقد ورد ذلك في كتب الخاصة، وهم (أتباع أهل البيت عليهم السلام) والعامة وهم (أهل السنة والجماعة)، فأما ما ورد في كتب الخاصة فأكتفي بالإشارة إلى أن الشيخ الكليني(1) والحر العاملي(2) رحمهما الله قد أوردا في الكافي ووسائل الشيعة نصاً صريحاً عن ولادة القاسم في الإسلام والرواية في مبحث (منزلة خديجة في الجنة عند المسألة الثالثة: كيف يكون دخولها إلى الجنة ؟) - من هذا الكتاب فلْتراجع -.

وأما هنا، أي: ما أورده أهل السنة والجماعة، فلقد أخرج ابن ماجة في سننه، والسهيلي، والمزّي، وابن كثير، والفريابي، وابن حجر العسقلاني، والزمخشري، والبوبصيري، وابن الأثير، وتقي الدين الفاسي، والقندوزي، واليعقوبي؛ والقسطلاني وغيرهم: أن القاسم ولد ومات في الإسلام! واليك نص الرواية:

(حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا أبو داود، حدثنا هشام بن أبي الوليد(3) ،

ص:152


1- الكافي للشيخ الكليني رحمه الله، باب: المصيبة بالولد: ج 3، ص 18.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي رحمه الله، باب استحباب احتساب موت الأولاد والصبر عليه: ج 3، ص 244.
3- هشام بن أبي الوليد بن عدي بن خيار، يروي عن حارث بن معاوية عن أبي هريرة، روى

عن أمه، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين بن علي - عليهما السلام - قال:

لما توفي القاسم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت خديجة: يا رسول الله درَّت لُبَيْنَة القاسم(1) ، فلو كان الله أبقاه حتى يستكمل رضاعهُ .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن إتمام الرضاعة في الجنَّة.

قالت: لو أعلم ذلك يا رسول الله لهون علي أمره.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئت دعوت الله تعالى فأسمعك صوته.

قالت: يا رسول الله بل اصدّق الله ورسوله»)(2).

ص:153


1- اللّبنة: الطائفة القليلة من اللبن و (اللُبَيْنَةُ ) تصغيرها؛ لسان العرب: ج 12، ص 127، مادة: لبن»؛ سنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزويني: ج 1، ص 484؛ ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي: ج 2، ص 49.
2- أنظر هذه الرواية في: سنن ابن ماجة: ج 2، ص 225، حديث (1512)، ط دار المعرفة - بيروت؛ تحفة الأشراف للحافظ المزّي: ج 3، ص 107 حديث (3431) ط المكتب الإسلامي؛ روض الأنف للسهيلي: ج 1، ص 214؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 1، ص 264، ط دار المعرفة - بيروت؛ مصباح الزجاجة للبوصري: ج 1، ص 270، حديث (546)؛ الاكتفاء للكلاعي الأندلسي: ج 1، ص 200؛ النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: ج 4: ص 228؛ مسند الفريابي: ص 215؛ تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 32؛

وقد كشفت لنا هذه الرواية عن حقيقة الزمن الذي ولد فيه أول من ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من خلال هذه القرائن:

1. قولها عليها السلام: «يا رسول الله»، دليل على أنه ولد في الإسلام.

2. قولها: «درت لبينةُ القاسم»، وهو نزول اللبن من ثدي الأم المرضع بعد امتلائه بدون إرادتها، وبخاصة في حالة الجوع عند الطفل، أو امتناعه من الرضاعة وفي الأغلب يرافق هذا الامتلاء آلام في صدر الأم، وهذا يعني أن القاسم توفي في أثناء فترة رضاعته، فلذلك كانت تتمنى لو أن الله أبقاه حتى يستكمل رضاعه.

3. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن إتمام الرضاعة في الجنة».

قرينة أخرى تدل على أنه ولد في الإسلام.

4. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

ص:154

«إن شئت دعوت الله فأسمعك صوته».

يبين لنا إحدى خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسماعها صوت القاسم وهو في الجنة إن شاءت ذلك، وهو مما منَّ الله به على الأنبياء من إجابة الدعاء وظهور المعاجز التي تعدّ خرقاً لقوانين الحياة.

5. قولها عليها السلام:

«بل أُصدق الله ورسوله».

يكشف لنا عن عظم منزلتها ورسوخ إيمانها وتصديقها بالله ورسوله.

وقد أشار السهيلي إلى أن هذا القول يكشف أيضاً عن فقهها، فإنها كرهت أن تؤمن بهذا الأمر معاينة، فلا يكون لها أجر التصديق والإيمان بالغيب، وإنما أثنى الله تعالى على الذين يؤمنون بالغيب(1).

6. بينما استدل الحافظ ابن حجر العسقلاني بهذه الرواية على ولادة القاسم في الإسلام، فقال بعد أن أوردها: (وهذا ظاهر جداً في أنه مات في الإسلام)(2).

وفي موضع آخر، قال: (وهذا يدل على أن القاسم مات بعد البعثة)(3).

فإذا كان القاسم قد ولد في الإسلام فمن البديهي أن الذين ولدوا بعده

ص:155


1- الروض الأنف للسهيلي: ج 1، ص 215، ط دار الفكر.
2- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر: ج 5، ص 516 و ج 5، ص 390؛ سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي: ج 11، ص 19.
3- الإصابة: ج 5، ص 515 و ج 5، ص 389، ط دار الكتب العلمية.

ولدوا أيضاً في الإسلام، وهذا من دون النظر إلى صحة العدد الذي أنجبته أم المؤمنين خديجة عليها السلام؛ لأن لنا رأياً آخر يختلف عن جميع ما ذكره المؤرخون ؟!، لأن الحقيقة التي بدأت تظهر أمامنا شيئاً فشيئاً تحكي لنا عن صورة تختلف عما نقلتها أقلام الذين كتبوا عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حيث كل شيء خاضع وساقط لما يسوده من الأدلة والبراهين فيما إذا عرض على طاولة البحث العلمي والموضوعي البعيد عن الميول والأهواء النفسية، حيث لا حكم إلا للعقل فيما يعرضه النقل من البينة.

ثانيا: ومن الوحي شاهد ينص على ولادته في الإسلام

فضلاً عمّا ذكر، فلقد كان الوحي هو الشاهد الثاني الموصل إلى معرفة ولادة القاسم؛ حيث أضاف قسم من الحفاظ ، والمفسرين شاهداً آخر إلى حقيقة ولادة القاسم ووفاته في الإسلام، ولكن هذه المرة من طريق آخر غير الرواية التي ذكرت سابقاً، معتمدين هنا على ما رافق هذه الحادثة من نزول للوحي.

1 - أخرج الزبير بن بكار، وابن إسحاق، وابن عساكر، والبيهقي، والدولابي، وغيرهم، عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال:

«توفي القاسم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آت من جنازته، على العاص بن وائل وابنه عمرو، فقال حين رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني لأشنؤه، فقال العاص بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبتر فأنزل الله:

ص:156

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ»1) .

2 - وفي رواية لما مات القاسم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال العاص بن وائل السهمي: دعوه فإن الرجل أبتر، لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره(1).

ص:157


1- صفوة التفاسير للصابوني: ج 3، ص 586؛ تفسير القرآن لمحمد علي الدّرّة: ج 10، ص 487؛ تفسير ابن كثير ولم يذكر اسم القاسم: ج 7، ص 389؛ تفسير البغوي: ج 4، ص 534؛ تفسير ابن كثير: ج 4، ص 598؛ معالم الفتن، سعيد أيوب: ج 1، ص 174.

3 - وقال آخرون: إنها نزلت عندما توفي ابن لخديجة ولم يسموه(1).

4 - بينما جمع القسم الآخر من المفسرين بين موت القاسم وموت عبد الله، في نزول الآية(2) ، لأن الفارق بينهما في الوفاة هو أيام قليلة إذ لم يبقَ عبد الله بعد وفاة القاسم أكثر من شهر(3).

ومن خلال هذا الفارق الزمني القليل، يتأكد لدينا: أن ولادة القاسم ووفاته كانت في الإسلام.

5 - وإذا أخذنا بعين الاعتبار الشهرة التي رافقت ولادة عبد الله عند الجمهور في كونه ولد في الإسلام، لذلك سمي (بالطيب والطاهر) يثبت عندنا أن ولادة القاسم ووفاته كانت في الإسلام أيضاً.

6 - إذا نظرنا إلى الترتيب السّوري للقرآن الكريم من حيث النزول، نرى أن سورة الكوثر تحمل الرقم (14)(4) وهذا يعني أن القاسم ليس فقط ولد في الإسلام، بل يبّين لنا أنه ولد بعد مضي فترة على مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الفترة تتناسب مع وقت نزول السورة.

ص:158


1- معالم التنزيل للبغوي: ج 4، ص 534؛ تفسير الخازن المعروف ب - «لباب التأويل في معاني التنزيل» للبغدادي: ج 7، ص 305.
2- فتح القدير للشوكاني: ج 5، ص 617؛ التفسير الكبير للرازي مجلد: ج 16، ص 134؛ روح المعاني للآلوسي: ج 29، ص 445؛ الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي: ج 2، ص 655؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 8، ص 652؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 349.
3- تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 351.
4- الإتقان للسيوطي: ج 1، ص 10؛ البرهان للزركشي: ج 1، ص 193 عن ابن عباس.
ثالثا: اعتقاد كثير من الحفاظ بولادة القاسم في الإسلام
اشارة

إن حقيقة ولادة القاسم في الإسلام كانت تبدو واضحة وثابتة عند بعض حفاظ المسلمين.

فلذلك لم يروا أن هنالك حاجة لذكر أدلة تؤكد ما قالوا، فنسخت أقلامهم ما كانوا يعتقدون به في شأن القاسم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقيقة ولادته.

ألف: رواية الدولابي (المتوفى سنة 320 ه -)

(1)

)

فلقد أخرج الدولابي، عن قتادة بن دعامة(2) ، قال: تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية خديجة بنت خويلد وهي أول من تزوجها فولدت له في الجاهلية (عبد مناف) وفي الإسلام غلامين، وأربع بنات، (القاسم) وبه كان يكنى، فعاش حتى مشى؛ و (عبد الله) فمات صغيراً، ومن النساء: فاطمة، ورقية، وأم كلثوم، وزينب(3).

ص:159


1- محمد بن أحمد بن حماد بن سعد الأنصاري الوراق، الرازي، الدولابي (أبو بشر)، محدث، حافظ ، مؤرخ، وسمع الحديث بالشام والعراق، وتوفي وهو بطريق مكة بالعرج في ذي القعدة، من آثاره: الكنى والأسماء، الذرية الطاهرة. معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة: ج 8، ص 255.
2- هو قتادة بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، وهو رأس الطبقة الرابعة مات سنة سبعة وقيل ثمان عشرة ومائة؛ التقريب: ج 2، ص 123. الشذرات: ج 1، ص 153.
3- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 64؛ البدء والتاريخ للمقدسي: ج 4، ص 139؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 272؛ السيرة الحلبية: ج 3، ص 392؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 2، ص 161؛ عين اليقين للكيلاني: ص 95، تسمية أزواج النبي وأولاده.
باء: رواية أبي عبيدة البصري (المتوفى سنة 209 ه -)

(1)

ذكر أبو عبيدة البصري المتوفى سنة 209 ه -: (أن خديجة ولدت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم القاسم في الإسلام وعاش حتى مشى)(2).

جيم: رواية ابن رسول (المتوفى سنة 696 ه -)

(3)

بينما ذهب ابن رسول إلى أن خديجة عليها السلام: (ولدت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية عبد مناف، والباقون ولدتهم كلهم في الإسلام)(4).

ص:160


1- مما يؤسف له أن هذا المصدر لم أعثر عليه فيما بين يدي من مصادر ضمن مكتبات كربلاء - مع تقصيري في البحث - وحيث أنني حينما نقلت منه هذه المعلومة كنت حينها في مدينة دمشق الشام، فيما كنت أنهل من مصادر مكتبة الأسد العامة. وعليه لم أوفق إلى بيان ترجمة أبي عبيدة البصري صاحب كتاب تسمية أزواج النبي وأولاده.
2- كتاب تسمية أزواج النبي وأولاده: ص 48.
3- السلطان الملك الأشرف عمر بن الملك المنصور عمر بن رسول التركماني الأصل الغساني، وهو ثالث ملوك آل رسول باليمن وقد اشتغل الأشرف في طلب العلم في أيام إمارته وقرأ الفقه والحديث والنحو، إلا أنه برع في الأنساب وفي الطب وألف في علم الفلك. أما عنايته بالأنساب وبراعته فيها فتظهر في الكتب التي ألفها، فقد ألف كتاب طرفة الأصحاب في تحفة الآداب في التواريخ والأنساب، وكتاب جواهر التيجان. أنظر: (مقدمة كتاب طرفة الأصحاب: ص 36، طبع دار صادر بيروت بتحقيق ك. وسترستين).
4- طرفة الأصحاب: ص 68.
دال: رواية ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852 ه -)

(1)

وقد صرح ابن حجر العسقلاني بهذه الحقيقة من خلال لفظين أوردهما في الإصابة فقال في اللفظ الأول: (وهذا يدل على أن القاسم مات بعد البعثة)(2) وفي اللفظ الثاني: (وهذا ظاهر جداً في أنه مات في الإسلام)(3).

المسألة الثالثة: عمر القاسم عليه السلام

بعد ما قدمنا من الشواهد والأدلة التي أثبتت لنا ولادة القاسم في الإسلام؛ بقي أن نذكر كم كان له من العمر حين توفي.

وقد اختلف في مبلغ عمره حين الوفاة على سبعة أقوال، إلا أنهم لم يختلفوا في كون القاسم أول من مات من أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في جنازته، وقد نظر إلى جبل من جبال مكة:

«يا جبل لو أن ما بي بك لهدك»(4).

ص:161


1- شهاب الدين أبو الفضل، أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني الشافعي صاحب أشهر شرح لصحيح البخاري أصله من عسقلان بفلسطين ومولده ووفاته بالقاهرة، وولي القضاء بمصر مرات عديدة ثم اعتزل وله مصنفات عديدة من أشهرها الإصابة، لسان الميزان، ألقاب الرواة، تهذيب التهذيب، تعجيل المنفعة بزوائد الأئمة الأربعة، وغيرها. الأعلام للزركلي: ج 1، ص 178.
2- الإصابة: ج 5، ص 515.
3- الإصابة: ج 5، ص 516.
4- تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 315.

وكان للقاسم حين توفي:

1. أربع سنين(1): وهو بعيد؟ لأنه لا يقال لمن بلغ أربع سنين إنه لم يتم رضاعه.

2. بلغ أن يركب على الدابة ويسير على النجيبة(2): وهذا أبعد من القول السابق؛ لأنه يحتمل الزيادة على أربع سنوات، بل قد يتطلب هذا الفعل من الصبي أن يكون قد ناهز العشر السنوات ؟! وهذا يلزم أن يكون القاسم معروفاً لدى أهل مكة! وهذا ما لم ينص عليه أحد من المؤرخين ولا أصحاب السير.

3. عاش حتى مشى(3): وهذا قريب جداً لما ذكرناه من كونه لم يتم رضاعه، فإن الطفل يمشي بعد مضي سنة على ولادته غالباً؛ وبخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار القوة التي كان يتمتع بها أبناء قريش، وأبناء بني هشام خاصة.

ص:162


1- تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 315.
2- السيرة النبوية لابن إسحاق: ص 229؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، ص 69؛ الفتح الرباني للساعاتي: ج 22، ص 101؛ المختصر الكبير لابن جماعة: ص 79؛ المواهب اللدنية: ج 2، ص 60، عن ابن فارس؛ البداية والنهاية: ج 2، ص 234؛ وسيلة الإسلام لابن قنفذ: ص 60؛ ذخائر العقبى: ص 152؛ السيرة الحلبية: ج 3، ص 391.
3- راجع الجامع من المقدمات لابن رشد: ص 68؛ السيرة الحلبية: ج 3، ص 391؛ ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: ص 152؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1818؛ المواهب اللدنية للقسطلاني: ج 2، ص 60؛ الإصابة لابن حجر: ج 5، ص 515؛ الوفا لسبط ابن الجوزي: ج 2، ص 655؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 2، ص 234؛ روح المعاني للآلوسي: ج 29، ص 445؛ الفتح الرباني للساعاتي: ج 22، ص 101.

4. عاش سنتين(1): ومن بلغ سنتين من عمره يكون قد تم رضاعته، فهو على هذه الحال يكون بعيداً أيضاً عن الرواية.

5. عاش سبعة عشر شهراً(2): أي أنه بلغ من العمر سنة وخمسة أشهر، وهو قول يتناسب بشكل كبير مع الرواية التي ذكرت بكاء خديجة عليها السلام على القاسم وأنه لم يتم رضاعه.

6. عاش أياماً يسيرة(3) ؛ قريب، لأنه يتفق مع الرواية.

7. عاش سبعة أيام(4): قريب من الرواية السابقة أيضاً في كونه لم يكمل رضاعه.

إلا أني أجد الرواية التي تقول بأنه: «عاش حتى مشى» والأخرى التي تقول: «عاش سبعة عشر شهراً»، أصح الأقوال لما يلي:

ص:163


1- السيرة النبوية للنووي: ص 28؛ العقد الثمين للفاسي: ج 1، ص 270؛ الوفا: ج 2، ص 655؛ نهاية الإيجاز للطهطهاوي: ص 66؛ المواهب اللدنية: ج 2، ص 60؛ صفة الصفوة: ج 1، ص 69؛ نور الأبصار للشبلنجي: ص 43؛ السيرة الحلبية: ج 3، ص 391؛ إسعاف الراغبين: ص 82؛ ذخائر العقبى: ص 152؛ الإصابة لابن حجر: ج 4، ص 515.
2- المواهب اللدنية للقسطلاني: ج 2، ص 60؛ عن المفضل بن غسان الغلابي لشيخ ابن أبي الدنيا؛ الإصابة لابن حجر: ج 5، ص 515، وأضاف إلى هذه الرواية قوله (بعد البعثة).
3- المختصر الكبير لابن جماعة: ص 79 نقلاً عن ابن حزم.
4- السيرة الحلبية: ج 3، ص 391؛ المواهب اللدنية: ج 2، ص 60؛ عن مجاهد الإصابة لابن حجر: ج 5، ص 515.

1. لكونها تتفق بشكل كبير مع كون القاسم لم يتم رضاعه، أي أنه كان قد مضى على رضاعته فترة من الزمن حتى اعتادت الأم على هذا الوضع وكانت تملأها الفرحة؛ لأنها رزقت بأول مولود لها، وقد ملأ حجرها، مستأنسة به، وهي تحنو عليه تغذيه من دمها وروحها.

والأم التي يموت ولدها بعد فترة من ولادته يترك ذلك ألماً كبيراً في نفسها؛ إذ إنها بعد أن عانت وتحملت كل هذه الآلام من الحمل والولادة، تجد أن حجرها أصبح فارغاً من هذا الطفل الذي لم تكتمل فرحتها به.

فلذلك كانت خديجة عليها السلام تبكي عندما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل بها من الألم والحسرة على ذلك الطفل الذي لم يتم رضاعه... بكت لأن اللبن دّر من صدرها فذكرها بتلك اللحظات التي كانت تضعه في حجرها وتطعمه... وهي تبكي لأنها أدركت معنى الأمومة بكل ما تحمل هذه الكلمة من عاطفة تملكها المرأة.

2. ذكرنا سابقاً ما أخرجه الحفاظ والمفسرون في سبب نزول سورة الكوثر، وقد جمع بعضهم بين موت القاسم وموت عبد الله الذي لم يبقَ بعد أخيه أكثر من شهر، فهذا يستلزم أن يكون القاسم قد بلغ من العمر من نحو السنة، وهو ما تحتاجه المرأة من الوقت لكي تحمل وتنجب طفلاً آخر.

وبهذا يرجح القول القائل: ببلوغ القاسم سبعة عشر شهراً ثم توفي ؟ أوانه عاش حتى مشى.

أما سبب تمسكنا برواية (دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة وهي تبكي...) فهو للأمور التالية:

ص:164

1. لكونها تدل على موت القاسم صغيراً.

2. لأنها تتناسب مع الحالة التي مرَّ بها أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كونهم توفوا في أثناء الرضاعة، وهذا ما ذكره جل المؤرخين، وهو الذي دعاهم لعدم ذكر سيرتهم؛ لأنهم توفوا وهم صغارٌ.

3. فضلاً عن أن خديجة عليها السلام بعد وفاة عبد الله الذي سرعان ما لحق بأخيه، قد أبطأ عليها الولد(1) ، مما دعا بأعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القول: بأنه أصبح أبتر، فإذا مات انقطع ذكره.

فكان هذا القول سبباً في تدوين الحادثة قرآنياً وتاريخياً؛ كي تحفظ حقيقة ولادة القاسم وموته في الإسلام.

ولعل حكمة الله اقتضت أن يموت ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذكور وهم صغارٌ، كما هو الحال بالنسبة لإبراهيم الذي ولدته مارية القبطية(2) ، وإنهم لم يتموا رضاعهم، لينالوا بقية نصيبهم من حجر الأمومة عند الحور العين في الجنة، ولتنال فاطمة كل ما تستحق من حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللامتناهي لها ولزوجها وولديها صلوات الله عليهم أجمعين.

ولعل من مظاهر حكمة الله تعالى أيضاً أن يكون هذا الحال (أي موت القاسم وعبد الله وهم صغارٌ) دليلاً على حقيقة بنات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فيسجل التاريخ والوحي هذا الحدث؛ ليكون أحد الأدلة الكاشفة عن هذه الحقيقة وما تلاعبته أيدي الضلال في سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:165


1- الدر المنثور للسيوطي: ج 8، ص 652.
2- الروض الأنف للسهيلي: ج 1، ص 216، وذكر أنه توفي وهو ابن ثمانية عشر شهراً.
المسألة الرابعة: الحجة القائمة

وبناءً على ما تقدم فإن ثمةَ سؤالاً بدا يفرض نفسه في ساحة الذهن، قائلاً:

إذا كان القاسم وهو الابن الأكبر قد ولد في الإسلام، وبقي أشهراً معدودة، قد اجتازت السنة، ثم مات ولم يتم رضاعه، محروماً من حجر الأم التي امتازت عن جميع أمهات الدنيا، برقة القلب، وغزارة العاطفة التي أخبرت عنها بلسان فصيح دموعها التي تساقطت عليه لكونه مات صغيراً ولم يفطم بعد، ثم تأخذها الأمنيات ببقائه وعدم موته، لا لأجل أن تهنأ به، بل لأجل أن يتم الرضاعة، وكأن هناك فرقاً في موته وهو قد أتم الرضاعة أو موته ولم يتمها، لكن هذا الموقف يكشف لنا عن عظم هذه الأم.

ويمضي السؤال مخاطباً العقل، قائلاً: ثم إن هذه الولادة جاءت بعد مضي زمن على بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ربما كانت سنة، أو أكثر، بحيث أن كثيراً من المؤرخين ذكروا: أن خديجة عليها السلام رزقت بمولود في سن الحادية والأربعين(1) إلا أنهم قالوا إن المولود كان أنثى، ولعل الصحيح أن هذا المولود هو القاسم، وليس أنثى كما ذكروا، لما قدمنا من الأدلة في هذا البحث.

وإذا أضفنا مقدار عمر القاسم إلى سنة (إحدى وأربعين) فإن وفاته تكون

ص:166


1- دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، ص 71؛ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 163؛ تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 20؛ المواهب اللدنية: ج 1، ص 198؛ التبيين في أنساب القرشيين: ص 91؛ مختصر تاريخ دمشق: ج 2، ص 269؛ نهاية الإرب: ج 18، ص 213.

في السنة الثالثة من البعثة وهي نفس السنة التي توفي فيها عبد الله؛ إذ لم يبقَ طويلاً بعد القاسم، ثم يبطأ على خديجة عليها السلام الولد(1) فلا تلد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد مضي فترة من الزمن لعلها سنتان، وهو ما يبدو جلياً لنا في باب مولد الزهراء عليها السلام، إذ إنها ولدت في السنة الخامسة على الصحيح من بعد البعثة.

والسؤال الذي يصرخ في محكمة العقل: هو متى وُلدتْ بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث: (زينب، ورقية، وأم كلثوم)، اللواتي تزوجن، وأنجبن، كما ذكروا؟!

ومنهنَّ من هاجرت وألقت علقة في السفينة في السنة الخامسة من البعثة النبوية المباركة، أي بعد مضي سنتين على موت القاسم، بكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟!

فمتى ولدت ؟! ومتى تزوجت من زوجها الأول عتبة بن أبي لهب ؟! ومتى تزوجت من زوجها الثاني عثمان بن عفان ؟! ومتى هاجرت ؟! ومتى ألقت ما في بطنها علقة!؟ أيجري كل هذا لبنت عمرها سنة، أو لعلها لم تولد بعد؟!

إن الصورة التي نقلتها أقلام المؤرخين من جعل (زينب، وأم كلثوم، ورقية) بنات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من صلبه، وقد ولدتهن خديجة، هو مجرد خلط والتباس ؟! والذي يبدو هو أنهن ربائبه.

لأن الحجة القائمة، في ولادة الابن الأكبر في الإسلام، وبعد مضي زمن

ص:167


1- الدر المنثور للسيوطي: ج 8، ص 652.

من البعثة يجعل عملية إنجاب أربع بنات أمراً مستحيلاً مع فترة عمر خديجة في الإسلام، ومع ما ساقته لنا كلمات المحدثين، في سرد أحوالهن من زواج وإنجاب وهجرة؛ وكل هذا يستلزم أن تكون ولادتهنّ قبل النبوة بزمن طويل، وهذا خلاف ما اعتمده أهل القبلة من كون أول مولود ولد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القاسم، وأنه ولد ومات في الإسلام.

فلا يبقى أمامنا إلا أن نقول إنهن ربائبه، كبرن وترعرعن في كنفه، وربين في حجره، فأصبحن بناته، من هذا القبيل، لسن من صلبه، ولم تلدهن خديجة، وسيأتي المزيد من التفصيل في المباحث اللاحقة بعونه تعالى.

المبحث الثاني: عبد الله الابن الثاني لخديجة عليهما السلام

اشارة

وها هي أم المؤمنين خديجة عليها السلام تزف إلى البيت النبوي مولوداً آخر لتضفي به أريجاً من أريج النبوة، إلى هذه الأسرة المباركة، وبرعماً جديداً من البراعم الهاشمية، فيستقبله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو تغمره الفرحة، ويختار له اسماً جميلاً، وهو من خير الأسماء لأنه عبد الله.

نعم هذا هو الاسم الذي سمى به الحبيب مولوده الجديد، وهو ما كان لأبيه من الأسماء.

وكما أن حال كل أب فإنه يسعد كثيراً عندما يرزق بمولود آخر، كذلك كان حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه سعد بهذا الابن وسعادته كانت لسببين:

السبب الأول، لكونه الولد الثاني. والسبب الآخر، لأن أمه هي خديجة

ص:168

سلام الله عليها، التي فضلها الله على غيرها من النساء، بالإيمان، والجهاد، وبالجمال، والمال، والحسب، والنسب، والولد، فهي التي حظيت بهذا كله، وهي التي طالما كان يذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمام زوجاته(1).

المسألة الأولى: لا خلاف على ولادته في الإسلام

ذهب أكثر العلماء إلى أن ولادة «عبد الله» كانت في الإسلام ولشهرة هذا الحدث بين الصحابة فلقد لقب ب - (الطيب) و (الطاهر)(2) وهو ما اعتمده حفاظ

ص:169


1- أنظر: صحيح البخاري حديث رقم «3816» من فتح الباري؛ ومسلم في صحيحه برقم (2435) والترمذي برقم (3885).
2- سيرة ابن سعد: ص 29؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1819؛ السيرة النبوية للنووي: ص 28؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 349؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 1، ص 264؛ تلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي: ص 300؛ الاكتفاء للكلاعي: ج 1، ص 199؛ المختصر الصغير لابن جماعة: ص 68؛ الجامع من المقدمات لابن رشد: ص 67؛ الفتح الرباني للساعاتي: ج 22، ص 102؛ المختصر الكبير: ص 80؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 272؛ نور الأبصار للشبلنجي: ص 43؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، ص 71؛ عيون الأثر: ج 2، ص 363؛ المختصر الندي: ص 45؛ ذخائر العقبى: ص 152؛ إسعاف الراغبين: ص 82؛ نهاية الإيجاز: ص 75؛ المواهب اللدنية: ج 2، ص 68؛ الوفا: ج 2، ص 655؛ تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 340؛ البداية والنهاية: ج 2، ص 234؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، ص 491؛ العقد الثمين: ج 1، ص 271؛ أوجز السير للرازي: ص 21؛ جواهر السيرة النبوية: ص 32؛ السيرة الحلبية: ج 3، ص 319؛ صفة الصفوة: ج 1، ص 69؛ سيرة مغلطاي: ص 103؛ رسالة الغفران لأبي العلاء المعري: ج 1، ص 81؛ التبيين في انساب القرشيين: ص 87؛ المنتظم: ج 2، ص 316؛ عيون التواريخ: ج 1،

المسلمين ومصنّفوهم، إلا ما اشتبه على بعض الرواة، إذ جعلوا هذين اللقبين أسماء لأبناء آخرين، وبسبب هذا الخلط اختلفت الروايات في ذكر العدد الذي أنجبته السيدة خديجة عليها السلام(1).

المسألة الثانية: الحجة في كونه المولود الثاني

اختلف الرواة في الإشارة بدقة إلى الحمل الثاني للسيدة خديجة عليها السلام، في كونها أنجبت ذكراً أم أنثى ؟! ولقد نص بعضهم على أنها ولدت بعد القاسم أنثى وهي: (زينب)(2) بينما قال البعض الآخر: إنها أنجبت ذكراً بعد القاسم وهو (عبد الله) معتمدين في ذلك على ذكر اللقب(3).

ص:170


1- قد أشرنا إلى هذا الاختلاف في الباب السابق فصل «القاسم ولد ومات في الإسلام» فراجع ذلك.
2- راجع المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 397؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، ص 70-71؛ سيرة ابن كثير: ج 1، ص 264؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1819؛ روح المعاني للآلوسي: ج 29، ص 445؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 265؛ الفتح الرباني للساعاتي: ج 22، ص 101؛ تلقيح مفهوم أهل الأثر لابن الجوزي: ص 34؛ فتح القدير للشوكاني: ج 5، ص 617.
3- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1819؛ حياة سيد المرسلين للآبراشي: ص 36؛ السير والمغازي لابن إسحاق: ص 260.

إلا أن الصحيح فيما أنجبت؛ هو أنها أنجبت ذكراً بعد القاسم وهو عبد الله، لما يلي:

أولاً

إن الشهرة التي رافقت ولادة عبد الله في الإسلام تنفي ولادة أحد بنات النبي الثلاث بعد القاسم ؟! لأن السيرة التي ينقلها الرواة عنهنَّ تستلزم أن تكون الثلاث قد ولدْنَ قبل النبوة بسنين عدة.

ثانياً

إن هذه السيرة تستلزم أيضاً أن تكون البنات قد ولدن قبل القاسم، وهذه الحالة مرفوضة أصلاً؟ لأنها تتعارض مع ما اعتمده علماء المسلمين في كون القاسم هو بكر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ثالثاً

قد ذكرنا فيما يتعلق بولادة القاسم، الشواهد العديدة التي تثبت ولادته في الإسلام.

وعليه:

فإذا كان هناك وجود لأحد أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يجب أن يكون ولد بعد القاسم، لا قبله.

وبهذا يكون عبد الله هو الابن الثاني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن ولادته كانت بعد أخيه القاسم وكلاهما ولد في الإسلام.

ص:171

المسألة الثالثة: الوحي والإجماع يؤكدان الحقيقة

على الرغم من شهرة ولادة عبد الله في الإسلام عند أغلب علماء المسلمين، فإن هناك من الشواهد الأخرى، ما جعلت حقيقة ولادته بعد النبوة، كالشمس في رابعة النهار.

إذ لا مجال للخلاف بعد ما نقلته المصادر في سبب نزول قوله تعالى:

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)

قد جاءت بعد وفاة عبد الله(1) بينما ذكر البعض أنها نزلت بعد ولادته، وقد أبطأ على خديجة الولد - أي: الإنجاب بعد هذه الولادة -(2).

وبعضهم جمع بين موت القاسم، وموت عبد الله، في سبب نزول الآية، كما أشرنا إلى ذلك في المبحث السابق(3) ، وهذا مما يؤكد ولادة أبناء رسول الله

ص:172


1- أسباب النزول للواحدي: ص 503؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، ص 491؛ المواهب اللدنية للعسقلاني: ج 2، ص 68؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، ص 363؛ المختصر الكبير لابن جماعة: ص 81؛ إسعاف الراغبين: ص 82؛ نهاية الإيجاز: ص 75؛ الوفا للسمهودي: ج 2، ص 655؛ العقد الثمين: ج 1، ص 271؛ تفسير السراج المنير: ج 4، ص 597؛ التحرير والتنوير لابن عاشور: ج 30، ص 576؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج 10، ص 197؛ روح المعاني للآلوسي: ج 29، ص 445؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 8، ص 321؛ المحرر الوجيز: ج 15، ص 586؛ تفسير الرازي: ج 16، ص 133؛ سيرة مغلطاي: ص 103.
2- الدر المنثور للسيوطي: ج 8، ص 652.
3- راجع فصل: «ومن الوحي شاهد».

صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام، وإن وفاة عبد الله، كانت قريبة من وفاة القاسم(1) وهو الأمر الذي جعل بعض الرواة ينسب سبب نزول الآية إلى القاسم، والبعض الآخر ينسبها إلى عبد الله.

لكن الذي يستفاد منه في هذه الروايات: أن قريشاً كانت تقول لمن مات ولده من الذكور بتر، فلما مات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم القاسم، وعبد الله بمكة، قالوا بتر فليس من يقوم مقامه(2).

وبما أن الوفاتين حصلتا في فترة متقاربة جداً، فقد دفعت بعدو الله ورسوله «العاص بن وائل السهمي» إلى أن يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويصفه بالأبتر، وأنه قد انقطع نسله بموت ولديه القاسم وعبد الله.

فإذن:

حقيقة ولادة أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذكور وهما «القاسم، وعبد الله» ووفاتهما في الإسلام، يؤكدها الوحي والإجماع، وأنها أصبحت واضحة وراسخة؛ لأنها تستند إلى الدليل النقلي والعقلي.

وهذا هو الحق والصواب وما بعد الحق إلا الضلال.

ص:173


1- قال اليعقوبي في تاريخه: توفي القاسم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبل من جبال مكة فقال: يا جبل لو أن بي ما بك لهدك، وكان للقاسم يوم توفي أربع سنوات، ثم توفي عبد الله بعده بشهر؛ تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 351.
2- التفسير الكبير للرازي: ج 16، ص 134، (عن السدّي).
المسألة الرابعة: عمر خديجة عليها السلام هو القول الفصل

هناك مسألة أخيرة بقيت في هذا المبحث.

وهذه المسألة أخذت الجانب المهم في حقيقة عدد أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ بعد أن أثبتنا حقيقة ولادة الابن الأكبر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو «القاسم» ووفاته في الإسلام.

وأثبتنا أيضاً: أن الابن الثاني بعد القاسم كان (عبد الله) الملقب بالطيب والطاهر، وأنه توفي بعد أخيه بثلاثين يوماً في مكة، نأتي الآن لنتعرف على مسألة مهمة، وهي: من هو المولود الثالث الذي أنجبته خديجة عليها السلام بعد وفاة عبد الله ؟ ونتعرف على حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام بعد أن فقدا ولدين في أقل من أربعين يوماً؟!

أما حالهما: فقد بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه خديجة عليها السلام، يدعوان الله عزّ وجلّ أن يهب لهما ذرية، وابناً جديداً يعوضهما عما ذهب منهما من الولد.

لكن الذي حدث أن الله قد أخّر هذه النعمة عليهما، فقد أبطأ على خديجة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الولد، وبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر، حتى يمر بقوم من قريش، فينظر إليه أحدهم.

فيقول: قد بتر محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فيسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الكلمة، ويشكو أمره إلى الله تعالى، وإذا جبرائيل عليه السلام يجيبه وينقل إليه كلام الحبيب عز وجل،

ص:174

ويبشره بأن الله أبدله بنعمة عظيمة هي خير له من القاسم وعبد الله.

إن الله قد أعطاه الكوثر وهو (فاطمة عليها السلام)(1).

لأن: التاريخ والسيرة والسنة، لم تنقل لنا عن ولادة ثالثة حصلت لخديجة بعد عبد الله سوى فاطمة إذ لا يمكن أن يتصور أن تكون أحد بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث (زينب، وأم كلثوم، ورقية) رضي الله عنهن، قد ولدن بعد عبد الله!؟

لأن سيرتهن تتعارض مع هذه الولادة.

وإذا سلّمنا جدلاً ومجازاً، إنهن ولدن بعد عبد الله، وبعد أن أبطأ على خديجة الإنجاب كما ذكرت الرواية، فلا ندري كم كان هذا التأخير في الحمل أكان سنتين، أم ثلاثاً أم هو سنة واحدة ؟!

وهذا كله كما قلنا من باب الافتراض، لأن الحقيقة غير هذا.

والسؤال الذي يفرض نفسه في مثل هذه الحالة، هو كم بقيت خديجة بعد الإسلام ؟!

وبمعنى آخر: كم عاشت من السنين وبقيت في الإسلام ؟!

والجواب: إنها عاشت بعد البعثة عشر سنوات، أي: أنها أدركت من الإسلام «عشر سنوات فقط »، وهو ما ذكره جل المؤرخين، وأهل السير، والحديث(2).

ص:175


1- سنعرض لهذه المسألة بمزيد من البحث والاستدلال.
2- المنتخب من أزواج النبي للزبير بن بكار: ص 33؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 62-63؛

هذه الفترة من عمر خديجة عليها السلام قد ذهب نصفها لإنجاب ثلاثة وهم: (القاسم، وعبد الله، وفاطمة عليها السلام).

أما ولادة الغلامين في الإسلام فقد بينا من الأدلة في الفصول السابقة بما فيه الكفاية.

وأما حقيقة ولادة فاطمة عليها السلام بعد عبد الله فهي خاضعة للأدلة التالية:

1. إن سبب نزول سورة الكوثر كان لقول (العاص بن وائل السهمي) ووصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأبتر، لأنه قد مات ولداه.

وهذه الصفة لم يشأ الله تعالى أن تكون عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلذا اقتضت هذه الحادثة تكرار الحمل، وحصوله مرة أخرى، لرفع ما نسبته قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأخذت تتناقله في مجالسها، ووجدوا منه أداة لضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وإدخال الأذى عليه.

ص:176

وهو في نفس الوقت أداة إعلامية للطعن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ كيف يكون نبياً وفي نفس الوقت يتصف بصفة عدم الإنجاب وأنه أبتر، فلذلك خاطبه المولى جل شأنه: بأن عدوك هو الأبتر، وليس أنت(1) فإذن كان لابد من حمل ثالث.

2. لم يذكر أحد من المؤرخين، وأصحاب السير، والأنساب أن خديجة ولدت إحدى بناتها الثلاث (زينب، ورقية، وأم كلثوم) في الإسلام، وإنما أشار بعضهم إلى ذكر ذلك إجمالاً دون تخصيص لإحدى بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما مرَّ بيانه سابقاً.

3. اختلف الرواة في ولادة فاطمة عليها السلام على ثلاثة أقوال:

القول الأول: إنها ولدت قبل البعثة(2).

القول الثاني: إنها ولدت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عمره إحدى وأربعون، وهذا يعني بعد البعثة بسنة(3).

ص:177


1- وهو قوله تعالى:(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)، سورة الكوثر، الآية 3.
2- تاريخ الخميس للديار بكري: ج 1، ص 277.
3- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 163؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، ص 71؛ مختصر تاريخ دمشق لابن منظور: ج 2، ص 269؛ نهاية الأرب للنويري: ج 18، ص 213؛ المواهب اللدنية للقسطلاني: ج 1، ص 198؛ تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 20؛ التبيين في أنساب القرشيين لابن قدامة المقدسي: ص 91؛ سيرة مغلطاي: ص 71؛ البصائر والذخائر لأبي حيان: ج 1، ص 91؛ تاريخ الخميس للديار بكري: ج 1، ص 277.

القول الثالث: إنها ولدت سنة خمس من البعثة(1).

وهنا يكون عندنا قولان ينصان على أنها ولدت بعد البعثة، مقابل قول واحد.

وعليه: فان ولادتها بعد البعثة تكون هي الأرجح.

فضلاً عن... أن هناك روايات تنص على أنها ولدت على رأس البعثة(2) ، أي: سنة أربعين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرى تقول: إنها سنة اثنتين وأربعين(3) ، وهذا يجعل ولادتها بعد البعثة أمراً لا يقبل الشك فيه.

فإذن:

يكون الحمل الثالث لخديجة عليها السلام هو (حملها بفاطمة عليها السلام) وهذا أولاً.

ص:178


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 457، ح 10؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 43، ص 1-10؛ ودلائل الإمامة للطبري: ص 10، وجاء فيه: (أنها ولدت في جماد الآخر يوم العشرين منه سنة خمس وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وذكره المسعودي في مروج الذهب: ج 2، ص 289؛ ذخائر العقبى: ص 52؛ تاريخ الخميس: ج 2، ص 278؛ عن الإمام أبي بكر أحمد بن نصر بن عبد الله الدراع في كتاب: تاريخ مواليد أهل البيت عليهم السلام.
2- بحار الأنوار للمجلسي: ج 43، ص 8؛ تاريخ الخلفاء: ص 75؛ تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 2، ص 441، وجاء فيه: (وكان لها يوم تزوجها علي بن أبي طالب عليهما السلام خمس عشرة سنة وخمسة أشهر)، وذكره أيضاً ابن سيد الناس في منح المدح: ص 355.
3- البحار للمجلسي: ج 43، ص 9؛ نهاية الأرب للنويري: ج 18، ص 213.

ثانياً: لو أرادت خديجة عليها السلام أن تحمل مرة أخرى فإنه سوف يكون بعد السنة الخامسة من البعثة النبوية، أي: بعد ولادة فاطمة.

لأن التاريخ الصحيح في ولادتها هو السنة الخامسة بعد البعثة للأمور التالية:

1. إنّ الرواية التي تقول إنها ولدت على رأس البعثة والأخرى التي ذكرت أنها ولدت سنة إحدى وأربعين، واثنين وأربعين، لا يمكن الأخذ بها؟

لأنها: سوف تتعارض مع الحمل الأول لخديجة عليها السلام الذي حدث في (الإسلام، أو بعد البعثة) كما مرَّ بيانه في ولادة القاسم.

2. أما الرواية التي تقول: (أنها ولدت قبل البعثة بخمس سنوات)(1) فباطلة أصلاً؟! لأنها:

ألف: تقضي أن تكون هي بكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مخالف لإجماع المسلمين.

باء: وهي من وجه آخر تتعارض مع ولادة القاسم وعبد الله في الإسلام، وهما الحمل الأول والثاني لخديجة عليها السلام.

جيم: قد اشتهر بين علماء المسلمين والرواة والمحققين: أنها عليها السلام كانت أصغر أخواتها، أي: أنها آخر من ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يصح أن تكون ولادتها مقدمة على ولادة أخواتها.

وبهذا يثبت أمامنا أنها ولدت سنة خمس من البعثة.

ص:179


1- ميزان الاعتدال للذهبي: ج 3، ص 438، ح 7070.

إذن:

إذا كان هناك حمل آخر لخديجة، فإنه يكون بعد السنة الخامسة من البعثة. وبمعنى أدق: إن أي حمل سوف يكون خلال السنوات الأربع المتبقية من عمر خديجة عليها السلام ؟! والسبب: إن كل ما عاشته بعد البعثة (عشر سنوات)؟

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو:

كم تحتاج المرأة من السنين كي تنجب ثلاثة ؟

فعلى أقل تقدير أنها تحتاج إلى ثلاث سنين، لكل حمل سنة، وهذا بدون النظر إلى رضاعة كل مولود.

وهذا يعني: أن (زينب) يكون عمرها عندما توفيت خديجة أربع سنوات!، ويكون عمر (رقية) سنتين!

فكيف يمكن لطفلة عمرها سنتان أن تتزوج مرتين، كما يحدثنا التاريخ عن سيرة رقية ؟! وأنها هاجرت وألقت ما في بطنها علقة في السفينة(1) ؟! وإذا احتملنا أن تكون ولادتها في السنة السادسة أو السابعة، أو الثامنة من البعثة لأنها بين ثلاث أخوات ولدن لخديجة بعد ولادة فاطمة، فإن رقية جرى عليها كل ذلك قبل ولادتها ب - (1-3) سنين!؟

أما إذا اعتمدنا على النص القرآني في تحديد مدة الحمل والرضاعة، هو قوله تعالى:

ص:180


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 2، ص 77.

(حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً1.)

وقوله تعالى:

(وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ 2.)

فبالاعتماد على هذا التحديد الذي جاء به القرآن، فإن الأم تحتاج لكل مولود حملاً ورضاعة إلى سنتين ونصف، وهي (الثلاثون شهراً).

أي: أنها تحتاج لكي تنجب ثلاثة أولاد وترضعهم إلى ثماني سنوات.

وعليه: فإن (أم كلثوم، ورقية) ولدتا بعد وفاة خديجة عليها السلام!!.

فإذن:

لا يمكن عدُّ (زينب، وأم كلثوم، ورقية) رضي الله تعالى عنهن، قد ولدتهن خديجة عليها السلام خلال هذه السنوات التي عاشتها بعد ولادة فاطمة، أي هذه السنوات الأربع الأخيرة من عمرها المبارك.

كما لا يمكن أنها ولدتهن قبل البعثة؛ لأن ذلك مخالف لما اشتهر من كون القاسم هو بكرها، كما أنه مخالف أيضاً من كونها قد ولدت أولادها بعد البعثة، وأنهما، أي القاسم وعبد الله ماتا ولم يتما رضاعتهما، كما مرَّ بيانه.

ولذا فإن عمرها المبارك الذي عاشته بعد البعثة، هو القول الفصل في تحديد عدد أبنائها الذين أنجبتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:181

3. إنها لم تنجب في هذه السنوات القليلة إلا ثلاثة أبناء، وهم غلامان (القاسم وعبد الله) وبنت واحدة هي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام.

بقي سؤال أخير... لعله يطرق أذهان بعض القراء الكرام وهو:

لماذا لم تنجب سيدتنا ومولاتنا خديجة الكبرى عليها السلام خلال الفترة التي عاشتها قبل البعثة، أي خلال الخمس عشرة سنة ؟ ثم ليكون إنجابها لأولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السنين العشر الأواخر من عمرها؟!

والجواب: هو أن الذي جعل ثماني زوجات لا ينجبن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهنَّ من كان لها الولد من غيره كأم سلمة رضي الله عنها... هو ذاته جلّت قدرته وعزّ شأنه، جعل إنجاب خديجة يكون بعد البعثة لا قبلها، فسبحان من بيده الأمر من قبل ومن بعد، وإليه ترجع عاقبة الأمور.

ولذلك.. قبل أن أنتقل إلى الفصل الرابع من هذا الجزء الذي سيدور حول معرفة بقية الأدلة التي تؤكد حقيقة (أن فاطمة واحدة أبيها)، فإني أسأل الله أن يوفقني لما يرضاه، وأن أضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عملاً أنال به رجاء شفاعته، وشفاعة عترته صلوات الله عليهم أجمعين، وأن يتقبله الله مني لينقذني به يوم حشري، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلاّ من أتى الله بقلب سليم.

(وَ ما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ 1.)

ص:182

الفصل الرابع: بنات النبى صلى الله عليه و آله و سلم بين النقل و العقل

اشارة

ص:183

ص:184

المبحث الأول: زينب بين النقل والعقل

اشارة

ما زلنا في الحديث عن أبناء خديجة عليها السلام، وقد تحدثنا عن اثنين من أبنائها، وهما (القاسم وعبد الله).

وبقي أن نتحدث عن بقية بناتها أو ربائبها الثلاث (زينب، وأم كلثوم، ورقية) - وإن شئت أيها القارئ سمهن بناته صلى الله عليه وآله وسلم أو ربائبه، حتى تصل إلى أرجح التسميتين بنفسك - فلكونهن رضي الله عنهن، قد نشأن في بيت أم المؤمنين خديجة عليها السلام، وكُنَّ تحت رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإني أحببت أن أتناول بعض النقاط المهمة في حياتهن موضحاً لبعض الجوانب التي لها علاقة بهذا البحث، والتي تشكل بقية الحلقات المتصلة بموضوع الكتاب.

المسألة الأولى: ماذا يقول النقل عن زينب ؟
اشارة

لم يعرض لنا النقل عن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث «زينب، ورقية، وأم كلثوم» جوانب موسعة من حياتهن، وتفاصيل معيشتهن، ومعايشتهن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو لا يكاد يمر عليهن إلا مرور الكرام، وإذا أراد أن يتحدث فإنه يشير إلى أزواجهنّ أكثر مما يشير إليهنّ ومدى علاقتهنّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:185

وهذه الحالة تثير موجة من الأسئلة في ذهن المتتبع ولقد قمت بعرضها في فصل (ماذا يقول العقل) الذي جعلته داخلاً في حياة كل واحدة منهن، وذلك من أجل الحفاظ على ترابط الموضوع، وتماسك نقاط البحث، ساعياً إلى معرفة حقيقة نسبتهن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل هي نسبة بنوة أم ربيبة ومن الله التوفيق.

فماذا يقول النقل عن زينب عليها السلام ؟

أولاً: إنها أكبر أخواتها

إنها البنت الأولى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: وقد اشتهر بأنها أكبر أخواتها(1) ، وأن ولادتها كانت في الثلاثين(2) ؛ من عمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ثانياً: متى تزوجت ؟

أما زواجها: فكان من أبي العاص بن الربيع، قبل النبوة(3) ، وقيل بعدها(4) ، وقد أسلمت بينما بقي زوجها على شركه.

ص:186


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 4، ص 42؛ الإصابة لابن حجر: ج 7، ص 648؛ سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم السير والتراجم: ج 3، ص 501؛ دلائل النبوة البيهقي: ج 2، ص 70؛ حياة الصحابة: ج 1، ص 292.
2- جامع الأصول لابن الأثير: ج 12، ص 274؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 273؛ التبيين في أنساب القريشيين للفاسي: ص 88؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 44؛ والذهبي في تخليصه على المستدرك: ج 4، ص 44.
3- طبقات ابن سعد: ج 8، ص 140، من رواية الواقدي.
4- سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم السير والتراجم: ج 3، ص 501.
ثالثاً: هجرتها من مكة مع زيد بن حارثة

ثم يركز النقل على عملية انتقالها من مكة إلى المدينة، وهي هجرتها، هذه الهجرة التي تمت بالشكل التالي:

عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة، أو ابن كنانة فخرجوا في أثرها، فأدركها هبار بن الأسود فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها وألقت ما في بطنها وأهراقت دماً، فحملت. فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية، فقال بنو أمية: نحن أحق بها، وكانت تحت ابن عمهم أبي العاص، فصارت عند هند بنت عتبة بن ربيعة، وكانت تقول لها هند: هذا بسبب أبيك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزيد بن حارثة:

ألا تنطلق فتجيئني بزينب.

قال: بلى يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

فخذ خاتمي فإعطها إياه.

فانطلق زيد وترك بعيره فلم يزل يتلطف حتى لقي راعياً، فقال: لمن ترعى ؟ قال: لأبي العاص، قال: فلمن هذه الغنم ؟ قال: لزينب بنت محمد، فسار معه شيئاً ثم قال له: هل لك أن أعطيك شيئاً، تعطيها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم فأعطاه الخاتم، فانطلق الراعي فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم،

ص:187

فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال رجل، قالت: وأين تركته، قال: بمكان كذا وكذا. قال: فسكتت.

حتى إذا جاء الليل خرجت إليه فلما جاءته قال: لها اركبي، قالت: لا ولكن اركب أنت بين يدي فركب وركبت وراءه. حتى أتت.

فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

«أفضل بناتي أصيبت فيَّ ».

فبلغ ذلك علي بن الحسين - عليهما السلام - فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك تحدث به تنتقص به حق فاطمة - عليها الصلاة والسلام -.

قال عروة: والله إني لا أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأن انتقص فاطمة عليها السلام حقاً هو لها، وأما بعد فإن لك أن لا أحدث به أبدا(1).

وبعد أن وفقت في الوصول إلى المدينة بقيت هناك إلى أن خرج زوجها في قافلة لقريش سنة ست من الهجرة النبوية متجهاً إلى الشام، فانتدب لها زيد في سبعين ومائة راكب، فلقوا القافلة فأخذوها وأسروا أناساً، منهم أبو العاص(2).

فأرسل إلى زينب أن خذي لي أماناً من أبيك، فخرجت فاطلعت رأسها من باب حجرتها والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصبح يصلي بالناس

ص:188


1- التاريخ الصغير للبخاري: ج 1، ص 34؛ تاريخ القضاعي: ص 136؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 43؛ التبيين في أنساب القريشيين: ص 89؛ تاريخ الذهبي للمغازي: ص 121-122.
2- الإصابة لابن حجر: ج 7، ص 666؛ سير أعلام النبلاء للذهبي، السير والتراجم: ج 3، ص 502.

فقالت أيها الناس إني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإني قد أجرت أبا العاص.

فلما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة، قال:

«أيها الناس إنه لا علم لي بهذا حتى سمعتموه ألا وإنه يجير على المسلمين أدناهم»(1).

وفي رواية أخرى عن الزهري، عن أنس قال: قالت زينب قد أجرت أبا العاص فأجاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم جوارها(2) ثم سألت، أن يرد عليه متاعه، ففعل، وأمرها ألا يقربها ما دام مشركاً.

فرجع إلى مكة، فأدى إلى كل ذي حق حقه، ثم رجع مسلماً مهاجراً في محرم سنة سبع، فردَّ عليه زينب بذاك النكاح الأول(3).

وقيل: وردها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي العاص بنكاح جديد ومهر جديد(4).

ص:189


1- مستدرك الحاكم: ج 4، ص 45؛ سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم السير والتراجم: ج 3، ص 503.
2- المستدرك على الصحيحين: ج 4، ص 45؛ وذكره الذهبي في تخليصه.
3- طبقات ابن سعد: ج 8، ص 33؛ سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم السير والتراجم: ج 3، ص 503؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 46.
4- أخرجه أحمد في المسند (6938) والترمذي في النكاح (1142) باب (42) ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما؛ وابن سعد في طبقاته: ج 8، ص 32؛ والذهبي في سير أعلام النبلاء، قسم السير والتراجم: ج 3، ص 502.

وكانت قد أنجبت له أي قبل إسلامه مولودين؛ ذكراً واسمه (علي) أردفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح على راحلته ومات صغيراً(1).

وأنثى واسمها (أمامة) التي حملها النبي في الصلاة، وبلغت حتى تزوجها الإمام علي عليه السلام بعد موت فاطمة الزهراء عليها السلام، ولم تلد له، ثم تزوجها بعد موت الإمام علي عليه السلام المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فولدت له يحيى وبه يكنى وماتت عند المغيرة، وقيل إنها لم تلد له(2).

رابعاً: وفاتها أم اغتيالها؟

أما وفاتها: فكانت سنة ثمان من الهجرة(3) ، والسبب في ذلك هو أنها لما خرجت من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدركها هبار بن الأسود، ونافع بن عبد عمرو، وقيل الحويرث فدفعها أحدهم فسقطت على صخرة فأسقطت حملها، إذ كانت حاملا فاهراقت الدم فلم يزل بها وجعها حتى ماتت منها(4).

فلما أرادوا غسلها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

ص:190


1- المختصر الكبير لابن جماعة: ص 80.
2- المختصر الكبير: ص 80؛ تاريخ الفسوي: ج 3، ص 270.
3- تاريخ مختصر دمشق، قسم السيرة: ص 263؛ والحاكم في المستدرك: ج 4، ص 42؛ مرآة الجنان لليافعي: ج 1، ص 17. الوفا للسمهودي: ج 2، ص 656. التبيين لابن قدامة: ص 89. جامع الأصول: ج 12، ص 274. تاريخ الخميس: ج 1، ص 274.
4- المستدرك على الصحيحين: ج 4، ص 44.

اغسلْنها وتراً ثلاثاً، أو خمساً، واجعلْن في الآخرة كافوراً، أو شيئا من كافور، فإذا غسلتنّها فأعلمنني.

فلما غسلناها أعطانا حقوه، فقال:

«أشعرنها إياه»(1).

فلما فرغوا من تغسيلها وتكفينها، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرج معه صحابته.

قال أنس بن مالك:

فرأيناه كئيباً حزيناً، فلما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبرها، خرج ملتمح اللون، وسألناهُ عن ذلك فقال:

«إنها كانت امرأة مستقامة فذكرت شدة الموت، وضمة القبر، فدعوت الله أن يخفف عنها»(2).

فجلس بعض النساء يبكين فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده وقال:

«مهلاً يا عمر»(3) ؟!

ص:191


1- رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب، 281: غسل الميت ووضوؤه بالماء والسدر، (1254)، (1258) (1260) ورواه مسلم في الجنائز (939) باب (12) في غسل الميت. غوامض الاسماء المبهمة لابن بشكوال: ج 1، ص 71.
2- المستدرك على الصحيحين: ج 4، ص 46.
3- مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 238، من مسند عبد الله بن عباس؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 191؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج 4، ص 75؛ فيض القدير للمناوي: ص 708؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 399.
المسألة الثانية: ماذا يقول العقل عن زينب رضي الله عنها؟
اشارة

بعد أن عرفنا ما جاء به النقل من تفاصيل حول حياة زينب رضي الله عنها، البنت الأولى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قمت بعرضها على طاولة العقل، للبحث عن حقيقة كونها بنتاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أنها ربيبة.

مسلماً في بادئ الأمر إلى ما جاءت به الأخبار من كونها بنتاً وليست ربيبة، فكانت النتيجة التالية:

أولاً: سكوت المؤرخين حولها

إنّ ولادتها كانت في السنة العاشرة قبل البعثة، وهذا يعني أن عمرها حينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عشر سنوات، وعندما توفيت خديجة عليها السلام كان عمرها عشرين سنة هذه الفترة من السنين مرت بغموض دون أن يذكر لها المؤرخون شيئاً، أي: منذ ولادتها إلى سنة وفاة خديجة في السنة العاشرة من البعثة.

ثانياً: ولادتها تتعارض مع كون القاسم بكر خديجة عليها السلام

ولادتها بهذا التأريخ يقودنا إلى كونها بكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إذ لم يذكر أحد من المؤرخين إطلاقاً أنه قد ولد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مولود قبل هذا التاريخ، وإن أولاده صلى الله عليه وآله وسلم ولدوا بعد هذا الوقت.

مما يشير إلى أنها أول من ولد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا

ص:192

خلاف المشهور عند الأمّة، لأن القاسم هو أول من ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبه كان يكنى.

ثالثاً: التناقض في تاريخ زواجها وتعارضه مع التوحيد

وقت زواجها أُختلف فيه، فهو عند ابن سعد قبل النبوة(1) ، بينما عده الذهبي بعد النبوة(2) ، وعدّ قول ابن سعد فيه بعد عن الصحة، أي: أن الذهبي يعدُّ زواجها بعد النبوة هو الأقرب إلى الصحة ؟!

وهو في الواقع في غاية البعد والتناقض، لأن زواجها بعد النبوة لا يمكن أن يتمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ كيف يزوج ابنته المسلمة من رجل مشرك، وهو خلاف القرآن الكريم والعياذ بالله.

رابعاً: سكوت المشركين عنها طيلة خمس عشرة سنة قضتها في مكة

أين كان عنها طغاة قريش وقد أسلمت، وبقي زوجها على كفره دون أن يتعرض لها أحد منهم، وهي بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟! خلال خمس عشرة سنة عاشتها في مكة منذ أن بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ان انتقلت إلى المدينة مع زيد بن حارثة كما مرّ بيانه ؟!

خامساً: تخبط الرواة في خروجها من مكة بين زيد بن حارثة وبين كنانة بن الربيع ؟

أما هجرتها إلى المدينة فإن الرواة قد جمعوا بين محاولتها الخروج من مكة مع أخي زوجها «كنانة بن الربيع» ولحوق قريش بها وتعرضها للإجهاض، وبين

ص:193


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 140.
2- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 501.

قدوم زيد بن حارثة لإخراجها وحملها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمن واحد، وهذا غير صحيح ؟!

لأن عملية خروج زينب من مكة إلى المدينة حدثت مرتين، وإن الفارق الزمني بينهما كان عدداً من السنين؛ إذ بعد أن تعرضت زينب رضي الله عنها في الخروج الأول إلى الإجهاض بسبب ما قام به هبار بن الأسود من طعنه بعيرها، وسقوطها على صخرة وقد أهراقت دماً، حُملت إلى مكة، وصارت عند هند بنت عتبة بن ربيعة.

وعندما وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلم بما جرى على زينب أهدر دم هبار بن الأسود، ونافع بن عبد عمرو فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن لقيتم هبار بن الأسود، ونافع بن عبد عمرو فاحرقوهما».

ثم قال:

«إن لقيتموهما فاقتلوهما، فإنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله»(1).

لكن زينب بعد هذا الحادث بقيت في مكة بضع سنين، إلى أن جاءت المحاولة الثانية، والتي كانت على يد زيد بن حارثة، لكن السؤال المطروح هو كم هي المدّة التي عاشتها في مكة حتى هاجرت ؟!

ص:194


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 1، ص 657؛ سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم السير والتراجم: ج 3، ص 502.

لم يذكرها أحد سوى ما يدل على أنها ظلت مدّة طويلة لعلها أربع سنوات أو خمس ومما يدل عليه:

ما أخرجه الحاكم بسند صحيح ووافقه الذهبي عليه، عن ابن إسحاق، ثنا يحيى بن عباد، عن أبيه، عن عائشة، قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أساراهم بعثت زينب بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فداء أبي العاص بقلادة كانت خديجة أدخلتها معها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رق لها رقة شديدة وقال:

«إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها(1) وتردوا عليها الذي لها».

وهذه الرواية تدل على أنها ظلت فترة طويلة في مكة، وأنها خلال هذه السنين أنجبت لأبي العاص طفلين هما: «علي، وأمامة».

وذكر ابن حجر: أنها بعثت بهذه القلادة مع أخي زوجها عمرو بن الربيع، وأن النبي قد اشترط على أبي العاص أن يخلي سبيلها ففعل(2).

سادسا: عملية خروجها من مكة تنفي أن تكون زينب بنتا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدل على أنها ربيبة

وهذه الرواية وإن كانت لتدل على بقاء زينب لسنين عديدة في مكة بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها مهاجراً. فهي في نفس الوقت تدل على أنها ربيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمور التالية:

ص:195


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 45.
2- الإصابة: ج 7، ص 665.

1. إن زينب كانت في مكة وهي على إسلامها وزوجها على شركه وهذا واضح من خلال قول الراوي: «وأخذ على أبي العاص أن يخلي سبيلها»، وهذا يعني أن زينب كانت بحكم الأسيرة عند أبي العاص. وإلا لو كانت غير مسلمة لما طلب منه إخلاء سبيلها.

2. كيف لم يفرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طيلة هذه السنوات ؟!.

3. كيف لم تتخذها قريش أسيرة مقابل أسراها، إذا كانت تعلم حقاً أنها ابنته صلى الله عليه وآله وسلم، فيتم الأمر على شكل تبادل للأسرى ؟!

4. ما هو حكم ولدي زينب (علي، وأمامة) اللذين ولدا من أب مشرك، ولماذا سكت عنهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهل يعقل - والعياذ بالله - أن يكون أحفاده من ذراري المشركين ؟!!

5. لماذا لم يخرجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الفواطم اللاتي أخرجهنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام ؟ وهنّ (فاطمة بنت أسد، وهي أم الإمام علي عليه السلام، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وفاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب)(1) ، وتترك زينب في مكة، إلاَّ أنْ تكون ليست بنتاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إذ لا يمكن الاعتقاد شرعاً وعقلاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،

ص:196


1- سبل السلام للصنعاني: ج 2، ص 176؛ التبيين لابن قدامة: ص 149.

أخرج بنتاً واحدة وهي فاطمة عليها السلام، وترك الأخريات وهما (زينب وأم كلثوم)...؟!

ألا يكون ذلك دليلاً على كون زينب ليست بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

إذ كيف تنقل أرحام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النساء اللاتي هُنَّ أبعد درجةً من منزلة البنت، كفاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب أو فاطمة بنت حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتترك بنتان له في مكة تحت ظلم رجال قريش..؟!

والعجيب في الأمر ما نقله البخاري في صحيحه وهو يصف لنا كيف تم نقل فاطمة بنت حمزة فيقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من مكة، وقفت ابنة حمزة على الطريق فلما مرَّ بها علي عليه السلام قالت: يا ابن العم إلى من تدعني ؟ فتناولها فدفعها إلى فاطمة حتى قدم بها المدينة(1).

فكيف يمكن التصور حتى في الخيال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يترك بنتين له عند المشركين ولم يؤمر بإخراجهما إلاَّ أن تكونا ليستا من صلبه صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:197


1- أخرجه البخاري، في باب كيف يكتب هذا ما صالح عليه فلان بن فلان.. من كتاب الصلح، وفي باب عمرة القضاء من كتاب المغازي، ج 3، ص 242، وج 5 ص 180؛ والبيهقي في باب نقض الصلح فيما لا يجوز وهو ترك النساء، من كتاب الجزية، السنن الكبرى: ج 9، ص 228-229؛ وابن قدامة مسألة رقم (1675). المغني: ج 13، ص 163، فصل إخراج المرأة المسلمة من أرض الكفار.

5. قول الراوي: «ففعل» هذا تقوُّل واضح، وتصنع مفتضح، أريد به وضع منقبة لأبي العاص، بأنه التزم بعهده مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

والحال أنه لم يفعل، ولم يلتزم بعهده، مما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث زيد بن حارثة لإنقاذها وإخراجها من مكة إلى المدينة، فلو التزم فعلاً بعهده، لما قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببعث زيد بن حارثة، وإخلاء سبيلها.

6. إن عملية نقلها من مكة إلى المدينة التي قام بها زيد بن حارثة، كيف حدثت وهي ليست من محارمه ؟! وكيف يجوز له حملها بهذا الشكل الذي وصفه النقل، بقول زيد لها: (اركبي، قالت: لا بل اركب أنت بين يدي، فركب وركبت وراءه)(1)!؟.

سابعا: محاولة الحافظ الطحاوي في دفع الإشكال في ركوب زينب مع زيد على جمل واحد زادت الأمر سوءاً؟
اشارة

وهذا الإشكال استوقف الطحاوي في إشكالاته على الآثار، ووجهه بهذا الشكل الذي يحمل إشكالاً آخر؟! فكان حله للإشكال ألزمه الحجة في كونها ليست بنتاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فيقول: «قد وجدنا زيداً قد كان حينئذٍ في تبني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياه، حتى كان يقال له بذلك: زيد بن محمد، ولم يزل بعد ذلك،

ص:198


1- التاريخ الصغير للبخاري: ج 1، ص 34؛ تاريخ القضاعي: ص 136؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 43؛ سير أعلام النبلاء: ج 3، ص 502، قسم السير والتراجم.

كذلك، إلى أن نسخ الله ذلك فأخرجه من بنوته، وفي إباحته لها وله السفر من كل واحد منهما مع صاحبه، كان على الحكم الأول.

وفي الحالة التي كان زيدٌ فيها أخاً لزينب، فكان بذلك محرماً لها جائز له السفر بها، كما يجوز لأخٍ لو كان لها في النسب من السفر بها، فهذا وجه هذا المعنى من هذا الحديث، والله أعلم(1).

ونقول: إن المعنى الذي قصده الطحاوي لبعيد جداً؛ لأنه لم يقدم لنا ولو دليلاً واحداً يثبت أنّ زيد بن حارثة عندما نقل زينب رضي الله عنها نقلها قبل أن ينسخ الله حكم التبني، بل العكس هو الصحيح، أي: أن زيد بن حارثة نقل زينب من مكة إلى المدينة بعد أن نسخ الحكم، وأخرج من بنوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ومما يدل عليه:

ألف: الحاكم النيسابوري ينص على وجود زينب بعد معركة بدر في مكة

ما أخرجه الحاكم وغيره من أهل العلم بالحديث في أن زينب رضي الله عنها كانت بعد معركة بدر في مكة وأنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفداء زوجها، لأنه كان أسيراً عند المسلمين، والذي أسره هو «عبد الله بن جبير الأنصاري»(2).

ص:199


1- شرح مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، ص 133، باب 23.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 43؛ سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم السير والتراجم: ج 3، ص 502.
باء: وقوع أبي العاص في الأسر سنة (6) للهجرة

إن التاريخ لم يحدثنا بعد هذه الحادثة عن زينب بأي شكل، إلى أن تأتي أحداث سنة 6 ه -، فيشير التاريخ: إلى أن زينب كانت خلال هذه السنة في المدينة، وأنه حدث خلال هذه السنة، أن خرج أبو العاص في عير لقريش، فتم انتداب زيد بن حارثة على رأس سرية لمهاجمة هذه القافلة، وبالفعل تمكن المسلمون من أسر أبي العاص فلما جاءوا به إلى المدينة، استجار بزوجته زينب، فأجارته، وأعلنت ذلك للمسلمين فأجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جوارها، وأمرها ألا يقربها ما دام مشركاً.

ثم يعود إلى مكة وهو يحمل ما أخذ منه من الودائع، فأرجعها إلى أهلها، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مسلماً ومهاجراً، في السنة السابعة، أي: بعد مرور سنة على هذه الحادثة، كما بينا في الفصل السابق.

جيم: كيف يقوم زيد بن حارثة بنقل زينب إلى المدينة بعد نسخ حكم التبني ؟!

إن حكم التبني تم نسخه في السنة الخامسة من الهجرة أي بعد أن تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزينب بنت جحش، طليقة زيد بن حارثة، مما دعا المنافقين أن يقولوا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج من بنت ولده زيد، لأنه كان يدعى: (زيد بن محمد)(1).

وبعد نزول الآية:(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ) دعي زيد لأبيه حارثة.

ص:200


1- وهي السنة التي تزوج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بنت جحش.

وعليه:

فإن زينب رضي الله عنها تم نقلها إلى المدينة بعد مضي سنة على نسخ الحكم. وهذا يعني: أنها لم تكن من محارمه، فكيف يجوز نقلها على بعير واحد؟!

ثامنا: كيف تنجب زينب من زوجها طفلين وهو على شركه ؟!

كيف يأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يقربها، وكانت قد أنجبت منه طفلين في السنين السابقة التي كانت فيها على إسلامها، وهو على شركه.

إلا أن يقال إنها لم تؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنها ظلت على دين زوجها طيلة هذه السنين التي تم فيها الإنجاب، وإنها أسلمت بعد فترة من الزمن وتحديداً بعد معركة بدر الكبرى التي أُسر فيها زوجها.

تاسعاً: تخبط الحافظ الذهبي في جمعه بين بقائها مع زوجها المشرك وبين سنة إسلامها فكان خلافاً للعقل والنقل ؟!

ولقد حاول الحافظ الذهبي الخروج من عنق الزجاجة حينما حاول الجمع بين بقاء زينب بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجها المشرك طيلة ثماني عشرة سنة وبين التقليل من حجم هذه الفترة إلى سنوات حينما ذهب قائلاً: (أسلمت زينب وهاجرت قبل إسلام زوجها بست سنين).

ونقول:

إنّ هذا القول خلاف للنقل والعقل.

ص:201

أما كونه خلافاً للنقل فلأنه:

ألف: لم يسند قوله هذا إلى حديث حتى ولو كان ضعيفاً.

باء: هجرتها تمت بعد معركة أحد بسنتين على يد زيد بن حارثة. وحتى لو قلنا إنها هاجرت بعد معركة بدر الكبرى مباشرة فإن الفترة التي بين إسلامها وهجرتها، وبين إسلام زوجها وهجرته، تكون أربع سنوات أو خمساً لأن أبا العاص أسلم سنة 7 ه -.

جيم: من المعروف لدى جميع علماء المسلمين أن معركة بدر وقعت في السنة الثانية من الهجرة، وأن زينب كانت بعد معركة بدر في مكة، ولم تخرج منها.

بل إنها بعد هذه المعركة بعثت في فداء زوجها الذي أسر فيها.

فكيف يصح قول الذهبي: إنها أسلمت وهاجرت قبل زوجها بست سنوات وهو قد أسلم سنة سبع من الهجرة أي أنها أسلمت وهاجرت في السنة الأولى من الهجرة النبوية! بينما هي لم تغادر مكة أصلاً، إلاَّ بعد مرور سنة أو أكثر على معركة بدر.

أليس هذا القول فيه خلاف كبير؟! بل فيه استحالة التحقق.

أما كونه خلاف العقل:

1. فلأنها: كيف لم تؤمن بأبيها، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ كيف لم تؤمن به وقد رأت أن أول من آمن به أمها خديجة الكبرى عليها السلام! وهذا يعني أنها كانت في بيت كان فيه الأبوان على دين واحد.

ص:202

فكيف يمكن لهذه البنت أن تخالف والديها ولا تعتقد بدينهما وهي فتاة في سن العاشرة ؟!

وهذه السن تمكن الوالدين من صياغتها مثلما يريدان، وهو القائل صلى الله عليه وآله وسلم:

«كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه»(1).

فكيف يمكن قبول مثل هذا المنطق ؟! وأي عقل يرضى أن تكون بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مؤمنة بأبيها؟ وتبقى مدة (ثلاث عشرة) سنة في مكة وسنتين أو سنة بعد الهجرة لتسلم وتهاجر بعد ذلك، كما يروي الذهبي ؟!

أو أنها آمنت بالنبي، ثم زوّجها من مشرك وبقت تحته (ثماني عشرة) سنة ؟! وبعد هذه السنين الطويلة يبعث وراءها النبي صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة لينقذها من براثن الشرك خلال السنة السادسة من الهجرة، ويُسلم زوجها سنة سبع من الهجرة، وهذا يعني أن هذه المسكينة، لم تعش مع

ص:203


1- الخلاف للشيخ الطوسي: ج 3، ص 591، ص 592؛ تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: ج 9، ص 170، ص 172 و ج 2، ص 274؛ مختلف الشيعة للعلامة الحلي: ج 6، ص 108؛ الدروس للشهيد الأول: ج 3، ص 79؛ أمالي المرتضى: ج 4، ص 2؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 58، ص 187 و ج 64، ص 133؛ مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي: ج 8، ص 238؛ مسند أحمد: ج 2، ص 233، ص 393، ص 481؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 6، ص 202، ص 203؛ تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج 16، ص 118؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 4، ص 77.

هذا الزوج المسلم في بيت فيه روح الإسلام، إلا سنة واحدة لأنها توفيت سنة ثمان(1). فتكون قد قضت بذلك كل سنين عمرها مع زوج لم ترَ منه إلا عبادة الأوثان، وعداوة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي صابرة محتسبة منتظرة متى يأتي الفرج لتنقل إلى المدينة كما نقلت الفواطم.

وعليه فنحن الآن أمام قولين:

ألف: إما أن نسلّم، ونرضى بكل هذه الإشكالات، ونغلق على عقولنا، حفاظاً على بعض المشاعر المستأنسة بالظلام.. والمتقوقعة في بواتق الشبهات الموروثة.

باء: وإما أن نتبع نور العقل ونستدل بأدلته على أن زينب رضي الله عنها لا يتناسب مع ما ورد في سيرتها أن تكون بنتاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم تلدها خديجة عليها السلام، وإنما هي ربيبته صلى الله عليه وآله وسلم، بل حتى كونها ربيبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تدفعنا إلى الاعتقاد بأنها وهي في هذه المنزلة لا تتناسب مع روح النبوة وهدي القرآن مع كل هذه الاشكالات التي حملتها كتب الحديث والتاريخ والتراجم والأنساب وغيرها.

بقي أن نقول:

إن أرباب الضلالة، وقادة النفاق لم يدّخروا جهداً في تشويه صورة الإسلام، ونسب الأكاذيب إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص:204


1- جامع الأصول: ج 12، ص 274؛ تاريخ الخميس: ج 1، ص 74؛ التبيين لابن قدامة الأنصاري: ص 89.

وسنته، والتعرض لحرمته لاسيما فيما يتعلق بحياة (زينب ورقية وأم كلثوم).

فعرضوا من خلال حديثهم عن شخصية زينب رضي الله عنها بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد زوجها من رجل مشرك!...، وأنه يمكن حتى للمشرك أن يصاهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم!.. وأن هذه المصاهرة ليس لها أي مكانة دينية، أو دنيوية!.. وأنها تتم بشكل عادي، لا فرق بينها وبين مصاهرة بنات المسلمين!

فيحققون بذلك هدفين:

الأول

أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير معصوم، وأنه غير مسدد من قبل الوحي إلا في تبليغ القرآن، فهو في الوقت الذي يحارب الشرك، يقوم بتزويج ابنته من رجل مشرك، فيجعلون المسلم في دوامة لا يعلم متى يخرج منها.

والثاني

هو التعرض لمنزلة فاطمة عليها السلام وزواجها من علي بن أبي طالب عليها السلام، فتكون مصاهرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست بالمنقبة؛ لأن صهر النبي الأول كان مشركاً.

وأما الشواهد على هذه القضية التي فجعوا بها الإسلام فكثيرة، وسوف نتعرض لها إن شاء الله كلاً حسب موقعها.

ص:205

المبحث الثاني: رقية بين النقل والعقل

المسألة الأولى: ماذا يقول النقل عن رقية رضي الله عنها؟
اشارة

نتناول في هذا المبحث ما عرضه لنا رواة الحديث والتاريخ والسيرة والأنساب عن شخصية رقية رضي الله عنها، والتي صورها لنا النقل بهذا الشكل:

أولاً: إن رقية أصغر من زينب بثلاث سنين

أنها البنت الثانية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها ولدت سنة ثلاث وثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1) ، وهي بهذا التاريخ تكون أصغر من زينب بثلاث سنين(2).

ثانياً: الاختلاف في سنة زواجها

تزوجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوة(3) ، وقيل: بعدها وتحديداً قبل الهجرة(4) ، ثم نزل قوله تعالى:

ص:206


1- مستدرك الحاكم: ج 4، ص 46؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 12، ص 274-275؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1839، برقم 3343.
2- التلخيص على المستدرك للذهبي مطبوع مع المستدرك: ج 4، ص 46.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 29؛ الإصابة لابن حجر: ج 7، ص 648؛ الأعلام للزركلي: ج 3، ص 31؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 127؛ الاستيعاب: ج 4، ص 1840.
4- سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم السير والتراجم ج 3 ص 503.

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ 1.)

فقال أبو لهب لولده رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته، فطلقها وكان لم يدخل بها؟!(1).

ثالثاً: أسلمت مع أمها خديجة عليها السلام

وكانت قد أسلمت حين أسلمت أمها خديجة، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي وأخواتها حين بايع النساء(2).

رابعاً: إنّ الدافع في زواج عثمان بن عفان من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لجمالها؟

ثم بعد ذلك تقدم عثمان بن عفان لخطبتها والزواج بها وكان الدافع من هذا الزواج هو الحصول عليها، لأنها كانت ذات جمال بارع(3) ، ولكون عثمان كان مولعاً بالنساء إلى درجة كبيرة حتى اشتهر بذلك، فكانت رقية وما تحمله من جمال هي السبب في إسلامه الذي تمكن من خلاله أي من خلال

ص:207


1- الإصابة لابن حجر: ج 7، ص 649؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 29؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1840؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 151.
2- تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 151؛ طبقات ابن سعد: ج 8، ص 29-30؛ الأعلام للزركلي: ج 3، ص 31.
3- الإصابة: ج 7، ص 697-698؛ في ترجمة سعدى بنت كرز، العقد التام فيمن زوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليوسف بن عبد الهادي «مخطوطة» يرقد في مكتبة الأسد برقم «3249»؛ التبيين لابن قدامة: ص 89؛ تاريخ دمشق: ج 39، ص 23.

الإسلام الزواج منها، كما حدثنا بذلك عثمان، وأخبرنا بنفسه عن سبب إسلامه.

فيقول: (كنت رجلاً مستهتراً بالنساء، وإني ذات ليلة بفناء الكعبة قاعدٌ في رهط من قريش، إذ أُتينا فقيل لنا: إن محمداً قد أنكح عتبة بن أبي لهب من ابنته، وكانت رقية ذات جمال رائع، فدخلتني الحسرة، لم لا أكون أنا سبقت إلى ذلك. فقال: فلم ألبث أن انصرفت إلى منزلي، فأصبت خالة لي(1) قاعدة، وكانت قد طرقت وتكهنت عند قومها. فلما رأتني قالت مرتجزة: (ابشر وحييت ثلاثاً تترى)، إلى أن قالت: «أنكحت والله حصاناً زهرا - وأنت بكر ولقيت بكرا).

قال فعجبت من قولها وقلت يا خالة ما تقولين ؟ فقالت: «هذا نبي معه البرهان - أرسله بحقه الديان».

ثم قالت: (إن محمد بن عبد الله جاء إليه جبرائيل...) الخ كلامها معه.

ثم يقول: ثم انصرفت إلى أبي بكر وكان لي معه مجلس فكلمته.

- وبعد أن حدثه بما سمع - قال: فو الله ما كان بأسرع من أن مرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه علي بن أبي طالب - عليه السلام -.

وبعد أن دار بينه وبين رسول الله الكلام أسلم، ثم يضيف قائلاً: «ثم لم ألبث أن تزوجت رقية»(2).

ص:208


1- راجع ترجمتها في الإصابة لابن حجر: ج 7، ص 697-698 وهي: (سعدى بنت كرز بن ربيعة بن عبد الشمس).
2- الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 176، برقم 11296؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 39، ص 40.
خامساً: هجرتها مع زوجها إلى الحبشة

وبعد أن تم هذا الزواج، أراد عثمان بن عفان الخروج إلى أرض الحبشة فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أخرج برقية معك».

- ثم - قال:

«أخال واحداًً منكما يصبر على صاحبه».

ثم أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسماء بنت أبي بكر فقال:

آتيني بخبرهما.

فرجعت أسماء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو بكر، فقالت: يا رسول الله أَخرج حماراً موكفاً فحملها عليه وأخذ بها نحو البحر.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا أبا بكر إنهما لأول من هاجر بعد لوط وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام»(1).

وإنهما هاجرا إلى الحبشة الهجرتين جميعاً(2).

وكانت رقية رضي الله عنها حاملاً، فألقت ما في بطنها علقة في السفينة(3) ، وكان هذا في الهجرة الأولى(4).

ص:209


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 46-47؛ سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم التراجم والسير: ج 3، ص 504.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 29-30.
3- الكامل في التاريخ: ج 2، ص 77.
4- طبقات ابن سعد: ج 8، ص 29؛ تاريخ دمشق: ج 3، ص 151.
سادساً: إن رقية هاجرت من الحبشة إلى المدينة بعد هجرة زوجها عثمان!!

وبعد أن استقر بها المقام في الحبشة ولدت لعثمان ولده عبد الله، الذي كان به يكنى، وقد مات وعمره أربع سنوات وقيل: ست سنوات، ولم تلد له بعده. وكان موته في السنة الرابعة من الهجرة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1) ، ثم إنها هاجرت إلى المدينة بعد عثمان(2).

سابعاً: دخول أبي هريرة على رقية بعد زواجها من عثمان!!

ويروي لنا النقل عن أبي هريرة أنه قال: دخلت على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه آله وسلم، وبيدها مشط فقالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عندي آنفاً، فرجلت رأسه، فقال لي: كيف تجدين عثمان ؟ قالت: فقلت بخير قال: أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقاً(3).

ثامناً: توفيت في المدينة بسبب مرضها ولم يحضرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

وفي السنة الثانية من الهجرة وقبيل بدر مرضت رقية رضي الله عنها فخلَّف النبي عليها عثمان ولم يخرج إلى بدر؛ وتخلف معه أسامة بن زيد فماتت ليلاً، فغدوا بها فدفنوها والمسلمون ببدر(4).

ص:210


1- الاستيعاب: ج 4، ص 1840؛ أسد الغابة: ج 7، ص 115؛ تاريخ دمشق: ج 3، ص 152.
2- طبقات ابن سعد: ج 8، ص 29-30؛ سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم السير والتراجم: ج 3، ص 504.
3- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 48؛ وأقره الذهبي في التخليص: ج 4، ص 48 من المستدرك.
4- التاريخ الصغير للبخاري: ج 1، ص 44. الاستيعاب: ج 4، ص 1840؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 47.

وقيل: لما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بدر وقف على قبرها ثم قال:

«إلحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون»(1).

فبكت النساء فجعل عمر بن الخطاب يضربهن بسوطه ؟!

فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده ؟! وقال:

«دعهن يبكين».

ثم قال:

«مهما يكن من العين ومن القلب فمن الله والرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان».

فقعدت فاطمة عليها السلام على شفير القبر تبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح دموعها بطرف ثوبه(2).

المسألة الثانية: ماذا يقول العقل عن رقية رضي الله عنها؟
اشارة

هذه هي الصورة التي حملتها المصادر الإسلامية عن شخصية رقية رضي الله عنها. لكن هذه الصورة حوت كثيراً من التناقضات التي يرفضها العقل ويمجها الذوق السليم، وكما قلنا في المبحث السابق: فقد أخذنا هذه الصورة على أساس أنها بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم عرضنا الأمر على طاولة البحث العلمي والموضوعي فكانت النتيجة الآتية:

ص:211


1- سنتناول الحديث عن شخصية عثمان بن مظعون في فصل:) ماذا يقول العقل عن رقية رضى الله عنها).
2- طبقات ابن سعد: ج 8، ص 30.
أولاً: إن رقية كانت دون السن الشرعي حينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم

سنة ولادتها تدل على أنها كانت في سن السابعة عندما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أنها عند بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت طفلة وهي دون السن الشرعي التكليفي بسنتين.

ثانياً: ولادتها تتعارض مع كون القاسم بكر خديجة عليها السلام

إن هذا التاريخ الذي ينص على ولادة رقية في السنة الثالثة والثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعارض من كون القاسم هو بكر خديجة عليها السلام وأنه ولد ومات في الإسلام - كما مرّ سابقا -.

ثالثا: كيف يزوّج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنتاً وهي في الخامسة من عمرها - والعياذ بالله -

زواجها من عتبة قبل النبوة يرفضه العقل ؟ إذ كيف يزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته وهي ما زالت طفلة، لعلها في السادسة أو الخامسة من عمرها، لأن كلمة: (قبل النبوة) لم تحدد لنا عمرها دقيقاً حين تزوجها عتبة بن أبي لهب.

إلاّ اللهم كان يراد من لفظ الزواج هو الخطوبة، وهذا بعيد أيضاً؛ لأن الرواية تنص على لفظ الطلاق ولا يقال للخاطب حين تركه لمخطوبته بالمطلق لها.

رابعا: طلاقها من عتبة بن أبي لهب بسبب نزول سورة المسد مخالف للعقل والنقل ؟

أشارت المصادر إلى أن سبب طلاقها من عتبة، فهو لنزول قوله تعالى:

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ )

ص:212

مما دعا أبا لهب أن يخير ولده عتبة، بين أن يتبرأ منه، وبين أن يطلق رقية.

فكانت النتيجة: أن عتبة فضّل أباه على بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فطلقها.

هذه الحالة التي ينقلها الرواة في منتهى الغرابة والتناقض العقلي والنقلي للأمور التالية:

1. أن هذه الآية نزلت في السنة الثالثة من البعثة(1).

وهذا يعني أن رقية بقيت زوجة لعتبة أكثر من أربع سنوات أو خمس؛ لأنه تزوجها قبل النبوة! كما يقول الرواة، الذين ذكروا أيضاً: انه لم يدخل بها!.

فكيف تبقى رقية خمس سنوات عند زوجها ولم يدخل بها؟!

2. وإذا قلنا إنه تزوجها بعد النبوة؛ فإنه مرفوض أيضاً بل إنه في رتبة المحال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن شرعاً ولا عقلاً أن يدعو إلى التوحيد ثم يقوم بتزويج ابنته من مشرك.

3. إن التاريخ ينقل لنا صورة عن طبيعة التعامل الذي كان يقوم به أبو لهب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تكشف عن حجم العداء الذي كان يحمله أبو لهب للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده، الحديث التالي: «قال: حدثنا أبو النظر، حدثنا شيبان، عن أشعث، قال: وحدثني شيخ من بني مالك بن كنانة،

ص:213


1- أسباب النزول للواحدي: ص 345.

قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بسوق ذي المجاز، يتخللها ويقول:

يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.

قال: وأبو لهب يحثي عليه التراب ويقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، ولتتركوا اللاة والعزى.

قال: وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...»(1).

فهل يعقل أن يتقدم أبو لهب إلى رسول الله ليخطب ابنته وهو يحمل له هذا العداء؟! وهل ممكن شرعاً وعقلاً أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ابنته لعتبة بن أبي لهب، المشرك الذي يدين بدين أبيه، وأبوه هذا حاله مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!.

خامسا: تخبط الحافظ الذهبي في تصحيح قول ابن سعد في سنة زواجها ومخالفته للنصوص ؟!

أما ما ذهب إليه الحافظ شمس الدين الذهبي: في تصحيحه لقول ابن سعد، وتحديده زواج رقية رضي الله عنها، قبل الهجرة، فهو: مما لا صحة فيه، بل زاد الأمر سوءاً؟!.

لأنه: بهذا القول يلزم أن يكون زواجها من عتبة قد وقع بعد زواجها من عثمان بن عفان ؟!

ص:214


1- مسند أحمد: ج 4، ص 63؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 305؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 2، ص 452.

ثم إن الذهبي لم يفصح لنا عن قوله قبل الهجرة، أي: هجرة يقصد؟ الهجرة إلى الحبشة أم الهجرة إلى المدينة ؟

فإذا كان قصده هجرة الحبشة، فهذا محال لأن سورة «المسد»(1) نزلت في السنة الثالثة من البعثة(2) ، والهجرة إلى الحبشة وقعت في السنة الخامسة(3) ، فلا يمكن أن يتقدم أبو لهب، ويخطب لولده بنت رسول الله. وقد انزل الله تعالى سورة في القرآن، تكون عاراً عليه، وعلى زوجته إلى يوم القيامة. فزواجها من عتبة قبل الهجرة إلى الحبشة أبعد من الخيال.

أما إذا كان قصد الذهبي، أن زواجها كان قبل الهجرة إلى المدينة. فهذا لا يرضى به عاقل؛ لأن رقية قبل الهجرة إلى المدينة كانت متزوجة من عثمان بن عفان. وعندها ولدٌ منه وعمره سنتان تقريباً، وهي مع هذا كله كانت في أرض الحبشة، وليست في مكة!! فأين ومتى وقع هذا الزواج ؟! لا أحد يعلم... ولعل الذهبي وحده الذي يعلم ؟!

سادسا: ما هو السبب الذي جعل الذهبي يخطئ ابن سعد؟

إن السبب الذي جعل شمس الدين الذهبي يخطئ ابن سعد في قوله: (إن رقية تزوجت قبل النبوة)، فيقوم بتصحيحه إلى قبل الهجرة ؟

فهو لكي يحافظ على صحة القول القائل: بأن عثمان عندما تزوج رقية

ص:215


1- هذه السورة من السور المكية، وقد نزلت في الرد على أبي لهب وزوجته.
2- أسباب النزول للواحدي: ص 345.
3- البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 53.

رضي الله عنها، كانت باكراً. بدليل... أن هذا الزواج تم بعد النبوة، وقبل الهجرة، أي: قبل زواجها من عثمان بفترة قصيرة من الزمن.

لأن هذا الزواج إذا كان قد تم قبل البعثة، فإنّ عدّها باكراً يصبح أمراً بعيداً جداً، مع بقائها عنده طيلة هذه السنين.

فأوقع الصواب في خطأ كبير... يرفضه العقل، والنقل، والذوق السليم.

سابعا: وهل حقاً أن عتبة بن أبي لهب لم يبنِ برقية طيلة أربع سنوات كي يتزوجها عثمان فيحظى بها وهي غير ثيب ؟!

ونقول: إن حقيقة كونها باكراً يعارضها النقل أيضاً، فقد جاء عن الزبير ابن بكار قوله: «إن رقية رضي الله عنها كانت عند عتبة بن أبي لهب وبنى بها، فلما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ )

قالت العوراء، أم جميل بنت حرب بن أمية، وهي أم عتبة بن أبي لهب، وهي حمالة الحطب، أيهجونا محمد ونمسك ابنته ؟! فطلقها أنكحك غيرها.

فانكحته بنت أبي العاص بن أمية، فولدت له جارية، فتزوجها يزيد بن أبي سفيان بن حرب.

ثم خلف على رقية بنت رسول الله عثمان بن عفان، فولدت له عبد الله، فمات...»(1).

ص:216


1- المنتخب من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للزبير بن بكار: ص 30.
ثامنا: استحالة أن تكون رقية قد أسلمت مع خديجة عليها السلام في آن واحد!

أما... ما جاء في إسلامها، من أنها أسلمت حين أسلمت أمها خديجة بنت خويلد عليها السلام، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فإنه كفى بهذا القول كاشفاً عن بطلان هذه الروايات التي نسجت هذه الأحداث وأعطتها هذه المنزلة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

إذ لا يخفى عند جمهور المسلمين أن خديجة عليها السلام هي أول من أسلم من النساء، ولم ينقل لنا أي مصدر إسلامي إطلاقاً، كان قد تناول قضية أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. أن ذكر لنا: أن خديجة عليها السلام عندما أسلمت كان معها بناتها الثلاث.

بل إن جميع المصادر تجمع على أن خديجة عليها السلام، هي أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

في حين أشارت المصادر إلى: أن علي بن أبي طالب هو أول من سبق إلى هذا الدين، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

إذ قال:

«أولكم عليّ وروداً عند الحوض أولكم إسلاماً علي بن أبي طالب عليه السلام»(1).

لكن لم نجد أي ذكر لبنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه القضية.

ص:217


1- محاسن الوسائل للشلبي الدمشقي: ص 397، نقلاً عن المصنف لابن أبي شيبة.

أما بخصوص بيعتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع النساء فإن بيعة النساء كانت مرتين:

البيعة الأولى

فهي بيعة العقبة، وهي خاصة لنساء الأنصار، الذين جاءوا عام (انثي عشر) من البعثة، وبايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على أن يفدوه بأنفسهم وأموالهم، كي يتمكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الهجرة إلى المدينة.

فضلاً عن أن رقية كانت في هذا الوقت في الحبشة.

البيعة الثانية

وأما البيعة الثانية بيعة الرضوان أو بيعة الشجرة كما تسمى أيضاً، فإنها كانت سنة خمس من الهجرة(1) ، أي: بعد وفاة رقية بثلاث سنوات. فمتى بايعت ؟!

تاسعا: إن القول بأنها وعثمان (لأول من هاجر بعد لوط ) مخالف للقرآن والعقل

ذكر الرواة، أنها هاجرت مع زوجها عثمان بن عفان إلى الحبشة، وبعد خروجها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إنهما لأول من هاجر بعد لوط عليه السلام»(2).

ص:218


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 18، ص 412.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 47؛ فيض القدير للمناوي: ج 5، ص 589.

وفي لفظ آخر:

«إن عثمان لأوّل من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط »(1).

هذا الحديث ليس يخالف العقل فقط ، إنما هو يخالف القرآن والتاريخ والسيرة!

والعجيب في الأمر أن أغلب من كتب عن الهجرة إلى الحبشة، أو تناول الحديث عن عثمان بن عفان، قد ذكر هذا الحديث المنسوب إلى رسول الله، ناهيك عن أنهم ذكروه في كتبهم رواية، لا دراية ؟!(2)

أما سبب مخالفته للقرآن فهو للأمور التالية:

1. إن تمثيل هجرة عثمان بن عفان، وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بهجرة لوط عليه السلام، تمثيل باطل؛ لأن زوجة لوط عليه السلام ممن غضب الله عليها، وأعد لها عذاباً أليما.

وهي لم تهاجر أصلاً، وقد أخبر لوط عليه السلام بذلك قبل خروجه، وقد أحيط علماً بأنه سوف يهاجر دون زوجته، وأنه مصيبها ما يصيب القوم الكافرين، جاء ذلك في قوله تعالى:

ص:219


1- فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 7، ص 143؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 1، ص 123؛ كتاب السنة لابي عاصم: ص 582. المعجم الكبير للطبراني: ج 1، ص 90؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 81؛ كنز العمال للهندي: ج 11، ص 586؛ تفسير القرطبي: ج 13، ص 340؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، ص 144؛ فتح القدير للشوكاني: ج 4، ص 199؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 55.
2- أنظر: ما ذكرناه من مصادر للحديث فيما سبق.

(قالُوا يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ 1.)

فكيف يصح تمثيل هجرة رقية رضي الله عنها مع امرأة لوط عليه السلام التي انقلبت إلى منقلب سوء؟!

2. إن أول من خرج مهاجراً بعد لوط عليه السلام، هو نبي الله موسى عليه السلام وهو قوله تعالى:

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ 2.)

فكانت هذه هجرته الأولى التي خرج فيها مفرداً.

أما هجرته الثانية، فكانت معه زوجته، وهو قوله تعالى:

(فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ 3.)

3. إن الهجرة إلى الحبشة لم تكن محصورة فقط بخروج عثمان بن عفان وزوجته رقية رضي الله عنها، إنما كانت بشكل جماعي، لكن بعض الرواة

ص:220

أرادوا صناعة صورة عن هذه الهجرة، وكأنها جمعت في شخص واحد، ألا وهو «عثمان بن عفان»، وإنه أول من خرج مهاجراً من المسلمين وبأنه أول من خرج بعد نبي الله لوط عليه السلام!

أما سبب مخالفته للتاريخ والعقل:

فلأن الحقيقة التي ينقلها التاريخ والسيرة غير ما نسجه بعض هؤلاء الرواة، وإن (الهجرة الأولى) إلى الحبشة، قام بها مجموعة من المسلمين مع زوجاتهم، وهؤلاء هم أول من خرج.

فلماذا ينحصر اسم الهجرة إلى الحبشة برجل واحد، وامرأة واحدة دون بقية الرجال والنساء، الذين كانوا قد خرجوا في نفس الوقت، ونفس الاتجاه، ونفس الغاية ؟!

وها هي الصورة: التي نقلها التاريخ، والسيرة، عن الهجرة الأولى إلى الحبشة.

قال ابن كثير: (إن خروجهم إليها كان في رجب سنة خمس من البعثة، وإن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا ً، وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البحر، ما بين ماش وراكب، فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة، وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير)(1).

ص:221


1- البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 55-56.

وأما ابن إسحاق صاحب السيرة الأولى فإنه قال: «فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانته من الله عز وجل، ومن عمه أبي طالب، وإنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم:

«لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم مخرجاً، مما أنتم فيه».

فخرج عند ذلك المسلمون، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم. فكانت أول هجرة، كانت في الإسلام(1).

وقول ابن إسحاق: «فخرج عند ذلك المسلمون»، دليل واضح، على أن الذين خرجوا كانوا مجموعة لا فرداً واحداً.

وذكر ابن هشام: أن هؤلاء العشرة(2) الذين خرجوا، كان عليهم عثمان ابن مظعون(3).

عاشرا: عدم صحة قول الرواة بأن عثمان هاجر الهجرتين! وكما ينص البخاري ومسلم ؟!

قلنا إن الرواة ذكروا: أن الهجرة إلى الحبشة، حدثت مرتين، وأن رقية قد أسقطت في الهجرة الأولى، ثم ذكروا أن عثمان بن عفان قد هاجر بها الهجرتين جميعاً؟!.

ص:222


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 1، ص 213؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 70.
2- فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 143؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 2، ص 5.
3- السيرة النبوية لابن هشام: ج 1، ص 214؛ فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 143. البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 86.

وبعد المراجعة والبحث... وجدنا: أن عثمان بن عفان لم يهاجر الهجرتين، كما ذكروا! وأنه لم يهاجر إلا الهجرة الأولى!.

كما هو واضح في هذا النص: «وكان قد بلغ هؤلاء المسلمين - الذين خرجوا في الهجرة الأولى - أن المشركين قد أسلموا، فعادوا إلى مكة، فلما وصلوا لم يجدوا ما أُخبروا به، وكان فيمن رجع عثمان بن مظعون...»(1).

وكان بعض الذين عادوا إلى مكة ظلوا فيها، ولم يخرجوا منها، بينما رجع البعض الآخر إلى الحبشة، عند خروج جعفر بن أبي طالب عليه السلام.

وكان مجموع الذين خرج بهم جعفر ثلاثة وثمانين مسلماً، وقد دون المؤرخون أسماء الذين خرجوا مع جعفر بن أبي طالب في الهجرة الثانية إلى الحبشة، ولم يكن بينهم عثمان بن عفان، لا هو... ولا زوجته(2) ومع هذا فإن هذه المجموعة لم يكتب لها هجرتان، إنما هي هجرة واحدة.

أما حقيقة الهجرتين... فهي بعيدة كل البعد عن جميع الذين خرجوا من مكة، أو الذين عادوا إليها، ثمَّ خرجوا. وإن هذه المنقبة، وهذه المنزلة، حصل عليها مجموعة أخرى من المسلمين، خرجوا من اليمن! جاء ذلك في صحيح البخاري ومسلم، في باب هجرة الحبشة، وهذا نصه، واللفظ للبخاري: «عن أبي برادة، عن أبي موسى الأشعري قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن باليمن، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا

ص:223


1- البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 57، ط دار الكتب العلمية.
2- الدرر لابن عبد البر: ص 49؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، ص 152.

جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فأقمنا معه، حتى قدمنا فوافينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح خيبر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لكم أنتم أهل السفينة هجرتان»(1).

وبهذا الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم اتضح لنا زيف الذين ادعوا أن عثمان بن عفان، هاجر الهجرتين!

حادي عشر: لماذا يقوم عثمان بن عفان بترك ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحيدة في الحبشة مع طفلها وقد تعرض لها غلمان الحبشة ؟

قد ذكر الرواة: (أنها هاجرت إلى المدينة بعد عثمان) هذه العبارة تبعث في النفس العديد من الأسئلة التي لم أجد لها جواباً، فلعل العديد من الباحثين، يملكون في بحوثهم الإجابة، ولعل العديد من المسلمين يجدون بين خلجات وجدانهم الإجابة.

1. ترى لماذا تركها عثمان بن عفان، وحدها في الحبشة، وذهب إلى المدينة دون أن يصطحبها معه، كما فعل عندما جاء بها؟!

2. كيف رضي أن يترك زوجته الشابة، التي ضرب بها المثل لجمالها؟! أما كان يخشى عليها من أعداء الإسلام، ومن غيرهم، أن يتعرضوا لها؟!

وقد كان يرى: أن غلمان الحبشة كانوا يتعرضون لها بنظراتهم، فيتحيرون عجباً من حسنها، إلى أن قتلهم الله في المعركة لما سار النجاشي إلى عدوه(2).

ص:224


1- صحيح البخاري، بدء الخلق: باب هجرة الحبشة، ج 4، ص 246؛ صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب: من فضائل جعفر بن أبي طالب، ج 7، ص 172.
2- المستدرك على الصحيحين: ج 4، ص 47؛ السيرة النبوية لابن هشام.

كما ينص شيخ كتاب السيرة محمد بن إسحاق والحاكم النيسابوري واللفظ لابن إسحاق فقد قال: (حدثني بعض أهل العلم أن فتية من الحبشة قد رأوا رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي هناك مع زوجها عثمان بن عفان وكانت فيما يقال: أجمل وأحسن البشر وكانوا إليها ينظرون ويدركلون لها إذا رأوها عجبا منها حتى آذاها ذلك من أمرهم، وهم يتقون أن يؤذوا أحداً منهم للغربة ولما رأوا من حسن جوارهم فلما سار النجاشي إلى عدوه ساروا معه فقتلهم الله جميعاً لم يفلت منهم أحد)(1).

3. كيف اطمأن قلبه أن يترك عرضه في أرض الغربة! مع أنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... كما يذكرون ؟!

4. ترى... ما كان جوابه لو سأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن سبب تركه ابنته في الحبشة! وجاء بدونها... ألا يعلم أنه سوف يُسأل ؟ أم أنه كان مطمئناً من عدم السؤال ؟ أو أنه كان موقنا من أنها ربيبته صلى الله عليه وآله وسلم.

وحتى في هذه الحالة، ترى ماذا كان جوابه، وماذا كان عذره بتركها؟!

5. كيف ذهبت إلى المدينة ؟.. وكيف وصلت ؟! وكيف استدلت طريقها؟! ومع من خرجت ؟.. لا أحد يجيب من الرواة على هذه التساؤلات.

لأنهم لا يملكون إلا إجابة واحدة وهي: إن رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جاءت إلى المدينة وحيدة بدون زوجها، تحمل طفلها الرضيع، أو لعلها فطمته قبل الوصول إلى موطن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:225


1- سيرة ابن إسحاق: ج 4، ص 200؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 47.

ثم لم تلبث بها إلا شهوراًًًً قليلة، أو لربما هي أيام قلائل حتى تمرض رقية قبل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر في السنة الثانية من الهجرة، فلما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة بدر لم يرَ سوى قبرها، فجلس عند القبر، ومعه بضعته فاطمة عليها السلام وهي تبكي، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمسح دموعها.

وفي دمع فاطمة وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ربما يجد المسلم! الإجابة على تلك التساؤلات.

ثاني عشر: اعتراف الحاكم النيسابوري بوهن حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحاولة الاعتذار عنه ؟

وفضلاً عن كل ما ذكر؛ ما جاء عن أبي هريرة من القول والفعل، في حياة رقية رضي الله عنها، عند دخوله عليها، وحديثه معها، لدليل واضح، على تدخل البعض ممن كان له غرض أو مرض في نسج صور مشوهة عن الإسلام ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته وسنته!

والعجيب مما في الأمر، أن الحاكم النيسابوري، عندما أورد الرواية علق عليها بقوله: «إن هذا حديث صحيح الإسناد، واهي المتن، فإن رقية ماتت سنة ثلاث من الهجرة، عند فتح بدر، وأبو هريرة إنما أسلم بعد فتح خيبر، والله أعلم، وقد كتبناه بإسناد آخر».

والإسناد الآخر هو: «حدثنا عبد المنعم بن إدريس، حدثني أبي، عن وهب بن منبه، عن أبي هريرة، قال: دخلت على رقية رضي الله عنها بنت

ص:226

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... الخ» وبعد أن ذكر هذا الحديث قال الحاكم: «ولا أشك أن أبا هريرة، رحمه الله تعالى، روى هذا الحديث عن متقدم من الصحابة، أنه دخل على رقية رضي الله عنها، ولكني قد طلبته جهدي فلم أجده في الوقت»(1).

وهنا أراد الحاكم أن يرفع عن أبي هريرة ادعاءهُ غير الصادق في دخوله على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه سألها عن عثمان وأجابته بجوابها الذي مرَّ.

فعمد إلى القيام بوضع الأصباغ على هذه الصورة التي تنطق بالزيف، ظاناً أنه قد يضفي إليها بعض القبول، فكانت النتيجة أن هذه الأصباغ جعلت الصورة تصرخ بعدم الصدق أكثر فأكثر.

لأنه يعلم... كما يعلم الذهبي، الذي أقرَّ ما أخرجه الحاكم، أن رقية رضي الله عنها، ماتت قبل أن ترى وجه أبي هريرة بخمس سنوات ؟!

لكن مع هذا عمدوا إلى إخراجها، وإخراج غيرها من الأحاديث ؟. لأنهم قد وقعوا تحت أسر السند الصحيح، حتى وإن كان المتن واهياً وباطلاً؟! وإن كانت صحة السند كاشفة عن حال راويه بل وحال ناقله أيضاً!

إذ إن الحاكم بقوله: «ولا أشك أن أبا هريرة روى هذا الحديث عن متقدم من الصحابة، إنه دخل على رقية رضي الله عنها...»، يكون قد نسب إلى أبي هريرة جنايتين بدل أن تكون جناية واحدة!

ص:227


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 48.

1. أنه أثبت أن أبا هريرة لم يكن صادقاً بقوله: «دخلت» وهو لم يدخل، وإنما الذي دخل على رقية واحد ممن تقدمت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان معاصراً لرقية رضي الله عنها.

2. أنه أثبت أن أبا هريرة قد ادعى القيام بجهد غيره من الصحابة، سرق حديث غيره، ونسب لنفسه عملاً لم يقم به أصلاً، إنما قام به أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فيكون أبو هريرة هنا وبحسب قول الحاكم: «غير صادق، ومدعياً لجهد غيره»!

ثم بعد ذلك يثبت الحاكم بالدليل القاطع أن هذا الحديث مختلق وكله كذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم! وعلى رقية رضي الله عنها؟!

لأنه نسب لها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عثمان بأنه «أشبه أصحابي بي خلقاً»، وهو لم يرَها، ولم ترَه لتحدثه بهذا الحديث، فيأتي الحاكم ليعلن للمسلمين بأنه قد بذل قصارى جهده، لكي يعثر على واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يحدث بنفس هذا الحديث عن رقية رضي الله عنها فلم يجد!.

بينما كان من الأولى أن يبذل الحاكم بعض جهده ليثبت عدم صحة هذا الحديث ومن كان على شاكلته ليلقى بذلك الجهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ص:228

وبعد هذه الجولة فيما أوردته المصادر الإسلامية من ترجمة لشخصية رقية رضي الله عنها فقد بدا واضحاً بأنها لا يمكن أن تكون بنتاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وسيرتها تحمل كل هذه الإشكالات والمتناقضات العقلية والنقلية.

بل إن هذه السيرة لا تتناسب حتى مع كون رقية رضي الله عنها ربيبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن أن تلدها خديجة عليها السلام، من صلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وأن قولنا بأنها ربيبة قد يخفف بعض هذه الإشكالات من قبيل أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يترك هؤلاء البنات تحت رحمة المشركين أو يدعهن عرضةً للأخطار والأهوال دون أن يتدخل في انقاذهن التزاماً بما يفرضه مقام الوالدية عليه بل إن قولنا بأنهن ربائبه قد يتناسب مع عمرهن منذ الولادة إلى الوفاة وأن هذه السنين لا تتعارض مع ولادة القاسم ووفاته في الإسلام.

وعليه: فإن هذه السيرة كما مرّ بيانه من الإشكالات والأدلة لكاشفة عن التلاعب الكبير في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل بكل جزئيات هذه السيرة، ولذا فنحن بحاجة إلى الرجوع إلى الثقلين القرآن والعترة النبوية وإلى دراسة هذه السيرة وتحقيق ما رواه الرواة لعلنا نوفق إلى الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يزل يتعرض للأذى والعدوان من أعداء الله والإنسانية.

لكنها استحقت رتبة البنت لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي تكفل بها، فعرفت بين الناس بأنها ابنته.

ص:229

المبحث الثالث: أم كلثوم بين النقل والعقل

المسألة الأولى: ماذا يقول النقل عن أم كلثوم رضي الله عنها؟
اشارة

كما اعتدنا في الفصلين السابقين أن نتناول ما ذكره النقل عن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عمدنا هاهنا أيضاً على نقل ما جاءت به مصادر المسلمين، في عرضها لسيرة البنت الثالثة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

وهي أم كلثوم رضي الله عنها، والتي اشتهرت وعرفت بهذه الكنية.

أولاً: لا يعرف المسلمون لأم كلثوم اسماً؟

أما اسمها فقد قيل: إنه «أمية»(1) ، وقيل: لا يعرف لها اسم(2).

ثانياً: عدم معرفة سنة ولادتها؟

وأما ولادتها:

فإن الرواة لم يذكروا لها سنة ولادة. لكن هناك من ذهب إلى أنها ولدت بعد رقية، وقبل فاطمة الزهراء عليها السلام(3).

ص:230


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 4، ص 48.
2- تاريخ الخميس للديار البكري: ج 1، ص 272؛ نور الأبصار للشبلنجي: ص 43.
3- أسد الغابة لابن الأثير: ج 7، ص 374؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1952؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 12، ص 275؛ تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 6، ص 554؛ المختصر الكبير لابن جماعة: ص 80.

وعليه:

فإن ولادتها تكون في السنة الرابعة والثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن رقية رضي الله عنها، كما ذكرنا سابقاً، قد ولدت سنة ثلاث وثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذا أقل الاحتمالات بلحاظ أن المرأة تحتاج إلى ما يقارب السنة بين كل مولودين؛ ولذا قد تكون أم كلثوم قد ولدت بعد رقية بسنتين أو ثلاث وهذا يعني أن عمرها يكون بين الأربع السنوات أو الخمس قبل بعث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ثالثاً: زواجها من عتيبة بن أبي لهب

وجاء أيضاً: بأنها تزوجت من عتيبة بن أبي لهب قبل النبوة، «ولم يبنِ بها حتى بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم»؟!

فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل الله تعالى:

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ )

قال له أبوه رأسي من رأسك حرام، إن لم تفارق ابنته، ففارقها ولم يكن دخل بها(1).

ص:231


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 30-31؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1840، برقم 4201؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 12، ص 275؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 288؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 7، ص 374؛ المنتخب من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للزبير بن بكار: ص 30.
رابعاً: إسلامها كان مع إسلام أمها خديجة عليها السلام

فلم تزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلمت حين أسلمت أمها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بايعت النساء.

خامساً: هاجرت مع عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة

وهاجرت إلى المدينة، حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخرجت مع عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة(1).

وقيل إنما كانت هجرتها بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة(2) فلم تزل بها.

سادساً: زواجها من عثمان بن عفان بعد موت أختها رقية

فلما توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلف عثمان ابن عفان على أم كلثوم رضي الله عنها وكانت باكراً وذلك في شهر ربيع سنة ثلاث من الهجرة وأدخلت عليه في جمادى الآخرة(3).

وقد بيّن الرواة سبب زواج أم كلثوم من عثمان بن عفان، من خلال الحديث التالي: (عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن

ص:232


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 30-31.
2- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 252-253.
3- الإصابة لابن حجر: ج 4، ص 117؛ البصائر والذخائر للتوحيدي: ج 5، ص 115؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 30-31؛ المختصر الكبير لابن جماعة: ص 80؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 252-253؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1840، برقم 4210.

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي عثمان بن عفان وهو مغموم، فقال:

«ما شأنك يا عثمان»؟.

قال: بأبي أنت يا رسول الله وأمي، هل دخل على أحد من الناس ما دخل عليَّ ، توفيت بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رحمها الله، وانقطع الصهر في ما بيني وبينك إلى آخر الأبد.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أتقول ذلك يا عثمان، وهذا جبرائيل عليه الصلاة والسلام يأمرني عن الله عز وجل، أن أزوجك أختها أم كلثوم، على مثل صداقها، وعلى مثل عدتها»).

وفي رواية:

«وعلى مثل عشرتها».

فزوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1) ، فلم تزل عنده إلى أن ماتت سنة تسع من الهجرة(2).

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«زوجوا عثمان لو كانت عندي ثالثة لزوجته»(3).

ص:233


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 4، ص 49؛ واقره الذهبي في التلخيص المطبوع مع المستدرك؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 7، ص 374؛ تاريخ ابن عساكر: ج 3، ص 153.
2- الوفا لابن الجوزي: ج 2، ص 656؛ التبيين لابن قدامة: ص 90؛ مختصر تاريخ دمشق لابن منظور: ج 2، ص 263-268؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 288.
3- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 83؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 9، ص 44.

وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«لو كن عشراً لزوجتهن عثمان»(1).

وفي رواية ثالثة قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«لو كان لي أربعون بنتاً لزوجتهن عثمان واحدة بعد واحدة»(2).

وأما مراسم دفنها فقد ذكر الرواة: أن نساء الأنصار قمْنَ بتغسيلها وكانت فيهم أم عطية(3) ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جلس على قبرها وعيناه تدمعان فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة فلم يدخل عثمان القبر»(4).

وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«هل منكم رجل لم يقارف الليلة أهله ؟».

فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله، قال:

ص:234


1- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 252-253؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 30-31؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 154.
2- مسند الفردوس للدليمي برقم (5032)؛ تاريخ مدينة دمشق: ج 39، ص 43؛ كنز العمال للهندي: ج 13، ص 59.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 30-31؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 288؛ التاريخ الصغير للبخاري: ج 1، ص 44؛ المستدرك للحاكم: ج 4، ص 47.
4- أخرجه البخاري في صحيحه، باب من يدخل في المرأة من كتاب الجنائز: ج 3، ص 161؛ المستدرك للحاكم: ج 4، ص 47، ط دار المعرفة - بيروت؛ زاد المعاد لابن الجوزي: ج 1، ص 177.

«فانزل في قبرها»(1).

وقيل: إن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو الذي نزل بقبرها، ونزل أيضاً الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد(2).

المسألة الثانية: ماذا يقول العقل عن أم كلثوم رضي الله عنها؟
اشارة

بعد أن بينا ما ذكرته المصادر الإسلامية، التي تناولت سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وما ورد فيها من حياة البنت الثالثة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قمنا بعرض هذه السيرة على طاولة البحث العلمي والموضوعي، لمعرفة صحة ما نقلته هذه المصادر من ترجمة لهذه الشخصية التي قدمتها على أساس أنها إحدى بنات النبي الأعظم روحي فداه.

فكانت النتيجة التي لم نعتمد فيها على العقل فقط ، وإنما بمقابلة النصوص التاريخية والحديثية على نصوص وأحاديث أخرى، لأجل أن نقدم للقارئ الكريم الصورة النقية والواضحة.

هي كالآتي:

ص:235


1- المستدرك على الصحيحين للنيسابوري: ج 4، ص 47؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 30-31؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 252-253؛ مسند أحمد بن حنبل بسند صحيح برقم 12277؛ غوامض الأسماء المبهمة لابن بشكوال: ج 1، ص 152؛ الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر: ج 8، ص 288؛ الروضة الفيحاء: ج 1، ص 233، برقم 40.
2- الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 288.
أولاً: كيف يمكن أن تكون بنت النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مجهولة الهوية فلا يعرفها المسلمون إلا بالكنية ؟!

من الغريب جداً أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بنت لا يعرف لها اسم إنما عرفت بالكنية فقط .

أما ما ذكره الحاكم في المستدرك من أن اسم أم كلثوم هو «أمية»، فلم يقره الذهبي في تلخيصه، وذلك لضعفه.

فضلاً عن أن هذا الاسم لم يقل به غير مصعب بن الزبير، وذلك حسبما جاء في المستدرك.

وعليه: فإن عدم وجود اسم لأم كلثوم أمر يرفضه العقل وبخاصة كونها بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يعنى بأمره كل مسلم وكافر، فكيف تكون ابنته هذه مجهولة الاسم دون بقية أخواتها «زينب ورقية وفاطمة»؟!

والرواة الذين عجزوا عن معرفة اسمها فهم أعجز في تسجيل حياتها.

ثانياً: جهل الرواة بسنة ولادة أم كلثوم رضي الله تعالى عنها

لم يذكر أي مصدر من المصادر الإسلامية إطلاقاً السنة التي ولدت فيها أم كلثوم. بل إن المصادر الإسلامية تناولت في الأغلب الترتيب في ولادة أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، دون الإشارة إلى سنة ولادة كل بنت.

وهذا الأمر بحد ذاته غريب! لأنهنّ لسنَ بنات رجل عادي، إنما هنّ بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فضلاً عن ذلك، فإن بعض المصادر ذكرت: أن أم كلثوم رضي الله عنها ولدت بعد زينب ورقية، وهو ما اعتمده ابن عبد البر، وغيره.

ص:236

وبما أنهم قد ذكروا أن رقية ولدت سنة ثلاث وثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أم كلثوم على أقل تقدير تكون ولادتها سنة أربع وثلاثين أو خمس وثلاثين أو أكثر من ذلك، من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وعليه: فإن عمرها عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكون ست سنوات، أو خمس سنوات، أو أقل.

ثالثاً: زواجها من عتيبة بن أبي لهب أسطوري وهو أغرب من الخيال!!

زواجها من عتيبة بن أبي لهب أسطوري؛ إذ لم يرد وقوع زواج كهذا حتى في قصص الخيال؛ لأن عمرها عندما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ست سنوات، أو خمس، أو أربع سنوات.

فكم كان عمرها عندما تزوجها عتيبة قبل النبوة ؟! أكان أربع سنوات، أم كان خمس سنوات أو لعلها في السنة الثالثة ؟!

أليست هذه دسيسة من دسائس أعداء الإسلام ؟!! فأي إنسان يرضى بزواج طفلة عمرها أربع سنوات ؟! وكيف يمكن التصديق بأن أم كلثوم تزوجت بهذا العمر وهي ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

وعليه: فأما أن تكون السيرة التي نقلها الرواة عن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أساس لها من الصحة، وأما أن تكون أم كلثوم هي ربيبة خديجة عليها السلام، وأنها ولدت قبل هذا التاريخ بسنين عديدة تمكنها من الزواج من عتيبة بن أبي لهب وتبقى عنده سنوات وهذا كله قبل بعث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأما أننا نقف أمام مأساة في السيرة والتاريخ الإسلامي.

ص:237

رابعا: لماذا يؤكد الرواة على أن عثمان تزوج بها وهي باكر؟! وهم قد جهلوا حتى اسمها؟!

ثم يضيف لنا النقل: أن عتيبة عندما تزوجها لم يدخل بها، حتى بُعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل الله:

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ )

طلب منه أبوه أن يطلقها، أو يتبرأ منه، فطلقها: وكان لم يدخل بها.

هذه الفقرة من سيرة أم كلثوم تتضمن ما يلي:

1. قول الراوي: لم يدخل بها حتى بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أنها كانت متزوجة من عتيبة قبل النبوة بفترة طويلة من الزمن ؟ لأن «حتى» في اللغة تستخدم للأبعد زماناً ومكاناً.

وعليه: فلا أحد يعلم، كم حملت «حتى» معها من السنين الزوجية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأم كلثوم عمرها ست سنوات، عندما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟!

2. قلنا في الفصل السابق إن سورة «المسد» نزلت في السنة الثالثة من البعثة في مكة المكرمة(1) ، فكم يا ترى أمضت أم كلثوم من السنين وهي متزوجة من عتيبة ولم يدخل بها؟ ربما خمس سنين، أو أربع ؟! فما الذي كان يمنع ابن أبي لهب من زوجته ؟! ثم ما هو الداعي من التأكيد على هذه النقطة بالذات، حتى أصبحت اهتمام الرواة ؟!

ص:238


1- أسباب النزول للواحدي: ص 345.

3. إذا كان التاريخ دقيقاً إلى هذه الدرجة بتسجيل نقاط حياة أم كلثوم فيرقب إن كانت باكراً، أم ثيباً.

فكيف يغفل عن اسمها؟! فلا يعرف لها اسماً!؟

أفكان اسمها لا يعني للرواة شيئاً، بقدر ما يعني لهم أن يحظى بها عثمان ابن عفان باكراً؟!

أم أنهم يعلمون جيداً أنها ليست بنت نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم فلم يهتموا لمعرفة اسمها؟!

رابعاً: استحالة أن تكون قد أسلمت مع أمها خديجة عليها السلام

قولهم: (وأسلمت حين أسلمت أمها»، هذه الفقرة أجبنا عليها في الفصل السابق، وقلنا: إن هذا الأمر لم يقل به أحد من المسلمين، الذين سجلوا لنا أسماء الذين سبقوا إلى الإسلام وآمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما كان أحد منهم قد ذكر أسماء بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أسلمت خديجة عليها السلام، فضلاً عن أن عمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان خمس سنوات أو أربعاً وهي لا تدرك هذا الفعل فكيف تكون أسلمت مع أمها.

خامساً: تخبط الرواة في قولهم أنها بايعت مع أمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

قولهم: (وبايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أخواتها حين بايعت النساء» فليتهم ذكروا لنا أي بيعة يقصدون أبيعة الرضوان أم بيعة الشجرة أم بيعة نساء الطلقاء؟!

ص:239

فإذا كان المراد هو بيعة الرضوان، فتلك البيعة لم تكن فيها إلا امرأتان من الأنصار، جاءتا مع زوجيهما لبيعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأما بيعة الشجرة فإنها كانت سنة (ست للهجرة) وهذه البيعة لم تحضرها واحدة من أخواتها، لأن رقية ماتت قبل البيعة ب - (أربع سنوات) وأما زينب فقد بينا أنها كانت في مكة بعد بدر، بفترة طويلة، فليس من المؤكد أنها كانت في المدينة لتخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبايع تحت الشجرة.

وأما بيعة نساء الطلقاء فلم تكن واحدة من بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوجة لأحد من الطلقاء، فأي بيعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضرتها أم كلثوم مع أخواتها وبايعت ؟!!

سادساً: لماذا يفرق الرواة بينها وبين الفواطم في الخروج من مكة فيقال: خرجت مع عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أليست هي من عياله ؟!

قولهم وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخرجت مع عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وفي قول آخر: إنما هاجرت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيه عدة نقاط :

1. لم يذكر لنا أي مؤرخ أو كاتب في السيرة النبوية أن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما حدثت، كان معه حين خرج واحدة من بناته.

2. خروج حُرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد مخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تسرد بهذه اللفظة «عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»؛ لأن اللفظ الذي تناوله المؤرخون هو «خروج الفواطم» وهن أربع

ص:240

نساء «فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وفاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

كما أن البخاري في صحيحه عندما تحدث عن خروج الفواطم لم يذكر أي وجود لأم كلثوم بينهن(1).

3. ما هو المراد من قول الراوي: «خرجت مع عيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم»؟! أليست هي من عيال النبي ؟! أم أنها غريبة عنهم ليقولوا إنها خرجت مع عيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ لأن الواصف لعملية خروجها بهذه اللفظة، التي لا تحمل إلا معنىً واحداً وهو أنها ليست من عيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

سابعاً: إن بقاء أم كلثوم ثلاث عشرة سنة بعد طلاقها من عتيبة بدون زواج وهي بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر في غاية الغرابة ؟!

أليس من الغريب جداً، أن تظل أم كلثوم وهي بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل هذه السنين، من حين نزول:

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ )

في السنة الثالثة من البعثة، إلى السنة الثالثة من الهجرة، ولم يتزوجها أحد؟! فهل يعقل أنها ظلت ثلاث عشرة سنة ولم يتقدم صحابي للزواج منها حتى يوافي رقية الأجل فيتقدم عثمان للزواج منها؟! أترى إذا لم تمت رقية أكانت أم كلثوم تبقى بدون زواج ؟!

ص:241


1- راجع المبحث الأول من حياة زينب من الكتاب.
ثامناً: ما هي العلة التي جعلت أبا هريرة يتدخل في حياة بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو لم يدرك من الإسلام إلا ثلاث سنوات وأشهراً؟!

أما سبب زواجها من عثمان، فقد بينه لنا أبو هريرة الذي رافقنا في حياة بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث: بين قائدٍ لسريّة هجومية أوكلت إليه مهمة قتل هبار بن الأسود وصاحبه في حياة زينب رضي الله عنها، وبين دخوله إلى بيت عثمان ومحادثته زوجته لتروي له إحدى مناقب زوجها عن لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في حياة رقية، وبين أن يبين لنا السر في زواج عثمان من أم كلثوم.

كل هذه الأمور تفضل بها: أبو هريرة، وهو لم يكن في زمن تلك الأحداث! إنما جاء إلى الإسلام في السنة السابعة، أي: بعد زواج أم كلثوم بأربع سنين!

فمتى لقي عثمان ليرى ما عليه من حزن ؟ ومتى سمع رقية تحدث بمناقب زوجها؟ ومتى أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقتل هبار بن الأسود؟

هذه الأمور جعلتني أتعقب هذه الشخصية في كتب الرجال وسيرهم فبدا أبو هريرة بين صفحات هذه المصادر بهذه الصورة:

لكن قبل أن أنقل هذه الصورة التي تحدثت عنها كتب الرجال والتراجم والأدب وغيرها، لابد من الإشارة إلى هذه الملاحظة:

ألف: أود أن أذكر أن الغاية هي ليست الانتقاص من شخصية معينة، إنما الهدف هو النقل بكل أمانة بما جاءت به مصادر المسلمين لأجل بلوغ الحجة وإيصالها إلى كل مسلم.

ص:242

باء: ليس من السهل أن تنقل الواقع الذي عمل أعداء الإسلام على إخفائه حيناً، وتغييره حيناً، وقلبه حيناً آخر.

وعليه:

فإنك تجد أن البعض عدّ هذه الشخصية معجزة من معاجز النبوة ؟! لكثرة ما حدّث به من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع المدّة القصيرة التي أمضاها في الإسلام والبالغة ثلاث سنين.

لكن مهما يكن من تضليل للحقائق، فإنّ الله يأبى إلا أن يتم نوره.

أما الصورة الحقيقية لهذه الشخصية فهي كالآتي:

1. اختُلف في اسم أبي هريرة، واسم أبيه اختلاف كبير(1) ، وقال ابن عبد البر: ولكثرة الاضطراب في اسمه، واسم أبيه، لم يصح عندي في اسمه شيء يعتمد عليه(2).

وقال ابن الصلاح: اختُلف في اسمه واسم أبيه اختلاف كثير جداً لم يختلف مثله في اسم أحد في الجاهلية والإسلام(3).

2. أسلم أبو هريرة عام خيبر، في السنة السابعة من الهجرة النبوية المباركة(4) ، أي: أنه أدرك من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث

ص:243


1- تهذيب التهذيب لابن حجر ج 8 ص 237.
2- شرح صحيح مسلم للنووي: ج 1، ص 67؛ مسند ابن راهويه: ج 1، ص 11؛ تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 12، ص 240.
3- مقدمة ابن الصلاح: ص 195.
4- تهذيب الكمال: ج 34، ص 376.

سنوات فقط ، ومع هذه الفترة القصيرة، إلا أنه ملأ صحاح المسلمين بأحاديثه التي رأينا نموذجاً منها في الفصول السابقة.

3. وكان أبو هريرة يُحدث عن كعب الأحبار أيضاً(1) ، فيجلس يحدث المسلمين بأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن كعب الأحبار وما أن يتفرق المجلس حتى يحدث البعض بحديث كعب الأحبار وقد نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

4. اتهمته عائشة بالكذب فقالت له: «إنك لتحدث بشيء ما سمعته قال: يا أمه طلبتها وشغلك عنها المكحلة والمرآة فقالت: لعله)(2).

5. أما عمر بن الخطاب، فقد منعه من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حد الضرب بالدرة مرة! وقد قال له: (قد أكثرت الحديث وأحرى بك أن تكون كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

والتهديد بالنفي مرة أخرى، قائلاً له:

(لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لألحقنك بأرض دوس)(4) ؟!

ص:244


1- الإصابة: ج 7، ص 431؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 34، ص 367.
2- الحاكم في المستدرك: ج 3، ص 509؛ الإصابة لابن حجر: ج 7، ص 440؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 604.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1، ص 360.
4- أخرجه الذهبي في السير: ج 2، ص 601؛ وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه برقم «1475» من طريق محمد بن زرعة.

وقال لكعب الأحبار: «لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة»(1).

ولم يكتف عمر بن الخطاب بهذا الخطاب فقط ، إنما صادر أمواله لاتهامه بسرقة أموال المسلمين، الممثلة ببيت المال، بعد أن ولاه الإمارة على البحرين.

فلما قدم عليه قال: (يا عدو الله، وعدو رسوله، سرقت مال الله ؟! فأخذ منه عشرة آلاف درهم فألقاها في بيت المال)(2).

وبعد أن عزله عن الإمارة سأله قائلاً: «كيف وجدت الإمارة ؟ قال: بعثتني وأنا كاره، ونزعتني وقد أحببتها.

وأتاه بأربع مائة ألف من البحرين فقال: ما جئت به لنفسك ؟ قال: عشرين ألفاً.. قال: من أين أصبتها؟!.. قال: كنت أتجر.. قال: أنظر رأس مالك ورزقك فخذه، وأجعل الأمر في بيت المال»(3).

6. أن خير ما يعرف به المرء، هو حديثه عن نفسه، وقد قيل: الاعتراف سيد الأدلة. وقد تحدث أبو هريرة عن نفسه معترفاً وقائلاً:

ألف: قال: حفظت من رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقُطع هذا البلعوم(4).

ص:245


1- المصدر السابق.
2- الكنى والألقاب: ج 2، ص 181؛ الفائق للزمخشري: ج 1، ص 66.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 4، ص 335-336؛ سير الأعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 617-618.
4- أخرجه البخاري في الصحيح من طريق سعيد المقيري عن أبي هريرة، باب: حفظ العلم ج 1، ص 192-193.

باء: كان يقول: «رب كيس عند أبي هريرة لم يفتحه»(1).

جيم: قال: «كذبت حتى رميت بالقشع» أي: كناسة الحَمَامْ (2)!.

دال: عن عكرمة: أن أبا هريرة كان يسبِّح كل يوم أثني عشر ألف تسبيحة ويقول: «أسبح بقدر ذنبي»(3)!!.

وكان يقول: «اللهم أرزقني ضرساً طحوناً، ومعدة هضوماً، ودبراً نثوراً»(4)!!.

7. وقد عرف أبو هريرة بالكذب حتى اشتهر به، وقد قال فيه الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام:

«ألا إن أكذب الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو هريرة الدوسي»(5)!.

8. وقال أبو جعفر الإسكافي المعتزلي شيخ ابن أبي الحديد: «إنَّ أبا هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية»(6).

وقد سُئل أبو حنيفة إمام المذهب الحنفي: إذا جاء قول للصحابة يخالف قولك، فماذا تفعل ؟ قال: أترك قولي وآخذ بقول الصحابة، إلا ثلاثة منهم:

ص:246


1- أخرجه الذهبي في السير: ج 2، ص 597؛ ابن عساكر في تاريخ دمشق: ج 19، ص 116.
2- الكامل للمبرد: ج 2، ص 24.
3- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 610.
4- ربيع الأبرار للزمخشري: ج 4، ص 166.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1، ص 360.
6- المصدر السابق.

«أبو هريرة، وأنس بن مالك، وسمرة بن جندب»(1).

9. وعن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، أنه قال: «ما كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة إلاّ ما كان حديث جنة أو نار»(2).

وقيل أيضاً: «إنه ليدلس في الحديث»(3).

10. ولقد استخدمه معاوية بن أبي سفيان، كورقة سياسية ودينية، لتنفيذ مطامعه، وتحقيق أهدافه مستغلاً بذلك صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبذل أبو هريرة الكثير من كيسه المليء بالأحاديث في خدمة معاوية الذي بذل لأبي هريرة في المقابل الكثير من الأموال والسلطة، والجلوس عنده، وتقريبه لديه وأكل المضيرة معه، ولشدة إعجابه بالمضيرة، لقب أبو هريرة بشيخ المضيرة.

ومن الأمور التي عملها معاوية في هذا الخصوص: هي أنه وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين، على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه.

وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه. منهم: «أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير»(4).

ص:247


1- الكنى والألقاب: ج 1، ص 181.
2- سير أعلام الذهبي: ج 2، ص 609.
3- المصدر السابق.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1، ص 358.

ومن هذه الأحاديث، قول أبي هريرة، يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الأمناء ثلاثة أنا وجبرائيل ومعاوية»!؟ قال الخطيب، والنسائي، وابن حيان: هذا الحديث باطل، موضوع. وكذبه أيضاً السيوطي، وابن حيان، وابن عدي، وأبو يعلي.

وقال الذهبي في ميزانه، ولسان الميزان: وهذا كذب(1).

بقي أن نقول: إن السبب فيما أوردناه من ملامح لهذه الصورة التي نقلناها بكل صدق من مصادرها، ما كان إلاّ لنبين أن حياة بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد تدخَّل فيها الكثير من أعداء الإسلام؛ وقاموا في صياغتها بهذا الشكل الذي نقلناه من مصادره في المباحث الثلاثة.

وما أبو هريرة إلا نموذج من النماذج التي سنتعرف على صورتها الحقيقية خلال سيرنا إن شاء الله مع حياة الصدّيقة الطاهرة خديجة الكبرى عليها الصلاة والسلام.

تاسعاً: لماذا يقوم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بتزويج أربعين بنتاً لعثمان ؟ وهل يصح ذلك ؟!

أما ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القول في تزويج بناته من عثمان، بعد وفاة أم كلثوم فهو مرفوض عقلاً وشرعاً لما يأتي:

1. ترى ألم يكن هناك بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يستحق أن يزوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إحدى بناته حتى يكنَّ حكراً

ص:248


1- ميزان الاعتدال: ج 2، ص 521، ترجمة الحسن بن عثمان، وذكره أيضاً في لسان الميزان.

على عثمان ؟! أليس هذا تعريضاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبصحابته المنتجبين رضي الله عنهم.

2. ترى ما ذنب كل هؤلاء البنات يبقين بدون زواج واضعات أيديهن على خدودهنَّ ينتظرن متى تموت أختهنَّ التي تزوجها عثمان حتى يتقدم للزواج بها؟!

3. ترى كم كان يحتاج عثمان بن عفان من السنين حتى يتمكن من الزواج بأربعين امرأة كلما ماتت واحدة تزوج بأختها؟!

4. إن الملاحظ في هذه الروايات: أن عدد بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد تدرج في الصعود حتى وصل الرقم إلى أربعين بنتاً، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتمنى إن كان عنده ولو بنتٌ واحدة على الأقل بعد رقية وأم كلثوم ليزوجها من عثمان بن عفان ؟!

في حين أن الراوي قد فاته أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد كان عنده في الواقع بنتٌ بعد رقية وأم كلثوم وهي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، فلو كان ما روي حقاً، لكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حبس فاطمة عليها السلام ومنع زواجها من الإمام علي عليه السلام ولأبقاها إلى عثمان كي يتزوج بها بعد أم كلثوم، ولكان سهّل على الراوي عدم رفع العدد إلى الأربعين.

وعليه: فهذا التمني ليس له وجود إلاَّ في نفس الراوي، ومن كان قد جعل وجوداً وهمياً لأربعين بنتاً للنبي، فمن السهل عليه أن يجعل لثلاث بنات وجوداً خارجياً ملموساً.

ص:249

المسألة الثالثة: الحلقة المفقودة تكمن في أن أزواج بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث هم من بني أمية!!
اشارة

بعد أن انتهينا من هذه الجولة التي بينا فيها ما احتوته المصادر الإسلامية التي تعنى بالتاريخ والسيرة والتراجم، عن حياة (زينب، ورقية، وأم كلثوم).

والتي قدمتهن المصادر على أساس أنهنَّ بنات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو المرحلة الأولى من البحث.

قمنا في المرحلة الثانية بعرض هذه السيرة على العقل، والنقل أيضاً. بمباحث ومسائل نأمل أن تكون وافية، وقد أدت الغاية المرجوة منها وهي: إيصال الحقيقة الواضحة المشفوعة بالأدلة المبينة، والتي كانت جميعها قد أثبتت أن: (زينب، ورقية، وأم كلثوم) لا يمكن عدّهن بنات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأمور الآتية:

أولاً: تعارض سيرتهن مع إجماع المسلمين في كون القاسم أول من ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

لأن سيرتهن التي جاءت بها المصادر الإسلامية، تستلزم أن يكُنَّ ولدن قبل النبوة بسنين عديدة، وقد بلغن مرحلة من العمر تمكنهنَّ من دخول بيت الزوجية كزوجات وأمهات. وهذا مخالف ومعارضٌ لجمهور علماء المسلمين في كون القاسم أول مولود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه قد ولد ومات في الإسلام وهو لم يتم رضاعه بعد.

ص:250

ثانياً: تعارض هذه السيرة مع النبوة ؟

وإن هذه السيرة نصت على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد زوجهنَّ من مشركين قبل النبوة؛ وبعضهم من قال بعد النبوة، في حين ذهب البعض الآخر إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج إحداهن قبل الهجرة، أي بعد مرور عقد من السنين على البعثة النبوية المطهرة.

وهذا خلاف للشرع والعقل والنقل؛ إذ كيف يصح الجمع بين التوحيد والشرك ؟ - وهذا والعياذ بالله - غاية في الافتراء على سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم.

ثالثاً: ما نسبة قرابتهن من خديجة عليها السلام

فضلاً عن ذلك أنّ هذه السيرة قد حوت الكثير من التناقضات العقلية والتعارضات النقلية والتي قد أشرنا إليها في حينها ودللنا عليها في مواضعها، والتي تقودنا إلى الاعتقاد بأنهن: (ربائب خديجة عليها السلام).

والظاهر أن هذا الأمر حصل قبل زواج خديجة عليها السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن سيرتهنَّ تستلزم أنهنّ نساء كبيرات في العمر، وعندما انتقلت السيدة خديجة عليها السلام إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، انتقلن معها، فنشَأنَ عندها.

وقد أشار إلى هذه الحقيقة بعض العلماء، منهم: أبو القاسم الكوفي، وابن شهر أشوب، والمجلسي، بقولهم: (إنهنَّ بنات أخت خديجة عليها السلام)(1) ،

ص:251


1- الاستغاثة: ج 1، ص 68-69؛ المناقب لابن شهر: ج 1، ص 206، نقلاً عن كتابي الأنوار

ماتت أمهنَّ فأخذتهنَّ خديجة؛ أو لعل خديجة اتخذتهن في دارها كي تعيل أختها كما قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعانة عمه أبي طالب حينما اتفق مع عمه العباس بن عبد المطلب بالتخفيف عن أبي طالب وإعانته فاتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علياً عليه السلام ربيباً في حجره، واتخذ العباس عقيلاً، والحال نفسه قد يكون جرى مع خديجة عليها السلام مع أختها هالة أو غيرها.

فلما انتقلت إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، انتقلْنَ معها إلى بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا:

فان هذا الوضع جعلهنَّ في مكانة البنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرفْنَ بذلك، فظن البعض أنهنَّ حقاً من صلبه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ولدتهنَّ خديجة عليها السلام.

ص:252

رابعا: كيف لا يجعلهنَّ حكام بني أمية بنات رسول الله وقد تزوجن من بني عمومتهم ؟

ولقد تقصّد البعض الآخر على ترويج أنهنَّ بناته صلى الله عليه وآله وسلم، لأغراض عديدة سياسية، وعدائية ؟! كان المستهدفَ الأولَ فيها علي أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء عليهما السلام ؟!

وكيف يكونان مستهدفين وأزواج زينب، ورقية، وأم كلثوم رضي الله عنهنَّ ، كانوا من بني أمية.

فعملت يد السياسة، والنزعة الانتقامية في نفوس من وصل إليهم سيف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وفي نفوس من نزع الإسلام عزّهم وأذل كبرياءهم بنسج العديد من الأحاديث التي تخبر بثناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صهريه «أبي العاص بن الربيع الأموي، وعثمان بن عفان الأموي».

فيمدح الأول بالوفاء بالعهد، وأنه لم يفرق بينه وبين زينب، وأنه أرجعها إليه بعقدها القديم، ليوحوا إلى القارئ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حريصاً على هذا الصهر وإن كان مشركاً!

وفي صهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثاني صوروا لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان شديد الحرص عليه، وأنه كان يتمنى لو أن عنده أربعين بنتاً لزوجهنَّ جميعاً عثمان بن عفان ؟!

بينما تجدهم عندما جاءت أقلامهم إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام فإنهم صوّروا هذا البيت والعياذ بالله، بأنه بيت فيه مشاكل زوجية، وأن أمير المؤمنين يرغب في الزواج من امرأة أخرى، فخطب بنت أبي جهل عدو الله

ص:253

وعدو رسوله، فيمنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخيّره بين فاطمة وهذه المرأة(1). وإنهما كانا يتشاجران والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلح بينهما؟!!

كل هذه الأكاذيب صيغت بعناية فائقة؛ لأن علي بن أبي طالب هو الصهر الوحيد للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من حظي ببنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحيدة، وأن هذه البنت هي بضعته، وأنها سيدة نساء العالمين(2) ، وأنها سيدة نساء الجنة(3) ، وأنها، وأنها،.. وهذا من جهة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أما من جهة صهره، فعلي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام هو ليث الوغى إذا اشتدت الأسنة، وهو قاطع دابر الكفر وهم في الأجنة، ويكفيك منه في الإسلام أنه ميزان القرآن والسنة، فمبغضه يساق إلى النار، ومحبه يزف إلى الجنة(4).

ص:254


1- صحيح البخاري: ج 3، ص 1364، برقم (3523)، وبرقم (3510) عن المسوّر بن مخرمة؛ وأخرجه مسلم في صحيحه: ج 4، ص 1902 حديث (2449).
2- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني: ج 7، ص 136؛ عون المعبود بشرح سنن أبي داود: ج 6، ص 106؛ فيض الغدير للمناوي: ج 3، ص 107؛ سير أعلام النبلاء: ج 2، ص 118؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1893؛ تهذيب الأسماء لابن حزم: ص 315.
3- صحيح البخاري: ج 3، ص 1360.
4- أخرجه البخاري في صحيحه، في باب فضل علي عليه السلام عنه، عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».

وعليه:

فكيف لا تعمل يد الضلالة على جعل زينب، ورقية، وأم كلثوم، رضي الله عنهن بنات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهنَّ متزوجات من رجال بني أمية؛ بل كيف لا يصنعون المستحيل لإلصاقهنّ ببنوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعثمان بن عفان قد تزوج اثنين منهن من ثمَّ فهو أقرب في صهريته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ في حين غفل أولئك الأعراب أن القرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكمن في التقوى ويتجلى في الطاعة والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا اعتقد أن هناك عاقلاً يرى أن علي بن أبي طالب عليه السلام قد خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرفة عين إلا اللهم من يرى رأي النواصب وأئمتهم مردة النفاق والشقاق.

ولعل البعض من القراء لا يتصور أن يعمل أولئك الظالمون بكل ما أوتوا من قوة في التلاعب بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنته.

فنقول:

لعل الأحزاب وشيخها، وصفين وليلة هريرها، وكربلاء وعاشورها تخبرك بأوضح اللغات... إن كنت للغة العرب جاهلها، بما اقترفته يد بني أمية وشيعتهم في حربها لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:255

ص:256

الفصل الخامس: القرآن يفسر بعضه بعضا

اشارة

ص:257

ص:258

المبحث الأول: بنات النبي من خلال القرآن الكريم

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ 1.)

مما لا شك فيه أن القرآن هو المصدر الأول في الرجوع إليه في أحكام الله. وهو المهيمن فوق كل ذي حجة، إذ لا حجة بعد حجته ؟ لأنها حجة الله البالغة.

لكن القرآن بدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن الدخول إليه، بل لا يمكن معرفته، وما جاء عن طلاب العلم فهو رأي يعتمدُ على الظاهر، وهذا الظاهر قد حار فيه جهابذة المعرفة، وتخبط فيه أساطين العلوم المختلفة، فكيف بمعرفة باطنه، وأنى لهم من الوقوف على تأويله ؟ وفيه: ناسخٌ ومنسوخٌ ، عامٌ وخاصٌ ، مطلقٌ ومقيدٌ، مجملٌ ومبيّنٌ ، محكم ومتشابه، ومن هنا جاءت الحاجة للوقوف على أحكامه وفهم مراميه في الرجوع إلى مدينة علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن أراد الدخول إلى المدينة، فلا بد له من قصد الباب لقوله تعالى:

ص:259

(وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها1.)

ومن دخل البيوت من غير أبوابها عدّ سارقاً، وكان دخوله رذيلة عليه، وكان أمره مخزياً في الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام:

«قد خاضوا بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السنن، وأرز المؤمنون، ونطق الظالمون المكذبون، فحق الشعار والأصحاب، والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقا»(1).

فضلاً عن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يدع المسلمين حيارى، ولم يمنعهم من معرفة دينهم؛ لأن هذه الفعال ليست من صفات الأنبياء عليهم السلام، ولا هي من سجاياهم، فما بالك بسيد المرسلين وخاتم النبيين.

أيترك الامة دون أن يدلها على الباب الذي يوصلها إلى معرفة كتاب الله ؟ فلا والله فلقد أوضح وأفصح، وأعذر وأنذر، لكي لا يحتج على الله محتج. فأعلن مراراً عن السبيل الموصل إلى معرفة كتاب الله، قائلاً:

«أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب»(2).

ص:260


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج 9، ص 165؛ وسائل الشيعة، العاملي: ج 27، ص 135.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم، في مناقب علي عليه السلام: ج 3، ص 226، بسندين صحيحين أحدهما عن ابن عباس من طريقين صحيحين، والآخر عن جابر بن عبد الله الأنصاري؛ ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 2، ص 464، الأحاديث

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

«كنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نساءه، فلا يبقى عنده غيري، وإذا أتاني للخلو معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بنيّ ، وكنت إذا سألته أجابني، وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني.

فما نزلت على رسول الله، آية من القرآن إلاَّ أقرانيها وأملاها عليَّ ، فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها، وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها، ودعا الله أن يعطيني فهمها، وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله تعالى ولا علماً أملاه عليَّ .

ص:261

وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئاً علمه الله، من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، كان أو يكون، ولا كتاب منزل على أحد قبله، من طاعة أو معصية، إلاَّ علّمنيه وحفظته، فلم أنسَ حرفاً واحداً.

ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي، أن يملأ قلبي علماً، وفهماً، وحكماً، ونوراً.

فقلت: يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي، منذ دعوت الله بما دعوت، لم أنس شيئاً ولم يفتني شيء لم أكتبه، أتتخوف عليّ النسيان فيما بعد؟ فقال: لا، لستُ أتخوَف عليك النسيان والجهل»(1).

فلذلك نجد أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ما كان يرجع إلى أحد من الناس في مسألةٍ ، وكان جميع الناس يرجعون إليه في المسألة.

قال ابن عباس، الذي لقب بحبر الأمّة، لغزارة علمه: «لقد أوتي عليُّ ابن أبي طالب تسعة أجزاء العلم، وأعطي أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزء واحد، ولقد والله شاركهم هذا الجزء»(2).

وحيث إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان معه في حجة الوداع ما يقارب (124) ألف صحابي(3) فكم يكون نسبة كل واحد منهم من هذا الجزء من العلم ؟!

ص:262


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 64، باب اختلاف الحديث؛ الخصال للصدوق: ص 257؛ إجماعيات فقه الشيعة: ج 1، ص 25.
2- سمط النجوم العوالي: ج 1، ص 66.
3- تاريخ أبي الفداء: ج 1، ص 160.

وقالت عائشة زوج النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، حينما سئلت عن علي بن أبي طالب عليه السلام: «أما إنه أعلم الناس بالسنة»(1). وهذه الأحاديث وغيرها تكشف لنا عن حقائق عديدة منها:

أولا: إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج من الدنيا حتى بيّن لأمته منزلة القرآن وهيمنته عليهم وأن الله أعد لكتابه حملة ووعاة فكانوا له أهلاً وكان لهم وَزَراً وسنداً فدل الأمّة عليهم وعرفهم بهم وأمرهم بالتمسك بهما.

ثانيا: لا تنجو الأمّة من الفتن ولا تأمن من الظلال دون الرجوع إلى الثقلين.

ثالثا: لا يمكن الوقوف على ما في القرآن بدون القرآن والعترة النبوية عليهم السلام.

ومن هنا فإن هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم فيه من الأسرار العجيبة والحكم اللطيفة التي احتارت فيها العقول ؟!

ومن بين هذه اللطائف هي قوله تعالى:

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ )

فإن الظاهر في هذه الآية، وتحديداً قوله تعالى (وَ بَناتِكَ ) هن بناته من صلبه، حتى أن البعض احتج بلغة التقييد وعدم الخروج عنها، فكان احتجاجه مقبولاً، لأن ظاهر الآية يدل على كونهنَّ بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:263


1- أخرجه أبو عمر وأورده الطبري في الرياض النضرة: ج 3، ص 160.

وبما أن سيرتهنَّ التي جاءت بها المصادر وبما حوته من التناقضات، وبما قدمناه من الأدلة التي تجمع على أنهن - رضي الله - عنهن لسن بنات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قمنا بعرض هذه الآية على نفس القرآن؛ لأنه هو الملاذ الوحيد لنا في كل أمر أشكل علينا، ولكونه يفسر بعضه بعضاً، فيدفع المتشابه بالمحكم؛ فقد عرضنا هذه الآية عليه فكانت النتيجة التالية:

أولاً: دلالة صيغ المخاطبة في القرآن الكريم

إن من الأمور التي لا تخفى على ذوي الألباب وأصحاب الذوق العلمي، أن القرآن الكريم وردت فيه آيات عديدة تحمل صيغة الجمع. بينما المعني بالأمر في الحقيقة هو شخص واحد.

ففي آية المباهلة:

(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ 1.)

كان الظاهر من وجود لفظ (وَ نِساءَنا) هم نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخواته وبناته كما تدل عليه هذه اللفظة. لكن حقيقة الحال والذي عليه جمهور علماء الأمّة أن المراد والمعنى ب -(وَ نِساءَنا) في هذه الآية هي: فاطمة الزهراء عليها السلام، إذ لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيرها إلى المباهلة - فراجعه في مواضعه في كتب التفسير والتاريخ والسيرة، والحديث، والأدب، واللغة -.

ص:264

فستجده مدوناً في مصنفاتهم وستجد أيضاً أن المراد بقوله تعالى (وَ أَنْفُسَنا) هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فهو بنص القرآن نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذا ما تواترت عليه الأخبار عند جمهور المسلمين في ذكرهم لحادثة المباهلة وخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مباهلة نصارى نجران، حاملاً الحسين عليه السلام وماسكاً بيد الحسن عليه السلام وفاطمة تمشي خلفه وعلي بن أبي طالب يمشي خلفها(1) فإن هذه الآية كان ظاهرها يدل على الجمع بينما المقصود هو شخص واحد.

ثانياً: بنات الأنبياء هنّ بنات الأمّة في القرآن الكريم

إن القرآن يشير إلى حقيقة جليّة وواضحة فيما يتعلق بالأنبياء وروابطهم بالأمم التي بعثوا إليها. فالقرآن يشير إلى أن كل نبي من أنبياء الله عليهم السلام، هو بالنسبة للأمّة التي أرسل إليها وآمنت به، كالوالد لهم، وهم بمنزلة الأبناء له، وبنات الأمّة هن بناته بالمعنى التربوي، فلهن من الحقوق عليه ما على الآباء وله عليهن ما للآباء من البر.

وهذه الحقيقة يشير إليها عز ذكره في قوله:

(هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ 2.)

ص:265


1- التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 8، ص 81؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، ص 193؛ تفسير القرطبي: ج 4، ص 104؛ تفسير ابن كثير: ج 1، ص 32.

فإن المشار إليه في هذه الآية هو نبيُّ الله لوط عليه السلام، فكيف يمكن أن يقدم نبي الله لوط بناته لأهل المدينة ؟! لو أخذنا بظاهر الآية بأنه عليه السلام يقصد بناته اللاتي ولدهن حقاً وكيف يمكن أن تتحقق الطهارة لو أخذت المرأة رجلين في آن واحد؟!، فهذا دليل على أن (هؤُلاءِ بَناتِي) هنَّ بنات الأمّة، التي كان لوط عليه السلام نبيها.

وفي سورة الحجر جاءت الآيات لتعطي صورة واضحة لهذه الحقيقة، وهي قوله تعالى:

(وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ 1) .

فهل يمكن شرعاً وعقلاً أن يقدم نبي الله لوط عليه السلام بناته لأهل المدينة ؟! لولا أن تكون بناته هنَّ بنات الأمّة.

هذه هي الحقيقة التي أخبر عنها القرآن الكريم. وبيَّن أن المراد من بنات الأنبياء عليهم السلام هنّ بنات الأمم. وعليه: فإن المراد من قوله تعالى:

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ .)

هو بنات المسلمين.

ص:266

المبحث الثاني: بنوة النبي للأمّة تؤكدها السنة النبوية

اشارة

ليس القرآن الكريم وحده الذي أشار إلى حقيقة أبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمّة.. بل إن السنة النبوية الشريفة أكدت هذه الحقيقة، فضلاً عما اعتقده كثير من علماء السنة والجماعة في هذه الأبوة.

المسألة الأولى: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أبوته للأمّة

1 - قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمّة»(1).

2 - وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«حق علي على المساكين كحق الوالد على ولده»(2).

فهذه الأحاديث الشريفة تؤكد الحقيقة التي جاء بها القرآن، في أبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمّة المرحومة.

ص:267


1- معاني الأخبار للصدوق: ص 118؛ كمال الدين للصدوق: ص 261؛ المناقب لابن شهر آشوب: ج 2، ص 300؛ العمدة لابن البطريق: ج 345؛ مفردات غريب القرآن للراغب الاصفهاني: ص 7؛ تفسير الآلوسي: ج 22، 31؛ اختيار معرفة الرجال للطوسي: ج 1، ص 233؛ وأخرجه الشيخ الصدوق المتوفى سنة 381 ه - في أماليه: ص 22، المجلس الرابع؛ وذكره أيضاً في عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 91-92، حديث 29، باب 32؛ وأخرجه الخوارزمي في المناقب: ج 74، ص 85، الفصل السابع في بيان غزارة علمه؛ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 2، ص 1179؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 370.
2- مناقب الإمام علي لابن المغازلي: ص 49، برقم 70.

كما تنص أيضا على أبوة علي بن أبي طالب لهذه الأمّة أيضاً وحقه على المسلمين، وهو يسير جنباً إلى جنب، مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(1).

فما كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من حقوق على هذه الأمّة كان لعلي عليه السلام من بعده صلى الله عليه وآله وسلم ما خلا النبوة.

المسألة الثانية: اعتقاد كثير من علماء أهل السنة والجماعة ببنوة هذه الأمّة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

وهذه الحقيقة قد أكدها بعض علماء المسلمين أيضاً، وذهبوا إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هو الوالد لهذه الأمّة، وأنّ المؤمنين من زمانه إلى يوم القيامة هم أولاده. وهذه أقوالهم:

أولا: ما ذهب إليه الراغب الاصفهاني، والآلوسي، والمناوي، في أبوته صلى الله عليه وآله وسلم للأمّة

قال الراغب الاصفهاني وتبعه على ذلك الآلوسي: (الأب: الوالد، ويسمى كل من كان سبباً في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أبا، ولذلك سمّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا المؤمنين.

قال الله تعالى:

ص:268


1- صحيح البخاري: ج 4، ص 208؛ كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: باب 9، مناقب علي بن أبي طالب وجاء بهذا النص: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى».

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ 1,2) .

ثانيا: ما ذهب إليه الزمخشري، والنسفي، والخطيب الشربيني

«إن كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أعقابك وأولادك».

وهذا القول ذهب إليه: الزمخشري، والنسفي، والشيخ الخطيب الشربيني(1).

ثالثا: ما ذهب إليه الغرناطي الكلبي، والشيخ محمد درّة، ومحمد علي الصابوني

«والمؤمنون من زمانه إلى يوم القيامة أتباعه، فهو كالوالد لهم، وهو أولى بهم من أنفسهم».

وهو قول: الشيخ محمد درّة، والأستاذ محمد علي الصابوني(2).

رابعا: ما ذهب إليه البروسوي

«وجعله أباً للمؤمنين فهم أعقابه وأولاده إلى يوم القيامة».

قاله: الشيخ حقي إسماعيل البروسوي(3).

ص:269


1- الكشاف للزمخشري: ج 6، ص 447؛ مدارك التنزيل للنسفي: ج 4، ص 564؛ تفسير السراج المنير للشربيني، سورة الكوثر.
2- التسهيل لعلوم التنزيل للغرناطي الكلبي: ج 4، ص 220؛ تفسير القرآن الكريم وإعرابه للدرّة: مجلد 16، ج 30، ص 487؛ صفوة التفاسير للصابوني: ج 3، ص 586.
3- تفسير روح البيان للبروسوي تفسير سورة الكوثر: ص 525.
خامسا: ما ذهب إليه، أبو حيان الأندلسي الغرناطي

«فجميع المؤمنين أولاده».

وهو قول أبي حيان الأندلسي الغرناطي(1).

فهذه بعض أقوال علماء أهل السنة والجماعة، والتي تبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هو بمنزلة الأب لجميع المؤمنين من زمانه إلى يوم القيامة.

وعليه:

1. فإن قوله تعالى:(وَ بَناتِكَ ) ، المراد به بنات المؤمنين مكاناً لا نسباً إليه صلى الله عليه وآله وسلم.

وألاَّ لو كان المراد به أبوة النسب لما تمكن صلى الله عليه وآله وسلم من الزواج من أي مسلمة.

2. هذا المعنى القرآني قد جاء به الوحي في موضع آخر من الذكر الحكيم، وهو قوله تعالى:

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ 2) .

فإننا نجد: أن القرآن من خلال هذه الآية قد جعل للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الولاية المطلقة على المؤمنين، وولايته تدفع وتمنع ولاية المؤمنين على أنفسهم.

ولذا.. نجده مثلاً في العقود قد زوج عمته من مولى له دون أخذ إذنها.

ص:270


1- تفسير البحر المحيط لأبي حيان تفسير سورة الكوثر: ج 8، ص 522.
المسألة الثالثة: أين بنات المؤمنين في الآية ؟

وفضلاً عمّا ذكر فإن الآية الكريمة جعلت المرأة على ثلاث طبقات (أزواجك، وبناتك، ونساء المؤمنين) فإننا نجد هنا أن «أزواج النبي وبناته» يقابلها «نساء المؤمنين» فأين بناتهم ؟.

فإذا قلنا: إن كلمة «نساء الرجل» تعني: زوجاته وبناته وأخواته، فما هي الغاية من فصل نساء النبي عن بناته ؟!، دون فصل نساء المؤمنين عن بناتهم ؟! ألا تكون الغاية هي: أن بناته صلى الله عليه وآله وسلم هن بنات الأمّة.

ولذلك:

فقد فصل القرآن بين كلمة أزواجك وبناتك بينما جمع بنات المؤمنين وأزواجهم في كلمة (وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ .)

المبحث الثالث: بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقيقة التبني والادعاء

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً1.)

بقي أن نتناول في الفصل مسألة التبني من خلال ما جاء به القرآن الكريم.

ص:271

فقد ذكر المفسرون: أن قوله تعالى:(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ) . نزلت في منع المسلمين من ادعائهم لبعض الرجال ونسبهم إليهم كأبناء، ومن خلال هذا المنع دُعي كل رجل باسم أبيه الحقيقي.

وبهذه الآية يكون القرآن قد شرّع قانوناً جديداً في الحياة الاجتماعية، وله دور أساس في تنظيم الأحوال الشخصية، والفردية صعوداً إلى الأسرة.

ومن هذا المنطلق فلعل هناك من يقول متسائلاً:

«كيف يعقل أن يخالف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمراً إلهياً ويتكتم على بنات يدعيهن ؟ وأي منطق يعقل هذا»(1).

والجواب على هذا التساؤل يكون من خلال النقاط الآتية:

أولاً: سبب نزول الآية كان للرد على المنافقين

إن سبب نزول الآية كان لزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة.

فقال المنافقون من المسلمين: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج من زوجة ابنه ؟!

وعليه:

فإن الآية جاءت للرد على هؤلاء المنافقين لتأمرهم وغيرهم من المسلمين بأن يدعوا زيداً باسم أبيه، فدُعي زيد بن حارثة.

ص:272


1- جريدة تشرين، الصادرة في دمشق الشام، في 19 شعبان الموافق 1996/12/29 م العدد «6703» مقال: مداخلات طارئة حول الموقف الحضاري العام.
ثانياً: النبي الأكرم لم يدّعِ زيد بن حارثة ابناً كما ينص التاريخ وإنما الناس دعته بذاك

إن مجيء زيد بن حارثة إلى بيت خديجة عليها السلام، كان قبل زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت قد اشترته من سوق عكاظ وهو غلام يباع، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم رآه عندها فأحبه، فاستوهبه منها فوهبته له، فشب عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدعي بزيد بن محمد(1).

وهذه الرواية تدل: على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استوهبه من خديجة عليها السلام ولم يدّعِه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابناً له، كما هو واضح في الرواية. إنما الناس نسبته ودعته زيد بن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدّعِه.

