الاسلام دین الفطره

اشارة

عنوان و نام پديدآور : الاسلام دین الفطره/ تحت اشراف المنتظری.

مشخصات نشر : قم: ارغوان دانش ‫، 1429ق. ‫= 1387.

مشخصات ظاهری : ‫544 ص.

شابک : ‫60000 ریال ‫ 978-964-2768-12-7 :

وضعیت فهرست نویسی : برون سپاری.

يادداشت : عربی.

یادداشت : ‫کتابنامه: ص. [533] - 540؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع : اسلام -- بررسی و شناخت

موضوع : اسلام -- عقاید

شناسه افزوده : منتظری ، حسینعلی ، ‫1301 - 1388.

رده بندی کنگره : ‫ BP11 ‫ /‮الف 486 1387 ‫

رده بندی دیویی : ‫ 297/02

شماره کتابشناسی ملی : 1574492

وضعيت ركورد : ركورد كامل

ص :1

اشارة

ص :2

الاسلام دین الفطره

تحت اشراف المنتظری

ص :3

المنتظري، حسين علي، 1301 -.

الإسلام دينُ الفطرة / تحت إشراف آية اللّه العظمى حسين علي المنتظري - قم: ارغوان دانش، 1429 ه = 1387 ه. ش.

544 صفحة.

60000 ريال 7-12-2768-964-978: NBSI

فهرست نويسي بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه: ص [533]-540، همچنين به صورت زيرنويس.

1. الإسلام. بحث و عرض. 2. الإسلام. العقائد. 3. الإسلام. بلسان واضح.

4. الأخلاق الاسلامى. الف. العنوان.

5 الف 8 م / 11 PB 297

1387

«الإسلام دينُ الفِطرة»

تحت إشراف: سماحة آية اللّه العظمى المنتظري

- الناشر: ارغوان دانش

المطبعة: عترت

الطبعة: الاُولى

تاريخ النشر: صيف 1387 (شعبان المعظم 1429)

عدد النسخ: 3000 نسخه

سعر النسخة: 6000 تومان

الرقم الدولي: 7-12-2768-964-978

- مركز التوزيع: قم، شارع الشهيد محمّد المنتظري، الزقاق 8

هاتف: 14-37740011(025) * فكس: 37740015 * جوال: 5050 252 0912

البريد الإلكتروني: AMONTAZERI@AMONTAZERI . COM .

ص:4

ص:5

ص:6

«فهرس المواضيع»

تمهيد:... 19

الدّين 23

ما هو الدّين؟... 25

فطرية الدّين... 25

الغاية من الدّين... 27

أ - التوعية... 28

ب - الحُكم... 29

ج - تعيين المسؤوليات... 30

د - معرفة الكَوْن... 31

جواب عن سؤال... 33

النفور من الدّين... 34

شمولية الدّين... 37

مجال تعاليم الدّين... 38

العقل والدّين... 40

شمولية فهم الدّين... 42

مدخلية الافتراضات المسبقة في فهم الدّين... 43

يُسر الدّين... 47

التديّن... 48

الأديان... 50

ختم النبوّة... 52

الدّين والتطوّر... 54

الإسلام... 57

الشيعة... 58

الباب الأوّل: الإعتقادات 61

العقيدة... 63

العقيدة الحقّة... 64

الإيمان... 65

درجات الإيمان... 66

ما يجب الإيمان به... 68

ضرورة الإيمان... 69

فوائد الإيمان... 71

العلم والإيمان... 73

العقائد الباطلة... 74

الشرك... 75

الكفر... 80

اللّه 82

طرق معرفة اللّه... 83

منهج الإمام الصادق عليه السلام في إثبات وجود اللّه... 84

الإنسان، آية اللّه... 85

ص:7

نفي الصدفة... 87

معرفة اللّه أمر فطري... 87

صفات اللّه... 90

قرب اللّه... 91

عدم رؤية اللّه... 92

قدرة اللّه... 95

علم اللّه... 96

عدل اللّه... 96

التوحيد... 99

المراد من وحدانية اللّه... 100

مراتب التوحيد... 101

المرتبة الكاملة للتوحيد... 102

الأدلّة على وحدانية اللّه... 103

أقسام التوحيد... 105

1 - التوحيد في الذات... 106

2 - التوحيد في الصفات... 106

3 - التوحيد في الأفعال... 107

4 - التوحيد في العبادة... 108

افعال اللّه... 111

نظام فعل اللّه... 111

دور الموَكَّليْن... 112

اللّوح المحفوظ و لوح المحو والإثبات... 112

قواعد أفعال اللّه... 113

هدفية أفعال اللّه... 114

مشيئة اللّه... 114

القضاء والقدر... 114

هل يمكن تغيير القدر؟... 117

هل الإنسان مجبر؟... 118

لا جبر و لا تفويض... 120

الإيمان بالقضاء والقدر... 121

الشُرور... 122

النبوّة 126

الحاجة إلى الدليل والهداية... 126

ضرورة بعث النبيّ في المصادر الدينية... 128

سؤال حول محدودية المنطقة التي بعث...... 130

إتمام الحجة... 131

مكانة الأنبياء... 131

الأُصول المشتركة بين الأنبياء... 132

1 - الدعوة إلى التوحيد... 132

2 - الإخبار عن الآخرة... 133

3 - الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي... 133

اصطفاء الأنبياء... 134

الوحي... 135

تشخيص الوحي من قبل النبيّ... 136

طرق إثبات النبوّة... 136

المعجزة... 137

حقيقة المعجزة... 137

المعجزة و قانون العلّية... 138

الهدف من المعجزة... 138

ص:8

اختلاف المعجزات... 139

عصمة الأنبياء... 140

حقيقة العصمة... 140

منشأ العصمة... 141

ردّ على شبهة... 141

علم الأنبياء... 143

علم الغيب عند الأنبياء... 143

التفاوت بين الأنبياء... 144

بشرية الأنبياء... 145

سيرة الأنبياء... 146

خاتم الأنبياء... 149

سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 150

عبادته... 151

مدارة الناس... 152

النظافة والزينة... 152

الاعتدال... 153

موقفه من الأعداء... 154

الزهد والبساطة... 154

معجزة النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم... 155

القرآن و أسلوبه... 157

تواتر و قطعية نص القرآن... 158

الإمامة 160

أهمّيّة الإمامة... 160

شروط الإمامة... 161

1 - العلم... 161

2 - العصمة... 162

3 - التحلّي بصفات النبيّ... 163

4 - الصبر... 163

5 - الزهد... 164

الطريق إلى معرفة الإمام... 165

الإمامة الخاصّة... 166

الإمامة بَعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 166

خليفة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على أساس القرآن... 169

الولاية... 172

الولاية التكوينية والولاية التشريعية... 174

إمامة الإمام عليّ عليه السلام في الروايات... 176

نبوءة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 178

هواجس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من العصبية الجاهلية... 178

الإمام علي عليه السلام والخلافة... 179

الأئمة الإثنا عشر... 180

أسماء الأئمة عليهم السلام... 181

اختيار الأئمة عليهم السلام... 182

أهلية الأئمة عليهم السلام... 183

الإمامة في الطفولة... 185

آخر حجج اللّه... 186

ظهور المهدى (عج)... 187

انتظار ظهور المهدي (عج) قبل ولادته... 188

ولادة الإمام المهدي (عج)... 189

ص:9

غيبة الإمام المهدي (عج)... 189

الحكمة من غيبة إمام الزمان (عج)... 191

طول عمر إمام الزمان (عج)... 192

إنتظار الفرج والحكمة منه... 192

الآخرة 194

أجَل الإنسان... 195

الموت... 196

سهولة و صعوبة النزع... 197

الخوف من الموت... 198

البرزخ... 198

سؤال القبر... 199

علل مشارف القيامة... 200

زمان وقوع القيامة... 201

قرب وقوع القيامة... 201

أهوال القيامة... 202

الحشر والمعاد... 204

هل المعاد جسماني أم روحاني؟... 207

الحساب... 209

تجسّم الأعمال... 211

الشفاعة... 213

الصراط... 214

الجنّة... 215

جهنّم... 216

الباب الثاني: الأخلاق 219

علم الأخلاق... 221

فلسفة الأخلاق... 221

النظام الأخلاقي في الإسلام و خصائصه... 223

1 - التحول في الأخلاق... 223

2 - الواقعية... 224

3 - الاهتمام بالجوانب الوجودية للإنسان... 225

النفس و أقسامها... 225

النفس الأمّارة... 225

النفس اللّوامة... 226

النفس المُلْهَمَة... 227

النفس المطمئنة... 227

4 - الاعتدال... 227

5 - الترابط بين الأخلاق والعبادة... 229

6 - التقوى ركيزة للأخلاق... 230

7 - الاعتزاز بالنفس... 233

8 - الاُسرة التربوية... 234

9 - الثبات والمرونة في القضايا الأخلاقية... 236

10 - شمولية النظام الأخلاقي في الاسلام... 237

هدف النظام الأخلاقي في الاسلام... 238

أُسس النظام الأخلاقي في الإسلام... 239

مكانة النظام الأخلاقي في الاسلام... 240

الأخلاق الفردية... 242

السلوك الشخصي... 243

ص:10

الإخلاص... 245

العُجب... 246

الجاه و حُبّ الشهرة... 247

حُبّ الدنيا... 248

الزهد... 250

القناعة... 252

الصبر... 253

الدعاء والتوسل... 254

الأخلاق الأُسَرِيّة... 257

الزوج والزوجة... 257

الوالدان والأولاد... 260

الأقارب... 261

صِلةُ الرَحم... 262

الأخلاق الاجتماعية... 263

العزلة والتواصل... 264

حُسْنُ الخُلق... 264

علاقة الأُخُوَّة والإيمان... 265

الموقف من المُنكَرات... 266

المحبّة... 267

أصدقاء السوء... 269

الأصدقاء الصالحون... 270

الكلام... 270

النميمة... 272

الغِيبة... 272

النفاق... 274

الكذب... 275

السبّ... 275

التكبّر... 276

الحَسَد... 278

الغضب... 278

العصبية... 280

الحلم... 281

العفّة... 282

الإحسان... 283

التراحم والمودّة... 284

المداراة... 285

آداب المعاشرة... 287

أخلاق الأُمراء والمسؤولين... 288

1 - الصفح... 290

2 - تهذيب النفس... 292

3 - مداراة الناس... 293

4 - رفض التملّق و اجتناب سيرة الجبابرة... 295

5 - كتمان السرّ... 298

6 - اجتناب الغضب... 298

7 - اجتناب الكِبْر... 299

8 - سعة الصدر... 300

9 - المداراة... 301

10 - الحلم... 302

11 - العدالة... 302

ص:11

الباب الثالث:

التكاليف و المسؤوليات 305

الأحكام... 307

أفضلية التشريع الإلهي... 308

مصادر التشريع... 309

1 - القرآن... 309

2 - السُنّة (قول، فعل و تقرير المعصوم)... 310

3 - الإجماع... 310

4 - العقل... 311

الاجتهاد و تاريخه... 311

1 - دور تعلّم و نشر الأحكام... 312

2 - دور الاجتهاد الابتدائي... 312

3 - دور الاجتهاد التخصُّصي... 313

التقليد... 313

شروط مرجع التقليد... 314

التكليف... 315

شروط التكليف... 316

الفرق بين التكليف والحق... 317

أبواب الفقه... 318

العبادات 319

الصلاة... 319

أهمّية الصلاة... 319

الصلوات الواجبة... 321

مقدّمات الصلاة... 322

وقت الصلاة... 322

مكان المصلّي... 322

القِبلة... 323

ثياب المصلّي... 324

الطهارة... 324

أ - الطهارة الظاهرية... 324

النجاسات... 325

طرق إثبات النجاسة... 326

طرق تنجّس الأشياء الطاهرة... 326

المطهِّرات... 326

1 - الماء... 326

الماء القليل والكر... 327

2 - الأرض... 328

3 - الشمس... 328

4 - الاستحالة... 329

5 - ذهاب ثلثي العصير العنبي... 329

6 - الانتقال... 329

7 - الإسلام... 329

8 - التبعية... 330

9 - زوال عين النجاسة... 330

10 - استبراء الحيوان الجلّال... 330

11 - غيبة المسلم... 330

ب - الطهارة المعنوية... 330

الوضوء... 331

ص:12

الوضوء الترتيبي والارتماسي... 331

شروط الوضوء... 332

مبطلات الوضوء... 333

الغسل... 333

الأَغسال الواجبة... 334

كيفية الغسل... 335

أحكام الغسل... 335

أحكام الجنابة... 336

ما يحرم على الجنب... 336

أحكام الحيض... 337

التيمُّم... 337

كيفية التيمم... 338

ما يصحّ به التيمم... 338

موارد التيمم... 339

واجبات الصلاة... 339

أحكام الصلاة... 341

مستحبات الصلاة... 342

مبطلات الصلاة... 343

صلاة المسافر... 344

صلاة الجماعة... 345

شروط صلاة الجماعة... 346

شروط إمام الجماعة... 346

الصلوات الواجبة الأُخرى... 346

صلاة الجمعة... 346

كيفية صلاة الجمعة... 347

شروط إمام الجمعة... 347

صلاة العيدين... 348

كيفية صلاة العيد... 348

صلاة الآيات... 349

وقت صلاة الآيات... 350

كيفية صلاة الآيات... 350

أحكام الموتى... 351

الاحتضار... 351

أحكام ما بعد الوفاة... 351

غسل الميّت... 351

أحكام غسل الميّت... 352

ألحنوط و أحكامه... 352

أحكام تكفين الميّت... 353

أحكام صلاة الميّت... 353

الدفن... 354

صلاة الوحشة... 355

نبش القبر... 355

الصوم... 356

من لايجب عليهم الصوم... 357

مبطلات الصوم... 358

أحكام الصوم... 359

تكريم شهر رمضان... 360

الاعتكاف... 360

شروط الاعتكاف... 361

أحكام الاعتكاف... 361

ص:13

الحج... 362

1 - الجانب العبادي للحج... 362

2 - تأثير الحج في الرقى والبقاء الثقافي... 366

3 - الجانب الاجتماعي والسياسي للحج... 367

شروط وجوب الحج... 368

أقسام الحج... 369

كيفية حج التمتّع... 369

1 - عمرة التمتّع... 370

2 - حج التمتّع... 371

العمرة المفردة... 372

زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أهل البيت عليهم السلام... 372

النذر والعهد والقسم... 373

الاُسرة 376

مكانة و أهمية الاُسرة... 376

الزواج... 377

العلاقة الطبيعية بين المرأة والرجل... 377

الزواج نوع من العبادة... 377

الاهداف الأساسية من الزواج... 379

اختيار الزوج... 379

1 - الحريّة في اختيار الزوج... 380

إذن الأب في زواج ابنته... 380

2 - معايير اختيار الزوج... 381

3 - من لايقع الزواج بينهم (المحارم)... 382

عقد الزواج... 384

دور المرأة في صيانة العفاف في المجتمع... 384

أحكام النظر واللّمس والصوت... 385

الواجبات الأُسرية... 386

النفقه و إدارة شؤون الاُسرة... 388

من تجب إعالتهم... 390

حقوق الطفل... 390

الأعمال المستحبة بعد الولادة... 391

الزواج المؤقت... 391

لماذا الزواج المؤقت؟... 391

أحكام الزواج المؤقّت... 393

تعددُّ الزوجات... 394

شروط تعدد الزوجات... 395

الطلاق... 396

قيود وقوع الطلاق... 397

أقسام الطلاق... 398

أ - الطلاق البائن... 398

ب - الطلاق الرجعي... 399

أحكام العِدّة... 400

عدّة الطلاق... 400

المرأة التي لا عدّة عليها... 400

عدّة المرأة في الزواج المؤقت... 401

عدّة الوفاة... 401

ما يجب على المرأة في عدّة الوفاة... 401

التغذية... 402

1 - اللُّحوم... 402

ص:14

أ - الحيوانات الحلال اللّحم... 402

شروط ذباحة الحيوان... 403

أحكام الصيد بالأسلحة... 404

صيد الأسماك... 405

ب - الحيوان المحرّم اللحم... 405

2 - المأكولات المأخوذة من غير الحيوان... 405

المأكولات الحرام المأخوذة من غيرالحيوان... 406

أ - النجاسات... 406

ب - المواد المضرّة... 406

ج - السوائل والأشربة المحرمة... 406

أحكام الأطعمة... 406

وسائل الترفيه والتسلية... 407

المسابقات... 408

أحكام بعض الوسائل الترفيهية... 409

1 - الغناء... 409

2 - الألعاب السحريّة... 409

3 - إحضار الأرواح والتنويم المغناطيسي... 409

4 - القمار... 410

5 - المخدرات... 410

الاقتصاد 411

أهمية الاقتصاد... 411

القوانين الاقتصادية... 412

الفقر؛ أسبابه و تأثيراته... 413

الملكية و أنواعها... 414

الملكية العامّة... 415

الملكية الخصوصية... 416

الثراء... 416

الإسراف والتبذير... 417

العمل والسعي... 418

شروط الملكية... 419

الوصية... 419

الإرث... 421

الغصب... 422

المحجور عليه... 422

أنواع المعاملات... 423

الأحكام العامّة للمعاملات... 426

أنواع البيع... 426

موارد فسخ المعاملة... 427

آداب البيع والشراء... 428

الاحتكار والتسعير... 428

المعاملات الباطلة... 429

الأعمال المحرّمة... 430

النقد... 430

القَرض الحسَن... 431

الربا... 431

المعاملة والربا... 432

أنواع الربا... 433

المصارف... 433

الكُمبِيالة (السند)... 434

ص:15

التكاليف المالية... 434

1 - الإنفاق... 436

2 - النهي عن تكديس الثروة... 436

3 - إيتاء الزكاة... 437

مصرف الزكاة... 438

زكاة الفطرة... 439

4 - الخمس... 439

مصرف الخمس... 440

السياسة 441

الدين والحكومة... 441

الحكومة، ضرورة اجتماعية... 441

الغاية من إقامة الحكومة... 442

القدرة على تنفيذ القوانين و حماية المجتمع... 443

الحكومة وسيلة لتحقيق الأهداف الدينية... 444

أنواع الحكومات، والحكومة الدينية... 445

أ - الحكم الاستبدادي والمطلق... 445

ب - الحكم الدستوري... 447

ج - الحكم الديني الدستوري... 448

خصائص الحكم الديني... 448

الاستفادة من التجارب البشرية في الحكم... 450

الفصل بين السلطات... 451

الحكومة: وكالة أم ولاية... 452

أ - الوكالة، عقد جائز... 452

ب - الحكومة، عقد لازم... 453

ج - الولاية مستقاة من العهد والميثاق... 454

د - البيعة و دورها في شرعية الحكومة... 456

القيد الزماني للمناصب الحكومية... 457

السُبُل القانونية لعزل الحاكم... 458

شروط الحاكم... 459

أ - الإسلام والإيمان... 460

ب - النضوج العقلي... 461

ج - حُسن التدبير والسياسة... 462

د - العلم والإجتهاد... 463

ه - العدالة... 465

و - حُسن الخُلُق... 467

كيفية الحكم... 467

أ - صيانة الحريّات الفردية والإجتماعية... 468

ب - المساواة أمام القانون... 469

ج - الإشراف العام على المسؤولين... 470

د - الرضا العام... 472

ه - التساهل... 473

و - حفظ المصلحة العامّة داخلياً و خارجياً... 474

ز - اجتناب إثارة التوتّر... 476

ح - الاقتصاد في النفقات... 477

ط - حفظ حقوق الأقلّيّات... 477

الأحكام السياسية... 481

أ - الواجبات السياسية والاجتماعية الفردية... 481

صلاة الجماعة، والجمعة والعيدين... 482

الحجّ، تجمع عبادي - سياسي دولي... 483

ص:16

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 484

رعاية القوانين الاجتماعية... 486

التقيّة والكتمان... 487

المشاركة في الحياة الاجتماعية و عدم العزلة... 488

ب - الواجبات السياسية الاجتماعية العامة...... 488

1 - الشؤون الثقافية... 489

أ - التعليم والتربية العامّة... 489

ب - الدعوة إلى الدين... 490

ج - العلاقات الثقافية الدولية... 491

د - الكُتُب و وسائل الإعلام... 492

2 - الشؤون الاقتصادية... 493

أ - الأنفال... 494

ب - المباحات العامّة... 495

ج - الضرائب... 495

د - الخمس والزكاة... 496

ه - الأوقاف العامّة... 496

العلاقات الاقتصادية الدولية... 496

العدالة الاقتصادية... 497

3 - الشؤون السياسية... 499

أ - الوحدة والأخوّة الإسلامية... 499

ب - حوار الأديان... 500

ج - التعايش السلمي... 501

د - المعاهدات الدولية... 502

ه - تقيّة المداراة... 503

و - الإصلاح بين الناس في السياسة...... 505

ز - الاستقلال التام... 506

4 - الشؤون العسكرية والأمنية... 506

أ - تأسيس و إدارة القوات المسلّحة... 507

ب - الجهاد والدفاع... 507

ج - السلام والأمن... 509

د - تأمين الطرق والحدود والمدن في...... 509

ه - الأمن والمخابرات... 510

5 - الشؤون القضائية... 512

أ - القضاء و شروطه... 513

ب - كيفية القضاء... 514

ج - الحدود والتعزيرات... 516

د - القصاص... 517

ه - الديّات... 518

و - المرحلة الثالثة من الأمر بالمعروف...... 518

ز - الردّة و حكم المرتد... 519

ح - الإساءة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والتجديف... 521

ط - السجن والسجناء... 523

ى - العفو عن المحكومين... 526

الأحكام في خدمة الأهداف... 527

أ - ضرورة الانسجام في الأحكام الاجتماعية... 527

ب - طريقية الأحكام الشرعية... 528

ج - الأهداف النهائية هي الأحكام...... 530

المصادر... 533

ص:17

ص:18

تمهيد:

(بسم اللّه الرّحمن الرّحيم)

الحمد للّه ربّ العالمين والصلوة والسلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين

الإنسان كيانٌ مركّبٌ من شيئين؛ روح و جسد. و قد خلقه اللّه ببالغ حكمته و جميل تدبيره لغاية ذات أهمية قصوى. فالغاية من حياته هي أن يتكامل و تنضج شخصيّته و يسير على الطريق المؤدية نحو الكمال الإلهي المطلق. فَلو شاء الإنسان أن يحثّ الخُطا نحو هذا الهدف، لكي يرتقي و يسير نحو التكامل، فلابّد من ضمان متطلباته الروحية إلى جانب متطلباته الجسدية. و هذا ما يستدعي بطبيعة الحال توجيهاً و ارشاداً و هداية. والدّين يؤدّي هذه الوظيفة و ينهض بهذه المهمّة. فهو يقدّم للإنسان منهجاً كفيلاً بتوفير متطلّباته، و هي المتطلّبات التي يتعذر نيل الكمال إلّابها. كما أن الدّين يسلّط الأضواء على حقائق يحتاجها بنو الإنسان في حياتهم المعنوية، مما لايمكن استيعابه بالعقل أو بالحس و لا بالحدس والظنون. و بعض التعاليم التي يبسطها بين يديه من سنخ آخر يفوق التجربة والإدراك العقلي مثل عالم الآخرة و عالم الغيب، و إن كان الأصل الذي يكون به الثواب والعقاب، أصل عقلي.

الملاحظة الأُخرى في ما يخص مكانة الدّين هو تأثيره الخاص في دفع الإنسان إلى ممارسات أشياء يهتدي إليها بالعقل. و دور الدّين لا غنىً عنه في تحفيز الإنسان على فعل العمل الصالح و اجتناب كل قبيح و رذيلة. و من الحقائق المشهودة هي أنّ الدّين ينظّم الحياة و يجعلها ذات نسق متسق و انضباط تام، و يزوّد الإنسان بمقدرة على التكيّف مع مصاعب الحياة و تحمل مشاقّها و تيسير العسير منها. كما أنّ الاعتقاد باليوم الآخر يهوّن من شدّة المصائب التي قد تتكالب عليه بسبب السير على طريق الحق.

الدّين يضفي على المجتمع انسجاماً و اتّساقاً، و ينقل العادات والتقاليد الصحيحة

ص:19

والأصيلة والتراث الثقافي من جيل إلى آخر. و مما لايخفى أيضاً أنّ الدّين يغمر الحياة بالبهجة والنشاط، فضلاً عن نشر و ترسيخ القيم الأخلاقية في الوسط الاجتماعي.

و علاوة على دوره في تلبية الحاجات والمتطلّبات الفردية، فإنّه يلبي المتطلّبات الاجتماعية أيضاً. و هذا يعني أنه يقدّم أفضل عون للإنسان على بسط الأمن والحريّة والعدالة التي يمكن في ضوئها نشر و تفعيل القيم المعنوية.

و بناءً على ما سبق ذكره يتّضح أن للدين دوراً في غاية الأهمية و لذلك لابُدّ من معرفته، والاطّلاع على حقيقة تعاليمه جهد الإمكان.

و أُولى المسؤوليات التي تفرض نفسها على المؤمن هي أن يتعرّف على الدّين عن وعي و بصيرة، معتمداً في ذلك على العقل و على المصادر الدينية. و إذا عرف الإنسان دينه و ما فيه من تعاليم و ارشادات و ما يتطلع إليه من أهداف و غايات، يكون بذلك قد عرف سُبُل الحياة و هذا ما يسهّل عليه طبعاً وضع المنهج الكفيل بالارتقاء به نحو الرقي والتكامل. و انطلاقاً من هذه الضرورة كُرِّس جانب مهم من رسالة الأنبياء للتعريف بالدين و إبلاغ رسالته.

و على العموم يمكن القول إنّ للإنسان ثلاث مراحل وجودية:

1 - مرحلة العقل والتفكير، و هي أعلى المراحل، و بها يتميّز عن الحيوانات.

2 - مرحلة الأهواء والغرائز والعواطف.

3 - مرحلة البدن والأعضاء والجوارح.

المرحلتان الاخيرتان خاضعتان لسيطرة و إدارة المرحلة الأُولى. و معيار التكليف وجود المرحلة الأُولى. والحيوانات ساقط عنها التكليف لأنها فاقدة لها.

الدّين غاية تنظيم و ضبط و تكامل المراحل الثلاثة. و لذلك فهو يتألّف من ثلاثة مكوّنات:

1 - المعتقدات والمعارف.

2 - الأخلاق.

3 - الأحكام العملية.

قطع علماء و فقهاء الإسلام منذ زمن بعيد أشواطاً طويلة على طريق التعريف

ص:20

بالدين و مختلف جوانبه، و ألّفوا الكتب التي يتسنّى للناس أن يطلعوا من خلالها على أصول الدّين، والأخلاق والأحكام. و لقد كانت لديهم صورة واضحة بأن كل زمان له ظروفه و متطلباته التي تستدعي وضع مؤلفات تتناسب مع التطوّر الفكري لذي المجتمع و تواكب حاجاته.

و استجابة لهذا الواقع فقد كُتبت مؤلفات تتناول الميادين الثلاثة؛ العقائد، والأخلاق، والأحكام، حتى بلغت الأمور حداً أخذ معها حجم الموضوعات يزداد يوماً بعد آخر، و أخذ حجم الرسائل العملية يتضخّم بالأسئلة الفقهية في مجال الأحكام. و قد أدّت كل هذه الأساليب مجتمعة إلى أن تكون عامّة الناس غير قادرة على الاستفادة من هذه الرسائل إلّافي القليل النادر، و نادراً ما يُتاح لها معرفة أصول العقائد والمعارف والأخلاق. و هذا ما يدعو فقهاء الإسلام و علماءَه إلى أن يهتموا - إضافة إلى الرسائل العملية التي تشتمل على الأحكام و قسمٍ من الفروع الفقهية - بجوانب الإسلام الأُخرى و تبيين المعارف الإسلامية بأسلوبها التخصصي والمُبسّط، لمختلف المستويات الثقافية لأبناء الأمّة، و يتكفّلوا إلى جانب ذلك بمهمة الرد على الشبهات الجديدة والتساؤلات التي تراود أذهان الناس أحياناً و خاصّة جيل الشباب.

جاء تأليف هذا الكتاب استجابة لهذه الضرورة. والغاية من تقديم معرفة إجمالية لمنظومة المسائل الاعتقادية والأخلاقية و نبذة عن الأحكام الضرورية لعموم الناس.

نأمل أن يكون خطوة على طريق تحقيق هذه الغاية.

في الختام أودّ أن أعرب عن شكري و تقديري لكل السادة الأفاضل الذين ساهموا في إعداد و تأليف و تعريب هذا الكتاب. و نسأل اللّه لهم جزيل الأجر والثواب.

و أدعوا جميع الاخوة والأخوات إلى تشجيع و حثّ أبنائهم على قراءة الكتب الدينية التي تتناول المعارف والأخلاق والقيم الإسلامية.

والسلام على جميع إخواننا المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته.

ربيع الأوّل 1427

حسين علي المنتظري

ص:21

ص:22

الدّين

اشارة

ص:23

ص:24

ما هو الدّين؟

الدّين بمعنى الجزاء، والقانون، والعادة، والعبادة، والطاعة.(1) و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم بهذه المعاني: (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (2) فاللّه تعالى مالك يوم الجزاء، (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) (3) أي ما كان يستطيع حبس أخيه وفقاً لقانون الملك. (أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) (4) أي اعلموا أنّ الطاعة الخالصة للّه.

و أمّا في المعنى الاصطلاحي، فتطلق كلمة الدّين على بعض الأُمور المقدّسة التي لها صلة وثيقة بذات الإنسان، و تلبّي حاجاته المعنوية، و تروي ظمأه. و في رأينا إنّ هذا لايكون حقاً إلّاإذا كان مُنزلاً من اللّه تعالى. و في هذه الحالة فقط يصحّ إطلاق تسمية الدّين عليه حقيقة. و قد ورد في القرآن الكريم صراحة: (وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (5) أي أنّ كل مَن يطلب ديناً آخر غير الإسلام لن يقبل منه أبداً.(6)

تُستعمل كلمة الدّين أحياناً في مقابل الشريعة، و يُراد به اصول الدّين، بينما تضمّ الشريعة الجوانب الأخلاقية والفقهية.

فطرية الدّين

الفَطر: بمعنى الشق طولاً. و «الفِطرة» مصدر نوعي بمعنى خلق و إبداع الشيء، بحيث

ص:25


1- - الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ج 4، ص 225.
2- - سورة الفاتحة (1)، الآية 4.
3- - سورة يوسف (12)، الآية 76.
4- سورة الزمر (39)، الآية 3.
5- سورة آل عمران (3)، الآية 85.
6- تجدر الإشارة إلى أنّ مقولة الدّين المقبول عند اللّه متفاوتة من حيث الجزاء على العمل الصالح، و كما يلاحظ في آيات أُخرى من القرآن الكريم أن أتباع سائر الأديان إن كانوا يؤمنون باللّه و يعملون عملاً صالحاً، سيكون لهم أجرهم.

يظهر منه عمل خاص. والفطرة - كالغريزة والطبع - عبارة عن ميل و نزوع ذاتي. أي أنّ الموجود الفطري هو ما خلق بحيث يكون له توجّه ذاتي نحو شيء معين بدون تعليم و تجربة، مثل فهم الحسن والقبح. و مثل هذا التوجّه والانجذاب الذاتي ليس أمراً مادياً و خاضعاً للمقاييس، و لايمكن حسابه و تقييمه بالحسابات الماديّة. و للاُمور الفطرية خصائص و هي أنّها: عمومية، ذاتية، ثابتة لاتتبدل، غير مادية.

إنّ النظر الدقيق في ميول الناس و سلوكهم يكشف بكل جلاء عن حقيقة، و هي أنّ لبني الإنسان توجهات و ميولاً باطنية. فبنو الإنسان على العموم يبدون ميلاً نحو الجمال، والسلوك الاخلاقي، و حُبّ الحقيقة، و حُبّ الاستطلاع والانبهار بالموجودات المتميّزة، والميل إلى الكشف عن الأماكن والأشياء الجميلة، والاعتناء بالذات، و إظهارها بمظهر حميد حسن، و إنفاق أموال طائلة من أجل التوصل إلى الحقيقة، والرغبة في إظهار سلوك أخلاقي حميد منذ الأيام الاُولى لإدراكهم العقلي. فلماذا كل هذه الميول؟ والجواب: لأنّ الأخلاق الحميدة كالصدق والأمانة جزء من الفطرة الاُولى للإنسان، أمّا الأخلاق السيئة كالاحتيال والخُداع والكذب فهي تتعارض مع الفطرة؛ لأنها دخيلة على فطرة الإنسان السليمة.

الإنسان بطبيعته يبجّل الكائنات العظمى و ينحني إجلالاً لها، بل قد يصل به الحال إلى عبادتها. و هذا ما يكشف عنه تاريخ البشرية بكل جلاء، و هناك شواهد دالة على فطرية هذا الميل في ذات الإنسان، تتجلى في ظهور الأديان والممارسات العبادية الغريبة، و تقديم القرابين لتلك الآلهة التي يقع عليها اختياره، و تضرّعه لها بهدف استعطافها و نيل القرب منها، فضلاً عن اتخاذ السحر كوسيلة للنفوذ إلى قلوبها، إضافة إلى ما يحتفظ به الكهنة من أحراز و أوراد للتعامل مع تلك الآلهة. و يكشف تاريخ الإنسان أنّ حياته كانت حافلة بالأسرار والألغاز. و كان الاعتقاد بوجود عالم غيبي غامض غير هذا العالم المادي، من الحقائق المشهودة في تاريخه. و ما عبادة الظواهر الطبيعية أو حتى عبادة الأصنام إلّاتعبير عن هذا الميل الذاتي، و إن كان من المحتمل - طبعاً - وقوع انحراف عن الإرادة الأصلية عند ممارسة هذا الميل. و على العموم فإنّ الميل إلى العبادة يعكس احد معاني فطرية الدّين.

ص:26

و قد صرّح القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) .(1)

إنّ فطرية الدّين تعني أنّ الدّين جاء إلى الناس بما يميلون إليه بفطرتهم الذاتية.

و أمّا الوجه الآخر لفطرية الدّين فهو أن الناس يسعون إلى العثور على القوانين والأحكام التي تضمن لهم سعادتهم، بيد أنّ ما يتوصلون إليه في هذا المضمار لايحقق لهم هذه الغاية، لذلك فهم يتطلعون إلى سبيل أكثر وثوقاً. والدّين هو السبيل الموثوق الذي يسعى الناس بجدٍ للعثور عليه.

أمّا الجانب الثالث لفطرية الدّين فيعزى إلى نزعة المنفعة والكمال عند الإنسان.

فالإنسان يسعى على الدوام في سبيل تحقيق مصلحته و منفعته الذاتية، ليتسنّى له إضافةً إلى تحقيقها، بلوغ مرتبة أعلى على طريق التكامل. و لاشكّ في أنّ مُتابعة الطريق الآمن لبلوغ الكمال و جني المنفعة الذاتية تمثل قضية حيوية لبني الإنسان. والدّين و ما فيه من تعاليم يرشدهم إلى هذا الطريق الآمن.

إذاً و فطرية الدّين هي التي تلبّي نزعة الإنسان إلى العبادة، و ترشده إلى طريق آمن نحو السعادة، و تضمن له تحقيق منفعته و بلوغ ما يصبو إليه من الكمال.

الغاية من الدّين

اشارة

نبدأ كلامنا حول هذا الموضوع بإثارة عدد من الأسئلة و هي: ماذا سيحصل لو لم يكن هناك دين؟ و هل الحياة متعذرة بلا دين؟ ألا يكفي عقل الإنسان و تجاربه لرسم مصيره؟

رغم أنّ المجتمعات البشرية لم تعش تجربة حياتية خالية من الدّين - بما يعنيه من أمر يتعاطى مع الفطرة - يمكن في ضوئها بيان حالة الحياة بدون وجود الدّين، و لكنّ واقع الحال ينبئنا عن مدى ضرورة الدّين، و أنه من المتعذر أن تكون حياة الناس خالية منه. فوجود الدّين يدور مدار حياة الإنسان. و من غير الممكن وجود الإنسان مجرّداً من هويته

ص:27


1- سورة الروم (30)، الآية 30.

الإنسانية، فميله الذاتي إلى ممارسة الشعائر الدينية جزء من هويته. و يمكن القول بعبارة أُخرى: إنّ الدّين عبارة عن استجابة مناسبة لنداء الفطرة. و يؤدي الدّين بالدرجة الاُولى عدّة وظائف مهمة، و يضطلع تبعاً لذلك بأدوار مهمة في الحياة. و يمكن إيجاز وظائف الدّين - فضلاً عمّا سبق ذكره - بما يلي:

أ - التوعية

يكتسب الناس عادة الكثير من التجارب عند إدارة شؤون حياتهم والتعاطي مع الواقع المحيط بهم. و هم عادة يكتسبون أو يكتشفون كل ما يلزم لحياتهم و سلامتهم والدفاع عن كيانهم. و رغم كل ذلك، فهناك جوانب في الحياة لاتخضع للتجربة، و إخضاعها للتجربة يعني فقدان كل شيء. و من الأُمور التي يتعذّر على الإنسان تلمّسها حتى عن طريق الحدس والظن، وجود كائنات غير مادية في هذا الوجود، و كيفية تدبير شؤون هذا الكَوْن، و مصيره، و بعث الناس من جديد في عالم آخر، و ما شابه ذلك. و قد تحدّث القرآن الكريم عن رسُل أرسلهم اللّه ليعلّموا أقوامهم: (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) .(1)

فقد تحدثت هذه الآية عن نوعين من التعليم: تعليم الكتاب والحكمة، و تعليم الأشياء التي لايمكن أن يتعلّمها الناس إلاّ عن طريق الأنبياء بواسطة الوحي.

تظهر تجارب بعض النحل والاتجاهات مثل البوذية، أنّ البوذيين على الرغم من إنكارهم لِما وراء الطبيعة و لبعث الأنبياء،(2) غير أنهم يتّصفون بمسلكية أخلاقية شبيهة بما تدعو إليه الأديان التوحيدية، و يُعزى سبب ذلك إلى ما تنطوي عليه البوذية من تعاليم معنوية.

وانطلاقاً من ذلك يبدو أنّ المتديّنين استطاعوا تحقيق ما هو صالح و ما ينبغي لهم العمل

ص:28


1- سورة البقرة (2)، الآية 151.
2- - هذا على فرض أن بوذا لم يكن نبياً و لم يكن دينه ديناً سماوياً، و اعتبرناه مجرّد إنسان دعا إلى الاهتمام بالجوانب المعنوية.

به، عن طريق الوحي والتعاليم الدينية على نحو أفضل، سواء على صعيد الاعتقاد بما في هذا العالم من حقائق خفية و ظاهرة، أو عن طريق السلوك الفردي والجماعي. فعلاقة الفرد مع ربّه، و مع أبناء جنسه، و حتى مع البيئة المحيطة به، من جملة الأُمور التي تعالجها التعاليم الدينية. و من الطبيعي أنّ كشف حقائق هذه الأشياء متعذّر على البشر، و لكن لايمكن لأحد الحزم بأنّ ما توصل إليه بنو البشر و جرّبوه هو ما ينبغي أن يكون دون غيره.

و يتضح من خلال رسالات الأنبياء أنّهم لم يكونوا يرتضون أيّ نوع من العلاقة بين العبد و ربّه. و ليس كل أنواع العلاقة بين العبد و ربّه - اى كل ما يُعبر عنه باسم العبادة - مقبولة.

إنّ علاقة البشر مع بعضهم من قبيل علاقة المرأة بالرجل، و علاقة الجيران، والرجال مع أزواجهم، والأبناء مع آبائهم، والعلاقة بين أتباع الدّين الواحد، و غير ذلك، تقوم أحياناً على التجربة و رعاية المصالح العامّة. كما يؤكّد الدّين على المصالح المعنوية والاُخروية التي لايمكن التوصّل إليها بالتجربة. فالناس قد يحسبون الخير شرّاً، أو يرون في الشر خيراً،(1)

غير أنّ الواقع ليس كذلك: (وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ...) .(2)

ب - الحُكم

يؤدّي الدّين دوراً في موضوع الحكم بين الناس و البتّ في ما ينشأ بينهم من خصومات.

فالتعارض بين المصالح يوقع الناس أحياناً في نزاعات و خصومات. و أفضل الحلول لمثل هذه المنازعات هو القضاء فيها، مع أخذ كل جوانب مصالحهم بنظر الاعتبار، و إصدار الحكم فيها تبعاً لِما تقتضيه مصلحتهم في الدنيا والآخرة: (... فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ...) .(3)

و في ضوء الملاحظتين المذكورتين آنفاً، لابُدّ من التنبيه إلى أنّ الدّين يؤازر عقل الإنسان للوصول إلى ما يحتاجه من حقائق، و يُعتبر بمثابة محكّ تُقاس به معطيات العقل و

ص:29


1- - «عَسى ان تكرهوا شيئاً و هُوَ خيرٌ لكم وَ عَسى ان تُحِبّوا شَيئاً و هُوَ شرٌّ لكم»؛ سورة البقرة (2)، الآية 216.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 180.
3- سورة البقرة (2)، الآية 213.

يتقرر خطؤها من صوابها. والعقل رغم ما يتسم به من قدرات إلّاأنّه يقع أحياناً أسيراً لأهواء النفس و يبقى عاجزاً عن إدراك ما هو حسن، بل قد يسوق الإنسان أحياناً إلى الفساد و إراقة الدماء.

فالكثير من الحروب والدمار كان الموجّه والقائد إليها هو العقل. و انطلاقاً من ذلك لابُدّ من وجود قوة رادعة و هادية أُخرى تأخذ بزمام العقل.

ج - تعيين المسؤوليات

وضع الدّين على رأس اهتماماته إبلاغ الناس بتكاليفهم، أو ما يمكن أن نسمّيه بتعبير آخر: هدايتهم. فعلى الناس تكاليف و مسؤوليات في كل ما يواجههم من شؤون الحياة.

و هذه المسؤولية إن كانت معيّنة عن طريق الوحي فهي عين الواقع. إضافة إلى أن المرء إذا تعرض لأيّة مؤاخذة أو مساءلة في هذا المضمار لايمكنه أن يدّعي الجهل بما عليه من التكاليف: (إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً * وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) .(1)

إنّ ما يعلّمه الدّين للناس - سواء في باب الاعتقادات أم في باب الأحكام - إنّما يهدف إلى إيصالهم إلى مرحلة الكمال والسعادة اللّذين يُعتبران من الحاجات الأساسية لكل إنسان. و لابُدّ من الإشارة إلى أن مثل هذا الكمال و هذه السعادة لايتوقّف تحقيقهما على التطوّر المادي و اضلال وسائل العيش المرفّه؛ إذ كثيراً ما يحصل الناس على هذه المعطيات و لكنّهم لايشعرون بأنهم قد بلغوا السعادة والكمال، و نحن نرى كثيراً من الناس ينالون ما يصبون إليه من رفاه مادّي، و لكنهم يواصلون السعي من أجل نيل السعادة. في حين أنّ اللّه

ص:30


1- سورة النساء (4)، الآيات 163-165.

عزّوجلّ قد بَيَّن في سياق ما شرّعه من أحكام الدّين بأن الالتزام بما أمر به من عبادة و جهاد و تقوى كفيل بإيصال العبد إلى ساحل النجاة والسعادة: (... اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .(1)

د - معرفة الكَوْن

إضافة إلى ما سبق ذكره، للدين تأثيرات و معطيات أُخرى في أذهان الناس و قلوبهم، لاتقل عن الغاية الأساسية التي جاء من أجلها الدّين. فالدين يعلّم الإنسان مايجعله يعيش في انسجام و تناغم مع العالم الذي يعيش فيه؛ لأنّه في حالة انعدام مثل هذا الانسجام بين الإنسان والعالم المحيط به تصبح الحياة عسيرة، و يشعر الإنسان معها بالخواء والضياع.

و رغم أن الإنسان لا دور له في صنع العالم الذي يعيش فيه، أو ليس لديه معلومات وافية عن بدايته و نهايته، غير أنّ التحليل والرؤية التي يقدّمها الدّين للإنسان عن الكَوْن والحياة يذلّلان أمامه الكثير من هواجس الحياة و آلامها، و يبعثان في نفسه الأمل بحياته و مستقبله، و ينتشلانهِ من عواصف الأزمات الروحية، و يخلقان لديه القدرة على التكيّف مع المصاعب والشدائد، و ينتزعانهِ من ظلمة الأوهام و مشاعر الخواء والعبثية، و ينقلانه إلى ظروف إيجابية: (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ...) .(2)

الإنسان المؤمن والمتديّن يعتبر نفسه عبداً للّه، و يدرك أنّ العالم مخلوق، و أنّ الخالق إله رحيم تمتد خيمة رأفته و لطفه لتظلّل بظلالها كل شيء في هذا الوجود. و هو يستشعر قرب العلاقة بينه و بين اللّه، و لاتخالجه مشاعر الغربة عن هذا الكَوْن. و هو لاينظر إلى الآلام والمتاعب كشوكة تعيقه عن مواصلة الدرب. و يلمس مشيئة اللّه في كل شيء و على كل حال. و في ضوء مثل هذا الفهم والشعور يأخذ على عاتقه عبء المسؤولية والالتزام.

و يحمل على الدوام مشاعر ايجابية إزاء العالم، و هو يعيش كل شيء في هذا الوجود لِما يمثّله من آية دالة على خلق اللّه.

ص:31


1- سورة المائدة (5)، الآية 35.
2- سورة ابراهيم (14)، الآية 5.

و اخيراً، فإنّ الدّين يمثّل بالنسبة إليه ملاذاً معنوياً في الظروف العصيبة و في أوقات الشدائد، و باعثاً على الأمل والبهجة في ظروف العافية والراحة. و يرى فيه طاقة لاتنضب عند ما يتخلّى عنه الجميع، فيولّد في نفسه النشاط والحيوية.

الدّين يربّي الإنسان على حالة من الاتزان أساسها التوكّل عند الفقر، والاحتراز من الانانية والطغيان عند الغنى. و يستنقذ الإنسان من الجمود والضحالة المادية، و يخلع عليه طابع النضارة والحيوية، و يمنحه الحصانة: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) . (1) و في المقابل يواجه المعرضون عن دين اللّه و عن ذكر اللّه ضنكاً و عسراً في الحياة حتى و إن كانوا يتقلّبون في وافر النعمة والرفاه: (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) . (2) أمّا المؤمن باللّه، فيعيش حياة زاخرة بالمعنوية، و هي الحياة التي يصفها القرآن الكريم بالحياة الطيّبة، بعيداً عن الرذيلة والفساد والانحطاط، و تغمرها البهجة الروحية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) .(3)

إنّ ما سبق ذكره لاينطبق على الحياة الفردية فحسب، و إنّما يشمل الحياة الاجتماعية أيضاً، فعندما يعيش كل واحد من أفراد المجتمع في حالة من الاتزان الروحي والحياة المعنوية، فهذا يعني أنّ ذلك المجتمع يعيش في صفاء كصفاء الحياة في المدينة الفاضلة، حيث تقوم العلاقات الاجتماعية وفقاً للمُثُل والقيم السماوية، و تكون الحياة فيه خالية من كل أنواع الضيق والاستياء، والقلق والمخاوف.

إنّ الدّين بصفته دافعاً ذاتياً يحمل للبشرية ضمانة تنفيذية للمبادىء الأخلاقية.

فالأحكام الدينية إضافة إلى ما فيها من إرشادات و نصائح مؤكّدة على السلوك الأخلاقي، و ما تدعو إليه من قواعد أخلاقية كثيرة، فهي تحمل العناصر الكفيلة بحثّ الإنسان على الالتزام بالوازع الأخلاقي. فعلى الرغم ممّا تتسم به الأخلاق من طابع فطري، غير انها تبقى هشّة و واهنة بسبب ما يتهددها من وساوس و مغريات نابعة من ذات الإنسان أو من

ص:32


1- - سورة النحل (16)، الآية 97.
2- - سورة طه (20)، الآية 124.
3- سورة الأنفال (8)، الآية 24.

خارجها، بحيث لايتسنّى الحفاظ عليها بأساليب القهر والإكراه و ذلك لأنَّ الأخلاق ذات دوافع ذاتية تُبادر إليها النفس طواعية. و هذا يعني أنها لاتتوج بالعمل والتطبيق إلّا بالتشجيع والحوافز الذاتيّة، والدّين يضطلع بهذا الدور الحيوي أيضاً.

و في الختام تجدر الإشارة إلى أنّ تعاليم الدّين حملت للبشرية بشائر الحضارة والمدنية المبنية على فكرة التدين. و يمكن القول: إنّ ازدهار كثير من العلوم رهين بالدين. و مع أن مثل هذه المعطيات لم تكن هي الغاية الأساسية للدين، غير أن الدّين قدّمها للمجتمع البشري كهدية كبرى.

جواب عن سؤال

و في ضوء ما عرضناه من صورة عن الدّين، قد يتبادر إلى الأذهان سؤال مفاده: إن هذه التوضيحات بشأن الدّين انّما كانت لزمن كان فيه الإنسان يفتقر إلى التطوّر و لم تكن لديه إمكانات واسعة، فجاء الدّين لتسكين معاناة و آلام مجتمعات العصور المظلمة التي كانت تنعدم لديها بوارق الأمل بالمستقبل، أمّا اليوم، فقد تطوّر الإنسان و أصبحت لديه الكثير من الإمكانيات، و بلغت الصناعة ذروتها، و حتى الفضاء غدا مسخّراً للإنسان، و غير ذلك من معالم التقدم التقني والعلمي الذي ساهم في حلّ أسرار الحياة و ألغازها لصالح البشرية، و بلغ الإنسان ذروة الرفاه، فما الحاجة إلى الدّين و مسكّناته؟

والجواب هو: أنّ الدّين ليس مهنة يؤدّي تعلّمها إلى تسكين الآلام و إزالة الاضطراب، و إنّما هو شعور قلبي تتمخض عنه الآثار والمعطيات التي سبق ذكرها. و إضافة إلى ما يجلبه الدّين من تقدّم و رفاه، فإنّ الشيء المهم الذي يُعطي الحياة معناها هو الجانب المعنوي فيها، و هو ما يُنال عادة بفضل الدّين. فتنظيم العلاقات بين الناس، و راحة البال والسكينة، حقائق لايمكن بلوغها بالرفاه وحده. فمن المعروف أنّ وجود الإنسان في هذه الدنيا لاينحصر في الجانب المادّي حتى يمكن القول: إنّ مقوّماتها و أسبابها متوفّرة و لم يعد للدين أيّ دور في الحياة. فكلّما تعاظم التطوّر العلمي والصناعي، ازدادت حاجة الإنسان إلى الشؤون المعنوية والأخلاقية. و مهما كسب من الأُمور المادية، يغدو - إن كان مجرّداً من المعنوية -

ص:33

أشدّ حرصاً و أبعد عن القناعة.