ثالثاً: من الذي تكتم على زيد، النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم المنافقون ؟!

وهو الأهم الذي يجب على السائل معرفته: أو كل من تبادر إلى ذهنه هذا التساؤل، بطرح سؤال عليهم.

وهو: من الذي تكتم على زينب، ورقية، وأم كلثوم، أهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم المنافقون ؟!

فإذا قيل: إن الذي تكتم هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعندها يكون المجيب قد نسب المعصية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!! واتهمه بمخالفة أمر ربه والعياذ بالله.

ص:273


1- الدر المنثور للسيوطي: ج 5، ص 349.

وإذا قيل: إن الذي تكتم هم المنافقون - وهو الصحيح - فلا يصح شرعاً، وعقلاً تحميل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أثم ما ارتكبه المنافقون. فما هو - بأبي وأمي - إلا مبلِّغ.

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ1.)

ومن هنا: فإن المنافقين عملوا على إبقائهن بنات له صلى الله عليه وآله وسلم، لأن هذا الأمر فيه تحقيق لأهدافهم بالنيل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخلق صورة مشوهة عنه تمثلت في النقاط الآتية:

1. التضارب بين الدعوة إلى التوحيد ومصاهرة المشركين - العياذ بالله -.

2. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمدح أصهاره ويثني عليهم وان كانوا مشركين - والعياذ بالله - كما حدث في سيرة زينب رضي الله عنها.

3. التفريق بين الأخوات! والعياذ بالله، متمثلاً في ترك زينب في مكة، وإخراج فاطمة عليها السلام.

4. التضارب الكبير الذي رأيناه في سيرة (رقية، وأم كلثوم).

5. تحقيق مكاسب سياسية تمكن حكام بني أمية من الجلوس على كرسي الخلافة بما لديهم من صهرية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ينقاد لها أهل الشام خاصة بلحاظ كونهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا يعني أن النبي لا يعطي بناته لأناس غير أكفاء فضلاً عن إصباغهم بصبغة الخيرية ومن ثَمَّ تكون بيعتهم تستند على أسس مناقبية تدفع بالمسلم إلى

ص:274

الاطمئنان في صلاح هؤلاء المنافقين. ومن هذا المنطلق.. فإنا نقول: بأنهن رضي الله عنهن لسن بناته.. ولم يدّعِهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. إنما العرب كانت تنسب الربيبة إلى مربيها. وقد مرّ علينا أن خديجة عليها السلام تولت رعايتهنَّ وتربيتهن بعد وفاة أختها. فلما تزوجت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتقلن معها إلى بيته ونشَأْنَ في هذا البيت.

ولذلك عمل المنافقون على تثبيت بنوتهنَّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم الذين خالفوا الأمر الإلهي وتكتموا عليهن. وليس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. كما توهم السائل ؟!!

رابعاً: آية التبنّي نزلت بعد وفاة رقية بثلاث سنوات ؟

أما وقت نزول الآية فهو في السنة الخامسة من الهجرة النبوية، وهي السنة التي تزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بنت جحش(1).

وهذا يعني: أنها نزلت بعد وفاة رقية رضي الله عنها بثلاث سنوات ؟!.

خامسا: آية التبني نزلت وزينب في مكة عند بني أمية فكيف يمتثلون للقرآن وهم مشركون ؟!

أما زينب فلقد كانت حينما نزلت الآية في مكة عند هند بن عتبة بن ربيعة وأنها خرجت من مكة في السنة السادسة للهجرة حينما قدم إليها زيد بن حارثة - كما مرّ بيانه -. ولذا: فلا مورد لما احتج به السائل فهو من قبيل الوهم، ولا يرقى حتى إلى الظن.

ص:275


1- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 217.

المبحث الرابع: شواهد تدل على أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو الصهر الوحيد

اشارة

إن كتب التاريخ، والسيرة، والحديث. قد حوت بين متونها الشواهد العديدة التي تخبر: بأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو الصهر الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذه الشواهد تمثلت من خلال قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال بعض الصحابة.

أما الشواهد فهي كالتالي:

أولاً: أوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد

روى أبو سعيد في شرف المصطفى، والطبري في الرياض النضرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام:

أوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد ولا أنا، أوتيت صهراً مثلي ولم أوت أنا مثلي.. وأوتيت صدّيقة مثل ابنتي، ولم أوت مثلها زوجة.. وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما.. ولكنكم مني وأنا منكم»(1).

وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أوتيت ثلاثاً، لم يؤتهن أحد ولا أنا».

ص:276


1- «مخطوطة» شرف المصطفى للخركوشي: الورقة 173 جهة اليمين، ترقد في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق برقم: «1887»؛ وأورده المحب الطبري في الرياض النضرة: ج 3، ص 160.

دليل قاطع على حصر هذه الأمور الثلاثة في علي بن أبي طالب عليه السلام فقط .

فلو كان هناك صهر آخر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«لم يؤتهن أحد ولا أنا».

ثانياً: قول ابن عمر: زوجه ابنته!!

وروى أحمد بسند صحيح عن ابن عمر نحوه أنه قال: (ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم.

ثم يذكر أولى الخصال وهي: (زوجه رسول الله ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر)(1).

وهذا الحديث وإن كان يدل على فضل فاطمة عليها السلام إلا أنه يدل أيضا على أنه الصهر الوحيد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلو كان عنده صهرٌ غيره لما ذكر ابن عمر بن الخطاب هذه المصاهرة لتكون عنده أحب من حمر النعم.

ولما قال: زوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته، في حين زوج رسول الله غير علي بناته، فلماذا يتمنى ابن عمر مصاهرة النبي ويراها محصورة في علي عليه السلام ؟!.

ص:277


1- مسند أبي يعلي الموصلي: ج 9، ص 453، ط دار المأمون؛ أحمد في المسند: ج 2، ص 26؛ تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 180.
ثالثاً: بيت علي في وسط بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون عثمان

عن سعيد بن عبيدة، قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن عثمان فذكر له محاسن عمله.

ثم سأله عن علي - عليه السلام - فذكر محاسن عمله، قال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم قال، أي: عبد الله بن عمر للسائل: لعل ذاك يسوؤك، قال: أجل، قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فأجهد على جهدك(1).

هذا الحديث يدل على عدة نقاط :

1. أن السائل جاء إلى عبد الله بن عمر، ليسأله عن عثمان بن عفان، وعن علي بن أبي طالب عليه السلام.

ويبدو أن عبد الله بن عمر قد عرف قصد هذا الرجل والغاية من وراء سؤاله فلذا قال له: بعد أن ذكر له مكانة بيت علي بن أبي طالب من بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لعل ذاك يسوؤك»؟!.

فاعترف الرجل فقال: أجل، فرد ابن عمر: فأرغم الله أنفك.

2. هذا الحوار يكشف عن وجود بعض المسلمين الذين كان قصدهم إشعال الفتنة في المجتمع الإسلامي، والإيقاع بشخصيات من الصحابة بعد أخذ الصفة الشرعية في أفعالهم من أفواه بعض صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:278


1- صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: مناقب المهاجرين، ج 4، ص 208؛ الرياض النضرة: ج 3، ص 153؛ فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 59.

فلذلك جاء هذا الرجل يسأل عبد الله بن عمر دون غيره.

4. كما يدل أيضاً على وجود المنافقين، الذين دلَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من خلال قاعدة وضعها للمسلمين يتم الاستدلال بها عليهم.

وقد اعتمد عبد الله بن عمر على هذه القاعدة فاستدل على أن هذا السائل هو من المنافقين.

والقاعدة هي: قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلاَّ منافق»(1).

ومن هنا نجد أن هذا الرجل قد ساءه سماع منقبة من مناقب الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام.

5. نلاحظ هنا.. أن عبد الله بن عمر قد ترك الإشارة إلى العديد من مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، واكتفى بذكر منقبة واحدة دون غيرها، وهي «بيته».

وذكره لبيت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ومكانته من بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. دليل على أن الإمام علياً عليه السلام هو الصهر الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سيما أن السائل كان يسأل عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب عليه السلام.

ص:279


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ج 1، ص 19؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 39، ص 251؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 42، ص 278؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 87، ح 168؛ حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني: ج 2، ص 189؛ كشف الخفاء للعجلوني: ج 2، ص 383.

فلماذا يذكر ابن عمر عمل عثمان ولا يذكر مصاهرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكتفي بذكر بيت الإمام علي عليه السلام دون غيرها من المناقب ؟!

ألا يدل هذا على أن عبد الله بن عمر يعلم جيداً أن علي بن أبي طالب عليه السلام هو الصهر الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأن له بهذه المصاهرة ما لبيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن عثمان ممنوع عليه ذلك فضلاً عن اختصاص علي عليه السلام بالمكوث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذا هو وسط هذه البيوت.

رابعا: نفاسة صهرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

عن مالك، عن الزهري: إن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه، أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه، قال: اجتمع ربيعة بن الحارث، والعباس بن عبد المطلب، قالا والله لو بعثنا هذين الغلامين «قالا لي وللفضل بن عباس» إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلماه على هذه الصدقات؛ فوقف علي بن أبي طالب - عليه السلام - عليهما فذكروا له ذلك.

فقال علي بن أبي طالب - عليه السلام -:

لا تفعلا فو الله ما هو بفاعل.

فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال: والله ما تصنع هذا إلاَّ نفاسة منك علينا فو الله لقد نلت صهر رسول الله فما نفسناه عليك.

قال علي أرسلوهما، فانطلقا واضطجع علي فما هي إلى لحظات فرجعا

ص:280

وقد ردهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعل(1).

ومن خلال هذا الحديث نرى أن القوم قد صرحوا بشكل لا يقبل الشك أن الإمام علياً عليه السلام هو الشخص الوحيد الذي نال الصهريّة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو كان غيره قد نال هذه الصفة، لصرّح بها القوم، ولو من باب النفاسة.

هذه بعض الشواهد التي تشير إلى اعتقاد الصحابة باختصاص الإمام علي عليه السلام بصهرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرده بها.

أما بقية الشواهد فقد تركنا البحث عنها لبلوغ ما يرمي إليه الكثير من الباحثين، وعشاق الحقائق من التعرف إليها، واستخراجها من بحور الكتب نزولاً إلى أعماقها.

وبهذا الفصل نكون قد أنهينا هذا الجزء: (من الكتاب) وما رافقه من فصول وجدنا من الضروري التطرق لها والبحث فيها من أجل تكامل نقاط البحث، وسعياً لبلوغ حقيقة كون فاطمة الزهراء عليها السلام هي (واحدة أبيها).

أما «زينب، ورقية، وأم كلثوم»، فقد دل البحث على كونهنّ ربائب أم المؤمنين خديجة عليها السلام، نشأن في بيت النبوة، وترعرعْنَ في كنفها، بعد أن فقدنَ الأب والأم: فكان بيت خالتهن السيدة الطاهرة أم المؤمنين خديجة ملاذاً

ص:281


1- صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب 51، «ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكل الصدقة» حديث 167..(2107)؛ الإلزامات والتتبع للدار قطني: ص 155؛ شرح صحيح مسلم للنووي: ج 7، ص 183.

آمناً، ومنهلاً عذباً، فسهرت على رعايتهن وتربيتهنّ .

ولهذا السبب عرفنَ بين المجتمع المكي بأنهنَّ بنات المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

أو فقل: وكما دلَّ عليه البحث إن البعض.. ممن كان له غرض، أو ممن ابتلي في قلبه بمرض فلم يكن سليماً، قد صوّر، وأصرّ على كونهن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأسباب عديدة مرّ ذكرها.

وعليه:

فإن كنَّ بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذا من قبيل نشأتهنَّ في بيت النبوة، وهذا بحد ذاته لفضلٌ من الله كبير، ومنَّة عظيمة أن يكبرنَ في هذا البيت فتكون خديجة أماً ويكون المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أباً، وتكون فاطمة أختاً.

ولهذا..

نجد أن فاطمة عليها السلام جلست تبكي على شفير قبر رقية، وأم كلثوم رضي الله عنهما.

وإنها أوصت علياً عليه السلام بالزواج من أمامة بنت زينب بعد وفاتها ولهذا أيضاً.. خاطب الإمام علي عليه السلام عثمان بن عفان بقوله «ولقد نلت من صهره ما لم ينالا»(1).

ص:282


1- الغدير للشيخ الأميني: ج 9، ص 159، ح 7؛ أحاديث عائشة للسيد مرتضى العسكري: ج 1، ص 142؛ نهج السعادة للشيخ المحمودي: ج 1، ص 167.

كل ذلك كان منشؤه من كونهن نشأن في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وربين على يد خالتهنَّ خديجة عليها السلام.

أما كونهن بناتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فإن البحث وما جاءت به سيرتهنَّ لينفيان ذلك نفياً تاماً وبخاصة فيما يتعلق بزواجهن من مشركين. فضلاً عن كونهنَّ أكبر من القاسم وعبد الله بسنين عديدة وهذا مخالف لما عليه جمهور المسلمين من كون القاسم بكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

والله العالم بحقائق الأمور.

المبحث الخامس: ختامه مسك

وقبل أن أنهي هذا المبحث أقدم للقارئ الكريم شاهدين آخرين يدلان على هذه الحقيقة:

الشاهد الأول

ورد في مصنفات العامة وجمهور المسلمين، لاسيما صحاحهم ومسانيدهم ومستدركاتهم، وهو:

قول المصطفى: صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام:

«فاطمة بضعة مني».

فهذا الحديث حديث «البَضعة» قد روي بطرق عدة، بلغ التواتر عند جمهور المسلمين من العامة والخاصة بألفاظ عدة منها:

ص:283

1. يرضيني ما يرضيها.

2. يؤلمني ما يؤلمها.

3. يبسطني ما يبسطها.

4. يغضبني ما يغضبها.

5. يفرحني ما يفرحها.

6. يحزنني ما يحزنها.

7. يؤذيني ما يؤذيها.

وهذا الحديث انحصر بفاطمة عليها السلام فقط .. ولم يرد في أي مصدر من مصادر المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لغير فاطمة بأنها بضعة مني، أي: لم يرد عنه أنه قال لزينب أو رقية أو أم كلثوم بأن إحداهنَّ بضعة منه فلماذا يا ترى ؟! وهنَّ كما ورد بناته صلى الله عليه وآله وسلم.

أما الشاهد الثاني

فقد ورد عن أحد كبار مصنفي الخاصة، وهو الشيخ الصدوق رضي الله عنه المتوفى سنة 381 ه - في أحد أهم المصنفات الحديثية ما يشير بوضوح إلى حقيقة كون فاطمة واحدة أبيها صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

قال رضوان الله تعالى عليه، في بيان قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«من آذى ذمتي فقد آذاني».

فإذا كان في إيذائهم إيذاءٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف في قتلهم.

ص:284

وإنما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فاطمة عليها السلام وقال:

«إذا كان من آذى ذمَّتي فقد آذاني لمنعي من ظلمه وايذائه».

فكيف من آذى ابنتي (وَوَاحِدَتي) التي هي بضعةٌ مني وسيدة نساء الأولين والآخرين واتبع عليه الصلاة والسلام ذلك بأن قال:

من آذاها فقد آذاني ومن غاظها فقد غاظني ومن سرّها فقد سرّني(1).

انتهى قوله (طيب الله تعالى ثراه).

(وَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 2.)

ص:285


1- من لا يحضره الفقيه، باب: المسلم يقتل الذمي، برقم 5258، ج 4، ص 125.

ص:286

المحتويات

الإهداء 5

مقدمة الكتاب 9

المسألة الأولى: اعتذار لابد منه 9

المسألة الثانية: إنّ خديجة كانت أُمّة قد جمعت في امرأة 11

المحور الأول: خصوصيتها كامرأة 11

المحور الثاني: الدور السيادي في مجتمع قبلي 13

أولا: النسب 16

ثانياً: المال 16

ثالثا: العفة والطهارة 17

المحور الثالث: الرجولة في شريك الحياة هي الفضيلة 18

المحور الرابع: الدور الإصلاحي لبني الإنسان 20

المحور الخامس: تشخيص دورها الرسالي 21

ص:287

أولا: الرسالية في حمل التكاليف الشرعية 22

ثانيا: الرسالية في الحياة الزوجية 22

ثالثا: الرسالية في الأمومة 22

رابعاً: الرسالية في الصبر والجهاد 23

خامسا: الرسالية في الدفاع عن القيم 23

المحور السادس: الاصطناع المولوي 24

المحور السابع: التصدي لمغول الفكر الإنساني 25

المسألة الثالثة: منهجنا في الدراسة التحليلية والتحقيق 26

المبحث الأول: الحالة الاجتماعية في مكة قبل الإسلام 35

المسألة الأولى: الاصطفاء الرباني لقريش 36

المسألة الثانية: رموز تجسّد فيها الاصطفاء 39

أولا: قصي بن كلاب 39

ألف: سبب تسميتهم بقريش 40

باء: دور قصي بن كلاب في جمع القبائل وحيازة الفضائل 42

جيم: أنه أول من أصاب ملكاً فأطاع له به قومه 43

دال: تقسيمه مكة أرباعا وجمعه لقريش 44

هاء: إنه أول من أوقد ناراً بالمزدلفة 46

واو: إنه أول من فرض السقاية والرفادة على قريش خدمة لحجاج بيت الله 46

ص:288

ثانيا: عبد مناف بن قصي 47

ثالثا: هاشم بن عبد مناف 49

ألف: إنه أول من سنّ الرحلتين لقريش 50

باء: سبب تسميته بهاشم 50

جيم: سبب عداوة أمية لهاشم 51

دال: سبب تسمية بني هاشم بالمطيبين وبني أمية بلعقة الدم 52

هاء: أول من سنّ ضيافة حجّاج بيت الله من ماله الخاص حتى يرحلوا من مكة 53

واو: أول من أخذ الحلف لقريش من قيصر الروم، وملك الحبشة 54

زاي: وصيته وما خلف من الأولاد 55

رابعا: عبد المطلب بن هاشم 58

ألف: لماذا سمي شيبة الحمد بعبد المطلب 58

باء: اصطفاؤه لحفر بئر زمزم 60

جيم: تحالفه مع خزاعة ورعايته لحفظ الجوار 62

دال: زواجه وابنه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني زهرة 63

هاء: إن عبد المطلب أول من خضب لحيته وشعره بالوسمة ولم تعرف قريش بذلك 63

واو: إنّ الله تعالى يكرمه بتفجير عين ماء عند أقدام بعيره 65

زاي: نذر عبد المطلب في نحر ولده عبد الله 66

حاء: عبد المطلب يستسقي الغمام بوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم 67

طاء: كرامة عبد المطلب في حفظ بيت الله من أبرهة الحبشي 69

المسألة الثالثة: السمات التي أهلت قريشاً لسيادة المجتمع المكي 71

المبحث الثاني: قرابتها النسبية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 76

المسألة الأولى: نسبها 76

المسألة الثانية: منزلتها في مكة تمنعها من الزواج وتلزمها حسن الاختيار 81

ص:289

المبحث الأول: هل تزوجت قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟! 88

المسألة الأولى: التعارض بين أقوال المؤرخين في زواجها وإعراضها عن الزواج 88

المسألة الثانية: الاختلاف في تحديد هوية الرجلين 89

المسألة الثالثة: اعتراض أبي القاسم الكوفي 90

المسألة الرابعة: وعند (ابن شهر) الخبر اليقين 92

المسألة الخامسة: دلالة آية التطهير على عدم زواجها قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم 92

المسألة السادسة: إنها من الأرحام المطهرة 94

المسألة السابعة: السنن الكونية تنفي زواجها قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم 95

المبحث الثاني: عمرها حينما تزوجها النبي صلى الله عليه و آله و سلم 96

المسألة الأولى: رواية البيهقي (المتوفى سنة 458 ه -) 97

المسألة الثانية: رواية الحافظ ابن كثير (المتوفى سنة 774 ه -) 98

المسألة الثالثة: رواية الحاكم النيسابوري (المتوفى سنة 405 ه -) 98

المسألة الرابعة: رواية محمد بن إسحاق المطلبي صاحب السير (المتوفى سنة 151 ه -) 100

المسألة الخامسة: رواية الحافظ ابن عساكر الدمشقي (المتوفى سنة 571 ه -) 101

أولاً: وفاتها في السنة العاشرة من البعثة 102

ثانيا: زواجها قبل البعثة بخمس عشرة سنة 102

ثالثا: عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان خمساً وعشرين سنة 103

رابعا: إن عمره صلى الله عليه وآله وسلم حينما تزوج خديجة عليها السلام كان خمساً وثلاثين سنة 103

المبحث الثالث: مراسم خطبتها وزواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 105

ص:290

المسألة الأولى: التطاول على أم المؤمنين خديجة عليها السلام في تزويج نفسها بالحيلة ؟ والرد على ذلك 106

أولا: مخالفة ذلك لسيرة العقلاء 107

ثانياً: سقوط إلزام الولي بما قال 107

ثالثاً: خطبة أبي طالب في الزواج ترد هذه الفِرية 107

المسألة الثانية: كلام أبي طالب في خطبته لتزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكشف عن اعتقاده بنبوته قبل أن يبعث 108

المسألة الثالثة: مراسيم زفافها إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم 110

أولاً: اتخاذ يوم زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام يوماً للبركة والسرور 113

ثانيا: استحباب تعجيل الزفاف بعد الخطوبة 113

المبحث الرابع: إسلامها 114

المسألة الأولى: وقت إسلامها 114

المسألة الثانية: إنها أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم 116

المبحث الخامس: مال خديجة عليها السلام 117

المسألة الأولى: حجم مالها 117

المسألة الثانية: خديجة تهب جميع ما تملك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 119

المسألة الثالثة: أبمال خديجة انتفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم بمال أبي بكر؟ شبهات وردود 121

أولاً: (رد شبهة) انتفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مال أبي بكر 121

ثانياً: (رد شبهة) أن الإنفاق في سبيل الله لم يكن إلا بعد الهجرة 124

ثالثاً: (رد الشبهة) القائلة بأن مصدر مالها كان من زوجيها السابقين!! 128

المسألة الرابعة: القرآن الكريم يمتدح مال خديجة عليها السلام 131

أولا: إنّ الله تعالى أغنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة عليها السلام 131

ثانيا: رد شبهة (إن الغنى في الآية تنزيل على غنى النفس) 132

المسألة الخامسة: (رد شبهة) أن يكون رسول الله أجيراً لدى أحد من الناس ؟ 138

ص:291

المبحث الأول: القاسم بكر خديجة عليهما السلام 148

المسألة الأولى: الابن الأكبر 148

المسألة الثانية: القاسم عليه السلام ولد ومات في الإسلام 149

أولا: الاختلاف في عدد أولاد خديجة عليها السلام 150

ثانيا: ومن الوحي شاهد ينص على ولادته في الإسلام 156

ثالثا: اعتقاد كثير من الحفاظ بولادة القاسم في الإسلام 159

ألف: رواية الدولابي (المتوفى سنة 320 ه -) 159

باء: رواية أبي عبيدة البصري (المتوفى سنة 209 ه -) 160

جيم: رواية ابن رسول (المتوفى سنة 696 ه -) 160

دال: رواية ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852 ه -) 161

المسألة الثالثة: عمر القاسم عليه السلام 161

المسألة الرابعة: الحجة القائمة 166

المبحث الثاني: عبد الله الابن الثاني لخديجة عليهما السلام 168

المسألة الأولى: لا خلاف على ولادته في الإسلام 169

المسألة الثانية: الحجة في كونه المولود الثاني 170

المسألة الثالثة: الوحي والإجماع يؤكدان الحقيقة 172

المسألة الرابعة: عمر خديجة عليها السلام هو القول الفصل 174

ص:292

المبحث الأول: زينب بين النقل والعقل 185

المسألة الأولى: ماذا يقول النقل عن زينب ؟ 185

أولاً: إنها أكبر أخواتها 186

ثانياً: متى تزوجت ؟ 186

ثالثاً: هجرتها من مكة مع زيد بن حارثة 187

رابعاً: وفاتها أم اغتيالها؟ 190

المسألة الثانية: ماذا يقول العقل عن زينب رضي الله عنها؟ 192

أولاً: سكوت المؤرخين حولها 192

ثانياً: ولادتها تتعارض مع كون القاسم بكر خديجة عليها السلام 192

ثالثاً: التناقض في تاريخ زواجها وتعارضه مع التوحيد 193

رابعاً: سكوت المشركين عنها طيلة خمس عشرة سنة قضتها في مكة 193

خامساً: تخبط الرواة في خروجها من مكة بين زيد بن حارثة وبين كنانة بن الربيع ؟ 193

سادسا: عملية خروجها من مكة تنفي أن تكون زينب بنتا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدل على أنها ربيبة 195

سابعا: محاولة الحافظ الطحاوي في دفع الإشكال في ركوب زينب مع زيد على جمل واحد زادت الأمر سوءاً؟ 198

ص:293

ألف: الحاكم النيسابوري ينص على وجود زينب بعد معركة بدر في مكة 199

باء: وقوع أبي العاص في الأسر سنة (6) للهجرة 200

جيم: كيف يقوم زيد بن حارثة بنقل زينب إلى المدينة بعد نسخ حكم التبني ؟! 200

ثامنا: كيف تنجب زينب من زوجها طفلين وهو على شركه ؟! 201

تاسعاً: تخبط الحافظ الذهبي في جمعه بين بقائها مع زوجها المشرك وبين سنة إسلامها فكان خلافاً للعقل والنقل ؟! 201

المبحث الثاني: رقية بين النقل والعقل 206

المسألة الأولى: ماذا يقول النقل عن رقية ؟ 206

أولاً: إن رقية أصغر من زينب بثلاث سنين 206

ثانياً: الاختلاف في سنة زواجها 206

ثالثاً: أسلمت مع أمها خديجة عليها السلام 207

رابعاً: إنّ الدافع في زواج عثمان بن عفان من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لجمالها؟ 207

خامساً: هجرتها مع زوجها إلى الحبشة 209

سادساً: إن رقية هاجرت من الحبشة إلى المدينة بعد هجرة زوجها عثمان!! 210

سابعاً: دخول أبي هريرة على رقية بعد زواجها من عثمان!! 210

ثامناً: توفيت في المدينة بسبب مرضها ولم يحضرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 210

المسألة الثانية: ماذا يقول العقل عن رقية رضي الله عنها؟ 211

أولاً: إن رقية كانت دون السن الشرعي حينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم 212

ثانياً: ولادتها تتعارض مع كون القاسم بكر خديجة عليها السلام 212

ثالثا: كيف يزوّج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنتاً وهي في الخامسة من عمرها - والعياذ بالله - 212

رابعا: طلاقها من عتبة بن أبي لهب بسبب نزول سورة المسد مخالف للعقل والنقل ؟ 212

ص:294

خامسا: تخبط الحافظ الذهبي في تصحيح قول ابن سعد في سنة زواجها ومخالفته للنصوص ؟! 214

سادسا: ما هو السبب الذي جعل الذهبي يخطئ ابن سعد؟ 215

سابعا: وهل حقاً أن عتبة بن أبي لهب لم يبنِ برقية طيلة أربع سنوات كي يتزوجها عثمان فيحظى بها وهي غير ثيب ؟! 216

ثامنا: استحالة أن تكون رقية قد أسلمت مع خديجة عليها السلام في آن واحد! 217

تاسعا: إن القول بأنها وعثمان (لأول من هاجر بعد لوط ) مخالف للقرآن والعقل 218

عاشرا: عدم صحة قول الرواة بأن عثمان هاجر الهجرتين! وكما ينص البخاري ومسلم ؟! 222

حادي عشر: لماذا يقوم عثمان بن عفان بترك ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحيدة في الحبشة مع طفلها وقد تعرض لها غلمان الحبشة ؟ 224

ثاني عشر: اعتراف الحاكم النيسابوري بوهن حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحاولة الاعتذار عنه ؟ 226

المبحث الثالث: أم كلثوم بين النقل والعقل 230

المسألة الأولى: ماذا يقول النقل عن أم كلثوم رضي الله عنها؟ 230

أولاً: لا يعرف المسلمون لأم كلثوم اسماً؟ 230

ثانياً: عدم معرفة سنة ولادتها؟ 230

ثالثاً: زواجها من عتيبة بن أبي لهب 231

رابعاً: إسلامها كان مع إسلام أمها خديجة عليها السلام 232

خامساً: هاجرت مع عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة 232

سادساً: زواجها من عثمان بن عفان بعد موت أختها رقية 232

المسألة الثانية: ماذا يقول العقل عن أم كلثوم رضي الله عنها؟ 235

أولاً: كيف يمكن أن تكون بنت النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مجهولة الهوية فلا يعرفها المسلمون إلا بالكنية ؟! 236

ثانياً: جهل الرواة بسنة ولادة أم كلثوم رضي الله تعالى عنها 236

ص:295

ثالثاً: زواجها من عتيبة بن أبي لهب أسطوري وهو أغرب من الخيال!! 237

رابعا: لماذا يؤكد الرواة على أن عثمان تزوج بها وهي باكر؟! وهم قد جهلوا حتى اسمها؟! 238

رابعاً: استحالة أن تكون قد أسلمت مع أمها خديجة عليها السلام 239

خامساً: تخبط الرواة في قولهم أنها بايعت مع أمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 239

سادساً: لماذا يفرق الرواة بينها وبين الفواطم في الخروج من مكة فيقال: خرجت مع عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أليست هي من عياله ؟! 240

سابعاً: إن بقاء أم كلثوم ثلاث عشرة سنة بعد طلاقها من عتيبة بدون زواج وهي بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر في غاية الغرابة ؟! 241

ثامناً: ما هي العلة التي جعلت أبا هريرة يتدخل في حياة بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو لم يدرك من الإسلام إلا ثلاث سنوات وأشهراً؟! 242

تاسعاً: لماذا يقوم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بتزويج أربعين بنتاً لعثمان ؟ وهل يصح ذلك ؟! 248

المسألة الثالثة: الحلقة المفقودة تكمن في أن أزواج بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث هم من بني أمية!! 250

أولاً: تعارض سيرتهن مع إجماع المسلمين في كون القاسم أول من ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 250

ثانياً: تعارض هذه السيرة مع النبوة ؟ 251

ثالثاً: ما نسبة قرابتهن من خديجة عليها السلام 251

رابعا: كيف لا يجعلهنَّ حكام بني أمية بنات رسول الله وقد تزوجن من بني عمومتهم ؟ 253

ص:296

المبحث الأول: بنات النبي من خلال القرآن الكريم 259

أولاً: دلالة صيغ المخاطبة في القرآن الكريم 264

ثانياً: بنات الأنبياء هنّ بنات الأمّة في القرآن الكريم 265

المبحث الثاني: بنوة النبي للأمّة تؤكدها السنة النبوية 267

المسألة الأولى: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أبوته للأمّة 267

المسألة الثانية: اعتقاد كثير من علماء أهل السنة والجماعة ببنوة هذه الأمّة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 268

أولا: ما ذهب إليه الراغب الاصفهاني، والآلوسي، والمناوي، في أبوته صلى الله عليه وآله وسلم للأمّة 268

ثانيا: ما ذهب إليه الزمخشري، والنسفي، والخطيب الشربيني 269

ثالثا: ما ذهب إليه الغرناطي الكلبي، والشيخ محمد درّة، ومحمد علي الصابوني 269

رابعا: ما ذهب إليه البروسوي 269

خامسا: ما ذهب إليه، أبو حيان الأندلسي الغرناطي 270

المسألة الثالثة: أين بنات المؤمنين في الآية ؟ 271

المبحث الثالث: بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقيقة التبني والادعاء 271

أولاً: سبب نزول الآية كان للرد على المنافقين 272

ثانياً: النبي الأكرم لم يدّعِ زيد بن حارثة ابناً كما ينص التاريخ وإنما الناس دعته بذاك 273

ص:297

ثالثاً: من الذي تكتم على زيد، النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم المنافقون ؟! 273

رابعاً: آية التبنّي نزلت بعد وفاة رقية بثلاث سنوات ؟ 275

خامسا: آية التبني نزلت وزينب في مكة عند بني أمية فكيف يمتثلون للقرآن وهم مشركون ؟! 275

المبحث الرابع: شواهد تدل على أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو الصهر الوحيد 276

أولاً: أوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد 276

ثانياً: قول ابن عمر: زوجه ابنته!! 277

ثالثاً: بيت علي في وسط بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون عثمان 278

رابعا: نفاسة صهرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 280

المبحث الخامس: ختامه مسك 283

المحتويات 287

ص:298

المجلد 2

اشارة

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني

كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

مشخصات کتاب : 4ج

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق.

2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود.

3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود.

ص :1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد

لسنة 2010-1660

الحسني، نبيل، 1965 - م.

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني. - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

4 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 52).

المصادر.

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق. 2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود. 3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود. 4. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - نساءه - شبهات وردود. 5. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - الأولاد - دراسة وتحقيق. 6. علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 ق. - فضائل - شبهات وردود. 7. فاطمة الزهراء (علیها السلام)، 8؟ - 11 ق. - السيرة - دراسة وتحقيق. ألف. الحلو، محمدعلي، مقدم. ب. العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. اللجنة العلمية. ج. عنون. د. عنوان: خديجة بنت خويلد أمّة جُمعت في امرأة.

4 خ 5 ح / 26/208 BP

الطبعة الأولى

1432 ه - 2011 م

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

ص:4

الفصل السادس: انها من عباد الله المخلصين و خير زوجة لرسول رب العالمين

اشارة

ص:5

ص:6

إنّ المتأمل في سيرة خديجة عليها السلام يرى بوضوح أنها من عباد الله المخلصين لاسيما وهو يستعرض في هذا التأمل سير أولياء الله ومن اصطفاهم الله لرعاية شريعته، فإذا وصل في هذه الرحلة التأملية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضع نصب عينه أنه أمام خير خلق الله تعالى ومن اصطفاه الله لخير الأديان وختامها أيقن أنه سيقف أيضا أمام شخصيات اختارها الله تعالى لتأدية مهام تتناسب مع حجم هذه المسؤولية.

بل لا نبالغ - وكما سيرى القارئ - إذ قلنا: إن هذه الشخصيات أدت دورها كما أراد الله لها من الخير والموفقية وهيأ لها من الأسباب ما يمكنها من الوصول إلى مرضاته ونصر شريعته وخدمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فخديجة عليها السلام كما دلت الروايات ليست مجرد امرأة تزوجها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بل هي: ركن من الأركان التي اتكأ عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ رسالته ونشر دعوته كما اتكأ على عمه أبي طالب وولده علي عليهم السلام:

ولعل القارئ الكريم لو نظر بعين الانصاف إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن قدّر الله تعالى له أن يقترن بخديجة عليها السلام وإلى يوم وفاته ورحيله إلى الملأ الأعلى لأيقن أن هذه المرأة لها حق واجب على كل مسلم ولأيقن أنها أمّة جمعت في امرأة.

ص:7

المبحث الأول: كيف كانت حياتها الزوجية ؟

اشارة

حينما ننظر إلى القرآن الكريم نجده يتحدث عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسلوب يرسم للقارئ صورتين، الصورة الأولى: صورة المدح المقيد بشروط ، والثانية صورة الذم لمن خالفت منهنّ تلك الشروط .

وبين تلك الصورتين جاءت السنة النبوية لتضع بدقة كبيرة المعالم الواضحة لكلا الصورتين.

الصورة الأولى: القرآن يمدح نساء النبي مدحاً مقيداً

ففي الصورة الأولى جاء بيان القرآن كالآتي:

1 -(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)1 .

2 -(وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)2 .

3 -(وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً)3 .

ص:8

4 -(وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً)1 .

الصورة الثانية: القرآن يذم من خالفت منهنّ هذه الشروط

وفي الصورة الثانية جاء بيان القرآن كالآتي:

1 -(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً)2 .

2 -(وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)3 .

3 -(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)4 .

4 -(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً)5 .

ص:9

ولقد جاءت السنة النبوية وسيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ببيان واف لكل واحدة منهن نورد بعضها لكي تتضح الصورة بشكل أدق، وكي يوقن القارئ الكريم أن خديجة عليها السلام لم يكن لها نظير فيما بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل ليس لها نظير في الامة ما خلا ابنتها فاطمة فهي سيدة نساء العالمين.

1 - أخرج البخاري في الصحيح عن عائشة: (إن نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كن حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

2 - حدوث مشاحنات بين الحزبين لدرجة السباب كما تصرح عائشة بذلك، فقد تسابت هي وزينب بنت جحش في محضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(2).

3 - اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهن جميعا شهراً ثم راجعهن كوسيلة تأديبية، بل لشدة غضبه عليهن كما نص البخاري بلفظ : (من شدة موجدته عليهن)(3).

4 - ذم القرآن لاثنين من أزواجه وهما (حفصة وعائشة) حينما أقدمت حفصة على إفشاء حديث خصها به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحدثت به عائشة فأطلعه الله عليه، وقد تظاهرتا عليه صلى الله عليه وآله وسلم!!

ص:10


1- صحيح البخاري، هبة وفضلها: ج 3، ص 132.
2- المصدر السابق.
3- صحيح البخاري، كتاب المظالم: ج 3، ص 105.

فحذرهما الله من أذيتهما لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صرح عمر بن الخطاب عن ذلك حينما سأله عبد الله بن عباس قائلا: (يا أمير المؤمنين من المرأتان المتظاهرتان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فما إن قضيت كلامي حتى قال: (عائشة وحفصة)(1).

وقد أخرجها البخاري بلفظ : (اللتان قال لهما إن تتوبا إلى الله)(2).

فهذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وغيرها تكشف عن حقيقة منزلة أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله تعالى وإن بعضهن أغضبن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآذينه، في حين كانت خديجة بحق الزوجة الصالحة، كما سيمر بيانه في المباحث والمسائل الآتية:

المسألة الأولى: حياتها الزوجية قبل البعثة
اشارة

تنقسم الحياة الزوجية لأم المؤمنين السيدة خديجة عليها السلام على قسمين، القسم الأول كان قبل بعثة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والذي لم يتناوله التاريخ بالتقييد والكتابة، وذلك لكون حياتها في هذه الحقبة لم يتخللها حدث يدفع بالمؤرخ إلى الالتفات إليه وتدوينه، فكيف إذا أضيف إليه ما يحيط بيت السيدة خديجة من الحياء والحشمة التي تكون ساتراً عن أقلام الرواة وألسنة المحدثين.

ص:11


1- تفسير جامع البيان لابن جرير الطبري: ج 28، ص 207؛ مسند أبي يعلى: ج 1، ص 162؛ جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: ج 1، ص 112.
2- صحيح البخاري، كتاب المظالم: ج 3، ص 104.

أما هذه الفترة من الزواج فقد كانت خمس عشرة سنة، كانت فيها خديجة قد وهبت كل حياتها وما ارتبط بها لزوجها الذي تفرغ لعبادة ربه متخذا من الغار محلا للتفكر والتأمل.

إلا أننا يمكن أن نسجل هنا بعض النقاط التي تبين لنا طبيعة دورها في الحياة الجديدة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقبل مبعثه، والتي ترسم لنا حياتها الزوجية خلال هذه الفترة على الرغم من قلة الرواية التي بين يدي ولعل هناك من الباحثين من يفتح الله عليه فيوفق للمزيد من الحقائق حول حياة أم المؤمنين خديجة عليها السلام.

أولا: الزوج أهم من المال والأهل عند خديجة

ذكرنا فيما سبق أن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لم يُبدِ اهتماما لهذا المال الذي وهبته له خديجة عليها السلام، فهو لم يستخدمه لتجارة أو كسب، وإنما اكتفى بما يعينه من هذا المال خلال هذه السنوات على قوت يومه، مما زاد في حب خديجة له صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ ترسخ إيمانها بأنه المخصوص بالنبوة حقاً وذلك من خلال تلك القرائن السابقة - واللاحقة - والتي تكشفت لأهل مكة كما تكشفت لها.

إلا أن الفارق بينها وبينهم أنها ممن اصطفاهم الله من عباده لنصرة شريعته ونشر دينه الذي ارتضاه لأوليائه وعباده المخلصين، فكانت القرائن التي تحف بشخص المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تأخذ من فكرها كل مأخذ وتدفعها لليقين بنبوته مما جعلها مؤهلة لتلقي الكرامات من الله تعالى كي تصل

ص:12

إلى صدق ما انعقد عليه قلبها، وهو ما دل عليه القرآن الكريم في بيانه لثمار التفكر وجهاد النفس في الثبات على الحق.

قال تعالى:

(وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)1 .

فكيف إذا كان جهاد خديجة من أجل الوصول إلى من به قوام سبل الله ودوامها وهو رسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك:

يدل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة(1).

على أنها قد وهبت هذا المال منذ أن اقترنت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان دليلاً على شخصية خديجة ومستوى تفكيرها الذي أهلها أن تكون من سيدات الجنة وإحدى أفضل نساء أهل الدنيا.

كما يدل الحديث على أنها لم تعر للمال من اهتمام وأن إيمانها الفطري وطيب معدنها وطهارة نفسها ليدفعها إلى التمسك بما هو أهم من المال والأهل وهو زوجها الذي سيبعث نبياً، فكان كل ذلك سببا في إكرامها واختصاصها بكشف الحجاب عنها كي تزداد يقيناً بما اعتقده قلبها.

ص:13


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 468.
ثانيا: إكرامها لمن يَفِد على زوجها والإحسان إليهم

من الأحداث التي تعطي صورة أخرى عن طبيعة حياة خديجة عليها السلام الزوجية هو إكرامها لكل من يقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محتاجا، لاسيما أولئك الذين كان لهم موقف مشرف مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ألف: فقد روى ابن سعد في الطبقات قائلا: قدمت حليمة بنت عبد الله على رسول الله مكة وقد تزوج خديجة فتكشفت جدب البلاد وهلاك الماشية فكلم رسول الله خديجة فيها فأعطتها أربعين شاة وبعيرا موقعاً(1) للظعينة(2) وانصرفت إلى أهلها(3) ؛ وقدمت مع زوجها بعد النبوة فأسلما(4).

وتدل الرواية على أمور، منها:

1 - إنّ إكرامها لمرضعة النبي دليل على حبها لزوجها.

2 - كما تدل أيضاً على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يتصرف في مال خديجة قبل البعثة على الرغم من أن خديجة عليها السلام قد وهبت مالها إليه.

ص:14


1- البعير الموقع: الذي بظهره آثار الدير، لكثرة ما حمل عليه وركب، فهو ذلول مجرب؛ انظر: غريب الحديث لابن الأثير: ج 5، ص 215؛ لسان العرب، ج 8، ص 406.
2- الظعينة: الهودج، وسميت المرأة ظعينة لأنها تكون فيها؛ انظر غريب الحديث لابن قتيبة: ج 1، ص 285.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 114.
4- الأعلام للزركلي: ج 2، ص 271.

3 - إن المتصرف في هذا المال هو خديجة عليها السلام، وهذا يقطع الطريق على المنافقين والذين في قلوبهم مرض في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له غاية في مال خديجة عليها السلام - والعياذ بالله -.

4 - إنّ هذا المال كان مذخوراً للرسالة وإن الله شرفه في أن يكون المال الذي يستعان به على نشر رسالة الإسلام.

باء: روى الزركلي في ترجمة (ثويبة) أول مرضعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت جارية أبي لهب وأرضعت النبي بلبن ابنها مسروح وكانت تدخل على النبي بعد أن تزوج خديجة فكانت خديجة تكرمها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعث إليها من المدينة بكسوة وحلة حتى ماتت بعد فتح خيبر، ومات ابنها مسروح قبلها(1).

وتدل هذه الرواية مع سابقتها على اتصاف خديجة عليها السلام بالكرم وإنها إحدى الصفات التي اشتهرت بها وهو ما أشار إليه أبو طالب عليه السلام في خطبتها فقال: (خاطب كريمتكم الموصوفة بالسخاء والعفة)(2).

ثالثا: تخفيفها لهموم زوجها ومواساته

لا يخفى على أهل المعرفة أن الدور الذي يمكن للزوجة أن تقوم به لإسعاد زوجها يرتكز على ركائز عديدة من أهمها تفريج هموم الزوج ومواساته

ص:15


1- الأعلام للزركلي: ج 2، ص 102.
2- مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ج 14، ص 204؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 16، ص 69؛ جامع أحاديث الشيعة للبروجردي: ج 20، ص 112.

وتصبيره على ما ألم به من حوادث الدنيا وتحصيل الآخرة؛ وهو ما أشارت إليه الأحاديث الشريفة فمنها:

1 - عن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسره إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمرها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله(1)).

2 - وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

قال الله عز وجل: إذا أردت أن أجمع للمسلم خير الدنيا والآخرة جعلت له قلبا خاشعا ولسانا ذاكرا وجسدا على البلاء صابرا وزوجة مؤمنة تسره إذا نظر إليها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله(2).

3 - وعن الصادق عليه السلام قال:

ثلاثة للمؤمن فيها راحة: دار واسعة تواري عورته وسوء حاله من الناس، وامرأة تعينه على أمر الدنيا والآخرة، وابنة يخرجها إما بموت أو بتزويج(3).

ص:16


1- الكافي للشيخ الكليني: باب من وفق له الزوجة الصالحة: ج 5، ص 326-327.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

وهذه الصورة الحياتية تجدها تتجسد في بيت خديجة عليها السلام، فهي مع ما آتاها الله من المال والحسب آتاها الجمال وحسن الخلق ورجاحة العقل - كما حدثتنا المصادر الإسلامية -.

ولذلك كان كل قومها حريصاً على الاقتران بها لو يقدر عليه.

إذْ إن الله تعالى كان قد جعلها لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والذي استغنى بها عن جميع نساء الدنيا فلم يتزوج عليها حتى توفيت بعد أن عاشت معه خمساً وعشرين سنة.

أما ما تحدِّثُنا به المصادر الإسلامية عن طبيعة تعاملها كزوجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما في تفريج همومه ومواساته فهي كما يلي:

(عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال يسمع الصوت قبل أن يوحى إليه فيذعر منه فيشكو ذلك إلى خديجة، فتقول له خديجة:

أبشر فإنه لا يصنع بك إلا خيرا)(1).

وفي رواية: إنه صلى الله عليه وآله وسلم قص على خديجة ما رأى في المنام فقالت له:

ص:17


1- تفسير سعد السعود لابن طاووس: ص 215.

أبشر فإن الله لن يصنع بك إلا خيرا(1).

وفي رواية الدولابي: (فعصمها الله من التكذيب فقالت:

أبشر فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا(2).

وقولها عليها السلام: فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا دليل قاطع وحجة دامغة على أنها كانت تؤمن بالله تعالى وتؤمن بصدق زوجها وأنه المخصوص بالرحمة الإلهية وأن عاقبة أمره على خير.

ويكشف قولها عن أنها:

ألف: كانت تحسن أسلوب التعامل مع مواقف كهذه حينما يكون الزوج مهموما ومجهدا.

باء: اختيارها للألفاظ كان له الأثر السريع في تفريج هذه الهموم وتصبيره؛ لأنها رجعت فيما تقول إلى دائرة الاطمئنان القلبي الذي يرتكز على نواة التوحيد، بمعنى: أنك مهموم للآخرة وقلبك مشغول بمن خلقك وهذه المقدمات تتبعها نتائج خيرة، هكذا فهمت كلماته صلى الله عليه وآله وسلم.

جيم: اعتمادها في دفع هذه الهموم كان على حسن الظن بالله تعالى ولذلك بدا التفاؤل في كلماتها طاغيا وكأنها تنطق عن عين اليقين بأنه النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا: اختارت من الألفاظ (البشارة والخير) فابتدأت قولها بلفظ (أبشر) وختمت قولها بلفظ : (إلا خيرا).

وعليه: فأي هموم بعدئذ تبقى على قلبه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يسمع منها هذه الكلمات التي كأنها نطق بها روح القدس على لسانها.

ص:18


1- فتح الباري لابن حجر: ج 12، ص 315.
2- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 55.
المسألة الثانية: حياتها الزوجية بعد البعثة النبوية
اشارة

إن هذه الحقبة من الحياة الزوجية لخديجة عليها السلام لتختلف اختلافا جذريا عن الحقبة السابقة التي تناولنا الحديث فيها عن دورها قبل مبعث النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

فمثلما مرت تلك السنوات الخمس عشرة بدون حوادث تدفع بالراوي والمؤرخ أن يدون أو يحفظ منها شيئاً، فقد مرت هذه السنوات الجديدة وهي محملة بالحوادث التي غيرت العالم وأعادت الإنسان إلى مستواه الذي أرادته الشريعة الإلهية له.

ولذلك:

كي نحيط بحياة السيدة خديجة عليها السلام الزوجية ونستلهم منها الدروس في كيفية حسن التبعل ونطلع على دورها كزوجة لابُدَّ من المرور بمجموعة من النقاط ، وهي كالآتي:

الحلقة الأولى: دور خديجة في بدء البعثة كما يرويه البخاري

تعددت الأحاديث الواردة في صحاح المسلمين وهي تروي كيفية تلقي النبي المصطفى للوحي واختلفت الصورة لدى الباحث والقارئ للسيرة النبوية حينما يقرأ هذه الحادثة لدرجة أنه يبقى محتارا في الذي قرأه أهو من كتب المسلمين أم قصص من الخيال الأسطوري الذي يروي بطولات خاضها بعض الفرسان مع العوالم الأخرى فضلا عما يعتري هذا الفارس أو ذاك من الأهاويل والصعاب الجسيمة التي ترعب القارئ بأكثر مما أرعبت صاحب

ص:19

الأسطورة، كعصر جبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ منه الجهد(1).

فضلاً عن جملة من الصور البشعة والتي توحي للقارئ بأن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان يظن بأنه مجنون لدرجة أنه يحاول الانتحار - والعياذ بالله - كما ينص الطبري: (لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن، قال فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -)(2).

أو أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يهتدي - والعياذ بالله - لتشخيص هوية المتكلم معه فلم يفرق بين ما يسمعه أرحمانيّ هو أم شيطانيّ وهذا ما عبر عنه ابن سعد بلفظ :

«يا خديجة إني أرى ضوءاً وأسمع صوتاً لقد خشيت أن أكون كاهناً»(3).

ولذلك أخذته خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل فحدّد له هوية المتكلم قائلاً:

(إنه الناموس الأكبر) فضلا عن بيانه لبعض أحداث الرسالة المحمدية

ص:20


1- صحيح البخاري: باب كيف كان بدء الوحي، ج 1، ص 3.
2- تاريخ الطبري: ج 2، ص 49؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، ص 132؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 11، ص 197.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 195.

بقوله (ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك)(1) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

أو مخرجي هم.

وغيرها من الصور الموحشة التي ترسم للقارئ سيرة رجل لا يدري ماذا أنزل عليه وماذا أريد منه، وماذا يراد منه أن يقوم به.

إلا أن ثمة سؤالاً في كل هذا الركام يقول: ماذا لو كان ورقة بن نوفل قد قال لخديجة التي جاءت تستعلم عن حال زوجها وما أصابه، أن قال لها: هذا الذي سمعه زوجك إنما هو مس من الشيطان - والعياذ بالله - أو أنه يتراءى له أن قد سمع صوتا، ماذا سيكون حال خديجة ؟ بل الأهم ماذا سيكون موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أتراه يتبع قول ورقة - والعياذ بالله - أم أنه ينكر عليه قوله ؟ أم أنه يبقى حائرا بين ما يسمع وما قاله ورقة ؟!

إننا هنا:

لا نؤمن بذهاب أم المؤمنين خديجة عليها السلام إلى ورقة كما يروي البخاري ومسلم وغيرهما ولا نؤمن بما دار بينهما من كلام؛ بل نبرأ إلى الله سبحانه من كل ما من شأنه المساس بحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ونؤمن أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أعرف الخلق بنفسه وأنه المخصوص بالنبوة والمصطفى بالرسالة قبل أن يخلق الله الخلائق، وأنه غير محتاج إلى تطمينات ورقة وتشخيصه وتفسير الراهب عداس وغيره بل نؤمن بما قالته

ص:21


1- صحيح البخاري: باب كيف كان بدء الوحي، ج 1، ص 3.

بضعة المصطفى فاطمة الزهراء عليها السلام وهي تتحدث للمهاجرين والأنصار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت:

واشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة علما من الله تعالى بما يلي الأمور، وأحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور، ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وانفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها فأنار الله بأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، فانقذهم من الغواية وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة إيثار، فمحمد من تعب هذه الدار في راحة، قد حفّ بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله علي أبي نبيه، وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته(1).

فهذا الوصف هو الذي يتسق مع القرآن الكريم ويسلّم له العقل وتنقاد له القلوب؛ أما ما يرويه عروة بن الزبير أو ما يقوله ورقة أو عداس أو بحيرا فهو مما يمجه الذوق السليم وتنكره القلوب الطاهرة فضلاً عن تعارضه مع القرآن

ص:22


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 133.

الكريم في جملة من الآيات التي تتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمنها، قوله تعالى:

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) وَ داعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً)1 .

وقوله عز وجل في تنزيه رسله عن رذيلة الخوف والذعر فقال:

(لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ )2 .

وقوله سبحانه وتعالى في بيان مقام الشهودية على الأمم جميعا وعلى الرسل الذين أرسلهم الله إليهم وأنبيائهم الذين بعثوا إليهم.

فقال عزّ شأنه:

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً)3 .

وعليه:

كيف لا يطأطئ العقل مسلِّما بأن كثيرا مما رواه أصحاب الصحاح لا يتفق مع القرآن الكريم ولا ينسجم مع السنة المحمدية.

ص:23

الحلقة الثانية: حقيقة دور خديجة في بدء البعثة تختلف عما يرويه البخاري ومسلم من شبهات
اشارة

إلا أننا هنا نؤمن بما قامت به السيدة خديجة عليها السلام من الوقوف بجانب زوجها وسيدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لاسيما وإن عائشة التي صرحت مراراً بغيرتها من خديجة هي التي تتحدث عن تلك المواقف المشرفة التي حفت بسيرة خديجة عليها السلام.

فقالت - كما يروي عروة عنها - حديث بدء الوحي، أن قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خديجة عليها السلام يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني، زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر:

«لقد خشيت على نفسي».

ص:24

فقالت خديجة:

كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق في الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق(1).

ولقد اخطأ البخاري ومسلم خطأً فادحاً في إيراد بعض الألفاظ في هذا الحديث لاسيما هذا اللفظ : (فخشيت على نفسي) والتي تدل على شكه - والعياذ بالله - ولقد حاول الحافظ النووي حينما أورد توجيه هذا اللفظ عن القاضي عياض من دفع هذا الخطأ العقائدي الشنيع فقال - واللفظ للقاضي عياض -: (ليس هو بمعنى الشك فيما أتاه من الله تعالى، لكنه ربما خشي أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يقدر على حمل أعباء الوحي فتزهق نفسه.

أو يكون هذا لأول ما رأى التباشير في النوم واليقظة وسمع الصوت قبل لقاء الملك وتحققه رسالة ربه فيكون خاف أن يكون من الشيطان الرجيم؛ فأما منذ جاءه الملك برسالة ربه سبحانه وتعالى فلا يجوز عليه الشك ولا يخشى من تسلط الشيطان عليه)(2).

ص:25


1- أخرجه البخاري في باب: كيف كان بدء الوحي، ج 1، ص 4؛ وفي ج 6، ص 88، في سورة اقرأ باسم ربك؛ وفي ج 8، ص 67، في باب: التعبير؛ وأخرجه مسلم في باب: بدء الوحي، ج 1، ص 97؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 6، ص 233 حديث عائشة: ج 6، ص 233. مستدرك الحاكم: ج 3، ص 184. تفسير الثعلبي: ج 10، ص 243. تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، ص 118.
2- شرح مسلم للنووي: ج 2، ص 201.

وهنا:

لا نجد الحافظ النووي والقاضي عياض قد نفيا الشك عنه صلى الله عليه وآله وسلم، بل يؤكدان أنه كان شاكاً وأن الشيطان الرجيم كان يأتيه - والعياذ بالله - قبل مبعثه ونزول جبرائيل عليه برسالة ربه سبحانه.

في حين أنهما بهذا القول زادا الأمر سوءاً إذ جعلا الرهبان والكهنة والمنجّمين أوثق منه بأمره فهم لم يكن لديهم شك بأنه نبي آخر الزمان فضلا عن كل هذه البشارات التي كانت تأتيه من تضليل الغمام، وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة.

وكيف يصنعان بقوله تعالى عن نبيه عيسى حينما نطق وهو في المهد صبيا، قال تعالى:

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا)1 .

وكذا حال يحيى من قبل إذ قال تعالى:

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)2 .

وفي إسحاق وإسماعيل قال تعالى:

(وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا)3 .

ص:26

وفي يوسف إذ قال لأبيه:

(يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ )1 .

أفيكون هؤلاء الأنبياء أفضل من سيدهم وأشرفهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكونون في شك من أنهم أنبياء لربهم ويكون المصطفى خلال أربعين سنة - والعياذ بالله - شاكاً في أمر ربه ويأتيه الشيطان الرجيم.

فلماذا لا يتبع النووي والقاضي عياض ومن قبلهما البخاري ومسلم دين عيسى بن مريم الذي لم يكن شاكاً ولم يأته إبليس منذ أن كان في المهد صبيا.

نعوذ بالله من الخزي في الدنيا والآخرة، وله الحمد على نعمة الإسلام.

أما لماذا اعتقد هؤلاء بشك النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في نزول الوحي عليه ؟

فجوابه:

لابتعادهم عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتجائهم إلى سنة غيره لعله يعصمهم من أمر الله، فهؤلاء لو كانوا تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمرهم قائلا:

إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وأنهما لن

ص:27

يفترقا حتى يردا عليّ الحوض(1).

لعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أصدق خلق الله يقينا بربه وأكملهم إيمانا.

ولأيقنوا أنهم لن يضلوا من بعده أبداً.

وعليه:

فإني لم أجد فيما نقله أهل السنة والجماعة في مصنفاتهم من أحاديث حول بدء الوحي خيراً مما ذكره أحمد بن حنبل والحاكم النيسابوري والصنعاني فقد أخرجوا حديث عائشة بلفظ : (قد خَشِيَتْ عليّ )(2).

فقالت له: كلا أبشر... وهو ما التفت إليه ابن حجر في فتح الباري مستدركا لما وقع فيه البخاري ومسلم مع نصهما (على نفسي)؛ ولعل ابن حجر لم يشأْ أن يصرح بقبح هذه الرواية وفسادها العقائدي كما أشار إلى ذلك النووي(3) ، حينما التفت إلى أنها تصرّح بشك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه.

إلا أن ابن حجر يعود فيلتفت إلى أن البخاري يصرح بشك النبي في نفسه

ص:28


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 3، ص 14؛ مسند أبي يعلى الموصلي: ج 2، ص 2770.
2- فتح الباري لابن حجر: ج 12، ص 315.
3- مسند أحمد: ج 6، ص 223؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 184؛ المصنف لعبد الرزاق: ج 5، ص 322؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 5، ص 387؛ تفسير الثعلبي: ج 10، ص 243؛ أسباب النزول للواحدي: ص 6؛ الثقات لابن حبان: ج 1، ص 49؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، ص 118.

حينما أخرج هذه الرواية فأراد أن يغطي على الأمر فجعل لشرح (قد خشيت على نفسي) اثني عشر قولاً ثم صوب القول الثالث الذي يقول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خشي على نفسه (الموت من شدّة الرعب)(1).

وغفل ابن حجر عن قوله تعالى:

(إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ )2 .

أفيخاف المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه الدرجة والعياذ بالله من جبرائيل فكيف بملك الموت - نعوذ بالله من سوء المعتقد -.

فهذا اللفظ ، أي: (فخَشِيَتْ عليّ ) من حيث الدلالة يظهر أن خديجة عليها السلام هي التي خشيت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما أخبرها بنزول الوحي عليه، وذلك لمشاهدتها التجليات النورانية التي تظهر عليه ولطلبه منها أن تدثره وتغطيه وهو دليل شعوره بضعف في بدنه لاسيما وأنه كان يتعبد في غار حراء ويستعين بالقليل من الطعام كما حدث له في قضية الكساء اليماني حينما دخل على فاطمة عليها السلام فقال لها:

إني أجد في بدني ضعفا فاتيني بالكساء اليماني فغطيني به.

ولذا: كانت الخشية من خديجة عليها السلام وليس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما توهم البخاري ومسلم ومن سار على قولهم فذهبوا إلى أنه كان شاكاً لا يدري أهو كاهن أم مجنون - والعياذ بالله -.

ص:29


1- فتح الباري لابن حجر: ج 1، ص 23.

ولذلك:

نجد أن خديجة عليها السلام حينما خشيت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي ترى عليه تلك التجليات النورانية وطلبه منها أن تدثره وتغطيه أرادت أن تسليه وتواسيه وتؤازره على أمر ربه وهو شعور وجداني يكشف عن طبيعة المرأة وحنوها على زوجها فقالت له:

كلا، أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق في الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

وهذا القول يدل على جملة من الأمور، منها:

الأمر الأول: توهم شراح البخاري في دلالة قول خديجة عليها السلام (كلا)

قولها عليها السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن خشيت عليه: (كلا) وهو أول قولها جاء بمعنى: (حقاً) وليس بمعنى النفي كما توهم شراح البخاري ومن تبعهم في ذلك حينما توهموا أن الخشية كانت من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فأرادت خديجة أن تطمئنه على نفسه قائلةً له: كلا.

مما جعلها حسب هذا التأويل - والعياذ بالله - أثبت قلبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما وهي تجد أن تلك الأفعال التي يقوم بها النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هي من السنن الإلهية التي تؤدي إلى مرضاة الله تعالى ومن ثَمَّ لا يمكن أن يخزيه الله تعالى - فكيف يصح أن تكون خديجة أعلم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنن الله في الحياة وأثبت قلبا.

ص:30

إذن:

الصحيح: هو أنها ابتدأت قولها بلفظ : (كلا) بمعنى (حقا)(1) ؛ وتريد منه هنا اثبات حقيقة ما ترى عليه من النور وإنه النبي الذي بشرت به الأنبياء من قبل، أي: إنها تثبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة اعتقادها به صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها حقاً مؤمنة به.

الأمر الثاني: دلالة قولها (أبشر) يراد به التصديق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم

مثلما بشرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهو الأولى دائماً بالبشارة - بما أنعم الله عليه سبحانه من نعمة النبوة، والرسالة قامت فأكدت إيمانها به، وأنها كانت ترى فيه صفات الأنبياء فبشرته بأنها على هذا الأمر؛ لأنها كانت تراه من قبل: (يصل الرحم، ويصدق الحديث، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق).

فهذه الأفعال لا يقوم بها إلا الأنبياء والأولياء وأنها كانت تراها فيه من قبل أن تتزوجه فكيف بها وقد عايشته.

فإذن: تبشره بموافقتها وتصديقها له وإيمانها به، وهو أمر في غاية الأهمية لما سيترتب على هذا الموقف من نصر الرسالة، فضلاً عن آثار ذلك في تفريج أحد هموم الرسالة التي تنطوي تحت التصديق به وبما كلف به لاسيما وهو قد التجأ إلى مسكنه وشريك حياته.

ص:31


1- شرح صحيح مسلم للنووي: ج 2، ص 200.
الأمر الثالث: أقالت (لا يحزنك) أم (لا يخزيك) التي هي في مقام الذم كما يروي البخاري ؟!!

لم تقل سيدتنا ومولاتنا خديجة عليها السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا يخزيك) كما يروي البخاري، لأن الخزي هو الذل، وهي من توابع الفجار ولوازم الظالمين، وهذا ظلم بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - والعياذ بالله -، فضلاً عن ثبوته، أي هذا المعنى في القرآن واللغة.

قال ابن منظور عن أبي إسحاق، في قوله تعالى:

(وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ )1 .

المخزي في اللغة، المذل المحقور بأمر قد لزمه لحجة، وكذلك أخزيته ألزمته حجة إذا أذللته بها، والخزي الهوان، وكذلك أخزيته أكرمته حجة إذا أذللته بها، والخزي: الهوان، وقد أخزاه الله أي أهانه الله، وأخزاه الله وأقامه على خزية ومخزاة(1).

وعليه:

فالصحيح أنها قالت: (لا يحزنك الله)(2) وهو من الألفاظ التي جاء بها القرآن الكريم للدلالة على البشارة مع كونها من لوازم أولياء الله

ص:32


1- لسان العرب لابن منظور: ج 14، ص 226.
2- صحيح مسلم: باب بدء الوحي، ج 1، ص 98.

تعالى.

قال سبحانه:

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ )1 .

كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صفاته أنه يحزن على الذين كفروا أو الذين يسارعون في الكفر أو الذين يراوغون، ومن ثمّ أرادت السيدة خديجة عليها السلام أن تدفع عنه هذا الحزن وتواسيه وتصبره فجاء القرآن مطابقاً لفعلها وتعبيرها وتسليتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

حيث قال تعالى:

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ )2 .

ص:33

وقال سبحانه وتعالى:

(وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)1 .

وعليه: يكون حزنه لله عز وجل وحرصا منه على الناس كافة؛ لأنهم سيفتنون ويبلوهم الله ويمحّصهم، فمنهم من يؤمن، ومنهم من يضل ويتردى، وهي حالة خاصة بالأنبياء عليهم السلام فهذا سليمان عليه السلام يقول حينما رأى عرش بلقيس عنده:

(هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)2 .

فكيف بالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لا يحزن لأمر الخلق وهو من قال تعالى بحقّه:

(وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ )3 .

وعليه:

فالسيدة خديجة عليها السلام لم تقل له (لا يخزيك) والعياذ بالله كما يروي البخاري وإنما قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يحزنك الله».

ص:34

الأمر الرابع: مؤازرتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر التصديق كان من فعل الأنبياء كما نص عليه القرآن الكريم

إن هذا القول من خديجة ليتناسق مع ما تحدثت به المصادر الإسلامية في بيانها لصفات خديجة عليها السلام من كونها: (امرأة حازمة، لبيبة، شريفة، وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً)(1).

فضلاً عن أنها تميزت بصواب الرأي، وصدق السريرة، وأن الحال الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستلزم منها هذا الموقف الذي تتهاوى فيه الرجال. ولا يصبر عليه إلا الأنبياء عليهم السلام، فهذا موسى الكليم يطلب من الله سبحانه وتعالى موازرة أخيه هارون حينما بلَّغ بالرسالة فقال كما نطق به الوحي:

(وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ )2 .

وقال:

(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)3 .

ص:35


1- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 49؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 35؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 435؛ كشف الغمة للأربلي: ص 132؛ أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 6، ص 310.
الأمر الخامس: مخالفة البخاري للقرآن في خوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صوت جبرائيل لدرجة الموت رعباً؟!

إن القرآن الكريم ينص بوضوح على مرور النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بحالة من التجليات القلبية حينما استقبل تلك الفيوضات الإلهية لاسيما وأن جبرائيل عليه السلام هبط عليه بصورته العظمى كدليل على عظم أمر الرسالة، ومن ثمّ لابد من أنه كان في حالة من الانقطاع عن هذا العالم والتوجه الكلي إلى الله تعالى بما يتناسب مع حجم هذا الأمر الإلهي؛ أمر رسالة خير الأديان التي أخرجت للناس.

ولذا خاطبه عزّ شأنه:

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ )1 .

وقوله تعالى:

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ)2 .

وهذا يكشف عن حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نزول تلك الفيوضات الإلهية.

غير أنه لم يكن خائفا وهو بحضرة صاحب الملك والملكوت والعزة والجبروت لقوله تعالى:

ص:36

(إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ )1 .

فكيف بسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

بل: إنّ أمر الإسراء والمعراج والوصول إلى مقام قاب قوسين أو أدنى هو أعظم من نزول جبرائيل عليه بصورته العظمى؛ وكيف لا وقد توقف جبرائيل عليه السلام عن التقدم معه خطوة واحدة وأنّى له ذلك فلو تقدم لهلك ؟!

وأنّى للبخاري وغيره التغافل عن ثناء الله تعالى على قوة قلب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وانقطاعه الكلي إلى الله تعالى، وثباته وانصرافه إلى ربه ؟! فقال عز وجل في مدحه لحبيبه وبيان قوة يقينه وتصديقه القلبي بربه فقال سبحانه:

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى )2 .

أفتراه يذعر من صوت جبرائيل ولا يخاف من الرب الجليل ؟!! وهو من مراتب الشرك الخفي المعارض لعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالنبي لا يشرك أحداً في خوفه من ربه وقد مدح القرآن الكريم المؤمنين في توحيدهم الله وعدم إشراكهم معه في خشيتهم أحداً من الخلق، قال تعالى:

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً)3 .

ص:37

المسألة الثالثة: مصاديق الزوجة الصالحة
اشارة

ترتكز الحياة على جملة من المفاهيم والرؤى والدلالات في دورتها اليومية إلا أن هذه المفاهيم تحتاج إلى مصاديق خارجية تثبت صحة هذا المفهوم أو ذاك كما أنها تؤكد صلاح هذه الرؤية أو تلك فضلا عن دلالات الأفعال التي يستقبلها العقل فيبوبها ضمن ضوابط الصحة والخطأ.

من هنا: كي يرضخ العقل وينقاد الفكر إلى معنى الزوجة الصالحة ومفهومها ودلالة صلاحها فلابد من تحقق الصلاح في الممارسات الحياتية، وهو ما أظهرته النقاط الآتية:

أولا: مبايعتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

يروي العلامة المجلسي والسيد البروجردي عن السيد ابن طاووس كيفية مبايعة خديجة عليها السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال - واللفظ لابن طاووس -: عن عيسى بن المستفاد، قال حدثني موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألت أبي جعفر بن محمد عليه السلام عن بدء الإسلام كيف أسلم علي عليه السلام وكيف أسلمت خديجة رضي الله عنها؟ فقال لي موسى بن جعفر عليهما السلام:

تأبى إلا أن تطلب أصول العلم ومبتدأه أما والله إنك لتسأله تفقها، قال موسى عليه السلام فقال لي أبي: إنهما لما أسلما دعاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا علي ويا خديجة أسلمتما لله وسلّمتما له.

وقال إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام فأسلما تسلما،

ص:38

وأطيعا تهديا.

فقالا: فعلنا وأطعنا يا رسول الله.

فقال: إن جبرئيل عندي يقول لكما إن للإسلام شروطاً وعهوداً ومواثيق فابتدئاه بما شرط الله عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه لم يتخذ ولداً ولم يتخذ صاحبة إلها واحداً مخلصا، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافة بين يدي الساعة، ونشهد أن الله يحيي ويميت ويرفع ويضع ويغني ويفقر ويفعل ما يشاء ويبعث من في القبور.

قالا: شهدنا.

قال: وإسباغ الوضوء على المكاره، وغسل الوجه واليدين والذراعين ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين وغسل الجنابة في الحر والبرد، وإقام الصلاة، وأخذ الزكاة من حلها ووضعها في أهلها، وحج البيت، وصوم شهر رمضان، والجهاد في سبيل الله، وبر الوالدين، وصلة الرحم والعدل في الرعية والقسم بالسوية والوقوف عند الشبهة ورفعها إلى الإمام، فإنه لا شبهة عنده، وطاعة ولي الأمر بعدي، ومعرفته في حياتي وبعد موتي والأئمة من بعده واحداً بعد واحد، وموالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، والبراءة من الشيطان الرجيم وحزبه وأشياعه، والبراءة من الأحزاب: تيم وعدي وأمية وأشياعهم وأتباعهم والحياة على سنتي، ودين وصيي وسنته، إلى يوم القيامة والموت على مثل ذلك، وترك شرب الخمر وملاحاة الناس، يا خديجة فهمت ما

ص:39

شرط ربك عليه ؟

قالت: نعم وآمنت وصدقت ورضيت وسلمت.

قال علي: وأنا على ذلك.

فقال: يا علي تبايعني على ما شرطت عليك ؟

قال: نعم.

قال: فبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفه ووضع كف علي عليه السلام في كفه وقال: بايعني يا علي على ما شرطت عليك، وأن تمنعني مما تمنع منه نفسك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اهتديت ورب الكعبة ورشدت ووفقت(1).

وهذه الرواية الشريفة اشتملت على جملة من الدلالات وهي كالآتي:

1 - ظاهر الرواية أن قول الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام:

تأبى إلا أن تطلب أصول العلم ومبتدأه أما والله إنك لتسأله تفقها.

هو موجه لعيسى بن المستفاد وليس من أبيه الصادق إليه عليهما السلام، ولعل تقديم الرواية قول الإمام عليه السلام على سؤاله كان السبب في هذا الظهور لمقدمة الرواية.

ص:40


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 18، ص 232 و 233؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 1، ص 482؛ مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي الشاهرودي: ج 5، ص 113.

فتكون مقدمة الرواية - والله العالم - كالآتي:

حدثني موسى بن جعفر عليهما السلام وسألته عن بدء الإسلام، كيف أسلم علي وكيف أسلمت خديجة ؟ فقال لي موسى بن جعفر عليهما السلام:

أما والله إنك لتسأله تفقها... سألت أبي جعفر بن محمد عليهما السلام عن بدء الإسلام كيف أسلم علي وكيف أسلمت خديجة عليهما السلام.

فقال لي أبي: إنهما لما أسلما....

2 - عرض هذه الشروط عليهما، ومبايعتهما الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الشروط مع بيان شبه تفصيلي لفرائض الإسلام قبل فرضها على الامة دليل على علو مرتبتهما الإيمانية، واختصاصهما بمقامات يقينية عالية؛ إذ قد لا يطيق كثير من الناس المبايعة حينما يرى أن هذه البيعة مقرونة بمجموعة كثيرة من الشروط التي مع كثرتها هي متفاوتة في الكيفية والأداء ثم يسلم تسليما مطلقا واعتقادا صادقا.

وهذا يكشف عن اختيار الله واصطفائه إياهما في مؤازرة رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا: كان البدء بهما مع بيان كل هذا الكم من الشروط ، وقبولهما بها صدقا وإيمانا وتطبيقا.

3 - التأسيس لمنصب الوصي والولي للأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم منذ اللحظة الأولى لانطلاق الرسالة المحمدية؛ بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرن طاعته بطاعة وصيه والحياة والممات على ذلك، وهذا يكشف

ص:41

عن أهمية هذا الأمر؛ لما له من دور أساس في حفظ الامة من الضلال والوقوع في الفتن.

4 - إن منصب (ولي الأمر) بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم يرتكز على قاعدة تبني الأحكام الشرعية؛ وإن ولي الأمر مهمته بيان ما أنزل الله على رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من أحكام، وهذا لا يتحقق إلا بوجود العصمة في ولي الأمر، لتعلقه في الحكم الإلهي.

بمعنى: اتحاد سنخية الحكم الشرعي، وولي الأمر الشرعي؛ وذلك: أن الحكم الإلهي معصوم من الخطأ والزلل فكذا يكون حال المبين لهذا الحكم، وإلاّ بعكس ذلك يحدث الافتراق بينهما؛ لاختلاف سنخيتهما؛ وفي هذه الحالة لا يتحقق الإصلاح ولا يمكن منع وقوع الفساد، وهما - الإصلاح ومنع الفساد - غاية الشريعة الإلهية.

بل: إن ذلك كان مقصد جميع المصلحين في الأرض باختلاف مذاهبهم؛ إذ ينطلق المصلحون في وضع أحكامهم وتشريعاتهم على قاعدة تحقيق الإصلاح ومنع الفساد، لذا اتبعهم بعض الناس.

فإذا تبين لأولئك المتّبعين زيف هذه التشريعات، أو أنها لا تحقق الإصلاح، بل كانت مدعاة للفساد والخراب تحولوا عن أولئك المتشّرعين.

إلا أن الفارق بين ولي الأمر في دستور الشريعة وبين المصلحين في دستور الأرض، أن حكم الأول لا يقبل الخطأ ولو بنسبة واحد بالمئة، وأن الثاني يقبل الخطأ ولو بنسبة واحد بالمئة فيكون الخطأ في الأول محال الوقوع لمطابقته حكم

ص:42

الخالق عز وجل؛ ويكون الخطأ في الثاني ممكن الوقوع مما يؤدي إلى انتفاء تحقق الإصلاح ومنع الفساد.

ومن هنا: كانت الملازمة بين النبوة والإمامة لتعلقهما ببيان الحكم الإلهي للناس.

5 - إنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي وخديجة عليهما السلام:

والوقوف عند الشبهة إلى الإمام فإنه لا شبهة عنده.

هو أن مقام الإمامة كان محصوراً في زمن النبوة بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدلالة قوله تعالى في إمامة إبراهيم الخليل عليه السلام:

(إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً)1 .

فكانت له النبوة والإمامة في حياته وانحصارها، أي: الإمامة في الوصي بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا:

كان التلازم بين النبوة والإمامة - كما أسلفنا - لتعلقهما ببيان الحكم الشرعي، فكما أن النبي لا شبهة عنده كذا يكون حال الإمام من بعده (فإنه لا شبهة عنده).

6 - ظاهر الرواية يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المقدار من قوله في أمر (الوقوف عند الشبهة ورفعها إلى الإمام) خصّ به علياً وخديجة عليهما السلام.

ص:43

وأن قوله:

وطاعة ولي الأمر بعدي ومعرفته في حياتي وبعد موتي والأئمة من بعده واحدا فواحداً.

يحتمل وجهين في الخطاب.

الوجه الأول

أن يكون الخطاب موجهاً إلى خديجة عليها السلام، وهو الأظهر بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

والحيوة على ديني وسنتي ودين وصيي وسنته إلى يوم القيامة والموت على مثل ذلك غير شاقة [شاكّة] لأمانته ولا متعدية، ولا متأخرة عنه.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

يا خديجة فهمت ما شرط عليك ربك.

والوجه الثاني

أن يكون الخطاب موجهاً لعلي وخديجة عليهما السلام، بمعنى: أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الحد من قوله لم يكن قد أعلن عليا عليه السلام بأنه المخصوص بالخلافة والوصاية من بعده صلى الله عليه وآله وسلم وهذا أمر في غاية الأهمية؛ لأنه يكشف عن أن أمر الخلافة والوصاية هو بجعل من الله تعالى وليس بجعل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

بدليل:

ص:44

حديث الإنذار

حينما نزل قوله تعالى:

(وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )1 .

فقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال:

«لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنذر عشيرتك الأقربين دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي:

يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الامر أرى منهم ما أكره، فصمت عليه حتى جاءني جبريل فقال: يا محمد إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك. فاصنع لنا صاعا من طعام واجعل عليه رحل شاة واملأ لنا عسّاً من لبن ثم أجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به.

ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حذية من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال خذوا بسم الله فأكل القوم حتى مالهم

ص:45

بشيء حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم وأيم الله الذي نفس علي بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم.

ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا منه جميعا وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال لَشدّ ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الغد يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إلي.

قال ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ثم قال أسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه [آله] وسلم فقال يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الامر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم.

قال فأحجم القوم عنها جميعا وقلت وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.

ص:46

قال فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع»(1).

فهذه الحادثة تدل بوضوح على وقت إعلان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لمنصب الخلافة والوصاية من بعده وتعيين الخليفة والوصي وهو علي بن أبي طالب عليه السلام، بعد نزول قوله تعالى:

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)2 .

إلا أنه يمكن أن يعترض على هذا التوقيت معترض بحيث يكون إعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخليفته ووصيه قبل هذا اليوم الذي جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشيرته الأقربين، وهو اعتراض وجيه بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة بعد أن سمعت منه هذه الشروط أن قال لها:

«فبايعي له فبايعت له على مثل ما بايع عليه علي عليه السلام - للنبي - على أنه لا جهاد عليها»(2).

ص:47


1- تفسير فرات الكوفي: ص 302؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 63؛ الأمالي للطوسي: ص 583؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13، ص 211؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ص 132؛ تفسير البغوي: ج 3، ص 400؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 2، ص 62.
2- بحار الأنوار للمجلسي: ج 18، ص 233؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 1، ص 482.

ونقول:

إن وقت إظهار الخلافة والوصاية للناس كان ضمن مراحل منها ما كان في بداية البعثة أي منذ الأيام الأولى حينما كان عدد الذين أسلموا اثنين فقط ؛ رجلاً وامرأة فأرشدهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وجود وصي له وخليفة من بعده ليسير الإسلام منذ اليوم الأول على هذا المنهج الإلهي.

ومن المراحل الأخرى للإعلان عن الوصي والخليفة ما كان في نزول الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار عشيرته الأقربين، فكان الإعلان عن ذلك في حديث الدار، ومنها ما كان في آخر عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما رجع من مكة بعد أن فتحها الله له فكان الإعلان عن الوصي والخليفة في غدير خم، ومنها ما كان في اللحظات الأخيرة من عمره الشريف حينما ابتدأ به المرض فقال اتوني بدواة وقرطاس لأكتب لكم كتابا لن تضلوا من بعدي.

والملاحظ في تسلسل هذه المراحل أن دائرة الإعلان عن الوصي والتبليغ عن الخليفة كانت تتزامن مع كل مرحلة جديدة من التبليغ، بحيث يبتدئ النبي بالإعلان عن هذا الأمر الإلهي حينما كان عدد الذين لبوا ندائه واستجابوا لدعوته اثنين فقط رجلاً وامرأة، ثم يتزامن ذلك مع اتساع رقعة التبليغ بعشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأقربين، ثم بالمسلمين جميعاً، وهذا يكشف عن أن أمر الإمامة والخلافة من بعده لا تقل شأنا عن النبوة فبكلتيهما يُعبد الله حق عبادته، ويهتدي الناس إلى معرفته.

ص:48

وعليه: تكون خديجة عليها السلام قد أحرزت تلك الدرجات العالية من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم منذ بدء الرسالة المحمّدية، وأنها ترجمت هذا الإيمان إلى واقع عملي وممارسة حياتية حتى وافتها المنية والتحقت بجوار ربها، وهو ما سنعرض له في بقية النقاط التي تكشف طبيعة حياتها الزوجية مع خير خلق الله تعالى.

ثانيا: حملها الطعام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الغار

من الظواهر الحياتية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تناولتها الصحاح بالرواية والذكر هي ذهاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغار للخلوة والعبادة؛ وأن هذا الذهاب كان متكرراً خلال السنة تختلف فيه الفترة الزمنية التي يقضيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد تكون أياما متواصلة أو منفردة إلا أن الرواية تدل على أن بقاءه في الغار كان لأيام.

ومن هنا: نفهم العلة التي من أجلها كانت تخرج خديجة عليها السلام من بيتها وهي تحمل المؤونة لزوجها؛ إذ لو كان المكوث في الغار قصيراً لما احتاجت خديجة إلى الخروج من دارها وحمل الطعام والماء لزوجها، وهو ما تصرح به الرواية الآتية:

روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، أنه قال: (أتى جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه أدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها

ص:49

ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب(1).

دلالة الرواية

والرواية فضلاً عما سبق فإنها تدل على أمور منها:

1 - أن طول مكوث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستوجب على خديجة بذل جهودٍ كبيرة في الوصول إلى زوجها لاسيما وهو على سفح الجبل، أي قيامها عليها السلام بالصعود إليه مع ما تحمل من مؤونة، فكيف إذا أضيف إليه الشعور بالخوف عليه من المشركين، وأنها ستقوم بهذا العمل بصورة مستمرة وهذا يدل على صبرها وجهادها وتعريض نفسها للمخاطر من أجل إمداد زوجها بلوازم الحياة.

2 - اعتماد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها بذلك، يكشف عن حيطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أعدائه.

3 - أن عدم ذكر الرواية لمرافقة الإمام علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار يرجع إلى أسباب:

ألف: احتراز البخاري أو من روى عنهم عن ذكر مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام كما هو عادة المخالفين لعلي في ذلك، وكما حدث مع عائشة حينما ذكرت خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى دارها وهو

ص:50


1- صحيح البخاري: باب تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة، ج 4، ص 231؛ صحيح مسلم: باب فضائل خديجة، ج 7، ص 133؛ مسند أحمد، من مسند أبي هريرة: ج 2، ص 231.

يتهادى بين رجلين فذكرت اسم العباس بن عبد المطلب ولم تسم الرجل الآخر إلا أن عبد الله بن عباس كشف ذلك(1).

باء: مكوث الإمام علي عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار وملازمته له كما صرّح هو بذلك في خطبته، وهذا يكشف عن تعمد المخالفين لأهل البيت عليهم السلام بمحاربة فضائلهم ومنع الرواة من رواياتها، فكان مما حاربه أولئك المخالفون هو ملازمة علي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار، حيث قال:

ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة ؟

فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى

ص:51


1- صحيح البخاري: باب مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ج 5، ص 140، وجاء فيه: (عن عتبة بن مسعود أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر قال عبيد الله بن عباس هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة قال، قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب).

ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك على خير(1).

جيم: فرض الحصار على خديجة عليها السلام؛ إذ ورد في الخبر إن نساء قريش هجرن خديجة بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف وهو الآن يدعو إلى عبادة الله ونبذ الشرك(2).

دال: إنّ قيامها بذلك يكشف عن حبها لزوجها والسهر على خدمته لاسيما أن ذهابها إليه سيحقق لها الاطمئنان عليه فضلاً عن شوقها لرؤياه.

هاء: إن صبرها على هذه المشقة وتحملها لهذه الصعاب وتعرضها للمخاطر كان دافعه حب الله عزّ وجل وحب رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا نالت من ربها السلام، والأمين على وحيه جبرائيل عليه السلام، كذلك خصها بالسلام.

وهذا السلام يدل على أنها من عباد الله المصطفين لقوله تعالى.

(وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى )3 .

ثالثا: خوفها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام حين خروجهما من المنزل

من المشاهد الحياتية لبيت خديجة (الزوجة الصالحة) والتي وردت إلينا عن طريق رواة مدرسة أهل البيت عليهم السلام هو خوف خديجة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان يخرج من الدار وهو قاصد شعاب مكة

ص:52


1- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة: ج 2، ص 157.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 690.

يتعبد لله تعالى مصطحبا الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كما تشير الرواية وهي كالآتي:

روى الخصيبي عن جابر بن يزيد الجعفي عن الباقر عليه السلام، قال:

لما ظهر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعا الناس إلى دين الله أبت ذلك قريش وكذبته وجميع العرب فبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستجيرا في البلاد لا يدري ما يصنع وكان يخرج وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما في كل ليلة إلى الشعاب فيصليان فيها سرّاً من قريش، ومن الناس، وكانت خديجة عليها السلام تخاف عليهما أن تقتلهما قريش فجاءت إلى أبي طالب فقالت له: إني لست آمن على رسول الله وعلى علي من قريش أن يقتلوهما، فإني أراهما يذهبان في بعض تلك الشعاب يصليان فأتاهما أبو طالب، وقال لهما إني أعلم أن هذا الأمر سيكون له آخر وإن هذا الذي أنتما عليه لدين الله، وإني أعلم أنكم على بينة من ربكما، فاتقيا قريشاً، فو الله ما أخاف عليكم إلا من قريش خاصة، وما أنتما بكاذبين، ولكن القوم يحسدونكما، والذي دعوتما إليه عظيم عندهم، وإنما تريدان أن تقلباهم عن دينهم ودين آبائهم إلى دين لا يعرفونه ويستعظمون ما تدعوانهم إليه.

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لأملكنّ رقابهم، ولأطأنّ بلادهم بالخيل، ولتسلمنّ قريش والعرب طوعاً أو كرها ولأقطعنّ أكابرهم جهرا ولآخذنّهم بالسيف عنوة، وهكذا أخبرني جبريل عليه السلام عن الله عزّ وجل فرجع أبو طالب من تلك الشعاب

ص:53

من عندهما وهو من أسر الناس بما أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأتى أبو طالب خديجة عليها السلام وأخبرها بذلك ففرحت فرحا شديداً وسرت بما قال لها أبو طالب، وعلمت أنهما في حفظ الله عزّ وجل فكان هذا من دلائله صلى الله عليه وآله وسلم(1).

وهذا المشهد الحياتي الذي يصور لنا جانبا من أسلوب خديجة في حياتها الزوجية لهو في الوقت نفسه يظهر لنا دورها الأمومي في تنشئتها لعلي عليه السلام.

إذ لا يخفى على أهل المعرفة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد اتفق مع عمه العباس بن عبد المطلب على إعانة أبي طالب عليه السلام فأخذ العباس بن عبد المطلب عقيلاً فضمه إليه وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً فضمه إليه.

والعلة في ذلك تعود إلى:

1 - أن أبا طالب كغيره من آبائه كانوا مكثرين للإنفاق على المحتاجين مما جعله يؤثر الغير على نفسه وعياله فأراد الله سبحانه أن يجازيه على هذا الصنيع فجعل ولده في حجر خير خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وحيث إن هذه الصفة، صفة الإيثار والانفاق هما مما لا يمكن تغيرهما في نفس أهل الفضائل والمحاسن؛ لأنها أصبحت من سجاياهم وطباعهم، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتضن أحد أبناء عمه فاختار الله له علياً واختار للعباس

ص:54


1- الهداية الكبرى للخصيبي: ص 65.

عقيلاً لحكمة كشفتها الأيام التي تلت بعث النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - ولأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كان ممن اصطفاهم الله لدينه فقد هيأ له أباً هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يصفه علي بقوله:

وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويلفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل(1).

وهيأ له أماً هي خديجة بنت خويلد التي كانت تحنو عليه بأكثر مما تحنو الأم على وليدها، بل ينقل لنا التاريخ صورة عن تعاملها الأمومي مع علي عليه السلام وكأنها أم رزقت بمولود بعد طول انتظار وترقب وصبر وجهاد مع النفس في عدم يأسها من روح الله تعالى.

نعم:

هكذا يروي المسعودي كيفية تعاملها مع علي عليه السلام فيقول: (لما تزوّج صلى الله عليه وآله وسلم خديجة بنت خويلد علمت بوجده بعلي عليه السلام فكانت تستزيره وتزينه بفاخر الثياب والجوهر وترسل معه ولايدها فيقلن هذا أخو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحب الخلق إليه وقرة عين

ص:55


1- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام: الخطبة القاصعة، ج 2، ص 157.

خديجة ومن ينزل السكينة عليه)(1).

والرواية تدل على دور خديجة الأمومي في تربيتها لعلي عليه السلام وركائز حبها له، وهي تندرج ضمن النقاط الآتية:

ألف: إن المتأمل في الرواية يجد أن في كل زاوية من زوايا بيت خديجة هناك صورة معبرة عن عمق حبها لزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويجد أيضاً أن حبها لعلي يرتكز على حبها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تدل عبارة المسعودي - أنها - (علمت بوجده صلى الله عليه وآله وسلم بعلي عليه السلام فكانت تعتني به أشد العناية وتزينه بفاخر الثياب والجوهر وترسل معه إماءها خوفا عليه من قريش واليهود).

بمعنى آخر:

أنها تطلب في هذا الصنيع إدخال السرور على قلب زوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما يرى حبيبه وقد ظهر بهذا المظهر الجميل مما يزيد في حبه لولده ويشعره بالاطمئنان عليه لما يلقاه من جميل العناية والاهتمام.

ولعل الآباء يدركون كم يكون منظر أولادهم وهم بهذا الوصف الذي ذكره المسعودي مؤثرا فيهم كما أن العكس لو حصل، أي: ظهور الإهمال من الأم لأبنائها وترجمته إلى واقع عملي في مظهرهم، لما سيؤثر على نفسية الأب،

ص:56


1- الأنوار الساطعة للشيخ غالب السيلاوي، نقلاً عن: إثبات الوصية للمسعودي: ص 144، ط أنصاريان.

فضلاً عن الإحساس بالألم، وفشل الحياة الزوجية، لتولد الشعور بعدم صلاحية هذه الزوجة لأداء وظيفتها الأمومية في الأسرة.

باء: أن حبها لعلي يرتكز أيضا على أنها في الواقع وجدت فيه الابن الذي فقدته؛ إذ مرَّ في الفصول السابقة أن خديجة عليها السلام فقدت ابنين لها وهما القاسم الذي لم يتم رضاعه وعبد الله الذي مات كذلك في فترة رضاعته.

وعليه فخديجة هي أم فجعت بوفاة ابنين لها ولذا جرت حكمة الله تعالى في أن يكون علي عليه السلام هو الابن الذي يملي عليها الإحساس بالولد فضلاً عن تفريغ كل ما لديها من عاطفة الأمومة لعلي عليه السلام، وتلك من سابق عناية الله تعالى بالإمام علي عليه السلام؛ إذ شاءت إرادة الله تعالى أن يحيا عليٌّ عليه السلام في بيت تكون الأم فيه خديجة والأب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن يترعرع في جو أسري خاص لم يتهيأ لأحد من بني البشر إلا لولديه الحسن والحسين عليهما السلام.

والعجيب في حكمة الله تعالى وسابق لطفه وعنايته بأهل البيت عليهم السلام أن هيأ لهم منشأ وحجوراً ملأها الحب والحنان والعطف والرقة.

ولذا فهم يحبون كل شيء له ارتباط بالله تعالى وينفرون من كل شيء ليس له ارتباط بالله تعالى.

جيم: أما الركيزة الثالثة في حبها لعلي عليه السلام فهو الحب الإيماني، أي: حب الولاية وهو أمر فطري تنقاد له الفطرة الصالحة للإنسان فكما أن

ص:57

الإنسان السوي ينجذب إلى الله تعالى، لأنه مخلوق من الطهر والنقاء فتراه ينساق إلى الإيمان ويعتقد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقر بالشهادتين كذلك حاله مع علي بن أبي طالب عليه السلام؛ لأن حب علي من الإيمان كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال:

لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق(1).

فكيف بخديجة التي حظيت بسلام ربها وأمين وحيه وبشَّرها ببيت في الجنة، فضلاً عن مقامها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا:

فحب خديجة لعلي عليهما السلام كان يرتكز على ثلاث ركائز:

1 - حبها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - حبها الغريزي الأمومي.

3 - حبها الإيماني بالله تعالى ممثلاً بحبها الولائي لعلي عليه السلام والذي سنعرض له إنشاء الله بمزيد من البيان لاحقاً.

أما بقية مضامين الرواية التي رواها الخصيبي فإنها تشتمل على مجموعة من المسائل لا يسع المقام بيانها، لاحتياجها إلى البسط في البحث مما يدفع بالقارئ إلى الابتعاد عن محور البحث وهو بيان الجوانب الحياتية والأسرية لأم المؤمنين خديجة بنت خويلد وطريقة أسلوبها ومناهجها كزوجة لسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:58


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج 28، ص 51.
رابعا: كيف يتعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أم عياله خديجة عليها السلام حينما يدخل المنزل ؟

إنّ من المناهج التربوية التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأسرة المسلمة هو كيفية تعامل الزوج مع زوجته عند دخوله المنزل ؟ وحينما يبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه النقطة مع الرجل كزوج أولاً وأب ثانيا إنما يريد أن يؤسس لنظام تعايشي داخل الأسرة يرتكز على مجموعة من الأسس التي يقوم عليها البناء الأسري، وهي كالآتي:

1 - مما لا شك فيه أن رجوع الزوج أو الأب إلى المنزل يشكل أول نقطة تلاق بين راعي الأسرة وبين أبنائها، فبعد غياب يستمر لساعات يكون فيها الزوج خارج المنزل يعود إلى سكنه وأنسه وعياله؛ بمعنى انتقاله من عالم يحفّه بالتعب والجهد إلى عالم المودة والرحمة.

وهنا: تكمن أهمية التلاقي بين العالمين، فأما أن يحول الرجل عالمه الأسري إلى عالم السوق والمال والمحاسبة، وأما أنْ يتخلص من ذلك العالم، ويحيا مع عالمه الذي صفته المودة والرحمة.

ولأن أغلب الرجال يكونون محمّلين بتلك الشحنات التي تنبعث من ضجيج الأسواق والمحاسبات والمعاملات المختلفة بين الناس، يصبح من الصعب عليه التخلص من آثارها.

ولذا:

لابد من معين يستعين به الرجل على التخلص من أجواء محل عمله، فماذا يصنع ؟

ص:59

جواب: يلقاه القارئ عند بيت خديجة عليها السلام، وهي تصف لنا نقطة التلاقي الأول بينها وبين زوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتقول:

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيها ثم يأوي إلى فراشه(1).

هنا: يبدأ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مع الأسرة في منهاجه التربوي للزوجين عند نقطة التلاقي فيما بين العالمين، فيبدأ بالوضوء والصلاة، أي يبدأ أولاً مع الرجل فيدخله إلى عالم جديد يستلهم ما يعينه على التحرر من تلك الضغوطات التي مر بها في أثناء تواجده في محل عمله، وذلك من خلال الاستعانة بالوضوء والصلاة.

أي البدء بعناصر الطهر والرحمة والسكينة؛ ليستقبل بها أهل المودة والرحمة.

2 - الإيجاز في الصلاة هو لغرض التفرغ لأهله وليس الغرض من الصلاة هو قضاء ما فات من الفرائض اليومية التي غفل عنها الرجل في أثناء زحمة العمل أو التوجه للنوافل وما شابه؛ وإنما هو تثمين لهذا المحل وإشعاراً بقدسيته ولذا: يعلِّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآباء والأزواج قدسية البيت، وأنه محل الرحمة فيبدأ دخوله إليه بالصلاة كما يصنع بالمسجد.

ص:60


1- العدد القوية، علي بن يوسف الحلي: ص 222؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 16، ص 80؛ مستدرك الوسائل: ج 3، ص 471.

فليس هناك فارق بين الصلاتين من حيث الأثر التربوي والوظيفة الحياتية، فما وجود المسجد والبيت إلا لغرض صلاح الإنسان.

3 - إيواء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لفراشه لا يدل على عدم الجلوس والحديث وتناول الطعام وإنما إشارة إلى استحقاق الزوجة من حياة الرجل؛ بمعنى: أيها الرجل دع هموم عملك خارج منزلك وتفرغ لزوجك واهتم بعيالك واستفد من نعمة الله تعالى؛ إذ هيأ لك سكناً وإنساً واغنم لنفسك ما يلزمها من عناصر البقاء والقدرة على مواصلة الجهد والكد في العمل.

إذن:

لخديجة الزوجة عليها السلام كان نصيب من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسكنا يتعامل معه بالتعظيم والرحمة كما يتعامل مع المسجد من حيث كونه محلاً لأداء شكر المنعم، وموضعاً يقترن بالرحمة والقدسية والطمأنينة.

المسألة الرابعة: جهادها ومؤازرتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ رسالته
اشارة

من أهم السمات التي اتسمت بها حياة السيدة الطاهرة خديجة عليها السلام، هي سمة الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومؤازرته في تبليغ رسالة ربه.

بل لا نبالغ - كما سيرى القارئ - إن قلنا أن هذه السمة انفردت بها خديجة عليها السلام من بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:61

إذ لم تمرّ إحداهن بمثل ما مرت به السيدة خديجة منذ انطلاق الدعوة إلى التوحيد وإلى آخر يوم من حياتها؛ حيث مضت وهي متأثرة بما وقع عليها وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ظلم وحصار اقتصادي بالغ فيه المشركون أشد المبالغة، فضلاً عن تلقيها آلام الضرب والتعذيب وهو ما لم يحدث لحرة من حرائر قريش، فضلاً عن حفظ مكانة أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة إلى المدينة حيث قضين حياتهن بالأمن والاستقرار، ولم يكن لبعضهن سوى الاهتمام بالنفقة والغيرة من الضرة ومحاسبته صلى الله عليه وآله وسلم على المبيت والتظاهر عليه وإثارة المشاكل وتنغيص حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى عاتبه الله عزّ وجل في ذلك فقال:

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ )1 .

وتهديد الله سبحانه لبعضهنّ إن لم يتوبا إلى الله تعالى عما يصنعن من الأذى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال سبحانه وتعالى:

(وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ

ص:62

ذلِكَ ظَهِيرٌ)1 .

في حين قضت السيدة الطاهرة خديجة الكبرى عليها السلام حياتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشكل من الطاعة والحب والتفاني في خدمة النبي ورعايته بشكل لم يحظَ به نبي من الأنبياء عليهم السلام على اختلاف منازلهم عند الله تعالى فضلاً عن المقارنة بين مقامات نساء الأنبياء ومقام خديجة ومنزلتها في مكة وحالة الغنى والترف الذي كانت تعيش فيه قبل زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحسبها ونسبها ومنعتها وحرص أشراف قومها على الاقتران بها، وإذا بها تتلقى مختلف أنواع الأذى من المشركين، وهي لا تبتغي في جميع ما نزل بها سوى مرضاة ربها ورسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا:

فشتان بين امرأة تجاهد على حصول رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبين امرأة تحرص على أذى الله وأذى رسوله حتى يهددها الله في محكم كتابه ويحذرها من الاستمرار بفعلها.

ومن هنا:

كان لخديجة من السمة الجهادية لقيام الإسلام ومؤازرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته ما لم يكن لامرأة، وهو ما ستظهره النقاط الآتية:

ص:63

أولا: فداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسها وحفظه من الأذى

يروي العلامة المجلسي - طيّب الله ثراه - عن كتاب المنتقى في مولد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، قائلا:

(ولما أنزل الله تعالى:

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )1 .

قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا ونادى في أيام الموسم:

يا أيها الناس إني رسول رب العالمين.

فرمقه الناس بأبصارهم، ورماه أبو جهل قبحه الله بحجر فشج بين عينيه، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتى أتى الجبل فاستند إلى موضع يقال له: المتكأ وجاء المشركون في طلبه، وجاء رجل إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وقال: يا علي قد قتل محمد، فانطلق إلى منزل خديجة - رضي الله عنها - فدق الباب فقالت خديجة:

من هذا؟

قال عليه السلام:

أنا علي.

قالت:

يا علي ما فعل محمد؟

ص:64

قال عليه السلام:

لا أدري إلا أن المشركين قد رموه بالحجارة، وما أدري أحي هو أم ميت، فأعطيني شيئا فيه ماء وخذي معك شيئا من هيس وانطلقي بنا نلتمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنا نجده جائعا عطشانا.

فمضى حتى جاز الجبل وخديجة معه فقال علي:

يا خديجة استبطني الوادي حتى أستظهره.

فجعل ينادي:

يا محمداه، يا رسول الله، نفسي لك الفداء في أي واد أنت ملقى ؟

وجعلت خديجة تنادي:

من أحس لي النبي المصطفى ؟ من أحس لي الربيع المرتضى ؟ من أحس لي المطرود في الله ؟ من أحس لي أبا القاسم ؟

وهبط عليه جبرئيل عليه السلام فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بكى وقال:

ما ترى ما صنع بي قومي ؟ كذبوني وطردوني وخرجوا عليّ .

فقال جبرئيل عليه السلام:

يا محمد ناولني يدك.

فأخذ يده فأقعده على الجبل، ثم أخرج من تحت جناحه درنوكا من درانيك الجنة منسوجا بالدر والياقوت وبسطه حتى جلل به جبال تهامّة، ثم

ص:65

أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أقعده عليه، ثم قال له جبرئيل:

يا محمد أتريد أن تعلم كرامتك على الله ؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

نعم.

قال جبرئيل عليه السلام:

فادع إليك تلك الشجرة تجبك.

فدعاها فأقبلت حتى خرت بين يديه ساجدة، فقال:

يا محمد مرها ترجع

فأمرها فرجعت إلى مكانها.

وهبط عليه إسماعيل حارس السماء الدنيا فقال:

السلام عليك يا رسول الله، قد أمرني ربي أن أطيعك، أفتأمرني أن أنثر عليهم النجوم فأحرقهم.

وأقبل ملك الشمس فقال:

السلام عليك يا رسول الله، أتأمرني أن آخذ عليهم الشمس فأجمعها على رؤوسهم فتحرقهم.

وأقبل ملك الأرض فقال:

السلام عليك يا رسول الله: إن الله عز وجل قد أمرني أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر الأرض فتجعلهم في بطنها كما هم على

ص:66

ظهرها؟

وأقبل ملك الجبال فقال:

السلام عليك يا رسول الله إن الله قد أمرني أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر الجبال فتنقلب عليهم فتحطمهم ؟

وأقبل ملك البحار فقال:

السلام عليك يا رسول الله، قد أمرني ربى أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر البحار فتغرقهم ؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

قد أمرتم بطاعتي ؟

قالوا:

نعم.

فرفع رأسه إلى السماء ونادى:

إني لم أبعث عذابا، إنما بعثت رحمة للعالمين، دعوني وقومي فإنهم لا يعلمون.

ونظر جبرئيل عليه السلام إلى خديجة تجول في الوادي فقال:

يا رسول الله ألا ترى إلى خديجة قد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ ادعها إليك فأقرئها مني السلام، وقل لها: إن الله يقرئك السلام، وبشرها أن لها في الجنة بيتا من قصب لا نصب فيه ولا صخب، لؤلؤا مكللا بالذهب.

فدعاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدماء تسيل من وجهه على

ص:67

الأرض، وهو يمسحها ويردها قالت:

فداك أبي وأمي دع الدم يقع على الأرض.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

أخشى أن يغضب رب الأرض على من عليها.

فلما جنَّ عليهم الليل انصرفت خديجة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام ودخلت به منزلها، فأقعدته على الموضع الذي فيه الصخرة، وأظلته بصخرة من فوق رأسه، وقامت في وجهه تستره ببردها، وأقبل المشركون يرمونه بالحجارة، فإذا جاء من فوق رأسه حجر وقته الصخرة، وإذا رموه من تحته وقته الجدران الحيط ، وإذا رمي من بين يديه وقته خديجة - رضي الله عنها - بنفسها، وجعلت تنادي:

يا معشر قريش ترمى الحرة في منزلها؟

فلما سمعوا ذلك انصرفوا عنه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغدا إلى المسجد يصلي)(1).

والحديث غني عن البيان في تعريف القارئ المسلم وغير المسلم في تحقق جهاد خديجة في قيام الإسلام وتقديم نفسها فداءً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان الجهاد ساقطاً عنها إلا أنها لم تكن لتترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرضةً لحجارة المشركين وتجلس هي مكتوفة اليدين.

ص:68


1- بحار الأنوار: ج 18، ص 244.

ولعل كثيراً من هذه الحجارة أدمتها إلا أنها لم تصرح بذلك، كي لا تدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الألم حينما يعلم ما نزل بها.

وإلا ما معنى قولها للمشركين: أترمى الحرة في دارها؟! فضلاً عن وصف الرواية للحدث الذي يظهر بوضوح أن الحجارة كانت تأتيها من كل جهة، ولذا قامت بحماية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الجهات الست من فوقه ومن تحته وعن يمينه وشماله وعن خلفه وأمامه.

إنها صورة انفردت بها خديجة في حياتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما انفردت هي من بين النساء.

ثانيا: مؤازرتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحصار حتى أكلت ورق الأشجار

كم هو ظالم التاريخ حينما يكون المؤرخ يكتب مادته التاريخية على ورق مدفوع الثمن من خزينة السلطة.

هكذا ترى التاريخ الإسلامي حينما كتب سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إنه ظالم للتاريخ الإنساني برمته، وظلوم للقراء المسلمين حينما ينظرون إلى تاريخهم وهو يصف خير الناس وأشرفهم بوصف لم يشأ الحكام أن يكون تام المعالم، واضح الصورة؛ فضلاً عن نقل معالم غريبة على القرآن، مستوحشة في قاموس الإنسانية.

وإلا كيف يفسر الإنسان - المسلم - إقدام سليمان بن عبد الملك على إتلاف السيرة النبوية حينما عرضها عليه أبان بن عثمان، لسبب يعود إلى كونها

ص:69

تتضمن مناقب الأنصار في العقبتين وغيرها مما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام، الذين هم أولى من الأنصار في بيان فضلهم، فكيف يترك بنو أمية تدوين هذه الفضائل وبنو هاشم والأنصار أعداؤهم.

ولذا أمر بتخريق ما كتبه أبان بن عثمان كما تنص الرواية التي رواها الزبير بن بكار، وهي كالآتي:

(قدم سليمان بن عبد الملك إلى مكة حاجا سنة (82 ه ) فأمر أبان بن عثمان بن عفان(1) أن يكتب له سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومغازيه.

فقال له أبان: هي عندي، قد أخذتها مصححة ممن أثق به، فأمر سليمان عشرة من الكُتّاب بنسخها، فكتبوها في رق، فلما صارت إليه نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وفي بدر.

فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإما أن يكون أهل بيتي غمطوا عليهم، وإما أن يكونوا ليس هكذا!!

فقال أبان: أيها الأمير، لا يمنعنا ما صنعوا أن نقول بالحق، هم ما وصفنا لك في كتابنا هذا.

ص:70


1- أبو سعيد أبان بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، كان واليا على المدينة لعبد الملك بن مروان سبع سنين ثم عزله عنها؛ عده الرازي في المدنيين، وقد روى عنه أبو الزناد ونبيه بن وهب وعبد الله بن أبي بكر والزهري، مات بالفالج في خلافة يزيد بن عبد الملك عام 105 ه ؛ أنظر الطبقات لابن سعد: ج 5، ص 151-152؛ الجرح والتعديل للرازي: ج 2، ص 295؛ مشاهير علماء الأمصار لابن حبان: ص 111؛ تقريب التهذيب لابن حجر: ج 1، ص 51؛ تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 1، ص 84.

فقال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين لعله يخالفه، ثم أمر بالكتاب فخرق، ورجع فأخبر أباه عبد الملك بن مروان بذلك الكتاب.

فقال عبد الملك: (وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل، تُعرّف أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها؟!

قال سليمان: فلذلك أمرت بتخريق ما نسخته)(1).

والحادثة التي مرّ ذكرها لا تحتاج إلى تعليق، فهي واضحة الدلالة في تدخل حكام بني أمية في تدوين السيرة النبوية؛ ويا ليت شعري أن الأمر اقتصر على التدخل في كتابتها، بل حرق هذه السيرة وإتلافها لكونها لم تتضمن بين ثناياها أي ذكر لبني أمية في مواضع الخير التي حفت بها سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وما أدري ما هو ذنب السيرة إذا كان بنو أمية قد تعاقدوا مع الشر، فكانوا حضورا معه أينما حضر؛ هذا من جانب.

والجانب الآخر:

إذا كانت السيرة النبوية في زمن عبد الملك بن مروان ينتهي بها الحال إلى الخرق لخلوها من ذكر طيب لآل عبد الملك بن مروان، فكيف يكون

ص:71


1- الموفقيات للزبير بن بكار: ص 322-323؛ وللمزيد من التفاصيل فيما تعرضت له السيرة النبوية من الاضطهاد أنظر: الشيعة والسيرة النبوية بين التدوين والاضطهاد لشيخ كتاب السيرة محمد بن إسحاق أنموذجا، تأليف السيد نبيل الحسني.

حالها وهي تضم مناقب بني هاشم وعلى رأسهم علي بن أبي طالب عليه السلام ؟!

ولذلك: كانوا إذا مرّ بهم حديث فيه ذكر لعلي بن أبي طالب عليه السلام يتعاملون معه معاملة خاصة يدل عليها الشاهد الآتي:

روى أبو الفرج الأصفهاني: (إنّ خالدا القسري(1) - وهو أحد ولاة بني أمية - طلب من الزهري أن يكتب له السيرة فقال الزهري: فإنه يمر بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب، أفأذكره ؟

ص:72


1- خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرزة، أبو الهيثم البجلي القسري، أمير مكة للوليد بن عبد الملك، وأمير العراقين لهشام بن عبد الملك، وهو من أهل دمشق. (تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 16، ص 135). قال الذهبي عنه في الكاشف: (ناصبيا عَذّب وقتل). (الكاشف في معرفة من له رواية في كتب السنة: ج 1، ص 366). وقال في السير نقلا عن ابن خلكان: (كان يتهم في دينه، بنى لأمه كنيسة تتعبد فيها، وفيه يقول الفرزدق: إلا قبح الرحمن ظهر مطية أتتنا تهادى من دمشق بخالد وكيف يؤم الناس من كان أمه تدين بأن الله ليس بواحد بنى بيعة فيها الصليب لأمه ويهدم من بغض منار المساجد (سير أعلام النبلاء: ج 5، ص 427). وقال الذهبي في ميزانه، وفي تاريخ الإسلام: (ناصبي بغيض ظلوم، قال ابن معين: رجل سوء يقع في علي). (ميزان الاعتدال: ج 1، ص 633؛ تاريخ الإسلام: ج 8، ص 83؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 13، ص 156).

فقال خالد: لا إلا أن تراه في قعر جهنم، فقال الزهري: فلعن الله خالدا ومن ولاه وصلوات الله على أمير المؤمنين)(1).

وكان خالد القسري يسمي بئر زمزم بأم الخنافس(2) ، وحينما ولاه عبد الملك بن مروان على الكوفة تتبع شيعة أهل البيت عليهم السلام فأخذ سعيد ابن جبير، وطلق بن حبيب، فأنكر الناس عليه ذلك فقام خطيبا فقال: (كأنكم أنكرتم ما صنعت، والله أن لو كتب إليّ أمير المؤمنين - هشام بن عبد الملك - لنقضتها حجرا حجرا، يعني الكعبة)(3).

بل إنّ بني أمية لم يتحملوا حتى ذكر اسم المدينة المنورة.

فقد اسماها يحيى بن الحكم(4) بالخبيثة!

فقد روى القيرواني عن بذيح أنه قال: (وفد عبد الله بن جعفر الطيار ابن أبي طالب - عليهما السلام - على عبد الملك بن مروان، فلما دخل عليه استقبله عبد الملك بالترحيب، ثم أخذه فأجلسه معه على سريره، ثم سأله فألطف المسألة، حتى سأله عن مطعمه ومشربه، فلما انقضت مسائله قال يحيى

ص:73


1- الأغاني للأصفهاني: ج 22، ص 21؛ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 53، وقد مر ذكر الحديث سابقا.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 16، ص 161؛ سير أعلام النبلاء، للذهبي: ج 5، ص 429.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 16، ص 161.
4- يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية أخو مروان بن الحكم سكن دمشق وولاه ابن أخيه عبد الملك بن مروان المدينة ثم ولاه حمص. (تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 64، ص 119).

ابن الحكم: (أمن خبيثة كان وجهك أبا جعفر)؟

قال: (وما خبيثة)؟!

قال: أرضك التي جئت منها!

قال عبد الله بن جعفر: سبحان الله!! رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يسميها طيبة وتسميها خبيثة، قد اختلفتما في الدنيا وأظنكما في الآخرة مختلفين)(1).

إذن:

هذا حال تدوين السيرة النبوية في عصر ملوك بني أمية، وهذه حال المواضع المقدسة، وهي - أي، هذه السيرة ترتبط بمن يقولون إنهم من أتباع دينه صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف تكون عندهم سيرة من لا يعتقدون به ؟ وكيف تكون سيرة من يبغضونه كل هذا البغض الذي دلت عليه الرواية)؟!!

وعليه:

فمن الطبيعي بمكان أن تكون فترة الحصار التي مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته - خديجة وابنتها فاطمة الزهراء عليهما السلام - وعمه أبي طالب وولديه علي وجعفر ومن آمن به من بني هاشم ومن آمن به من قريش والبالغة ثلاث سنوات أو أكثر، فترة يلفها الغموض والإقصاء وأنت ترى أن ما نقشه المؤرخون عنها في مصنفاتهم ومروياتهم سوى صفحة واحدة إن أرادوا الانصاف ضمن مقاييسهم الضمائرية.

ص:74


1- الدرجات الرفيعة لعلي خان المدني: ص 177.

بل: إنك لن تجد سوى إشارات هنا أو هناك في كتب التاريخ أوالحديث توحي لذوي البصائر حجم هذه المأساة التي أطبقت على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن آمن به.

في حين أنك تجد صفحات عديدة تتحدث لك عن تفاهات حول مظاهر العيش في مكة قبل الإسلام، وأخرى تقص عليك أخبار ملوك اليمن وقصور الشام و... و....

لكنهم يصابون بالصم والبكم حينما يأتون إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلال هذه السنوات العجاف.

ولعل دراهم بيت المال تفك عقدة الألسن في مكان، وتعيبها بالبكم في مكان آخر!

من هنا:

لم نوفق إلى معرفة طبيعة العيش والجهد والجهاد الذي قضاه خير خلق الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه السنوات من الحصار الظالم من أهل مكة عليه وعلى زوجه وابنته وعمه أبي طالب وولديه علي وجعفر عليهم السلام أجمعين.

إلا أن اللبيب بالإشارة لغني، ويكفيه من الكلام قليله، فبه الدلالة على حجم ما قامت به السيدة خديجة في نصرتها ومؤازرتها لزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحملها الأذى في نصرة شريعة ربها إلى الحد الذي كانت فيه تأكل ورق الأشجار من الجوع في أثناء الحصار في شعب أبي طالب.

ص:75

كما تدل الرواية الآتية:

روى الشقنيطي عن النيسابوري ما نصه:

(يروى أنه صلى الله عليه وآله وسلم دخل على خديجة وهو مغموم، فقالت:

مالك ؟

فقال:

الزمان زمان قحط ، فإن أنا بذلت المال ينفد مالك، فأستحي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف الله.

فدعت - خديجة - قريشا وفيهم الصدّيق، قال الصدّيق: فأخرجت دنانير حتى وضعتها، بلغت مبانا لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي، ثم قالت:

اشهدوا أن هذا المال ماله، إن شاء فرقه وإن شاء أمسكه.

هذه القصة وإن لم يذكر سندها، فليس بغريب على خديجة رضي الله تعالى عنها أن تفعل ذلك له صلى الله عليه وآله وسلم، وقد فعلت ما هو أعظم من ذلك حين دخلت معه الشعب فتركت مالها، واختارت مشاركته صلى الله عليه وآله وسلم لما هو فيه من ضيق العيش، حتى أكلوا ورق الأشجار، وأموالها طائلة في بيتها)(1).

ص:76


1- أضواء البيان: ج 8، ص 562؛ تفسير الرازي: ج 31، ص 219، ولم يذكر ما ذهب إليه الشنقيطي من أكلهم ورق الأشجار.

المبحث الثاني: آثار حياتها الزوجية على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأسرة المسلمة

اشارة

إنّ المتدبر في الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تتحدث عن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأسرية يرى بوضوح حقيقة منزلة أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله تعالى وعند رسوله، كما يرى بوضوح آثار حياة خديجة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بقية أزواج النبي ودورها التربوي والإصلاحي لكل أسرة مسلمة تبتغي أن تكون المرأة فيها بحث زوجة صالحة كما كانت خديجة بحق الزوجة الصالحة.

المسألة الأولى: كانت خديجة قدوة لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم

لم يفتأ(1) النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذكر لخديجة أمام أزواجه - على الرغم من اعتراض بعضهن عليه - لحاجة في نفسه صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن يتخذْنَها قدوة؛ وإلاّ لا يصح الاعتقاد بأن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان على الرغم من سماعه اعتراض عائشة وتسببها في غضبه لم يكن ليترك ذكر خديجة عليها السلام دون أن يكون لذلك حكمة إلهية،

ص:77


1- فتأ: أي أنه مستمر في الذكر لم يمنعه مانع لأنه يعد عدم الذكر جحوداً، قال تعالى:(قالُوا تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ ) سورة يوسف، الآية: 85.

لاسيما ونحن نتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أقرن الله تعالى طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته، فقال سبحانه:

(وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )1 .

وقال تعالى:

(وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ )2 .

وخير دليل يستدل به المسلم على أنها خير قدوة لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها دون منازع كانت الزوجة الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها وهو يذكر صفاتها التي امتازت بها على غيرها من أزواجه.

فقد روى ابن عبد البر عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك الله خيرا منها!!!

ص:78

فغضب - رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال:

لا والله، ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء.

قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً)(1).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

لا والله ما أبدلني الله خيرا منها.

دليل يقطع الطريق على المسلم في احتمال أن تكون إحدى أزواجه خيراً من خديجة لاسيما إذا نظرنا إلى استخدام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أداة النفي القسم بالله تعالى، فضلاً عن شدة غضبه وألمه لما قالته عائشة.

والذي يبدو أنه سمع منها غير هذه الكلمة، أي (عجوزاً) وإلا لا يمكن تصور حدوث غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشديد الذي وصفته عائشة بقولها (حتى اهتز مقدم شعره من الغضب)، مع ما أوتي من الحلم والصبر كان لمجرد هذه الكلمة.

ومما يدل عليه: أن الحافظ الذهبي لم يشأ أن يفصح عن بقية الكلمات التي نطقتها عائشة أو لعله حفظ الرواية بالشكل الذي وصلت إليه بهذا اللفظ :

ص:79


1- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1824؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 439؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 103؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 52؛ السيرة الحلبية: ج 3، ص 401.

(فقلت: عجوزا! كذا وكذا)(1) ولا ندري ماذا احتوت (كذا وكذا) من ألفاظ أغضبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الغضب الشديد.

ولذا: لم تكن امرأة من بين أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم نالت كل هذه الصفات التي نالتها خديجة عليها السلام فكانت بحق: (الزوجة الصالحة) التي أراد النبي الأكرم من أزواجه أن يتخذنها قدوة في حياتهن معه.

وهو يفسر لنا لماذا أعرض النبي الأكرم عن الزواج بعد وفاة خديجة عليها السلام حتى عوتب في ذلك، كما جاء في الأثر عن خولة بنت حكيم، قالت: يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة، قال:

أجل كانت أم العيال وربة البيت(2).

المسألة الثانية: ولأن خديجة ربة البيت وأم العيال، كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد حزن عليها حتى خُشِيَ عليه
اشارة

ولأن خديجة عليها السلام كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربة بيته وأم عياله فقد حزن على فقدها (حتى خُشِيَ عليه)(3) من الحزن.

ولأنها كانت كذلك فقد عاش مع ذكراها، وكأن ليس هناك امرأة

ص:80


1- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 117.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 57؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 102.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 60؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 452؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 102؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 117.

استحقت أن تكون سكنه وموضع أنسه وهو القائل:

إني قد رزقت حبها(1).

ولذا:

كان يتبع منهاجاً في إحيائه لذكر خديجة عليها السلام لحكمة بالغة يمكن معرفتها من خلال الملاحظات الآتية:

1 - كونه صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الخلق العظيم فإن الوفاء لها لا يخرج عن كونه من سماته الكمالية وسجاياه الأخلاقية - كما سيمر بيانه -.

2 - تأسيس حياة أسرية في المجتمع تقوم على دور الزوج في حفظ عشرة زوجته مما يتلاءم مع خلق حالة وجدانية تقوم على زرع المحبة في نفوس الأبناء.

3 - تثبيت مكانة المرأة في الأسرة والمجتمع من خلال الالتفات إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعلة كونه المشرع والمعلم للبشرية.

4 - امتياز الدين الإسلامي عن بقية الديانات والمدارس التربوية في تسجيل صورة عن حفظ مكانة المرأة بعد وفاتها فكيف بها حينما كانت موضع سكن الرجل وأنسه.

5 - تعليم المرأة المسلمة على حسن التبعل وأن ذلك سينعكس على كل حياة الرجل فضلا عن آثاره الإيجابية على أولادها حينما يتعايشون مع هذا الحب والوفاء في بيتهم لأمهم.

ص:81


1- صحيح مسلم: باب، في فضل عائشة: ج 7، ص 134؛ العمدة لابن البطريق، في ذكر مناقب خديجة عليها السلام: ص 393.

إما كيف ترجم هذا الفعل النبوي على أرض الواقع الحياتي له صلى الله عليه وآله وسلم فكان كالآتي:

أولا: إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأرحام خديجة عليها السلام

تُظهر الرواية التاريخية أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يغدق أرحام خديجة بكرمه ولطفه ويتعاهدهم بالهدية، وقد ورد في الحديث عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليذبح الشاة ثم يهدي في خلتها منها، أي يهدي أحباب خديجة عليها السلام من الذبيحة(1).

وهذا يدل على حسن العهد، أن (وهو إهداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللحم لإخوان خديجة ومعارفها ورعياً منه لذمامها وحفظا لعهدها)(2) كل ذلك باعثه حسن العهد الذي دل عليه خلق القرآن.

وقد أخرج الحاكم النيسابوري من طريق صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عندي، فقال لها:

من أنت ؟

قالت: أنا جثامة المزنية فقال:

بل أنت حسانة المزنية كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟

قالت: بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قلت: يا رسول

ص:82


1- صحيح البخاري: كتاب الأدب، ج 7، ص 76.
2- عمدة القاري للعيني: ج 22، ص 103.

الله! تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال ؟ فقال:

إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان(1).

فضلاً عن ذلك: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدم بني عبد العزى على بني عبد الدار(2) ويكرمهم لمكانة خديجة عليها السلام فإنهم أصهاره(3) وقرابته؛ فخديجة هي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن عبد مناف بن قصي، وهو جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرابع.

ثانيا: إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحباب خديجة عليها السلام

من الأفعال النبوية التي كانت موجّهة لكل أسرة مسلمة هو قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإكرام أحباب خديجة ومعارفها وأصحابها وهو دليل على ما يكتنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حب وحرمة لخديجة في نفسه وهو ما لم تنلْه امرأة غيرها.

بل إنه لمشهد قل نظيره حتى عند الأنبياء عليهم السلام؛ إذ لم تحدثنا الروايات عن امرأة حظيت بكل هذا الحب والتكريم من زوجها مثلما حظيت به خديجة لاسيما بعد وفاتها؛ وذلك أن طابع الرجل الميل السريع إلى المرأة وعدم القدرة على البقاء خلياً دون زوجة، حتى إذا اقترن بأخرى فسرعان ما تنسيه الحياة الجديدة زوجته السابقة.

ص:83


1- المستدرك على الصحيحين للنيسابوري: ج 1، ص 16؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 85، ح 11049.
2- المغني لابن قدامة: ج 7، ص 310.
3- مغني المحتاج للشربيني: ج 3، ص 96.

لكننا حينما نأتي إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإننا لنجد صورة فريدة لاحترام الزوج زوجته والحنين إليها وإكرام ذويها وأحبابها تعبيرا عن تلك المكانة التي لها في قلبه كما تحدثنا به الروايات، ومنها:

1 - روى القاضي النعمان المغربي وابن البطريق، قولهما: (كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جارة قد أوصته خديجة أن يتعاهدها(1) ، فهدي إليه لحم جمل أو لحم جزور، فأخذ بيده لحما، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:

إذهب إلى فلانة.

فقالت عائشة: يا رسول الله لم غمرت يدك قد كان فينا من يكفيك، قال:

ويحك إن خديجة أوصتني بها.

فأدركت عائشة الغيرة لذكر خديجة.

فقالت: كأن ليس في الأرض امرأة إلا خديجة.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

قومي عني(2)!

- ثم - خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو غضبان فلبث ما شاء الله أن يلبث، ثم دخل عليها وعندها أمّها - أم رومان - فقالت: يا رسول الله ما لعائشة ؟ إنها حدثة، وهي غبراء.

ص:84


1- العمدة لابن البطريق: ص 394.
2- العمدة لابن البطريق: ص 394.

فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشدق(1) عائشة، ثم قال:

ألست القائلة: كأن ليس في الأرض امرأة إلا خديجة ؟ لقد آمنت بي إذ كفر بي قومك، وقبلتني إذ رفضني قومك، ورزقت مني الولد إذ حرمت مني.

قالت عائشة: فما ترك شدقي حتى ذهب من نفسي كل شيء كنت أجده على خديجة)(2).

2 - إحسانه صلى الله عليه وآله وسلم لأم زفر وهي ماشطة خديجة، والظاهر من ترجمتها أنها كانت تقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة خديجة، فكان يعرّفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويقول:

إنها كانت تغشانا في زمن خديجة(3).

3 - أخرج الحاكم النيسابوري عن أنس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى بشيء يقول:

إذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة خديجة، إذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت تحب خديجة(4).

4 - أخرج مسلم في الصحيح عن عائشة قالت: ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا على خديجة وإني لم أدركها، قالت: وكان

ص:85


1- الشدق: جانب الفم؛ لسان العرب لابن منظور: ج 10، ص 172.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 18.
3- الإصابة لابن حجر، ج 8، ص 396.
4- المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري: ج 4، ص 175؛ الأدب المفرد للبخاري: باب، قول المعروف: ص 85.

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذبح الشاة فيقول:

أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة(1).

وفي رواية أنه قال:

إني لأحب حبيبها(2).

فهذه الأحاديث لتعطي صورة واضحة الملامح عن مقام خديجة عليها السلام ومنزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تدل على وضع منهاج عملي للحياة الأسرية يقوم على حفظ مقام الزوجة وتعميق حبها في نفوس ذويها ولاسيما أبناؤها كي يتأسسوا بتلك السنة النبوية فضلاً عن بيان ما لحسن التبعُّل من أثر كبير في نفس الزوج سواء أكانت المرأة حية أم ميتة.

فضلاً عن إظهار صاحب الرسالة المحمدية للمرأة الصالحة في المجتمع وتخليد ذكراها، وهو ما لم يلاحظ في الأمم التي سبقت الإسلام أو التي تدعي التمدن أو التحضر في الوقت المعاصر.

بقي أن نقول: إن المرأة الصالحة لا تحظى فقط باحترام زوجها وحبه لها، وأنما تحظى برضا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولأن أم المؤمنين خديجة عليها السلام لها مقام خاص فيما بين النساء، ومنزلة محمودة عند الله تعالى، فقد حظيت بمنازل لم تحظَ بها امرأة من العالمين سوى ابنتها فاطمة ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم عليهن السلام وهو ما سنتناوله في المباحث اللاحقة.

ص:86


1- صحيح مسلم: باب في فضل عائشة: ج 7، ص 134.
2- الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 103.

الفصل السابع: منزلة خديجة فى القرآن و السنة

اشارة

ص:87

ص:88

حينما يكون الإنسان بهذا المستوى من الرقي النفسي والصفاء الذاتي فإن ذلك سيترجم إلى أفعال ملموسة ومحسوسة لدى الناس كما يحس أحدهم بلون الورد وشذى عطره كما أنه في نفس الوقت يكون مصداقاً لما يحتويه الإنسان من صلاح؛ بل يرى بأنه كيان صالح لا يصدر عنه إلا الخير، حاله كالشجرة المثمرة لا تخرج إلا ما ينفع الناس، وفي المقابل لا تأخذ شيئاً سوى أكواب من الماء.

وهكذا عباد الله المخلصين:

(كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها)1 .

وحينما يستقر بنا المقام عند أعتاب هذا الصرح العظيم، أي السيدة خديجة عليها السلام فإننا سنجد لهذا الصلاح الذي غمرها فخلصت كما يخلص الذهب المصفى، منازل ودرجات كأنها أوسمة افتخار وشهادة اعتزاز لهذا الجهاد في الله تعالى.

فكانت رحلتنا في أروقة هذا الصرح العظيم قد تضمنت التوقف عند بعض المناهل الروية لغرض التزود لهذا السير في معرفة هذا السِفر الخالد.

ص:89

المبحث الأول: منزلتها عند الله تعالى

اشارة

يمكن لنا أن نقف على منزلتها عند الله تعالى بما يتناسب مع هذا المبحث من خلال مسألتين، إحداها: في مباهاة الله بها ملائكته، والأخرى: إطعامها من ثمار الجنة وهما مسألتان تدلان على حقيقة يقينها بالله ودرجة عبوديتها لربها، أي: منزلتها في سلم التوحيد ومراتبه.

المسألة الأولى: إن الله تعالى يباهي بها ملائكته عليهم السلام

لم يكد يخفى على القارئ الكريم المنزلة التي لخديجة عند الله تعالى وقد أخلصت لربها وجاهدت في سبيله وناصرت رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وواسته بنفسها ومالها فنالت عند ربها منزلة خاصة حتى نقل جبرائيل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلاماً من الله عليها، وسلامه هو أيضا إليها؛ كما ينص البخاري(1).

إلا أنّ من الأحاديث ما يكشف عن بيان آخر عن سمو هذه المنزلة، وهو ما رواه علي بن يوسف الحلي في العدد القوية فقال:

(بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جالس بالأبطح ومعه عمار بن ياسر، والمنذر بن الضحضاح وأبو بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، إذ هبط عليه جبرئيل عليه السلام في صورته العظمى، قد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب، فناداه:

ص:90


1- صحيح البخاري:

يا محمد العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحا.

فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لها محبا وبها وامقا.

قال:

فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوما، يصوم النهار ويقوم الليل، حتى إذا كان في آخر أيامه تلك، بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر، وقال قل لها:

يا خديجة لا تظني أن انقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكن ربي عز وجل أمرني بذلك لينفذ أمره، فلا تظني يا خديجة إلا خيرا، فإن الله عز وجل ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا، فإذا جنك الليل فأجيفي الباب، وخذي مضجعك من فراشك، فإني في منزل فاطمة بنت أسد.

فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مرارا لفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

فهذه الرواية تظهر جانباً من المنزلة والمقام الذي بلغته خديجة عليها السلام عند الله تعالى إذ كانت ممن يباهي بها الملائكة.

ص:91


1- العدد القوية: 221؛ الدر النظيم لابن أبي حاتم: ص 452؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 16، ص 78.

والمباهاة: هي المفاخرة، وتباهوا أي: تفاخروا(1).

أما لماذا يباهي بها الملائكة عليهم السلام ؟

فلأنها قدّمت من الطاعة لله حينما ابتليت بما لم تستطع عليه الملائكة عليهم السلام، وذلك لأن الملائكة مجبولون على الطاعة ومرفوع عنهم الابتلاء؛ ولذا هم لا يعصون الله مطلقا.

قال تعالى في معرض بيانه لسجود الملائكة لآدم عليه السلام حينما استفهموا من ربهم سبب تفضيل هذا الخلق الجديد عليهم أن قالوا:

(تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ )2 .

وفي بيانه عزّ شأنه لطاعتهم التي فطروا عليها ان قال سبحانه:

(عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )3 .

ولذا:

فإن خديجة حينما تعطى كل أسباب الدنيا من المال، والثراء، والجمال، والحسب، وشرافة النسب، وتوقد الفهم، وحسن المنطق، فتسخره في طاعة

ص:92


1- الصحاح للجوهري: ج 6، ص 2288.

ربها، وتهاجر إليه وإلى رسوله، هذه الهجرة التي وصفها القرآن بقوله:

(وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)1 .

فخديجة لم يخيرها ربها بين الدنيا والآخرة كما حصل لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعائشة وحفصة وأم سلمة وغيرهن وإنما أعطاها أسباب الدنيا لكنها هجرتها وأرادت الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا لأجل جنته وإنما حبّاً به وبرسوله:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ )2 .

وخديجة قادها حبها لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدرجة التي يباهي الله بها ملائكته.

وذلك من خلال بلوغها رتبة عالية من مراتب التوحيد حينما كان حسن ظنها بالله قد قادها إلى التسليم المطلق بما اختار لرسوله الأكرم من تكاليف، بمعنى: لم تساورها الشكوك في هجران رسول الله لها وانقطاعه عنها خلال هذه المدّة الزمنية البالغة أربعين يوماً، كما لم تساورها الشكوك في صدق اعتقادها بنبوته وإيمانها بقوله وانقيادها لأمره، ولا يخفى على أهل المعرفة كم تحتاج هذه المنازل من جهاد مع النفس واجتهاد على الصبر والأنس بما قدر الله سبحانه، فكيف لا يباهي الله بها ملائكته جلت قدرته.

ص:93

المسألة الثانية: إطعامها من ثمار الجنة

ومن الأحاديث أيضا ما يظهر جانباً آخر من البيان لهذه المنزلة، وهو إطعامها عليها السلام من ثمار الجنة، كما يروي الحافظ الطبراني والهيثمي عن عائشة أنها قالت: (أطعم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خديجة من عنب الجنة)(1).

وهذه المكافأة والجائزة التي نالتها السيدة خديجة في الحياة الدنيا إنما هي لغرض منحها رتبة الجواز في الدخول إلى الجنة، وهي في الحياة الدنيا، وهذا يتطلب مقدمات خاصة حتى يصل الإنسان مستوى من النقاء الصحائفي والصدق اليقيني حتى ينال هذه الجائزة وهي تحقق الفوز في الآخرة قبل الانتقال إليها.

بمعنى: لم يبق في تكوين خديجة وشخصها الإنساني عارض يحول دون التقاء العنصر الأخروي المخلوق من عالم الأمر وحلوله فيها وهي في عالم الملكوت والشهادة عالم المادة.

بمعنى آخر أنها تخلصت من كل الكدورات التي تعلق بالإنسان حينما يمر بتلك العوالم التكوينية من عالم الأصلاب إلى عالم الأرحام إلى عالم الدنيا لتتحول بفعل جهادها وطاعتها وصدق يقينها بالله إلى عنصر ملكوتي يتمازج مع ثمار الجنة.

من هنا: يظهر معنى:(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ )2 .

أي الذين خلصوا من الذنوب فكانوا كأهل الجنة وهم في الدنيا.

ص:94


1- المعجم الأوسط للطبراني: ج 6، ص 168؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 225؛ السيرة الحلبية: ج 2، ص 422؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 2، ص 8.

ولقد ضرب الله تعالى مثلاً لعباده في مريم بنت عمران حينما جاهدت وأخلصت وخلصت لربها حتى أصبحت مؤهّلة لرتبة الاندماج مع جنس الجنة أي أصبح هناك تماثل في التكوين. ولذا:

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ )1 .

والعجيب في التكاليف الابتلائية في حياة الأنبياء عليهم السلام أن يأخذ زكريا إشارته وضالّته من خلوص مريم وانقطاعها إلى الله تعالى:

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ )2 .

(رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ )3 .

ولأن مريم عليها السلام لم يكن لها من العوالق الدنيوية، ما يشغل القلب ويحزنه كالولد والزوج أصبحت أسبق في العناية الإلهية في تحقق المحال وهو إطعامها من ثمار الشتاء في فصل الصيف ومن ثمار الصيف في فصل الشتاء، وهذا فضلاً عن أن هذه الثمار من الجنة فلا قيمة للوقت حينها إلا بمقدار إقرار عين المؤمن وإكرامه.

وعليه: لا يكون انقطاع مريم عليها السلام مختلفاً عن انقطاع خديجة إلى ربها وجهادها في سبيله، وما أوتيت فاطمة (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) لأعظم لو كانوا يعقلون.

ص:95

المبحث الثاني: منزلتها في القرآن

اشارة

يعرض القرآن الكريم بعض الآيات التي تشير إلى مكانة خديجة عليها السلام من خلال بيان شؤون النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما السنين الأولى لسير الرسالة المحمدية.

والقرآن الكريم حينما يعرض بيان منزلة عباد الله المخلصين يعرضهم للمسلم بأسلوبين، إما بالذكر الصريح لهؤلاء كالأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وإما بالكناية من خلال الإشارة إلى أعمالهم فيكون حينها العمل هو الدال والمعرّف لهؤلاء العباد.

كما أن القرآن في عرضه كناية للأشخاص لم يقتصر على عباد الله المخلصين وإنما عباد الله الظالمين كما هو حال الأقوام التي بعثت فيها الأنبياء عليهم السلام؛ إذ إننا نرى اختصاص العمل بجميع أفراد الامة فيعاقب أصحاب هذا العمل، ويكرم أصحاب عمل آخرين.

قال تعالى:

(وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ )1 .

فكان عرض القرآن لقوم موسى من خلال اقترافهم عبادة الشرك عرض

ص:96

كناية ولم يصرح بأسمائهم في حين في موضع آخر يصرح بصاحب الجرم فيقول سبحانه وتعالى:

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)1 .

وكذا عرضه لأفعال الأنبياء عليهم السلام، فعلى سبيل الاستشهاد قال سبحانه:

(وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ )2 .

وهو كناية عن نبي الله يونس عليه السلام، أو قوله تعالى في بيان علم نبيه الخضر عليه السلام:

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً)3 .

أو قوله تعالى في الإشارة إلى وزير سليمان عليهما السلام في بيانه سبحانه

ص:97

لعلم يوشع بن نون فقال عز وجل:

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ )1 .

فكان البيان كناية، ووزير سليمان عليه السلام هو المخصوص بالإشارة دون التصريح بالاسم؛ والشواهد على ذلك كثيرة جداً.

أما في خصوص عرض القرآن الكريم لبعض النساء فإنه عرض ذكرهن بنفس الأسلوبين، صراحة وكناية.

وفي ذلك يقول ابن شهر آشوب رحمه الله: (واعلم أن الله تعالى ذكر أثنتي عشرة امرأة في القرآن على وجه الكناية:

1 -(اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ )2 .

في: حواء.

2 -(ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)3 .

في: امرأة نوح وامرأة لوط .

3 -(إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ )4 .

في: امرأة فرعون.

ص:98

4 -(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ )1 .

في: امرأة إبراهيم.

5 -(وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ )2 .

في: زوجة زكريا.

6 -(الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ )3 .

في: زليخا إمرأة عزيز مصر.

7 -(, وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ )4 .

في: امرأة أيوب.

8 -(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ )5 .

في: بلقيس.

9 -(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ )6 .

في: أبنة نبي الله شعيب.

ص:99

10 -(وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً)1 .

في: حفصة وعائشة.

11 -(وَ وَجَدَكَ عائِلاً)2 .

في: خديجة عليها السلام.

12 -(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ )3 .

في: فاطمة عليها السلام.

ثم ذكرهن بخصال:

1 - التوبة من حواء.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)4 .

2 - والشوق من آسية.

(إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ )5 .

3 - والضيافة من سارة.

(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ )6 .

ص:100

4 - والعقل من بلقيس.

(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً )1 .

5 - والحياء من امرأة موسى.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي)2 .

6 - والإحسان من خديجة.

(وَ وَجَدَكَ عائِلاً)3 .

7 - والنصيحة لعائشة وحفصة.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ )4 .

8 - والعصمة من فاطمة.

(وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ )5 .

ص:101

وان الله تعالى أعطى عشرة أشياء لعشر من النساء:

التوبة لحوا زوجة آدم، والجمال لسارة زوجة إبراهيم، والحفاظ لرحيمة زوجة أيوب، والحرمة لآسية زوجة فرعون، والحكمة لزليخا زوجة يوسف، والعقل لبلقيس زوجة سليمان، والصبر لبرحانة أم موسى، والصفوة لمريم أم عيسى، والرضى لخديجة زوجة المصطفى، والعلم لفاطمة زوجة المرتضى.

وخوفت أربعة من الصالحات.

1 - آسية: عذبت بأنواع العذاب، فكانت تقول:

(إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ )1 .

2 - ومريم: خافت من الناس وهربت.

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي)2 .

وخديجة عليها السلام: عذلها النساء في النبي فهجرنها.

4 - وفاطمة عذبت بعد أبيها، فقالت فاطمة عليها السلام:

أما كان أبي رسول الله ؟ ألا يحفظ في ولده ؟ ما أسرع ما أخذتم واعجل ما نكصتم)(1).

فاللاتي خوّفن من الصالحات في هذه الامة خديجة بنت خويلد، وابنتها

ص:102


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر المازندراني: ج 3، ص 102، (بتصرف بسيط )؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 35.

فاطمة عليهما السلام التي خوفت وروعت بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.

وعليه:

حينما نأتي إلى ذكر الآيات الكريمة التي أشارت إلى خديجة الكبرى عليها السلام فإنها ذكرتها بأسلوب الكناية لا التصريح، وهي كالآتي:

المسألة الأولى: آية الإغناء

قال تعالى:

(أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى )1 .

تناولنا فيما سبق في معرض حديثنا عن مال خديجة عليها السلام اختصاص هذه الآية المباركة:

(وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى )2 .

بمال خديجة عليها السلام وكيف إن الله تعالى أغناه بمال خديجة عليها السلام)(1).

ص:103


1- أنظر في اختصاص هذه الآية بمال خديجة عليها السلام وأن الله تعالى أغناه بمالها؛ الإفصاح للشيخ المفيد: ص 212؛ الخرائج والجرائح للراوندي: ج 3، ص 1045؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 3، ص 295؛ تفسير السمعاني: ج 3، ص 526؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج 16، ص 492؛ تفسير السمرقندي: ج 3، ص 568؛ تفسير السمعاني: ج 3، ص 526؛ تفسير البغوي: ج 4، ص 499؛ تفسير القرطبي: ج 20، ص 99؛ تفسير الآلوسي: ج 30، ص 162؛ المبسوط للسرخسي: ج 3، ص 11.

إلاّ أنني أضيف في هذا المقام ما رواه المجلسي رحمه الله في بيان كيفية انتقال أموال خديجة عليها السلام إلى ملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فهذه الرواية وإن صرّح المحدث المجلسي رحمه الله في أنها من المرسلات إلاّ أنها لتقرب الصورة في كيفية انتقال هذه الأموال ولعلها إلى تحديد وقت انتقالها أقرب.

قال رحمه الله: (ثم إن خديجة قالت لعمها ورقة: خذ هذه الأموال وسر بها إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقل له: إنّ هذه جميعها هدية له وهي ملكه يتصرف فيها كيف شاء، وقل له: إن مالي وعبيدي وجميع ما أملك وما هو تحت يدي فقد وهبته لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إجلالاً وإعظاما له، فوقف ورقة بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته:

يا معاشر العرب إن خديجة تشهدكم على أنها قد وهبت نفسها ومالها وعبيدها وخدمها وجميع ما ملكت يمينها والمواشي والصداق والهدايا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وجميع ما بذل لها مقبول منه وهو هدية منها إليه إجلالا له وإعظاما ورغبة فيه، فكونوا عليها من الشاهدين)(1).

ص:104


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 16، ص 71.
المسألة الثانية: آية الاصطفاء على النساء

قال تعالى:

(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ )1 .

من الآيات الكريمة التي تحدثت كناية وصراحة في آن واحد هي آية الاصطفاء والتطهير، التي وردت في بيان الله تعالى لسيرة زكريا ومريم عليهما السلام؛ فهذه الآية تتحدث صراحة عن مريم عليها السلام وتظهر مقامها عند الله تعالى ومنزلتها لديه، وهي في نفس الوقت تظهر منزلة خديجة عليها السلام ولكن كناية.

والدليل على ذلك:

قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة(1).

قال النووي وابن حجر: (إن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه)(2).

وبمعنى آخر: فالآية تتحدث عن بلوغ كلٍّ منهما رتبة الاصطفاء والتطهير

ص:105


1- صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق، ج 4، ص 138؛ صحيح مسلم: باب فضائل خديجة، ج 7، ص 132.
2- شرح صحيح مسلم للنووي: ج 15، ص 198؛ فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 101.

وإن كان التصريح باسم مريم عليها السلام بلحاظ أن البيان القرآني كان يسير بنسق تقديم ما مرت به مريم من مراحل التكامل اليقيني حتى بلغت تلك الدرجة التي نص عليها القرآن.

ومن ثَمّ : يقدم القرآن لنا هذا النهج لكي يستدل به على تشخيص المصْطَفَيات من النساء في الحياة الدنيا فكيف إذا أقرن هذا البيان القرآني ببيانٍ من المعصوم في تشخيص أولئك النسوة كخديجة وفاطمة عليهما السلام.

المسألة الثالثة: آية الأزواج والذرية

قال تعالى:

(وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً)1 .

وهذه الآية هي مما تحدثت كناية عن خديجة وفاطمة صلوات الله عليهما، فأما في اختصاصها بخديجة، فقد أخرج الحاكم الحسكاني عن أبي سعيد في قوله تعالى: (هب لنا) الآية قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قلت:

يا جبرئيل من أزواجنا؟

قال:

خديجة.

قلت:

ومن ذريتنا؟

ص:106

قال:

الحسن والحسين عليهما السلام.

قلت:

واجعلنا للمتقين إماما؟

قال:

علي عليه السلام(1).

وأما اختصاصها بفاطمة وعلي عليهما السلام فمما يدل عليه: ما رواه ابن شهر آشوب عن سعيد بن جبير، أنه قال: (نزلت هذه الآية والله خاصة في أمير المؤمنين عليه السلام).

قال: كان أكثر دعائه يقول: ربنا هب لنا من أزواجنا، يعني فاطمة وذرياتنا، يعني الحسن والحسين قرّة أعين.

قال أمير المؤمنين عليه السلام:

والله ما سألت ربي ولدا نضير الوجه ولا سألت ولدا حسن القامة ولكن سألت ربي ولدا مطيعين لله خائفين وجلين منه حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع لله قرت به عيني.

قال:

(وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) .

ص:107


1- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 539؛ شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي: ج 14، ص 637.

قال:

نقتدي بمن قبلنا من المتقين(1) فيقتدي المتقون بنا من بعدنا.

وقال الله تعالى:

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا)2 .

يعني علي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

(وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً (75)

خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً)3

4 .

ومما يدل عليه أيضا: ما رواه البرقي في بيان دلالة هذه الآية واختصاصها بأهل البيت عليهم السلام (عن علي بن عقبة، عن أبيه، عن سليمان بن خالد قال: كنت في محمل أقرأ إذ ناداني أبو عبد الله عليه السلام:

اقرأ يا سليمان وأنا في هذه الآيات التي في آخر (تبارك).

ص:108


1- والمتقون الذين يقتدي بهم أمير المؤمنين عليه السلام هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون هو إمام المتقين وعلي من بعده صلى الله عليه وآله وسلم، أو أنهما، أي النبي وعلي إمام للمتقين لكونهما من نفس واحدة لقوله تعالى في آية المباهلة: (وأنفسنا) أي علي بن أبي طالب عليه السلام.

(وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ )1 .

فقال عليه السلام:

هذه فينا أما والله لقد وعظنا وهو يعلم أنا لا نزني، إقرأ يا سليمان.

فقرأت حتى انتهيت إلى قوله:

(إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ )2 .

قال عليه السلام:

قف، هذه فيكم، إنه يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عز وجل فيكون هو الذي يلي حسابه فيوقفه على سيئاته شيئا فشيئا، فيقول: عملت كذا وكذا، في يوم كذا، في ساعة كذا، فيقول: أعرف يا رب قال: حتى يوقفه على سيئاته كلها كل ذلك يقول، أعرف، فيقول: سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، أبدلوها لعبدي حسنات، قال: فترفع صحيفته للناس، فيقولون: سبحانه الله، أما كانت لهذا العبد ولا سيئة واحدة فهو قول الله عز وجل.

ص:109

(فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) .

قال:

ثم قرأت حتى انتهيت إلى قوله:

(وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)1 .

فقال عليه السلام:

هذه فينا.

ثم قرأت:

(وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً)2 .

فقال عليه السلام:

هذه فيكم إذا ذكرتم فضلنا لم تشكوا.

ثم قرأت:

(وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ

ص:110

فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)1 .

فقال عليه السلام:

هذه فينا)(1).

المسألة الرابعة: آية الاستواء

قال تعالى:

(وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لاَ الْأَمْواتُ إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)3 .

روى ابن شهر آشوب عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: (وما يستوي الأعمى: أبو جهل، والبصير: أمير المؤمنين، ولا الظلمات: أبو جهل، ولا النور: أمير المؤمنين ولا الظل يعني ظل أمير المؤمنين عليه السلام في الجنة، ولا الحرور: يعني جهنم، ثم جمعهم جميعاً فقال: (وما يستوي الأحياء): علي وحمزة، وجعفر، والحسن والحسين، وفاطمة، وخديجة. (ولا الأموات) كفار مكة)(2).

ص:111


1- المحاسن للبرقي: ج 1، ص 170؛ شرح الأخبار للقاضي المغربي: ج 3، ص 45؛ تفسير جوامع الجامع للطبرسي: ج 2، ص 164.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 2، ص 278؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 24، ص 372؛ نهج الإيمان لابن جبر: ص 567؛ تأويل الآيات لشرف الدين الحسيني: ج 2، ص 480.
المسألة الخامسة: آية التسنيم

قال الله تعالى:

(وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ )1 .

هذه الآية المباركة من الآيات الخاصة بأهل البيت عليهم السلام، وقد روى الحاكم الحسكاني بسنده في تفسيره عن حصين بن مخارق، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر، عن أبيه علي بن الحسين عليهم السلام عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى:

(وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ) .

قال: هو أشرف شراب الجنة يشربه آل محمد، وهم المقربون السابقون: رسول الله وعلي بن أبي طالب وخديجة وذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان(1).

وسمي بالتسنيم: لأنه يجري فوق الغرف والقصور؛ لأن التسنيم ضد التسطيح(2).

وقال مقاتل: (يسمى تسنيماً لأنه يتسنم، فينصب عليهم انصبابا من فوقهم في غرفهم ومنازلهم يجري من جنة عدن إلى أهل الجنان)(3).

ص:112


1- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 2، ص 426؛ فضائل أمير المؤمنين لابن عقدة الكوفي: ص 218؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 8، ص 150؛
2- القاموس الفقهي للدكتور سعدي أبو حبيب: ص 183.
3- عمدة القاري للعيني: ج 19، ص 283.

أقول: لا يصح أن يجري هذا الماء إلى جميع أهل الجنان؛ وذلك لاختصاص الآية بلفظ (المقربون)؛ وليس جميع أهل الجنة من المقربين؛ إذ يتساوون عندها مع محمد وآل محمد، ومع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وهذا خلاف القرآن.

إذن: هي عين خاصة للمقربين وهم رسول الله وعترته بدلالة سورة الدهر التي نزلت فيهم والتي اشتملت على أفضل صفات الجنة ومراتبها.

فضلاً عن أن الآية الكريمة تصرح بالتنافس في السعي والوصول إلى هذه المراتب، فلو كان جميع أهل الجنة برتبة واحدة وفي مقام واحد لسقطت هذه الدعوة؛ إذ تصبح تحصيل بلا محصل؛ في حين أن الله تعالى وعده صدق، وقوله حق.

ويدل عليه أيضا: قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث يقول:

أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الحوض ومعنا عترتنا، فمن أرادنا فليأخذ بقولنا وليعمل بأعمالنا فإنا أهل بيت لنا شفاعة فتنافسوا في لقائنا على الحوض فإنا نذود عنه أعداءنا ونسقي منه أولياءنا، ومن شرب منه لم يظمأ أبداً وحوضنا مترع فيه مثعبان(1)) أبيضان ينصبان من الجنة أحدهما من تسنيم والآخر من معين، على حافتيه الزعفران حصاه الدر والياقوت وهو الكوثر(2).

ص:113


1- المثعب: مسيل الماء.
2- تفسير فرات الكوفي: ص 367؛ الخصال للصدوق رحمه الله: ص 624؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 10، ص 103.
المسألة السادسة: آية السابقون

قال تعالى:

(وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ )1 .

ومن الآيات الكريمة التي اختصت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب وخديجة عليهما السلام هي هذه الآيات التي تشير إلى إحدى الصفات التي امتاز بها علي وخديجة عليهما السلام، وهي صفة السبق إلى الله تعالى ورسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

قال علي بن إبراهيم القمي (المتوفى 329 ه ) في تفسيره:

(وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) .

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وعلي بن أبي طالب وذرياتهم عليهم السلام تلحق بهم(1).

وقد لا يخفى على القارئ المتتبع أن أسبقية الإمام علي عليه السلام وخديجة إلى الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم كان مما امتازا به على سائر المسلمين؛ وفيه يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام:

ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه

ص:114


1- تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2، ص 411؛ تفسير الصافي للفيض الكاشاني: ج 5، ص 302؛ تفسير نور الثقلين للحوزي: ج 5، ص 535.

وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة(1).

وقال عليه السلام:

أجبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحدي إلى ما دعا إليه مسرعا مطيعا موقنا لم يتخالجني في ذلك شك، فمكثنا بذلك ثلاث حجج وما على وجه الأرض خلق يصلي أو يشهد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما آتاه غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله وقد فعل(2).

فهذه الروايات تدل على سبق علي وخديجة عليهما السلام إلى الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لم يصلِّ معهما أحد خلال ثلاث سنوات، ولم يؤمن به غيرهما حتى مرت هذه السنين ثم جاء بعدهما من قدر الله له الهداية ووفق للالتحاق بهم كأبي ذر الغفاري وغيره رضي الله عنه.

كما تدل الرواية على تحديد الزمن الذي آمن به أبو طالب رضوان الله تعالى عليه حينما التحق بهم إنما كان بعد مرور هذه الفترة من الزمن أي بعد ثلاث سنوات من أسبقية ولده علي وخديجة عليهما السلام، ليكون بذلك ثالث من أسلم كما أثبتناه فيما سبق ضمن بحث مستقل(3).

ص:115


1- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام: ج 2، ص 157؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 14، ص 476.
2- الخصال للشيخ الصدوق: ص 366؛ الاختصاص للشيخ المفيد (رحمه الله): ص 165.
3- انظر كتاب: أبو طالب ثالث من أسلم للسيد نبيل الحسني تجد هذه الحقيقة ناصعة كالشمس.
المسألة السابعة: آية الاستغفار

قال تعالى:

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ )1 .

يروي المحدث المجلسي عن كتاب تأويل الآيات الظاهرات، عن محمد الحلبي قال: (قرأ أبو عبد الله عليه السلام:

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ )

وهم علي عليه السلام وأصحابه.

(وَ الْمُؤْمِناتِ ) .

وهن خديجة وصويحباتها)(1).

المسألة الثامنة: آية الاصطفاء على العالمين

قال تعالى:

(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ )3 .

ص:116


1- تأويل الآيات الظاهرات لشرف الدين الحسيني: ج 2، ص 586.

الاصطفاء في اللغة: هو الاختيار، افتعال من الصفوة، ومنه النبي المصطفى، والأنبياء المصطفون، إذا اختاروا هذا بضم الفاء(1).

وبهذا يكون مراد الآية إن الله تعالى اختار من عباده على العالمين آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران، وهؤلاء ذرية بعضهم من بعض.

ومما لا شك فيه أن اختيارهم على العالمين كان لحكمة خاصة.

منها:

1 - أن آدم عليه السلام هو أبو البشر وبه بدأ الإنسان كإنسان رحلة التكريم والتفضيل على الخلائق ورحلة الابتلاء.

قال تعالى:

(وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)2 .

2 - إن الله أسجد له ملائكته لأنه خليفة الله في أرضه.

3 - أما نوح عليه السلام فبه بدأت المرحلة الجديدة من الحياة على الأرض بعد الطوفان، وهذا فضلاً عن الفترة التبليغية التي قضاها وهو يدعو الناس إلى التوحيد.

4 - أما آل عمران فمنهم كانت أنبياء بني إسرائيل الذين شغلوا السهم الأوفى في عدد الأنبياء فضلاً عما لاقوه من قومهم من الجهد والبلاء.

ص:117


1- كتاب العين للفراهيدي: ج 7، ص 163.

5 - أما آل إبراهيم عليهم السلام فبهم تختم النبوة، ومنهم خير خلق الله وسيد أنبيائه ورسله، هذا فضلا عن أن آل إبراهيم، هم الأئمة وفي ذريته جعلها الله تعالى، ولذا خصهم دون غيرهم من آل الأنبياء بالسلام.

فقال:

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ )1 .

ثم يجمعهم الله جميعاً تحت رتبة الاختيار والتفضيل والإنعام عليهم فيقول سبحانه:

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا)2 .

والعجيب في هذه الآية الكريمة هو أن الله تعالى يظهر فضله على من كان مع نوح في السفينة فكيف بمن جاهد في سبيله ونصر سيد أنبيائه ورسله صلى الله عليه وآله وسلم ؟

ولذا:

ليس غريبا أن نجد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يصرح باصطفاء خديجة عليها السلام وهي التي قد حازت كل هذه الفضائل، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم:

ص:118

إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة: آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم(1).

وهذا فضلاً عن كون خديجة عليها السلام هي (وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ ) إذ تتصل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجده قصي.

وقد روى فرات بن إبراهيم في تفسيره عن أبي مسلم الخولاني، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

يا عائشة، أوما علمت أن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران وعليا والحسن والحسين وحمزة وجعفر وخديجة على العالمين(2).

المسألة التاسعة: آية الأعراف

قال تعالى:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ )3 .

هذه الآية تندرج ضمن الآيات الخاصة بأهل البيت عليهم السلام، وقد

ص:119


1- مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه: ص 193؛ الدر المنثور للسيوطي، عن أنس بن مالك: ج 2، ص 23؛ تفسير الميزان للطباطبائي: ج 2، ص 23.
2- تفسير فرات الكوفي: ص 80؛ مستدرك سفينة البحار للشاهرودي: ج 3، ص 36.

أشارت جملة من الروايات إلى اختصاصها بهم، منها:

1 - ما أخرجه ثقة الإسلام الشيخ الكليني رحمه الله عن الهيثم بن واقد، عن مقرن، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال يا أمير المؤمنين:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ ) .

فقال عليه السلام: نحن على الأعراف، نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذي لا يعرف الله عز وجل إلا بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف يعرفنا الله عز وجل يوم القيامة على الصراط ، فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه.

إن الله تبارك وتعالى لو شاء لعرف العباد نفسه ولكن جعلنا أبوابه، وصراطه، وسبيله، والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا، أو فضل علينا غيرنا.

فإنهم (عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ )1 .

فلا سواء من اعتصم الناس به، ولا سواء حيث ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض، وذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمر ربها، لا نفاد لها ولا انقطاع(1).

2 - روى القاضي المغربي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إنه

ص:120


1- الكافي للشيخ الكليني: ج 1، ص 184، ح 9.

قال لعلي عليه السلام:

يا علي، أنت والأوصياء من ولدك أعراف الله بين الجنة والنار، لا يدخلها إلا من عرفكم وعرفتموه، ولا يدخل النار إلا من أنكركم وأنكرتموه.

ثم قال القاضي المغربي تعقيباً على هذا الحديث الشريف بقوله:

فهذا هو التأويل البين الصحيح الذي لا يجوز غيره، لا كما تأولت العامة أن أصحاب الأعراف رجال قصرت بهم أعمالهم عن الجنة أن يدخلوها، ولم يستوجبوا دخول النار فهم بين الجنة والنار، وما جعل الله عز وجل في الآخرة من دارين: دار الثواب، ودار العقاب)(1).

3 - وأخرج الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس في قوله عز وجل:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ )2 .

قال:

الأعراف موضع عال من الصراط عليه العباس، وحمزة، وعلي ابن أبي طالب، وجعفر ذو الجناحين، يعرفون محبيهم بياض الوجوه ومبغضيهم سواد الوجوه(2).

ص:121


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: ج 1، ص 25؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 31.
2- تفسير الثعلبي: ج 4، ص 237؛ تفسير القرطبي: ج 7، ص 212؛ تنبيه الغافلين لابن كرامة: ص 72؛ مطالب السؤول لابن طلحة: ص 105؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 303.

أما اختصاصها بخديجة عليها السلام فقد سُئِل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تعالى:

(وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ) .

قال عليه السلام:

سور بين الجنة والنار قائم عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي والحسن والحسين وفاطمة وخديجة عليهم السلام فينادون أين محبونا؟ أين شيعتنا؟

فيقبلون إليهم فيعرفونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وذلك قوله تعالى:

(يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ ) .

فيأخذون بأيديهم فيجوزون بهم الصراط ويدخلونهم الجنة(1).

بقي أن نقول:

أما لماذا نصت الآية على لفظ الرجال دون النساء فذلك لغلبة عدد الرجال الواقفين على الأعراف على النساء، فغلبت الكثرة هنا على القلة كما أن مخاطبته تعالى في كتابه العزيز ب :(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يشتمل على الرجال والنساء وإن كان اللفظ بصيغة المذكر.

ص:122


1- مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي: ص 53؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 24، ص 255.
المسألة العاشرة: آية التصوير

قال تعالى:

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ )1 .

روى ابن شهر آشوب عن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام في قوله تعالى:

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ) .

قال:

صور الله عز وجل علي بن أبي طالب في ظهر أبي طالب على صورة محمد، فكان علي بن أبي طالب أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الحسين بن علي أشبه الناس بفاطمة، وكنت أنا أشبه الناس بخديجة الكبرى عليهم السلام(1).

هذه الرواية الشريفة تكشف عن حقيقة عقائدية وهي أن أهل البيت عليهم السلام يحملون صفات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء كانت هذه الصفات مادية أي جسمية، أو صفات كمالية.