إنّ التطوّر المادي والصناعي لايهب الإنسان حياة طيّبة مليئة بالعدالة والإنصاف والروح الإنسانية، بل إنّ الإنسان أدرك بالتجربة أنّ التطوّر العلمي والتقني لايحلّ مشاكله الروحية، فالاكتشافات و ما رافقها من تطوّر أتاحت لأصحابها التفوّق على خصومهم، و ربّما ممارسة الظلم على من وقع تحت سلطتهم، في حين أنّ البشر بحاجة إلى سلوك أخلاقي قويم، و هذا ما يأتي عن طريق الدّين.

النفور من الدّين

و هنا قد يتبادر إلى الأذهان سؤال مفاده: إن كانت للدين كل هذه الفوائد، اضافة إلى حاجة الإنسان الماسّة إليه، فلماذا يواجه على الدوام مثل هذا الهجوم، و يظهر لنا أن الكثيرين ينفرون منه، أو يرفضون قبول الدّين الحق؟ و إن كان الدّين من المتطلّبات الفطرية للإنسان، فلماذا يأبى البعض الانضواء تحت لوائه، بل يرفضون قبول أي دين؟

إنّ الفهم الذي يلزم الصحيح للإجابة عن السؤال المذكور، يستدعي الفصل بين مجموعتين: الاُولى: هم كل من آمنوا بدين و شعروا بأنّه يلبي حاجاتهم، فهم بطبيعة الحال يعتبرونه حقاً مطلقاً، و لايقبلون أي دين غيره. والثانية: هم كل من لم يؤمنوا بدينٍ، أو تخلّوا عنه بَعد الإيمان به، و تُطلق عليهم تسمية الكفرة.

بالنسبة إلى الجماعة الاُولى، لايمكن وصفها بالنفور من الدّين حتى و إن كانت على غير الدّين الحق؛ لأنَّ اعتناق أي دين يمثل في واقع الحال استجابة لحاجة قلبية، و أداءً لتكليف، و تلبية لنداء الفطرة. و أكثر الناس في العالم يعتنقون ديناً و يعيشون معه و يشعرون بالانشداد إليه.

و أمّا الذين لايؤمنون بدين أو أعرضوا عنه بَعد الإيمان به، فقد يُعزى سبب ذلك الى العوامل التالية:

أ - للإنسان جوانب و نوازع شتّى، و من الطبيعي فإنّ الاهتمام ببعضها يؤدي إلى تجاهل الأُخرى. فقد يهتم الإنسان باللّذائذ العابرة و يتغاضى عن غيرها من المتطلّبات، و هو ما قد

ص:34

يؤدّي بالنتيجة إلى عدم بروزها بوضوح، أو قد يحلّ محلّها بديل زائف كمن يشعر بالجوع فيتناول أطعمة تسدّ الشهية بدلاً من تناول أطعمة مفيدة.

ب - أن يأتي سلوك الإنسان و ردّ فعله من مزيج من المشاعر والقوّة العقلية. و متى ما سار الشعور والعقل سيراً متزناً بعيداً عن الإفراط والتفريط، يكون فعلهما منسجماً، و ينتهج الإنسان على أثر ذلك منهجاً معتدلاً، و يتصرف تصرفاً عقلانياً في الوقت المناسب، أو يتصرف وفقاً للمشاعر والأحاسيس في الموضع المناسب أيضاً.

و عند التعامل مع المفاهيم والمقولات الدينية، إذا كان هناك انسجام بين العقل والمشاعر، سيكون موقع الدّين في النفس قوياً و رصيناً، و لكن لو تم تجاهل أحدهما فسوف يخرج عن حدّ الاتزان، فإذا عطّل العقل و تعامل مع الدّين من منطلق المشاعر فلن يجد فيه سوى مجموعة من الشعارات والغيبيات والخوارق. و من الطبيعي أنّ مثل هذا التوجّه يخلق فجوة بين الدّين والعقلانية، و يظهر الدّين و كأَنّه ممّا لايمكن الدفاع عنه دفاعاً عقلياً.

كما أنّ التعامل العقلي الصرف مع الدّين، يجعل المرء يقف حائراً و لايجد إجابة مقنعة إزاء الكثير من المفاهيم ذات الطابع التعبّدي المحض. و نتيجة لعدم اقتناع العقل، يجد الإنسان نفسه مدفوعاً إلى الإعراض عن الدّين. كما أنّ النظرة العقلية الصرفة إلى الدّين قد تصوّر الحاجات الفطرية للانسان، و كأَنّها أشياء وهمية فيعرض عنها، ثم يحاول اصطناع بديل عن الدّين. و قد حذّرت النصوص الدينية من هذه النزعة، فقد روي عن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: «إنّ دين اللّه لايُصابُ بالعقول الناقصة»(1) والمراد من ذلك هو ان يُستعان لهذه المهمّة بمحض العقل و ليس بالعقل المحض. فالباري عزّوجلّ يجعل اعتباراً للعقل المحض، أمّا ما يضل الإنسان فهو الاكتفاء بمحض العقل.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «واعلموا انّهُ ليس من علمِ اللّهِ و لا من أمرِهِ أن يأخذَ أحدٌ من خلقِ اللّهِ في دينِهِ بهَوىً و لا رأىٍ و لا مقائيس».(2)

ص:35


1- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 2، ص 303، الحديث 41.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ج 27، ص 37، الحديث 2.

و جاء في حديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إنّ المؤمن أخذَ دينهُ عن ربّهِ و لم يأخذهُ عن رأيه».(1)

و لاشكّ في أنّ مثل هذه المواجهة بين العقل والدّين، لاتأتي على الدوام من النزعة العقلية المفرطة، بل كثيراً ما يؤدي عدم فهم كُنه و حقيقة مفهوم من المفاهيم الدينية إلى زعزعة الإيمان. و قد يكون عدم التوجيه العقلاني لجوانب من الدّين مدعاة لردود فعل سلبية من العقل تجاه الدّين.

و بناءً على ذلك ينبغي السعي - في ذات الوقت الذي يكون هناك انسجام بين العقل والمشاعر - لتبيين المفاهيم التي تتطلب توجيهاً عقلانياً.

ج - التأثير السلبي لبعض الشخصيات التي تعدّ أنفسها رموزاً دينية، و لمن يوصفون بالقدوات المعنوية، في نفوس و تديّن مَن يأخذون دينهم عنهم. فالسلوك المتناقض للرموز الدينية مع أحكام الدّين، يترك تأثيرات سيئة في نفوس الأفراد، و قد يكون سبباً لنفورهم من الدّين. و لعل تأثير هذا العامل في ظروف معيّنة يفوق تأثير العوامل الأُخرى.

د - كذلك تؤدّي النظرة المادية، إلى إنكار المفاهيم الدينية، والشك فيها بسبب عدم القدرة على قياسها بالمعايير المذكورة؛ أو قد لايجد المرء إجابة وافية عنها. و هو ما ينتهي - بالنتيجة - بأصحاب هذه النظرة إلى الابتعاد عن الدّين.

ه - عوامل البيئة والتربية تدخل في عداد العوامل التي قد تحجب المرء منذ البداية و بالتدريج عن الشؤون المعنوية والدينية. فهناك من الناس من ينشأون - بسبب ظروف البيئة والتربية - على عادات و تقاليد و ثقافة من نوع خاص و يتخذونها ديناً لهم.

و لاشكّ في أنّ طبيعة الأفراد و إرادتهم و عزمهم لها دورها في تعيين مدى تأثير العوامل، و لايمكن القول: إن الإنسان خاضع لتأثير العوامل الخارجية وحدها.

و مع كل ذلك يبدو أنّ ضرر هذه العوامل يلحق بالمؤسسات والمظاهر الدينية، و إلّافإنّ أصل الدّين شمس لاتغرب.

ص:36


1- المصدر السابق، ص 45، الحديث 21.

شمولية الدّين

جاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد. حتى لايستطيع عبدٌ يقول:

لو كان هذا نزل في القرآن؟ إلّاو قد أنزله اللّه فيه».(1)

يدل هذا الحديث إضافة إلى أحاديث أُخرى و آيات قرآنية، على أن كل ما يحتاجه الناس قد جاء في تعاليم الدّين، و أنّ كل شيء قد ورد ذكره في الدّين. و قد عبّر القرآن الكريم عن هذه التعليمات الشاملة بقوله: (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ) (2) و (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ) .(3)

و لتسليط الضوء على معنى شمولية الدّين ينبغي الالتفات إلى أنّ شمولية كل شيء تُقاس بالشيء نفسه، و بالهدف المراد تحقيقه من ورائه. فأيّ شيء إن كان فيه كل ما يلزمه فهو كامل و شامل. والدّين غير مستثنىً من هذه القاعدة. و شمولية الدّين و كماله، تتمثل في ما يتضمّنه من تعليمات على طريق هداية الإنسان نحو الغاية المرسومة، و هو ما يُعبَّر عنه بالهداية. و سرّ هذه التعليمات، هو إيجاد علاقة متناسبة بين الإنسان و عالم الوجود. و مجموعة التعاليم الدينية تكشف عن حقيقة أنّ الغاية من الدّين هي الهداية. ففي الآيتين المذكورتين آنفاً وردت بَعد الجملتين المذكورتين كلمة (هُدىً) و هي تبيّن الغاية العامّة للدين.

إنّ المراد من قول الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ اللّه أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتّى واللّه ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد»،(4) و كذا قول الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّة إلّاأنزله في كتابه و بيّنه لنبيّه».(5) إنّ الدّين فيه دعوة الناس إلى اللّه و بيان للقيم المعنوية، و هي أُمور لاسبيل للناس إليها بغير الدّين. و على هذا الأساس، لاينبغي أن يرتجى من الدّين ما يمكن تحقيقه بالعقل الفردي أو الجماعي.

ص:37


1- الكُلَيني، الكافي، ج 1، ص 59، الحديث 1.
2- - سورة يوسف (12)، الآية 111.
3- سورة النحل (16)، الآية 89.
4- - الكُلَيني، الكافي، ج 1، ص 59، الحديث 1.
5- - المصدر السابق، الحديث 2.

مجال تعاليم الدّين

التوجّه الأساسي للدين، هو دعوة الناس إلى اللّه و إلى إصلاح أُمورهم بأنفسهم.

و جوهر الدّين، هو توجّه الناس إلى اللّه، واليقين بأنّه حاضر في كل مكان و ناظر إلى كل شيء.

إذا سلّمنا بأنّ قبول الدّين أمرٌ اختياريٌ و قلبيٌّ، فعلينا الإجابة عن السؤال التالي: إن كان الدّين يكتفي بتقديم الإرشادات اللازمة للناس، و يتحاشى التدخل في شؤونهم، و إنّما يتركهم على حالهم و لايكلفهم بأية مسؤولية إلى يوم القيامة حيث يُنظر هناك في أعمالهم، ثم إنّ الكثير منهم انحرفوا و وقعوا في الضلال بسبب انعدام الرقيب والناظر، فهل يكون الدّين في مثل هذه الحالة قد بلغ الغاية المنشودة منه؟

و بعبارة أُخرى، إذا لم ينجح المصلحون الدينيون في إصلاح الأُمور بالإرشاد والموعظة، و أدّت العوامل الخارجية المدعومة بالأجهزة الإعلامية والوساوس النفسية إلى إغواء الناس، فهل تقع على المؤمنين مسؤولية إيجاد مؤسسات تتكفل بمهمة السهر على حماية القيم الدينية؟

والجواب هو: إن الغاية الأساسية للدين هي الهداية والإرشاد إلى الطريق القويم، و من يطلب السعادة هو الذي ينبغي أن يختار الطريق و يسير عليه. و هذا طبعاً مما لاإكراه فيه و لا إجبار، و إنّما ينبغي أن يحصل التدين عن رغبة و إقدام ذاتي. والإكراه في مثل هذا الحال لايؤدّي إلى التديّن.

نعم، هناك مجموعة من الأحكام الهادفة إلى تنظيم الشؤون والعلاقات الاجتماعية، و لكن الغاية إجراء هذه الأحكام بنفسها، و لايشترط فيها القصد والنيّة، و هذه الأحكام شبيهة بالقوانين الموجودة في كل مكان في العالم و هي إلزامية، و عليها تتوقّف مسيرة الحياة الاجتماعية. و هي حتى و إن لم يرد فيها أمر مباشر، فإنّ مجرّد الأمر بها يستدعي إيجاد المؤسسة الكفيلة بإجرائها، كما هو الحال بالنسبة إلى الأحكام القضائية التي يُراد من ورائها إحقاق حقوق الناس، و لكن ليس في برنامج الدّين - طبعاً - تقديم نمط خاص

ص:38

للحياة، كأن يدعو إلى حياة بدوية أو حضرية أو قروية. و إنّما يدعو الدّين الناس حيثما كانوا إلى الالتزام بمجموعة من التعاليم، والعيش وفقاً لِما يقتضيه الدّين. والدّين لايجيز - طبعاً - تعدّي الحدود التي رسمها، سواء أكانت على صعيد الفرد أم على صعيد المجتمع.

الدّين يقدّم منهجاً عاماً للحياة، و لايبيّن أسلوباً خاصاً لحل المشاكل الاجتماعية، فهو - على سبيل المثال - ينظر باهتمام إلى قضية العدالة الاجتماعية لِما يُمثّله الظلم و فقدان العدالة من عائق أمام سعادة الناس و إقبالهم على عبادة اللّه. أمّا أساليب معالجة هذه القضية فقد تُركت إلى الناس ليتعاملوا معها حسب ظروفهم و أجوائهم و بيئتهم، و لم يأمرهم الدّين باتباع اسلوب أو منهج معين لحلّها، و ذلك لأنَّ تدخل الدّين في أمثال هذه الأُمور يجرّه إلى معضلات كثيرة و يزيحه من ساحة الحياة، بسبب ما يستجد فيها من تطوّرات و تغييرات لتحل محلّه المعطيات التجريبية والعلمية، و عندئذ تتكشف لبني الإنسان عدم كفاءة الدّين و عدم قدرته على بعث الازدهار والتقدم. في حين أنّ الدّين يؤدي دوره في ما يقدّمه على الدوام من إرشادات و مواعظ لرعاية الأُصول والقيم. و انطلاقاً من ذلك تُلاحظ في تعليمات الأنبياء - بكل جلاء - أحكام تهدف إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية تنظيماً عادلاً، و من ذلك مثلاً، قول الباري تعالى في كتابه الكريم: (وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ...) .(1)

و في ضوء ما سبق ذكره يتّضح أنّ الدّين لايرمي إلى الدعوة إلى الاكتشافات، والصناعة، والزراعة، و تربية الحيوانات، و بناء المدن و ما شابه ذلك، و إنّما يُعنى بتعيين الأُصول والمبادىء و يدعو إلى الالتزام بها.

عند المقارنة بين نظرة الدّين إلى الدنيا والآخرة، يجعل الدّين من الآخرة هدفه الأساسي. و بدون الدّين لايهتدي الإنسان إلى الطريق الموصل إلى السعادة الاُخروية.

و هذا الكلام لايعني طبعاً أنّ الدّين لايولي أهمّية للدنيا؛ فالسعادة في الآخرة يمرّ طريقها عبر هذه الدنيا، بل إنّ السعادة الاُخروية تنتفي ما لم يتم تبيين العلاقات الصحيحة في الدنيا.

ولو كان الدّين قد تجاهل الدنيا لعُدَّ ذلك تقصير منه في بيان السبيل إلى سعادة الآخرة.

ص:39


1- سورة هود (11)، الآية 84.

العقل والدّين

العقل يعني في الأصل الإمساك والاستمساك كعقل البعير بالعقال،(1) و هو يعني اصطلاحاً القوّة التي يكون بها التمييز بين القبح والحُسن.(2)

تحدثت النصوص الأخلاقية عن القوى الثلاث الشهوية والغضبية والعقلية. والفارق بين العقل التقليدي الذي يُقرن بالشهوة والغضب، والعقل الحديث، هو أنّ العقل التقليدي ذوطابع فردي، و هو ما يُسمّى بالعقل الغريزي. بينما العقل الحديث عقل نقّاد و قائم بذاته، و يكشف عن ذاته عن طريق الحوار وتبادل الآراء، و له بطبيعة الحال مكانة قيّمة.

و سواء اعتبرنا العقل خاضعاً لتأثير الأُمور الفطرية (العقل الغريزي)، أم خازناً يحمل الكثير من التجارب والمكنوزات العلمية، أم صاحب رؤية في المجال العملي «العقل العملي»، أم غيره «العقل النظري»، فعلى جميع هذه الاعتبارات ثبت بأنه ينطوي على قدرات هائلة. والعقل يزود الإنسان بالمعرفة إلى جانب ما يزوده به الوحي. و يمكن القول:

إنّ هناك طريقين لاستقاء المعرفة، أحدهما الوحي، والآخر العقل. والمصادر الدينية أثنت على العقل و قالت في وصفه ما يلي:

1 - العقل حجة اللّه: «الحُجّةُ فيما بين العباد و بين اللّه، العقل».(3) و قد ذم اللّه عزّوجلّ في عدّة آيات من كتابه الكريم من لايتفكرون في آيات اللّه و حقّانية الأنبياء.(4) و وردت مشتقات كلمة العقل في القرآن تسعاً و أربعين مرّة، و جاءت كلمة «اُولو الألباب» ستّ عشرة مرة، كما وردت كلمات: القلب، والفؤاد، والفكر، مرات عديدة في القرآن الكريم.

2 - يُعتبر العقل من المستقلات العقلية، إلى جانب الكتاب والسُنّة والإجماع، أيّ أنّه من المصادر المستقلّة للأحكام الدينية. و كمثال على ذلك، إنّ العقل يدرك بصورة مستقلة حُسن العدل و قُبح الظلم. و هذا العقل مشابه من عدّة جوانب لِما يُسمّى اليوم بالعقل

ص:40


1- - الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 578.
2- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ج 4، ص 18.
3- - الكُلَيني، الكافي، ج 1، ص 25، الحديث 22.
4- - سورة المائدة (5)، الآية 75؛ سورة المؤمنون (23)، الآية 70؛ سورة العنكبوت (29)، الآية 63.

المستقل أو العقل الحديث.

جاء في روايات عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و عن الأئمة المعصومين عليهم السلام أنهم وصفوا العقل بأنه أفضل شيء: «ما قسّم اللّه للعباد شيئاً أفضل من العقل».(1) و وُصفَ أعلم الناس بأمر اللّه، بالأحسن عقلاً: «أعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً»(2) و إنّ كمال إيمان المؤمن رهن بكمال عقله: «لايكونُ المؤمنُ مؤمناً، حتى يكون كامل العقل».(3)

و من ناحية أُخرى وصف العقل بعدم القدرة على إدراك كُنه و حقيقة الدّين في كل الظروف والأوضاع، و أنه عاجز عن فهم جزئيات الدّين والأُمور القدسية: «اِنّ دينَ اللّه لايصاب بالعقول الناقصة».(4)

السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هنا هو: كيف يمكن التوفيق بين هاتين الرؤيتين؟ حيثُ ترى إحداهما أنّ اعلم الناس بأمر اللّه أكملهم عقلاً، و أنّ كمال إيمان المؤمن بكمال عقله، بينما ترى الأُخرى أنّ دين اللّه لايدرك بالعقول.

نعم! إنّ العقل أفضل ما يدرك به أمر اللّه وتُفهم به الحقائق، و بدونه لايكون على الإنسان تكليف، والعقل يكشف طريق استنباط الأحكام. و قد يُعد العقل أحياناً بمثابة قرينة لفهم القرآن والسنة، والاستدلال العقلي يجعل القلب مهيئاً لقبول الشيء. والدّين يمدّ العقل و يدفعه نحو التفكير. فقد نُقل عن الإمام علي عليه السلام أنه قال في كلمة له: «وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ».(5) فالدين يعلّم العقل أشياء لايتسنى له تعلّمها بدون الدّين.

إنّ العقل و رغم كل ما يتّسم به من قدرات، إلّاأنه عاجز عن الإحاطة بجميع الحقائق، بسبب ما يشوبه من أهواء و أوهام و تقاليد بالية و تعاليم مغلوطة، والأهم من كل ذلك إنه معرّض للوقوع في الخطأ. و في ضوء ذلك لايمكن الوثوق بصواب ما يتوصل إليه العقل.

ص:41


1- - الكُلَيني، الكافي، ج 1، ص 12، الحديث 11.
2- - المصدر السابق، ص 16، الحديث 12.
3- المجلسي، بحارالأنوار، ج 1، ص 109، الحديث 5.
4- المصدر السابق، ج 2، ص 303، الحديث 41. تجدر الإشارة إلى أن هذا الحديث نقله ابن عصام عن الكليني، غير أن الكليني نفسه لم يورده في مذمّة العقل (ج 1، ص 57) و هذا هو الحديث الوحيد الوارد في ذم العقل. و نظراً إلى أنه ورد مقروناً بقيود مثل الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة فمن المحتمل جداً انه يشير إلى تيار فكري خاص كان في زمن الإمام السجاد عليه السلام.
5- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 1، ص 43.

فتبيين المتطلّبات الأساسية للروح و ما يكتنف طريق الإنسان من مصاعب يستلزم مصدراً وثيقاً، و ذلك هو الدّين والتعاليم القادمة عن طريق الوحي. و هناك بطبيعة الحال أُمور لايدركها العقل ما لم يرشده إليها الوحي، مثل عالم الغيب، و عالم الملائكة، والحياة الآخرة.

شمولية فهم الدّين

إنّ مصدري الدّين - و هما الكتاب والسنّة - طبقاً لِما ورد فيهما، يمكن لكل الناس فهمهما، و هما ليسا حكراً على طبقة أو فئة بعينها: (وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ...) ، (1)(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ) .(2)

وردت تأكيدات مكررة على التفكّر في آيات اللّه، و على التعلُّم واكتساب المعرفة، و أنّ الإعراض عن تعلّم الدّين دلالة على البداوة،(3) و أنّ اللّه لاينظر إلى من لايسعون لتعلّم الدّين.(4) و هذا مما يدل بكل جلاء على إمكانية فهم الدّين من قبل جميع الناس..

و رغم أنّ فهم الدّين متاح لجميع الناس و ليس حكراً على فئة معيّنة، إلّاأنّ ذلك لايعني أنه مجرّد من القواعد والضوابط، بل لايمكن التوصل إلى حقيقة الدّين إلّابرعاية اصول الفهم. فالدين عبارة عن مجموعة من التعليمات والإرشادات الإلهية التي ابلغت في مدة زمنية، و قد أخذت بنظر الاعتبار عند تشريعه ظروف و مقتضيات الزمان والمكان.

و جاءت بعض أحكامه مجملة في حين جاء بعضها الآخر مفصّلاً و ناظراً إلى موارد خاصة، و بعضها قد نسخ، بينما يشكّل فهم البعض الآخر أرضية للتوصل إلى الحقيقة. و كان ابتعاد الأجيال اللاحقة عن صدر الإسلام، و امتزاج الأذهان بالعادات والتقاليد الشائعة في كل إقليم و ولاية، أن تترك تلك العوامل تأثيرها في فهم الدّين على نحو متفاوت، و إلى احتمال وقوع تحريف و دسّ في الدّين.

و في ضوء ذلك لابُدّ أن يحرز العاملون في حقل التحقيق في الدّين، الشروط اللازمة

ص:42


1- - سورة التوبة (9)، الآية 122.
2- سورة الأنبياء (21)، الآية 10.
3- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 31، الحديث 6.
4- المصدر السابق، الحديث 7.

لهذه المهمة ثم يجتهدون في الدّين، كما هو الحال في سائر العلوم. إلّاأنّه - و للأسف طبعاً - من الظواهر غير المحبّذة أن ينبري من ينبري للإدلاء برأيه في قضايا الدّين - بكل أبعاده وسعته - من غير حيازة الشروط اللازمة. في حين يعتقد في المجالات الأُخرى برأي أصحاب النظر و أصحاب الاختصاص.

من الطبيعي أنّ الدّين يختلف عن سائر مجالات الحياة بسبب حُبّ الناس له و تعلّقهم به، و لهذا فالمرجو هو أن تُراعى عند إدلاء النظر في قضاياه القواعد والأُصول المسلّمة، و ضوابط الاجتهاد، و فهم الدّين والمقدمات الضرورية لها، و لاينبغي لأحد أن يَظنّ في نفسه القدرة على الفهم والاستنباط الصحيح للأحكام قبل حيازة المقدمات التمهيدية لهذه المهمّة، و إنهاء المراحل العلمية اللازمة لها.

مدخلية الافتراضات المسبقة في فهم الدّين

ربّما يقترن فهم الدّين - فضلاً عن القواعد والأُصول اللازمة - بافتراضات مسبقة يكون لها تأثير واضح في فهمه. أمّا بالنسبة إلى مدى تأثير هذه الافتراضات المسبقة في فهم الدّين، و هل يمكن التوصل إلى حقيقة الدّين مع وجودها، فهو مما ينبغي التأمل فيه بدقّة.

فقد ظهرت طيلة تاريخ الاجتهاد في الدّين و جهات نظر متفاوتة في الفهم بين الفقهاء والمتكلمين، و انبثقت على أثر ذلك نِحَل و مشارب شتّى. فهل كانت كل تلك الاجتهادات صحيحة و تمثّل حقيقة المعطيات الدينية؟

لاشكّ في أن من يسمعون الوحي أو كلام الأولياء يحملون في أذهانهم تصورات عن تلك المفاهيم، بل قد تكون لديهم تصوّرات حتى عن اللّه، والملائكة، والمعاد، والجنّة، والعبادة، والتضرّع إلى اللّه و كيفية ارتباط العباد به. و هذا ما بيّنه قول الإمام الباقر عليه السلام:

«كلُّ ما ميَّزتموهُ بأوهامكم في أدقِّ معانيهِ مخلوقٌ مصنوع مثلكم، مردود إليكم و لعلّ النملَ الصغارَ تتوهّمُ انَّ للّهِ تعالى زبانيتين».(1)

ص:43


1- المجلسي، بحارالانوار، ج 66، ص 292 و 293، الحديث 23.

هناك عوامل تؤثر في فهم الدّين، و تجعل كل من يشاء يستنتج منه ما يشاء، و من ذلك التطوّر الذي قد يطرأ على مرّ الزمان على بعض المفاهيم، والتغيّرات الاجتماعية و ما يرافقها من تبدّلات في أوضاع المجتمعات، إضافة إلى ما تبتغي التيارات المختلفة انتزاعه من فهم يصب في سياق تطلّعاتها. فهل هذه كلها من الدّين، والسائرون عليها سائرون على الطريق الصحيح القويم؟ أم أنّه يُعتبر مثل هذا الفهم تطويعاً للمفاهيم الدينية وفقاً لمشتهيات الأذهان والرغائب؟

إنّ التفاوت في تفسير الدّين والاستنباط منه، شيء صحيح طبعاً، و لكن لاينبغي هنا إغفال قضية مهمّة، و هي أنّ من تلقَّوا الدّين و أبلغوه كانوا على اتصال بالوحي من جهة، و على صلة مع الناس من جهة أُخرى. و كان من المهام الملقاة على عاتق الأنبياء تبيين الدّين للناس على وجه دقيق: (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ...) ، (1)(وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ، (2)(وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) .(3)

عندما أدّى حملة الوحي رسالاتهم في تبيين الآيات الإلهية كما ينبغي، تكوّن لدى الناس والمتلقين فهم جماعي متقارب للأشياء، و كان هناك اتفاق في الآراء حول مختلف القضايا. و هو ما أدّى إلى إيجاد سيرة المتشرعة التي انتقلت تدريجياً إلى الأجيال اللاحقة.

و قد أدّى أوصياء الأنبياء و خاصة أوصياء النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم هذه المهمة الخطيرة؛ إذ كان لهم حضور بين الناس مدّة طويلة و جابهوا يومذاك ما دخل في الدّين من بدع و تحريفات، و بيّنوا للناس حقيقة الدّين، و قاربوا بين وجهات نظر المتديّنين رغم اختلاف الرؤى والأفهام. و قد انتهت هذه الجهود إلى إيجاد فهم عرفي و جماعي، و رسم منهج واضح بين المتشرعين.

وقعت في الأديان السابقة للإسلام تغييرات، و هي ما يُعبّر عنها بالتحريفات والبدع.

و قد كشف القرآن عن هذا الواقع بقوله تعالى: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ

ص:44


1- - سورة المائدة (5)، الآية 15.
2- سورة ابراهيم (14)، الآية 4.
3- سورة النحل (16)، الآية 44.

قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ) . (1) كثيراً ما جاء هذا النمط من التعاطي مع أحكام الدّين انطلاقاً من دوافع نفعية، أو لفرض المعتقدات والرؤى والأذواق الفكرية على تعاليم الدّين، و هو ما يفضي بالنتيجة إلى وضع الدّين ضمن دائرة ضيّقة. و هذا المنهج بيّنه القرآن الكريم عند وصفه لموقف بعض اليهود من الإسلام:

(أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) .(2)

و بالإضافة إلى ذكر القضية الآنفة في القرآن، هناك أيضاً آيات تبيّن أنّ ما أراده اللّه هو الدّين الحقيقي، و لايحق للآخرين - و حتى النبيّ - أن يضيف إليها إضافة: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ * وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) .(3)

لاريب في أنّ الخوض في المباحث الدينية من غير رعاية القواعد اللازمة، يثير المخاوف من احتمال وقوع تحريف في الدّين. والتحريف بطبيعة الحال لايقتصر على التحريف اللفظي فحسب، و إنّما قد يكون التحريف معنوياً أحياناً، أي أن نستفيد من قضية دينية على وجهة غير الوجهة التي أرادها الدّين. و قد ورد في كتاب اصول الكافي باب حول البدعة والرأي والمقاييس في الدّين، و تناول في أحاديث هذا الباب آثار البدعة والمبتدعين، و وصف في سياقه الأحكام الإلهية بأنّها ممّا لايقبل التغيير والتبدّل:

«حلالُ مُحَمَّدٍ حَلالٌ أبداً إلى يَومِ القيامَة و حَرامُهُ حرامٌ أبداً إلى يَومِ القيامَة».(4) و هذا حديث صحيح و دلالته واضحة. و استناداً إلى مفاد هذا النوع من الأدلّة لايمكن حمل أي إسناد إلى الدّين و أي فهم له على محمل الصحّة.

نذكر من ذلك على سبيل المثال أنّ بعض التأويلات الباطلة التي تذهب إليها بعض الفرق لاتتناسب مع ظواهر الألفاظ، و لا مع قواعد فهم الدّين. إنّ منهج النظر إلى الدّين نظرة سطحية تزايلها الأحاسيس، والتشبّث اعتباطاً (و من غير دليل) بآية أو رواية، و إصدار

ص:45


1- - سورة المائدة (5)، الآية 13.
2- سورة البقرة (2)، الآية 75.
3- سورة الحاقّة (69)، الآيات 43-46.
4- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 58، الحديث 19.

حكم ديني على أساسها لايُعدّ من الصواب. بينما المنهج الذي يتّبعه ذووالاختصاص فهو يقوم على قواعد واُسس معروفة، و في ضوء ذلك يجرون عملية الاستنباط، و بشكل يتماشى مع سائر فقرات الدّين وجوهره و حقيقته. و في مثل هذه الحالة يمكن قبول تباين الأفهام مثلما يحصل عادة بين الفقهاء و حتى المتكلمين.

إنّ جوهر و حقيقة الدّين ليس أمراً مغلقاً و متعذّر المنال، و إنّما يعني الغاية من تشريع الدّين، والهدف المراد من بعث الأنبياء و إنزال الكتب، و هو الرقي الأخلاقي والمعنوي لبني الإنسان.

و من الضروري أيضاً استذكار هذه القضية، و هي أن المراد من ثبات الأحكام الإلهية - الذي أُشير إليه في الحديث الآنف ذكره - هو الحفاظ على حكم الشريعة مع بقاء موضوع الحكم؛ و ذلك لأنَّ نسبة أي حكم إلى موضوعه كنسبة العلة إلى المعلول، و لايمكن عقلاً زوال المعلول مع بقاء العلّة. و على هذا الأساس ففي حالة تغيّر الموضوع، و هو ما يعني بالنتيجة زوال الموضوع الأول، يتغير حُكْمه. و هذا التغيير يمكن أن يقع بطرق شتّى، منها:

تبدّل ماهيّة موضوع الحكم، كالاستحالة في الأشياء النجسة، و انطباق أحد العناوين الثانوية على الموضوع عرضاً، وتزاحم حُكْمين في مقام الامتثال على فرض رجحان أحدهما على الآخر، و انتهاء الموسم في الأحكام الموسمية، و زوال العلّة في الحالات التي يكون فيها الحكم منصوص العلّة. و في كل الحالات المذكورة رغم أنّ كشف مصالح أو مفاسد الأحكام المتغيّرة لايتيسّر إلّاللشارع المقدّس، و لكن إذا تبدّل الحكم فمن المؤكّد أنّ المصالح أو المفاسد لابُدّ و أن يطالها التغيير والتبدّل. و على أساس ذلك يمكن للفقيه - في مجال الأحكام غير التعبّدية - إذا أيقن - استناداً إلى تشخيص ذوي الاختصاص - بتغيّر المصلحة والمفسدة الواقعيّتين، بحيث يكون بقاء الحكم الأول عبثاً، يمكنه استنباط حكم جديد. والحقيقية هي أنّ الحكم السابق في مثل هذه الموارد لم يتغيّر، و إنّما الذي تغيّر هو موضوعه الحقيقي و هو المصالح والمفاسد الواقعية، و أمّا إطلاق عبارة تغيير الحكم عليه فهو نابع من التسامح في التعبير.

ص:46

يُسر الدّين

إن المشرّع للدين هو اللّه عزّوجلّ، و قد جعل تشريعه لصالح الناس. والناس على مستويات متباينة من القدرات العقلية والمؤهّلات والاستعدادات الفكرية. فبعضهم ضعفاء من حيث الاستعداد و بعضهم الآخر أقوياء. و قد راعى الدّين أحوالهم في تشريعاته. والدّين ينسجم مع الفطرة، و هذا يعني أنه لايمكن أن يكون عسيراً و معقّداً و منهكاً و باعثاً على الأذى. فلو أنّ الدّين فرض فرائض عسيرة على المكلّفين لكان مدعاة لابتعاد الناس عنه، و فرارهم من طروحاته المعنوية. و هذا نقض للغرض الذي من أجله جاء الدّين، و لايتيح له تحقيق أهدافه.

إنّ الغاية من انسجام الدّين مع الطبيعة و فطرة الناس، هي تربيتهم. و من الطبيعي أنّ الشدّة والقسر والاكراه في تطبيق فرائض الدّين لايأتي بالنتيجة المنشودة، لأنّ ذلك يتعارض مع طبيعة الإنسان. قال اللّه تعالى: (ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ...) ، (1)(... وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ...) .(2)

إنّ يسر التكاليف الدينية لايعني رفعها أو زوالها أو خلوّها من المصاعب كلياً.

فالتكاليف الدينية مقرونة بالمشقة، و لكن إذا كان هناك تعلّق قلبي بها، و رغبة و اندفاع ذاتي لأدائها، فهي تبعث في النفس بهجة و لذّة لايشعر معها بأية معاناة أو مشقّة.

و على الرغم من سهولة التكاليف الدينية و مبدأ التيسير على العباد في الأعمال الدينية، بيد أنّ هناك تكاليف ذات مشقّة، أو أنّ بعض الناس لاتحدوه رغبة في أدائها. و هذا الشعور بعدم الرغبة يؤدّي بحد ذاته إلى جعل التكليف أشقّ و أعسر. و قد وصف الباري عزّوجلّ شعور الإنسان تجاه بعض التكاليف بالتململ والإستياء كما في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ

ص:47


1- - سورة المائدة (5)، الآية 6.
2- سورة الأعراف (7)، الآية 157.

هُوَ شَرٌّ لَكُمْ) .(1)

و لابد من الالتفات إلى أنّ أصل تشريع التكليف إنّما جعل من أجل صقل النفس وتهذيبها و كمالها، و هذا مما لاينال من غير تعب و عناء و مشقّة. والعسر الذي تصطبغ به بعض الفرائض الدينية أشبه ما يكون بالتمارين المتواصلة التي يمارسها رياضي، أو كاحتماء المريض من بعض الأشياء المحببة إليه، وامتناعه عن تناولها، أو مداومته على تناول أشياء تفرض عليه حالته تناولها، حتى و إن كان يشمئز منها. مع كل ذلك فإنّ مشقّة التكليف لاتقع على الجميع، و إنّما يُرفع التكليف حيثما لاتُطاق المشقة. و هذه قاعدة عامّة و هي أنّ كل إنسان يقع عليه من التكليف على قدر طاقته.

التديّن

التديّن يعني الالتزام بالدين والعمل وفقاً له. والتديّن يتطلب التزاماً قلبياً، و لايكفي منه العمل بالظواهر، فحرمة التظاهر والرياء والعجب و غيرها تكشف عن أنّ الأعمال الدينية تُقبل إذا جاءت عن نية صالحة، و قصدِ نيل رضا اللّه تعالى، أمّا إذا شابتها شائبة من الرياء، وقُصد بها غير وجه اللّه، فلا تعدّ تديّناً. بل إنّ التظاهر والرياء في بعض الأعمال يوجب بطلانها، و إذا أدّى الإنسان فريضة دينية من غير نيّة و قصد فلا تُقبل منه، و تكون مثل مئات الأعمال اليومية، والعمل إنما يعتبر من الدّين إذا ما جاء لوجه اللّه، و حتى الأُمور المباحة إذا أدّاها المرء بقصد القربة إلى اللّه يكون لها الأثر الوضعي للتديّن، وتُقرّبُه إلى ربّه.

للدين مجموعة من الآداب والشعائر التي يمكن وصفها بالقشريات والظواهر. و حتى هذه الأُمور - فضلاً عن صورتها الظاهرية - لها طبقة داخلية أيضاً و هي التسليم للّه. و أداء الأعمال الظاهرية علامة دالّة على الميل والرغبة الباطنية للشخص، و لكن يمكن أن تكون في الوقت ذاته خداعاً و تحايلاً، أو عادة دأب على ممارستها. و يصح التديّن فيما إذا كان هناك ترابط وثيق بين الأعمال الظاهرية وجوهرها و حقيقتها. و أمّا إذا جاءت هذه الأعمال

ص:48


1- سورة البقرة (2)، الآية 216.

بدافع العادة أو بقصد الخداع فستكون ذات تأثير سلبي؛ أو لاتكون ذات أثر ديني في النفس على الأقل.

إنّ للتدين مراتب. والعباد ليسوا كلهم على درجة واحدة من الرغبة والاستعداد. فالبعض قد يصل إلى درجات عليا من التدين على أثر الاستعداد والمثابرة والمجاهدة. والبعض الآخر قد لاينال مثل هذه الدرجات لسبب. و درجة تديّن العباد يعلمها اللّه، و لايحقّ لأحد أن يحاسبهم على مرتبة تديّنهم. و حتى لو كانت للتدين تجليات ظاهرية فحقيقته باطنية، و لايحق لأحد تصنيف عباد اللّه وفقاً لدرجات تديّنهم.

هناك ملاحظة مهمة ينبغي الانتباه لها بشأن التديّن، و هي أنّ وصف حقيقة التديّن بأنّه شأن يتعلق بالنفس، قد يفهمه البعض أنه مجرّد تطهير للنفس من الرذائل والقبائح، و أنّ الظواهر والفرائض الدينية غير ذات أهمّية. والتصوّر في هذه الرؤية هو أنه إذا كان المراد من التديّن التسليم للّه والتقرّب إليه، فإنّ القلب منشغل على الدوام بذكر اللّه و لاحاجة لظواهر الشريعة، و أنّ التوجّه الداخلي يكفي لتحقيق الغاية المنشودة من التديّن.

نعم! إنّ حقيقة التدين أمر داخلي، و لكن ظواهر الشريعة جزء لايتجزّأ من الدّين، و إنّما جُعلت لأجل الحفاظ على ذلك الجوهر. و كانت الغاية من ذلك أن تمتزج الصورة الظاهرية للتدين بجوهره و حقيقته، و أن ينصب الاهتمام على الاثنين معاً؛ إذ لايتحقق التدين بدونهما معاً.

التدين هو الالتزام بجميع أحكام الدّين. و أمّا التبعيض فيها و انتقاء البعض منها و رفض الباقي فلا يُعتبر من التدين. و قد وصف اللّه عزّوجلّ هذه الظاهرة بالكفر، فقال في كتابه الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً * أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) .(1)

ص:49


1- سورة النساء (4)، الآيتان 150-151.

الأديان

يظهر من تاريخ البشرية أنّ سلوك المجتمعات كان حافلاً بالميل إلى الدّين. و يمكن القول: إنّ تاريخ الإنسان و تاريخ الدّين شيء واحد و متطابق. و هذا ما تكشف عنه المصادر الإسلامية أيضاً. واستناداً إلى ما ورد في القرآن الكريم فإنَّ الإنسان الأول و هو آدم عليه السلام كان قد تحدّث عن أمر اللّه و نهيه له، و بعثه بالنبوّة.(1) و استجابة لِما تمليه عليهم ميولهم و متطلباتهم فقد اصطنع الناس لأنفسهم أدياناً، أو جاءهم الأنبياء بدين حق من اللّه تعالى.

كالأديان التي جاء بها موسى عليه السلام و عيسى عليه السلام و نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

و نحن هنا لسنا بصدد تسليط الضوء على الجوانب التاريخية للدين؛ و إنّما بصدد معرفة هل إنّ لكل واحدٍ من الأديان نصيب من الأحقية أم لا؟ و هل إنّ من يعتنقون ديناً جرياً وراء مقتضيات بيئتهم و تربيتهم، يُقبل منهم أم لا؟

و هنا يمكن تقسيم الأديان إلى طائفتين: الأديان الوضعية، والأديان التي جاء بها الأنبياء من اللّه تعالى و أبلغوها للناس. فالأديان الوضعية بما أنها ليست منزلة من اللّه و لاجاء بها الأنبياء فهي كبقية المعطيات البشرية تفتقر للقدسية، حتى و إن أطلقت عليها تسمية الدّين.

و ما عُرف من الأديان الإلهية هي: اليهودية، والمسيحية، والإسلام.

و هناك رأي يفيد أنّ المجوسية (الديانة الزرادشتية)، و ديانة الصابئة تعدّ في عداد الأديان السماوية أيضاً و يستند هذا الرأي إلى الآيات القرآنية التي ذكرت أسماء هؤلاء، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، (2)(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) .(3)

و لكنّ الحق أنّ هذه الآية لاتفيد بأن المجوسية كانت ديناً سماوياً، رغم أنّ الأخبار

ص:50


1- - سورة البقرة (2)، الآية 30؛ سورة آل عمران (3)، الآية 33.
2- - سورة البقرة (2)، الآية 62.
3- سورة الحج (22)، الآية 17.

الواردة تفيد بأن المجوس أصحاب كتاب سماوي.

يعتقد المجوس بكتاب سماوي و بنبوّة زرادشت. و يدّعي الصابئة أنّ لهم كتاباً سماوياً و أنهم يؤمنون باللّه، والملائكة، والجنة، والنار، و بعض الأنبياء.(1)

تعرضت الأديان للتحريف تدريجياً في معناها و في محتواها. و هو ما يعني بالنتيجة أنها فقدت دورها، فبعث اللّه على أثر ذلك نبياً جديداً.

كان كل واحد من الأنبياء في زمن ظهوره يدّعي أحقيّته، و يعلن نسخ الشريعة السابقة له و انتهاء عهدها. و لكل نبيٍّ في الوقت الحاضر أتباع في شتّى أرجاء العالم، و يدافعون عن وجودهم و أحقيّتهم.

أظهر الأنبياء في زمن بعثتهم أُموراً خارقة للعادة كالمعجزات من أجل إثبات أحقيّتهم.

و على صعيد آخر جاء كل دين بتعاليم مختلفة عن تعاليم الدّين الآخر، و لم تقتصر على مجرد الاعتقاد بالاُمور الغيبية. فاليهود يعتبرون المعيار في صحّة المعتقد، الإيمان بنبوّة موسى عليه السلام، و أمّا المسيحيون فيرون معيار الانتماء للمسيحية، الإيمان بنبوة المسيح عليه السلام، بينما يرى المسلمون أنّ الاعتقاد بنبوة محمد صلى الله عليه و آله و سلم خاتم الأنبياء هو معيار الدّين المقبول عند اللّه.

من الواضح طبعاً أنّ مجرّد الاعتقاد بموسى عليه السلام الذي عاش قبل عدة آلاف من السنين، والاعتقاد بالمسيح عليه السلام الذي عاش قبل ألفي سنة، أمر غير مقبول لدى من بُعث إليهم آخر الأنبياء. والسبب الذي يدعو إلى اعتناق الدّين القديم هو ذات السَبب الذي يدعو إلى اعتناق الدّين الخاتم. إذ بَعد ظهور الأديان اللاحقة لايكفي التشبّث بالأديان السابقة لإثبات أحقّيتها. فعندما يُبعث رسول من اللّه و يقدّم الأدلة الكافية لإثبات حقّانيّته، يكون مبعثه كمبعث أوّل نبي. و لايجوز لأحد رفض اعتناق الدّين الجديد بسبب اعتقاده بدين وتقاليد معيّنة. و قد تحدّث القرآن الكريم عن أقوام سابقين وقفوا ضد الأنبياء و لم يستجيبوا لدعواتهم و كانت ذريعتهم أنهم أخذوا عن آبائهم ما كان لديهم من معتقدات وتقاليد

ص:51


1- للاطلاع على مزيد من المعلومات حول الصابئة راجع كتاب: دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية. ج 3، ص 392-412.

موروثة: (قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) .(1)

إذا أعلن أتباع الأديان السابقة تمسكهم بمعتقداتهم رغم ظهور دين جديد، فهناك حالتان يمكن تصوّرهما لهذا الوضع وهما: أن يكونوا مؤمنين حقّاً بدينهم السابق و لم تثبت لهم أحقية الدّين الجديد، أو أنّهم يرفضون الدّين الجديد عناداً و مكابرة. و في الحالة الاُولى يُقبل إيمانهم بدينهم القديم، والإسلام يعترف بوجودهم: (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ) .(2)

و أمّا في الحالة الثانية فإنّ من يرفضون الدّين الحق عناداً و تعصباً فهم الكفار الذين يرفضون الانصياع للأنبياء: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) .(3)

ختم النبوّة

بعث خاتم الأنبياء قبل حوالي ألف و أربعمائة و أربعين سنة، و أعلن ضمن إبلاغه رسالة اللّه، ختم الوحي والنبوّة. و هذا ما صرّح به القرآن الكريم الذي هو آخر الكتب السماوية:

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ) .(4)

هناك شيء ينبغي التنبيه إليه، و هو أنّ أنبياء كثيرين بعثوا على مدى الزمان، و لكن اللّه بعث نبياً واحداً لآخر الزمان مهما امتد، و لايُبعث نبيٌّ من بَعده أبداً.

والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هنا هو: إذا كان الدّين من المتطلّبات الأساسية للبشر، و هو يتعرّض على مرّ الزمن للتحريف والتغيير، و يفقد كفاءته و تأثيره، ثم إنّ هناك مستجدات تطرأ على الحياة، فلماذا لايُشرع دين جديد ليواكب كل عصر في تلبية المتطلّبات المستجدة للبشر؟ و قبل الإجابة عن هذا السؤال لابُدّ من تسليط الضوء على الأُمور التالية:

1 - أن ختم النبوة و تشريع دين ثابت لآخر الزمان لايعني ختم الهداية.

ص:52


1- سورة يونس (10)، الآية 78.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 113.
3- سورة آل عمران (3)، الآية 70.
4- سورة الأحزاب (33)، الآية 40.

2 - من أسباب بعثة أنبياء كثيرين في بقاع مختلفة من الأرض هو أنّ أداء رسالة اللّه ما كان يكتمل بنبي واحد أو بضعة أنبياء، في حين أنّ آخر الزمان شهد اكتمال أداء الرسالة و يمكن أن تكون رسالة النبيّ الخاتم في متناول أيدي جميع الناس بكل سهولة. و في مثل هذه الحالة لاتبقى ثمة حاجة لدين جديد.

3 - الناس القدماء لم يبلغوا حدّاً من التجربة والعقلانية بحيث يستطيعون استدامة حياتهم الجماعية بلا أنبياء و بلا تعاليم تأتيهم تباعاً من السماء، والمحافظة على الدّين الذي انزل إليهم والاستفادة منه في تلبية متطلّباتهم الدينية، بينما في آخر الزمان يبلغ الناس مرحلة من الرقي يستطيعون معها مواصلة حياتهم مستنيرين بهدي آخر رسالة سماوية، و بها يُلبّون متطلباتهم المعنوية.

4 - كانت الشرائع والكتب السماوية في العهود السالفة تتعرض للتحريف والتغيير بسبب انعدام المستلزمات الضرورية، في حين لايهدد مثل هذا الخطر آخر كتاب و دين سماوي.

5 - الدّين الخاتم يضم جميع القضايا التي يحتاجها الإنسان، و يقوم ذووالأهلية العلمية باستنباطها من بين ثناياه و وضعها في متناول أيدي الآخرين.