وحيث إن الرواية تتحدث عن الصورة فالمراد بها هاهنا شباهة الصورة الجسمية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الصورة التي

ص:123


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 170؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 24، ص 316؛ مستدرك سفينة البحار للشاهرودي: ج 6، ص 389.

تحدث عنها الإمام الحسن عليه السلام هي لا تتعارض مع الروايات القائلة بشباهة الحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

بل على العكس أنها تكشف عن حقيقة مهمة، وهي:

1 - أن الله تعالى جعل أهل البيت عليهم السلام جميعا أدلاء على رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بحيث لا يتوه عنهم تائه في أنهم دمه ولحمه صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - ابقاءً منه سبحانه لتمتع المسلمين بصورة الحبيب كي ينهل المشتاق من صورة من أحب وما ذاك إلا رحمة منه سبحانه بهذه الامة، فضلاً عن أن الله تعالى أحب أن لا يفقد الناس النظر إلى صورة حبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

3 - إن هذا التشابه منهم جميعاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان علي أشبه الناس برسول الله وكانت فاطمة أشبه الناس بأبيها وكان الحسن أشبه الناس بجده وكذا الحسين عليهم السلام.

إنّ هذا التشابه كان يحكي عن حقيقة خلقهم جميعاً من نور واحد فتشابهت صورهم لدى الناظر، ومثال ذلك كمن أضاء مجموعة من الشموع من نور شمعة واحدة فإن جميع صور أنوار هذه الشموع تظهر للرائي بصورة واحدة وكذا كان حال أهل البيت عليهم السلام في تشابه بعضهم ببعض.

ص:124

المبحث الثالث: منزلتها في السنة

اشارة

السُنة بضم الأول وفتح الثاني مع تشديد في إصطلاح المتشرعة على معنيين:

المعنى الأول

(قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره، بل المطلق من طريقته وهديه صلى الله عليه وآله وسلم، وعند الشيعة الامامية - التابعين لأئمة العترة - يضاف إلى الرسول قول أئمة العترة الطاهرة عليهم السلام وفعلهم وتقريرهم وهديهم، لأنهم أئمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون، وإنهم معصومون، لا يقولون ولا يعملون إلا على التنزيل والتأويل، وهم معدن علم الله وعلم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأما عند الجمهور وعامة المسلمين المعروفين بأهل السنة، يضاف إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سنة الصحابة وسيرتهم ولاسيما الخلفاء منهم، وأن لهم حق التشريع حسب المصالح المرسلة كما في مسألة المتعتين والطلاق البدعي، وتبديل حي على خير العمل ب (الصلاة خير من النوم)، وعشرات من نحو هذه التشريعات.

المعنى الثاني

العمل المستمر الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يواظب على العمل به، ويحضّ المؤمنين عليه، وهو دون الواجب وفوق الندب، كالختان والصلاة بالجماعة، وكتحية المسجد، وفعل النوافل المرتبة ولو يأتي

ص:125

بركعتين منها، والمراد من السنّة قبال الكتاب هو المعنى الأول)(1).

ومن هنا:

فإننا حينما نريد أن نتحدث عن منزلة خديجة عليها السلام في السُنة فنحن ملزمون بما روي عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته قولاً وفعلاً وهدياً التزاماً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض(2).

وإن الاحاطة بما لخديجة من منزلة في السُنة تحتاج إيضاً إلى معرفة أقوال علماء مدرسة أتباع أهل البيت عليهم السلام وأقوال علماء مدرسة أهل السنة والجماعة.

المسألة الأولى: منزلة خديجة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

ربما مرّ علينا ونحن نتناول جوانب حياة خديجة عليها السلام بعض الأحاديث الشريفة التي دلت على منزلتها وأظهرت مقامها عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا: قد تتكرر بعض الأحاديث النبوية في هذا الموضع، وقد مر ذكرها

ص:126


1- إجماعيات فقه الشيعة للمرجع الديني السيد إسماعيل المرعشي: ج 1، ص 15.
2- مسند أحمد، عن مسند أبي سعيد: ج 3، ص 14؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 148.

فيما سبق إلا أن ذلك لا يمنع من ذكرها مرة أخرى، وهي تحمل بعض الدلالات التي ربما لم نشر إليها سابقاً، فكانت هذه الأحاديث كالآتي:

الحديث الأول: حديث الخيرية
اشارة

روى البخاري عن الإمام علي عليه السلام أنه قال:

سمعت النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم يقول: خير نسائها مريم ابنة عمران وخير نسائها خديجة(1).

إن هذا الحديث الشريف يشير إلى نساء الدنيا تحديداً دون نساء الآخرة باعتبار أن الدنيا هي محل الابتلاء والاختبار ولذا: يجعل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم خير نساء أهل الدنيا مريم ابنة عمران وخديجة ابنة خويلد عليهما السلام.

ويدل على أمور أخرى، منها:

أولا: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل خديجة ومريم في منزلة واحدة من الخيرية

إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم جعل مريم وخديجة في منزلة واحدة من الخيرية عند الله تعالى؛ ولذا كرّر صلى الله عليه وآله وسلم لفظ (الخير) مرتين، فقال خير نسائها مريم ثم كرر ذلك فقال:

خير نسائها خديجة.

ص:127


1- صحيح البخاري، باب: بدء الخلق: ج 4، ص 138؛ العمدة لابن البطريق: ص 391؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 16. ص 7.
ثانيا: إن خديجة حازت على الكمالات التي عرضها القرآن الكريم لمريم عليها السلام

إنّ لمريم مجموعة من الكمالات التي عرضها القرآن هي نفسها كانت لخديجة عليها السلام وهي كالآتي:

ألف: انقطاع مريم عن قومها

وكذا كانت خديجة؛ فلقد انقطعت عن قومها وهجرتها نساء قريش.

باء: تفرغ مريم للعبادة

وكذا كانت خديجة؛ إذ لم تكن امرأة في مكة تعبد الله غيرها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

جيم: اختصاص مريم بسلام جبرائيل عليه السلام

وكذا خديجة فلقد خصها جبرائيل بالسلام.

دال: اختصاصها بالجهاد

فكان جهاد مريم بعد أن جاءت تحمل عيسى عليه السلام، وكان جهاد خديجة بعد أن آمنت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى رميت بالحجارة وهي في دارها.

هاء: إكرام مريم بثمار الجنة

وكذا أكرم الله خديجة بعنب الجنة.

ياء: إن مريم تحدث معها عيسى لحظة ولادته ليدفع عنها الخوف والحزن

وكذا كانت خديجة تحدثها فاطمة وهي في أحشائها فتسليها.

ص:128

ثالثا: إنّ خديجة فاقت في بعض المواطن مريم ابنة عمران عليهما السلام

بل لقد فاقت خديجة عليها السلام مريم بنت عمران في بعض المواطن ومنها:

ألف: إنّ مريم عليها السلام لما رجعت تحمل وليدها نبي الله عيسى عليه السلام التجأت إليه في دفع الأذى عنها.

ولذا:

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)1 .

وإن هذه الأزمة قد انتهت بكلام نبي الله عيسى عليه السلام:

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا)2 .

في حين كانت خديجة تدافع عن النبوة بنفسها ومالها، وهذا أفضل.

باء: إنّ مريم عليها السلام كان كلما يمر عليها الوقت كانت تجد الأمن والأمان وهذا يخفف جهد البلاء عليها، في حين كانت خديجة كلما يمر بها الوقت كان يشتد عليها الجهد والابتلاء حتى توفيت خديجة بعد أن أنهكها الجوع والمعاناة في شعب أبي طالب عليه السلام نتيجة للحصار الذي فرضه طواغيت قريش.

ولقد قال تعالى:

ص:129

(وَ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)1 .

جيم: كانت مريم عليها السلام تلقى من حيث كونها في مقام الوالدية كل بر من نبي الله عيسى عليه السلام، قال تعالى:

(وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا)2 .

بمعنى أن المبتلى هنا نبي الله عيسى عليه السلام.

في حين كانت خديجة عليها السلام هي المبتلاة في موقع حسن التبعل وما يفرضه من جهاد، فضلاً عما يفرضه الارتباط بسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم على الزوجة من تكاليف شرعية كما دل قوله تعالى:

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ)3 .

وكما هو ثابت في النصوص الأخرى، وهذا أفضل عند الله تعالى.

دال: إن مريم عليها السلام لم يظلمها المسيحيون في حين أن خديجة عليها السلام ظلمها المسلمون الذين قتلوا ابنتها فاطمة عليها السلام وأحفادها الحسن والحسين عليهما السلام وذريتهما وساقوا بنات فاطمة زينب وأم كلثوم وبنات الإمام الحسين سكينة ورقية من كربلاء إلى الشام، وهم يقادون كما تقاد نساء الترك والديلم، وغير ذلك مما فضلت به خديجة ابنة خويلد عليها السلام؛ وما أوتيت ابنتها فاطمة عليها السلام لأعظم.

ص:130

الحديث الثاني: حديث التفضيل

روى ابن حجر العسقلاني عن البزار والطبراني بإسناد حسن من حديث عمار بن ياسر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين(1).

والحديث يكشف بل ينص على أفضلية خديجة عليها السلام على جميع المسلمات بما فيهن أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم ما خلا بضعته فاطمة عليها السلام ولا تعارض بين النصوص الدالة على أفضلية فاطمة على جميع نساء العالمين. إذ إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما أشار إلى أفضلية خديجة كان ناظراً إلى أفضلية مريم حسبما نطقت به الآيات المباركة وهذا يكشف عن مناسبة الحديث النبوي، أي إنه أشار إلى أفضلية خديجة بعد نزول الوحي بتلك الآيات، فأراد أن يحفظ لخديجة مقامها في الامة فلا يتبادر إلى ذهن المسلم حينما نزلت تلك الآيات بأنها تقول بتفضيل مريم على خديجة عليها السلام، ولذا قال:

«لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين».

فكان الحديث قد أزال اللبس عن أذهان المسلمين في تفضيل مريم على نساء المسلمين أو قد يتصور البعض أن ليس في الامة امرأة لها من الفضل عند الله تعالى ما لمريم فكان قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قطع الطريق

ص:131


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر: ج 7، ص 101؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج 10، ص 265؛ تفسير التبيان للشيخ الطوسي: ج 2، ص 456.

على هذا الوهم وبدوه بقوله في تفضيل خديجة إلا أن هذه الأفضلية مقيدة هنا بنساء الامة، أما أفضلية فاطمة فمطلقة، ومما يدل عليه:

إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حينما تحدث عن منزلة الحسن والحسين فقال:

إن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة(1).

أردفه: ببيان أزال اللبس عن أذهان المسلمين بأن منزلة علي عليه السلام محفوظة وإن لم يرد ذكرها في هذا القول.

ولذا: عاد صلى الله عليه وآله وسلم فقال وهو يبدد هذا اللبس عن بعض الأذهان:

وأبوهما خير منهما(2).

وهنا: وإن كان الحديث السابق قد أشار إلى أفضلية خديجة على نساء الامة إلا أن ذلك لم يكن ليتعارض مع كون ابنتها فاطمة أفضل منها عند الله تعالى لصدور جملة من الأحاديث الشريفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم وهي تظهر هذه المنزلة وتخص هذه الأفضلية للبضعة النبوية صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

ويدل عليه الحديث الآتي:

ص:132


1- ذخائر العقبى للطبري: ص 129؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 2، ص 181، ح 598؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 13، ص 208؛ مسند زيد بن علي: ص 461.
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: ج 1، ص 37؛ عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق: ج 1، ص 36، ح 56.
الحديث الثالث: حديث أفضلية خديجة في الجنة

روى أحمد بن حنبل في المسند عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض أربعة خطوط ، قال:

تدرون ما هذا؟.

قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران(1).

هذا الحديث الشريف له دلالات كثيرة منها:

1 - استخدام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوسائل التعليمية في تثبيت الحقائق في أذهان المسلمين؛ كيما لا تذهب بهم الأهواء أو الآراء عن الثوابت الإسلامية.

ولذا:

نجده هنا مثلاً استخدم الخطوط على الأرض كوسيلة لإرشادهم إلى حفظ عقيدتهم فيما يتعلق بالعنصر النسائي الذي سيفرض عليهم الاختبار والتمحيص الإلهي مع هذه الرموز النسائية كأزواجه وابنته صلوات الله عليها، جملة من المسائل الابتلائية والتكاليف الشرعية.

2 - اعتماده الأسلوب التعليمي في وضع الخطوط على الأرض يراد منه تثبيت حقيقة مفادها أن هذه النسوة قد انحصرت فيهن الأفضلية.

ص:133


1- مسند أحمد بن حنبل، من مسند عبد الله بن عباس: ج 1، ص 293؛ فضائل الصحابة، النسائي: ص 74.

3 - إنّ نصف عدد هؤلاء النسوة كان من أمته صلى الله عليه وآله وسلم وهذا يدل على أفضلية نساء هذه الامة، على بقية الأمم.

4 - إنّ المثل الذي ضربه الله تعالى للمؤمنين في آسية والاصطفاء في مريم قد جمعته كل من خديجة وفاطمة عليهما السلام بمقتضى قوله تعالى:

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ )1 .

فكان إحراز خديجة وفاطمة لما أحرزته مريم وآسية من مصاديق هذه الآية بل تقتضي الزيادة.

5 - حصره صلى الله عليه وآله وسلم التفضيل في نساء الجنة وليس في نساء الدنيا يكشف عن خلاصة هذه النخبة من بين نساء جميع الأمم منذ أن قدر الله تعالى التكاليف الشرعية على الإنسان؛ لأن الجنة خلقت للخُلّص من بني آدم.

ويدل عليه الحديث الآتي:

الحديث الرابع: خيرية خديجة على نساء العالمين
اشارة

أخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه على صحيح الشيخين - البخاري ومسلم - قائلا: تفرد مسلم بإخراج حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نساء العالمين أربع(1).

والحديث له دلالات منها:

ص:134


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 154.
أولا: حذف فضائل خديجة من صحيح مسلم

قول الحاكم: (تفرد مسلم بإخراج حديث أبي موسى) وساق الحديث دليل على اتباع أهل الضلال المعادين لأهل البيت عليهم السلام حذف الأحاديث الشريفة التي تتحدث عن مناقب أهل البيت عليهم السلام من صحيح مسلم؛ إذ تخلو الطبعات المعاصرة لصحيح مسلم من هذا الحديث، وهذا دليل على اعتماد من يتولى طباعة هذه الصحاح منهج التحريف والتزيف.

ويدل على عدم المصداقية فيما يتم نشره منها ولاسيما أنها لم تعرض على التحقيق والمقابلة مع النسخ القديمة التي اطلع عليها المعاصرون للبخاري ومسلم أو الذين أدركوا هذه النسخ الخطية الأم، أو التي عليها ختم المصنف.

ومما يدل على صحة هذا الحديث إخراج الحفاظ الذين أدركوا مسلماً أو الذين خلفوه لهذا الحديث فكان منهم:

ألف: الحافظ الضحاك (المتوفى 287 ه )

فقد أخرج الحديث عن أبي جعفر الرازي عن ثابت بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نساء العالمين مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم(1).

ص:135


1- الآحاد والمثاني: ج 5، ص 364.

باء: الحافظ ابن حبان (المتوفى 345 ه )

وقد أخرج الحديث عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآسية امرأة فرعون(1).

جيم: الحافظ الطبراني (المتوفى 360 ه )

وقد أخرج الحديث عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نساء العالمين مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم(2).

ثانيا: دلالة الخيرية والأفضلية في الأحاديث النبوية الشريفة

إنّ الفرق بين الخيرية والأفضلية التي اشتملت عليها الأحاديث النبوية الشريفة هو أنّ الخيرية تدل على اجتماع صفات الخير في هؤلاء النسوة، كما يدل أيضاً على وجود نساء خيرات في العالمين إلا أن فاطمة وخديجة ومريم وآسية كنَّ خيرهن.

ص:136


1- صحيح ابن حبان: ج 15، ص 402.
2- المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 402.

أما الأفضلية فدلالة على أنهن تفردن في الفضل عند الله تعالى، والتفضيل يقتضي إحرازهن لمراتب لم يكن لغيرهن أن يأتين بها ولذا تفردن عن نساء العالمين بما قدمن لله تعالى.

الحديث الخامس: خديجة سيدة نساء عالمها

من الأحاديث النبوية الشريفة في بيان منزلة خديجة عليها السلام ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم في تحديد السيادة لهؤلاء النسوة كلاً حسب عالمها.

فقد روى الطبري والزرندي الحنفي، والمتقي الهندي وغيرهم عن عبد الله بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

أربع نسوة سادات عالمهن مريم بنت عمران، وآسية - امرأة فرعون - وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضلهن عالما فاطمة(1).

دلالة الحديث:

1 - الحديث واضح الدلالة على انحصار السيادة في الأزمنة لهؤلاء النسوة إلا أن أفضل هذه العوالم هو العالم الذي كانت فيه فاطمة عليها السلام.

2 - وإن كان الحديث يجعل السيادة غير منحصرة في مريم عليها السلام على العالمين وإنما في عالمها فقد أخل من جهة أخرى في بيان مقام فاطمة عليها السلام.

ص:137


1- ذخائر العقبى لأحمد بن عبد الله الطبري: ص 44؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 178؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 145؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 2، ص 23؛ تفسير الآلوسي: ج 3، ص 155.

وهذا يدل على أن الحديث يحتمل وجهين، الأول عن السيادة وليس عن العوالم كما أخرجه المصنفون، بدليل:

أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحدث عن السيادة لهؤلاء النسوة وإنها منحصرة فيهن ولذا لم يتحدث عن غيرهن، ولو كان حديثه منحصراً في العوالم لأصبح لكل زمن امرأة تسوده في الفضل على باقي النسوة وهذا يستلزم الدور في كل زمان إلى قيام الساعة.

في حين كل الأحاديث تجمع على انحصار السيادة والخيرية والأفضلية بهؤلاء النسوة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نسائها مريم ابنة عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد(1).

كما أخرجه البخاري وغيره.

ولذلك:

يقتضي الحديث السابق أن يكون لأم سلمة عالمها، وزينب بنت جحش عالمها، ولحفصة عالمها، ولعائشة عالمها.

وهذا الاحتمال مردود لما نصت عليه الأحاديث الشريفة السابقة بانحصار الفضل والخير والسيادة بمريم وآسية وخديجة وفاطمة.

وعليه:

يكون الحديث بالنظر إلى الأحاديث الصحيحة السابقة أن أفضلهن فاطمة

ص:138


1- صحيح البخاري: ج 4، ص 138؛ صحيح مسلم: ج 7، ص 132.

صلوات الله عليها وليس أن عالمها هو أفضل العوالم لانحصار السيدية والخيرية والأفضلية بهؤلاء النسوة.

والوجه الآخر: هو حمل الحديث على العوالم فيكون الانحصار بهذه العوالم فقط أي لا يكون هناك عالم آخر تظهر فيه امرأة فتصل إلى ما وصلت إليه مريم وآسية وخديجة وفاطمة.

أما اختصاص عالم فاطمة عليها السلام: فلأنها أدركت نصف مرحلة البعثة وجميع مرحلة الهجرة مع ما ابتليت به من فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي إنها عاشت أفضل العوالم التي خلقها الله تعالى وهو عالم النبوة.

وبحمل الوجه الأول على الثاني يكون الحديث محمولاً على الدلالة الآتية:

أربع نسوة سادات عالمهن، مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأفضلهن سيادة وعالماً فاطمة عليها السلام.

بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخرجه الحاكم في مستدركه على الصحيحين وأبو داود في سننه والنسائي في سننه وغيرهم عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة: (إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو في مرضه الذي توفي فيه:

يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين وسيدة نساء

ص:139

هذه الامة، وسيدة نساء

المؤمنين(1).

واتبعه الحاكم بقوله: وهذا إسناد صحيح ولم يخرجاه.

بقي لنا في هذا المورد بعض الأحاديث النبوية التي تظهر منزلة خديجة عليها السلام في الجنة سنوردها في محلها بعون الله تعالى.

المسألة الثانية: منزلة خديجة من خلال دلالة فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

يمكن لنا إجمال منزلة خديجة عليها السلام من خلال دلالة فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالوقوف عند أفعال أربعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي مما دلت عليها الروايات.

الفعل الأول

تعاهده صلى الله عليه وآله وسلم أرحام خديجة وصويحباتها بالهدية فكان كلما أهدي إليه ذبيحة من الشاة أو الجزور بعث منه إلى أرحام خديجة وصويحباتها.

ص:140


1- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 156؛ مسند أبي داود الطيالسي: ص 197؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 4، ص 25 و ج 5، ص 147؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 142؛ فضائل سيدة النساء لابن شاهين: ص 25؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1895.
الفعل الثاني

إعراضه عن الزواج بعدها حتى عوتب في ذلك فكان يقول:

أجل فكانت أم العيال وربة البيت(1).

الفعل الثالث

أنه لم يتزوج عليها حتى توفيت وقد عاشت معه ما يقارب الخمس والعشرين سنة، في حين نراه صلى الله عليه وآله وسلم تزوج من تسع نساء خلال عشر سنوات وهي المدّة التي قضاها في المدينة.

ولعل البعض يقول: إن السبب في تعدد زواجه خلال هذه المدّة هو لتميزها بالاستقرار والأمان.

ونقول:

1 - أما من حيث الاستقرار فلا وجود له بدليل بدء مرحلة الجهاد والحروب والغزوات بعد الهجرة.

2 - وأما الأمان فليس هناك من أمان، بل كان الحذر على أشده لوجود المنافقين الذين وصفهم القرآن بقوله تعالى:

(وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ )2 .

هذا فضلاً عن خطر اليهود الذين كانوا يحيطون بالمدينة ويسكنون بجواره.

3 - ثم أين تذهب تلك السنين الخمس عشرة التي قضاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع خديجة قبل البعثة لم يتزوج فيها وهو في مأمن بين قومه وأهله فضلاً عن تعلق الناس به؛ لصدقه وأمانته وشرافته؛ فمثلما رأته سيدة قريش الزوج الصالح كذا رأته غيرها من بيوتات مكة.

ص:141


1- الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد: ج 8، ص 57.
الفعل الرابع

لم يترك النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة أو غيرها إلا وقد تحدث عن خديجة وأثنى عليها مما أثار حفيظة عائشة إلى المستوى الذي أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يؤذيه في ذلك - كما مرّ بيانه سابقاً - وعلى الرغم من ذلك لم يترك النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ذكر خديجة وحسن فعالها.

وهذه الأفعال كاشفة عن منزلة خديجة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما تفردت به خاصة دون بقية أمهات المؤمنين.

المسألة الثالثة: منزلة خديجة عند أئمة أهل البيت عليهم السلام
اشارة

مثلما حظيت السيدة الطاهرة خديجة بنت خويلد عليها السلام بمنزلة خاصة في القرآن وعند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فإنها نالت كذلك منزلة عند أئمة أهل البيت عليهم السلام يمكن لنا معرفتها من خلال النقاط الآتية:

أولا: منزلتها عند أمير المؤمنين علي عليه السلام
اشارة

حينما نقرأ حياة السيدة خديجة عليها السلام أو حياة الإمام علي عليه السلام فإننا لابد أن نتوقف في هذه السيرة مع محطة اشترك في تكوينها كلٌّ منهما.

بل: يلمس القارئ - وإن مرّ على هذه السيرة مرورا سريعاً - أن خديجة

ص:142

عليها السلام كانت الأم الثانية لعلي بن أبي طالب عليهما السلام فقد اتخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ كان صغيراً في حجره وهو في السادسة من عمره يغدو عليه بخلقه وكماله فنشأ في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام، مما ترك لخديجة رصيداً ضخماً في قلب أمير المؤمنين عليه السلام، هذا فضلاً عن مقامها الإيماني الذي مرّ بيانه سابقا.

وعليه:

يمكن لنا بيان منزلتها عند أمير المؤمنين عليه السلام من خلال الأحاديث الآتية:

ألف: منزلة الأمومة

1 - روى ابن شهر آشوب رحمه الله: (كان أبو طالب وفاطمة بنت أسد ربيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وخديجة لعلي صلوات الله عليه)(1).

2 - روى ابن هاشم الحميري وابن جرير الطبري، والحاكم النيسابوري، والثعلبي، وابن عبد البر، والحافظ بن شهر آشوب، وغيرهم عن مجاهد أنه قال:

(كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب، ومما صنع الله له وأراد به من الخير، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس عمه، وكان من أيسر بني هاشم؛

ص:143


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 2، ص 27.

يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله، فآخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلا فنكفلهما عنه.

فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب.

فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه.

فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما عقيلا فاصنعا ما شئتما.

فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيا، فاتبعه علي عليه السلام وآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه)(1).

3 - روى ابن الدمشقي عن ابن المظفر في كتابه نجباء الأبناء(2): (إن أبا طالب قال لزوجته فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهم:

ص:144


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 1، ص 162؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 58؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 576؛ تفسير الثعلبي: ج 5، ص 84؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 1، ص 38؛ المناقب لابن شهر: ج 2، ص 27؛ علل الشرايع للشيخ الصدوق رحمه الله: ج 1، ص 169؛ الطرائف لابن طاووس: ص 17؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 38، ص 238.
2- همش الشيخ محمد باقر المحمودي في تحقيقه لكتاب ابن الدمشقي فقال: هو محمد بن عبد الله ابن محمد بن ظفر الصقلي المكي من أعلام القرن السادس المتوفى سنة 567 / أو 598؛ المترجم في كتاب الأعلام: ص 231؛ وفيات الأعيان: ج 1، ص 523؛ لسان الميزان: ج 5، ص 371؛ (جواهر المطالب لابن الدمشقي: ج 1، ص 29، الهامش).

يا فاطمة ما لي لا أرى عليا يحضر طعامنا؟

فقالت: إن خديجة بنت خويلد قد تألفته.

فقال أبو طالب: والله لا أحضر طعاماً لا يحضره علي.

فأرسلت أمه جعفراً أخاه وقالت: جئني به وحدثته بما قال أبوه.

قال، قال: فانطلق جعفر إلى خديجة فأعلمها وأخذ عليا فانطلق به إلى أهله وأبو طالب على غدائه فلما رآه هش إليه وبش وأجلسه على فخذه ووضع كفه على رأسه وجعل لقمة في فمه فلاكها وبكى فقال أبو طالب: يا فاطمة خذيه إليك فانظري ما به ؟ فأخذته أمه ولاطفته وسكنته وسألته عن حاله فقال:

يا أمة تكتمين علي ؟.

قالت: نعم. قال:

يا أماه إني لأجد لكف محمد بردا ولطعامه مذاقا، وإني وجدت لكف أبي حرا ولطعامه وخامة!!!

فقالت له أمه: مه لا تفه بهذا أبدا وإن سألك أبوك فقل: إني مغصت!

قال: فلما فرغ أبو طالب من غذائه قال: يا فاطمة ما شانه ؟ قالت: إنه مغص ثم شفي، قال: كلا ولكنه يأبى إلا محمدا وإيثاره علينا فألحقيه به ولا تتعرضين له أبدا فيوشك أن يكسر به محمد أصلاب قريش)(1).

وظاهر الرواية يدل على جملة من الأمور:

ص:145


1- جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لابن الدمشقي: ج 1، ص 39 و 40.

ألف: إنّ انصراف الإمام علي عليه السلام إلى بيت خديجة عليها السلام كان قبل أن يبلغ السادسة من عمره؛ لأن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد اتخذه في حجره وهو في السادسة من عمره، وإلا لما كان أبو طالب يستفقده ويسأل عنه وتبعث أمه فاطمة بنت أسد خلفه جعفرا كي يأتي به.

باء: كما تدل الرواية على تعلق خديجة به عليهما السلام بدليل قول فاطمة بنت أسد لأبي طالب (قد تألفته خديجة بنت خويلد) وتعلقه بها.

فمن الحقائق التي أكدها علماء نفس الطفل: أن الطفل في هذه السنوات الأُوَل كي يستطيع أن يحول مشاعره وغريزته الاحتياجية لوجود الأم في حياته، إلى امرأة أخرى فعليها أن تهيّئ له من الأجواء ما قد تفوق حنان الأم التي أولدته.

وبهذا تكون مشاعر علي عليه السلام اتجاه خديجة التي تألفته، مشاعر ارتكزت على عواطف أمومية متسامية، ومشاعر من الحنان قل نظيرها لدرجة أنه يبكي ولا يأنس إلا بوجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة من حوله فكان نعم الأبوان لعلي عليه السلام، هذا فضلاً عن دور الاصطفاء الإلهي في مسألة العصمة والإمامة.

جيم: تنبّأ أبو طالب رضوان الله تعالى عليه بمستقبل الرسالة المحمدية ودور ولده علي فيها وإن هذه العلاقة التي نشأت منذ اللحظة الأولى لولادة علي عليه السلام هي إنما نشأت بتدبير إلهي لحكمة بالغة أظهرها القرآن والسنة المحمدية، ولذا قال عليه السلام: (فيوشك أن يكسر به محمد أصلاب قريش).

ص:146

4 - قال ابن حجر العسقلاني: (وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها)(1).

5 - قال المؤرخ المسعودي: (لما تزوج صلى الله عليه وآله وسلم خديجة بنت خويلد علمت بوجده بعلي عليه السلام فكانت تستزيره وتزينه بفاخر الثياب والجوهر وترسل معه ولايدها فيقلن هذا أخو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحب الخلق إليه وقرة عين خديجة ومن ينزل السكينة عليه)(2).

فهذه الشواهد كلها تؤكد على حقيقة منزلة الأمومة التي نالتها خديجة عليها السلام بكل ما تحمل الكلمة من معان سامية أحسها الإمام علي عليه السلام وتعايش معها ونشأ عليها فكانت لها عليه حق الأم.

باء: منزلة الحماة

من الألطاف الإلهية التي حفت بحياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أن الله تعالى زوّجه من سيدة نساء العالمين فاطمة بنت سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل له أم أهل (حماة) خير نسائها الطاهرة خديجة الكبرى (عليها السلام)، لتكون له أماً وحماة وجدة لأولاده؛ وهي حقيقة نص عليها الحديث النبوي الشريف الذي رواه الحافظ ابن شهر آشوب، قائلا: (روى الثقات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

ص:147


1- فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 104.
2- الأنوار الساطعة للشيخ السيلاوي نقلا عن إثبات الوصية للمسعودي: ص 144، طبعة أنصاريان، قم.

يا علي لك أشياء ليست لي منها: أن لك زوجة مثل فاطمة وليس لي مثلها، ولك ولدين من صلبك وليس لي مثلهما من صلبي، ولك مثل خديجة أم أهلك وليس لي مثلها حماة، ولك صهر مثلي وليس لي صهر مثلي، ولك أخ في النسب مثل جعفر وليس لي مثله في النسب، ولك أم مثل فاطمة بنت أسد الهاشمية المهاجرة وليس لي مثلها(1).

فسبحان من أكرم محمداً وآله بما لم يكرم به أحداً من العالمين.

ثانيا: منزلة خديجة عند فاطمة عليهما السلام

من البديهي أن تكون لخديجة منزلة خاصة عند فاطمة عليها السلام وهي أمها التي حملتها في بطنها وأغدقت عليها بالرعاية والاهتمام.

ومن كرامة الله لخديجة أن جعل فاطمة وهي جنين في بطن أمها تحدثها وتسليها أثناء فترة حملها وذلك كي تسلي حزنها الذي تسبّبن فيه نسوة مكة حينما اعتزلنها وقاطعنها فلم يدخلن عليها حتى استوحشت لوحدتها ومن طبيعة المرأة أن تأنس إلى بني جنسها تحادثها وتذهب بوحشتها.

وخديجة وإن كانت لم تفتقد فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي عليه السلام ولم تفتقد جواريها إلا أن فرض الحصار الاجتماعي عليها ترك نوعاً من الوحشة عليها.

ولذا:

ص:148


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 19؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 4، ص 68.

أكرمها الله عزّ وجل بمن يذهب وحشتها ويسليها، وهذا يكشف عن منزلتها عند فاطمة كما كشف حديث عيسى مع أمه مريم عليهما السلام عن مقامها لديه ومنزلتها حيث قال سبحانه على لسان نبيه:

(وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا)1 .

فكيف بمن نطقت وهي بين أحشاء ودم ومن خلف جدارين، جدار البطن وجدار الرحم فيخرج صوتها ويسمع خديجة عليها السلام. إن هذا يكشف عن عظم المنزلة والكرامة التي أكرم الله بها خديجة وابنتها.

(أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ)2 .

ثالثا: منزلة خديجة عند الإمام الحسن عليهما السلام

تفتقر المصادر الإسلامية إلى رصيد من الروايات التي تخص هذا العنوان الذي ذكرناه، أي منزلة خديجة عند الإمام الحسن عليهما السلام، والظاهر أن مرد ذلك يعود لبعض الأسباب:

1 - تغيير الحكومة الإسلامية الحاكمة في عصر الإمام الحسن عليه السلام من توجهات القرآن والعترة عليهم السلام ممثلة في حكومة علي أمير المؤمنين عليه السلام بوصفه الحاكم الإسلامي للمسلمين، إلى توجهات جاهلية قبلية تستمد هيكليتها من النظم الإدارية والتخطيطية للدول المجاورة للحكومة

ص:149

الإسلامية كالامبراطورية الفارسية والرومية، وهو ما تنبه إليه عبد الرحمن بن أبي بكر حينما عرض عليه مروان بن الحكم البيعة ليزيد بن معاوية بعد وصول كتاب معاوية إليه يأمره بأخذ البيعة من أبناء الصحابة لولده يزيد.

فقال عبد الرحمن بن أبي بكر لمروان بن الحكم: (أجئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم)(1).

وفي لفظ : (سنة هرقل وقيصر)(2).

مما أثر على جميع القيم والأسس القرآنية للإسلام، فكيف بمنزلة خديجة عليها السلام آنذاك والقرآن والسنّة المحمدية هي المستهدفة في الغزو الفكري والعقائدي.

2 - ظهور دور مميز في قيادة الحركة السياسية للحكومة الإسلامية في عصر معاوية، بل وما قبل هذا العصر لزوج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عائشة مما عمل على انشغال الناس بهذا الدور وتغافلهم حتى عن دور النبي الأعظم وعترته وأصحابه المنتجبين في نشر دين الإسلام.

3 - تعرض فضائل أهل البيت عليهم السلام إلى حملة شرسة من الامحاء والحرق والتخريق، وهو الأمر الذي أثر سلباً على معتقدات الناس الإسلامية، ويمكن للقارئ أن يدرك هذه الحقيقة المرّة من خلال الحدث الآتي:

ص:150


1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر: ج 8، ص 443؛ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ج 4، ص 122.
2- المستدرك على الصحيحين للنيسابوري: ج 4، ص 481؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 6، ص 459؛ الإصابة لابن حجر: ج 4، ص 276.

روى أبو الفرج الأصفهاني: (إن خالداً القسري - وهو أحد ولاة بني أمية - طلب من الزهري أن يكتب له السيرة فقال الزهري: فإنه يمر بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب، أفأذكره ؟

فقال خالد: لا إلاّ أن تراه في قعر جهنم، فقال الزهري: فلعن الله خالدا ومن ولاه وصلوات الله على أمير المؤمنين)(1) ، فكيف يتسنى للرواة نقل النصوص التي تنطق بفضائل أهل البيت عليهم السلام وروايتها ولاسيما العصر الذي عاش فيه الإمام الحسن عليه السلام.

وعليه:

لم ينصف التاريخ الإسلامي (الأموي) خديجة عليها السلام وذريتها فضيع حقوقهم وحبس فضائلهم، ولذا لم أعثر على رواية تتحدث عن بيان منزلة خديجة عليها السلام عند حفيدها الإمام الحسن عليه السلام سوى رواية واحدة رواها أبو الفرج الأصفهاني عن أبي عبيدة، قال: حدثنا فضل، قال: حدثني يحيى بن معين أنه قال: (لما بويع معاوية خطب فذكر عليا فنال منه ونال من الحسن، فقام الحسين ليرد عليه فأخذ الحسن بيده فأجلسه، ثم قام فقال:

أيها الذاكر عليا، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر وأمي فاطمة وأمك هند وجدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجدك حرب وجدتي خديجة وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا، وألأمنا حسبا وشرنا قدما، وأقدمنا كفرا ونفاقا.

ص:151


1- الأغاني للأصفهاني: ج 22، ص 21؛ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 53؛ الشيعة والسيرة النبوية للمؤلف: ص 323.

فقال طوائف من أهل المسجد: آمين.

قال فضل: فقال يحيى بن معين ونحن نقول: آمين؛ وقال أبو عبيد: ونحن أيضا نقول: آمين، قال أبو الفرج الأصفهاني: وأنا أقول، آمين)(1).

قال المؤلف لهذه السطور: وأنا أقول آمين إلى قيام يوم الدين، وهذا الحدث يكشف عن أنّ تفاخر الإمام الحسن عليه السلام بجدته خديجة عليها السلام دليل على عظم منزلتها عنده وأنها بحق نعم مَن يفتخر به، فذكرها ظاهرٌ للناس، وطيب حسبها متسامٍ بين الأحساب، وقدم شرفها متجذر بين الأشراف، وأن هذه المقامات والمفاخر متلاصقة مع سيد الخلق وأشرفهم صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما يميزها عليها السلام على بقية أزواجه، فضلاً عن منزلتها في الإسلام.

رابعا: منزلة خديجة عند الإمام الحسين عليه السلام
اشارة

من البديهيات التي ترافقت مع سيرة العترة النبوية عليهم السلام أن لا تجد اختلافاً فيما يصدر عنهم من أقوال وأفعال وتقريرات، ولذا، فمنزلة خديجة لاتختلف عند أحد منهم ولا تخرج عن حدها الذي جاء به القرآن وبيّنه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

إلاّ أن الفارق الوحيد فيما يصدر عنهم في هذا الخصوص هو إما التأكيد على مسألة محددة وذلك لأهميتها العقائدية وإما لبيان جانب لم يتم بيانه من قبل.

ص:152


1- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني: ص 46؛ الإرشاد للشيخ المفيد (رحمه الله): ج 2، ص 15.

ومن هنا: حينما نقف عند أعتاب مدرسة الإمام الحسين عليه السلام فإنّا نأخذ بياناً جديداً لمنزلة خديجة لم نجده في مدارس العترة عليهم السلام وإن كانت كلها على منهج واحد؛ هذا البيان هو:

ألف: اتخاذ قبر خديجة محلاً للمناجاة والدعاء

روى ابن شهر عن عيون المجالس، قائلا: ساير - الحسين عليه السلام - أنس بن مالك فأتى قبر خديجة فبكى ثم قال:

أذهب عني.

قال أنس: فاستخفيت عنه فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته قائلا:

يا رب يا رب أنت مولاه فارحم عبيدا إليك ملجاه

يا ذا المعاني عليك معتمدي طوبى لمن كنت أنت مولاه

طوبى لمن كان خائفا أرقا يشكو إلى ذي الجلال بلواه

وما به علة ولا سقم أكثر من حبه لمولاه

إذا اشتكى بثه وغصته أجابه الله ثم لباه

لبيك لبيك أنت في كنفي وكلما قلت قد علمناه

صوتك تشتاقه ملائكتي فحسبك الصوت قد سمعناه

دعاك عندي يجول في حجب فحسبك الستر قد سفرناه

لو هبت الريح في جوانبه خر صريعا لما تغشاه

سلني بلا رغبة ولا رهب ولا حساب إني أنا الله(1)

ص:153


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 224؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 44، ص 193.

والحديث فيه دلالات عدة، منها:

1 - أن الإمام الحسين عليه السلام حينما أراد الخروج من مكة متجهاً إلى العراق قصد زيارة قبر جدته خديجة الكبرى عليها السلام لغرض وداعه وهو ما جعله يساير الصحابي أنس بن مالك فأتى قبرها وبكى عنده ليرشدنا في هذا الفعل إلى منزلة خديجة الكبرى، عليها السلام وأنها أحق الناس بعد جده وأبويه بالزيارة والوداع؛ لكنه عليه السلام لما أراد المناجاة مع الله تعالى طلب من أنس بن مالك أن يتركه وحيداً فقال:

«أذهب عني».

2 - إن ذهابه عليه السلام إلى زيارة قبر جدته، والصلاة عندها، دليل على مشروعية زيارة القبور، بل واتخاذ قبور الأولياء محلاً للدعاء والمناجاة والصلاة.

باء: المنهاج التعبدي لقضاء الحوائج

إن الإمام الحسين عليه السلام قدم منهاجاً تعبديا لمن أراد أن يتقرب إلى الله تعالى ويسأله قضاء حاجته ويتكون هذا المنهاج من أمور:

1 - بأن يبدأ صاحب الحاجة بقصد قبور أهل البيت عليهم السلام مثلما فعل حجة الله تعالى حينما قصد قبر خديجة الكبرى.

2 - أن يُقبِل على الله بقلب منكسر وهو موقن بأنه قد قصد أكرم الأكرمين وأنه العبد الذي لا يملك لنفسه حولاً ولا قوة، وهذا الاقبال القلبي يلازمه البكاء؛ كما فعل الإمام الحسين عليه السلام، فلقد بدأ بالبكاء وهو حالة وجدانية معبرة عن القلب.

ص:154

3 - أن يقدم الصلاة بين يدي حاجته لكونها أفضل العبادة وخير ما يقدمه العبد بين يدي ربه عزّ شأنه، ولما تحمل ا لصلاة من آثار نفسية خاصة، إذ ترجع النفس إلى حالة الاتزان والاستقرار، وهو ما دلت عليه الآية الكريمة:

(وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ )1 .

4 - إن قصد قبور أهل البيت عليهم السلام كما أرشدنا حجة الله على خلقه الإمام الحسين عليه السلام يراد منه اتكاء المسلم على التولي والتبري وهما مما يناط بهما قبول الأعمال عند الله تعالى ورفضها فضلاً عن أنه وسيلة تكشف عن الإيمان بالله ورسوله حينما يظهر المسلم أنه يتولى الله ورسوله وأهل بيته.

قال تعالى:

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )2 .

وهذه المودة التي لأهل البيت لا تتحقق إلا بعدم التولي لقوم غضب الله عليهم، أي: البراءة من أعداء الله تعالى.

قال سبحانه:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ)3 .

ص:155

وقال سبحانه وتعالى:

(أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ )1 .

5 - بعد المضي في هذه المراتب العبادية من البكاء والاقبال القلبي والصلاة والتولي لأولياء الله والتبرئ من أعداء الله سبحانه قولاً وعملاً، يدخل الداعي في مرحلة المناجاة كما صنع الإمام الحسين عليه السلام حينما قصد قبر جدته خديجة الكبرى سلام الله عليها.

6 - إن تحقق هذه المراتب يعطي النتيجة السريعة في استجابة الدعاء وقضاء الحاجة ونزول السكينة والاحساس ببرد المناجاة وحلاوتها كما نصت الرواية حينما سمع الإمام الحسين عليه السلام جواب مناجاته لربه ومسألته.

خامسا: منزلة خديجة عليها السلام عند الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام

يُظهر الإمام زين العابدين عليه السلام منزلة جدته خديجة الكبرى عليها السلام وافتخاره بها من خلال أمرين، الأمر الأول: خطبته الاحتجاجية في الشام.

وقد ألقاها عليه السلام في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية (لعنه الله تعالى) بعد أن أُدخل عليه مع بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد جيء بهم وهم مربطون بالحبال، يقادون كما يقاد أسارى العجم والترك فاستقبلهم ابن

ص:156

هند وهم على هذه الحالة فضلاً عما نزل بهم من المصائب العظيمة والرزايا الجليلة التي تخجل جبين كل موحد لله تعالى.

ولذا:

وجد الإمام زين العابدين أن يُعرّف هؤلاء - إن كانوا لم يعرفوا من هو - وأن يُظهر لهم منزلته عند الله تعالى ومنزلة آبائه، وإنه ابن هؤلاء السادات الأشراف الذين شرفهم الله، كي لا يظن هؤلاء الجالسون أنه مجهول الهوية أو أنه ممن يستهان بحرمته، على الرغم من كونهم - أي يزيد ومن والاه - قد انتهكوا حرمات الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قاموا بقتل أبيه وأخوته، وإن الكثير من هؤلاء الجالسين لا يدركون أنه ابن من يدينون له بالنبوة، وذلك بسبب التضليل الإعلامي الذي فرضته سياسة معاوية وأشياعه.

قال ابن شهر: (لما أتي بعلي بن الحسين ورأس أبيه (عليهما السلام) إلى يزيد بالشام قال لخطيب بليغ: خذ بيد هذا الغلام فائت به إلى المنبر وأخبر الناس بسوء رأي أبيه وجده وفراقهم الحق وبغيهم علينا، قال: فلم يدع شيئاً من المساوئ إلا ذكره فيهم، فلما نزل قام علي بن الحسين: فحمد الله بمحامد شريفة وصلى على النبي صلاة بليغة موجزة ثم قال:

يا معشر الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي، أنا ابن كعبة ومنى، أنا ابن مروة والصفا، أنا بن محمد المصطفى، أنا ابن من لا يخفى، أن ابن من علا فاستعلى فجاز سدرة المنتهى وكان من ربه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء مثنى مثنى، أنا ابن من أسري به من

ص:157

المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلما، أنا ابن المحزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتى قضى، أنا ابن طريح كربلا...)(1).

إلى آخر الخطبة التي وردت في مظانها؛ والتي تكشف عن افتخار الإمام زين العابدين بجدته خديجة الكبرى على أعدائه وإنه محاججهم يوم القيامة بهؤلاء إن كانوا يقرون لهم بالحرمة والقداسة، ويعتقدون بذلك.

الأمر الثاني: الصلاة عليها.

إنّ من المواطن التي يعلن فيها الإمام زين العابدين عليه السلام منزلة خديجة هو ذكره لها في صلواته، فيقول:

أللهم صلّ على محمد المصطفى وعلى علي المرتضى، وفاطمة الزهراء، وخديجة الكبرى(2).

فهذه الصلاة وإن كانت لا تروق لمن لا يوالي العترة النبوية إلا أنها رسالة لمن يتولاهم تنص على بيان رتبتها ومنزلتها عند الله تعالى وعند حجته على خلقه فقد أقرن ذكرها في الصلاة مع أهل بيت العصمة والنبوة عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ص:158


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 305؛ الدر النظيم لابن أبي حاتم: ص 419.
2- الأنوار الساطعة للشيخ غالب السيلاوي: ص 372، نقلا عن مهج الدعوات: ص 29، ط بيروت؛ مشاهد ومزارات آل البيت في الشام، هاشم عثمان: ص 75؛ وجاء فيه: وعلى الواجهة الشمالية من الصحن - مرقد المحسن ابن الإمام الحسين - كتابة: أللهم صلّ على محمد المصطفى وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة الزهراء، وخديجة الكبرى....
سادسا: منزلة خديجة عند الإمام الحسن العسكري عليه السلام

إنّ من الأسئلة التي ترد على الباحث هي: لماذا لم يرد في المصادر الإسلامية نصوص تحمل بين ثناياها دلالة على منزلة خديجة عليها السلام عند بقية الأئمة المعصومين عليهم السلام.

والجواب:

إنّ ذلك يعود إلى طبيعة الأزمنة التي عاشها أئمة الهدى من الإمام الباقر وإلى الإمام الهادي سلام الله عليهم أجمعين وما يلازم هذه الأزمنة من ضروريات يحددها الأئمة سلام الله عليهم، وإلا فهم جميعاً عدل القرآن وأهله، فما يصدر عن أحدهم يصدر عنهم جميعاً حالهم في ذلك حال قول النبي وتلازمه مع القرآن.

وهنا:

في زمن الإمام الحسن العسكري اقتضت الضرورة حسبما يراها الإمام أن يُخرج للناس مجموعة من الصلوات على محمد وآله، فكان من بينها الصلاة الآتية التي رواها الشيخ الطوسي رحمه الله والسيد ابن طاووس وغيرهم.

قال عليه السلام:

أللهم صل على الصديقة فاطمة الزكية حبيبة حبيبك ونبيك وأم أحبائك وأصفيائك التي انتجبتها وفضلتها واخترتها على نساء العالمين.

أللهم كن الطالب لها ممن ظلمها واستخف بحقها وكن الثائر

ص:159

أللهم بدم أولادها، أللهم وكما جعلتها أم أئمة الهدى وحليلة صاحب اللواء والكريمة عند الملأ الأعلى، فصل عليها وعلى أمها خديجة الكبرى صلاة تكرم بها وجه أبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقرّ بها أعين ذريتها، وأبلغهم عني في هذه الساعة أفضل التحية والسلام(1).

وهذه الصلاة الشريفة تتضمن معاني جمة، ودلالات عديدة لا يسعنا في هذا الموضع بيانها إلا أننا نشير إلى عصمة ما يرد عن الأئمة الاثني عشر فلا نجد قولين متخالفين لهم، فهذه الصلاة الشريفة على خديجة الكبرى وتلازمها مع الصلاة على فاطمة وأبيها صلى الله عليه وآله وسلم هي نفسها قد وردت فيما سبق عن الإمام علي بن الحسين بن أبي طالب عليهم السلام.

وهذا فضلاً عن التصريح بمنزلتها على لسان حجة الله على خلقه، أي الإمام الحسن العسكري عليه السلام.

المسألة الرابعة: منزلة خديجة عند أعلام بني هاشم وأبناء الأئمة عليهم السلام
اشارة

مثلما كشفت الروايات عن منزلة خديجة عند العترة النبوية عليهم السلام فقد كشفت أيضا عن منزلتها عند أعلام بني هاشم وعند أحفادها، وهي كالآتي:

ص:160


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: ص 401؛ فلاح السائل للسيد ابن طاووس: ص 297؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 19، ص 74.
أولا: منزلتها عند أبي طالب عليهما السلام

قال رضوان الله عليه حينما خطبها للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:

(إنّ ابن أخينا محمد بن عبد الله خاطب كريمتكم الموصوفة بالسخاء والعفة، وهي فتاتكم المعروفة المذكور فضلها الشامخ)(1).

وهو خير شاهد على ما اتصفت به السيدة الطاهرة خديجة الكبرى قبل اقترانها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف إذا نظرنا إلى تلك السمات التي اتسمت بها بعد زواجها المبارك بسيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم.

ثانيا: منزلتها عند أم سلمة رضي الله عنها

من يتصفح صفحات التاريخ، لاسيما كتب السيرة النبوية يجد بوضوح العلاقة المميزة بين عترة النبي عليهم السلام وزوج النبي أم سلمة حتى وافتها المنية سنة 62 ه .

هذه العلاقة الخاصة ظهرت من قبل دخول أم سلمة إلى سكن النبي الأعظم في السنة الرابعة للهجرة وأنها امتازت بالمودة لفاطمة وزوجها وأبنائها؛ بل وحبها لخديجة عليها السلام وإن لم تجتمع معها في بيت واحد وذلك لوفاة خديجة عليها السلام في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات.

ص:161


1- مستدرك الوسائل للنوري: ج 14، ص 204؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 16، ص 69.

ولذلك:

نجد الرواية الآتية تتحدث عن منزلة خديجة عليها السلام عند أم سلمة من قبل أن تنتقل إلى سكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي منذ كانت عند زوجها أبي سلمة الذي توفي عنها في السنة الرابعة ثم تزوجت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1).

فقد روى الخوارزمي في المناقب في حديث زواج فاطمة عليها السلام: أن أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخلت على أم سلمة وحدثتها في أمر انتقال فاطمة عليها السلام إلى بيت علي عليه السلام وأن يحدثن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك؛ فذهبن إليه، فقالت أم سلمة ومن كان معها له صلى الله عليه وآله وسلم:

(فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، قد اجتمعنا لأمر لو أن خديجة في الأحياء، لقرت بذلك عينها.

قالت أم سلمة: فلما ذكرنا خديجة بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال:

خديجة، وأين مثل خديجة، صدقتني حين كذبني الناس وآزرتني على دين الله وأعانتني عليه بمالها، أن الله عز وجل أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرد، لا صخب فيه ولا نصب.

قالت أم سلمة: فقلنا فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله صلى الله عليه

ص:162


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 93.

وآله وسلم، إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلا وقد كانت كذلك، غير أنها قد مضت إلى ربها فهنأها الله بذلك وجمع بيننا في درجات جنته ورضوانه يا رسول الله هذا أخوك في الدين وابن عمك في النسب علي بن أبي طالب عليه السلام يحب أن تدخل زوجته فاطمة وتجمع بها شمله.

وتدل الرواية على اهتمام أم سلمة بفاطمة وحرصها على زواجها من علي عليه السلام وما يكون ذلك إلا بدافع الحب لهما.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

يا أم سلمة فما بال علي لا يسألني ذلك ؟

قلت: يمنعه من ذلك الحياء منك يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... الخ)(1).

كما تدل الرواية على اعتقادها بما لخديجة من المنزلة عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأنها كانت مجمعاً للفضائل ولذا قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

(إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلا وقد كانت كذلك).

وقولها رضي الله عنها: (غير أنها مضت إلى ربها فهنأها الله بذلك وجمع بيننا في درجات جنته ورضوانه).

ص:163


1- المناقب للخوارزمي: ص 350؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 370؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 43، ص 131؛ الخصائص الفاطمية للكجوري: ج 2، ص 320؛ أعيان الشيعة: ج 10، ص 272؛ الأنوار الساطعة للسيلاوي: ص 374.
ثالثاً: منزلتها عند محمد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام

(1)

ص:164


1- ترجم له السيد محسن الأمين في أعيانه بقوله: أبو القاسم، أو أبو عبد الله ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب المعروف بان الحنفية هو من الطبقة الأولى من التابعين ولد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوفي سنة 81 ه في أيام عبد الملك بن مروان وعمره خمس وستون سنة واختلفوا في أي مكان توفي على ثلاثة أقوال: أحدهما بأيلة، والثاني بالمدينة، وصلى عليه أبان بن عثمان بإذن ابنه أبي هاشم ودفن بالبقيع، والثالث بالطائف. غلبت عليه النسبة إلى أمه خولة الحنفية من بني حنيفة وهي خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي ابن بكر بن وائل. قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ما حاصله: اختلف في امرها فقيل إنها سبية من سبايا حنيفة على يد خالد بن الوليد أيام أبي بكر أقول وبذلك قد يحتج بعضهم على اعتراف أمير المؤمنين علي عليه السلام بصحة سبيها وفيه أن الحال في ذلك لا يمكن الجزم بها ولا دعوى العلم بأنه كيف تزوجها لجواز أن يكون عقد عليها مع أن المؤرخين مختلفون في أمرها كما سمعت وستسمع فكيف يمكن الاحتجاج بأمر مختلف فيه إذ متى وجد الاحتمال سقط الاستدلال على أن عمر نفسه لم يعترف بصحة سبي بني حنيفة وكان يطلب إلى الخليفة أن يقيم الحد على خالد قال: وقال قوم منهم أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدايني هي سبية في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا بعث عليا إلى اليمن فأصاب خولة في بني زبيد وقد ارتدوا مع عمر بن معديكرب وكانت زبيد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم فصارت في سهم علي فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن ولدت منك غلاما فسمه باسمي وكنه بكنيتي، فولدت له بعد موت فاطمة عليها السلام محمدا فكناه أبا القاسم قال وقال قوم وهم المحققون وقولهم الأظهر إن بني أسد أغارت على بني حنيفة في خلافة أبي بكر فسبوا خولة فباعوها من علي فقدم قومها عليه فأخبروه بموضعها منهم فأعتقها ومهرها وتزوجها، قال هذا القول اختيار أحمد بن يحيى البلاذري في كتابه المعروف بتاريخ الاشراف آه.

ص:165

إنّ من المناهج التي وردت في القرآن الكريم هو منهاج السُنة التاريخية وآثارها الاجتماعية والتربوية؛ والسنة التاريخية تعد كقانون حياتي كفيل بتطبيق مادته على من يدخل في فلكه، إذ مثلما مرت الأمم السابقة وكثير من النماذج البشرية بنظم حياتية، كذلك مرت هذه الامة الإسلامية بسنن حياتية مختلفة؛ منها سُنة الصراع على السلطة؛ أو سنة التخلي عن الأنبياء والرسل عليهم السلام(1).

هذا المعنى نراه يتجسد في الفترة التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وامتدت إلى يومنا هذا ولن تتوقف هذه الحركة التاريخية إلا عند ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي يملأُها قسطا وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

وحينما نقرأ التاريخ الإسلامي نجد أن أعظم الظلم هو ما نزل بعترة النبي

ص:166


1- لمعرفة المزيد انظر كتاب: حركة التاريخ وسننه عند علي وفاطمة عليهما السلام للسيد نبيل الحسني.

الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لدرجة يظل فيها القارئ حائراً لا يدري أهو يقرأ في تاريخ المسلمين أم في تاريخ أمّة أخرى ؟!

ومن هذا المعنى:

نجد أن بيان محمد بن الحنفية لمنزلة خديجة عليها السلام لم يكن وليد صدفة، بل كان نتيجة لسلسلة من الحوادث الإسلامية امتدت إلى الزمن الذي عاش فيه، ودفعته إلى استخدام لغة التهديد في قتال عبد الله بن الزبير وأبناء عمومته وإن الذي يمنعه منهم هو منزلة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى وما يربطها بهم من قرابة نسبية، فوالد ابن الزبير هو ابن عم خديجة عليها السلام، فالعوام وخويلد أخوان ولدهما أسد بن عبد العزى.

وعليه:

فقد وجدنا أن ننقل للقارئ الكريم سبب صدور هذا القول من محمد بن الحنفية الذي يتوعد فيه بني أسد بن عبد العزى بالقتل لولا منزلة خديجة فيهم، إذ يعطي صورة واضحة لما مرّ به بنو هاشم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويظهر مدى تحرك السنن التاريخية التي جرت في الأمم السابقة في هذه الامة لاسيما الصراع على السلطة التي انتهك الساعون إليها بغير حق كل الحرمات.

فقد روى المؤرخ اليعقوبي وابن أبي الحديد المعتزلي - واللفظ لليعقوبي -: (وتحامل عبد الله بن الزبير على بني هاشم تحاملاً شديداً، وأظهر لهم العداوة والبغضاء، حتى بلغ ذلك منه أن ترك الصلاة على محمد - صلى الله

ص:167

عليه وآله وسلم - في خطبته، فقيل له: لم تركت الصلاة على النبي ؟ فقال: إن له أهل سوء يشرئبون لذكره، ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به.

وأخذ ابن الزبير محمد بن الحنفية، وعبد الله بن عباس، وأربعة وعشرين رجلا من بني هاشم ليبايعوا له، فامتنعوا، فحبسهم في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ليبايعن أو ليحرقنهم بالنار، فكتب محمد بن الحنفية إلى المختار بن أبي عبيد:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن علي ومن قبله من آل رسول الله إلى المختار بن أبي عبيد ومن قبله من المسلمين، أما بعد فإن عبد الله بن الزبير أخذنا، فحبسنا في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو لنبايعنه، أو ليضرمنها علينا بالنار، فيا غوثا)!

فوجه إليهم المختار بن أبي عبيد بأبي عبد الله الجدلي في أربعة آلاف راكب، فقدم مكة، فكسر الحجرة، وقال لمحمد بن علي: دعني وابن الزبير!

قال: لا أستحل من قطع رحمه ما استحل مني.

وبلغ محمد بن علي بن أبي طالب أن ابن الزبير قام خطيبا فنال من علي ابن أبي طالب، فدخل المسجد الحرام، فوضع رحلا، ثم قام عليه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ثم قال: شاهت الوجوه، يا معشر قريش، أيقال هذا بين أظهركم وأنتم تسمعون، ويذكر علي فلا تغضبون ؟ ألا إن عليا كان سهما صائبا من مرامي الله أعداءه، يضرب وجوههم، ويهوعهم مآكلهم، ويأخذ بحناجرهم، ألا وإنا على سنن ونهج من حاله، وليس علينا في مقادير

ص:168

الأمور حيلة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

فبلغ قوله عبد الله بن الزبير، فقال: هذا عذرة بني الفواطم، فما بال ابن أمة بني حنيفة ؟ وبلغ محمدا قوله، فقال: يا معاشر قريش وما ميزني من بني الفواطم ؟ أليست فاطمة ابنة رسول الله حليلة أبي وأم إخوتي ؟ أو ليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدتي وأم أبي ؟ أليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدة أبي وأم جدتي ؟ أما والله لولا خديجة بنت خويلد لما تركت في أسد عظما إلا هشمته، فإني بتلك التي فيها المعاب صبير.

ولما لم يكن بابن الزبير قوة على بني هاشم، وعجز عما دبره فيهم، أخرجهم عن مكة، وأخرج محمد بن الحنفية إلى ناحية رضوى، وأخرج عبد الله ابن عباس إلى الطائف إخراجا قبيحا، وكتب محمد بن الحنفية إلى عبد الله بن عباس:

(أما بعد، فقد بلغني أن عبد الله بن الزبير سيرك إلى الطائف، فرفع الله بك أجرا، واحتط عنك وزرا، يا ابن عم، إنما يبتلى الصالحون، وتعد الكرامة للأخيار، ولو لم تؤجر إلا فيما نحب وتحب قل الاجر، فاصبر فإن الله قد وعد الصابرين خيرا، والسلام)(1).

فهذه الحوادث تكشف عما أنجبته السقيفة التي بايع فيها عمر بن الخطاب أبا بكر فتبعه على ذلك الأوس والخزرج ثم القرشيون لتتمخض عن نماذج

ص:169


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 262؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 4، ص 63؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 42. ص 102.

جلست على رقاب المسلمين، تمتنع من ذكر الصلاة على نبي الإسلام لأنه هاشمي، فأي عصبية هذه، وأي جاهلية هوجاء تغلغلت في الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

رابعا: افتخار الشهيد زيد بن علي بن الحسين بجدته خديجة عليهم السلام

ولم ينتهِ التاريخ بعد من سرده للشواهد التاريخية التي تدور في فلك ظلامة أهل البيت عليهم السلام فترسّخ حقيقة اضطهادهم مع ما لهم من الحقوق على الامة، فها هو شاهد تاريخي آخر أخرجه فرات الكوفي في تفسيره عن زيد بن علي(1) بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يضاف إلى

ص:170


1- ولد زيد بن علي عليه السلام في المدينة المنورة. أبوه الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وأمه من بلاد السند. والكثير من المراجع والمصادر لم تثبت سنة ولادته، كمااختلف في سنة شهادته. فقد أورد ابن الأثير في الكامل شهادته في أحداث عام (122 ه )، وكذلك الدينوري وابن الجوزي والطبري. وفئة من المؤرخين ذكروا أنه استشهد في عام (121 ه )، ومنهم ابن الأثير في تاريخه، فبعد أن أثبت وفاته سنة (122 ه )، كتب: (وقيل سنة وفاته عام (121 ه )). وأورده الشيخ الطوسي في جملة أصحاب الإمام زين العابدين وأصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وكتب: (زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام أبو الحسين، تابعي قتل سنه إحدى وعشرين ومائة وله اثنتان وأربعون سنة). أما الشيخ المفيد فإنه كتب في إرشاده: (وكان مقتله يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين ومائة وكان سنة يومئذ اثنتين وأربعين سنة). أما ابن عساكر في تاريخ دمشق فقد قال: (إن سنة ولادته (78 ه )). وإذا كان الأمر كذلك فإن سنة شهادته مرددة بين عام (121 ه ) كما ذهب إليه الشيخ الطوسي وبعض المؤرخين، وبين عام (122 ه ) كما ذهب ابن الأثير وغيره. وعلى هذا الأساس يمكن تحديد سنة ولادته بين عام (79 ه ) وبين عام (80 ه )، وذلك بقرينة أن عمره يوم شهادته

ص:171

ص:172

ص:173

تلك الشواهد.

كما إنه ينقل لنا صورة أخرى من صور تلك المرحلة الزمنية من تاريخ الامة الإسلامية التي شهدت تولي الأمويين فيها دفة الحكم؛ فضلاً عن بيان طبيعة التوجهات الفكرية والميولات والولاءات عند أبناء التابعيين في مكة والمدينة.

قال زيد بن علي عليهما السلام، في قوله تعالى:

(وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً)1 .

ص:174

قال - زيد -: فحفظ الغلامان بصلاح أبيهما فمن أحق أن يرجو الحفظ من الله بصلاح من مضى من آبائه منا، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جدنا، وابن عمه المؤمن به المهاجر معه أبونا، وابنته أمنا وزوجته أفضل أزواجه جدتنا، فأي الناس أعظم عليكم حقا في كتابه، ثم نحن من أمته وعلى ملته ندعوكم إلى سنته والكتاب الذي جاء به من ربه أن تحلوا حلاله وتحرموا حرامه وتعملوا بحكمه عند تفرق الناس واختلافهم)(1).

ويستدل زيد الشهيد عليه السلام على المسلمين بالكتاب المجيد فيورد لهم آية من آياته تلزمهم بحفظ أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان خير من خلق الله وأشرفهم فمن غيره أولى بحفظ أبنائه وذريته، وهذا فضلاً عن اختصاص خديجة عليها السلام بالصلاح فكيف كان جزاؤهم لها في أبنائها وأحفادها.

المسألة الخامسة: منزلة خديجة عليها السلام عند أعلام الشيعة
اشارة

إن ما يميز أقوال أعلام الشيعة في بيانهم لمنزلة خديجة هو أن هذه الأقوال مستمدة من القرآن الكريم والعترة النبوية عليهم السلام واشتهارها بين أتباع أهل البيت عليهم السلام.

بمعنى:

أن الشيعة يرجعون في إيمانهم بمنزلة خديجة عليها السلام إلى أقوال أئمة

ص:175


1- تفسير فرات الكوفي: ص 246؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 27، ص 207.

الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واستغنائهم بهذه الأقوال عن ما يرد عن سواهم.

ولذا:

نجد أن بيان أعلام الشيعة لمنزلة خديجة يكاد يكون قليلاً فيما لو قيس مع أقوال أعلام أهل السنة والجماعة وذلك لتمسك الشيعة بما يرد عن الأئمة المطهرين من الرجس واكتفائهم بهذه الأقوال.

أما أعلام أهل السنة والجماعة فقد احتاجوا إلى بيانات كثيرة ترشد أتباعهم إلى بيان منزلة خديجة عليها السلام؛ وذلك بسبب ما ذهب إليه أكثر أئمة أهل السنة في تفضيل عائشة على خديجة عليها السلام على الرغم من تضافر النصوص النبوية الصحيحة المتواترة المخبرة عن تفضيل خديجة عليها السلام على نساء الامة ما خلا ابنتها فاطمة عليها السلام كما مرّ بيانه مفصلاً.

ولقد بسط البعض من أعلام أهل السنة والجماعة من الماضين كالعلامة السبكي رحمه الله تعالى والسهيلي والزرقاني وغيرهم الكلام في بيان منزلة خديجة عليها السلام وتفضيلها على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنها وابنتها فاطمة عليهما السلام سيدتا نساء هذه الامة.

وعليه:

نبدأ هنا بأقوال أعلام الشيعة الذين اتبعوا العترة النبوية عليهم السلام في بيانهم لمنزلة خديجة عليها السلام.

ص:176

أولاً: منزلتها عند الشيخ الحميري القمي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 267 ه )

قال الحميري القمي(1): (هي سيدة قريش، وقد خطبها كل صنديد

ص:177


1- ترجم له السيد أبو القاسم الخوئي (طيب الله ثراه) فقال: قال النجاشي: عبد الله بن جعفر بن الحسن بن مالك بن جامع الحميري أبو العباس القمي شيخ القميين ووجههم، قدم الكوفة سنة نيف وستين ومائتين، وسمع أهلها منه فأكثروا، وصنف كتبا كثيرة يعرف منها: كتاب الإمامة، كتاب الدلائل، كتاب العظمة والتوحيد، كتاب الغيبة والحيرة، كتاب فضل العرب، كتاب التوحيد والبداء والإرادة والاستطاعة والمعرفة، كتاب قرب الإسناد إلى الرضا عليه السلام، كتاب قرب الإسناد إلى أبي جعفر بن الرضا عليه السلام، كتاب ما بين هشام بن الحكم وهشام بن سالم، والقياس (العباس)، والأرواح، والجنة والنار، والحديثين المختلفين، مسائل الرجال ومكاتباتهم أبا الحسن الثالث عليه السلام، مسائل لأبي محمد الحسن بن علي عليه السلام، على يد محمد بن عثمان العمري، كتاب قرب الإسناد إلى صاحب الامر عليه السلام، مسائل أبي محمد وتوقيعات، كتاب الطب، أخبرنا عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عنه بجميع كتبه. وذكر في ترجمة العمركي بن علي البوفكي: أنه روى عنه شيوخ أصحابنا منهم: عبد الله بن جعفر الحميري. وقال الشيخ: (عبد الله بن جعفر الحميري القمي يكنى أبا العباس، ثقة، له كتب، منها: كتاب الدلائل، كتاب الطب، وكتاب الإمامة، وكتاب التوحيد والاستطاعة والأفاعيل والبداء، وكتاب قرب الإسناد، وكتاب المسائل والتوقيعات، وكتاب الغيبة، ومسائله عن محمد بن عثمان العمري، وغير ذلك من رواياته ومصنفاته وفهرست كتبه، وزاد ابن بطة، كتاب الفترة والحيرة، وكتاب فضل العرب، أخبرنا بجميع كتبه ورواياته الشيخ المفيد رحمه الله، عن أبي جعفر بن بابويه، عن أبيه ومحمد بن الحسن، عنه، وأخبرنا بها ابن أبي جيد، عن ابن الوليد، عنه).

ورئيس، قد أبتهم، فزوجته نفسها للذي بلغها من خبر بحيراء)(1).

ص:178


1- قرب الإسناد للحميري: ص 325.
ثانياً: منزلتها عند الشيخ المفيد رضي الله تعالى عنه (المتوفى سنة 413 ه )

قال الشيخ المفيد(1) رحمه الله في بيان دلالة قول رسول الله صلى الله عليه

ص:179


1- أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم والمشهور بالشيخ المفيد ولد يوم الحادي عشر من ذي القعدة، سنة 336 ه وتوفي ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وصلى عليه الشريف المرتضى، وقد ترجم له السيد أبو القاسم الخوئي في معجم رجاله وقد جمع أقوال العلماء فيه، فمن جملة ما قالوا، قال النجاشي: شيخنا وأستاذنا رضي الله عنه فضله أشهر من أن يوصف في الفقه، والكلام، والرواية، والثقة والعلم. له كتب: الرسالة المقنعة الأركان في دعائم الدين، كتاب الإيضاح في الإمامة، كتاب الافصاح في الإمامة، كتاب الإرشاد، كتاب العوين والمحاسن، - ثم عدّ النجاشي بقية أسماء كتبه رضوان الله عليه. وقال الشيخ الطوسي: محمد بن محمد بن النعمان المفيد، يكنى أبا عبد الله المعروف بابن المعلم، من جملة متكلمي الإمامية، انتهت إليه رياسة الإمامية في وقته، وكان مقدما في العلم وصناعة الكلام، وكان فقيها متقدما فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، وله قريب من مائتي مصنف كبار وصغار، وفهرس كتبه معروف وتوفي لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وكان يوم وفاته يوما لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق (المؤالف)، ثم ذكر السيد أبو القاسم قدس سره، ما خرج من الناحية المقدسة من رسائل إلى الشيخ المفيد رضوان الله عليه. (معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج 18، ص 213-222). وترجم له الزركلي فقال: محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام العكبري يرفع نسبه إلى قحطان، أبو عبد الله، المفيد، ويعرف بابن المعلم: محقق إمامي انتهت إليه رئاسة الشيعة في وقته، كثير التصانيف في الأصول والكلام والفقه. ولد في عكبرا (على عشرة فراسخ من بغداد) ونشأ وتوفي ببغداد. له نحو مئتي مصنف منها (الإعلام فيما اتفقت الإمأميّة عليه في الأحكام - مطبوع - (الإرشاد في تاريخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والزهراء والأئمة - مطبوع -)، (الرسالة المقنعة - مطبوع - في الفقه)،

وآله وسلم لعائشة:

ما أبدلني الله خيرا منها.

- إن هذا -: (يوضح عن بطلان ما تدعيه الناصبة من سبق أبي بكر جماعة الامة إلى الإسلام إذ فيه شهادة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقدم إيمان خديجة على سائر الناس)(1).

ثالثا: منزلتها عند العلامة الحلي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 726 ه )

قال العلامة الحلي(2): (وأجمع المسلمون على أن خديجة من أهل الجنة،

ص:180


1- الإفصاح في الإمامة: ص 217، ط مصنفات الشيخ المفيد.
2- ترجم له الحر العاملي (طيب الله ثراه) قائلا: (الشيخ العلامة جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف ين علي بن المطهر الحلي فاضل عالم علامة العلماء، محقق مدقق ثقة ثقة فقيه محدث متكلم ماهر جليل القدر عظيم الشأن رفيع المنزلة، لا نظير له في الفنون والعلوم العقليات والنقليات، وفضائله ومحاسنه أكثر من أن تحصى. قرأ على المحقق الحلي والمحقق الطوسي في الكلام وغيره من العقليات، وقرأ عليه في الفقه المحقق الطوسي، وقرأ العلامة أيضا على جماعة كثيرين جدا من العامة والخاصة. وقد ذكره الحسن بن علي بن داود في كتابه فقال عند ذكره: شيخ الطائفة، وعلامة وقته، وصاحب التحقيق والتدقيق، كثير التصانيف انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول والمنقول، مولده سنة 648 ه ، وكان والده قدس الله روحه فقيها محققا مدرسا عظيم الشأن. وذكره السيد مصطفى في كتاب الرجال، ثم ذكر كلام ابن داود وقال: ويخطر ببالي أن لا أصفه، إذ لا يسع كتابي هذا علومه وتصانيفه وفضائله ومحامده له أكثر من سبعين كتابا انتهى. وذكره

ص:181

ص:182

وعائشة قاتلت أمير المؤمنين عليه السلام بعد الإجماع على إمامته، وقتلت بسببها نحواً من ستة عشر ألف صحابي وغيره من المسلمين)(1).

ص:183


1- نهج الحق وكشف الصدق: ص 370، ط دار الهجرة، قم.
رابعا: منزلتها عند الفقيه الكراجكي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 449 ه )

(1)

قال الفقيه الكراجكي قدس سره:

(ومن عجيب أمرهم تفضيلهم عائشة بنت أبي بكر على جميع أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبهجتهم بتسميتها أم المؤمنين، بدعواهم أنها حبيبة رسول الله، وكثرة ترحمهم عليها، وإظهارهم الخشوع والبكاء عند ذكرها، ثم لا يذكرون خديجة بنت خويلد - عليها السلام - وفضلها متفق عليه، وعلو قدرها لا شك فيه، وهي أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله

ص:184


1- هو الشيخ أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي، عالم فاضل، متكلم، فقيه، محدث ثقة، جليل القدر. له كتب منها: كنز الفوائد، وكتاب معدن الجواهر ورياضة الخواطر، والاستنصار في النص على الأئمة الأطهار، ورسالة في تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام، والكر والفر في الإمامة، والإبانة عن المماثلة في الاستدلال بين طريق النبوة والإمامة، ورسالة في حق الوالدين، ومعونة الفارض في استخراج سهام الفرائض. وقال منتجب الدين عند ذكره: فقيه الأصحاب، قرأ على السيد المرتضى والشيخ أبي جعفر، وله تصانيف منها: كتاب التعجب، كتاب النوادر، أخبرنا الوالد عن والده عنه. وقال ابن شهرآشوب عند ذكره: له أخبار الآحاد، التعجب في الإمامة حسن، ومسألة في المسح، ومسألة في كتابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمنهاج في معرفة مناسك الحاج، المزار، مختصر زيارة إبراهيم الخليل عليه السلام، شرح جمل العلم للمرتضى، الوزيري، وشرح الاستبصار في النص على الأئمة الأطهار، المشجر، معارضة الأضداد باتفاق الاعداد، الاستطراف في ذكر ما ورد من الفقه في الانصاف. كتاب التلقين لأولاد المؤمنين. جواب رسالة الأخوين. (وله أيضا كتاب الفهرست كما نسبه إليه ابن طاوس في أواخر كتاب الدروع الواقية)، وهو يروي عن الشيخ المفيد ومن عاصره. (أمل الآمل للحر العاملي: ج 2، ص 287-288، برقم 857).

وسلم، وأنفقت عليه مالها، وكان يكثر ذكرها، ويحسن الثناء عليها، ويقول:

ما نفعني مال كمالها.

ورزقه الله الولد منها، ولم يتزوج في حياتها إكراما منه لها، ولكثرة ما كان يذكرها)(1).

خامسا: منزلتها عند الأربلي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 693 ه )

(2)

قال الأربلي رحمه الله بعد أن أفرد في كتابه كشف الغمة فصلا لمناقب خديجة بنت خويلد أم فاطمة عليهما السلام فيقول:

ص:185


1- التعجب، أبو الفتح الكراجكي: ص 102.
2- ترجم له العلامة الأميني صاحب الغدير بقوله: (بهاء الدين أبو الحسن علي بن فخر الدين عيسى بن أبي الفتح الأربلي نزيل بغداد ودفينها، فذ من أفذاذ الأمّة، وأوحدي من نياقد علمائها، بعلمه النابع وأدبه الناصع يبلج القرن السابع وهو في أعاظم العلماء قبله في أئمة الأدب، وإن كان به ينضد جمان الكتابة، وتنظم عقود القريض، وبعد ذلك كله هو أحد ساسة عصره الزاهي، ترنحت به أعطاف الوزارة وأضاء دستها، كما ابتسم به ثغر الفقه والحديث، وحميت به ثغور المذهب، وسفره القيم - كشف الغمة - خير كتاب أخرج للناس في تاريخ أئمة الدين، وسرد فضايلهم، والدفاع عنهم، والدعوة إليهم. وهو حجة قاطعة على علمه الغزير، وتضلعه في الحديث، وثباته في المذهب، ونبوغه في الأدب، وتبريزه في الشعر، حشره الله مع العترة الطاهرة صلوات الله عليهم، قال الشيخ جمال الدين أحمد بن منبع الحلي مقرظا الكتاب: ألا قل لجامع هذا الكتاب يمينا لقد نلت أقصى المراد وأظهرت من فضل آل الرسول بتأليفه ما يسوء الأعادي (الغدير للعلامة الأميني: ج 5، ص 446).

(حيث ذكرت ما أمكن من مناقب فاطمة عليها السلام غير مدع الاستقصاء فإن مناقبها تجل عن العد والاحصاء شرعت في ذكر شيء من فضائل أمها عليها السلام ليعلم أن الشرف قد اكتنفها من جميع أقطارها وأن المجد أوصلها إلى غاية يعجز المجارون عن خوض غمارها ومهما ذكره ذاكر فهو على الحقيقة دون مقدارها)(1).

سادسا: منزلتها عند المامقاني رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 1351 ه )

(2)

قال المامقاني قدس سره:

(خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الباقية على الزوجية إلى الآن أم المؤمنين حقا)(3).

ص:186


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج 2، ص 129.
2- ترجم له الزركلي بقوله: عبد الله بن حسن بن عبد الله بن محمد بن باقر المامقاني النجفي مؤرخ متأدب متفقه إمامي، من أهل النجف مولده ووفاته بها من كتبه المطبوعة تنقيح المقال في أحوال الرجال (ثلاثة مجلدات، ومناهج المتقين ثلاثة أجزاء، ومجمع الرسائل. (الإعلام: ج 4، ص 79). وقال في حقه المرجع الديني السيد شهاب الدين المرعشي: مولانا وأستاذنا الآية الباهرة في جل العلوم، الحاج الشيخ عبد الله المامقاني النجفي (قده) ووفقني الله تعالى لأداء يسير من كثير حقه علي علما وتربية وإحساناً. (شرح إحقاق الحق للمرعشي: ج 1، ص 45).
3- تنقيح المقال في معرفة الرجال: ج 3، ص 77.
سابعا: منزلتها عند المحقق البحراني رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 1121 ه )

(1)

قال المحقق البحراني قدس سره:

(والتسع اللواتي قبض عنهن: عائشة، وحفص وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وصفية، وجويرية، وسودة.

وأفضلهن خديجة بنت خويلد ثم أم سلمة، ثم ميمونة)(2).

ص:187


1- هو الشيخ أبو الحسن شمس الدين سليمان ابن العالم الشيخ عبد الله بن علي بن حسن بن أحمد بن يوسف بن عمار البحراني الستراوي الماحوزي الدونجي. والستري كما في أنوار البدرين، أو التسراوي كما في اللؤلؤة نسبة إلى سترة ناحية البحرين. كان المحقق البحراني من أعظم علماء الشيعة، ومشهورا بينهم بالتتبع والتحقيق والتأليف، وأثنى عليه أرباب التراجم والمعاجم بالاطراء والثناء الفاخر ومجدوه بكل التمجيد بما يستحقه. (كتاب الأربعين للماحوزي: المقدمة، ص 4). قال المحقق الوحيد البهبهاني في تعليقه على منهج المقال: هو الفاضل الكامل المحقق المدقق الفقيه النبيه قادر العصر والزمان. (التعليقة على منهج المقال: ص 13). وقال المحدث الفقيه الشيخ يوسف البحراني في لؤلؤ البحرين: علامة الزمان، وتازرة الأوان، وهذا الشيخ قد انتهت إليه رئاسة بلاد البحرين في وقته. (لؤلؤة البحرين: ص 7).
2- الحدائق الناضرة، المحقق البحراني: ج 23، ص 95. وكذا ذهب إليه الحر العاملي: ج 20، ص 245. تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي: ج 16، ص 316.
ثامنا: منزلتها عند السيد أبي القاسم الخوئي طيب الله ثراه (المتوفى سنة 1411 ه )

(1)

قال السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره: (ووضوح جلالتها وعظم شأنها وبذل أموالها في سبيل الإسلام وخدمتها للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أغنانا عن الإطالة في المقال)(2).

فهذه الأقوال تكشف عن ثوابت الفكر الإمامي في الرجوع إلى القرآن والعترة وأن التولي والتبري عندهم يرتكز على أسس إيمانية وعقائدية يترجى من خلالها رضا الله تعالى ورضا رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:188


1- هو السيد أبو القاسم بن علي الأكبر بن هاشم الموسوي الخوئي من أكابر علماء الشيعة الإمامية وأحد مراجع الدين وإليه تعود رئاسة الطائفة في زمانه وشأنه لا يخفى على أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام أو على غيرهم، فكيف بطلاب العلوم الدينية. يقول السيد أبو القاسم الخوئي (قده) عن سيرة حياته: (ولدت في بلدة خوي سنة 1317 ه - هاجرت إلى النجف سنة 1330 ه - ابتدأت بقراءة العلوم الأدبية والمنطق ثم قرأت الكتب الدراسية والأصولية والفقهية لدى الكثير من أعلامها منهم سيدي المرحوم العلامة الحجة الوالد، ثم حضرت الدروس العليا على أكابر المدرسين سنة 1338 ه أخص منهم بالذكر: الشيخ فتح الله المعروف بشيخ الشريعة الاصفهاني، والشيخ محمد حسين النائيني، وأن الآخرين أكثر من تتلمذت عليه فقها وأصولاً وكنت أقرر بحث كل منهما على جمع من الحاضرين في البحث ولي في الرواية مشايخ أجازوني، وقد أكثرت من التدريس في الفقه والأصول والتفسير وربيت جمعاً غفيراً من الأفاضل في حوزة النجف الأشرف، وإني أحمد الله تعالى على ما أنعم به علي من مواصلة التدريس طيلة هذه السنين الطوال وما توقفت إلا في الضرورات كالمرض والسفر. (المقيد من معجم رجال الحديث للشيخ محمد الجواهري: ص 719).
2- معجم رجال الحديث: ج 24، ص 216.

بقي أن نقول: إن كان من لوازم البحث أن يطلع القارئ على رأي كاتب هذه السطور فيما قدمه بين يدي القارئ الكريم، فإني وإن لم أكن من أعلام الشيعة، فإن قراءتي لسيرة أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قادتني إلى الاعتقاد بأنها: أمّة جمعت في امرأة فكانت كأبيها إبراهيم الخليل حينما عرفه القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالى:

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ )1 .

المسألة السادسة: منزلة خديجة عليها السلام عند أعلام أهل السنة والجماعة
أولاً: منزلتها عند الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852 ه )

(1)

وتتضح منزلتها عليها السلام عند الحافظ ابن حجر من خلال أقوال

ص:189


1- أورد ترجمته العلامة الأميني رحمه الله في الغدير ضمن رواة حديث الغدير في القرن التاسع الهجري، فقال: (الحافظ أحمد بن علي بن محمد أبو الفضل العسقلاني المصري الشافعي المعروف بابن حجر المولود سنة 773 ه - في عسقلان بفلسطين - والمتوفى سنة 852 ه ، صاحب الإصابة، وتهذيب التهذيب، بسط القول في ترجمته السخاوي في ضوئه اللامع: ج 2، ص 36-40، وذكر مشايخه وتآليفه وأطراه، وقال: إمام الأئمة، قد شهد له القدماء بالحفظ والثقة والأمانة والمعرفة التامة والذهن الوقاد والذكاء المفرط وسعة العلم في فنون شتى، وشهد له شيخه العراقي بأنه أعلم أصحابه بالحديث، وقال كل من التقي الفاسي والبرهان الحلبي: ما رأينا مثله. (الغدير للعلامة الأميني رحمه الله: ج 1، ص 130، تحت الرقم 283).

ثلاثة، وهي كالآتي:

1 - قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:

(في شرح قولها: (هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله السلام).

قال العلماء:

في هذه القصة دليل على وفور فقهها؛ لأنها لم تقل وعليه السلام كما وقع لبعض الصحابة فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين)(1).

2 - وقال أيضا:

(لا جرم كانت أفضل نسائه على الراجح)(2).

3 - قال ابن حجر:

(لم يتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة حتى ماتت، وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليل على عظم قدرها عنده، وعلى مزيد فضلها، لأنها أغنته عن غيرها، واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها)(3).

ص:190


1- فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 105.
2- المصدر السابق، ط دار إحياء التراث.
3- فتح الباري: ج 7، ص 103.
ثانياً: منزلتها عند الحافظ المباركفوري (المتوفى سنة 1353 ه )

(1)

قال الحافظ المباركفوري في شرحه لجامع الترمذي عند قول عائشة: (ما حسدت امرأة ما حسدت خديجة). ما، الأولى نافية، والثانية مصدرية، أي ما حسدت مثل حسدي خديجة - عليها السلام - والمراد من الحسد هنا الغيرة (وما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعدما ماتت) أشارت عائشة بذلك إلى أن خديجة لو كانت حية في زمانها لكانت غيرتها منها أشد وأكثر، وذلك؛ أن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم بشرها ببيت في الجنة.

- ثم - كان لغيرة عائشة على خديجة أمران الأول كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم لها كما في الحديث السابق؛ والثاني هذه البشارة - أي بشارتها ببيت في الجنة - لأن اختصاص خديجة بهذه البشارة مشعر بمزيد محبة من النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم فيها (ببيت من قصب))(2).

ص:191


1- الشيخ أبو العلي محمد بن عبد الرحمن المباركفوري الحنبلي الظاهري من أئمة السنة في القارة الهندية ولد في 1283 ه وتوفي سنة 1353 ه من مؤلفاته تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي، وأبكار المنن في الرد على آثار أهل السنن. وقد قال عنه العلامة السيد محمد نذير حسين المحدث الدهلوي في إجازته له بالحديث: (إنّ المولوي الذكي، أبا العلي، محمد عبد الرحمن ابن الحافظ الحاج عبد الرحيم الأعظم كدهي، المباركفوري، قد قرأ علي صحيح البخاري، وصحيح ابن ماجة، ومشكاة المصابيح، وبلوغ المرام، وتفسير الجلالين، وتفسير البيضاوي، وأوائل الهداية، وأكثر شرح نخبة الفكر، وسمع ترجمة القرآن المجيد إلا ستة أجزاء، والموطأ، وسنن الدارمي، والمنتقى، وغيرها من كتب الحديث، والتفسير، والفقه، وتدريسها لأنه أهلها بالشروح المعتبرة عند أهل الحديث؛ مقدمة تحفة الأحوذي: ج 1، ص 2-3.
2- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري: ج 10، ص 264.
ثالثاً: منزلتها عند الشبلنجي (المتوفى سنة 1308 ه )

قال الشبلنجي(1): (قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في بهجة الحادي وأفضلهن خديجة وعائشة وفي أفضليتهما خلاف صحح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت أنه قال لعائشة حين قالت له رزقك الله خيرا منها لا والله ما رزقني الله خيرا منها)(2).

رابعاً: منزلتها عند العلامة السبكي (المتوفى سنة 756 ه )

1 - قال العلامة السبكي(3): (والذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة

ص:192


1- الشيخ سيد مؤمن بن حنس مؤمن الشبلنجي، فاضل من أهل شبلنجة (من قرى مصر، قرب بنها العسل) تعلم في الأزهر وأقام في جواره، وكان يميل إلى العزلة من كتبه (نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار) (فتح المنان في تفسير غريب القرآن) ومختصر الجبرتي في جزأين صغيرين. (الأعلام للزركلي: ج 7، ص 334).
2- نور الأبصار للشبلنجي: ص 90، ط انتشارات الشريف الرضي.
3- ترجم له السيوطي بقوله: (الإمام، الفقيه، المحدث، الحافظ ، المفسر، المتكلم، النحوي، اللغوي، الأديب، المجتهد، تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علي بن مسوار بن سوار بن سليم، شيخ الاسلام، امام العصر، ولد في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وأخذ الفقه عن ابن الرفعة، والحديث عن الشرف الدمياطي، والقراءات عن التقي الصائغ والأصلين والمعقول عن العلاء الباجي والخلاف والمنطق عن السيف البغدادي والنحو عن أبي حيان والتصوف عن التاج بن عطاء وسمع من ابن الصواف وعدة، وأقبل على التصنيف والفتيا وصنف أكثر من مائة وخمسين مصنفا وتصانيفه تدل على تبحره في الحديث وغيره وسعة باعه في العلوم وتخرج به فضلاء العصر وولي قضاء الشام بوفاة الجلال القزويني وخرج له الحافظ شهاب الدين أبو العباس

أفضل ثم خديجة ثم عائشة)(1).

2 - وقال أيضا: (وهذا صريح في أنها وأمها أفضل نساء أهل الجنة)(2).

أي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم.

خامسا: منزلتها عند الزرقاني (المتوفى سنة 1122 ه )

1 - قال الزرقاني(3) في شرح متن القسطلاني: (فلم يتزوج عليها مدة

ص:193


1- فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 84.
2- سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 11، ص 161.
3- ترجم له الزركلي فقال: محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن علوان الزرقاني المصري الأزهري المالكي، أبو عبد الله خاتمة المحدثين بالديار المصرية، مولده ووفاته بالقاهرة ونسبته إلى زرقان من قرى منوف بمصر من كتبه (تلخيص المقاصد الحسنة) و (شرح المواهب اللدنية) و (شرح البيقونية). (أنظر الأعلام، ج 6، ص 184).

حياتها وبلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته)(1).

2 - قال الزرقاني أيضا: (قال ابن إسحاق وآزرته على أمره فخفف الله بذلك عنه فكان لا يسمع شيئا يكرهه من رد وتكذيب إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، ولهذا السبق وحسن المعروف جزاها الله سبحانه فبعث جبرائيل إلى النبي وهو بغار حراء كما في رواية الطبراني وقال اقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، كما في الصحيح.

وفي الطبراني فقالت: هو السلام ومنه السلام وعلى جبرائيل السلام.

وفي النسائي: وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، وهذا من وفور فقهها حيث جعلت مكان رد السلام الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره)(2).

كما أن - اقرأ السلام من ربها خصوصية لم يكن لسواها)(3).

سادسا: منزلتها عند الذهبي (المتوفى سنة 748 ه )

قال الذهبي(4): (وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يثني عليها

ص:194


1- شرح الزرقاني على المواهب اللدنية: ج 1، ص 238.
2- شرح الزرقاني على المواهب اللدنية: ج 1، ص 238.
3- المصدر السابق.
4- ترجم له السيوطي بقوله: الإمام الحافظ محدث العصر وخاتمة الحفاظ ومؤرخ الإسلام وفرد الدهر والقائم بأعباء هذه الصناعة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني ثم الدمشقي المقرئ ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة وطلب الحديث وله ثماني

ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين ويبالغ في تعظيمها)(1).

سابعا: منزلتها عند الحافظ السهيلي (المتوفى سنة 581 ه )

قال السهيلي(2): (النكتة في قوله (من قصب) ولم يقل (من لؤلؤ) إن في

ص:195


1- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 110.
2- ترجم له الذهبي بقوله: الحافظ العلامة البارع أبو القاسم وأبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله ابن أحمد بن أصبغ بن حسين بن سعدون، ويكنى أيضا أبا الحسن، ولد الخطيب أبي محمد ابن الإمام الخطيب أبي عمر الخثعمي الأندلسي المالقي الضرير صاحب التصانيف المؤنقة، مولده سنة بضع وخمس مائة. أخذ القراءات عن أبي داود الصغير سليمان بن يحيى وأخذ بعضها عن أبي منصور ابن الخير، وسمع من (أبي) عبد الله بن معمر والقاضي أبي بكر بن العربي وشريح بن محمد وأبي عبد الله بن مكي وأبي عبد الله (بن) نجاح الذهبي وطائفة، وأجاز له أبو عبد الله ابن أخت غانم وناظر في كتاب سيبويه على أبي الحسين ابن الطراوة وسمع منه كثيرا من كتب الأدب، عمي وهو ابن سبع عشرة سنة حمل الناس عنه، وصنف كتاب (الروض الأنف) كالشرح للسيرة النبوية فأجاد وأفاد وذكر أنه استخرجه من مائة وعشرين مصنفا، وله كتاب (الاعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء الاعلام)، وله (كتاب الفرائض) وغير ذلك وكان إماما في لسان العرب يتوقد ذكاءً وقد استدعى من مالقة إلى مراكش ليأخذوا عنه، سمع منه أبو الخطاب ابن دحية وجماعة، قال ابن دحية: كان يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف حتى نما خبره إلى صاحب مراكش فطلبه وأحسن إليه وأقبل عليه وأقام بها نحوا من ثلاثة أعوام.

لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها ولذا وقعت هذه المناسبة في جميع ألفاظ هذا الحديث.

وفي القصب مناسبة أخرى من جهته استواء أكثر أنابيبه وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ولم يصدر منها ما يبغضه قط ، كما وقع لغيرها.

وأما قوله (بيت)، فقال أبو بكر الاسكاف في فوائد الأخبار: بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها، ولذا قال: (لا نصب فيه) أي: لم تتعب بسببه.

قال السهيلي لذكر (البيت) معنى لطيف: لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث، ثم صارت ربة بيت في الإسلام، متفردة به، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها؛ وفي ذكر (البيت) معنى آخر: لأن

ص:196

مرجع أهل بيت النبي إليها لما ثبت في تفسير قوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت.

قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي فاطمة وعليا والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال:

«هؤلاء أهل بيتي».

الحديث أخرجه الترمذي وغيره ومرجع أهل البيت إلى خديجة لأن الحسنين من فاطمة بنتها وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها).

(قوله لا صخب فيه ولا نصب) الصخب بفتح المهملة والمعجمة بعدها موحدة، الصياح والمنازعة برفع الصوت؛ والنصب بفتح النون والمهملة بعدها موحدة: التعب؛ وأغرب الداودي فقال: الصخب: العيب، والنصب العوج، وهو تفسير لا تساعد عليه اللغة.

وقال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين أعني المنازعة والتعب أنه صلى الله عليه - وآله - وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعا فلم تحوجه إلى رفع الصوت ولا تنازعه ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلتها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها(1).

ص:197


1- فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 104؛ فيض الغدير للمناوي: ج 2، ص 241؛ والظاهر في سياق الحديث أن كلام الحافظ السهيلي قد تداخل معه كلام الحافظ ابن حجر فأضاف معاني أخرى للأحاديث الشريفة غير ا لتي ذكرها السهيلي ولذلك أوردناه كاملاً.
ثامنا: منزلتها عند القاضي النعمان المغربي (المتوفى سنة 363 ه )

قال القاضي النعمان المغربي(1): (فخديجة رضوان الله عليها ولدت الأئمة

ص:198


1- ترجم له الزركلي في الاعلام، فقال: النعمان بن محمد بن منصور، أبو حنيفة بن حيون التميمي، ويقال له القاضي النعمان: من أركان الدعوة للفاطميين ومذهبهم بمصر. كان واسع العلم بالفقه والقرآن والأدب والتاريخ. من أهل القيروان، مولدا ومنشأ. تفقه بمذهب المالكية، وتحول إلى مذهب الباطنية. عاصر المهدي والقائم والمنصور والمعز (منشئ القاهرة) وخدمهم. وقدم مع المعز إلى مصر، وهو كبير قضاته. وتوفي بها. وصفه الذهبي بالعلامة المارق. وقال ابن حجر: في كتبه ما يدل على انحلال عقيدته. له (اختلاف أصول المذاهب) يرد فيه على أدلة الاجتهاد وينصر الإسماعيلية، و (دعائم الاسلام، وذكر الحلال والحرام) مجلدان، رأيت ثانيهما في الفاتيكان وكان (الظاهر) الفاطمي قد أمر الدعاة بحض الناس على حفظه، وجعل لمن يحفظه مكافأة، وله (مختصر) و (تأويل دعائم الاسلام) الأول منه، ويسمى (تربية المؤمنين) و (المجالس والمسايرات) أخبار وأحاديث، و (افتتاح الدعوة) لعله الذي سماه (ابتداء الدعوة للعبيديين) و (الهمة في آداب اتباع الأئمة) و (الاقتصاد) في فقه الشيعة، و (مختصر الآثار فيما روي عن الأئمة الأطهار) متداول الآن بين طائفة البهرة، و (أساس التأويل الباطن) و (المناقب والمثالب) و (ردود) على بعض الأئمة كالشافعي ومالك وأبي حنيفة، و (شرح الاخبار في فضائل النبي المختار وآله المصطفين الأخيار) و (المنتخبة) قصيدة في الفقه. قال الذهبي: كتبه كبار مطولة. وكان وافر الحشمة عظيم الحرمة، في أولاده قضاة وكبراء. (الأعلام لخير الدين الزركلي: ج 8، ص 41). وقد اختلف في حاله عند علماء الإمامية كابن شهر آشوب فقد ذهب إلى أن الرجل ليس بإمامي، وعده السيد بحر العلوم في رجاله من المالكية ثم إمامياً؛ وقال صاحب الجواهر: مطعون فيه؛ وذهب المحدث النوري إلى كونه إمامياً، وتوقف فيه السيد الخوئي. (معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج 20، ص 184).

وبشرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة وأتاها جبرائيل عليه السلام عن الله عزّ وجل بالسلام.

وأنفقت مالها في سبيل الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت أول من عرفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النساء وبنى بها منهن، لم يعرف من النساء امرأة قبلها.

وكانت أحب أزواجه إليه وأكرمهن عليه وأفضلهن عنده وأم بنيه وبناته ومسليته كما ذكر صلى الله عليه وآله وسلم ومفرجة غمومه، ولم يكن بينه وبينها اختلاف أيام حياتها حتى قبضت وهو عنها راض ولها شاكر رحمة الله ورضوانه عليها)(1).

المسألة السابعة: خديجة عليها السلام من رواة الحديث الشريف
اشارة

أشارت كتب الرجال والرواة للحديث النبوي الشريف إلى أن السيدة الطاهرة أم المؤمنين خديجة عليها السلام هي ممن روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرغم من الحقبة الحرجة التي شغلتها من عمر الرسالة مع ما رافقها من جهد وجهاد وحصار أصبح معروفاً لدى القارئ.

فلو نظرنا إلى سير الرسالة منذ انطلاقها في مكة وإلى حين وفاة خديجة عليها السلام لوجدناها من أصعب المراحل، إن لم تكن فريدة في تحديداتها وخطورتها ومشاقها؛ فالسنين الأولى كانت في جو من التكتم المبتني على

ص:199


1- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج 3، ص 22، ط جماعة المدرسين.

الاختيار للأفراد الذين يجد فيهم النبي الأكرم سمة الصدق والطهر فدعاهم إلى الإسلام كزوجه خديجة بنت خويلد وعلي بن أبي طالب وعمه أبي طالب(1) والصحابي الجليل أبي ذر الغفاري؛ ثم تلتها بثلاث سنوات أو ما يزيد عنها أو يقل مرحلة الإنذار والتصريح والدعوة العامة، ثم تلتها سنوات الحصار والمقاطعة والحجر في شعب أبي طالب عليه السلام، فأي امرأة نالها ما نالت من التعب والجهد وأي امرأة أحرزت ما أحرزته خديجة من الجهاد والمثابرة والمواساة والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

إلا أنها مع هذا كله كان لها باع في رواية الحديث حسبما نص عليه أهل الاختصاص في علم الرجال.

وهم كالآتي:

أولاً: ورود اسمها في الكتب الرجالية عند الشيعة

1 - ذكرها السيد الميرزا محمد الأسترابادي رحمه الله في باب: نساء لهن رواية، فعدها منهنّ قائلاً: (خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

2 - ذكرها الأردبيلي في فصل: نساء لهن رواية، فقال: (خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

ص:200


1- لمزيد من البيان أنظر: أبو طالب ثالث من أسلم للمؤلف.
2- الأنوار الساطعة للشيخ غالب السهلاوي: ص 329، نقلا عن: منهج المقال: ص 400، طبع حجري.
3- المصدر السابق، نقلا عن: جامع الرواة: ج 2، ص 457، ط دار الأضواء.

3 - وذكرها الشيخ محمد الحائري في منتهى المقال في باب: نساء لهن رواية أو صحبة، فقال: (خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

4 - وأورد اسمها سماحة السيد أبو القاسم الخوئي في معجم رجال الحديث، قائلا: (خديجة بنت خويلد، زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأول امرأة أسلمت، وهي إحدى الأربع اللائي خير نساء الجنة، وأفضلهن، على ما رواه الصدوق بسنده، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الخصال: باب الأربعة، أفضل نساء أهل الجنة أربع، الحديث.

وهي أفضل نساء النبي، على ما رواه الصدوق، الخصال: باب التسعة، قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تسعة نسوة، الحديث.

ووضوح جلالتها وعظم شأنها وبذل أموالها في سبيل الإسلام، وخدمتها للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أغنانا عن الإطالة في المقال)(2).

ثانياً: ورود اسمها في الكتب الرجالية عند أهل السنة والجماعة

1 - ذكرها ابن حبان في الثقات، قائلاً: (وممن روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النساء ابتدأ اسمها على حرف الخاء، خديجة بنت خويلد ابن أسد بن عبد العزى زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

ص:201


1- المصدر السابق، نقلا عن: منتهى المقال: ج 7، ص 464، ط آل البيت، قم.
2- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي قدس سره: ج 24، ص 217، برقم 15667.
3- الثقات لابن حبان: ج 3، ص 114.

2. وأورد اسمها العجلي في كتابه: معرفة الثقات، ضمن التسلسل (2331)(1).

3 - وذكرها ابن قايماز الذهبي في كتابه: المعين في طبقات المحدثين قائلا: (خديجة بنت خويلد سيدة النساء)(2).

ثالثاً: حذف حديثها من صحيح البخاري دليل على تحريف صحيح البخاري

كما ذكرها الكلاباذي في رجال صحيح البخاري تحت الرقم 1417(3) ، إلا أنني لم أعثر لها على رواية أخرجها البخاري في الطبعات المتوفرة حاليا وهذا يدفع إلى الاعتقاد بأن كتاب صحيح البخاري قد تعرض إلى الحذف والتحريف، وإلا من المستبعد أن يتوهم الكلاباذي عن صحيح البخاري فيذكر ما ليس فيه.

رابعاً: ما روي عنها من الأحاديث

روى السيوطي عن ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن عبد الأعلى التيمي قال: (قالت خديجة عليها السلام:

يا رسول الله ما أقول وأنا أطوف بالبيت ؟

قال: قولي:

أللهم أغفر ذنوبي وخطئي وعمدي وإسرافي في أمري إنك إن لا تغفر لي تهلكني(4).

ص:202


1- معرفة الثقات للعجلي: ج 2، ص 2.
2- المعين في طبقات المحدثين لابن قايماز الذهبي: ج 1، ص 6، برقم 160.
3- رجال صحيح البخاري للكلاباذي: ج 2، ص 835.
4- جمع الجوامع للسيوطي: ج 1، ح 15540؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 15، ص 204، برقم 15320؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 358؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 5،

المبحث الرابع: اعتقاد خديجة عليها السلام بالإمامة

اشارة

يعدّ موضوع الإمامة من بين أهم المواضيع الإسلامية التي شغلت من الفكر الإسلامي حيزاً كبيراً لاسيما أنها، أي الإمامة، قد دارت من حولها رؤى وتوجهات اختلفت فيها المفاهيم بحسب الناظر إليها وبما توفر لديه من معطيات فكرية.

فقد كانت الإمامة عند مذهب العترة النبوية أصلاً من أصول الدين ووافقهم على ذلك بعض علماء أهل السنة والجماعة (كالقاضي البيضاوي في مبحث الأخبار وجمع من شارحي كلامه)(1).

في حين ذهب أغلب علماء أهل العامة إلى أنها من توابع المصالح العامة وأنها تنعقد، أي الإمامة، بتعيين الامة كما أوضحه ابن خلدون في مقدمة تاريخه، قائلاً:

ومذهب الشيعة في حكم الإمامة أنها - (ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الامة ويتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الامة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصوما من الكبائر والصغائر، وإن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه - صلى الله عليه وآله وسلم -)(2).

ص:203


1- دلائل الصدق للمظفر: ج 2، ص 11.
2- مقدمة ابن خلدون: ص 196.

أقول: بل ذهب علماء الشيعة الإمامية الاثنى عشرية إلى أنها من موجبات حكمة الله تعالى التي لا يقوم الشرع إلا بها وأن التخلي عنها يردي المسلم في المهالك الأخروية فضلاً عن ضنك الحياة الدنيوية.

وهذه جملة من أقوال علماء الطائفة (رضوان الله عليهم):

1 - قال المرجع الديني السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (قدس سره): (إنّ الإمامة خلافة عن النبوة وقائمة مقامها، وإذا كان كذلك كان ما استدللنا به على وجوب النبوة في حكمة الله أيضاً لأنها سادة مسدها قائمة مقامها لا فرق بين النبوة وبينها إلا في تلقي الوحي الإلهي بلا واسطة بشر)(1).

2 - وقال الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (قدس): (إنها - أي الإمامة - الأصل الذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق المسلمين، وهو فرق جوهري أصلي وما عداه من الفروق فرعية عرضية كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعي وغيرهما، وإن مراد - الإمامية - بالإمامة كونها منصباً إلهياً يختاره الله بسابق علمه كما يختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

3 - قال العلامة الفقيه الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله: (نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة.

ص:204


1- ذيل إحقاق الحق: ج 2، ص 294.
2- أصل الشيعة وأصولها.

وعلى الأقل أن الاعتقاد بفراغ ذمة المكلف من التكاليف الشرعية المفروضة عليه يتوقف على الاعتقاد بها إيجابا أو سلبا، فإذا لم تكن أصلا من الأصول لا يجوز فيها التقليد لكونها أصلا فإنه يجب الاعتقاد بها من هذه الجهة أي من جهة أن فراغ ذمة المكلف من التكاليف المفروضة عليه قطعا من الله تعالى واجب عقلا، وليست كلها معلومة من طريقة قطعية، فلا بد من الرجوع فيها إلى من نقطع بفراغ الذمة باتباعه، أما الإمام على طريقة الإمامية أو على طريقة غيرهم.

كما نعتقد أنها كالنبوة لطف من الله تعالى، فلا بد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شؤونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ورفع الظلم والعدوان من بينهم.

وعلى هذا، فالإمامة استمرار للنبوة، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب أيضا نصب الإمام بعد الرسول.

فلذلك نقول: إن الإمامة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي أو لسان الإمام الذي قبله، وليست هي بالاختيار والانتخاب من الناس، فليس لهم إذا شاءوا أن ينصبوا أحدا نصبوه، وإذا شاءوا أن يعينوا إماما لهم عينوه، ومتى شاءوا أن يتركوا تعيينه تركوه)(1).

وعليه: فقد آمنت السيدة خديجة الكبرى بإمامة علي بن أبي طالب

ص:205


1- عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر: ص 93.

عليهما السلام قبل أن يفرض الله تعالى على المسلم هذه الفريضة في غدير خم عند رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع(1) ، لما في الإمامة

ص:206


1- أنظر في تنصيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام إماماً للمسلمين من بعده يوم الثامن عشر من ذي الحجة في غدير خم وهو يخاطب المسلمين: ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا: بلى. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه: مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 84، من مسند علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ وفي لفظ : أللهم والِ من والاه وعاد من عاداه: مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 118؛ وقد اشتهر اللفظ الأول كنار على علم في كتب الحديث والتاريخ والرجال وهي: مسند ابن ماجه القزويني: ج 1، ص 45؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 297؛ فضائل الصحابة للنسائي: ص 14؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 109، وص 110، وص 116، وص 134، وص 371، وص 533؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 7، ص 17، وج 9، ص 103، وص 104، وص 405، وص 106، وص 107، وص 108، وص 120، وص 164؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 7، ص 61؛ عمدة القاري للعيني: ج 18، ص 206؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج 3، ص 137، وج 10، ص 147، وص 148، وص 154، وص 158؛ ا لمصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 11، ص 225؛ المعيار والموازنة للاسكافي: ص 72؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 7، ص 495، وص 496، وص 499، وص 503، وص 506؛ جزء ابن عاصم الأصبهاني: ص 126؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 4، ص 325؛ كتاب السنة لعمرو بن أبي عاصم: ص 552؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 45، وص 108، وص 130، وص 131، وص 132، وص 134، وص 136؛ خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ص 50، وص 64؛ مسند أبي يعلى: ج 1، ص 429؛ صحيح ابن حبان: ج 15، ص 376؛ جزء علي بن محمد الحميري: ص 35؛ أمالي المحاملي: ص 87؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 1، ص 24 وص 324، وص 369؛ وج 6، ص 218؛ وج 7، ص 70؛ وج 8، ص 213؛ المعجم الصغير

من رتبة إيمانية وتكاملية ينال بها العبد رضا الله تعالى ويحرز الدرجات العالية التي أعدها الله لعباده المخلصين.

ولذا:

كان من سابق لطف الله تعالى وشمول رحمته بالطاهرة خديجة عليها السلام أن عرض عليها الإمامة قبل فرضها على الامة في عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع إلى المدينة في غدير خم.

أما كيف عرض عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الولاية لعلي عليهما السلام فهي كالآتي:

روى السيد ابن طاووس رضي الله عنه عن عيسى بن المستفاد، قال: حدثني موسى بن جعفر سألت أبي جعفر بن محمد عليهم السلام عن بدء الإسلام كيف أسلم علي عليه السلام وكيف أسلمت خديجة رضي الله عنهما فقال لي موسى بن جعفر:

تأبى إلا أن تطلب أصول العلم ومبتدأه أم والله إنك لتسأل تفقها.

ص:207

قال موسى عليه السلام:

قال لي أبي أنهما - حينما - أسلما دعاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

يا علي ويا خديجة أسلمتما لله وسلمتما له، وقال: إن جبرائيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام فأسلما تسلما وأطيعا تهديا.

فقالا: فعلنا وأطعنا يا رسول الله.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن جبرائيل عندي يقول لكما إن للإسلام شروطا وعهودا ومواثيق فابتدياه بما شرط الله عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه، ولم يلده والد ولم يتخذ صاحبة، إلها واحدا مخلصا، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله إلى الناس كافة بين يدي الساعة، ونشهد أن الله يحيي ويميت، ويرفع ويضع، ويغني ويفقر، ويفعل ما يشاء، ويبعث من في القبور.

قالا: شهدنا.

قال وإسباغ الوضوء على المكاره: غسل الوجه واليدين والذراعين ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين، وغسل الجنابة في الحر والبرد، وإقام الصلاة وأخذ الزكاة من حلها، ووضعها في أهلها، وحج البيت، وصوم شهر رمضان والجهاد في سبيل الله، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والعدل في الرعية، والقسم بالسوية، والوقوف عند الشبهة إلى الوصول إلى الامام. فإنه لا شبهة عنده، وطاعة ولي الأمر بعدي، ومعرفته في حياتي وبعد موتي، والأئمة من بعده واحدا واحدا وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعداء

ص:208

الله، والبراءة من الشيطان الرجيم، وحزبه وأشياعه، والبراءة من الأحزاب تيم وعدي وأمية، وأشياعهم وأتباعهم والحياة على ديني وسنتي، ودين وصيي وسنته إلى يوم القيامة، والموت على مثل ذلك وترك شرب الخمر، وملاحاة الناس.

يا خديجة فهمت ما شرط ربك عليك ؟ قالت: نعم، وآمنت وصدقت، ورضيت وسلمت.

قال علي عليه السلام: وأنا على ذلك.

فقال: يا علي تبايعني على ما شرطت عليك ؟ قال: نعم.

قال: فبسط رسول الله كفه فوضع كف علي عليه السلام في كفه فقال: بايعني يا علي على ما شرطت عليك، وأن تمنعني مما تمنع منه نفسك، فبكى علي عليه السلام فقال: بأبي وأمي لاحول ولا قوة إلا بالله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اهتديت ورب الكعبة، ورشدت ووفقت، وأرشدك الله يا خديجة، ضعي يدك فوق يد علي فبايعي له؛ فبايعت على مثل ما بايع عليه علي بن أبي طالب عليه السلام على أنه لا جهاد عليها.

ثم قال: يا خديجة هذا علي مولاك ومولى المؤمنين، وإمامهم بعدي. قالت: صدقت يا رسول الله قد بايعته على ما قلت، اشهد الله وأشهدك وكفى بالله شهيدا عليما(1).

والحديث الشريف فيه مجموعة مسائل منها:

ص:209


1- الطرف لابن طاووس: ص 4، ط الحيدرية، النجف؛ بحار الأنوار: ج 65، ص 392-393؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 1، ص 283.
المسألة الأولى: إنّ الله تعالى يختار لأوليائه تمام النعمة

يعرض القرآن الكريم من خلال سيرة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام حقيقة اتمام النعمة عليهم، بمعنى: أن الله تعالى كان من سابق رحمته لأوليائه أن يتم نعمته عليهم فيتحفهم بفضله ويخصهم بلطفه وكرمه وهو سبحانه ذو الفضل العظيم وله المنة والحمد.

ولو تتبعنا هذه الحقيقة لوجدناها تمتد منذ أن اتخذ الله آدم عليه السلام خليفة له على هذه الأرض وإلى يوم ظهور أمر الله، وهذا فضلاً عن نشر لطفه سبحانه عليهم في عالم الأنوار وعالم الذر.

ففي آدم عليه السلام كان عرض الأسماء عليه سبباً لإتمام النعمة عليه في التفضيل على الملائكة واسجادهم له وإقرارهم لله بأنهم لا علم لهم إلا ما علمهم الله تعالى.

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ )1 .

وحينما ابتلي في الجنة وأنزل إلى الأرض كان إتمام النعمة عليه بتلقيه الكلمات التي تاب الله عليه بها فتوسل إلى الله بها، وهي نفسها الأسماء التي سجدت لها الملائكة، وهم محمد وآل محمد فبهذه المعرفة تمت النعمة عليهم.

ص:210

إلا أنّ الملاحظ في هذا العرض القرآني أن هذه النعمة أي معرفة محمد وآله صلى الله عليه وآله وسلم مقرونة بالابتلاء مما يدل على أن الشيء الثمين لا ينال إلا بالجهد والاختبار والابتلاء كمن يسعى للحصول على كنز عظيم فهو لا يحصل عليه دون جهد وعناء وحصول الكفاءة.

وفي إبراهيم عليه السلام يتجلى الأمر بوضوح أكبر، بل: يعرض القرآن نعمة الإمامة بأنها سنام نعم الله تعالى على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام وأن إبراهيم امتاز عن سابقيه من المرسلين بأنه وفق لنيلها فلما عرف ما لها من المقام والفضل عند الله تعالى سأله أن يمن بها على ذريته فأقرنها الله تعالى بالعدل، قال تعالى:

(وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ )1 .

وغيرها من الآيات التي تظهر لنا حقيقة إتمام النعمة للأنبياء والمرسلين عليهم السلام حتى إذا وصلنا إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم نجد أن سابغ نعم الله قد أحيطت به فكان وجوده هو النعمة الكبرى التي أوصلت إلى تمام النعمة وهي الإمامة والولاية لعلي وأولاده المعصومين عليهم السلام.

ولقد صرح القرآن الكريم بهذه الحقيقة أي أن الولاية لعلي والأئمة من ولده هي تمام النعمة كما جاء ذلك واضحاً جلياً لمن كان له قلب في قوله تعالى:

ص:211

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)1 .

فهذه التي نزلت بعد إعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ولاية علي بن أبي طالب وأنه إمام كل المسلمين من بعده صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الحقيقة القرآنية، وهذه الفريضة الإسلامية قد أيقنتها قلوب بعض المسلمين وأنكرتها قلوب أخرى لدرجة أن البعض من المسلمين جاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم معترضاً عليه تنصيب علي بن أبي طالب إماماً وولياً للمسلمين من بعده.

بل تكشف الرواية أن هذا المعترض وهو الحرث بن النعمان الفهري قد أوصلته حالة البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام إلى أن ينكر على النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذا الفعل مشككا بما قام به، بل وسائلا الله تعالى أن ينزل عليه عذاباً من عنده إن كان هذا الفعل من عنده جل شأنه.

روى الثعلبي في تفسير قوله تعالى:

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ )2 .

أن سفيان بن عيينة سأل الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام عن هذه الآية فيمن نزلت ؟

ص:212

(فقال عليه السلام:

لقد سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك، حدثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه، فقال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغدير خم، نادى بالناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي فقال:

من كنت مولاه فعلي مولاه.

فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ناقة له حتى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ملأ من أصحابه فقال:

أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهرا فقبلنا، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله تعالى ؟

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

والذي لا إله إلا هو، هذا من الله.

فولى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقوله حقا فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله سبحانه:

ص:213

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ))1 .

فهذه الحادثة واضحة الدلالة في إتمام النعمة التي اختارها الله تعالى أن تكون في أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت بها خير أمّة أخرجت للناس.

وكذلك خديجة عليها السلام فقد اختار الله تعالى لها كما اختار لأوليائه من قبل في إتمام نعمته عليهم ولذلك هبط جبرائيل عليه السلام على النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ليعرض عليها ولاية علي بن أبي طالب والبيعة له بالإمامة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كي تحظى بما خص الله تعالى عباده المخلصين، ومما يدل عليه ما سنورده في المسألة الآتية.

ص:214

المسألة الثانية: اعتقاد الرسل والأنبياء بنبوة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع ما بعثوا به من رسالات إلى الأمم

لم يدع القرآن الحقائق دون أن يكشفها لذوي الألباب لاسيما فيما يخص بالسنن الإلهية وحركة التاريخ وما انتهت إليه عاقبة الأمم السالفة؛ لأنه بذاك يعطي منهاجاً للأقوام اللاحقة فيهيئها لمعرفة ما تنتهي إليه عواقب الأفعال في الحياة الدنيا.

والقرآن الكريم يظهر من خلال حياة الأنبياء والمرسلين عن جملة من السنن التي حفت بهم، ومنها اعتقادهم بالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم كانوا مسلمين لله رب العالمين على الرغم من أنهم بعثوا في أزمان مختلفة وبقاع متعددة وبشرائع محددة، بمعنى لم يكونوا قد بعثوا إلى تلك الأمم بالدين الإسلامي إلا أنهم كانوا يعلنون في أدعيتهم ومناجاتهم ووصاياها بأنهم مسلمين وأن سيدهم وإمامهم أبو القاسم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.

بل يعطي القرآن صورة أوضح من هذه من خلال عرضه لسيرة فرعون فيدلل على حقيقة انتشار هذه العقيدة التي آمنت بها الأنبياء والمرسلون بشكل لا يخفى على أحدٍ من أقوامهم وأتباعهم وحتى أعدائهم كما ظهر في قول فرعون كما سيمر لاحقاً في عرض الآيات المباركة الآتية:

1 - يعرض القرآن لنا بأن أول المسلمين قبل خلق آدم عليه السلام هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:

ص:215

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )1 .

فكان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو أول المسلمين.

2 - وفي نوح تظهر الآية المباركة اعلانه لاعتقاده بإمامة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:

(وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ )2 .

3 - ولمعرفة بني إسرائيل بهذه الحقيقة وانتشارها فيما بينهم كان حال فرعون يدفعه إلى أن يلتجئ إليها لينجو بها من الغرق وهي حقيقة عجيبة؛ إذ حتى فرعون كان يسأل ربه في آخر أمره بحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أمر بديهي في منهاج الحروب إذ يعتمد الخصم على معرفة حقيقة خصمه وتتبع خطواته والوقوف عند نقاط ضعفه وقوته وطريقة تفكيره.

ص:216

ولأن فرعون يعلم أن خصمه مرتبط بالسماء فلذا لم يدع هذا الخصم دون أن يدرس حياته وطريقة معايشته للناس وحقيقة دعوته ونقاط قوته ولذا: حينما أدركه الغرق التجأ إلى القوة التي كان يلتجئ إليها موسى ويستمد منها العون والمدد، قال تعالى:

(وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ )1 .

4 - وفي لوط عليه السلام الذي يصفه القرآن وأهل بيته بأنهم من المسلمين، قال عزّ وجل:

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ )2 .

5 - وفي وصايا الأنبياء لأبنائهم يعرض القرآن حقيقة ما يعتقد به الأنبياء عن نبوة المصطفى وإمامته صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:

(وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )3 .

ص:217

وقال تعالى:

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )1 .

وغيرها من الآيات المباركة التي تظهر حقيقة اعتقاد الأنبياء والمرسلين بنبوة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وإمامته عليهم على الرغم من أنهم بعثوا قبله بقرون عديدة.

والحال يجري مجراه بالنسبة لخديجة الكبرى عليها السلام في عرض إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عليها قبل أن ينزل الأمر الإلهي في الرجوع من حجة الوداع في غدير خم؛ والحكمة في ذاك هو أنّ الله تعالى اختار لعباده المخلصين أن يكونوا ممن يحرزون المراتب العالية وينالون المنازل العظيمة في الآخرة وأن تكون مراتبهم الأخروية ترتكز على ما اختاره الله لهم من سابق العناية واللطف مع وجود الاختيار في القبول والرفض.

(وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ)2 .

إلا أنهم كانوا أهلاً لما خصهم الله به من لطف وعناية.

فهذه خديجة عليها السلام يعرض عليها النبي الأكرم إمامة علي بن أبي طالب وولايته فتقبلها وتبايعه على ذلك لتنال بذلك ما أعد الله لأوليائه.

ص:218

ولذلك نراها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال لها:

يا خديجة هذا علي مولاك ومولى المؤمنين وإمامهم بعدي.

قالت:

صدّقتَ يا رسول الله، قد بايعته على ما قلت، أُشهد الله وأشهدك بذلك، وكفى بالله شهيداً وعليما.

المسألة الثالثة: سنة الابتلاء بحب علي عليه السلام سنة قرآنية

لا يكاد يخفى على جميع المسلمين مع اختلاف مشاربهم الفقهية واعتقاداتهم القلبية أن الابتلاء من السنن التي صرح بها القرآن الكريم في جملة من الآيات المحكمات.

1 - قال تعالى:

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى )1 .

فكان ابتلاء آدم عليه السلام بالشجرة، وابتلي نوح بقومه حتى لبث فيهم:

ص:219

(أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً)1 .

وابتلي إبراهيم بالكلمات فأتمهن الله إليه:

(وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ )2 .

وابتلي قوم داود بالنهر، قال تعالى:

(إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ )3 .

وتختلف الحكمة في الابتلاءات، فالتي ذكرنا شواهدها من القرآن الكريم المتمثلة في ابتلاء آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم السلام إنما كانت لتمايزهم عن غيرهم من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والذين عرفوا بهذه الابتلاءات بأنهم (أولو العزم)؛ ولقد ابتلي المصطفى بأشد مما ابتلوا به ولذا نجد أن الله سبحانه يهون عليه ما نزل به ويوصيه بالصبر.

قال تعالى:

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ )4 .

ص:220

في حين نرى أن الحكمة في الابتلاءات لدى غير الأنبياء مختلفة فبعض الأمم ابتليت بالتكاليف الشرعية وبعضها ابتليت بغضب الله تعالى حينما انتهكت حدود شرعه كقوم صالح عليه السلام فقد ابتلاهم الله بحفظ الناقة وفصيلها فكانت النتيجة أنهم عقروها، قال تعالى:

(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوّاها)1 .

وقوم داود ابتلاهم الله بالنهر كما أسلفنا وابتلى قوم موسى بباب حطة، قال تعالى:

(وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ )2 .

وابتلى هذه الامة بحب علي بن أبي طالب عليه السلام وأولاده المعصومين؛ قال تعالى:

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )3 .

ص:221

والحكمة في ذلك هو أن المنافق لا يتجرأ أمام الناس بعدم حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو بذاك يكون قد جاهر بكفره وافتضح بنفاقه، ولذا: كان ديدن المنافق هو إظهار حب رسول الله والإيمان بدينه، بينما يعمل سراً وعلناً على إيذاء أهل بيته وخاصته، قال تعالى:

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ )1 .

ومن هنا:

لم يكن من سبيل - كما جرت به حكمة الله في الأمم السابقة - لافتتان هذه الامة واختبارها وابتلائها إلاّ من خلال حب علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو ما دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام:

لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق(1).

أما لماذا بحب علي بن أبي طالب فهذا أمر مرده إلى جاعله وهو الله تعالى:

(لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ )3 .

ص:222


1- كنز العمال للمتقي الهندي: ج 11، ص 622، ح 33028؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 4، ص 83؛ كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي: ص 465؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 29، ص 645، ح 67.

فالثابت في حركة الأمم السالفة أنها جميعاً ابتليت وافتتنت بأمور عدة كباب حطة بني إسرائيل، ونهر داود، وناقة صالح وغيرها.

وفي ذلك يقول الإمام علي عليه السلام:

(«أيها الناس إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم، ولم يعذكم من أن يبتليكم وقد قال جل من قائل:

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنّا لَمُبْتَلِينَ )1,2 .

فكان من ابتلائه سبحانه لهذه الامة أن ابتلاها بحب علي بن أبي طالب عليه السلام ليهلك من يهلك عن بينّة ويحيا من حيّ عن بيّنة وكان مما ابتلي به شيعة علي وأتباعه أن ابتلاهم بالنواصب وأشياعهم وأتباعهم سنة الله التي قد خلت في الصالحين.

ولذلك: كان الأئمة المعصومون يوصون أشياعهم بالصبر والاحتساب والإحسان حتى يأتي الله بالفرج.

روى الكليني رحمه الله عن الصادق عليه السلام (أنه بعث برسالة لأصحابه مما جاء فيها:

فاتّقوا الله أيتها العصابة الناجية إن أتم الله لكم ما أعطاكم به فإنه لا يتم الأمر حتى يدخل عليكم مثل الذي دخل على الصالحين قبلكم وحتى تبتلوا في أنفسكم وأموالكم وحتى

ص:223

تسمعوا من أعداء الله أذى كثيرا فتصبروا وتعركوا بجنوبكم وحتى

يستذلوكم ويبغضوكم وحتى يحملوا (عليكم) الضيم فتحملوا منهم تلتمسون بذلك وجه الله والدار الآخرة وحتى تكظموا الغيظ الشديد في الأذى في الله عز وجل يجترمونه إليكم وحتى يكذبوكم بالحق ويعادوكم فيه ويبغضوكم عليه فتصبروا على ذلك منهم ومصداق ذلك كله في كتاب الله الذي أنزله جبرئيل عليه السلام على نبيكم صلى الله عليه وآله - وسلم - سمعتم قول الله عز وجل لنبيكم صلى الله عليه وآله - وسلم -:

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ )1 .

ثم قال:

(وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ )2 .

(فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا)3 .

فقد كذب نبي الله والرسل من قبله وأوذوا مع التكذيب بالحق فإن سركم أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل - أصل الخلق - من الكفر الذي سبق في علم الله أن يخلقهم له في الأصل ومن الذين سماهم الله في كتابه في قوله:

(وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ)4 .

ص:224

فتدبروا هذا واعقلوه ولا تجهلوه فإنه من يجهل هذا وأشباهه مما افترض الله عليه في كتابه مما أمر الله به ونهى عنه ترك دين الله وركب معاصيه فاستوجب سخط الله فأكبه الله على وجهه في النار)(1).

ولذا: كان لابد من أن تمتحن وتبتلى خديجة الكبرى بوصفها من هذه الامة بما قدر الله تعالى عليها من الابتلاء بحب علي بن أبي طالب فتدور في فلك المودة والموالاة أو - والعياذ بالله - بالبغض والمعاداة فكانت بحق جديرة بما عرض عليها من الموالاة والاتباع والبيعة لعلي والأئمة من بعده غير شاكة بما قدر الله تعالى على هذه الامة وفرض عليها من فريضة المودة للعترة عليهم السلام، فسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حيا، وكيف لا تكون كذلك وقد خصها الله بسلامه.

المبحث الخامس: منزلة خديجة في المحشر

اشارة

يعد يوم المحشر من الحقائق الغيبية التي أخبر عنها القرآن الكريم في عدد من الآيات الكريمة كما أشارت إليها الأحاديث الشريفة ولخصوصية هذا اليوم وما يجري فيه من أحداث عظيمة ومواقف مهولة فقد خصه الباري جل شأنه بسورة سميت بسورة الحشر.

أما بعض أحداث هذا اليوم فيعرضها القرآن كالآتي:

1 - قال تعالى:

ص:225


1- الكافي للشيخ الكليني: ج 8، ص 5.

(وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النّارُ مَثْواكُمْ )1 .

2 - وقال تعالى:

(وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللّهِ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ )2 .

3 - وقال سبحانه وتعالى:

(وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )3 .

4 - وقال عزّ وجل:

(وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ )4 .

5 - وقال تعالى:

(وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ )5 .

ص:226

6 - وقال سبحانه وتعالى:

(وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيّانا تَعْبُدُونَ )1 .

7 - وقال عزّ وجل:

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ )2 .

8 - وقال تعالى:

(وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ )3 .

9 - قال الله تبارك وتعالى:

(وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)4 .

10 - وقال سبحانه وتعالى:

ص:227

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ )1 .

وغيرها من الآيات الكريمة التي تظهر صورا عديدة مما يجري في يوم الحشر، ولقد تناول المفسرون هذه الآيات وغيرها مما يتعلق بهذا اليوم ببيانات تكشف للقارئ دلالة هذه الآيات وتكون لديه معرفة عن هذا اليوم العظيم.

المسألة الأولى: ما هو الحشر؟

قال تعالى مخاطبا النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بيان أمر الخلائق حينما يأتي أمره سبحانه لها بالخروج من القبور والوقوف بين يديه للحساب.

(وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ)2 .

قال الشيخ الطوسي في التبيان: (قرأ ابن كثير (يوم تشقق) مشددة الشين على معنى تتشقق وحذف إحدى التاءين: والتشقق التفطير.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله - وسلم - والمراد به جميع المكلفين:

(وَ اسْتَمِعْ ) .

ص:228

أي أصغ إلى النداء وتوقعه.

(يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) .

فالنداء الدعاء بطريقة يا فلان، وكأن الناس يدعون فيقال لهم: يا معشر الناس قوموا إلى الموقف للجزاء والحساب، وقيل: ينادي المنادي من الصخرة التي في بيت المقدس، فلذلك قال:

(مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) .

فيقول: يا أيها العظام البالية قومي لفصل القضاء وما أعد من الجزاء - في قول قتادة - (من مكان قريب) أي يسمع الخلق كلهم على حد واحد، فلا يخفى على أحد لا قريب ولا بعيد وقوله:

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ) .

فالصيحة المرة الواحدة من الصوت الشديد ونقيضها الخدة تقول صاح يصيح صياحا وصيحة، فهو صائح، وتصايح وتصايحوا في الامر تصايحا، وصيح تصييحا وصايحه مصايحة، وهذه الصيحة هي النفخة الثانية للحشر إلى أرض الموقف

(ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) .

وقوله:

(إِنّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ) .

إخبار منه تعالى عن نفسه بأنه هو الذي يحيي الخلق بعد ان كانوا جمادا

ص:229

أمواتا، ثم يميتهم بعد أن كانوا أحياء ثم يحييهم يوم القيامة وإلى الله يصيرون ويرجعون يوم القيامة:

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) .

أي الينا المصير في اليوم الذي تشقق الأرض عن الأموات (سراعا) أي بسرعة لا تأخير فيها ثم قال:

(ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) .

أي سهل علينا غير شاق، والحشر الجمع بالسوق من كل جهة)(1).

ويظهر مما سبق أن معنى الحشر هو خروج الأرواح من القبور وجمعها إلى ساحة الحساب لعرض الأعمال عليها والمحاسبة وغير ذلك.

وقد ذهب اللغويون إلى أن الحشر غير الجمع وأن بينهما فرقاً؛ وذلك: (إن الحشر هو الجمع مع السوق، والشاهد قوله تعالى:

(قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ )2 .

أي: أبعث من يجمع السحرة ويسوقهم إليك ومنه يوم الحشر لان الخلق يجمعون فيه ويساقون إلى الموقف، وقال صاحب المفصل: لا يكون الحشر إلا في المكروه، وليس كما قال لان الله تعالى يقول:

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً)3 .

ص:230


1- التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي: ج 9، ص 375-376.

وتقول القياس جمع بين مشتبهين يدل الأول على صحة الثاني ولا يقال في ذلك حشر وإنما يقال الحشر فيما يصح فيه السوق على ما ذكرنا وأقل الجمع عند شيوخنا ثلاثة، وكذلك هو عند الفقهاء، وقال بعضهم اثنان واحتج بأنه مشتق من اجتماع شيء إلى شيء وهذا وإن كان صحيحا فإنه قد خص به شيء بعينه، كما أن قولنا دابة وإن كان يوجب اشتقاقه إن جرى على كل ما دب فإنه قد خص به شيء بعينه فأما قوله عليه الصلاة والسلام

الاثنان فما فوقهما جماعة.

فان ذلك ورد في الحكم لا في تعليم الاسم لان كلامه صلى الله عليه - وآله - وسلم يجب أن يحمل على ما يستفاد من جهته دون ما يصح أن يعلم من جهته، وأما قوله تعالى:

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا)1 .

وقوله تعالى:

(وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ )2 .

يعني داود وسليمان عليهما السلام فإن ذلك مجاز كقوله تعالى:

(إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ )3 .

ولو كان لفظ الجمع حقيقة في الاثنين لعقل منه الاثنان كما يعقل منه

ص:231

الثلاثون، وإذا كان قول الرجل رأيت الرجال لا يفهم منه إلا ثلاثة علمنا أن قول الخصم باطل.

الفرق بين الحشر والنشر: الحشر لغة، إخراج الجماعة عن مقرهم، وإزعاجهم، وسوقهم إلى الحرب، ونحوها، ثم خص في عرف الشرع عند الاطلاق بإخراج الموتى عن قبورهم، وسوقهم إلى الموقف للحساب والجزاء.

قال الراغب: لا يقال الحشر إلا للجماعة، قلت: هذا في أصل اللغة وإلا فقد يستعمل في الواحد والاثنين.

ومنه دعاء الصحيفة الشريفة: (وارحمني في حشري ونشري).

والنشر إحياء الميت بعد موته، ومنه قوله تعالى

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ )1 .

أي أحياه)(1).

المسألة الثانية: في أول من يحشر
اشارة

حينما يعرض القرآن صورة حشر الخلائق إلى يوم الحساب وكيفية خروجهم إليه جل شأنه والذي وصفه بقوله:

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ )3 .

ص:232


1- الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص 188-190.

فإن هذا الخروج - وحسبما صرح به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم - يشتمل على تفاضل فيما بين هذه الخلائق، وهذه جملة من الأحاديث النبوية الشريفة:

أولاً: روى الصدوق بسنده عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

يا علي إني سألت ربي فيك خمس خصال فأعطاني، أما أولها فسألت ربي أن أكون أول من تنشق عنه الأرض وانفض التراب عن رأسي وأنت معي فأعطاني، والثانية فسألت ربي أن يقضى عند كفة الميزان وأنت معي فأعطاني، وأما الثالثة فسألت ربي أن تكون حامل لوائي وهو لواء الله الأكبر مكتوب عليه المفلحون هم الفائزون بالجنة فأعطاني، وأما الرابعة فسألت ربي أن تسقي أمتي من حوضي بيدك فأعطاني، وأما الخامسة فسألت ربي أن يجعلك قائد أمتي إلى الجنة فأعطاني فالحمد لله الذي منّ عليّ بذلك(1).

ثانيا: روى السيد ابن طاووس رحمه الله عن أبي مسلم محمد بن محمد الطالقاني عن الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام:

يا أبا الحسن، كلم الشمس فإنها تكلّمك.

ص:233


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام للشيخ الصدوق: ج 2، ص 33، ح 35؛ الخصال للشيخ المفيد: ص 314؛ البحار للمجلسي: ج 8، ص 4؛ المناقب للخوارزمي: ص 293.

قال علي عليه السلام:

السلام عليك أيها العبد المطيع لله.

فقال الشمس: وعليك السلام يا أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين يا علي، أنت وشيعتك في الجنة، يا علي، أول من تشقق عنه الأرض محمد ثم أنت وأول من يحيى محمد ثم أنت، وأول من يكسى محمد ثم أنت.

ثم انكب علي عليه السلام ساجداً وعيناه تذرفان بالدموع، فانكب عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فقال:

يا أخي وحبيبي، رفع رأسك فقد باهى الله بك أهل سبع سموات(1).

ثالثا: روى أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع يوم القيامة ولا فخر(2).

رابعا: روى الترمذي عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

ص:234


1- اليقين للسيد ابن طاووس: ص 164؛ العقد النضيد والدر الفريد لمحمد بن الحسن القمي: ص 80؛ كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي: ص 58؛ مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني: ج 1، ص 224؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 41، ص 169.
2- مسند أحمد بن حنبل، من مسند أبي سعيد الخدري: ج 3، ص 2.

أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى الحلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري(1).

خامساً: روى الطبرسي في الاحتجاج: (أن عمرو بن العاص قال لمعاوية: ابعث إلى الحسن بن علي فمره أن يصعد المنبر ويخطب الناس، فلعله أن يحصر فيكون ذلك مما نعيره به في كل محفل، فبعث إليه معاوية فأصعده المنبر، وقد جمع له الناس، ورؤساء أهل الشام فحمد الله الحسن صلوات الله عليه وأثنى عليه، ثم قال:

أيها الناس من عرفني فأنا الذي يعرف، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب، ابن عم نبي الله، أول المسلمين إسلاما، وأمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله - وسلم -، وجدي محمد بن عبد الله نبي الرحمة، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن من بعث رحمة للعالمين، أنا ابن من بعث إلى الجن والإنس أجمعين.

فقطع عليه معاوية فقال: يا أبا محمد خلنا من هذا وحدثنا في نعت الرطب أراد بذلك تخجيله، فقال الحسن عليه السلام:

نعم التمر، الريح تنفخه، والحر ينضجه، والليل يبرده ويطيبه.

ثم أقبل الحسن عليه السلام، فرجع في كلامه الأول فقال:

«أنا ابن مستجاب الدعوة أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من

ص:235


1- سنن الترمذي: ج 5، ص 246.

ينفض عن رأسه التراب، أنا ابن من يقرع باب الجنة فيفتح له فيدخلها، أنا ابن من قاتل معه الملائكة، وأحل له المغنم ونصر بالرعب من مسيرة شهر».

فأكثر في هذا النوع من الكلام، ولم يزل به حتى أظلمت الدنيا على معاوية، وعرف الحسن من لم يكن عرفه من أهل الشام وغيرهم ثم نزل، فقال له معاوية: أما إنك يا حسن قد كنت ترجو أن تكون خليفة، ولست هناك، فقال الحسن عليه السلام:

أما الخليفة فمن سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله - وسلم -، وعمل بطاعة الله عز وجل، وليس الخليفة من سار بالجور، وعطل السنن، واتخذ الدنيا أما وأبا، وعباد الله خولا، وماله دولا، ولكن ذلك أمر ملك أصاب ملكا فتمتع منه قليلا، وكان قد انقطع عنه، فأتخم لذته وبقيت عليه تبعته، وكان كما قال الله تبارك وتعالى:

(وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ )1 .

(ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ )2 .

(ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ )3 .

وأومى بيده إلى معاوية، ثم قام فانصرف.

ص:236

فقال معاوية لعمرو: والله ما أردت إلا شيني حين أمرتني بما أمرتني، والله ما كان يرى أهل الشام أن أحدا مثلي في حسب ولا غيره، حتى قال الحسن ما قال، قال عمرو: وهذا شيء لا يستطاع دفنه، ولا تغييره، لشهرته في الناس، واتضاحه، فسكت معاوية)(1).

فهذه الأحاديث الشريفة تدل على وجود حالة التفاضل في خروج الأبدان من القبور وحشرها في ساحة المحشر، وأن هذا التفاضل فيما بينها يعود إلى حكمة خاصة يمكن الوقوف عندها من خلال الأمور الآتية:

أولا: معرفة الله تعالى

إنّ سرعة التلبية لأمر الله تعالى دافعها الطاعة والشوق لله سبحانه وتعالى؛ إذ كلما تعاظم المولى في نظر العبد وتيقن من جلالة شأنه كلما زاد خوفه من مولاه واستجابته له وتلبيته لأمره؛ وفضلاً عن هذه الحالة كان قلب العارف تلازمه أيضاً حالة الحب للمولى جل شأنه، بل امتلاك حب المولى لقلب العبد؛ وهذه الحالات المتضادة، أي الخوف والجلالة والهيبة والشوق والرفعة والرغبة لا تجتمع في قلب واحد إلا حينما يكون هذا القلب قد عرف ربه حق معرفته وهذا ما لا يمكن تحققه إلا في قلب الحبيب المختار والمجتبى على سائر ما خلق الله تعالى أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يليه في ذلك من حظي بأقل من هذه الرتبة بدرجة وهو وصيه وخليفته في أمته الإمام علي بن أبي طالب كما دلت عليه النصوص

ص:237


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 419-420.

النبوية الشريفة الكاشفة عن سمو هذه المقامات والدالة على التلازم القرآني والنبوي فيما بينها.

ففي الوقت الذي يصرح القرآن الكريم ويكشف عن مقام النبوة والإمامة ويظهر حالة التلازم السنخي بينهما لأنهما من مصدر واحد وهو الله تعالى في قوله سبحانه:

(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ )1 .

ففي هذا الوقت يدلل القرآن أيضا على أن التفاوت والتفاضل في هذا الخروج للحشر قائم على تفاوت الخلق في الاعتقاد بالله تعالى، وأنه قائم على أساس شرعي لأن مصدره واحد وهو الله تعالى.

بمعنى لا يكون هذا التفاوت في التلبية للخروج للحشر قائماً على فراغ وإنما على أطوع الناس لله رب العالمين وما جاء في المستدرك للحاكم حيث روى عنه صلى الله عليه وآله وسلم:

أول من تنشق عنه الأرض أنا ثم أبو بكر ثم عمر(1).

لا أساس له من الصحة، ولو عدَّ للبخاري ومسلم من فضائل فإن منها عدم إخراجهما لهذا الحديث الذي لو عرض على القرآن الكريم لما وجد له شاهد يدل عليه أو يعاضده، ولا نعلم ما هي الأسس التي من أجلها يكون أبو

ص:238


1- المستدرك على الصحيحين للنيسابوري: ج 3، ص 68.

بكر وعمر قد استحقا هذا الإسراع في الخروج، بل يلزم هذا الإسراع استحصال رتبة دون رتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ما ليس له شاهد في القرآن كما كان لعلي بن أبي طالب عليه السلام من الشواهد القرآنية الكثيرة.

وعليه:

يلزم أن يكون المراد من هذا الإسراع في الخروج إلى الحشر يرتكز إلى ما أسلفنا وهو معرفة الله حق معرفته.

ثانيا: الإسراع يكون للسيّدية
اشارة

بمعنى لو أراد رب العمل أو السلطان أن يعطي أجراً لمن أحسن عملاً من رعيته أو يعاقب من أساء منهم فلابد قبل ذلك أن يستدعي أسياد هؤلاء الرعية كالوزراء والمدراء وغيرهم؛ ومن هنا سمّي الوزير: وزيراً لأنه يحمل وزر غيره فهو مسؤول عنهم.

وقد عبّر القرآن الكريم عن هؤلاء الأسياد أو الأئمة للعباد بقوله:

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ )1 .

وأن هؤلاء الأئمة سيقفون للسؤال لقوله:

(وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ )2 .

في حين عبّر عن مقام السيّدية الذي يقتضي التلبية قبل العباد في قوله تعالى

ص:239

وهو يخاطب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ)1 .

فهذا الأمر الإلهي يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من يسمع هذا النداء الإلهي، كما أن وصول هذا الصوت إليه قبل الخلائق على الرغم من أن النفخة في الصور تكون في آن واحد يعود إلى جملة من الأمور منها:

ألف: النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مقدم من حيث الخلق الأول

إما أنه مقدم من حيث الخلق الأول، بمعنى أنه أول من خلقه الله فيكون وصول الصوت إليه قبل الخلق بسبب هذا القدم في النشأة والتكوين بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر(1).

باء: مقام السّيدية يقتضي السبق في وصول النداء الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم

وإما أنه صلى الله عليه وآله وسلم حي عند ربه تعالى فهو سيد الشهداء الذين وصفهم القرآن بأنهم:

(أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )3 .

ص:240


1- البحار للمجلسي: ج 15، ص 24، ح 43.

ولذا فهو مقدم على غيره من الخلق بلحاظ أنهم أموات والشهداء أحياء.

وهذا يلزم التساوي في سماع الصيحة وهو مردود، لأن الخطاب له وحده صلى الله عليه وآله وسلم، بمعنى أن مقام السيّدية يقتضي السبق في وصول النداء الإلهي.

جيم: مناقشة قول العلامة الطباطبائي (قدس)، في معنى: فاستمع، أي فانتظر

وإما أن هذا السبق في الاستماع محمول على السبق في الانتظار كما ذهب إليه العلامة الطباطبائي (قدس سره) حيث يرى أن دلالة (فاستمع) أي: (فانتظر، و (يوم يناد المناد) مفعوله، والمعنى: وانتظر يوم ينادي فيه المنادي ملقيا مسمعك لاستماع ندائه، والمراد بنداء المنادي نفخ صاحب الصور في الصور على ما تفيده الآية التالية.

وكون النداء من مكان قريب لإحاطته بهم فيقع في سمعهم على نسبة سواء لا تختلف بالقرب والبعد فإنما هو نداء البعث وكلمة الحياة)(1).

وهذا يلزم وجود خلق غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم منتظرين (فيقع في سمعهم على نسبة سواء لا تختلف بالقرب والبعد فإنما هو نداء البعث وكلمة الحياة) وهنا لا شأنية له صلى الله عليه وآله وسلم وهذا مردود، فضلاً عن أن الميت لا يقال له انتظر الصيحة فالسمع والاستماع من لوازم الأحياء.

ص:241


1- تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج 18، ص 359.

فإذا قيل المراد من ذلك الروح، قلنا: ظاهر الحديث الشريف يدل على أن الأرض تشقق عن الأبدان لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

أنا أول من تشقق عنه الأرض.

ولذا يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم حياً ينتظر الصيحة، مع مقام السيدية التي خُصّ بها على الخلق، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع يوم القيامة ولا فخر(1).

ثالثا: الإسراع في الخروج من القبر يكون لمقام الشاهدية

من الصفات التي خص الله بها حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مقام الشاهدية على الأمم السابقة، قال تعالى:

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)2 .

والشاهدية التي خص الله بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلزم أن يكون النبي الأعظم حاضراً في هذه الأمم يرى أعمال شهدائها أي أنبيائها وهذه الحالة إما أن تكون تستند إلى التقدم في الخلق كما أسلفنا؛ وإما أن الله سبحانه عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعمال هؤلاء الشهداء الذين

ص:242


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 3، ص 2.

كانوا في جميع الأمم التي خلقها ليرى سيرهم وكيف أدوا عن الله تعالى أوامره ونهيه، لغرض إبلاغ الحجة عليهم يوم الحساب.

ومن الطبيعي أن يكون اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الشاهدية يستند إلى أنه سيدهم وأفضلهم بل وأعرفهم بأحكام الله وشرعه وإلا كيف يتحقق الإشهاد وهو لم يكن محيطاً بجميع ما كلفوا به، كما يقتضي هذا المقام أن يكون هؤلاء الشهود الذين كانوا على الأمم التي خلقها الله عارفين بمقامه صلى الله عليه وآله وسلم وأنه الشاهد عليهم، ومثاله كمن دخل إلى قاعة الامتحان والاختبار فيما درس وتعلم لأخذ درجة في مادة من المواد أن يكون عارفاً بمدرس المادة فضلاً عن كونه مراقباً وشاهداً عليه.

وإلا يسقط الاحتجاج يوم القيامة فضلاً عن النكران من البعض عند إحضار الشهود، أو الأئمة أو المراقبين أو الأساتذة والجميع يؤدون نفس الغرض الاحتجاجي.

وعليه:

فإنّ هذا التفاضل في الخروج من القبر يرجع إلى هذه الأمور وغيرها والله العالم وهو العزيز الحكيم، إلاّ أنّ الذي نصبو إليه فيما قدّمنا أن الله تعالى حينما جعل تفاضلاً في خروج الأبدان من القبور فإنه سيجعل هذا التفاضل في يوم المحشر بأكبر مراتبه إذ الخلائق بين يديه مجموعة ولرحمته ملتمسة ولعدله وقصاصه من الظالمين سائلة.

وأن منزلة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها في هذا اليوم العظيم

ص:243

الذي تبيض فيه وجوه وتسود أخرى، فتتساقط فيه الأقنعة وتتطاير فيه الصحف ويفتضح فيه الظالمون ويخزى المنافقون حينما بدا لهم أمر الله الملك الجبار، وفي نفس الوقت ينظرون إلى أولياء الله تعالى كيف يجللهم الله بلطفه ويكسوهم بنوره، وهو القائل جل شأنه مخاطباً حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عن حال أوليائه وأعدائه في المحشر:

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتّى جاءَ أَمْرُ اللّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ)1 .

المسألة الثالثة: شرافة منزلة خديجة عليها السلام يوم المحشر
اشارة

يمكن لنا التعرف على شرافة منزلة خديجة عليها السلام في يوم المحشر من خلال الرواية التي أخرجها فرات الكوفي في تفسيره عن ابن عباس قال: (سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول:

ص:244

دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم على فاطمة عليها السلام وهي حزينة.

فقال لها: ما حزنك يا بنية ؟، قالت: يا أبه ذكرت المحشر ووقوف الناس عراة يوم القيامة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:

يا بنية إنه ليوم عظيم، ولكن قد أخبرني جبرئيل عليه السلام عن الله عز وجل أنه قال: أول من تنشق (ينشق) عنه الأرض يوم القيامة أنا، ثم أبي إبراهيم، ثم بعلك علي بن أبي طالب عليه السلام.

ثم يبعث الله إليك جبرئيل في سبعين ألف ملك فيضرب على قبرك سبع قباب من نور، ثم يأتيك إسرافيل بثلاث حلل من نور فيقف عند رأسك فيناديك: يا فاطمة ابنة محمد قومي إلى محشرك فتقومين آمنة روعتك، مستورة عورتك، فيناولك إسرافيل الحلل فتلبسينها، ويأتيك روفائيل بنجيبة من نور، زمامها من لؤلؤ رطب، عليها محفة من ذهب فتركبينها، ويقود روفائيل بزمامها وبين يديك سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التسبيح، فإذا جدّ بك السير استقبلتك (استقبلك) سبعون ألف حوراء يستبشرون بالنظر إليك بيد كل واحدة منهن مجمرة من نور يسطع (تسطع) منها ريح العود من غير نار، وعليهن أكاليل الجوهر مرصع بالزبرجد الأخضر فيسرن عن يمينك، فإذا مثل الذي سرت من قبرك إلى أن لقيتك استقبلتك مريم بنت عمران في مثل من معك من الحور فتسلم عليك وتسير هي ومن معها عن يسارك، ثم استقبلتك أمك خديجة بنت خويلد أول

ص:245

المؤمنات بالله ورسوله (برسوله) ومعها سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التكبير فإذا قربت من الجمع استقبلتك حواء في سبعين ألف حوراء ومعها آسية بنت مزاحم فتسير هي ومن معها معك فإذا توسطت الجمع وذلك أن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد فيستوي بهم الاقدام.

ثم ينادي مناد من تحت العرش يسمع الخلائق: غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة الصديقة ابنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن معها، فلا ينظر إليك يومئذ إلا إبراهيم خليل الرحمان صلوات الله وسلامه عليه وعلي بن أبي طالب عليه السلام، ويطلب آدم حواء فيراها مع أمك خديجة أمامك ثم ينصب لك منبر من نور (النور) فيه سبع مراق (مرقاة) بين المرقاة إلى المرقاة صفوف الملائكة بأيديهم ألوية النور، وتصطف الحور العين عن يمين المنبر وعن يساره، وأقرب النساء منك (معك) عن يسارك حواء وآسية بنت مزاحم، فإذا صرت في أعلى المنبر أتاك جبرئيل عليه السلام فيقول (فقال) لك: يا فاطمة سلي حاجتك، فتقولين: يا رب أرني الحسن والحسين فيأتيانك وأوداج الحسين تشخب دما وهو يقول: يا رب خذلي اليوم حقي ممن ظلمني، فيغضب عند ذلك الجليل ويغضب (تغضب) لغضبه جهنم والملائكة أجمعون فتزفر جهنم عند ذلك زفرة ثم يخرج فوج من النار فيلتقط (ويلتقط ) قتلة الحسين وأبناءهم وأبناء أبنائهم.

يقولون: يا رب إنا لم نحضر الحسين عليه السلام فيقول الله

ص:246

لزبانية جهنم: خذوهم بسيماهم بزرقة الأعين وسواد الوجوه، خذوا بنواصيهم فألقوهم في الدرك الأسفل من النار فإنهم كانوا أشد على أولياء الحسين من آبائهم الذين حاربوا الحسين فقتلوه، فيسمع شهيقهم في جهنم.

والحديث يشتمل على مجموعة من المسائل منها:

أولا: الحكمة في خروج فاطمة عليها السلام من قبرها ضمن تشريفات ملكوتية

تكشف الرواية الشريفة عن اختصاص فاطمة عليها السلام بتشريفات خاصة بأمر الله تعالى عند خروجها من قبرها وذهابها إلى ساحة المحشر؛ هذه التشريفات هي في الحقيقة ليست فقط عنواناً للتفضيل على غيرها من الخلق، بل عنواناً لإظهار قدرها أمام الخلائق؛ هذا القدر الذي تم تجاهله من الناس بشكل كبير أدى إلى استنان ظلمها بل والتجاهر بذلك، إن لم يكن عند المنافقين من الواجبات التي أوجبوها على أنفسهم ضمن شريعتهم الخاصة بهم.

ويكفي من ذلك بياناً يدل على حقيقة استنان ظلمها منذ أن فارق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا خروج نعشها في الليل ودفنها سرا فلم يشهدها أحد من الصحابة سواء أكانوا من المهاجرين أم الأنصار؛ إذ لم يكن معها سوى زوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وولديها الحسن والحسين سلام الله عليهم أجمعين، ولا يعلم موضع قبرها أحدً من المسلمين.

ولذلك:

شاء الله أن يجزيها على ما صبرت واحتسبت فيجعل هذا النعش الذي دفن في الليل سراً ولم يشهده أحد وكأنها من الأعاجم الذين لا شأن لهم ولا

ص:247

قدر لديهم عند العرب، أن يكون حالها عند الخروج بهذا التشريف والتعظيم وليشهده جميع الخلائق والأمم؛ إذ مثلما يكون حال الزعماء والملوك والعظماء والوجهاء مشهوداً لهم في خروجهم من الدنيا بتشييع يليق بمنزلتهم ويتناسب مع شأنهم كذلك سيكون حال فاطمة عليها السلام عند خروجها من قبرها وشتان بين تشريفات الدنيا وتشريفات الآخرة.

ولذا: كان حالها عند خروجها من القبر قد اختلف بشكل يدلل على حقيقة قدرها ومنزلتها وشأنها عند الله تعالى في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فكيف بمن تأتي الله وهي قلب حبيبه المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

إذن: تدلل هذه الرواية الشريفة على هذه التشريفات الملكوتية الخاصة بخروج فاطمة من قبرها لهذه العلة، وإلا لم نجد رواية واحدة تكشف لنا عن مثل هذه التشريفات حتى عند خروج سيد الخلق أجمعين من قبره.

ثانيا: إظهار منزلة خديجة في المحشر من خلال استقبالها لفاطمة عليها السلام

هذه المسألة تحتاج إلى تأمل خاص ونسأل الله أن يمن علينا بلطفه؛ إذ إن استقبال خديجة الكبرى عليها السلام لفاطمة صلوات الله عليها كان يقتضي أن تكون خديجة عليها السلام أسبق في الخروج من قبرها وحضورها في ساحة المحشر كي تتمكن من استقبال فاطمة عليها السلام؛ بل قد أفادت الرواية أن مريم وحواء وآسية كن في استقبال فاطمة في حين نرى أن الرواية كانت قد أشارت إلى تسلسل الخروج من القبور كما هو واضح في صدر الرواية؛ قال

ص:248

صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام:

يا بنية إنه ليوم عظيم ولكن قد أخبرني جبرائيل عن الله عز وجل أنه قال: أول من ينشق عنه الأرض يوم القيامة أنا، ثم أبي إبراهيم، ثم بعلك علي بن أبي طالب، ثم يبعث الله إليك جبرائيل في سبعين الف ملك فيضرب على قبرك سبع قباب....... الخ الحديث.

فالظاهر في عرض الرواية أن هذه المدّة الزمنية التي يقوم فيها الملائكة باستقبال فاطمة من قبرها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

فتقومين آمنة روعتك مستورة عورتك فيناولك إسرافيل الحلل فتلبسينها ويأتيك روفائيل بنجيبة من نور زمامها من لؤلؤ رطب عليها مخصة من ذهب فتركبينها ويوقد روفائيل بزمامها وبين يديك سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التسبيح فإذا جد بك السير.

هذه المراسيم والتشريفات سيكون لها مدّة زمنية لا يعلمها إلا الله تعالى إلا أنها تكون مرحلة فاصلة بين خروج فاطمة عليها السلام من قبرها بعد ابن عمها علي بن أبي طالب عليه السلام وبين وصولها بهذا الموكب المهيب إلى ساحة المحشر، وإنه في هذه المدّة الزمنية سيكون خروج مريم وآسية وحواء وخديجة عليهن السلام، ليكنَّ في استقبال فاطمة صلوات الله وسلامه عليها.

وإلا يمكن أن يتم الأمر بقوله (كن فيكن) بدون أن يكون هناك مدّة زمنية تستغرق اكتمال هذه المراسيم والتشريفات الملكوتية التي تتخللها خروج سيدات نساء الجنة ليكنَّ في استقبال سيدتهن فاطمة بصفتها صاحبة المنزلة الخاصة في سيّديتها على نساء العالمين كما هو ثابت في النصوص، وهذا أولاً.

ص:249

ثانيا: اختصاص فاطمة بألوية التسبيح له علاقة بنوع تعبدها لله رب العالمين لاسيما تسبيحها الذي علمها به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي تضافرت الروايات في فضله وشأنه عند الله تعالى.

فضلاً عن أن القرآن الكريم يعطي عنواناً لعبادة الخلق في القرآن الكريم ب (التسبيح) قال تعالى:

1 -(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)1 .

اختصاص أهل البيت عليهم السلام بالتسبيح في قوله تعالى:

2 -(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ )2 .

3 -(أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ )3 .

بل نجد أن القرآن الكريم يأمر النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالتسبيح، فقال عز وجل:

4 -(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)4 .

ص:250

5 -(وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ )1 .

6 -(وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ )2 .

أما ما ورد في تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام من الروايات الشريفة عن العترة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فهي أكثر من أن تذكر في هذا المجال، ولكن نكتفي بذكر رواية واحدة فإنها دالة على عظم هذا التسبيح عند الله تعالى واندراج التسبيح في فلكه الدلالي؛ فقد روى الكليني رحمه الله عن زرارة بن أعين رضي الله تعالى عنه عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام من الذكر الكثير الذي قال الله عزّ وجل:

(اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً)3 (1).

وعليه: فحمل الملائكة لألوية التسبيح عند قدومها إلى ساحة المحشر مع فاطمة عليها السلام في تلك القافلة إنما هو لارتباطها بنواة التسبيح الذي عرض له القرآن الكريم في جملة من الآيات الكريمة.

ص:251


1- الكافي للكليني: ج 2، ص 500، باب أن الصاعقة لا تصيب الذاكر.
ثالثا: اختصاص خديجة عليها السلام بألوية التكبير في ساحة المحشر كاشف عن شرافة منزلتها

تظهر الرواية الشريفة منزلة خديجة عليها السلام في ساحة المحشر من خلال إحاطتها بسبعين ألف ملك يحملون ألوية التكبير وهي تقبل لتستقبل ابنتها فاطمة عليها السلام بكينونة أنها سيدة نساء العالمين.

علماً: أن منزلة الأمومة في هذا التشريف لا تتعارض مع منزلة الشأنية التقوائية التي اختصت بها فاطمة عليها السلام بلحاظ قوله تعالى:

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ )1 .

فحالها هنا حال علي بن أبي طالب عليه السلام مع أمه فاطمة بنت أسد فضلاً عن أن القرآن الكريم يقدم صورة خاصة تتحدث عن الشأنية والخصوصية التي لا ترتكز على التقوى كما مر سابقاً بل على حكمة خاصة وخصوصية بلائية كما في سجود نبي الله يعقوب عليه السلام لولده يوسف حينما دخل عليه في القصر.

قال سبحانه وتعالى:

(وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا)2 .

أما اختصاصها بالتكبير فيمكن معرفة دلالته من خلال ما حظي به التكبير

ص:252

من معان خاصة دخلت في بعض العناوين الشرعية.

وهي كالآتي:

1 - يدخل التكبير في أهم الفروع الدينية التكليفية على المسلم إلا وهي الصلاة، فتكبيرة الإحرام في الصلاة هي باب يلج من خلالها المسلم إلى فيض لطف الله سبحانه فيلزم عليه الإحرام.

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

افتتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير(1).

2 - ويدخل التكبير في الحج لمن أقام في منى(2) ، وهو يدلل على تعظيم هذه الشعيرة.

3 - كما يدخل التكبير في صلاة العيد كدليل على خصوصية هذه المناسبة وما يرتبط بها من آثار اجتماعية ونفسية لدى المسلم.

4 - التكبير في أجزاء الأذان والإقامة قبل كل صلاة، وغير ذلك.

وهذه العناوين حينما نتأمّلها نجدها تدور في فلك التعظيم والإجلال والقوة والعزّة فضلاً عن آثارها الروحية والملكوتية، وهو ما يتلاءم بحق مع الدور الذي قامت به خديجة الكبرى عليها السلام في قيام الإسلام والذب عنه، ومؤازرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته حتى عظم الإسلام وبلغ تلك المرتبة السامية فيما بين الأمم.

ص:253


1- الكافي للكليني: ج 3، ص 69.
2- المقنع للشيخ الصدوق: ص 285.
المسألة الرابعة: اقتصاص خديجة ممن ظلم ابنتها فاطمة عليها السلام في يوم المحشر

من الحقائق التي طرحها القرآن الكريم فيما يخص يوم الحشر، حقيقة القصاص من الظالمين، بل يكاد يكون من بين أهم الحقائق التي طرحها القرآن الكريم عن يوم المحشر هي هذه الحقيقة، وهذا فضلاً عن الروايات الشريفة التي أوضحت بشكل دقيق عما يناله الظالمون في المحشر.