6 - الدّين الخاتم كامل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً...) . (1) و كل ما بلغ كماله لا داعي لإعادة النظر فيه. و كل ما يحتاجه البشر ورد فيه مجملاً، و أمّا التفاصيل الجزئية فلا ضرورة للخوض فيها. و ليس هذا فحسب، بل ان طرحها يؤدّي إلى الإنغلاق و انسداد باب المعرفة.

7 - آخر الكتب السماوية، و أوصياء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و علماء الدّين، يؤدّون دورهم على مدى الزمان ويُهَيّئون الأذهان كما ينبغي، و عن هذا الطريق تنتقل القضايا اللازمة إلى الأجيال اللاحقة.

إنّ الأديان السماوية السابقة مثل سُلّم صفوف الدراسة الجامعية، والإسلام آخر صفّ

ص:53


1- - سورة المائدة (5)، الآية 3.

فيها، حيث يصل الطلبة هناك إلى حدٍّ من المعرفة والفهم والعلم لايحتاجون معها إلى معلم و مرشد جديد، و إنّما يقبلون هم بأنفسهم على التفكير والتحقيق.

الدّين والتطوّر

بقيت الأديان السابقة تتبدل تبعاً لِما يمرّ به الإنسان من تجارب جديدة، و ما يستجد من ظروف و مقتضيات، ويُشرّع على أثر ذلك دين جديد من اللّه تعالى، ليحل محل الدّين السابق، و يواكب التطوّرات التي تحصل في المفاصل المهمّة من الحياة. واستمرت هذه التبدلات متواصلة إلى حين عصر ختم النبوّة، حيث أخذت الأحكام تُشَرّع في عصر ظهور آخر الأديان السماوية (الإسلام) على نحو تدريجي، و تبعاً للظروف و مدى استعداد الناس، ونُسخت في الوقت ذاته أحكام أُخرى كانت قد شُرّعت من قبل. و قد بَيّن اللّه سبحانه و تعالى هذه الحقيقة على النحو التالي: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها...) .(1)

و بَعدما تم تشريع جميع جوانب آخر الأديان أعلن ختم النبوّة. و غدا ما شُرع من اصول و كليّاته أمراً ثابتاً لايقبل التغيير والتبدّل، وسيبقى الدّين الإسلامي ثابتاً و خالداً إلى يوم القيامة.

قطع الإنسان و لايزال يقطع أشواطاً طويلة على طريق التقدّم، واستطاع أن يُسخّر الطبيعة لخدمته على نحو يدعو للدهشة، و أخذ يُدخل كثيراً من التعديلات التي شملت الإنسان نفسه والحيوان والكائنات النباتية والطبيعية لأجل تحسينها والاستفادة منها على نحو أمثل، و لكن بعض هذه التغييرات تتعارض مع مبادىء الدّين؛ لأنَّ كل واحد منها يأتي على حساب شيء آخر. و من الأمثلة على ذلك تبديل الجنس، و تحسين النسل، والتلقيح الصناعي، و تحديد النسل من خلال إحداث تغييرات في الجسم، وزَرْع الأعضاء. والسؤال الذي يُثار هنا هو: هل يقرّ الدّين مثل هذه التغييرات أم يرفضها؟ فإن كان يقرّها، كيف يمكن

ص:54


1- سورة البقرة (2)، الآية 106.

حلّ هذا التعارض؟ و بعبارة أُخرى كيف يتسنى للدين مواكبة هذه المتغيّرات المتزايدة؟

إنّ التطوّر الذي ينجزه الإنسان له جوانب سلبية وأُخرى إيجابية. أمّا السلبية منها فلا يماشيها الدّين و لايُتأمّل منه مماشاتها. والمراد من التطوّر السلبي تلك التغييرات التي لاتؤخذ فيها مصلحة الإنسان بنظر الاعتبار، حتى و إن كان ظاهرها يوحي بالإيجابية، لأَنَّ الجديد لايحمل بشائر الخير والصلاح دائماً. و أمّا التغييرات التي تساهم في تذليل سبل الحياة، و تنسجم مع العقل والتجربة والمبادىء الإنسانية، فلا ينظر إليها الدّين نظرة سلبية.

و يمكن شرح كيفية استجابته للتطوّرات على النحو التالي:

للناس جوانب ثابتة لايؤثر فيها التغيير والتبدّل. والدّين في هذا المجال ثابت أيضاً و يُلبّي تلك المطاليب الثابتة. والدّين فيه جوانب اعتقادية، و أخلاقية، و عملية. والجوانب الاعتقادية تتعلق بتلك الجوانب الثابتة التي ليس من المنطقي ان يحصل أي تغيير فيها. نعم قد تؤدّي بعض المعطيات والإنجازات العلمية حول العالم، أو التفسير العلمي للعالم، إلى تغيير نظرة بعض الناس إلى الكوْن و علاقته بمبدأ الوجود؛ فتوحي بعدم أو قلّة تأثير اللّه والقوى غير المادية. و مهما كانت التطوّرات فإنّها لاتؤثّر في واقع العالم. و هي قد تُحدث تغييراً في أمور جزئية و لكنها لاتُفسد النظام العام للوجود، و لاتُبطل مفعول نظام العليّة، و لاتنقض القوانين السائدة في عالم الوجود أو تبدّلها. فالاعتقادات قائمة على واقع الوجود، و ان الناس يجب أن يؤمنوا استناداً إلى ما هو قائم. و هذا الواقع الثابت يستدعي اعتقادات ثابتة لاتبدّل فيها. و لهذا فالأديان السابقة مهما حصل فيها من تغيير، بقي هذا الجانب منها ثابتاً لايقبل التغيير.

أما بالنسبة إلى التعاليم الأخلاقية، فهي ذات صلة وثيقة بالطبيعة الإنسانية. والكثير من الوصايا الأخلاقية للدين جاءت من باب الإرشاد بحكم العقل أو الفطرة. والناس يدركون هذا الجانب من الأمور الأخلاقية حتى من غير وجود التعاليم الدينية. و أمثال هذه التعليمات تستمد جذورها من الناس أنفسهم، و هي كسابقتها ثابتة و تُعدّ من المتطلّبات الأساسية لبني الإنسان، و لايمكن الاستغناء عنها مهما تقدّم اجتماعياً و علمياً و صناعياً و عقلياً، و هي من لوازم الإنسان سواء كان متخلّفاً أم متطوّراً.

ص:55

بعض هذه التعاليم يتعلّق بكيفية عبادة اللّه، و لهذا نادراً مايطالها تغيير. و مهما كان التطوّر فهو غير قادر على أن يكشف للناس خطأها أو صوابها. و هذه الطائفة من التعاليم ثابتة لاتقبل التغيير.

أمّا الجانب المعني بتنظيم العلاقات الاجتماعية، فقد لاينسجم في بعض الحالات مع مايحصل من تطوّرات. و هناك جوانب رئيسية تابعة لمبادىء إنسانية ثابتة كالعدالة، والتعاون، و حقوق الناس، و حسن المعاشرة، و ما شابه ذلك. و هي عند التعارض مع المبادىء المذكورة تسقط من الاعتبار. قال تعالى في كتابه الكريم: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ) .(1)

و ينبغي خلال كل ذلك الالتفات إلى عدم إهمال و تجاهل الأهداف الكلية للدين في ضوء ما يحصل من تطوّرات، بحيث لايؤدّي عمل أو موقف إلى إلغاء حكم ديني؛ و ذلك لأن الأحكام تابعة لمصالح، و تلك المصالح تابعة لظروف و مقتضيات واقعية. جاء في كتاب فقه الرضا عليه السلام: «... لم يحرّم اللّه الا ما فيه الضرر والتلف والفساد»(2) و مع ذلك فقد جُعلت في الأحكام الدينية نفسها آليّات تُكسبها قابلية التطابق مع الظروف والمقتضيات في المواضع اللازمة. فهناك آيات تدل على أن بعض الأحكام رغم قداستها تتصف بالمرونة و يمكن أن تتبدل في ظروف خاصة أو حتى تُعطّل، مثلما هو الحال في رفع الحرمة عن الميتة و لحم الخنزير و ما شابه ذلك. و هذا يعبّر عن حقيقة و هي أن الأحكام تابعة لمقتضيات و ظروف، و هي تدور مدارها و تنتفي بانتفائها.

و مع كل هذا فإنّ بقاء باب الاجتهاد في الأحكام الدينية مفتوحاً، يعدّ بحد ذاته حلاًّ لكثير من المستعصيات. فالفقيه الجامع للشرائط يمكنه استناداً إلى الأصول تطبيق الأحكام على الموضوعات والاجتهاد في تطبيقها. والاجتهاد يحظى بتأييد الدّين، و هو يمهّد الطريق

ص:56


1- سورة الحديد (57)، الآية 25.
2- - النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة، ج 16، ص 165، الحديث 5. تجدر الإشارة إلى ان مضمون هذا الكلام جاء في رواية وردت عن الإمام الباقر عليه السلام في حرمة الخمر. راجع: الصدوق، علل الشرائع، الباب 237، ج 2، ص 196، الحديث 1.

لكي يتماشى الدّين مع مستجدّات كل عصر. قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّما علينا أن نُلقىَ إليكم الأصول و عليكم أن تفرّعوا».(1) و روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: «علينا ألقاء الأصول و عليكم التفريع».(2)

و على العموم يمكن القول فيما يخص جميع الأحكام العملية للإسلام: أما أن المجتهد العارف بمقتضيات الزمان يستخرج الملاك القطعي للحكم الشرعي، أو أنه لايستخرجه، و فيما إذا استخرج الملاك القطعي للحكم الشرعي، فأما أن يكون ذلك الملاك ثابتاً لايقبل التغيير، أو أنه خاضع للتغيير والتبدل تبعاً لتبدّل الظروف والأحوال. و في الحالة الأخيرة يبدي المجتهد رأيه في تغيّر ذلك الحكم و تطابقه مع مستجدّات الزمان. والكثير من أحكام الإسلام السياسية والاجتماعية من هذا القبيل.

الإسلام

كلمة (الإسلام) مشتقة من مادة «سَلمَ» التي تعني (التسليم). و هذا الاسم هو ما اختاره اللّه لدينه كما جاء في القرآن: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ) . (3) كما صرّح القرآن الكريم أيضاً في موضع آخر بكمال و شمولية هذا الدّين، بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) . (4) والنبيّ الذي جاء بهذا الدّين هو محمد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله و سلم، الذي اصطفاه اللّه بَعد حوالي ستمئة سنة من ميلاد المسيح عليه السلام في مكة المكرمة لإبلاغ دينه إلى الناس بتمامه، و ليكون خاتمة النبوات والشرائع السماوية.

الدّين الإسلامي امتداد للشرائع السماوية السابقة و مكمّل لها. و هو دين الدنيا والآخرة على حد سواء. و قد حرّم هذا الدّين الرهبانية، و لكنّه امتدح الزهد. و قد أباح الإسلام للإنسان الاستفادة الصحيحة من النعم الإلهية، غير أنّه في الوقت نفسه حرّم التهالك على

ص:57


1- - الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ج 27، ص 61-62، الحديث 51.
2- المصدر السابق، ص 62، الحديث 52.
3- - سورة آل عمران (3)، الآية 19.
4- - سورة المائدة (5)، الآية 3.

الدنيا والإفراط في طلب ملذّاتها: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ...) .(1)

يتألف الإسلام من ثلاثة مكوّنات و هي: الاعتقادات، والأخلاق، والفقه. و قد شبّهوا منشأ هذا التقسيم بمراحل وجود الإنسان، و قالوا بأنَّ المرحلة الاُولى تمثّل المرحلة العليا للإنسان و هي العقل والفكر و إليهما تنتهي الاعتقادات والرؤية الكَوْنية التي يحملها الإنسان. و أمّا المرحلة الثانية فهي عبارة عن المرحلة المتوسّطة التي تدخل ضمن إطارها الغرائز والعواطف والمشاعر و ما ينبغي فعله لضبطها وتهذيبها، والأخلاق هي التي تضطلع بمثل هذا الدور طبعاً. والمرحلة الثالثة تمثل الوجود النازل للإنسان و يتألف من الأعضاء والجوارح التي يُعنى الفقه ببحث ما يتعلّق بها من وظائف.

و في ضوء ذلك قُسّم هذا الكتاب الذي بين أيديكم و هو كتاب «الإسلام دين الفطرة» - إلى ثلاثة أبواب، و هي: الاعتقادات، والأخلاق، والتكاليف والمسؤوليات.

الشيعة

ينقسم المسلمون إلى فرق و مذاهب متعددة مثل: الزيدية، الحنبلية، الشافعية، المالكية، والحنفية، والشيعة الاثني عشرية، والاسماعيلية، و فرق أُخرى. و هذه الفرق والمذاهب تشترك و تتفق على الاعتقاد على الأُصول الأساسية للإسلام، كالتوحيد، والنبوّة، والمعاد، و كتاب اللّه. و كلهم متفقون على تكريم واحترام الإمام علي عليه السلام والسيدة فاطمة عليها السلام. أمّا الفرق الأساسية في الإسلام فهي عبارة عن المذاهب السنيّة الأربعة والمذهب الشيعي.

والفارق الأساسي بينها هو أنّ الشيعة يؤمنون بعصمة الإمام علي عليه السلام و فاطمة الزهراء عليها السلام، إضافة إلى أحد عشر إماماً آخرين من ذرِّية علي عليه السلام.

و على هذا الأساس فإنّ الشيعة تطلق اصطلاحاً على أتباع الإمام علي عليه السلام والسيدة فاطمة عليها السلام والائمة المعصومين. والشيعة هم من يعتقدون بأن الخلافة والإمامة قد جعلت

ص:58


1- سورة الأعراف (7)، الآية 32.

من بَعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مباشرة إلى الإمام علي عليه السلام، و هم يستندون في ذلك الى نص متواتر جاء فيه: إنّ علياً نصب يوم الثامن عشر من ذي الحجة في السنة العاشرة للهجرة عند غدير خم، بأمر من اللّه، على يد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمنصب الولاية والإمامة بَعد النبيّ.

واصطلاح الشيعة هذا أطلقه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في زمان حياته على أتباع الإمام علي عليه السلام. فقد روي عن جابر بن عبداللّه الأنصاري أنه قال: «كنا عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأقبل علي، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: والذي نفسي بيده إنّ هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة».(1)

و قال ابن عباس: «لمّا نزلت الآية: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (2) قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعلي: هم أنت و شيعتك».(3) و نقل الشيخ المفيد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: «سُئِلت امّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن علي بن أبي طالب عليه السلام فقالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: إنّ علياً و شيعته هم الفائزون».(4)

من البديهي أنّ هذه الأحاديث لاتعني أنّ مجرّد الانتماء إلى التشيّع يكون مدعاة لغفران الذنوب والنجاة أو الفوز يوم القيامة، و أنّ كلّ مَن لاينتمي إلى الشيعة - و إن لم يكن عن جحود و عناد - لا ينجو يوم القيامة.

و قد كانت كلمة الشيعة شائعة في عصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حتى أنّ جماعة من أصحابه كسلمان و أبي ذر والمقداد و عمار بن ياسر رضوان اللّه عليهم كانوا يُعرفون بالشيعة.(5)

ص:59


1- - السيوطي، الدر المنثور، ج 8، ص 538، ذيل الآية الأخيرة من سورة البيّنة.
2- - سورة البيّنة (98) الآية 7.
3- البحراني، السيّد هاشم، البرهان في تفسير القرآن، ج 8، ص 351، الحديث 13؛ ابن شهر آشوب، المناقب، ج 3، ص 68.
4- - المفيد، الارشاد، ج 1، ص 42-43؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 65، ص 7، الحديث 1؛ ص 9، الحديث 5؛ ص 22، الحديث 39.
5- سعد بن عبداللّه الأشعري القُمّي، المقالات والفرق، ص 15، الرقم 50.

ص:60

الباب الأوّل: الإعتقادات

اشارة

ص:61

ص:62

العقيدة

اشارة

العقيدة: تعني انشداد فكر الإنسان و ذهنه إلى شيءٍ، وتخصيص حيّزٍ له في قلبه. و تأتي كلمة الاعتقاد عادة في وصف ما يربط الشخص من و شائج بما يعتقد به. و هذا يعني بطبيعة الحال أنّ العقيدة نوع من التصديق الذي يتعلق به خاطر المرء، سواء كان حقاً أو باطلاً، واقعياً كان أم وهمياً. والعقيدة حصيلة لنمط من أنماط المعرفة التي قد تكون دعائمها راسية على أوهام و ظنون، أو ربّما تكون عقيدة اكتسابية. و في مثل هذه الحالة، يبلغ المرء درجة من الثقة بمعتقده، بحيث إنه يجاهر به و يعلنه على رؤوس الأشهاد، بل و قد يبدي تعصبه له و تمسكه به.

العقيدة إفراز لا إرادي مبعثه الفكر، و ينحصر تأثير الإنسان في تقويمه و توجيهه و لا تأثير له في أصل منشئه. والإنسان مجبول على أن لايكون خلواً من عقيدةٍ، و هي عادة الإطار الذي يتحرك ضمنه الفكر والسلوك. بل يبدو أنّ الاعتقاد يؤلف جزءاً من تكوين الإنسان.

العقيدة أمر لامناص منه، حتى أنّ أصل وجودها لايتطلّب دعوة إليها، و لايستدعي تحريضاً و حثّاً عليها. ولغالبية الناس رؤاهم واعتقاداتهم بما يجرى حولهم في هذا العالم. و كل شخص يختار عقيدته في ضوء ظروفه الفكرية و بيئته التربوية و يتعايش معها. غير أنّ القضية المهمة، هي صواب المعتقد و أحقيّته، فما كلّ ما يعتنقه المرء من المعتقدات صحيح و صائب. فهو كثيراً ما يرث معتقداته من محيط الاُسرة أو البيئة الاجتماعية التى يشبّ و يترعرع بين أحضانها. و في مثل هذه الأجواء، يتبلور قوام العمود الفقري لمعتقداته التي يؤدي ترسيخها إلى أن ينزع المرء في حياته نزعة دينية. بيد أنّ أمثال هذه المعتقدات لاتكاد تخلو من خرافات و أوهام، أو ربّما كانت واهية و بعيدة عن الرصانة، بحيث تضمحل

ص:63

و تتلاشى عند أدنى شبهة. فمجرّد شيوع شيء بين الناس لايعد برهاناً على صوابه. و حتى المؤمنون قد تتغلغل بين ثنايا معتقداتهم وسلوكهم مكوّنات مغلوطة. و هذا ما يفرض علينا بطبيعة الحال استقاء معتقداتنا من مناهلها السليمة، و إحكام بنائها.

العقيدة الحقّة

العقيدة الحقّة: هي ما قامت على العقل السليم ويُقرّ صوابها الوحي والأنبياء عليهم السلام، أو كانت مستقاة من الوحي الذي جاؤوا به. و يمكن القول بكلمة أدق: إنّ المعيار الذي تُقاس به أحقيّة العقيدة هو مدى تطابقها مع الوحي والفطرة، و انسجامها مع الموازين العقلية. فإنْ كانت الاعتقادات الدينية تتّسق مع ما تقضي به موازين العقل و أثبتت على مرّ الزمن مقدرتها على تلبية المتطلّبات الدينية لبني الإنسان، فهذا يعني أنها حقّة.

إنّ مجرّد إطلاق تسمية الدّين على مجموعة من التعاليم والأحكام، أو محض ادعاء من يدّعى بأنه قد جاء بدين من عند اللّه، لايُعدّ برهاناً كافياً على الحقّانية؛ إذ ربّما يستغل بعض ذوي المكر والحيلة جهل الناس و يبتدعون لهم ديناً من عند أنفسهم، وربّما يجد هذا الدّين أتباعاً و أنصاراً إلى أمدٍ. والقول الفصل في هذا المضمار هو إنّ احقيّة الدّين لابُدّ أن تثبت ببراهين قطعية، و أن تكون مختومة بخاتم التأييد الإلهي.

قد تكون هناك بين مكوّنات الدّين تعاليم و أحكام يتعذّر الحصول على تفسير عقلي لها، و لايمكن فهمها على وجه الدقّة. و هذه الأُمور إن كانت مدعومة بأدلة رصينة تُثبت أنها من الدّين، فهي من غير شكّ جزء من الدّين و لابُدّ من الإيمان بها؛ و ذلك لأن اللّه تعالى قد أنزل أحكاماً و فرض على عباده العمل بها تعبّداً و إظهاراً للطاعة، و بعضها ذات أسرار خفيّة وضعت للاختبار والعبودية. فعندما يثبت أنّ هناك حُكْماً أمر به اللّه، فلا مناص من القبول به.

و على أية حال فإنّ ما ينبغي على كل مسلم، بل و على كل إنسان، هو أن يكون لديه إلمام - ولو بسيط - بالمعتقدات الحقّة والباطلة، ليتسنّى له اختيار الحق والصحيح منها و هضمه و تمثيله في حياته، واجتناب الفاسد والباطل منها.

ص:64

الإيمان

كلمة الإيمان: مشتقة من «أمن» الذي هو ضد الخوف.(1) والإيمان عبارة عن شغف قلبي يأتي كحصيلة لنوع من المعرفة التي يمازجها حُبّ و اندفاع، و يعقبها حصول الفراغ والأمن والراحة للقلب. و لابُدّ من التنبيه إلى أنّ مجرد الرغبة في الشيء أو الوعي له ليست إيماناً.

فنحن نحب الكثير من الأشياء كالبلدان والأشخاص والأطعمة والثياب، و لكننا لانقول إننا نؤمن بها. و إنما الإيمان عبارة عن التعلّق والانشداد القلبي الذي يمازجه نوع من الوعي تجاه أُمور حسيّة تارة أو غير حسيّة تارة أُخرى. كالإيمان باللّه و بالغيب، أو بموضع ذي أثر معنوي.

الإيمان يبعث في الروح الطمأنينة و ينتشلها من خلجات الشكّ والريب، و يبلغ بها ساحل الأمن الفكري واليقين. يقول الإمام علي عليه السلام في وصف الإيمان بأنه مأمن لمن يلجه:

«مَن آمَنَ أمِنَ».(2)

المؤمن ينتزع ذاته بإيمانه مما يعتريه من ريب و يصل ساحل الأمن. والأمن والإيمان يعودان من حيث الاشتقاق اللُّغوي إلى مصدر واحد.

المؤمن الذي يعيش بإيمانه قلّما تزعزعه عوادي الدهر، و هو أشبه ما يكون بالجبل الراسخ الذي لاتزعزعه العواصف. و لاتتسرّب إلى قلبه مخاوف ذهاب النفس والمال والولد والجاه والمكانة الاجتماعية. و لاتهزهزه أمثال هذه الهزاهز المريرة. و إنما يسلم قياده - لمجابهتها - إلى ربّه: (وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) .(3)

ورد في حديث شريف وصف حقيقة الإيمان بأنّه التسليم المطلق للّه.(4) و هذا ما

ص:65


1- - الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج 1، ص 108.
2- الخوانساري، جمال الدّين، شرح غُرَر الحِكَم، ج 5، ص 2314، الحديث 7639.
3- سورة البقرة (2)، الآيتان 155-156.
4- - الكليني، الكافي، ج 2، ص 52-53، الحديث 1.

استجلاه اللُّغوي المعروف ابن منظور حين قال في معنى الإيمان: الإيمان إظهار الخضوع، والقبول للشريعة و لما أتى به النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و اعتقاده و تصديقه بالقلب.(1) و لاريب في أنّ مثل هذا المعنى لايتحقق إلّاعن طريق الارتباط الوثيق باللّه. فمن يُسْلِم قلبه للّه بكل كيانه، لايجد الشكُّ إليه من سبيل، بل يتبدل إيمانه إلى طمأنينة، و يعيش على الدوام في سكينة واستقرار. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) . (2) و في مقابل هذه الطائفة هناك طائفة أُخرى خالية من الإيمان، و من الطبيعي أنّها تعيش على الدوام في شكّ و حيرة: (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) .(3)

درجات الإيمان

للإيمان درجات تتوقف كل واحدة منها على مدى معرفة و انشداد المرء إلى ربّه، و هي تبدأ من مرحلة الإقرار باللّسان حتى تبلغ أسمى الرتب «وَ سُئِلَ [علي عليه السلام] عَنِ الإيمان فَقَالَ: الإيمان مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَ إِقْرَارٌ بِاللّسَانِ، وَ عَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ».(4) و كلّما كان اهتمام الإنسان بالأُمور غير الإلهية و غير المعنوية أشد، ينحدر إيمانه نحو الضعف: (ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (5) و يُقاس إيمان القلب حسب درجة تعلّقه باللّه من جانب، و بالأشياء الأُخرى من جانب آخر. فإن كان يميل إلى الدنيا والآخرة و إلى اللّه والأُمور الدنيوية بدرجة واحدة، فقيمة إيمانه تكون في تلك الدرجة. و من الطبيعي أنّ الأشياء ذات السنخ الواحد والتي لايوجد تعارض بينها و لاتزاحم، لامُشاحّة و لا إشكال في أن يكون الإيمان بها جميعها في عرض واحد، كالإيمان بالكتب السماوية، والأنبياء، والمعاد. و حتى في هذه الأُمور تتباين درجات الإيمان تبعاً لمعرفة كل شخص و رغبته.

ص:66


1- - ابن منظور، لِسان العرب، ج 1، ص 114.
2- - سورة الحجرات (49)، الآية 15.
3- سورة التوبة (9)، الآية 45.
4- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 227، ص 508.
5- - سورة الأحزاب (33)، الآية 4.

و على أية حال، فإنَّ للإيمان درجات، و يمكن أن يُستحثّ ويُستنهض نحو مراتب أسمى. والعكس صحيح أيضاً؛ إذ يؤدّي إهماله إلى اضمحلاله و ضموره.

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إذا أذنب الرجل خرجت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت.(1) و ورد في حديث آخر عنه: «إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم يصعد منه مرقاة بَعد مرقاة، فلا يقولَنَّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد: لست على شيء».(2)

و ورد أيضاً في حديث آخر عنه: «ان اللّه عزّوجلّ وضع الإيمان على سبعة أسهم... فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل...».(3)

يفهم من هذه الملاحظة التي تضمّنتها هذه الرواية و من آيات و روايات أُخرى، أنه لايجوز التعامل مع الناس على أساس درجة و نوع إيمانهم، وجعل حقوقهم الاجتماعية خاضعة لما يعتنقونه من معتقدات.(4)

قال عبدالرحيم القصير: كتبت إلى أبي عبداللّه الصادق عليه السلام رسالة مع عبدالملك بن أعين أسأله فيها عن الإيمان، فكتب إليَّ: «الإيمان هو الإقرار باللسان و عقد في القلب و عمل بالأركان».(5)

و في هذه الرواية و روايات أُخرى جُعِل الإقرار باللِّسان جزءاً من الإيمان. و لابد طبعاً من الانتباه إلى أنّ الإقرار هو في الواقع بداية الإيمان، و طالما لم يتغلغل الإيمان في القلب فما هو بإيمان. فقد صرّح القرآن الكريم بأنَّ الإقرار اللِّساني الذي صدر من الأعراب ليس إيماناً، وانّما هو مجرّد دخول في الإسلام: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) .(6)

و أيّدت آية أُخرى هذه الحقيقة مبيّنة أنّ الإقرار وحده ليس إيماناً (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ

ص:67


1- - الكليني، الكافي، ج 2، ص 271، الحديث 13.
2- - المصدر السابق، ص 44 و 45، الحديث 2.
3- الكليني، الكافي، ج 2، ص 42.
4- راجع من جملة ذلك: رسالة الحقوق، ص 15 و 32-39؛ كرّاسة درس الخارج في المكاسب المحرّمة، تحت عنوان «سبّ المؤمن»، تتمة «حرمة سبّ الإنسان بما هو إنسان»، ص 5-7.
5- الكليني، الكافي، ج 2، ص 27، الحديث 1.
6- سورة الحجرات (49)، الآية 14.

يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) .(1)

و من جانب آخر يُنظر إلى العمل بالتكاليف كجزء من الإيمان، حيث ينبغي القول: إنّ العمل شبيه بالإقرار و هو يأتي كإفراز و كأثر للإيمان، و لكنّه ليس الإيمان نفسه. والحقيقة هي أنّ من يدّعي الإيمان إذا لم يعمل وفقاً لما يقتضيه إيمانه، فذلك مؤشر على أنّه لا إيمان له. فالعمل دلالة على صدق المدّعى. و إن لم يقترن الإيمان بالعمل فمعنى ذلك عدم صدق الإيمان. و ما يتعيّن على المؤمن هو أن يقترن إيمانه بالعمل. والسعادة إنما تأتي من اقتران هذين الأمرين معاً. و ذكرهما إلى جانب بعضهما في القرآن الكريم دليل على أنّ الإيمان شيء آخر غير العمل، و أنّ المؤمن من ينعقد قلبه على شيء و يظهر في عمله و سلوكه، قال اللّه تعالى: (وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) .(2)

هناك علاقة طردية متبادلة بين الإيمان والعمل الصالح؛ فكلَّما كان الإيمان أقوى ازداد العمل الصالح. و كلما ازداد العمل استحكم الإيمان. فالعمل ثمرة الإيمان، والإيمان منطلق و حافز للعمل الصالح. و قوام العمل الصالح رهن بالإيمان.

من الطبيعي أنّ نيل معالي الرتب الإيمانية رهين بالعمل والمجاهدة. فهناك من يستطيعون تمتين إيمانهم، و يكونون على الدوام منصاعين لأمره، و يجعلون قلوبهم حرماً للّه لايدخلها غيره.(3) إنّ مجاهدة المؤمنين ترفعهم إلى منزلة رفيعة و تجعلهم في عداد أولياء اللّه و أحبائه.

ما يجب الإيمان به

المؤمن: هو من يؤمن باللّه و بالمعاد والنبوّة و ضروريات الدّين (وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ

ص:68


1- سورة البقرة (2)، الآية 8.
2- سورة النساء (4)، الآية 124.
3- - المجلسي، بحارالانوار، ج 67، ص 25، الحديث 27.

رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ) . (1) و إنكار هذه الأُمور كفر (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) . (2) فالمؤمن هو من يؤمن باللّه و بصفات جماله وجلاله و ربوبيّته و وحدانيّته، و أنه هو الخالق والمدبّر لكل عالم شؤون الوجود، و ينزِّهه عن كل شرك و نقص.

إنّ التصديق بالنبوّة و بأنّ كل الأنبياء مبعوثون من اللّه عزّوجلّ، جزء من الإيمان. و من مسلتزمات الإيمان أيضاً الاعتقاد بالنبوة و بشخص النبيّ، و بالوحي والكتاب السماوي والملائكة. و في هذا المجال يُعتبر الإيمان بآخر الرسل النبي محمد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله و سلم و كتابه السماوي، و كل ما أبلغه للناس من ضروريات الدّين، و أوصيائه، من الأوامر الإلهية القطعية، و عدم الإيمان بها يخرج المرء من الجماعة المؤمنة.

كما يُعتبر الإيمان بالبرزخ، والمعاد، والجنّة، والنار، والصراط، والشفاعة، والجزاء والعذاب من اصول الدّين، و لايتحقق الإيمان الكامل إلّابالاعتقاد بها قلبياً.

الأُصول الأساسية للإيمان هي الاعتقاد باللّه و بالنبوّة و بالمعاد. و أمّا بقية الأُمور فهي تبع لها و منبثقة منها، و هي من متعلّقات الإيمان التي لاسبيل إلى إنكارها.

و يمكن القول بكلمة أُخرى: إنّ ما ينبغي الإيمان به هو اللّه الذي يخضع كل شيء لإرادته و مشيئته. والأنبياء، والوحي، والكتب السماوية، والملائكة و رسله، والمعاد أيضاً هو الرجوع إليه سبحانه، والدّين هو أحكامه المفروضة.

ضرورة الإيمان

الإيمان والمعتقد من المتطلّبات الأساسية للإنسان، و هما في الوقت ذاته تكليف ملقىً على عاتقه، و أهميّتهما بالنسبة إليه كالطعام. فمثلما يحتاج الإنسان إلى الطعام، فهو يحتاج أيضاً إلى العقيدة والإيمان. و يمكن القول من باب التمثيل - لا الاستدلال مثلما أنّ الإنسان لايؤذن له بتناول أي طعام كان لسدّ جوعه؛ إذ ربّما تُعتبر بعض الأطعمة بمثابة سمّ قاتل له،

ص:69


1- - سورة البقرة (2)، الآية 285.
2- - سورة النساء (4)، الآية 136.

كذلك الحال أيضاً بالنسبة إلى الإيمان؛ إذ يجب عليه أن يدقِّق و ينقّب بشأنه غاية ما يمكن؛ و ذلك لأنّ عمله و سلوكه إنّما ينتظم وفقاً لما يختاره من المعتقدات والإيمان.

و في ضوء ما سبق ذكره هناك، ملاحظتان مهمّتان تسترعيان الانتباه في ما يخص ضرورة الإيمان: أولاهما هي أنّ الإيمان - كما سبق ذكره - عبارة عن تعلّق و انشداد.

و يمكن القول بعبارة أُخرى: إنّ الإيمان والكفر من شؤون القلب و خاضعان لإرادته. فكيف يمكن غرس مثل هذه الحالة في القلب، أو دعوة الآخرين إليها؟ إنّ الاعتقاد أمر قلبي، و إقبال القلب عليه أو رفضه له يتوقف على ظروف خاصّة. فبعض الناس تبعاً لظروفه النفسية والتربوية قد تستهويه بعض الأُمور و يميل إليها، و قد ينفر من أُمور أُخرى و يتجنّبها. فهو قد يحب بعض الأماكن، والأطعمة، والصور، و حتّى الناس، و لكنّه ينفر و يشمئز من أشباهها و مثيلاتها. بينما يستقبح آخرون تلك الأشياء نفسها و ينفرون منها كليّاً.

و في مثل هذا الوضع هل من المنطقي أن يُقال: ينبغي الإيمان ببعض الاشياء والتعلّق بها، و كره أشياء أُخرى والكفر بها؟

و أمّا الملاحظة الأُخرى فهي: ما الداعي للإيمان بأُمور معيّنة على وجه الخصوص بحيث يؤدي إنكارها و عدم الاعتقاد بها إلى استحقاق العذاب؟

أمّا بالنسبة إلى الملاحظة الأُولى فهي رغم أنّ الحب والبغض - و هما من خصائص النفس - أُمور لا إرادية، بَيْد أنّ مقدّماتهما بيد الإنسان نفسه. فعلى الرغم مما يبدو ظاهرياً من أنّ الكثير من نوازع الحب والكره تأتي من غير مقدّمات، لكن الواقع ليس كذلك.

و لاشكّ في أنّ كل محبّة أو كراهية تُعزىء الى علل و مقدّمات كثيراً ما تكون اختيارية.

يمكن تحويل المحبّة إلى عداء، أو تقليص المحبّة و تضخيم العداء. فالإيمان خاضع لمقدّمات و شروط؛ فإن توفّرت مقدّماته العقلية والحسيّة تنغرس عند ذاك بذور الإيمان، و هكذا الحال بالنسبة إلى الكفر أيضاً.

و بعبارة أُخرى: إنّ وجود الناس و ميولهم الذاتية تمتزج عادة بالعقيدة والإيمان. و هم إن لم ينشَدُّوا إلى حقيقة عالم الوجود، فقد يصنعون لأنفسهم ركيزة من حجر و خشب يصنعون منها أوثاناً يتعلّقون بها. إذاً فالأولى، بل إنّ الضرورة تفرض أن يكون التعلّق والانشداد إلى

ص:70

حقيقة الوجود، و أن لاتحل محلّه أشياء أُخرى تافهة. و هذا هو سر دعوة الأنبياء إلى أُصول الإيمان، وجعل الأُصول الجزئية من تكاليف الناس الذين إذا أنكروها شملهم العذاب الإلهي. و هذا ما حصل بالفعل حيث وقع العذاب على أقوام أنكروها بعناد.

فهي من باب الظروف والخلفيات المتوفّرة لدى الأفراد. إذاً فالدعوة إلى الإيمان أمر عقلاني، و كذا الدعوة إلى تمهيد مقدّماته، إذ إنها مقدّمات اختيارية.

و أما ما يخص الملاحظة الثانية: فمن الضروري الإيمان ببعض الأُمور سوية، و لايمكن الفصل بينها والإيمان بقسم منها و رفض القسم الآخر انطلاقاً من التكوين والتوجُّهات الخاصة بكل إنسان. فشخصية الإنسان تتبلور من خلال ميوله و تعلّقاته و أفكاره. و كلّما كانت هذه الأُمور أقرب إلى حقائق الوجود تتبلور شخصيته على نحو أفضل و أقوم، و كلّما كانت وهمية و بعيدة عن الواقع يبتعد الإنسان عن هويّته أكثر فأكثر. و من البديهي أنّ أهم واقع في نظام الوجود هو مبدؤه المدبّر له الذي إليه المعاد.

إنّ مركز ثقل الوجود هو اللّه عزّوجلّ. والوجود كُلّه منه و إليه. و في ضوء ذلك فإنّ أي مركز آخر ينشدّ إليه الإنسان و يتعلّق به ليس إلّاوهماً، و لايزيده إلّابُعداً عن حقيقة الوجود و عن هويته الذاتية. فالإنسان لايهديه إلى الطريق القويم في معترك الحياة، و لايرشده إلى مبدأ الوجود إلّاهذه الهوية التي لايصل بدونها إلى أية غاية.

فوائد الإيمان

1 - الإيمان - كما ذكرنا من قبل - ناجم عن حاجة أساسية لدى الإنسان. و هذا يعني أولاً و بالذات، أنّ الإنسان يسعى تلبية لهذه الحاجة. و في الوقت ذاته يمثل الإيمان ملاذاً حصيناً له، والتمسّك به يجعل منه كالجبل الراسخ الصامد في وجه الأمواج العاتية. أمّا الأحزان والأفراح فليست لدى المؤمن إلّاأُموراً عابرة كالزبد الطافي فوق سطح الماء.

2 - الإيمان حصن حصين يقي المؤمن من الأعاصير الجارفة، و يبلغ به إلى ساحل الأمان، و يصونه من الخواء والعبثية. والتيارات الجارفة لاتثير الأمواج في محيط الإيمان الهادىء. والإيمان إن كان حقيقياً فهو كفيل بصيانة الإنسان من دواعي القلق. والمؤمن يرى

ص:71

للوجود هدفاً و غاية، و يرى لذاته دوراً سامياً في هذا الوجود. والمؤمن راضٍ بقضاء اللّه و قدره، و يعيش حياة تغمرها السكينة والطمأنينة. و هو يعيش دوماً في ذكر اللّه، و يرى اللّه عزّوجلّ هو الذي يدبّر شؤون الوجود مراعياً جميع المصالح (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) .(1)

و قلب المؤمن زاخر بمحبة اللّه و بالإيمان بمن يُظلُّ عالم الوجود بظلال رحمته.

والإيمان يرسم أمام ناظري المؤمن مستقبلاً مشرقاً و زاهراً، و يبعث في قلبه الأمل، و لايدع اليأس يتسرّب إلى نفسه.

3 - الإيمان يخلق في ذات المؤمن حالة تجعله يرى أنّ كل شيء للّه، و انطلاقاً من ذلك يكون على استعداد لبذل كل كيانه في سبيله (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ) .(2)

والآخرون ينتفعون عادة من تضحية المؤمن كأنصار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الذين وصفهم القرآن.(3) والإيمان يربّي المؤمن على نحو يجعله في أقسى الظروف سبّاقاً إلى التضحية و متهافتاً على البذل والعطاء، و يغلب المؤمن الواحد عشرة من الكفار.(4)

4 - للمؤمن بصيرة نافذة يستشرف بها الحوادث و يتخذ ما يناسبها من المواقف:

«المؤمن ينظر بنور اللّه».(5) و (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) .(6)

5 - الإيمان يجعل المؤمن قنوعاً بما عنده، و لايبيح له إطلاقاً التطاول على حرمة الغير لنيل المزيد من المكاسب، بل يحثّه على الجود بما يملك على غيره، و أن يكرّس جهده في سبيل الارتقاء بمستوى الآخرين و تحسين أوضاعهم. و أن يضمر المحبّة لعباد اللّه و يحفظ حرماتهم. و أن يكون من ذوي العفو والرحمة. و من الطبيعي أنّ مثل هذه النوازع

ص:72


1- سورة الاسراء (17)، الآية 30.
2- سورة البقرة (2)، الآية 207.
3- - سورة الحشر (59)، الآية 9.
4- سورة الأنفال (8)، الآية 65.
5- - الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 61، الحديث 250.
6- سورة البقرة (2)، الآية 257.

والتوجّهات تبعث على بناء مجتمع يرضاه اللّه، و أن يأتي ذلك كلّه طواعية و بعيداً عن دواعي القهر والإكراه.

6 - المؤمنون موضع رعاية اللّه ولطفه: (إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (1) و ينزل الباري تعالى عليهم بركاته بسبب إيمانهم: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ) .(2)

7 - الإيمان يدعو المؤمن إلى فعل الخير، و يجعل عليه رقيباً دائماً من نفسه. و ينهاه عن افتعال الشر و إثارة الفتنة. و يفهم في ضوء ما سبق ذكره أنّ جماعة المؤمنين يغمرها حُبّ اللّه و احترام خلق اللّه. و أفراد هذه الجماعة يعيشون حياة زاخرة بالبهجة والسرور، و يحلّون ما يعرض لهم من مشكلات بروح أخوية و بالتعاضد والتكافل.

العلم والإيمان

لابد في البداية من التنبيه إلى أنّ المراد من العلم هنا هو المعنى الأعم للكلمة، أي مجمل الوعي والمعرفة، و ليس العلم بمعناه الاصطلاحي الذي يشير إلى العلم التجريبي.

هناك بين العلم والإيمان تفاوت، و إن كان الإيمان ينطوي بحدّ ذاته على نوع من المعرفة والوعي، بيد أنّ الإيمان ليس علماً، و لا العلم إيماناً. بل و ليس ثمّة بين هذين الاثنين من تلازم قطعي. فهناك أشياء كثيرة نعرفها لكنّنا لانؤمن بها. و في الوقت نفسه هناك أُمور نؤمن بها و لكنّنا لاندرك كُنهها و حقيقتها، مثل عالم الغيب، والملائكة، و غير ذلك.

و قد ورد في القرآن الكريم أنّ أهل الكتاب كانوا يعرفون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما يعرفون أبناءهم، و لكنّهم لم يؤمنوا به.(3) و في المقابل جاء في وصفه للمتقين أنهم يؤمنون بالغيب.(4) و على هذا الأساس يتبين أنّ معرفة الشيء لاتعني بالضرورة الإيمان به، أو أن يستتبع العلم به إيماناً به. فهناك من الناس من يدرك حقيقة شيء و كنهه و لكنّه لايؤمن به لدواعٍ مختلفة، من قبيل ما يحمله من خلفيات ذهنية، أو لخصال فيه تحجبه عن ذلك.

ص:73


1- - سورة غافر (40)، الآية 51.
2- سورة الأعراف (7)، الآية 96.
3- - سورة الأنعام (6)، الآية 20.
4- - سورة البقرة (2)، الآيتان 2-3.

و قد رد في القرآن الكريم وصف لبعض أهل الكتاب حيث أنهم بَعدما تكشّف لهم أنّ لاسلام حقّ حاولوا ثني المسلمين عنه: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) .(1)

إنّ لكلٍّ مِن العلم والإيمان تأثير حاسم في الآخر، و يتباين مدى هذا التأثير تبعاً لظروف كل واحد منهما. فتأثير العلم في الإيمان سواء في انبثاقه أو في ترسيخه، خاضع للتوجهات الفكرية والميول القلبية. فإن كان هناك مَن ينقّب و يتقصّى للحصول على معلومات حول شيء ما، فمن الطبيعي أنه يميل إليه و يؤمن به، إن كان يتساوق مع توجهاته الفكرية، و إلّا فلن تقوده معلوماته إلى الإيمان به. نذكر على سبيل المثال، إنّ مَن يضع على بساط البحث كتاباً سماوياً بقصد العثور على مواطن الضعف والنقص فيه، لايكون له أيّ تأثير فيه. و أما مَن يعكف على دراسته عن شغف، و بهدف العثور على حقيقةٍ، فسيزيد ذلك من رغبته فيه و يدفعه إلى الإيمان به. إنّ لكلٍّ مِن العلم والإيمان آثاراً وتبعات. فالإيمان ذو توجّه معنوي و هادف، بينما العلم يمنح المرء وعياً و معرفة، و يضع بين يديه أسباب القوّة و يزيد من قدراته، و لكن عدم التلازم بين هذين الأمرين، و عدم مواكبة أحدهما للآخر، كثيراً ما يكون مدعاة لمشاكل لاتحمد عقباها، فالمؤمن إن لم يتسلّح بالعلم يقع ضحيّة للتخلّف، والعالِم المجرّد من الإيمان يصنع أدوات مدمّرة تهدد حياة بني البشر بأنواع الكوارث والفجائع.

العقائد الباطلة

اشارة

إنّ كل عقيدة لايقرّها الوحي، و لا كتاب سماوي، و لا تنسجم مع العقل والفطرة فهي باطلة. والعقيدة الباطلة بإيجاز هي ما لا تسليم فيها للّه: (وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) .(2)

والعقيدة الباطلة ليست كلها باطلة على الدوام، و إنّما قد تكون مزيجاً من حق و باطل.

و يصح العمل بها عندما تكون حقّاً، و لكنّها تفقد كفاءتها بمرور الزمن، على اعتبار أنها قد

ص:74


1- سورة البقرة (2)، الآية 109.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 85.

شُرّعت لمرحلة زمنية معيّنة، و قد انقضى زمانها و بُعث دين جديد من اللّه عزّوجلّ يَنقضُها.

و هذا ما يستدعي طبعاً العدول عنها و اعتناق عقيدة الدّين الجديد.

و بما أنّ اجتناب العقيدة الباطلة يتسنّى عن طريق التعرّف على المعتقدات الباطلة، و نظراً إلى أنّ معرفة الحق بشكل أفضل رهينة بمعرفة الباطل، استناداً إلى قولهم - تُعرف الأشياء بأضدادها - نشير هنا في حدود ما يسمح به هذا الموجز إلى موردين:

الشرك

الشرك لغة: بمعنى وجود شيء مشترك لاثنين فصاعداً، و يعني اصطلاحاً: الاعتقاد بوجود شريك للّه.(1) والمشرك: مَن حاد عن التوحيد، و كما هو واضح من أصل الكلمة، فإنّه يقر بوجود اللّه و لكنه يعتقد بشريك له، أو يؤمن بأنّ لبعض الموجودات أثراً أو تأثيراً مستقلاً عن إرادة اللّه.

الشرك، من الاعتقادات التي حاربها الإسلام بكل صورها و أساليبها. و قد وصف القرآن الكريم الشرك بالظلم العظيم،(2) والافتراء على اللّه،(3) و ممّا يبغضه اللّه،(4) والذنب الذي لايغتفر.(5) والشرك أمر وهمي مبعثه الظن(6) والجهل. و قد وصف اللّه نفسه بأنه أجلّ من أن يُشرك به: (فَتَعالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ) (7) و نعت المشركين بالنجس بسبب افترائهم على اللّه.(8)

اتّخّذَ الشرك صوراً شتّى على مرِّ العصور منها:

1 - الشرك الصريح كعبادة الأصنام.

2 - شرك الرياء، و هو ما يتحدّث عنه علم الأخلاق.

3 - الغلو و عبادة الشخصية.

ص:75


1- - الراغب الاصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ص 451-452.
2- - سورة لقمان (31)، الآية 13.
3- سورة النساء (4)، الآيتان 48، 50.
4- سورة الأعراف (7)، الآيات 70، 71، 152.
5- - سورة النساء (4)، الآية 48.
6- سورة يونس (10)، الآية 66.
7- - سورة الأعراف (7)، الآية 190.
8- سورة التوبة (9)، الآية 28.

4 - الشرك الحديث، كاتخاذ العلم والتقنية ربّاً من دون اللّه، واستخفاف الإنسان بذاته أمام الأشياء التي صنعها بنفسه.

و كل أنواع الشرك سواء منها البدائي أم الجديد تشترك في عنصر واحد.

تطوّر الشرك من أنواع بدائية بسيطة كاتخاذ الخشب والحجارة شركاء للّه، إلى أن اتّخّذَ صوراً أُخرى معقّدة تبعاً لتطوّر التجربة البشرية. ففي العصور الغابرة حين لم يكن الإنسان قد خبر التطوّر الصناعي الموجود في عالم اليوم، كان لايعرف إلّاالطبيعة و عناصرها، فعبدها و عبدالشمس والقمر والكواكب الأُخرى، و لكن هذه الأشياء اضمحلت تدريجياً و حلّت محلها أشياء و مفاهيم أُخرى. ففي الماضي كانوا يتوهّمون أنّ اللّه يمكن أن يُرى، و هذا ما دفعهم إلى اختيار عناصر من الطبيعة أو مما يصنعونه بأيديهم و اتخاذه مظهراً له؛ فيبنون لها المعابد و يقدّمون لها النذور والقرابين، و يشرّعون لها رسوماً و شعائر، و يتولّى الكهنة إدارتها.

و كانت مظاهر الطبيعة القاهرة و ما يقع من أحداث مريرة و حلوة، تدفع الإنسان إلى البحث عن مسبّباتها. فكان كل قوم يختارون شيئاً وفقاً لِما تذهب إليه بهم الظنون، و يعزون إليه كل الأسباب والمسبّبات بل حتى أنهم يعتبرونه إلهاً و يتوسلون إليه خشية منه، و يعبدونه تقرباً إليه و حفاظاً على أنفسهم منه.