والقصاص في المحشر له علاقة تناسبية مع الشأنية التي لدى عباد الله الصالحين، فكلما عظمت شأنية العبد عند ربه تعالى كلما كان القصاص من الذين انتهكوا حرمة هذا العبد عظيماً.

ولنلقِ نظرة على بعض الآيات الكريمة الكاشفة عن حال الظالمين في يوم المحشر.

1 - قال تعالى:

(وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ )1 .

2 - وقال الله عزّ وجل:

(إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ

ص:254

اَلْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ)1 .

3 - وقال تعالى:

(عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)2 .

4 - قال الله تبارك وتعالى:

(تَرَى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنّاتِ )3 .

5 - وقال الله عز وجل:

(وَ تَرَى الظّالِمِينَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ )4 .

فيوم المحشر هو اليوم الذي يأخذ الله تعالى فيه لأوليائه حقوقهم ممن

ص:255

ظلمهم وانتهك حرمتهم كما صرحت بتفاصيل ذلك الروايات.

قال أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه يوماً وهو يعظهم:

ترصدوا مواعيد الآجال إن الدنيا خداعة صراعة، مكارة غزارة سحارة، أنهارها لامعة، وثمراتها يانعة، ظاهرها سرور، وباطنها غرور، تأكلكم بأضراس المنايا، وتبيركم بإتلاف الرزايا، لهم بها أولاد الموت، وآثروا زينتها، فطلبوا رتبتها، جهل الرجل، ومن ذلك الرجل المولع بلذاتها، والساكن إلى فرحتها، والآمن لغدرتها!

دارت عليكم بصروفها، ورمتكم بسهام حتوفها، فهي تنزع أرواحكم نزعا، وأنتم تجمعون لها جمعا، للموت تولدون، وإلى القبور تنقلون، وعلى التراب تنامون، وإلى الدود تسلمون، وإلى الحساب تبعثون.

يا ذا الحيل والآراء، والفقه والانباء، اذكروا مصارع الآباء، فكأنكم بالنفوس قد سلبت، وبالأبدان قد عريت، وبالمواريث قد قسمت، فتصير - يا ذا الدلال والهيئة والجمال - إلى منزلة شعثاء، ومحلة غبراء، فتنوم على خدك في لحدك، في منزل قل زواره، ومل عماله، حتى تشق عن القبور وتبعث إلى النشور، فان ختم لك بالسعادة صرت إلى الحبور، وأنت ملك مطاع، وآمن لا يراع، يطوف عليكم ولدان كأنهم الجمان بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين، أهل الجنة فيها يتنعمون، وأهل النار فيها يعذبون، هؤلاء في السندس والحرير يتبخترون، وهؤلاء في الجحيم والسعير يتقلبون، هؤلاء تحشى جماجمهم بمسك الجنان، وهؤلاء يضربون بمقامع النيران، هؤلاء يعانقون الحور في

ص:256

الحجال، وهؤلاء يطوقون أطواقا في النار بالاغلال، في قلبه فزع قد أعيى الأطباء وبه داء لا يقبل الدواء.

يامن يسلم إلى الدود ويهدى إليه، اعتبر بما تسمع وترى، وقل لعينيك تجفو لذة الكرى، وتفيض من الدموع بعد الدموع تترى، بيتك القبر بيت الأهوال والبلى، وغايتك الموت.

يا قليل الحياء، اسمع يا ذا الغفلة والتصريف، من ذي الوعظ والتعريف، جعل يوم الحشر يوم العرض والسؤال، والحباء والنكال، يوم تقلب إليه أعمال الأنام، وتحصى فيه جميع الآثام، يوم تذوب من النفوس أحداق عيونها، وتضع الحوامل ما في بطونها، ويفرق بين كل نفس وحبيبها، ويحار في تلك الأهوال عقل لبيبها، إذ تنكرت الأرض بعد حسن عمارتها، وتبدلت بالخلق بعد أنيق زهرتها، أخرجت من معادن الغيب أثقالها، ونفضت إلى الله أحمالها، يوم لا ينفع الجد إذ عاينوا الهول الشديد فاستكانوا، وعرف المجرمون بسيماهم فاستبانوا، فانشقت القبور بعد طول انطباقها، واستسلمت النفوس إلى الله بأسبابها، كشف عن الآخرة غطاؤها، وظهر للخلق أنباؤها، فدكت الأرض دكا دكا، ومدت لأمر يراد بها مدا مدا، واشتد المثارون إلى الله شدا شدا، وتزاحفت الخلائق إلى المحشر زحفا زحفا، ورد المجرمون على الأعقاب ردا ردا، وجد الامر - ويحك يا إنسان - جدا جدا، وقربوا للحساب فردا فردا، وجاء ربك والملك صفاً صفا، يسألهم عما عملوا حرفا حرفا، فجيء بهم عراة الأبدان، خشعا أبصارهم، أمامهم الحساب، ومن ورائهم جهنم، يسمعون زفيرها.

ص:257

ويرون سعيرها، فلم يجدوا ناصرا ولا وليا يجيرهم من الذل، فهم يعدون سراعا إلى مواقف الحشر، يساقون سوقا، فالسماوات مطويات بيمينه كطي السجل للكتب، والعباد على الصراط وجلت قلوبهم، يظنون أنهم لا يسلمون، ولا يؤذن لهم فيتكلمون، ولا يقبل منهم فيعتذرون، قد ختم على أفواههم، واستنطقت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

يا لها من ساعة ما أشجى مواقعها من القلوب حين ميز بين الفريقين! فريق في الجنة وفريق في السعير، من مثل هذا فليهرب الهاربون، إذا كانت الدار الآخرة لها يعمل العاملون(1).

إذن:

هذه الصورة الرهيبة لما يجري في يوم المحشر تأتي خديجة بجلالة قدرها وعظيم منزلتها عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تحمل حفيدها المحسن ابن فاطمة الزهراء عليها السلام وهو مضرج بدمه وهي تطالب بالقصاص من قاتليه.

في هذا اليوم أمام الخلائق أجمعين كي يخزي الله الفاسقين المجرمين، أمام هذا الجمع مثلما قتل المحسن أمام المهاجرين والأنصار ولا من نصير لرسول الله ؟! ولا من غيور على حرمة بنت نبي الله ؟! وكأن الناس نيام أو هم في سكرة يعمهون كما تصرح به الروايات التاريخية.

فقد روى الخصيبي (المتوفى سنة 334 ه ) والمجلسي (المتوفى سنة

ص:258


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 653-654، ح 3/1353.

1111 ه ) وغيرهم في حديث طويل عن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام وهو يصف كيفية قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته يوم المحشر وهم في حال أخذ القصاص من ظالميهم، فيقول عليه السلام:

«ثم يقوم الحسين عليه السلام مخضباً بدمه هو وجميع من قتل معه، فإذا رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكى، وبكى أهل السماوات والأرض لبكائه، وتصرخ فاطمة عليها السلام فتزلزل الأرض ومن عليها، ويقف أمير المؤمنين والحسن عليهما السلام عن يمينه، وفاطمة عن شماله، ويقبل الحسين عليه السلام فيضمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى صدره، ويقول:

يا حسين! فديتك قرت عيناك وعيناي فيك وعن يمين الحسين حمزة أسد الله في أرضه، وعن شماله جعفر بن أبي طالب.

ويأتي محسن تحمله خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين عليه السلام وهن صارخات وأمه فاطمة تقول: هذا يومكم الذي كنتم توعدون

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)1 .

قال: فبكى الصادق عليه السلام حتى أفضلّت لحيته بالدموع، ثم قال:

لا قرت عين لا تبكي عند هذا الذكر»(1).

ص:259


1- الهداية الكبرى للخصيبي: ص 417؛ البحار للمجلسي: ج 53، ص 23.

والحديث يكشف عن عظيم رزية الباب، وقتل المحسن ابن فاطمة عليهما السلام حينما ذهب سقطاً بفعل هجوم القوم على بيت فاطمة عليها السلام حينما قدموا لإخراج علي بن أبي طالب من داره لغرض مبايعة أبي بكر عنوة.

كما يكشف الحديث عن الآثار الكبيرة التي خلفها هذا المصاب في قلب أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وأنها هي صاحبة الدعوة.

ولذلك:

جاءت به تحمله يوم المحشر لغرض المطالبة بالقصاص ممن ظلم ابنتها فاطمة وقتل ولدها وحفيدها المحسن عليه السلام؛ فويل عندئذ لمن ظلمها في ذريتها وابنائها وهي التي نالت من الشأن عند الله ما نالت، بل يراد من قدومها وهي تحمل المحسن أن المحارب هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمثلما وقفت في حياتها حتى الممات في نصرة الرسالة وفداء صاحبها صلى الله عليه وآله وسلم فهي تقف اليوم في المحشر في نصرته أيضاً بما كتب الله على نفسه من العدل والقصاص ونصر رسله، وهو القائل وقوله الحق:

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ (48) وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ )1 .

ص:260

المبحث السادس: منزلة خديجة عليها السلام عند الصراط

اشارة

لا يخفى على المسلم أنّ الصراط هو من الحقائق التي نص عليها القرآن الكريم والسنة المحمدية الشريفة بروايات متواترة، بل لا يخفى أيضاً أن الصراط هو واحد من تلك المنازل الأخروية التي لابد للإنسان أنّ يتعرض لها ويمرّ بها، بل هي من أصعب المنازل الأخروية، كما سيمر بيانه من خلال الروايات.

ولخصوصية الصراط المستقيم وما ارتبط به من مفاهيم ودور غيبي وإيماني لأنه من أسس الاعتقاد بالغيب، ولما تعلق به من ارتباط وثيق بأعمال الإنسان الدنيوية، كل ذلك وغيره اضطرنا إلى التوسع في هذا المبحث ضمن مسائل عدة لكي يعي القارئ الكريم أهمية هذا المنزل الأخروي فلا يستهين به فضلاً عن خصوصيته مع أولياء الله وعباده الصالحين، لاسيما أم المؤمنين خديجة عليها السلام.

المسألة الأولى: الصراط في اللغة

قال ابن منظور: الصراط ، والسراط ، وهي بالصاد لغة قريش الأولين التي جاء بها الكتاب، وعامة العرب تجعلها سيناً.

وقيل: إنما قيل للطريق الواضح سراط لأنه كأنه يسترط المارة لكثرة سلوكهم(1).

وقال الفيروزآبادي: الصراط ، بالكسر: الطريق، وجسر ممدود على متن جهنم(2).

ص:261


1- لسان العرب لابن منظور: ج 7، ص 313.
2- القاموس المحيط للفيروزآبادي: ج 2، ص 370.
المسألة الثانية: معنى الصراط عند أئمة أهل البيت عليهم السلام، وعلماء أبناء العامة

مما جاء في معنى الصراط ما رواه الصدوق عليه الرحمة والرضوان عن المفضل بن عمر، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الصراط ، فقال:

«هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل وهما صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة. وأما الصراط الذي هو في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم»(1).

وقال الشيخ المفيد رحمه الله: «وجاء في الخبر بأن الصراط أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف على الكافر، والمراد بذلك أنه لا تثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدة ما يلحقهم من أهوال يوم القيامة ومخاوفها، فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشيء الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف. وهذا مثل مضروب لما يحلق الكافر من الشدة في عبوره على الصراط ، وهو طريق إلى الجنة وطريق إلى النار يشرف العبد منه إلى الجنة ويرى منه أهوال النار(2).

وأما ما جاء في معنى الصراط عند أبناء العامة فهي كالآتي:

1 - فقد أخرج الثعلبي في (الكشف والبيان) في قوله تعالى:

ص:262


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق: ص 32.
2- تصحيح اعتقادات الإمامية الشيخ المفيد: ص 111.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .

قال مسلم بن حيان: سمعت أبا بريدة يقول: صراط محمد وآله(1).

2 - وفي تفسير وكيع بن الجراح، عن سفيان الثوري، عن السدي، عن أسباط ومجاهد، عن عبد الله بن عباس في قوله تعالى:

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .

قال: قولوا معاشر العباد أرشدنا إلى حب محمد وأهل بيته(2).

3 - وأخرج الحموي في «فرائد السمطين» باسناده عن أصبغ بن نباتة، عن علي عليه السلام في قوله تعالى:

(وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ )3 .

قال:

«الصراط ولايتنا أهل البيت»(3).

4 - وأخرج الخوارزمي في «المناقب»: الصراط صراطان: صراط في الدنيا. وصراط في الآخرة. فأما صراط الدنيا فهو علي بن أبي طالب. وأما صراط الآخرة فهو جسر جهنم. من عرف صراط الدنيا جاز على صراط الآخرة(4).

ص:263


1- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 75؛ نهج الإيمان لابن جبر: ص 540؛ المناقب لابن شهر آشوب: ج 2، ص 271؛ العمدة لابن البطريق: ص 43.
2- المناقب لابن شهر: ج 2، ص 271؛ الغدير للعلامة الأميني: ج 2، ص 311.
3- ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 339؛ الغدير للأميني: ج 2، ص 311.
4- الغدير للعلامة الأميني: ج 2، ص 311-312.

5 - وأخرج شيخ الاسلام الحموي بإسناده في فرايد السمطين في حديث عن الإمام جعفر الصادق قوله:

«نحن خيرة الله، ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى الله».

فهم الصراط إلى الله فمن تمسك بهم فقد اتخذ إلى ربه سبيلا كما ورد فيما أخرجه أبو سعيد في شرف النبوة بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا، فمن تمسك بنا اتخذ إلى ربه سبيلا(1).

المسألة الثالثة: كيف يمر الناس على الصراط؟

تعرض الروايات الشريفة عن النبي الأكرم وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم في وصفها لحالات الناس عند مرورها على الصراط صورة متكاملة عن أهوال هذا المنزل الأخروي وشدة خطورته.

وتعرض هذه الأحاديث أيضاً حقيقة تجسيد هذه الأعمال التي يقوم بها الإنسان في الحياة الدنيا وآثارها في الآخرة لاسيما عند مروره على الصراط ، وهذه الأحاديث كالآتي:

1. روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام، انه قال:

«الناس يمرون على الصراط طبقات، والصراط أدق من الشعر، ومن حد السيف؛ فمنهم من يمر مثل

ص:264


1- الغدير للأميني: ج 2، ص 311؛ وأورده الصدوق رحمه الله في إكمال الدين عن الباقر عليه السلام بلفظ أطول: ص 206؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 78.

البرق، ومنهم من يمر مثل عدو الفرس، ومنهم من يمر حبواً، ومنهم من يمر مشياً، ومنهم من يمر متعلقاً تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً»(1).

2. وروى الشيخ الصدوق عليه رحمة الله والرضوان عن عبد الرحمن ابن سمرة في حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - رأيت إيراده بتمامه لما فيه من المنفعة والموعظة -؛ قال عبدالرحمن بن سمرة: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً، فقال:

«إني رأيت البارحة عجائب».

قال: فقلنا يا رسول الله، وما رأيت ؟ حدثنا به فداك أنفسنا وأهلونا وأولادنا؟!

فقال:

رأيت رجلا من أمتي، وقد أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه بره بوالديه فمنعه منه، ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوؤه فمنعه منها، ورأيت رجلا من أمي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله عز وجل فنجاه من بينهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته فمنعته منهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا، كلما ورد حوضا منع منه، فجاءه صيام شهر رمضان فسقاه وأرواه. ورأيت رجلا من أمتي والنبيون حلقا حلقا، كلما أتى حلقة طرد، فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأجلسه إلى جنبي، ورأيت رجلا من أمتي بين يديه ظلمة ومن خلفة ظلمة وعن يمينه ظلمة

ص:265


1-

وعن شماله ظلمة ومن تحته ظلمة مستنقعا في الظلمة، فجاءه حجه وعمرته فأخرجاه من الظلمة، وأدخلاه النور، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه، فجاءه صلته للرحم، فقال: يا معشر المؤمنين، كلموه فإنه كان واصلا لرحمه، فكلمه المؤمنون وصافحوه وكان معهم، ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النيران وشررها بيده ووجهه، فجاءته صدقته فكانت ظلا على رأسه وسترا على وجهه، ورأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فخلصاه من بينهم وجعلاه مع ملائكة الرحمة، ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه بينه وبين رحمة الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذه بيده وأدخله في رحمة الله، ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته قبل شماله، فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه، ورأيت رجلا من أمتي قد خفت موازينه، فجاءه أفراطه فثقلوا موازينه. ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه من الله عز وجل فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قد هوى في النار، فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله فاستخرجته من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يرتعد كما ترتعد السعفة في يوم ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته ومضى على الصراط ، ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا ويتعلق أحيانا، فجاءته صلاته علي فأقامته على قدميه ومضى على الصراط ، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة كلها، كلما انتهى إلى باب أغلق دونه، فجاءته شهادة

ص:266

أن لا إله إلا الله صادقا بها، ففتحت له الأبواب ودخل الجنة(1)).

المسألة الرابعة: المنجيات من الأعمال عند الصراط
اشارة

من المسائل التي ارتبطت بالمرور على الصراط في الآخرة مسألة النجاة من الوقوع منه في جهنم - والعياذ الله - حسبما كشفت عنه الروايات الشريفة. وقد بينت هذه الروايات ان هناك مجموعة من الأعمال الدنيوية لها آثار مرتبطة بشكل أساسي مع هذا المنزل الأخروي. وهذه الأعمال هي كالآتي:

1. ثبوت حب علي عليه السلام في قلب الإنسان

روى الصدوق رحمه الله عن أبي حمزة الثمالي، عن الإمام الباقر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:

«يا علي، ما ثبت حبك في قلب امرئ مؤمن فزلت به قدمه على الصراط إلا ثبتت له قدم حتى يدخله الله عز وجل بحبك الجنة»(2).

2. مشايعة علي بن أبي طالب ومناصرته

روى الصدوق رحمه الله عن أبان بن عثمان عن محمد بن الفضل الرزقي، عن أبي عبد الله - الصادق عليه السلام - عن أبيه، عن جده، عن علي

ص:267


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 301-303.
2- المصدر السابق: ص 679؛ فضائل الشيعة للصدوق: ص 6؛ البحار للمجلسي: ج 8، ص 69.

عليهم السلام قال:

إن للجنة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا.

فلا أزال واقفاً على الصراط أدعو وأقول: رب سلم شيعتي ومحبي أنصاري ومن تولاني في دار الدنيا، فإن النداء من بطنان العرش: قد أجيبت دعوتك وشفعت في شيعتك، ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولاني ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألف من جيرانه وأقربائه، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن شهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت»(1).

3. الصلاة المفروضة اليومية

روى الميرزا النوري رحمه الله عن ضمرة بن حبيب، قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة، فقال:

«الصلاة من شرائع الدين، وفيها مرضاة الرب عز وجل، وهي منهاج الأنبياء، وللمصلي حب الملائكة، وهدى وايمان، ونور المعرفة، وبركة في الرزق، وراحة للبدن، وكراهة الشيطان، وسلاح على الكافر، وإجابة للدعاء، وقبول للأعمال، وزاد المؤمن من الدنيا للآخرة. وشفيع بينه وبين ملك الموت، وانس في قبره، وفراش تحت جنبه، وجواب لمنكر ونكير، وتكون صلاة العبد عند

ص:268


1- الخصال للصدوق: ص 408.

المحشر تاجا على رأسه، ونورا على وجهه، ولباسا على بدنه، وسترا بينه وبين النار، وحجة بينه وبين الرب جل جلاله، ونجاة لبدنه من النار، وجوازا على الصراط ، ومفتاحا للجنة، ومهورا للحور العين، وثمنا للجنة، بالصلاة يبلغ العبد إلى الدرجة العليا، لان الصلاة تسبيح، وتهليل، وتحميد، وتكبير، وتمجيد، وتقديس، وقول، ودعوة»(1).

4. عيادة المريض

روى الحر العاملي رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انه قال في آخر خطبة خطبها:

«ومن قاد ضريرا إلى مسجده أو إلى منزله أو لحاجة من حوائجه كتب الله له بكل قدم رفعها ووضعها عتق رقبة، وصلت عليه الملائكة حتى يفارقه.

ومن كفى ضريرا حاجة من حوائجه فمشى فيها حتى يقضيها أعطاه الله براءتين: براءة من النار، وبراءة من النفاق، وقضى له سبعين ألف حاجة في عاجل الدنيا، ولم يزل يخوض في رحمة الله حتى يرجع.

ومن قام على مريض يوما وليلة بعثه الله مع إبراهيم الخليل (عليه السلام) فجاز على الصراط كالبرق الخاطف اللامع، ومن سعى لمريض في حاجة قضاها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله فإن كان المريض من أهله ؟

ص:269


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ج 3، ص 77.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

من أعظم الناس أجرا ممن سعى في حاجة أهله، ومن ضيع أهله وقطع رحمه حرمه الله حسن الجزاء يوم يجزي المحسنين وضيعه، ومن يضيعه الله في الآخرة فهو يتردد مع الهالكين حتى يأتي بالمخرج، ولن يأتي به، ومن أقرض ملهوفا فأحسن طلبته استأنف العمل وأعطاه الله بكل درهم ألف قنطار من الجنة، ومن فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا نظر الله إليه برحمته فنال بها الجنة، وفرج الله عنه كربه في الدنيا والآخرة، ومن مشى في اصلاح بين امرأة وزوجها أعطاه الله أجر ألف شهيد قتلوا في سبيل الله حقا، وكان له بكل خطوة يخطوها وكلمة في ذلك عبادة سنة، قيام ليلها وصيام نهارها»(1).

5. إقراض المسلم مالاً

روى الصدوق رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال:

«ومن أقرض أخاه المسلم كان له بكل درهم أقرضه وزن جبل أحد وجبال رضوى وطور سيناء حسنات فان رفق به في طلبه يعبر به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب، ومن شكا إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرم الله عليه أجر المحسنين»(2).

ص:270


1- وسائل الشيعة «آل البيت» للحر العاملي: ج 16، ص 344.
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال للصدوق: ص 290.
6. المحافظة على صلاة الجماعة

روى الصدوق رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في خطبة طويلة انه قال:

«ومن حافظ على الجماعة حيث ما كان مرّ على الصراط كالبرق اللامع في أول زمرة مع السابقين، ووجهه أضوأ من القمر ليلة البدر وكان له بكل يوم وليلة يحافظ عليها ثواب شهيد»(1).

7. الاستغفار في شهر شعبان

روى الحر العاملي عن الريان بن الصلت قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام يقول:

«من قال في كل يوم من شعبان سبعين مرة: استغفر الله وأسأله التوبة، كتب الله له براءة من النار، وجوازاً على الصراط ، وأحله دار القرار»(2)).

8. من أعان مؤمناً في شهر رمضان

روى الصدوق رحمه الله عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال:

«الحسنات في شهر رمضان مقبولة، والسيئات فيه مغفورة، من قرأ في شهر رمضان آية من كتاب الله عز وجل كان كمن ختم القرآن في غيره من الشهور ومن ضحك فيه في وجه أخيه

ص:271


1- المصدر السابق: ص 291.
2- وسائل الشيعة «آل البيت» للحر العاملي: ج 10، ص 510.

المؤمن لم يلقه يوم القيامة إلا ضحك في وجهه، وبشره بالجنة ومن أعان فيه مؤمناً أعانه الله تعالى على الجواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام...»(1).

9. قيام الليل بالقراءة والصلاة

روى الصدوق رحمه الله عن جابر بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام: ان رجلاً سأل علي بن أبي طالب عليه السلام عن قيام الليل بالقراءة ؟ فقال له:

أبشر من صلى من الليل عشر ليلة لله مخلصا ابتغاء ثواب الله تبارك وتعالى لملائكته: اكتبوا لعبدي هذا من الحسنات عدد ما أنبت في الليل من حبة وورقة وشجرة وعدد كل قصبة وخوص ومر ومن صلى تسع ليلة أعطاه الله عشر دعوات مستجابات وأعطاه الله كتابه بيمينه ومن صلى ثمن ليلة أعطاه الله أجر شهيد صابر صادق النية وشفع في أهل بيته، ومن صلى سبع ليلة خرج من قبره يوم يبعث ووجهه كالقمر ليلة البدر حتى يمر على الصراط مع الآمنين، ومن صلى سدس ليلة كتب في الأوابين وغفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صلى خمس ليلة زاحم إبراهيم خليل الرحمن في قبته، ومن صلى ربع ليلة كان في أول الفائزين حتى يمر على الصراط كالريح العاصف، ويدخل الجنة بغير حساب»(2).

ص:272


1- فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق: ص 97.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1، ص 475.
المسألة الخامسة: عقبات الصراط يوم القيامة
اشارة

مثلما دلت الروايات الشريفة على الأعمال المنجية يوم القيامة لاسيما عند الصراط ، فان هذه الروايات قد دلت أيضاً على وجود عقبات كثيرة تحول دون عبور الإنسان على الصراط بمعنى: ان بعض الأعمال الدنيوية تكون في الآخرة وبالاً على صاحبها فتمنعه من اللحظة الأولى دون المرور على الصراط والعبور منه إلى الجنة.

بمعنى آخر: ان هذه الأعمال تسقط الإنسان في جهنم قبل ان يمر على الصراط الذي يختلف الناس في عبورهم عليه كلاً حسب عمله.

بل: ان الروايات الشريفة تظهر أن هناك شفاعة وإدراكاً للعبد برحمة الله تعالى لمن يسير على الصراط فيما إذا كان هذا السير متعثراً بسبب بعض الأعمال الدنيوية فيأتيه الغيث الإلهي من خلال شفاعة الحبيب المصطفى وأهل بيته عليهم السلام فيشفع له فيمر على الصراط ، أما ذلك الذي يمنع من العبور فهذا - والعياذ بالله - محروم بسبب أعماله من إدراك رحمة الله تعالى؛ بمعنى: انه لا يستحق بسبب هذه الأعمال من المرور على الصراط ونيل ما يناله المؤمنون من اللطف والعناية فهو محروم من ذلك كله.

ولذا فهو متهاو إلى النار والعياذ بالله. وهذه العقبات هي كالآتي:

أولاً: لا يسمح للمسلم أن يمرّ على الصراط إلا بجواز من علي بن أبي طالب عليه السلام

أ. أخرج شاذان بن جبريل القمي المتوفى 660 ه عن جابر بن عبدالله

ص:273

وكان قد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مسائل فشرحها له، فمما جاء في ذلك انه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

لك ما سألتني ووجب عليك له الحفظ ، فإن لعلي عند الله من المنزلة الجليلة والعطايا الجزيلة ما لم يُعْطَ أحد من الملائكة والأنبياء المرسلين، وحبه واجب على كل مسلم فإنه قسيم الجنة والنار، ولا يجوز أحد على الصراط إلا ببراءة من أعداء علي عليه السلام»(1).

ب. أخرج الخطيب الخوارزمي المتوفى 568 ه ، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إذا كان يوم القيامة، أقام الله - عز وجل - جبرئيل ومحمداً على الصراط فلا يجوزه أحد إلا من كان معه براءة من علي بن أبي طالب عليه السلام»(2).

ج. قال المحدث المجلسي رحمه الله: روى الشيخ أبو جعفر الطوسي في «مصباح الأنوار» حديثاً يرفعه باسناده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ونصب الصراط على شفير جهنم فلم يجز عليه إلا من كان معه

ص:274


1- الفضائل لابن شاذان القمي: ص 60؛ كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي: ص 59؛ البحار للمجلسي: ج 35، ص 106.
2- المناقب للموفق الخوارزمي: ص 320؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص 179؛ البحار للمجلسي: ج 39، ص 39؛ روضة الواعظين للفتال النيسابوري: ص 129.

براءة من علي بن أبي طالب عليه السلام»(1).

د. روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام:

«يا علي إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرئيل على الصراط ، فلا يجوز على الصراط إلا من كانت معه براءة بولايتك»(2)).

ثانياً: لا يجوز المسلم الصراط إلا إذا عرف محمداً وأهل بيته عليهم السلام وعرفوه

قد تبين فيما سبق ان هناك كثيراً من الحقائق المتعلقة بيوم القيامة قد غفل عنها كثير من المسلمين فيما تغافل البعض الآخر منهم لاسيما أولئك الذين لا يرون فرقاً بين العترة الذين هم عدل القرآن الكريم وثقله الأصغر وبين بقية الصحابة.

في حين يقدم القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة نصوصاً صريحة وواضحة عن حقيقة معرفة محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في يوم المحشر وعند الصراط ، وفي عرصات يوم القيامة.

فمما جاء في آثار هذه المعرفة عند الصراط ما جاء في سورة الأعراف في قوله عزّ شأنه:

ص:275


1- بحار الأنوار: ج 7، ص 322؛ تأويل الآيات لشرف الدين الحسيني: ج 2، ص 495.
2- الاعتقادات في دين الإمامية للصدوق: ص 70؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق - بلفظ قريب -: ج 2، ص 272؛ البحار للمجلسي: ج 8، ص 70.

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ )1 .

وقد تخبط بعض المفسرين في بيان رجال الأعراف تخبطا عجيباً على الرغم من صراحة الآية بأنهم رجال لهم من الشأن عند الله تعالى ما يؤهلهم لمعرفة أهل الجنة وأهل النار كلاً بسيماهم، ولكن ليس بالغريب على من سلب البصيرة أن يُسلبها في القرآن وهو القائل عز شأنه:

(أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)2 .

بينما حاول البعض الآخر تقريب الصورة لدى القارئ كالفخر الرازي وابن عربي دون أن يثير غضب من لا يرى لعلي وآله خصوصية عند الصراط وانهم أهل الأعراف، فقال الرازي وهو ينقل قول الحسن والزجاج: «وعلى الأعراف، أي: وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يعرفون كل أحد من أهل الجنة والنار بسيماهم، فقيل للحسن: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ؟ فضرب على فخذيه ثم قال: هم قوم جعلهم الله تعالى على تعرف أهل الجنة وأهل النار يميزون البعض من البعض والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا»(1).

بينما ذهب ابن عربي إلى القول بأن أهل الأعراف: «هم العرفاء، أهل الله وخاصته»(2).

ص:276


1- تفسير فخر الرازي: ج 14، ص 87.
2- تفسير ابن عربي: ج 1، ص 258.

وعليه: فقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أحاديث كثيرة تنص صراحة على تخصيص هؤلاء الرجال الذين وضعهم الله سبحانه على الأعراف وبيان أسمائهم وتعريفهم؛ وكيف يعقل ان يبقى أمرهم مبهماً وهم المخصوصون بالأعراف.

أ. روى الثعلبي، وابن شهر آشوب؛ والقرطبي، والحسكاني، والقندوزي وغيرهم عن جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ ) .

قال: الأعراف، موضع عال من الصراط عليه العباس وحمزة، وعلي ابن أبي طالب، وجعفر ذو الجناحين يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه»(1).

ب. روى الحاكم الحسكاني عن الأصبغ بن نباتة، قال: «كنت جالساً عند علي فأتاه عبد الله بن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن قول الله تعالى:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ) .

فقال:

ص:277


1- تفسير الثعلبي: ج 4، ص 237؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 3، ص 31؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 264؛ تفسير القرطبي: ج 7، ص 312؛ مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي: ص 105؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 303؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 14، ص 396؛ تفسير الميزان للطباطبائي: ج 8، ص 146.

ويحك، يا ابن الكواء نحن نقف يوم القيامة بين الجنة والنار فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار»(1).

ج. وقد أخرج محمد بن الحسن الصفار في البصائر مجيء ابن الكواء إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وسؤاله عن الأعراف بلفظ آخر.

قال أمير المؤمنين عليه السلام:

«نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله عز وجل يوم القيامة على الصراط غيرنا، ولا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه ولا يدخل النار الا من أنكرنا وأنكرناه ان الله لو شاء لعرف العباد نفسه ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا فإنهم عن الصراط لناكبون، ولا سواء من اعتصم من الناس به ولا سواء من ذهب حيث ذهب الناس، ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض، وذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمر ربها لا نفاد لها ولا انقطاع»(2).

د. روى العياشي في تفسيره عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وقد سئل عن قوله تعالى:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ) .

ص:278


1- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني -: ج 1، ص 263؛ تفسير فرات الكوفي: ص 144؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 304.
2- بصائر الدرجات للصفار: ص 517؛ مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص 55.

فقال أبو جعفر عليه السلام:

«نحن الأعراف الذين لا يعرف الله الا بسبب معرفتنا، ونحن الأعراف الذي لا يدخل الجنة الا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه؛ وذلك أن الله لو شاء أن يعرف الناس نفسه لعرفهم، ولكنه جعلنا سببه وسبيله وبابه الذي يؤتى منه»(1).

ثالثاً: لا يجوز المسلم الصراط إلا بحفظ الأمانة وصون الرحم
اشارة

من العقبات التي تعترض المسلم على الصراط هي «الأمانة والرحم» حسبما نص عليها الحديث النبوي الشريف. إلا ان الملاحظ في هذا الحديث هو أن المراد من الأمانة والرحم هما: موالاة عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحفظهم، كما سيمر بيانه.

فقد أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، وأبو مالك، عن ربعي عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة الا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله قال فيقول إبراهيم لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلا من وراء وراء اعمدوا إلى موسى

ص:279


1- تفسير العياشي: ج 2، ص 19؛ تفسير فرات الكوفي: ص 143؛ ينابيع المودة للقندوزي الشافعي: ج 1، ص 305.

صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله تكليما فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم لست بصاحب ذلك فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق قال قلت بأبى أنت وأمي أي شيء كمر البرق قال ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم اعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول رب سلم سلم حتى تعجز اعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير الا زحفا قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكدوس في النار والذي نفس أبي هريرة بيده ان قعر جهنم لسبعون خريفا»(1).

والحديث فيه دلالات كثيرة نشير إلى اثنين منها:

الدلالة الأولى

إنّ (الأمانة والرحم) اللذان يرسلان إلى الصراط فيقومان على جانبيه يميناً وشمالاً؟ هما عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

مما لا شك فيه ان الصراط وضع لغرض بيان حقيقة الأعمال الدنيوية وآثار التكاليف الشرعية التي وضعها الله سبحانه على عباده.

ص:280


1- صحيح مسلم النيسابوري، باب: اختباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ج 1، ص 130.

وان هذه التكاليف إمّا أن تأخذ بالإنسان سريعاً إلى الجنة وإمّا ان تقذفه سريعاً إلى النار كما عبرت الأحاديث بألفاظ كثيرة عن هذا العبور، كالبرق، أو الركض، أو عدو الفرس، أو المشي، أو الحبو، أو السقوط - والعياذ بالله -.

ومن هنا: لا يتصور أن تفرد تلك الخصوصية الخاصة للأمانات - مع مالها من حرمة ومكانة في حفظ الحقوق الشخصية وتنامي العلاقات الاجتماعية فضلاً عن دورها في خلق حالة الأمن والطمأنينة في المجتمع - فمع كل هذا لا يتصور ان يخصص الله تعالى للأمانة التي جل دورها هو حفظ مال المسلم خصوصية على كثيرٍ من التكاليف الشرعية لاسيما الأصول كالتوحيد والنبوة والإمامة فكيف إذا ألحقنا بها الفروع كالصلاة والزكاة والصيام وغيرها من الفروع.

إذن:

يلزم ان يكون للفظ «الأمانة» التي نص عليها الحديث النبوي دلالة أخرى غير دلالتها المألوفة في حفظ مال المسلم بقرينة الموضع الذي توضع فيه وهو عند يمين الصراط الذي هو كاشف عن صحيفة المسلم ونتيجة أعماله الدنيوية، بمعنى: انها مرتبطة بتلك الكاشفية والخصوصية التي للصراط المستقيم.

ومما يدل عليه: قوله تعالى:

(إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)1 .

ص:281

ولا يتصور عاقل ان الله تعالى قد عرض الأمانة بما لها من معنى اصطلاحي أو عرفي على السموات والأرض وأن تأبى السموات والأرض من حملها ويشفقن منها ثم يحملها الإنسان، فضلاً عن أنه كان ظلوماً بهذه الأمانة جهولاً بقدرها وحقها.

ولذلك:

جاء المحدثون والمفسرون بروايات تكشف عن دلالة تلك الأمانة التي عرضها الله سبحانه على السموات والأرض، وهي كالآتي:

روى الصنعاني وابن جرير الطبري في بيان دلالة الأمانة التي عرضها الله على السموات هي: «الفرائض التي افترضها الله على العباد»(1).

وهذا اللفظ وان كان قريباً من المعنى الحقيقي الذي قصدته الآية المباركة وأن هذه الأمانة هي الفرائض التي لم يصرح بها الحافظان «الصنعاني والطبري» الا انهما أعطيا معنى بعيداً عن معنى الأمانة المألوف لدى الناس وهي حفظ الذمم، أي: ان الأمانة والرحم اللذان ينصبان على جانبي الصراط هما حقيقة أخرى غير التي يألفها الناس، ولذا فهي حقيقة احتاجت إلى بيان العترة النبوية لأنهم أهل الذكر الذي عنه يسألون وعلى حقائقه يدلون، حسبما دلت عليها الروايات الآتية:

ألف. روى الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام، في قوله:

(إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ...) .

ص:282


1- تفسير الصنعاني: ج 3، ص 125؛ جامع البيان للطبري: ج 22، ص 66.

قال: هي ولاية أمير المؤمنين عليه السلام»(1).

باء. روى الصدوق رحمه الله عن علي بن معبد، عن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهم السلام عن قول الله عز وجل:

(إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) .

فقال:

الولاية، من ادعاها بغير حق كفر»(2).

جيم. قال علي بن ابراهيم الكوفي (المتوفى سنة 329 ه ): في قوله:

(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) .

قال: الأمانة، هي الإمامة والأمر والنهي، والدليل على أن الأمانة هي الإمامة، قوله عز وجل:

(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) .

يعني الإمامة، فالأمانة هي الإمامة عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، قال: أبين أن يدعوها أو يغصبوها أهلها.

ص:283


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 413.
2- معاني الأخبار للصدوق: ص 110.

(وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ ) ، أي فلان (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً)1 .

هاء. روى فرات الكوفي (المتوفى سنة 352) عن فاطمة الزهراء عليها السلام قالت:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما عرج بي إلى السماء صرت إلى سدرة المنتهى:

(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى )2 .

فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني، فسمعت أذانا مثنى مثنى وإقامة وترا وترا فسمعت مناديا ينادي: يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي اشهدوا أني لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، قالوا: شهدنا وأقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي بأن محمدا عبدي ورسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي بأن عليا وليي، وولي رسولي، وولي المؤمنين بعد رسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا. قال: عباد بن صهيب قال: جعفر ابن محمد قال أبو جعفر - عليهما السلام -: وكان ابن عباس رضي الله عنه: إذا ذكر - هذا الحديث - فقال!: إني لأجده في

ص:284

كتاب الله تعالى:

(إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)1 .

قال: فقال ابن عباس - رضي الله عنه -: والله ما استودعهم دينارا ولا درهما ولا كنزا من كنوز الأرض ولكنه أوحى إلى السماوات والأرض والجبال من قبل أن يخلق آدم عليه السلام: إني مخلف فيك الذرية، ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أنت فاعلة بهم ؟! إذا دعوك فأجيبيهم وإذا آووك فآويهم، وأوحى إلى الجبال إذا دعوك فأجيبيهم وأطيعي - وأطبقي - على عدوهم فأشفقن منها السماوات والأرض والجبال عما سأله الله من الطاعة فحملها بني آدم فحملوها. قال عباد قال جعفر: والله ما وفوا بما حملوا من طاعتهم»(1).

وعليه:

حينما نستعرض تلك الأحاديث الشريفة وننظر إلى التاريخ وما اختزنته كتب المؤرخين والمحدثين والمفكرين من حوادث ومباحث وأفكار حول موضوع الإمامة عند المسلمين نلمس بصدق انها هي الأمانة التي تقف على جانب الصراط في يوم القيامة يحاكم من ظلمها وجهل أهلها.

أما الرحم فيكفي بالمسلم أن يرجع إلى حديث واحد أورده مسلم في

ص:285


1- تفسير فرات الكوفي: ص 345.

صحيحه وأحمد في مسنده ليوقن ان الرحم التي تقف على الجنب الآخر من الصراط هم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هم فاطمة وبعلها وبنوها.

فقد أخرج مسلم عن زيد بن أرقم أنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيبا بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: «أما بعد الا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.

فقال له حصين ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته ؟

قال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده؛ قال: ومن هم ؟

قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر، وآل عباس...»(1).

ولم يثبت ان النبي حصر أهل بيته بهؤلاء جميعاً وإنما خص أهل بيته بفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام وحصرهم بالكساء اليماني حينما نزل قوله تعالى:

ص:286


1- صحيح مسلم، باب: من فضائل علي عليه السلام: ج 7، ص 123؛ مسند احمد، حديث طارق بن سويد: ج 4، ص 367.

(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)1

2 .

ولذلك: فإن الإمامة ورحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقفان عند جانبي الصراط يوم القيامة وسيسألان المسلمين عن حفظهم للإمامة وصونهم وصلتهم لرحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي أهل بيته وذريته، لاسيما وقد روت عائشة عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله».

وقد ورد عن أهل البيت عليهم السلام ما يظهر حقيقة هذه الرحم المعلقة بالعرش لمن تعود، فقد روى الشيخ الكليني رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال:

«إن الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني وأقطع من قطعني، وهي رحم آل محمد، وهو قول الله عز وجل:

(وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ )3 .

ورحم كل ذي رحم»(1).

وهذه هي الدلالة الأولى التي دل عليها الحديث الشريف.

ص:287


1- الكافي للكليني رحمه الله، باب: صلة الرحم: ج 2، ص 151.
الدلالة الثانية: أن علي بن أبي طالب عليه السلام هو أول من يعبر الصراط من هذه الامة كالبرق الخاطف

إنّ من الحقائق التي دلّ عليها الحديث النبوي الشريف هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت، بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق ؟.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين»(1).

فالحديث الشريف وان لم يصرح بشخصية أول هذه الامة عبوراً على الصراط هاهنا، أو لعله صلى الله عليه وآله وسلم قد صرح بذلك ولكن تعمد البعض اخفاء هذا التصريح، الا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد صرح وخص في أحاديث أخرى، وأعلن مراراً عن أول هذه الامة إيماناً وأقدمهم سلماً ومن كان أولهم إيماناً كان أولهم عبوراً على الصراط .

1. قال صلى الله عليه وآله وسلم لابنته فاطمة في زواجها:

«أما علمت يا فاطمة أنك بكرامة الله إياك زوجتك أعظمهم حلماً، وأكثرهم علما، وأقدمهم سلماً»(2).

ص:288


1- صحيح مسلم، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها: ج 1، ص 130.
2- الإرشاد للشيخ المفيد رحمه الله: ج 1، ص 36؛ الأمالي للطوسي: ص 607؛ شرح الأخبار للقاضي المغربي: ج 2، ص 509؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 2، ص 190؛ نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: ص 128؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 13، ص 114؛

2. وفي حديث الحوض قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«أولكم وارداً علي الحوض أولكم إسلاماً علي بن أبي طالب»(1).

أما ما ذهب إليه بعض المحدثين في أنّ أبا بكر هو أول من أسلم فهذا مما صنعته يد الساسة وافتعله أصحاب المصالح الدنيوية لغرض ارضاء حكام بني أمية وأشياعهم فضلاً عن ان التاريخ لخير شاهد على زيف هذا الإدعاء، فقد روى الطبري وابن كثير وغيرهما، عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن سعد قال:

قلت لابي أكان أبو بكر أولكم أسلاماً؟

فقال: لا ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين»(2).

فمن كان قد أسلم قبله أكثر من خمسين نفراً كيف له أن يكون أول من أسلم كما يدعيه البعض من المحدثين، ولذلك هناك تلازم بين الصراط والإيمان

ص:289


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 136؛ بغية الباحث للحارث بن أبي أسامة: ص 295؛ التمهيد لابن عبد البر: ج 2، ص 305؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 4، ص 117؛ كنز العمال للهندي: ج 11، ص 616؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 1091؛ تاريخ مدينة دمشق: ج 42، ص 40.
2- تاريخ الطبري: ج 2، ص 60؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 39؛ السير النبوية لابن كثير: ج 1، ص 436؛ الإفصاح للشيخ المفيد رحمه الله: ص 232؛ كنز الفوائد للكراجكي: ص 124؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 1، ص 289؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 38، ص 228؛ الغدير للأميني: ج 3، ص 240.

فمن كان خالص الإيمان سباقاً إليه وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حاله في الآخرة كحاله في الدنيا.

ومما يدل عليه أيضاً ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحاديث شريفة تنص على أن علياً عليه السلام هو أول الناس إيماناً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما وان حبيب الرحمن صلى الله عليه وآله وسلم هو الأعرف بمن آمن به وصدّقه من أمته.

ولذا فهو يقول:

أ. روى محمد بن سليمان الكوفي رحمه الله - المتوفى سنة 300 ه - عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«من آذى علياً فقد آذاني إن علياً أولكم إيماناً، وأوفاكم بعهد الله. يا أيها الناس من آذى علياً بعث يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً وإن عبد الله»(1).

أقول: كيف تنفع العبادة، أي: الصلاة والصوم من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بمعنى أنه يبعث يوم القيامة على غير ملة الإسلام، أما لماذا يكون يهودياً أو نصرانياً فلعله:

1 - هم أقرب الأديان لعهد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - أو لأنهم قد حرفوا دينهم ولم يتبعوا وصايا أنبيائهم وأحكامهم وشرائعهم، فيحشرون ضمن تلك الزمرة، أي زمرة المحرفين الكلم عن مواضعه.

ص:290


1- مناقب أمير المؤمنين عليه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 548.

3 - أو لعلهم - أي اليهود والنصارى - هم أكثر الأمم التي آذت أنبياءها - فيحشر من آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ضمن تلك الزمرة. والله العالم بحقائق الأمور.

ب. روى الشيخ الطوسي رحمه الله - المتوفى سنة 460 ه - والحاكم الحسكاني، وابن عساكر، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل علي بن أبي طالب عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«قد أتاكم أخي، ثم ألتفت إلى الكعبة فضربها بيده.

ثم قال:

والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة.

ثم قال:

إنه أولكم إيماناً معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية.

قال: فنزلت:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ )1

2 .

ص:291

ج. روى فرات الكوفي - المتوفى سنة 352 ه - عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لفاطمة بنت الحسين عليه السلام: أخبريني جعلت فداك بحديث أحدث واحتج به على الناس ؟

قالت:

«نعم، أخبرني أبي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان نازلاً بالمدينة وأن من أتاه من المهاجرين مرسوا أن يفرضوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فريضة يستعين بها على من أتاه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: قد رأينا ما ينوبك من النوائب وإنا أتيناك لتفرض من أموالنا فريضة تستعين بها على من أتاك.

قال: فأطرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم طويلا ثم رفع رأسه فقال: إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئتم به شيئا، إنطلقوا إني لم أؤمر بشيء وإن أمرت به أعلمتكم.

قال: فنزل جبرئيل عليه السلام فقال:

يا محمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك وقد أنزل الله عليهم فريضة:

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )1 .

ص:292

فخرجوا وهم يقولون ما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن تذل له الأشياء وتضع له الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبني عبد المطلب.

قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل: أيها الناس من انتقص أجيرا أجره فليتبوأ مقعده من النار، ومن ادعى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار. ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار!

قال: فقام رجل وقال: يا أبا الحسن ما لهن من تأويل ؟

فقال: الله ورسوله أعلم. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره.

فقال النبي: ويل لقريش من تأويلهن - ثلاث مرات - ثم قال: يا علي انطلق فأخبرهم، إني أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين، وأنا وأنت أبوا المؤمنين.

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا معشر قريش والمهاجرين والأنصار. فلما اجتمعوا قال: يا أيها الناس إن عليا أولكم إيمانا بالله، وأقومكم بأمر الله، وأوفاكم بعهد الله، وأعلمكم بالقضية، وأقسمكم بالسوية، وأرحمكم بالرعية، وأفضلكم عند الله مزية. ثم قال: إن الله مثل لي أمتي في الطين وعلمني أسماءهم كما:

ص:293

(وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)1 .

ثم عرضهم فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته وسألت ربي أن تستقيم أمتي على علي من بعدي فأبى إلا أن يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ثم ابتدأني ربي في علي بسبع خصال: أما أولاهن: فإنه أول من ينشق الأرض ولا فخر. وأما الثانية: فإنه يذود الرعاة غريبة الإبل. وأما الثالثة: فان من فقراء شيعة علي ليشفع في مثل ربيعة ومضر. وأما الرابعة: فإنه أول من يقرع باب الجنة معي ولا فخر. وأما الخامسة: فإنه أول من يزوج من الحور العين معي ولا فخر. وأما السادسة: فإنه أول من يسكن معي في عليين ولا فخر. وأما السابعة: فإنه أول من يسقى من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون»(1).

اذن:

أول هذه الامة عبوراً على الصراط أولهم إيماناً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقدمهم إسلاماً وهو علي عليه الصلاة والسلام، وهو أول أمّة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم خروجاً من القبر وأولهم وروداً على الحوض وأولهم (من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة)(2) ، وأولهم دخولاً للجنة.

ص:294


1- تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي: ص 394.
2- صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب: قصة غزو بدر: ج 5، ص 7.
المسألة السادسة: شرافة منزلة خديجة عند الصراط

بقي أن نقول: إنّ مما كشف عنه الحديث النبوي الشريف فيما مضى في المسألة السابقة انه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكدوس في النار»(1).

ان من أصعب ما يلاقيه المسلم في يوم القيامة هو المرور على الصراط فمن الناس من تأخذه هذه الكلاليب فتلقيه في نار جهنم ومنهم من تخدشه لكنه ينجو بفعل شفاعة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

وبين هذا الرعب وذاك الفزع والهول والخوف الذي يفتت قلب الإنسان كما تفتت الحجارة تحت المطرقة تظهر كرامة الله تعالى لأوليائه وتتجلى شرافة عباده المخلصين كخديجة بنت خويلد صلوات الله وسلامه عليها، كما يخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وان المرء لا يدري وهو يقرأ هذه الرواية - التي ستمر - أيعجب من فزع يوم القيامة وأهوالها وشدة عقباها أم يعجب من كرامة الله تعالى لأوليائه وعباده المخلصين، في ذلك اليوم.

فقد روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة والرضوان في أماليه خبر احتضار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفراقه الدنيا، وهو حديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة فمما جاء فيه، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لأم سلمة رضي الله تعالى عنها:

ص:295


1- صحيح مسلم، باب: اختباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ج 1، ص 130.

«أدعي لي حبيبة قلبي وقرة عيني فاطمة تجيء.

فجاءت فاطمة عليها السلام وهي تقول:

نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، يا أبتاه إلا تكلمني كلمة ؟ فأني أنظر إليك وأراك مفارق الدنيا، وأرى عساكر الموت تغشاك شديداً.

فقال لها:

يا بنية، إني مفارقك، فسلام عليك مني.

قالت:

يا أبتاه، فأين الملتقى يوم القيامة ؟

قال:

عند الحساب.

قالت:

فإن لم ألقك عند الحساب ؟

قال:

عند الصراط ، جبرئيل عن يميني، وميكائيل عن يساري، والملائكة من خلفي وقدامي، ينادون رب سلم أمّة محمد من النار، ويسر عليهم الحساب.

فقالت فاطمة عليها السلام:

فأين والدتي خديجة ؟

ص:296

قال:

في قصر له أربعة أبواب إلى الجنة».

ثم أغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...»(1).

والحديث فيه معانٍ ودلالات كثيرة منها:

1. إنّ الله تعالى ليظهر كرامته لأوليائه وبيان شرفهم في جميع منازل الآخرة قبل دخولهم الجنة، حتى إذا أدخلهم الجنة أظهر لأهل الجنة كرامات أخرى لأولئك المخلصين من عباده.

2. أن الناس الذين تتفتت قلوبهم من الخوف ويتفاوتون في تلقي الفزع وشدته عليهم فبين مخدوش بكلاليب الصراط وبين منكوس في النار. ففي هذا الجو الرهيب والمهول تكون خديجة عليها السلام في قصر له أربعة أبواب إلى الجنة.

3. ان وجود أربعة أبواب لبيت خديجة يدل على توسطه بحيث يستطيع الناس النظر إليه من الجهات الأربع وهذا إظهار لشرافة المقيم في هذا المنزل.

4. ان هذا العدد من الأبواب فيه دلالة على التعظيم كما جعل الله للبيت الحرام - أعزه الله - أربعة أبواب في السماء كما نصت عليه الرواية الآتية:

فقد روى الصدوق رحمه الله عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام انه قال:

ص:297


1- الأمالي للصدوق: ص 735؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 22، ص 509.

«إنّ الله عز وجل أنزل البيت من السماء وله أربعة أبواب على كل باب قنديل من ذهب معلق»(1).

وهذا كله يظهر شرافة هذه المرأة الطاهرة عند الصراط وفي جميع منازل الآخرة، حتى إذا أدخلها الله الجنة أظهر لأهلها شرافة أمته خديجة، وبيّن سبحانه لعباده منزلتها في الجنان فكانت عظيمة كعظم هذه المرأة وجلالة قدرها عند الله تعالى وعند رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

وهو ما سنتعرض له في المبحث الآتي.

المبحث السابع: منزلة خديجة عليها السلام في الجنة

اشارة

قد يتصور البعض أن الجنة لا تتمايز فيها المنازل أو انها تفتقد إلى التشريفات أو تخلو من التفاضل والتكريم؛ في حين نجد القرآن الكريم قد دلّ في آيات كثيرة على اختلاف المنازل في الجنة بل انها جنان متعددة أعد بعضها لخاصة الله من عباده كما تظهر الأحاديث الشريف والآيات المباركة، الآتي ذكرها:

1. جنة الخلد، قال تعالى:

(قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً)2 .

ص:298


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 2، ص 241.

2. جنة المأوى، قال تعالى:

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ )1 .

وقال سبحانه:

(وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى )2 .

3. جنة النعيم، قال تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ )3 .

وقال تعالى:

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتِ النَّعِيمِ )4 .

4. جنة الفردوس، قال سبحانه:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً)5 .

ص:299

5. جنة عدن، قال عز وجل:

(وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )1 .

وغيرها من الآيات الكريمة التي تتحدث عن تعدد الجنان وتنوعها، فيما أشارت الأحاديث الشريفة إلى تخصيص هذه الجنان لبعض عباد الله تعالى.

فأما جنة الخلد فقد دلت الروايات على اختصاصها بمن يتولى علي بن أبي طالب وذريته عليهم السلام فضلاً عن جنة عدن التي أعدها الله سبحانه لحبيبه المصطفى وعترته وشيعتهم. وهذا يدل على أن شيعة أهل البيت عليهم السلام يتفاضلون في استحقاق هذه المراتب فمنهم من يكون في جنة الخلد ومنهم من يكون مع محمد وآله في جنة عدن كما أشارت النصوص، وهي كالآتي:

1. روى ابن بابويه القمي رحمه الله عن أبي اسحاق، عن زياد بن مطرف، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«من أراد أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي وهو قضيب من قضبانه، غرسه بيده وهي جنة الخلد، فلْيتولَّ عليا عليه السلام وذريته من بعده فانهم لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلال»(1).

ص:300


1- الإمامة والتبصرة لابن بابوية القمي: ص 45.

2. روى ابن عياش الجوهري؛ والشيخ الطوسي، وابن شهر آشوب، وابن عساكر الدمشقي الأموي والمتقي الهندي، والقندوزي وغيرهم، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي، فليتول علياً بعدي وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعده، فإنهم عترتي خلقهم الله من لحمي ودمي، وحباهم فهمي وعلمي، ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي لا أنالهم الله شفاعتي»(1).

وغير ذلك من الأحاديث الشريفة التي ترشد المسلم إلى منازل المتقين وعباد الله الصالحين وتفاضلهم في الجنان التي أعدها الله لعباده المتقين.

وحينما نأتي إلى منزلة الصديقة الطاهرة السيدة خديجة الكبرى (صلوات الله وسلامه عليها) في الجنة فلابد لنا من المرور ببعض المسائل وهي كالآتي:

ص:301


1- مقتضب الأثر لاحمد بن عياش الجوهري: ص 16؛ الأمالي للشيخ الطوسي: ص 578؛ المناقب لابن شهر آشوب المازندراني: ج 1، ص 251؛ كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي؛ البحار للمجلسي: ج 23، ص 139؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 9، ص 170؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 103؛ خصائص الوحي المبين للحافظ ابن البطريق: ص 30؛ تاريخ مدينة دمشق: ج 42، ص 240 وص 242؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 489؛ الإمامة وأهل البيت لمحمد بيومي مهران: ج 1، ص 61.
المسألة الأولى: اشتياق الجنة لخديجة عليها السلام

يتحدث القرآن الكريم عن الجنة والنار فيكشف للمسلم عن جملة من الحقائق والخصائص التي تخصهما، والتي في الواقع يحتار العقل فيها، وكيف لا يحتار؟! وهما من الغيب الذي خص الله به نفسه وخيرته من خلقه.

الا ان الذي يدفع الإنسان إلى كثير من التفكر والتأمل هو تلك الحالات الخاصة التي جعلها الله سبحانه للجنة والنار، والتي ترافق في العادة الروح لا الجماد وكأن القرآن في عرضه لصفات الجنة والنار يتحدث عن خلق من خلق الله امتاز بالحياة وليس بالموات، أي: إن الجنة والنار من ذوات الأرواح العاقلة وهذا من أعجب ما يعرضه القرآن عن الجنة والنار؛ فالنار تتكلم، وتسمع، وتطيع، وتنظر، وهي لأمر ربها خاضعة، ومن غضبه خائفة، ومن خشيته وجلة.

وهذا يدل على أنهما مخلوقتان لا كما ذهب البعض من المسلمين إلى أنهما ليستا مخلوقتين - كما سيمر بيانه في ولادة فاطمة عليها السلام -.

أما الآيات الدالة على حقيقة خلقهما أن لهما من الصفات ما لذوات الأرواح العاقلة كالملائكة والجن والإنس فهي كالآتي:

1 - يقول سبحانه في بيان رؤية النار للكافرين:

(إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً)1 .

والحال يجري مجراه بالنسبة للجنة فمثلما تسمع النار وتتكلم وتنظر فان

ص:302

الجنة لتشتاق إلى نفر من المؤمنين والمؤمنات نصت عليهم الأحاديث النبوية الشريفة وهذا كاشف عن بلوغ هؤلاء النفر المراتب العلى من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

فالجنة لكثرة ما يرد عليها من الحسنات من أولئك النفر فانها اشتاقت إليهم كما يشتاق الزرع إلى الزراع وكما تشتاق الأرض إلى الماء.

والأحاديث في ذلك الخصوص كثيرة، وكلها تكشف عن بلوغ هؤلاء النفر المراتب السامية في الجنان لكثرة ما قدموا من أعمالٍ صالحة وخالصة لوجه الله تعالى، ولذا فالجنة تشتاق إليهم.

ولأن الشوق لا يكون الا من المحبة، ولأن الجنة هي موضع الطهر والقداسة ومحل عباد الله المخلصين من الأنبياء والمرسلين وسيدهم أجمعين محمد وآله الطاهرين صلى الله عليه وآله وسلم ومن والاهم وثبت على دينهم فان ذلك يكشف عن أمور منها:

أ. ان اشتياق الجنة يدل على تحول هؤلاء وان كانوا في الدنيا من أهل الجنة فالجنة لا تشتاق إلاّ لأهلها وأحبابها وإلاّ لا معنى لتحقق الشوق.

ب. ان هؤلاء النفر قد بلغوا رتبة عالية من طهارة الروح والبدن حتى أصبحوا من سنخية الجنة فحالهم من حال الجنة وجنسها.

ج. انهم من أهل العلم والعمل إذ لا فائدة من العلم ما لم يكن مصحوباً بالعمل ولولا هذا العلم والعمل لما وصلوا إلى رتبة اشتياق الجنة لهم.

أما مَنْ هؤلاء الذين تشتاق الجنة إليهم ؟ فأما من النساء فهنَّ المذكورات في

ص:303

حديث رواه ابن أبي الفتح الأربلي، عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال:

«اشتاقت الجنة إلى أربع من النساء مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد»(1).

وأما من الرجال فهم:

1. روى القاضي النعمان المغربي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال:

«إنّ الجنة لتشتاق ويشتد ضوؤها لمجيء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشيعتهم، ولو ان عبداً عبد الله بين الركن والمقام حتى تتقطع أوصاله وهو لا يدين الله بحبنا وولايتنا أهل البيت ما قبل الله منه»(2).

2. روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن الإمام الباقر، عن آبائه عليهم السلام أجمعين، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«إنّ الجنة لتشتاق لأحباء علي ويشتد ضوؤها لأحباء علي عليه السلام وهم في الدنيا قبل أن يدخلوها وإن النار تتغيظ ويشتد زفيرها على أعداء علي عليه السلام وهم في الدنيا قبل أن يدخلوها»(3).

ص:304


1- كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 94؛ بحار الأنوار: ج 43، ص 53؛ شجرة طوبى للحائري: ج 2، ص 222؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 10، ص 99.
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: سسج 1، ص 74.
3- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: ص 207.

3. روى الصدوق رحمه الله عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن علي عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي أمير المؤمنين عليه السلام:

«الجنة تشتاق إليك والى عمار وإلى سلمان وأبي ذر والمقداد»(1).

4. روى الترمذي، عن الحسن عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إنّ الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار، وسلمان»(2).

5. وأخرج أبو يعلى الموصلي في مسنده، عن سعد الاسكاف، عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال:

«أتى جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد ان الله يحب من أصحابك ثلاثة فأحبهم، علي بن أبي طالب، وأبو ذر، والمقداد بن الأسود، قال فأتاه جبريل فقال له: يا محمد إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة من أصحابك، وعنده أنس بن مالك فرجا أن يكون لبعض الأنصار، قال فأراد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فهابه فخرج فلقي أبا بكر فقال: يا أبا بكر أني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا فأتاه جبريل فقال إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة من أصحابك فرجوت أن يكون لبعض الأنصار فهبته أن أسأله فهل لك أن تدخل على نبي الله

ص:305


1- الخصال للصدوق: ص 303؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج 1، ص 72.
2- سنن الترمذي: ج 5، ص 332.

صلى الله عليه وسلم فتسأله؛ فقال إني أخاف أن أسأله فلا أكون منهم ويشمت بي قومي، ثم لقيني عمر بن الخطاب فقال له مثل قول أبي بكر.

قال فلقي عليا فقال له علي: نعم، إن كنت منهم فأحمد الله، وإن لم أكن منهم فحمدت الله؛ فدخل على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أن أنسا حدثني أنه كان عندك آنفا وإن جبريل أتاك فقال يا محمد إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة من أصحابك قال فمن هم يا نبي الله ؟

قال أنت منهم يا علي، وعمار بن ياسر، وسيشهد معك مشاهد، بين فضلها، عظيم خيرها، وسلمان منا أهل البيت وهو ناصح فاتخذه لنفسك»(1).

المسألة الثانية: شرافة منزلتها في الجنة قد جمعت في مقام (الأفضلية، والسيّدية، والخيريّة)

تناولنا في مبحث «منزلة خديجة في السنة» وورد بعض الأحاديث الشريفة التي تنص على بيان منزلة بعض النساء في الجنة والتي كانت بألفاظ ثلاثة، وهي كالآتي:

1. روى أحمد بن حنبل عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض أربعة خطوط ، قال:

ص:306


1- مسند أبي يعلى الموصلي: ج 12، ص 143، حديث 6772؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 117؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 13، ص 258؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 21، ص 412.

تدرون ما هذا؟

فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنة عمران»(1).

فكان هذا الحديث قد نص على «الأفضلية».

2. روى الحاكم النيسابوري عن عائشة انها قالت لفاطمة عليها السلام: الا أبشرك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سيدات نساء أهل الجنة أربع مريم بنت عمران، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخديجة بنت خويلد، وآسية»(2).

ونلاحظ هنا أن الحديث قد نص على «السيّدية».

3. أخرج ابن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآسية امرأة فرعون»(3).

4. وروى الشيخ الصدوق رحمه الله عن ابن عباس قال: خط رسول الله

ص:307


1- مسند احمد بن حنبل: ج 1، ص 293.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 185.
3- صحيح ابن حبان: ج 15، ص 402؛ المستدرك للحاكم: ج 3، ص 154؛ فتح الباري لابن حجر: ج 6، ص 329؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 5، ص 364؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1821؛ موارد الظمآن للهيثمي: ج 7، ص 168؛ الجامع الصغير للسيوطي: ج 1، ص 629؛ كنز العمال للهندي: ج 12، ص 143.

أربع خطط ثم قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».

وهنا ورد الحديث وهو ينص على «الخيرية».

وهذه الألفاظ الثلاثة «الأفضلية، والسيّدية، والخيرية»، لم تكن تصدر من الحضرة النبوية لغرض التساوي والترادف في المعاني وإنما لكل لفظة دلالتها الخاصة بها.

أما (الأفضلية) التي خصصن به هؤلاء النسوة إنما هو لحصولهن على امتيازات خاصة جعلتهنّ يبلغنَ تلك المنزلة، بمعنى أنهن فضّلنَ على بقية نساء الجنة بميزات لم تتوصل إليها النساء في زمان كل واحدة منهنّ ، فمريم عليها السلام لم تكن في زمانها امرأة قد بلغت هذا المستوى من الإيمان والصلاح حتى خاطبتها الملائكة وهي تصلي في المحراب.

وآسية بنت مزاحم لم يُهيّأ لامرأة ما هيئ لها من السلطة والمال والخدم الا ان كل ذلك رمته وراء ظهرها واتجهت إلى ربها فخلصت له الدين ولم يكن أحد غيرها يعبد الله من أمّة موسى وهارون.

ولذلك: ضرب الله بها مثلاً للذين كفروا كي تكون عليهم حجة بالغة، حتى رأت بحق اليقين جنة ربها سبحانه وتعالى ولذا قالت:

(رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ )1 .

ص:308

وهي المكاشفة.

وأما سيدتي ومولاتي خديجة الكبرى صلوات الله عليها فأي امرأة قد حظيت بمثل ما حظيت به من النعيم في الحياة الدنيا من المال والجمال والحسب الرفيع والنسب الشامخ حتى أصبح كل أشراف مكة وأسيادها حريصاً على الزواج بها.

لكنها لما رأت في يتيم أبي طالب فضائل الأخلاق تتخلله، ونور النبوة يعلوه، اتجهت لخدمته ونصرته ومواساته وهي ترجو في ذلك رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد مرّ في بيان شأنها ما علمه القارئ الكريم.

حتى نالت السلام من ربها قبل موتها فكيف بها وهي في حضرته وفي جنته التي اعدها للمتقين.

وأما فاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها فلقد بلغت من اليقين ما لم تبلغه امرأة من العالمين فان كانت مريم وآسية وخديجة قد تفاضلن في مراتب اليقين بين مرتبة «علم اليقين، وعين اليقين» فان فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغت مرتبة «حق اليقين» ولذا كانت قلب النبي المصطفى وروحه التي بين جنبيه.

ولذا: نالت السيّدية على نساء العالمين.

بمعنى:

ان مرتبة الأفضلية التي أشار إليها الحديث النبوي الشريف كان تدل على

ص:309

حصول التفاضل فيما بين هؤلاء النسوة على بقية النساء بعلة وجود خصائص ومميزات لم تتوافر في غيرهن من النساء فضلاً عن أنهن يتفاضلن فيما بينهن حسب درجات اليقين التي نص عليها القرآن الكريم أي: «علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين».

ومثاله في التفضيل قوله تعالى:

(وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)1 .

وتفضيل بني آدم كان من خلال مميزات امتازوا بها على كثير مما خلق الله تعالى:

1. ميزهم بالعقل فكان تفضيلاً.

2. جعل فيهم الخلافة على الأرض.

قال تعالى:

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )2 .

3. اكرام الصالحين بالجنة.

4. سخر لهم كثيراً من المخلوقات.

5. أكرمهم بالعلم.

ص:310

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ )1 .

وغيرها من الخصائص.

ومثال آخر جاء به القرآن على حقيقة التفضيل.

قال تعالى:

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ )2 ،(وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً)3 .

فهنا كان التفضيل بين الأنبياء بمميزات كالتكليم واتيان داود الزبور وهكذا وتلك النسوة كان تفضيلهن على نساء أهل الجنة بميزات مر ذكرهن لاسيما ما مرّ من بيانه خلال هذه الأسطر عن مولاتنا خديجة عليها السلام.

أما السيّدية:

فترتكز على بلوغ هذه النساء مراتب اليقين كما أسلفنا.

والسيد: بفتح أوله وكسر ثانية، هو: (من اجتمع عليه قومه وجعلوا أمرهم إليه للخير الذي فيه)(1).

وشخوص الخير وتجسيده إلى مظاهر خارجية يدركها الناس يحتاج إلى ثبوته في النفس وتجذره فيها، ولأن الخير أصله اليقين بالله تعالى فكان سنامه

ص:311


1- معجم لغة الفقهاء لمحمد قلعجي: ص 253.

ونواته حق اليقين وهو ما ساد به حبيب الرحمن على جميع الأنبياء والمرسلين فبلغ من ربه محلاً لم يرق إليه مخلوق قط حيث قال عزّ من قائل:

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى )1 .

وهذا فضلاً عن شهادة الحق سبحانه لقلب حبيبه ويقينه بمولاه فقال سبحانه:

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى )2 .

ولذلك: سادت هذه النسوة على بقية نساء الجنة بخيريتهنّ على هذه النساء بمعنى: تجلي مظاهر الخير وأصوله فيهنّ عليهن السلام فكنّ كما وصفهنّ المصطفى «بخير نساء الجنة».

وبه بلغن رتبة الخيرية.

فكنّ :

1. أفضل نساء الجنة: لاختصاصهنّ بميزايا لم تحصل عليها امرأة في زمانهنّ .

2. وخير نساء الجنة: لاجتماع الخير فيهنّ وتجليه إلى مظاهر حياتية ملموسة فيما بين النساء.

3. وسيدات نساء الجنة: لبلوغهن مراتب اليقين التي لم يبلغها غيرهن من النساء.

ص:312

المسألة الثالثة: كيف يكون دخولها إلى الجنة ؟
اشارة

إنّ من الحقائق التي ذكرها القرآن الكريم والسنة المحمدية حول مجريات يوم القيامة، هو تمايز المؤمنين في دخولهم الجنة وتفاضلهم في ذلك.

بل: قد أشارت أيضاً إلى أنْ يكون الدخول مصحوباً بآثار بعض الأعمال الحياتية التي عاشها الإنسان قبل انتقاله إلى عالم الآخرة.

قال تعالى:

(وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ )1 .

وفي بيان القرآن الكريم لدخول من حقت عليه كلمة العذاب إلى جهنم يقول سبحانه:

(وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ )2 .

وتظهر الآية بوضوح ان اختلاف أبواب جهنم لم يكن دون حكمة، بل ان تعدد هذه الأبواب كما تنص الآية كان لغرض اختلاف الأعمال التي عملها أهل النار فكانت الباب بحسب نوع الجرم والظلم الذي قام به اولئك،

ص:313

فالمشركون يدخلون من باب خاص بهم، والمنافقون لهم باب خاص في جهنم، والقتلة لهم باب؛ والظالمون لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم باب وهكذا - نعوذ بالله من حلول سخطه ونسأله العفو والرحمة والموالاة لمحمد وأهل بيته -.

وعليه:

فالحال يجري مجراه بالنسبة لابواب الجنة فقد خصصت بحسب الأعمال فالمتقون لهم باب، والصالحون لهم باب، والمؤمنون لهم باب، والمسلمون لهم باب، وبعض الأبواب خصصت ببعض الأعمال، كالعلماء، والشهداء، وغير ذلك؛ بل قد ورد في بعض الروايات ان صنفاً من الناس يخير في الدخول إلى الجنة من أي باب شاء.

وقد نصت الأحاديث على وقوف بعض عباد الله تعالى عند أبواب الجنة لا يدخلونها حتى يدخل معهم من أحبوا، فيشفعون لهم ويصحبونهم إلى الجنة.

قال تعالى:

(جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ)1 .

ص:314

فالآية المباركة: تشير إلى اصطحاب أهل جنة عدن معهم آباءهم وأزواجهم وذرياتهم.

ومن هنا:

ورد في الأحاديث الشريفة: اختصاص السقط الذي يذهب دون أن يكمل مدّة حمله أو المولود الذي يتوفاه الله قبل ان يجري عليه القلم، أي قبل أن يصل إلى السن الشرعية في أداء الفروض الواجبة يكون حاله في الآخرة ممن يشفع لوالديه فيدخلهم الجنة.

وفي هذا الخصوص وبما يتعلق بمولاتنا خديجة عليها السلام فقد أخرج الشيخ الكليني رضوان الله تعالى عليه والحر العاملي (قدس) رواية تدل على ان خديجة عليها السلام يصحبها ولدها القاسم قبل دخولها الجنة، بل هو من يأخذ بيدها إلى الجنة. وهذا نص الرواية:

روى الكليني رحمه الله عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر - الباقر عليه السلام -، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة حين مات القاسم ابنها وهي تبكي فقال لها:

ما يبكيك ؟

فقالت:

درت دريرة فبكيت.

فقال:

«يا خديجة أما ترضين إذا كان يوم القيامة أن تجيئي إلى باب

ص:315

الجنة وهو قائم فيأخذ بيدك فيدخلك الجنة وينزلك أفضلها، وذلك لكل مؤمن.

إن الله عز وجل أحكم وأكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثم يعذبه بعدها أبداً»(1).

والحديث فيه أمور وهي كالآتي:

أولاً: حكمة الابتلاء بالسقط وموت الأبناء الذين لم يبلغوا الحنث

تدل الرواية الشريفة على احدى الحقائق المتعلقة بالابتلاءات المتعددة التي يبتلى بها المسلم ألا وهي ابتلاؤه بموت جنينه وهو في بطن أمه، أو يذهب سقطاً، وهو ما يعرف بالاجهاض أو يتوفاه الله تعالى وهو لم يبلغ الحلم، أي لم يصل إلى السن الذي تتعلق فيه الأحكام الشرعية بذمته فهذا الابتلاء له حكمة خاصة دلت عليها الرواية الشريفة، فكانت ضمن متعلقات كثيرة:

أ. أن يكون شفيعاً لوالديه يوم القيامة فيكون سبباً لغفران ذنوبهما في الآخرة.

ب. أن تكون شدة مصاب الأبوين هو كفارة لذنوبهما في الدنيا؛ فيعوضان الجنة في الآخرة.

ج. أن يكون دليلاً لهما في الجنة فينزلهما في منازلهما الخاصة وهذا خاص بالمتقين كما نصت الرواية على بيان دور القاسم ابن النبي صلى الله عليه وآله

ص:316


1- الكافي للكليني، باب: المصيبة بالولد، ج 3، ص 18؛ وسائل الشيعة للحر العاملي، باب: احتساب موت الأولاد، ج 3، ص 244؛ الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 4، ص 175؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 16، ص 15.

وسلم إذ لم يكن دوره في غفران الذنوب، فمثل خديجة وهي التي سلم عليها الله سبحانه وتعالى وهي في دار الاختبار والامتحان لا يكون لها ذنب؛ لأن الله تعالى لا يسلم على مذنب عاص له.

ولذلك كان دور القاسم هو الدليل الذي يأخذ بيد أمه إلى أفضل منازل الجنة، وهو بطبيعة الحال موضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه؛ وقد ورد في بيان جزاء الله تعالى لمن ابتُلي بمثل هذا الابتلاء أحاديث كثيرة نذكر منها على سبيل الاستشهاد يأتي:

1. روى الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده عن أبيه رحمه الله عن عمرو ابن شمر عن جابر - عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«من قدم أولادا يحتسبهم عند الله حجبوه من النار باذن الله عز وجل»(1).

2. وبسنده أيضاً عن شمر بن حوش عن عمرو بن عنبسة السلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

«أيما رجل قدم ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث أو امرأة قدمت ثلاثة أولاد فهم حجاب يسترونه من النار».

3. وقريب من هذا اللفظ أخرج أحمد بن حنبل عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا كانوا له حصناً حصيناً من النار».

ص:317


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: ص 196.

فقيل: يا رسول الله، فإن كان اثنين ؟ قال:

«وإن كان اثنين».

فقال أبوذر: يا رسول الله لم أقدم إلا اثنين ؟ قال:

وإن كانا إثنين.

قال: فقال أبي بن كعب أبو المنذر سيد القراء: لم أقدم إلا واحدا؟ قال:

فقيل له، وإن كان واحداً».

فقال:

إنما ذلك عند الصدمة الأولى»(1).

ثانياً: إن القاسم ولد ومات في الإسلام

لقد تناولنا في الجزء الأول من هذا الكتاب في مبحث القاسم بكر خديجة عليها السلام ما يثبت انه كان قد ولد ومات في الإسلام؛ وهذا النص الشريف ليدل مرة أخرى على ثبوت هذه الحقيقة، وعليه:

فإننا نطرح السؤال السابق الذي سألناه، وهو: إذا كان القاسم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أجمعت الامة على انه بكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وقد ولد ومات في الإسلام، فكيف يمكن أن تكون بقية بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي: (زينب، وأم كلثوم، ورقية) قد ولدن وتزوجن قبل البعثة النبوية وإن رقية وأم كلثوم طلقهن ولدا أبي لهب بعد البعثة ؟!! من عتبة بن أبي لهب وأخيه عتيبة ألا يكون ذلك ضرباً من الخيال ؟

ص:318


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 375.

ولذا:

فكونهما من صلبه صلى الله عليه وآله وسلم مع هذه الحقائق لا يستند إلى منطق أو دليل علمي سوى منطق التعصب الأعمى، ونزعة الجاهلية، ولم يبقَ سوى الاعتقاد بأنهما رضي الله عنهما ربيبتيه صلى الله عليه وآله وسلم فأخذن صفة البنت.

المسألة الرابعة: صفة بيت خديجة عليها السلام في الجنة
اشارة

تضافرت النصوص النبوية الشريفة في كتب المدارس الإسلامية كافة في وصفها بيت خديجة عليها السلام في الجنة وقد اجمعت هذه النصوص على ان بيتها هو من قصب لا صخب فيه ولا نصب، إلا انها اختلفت في صدور الحديث النبوي الشريف زماناً ومكاناً.

أولا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في حياة خديجة عليها السلام

فمنها ما نص على صدور الحديث في حياة خديجة عليها السلام في مكة حينما كانت تحمل لرسول الله الطعام والماء وهو في غار حراء يتعبد الله عز وجل، وقد بشرها الله عز وجل على لسان جبرئيل ببيت في الجنة وأبلغها سلام الرحمن وسلامه إليها؛ كما نص عليه البخاري في صحيحه:

فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة عن أبي هريرة، قال: «أتى جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

ص:319

يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها اناء فيه أدام أو طعام أو شراب فإذا هي قد أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومنّي، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»(1).

ثانيا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة

ومنها ما نص على صدور الحديث النبوي عن حضرته المقدسة صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة وعند دخوله مكة معتمراً، والحديث يخرجه البخاري أيضاً.

فعن عبد الله بن أبي أوفى قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعتمرنا معه، فلما دخل مكة طاف وطفنا معه، وأتى الصفا والمروة وأتيناها معه، وكنا نستره من أهل مكة أن يرميه أحد.

فقال له صاحب لي: أكان دخل الكعبة ؟

قال: لا.

قال: فحدثنا ما قال لخديجة ؟

قال:

«بشروا خديجة ببيت من الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»(2).

ص:320


1- صحيح البخاري، باب: تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة عليها السلام: ج 4، ص 231.
2- صحيح البخاري، باب: طواف الوداع، ج 2، ص 203.
ثالثا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة خديجة عليها السلام

ومنها ما نص على سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن خديجة بعد وفاتها فقال:

«أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت قصب لا صخب فيه ولا نصب»(1).

وفي رواية أخرى، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«رأيتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب»(2).

رابعا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في بيان صفة القصب
اشارة

أما ما ورد من نصوص نبوية في وصف نوع القصب فقد أشارت الأحاديث إلى:

1. أن هذا القصب من «لؤلؤة جوفاء»(3).

2. أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة عليها السلام:

«إنّ أمك في بيت من قصب كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر»(4).

ص:321


1- مسند أبي يعلى الموصلي: ج 4، ص 41؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 8، ص 120.
2- المعجم الكبير للطبراني: ج 23، ص 8؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 5، ص 283، حديث 2988؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 416.
3- شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 17.
4- الأمالي للشيخ الطوسي رحمه الله: ص 175.

3. أنه من «قصب اللؤلؤ»(1).

4. أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«من القصب المنظوم بالدر والياقوت واللؤلؤ»(2).

وهذه الأحاديث النبوية الشريفة تكشف عن التكريم الخاص لمولاتنا خديجة عليها السلام أما لماذا من قصب ؟ ففيه وجوه:

الوجه الأول: كي يميز الله عزّ وجل بيت خديجة في الجنة على بقية البيوت

كون بيت خديجة من قصب هو للتمييز بينه وبين البيوت الأخرى التي أعدها الله تعالى كبيت آسية بنت مزاحم حيث طلبت من الله تعالى ان يبني لها بيتاً في الجنة، كما هو واضح في كتابه العزيز في قوله تعالى:

(وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ )3 .

لاسيما وقد ورد في النصوص أن بيت خديجة عليها السلام بين مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، فجاء بيت خديجة بهذا الوصف لغرض التمييز بين هذه البيوت الثلاثة.

ص:322


1- السنن الكبرى للبيهقي: ج 7، ص 71.
2- مسند الشاميين للطبراني: ج 2، ص 118؛ تاج العروس للزبيدي: ج 2، ص 323.
الوجه الثاني: للدلالة على ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام

اختيار القصب لهذا البيت دلالة على كثرة الذرية النبوية التي كانت جدتهم خديجة؛ إذ إن جميع ذرية المصطفى من ابنته فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام وقد قال النبي الأعظم في ذريته:

«كل بني آدم عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا أبوهم وأنا عصبتهم».

فكان القصب بالمقابلة مع النسل يدلل على كثرة نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الوجه الثالث: للدلالة على أن دور خديجة كان كالعمود الفقري لجسم الإنسان

من الصفات الجمالية للقصب احتواؤه على تلك الفقرات التي تعطي صورة مماثلة للعمود الفقري الذي يكون محل الحبل الشوكي ومركز اعتماد الجسم البشري والحيواني عليه، وهذا فيه دلالة على ان الدور الذي قامت به خديجة عليها السلام في قيام هذا الدين هو بمنزلة العمود الفقري لهذا الجسم.

الوجه الرابع: للدلالة على الاستقامة

إن من صفات القصب هو الاستقامة وكذا كان سيرها وإيمانها وتمسكها بالصراط المستقيم.

أما دلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا صخب فيه ولا نصب».

ص:323

فهو الآتي:

1 - إنّ مما يتبادر إلى ذهن السامع حينما عرف أن هذا البيت من القصب هو الضجيج وارتفاع الصوت، وذلك عند تحرك هذه الأعواد حينما يمر بها الريح فيدفعها للاصطدام ببعضها فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصرف ذهن السامع إلى أن هذا القصب ليس مما شهده الإنسان في الحياة الدنيا.

2 - لعدم اجتماع النقيضين في محل واحد؛ بمعنى لا يجتمع التعب مع حالة الاستقامة في محل واحد، فالصخب والنصب يأتي من الانحراف والاعوجاج أما في حالة الاستقامة فلا وجود للصخب والنصب ولذا: كان القصب دليلاً على الاستقامة التي يلازمها الهدوء والسكينة.

3 - قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين، أعني: المنازعة والتعب أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابته خديجة طوعا فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك بل أزالت عنه كل نصب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل عسير فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها(1).

ولذا نفى عنه النبي الأكرم صفتي الصخب الذي يرافق تحرك هذه الأعواد القصبية، ونفى عنه التعب؛ لأنه لا يأتي مع وجود الاستقامة.

والله سبحانه وتعالى العالم بحقائق الأمور.

ص:324


1- فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 104.
المسألة الخامسة: موقع بيت خديجة في الجنة

أشارت الروايات عنه صلى الله عليه وآله وسلم في تحديد موقع هذا البيت فكانت هذه الأحاديث كالآتي:

أ. روى القاضي النعمان المغربي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، أنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام:

«إن جبرائيل عليه السلام عهد إلي ان بيت أمك خديجة في الجنة بين بيت مريم ابنة عمران وبين بيت آسية امرأة فرعون».

ب. ان فاطمة عليها السلام سألت أباها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة أمها خديجة عليها السلام، فقالت:

أين أمنا خديجة ؟

قال:

«في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب بين مريم وآسية امرأة فرعون».

فقالت:

من هذا القصب ؟

فقال:

لا بل من القصب المنظوم بالدر والياقوت واللؤلؤ»(1).

ج. روي الشيخ الطوسي رحمه الله عن بريد العجلي، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام يقول:

ص:325


1- مسند الشاميين للطبراني: ج 2، ص 118.

«لما توفيت خديجة عليها السلام جعلت فاطمة صلوات الله عليها تلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدور حوله، وتقول: يا أبه أين أمي ؟ قال: فنزل جبرائيل عليه السلام فقال له: ربك يأمرك أن تقرئ فاطمة السلام، وتقول لها: إن أمك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران. فقالت: فاطمة عليها السلام: إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام(1).

والحديث فيه جملة من الدلالات منها:

1. إنّ لرضا فاطمة عليها صلوات الله وسلامه وغضبها ارتباطاً برضا الله عز وجل، وان لسرورها وحزنها ارتباطاً بحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسروره كما نصت على ذلك الأحاديث النبوية.

ففي رضاها وغضبها، روى الحاكم النيسابوري وغيره عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام:

«إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»(2).

ص:326


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 175؛ الخرائج والجرائح للراوندي: ج 2، ص 529؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 28.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 154؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 213؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 5، ص 363؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 168؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 401؛ نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: ص 177؛ كنز العمال للهندي: ج 12، ص 111.

وفي حزنها وسرورها، روى احمد بن حنبل عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال:

«فاطمة شجنة مني يبسطني ما بسطها ويقبضني ما قبضها»(1).

وفي اجتماع هاتين الخاصيتين ظهر لفاطمة صلوات الله عليها منزلة خاصة ومقام لم تحظَ بهما امرأة من العالمين. ولذلك: تدل الرواية الشريفة على اختصاصها بنزول جبرئيل عليه السلام عند حزنها وانقباضها لفقد أمها خديجة عليها السلام.

والسؤال المطروح: كيف إذا اجتمع غضبها وحزنها وتألمها في وقت واحد على أشخاص محددين من الآثار التكوينية والشرعية ؟

2. ان نزول جبرائيل عليه السلام ليجيب عن سؤالها مباشرة - وهو، أي جبرائيل، لا يسبق الله في أمرٍ ولا يجتهد في قول أو فعل - يكشف عن ان فاطمة عليها السلام الصورة الخارجية لقلب سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وان الله سبحانه أراد دفع هذا الحزن عن قلب المصطفى الذي هيئ لخزانة الوحي.

ولذا كي يبقى مطمئنّاً لزم ان تكون فاطمة مطمئنة أيضاً.

وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبي»(2).

ص:327


1- مسند احمد بن حنبل: ج 4، ص 332؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 154؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 203.
2- كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 94؛ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 664؛ البحار: ج 43، ص 54.

3. إن تلقيها الإجابة من جبرائيل عليه السلام فيه دلالة على كمالها ودرجة يقينها بالله تعالى وبملائكته ورسله وبنبوة أبيها وتصديقها بذلك كله حق الصدق فهي الصدّيقة الكبرى على العالمين.

والا كيف يفسر قبولها الجواب وهي في الخامسة من عمرها سوى انها ممن اصطفاهم الله واختارهم على العالمين.

4. يدل جوابها صلوات الله عليها على عصمتها ورتبة علمها وان عدد السنين لا مدخلية له في علم المعصومين فقد علمها ربها من لدنه علما وذلك هو مراد قولها:

«إن الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام».

5. ان اختصاصها بالسلام عن الله تعالى وجوابها هذا يدل على تلازمها مع أمها خديجة في الأفضلية والخيرية والسيّدية على نساء العالمين، وذلك؛ لاختصاصهما بالسلام من الله تعالى وبردهما نفس الجواب - كما مر بيانه سابقاً -.

6. يكشف الحديث بشكل صريح عن جعل بيت خديجة في مركز هذه البيوت والدليل عليها في الجنة لما في الوسطية من منزلة عند الله تعالى.

وعليه: يكون لموقع بيت خديجة عليها السلام في الجنة بين بيت مريم ابنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم دلالة عن شرافتها في الجنة وإظهاراً لمقامها وشأنها وبتمييزها من خلال هذا الموقع والوصف عن بيوتات النساء الصديقات اللاتي بلغن مراتب الفضل والشرف كما يتمايز أهل الجاه والشرف والحظ في مجالسهم في الحياة الدنيا.

ص:328

المحتويات

الفصل السادس: انها من عباد الله المخلصين و خير زوجة لرسول رب العالمين

المبحث الأول: كيف كانت حياتها الزوجية ؟ 8

الصورة الأولى: القرآن يمدح نساء النبي مدحاً مقيداً 8

الصورة الثانية: القرآن يذم من خالفت منهنّ هذه الشروط 9

المسألة الأولى: حياتها الزوجية قبل البعثة 11

أولا: الزوج أهم من المال والأهل عند خديجة 12

ثانيا: إكرامها لمن يَفِد على زوجها والإحسان إليهم 14

ثالثا: تخفيفها لهموم زوجها ومواساته 15

المسألة الثانية: حياتها الزوجية بعد البعثة النبوية 19

الحلقة الأولى: دور خديجة في بدء البعثة كما يرويه البخاري 19

الحلقة الثانية: حقيقة دور خديجة في بدء البعثة تختلف عما يرويه البخاري ومسلم من شبهات 24

الأمر الأول: توهم شراح البخاري في دلالة قول خديجة عليها السلام (كلا) 30

الأمر الثاني: دلالة قولها (أبشر) يراد به التصديق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم 31

ص:329

الأمر الثالث: أقالت (لا يحزنك) أم (لا يخزيك) التي هي في مقام الذم كما يروي البخاري ؟!! 32

الأمر الرابع: مؤازرتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر التصديق كان من فعل الأنبياء كما نص عليه القرآن الكريم 35

الأمر الخامس: مخالفة البخاري للقرآن في خوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صوت جبرائيل لدرجة الموت رعباً؟! 36

المسألة الثالثة: مصاديق الزوجة الصالحة 38

أولا: مبايعتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 38

الوجه الأول 44

والوجه الثاني 44

ثانيا: حملها الطعام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الغار 49

ثالثا: خوفها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام حين خروجهما من المنزل 52

رابعا: كيف يتعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أم عياله خديجة عليها السلام حينما يدخل المنزل ؟ 59

المسألة الرابعة: جهادها ومؤازرتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ رسالته 61

أولا: فداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسها وحفظه من الأذى 64

ثانيا: مؤازرتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحصار حتى أكلت ورق الأشجار 69

المبحث الثاني: آثار حياتها الزوجية على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأسرة المسلمة 77

المسألة الأولى: كانت خديجة قدوة لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم 77

المسألة الثانية: ولأن خديجة ربة البيت وأم العيال، كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد حزن عليها حتى خُشِيَ عليه 80

أولا: إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأرحام خديجة عليها السلام 82

ثانيا: إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحباب خديجة عليها السلام 83

ص:330

الفصل السابع: منزلة خديجة فى القرآن و السنة

المبحث الأول: منزلتها عند الله تعالى 90

المسألة الأولى: إن الله تعالى يباهي بها ملائكته عليهم السلام 90

المسألة الثانية: إطعامها من ثمار الجنة 94

المبحث الثاني: منزلتها في القرآن 96

المسألة الأولى: آية الإغناء 103

المسألة الثانية: آية الاصطفاء على النساء 105

المسألة الثالثة: آية الأزواج والذرية 106

المسألة الرابعة: آية الاستواء 111

المسألة الخامسة: آية التسنيم 112

المسألة السادسة: آية السابقون 114

المسألة السابعة: آية الاستغفار 116

المسألة الثامنة: آية الاصطفاء على العالمين 116

المسألة التاسعة: آية الأعراف 119

المسألة العاشرة: آية التصوير 123

المبحث الثالث: منزلتها في السنة 125

المعنى الأول 125

المعنى الثاني 125

المسألة الأولى: منزلة خديجة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 126

الحديث الأول: حديث الخيرية 127

ص:331

أولا: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل خديجة ومريم في منزلة واحدة من الخيرية 127

ثانيا: إن خديجة حازت على الكمالات التي عرضها القرآن الكريم لمريم عليها السلام 128

ثالثا: إنّ خديجة فاقت في بعض المواطن مريم ابنة عمران عليهما السلام 129

الحديث الثاني: حديث التفضيل 131

الحديث الثالث: حديث أفضلية خديجة في الجنة 133

الحديث الرابع: خيرية خديجة على نساء العالمين 134

أولا: حذف فضائل خديجة من صحيح مسلم 135

ثانيا: دلالة الخيرية والأفضلية في الأحاديث النبوية الشريفة 136

الحديث الخامس: خديجة سيدة نساء عالمها 137

المسألة الثانية: منزلة خديجة من خلال دلالة فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 140

الفعل الأول 140

الفعل الثاني 140

الفعل الثالث 141

الفعل الرابع 142

المسألة الثالثة: منزلة خديجة عند أئمة أهل البيت عليهم السلام 142

أولا: منزلتها عند أمير المؤمنين علي عليه السلام 142

ألف: منزلة الأمومة 143

باء: منزلة الحماة 147

ثانيا: منزلة خديجة عند فاطمة عليهما السلام 148

ثالثا: منزلة خديجة عند الإمام الحسن عليهما السلام 149

رابعا: منزلة خديجة عند الإمام الحسين عليه السلام 152

ألف: اتخاذ قبر خديجة محلاً للمناجاة والدعاء 153

باء: المنهاج التعبدي لقضاء الحوائج 154

خامسا: منزلة خديجة عليها السلام عند الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام 156

سادسا: منزلة خديجة عند الإمام الحسن العسكري عليه السلام 159

ص:332

المسألة الرابعة: منزلة خديجة عند أعلام بني هاشم وأبناء الأئمة عليهم السلام 160

أولا: منزلتها عند أبي طالب عليهما السلام 161

ثانيا: منزلتها عند أم سلمة رضي الله عنها 161

ثالثاً: منزلتها عند محمد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام 164

رابعا: افتخار الشهيد زيد بن علي بن الحسين بجدته خديجة عليهم السلام 170

المسألة الخامسة: منزلة خديجة عليها السلام عند أعلام الشيعة 175

أولاً: منزلتها عند الشيخ الحميري القمي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 267 ه ) 177

ثانياً: منزلتها عند الشيخ المفيد رضي الله تعالى عنه (المتوفى سنة 413 ه ) 179

ثالثا: منزلتها عند العلامة الحلي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 726 ه ) 180

رابعا: منزلتها عند الفقيه الكراجكي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 449 ه ) 184

خامسا: منزلتها عند الأربلي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 693 ه ) 185

سادسا: منزلتها عند المامقاني رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 1351 ه ) 186

سابعا: منزلتها عند المحقق البحراني رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 1121 ه ) 187

ثامنا: منزلتها عند السيد أبي القاسم الخوئي طيب الله ثراه (المتوفى سنة 1411 ه ) 188

المسألة السادسة: منزلة خديجة عليها السلام عند أعلام أهل السنة والجماعة 189

أولاً: منزلتها عند الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852 ه ) 190

ثانياً: منزلتها عند الحافظ المباركفوري (المتوفى سنة 1353 ه ) 191

ثالثاً: منزلتها عند الشبلنجي (المتوفى سنة 1308 ه ) 192

رابعاً: منزلتها عند العلامة السبكي (المتوفى سنة 756 ه ) 193

خامسا: منزلتها عند الزرقاني (المتوفى سنة 1122 ه ) 194

سادسا: منزلتها عند الذهبي (المتوفى سنة 748 ه ) 195

سابعا: منزلتها عند الحافظ السهيلي (المتوفى سنة 581 ه ) 195

ثامنا: منزلتها عند القاضي النعمان المغربي (المتوفى سنة 363 ه ) 198

ص:333

المسألة السابعة: خديجة عليها السلام من رواة الحديث الشريف 200

أولاً: ورود اسمها في الكتب الرجالية عند الشيعة 201

ثانياً: ورود اسمها في الكتب الرجالية عند أهل السنة والجماعة 202

ثالثاً: حذف حديثها من صحيح البخاري دليل على تحريف صحيح البخاري 203

رابعاً: ما روي عنها من الأحاديث 203

المبحث الرابع: اعتقاد خديجة عليها السلام بالإمامة 203

المسألة الأولى: إنّ الله تعالى يختار لأوليائه تمام النعمة 211

المسألة الثانية: اعتقاد الرسل والأنبياء بنبوة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع ما بعثوا به من رسالات إلى الأمم 216

المسألة الثالثة: سنة الابتلاء بحب علي عليه السلام سنة قرآنية 220

المبحث الخامس: منزلة خديجة في المحشر 226

المسألة الأولى: ما هو الحشر؟ 229

المسألة الثانية: في أول من يحشر 233

أولا: معرفة الله تعالى 238

ثانيا: الإسراع يكون للسيّدية 240

ألف: النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مقدم من حيث الخلق الأول 241

باء: مقام السّيدية يقتضي السبق في وصول النداء الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم 241

جيم: مناقشة قول العلامة الطباطبائي (قدس)، في معنى: فاستمع، أي فانتظر 242

ثالثا: الإسراع في الخروج من القبر يكون لمقام الشاهدية 243

المسألة الثالثة: شرافة منزلة خديجة عليها السلام يوم المحشر 245

أولا: الحكمة في خروج فاطمة عليها السلام من قبرها ضمن تشريفات ملكوتية 248

ثانيا: إظهار منزلة خديجة في المحشر من خلال استقبالها لفاطمة عليها السلام 249

ثالثا: اختصاص خديجة عليها السلام بألوية التكبير في ساحة المحشر كاشف عن شرافة منزلتها 253

ص:334

المسألة الرابعة: اقتصاص خديجة ممن ظلم ابنتها فاطمة عليها السلام في يوم المحشر 255

المبحث السادس: منزلة خديجة عليها السلام عند الصراط 262

المسألة الأولى: الصراط في اللغة 262

المسألة الثانية: معنى الصراط عند أئمة أهل البيت عليهم السلام، وعلماء أبناء العامة 263

المسألة الثالثة: كيف يمر الناس على الصراط؟ 265

المسألة الرابعة: المنجيات من الأعمال عند الصراط 268

1. ثبوت حب علي عليه السلام في قلب الإنسان 268

2. مشايعة علي بن أبي طالب ومناصرته 268

3. الصلاة المفروضة اليومية 269

4. عيادة المريض 270

5. إقراض المسلم مالاً 271

6. المحافظة على صلاة الجماعة 272

7. الاستغفار في شهر شعبان 272

8. من أعان مؤمناً في شهر رمضان 272

9. قيام الليل بالقراءة والصلاة 273

المسألة الخامسة: عقبات الصراط يوم القيامة 274

أولاً: لا يسمح للمسلم أن يمرّ على الصراط إلا بجواز من علي بن أبي طالب عليه السلام 274

ثانياً: لا يجوز المسلم الصراط إلا إذا عرف محمداً وأهل بيته عليهم السلام وعرفوه 276

ثالثاً: لا يجوز المسلم الصراط إلا بحفظ الأمانة وصون الرحم 280

الدلالة الأولى 281

الدلالة الثانية: أن علي بن أبي طالب عليه السلام هو أول من يعبر الصراط من هذه الامة كالبرق الخاطف 289

المسألة السادسة: شرافة منزلة خديجة عند الصراط 296

ص:335

المبحث السابع: منزلة خديجة عليها السلام في الجنة 299

المسألة الأولى: اشتياق الجنة لخديجة عليها السلام 303

المسألة الثانية: شرافة منزلتها في الجنة قد جمعت في مقام (الأفضلية، والسيّدية، والخيريّة) 307

المسألة الثالثة: كيف يكون دخولها إلى الجنة ؟ 314

أولاً: حكمة الابتلاء بالسقط وموت الأبناء الذين لم يبلغوا الحنث 317

ثانياً: إن القاسم ولد ومات في الإسلام 319

المسألة الرابعة: صفة بيت خديجة عليها السلام في الجنة 320

أولا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في حياة خديجة عليها السلام 320

ثانيا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة 321

ثالثا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة خديجة عليها السلام 322

رابعا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في بيان صفة القصب 322

الوجه الأول: كي يميز الله عزّ وجل بيت خديجة في الجنة على بقية البيوت 323

الوجه الثاني: للدلالة على ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام 324

الوجه الثالث: للدلالة على أن دور خديجة كان كالعمود الفقري لجسم الإنسان 324

الوجه الرابع: للدلالة على الاستقامة 324

المسألة الخامسة: موقع بيت خديجة في الجنة 326

ص:336

المجلد 3

اشارة

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني

كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

مشخصات کتاب : 4ج

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق.

2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود.

3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود.

ص :1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد

لسنة 2010-1660

الحسني، نبيل، 1965 - م.

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني. - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

4 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 52).

المصادر.

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق. 2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود. 3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود. 4. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - نساءه - شبهات وردود. 5. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - الأولاد - دراسة وتحقيق. 6. علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 ق. - فضائل - شبهات وردود. 7. فاطمة الزهراء (علیها السلام)، 8؟ - 11 ق. - السيرة - دراسة وتحقيق. ألف. الحلو، محمدعلي، مقدم. ب. العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. اللجنة العلمية. ج. عنون. د. عنوان: خديجة بنت خويلد أمّة جُمعت في امرأة.

4 خ 5 ح / 26/208 BP

الطبعة الأولى

1432 ه - 2011 م

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

ص:4

الفصل الثامن

اشارة

ص:5

ص:6

توطئة: البحث عن الهوية الإسلامية بين حضارتين

إن المتتبع لحلقات التاريخ وما دار فيها من أحداث خلال حركة تطور الحضارة البشرية لاسيما حركة الحضارة الإسلامية ليجد ان هذه الحلقات قد ملئت هنا وهناك بظلامة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام على الرغم من أن مفهوم الحضارة مختلَف فيه عند المفكرين بحسب معطياتهم الثقافية ونظرتهم وفهمهم للأحداث والأشخاص.

إذ قد يعد على سبيل المثال ان فرعون كان من الناحية السياسية والإدارية للحكم بمستوى يحمده أهل السياسة وهو متحضر في هذا المدار فيكون الساسة وأصحاب السلاطين بهذه النظرة متحضِّرين أيضاً ضمن هذا المفهوم.

لكنهم في مدار كتاب الله وحضارة القرآن هم من آل فرعون وحقيقتهم أنهم ظالمون. قال تعالى:

(وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ )1 .

ص:7

في حين كان المتحضرون حسب الرؤية القرآنية هم مجموعة قليلة من قوم موسى عليه السلام آمنوا به على خوف من فرعون وملئه.

قال تعالى:

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ )1 .

وهذا المفهوم والنظرة للحضارة ليس ببعيد عن الفكر الإسلامي، فكم من مبحث كتبه السابقون حول تحضر الحجاج بن يوسف الثقفي ودوره في ثبات ملك بني أمية؛ وكم من رسالة، أو دراسة قدمها المعاصرون في تحضر الحجاج الذي رمى بيت الله الحرام بالحجارة والنار حتى أحرقه وأسقط جدرانه(1) ، لأجل عيون عبد الملك بن مروان.

أو أنه يرى ان الطواف حول بيت الخليفة الأموي أفضل من زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانه يسخر من المسلمين لعملهم ذلك فيقول: «تباً لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية، هلا طافوا قصر أمير المؤمنين عبد الملك، الا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله»(2).

ص:8


1- تاريخ أبي مخنف: ج 2، ص 195؛ مروج الذهب للمسعودي: ج 3، ص 129؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 5، ص 280؛ تاريخ الطبري: ج 3، ص 119.
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 15، ص 242؛ الكامل في الأدب للمبرد: ج 1، ص 222؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 9، ص 188؛ وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 2، ص 7.

أو أنَّكَ تجد متحضراً يشغل رئاسة قسم التاريخ في إحدى الجامعات: قد التمس العذر للحجاج في قتله أحد عشر ألف مسلماً في يوم واحد معظمهم كانوا من القراء لكتاب الله تعالى، فضلاً عمن قتل معهم في يوم الزاوية في جنوب العراق(1).

أو انك تجد تحريفه للقرآن الكريم كما نص عليه السجستاني صاحب السنن في كتابه المصاحف حيث أفرد لذلك عنواناً أسماه: (ما غيّره الحجاج في مصحف عثمان) وبيانه للآيات التي حرفها الحجاج بن يوسف الثقفي(2).

وفي المقابل تجد متحضراً آخر يصف هذا التحريف بأنه (من أجلِّ الأعمال التي تنسب للحجاج اهتمامه بنقط حروف المصحف وإعجامه بوضع علامات

ص:9


1- الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية: د. محمد ضياء الدين الرميس: ص 219؛ ولمزيد من البيان أنظر: الأنثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية لمجتمع الكوفة عند الإمام الحسين عليه السلام للسيد نبيل الحسني: ص 169-172.
2- كتاب المصاحف لابن أبي داود السجستاني، باب: ما غير الحجاج في مصحف عثمان، ص 117-118، ط مؤسسة قرطبة للنشر والتوزيع شارع الخليفة / الأندلس / الهرم. وانظره أيضا في: ص 49 من الكتاب بتحقيق الدكتور آثري جفري، نشر دار التكوين بدمشق لسنة 2004 م؛ وفي الصفحة 497 بتحقيق أبو أسامة سليم بن عبد الهلالي نشر مؤسسة غراس للنشر (الطبعة الأولى 1427 ه - / 2006 م). ولقد قام الدكتور محب الدين عبد السبحان في تحقيقه للكتاب بحذف اسم الباب وأورد الآيات المحرفة ضمناً أنظر: كتاب المصاحف بتحقيق الدكتور محب الدين عبد السبحان الأستاذ المشارك بجامعة أم القرى بمكة المكرمة - كلية الدعوة وأصول الدين، ط دار البشائر الإسلامية.

الإعراب على كلماته، وذلك بعد ان انتشر التصحيف، فقام نصر بن عاصم بهذه المهمة العظيمة ونسب إليه تجزئة القرآن ورغب في ان يعتمدالناس على قراءة واحدة وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان وترك غيرها)(1).

فكانت حضارة الحجاج عند من تجمعهم معه تلك المعطيات الحضارية كتهديم بيت الله الحرام وحرقه بالنار، وقتل أحد عشر ألف مسلماً في يوم واحد، وتحريف القرآن الكريم واعتماد هؤلاء المتحضرين على هذه النسخة التي تلاعب بها الحجاج، كل هذه المعطيات (الحضارية) قد بلغت من الرقي أن توصف بالجلالة فكان تحريف القرآن الكريم من أجلّها؟!!

ولذلك:

تختلف الرؤية للحضارة كما يختلف مفهومها عند الناظر للحضارة الإسلامية؛ إذ قد تكون عند البعض هي مجموعة الفتوحات الإسلامية في الشرق والغرب، وقد تكون في العمارة الإسلامية وقصور الخلفاء والقيان والجواري؛ أو كما ينظر لمثل هؤلاء اليوم بأنهم نرجسيون، وفنانون، ومثقفون، بل: وبناءون في المجتمع، على الأقل من جهة المنتجين لأعمالهم والمستثمرين لطاقاتهم.

فالحضارة، مفردة بنيت على أسس مختلفة باختلاف المعطيات الفكرية والرؤى العقلية فما كان حضارة عند البعض لا يكون بالضرورة حضارة عند البعض الآخر، وما كان جهلاً وتردياً هنا لا يكون بالضرورة علماً وتقدماً هنالك..

ص:10


1- أنظر www.yabeyrouth.com.

وبين هذه الرؤية وتلك، وبين هذا المفهوم وذاك يبقى البعض الآخر يبحث عن الضابطة أو القانون الذي يحتكم إليه أصحاب الرؤى والمفكرون في الوقوف على مصداق خارجي للحضارة، وحيث إنا نؤمن بالتوحيد، وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وان الله جل شأنه حكيم، عادل، عزيز، غني، مقتدر، فهو المرجع الذي يرجع العقل إليه، والمنهل الذي يرتوي منه، وقد دلّ خلقه على ما يصلح لهم حياتهم وبصّرهم بما يكون وبالاً عليهم وفيه هلاكهم وانقراضهم، فقال عز شأنه:

(وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها)1 .

وقال جلت قدرته:

(إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً)2 .

ولأن الإنسان قد جُبِلَ على معرفة الخير والشر، ويمتلك القدرة في التمييز، وخوّل في السير والمسلك، كانت الحضارة: هي كل ما جاء عن الله تعالى من وحي على قلب خير خلقه وسيد أنبيائه ورسله صلى الله عليه وآله وسلم. وان كل ما من شأنه ان يكون مخالفاً لما أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو التردي والخراب والجهل المطبق.

إلا ان يعتقد البعض بأن هناك - والعياذ بالله - حكيماً غير الله تعالى فيذهب إليه ويسير بهديه ويسلك شريعته، كما يرى الملحدون، أو المنافقون، أو

ص:11

المشركون، وإن اختلفوا في طبقات الشرك، أو اختلفوا في المسميات التي أسموا بها أنفسهم لتتناسب مع تلك المفاهيم التي تكونت من نسيج من العوامل النشوئية والمتلقيات الفكرية التي تداخلت فيها عناصر الزمان والمكان والأشخاص والكلمات والعادات.

ومن هنا:

عمد كثير من أقطاب الفرق الإسلامية على إبراز حضارتهم على حضارة القرآن، وأظهروا شريعتهم على شريعة الله تعالى، فصاغوا الأحداث بتلك الرؤى، ودونوا الشواهد بذلك المفهوم، حتى أصبح القارئ - المسلم - يرى حضارتين قد كونتا هويته الإسلامية لكنه لا يعلم بأي الحضارتين يأخذ وبأيهما يتسمى، ولأيهما ينتمي.

وهنا: على سبيل المثال:

أصبح المسلم لا يدري أيأخذ بحضارة دار خديجة عليها السلام أم بحضارة دار الأرقم بن أبي الأرقم ؟ وبأي الحضارتين يعلن هويته وانتماءه ؟

ربما قد يحتار البعض من القراء في تصديق وجود مثل هاتين الحضارتين، وهو غير ملوم بذلك فمنذ ان نشأ وتعلم الحروف وقراءة التاريخ وهو لم يرَ غير حضارة دار الأرقم بن أبي الأرقم فكيف له ان يصدق بوجود حضارة بيت خديجة عليها السلام ؟! في حين رأى البعض الآخر تلك الحضارتين لكنه اختار احداهما وتَسمّى بتلك الحضارة فكانت هويته الإسلامية وشخصيته الحياتية.

ص:12

أما دورنا نحن: فأن نسلط الضوء على حضارة دار خديجة عليها السلام؛ إذ إن المدارس الإسلامية لا يوجد في مناهجها الدراسية غير حضارة دار الأرقم بن أبي الأرقم، أما حضارة دار خديجة فإن المسلم في هذه المدارس لا يسمع بها ولذا: سعينا في هذا الكتاب أن يكون المسلم في تحصيله للمعرفة أمام حضارتين وتركنا له انتخاب إحدى الحضارتين لتكون معرفاً لهويته الحضارية، وليوقن: أي الحضارتين بنت الإسلام الذي ينتمي إليه ؟

المبحث الأول: موقع دار خديجة الجغرافي

اشارة

تذكر المصادر الإسلامية في بيانها للأماكن المشرفة في مكة - أعزها الله - دار خديجة بانه أحد هذه الأماكن، ولذلك نجدها تذكر موقعه الجغرافي للمسلمين كي يتسنى لهم الوصول إلى هذه الدار المباركة بسهولة، والتشرف بالحضور فيها لحكمة مهمة تشتمل على نقاط عديدة منها:

1. ان الدخول لهذه الدار يعرّف المسلم بما احتضنته هذه الدار من حوادث عظيمة في سير الدعوة إلى الله تعالى، ومن ثمَّ يتعرف المسلم على الدور الذي قام به أهل هذه الدار.

2. ان الحضور في دار خديجة يخلق لدى المسلم حالة إيمانية ترتكز على رفع المستوى الروحي لديه حينما يستحضر بأنه ابن هذه الدار وله تاريخ وامجاد وأرض ووطن.

3. له آثار اجتماعية في جعل بيوت المسلمين كهذا البيت الذي سُخر للدعوة إلى التوحيد وإعلاء كلمة الله في الأرض، ومحاربة الفساد.

ص:13

4. له آثار تربوية في الثقافة الأسرية حينما يستحضر الداخل العلاقة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع هذه الزوجة التي بقيت معه خمساً وعشرين سنة.

5. لكي يتوجه من هذا المكان الطاهر للدعاء إلى الله تعالى في قضاء حوائجه وغفران ذنوبه؛ فهو من الأماكن التي امتزجت ذراته بأنفاس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واختلطت ذراته بعرق خير خلق الله تعالى وجهده، وكان مهبط الوحي والتنزيل.

ولذلك: حدد موقعه الفقهاء والمؤرخون بهذه الكلمات:

1. إنه في سوق الصباغين

قال المحقق النراقي رحمه الله (المتوفى سنة 1244 ه ): (وفي مكة أماكن شريفة أخرى - غير عرفات والحطيم وغيرها - في اتيانها فضل كامل، منها دار خديجة، التي هي دار الوحي، ومولد سيدة نساء العالمين، وهي في سوق الصباغين الذي هو قرب سوق الصفا والمروة، واقعة يمين من يمشي من الصفا إلى المروة، ولها قبة معروفة ويتصلها مسجد يستحب إتيانها، وصلاة التحية فيها، وطلب الحوائج والمسألة)(1).

2. إنه في شعب أبي طالب عليه السلام

قال الحلبي (المتوفى سنة 1044 ه ) في سيرته: (لم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند فتح مكة لتلك الدار التي أبقاها في يد عقيل، أي

ص:14


1- مستند الشيعة للمحقق النراقي: ج 13، ص 96.

الدار التي هي دار خديجة فانه لم يزل بها حتى هاجر، ولما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة ضرب مخيمه بالحجون، فقيل له: ألا تنزل منزلك من الشعب ؟ فقال:

«وهل ترك لنا عقيل منزلا».

وكان عقيل بن أبي يطالب قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنازل إخوته حين هاجروا من مكة ومنزل كل من هاجر من بني هاشم)(1).

والسبب في بيع عقيل دار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودور إخوته ومن أسلم من بني هاشم هو أن قريش كانت تصادر أموال من أسلم، ولذلك كان تصرف عقيل بهذه الدور ينم عن حسن تدبيره للأمر، فهذا أفضل من ضياعها بيد المشركين وطغاة قريش، فضلاً عن أن عقيلاً كان يكتم إسلامه ويدل عليه قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتهاء معركة بدر بحفظ عمه العباس وعقيل وقد وقعوا بيد المسلمين.

3. إنه في زقاق العطارين

قال الأزرقي (المتوفى 250 ه ): (ويسمى الزقاق الذي فيه هذه الدار «زقاق العطارين» أما اليوم فيسمى «زقاق الحجر» ويقال لهذه الدار «مولد فاطمة الزهراء - عليها السلام -)(2).

ص:15


1- السيرة الحلبية: ج 1، ص 102؛ الدراية لابن حجر: ج 2، ص 237؛ نصب الراية للزيلعي: ص 171؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 17، ص 277.
2- أخبار مكة للأزرقي: ج 2، ص 199 - الهامش -.

المبحث الثاني: صفة دار خديجة عليها السلام وفضله

اشارة

يصف المؤرخون دار خديجة عليها السلام بصفتين:

الأولى: ما يحتويه الدار على علامات ودلالات تظهر طبيعة الحياة فيه كما تظهر صفاته المادية التي يستدل من خلالها على هذه الدار.

والصفة الثانية: ما احتضنته هذه الدار من كرامات وتشريفات جعلتها من أفضل الأماكن المقدسة بعد الكعبة - أعزها الله -.

المسألة الأولى: أقوال المؤرخين في بيان صفة دار خديجة وإظهار فضله وشرافته

1. قال الطبري (المتوفى سنة 310 ه ):

(وكان منزل خديجة - يوم زواجها - المنزل الذي يعرف بها اليوم، فيقال: منزل خديجة، فاشتراه معاوية فيما ذكر فجعله مسجداً يصلي فيه الناس وبناه على الذي هو عليه اليوم لم يغير، وأما الحجر الذي بباب البيت عن يسار من يدخل البيت فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس تحته ويستتر به من الرمي إذا جاءه من دار أبي لهب، ودار عدي بن حمراء الثقفي، خلف دار ابن علقمة، والحجر ذراع في ذراع)(1).

2. قال ابن جبير في رحلته إلى مكة إنه شاهد فيها: (قبة الوحي، وهي في

ص:16


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 36؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 1، ص 61؛ البحار: ج 1، ص 61؛ مستدرك سفينة البحار: ج 1، ص 103.

دار خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، وبها كان ابتناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبة صغيرة أيضاً في الدار فيها كان مولد فاطمة الزهراء - عليها الصلاة والسلام -)(1).

3. قال مؤرخ مكة تقي الدين الفاسي الحسني (المتوفى 832 ه ): (وأما الدور المباركة بمكة، فدار أم المؤمنين خديجة، ويقال لها الآن: مولد فاطمة، وفيها ثلاثة مواضع تقصد بالزيارة متلاصقة.

أحدها: الموضع الذي يقال له: مولد فاطمة.

والموضع الذي يقال له: المختبأ.

وبها موضع آخر على هيئة المسجد، وهذه الدار أفضل الأماكن بمكة بعد المسجد الحرام، على ما ذكر المحب الطبري.

ولعل ذلك:

1 - لسكنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها سنين كثيرة، من حين تزوج خديجة والى حين هاجر.

2 - لكثرة نزول الوحي فيها عليه.

3 - وفيها بنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة.

4 - وفيها ولدت أولادها منه.

5 - وفيها ماتت رضي الله تعالى عنها)(2).

ص:17


1- في ظلال التوحيد للشيخ جعفر سبحاني: ص 362.
2- الزهور المقتطفة من تاريخ مكة لتقي الدين الفاسي: ص 122، ط دار صادر.

4. قال الفاكهي (المتوفى سنة 272 ه ) في أخبار مكة: (وفي بيت خديجة - عليها السلام - حجر خارج من البيت، كان سليم بن مسلم أو غيره من المكيين يقول:

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس تحته يستتر من الرمي إذا جاءه من دار عدي بن الحمراء ودار أبي لهب.

وذرع ذلك الحجر - أي قياسه - ذراع وشبر، فأما أهل مكة فكان يقول: إن هذه رفاف كان أهل مكة يتخذونها في بيوتهم صفائح من حجارة يكون شبه الرفاف يضعون عليها امتعتهم التي تكون في بيوتهم، ولكل بيت قديم من بناء المكيين الا وفيه رفاف نحو من ذلك الحجر، والقول الأول أثبت)(1).

ومما يدل عليه:

أن أبا لهب كان يسكن في بيت له قبالة بيت خديجة، وكان يسكن مع زوجته أم جميل بنت حرب بن أمية وكان ذلك الزقاق طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد(2).

5. قال ابن الضياء المكي الحنفي (المتوفى سنة 854 ه )

وأما الدور المباركة بمكة: فاعلم أن بمكة دوراً مباركة معروفة عند الناس غالبها مساجد، ولكنها اشتهرت بالدور عند أهل مكة فلذلك أفردناها بالذكر عن المساجد.

ص:18


1- أخبار مكة للفاكهي: ج 6، ص 61.
2- أخبار مكة للفاكهي: ج 5، ص 316.

منها: دار أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - بالزقاق المعروف بزقاق الحجر، ويقال له قديماً: زقاق العطارين كما ذكره الأزرقي(1).

ويقال لهذه الدار: مولد فاطمة - رضي الله عنها -؛ لأن فيها ولدت(2).

قال الأزرقي: كان يسكنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة، وفيها ابنتا خديجة، وولدت فيها أولادها جميعاً، وفيها توفيت، فلم يزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها ساكناً حتى خرج إلى المدينة مهاجراً، فأخذها عقيل بن أبي طالب، واشتراها منه معاوية وهو خليفة فجعلها مسجداً يصلى فيه وبناها بناءها هذا، وفتح معاوية فيها باباً من دار أبي سفيان بن حرب وهو قائم إلى اليوم(3).

قال الأزرقي: وفي بيت خديجة - رضي الله عنها - هذا صفيحة من حجر مبني عليها في الجدر جدر البيت يسكنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اتخذ قدام الصفيحة مسجداً، وهذه الصفيحة مستقلة في الجدر من الأرض قدر ما يجلس تحتها الرجل، وذرعها ذراع في ذراع وشبر(4).

وغالب هذه الدار الآن على صفة المسجد وفيها قبة يقال لها: قبة الوحي.

ص:19


1- أخبار مكة للأزرقي: ج 2، ص 199، وذكره محققه في الهامش. فالله أعلم؛ وراجع الجامع اللطيف: ص 327.
2- راجع الجامع اللطيف: ص 327، 329، 330.
3- أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة: ح 1780 عن أبي هريرة مرفوعاً؛ وراجع أخبار مكة: ج 2، ص 199؛ الجامع اللطيف: ص 327.
4- أخبار مكة: ج 2، ص 199.

قال سعد الدين الإسفرائيني: وفي هذه القبة حفرة عند الباب يقول: كان يجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها وقت نزول الوحي وجبريل - عليه السلام - يجلس في محراب القبة. انتهى.

وإلى جنبها موضع يزوره الناس معها يسمونه المختبئ(1) ، ويتصل بهذه القبة أيضاً الموضع الذي ولدت فيه فاطمة - رضي الله عنها -.

قال سعد الدين الإسفرائيني: وفي بيت من بيوت هذه الدار حفرة مثل التنور يقولون: إنها مسقط رأس فاطمة - رضي الله عنها -.

قال المحب الطبري: هذه الدار أفضل الأماكن بعد المسجد الحرام(2).

وممن عمرها الناصر العباسي، وعُمّر منها شيء في دولة الملك الأشرف شعبان صاحب مصر، وفي أول دولة الملك الناصر فرج صاحب مصر، ومما عُمّر في دولته قبة الوحي بعد سقوطها، ويُذكر أن القبة التي كانت قبل هذه القبة من عمارة الملك المظفر صاحب اليمن، وفي الرواق المقدم من هذه الدار مكتوب: إن المقتدر العباسي أمر بعمله، وإلى جانب هذه الدار حوش كبير عمره الناصر العباسي، ووقفه على مصالح دار خديجة - رضي الله عنها - على ما هو موجود في حجر مكتوب فيه ذلك على باب الحوش، وفيه أيضاً إن هذا الموضع مربد فاطمة - رضي الله عنها -(3).

ص:20


1- راجع الجامع اللطيف: ص 327.
2- راجع الجامع اللطيف: ص 328.
3- تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء المكي الحنفي: ص 186-187.
المسألة الثانية: امتهان الوهابية لدار أم المؤمنين خديجة عليها السلام وتحويلها إلى دورات مياه!!!

من الأمور المخزية التي تلف تاريخ الظالمين على مر العصور هو امتهانهم لمقدسات السماء منذ أن اقترن اسم الأرض بما ينزل إليها من السماء، فمنذ أن اتخذ إبليس - عليه لعنة الله - توهين آدم عليه السلام الذي اختاره الله تعالى خليفة لأرضه والى يومنا هذا ونحن نشهد من حملة المبدأ الإبليسي امتهان كل ما من شأنه ان يرتبط بالسماء، ونرى مآسي كثيرة ورزايا عظيمة تحت مسميات ابليسية ترتكز على رؤية استكبارية ترى في نفسها انها من (الْعالِينَ ) وهي تُنَظّرُ حتى لخالق الخلق فيما يصلح ان يكون أهلاً للتوحيد ومحاربة الشرك، وفيما لا يصلح؛ كما ذهب إلى هذا المذهب شيخ الظالمين إبليس في تنظيره للمصالح والمفاسد على رب العالمين قائلاً:

(أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )1 .

ولأنه يرى أنه خير منه فهو الأولى بمنصب الخلافة على الأرض ودعوة الخلق إلى التوحيد ومحاربة الشرك؛ واليوم نشهد حَمَلة هذه النظرية وأصحاب الفكر التوحيدي الإبليسي الذين يرون عدم صلاحية غيرهم لهذه المهمة، فبالأمس حارب شيخهم إبليس نبي الله آدم عليه السلام، واليوم ينهج تلامذة إبليس هذا المنهج ويسيرون على هذه الأديولوجية فيرون أن لا موحد لله على الأرض غيرهم بل: لا يصلح لإقامة التوحيد عليها غيرهم كما كان يرى شيخهم إبليس ذلك.

ص:21

ولذا: فكل ما من شأنه أن يعود بالمسلم إلى التوحيد المحمدي، فهو في نظرهم اشراك وفي عقيدتهم كفر وإلحاد، بل انهم فاقوا شيخهم في سعة الأفق وبعد النظر وادراج المحرمات لتشمل محاربة رسول الله جهاراً ومعاداة جبرائيل علانية، وتدنيس دار أم المؤمنين خديجة عليها السلام اعلاناً وتحويلها إلى دورات مياة ومراحيض على مسمع ومرأى من الامة التي لم تحمل على ما يبدو من الإسلام سوى الاسم إن لم يتملص أبناؤها حتى من الاسم، فبماذا سيجيبون الله تعالى ان كانوا بوجوده يعتقدون وإليه سيعودون. فها هو أفضل الأماكن في مكة بعد المسجد الحرام كما دلت عليه النصوص يحوله الأعراب إلى دورات مياه(1)!!

والغريب في الأمر ان الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء في المملكة السعودية الذي أعد دراسة أكاديمية حول الأماكن المقدسة في مكة وعناية الملك عبد العزيز بها لم يرشد القراء من المسلمين أو غيرهم إلى عناوين هذه الأماكن كي يتمكن القارئ المسلم من الوصول إليها والتعرف عليها وليلمس على الأقل خدمة القائمين على رعايتها كما عنون الدكتور لدراسته التي نشرتها صحيفة عكاظ ، ضمن مجموعة من الحلقات(2).

ص:22


1- فهذه الحقيقة المؤلمة لجميع المسلمين يعلنها وعلى الملأ من العالم على مختلف أديانهم وثقافاتهم؛ الدكتور المهندس الشريف سامي عنقاوي مع قناة الحرة في برنامج المجلس وذلك على موقع يوتيوب على الرابط : ( www.youtube.com/watch?v fvelxvfuo4).
2- صحيفة عكاظ ، العدد 2774، الصادرة في يوم الثلاثاء، 1430/1/23 ه - الموافق 20 /يناير/ 2009 م.

إلا اننا نورد عنوان هذه الدار التي هي من أفضل الأماكن في مكة بعد المسجد الحرام والتي حولها الأعراب بفعل (رعايتهم لها) إلى دورات مياه ؟!! وموقعها هو: (ساحة الغزة، مدخل المسعى، من جهة المروة)(1).

إلاّ أن ذكْرنا لهذا العنوان ليس لكي يذهب المسلم بقصد الزيارة لأفضل الأماكن بعد المسجد الحرام ومهبط الوحي، واستذكار حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتأسي به، واستعظام حقه وحق أم المؤمنين خديجة عليها السلام، وإنما لتجنب الوقوع في الإثم، والتجري على الله، وتعدي حدوده في تنجيس هذا المكان الطاهر حينما يستخدمه المسلم للتبول!!!! عوضاً عن الصلاة فيه لله ركعات عملاً بشريعة القرآن التي أمرت المسلمين بأن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فكيف بمقام سيد الأنبياء والمرسلين وأشرف الخلق أجمعين، ألا يستحق من المسلمين أن يصلوا لله فيه ركعتين ؟! قال جلّ وعزّ شأنه:

(وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ)2 .

ولكن أنى بحَمَلة التوحيد الإبليسي، وأئمة الأعراب الذين يرون أنهم من العالين في خلافتهم لأرض رب العالمين، معرفة حدود ما أنزل الله تعالى، والعمل بشريعة القرآن وهم:

ص:23


1- منتدى الحوار الإسلامي: http://al7eway.net/forum/

(أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )1 .

(فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ )2 .

المبحث الثالث: دار خديجة عليها السلام يشهد أهم الأحداث التي عاشها النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال ربع قرن

المسالة الأولى: زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار خديجة عليها السلام وعيشه فيها

من الخصائص التي حازها دار أم المؤمنين خديجة عليه السلام هو زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيشه في هذه الدار طيلة حياة السيدة أم المؤمنين خديجة عليها السلام الزوجية والبالغة خمساً وعشرين سنة، منها خمس عشرة سنة قبل البعثة النبوية، وذلك ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج من خديجة عليها السلام وله من العمر 25 سنة، وكان بعثه في الأربعين؛ ثم بقيت عليها السلام بعد البعثة النبوية عشر سنوات؛ إذ توفيت سنة عشر للبعثة.

وبذلك يكون مجموع السنين التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أم المؤمنين خديجة خمساً وعشرين سنة، كلها قضاها النبي الأكرم

ص:24

صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الدار، ولقد أنجبت أم المؤمنين خديجة عليها السلام أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الدار وتوفي القاسم وعبد الله فيه؛ وولدت فيها أيضاً مولاتنا فاطمة عليها السلام - كما سيمر مفصلاً - فضلاً عن ان هذه الدار نشأ فيها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حينما احتضنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو طفل صغير يغدو عليه هو وزوجه خديجة بحنانهما ورعايتهما له حتى أصبح أعز عليهما من أنفسهما، كما مر بيانه مفصلاً.

ولقد شهدت هذه الدار أهم الأحداث الإسلامية التي رافقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ البعثة في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وإلى يوم هجرته وخروجه منها متجهاً إلى المدينة المنورة.

المسألة الثانية: نزول الوحي بسورة المدثر في بيت خديجة عليه السلام

(1)

من الحقائق التي تناقلها الرواة ودوّنها المصنفون هي حقيقة نزول الوحي في دار أم المؤمنين خديجة عليها السلام، لاسيما وقد مر سلفاً تخصيص المكان الذي كان يهبط فيه جبرائيل عليه السلام والذي سمي بقبة الوحي.

أما من قرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ولو على عجالة - فانه يجد فيها من المسلمات التي لازمت حياة السيدة خديجة عليها السلام هي

ص:25


1- قال الآلوسي: (إن الأخبار الصحيحة متضافرة بأن النداء المذكور كان وهو عليه الصلاة والسلام في بيت خديجة - عليه السلام -)؛ أنظر: تفسير الآلوسي: ج 21، ص 369.

قيامها بمؤازة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طيلة حياتها حتى فارقته صلى الله عليه وآله وسلم، إلى جوار ربها.

ولو توقفنا عند تلك السنين لوجدنا وقوف خديجة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوعه للدار في يوم المبعث وقد أحاطه الجهد والتعب وهي تقدم أجمل صورة للمواساة فقد أسرعت لتغطيته بالدثار كي يزول عنه الجهد وتخفف عنه التعب، وليكون هذا العمل الصالح مخصوصاً بالذكر الحكيم، يرتل اناء الليل وأطراف النهار، وحافظاً لها هذا الأخلاص والرعاية لسيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم.

فها هو جبرائيل يقرع صوته الدار فتمتزج ذراته بتلك الأحرف النورانية وهي تنزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ)1 .

والمدثر: قريب من المزمل(1) ، والزمل: الحمل، وازدمله: احتمله(2).

وقيل: انه كان تلفّف في مربط سداء شعر، ولحمته وبر، وهو ثناء عليه وتحسين لحاله الذي كان عليه من القناعة بالقليل من حطام الدنيا.

والمدثر: قريب منه وهو لابس الدثار، والدثار: هو ما فوق الشعار، والشعار ثوب على الجسد، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

ص:26


1- لسان العرب: ج 10، ص 24.
2- لسان العرب: ج 11، ص 311.

«الأنصار شعار والناس دثار».

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«نوديت فرفعت رأسي فإذا جبرئيل في الهواء فأتعبني أعباء الوحي، فقلت: دثروني دثروني»(1).

وفي مسند أحمد، عنه صلى الله عليه وآله وسلم:

«أتيت أهلي مسرعاً فقلت دثروني، دثروني فأتاني جبريل عليه السلام فقال:

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ)2,3 .

ولقد أسلفنا فيما مضى من الكتاب كيف كان تعامل أم المؤمنين خديجة عليها السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الحادثة - فلتراجع -.

المسألة الثالثة: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلن تنصيب وصيه وخليفته من بعده في دار خديجة عليها السلام

إنّ من المسائل الاعتقادية التي اقترنت بدار خديجة عليها السلام في بداية الرسالة المحمدية هي قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتنصيب الخليفة لهذه الامة من بعده وكذا تعيين الوصي له صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:27


1- ألقاب الرسول وعترته لمجموعة من قدماء المحدثين: ص 9.

وهذا يكشف عن الأهمية البالغة لهذا المقام، وماله من دور قيادي في سير الامة من بعده صلى الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن الدور التشريعي الذي يقوم به الخليفة في إرشاد المسلمين إلى حلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرامه.

وعليه:

تكمن أهمية هذين المنصبين من خلال ارتباطهما بالحلال والحرام وهو ما لا يمكن تحققه الا من خلال الاختيار الإلهي، فالله سبحانه هو الأعلم بخلقه وما يصلحهم، فسبحان من هو اللطيف الخبير بعباده.

ولذلك: اصطفى لشريعته أناساً توافرت فيهم الشروط الخاصة بحفظ الشريعة فقال عزّ شأنه في ذلك:

(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )1 .

وقال:

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )2 .

وقال سبحانه:

ص:28

(وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً)1 .

وغيرها من الآيات التي تدلل على اختصاص تعين منصب الخلافة النبوية بصاحب الشريعة وهو الله تعالى، وليس للناس خيار أو رأي في تعيين الخليفة لجهلهم بما شرع الله سبحانه، ولو كانوا يعلمون بشرائع الله تعالى لما كان هناك حاجة لبعث الأنبياء والرسل ولترك القرار للناس وللعقلاء في انتخاب ما يرون فيه القدرة على صلاحهم، فالأمر محصور بالشريعة وصاحب الشريعة وهو الأعلم بمن يصلح لحفظها وإقامتها وإصلاح الناس وحفظهم من الانحراف عنها، كي لا يقعوا في انتهاك الحقوق وتعدي الحدود، وكي لا تكون دويلات في المجتمع، فينعم الظالم بمال المظلوم، وينام الجائر على فراش المحروم، وتنتهك الفروج، فيهلك النسل، ويضيع النوع البشري، فترى صوراً بشرية مركباً فيها ذوات حيوانية لا تعرف للأسرة طعماً ولا للوالدية معنىً :

(إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)2 .

ومن هنا:

تكمن أهمية تعيين الخليفة ووضعه في منصب الخلافة النبوية «التشريعية» في حفظ الشريعة التي بها حفظ العباد والبلاد، وفي ذلك تظهر الحكمة في بعث الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، أي: حفظ العباد والبلاد، وأما ما نشهده اليوم وما نقله التاريخ من تردي البلاد والعباد ونشر الفساد والظلم

ص:29

فمرده إلى سوء استخدام الشريعة وتولي منصب الخلافة من قبل أناس تم اختيارهم من الناس وليس من الله تعالى.

ولذلك فقد ذاق الناس نتائج ما اختاروا لمنصب الخلافة النبوية وتذوقوا ثمار تركهم لمن اختاره الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والذي حدده لهم وعين فيهم منذ الانطلاقة الأولى لدعوة الناس إلى التوحيد وإعلاء كلمة «لا إله إلا الله».

فكان حديث الإنذار في دار خديجة عليها السلام كما يروي البغوي (المتوفى سنة 510 ه ) قائلاً: (روى محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب، عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب؛ ورواه أيضاً الطبري، وابن أبي الحديد المعتزلي، وابن عساكر، والمتقي الهندي، وابن الأثير، والقاضي النعمان المغربي، وغيرهم عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال:

«لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنذر عشيرتك الأقربين دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: «يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الامر أرى منهم ما أكره فصمتُ عليه حتى جاءني جبريل فقال يا محمد إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعا من طعام واجعل عليه رحل شاة واملأ لنا عسا من لبن ثم أجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به ثم

ص:30

دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حذية من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال خذوا بسم الله فأكل القوم حتى مالهم بشيء حاجة وما أرى الا موضع أيديهم وأيم الله الذي نفس علي بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا منه جميعا وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال لعلما سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الغد يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إلي. قال ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ثم قال إسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الامر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم قال فأحجم القوم عنها جميعا وقلت وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم

ص:31

ساقا أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فاخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا قال فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع)(1).

ولقد حاول البعض ممن أغمضوا أعينهم عن الحق واتبعوا أهواءهم في محاربة علي بن أبي طالب عليه السلام بمحاولات عدة في إثارة الشبهات حول هذا الحديث الشريف ابتداءً من الطبري الذي حذف قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تنصيب علي عليه السلام وصياً له وخليفة من بعده في هذه الامة وتبعه على ذلك ابن كثير، اما ابن تيمية فقد تصدى للحديث كعادته في محاربة فضائل علي عليه السلام بأكاذيب وألفاظ تكشف عن المستوى المتدني للنظر في الأحاديث الشريفة. والكاشف عن التعصب الأعمى الذي أفقده التحلي بالموضوعية والإنصاف فعمد إلى استخدام الكذب؛ وكفى بالمرء دناءةً أن يكون كاذباً.

إذ يقول في منهاج السنة الأموية حول حديث الإنذار:

ص:32


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 93؛ تهذيب الآثار للطبري: ج 4، ص 59؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 13، ص 211؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 42، ص 49؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 13، ص 114؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 2، ص 63؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 1، ص 374؛ هميان الزاد للأباظي: ج 10، ص 52؛ تفسير السراج المنير لمحمد الشربيني الخطيب: ج 1، ص 2946؛ لباب التأويل، المشهور بتفسير الخازن لأبي الحسن علي بن محمد الشيعي: ج 5، ص 59؛ تفسير البغوي: ج 6، ص 131.

«هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذب موضوع، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم ان هذا كذب»(1).

ونقول:

ولأن الشيخ أعماه بغضه لعلي بن أبي طالب عليه السلام وأفقده النصب له بالعداء القدرة على الرؤية قام فاعترف بأنه لا يملك تلك الرتبة من العلم التي حددها بقوله: (لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أنه كذب» فلو كان له أدنى معرفة بالحديث لما قال عن حديث الإنذار بأنه كذب، فالحكم على الأحاديث يحتاج إلى العلم بها ولأن ابن تيمية لا يملك أدنى معرفة بها فحكم عليها بالكذب.

أما من له معرفة بها فقد حكم على هذا الحديث بأنه حديث صحيح، بل ونقله العلماء في المنقولات وليس كما كذب الشيخ حينما قال: «لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات).

أما هذه الكتب من المنقولات والتي صنفها علماء أهل العامة فقد تتبعها السيد علي الميلاني (جزاه الله خيرا) فكانت كالآتي:

1. ابن إسحاق، صاحب السيرة.

2. احمد بن حنبل، ويقول الحافظ الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد بعد أن

ص:33


1- منهاج السنة لابن تيمية: ج 7، ص 302.

يرويه عن أحمد بن حنبل يقول: رواه أحمد ورجاله ثقات. ويقول بعد أن يرويه بسند آخر عن بعض كبار علمائهم من أحمد وغير أحمد يقول: رجال أحمد وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير شريك وهو ثقة. إذن، حصلنا على أسانيد عديدة ينصون على صحتها. مضافا: إلى سند الحافظ المقدسي في كتابه المختارة الملتزم في هذا الكتاب بالصحة. كما ذكر المتقي الهندي صاحب كنز العمال: أن الطبري محمد بن جرير قد صحح هذا الحديث. وأيضا، صححه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس في حديث طويل، ووافقه على التصحيح الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك. وأيضا نص على صحة هذا الحديث الشهاب الخفاجي في شرحه على الشفاء للقاضي عياض، حيث يذكر هناك معاجز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن جملة معاجزه هذه القضية، حيث أن الطعام كان صاعا واحدا وعليه رجل شاة فقط ، فأكلوا وكلهم شبعوا، وهذا من جملة معاجز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقول الشهاب الخفاجي: إن سند هذا الخبر صحيح. وعندما نراجع نصوص الحديث في الكتب المختلفة، نجد في بعضها هذا اللفظ : فأيكم يوازرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال علي: أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي. وهذا لفظ ، وقد قرأناه عن عدة من المصادر. لفظ آخر: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي ؟ فقيل له: أنت كنت بحرا، من يقوم بهذا، فعرض ذلك على أهل بيته واحدا

ص:34

واحدا، فقال علي: أنا، فبايعه رسول الله على هذا. ومن ألفاظ هذا الحديث ما يأتي: قال رسول الله: من يبايعني على أن يكون أخي ووصيي ووليكم من بعدي ؟ قال علي: فمددت يدي فقلت: أنا أبايعك. فبايعني رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فهذه ألفاظ الحديث، وتلك أسانيد الحديث، وتلك كلمات كبار علمائهم في صحة هذا الحديث وتنصيصهم على صحته(1).

أما بقية قوله فقد أعرضنا عنه فانه لا يرقى إلى الرد ويكفي في بيان سخيف قوله الذي يكشف عن العجز في التعامل مع الحديث أن قال: «إذ ليس في بني هاشم من يعرف بأنه يأكل جذعاً ويشرب فرقاً»(2).

وكأن الرجل يحترف مع الكذب طهي الطعام مما جعله يحسن قياس بطون العرب وكم تستطيع ان تأكل من الطعام، أو لعله أكتسب فن إعداد الموائد فازداد خبرة في فهم الأحاديث.

المسألة الرابعة: إسلام الصحابة في دار خديجة عليها السلام
اشارة

إن النظر في مسألة السبق إلى الإسلام في مكة يقودنا إلى جملة من الحقائق المهمة، ومنها:

1. أن الإسلام ظهر في دار خديجة عليها السلام ومنه خرج إلى العالم.

2. ان الله تعالى اختار لأهل هذا الدار أن يكونوا أول الدور تعبداً لله تعالى

ص:35


1- حديث الدار للسيد علي الميلاني: ص 11.
2- الصحيح من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسيد جعفر مرتضى العاملي: ج 3، ص 64؛ نقلاً عن منهاج السنة لابن تيمية: ج 4، ص 81-83.

على دين الإسلام منحصراً بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وعلي بن أبي طالب الذي سبقته التدابير الإلهية في أن يكون ابناً لخديجة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مازال طفلاً قد نشأ في هذا الدار.

3. ان الدعوة إلى هذا الدين كانت تقدم إلى بعض الناس في هذه الدار، وفيها كانت القلوب تهفو إلى نور الإسلام، وفيها تسمع آذان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشهادتين، ممن جاءوا إليه ليعلنوا إسلامهم في محضره المقدس.

كما يحدثنا التاريخ والصحاح عن إسلام بعض الصحابة وهم:

أولا: إسلام أبي ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه في بيت أم المؤمنين خديجة عليها السلام

فقد اختار الله تعالى لأبي ذر أن يكون إسلامه في دار خديجة عليها السلام وان لم يصرح الراوي باسم الدار التي دخل فيه أبو ذر والتقى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما دلت عليه رواية البخاري.

في صحيحه عن أبي حمزة قال: قال لنا عبد الله بن عباس: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا، بلى. قال، قال أبوذر: كنت رجلاً في غفار فبلغنا أن رجلاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي انطلق إلى هذا الرجل كلمه وائتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع فقلت: ما عندك ؟ فقال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر فقلت له: لم تشفني من الخبر فأخذت جربا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا اعرفه واكره ان اسأل عنه واشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد قال: فمر بي علي فقال: كأن الرجل غريب قال:

ص:36

قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه وليس أحد يخبرني عنه بشيء قال: فمر بي علي فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قال: قلت: لا قال: انطلق معي. قال: فقال: ما امرك وما أقدمك هذه البلدة ؟ قال: قلت له: ان كتمت عليّ أخبرتك قال: فإني افعل قال: قلت له: بلغنا انه قد خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه فقال له: أما إنك قد رشدت هذا وجهي إليه فاتبعني ادخل حيث ادخل فإني ان رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني اصلح نعلي وامض أنت فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له أعرض عليّ الاسلام فعرضه فأسلمت مكاني فقال لي يا أبا ذر اكتم هذا الامر وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت والذي بعثك بالحق لا صرخن بها بين أظهرهم فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال يا معشر قريش إني اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا فضربت لا موت فأدركني العباس فأكب علي ثم اقبل عليهم فقال ويلكم تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار فاقلعوا عني فلما ان أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فصنع مثل ما صنع بالأمس وأدركني العباس فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله(1).

ص:37


1- صحيح البخاري: ج 4، ص 158-159.
ثانيا: إسلام أبي بكر عند بيت خديجة عليها السلام

روى ابن عساكر وابن الأثير في إسلام أبي بكر عند باب دار خديجة عليها السلام، هذه الرواية: فعن خالد الجهني عن عبد الله بن مسعود عن أبي بكر انه قال: «... وسألت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيل في منزل خديجة فقرعت عليه الباب فخرج إليّ فقلت: يا محمد فقدت من منازل أهلك وتركت دين آبائك وأجدادك ؟. قال:

«يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم فآمن بالله».

- إلى أن يقول -:

«مد يدك فانا أشهد ان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»(1).

وحينما ننظر إلى وقت إسلام أبي بكر الذي أشارت إليه الروايات وحددته بأكثر من خمسين نفراً كما نص عليه الطبري وابن عساكر وابن كثير، وغيرهم، واللفظ للطبري قائلاً: (حدثنا ابن حميد قال حدثنا كنانة بن جبلة عن إبراهيم بن طهمان عن الحجاج بن الحجاج عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن سعد قال: قلت لأبي أكان أبوبكر أولكم إسلاماً؟

فقال: لا ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين)(2).

ص:38


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 30، ص 33؛ اسد الغابة: ج 3، ص 208.
2- تاريخ الطبري: ج 2، ص 60؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 30، ص 46؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 39؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 1، ص 436؛ الإكمال في اسماء الرجال للخطيب التبريزي: ص 20؛ كنز الفوائد للكراكجي: ص 124؛ المناقب لابن شهر: ج 1، ص 289؛ الإفصاح للشيخ المفيد: ص 232؛ البحار للمجلسي: ج 38، ص 228.

فهذا يعني أن هؤلاء الخمسين كان إسلام أكثرهم في دار خديجة لاسيما وقد نقل لنا البخاري في إسلام أبي ذر الكيفية التي كان يتبعها أبوذر في البحث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل يرشدنا الوجدان والعرف إلى أن الإنسان حينما يريد أن يأخذ حاجته أو يحقق مقصده من رجل ما فانه يقصده في داره لاسيما ونحن نتحدث عن مسألة ترتبط بإيمان الإنسان وسعيه للوصول إلى حقيقة هذا الدين والطريقة التي تمكنه من الدخول إليه وهذا كله يدلل على أن المسلمين الأوائل كانوا يتجهون إلى دار خديجة عليها السلام لملاقاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن ضمن آلية خاصة ترتبط بوضع القادم إلى هذه الدار.

وهذا يعني ان لا وجود لدار الأرقم بن أبي الأرقم، وأعني الوجود الشأني الذي اختلقه المتزلفون للحكام لغرض دفع شأنية دار أم المؤمنين خديجة عليها السلام بحجة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستخدمها لغرض التستر والاختفاء وكأنه في حركة سياسية مناهضة للحكم.

في حين لو فرضنا مثل هذا الاحتمال، أي وجود جواسيس وعيون لقريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما المانع من وجودهم حول دار الأرقم وهم يرقبون حركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل ان فرضية وجود هذه الدار تزيد في الأمر سوءاً، لأن دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه المتكرر إلى هذه الدار يبعث الشكوك في نفوسهم بل يجعلهم يتتبعون الداخل والخارج لهذه الدار ومعرفة ما كان لديه من غرض،

ص:39

لأن دخول رسول الله المتكرر لها وهي ليست ملكا له ولا تربطه بأهلها مصاهرة أو قرابة يجعله في موضع الريبة بل وكأنه يدعوهم إلى الشك به.

أما قدوم الناس إلى دار خديجة عليها السلام ولقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو يبعد الشكوك عنه وعن الداخل إليه، لأن الداخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون بالضرورة لغرض الدخول في الإسلام فلقد كان المكيون يقصدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوضع أماناتهم عنده، وائتمانه على ودائعهم وذخائرهم وإن كانوا لا يؤمنون بدعوته ودينه وهي حقيقة لايمكن نكرانها أو تجاهلها حتى لدى غير المسلمين فقد عرف صلى الله عليه وآله وسلم ب - (الصادق الأمين).

فضلاً عن أنه أوصى الإمام علياً عليه السلام أن يرد هذه الودائع إلى أصحابها بعد خروجه صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة، فبقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ثلاثة أيام في مكة ينادي بين أهلها.

قال ابن إسحاق: (ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر، أما علي - عليه السلام - فإن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم

ص:40

من صدقه وأمانته صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

إذن:

ليس بالضرورة أن يكون الداخل إلى دار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لغرض الدخول في دينه وإنما لائتمانه على ماله وإيداع الودائع عنده مما يدفع الريب عن الداخلين إلى بيت خديجة عليها السلام، وبذلك يكون وجود دار الأرقم ضاراً به صلى الله عليه وآله وسلم ومضراً بالمسلمين. لأنهم أي المشركون سيأخذون على الظنة ويقتلون على الشبهة.

وعليه: فلا وجود شأنياً وتشريفياً لدار الأرقم وأن هذه الشأنية التي ينقلها الرواة هي صنيعة من صنع بني أمية لتضييع فضل دار خديجة وأهلها.

المسألة الخامسة: إسراء النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من دار خديجة عليها السلام
اشارة

إنّ من الخصائص التي خص الله تعالى بها دار خديجة عليها السلام فزاد في شرافته على دور الأنبياء والمرسلين عليهم السلام هو اختصاصه برحلة الإسراء والمعراج النبوي وذلك بصفته المحطة الأولى التي أسري منها بالنبي

ص:41


1- السيرة النبوية لابن هشام الحميري: ج 2، 335. تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 39. تاريخ الطبري: ج 2، ص 106. الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 2، ص 104. امتاع الأسماع للمقريزي: ج 1، ص 68. السنن الكبرى للبيهقي: ج 6، ص 289. معرفة السنن والآثار: ج 5، ص 110. أرواء الخليل للألباني: ج 5، ص 384. تفسير البغوي: ج 2، ص 244.

الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الأمر ترتبت عليه آثار شرعية، وهي كالآتي:

أولا: إن بيت خديجة هو المسجد الحرام

لقد أعطى القرآن دار خديجة شرافة خاصة لم ينلها موقع آخر في مكة بعد البيت الحرام، وذلك من خلال جعله المسجد الحرام وان كان المكيون ينظرون إليه دار سكنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)1 .

فهذه الآية أعطت لدار خديجة صفة الحرمة التي أعطتها للكعبة، فقال تعالى:

(جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ )2 .

وفي دار خديجة قال سبحانه:

(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

وهذا يلزم أن يتعامل مع بيت خديجة عليها السلام كما يتعامل مع البيت

ص:42

الحرام من حيث الحرمة والطهارة والتقرب إلى الله تعالى لا أن يجعله الأعراب محلاً للتبول - والعياذ بالله -!!!

ثانيا: إنّ لخديجة من الطهر ما لمريم عليهما السلام

إن جعل القرآن دار خديجة مسجدا يلزم أن تكون خديجة عليها السلام ممن طهرها الله تعالى كمريم بنت عمران، اذ العلة التي طُهرت بها مريم كانت لغرض مكوثها في بيت المقدس.

(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ )1 .

وخديجة عليها السلام في المسجد الحرام الذي نص عليه القرآن وبذاك لزم ان تكون طاهرة بتولاً لا ترى ما تراه النساء؛ وإلاّ للزم ان تسكن داراً أخرى غير هذه الدار التي هي:

(الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

فضلاً عن ان مكوثها في المسجد دون طهر يترتب عليه أحكام خاصة لا تجيز لها البقاء فيه.

وعليه: تدل الآية على أنها طاهرة من الدنس والرجس وانها كمريم بنت عمران عليهما السلام في الطهارة، وهذا يتسق مع كونها الرحم الذي يحتضن بين جدرانه سيدة نساء العالمين، ومشكاة نور الله، رب العالمين، وأم الأئمة

ص:43

المعصومين الذين خصهم الله بسابق عنايته وقديم لطفه فقال عنهم في محكم كتابه:

(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)1 .

وفي ذلك يقول ابن حجر العسقلاني: «ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها)(1).

ولأن مرجع أهل البيت النبوي إلى خديجة عليها السلام دون غيرها، فقد جعلها الله كذلك طاهرة مطهرة كي تكون الأرض الصالحة التي تنبت فيها شجرة النبوة.

ومن هنا:

نجد أن القرآن الكريم قد دلل على هذه الحقيقة في قوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) .

وعلى الرغم من ان كثيراً من المحدثين والفقهاء والمفسرين قالوا بأن

ص:44


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني: ج 7، ص 104.

الإسراء تم من بيت خديجة(1).

إلا أن البعض الآخر حاول دفع هذه الخصوصية بإطلاق الآية فجعل كل مكة هي المسجد الحرام(2).

في حين ذهب آخرون إلى أنّه أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيت أم هانئ وقيل من شعب أبي طالب عليه السلام(3).

وقد أفاد العلامة الطباطبائي في بيان هذه الأقوال واختلاف العلماء فيها.

وأعني: اختلافهم في بيت أم هانئ، وشعب أبي طالب عليه السلام، والبيت الحرام، كما أنهم اختلفوا في الزمان ولم يتفقوا على أن الإسراء كان قبل الهجرة في مكة مما يدل على عدم ثبوت هذه الأقوال ورجحان انه صلى الله عليه وآله وسلم أسري به من دار خديجة كما سيمر بعد إيراد قول العلامة؛ إذ قال رحمه الله: «وقد اتفقت أقوال من يُعتنى بقوله من علماء الإسلام على أن الإسراء كان بمكة قبل الهجرة كما يستفاد من قوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى

ص:45


1- الخلاف للشيخ الطوسي: ج 3، ص 189؛ مختلف الشيعة للعلامة الحلي: ج 5، ص 60؛ إيضاح الفوائد لا بن العلامة الحلي: ج 1، ص 427؛ جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج 22، ص 352؛ المجموع للنووي: ج 9، ص 248؛ المناقب لا بن شهر آشوب: ج 1، ص 153؛ البحار للمجلسي: ج 18، ص 380؛ تفسير الرازي: ج 4، ص 19؛ الأمثل لناصر مكارم الشيرازي: ج 10، ص 318.
2- المجموع لمحي الدين النووي: ج 19، ص 433.
3- الطبقات الكبرى لا بن سعد: ج 1، ص 214؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 149.

اَلْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) .

ويدل عليه ما اشتملت عليه كثير من الروايات من إخباره صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً بذلك صبيحة ليلته وإنكارهم ذلك عليه، واخباره إياهم بأساطين المسجد الأقصى، وما لقيه في الطريق من العير، وغير ذلك. ثم اختلفوا في السنة التي أُسرِيَ به صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما عن ابن عباس، وقيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج عن علي عليه السلام. وقيل في السنة الخامسة أو السادسة، وقيل بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر، وقيل في السنة الثانية عشرة منها، وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، وقيل: قبلها بسنة وثلاثة أشهر، وقيل: قبلها بستة أشهر.

ولا يهمنا الغور في البحث عن ذلك ولا عن الشهر واليوم الذي وقع فيه الاسراء ولا مستند يصح التعويل عليه، لكن ينبغي ان يتنبه ان من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ما يصرح بوقوع الاسراء مرتين وهو المستفاد من آيات سورة النجم حيث يقول سبحانه: (ولقد رآه نزلة أخرى) الآيات على ما سيوافيك إن شاء الله من تفسيره. وعلى هذا فمن الجائز ان يكون ما وصفه صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات من عجيب ما شاهده راجعا إلى ما شاهده في الاسراء الأول وبعض ما وصفه في بعض آخر راجعا إلى الاسراء الثاني، وبعضه مما شاهده في الاسراءين معا.

ثم اختلفوا في المكان الذي أُسري به صلى الله عليه وآله وسلم منه فقيل: أسري به من شعب أبي طالب.

ص:46

وقيل: أسري به من بيت أم هانئ.

وفي بعض الروايات دلالة على ذلك وقد اولوا قوله تعالى: (لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) إلى أن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله مجازا فيشمل مكة.

وقيل: أسري به من نفس المسجد الحرام لظهور الآية الكريمة فيه، ولا دليل على التأويل.

ومن الجائز بالنظر إلى ما نبهنا به من كون الاسراء مرتين ان يكون أحد الاسراءين من المسجد الحرام والآخر من بيت أم هانئ، واما كونه من الشعب فما ذكر فيما ذكر فيه من الروايات ان ابا طالب كان يطلبه طول ليلته وانه اجتمع هو وبنو هاشم في المسجد الحرام ثم سل سيفه وهدد قريشا ان لم يحصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نزوله من السماء ومجيئه إليهم واخباره قريشا بما رأى.

كل ذلك لا يلائم ما كان هو صلى الله عليه وآله وسلم وبنو هاشم جميعا عليه من الشدة والبلية أيام كانوا في الشعب. وعلى أي حال فالإسراء الذي تعطيه الآية:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)

وهو الاسراء الذي كان إلى بيت المقدس كان مبدؤه المسجد الحرام لكمال ظهور الآية ولا موجب للتأويل(1).

ص:47


1- تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج 13، ص 30.

أقول: من الغريب ان لا يتناول السيد العلامة - أعلى الله مقامه - دار خديجة عليها السلام في هذه المسألة مع ما عرف عنه من التتبع الحثيث للأقوال، وكيف انه لم يذكر في هذا البحث ما رواه الراوندي رحمه الله عن الإمام أبي جعفر عليه السلام في التصريح بإسراء النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم من دار خديجة عليها السلام فقال رحمه الله: (إن أبا جعفر عليه السلام قال:

«إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أسري به نزل جبرئيل عليه السلام بالبراق، وهو أصغر من البغل، وأكبر من الحمار، مضطرب الاذنين، عيناه في حوافره خطاه مد بصره، له جناحان يحفزانه من خلفه، عليه سرج ياقوت، فيه من كل لون، أهدب العرف الأيمن، فوقفه على باب خديجة، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وآله فمرح البراق، فخرج إليه جبرئيل عليه السلام فقال: أسكن فإنما يركبك أحب خلق الله إليه. فسكن. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله فركب ليلا، وتوجه نحو بيت المقدس، فاستقبل شيخا، فقال جبرئيل عليه السلام: هذا أبوك إبراهيم. فثنى رجله وهم بالنزول، فقال جبرئيل عليه السلام: كما أنت. فجمع من شاء الله من أنبيائه ببيت المقدس، فأذن جبرئيل، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله فصلى بهم. ثم قال أبو جعفر عليه السلام في قوله: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك هؤلاء الأنبياء الذين جمعوا فلا تكونن من الممترين قال: فلم يشك رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يسأل»)(1).

ص:48


1- الخرائج والجرائح للراوندي: ج 1، ص 84؛ البحار للمجلسي: ج 18، ص 378؛ تفسير نور الثقلين للحويزي: ج 2، ص 320.

فضلاً عن ذلك فان كثيراً من الفقهاء والمفسرين سواء من مدرسة أهل البيت أو المدارس الأخرى قد أشاروا إلى ان الإسراء كان من بيت خديجة عليها السلام، وهم كالآتي نورد أسماءهم حسب التسلسل الزمني لحياتهم.

أولاً: شيخ الطائفة الطوسي رضوان الله تعالى عليه (المتوفى 410 ه ) فانه قال في كتابه الخلاف:

(وإنما أسري به من بيت خديجة)(1).

ثانيا: الحافظ ابن شهر آشوب المازندراني (المتوفى 588 ه ) فقد روى عن: (السدي والواقدي - قولهما في أن - الإسراء قبل الهجرة بستة أشهر بمكة في السابع عشر من شهر رمضان ليلة السبت بعد العتمة من دار أم هانئ بنت أبي طالب وقيل من بيت خديجة...)(2).

ثالثاً: المفسر الكبير العلامة الفخر الرازي (المتوفى 606 ه ) وقد نقل قول الشافعي في حكم دخول الكافر المسجد قائلاً:

(قد يكون المراد من المسجد الحرام لقوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

وإنما أسري به من بيت خديجة)(3).

ص:49


1- الخلاف للشيخ الطوسي: ج 3، ص 189.
2- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 153.
3- تفسير الرازي: ج 4، ص 19.

رابعاً: الحافظ محي الدين النووي (المتوفى 676 ه ) قال في المجموع: (في مذهب العلماء في بيع دور مكة وغيرها من أرض الحرم وإجارتها ورهنها، مذهبنا - أي الشافعي - جوازه وبه قال عمر بن الخطاب وجماعات من الصحابة ومن بعدهم؛ وهو مذهب أبي يوسف، وقال الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة لا يجوز شيء من ذلك، والخلاف في المسألة مبني على أن مكة فتحت صلحاً أم عنوة ؟ فمذهبنا انها فتحت صلحا فتبقى على ملك أصحابها فتورث وتباع وتكرى وترهن. ومذهبهم انها فتحت عنوة فلا يجوز شرع من ذلك واحتج هؤلاء بقوله تعالى:

(وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ)1 .

قالوا والمراد بالمسجد جمع الحرم لقوله سبحانه وتعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

أي من بيت خديجة)(1).

خامساً: العلامة الحلي رضوان الله تعالى عليه (المتوفى 710 ه ) قائلا: (مسألة: قال الشيخ - الطوسي - في الخلاف: لا يجوز بيع رباع مكة وبيوتها ولا إجارتها، وفيه نظر.

ص:50


1- المجموع للنووي: ج 9، ص 248.

احتج الشيخ بقوله تعالى:

(سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ) .

والمسجد اسم لجميع الحرم، لقوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

وإنما أسري به من بيت خديجة، وروي من شعب أبي طالب فسماه مسجداً، ولما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«بيع مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها، وللاجماع من الفرقة والأخبار»)(1).

سادساً: المحدث العلامة المجلسي رحمه الله (المتوفى 1111 ه ) وقد نقل قول ابن شهر آشوب في (ان الإسراء كان من بيت خديجة)(2).

سابعا: الشيخ الجواهري أعلى الله مقامه (المتوفى 1266 ه ) نص على ذلك في كتابه الجواهر في: بيع بيوت مكة، فقال: (وكيف كان في التذكرة، وظاهر الدروس، ومحكي الحواشي، والإيضاح، (في بيع بيوت مكة تردد) من انها مسجد لقوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) .

ص:51


1- مختلف الشيعة: ج 5، ص 60.
2- البحار للمجلسي: ج 18، ص 380.

إلى آخره والمفروض انه صلى الله عليه وآله وسلم أسري به من بيت خديجة...)(1).

أقول: وهذا كله يدل على أن الإسراء كان من بيت خديجة عليها السلام وانه هو المعني بقوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

وهما خصوصيتان في آن واحد تكشفان عن شرافة الدار وأهلها وحرمتها.

الا ان هذه الحرمة والشرافة التي جعلها الله تعالى لهذا البيت وأهله لم تكن بمانعة الوهابيين الذين دنسوا المسجد الحرام فحولوه إلى حمامات ودورات مياه.

ف (إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) من مصيبة ما أعظمها على الإسلام!!

المبحث الرابع: مبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة عليها السلام ليلة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة

اشارة

إن من الأحداث التي لازمت سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فتناولتها كتب السيرة والتاريخ والحديث والتفسير هي خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة ومبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة عليها السلام.