كتب المؤرخ المعروف (المسعودي) عن الأقوام الذين عاشوا بَعد طوفان نوح ما يلي:

بَعدما و فى نوح عليه السلام لقومه بما وعدهم من العذاب الإلهي، كان الناس من بَعده لايجحدون الصانع، إلّاأنهم دخلت عليهم شبهة بَعد ذلك لتركهم البحث واستعمال النظر، و مالت نفوسهم إلى الدِّعة و ما تدعو، اليه الطبائع من الملاذ والتقليد، و كان في نفوسهم هيبة الصانع، والتقرّب إليه بالتماثيل و عبادتها، لظنّهم أنها مقرّبة لهم إليه.(1)

و كتب أيضاً حول أهالي الهند والصين ما يلي: كان كثير من أهل الهند والصين يعتقدون بأنّ اللّه عزّوجلّ جسم، و أنّ الملائكة أجسام لها أقدار، و أنّ اللّه تعالى و ملائكته احتجبوا

ص:76


1- المسعودي، مروج الذهب، ج 2، ص 145.

بالسماء، فدعاهم ذلك إلى أن اتّخّذَوا تماثيل و أصناماً على صورة الباري عزّوجلّ، و بعضها على صورة الملائكة، و يعبدونها و يقرّبون لها القرابين، و ينذرون لها النذور.(1) و كتب في ذلك أيضاً: إنّ البعض اعتبروا النجوم والكواكب أقرب الاجسام المرئية إلى اللّه تعالى، و أنّ كل ما يحدث في هذا العالم فإنّما هو على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر اللّه، فعظّموها و قرّبوا لها القرابين، وجعلوا لها أصناماً و تماثيل على صورها و أشكالها. و في بلاد فارس رأوا أنّ النار أشبه شيء بضوء الشمس والكواكب؛ فعظّموها على اعتبار أنّ النور أفضل من الظلمة.(2)

إنّ نزعة التقديس لدى الإنسان كانت تدفعه أحياناً إلى أن يبحث عن صنم و يعتبره مظهراً للّه، و يعكف على عبادته. و ذهب آخرون إلى تقديس كائنات ذات قدرة خارقة.

بينما جعل آخرون من الملائكة شركاء للّه. و هناك من الناس من يرفع بعض الأنبياء إلى منزلة اللّه و يثنون عليه إلى درجة العبادة، والحال أنّ عملهم هذا قائم على أوهام و ظنون.

و كمثال على ذلك أنّ النبيّ عيسى عليه السلام حين ولد بمعجزة من غير أب،(3) وتكلم و هو في المهد،(4) و كانت له معجزات كبرى كإحياء الموتى و إبرار الأكمه والأبرص،(5) عظمت هذه الأُمور في أعين الناس إلى درجة أنهم جعلوه بمنزلة اللّه. و قد ورد في القرآن الكريم أنّ اللّه جلّ شأنه سأل عيسى عن ذلك: (وَ إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ) .(6)

إنّ ذكر هذه القضية في القرآن الكريم ينمّ عن أنه لاينبغي وضع أيّ موجود في منزلة تفوق منزلته، أو جعله بمنزلة اللّه، أو اعتباره مؤثّراً بذاته في عالم الوجود، مهما كانت له من منزلة مقرّبة عند اللّه.

و من البديهي أنّ هذا العمل شرك، والشرك باطل. و لذلك قال عيسى المسيح عليه السلام في جواب اللّه: (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ

ص:77


1- - المصدر السابق، ص 236.
2- المصدر السابق، ص 236-237.
3- - سورة آل عمران (3)، الآيات 45، 47.
4- - سورة مريم (19)، الآيتان 29 و 30.
5- سورة آل عمران (3)، الآية 49.
6- سورة المائدة (5)، الآية 116.

عَلِمْتَهُ) (1) ثم واصل جوابه قائلاً: (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ) .(2)

هذه التوجُّهات والنوازع البشرية و أمثالها حدت بالأنبياء إلى أن يعلنوا للناس أنهم أُناس مثلهم، و لكن يوحى إليهم، و ليس لهم دور في هذا العالم سوى النبوّة.(3)

حظيت الأصنام التي كان الناس يصنعونها من الحجارة والخشب بمكانة رفيعة، حيث كانت تمثّل أحياناً مظهر رحمة اللّه، و كياناً أُسطورياً يُعبد، في حين أنها جمادات لاتضر و لاتنفع: (وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ) ، (4) و لم يكن ذلك انطلاقاً من أحقيّتها، و إنّما بسبب ما كانت تمثّله من تقليد متوارث عن الآباء: (ما يَعْبُدُونَ إِلاّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) ، (5) و كانوا يخوضون صراعاً مع الأنبياء حول تلك الأوثان و يصرّون على معتقداتهم.(6) و كان هناك من عبدة الأوثان من يتخذ منها وسيلة للتقرّب إلى اللّه: (ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى) (7) و يصفونها بالشفعاء عند اللّه:

(هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ) .(8)

إنّ الاعتقاد بتأثير موجودات غير اللّه في هذا العالم، إنّما هو من عمل المشركين و يجب إنكاره. و من الواضح - طبعاً - أنّ الشفاعة إذا كانت بإذن اللّه مع الاعتقاد بوجود علل في طول إرادة اللّه لايعتبر شركاً، بل هو عين التوحيد. أمّا الشرك المنهي عنه فهو عبادة غير اللّه أو تقديسه إلى درجة تشعر بعبادة غير اللّه فيه.

إذاً هذا هو الشرك الصريح الذي كان حسب الطباع البسيطة للإنسان القديم، غير أنّ الشرك اتّخّذَ على مرّ الزمن مظاهر أُخرى أعقد، و بالنتيجة صار التخلّص منه أعقد ممّا كان في الماضي. اليوم فقدت الأصنام المنحوتة من الحجر والخشب قيمتها و حلّت محلّها النوادي، والأحزاب، والمنتجات الصناعية، والدول، و ما شابه ذلك، و قلّما يمارس إنسان

ص:78


1- - سورة المائدة (5)، الآية 116.
2- سورة المائدة (5)، الآية 117.
3- سورة فصلت (41)، الآية 6.
4- - سورة يونس (10)، الآية 18.
5- - سورة هود (11)، الآية 109.
6- - سورة هود (11)، الآية 53.
7- - سورة الزمر (39)، الآية 3.
8- سورة يونس (10)، الآية 18.

اليوم توحيد اللّه عملياً، و إنّما يتوجّه بذلك نحو أرباب آخرين اتّخّذَهم من دون اللّه، و يرتجي منهم نظم شؤون هذا العالم.

و من أخطر أنواع الشرك هو الشرك الخفي، أو ما يُعرف بالرياء، و هو ما وصفه أميرالمؤمنين عليه السلام بقوله: «واعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْك»(1) و هو أن يتظاهر الشخص أمام الآخرين بالورع والتقوى، و يستغل الأعمال العبادية لتحقيق مآرب أُخرى. و من المؤسف أنّ ظاهرة الرياء تزدهر حيثما يكون هناك بناء اجتماعي مغلوط. و من الطبيعي أنّ المرائي لايحصل على سوى التعب والمشقّة.

و هناك صورة أُخرى من الشرك قلّما يُنظر إليها بعين الاهتمام، و إنّما تحوّلت إلى ظاهرة مألوفة، و هي طاعة أدعياء الزعامة الدينية الذين يُحرّمون حلال اللّه ويُحلّلون حرام اللّه في سبيل مصالحهم الذاتية. يقول أبو بصير: سألت الإمام الصادق عليه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ:

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ) (2) فقال: أما واللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم. ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم، و لكن أحَلّوا لهم حراماً و حرّموا عليهم حلالاً؛ فعبدوهم من حيث لايشعرون.(3) و جاء في حديث آخر: واللّه ما صلّوا لهم و لاصاموا، و لكنّهم أحَلّوا لهم حراماً و حرّموا عليهم حلالاً فاتبعوهم.(4) و جاء في حديث آخر أيضاً: إنهم أطاعوهم في معصية اللّه فكانوا أربابهم من دون اللّه.(5)

و لعل هذا السبب هو الذي حدا ببني أُميّة إلى منع الناس من تعلّم الشرك، لكي يتسنّى لهم فرض الشرك عليهم بسهولة. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال في وصف سياسة بني أُميّة إزاء علماء الدّين ما يلي: إنّ بني أُميّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان، و لم يطلقوا لهم تعليم الشرك، لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه.(6)

ص:79


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 86، ص 117.
2- - سورة التوبة (9)، الآية 31.
3- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 398، الحديث 7.
4- - البرقي، المحاسن، ص 246، الحديث 245.
5- الحُويزي، نور الثقلين، ج 2، ص 209، الحديث 114.
6- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 415-416، الحديث 1.

والشرك قد يكون في ذات اللّه؛ أي ان يتخذ من موجود شريكاً للّه، و قد يكون في صفاته؛ أي أن يرى للّه صفات هي ليست من ذاته و إنّما زائدة عليها. و قد يكون الشرك في الأفعال؛ أي جعل شرك للّه في أفعاله؛ أو قد يكون شركاً في العبادة؛ أي عبادة غير اللّه إلى جانب عبادة اللّه.

الكفر

الكفر في اللغة: بمعنى ستر الشيء، و وُصِف الليلُ بالكافر لستره الأشخاص، والزارع لستره البذر في الأرض.(1) والكفر في الواقع احتجاب عن الحق، وستر الحق. و في ضوء هذا المعنى سمّي جحود النعمة كفراناً.

الكفر اصطلاحاً: يعني إنكار العقيدة الحقّة و عدم الإيمان بها مع العلم بحقّانيّتها. و يعني إنكار ما يجب الإيمان به أو إنكار شيء ضروري من ضروريات الدّين، سواء أنكرها ابتداءً أم بَعد الإيمان بها، و هو ما يسمى بالردة أو الارتداد.

بما أنّ الدّين والتديّن يتحقق من خلال الاعتقاد بمجموعة من الأُصول، لهذا فالكفر هو إنكارها عناداً؛ أي أن يكون عن وعي و إرادة.

و باستثناء إنكار الأُصول الثلاثة و هي: التوحيد، والنبوّة، والمعاد، ينطبق معنى الكفر أيضاً على إنكار أمر ضروري من الدّين عن وعي و عناد، والاعتقاد بما يجب تنزيه اللّه عنه، كالقول: إن له شريكاً،(2) والقول، إنّ له ولداً، و تجريده من إحدى صفاته، و خاصة صفة الربوبية والهيمنة على الكَوْن.(3)

بما أنّ الكفر إنكار للعقيدة الحقّة عن قصد و إرادة، فهو ينم عن ظاهرة مرضية، و يعني أنّ الكافر إنسان مريض و متعصب ومُنكِر للحق. و هذا يدل على أنّ عقل الكافر لايسمح له بالتفكرُّ في حقائق الوجود و إدراك كُنهها: (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) .(4)

و

ص:80


1- - الراغب الاصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ص 714.
2- - سورة المائدة (5)، الآية 73.
3- سورة الرعد (13)، الآية 5.
4- - سورة الأعراف (7)، الآية 101.

نظراً إلى أنّ الكافر مُنكِر للحقيقة فقد وصفه اللّه بعمى القلب و عدم التعقّل: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) . (1) و إذا وصل الكافر إلى هذه المرحلة فلا جدوى من السعي لهدايته؛(2) لأنه كالحيوان الذي لايتناهى إلى سمعه من الكلام إلّاالأصوات، و لايعي من دعوة الحق إلّاهمهمة، و لذلك يتولّد في نفسه تدريجياً نفور من الحق،(3) و لايبقى ثمّة طريق لهدايته.(4)

إنّ ما سبق من الكلام ينطبق على من يختار الكفر عن وعي و إرادة و عناد، و أمّا الكفر الذي يأتي بسبب الجهل أو البيئة التربوية من غير إصرار و لا عناد فهو قابل للإصلاح.

و أبرز شاهد على ذلك، المُنكِرون الذين استجابوا لدعوة الأنبياء في ما بعد، و صاروا من أنصارهم والمؤمنين بهم.

من الطبيعي أنّ من يستر الحق عن قصد و إرادة، يفقد القدرة على إدراك الحقائق، و لاتكون لعمله أيَّة قيمة معنوية؛ لأَنَّ قيمة العمل تأتي من خلال النيّة، والكافر يفتقر إلى النيّة الخيّرة. و لهذا فقد شبّه اللّه عزّوجلّ في كتابه الكريم ما يفعله الكافر من عمل صالح - في الظاهر - بالسراب،(5) و شبهه في آية أُخرى برمادٍ تذروه الرياح.(6)

و على الرغم من أنّ الكافر في ضلال، غير أنّه يتمتع بنعم إلهية وفيرة. و هذه النعم تأتي طبعاً في سياق سُنّة من السنن الإلهية، و هي أنّ اللّه تعالى يمنح الرزق لجميع العباد، غير أنّ ذلك لايعني طبعاً أنّ اللّه يتركهم على حالهم أو أنهم في أمان من غضب اللّه،(7) و إنّما يمهلهم إلى أجل و لكن ليس فيه خير له،(8) ثم يواجهون غضب اللّه و يقعون في أشد العذاب.

ص:81


1- - سورة البقرة (2)، الآية 171.
2- - سورة البقرة (2)، الآية 6.
3- - سورة فاطر (35)، الآية 42.
4- سورة البقرة (2)، الآية 264.
5- سورة النور (24)، الآية 39.
6- سورة ابراهيم (14)، الآية 18.
7- - سورة البقرة (2)، الآية 126.
8- سورة آل عمران (3)، الآية 178.

اللّه

اشارة

اللّه اسم تكتنفه الأسرار، و لكن في الوقت ذاته رؤوف رحيم. و أكثر بني آدم يدركونه و يمدون أيديهم إليه بالدعاء والتضرّع. و كل واحد منهم يعرفه في حدود معلوماته و يتصوّره ضمن دائرة وعيه. وله أسماء مختلفة لدى كل شعب و قوم. و لايوجد في هذا العالم إلّاقليل من الناس لايعرفون اللّه.

الإيمان بوحدانيّة اللّه قوام كل الأديان السماوية. و كل معتقداتها مستمدّة من اللّه و منبثقة عنه. و يعود الإيمان باللّه في قِدَمِهِ إلى قِدَمِ وجود الإنسان. و قد كان أكثر الناس فوق الكرة الأرضية منذ بداية ظهور الخليقة إلى يومنا، يؤمنون باللّه و يعبدونه بشكل أو بآخر تبعاً للمجتمعات التي عاشوا فيها، و طبيعة نظرتها إلى مُبدىء الوجود وصفاته. لقد كانت غرائز العبودية للّه و مناجاته من أقدم و أدوم انطباعات الروح لدى الإنسان، و هي التي تدفعه نحو اللّه.

يتضح من خلال دراسة آثار الحياة البشرية أنّ الإنسان حيثما وجد كانت هناك عبادة لموجود يفوق الموجودات الأُخرى. و هذا يعني أنّ الأنبياء لم ينزلوا العبادة للناس وانّما علّموهم العبادة الصحيحة، و كيف ينبغي أن يُعبد اللّه، هذا إضافة إلى إزالة الشرك من أذهان الناس لكي لايُعبد إلى جانب اللّه موجود آخر.

والبرهان الساطع على هذه الحقيقة، هو القرآن الكريم الذي تحدّث عن عبادة اللّه، و نفي الشرك عنه بكل صورة وصيغة، أكثر ممّا تحدّث عن معرفة اللّه على أساس إثباته. و هذا الأُسلوب بحد ذاته يدلّ على أنّ وجود اللّه لايحتاج إلى إثبات، و أنّ الإنسان يعرف اللّه بالفطرة. ففطرة الإنسان تدلّه على وجود اللّه، إضافة إلى ما تمثّله من مصدر لمعرفة اللّه.

فالإنسان كان منذ البداية موحّداً و يعبد إلهاً واحداً. و أمّا ما ذكره التاريخ من اتخاذ الإنسان

ص:82

للأصنام والقمر والكواكب آلهة، و أشار إليه القرآن الكريم، فهو من الانحرافات التي وقعت في ما بَعد.

طرق معرفة اللّه

اشارة

وجود اللّه بديهي إلى درجة أنّه لايحتاج إلى إثبات. و قد عَمَّ كل الوجود بلطفه. و كل الوجود منبثق بفضل جوده و كرمه. و حيثما ينظر المرء يرى معالم وجوده بكل جلاء. و هو باسط ظله على الوجود كله، بل لايمكن تصور الوجود بدونه. و تدبيره مشهود في كل شيء بجلاء. فهل ثمة حاجة إلى دليل لإثبات وجود النهار؟ فوجود اللّه أسطع من ضوء النهار.

كل إنسان و حتى الطفل يرى أنّ لكل حادث علّة. و على هذا الأساس تراه يبحث عن أسباب و علل الأحداث والوقائع. والذين يعلمون بأن لكل ظاهرة علّة يحرصون عادة على البحث عنها. ولو كان الافتراض المسبق لديهم أنّ كل شيء يقع عن طريق الصدفة لَما توجهوا نحو الاكتشافات، و لكان عملهم في هذا المضمار عبثاً.

لاشكّ في أنّ مظاهر الخلق كلّما كانت أكثر تعقيداً و عظمة، دلّت على مدى عظمة و قدرة صانعها. و لهذا السبب فنحن نطلق تسمية الحكيم على خالق هذا الكَوْن الذي نعيش فيه و لانعرف إلّاشيئاً يسيراً عنه. فهذا الوجود على درجة من العظمة والتعقيد والنظم بحيث لايمكن أن يكون بلا خالق، أو يكون خالقه فاقداً للقدرة والحكمة. فإنّ ما كشفه علماء الأحياء والفلك و غيرهم حتى الآن لايكاد يمثّل إلّاشيئاً يسيراً من هذا الوجود، و لم يعرفوا من أسراره إلّاالقليل.

إنّ كتاب الطبيعة حافل بالأسرار، و لكن من المتعذّر على الإنسان كشفها و دراستها كلّها، غير أنّ الاطلاع عليها يفتح أمامه آفاقاً جديدة، و يدعوه إلى التأمل في ما تزخر به من تنوّع و دقّة و إتقان. فكيف يمكن القول: إنّ هذا حصل صدفة و من غير تدبير؟ و لهذا كان الرسل يسألون أقوامهم: (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ) . (1) فهذه لغة

ص:83


1- - سورة ابراهيم (14)، الآية 10.

معبّرة عن إدراك وجود اللّه، و هي لغة يفهمها كل بني الإنسان. و لهذا السبب استعملها الأنبياء.

فكل ما في هذا الكَوْن يُعتبر بمثابة دلائل على وجود خالق مدبّر: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) .(1)

إنّ ما جاء في القرآن من عبارات دالّة على أنّ مثل هذه الآيات لايعقلها إلّاذووالألباب، انّما يُراد به التنبيه إلى أنّ الآيات معروضة أمام جميع الناس، و لكن لايوفّق الجميع إلى الاستفادة منها، و إنّما يوفق البعض إلى الاهتداء بها، و لايهتدي بها غيرهم.

منهج الإمام الصادق عليه السلام في إثبات وجود اللّه

قال هشام بن الحكم: كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبداللّه عليه السلام، فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها، فقيل له: هو بمكّة فخرج الزنديق إلى مكّة و نحن مع أبي عبداللّه عليه السلام، فقاربنا الزنديق - و نحن مع أبي عبداللّه عليه السلام - في الطواف فضرب كتفه كتف أبي عبداللّه عليه السلام، فقال له جعفر عليه السلام: ما اسمك؟ قال: إسمي عبدالملك، قال: فما كنيتك؟ قال:

أبو عبداللّه، قال: فمن الملك الذي أنت له عبد، أمن ملوك السماء أم من ملوك الأرض؟ و أخبرني عن ابنك، أعبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ فسكت، فقال أبو عبداللّه عليه السلام: قل ما شئت تخصم. قال هشام بن الحكم، قلت للزنديق: أما ترد عليه؟ فقبّح قولي، فقال له أبوعبداللّه عليه السلام: إذا فرغت من الطواف فأتنا، فلمّا فرغ أبو عبداللّه عليه السلام أتاه الزنديق فقعد بين يديه و نحن مجتمعون عنده، فقال للزنديق: أتعلم أنَّ للأرض تحتاً و فوقاً؟ قال: نعم، قال:

فدخلت تحتها؟ قال: لا، قال: فما يدريك بما تحتها؟ قال: لا أدري إلّاأنّي أظنُّ أن ليس تحتها شيءٌ، قال أبو عبداللّه عليه السلام: فالظنُّ عجز ما لم تستيقن.

قال أبوعبداللّه عليه السلام: فصعدت إلى السماء؟ قال: لا، قال: فتدري ما فيها؟ قال: لا، قال فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما؟ قال: لا، قال: فعجباً لك لم تبلغ المشرق،

ص:84


1- سورة آل عمران (3)، الآية 190.

و لم تبلغ المغرب، و لم تنزل تحت الأرض، و لم تصعد إلى السماء، و لم تجز هنالك فتعرف ما خلقهن؟ و أنت جاحد ما فيهنَّ؟ و هل يجحد العاقل ما لايعرف؟ فقال الزنديق: ما كلّمني بهذا أحد غيرك، قال أبو عبداللّه عليه السلام: فأنت في شكّ من ذلك فلعلَّ هو، أو لعلَّ ليس هو، قال الزنديق: و لعلَّ ذاك: فقال أبو عبداللّه عليه السلام: أيّها الرجل ليس لمن لايعلم حجّة على من يعلم، فلا حجّة للجاهل، يا أخا أهل مصر تفهَّم عنّي فإنّا لانشكُّ في اللّه أبداً، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان و لايشتبهان، يذهبان و لايرجعان قد اضطرا، ليس لهما مكان إلّا مكانهما؟ فإن كانا يقدران على أن يذهبا و لايرجعان فَلِمَ يرجعان؟ و إن لم يكونا مضطرّين فَلِمَ لايصير اللّيل نهاراً والنهار ليلاً؟ اضطُرّا واللّه يا أخا أهل مصر إلى دوامهما، والذي اضطرَّهما أحكم منهما و أكبر منهما، قال الزنديق: صدقت.

ثمَّ قال أبو عبداللّه عليه السلام: يا أخا أهل مصر الذي تذهبون إليه وتظنّونه بالوهم، فإن كان الدهر يذهب بهم لِمَ لايردُّهم؟ و إن كان يردُّهم لِمَ لايذهب بهم؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر، السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، لم لاتسقط السماء على الأرض؟ و لم لاتنحدر الأرض فوق طاقتها فلا يتماسكان و لايتماسك من عليهما؟ فقال الزنديق: أمسكهما واللّه ربّهما وسيّدهما، فآمن الزنديق على يدي أبي عبداللّه عليه السلام. فقال له حمران بن أعين: جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يديك فقد آمنت الكفّار على يدي أبيك. فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبداللّه عليه السلام: اجعلني من تلامذتك. فقال أبو عبداللّه عليه السلام لهشام بن الحكم:

خذه إليك فعلّمه. فعلّمه هشام فكان معلّم أهل مصر و أهل الشام، و حسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبداللّه عليه السلام.(1)

الإنسان، آية اللّه

لو نظر الإنسان إلى الطعام الذي يتناوله يومياً لأدرك بأنه و ما فيه من فائدة و تنوّع مخلوق خالق حكيم. فالطعام خلق بشكل يلبّي متطلّبات كل أعضاء البدن من العظم

ص:85


1- الصدوق، التوحيد، ص 293-295، الحديث 4.

واللحم والشعر والأوردة والجلد والدهون و غير ذلك. و من غير الممكن أن يكون هذا قد خلق بغير تدبير. (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ * أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا * وَ عِنَباً وَ قَضْباً * وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً * وَ حَدائِقَ غُلْباً * وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا * مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ) .(1)

و قد خُلق الناس بشكل يتكيّفون به مع البيئة المحيطة بهم. و قدرة و طاقة بدن الإنسان و روحه متناسبتان مع الأوضاع المختلفة و يعتريهما ضعف و قوّة و يتغيّران بالإمكانيات المتاحة في عالم الطبيعة، فيزول ما يلمّ بهما من ضعف. و جُعلت في البدن أجهزة قادرة على الكشف عن تلك المخاطر المحتملة. و هناك مؤشّرات تبيّن ما يلمّ بالبدن من اضطراب في نظمه الكلّي. فالحرارة والبرودة والسُعال و ما شابه ذلك هي بمثابة تحذيرات تُطلق للإنسان لمعرفة الأخطار المحتملة والسعي إلى التخلّص منها. و كل هذا النظم ينم عن صانع حكيم.

الإنسان مظهر للعالم الذي يعيش فيه. و يمكن القول أنه هو العالم الأكبر. فكل ما في هذا العالم قد أودع فيه بنحوٍ ما. و لهذا فإنَّ معرفة الإنسان تؤدّي إلى معرفة خالقه. (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) .

الإنسان يحتاج إلى النوم لمواصلة الحياة، و عليه أن يرتاح. ثم أنه يستيقظ من بعد النوم، (وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) .(2)

الإنسان يتكلم بقطعة لحم و حنجرة من اللحم،(3) و خلقت له من ذلك البدن نفسه أذن سامعة و عين باصرة.(4) و حسب تعبير أميرالمؤمنين عليه السلام: «اعْجَبُوا لِهَذَا الْإِنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْمٍ وَ يَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ وَ يَسْمَعُ بِعَظْمٍ وَ يَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ».(5) و رغم ان الإنسان مخلوق من طين و تراب غير أنه خلق بجسم و صورة متناسقة،(6) و جُعل الناس على صور و أشكال شتّى، و صارت لهم لغات مختلفة.(7) و أودعت في البدن قوى و طاقات مدهشة

ص:86


1- سورة عبس (80)، الآيات 24-32.
2- سورة النبأ (78)، الآية 9.
3- - سورة الرحمن (55)، الآيتان 3 و 4؛ سورة البلد (90)، الآية 9.
4- - سورة الأنعام (6)، الآية 46.
5- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 8، ص 470.
6- - سورة الكهف (18)، الآية 37.
7- - سورة الروم (30)، الآية 22.