ص:52


1- جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج 22، ص 352.

وعلى الرغم من اشتهار الحادثة، ان لم تكن من مفاصل حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أن المحدثين والمفسرين وغيرهم لم يتناولوا اختصاص هذه الفضيلة بهذه الدار، دار خديجة عليها السلام، بل نجدهم قد صرفوا الانظار إلى دار أخرى في عملية الخروج والهجرة، وهي دار أبي بكر مشيرين إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما خرج من دار أبي بكر في تفاصيل غريبة وعجيبة لا تتسق مع جوهر النبوة والاعتقاد بالغيب؛ وحيث إن البحث مخصص لمبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة فقد أرجأنا البحث، في هذه التفاصيل، أي هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعلة في اصطحابه لأبي بكر وملابسات الغار وغيرها إلى مبحث آخر أفردنا له كتاباً خاصاً كي يستوفي البحث حقه من التحليل والدراسة.

ولذلك:

فإن هذه الفضيلة المخصوصة بعلي بن أبي طالب عليهما السلام كانت قد وقعت في دار سيدتنا ومولاتنا خديجة الكبرى عليها السلام، ولأهمية هذه الحادثة وما رافقها من مسائل عقائدية وتاريخية فقد خصصت لها مبحثاً كي تستوفي الحادثة حقها من البحث والدراسة والتحليل.

المسألة الأولى: كيف وقعت الحادثة ؟
اشارة

لقد تناول ابن إسحاق رحمه الله ومن نهل عنه في تدوين السيرة النبوية وغيرهم من المؤرخين والمحدثين حادثة مبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة بألفاظ متفاوتة في عرض الحدث وبيان تسلسل وقوعه.

ص:53

ولذلك وجدت ان أضع بين يدي القارئ الكريم هذا الحدث من خلال الخزين الذي احتوته المكتبة الإسلامية بمختلف مذاهب علمائها. وذلك للأهمية الكبيرة التي ارتبطت بهذا الحدث المفصلي من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ألف: ما رواه ابن إسحاق والطبري وغيرهما

بعد أن تمت بيعة الأنصار في العقبة الثانية، وكانوا قد بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القتال وعادوا إلى المدينة، عزم بعض المسلمين في مكة بالهجرة إلى المدينة، وذلك قبل خروج النبي إليها بأمر منه صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً لهم:

«إن الله قد جعل لكم إخواناً ودارا تأمنون فيها»(1).

فخرجوا إرسالاً وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر أن يأذن له الله بالخروج.

أما من بقي من المسلمين في مكة فقد لاقى من قريش أشد أنواع العذاب، وأبقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، كما بقي أيضاً في مكة أبو بكر وهو ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وعندما أدركت قريش أن المسلمين خرجوا إلى المدينة أيقنت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوف يلحق بهم ولذا كانوا في حيرة من أمرهم لا

ص:54


1- السيرة النبوية لابن جرير الطبري: ص 88.

يعلمون أي السبل تمكنهم من الحؤول دون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه لو تمكن من ذلك وسكن المدينة لتجمع من حوله المسلمون ولعظم أمره ولم يتمكنوا بعد ذلك من القضاء عليه.

ولذا اجتمع أشرافهم في دار الندوة - وهي المكان الذي يجتمعون فيه للأمور المهمة - واتفقوا على أن يأخذوا من كل قبيلة رجلا قويا، ويعطى سيفا، ثم يجهزون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه ويتفرق دمُه بين القبائل، وبذلك لا يتمكن بنو عبد مناف من الأخذ بثأره؛ لأنهم لا قدرة لهم على قتال كل هؤلاء القبائل ويرضون بالفدية.

فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.

فأنزل الله تعالى في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له:

(وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ )1 .

فأتى جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«لاتبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه»(1)

فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام، فيثبون

ص:55


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 333؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 100، تفسير الآلوسي: ج 9، ص 198.

عليه(1) ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب:

نم على فراشي وتسبح ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم(2).

وفي مسند أحمد: (وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.

قال: لما اجتمعوا، وفيهم أبوجهل بن هشام، فقال وهم على بابه: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.

قال - ابن إسحاق -: وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال:

إنا أقول ذلك، أنت أحدهم.

ص:56


1- السيرة النبوية للنووي: ص 85، ط دار البصائر، وجاء قوله: (انهم كانوا مائة نفر» وهذا خلاف المشهور).
2- السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 333؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 99؛ تفسير الثعلبي: ج 2، ص 126؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 282؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 216؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، ص 235.
3- مسند احمد بن حنبل: ج 1، ص 348، من حديث ابن عباس.

وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه، فلا يرونه، فجعل يفشي ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات من يس:

(يس (1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) إلى قوله (... فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )1 .

حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم أنصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنظرون ههنا؟.

قالوا: محمداً. قال: خيبكم الله! لقد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم ؟.

قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائماً عليه بردة، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عليه السلام عن الفراش، فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا(1).

ص:57


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 126-127، ط دار القلم - بيروت؛ السيرة النبوية لابن جرير الطبري: ص 88؛ السيرة النبوية لابن سيد الناس: ج 1، ص 235؛ السيرة النبوية

ولهذا الحديث وقفة سنعود إليها بعد ايفاء الحادثة حقها من البيان، وسنتناول فيها بعض ما جاء في الحديث من أحداث ونسلط عليها الضوء لنرى ما حوته من مصداقية أو إخفاء لحقائق واقعية رافقت عملية الهجرة النبوية.

باء: ما رواه الشيخ الطوسي رحمه الله

يروي الشيخ الطوسي رحمه الله تفاصيل الحادثة عن أبي عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر عن أبيه، وعن عبيد الله بن أبي رافع جميعاً عن عمار بن ياسر رضي الله عنه، وأبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد تداخل حديث هؤلاء بعضه ببعض فقالوا:

«كان الله عز وجل يمنع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعمه أبي طالب، فما كان يخلص إليه من قومه أمر يسوؤه مدة حياته، فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغيتها وأصابته بعظيم الأذى حتى تركته لقى.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«لأسرع ما وجدنا فقدك يا عم! وصلتك رحم فجزيت خيراً يا عم».

ص:58

ثم توفيت خديجة بعد أبي طالب بشهر فاجتمع بذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حزنان حتى عرف ذلك فيه، قال هند: ثم انطلق ذوو الطول والشرف من قريش إلى دار الندوة، ليأتمروا في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأسروا ذلك بينهم، فقال بعضهم: نبني له علما، وينزل برجا نستودعه فيه، فلا يخلص من الضباة إليه أحد، ولا يزال في رنق من العيش حتى يتضيفه ريب المنون، وصاحب هذه المشورة العاص بن وائل، وأمية، وأُبي ابنا خلف.

وقال قائل: بئس الرأي ما رأيتم، ولئن صنعتم ذلك ليتنمرن له الحدب الحميم والمولى الحليف، ثم ليأتين المواسم والأشهر الحرم بالأمن فلينتزعن من أنشوطتكم قولوا قولكم. قال عتبة وشيبة وشركهما أبو سفيان، قالوا: فإنا نرى أن نرحل بعيرا صعبا، ونوثق محمدا عليه كتافا وشدا، ثم نقصع البعير بأطراف الرماح، فيوشك أن يقطعه بين الدكادك إربا إربا. فقال صاحب رأيهم: إنكم لم تصنعوا بقولكم هذا شيئا، أرأيتم إن خلص به البعير سالما إلى بعض الأفاريق، فأخذ بقلوبهم بسحره وبيانه وطلاوة لسانه، فصبا القوم إليه، واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلة، فليسيرن حينئذ إليكم بالكتائب والمقانب، فلتهلكن كما هلكت إياد ومن كان قبلكم ؟! قولوا قولكم. فقال له أبو جهل: لكن أرى لكم أن تعمدوا إلى قبائلكم العشرة، فتنتدبوا من كل قبيلة رجلا نجدا، ثم تسلحوه حساما عضبا، وتمهل الفتية حتى إذا غسق الليل وغور بيتوا بابن أبي كبيشة بياتا، فيذهب دمه في قبائل قريش جميعا فلا يستطع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش في صاحبهم، فيرضون حينئذ بالعقل منهم، فقال صاحب

ص:59

رأيهم: أصبت يا أبا الحكم.

ثم أقبل عليهم فقال: هذا الرأي فلا تعدلوا به رأيا، وأوكئوا في ذلك أفواهكم حتى يستتب أمركم، فخرج القوم عزين، وسبقهم بالوحي بما كان من كيدهم جبرئيل (عليه السلام)، فتلا هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله):

(وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ )1 .

فلما أخبره جبرئيل (عليه السلام) بأمر الله في ذلك ووحيه، وما عزم له من الهجرة، دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام)، وقال له:

يا علي إن الروح هبط علي بهذه الآية آنفا، يخبرني أن قريشا اجتمعوا على المكر بي وقتلي، وأنه أوحى إلي ربي (عز وجل) أن أهجر دار قومي، وأن انطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، وأنه أمرني أن آمرك بالمبيت على ضجاعي - أو قال: مضجعي - ليخفى بمبيتك عليه أثري، فما أنت قائل، وما صانع ؟.

فقال علي (عليه السلام):

أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي الله ؟

قال:

نعم.

ص:60

تبسم علي (عليه السلام) ضاحكا، وأهوى إلى الأرض ساجدا، شكرا بما أنبأه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من سلامته، وكان علي (صلوات الله عليه) أول من سجد لله شكرا، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الامة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما رفع رأسه قال له:

امض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكن فيه كمسرتك، واقع منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلا بالله.

قال:

وإن ألقي عليك شبه مني، أو قال: شبهي.

قال:

إن - بمعنى نعم -.

قال:

فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا علي أن الله (تعالى) يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا بن عم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل، فصبرا صبرا، فإن رحمة الله قريب من المحسنين.

ثم ضمه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى صدره وبكى إليه وجدا به، وبكى علي (عليه السلام) جشعا لفراق رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص:61

واستتبع رسول (صلى الله عليه وآله) أبا بكر بن أبي قحافة وهند بن أبي هالة، فأمرهما أن يقعدا له بمكان ذكره لهما من طريقه إلى الغار، ولبث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكانه مع علي (عليه السلام) يوصيه ويأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين. ثم خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فحمة العشاء الآخرة، والرصد من قريش قد أطافوا بداره، ينتظرون أن ينتصف الليل وتنام الأعين، فخرج وهو يقرأ هذه الآية:

(وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )1 .

وأخذ بيده قبضة من تراب، فرمى بها على رؤوسهم، فما شعر القوم به حتى تجاوزهم، ومضى حتى أتى إلى هند وأبي بكر فنهضا معه، حتى وصلوا إلى الغار. ثم رجع هند إلى مكة بما أمره به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبو بكر إلى الغار، فلما غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر، أقبل القوم على علي (عليه السلام) يقذفونه بالحجارة والحلم، ولا يشكون أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى إذا برق الفجر وأشفقوا أن يفضحهم الصبح، هجموا على علي (صلوات الله عليه)، وكانت دور مكة يومئذ سوائب لا أبواب لها، فلما بصر بهم علي (عليه السلام) قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها، وكان يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة، وثب له علي (عليه السلام) فختله وهمز يده، فجعل خالد

ص:62

يقمص قماص البكر، ويرغو رغاء الجمل، ويذعر ويصيح، وهم في عرج الدار من خلفه، وشد عليهم علي (عليه السلام) بسيفه - يعني سيف خالد - فأجفلوا أمامه إجفال النعم إلى ظاهر الدار، فتبصروه فإذا هو علي (عليه السلام)، فقالوا: إنك لعلي ؟ قال:

أنا علي.

قالوا: فإنا لم نردك، فما فعل صاحبك ؟ قال:

لا علم لي به.

وقد كان علم - يعني عليا (عليه السلام) - أن الله (تعالى) قد أنجى نبيه (صلى الله عليه وآله) بما كان أخبره من مضيه إلى الغار واختبائه فيه، فأذكت قريش عليه العيون، وركبت في طلبه الصعب والذلول، وأمهل علي (صلوات الله عليه) حتى إذا أعتم من الليلة القابلة انطلق هو وهند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الغار، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) هندا أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين، فقال أبو بكر: قد كنت أعددت لي ولك يا نبي الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب. فقال:

إني لا آخذهما ولا أحدهما إلا بالثمن.

قال: فهي لك بذلك، فأمر (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) فأقبضه الثمن، ثم أوصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته. وكانت قريش تدعو محمدا (صلى الله عليه وآله) في الجاهلية الأمين، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم، وجاءته النبوة والرسالة

ص:63

والأمر كذلك، فأمر عليا (عليه السلام) أن يقيم صارخا يهتف بالأبطح غدوة وعشيا:

ألا من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة فليأت فلتؤد إليه أمانته.

قال:

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم علي، فأد أمانتي على أعين الناس ظاهرا، ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما.

وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم. قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله - يعني ابن أبي رافع - أو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: إني سألت أبي عما سألتني، وكان يحدث بهذا الحديث، فقال: فأين يذهب بك عن مال خديجة (عليها السلام)؟ وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة (عليها السلام)، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفك من مالها الغارم والعاني ويحمل الكل، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين - يعني رحلة الشتاء والصيف - كانت طائفة من العير لخديجة، وكانت أكثر قريش مالا، وكان (صلى الله عليه وآله) ينفق منه ما شاء في حياتها ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها. قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي وهو يوصيه:

ص:64

وإذا أبرمت ما أمرتك فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر إلي لقدوم كتابي إليك، ولا تلبث بعده.

وانطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) لوجهه يؤم المدينة، وكان مقامه في الغار ثلاثا، ومبيت علي (صلوات الله عليه) على الفراش أول ليلة. قال عبيد الله بن أبي رافع: وقد قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) شعرا يذكر فيه مبيته على الفراش ومقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الغار ثلاثا.

وقيت بنفسي خير من وطئ الحصا ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

محمد لما خاف أن يمكروا به فوقاه ربي ذو الجلال من المكر

وبت أراعيهم متى ينشرونني وقد وطنت نفسي على القتل والأسر

وبات رسول الله في الغار آمنا هناك وفي حفظ الإله وفي ستر

أقام ثلاثا ثم زمت قلائص قلائص يفرين الحصا أينما تفري(1)

وفي الحديث أمور ينبغي التوقف عندها كما كان حال الحديث السابق نوردها معاً:

الأمر الأول: تدل الرواية على ان قريشاً عزمت على قتل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة خديجة عليها السلام بزمن قريب جداً يوم أو يومين، لأنها خشيت تفويت الفرصة بعد ذهاب ركني النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم اللذين كان يتكئ عليهما في تبليغ الرسالة الإلهية. فضلاً

ص:65


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 462-469؛ جامع أحاديث الشيعة للبروجردي: ج 5، ص 476.

عن ان قريشاً تريد ان تغتنم هذه الأجواء من الحزن التي يمرّ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانه مشغول بفقد عزيزيه.

ولذا: فقد بادرت إلى الاجتماع في دار الندوة سريعاً بعد وفاة أم المؤمنين خديجة عليها السلام.

الأمر الثاني: أين فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأحداث ؟

هذا السؤال استوقفني كثيرا وأنا أبحث بين أقوال الرواة وتناقل الحفاظ وهم يعرضون لنا أحداث هجرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فنجدهم يشيرون إلى ذكر بنتي أبي بكر «أسماء وعائشة» وتعطى لهما أدوار مهمة في الجهاد والمشاركة وكتمان الأمر وإطعام الطعام، وغيرها من الأمور في حين لا نجد ولو مجرد ذكر لفاطمة! أو حتى مجرد التذكير بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بنت وهي الآن في السنة الثامنة من عمرها فما هو دورها في خضم هذه الأحداث ؟ وأين تركها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما خرج ولماذا لم تقم بأي دور كما قامت أسماء بنت أبي بكر؟.

فهل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخفى عليها، أم هل أن الرواة جفوها لأن ذكرها لا يدر عليهم المال ؟ أو لعله يغضب السلطة الحاكمة.

وكيف يمكن أن يعقل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم بخروجه غير الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي أراد منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينام في فراشه والشخص الثاني هو أبو بكر وآله أي: «عبد الله،

ص:66

وأسماء وعائشة)(1) ؟ فهؤلاء فقط الذين علموا بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأين أبنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

أما بخصوص سيدة النساء فاطمة الزهراء عليه السلام فهي وإن لم يكن التاريخ قد انصفها من خلال ما صاغته ألسنة الرواة ودونته ذاكرة الحفاظ ، إلا أن العقل والوجدان الحي لا ينسجم مع فكرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلع ابنته الحبيبة التي لها من المكان في كيان النبي المقدس ما عرفه الجميع ويتركها دون أن يودعها أو على الأقل يوصيها بالاهتمام بنفسها.

إن الدين وجميع الشرائع السماوية لتقول وتأمر بالغيرة على العرض فما بالكم بسيد الخلق فلا والله ما خرجَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن ودّع ابنته فاطمة عليه السلام في بيت آل أبي طالب وعند فاطمة بنت أسد تلك المرأة الجليلة التي أفنت عمرها في رعاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخيه علي بن أبي طالب ومن ثم سيدة النساء وبقية النبوة فاطمة عليها السلام.

لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أمن عليها وأوصى بها ومن ثم طمأنها كما طمأن علياً عليه السلام بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«فإنه لن يخلص إليك ما تكرهه منهم».

وطمأنها بأن الله حامي أبيها وواقيه شر الأعداء، وأن الله جامعها معه وأن الفراق لن يطول كثيرا، فلا النبي قادر على فراق فاطمة عليها السلام ولا

ص:67


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 126-127؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 2، ص 234، ط دار المعرفة؛ وفي غيرها من المصادر - فراجع.

فاطمة تحتمل فراق أبيها فسرعان ما اجتمعا في الدنيا والآخرة.

الأمر الثالث: بقي أمر ثالث في هذه العجالة، وهو دور أبي بكر في هذه الحادثة وما صاغته أيدي الكتاب نقلاً عن ألسنة الرواة في كتب المسلمين، ولأن الحديث يحتاج إلى دراسة وتحليل فقد دوناه في كتاب هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو كتاب مستقل.

الا أننا نسجل هنا بعض الأسئلة:

أ. كيف التقى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأبي بكر حينما خرج من مكة ؟

ب. ولماذا يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دار أبي بكر ولم يصحبه معه إلى دار خديجة فيخرجا منه معاً؟

ج. لماذا يرفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبض الراحلتين من أبي بكر إلا بالثمن فلما قبض أبو بكر الثمن أخذهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

د. لماذا تكون أسماء بنت أبي بكر هي التي تجلب الطعام للغار؟ وكيف لم يراقبها المشركون وهي تحمل الطعام وقد خرج أبوها؟.

ه . لماذا يبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام في الغار؟

وغيرها من الأسئلة تجد الإجابة عليها في كتاب حول الهجرة النبوية سيطبع قريبا إن شاء الله.

ص:68

المسألة الثانية: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يفدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى

إن من الأسئلة التي تطرح حول رواية ابن إسحاق أو من جاء بعده فنهل من روايته: هو: لماذا لم يكمل لنا بقية الرواية، ولم يُطلع القارئ المسلم أو المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بموقف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عندما سمع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يطلب منه أن ينام في فراشه، ويتشح ببرده الحضرمي الأخضر، كي يتمكن هو صلى الله عليه وآله وسلم من النجاة ؟

وهذا يعني أن يكون الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو البديل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي ضربات السيوف المسلولة خلف الباب.

ففي هذه الحالة وهذا الموقف! لابد أن يكون هناك رد من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وإن يكون له موقف، مهما كانت طبيعته ايجابا أم رفضا فالأمانة في النقل تقتضي أن يروي الراوي أو الحافظ ما جاءت به الأحداث من مواقف تكشف عن حقائق الناس، لا أن يعمل بمنهاج (القضم) فيقضم من الرواية ما لا ينسجم مع موالاته وحبه لبعض الرموز، أو كسب رضا الساسة وما تحمله منحهم وأكياسهم.

ولكي لا نعمل بهذا المنهاج الذي عمل به الكثيرون، ومن أجل أن يطلع المسلم على طبيعة الرد ويتعرف نوعية الموقف الذي أبداه الإمام علي بن أبي

ص:69

طالب عليه السلام، نورد ما جاءت به بقية المصادر الإسلامية التي تناولت بأمانة مجريات هذه الحادثة.

1 - ذكر مفتي مكة السيد زيني دحلان: «كان علي رضي الله عنه أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، ووقى بنفسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه امتثل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يقول له:

«لن يخلص إليك شيء».

فصدق عليه أنه بالامتثال باع نفسه»(1).

وفي هذه الفقرة إشارات منها:

أ. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه أراد أن يسجل التاريخ حقيقة هذه الشخصية للوجدان الإنساني؛ إذ يبدو بشكل واضح أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عرض عليه هذا العرض بدون ضمانات في السلامة أو النجاة، بل إنه عرض طابعه وحقيقته الموت، وغايته الحصول على رضا الله عز وجل. وهنا تعرف حقائق الإيمان وتصرخ صفحات القلوب ملبية نداء التضحية بالنفس أو التمسك والتثبت بالحياة، وقد سجل التاريخ: أن علي بن أبي طالب عليه السلام قد قدّم رضا الله على النفس، هذه النفس إن كانت هي الوسيلة في الحصول على رضا الله عز وجل، فكيف بها إذا كانت قد جمعت أيضا نجاة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والتي فيها رضا الله سبحانه ؟!

ب. ثم يبدو من هذه الحادثة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن

ص:70


1- السيرة النبوية لدحلان: ج 1، ص 304، ط الأهلية للنشر والتوزيع - بيروت.

بان له موقف الإمام علي عليه السلام - وهو العارف بحقائق علي عليه السلام - ذكر لعلي الضمانات في السلامة قائلا:

«فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه».

وفي هذه النقطة تحديدا نقول: لو شكلت لجنة حية الضمائر وأرادتْ أن تمنح أوسمة فهل تجد في تاريخ النبوة شخصية آمنت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدّقتْ حديثه وسلّمت نفسها للموت الحقيقي وهي لا تملك سوى صدقها بهذه الكلمات:

«فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».

ثم نامت هذه النفس مطمئنة لأنها مصدّقة بما سمعت!

فهل هذه اللجنة تجد من تمنحه وسام (الصدق) غير هذا النائم في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أم هل أن هذه الأوسمة كانت وما تزال تمنح للبعض من أجل الوجاهة فتضاف في سجلات العوائل أو تعلق على الجدران ؟ ويبقى الاختيار عند ذوي العقول السلمية.

2 - روى الشيخ الطوسي والثعلبي والرازي والحسكاني والغزالي في الإحياء ونقل عنه الدياربكري وغيرهم: (إن ليلة بات علي بن أبي طالب على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل: أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بحياته فاختار كلاهما الحياة وأحبها فأوحى الله إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه

ص:71

بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب تباهى بك الملائكة)(1).

فأنزل الله تعالى:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)2 .

أقول: حق للمسلم أن يتباهى هو أيضا على الأمم الأخرى بعلي بن أبي طالب عليه السلام.

3 - أورد كثير من حفاظ المسلمين أن قول الله تعالى:(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ) . نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام بعد أن نام بفراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عازم على إفدائه بنفسه(2).

ص:72


1- الأمالي للطوسي: ص 469؛ تفسير الثعلبي: ج 2، ص 126؛ تفسير الرازي: ج 5، ص 224؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 123؛ المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 340؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 274؛ تاريخ الخمس للدياربكري: ج 1، ص 325-326؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 19، ص 87.
2- شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي: ج 1، ص 96، ح 133 و 134 إلى ح 142؛ كفاية الطالب للشبلنجي: ص 239، ط الحيدرية؛ وص 164، ط الغري؛ الفصول المهمة لابن الصباغ: ص 31، ط الحيدرية؛ تذكرة الخواص لابن الجوزي: ص 30 و 200، ط الحيدرية؛ نور الابصار للشبلجني: ص 78، ط السعيدية؛ وص 78، ط العثمانية؛ ينابيع

وفيه نقل الحاكم النيسابوري عن علي بن الحسين: (أن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله علي بن أبي طالب)، وأقره الذهبي في التلخيص(1).

4 - وفي هذا التكريم كان يفتخر الإمام علي بن أبي طالب فأنشد قائلا:

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصا ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

وبات رسول الله في الغار آمنا فنجاه ذو الطول الإله من المكر

وبت أراعيهم وما يتهمونني وقد وطنت نفسي على القتل والأسر(2)

المسألة الثالثة: شبهة ابن تيمية والحلبي في رد فضيلة الفداء، شبهة واهية ومخالفة للقرآن الكريم
اشارة

إن مما يستوقف الباحث في السيرة النبوية هو مروره بآراء كثيرة لمن كتبوا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لا تنسجم مع جوهر القرآن الكريم فضلاً عن أنها مخالفة للمنهج العلمي والموضوعي.

بل: ليجد الباحث أن كثيراً من هذه الآراء ليس فقط انها تخالف المنهج ا

ص:73


1- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 4، وبهامشه تلخيص الذهبي.
2- الأمالي للطوسي: ص 469؛ الفصول المختارة للشريف المرتضى: ص 59؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 4؛ تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 3، ص 180؛ تفسير الآلوسي: ج 9، ص 198؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 131.

لعلمي والموضوعي وإنما فيها تعمد الكذب فيكون صاحب هذا الرأي قد جمع الجهل في المنهج الأخلاقي والعلمي والموضوعي.

ومن هذه الأمثلة التي حوت بين جنباتها هذا النموذج من الآراء، هو قول الحلبي - صاحب السيرة النبوية - في رده لفضيلة الفداء التي اختص بها علي بن أبي طالب عليه السلام ليلة المبيت في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار خديجة فيقول بعد استشهاده بقول إمامه ابن تيمية:

(وأما ما روي أن الله تعالى أوحى إلى جبرئيل وميكائيل أني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله إليهما ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبات على فراشه ليفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه فقال: جبرئيل بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب باهى الله بك الملائكة وأنزل الله عز وجل:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ )1 .

قال فيه الإمام ابن تيمية: إنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير).

وأيضاً - والقول للحلبي -: (قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة، والآية المذكورة في سورة البقرة هي مدنية باتفاق، وقد قيل إنها نزلت في صهيب

ص:74

لما هاجر، أي كما تقدم؛ لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: ما ذكر، وعليه: فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه واضحاً ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق صهيب بمعنى اشترى نفسه بماله هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية لأن الحكم يكون للغالب)(1).

وهذه الشبهة التي أطلقها الحلبي والتي تضمنت رأي إمامه ابن تيمية وتبنيه لهذا الرأي مع تغيير سبب نزول الآية وجعلها في صهيب، وغيرها، مخالفة للمنهج الأخلاقي والقرآني والعلمي كما سيمر بيانه من خلال الملاحظات الآتية:

أولاً: إتفاق أهل العلم بالحديث والسير على صدور هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبه يتضح كذب ابن تيمية
اشارة

إن ما أطلقه ابن تيمية وتبناه الحلبي ائتماماً بإمامه فهو كذب صراح ومخالف للأخلاق؛ لأن الكذب من أسوأ صفات الإنسان على أي دين كان وذلك للآتي:

ألف. فابن تيمية لم يوضح للقارئ كيف حصل له العلم بأن (أهل العلم بالحديث والسير قد اتفقوا على ان هذا الحديث كذب).

فهل سافر إلى جميع أقطار المسلمين وسأل أهلها عن العلماء فالتقى بهم وسألهم عن هذا الحديث فقالوا له انه كذب ؟ فإن قيل: نعم، فهذا هو الكذب

ص:75


1- السيرة الحلبية: ج 2، ص 192.

لأن ابن تيمية سيقضي عمره كله بالسفر إلى أقطار المسلمين يبحث عن أهل العلم بالحديث وعندها لن يستطيع ان يجمع لنا أقوالهم ولن يحصل على اتفاقهم وإنْ قيل: لا فهذا إقرار بأنه كاذب في قوله: بأن أهل العلم قد اتفقوا.

باء. ما هو الميزان الذي اعتمده ابن تيمية في تحديد أهل العلم كي نتعرف عليهم ونصدّق قول ابن تيمية في انهم من أهل العلم؛ فإبليس من أهل العلم، ولذا قال لله رب العالمين:

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ )1 .

فعلم إبليس بالصراط المستقيم يمكنه من تضليل الناس عنه، بل إن إبليس أعلم من ابن تيمية بالصراط المستقيم ولذا فهو سبب ضلال البشرية منذ ان أ * رج آدم وحواء من الجنة.

كما ان كعب الأحبار من أهل العلم بالحديث، بل ان كل فرقة من المسلمين تعتقد بأن أئمتها وزعماءها هم من أهل العلم بالحديث ولذا فهم يعتقدون بأنهم الفرقة الناجية من هذه الامة فعلى سبيل المثال: «يعتقد الخوارج أنهم من الناحية الدينية يمثلون الفئة القليلة التي لا تقبل في الحق مساومة، وأن زعماءهم من جماعة القراء والفقهاء هم الحريصون على الالتزام بالكتاب والسنة دون مواربة أو تأويل»(1) ولا أدري أي كتاب أو سنة تجيز قتل علي بن

ص:76


1- الموسوعة العربية العالمية، الخوارج: ص 1.

أبي طالب عليه السلام ؟

ولذلك: لم يصرح ابن تيمية بالقاعدة أو الضوابط التي لديه في معرفة أهل العلم كي نعتقد بأنه ينطبق عليهم هذا الوصف، وكي نأخذ بكلامه.

جيم - ثم لماذا لم يرشدنا إلى مواضع اتفاق أهل العلم ويدلنا على أقوالهم أكان مدوناً في مصنفاتهم أم تحديثا في حلقاتهم فسمعه ابن تيمية من تلامذتهم ؟ فعلم أنه كذب ؟

دال - أما أهل العلم بالحديث الذين أقرت لهم الامة الإسلامية فهم قسمان:

القسم الأول: فهم علماء الشيعة الذين لا يرى فيهم ابن تيمية ومن اتخذه إماماً له بأنهم من أهل العلم إلا أننا نؤمن بأنهم من أهل العلم على رغم أنف ابن تيمية ومن تولاه؛ إذ يكفي ثبوت صدقهم عندنا كثبوت كذب ابن تيمية.

وأما القسم الثاني: فهم علماء السنة والجماعة وهؤلاء اتفقوا على كذب ابن تيمية الذي نسب إليهم ما لم ينطقوا به وتقوّل عليهم ما لم يقولوا، وكي نثبت للقارئ كذب ابن تيمية في قوله حول حديث نزول جبرئيل وميكائيل عليهما السلام لحفظ علي بن أبي طالب عليه السلام حينما فدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه.

الذي قال عنه ابن تيمية: (إنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير) فهؤلاء أهل العلم بالحديث والسير ندرجهم بأسمائهم كي يتضح كذب ابن تيمية.

ص:77

وقبل ان أُورد أسماء أهل العلم أذكّر القارئ الكريم بأنني في صدد الحديث القائل بنزول الملائكة في ليلة مبيت الإمام علي عليه السلام، وليس في اختصاص الآية في علي عليه السلام وحصرها فيه فهذا سيرد بيانه.

القسم الأول: رواية أهل العلم بالحديث والسير لنزول جبرائيل وميكائيل لحفظ علي عليه السلام ليلة المبيت من الشيعة على رغم أنف ابن تيمية

1. الحافظ ابن عقدة الكوفي رحمه الله (المتوفى سنة 333 ه ) وقد رواه بإسناده، عن ابن عباس، وأبي رافع - مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهند بن أبي هالة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل أني آخيت بينكما...»(1).

2. أخرجه الشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه (المتوفى سنة 460 ه ) في الأمالي بإسناده فقال: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال حدثنا أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي سنة إحدى وعشرين وثلاث مائة، قال: حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي سنة خمسين ومائتين، قال حدثني الحسن بن حمزة أبو العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، عن الزبير بن سعيد الهاشمي، قال: حدثنيه أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر رضي الله عنه بين القبر والروضة، عن أبيه وعبيد الله بن أبي رافع جميعاً عن عمار بن ياسر (رضي الله عنه) وأبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:78


1- فضائل أمير المؤمنين عليه السلام لابن عقدة الكوفي: ص 181.

قال أبو عبيدة: وحدثنيه سنان بن أبي سنان: أن هند بن هند بن أبي هالة الأسدي حدثه عن أبيه هند بن أبي هالة ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمه خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخته لأمه فاطمة صلوات الله عليها.

قال أبو عبيدة: وكان هؤلاء الثلاثة هند بن هالة وأبو رافع وعمار بن ياسر جميعاً يحدثون عن هجرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة ومبيته قبل ذلك على فراشه(1).

أقول: أما حديث نزول الملائكة لحراسة علي بن أبي طالب عليه السلام ليلة المبيت فقد حدّث به الصحابي المنتجب أبو اليقظان عمار بن ياسر كما صرح به الشيخ الطوسي(2).

وأما ما قاله أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر: «وحدثنيه سنان بن أبي سنان: أن هند بن هند بن أبي هالة الأسدي حدثه عن أبيه هند بن أبي هالة ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمه خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخته لأمه فاطمة صلوات الله عليها.

فقد اثبتنا في الفصل الأول من الكتاب عدم صحة زواج أم المؤمنين خديجة عليها السلام قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن هند هذا هو ابن

ص:79


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 463.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 469.

اختها احتضنته أم المؤمنين خديجة وتكفلت برعايته فنشأ في دارها حاله كحال زينب وأم كلثوم ورقية، فعرف بابنها كما عرفن هؤلاء النسوة ببناتها - وقد مرّ بيانه مفصلاً فليراجع -.

3. الحافظ ابن شهر آشوب المازندراني (المتوفى سنة 588 ه )

قال الثعلبي في تفسيره: وابن عقب في ملحمته، وأبو السعادات في فضايل العترة، والغزالي في الإحياء وفي كيمياء السعادة أيضاً برواياتهم عن أبي اليقظان، وجماعة من أصحابنا ومن ينتمي إلينا نحو: ابن بابويه، وابن شاذان، والكليني، والطوسي، وابن عقدة، والبرقي، وابن فياض، والعبدلي، والصفواني، والثقفي بأسانيدهم عن ابن عباس وأبي رافع وهند بن أبي هالة... وساق الحديث»(1).

أقول:

الظاهر في كلام ابن شهر رحمه الله أمور منها:

أ. أنه قد جمع في قوله هذا اختصاص آية الفداء والشراء في علي بن أبي طالب عليه السلام بشكل عام وبين إيرادها مع ذكر نزول الملائكة عليهم السلام، إذ إن اختصاص الآية بعلي عليه السلام رواه العلماء عن ابن عباس كما سيمر، واختصاص نزول الملائكة رواه العلماء عن أبي اليقظان عمار بن ياسر (رضي الله تعالى عنه).

ب. قد يكون الحافظ ابن شهر آشوب قد وجد هذا الحديث في

ص:80


1- مناقب آل أبي طالب للمازندراني: ج 1، ص 340.

مصنفات أولئك العلماء في زمانه وان هذه المصنفات لم تنشر بعد فهي مازالت في أروقة حصون المخطوطات المنتشرة في البلاد الإسلامية، وفي الواقع لم أعثر على الحديث فيما توفر من نشر لبعض مصنفات ابن بابويه رحمه الله وغيره.

ج. وقد يكون الحافظ قد وجد هذا الحديث ضمن مصنفات علماء العامة الذين ذكرهم الا ان هذه المصنفات قد تعرضت للحذف والتزوير بعد مرور أكثر من ثمانمائة عام كما حدث لصحيح مسلم من التزوير كما أشرنا في مبحث منزلة خديجة في السنة وانها من رواة الحديث الشريف.

وعليه: فغرضنا إيراد أسماء أهل العلم بالحديث والسير من علماء الشيعة رحمهم الله تعالى.

4. السيد ابن طاووس رحمه (المتوفى سنة 664 ه ).

قال رحمه الله: «قال الثعلبي بعد كلام ذكره: ففعل ذلك علي عليه السلام فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل عليهما السلام...»(1).

5. الشيخ الطبرسي رحمه الله (المتوفى 548 ه ) وقد أورد الرواية في المجمع(2).

6. الحافظ ابن كرامة رحمه الله (المتوفى 494 ه ) وقد رواه في التنبيه(3).

ص:81


1- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس: ص 37؛ وذكره أيضاً في تفسير سعد السعود: ص 216.
2- مجمع البيان في تفسير الميزان للشيخ الطبرسي: ج 2، ص 57.
3- تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين للمحسن بن كرامة: ص 24.

7. الحافظ ابن البطريق رحمه الله (المتوفى سنة 600 ه )(1).

8. الحافظ ابن أبي حاتم رحمه الله (المتوفى سنة 664 ه )(2).

9. الحافظ ابن جبر رحمه الله (من أعلام القرن السابع الهجري)(3).

10. الشيخ الحر العاملي رحمه الله تعالى صاحب الوسائل المتوفى سنة 1104 رواه في جواهره(4).

11. السيد هاشم البحراني رحمه الله (المتوفى سنة 1107 ه )(5).

12. العلامة المجلسي رحمه الله (المتوفى 1111 ه )(6).

وغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى.

القسم الثاني: رواية أهل العلم بالحديث والسير من السنة والجماعة في نزول جبرائيل وميكائيل

1. الثعلبي (المتوفى سنة 427 ه ) قائلاً: «ورأيت في الكتب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده... إلى أن يقول: فأوحى الله تعالى إلى جبرائيل وميكائيل عليهما السلام وساق الحديث»(7).

ص:82


1- خصائص الوحي المبين للحافظ ابن البطريق: ص 120.
2- الدر النظيم لابن أبي حاتم: ص 321.
3- نهج الإيمان لابن جبر: ص 305.
4- الجواهر السنية للحر العاملي: ص 308.
5- حلية الأبرار: ج 1، ص 129.
6- بحار الأنوار: ج 19، ص 87.
7- تفسير الثعلبي: ج 2، ص 126.

أقول:

وقول الثعلبي: (ورأيت في الكتب).

دليل قوي على انتشار هذا الحديث في مصنفات علماء المسلمين إلا ان يد السياسة الجائرة والمتزلفة لحكام بني أمية ومن سار على نهجهم منعت وصول هذا الحديث إلى أسماع كثير من الناس فضلاً عن هذا الحديث وغيره مما يتعلق بفضائل أهل البيت عليهم السلام ما زال محجوباً عن الناس ومخزوناً في المخطوطات التي يتعمد أرباب المكاتب العامة والمشرفون عليها بعدم إخراجها للنور ناظرين في ذلك إلى الجانب المادي وما غلا سعره دون النظر إلى ما ينفع الناس والذي فيه رضا الله تعالى.

2. الحاكم الحسكاني (من أعلام القرن الخامس للهجرة) أخرجه في الشواهد مسندا، فقال: أخبرنا أبو سعد السعدي بقراءتي عليه من أصل سماعه بخط السلمي قال: حدثنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن زكريا الطحان ببغداد قال: حدثنا إبراهيم بن احمد البذوري قال: حدثنا أبو أيوب سليمان بن أحمد الملطي قال: حدثنا سعيد بن عبد الله الرفاء قال: حدثنا علي بن حكام الرازي عن شعبة عن أبي سلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد الغار، بات علي بن أبي طالب على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل:

إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة.

ص:83

فكلاهما اختارها وأحبا الحياة، فأوحى الله إليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبات على فراشه يقيه بنفسه، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل ينادي: بخ بخ، من مثلك يابن أبي طالب، الله عز وجل يباهي بك الملائكة فأنزل الله تعالى:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)1,2 .

أقول:

لقد أوردت الحديث بتمامه كي يطلع القارئ على تطابق المتن مع ما أورده أهل العلم بالحديث والسير في مصنفاتهم، وان هذا الحديث له اسناد آخر أورده الحاكم الحسكاني عن أبي سعيد الخدري في حين كان للحديث اسناد آخر إلى أبي اليقظان عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

3. أبو حامد الغزالي (المتوفى سنة 505 ه ) أورد الحديث بدون ذكر السند وهو طابعه في إيراد الأحاديث في الإحياء غالباً(1).

4. الفخر الرازي، إمام المفسرين عند أهل السنة والجماعة (المتوفى سنة

ص:84


1- احياء علوم الدين حامد الغزالي: ج 3، ص 258.

606 ه ) وقد أورد الحديث بحذف السند مع اختصار في المتن(1).

5. الحافظ ابن الأثير (المتوفى سنة 630 ه ) وقد أسند الحديث إلى الثعلبي المفسر(2).

6. الحافظ محمد بن أحمد بن الشهاب الدمشقي (المتوفى سنة 871 ه ) وقد أورده في جواهره نقلاً عن الغزالي(3).

7. المؤرخ اليعقوبي (المتوفى سنة 292 ه )(4) ، رواه في تاريخه.

8. ابن حجة الحموي (المتوفى سنة 767 ه )(5) ، وقد أورده في الثمرات.

9. العاصمي(6) المكي الشافعي (المتوفى سنة 1111 ه ) وقد أورده في تاريخه سمط النجوم.

10. الدياربكري (المتوفى 966 ه )(7) ، وقد أورده في تاريخه.

11. الزبيدي الحنفي(8) ، وأورده في الاتحاف.

ص:85


1- تفسير الرازي: ج 5، ص 224.
2- اسد الغابة: ج 4، ص 25.
3- جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لابن الدمشقي: ج 1، ص 219.
4- تاريخ اليعقوبي: ص 119.
5- ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي: ج 1، ص 219.
6- سمط النجوم العوالي للعاصمي: ص 146.
7- تاريخ الخميس: ج 1، ص 325، ط المطبعة ا لوهبية بمصر سنة 1283.
8- اتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 8، ص 202، ط الميمنية بمصر.

12. القاضي التنوخي (المتوفى سنة 327 ه )(1) ، وقد أورده في المستجاد.

13. الحافظ أبو الفضل زين الدين العراقي (المتوفى سنة 806 ه ) شيخ ابن حجر والهيثمي، قال في تخريجه لأحاديث الاحياء حينما تناول الحديث المذكور أعلاه: (رواه احمد مختصراً عن ابن عباس).

ولم يقم الحافظ العراقي بتكذيب الحديث كما كذب ابن تيمية على المسلمين فقال: كذب باتفاق اهل العلم بالحديث والسير(2).

15. ابن الصباغ المالكي (المتوفى سنة 1422)(3) ، وقد رواه في الفصول.

16. القندوزي (المتوفى سنة 1294 ه )(4) ، وقد رواه في الينابيع.

فهؤلاء جميعاً قد رووا الحديث في كتبهم فإما انهم ليسوا من أهل العلم وإما ان ابن تيمية كذب عليهم؛ وإما ان أهل العلم لم يتفقوا أصلاً في هذا الحديث ومن ثم يكون ابن تيمية كاذباً أيضاً.

فضلاً عن ذلك فقد اعتمد ابن تيمية طريقة شيطانية ماكرة، فقد مكر في الجمع بين سبب نزول الآية المباركة في علي بن أبي طالب عليه السلام، مع هذا الحديث الذي ينص على نزول الملائكة لنصرته ليرد الآية عن علي عليه السلام

ص:86


1- المستجاد للقاضي التنوخي: ص 1.
2- تخريج أحاديث الاحياء للعراقي: ج 7، ص 399؛ الابتلاء سنة الهية لعلي سباط : ج 6، ص 10؛ سبيل المستبصرين: ج 16، ص 9.
3- الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 294.
4- ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 275، الباب الحادي والعشرون.

حينما جعل سبب النزول محصوراً في نزول جبرائيل وميكائيل ليلة المبيت على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس في قيام علي عليه السلام في فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه كي ينصرف ذهن القارئ أو السامع إلى أن هذه الآية ليست من الآيات التي تتحدث عن فداء علي للنبي بنفسه، فضلاً عن نفي الحادثة من الأصل، لكن فات على ابن تيمية أن هذا المكر لا يصمد أمام مكر الله تعالى بالذين كذبوا بآيات الله والذين يصدون عن سبيله فسرعان ما يفضحهم ويخزيهم في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

ثانياً: اسماء الذين رووا من أهل العلم بالحديث والسير واتفاقهم على ان علياً عليه السلام هو الذي شرى بنفسه فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنام في مكانه في دار خديجة عليها السلام

إلاّ أنني سأورد هنا بعض أسماء أهل العلم بالحديث وهم يصرحون في اختصاص هذه المنزلة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وانه هو الذي شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله.

وسأورد هذه الأسماء مشتركة دون فصل بينها لكثرتها وأكتفي منها باثني عشر اسماً.

ألف. روى الشيخ الطوسي رحمه الله عن أنس بن مالك قال: لما توجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغار ومعه أبو بكر، أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام، أن ينام على فراشه ويتوشح ببردته، فبات علي (عليه السلام) موطنا نفسه على القتل، وجاءت رجال قريش من بطونها يريدون قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما أرادوا أن يضعوا عليه

ص:87

أسيافهم لا يشكون أنه محمد (صلى الله عليه وآله) فقالوا: أيقظوه ليجد ألم القتل ويرى السيوف تأخذه، فلما أيقظوه ورأوه عليا (عليه السلام) تركوه وتفرقوا في طلب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأنزل الله (عز وجل):

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ))1 .

باء. روى امام الحنابلة احمد بن حنبل في مسنده قائلاً: «حدثنا أبو بلج حدثنا عمرون بن ميمون قال: إني لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا: يا ابن عباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلو - بنا بين - هؤلاء.

قال، فقال ابن عباس: بل - أنا - أقوم معكم. قال: وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى قال: فابتدأوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا. قال فجاء ينفض ثوبه ويقول أف وتف وقعوا في رجل له عشر وقعوا في رجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم:

لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا يحب الله ورسوله قال فاستشرف لها من استشرف.

قال:

أين علي ؟.

قالوا: هو في الرحل يطحن. قال:

وما كان أحدكم ليطحن.

ص:88

قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد يبصر قال فنفث في عينيه ثم هز الراية ثلاثا فأعطاها إياه فجاء بصفية بنت حيي.

قال ثم بعث فلانا - أي أبا بكر - بسورة التوبة فبعث عليا خلفه فأخذها منه قال:

لا يذهب بها الا رجل مني وأنا منه.

قال: وقال لبني عمه:

أيكم يواليني في الدنيا والآخرة.

قال: وعلي معه جالس فأبوا فقال علي:

أنا أواليك في الدنيا والآخرة.

قال:

أنت وليي في الدنيا والآخرة.

قال فتركه ثم أقبل على رجل منهم فقال:

أيكم يواليني في الدنيا والآخرة.

فأبوا قال: فقال علي:

أنا أواليك في الدنيا والآخرة.

فقال:

أنت وليي في الدنيا والآخرة.

قال: وكان أول من أسلم من الناس بعد خديجة.

قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه فوضعه على علي

ص:89

وفاطمة وحسن وحسين فقال:

(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .

قال: وشرى علي نفسه، لبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه، قال وكان المشركون يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر وعلي نائم قال وأبو بكر يحسب أنه نبي الله قال فقال يا نبي الله قال فقال له علي إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه قال فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار، قال وجعل علي يرمى بالحجارة كما كان يرمى نبي الله وهو يتضور قد لف رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح، ثم كشف عن رأسه، فقالوا انك للئيم كان صاحبك نراميه فلا يتضور وأنت تتضور وقد استنكرنا ذلك.

قال وخرج بالناس في غزوة تبوك، قال، فقال له علي: أخرج معك ؟ قال فقال له نبي الله: لا، فبكى علي، فقال له:

أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا أنك لست بنبي انه لا ينبغي أن أذهب الا وأنت خليفتي.

قال وقال له رسول الله:

أنت وليي في كل مؤمن بعدي.

وقال:

سدوا أبواب المسجد غير باب علي.

ص:90

فقال:

فيدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره.

قال وقال:

من كنت مولاه فان مولاه علي(1).

أقول: والحديث يدل على جملة من الحقائق، منها:

1. انقسام الصحابة والتابعين في حب علي بن أبي طالب عليه السلام وبغضه فمنهم من كان يحبه ومنهم من كان يبغضه ولذا نجد: ان الرواية تصرح بمجيء مجموعة من هؤلاء مع عدم تصريح عوانة بن ميمون عن أسمائهم إلى ابن عباس ومناشدته بالذهاب معهم للرد على نفر من التابعين والصحابة الذين أبغضوا علياً فأخذوا ينالون منه بدرجة كبيرة يكشفها استياء ابن عباس الشديد لما سمعه منهم.

حينها لم يجد حبر الامة جواباً يليق بهؤلاء غير (التفل) فقال: أُف، وتُف!!!

2. عدم تصريح ميمون بن عوانة بأسماء الذين وقعوا في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يدل على أمور:

ألف. إمّا أنّهم من الشخصيات المعروفة في المجتمع ولهم باع في الدعوة إلى الإسلام (الأموي) ومن ثم يعد التصريح بهم كشفا عن حقائق إيمانهم فهم ببغضهم لعلي عليه السلام ووقوعهم فيه يكونون قد صرحوا بنفاقهم للملأ من

ص:91


1- مسند احمد بن حنبل: ج 1، ص 330-331.

الناس وهذا يخجل كثيراً من أشياعهم وأتباعهم ويفضحهم إذ يظهر كذبهم وتدجيلهم على الناس فضلاً عن تتبع أقلام المؤرخين لهذه المشاهد.

باء. وإمّا أنْ يكون هؤلاء الذين وقعوا في الإمام علي عليه السلام هم من اقطاب السلطة الحاكمة ومن ثم لا يستطيع التصريح بأسمائهم لما يترتب على ذلك من أخطار تلحق بميمون بن عوانة.

جيم. وإمّا أنهم مجهولو الهوية وهذا يكشف عن حقيقة خطيرة، إذ تدل هذه المشاهد على وجود عناصر تريد الفتك بالإسلام والنيل منه وبث الفرقة فيه، وهؤلاء إمّا مرتبطون باليهود - وإمّا بأعداء أهل البيت عليهم السلام لغرض تثقيف الناس على بغض علي بن أبي طالب عليه السلام، أو أقله كسر حاجز القداسة المستند إلى الحكم الشرعي في حب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، بل وأهل البيت عموماً، إلاّ أن حب علي بن أبي طالب عليه السلام كان هو الميزان والمحك الذي يكشف عن معدن إيمان المسلمين.

ولذلك: نجد أنّ عبد الله بن عباس أورد هذه الخصال العشر لغرض إعادة القلوب والعقول إلى جادة الإسلام المحمدي.

دال. وإمّا أنّ هؤلاء مجموعة من عامة الناس ليس لهم ارتباط بجهة ولم يكونوا من ضمن ما يعرف ب - «الطابور الخامس».

وعندها تكون المصيبة أعظم؛ لأن ذلك يدل على انتشار هذه الثقافة في المجتمع الإسلامي وتداولها فيما بين العامة مما يدفع بالامة إلى حافة الهاوية والسقوط ، ولذا وجد ابن عباس ان الواجب الشرعي يحتّم عليه ان يذكّر بهذه الحدود الشرعية التي أسسها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:92

3. من الملاحظ في الرواية: ان عبد الله بن عباس يؤسس لمنهج علمي في الاحتجاج مع هذا الفكر الجديد الذي بدأ ينتشر في المدينة المنورة، وهو عدم الدخول مع أولئك المنافقين في حوار أو جدال، والعلة في ذلك أنهم أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كان عدوّاً لله ورسوله فهؤلاء لا ينفع معهم أن يقال لهم: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» لأنهم من الأصل لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبماذا ينفع معهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟!

ولذلك: مثل هؤلاء كثير في المجتمعات وهم يتجددون بأشكال ووجوه جديدة إلا أن أفكارهم واحدة ومبادئهم واحدة وهي محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربة علي بن أبي طالب وشيعته.

وعليه: لم ينفع معهم القول بل لا يستحقون الرد.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً)1 .

مما جعل ابن عباس يعرض عنهم ولم يحدثهم بهذه الخصال العشر، بل نراه ذكرها لما رجع منهم، ولذلك لم يلقوا منه غير (التفل).

4. تدل الرواية على معرفة الصحابة باختصاص آية الشراء بعلي بن أبي طالب عليه السلام ودرايتهم بذلك، ولذا: فقد ابتدأ ابن عباس حديثه بقوله: (وشرى علي نفسه).

فهذه بعض ما يتعلق برواية أحمد بن حنبل عن ابن عباس، ونعود إلى

ص:93

أقوال أهل العلم بالحديث في روايتهم لفضيلة الغداء وآية الشراء.

جيم. روى الشيخ الصدوق رحمه الله تعالى عن الإمام الباقر عليه السلام انه قال:

«أتى رأس اليهود، علي بن أبي طالب عليه السلام عند منصرفه عن وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة».

فقال: يا أمير المؤمنين أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي. فقال عليه السلام:

يا أخا اليهود سل ما بدا لك.

- فكان مما سأله ان قال -: فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد من مرة ؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرة، والى ما يصير آخر أمرك ؟

- ونأخذ موضع الشاهد - فقال عليه السلام:

وأما الثانية يا أخا اليهود، فإن قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار - دار الندوة - وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف فلم تزل تضرب أمرها ظهر البطن حتى اجتمعت آراؤها على أن يندب من كل فخذ من قريش رجل، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها فيمضي دمه دهرا، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون

ص:94

فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار فأخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخبر، وأمرني ان اضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أقتل دونه، فمضى عليه السلام لوجهه واضطجعت في مضجعه...»(1).

دال. أخرج الحاكم النيسابوري (المتوفى سنة 405 ه ) في مستدركه عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس انه قال: «شرى علي نفسه، ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون رسول الله صلى الله عليه وآله وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله ألبسه بردة وكانت قريش تريد أن تقتل النبي صلى الله عليه وآله فجعلوا يرمون عليا ويرونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد لبس بردة وجعل علي رضي الله عنه يتضور فإذا هو علي فقالوا انك للئيم انك لتتضور وكان صاحبك لا يتضور ولقد استنكرناه منك. هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه وقد رواه أبو داود الطيالسي وغيره عن أبي عوانة بزيادة ألفاظ (2).

هاء. محمد بن مسعود العياشي (المتوفى سنة 320 ه ) روى عن ابن عباس انه قال: «شرى علي نفسه، ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نام مكانه...(3).

ص:95


1- الخصال للشيخ الصدوق: ص 367.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 4؛ وج 3، ص 133.
3- تفسير العياشي: ج 1، ص 101؛ تفسير فرات الكوفي: ص 342؛ خصائص الوحي المبين للحافظ ابن البطريق: ص 119.

واو. الحافظ النسائي صاحب السنن (المتوفى سنة 303 ه ) أخرج الحديث عن ابن عباس انه قال: «... وشرى علي نفسه فلبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نام في مكانه...»(1).

زاي. روى الشيخ الطوسي رحمه الله عن عبد الله بن جندب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن مجاهد، قال: فخرت عائشة بأبيها ومكانه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار.

فقال عبد الله بن شداد بن الهاد: وأين أنت من علي بن أبي طالب حيث نام في مكانه وهو يرى أنه يقتل ؟.

فسكتت - عائشة - ولم تحر جواباً(2).

وأضاف ابن شهر آشوب: (وشتان بين قوله:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ )3 .

وبين قوله:

(لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنا)4 .

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه يقوي قلبه ولم يكن مع علي.

وهو لم يصبه وجع، وعلي يرمى بالحجارة.

ص:96


1- خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام للنسائي: ص 64.
2- الأمالي للشيخ الطوسي رحمه الله: ص 447.

وهو مختف بالغار، وعلي ظاهر للكفار.

واستخلفه الرسول لرد الودايع؛ لأنه كان أمينا فلما أداها قام على الكعبة فنادى بصوت رفيع: يا أيها الناس هل من صاحب أمانة ؟ هل من صاحب وصية ؟ هل من عدة له قِبَلَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وكان في ذلك دلالة على خلافته وأمانته وشجاعته، وحمل نساء الرسول خلفه بعد ثلاثة أيام وفيهن عائشة فله المنة على أبي بكر بحفظ ولده، ولعلي المنة - على أبي بكر - في هجرته، وعلي ذو الهجرتين والشجاع البايت بين أربعمائة سيف، وإنما اباته على فراشه ثقة بنجدته فكانوا محدقين به إلى طلوع الفجر ليقتلوه ظاهراً فيذهب دمه بمشاهدة بني هاشم قاتليه من جمع القبايل)(1).

حاء. وروى الحافظ الهيثمي (المتوفى سنة 807 ه ) في مجمعه عن عمرو ابن ميمون انه قال: «وشرى علي نفسه لبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال: رواه احمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج الفزاري وهو ثقة وفيه لين(2).

وفضلاً عن أولئك فقد رواه أيضاً:

1. الحافظ الحسكاني (المتوفى في القرن الخامس الهجري)(3).

ص:97


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 334؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 19، ص 56؛ حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني: ج 1، ص 138.
2- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 120.
3- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 127.

2. خاتمة الحفاظ جلال الدين السيوطي (المتوفى سنة 911)(1).

3. الحافظ ابن كثير الدمشقي الأموي (المتوفى سنة 774 ه )(2).

4. الحافظ الموفق بن أحمد البكري المكي الحنفي الخوارزمي (المتوفى سنة 568 ه )(3).

5. ابو العباس محب الدين الطبري المكي الشافعي (المتوفى سنة 694 ه )(4).

وغيرهم كثير مما يدل على أمور منها:

ألف. أن آية الشراء هي من الآيات النازلة في علي بن أبي طالب عليه السلام حينما شرى بنفسه فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت في دار خديجة عليها السلام وان هذه الفضيلة من خصائص دار خديجة عليها السلام فضلاً عن نزول جبرائيل وميكائيل هذه الليلة لحراسة علي بن أبي طالب عليه السلام من القتل حينما مكر المشركون هذه الليلة لقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

(وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ )5 .

ص:98


1- الدر المنثور: ج 3، ص 180.
2- البداية والنهاية لابن كثير: ج 7، ص 374.
3- المناقب للموفق الخوارزمي: ص 126.
4- ذخائر العقبى: ص 87.

باء. ان هذه الحادثة ثابتة لعلي عليه السلام باتفاق أهل العلم بالحديث والسير وهي من المسلمات التي لا نقاش فيها عندهم الا من أعماه الله.

(وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً)1 .

جيم. ان دعوى ابن تيمية دعوى كاذبة وان هؤلاء العلماء قد اتفقوا حينما رووا هذا الحديث على كذب ابن تيمية وانه كسالفيه الذين اجتمعوا للوقوع في علي بن أبي طالب عليه السلام الا ان الفارق بين الحادثتين هو افتقادنا لعبد الله بن عباس الذي يجيبه بمثل ما أجاب أسلاف ابن تيمية حينما قال لهم: «أُف، وتُف».

دال. إنّ هذه المحاولات اليائسة في تضليل الناس عن الدين المحمدي والسنة النبوية وحرفهم إلى السنة الأموية لم تنتهِ بابن تيمية كما لم تبدأ منه كما مرّ بيانه، ولذلك نجد أنّ هذه المنقبة، أي: منقبة الفداء لم تكن هي الوحيدة التي تعرضت للنفي والتحريف والتضليل، بل جميع مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

إلا ان الفارق بين هذه المنقبة وغيرها هي ارتباطها بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما تبعها من اصطحابه - بأبي وأمي - أبا بكر ونزوله معه في الغار، ومحاولة الكثيرين ممن تشيعوا لبني أمية أو للخليفتين تعظيم هذا الخروج والدخول للغار كمحاولة واهية لشد انتباه الناس إليها وصرفهم عن عظم التضحية والفداء فضلاً عن صدق النية وخلوصها لنيل مرضاة الله تعالى

ص:99

فيما قامت به هذه النفس ليلة المبيت في دار خديجة عليها السلام وفي فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن هنا: نجد أنّ هذه الآية المباركة قد تعرضت لمحاربة شديدة وقاسية مستمرة منذ القرن الأول للهجرة النبوية والى يومنا هذا كما سيمر بيانه:

ثالثاً: محاربة آية الشراء منذ القرن الأول للهجرة والى يومنا هذا
اشارة

لم تزل تشهد هذه الآية المباركة الضربات التي يوجهها الحكام وأصحاب الأمراض القلبية منذ ان توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وظهور الفتن كأنها قطع من الليل المظلم مما دعا الإمام علياً عليه السلام وثلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدفاع عن القرآن والسنة النبوية وارشاد الناس إلى جادة القرآن فكان عليه السلام بين الحين والآخر يذكّر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسنته ويحثهم على التمسك بها كيلا يتبعوا السبل فتفرق بهم عن سبيله، فكان مما يذكّر به عليه السلام هو هذه الآية المباركة، التي جاءت ضمن مناشداته لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الحين والآخر، فكانت من بينها هذه المناشدة التي رواها كلٌّ من:

1 - أبي بكر احمد بن موسى بن مردويه المتوفى سنة 410 ه .

2 - الحافظ ابن عساكر الدمشقي (المتوفى سنة 571 ه ).

3 - الحافظ الموفق الخوارزمي (المتوفى سنة 568 ه ).

4 - ابن أبي حاتم العاملي (المتوفى سنة 664 ه ).

ص:100

5 - ابن جبر (المتوفى ق 7).

6 - المتقي الهندي (المتوفى سنة 975 ه ) وغيرهم.

فضلاً عن أن هذه (المناشدة) رواها الحافظ ابن مردويه بسندين:

الأول: حدثنا أبو بكر احمد بن محمد بن أبي دارم، قال حدثنا المنذر بن محمد، قال حدثني أبي، قال حدثني عمي، قال حدثني أبي، عن أبان بن تغلب، عن عامر بن واثلة.

والثاني: عن زافر بن سليمان بن الحارث بن محمد، عن أبي الطفيل عامر ابن واثلة قال: كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت علياً عليه السلام يقول:

بايع الناس أبا بكر وإنا والله، أولى بالأمر وأحق به، فسمعت وأطعت، مخافة أن يرجع الناس كفاراً، يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثم بايع أبو بكر لعمر وأنا والله، أولى بالأمر منه، فسمعت وأطعت؛ مخافة أن يرجع الناس كفارا، ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذن لا أسمع ولا أطيع، إن عمر جعلني في خمس نفر أنا سادسهم. لأيم الله، لا يعرف لي فضل في الصلاح ولا يعرفونه لي كما نحن فيه شرع سواء. وأيم الله، لو أشاء أن أتكلم ثم لا يستطيع عربهم ولا عجمهم ولا المعاهد منهم ولا المشرك أن يرد خصلة منها.

ثم قال:

أنشدكم الله أيها الخمسة، أمنكم أخو رسول الله (صلى الله عليه

ص:101

وآله) غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد له أخ مثل أخي المزين بالجناحين، يطير مع الملائكة في الجنة ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد له عم مثل عمي حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد له ابن عم مثل ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، سيدة نساء هذه الامة ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد له سبطان مثل الحسن والحسين سبطي هذه الامة، ابني رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد قتل مشركي قريش غيري ؟ قالوا: لا. قال: أمنكم أحد وحد الله قبلي ؟

قالوا: لا. قال:

ص:102

أمنكم أحد صلى القبلتين غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد أمر الله بمودته غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد سكن المسجد يمر فيه جنبا غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد ردت عليه الشمس بعد غروبها حتى صلى العصر غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قرب إليه الطير فأعجبه، فقال: صلى الله عليه وآله وسلم اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير صلى الله عليه وآله وسلم، فجئت وأنا لا أعلم ما كان من قوله، فدخلت فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: «والي يا رب، والي يا رب» غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أفيكم أحد كان أقتل للمشركين عند كل شديدة تنزل برسول الله مني ؟

قالوا: لا.

ص:103

قال:

أفيكم أحد كان أعظم عناء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مني حتى اضطجعت على فراشه، ووقيته بنفسي وبذلت مهجتي، غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أفيكم أحد كان يأخذ الخمس غيري وغير زوجتي فاطمة ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد كان له سهم في الخاص وسهم في العام غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أفيكم أحد يطهره كتاب الله غيري حتى سد النبي أبواب المهاجرين وفتح بابي إليه حتى قام إليه عماه: حمزة والعباس فقالا: يا رسول الله، سددت أبوابنا وفتحت باب علي ؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «ما أنا فتحت بابه ولا سددت أبوابكم، بل الله فتح بابه وسد أبوابكم».

قالوا: لا. قال:

أفيكم أحد تمم الله نوره من السماء حين قال:

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) غيري ؟

قالوا: اللهم لا. قال:

أفيكم أحد ناجى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ست عشرة مرة غيري حين قال:

ص:104

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً )1 .

قالوا: اللهم لا. قال:

هل فيكم أحد ولي غمض رسول الله غيري ؟

قالوا: اللهم لا. قال:

أفيكم أحد آخر عهده برسوله (صلى الله عليه وآله) حين وضعته في حفرته غيري ؟

قالوا: لا(1).

والحديث الشريف فيه دلالات كثيرة لا يسع المقام بيانها الا أنني أقول:

من الملاحظ أن الإمام علياً عليه السلام قد تحمل من هذه الامة من الجهد والعناء ما يعجز البيان عن وصفه فضلاً عن سلوك هذه الامة العناد في قبول نهج القرآن والسنة المحمدية منذ ان قبض صاحبها صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك: ليس من المستغرب ان يُحارب القرآن والسنة والحال كما بينه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام؛ وليس من المستغرب أيضاً أن نقرأ في المصادر الإسلامية استمرار هذه المحاربة إلى وقتنا الحاضر.

ص:105


1- مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام لأبي بكر بن مردويه الأصفهاني: ص 128، الأحاديث 161-162؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 42، ص 435؛ مناقب أمير المؤمنين لموفق الخوارزمي: ص 315؛ الدر النظيم لابن أبي حاتم: ص 331؛ نهج الإيمان لابن جبر: ص 529؛ كنز العمال للهندي: ج 5، ص 726.

ولكن فلنعد إلى القرن الأول للهجرة ولننظر كيف حوربت هذه الآية:

ألف. بذل معاوية آلاف الدراهم لتحريف نزول الآية

يروي ابن أبي الحديد المعتزلي عن أبي جعفر الإسكافي انه قال: «وقد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)1 .

وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ ) .

فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل، وروى ذلك.

قال - أي أبو جعفر الاسكافي -: وقد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي عليه السلام، وعاقبوا على ذلك الراوي له، حتى إن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه، فيقول: عن أبي زينب.

وروى عطاء، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: وددت أن أترك

ص:106

فأحدث بفضائل علي بن أبي طالب عليه السلام يوماً في الليل، وأن عنقي هذه ضربت بالسيف.

قال - أبو جعفر -: كالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكن في الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة، لانقطع نقلها للخوف والتقية من بني مروان مع طول المدة، وشدة العداوة، ولولا أن لله تعالى في هذا الرجل سراً يعلمه من يعلمه لم يرو في فضله حديث، ولا عرفت له منقبة ألا ترى أن رئيس قرية لو سخط على واحد من أهلها، ومنع الناس أن يذكروه بخير وصلاح لخمل ذكره، ونسي اسمه، وصار وهو موجود معدوماً، وهو حي ميتا!»(1).

والحديث لا يحتاج إلى تعليق فهو واضح الدلالة فيما صنعه أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في محاربتهم للقرآن والسنة النبوية.

فضلاً عن ان الخوارج يسمون أنفسهم بالشراة لاعتقادهم ان الآية فيهم(2) ، والفضل في ذلك يعود لمعاوية بن أبي سفيان.

ص:107


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 73. الغارات للثقفي: ج 2، ص 841. شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 132. البحار للمجلسي: ج 33، ص 215.
2- الشراة: بالضم، الواحد شار، سمعوا بذلك لقولهم إنا شرينا في طاعة الله، أي: بعناها بالجنة؛ خزانة الأدب للبغدادي: ج 5، ص 351. وقال ابن منظور: الشُراة: الخوارج، لأنهم غضبوا ولجوا، وأما هم فقالوا نحن الشراة لقوله عزّ وجل:(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ )؛ أي: يبيعها ويبذلها في الجهاد وثمنها الجنة؛ لسان العرب: ج 14، ص 429؛ الموسوعة العربية العالمية، مادة الخوارج: ص 11.
باء. تعمد ابن تيمية الكذب على العلماء والقراء في صرف الآية عن علي بن أبي طالب عليه السلام

لقد تعمد ابن تيمية الكذب على العلماء في صرف الآية عن علي بن أبي طالب عليه السلام معتمداً أسلوب المكر في جمع حادثة مبيت الإمام علي في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه مهاجراً مع حديث المؤخاة بين جبرائيل وميكائيل ونزولهما في ليلة المبيت في دار خديجة عليها السلام - كما مر بيانه - كي يوهم القارئ ان الآية لا تخص علي بن أبي طالب ولا شأن لها بتلك الحادثة. فضلاً عن تثقيف القراء على ثقافة التسقيط والتشهير بطائفة كبيرة من المسلمين لا ذنب لهم إلا موالاتهم لعلي بن أبي طالب عليه السلام وحبهم له وهذا ما لا يؤمن به ابن تيمية الذي تتبع فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام فحاربها في منهاج السنة الأموية بأشد مما قام به حكام بني أمية.

جيم. منهج الألباني في دفع الآية عن علي عليه السلام

يبتكر الألباني منهجاً جديداً في التعامل مع فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام يختلف عما اعتمده اسلافه الماضون في التعامل مع هذه الفضائل.

والمنهاج الجديد يعتمد على قذف الرواية بالوضع دون أن يعطي سبباً علمياً لذلك مما يجعل المتطفلين على العلم والذين أذهب الله ببصيرتهم يتسارعون لحمل كلام الألباني وحكمه في الرواية دون الوقوف على الدراية.

ومثاله: ما نحن بصدده، فقد أورد الألباني حديث المؤاخاة بين جبرائيل وميكائيل ونزولهما في دار خديجة ليلة شرى بنفسه أمير المؤمنين علي بن أبي

ص:108

طالب عليه السلام فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

في السلسلة الضعيفة فيصدر حكمه على الحديث مباشرة فيقول: (موضوع) دون أن يبين العلة في الوضع.

ثم يختم الحديث بحكم آخر فيقول: «لم تتم دراسة الحديث»(1)!!

والسؤال المطروح: كيف يكون الحديث (موضوعاً) وهو (لم تتم دراسته)؟!!

فلا ندري أي منهج هذا الذي يسير عليه الألباني في استنباط الأحكام في الأحاديث أهو الهوى أم العمى، أم السير على منهاج السنة الأموية ؟!.

رابعاً: الشبهة الحلبية ومخالفتها للقرآن والسنة
اشارة

وعوداً على بدء فيما أورده الحلبي (المتوفى 1044 ه ) في سيرته من شبهة عقائدية وتاريخية حول مبيت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه من مكة فقال - بعد أنْ قدّم قول إمامه ابن تيمية الذي مرّ ذكره وزيفه فاعقبه بزيف آخر - قائلاً: «وأيضاً قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة والآية المذكورة في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق، وقد قيل إنها نزلت في صهيب (رضي الله عنه) لما هاجر النبي كما تقدم لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه صلى الله عليه - وآله - وسلم قال لعلي ما ذكر وعليه فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه - وآله - وسلم واضحاً ولا مانع من

ص:109


1- السلسلة الضعيفة للألباني: ج 10، ص 4946.

تكرار نزول الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه - وآله - وسلم وفي حق صهيب بمعنى اشترى نفسه بماله ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية لان الحكم يكون للغالب»(1).

أقول:

وهذه الأسطر القليلة التي تضمنت كلام الحلبي احتوت على مجموعة شبهات وأباطيل في آن واحد وإن كان محور الكلام يدور حول مبيت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولكي نُذهب بهذا الزّبد جُفاءً فقد قمت بإفراد هذه الشبهات كي تأخذ ما يناسبها من ردود فكانت كالآتي:

1. رد شبهة، حصول الطمأنينة لعلي عليه السلام بقول الصادق له، لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم

ولعمري لقد أراد الحلبي أن يذم فمدح، إذ إن حصول الطمأنينة لعلي عليه السلام لا يتحقق ذلك إلا بإيمانه الراسخ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان في قلبه مقدار ذرة من الشك - والعياذ بالله - لما حصلت له الطمأنينة، وهو الصدّيق حقاً.

إلا إننا نفرق بين الطمأنينة التي قصدها الحلبي في عدم حصول الضرر عليه، وبين الطمأنينة التي نؤمن بها وهي سلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المبيت في فراشه، والتغطي ببرده الأخضر كي يعتقد القوم أنه

ص:110


1- السيرة الحلبية: ج 2، ص 192.

صلى الله عليه وآله وسلم ما زال في فراشه نائماً.

نعم: لقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام مطمئناً، ولكن ليس من عدم حصول المكروه، وإنما كان اطمئنانه بسلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا قدم نفسه لأجل تحقيق هذه السلامة.

ولذا نراه يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن ذكر له أن القوم يمكرون به وهم عازمون على قتله كما أخبره جبرائيل وهو محتاج إلى أن ينام علي في مكانه فكان أول ما سأل عنه علي عليه السلام بعد أن سمع هذا الكلام ان قال:

«أو تسلم في مبيتي هناك»؟.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«نعم».

فتبسم علي ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً(1).

فهذا هو الاطمئنان الذي خالج قلب أمير المؤمنين عليه السلام ولذا فداه بنفسه.

2. رد شبهة قول الحلبي: (فلم يكن فيه فداء بالنفس)

بمعنى: أن تصديق الإمام علي عليه السلام بقول رسول الله (لم يصلك مكروه) جعله ينام في مكانه ومن ثم لم يكن فيه فداء بالنفس.

ص:111


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 158؛ الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص 115.

أقول: فضلاً عما مرّ في الفقرة السابقة الا انني أضيف هنا ما يأتي:

ألف. لم يقدم الحلبي دليلاً واحداً على أن تصديق الإمام علي عليه السلام بكلام رسول الله كان خاصا بهذه الجملة تحديداً، ولا نعلم كيف توصل إلى معرفة ما يدور في نفس أمير المؤمنين عليه السلام في تلك اللحظات التي لم يكن فيها عليهما مطّلع غير الله سبحانه وتعالى.

باء. لم يذكر الحلبي حينما أطلق هذه الشبهة الوقت الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بأنه «لن يخلص إليك شيء تكرهه» أفي أول كلامه مع علي عليه السلام كان أم في آخره ؟!

فان كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر علياً عليه السلام في ليلة المبيت في أول كلامه كأن قال له: (لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم فنم في مكاني وقد أخبرني جبرئيل بأنهم يريدون قتلي) فهذا يحتاج إلى بينة يلزم من الحلبي تقديمها كي نصدقه بأن علياً أول ما سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لن يصله مكروه، ولذا كان مطمئناً لأنه عرف ان نفسه لن يصيبها مكروه، وبما ان الحلبي لم يقدم بينة على ذلك فقوله ساقط ، وفيه افتراء على علي بن أبي طالب عليه السلام؛ لأنه نسب إليه ما لم يكن واقعاً.

وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر علياً بأنه يكون سالماً بعد أن أخبره بحديث جبرائيل من اجتماع القوم في دار الندوة وعزمهم على قتله وتفريق دمه بين القبائل وان جبرائيل طلب منه ان لا ينام هذه الليلة بفراشه وان يخرج من الدار، وإن القوم قد أحاطوا بدار خديجة فيلزم أن يكون

ص:112

عليٌّ في فراشه كي يتمكن من خداعهم فيخرج من دار خديجة مهاجراً؛ فهذا عين الفداء والتضحية؛ لأنه قبل بفداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يسمع منه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لن يصله مكروه، فضلاً عن ذلك فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عرض على علي عليه السلام ذلك احتاج أن يسمع رأيه، ويرى قبوله أو رفضه، فعلي عليه السلام هنا مخير وليس مجبراً على المبيت، فإن قبل علي ان ينام لزم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكافئه، أو على الأقل يبين له ما سيحدث له؛ وان كان جواب الإمام علي الرفض فهل ينفع عندئذ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

«لن يخلص إليك شيء تكرهه».

وهل سيكون للاطمئنان بسلامة النفس وجود، أو أي أثر.

وعليه:

إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ابتدأ القول بالاطمئنان قبل أن يخبر علياً بما يجري عليه فهذا مخالف للخلق النبوي، لأن النبي لا يزج بأحد في الهلاك والقتل وتحمل ضربات السيوف قبل ان يسمع منه رأيا، فمن يدري لعله يرفض، وعندها لا ينفع تطمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء.

وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر علياً (بأنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم) كان بعد قبوله عليه السلام العرض في أن ينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه فيه سلامة رسول الله صلى الله

ص:113

عليه وآله وسلم، فحينها يكون الإمام قد قدم نفسه فداء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآثر حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حياته. وبذلك يندفع زيف قول الحلبي (لم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة).

فضلاً عن أن هناك من الروايات ما يدل على أن النبي الأكرم قد أخبر علياً (بأنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم) كان بعد أن أخبره بسلامته من المشركين وسيتمكن من الهجرة إلى المدينة، عندها سجد الإمام علي عليه السلام لله شكراً وبعد أن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه هذا الصنيع والشكر لله قام فأخبره (بأنه لن يصله منهم شيء يكرهه).

فأما ابن إسحاق ومن جاء بعده فقد روى الحادثة بلفظ :

1 - فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانهم قال لعلي ابن أبي طالب:

«نم على فراشي وتسبح ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه».

وهنا: كان تطمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب منه النوم في مكانه وبعد اخباره بما ينتظره خلف الباب(1).

2 - وأما الشيخ الطوسي رحمه الله فقد روى عن عمار بن ياسر وأبي رافع قائلا: (فلما أخبره جبرائيل بأمر الله في ذلك ووحيه، وما عزم له من

ص:114


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج، ص 99؛ تفسير الثعلبي: ج 2، ص 126.

الهجرة، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام وقال له:

«يا علي إن الروح هبط عليّ بهذه الآية آنفا، يخبرني أن قريشاً اجتمعوا على المكر بي وقتلي، وأنه أوحى إليّ ربي عزّ وجل أن أهجر دار قومي، وأن أنطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، وإنه أمرني أن أمرك بالمبيت على ضجاعي، أو قال: مضجعي، ليخفى بمبيتك عليه أثري فما أنت قائل، وما صانع ؟».

فقال علي عليه السلام:

«أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي الله ؟».

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«نعم».

تبسم علي عليه السلام ضاحكا، وأهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً بما أنبأه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سلامته، وكان علي صلوات الله عليه أول من سجد لله شكرا، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رفع رأسه قال له:

«امض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكن فيه كمسرتك، واقع منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلا بالله».

قال: وإن أُلقِيَ عليك شبه مني، أو قال: شبهي، قال: إن - بمعنى نعم - قال:

ص:115

«فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا بن عم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل، فصبرا صبرا، فإن رحمة قريب من المحسنين»)(1).

3. رد شبهة قول الحلبي: (والآية المذكورة في سورة البقرة هي مدنية باتفاق)

أقول: لم يفتأ هؤلاء الذين لديهم مشكلة قلبية مع الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن يعمدوا إلى التدليس في الروايات والحيلة في تقديم الأقوال لغرض تضليل المسلمين ودفعهم عن معرفة فضائل الإمام علي عليه السلام وكأنهم أرادوا حجب نور الشمس بالمنخل.

فهنا يعمد الحلبي إلى تقديم إشكاله بالاحتيال على الآية المباركة فيقول: (الآية في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق) فيوهم القارئ بأن الضمير في «هي» يعود للآية لأنه ابتدأ بها وليس للسورة فيجعلها في نفس الحكم من حيث تحديد مكان نزولها، ثم يؤكد الاحتيال على القارئ فيقول باتفاق، أي: باتفاق أهل الاختصاص بعلوم القرآن، مما يجعل القارئ مطمئناً بأن الآية لا علاقة لها بعلي ابن أبي طالب عليه السلام لأنها مدنية وليلة المبيت وقعت في مكة وفي دار خديجة عليها السلام.

ص:116


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 466؛ البحار للمجلسي: ج 19، ص 61.

وهذه الحيلة واهية لأنها مخالفة للمنهج العلمي فضلاً عن الأخلاقي وذلك لما يأتي:

ألف. أما كون سورة البقرة مدنية فهذا لا خلاف فيه، ولكن نحن بصدد الحديث عن آية الشراء التي نزلت في ليلة المبيت والفداء والتضحية ولسنا في صدد الحديث عن سورة البقرة وحكمها من المدني والمكي، ولذا كان من الأمانة العلمية - إن وجدت - الحديث عن حكم الآية وليس السورة.

باء. أما ما اتفق عليه أهل الاختصاص في علوم القرآن كالزركشي والسيوطي فقد نقلا عن أبي القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في كتابه التنبيه على فضل علوم القرآن، أنه قال: (من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، ثم ما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلاً، وما نزل نهاراً، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السورة المكية، والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مجملا، وما نزل مفسرا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه، فقال بعضهم: مدني، هذه خمسة وعشرون وجها، من لم يعرفها ولم يميز بينها لم يحل له أن يتكلم في

ص:117

كتاب الله تعالى)(1).

ولا أدري كيف استحل الحلبي الكلام فجعل الآية في حكم المدني وقد نزلت قبل وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، بل كيف استحل التدليس والتضليل.

جيم. قال السيوطي: «إعلم أن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة أشهرها: أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها سواء بمكة أم بالمدينة عام الفتح أو عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار.

أخرج عثمان بن أبي سعيد الرازي بسنده إلى يحيى بن سلم قال ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل ان يبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فهو من المكي، وما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني.

الثاني: ان المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة.

الثالث: أن المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة، والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة(2).

والسؤال المطروح: أعَلِمَ الحلبي هذه الأوجه أم أنه كان يجهلها؟ فان علمها فلماذا يخالف المنهج العلمي ويتبع هواه، ولم يخشَ الله ؟ وان لم يعلمها فلماذا ينطق بما لا يعلم ويتدخل بما ليس له أهلاً، فضلاً عن تضليل القراء.

ص:118


1- البرهان للزركشي: ج 1، ص 192؛ الاتقان في علوم القرآن للسيوطي: ج 1، ص 34.
2- الاتقان في علوم القرآن للسيوطي: ج 1، ص 34.

إذن: فآية الشراء مكية حسبما جاء به أهل الاختصاص من تلك الأوجه في النزول، وإن كانت ضمن سورة مدنية، وهذا خلاف ما يدعيه الحلبي ظلماً وزوراً.

4. رد شبهة قول الحلبي (وقد قيل انها نزلت في صهيب)

أما هذه الشبهة التي نطق بها الحلبي، أي: إن آية الشراء نزلت في صهيب فلقد تتبعها العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي (زاد الله في توفيقه) - نوردها تيمناً - ولنا إضافة بعدها، فقال: (لقد رووا: انه لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخروج إلى الغار أرسل أبا بكر مرتين أو ثلاثا إلى صهيب فوجده يصلي، فكره أن يقطع صلاته، وبعد أن جرى ما جرى عاد صهيب إلى بيت أبي بكر، فسأل عن أخويه: النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، فأخبروه بما جرى. فأراد الهجرة وحده. ولكن المشركين لم يمكنوه من ذلك حتى بذل لهم ماله، فلما اجتمع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قباء قال صلى الله عليه وآله وسلم: ربح صهيب ربح صهيب، أو ربح البيع، فأنزل الله: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله الخ. وألفاظ الرواية مختلفة كما يعلم بمراجعة الدر المنثور للسيوطي وغيره ويكفي أن نذكر أن بعضها يذكر: أن الآية نزلت لما أخذ المشركون صهيبا ليعذبوه، فقال لهم: اني شيخ كبير لا يضر أمِنْكُم كنت، أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتدعوني وديني ؟ ففعلوا. ورواية أخرى تذكر القضية بنحو يشبه ما جرى لأمير المؤمنين حين هجرته، وتهديده إياهم ورجوعهم عنه ؟ فراجع. ولكنها قصة لا تصح.

ص:119

أولا: لأن ارسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر إلى صهيب ثلاث مرات في ظرف كهذا غير معقول، لاسيما وهم يدعون: أن قريشا كانت تطلب أبا بكر كما تطلب النبي، وجعلت مئة ناقة لمن يأتي به، وان كنا نعتقد بعدم صحة ذلك كما سنرى.

ولكن قريشا ولا شك إنما كانت تهتم في أن تستدل على النبي من خلال أبي بكر. أضف إلى ما تقدم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخبر أحدا بهجرته تلك الليلة، بل يروون: أنه صلى الله عليه وآله وسلم انما صادف أبا بكر، وهو في طريقه إلى الغار.

ثانيا: إن كلامه معه وهو في الصلاة، واخباره بالامر، لا يوجب قطع صلاة صهيب، إذ باستطاعته أن يلقي إليه الكلام ويرجع دون أن يقطع عليه صلاته، كما أنه يمكن أن ينتظره دقيقة أو دقيقتين حتى يفرغ من صلاته، فيخبره بما يريد.

ويمكن أيضا أن يوصي أهل بيته أن يبلغوه الرسالة التي يريد ابلاغها إلا إذا كان لا يثق بهم، أمّا أن يدّعي: أن أبا بكر كان بحيث لا يدري كيف يتصرف، أو أنه كان يرى حرمة إلقاء الكلام ليسمعه المصلي، فكلاهما غير محتمل في حقه، أو لا يرضى محبوه بنسبته إليه على الأقل، وباقي الفروض الآنفة تبقى على حالها. هذا فضلاً عن هذه الصدفة النادرة فإنه يأتيه مرتين أو ثلاثا، وهو لا يزال يصلي!!

ثالثا: لماذا يهتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصهيب خاصة، ويترك

ص:120

من سواه من ضعفاء المؤمنين، الذين كانت قريش تمارس ضدهم أقسى أنواع التعذيب والأذى، فلا يرسل إليهم، ولو مرة واحدة، ولا نقول ثلاث مرات ؟

وهل هذا ينسجم مع ما نعرفه من عدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعطفه الشديد على أمته ؟

إلا أن يقال: لعل غير صهيب كان المشركون يراقبونه، أو أن صهيبا كان أشد بلاء من غيره، إلى غير ذلك من الاحتمالات التي لا دليل عليها، ولا شاهد لها.

رابعا: اننا نجد بعض الروايات تقول: إن أبا بكر - وليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم - هو الذي قال لصهيب: ربح البيع يا صهيب وذلك في قضية أخرى لا ربط لها بحديث الغار والبعض يذكر القضية، ولكنه لا يذكر نزول الآية فيه.

خامسا: إن الآية إنما تمدح من يبذل نفسه في مرضاة الله، لا أنه يبذل المال في مرضاته، ورواية صهيب ناظرة إلى الثاني لا الأول.

سادسا: قد قلنا آنفا: إن صهيبا لم يكن الوحيد الذي بذل ماله في سبيل دينه، فلماذا اختص هذا الوسام به دونهم ؟!

سابعا: انهم يذكرون: أنه لم يتخلف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد من المهاجرين باستثناء من حبس أو فتن، إلا عليا وأبا بكر.

ثامنا: إن الرواية القائلة بأنَّ صهيبا كان شيخا كبيرا لا يضر المشركين، أكان معهم أم مع غيرهم. لا تصح، لأن صهيبا قد توفي سنة ثمان أو تسع

ص:121

وثلاثين وعمره سبعون سنة، فعمره يكون حين الهجرة واحدا أو اثنين وثلاثين سنة، فهو قد كان في عنفوان شبابه، لا كما تريد أن تدعيه هذه الرواية المفتعلة. هذا كله، عدا تناقضات روايات صهيب. وأن عددا منها لا يذكر نزول الآية في حقه. كما أنها عموما إما مروية عن صهيب نفسه، أو عن تابعي لم يدرك عهد النبي، كعكرمة، وابن المسيب، وابن جريح، وليس هناك سوى رواية واحدة وردت عن ابن عباس الذي ولد قبل الهجرة بثلاث سنين فقط . ويجب أن يعلم: أن صهيبا كان من أعوان الهيئة الحاكمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وممن تخلّف عن بيعة أمير المؤمنين، وكان يعادي أهل البيت عليهم السلام. فلعل المقصود هو مكافأته على مواقفه تلك، بمنحه هذه الفضيلة الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام، فيكون هؤلاء قد أصابوا عصفورين بحجر واحد حينما يزين لهم شيطانهم أن عليا يخسر وخصومه يربحون)(1). انتهى كلامه (زاد الله في توفيقه) -.

وأقول - فضلاً عما أورده السيد العلامة -:

1. إنّ الآية ان كانت قد نزلت في صهيب وأنّها مدنية فهذا يدل على انها لم تكن نازلة في صهيب لان الحادثة وقعت في مكة فكيف تكون في صهيب ؟!

وعليه: أما أنّها مدنية كما أدّعى الحلبي وهي بهذا تكون غير مخصوصة بصهيب وان قوله انها نزلت في صهيب كذب وافتراء.

ص:122


1- الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم للسيد جعفر مرتضى العاملي: ج 4، ص 40-44.

واما انها مكية وقد ادّعى الحلبي بأنها مدنية وهذا كذب أيضاً.

2. إن الحلبي قد تراجع عن نفي الآية عن أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام كما تراجع عن نزولها في صهيب وهذا تعثر في المنهج فضلاً عن فقدانه عند الحلبي، بل أريد من ذلك بث الشبهات في الأذهان وحينها تحتاج إلى ازالة، ان لم يتناقلها الناس فيما بينهم ويثقفون أبناءهم عليها.

ولذلك: تراجع عن ادعائه.

فقال: «لكنه في الإمتاع لم يذكر انه صلى الله عليه - وآله - وسلم قال لعلي ما ذكر، وعليه: فيكون فداؤه بنفسه واضحاً».

3. وفي تراجعه عن كونها نزلت في صهيب انه قال: «ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق صهيب»

ونسي ان يأتي بدليل يثبت تكرار نزولها في الثلاثة، فضلاً عن أن الآية تتحدث عن عقد يتكون من أربعة أركان:

ألف. البائع.

باء. الثمن.

جيم. المثمن.

دال. المشتري.

فإن كان العقد الذي نصت عليه الآية يخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأن يكون البائع رسول الله فما هو المثمن ؟، أي: الشيء الذي باعه

ص:123

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما هو الثمن الذي كان مقابل هذا الشيء الذي باعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟، ومن هو المشتري ؟ فهل كان خروجه من مكة تنطبق عليه هذه الأركان ؟ فهذا ما لم يقل به أحد.

وان كان العقد يخص صهيباً على أنه هو البائع فان المثمن المال الذي قدمه للمشركين، وان الثمن سلامته من الصلب، وان المشتري هم المشركون، وهذا خلاف نص الآية المباركة.

وان كان العقد مع الامام علي عليه السلام بكونه البائع وإن المشتري هو الله سبحانه، فإن المثمن هو النفس حينما قدمها للقتل وهو نائم في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبه يتحقق الطرف الأول من العقد أي البائع والشيء الذي يعرضه للبيع وهو قوله تعالى:

(مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ )1 .

أي: بائع يبيع نفسه فان الثمن الذي يقدمه المشتري للبائع هو مرضاته، ولأن المشتري هو الله تعالى وهو المتكفل بالشريعة فحق على الله ان يكرم من يتقرب إليه بسلامة حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وان تحقق سلامة الحبيب أرجى عند المحب من سلامة البعيد عن المحب كصهيب؛ وهكذا كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كما دلت عليه سيرته العطرة فضلاً عما نطقت به النصوص المتضافرة.

1. قال عليه السلام:

ص:124

«إني والله لم أخالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قط ، ولم أعصه في أمر قط ، أقيه بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وترعد منها الفرائص، بقوة أكرمني الله بها، فله الحمد»(1).

2. وقال أمير المؤمنين عليه السلام:

«ما رددت على الله كلمة قط ، ولا خالفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شيء أفديه في المواطن كلها بنفسي، ولقد جليت الكرب العظيم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجدة أعطانيها ربي»(2).

3. وقال - بأبي وأمي -:

«لقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم إني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط ، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال وتتأخر فيها الأقدام، نجدة مني أكرمني الله بها»(3).

فكان نومه عليه الصلاة والسلام في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحداً من تلك المواطن العديدة التي وقى فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بنفسه فخلدها رب العزة في محكم كتابه تتلى آناء الليل وأطراف النهار ولو كره الكافرون.

ص:125


1- الأمالي للشيخ المفيد: ص 235.
2- مناقب الامام علي لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 2، ص 556.
3- نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام: ج 2، ص 171. الأمالي للصدوق: ص 703.

المبحث الخامس: من دار خديجة عليها السلام خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام مصطحباً علي بن أبي طالب عليه السلام

اشارة

لم يزل دار خديجة عليها الصلاة والسلام يحظى بأهم الأحداث النبوية التي شكلت مفاصل حركة الهداية ومحاربة الباطل ونشر التوحيد وقمع الشرك وأهله.

ولم تزل الكعبة - أعزها الله - موضع العناية الإلهية منذ خلق الله تعالى الأرض وخصها بالخليقة واختارها للخليفة فكان:

(أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً)1 .

ولأنه أول بيت وضع للناس، ولأنه مبارك، ولأن:

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ )2 .

اقتضت الضرورة الشرعية ان يكون هذا البيت على مرّ الدهور طاهراً من الرجز الذي يتبلور في الشرك ورموزه.

وعليه: كانت حركة إبراهيم واسماعيل عليهما السلام تتجه إلى تثبيت قواعد البيت وتطهيره وتهيئته للعاكفين والراكعين، والمناداة بالناس لحج البيت من استطاع إليه سبيلاً.

ص:126

ولأن المشرّع واحد سبحانه لا شريك له، فقد جاء النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لأداء تلك الوظيفة التي كلف بها إبراهيم واسماعيل عليهما السلام في تطهير البيت الحرام من رموز الشرك الوثني والطاغوتي.

فأما الوثني فكان تطهير الكعبة المشرفة من الأصنام والأوثان التي وضعت فوقها وفي داخلها، وأما الطاغوتي فهو تطهير العقول من عبادة الجبت والطاغوت وهو أهم من الأول لقوله سبحانه:

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )1 .

والملاحظ في عملية التطهير التي قام بها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بشقيها الوثني والطاغوتي هو استعانته بعلي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام متبعاً في ذلك حركة أبيه إبراهيم عليه السلام حينما انتدب ولده اسماعيل لهذه العملية فقد اختارهما الله تعالى في عملية البناء والتطهير ودعوة الناس إلى البيت الحرام.

وكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد انتدب لهذه الحركة النبوية في مجالاتها الثلاثة «البناء والتطهير، والدعوة» أخاه علي بن أبي طالب عليه السلام.

والملاحظ أيضاً: أن إبراهيم عليه السلام قدّم، لإتمام البناء ومن ثم التطهير، ولده إسماعيل فداءً للتوحيد الذي جعل البيت الحرام رمزاً من رموز

ص:127

إقامته في الأرض ودليلاً يستدل به الناس على وجود دين التوحيد، دين إبراهيم الخليل عليه السلام.

وكذا كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فقد قدم لإقامة الدين الذي هو خير الأديان ليس أخاه علياً فقط بل جميع أهل بيته عليهم السلام، لكن الفارق بين الفداءين لعظيم وعظيم.

كما دلت الآية المباركة:

(وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )1 .

فالفارق بيّنٌ وواضح بين أن يكون المقدم شخصاً واحداً، وبين أن يكون المقدم جميع الولد كما نص عليه ولده الإمام الحسن المجتبى عليه السلام قائلاً:

«ما منا إلا مسموم أو مقتول»(1).

وتلك صفحات التاريخ تصرخ بوجه من عميت عيناه عن الحقائق ان عترة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد مضوا إلى ربهم قتلاً وقرابين لبناء التوحيد، وتطهير العقول من الجبت والطاغوت وتنزيه البيت الحرام من الأصنام.

فكان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قد أعدّ لهذه العملية عدتها وزمانها فكان دار خديجة عليها السلام منطلقه وعودته كدليل واضح للامة

ص:128


1- كفاية الأثر للخزاز القمي: ص 228؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي: ج 2، ص 129؛ البحار: ج 27، ص 217.

ينادي في أبنائها: ان عملية التطهير وإقامة التوحيد تخرج من هذه الدار وإليه تعود على كرور الليالي والدهور، حتى يخرج من ولد فاطمة عليها السلام من يطهر الأرض ويملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجورا.

ولذا كانت هذه العملية التطهيرية من الشرك وتنقية بيت الله الحرام في مكة قد بدأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع علي عليه السلام وستنتهي حينما يمن الله سبحانه على الذين استضعفوا في الأرض بظهور مهدي آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ولأهمية هذه الحادثة فقد تضمنت جملة من المسائل منها:

المسألة الأولى: كيف وصلت الأصنام إلى بيت الله الحرام ونصبت على سطح الكعبة ؟

تعد عبادة الأصنام، التي هي نواة الشرك - والعياذ بالله - من الانحرافات العقائدية التي رافقت مجموعة من المجاميع البشرية على بقاع مختلفة من الأرض، فضلاً عن قدمها وتجذّرها في المجتمعات الشرقية، بوصفها محط بعث الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.

ولذا: يتناولها القرآن الكريم في معرض حديثه عن حال المجتمع البابلي الذي حكمه النمرود، ففي تلك الحقبة التي شهدت مختلف الانحرافات العقائدية المحاربة للتوحيد كعبادة النجوم والشمس والقمر والليل والنهار والنمرود وعبادة الأصنام التي بيّنها القرآن في عرضه لمعالجة إبراهيم عليه السلام هذه العقول المريضة وجهاده في محاربة أئمة الكفر فقام

ص:129

بتكسيرها إلا كبيرهم، أي كبير هذه الأصنام - والقضية مفصلة في كتب التفسير -.

إلاّ أن قدومها - أي الأصنام - إلى مكة بعد أن قام إبراهيم عليه السلام بانشاء مجتمع جديد قائم على الطهر والتوحيد وبناء رمز التوحيد وهو بيت الله الحرام، يعد أمراً ملفتا للانتباه، ويحتاج إلى توضيح وبيان كي يدرك القارئ ان البيت الحرام لم يزل يشهد المحاولات الكثيرة من المحاربة والانتهاك، وان عملية تطهيره منوطة بإبراهيم وآل إبراهيم عليهم السلام.

وعليه:

كان أول من أدخل هذا الانحراف العقائدي إلى مكة ودنس البيت الحرام هو عمرو بن يحيى فهو الذي جاء ب - (هبل) من أرض الشام حينما دخلها فوجد فيها قوماً يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأوثان التي أراكم تعبدون ؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها نستنصرها، فننصر، ونستسقي بها فنسقى، فقال: ألا تعطوني منها صنماً، فأسير به إلى أرض العرب، عند بيت الله الذي تفد إليه العرب ؟

فأعطوه صنماً يقال له هُبَل، فقدم به مكة، فوضعه عند الكعبة، فكان أول صنم وضع بمكة، ثم وضعوا به أساف، ونائلة، كل واحد منهما على ركن من أركان البيت، فكان الطائف(1) ، إذا طاف، بدأ بإساف، فقبله، وختم به.

ونصبوا على الصفا صنماً يقال له (مجاور الريح)، وعلى المروة صنماً

ص:130


1- الطائف: اسم فاعل، وهو مأخوذ من الطواف، أي الدوران حول بيت الله الحرام.

يقال له (مطعم الطير)، فكانت العرب إذا حجّت البيت، فرأت تلك الأصنام، سألت قريشاً وخزاعة، فيقولون: نعبدها لتقربنا إلى الله زلفى.

فلما رأت العرب ذلك اتخذتها أصناماً، فجعلت كل قبيلة لها صنماً يصلون له تقرباً إلى الله(1).

كما يزعمون وقد بين القرآن هذه الحقيقة بقوله تعالى:

(ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى )2 .

وقد بلغ عدد الأصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (360) صنماً، في مختلف الأشكال، والهيئات، والصور، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة وقصة إبراهيم عليهم السلام(2).

أما الطواف حول البيت الحرام: فإن العرب ما عدا قريشاً وما ولدت كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون؛ وهؤلاء يسمون ب - «الحلة»(3). وإن نساءهم لتطوف وهي بادية العورة(4).

ص:131


1- تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 307؛ مروج الذهب للمسعودي: ج 2، ص 254.
2- الأصنام للكلبي: ص 23.
3- تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 310؛ تفسير النيسابوري بحاشية الطبري: ج 9، ص 157.
4- أخبار مكة للأزرقي: ج 1، ص 115-117؛ لسان العرب: ج 11، ص 129، مادة (طوف)؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 1، ص 133.

فهذا حال البيت الحرام قبل مبعث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا كان من مفاصل حركة النبوة هو قيام النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بتطهير البيت الحرام من مظاهر الرجز الممثلة بوجود هذه الأصنام على سطح الكعبة وفي داخلها.

لكن كيف تمّ ذلك، وفي أي زمان ؟

المسألة الثانية: من دار خديجة عليها السلام خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصطحباً علياً عليه السلام لتكسير الأصنام قبل الهجرة
اشارة

تُعدّ حادثة تكسير الأصنام من الحوادث التي بلغت من الشهرة حد التواتر عند المحدثين والمؤرخين والمفسرين، وقد تناولها البخاري، ومسلم، واحمد، وأصحاب السنن، والمستدركات، في مصنفاتهم، فمنهم من رواها مجملاً، ومنهم من رواها مفصلاً، فضلاً عما احتوته مصنفات الامامية من أحاديث متضافرة في هذه الحادثة التي اقترن فيها اسم الإمام علي بن أبي طالب مع اسم رسول صلى الله عليه وآله وسلم.

الا ان الفارق بين هذه الروايات العديدة أي بين ما ترويه مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومدرسة السنّة والجماعة يكمن فيما يأتي:

1. ان هذه الروايات التي أخرجها أصحاب الصحاح لم تتناول فيما

ص:132

عرضته أي ذكر للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في جميع مراحل التطهير لبيت الله الحرام، في حين تلازم ذكر النبي والإمام علي عليهما السلام في كتب الإمامية.

2. ان هذه الأحاديث جميعها لم تلتفت إلى أن الحادثة قد وقعت لأكثر من مرة، ويمكن تقسيمها من حيث الوقوع الزمني إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى: ما قبل الهجرة، والمرحلة الثانية: في عام الفتح.

3. إن أصحاب الصحاح قد أغفلوا حادثة تكسير الأصنام في مرحلتها الأولى، أي قبل الهجرة، والظاهر - إن لم يكن من المؤكد - أنّ السبب يكمن في وجود علي بن أبي طالب عليه السلام كطرف ثانٍ في هذه العملية التطهيرية لبيت الله الحرام ومحاربة الشرك.

4. التعتيم على دور علي بن أبي طالب عليه السلام بشكل تام في المرحلة الثانية أي في فتح مكة، كما في صحيح البخاري ومسلم، وذلك يعود إلى:

ألف: أما لغرض حبس فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام ومنعها من الظهور.

باء: واما لقيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عملية التكسير ابتداءً ثم أمر علياً أن يقوم بتكسيرها من بعده فأغفل الرواة دور علي عليه السلام.

جيم: وإما لتفرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعملية التكسير في عام الفتح بمفرده ولم يشرك فيها أحداً.

ص:133

دال: وإما أنّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام هو الذي قام بتكسير الأصنام وحده وعلى يديه تم تطهير بيت الله الحرام، ومن ثمَّ لم يحتمل المبغضون لعلي عليه السلام هذه المنقبة الفريدة والخصيصة الخاصة فعمدوا إلى تهميش الحادثة في عام الفتح، أي القيام بأقل ما يمكن القيام به في مواجهة هذه الحادثة.

وعليه:

احتاج البحث إلى التفريق بين الوقوع الزمني للحادثة، كي نستدل على تكررها ومن قام بذلك، أرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمفرده، أم بانتادبه علياً لذلك واشراكه في الأمر، أم ان علياً انفرد به ؟

الحلقة الأولى: ما يدل على وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة دون تحديد السنة

1. يروي إمام الحنابلة في مسنده، والنسائي في سننه الكبرى، والحاكم في مستدركه، وغيرهم عملية تكسير الأصنام بألفاظ متفاوتة، إلاّ أنّها تجمع على وقوعها قبل الهجرة النبوية، وفي أوج المواجهة مع قريش كما سيأتي!

ففي مسند أحمد، ومصنف ابن أبي شيبة، وزوائد الهيثمي، عن علي عليه السلام انه قال:

«انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى اتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إجلس».

وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به فرأى مني ضعفاً فنزل وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: «اصعد على منكبي».

ص:134

قال: فصعدت على منكبيه. قال: فنهض بي، قال: فإنه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر، أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أقذف به.

فقذفت به فتكّسر كما تتكّسر القوارير، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس»(1).

2. ورواه النسائي في سننه الكبرى، والموصلي في مسنده، والطبراني في معجمه، والزيلعي في تخريجه عن المدائني، عن أبي مريم بلفظ آخر قال: قال علي - عليه السلام -:

انطلقت مع رسول الله حتى أتينا الكعبة، فصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكبي فنهض به علي، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ضعفي قال لي: اجلس فجلست، فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجلس لي، وقال لي: اصعد على منكبي.

فصعدت على منكبيه فنهض بي، فقال علي - عليه السلام -: انه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء، فصعدت على الكعبة

ص:135


1- مسند احمد بن حنبل، من مسند علي بن أبي طالب عليه السلام: ج 1، ص 84؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 6، ص 23؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، ص 534.

وعليها تمثال من صفر أو نحاس، فجعلت أعالجه لأزيله يمينا، وشمالاً، وقداما، ومن بين يديه، ومن خلفه، حتى استمكنت منه.

فقال نبي الله: أقذفه.

فقذفت به فكسرته، كما تكسر القوارير، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت، خشية أن يلقانا أحد(1).

3. ورواه ابن أبي قتيبة الكوفي (المتوفى سنة 235 ه ) في مصنفه، والحاكم النيسابوري (المتوفى سنة 405 ه ) في مستدركه، والخطيب البغدادي (المتوفى سنة 463 ه ) في تاريخه، والموفق الخوارزمي المتوفى سنة 568 ه ) في مناقبه وغيرهم بلفظ آخر:

قال علي - عليه السلام -:

«أنطلق بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى بي الكعبة، فقال: (إجلس) فجلست إلى جنب الكعبة، وصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكبي، ثم قال لي: (انهض بي» فنهضت به، فلما رأى ضعفي تحته قال: (اجلس).

فجلست فنزل عني وجلس لي فقال: يا علي اصعد على منكبي.

فصعدت على منكبه، ثم نهض بي رسول الله صلى الله عليه وآله

ص:136


1- السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 142؛ خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: ص 113، برقم 8507؛ مسند أبي يعلى الموصلي: ج 1، ص 251، برقم 292؛ تخريج الأحاديث للزيلعي: ج 2، ص 287، برقم 724؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 403.

وسلم، فلما نهض بي خيل إلي أني لو شئت نلت أفق السماء، فصعدت على الكعبة، وتنحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: (ألق صنمهم الأكبر صنم قريش).

وكان من نحاس، وكان موتودا بأوتاد من حديد في الأرض فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عالجه)، فجعلت أعالجه حتى استمكنت منه، فقال: (أقذفه).

فقذفته، ونزلت»(1).

والأحاديث الثلاثة تدل على أمور عديدة، منها:

1. أن عملية تكسير الأصنام كانت قبل الهجرة بدليل قول أمير المؤمنين عليه السلام - كما في مسند احمد -:

«فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية ان يلقانا أحد من الناس».

وفي سنن النسائي ومسند الموصلي بلفظ :

«فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية ان يلقانا أحد».

2. ان هذه الروايات لم تحدد السنة التي وقعت فيها الحادثة قبل الهجرة.

ص:137


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، ص 534؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 2، ص 366؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 13، ص 304؛ مناقب الإمام علي عليه السلام للموفق الخوارزمي: ص 123؛ نهج الإيمان لابن جبر: ص 608؛ نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: ص 125؛ السيرة الحلبية: ج 3، ص 29؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 303.

3. عدم تمكن الإمام علي عليه السلام من حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما دعاه ان يجلس ويحمله على كتفه صلى الله عليه وآله وسلم لعلة خاصة سيمر بيانها في آخر البحث.

الحلقة الثانية: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في ليلة مبيته على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

إلا أنني وجدت ما يدل على تحديد السنة التي وقعت فيها عملية تكسير الأصنام قبل الهجرة، بل ويحدد الليلة التي وقعت فيها الحادثة وهو ما أخرجه الحاكم النيسابوري عن علي عليه السلام أنه قال:

«لما كان الليلة التي أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان أبيت على فراشه وخرج من مكة مهاجراً، انطلق بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأصنام فقال: «اجلس»، فجلست إلى جنب الكعبة ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكبي ثم قال: «انهض». فنهضت به، فلما رأى ضعفي تحته قال: «اجلس».

فجلست، فأنزلته عني، وجلس لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال لي: «يا علي، اصعد على منكبي»، فصعدت على منكبيه ثم نهض بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخيل لي أني لو شئت نلت السماء وصعدت إلى الكعبة وتنحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فألقيت صنمهم الأكبر وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض.

فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «عالجه».

ص:138

فعالجت، فما زلت أعالجه، ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ايه، ايه».

فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه.

فقال: «دقه».

فدققته فكسرته ونزلت»(1).

والحديث فيه جملة من الدلالات، منها:

1. ان الحديث يحدد بوضوح السنة التي وقعت فيها حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة النبوية المباركة بل يحدد الحديث الليلة أيضاً، وهي ليلة مبيت الإمام علي عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما عزم على الخروج من مكة مهاجراً إلى المدينة.

2. ان الحديث لا يكشف عن حالة التخفي التي دلت عليها الأحاديث السابقة وهذا يكشف عن ما يلي:

أولا: أن تلك الأحاديث السابقة تشير إلى تكرار وقوع حادثة تكسير الأصنام وانها كانت في السنوات الأولى للبعثة أو انها في ذروة المواجهة مع قريش حينما بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتسفيه أحلامهم وتعييب عقولهم - كما سيمر ما يدل على تكرار الحادثة قبل الهجرة وتعددها -.

ثانيا: ان اختيار هذه الليلة تحديداً أي ليلة المبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه من مكة هو بحد ذاته له دلالات كثيرة، بل

ص:139


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 5.

يطرح العديد من الأسئلة منها:

ألف: ترى لماذا هذه الليلة تحديداً والقوم يتهيئون لقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟.

باء: كيف سيترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وحده يواجه طواغيت قريش حينما يكتشفون ما جرى لصنمهم الأكبر؟.

جيم: ما هو أثر هذه العملية على المجتمع المكي عامة من الناحية العقائدية ؟ وغيرها من الأسئلة...

أقول:

تحتاج هذه الأسئلة إلى مجموعة من العناوين وهي كالآتي:

ألف. التلازم في تحقق الأثر الإرشادي بين عمل نبي الله إبراهيم عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تكسير الأصنام

حينما نرجع إلى كتاب الله العزيز نجد أن هذه العملية التوحيدية لمحاربة الشرك يقدمها القرآن بصورة جلية في حياة إبراهيم الخليل عليه السلام بتفاصيل تجعل القارئ يستحضرها أمامه وهو يقرأ عملية تكسير الأصنام التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

1. فإبراهيم عليه السلام دخل ليلاً إلى معبد بابل لتكسير الأصنام في غفلة من أهلها وهذا لا يدل على الخوف، والحال نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو شاء إبراهيم أن يقوم بتكسيرها نهاراً لفعل وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام.

ص:140

لكن حينما يفقد الأثر التوجيهي والإرشادي دوره في إرجاع العقول إلى التفكير في عبادة هذه الحجارة التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً فكيف تنفع غيرها.

فضلاً عن أن ذلك سيثير غضب الكهان وسدنة الأصنام والمستميتين من أجل عقيدتهم فيقومون بمنع إبراهيم عليه السلام أو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إتمام عمله، إن لم يمنع أصلاً من القيام بذلك. ومن ثم لا يتحقق الغرض الإرشادي.

ويسلب الإنسان تلك اللحظات من الوقوف مع حاكمية العقل، فلو تم العمل نهاراً أمام مرأى الناس لانشغلوا بالفاعل دون آثار هذا الفعل فيصبح العقل أسيراً لهذه الظاهرة.

2. إنّ الزمان الذي حدده إبراهيم عليه السلام لم يكن من اختياره وانما هو بوحي من الله تعالى لحكمة خاصة ترتبط بما وصل إليه هؤلاء المشركون من حالة دوران الشك واليقين بزيف عبادة الأصنام وهي حالة يمكن لإبراهيم عليه السلام من خلال علم النبوة ان يحدد مستوى التأثير على قومه ونسبة استجابتهم لدعوته وان كثيراً منهم يحتاج إلى حالة القطع بفساد هذه العبادة.

3. إنّ تكسير الأصنام في هذا الوقت يدل على وصول الأمر العلاجي إلى حالة الكي وكما قيل في الأمثال (ان آخر العلاج الكي) فهذه الأصنام يجب أن تكسر كي تنكسر معها تلك العقول المتحجرة.

ص:141

4. إنّ عملية التكسير كاشفة عن زيف من جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وادعى انه آمن به، بمعنى كشف المنافقين فهؤلاء مهما تستروا ولبسوا مختلف الأقنعة الا ان تكسير الأصنام سيجعلهم لا محالة يتأثرون ويحزنون ان لم يكشروا عن أنيابهم، وهذه الحالة الاختبارية نراها تجدد في كل زمان حينما يتعرض الجبت والطاغوت إلى التكسير، فسرعان ما نرى من آمن بهما كيف ينتفض ويرتعش كارتعاش الصراصير حينما يشق النور ظلام جحورها.

5. إنّ تكسير الأصنام في سيرة إبراهيم عليه السلام يدل على بدء مرحلة جديدة من الدعوة إلى التوحيد وأنْ هذه المرحلة الجديدة هي مرحلة المواجهة والقتال، فأما إبراهيم فبعد ان كسر الاصنام عزم قومه على قتله ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عزم قومه على قتله وان المواجهه وصلت إلى مرحلة من الاقتتال. والفارق بين المقامين أن إبراهيم عمد إلى تكسير الاصنام لمرة واحدة في حين كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كرر العملية لأكثر من مرة كما سيمر لاحقاً.

6. إنّ هجرة إبراهيم من العراق إلى بيت المقدس أعقبت ليلة تكسير الأصنام وان هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمت في نفس الليلة.

7. أن الله سبحانه وتعالى يقدم لبني آدم من الآيات ما هو خلاف حسباتاهم وتدابيرهم وتفكيرهم وذلك من خلال ما يقوم به الأنبياء والمرسلون

ص:142

من حالة من التعامل التي يتوقف معها العقل عن إيجاد حل، ان لم يكن من الأصل ينفيها ومثال ذلك اجتماع السلامة من الموت والحفظ من الهلاك، والنجاة من القتل، لطفل رضيع حينما يوضع في تابوت فيرمى في البحر، كما حدث لموسى عليه السلام؛ إذ كيف يتحقق جميع ذلك من الناحية العقلية لطفل رضيع وهو يرمى في البحر. كما هو بيِّن في قوله تعالى لأم موسى:

(فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ )1 .

إنه شيء يعجز العقل في التعامل معه واستيعابه.

وهكذا إبراهيم عليه السلام يكون إرشاده لقومه من خلال تكسير آلهتهم وإثارة حفيظتهم وعزمهم على قتله بشكل لا يتكرر على مر البشرية من حين الجمع لمواد النار وحجمها ومساحتها مقابل شخص واحد.

وكذا حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانه يكسر الأصنام ثم يخرج من مكة تاركاً ابنته فاطمة عليها السلام وأخاه علي بن أبي طالب عليه السلام الذي تولى تكسير صنمهم الأكبر وهو يواجه صناديد قريش وأجلافها فما أشبه؛

(فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ) .

ص:143

بقذف علي في فوهة المواجهة وغضب قريش ورجوعه سالماً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة مع الفواطم.

بل:

إنّ هذه العملية وحدها كافية لفهم دور الإمام علي عليه السلام من الرسالة، وانه كدور هارون من موسى واشتراكهما في الدعوة إلى التوحيد واقامة شرع الله غير ان هارون نبي وعلياً وصيّ .

فكما ان موسى وهارون كانا شريكين في الدعوة والمواجهة والجهاد كذلك حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

قال تعالى مخاطباً موسى عليه السلام وجاعلاً هارون شريكاً.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى )1 .

لكن أنى لبعض العقول أن تتدبر في كتاب الله تعالى وقد طبع على قلوبهم فهم لا يعقلون.

ص:144

باء. التوحيد ينطلق من دار خديجة وإليه يرجع الموحدون

من دار خديجة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام وإليه عاد مع الإمام علي عليه السلام ومما دلت عليه رواية الحاكم النيسابوري، اختصاص دار خديجة بهذه المزيّة الجديدة في نشر التوحيد ومحاربة الشرك وازهاق الباطل.

فالرواية وان كانت لم تذكر دار خديجة الا أن تحديدها للزمن الذي وقعت فيه وهو:

(الليلة التي أمر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً أن يبيت على فراشه وخرج فيها مهاجراً).

يدل بشكل قطعي على خروجهما من دار خديجة لهذه المهمة وإليه عادا بعد إتمامهما لهذه العملية التطهيرية، ثم قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج من الدار حينما اجتمع القوم حوله.

وهذا كاشف عن ان التوحيد ينطلق من دار خديجة وان عملية الإصلاح ومحاربة الباطل تخرج من دار خديجة أيضاً.

وإن نشر التوحيد أوكل إلى أهل هذه الدار منذ أن دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والى اليوم الذي يخرج منه ولده المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف لتكسير الأصنام ونسف الجبت والطاغوت ودك عروشهما في جميع بقاع الأرض.

ص:145

جيم. الحكمة في اجتماع تكسير الأصنام والمبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة واحدة

إن اجتماع عملية تكسير الأصنام والمبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة واحدة له من الدلالات ما لا حصر لها، ومنها:

1. الملازمة بين التوحيد والنبوة فلا انفكاك بينهما، بمعنى: لا يتحقق التوحيد الا من خلال الاعتقاد بالنبوة كما لا تتحقق النبوة الا من خلال الاعتقاد بالتوحيد.

2. ان علياً عليه السلام اختاره الله تعالى لمسؤولية الدفاع عن التوحيد من خلال تكسير الاصنام والدفاع عن النبوة حينما بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا ما لا يجتمع لبشر قط .

3. لا يمكن للمسلم أن يدرك مراتب التوحيد والتصديق بالنبوة الا من خلال علي بن أبي طالب عليه السلام فهو الذي لم يشرك بالله طرفة عين فأباد جميع أنواع الشرك وصنوفه، وهو المصدّق الأول برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبالغ حق اليقين فيهما، ولذا جمعهما الله تعالى له في ليلة واحدة.

4. تكبيد المشركين والكفار أعظم الخسائر في هذه الليلة من خلال تكسير آلهتهم ونجاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أيديهم بفضل الله تعالى وجهود أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

5. في هذه الليلة يبلغ عداء قريش لعلي بن أبي طالب عليه السلام في أعلى درجاته فهو الذي أذل آلهتهم وكسرها وأفشل كيدهم برسول الله صلى

ص:146

الله عليه وآله وسلم وفضحهم أمام العرب.

6. في هذه الليلة يقف الإمام علي عليه السلام كالجبل الشامخ أمام التحديات التي تنوء منها الجبال ليواجه كل ما أجمع له المشركون من حنق وانتقام لآلهتهم، ومَنْ غير علي عليه السلام لهذه المهمات فيكون حجة على تاركيه.

7. ليباهي الله تعالى بعلي الملائكة فقد كسر الأصنام وفدى بنفسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في ليلة واحدة.

8. لتتحقق معجزة إبراهيم عليه السلام في هذه الليلة وتكون نيران أحقاد المشركين وسيوفهم المشهورة على علي عليه السلام بردا وسلاما.

ولذلك: كيف لا يأمر الله تعالى جبرائيل وميكائيل بالنزول إليه ليحميانه من كيد أعدائه فيكون جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه.

فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.

الحلقة الثالثة: ما يدل على تعدد وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة

لم تكن حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة النبوية محصورة في مرة واحدة بل تدل كتب مدرسة أتباع أهل البيت عليهم السلام على تكرار الحادثة وتعدد وقوعها الزمني والمكاني وان كان الموضع واحداً وهو الكعبة المشرفة أعزها الله تعالى.

هذا ما دلت عليه رواية شاذان بن جبرئيل القمي (المتوفى سنة 660 ه ) فقد أورد الرواية عن علي عليه السلام أنه قال:

ص:147

«دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمنزل خديجة عليها السلام ذات ليلة فلما صرت إليه، قال: «اتبعني يا علي».

فما زال يمشي وأنا خلفه، ونحن نخترق دروب مكة، حتى اتينا الكعبة، وقد أنام الله تعالى كل عين فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا علي».

فقلت: لبيك يا رسول الله.

قال: «اصعد يا علي، فوق كتفي وكسر الأصنام».

قلت: بل أنت يا رسول الله أصعد فوق كتفي وكسر الأصنام.

قال: بل أنت أصعد يا علي.

وانحنى صلى الله عليه وآله وسلم، فصعدت فوق كتفه وأقلبت الأصنام على وجوهها، ونزلت فخرجنا من الكعبة شرفها الله تعالى حتى اتينا منزل خديجة عليها السلام.

فقال: «يا علي أول من كسر الأصنام جدك إبراهيم عليه السلام ثم أنت يا علي، آخر من كسرها».

قال - علي عليه السلام -:

فلما أصبح أهل مكة وجدوا الأصنام منكسة، مقلوبة على رؤوسها، فقالوا: ما فعل هذا بآلهتنا إلا محمد وابن عمه، ثم لم يقم بعدها في الكعبة صنم»(1).

ص:148


1- الروضة في فضائل أمير المؤمنين - لشاذان بن جبرئيل القمي: ص 34؛ الفضائل لشاذان بن جبرئيل القمي: ص 97؛ البحار للمجلسي: ج 38، ص 85؛ شرح احقاق الحق للسيد المرعشي: ج 8، ص 689.

والحديث يدل على أمور منها:

1. ان الحادثة وقعت قبل ليلة المبيت التي مرّ ذكرها لقوله عليه السلام:

«دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمنزل خديجة ذات ليلة».

وهنا لم يحدد هذه الليلة والتي يبدو أنها لم تكن ذات علامة أو خصوصية يمكن الاشارة إليها فيستدل بذلك على تحديدها. وهذا يعني انها غير ليلة المبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أشار عليه السلام سابقاً إلى تحديد الليلة حينما قال:

«لما كان الليلة التي أمرني رسول الله أن أبيت على فراشه وخرج من مكة مهاجراً».

2. قوله عليه السلام:

«ونحن نخترق مكة».

يدل على اختيار النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لعدة طرق لغرض الاحتياط من المراقبة والمتابعة لوجود بعض العيون للمشركين أو لعل سلوكهما الطرق المؤدية مباشرة إلى الكعبة في منتصف الليل يثير انتباه من يراهما وهذا كاشف عن وقوع الحادثة في الحقبة التي كان فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ظروف المواجهة.

3. قوله عليه السلام (وقد أنام الله كل عين) يشير إلى تحديد وقت الخروج بعد منتصف الليل وهذا يكشف عن نية استخدام هذا الوقت المخصوص

ص:149

بالعبادة والتقرب إلى الله تعالى فيكون الجهاد في تكسير الأصنام يؤدَّى في وقت التنفل والصلاة فضلاً عن الحيطة والحذر، ويدل قوله عليه السلام أيضاً: على انها غير ليلة المبيت حيث كان المشركون ساهرين وقد تجمعوا لكي يأتوا إلى منزل خديجة عليها السلام ليغتالوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

4. هذا الحديث يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في موضعين من الكعبة - أعزها الله -.

الموضع الأول: هو سطع الكعبة وقد قام الإمام علي عليه السلام بقلب الأصنام على وجوهها.

الموضع الثاني: هو تكسير الأصنام في داخل الكعبة بدليل.

ألف: قوله عليه السلام:

«فخرجنا من الكعبة».

وهذا يدل على انهما كان في داخلها.

باء: قوله عليه السلام:

«ثم لم يقم في الكعبة صنم».

أي في داخل الكعبة.

جيم. ذكرت الصحاح ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما دخل مكة في عام الفتح كان في مكة (وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً)(1). وانها موزعة في البيت الحرام، فمنها ما هو على سطح الكعبة ومنها ما هو بداخلها.

ص:150


1- صحيح البخاري: ج 3، ص 108، كتاب المظالم.

ولذلك:

فان عملية تكسير الأصنام وهي بهذا العدد الكبير لاسيما التي على سطح الكعبة (أعزها الله) أو التي في داخلها يحتاج إلى عمليات متكررة وهو ما دلت عليها الروايات الآنفة الذكر.

المسألة الثالثة: ما يدل على مباشرة الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح
اشارة

لم تنتهِ محاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للشرك ورموزه، وازهاق الباطل وأهله، واذلال الكفر وأشياعه، منتدباً لذلك أخاه علي بن أبي طالب الذي شد صلى الله عليه وآله وسلم به أزره.

إلا أن أئمة الكفر، وصناديد النفاق، لم يرُقْ لهم ذلك فعمدوا إلى محاربة العترة المحمدية مادياً ومعنوياً فأجهزوا عليهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين قتلهم، وحبسهم، وتهجيرهم، ومصادرة أموالهم، وحقوقهم، وطمس فضائلهم، وتضليل الناس عنهم، وهم في ذلك يخيل إليهم يستطيعون:

(أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ )1 .

ولذلك: يمكن للقارئ الكريم أن يتعرف على دور أئمة النفاق في محاربة الله ورسوله ممثلاً ذلك في صد الناس عن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله

ص:151

وسلم وإخفاء دورهم الاصلاحي وتضييع جهادهم في محاربة الشرك ورموزه وأشياعه، وذلك من خلال النقاط الآتية:

أولاً: تعتيم البخاري على دور الإمام علي عليه السلام في تكسير الأصنام في فتح مكة

والدليل على ذلك:

حينما نأتي إلى البخاري نجده يقدم لنا الروايات المشتملة على فضائل العترة بصيغة مبتورة أو أن هذه الأحاديث قدمت بنصف وجه؛ اما الوجه الآخر فهو مستور عن القارئ، ان لم يجد القارئ حينها صورة موحشة تتحدث عن حادثة لم تكتمل ملامحها فقد أولدها البخاري وهي خداج.

ولعله، أي البخاري، معذور فيما أولد للمسلمين من روايات ؟! لأن الراوي غير شرعي، إذ كيف يكون شرعياً وهو يبغض علي بن أبي طالب عليه السلام؛ وما أكثرهم في البخاري!!

وعليه: أصبح المسلم لا يجد أثراً لعلي بن أبي طالب عليه السلام في عام الفتح وعند دخول النبي إلى مكة، بل إنه يجد ذكر أبي سفيان بن حرب وداره التي (من دخلها كان آمناً)!! ولا نعلم من أي شيء هو آمن، أيكون آمناً من سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟

أم يكون آمناً بعزة أبي سفيان فرعون المشركين ؟ أم يكون آمناً بالله ؟ فضلاً عن اننا لم نشهد القرآن الكريم يذكر ان نبياً من الأنبياء ولا رسولاً من المرسلين عليهم السلام أجمعين قد أعطى الأمان للمشركين والكفار حينما يلتجئون إلى بيوت طواغيتهم أو فراعنتهم، وكيف سيرد هؤلاء الأنبياء عليهم السلام فيما لو

ص:152

سألهم أحد ممن آمن بهم أو ممن لم يؤمن: علامَ تقاتلون الناس وقد أصبح الفراعنة ملجأ لمن كفر بالله تعالى ؟ انها مهزلة العقل الأموي!!!

ثم متى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف ربه عز وجل - والعياذ بالله - فيداهن ويماطل حينما يأمره بجهاد الكفار المنافقين فيقول له سبحانه:

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ )1 .

ثم يقوم بالتودد إلى أبي سفيان فيعطيه من العزّة والمنعة والمكانة الاجتماعية فيجعل داره من حيث الحرمة كحرمة بيت الله الحرام فمن دخل دار أبي سفيان كمن دخل بيت الله ؟!!

إنها الصناعة الأموية لتوليد الأفكار السامة لقتل العقل الإسلامي.

أما تكسير الأصنام في عام الفتح فقد جهد البخاري وغيره على إخفاء دور علي بن أبي طالب عليه السلام في هذه الحادثة، فضلاً عن التعتيم الكلي لعملية تكسير الأصنام قبل الهجرة على الرغم من اخراج احمد، والنسائي، وابن أبي شيبة، والحاكم، والموصلي، وغيرهم لها.

بل ان كل ما أخرجه البخاري ومسلم من تفاصيل حول هذه الحادثة هو عبارة عن سطرين، وبسند واحد، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود، قال: «دخل النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود في يده، وجعل يقول:

(جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ ...) الآية.

ص:153

في حين لم يكن الله تعالى بمضيع أجر أوليائه، وأنه صادق الوعد في نصرة رسله، ولو كره المشركون وجهد الكافرون، وتحايل المنافقون، وهو ما سنورده في الآتي:

ثانيا: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح وتعمد البخاري ومسلم اخفاء ذلك

في الوقت الذي تحايل فيه البخاري ورواته على حادثة تكسير الأصنام فقد شاء الله أن يظهرها على لسان غير البخاري، فقد روى أبو القاسم النيسابوري المفسر (المتوفى سنة 762)؛ والمفتي أبو السعود العمادي (المتوفى سنة 898 ه )؛ والخطيب الشربيني (المتوفى سنة 977 ه )؛ وابن عجيبة الانجري المغربي المتوفى سنة 1160 وغيرهم: قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في فتح مكة.

أما رواية عبد الله بن مسعود التي أخرجها البخاري ومسلم، فقد أخرجها أبو القاسم النيسابوري المفسر، والبيضاوي، والمفتي ابو السعود العمادي، بلفظ آخر، وهو:

(عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً لقبائل العرب. صنم كل - قوم بحيالهم - فجعل يطعنها بعود في يده ويقول:

(جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ ...) الآية.

فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً، وبقي صنم لخزاعة فوق الكعبة - وكان من قوارير صفر - فقال:

ص:154

«يا علي ارم به».

فحمله رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم حتى صعد، فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا رجلاً أسحر من محمد)(1).

ورواه الزمخشري، والزيلعي، والشربيني، والطبرسي، والعاصمي، وغيرهم بلفظ آخر وهو:

(لما نزلت هذه الآية يوم الفتح قال جبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم: خذ مخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتي صنماً صنماً وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول:

(جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ ...) الآية.

فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -:

«يا علي ارم به».

فحمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعد، فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا رجلاً أسحر من محمد صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

ص:155


1- تفسير النيسابوري: ج 5، ص 134؛ تفسير البيضاوي: ج 3، ص 464؛ تفسير أبي السعود: ج 5، ص 191؛ تفسير حقي: ج 7، ص 273؛ تفسير ابن عجيبة الانجري: ج 3، ص 357.
2- تفسير الكشاف للزمخشري: ج 2، ص 463؛ تخريج الأحاديث للزيلعي: ج 2، ص 288؛ تفسير السراج المنير للشربيني: ص 2143؛ جوامع الجامع للطبرسي: ج 2، ص 390؛ سمط النجوم العوالي: ج 2، ص 390.

اذن:

تدل الروايات على أنّ الإمام علياً عليه السلام هو الذي باشر عملية تكسير الأصنام في مراحلها الزمانية والمكانية، أي: قبل الهجرة وبعدها، وفي داخل الكعبة، وعلى سطحها.

وان الله تعالى قد خصه بكرامة لم يخص بها أحداً من بني آدم، وهي الارتقاء على كتفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فضلاً عن تكسير الأصنام وتحطيمها، حتى عرف الإمام علي عليه السلام بمكسر الأصنام، واشتهر به، مما يؤكد ثبوت هذه الفضيلة فيه واختصاصها به.

فكان يفتخر على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول في خطبة الافتخار:

«... أنا كسرت الأصنام، أنا رفعت الأعلام، أنا بنيت الإسلام»(1).

وكان يناشد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حقه المغصوب فيقول لأبي بكر:

«فأنشدك بالله أنت الذي حملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كتفيه في طرح صنم الكعبة وكسره حتى لو شاء أن ينال أفق السماء لنالها أم أنا؟».

قال: بل أنت(2).

ص:156


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 399؛ البحار للمجلسي: ج 38، ص 78.
2- الخصال للصدوق: ص 552.
ثالثا: العلة في عدم تمكن الإمام علي عليه السلام من حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام

بقي أن نبين للقارئ الكريم العلة التي من أجلها لم يستطع الإمام علي عليه السلام في حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل، وجلس لعلي فحمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كتفه ؟ هذه العلة وجوابها يظهرها الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام.

حينما سأله محمد بن حرب الهلالي أمير المدينة المنورة قائلاً:

(سألت جعفر بن محمد عليهما السلام فقلت له يابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفسي مسألة أريد أن أسألك عنها. فقال:

إن شئت أخبرتك بمسألتك قبل أن تسألني وإن شئت فسل ؟

قال: قلت له يبن رسول الله وبأي شيء تعرف ما في نفسي قبل سؤالي ؟ قال:

بالتوسم والتفرس، أما سمعت قول الله عز وجل:

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) .

وقول رسول الله صلى الله عليه وآله اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله.

قال: فقلت له يا بن رسول الله فأخبرني بمسألتي قال:

أردت ان تسألني عن رسول الله صلى الله عليه وآله لِمَ لَمْ يطق حمله علي عليه السلام عند حط الأصنام من سطح الكعبة مع قوته وشدته وما ظهر منه في قلع باب القموص بخيبر والرمي به

ص:157

إلى ورائه أربعين ذراعا وكان لا يطيق حمله أربعون رجلا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يركب الناقة والفرس والحمار، وركب البراق ليلة المعراج وكل ذلك دون علي في القوة والشدة.

قال: فقلت له عن هذا والله أردت ان أسألك يا بن رسول الله فأخبرني فقال:

ان عليا عليه السلام برسول الله تشرف وبه ارتفع وبه وصل إلى أن اطفأ نار الشرك وأبطل كل معبود من دون الله عز وجل، ولو علاه النبي صلى الله عليه وآله لحط الأصنام لكان عليه السلام بعلي مرتفعا وتشريفا وواصلا إلى حط الأصنام ولو كان ذلك كذلك لكان أفضل منه، ألا ترى ان عليا عليه السلام قال: لما علوت ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله شرفت وارتفعت حتى لو شئت ان أنال السماء لنلتها، أما علمت أن المصباح هو الذي يهتدى به في الظلمة وانبعاث فرعه من أصله، وقد قال علي عليه السلام:

أنا من احمد كالضوء من الضوء، أما علمت أن محمدا وعليا صلوات الله عليهما كانا نورا بين يدي الله عز وجل قبل خلق الخلق بألفي عام، وان الملائكة لما رأت ذلك النور رأت له أصلا قد تشعب منه شعاع لامع فقالت: إلهنا وسيدنا ما هذا النور؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليهم هذا نور من نوري أصله نبوة وفرعه إمامة، أما النبوة فلمحمد عبدي ورسولي، واما الإمامة فلعلي حجتي ووليي ولولاهما ما خلقت خلقي، اما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله رفع يد علي عليه السلام بغدير خم حتى نظر الناس إلى بياض إبطيهما فجعله مولى المسلمين،

ص:158

وإمامهم وقد احتمل الحسن والحسين عليهما السلام يوم حظيرة بني النجار فلما قال له بعض أصحابه ناولني أحدهما يا رسول الله قال: نعم الراكبان وأبوهما خير منهما، وانه صلى الله عليه وآله كان يصلي بأصحابه فأطال سجدة من سجداته فلما سلم قيل له يا رسول الله لقد أطلت هذه السجدة فقال صلى الله عليه وآله:

ان ابني ارتحلني فكرهت ان أعاجله حتى ينزل، وإنما أراد بذلك صلى الله عليه وآله رفعهم وتشريفهم، فالنبي صلى الله عليه وآله إمام ونبي، وعلي عليه السلام إمام ليس بنبي ولا رسول، فهو غير مطيق لحمل أثقال النبوة.

قال محمد بن حرب الهلالي: فقلت له زدني يا بن رسول الله فقال:

إنك لأهل للزيادة، ان رسول الله صلى الله عليه وآله حمل عليا عليه السلام على ظهره يريد بذلك أنه أبو ولده وإمام الأئمة من صلبه، كما حول رداءه في صلاة الاستسقاء وأراد ان يعلم أصحابه بذلك انه قد تحول الجدب خصبا.

قال: قلت له زدني يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:

احتمل رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام يريد بذلك ان يعلم قومه انه هو الذي يخفف عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله ما عليه من الدين والعدات والأداء عنه من بعده.

قال: فقلت له يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله زدني فقال:

ص:159

احتمله ليعلم بذلك انه قد احتمله وما حمل إلا لأنه معصوم لا يحمل وزرا، فتكون أفعاله عند الناس حكمة وصوابا، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله لعلي:

يا علي ان الله تبارك وتعالى حملني ذنوب شيعتك ثم غفرها لي، وذلك قوله تعالى:

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ) .

ولما أنزل الله عز وجل، إذا اهتديتم، وعلي نفسي وأخي، أطيعوا عليا فإنه مطهر، معصوم، لا يضل، ولا يشقى ثم تلا هذه الآية:

(قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

قال محمد بن حرب الهلالي، ثم قال جعفر بن محمد عليه السلام:

أيها الأمير لو أخبرتك بما في حمل النبي صلى الله عليه وآله عليا عند حط الأصنام من سطح الكعبة من المعاني التي أرادها به، لقلت ان جعفر بن محمد لمجنون، فحسبك من ذلك ما قد سمعت.

فقمت إليه وقبلت رأسه وقلت الله أعلم حيث يجعل رسالته(1).

ص:160


1- علل الشرائع: ج 1، ص 173-175؛ معاني الأخبار للصدوق: ص 350؛ الأربعون حديثاً للشهيد الأول: ص 69؛ البحار للمجلسي: ج 38، ص 79؛ تفسير نور الثقلين للحويزي: ج 3، ص 25.

المبحث السادس: التقاء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ببعض المؤمنين في دار خديجة عليها السلام

اشارة

من الحقائق التي ارتبطت بهذا الموضع الذي كشفت الروايات الشريفة عن سر تفضيله فكان كما مرّ «أفضل الأماكن بعد بيت الله الحرام» هو اتخاذ الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف من دار خديجة عليها السلام محلا لرؤية بعض المؤمنين فيه في موسم الحج.

والسر في ذلك:

1. إما لأنه - أي دار خديجة - كان دار جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمرء يعود إلى دار أهله.

2. وإما لأنه آخر أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ثم فهذه الدار تحت ولايته ووصايته.

3. وإما لأنها محل نزول القرآن، وهبوط الوحي والملائكة، والموضع الذي ولدت فيه سيدة نساء العالمين عليها السلام وغيرها من الخصائص التي دلت عليها الروايات؛ ولذا كانت محلاً لرؤية الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه.

وعليه: لا يمكنني الوصول إلى أكثر من ذلك في معرفة الحكمة التي من أجلها اختار الإمام المهدي هذه الدار محلاً لرؤية بعض المؤمنين الا أن ذلك يزيد في شرف هذه الدار التي خصها الله بما لم يخص به غيرها من بيوت الأنبياء عليهم السلام.

ص:161

ولقد روى كل من الشيخ الصدوق، والشيخ الطوسي رضي الله تعالى عنهما، روايتين تدلان على هذه الحقيقة التي تشرف بها أصحابها.

المسألة الأولى: رواية الشيخ الصدوق رضي الله تعالى عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام
اشارة

قال رضي الله عنه: حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه قال: حدثنا علي بن أحمد الكوفي المعروف بأبي القاسم الخديجي قال: حدثنا سليمان بن إبراهيم الرفي قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن وجناء النصيبي قال: (كنت جالساً تحت الميزاب في رابع أربع وخمسين حجة بعد العتمة، وأنا أتضرع في الدعاء إذ حركني محرك فقال:

«قم يا حسن بن وجناء».

قال: فقمت، فإذا جارية صفراء نحيفة البدن، أقول: إنها من أبناء أربعين فما فوقها، فمشت بين يدي أنا لا أسألها عن شيء حتى أتت دار خديجة عليها السلام، وفيها بيت بابه في وسط الحائط وله درج ساج يرتقى، فصعدت الجارية وجاءني النداء:

أصعد يا حسن.

فصعدت فوقفت بالباب، فقال لي صاحب الزمان عليه السلام:

اصعد يا حسن.

فصعدت فوقفت بالباب، فقال لي صاحب الزمان عليه السلام:

ص:162

يا حسن أتراك خفيت علي والله ما من وقت في حجك إلا وأنا معك فيه.

ثم جعل يعد علي أوقاتي، فوقعت مغشياً على وجهي، فحسست بيد قد وقعت علي فقمت، فقال لي:

يا حسن الزم دار جعفر بن محمد عليهما السلام، ولا يهمنك طعامك ولا شرابك، ولا ما يستر عورتك.

ثم دفع إلي دفترا فيه دعاء الفرج وصلاة عليه، فقال:

بهذا فأدع، وهكذا صل علي، ولا تعطه إلا محض أوليائي فإن الله جل جلاله موفقك.

فقلت: يا مولاي ألا أراك بعدها؟ فقال:

يا حسن إذا شاء الله.

قال: فانصرفت من حجتي ولزمت دار جعفر بن محمد عليهما السلام فأنا أخرج منها فلا أعود إليها إلا لثلاث خصال، لتجديد وضوء، أو لنوم، أو لوقت الإفطار، وأدخل بيتي وقت الإفطار فأصيب رباعياً مملوءا ماء ورغيفاً على رأسه وعليه ما تشتهي نفسي بالنهار، فآكل ذلك فهو كفاية لي، وكسوة الشتاء في وقت الشتاء، وكسوة الصيف في وقت الصيف، وإني لأدخل الماء بالنهار فأرش البيت وأدع الكوز فارغاً فأوتي بالطعام ولا حاجة لي إليه فأصدق به ليلا كيلا يعلم بي من معي)(1).

ص:163


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق رضي الله عنه: ص 444؛ الثاقب لابن حمزة الطوسي: ص 612؛ الخرائج والجرائح للراوندي: ج 2، ص 961.

والحديث يدل على مسائل كثيرة لا مجال لذكرها هنا لما تحتاجه إلى سعة في البيان، وحيث ان الأصل في الموضوع هو بيان ما لدار خديجة عليها السلام من الخصائص الإلهية والكرامات النبوية التي يعجز القلم عن بيانها، فإن هذا الموضوع هو بعض ما جاء في شرافة هذا الدار الذي لم يبقِ له الوهابيون من حرمة بعد أن حولوه إلى دورات مياه يدنسه الداخلون في الليل والنهار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أما ما يقال هنا: بخصوص الحديث:

أولاً: تحقق رؤية صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف في زمن الغيبة الصغرى

إن هذا الحديث يدل على تحقق رؤية صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف في زمن الغبية الصغرى في واحدة من الأدلة الواقعية لهذه الحقيقة(1).

أما بخصوص حضوره عليه الصلاة والسلام في دار خديجة عليها السلام وتشرف بعض المؤمنين بلقياه هناك لأكثر من مرة هو ما أخرجه الشيخ الطوسي رضي الله تعالى عنه في كتابه الغيبة.

ثانيا: تقوى الحسن بن الوجناء وشدة مثابرته على طاعة الله والتقرب إليه

تحدثت الرواية بشكل صريح عن منزلة الحسن بن الوجناء عند الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف حينما تشرف بلقياه فضلاً عمّا قدمته الرواية من بيان لعبادة هذا الرجل وسعيه في التقرب لله تعالى من خلال قصد

ص:164


1- أنظر هذه الوقائع في كتاب إلزام الناصب للشيخ علي اليزدي الحائري: ج 1، ص 321-341.

بيته الحرام خلال هذه السنين، فمن هو؟

هو الحسن بن محمد بن الوجناء النصيبي، أبو محمد، روى عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام، وروى عنه الصفواني، ذكره النجاشي في ترجمة محمد بن أحمد بن عبد الله بن مهران(1).

وعده السيد الأبطحي من وكلاء الإمام الحسن العسكري عليه السلام(2) ، وإنه من وجوه الشيعة وأكابرهم الذين اجتمعوا حول العمري السفير(3).

وقال السيد الخوئي قدس سره تعقيبا على الرواية التي مرّ ذكرها (وفي الرواية دلالة على قوة إيمانية)(4).

مما لا شك فيه أن استطاعة الإنسان الثبات على طاعة الله تعالى والمثابرة في حصول رضاه، ممثلاً في السعي من أجل الاتيان بالنوافل لاسيما حج بيت الله تعالى وبهذا العدد الذي أصابه الحسن بن الوجناء، مع الأخذ بعين الاعتبار المشقة البالغة الذي كان يبذلها الحجاج لبيت الله الحرام آنذاك بلحاظ بعد المسافة بين نصيبين ومكة وقلة توفر الوسيلة؛ إذ لا غنى للمسافر عن الجمال، نضيف إلى ذلك: إن هذا العدد من السنين يدل على تحول الفصول، أي انتقال الأشهر العربية في حركة الأرض، فقد يقع شهر ذي الحجة في فصل الشتاء وبعد مرور

ص:165


1- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج 6، ص 141؛ مستدركات علم الرجال للشاهرودي: ج 3، ص 52.
2- تهذيب المقال 256.
3- المصدر السابق.
4- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج 6، ص 142.

ثلاثين سنة أو أكثر يقع في فصل الصيف، فضلاً عن أن المواظبة على الحج خلال نصف قرن ودون انقطاع لا ينالها إلا ذو حظ عظيم، ويدل على قوة إيمان صاحبه، وشدة مثابرته على نيل رضا الله تعالى فكان مؤهلاً للتشرف برؤية صاحب الأمر الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

المسألة الثانية: رواية الشيخ الطوسي رضي الله عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام

قال رضي الله عنه: عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي قال: حدثني الحسين بن محمد بن عامر الأشعري القمي، قال: حدثني يعقوب بن يوسف الضراب الغساني - في منصرفه من أصفهان - قال: حججت في سنة احدى وثمانين ومائتين وكنت مع قوم مخالفين من أهل بلدنا، فلما قدمنا مكة تقدم بعضهم فاكترى لنا دارا في زقاق بين سوق الليل، وهي دار خديجة عليها السلام تسمى دار الرضا عليه السلام، وفيها عجوز سمراء فسألتها - لما وقفت على أنها دار الرضا عليه السلام - ما تكونين من أصحاب هذه الدار؟ ولم سميت دار الرضا؟ فقالت: أنا من مواليهم وهذه دار الرضا علي بن موسى عليهما السلام، أسكنّيها الحسن بن علي عليهما السلام، فإني كنت من خدمه. فلما سمعت ذلك منها آنست بها وأسررت الامر عن رفقائي المخالفين، فكنت إذا انصرفت من الطواف بالليل أنام معهم في رواق في الدار، ونغلق الباب ونلقي خلف الباب حجرا كبيرا كنا ندير خلف الباب. فرأيت غير ليلة ضوء

ص:166

السراج في الرواق الذي كنا فيه شبيها بضوء المشعل، ورأيت الباب قد انفتح ولا أرى أحدا فتحه من أهل الدار، ورأيت رجلا ربعة أسمر إلى الصفرة ما هو قليل اللحم، في وجهه سجادة عليه قميصان وإزار رقيق قد تقنع به وفي رجله نعل طاق فصعد إلى الغرفة في الدار حيث كانت العجوز تسكن، وكانت تقول لنا: إن في الغرفة ابنة لا تدع أحدا يصعد إليها، فكنت أرى الضوء الذي رأيته يضيء في الرواق على الدرجة عند صعود الرجل إلى الغرفة التي يصعدها، ثم أراه في الغرفة من غير أن أرى السراج بعينه، وكان الذين معي يرون مثل ما أرى فتوهموا أن يكون هذا الرجل يختلف إلى ابنة العجوز، وأن يكون قد تمتع بها فقالوا: هؤلاء العلوية يرون المتعة، وهذا حرام لا يحل فيما زعموا، وكنا نراه يدخل ويخرج ونجيء إلى الباب وإذا الحجر على حاله الذي تركناه، وكنا نغلق هذا الباب خوفا على متاعنا، وكنا لا نرى أحدا يفتحه ولا يغلقه، والرجل يدخل ويخرج والحجر خلف الباب إلى وقت ننحيه إذا خرجنا.

فلما رأيت هذه الأسباب ضرب على قلبي ووقعت في قلبي فتنة فتلطفت العجوز وأحببت أن أقف على خبر الرجل، فقلت لها: يا فلانة إني أحب أن أسألك وأفاوضك من غير حضور من معي فلا أقدر عليه، فأنا أحب إذا رأيتني في الدار وحدي أن تنزلي إلي لأسألك عن أمر، فقالت لي مسرعة: وأنا أريد أن أسر إليك شيئا فلم يتهيأ لي ذلك من أجل من معك، فقلت ما أردت أن تقولي ؟ فقالت: يقول لك - ولم تذكر أحدا - لا تخاشِنْ أصحابك وشركاءك ولا تلاحِهِمْ ، فإنهم أعداؤك ودارِهِمْ ، فقلت لها: من يقول ؟ فقالت: أنا أقول، فلم أجسر لما دخل قلبي من الهيبة أن أراجعها، فقلت أي أصحابي

ص:167

تعنين ؟ فظننت أنها تعني رفقائي الذين كانوا حجاجا معي قالت: شركاؤك الذين في بلدك وفي الدار معك، وكان جرى بيني وبين الذين معي في الدار عنت في الدين، فسعوا بي حتى هربت واستترت بذلك السبب فوقفت على أنها عنت أولئك، فقلت لها ما تكونين أنت من الرضا؟

فقالت كنت خادمة للحسن بن علي عليهما السلام، فلما استيقنت ذلك قلت: لأسألنها عن الغائب عليه السلام، فقلت: بالله عليكِ رأيته بعينكِ ، فقالت: يا أخي لم أره بعيني فإني خرجت وأختي حبلى وبشرني الحسن بن علي عليهما السلام بأني سوف أراه في آخر عمري، وقال لي: تكونين له كما كنت لي، وأنا اليوم منذ كذا بمصر، وإنما قدمت الآن بكتابة ونفقة وجه بها إلي على يدي رجل من أهل خراسان لا يفصح بالعربية، وهي ثلاثون دينارا وأمرني أن أحج سنتي هذه فخرجت رغبة مني في أن أراه فوقع في قلبي أن الرجل الذي كنت أراه يدخل ويخرج هو هو، فأخذت عشرة دراهم صحاحا، فيها ستة رضوية من ضرب الرضا عليه السلام قد كنت خبأتها لألقيها في مقام إبراهيم عليه السلام، وكنت نذرت ونويت ذلك، فدفعتها إليها وقلت في نفسي أدفعها إلى قوم من ولد فاطمة عليها السلام أفضل مما ألقيها في المقام وأعظم ثوابا، فقلت لها: إدفعي هذه الدراهم إلى من يستحقها من ولد فاطمة عليها السلام، وكان في نيتي أن الذي رأيته هو الرجل، وإنما تدفعها إليه، فأخذت الدراهم وصعدت وبقيت ساعة ثم نزلت، فقالت: يقول لك: ليس لنا فيها حق إجعلها في الموضع الذي نويت، ولكن هذه الرضوية خذ منا بدلها وألقها في الموضع الذي نويت، ففعلت وقلت في نفسي: الذي أمرت به عن الرجل.

ص:168

ثم كان معي نسخة توقيع خرج إلى القاسم بن العلاء بآذربيجان فقلت لها: تعرضين هذه النسخة على إنسان قد رأى توقيعات الغائب، فقالت ناولني فإني أعرفها، فأريتها النسخة وظننت أن المرأة تحسن أن تقرأ فقالت: لا يمكنني أن أقرأ في هذا المكان فصعدت الغرفة ثم أنزلته فقالت: صحيح وفي التوقيع أبشركم ببشرى ما بشرت به (إياه) وغيره.

ثم قالت: يقول لك إذا صليت على نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، كيف تصلي (عليه)؟ فقلت أقول: اللهم صل على محمد وآل محمد وبارك على محمد وآل محمد كأفضل ما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.

فقال لا إذا صليت عليهم فصل عليهم كلهم وسمهم، فقلت: نعم، فلما كانت من الغد نزلت ومعها دفتر صغير، فقالت: يقول لك: إذا صليت على النبي فصل عليه وعلى أوصيائه على هذه النسخة، فأخذتها وكنت أعمل بها، ورأيت عدة ليال قد نزل من الغرفة وضوء السراج قائم.

وكنت أفتح الباب وأخرج على أثر الضوء وأنا أراه - أعني الضوء - ولا أرى أحداً حتى يدخل المسجد، وأرى جماعة من الرجال من بلدان شتى يأتون باب هذه الدار، فبعضهم يدفعون إلى العجوز رقاعا معهم، ورأيت العجوز قد دفعت إليهم كذلك الرقاع فيكلمونها وتكلمهم ولا أفهم عنهم، ورأيت منهم في منصرفنا جماعة في طريقي إلى أن قدمت بغداد.

نسخة الدفتر الذي خرج:

ص:169

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وحجة رب العالمين، المنتجب في الميثاق، المصطفى في الظلال، المطهر من كل آفة، البريء من كل عيب، المؤمل للنجاة، المرتجى للشفاعة، المفوض إليه دين الله.

اللهم شرف بنيانه، وعظم برهانه، وأفلج حجته وارفع درجته، وأضئ نوره، وبيض وجهه، وأعطه الفضل والفضيلة، والدرجة والوسيلة الرفيعة، وابعثه مقاما محمودا، يغبطه به الأولون والآخرون.

وصل على أمير المؤمنين ووارث المرسلين، وقائد الغر المحجلين، وسيد الوصيين وحجة رب العالمين.

وصل على الحسن بن علي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على الحسين بن علي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على علي بن الحسين إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على محمد بن علي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على جعفر بن محمد إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على موسى بن جعفر إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على علي بن موسى إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على محمد بن علي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على علي بن محمد إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على

ص:170

الحسن بن علي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين وحجة رب العالمين، وصل على الخلف الصالح الهادي المهدي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، اللهم صل على محمد وأهل بيته الأئمة الهادين المهديين العلماء الصادقين، الأبرار المتقين، دعائم دينك، وأركان توحيدك، وتراجمة وحيك، وحججك على خلقك، وخلفائك في أرضك، الذين اخترتهم لنفسك واصطفيتهم على عبادك، وارتضيتهم لدينك، وخصصتهم بمعرفتك، وجللتهم بكرامتك وغشيتهم برحمتك، وربيتهم بنعمتك، وغذيتهم بحكمتك، وألبستهم نورك، ورفعتهم في ملكوتك، وحففتهم بملائكتك، وشرفتهم بنبيك.

اللهم صل على محمد وعليهم صلاة كثيرة دائمة طيبة، لا يحيط بها إلا أنت، ولا يسعها إلا علمك، ولا يحصيها أحد غيرك.

اللهم صل على وليك المحيي سنتك، القائم بأمرك، الداعي إليك الدليل عليك، وحجتك على خلقك، وخليفتك في أرضك، وشاهدك على عبادك.

اللهم أعز نصره، ومد في عمره، وزين الأرض بطول بقائه.

اللهم اكفه بغي الحاسدين وأعذه من شر الكائدين، وادحر عنه إرادة الظالمين، وتخلصه من أيدي الجبارين.

اللهم أعطه في نفسه وذريته وشيعته ورعيته وخاصته وعامته وعدوه وجميع أهل الدنيا ما تقر به عينه، وتسر به نفسه، وبلغه أفضل أمله في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير.

اللهم جدد به ما محي من دينك، وأحي به ما بدل من كتابك

ص:171

وأظهر به ما غير من حكمك، حتى يعود دينك به وعلى يديه غضا جديدا، خالصا مخلصا لا شك فيه ولا شبهة معه، ولا باطل عنده، ولا بدعة لديه.

اللهم نور بنوره كل ظلمة، وهد بركنه كل بدعة، وأهدم بعزته كل ضلالة، واقصم به كل جبار، واخمد بسيفه كل نار، وأهلك بعدله كل جبار، وأجر حكمه على كل حكم وأذل لسلطانه كل سلطان.

اللهم أذل كل من ناواه، وأهلك كل من عاداه وامكر بمن كاده، واستأصل من جحد حقه، واستهان بأمره، وسعى في إطفاء نوره وأراد إخماد ذكره.

اللهم صل على محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، (و) الحسن الرضا، والحسين المصطفى، وجميع الأوصياء، مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، ومنار التقى، والعروة الوثقى، والحبل المتين، والصراط المستقيم، وصل على وليك وولاة عهده، والأئمة من ولده، ومد في أعمارهم، وأزد في آجالهم، وبلغهم أقصى آمالهم [دينا]، دنيا وآخرة إنك على كل شيء قدير»(1).

ص:172


1- الغيبة للشيخ الطوسي: ص 273-280، برقم 238.

الفصل التاسع

اشارة

ص:173

ص:174

بعد أن مضيت بلطف الله وعنايته في بيان حال أولاد السيدة خديجة عليها السلام في بداية الكتاب متناولاً بالدراسة والتحقيق ما حفت به سيرتهم، بقي لنا من هؤلاء الأولاد السيدة البتول فاطمة الزهراء صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها، ولأنها تختلف عن بقية أولاد خديجة عليها السلام في جميع شؤونها وأحوالها فقد كان لزاماً علينا أن نتناول ما يتعلق بهذه الشخصية ضمن هذه الحقبة الزمنية من حياتها مع أمها خديجة عليها السلام بالمزيد من التحقيق والدراسة لوجود عناوين مشتركة فيما بين الشخصيتين، وعليه قد يجد القارئ في مورد من الموارد إسهاباً في الدراسة والتحليل وقد يجد اختصاراً حسب ما تلزمه العناوين من ذلك.

المبحث الأول: خلقها من ثمار الجنة

اشارة

سنتناول في هذا المبحث الأحاديث الواردة في خلق فاطمة من ثمار الجنة ولكون هذا العنوان قد انفردت به الزهراء عليها السلام دون غيرها من الخلق، فقد تضمن هذا المبحث مسائل كثيرة.

ولذا فقد اقتضى المبحث ان تسبقه توطئة تشتمل على محورين.

ص:175

المحور الأول: تفاعل الكتّاب مع حدث خلق فاطمة من ثمار الجنة
اشارة

كيف استقبل بعض الكتاب الإسلاميين هذا الحدث ؟ وكيف تفاعلوا معه ؟ وماذا أفرز هذا التفاعل من أقوال قد أكثر فيها بعضهم النقد والتجريح والتهجم!؟(1) فكان أهون ما قيل: «إنه غريب الإسناد والمتن»(2).

والسبب للأمور التالية:

الأمر الأول: اعتماد بعض الكتاب فيما يرونه على ما يتلاءم مع اعتقادهم

لقد اعتمد البعض ممن كتب في سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على الرواية التي تقول:

«إن فاطمة عليها السلام قد ولدت قبل البعثة بخمس سنوات»(3).

سبب هذا أن هذه الرواية جاءت موافقة لما عليه هذا الكاتب أو ذاك من عقيدة.

الأمر الثاني: الاختلاف في وقت حدوث رحلة الإسراء لا يلغي الحقيقة

إنّ الاختلاف في وقت حدوث رحلة الإسراء والمعراج النبوي صلى الله عليه وآله وسلم، بين وقوعها في السنة الثالثة من البعثة، وهو ما عليه أئمة أهل

ص:176


1- الموضوعات لابن الجوزي: ج 1 ص 412-413، ط المكتبة السلفية، المدينة المنورة - السعودية.
2- المستدرك للحاكم: ج 3 ص 156 ط المعرفة بيروت.
3- تاريخ الخميس للديار بكري: ج 1 ص 277. ميزان الاعتدال للذهبي: ج 3، ص 439، ح 7070، ط دار المعرفة - بيروت. أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 1، ص 307، ط دار التعارف - بيروت.

البيت النبوي عليهم السلام، وبين وقوعها في السنة الثالثة عشرة من البعثة وهو ما عليه بعض صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

كان سببا في إعراض البعض عن حقيقة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة.

الأمر الثالث: الإعراض عن روايات أهل البيت عليهم السلام لا يدل على صحة المعْرِض عنها

إعراض بعض هؤلاء الكتاب عن الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام فلم يأخذوا بما ورد عنهم في هذا المجال أو في غيره، دون تقديم سبب منطقي لهذا الإعراض في حين أن الشرع المقدس والعقل يوجبان الأخذ بأقوالهم.

وهذه الأمور مجتمعة أو منفردة جعلت البعض كابن الجوزي وغيره، يتحامل على الرواية وراويها وكأنه جاء بما لا يغتفر!

والحال أنه كان يكفي أن توصف هذه الرواية - على فرض عدم صحتها - بما يناسبها من مصطلحات علم الحديث، من حيث السند، وكان يكفي من المعترضين الإشارة إلى وجود تعارض بينها وبين ما يعتقده ابن الجوزي السلفي في وقت الإسراء والمعراج! وبهذا يتحقق القصد في بيان واقع الرواية عند من يعتقد بأن الإسراء وقع سنة ثلاث عشرة من البعثة.

فهذه هي وظيفة الباحث حينما يريد أن يظهر عدم صحة هذه الرواية أو ذاك الحدث.

ص:177

أما أن يكون التعليق يحمل كلمات التوهين والتنقيص بالرواية، ووصف الراوي بالغباء والخزي ؟! لأنه خالف عقيدة ابن الجوزي أو غيره ؟!، فهذا يكشف عن الافتقار إلى النزاهة العلمية، ويكشف أيضاً عن سريرة القائل، وميوله النفسية.

المحور الثاني: السُنة النبوية والعقل يؤكدان حقيقة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة
اشارة

إن مسألة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة هي حقيقة نصت عليها السنة المحمدّية على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ولو كان هؤلاء الذين اعترضوا على هذه الحقيقة قد تدبروا سنة النبي المصطفى بقلبٍ حر من قيود الأهواء، لوجدوا الكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بينت هذه الحقيقة، في مواضع كثيرة.

وقبل أن نشير إلى بعض هذه المواضع، فلا بد من الالتفات إلى ما أخرجه الكثير من الحفاظ لرواياتٍ عديدة في مولد فاطمة الزهراء عليها السلام، وهي كالآتي:

1 - فمنهم من روى أنها ولدت على رأس البعثة(1).

ص:178


1- تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 2 ص 441 ط دار صادر بيروت؛ منح المدح لابن سيد الناس: ص 355، وقد جاء فيهما: «وكان لها يوم تزوجها علي بن أبي طالب خمس عشرة سنة وخمسة أشهر» أي: إنها ولدت سنة أربعين؛ تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 75 ط مطبعة السعادة.

2 - ومنهم من قال: سنة إحدى وأربعين(1).

3 - ومنهم من ذهب إلى السنة الثامنة من البعثة(2).

4 - كثير منهم من قال: إنها ولدت في السنة الخامسة من البعثة(3).

وهذه الأقوال وإن كانت لا تنسجم مع ما اعتقده البعض من أن الإسراء والمعراج كان في السنة الثالثة عشرة من البعثة، إلا أنّ هذا لا ينافي كونها عليها السلام قد خلقت من ثمار الجنة، كما أن الاعتقاد بهذا القول لا يصلح أن يكون دليلاً على دحض حقيقة خلق فاطمة من ثمار الجنة، بعد أن نصت عليها السنة النبوية المطهرة بنصوص صحيحة، نذكر منها نصين فقط على سبيل الاستدلال لا الحصر.

ما أخرجه البخاري ومسلم، وابن حبان، وابن خزيمة وغيرهم، عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال:

«إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقين»(4).

ص:179


1- مستدرك الحاكم: ج 3 ص 163؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 2 ص 71 ط الكتب العلمية؛ مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ج 2 ص 269؛ نهاية الأرب للنويري: ج 8 ص 213؛ المواهب اللدنية للقسطلاني: ج 1 ص 198.
2- نهاية الأرب للنويري: ج 18 ص 213 ط الحبشة المصرية؛ بحار الأنوار: ج 43 ص 9.
3- دلائل الإمامة للطبري: ص 10؛ مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 289؛ ذخائر العقبى: ص 52 ط دار المعرفة؛ تاريخ الخميس للديار بكري: ج 2 ص 278؛ مواليد أهل البيت للدراع: ص 278؛ البحار للمجلسي: ج 43 ص 1-10.
4- صحيح البخاري، كتاب الصوم: ج 2، ص 243؛ المجموع للنووي: ج 6، ص 356، ط دار

وفي صحيح مسلم بلفظ :

«أنكم لستم في ذلك مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني»(1).

وفي لفظ آخر أخرجه البخاري:

«إني لست كهيئتكم أني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني»(2).

وعليه: أكان الله تبارك وتعالى يطعم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من ثمار الجنة أم من غير ثمارها!؟ أم كان يسقيه من غير مائها وأنهارها؟!

فإن قيل: إن الله تعالى كان يطعمه من غير ثمار الجنة، فهذا يؤدي إلى جعل مريم بنت عمران أفضل من سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وبه يأثم قائله.

وإن قيل: كان يطعمه عزّوجلّ من ثمار الجنة، ويسقيه من مائها، فما وجه اعتراض المعترضين وامتعاض قلوب المنافقين من أن أصل النطفة الزكية، الطيبة، التي خلقت منها البضعة النبوية فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، كانت من ثمار الجنة التي أطعمها الله لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

أما جميع المسألة فهي من أيسر ما يمكن أن يعطيه الله لحبيبه المصطفى

ص:180


1- صحيح مسلم، باب بيان أن القبلة في الصوم: ج 3، ص 134.
2- صحيح البخاري، كتاب الصوم: ج 2، ص 242.

صلى الله عليه وآله وسلم فما قدر الجنة مقابل علو مقام سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

وقبل الدخول إلى هذا المبحث، فلا بد من الإشارة إلى الآتي:

أولاً

إن الأحاديث في هذا المبحث تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: نتحدث فيه عن تناول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ثمار الجنة في رحلة الإسراء والمعراج ودخوله صلى الله عليه وآله وسلم الجنة وأكله من ثمارها.

أما القسم الثاني: فإنه يشير إلى أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد أكل من ثمار الجنة وهو في الأرض، حينما كان ينزلها إليه جبرائيل عليه السلام بأمر من الله تبارك وتعالى.

ثانياً

إن جميع هذه الثمار سواء أكان تناولها في السماء أم في الأرض كان الحامل والمقدم لها هو جبرائيل عليه السلام، وهذا له من الأسرار العجيبة، والألطاف الإلهية المحكمة، التي خص الله بها فاطمة عليها السلام وسنشير إليه في حينه إن شاء الله تعالى.

ثالثاً
اشارة

قد أشارت الأحاديث في هذا الموضوع: إلى تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأكثر من نوع من أنواع الثمار وهي: «التفاح - السفرجل - الرطب -

ص:181

العنب - شجرة طوبى» ولم يختر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم غيرها، وهذا يدل على أمرين:

الأمر الأول

هو أنّ الله عزّوجلّ قد اختار هذه الثمار لنبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنها من أحب الثمار إليه صلى الله عليه وآله وسلم، وأقربها إلى نفسه المقدسة وهو من خواص الجنة لقوله:

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ )1 .

الأمر الثاني

هو لوجود خصائص ومميزات لكل نوع من هذه الأنواع التي ذكرت وتأثيرها على تكوين الجنين، وقد أشارت الأحاديث الشريفة إلى وجود علاقة بين الجنين وهذه الثمار وتحديداً: (السفرجل والرطب)، وتأثيرها في ذكاء الطفل وجمال خلقته وخلقه(1).

المسألة الأولى: إنها خلقت من شجرة طوبى

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:

«كان رسول الله يكثر تقبيل فاطمة عليها وعلى أبيها وبعلها

ص:182


1- سنشير إلى فوائد هذه الثمار حسب إيرادها في مسائل هذا المبحث بعونه تعالى.

وبنيها آلاف التحية والسلام، فانكرت ذلك عائشة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا عائشة إني لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فأدناني جبرائيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فأكلته فحول الله ذلك ماءً في ظهري، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها».

هذا الحديث يدل على المحبة التي يكنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام ممثّلة في كثرة تقبيله لها.

ويدل أيضاً على أنها خلقت من ثمار شجرة طوبى دون أن يذكر لنا الحديث نوع هذه الثمرة ولا شكلها أو أي صفة عنها سوى أنها من ثمار شجرة طوبى.

أما شجرة طوبى فقد وردت روايات عن أئمة العترة عليهم السلام تبين صفة هذه الشجرة، منها:

1. عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«طوبى هي شجرة تخرج من جنة عدن، غرسها ربنا بيده»(1).

2. وعن ثابت، عن ابن سيرين، في قوله:

(طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ )2 .

ص:183


1- تفسير أبي حمزة الثمالي رحمه الله: ص 217، ط مطبعة الهادي - قم؛ تفسير العياشي لابن مسعود العياشي: ج 2، ص 212، ح 47، ط المكتبة العلمية الإسلامية - طهران؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 8، ص 143، ح 64، ط مؤسسة الوفاء - بيروت.

قال:

«طوبى شجرة أصلها في حجرة علي عليه السلام، وليس في الجنة حجرة إلا فيها غصن من أغصانها»(1).

3. وعن معاوية بن حمزة، عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«طوبى شجرة غرسها الله بيده نفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وأن أغصانها لترى من وراء سور الجنة»(2).

4. عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:

لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛

(طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) .

قام المقداد بن الأسود الكندي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يا رسول الله وما طوبى»؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يا مقداد شجرة في الجنة لو يسير الراكب الجواد لسار في ظلها مائة عام قبل أن يقطعها،

ص:184


1- تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 59، ط دار المعرفة - بيروت؛ بحار الأنوار: ج 71، ص 372؛ تفسير العياشي لمحمد بن مسعود: ج 2، ص 212، ح 48، ط المكتبة العلمية الإسلامية - طهران.
2- تفسير الثعلبي: ج 5، ص 2288؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص 183، ص 219؛ تفسير فرات الكوفي: ص 208، ح 277 و 279.

وورقها وبسرها برود خضر، وزهرها رياض صفر، وأفنانها سندس واستبرق، وثمرها حلل خضر، وصمغها زنجبيل وعسل وبطعاؤها ياقوت وزمرد أخضر، وترابها مسك وعنبر وكافور أصفر وحشيشها زعفران يتأجج من غير وقود يتفجر من أصلها السلسبيل والرحيق والمعين وظلها مجلس من مجالس شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(1).

المسألة الثانية: إنها خلقت من سفرجل الجنة

عن الزهري عن سعيد بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أتاني جبرائيل عليه الصلاة والسلام بسفرجلة من الجنة فأكلتها ليلة أُسريَ بي فعلقت خديجة بفاطمة، فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة»(2).

يمكن لنا أن نفهم العلة من خلق فاطمة عليها السلام من هذه الثمرة من خلال بعض الأحاديث الشريفة، ومنها:

1 - روى الحر العاملي رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«ما بعث الله عزّ وجل نبياً إلا ومعه السفرجل»(3).

ص:185


1- تفسير سعد السعود لابن طاووس: ص 109، ط منشورات الرضي؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 496؛ البحار للمجلسي: ج 65، ص 72، ح 131.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 156؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 109، ح 34228؛ تذكرة الموضوعات للفتني: ص 99؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 153.
3- وسائل الشيعة: ج 17، ص 131.

2 - وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«وما بعث الله نبياً إلا أطعمه من سفرجل الجنة فيزيد فيه قوة أربعين رجلاً»(1).

3 - قال الإمام الرضا عليه السلام:

«ما بعث الله نبياً إلا أوجد منه ريح السفرجل»(2).

ولعل هذا هو أحد الأسباب التي أطعم فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم السفرجل فتحول ماءً في صلبه صلى الله عليه وآله وسلم لتلد خديجة عليها السلام الحوراء الإنسية صلوات الله عليها وليكون أولادها الأئمة يحملون من القوة ما يحملها الأنبياء عليهم السلام.

المسألة الثالثة: خلقها من رطب الجنة

عن الهروي قال: قلت للرضا عليه السلام: يابن رسول الله أخبرني عن الجنة والنّار أهما اليوم مخلوقتان ؟ فقال:

نعم وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء.

قال: فقلت له: إن قوماً يقولون: إنهما مقدّرتان غير مخلوقتين، فقال عليه السلام:

ما أولئك منّا ولا نحن منهم، من أنكر خلق الجنة والنار فقد

ص:186


1- بحار الأنوار: ج 63، ص 177.
2- المصدر السابق.

كذَّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذَّبنا وليس من ولايتنا على شيء، وخلّد في نار جهنم، قال الله عزّوجلّ :

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ )1 .

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرائيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته فتحول ذلك نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة»(1).

المسألة الرابعة: إنها عليها السلام خلقت من تفاحة من الجنة

عن ابن عمارة عن أبيه عن جابر، عن أبي جعفر - الباقر - عليه السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك تلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك ؟

فقال:

إن جبرائيل عليه السلام أتاني بتفاحة من الجنة فأكلتها فتحولت ماء في صلبي ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة فأنا

ص:187


1- بحار الأنوار: ج 8، ص 119؛ الأمالي للصدوق: ص 546، ح 7/728؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 2، ص 191.

أشم منها رائحة الجنة»(1).

ورد في الحديث لفظ «أحد بناتك» وقلنا في الفصول السابقة إن المراد بكلمة «بناتك» الربائب لأن العرب اعتادت أن تطلق على الربيبة اسم البنت فكان هذا هو لسانهم الذي بعث عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى:

(وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )2 .

المسألة الخامسة: إنها خلقت من جميع ثمار الجنة
اشارة

عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر تقبيل فاطمة عليها السلام فقالت له عائشة: «بأبي أنت وأمي إني أراك تكثر تقبيل فاطمة» فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن جبرائيل ليلة أسري بي أدخلني الجنة وأطعمني من جميع ثمارها فصار ذلك ماء في صلبي فحملت مني خديجة بفاطمة، فإذا اشتقت إلى تلك الثمار قبلت فاطمة فأصبت من ريح تلك الثمار التي أكلتها»(2).

ص:188


1- علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 183، الباب 147، ح 1؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 5، حديث 4؛ تاريخ بغداد للخطيب: ج 5؛ ص 17؛ دلائل الإمامة الطبري: ص 146، ح 54.
2- ذخائر العقبى لمحب الدين الطبرسي: ص 36؛ تاريخ الخميس للديار بكري: ج 1،
بعض دلالات الحديث:
أولاً: (فأصبت من ريح تلك الثمار)

هذا الحديث جاء ليعطي صورة أخرى لعلة تقبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة عليها السلام، وهو يقرب المعنى أكثر ممّا مرَّ في الحديث السابق. إلا أن الصورة الجديدة هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصرح لعائشة بأن رائحة فاطمة عليها السلام هي رائحة ثمار الجنة. فكيف يمكن أن تكون صفة هذه العطور؟ الله ورسوله أعلم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الوحيد الذي أكل من جميع هذه الثمار، وهو الوحيد الذي شم عطرها.

ثانياً: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الاشتياق إلى الجنة

إن الأمر الآخر الذي يظهر من خلال هذا الحديث أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الشوق إلى الجنة وكثرة الشوق دفعته إلى كثرة التقبيل لابنته الحوراء الإنسية الزهراء عليها السلام. وهو ما أثار اهتمام عائشة قائلة له صلى الله عليه وآله وسلم: (إني أراك تكثر تقبيل فاطمة)(1).

ص:189


1- للأحاديث الشريفة التي مر ذكرها في خلق فاطمة من ثمار الجنة دلالات كثيرة لا يسعنا ذكرها هنا، ولقد قمنا بذكرها في كتاب (هذه فاطمة) وهو قيد التنضيد والاخراج والله الموفق لكل خير.

المبحث الثاني: التهيئة النبويّة لنزول الأنوار الفاطمية

اشارة

تناولنا بحمد الله وتوفيقه في المبحث السابق الأحاديث التي تخبر عن خلق فاطمة من ثمار الجنة وفي هذا المبحث نتعرض لنفس المعنى لكن الاختلاف بين هذا المبحث وذاك هو أننا نعرض هنا الأحاديث التي تخبر عن نزول جبرائيل عليه السلام بثمار من الجنة إلى الأرض بينما كان الحديث في المبحث السابق يخص تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمار في السماء في رحلة الإسراء والمعراج.

ومن هنا، فإن جميع هذه الأحاديث التي في المبحثين تنص على مسألة واحدة، هي: أن النطفة النورانية الزكية التي خلقت منها البضعة النبوية، والصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت من عالم الأمر، وعالم النور، من خلال ثمار الجنة.

أما كيف يمكن الجمع بين هذه الأحاديث وتلك السابقة وبخاصة أن فاطمة الزهراء سلام الله عليها قد ولدت بعد المعراج بسنتين، أي إن هذه الثمار بقيت سنتين في بدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومفاد الأحاديث يخبر عن انتقال هذا النور إلى خديجة عليها السلام بعد هذه المرحلة السماوية وهو محل إشكال ؟!

والجواب على ذلك من وجهين:

الوجه الأول

هو أن هذه الثمار لا يمكن قياسها بعالم الدنيا وثمارها، وأن هذه الثمار

ص:190

تحمل من المعاني الدنيوية المسميات لغرض بيان دلالة اللفظ الذي يطلق على هذه الثمرة أو تلك، ولكي يتناسب ذلك مع العقل البشري ولا تمجه أذهانهم، فالناس ليسوا على مستوى واحد من الإدراك والاستيعاب للحقائق.

وعليه فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما أراد أن يبين للناس منزلة فاطمة صلوات الله عليها ومقاماتها صاغ الأمر بشكله الذي يستوعبه السامع، أمّا بواطن الكلمات وألطاف معانيها فهو لذوي القلوب النيرة والآذان الواعية.

ومن هنا فإن معنى تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثمار الجنة في الإسراء والمعراج كان لغاية واحدة، هذه الغاية هي انتقال النور الإلهي إلى صلب النبوة، وإن الحكمة الإلهية اقتضت أن يتم انتقال هذا النور على مرحلتين، المرحلة الأولى: تتم في الإسراء والمعراج وفي مكان خاص من السماء وهي السماء السادسة التي جعل الله فيها الجنة وأن يكون المرشد والطاعم والدليل هو روح القدس وأمين الوحي جبرائيل عليه السلام وإن يكون هذا النور ضمن هيئة خاصة وعناصر محددة من اللون والطعم والرائحة، فكل لون من الألوان له أسراره الخاصة به ومدلولاته الكونية، فلذا ترى تعدّدت الثمار من: «رطبٍ ، وتفاحٍ ، وسفرجل»، مع ثمرة شجرة طوبى التي لم تصرح الرواية عن طبيعتها ولم تذكر صفاتها.

كل ذلك لأسرار خاصة بنور فاطمة صلوات الله عليها، فهذه هي الغاية التي من أجلها تناول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمار في

ص:191

الجنة، وليست الغاية هي تذويق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الثمار؛ إذ ما أسهل ذلك عليه وهو الذي يبيت عند ربه كل ليلة وله مُطعم يطعمه وساقٍ يسقيه(1)! فهذه هي المرحلة الأولى من انتقال النور من عالم الأمر، أي عالم السماء إلى عالم الشهادة، إلى الأرض.

ثم تكون المرحلة الثانية من نزول النور وانتقاله إلى الأرض من خلال نزول جبرائيل عليه السلام حاملاً لهذه الثمار فيضاف إليها (العنب).

وعليه: فيمكن أن يكون هذا النور قد انتقل إلى صلب النبوة مفرقاً على هيئة شعبتين، الأولى كانت في الجنة، والثانية كانت في الدنيا لتُجْمع هاتان الشعبتان في صلب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض.

الوجه الثاني
اشارة

إنّ من خواص بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو حفظ ما يرد إليه من الأنوار الإلهية والفيوضات الرحمانية لتناسب طبيعة بدنه المقدس مع هذه الأنوار بأمر الله عزّوجلّ .

نضيف إلى ذلك أن من المعاجز النبوية التي فاقت معجزة إبراهيم الخليل عليه السلام هي معجزة احتفاظ بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالسم الذي قدمته إليه اليهودية الخيبرية لشهور عديدة حتى ظهر أثره عليه وتوفي شهيداً، وهي حقيقة نص عليها الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في بيانه

ص:192


1- صحيح البخاري، كتاب الصيام، باب: الوصال، برقم 1863؛ ومسلم في صحيحه، كتاب الصوم، باب: الوصال، برقم 1105.

خاتمة العترة و اختياره - تعالى - لهم من الشهادة فقال:

«ما منا ألا مسموم أو مقتول»(1).

وعليه: فإن بقاء ماء هذه الثمار في بدنه المقدس وفي صلبه النوراني النبوي أولى من بقاء نار السم الذي قدمته إليه اليهودية.

أما العلة في بقاء السم دون ظهور أي إشارة فذلك لكونه أفضل الأنبياء والمرسلين وهذا التفضيل يقتضي الشدة في الابتلاء، وقد سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أشد الناس بلاءً؟ فقال:

«الأنبياء ثم الأوصياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل»(2).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(3).

وأن يأتي بجميع معاجز الأنبياء عليهم السلام وبشكل أكبر وأقوى من معاجزهم ومنها معجزة إبراهيم الخليل عليه السلام فكانت معجزة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أكبر من ذلك؛ إذ بقاء النار في جوف الإنسان وفي داخل بدنه لشهور عديدة أكبر وأعظم بكثير من معجزة دخول إبراهيم عليه السلام النار للحظات والخروج منها بإذن الله تعالى.

ص:193


1- كفاية الأثر للخزاز القمي: ص 227؛ البحار للمجلسي: ج 27، ص 218.
2- الدعوات لقطب الدين الراوندي: ص 167؛ وأخرجه أحمد والترمذي بلفظ مقارب: مسند أحمد: ج 1، ص 172؛ سنن الترمذي: ج 4، ص 28.
3- تفسير الرازي: ج 4، ص 175؛ البحار للمجلسي: ج 39، ص 56؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 42.

وهي حقيقة احتج بها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على بعض اليهود الذين جاءوه يسألون عن علة تفضيل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على بقية الأنبياء عليهم السلام وهو لم يؤتَ بمعاجزهم فقال عليه السلام فيما أوتي إبراهيم من معجزة النار فكانت برداً وسلاماً:

(محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل بخيبر سمته الخيبرية فصيّر الله السم في جوفه برداً وسلاماً إلى منتهى أجله، فالسم يحرق إذا استقر في الجوف كما أن النار تحرق، فهذا من قدرته لا تنكره)(1).

إذن:

كان الوجه الثاني: هو احتفاظه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا النور أو بماء هذه الثمار في صلبه لمدة عامين أو أكثر بأمر الله تعالى. حتى حان الإذن الإلهي في انتقال هذه النطفة إلى الطاهرة خديجة عليها السلام.

وفيما يأتي نذكر هذه الأحاديث ونشير إلى معانيها التي وفقنا الله لبيانها والإشارة إليها بشفاعة البضعة المحمدية صلوات الله عليها.

المحور الأول: أحاديث اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس ومنهم أم المؤمنين خديجة عليها السلام

«الله يأمر النبي بالتهيؤ لنزول أمرِ مهمٍّ ».

الحديث الأول؛ روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان جالساً

ص:194


1- الاحتجاج للطبرسي، احتجاجه عليه السلام على اليهود: ج 1، ص 314؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 186؛ البحار للمجلسي: ج 10، ص 33.

بالأبطح ومعه عمّار بن ياسر، ومنذر بن الضحضاح، وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وجماعة إذ هبط عليه جبرائيل عليه السلام في صورته العظمى قد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب، فناداه:

يا محمد العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لها محبّاً وبها وامقاً.

قال: فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، حتّى إذا كان في آخر أيامه ذلك بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال: قل لها:

يا خديجة لا تظني أنّ انقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكن ربّي عزّوجلّ أمرني بذلك لتنفيذ أمره، فلا تظني يا خديجة إلا خيرا فإن الله عزّوجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كلّ يوم مراراً، فإذا جنك الليل فأجيفي الباب وخذي مضجعك من فراشك، فإني في منزل فاطمة بنت أسد.

فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مراراً لفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1).

هذه المقطوعة اقتطعناها من حديث طويل سنورد بقية ما جاء فيه في المبحثين القادمين مع ما يناسبها من أحاديث أخرى.

ص:195


1- بحار الأنوار: ج 16، ص 78-79، ح 20؛ الخصائص الفاطمية للكجوري: ج 1 ص 343-344؛ الأنوار البهية للشيخ عباس القمي: ص 53-54.

دلالات البحث في الحديث:

إن الحديث يبين لنا أنّ الله عزّوجلّ يأمر نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بالتهيئة والاستعداد لتلقي أمر معين وأن هذه الترتيبات وهذا التأهب يظهر أهمية هذا الأمر وعظم منزلته عند الله تبارك وتعالى. وهو ما نرجو أن يوفقنا الله لبيانه من خلال هذه المسائل.

المسألة الأولى: (لماذا الاعتزال لمدة أربعين يوماً؟)
أولاً: (الاعتزال)

وهو منهج من مناهج القرآن الكريم وطريقة من طرق الأنبياء والمرسلين، وأسلوب تعبدي من أساليب الأولياء والصالحين بالتقرب إلى رب العالمين، وهو من الرياضات الروحية التي اعتمدت عليها مدارس العرفان لاسيما إذا توج بالتفكر والتأمل.

والقرآن الكريم يعرض هذا المنهاج التعبدي التقربي في مواضع عدة ليبين آثاره على من انتهجه وسلكه ومن ذلك قوله عزّوجلّ في أصحاب الكهف:

(وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً)1 .

فهذه الآية الكريمة ترشد العارف إلى خاصّتين من خواص الاعتزال إحداهما إنه يمنح المنتهج له آثار رحمة الله فيكون مستحقاً لهذه الرحمة فينشرها الله عليه.

ص:196

والأخرى أن الله عزّوجلّ يهيئ للمتقرب إليه بهذه العبادة سبل النجاة وطرق الخلاص من المهلكات. كما كان واضحاً من حال هذه النخبة المؤمنة التي انتهجت هذا النهج التعبدي، لأن أهم ما في هذا النهج أنه يرشد صاحبه إلى نبع الإخلاص فيروى القلب بمائه الصافي والروح بعذبه الفراتي.

ومن هنا نجده مرافقاً لأولياء الله عزّوجلّ ، لأن الإخلاص غايتهم الموصولة إلى رياض القدس الإلهية وموجب لنزول الفيوضات الربانية، كما كان حال العذراء مريم عليها السلام ونهجها التجردي الاعتزالي التعبدي إلى الله عزّوجلّ فكانت لا ترى أحداً ولا يراها أحد إلا نبي الله زكريا عليه السلام فلم تأخذها العاطفة إلى أهلها والشوق إلى خاصتها وذويها لأن الإخلاص لله غايتها، قال تعالى:

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)1 .

فكانت بهذا النهج قد حازت على الاصطفاء والطهر من الله عزّوجلّ ، وأصبحت موضعاً لامتداد النبوة، فمن خلالها لحق عيسى بإبراهيم عليهما السلام.

ثم ينقل القرآن الكريم صورة أخرى لهذا النهج التعبدي، ورائداً آخر من رواد هذا الصرح الولائي لله عزّوجلّ لنلمس جانباً آخر من جوانب رحمة الله، وأثراً خاصاً من آثار عناية الله، ولوناً جديداً من ألوان المنّ الإلهي والفضل

ص:197

المولوي والعطاء الرباني على عبده ونبيه وخليله إبراهيم عليه السلام.

فنبي الله إبراهيم أيضاً قد سلك هذا المسلك وتقرب إلى الله عزّوجلّ بهذا النوع من العبادة متقرباً بالإخلاص من خلاله إلى الله تعالى فكان ذلك سبباً لنزول الرحمة الإلهية واختصاصه بالأفضال الربانية وموجباً للعناية الإلهية بعد طول عناء وجهد واجتهاد.

قال تعالى:

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا)1 .

فكان (اعتزال) إبراهيم الخليل عليه السلام لقومه وما يعبدون من دون الله سبباً في نزول الرحمة الإلهية فوهب له عزّ شأنه الذريّة وخص هذه الذرية بالنبوة.

ومن هنا: يظهر لنا بعض أوجه الحكمة في اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة عليها السلام متعبداً بهذا النهج وكان مع اعتزاله صائماً في النهار وقائماً في الليل يتقرب إلى الله بأحب العبادات إليه وأوصلها إلى قربه ليلمس آثار رحمة الله العظمى ويتلقى الهبة الربانية والتحفة الإلهية وليعطى ما لم يعطِه الله لأحدٍ من العالمين، فهذه فاطمة عليها السلام، أي إن الله أعطاه الأخيار، وحقة الأنوار، وأمّة الملك الجبار، وأم الأئمة الأطهار صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

ص:198

ثانياً: علم الأعداد والحروف وشرافة العدد أربعين

يعدُّ علم الأعداد أحد أهم علوم أرباب الأسرار وأهل العرفان، والمتصوفة، وكان له رواج كبير لدى العلماء السابقين، أما المتأخرون فما يزال هناك من يأنس بهذا العلم لاسيما المهتمين منهم بالأمور العرفانية، وقد وردت معانٍ كثيرة لخواص هذا العدد في أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة والسلام(1).

ونحن لا نريد أن ندخل في هذا العلم وأبوابه الواسعة وأسراره الخفية فلهذا العلم أهله وحملته إلا أننا نقول فيما يخص الأعداد، وبخاصة فيما نحن بصدده وهو العدد «أربعون» - الذي جاءت به الرواية من خلال ما ذكره جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما حدد له المدة في الاعتزال - نقول: إن لهذا العدد سره الدفين الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم وهم محمد وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم. فهم العارفون بخصائصه الغيبية. إلاّ أننا يمكن أن نصل إلى قناعة في أهمية هذا العدد وآثاره الغيبية من خلال: (القرآن والعترة المحمدية).

بعض الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن العترة المحمدية تعرض لنا بعض الحقائق المرتبطة بالأنبياء وعلاقتهم مع هذا العدد.

قال تعالى:

(وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ

ص:199


1- تفسير الثقلين: ج 1، ص 162.

ظالِمُونَ )1 .

فالقرآن يعرض لنا في هذه الآية المدة التي غاب فيها موسى عليه السلام عن قومه وبعد انتهاء هذه المدة، أي الأربعين يوماً فإن القوم انقلبوا على أعقابهم واتخذوا عبادة العجل.

ثم يبين القرآن الكريم في نفس المجال فيطلق على هذا العدد ب - «الميقات» فيقول عزّوجلّ :

(وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً )2 .

فالآية هنا تشير إلى سر خفي في هذا العدد الذي به يتم الميقات الإلهي.

والقرآن لا يقتصر في أسرار هذا العدد على الأنبياء عليهم السلام بل ينقل لنا صورة عن العقاب الإلهي للظالمين فيقول تعالى:

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ )3 .

وهم قوم نبي الله موسى الذي رفضوا دخول الأرض المقدسة فتاهوا أربعين سنة في البيداء.

ص:200

ثم ينتقل القرآن الكريم إلى مجال آخر فيشير إلى تكرر هذا العدد في موضع جديد هو كمال العقل والأشد، قال تعالى:

(حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )1 .

ومن هنا نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد هبط عليه جبرائيل عليه السلام في الأربعين من عمره الشريف فبعثه الله رحمة للعالمين.

أما ما جاء في الأحاديث الواردة عن العترة الطاهرة فكثيرة في هذا المجال، نذكر ما تيسر منها تيمناً.

فقد ورد ذكر هذا العدد في حفظ الأحاديث النبوية، وأثر هذا الحفظ المقيد بالأربعين حديثاً على الإنسان في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«من حفظ عني من أمتي أربعين حديثاً في دينه يريد وجه الله عزّوجلّ والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً»(1).

وقد ورد أيضاً ذكر هذا العدد وبيان آثاره على من أخلص لله عزّوجلّ مدّة من الزمن بتمامه، فعن أبي جعفر الباقر عليه الصلاة

ص:201


1- بحار الأنوار: ج 2، ص 153 و 154، ح 3 و 5 و 6؛ الخصال للصدوق: ص 542، ح 17؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 8، ص 45، ح 595.

والسلام أنه قال:

«ما أخلص عبد الإيمان لله أربعين يوماً أو قال: ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوماً إلا زهدّه الله في الدنيا وبصَّره داءها ودواءها وأثبتت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه»(1).

وجاء ذكره في مَن أراد التوجه إلى الله عزّوجلّ بالدعاء وطلب الاستجابة في قضاء الحوائج أن يقدم الاستغفار لأربعين مؤمناً ويدعو لهم حتى يضمن لنفسه الاستجابة وقضاء الحاجة.

فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:

«من قدّم في دعائه أربعين من المؤمنين ثم دعا لنفسه استجيب له»(2).

ومنه جاء الاستحباب في تقديم أربعين مؤمناً يعدّهم بأسمائهم ويستغفر لهم في صلاة الوتر من نافلة الليل قبل أن يستغفر لنفسه.

ومن الأسرار الخفية في قضاء الحوائج هو اجتماع أربعين رجلاً في مجلس واحد يدعون الله عزّوجلّ في أمرٍ ما فيقض] الله لهم هذا الأمر يستجيب لهم، وهو ما جاء عن الإمام جعفر بن محمد الصادق روحي فداه، قال عليه السلام:

ص:202


1- البحار: ج 70، ص 240، حديث 8؛ جامع السعادات للنراقي: ج 2، ص 313؛ مستدرك الوسائل للنوري: ص 295، ح 17/5901.
2- وسائل الشيعة: ج 4 باب 45 من أبواب الدعاء ص 1154 حديث 5؛ الأمالي للصدوق: ص 541، ح 725؛ البحار للمجلسي: ج 90، ص 384، ح 6.

«ما من رهط أربعين رجلاً اجتمعوا فدعوا الله عزّوجلّ في أمر إلا استجاب لهم»(1).

ومنها استحباب رش قبر الميت لمدة أربعين يوماً في كل يوم مرة، وقد أمر الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه:

«أن يرش قبره أربعين يوماً في كل يوم مرة»(2)).

ومنها إن مراحل تكوين الجنين من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام، أربعون يوماً لكل مرحلة، فيكون الجنين عند ذلك في شهره السادس وهو قوله تعالى:

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ )3 .

وغيرها من الأحاديث في المجالات المختلفة فإن جميعها تدل على أسرار هذا العدد وشرافته من بين الأعداد عند الله عزّوجلّ .

وعليه نلمس العناية الإلهية في اعتزال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله

ص:203


1- وسائل الشيعة: ج 4 باب 38 ص 1143 حديث 1؛ الكافي للكليني: ج 2، ص 487، باب الاجتماع في الدعاء، ح 1؛ عدة الداعي لابن فهد الحلي: ص 144.
2- وسائل الشيعة «آل البيت»: ج 2 ص 860 باب 32 من الدفق حديث 6؛ وسائل الشيعة «الإسلامية»: ج 3، ص 197، باب 33، ح (3393) 6؛ كشف اللثام للفاضل الهندي: ج 2، ص 396، الفصل الرابع.

وسلم هذه المدة من الزمن لكي يتهيأ ويستعد لاستقبال الهبة الربانية والتحفة الإلهية وهو في نفس الوقت يكشف عن عظم الأمر الذي ينزل به جبرائيل عليه السلام وكبر شأنه عند الله تعالى لأنه استلزم اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً متعبداً فيها صائماً قائما مصلياً متصدقاً متقرباً إلى الله عزّوجلّ .

المسألة الثانية: «جبرائيل عليه السلام يهبط في صورته العظمى»
اشارة

لا بد من الحديث عن الملائكة قبل الدخول في معنى نزول الملك جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى، حتى نصل إلى نتيجة البحث وندرك معنى الأمر، ونفهم عظم المسألة التي استعد لها أشرف خلق الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أولاً: معنى تسميتهم بالملائكة

فأما معنى تسميتهم بالملائكة: فهو إما مشتقة من الألوكة بمعنى «الرسالة»، أو مشتقة من الملك بمعنى «العبودية» المحضة الخالصة.

والملائكة المدبرات والمقدرات، وملائكة الجنة والنار، والملائكة الذين هم حملة التدبير والتقدير والتسخير وغيرها، سميت ملكا لظهور مبدأ الاشتقاق فيه، لأنهم رسل الله في اتصال ما يتحملون من جهات الفيض ورؤوس المشيئة إلى محالها ومواقعها كما نصّ عليهم بأنهم رسل الله في قوله تعالى:

ص:204

(إِنّا رُسُلُ )1 .

وهم المتمحضون في العبودية والمخلصون في الطاعة:

(لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ )2 .

بحال من الأحوال وطور من الأطوار، كما نص عليهم بقوله:

(وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)3 .

وقوله تعالى:

(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )4 .

وقوله تعالى:

(لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ )5 .

فلما ظهر فيهم مبدأ الاشتقاق وتحققت المناسبة المطلوبة بين اللفظ والمعنى أطلق عليهم لفظ الملائكة، وإلا فهم صنف آخر ونوع آخر غير جنس الجن والإنس وغيرهم، وإنما سموا (ملائكة) لهذه العلة التي هي ظهور مبدأ

ص:205

الاشتقاق، فعلى هذا كل شيء فيه هذا المعنى يصح إطلاق لفظ الملائكة عليهم(1).

وهي - أي الملائكة - «ذوات نورانية قد اضمحلت فيهم جهة الميولات النفسانية والشهوات الإنسانية والجنسية، فغلبت عليهم جهة النور، بحيث اضمحلت فيهم الظلمة بالرمة فلا أثر لها بالكلية»(2) وهذا القول مأخوذ من أقوال العترة المحمدية صلوات الله وسلامه عليهم.

فقد وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:

«صور عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد، تجلى بها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله»(3).

وفيما يخص الملائكة من أحاديث فهي كثيرة جداً في مدرسة ثقل القرآن وعترة الهادي إلى طريق الرحمن، أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم إلا إننا أوردنا هذا المقدار لكي لا يطول بنا الوقوف عند هذا المبحث وهو ليس قصدنا وغايتنا بقدر ما نريد أن نمهد لمعنى نزول جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى ونضيف إلى ذلك أنهم، أي: الملائكة عليهم السلام لهم مراتب ثابتة فلا يستطيع أحدهم الصعود إلى مرتبة أعلى من خلال طاعته وهو ما جاء في قول مولانا وسيدنا الإمام الصادق سلام الله عليه في الملائكة:

ص:206


1- أنوار الغيب للسيد كاظم الحسيني الرشتي: ص 50، تحقيق الشيخ أحمد آل بو شفيع.
2- شرح القصيدة للسيد كاظم الرشتي: السؤال 15 ص 231، أنوار الغيب: ص 46.
3- كتاب أصول العقائد: ص 184.

«إنهم ناقصون لا يحتملون الزيادة»(1).

وهي بمعنى أوضح:

إن الملك ناقص لا يحتمل الكمال لأنه صورة عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد؛ لأن الملك مطبوع على الطاعة ومقطوع عليها، مثلاً ميكائيل عليه السلام لما خلقه الله تعالى، له مقام ومرتبة ولكنه لا يزيد ولا ينمو بطاعته وخدمته لله تعالى إلى مقام أرفع وأعلى الآن.

وإنما هو كالسراج إذا أشعلته في أول الليل وأتيت إليه في آخر الليل لا تجده أنور وأشد ضوءاًً عن أول الليل، فإنه نور لا يوجد في مقابلته ظلمة.

وأما الإنسان فإنه تتساوى عنده باختياره نسبة الطاعة إلى المعصية، فإنه مركب من قوى رحمانية عقلية ومن قوى حيوانية، فهو متردد بين الكمال والنقصان، فبطاعته ينمو ويزداد ويترقى إلى مقام القرب الإلهي كسلمان المحمدي رضوان الله عليه فإنه انقطع إلى الله وإلى عبادته مع وجود النقيض في النفس(2) ، وهو أول الصحابة المنتجبين وأسبق الشيعة إلى ولاية آل الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.

لذلك تجدهم عليهم السلام في مراتب مختلفة فمنهم «العالون» وهم: (إسرافيل، وجبرائيل، وميكائيل وعزرائيل) عليهم السلام، ومنهم الكروبيون وهم:

ص:207


1- البحار للمجلسي: ج 3، ص 15 و 37.
2- أنوار الغيب للسيد كاظم الحسيني الرشتي: ص 53.

«الذين جعلهم الله خلف العرش، ولو قُسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم».

وهو قول مولانا الإمام الصادق عليه السلام في وصفهم(1).

والقرآن الكريم يذكر أنواع الملائكة في قوله تعالى:

(وَ النّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَ النّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَ السّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)2 .

وقوله:

(وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَ النّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً)3 .

ولكونهم ذوات نورانية، وقوى روحانية وجسمانية، ذوات شعور وإدراك واختيار، لكنها لضعف تركيبها وعدم كمال انعقادها وغلبة نوريتها تتشكل بأشكال مختلفة، وتظهر بصور مختلفة، ما عدا الصور القبيحة والخبيثة(2).

وقد كان جبرائيل عليه السلام يظهر بصورة «دحية الكلبي» وهو أحد

ص:208


1- البحار للعلامة المجلسي: ج 56 ص 184، رواية 26.
2- أنوار الغيب للسيد كاظم الرشتي: ص 41.

صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ظهر بصورته مرات عديدة للمسلمين بشكل جماعي وهم ذاهبون لغزوة خيبر(1) ، وبشكل فرادى كما ظهر لأم سلمة رضي الله عنها(2).

بينما كان يظهر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورة رجل جميل الصورة عذب الصوت، كما ظهر لمريم بهيئة بشرية:

(فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)3 .

أي: جميل الصورة والصوت.

ثانياً: المواضع التي ظهر فيها جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى
اشارة

أما صورته الأصلية فلم يظهر فيها إلا في ثلاثة مواضع:

الموضع الأول

تجلى فيه جبرائيل عليه السلام بصورته الأصلية في غار حراء يوم المبعث في السابع والعشرين من شهر رجب لسنة أربعين من عمره المبارك، وفي هذا اليوم، وفي هذا الموضع، ولهذا الأمر شأن ومنزلة وخطر عظيم عند الله عزّوجلّ ، ولذا تراه تجلى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورته الأصلية.

ص:209


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 246؛ والبداية والنهاية: ج 4، ص 136؛ الكافي للكليني: ج 2، ص 587، ح 25؛ أمالي الصدوق: ص 426 سنن النسائي: ج 8، ص 103.
2- صحيح مسلم، كتاب المناقب، مناقب أم سلمة رضي الله عنها: ج 7: ص 1.
الموضع الثاني

فقد تجلى فيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورته العظمى التي خلقه الله عليها ليلة الإسراء والمعراج، وهو مفاد قوله تعالى:

(وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى )1 .

وهذه الصورة التي عليها جبرائيل عليه السلام كانت آية من آيات الله الكبرى، ولقوله تعالى:

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى )2 .

الموضع الثالث

هو عند نزول أمر الله تعالى لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالاعتزال عن خديجة والناس لمدة أربعين يوماً، وفي هذا دليل على عظمة مهمّته وجلالة الأمر الذي جاء به، وهو انعقاد نطفة فاطمة أم الأئمة الأطهار وزوجة ولي الله حيدرة الكرار.

ثالثاً: أثر الاعتزال والرياضة النفسية في خلق الجنين

إن التعبد بالصيام والقيام أربعين يوماً وليلة، واعتزال الخلق، وهجران الزوجة، وتشديد الشوق والميل الطبيعي بين السيدة خديجة والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك يكون له الأثر الخاص في انعقاد النطفة الزكية،

ص:210

خصوصاً إذا ألحق به ارتياض سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم رياضة خاصة تتناسب مع مقامه عند الله تعالى ومنزلته لديه حتى حصل الاستعداد لقبول الهدية السماوية والعطية الربانية.

رابعاً: الأدب النبوي في بيان حبه لخديجة عليها السلام

إن بعثه صلى الله عليه وآله وسلم عمار بن ياسر رضوان الله عليه إلى خديجة؛ ليطمئنها عليه وينقل لها كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان مقامها ومنزلتها عند الله، وإنه ليباهي ملائكته بها كل ذلك دلائل على عظم منزلتها عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو دليل على حب النبي الكبير للسيدة الجليلة خديجة سلام الله عليها.

المسألة الثالثة: جبرائيل عليه السلام ينزل بالنور الفاطمي من الجنة
اشارة

تناولنا في المبحث الأول اعتزال النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً صائماً قائماً مصلياً متصدّقاً متقرّباً إلى الله عزّوجلّ .

ونورد هنا ما كان من مجريات للأحداث التي رافقت هذا الأمر الإلهي لسيد الأنبياء وأكرم من خلق الله عزّوجلّ حبيبه المصطفى وعبده المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم.

قال سيدنا ومولانا روحي له الفدى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:

ص:211

«فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد! العليّ الأعلى يقرئك السلام هو يأمرك بأن تتأهب لتحيته وتحفته.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرائيل وما تحفة ربّ العالمين ؟ وما تحيته ؟، قال: لا علم لي، قال: فبينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس، أو قال: إستبرق، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل جبرائيل عليه السلام وقال: يا محمد يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.

فقال علي بن أبي طالب عليه السلام:

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يريد الإفطار، فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي على باب المنزل وقال: يبن أبي طالب، إنه طعام محرم إلا عليّ .

قال علي عليه السلام:

فجلست على الباب وخلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالطعام وكشف الطبق، فإذا عُثق من رطب وعنقود من عنب فأكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه شبعاً، وشرب من الماء رياً، ومد يده للغسل فأفاض الماء عليه جبرائيل وغسل يده ميكائيل وتمندل له اسرافيل، وارتفع فاضل الطعام مع الإناء إلى السماء ثم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي فأقبل جبرائيل وقال: الصلاة محرّمة عليك في وقتك حتى تأتي خديجة

ص:212

فتواقعها، فإن الله عزّوجلّ آل على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة، فوثب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزل خديجة»(1).

مسائل البحث في الحديث:

أولاً: (اشتراك الملائكة الثلاثة عليهم السلام في إيصال الوديعة)

نزول الملائكة المقربين الثلاثة وهم العالون، خصوصاً إسرافيل، حيث لم ينزل قط سوى هذه المرة - حسب ما توفر لديّ من مصادر، وطاقة في البحث - مصحوباً بالتشريفات الخاصة من السندس والإبريق والمنديل والماء والطبق من الجنة مع ما قاموا به عليهم السلام من تقسيم للعمل في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك «التشريف» السماوي فكان الذي أفاض الماء جبرائيل عليه السلام والذي غسل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميكائيل، والحال كان يكفي بجبرائيل بصب الماء على اليدين فيقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغسلهما لكن أن يقوم بغسل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو غاية قصوى في التشرف بخدمته، وكذلك الحال بالنسبة لإسرافيل عليه السلام فإنه يمكن للنبي أن يأخذ المنديل من إسرافيل عليه السلام فيمسح يديه ويمندل يديه لكن أن يقوم إسرافيل ويمندل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمسحهما فهو تشريف لإسرافيل عليه السلام وإكرام لفاطمة صلوات الله

ص:213


1- بحار الأنوار: ج 16، ص 79، باب 5؛ الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص 453؛ العدد القوية لعلي بن يوسف الحلي: ص 221؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 20؛ الخصائص الفاطمية للكجوري رحمه الله: ج 1 ص 344-345.

عليها، حيث إنها أنزلت بتلك العطايا والهدايا يحملها كبار سكان الملأ الأعلى.

وكيف لا وهي صاحبة النور الأوحد الذي خلقه الله من نور عظمته فأشرقت به السماوات والأرضيون، وقد غشي أبصار الملائكة فخروا لله ساجدين وبحمده قائلين وبثنائه مسبحين.

ثانياً: (هل يجوز تأخير الصلاة في شتى الأحوال لعلل راجحة)؟!

قد جاء في الحديث: قول جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«الصلاة محرمة عليك في وقتك حتى تأتي منزل خديجة».

أما الجواب على هذا السؤال فهو عند الفقهاء: «الجواز» فقد جاء في الشريعة السمحاء موارد عديدة يستثنى فيها من المبادرة إلى إقامة الصلاة في أول وقتها.

الأول: الظهر والعصر إذا أراد الإتيان بنافلتهما، وكذا الفجر إذا لم يقدم نافلتها قبل دخول الوقت، ما لم يتضيق وقت فضيلة الفريضة.

الثاني: مطلق الحاضرة لمن عليه قضاء يومه أول ليلته، فإن عليه المبادرة بالفائتة ما لم تتضيق الحاضرة حتى لو كان قد نوى الحاضرة فعليه أن يعدل إلى الفائتة، هذا إذا تذكر قبل فوات محلها، وذلك للنصوص(1) ، التي لأجلها قيل بالمضايقة في قضاء يومه وليلته إلا في فريضة الفجر فلا يتقدم عليها فائتة لحديث

ص:214


1- الوسائل، باب 62 من أبواب المواقيت، الحديث: 1، 2، 4، 7، 8 وجميع أحاديث الباب 63.

أبي بصير وحديث ابن مسكان، كلاهما عن الإمام الصادق عليه السلام(1).

الثالث: المتيمم مع احتمال زوال العُذر أو رجائه، أو لمن عليه البحث عن الماء غلوة سهم أو سهمين كما هو مبين في أحكام التيمم عند الفقهاء.

الرابع: لدفع الأخبثين للحاقن بهما، لقول الصادق عليه السلام:

«لا صلاة لحاقن ولا لحاقنة الحديث»(2).

وقوله:

«لا تصلّ وأنت تجد شيئاً من الأخبثين»(3).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يصلي أحدكم وبه أحد العنصرين، يعني: البول والغائط »(4).

أي حتى يزيلهما ويتطهر من جديد ويصلّي.

الخامس: ليدرك فضيلة الجماعة، والمسجد، وحضور القلب، ولدرك كلّ فضيلة وكمال، ما لم يفض إلى الإفراط في التأخير.

السادس: المستحاضة الكبرى، لها أن تؤخر الظهر لتجمعها مع العصر

ص:215


1- الوسائل، باب 62 من أبواب المواقيت، الحديث 3-4.
2- الوسائل، باب 8 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث: 2؛ أمالي الصدوق: ص 498، ح 12/683؛ المعتبر للمحقق الحلي: ج 2، ص 262؛ المحاسن لأحمد بن محمد البرقي: ج 1، ص 83.
3- الوسائل: باب 8 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث: 3-8؛ تذكرة الفقهاء: ج 3، ص 298؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 2، ص 326، ح 1333.
4- المحاسن لأحمد بن محمد البرقي: ج 1، ص 82، ح 14.

بغسل واحد، وتؤخر المغرب لتجمعها مع العشاء كذلك.

السابع: المغرب والعشاء لمن أفاض من عرفات إلى المشعر، فله أن يؤخرهما ولو إلى ثلث الليل فيجمع بينها، وهذه من السنة المؤكدة ففي صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما لا تصلِّ المغرب حتى تأتي جمعاً(1) وإن ذهب ثلث الليل(2) ونحوه موثقة سماعة عن الإمام الصادق عليه السلام(3).

الثامن: صلاة المغرب لمن ينتظره قومٌ صوّم يخشى أن يجسمهم عن إفطارهم، أو هو تشتاق نفسه إلى الإفطار وتنازعه. كما في صحيح الحلبي وحديث الفضيل وزرارة(4).

التاسع: من أتى بأربع ركعات من صلاة الليل أو أكثر، فدخل الفجر، فله أن يتم وتره مخففة ثم يصلي الفجر، ما لم يسفر الصبح أو تغور النجوم(5) ، ونافلة الفجر أفضل من الوتر.

العاشر: صلاة المغرب للمسافر حتى يغيب الشفق، أو إلى ربع الليل، أو إلى ثلثه، بل مطلق الصلاة لمطلق المسافر المستعجل(6) ، بل ولمطلق الاعتذار

ص:216


1- جمعاً: الجمع هو المشعر الحرام، ويسمى، أيضاً: المزدلفة.
2- الوسائل، باب 5، من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث: 1-2؛ روض الجنان للشهيد الثاني: ص 186؛ منتهى المطلب للعلامة الحلي: ج 2، ص 723.
3- منتقى الجمعان للشيخ حسن صاحب المعالم: ج 3، ص 353.
4- الوسائل، باب 7 من أبواب آداب الصائم، الحديث 1-2.
5- الوسائل، الباب 47-48 من أبواب المواقيت.
6- الوسائل، الباب 19 من أبواب المواقيت.

والاضطرار(1).

فجميع هذه الموارد قد وردت في الشريعة المحمدية عن طريق العترة النبوية صلوات الله عليهم أجمعين.

وقد ورد في التاريخ والسيرة العطرة لسيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد أمر المسلمين بتأخير الصلاة في غزوة خيبر.

فضلاً عمّا لما ذكر فإن إدخال السرور على قلب المؤمن من السنن المستحبة المؤكدة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أفضل الأعمال بعد الفرائض إدخال السرور على قلب المؤمن»(2).

ومن المؤكد إن رؤية الوجه النوراني المشرق باللطف الرحماني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم المسرات على قلب المؤمن ولاسيما زوجته الحبيبة خديجة الكبرى، وقد طال بها الانتظار لرؤياه وحدا بها الشوق لملقاه وألمها الحنين لعذوبة صوته وحلاوة منطقه.

ومما لا شك فيه إنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ به الشوق والحنين إلى حبيبته وأم ولده سلام الله عليها، فما تأخير الصلاة عن أدائها في أول أوقاتها مع جميع هذه العلل الراجحة والحال التي عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ من باب العناية الإلهية بحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:217


1- أنظر: اجماعيات فقه الشيعة للفقيه المحقق إسماعيل الحسيني.
2- أعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي: ص 254.
المسألة الرابعة: انتقال النور الفاطمي إلى الأرض الطاهرة
اشارة

نكمل إن شاء الله تعالى في هذا المبحث رحلة النور الفاطمي والفيض الأقدس، لكوثر الخير، وحوض اليمن، ونسمة الطهر فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، ومراحل تنقل هذا النور الإلهي من تحت ساق العرش واشراقه في قناديل معلقة وانتقاله إلى الجنة فأودعه الرحمن في ثمارها ليستلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضمن مرحلتين، كانت الأولى في الجنة، وكانت الثانية في الأرض من يد جبرائيل عليه السلام لتقر الوديعة الإلهية في قرار النبوة وصلب الرسالة وعمود الوحي وروح الشريعة، ثم ينتقل هذا النور الإلهي المودع في النطفة الزكية الفاطمية في أرض الطاهرة خديجة الكبرى سيدة النساء بعد فاطمة المحمدية.

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً)1 .

لتنمو في تلك الأرض الطاهرة المطهرة المعدة لاستقبال النور الإلهي فتنال بذلك ما لم تنلْه امرأة من العالمين، فأي رحمٍ حوى مثل فاطمة المطهرة... وأي بطن نما فيه مثل البضعة الطاهرة ؟!!

ولقد ذكرنا في المبحثين السابقين حديث خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة التي نزل بها جبرائيل بعد أن اعتزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة أربعين يوماً.

وفي هذا المبحث نكمل ما بقي من هذا الحديث لاختصاصه بما تصدره من عنوان، قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

ص:218

«قالت خديجة رضوان الله تعالى عليها: وكنت قد الفت الوحدة - بسبب اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها هذه المدة - فكان إذا جنني الليل غطيت رأسي، واسجفت ستري، وغلقت بابي، وصليت وردي، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي، فلما كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمشبهة، إذ جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرع الباب، فناديت: من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟.

قالت خديجة عليها السلام: فنادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإني محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.

قالت عليها السلام: فقمت فرحة مستبشرة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفتحت الباب ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنزل وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه، فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة، غير أنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عني النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى حسست بثقل فاطمة في بطني»(1).

ص:219


1- الأنوار البهية للشيخ عباس القمي: ص 56؛ العدد القوية لعلي بن يوسف الحلي: ص 222، ح 14؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 21؛ الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص 453.

دلالات البحث في الحديث:

أولاً: (المنهاج التربوي الأسري عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم)

هنا في هذا الحديث تظهر لنا أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها أحدى الصور المشرقة عن حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسرية، فهو المعلم الأول في الحياة المدنية المتحضرة.

وهذه الصورة كانت تحكي عن جانب من الجوانب العديدة في الحياة الأسرية، والذي يمتاز بالأهمية الكبيرة والتأثير النفسي على الأسرة وهو أحد المناهج التي تنمو من خلالها الأسرة ولتنتج أبناء صلحاء نافعين لأنفسهم ولمجتمعهم.

ولذلك، كيف يكون الأسلوب الذي يقوم به الزوج عند دخوله البيت ؟

هنا في هذه اللحظات القليلة والدقائق المعدودة ينظر الجميع ببالغ الأهمية لما يقوم به الأب من أفعال وينصتون إلى ما يخرج من فمه من كلمات، فإذا كانت مظاهر التعب والضجر واضحة على الأب انعكس ذلك على الزوجة والأولاد ولاسيما لو كانت في الأسرة بنيات فهن الأسرع تأثراً بهذا المنظر والأكثر شعوراً لما يظهر على الوالد.

ومن هنا: فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يدخل إلى البيت بهذا الشكل الذي نقلته هنا زوجته الحبيبة البارة المخلصة الوفية بهذه الكلمات: «وكان إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه».

ص:220

وهنا يظهر بشكل واضح هذا المنهاج التربوي الأسري الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالأب الذي يبدأ مشواره الأسري بالوضوء والصلاة فإنه يضفي على زوجته وأولاده الطمأنينة والسكينة والرحمة، فأي هو أروع من هذه الأجواء الرحمانية ؟! وأي أثر يتركه هذا الاسلوب في نفوس الأولاد والزوجة ؟! وهو في نفس الوقت يعلمهم أهمية الصلاة وأنها المفتاح الذي يجب عليهم أن يفتتحوا به خطوات حياتهم، فيتمسكوا بها ويستعينوا بها ويكونوا مصادقاً لقوله تعالى:

(وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ )1,2 .

ثانياً: المنهاج التربوي في العلاقة الزوجية

ثم تمضي سلام الله عليها لتبين لنا صورة أخرى من الصور التعليمية في جميع جوانب الحياة الدنيوية والأخروية.

وهنا تنقلنا السيدة خديجة في رحاب العلاقة الزوجية لتشير إلى أهم الأسس التي يعتمد عليها قيام البيت وهي صمام الأمان في الحياة الأسرية، فكم من أسرة تهدمت، وكم من علاقة زوجية فشلت وكم من أطفال ضيعت وكانت هي الضحية، بل هي التي دفعت فاتورة الاسلوب الفاشل الذي يفتقده الأب في كثير من العلاقات الزوجية الأسرية كحالات منفردة متعددة.

ص:221

وعندما نقول الأب لأسباب كثيرة منها القيمومية التي لدية والقدرة في التحكم في شؤون الحياة الأسرية وغيرها.

ومن هنا فإن السيدة خديجة سلام الله عليها تصف لنا هذه العلاقة الزوجية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الرقيقة والمنطق العذب والرقة والعاطفة والحب الكبير لهذا الزوج مع الحفاظ على العفة المحاطة بهذه الكلمات، والحشمة التي تفوح من هذه الألفاظ ، قالت سلام الله عليها:

«فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة، غير أنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني، وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها».

فهذه الكلمات على قلتها قد كشفت أحد السنن النبوية في آداب المعاشرة الزوجية وتظهر بشكل كبير الأجواء العاطفية التي ينبغي لكل زوج أن يتعلمها ويستسن بها، لأن هذا التعامل يجمع الشفافية في الاسلوب، والجمال في المبادرة لاستجلاب عاطفة المرأة وتحريكها واستدرار حبها.

ومن هنا فهذا المنهاج التربوي من أهم المناهج التي تدوم بها الحياة الزوجية وتستمر من خلالها العلاقة الزوجية.

وقد اعتمد طب النفس الأسري في كثير من البحوث والدراسات على هذا المنهاج ووضعه كمنهاج يعتمد عليه قيام الرابط الأسري وهو أحد الأسس التي يقوم عليها دوام العلاقة الزوجية، وكم نحن اليوم بحاجة إلى مراجعة تلك السنن النبوية ومعرفة الآداب المحمدية في مختلف ضروب الحياة ولا سيما في الجانب الأسري كأزواج وآباء وإخوان وأبناء.

ص:222

ثالثاً: (الإحساس بثقل فاطمة عليها السلام)
اشارة

إن إحساس السيدة الطاهرة والصديقة الجليلة أم الزهراء صلوات الله عليها بثقل فاطمة عليها السلام، هو خلاف العادة البشرية، وعملية الإحساس بثقل الجنين يتحدد عند الأم بعد الشهر الرابع للحمل.

أمّا بالنسبة للسيدة خديجة عليها السلام فإن إحساسها بثقل فاطمة عليها السلام عائد إلى النطفة الزكية الحاملة للنور الفاطمي وهو كإحساس السيدة مريم عليها السلام بعد أن تمثل لها روح القدس عليه السلام بشراً سويا فإحساسها بثقل فاطمة إنما هو من نور فاطمة وكونها من عصارة دار الآخرة وخلاصة نعيمها الممزوج بعرق روح القدس وزغبه وهو حامل الوحي والفيض الإلهي.

الحديث الثاني

عن زيد بن أسلم عن أبيه عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لما أن مات ولدي من خديجة، أوحى الله إلي أن أمسك عن خديجة وكنت لها عاشقاً، فسألت الله أن يجمع بيني وبينها، فأتاني جبرائيل في شهر رمضان ليلة الجمعة لأربع وعشرين ومعه طبق من رطب الجنة فقال لي: يا محمد كل هذا وواقع خديجة الليلة، ففعلت فحملت بفاطمة، فما لثمت فاطمة إلاّ وجدت ريح ذلك الرطب وهو في عترتها إلى يوم القيامة»(1).

ص:223


1- مقتل الحسين للخطيب الخوارزمي: ج 1 ص 68 الفصل الخامس نقلاً عن كتاب فضائل

دلالات البحث في الحديث:

أولاً: تعين ليلة انعقاد النطفة النورانية التي خلقت منها أم الأئمة

في هذا الحديث نجد هناك تحديداً لليلة التي انعقدت فيها النطفة الزكية لفاطمة صلوات الله عليها وهي ليلة الجمعة من شهر رمضان الواقعة في الليلة الرابعة والعشرين منه، وهذا التوقيت الدقيق لانتقال النور الفاطمي إلى رحم خديجة عليها السلام في غاية الاهتمام الرباني والعناية الإلهية، إذ لا يخفى أن العشر الأواخر من شهر رمضان هي أفضل لياليه وإن كل ليلة من هذه الليالي يطلب العباد فيها التوفيق لليلة القدر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«اطلبوها في العشر الأواخر»(1).

إضافة إلى فضل ليلة الجمعة على الليالي، فسبحان من قدّر لها هذا التقدير وهيأ لها هذا الوقت المحفوف بالبركات ونزول الفيوضات الرحمانية!

وعليه: فإن ولادتها الميمونة السعيدة تكون في شهر جمادى الآخرة وهو ما اشتهر في ميلادها ومطابقٌ لما نصت عليه الروايات الواردة عن العترة النبوية صلوات الله عليهم أجمعين.

ص:224


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 2، ص 395، في ليلة القدر، ح 11؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 8، ص 633، ليلة القدر، ح 24486؛ تفسير الثعلبي: ج 10، ص 252؛ مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ص 467، ح (8669) 4.
ثانياً: القاسم وعبدالله عليهما السلام ولدا وماتا في الإسلام

هذا الحديث يحمل دليلاً آخر لما قدمناه في الجزء الأول من هذا الكتاب الذي بحثنا فيه حياة أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلنا: إن حقيقة أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم ثلاثة فقط ، ولدان وهما القاسم وعبد الله وقد ولدا وماتا في الإسلام وفيهما قال: العاص بن وائل السهمي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعوه فإنه مات ولده فهو أبتر، فأنزل الله تعالى فيه:

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)1 .

وبنت واحدة هي فاطمة صلوات الله عليها والحديث واضح وضوح الشمس أن الله منَّ على نبيه الأعظم بفاطمة بعدهما، فكانت كوثر ذريته وأولاده وهو قوله تعالى:

(إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)2 .

إذن: دلت هذه الأحاديث على مجموعة من الحقائق وهي كالآتي:

1 - أن خلق فاطمة من ثمار الجنة هي حقيقة نصت عليها الأحاديث الشريفة الواردة عن العترة النبوية، وقد كانت على مرحلتين، الأولى في السماء في رحلة الإسراء والمعراج، والثانية في الأرض بعد نزول الأمر الإلهي للنبي بالاعتزال أربعين يوماً.

2 - أن الليلة التي خلقت فيها بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد

ص:225

رافقتها تشريفات خاصة من نزول الملائكة المقربين إلى الأرض وإطعام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطعام الجنة فضلاً عن تحديد الزمن الذي كانت فيه هذه الانتقالة وهي الليلة الرابعة والعشرون من شهر رمضان وأنها ليلة الجمعة وهذا كله يكشف جانباً من منزلة فاطمة الزهراء عليها السلام عند الله تعالى وما اختاره الله تعالى لحفظ شريعته وحججه على خلقه وهم أولاد فاطمة عليها السلام.

المبحث الثالث: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟

اشارة

عن حماد بن عيسى، عن زرعة بن محمد، عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟ فقال عليه السلام:

«نعم، إنّ خديجة عليها السلام لما تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هجرتها نسوة مكة فكن لا يدخلن عليها ولا يسلّمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها فاستوحشت خديجة لذلك وكان جزعها وغمها حذراً عليه صلى الله عليه وآله وسلم فلما حملت بفاطمة كانت فاطمة عليها السلام تحدثها من بطنها وتصبرها وكانت تكتم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل رسول الله يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة عليها السلام فقال لها:

يا خديجة من تحدّثين ؟.

قالت: الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني.

ص:226

قال: يا خديجة هذا جبرئيل يبشرني أنها أُنثى، وأنها النّسلة الطاهرة الميمونة وأنّ الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه»(1).

مسائل البحث في الحديث:

المسألة الأولى: إن فاطمة عليها السلام كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها

إن من السنن التي سنها الله عز وجل في هذا الكون أن جعل آيات وعلامات ومعاجز ترافق سيرة رسله وأنبيائه وأوليائه، وكلما عظمت منزلة الرسول أو النبي أو الولي وعلا شأنه ودنا قربه وأكرم محله كلما كانت هذه الآيات والدلائل والمعاجز التي ترافقه أعظم وأكبر وأدل وآثر وأبلغ تأثيراً في العقل البشري، قال عز وجل:

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ )2 .

ولذلك نجد أن انشقاق القمر هو أعظم من فلق البحر، وأن القرآن أكبر وأدل وأبلغ من التوراة والإنجيل والزبور، وأن مما خص به خاتم النبيين هي فاطمة أم الأئمة الهداة الميامين وكان مما خص به الأئمة أنهم: (محدثون) وقد سأل زرارة بن أعين الإمام الباقر عليه السلام: «من الرسول ؟ ومن النبي ؟ ومن

ص:227


1- أمالي الصدوق: ص، البحار للمجلسي: ج 43، ص 2.

المحدث ؟ قال عليه السلام:

الرسول: يأتيه جبرائيل فيكلمه قبلاً فيراه كما يرى الرجل صاحبه الذي يكلمه، فهذا الرسول، والنبي: الذي يؤتى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السبات إذ أتاه جبرئيل هكذا النبي.

ومنهم من تجمع له الرسالة والنبوة، وكان رسول الله رسولاً نبياً يأتيه جبرائيل قبلاً فيكلمه ويراه ويأتيه في النوم، والنبي الذي يسمع كلام الملك حتى يعاينه فيحدثه، أما المحدّث فهو الذي يسمع ولا يعاين ولا يؤتى في المنام»(1).

وهذا الأمر هو من خواص عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالأئمة عليهم السلام كلهم «محدّث»، جاء ذلك عن الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام، وقد سمعه سليم بن قيس، يقول:

«إني وأوصيائي من ولدي مهديون كلنا محدثون.

فقلت: يا أمير المؤمنين من هم ؟ قال:

الحسن والحسين ثم ابني علي بن الحسين عليهم الصلاة والسلام.

قال: وعلي يومئذ رضيع ثم ثمانية من بعده واحداً بعد واحد هم الذين أقسم الله بهم فقال:

(وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ)2 .

ص:228


1- بصائر الدرجات للصفار: ص 393، ط منشورات الأعلمي، ايران؛ البحار: ج 26، ص 80.

أما الوالد فرسول الله وأما ما ولد يعني هؤلاء الأوصياء»(1).

أمّا بخصوص فاطمة عليها السلام فإنها كانت «محدّثة» وهو أحد أسمائها فهي تُحدّثها الملائكة وهو غير الوحي ولا يسمى بهذه التسمية وهو ما عليه أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام.

قال الشيخ المفيد في شرح عقائد الصدّوق رضي الله تعالى عنهما: هل الوحي هو الكلام الخفي ؟، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إلى إفهام المخاطب على الستر له عن غيره والتخصيص له به دون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرسل صلى الله عليهم خاصة دون سواهم على عرف الإسلام وشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى:

(وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ )2 .

فاتفق أهل الإسلام على أن الوحي كان رؤيا مناماً وكلاماً سمعته أم موسى في منامها على الاختصاص، وقال تعالى:

(وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ )3 .

يريد به الإلهام الخفي إذ كان خالصاً لمن أفرده دون ما سواه، فكان علمه حاصلاً للنحل بغير كلام جهر به المتكلم فأسمعه غيره.

ص:229


1- بصائر الدرجات: ص 392؛ البحار: ج 26، ص 79.

وساق رحمه الله الكلام إلى أن قال: وقد يُرى الله في منامه(1) خلقاً كثيراً ما يصح تأويله ويثبت حقه لكنه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي ولا يقال في هذا الوقت لمن أطلعه الله على علم شيء: إنه يوحى إليه، وعندنا إن الله يُسمع الحجج بعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كلاماً يلقيه إليهم في علم ما يكون، لكنّه لا يطلق عليه اسم الوحي لما قدمناه من إجماع المسلمين.

على أنه لا وحي لأحد بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يقال في شيء مما ذكرناه: إنه وحي إلى أحد، ولله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام أحياناً ويحظره أحياناً، ويمنع السمات بشيء حيناً ويطلقها حيناً، فأما المعاني فإنها لا تتغير عن حقائقها على ما قدّمناه)(2).

فإذن اعتقادنا في عترة الهادي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، أن الله يُسمع الأئمة عليهم السلام كلاماً إليهم بواسطة الملائكة عليهم السلام وهو لا يسمى وحياً، لأنه لا يوحى لأحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام:

«إنما الوقوف علينا في الحلال والحرام فأما النبوة فلا»(3).

وقال المجلسي رحمه الله في بيان الحديث: «أي إنما يجب عليكم أن تقوموا عندنا وتعكفوا على أبوابنا والكون معنا - أي الكينونة معهم - لاستعلام الحلال

ص:230


1- العبارة وردت كذا في المصدر، والصحيح: وقد يُري الله خلقاً كثيراً في منامه لكي يعود الضمير في (منامه) على (خلقاً).
2- تصحيح الاعتقاد: ص 56 و 57؛ البحار: ج 26، ص 83-84.
3- أصول الكافي للكليني: ج 1، ص 268؛ البحار للمجلسي: ج 26، ص 83.

والحرام لا أن تقولوا بنبوتنا، وإنما لكم أن تقفوا علينا في إثبات علم الحلال والحرام وإنّا نواب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ذلك لكم ولا تتجاوزوا بنا إلى إثبات النبوة»(1).

ومن هنا فإن تسمية فاطمة عليها السلام ب - «المحدّثة» هو لسماعها حديث الملائكة وهي تحدثها، وحالها كحال مريم بنت عمران عليها السلام قال الله تعالى:

(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ )2 .

وقد بيّن الإمام الصادق عليه السلام هذا المعنى فقال:

«إنما سميت فاطمة محدّثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها وإن الله عز وجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين»(2).

ص:231


1- البحار للمجلسي: ج 26، ص 83.
2- علل الشرايع: ج 1، ص 182؛ البحار: ج 14، ص 206، من طريق: محمد بن الحسن

وفي حديث آخر: عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن سعد ابن جبير، عن ابن عباس في حديث طويل في: (فضائل علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام) رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في فاطمة عليها السلام وما يصيبها من الظلم بعده:

«ثمّ ترى ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى بالملائكة، فتناديها بما نادت به مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ثم يبتدئ بها الوجع فتمرض.....»(1).

ولم يقتصر الأمر على مريم فقط فقد حدثت الملائكة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام وهو قوله تعالى:

(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ )2 .

فإذن: فاطمة عليها السلام: (محدَّثة) بفتح الحاء والدال وتشديدها، وهي: «محَدِّثة» بفتح الحاء وكسر الدال، أي هي التي كانت تحدث أمها خديجة عليها السلام وهي في بطنها كما جاء في الحديث.

ص:232


1- أمالي الصدوق: ص 177؛ البحار: ج 14، ص 205، برقم 22.

وهذا الأمر هو أحد معاجزها عليها السلام، وحاله كحال عيسى عليه السلام وحديثه مع أمه بعد الولادة قبل أن يكلم أحداً من قومه وهو قوله تعالى:

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)1 .

فإن قيل: إن هذا من مصاديق نبوته عليه السلام ودعوة أمه إلى التصديق به ؟! فما بال فاطمة عليها السلام ؟!.

قلنا: إن مريم كانت تؤمن به نبياً قبل نطقه بل قبل ميلاده وهو قوله تعالى:

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَ يُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصّالِحِينَ )2 .

أما كون ذلك من مصاديق نبوته، فإن نطقه ابتداءً كان مع أمه مريم حينما أخبرها بهز النخلة كما دل عليه قوله تعالى:

(وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا)3 .

والحكمة فيه لتسليتها وذهاب حزنها ولإطعامها، ولذا فهي لم تكن بحاجة إلى نطقه حجةً ودليلاً على تصديقها بنبوته وقد أخبرتها الملائكة بأنه يكلم

ص:233

الناس في المهد، فضلاً عن أن الله تعالى قد أنطق طفلاً في مهده ولم يكن من النبيين كما في قصة نبي الله يوسف عليه السلام في قوله تعالى:

(وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها)1 .

فالشاهد كان طفلاً في المهد بل إن الناطقين في المهد أربعة هم: (شاهد يوسف، وابن ماشطة بنت فرعون، وعيسى بن مريم، وصاحب جريج الراهب)(1).

أما اعتراض الفخر الرازي على هذا القول، وذهابه إلى أن شاهد يوسف عليه السلام كان ابن عم للمرأة، وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت إنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليه فقال: قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنّا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب... الخ» وإن هذا القول أولى من القول الأول لوجوه منها:

(إنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافياً وبرهاناً قاطعاً، لأنه من البراهين القاطعة القاهرة، والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز)(2).

ص:234


1- التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 9، ص 126، ط دار الفكر، عن ابن عباس رضي الله عنه.
2- تفسير الفخر الرازي: ج 9، ص 126، ط دار الفكر.

قلنا:

وإن كان هذا الكلام صحيحاً أعني: «لا يجوز العدول عن الحجة القاطعة عند حصولها وحضورها إلى الدلالة الظنية» إلا أن هذه الحجة لا يمكن عدّها قاطعة لمجرد نطق الصبي قائلاً: (إنها كاذبة وهو صادق) لأن الاكتفاء بهذا اللفظ لا يحقق حجية القطع، فما أهون أن يتهم يوسف عليه السلام بالسحر! فتقول عندئذ المرأة إنه سحر الطفل فأنطقه بسحره، فلا حجة أصلاً لنجاته ولا برهان لصدقه، كما اتهم فرعون موسى بالسحر وأنه كبير السحرة.

ومن هنا تظهر حكمة الله عز وجل في إعطاء الدليل العقلي والقطعي لزوج المرأة بحيث لا يقبل الشك بالتحقق من جهة قدّ القميص، وإن هذا الدليل صادر من فم الطفل في المهد فهذا أعمق في الدلالة وأبلغ في الحجة وأمضى في القطع، لأن الأمر متعلق بعفة يوسف عليه السلام وإخلاصه وهو أعظم شيء يمتلكه الإنسان وبخاصة الدعاة إلى الله عز وجل، ولأن الأنبياء عليهم السلام أقصى ما اتهموا به السحر والجنون لكن لم يتهموا بعفتهم فهم أعف الخلق ومن هنا يظهر خطر المسألة وعظمها، فكان نطق الصبي والدليل الذي تفوه به قد حقق حجية القطع عند الملك بعفة يوسف عليه السلام.

فإن قيل: إن هذا الكلام يرد فيه إشكالٌ وهو: أنَ يوسف عليه السلام في هذه الحادثة لم يبعث نبياً بعد والمعاجز تحصل بعد بعث الأنبياء عليهم السلام ؟!.

قلنا: إن الإشكال مرفوع بأمرين:

ص:235

1 - إن من لطيف حكمة الله عز وجل أن جعل دلائل كثيرة ترافق الأنبياء عليهم السلام قبل بعثهم ليسهل على الناس التصديق بهم والاهتداء إليهم واتباعهم، كتظليل الغمامة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عند خروجه إلى الشام(1) ، والاستسقاء به وغيرها من الآيات الربانية.

وكموسى عليه السلام وسقيه بنات شعيب عليه السلام، وقد شاهد الناس قوته الخارقة أو إلقائه في البحر وعودته إلى أمه لترضعه، ونطق الصبي في المهد ليوسف، أو خروجه من البئر سالماً وغيرها من الدلائل والظواهر التي ترافق سيرة الأنبياء والرسل قبل بعثهم.

2 - قد نص القرآن الكريم على أن المتكلم هو صبي في المهد وليس رجلاً حكيماً ابن عم لها، كما ذهب إليه الفخر الرازي.

وهو قوله تعالى:

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ )2 .

فلا يقال لكلام رجل حكيم بأنه آية من آيات الله عز وجل، وإنما يقال ذلك: عندما يحصل أمر خارق للعادة ومخالف لقوانين الطبيعة، أو هو مما يعجز عنه البشر، ففي هذه الأمور وعند حدوثها يقال لها: آية من آيات الله عز وجل، كما هو الحال في نطق الصبي وهو في المهد.

ومن هنا:

ص:236


1- سيرة ابن هشام: ج 1، ص 192، ط دار القلم.

فإن ما ورد في الحديث من أن: «(فاطمة كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها فتصبرها وتؤنسها).

هو: آية من آيات الله عز وجل التي يظهرها لأوليائه، ومما لا شك فيه أن أم المؤمنين خديجة عليها السلام هي من أولياء الله عز وجل، ومما لا شك فيه أن فاطمة أكرم عند الله من ابن ما شاطة بنت فرعون أو الشاهد الذي شهد ليوسف عليه السلام وهو في المهد، وهي بضعة أشرف خلق الله وسيدة نساء العالمين التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها.

ومن كانت بهذه المنزلة فما أهون على الله تعالى أن ينطقها وهي في بطن خديجة عليها السلام، أو أن تحدثها الملائكة كما كانت تحدث مريم بنت عمران عليها السلام.

المسألة الثانية: بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها أنثى

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا خديجة هذا جبرائيل يبشرني أنها أنثى، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه».

هذه الكلمات كانت من قبل جبرائيل عليه السلام وهي مما بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاءت هذه الكلمات لتبين صفات هذه المولودة وتظهر خصائصها.

ص:237

وهو النهج الذي جاء به القرآن الكريم في تبشير الأنبياء السابقين بمن يأتي من بعدهم وبخاصة عندما يتعلق الأمر بدعوة نبيّ ، أو يكون النبي المبشر به هو من نسل نبي أيضاً، وهذه البشارات إنما بدأت من إبراهيم الخليل كما يعرضها القرآن الكريم، وهو من لطائف الحكمة الإلهية التي خصت إبراهيم عليه السلام بهذا النهج وابتدأت به وما ذاك إلا للإعلان عن البشرى الكبرى والرحمة العظمى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقرآنه وعترته، وهما الثقلان اللذان أوصى بهما هذه الامة المرحومة به صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن هنا فإن البشرى بدأت ببيت إبراهيم عليه السلام، قال تعالى:

(وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى )1 .

هذه البشرى كانت بامتداد النبوة من إبراهيم وجعلها في نسله وصولاً إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت البشارة تحمل معها أيضاً صفات هذا الغلام ولم تقتصر على غلام فقط وإن كان مجيئه بعد بلوغ سن الشيخوخة هو نعمة كبيرة فكيف إذا كان يحمل صفات عظيمة.

قال تعالى:

(قالُوا لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ )2 .

ص:238

وفي آية أخرى أضيفتْ صفة أخرى إلى هذا الغلام غير العلم وهي أنه: (حليم):

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ )1 .

فيكون هذا الغلام يحمل العلم والحلم، ثم ينتقل القرآن ليعطي صورة أخرى عن هذه البشرى ووصولها إلى أم هذا الغلام، وهي زوجة إبراهيم وسماعها للبشرى كان للأسباب التالية:

1 - رعاية لحق الأمومة، فالأم هي بحاجة أيضاً إلى سماع البشرى بحصول الحمل.

2 - سماعها حديث الملائكة مع إبراهيم عليه السلام يكشف عن منزلتها عند الله عز وجل وإن هذه المنزلة محفوظة ولأجلها كشف لها عن السمع فسمعت حوارهم وحديثهم، ثم هي تعلم أنهم رسل الله عز وجل؛ لأنها لاحظت عليهم كما لاحظ زوجها إبراهيم أن أيديهم لا تصل إلى الطعام، فلهذه المنزلة بشرت.

3 - لإخلاصها لزوجها وقيامها على خدمته والعناية به ورعايته، على الرغم من كبر سنها فهي أيضاً قد مستها الشيخوخة.

فضلا عن ذلك فإن من اللطائف الإلهية أن الملائكة اكتفت بذكر البشارة بمجيء الغلام فقط دون أن تذكر لها صفاته، واللطف الإلهي في ذلك يكشف عن حبها الكبير في أن ترى طفلاً ينمو في أحشائها ويربى في حجرها، أي إنها

ص:239

كانت في عطش كبير لسد حاجة الأمومة التي شعرت لسنين طوال أنها قد فقدتها وإلى الأبد، لكن رحمة الله تعالى أدركتها فبشرتها بإمداد هذا النسل، وأن الله سيجعل من ولدها هذا نبياً وهو يعقوب عليه السلام.

ثم تبيّن الملائكة: أن ذلك كله من رحمة الله وبركاته على أهل البيت.

قال تعالى:

(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)1 .

ثم يستمر القرآن بالبشرى فبشر إبراهيم عليه السلام بمولود آخر وهو من الأنبياء أيضاً:

(وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ )2 .

ثم تنتقل البشرى من إبراهيم عليه السلام إلى زكريا:

(يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى )3 .

ص:240

وهذا النبي يحمل صفات عدة بُشِّرَ بها زكريا عليه السلام ومن بين هذه الصفات أنه مصدقٌ بالنبي الذي يعاصره وهو عيسى عليه السلام:

(أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً)1 .

فكانت أول هذه الصفات:

«التصديق بكلمة من الله» وهكذا إلى مريم عليها السلام وتبشيرها بعيسى:

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ )2 .

وعيسى يبشر بخاتمة البشارات وأصل ظهورها والعلة في تنقلها فيقول عز وجل في كتابه الكريم عن تبشير عيسى عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)3 .

بشرى المسيح أنت عنوان دعوته وقبله كل هادٍ صادق القدمِ (1)

حتى إذا بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن البشرى كانت في أمرين:

ص:241


1- أنوار الربيع لابن معصوم: ج 4، ص 333، والبيت للشيخ عز الدين الموصلي.

الأمر الأول: هو القرآن الكريم:

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ )1 .

وقوله تعالى:

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ )2 .

والأمر الثاني: هو عترته صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته الذين قال الله فيهم:

(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)3 .

ثم أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للامة عظمها وخطرها وأنها نجاة المسلمين فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(1).

ص:242


1- تناقلت صحاح المسلمين ومسانيدهم ومستدركاتهم حديث الثقلين بطرق عدة وأسانيد جمة

وعدم افتراق أهل البيت عن القرآن حجة قاطعة في عصمتهم التي هي عدل عصمة القرآن.

ومن هنا يظهر معنى بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بفاطمة عليها السلام.

ومن هنا ندرك معنى صفاتها التي أعلنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين خديجة عليها السلام، وهو نفس البشارة التي جاء بها القرآن الكريم في ذكره للبشارة بولادة الأنبياء عليهم السلام وبيان صفاتهم.

ونحن لا نقول: إن فاطمة عليها السلام من الأنبياء، إلا أنها البضعة النبوية التي جعل الله نسل النبي المصطفى منها، وجعل من نسلها أئمة هداة مهديين خلفاء لله في أرضه بعد انقضاء وحيه.

ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم بعض صفاتها وهي:

«النّسمة، الطاهرة، الميمونة».

فهذه صفات ثلاث ذكرها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وكل صفة لها معنىً خاصٌّ بها.

فأما معنى: (النّسمة)، فهي الروح أو النفس(1) ، فإذا أريد بها (الروح)

ص:243


1- لسان العرب لابن منظور: ج 14، ص 130، مادة: نسم.

فإن فيه معانيَ جمّة، ودلائل عظيمة، منها: (الحياة) فإن كل شيء لا روح فيه فلا حياة له، أو فيه؛ وهو إما جماد، وإما ممات.

والحياة هنا: هي حياة ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بوصفها الأصل في نمو ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها كان ظهور الأئمة؛ لأنها أمهم جميعاً عليهم الصلاة والسلام الذين أحيا الله بهم الدين.

وأما إذا أريد به: (النفس).

ففاطمة عليها الصلاة والسلام هي: (النفس المطمئنة)(1) ، ويمكن الاستدلال على ذلك بأمور:

1 - قد ورد في الحديث في ذكر أسمائها عليها السلام أنها (الراضية، المرضية)(2).

2 - الاطمئنان أصله الإيمان ومقره القلب، حتى إنه ارتبط به ارتباطاً وثيقاً.

ص:244


1- وهو قوله تعالى في سورة الفجر، الآيتان: 27 و 28 (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ...).
2- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج 3، ص 133، ط مطعبة الحيدرية، النجف؛ الأمالي للصدوق: ص 250، مؤسسة البعثة؛ عيون أخبار الرضا للصدوق: ج 1، ص 30، مؤسسة الأعلمي بيروت؛ البحار للمجلسي: ج 8، ص 178؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 9، ص 282، ط مؤسسة إسماعيليان؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 410 وج 2، ص 179، ط دار الأسوة.

قال تعالى:

(الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ )1 .

فقدم الإيمان على الاطمئنان لأنه الأصل، ولولاه لم يحدث الاطمئنان.

وبالإيمان يثبت القلب أي يكون مستقراً فلا تؤثر فيه الكروب النازلة أو الحوادث المكرهة.

قال تعالى:

(إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ )2 .

ومن هنا فإن من كان الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها(1) ، كانت كل ذرة في ذاتها وكيانها تنطق إيماناً وتشع اطمئناناً.

وعليه: فإنها عليها السلام كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (النّسمة) أي: (النفس المطمئنة).

ولا تعارض في أن يكون هذا حال الأئمة عليهم السلام لكونهم حجج الله على خلقه وأمناءه على شرعه.

ص:245


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 153-154؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 401، برقم (1001)؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 56-57 ط دار الجبل؛ الثغور الباسمة للسيوطي: ص 30، برقم 42؛ وقال: إسناده حسن مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 203، وقال: إسناده حسن؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 7، ص 1224.

المبحث الرابع: (فأجاءها المخاض)

اشارة

وبعد أن حملت الصديقة الطاهرة، أم المؤمنين خديجة الكبرى سلام الله عليها بالنطفة الزكية النورانية المحمّدية ونمت فاطمة سلام الله عليها في أحشاء خديجة تسعة أشهر إلاّ أربعة أيام؛ إذ إنّ ليلة انعقاد النطفة النبوية كانت ليلة الرابع والعشرين من رمضان المبارك، وها هو اليوم العشرون من جمادى الآخرة وفيه بدت آلام المخاض على أم المؤمنين خديجة عليها السلام:

«وحانت ولادتها فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً فاغتمت خديجة عليها السلام لذلك.

فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنهن من نساء بني هاشم ففزعت منهنَّ لما رأتهنَّ فقالت إحداهنَّ : لا تحزني يا خديجة فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك»؟!

أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها، وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة عليها السلام طاهرة مطهرة.

فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النّور حتى دخل بيوت مكة ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور.

ص:246

ودخل عشر من الحور العين كلّ واحدة منهنَّ معها طشت من الجنة، وإبريق من الجنّة، وفي الإبريق ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضاًَ من اللّبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر فلفتها بواحدة، وقنعتها بالثانية.

ثم استنطقتها فنطقت فاطمة عليها السلام بالشهادتين وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن أبي رسول الله وأن بعلي سيّد الأوصياء وولدي سادة الأسباط .

ثم سلمت عليهن وسمت كل واحدة منهن باسمها وأقبلن يضحكن إليها وتباشرت الحور العين وبشر أهل السماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة عليها السلام، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك.

وقالت النسوة: خذيها يا خديجة، طاهرة، مطهرة، زكية، ميمونة، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها فرحة مستبشرة والقمتها ثديها فدّر عليها، فكانت فاطمة عليها السلام تنمي في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر وتنمي في الشهر كما ينمو الصبي في السنة)(1).

دلالات البحث في الحديث:

بعد أن تناولنا الأحاديث السابقة وبينا بعض دلالات البحث فيها والتي بدا بعضها موسعاً بسبب أهميتها فإني وجدت أن أشير إلى بقية الدلالات في الأحاديث القادمة على نحو الاختصار معتمداً على ذكر الإشارة في البعض منها، ومحاولاً عدم الإطالة فيها إلا ما ألزمتني الضرورة في ذلك من قبيل

ص:247


1- أمالي الصدوق: ص 69، ط مؤسسة البعثة، البحار للمجلسي: ج 43، ص 2، ح 1.

المسؤولية الشرعية في بيان حقائق الأحداث أو لتكامل حلقات البحث بحيث لا يمكن ترك بعضها لأنه يسبب حدوث فراغ ذهني أو حلقة مفقودة.

المسألة الأولى: الحكمة في ذكر الرفقة لآسيا مع خديجة في الجنة

(لماذا ذكر الإمام الصادق عليه السلام الرفقة لآسية مع خديجة في الجنة ولم يذكرها لبقية النساء وهنَّ جميعاً في الجنة)؟!

الوجه الأول في ذلك: أن آسية بنت مزاحم كانت قد سألت الله أن يبني لها بيتاً في الجنة:

(إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ )1 .

إن خديجة بنت خويلد سلام الله عليها كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب(1).

كما أن البيت الذي سألت الله آسية أن يبنيه لها هو بجوار بيت خديجة، وبهذا تكون رفيقة لخديجة في الجنة.

ص:248


1- البحار للمجلسي: ج 16، ص 8، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ صحيح البخاري: ج 4، ص 231، ط دار الفكر - بيروت؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 224، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 7، ص 302، ط دار الكتب العلمية بيروت؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 438، ط دار الكتب العربي - بيروت؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 101، ط دار الكتب العلمية - بيروت.

الوجه الثاني: هو أن آسيا بنت مزاحم كانت بسبب إخفائها إيمانها تتعبد بمنهج الاعتزال من قومها، بل حتى مع أقرب الناس إليها بما تفرضه الحياة الزوجية عليها من اختلاط وتقارب إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تعتزل هذه الدنيا، وكذا كان حال خديجة عليها السلام فقد اعتزلت الحياة الدنيا والتجأت إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عما فرضه المشركون رجالاً ونساءً من حصار وعزلة على خديجة كما أظهره الحديث.

المسالة الثانية: ما هي العلاقة بين صفة نساء بني هاشم وبين النساء اللاتي دخلن على خديجة عند ولادة فاطمة عليها السلام ؟

(لماذا كان دخول النساء على خديجة عليها السلام بصفة نساء بني هاشم، وهل له علاقة بفاطمة عليها السلام)؟!

إن لدخول النساء الأربع اللاتي جاء ذكرهنَّ وتعريفهنَّ في الحديث الشريف للإمام الصادق عليه السلام بصفة نساء بني هاشم له عدة أوجه، منها:

1 - لأفضلية بني هاشم وشرافتهم على سائر قبائل العرب، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم»(1).

ص:249


1- أخرجه مسلم في صحيحه عن وائلة بن الأسقع: ج 7، ص 59، باب: في معجزات النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم.

2 - من الطبيعي أن امتناع نساء قريش عن المجيء إلى خديجة عليها السلام، ترك في نفسها الحزن والشعور بالوحشة، وأن دخول النساء عليها وهنّ على غير الهيئة والصفة التي لنساء قريش وبخاصة بني هاشم يزيد في فزعها عند رؤيتهنَّ مما يؤدي إلى التسبب في زيادة آلامها وهي في وضع لا يسمح أن تضطرب فيه نفسيتها.

بل بحاجة إلى السكينة والطمأنينة لتسهيل الولادة، فدخولهنَّ عليها بهيأة نساء بني هاشم كان خوفاً عليها وعلى مولودها النبوي الفاطمي صلوات الله عليها.

3 - من المفروض أن يستجيب الأقرباء إلى تلبية نداء المحتاج للمعونة من أقربائه وخديجة هي أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ إنها تتصل معه بالجد الرابع وهو قصي بن كلاب فبنو هاشم هم أولى برعاية خديجة عليها السلام وهي في حال كهكذا من المخاض.

وهذا يكشف عن الرعاية الإلهية واللطف الرحماني بخديجة كي تشعر بأن أهلها معها.

المسألة الثالثة: ما معنى دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة عند ولادتها؟

(ما المقصود من دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور)؟!

ص:250

والجواب من وجهين:

الوجه الأول: هو إشارة إلى دخول الإسلام إلى جميع بيوت مكة وهذا معنى عام، ولكونها عليها السلام شجرة الإمامة.

الوجه الآخر: وهو الأقرب إلى القصد، فإن نورها الذي ملأ الشرق والغرب وأشرق في جميع مواضع الدنيا هو ولدها الإمام المهدي عجل الله فرجه.

«الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً»(1).

وهذا الامتلاء لا يتحقق معناه إلا بوصول العدل الإسلامي المحمدي العلوي الفاطمي إلى كل ذرة في الأرض، كما وصل نور فاطمة عليها السلام وأشرق في كل موضع في شرق الأرض وغربها.

المسألة الرابعة: نطق فاطمة عليها السلام بالشهادتين

هذا الأمر من خواص المعصومين عليهم السلام، وهو أحد الدلائل التي تدل على اختصاصهم بالعصمة الإلهية، والاصطفاء الرباني.

إذ إن المعصوم عليه السلام يبيّن بعد ذكره الشهادتين المهمة المكلف بها والدور الذي اختاره الله له، والأمر الموكل إليه، وشاهده من الكتاب الحكيم عن ولادة نبيّ الله عيسى عليه السلام:

ص:251


1- وهو حديث نبوي، أخرجه الذهبي في سير أعلام النبلاء: ج 15، ص 253؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 4، ص 161؛ أنظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 1، ص 370، ح 316، (يملأ الأرض عدلاً وقسطا).

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا)1 .

بعد ذلك بيَّن عليه السلام الأمر الإلهي الذي كلف به:

(وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا)2 .

ولذلك:

فإن الزهراء فاطمة عليها السلام بعد أن ذكرت الشهادتين، ذكرت الولاية لعلي بن أبي طالب وبأنه سيد الأوصياء وأن ولديها سادة الأسباط ، ومن هذا الكلام تظهر عليها السلام الجعل الإلهي لها فقد جعلها الله تعالى: (زوجة سيد الأوصياء) و (أم سادة الأسباط ).

ثم قامت عليها السلام، بالسلام على جميع مَن حضرْنَ للتشريف بولادتها وتسميتهن بأسمائهنَّ لأنها عليها الصلاة والسلام سيدتهنَّ ، فهي: (سيدة نساء العالمين)(1) والحور من نساء العالمين.

ص:252


1- أخرجه الحاكم في المستدرك: ج 3، ص 156، ط دار المعرفة - بيروت؛ والديلمي في مسند الفردوس: ج 3، ص 145، حديث 4388، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 110، حديث 24232؛ الجمع بين رجال الصحيحين للعتسراني: ج 2، ص 611، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 56، ط دار الجيل - بيروت؛ الجامع من المقدمات لابن رشد: ص 66، ط دار العرفان؛ وسوف نورد المزيد من المصادر في باب: (منزلة فاطمة في السنة النبوية).
المسألة الخامسة: مكان ولادة فاطمة عليها السلام

إنّ الموضع الذي ولدت فيه فاطمة عليها السلام يعدّ من المواضع التي يتقرب بها المؤمنون إلى الله عز وجل، ومنها يتوجهون إليه بالدعاء لقضاء حوائجهم، وقد دلت النصوص التاريخية وواقع حال المسلمين في زيارتهم للأماكن المقدسة في مكة المكرمة وما عليه فقهاؤهم قبل مجيء الوهابيين إلى الحكم هو أن دار أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها وهو البيت الذي ولدت فيه فاطمة عليها السلام كان من الدور المخصوصة للعبادة ويقصدها الناس بالزيارة(1).

وكيف لا وهي بيت النبي الذي تزوج فيها وعاش أكثر من أربع وعشرين سنة حتى هاجر عنها إلى المدينة وفيها رُبّيَتْ الزهراء وفيها زغب جبرائيل وعرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها مهبط الملائكة ومحل عروجهم وبين جوانبها نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعبده وموضع تهجده.

فجميع هذا وغيره هو مما حظى به دار خديجة أم المؤمنين سلام الله عليها، حتى عرف اليوم بموضع مولد فاطمة صلوات الله عليها؛ لعظم هذا التشريف، ولخصوصية ولادة البضعة النبوية والشجنة المحمدية.

وعليه؛ فإن فاطمة الزهراء قد ولدت في بيت أمها الصديقة الطاهرة حبيبة رسول رب العالمين وأم أولاده، فكان هذا الدار أحد المواضع المكرمة والمشرفة بالعبادة والزيارة والتوسل إلى الله تعالى.

ص:253


1- شفاء الغرام للحافظ أبي الطيب الفاسي: ج 1، ص 272، ط دار الكتب العلمية.

المبحث الخامس: إرضاع خديجة إياها (عليها السلام)

إن السبب الذي دفعني لإفراد بحث مستقل في رضاع فاطمة سلام الله عليها كان لارتباطه بالسيدة خديجة عليها السلام فضلاً عن أهمية حجر الأمومة وأثره الكبير في بناء شخصية الإنسان؛ إذ إن لبن الأم له تأثيرات بايلوجية وأخرى سايكلوجية.

فالأم التي تغذي وليدها بلبنها لا تنمي فيه الجانب التكويني الخلقي فقط بل هي تنمي فيه الجانب الخُلقي أيضاً فتورثهُ من صفاتها الأخلاقية الكثير من دون أن تشعر بذلك أو تريد، وهو ما أشار إليه حديث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الخصوص فقال:

«ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه»(1).

وقال عليه السلام:

«لا ترضعوا أولادكم عند المرأة الحمقاء فإن لبنها يعدي»(2).

أي إن هذا اللبن يحمل بين جزيئاته وبحسب لغة الطب الوقائي «جرثوماً»

ص:254


1- الكافي للكليني: ج 6، ص 40؛ من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 3، ص 475؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 8، ص 108.
2- تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: ج 2، ص 627، ط منشورات مكتبة المرتضوي؛ الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 23، ص 376، ط مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين - قم؛ البحار للمجلسي: ج 100، ص 323، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ وسائل الشيعة (الاسلامية) للحر العاملي: ج 15، ص 188، ط دار احياء التراث العربي - بيروت.

أو «فايروساً» لكن لا يصيب الخلايا الجسمية إنما يصيب الخلايا العقلية، أو فلنقل المسؤول عن الإدراك والوعي في الدماغ، فيؤدي إلى نشوء طفل لا يحسن التصرف ولا يميز الأمور ولا يدرك بجدية ما يدور من حوله وبالنتيجة يتخرج من هذا الحجر الذي نما فيه وتربى عنده إنسان فاشل لا يشعر بالمسؤولية ولا يسعى لتحقيق أي هدف.

فكيف إذا أضيف له ما يتوارث من حجر الأم خاصة فهو وفي الوقت الذي يتناول فيه اللبن فإن آذانه تسمع ما تتلفظه هذه الأم وإن جهازه السمعي الباطني يسجل هذه الألفاظ في ذاكرة الدماغ فما إن يكبر الإنسان حتى يجد هناك أموراً كثيرة تدفعه وتحرك مشاعره إما إلى الخير وإما إلى الشر، وهو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»(1).

وعليه كيف يمكن أن يتحقق معنى التحصيل للعلوم فيما لو كان هذا الجهاز معطلاً أي الجهاز السمعي الباطني عند الطفل والذي أسماه القرآن الكريم: (الأذن الواعية)(2).

ص:255


1- العلم والحكمة في الكتاب والسنة لمحمد الريشهري: ص 206، 207، ط مؤسسة دار الحديث - قم؛ كشف الظنون لحاجي خليفة: ج 1، ص 51، ط دار احياء التراث العربي - بيروت، أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 4، ص 112، ط دار التعارف - بيروت.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 158، ط مجمع إحياء الثقافة الإسلامية - قم؛ معاني الأخبار للصدوق: ج 9، ص 59، ط مؤسسة النشر

وهذه الأذن الواعية تتجلى بأكبر صورها وأعلى قدرتها عند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعند الأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، وقيل إنها نزلت في علي بن أبي طالب سلام الله عليه خاصة(1).

وعليه:

فإن البضعة النبوية المحمّدية وكما مر علينا سابقاً كانت تسمع وترى وتجيب على ما كان يدور من حولها، وهذه إحدى خصائص من اجتباهم الله عز وجل لرسالته وجعلهم تراجمة وحيه ولسان توحيده، والدالين عليه والهادين إليه سلام الله عليهم أجمعين.

ولكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى الخصائص والمزايا التي يشترك بها بنو آدم معهم؛ لنبين أنها حتى من هذا الجانب فقد خصها الله بما لم يخص به أحداً من العالمين.

ص:256


1- مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 158، ط مجمع إحياء الثقافة الاسلامية؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي: ج 3، ص 137، ط المكتبة المرتضوية؛ البحار للمجلسي: ج 35، ص 329، مؤسسة الوفاء - بيروت؛ تفسير فرات الكوفي لفرات بن إبراهيم الكوفي: ص 499، مؤسسة الثقافة والارشاد - طهران.

ومن بين هذه الخصائص التي تشرك فيها الزهراء مع بني آدم من جهة المثلية لهم أنها عليها السلام دخلت إلى حجر الأمومة كما دخلوا لكن حجر الأمومة الذي ربّيَتْ فيه فاطمة الزهراء ليس له مثيل على وجه الأرض.

إنه حجر أم المؤمنين الصديقة الطاهرة الزكية الجليلة هذه المرأة التي كانت مسكن خاتم الأنبياء، وأنس سيد المرسلين، ومأوى حبيب رب العالمين، وملجأ أشرف الخلق أجمعين.

فتأمل أيها القارئ الكريم عندما تكون الأم التي تروي طفلها وتغذيه بلبنها بهذه الصفات فكيف ينمو طفلها وأي صفات سيرثها؟!

وعندما تكون هذه الأم مأوى ووقى لسيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الشكل، فكيف ستكون لفلذة كبدها وسويداء قلبها وبخاصةً أنها فقدت طفلين من قبل فكيف ستحنو على هذه المولودة سلام الله عليها؟!

ومن هنا: نفهم لماذا أبت أم المؤمنين خديجة عليها السلام أن يرضع أحد من النساء فاطمة، وتولت هي رضاعتها(1).

وهذا فيه من العناية الإلهية الخاصة بأن جعل فاطمة تنمو في أحشاء خديجة سلام الله عليها وترضعها وتتولى رعايتها والإشراف عليها منذ اللحظات الأولى لولادتها.

فما إن انتهت مراسيم استقبالها وتغسيلها بماء الجنة ولفها بخرقة بيضاء

ص:257


1- طبقات ابن سعد: باب ترجمتها، السيرة النبوية لابن كثير: ج 4، ص 608، ط دار المعرفة - بيروت.

من الجنة كما مر بيانه، فتناولتها أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها وهي فرحة مستبشرة وألقمتها ثديها فدر عليها فكانت فاطمة عليها السلام تنمو في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر، وتنمو في الشهر كما ينمو الصبي في السنة(1).

والحكمة في ذلك هو لكي يراها الناظر وهي على هيئة المرأة الكبيرة فيدرك وهو ينظر إليها تمشي وجلبابها يخط الأرض أن الذي يمشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا أولاً.

أما ثانياً: فلكي تُعد إعداداً خاصاً لما ينتظرها بعد وفاة خديجة سلام الله عليها من العناية والرعاية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكي تكون قادرة على خوض عملية بناء الإسلام مع أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ثالثاً: إقراراً لعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يراها وهي أمامه امرأة تحاكي هيئتها من كانت في العشرين فيسعد بها وهو يراها قد بلغت مبلغ النساء فيعيد بالنظر إليها تلك اللحظات السعيدة التي عاشها مع أم المؤمنين خديجة.

رابعاً: إن في ذلك حرباً على المنافقين وشوكةً في عيون الكافرين وقد وصفوا النبي من قبل بالأبتر بعد أن مات ولداه فهاهي فاطمة تنمو بأسرع مما ينمو به الطفل فتملأ الدار النبوي بهجةً وسروراً.

ص:258


1- بحار الأنوار: ج 43، ص 3، حديث 1، نقلاً عن الأمالي للصدوق.

المبحث السادس: تسميتها

إن من السنة المؤكدة استحباب اختيار الاسم الجميل للمولود، بل قد ورد في الحديث: استحباب اختيار اسم للمولود قبل ولادته(1).

ولقد كانت العرب قبل تشرفها ببعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسمي أبناءها بأسماء تكشف عن غلظة قلوبهم وحبهم للحروب، فكانت تختار ما يرمز إلى القوة والشدّة فذهبت إلى تسمية أبنائها بأسماء الحيوانات وبخاصة المفترسة ومنها الطيور الجارحة «كنمر، وأسد، وفهد، وصقر، وغيرها» وأيضاً ما كان يدل على الصلابة والتحدي: كصخر، وحرب، ومُرة... الخ.

فلما جاء الإسلام وظهر في مجتمع الجزيرة أخذوا يسمون أبناءهم بتسميات جميلة عملاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن»(2).

لكن قبل ذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يباشر بتغيير أسماء كثيرة كأبي بكر وكان اسمه قبل الإسلام عبد العزى فسماه النبي صلى الله عليه

ص:259


1- وسائل الشيعة (آل البيت عليهم السلام) للحر العاملي: ج 21، ص 387، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم؛ وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي: ج 15، ص 121، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 21، ص 331؛ الخصائص الفاطمية للشيخ محمد باقر الكجوري: ج 2، ص 569، انتشارات الشريف الرضي.
2- الآداب للبيهقي: ص 290، ج 604، ط دار الكتب العلمية.

وآله وسلم: (عبد الرحمن)(1) وكتغيير اسم زينب بنت أم سلمة وكان اسمها بترة (برة) فسماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (زينب)(2) ، وغير ذلك هم كثر.

ثم بعد ذلك أخذوا يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبنائهم فيضعونهم في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدعو لهم ويبارك عليهم ويسمي البعض منهم، وفي هذا الصدد فقد سجل التاريخ حادثة جرت لأحد هؤلاء الأطفال وهو «مروان بن الحكم» فما إن أدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونظر إليه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«هو الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون»(3) ؟!

وتمر الأيام ويكبر هذا (الوزغ) وإذا به خليفة للمسلمين ؟!

فكيف يكون حال الإسلام والحاكم الذي تسلط على رقابهم قد لعنه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! والعجيب في الأمر أنك تجد صحاح المسلمين مليئة بأحاديث هذا الملعون على لسان النبي صلى الله عليه وآله

ص:260


1- سيرة الحلبي: ج 2، ص 414، ط دار المعرفة - بيروت؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 152، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ فتوح البلدان للبلاذري: ج 1، ص 110، ط مكتبة النهضة المصرية - القاهرة.
2- الأدب المفرد للبخاري: ص 244؛ الآداب للبيهقي: ص 292.
3- ينابيع المودة للقندوزي الشافعي: ج 2، ص 470؛ النصائح الكافية لابن عقيل: ص 76؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 479، ط دار المعرفة؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 12، ص 276؛ السيرة الحلبية: ج 1، ص 510؛ جواهر المطالب: ج 2، ص 192؛ الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 4، ص 196.

وسلم! والأعجب منه أن يصنفه البعض ضمن قائمة الصحابة ونظرية: «كلهم عدول» فأي عدلٍ هذا والرجل إنما هو «فضض من لعنة الله» أو «قصص من لعنة الله» كما صرحت بذلك عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).

والأمر لم يتوقف عليه فقد لعنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولعن أباه وولده جميعاً وهو ما رواه محمد بن سوقة الشعبي عن ابن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لعن الحكم وولده»(2).

وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه: (بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره كما تنزُّ القردة فما رُئي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستجماً ضاحكاً بعد هذه الرؤيا حتى توفي)(3).

ص:261


1- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 481؛ فتح الباري لابن حجر: ج 8، ص 443؛ عمدة القاري للعيني: ج 19، ص 169؛ تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي: ج 3، ص 282؛ تفسير ابن كثير: ج 4، ص 172؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 6، ص 41؛ فتح القدير للشوكاني؛ تفسير الآلوسي: ج 26، ص 4؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 12، ص 277؛ جواهر المطالب لابن الدمشقي: ج 2، ص 192؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 469.
2- مستدرك الحاكم: ج 4، ص 481، ط دار المعرفة. والذهبي في التخليص مطبوع مع المستدرك: ج 4، ص 481.
3- كنز العمال للهندي: ج 6، ص 29، وص 39، وقال: أخرجه أحمد بن حنبل، والطبراني؛ المستدرك للحاكم: ج 4، ص 480، عن أبي ذر الغفاري ووافقه الذهبي عليه في تلخيصه.

وقد نزل جبرائيل عليه السلام بعد هذه الرؤيا بقوله تعالى:

(وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ )1 .

وهذه الشجرة الملعونة هم: (بنو أمية)(1).

ومن ذلك نعلم كيف أن الله ابتلى الإسلام بهم وجعلهم فتنة للناس، وهنا: جاء قوله تعالى بكلمة: (الناس) ولم يقل: «المسلمين»، لأن بلاءهم وأفعالهم أهلكت النسل والحرث ولم يسلم منهم أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم، لأنهم أشر الخلق لله تعالى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، ودين الله دغلاً»(2).

ومن هذا كله يستفاد أن مجيئهم بأولادهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو لحكمة خاصة، فيها الحجة البالغة، ليعلم المسلمون أن هذا المولود وذاك إنما حقيقتهم هي بهذا الشكل الشنيع حتى يتجنبوهم ويحذروهم، لكن

ص:262


1- التفسير الكبير للرازي: ج 10، ص 238، تفسير سورة الإسراء، ط دار الفكر - بيروت؛ تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 5، ص 309، ط دار الفكر، وقال: أخرجه ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله يقول لجدك وأبيك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
2- المعجم الصغير للطبراني: ج 2، ص 136؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 480؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 479.

هيهات هيهات فكثير من المسلمين آزروهم وناصروهم فنالوا بذلك إثم إعانة الظالمين وتحمل أوزارهم على الرغم من كشف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للامة حال مروان خاصة وبني أمية عامة وأظهر للمسلمين حقائقهم وما سيؤول إليه أمرهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء وبعضكم يومئذ شيعته»(1).

فإنا لله وإنا إليه راجعون.

والشيء الثاني المستفاد من تغييره صلى الله عليه وآله وسلم أسماءهم: هو أن هذه الأسماء تؤثر من الناحية النفسية على الشخص الحامل للاسم غير الجميل.

وحديث سعيد بن المسيب يكشف لنا هذه الحقيقة، فعن عبد الحميد بن جبير بن شيبة قال: جلست إلى سعيد بن المسيب فحدثني أن جده «حزناً» قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«ما اسمك»؟

قال: اسمي حزن.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«بل أنت سهل».

ص:263


1- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 5، ص 242؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 12، ص 336؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 57، ص 267؛ كنز العمال: ج 11، ص 166، برقم 31060.

قال: (ما أنا بمغير اسماً سمانيه أبي).

قال ابن المسيب: (فما زالت فينا الحزونية)(1).

بعد هذه الجولة التي بينّا فيها أحد مناهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تغيير هذه الامة ورفع مستواها الحضاري بعد أن كانت تعصف بها رياح الجهل والظلام فأنقذها الله بأبي الزهراء صلى الله عليه وآله وسلم.

نعود إلى رحاب أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونسأل: من الذي سمى البضعة النبوية بفاطمة عليها السلام ؟!.

والجواب على هذا السؤال نسمعه أو نقرأه من خلال هذا الحديث الوارد عن العترة النبوية: فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«لمّا ولدت فاطمة عليها السلام أوحى الله عز وجل إلى ملك فأنطق به لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم فسماها: فاطمة»(2).

أما معنى هذا الاسم فقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن العترة المحمدية عليهم السلام لا يسعنا إيرادها هنا(3).

ص:264


1- الأدب المفرد للبخاري: ص 250، حديث 814، ط دار الكتب العلمية؛ الآداب للبيهقي: ص 291، حديث 610، ط دار الكتب العلمية.
2- علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 179، ط المكتبة الحيدرية، النجف؛ البحار للمجلسي: ج 34، ص 13، حديث 9، باب 2.
3- لقد قمنا بحمد الله تعالى في كتاب موسوعة فاطمة عليها السلام البحث في تفرعات هذا المبحث، وقد أشبعنا هذه العناوين بمزيد من الدراسة والتحقيق ونسأل الله أن نوفق لإكمالها وطباعتها.

المبحث السابع: عقيقتها

ان من السنن المستحبة التي ترافق المولود بعد ولادته هي العقيقة.

«والعقيقة» هي: الشعر الذي يولد به الطفل لأنه يشق الجلد، فيقال لهذا الشعر «عقيقة» وجعل الزمخشري: الشعر أصلاً، والشاة المذبوحة مشتقة منه.

وعقّ الرجل عن ابنه يعقّ : أي حلق عقيقته، أو ذبح عنه شاة(1) ، وفي التهذيب: يوم أسبوعه فقيده بالسابع، واسم تلك الشاة العقيقة(2).

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

في العقيقة عن الغلام شاتان مثلاً، وعن الجارية شاة.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«في الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى»(3)).

وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام:

«عق عنده - أي المولود - وأحلق رأسه يوم السابع»(4).

والعقيقة شاة أو جزور تجتمع فيها شرائط الأضحية، وهي: السلامة من العيوب والسمن، والسن على الأفضل، ويجزي فيها مطلق الشاة(5).

ص:265


1- لسان العرب، لابن منظور: ج 9، ص 324، مادة: «عقق».
2- تهذيب الصحاح للزنجاني: ص 590، ط دار المعارف بمصر.
3- الجامع الصغير للسيوطي: ج 2، ص 665، برقم: «5959».
4- الوسائل: كتاب النكاح باب، 44، من أبواب أحكام الأولاد الحديث: 8.
5- اللمعة الدمشقية للشهيد جمال الدين العاملي: ج 5، ص 447، كتاب النكاح، أحكام الأولاد.

قال الإمام الصادق عليه السلام:

«انما هي شاة لحم، ليست بمنزلة الأضحية، يجزي منها كل شيء، وخيرها أسمنها»(1).

اما ما يخص البضعة النبوية عليها السلام، فقد عقت عنها السيدة خديجة عليها السلام بشاة(2) وإنها أطعمتها للمؤمنين عملا بالسنة وقصداً لحصول الأجر في ورود السرور عند الإطعام.

المبحث الثامن: فاطمة في حِجْرِ النبوة

المسألة الأولى: إن الله اصطفى لها ما لم يصطفِ لأحد من أوليائه

ان المراد بالحجر لغةً هو: «الحِضْنُ »، فيقال: حَجْرُ المرأة وحِجْرُها حِضْنُها(3).

وهنا عندما نقول: حَجْرُ النبوة، أي إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي احتضنها ورباها ضمن أصول النبوة، وقواعدها، ومناهجها.

فكان خلقها عليها السلام خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي خاطبه المولى قائلاً:

ص:266


1- الوسائل للعاملي: كتاب النكاح، باب: 45، من أبواب أحكام الأولاد الحديث: 2.
2- الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي: ج 2، ص 656، ط دار الكتب الحديثة؛ المختصر الكبير لابن جماعة: ص 83.
3- لسان العرب لابن منظور: ج 3، ص 57، مادة حجر.

(وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )1 .

وخاطب صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين قائلاً:

«لقد أدبني ربي فأحسن تأديبي»(1).

فأدب فاطمة وخُلقها هو: أدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلقه. حتى قالت عائشة: (ما رأيت أحداً أفضل من فاطمة غير أبيها)(2).

بعد هذه الإشارة في بيان الركنين الأساسين في نشأة كل إنسان وأقصد والديه، فإننا نرحل في سفينة الحب النبوي إلى بيت خديجة أم المؤمنين عليها السلام لترسو بنا سفينتا على سواحل أعتاب بيتها نلتمس الإذن في الدخول إلى رحاب البيت الذي كان سكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنبع الحنان والحب والمودة التي ملأتْ كل ذرة من كيان أم المؤمنين خديجة عليها السلام. لتهبها لزوجها وتبذلها له فما ادخرت جهداً وما بخلت بعطية، وما شكت ألما، ولا تبرمت من حال أنزله بها كفار مكة نساءً ورجالاً.

ص:267


1- البحار للمجلسي: ج 16، ص 210، ط دار إحياء التراث العربي - بيروت؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 11، ص 233، ط دار إحياء الكتب العربية؛ الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي: ج 1، ص 51، برقم 310، ط دار الفكر - بيروت.
2- الغدير للشيخ الأميني: ج 3، ص 25، ط دار الكتب العربي - بيروت؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 201، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ الاصابة لابن حجر: ج 8، ص 264، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ ينابيع المودة لذوي القربى، القندوزي: ج 2، ص 58، برقم 35، ط دار الأسوة.

فعندما يحيا الإنسان وتكون أيام طفولته في مثل هذه الأجواء المليئة بالحب والحنان والرحمة فمما لا شك فيه سيكون هذا الإنسان منبعاً لهذه الفضائل التي نمت عليها عروقه وتوغلت فيها جذوره.

ونحن وان كنا نعرض مثل هذه النقاط التي مع أهميتها الكبيرة لدى الباحثين وأصحاب الاختصاص في الحياة الأسرية والعلوم النفسية، إلا أننا لا نجعلها الأساس في تكوين شخصية فاطمة الزهراء عليها السلام.

إذ إن الملاك والضابطة في حياة الأولياء هو الاصطفاء الإلهي وهو مفاد قوله تعالى:

(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )1 .

ومع هذا الاصطفاء يكون الاصطناع الرباني، لقوله تعالى:

(وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)2 ،(فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى )3 .

فالصناعة ربانية، والاصطفاء إلهي، ومن كان الله قد اصطفاه لنفسه فلا تؤثر فيه قوى الشر ولا يمسه رجس الكافرين، وقد أعطى القرآن دليلاً - لمن كان يؤمن بالله تعالى ولمن كان بعيداً عنه - يثبت أن الظروف والعوامل التي تحيط بحياة الأنبياء والأولياء لا يمكن حملها على بقية حياة الناس وكيفية نشأتهم.

ص:268

وها هو نبي الله موسى الكليم تلقيه أمه وهي خائفة وجلة عليه من القتل فترميه في البحر ليسوقه جبرائيل إلى بيت عدو الله فيأخذه ويربيه ويتولى تنشئته، ولم يكن قصر فرعون وطغيانه وكفره مؤثراً في إيمان موسى عليه السلام.

أما سبب تأكيدنا على البيت الذي نشأت فيه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، فذلك من أجل معرفة العناية الإلهية الكبيرة، والاهتمام البالغ والتركيز على فاطمة عليها السلام.

لان الغاية والعلة التي خلقت لها فاطمة تستوجب هذا الاعتناء الرباني، وهذا الاهتمام الإلهي. ويكفيك من هذا بياناً بأنها (أم أبيها).

فالله قد اصطفاها، وحبيبه قد علمها ورباها، وحبيبة رسوله قد غذتها وأنشأتها.

المسألة الثانية: السنين الأولى لطفولتها وتأثيرها في أم المؤمنين خديجة عليها السلام

ان السنين الأولى لطفولة فاطمة عليها السلام كانت فيها عليها السلام قد أعادت بسمة الأمومة لخديجة، تلك البسمة التي لا تمنحها الأم إلاّ لطفلها الذي يتأمل بعينين مفتوحتين تلك التقاطيع التي ترافق وجه أمه وهي مبتسمة له وكأنها تسمعه باعذب الكلمات التي تعجز عنها لغات العالم.

فأي لغة يمكن ان تعبر عما ينطقه وجه الأم وهي تنظر لولدها وقد زينت وجهها هذه الابتسامة ؟!

إنها لغة لا يعلمها الا قلب هذا الطفل ولا يصدرها الا قلب الأم.

ص:269

وبخاصة عندما تتعامل أم كخديجة مع طفلها الجديد الذي انتظرته كثيراً بعد أن فقدت طفلين هما «القاسم وعبدالله عليهما السلام»، اللذين لم يعيشا طويلاً، بل إنهما لم يكملا رضاعهما فقد اختار الله لهما دار الآخرة.

ثم تبقى خديجة عليها السلام تنتظر رحمة الله عز وجل أن يمنّ عليها بحمل ومولود جديد ويطول بها المقام ويتأخر عليها الحمل، لحكمة أرادها الله عز وجل.

ومن هنا فإن حملها بفاطمة وولادتها قد أعادتْ عليها تلك الابتسامة التي كانت تطلقها فاطمة عليها السلام.

وكانت سنتا الرضاعة أياماً عاشتها فاطمة بالحب والرحمة والرأفة والحنان النبوي اللا متناهي، ومع هذا كله كانت تعيش أجواء السلام والطمأنينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مُحَصَناً منيعاً بعمه أبي طالب الذي دأب يحنو عليه ويذب عنه كيد قريش ويدفع عنه طغاتها.

فكانت هذه السنتان من عمرها المبارك مميزة ومليئة بالدفء والحنان والرحمة والحب والسكينة.

إلا أن هذه الأجواء لم تكن دائمة فقد تغير حال البيت النبوي بعد مرور عامين على ولادة فاطمة عليها السلام؛ إذ قد اجتمع المشركون وعزموا على فرض الحصار الاقتصادي والاجتماعي على بني هاشم رجالاً ونساءً وأطفالاً فقضت أم المؤمنين خديجة عليها السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنتها فاطمة عليها السلام هذه السنوات الثلاث حتى توفيت وقد تركت فاطمة وهي في الخامسة من عمرها (فإنا لله وإنا إليه راجعون).

ص:270

المحتويات

الفصل الثامن

خصائص دار خديجة عليها السلام في مكة

توطئة: البحث عن الهوية الإسلامية بين حضارتين 7

المبحث الأول: موقع دار خديجة الجغرافي 13

1. إنه في سوق الصباغين 14

2. إنه في شعب أبي طالب عليه السلام 14

3. إنه في زقاق العطارين 15

المبحث الثاني: صفة دار خديجة عليها السلام وفضله 16

المسألة الأولى: أقوال المؤرخين في بيان صفة دار خديجة وإظهار فضله وشرافته 16

المسألة الثانية: امتهان الوهابية لدار أم المؤمنين خديجة عليها السلام وتحويلها إلى دورات مياه!!! 21

المبحث الثالث: دار خديجة عليها السلام يشهد أهم الأحداث التي عاشها النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال ربع قرن 24

ص:271

المسالة الأولى: زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار خديجة عليها السلام وعيشه فيها 24

المسألة الثانية: نزول الوحي بسورة المدثر في بيت خديجة عليه السلام 25

المسألة الثالثة: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلن تنصيب وصيه وخليفته من بعده في دار خديجة عليها السلام 27

المسألة الرابعة: إسلام الصحابة في دار خديجة عليها السلام 35

أولا: إسلام أبي ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه في بيت أم المؤمنين خديجة عليها السلام 36

ثانيا: إسلام أبي بكر عند بيت خديجة عليها السلام 38

المسألة الخامسة: إسراء النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من دار خديجة عليها السلام 41

أولا: إن بيت خديجة هو المسجد الحرام 42

ثانيا: إنّ لخديجة من الطهر ما لمريم عليهما السلام 43

المبحث الرابع: مبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة عليها السلام ليلة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة 52

المسألة الأولى: كيف وقعت الحادثة ؟ 53

ألف: ما رواه ابن إسحاق والطبري وغيرهما 54

باء: ما رواه الشيخ الطوسي رحمه الله 58

المسألة الثانية: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يفدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى 69

المسألة الثالثة: شبهة ابن تيمية والحلبي في رد فضيلة الفداء، شبهة واهية ومخالفة للقرآن الكريم 73

أولاً: إتفاق أهل العلم بالحديث والسير على صدور هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبه يتضح كذب ابن تيمية 75

ص:272

القسم الأول: رواية أهل العلم بالحديث والسير لنزول جبرائيل وميكائيل لحفظ علي عليه السلام ليلة المبيت من الشيعة على رغم أنف ابن تيمية 78

القسم الثاني: رواية أهل العلم بالحديث والسير من السنة والجماعة في نزول جبرائيل وميكائيل 82

ثانياً: اسماء الذين رووا من أهل العلم بالحديث والسير واتفاقهم على ان علياً عليه السلام هو الذي شرى بنفسه فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنام في مكانه في دار خديجة عليها السلام 87

ثالثاً: محاربة آية الشراء منذ القرن الأول للهجرة والى يومنا هذا 100

ألف. بذل معاوية آلاف الدراهم لتحريف نزول الآية 106

باء. تعمد ابن تيمية الكذب على العلماء والقراء في صرف الآية عن علي بن أبي طالب عليه السلام 108

جيم. منهج الألباني في دفع الآية عن علي عليه السلام 108

رابعاً: الشبهة الحلبية ومخالفتها للقرآن والسنة 109

1. رد شبهة، حصول الطمأنينة لعلي عليه السلام بقول الصادق له، لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم 110

2. رد شبهة قول الحلبي: (فلم يكن فيه فداء بالنفس) 111

3. رد شبهة قول الحلبي: (والآية المذكورة في سورة البقرة هي مدنية باتفاق) 116

4. رد شبهة قول الحلبي (وقد قيل انها نزلت في صهيب) 119

المبحث الخامس: من دار خديجة عليها السلام خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام مصطحباً علي بن أبي طالب عليه السلام 126

المسألة الأولى: كيف وصلت الأصنام إلى بيت الله الحرام ونصبت على سطح الكعبة ؟ 129

المسألة الثانية: من دار خديجة عليها السلام خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصطحباً علياً عليه السلام لتكسير الأصنام قبل الهجرة 132

الحلقة الأولى: ما يدل على وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة دون تحديد السنة 134

ص:273

الحلقة الثانية: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في ليلة مبيته على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم 138

ألف. التلازم في تحقق الأثر الإرشادي بين عمل نبي الله إبراهيم عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تكسير الأصنام 140

باء. التوحيد ينطلق من دار خديجة وإليه يرجع الموحدون 145

جيم. الحكمة في اجتماع تكسير الأصنام والمبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة واحدة 146

الحلقة الثالثة: ما يدل على تعدد وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة 147

المسألة الثالثة: ما يدل على مباشرة الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح 151

أولاً: تعتيم البخاري على دور الإمام علي عليه السلام في تكسير الأصنام في فتح مكة 152

ثانيا: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح وتعمد البخاري ومسلم اخفاء ذلك 154

ثالثا: العلة في عدم تمكن الإمام علي عليه السلام من حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام 157

المبحث السادس: التقاء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ببعض المؤمنين في دار خديجة عليها السلام 161

المسألة الأولى: رواية الشيخ الصدوق رضي الله تعالى عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام 162

أولاً: تحقق رؤية صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف في زمن الغيبة الصغرى 164

ثانيا: تقوى الحسن بن الوجناء وشدة مثابرته على طاعة الله والتقرب إليه 164

المسألة الثانية: رواية الشيخ الطوسي رضي الله عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام 166

ص:274

الفصل التاسع

حملها بفاطمة عليها السلام و ولادتها

المبحث الأول: خلقها من ثمار الجنة 175

المحور الأول: تفاعل الكتّاب مع حدث خلق فاطمة من ثمار الجنة 176

الأمر الأول: اعتماد بعض الكتاب فيما يرونه على ما يتلاءم مع اعتقادهم 176

الأمر الثاني: الاختلاف في وقت حدوث رحلة الإسراء لا يلغي الحقيقة 176

الأمر الثالث: الإعراض عن روايات أهل البيت عليهم السلام لا يدل على صحة المعْرِض عنها 177

المحور الثاني: السُنة النبوية والعقل يؤكدان حقيقة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة 178

أولاً 181

ثانياً 181

ثالثاً 181

الأمر الأول 182

الأمر الثاني 182

المسألة الأولى: إنها خلقت من شجرة طوبى 182

المسألة الثانية: إنها خلقت من سفرجل الجنة 185

المسألة الثالثة: خلقها من رطب الجنة 186

المسألة الرابعة: إنها عليها السلام خلقت من تفاحة من الجنة 187

المسألة الخامسة: إنها خلقت من جميع ثمار الجنة 188

بعض دلالات الحديث: 189

أولاً: (فأصبت من ريح تلك الثمار) 189

ص:275

ثانياً: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الاشتياق إلى الجنة 189

المبحث الثاني: التهيئة النبويّة لنزول الأنوار الفاطمية 190

الوجه الأول 190

الوجه الثاني 192

المحور الأول: أحاديث اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس ومنهم أم المؤمنين خديجة عليها السلام 194

المسألة الأولى: (لماذا الاعتزال لمدة أربعين يوماً؟) 196

أولاً: (الاعتزال) 196

ثانياً: علم الأعداد والحروف وشرافة العدد أربعين 199

المسألة الثانية: «جبرائيل عليه السلام يهبط في صورته العظمى» 204

أولاً: معنى تسميتهم بالملائكة 204

ثانياً: المواضع التي ظهر فيها جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى 209

الموضع الأول 209

الموضع الثاني 210

الموضع الثالث 210

ثالثاً: أثر الاعتزال والرياضة النفسية في خلق الجنين 210

رابعاً: الأدب النبوي في بيان حبه لخديجة عليها السلام 211

المسألة الثالثة: جبرائيل عليه السلام ينزل بالنور الفاطمي من الجنة 211

أولاً: (اشتراك الملائكة الثلاثة عليهم السلام في إيصال الوديعة) 213

ثانياً: (هل يجوز تأخير الصلاة في شتى الأحوال لعلل راجحة)؟! 214

المسألة الرابعة: انتقال النور الفاطمي إلى الأرض الطاهرة 218

أولاً: (المنهاج التربوي الأسري عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم) 220

ثانياً: المنهاج التربوي في العلاقة الزوجية 221

ثالثاً: (الإحساس بثقل فاطمة عليها السلام) 223

الحديث الثاني 223

ص:276

أولاً: تعين ليلة انعقاد النطفة النورانية التي خلقت منها أم الأئمة 224

ثانياً: القاسم وعبدالله عليهما السلام ولدا وماتا في الإسلام 225

المبحث الثالث: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟ 226

المسألة الأولى: إن فاطمة عليها السلام كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها 227

المسألة الثانية: بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها أنثى 237

المبحث الرابع:(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ ) 246

المسألة الأولى: الحكمة في ذكر الرفقة لآسيا مع خديجة في الجنة 248

المسالة الثانية: ما هي العلاقة بين صفة نساء بني هاشم وبين النساء اللاتي دخلن على خديجة عند ولادة فاطمة عليها السلام ؟ 249

المسألة الثالثة: ما معنى دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة عند ولادتها؟ 250

المسألة الرابعة: نطق فاطمة عليها السلام بالشهادتين 251

المسألة الخامسة: مكان ولادة فاطمة عليها السلام 253

المبحث الخامس: إرضاع خديجة إياها (عليها السلام) 254

المبحث السادس: تسميتها 259

المبحث السابع: عقيقتها 265

المبحث الثامن: فاطمة في حِجْرِ النبوة 266

المسألة الأولى: إن الله اصطفى لها ما لم يصطفِ لأحد من أوليائه 266

المسألة الثانية: السنين الأولى لطفولتها وتأثيرها في أم المؤمنين خديجة عليها السلام 269

ص:277

المجلد 4

اشارة

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني

كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

مشخصات کتاب : 4ج

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق.

2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود.

3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود.

ص :1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد

لسنة 2010-1661

الحسني، نبيل، 1965 - م.

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني. - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

4 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 52).

المصادر.

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق. 2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود. 3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود. 4. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - نساءه - شبهات وردود. 5. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - الأولاد - دراسة وتحقيق. 6. علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 ق. - فضائل - شبهات وردود. 7. فاطمة الزهراء (علیها السلام)، 8؟ - 11 ق. - السيرة - دراسة وتحقيق. ألف. الحلو، محمدعلي، مقدم. ب. العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. اللجنة العلمية. ج. عنون. د. عنوان: خديجة بنت خويلد أمّة جُمعت في امرأة.

4 خ 5 ح / 26/208 BP

تمت الفهرسة في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة قبل النشر

ص:2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:3

ص:4

الفصل العاشر: اخوة خديجة عليها السلام وارحامها

اشارة

ص:5

ص:6

في هذا الفصل نحاول أن نظهر للقارئ حجم هذه الأسرة التي أنجبت السيدة الطاهرة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السلام، وما قامت به بعض هذه الشخصيات التي ارتبطت بالسيدة خديجة برابطة الدم والرحم من أعمال في الإسلام حتى أصبحت أحد رموز التاريخ والعقيدة.

وقد أشارت بعض المصادر إلى أن الأسرة التي أنجبت خديجة عليها السلام تتكون من مجموعة من الأخوة الذكور بلغ عددهم خمسة، وأن عدد اخواتها الأناث كان ستاً.

وهم على النحو الآتي:

المبحث الأول: إخوتها الذكور

اشارة

لقد أحيطت السيدة خديجة عليها السلام بعدد من الأخوة الذكور الذين برزت بعض أسمائهم من خلال أبنائهم وما قاموا به من أدوار في الساحة الإسلامية، في حين كان البعض الآخر منهم ممن لم يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:7

المسألة الأولى: العوام بن خويلد بن أسد

تزوج العوام من صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية وتوفي عنها وقد ولدت له (الزبير، والسائب، وعبد الكعبة)(1).

وقد برز اسم العوام بن خويلد من خلال ولديه الزبير والسائب وأولادهما عبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير، وقد ملأت سيرتهما كتب التاريخ والحديث، وظهرا في أهم الأحداث الإسلامية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسعني بيانها في هذا الموضع من الكتاب.

المسألة الثانية: حزام بن خويلد
اشارة

كان ممن هلك في الجاهلية في حرب الفجار(2) ؛ ولكن برز اسمه من خلال ولديه حكيم، وخالد؛ أما حكيم، فقد ولد قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة(3) ؛ وقد تأخر إسلامه إلى عام الفتح وكان من المؤلفة قلوبهم وقد توفي في المدينة عام 54 ه - وقد بلغ مائة وعشرين عاماً(4).

وقد أخرج له البخاري في صحيحه أربعة أحاديث(5).

ص:8


1- الطبقات الكبرى، لابن سعد: ج 8، ص 41.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 483.
3- المصدر السابق.
4- الاصابة لابن حجر: ج 2، ص 98..
5- مقدمة فتح الباري لابن حجر: ص 475.

الا ان كل ذلك لم يكن بالأمر الذي يستحق الشهرة واهتمام المحدثين فكثير هُمُ الذين أخرج لهم البخاري، وإنما كانت هذه الشهرة نابعة من قولهم: انه الوحيد الذي ولد في الكعبة (أعزها الله تعالى) ومن ثم فهم لا يعتقدون بولادة علي بن أبي طالب عليه السلام في الكعبة.

والسؤال المطروح في البحث هو:

ألف. حقيقة ولادة حكيم بن حزام في الكعبة (أعزها الله تعالى) أواقعة أم هي حبر على ورق ؟
اشارة

وللوقوف على صحة هذا المدعى فلابد من استعراض تلك الأقوال التي أشارت إلى ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة.

أولاً: رد هذا الإدعاء وبيان زيفه

1. قال مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح: «ولد حكيم بن حزام في جوف الكعبة وعاش مائة وعشرين سنة»(1).

2. قال الحاكم النيسابوري: «سمعت» أبا الفضل الحسن بن يعقوب يقول: سمعت أبا أحمد محمد بن عبد الوهاب يقول: «سمعت علي بن غنام العامري يقول: ولد حكيم بن حزام في جوف الكعبة دخلت أمه الكعبة فمخضت فيها فولدت في البيت»(2).

3. قال ابن حبان: «دخلت أمه الكعبة فمخضت فيها فولدت حكيم بن

ص:9


1- صحيح مسلم، باب: النهي عن بيع الثمار: ج 5، ص 11.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 482.

حزام في جوف الكعبة»(1).

4. قال ابن حجر: (وحكى الزبير بن بكار أنّ حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة، قال وكان من سادات قريش في الجاهلية والإسلام)(2).

وهذه الأقوال فيها كفاية لأنها صدرت عن رجال يعتقد كثير من المسلمين بعلمهم.

وأقول:

1. أما قول مسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب (الصحيح) فقد أورده بدون سند فقد أدخله على الحديث وأقحمه فيه إقحاماً وهو كما ترى تدليس في الحديث، إذ قال: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا همام عن أبي التياح قال: سمعت عبد الله بن الحارث يحدث عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثله (قال مسلم بن الحجاج ولد حكيم بن حزام في جوف الكعبة وعاش مائة وعشرين سنة).

وهذا الأسلوب لا يدل على صحة هذا القول وإنما يعبر عن رأي مسلم الذي أقحمه فيما بين الحديثين، ولو وجد مسلم بن الحجاج لولادة حكيم بن حزام أصلاً وسندا لأوردها دون تردد لكنه عمد إلى الالتفاف على الحديث.

2. وأما قول الحاكم النيسابوري الذي أورده في المستدرك سماعاً فانه سرعان ما يعود إليه فينفيه بل ويظهر زيف هذا المدعى وانه عبارة عن وهم

ص:10


1- مشاهير علماء الأمصار لابن حبان: ص 32.
2- تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 2، ص 385.

توهم فيه قائله. فانظر - عزيزي القارئ - إلى ما قال:

(أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا مصعب بن عبد الله فذكر نسب حكيم بن حزام وزاد فيه وأمه فاختة بنت زهير بن أسد بن عبد العزى وكانت ولدت حكيماً في الكعبة وهي حامل فضربها المخاض وهي في جوف الكعبة فولدت فيها فحملت في نطع وغسل ما كان تحتها من الثياب عند حوض زمزم ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد).

قال الحاكم: «وَهَمَ مصعب في الحرف الأخير - أي توهم - فقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة»(1).

وقد قدم لنا الحاكم في رده لهذا الوهم والزيف حقيقة مهمة؛ إذ يكشف بأسلوب مهذب أصل هذا الخبر ومحل صدوره وهو مصعب بن عبد الله، الذي سنتوقف معه لنستنطقه في معرفة الأسباب التي دعته لخلق هذا الوهم ونشره بين المسلمين.

3. أما قول ابن حبان فقد أورده دون أن يوثقه بسند يدعمه ويؤكد وقوعه، ولم يذكر حتى ممن سمعه أو قال له، ولعله علم ان ذكره لمصعب بن عبد الله سيفضح مدعاه.

4. أما قول ابن حجر فقد نقله عن الزبير بن بكار حكاية ثم أتبعه بقوله: «وقال الزبير عن عمه مصعب قال: جاء الإسلام وفي يد حكيم الوفادة وكان

ص:11


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 483.

يفعل المعروف ويصل الرحم ويحض على البر(1).

وهذا يكشف أن هذه الأقوال نابعة عن مصعب بن عبد الله الذي وصف عم أبيه بأنه أحد سادات قريش في الجاهلية وفي الإسلام.

وأقول:

أما في الجاهلية فنعم؛ وأما في الإسلام فلا، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، فمنها:

1. أنه تأخر إسلامه حتى عام الفتح(2). حينما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة، وهذا يعني أنه من الطلقاء حاله في ذلك حال أبي سفيان وولديه، وعتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وبديل بن ورقاء، وغيرهم كثير جداً.

ولذا فمن أين جاءت له السيادة في الإسلام ؟! أبكونه من الطلقاء أم لتخلفه عن علي بن أبي طالب عليه السلام ؟

2. أنه من المؤلفة قلوبهم(3) ، أي الذين كان يعطيهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مالاً كي تميل قلوبهم إلى الإسلام.

3. ولعل بني أمية أرادوا مكافأته لموقفه من عثمان بن عفان يوم دخل

ص:12


1- تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 2، ص 385.
2- الكاشف لمن له في رواية للذهبي: ج 1، ص 347؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 7، ص 174؛ اسد الغابة: ج 2، ص 40؛ الأمالي للشيخ الطوسي: ص 400.
3- عمدة القاري للعيني: ج 15، ص 70.

عليه الصحابة وأبناؤهم فقتلوه في داره، وتركوه فيها ثلاثة أيام، حسبما أخبرنا به المدائني وغيره، إذ قال: (إن طلحة - صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! - منع من دفنه ثلاثة أيام، وأن علياً لم يبايع الناس إلا بعد قتل عثمان بخمسة أيام، وأن حكيم بن حزام أحد بني أسد بن عبد العزى، وجبير بن مطعم بن الحارث بن نوفل، استنجدا بعلي عليه السلام على دفنه.

فأقعد طلحة لهم في الطريق ناساً بالحجارة، فخرج به نفر يسير من أهله وهم يريدون به حائطاً بالمدينة يعرف بحش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلما صار هناك رجم سريره وهموا بطرحه، فأرسل علي عليه السلام إلى الناس يعزم عليهم ليكفوا عنه، فكفوا فانطلقوا به حتى دفنوه في حش كوكب)(1).

وكان حكيم بن حزام أحد الرجال الثلاثة الذين صلوا على عثمان وألحدوه في لحده ودفنوه(2).

وقال ابن عبد البر: (لما قتل عثمان ألقي على المزبلة ثلاثة أيام فلما كان من الليل أتاه أثنا عشر رجلاً فيهم حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير...)(3).

ص:13


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 10، ص 6؛ تاريخ الطبري: ج 3، ص 439؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 96؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 1، ص 79؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 3، ص 180.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 79؛ تاريخ الطبري: ج 3، ص 439.
3- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 1047.

وعليه: كيف لا يجعل له بنو أمية هذه الخصوصية فيجعلونه أحد سادات قريش في الإسلام، وانه الوحيد الذي ولد في جوف الكعبة ؟!.

فضلاً عن ذلك فقد اعتزل حكيم بن حزام الإمام علياً عليه السلام، فيما كان ولده عبد الله واحداً من الذين خرجوا لقتال علي بن أبي طالب عليه السلام في حرب الجمل، ولقد وقف عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد أن انتهت المعركة فقال: (هذا خالف أباه في الخروج، وأبوه حيث لم ينصرنا قد أحسن في بيعته لنا، وإن قد كف وجلس حيث شك في القتال، وما ألوم من كف عنا وعن غيرنا ولكن المليم الذي يقاتلنا)(1).

وهذه المواقف لا يمكن لأعداء علي عليه السلام ان يدعوها تمُر دون ان تجازى ويرد لأهلها جميلهم وصنيعهم الحسن..

ولذلك:

كان من بين أهم المكافآت التي قدمت لحكيم بن حزام هي القول بأنه ولد في جوف الكعبة.

ثانياً: دور الزبير بن بكار وعمه مصعب في نشر هذا الادعاء والدليل على زيفه

إلا أننا نجد أن الحافظ ابن حجر العسقلاني قد كشف عن الراوي الأساس في قضية ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة، فقال: «وحكى الزبير بن بكار: أنّ حكيم بن حزام قد ولد في جوف الكعبة وكان من سادات قريش في الجاهلية والإسلام».

ص:14


1- الإرشاد للمفيد: ج 1، ص 255؛ الجمل لضامن بن شدقم المدني: ص 155.

وهو بذاك قد وضع أيدينا على الجرح؛ وذلك لما عُرف به الزبير بن بكار من معاداة للعلويين في المدينة المنورة وفي غيرها حسبما دلت عليه النصوص التاريخية: -

1. قال ابن الأثير الجزري: (قدم الزبير بن بكار العراق هارباً من العلويين؛ لأنه كان ينال منهم فتهدّوده فهرب منهم، وقدم على عمه مصعب بن عبد الله وشكا إليه حاله وخوفه من العلويين وسأله إنهاء حاله إلى المعتصم - الخليفة العباسي - فلم يجد عنده ما أراد وأنكر عليه حاله ولامه.

قال أحمد: فشكا ذلك إلي وسألني مخاطبة عمه في أمره، فقلت له في ذلك وأنكرت عليه إعراضه عنه فقال لي: إن الزبير فيه جهل وتسرع، فأشر عليه أن يستعطف العلويين، ويزيل ما في نفوسهم، والله على مثل ذلك أوافقه ولا أقدر أذكرهم عنده بقبيح، فقل له ذلك حتى يرجع عن الذي هو عليه من ذمهم)(1).

ومن كان هذا حاله من العلويين، ومعروف لدى الناس بذمهم، فضلاً عن إقرار عمه مصعب بأنه جاهل ومتسرع كيف لا يدعي بأن حكيم بن حزام قد ولد في جوف الكعبة نكاية بعلي بن أبي طالب عليه السلام.

2. ذكره أحمد بن علي السليماني - صاحب كتاب العالم والمتعلم - في عداد من يضع الحديث؛ وقال - مرة -: منكر الحديث، وهو ما نقله الحافظ الذهبي في ميزانه، وغيره(2).

ص:15


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 6، ص 526.
2- ميزان الاعتدال للذهبي: ج 2، ص 66؛ الكشف الحثيث لسبط ابن العجمي: ص 119.

وهذه الرتبة وان كان الذهبي قد حاول عدم الإقرار بها، إلا أنها تكشف حال الرجل عند غير الذهبي.

3. وقد حدث الشيخ الصدوق عن أحمد بن محمد بن إسحاق الخراساني قال: سمعت علي بن محمد النوفلي يقول: استخلف الزبير بن بكار رجل من الطالبيين على شيء بين القبر والمنبر، فحلف فبرص، فأنا رأيته وبساقيه وقدميه برص كثير، وكان أبوه بكار قد ظلم الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في شيء فدعا عليه، فسقط في وقت دعائه عليه حجر من قصر فاندقت عنقه.

وأما أبوه عبد الله بن مصعب فإنه مزق عهد يحيى بن عبد الله بن الحسن وأهانه بين يدي الرشيد وقال: أقتله يا أمير المؤمنين فإنه لا أمان له، فقال يحيى للرشيد: انه خرج مع أخي بالأمس - وأنشد أشعاراً له - فأنكرها، فحلّفه يحيى بالبراءة وتعجيل العقوبة، فحم من وقته، ومات بعد ثلاثة، وانخسف قبره مرات كثيرة)(1).

4. ولم يكن عداء الزبير بن بكار للعلويين، واتهمامه لهم، ومحاربتهم، ليمرّ دون عقاب دنيوي يكشف عن سوء العاقبة، فقد ذكر الخطيب البغدادي، والحافظ المزي، والسمعاني:

(إنّ سبب وفاته أن وقع من فوق سطحه فمكث يومين لا يتكلم ومات)(2).

ص:16


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 1، ص 244.
2- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 8، ص 472؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 9، ص 296؛ الأنساب للسمعاني: ج 3، ص 137.

أما حال عمه مصعب بن عبد الله الذي نسب إليه مدعى ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة، فقد قال ابن الأثير الجزري في بيان حاله مع الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام، أنه قال:

(وهو عم الزبير بن بكار، وكان عالماً فقيها، إلا أنه كان منحرفاً عن علي عليه السلام)(1).

ومن كان منحرفاً عن علي بن أبي طالب عليه السلام الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حبه علامة لوجود الإيمان؛ وان بغضه علامة لوجود النفاق، كيف لا يتقول الأكاذيب في شأن علي عليه السلام، وما قوله في ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة إلا واحد من تلك البدع التي نال بها من العلويين.

باء. هل الولادة في جوف الكعبة، هي منقبة ؟
اشارة

إن مما يلفت الانتباه في مسألة الولادة في جوف الكعبة هي عدّها منقبة تحيط بمن خص بها، كما قال الذهبي في ترجمته لحكيم بن حزام، قائلاً: (وله منقبة، وهو أنه ولد في جوف الكعبة)(2) ، والسؤال المطروح من أين جاءت هذه المنقبة ؟

وبمعنى آخر: المنقبة حاصلة من البيت الحرام؛ لما فيه من خصوصية نابعة من كونه بيت الله الحرام، أم لأن الكعبة لها حرمة ؟

ص:17


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 7، ص 57.
2- تاريخ الإسلام للذهبي: ج 4، ص 200.

ومن ثم فمن ولد في جوف الكعبة فانه ينال تلك المنقبة، أما؛ لأنه ولد في بيت الله وهذا تكريم من الله تعالى لعبده إذ ساقه إلى بيته فتلك منقبة، وإما أنه ولد في جوف الكعبة فنال من حرمتها فتلك منقبة، أو انه نال الاثنين معا في تلك الولادة في جوف الكعبة للملازمة بينهما.

وأقول:

أما انها منقبة بلحاظ كون الكعبة (أعزها الله) لها حرمة خاصة، فهذا مرهون بمن يعتقد بوجود هذه الحرمة، اما من لا يعتقد بوجود أي حرمة للكعبة أعزها الله تعالى فكيف يعتقد بحصول المنقبة، والأمثلة على ذلك كثيرة، والشواهد أكثر مما تعد.

فمن الشواهد على اعتقاد البعض بعدم وجود أي حرمة للكعبة أعزها الله تعالى قبل الإسلام وبعده ما يأتي:

أولاً: ما يدل على عدم الاعتقاد بحرمة الكعبة قبل عام الفيل

إن مما يؤسف له ان كثيراً من المخازي والأفعال الدنيئة كانت تحدث في جوف الكعبة (أعزها الله تعالى) قبل الإسلام وهذا يكشف عن فقدان الحرمة في نفوس أولئك الجناة، بل ان أول انتهاكة لحرمة الكعبة وقعت على يد الجرهميين، وهم سكان مكة الأصليين.

الدليل الأول: ارتكابهم الزنى في جوف الكعبة!

ألف: قال الطبري (المتوفى 310 ه -): (فكان أول من ولى من جرهم البيت مضاض، ثم وليته بعده بنوه كابرا عن كابر حتى بغت جرهم بمكة

ص:18

واستحلوا حرمتها وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها وظلموا من دخل مكة ثم لم يتناهوا حتى جعل الرجل منهم إذا لم يجد مكاناً يزني فيه يدخل الكعبة فزنى، فزعموا أن أسافا بغى بنائلة في جوف الكعبة فمسخا حجرين)(1).

باء: وقال محمد بن حبيب البغدادي (المتوفى سنة 245 ه -): (كان مفتاح البيت في أيدي جرهم وإن رجلاً منهم يقال له إساف بن يعلى عشق امرأة منهم يقال لها: نائلة بنت مزيد أو زيد فأصابا من البيت خلوة ففجرا فيه فمسخا حجرين فأخرجا فنصبا عند الكعبة ليعتبر الناس)(2).

جيم: قال ابن إسحاق عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم انها قالت: (ما زلنا نسمع أن أسافا ونائلة رجل وامرأة من جرهم زنيا في الكعبة فمسخا حجرين)(3).

هاء: وقال ابن كثير: «ان اسافا ونائلة كانا بشرين فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس فلما طال عهدهما عبدا ثم حولا إلى الصفا والمروة فنصبا هناك فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ولهذا يقول ابو طالب في قصيدته المشهورة:

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم لمفضى السيول من أساف ونائلِ (4)

ص:19


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 37.
2- كتاب المنمق لمحمد بن حبيب البغدادي: ص 282.
3- سيرة ابن إسحاق: ج 1، ص 3.
4- تفسير ابن كثير: ج 1، ص 205.

فهذه حال الكعبة أعزها الله عند الجرهميين فلو ولد لأحدهم مولود في جوف الكعبة فهل يعدون ذلك منقبة حظي بها الوليد في البيت. من الطبيعي انها لا تعد منقبة.

ولذلك: فالمنقبة ينظر لها على انها كذلك حينما يعتقد الناظر بحرمة الكعبة المشرفة. اما من لا يعتقد بحرمتها فلا يعتقد بوجود أي منقبة فيها، بل لعله يعتقد العكس حسبما تمليه عليه معطياته الفكرية والثقافية.

الدليل الثاني: الإشراك بالله في جوف الكعبة

إنّ الملاحظ في حادثة الجرهميين ومن جاء بعدهم فسكن مكة هو تلك العقلية التي كانت تسود تصرفات هؤلاء الناس، فهم عوض أن يتعظوا من مسخ هؤلاء الجناة حجرين فيكفوا عن غيهم، انقلب الأمر فاخذوا يعبدونهما من دون الله تعالى، وهذا يكشف عن انعدام الحرمة من الأصل.

بمعنى:

انهم لا يرون حرمة لله تعالى من الأصل مما دفعهم إلى اقتراف الزنى داخل الكعبة ثم القيام بعبادة الأصنام، ولعل الكثير منهم لا يجعلها فقط في مرتبة الشريك لله سبحانه وإنما هو يراها إلهاً واحداً والعياذ بالله.

ولذلك لا يرى ضرورة في وجودها في الكعبة أم خارجها فجعلت على الصفا والمروة؛ وهذا كله يكشف عن حدود عقلية هؤلاء. وتفاوت الحرمة ونسبتها فقد تكون الحرمة محصورة في الصنم الذي يعبدون وقد تكون الحرمة في الكعبة بوصفها بيت الشريك - والعياذ بالله - كما يؤمنون به.

ص:20

ومن هنا:

نجدهم جعلوا (هبل) وهو أكبر أصنامهم في جوف الكعبة لاشتراك الحرمة فيما بينهما حسبما يعتقدون، أي حرمة الكعبة وحرمة هبل، كما تدل النصوص التاريخية.

ألف: قال ابن إسحاق: «وكان هبل أعظم أصنام قريش بمكة وكانت على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي تجمع فيها ما يهدى للكعبة»(1). أي اجتماع الحرمتين في عقول القرشيين، حرمة الصنم وحرمة الكعبة.

باء: ولم يقتصر الأمر فقط على وجود هبل في جوف الكعبة، وانما كان هناك أصنام أخرى، وهي (اللات، ومناة، والعزى)(2).

وهذا يدل على تغلغل هذا الاعتقاد في نفوس القرشيين ومن ثمّ تحديد المنقبة في ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة مرتبط بما يعتقده القرشيون لا بما يعتقده الحافظ الذهبي لاسيما ان حكيم بن حزام ولد قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة.

بمعنى لم ترتكز بعد في نفوسهم حرمة الكعبة التي ظهر برهانها في هلاك إبرهه الحبشي وجيشه كما تبينه سورة الفيل.

ص:21


1- سيرة ابن إسحاق: ج 1، ص 11؛ جامع البيان لابن جرير الطبري: ج 6، ص 103؛ تفسير الثعلبي: ج 4، ص 15.
2- تفسير البغوي: ج 4، ص 250؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 7، ص 232؛ تفسير الواحدي: ج 2، ص 1040.

نعم، لو وقعت هذه الولادة في الكعبة بعد عام الفيل لرجح الظن إلى عدّها منقبة عند القرشيين؛ لأنهم رأوا بأم أعينهم كيف دافع الله تعالى عن بيته الحرام، وهو ما يدعو إلى رجحان هذا الأمر وتحققه في ولادة الإمام علي عليه السلام لسريان ثقافة ارتباط الكعبة بالله سبحانه بعد عام الفيل، وظهور حرمتها إلى رتبة القطع عند أهل مكة وغيرهم من الناس لانتشار هذا المعجز في أرجاء البلاد.

ثانياً: ما يدل على عدم الاعتقاد بحرمة الكعبة أعزها الله بعد الإسلام وسيران هذه الثقافة في المجتمع

ولم يقتصر هذا الامر على تلك الحقبة الزمنية التي مرت بها الأجيال العربية التي سكنت بجوار بيت الله الحرام، وانما تعداه إلى أزمنة أخرى ومتعاقبة لذلك الزمن حتى بعد مجيء النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حسبما تدل عليه النصوص التاريخية والحديثية، ومن ثمّ فالاعتقاد بحصول الولادة في جوف الكعبة متلازم مع الاعتقاد بحرمة الكعبة أعزها الله وهو ما لم يتحقق حصوله عند بني أمية والزبيريين كما دلت عليه المصنفات الإسلامية التي باتت حبلى بهذه الحوادث والشواهد.

ألف. أما الأمويون فقد كشفوا عن حقيقة اعتقادهم بحرمة الكعبة من خلال إرسالهم لمسرف بن عقبة الذي بعثه يزيد بن معاوية لأخذ البيعة له من أهل المدينة ومكة وقتال عبد الله بن الزبير الذي تحصن بالحرم، فقدم الجيش وهو بقيادة الحصين بن نمير السكوني لتحقيق هذا الهدف الذي تم إنجاز بعضه

ص:22

على يد مسرف بن عقبة في المدينة المنورة حينما دخلها واستباحها ثلاثة أيام وأخذ البيعة من الصحابة على أنهم عبيد (ليزيد بن معاوية)(1) لتظهر بهذه البيعة الأموية والشريعة السفيانية ثقافة الاعتقاد بحرمة المدينة وحرمة الصحابة.

وأما مكة فظهر اعتقاد بني أمية بحرمتها من خلال قتالهم ابن الزبير، فلما استعصى عليهم نصبوا المنجنيق ورموا بيت الله بالحجارة، وحرقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون:

خطارة مثل الفنيق المزبدِ نرمي بها أعواد هذا المسجدِ(2)

باء. ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي يتعرض فيها بيت الله لهتك الحرمة والدمار. بل حدث ما هو أعظم من ذلك! حينما أمر عبد الملك بن مروان، الحجاج بن يوسف الثقفي بالتوجه إلى مكة وقتل عبد الله بن الزبير، فكان له ما أراد، بعد أن حاصر الحجاج وجيشه البيت الحرام في الشهر الحرام، ولم يمنعه من ذلك الفعل الشنيع مانع، فلا البيت له حرمة، ولا الشهر له حرمة، ولا المسلمون الذين قدموا لتأدية المناسك كانت لهم حرمة عند بني أمية وأشياعهم.

فكان من أمرِ الحجاج أن نصب المنجنيق على جبل أبي قبيس ورمى به الكعبة(3).

وأول مارمى بالمنجنيق رعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة فاشتمل عليها!! فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا بأيديهم.

ص:23


1- كتاب المنمق لمحمد بن حبيب البغدادي: ص 316؛ الطرائف لابن طاووس: ص 166.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 4، ص 124.
3- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 4، ص 350. أسد الغابة لابن الأثير: ج 3، ص 244.

فرفع الحجاج بركة قبائه فغرزها في منطقته ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه ثم قال أرموا ورمى معهم؛ ثم أصبحوا فجاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلاً؛ فانكسر أهل الشام.

فقال الحجاج: يا أهل الشام لا تنكروا هذا، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضر فأبشروا(1).

فأخذوا يرمون بيت الله، وجعلت الحجارة لا تهد، لكنها تقع في المسجد الحرام كالمطر، وكان رماة المنجنيق إذا هم وهنوا، وسكتوا ساعة فلم يرموا يبعث إليهم الحجاج فيشتمهم ويتهددهم بالقتل.

فلم يزل الحجاج وأصحابه يرمون بيت الله الحرام بالحجارة حتى انصدع الحائط الذي على بئر زمزم عن آخره! وانتقضت الكعبة من جوانبها!

ثم أمرهم الحجاج فرموا بكيزان النفط والنار، حتى احترقت الستارات كلها فصارت رماداً!.

والحجاج واقف ينظر كيف تحترق الستارات، وهو يرتجز ويقول:

إما تراها ساطعاً غبارها واللهُ فيما يزعمون جارها

فقد وهت وصدعت أحجارها ونفرت منها معاً أطيارها

وحان من كعبته دمارها وحرقت منها معاً أستارها

لما علاها نفطها ونارها(2)

ص:24


1- المصدر السابق.
2- الفتوح لابن أعثم: ج 6، ص 340.

ثم جرت معركة عظيمة ودخل جيش الشام على عبد الله بن الزبير من أبواب المسجد الحرام في وقت الصلاة وهم ينادونه: (يبن العمياء)(1) ، (يبن ذات النطاقين)(2).

ودار القتال في باحة المسجد الحرام وقتل عبد الله بن الزبير وجميع من كان معه، وقطع رأسه وأرسل إلى عبد الملك بن مروان(3).

أما بدن ابن الزبير فقد صلب على جذع، وقيل على خشبة، منكساً على رأسه لعدّة أيام(4) وربط معه كلب ميت(5) ؛ ثم أنزله الحجاج وألقى به في مقابر اليهود(6). وقيل دفنته أمه بالحجون(7).

ص:25


1- تاريخ أبي مخنف: ج 2، ص 95؛ مروج الذهب: ج 3، ص 129؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 5، ص 280.
2- ذات النطاقين: هي أسماء بنت أبي بكر وقد أصيبت بالعمى في آخر عمرها؛ وسبب تسميتها ب - «ذات النطاقين» هو لكونها شقت نطاقها إلى نصفين حينما جهزت طعاماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر في خروجهما إلى المدينة، فربطت الطعام بشق من النطاق والماء بالشق الآخر. أنظر: صحيح البخاري: ج 3، ص 1087، حديث 2817؛ صحيح مسلم: ج 4، ص 1971، حديث 2545.
3- الفتوح لابن أعثم: ج 6، ص 342؛ تاريخ الطبري: ج 3، ص 1192.
4- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 4، ص 356-357؛ الفتوح لابن أعثم: ج 6، ص 343.
5- الكامل لابن الأثير: ج 4، ص 357.
6- صحيح مسلم، باب: ذكر كذاب ثقيف ومبيرها: ج 4، ص 1971.
7- الكامل لابن الأثير: ج 4، ص 357.

وقتل معه مائتان وأربعون رجلا منهم من سال دمه في جوف الكعبة(1).

وبعد هذه الانتهاكات العظيمة لبيت الله، من الهدم، والحرق، وقتل الناس، وصلبهم على الجذوع كيف تبقى له حرمة بين الناس وعلى مختلف معتقداتهم ؟!

بل: إن السؤال الذي يفرض نفسه في البحث هو: كيف تعاد للبيت حرمته وهيبته بعد الآن ؟!

وكيف يمكن دفع الضرر عنه مستقبلاً؟! بل كيف سيعاد بناؤهُ ؟!، سؤال سيرد جوابه لاحقاً.

وعليه:

فأي منقبة نالها حكيم بن حزام في ولادته في جوف الكعبة حسبما يدعي الذهبي، والبيت بهذه الحالة وبنو أمية لا يرون له حرمة ؟! ومن ثم قد ذهبت المناقب بذهاب الحُرم.

ثالثاً: دور الزبيريين في هتك حرمة البيت الحرام وأهله

وبه تنكشف حقيقة الادعاء بولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة.

فلم يكونوا بأحسن حالاً من الأمويين في الاعتقاد بحرمة بيت الله وأهله وبعدائهم لعلي بن أبي طالب وبني هاشم عامة، ولم يكن البيت الحرام ولا أهله بمانعيهم عن المحاربة لهما.

ص:26


1- الوافي بالوفيات للصفدي: ج 17، ص 94؛ فوات الوفيات للكتبي: ج 1، ص 535.

1. تغييره لبناء الكعبة

روى الشيخ الكليني رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: (كانت الكعبة على عهد إبراهيم عليه السلام تسعة أذرع وكان لها بابان فبناها عبد الله بن الزبير فرفعها ثمانية عشر ذراعاً فهدمها الحجاج فبناها سبعة وعشرين ذراعاً)(1).

2. معاداته لأهل البيت وامتناعه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغضاً لأهل بيته عليهم السلام

ومما يدل على زيف ادعاء الزبيريين في ولادة ابن عمهم حكيم بن حزام في جوف الكعبة فضلاً عن بيان السبب الحقيقي لهذا الادعاء الكاذب والدافع من ورائه، هو ما رواه أبو الفرج الاصفهاني من حديث يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الامام الحسن بن علي عليهما السلام مع عبد الله بن مصعب - الراوي لحديث ولادة حكيم في الكعبة - حينما اتهمه بالخروج على الخليفة العباسي هارون، وقد جمع بينهما هارون (الرشيد) بعد أن سجن يحيى بن عبد الله بن الحسن فأخرجه من السجن وأحضره إلى القصر، وكان عبد الله بن مصعب حاضراً فقال لهارون متهماً يحيى بالخروج على الخليفة:

(إن هذا دعاني إلى بيعته. فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين أتصدق هذا وتستنصحه وهو ابن عبد الله بن الزبير! أدخل أباك وولده الشعب وأضرم عليهم النار حتى تخلصه ابو عبد الله الجدلي صاحب علي بن أبي طالب منه عنوة.

ص:27


1- الكافي: ج 4، ص 207.

وهو الذي بقي أربعين جمعة لا يصلي على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطبته حتى التاث عليه الناس. فقال:

ان له أهل بيت سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشرأبوا لذكره وفرحوا بذلك فلا أحب أن أقر عينهم بذكره.

وهو الذي فعل بعبد الله بن العباس ما لا خفاء به عليك حتى لقد ذبحت يوما عنده بقرة فوجدت كبدها قد نقبت فقال ابنه علي بن عبد الله: يا أبة اما ترى كبد هذه البقرة ؟ فقال: يا بني، هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك، ثم نفاه إلى الطائف، فلما حضرته الوفاة قال لعلي ابنه: يا بني، الحق بقومك من بني عبد مناف بالشام، ولا تقم في بلد لابن الزبير فيه إمرة. فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير. ووالله إن عداوة هذا يا أمير المؤمنين لنا جميعا بمنزلة سواء، ولكنه قوى علي بك وضعفت عنك، فتقرب بي إليك، ليظفر منك بما يريد، إذ لم يقدر على مثله منك، وما ينبغي لك ان تسوغه ذلك في، فان معاوية بن أبي سفيان، وهو أبعد نسبا منك إلينا، ذكر يوما الحسن بن علي فسفهه فساعده عبد الله بن الزبير على ذلك، فزجره معاوية وانتهره فقال: إنما ساعدتك يا أمير المؤمنين! فقال: إن الحسن لحمي آكله. ولا أوكله.

فقال عبد الله بن مصعب: إن عبد الله بن الزبير طلب امرا فأدركه. وإن الحسن باع الخلافة من معاوية بالدراهم، أتقول هذا في عبد الله بن الزبير، وهو ابن صفية بنت عبد المطلب ؟

فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، ما أنصفنا ان يفخر علينا بامرأة من نسائنا

ص:28

وامرأة منا، فهلا فخر بهذا على قومه من النوبيات والاساميات والحمديات!

فقال عبد الله بن مصعب: ما تدعون بغيكم علينا وتوثبكم في سلطاننا؟

فرفع يحيى رأسه إليه، ولم يكن يكلمه قبل ذلك، وإنما كان يخاطب الرشيد بجوابه لكلام عبد الله، فقال له: أتوثبنا في سلطانكم ؟ ومن أنتم - أصلحك الله - عرفني فلست أعرفكم ؟ فرفع الرشيد رأسه إلى السقف يجيله فيه ليستر ما عراه من الضحك ثم غلب عليه الضحك ساعة، وخجل ابن مصعب. ثم التفت يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، ومع هذا فهو الخارج مع أخي على أبيك والقائل له:

إن الحمامة يوم الشعب من دثن هاجت فؤاد محب دائم الحزن

إنا لنأمل أن ترتد الفتنا بعد التدابر والبغضاء والإحن

حتى يثاب على الإحسان محسننا ويأمن الخائف المأخوذ بالدمن

وتنقضي دولة أحكام قادتها فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فطالما قد بروا بالجور أعظمنا برى الصناع قداح النبع بالسفن

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا إن الخلافة فيكم يا بني الحسن

لا عز ركنا نزار عند سطوتها إن أسلمتك ولا ركنا ذوي يمن

الست أكرمهم عودا إذا انتسبوا يوما وأطهرهم ثوبا من الدرن

وأعظم الناس عند الناس منزلة وأبعد الناس من عيب ومن وهن

قال: فتغير وجه الرشيد عند استماع هذا الشعر، فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، وبأيمان البيعة أن هذا الشعر ليس له وانه

ص:29

لسديف. فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره، وما حلفت كاذبا ولا صادقا بالله قبل هذا، وإن الله إذا مجده العبد في يمينه بقوله: الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، استحيى أن يعاقبه، فدعني أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا إلا عوجل. قال: حلفه.

قال: قل: برئت من حول الله وقوته، واعتصمت بحولي وقوتي، وتقلدت الحول والقوة من دون الله، استكبارا على الله، واستغناء عنه واستعلاء عليه إن كنت قلت هذا الشعر. فامتنع عبد الله من الحلف بذلك، فغضب الرشيد وقال للفضل بن الربيع: يا عباسي ماله لا يحلف إن كان صادقا؟ هذا طيلساني علي، وهذه ثيابي لو حلفني انها لي لحلفت.

فرفس الفضل بن الربيع عبد الله بن مصعب برجله وصاح به: إحلف ويحك - وكان له فيه هوى - فحلف باليمين ووجهه متغير وهو يرعد، فضرب يحيى بين كتفيه ثم قال: يا بن مصعب قطعت والله عمرك، والله لا تفلح بعدها. فما برح من موضعه حتى أصابه الجذام فتقطع ومات في اليوم الثالث.

فحضر الفضل بن الربيع جنازته، ومشى الناس معه، فلما جاءوا به إلى القبر ووضعوه في لحده وجعل اللبن فوقه، انخسف القبر فهوى به حتى غاب عن أعين الناس، فلم يروا قرار القبر وخرجت منه غبرة عظيمة.

فصاح الفضل: التراب التراب فجعل يطرح التراب وهو يهوى، ودعا بأحمال الشوك فطرحها فهوت، فأمر حينئذ بالقبر فسقف بخشب وأصلحه وانصرف منكسرا.

ص:30

فكان الرشيد بعد ذلك يقول للفضل: رأيت يا عباسي، ما أسرع ما اديل ليحيى من ابن مصعب)(1).

والحادثة تدل على جملة من الحقائق:

1. المجاهرة ببغض عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

2. إعلان الحرب عليهم وإيذائهم أشد الأذى، مع ما في ذلك من أذى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

3. محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم جهاراً بالامتناع عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأربعين أسبوعاً أي لتسعة أشهر.

4. الدافع الحقيقي لإطلاق أكذوبة ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة هو التقليل من شأن العلويين والهاشميين الذين حباهم الله سبحانه برسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبوصيه وخليفته علي بن أبي طالب عليه السلام.

5. ثبوت حرمة ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض النفوس التي خالطتها الظنون حينما رأوا بأم أعينهم ما جرى لعبد الله بن مصعب من الهلاك والخزي في الدنيا.

(وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ)2.

ص:31


1- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني: ص 315-318؛ البحار للمجلسي: ج 48، ص 183؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 19، ص 91.

إذن:

لم يكن لولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة أي حقيقة وإنما هو دعوى باطلة انطلقت من فم امرئ عُرف هو وآباؤه بعدائهم الشديد لعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومجاهرتهم بالنفاق من خلال بغضهم لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وهذا أولاً.

وثانياً: أن المناقب تعد مناقبَ عند أهلها أما من لا يجد لله ورسوله حرمة فلا منقبة لديه فيما يرتبط بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وكأننا في هذه الحالة نقول للمسيحيين في العالم وغيرهم ان من المناقب التي خصكم الله بها ان جعل الله تعالى مكة قبلة للمصلين. فسرعان ما يقولون: أي مصلين هؤلاء؟ وأي قبلة تلك ؟ إنما المناقب عندنا محصورة في بيت المقدس وبالسيدة العذراء وابنها عليهما السلام.

والحال نفسه عند الأمويين والزبيريين فالمناقب عندهم محصورة في سادات الجاهلية وتجارة العبيد والتحكم في سوق النساء والخمور والسطو والقتل، اما ان يولد أحدهم في جوف الكعبة فهذا آخر همهم.

ثالثاً: إنّ الولادة في جوف الكعبة هي منقبة عند أهل الكعبة؛ لأنهم يدركون حرمتها ويعظمون حقها ويجلون شأنها.

ومما يدل على ذلك:

1. قال إبراهيم الخليل عليه السلام حينما أنزل أهله عند الكعبة (أعزها الله):

ص:32

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ )1.

فإبراهيم عليه السلام هو الذي يعظم البيت ويدرك حرمته وليس بنو أمية وحجاجهم الثقفي ولا الزبيريون وقتالهم في الكعبة.

2. إن إبراهيم عليه السلام هو الذي قدم ولده فداء لإقامة البيت الحرام فتلك هي المنقبة العظمى، وليس حزام بن حكيم الذي كان من الطلقاء ومن أشد المحاربين لله ورسوله.

3. إن عبد المطلب هو من تبع أباه إبراهيم في فداء البيت الحرام فنذر ولده عبد الله فكان ولده محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابن الذبيحين.

4. خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكة خير دليل على تعظيم أهل البيت عليهم السلام لبيت الله الحرام وهو القائل:

«ولأن أقتل وبيني وبين الحرم باع أحب إلي من أن أقتل وبيني وبينه شبر، ولأن أقتل بالطف أحب إلي من أن أقتل بالحرم»(1).

جيم. أبيد الإنسان أمر الولادة في جوف الكعبة أم بيد الله تعالى ؟

بقي لنا في البحث هذا السؤال: الولادة في جوف الكعبة أبيد فاختة بنت زهير بن أسد(2) حينما كانت حاملاً بحكيم بن حزام، أم بيد فاطمة بنت أسد

ص:33


1- كامل الزيارات لابن قولويه: ص 151.
2- المستدرك للحاكم: ج 3، ص 483.

وهي حامل بعلي بن أبي طالب عليه السلام، أم هو بيد الله تعالى ؟

بالطبع: أن الأمر بيد الله تعالى، لاسيما ونحن نتحدث عن حدث وقع في زمن لم يكن للتقنية الطبية والتكنولوجية أي حضور، ومن ثم تنعدم إمكانية اختيار كلّ ٍمن فاختة بنت زهير أو فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها بتحديد المكان الذي سيلدن مولودهن فيه.

وعليه: الأمر بيد الله تعالى حتى مع التقدم العلمي والبحث في المجالات كافة فمن يضمن ان تتم الولادة ومن يضمن بقاء الأم على قيد الحياة، ومن يضمن تكوين الجنين من الأصل، فالأمر لله من قبل ومن بعد.

ومن هنا:

حينما يكون الأمر كله لله تعالى فالسؤال المطروح: ما هي الخصوصية التي كانت لحكيم بن حزام عند الله تعالى كي يقدّر لفاختة بنت زهير الذهاب إلى بيته وحرمه ويضرب في أحشائها المخاض كي تلد حكيم بن حزام.

فها هو التاريخ يظهر لنا خصوصية حكيم بن حزام.

1. أمضى ستين سنة من عمره وهو يعبد الأصنام ومشركا بالله تعالى.

2. تأخر إسلامه إلى عام الفتح حينما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة.

3. أنه من الطلقاء الذين شملهم عفو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

4. انه من المؤلفة قلوبهم كأبي سفيان وولده معاوية وغيرهما، فهؤلاء

ص:34

كان يعطيهم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أموالاً كي يستعطف قلوبهم ويكفوا شرهم عن الإسلام فلا يحيكوا له الدسائس.

5. اعتزاله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام والقعود عن نصرته، وهو ميزان الإيمان والنفاق وعليه:

أين الخصوصية لحكيم بن حزام كي يخصه الله بالولادة في بيته وحرمه ؟

ولكن إن عكسنا السؤال في الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وبحثنا عن الخصوصية التي له في الإسلام، فهل نجد أن رجلاً جمع من الخصائص والمناقب والمآثر ما جمعه علي بن أبي طالب عليه السلام، وهل إمكانية منحه هذه (المنقبة) - كما يقول الذهبي - تتناسب مع اختيار الله تعالى للكعبة المشرفة محلاً لنزول علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الدنيا أم أن ذلك لا يتناسب ؟!.

دال. ما هي الحكمة في ولادة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة ؟

من البديهي أن يكون لولادة الإمام علي عليه السلام في جوف الكعبة حكمة خاصة تنسجم مع ما للبيت الحرام وعلي بن أبي طالب عليه السلام من خصائص لاسيما ونحن نؤمن بأن الأمر كله لله تعالى، وهو العزيز الحكيم.

ولذلك:

يمكن أن نقف على بعض وجوه الحكمة في ولادة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من خلال القرآن والسنة المطهرة.

1. إنّ خير دال على التلازم بين الكعبة (أعزها الله تعالى) وعلي بن أبي

ص:35

طالب عليه السلام هو ما كشفه مقيم البيت وبانيه، أي: إبراهيم الخليل عليه السلام.

قال تعالى عن لسان عبده إبراهيم:

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ )1.

هنا:

يُظهر إبراهيم عليه السلام العلاقة بين البيت الحرام وذريته، ويدل في الوقت نفسه على العلة التي أوجبت تكوين هذه العلاقة، والغاية من الحضور، ألا وهي: الصلاة.

وإقامة الصلاة مرهونة بذرية إبراهيم؛ بمعنى بناء الصلاة وتقويمها هو من اختصاص ذرية إبراهيم عليه السلام فكان البناء من مرحلتين.

المرحلة الأولى: بناء بيت الله الحرام كي يتوجه المصلون إليه في صلاتهم. والذي بعدم تحققه أي التوجه للقبلة، تبطل الصلاة بإجماع فقهاء المسلمين. فكان إبراهيم وولده إسماعيل هما من أقاما القواعد والبناء في المرحلة الأولى.

والمرحلة الثانية: كانت الإقامة للصلاة بعد أن بني البيت الحرام وهذا مرهون بذرية إبراهيم.

(رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ).

ص:36

وعليه كانت الكعبة محل التوجه للصلاة وكان علي بن أبي طالب عليه السلام إمام الإقامة.

ولكن لماذا علي دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

لأن علياً هو الفيصل الذي تتكشف به حقائق الأعمال فإما كفر ونفاق، وإما إيمان وتقوى أي به تتحدد الصلاة فإما تكون مقبولة وإما مردودة بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».

والمنافق لا تزيده صلاته إلا بعداً عن الله تعالى.

بمعنى آخر: لا تقام الصلاة بدون البيت الحرام ولا تقام أيضاً بدون ذرية إبراهيم عليهم السلام وهم علي والأئمة من ولده.

2. للتشابه بين الإمام والبيت الحرام في العلاقة مع الناس؛ فالإمام لا يأتي إلى الناس وإنما الناس هم الذين يأتون إليه، حاله في ذلك حال الكعبة، فالناس هم الذين يأتون إلى الكعبة وليس العكس، وهو ما دلّ عليه الحديث النبوي الشريف.

فعن علي عليه السلام وهو يحاجج أبا بكر في حقه المغصوب، وقد قال له أبو بكر: «...، وأنت لم تزل يا أبا الحسن مقيماً على خلافي والاجتراء على أصحابي، وقد تركناك فاتركنا، ولا تردنا فيرد عليك منا ما يوحشك ويزيدك تنويماً إلى تنويمك.

فقال عليه السلام:

ص:37

لقد أوحشني الله منك ومن جمعك، وآنس بي كل مستوحش، واما ابن الوليد الخاسر، فإني أقص عليك نبأه، انه لما رأى تكاثف جنوده وكثرة جمعه زها في نفسه، فأراد الوضع مني في موضع رفع ومحل ذي جمع، ليصول بذلك عند أهل الجمع، فوضعت عنه عندما خطر بباله، وهم بي وهو عارف بي حق معرفته، وما كان الله ليرضى بفعله.

فقال له أبو بكر: فنضيف هذا إلى تقاعدك عن نصرة الإسلام، وقلة رغبتك في الجهاد، فبهذا أمرك الله ورسوله، أم عن نفسك تفعل هذا؟! فقال علي عليه السلام:

يا أبا بكر! وعلى مثلي يتفقه الجاهلون ؟ إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمركم ببيعتي، وفرض عليكم طاعتي، وجعلني فيكم كبيت الله الحرام يؤتى ولا يأتي، فقال: يا علي! ستغدر بك أمتي من بعدي كما غدرت الأمم بعد مضي الأنبياء بأوصيائها إلا قليل، وسيكون لك ولهم بعدي هناة وهناة، فاصبر، أنت كبيت الله: من دخله كان آمنا ومن رغب عنه كان كافرا، قال الله عز وجل:

(وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً).

واني وأنت سواء إلا النبوة، فإني خاتم النبيين وأنت خاتم الوصيين(1).

3. لتحقق الأمان في الالتجاء للبيت الحرام وعلي بن أبي طالب عليه السلام؛ فمثلما يتحقق الأمان في البيت الحرام حينما يلتجئ إليه الإنسان فمن

ص:38


1- البحار للمجلسي: ج 29، ص 170-171.

دخله كان آمنا) كذلك حال من يلتجئ إلى علي بن أبي طالب فإنه يحصل على الأمان من الهلاك والضلال والوقوع في الفتن والفوز في الآخرة؛ لأنه استمسك بالعروة الوثقى، وأخذ بالصراط المستقيم، وكان في زمرة الصالحين كعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري وغيرهما وهو ما دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:

«أنت كبيت الله، من دخله كان آمنا، ومن رغب عنه كان كافراً».

فهذا حال البيت الحرام وحال علي؛ وليس حال أبي سفيان فمن دخل داره كان آمنا كما ينعق بنو أمية ليتبعهم الهمج الرعاع.

4. للتلازم فيما بين الإمامة والإقامة؛ إن نكران البعض لإمامة علي بن أبي طالب عليه السلام لا يضر في إمامة علي عليه السلام شيئاً حاله حال من أنكر الكعبة والإقامة نحوها في الصلاة فان ذلك لا يضر الكعبة شيئاً كما لا يفقدها خصوصيتها فضلاً عن حال صلاة المنكر لها، فهل تكون هذه الصلاة مقبولة بغير التوجه للكعبة ؟ وهل تقام صلاة الجماعة بدون إمام ؟!

5. للاعتبار من حياة علي بن أبي طالب عليه السلام؛ فهذه الحياة اختار الله لها أن تبدأ في أول ثانية منها في بيت الله الحرام، وأن تنتهي آخر ثانية منها في بيت الله أيضاً وما بينهما كله لله تعالى. فمثل هذه الحياة خير واعظ لبني آدم فكيف بأهل هذه الملة ؟!

6. إن موقع الكعبة الجغرافي والفلكي والفيزيائي يجعلها في نواة محور حركة دوران الأرض مما يجعلها في مركز حركة الأرض ودوام الحياة عليها، وكذا موقع الإمامة في الحياة والشريعة.

ص:39

هاء. ما يدل من الأحاديث على ثبوت ولادة الإمام علي عليه السلام في جوف الكعبة

ربما يكون إيراد الأحاديث الدالة على ولادة الإمام علي عليه السلام في جوف الكعبة تحصيل حاصل بعد هذه الجولة من الاستدلالات النقلية والعقلية.

إلا انني أحببت ان أورد بعض هذه الأحاديث كي نقطع الطريق على من ظل يماطل في الإذعان لهذه الحقيقة كابن أبي الحديد المعتزلي حيث قال:

(واختلف في مولد علي عليه السلام أين كان ؟ فكثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة، والمحدثون لا يعترفون بذلك، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد)(1).

وأقول:

ألف. لم يقدم بن أبي الحديد أي دليل يظهر فيه وجود هذا النوع من الاختلاف عند المحدثين كما انه لم يحلِ القارئ إلى أي مصدر يطلعه على وجود الاختلاف بين المحدثين حول ولادة علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة.

باء. قوله: إن كثيراً من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة، والمحدثون لا يعترفون بذلك ؟

وأقول: هذا تقوّل واضح على المحدثين وعلى الشيعة.

ص:40


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 1، ص 14.

فأما المحدثون، فهم لا ينكرون ولادة علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة، وإنما ينكرون على غيرهم في اعتمادهم الأوهام في ولادة حكيم ابن حزام في جوف الكعبة، وهذا قولهم.

1. الحاكم النيسابوري (صاحب المستدرك)، فقد رد على مصعب بن عبد الله حينما نسب الولادة في جوف الكعبة إلى فاختة بنت زهير بن أسد حينما كانت حاملاً بولدها حكيم، ان قال: (وهم مصعب - أي توهم - فقد تواترت الأخبار: أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة)(1).

إذن: الثابت الذي عليه حد التواتر عند المحدثين هو ولادة علي بن أبي طالب عليه السلام في الكعبة وليس كما يزعم ابن أبي الحديد بأن ذلك من قول الشيعة.

2. قال الزرندي الشافعي (المتوفى عام 750 ه -): (وولد كرم الله وجهه في جوف الكعبة، يوم الجمعة الثالث عشر من رجب قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة على المشهور)(2).

3. قال ابن الصباغ المالكي نقلاً عن أبي المعالي الفقيه المالكي وقد روى خبراً يرفعه إلى علي بن الحسين - عليهما السلام - أنه قال:

ص:41


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 482.
2- معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للزرندي الشافعي: ص 57.

(كنا عند علي بن الحسين - عليه السلام - في بعض الأيام وإذا بنسوة مجتمعين فأقبلت امرأة منهن علينا فقلت لها:

من أنت يرحمك الله ؟

قالت: أنا زيدة ابنة العجلان من بني ساعدة، فقلت لها:

هل عندك من شيء تحدثينا به ؟

قالت: أي والله حدثتني أم عمارة بنت عبادة بن فضلة بن مالك بن عجلان الساعدي أنها كانت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبو طالب كئيباً حزيناً، فقلت له ما شأنك ؟

قال: إن فاطمة بنت أسد في شدة من الطلق. ثم أخذ بيدها وجاء بها إلى الكعبة فدخل بها، وقال: اجلسي على اسم الله، فطلقت طلقة واحدة فولدت غلاماً نظيفاً منظفاً لم أر أحسن وجهاً منه، فسماه أبو طالب علياً وقال شعراً:

سميته بعلي كي يدوم له عز العلو وفخر العز أدومه

وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحمله معه إلى منزل أمه.

قال علي بن الحسين:

فوالله ما سمعت بشيء حسن قط ، إلا وهذا من أحسنه»)(1).

أما ما روي عن علماء الشيعة فهو كالآتي:

ألف. روى ابن أبي الفتح الأربلي (المتوفى سنة 693 ه -) عن كتاب بشاير

ص:42


1- العقول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 175؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 60.

المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مرفوعاً إلى يزيد بن قعب قال:

(كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وفريق من بني عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين عليه السلام وكانت حاملاً به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق فقالت:

يا رب إني مؤمنة بك، وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدّقة بكلام جدي إبراهيم الخليل عليه السلام، وإنه بنى البيت العتيق فبحق الذي بنى هذا البيت والمولود الذي في بطني إلا ما يسرت علي ولادتي.

قال يزيد بن قعب:

فرأيت البيت قد انشق عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا وعاد إلى حاله، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب! فلم ينفتح فعلمنا ان ذلك من أمر الله تعالى، ثم خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

ثم قالت:

إني فضلت على من تقدمني من النساء لأن آسيا بنت مزاحم عبدت الله سرا في موضع لا يحب الله ان يعبد فيه إلا اضطراراً، وان مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتى اكلت منها رطباً جنياً، وإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها فلما أردت ان أخرج هتف بي هاتف وقال:

ص:43

يا فاطمة سميه علياً، فهو علي، والله العلي الأعلى، يقول: اشتققت اسمه من اسمي، وأدبته بأدبي، وأوقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه وويل لمن أبغضه وعصاه.

قالت: فولدت علياً ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون سنة، فأحبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حباً شديداً وقال لها:

اجعلي مهده بقرب فراشي.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يلي أكثر تربيته، وكان يطهر علياً في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره ورقبته، ويقول:

هذا أخي وولي وناصري، وصفي، وذخري، وكهفي، ومهري، ووصيي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيتي، وخليفتي.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمله دائماً ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها وفجاجها صلى الله على الحامل والمحمول)(1).

فهذه هي حقيقة ولادة الإمام علي عليه السلام في جوف الكعبة وبها يتضح معنى اختيار الله تعالى لفاطمة بنت أسد بيته الحرام محلاً لولادة خاتم الأوصياء وأبي الأئمة النجباء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

ص:44


1- كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 61-62؛ الجواهر السنية للحر العاملي (باختصار): ص 230؛ شرح إحقاق الحق للمرعشي: ج 5، ص 57.
المسألة الثالثة: نوفل بن خويلد، هو الأخ الثالث لخديجة عليها السلام
اشارة

يعد نوفل بن خويلد أحد رموز الشرك في قريش، وقد نعمته ابن هشام الحميري بانه: كان من شياطين قريش(1) ، وسيمر سبب تسمية ابن هشام له بذلك، في حين سماه الواقدي ب -: أسد قريش(2).

والظاهر ان السبب في هذه التسمية قد اتفق عليه ابن هشام والواقدي كما سيمر، ويسمى أيضاً ب - (ابن العدوية)(3).

ولد لنوفل بن خويلد، ولدان، وهما: صفوان بن نوفل، والأسود بن نوفل، ولقد أسلم الأسود في مكة في السنين الأولى للبعثة، وهاجر إلى الحبشة وبقي فيها إلى حين رجوع جعفر بن أبي طالب عليه السلام بمن بقي من المسلمين في الحبشة إلى المدينة.

وكان رجوعه قد تزامن مع انتصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على اليهود في خيبر وفتحها فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما أدري أنا بقدوم جعفر أسر أم بفتح خيبر»(4).

ص:45


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 1، ص 181.
2- العثمانية للجاحظ : ص 28؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 215.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 215. المستدرك للحاكم: ج 3، ص 369.
4- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 272. المعجم الصغير للطبراني: ج 1، ص 19. الاستيعاب لابن عبد البر: ج 1، ص 242. سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 1، ص 214.
ألف: نزل في نوفل قوله تعالى: (و لو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس (

وعرف نوفل بن خويلد بعدائه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أحد الرموز التي آلت على نفسها محاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتصدي له بشتى الوسائل، وقد تجمع حوله نفر من قريش عرفوا بنفس الطباع والعداء للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كالنضر بن الحرث، وعبد الله بن أبي أمية، وهم الذين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: «يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله تعالى وانك رسوله، فنزل فيهم قوله تعالى:

(وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ )1.

باء: اشتراكه في قتال المسلمين في بدر الكبرى وهلاكه بسيف علي بن أبي طالب عليه السلام

وكان نوفل بن خويلد قد خرج مع قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر الكبرى، فلما علم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بحضوره في المعركة، قال:

«اللهم اكفني نوفل بن خويلد»(1).

ص:46


1- امتاع الإسماع للمقريزي: ج 12، ص 166.

(وأقبل نوفل يومئذ وهو مرعوب قد رأى قتل أصحابه، وكان في أول ما التقواهم والمسلمون يصيح بصوت له زجل رافعاً صوته: يا معشر قريش، إن هذا اليوم يوم العلا والرفعة، فلما رأى قريشا قد انكشفت جعل يصيح بالأنصار: ما حاجتكم إلى دمائنا؟ أما ترون من تقتلون ؟ أما لكم في اللبن من حاجة.

فأسره جبار بن صخر، فهو يسوقه أمامه، فجعل نوفل يقول لجبار، وقد رأى علياً عليه السلام مقبلاً نحوه يا أخا الأنصار، من هذا؟ واللات والعزى إني لأرى رجلاً، إنه ليريدني ؟!

قال جبار - بن صخر -: هذا علي بن أبي طالب.

قال نوفل: تالله ما رأيت كاليوم رجلاً أسرع في قومه، فصمد له علي عليه السلام فيضربه فينشب سيف علي في جحفته(1) ساعة ثم ينزعه فيضرب به ساقيه، ودرعه مُشتمرة فيقطعها، ثم أجهز عليه فقتله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من له علم بنوفل بن خويلد؟

قال علي عليه السلام:

أنا قتلته، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه»)(2).

ص:47


1- الجحفة: الترس، أي الدرع.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14، ص 144؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 12، ص 166؛ السيرة الحلبية: ج 2، ص 418؛ السيرة النبوية لابن هشام (مختصرا): ج 1، ص 181.
جيم: حقيقة تعذيب نوفل بن خويلد لأبي بكر وطلحة بن عبيد الله، وهل فيه تفضيل على علي بن أبي طالب عليه السلام كما يدعي الجاحظ؟
أولاً: كيف حدث تعذيبهما

روى ابن سعد عن محمد بن عمر مرفوعا إلى إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: «قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم قال طلحة فقلت: نعم أنا.

فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قال قلت: ومن أحمد؟، قال: ابن عبد الله ابن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل، وحرة، وسباخ، فإياك أن تُسبق إليه.

قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعاً حتى قدمت مكة فقلت: هل كان من حدث ؟

قالوا: نعم محمد بن عبد الله الأمين تنبأ وقد تبعه بن أبي قحافة.

قال: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر فقلت: أتبعت هذا الرجل ؟ قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق، فأخبره طلحة بما قال الراهب فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله بما قال الراهب فسُرّ رسول الله بذلك.

فلما أسلم أبو بكر وطلحة بن عبيد الله أخذهما نوفل بن خويلد بن

ص:48

العدوية فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم وكان نوفل بن خويلد يدعى أسد قريش فلذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين)(1).

ثانياً: اعتقاد الجاحظ وتحامله على الإمام علي عليه السلام مستنداً إلى هذه الحادثة!

ولقد ذهب الجاحظ إلى ان هذه الحادثة هي من المناقب التي فاق بها أبو بكر وطلحة علي بن أبي طالب عليه السلام والسبب يعود - حسب اعتقاده - إلى أن أبا بكر (كان يلقى في الله ورسوله ببطن مكة، وعلي، خلي الروع، آمن السرب، رخي البال، كما لقى يوم دعا طلحة إلى الإسلام فأسلم وحضر به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخذلتهما تيم، وأخذهما نوفل بن خويلد بن أسد، فأما ابن إسحاق فزعم أنه كان من شياطين قريش، وأما الواقدي وغيره فزعموا انه كان يلقب أسد قريش وهو الذي يقال له ابن العدوية فقرنهما في حبل وفتنهما على دينهما وعذبهما، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة (القرينين))(2).

أقول:

فلنعد في بادئ الأمر إلى الحادثة التي اعتمد عليها الجاحظ ، والذي قدم لنا صورة أخرى من صور العقل الأموي ومهازله المستمرة عبر التاريخ، ولنناقش الرواية مناقشة علمية وموضوعية كي يتضح لنا: ألهؤلاء الأمويين أسس علمية يعتمدون عليها في قرائتهم للحدث التاريخي، أم أنهم مغول الفكر الإنساني

ص:49


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 215؛ المستدرك للحاكم: ج 3، ص 369.
2- العثمانية للجاحظ : ص 28.

الذي لا يرى سوى الكذب، والدجل، والنفاق، وبغض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته ؟!

ألف: إنّ الراهب أخبر طلحة بأن هذا الشهر، هو الشهر الذي سيخرج فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأوصاه أن يحرص على أن لا يسبقه أحد إلى الإيمان به، فعاد سريعاً إلى مكة، فسأل عن حدوث شيء جديد فأخبروه بأن محمد بن عبد الله قد تنبأ وقد تبعه ابن أبي قحافة.

وأقول:

1. فأين مدعاكم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في السنوات الأولى من بعثه متخفيا من قريش مستترا عن أهلها حتى نزل قوله تعالى:

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)1.

فأعلن عن دعوته ؟ فأي تناقض هذا بين أن تكون الدعوة سرية لسنوات مع علم أهل مكة سريعاً ببعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وزادوا عليه: أي على علمهم بخبر النبي وانتشاره بينهم هو علمهم بأن ابن أبي قحافة قد تبعه! فإما انها لم تكن سرية فانتشر خبرها بين قريش وعلموا باتباع ابن أبي قحافة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون قولهم: إنّها سرية كذباً وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتاريخ.

وإمّا أنّها كانت سرية وأن أبا بكر تبعه سراً، وهذا يدل على أن قول طلحة في هذه الرواية كذب وافتراء.

ص:50

2. إن ّأحمد بن حنبل، والحافظ النسائي، ومحمد بن إسحاق صاحب السير، والحاكم النيسابوري، والذهبي وغيرهم ينصون على كذب طلحة بن عبيد الله في هذه الرواية وذلك من خلال ما أخرجه الجميع عن عفيف الكندي حينما قدم إلى مكة، في أول البعثة ونزل على العباس بن عبد المطلب. ولشهرة الحديث فقد أخرجوه من طريقين:

الطريق الأول: رواه الحافظ النسائي(1) صاحب السنن قائلاً: أخبرني محمد بن محمد الكوفي قال: حدثنا سعيد بن خثيم عن أسد بن عبد الله البجلي عن يحيى بن عفيف عن عفيف قال:

جئت في الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما ارتفعت الشمس، وحلّقت في السماء، وأنا أنظر إلى الكعبة أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل القبلة فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام

ص:51


1- وهو الحافظ المحدث القاضي أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحرين دينار الخراساني النسائي - والنسائي، نسبة إلى نسا بلدة بخراسان ولد عام (215 ه -) وكان قد تتلمذ عند عدد كبير من شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، وكان قد تتلمذ عنده جمع كثير، منهم: الدولابي، والطحاوي، والطبراني. واتهم النسائي بالتشيع لروايته أحاديث في فضائل علي عليه السلام. وقد ذكر محمد بن موسى المأموني صاحب النسائي، قال: سمعت قوماً ينكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب: الخصائص لعلي - عليه السلام -، وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك، فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت كتاب الخصائص، رجوت أن يهديهم الله تعالى. «سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 14، ص 125».

فقام من يمينه فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب، فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجداً، فسجدا معه.

فقلت يا عباس: أمرٌ عظيم ؟!

فقال: أتدري من هذا الشاب ؟، فقلت: لا.

فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - صلى الله عليه وآله وسلم -، هذا ابن أخي.

وقال: أتدري من هذا الغلام ؟

فقلت: لا.

قال: هذا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، هذا ابن أخي، هل تدري من هذه المرأة التي خلفهما؟. قلت: لا.

قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي هذا، حدثني ان ربك ربّ السموات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه.

لا والله ما على ظهر الأرض كلها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة»(1).

ولهذا الحديث طريق آخر، أخرجه ابن إسحاق وإمام الحنابلة أحمد بن حنبل والحاكم وغيرهم، وهو:

ص:52


1- النسائي في خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -: ص 23 برقم 6؛ ابن سعد في طبقاته: ج 8، ص 17؛ وأبو يعلى الموصلي في المسند: ج 3، ص 117.

محمد بن إسحاق، عن يحيى بن أبي الأشعث، عن إسماعيل بن إياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف بن عمرو، قال: كنت امرأً تاجراً وكنت صديقاً للعباس بن عبد المطلب في الجاهلية فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي ثم جاءت امرأة فقامت تصلي ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي فقلت للعباس: من هذا؟.

فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام، وهذه المرأة: خديجة بنت خويلد امرأته، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام.

قال عفيف الكندي وأسلم وأحسن إسلامه: (لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام)(1).

قال الحاكم النيسابوري: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» أي: البخاري ومسلم.

أقول:

ص:53


1- السير والمغازي لابن إسحاق: ص 137-138؛ فصل: اسلام علي بن أبي طالب - عليه السلام -؛ وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير: ج 7، ص 74. ص 75 برقم 341؛ وأحمد ابن حنبل في المسند: ج 1، ص 209؛ والحاكم في المستدرك: ج 3، ص 183؛ وأقره الذهبي في تلخيصه؛ والبيهقي في الدلائل: ج 1، ص 415؛ والهيثمي في الزوائد: ج 9، ص 126، برقم (14605)؛ وابن سيد الناس في عيون الأثر: ج 1، ص 93؛ والحافظ الطبراني في المعجم الكبير: ج 18، ص 100-101، برقم (181).

وهذا يدل على أن الرواية التي رواها ابن سعد عن طلحة بن عبيدة لا أساس لها من الصحة، وأن تعذيب أبي بكر وطلحة هو من نسج خيال الساسة الذين جلسوا على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وان إسلامه في هذه الحقبة كذب صريح؛ فضلا عن ذلك فان الرواية فيها من الأباطيل الأخرى نعرضها في الفقرة (باء).

باء. ومما جاء في الرواية أيضاً أن طلحة أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما قال الراهب (فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك).

وهذا الافتراء أفضح من السابق وأخزى، إذ كيف يسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكلام الكهنة وكأنه لا يعلم انه نبي صلى الله عليه وآله وسلم والعياذ بالله حتى يحتاج إلى تطمينات الرهبان بانه هو نبي هذا الزمان؛ والسؤال المطروح: لو عكسنا الحال فكان الراهب مكذباً لخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفتراه يحزن لقول الراهب ؟! أي افتراء هذا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!

نعم لو فرح طلحة بن عبيد الله بكلام الراهب لقلنا ان ذلك حقيقي؛ لأنهم كانوا يعتمدون على الرهبان في معتقداتهم ويصدقونهم فيما يقولون، والدليل أن طلحة لشدة تصديقه بكلام الراهب قام فرجع إلى مكة مسرعاً وهنا الطامة الكبرى؛ إذ لو كان هذا الراهب قد أنكرخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان طلحة لا يؤمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لو رأى جبرائيل عليه السلام بأم عينه.

ص:54

جيم. ثم ما هذا الترابط العجيب بين قول الراهب وقول أبي بكر؟ أفيكون أبو بكر، راهباً أيضاً ولا يعلم به أحد غير طلحة ؟! ولذلك كان تصديقه للراهب بنفس مستوى تصديقه لأبي بكر بحيث كان على مرحلتين، الأولى كانت من فم الراهب، والثانية من فم أبي بكر؟!.

دال. ثم ما هذا الدور العجيب للرهبان والأثر السحري لهم في إيمان الصحابة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!! فطلحة يسرع إلى مكة بفضل كلام الراهب ويسلم!! وأبو بكر يخرج إلى اليمن فيلقى راهباً فيخبره بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعود إلى مكة فيسلم!!

والأغرب من ذلك كله هو التشابه في أدوار الرهبان، فدور راهب طلحة هو نفسه دور راهب أبي بكر!! ولا نعلم لماذا يختار الرهبان طلحة وأبا بكر ليكون لهما الفضل واليد الطولى في هدايتهما وإسلامهما!!

أما كيف تم الحدث في اليمن فيرويه لنا أبو بكر كما روى لنا طلحة سابقاً، وهي صدفة أخرى عجيبة!!

فقد روى الحافظ ابن عساكر عن عبد الله بن مسعود عن أبي بكر أنّه قال: «خرج - خرجت - إلى اليمن قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم فنزلت على شيخ من الأزد عالم قد قرأ الكتب وعلم من علم الناس كثيراً فلما رآني قال: أحسبك حرمياً؟ قال أبو بكر قلت: نعم، أنا من أهل الحرم.

قال: وأحسبك تيمياً؟ قال: قلت، نعم أنا من تيم بن مرة، أنا عبد الله ابن عثمان من ولد كعب بن سعد بن تيم بن مرة؛ قال: بقيت لي فيك واحدة.

ص:55

قلت: ما هي ؟ قال: تكشف لي عن بطنك ؟

قلت: لا أفعل، إذ تخبرني لم ذاك ؟!

قال أجد في العلم الصحيح الزكي الصادق أن نبيا يبعث في الحرم تعاون على أمره فتى وكهل فأما الفتى فخواض غمرات ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة وما عليك أن تريني ما سألتك فقد تكاملت لي فيك الصفة إلا ما خفي علي.

قال أبو بكر: فكشفت له عن بطني فرأى شامة سوداء فوق سرتي فقال أنت هو ورب الكعبة وإني متقدم إليك في أمر فاحذره! قال أبو بكر: قلت، وما هو؟ قال إياك والميل عن الهدى، وتمسك بالطريقة الوسطى، وخف الله فيما خولك وأعطاك.

قال أبو بكر: فقضيت باليمن أربي ثم أتيت الشيخ لأودعه فقال: أحامل أنت مني أبياتا قلتها في ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: قلت: نعم، فأنشأ يقول:

ألم تر أني قد وهنت معاشري ونفسي وقد أصبحت في الحي واهنا

حبيب وفي الأيّام للمرء عبرة ثلاث مئين ثم تسعين آمنا

وصاحبت أخيارا أبانوا بعلمهم غياهيب في سد ترى فيه طامنا

وكم عيليل راهب فوق قائم لقيت وما غادرت في البحر كاهنا

فكلهم لما تطمست قال لي بأن نبيا سوف نلقاه دانيا

بمكة والأديان فيها غزيرة فيركسها حتى يراها كواهنا

ص:56

فما زلت أدعو الله في كل حاضر حللت بها سرا وجهرا معالنا

وقد خمدت مني شرارة قوتي وألقيت شحنا لا أطيق الشواحنا

وأنت ورب البيت تلقى محمدا بعامك هذا قد أقام البراهنا

فحي رسول الله عني فإنني على دينه أحيا وإن كنت داكنا

فيا ليتني أدركته في شبيبتي فكنت له عبدا أو الا العجاهنا

عليه سلام الله ما در شارق وما حمل الركبان فيه السواجنا

وما سبحت بالحكمتين وسبحة وما صح ضحاك من النور هاقنا

قال أبو بكر: فحفظت وصيته وشعره وقدمت مكة وقد بعث النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) فجاءني عقبة بن أبي معيط ، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو البختري بن هشام، وصناديد قريش فقلت لهم هل نابتكم نائبة، أو ظهر فيكم أمر؟

قالوا: يا أبا بكر أعظم الخطب وأجل النوائب، يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا أنت ما انتظرنا به!!! فإذ قد جئت فأنت الغاية والكفاية لنا!!!!

قال أبو بكر: فصرفتهم على حس مس، وسألت عن النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) فقيل: إنه في منزل خديجة فقرعت عليه الباب فخرج إلي فقلت: يا محمد، فقدت من منازل أهلك، واتهموك بالفتنة، وتركت دين آبائك وأجدادك ؟

قال: يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم، فآمن بالله فقلت: وما دليلك على ذلك ؟

ص:57

قال: الشيخ الذي لقيته باليمن.

فقلت: وكم من مشايخ لقيت باليمن، وأمرت، وأخذت، وأعطيت ؟

قال: الشيخ الذي أفادك الأبيات.

قلت: ومن خبرك بهذا يا حبيبي ؟

قال: الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبل.

قلت: مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنت رسول الله.

قال أبو بكر: فانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا من رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) بإسلامي)(1)!!!

وأقول:

وهذه الرواية لا تختلف من حيث الصياغة والدلالة عن رواية طلحة بن عبيد الله وكلتاهما تكشف عن تصديق طلحة بن عبيد الله وأبن أبي قحافة بكلام الرهبان وتأثيره الكبير في معتقداتهما، ولا ندري كم سيكون إيمانهما وتصديقهما برسول الله فيما لو التقيا بهذين الراهبين وقد تغير كلامهما في خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أتراهما يتبعان الرهبان بوصفهما كانا الطريق إلى الإسلام، أم انهما ينكران عليهما تراجعهما عن قوليهما؟ لا ندري، ولعل طلحة وأبا بكر هما أدرى بوثاقة الرهبان، إذ كانا (قرينين) بتصديق الرهبان.

ص:58


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 30، ص 31-33؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 3، ص 208؛ تفسير الثعالبي: ج 1، ص 320.

أو أن هاتين الروايتين لا أساس لهما من الصحة وأن أبا بكر وطلحة لم يلتقيا بالرهبان ولم يصدقا بقولهما ولم يسلما من خلالهما، وان إسلامهما تأخر بضع سنوات وانهما لم يعذبا ولم يكونا قرينين في العذاب، وان نوفل بن خويلد بريء من تعذيبهما كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام ومن ثم.

فنحن أمام رواية أساسها الكذب ودلالتها الكذب.

ثالثاً: لماذا نوفل بن خويلد؟ وما علاقته بأبي بكر وطلحة كي يعذبهما؟ ولماذا لم يتدخل بنو تيم ؟!

هذا السؤال استوقفني وأنا أراجع حقيقة تعذيب نوفل بن خويلد لطلحة وأبي بكر، فما علاقته بهما فهما من بني تيم ونوفل بن خويلد من بني أسد؟ علماً ان النظام الاجتماعي في مكة قائم على ضوابط العشائر وتكفلها بأبنائها فلماذا يتولى نوفل بن خويلد تعذيبهما وهما ليسا من عشيرته ؟ ولماذا لم يتدخل بنو تيم ؟ وعليه: فنحن أمام احتمالات منها:

1. إما انهما ليسا من بني تيم، فقد يكونان من الموالي أو العبيد، ومن ثم لا علاقة لبني تيم بهما سواء أسلما أم لم يسلما، عُذِّبا أم لم يُعَذَّبا، وعليه فادعاؤهما بأنّهما تيميّان كذب.

2. وإما أنهما مملوكان عند نوفل بن خويلد ومن ثمّ هو المسؤول عن تأديبهما كما هو سائد في مكة وما يفرضه نظام الرق من قوانين.

3. أو أن أبا بكر وطلحة هما من أرذل البيوت في قريش ومن ثمّ لا قدرة لذويهما على مواجهة نوفل بن خويلد فتركوا أبا بكر وطلحة تحت سطوة نوفل

ص:59

ابن خويلد لاسيما وان هناك من النصوص ما يدل عليه.

ألف. روى الحاكم النيسابوري عن أبي الشعثاء الكندي عن مرة الطيب قال جاء أبو سفيان بن حرب إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - فقال: «ما بال هذا الأمر في أقل قريش قلة، وأذلها ذلة - يعني أبا بكر - والله لان شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً».

فقال علي - عليه السلام -: لطالما عاديت الإسلام وأهله يا أبا سفيان، فلم يضره ذلك، انا وجدنا أبا بكر لها أهلاً»(1).

أقول: ومعنى كلامه عليه السلام.

1. أن ذلة أبي بكر في قريش وقلة أهله وذويه لا يضر أبا بكر في شيء، لأنه نطق الشهادتين فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم.

2. (انا وجدنا أبا بكر لها أهلا) هو ليس إقراراً بصحة خلافة أبي بكر وإنما لقطع الطريق على أبي سفيان ورداً على عرضه الذي قدمه، بقرينة قوله لأبي سفيان لطالما عاديت الإسلام وأهله.

فضلاً عن أن أبا سفيان قد جاء مدعياً وقوفه مع علي عليه السلام في حقه المغصوب في خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام عليه السلام بحكمته فقطع الطريق على سيد الأحزاب وشيخ المعادين لرسول رب العالمين صلى الله عليه وآله وسلم.

باء. روى الحافظ ابن عساكر والمتقي الهندي كلاهما عن سويد بن غفلة

ص:60


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 78.

قال: (دخل ابو سفيان على علي والعباس فقال: يا علي وانت يا عباس ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها، والله لأن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالاً، ولأثورنها عليه من أقطارها)(1).

4. إنّ تحديد دور نوفل بن خويلد لهذه الحادثة قد اختير بعناية وهو أشبه ما يكون بالأدوار التي يكتبها أصحاب الروايات البوليسية، وهو أقرب إلى الأدب القصصي الذي امتازت به (أجاثا كرستي) حينما تسرد للقارئ احدى الشخصيات وقد اشتهر بالقسوة والشيطنة والسطو فيعذب الضعفاء من الناس ثم في ظروف إما غامضة وإما معلومة ينتهي دوره الشرير وبنفس الجزاء فيكون مصيره القتل، بل والقتل المميز كما حدث لنوفل بن خويلد. ومن ثم إنّك لا تستطيع ان تستفهم سبب ممارسته لهذا السلوك العدواني مع طلحة وأبي بكر؟! وتعلق القضية لعدم اكتمال التحقيق إلى حين يبعث نوفل بن خويلد؟!

5. إن وصفهم لنوفل بن خويلد بأنه (من شياطين قريش)، وأنه (أسد قريش) إنما كان لتعذيبه أبا بكر وطلحة، فلو لم يعذبهما لكان نوفل بن خويلد بريئاً من الشيطنة والأسودية، ولكان أذعر من الفأر حينما يرى السنور.

وأي: أسودية تلك التي وصفوه بها وقد شوهد في معركة بدر مرعوباً يلتفت وينادي بأهل قريش، وأي: أسد هذا وقد أخذ جبار بن صخر يسوقه أمامه أسيراً كأنه المعزى ؟

ص:61


1- تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 23، ص 465؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 5، ص 657، برقم (14156).

أليس من الغريب غض الطرف عن إيذائه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتكذيبه له فلا يوصف حينها بالشيطنة وتساق له هذه الصفة حينما يتعلق الأمر بطلحة وأبي بكر؟

وعليه: فالحادثة كلها كذب وافتراء قد صنعتها يد المتزلفة لحكام بني أمية وأشياعهم ومن سار على عقيدتهم كالجاحظ الذي رأى في هذا الكذب واقعاً يريد ان يفتخر به على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فكان في أمره مخزياً وفي قوله مفضوحاً بالنفاق؛ لانه قد ران على قلبه فغفل أن حب علي ابن أبي طالب إيمان، وبغضه نفاق.

رابعاً: افتضاح الجاحظ في تحامله على علي عليه السلام ورد الاسكافي عليه

إلا انني وجدت من خير ما قيل في الرد على هذا الخزي والعار، ما خرج عن فم الاسكافي المعتزلي شيخ ابن أبي الحديد، وقد أحببت أن أورد قول الجاحظ ورد الاسكافي عليه كي تكون الدلالة أحجى وأمضى، والمعنى أبين وأوضح.

قال الجاحظ : وكان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة، فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين، حتى أدماه وشده مع طلحة بن عبيد الله في قرن، وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ولذلك كانا يدعيان القرنين، ولو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا، وبلوغ منزلته شديداً، ولو كان يوماً واحداً لكان عظيما، وعلي ابن أبي طالب رافه وادع، ليس بمطلوب ولا طالب، وليس انه لم يكن في طبعه

ص:62

الشهامة والنجدة، وفى غريزته البسالة في الشجاعة، لكنه لم يكن قد تمت أداته، ولا استكملت آلته، ورجال الطلب وأصحاب الثار يغمصون ذا الحداثة ويزدرون بذي الصبا والغرارة، إلى أن يلحق بالرجال، ويخرج من طبع الأطفال.

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله: أما القول فممكن والدعوى سهلة، سيما على مثل الجاحظ ، فإنه ليس على لسانه من دينه وعقله رقيب، وهو من دعوى الباطل غير بعيد، فمعناه نزر، وقوله لغو، ومطلبه سجع، وكلامه لعب ولهو، يقول الشيء وخلافه، ويحسن القول وضده، ليس له من نفسه واعظ ولا لدعواه حد قائم، وإلا فكيف تجاسر على القول بان عليا حينئذ لم يكن مطلوبا ولا طالبا، وقد بينا بالأخبار الصحيحة، والحديث المرفوع المسند انه كان يوم أسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه وقلبه لمشركي قريش، ثقيلا على قلوبهم، وهو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب، وصاحب الخلوات برسول الله صلى الله عليه وآله في تلك الظلمات، المتجرع لغصص المرار من أبي لهب وأبي جهل وغيرهما، والمصطلي لكل مكروه والشريك لنبيه في كل أذى، قد نهض بالحمل الثقيل، وبان بالامر الجليل، ومن الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق، يخفي نفسه، ويضائل شخصه، حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش، كمطعم بن عدي وغيره، فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح، وهو على أشد خوف من أعدائهم، كأبي جهل وغيره، لو ظفروا به لأراقوا دمه.

ص:63

أعلي كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب، أم أبو بكر وقد ذكر هو عليه السلام حاله يومئذ، فقال في خطبة له مشهورة:

«فتعاقدوا الا يعاملونا ولا يناكحونا، وأوقدت الحرب علينا نيرانها، واضطرونا إلى جبل وعر، مؤمننا يرجو الثواب، وكافرنا يحامي عن الأصل»(1).

ولقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم، وقطعوا عنهم المارة والميرة، فكانوا يتوقعون الموت جوعا، صباحا ومساء، لا يرون وجها ولا فرجا، قد اضمحل عزمهم، وانقطع رجاؤهم، فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المحن بعد محمد صلى الله عليه وآله الا علي عليه السلام وحده وما عسى أن يقول الواصف والمطنب في هذه الفضيلة، من تقصى معانيها، وبلوغ غاية كنهها، وفضيلة الصابر عندها ودامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين، حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة، والقصة مشهورة.

وكيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي عليه السلام انه قبل الهجرة كان وادعا رافها لم يكن مطلوبا ولا طالبا، وهو صاحب الفراش الذي فدى رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسه، ووقاه بمهجته، واحتمل السيوف ورضح الحجارة دونه، وهل ينتهي الواصف وإنْ أطنب، والمادح وإن أسهب،

ص:64


1- أراد بقوله عليه السلام: (وكافرنا يحامي عن الأصل) هو أن قريش عاقبت جميع بني هاشم سواء من كان آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن لم يؤمن مع نسائهم وأطفالهم وألجأتهم إلى الجبل وضربت عليهم طوقاً وحصاراً شديداً سعياً منهم للأبادة الجماعية واستئصال الشجرة الهاشمية ذرية إسماعيل وإبراهيم من مكة.

إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة، والايضاح بمزية هذه الخصيصة.

فأما قوله: إن أبا بكر عذب بمكة، فانا لا نعلم أن العذاب كان واقعا الا بعبد أو عسيف، أو لمن لا عشيرة له تمنعه، فأنتم في أبي بكر بين أمرين تارة تجعلونه دخيلا ساقطا، وهجينا رذيلا مستضعفا ذليلا، وتارة تجعلونه رئيسا متبعا، وكبيرا مطاعا، فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم. ولو كان الفضل في الفتنة والعذاب، لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة أفضل من أبي بكر، لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه، ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه.

كقوله تعالى:

(وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا).

قالوا نزلت في خباب وبلال، ونزل في عمار قوله:

(إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يمر على عمار وأبيه وأمه، وهم يعذبون، يعذبهم بنو مخزوم؛ لأنهم كانوا حلفاءهم، فيقول: (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وكان بلال يقلب على الرمضاء، وهو يقول: أحد أحد، وما سمعنا لأبي بكر في شيء من ذلك ذكرا، ولقد كان لعلي عليه السلام عنده يد غراء، إن صح ما رويتموه في تعذيبه، لأنه قتل نوفل بن خويلد وعمير بن عثمان يوم بدر، ضرب نوفلا فقطع ساقه، فقال: أذكرك الله والرحم فقال قد قطع الله كل رحم وصهر إلا من كان تابعا لمحمد، ثم ضربه أخرى ففاضت

ص:65

نفسه، وصمد لعمير بن عثمان التميمي، فوجده يروم الهرب، وقد ارتج عليه المسلك، فضربه على شراسيف صدره، فصار نصفه الأعلى بين رجليه، وليس أن أبا بكر لم يطلب بثاره منهما، ويجتهد، لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي عليه السلام، فبان علي عليه السلام بفعله دونه.

قال الجاحظ ولأبي بكر مراتب لا يشركه فيها علي ولا غيره، وذلك قبل الهجرة فقد علم الناس أن عليا عليه السلام إنما ظهر فضله، وانتشر صيته، وامتحن ولقى المشاق منذ يوم بدر، وانه إنما قاتل في الزمان الذي استوفى فيه أهل الإسلام، وأهل الشرك، وطمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا، وأعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين، وأبو بكر كان قبل الهجرة معذبا ومطرودا مشردا، في الزمان الذي ليس بالإسلام وأهله نهوض ولا حركة، ولذلك قال أبو بكر في خلافته: طوبى لمن مات في فأفأة الإسلام، يقول: في ضعفه.

قال أبو جعفر رحمه الله: لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان، والخطأ أقعده، والخذلان أصاره إلى الحيرة، فما علم وعرف حتى قال ما قال، فزعم أن عليا عليه السلام قبل الهجرة لم يمتحن ولم يكابد المشاق، وانه إنما قاسى مشاق التكليف ومحن الابتلاء منذ يوم بدر، ونسي الحصار في الشعب، وما مني به منه، وأبو بكر وادع رافه، يأكل ما يريد، ويجلس مع من يحب، مخلى سربه، طيبة نفسه، ساكنا قلبه، وعلي - عليه السلام - يقاسي الغمرات، ويكابد الأهوال، ويجوع ويظمأ، ويتوقع القتل صباحا ومساء، لأنه كان هو المتوصل

ص:66

المحتال في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش وعقلائها سرا، ليقيم به رمق رسول الله صلى الله عليه وآله وبني هاشم، وهم في الحصار، ولا يأمن في كل وقت مفاجأة أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله له بالقتل، كأبي جهل بن هشام وعقبة بن أبي معيط ، والوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة وغيرهم من فراعنة قريش وجبابرتها، ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله صلى الله عليه وآله زاده، ويظمئ نفسه ويسقيه ماءه وهو كان المعلل له إذا مرض، والمؤنس له إذا استوحش، وأبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة، ولا يعلم بشيء من أخبارهم وأحوالهم، الا على سبيل الاجمال دون التفصيل، ثلاث سنين، محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج والتصرف في أنفسهم، فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة، ونسي هذه الخصيصة، ولا نظير لها ولكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه، وتنسق له خطابته، ما ضيع من المعنى، ورجع عليه من الخطأ.

فأما قوله واعلموا أن العاقبة للمتقين، ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده الجاحظ - يعني أن لا فضيلة لعلي عليه السلام في الجهاد، لان الرسول كان أعلمه انه منصور، وان العاقبة له - وهذا من دسائس الجاحظ وهمزاته ولمزاته، وليس بحق ما قاله، لان رسول الله صلى الله عليه وآله اعلم أصحابه جملة أن العاقبة لهم، ولم يعلم واحدا منهم بعينه انه لا يقتل، لا عليا ولا غيره، وان صح انه كان أعلمه انه لا يقتل، فلم يعلمه انه لا يقطع عضو من

ص:67

أعضائه، ولم يعلمه انه لا يمسه ألم جراح في جسده، ولم يعلمه انه لا يناله الضرب الشديد.

وعلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد اعلم أصحابه قبل يوم بدر - وهو يومئذ بمكة - أن العاقبة لهم، كما اعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك، فإن لم يكن لعلي والمجاهدين فضيلة في الجهاد بعد الهجرة لإعلامه إياهم ذلك، فلا فضيلة لأبي بكر وغيره في احتمال المشاق قبل الهجرة لإعلامه إياهم بذلك، فقد جاء في الخبر انه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر، وانه قال له أرسلت إلى هؤلاء بالذبح، وان الله تعالى سيغنمنا أموالهم، ويملكنا ديارهم، فالقول في الموضعين متساو ومتفق(1).

وعليه:

فهذا ما جاء عن لسان الشيخ أبي جعفر الاسكافي أجزاه الله خيراً، في رد أباطيل الجاحظ وافتراءاته على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبه يكتمل البحث في حقيقة تعذيب نوفل بن خويلد لطلحة وأبي بكر حينما أسلما.

المسألة الرابعة: عدي بن خويلد الأخ الرابع لأم المؤمنين خديجة عليها السلام

لم يرد له ذكر في كتب التاريخ أو الأنساب سوى ما يتعلق بابنته أم عبد الله، فقد ترجم لها ابن حجر بقوله:

ص:68


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13، ص 252-257.

(أم عبد الله بنت عدي بن خويلد الأسدية بنت أخي خديجة، وزوج الحسين بن الحارث بن المطلب، ذكرها ابن سعد(1) في ترجمة الحصين، وهي والدة عبد الله بن الحصين المذكور)(2).

وقد ترجم ابن حجر لولدها عبد الله بن الحصين فقال:

«عبد الله بن الحصين بن الحارث بن المطلب القرشي المطلبي، ذكره البلاذري في الأنساب وقال: كان شاعراً وأمه أم عبد الله بنت عدي بن خويلد الأسدية بنت أخي خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها»(3).

المسألة الخامسة: عمرو بن خويلد، الأخ الخامس لأم المؤمنين خديجة عليها السلام

اقتصر ابن إسحاق في سيرته على إيراد اسمه في زواج خديجة عليها السلام مشيراً إلى أنه هو الذي زوجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(4).

ثم لم يرد له ذكر في كتب التاريخ والسيرة وغيرها ولا يعلم من حاله أي شيء كولادته وموته وغير ذلك.

ص:69


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 52.
2- الإصابة، لابن حجر: ج 8، ص 428، برقم (12142).
3- المصدر السابق، برقم: (4648).
4- السيرة النبوية لابن هشام: ج 4، ص 1058؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 6، ص 72؛ البداية والنهاية: ج 2، ص 362.

المبحث الثاني: أخوة أم المؤمنين خديجة عليها السلام من الإناث

اشارة

أحاط بأم المؤمنين خديجة عليها السلام مجموعة من الأخوات اللائي بلغ عددهن أربعة، الا أن التاريخ لم يتناولهن بكثير من الذكر وهذا يكشف عن أن دورهن الحياتي لم يكن ذا ميزة يمكن من خلالها معرفتهن واشتهارهن، بل أن التاريخ عرفهن من خلال أم المؤمنين خديجة عليها السلام بوصفهنّ أخواتها، وهن الآتي ذكرهنّ :

المسألة الأولى: هالة بنت خويلد، الأخت الأولى لأم المؤمنين خديجة عليها السلام

تعدُّ هالة بنت خويلد من حيث الشهرة أوفر حظّاً من أخواتها الأخريات، فقد ورد اسمها في الصحاح وفي كتب التاريخ والسيرة من خلال دخولها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة إلى المدينة حسبما دلت عليه النصوص.

كما أن هالة بنت خويلد هي شقيقة أم المؤمنين خديجة عليها السلام(1).

أولاً. ما رواه الشيخان في الصحيح، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال اللهم هالة.

ص:70


1- الاسيتعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1702.

قالت - عائشة - فغرت! فقلت ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها)(1).

والحديث فيه دلالات منها:

1. أن هالة بنت خويلد قد تكون أصغر سناً من خديجة عليها السلام، وقد تكون أكبر منها إلا أن الله تعالى قد أمدّ في عمرها فكانت تزور النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين لم نشهد مثل هذه الزيارات لبقية أخواتها، فقد يكنّ قد هلكن قبلها، وقد يكون إسلامهن قد تأخر.

2. أن هذه الزيارة كانت في المدينة المنورة بدلالة وجود عائشة وقولها (قد أبدلك الله خيراً منها).

3. أن الرواية تكشف عن غيرة عائشة المفرطة من خديجة عليها السلام، وحيث إن المرأة لا تتولد عندها الغيرة الا بظهور حب الزوج لضرتها لاسيما أنها شاهدت ارتياع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما سمع استئذان هالة، فإن الرواية تكشف أيضاً عن الحب الكبير الذي يحمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين خديجة عليها السلام.

ويبدو كذلك من النصوص أن عائشة كانت تكرر هذا القول في محضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتنال من السيدة خديجة عليها السلام كما يروي أحمد في المسند.

ص:71


1- صحيح البخاري، باب: تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة عليها السلام: ج 4، ص 232.

فقد قالت: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يوماً فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عزوجل بها خيراً منها.

قال - (صلى الله عليه وآله وسلم) -: ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء»(1).

ثانياً: واشتهرت هالة أيضاً من خلال ولدها أبي العاص بن الربيع الذي تزوج من ربيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب، ولم يثبت من خلال الفصول الأولى للكتاب تحديد بنوة زينب إلى واحدة من أخوات خديجة عليها السلام، فإما أن أمها قد توفيت سريعاً وإما أن زينب هي تجهل ذلك من الأصل ولم يخبرها أحد أو قد أخبرت بذلك ولكن الأمر لم يصل إلى تلك الشهرة التي يستحق، فالأمر مرتبط بأرحام خديجة وليس بها عليها السلام، فضلاً عن أننا وجدنا في حال مرور أبي طالب سلام الله عليه بمرحلة من الفقر فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اتفق مع عمه العباس بن عبد المطلب لتخفيف مؤونة أبي طالب فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً فتكفل به، وأخذ العباس عقيلاً فتكفل به.

والحال نفسه قد يكون جرى مع خديجة عليها السلام فبادرت إلى التخفيف عن مؤونة إحدى أخواتها أو إخوانها فتكفلت بزينب ورقية وأم كلثوم

ص:72


1- مسند أحمد بن حنبل، من حديث عائشة: ج 6، ص 118؛ فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 103؛ الاستيعاب: ج 4، ص 1825.

فنشأن في دارها وتربين تحت كنفها لاسيما أنّها من عُرَفت بتلك الأخلاق الحميدة والسجايا الفاضلة، وسعة الحال، وكثرة المال.

ثالثاً: ان لهالة بنت خويلد خصوصية أخرى فهي أم رقية وأم كلثوم - كما مر بيانه سابقاً - ولذلك لها مكانة خاصة في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكشفها حاله عندما سمع استئذانها فضلا عن أن لها خصوصية عند أُختها خديجة وأنها كانت قريبة إلى قلبها فقد قامت بتنئشئة بناتها (رقية وأم كلثوم) ولذلك حنّ لها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وما يدل عليه:

1. أن بقية أخوات خديجة عليها السلام لم يقمْنَ بتلك الزيارات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سيمر بترجمتهنّ .

2. أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدِ اهتماماً ملحوظاً كما هو الحال مع أميمة بنت رقيقة بنت خويلد حينما جاءته تبايعه مع بعض النسوة - كما سيمر لاحقاً - وهذا كله يكشف عن حقيقة المكانة التي لهالة بنت خويلد عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

المسألة الثانية: خالدة بنت خويلد، الأخت الثانية لأم المؤمنين خديجة عليها السلام

اقتصر المؤرخون على ذكرها تحت عنوان «أسلاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم» فأُدرج اسمها مع زوجها علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة(1) ، هو أحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:73


1- كتاب المحبر لمحمد بن حبيب البغدادي: ص 100؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 635.

ولم يذكر لنا التاريخ متى ولدت ومتى ماتت، أسلمت أم لم تسلمْ ، وكم رزقت من الأولاد، وما شأن زوجها، كل ذلك لم يرد له ذكر في كتب التاريخ والسيرة.

المسألة الثالثة: رُقَيْقَةُ بنت خويلد، الأخت الثالثة لأم المؤمنين خديجة عليها السلام
اشارة

وحالها أفضل من حال أختها خالدة، وان كان ابن حبيب البغدادي (المتوفى 245 ه -) قد اقتصر على ذكرها في أسلاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما تزوجها عبد الله بن بجاد بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب فولدت له أمة الله بنت عبد الله بن بجاد.

إلا أن اسمها قد ورد في كتب الرجال من خلال ابنتها أميمة كأحد الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي كتب التاريخ من خلال بنات أميمة المعذبات في الله بمكة، هنّ الآتي ذكرهنّ :

أولاً. أميمة بنت رقيقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

فأما كونها من رواة الحديث النبوي الشريف فقد ترجم لها ابن حجر بقوله: «أميمة بنت رقيقة بقافين مصغرة، هي بنت بجاد، وأُمها رقيقة بنت خويلد بن أسد أخت خديجة.

روت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، روى عنها محمد بن المنكدر وبنتها حُكَيْمَة بالتصغير(1).

ص:74


1- الاصابة لابن حجر: ج 8، ص 31، برقم 10855.

وحديثها عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أخرجه مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، والترمذي؛ قال مالك: حدثني محمد بن المنكدر، عن أميمة بنت رقيقة، أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نسوة بايعنه على الإسلام. فقلن: يا رسول الله! نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

فيما استطعتن وأطقتن.

قالت: فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا. هلم نبايعك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

إني لا أصافح النساء. إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة. أو مثل قوله لامراة واحدة(1).

ولها حديث آخر تتحدث فيه عن أُمها رقيقة حينما التقاها رسول الله في الطائف، خرج إليها طالباً النصرة بعد وفاة عمه أبي طالب رضوان الله تعالى عليه.

والحديث أخرجه الطبراني وابن حجر، من طريق عبد ربه بن الحكم عن أميمة، عن رقيقة، قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف يطلب النصر من ثقيف فدخل عليّ فسقيته سوقياً فشرب وقال:

ص:75


1- كتاب الموطأ: ج 2، ص 983؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 6، ص 356؛ سنن الترمذي: ج 3، ص 77.

«لا تعبدي طاغيتهم ولا تصلي إليها».

فقلت: إذن يقتلوني.

قال:

«فإن جاؤوك فقولي ربي، رب هذه الطاغية، ووليها ظهرك إذا صليت».

قالت: أميمة فحدثني أخواي وهب وسفيان ابنا قيس، قالا: لما أسلمت ثقيف، قال لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

ما فعلت أمكما؟

قالا: ماتت على الحال التي فارقتها عليها. قال:

أسلمت أمكما إذن»(1).

ثانياً: ان بنات أميمة من المعذبات بالله في مكة

قال ابن سعد في الطبقات: واغتربت أميمة وتزوجها حبيب بن كعيب بن عتير الثقفي فولدت له النهدية، وأم عبيس، وزنيرة، وأسلمن بمكة قديما وكن ممن يعذب في الله فاشتراهن أبو بكر الصديق فاعتقهن، فقال له أبوه أبو قحافة: يا بني انقطعت إلى هذا الرجل وفارقت قومك وتشتري هؤلاء الضعفاء؟ فقال له: يا أبه أنا أعلم بما أصنع.

وكان مع النهدية يوم اشتراها طحين لسيدتها تطحنه أو تدق لها نوى؛ فقال لها أبو بكر: ردي إليها طحينها أو نواها؟

ص:76


1- المعجم الكبير للطبراني: ج 7، ص 81؛ الاصابة لابن حجر: ج 3، ص 108.

فقالت: لا حتى أعمله لها، وذلك بعد أن باعتها وأعتقها أبو بكر، وأصيبت زنيرة في بصرها فعميت فقيل لها:

أصابتك اللات والعزى؛ فقالت لا والله ما أصابني، وهذا من الله، فكشف الله عن بصرها ورده إليها فقالت قريش: هذا بعض سحر محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.

وهذا الحديث لا يستند إلى الصحة لما يأتي:

1. تقتضي الرواية ان يكون هؤلاء النساء في الرق وأنّهنَّ مملوكات إلى بعض نساء قريش، وهذا لا يصح مع ما عرفت به خديجة من حسن الحال ووفرة المال، فكيف بها تترك بنات أختها، وقد أسلمن وهن تحت سطوة الرق وذل العبودية حتى يأتي أبو بكر فيبذل ماله لعتقهن!

2. بل أين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهن لماذا يتركهن يذهبن للعذاب ولا يصنع لهنّ شيئاً، في حين نجده صلى الله عليه وآله وسلم يواسي عماراً وأهله ويبشرهم بالجنة.

3. إنّ أمهن أميمة كانت قد أسلمت في عام الفتح حسبما أظهرت الرواية السابقة من مجيئها لمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع مجموعة من النسوة فكيف كن بناتها من المعذبات في مكة وتحت الرق والعبودية ؟

أفيكون إسلامهن مقدماً على أُمهنّ أميمة، أم أنهن كن قد أسلمْنّ معها، فلماذا لم يأتين مع أمهنَّ لمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهنّ لم يكن متزوجات ؟!

ص:77

وعليه: يظهر من الرواية أنها أرادت أن تسجل لأبي بكر دوراً مصطنعاً يقترب به إلى السلاطين في عتقه لبعض المسلمين بأسلوب مفضوح سرعان ما تكشف زيفه وبطلانه.

المسألة الرابعة: هند بنت خويلد، الأخت الرابعة لأم المؤمنين خديجة عليها السلام

ويقال هي نفسها هالة بنت خويلد كما أشار إلى ذلك العيني(1) ، وابن عساكر حينما ترجم لابن العاص بن الربيع(2) ، وكذلك ابن كثير(3).

المسألة الخامسة: الطاهرة بنت خويلد

وهي نفسها أم المؤمنين خديجة بنت خويلد كما صرح بذلك كلٌّ من الحافظ ابن عساكر، وابن كثير، والسبب في هذا الخلط ، هو: أن السيدة خديجة عليها السلام كانت تلقب في الجاهلية ب - «الطاهرة بنت خويلد»(4).

في حين جعلها ابن حجر شخصاً آخر فترجم لها بقوله: «الطاهرة بنت خويلد أخت خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرها الزبير بن بكار»(5).

ص:78


1- عمدة القارئ للعيني: ج 4، ص 302.
2- تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 67، ص 8.
3- البداية والنهاية لابن كثير: ج 6، ص 390.
4- تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 5، ص 329.
5- الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 224.

الفصل الحادي عشر: وفاة خديجة عليها السلام

اشارة

ص:79

ص:80

إن من السنن التي قدّرها الله تعالى في الحياة وأحكمها فيها هي سنة الموت، فما من شيء خلقه الله تعالى إلا ومصيره الموت والفناء، إلا أنّ الفارق فيما بين النهايات التي أنيطت بوجود الأشياء هو الكيفية التي تنتهي أو تموت عليها هذه الأشياء أو الكائنات.

ولو حاول الإنسان أن يجمع هذه الظواهر بين دفتي كتاب لاحتاج إلى سنوات عديدة وأفراد كثيرين حتى يتمكن من إحصاء جزء يسير منها ولكان هذا الجزء خير واعظ يتّعظ به بنو البشر وبه يعلمون كيف كانت عاقبة هذا العمل أو ذاك، ومن خلاله يتوصلون إلى حسن سلوك هذا المرء أو ذاك فضلاً عن التفاضل بين هذه الحالات والتمايز بين هذه المشاهد حتى يبدو للناظرين من خلال هذه المحطات أن بعض الناس قد كانت عواقبهم الحياتية وخواتيمهم الدنيوية هي خير دليل على شأنيتهم عند الله تعالى وحظوتهم لديه جلّ شأنه.

ص:81

ولذلك:

لم تكن خديجة عليها السلام بالمرأة التي انتهت رحلتها الحياتية بدون خصوصية خاصة، ولم تكن وفاتها مجردة من الكرامات والشأنية النبوية التي لديها عند خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

هذا فضلاً عن أن الوفاة والانتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة هي من أصعب ما يمر به الإنسان إن لم تكن هذه المرحلة هي الأعظم على نفس ابن آدم؛ لشدة ما يرى من الأهوال والمخاوف التي دلّ عليها القرآن الكريم بقوله سبحانه:

(وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ )1.

وحذر منها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته بأحاديث عديدة تكشف عن هذه الحقائق التي لا مفر للإنسان من المرور بها والتعرض لها، وهي تكشف في نفس الوقت عن الحاجة الماسة لرحمة الله تعالى ولطفه.

وعليه:

فإن وفاة أم المؤمنين خديجة عليها السلام تميزت - كما كانت حياتها - بميزات عديدة وأحيطت بخصوصية خاصة تكشف عن منزلتها عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كما تكشف عن جوهر هذه الرحلة الحياتية، وتظهر للمسلمين درجة إيمانها، وصواب مسلكها الذي سلكته في الحياة الدنيا.

ص:82

المبحث الأول: مرضها ووصيتها

اشارة

لم تكن تلك السنوات الثلاث التي عاشتها أم المؤمنين خديجة عليها السلام في شعب أبي طالب بتاركة إياها بسلام، بل قد غرزت هذه السنوات العجاف مخالبها في جسد أم المؤمنين خديجة عليها السلام حتى أنهكته، وبذاك يكون المشركون قد حققوا مبتغاهم في النيل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما فرضوا عليه وعلى بني هاشم جميعاً، سواء من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم لم يؤمن، فهم بذلك الحصار الجائر كادوا يبيدونهم جميعاً؛ بل لو كان آنذاك منظمات حقوقية وإنسانية لسجلت أبشع أنواع التطرف العنصري والعرقي والعقائدي، فما ذنب بني هاشم إن كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم ؟! وما ذنب مَنْ لم يؤمن به فيؤخذ بجريرة من آمن فيحاصَرون ويجوَّعون ويعذَّبون ؟!

وهل انتهى هذا الحصار؟ وهل توقف هذا التطرف ؟ كلا، فمازال بنو هاشم يدفعون ضريبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وأنّ علي ابن أبي طالب منهم، وأن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم، حتى قال أمير المؤمنين علي عليه السلام حينما خرجت عائشة وطلحة بن عبيد الله والزبير لقتاله:

«مالي وقريش! أما والله لأقتلنهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس، وما لنا إليها من ذنب غير أن خيرنا فأدخلناهم في خيرنا.

أما والله لا أترك الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته إنشاء

ص:83

الله، فلتضج مني قريش ضجيجاً»(1).

ولذلك: شاءت قريش أن تنال من ركني النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حصار بني هاشم جميعاً فكان لها ما أرادت، فقد مضى أبو طالب رضوان الله تعالى عليه سريعاً بعد الخروج من الشعب وفك الحصار عن بني هاشم فينهد لفقده ركن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأول ليردفه رسول الله بقوله وقد اعترض جنازته.

«وصلتك رحمْ وجزيت خيرا يا عم فقد كفلت صغيرا ونصرت وأزرت كبيراً»(2).

وتكالبت عليه قريش فأذوه أشد الأذى حتى قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«ما نالت مني قريش شيئاً أكره حتى مات أبو طالب»(3).

فقد ذهب الناصر وفقد المؤازر وبان عليه الوجد والحزن الشديد قائلاً:

«لاسرع ما وجدنا فقدك يا عم»(4).

ص:84


1- الكافئة للشيخ المفيد: ص 20؛ البحار للمجلسي: ج 32، ص 113.
2- راجع في اعتراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم جنازة أبي طالب وسيره معها وترحمه عليه: الطرائف لابن طاووس: ص 305؛ المصنف لعبد الرزاق: ج 6، ص 38 * تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 59، ص 250؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، ص 235؛ كنز العمال: ج 12، ص 153؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 13، ص 196؛ تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 354-355؛ الإصابة لابن حجر، ترجمة ابن عباس: ج 7، ص 198؛ البحار للمجلسي: ج 19، ص 20؛ منتهى الآمال للقمي: ص 77.
3- إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 1، ص 45.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 464؛ حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني: ج 1، ص 140؛
المسألة الأولى: مرضها عليها السلام

وبين وداعه لعمه أبي طالب رضوان الله تعالى عليه، وحزنه عليه وبين تحزب المشركين ضده وإيذائهم له كانت أنيسه وسكنه تصارع الألم وتكافح لشد الهمة ودفع المرض كي لا يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحيداً.

إلا أن هذا الكفاح لم يكن بحائل عن تحقيق الفراق والانتقال إلى جوار الرحمن حيث لا خوف ولا أحزان، بل روح وريحان ورضوان من الله أكبر.

وبين هذا الجهاد والدفاع لغرض البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين أن لا يرى عليها آلامها فيحزن لذلك، إذ يدخل عليها صلى الله عليه وآله وسلم فيراها قد ذبلت وتغير لونها على الرغم من أن خديجة عليها السلام كانت - كما أسلفنا - تحاول جاهدة أن لا يظهر عليها المرض كي لا يحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

لكنه - بأبي وأمي - يعلم حالها، وحقيقة حبها له، وجهادها من أجله، فيحزنه ما يرى عليه حالها وهي التي عاشت معه أربعاً وعشرين سنة قضاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأسعد زوج، فيدخل عليها ويبادرها القول:

«بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون.

ص:85

قالت: وقد فعل الله ذلك يا رسول الله ؟!.

قال: نعم.

قالت: بالرفاء والبنين»(1).

وهذا الحوار يدل على إيمانها الراسخ بالله عزوجل ويكشف عن صلابة يقينها؛ إذ إن قبولها بالأمر وتسليمها به؛ لأنه من الله، ودعاؤها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ب - «الرفاء والبنين» هو غاية في الرضا والتسليم بقضاء الله عز وجل مع حبها البالغ لزوجها صلى الله عليه وآله وسلم.

وفضلاً عن ذلك فالحوار يدل على أمور أخرى، منها:

أولاً. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: قد زوجني الله معك في الجنة أراد فيه أمرين:

1. تبشيره لها بأنها زوجته في الدنيا والآخرة وهذا خاص بها؛ إذ لا يعلم مصير الإنسان في الآخرة أيكون مع زوجه وأهله أم أن لكل امرئ منهم شأناً يغنيه:

ف -:(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ )2.

ولذلك: بشرها صلى الله عليه وآله وسلم أنها معه في الآخرة.

ص:86


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 19، ص 21؛ مستدرك سفينة البحار للشاهرودي: ج 4، ص 322؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، ص 121؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 2، ص 74؛ السيرة الحلبية: ج 2، ص 41.

2. حسن رعايته لها وملاطفتها وهي في وضع تحتاج فيه إلى الملاطفة؛ لكي يخفف عنها هموم المرض، وهذا فيه من الآثار الكبيرة على الحالة النفسية التي يمر بها الإنسان حينما يكون مريضاً.

كما أن هذا الفعل النبوي يرشد إلى أحد الدروس في التربية الأسرية التي ترسم للرجل الكيفية التي ينبغي له أن يتعامل بها مع الزوجة حينما تمر بمرحلة من المرض، فبعضهم يهرب من المرأة حينما تمرض فيهجرها مع آلامها إن لم يقسُ عليها ويتذمر منها.

ثانياً. أما قولها عليها السلام:

(وقد فعل الله ذلك يا رسول الله ؟).

فإنه يشير إلى جملة من الحقائق، منها:

1. أدبها البالغ في الحديث مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحترامها اللامتناهي له، فعلى الرغم من أن المرأة لا تتقبل مجرد الفكرة في وجود زوجة أخرى وضرة في حياتها إلا أن خديجة عليها السلام استفسرت عن جدية الأمر، ولم يخرجها سماعها لوجود ثلاث ضرّات أُخريات في حياتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن منتهى الأدب والذوق الجميل، إذ لم تخاطبه باسمه الصريح وإنما قالت: وقد فعل الله ذلك يا رسول الله ؟

2. أنها أظهرت في هذا القول البليغ معنى في منتهى الجمال؛ إذ إنها مع سماعها لهذا الخبر لم تخرج عن ثقتها الكبيرة بحب رسول الله صلى الله عليه

ص:87

وآله وسلم لها، وأن زواجه من مريم وآسية وكلثم أخت موسى لم يكن بإقدامه واختياره وإنما الله سبحانه وتعالى هو من زوجه منهن.

ولذلك، قالت:

وقد فعل الله ذلك ؟.

فقال: نعم.

3. لما علمت بانه أمر الله تعالى سلمت لأمره ورضت بحكمه، بل وتمنت لرسول الله الخير والسعادة فقالت:

بالرفاء والبنين.

في حين أننا - وعلى سبيل المثال - نجد غيرها من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعائشة حينما نزل قوله تعالى:

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ)1.

أنّها قالت له صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما أرى ربك إلا يسارع في هواك»(1).

والعجيب من بعض المسلمين كيف يقايسون بينها وبين أم المؤمنين خديجة عليها السلام بل الأعجب من ذلك هو تفضيل البعض منهم لعائشة على بقية أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!!

ص:88


1- صحيح البخاري، تفسير سورة الأحزاب: ج 4، ص 24؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 6، ص 261.

(كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ )1.

فكيف يفهمون ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يفعل ؟! وكيف لهم أن يغضوا الطرف عن كل هذا الحب النبوي لأم المؤمنين خديجة لدرجة التصريح بذلك فيقول صلى الله عليه وآله وسلم:

«فقد رزقت حبها»(1) ؟!.

وهل هناك أدنى شك من أن حبه صلى الله عليه وآله وسلم هو من حسن تبعلها وشدة تمسكها بطاعته وحرصها على اتباعه، فضلاً عن جهادها بمالها ونفسها فكان هذا الحب النبوي هو عينه حب الله تعالى:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ 3.

وهل هناك زوجة من زوجاته قد اتبعته حقيقة الاتباع مثل أم المؤمنين خديجة عليها الصلاة والسلام ولذلك:

نجده يتألم لما نزل بها من المرض فيقول لها:

«بالكره ما أرى منك يا خديجة».

ثم يفوض أمره إلى ربه ويصبرها على محنتها فيقول لها:

«وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا».

ص:89


1- صحيح مسلم (كتاب البنوات، باب: فضائل خديجة بنت خويلد برقم 2430. المفهّم في تلخيص مسلم للقرطبي: ج 6، ص 315، برقم 2343.
المسألة الثانية: وصيتها عليها السلام

أما هذا الخير الكثير لخديجة فهو جوار ربها بعد أن جاهدت في سبيله هذه السنوات حتى اللحظات الأخيرة التي عاشتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا: أخذت توصي رسول الله بوصاياها فقالت:

«يا رسول الله اسمع وصاياي أولاً فإني قاصرة في حقك فاعفني يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«حاشا وكلا، ما رأيت منك تقصيراً فقد بلغت جهدك وتعبت في داري غاية التعب ولقد بذلت أموالك، وصرفت في سبيل الله جميع مالك».

قالت:

يا رسول الله، الوصية الثانية: أوصيك بهذه وأشارت إلى فاطمة، فإنها غريبة من بعدي فلا يؤذيها أحد من نساء قريش، ولا يلطمن خدها ولا يصحن في وجهها، ولا يرينها مكروهاً.

وأما الوصية الثالثة: فإني أقولها لابنتي فاطمة وهي تقول لك فإني مستحية منك يا رسول الله. فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرج من الحجرة فدعت بفاطمة وقالت: يا حبيبتي وقرة عيني قولي لأبيك إن أمي تقول: أنا خائفة من القبر أريد منك رداءك الذي تلبسه حين نزول الوحي تكفنني فيه فخرجت

ص:90

فاطمة وقالت لأبيها ما قالت أمها خديجة.

فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسَلّمَ الرداء إلى فاطمة وجاءت به إلى أمها فسرت به سروراً عظيما)(1).

الا أن قلب خديجة عليها السلام بقي متعلقاً بأمر آخر لم تكشفه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم تظهره لابنتها فاطمة صلوات الله وسلامه عليها؛ لأنه أمر خاص ومتعلق بخصوصية المرأة، والأمر حينما يكون من خصوصيات المرأة فانه محفوف بالحياء ومتّشح بالستر لأن مصدره العفة.

ولذلك لم تجد غير أسماء بنت عميس معيناً لها في حمل هذه الوصية، وذلك بعد أن دخلت عليها فوجدتها - بأبي وأمي - تبكي، فقالت:

«أتبكين وأنت سيدة نساء العالمين، وأنت زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبشرة على لسانه بالجنة ؟!. فقالت - عليها السلام -:

ما لهذا بكيت، ولكن المرأة ليلة زفافها لابد لها من امرأة تقضي إليها بسرها وتستعين لها على حوائجها وفاطمة حديثة عهد بصبي وأخاف أن لا يكون لها من يتولى أمرها حينئذ.

فقلت: يا سيدتي لك عليّ عهد الله إنْ بقيت إلى ذلك الوقت أن أقوم مقامك في هذا الأمر»(2).

وتمر الأيام والشهور وتزف فاطمة الزهراء إلى أمير المؤمنين علي بن أبي

ص:91


1- شجرة طوبى للشيخ محمد مهدي الحائري: ج 2، ص 235.
2- البحار للمجلسي: ج 43، ص 138؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 375؛ كشف اليقين للعلامة الحلي: ص 198.

طالب صلوات الله عليهما وتحضر زفافها أسماء بنت عميس، ولابد لها أن تبرَّ قسمها لخديجة عليها السلام في هذه الليلة.

فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمر النساء بالخروج من الدار فخرجن وبقيت أسماء، فلما أراد الخروج رأى سوادها فقال:

«من أنت»؟..

- قالت - فقلت: أسماء بنت عميس. فقال:

ألم آمرك أن تخرجي ؟

قالت، فقلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي، وما قصدت خلافك ولكني أعطيت خديجة عهداً وحدثته.

فبكى صلى الله عليه وآله وسلم وقال:

«تالله لهذا وقفت ؟».

قالت، فقلت: نعم والله، فدعا لي»(1).

ولا يخفى على اللبيب ما في بكاء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من الدلالات عند سماعه حديث أسماء بنت عميس، وهي تقصّ عليه وصية خديجة بفاطمة عليهما السلام.

وإني لا أدري أأعجب من حنان خديجة وحبها لابنتها فاطمة عليها السلام أم أعجب من حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة وبكائه عند سماعه ذكرها.

ص:92


1- المصادر السابقة.

أما سبب بكاء خديجة عليها السلام فلأنها كانت وحيدة فقد قاطعها نساء قريش وهجرنها فلم يبقَ لديها من تبث له حزنها وتوصيه بفاطمة، ولعل دخول أسماء كان استثنائياً أو لعلها سمعت بمرضها فحنت عليها فجاءت تعاودها فوجدت خديجة متنفساً لهمها في سؤال أسماء بنت عميس لها.

المبحث الثاني: احتضارها وتغسيلها عليها الصلاة والسلام

المسألة الأولى: احتضارها

وجاءت اللحظات الأخيرة المتبقية لها في الحياة الدنيا، فقد آن لها الانتقال إلى جوار ربها بعد هذا الجهد والجهاد والمثابرة في نصرة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وحيث إنّ الإنسان حينما يمر بهذه اللحظات فإنه يمر بأصعب ما يمكن أن يتحمله عاقل، وذلك؛ لشدة الأهوال وتعاظم المخاوف ولذا فهو محتاج إلى قشة يتمسك بها وينجو مما يراه، وليس لذاك إلا رحمة الله تعالى الواسعة والمتجسّدة في حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو القائل جل شأنه:

(وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ )1.

فكيف ستكون رحمته صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة في هذه اللحظات، أيتركها مع أهوال المطّلع ومخاوف الموت وحضور ملك الموت وأعوانه.

ص:93

أم يتركها جبرائيل عليه السلام وهو الذي خصها بالسلام والتحية والإكرام، أترى هل يدعها رسول الله مع ملك الموت وهو؛

(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ )1.

دون أن يكون واقفا بقربها وكأنه يناديه: لطفاً بخديجة، مهلاً بأم العيال، لا تعجل بربة البيت، اللهم اجعله برداً وسلاما على أم الزهراء، هكذا يتراءى لي حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع رفيقة دربه وسكنه في حياته، وناصرته في دعوته، ومصدقته في نبوته.

ولعل اللحظات الأخيرة التي لها في الحياة الدنيا، ولاسيما لحظات الاحتضار (وهي تجود بنفسها) - كما عبّر عنها المؤرخون والمفسرون - تكشف عن خصوصية أخرى من خصائص خديجة عليها السلام، بل تفردت بها فلم تخص بها امرأة غيرها حسبما يروي لنا المؤرخون والمفسرون.

فقد روى اليعقوبي، والثعلبي، والقرطبي، والطبرسي، جميعاً عن معاذ ابن جبل: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على خديجة وهي تجود بنفسها فقال:

«أكره ما نزل بك يا خديجة وقد جعل الله في الكره خيراً كثيراً، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهن مني السلام».

قالت:

يا رسول الله من هنّ ؟

ص:94

قال:

«مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة - أو حليمة - أخت موسى».

قالت:

بالرفاه والبنين»(1).

والحديث لا يختلف من حيث الدلالة وإن اختلف اللفظ عن الحديث السابق الذي أوردناه، إلا اننا نضيف هنا:

1. أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث مع خديجة عليها السلام وهي في هذه اللحظات الصعبة - على جميع ولد آدم - بأسلوب يكشف عن انه يتحدث مع امرأة من أهل الجنة وليست من أهل الأرض؛ إذ إن السنن الطبيعية في هذه اللحظات تقتضي أن ينشغل الإنسان بنفسه وبما يراه من حوله من الملائكة التي قدمت لقبض روحه فضلاً عن بقية الأرواح وما تم ستره عن الإنسان في الحياة الدنيا فقد كشف للمحتضر عن بصره ورفع عنه الحجب فهو يرى الآن حقائق الأشياء، ولذلك يكون مذهولاً بما يرى فضلاً عن انشغاله بنفسه وما يؤول عليه أمره وينتهي به عمره.

إلا أن خديجة هي الآن حسبما يدل الحديث الشريف برتبة أهل الجنة فقد أخذت النتائج مبكرة في الحياة الدنيا قبل الانتقال للدار الآخرة.

ص:95


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 35؛ تفسير الثعلبي: ج 9، ص 353؛ تفسير القرطبي: ج 18، ص 204؛ تفسير مجمع البيان للطبرسي: ج 10، ص 66؛ تفسير نور الثقلين للحويزي: ج 5، ص 377؛ مجمع البحرين للطريحي: ج 2، ص 199.

ولذلك:

لم يجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مانعاً من الحديث معها بهذا الأسلوب وانها ذاهبة مباشرة إلى الجنة، وان مكانها مع أولئك النساء، مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وحليمة أو حكيمة وهن ضرائر لها، وحيث إنّه لا تنازع في الجنة ولا تخاصم بين أهلها، وإن التحاسد والنزاعات من خواص أهل الدنيا فلذا، قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بالرفاه والبنين، أي: إنها وصلت إلى مرحلة من اليقين جعلتها بمستوى أهل الجنة وهي في الحياة الدنيا فضلاً عن أنها الآن في حالة الاحتضار وهي تجود بنفسها فكان حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم برتبة التبشير وإزالة الحزن عنها لما يرافق حالة نزع الروح.

2. ان هذا الحديث يكشف عن أن احتضار خديجة عليها السلام قد امتاز بخصوصية خاصة وهي أنها مرت بحالة من السكينة والطمأنينة جعلتها تتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأنها في عزّ شبابها وفي أتم عافيتها حيث لا وجود للآلام وأثر للاضطراب والخوف وهي حالة خاصة بمن سبقت لهم من الله الحسنى.

قال تعالى:

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَ ادْخُلِي جَنَّتِي)1.

ص:96

المسألة الثانية: تغسيلها عليها السلام
اشارة

إنّ من السنن الواجبة في الإسلام هو تغسيل الميت وتحنيطه وتكفينه، وحيث إنّ هذه المسائل تناولها الفقهاء في مصنفاتهم فانا نعرض عن بيان أحكامها وتفاصيلها فمن أرادها فليراجعها في مظانها.

غير أن ما يرتبط بتغسيل أم المؤمنين خديجة عليها السلام هو قيام «أم أيمن وأم الفضل بتغسيلها»(1).

وهذا يتطلب بيان منزلة هاتين المرأتين وعلاقتهما بخديجة عليها السلام.

أولاً: ترجمة أم أيمن

(2)

اسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو ابن النعمان، وهي أم أيمن غلبت عليها كنيتها فكنيت باسم ولدها أيمن بن عبيد الحبشي(3).

وهي مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعدها البرقي ممن

ص:97


1- أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، ص 180؛ قاموس الرجال للتستري: ج 12، ص 47.
2- أنظر ترجمتها في: الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 223-227؛ الجرح والتعديل للرازي: ج 9، ص 461؛ الثقات لابن حبان: ج 3، ص 460؛ إكمال الاكمال لابن ماكولا: ج 1، ص 232؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 4، ص 302؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 408؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 35، ص 329؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 223، 224؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1793، برقم (3352)؛ معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره): ج 4، ص 199.
3- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1793.

روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النساء(1).

«هاجرت إلى الحبشة وإلى المدينة تعرف ب - (أم الظباء) وقال ابن شهاب: كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما توفي أبوه حضنته أم أيمن حتى كبر، ثم أعتقها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أنكحها زيد بن حارثة، توفيت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمسة أشهر، وقيل: بستة أشهر، وقد روى الأربلي وابن شهر ما يشير إلى أنها توفيت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبع سنين.

وفي الاستيعاب: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزورها ويقول:

«أم أيمن أمي بعد أمي».

وفي أنساب البلاذري قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن.

فتزوجها زيد فولدت له أسامة، - وشهد لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة - ورد أبو بكر وعمر مع ذلك شهادتها في فدك لفاطمة عليها السلام)(2).

(أما كراماتها، فقد روى الفريقان في كتبهم ما خص الله به أم أيمن من الكرامة التي تظهر منزلتها عند الله تعالى وأنها من عباده الصالحين، جاء ذلك

ص:98


1- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي قدس سره: ج 24، ص 199.
2- قاموس الرجال للتستري: ج 12، ص 193.

حينما خرجت أم أيمن من المدينة بعد استشهاد فاطمة عليها السلام واتجهت إلى مكة وقالت: لا أرى المدينة بعدها، أي: بعد فاطمة عليها السلام؛ فلما كانت في بعض الطريق عطشت عطشاً شديداً فرفعت يديها وقالت: يا رب أنا خادمة فاطمة أتقتلني عطشاً، فأنزل الله عليها دلواً من السماء فشربت فلم تحتج إلى الطعام والشراب سبع سنين وكان الناس يبعثونها في اليوم الشديد الحر فما يصيبها عطش)(1).

وقد روى هذه الكرامة التي نالتها أم أيمن كلٌّ من ابن سعد، والذهبي، وابن حجر، وغيرهم عن عثمان بن القاسم، قال: لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف دون الروحاء فعطشت وليس معها ماء وهي صائمة فجهدها العطش فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض فأخذته فشربت منه حتى رويت، فكانت تقول ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر فما عطشت بعد تلك الشربة وإن كنت لأصوم في اليوم الحار فما أعطش(2).

وهذه الترجمة تكشف ما لهذه المرأة من توفيق خاص وعناية إلهية فقد أمد الله بعمرها وأكرمها بأن تكون حاضنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تشهد تلك المعاجز التي حفت به في أثناء الولادة لأنها كانت إحدى

ص:99


1- الخرائج والجرائح للأربلي: ج 2، ص 530؛ المناقب لابن شهر: ج 3، ص 332.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 224؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 225؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 359؛ تاريخ المدينة لابن شبة: ص 497؛ البداية والنهاية: ج 5، ص 347.

موالي عبد المطلب وبذلك أكرمها الله تعالى بحكم وجودها في بيت عبد المطلب بأن اختارها لأن تكون ممن يعين آمنة بنت وهب.

ثم شهدت طفولة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروت عن سيرته وسمته وخلقه النبوي الكثير من الأحاديث، فكانت مادة خصبة ترفد المسلمين بما يتوقون لمعرفته من تلك السيرة النبوية حتى أكرمها تعالى بالإسلام فأعتقها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم زوجها من زيد بن حارثة ولم ينتهِ معها اللطف الإلهي والكرم الرباني حتى كانت ممن يخدم فاطمة سيدة نساء العالمين، وممن يتشرف بولادة ريحانتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبطيه الحسن والحسين عليهما السلام.

فكان هذا العمر المديد محفوفاً بالألطاف الإلهية والتوفيق الرباني والملازمة للعترة النبوية حتى كانت ممن يغسل خديجة بنت خويلد عليها السلام، وكذلك كانت ممن حضر تغسيل ابنتها فاطمة عليها السلام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ثانياً: ترجمة أم الفضل

(1)

ترجم لها ابن سعد بقوله: (وهي لبابة الكبرى ابنة الحارث بن حزن بن البجير، وكانت أم الفضل أول امرأة أسلمت بمكة بعد خديجة بنت خويلد،

ص:100


1- أنظر ترجمتها: الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 277؛ طبقات خليفة: ص 631، الجرح والتعديل للرازي: ج 9، ص 465؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 608؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 35، ص 298؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 214؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 449، برقم (12204).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزورها ويقيل في بيتها(1).

وقد تزوجها العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فولدت له الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، ومعبدا، وقثم، وعبد الرحمن، وأم حبيب)(2).

وقد عدها الشيخ الطوسي رحمه الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(3) ، وقد وثقها ابو داود الحلي والنجاشي(4).

وقد روت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وروى عنها: أنس بن مالك، وتمام بن العباس؛ وعبد الله بن الحارث بن نوفل وابنها عبد الله بن عباس(5).

وقد أخرج لها أصحاب الصحاح الستة في صحاحهم(6) ، وكان من شأنها انها انتقلت مع العباس بن عبد المطلب بعد عام الفتح إلى المدينة(7). وتوفيت في خلافة عثمان بن عفان(8).

ص:101


1- من القيلولة، وهي النوم في الظهيرة، لسان العرب: ج 11، ص 577، مادة «قيل».
2- الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 277.
3- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي قدس سره: ج 24، ص 206؛ رجال الطوسي: ص 52.
4- رجال أبي داود: ص 223.
5- تهذيب الكمال للمزي: ج 35، ص 298.
6- الكاشف للذهبي: ج 2، ص 526.
7- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 214.
8- المصدر السابق.

ومن خلال هذه الترجمة يتضح ما لأم الفضل من المنزلة والقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي بذلك تكون ممن خصها الله تعالى بتغسيل إحدى سيدات الجنة فضلاً عما لخديجة من منزلة الأمومة على هذه الأمّة والخصوصية التي لها عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

المسألة الثالثة: تكفينها

في خصوص تكفينها سلام الله عليها لم أعثر - مع ما توفر لدى من مصادر ومع قصوري في البحث عن المسألة - على حديث معتبرٍ في كتب علمائنا الماضين - زاد الله في شرفهم - إلا أنني وجدت حديثاً واحداً في كتاب شجرة طوبى، وكتاب الأنوار الساطعة يتحدث عن هذه المسألة، والحديث كالآتي:

إنّ أم المؤمنين خديجة عليها السلام قالت لفاطمة (صلوات الله وسلامه عليها):

«يا حبيبتي وقرة عيني قولي لأبيك: إن أمي تقول: إني خائفة من القبر أريد منك رداءك الذي تلبسه حين نزول الوحي تكفنني فيه.

فخرجت فاطمة وقالت لأبيها ما قالت أمها خديجة فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسلّم الرداء إلى فاطمة وجاءت به إلى أمها وسرت به سروراً عظيماً.

فلما توفيت خديجة أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تجهيزها وغسّلَها وحنّطَها، فلما أراد أن يكفنها هبط الأمين جبرئيل وقال:

ص:102

يا رسول الله إن الله يقرئك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويقول لك يا محمد إن كفن خديجة من عندنا فإنها بذلت مالها في سبيلنا، فجاء جبرئيل بكفن وقال: يا رسول الله هذا كفن خديجة وهو من أكفان الجنة أهدى الله إليها.

فكفنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بردائه الشريف أولاً وبما جاء به جبرئيل ثانياً، فكان لها كفنان، كفن من الله وكفن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

والحديث يدل على الآتي:

1. لعل مراد أم المؤمنين خديجة عليها السلام في طلبها رداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يرتديه عند نزول الوحي هو الدثار الذي غطته به حينما هبط عليه الوحي عليه السلام بعد رجوعه من غار حراء حينما هبط عليه جبرائيل في يوم مبعثه المبارك.

والا حقيقة الأمر أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم متى يهبط عليه الوحي؛ إذ ليس له وقت محدد كما هو ثابت في سيرته صلى الله عليه وآله وسلم إلا اللهم انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخذ رداء للمناجاة والعبادة، وهو وارد في سيرة المعصومين عليهم السلام الذين كانوا مماثلين لجدهم صلى الله عليه وآله وسلم.

وعليه:

ص:103


1- شجرة طوبى للحائري: ج 2، ص 235. الأنوار الساطعة للشيخ غالب الهلاوي: ص 378.

فانها عليها السلام إما أرادت الدثار الذي ذكره الله تعالى في قوله سبحانه:

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)1.

أو أرادت الرداء الذي كان يرتديه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما نزل عليه جبرائيل في يوم مبعثه، أو أنها قصدت رداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان عليه في أغلب أوقات نزول الوحي، وبالطبع من دون أن يهيئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك.

وكونها زوجته وأعلم من غيرها بخصوصياته صلى الله عليه وآله وسلم أحواله لاسيما أنها زوجته الوحيدة فقد تكون قد رصدت هذه الخصوصية في أحد أثواب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فأرادت أن تتخذها وسيلة لدفع خوفها من القبر لما يحمله من خصوصيات نزول الفيض الأقدس وتلبسه بالأنوار الإلهية، وفضلاً عن ملامسته لبدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي ملامستة لرحمة الله الواسعة.

2. قد يشكل البعض من المخالفين أو غيرهم على اختصاص أم المؤمنين خديجة عليها السلام بكفن من الجنة فضلاً عن رفض الموضوع من الأصل ونقول:

وقد لا يؤمن البعض الآخر بطلبها عليها السلام لثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحجة أن الإنسان مرهون بعمله، فإذا كان من أهل التقوى

ص:104

والعمل الصالح لم يحتج مع هذا إلى ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى غيره، وإذا كان عمله من أهل النفاق والفساد فماذا ينفعه ثوب الأنبياء عليهم السلام ؟!

ونقول:

أولاً: إن المشكلة في أولئك المعترضين على التمسك بالأولياء الصالحين أو الالتجاء إليهم هو عدم فهم أولئك المعترضين لكتاب الله تعالى، وعدم فهمهم عائدٌ إلى أمرين، أحدهما، لأنهم قد طبع على قلوبهم لابتعادهم عن العترة والآخر، لابتعادهم عن القرآن وعدم الأخذ بحججه مكابرة وعناداً.

فهاهو يوسف عليه السلام يبعث بقميصه إلى أبيه الذي أُصيب بالعمى على الرغم من كونه نبياً فيشفيه الله تعالى على الرغم من دعاء الأنبياء لا يرد وعلى الرغم من أن يوسف هو ابن يعقوب وعليه: كيف يكون قميص سيد الأنبياء والمرسلين ؟

ثانياً: إن حقيقة تكفين المؤمن مطلقاً بكفن من الجنة تهبط به الملائكة هو ليس ضرباً من الخيال وإنما من الأحاديث النبوية الشريفة والصحيحة لاسيما أنّ عدداً ليس بالقليل من حفاظ المسلمين قد أخرجوا هذه الحقيقة في مصنفاتهم ورووا هذه الأحاديث في كتبهم.

فقد روى أبو داود الطيالسي، وأحمد بن حنبل في مسنديهما، وابن أبي شيبة الكوفي في مصنفه والحاكم النيسابوري في مستدركه، وغيرهم، جميعاً عن أبي عوانة عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب

ص:105

قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد.

فجلس رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال:

«استعيذوا من عذاب القبر»؛ ثلاث مرات أو مرتين.

ثم قال:

«إنّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس حتى يجلسون منه مدّ البصر، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة ثم يجيء ملك الموت فيقعد عند رأسه فيقول: أيتها النفس المؤمنة الطيبة (المؤمنة) أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان.

فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء فإذا أخذوها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملك من الملائكة الا قالوا: ما هذا الروح الطيب ؟ فيقولون هذا فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا...»(1).

ص:106


1- مسند أبي داود الطيالسي: ص 102؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 287؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 3، ص 256؛ مستدرك الحاكم: ج 1، ص 37؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 3، ص 49؛ الأحاديث الطوال للطبراني: ص 66؛ اثبات عذاب القبر للبيهقي: ص 37؛ كنز

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة التي تدل على حقيقة نزول الملائكة بكفن وحنوط من الجنة لتكفن به روح المؤمن وتطيب بحنوطها.

إلا أن الخصوصية التي نالتها أم المؤمنين خديجة عليها السلام في تكفينها هو اختصاصها بكفن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو رداؤه الذي طلبته.

وثانياً: بكفن من الجنة نزل به جبرائيل عليه السلام وهو يختلف عما ذكرته الرواية السابقة التي تنص على نزول الملائكة بكفن من الجنة يكفن به روح المؤمن.

فهذا الكفن هدية سيكون لبدن خديجة وروحها، وقطعاً له من الصفات التي تكشف عن عظيم رحمة الله تعالى بخديجة، وما لديها من منزلة عنده، فضلاً عن آثاره الغيبية التي يحتاجها الانسان في القبر ويوم النشور والوقوف بين يدي الله تعالى.

ثالثاً: إنّ هذا الحديث ليدل على حقيقة افتقار الإنسان لربه أشد الافتقار وأن الدنيا محطة للتزود، يتزود الإنسان منها للحياة الآخرة، وإن أول عقباتها الكاشفة عن أهوالها وشدتها هو الاحتضار ونزع الروح وما بعدها.

ص:107

المسألة الرابعة: تشييعها ودفنها عليها السلام

بعد قيام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بتكفينها بالصورة التي مرّ بيانها آنفاً قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتشييعها إلى قبرها مع بعض أرحامها وخواصه صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد أشار حزام بن حكيم بن خويلد وهو أحد أبناء إخوان أم المؤمنين خديجة عليها السلام - والذي مرت ترجمته في الفصل السابق - إلى تشييعها ودفنها. فقد روى ابن سعد والطبري وابن عساكر وغيرهم عن أبي حبيبة مولى الزبير قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: توفيت خديجة وهي يومئذ ابنة خمس وستين سنة، فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حفرتها ولم تكن يومئذ سنة الجنائز الصلاة عليها(1).

ويدل الحديث على أمور عدة، منها:

1. لم يصح ما ذكره مولى الزبير وادعاؤه بأنه سمع حكيم بن حزام يقول إن عمر خديجة - عليها السلام - حين الوفاة كان (خمساً وستين) وقد اثبتنا بالأدلة في الجزء الأول من الكتاب أن حقيقة عمرها كان يوم توفيت تسعاً وأربعين سنة أو هي في الخمسين - فليراجع -.

2. من السمات التي اختص بها تشييع خديجة عليها السلام هو وجود

ص:108


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 18؛ المنتخب من ذيل المذيل للطبري: ص 86؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 194؛ تفسير القرطبي: ج 14، ص 164.

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا التشييع واتباعه جنازة أم المؤمنين خديجة عليها السلام وهي سمة لم يشهدها غيرها من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك؛ لوفاته صلى الله عليه وآله وسلم قبلهنّ .

3. كما امتاز دفنها عليها السلام بنزول سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم بقبرها، ولا يخفى على أهل المعرفة ما يترتب على هذا الفعل النبوي من آثار غيبية تتناسب مع منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله تعالى وآثار ذلك على التوسعة في القبر وحضور جموع الملائكة كما يكشف أيضاً عن منزلتها لديه صلى الله عليه وآله وسلم.

4. لم يصلِّ عليها النبي صلاة الجنائز؛ لأن ذلك لم يسن بعد على الأمّة الا أنّ ترحم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عليها واستغفاره لها ودعاءه إليها لم يكن بأقل مما للصلاة من آثار غيبية على الميت.

المسألة الخامسة: حزنُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فقد خديجة حتى خشي عليه من الهلاك

ليس من الغريب أن يكون لفقد خديجة عليها السلام أثر كبير في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلقد دخل عليه من الحزن الشديد والأسى البالغ، والوحشة الكبيرة ما لا نظير له (حتى خشي عليه)(1) من الحزن.

ص:109


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 60؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 116؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 102.

ولقد دخلت عليه خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية امرأة عثمان بن مظعون فقالت له: كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة قال:

«أجل كانت أم العيال وربة البيت»(1).

ويدل دخول خولة بنت حكيم عليه إلى اشتهار حاله صلى الله عليه وآله وسلم في أوساط مكة حتى تحدثوا بذلك في محافلهم وأنديتهم ومجالسهم ودورهم فقالوا: (ما رأينا رجلاً حزن على امرأة مثل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -)(2).

وقال بعضهم: (يحق له أن يحزن عليها للخصال التي ركّبت فيها من عقلها، وعفتها، وطهارتها، وأدبها، وحسن ودادها، فقال رجل منهم يقال له (ابو عزيزة) يرثي خديجة - عليها السلام - وينشده شعراً، فيقول:

ذُرِفَتْ دموعك يابن عبد مناف زين الرجال وسيد الأشراف

يا ابن الأكابر من ذؤابة هاشم وابن المعد لرحلة الإيلاف

المطعمون الطير في أوكارها والقائلون هلم للأضياف

رزي النبي بفقده لخديجة حتى تتابع دمعه بوكاف

ما في الأنام محافظ لقرينه إلا الأمين وصاحب الإنصاف

يبكي خديجة دهره زين النسا الطاهرات جميلة الأوصاف

ص:110


1- الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 58؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 172؛ الإصابة لابن شهر: ج 8، ص 102؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 33.
2- «مخطوط » الجزء الثاني من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي الحسن البكري، يرقد هذا المخطوط في مكتبة الأسد بدمشق الشام، ويحمل الرقم (12442).

قال: فبلغت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعجبه ذلك وبعث إليه ببردة ودراهم كرامة له على أبياته، وتحدثوا أهل مكة بحديثه)(1).

وذكر أصحاب السير: أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد سمى هذا العام الذي توفيت فيه خديجة وعمه أبو طالب (بعام الحزن)(2).

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ لنفسه أسلوباً خاصاً في التعامل مع هذه الأحزان «فقد لزم بيته وأقل الخروج»(3) ؛ فقد توالت عليه في هذا العام مصيبتان(4).

فهكذا كان حزنه على رحيل خديجة عليها السلام بعد أن عاشت معه ما يقارب الخمس والعشرين سنة، وقفت معه فيها على تبليغ رسالة ربه، وناصرته، وآزرته في دعوته، وبذلت في ذلك الغالي والنفيس، فضلاً عن مواساتها له صلى الله عليه وآله وسلم في تحمل أعباء الرسالة ومواجهة أعداء

ص:111


1- المصدر السابق.
2- السيرة الحلبية: ج 2، ص 42؛ المناقب لابن شهر: ج 1، ص 151؛ البحار للمجلسي: ج 19، ص 15؛ الرسالة المحمدية للثعالبي: ص 76؛ عمدة القاريء في شرح صحيح البخاري للعيني: ج 8، ص 180؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ص 45؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 16.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 211؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 165؛ سبل الهدى للشامي: ج 2، ص 435.
4- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 63؛ المنتخب من كتاب أزواج النبي للزبير بن بكار: ص 33؛ سمط النجوم العوالي للصنعاني: ج 7، ص 492، ح 14003؛ القوانين الفقهية لابن الكلبي: ص 408، ط دار الكتاب العربي؛ وسيلة الإسلام لابن قنفذ: ص 54.

الله حتى كانت تقف أمام الحجارة التي يرمونه بها فتحميه بجسدها، بل وأكلت معه ورق الأشجار، وصبرت على ظلم قريش لهما حتى وافتها المنية صابرة محتسبة على ما نزل بها في سبيل الله ونصرة دينه، وايماناً وتصديقاً برسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك:

كان لها من القدر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما جعله ينظر إليها كنفسه المقدسة لاسيما وقد نص على ذلك بقوله حينما دخل عليه الصحابي الجليل سلمان المحمدي (الفارسي) وعنده جماعة من أصحابه وأهل بيته فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«من عرف قدر خديجة فقد عرف قدري، ومن أهان قدرها، أهان قدري»(1).

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«من أراد هوان خديجة فقد أهان الله تعالى»(2).

ولعل في بطون المخطوطات ما هو أكثر مما عثرت عليه في هذه العجالة مع ما تفرضه قوانين حصائن المخطوطات التي فيها ما هو أبين في الدلالة وألزم في الحجة على الذين نافقوا لأهل السلطة والتمسوا منهم الفتات من موائدهم المنصوبة على ضلوع الأيامى والأيتام والجياع.

ص:112


1- «مخطوط »، كتاب فضائل العشرة لابن العباس الكنكشي، يرقد هذا المخطوط في مكتبة الأسد بدمشق ويحمل الرقم (12990).
2- نفس المصدر السابق.

ولولا ارتكاس البعض في وحل التعصب لكان ما في بطون المخزون من المخطوطات خير معلم للخلف بسيرة نبيهم وأوضح دليل على شرفهم الذي غيبته دراهم بيت المال.

المسألة السادسة: حُزن فاطمة على أمها عليهما السلام

لم يغب عن ناظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلك العيون التي ينهمل منها الدمع وقد غمرها الحزن فما زال العمر مبكراً لكي يتحمل مصاب رحيل الأم، بل مازال العمر في أول مراحله ونموه، وهو أحوج ما يكون إلى وجود الأم لتغدقه بنبع حنانها وترويه من معين رأفتها ولطفها، ففاطمة عليها السلام هي الآن في الخامسة من عمرها وقد رحلت عنها أمها وبقيت في الدار لا ترى سوى أبيها الذي لم يكن دمعه بأقل من دمعها، فقد ذهب المؤنس والسكن والمعين على محن الدنيا.

غير أنّ فاطمة عليها السلام بعد أنْ وجدت الدار خالية (جعلت تلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدور حوله، وتقول:

يا أبه، أين أمي ؟)(1).

سؤال يملأ المكان ويتردد صداه بين جدران بيت خديجة، هذا البيت الذي عطّره زغب أجنحة الوحي، فكانت خير معزٍ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنته، وخير مسعف لأب مفجوع، وزوج أخذ الوجد منه كل مأخذ فلا يرى لسؤال فاطمة من مجيب غير حبيبه جبرائيل عليه السلام.

ص:113


1- الأمالي للطوسي: 175.

فسرعان ما حضر عنده قائلاً:

«ربك يأمرك أن تقرئ فاطمة السلام، وتقول لها: إن أمك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران»(1).

فردت على ما سمعت من أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن أخبرها صلى الله عليه وآله وسلم بقول جبرائيل عليه السلام قائلة:

«إنّ الله هو السلام، ومنه السلام؛ وإليه السلام»(2).

واطمأن قلبها الحزين لرحيل أمها خديجة وعلمت أنها في:

(مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)3.

وفي الحديث بيان يغني اللبيب عن العبارة في معرفة ما لهذا المصاب وأهله عند الله من المنزلة.

المسألة السابعة: تاريخ وفاتها

اتفق المؤرخون على أن وفاة خديجة وأبي طالب عليهما السلام كانت في عام واحد(3).

ص:114


1- الرواية للامام أبي عبد الله الصادق عليه السلام نقلت بتصرف، وتوجد في: الأمالي للشيخ الطوسي: ص 175؛ الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي: ج 2، ص 530؛ الجواهر السنية للحر العاملي: ص 264؛ البحار للمجلسي: ج 16، ص 1.
2- المصدر السابق.
3- البحار للمجلسي: ج 19، ص 5؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، ص 171؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 65؛ تاريخ دمشق: ج 21، ص 143.

وأنّهما توفيا في شهر رمضان، في السنة العاشرة من البعثة(1) ، أو لثلاث سنوات قبل الهجرة(2).

واختلفوا في الفارق الزمني بينهما إلى عدة أقوال:

1. أنها توفيت بعد أبي طالب عليهما السلام بثلاثة أيام(3).

2. أنها توفيت بعده بشهر واحد(4).

3. وقيل: بشهر وخمسة أيام(5).

4. وقيل: بشهرين(6).

5. وقيل: بستة أشهر(7).

6. وقيل: إنها توفيت بعد الإسراء(8) ، وهو مخالف لمذهب أهل البيت عليهم السلام وذلك أن الإسراء عندهم وقع في السنة الثالثة من البعثة النبوية.

ص:115


1- الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 18؛ فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 176.
2- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 64، ح 31؛ المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 7، ص 492؛ القوانين الفقهية: ص 408.
3- المعارف لابن قتيبة: ص 134؛ عمدة القاري للعيني: ج 1، ص 63؛ بحار الأنوار: ج 19، ص 6.
4- الأمالي للطوسي: ص 463؛ كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 30.
5- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 125؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 66، ص 345؛ سير أعلام النبلاء: ج 2، ص 112.
6- البحار للمجلسي: ج 19، ص 5.
7- البحار للمجلسي: ج 19، ص 14.
8- أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، ص 19؛ السيرة الحلبية: ج 2، ص 40.

وعليه: يبقى اليوم العاشر من شهر رمضان(1) ، يوم تتجدّد فيه الأحزان على آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى شيعتهم ومحبيهم، وفيه تقام مجالس المواساة والعزاء وإحياء هذه الذكرى الأليمة كما هو معروف لدى أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام.

ف -:(إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ).

المبحث الثالث: موضع قبر خديجة عليها السلام وخصائصه

اشارة

تشير الروايات إلى أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حينما توفيت أم المؤمنين عليها السلام حملها إلى موضع من مواضع مكة ودفنها فيه بل الظاهر أن خديجة هي أول من دفن في هذا المكان.

المسألة الأولى: شرافة موضع قبرها

ذكر ابن حجر، وابن عبد البر، والذهبي، وغيرهم: أنها دفنت بالحَجُون(2) ، بفتح الحاء وضم الجيم وهو الجبل المطل على المسجد بأعلى مكة على يمين المصعد، وهناك مقبرة أهل مكة(3).

ص:116


1- الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 103؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 29؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي: ج 2، ص 434؛ سيرة ابن إسحاق: ج 5، ص 228..
2- تحفة الأحوذي: ج 10، ص 264؛ أسد الغابة: ج 5، ص 439؛ سير أعلام النبلاء: ج 1، ص 112؛ الاصابة: ج 8، ص 103؛ المنتخب من ذيل المذيل للطبري: ص 2؛ تاريخ الإسلام: ج 1، ص 237؛ الاستيعاب: ج 4، ص 1825.
3- فتح الباري لابن حجر: ج 3، ص 323.

وقال الأصمعي: هو الجبل المشرف الذي بحذاء مسجد البيعة على شعب الجزارين(1).

وتدل أبيات مضاض بن عمرو الجرهمي وهو يتشوق إلى مكة لما أجلتهم عنها خزاعة إلى اشتهار هذا الموضع عند المكيين وتفضيله على غيره من الأماكن وانهم لم يتخذوه مقبرة حتى دفنت خديجة كما سيمر في الأحاديث.

قال عمرو الجرهمي:

كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر

فأخرجنا منها المليك بقدرة كذلك يا للناس تجري المقادر

فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة كذلك عضتنا السنون الغوابر

وبدَّلَنا كعب بها دار غربة بها الذئب يعوي والعدو المكاشر

فسحت دموع العين تجري لبلدة بها حرم أمن وفيها المشاعر(2)

وقد ورد في السنة المطهرة على صاحبها وآله صلاة الرحمن وسلامه ما يدل على منزلة هذا المكان وتفضيله على كثير من بقاع مكة وغيرها من الأراضي، فمنها:

1. قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينشران في الجنة وهما

ص:117


1- معجم البلدان للحموي: ج 2، ص 225.
2- معجم البلدان للحموي: ج 2، ص 225.

مقبرتا مكة والمدينة»(1).

2. وقريب من هذا اللفظ ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال:

«إن الله تعالى يأمر يوم القيامة أن يأخذوا بأطراف الحجون والبقيع، وهما مقبرتان بمكة والمدينة فيطرحان في الجنة»(2).

والظاهر هنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أرشد المسلمين إلى اتخاذ الحجون والبقيع محلاً لدفن موتاهم لما لهما من خصوصية في الآخرة(3) ، وإلا فهما لم يكونا قبل ذلك محلاً لدفن المؤمنين.

ومما يدل عليه الحديث الآتي:

3. وعن عبد الله بن مسعود، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال:

يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر»(4).

ص:118


1- تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي: ج 1، ص 199؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، ص 448؛ تفسير الثعلبي: ج 3، ص 151؛ تفسير النسفي: ج 1، ص 168؛ تفسير أبي السعود: ج 2، ص 61.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري: ج 2، ص 309.
3- تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي: ج 1، ص 199؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، ص 448؛ تفسير الثعلبي: ج 3، ص 151؛ مستدرك الوسائل للمحدث النوري: ج 2، ص 309؛ جامع أحاديث الشيعة للبروجردي: ج 10، ص 89؛ تفسير الثعلبي: ج 3، ص 151.
4- الكشاف للزمخشري: ج 1، ص 448. تفسير أبي السعود: ج 2، ص 61.

4. روى أبان بن عياش عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

من مات في أحد الحرمين بعثه الله عز وجل مع الآمنين»(1).

5. وقال وهب بن منبه: مكتوب في التوراة أن الله يبعث يوم القيامة سبعمائة ألف ملك من الملائكة المقربين بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام فيقول لهم:

إذهبوا إلى البيت الحرام فزمّوه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر فيأتونه فيزمونه بسبعمائة ألف سلسلة من ذهب ثم يمدونه وملك ينادي: يا كعبة الله سيري. فتقول: لست بسائرة حتى أعطى سؤلي.

فينادي ملك من جو السماء: سلي تعطي.

فتقول الكعبة: يا رب شفعني في جيرتي الذين دفنوا حولي من المؤمنين.

فيقول الله: قد أعطيتك سؤلك. قال: فيحشر موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمين، فيجتمعون حول الكعبة يلبون ثم يقول الملائكة: سيري يا كعبة الله، فتقول: لست بسائرة حتى أعطى سؤلي، فينادي ملك من جو السماء: سلي تعطي، فتقول الكعبة: يا رب عبادك المؤمنين الذين وفدوا إلي من كل فج عميق شعثا غبرا، تركوا الأهلين والأولاد والأحباب، وخرجوا شوقا إلي زائرين مسلمين طائعين، حتى قضوا مناسكهم كما أمرتهم، فأسألك أن تؤمنهم من الفزع الأكبر وتشفعني فيهم وتجمعهم حولي،

ص:119


1- تفسير الثعلبي: ج 3، ص 151. تفسير النسفي: ج 1، ص 168.

فينادي الملك: إن منهم من ارتكب الذنوب بعدك وأصر على الذنوب الكبائر حتى وجبت له النار، فتقول الكعبة: إنما أسألك الشفاعة لأهل الذنوب العظام. فيقول الله: قد شفعتك فيهم وأعطيتك سؤلك. فينادي منادٍ من جو السماء: ألا من زار الكعبة فليعتزل من بين الناس. فيعتزلون، فيجمعهم الله حول البيت الحرام بيض الوجوه آمنين من النار يطوفون ويلبون، ثم ينادى ملك من جو السماء: ألا يا كعبة الله سيري. فتقول الكعبة: لبيك لبيك والخير بيديك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ثم (يمدونها) إلى المحشر(1).

وهذه الأحاديث تدل على خصوصية الموضع الذي دفنت فيه خديجة عليها السلام؛ وأن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إنما دفن أم المؤمنين خديجة عليها السلام في هذا الموضع لمعرفته بفضيلته عند الله تعالى، مما جعل المكيين يدفنون موتاهم فيه؛ فضلاً عن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد حفظ قبر خديجة عليها السلام من أيدي الأعراب حينما يتخذه أهل مكة، أي الحجون محلاً لدفن موتاهم.

كما تكشف هذه الأحاديث أهمية أن يحمل الميت إلى الأماكن التي فضلها الله على غيرها من الأرض لاسيما أرض الحرمين، وأرض كربلاء، والنجف الأشرف، كما دلت عليه أحاديث أهل البيت عليهم السلام الكاشفة عن اختصاص هذه الأماكن باللطف الإلهي والكرامة الخاصة.

ص:120


1- المصدر السابق: ج 3، ص 151-152.
المسألة الثانية: برزخ خديجة عليها السلام
اشارة

ومن الأحاديث الشريفة الواردة عن العترة النبوية صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ما يكشف عن حال أم المؤمنين خديجة عليها السلام في البرزخ، وهو القبر بصورة خاصة، وما يتعلق بحال الإنسان مؤمنا كان أم كافراً بشكل عام، وخير ماتم جمعه في هذا الصدد هو ما قام به الشهيد الأول(1) رضوان الله

ص:121


1- هو الشيخ أبو عبد الله شمس الدين محمد ابن الشيخ جمال الدين مكي ابن الشيخ شمس الدين محمد بن حامد بن أحمد المطلبي العاملي النباطي الجزيني المعروف بالشهيد الأول وبالشهيد على الإطلاق. والمطلبي نسبة إلى المطلب أخي هاشم لانه من ذريته، والى المطلب ينسب عبد المطلب بن هاشم واسمه شيبة الحمد. ولد الشهيد الأول سنة 734 واستشهد بدمشق ضحى يوم الخميس التاسع من جمادى الأولى سنة 786 قتلا بالسيف على التشيع وعمره اثنان وخمسون سنة؛ (أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 10، ص 59). من أقوال العلماء فيه: قال الشيخ المحدث صاحب الوسائل الحر العاملي (قدس سره) في أمل الآمل: كان عالماً ماهرا فقيها محدثا مدققا ثقة متبحرا كاملاً جامعاً لفنون العقليات والنقليات، زاهدا، عباداً، شاعراً، أديباً، منشئاً، فريد دهره، عديم النظير في زمانه، روى الشيخ فخر الدين محمد بن العلامة (الحلي)، وعن جماعة كثيرين من علماء الخاصة والعامة. له كتب منها: 1. كتاب ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة في فقه الإمامية مخرج منه أكثر الفقه، لم يتم. 2. كتاب غاية المراد في نكت الإرشاد. 3. اللمعة الدمشقية في الفقه كتبه في سبعة أيام.

تعالى عليه في كتابه ذكرى الشيعة الا أنني أحببت أن أتعرض أولاً لحال الإنسان مطلقاً في البرزخ كي يكون محطة للتزود والمعرفة بحال أم المؤمنين خديجة عليها السلام في البرزخ.

أولاً: ما هو حال الإنسان في البرزخ، وهل يتفاوت حال الناس في القبر؟

قال الشهيد الأول رضوان الله تعالى عليه في الذكرى:

«البرزخ، وهو لغة: الحاجز، والمراد هنا ما بين الموت والبعث، قال الله تعالى:

(وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 1.

روى ابن بابويه عن الصادق عليه السلام:

«ان بين الدنيا والآخرة ألف عقبة، أهونها وأيسرها الموت».

وهنا مسائل:

ألف: سؤال القبر.

عليه الاجماع، إلا لمن لقن على ما روي من الأخبار، وروى الكليني

ص:122

بعدة أسانيد عن الصادق عليه السلام:

«إنما يسأل في قبره من محض الإيمان والكفر محضاً، وأما ما سوى ذلك فيلهى عنه»(1).

وعن الباقر عليه السلام، مثله، ويجوز أن يؤوّل بسؤال خاص لا مطلق السؤال.

وعن بشير الدهان عن الصادق عليه السلام:

يجيء الملكان: منكر ونكير، فيسألان الميت: من ربك ؟ فإذا كان مؤمنا، قال: الله ربي، وديني الإسلام.

فيقولان له: ما تقول في هذا الرجل الذي خرج بين ظهرانيكم ؟

فيقول: أشهد أنه رسول الله.

فيقولان له: نم نومة لا حلم فيها، ويفسح له في قبره تسع أذرع، ويفتح له باب إلى الجنة فيرى مقعده فيها. وإذا كان كافرا دخلا عليه، وأقيم الشيطان بين يديه، عيناه من نحاس.

فيقولان من ربك ؟ وما دينك ؟ وما تقول في هذا الرجل الذي خرج بين ظهرانيكم ؟ فيقول: لا أدري.

فيخليان بينه وبين الشيطان، ويفتح له باب إلى النار، ويرى مقعده فيها).

وعن أبي بكر الحضرمي:

(يسألون عن الحجة القائم بين أظهرهم، فيقول: ما تقول في

ص:123


1- الكافي للكليني: ج 3، ص 235.

فلان بن فلان ؟

فيقول: ذاك إمامي.

فيقال له: نم أنام الله عينك، ويفتح له باب إلى الجنة.

فما يزال ينفحه من روحها إلى يوم القيامة.

ويقال للكافر: ما تقول في فلان ؟ فيقول: قد سمعت به، وما أدري ما هو!

فيقال له: لا دريت، ويفتح له باب من النار، فلا يزال ينفحه من حرها إلى يوم القيامة).

ورووا في الصحاح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله:

(إن هذه الأمّة تمتلي في قبورها، فإن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فيقول: ما كنت تعبد؟ فان الله هداه يقول: كنت أعبد الله، فيقول: ما كنت تقول في هذا؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله. قال: فما يسأل عن شيء غيرها، فينطلق به إلى بيته الذي كان في النار، فيقال: هذا بيتك في النار، ولكن الله عصمك ورحمك وأبدلك به بيتا في الجنة فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: أسكن. وإن الكافر إذ وضع في قبره أتاه ملك فينتهزه، فيقول: ما كنت تعبد؟ فيقول لا أدري! فيقال له: لا دريت ولا تليت. فيقول: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول: كنت أقول مثل ما يقول الناس! قال: فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلائق غير الثقلين).

ومعنى تليت: قرأت، أتي بالياء لمجانسة دريت. ويروى: أتليت، من

ص:124

أتلت الإبل إذا ولدت وتلاها أولادها.

وفي رواية أخرى:

(والكافر يرى مقعده من الجنة، فيقال هذا مقعدك من الجنة، ولكنك عصيت الله وأطعت عدوه).

وعن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله في قوله تعالى:

(يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ )1.

قال:

هذا في القبر إذا سئل عن ذلك.

وروى عن الكليني عن أبي بصير، عن الصادق عليه السلام في المؤمن إذا أجاب:

(يقولان له: نم نومة لا حلم فيها. ويفسح له في قبره تسع أذرع، ويرى مقعده من الجنة، وهو قول الله تعالى:

(يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ ) الآية.

باء: تضافرت الأخبار بعذاب القبر - نعوذ بالله منه - وقد مر طرف منها.

وقوله تعالى:(النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ 2 يدل عليه.

ص:125

وقد روى ابن مسعود: أن أرواحهم في أجواف طير سود، يعرضون على النار بكرة وعشيا إلى يوم القيامة.

وروى الكليني عن جابر، (عن الباقر عليه السلام:

«قال النبي صلى الله عليه وآله: ليس من نبي إلا وقد رعى الغنم. كنت أنظر إلى الغنم والإبل وأنا أرعاها قبل النبوة، وهي متمكنة ما حولها شيء يهيجها حتى تذعر فتطير، فأقول: ما هذا؟ فأعجب، حتى حدثني جبرئيل عليه السلام أن الكافر يضرب ضربة ما خلق الله جل وعز شيئا إلا يسمعها ويذعر لها إلا الثقلين، فنعوذ بالله من عذاب القبر»).

وعن أبي بصير (عن الصادق عليه السلام:

«إن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج في جنازة سعد وقد شيعه سبعون ألف ملك، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله رأسه إلى السماء ثم قال: أو مثل سعد يضم ؟ فقالت أم سعد: هنيئا لك يا سعد. فقال لها النبي صلى الله عليه وآله: يا أم سعد لا تحتّمي على الله عز وجل»).

وعن بشير الدهان عن الصادق عليه السلام، أنه قال:

«إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار».

وعن أبي بصير عنه عليه السلام في الكافر:

«ينادي مناد من السماء: افرشوا له في قبره من النار، وألبسوه ثياب النار، وافتحوا له بابا إلى النار حتى يأتينا وما عندنا شيء له، فيضربانِهِ بمرزبة ثلاث ضربات ليس فيها ضربة إلا يتطاير

ص:126

قبره، لو ضرب بتلك المرزبة جبال تهامة لكانت رميما».

وعن الصادق عليه السلام في المصلوب يصيبه عذاب القبر:

«يوحي الله عز وجل إلى الهواء فيضغطه ضغطة أشد من ضغطة القبر».

وعن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله لما ماتت رقية ابنته -: إني لأعرف ضعفها، وسألت الله عز وجل أن يجيرها من عذاب القبر».

وعن أبي بصير عن الصادق عليه السلام:

«ما أقل من يفلت من ضغطة القبر!».

وفي البخاري ومسلم عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله دخل نخلا لبني النجار، فسمع صوتا ففزع، فقال:

«من أصحاب هذه القبور؟».

فقالوا: يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية. فقال:

«نعوذ بالله من عذاب القبر».

وفي رواية أخرى في المنافق والكافر:

«ليضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، فتعوذوا بالله من عذابه ونقمته».

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:

«إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، وإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل

ص:127

النار. فيقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة».

جيم: دل القرآن العزيز بقوله تعالى:

(وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ).

وقوله تعالى:

(وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ).

وغير ذلك على بقاء النفس بعد الموت بناء على تجردها وعليه كثير من الأصحاب ومن المسلمين أو على تعلّقها بالأبدان، وهو مروي بأسانيد كثيرة من الجانبين، فمنها ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال:

«أرواح الشهداء في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل في ظل العرش».

ومنها ما روي من الطريقين عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:

«حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم»،

قالوا: يا رسول الله وكيف ذلك ؟ قال:

أما حياتي فإن الله تعالى يقول:

(وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ ).

وأما مفارقتي إياكم، فإن أعمالكم تعرض علي كل يوم، فما كان من حسن استزدت الله لكم، وما كان من قبيح، استغفرت الله لكم».

ص:128

قالوا: وقد رممت ؟ فقال:

«كلا، إن الله عز وجل حرم لحومنا على الأرض أن تطعم منها شيئا».

وروى الأصحاب في تفسير قوله تعالى:

(وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ ).

إنّ أعمال العباد تعرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى الأئمة عليهم السلام كل يوم، أبرارها وفجارها.

وفي التهذيب: عن مروان بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قلت له: إن أخي ببغداد، وأخاف أن يموت بها. قال:

«ما تبالي حيثما مات، أنه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض وغربها إلا حشر الله روحه إلى وادي السلام».

قال:

«وهو ظهر الكوفة، كأني بهم حلق حلق قعودا يتحدثون».

ورواه في الكافي أيضا. وفي التهذيب: عن يونس بن ظبيان، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:

«ما يقول الناس في أرواح المؤمنين»؟

قلت: يقولون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش. فقال أبو عبد الله:

«سبحان الله المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في

ص:129

حوصلة طائر أخضر. يا يونس: المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكلون ويشربون، وإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي في الدنيا».

وروى في التهذيب أيضا عن علي، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أرواح المؤمنين ؟ فقال:

«في الجنة على صور أبدانهم، لو رأيته لقلت فلان».

ومثله رواه في الكافي بسنده إلى أبي ولاد الحناط ، عن أبي عبد الله عليه السلام. وعن أبي بصير عنه عليه السلام:

«أن أرواح المؤمنين لفي شجرة في الجنة، يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون ربنا أقم لنا الساعة، وأنجز لنا ما وعدتنا، وألحق آخرنا بأولنا».

وعن أبي بصير عنه عليه السلام:

«ان الأرواح في صفة الأجساد في شجر في الجنة تتعارف وتتساءل، فإذا قدمت الروح عليهم يقولون: دعوها فإنها قد أفلتت من هول عظيم. ثم يسألونها: ما فعل فلان ؟ وما فعل فلان ؟ فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى».

ويقرب منه رواية يونس بن يعقوب عنه عليه السلام.

وفي الكافي بإسناده إلى حبة العرني، قال: خرجت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الظهر، فوقف بوادي السلام كأنه مخاطب لأقوام، فقمت لقيامه

ص:130

حتى أعييت، ثم جلست حتى مللت فعل ذلك غير مرة ثم عرض علي أمير المؤمنين الجلوس، فقال:

«يا حبة إن هو إلا محادثة مؤمن أو مؤانسته، ولو كشفت لك لرأيتهم حلقا حلقا يتحادثون».

فقلت: أجسام أو أرواح ؟ فقال:

«أرواح، وما من مؤمن يموت في بقعة في بقاع الأرض إلا قيل لروحه الحقي بوادي السلام، وإنها لبقعة من جنة عدن».

وفي الكافي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، في أرواح المشركين:

«في النار يعذبون، يقولون: ربنا لا تقم لنا الساعة، ولا تنجز لنا ما وعدتنا، ولا تلحق آخرنا بأولنا «.

وعن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام:

«قال أمير المؤمنين (عليه السلام): شر ماء على وجه الأرض ماء برهوت، وهو بحضرموت، ترده هام الكفار».

وأكثر من الأخبار في ذلك. ومما يدل على بقاء النفس مدركة بعد الموت أحاديث الزيارة، وهي كثيرة منها: رواية حفص بن البختري، عن أبي عبد الله عليه السلام:

«إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب، ويستر عنه ما يكره. وإن الكافر يزور أهله فيرى ما يكره، ويستر عنه ما يحب».

قال:

ص:131

«ومنهم من يزور كل جمعة ومن يزور على قدر عمله».

وفي رواية إسحاق بن عمار، عن الكاظم عليه السلام:

«يزورون على قدر فضائلهم، منهم من يزور في كل يوم، ومنهم في كل يومين، ومنهم في كل ثلاثة، وإن زيارتهم عند الزوال».

وفي رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام:

«ما من مؤمن ولا كافر إلا وهو يأتي أهله كل يوم عند زوال الشمس، فإذا رأى أهله يعملون الصالحات حمد الله على ذلك، وإذا رأى الكافر أهله يعملون الصالحات كانت عليه حسرة».

وفي رواية إسحاق عن الكاظم عليه السلام:

«فيبعث الله ملكا فيريه ما يسره، ويستر عنه ما يكره، فيرى ما يسره ويرجع إلى قرة عين»(1).

ولقد أوردت هذه الأحاديث بتمام إيرادها في الذكرى كي يتسنى للقارئ معرفة ما ينتظره في عالم البرزخ من أمور لا يمكن له تجنبها الا من خلال التمسك بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتباع نهجه وهديه حينما أوصى الأمه بالتمسك بالثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته.

وعليه:

فلقد كانت هذه الحقائق تستدعي بالمسلم الوقوف عند حال أم المؤمنين خديجة عليها السلام في هذا العالم الغريب بعد نزولها القبر وهو البرزخ، وهو ما سنعرض له في المسألة القادمة.

ص:132


1- ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة للشهيد الأول: ج 2، ص 85-93.
ثانياً: حال أم المؤمنين خديجة عليها السلام في البرزخ
اشارة

تكشف الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في بيان مقام أم المؤمنين خديجة عليها السلام في البرزخ وتُظهر أيضاً علو منزلتها في هذا العالم الذي تحدثت عنه الروايات السابقة وبيَّنت أحواله العجيبة والمهولة الا لمن عصم الله واتقى في الحياة الدنيا.

ألف: ان خديجة عليها السلام في جنتها البرزخية على نهر من أنهارها

يروي الهيثمي في المجمع عن جابر أنه قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم عن عمرو بن نفيل، فقلنا: يا رسول الله إنه كان يستقبل القبلة ويقول: ديني دين إبراهيم وإلهي إله إبراهيم، وكان يصلي ويسجد قال:

ذاك أمة وحده يحشر بيني وبين يدي عيسى بن مريم.

وسئل عن ورقة بن نوفل، وقيل: يا رسول الله إنه كان يستقبل القبلة ويقول: إلهي إله زيد وديني دين زيد وكان يتوجه ويقول:

رشدت فأنعمت ابن عمرو فإنما عنيت بتنّور من النار حامياً

بدينك ديناً ليس دين كمثله وتركك حنان الجبال كما هي

قال صلى الله عليه - وآله - وسلم:

رأيته يمشي في بطنان الجنة عليه حلة من سندس.

وسئل عن خديجة - عليها السلام - فقال صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«رأيتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا تعب فيه

ص:133

ولا نصب»(1).

ويدل الحديث على بعض الحقائق، منها:

1. ان السؤال كان بعد وفاة خديجة عليها السلام بقرينة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«رأيتها على نهر من أنهار الجنة».

وقطعاً إن هذه الرؤية بعد غياب خديجة عليها السلام ورحيلها إلى عالم الآخرة، وبقرينة أخرى وهي تتابع الأسئلة عن أحوال اثنين من شخصيات مكة قد توفّاهما الله تعالى فأراد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلعوا على حالهم في البرزخ وهما (زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل) ثم اتبعوا ذلك بسؤالهم عن خديجة عليها السلام، فضلاً عن رواية أبي يعلى الموصلي التي يصرح بها الرواي عن حال خديجة بعد موتها لقوله: وسئل عن خديجة؛ لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن(2).

2. إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حينما وصف حال أم المؤمنين خديجة عليها السلام بأنها على نهر من الجنة في بيت من قصب إنما هو

ص:134


1- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 417؛ ورواه أبو يعلى الموصلي، والنووي في المجموع، والطبراني في الأوسط ، بلفظ : «أبصرتها في الجنة في بيت من القصب...» أنظر: مسند أبي يعلى: ج 4، ص 42؛ المجموع للنووي: ج 5، ص 258؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 8، ص 131؛ الكامل لابن عدي: ج 1، ص 319؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 63، ص 23؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 14.
2- مسند أبي يعلى: ج 4، ص 42.

جنة البرزخ، وذلك أن الجنة والنار يكون فيهما مقر ابن آدم بعد الحساب، والذي يتحدد فيه مصيره وينال جزاءه، أما أن يكون بعد موته مباشرة في الجنة فهذه جنة البرزخ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران»(1).

إذن:

فان أم المؤمنين خديجة عليها السلام في روضة من رياض الجنة على نهر من أنهارها في بيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

باء: تعدد منازلها عليها السلام في جنة البرزخ

ومما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وعترة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في بيان مقام أم المؤمنين خديجة عليها السلام في البرزخ هو ما أخرجه الصفار عن محمد بن عمار عن أبي بصير، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فركض الأرض برجله فإذا بحر فيه سفن من فضه فركب وركبت حتى انتهى إلى موضع فيه خيام من فضة فدخلها ثم خرج فقال:

«رأيت الخيمة التي دخلتها أولاً؟ فقلت نعم، قال: تلك خيمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأخرى خيمة أمير المؤمنين عليه السلام والثالثة خيمة فاطمة والرابعة خيمة خديجة والخامسة خيمة الحسن والسادسة خيمة الحسين والسابعة خيمة علي بن الحسين، والثامنة خيمة أبي والتاسعة

ص:135


1- مسند أبي يعلى: ج 4، ص 42، برقم (2047).

خيمتي وليس أحد منا يموت إلا وله خيمة يسكن فيها»(1).

والحديث يدل على جملة أمور:

1. أن هذا الفعل الذي قام به الإمام الصادق عليه السلام هو مِنَ الآيات التي أعطاها الله تعالى لأوليائه وأُمنائه على شريعته وحجته على خلقه، وهم مخيرون في إظهارها لمن يرون فيه الأهلية لتقبل هذه الكرامات وحملها، وحال أبي بصير في ذلك كحال من منَّ عليه نبي الله سليمان في زمانه فخصه ببعض الآيات؛ قال تعالى:

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ )2.

ولعل الظاهر في اختصاص أبي بصير بهذه الكرامة فمنّ الإمام الصادق عليه بها، هو لكونه أحد المستأمنين على حمل علوم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فكان ذاك مما يثبت به فؤاده، ويطمئن به قلبه، وهو مما جرى في كثير من حياة أصحاب الأنبياء والأئمة سلام الله عليهم أجمعين.

2. إنّ أم المؤمنين خديجة عليها السلام هي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام في البرزخ في محمل واحد وان اختلفت مواضع قبورهم عليهم السلام إلا أنهم جميعاً في تلك الجنة البرزخية التي أعدها الله تعالى لهم.

ص:136


1- بصائر الدرجات لمحمد بن حسن الصفار، باب: 13، ص 426؛ البحار للمجلسي: ج 6، ص 245.

3. إنها عليها السلام لها دار آخر غير الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكونه من قصب الجنة، وإنّ هذه الدار من الفضة وعلى هيأة الخيمة وهذا يكشف عن علو شأنها عند الله تعالى، وتعدد منازلها في البرزخ.

المسألة الثالثة: اتخاذ الإمام الحسين عليه السلام قبر جدته خديجة عليها السلام محلاً للدعاء والمناجاة

إنّ من الخصائص التي حظي بها قبر مولاتنا السيدة خديجة عليها السلام هو اتخاذ الإمام الحسين عليه السلام منه محلاً للمناجاة والتضرع إلى الله تعالى وهذا يدل على أمور:

1. مشروعية زيارة القبور - كما سيمر بيانه لاحقاً في زيارة قبرها عليها السلام - فضلاً عن اختصاص هذا الموضع - أي قبرها عليها السلام - بالحظوة والمنزلة عند الله تعالى، بل يكشف عن أهمية التوجه إلى هذه الأماكن التي ضمّت بين ترابها أرواح من صدقوا الله في إيمانهم وجاهدوا في سبيله ونالوا بذلك رضاه ورضا رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

فضلاً على ذلك ما لأم المؤمنين خديجة عليها السلام من زلفة عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

فكيف لا يكون الورود إلى محل دفنها وموضع قبرها، وهي التي نالت السلام من الله تعالى وجبرائيل في حياتها، فها هي الآن تحف بها الملائكة من كل جانب، وماذاك على الله بعزيز، بل هو ما أعده لعباده الصالحين.

ص:137

(وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ )1.

2. إنّ قصد قبرها عليها السلام وقبور أولادها الأئمة المعصومين عليهم السلام هو مما يدل على تعريف الأجيال بتلك الشموس الإيمانية والرموز الإسلامية التي تُستلهم منها الدروس والعبر في الثبات والجهاد والتضحية والتقوى وغيرها من الفضائل.

3. إن إتيان قبرها عليها السلام هو اداء لبعض حقوقها على المسلمين جميعاً رجالاً ونساء، فان لم تكن تستحق ذلك من كونها المرأة الصابرة والمثابرة والمناصرة لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهي أم المؤمنين أفلا يكون لها الحق على أبنائها بزيارة قبرها ومن ثمّ ، ألا يكون التارك لقبرها عاقاً في حق أمه ؟!.

إذن:

يعلمنا سيدنا ومولانا أبو عبد الله الإمام الحسين عليه السلام هذا المنهج التربوي في الإيفاء بحق أم المؤمنين عليها السلام والسعي في برها، فضلاً عن إرشادنا إلى أن هذا الموضع هو من الأماكن التي يرفع فيها الدعاء وتقضى عنده الحاجات وإلا لما كان يتضرع إلى ربه ويناجيه فيه والبيت الحرام بجواره، وحجر إسماعيل بقربه، ومقام إبراهيم أمام ناظريه.

ولذلك:

فقد توجه - بأبي وأمي - إلى قبرها حينما خرج من المدينة المنورة بأهل بيته

ص:138

وأخوته وأصحابه وقد عزم والي المدينة على الغدر به فكان من شأنه حينما عزم على الخروج من مكة متجها إلى العراق أن جاء زائراً لقبر جدته خديجة عليها السلام ومودعاً اياها وشاكياً إلى الله تعالى ما نزل به من الظلم.

قال أنس بن مالك - وكان قد ساير الإمام الحسين عليه السلام - فأتى قبر خديجة، فبكى عليه السلام ثم قال - لأنس -:

«اذهب عني».

قال أنس:

فاستخفيت عنه، فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته قائلاً:

يا رب يا رب أنت مولاه فارحم عبيدا إليك ملجاه

يا ذا المعالي عليك معتمدي طوبى لمن كنت أنت مولاه

طوبى لمن كان خادما أرقاً يشكو إلى ذي الجلال بلواه

وما به علة ولا سقم أكثر من حبّهِ لمولاه

إذا اشتكى بثه وغصته أجابه الله ثم لباه

فنودي:

لبيك عبدي وأنت في كنفي وكلما قلت قد علمناه

صوتك تشتاقه ملائكتي فحسبك الصوت قد سمعناه

لوهبت الريح من جوانبه خر صريعا لما تغشاه

سلني بلا رغبة ولا رهب ولا حساب إني أنا الله(1)

ص:139


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 3، ص 224؛ البحار: ج 44، ص 193؛ العوالم، الإمام الحسين عليه السلام للبحراني: ص 68.

قال العلامة المجلسي (طيب الله ثراه) في بيان بعض مضامين هذه الأبيات:

(الأرق، بكسر الراء، من سهر بالليل، قوله: قد سفرناه، أي حسبك إنا قد كشفنا الستر عنك. قوله: لو هبت الريح من جوانبه، الضمير إما راجع إلى الدعاء كناية عن أنه يجول في مقام لو كان في مكانه رجل لغشي عليه مما يغشاه من أنوار الجلالة، ويحتمل ارجاعه إليه عليه السلام على سبيل الالتفات لبيان غاية خضوعه وولهه في العبادة بحيث لو تحركت الريح لأسقطته)(1).

المسألة الرابعة: رؤيا بعض الصحابة لخديجة عليها السلام في منامهم وحثها لهم على نصرة الإمام الحسين عليه السلام

لم تزل رزية أهل البيت عليهم السلام ومصابهم بالإمام الحسين عليه السلام وأبنائه وأصحابه من أعظم الرزايا التي حلت على الإسلام والمسلمين، بل: لم يشهد بيت من بيوت الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ألماً وأذى مثلما شهده بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الفاجعة.

ولذلك:

لا يمكن تحديد حجم الأذى والألم الذي نزل بكل من له نسب أو سبب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن الأقربين لسيد الشهداء عليه السلام كأمه وأبيه وجده وأخيه لاسيما جدته خديجة الكبرى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ص:140


1- البحار للمجلسي: ج 44، ص 193.

وعليه:

فليس من الغريب أن يرى بعض الصحابة كسليمان بن صرد الخزاعي خديجة عليها السلام في منامه وهي تحثه على نصرة آل البيت عليهم السلام بعد وقوع مأساة الطفوف.

أما لماذا سليمان بن صرد دون غيره ؟

فذلك لنهوض سليمان وبعض أصحابه وخواصه من التابعيين كالمسيب ابن نجبة الفزاري وجمعٍ من أهل الكوفة لقتال بني أمية وأسقاط حكمهم بعد أن أقدموا على قتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته في كربلاء.

(فخرجوا من الكوفة وكانوا أربعة آلاف فأتوا عين الوردة وهي ناحية قرقيسياء فلقيهم جمع من أهل الشام وهم عشرون ألفاً عليهم الحصين بن نمير)(1) ، لتشهد هذه البقعة صوراً يندر وجودها في التضحية والثبات حتى الممات تحت مواسي السيوف وأسنة الرماح ونصال السهام.

وتكشف بعض الروايات عن شدة القتال واستماتة التوابين في هذه المعركة (إن سليمان وأصحابه بقوا يقاتلون فيها سبعة أيام حتى قتل أصحاب سليمان، عدا سبعة وعشرين رجلاً مثخنين بالجراح المفرط ، فالتمسوا منه الفرار فأبى إلا القتال حتى يقتل ويلقى الله ورسوله وهما راضيان عنه).

ص:141


1- الطبقات لابن سعد: ج 4، ص 292.

ولأنه كان صادقا مع الله ورسوله في نفسه فقد (رأى سليمان في الليلة الثامنة وهو نائم خديجة الكبرى وفاطمة الزهراء والحسن والحسين عليهم السلام، فقالت له خديجة:

«شكر الله سعيك ولأخوانك، فإنكم معنا يوم القيامة».

وقالوا: له:

«أبشر، فأنت عندنا غدا عند الزوال»)(1).

(فلما أصبح سليمان بن صرد ترجل عن جواده يقاتلهم فرماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقتله فسقط وقال: فزت ورب الكعبة - فقطع رأسه - وحمله أدهم بن محرز الباهلي إلى مروان بن الحكم)(2).

فصلب الرأس بدمشق، مع رأس المسيب بن نجبة الفزاري، وكان له رضي الله تعالى عنه يوم قتل ثلاث وتسعون سنة(3).

ولعل بعض القراء يجهل حال سليمان بن صرد ومقامه بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعتقد بما يطبل له متزلفو بني أمية في كيل التهم له ولأمثاله وأصحابه المجاهدين الذين حاربوا السلطان الجائر بالقول والفعل فنعتهم بنو أمية بالخارجين على الحاكم أو محاربة أولي الأمر ونسوا أن الباطل لا يدوم والكاذب مفضوح وإن طال به الأمر؛ وإلا كيف لم

ص:142


1- مستدركات علم الرجال للشيخ علي النمازي: ج 4، ص 137.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 4، ص 292.
3- نفس المصدر السابق.

يقنع أخلافهم بولاة الأمر في وقتنا المعاصر وهؤلاء الولاة لهم حق الطاعة كما كان أسلافهم يقولون ؟ وكيف يسمون أنفسهم بالمجاهدين وغيرهم بالخارجيين.

وأنى لاتباع السلف بنكران الطاعة والخروج على الولاة وهم اليوم يحيون تحت راية الدول الغربية أو الشرقية التي تعتقد بماركس وبوذا وغيرهما؟! إنه واقع لن يجد له الخلف من فهم بفعل ما حرفه السلف.

أما ما ورد في ترجمته عند أعلام المدارس الإسلامية فهي كالآتي:

1 - قال ابن سعد (المتوفى سنة 230 ه -)

- هو - (سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون وهو عبد العزى بن منقذ بن ربيعة بن ضبيس، ويكنى أبا مطرف، أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان اسمه يسار فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سليمان، وكانت له سن عالية وشرف في قومه، فلما قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحول فنزل الكوفة حين نزلها المسلمون وشهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام الجمل وصفين وكان فيمن كتب إلى الحسين بن علي أن يقدم الكوفة فلما قدم أمسك عنه ولم يقاتل معه)(1).

أقول:

لا يخفى على الباحث الدور الذي بذله بنو أمية في النيل من الرموز الإسلامية التي تصدت لظلمها وطغيانها كعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري

ص:143


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 4، ص 292.

وتهجيره إلى الربذة وقتل حجر بن عدي، ومحمد بن أبي بكر، وغيرهم كثير لا حصر لهم، ومنهم سليمان بن صرد فنعت بالتخاذل عن نصرة سيد الشهداء بعد البيعة له.

في حين يروي لنا التاريخ صورة أخرى عن عدم تمكن سليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة، وإبراهيم بن مالك الأشتر، وصعصعة بن صوحان، والمختار ابن عبيد الثقفي وغيرهم(1) ، عن نصرة سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليه السلام.

فهؤلاء كانوا جميعاً مع نفر كثير بلغوا أربعة آلاف وخمسمائة تمكن عبيد الله بن زياد من زجهم في سجن الكوفة(2) ، بعد وقوع قيس بن مسهر الصيداوي بيد جلاوزة عبيد الله بن زياد فتم قتله بعد عثورهم على رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى سليمان بن صرد وأصحابه فألقاهم عبيد الله في السجن فكان هذا هو السبب في عدم تمكن سليمان من القتال مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.

إلاّ أن ندم كثير من أهل الكوفة على عدم الخروج لنصرة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفعهم للنهوض في وجه طاغية بني أمية وواليه على العراق فكان تحركهم واجتماعهم سراً إلى تلك الرموز التي خرجت للطلب بدم ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:144


1- مستدركات علم الرجال للشاهرودي: ج 4، ص 137.
2- نفس المصدر السابق.

ولجلالة قدر سليمان بن صرد في الكوفة ونسكه وعبادته وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وملازمته لعلي بن أبي طالب وحثه شيعة أهل البيت لمحاربة الظالمين دفع هؤلاء إلى تأميره عليهم فعرف بأمير التوابين.

2 - ترجم له الحافظ شمس الدين الذهبي (المتوفى سنة 748 ه -) بقوله:

الأمير أبو مطرف الخزاعي الكوفي الصحابي له رواية يسيرة، وكان ديّناً عابداً(1).

3 - ترجم له الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852 ه -) بقوله:

سليمان بن صرد بن الجون... وكان خيّراً فاضلاً، شهد صفين مع علي ابن أبي طالب عليه السلام وقتل حوشباً مبارزة)(2).

4 - أخرج له البخاري(3) ، ومسلم(4) ، وأحمد(5) ، وابن ماجة(6) ، وأبو

ص:145


1- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 395.
2- الإصابة في تمييز الصحابة: ج 3، ص 144.
3- صحيح البخاري، كتاب الغسل: ج 1، ص 69؛ وفي كتاب الأذان، باب: ما يقول إذا سمع المنادي: ج 1، ص 152؛ وفي كتاب بدء الخلق: ج 4، ص 93؛ وفي باب: غزوة الخندق: ج 5، ص 48؛ وكتاب الآداب: ج 7، ص 84.
4- صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب: استحباب إفاضة الماء: ج 1، ص 177، وغيرها.
5- أفرد له أحمد فصلاً تحت عنوان (حديث سليمان بن صرد رضي الله تعالى عنه): ج 4، ص 262؛ ج 6، ص 124؛ ج 6، ص 134.
6- سنن ابن ماجه، باب: في الوضوء بعد الغسل: ج 1، ص 191، وغيرها.

داود السجستاني(1) ، والترمذي(2) ، والنسائي(3) ، وغيرهم، في صحاحهم وسننهم بعض الأحاديث النبوية.

وعليه: تدل رؤياه وتشرفه بحضور خديجة الكبرى، وسيدة نساء العالمين فاطمة وسيّدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين صلوات الله وسلام عليهم أجمعين على منزلته لديهم، وصدق جهاده في سبيل الله تعالى؛ وهذا أولاً.

وثانياً: تكشف هذه الحادثة عن حجم الأذى والألم الذي نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته بما جرى في كربلاء من مصائب لم يزل الإسلام يئِنُّ منها حتى يأذن الله تعالى لمهدي آل محمد بن فاطمة صلوات الله عليه وعلى آبائه بأخذ الثأر لتلك الدماء الطاهرة.

المسألة الخامسة: قيام الأعراب بهدم قبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام

لمّا تزل أم المؤمنين خديجة عليها السلام تتلقى من الأعراب والمنافقين الضربات في حرمتها وحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولم تهدأ هذه الأعراب عن التعرض لام المؤمنين خديجة ولم تفتأ تتعرّض لحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ ان بعثه الله فهؤلاء المنافقون لم يغمض لهم جفن حتى ينتقموا منه ومن أزواجه وأهل بيته وأصحابه.

ص:146


1- سنن أبي داود، باب: الغسل من الجنابة: ج 1، ص 61، وغيرها.
2- سنن الترمذي، باب: ما جاء في الشهداء: ج 2، ص 264، وغيرها.
3- سنن النسائي، باب: ذكر ما يكفي الجنب: ج 1، ص 135، وغيرها.

فبالأمس كانوا يرمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في دار أم المؤمنين خديجة عليها السلام فتقف تتلقاها ببدنها وتنادي: (أترمى الحرّة في دارها) فيكفون عنها، واليوم ترمى بالرصاص ويهدم قبرها مبتهجين بذلك وهم ينشدون:

طالما عبدت الناس نفسك فالآن قومي وامنعينا(1)

إلا أن الفارق بين أولئك الأعراب وهؤلاء هو أنّ أولئك كانوا يحتفظون في أنفسهم ببعض الحياء، ولذا كفوا عن رمي خديجة بالحجارة.

وأما هؤلاء المعاصرون فقد تجردوا من كل القيم الإنسانية والطباع البشرية فكانوا مسوخاً حيوانية لا يعرف لها هيئة حتى في المخلوقات المجهرية.

(أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ )2.

المسألة السادسة: التوسل بها إلى الله تعالى
اشارة

تعد قضية التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته أو بتعبير أعمّ بالأولياء الصالحين من القضايا العقائدية التي أثيرت حولها الاعتراضات والممانعات منذ القرن السابع للهجرة أي منذ ظهور ابن تيمية بفكره الأموي

ص:147


1- شجرة طوبى للحائري: ج 1، ص 175؛ كما يمكن الاطلاع بشكل تفصيلي على إقدام الأعراب على هدم قبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام من خلال الشبكة العالمية المعلوماتية (الانترنت).

ضمن مسميات وعناوين ذات صبغة إسلامية كالتوحيد والشرك الأكبر والشرك الأصغر وما إلى ذلك من الأغطية الشرعية لضرب شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

والحديث حول التوسل قديما وحديثاً كان يدور بين علماء المذاهب الإسلامية الأربعة وبين ابن تيمية ومأموميه إلا أنه انحصر في الوقت المعاصر بين الإمامية والوهابية، الذين ذهبوا إلى تكفير الإمامية في توسلهم إلى الله تعالى بالنبي وعترته عليهم السلام.

ولو أردنا أن نحيط بجوانب الموضوع لاحتجنا إلى تخصيص مجال واسع من الكتاب مما يعد خروجا على المنهج العلمي للبحث.

وعليه:

فقد اقتصرنا على بعض الشواهد لما حمله هذا الموضوع من مطارحات وردود؛ كي تكون مقدمة لبيان أن علماء المسلمين منذ أن ظهرت المذاهب الإسلامية الأربعة، أي (الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي) وإلى يومنا هذا وهم يتوسلون إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم بالأولياء، سوى الوهابية الذين جاءوا بشريعة لا يَعرفها أبو حنيفة ولا المالكي ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل.

بل:

لا يعرفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما أنزل الله بها من سلطان.

ص:148

ولذا:

فقد تصدى علماء المذاهب لابن تيمية وأفكاره التكفيرية فكان ممن عاصره الحافظ السبكي (رحمه الله) الذي ألّف كتاباً يرد فيه على ابن تيمية حينما أفتى بحرمة السفر لزيارة قبر رسول الله والتوسل به وبالأولياء الصالحين، ومن ثم جاء الوهابيون بحرمة توجه المسلم وسؤاله ربه بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بجاه النبي وغيرها من ألفاظ التوسل، بحجة أن ليس للعبد مهما بلغ حق على الله، أو أن يكون له جاهٌ عنده إلى غيرها من الترهات والسخافات التي تكشف عن أن الوهابيين وإمامهم ابن تيمية قد ران على قلوبهم فها هو القرآن الكريم يقول في بيان وجاهة عيسى عند الله تعالى:

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ )1.

وقال عزّ وجل في بيان وجاهة موسى عنده:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيهاً)2.

فكيف يكون لعيسى وموسى عليهما السلام جاهٌ عند الله ولا يكون لسيدهم صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:149

أما ما جاء عن الحافظ السبكي (رحمه الله) من ردود حول هذه المسألة على فتوى ابن تيمية التكفيرية أن قال: (إنّ التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جائز في كل حال، قبل خلقه، وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا، وبعد موته، في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة، وهو على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن يتوسل به، بمعنى أن طالب الحاجة يسأل الله تعالى به أو بجاهه، أو ببركته، فجواز ذلك في الأحوال الثلاثة، وقد ورد في كل منها خبر صحيح.

أما الحالة الأولى: التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل خلقه

فيدل على ذلك آثار عن الأنبياء الماضين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، اقتصرنا منها على ما تبين لنا صحته، وهو ما رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين.

فعن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لما اقترف آدم عليه السلام الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي ؟».

فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه ؟

قال: يا رب، لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت فيّ من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا، لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت

ص:150

أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك.

فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، إذ سألتني بحقه قد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك).

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد(1).

ثم يقوم الحافظ السبكي بذكر نصوص أخرى يستدل بها على توسل نبي الله عيسى عليه السلام بل، - وكما قال رحمه الله - توسل نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد ذكر جملة من الردود يقول: فإنه لا شك أن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قدرا عنده، ومن أنكر ذلك فقد كفر.

فمتى قال: (أسألك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) فلا شك في جوازه.

وكذا إذا قال: (بحق محمد).

والمراد بالحق:

الرتبة والمنزلة، والحق الذي جعله الله على الخلق، أو الحق الذي جعله الله بفضله له عليه، كما في الحديث الصحيح: قال فما حق العباد على الله ؟

وليس المراد بالحق الواجب، فإنه لا يجب على الله شيء، وعلى هذا المعنى يحمل ما ورد عن بعض الفقهاء في الامتناع من إطلاق هذه اللفظة.

ص:151


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 2، ص 615.
الحالة الثانية: التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد خلقه في مدة حياته

فمن ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذي في جامعه في كتاب الدعوات، عن عثمان بن حنيف: أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أدع الله أن يعافيني.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

(إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك).

قال: فادعه.

قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء:

(اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي ليقضي لي، أللهم شفعه فيّ )(1).

وفي الدلائل للبيهقي جاء في آخر الحديث: (يا محمد، إني أتوجه لك إلى ربي فيجلي عن بصري، أللهم شفعه في، وشفعني في نفسي).

قال عثمان: فو الله ما تفرقنا ولا طال الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط )(2).

ص:152


1- سنن الترمذي: ج 5، ص 229، ح 3649؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 6، ص 169، ح 10495؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 138.
2- تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، ص 365؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 1، ص 527.
الحالة الثالثة: التوسل به بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

لما رواه الطبراني في المعجم الكبير، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف: (أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: إيت الميضاة فتوضأ، ثم إيت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل:

إللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه إليك إلى ربك فيقضي حاجتي.

وتذكر حاجتك، ورح حتى أروح معك.

فانطلق الرجل: فصنع ما قال له، أتى باب عثمان بن عفان، فجاءه البواب حتى أخذ بيده، فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة فقال: ما حاجتك ؟ فذكر حاجته، وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة، وقال: ما كانت لك حاجة فاذكرها.

ثم إنّ الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرا، ماكان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته فيَّ .

فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكني شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«أو تصبر»؟

ص:153

فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد، وقد شقّ عليّ .

فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«إيت الميضاة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات».

قال ابن حنيف: فو الله، ماتفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط )(1).

أقول:

ومما يدل على أن التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم كان من عقيدة الصحابة ما يأتي:

أولاً: جواز التوسل إلى الله تعالى بقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقضاء الحوائج

ومما يدل على أن الصحابة كانوا يتوسلون بقرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم هو توسلهم إلى الله تعالى بعم النبي صلى الله عليه وآله وسلم العباس بن عبد المطلب، وهذا لا يدل فقط على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته وإنما يدل على جواز

ص:154


1- المعجم الصغير للطبراني: ج 1، ص 183؛ المعجم الكبير للطبرني: ج 9، ص 31؛ كتاب الدعاء للطبراني: ص 320؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 2، ص 279؛ تحفة الأحوذي: ج 10، ص 24؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 11، ص 327؛ دفع الشبهة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للحصني الدمشقي: سص 150؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 12، ص 407؛ شفاء السقام لتقي الدين السبكي: ص 303-304.

التوسل إلى الله تعالى بمن له قرابة برسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن بيان منزلة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عند الله تعالى.

أما الحادثة فكانت بهذه الصورة:

قال الحافظ السبكي: (وكذلك يجوز ويحسن مثل هذا التوسل بمن له نسبة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما كان عمر بن الخطاب إذا قحط استسقى بالعباس بن عبد المطلب، ويقول: أللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاسقنا.

قال فيسقون، رواه البخاري من حديث أنس)(1).

واستسقى به عام الرمادة فسقوا، وفي ذلك يقول عباس بن عتبة بن أبي لهب:

بعمي سقى الله الحجاز وأهله عشية يستسقى بشيبته عمر(2)

واستسقى حمزة بن القاسم الهاشمي ببغداد فقال: (أللهم إنا من ولد ذلك الرجل الذي استسقى بشيبته عمر بن الخطاب فسقوا)، فما زال يتوسل حتى سقوا.

وروي أنه لما استسقى عمر بالعباس، وفرغ عمر من دعائه، قال العباس: أللهم إنه لم ينزل من السماء بلاء إلا بذنب، ولا يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه أيدينا إليك

ص:155


1- صحيح البخاري: ج 2، ص 453، كتاب الاستسقاء، باب 6401.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 334.

بالذنوب ونواصينا بالتوبة... وذكر دعاء، فما تم دعاؤه حتى ارتخت السماء بمثل الجبال.

وكذلك يجوز مثل هذا التوسل بسائر الصالحين، وهذا شيء لا ينكره مسلم، بل متدين بملة من الملل)(1).

أقول:

بل ذهب علماء أهل السنة والجماعة كابن قدامة الحنبلي(2) ، والألباني(3) إلى أن الصحابة كانوا يتوسلون بغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأحياء، بمن يرون فيه الصلاح فكانوا يستغيثون به إلى الله تعالى فيغاثون؛ وهو ما رواه ابن سعد وغيره عن عامر الخبائري: (أن السماء قحطت فخرج معاوية ابن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون فلما قعد معاوية قال: ابن يزيد بن الأسود الجرشي ؟ قال: فناداه الناس، فأقبل يتخطى فأمره معاوية فصعد المنبر فقعد عند رجليه فقال معاوية: أللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، أللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي(4) ، يا يزيد أرفع يديك إلى الله، فرفع

ص:156


1- شفاء السقام لتقي الدين السبكي: ص 309.
2- المغني لابن قدامة: ج 2، ص 295.
3- رواء الغليل لمحمد ناصر الألباني: ج 3، ص 140.
4- هو: يزيد بن الأسود الجرشي (أبو الأسود) جاهلي، أدرك المغيرة بن شعبة وجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سكن الشام وكان من العباد، وقد عده ابن حبان من الثقات، وعده ابن حجر من الصحابة. أنظر: (الثقات لابن حبان: ج 5، ص 533؛ الإصابة لابن حجر: ج 7، ص 24؛ الاستيعاب: ج 4، ص 157).

يزيد ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في المغرب وهبت لها ريح فسقينا حتى كاد الناس لا يصلون إلى منازلهم)(1).

والغريب في الأمر أن الألباني يقر بصحة سند الحادثة قائلا: (وأما توسل معاوية، فأخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخ دمشق (ق 2/13): حدثنا الحكم ابن نافع عن عصفوان بن عمرو عن سليم بن عامر: (إن الناس قحطوا بدمشق فخرج معاوية يستسقي بيزيد بن الأسود) وهذا سند صحيح كما قال الحافظ في التلخيص: (151))(2).

إلا أن السلفية: يرون أن التوسل بالأولياء الصالحين من الشرك؛ فأي تناقض عجيب هذا؟!.

ثانيا: الصحابة يتوسلون إلى الله تعالى بقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكشف الضر عنهم

حينما يران على قلوب الذين نافقوا، يصبح التخبط في السير والقباحة في السلوك والفضاحة في القول والفعل أمراً بديهيا.

فهؤلاء المنافقون منذ أن صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يخافون أن تنزل عليهم آية فتفضحهم وتكشف سريرتهم، ولقد سرى هذا الخوف فيهم إلى يوم تبدل الأرض غير الأرض إلا أن الفارق بين الزمانين هو أن

ص:157


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 7، ص 445؛ مقدمة ابن الصلاح: ص 211؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 5، 538؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 8، ص 357.
2- إرواء الغليل لمحمد ناصر الألباني: ج 3، ص 140.

الوحي في عهد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان هو المخبر عنهم، وفي غيره من الأزمنة يكون الأثر النبوي وفعل الصحابة هو الذي يفضحهم، أما الخلف فعلى الرغم من كثرة تقوّلهم بأنهم يقتدون بالسلف، إلا أن الوحي وفعل النبي وسيرة السلف لتكذب هذا الادعاء، وتفضح هذا القول.

فها هو السلف يفضحهم ويظهر كذبهم، ففي الوقت الذي يدّعي هؤلاء بحرمة التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالأولياء الصالحين، بل حرمة السفر إلى زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الأولياء.

فإن السلف ولاسيما أمهات المؤمنين يلذن بقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكشف الضر عن الأمّة، ليكون هذا الفعل أحد مصاديق سنة الله تعالى في رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإنه المستغاث به إلى الله تعالى.

قال سبحانه:

(وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )1.

فإذا كان وجوده يدفع عن الأمّة العذاب، وإن الله تعالى لا يعذب أهل الأرض ما زال فيهم رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف لا يكشف الله الضر عن المستغيث إليه بحبيبه محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وبقبره ؟! كما فعلت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:158

قال الحافظ السبكي: (روي عن أبي الجوزاء قال: (قحط أهل المدينة قحطا شديداً فشكوا إلى عائشة، فقالت: فانظروا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاجعلوا منه كوّة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف.

ففعلوا فمطروا، حتى نبت العشب، وسمن الأبل، حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق)(1).

وإذ قد تحررت هذه الأنواع والأحوال في الطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهر المعنى فلا عليك في تسميته (توسلا) أو (تشفعا) أو (استغاثة) أو (تجوها) أو (توجها) لأن المعنى في جميع ذلك سواء:

أمّا التشفُّع: فقد جاء في حديث وفد بني فزارة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قولهم: (تشفع لنا إلى ربك)، وفي حديث الأعمى ما يقتضيه أيضا.

والتوسُّل: في معناه.

وأما التوجُّه والسؤال: ففي حديث الأعمى.

والتجوّه: في معنى التوجه، قال تعالى في حق موسى عليه السلام:

(وَ كانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيهاً2.

وقال في حق عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام:

(وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ )3.

ص:159


1- سنن الدارمي: ج 1، ص 44.

وقال المفسرون (وجيها) أي ذا جاه ومنزلة عنده.

وقال الجوهري في فعل (وجه): وجه، إذا صار وجيها ذا جاه وقدر.

وقال الجوهري أيضا في فعل (جوه): الجاه القدر والمنزلة، وفلان ذو جاه، وقد أوجهته ووجهته أنا، أي جعلته وجيها.

وقال ابن فارس: فلان وجيه، ذو جاه.

إذا عرف ذلك، فمعنى (تجوه) توجه بجاهه، وهو منزلته وقدره عند الله تعالى إليه.

وأما الاستغاثة: فهي طلب الغوث.

وتارة: يطلب الغوث من خالقه، وهو الله تعالى وحده، كقوله تعالى:

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ )1.

وتارة: يطلب ممن يصح إسناده إليه على سبيل الكسب، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذين القسمين.

وتعدي الفعل تارة: بنفسه، كقوله تعالى:

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ).

وقال سبحانه وتعالى:

(فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ )2.

ص:160

وتارة: بحرف الجر، كما في كلام النحاة في المستغاث به، وفي (كتاب سيبويه): فاستغاث بهم ليشتروا له كليبا.

فيصح أن يقال: (استغثت النبي صلى الله عليه وآله وسلم) و (أستغيث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) بمعنى واحد، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه على النوعين السابقين في التوسل من غير فرق، وذلك في حياته وبعد موته.

ويقول: (استغثت الله) و (أستغيث بالله) بمعنى طلب خلق الغوث منه، فالله تعالى مستغاث، فالغوث منه خلقا وإيجادا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مستغاث، والغوث منه تسببا وكسبا، ولا فرق في هذا المعنى بين أن يستعمل الفعل متعديا بنفسه، أو لازما، أو تعدى بالباء.

وقد تكون الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه آخر، وهو أن يقول: (استغثت الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) كما يقول: (سألت الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) فيرجع إلى النوع الأول من أنواع التوسل، ويصح قبل وجوده وبعد وجوده، وقد يحذف المفعول به ويقال: (استغثت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا المعنى.

فصار لفظ (الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) له معنيان: أحدهما: أن يكون مستغاثا.

والثاني: أن يكون مستغاثا به، والباء للاستعانة.

فقد ظهر جواز إطلاق (الاستغاثة) و (التوسل) جميعا، وهذا أمر لا يشك

ص:161

فيه، فإن (الاستغاثة) في اللغة طلب الغوث، وهذا جائز لغة وشرعا من كل من يقدر عليه بأي لفظ عبر عنه، كما قالت أم إسماعيل: أغث إن كان عندك غواث)(1).

ثالثا: القرآن ينص على أن النعم من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

لم يزل كتاب الله تعالى هو المعني الأول في الدفاع عن شريعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهو الرد الذي لا يعييه متزندق بالدين في بيان الحلال والحرام؛ فالقرآن الكريم فضلاً عن بيانه للأصول في دين الله تعالى في كثير من آياته المحكمات يؤصّل لعقيدة التوحيد.

إذ إن الوقت الذي يدعي ابن تيمية والوهابيون بحرمة التوسل إلى الله تعالى بحق النبي أو بجاهه عند الله بحجة أن لا حق لعبد على الله، وأن ذلك من الشرك والعياذ بالله، يأتي القرآن بآية محكمة تلجم تلك الأفواه الهدامة لشريعة المسلمين.

ويكشف القرآن الكريم أيضا عن أن هؤلاء لا يمكن أن يصلوا إلى معرفته وفهمه، ففي الوقت الذي عمي فيه هؤلاء عن الكتاب العزيز عموا أيضا عن قراءة التاريخ الإسلامي.

فهاهو الإمام الصادق عليه السلام في مناظرته مع أبي حنيفة النعمان، يظهر لذوي الألباب أن معرفة التوحيد يجب تحصيلها من أهل القرآن وثقله وهم عترة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن التارك لهم ضال عن طريق الإسلام

ص:162


1- شفاء السقام لتقي الدين السبكي: ص 314-316.

هاوٍ في الفتن والشبهات، مُتردٍّ في المهالك، لا محالة.

أمّا الحادثة فهي كالآتي:

روى أبو الفتح الكراكجي قائلاً: (إن أبا حنيفة أكل طعاماً مع الإمام الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام فلما رفع الصادق عليه السلام يده من أكله قال:

«الحمد لله رب العالمين، أللهم هذا منك ومن رسولك صلى الله عليه وآله وسلم».

فقال أبو حنيفة: أبا عبد الله أجعلت مع الله شريكا؟ فقال له:

«ويلك! فإن الله تعالى يقول في كتابه:

(وَ ما نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْناهُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ )1.

ويقول في موضع آخر:

(وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ )2».

فقال أبو حنيفة: ووالله لكأني ما قرأتهما قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت!؟

فقال أبو عبد الله عليه السلام:

ص:163

«بلى قد قرأتهما وسمعتهما، ولكن الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك:

(أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)1.

وقال:

(كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ 2»)3.

رابعا: توسل الشيخ عبد الله الميرغني بقبر السيدة خديجة عليها السلام

إنّ مما يدل على تمسك علماء المسلمين بالتوسل إلى الله تعالى بالأولياء الصالحين وأن ما جاء عن ابن تيمية وأشياعه الوهابيين هو أمر خارج عن الشريعة، هو توسل الشيخ الميرغني الحنفي بقبور المسلمين في الحجون كي يكونوا شفعاء له عند أم المؤمنين خديجة عليها السلام لكونهم جيرانها وليحظى في ذلك في إغاثته بما جعل الله تعالى لها من القدر والمنزلة فضلاً عن منزلتها عند حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول الشيخ أبو السيادة عفيف الدين، المحجوب الميرغني(1) ، في كتابه

ص:164


1- عبد الله بن إبراهيم بن حسن بن محمد بن أمين بن الميرغني أبو السيادة، عفيف الدين، المحجوب، فاضل، من فقهاء الحنفية، مولده بمكة، ووفاته بالطائف، لقب بالمحجوب للزومه العزلة في داره نحو ثلاثين سنة.

(المخطوط ) الموسوم: (المقاصد الفخرى في بعض مناقب السيدة خديجة الكبرى)(1) وقد كتبه في جمادى الثانية سنة 1179 ه -، في المدينة المنورة بمسكنه وقد افتتح كتابه هذا بهذه الأبيات متوسلاً بآل الكساء عليهم السلام، فيقول:

بأحمد والبتول وصنو طه وبالحسنين أصحاب الكساء

توسل مستغيثاً مستجيراً وبالأحباب ثم أولي العباء

أما قصيدته فكانت آخر الكتاب وسبقها بقوله:

وهذا آخر الكلام على المقاصد الفخرى في بعض مناقب السيدة خديجة الكبرى نفعنا الله بها في الدنيا والآخرة وقد ألحقتها أبياتاً متوسلاً بجيرانها عليها

ص:165


1- يرقد هذا المخطوط في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق الشام ويحمل الرقم: (4134) وتوجد نسخة أخرى لهذه المخطوطة التي في دمشق هي بخط المؤلف رحمه الله، في سنة 1179 ه -.

ومستغيثاً بها إليها وهي:

أيا عرب الحجون وخير وادٍ تقدس سرمداً أبد الدهور

حويتم للمكارم والمعالي وفزتم بالجنان وبالقصور

وحزتم محشد الشرف المعلى وفقتم بالأصايل والبكور

رقيتم خير مرقى بالمعلى إلى كبرى النساء وخير حور

فطوبى ثم طوبى ثم طوبى لكم يا أهل هاتيك الخدور

ولِمْ لا والخديجة زوج طه حبيبته على مرّ العصور

هي السلطانة العظمى لديكم وهيْ مجد وهيْ بحر البحور

وهِيْ السند العظيم لخير آل ومرجع آل مكة في الأمور

فيا عرب الحجون بكم إليها فإني بالتطاول في القصور

وإني في بحار من ذنوب بلا عد ولا حصر حصور

وها أنا في حماكم مستجير أراقب نجدة من ذي القبور

ومن كبرى الأنام وخير ملجا ومن هي في العلى صدر الصدور

ومن قد غارت الغرّاء منها وزادت في التغاير والغيور

ومن قد بشرت حقا وصدقا ببيت من لآلٍ في القصور

ومن هي آمنت قبل البرايا وثبّتت الرسول على الظهور

ومن هي أثمرت أقطاب كون وأنجاباً وأبدالا بنور

وأشرافا وسادات كراما غياثا للأنام مدى الدهور

عليها من إلهي خير فيض يدوم مع الشمول بلا فتور

مع الآل الكرام وخير صحب عقيب خليلهم حب الشكور

ص:166

المبحث الرابع: زيارتها وإتيان قبرها المهدوم

اشارة

إن من الأسئلة التي تفرض نفسها في البحث هو: إلى أيّة شريعة رجع أولئك الأعراب فأخذوا عنها اباحة هدم قبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام وإحدى سيدات الجنة ؟ إلى شريعة الرحمن استندوا، أم إلى شريعة الشيطان التجأوا؟! فإذا كانوا من المسلمين فهؤلاء فقهاؤهم يقولون في زيارة القبور بما يأتي:

المسألة الأولى: مشروعية زيارة القبور عند فقهاء المذاهب الإسلامية
أولاً: زيارة القبور عند أئمة أهل البيت عليهم السلام

1. قال الشهيد الأول قدس سره في كتاب الذكرى: روى مسلم عن بريدة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزورها فإنها تذكرة الآخرة»(1).

2. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:

«زوروا القبور فإنها تذكر الموت»(2).

3. روى الشيخ الكليني عن محمد بن مسلم، عن الصادق عليه السلام، قال أمير المؤمنين عليه السلام:

«زوروا موتاكم، فإنهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب أحدكم حاجته عند قبر أبيه، وعند قبر أمه، بعد ما يدعو لهما»(3).

ص:167


1- ذكرى الشيعة للشهيد الأول: ج 2، ص 62؛ صحيح مسلم: ج 2، ص 67، ح 977.
2- صحيح مسلم: ج 2، ص 671، ح 976.
3- الكافي للكليني: ج 3، ص 230.

4. وعن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام، قال:

«عاشت فاطمة عليها السلام بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً، لم تر كاشرة ولا ضاحكة، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين: الأثنين، والخميس»(1).

5. وعن يونس عنه عليه السلام:

«ان فاطمة كانت تأتي قبور الشهداء في كل غداة سبت، فتأتي قبر حمزة فترحم عليه وتستغفر له»(2).

قال الشهيد الأول قدس سره: وفيه دليل على جوازه للنساء، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«فاطمة بضعة مني»(3).

6. أما ما يقوله الزائر عند زيارته القبور، فقد روى أبو المقدام عن الإمام الباقر عليه السلام، انه وقف على قبر رجل من الشيعة بالبقيع فقال:

«اللهم ارحم غربته، وصل وحدته، وآنس وحشته، وأسكن إليه من رحمتك رحمة يستغني بها عن رحمة من سواك، وألحقه بمن كان يتولاه»(4).

ثم قرأ القدر سبعاً.

ص:168


1- وسائل الشيعة (آل البيت) للحر العاملي: ج 3، ص 224.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1، ص 181.
3- صحيح البخاري، باب مناقب المهاجرين: ج 4، ص 210.
4- فقه الرضا عليه السلام ابن بابويه القمي: ص 172.

7. عن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف أسلّم على أهل القبور؟ قال:

«يقول: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا فرط ونحن إن شاء الله بكم لاحقون»(1).

8. وروى الصدوق عن محمد بن مسلم، قلت للصادق عليه السلام: الموتى نزورهم ؟ قال:

نعم.

قلت: أفيعلمون بنا إذا أتيناهم ؟ قال:

قل: اللهم جاف الأرض عن جنوبهم، وصاعد إليك أرواحهم، ولقهم منك رضوانا، واسكن إليهم من رحمتك ما تصل به وحدتهم، وتؤنس به وحشتهم، إنك على كل شيء قدير(2).

9. وروى إسحاق بن عمار عن الكاظم عليه السلام:

«ان الميت يعلم بزائره، ويأنس به، ويستوحش لانصرافه»(3).

10. قال الإمام الرضا عليه السلام:

«من أتى قبر المؤمن، يقرأ عنده إنا أنزلناه سبع مرات، غفر الله له ولصاحب القبر»(4).

ص:169


1- كامل الزيارات لابن قولويه: ص 531.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1، ص 18.
3- ذكرى الشيعة للشهيد الأول: ج 2، ص 64.
4- وسائل الشيعة (آل البيت عليهم السلام) للحر العاملي: ج 3، ص 228.

11. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مرّ على القبور قال:

«السلام عليكم من ديار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»(1).

12. روى مسلم عن بريدة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر:

«السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»(2).

13. قال المحقق الحلي قدس سره (المتوفى سنة 676 ه -): (زيارة قبور الأئمة والمؤمنين مستحبة مؤكدة للرجال ويكره للنساء ولا يحرم، وهو مذهب أهل العلم)(3).

14. قال العلامة الحلي قدس سره (المتوفى 726 ه -): (يستحب زيارة مقابر المؤمنين إجماعاً...)(4).

15. قال المحقق البحراني في الحدائق: (في زيارة القبور، وهي مستحبة إجماعاً نصا وفتوى إلا أنّ المحقق - الحلي - في المعتبر وجمعاً ممن تأخر عنه خصوا ذلك بالرجال وكرهوه للنساء)(5).

ص:170


1- من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1، ص 180.
2- المغني لعبد الله بن قدامة: ج 2، ص 424.
3- المعتبر للمحقق الحلي، في اعتبار المماثلة: ج 1، ص 339.
4- تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: ج 2، ص 128.
5- الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 4، ص 169.

16. قال الشيخ الجواهري قدس سره في استحباب زيارة القبور في الخميس - بعد أن أورد حديث الإمام الرضا عليه السلام:

«من أتى قبر أخيه ثم وضع يده على القبر وقرأ إنا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرات أمن يوم الفزع الأكبر، أو يوم الفزع».

فانه دال على وضع اليد ولو في غير حال الدفن، كما انه دال على استحباب قراءة إنا أنزلناه، وعلى استحباب زيارة قبور الأخوان كما استفاض به الأخبار، وتداولته الطائفة الأخيار.

وقد حكى الاجماع عليه، العلامة والشهيد بالنسبة للرجال، ويتأكّد استحباب ذلك يوم الاثنين وغداة السبت تأسياً بالمحكي من فعل فاطمة عليها السلام في زيارة قبور الشهداء؛ ومنه يعلم استحباب زيارة النساء للقبور كما نص عليه بعضهم خلافا للمصنف في المعتبر، فكرهه لهن.

بل ظاهره أو صريحه نسبته ذلك فيه إلى أهل العلم، ولكن علله بمنافاته للستر والصيانة، وهو يوحي إلى كراهته لأمر خارج عنه، وإذا استلزم الجزع وعدم الصبر لقضاء الله؛ بل ربما يصل إلى حد الحرمة؛ وأما بدون ذلك فالظاهر الاستحباب للعموم وخصوص بعض الأخبار.

ومن العجيب دعواه للكراهة حتى بالنسبة إلى زيارة الأئمة عليهم السلام، مع كثرة العمومات الدالة على رجحانها المنجبرة بعمل الأصحاب وغير ذلك، فتأمل جيداً.

ويتأكد استحباب الزيارة في الخميس تأسياً بفعل فاطمة عليها السلام

ص:171

أيضاً، وفي نصوص العشية منه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فانه كان يخرج في ملأ من أصحابه كل عشية خميس إلى بقيع المؤمنين فيقول:

«السلام عليكم يا اهل الديار ثلاثاً».

وربما يفهم من التأمل في الأخبار الفرق بين زيارة القبر الواحد وشبهه وبين زيارة المقبرة فيستحب وضع اليد على القبر وقراءة (إنّا أنزلناه) سبعاً في الأول لما عرفت، وللمرسل عن الرضا عليه السلام:

«ما من عبد زار قبر مؤمن فقرأ عنده إنا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرات إلا غفر الله له ولصاحب القبر، والسلام ونحوه في الثاني»(1).

وهذا يدل على استحباب زيارة القبور للرجال والنساء وقراءة القدر ونحوه من الأدعية لله تعالى في الترحم والاستغفار لصاحب القبر لما فيه من آثار أخروية واجتماعية وتربوية على الفرد المسلم وعلى أسرته.

ثانياً: زيارة القبور عند فقهاء المذهب المالكي

1. قال الحطاب الرعيني في المواهب: «قال سيدي عبد الرحمن الثعالبي في كتابه المسمى بالعلوم الفاخرة في النظر في أمور الآخرة: وزيارة القبور للرجال متفق عليها، وأما النساء فيباح للقواعد، ويحرم على الشواب اللواتي يخشى عليهن من الفتنة»(2).

ص:172


1- جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج 4، ص 321.
2- مواهب الجليل للحطاب الرعيني: ج 3، ص 50.

2. وقال الدسوقي في حاشيته في زيارة القبور: (بل هي مندوبة» أي لقوله - (صلى الله عليه وآله وسلم) -:

«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».

ولأحاديث أُخر تقتضي الحث على الزيارة؛ وذكر في المدخل في زيارة النساء للقبور ثلاثة أقوال:

المنع، والجواز على ما يعلم في الشرع من الستر والتحفظ عكس ما يفعل اليوم؛ والثالث: الفرق بين المتجالة والشابة)(1).

3. قال أبو بركات: «وجاز (زيارة القبور)، بل هي مندوبة (بلا حد) بيوم أو وقت أو في مقدار ما يمكث عندها أو فيما يدعى به أو الجميع، وينبغي مزيد الاعتبار حال الزيارة والاشتغال بالدعاء والتضرع وعدم الأكل والشرب على القبور خصوصاً لأهل العلم والعبادة»(2).

ثالثاً: زيارة القبور عند فقهاء المذهب الحنفي

1. قال السرخسي في المبسوط : (والأصح عندنا أن الرخصة ثابتة - في زيارة القبور - في حق الرجال والنساء جميعاً)(3).

2. قال أبو بكر الكاشاني في البدائع: «فان من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات أو الأحياء جاز ويصل ثوابها إليهم عند أهل

ص:173


1- حاشية الدسوقي: ج 1، ص 422.
2- الشرح الكبير لأبي البركات: ج 1، ص 422.
3- المبسوط للسرسخي: ج 24، ص 10.

السنة والجماعة؛ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته ممن آمن بوحدانية الله تعالى وبرسالته صلى الله عليه وآله وسلم.

وروي أن سعد بن أبي وقاص سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إنّ أمي كانت تحب الصدقة فأتصدق عنها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«تصدق».

وعليه عمل المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا من زيارة القبور وقراءة القرآن عليها والتكفين والصدقات والصوم والصلاة وجعل ثوابها للأموات؛ ولا امتناع في العقل أيضاً؛ لأن الثواب من الله تعالى إفضال منه لا استحقاق عليه فله أن يتفضل على من عمل، لاجعله بجعل الثواب له، كما له أن يتفضل بإعطاء الثواب من غير عمل رأساً)(1).

رابعاً: زيارة القبور عند فقهاء المذهب الشافعي

1. قال النووي في المجموع: أما الأحكام فاتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يستحب للرجال زيارة القبور وهو قول العلماء كافة»(2).

2. قال الشربيني في الإقناع: «ويندب زيارة القبور التي فيها المسلمون للرجال والنساء بالإجماع»(3).

ص:174


1- بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني: ج 2، ص 212.
2- المجموع للنوري: ج 5، ص 310.
3- الامتناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني: ج 1، ص 192.
خامساً: زيارة القبور عند فقهاء المذهب الحنبلي

1. قال عبد الله بن قدامة المقدسي: «قال علي بن سعيد: سألت أحمد - بن حنبل - عن زيارة القبور، تركها عنده أفضل أم زيارتها؟

قال: زيارتها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»(1).

سادساً: زيارة القبور عند فقهاء المذهب الظاهري

1. قال ابن حزم: وتستحب زيارة القبور، وهو فرض ولو مرة ولا بأس بأن يزور المسلم قبر حميه المشرك، الرجال والنساء سواء»(2).

وعليه:

فهذه جميع المذاهب الإسلامية تحكم بإباحة زيارة القبور للرجال والنساء، بل تذهب إلى استحبابها للرجال واختلف بعضهم في حكم الكراهة للنساء بين العموم والخصوص كما مرّ بيانه.

ولذلك: لم يكن لأولئك الأعراب شريعة إسلامية يستندون إليها في أحكامهم وصدور فتاواهم وذلك؛ لأنهم من الأصل.

(أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 3.

ص:175


1- المغني لابن قدامة: ج 2، ص 424.
2- المحلى لابن حزم: ج 5، ص 161.
المسألة الثانية: زيارة خديجة عليها السلام في مدرسة أهل البيت عليهم السلام والصلاة عليها
أولاً: الصلاة عليها في يوم الجمعة
اشارة

إن من البديهيات في مذهب الإمامية هو رجوعهم في تكاليفهم الشرعية إلى الثقلين (القرآن والعترة النبوية)، وحيث إن زيارة خديجة والصلاة عليها من البعد أو القرب حيث الوقوف عند حضرتها المشرفة وروضتها الفردوسية كان يرجع فيه أتباع هذه المدرسة إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام.

فأما إتيان قبرها (صلوات الله وسلامه عليها) فقد دلت الروايات على أن الإمام أبا عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام كان قد تعاهد قبرها بالزيارة والدعاء والمناجاة لله رب العالمين - كما مرّ بيانه سابقاً - وأما من البعد فقد روى شيخ الطائفة الطوسي رضوان الله تعالى عليه عن أبي المفضل الشيباني قال حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد العابد بالدالية لفظاً، قال: سألت مولاي أبا محمد الحسن بن علي عليهما السلام في منزله بسر من رأى، سنة خمس وخمسين ومائتين أن يُمليء عليَّ من الصلاة على النبي وأوصيائه عليه وعليهم السلام، وأحضرت معي قرطاسا كثيراً فأملى عليّ لفظاً من غير كتاب.

فقال عليه السلام:

«اللهم صل على محمد كما حمل وحيك وبلغ رسالاتك، وصل على محمد كما أحل حلالك وحرم حرامك وعلم كتابك،

ص:176

وصل على محمد كما أقام الصلاة وأتى الزكاة ودعا إلى دينك، وصل على محمد كما صدق بوعدك وأشفق من وعيدك، وصل على محمد كما غفرت به الذنوب وسترت به العيوب، وفرجت به الكروب، وصل على محمد كما دفعت به الشقاء، وكشفت به العماء، وأجبت به الدعاء، ونجيت به من البلاء، وصل على محمد كما رحمت به العباد، وأحييت به البلاد، وقصمت به الجبابرة، وأهلكت به الفراعنة، وصل على محمد كما أضعفت به الأموال، وحذرت به من الأهوال، وكسرت به الأصنام، ورحمت به الأنام وصل على محمد كما بعثته بخير الأديان، وأعززت به الايمان، وتبرت به الأوثان، وعصمت به البيت الحرام، وصل على محمد وأهل بيته الطاهرين الأخيار وسلم تسليما».

الصلاة على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

«اللهم صل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أخي نبيك ووليه ووصيه ووزيره، ومستودع علمه، وموضع سره، وباب حكمته، والناطق بحجته والداعي إلى شريعته، وخليفته في أمته، ومفرج الكروب عن وجهه، وقاصم الكفرة، ومرغم الفجرة، الذي جعلته من نبيك بمنزلة هارون من موسى، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من نصب له من الأولين والآخرين، وصل عليه أفضل ما صليت على أحد من أوصياء أنبيائك يا رب العالمين.

ص:177

الصلاة على السيدة فاطمة عليها السلام:

«اللهم صل على الصديقة فاطمة الزهراء الزكية، حبيبة نبيك، وأم أحبائك وأصفيائك، التي انتجبتها وفضلتها، واخترتها على نساء العالمين، اللهم كن الطالب لها ممن ظلمها، واستخف بحقها، اللهم وكن الثائر لها [اللهم] بدم أولادها، اللهم وكما جعلتها أم أئمة الهدى، وحليلة صاحب اللوا الكريمة عند الملأ الاعلى، فصل عليها وعلى أمها خديجة الكبرى، صلاة تكرم بها وجه محمد صلى الله عليه وآله وتقر بها أعين ذريتها وأبلغهم عني في هذه الساعة أفضل التحية والسلام».

الصلاة على الحسن والحسين عليهما السلام:

«اللهم صل على الحسن والحسين عبديك وولييك وابني رسولك، وسبطي الرحمة، وسيدي شباب أهل الجنة، أفضل ما صليت على أحد من أولاد النبيين والمرسلين، اللهم صل على....»(1).

وهذه الصلوات على محمد وآله الأئمة المعصومين عليهم السلام جاءت مخصصة بأسمائهم جميعاً إلى خاتمهم المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه أجمعين.

ثانياً: أقوال الفقهاء في زيارة قبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام

1. قال الشهيد الأول(2) قدس سره (المتوفى سنة 786 ه -): (ويستحب

ص:178


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: ص 401؛ جمال الأسبوع لابن طاووس: ص 297؛ البحار للمجلسي: ج 91، ص 74.
2- مرّ ذكر ترجمته رضوان الله تعالى عليه في مبحث البرزخ فليراجع.

أن يزور خديجة عليها السلام بالحجون، وقبرها معروف هناك قريب من سفح الجبل)(1).

3. قال المحقق النراقي (المتوفى عام 1244 ه -): «ومما عده بعضهم من المستحبات: إتيان بعض المواضع المتبركة بمكة، كمولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنزل خديجة، وزيارة قبر خديجة...»(2).

وقال أيضاً في تحديد موضع قبرها نقلاً عن والده رحمه الله: قبر خديجة، وهو في مقابر معلاة، قريب بانتهاء المقابر في سفح الجبل، وله قبة معروفة، أصل القبة بيضاء وحيطانها صفراء، وتستحب زيارتها»(3).

قال العلامة المجلسي، في الأيام الشريفة التي يستحب فيها زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فَعَدَّ (منها يوم عاشر شهر ربيع الأول: وكذا يستحب فيه زيارة خديجة، وكذا ساير الأيام والليالي المختصة به)(4).

2. ذكر المحقق السبزواري قدس سره (المتوفى سنة 1090 ه -) في ذخيرة المعاد: - إنّ من المستحبات في مكة أموراً، وعد منها - زيارة خديجة عليها السلام بالحجون(5).

ص:179


1- الدروس للشهيد الأول: ج 1، ص 469.
2- مستند الشيعة للمحقق النراقي: ج 13، ص 96.
3- المصدر السابق.
4- البحار للمجلسي: ج 97، ص 169.
5- ذخيرة المعاد للمحقق السبزواري: ج 1، ق 3، ص 695.

3. قال السيد محسن الحكيم قدس سره (المتوفى 1390 ه -): ويستحب زيارة خديجة بالحجون، وقبرها هناك معروف في سفح الجبل، وأن يزور قبر أبي طالب)(1).

4. وذكر الشيخ أحمد آل كاشف الغطاء قدس سره في القلائد، قوله: (ويستحب زيارة خديجة بالحجون)(2).

5. وقال السيد محمد رضا الكلبايكاني قدس سره: يستحب مؤكدا للحاج مدة بقائه بمكة عدة أمور - وعد منها - زيارة قبر خديجة الكبرى، وقبرها بالحجون معروف في سفح الجبل(3).

6. وقال السيد عبد الأعلى السبزواري قدس سره: (ويستحب زيارة قبر خديجة عليها السلام المعروفة بالمعلى؛ لأنها أم المسلمين ومن بر الأولاد بأمهم زيارة قبرها بعد ارتحالها مع أنها بذلت نهاية جهدها في خدمة سيد المرسلين ومالها في نشر دعوة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم إلى غير ذلك من مفاخرها التي ملأت كتب الفريقين، فمن شك بعد ذلك في رجحان زيارتها فهو عاق لأمه)(4).

وغير ذلك من أقوال فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام الذين اتبعوا

ص:180


1- دليل المناسك للسيد محسن الطباطبائي الحكيم: ص 489.
2- الأنوار الساطعة للشيخ غالب السيلاوي: ص 404، نقلاً عن: قلائد الدرر في مناسك من حج واعتمر: ص 143.
3- مناسك الحج للسيد الكلبايكاني: ص 167، ص 168.
4- مهذب الأحكام للسيد السبزواري: ج 14، ص 401.

سبيل آل محمد وساروا بهديهم وتمسكوا بحجزتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، في تعظيم حق أم المؤمنين خديجة عليها السلام وبرها بعد وفاتها من خلال زيارة قبرها والتوسل إلى الله تعالى بها فإن لها شأناً عند الله تعالى وجاهاً، ومنزلة عظيمة.

ثالثاً: نص زيارتها
اشارة

أما بخصوص ما يقوله الزائر لحضرتها المشرفة فقد جاء فيها عن السيد التقي القمي زاد الله في شرفه: (لا ريب ولا إشكال في أنّ الإتيان بهذه الزيارة من القريب أو البعيد رجاء لا يكون فيه خلاف فإن باب الرجاء واسع ويمكن الاستدلال على رجحان زيارتها بأنها مقربة عند الله تعالى وعند الرسول وعند أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والأئمة عليهم السلام؛ ولكن مقتضى الاحتياط التام أن لا يقصد بزيارتها الورود بل يقصد الرجاء والله العالم بحقائق الأشياء)(1).

ألف: نص ما جاء من زيارتها في روضات الجنات

السلام عليك يا أم المؤمنين؛ السلام عليك يا زوجة سيد المرسلين؛ السلام عليك يا أم فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين؛ السلام عليك يا أول المؤمنات؛ السلام عليك يا من أنفقَتْ مالها في نصرة سيد الأنبياء؛ ونصرته ما استطاعت؛ ودافعت عنه الأعداء؛ السلام عليك يا من سلم عليها جبرئيل

ص:181


1- الأنوار الساطعة للشيخ غالب السيلاوي: ص 406.

وبلَّغَها السلام من الله الجليل؛ فهنيئا لك بما أولاك الله من فضل؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته)(1).

باء: نص ما جاء في زيارتها في كتاب آداب الحرمين

(السلام عليك يا زوجة رسول الله سيد المرسلين، السلام عليك يا زوجة نبي الله خاتم النبيين، السلام عليك يا أم فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين؛ السلام عليك يا أول المؤمنات؛ السلام عليك يا من أنفقت مالها في نصرة سيد الأنبياء ونصرته ما استطاعت ودافعت عنه الأعداء؛ السلام عليك يا من سلم عليها جبرئيل وبلغها السلام من الله الجليل؛ فهنيئا لك بما أولاك الله من فضل؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته).

وذكرها في المنتخب الحسني، وذكر السيد البطحائي زيارة أخرى:

(السلام عليك يا زوجة رسول الله سيد المرسلين؛ السلام عليك يا زوجة نبي الله خاتم النبيين؛ السلام عليك يا أم فاطمة الزهراء؛ السلام عليك يا أم الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة أجمعين؛ السلام عليك يا أم الأئمة الطاهرين؛ السلام عليك يا أم المؤمنين؛ السلام عليك يا أم المؤمنات؛ السلام عليك يا خالصة المخلصات؛ السلام عليك يا سيدة الحرم وملكة البطحاء؛ السلام عليك يا أول من صدقت برسول الله من النساء؛ السلام عليك يا من وفت بالعبودية حق الوفاء؛ وأسلمت نفسها وأنفقت مالها لسيد الأنبياء؛ السلام عليك يا قرينة حبيب

ص:182


1- مفتاح الجنات للسيد محسن الأمين: ص 306. مناسك الحج للسيد الكلبايكاني: ص 169.

إله السماء؛ المزوجة بخلاصة الأصفياء؛ يابنة إبراهيم الخليل؛ السلام عليك يا حافظة دين الله؛ السلام عليك يا ناصرة رسول الله؛ السلام عليك يا من تولى دفنها رسول الله؛ واستودعها إلى رحمة الله، أشهد أنك حبيبة الله، وخيرة الله؛ وأن الله جعلك في مستقر رحمته؛ في قصر من الياقوت والعقيان في أعلى منازل الجنان؛ صلى الله عليك ورحمة الله وبركاته)(1).

تم بحمد الله ومَنِّهِ وسابق لطفه وكرمه.

(وَ ما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ )2.

السيد نبيل قدوري حسن الحسني

مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص:183


1- الأنوار الساطعة: ص 407

قال:

«طوبى شجرة أصلها في حجرة علي عليه السلام، وليس في الجنة حجرة إلا فيها غصن من أغصانها»(1).

3. وعن معاوية بن حمزة، عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«طوبى شجرة غرسها الله بيده نفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وأن أغصانها لترى من وراء سور الجنة»(2).

4. عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:

لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛

(طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) .

قام المقداد بن الأسود الكندي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يا رسول الله وما طوبى»؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يا مقداد شجرة في الجنة لو يسير الراكب الجواد لسار في ظلها مائة عام قبل أن يقطعها،

ص:184


1- تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 59، ط دار المعرفة - بيروت؛ بحار الأنوار: ج 71، ص 372؛ تفسير العياشي لمحمد بن مسعود: ج 2، ص 212، ح 48، ط المكتبة العلمية الإسلامية - طهران.
2- تفسير الثعلبي: ج 5، ص 2288؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص 183، ص 219؛ تفسير فرات الكوفي: ص 208، ح 277 و 279.

وورقها وبسرها برود خضر، وزهرها رياض صفر، وأفنانها سندس واستبرق، وثمرها حلل خضر، وصمغها زنجبيل وعسل وبطعاؤها ياقوت وزمرد أخضر، وترابها مسك وعنبر وكافور أصفر وحشيشها زعفران يتأجج من غير وقود يتفجر من أصلها السلسبيل والرحيق والمعين وظلها مجلس من مجالس شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(1).

المسألة الثانية: إنها خلقت من سفرجل الجنة

عن الزهري عن سعيد بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أتاني جبرائيل عليه الصلاة والسلام بسفرجلة من الجنة فأكلتها ليلة أُسريَ بي فعلقت خديجة بفاطمة، فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة»(2).

يمكن لنا أن نفهم العلة من خلق فاطمة عليها السلام من هذه الثمرة من خلال بعض الأحاديث الشريفة، ومنها:

1 - روى الحر العاملي رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«ما بعث الله عزّ وجل نبياً إلا ومعه السفرجل»(3).

ص:185


1- تفسير سعد السعود لابن طاووس: ص 109، ط منشورات الرضي؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 496؛ البحار للمجلسي: ج 65، ص 72، ح 131.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 156؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 109، ح 34228؛ تذكرة الموضوعات للفتني: ص 99؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 153.
3- وسائل الشيعة: ج 17، ص 131.

2 - وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«وما بعث الله نبياً إلا أطعمه من سفرجل الجنة فيزيد فيه قوة أربعين رجلاً»(1).

3 - قال الإمام الرضا عليه السلام:

«ما بعث الله نبياً إلا أوجد منه ريح السفرجل»(2).

ولعل هذا هو أحد الأسباب التي أطعم فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم السفرجل فتحول ماءً في صلبه صلى الله عليه وآله وسلم لتلد خديجة عليها السلام الحوراء الإنسية صلوات الله عليها وليكون أولادها الأئمة يحملون من القوة ما يحملها الأنبياء عليهم السلام.

المسألة الثالثة: خلقها من رطب الجنة

عن الهروي قال: قلت للرضا عليه السلام: يابن رسول الله أخبرني عن الجنة والنّار أهما اليوم مخلوقتان ؟ فقال:

نعم وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء.

قال: فقلت له: إن قوماً يقولون: إنهما مقدّرتان غير مخلوقتين، فقال عليه السلام:

ما أولئك منّا ولا نحن منهم، من أنكر خلق الجنة والنار فقد

ص:186


1- بحار الأنوار: ج 63، ص 177.
2- المصدر السابق.

كذَّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذَّبنا وليس من ولايتنا على شيء، وخلّد في نار جهنم، قال الله عزّوجلّ :

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ )1 .

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرائيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته فتحول ذلك نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة»(1).

المسألة الرابعة: إنها عليها السلام خلقت من تفاحة من الجنة

عن ابن عمارة عن أبيه عن جابر، عن أبي جعفر - الباقر - عليه السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك تلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك ؟

فقال:

إن جبرائيل عليه السلام أتاني بتفاحة من الجنة فأكلتها فتحولت ماء في صلبي ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة فأنا

ص:187


1- بحار الأنوار: ج 8، ص 119؛ الأمالي للصدوق: ص 546، ح 7/728؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 2، ص 191.

أشم منها رائحة الجنة»(1).

ورد في الحديث لفظ «أحد بناتك» وقلنا في الفصول السابقة إن المراد بكلمة «بناتك» الربائب لأن العرب اعتادت أن تطلق على الربيبة اسم البنت فكان هذا هو لسانهم الذي بعث عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى:

(وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )2 .

المسألة الخامسة: إنها خلقت من جميع ثمار الجنة
اشارة

عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر تقبيل فاطمة عليها السلام فقالت له عائشة: «بأبي أنت وأمي إني أراك تكثر تقبيل فاطمة» فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن جبرائيل ليلة أسري بي أدخلني الجنة وأطعمني من جميع ثمارها فصار ذلك ماء في صلبي فحملت مني خديجة بفاطمة، فإذا اشتقت إلى تلك الثمار قبلت فاطمة فأصبت من ريح تلك الثمار التي أكلتها»(2).

ص:188


1- علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 183، الباب 147، ح 1؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 5، حديث 4؛ تاريخ بغداد للخطيب: ج 5؛ ص 17؛ دلائل الإمامة الطبري: ص 146، ح 54.
2- ذخائر العقبى لمحب الدين الطبرسي: ص 36؛ تاريخ الخميس للديار بكري: ج 1،
بعض دلالات الحديث:
أولاً: (فأصبت من ريح تلك الثمار)

هذا الحديث جاء ليعطي صورة أخرى لعلة تقبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة عليها السلام، وهو يقرب المعنى أكثر ممّا مرَّ في الحديث السابق. إلا أن الصورة الجديدة هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصرح لعائشة بأن رائحة فاطمة عليها السلام هي رائحة ثمار الجنة. فكيف يمكن أن تكون صفة هذه العطور؟ الله ورسوله أعلم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الوحيد الذي أكل من جميع هذه الثمار، وهو الوحيد الذي شم عطرها.

ثانياً: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الاشتياق إلى الجنة

إن الأمر الآخر الذي يظهر من خلال هذا الحديث أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الشوق إلى الجنة وكثرة الشوق دفعته إلى كثرة التقبيل لابنته الحوراء الإنسية الزهراء عليها السلام. وهو ما أثار اهتمام عائشة قائلة له صلى الله عليه وآله وسلم: (إني أراك تكثر تقبيل فاطمة)(1).

ص:189


1- للأحاديث الشريفة التي مر ذكرها في خلق فاطمة من ثمار الجنة دلالات كثيرة لا يسعنا ذكرها هنا، ولقد قمنا بذكرها في كتاب (هذه فاطمة) وهو قيد التنضيد والاخراج والله الموفق لكل خير.

المبحث الثاني: التهيئة النبويّة لنزول الأنوار الفاطمية

اشارة

تناولنا بحمد الله وتوفيقه في المبحث السابق الأحاديث التي تخبر عن خلق فاطمة من ثمار الجنة وفي هذا المبحث نتعرض لنفس المعنى لكن الاختلاف بين هذا المبحث وذاك هو أننا نعرض هنا الأحاديث التي تخبر عن نزول جبرائيل عليه السلام بثمار من الجنة إلى الأرض بينما كان الحديث في المبحث السابق يخص تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمار في السماء في رحلة الإسراء والمعراج.

ومن هنا، فإن جميع هذه الأحاديث التي في المبحثين تنص على مسألة واحدة، هي: أن النطفة النورانية الزكية التي خلقت منها البضعة النبوية، والصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت من عالم الأمر، وعالم النور، من خلال ثمار الجنة.

أما كيف يمكن الجمع بين هذه الأحاديث وتلك السابقة وبخاصة أن فاطمة الزهراء سلام الله عليها قد ولدت بعد المعراج بسنتين، أي إن هذه الثمار بقيت سنتين في بدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومفاد الأحاديث يخبر عن انتقال هذا النور إلى خديجة عليها السلام بعد هذه المرحلة السماوية وهو محل إشكال ؟!

والجواب على ذلك من وجهين:

الوجه الأول

هو أن هذه الثمار لا يمكن قياسها بعالم الدنيا وثمارها، وأن هذه الثمار

ص:190

تحمل من المعاني الدنيوية المسميات لغرض بيان دلالة اللفظ الذي يطلق على هذه الثمرة أو تلك، ولكي يتناسب ذلك مع العقل البشري ولا تمجه أذهانهم، فالناس ليسوا على مستوى واحد من الإدراك والاستيعاب للحقائق.

وعليه فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما أراد أن يبين للناس منزلة فاطمة صلوات الله عليها ومقاماتها صاغ الأمر بشكله الذي يستوعبه السامع، أمّا بواطن الكلمات وألطاف معانيها فهو لذوي القلوب النيرة والآذان الواعية.

ومن هنا فإن معنى تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثمار الجنة في الإسراء والمعراج كان لغاية واحدة، هذه الغاية هي انتقال النور الإلهي إلى صلب النبوة، وإن الحكمة الإلهية اقتضت أن يتم انتقال هذا النور على مرحلتين، المرحلة الأولى: تتم في الإسراء والمعراج وفي مكان خاص من السماء وهي السماء السادسة التي جعل الله فيها الجنة وأن يكون المرشد والطاعم والدليل هو روح القدس وأمين الوحي جبرائيل عليه السلام وإن يكون هذا النور ضمن هيئة خاصة وعناصر محددة من اللون والطعم والرائحة، فكل لون من الألوان له أسراره الخاصة به ومدلولاته الكونية، فلذا ترى تعدّدت الثمار من: «رطبٍ ، وتفاحٍ ، وسفرجل»، مع ثمرة شجرة طوبى التي لم تصرح الرواية عن طبيعتها ولم تذكر صفاتها.

كل ذلك لأسرار خاصة بنور فاطمة صلوات الله عليها، فهذه هي الغاية التي من أجلها تناول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمار في

ص:191

الجنة، وليست الغاية هي تذويق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الثمار؛ إذ ما أسهل ذلك عليه وهو الذي يبيت عند ربه كل ليلة وله مُطعم يطعمه وساقٍ يسقيه(1)! فهذه هي المرحلة الأولى من انتقال النور من عالم الأمر، أي عالم السماء إلى عالم الشهادة، إلى الأرض.

ثم تكون المرحلة الثانية من نزول النور وانتقاله إلى الأرض من خلال نزول جبرائيل عليه السلام حاملاً لهذه الثمار فيضاف إليها (العنب).

وعليه: فيمكن أن يكون هذا النور قد انتقل إلى صلب النبوة مفرقاً على هيئة شعبتين، الأولى كانت في الجنة، والثانية كانت في الدنيا لتُجْمع هاتان الشعبتان في صلب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض.

الوجه الثاني
اشارة

إنّ من خواص بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو حفظ ما يرد إليه من الأنوار الإلهية والفيوضات الرحمانية لتناسب طبيعة بدنه المقدس مع هذه الأنوار بأمر الله عزّوجلّ .

نضيف إلى ذلك أن من المعاجز النبوية التي فاقت معجزة إبراهيم الخليل عليه السلام هي معجزة احتفاظ بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالسم الذي قدمته إليه اليهودية الخيبرية لشهور عديدة حتى ظهر أثره عليه وتوفي شهيداً، وهي حقيقة نص عليها الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في بيانه

ص:192


1- صحيح البخاري، كتاب الصيام، باب: الوصال، برقم 1863؛ ومسلم في صحيحه، كتاب الصوم، باب: الوصال، برقم 1105.

خاتمة العترة و اختياره - تعالى - لهم من الشهادة فقال:

«ما منا ألا مسموم أو مقتول»(1).

وعليه: فإن بقاء ماء هذه الثمار في بدنه المقدس وفي صلبه النوراني النبوي أولى من بقاء نار السم الذي قدمته إليه اليهودية.

أما العلة في بقاء السم دون ظهور أي إشارة فذلك لكونه أفضل الأنبياء والمرسلين وهذا التفضيل يقتضي الشدة في الابتلاء، وقد سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أشد الناس بلاءً؟ فقال:

«الأنبياء ثم الأوصياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل»(2).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(3).

وأن يأتي بجميع معاجز الأنبياء عليهم السلام وبشكل أكبر وأقوى من معاجزهم ومنها معجزة إبراهيم الخليل عليه السلام فكانت معجزة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أكبر من ذلك؛ إذ بقاء النار في جوف الإنسان وفي داخل بدنه لشهور عديدة أكبر وأعظم بكثير من معجزة دخول إبراهيم عليه السلام النار للحظات والخروج منها بإذن الله تعالى.

ص:193


1- كفاية الأثر للخزاز القمي: ص 227؛ البحار للمجلسي: ج 27، ص 218.
2- الدعوات لقطب الدين الراوندي: ص 167؛ وأخرجه أحمد والترمذي بلفظ مقارب: مسند أحمد: ج 1، ص 172؛ سنن الترمذي: ج 4، ص 28.
3- تفسير الرازي: ج 4، ص 175؛ البحار للمجلسي: ج 39، ص 56؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 42.

وهي حقيقة احتج بها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على بعض اليهود الذين جاءوه يسألون عن علة تفضيل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على بقية الأنبياء عليهم السلام وهو لم يؤتَ بمعاجزهم فقال عليه السلام فيما أوتي إبراهيم من معجزة النار فكانت برداً وسلاماً:

(محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل بخيبر سمته الخيبرية فصيّر الله السم في جوفه برداً وسلاماً إلى منتهى أجله، فالسم يحرق إذا استقر في الجوف كما أن النار تحرق، فهذا من قدرته لا تنكره)(1).

إذن:

كان الوجه الثاني: هو احتفاظه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا النور أو بماء هذه الثمار في صلبه لمدة عامين أو أكثر بأمر الله تعالى. حتى حان الإذن الإلهي في انتقال هذه النطفة إلى الطاهرة خديجة عليها السلام.

وفيما يأتي نذكر هذه الأحاديث ونشير إلى معانيها التي وفقنا الله لبيانها والإشارة إليها بشفاعة البضعة المحمدية صلوات الله عليها.

المحور الأول: أحاديث اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس ومنهم أم المؤمنين خديجة عليها السلام

«الله يأمر النبي بالتهيؤ لنزول أمرِ مهمٍّ ».

الحديث الأول؛ روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان جالساً

ص:194


1- الاحتجاج للطبرسي، احتجاجه عليه السلام على اليهود: ج 1، ص 314؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 186؛ البحار للمجلسي: ج 10، ص 33.

بالأبطح ومعه عمّار بن ياسر، ومنذر بن الضحضاح، وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وجماعة إذ هبط عليه جبرائيل عليه السلام في صورته العظمى قد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب، فناداه:

يا محمد العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لها محبّاً وبها وامقاً.

قال: فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، حتّى إذا كان في آخر أيامه ذلك بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال: قل لها:

يا خديجة لا تظني أنّ انقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكن ربّي عزّوجلّ أمرني بذلك لتنفيذ أمره، فلا تظني يا خديجة إلا خيرا فإن الله عزّوجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كلّ يوم مراراً، فإذا جنك الليل فأجيفي الباب وخذي مضجعك من فراشك، فإني في منزل فاطمة بنت أسد.

فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مراراً لفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1).

هذه المقطوعة اقتطعناها من حديث طويل سنورد بقية ما جاء فيه في المبحثين القادمين مع ما يناسبها من أحاديث أخرى.

ص:195


1- بحار الأنوار: ج 16، ص 78-79، ح 20؛ الخصائص الفاطمية للكجوري: ج 1 ص 343-344؛ الأنوار البهية للشيخ عباس القمي: ص 53-54.

دلالات البحث في الحديث:

إن الحديث يبين لنا أنّ الله عزّوجلّ يأمر نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بالتهيئة والاستعداد لتلقي أمر معين وأن هذه الترتيبات وهذا التأهب يظهر أهمية هذا الأمر وعظم منزلته عند الله تبارك وتعالى. وهو ما نرجو أن يوفقنا الله لبيانه من خلال هذه المسائل.

المسألة الأولى: (لماذا الاعتزال لمدة أربعين يوماً؟)
أولاً: (الاعتزال)

وهو منهج من مناهج القرآن الكريم وطريقة من طرق الأنبياء والمرسلين، وأسلوب تعبدي من أساليب الأولياء والصالحين بالتقرب إلى رب العالمين، وهو من الرياضات الروحية التي اعتمدت عليها مدارس العرفان لاسيما إذا توج بالتفكر والتأمل.

والقرآن الكريم يعرض هذا المنهاج التعبدي التقربي في مواضع عدة ليبين آثاره على من انتهجه وسلكه ومن ذلك قوله عزّوجلّ في أصحاب الكهف:

(وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً)1 .

فهذه الآية الكريمة ترشد العارف إلى خاصّتين من خواص الاعتزال إحداهما إنه يمنح المنتهج له آثار رحمة الله فيكون مستحقاً لهذه الرحمة فينشرها الله عليه.

ص:196

والأخرى أن الله عزّوجلّ يهيئ للمتقرب إليه بهذه العبادة سبل النجاة وطرق الخلاص من المهلكات. كما كان واضحاً من حال هذه النخبة المؤمنة التي انتهجت هذا النهج التعبدي، لأن أهم ما في هذا النهج أنه يرشد صاحبه إلى نبع الإخلاص فيروى القلب بمائه الصافي والروح بعذبه الفراتي.

ومن هنا نجده مرافقاً لأولياء الله عزّوجلّ ، لأن الإخلاص غايتهم الموصولة إلى رياض القدس الإلهية وموجب لنزول الفيوضات الربانية، كما كان حال العذراء مريم عليها السلام ونهجها التجردي الاعتزالي التعبدي إلى الله عزّوجلّ فكانت لا ترى أحداً ولا يراها أحد إلا نبي الله زكريا عليه السلام فلم تأخذها العاطفة إلى أهلها والشوق إلى خاصتها وذويها لأن الإخلاص لله غايتها، قال تعالى:

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)1 .

فكانت بهذا النهج قد حازت على الاصطفاء والطهر من الله عزّوجلّ ، وأصبحت موضعاً لامتداد النبوة، فمن خلالها لحق عيسى بإبراهيم عليهما السلام.

ثم ينقل القرآن الكريم صورة أخرى لهذا النهج التعبدي، ورائداً آخر من رواد هذا الصرح الولائي لله عزّوجلّ لنلمس جانباً آخر من جوانب رحمة الله، وأثراً خاصاً من آثار عناية الله، ولوناً جديداً من ألوان المنّ الإلهي والفضل

ص:197

المولوي والعطاء الرباني على عبده ونبيه وخليله إبراهيم عليه السلام.

فنبي الله إبراهيم أيضاً قد سلك هذا المسلك وتقرب إلى الله عزّوجلّ بهذا النوع من العبادة متقرباً بالإخلاص من خلاله إلى الله تعالى فكان ذلك سبباً لنزول الرحمة الإلهية واختصاصه بالأفضال الربانية وموجباً للعناية الإلهية بعد طول عناء وجهد واجتهاد.

قال تعالى:

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا)1 .

فكان (اعتزال) إبراهيم الخليل عليه السلام لقومه وما يعبدون من دون الله سبباً في نزول الرحمة الإلهية فوهب له عزّ شأنه الذريّة وخص هذه الذرية بالنبوة.

ومن هنا: يظهر لنا بعض أوجه الحكمة في اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة عليها السلام متعبداً بهذا النهج وكان مع اعتزاله صائماً في النهار وقائماً في الليل يتقرب إلى الله بأحب العبادات إليه وأوصلها إلى قربه ليلمس آثار رحمة الله العظمى ويتلقى الهبة الربانية والتحفة الإلهية وليعطى ما لم يعطِه الله لأحدٍ من العالمين، فهذه فاطمة عليها السلام، أي إن الله أعطاه الأخيار، وحقة الأنوار، وأمّة الملك الجبار، وأم الأئمة الأطهار صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

ص:198

ثانياً: علم الأعداد والحروف وشرافة العدد أربعين

يعدُّ علم الأعداد أحد أهم علوم أرباب الأسرار وأهل العرفان، والمتصوفة، وكان له رواج كبير لدى العلماء السابقين، أما المتأخرون فما يزال هناك من يأنس بهذا العلم لاسيما المهتمين منهم بالأمور العرفانية، وقد وردت معانٍ كثيرة لخواص هذا العدد في أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة والسلام(1).

ونحن لا نريد أن ندخل في هذا العلم وأبوابه الواسعة وأسراره الخفية فلهذا العلم أهله وحملته إلا أننا نقول فيما يخص الأعداد، وبخاصة فيما نحن بصدده وهو العدد «أربعون» - الذي جاءت به الرواية من خلال ما ذكره جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما حدد له المدة في الاعتزال - نقول: إن لهذا العدد سره الدفين الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم وهم محمد وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم. فهم العارفون بخصائصه الغيبية. إلاّ أننا يمكن أن نصل إلى قناعة في أهمية هذا العدد وآثاره الغيبية من خلال: (القرآن والعترة المحمدية).

بعض الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن العترة المحمدية تعرض لنا بعض الحقائق المرتبطة بالأنبياء وعلاقتهم مع هذا العدد.

قال تعالى:

(وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ

ص:199


1- تفسير الثقلين: ج 1، ص 162.

ظالِمُونَ )1 .

فالقرآن يعرض لنا في هذه الآية المدة التي غاب فيها موسى عليه السلام عن قومه وبعد انتهاء هذه المدة، أي الأربعين يوماً فإن القوم انقلبوا على أعقابهم واتخذوا عبادة العجل.

ثم يبين القرآن الكريم في نفس المجال فيطلق على هذا العدد ب - «الميقات» فيقول عزّوجلّ :

(وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً )2 .

فالآية هنا تشير إلى سر خفي في هذا العدد الذي به يتم الميقات الإلهي.

والقرآن لا يقتصر في أسرار هذا العدد على الأنبياء عليهم السلام بل ينقل لنا صورة عن العقاب الإلهي للظالمين فيقول تعالى:

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ )3 .

وهم قوم نبي الله موسى الذي رفضوا دخول الأرض المقدسة فتاهوا أربعين سنة في البيداء.

ص:200

ثم ينتقل القرآن الكريم إلى مجال آخر فيشير إلى تكرر هذا العدد في موضع جديد هو كمال العقل والأشد، قال تعالى:

(حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )1 .

ومن هنا نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد هبط عليه جبرائيل عليه السلام في الأربعين من عمره الشريف فبعثه الله رحمة للعالمين.

أما ما جاء في الأحاديث الواردة عن العترة الطاهرة فكثيرة في هذا المجال، نذكر ما تيسر منها تيمناً.

فقد ورد ذكر هذا العدد في حفظ الأحاديث النبوية، وأثر هذا الحفظ المقيد بالأربعين حديثاً على الإنسان في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«من حفظ عني من أمتي أربعين حديثاً في دينه يريد وجه الله عزّوجلّ والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً»(1).

وقد ورد أيضاً ذكر هذا العدد وبيان آثاره على من أخلص لله عزّوجلّ مدّة من الزمن بتمامه، فعن أبي جعفر الباقر عليه الصلاة

ص:201


1- بحار الأنوار: ج 2، ص 153 و 154، ح 3 و 5 و 6؛ الخصال للصدوق: ص 542، ح 17؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 8، ص 45، ح 595.

والسلام أنه قال:

«ما أخلص عبد الإيمان لله أربعين يوماً أو قال: ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوماً إلا زهدّه الله في الدنيا وبصَّره داءها ودواءها وأثبتت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه»(1).

وجاء ذكره في مَن أراد التوجه إلى الله عزّوجلّ بالدعاء وطلب الاستجابة في قضاء الحوائج أن يقدم الاستغفار لأربعين مؤمناً ويدعو لهم حتى يضمن لنفسه الاستجابة وقضاء الحاجة.

فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:

«من قدّم في دعائه أربعين من المؤمنين ثم دعا لنفسه استجيب له»(2).

ومنه جاء الاستحباب في تقديم أربعين مؤمناً يعدّهم بأسمائهم ويستغفر لهم في صلاة الوتر من نافلة الليل قبل أن يستغفر لنفسه.

ومن الأسرار الخفية في قضاء الحوائج هو اجتماع أربعين رجلاً في مجلس واحد يدعون الله عزّوجلّ في أمرٍ ما فيقض] الله لهم هذا الأمر يستجيب لهم، وهو ما جاء عن الإمام جعفر بن محمد الصادق روحي فداه، قال عليه السلام:

ص:202


1- البحار: ج 70، ص 240، حديث 8؛ جامع السعادات للنراقي: ج 2، ص 313؛ مستدرك الوسائل للنوري: ص 295، ح 17/5901.
2- وسائل الشيعة: ج 4 باب 45 من أبواب الدعاء ص 1154 حديث 5؛ الأمالي للصدوق: ص 541، ح 725؛ البحار للمجلسي: ج 90، ص 384، ح 6.

«ما من رهط أربعين رجلاً اجتمعوا فدعوا الله عزّوجلّ في أمر إلا استجاب لهم»(1).

ومنها استحباب رش قبر الميت لمدة أربعين يوماً في كل يوم مرة، وقد أمر الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه:

«أن يرش قبره أربعين يوماً في كل يوم مرة»(2)).

ومنها إن مراحل تكوين الجنين من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام، أربعون يوماً لكل مرحلة، فيكون الجنين عند ذلك في شهره السادس وهو قوله تعالى:

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ )3 .

وغيرها من الأحاديث في المجالات المختلفة فإن جميعها تدل على أسرار هذا العدد وشرافته من بين الأعداد عند الله عزّوجلّ .

وعليه نلمس العناية الإلهية في اعتزال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله

ص:203


1- وسائل الشيعة: ج 4 باب 38 ص 1143 حديث 1؛ الكافي للكليني: ج 2، ص 487، باب الاجتماع في الدعاء، ح 1؛ عدة الداعي لابن فهد الحلي: ص 144.
2- وسائل الشيعة «آل البيت»: ج 2 ص 860 باب 32 من الدفق حديث 6؛ وسائل الشيعة «الإسلامية»: ج 3، ص 197، باب 33، ح (3393) 6؛ كشف اللثام للفاضل الهندي: ج 2، ص 396، الفصل الرابع.

وسلم هذه المدة من الزمن لكي يتهيأ ويستعد لاستقبال الهبة الربانية والتحفة الإلهية وهو في نفس الوقت يكشف عن عظم الأمر الذي ينزل به جبرائيل عليه السلام وكبر شأنه عند الله تعالى لأنه استلزم اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً متعبداً فيها صائماً قائما مصلياً متصدقاً متقرباً إلى الله عزّوجلّ .

المسألة الثانية: «جبرائيل عليه السلام يهبط في صورته العظمى»
اشارة

لا بد من الحديث عن الملائكة قبل الدخول في معنى نزول الملك جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى، حتى نصل إلى نتيجة البحث وندرك معنى الأمر، ونفهم عظم المسألة التي استعد لها أشرف خلق الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أولاً: معنى تسميتهم بالملائكة

فأما معنى تسميتهم بالملائكة: فهو إما مشتقة من الألوكة بمعنى «الرسالة»، أو مشتقة من الملك بمعنى «العبودية» المحضة الخالصة.

والملائكة المدبرات والمقدرات، وملائكة الجنة والنار، والملائكة الذين هم حملة التدبير والتقدير والتسخير وغيرها، سميت ملكا لظهور مبدأ الاشتقاق فيه، لأنهم رسل الله في اتصال ما يتحملون من جهات الفيض ورؤوس المشيئة إلى محالها ومواقعها كما نصّ عليهم بأنهم رسل الله في قوله تعالى:

ص:204

(إِنّا رُسُلُ )1 .

وهم المتمحضون في العبودية والمخلصون في الطاعة:

(لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ )2 .

بحال من الأحوال وطور من الأطوار، كما نص عليهم بقوله:

(وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)3 .

وقوله تعالى:

(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )4 .

وقوله تعالى:

(لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ )5 .

فلما ظهر فيهم مبدأ الاشتقاق وتحققت المناسبة المطلوبة بين اللفظ والمعنى أطلق عليهم لفظ الملائكة، وإلا فهم صنف آخر ونوع آخر غير جنس الجن والإنس وغيرهم، وإنما سموا (ملائكة) لهذه العلة التي هي ظهور مبدأ

ص:205

الاشتقاق، فعلى هذا كل شيء فيه هذا المعنى يصح إطلاق لفظ الملائكة عليهم(1).

وهي - أي الملائكة - «ذوات نورانية قد اضمحلت فيهم جهة الميولات النفسانية والشهوات الإنسانية والجنسية، فغلبت عليهم جهة النور، بحيث اضمحلت فيهم الظلمة بالرمة فلا أثر لها بالكلية»(2) وهذا القول مأخوذ من أقوال العترة المحمدية صلوات الله وسلامه عليهم.

فقد وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:

«صور عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد، تجلى بها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله»(3).

وفيما يخص الملائكة من أحاديث فهي كثيرة جداً في مدرسة ثقل القرآن وعترة الهادي إلى طريق الرحمن، أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم إلا إننا أوردنا هذا المقدار لكي لا يطول بنا الوقوف عند هذا المبحث وهو ليس قصدنا وغايتنا بقدر ما نريد أن نمهد لمعنى نزول جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى ونضيف إلى ذلك أنهم، أي: الملائكة عليهم السلام لهم مراتب ثابتة فلا يستطيع أحدهم الصعود إلى مرتبة أعلى من خلال طاعته وهو ما جاء في قول مولانا وسيدنا الإمام الصادق سلام الله عليه في الملائكة:

ص:206


1- أنوار الغيب للسيد كاظم الحسيني الرشتي: ص 50، تحقيق الشيخ أحمد آل بو شفيع.
2- شرح القصيدة للسيد كاظم الرشتي: السؤال 15 ص 231، أنوار الغيب: ص 46.
3- كتاب أصول العقائد: ص 184.

«إنهم ناقصون لا يحتملون الزيادة»(1).

وهي بمعنى أوضح:

إن الملك ناقص لا يحتمل الكمال لأنه صورة عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد؛ لأن الملك مطبوع على الطاعة ومقطوع عليها، مثلاً ميكائيل عليه السلام لما خلقه الله تعالى، له مقام ومرتبة ولكنه لا يزيد ولا ينمو بطاعته وخدمته لله تعالى إلى مقام أرفع وأعلى الآن.

وإنما هو كالسراج إذا أشعلته في أول الليل وأتيت إليه في آخر الليل لا تجده أنور وأشد ضوءاًً عن أول الليل، فإنه نور لا يوجد في مقابلته ظلمة.

وأما الإنسان فإنه تتساوى عنده باختياره نسبة الطاعة إلى المعصية، فإنه مركب من قوى رحمانية عقلية ومن قوى حيوانية، فهو متردد بين الكمال والنقصان، فبطاعته ينمو ويزداد ويترقى إلى مقام القرب الإلهي كسلمان المحمدي رضوان الله عليه فإنه انقطع إلى الله وإلى عبادته مع وجود النقيض في النفس(2) ، وهو أول الصحابة المنتجبين وأسبق الشيعة إلى ولاية آل الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.

لذلك تجدهم عليهم السلام في مراتب مختلفة فمنهم «العالون» وهم: (إسرافيل، وجبرائيل، وميكائيل وعزرائيل) عليهم السلام، ومنهم الكروبيون وهم:

ص:207


1- البحار للمجلسي: ج 3، ص 15 و 37.
2- أنوار الغيب للسيد كاظم الحسيني الرشتي: ص 53.

«الذين جعلهم الله خلف العرش، ولو قُسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم».

وهو قول مولانا الإمام الصادق عليه السلام في وصفهم(1).

والقرآن الكريم يذكر أنواع الملائكة في قوله تعالى:

(وَ النّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَ النّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَ السّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)2 .

وقوله:

(وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَ النّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً)3 .

ولكونهم ذوات نورانية، وقوى روحانية وجسمانية، ذوات شعور وإدراك واختيار، لكنها لضعف تركيبها وعدم كمال انعقادها وغلبة نوريتها تتشكل بأشكال مختلفة، وتظهر بصور مختلفة، ما عدا الصور القبيحة والخبيثة(2).

وقد كان جبرائيل عليه السلام يظهر بصورة «دحية الكلبي» وهو أحد

ص:208


1- البحار للعلامة المجلسي: ج 56 ص 184، رواية 26.
2- أنوار الغيب للسيد كاظم الرشتي: ص 41.

صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ظهر بصورته مرات عديدة للمسلمين بشكل جماعي وهم ذاهبون لغزوة خيبر(1) ، وبشكل فرادى كما ظهر لأم سلمة رضي الله عنها(2).

بينما كان يظهر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورة رجل جميل الصورة عذب الصوت، كما ظهر لمريم بهيئة بشرية:

(فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)3 .

أي: جميل الصورة والصوت.

ثانياً: المواضع التي ظهر فيها جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى
اشارة

أما صورته الأصلية فلم يظهر فيها إلا في ثلاثة مواضع:

الموضع الأول

تجلى فيه جبرائيل عليه السلام بصورته الأصلية في غار حراء يوم المبعث في السابع والعشرين من شهر رجب لسنة أربعين من عمره المبارك، وفي هذا اليوم، وفي هذا الموضع، ولهذا الأمر شأن ومنزلة وخطر عظيم عند الله عزّوجلّ ، ولذا تراه تجلى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورته الأصلية.

ص:209


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 246؛ والبداية والنهاية: ج 4، ص 136؛ الكافي للكليني: ج 2، ص 587، ح 25؛ أمالي الصدوق: ص 426 سنن النسائي: ج 8، ص 103.
2- صحيح مسلم، كتاب المناقب، مناقب أم سلمة رضي الله عنها: ج 7: ص 1.
الموضع الثاني

فقد تجلى فيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورته العظمى التي خلقه الله عليها ليلة الإسراء والمعراج، وهو مفاد قوله تعالى:

(وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى )1 .

وهذه الصورة التي عليها جبرائيل عليه السلام كانت آية من آيات الله الكبرى، ولقوله تعالى:

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى )2 .

الموضع الثالث

هو عند نزول أمر الله تعالى لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالاعتزال عن خديجة والناس لمدة أربعين يوماً، وفي هذا دليل على عظمة مهمّته وجلالة الأمر الذي جاء به، وهو انعقاد نطفة فاطمة أم الأئمة الأطهار وزوجة ولي الله حيدرة الكرار.

ثالثاً: أثر الاعتزال والرياضة النفسية في خلق الجنين

إن التعبد بالصيام والقيام أربعين يوماً وليلة، واعتزال الخلق، وهجران الزوجة، وتشديد الشوق والميل الطبيعي بين السيدة خديجة والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك يكون له الأثر الخاص في انعقاد النطفة الزكية،

ص:210

خصوصاً إذا ألحق به ارتياض سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم رياضة خاصة تتناسب مع مقامه عند الله تعالى ومنزلته لديه حتى حصل الاستعداد لقبول الهدية السماوية والعطية الربانية.

رابعاً: الأدب النبوي في بيان حبه لخديجة عليها السلام

إن بعثه صلى الله عليه وآله وسلم عمار بن ياسر رضوان الله عليه إلى خديجة؛ ليطمئنها عليه وينقل لها كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان مقامها ومنزلتها عند الله، وإنه ليباهي ملائكته بها كل ذلك دلائل على عظم منزلتها عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو دليل على حب النبي الكبير للسيدة الجليلة خديجة سلام الله عليها.

المسألة الثالثة: جبرائيل عليه السلام ينزل بالنور الفاطمي من الجنة
اشارة

تناولنا في المبحث الأول اعتزال النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً صائماً قائماً مصلياً متصدّقاً متقرّباً إلى الله عزّوجلّ .

ونورد هنا ما كان من مجريات للأحداث التي رافقت هذا الأمر الإلهي لسيد الأنبياء وأكرم من خلق الله عزّوجلّ حبيبه المصطفى وعبده المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم.

قال سيدنا ومولانا روحي له الفدى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:

ص:211

«فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد! العليّ الأعلى يقرئك السلام هو يأمرك بأن تتأهب لتحيته وتحفته.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرائيل وما تحفة ربّ العالمين ؟ وما تحيته ؟، قال: لا علم لي، قال: فبينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس، أو قال: إستبرق، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل جبرائيل عليه السلام وقال: يا محمد يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.

فقال علي بن أبي طالب عليه السلام:

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يريد الإفطار، فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي على باب المنزل وقال: يبن أبي طالب، إنه طعام محرم إلا عليّ .

قال علي عليه السلام:

فجلست على الباب وخلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالطعام وكشف الطبق، فإذا عُثق من رطب وعنقود من عنب فأكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه شبعاً، وشرب من الماء رياً، ومد يده للغسل فأفاض الماء عليه جبرائيل وغسل يده ميكائيل وتمندل له اسرافيل، وارتفع فاضل الطعام مع الإناء إلى السماء ثم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي فأقبل جبرائيل وقال: الصلاة محرّمة عليك في وقتك حتى تأتي خديجة

ص:212

فتواقعها، فإن الله عزّوجلّ آل على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة، فوثب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزل خديجة»(1).

مسائل البحث في الحديث:

أولاً: (اشتراك الملائكة الثلاثة عليهم السلام في إيصال الوديعة)

نزول الملائكة المقربين الثلاثة وهم العالون، خصوصاً إسرافيل، حيث لم ينزل قط سوى هذه المرة - حسب ما توفر لديّ من مصادر، وطاقة في البحث - مصحوباً بالتشريفات الخاصة من السندس والإبريق والمنديل والماء والطبق من الجنة مع ما قاموا به عليهم السلام من تقسيم للعمل في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك «التشريف» السماوي فكان الذي أفاض الماء جبرائيل عليه السلام والذي غسل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميكائيل، والحال كان يكفي بجبرائيل بصب الماء على اليدين فيقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغسلهما لكن أن يقوم بغسل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو غاية قصوى في التشرف بخدمته، وكذلك الحال بالنسبة لإسرافيل عليه السلام فإنه يمكن للنبي أن يأخذ المنديل من إسرافيل عليه السلام فيمسح يديه ويمندل يديه لكن أن يقوم إسرافيل ويمندل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمسحهما فهو تشريف لإسرافيل عليه السلام وإكرام لفاطمة صلوات الله

ص:213


1- بحار الأنوار: ج 16، ص 79، باب 5؛ الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص 453؛ العدد القوية لعلي بن يوسف الحلي: ص 221؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 20؛ الخصائص الفاطمية للكجوري رحمه الله: ج 1 ص 344-345.

عليها، حيث إنها أنزلت بتلك العطايا والهدايا يحملها كبار سكان الملأ الأعلى.

وكيف لا وهي صاحبة النور الأوحد الذي خلقه الله من نور عظمته فأشرقت به السماوات والأرضيون، وقد غشي أبصار الملائكة فخروا لله ساجدين وبحمده قائلين وبثنائه مسبحين.

ثانياً: (هل يجوز تأخير الصلاة في شتى الأحوال لعلل راجحة)؟!

قد جاء في الحديث: قول جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«الصلاة محرمة عليك في وقتك حتى تأتي منزل خديجة».

أما الجواب على هذا السؤال فهو عند الفقهاء: «الجواز» فقد جاء في الشريعة السمحاء موارد عديدة يستثنى فيها من المبادرة إلى إقامة الصلاة في أول وقتها.

الأول: الظهر والعصر إذا أراد الإتيان بنافلتهما، وكذا الفجر إذا لم يقدم نافلتها قبل دخول الوقت، ما لم يتضيق وقت فضيلة الفريضة.

الثاني: مطلق الحاضرة لمن عليه قضاء يومه أول ليلته، فإن عليه المبادرة بالفائتة ما لم تتضيق الحاضرة حتى لو كان قد نوى الحاضرة فعليه أن يعدل إلى الفائتة، هذا إذا تذكر قبل فوات محلها، وذلك للنصوص(1) ، التي لأجلها قيل بالمضايقة في قضاء يومه وليلته إلا في فريضة الفجر فلا يتقدم عليها فائتة لحديث

ص:214


1- الوسائل، باب 62 من أبواب المواقيت، الحديث: 1، 2، 4، 7، 8 وجميع أحاديث الباب 63.

أبي بصير وحديث ابن مسكان، كلاهما عن الإمام الصادق عليه السلام(1).

الثالث: المتيمم مع احتمال زوال العُذر أو رجائه، أو لمن عليه البحث عن الماء غلوة سهم أو سهمين كما هو مبين في أحكام التيمم عند الفقهاء.

الرابع: لدفع الأخبثين للحاقن بهما، لقول الصادق عليه السلام:

«لا صلاة لحاقن ولا لحاقنة الحديث»(2).

وقوله:

«لا تصلّ وأنت تجد شيئاً من الأخبثين»(3).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يصلي أحدكم وبه أحد العنصرين، يعني: البول والغائط »(4).

أي حتى يزيلهما ويتطهر من جديد ويصلّي.

الخامس: ليدرك فضيلة الجماعة، والمسجد، وحضور القلب، ولدرك كلّ فضيلة وكمال، ما لم يفض إلى الإفراط في التأخير.

السادس: المستحاضة الكبرى، لها أن تؤخر الظهر لتجمعها مع العصر

ص:215


1- الوسائل، باب 62 من أبواب المواقيت، الحديث 3-4.
2- الوسائل، باب 8 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث: 2؛ أمالي الصدوق: ص 498، ح 12/683؛ المعتبر للمحقق الحلي: ج 2، ص 262؛ المحاسن لأحمد بن محمد البرقي: ج 1، ص 83.
3- الوسائل: باب 8 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث: 3-8؛ تذكرة الفقهاء: ج 3، ص 298؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 2، ص 326، ح 1333.
4- المحاسن لأحمد بن محمد البرقي: ج 1، ص 82، ح 14.

بغسل واحد، وتؤخر المغرب لتجمعها مع العشاء كذلك.

السابع: المغرب والعشاء لمن أفاض من عرفات إلى المشعر، فله أن يؤخرهما ولو إلى ثلث الليل فيجمع بينها، وهذه من السنة المؤكدة ففي صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما لا تصلِّ المغرب حتى تأتي جمعاً(1) وإن ذهب ثلث الليل(2) ونحوه موثقة سماعة عن الإمام الصادق عليه السلام(3).

الثامن: صلاة المغرب لمن ينتظره قومٌ صوّم يخشى أن يجسمهم عن إفطارهم، أو هو تشتاق نفسه إلى الإفطار وتنازعه. كما في صحيح الحلبي وحديث الفضيل وزرارة(4).

التاسع: من أتى بأربع ركعات من صلاة الليل أو أكثر، فدخل الفجر، فله أن يتم وتره مخففة ثم يصلي الفجر، ما لم يسفر الصبح أو تغور النجوم(5) ، ونافلة الفجر أفضل من الوتر.

العاشر: صلاة المغرب للمسافر حتى يغيب الشفق، أو إلى ربع الليل، أو إلى ثلثه، بل مطلق الصلاة لمطلق المسافر المستعجل(6) ، بل ولمطلق الاعتذار

ص:216


1- جمعاً: الجمع هو المشعر الحرام، ويسمى، أيضاً: المزدلفة.
2- الوسائل، باب 5، من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث: 1-2؛ روض الجنان للشهيد الثاني: ص 186؛ منتهى المطلب للعلامة الحلي: ج 2، ص 723.
3- منتقى الجمعان للشيخ حسن صاحب المعالم: ج 3، ص 353.
4- الوسائل، باب 7 من أبواب آداب الصائم، الحديث 1-2.
5- الوسائل، الباب 47-48 من أبواب المواقيت.
6- الوسائل، الباب 19 من أبواب المواقيت.

والاضطرار(1).

فجميع هذه الموارد قد وردت في الشريعة المحمدية عن طريق العترة النبوية صلوات الله عليهم أجمعين.

وقد ورد في التاريخ والسيرة العطرة لسيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد أمر المسلمين بتأخير الصلاة في غزوة خيبر.

فضلاً عمّا لما ذكر فإن إدخال السرور على قلب المؤمن من السنن المستحبة المؤكدة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أفضل الأعمال بعد الفرائض إدخال السرور على قلب المؤمن»(2).

ومن المؤكد إن رؤية الوجه النوراني المشرق باللطف الرحماني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم المسرات على قلب المؤمن ولاسيما زوجته الحبيبة خديجة الكبرى، وقد طال بها الانتظار لرؤياه وحدا بها الشوق لملقاه وألمها الحنين لعذوبة صوته وحلاوة منطقه.

ومما لا شك فيه إنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ به الشوق والحنين إلى حبيبته وأم ولده سلام الله عليها، فما تأخير الصلاة عن أدائها في أول أوقاتها مع جميع هذه العلل الراجحة والحال التي عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ من باب العناية الإلهية بحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:217


1- أنظر: اجماعيات فقه الشيعة للفقيه المحقق إسماعيل الحسيني.
2- أعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي: ص 254.
المسألة الرابعة: انتقال النور الفاطمي إلى الأرض الطاهرة
اشارة

نكمل إن شاء الله تعالى في هذا المبحث رحلة النور الفاطمي والفيض الأقدس، لكوثر الخير، وحوض اليمن، ونسمة الطهر فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، ومراحل تنقل هذا النور الإلهي من تحت ساق العرش واشراقه في قناديل معلقة وانتقاله إلى الجنة فأودعه الرحمن في ثمارها ليستلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضمن مرحلتين، كانت الأولى في الجنة، وكانت الثانية في الأرض من يد جبرائيل عليه السلام لتقر الوديعة الإلهية في قرار النبوة وصلب الرسالة وعمود الوحي وروح الشريعة، ثم ينتقل هذا النور الإلهي المودع في النطفة الزكية الفاطمية في أرض الطاهرة خديجة الكبرى سيدة النساء بعد فاطمة المحمدية.

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً)1 .

لتنمو في تلك الأرض الطاهرة المطهرة المعدة لاستقبال النور الإلهي فتنال بذلك ما لم تنلْه امرأة من العالمين، فأي رحمٍ حوى مثل فاطمة المطهرة... وأي بطن نما فيه مثل البضعة الطاهرة ؟!!

ولقد ذكرنا في المبحثين السابقين حديث خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة التي نزل بها جبرائيل بعد أن اعتزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة أربعين يوماً.

وفي هذا المبحث نكمل ما بقي من هذا الحديث لاختصاصه بما تصدره من عنوان، قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

ص:218

«قالت خديجة رضوان الله تعالى عليها: وكنت قد الفت الوحدة - بسبب اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها هذه المدة - فكان إذا جنني الليل غطيت رأسي، واسجفت ستري، وغلقت بابي، وصليت وردي، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي، فلما كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمشبهة، إذ جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرع الباب، فناديت: من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟.

قالت خديجة عليها السلام: فنادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإني محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.

قالت عليها السلام: فقمت فرحة مستبشرة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفتحت الباب ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنزل وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه، فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة، غير أنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عني النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى حسست بثقل فاطمة في بطني»(1).

ص:219


1- الأنوار البهية للشيخ عباس القمي: ص 56؛ العدد القوية لعلي بن يوسف الحلي: ص 222، ح 14؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 21؛ الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص 453.

دلالات البحث في الحديث:

أولاً: (المنهاج التربوي الأسري عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم)

هنا في هذا الحديث تظهر لنا أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها أحدى الصور المشرقة عن حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسرية، فهو المعلم الأول في الحياة المدنية المتحضرة.

وهذه الصورة كانت تحكي عن جانب من الجوانب العديدة في الحياة الأسرية، والذي يمتاز بالأهمية الكبيرة والتأثير النفسي على الأسرة وهو أحد المناهج التي تنمو من خلالها الأسرة ولتنتج أبناء صلحاء نافعين لأنفسهم ولمجتمعهم.

ولذلك، كيف يكون الأسلوب الذي يقوم به الزوج عند دخوله البيت ؟

هنا في هذه اللحظات القليلة والدقائق المعدودة ينظر الجميع ببالغ الأهمية لما يقوم به الأب من أفعال وينصتون إلى ما يخرج من فمه من كلمات، فإذا كانت مظاهر التعب والضجر واضحة على الأب انعكس ذلك على الزوجة والأولاد ولاسيما لو كانت في الأسرة بنيات فهن الأسرع تأثراً بهذا المنظر والأكثر شعوراً لما يظهر على الوالد.

ومن هنا: فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يدخل إلى البيت بهذا الشكل الذي نقلته هنا زوجته الحبيبة البارة المخلصة الوفية بهذه الكلمات: «وكان إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه».

ص:220

وهنا يظهر بشكل واضح هذا المنهاج التربوي الأسري الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالأب الذي يبدأ مشواره الأسري بالوضوء والصلاة فإنه يضفي على زوجته وأولاده الطمأنينة والسكينة والرحمة، فأي هو أروع من هذه الأجواء الرحمانية ؟! وأي أثر يتركه هذا الاسلوب في نفوس الأولاد والزوجة ؟! وهو في نفس الوقت يعلمهم أهمية الصلاة وأنها المفتاح الذي يجب عليهم أن يفتتحوا به خطوات حياتهم، فيتمسكوا بها ويستعينوا بها ويكونوا مصادقاً لقوله تعالى:

(وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ )1,2 .

ثانياً: المنهاج التربوي في العلاقة الزوجية

ثم تمضي سلام الله عليها لتبين لنا صورة أخرى من الصور التعليمية في جميع جوانب الحياة الدنيوية والأخروية.

وهنا تنقلنا السيدة خديجة في رحاب العلاقة الزوجية لتشير إلى أهم الأسس التي يعتمد عليها قيام البيت وهي صمام الأمان في الحياة الأسرية، فكم من أسرة تهدمت، وكم من علاقة زوجية فشلت وكم من أطفال ضيعت وكانت هي الضحية، بل هي التي دفعت فاتورة الاسلوب الفاشل الذي يفتقده الأب في كثير من العلاقات الزوجية الأسرية كحالات منفردة متعددة.

ص:221

وعندما نقول الأب لأسباب كثيرة منها القيمومية التي لدية والقدرة في التحكم في شؤون الحياة الأسرية وغيرها.

ومن هنا فإن السيدة خديجة سلام الله عليها تصف لنا هذه العلاقة الزوجية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الرقيقة والمنطق العذب والرقة والعاطفة والحب الكبير لهذا الزوج مع الحفاظ على العفة المحاطة بهذه الكلمات، والحشمة التي تفوح من هذه الألفاظ ، قالت سلام الله عليها:

«فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة، غير أنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني، وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها».

فهذه الكلمات على قلتها قد كشفت أحد السنن النبوية في آداب المعاشرة الزوجية وتظهر بشكل كبير الأجواء العاطفية التي ينبغي لكل زوج أن يتعلمها ويستسن بها، لأن هذا التعامل يجمع الشفافية في الاسلوب، والجمال في المبادرة لاستجلاب عاطفة المرأة وتحريكها واستدرار حبها.

ومن هنا فهذا المنهاج التربوي من أهم المناهج التي تدوم بها الحياة الزوجية وتستمر من خلالها العلاقة الزوجية.

وقد اعتمد طب النفس الأسري في كثير من البحوث والدراسات على هذا المنهاج ووضعه كمنهاج يعتمد عليه قيام الرابط الأسري وهو أحد الأسس التي يقوم عليها دوام العلاقة الزوجية، وكم نحن اليوم بحاجة إلى مراجعة تلك السنن النبوية ومعرفة الآداب المحمدية في مختلف ضروب الحياة ولا سيما في الجانب الأسري كأزواج وآباء وإخوان وأبناء.

ص:222

ثالثاً: (الإحساس بثقل فاطمة عليها السلام)
اشارة

إن إحساس السيدة الطاهرة والصديقة الجليلة أم الزهراء صلوات الله عليها بثقل فاطمة عليها السلام، هو خلاف العادة البشرية، وعملية الإحساس بثقل الجنين يتحدد عند الأم بعد الشهر الرابع للحمل.

أمّا بالنسبة للسيدة خديجة عليها السلام فإن إحساسها بثقل فاطمة عليها السلام عائد إلى النطفة الزكية الحاملة للنور الفاطمي وهو كإحساس السيدة مريم عليها السلام بعد أن تمثل لها روح القدس عليه السلام بشراً سويا فإحساسها بثقل فاطمة إنما هو من نور فاطمة وكونها من عصارة دار الآخرة وخلاصة نعيمها الممزوج بعرق روح القدس وزغبه وهو حامل الوحي والفيض الإلهي.

الحديث الثاني

عن زيد بن أسلم عن أبيه عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لما أن مات ولدي من خديجة، أوحى الله إلي أن أمسك عن خديجة وكنت لها عاشقاً، فسألت الله أن يجمع بيني وبينها، فأتاني جبرائيل في شهر رمضان ليلة الجمعة لأربع وعشرين ومعه طبق من رطب الجنة فقال لي: يا محمد كل هذا وواقع خديجة الليلة، ففعلت فحملت بفاطمة، فما لثمت فاطمة إلاّ وجدت ريح ذلك الرطب وهو في عترتها إلى يوم القيامة»(1).

ص:223


1- مقتل الحسين للخطيب الخوارزمي: ج 1 ص 68 الفصل الخامس نقلاً عن كتاب فضائل

دلالات البحث في الحديث:

أولاً: تعين ليلة انعقاد النطفة النورانية التي خلقت منها أم الأئمة

في هذا الحديث نجد هناك تحديداً لليلة التي انعقدت فيها النطفة الزكية لفاطمة صلوات الله عليها وهي ليلة الجمعة من شهر رمضان الواقعة في الليلة الرابعة والعشرين منه، وهذا التوقيت الدقيق لانتقال النور الفاطمي إلى رحم خديجة عليها السلام في غاية الاهتمام الرباني والعناية الإلهية، إذ لا يخفى أن العشر الأواخر من شهر رمضان هي أفضل لياليه وإن كل ليلة من هذه الليالي يطلب العباد فيها التوفيق لليلة القدر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«اطلبوها في العشر الأواخر»(1).

إضافة إلى فضل ليلة الجمعة على الليالي، فسبحان من قدّر لها هذا التقدير وهيأ لها هذا الوقت المحفوف بالبركات ونزول الفيوضات الرحمانية!

وعليه: فإن ولادتها الميمونة السعيدة تكون في شهر جمادى الآخرة وهو ما اشتهر في ميلادها ومطابقٌ لما نصت عليه الروايات الواردة عن العترة النبوية صلوات الله عليهم أجمعين.

ص:224


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 2، ص 395، في ليلة القدر، ح 11؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 8، ص 633، ليلة القدر، ح 24486؛ تفسير الثعلبي: ج 10، ص 252؛ مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ص 467، ح (8669) 4.
ثانياً: القاسم وعبدالله عليهما السلام ولدا وماتا في الإسلام

هذا الحديث يحمل دليلاً آخر لما قدمناه في الجزء الأول من هذا الكتاب الذي بحثنا فيه حياة أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلنا: إن حقيقة أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم ثلاثة فقط ، ولدان وهما القاسم وعبد الله وقد ولدا وماتا في الإسلام وفيهما قال: العاص بن وائل السهمي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعوه فإنه مات ولده فهو أبتر، فأنزل الله تعالى فيه:

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)1 .

وبنت واحدة هي فاطمة صلوات الله عليها والحديث واضح وضوح الشمس أن الله منَّ على نبيه الأعظم بفاطمة بعدهما، فكانت كوثر ذريته وأولاده وهو قوله تعالى:

(إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)2 .

إذن: دلت هذه الأحاديث على مجموعة من الحقائق وهي كالآتي:

1 - أن خلق فاطمة من ثمار الجنة هي حقيقة نصت عليها الأحاديث الشريفة الواردة عن العترة النبوية، وقد كانت على مرحلتين، الأولى في السماء في رحلة الإسراء والمعراج، والثانية في الأرض بعد نزول الأمر الإلهي للنبي بالاعتزال أربعين يوماً.

2 - أن الليلة التي خلقت فيها بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد

ص:225

رافقتها تشريفات خاصة من نزول الملائكة المقربين إلى الأرض وإطعام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطعام الجنة فضلاً عن تحديد الزمن الذي كانت فيه هذه الانتقالة وهي الليلة الرابعة والعشرون من شهر رمضان وأنها ليلة الجمعة وهذا كله يكشف جانباً من منزلة فاطمة الزهراء عليها السلام عند الله تعالى وما اختاره الله تعالى لحفظ شريعته وحججه على خلقه وهم أولاد فاطمة عليها السلام.

المبحث الثالث: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟

اشارة

عن حماد بن عيسى، عن زرعة بن محمد، عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟ فقال عليه السلام:

«نعم، إنّ خديجة عليها السلام لما تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هجرتها نسوة مكة فكن لا يدخلن عليها ولا يسلّمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها فاستوحشت خديجة لذلك وكان جزعها وغمها حذراً عليه صلى الله عليه وآله وسلم فلما حملت بفاطمة كانت فاطمة عليها السلام تحدثها من بطنها وتصبرها وكانت تكتم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل رسول الله يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة عليها السلام فقال لها:

يا خديجة من تحدّثين ؟.

قالت: الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني.

ص:226

قال: يا خديجة هذا جبرئيل يبشرني أنها أُنثى، وأنها النّسلة الطاهرة الميمونة وأنّ الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه»(1).

مسائل البحث في الحديث:

المسألة الأولى: إن فاطمة عليها السلام كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها

إن من السنن التي سنها الله عز وجل في هذا الكون أن جعل آيات وعلامات ومعاجز ترافق سيرة رسله وأنبيائه وأوليائه، وكلما عظمت منزلة الرسول أو النبي أو الولي وعلا شأنه ودنا قربه وأكرم محله كلما كانت هذه الآيات والدلائل والمعاجز التي ترافقه أعظم وأكبر وأدل وآثر وأبلغ تأثيراً في العقل البشري، قال عز وجل:

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ )2 .

ولذلك نجد أن انشقاق القمر هو أعظم من فلق البحر، وأن القرآن أكبر وأدل وأبلغ من التوراة والإنجيل والزبور، وأن مما خص به خاتم النبيين هي فاطمة أم الأئمة الهداة الميامين وكان مما خص به الأئمة أنهم: (محدثون) وقد سأل زرارة بن أعين الإمام الباقر عليه السلام: «من الرسول ؟ ومن النبي ؟ ومن

ص:227


1- أمالي الصدوق: ص، البحار للمجلسي: ج 43، ص 2.

المحدث ؟ قال عليه السلام:

الرسول: يأتيه جبرائيل فيكلمه قبلاً فيراه كما يرى الرجل صاحبه الذي يكلمه، فهذا الرسول، والنبي: الذي يؤتى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السبات إذ أتاه جبرئيل هكذا النبي.

ومنهم من تجمع له الرسالة والنبوة، وكان رسول الله رسولاً نبياً يأتيه جبرائيل قبلاً فيكلمه ويراه ويأتيه في النوم، والنبي الذي يسمع كلام الملك حتى يعاينه فيحدثه، أما المحدّث فهو الذي يسمع ولا يعاين ولا يؤتى في المنام»(1).

وهذا الأمر هو من خواص عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالأئمة عليهم السلام كلهم «محدّث»، جاء ذلك عن الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام، وقد سمعه سليم بن قيس، يقول:

«إني وأوصيائي من ولدي مهديون كلنا محدثون.

فقلت: يا أمير المؤمنين من هم ؟ قال:

الحسن والحسين ثم ابني علي بن الحسين عليهم الصلاة والسلام.

قال: وعلي يومئذ رضيع ثم ثمانية من بعده واحداً بعد واحد هم الذين أقسم الله بهم فقال:

(وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ)2 .

ص:228


1- بصائر الدرجات للصفار: ص 393، ط منشورات الأعلمي، ايران؛ البحار: ج 26، ص 80.

أما الوالد فرسول الله وأما ما ولد يعني هؤلاء الأوصياء»(1).

أمّا بخصوص فاطمة عليها السلام فإنها كانت «محدّثة» وهو أحد أسمائها فهي تُحدّثها الملائكة وهو غير الوحي ولا يسمى بهذه التسمية وهو ما عليه أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام.

قال الشيخ المفيد في شرح عقائد الصدّوق رضي الله تعالى عنهما: هل الوحي هو الكلام الخفي ؟، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إلى إفهام المخاطب على الستر له عن غيره والتخصيص له به دون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرسل صلى الله عليهم خاصة دون سواهم على عرف الإسلام وشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى:

(وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ )2 .

فاتفق أهل الإسلام على أن الوحي كان رؤيا مناماً وكلاماً سمعته أم موسى في منامها على الاختصاص، وقال تعالى:

(وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ )3 .

يريد به الإلهام الخفي إذ كان خالصاً لمن أفرده دون ما سواه، فكان علمه حاصلاً للنحل بغير كلام جهر به المتكلم فأسمعه غيره.

ص:229


1- بصائر الدرجات: ص 392؛ البحار: ج 26، ص 79.

وساق رحمه الله الكلام إلى أن قال: وقد يُرى الله في منامه(1) خلقاً كثيراً ما يصح تأويله ويثبت حقه لكنه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي ولا يقال في هذا الوقت لمن أطلعه الله على علم شيء: إنه يوحى إليه، وعندنا إن الله يُسمع الحجج بعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كلاماً يلقيه إليهم في علم ما يكون، لكنّه لا يطلق عليه اسم الوحي لما قدمناه من إجماع المسلمين.

على أنه لا وحي لأحد بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يقال في شيء مما ذكرناه: إنه وحي إلى أحد، ولله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام أحياناً ويحظره أحياناً، ويمنع السمات بشيء حيناً ويطلقها حيناً، فأما المعاني فإنها لا تتغير عن حقائقها على ما قدّمناه)(2).

فإذن اعتقادنا في عترة الهادي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، أن الله يُسمع الأئمة عليهم السلام كلاماً إليهم بواسطة الملائكة عليهم السلام وهو لا يسمى وحياً، لأنه لا يوحى لأحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام:

«إنما الوقوف علينا في الحلال والحرام فأما النبوة فلا»(3).

وقال المجلسي رحمه الله في بيان الحديث: «أي إنما يجب عليكم أن تقوموا عندنا وتعكفوا على أبوابنا والكون معنا - أي الكينونة معهم - لاستعلام الحلال

ص:230


1- العبارة وردت كذا في المصدر، والصحيح: وقد يُري الله خلقاً كثيراً في منامه لكي يعود الضمير في (منامه) على (خلقاً).
2- تصحيح الاعتقاد: ص 56 و 57؛ البحار: ج 26، ص 83-84.
3- أصول الكافي للكليني: ج 1، ص 268؛ البحار للمجلسي: ج 26، ص 83.

والحرام لا أن تقولوا بنبوتنا، وإنما لكم أن تقفوا علينا في إثبات علم الحلال والحرام وإنّا نواب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ذلك لكم ولا تتجاوزوا بنا إلى إثبات النبوة»(1).

ومن هنا فإن تسمية فاطمة عليها السلام ب - «المحدّثة» هو لسماعها حديث الملائكة وهي تحدثها، وحالها كحال مريم بنت عمران عليها السلام قال الله تعالى:

(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ )2 .

وقد بيّن الإمام الصادق عليه السلام هذا المعنى فقال:

«إنما سميت فاطمة محدّثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها وإن الله عز وجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين»(2).

ص:231


1- البحار للمجلسي: ج 26، ص 83.
2- علل الشرايع: ج 1، ص 182؛ البحار: ج 14، ص 206، من طريق: محمد بن الحسن

وفي حديث آخر: عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن سعد ابن جبير، عن ابن عباس في حديث طويل في: (فضائل علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام) رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في فاطمة عليها السلام وما يصيبها من الظلم بعده:

«ثمّ ترى ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى بالملائكة، فتناديها بما نادت به مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ثم يبتدئ بها الوجع فتمرض.....»(1).

ولم يقتصر الأمر على مريم فقط فقد حدثت الملائكة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام وهو قوله تعالى:

(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ )2 .

فإذن: فاطمة عليها السلام: (محدَّثة) بفتح الحاء والدال وتشديدها، وهي: «محَدِّثة» بفتح الحاء وكسر الدال، أي هي التي كانت تحدث أمها خديجة عليها السلام وهي في بطنها كما جاء في الحديث.

ص:232


1- أمالي الصدوق: ص 177؛ البحار: ج 14، ص 205، برقم 22.

وهذا الأمر هو أحد معاجزها عليها السلام، وحاله كحال عيسى عليه السلام وحديثه مع أمه بعد الولادة قبل أن يكلم أحداً من قومه وهو قوله تعالى:

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)1 .

فإن قيل: إن هذا من مصاديق نبوته عليه السلام ودعوة أمه إلى التصديق به ؟! فما بال فاطمة عليها السلام ؟!.

قلنا: إن مريم كانت تؤمن به نبياً قبل نطقه بل قبل ميلاده وهو قوله تعالى:

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَ يُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصّالِحِينَ )2 .

أما كون ذلك من مصاديق نبوته، فإن نطقه ابتداءً كان مع أمه مريم حينما أخبرها بهز النخلة كما دل عليه قوله تعالى:

(وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا)3 .

والحكمة فيه لتسليتها وذهاب حزنها ولإطعامها، ولذا فهي لم تكن بحاجة إلى نطقه حجةً ودليلاً على تصديقها بنبوته وقد أخبرتها الملائكة بأنه يكلم

ص:233

الناس في المهد، فضلاً عن أن الله تعالى قد أنطق طفلاً في مهده ولم يكن من النبيين كما في قصة نبي الله يوسف عليه السلام في قوله تعالى:

(وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها)1 .

فالشاهد كان طفلاً في المهد بل إن الناطقين في المهد أربعة هم: (شاهد يوسف، وابن ماشطة بنت فرعون، وعيسى بن مريم، وصاحب جريج الراهب)(1).

أما اعتراض الفخر الرازي على هذا القول، وذهابه إلى أن شاهد يوسف عليه السلام كان ابن عم للمرأة، وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت إنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليه فقال: قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنّا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب... الخ» وإن هذا القول أولى من القول الأول لوجوه منها:

(إنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافياً وبرهاناً قاطعاً، لأنه من البراهين القاطعة القاهرة، والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز)(2).

ص:234


1- التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 9، ص 126، ط دار الفكر، عن ابن عباس رضي الله عنه.
2- تفسير الفخر الرازي: ج 9، ص 126، ط دار الفكر.

قلنا:

وإن كان هذا الكلام صحيحاً أعني: «لا يجوز العدول عن الحجة القاطعة عند حصولها وحضورها إلى الدلالة الظنية» إلا أن هذه الحجة لا يمكن عدّها قاطعة لمجرد نطق الصبي قائلاً: (إنها كاذبة وهو صادق) لأن الاكتفاء بهذا اللفظ لا يحقق حجية القطع، فما أهون أن يتهم يوسف عليه السلام بالسحر! فتقول عندئذ المرأة إنه سحر الطفل فأنطقه بسحره، فلا حجة أصلاً لنجاته ولا برهان لصدقه، كما اتهم فرعون موسى بالسحر وأنه كبير السحرة.

ومن هنا تظهر حكمة الله عز وجل في إعطاء الدليل العقلي والقطعي لزوج المرأة بحيث لا يقبل الشك بالتحقق من جهة قدّ القميص، وإن هذا الدليل صادر من فم الطفل في المهد فهذا أعمق في الدلالة وأبلغ في الحجة وأمضى في القطع، لأن الأمر متعلق بعفة يوسف عليه السلام وإخلاصه وهو أعظم شيء يمتلكه الإنسان وبخاصة الدعاة إلى الله عز وجل، ولأن الأنبياء عليهم السلام أقصى ما اتهموا به السحر والجنون لكن لم يتهموا بعفتهم فهم أعف الخلق ومن هنا يظهر خطر المسألة وعظمها، فكان نطق الصبي والدليل الذي تفوه به قد حقق حجية القطع عند الملك بعفة يوسف عليه السلام.

فإن قيل: إن هذا الكلام يرد فيه إشكالٌ وهو: أنَ يوسف عليه السلام في هذه الحادثة لم يبعث نبياً بعد والمعاجز تحصل بعد بعث الأنبياء عليهم السلام ؟!.

قلنا: إن الإشكال مرفوع بأمرين:

ص:235

1 - إن من لطيف حكمة الله عز وجل أن جعل دلائل كثيرة ترافق الأنبياء عليهم السلام قبل بعثهم ليسهل على الناس التصديق بهم والاهتداء إليهم واتباعهم، كتظليل الغمامة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عند خروجه إلى الشام(1) ، والاستسقاء به وغيرها من الآيات الربانية.

وكموسى عليه السلام وسقيه بنات شعيب عليه السلام، وقد شاهد الناس قوته الخارقة أو إلقائه في البحر وعودته إلى أمه لترضعه، ونطق الصبي في المهد ليوسف، أو خروجه من البئر سالماً وغيرها من الدلائل والظواهر التي ترافق سيرة الأنبياء والرسل قبل بعثهم.

2 - قد نص القرآن الكريم على أن المتكلم هو صبي في المهد وليس رجلاً حكيماً ابن عم لها، كما ذهب إليه الفخر الرازي.

وهو قوله تعالى:

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ )2 .

فلا يقال لكلام رجل حكيم بأنه آية من آيات الله عز وجل، وإنما يقال ذلك: عندما يحصل أمر خارق للعادة ومخالف لقوانين الطبيعة، أو هو مما يعجز عنه البشر، ففي هذه الأمور وعند حدوثها يقال لها: آية من آيات الله عز وجل، كما هو الحال في نطق الصبي وهو في المهد.

ومن هنا:

ص:236


1- سيرة ابن هشام: ج 1، ص 192، ط دار القلم.

فإن ما ورد في الحديث من أن: «(فاطمة كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها فتصبرها وتؤنسها).

هو: آية من آيات الله عز وجل التي يظهرها لأوليائه، ومما لا شك فيه أن أم المؤمنين خديجة عليها السلام هي من أولياء الله عز وجل، ومما لا شك فيه أن فاطمة أكرم عند الله من ابن ما شاطة بنت فرعون أو الشاهد الذي شهد ليوسف عليه السلام وهو في المهد، وهي بضعة أشرف خلق الله وسيدة نساء العالمين التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها.

ومن كانت بهذه المنزلة فما أهون على الله تعالى أن ينطقها وهي في بطن خديجة عليها السلام، أو أن تحدثها الملائكة كما كانت تحدث مريم بنت عمران عليها السلام.

المسألة الثانية: بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها أنثى

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا خديجة هذا جبرائيل يبشرني أنها أنثى، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه».

هذه الكلمات كانت من قبل جبرائيل عليه السلام وهي مما بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاءت هذه الكلمات لتبين صفات هذه المولودة وتظهر خصائصها.

ص:237

وهو النهج الذي جاء به القرآن الكريم في تبشير الأنبياء السابقين بمن يأتي من بعدهم وبخاصة عندما يتعلق الأمر بدعوة نبيّ ، أو يكون النبي المبشر به هو من نسل نبي أيضاً، وهذه البشارات إنما بدأت من إبراهيم الخليل كما يعرضها القرآن الكريم، وهو من لطائف الحكمة الإلهية التي خصت إبراهيم عليه السلام بهذا النهج وابتدأت به وما ذاك إلا للإعلان عن البشرى الكبرى والرحمة العظمى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقرآنه وعترته، وهما الثقلان اللذان أوصى بهما هذه الامة المرحومة به صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن هنا فإن البشرى بدأت ببيت إبراهيم عليه السلام، قال تعالى:

(وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى )1 .

هذه البشرى كانت بامتداد النبوة من إبراهيم وجعلها في نسله وصولاً إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت البشارة تحمل معها أيضاً صفات هذا الغلام ولم تقتصر على غلام فقط وإن كان مجيئه بعد بلوغ سن الشيخوخة هو نعمة كبيرة فكيف إذا كان يحمل صفات عظيمة.

قال تعالى:

(قالُوا لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ )2 .

ص:238

وفي آية أخرى أضيفتْ صفة أخرى إلى هذا الغلام غير العلم وهي أنه: (حليم):

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ )1 .

فيكون هذا الغلام يحمل العلم والحلم، ثم ينتقل القرآن ليعطي صورة أخرى عن هذه البشرى ووصولها إلى أم هذا الغلام، وهي زوجة إبراهيم وسماعها للبشرى كان للأسباب التالية:

1 - رعاية لحق الأمومة، فالأم هي بحاجة أيضاً إلى سماع البشرى بحصول الحمل.

2 - سماعها حديث الملائكة مع إبراهيم عليه السلام يكشف عن منزلتها عند الله عز وجل وإن هذه المنزلة محفوظة ولأجلها كشف لها عن السمع فسمعت حوارهم وحديثهم، ثم هي تعلم أنهم رسل الله عز وجل؛ لأنها لاحظت عليهم كما لاحظ زوجها إبراهيم أن أيديهم لا تصل إلى الطعام، فلهذه المنزلة بشرت.

3 - لإخلاصها لزوجها وقيامها على خدمته والعناية به ورعايته، على الرغم من كبر سنها فهي أيضاً قد مستها الشيخوخة.

فضلا عن ذلك فإن من اللطائف الإلهية أن الملائكة اكتفت بذكر البشارة بمجيء الغلام فقط دون أن تذكر لها صفاته، واللطف الإلهي في ذلك يكشف عن حبها الكبير في أن ترى طفلاً ينمو في أحشائها ويربى في حجرها، أي إنها

ص:239

كانت في عطش كبير لسد حاجة الأمومة التي شعرت لسنين طوال أنها قد فقدتها وإلى الأبد، لكن رحمة الله تعالى أدركتها فبشرتها بإمداد هذا النسل، وأن الله سيجعل من ولدها هذا نبياً وهو يعقوب عليه السلام.

ثم تبيّن الملائكة: أن ذلك كله من رحمة الله وبركاته على أهل البيت.

قال تعالى:

(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)1 .

ثم يستمر القرآن بالبشرى فبشر إبراهيم عليه السلام بمولود آخر وهو من الأنبياء أيضاً:

(وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ )2 .

ثم تنتقل البشرى من إبراهيم عليه السلام إلى زكريا:

(يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى )3 .

ص:240

وهذا النبي يحمل صفات عدة بُشِّرَ بها زكريا عليه السلام ومن بين هذه الصفات أنه مصدقٌ بالنبي الذي يعاصره وهو عيسى عليه السلام:

(أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً)1 .

فكانت أول هذه الصفات:

«التصديق بكلمة من الله» وهكذا إلى مريم عليها السلام وتبشيرها بعيسى:

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ )2 .

وعيسى يبشر بخاتمة البشارات وأصل ظهورها والعلة في تنقلها فيقول عز وجل في كتابه الكريم عن تبشير عيسى عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)3 .

بشرى المسيح أنت عنوان دعوته وقبله كل هادٍ صادق القدمِ (1)

حتى إذا بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن البشرى كانت في أمرين:

ص:241


1- أنوار الربيع لابن معصوم: ج 4، ص 333، والبيت للشيخ عز الدين الموصلي.

الأمر الأول: هو القرآن الكريم:

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ )1 .

وقوله تعالى:

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ )2 .

والأمر الثاني: هو عترته صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته الذين قال الله فيهم:

(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)3 .

ثم أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للامة عظمها وخطرها وأنها نجاة المسلمين فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(1).

ص:242


1- تناقلت صحاح المسلمين ومسانيدهم ومستدركاتهم حديث الثقلين بطرق عدة وأسانيد جمة

وعدم افتراق أهل البيت عن القرآن حجة قاطعة في عصمتهم التي هي عدل عصمة القرآن.

ومن هنا يظهر معنى بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بفاطمة عليها السلام.

ومن هنا ندرك معنى صفاتها التي أعلنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين خديجة عليها السلام، وهو نفس البشارة التي جاء بها القرآن الكريم في ذكره للبشارة بولادة الأنبياء عليهم السلام وبيان صفاتهم.

ونحن لا نقول: إن فاطمة عليها السلام من الأنبياء، إلا أنها البضعة النبوية التي جعل الله نسل النبي المصطفى منها، وجعل من نسلها أئمة هداة مهديين خلفاء لله في أرضه بعد انقضاء وحيه.

ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم بعض صفاتها وهي:

«النّسمة، الطاهرة، الميمونة».

فهذه صفات ثلاث ذكرها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وكل صفة لها معنىً خاصٌّ بها.

فأما معنى: (النّسمة)، فهي الروح أو النفس(1) ، فإذا أريد بها (الروح)

ص:243


1- لسان العرب لابن منظور: ج 14، ص 130، مادة: نسم.

فإن فيه معانيَ جمّة، ودلائل عظيمة، منها: (الحياة) فإن كل شيء لا روح فيه فلا حياة له، أو فيه؛ وهو إما جماد، وإما ممات.

والحياة هنا: هي حياة ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بوصفها الأصل في نمو ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها كان ظهور الأئمة؛ لأنها أمهم جميعاً عليهم الصلاة والسلام الذين أحيا الله بهم الدين.

وأما إذا أريد به: (النفس).

ففاطمة عليها الصلاة والسلام هي: (النفس المطمئنة)(1) ، ويمكن الاستدلال على ذلك بأمور:

1 - قد ورد في الحديث في ذكر أسمائها عليها السلام أنها (الراضية، المرضية)(2).

2 - الاطمئنان أصله الإيمان ومقره القلب، حتى إنه ارتبط به ارتباطاً وثيقاً.

ص:244


1- وهو قوله تعالى في سورة الفجر، الآيتان: 27 و 28 (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ...).
2- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج 3، ص 133، ط مطعبة الحيدرية، النجف؛ الأمالي للصدوق: ص 250، مؤسسة البعثة؛ عيون أخبار الرضا للصدوق: ج 1، ص 30، مؤسسة الأعلمي بيروت؛ البحار للمجلسي: ج 8، ص 178؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 9، ص 282، ط مؤسسة إسماعيليان؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 410 وج 2، ص 179، ط دار الأسوة.

قال تعالى:

(الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ )1 .

فقدم الإيمان على الاطمئنان لأنه الأصل، ولولاه لم يحدث الاطمئنان.

وبالإيمان يثبت القلب أي يكون مستقراً فلا تؤثر فيه الكروب النازلة أو الحوادث المكرهة.

قال تعالى:

(إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ )2 .

ومن هنا فإن من كان الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها(1) ، كانت كل ذرة في ذاتها وكيانها تنطق إيماناً وتشع اطمئناناً.

وعليه: فإنها عليها السلام كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (النّسمة) أي: (النفس المطمئنة).

ولا تعارض في أن يكون هذا حال الأئمة عليهم السلام لكونهم حجج الله على خلقه وأمناءه على شرعه.

ص:245


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 153-154؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 401، برقم (1001)؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 56-57 ط دار الجبل؛ الثغور الباسمة للسيوطي: ص 30، برقم 42؛ وقال: إسناده حسن مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 203، وقال: إسناده حسن؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 7، ص 1224.

المبحث الرابع: (فأجاءها المخاض)

اشارة

وبعد أن حملت الصديقة الطاهرة، أم المؤمنين خديجة الكبرى سلام الله عليها بالنطفة الزكية النورانية المحمّدية ونمت فاطمة سلام الله عليها في أحشاء خديجة تسعة أشهر إلاّ أربعة أيام؛ إذ إنّ ليلة انعقاد النطفة النبوية كانت ليلة الرابع والعشرين من رمضان المبارك، وها هو اليوم العشرون من جمادى الآخرة وفيه بدت آلام المخاض على أم المؤمنين خديجة عليها السلام:

«وحانت ولادتها فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً فاغتمت خديجة عليها السلام لذلك.

فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنهن من نساء بني هاشم ففزعت منهنَّ لما رأتهنَّ فقالت إحداهنَّ : لا تحزني يا خديجة فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك»؟!

أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها، وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة عليها السلام طاهرة مطهرة.

فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النّور حتى دخل بيوت مكة ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور.

ص:246

ودخل عشر من الحور العين كلّ واحدة منهنَّ معها طشت من الجنة، وإبريق من الجنّة، وفي الإبريق ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضاًَ من اللّبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر فلفتها بواحدة، وقنعتها بالثانية.

ثم استنطقتها فنطقت فاطمة عليها السلام بالشهادتين وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن أبي رسول الله وأن بعلي سيّد الأوصياء وولدي سادة الأسباط .

ثم سلمت عليهن وسمت كل واحدة منهن باسمها وأقبلن يضحكن إليها وتباشرت الحور العين وبشر أهل السماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة عليها السلام، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك.

وقالت النسوة: خذيها يا خديجة، طاهرة، مطهرة، زكية، ميمونة، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها فرحة مستبشرة والقمتها ثديها فدّر عليها، فكانت فاطمة عليها السلام تنمي في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر وتنمي في الشهر كما ينمو الصبي في السنة)(1).

دلالات البحث في الحديث:

بعد أن تناولنا الأحاديث السابقة وبينا بعض دلالات البحث فيها والتي بدا بعضها موسعاً بسبب أهميتها فإني وجدت أن أشير إلى بقية الدلالات في الأحاديث القادمة على نحو الاختصار معتمداً على ذكر الإشارة في البعض منها، ومحاولاً عدم الإطالة فيها إلا ما ألزمتني الضرورة في ذلك من قبيل

ص:247


1- أمالي الصدوق: ص 69، ط مؤسسة البعثة، البحار للمجلسي: ج 43، ص 2، ح 1.

المسؤولية الشرعية في بيان حقائق الأحداث أو لتكامل حلقات البحث بحيث لا يمكن ترك بعضها لأنه يسبب حدوث فراغ ذهني أو حلقة مفقودة.

المسألة الأولى: الحكمة في ذكر الرفقة لآسيا مع خديجة في الجنة

(لماذا ذكر الإمام الصادق عليه السلام الرفقة لآسية مع خديجة في الجنة ولم يذكرها لبقية النساء وهنَّ جميعاً في الجنة)؟!

الوجه الأول في ذلك: أن آسية بنت مزاحم كانت قد سألت الله أن يبني لها بيتاً في الجنة:

(إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ )1 .

إن خديجة بنت خويلد سلام الله عليها كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب(1).

كما أن البيت الذي سألت الله آسية أن يبنيه لها هو بجوار بيت خديجة، وبهذا تكون رفيقة لخديجة في الجنة.

ص:248


1- البحار للمجلسي: ج 16، ص 8، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ صحيح البخاري: ج 4، ص 231، ط دار الفكر - بيروت؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 224، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 7، ص 302، ط دار الكتب العلمية بيروت؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 438، ط دار الكتب العربي - بيروت؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 101، ط دار الكتب العلمية - بيروت.

الوجه الثاني: هو أن آسيا بنت مزاحم كانت بسبب إخفائها إيمانها تتعبد بمنهج الاعتزال من قومها، بل حتى مع أقرب الناس إليها بما تفرضه الحياة الزوجية عليها من اختلاط وتقارب إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تعتزل هذه الدنيا، وكذا كان حال خديجة عليها السلام فقد اعتزلت الحياة الدنيا والتجأت إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عما فرضه المشركون رجالاً ونساءً من حصار وعزلة على خديجة كما أظهره الحديث.

المسالة الثانية: ما هي العلاقة بين صفة نساء بني هاشم وبين النساء اللاتي دخلن على خديجة عند ولادة فاطمة عليها السلام ؟

(لماذا كان دخول النساء على خديجة عليها السلام بصفة نساء بني هاشم، وهل له علاقة بفاطمة عليها السلام)؟!

إن لدخول النساء الأربع اللاتي جاء ذكرهنَّ وتعريفهنَّ في الحديث الشريف للإمام الصادق عليه السلام بصفة نساء بني هاشم له عدة أوجه، منها:

1 - لأفضلية بني هاشم وشرافتهم على سائر قبائل العرب، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم»(1).

ص:249


1- أخرجه مسلم في صحيحه عن وائلة بن الأسقع: ج 7، ص 59، باب: في معجزات النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم.

2 - من الطبيعي أن امتناع نساء قريش عن المجيء إلى خديجة عليها السلام، ترك في نفسها الحزن والشعور بالوحشة، وأن دخول النساء عليها وهنّ على غير الهيئة والصفة التي لنساء قريش وبخاصة بني هاشم يزيد في فزعها عند رؤيتهنَّ مما يؤدي إلى التسبب في زيادة آلامها وهي في وضع لا يسمح أن تضطرب فيه نفسيتها.

بل بحاجة إلى السكينة والطمأنينة لتسهيل الولادة، فدخولهنَّ عليها بهيأة نساء بني هاشم كان خوفاً عليها وعلى مولودها النبوي الفاطمي صلوات الله عليها.

3 - من المفروض أن يستجيب الأقرباء إلى تلبية نداء المحتاج للمعونة من أقربائه وخديجة هي أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ إنها تتصل معه بالجد الرابع وهو قصي بن كلاب فبنو هاشم هم أولى برعاية خديجة عليها السلام وهي في حال كهكذا من المخاض.

وهذا يكشف عن الرعاية الإلهية واللطف الرحماني بخديجة كي تشعر بأن أهلها معها.

المسألة الثالثة: ما معنى دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة عند ولادتها؟

(ما المقصود من دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور)؟!

ص:250

والجواب من وجهين:

الوجه الأول: هو إشارة إلى دخول الإسلام إلى جميع بيوت مكة وهذا معنى عام، ولكونها عليها السلام شجرة الإمامة.

الوجه الآخر: وهو الأقرب إلى القصد، فإن نورها الذي ملأ الشرق والغرب وأشرق في جميع مواضع الدنيا هو ولدها الإمام المهدي عجل الله فرجه.

«الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً»(1).

وهذا الامتلاء لا يتحقق معناه إلا بوصول العدل الإسلامي المحمدي العلوي الفاطمي إلى كل ذرة في الأرض، كما وصل نور فاطمة عليها السلام وأشرق في كل موضع في شرق الأرض وغربها.

المسألة الرابعة: نطق فاطمة عليها السلام بالشهادتين

هذا الأمر من خواص المعصومين عليهم السلام، وهو أحد الدلائل التي تدل على اختصاصهم بالعصمة الإلهية، والاصطفاء الرباني.

إذ إن المعصوم عليه السلام يبيّن بعد ذكره الشهادتين المهمة المكلف بها والدور الذي اختاره الله له، والأمر الموكل إليه، وشاهده من الكتاب الحكيم عن ولادة نبيّ الله عيسى عليه السلام:

ص:251


1- وهو حديث نبوي، أخرجه الذهبي في سير أعلام النبلاء: ج 15، ص 253؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 4، ص 161؛ أنظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 1، ص 370، ح 316، (يملأ الأرض عدلاً وقسطا).

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا)1 .

بعد ذلك بيَّن عليه السلام الأمر الإلهي الذي كلف به:

(وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا)2 .

ولذلك:

فإن الزهراء فاطمة عليها السلام بعد أن ذكرت الشهادتين، ذكرت الولاية لعلي بن أبي طالب وبأنه سيد الأوصياء وأن ولديها سادة الأسباط ، ومن هذا الكلام تظهر عليها السلام الجعل الإلهي لها فقد جعلها الله تعالى: (زوجة سيد الأوصياء) و (أم سادة الأسباط ).

ثم قامت عليها السلام، بالسلام على جميع مَن حضرْنَ للتشريف بولادتها وتسميتهن بأسمائهنَّ لأنها عليها الصلاة والسلام سيدتهنَّ ، فهي: (سيدة نساء العالمين)(1) والحور من نساء العالمين.

ص:252


1- أخرجه الحاكم في المستدرك: ج 3، ص 156، ط دار المعرفة - بيروت؛ والديلمي في مسند الفردوس: ج 3، ص 145، حديث 4388، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 110، حديث 24232؛ الجمع بين رجال الصحيحين للعتسراني: ج 2، ص 611، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 56، ط دار الجيل - بيروت؛ الجامع من المقدمات لابن رشد: ص 66، ط دار العرفان؛ وسوف نورد المزيد من المصادر في باب: (منزلة فاطمة في السنة النبوية).
المسألة الخامسة: مكان ولادة فاطمة عليها السلام

إنّ الموضع الذي ولدت فيه فاطمة عليها السلام يعدّ من المواضع التي يتقرب بها المؤمنون إلى الله عز وجل، ومنها يتوجهون إليه بالدعاء لقضاء حوائجهم، وقد دلت النصوص التاريخية وواقع حال المسلمين في زيارتهم للأماكن المقدسة في مكة المكرمة وما عليه فقهاؤهم قبل مجيء الوهابيين إلى الحكم هو أن دار أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها وهو البيت الذي ولدت فيه فاطمة عليها السلام كان من الدور المخصوصة للعبادة ويقصدها الناس بالزيارة(1).

وكيف لا وهي بيت النبي الذي تزوج فيها وعاش أكثر من أربع وعشرين سنة حتى هاجر عنها إلى المدينة وفيها رُبّيَتْ الزهراء وفيها زغب جبرائيل وعرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها مهبط الملائكة ومحل عروجهم وبين جوانبها نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعبده وموضع تهجده.

فجميع هذا وغيره هو مما حظى به دار خديجة أم المؤمنين سلام الله عليها، حتى عرف اليوم بموضع مولد فاطمة صلوات الله عليها؛ لعظم هذا التشريف، ولخصوصية ولادة البضعة النبوية والشجنة المحمدية.

وعليه؛ فإن فاطمة الزهراء قد ولدت في بيت أمها الصديقة الطاهرة حبيبة رسول رب العالمين وأم أولاده، فكان هذا الدار أحد المواضع المكرمة والمشرفة بالعبادة والزيارة والتوسل إلى الله تعالى.

ص:253


1- شفاء الغرام للحافظ أبي الطيب الفاسي: ج 1، ص 272، ط دار الكتب العلمية.

المبحث الخامس: إرضاع خديجة إياها (عليها السلام)

إن السبب الذي دفعني لإفراد بحث مستقل في رضاع فاطمة سلام الله عليها كان لارتباطه بالسيدة خديجة عليها السلام فضلاً عن أهمية حجر الأمومة وأثره الكبير في بناء شخصية الإنسان؛ إذ إن لبن الأم له تأثيرات بايلوجية وأخرى سايكلوجية.

فالأم التي تغذي وليدها بلبنها لا تنمي فيه الجانب التكويني الخلقي فقط بل هي تنمي فيه الجانب الخُلقي أيضاً فتورثهُ من صفاتها الأخلاقية الكثير من دون أن تشعر بذلك أو تريد، وهو ما أشار إليه حديث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الخصوص فقال:

«ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه»(1).

وقال عليه السلام:

«لا ترضعوا أولادكم عند المرأة الحمقاء فإن لبنها يعدي»(2).

أي إن هذا اللبن يحمل بين جزيئاته وبحسب لغة الطب الوقائي «جرثوماً»

ص:254


1- الكافي للكليني: ج 6، ص 40؛ من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 3، ص 475؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 8، ص 108.
2- تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: ج 2، ص 627، ط منشورات مكتبة المرتضوي؛ الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 23، ص 376، ط مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين - قم؛ البحار للمجلسي: ج 100، ص 323، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ وسائل الشيعة (الاسلامية) للحر العاملي: ج 15، ص 188، ط دار احياء التراث العربي - بيروت.

أو «فايروساً» لكن لا يصيب الخلايا الجسمية إنما يصيب الخلايا العقلية، أو فلنقل المسؤول عن الإدراك والوعي في الدماغ، فيؤدي إلى نشوء طفل لا يحسن التصرف ولا يميز الأمور ولا يدرك بجدية ما يدور من حوله وبالنتيجة يتخرج من هذا الحجر الذي نما فيه وتربى عنده إنسان فاشل لا يشعر بالمسؤولية ولا يسعى لتحقيق أي هدف.

فكيف إذا أضيف له ما يتوارث من حجر الأم خاصة فهو وفي الوقت الذي يتناول فيه اللبن فإن آذانه تسمع ما تتلفظه هذه الأم وإن جهازه السمعي الباطني يسجل هذه الألفاظ في ذاكرة الدماغ فما إن يكبر الإنسان حتى يجد هناك أموراً كثيرة تدفعه وتحرك مشاعره إما إلى الخير وإما إلى الشر، وهو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»(1).

وعليه كيف يمكن أن يتحقق معنى التحصيل للعلوم فيما لو كان هذا الجهاز معطلاً أي الجهاز السمعي الباطني عند الطفل والذي أسماه القرآن الكريم: (الأذن الواعية)(2).

ص:255


1- العلم والحكمة في الكتاب والسنة لمحمد الريشهري: ص 206، 207، ط مؤسسة دار الحديث - قم؛ كشف الظنون لحاجي خليفة: ج 1، ص 51، ط دار احياء التراث العربي - بيروت، أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 4، ص 112، ط دار التعارف - بيروت.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 158، ط مجمع إحياء الثقافة الإسلامية - قم؛ معاني الأخبار للصدوق: ج 9، ص 59، ط مؤسسة النشر

وهذه الأذن الواعية تتجلى بأكبر صورها وأعلى قدرتها عند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعند الأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، وقيل إنها نزلت في علي بن أبي طالب سلام الله عليه خاصة(1).

وعليه:

فإن البضعة النبوية المحمّدية وكما مر علينا سابقاً كانت تسمع وترى وتجيب على ما كان يدور من حولها، وهذه إحدى خصائص من اجتباهم الله عز وجل لرسالته وجعلهم تراجمة وحيه ولسان توحيده، والدالين عليه والهادين إليه سلام الله عليهم أجمعين.

ولكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى الخصائص والمزايا التي يشترك بها بنو آدم معهم؛ لنبين أنها حتى من هذا الجانب فقد خصها الله بما لم يخص به أحداً من العالمين.

ص:256


1- مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 158، ط مجمع إحياء الثقافة الاسلامية؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي: ج 3، ص 137، ط المكتبة المرتضوية؛ البحار للمجلسي: ج 35، ص 329، مؤسسة الوفاء - بيروت؛ تفسير فرات الكوفي لفرات بن إبراهيم الكوفي: ص 499، مؤسسة الثقافة والارشاد - طهران.

ومن بين هذه الخصائص التي تشرك فيها الزهراء مع بني آدم من جهة المثلية لهم أنها عليها السلام دخلت إلى حجر الأمومة كما دخلوا لكن حجر الأمومة الذي ربّيَتْ فيه فاطمة الزهراء ليس له مثيل على وجه الأرض.

إنه حجر أم المؤمنين الصديقة الطاهرة الزكية الجليلة هذه المرأة التي كانت مسكن خاتم الأنبياء، وأنس سيد المرسلين، ومأوى حبيب رب العالمين، وملجأ أشرف الخلق أجمعين.

فتأمل أيها القارئ الكريم عندما تكون الأم التي تروي طفلها وتغذيه بلبنها بهذه الصفات فكيف ينمو طفلها وأي صفات سيرثها؟!

وعندما تكون هذه الأم مأوى ووقى لسيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الشكل، فكيف ستكون لفلذة كبدها وسويداء قلبها وبخاصةً أنها فقدت طفلين من قبل فكيف ستحنو على هذه المولودة سلام الله عليها؟!

ومن هنا: نفهم لماذا أبت أم المؤمنين خديجة عليها السلام أن يرضع أحد من النساء فاطمة، وتولت هي رضاعتها(1).

وهذا فيه من العناية الإلهية الخاصة بأن جعل فاطمة تنمو في أحشاء خديجة سلام الله عليها وترضعها وتتولى رعايتها والإشراف عليها منذ اللحظات الأولى لولادتها.

فما إن انتهت مراسيم استقبالها وتغسيلها بماء الجنة ولفها بخرقة بيضاء

ص:257


1- طبقات ابن سعد: باب ترجمتها، السيرة النبوية لابن كثير: ج 4، ص 608، ط دار المعرفة - بيروت.

من الجنة كما مر بيانه، فتناولتها أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها وهي فرحة مستبشرة وألقمتها ثديها فدر عليها فكانت فاطمة عليها السلام تنمو في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر، وتنمو في الشهر كما ينمو الصبي في السنة(1).

والحكمة في ذلك هو لكي يراها الناظر وهي على هيئة المرأة الكبيرة فيدرك وهو ينظر إليها تمشي وجلبابها يخط الأرض أن الذي يمشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا أولاً.

أما ثانياً: فلكي تُعد إعداداً خاصاً لما ينتظرها بعد وفاة خديجة سلام الله عليها من العناية والرعاية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكي تكون قادرة على خوض عملية بناء الإسلام مع أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ثالثاً: إقراراً لعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يراها وهي أمامه امرأة تحاكي هيئتها من كانت في العشرين فيسعد بها وهو يراها قد بلغت مبلغ النساء فيعيد بالنظر إليها تلك اللحظات السعيدة التي عاشها مع أم المؤمنين خديجة.

رابعاً: إن في ذلك حرباً على المنافقين وشوكةً في عيون الكافرين وقد وصفوا النبي من قبل بالأبتر بعد أن مات ولداه فهاهي فاطمة تنمو بأسرع مما ينمو به الطفل فتملأ الدار النبوي بهجةً وسروراً.

ص:258


1- بحار الأنوار: ج 43، ص 3، حديث 1، نقلاً عن الأمالي للصدوق.

المبحث السادس: تسميتها

إن من السنة المؤكدة استحباب اختيار الاسم الجميل للمولود، بل قد ورد في الحديث: استحباب اختيار اسم للمولود قبل ولادته(1).

ولقد كانت العرب قبل تشرفها ببعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسمي أبناءها بأسماء تكشف عن غلظة قلوبهم وحبهم للحروب، فكانت تختار ما يرمز إلى القوة والشدّة فذهبت إلى تسمية أبنائها بأسماء الحيوانات وبخاصة المفترسة ومنها الطيور الجارحة «كنمر، وأسد، وفهد، وصقر، وغيرها» وأيضاً ما كان يدل على الصلابة والتحدي: كصخر، وحرب، ومُرة... الخ.

فلما جاء الإسلام وظهر في مجتمع الجزيرة أخذوا يسمون أبناءهم بتسميات جميلة عملاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن»(2).

لكن قبل ذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يباشر بتغيير أسماء كثيرة كأبي بكر وكان اسمه قبل الإسلام عبد العزى فسماه النبي صلى الله عليه

ص:259


1- وسائل الشيعة (آل البيت عليهم السلام) للحر العاملي: ج 21، ص 387، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم؛ وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي: ج 15، ص 121، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 21، ص 331؛ الخصائص الفاطمية للشيخ محمد باقر الكجوري: ج 2، ص 569، انتشارات الشريف الرضي.
2- الآداب للبيهقي: ص 290، ج 604، ط دار الكتب العلمية.

وآله وسلم: (عبد الرحمن)(1) وكتغيير اسم زينب بنت أم سلمة وكان اسمها بترة (برة) فسماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (زينب)(2) ، وغير ذلك هم كثر.

ثم بعد ذلك أخذوا يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبنائهم فيضعونهم في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدعو لهم ويبارك عليهم ويسمي البعض منهم، وفي هذا الصدد فقد سجل التاريخ حادثة جرت لأحد هؤلاء الأطفال وهو «مروان بن الحكم» فما إن أدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونظر إليه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«هو الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون»(3) ؟!

وتمر الأيام ويكبر هذا (الوزغ) وإذا به خليفة للمسلمين ؟!

فكيف يكون حال الإسلام والحاكم الذي تسلط على رقابهم قد لعنه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! والعجيب في الأمر أنك تجد صحاح المسلمين مليئة بأحاديث هذا الملعون على لسان النبي صلى الله عليه وآله

ص:260


1- سيرة الحلبي: ج 2، ص 414، ط دار المعرفة - بيروت؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 152، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ فتوح البلدان للبلاذري: ج 1، ص 110، ط مكتبة النهضة المصرية - القاهرة.
2- الأدب المفرد للبخاري: ص 244؛ الآداب للبيهقي: ص 292.
3- ينابيع المودة للقندوزي الشافعي: ج 2، ص 470؛ النصائح الكافية لابن عقيل: ص 76؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 479، ط دار المعرفة؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 12، ص 276؛ السيرة الحلبية: ج 1، ص 510؛ جواهر المطالب: ج 2، ص 192؛ الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 4، ص 196.

وسلم! والأعجب منه أن يصنفه البعض ضمن قائمة الصحابة ونظرية: «كلهم عدول» فأي عدلٍ هذا والرجل إنما هو «فضض من لعنة الله» أو «قصص من لعنة الله» كما صرحت بذلك عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).

والأمر لم يتوقف عليه فقد لعنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولعن أباه وولده جميعاً وهو ما رواه محمد بن سوقة الشعبي عن ابن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لعن الحكم وولده»(2).

وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه: (بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره كما تنزُّ القردة فما رُئي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستجماً ضاحكاً بعد هذه الرؤيا حتى توفي)(3).

ص:261


1- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 481؛ فتح الباري لابن حجر: ج 8، ص 443؛ عمدة القاري للعيني: ج 19، ص 169؛ تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي: ج 3، ص 282؛ تفسير ابن كثير: ج 4، ص 172؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 6، ص 41؛ فتح القدير للشوكاني؛ تفسير الآلوسي: ج 26، ص 4؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 12، ص 277؛ جواهر المطالب لابن الدمشقي: ج 2، ص 192؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 469.
2- مستدرك الحاكم: ج 4، ص 481، ط دار المعرفة. والذهبي في التخليص مطبوع مع المستدرك: ج 4، ص 481.
3- كنز العمال للهندي: ج 6، ص 29، وص 39، وقال: أخرجه أحمد بن حنبل، والطبراني؛ المستدرك للحاكم: ج 4، ص 480، عن أبي ذر الغفاري ووافقه الذهبي عليه في تلخيصه.

وقد نزل جبرائيل عليه السلام بعد هذه الرؤيا بقوله تعالى:

(وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ )1 .

وهذه الشجرة الملعونة هم: (بنو أمية)(1).

ومن ذلك نعلم كيف أن الله ابتلى الإسلام بهم وجعلهم فتنة للناس، وهنا: جاء قوله تعالى بكلمة: (الناس) ولم يقل: «المسلمين»، لأن بلاءهم وأفعالهم أهلكت النسل والحرث ولم يسلم منهم أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم، لأنهم أشر الخلق لله تعالى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، ودين الله دغلاً»(2).

ومن هذا كله يستفاد أن مجيئهم بأولادهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو لحكمة خاصة، فيها الحجة البالغة، ليعلم المسلمون أن هذا المولود وذاك إنما حقيقتهم هي بهذا الشكل الشنيع حتى يتجنبوهم ويحذروهم، لكن

ص:262


1- التفسير الكبير للرازي: ج 10، ص 238، تفسير سورة الإسراء، ط دار الفكر - بيروت؛ تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 5، ص 309، ط دار الفكر، وقال: أخرجه ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله يقول لجدك وأبيك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
2- المعجم الصغير للطبراني: ج 2، ص 136؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 480؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 479.

هيهات هيهات فكثير من المسلمين آزروهم وناصروهم فنالوا بذلك إثم إعانة الظالمين وتحمل أوزارهم على الرغم من كشف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للامة حال مروان خاصة وبني أمية عامة وأظهر للمسلمين حقائقهم وما سيؤول إليه أمرهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء وبعضكم يومئذ شيعته»(1).

فإنا لله وإنا إليه راجعون.

والشيء الثاني المستفاد من تغييره صلى الله عليه وآله وسلم أسماءهم: هو أن هذه الأسماء تؤثر من الناحية النفسية على الشخص الحامل للاسم غير الجميل.

وحديث سعيد بن المسيب يكشف لنا هذه الحقيقة، فعن عبد الحميد بن جبير بن شيبة قال: جلست إلى سعيد بن المسيب فحدثني أن جده «حزناً» قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«ما اسمك»؟

قال: اسمي حزن.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«بل أنت سهل».

ص:263


1- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 5، ص 242؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 12، ص 336؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 57، ص 267؛ كنز العمال: ج 11، ص 166، برقم 31060.

قال: (ما أنا بمغير اسماً سمانيه أبي).

قال ابن المسيب: (فما زالت فينا الحزونية)(1).

بعد هذه الجولة التي بينّا فيها أحد مناهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تغيير هذه الامة ورفع مستواها الحضاري بعد أن كانت تعصف بها رياح الجهل والظلام فأنقذها الله بأبي الزهراء صلى الله عليه وآله وسلم.

نعود إلى رحاب أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونسأل: من الذي سمى البضعة النبوية بفاطمة عليها السلام ؟!.

والجواب على هذا السؤال نسمعه أو نقرأه من خلال هذا الحديث الوارد عن العترة النبوية: فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«لمّا ولدت فاطمة عليها السلام أوحى الله عز وجل إلى ملك فأنطق به لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم فسماها: فاطمة»(2).

أما معنى هذا الاسم فقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن العترة المحمدية عليهم السلام لا يسعنا إيرادها هنا(3).

ص:264


1- الأدب المفرد للبخاري: ص 250، حديث 814، ط دار الكتب العلمية؛ الآداب للبيهقي: ص 291، حديث 610، ط دار الكتب العلمية.
2- علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 179، ط المكتبة الحيدرية، النجف؛ البحار للمجلسي: ج 34، ص 13، حديث 9، باب 2.
3- لقد قمنا بحمد الله تعالى في كتاب موسوعة فاطمة عليها السلام البحث في تفرعات هذا المبحث، وقد أشبعنا هذه العناوين بمزيد من الدراسة والتحقيق ونسأل الله أن نوفق لإكمالها وطباعتها.

المبحث السابع: عقيقتها

ان من السنن المستحبة التي ترافق المولود بعد ولادته هي العقيقة.

«والعقيقة» هي: الشعر الذي يولد به الطفل لأنه يشق الجلد، فيقال لهذا الشعر «عقيقة» وجعل الزمخشري: الشعر أصلاً، والشاة المذبوحة مشتقة منه.

وعقّ الرجل عن ابنه يعقّ : أي حلق عقيقته، أو ذبح عنه شاة(1) ، وفي التهذيب: يوم أسبوعه فقيده بالسابع، واسم تلك الشاة العقيقة(2).

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

في العقيقة عن الغلام شاتان مثلاً، وعن الجارية شاة.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«في الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى»(3)).

وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام:

«عق عنده - أي المولود - وأحلق رأسه يوم السابع»(4).

والعقيقة شاة أو جزور تجتمع فيها شرائط الأضحية، وهي: السلامة من العيوب والسمن، والسن على الأفضل، ويجزي فيها مطلق الشاة(5).

ص:265


1- لسان العرب، لابن منظور: ج 9، ص 324، مادة: «عقق».
2- تهذيب الصحاح للزنجاني: ص 590، ط دار المعارف بمصر.
3- الجامع الصغير للسيوطي: ج 2، ص 665، برقم: «5959».
4- الوسائل: كتاب النكاح باب، 44، من أبواب أحكام الأولاد الحديث: 8.
5- اللمعة الدمشقية للشهيد جمال الدين العاملي: ج 5، ص 447، كتاب النكاح، أحكام الأولاد.

قال الإمام الصادق عليه السلام:

«انما هي شاة لحم، ليست بمنزلة الأضحية، يجزي منها كل شيء، وخيرها أسمنها»(1).

اما ما يخص البضعة النبوية عليها السلام، فقد عقت عنها السيدة خديجة عليها السلام بشاة(2) وإنها أطعمتها للمؤمنين عملا بالسنة وقصداً لحصول الأجر في ورود السرور عند الإطعام.

المبحث الثامن: فاطمة في حِجْرِ النبوة

المسألة الأولى: إن الله اصطفى لها ما لم يصطفِ لأحد من أوليائه

ان المراد بالحجر لغةً هو: «الحِضْنُ »، فيقال: حَجْرُ المرأة وحِجْرُها حِضْنُها(3).

وهنا عندما نقول: حَجْرُ النبوة، أي إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي احتضنها ورباها ضمن أصول النبوة، وقواعدها، ومناهجها.

فكان خلقها عليها السلام خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي خاطبه المولى قائلاً:

ص:266


1- الوسائل للعاملي: كتاب النكاح، باب: 45، من أبواب أحكام الأولاد الحديث: 2.
2- الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي: ج 2، ص 656، ط دار الكتب الحديثة؛ المختصر الكبير لابن جماعة: ص 83.
3- لسان العرب لابن منظور: ج 3، ص 57، مادة حجر.

(وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )1 .

وخاطب صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين قائلاً:

«لقد أدبني ربي فأحسن تأديبي»(1).

فأدب فاطمة وخُلقها هو: أدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلقه. حتى قالت عائشة: (ما رأيت أحداً أفضل من فاطمة غير أبيها)(2).

بعد هذه الإشارة في بيان الركنين الأساسين في نشأة كل إنسان وأقصد والديه، فإننا نرحل في سفينة الحب النبوي إلى بيت خديجة أم المؤمنين عليها السلام لترسو بنا سفينتا على سواحل أعتاب بيتها نلتمس الإذن في الدخول إلى رحاب البيت الذي كان سكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنبع الحنان والحب والمودة التي ملأتْ كل ذرة من كيان أم المؤمنين خديجة عليها السلام. لتهبها لزوجها وتبذلها له فما ادخرت جهداً وما بخلت بعطية، وما شكت ألما، ولا تبرمت من حال أنزله بها كفار مكة نساءً ورجالاً.

ص:267


1- البحار للمجلسي: ج 16، ص 210، ط دار إحياء التراث العربي - بيروت؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 11، ص 233، ط دار إحياء الكتب العربية؛ الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي: ج 1، ص 51، برقم 310، ط دار الفكر - بيروت.
2- الغدير للشيخ الأميني: ج 3، ص 25، ط دار الكتب العربي - بيروت؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 201، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ الاصابة لابن حجر: ج 8، ص 264، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ ينابيع المودة لذوي القربى، القندوزي: ج 2، ص 58، برقم 35، ط دار الأسوة.

فعندما يحيا الإنسان وتكون أيام طفولته في مثل هذه الأجواء المليئة بالحب والحنان والرحمة فمما لا شك فيه سيكون هذا الإنسان منبعاً لهذه الفضائل التي نمت عليها عروقه وتوغلت فيها جذوره.

ونحن وان كنا نعرض مثل هذه النقاط التي مع أهميتها الكبيرة لدى الباحثين وأصحاب الاختصاص في الحياة الأسرية والعلوم النفسية، إلا أننا لا نجعلها الأساس في تكوين شخصية فاطمة الزهراء عليها السلام.

إذ إن الملاك والضابطة في حياة الأولياء هو الاصطفاء الإلهي وهو مفاد قوله تعالى:

(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )1 .

ومع هذا الاصطفاء يكون الاصطناع الرباني، لقوله تعالى:

(وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)2 ،(فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى )3 .

فالصناعة ربانية، والاصطفاء إلهي، ومن كان الله قد اصطفاه لنفسه فلا تؤثر فيه قوى الشر ولا يمسه رجس الكافرين، وقد أعطى القرآن دليلاً - لمن كان يؤمن بالله تعالى ولمن كان بعيداً عنه - يثبت أن الظروف والعوامل التي تحيط بحياة الأنبياء والأولياء لا يمكن حملها على بقية حياة الناس وكيفية نشأتهم.

ص:268

وها هو نبي الله موسى الكليم تلقيه أمه وهي خائفة وجلة عليه من القتل فترميه في البحر ليسوقه جبرائيل إلى بيت عدو الله فيأخذه ويربيه ويتولى تنشئته، ولم يكن قصر فرعون وطغيانه وكفره مؤثراً في إيمان موسى عليه السلام.

أما سبب تأكيدنا على البيت الذي نشأت فيه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، فذلك من أجل معرفة العناية الإلهية الكبيرة، والاهتمام البالغ والتركيز على فاطمة عليها السلام.

لان الغاية والعلة التي خلقت لها فاطمة تستوجب هذا الاعتناء الرباني، وهذا الاهتمام الإلهي. ويكفيك من هذا بياناً بأنها (أم أبيها).

فالله قد اصطفاها، وحبيبه قد علمها ورباها، وحبيبة رسوله قد غذتها وأنشأتها.

المسألة الثانية: السنين الأولى لطفولتها وتأثيرها في أم المؤمنين خديجة عليها السلام

ان السنين الأولى لطفولة فاطمة عليها السلام كانت فيها عليها السلام قد أعادت بسمة الأمومة لخديجة، تلك البسمة التي لا تمنحها الأم إلاّ لطفلها الذي يتأمل بعينين مفتوحتين تلك التقاطيع التي ترافق وجه أمه وهي مبتسمة له وكأنها تسمعه باعذب الكلمات التي تعجز عنها لغات العالم.

فأي لغة يمكن ان تعبر عما ينطقه وجه الأم وهي تنظر لولدها وقد زينت وجهها هذه الابتسامة ؟!

إنها لغة لا يعلمها الا قلب هذا الطفل ولا يصدرها الا قلب الأم.

ص:269

وبخاصة عندما تتعامل أم كخديجة مع طفلها الجديد الذي انتظرته كثيراً بعد أن فقدت طفلين هما «القاسم وعبدالله عليهما السلام»، اللذين لم يعيشا طويلاً، بل إنهما لم يكملا رضاعهما فقد اختار الله لهما دار الآخرة.

ثم تبقى خديجة عليها السلام تنتظر رحمة الله عز وجل أن يمنّ عليها بحمل ومولود جديد ويطول بها المقام ويتأخر عليها الحمل، لحكمة أرادها الله عز وجل.

ومن هنا فإن حملها بفاطمة وولادتها قد أعادتْ عليها تلك الابتسامة التي كانت تطلقها فاطمة عليها السلام.

وكانت سنتا الرضاعة أياماً عاشتها فاطمة بالحب والرحمة والرأفة والحنان النبوي اللا متناهي، ومع هذا كله كانت تعيش أجواء السلام والطمأنينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مُحَصَناً منيعاً بعمه أبي طالب الذي دأب يحنو عليه ويذب عنه كيد قريش ويدفع عنه طغاتها.

فكانت هذه السنتان من عمرها المبارك مميزة ومليئة بالدفء والحنان والرحمة والحب والسكينة.

إلا أن هذه الأجواء لم تكن دائمة فقد تغير حال البيت النبوي بعد مرور عامين على ولادة فاطمة عليها السلام؛ إذ قد اجتمع المشركون وعزموا على فرض الحصار الاقتصادي والاجتماعي على بني هاشم رجالاً ونساءً وأطفالاً فقضت أم المؤمنين خديجة عليها السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنتها فاطمة عليها السلام هذه السنوات الثلاث حتى توفيت وقد تركت فاطمة وهي في الخامسة من عمرها (فإنا لله وإنا إليه راجعون).

ص:270

المحتويات

الفصل الثامن

خصائص دار خديجة عليها السلام في مكة

توطئة: البحث عن الهوية الإسلامية بين حضارتين 7

المبحث الأول: موقع دار خديجة الجغرافي 13

1. إنه في سوق الصباغين 14

2. إنه في شعب أبي طالب عليه السلام 14

3. إنه في زقاق العطارين 15

المبحث الثاني: صفة دار خديجة عليها السلام وفضله 16

المسألة الأولى: أقوال المؤرخين في بيان صفة دار خديجة وإظهار فضله وشرافته 16

المسألة الثانية: امتهان الوهابية لدار أم المؤمنين خديجة عليها السلام وتحويلها إلى دورات مياه!!! 21

المبحث الثالث: دار خديجة عليها السلام يشهد أهم الأحداث التي عاشها النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال ربع قرن 24

ص:271

المسالة الأولى: زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار خديجة عليها السلام وعيشه فيها 24

المسألة الثانية: نزول الوحي بسورة المدثر في بيت خديجة عليه السلام 25

المسألة الثالثة: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلن تنصيب وصيه وخليفته من بعده في دار خديجة عليها السلام 27

المسألة الرابعة: إسلام الصحابة في دار خديجة عليها السلام 35

أولا: إسلام أبي ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه في بيت أم المؤمنين خديجة عليها السلام 36

ثانيا: إسلام أبي بكر عند بيت خديجة عليها السلام 38

المسألة الخامسة: إسراء النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من دار خديجة عليها السلام 41

أولا: إن بيت خديجة هو المسجد الحرام 42

ثانيا: إنّ لخديجة من الطهر ما لمريم عليهما السلام 43

المبحث الرابع: مبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة عليها السلام ليلة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة 52

المسألة الأولى: كيف وقعت الحادثة ؟ 53

ألف: ما رواه ابن إسحاق والطبري وغيرهما 54

باء: ما رواه الشيخ الطوسي رحمه الله 58

المسألة الثانية: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يفدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى 69

المسألة الثالثة: شبهة ابن تيمية والحلبي في رد فضيلة الفداء، شبهة واهية ومخالفة للقرآن الكريم 73

أولاً: إتفاق أهل العلم بالحديث والسير على صدور هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبه يتضح كذب ابن تيمية 75

ص:272

القسم الأول: رواية أهل العلم بالحديث والسير لنزول جبرائيل وميكائيل لحفظ علي عليه السلام ليلة المبيت من الشيعة على رغم أنف ابن تيمية 78

القسم الثاني: رواية أهل العلم بالحديث والسير من السنة والجماعة في نزول جبرائيل وميكائيل 82

ثانياً: اسماء الذين رووا من أهل العلم بالحديث والسير واتفاقهم على ان علياً عليه السلام هو الذي شرى بنفسه فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنام في مكانه في دار خديجة عليها السلام 87

ثالثاً: محاربة آية الشراء منذ القرن الأول للهجرة والى يومنا هذا 100

ألف. بذل معاوية آلاف الدراهم لتحريف نزول الآية 106

باء. تعمد ابن تيمية الكذب على العلماء والقراء في صرف الآية عن علي بن أبي طالب عليه السلام 108

جيم. منهج الألباني في دفع الآية عن علي عليه السلام 108

رابعاً: الشبهة الحلبية ومخالفتها للقرآن والسنة 109

1. رد شبهة، حصول الطمأنينة لعلي عليه السلام بقول الصادق له، لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم 110

2. رد شبهة قول الحلبي: (فلم يكن فيه فداء بالنفس) 111

3. رد شبهة قول الحلبي: (والآية المذكورة في سورة البقرة هي مدنية باتفاق) 116

4. رد شبهة قول الحلبي (وقد قيل انها نزلت في صهيب) 119

المبحث الخامس: من دار خديجة عليها السلام خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام مصطحباً علي بن أبي طالب عليه السلام 126

المسألة الأولى: كيف وصلت الأصنام إلى بيت الله الحرام ونصبت على سطح الكعبة ؟ 129

المسألة الثانية: من دار خديجة عليها السلام خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصطحباً علياً عليه السلام لتكسير الأصنام قبل الهجرة 132

الحلقة الأولى: ما يدل على وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة دون تحديد السنة 134

ص:273

الحلقة الثانية: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في ليلة مبيته على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم 138

ألف. التلازم في تحقق الأثر الإرشادي بين عمل نبي الله إبراهيم عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تكسير الأصنام 140

باء. التوحيد ينطلق من دار خديجة وإليه يرجع الموحدون 145

جيم. الحكمة في اجتماع تكسير الأصنام والمبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة واحدة 146

الحلقة الثالثة: ما يدل على تعدد وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة 147

المسألة الثالثة: ما يدل على مباشرة الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح 151

أولاً: تعتيم البخاري على دور الإمام علي عليه السلام في تكسير الأصنام في فتح مكة 152

ثانيا: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح وتعمد البخاري ومسلم اخفاء ذلك 154

ثالثا: العلة في عدم تمكن الإمام علي عليه السلام من حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام 157

المبحث السادس: التقاء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ببعض المؤمنين في دار خديجة عليها السلام 161

المسألة الأولى: رواية الشيخ الصدوق رضي الله تعالى عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام 162

أولاً: تحقق رؤية صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف في زمن الغيبة الصغرى 164

ثانيا: تقوى الحسن بن الوجناء وشدة مثابرته على طاعة الله والتقرب إليه 164

المسألة الثانية: رواية الشيخ الطوسي رضي الله عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام 166

ص:274

الفصل التاسع

حملها بفاطمة عليها السلام و ولادتها

المبحث الأول: خلقها من ثمار الجنة 175

المحور الأول: تفاعل الكتّاب مع حدث خلق فاطمة من ثمار الجنة 176

الأمر الأول: اعتماد بعض الكتاب فيما يرونه على ما يتلاءم مع اعتقادهم 176

الأمر الثاني: الاختلاف في وقت حدوث رحلة الإسراء لا يلغي الحقيقة 176

الأمر الثالث: الإعراض عن روايات أهل البيت عليهم السلام لا يدل على صحة المعْرِض عنها 177

المحور الثاني: السُنة النبوية والعقل يؤكدان حقيقة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة 178

أولاً 181

ثانياً 181

ثالثاً 181

الأمر الأول 182

الأمر الثاني 182

المسألة الأولى: إنها خلقت من شجرة طوبى 182

المسألة الثانية: إنها خلقت من سفرجل الجنة 185

المسألة الثالثة: خلقها من رطب الجنة 186

المسألة الرابعة: إنها عليها السلام خلقت من تفاحة من الجنة 187

المسألة الخامسة: إنها خلقت من جميع ثمار الجنة 188

بعض دلالات الحديث: 189

أولاً: (فأصبت من ريح تلك الثمار) 189

ص:275

ثانياً: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الاشتياق إلى الجنة 189

المبحث الثاني: التهيئة النبويّة لنزول الأنوار الفاطمية 190

الوجه الأول 190

الوجه الثاني 192

المحور الأول: أحاديث اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس ومنهم أم المؤمنين خديجة عليها السلام 194

المسألة الأولى: (لماذا الاعتزال لمدة أربعين يوماً؟) 196

أولاً: (الاعتزال) 196

ثانياً: علم الأعداد والحروف وشرافة العدد أربعين 199

المسألة الثانية: «جبرائيل عليه السلام يهبط في صورته العظمى» 204

أولاً: معنى تسميتهم بالملائكة 204

ثانياً: المواضع التي ظهر فيها جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى 209

الموضع الأول 209

الموضع الثاني 210

الموضع الثالث 210

ثالثاً: أثر الاعتزال والرياضة النفسية في خلق الجنين 210

رابعاً: الأدب النبوي في بيان حبه لخديجة عليها السلام 211

المسألة الثالثة: جبرائيل عليه السلام ينزل بالنور الفاطمي من الجنة 211

أولاً: (اشتراك الملائكة الثلاثة عليهم السلام في إيصال الوديعة) 213

ثانياً: (هل يجوز تأخير الصلاة في شتى الأحوال لعلل راجحة)؟! 214

المسألة الرابعة: انتقال النور الفاطمي إلى الأرض الطاهرة 218

أولاً: (المنهاج التربوي الأسري عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم) 220

ثانياً: المنهاج التربوي في العلاقة الزوجية 221

ثالثاً: (الإحساس بثقل فاطمة عليها السلام) 223

الحديث الثاني 223

ص:276

أولاً: تعين ليلة انعقاد النطفة النورانية التي خلقت منها أم الأئمة 224

ثانياً: القاسم وعبدالله عليهما السلام ولدا وماتا في الإسلام 225

المبحث الثالث: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟ 226

المسألة الأولى: إن فاطمة عليها السلام كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها 227

المسألة الثانية: بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها أنثى 237

المبحث الرابع:(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ ) 246

المسألة الأولى: الحكمة في ذكر الرفقة لآسيا مع خديجة في الجنة 248

المسالة الثانية: ما هي العلاقة بين صفة نساء بني هاشم وبين النساء اللاتي دخلن على خديجة عند ولادة فاطمة عليها السلام ؟ 249

المسألة الثالثة: ما معنى دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة عند ولادتها؟ 250

المسألة الرابعة: نطق فاطمة عليها السلام بالشهادتين 251

المسألة الخامسة: مكان ولادة فاطمة عليها السلام 253

المبحث الخامس: إرضاع خديجة إياها (عليها السلام) 254

المبحث السادس: تسميتها 259

المبحث السابع: عقيقتها 265

المبحث الثامن: فاطمة في حِجْرِ النبوة 266

المسألة الأولى: إن الله اصطفى لها ما لم يصطفِ لأحد من أوليائه 266

المسألة الثانية: السنين الأولى لطفولتها وتأثيرها في أم المؤمنين خديجة عليها السلام 269

ص:277

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.