مُحيّرة للعقول. فهذا المخلوق العجيب يدل بحد ذاته و بلا أي دليل آخر، على وجود خالق مدبّر.

نفي الصدفة

ربّما يُحمل كل ما في هذا الوجود من أُمور كثيرة على أنها جاءت حصيلة لصدفة، او أنها ظهرت فجأة و بدون تدبير سابق، و لكن لو كان الأمر كذلك كيف يمكن تجاهل الحقائق والنظم المشهود في تدبيرها؟ و كيف حصل كل ذلك؟ و من أين نشأت هذه الأشياء؟ هل يمكن إنكار أو تجاهل كل ذلك؟ أم نعتبر ذلك كُلّه حصل مصادفة و في توافق عجيب من غير أن يكون له صانع و مدبّر، و نؤمن بأنَّ كل شيء جاء من غير مادّة وصورة سابقة؟ و هل يُصدّق أنّ الوجود بكل عظمته قد حصل بلا صانع؟ و كل شيء فيه يسير في اتجاه مرسوم له ولتحقيق هدف معيّن، من غير أن يكون هناك مهندس وضع له تصميمه وهندسته؟ و هل يصدق أحد أنّ طائرة مثلاً تُصنع من غير هندسة وتصاميم وتطير في الهواء وتقطع المسافات و تنقل الركّاب؟ و هل يصدّق أحد أنّ البواخر التي تمخر عباب البحار والمحيطات ظهرت من تلقاء ذاتها و أنها تسير من غير ربّان، و تعرف من تلقاء ذاتها الموانىء التي يجب أن ترسي فيها و تحمل البضائع والركَّاب و تنقلهم حيث ما ينبغي نقلهم؟ و هل يتقبّل العقل أنّ موجودات عجيبة و معقّدة كالإنسان ظهرت إلى الوجود ذاتياً و لم يكن لها خالق و مدبّر؟ كيف يمكن القبول بأنّ عالماً بهذه العظمة، من تنوّع الموجودات، يظهر إلى الوجود و يسير ملايين السنوات في مدار صحيح، و يتدبّر أمره من غير وجود مدبّر حكيم؟

معرفة اللّه أمر فطري

تمثّل أعمال و تصرفات كل إنسان مظهراً لمعرفته و ميوله الباطنية. و نحن نستطيع أن نعرف من خلال تصرف كل إنسان و طريقة تعامله و نمط معيشته، عقيدته و أهدافه. كما أنّ الآثار المتبقية من الإنسان القديم، تقدّم لنا دليلاً قاطعاً على أنّ الإنسان كانت له ميول بالإضافة إلى حاجته للمتطلبات المادية من قبيل الماء والنوم والتعليم و غير ذلك حاجات

ص:87

معنوية أيضاً، و هذه الميول كانت من الدوافع التي تدفعه للقيام بفعاليّاته. فالحضارات انعكاس لمتطلبات البشر المادية والمعنوية. و هناك علامات و آثار مستفيضة من الأُمم الماضية تدلّ على أنّ المجتمع البشري كان مولعاً بذات مقدّسةٍ غير متناهية و كان يعبدها، و ظهور الحضارات يؤيّد هذا الأمر. و هذا الميل الباطني موجود عند الانسان المعاصر أيضاً، و هو مجبول عليه بصورة ذاتية و من دون أيِّ تعليم، و على الرغم من أنّ هذا الميل الباطني قد يتضاءل بمرور الزمن، بتأثير الاحتياجات المتنوعة، أو قد يشبع الإنسان هذا الميل الباطني لديه بالتوجّه إلى رموز غير واقعية.

وجود اللّه واحد من هذه الميول والتوجُّهات الباطنية. والفطرة السليمة تذعن بوجود ذات غير متناهية حكيمة و مقدّسة ذات قدرة و علم كامل. وخير مثال على هذا ما جاء في القرآن الحكيم: (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ) (1) و كذلك الأمر بالنسبة إلى خلق العالم (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) .(2)

تكشف الحوادث العصيبة والمآزق والمخاطر التي يتعرض لها الإنسان عن هذا الميل الباطني بوضوح. و توجد في القرآن الكريم آيات متعددة تحكي لسان حال أُناس أُحيط بهم في وسط البحر الهائج المتلاطم الأمواج، و قد أشرفوا على الغرق و ليست لديهم أية وسيلة للنجاة؛ في تلك الحال يُظهِر هؤلاء ما يكمن في صدورهم و يطلبون الغوث والنجاة من اللّه العظيم. كما جاء في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ) .(3)

الفطرة: عبارة عن مجموعة من الخصائص التي ولدت مع الإنسان منذ بدء الخليقة. في أعماق كل إنسان هناك توجهات إلى المعارف والاعتقادات والميول أرقى من تلك الموجودة عند المخلوقات الأُخرى، من قبيل حُبّ الخير والفضيلة، والانشداد إلى الكمال،

ص:88


1- - سورة الزخرف (43)، الآية 87.
2- سورة الزخرف (43)، الآية 9.
3- سورة يونس (10)، الآية 22.

والميل إلى الحبّ والعبادة. و هذه نماذج من الفطرة الإنسانية هي التي تشكل أساس القيم الإنسانية؛ حيث تتيح هذه القيم للإنسان إمكانية الإستعانة بهذه الهداية الباطنية - طالما لم يستحوذ عليه الكفر والشرك، والضلال ورَيْن الذنوب - للسير نحو السعادة والفوز. و من ضمن الميول الفطرية عند الإنسان التوجه إلى اللّه و عبادته. و معرفة اللّه الفطرية تعني: أنّ كل إنسان و حسب تكوينه الوجودي يعرف اللّه من غير تعليم. و هذا الأمر لاينبثق من فهم عقلي بل منشؤه القلب والرغبة والميل الباطني.

نزعة الانشداد إلى اللّه أمر فطري مغروس في وجود الإنسان، و هو نوع من الانجذاب المعنوي، يعني أن الإنسان جبل على نحو لايستغني معه عن العبادة. و لهذا ترى أنّ جميع الناس يمارسون العبادة بشكل أو آخر. و هذا يدلّ على أن العبادة جزء من الفطرة البشرية، أي إنَّ البشر - بالفطرة - له ميل ورغبة في التقرّب إلى شيء مقدس و منزّه و عظيم. و هذا الميل موجود عند جميع البشر.

عندما ندقق في الحالات النفسيّة للإنسان ندرك أنّه محب للحُسن والكمال، و هو لايقف عند حدٍّ معيّن أو محدود في حبّه للكمال. بل يتطلع الى أعلى مراتب الكمال؛ لأنّه مولع بالكمال المطلق و لايكتفي بالمرتبة التي يصل إليها.

إنّ الإنسان و بحسب تكوينه الروحي الخاص خُلق مجبولاً على البحث عن اللّه.

الرغبة إلى اللّه و عبادة اللّه مغروستان في ذات الإنسان فطريّاً، وهما تمثّلان نوعاً من الانجذاب المعنوي بين قطبين هما: قلب الإنسان و مشاعره من جهة، و مركز الوجود (أي المبدأ الأعلى والكمال المطلق) من جهة أُخرى.

في سريرة و فطرة كل إنسان هناك ميل إلى اللّه، مثلما توجد المعرفة الحضوريّة التي لاتحتاج إلى واسطة بالنسبة لذاته المقدّسة، أي إنّ الإنسان - و بدون تعلُّم - يستشعر في عمق باطنه و بصورة جليّة بأنه مشدود إلى وجود متعالٍ كاملٍ قائمٍ بذاته، و أنه يصل إلى الرشد والمعرفة والكمال تحت علم و تدبير و ربوبيّة ذلك الوجود المتعالي، و هذه هي أوّل مرحلةٍ من مراحل الهداية التي غرست تكوينياً في سريرة الإنسان. وتُعتبر هذه المرحلة من مراحل الهداية الإجمالية. حيث إن الهداية التفصيلية يمكن إدراكها عن طريق العقل

ص:89

والشرع. و ذلك لأنَّ أي ميل يستلزم وجود نوع من التوجّه والعلم بالنسبة للشيء الذي يميل إليه.

عندما يكون هناك شعور باطني لدى الإنسان بالميل إلى اللّه، فلابّد أن تكون لديه معرفة به، و إلّافلا يمكن أن يكون هناك ميل إلى مجهولٍ مطلق، و لايمكن أن يميل الإنسان إلى شيء ليس لديه أيُّ علم به.

هذه النزعة الذاتية لدى الإنسان تتجلى بشكل أوضح في الشدائد والظروف العصيبة، مثلما هو الحال بالنسبة إلى من يركبون سفينة و يأتيها الطوفان فيدعون اللّه عن إخلاص و يطلبون منه النجاة (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) . (1)(وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) .(2)

صفات اللّه

اشارة

للّه صفات و أفعال يمكن للبشر معرفتها، و إن كانت هذه المعرفة معرفة محدودة. طبعاً ذات اللّه لايمكن معرفتها، و لكن صفاته و أفعاله المتجسّدة في هذا العالم، يمكننا فهمها و معرفتها.

يروي عبدالرحيم بن عتيك القصير: كتبتُ على يدي عبدالملك بن أعين إلى أبي عبداللّه عليه السلام: «أنّ قوماً بالعراق يصفون اللّه بالصورة و بالتخطيط، فإن رأيت - جعلني اللّه فداك - أن تكتب إلي بالمذهب الصحيح من التوحيد. فكتب إلي: سألت - رحمك اللّه عن التوحيد و ما ذهب إليه من قِبَلَك، فتعالى اللّه الذي ليس كمثله شيء و هو السميع البصير، تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبّهون اللّه بخلقه المفترون على اللّه، فاعلم - رحمك اللّه - أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه جلّ وعزّ، فانف عن اللّه تعالى البطلان والتشبيه، فلا نفي و لاتشبيه».(3)

إنّ أفضل طريق لمعرفة صفات اللّه، هو الرجوع إلى المصادر الدينية. و مع أنّ اللّه هو

ص:90


1- - سورة العنكبوت (29)، الآية 65.
2- سورة لقمان (31)، الآية 32.
3- الكليني، الكافي، ج 1، ص 100، الحديث 1.

مصدر لكل صفات الكمال، و لكن لايحق لأيِّ أحد أن يصفه بما يشاء من الصفات.

يوصف اللّه سبحانه بنوعين من الصفات: الصفات السلبية والصفات الثبوتية.

الصفات السلبية أو الجلالية: و هي الصفات التي يتنزّه عنها اللّه و لايتّصف بها، كأن يكون ممكن الرؤية أو أن يكون جسماً، أو أن يتّصف بالجهل أو أن يحتاج إلى النوم والطعام، أو أن يكون موضعاً للحوادث و....

الصفات الثبوتية أو الجمالية: و هي الصفات المعبّرة عن كمال اللّه، و يمكن أن نجمع بين هذين النوعين من الصفات (السلبية والثبوتية) فنقول: إنَّ اللّه جامع لكل الكمالات، و لذا فلا نقص و لاعيب فيه.

و هناك تقسيم آخر لصفات اللّه، و هي أن تُقسّم إلى ذاتية و فعليّة.

الصفات الذاتية: و هي الصفات المرتبطة بذات اللّه والمختصة بها و لاتقبل الإنفكاك عنها، مثل العلم والقدرة والحياة.

الصفات الفعلية: و هي الصفات المرتبطة بأفعال اللّه، و هي الصفات المنتزعة من فعل اللّه، والتي قد انتُزعت من موضوع الفعل. و بالطبع فإنَّ جميع صفات اللّه عين ذاته و لاتلحق به من الخارج.

والاختلاف بين هذين القسمين من الصفات، هو أنّ الصفات الذاتية هي دائماً عين ذاته، والصفات الفعلية منبثقة من الذات أيضاً، و لكنَّها متوقفة على تحقُّق الفعل في الخارج مثل الخالقية والرازقية و....

يتّصف اللّه بجميع صفات الكمال و ليس فيه أيُّ نقص: فوجود أي نوع من النقص أو عدم وجود الكمالات اللازمة في اللّه، يعني أنه لايتّصف بالصفات اللازمة لأن يكون إلهاً، والحال أنّه إله، إذاً فهو يتّصف بجميع صفات الكمال.

قرب اللّه

بسبب الوجود غير المتناهي للّه، فهو حاضر في كل مكان، و لايمكن أن ننسب له نسبة

ص:91

القرب أو البعد (وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) . (1) و لذا فإنّ الآيات والروايات التي تحثّ على السعي للتقرُّب إلى اللّه جاءت لتحثّ الإنسان على السعي ليكون محبوباً عند اللّه و حبيباً له. و أن يشعر بأنّه قريب إلى اللّه و في رعايته، و إلّافإن الجميع خاضعون لسنن ربِّ العالمين و تحت نظره.

جاء في روايةٍ أن معنى الآية (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (2) هو أنّ اللّه قريب من جميع الموجودات على حدٍّ سواء، و هذا يعني أن قربه جلَّ وعلا من شيء لايعني بعده عن شيء آخر. ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: إستوى من كل شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء.(3)

و قال عليه السلام: استوى في كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء لم يبعد منه بعيد و لم يقرب منه قريب. استوى في كل شيء.(4)

عدم رؤية اللّه

يشير القرآن بصراحة إلى أنَّ اللّه لايُرى (ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) .(5)

للإنسان بُعدان: مادي و معنوي. و في وجود الإنسان ميول غير مادية أيضاً، و لكن بما أنّ البشر بالدرجة الأُولى مولود عالم الطبيعة و هو مستأنس بها، لذا فإن ميله إلى المظاهر الطبيعية أكثر و أقوى. فهو يقبل بسهولة الأشياء المحسوسة والمرئية والخاضعة للتجربة، أمّا الأُمور غير المحسوسة والتي يحتاج إثباتها إلى برهان و دليل فإن قبولها يكون بصعوبة و بعد تردد و تأمّل.

مع أنّ البشر باحث عن اللّه فطرياً، و يؤمن بقوى ما وراء الطبيعة والغيب، و لكنّه يسعى

ص:92


1- - سورة ق (50)، الآية 16.
2- - سورة طه (20)، الآية 5.
3- الكليني، الكافي، ج 1، ص 128، الحديث 7.
4- الكليني، الكافي، ج 1، ص 128، الحديث 8.
5- سورة الأنعام (6)، الآيتان 102 و 103.

إلى أن يُبدّلها إلى رموز طبيعية. و لهذا فقد اصطنع لنفسه أشكالاً من الخشب والحجر والمواد الطبيعية و أخذ يقدّسها. إنّ قيام الإنسان بهذا العمل نابع من هذه الذات التي فيه والتي تبحث - بطبيعتها - عن الكمال والتعالي. فهو يُحب أن يكون له ربٌّ جليل و أن يعبده، و في الوقت نفسه يستطيع الوصول إليه والإحساس به...

النزعة الحسية عند الإنسان دفعته إلى اتخاذ أشياء طبيعية كمظاهر ترمز الى قوى ما وراء الطبيعة. و قد أدّى المزج بين هذه النوازع الذاتية الجامحة و مظاهر الطبيعة إلى ظهور الشرك. و يعود سبب ذلك طبعاً إلى رغبته في رؤية الأشياء التي يرغب فيها و يميل إليها.

و هو يحمل مثل هذا التصوّر عن اللّه أيضاً؛ إذ يَظنّه مرئياً و ملموساً و حسيّاً.

ذكر اللّه عزّوجلّ عن بني اسرائيل أنهم قد شاهدوا معجزات كثيرة على يد النبيّ موسى عليه السلام، غير أنّهم رغم كل ذلك طلبوا منه أن يريهم اللّه (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) . (1) و جاء في قسم آخر من قصّتهم بأنهم ما إن أنجاهم اللّه من ظلم آل فرعون، و فلق لهم البحر ليعبروه، و أهلك من لاحقوهم، وقعت أبصارهم على قوم كانوا يعبدون الأصنام، فاستهواهم ذلك العمل و طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً مثل إله هؤلاء القوم: (وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) .(2)

عند الحديث عن عدم القدرة على رؤية اللّه أو بعبارة أُخرى: لماذا لم يكن اللّه مرئياً؟ لابُدّ من أخذ عدة ملاحظات بنظر الاعتبار:

1 - أن إدراك الإنسان محدود. فالعين تستطيع رؤية الأجسام في ظروف معيّنة كأن تكون على درجة معيّنة من الوضوح والقرب والحجم. فالأجسام الصغيرة لايمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، و كذلك الأشياء البعيدة والأشياء التي لم تُخلق بَعد. فلابّد إذاً من توفّر بعض الشروط لرؤية أو لمس أو سماع أو شمّ الأشياء. و من غير المنطقي إنكار وجودها بسبب عدم توفر الظروف المناسبة، أو عدم مقدرة الحواس على أن تقوم بدورها، أو بسبب

ص:93


1- - سورة النساء (4)، الآية 153.
2- سورة الأعراف (7)، الآية 138.

وجودها خارج نطاق الحواس.

الحواس أشبه شيء في عملها بشبكة صيد الأسماك. فشبكة الصيد تستطيع صيد الأسماك في ظروف معيّنة، كأن تتصف بالقدرة على صيد أسماك بأحجام مختلفة، و أن تكون هناك أسماك في متناولها. فحتى أفضل الشباك لاتستطيع صيد سمكة واحدة في البر.

أو إذا أُلقيت في البحر شبكة كثيرة الشقوق فهي أيضاً لاتصيد سمكاً. فهل يمكن في مثل هذه الظروف الجزم بعدم وجود السمك. فانعدام التناسب المنطقي بين الأشياء و بالنتيجة عدم الترابط الصحيح بينها لايعدُّ دليلاً على عدم الوجود.

2 - كلُّ حاسة من حواس الإنسان تعمل ضمن النطاق الخاص بها. و من العبث ان يُرتجى منها ما هو ابعد من ذلك. والحواس تستطيع إدراك الأُمور المادية فحسب. واللّه ليس مادة.

3 - الحواس مجرّد وسائل، و أمّا مهمّة تحليل المعلومات التي تأتي عن طريق الحواس، فهي من واجب النفس. فالمعلومات القادمة عن طريق العين تنعكس في الذهن وبَعد ذلك تحصل عملية الرؤية و يتحقق الإدراك. إذاً فالحواس مقدّمة لعمل الذهن.

4 - هناك كائنات كثيرة في هذا الوجود لايراها الإنسان و لكنّه في الوقت ذاته يوقن بوجودها، كالهواء، والجاذبية، والمجال المغناطيسي، والتيار الكهربائي، والعواطف، والمحبّة، والعداوة، والحقد، والحسد، والعقل و غيرها، و لكن لايمكن لمسها أو رؤيتها أو تذوّقها و ما إلى ذلك. و إنّما يُفهم وجودها من خلال معطياتها و نتائجها.

5 - إضافة إلى الحواس الظاهرية يتمتّع الإنسان بحواس أُخرى أيضاً. و مثلما ندرك المحسوسات بالعين المجرّدة، نستطيع استشعار الأُمور غير المحسوسة بالحواس الباطنية.

نذكر من ذلك مثلاً أننا نستطيع إدراك بعض الحقائق عن طريق القلب إذا طهُر من اقتراف الذنوب. قال يعقوب بن إسحاق: كتبتُ إلى أبي عبداللّه عليه السلام أسأله كيف يعبد العبد ربّه و هو لايراه؟! فوقّع عليه السلام: يا أبايوسف! جلّ سيدي و مولاي والمنعم عليَّ و على آبائي، أن يُرى. قال: و سألته هل رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ربّه؟ فوقّع عليه السلام: إن اللّه تبارك و تعالى أرى

ص:94

رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب.(1)

و جاء في رواية أُخرى أنّ رجلاً من الخوارج دخل على الإمام الباقر عليه السلام فقال له: يا أباجعفر، أيَّ شيء تعبد؟ قال: اللّه، قال: رأيته؟ قال: لم تره العيون بمشاهدة العيان، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لايعرف بالقياس، و لايدرك بالحواس، و لايشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لايجور في حُكْمه، ذلك اللّه لا إله إلّاهو. قال: فخرج الرجل و هو يقول: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.(2)

(3)

و روي أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: جاء حبر إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال:

يا أميرالمؤمنين، هل رأيت ربَّك حين عبدته؟ فقال: ويلك، ما كنت أعبد ربّاً لم أره. قال:

و كيف رأيته؟ قال: ويلك، لاتدركه العيون في مشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.(4)

قدرة اللّه

القدرة: هي استطاعة فعل شيء أو تركه. والباري تعالى يتحلّى بمثل هذه الصفة. و هي فيه على درجة من الوضوح بحيث لاتحتاج إلى إثبات؛ فاللّه كُلّه علم و قدرة. والآثار التي تدل الإنسان على وجود اللّه تدلّه أيضاً على قدرته. و هو تعالى خالق العالم، والخالق لايمكنه أن يخلق بلا قدرة. هذا من جانب، و من جانب آخر، إن لم يكن اللّه قادراً فمعنى ذلك أنه ناقص و يفتقد الكمال.

في مخلوقات اللّه عجائب دالّة على أنّ لخالقها قدرة تفوق القدرة العادية. فهو ذو قدرة بحيث أنّه يستطيع فعل كل شيء: (إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) .(5)

و رغم أنّ القدرة الإلهية مطلقة غير أنّها قد لاتتعلق ببعض الأُمور. فالمفاهيم التي نعرفها تُقسم من حيث تعلّق القدرة إلى عدّة أنواع: فهناك أشياء يمكن القيام بها بسهولة، و فعلها

ص:95


1- الصدوق، التوحيد، ص 108، الحديث 2.
2- سورة الأنعام (6)، الآية 124.
3- الصدوق، التوحيد، ص 108، الحديث 5.
4- المصدر السابق، ص 109، الحديث 6.
5- سورة البقرة (2)، الآية 148.

يتوقف على التناسب بين صاحب القدرة و ذلك الشيء. فالشخص العادي يستطيع حمل وزن عادي في الظروف الاعتيادية، و لكن هناك أشياء تفوق قدرته كأن يتكوّن الوزن من عدّة أطنان.

و هناك أشياء لايمكن وقوعها؛ بمعنى أنها ذاتياً غير قابلة للتحقق. جاء في رواية أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام سُئل: هل يقدر ربُّك على أن يُدخل الدنيا في بيضة دون أن يصغّر الدنيا أو يكبّر البيضة؟ فقال: ويلك إنّ اللّه لايوصف بالعجز والذي سألتني لايكون.(1)

علم اللّه

اللّه عليم مطلق: (وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ) . (2) و هو تعالى يعلم بالمخلوقات قبل خلقها و بَعده. و علمه لايقتصر على ما هو ظاهر من أُمور العالم، و إنّما لديه علم تام بما هو خاف منها أيضاً: (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) .(3)

إنّ إحاطة اللّه بكلّ شيء و علمه المطلق، يعني أنه لاتخفى عليه خافية. فهو في كل مكان و قبل كل شيء. و ما يُعتبر غيباً بالنسبة لنا إنّما هو مكشوف عند اللّه، و هو محيط بتفاصيل كل شيء و إلّافإنّه إن لم يكن كذلك يوصف بالجهل. و هذا طبعاً يتعارض مع كماله.

و نسبته إلى الأشياء متساوية، و علم الغيب والشهادة عنده سبحانه على حدّ سواء.

(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) .(4)

عدل اللّه

العدل: هو وضع كل شيء في موضعه المناسب. والقاضي إذا حكم بإعطاء صاحب الحق حقّه يوصف حُكْمه بالعدل؛ لأنه جعل الحق في موضعه المناسب. والعدالة التي تشترط في إمام الجماعة من اجتناب الكبائر و عدم الإصرار على الصغائر، تنطوي على هذه الحقيقة

ص:96


1- الصدوق، التوحيد، ص 130، الحديث 10؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 4، ص 143.
2- - سورة البقرة (2)، الآية 282.
3- سورة البقرة (2)، الآية 33.
4- سورة سبأ (34)، الآية 3.

أيضاً. و ذلك لأنَّ المعصية خروج عن المسار الذي رسمه اللّه. و في ضوء التعريف السابق للعدالة، فإنّ اللّه عزّوجلّ عادل. و هو يفعل العدل في حُكْمه بين الناس: (وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) .(1)

لصفة العدل أهمّية تفوق سائر صفات اللّه، لسببين:

1 - أن كان كل شيء في الكَوْن من فعل اللّه، و هو الذي يخلق أفعال الناس، فلماذا يحاسبهم عليها؟ فما توجيه ما وعد به من شديد العذاب و ما علاقة ذلك بعدله؟ و هل من المعقول أن يجبر اللّه الناس على الظلم والقبائح، و يخلقهم بالشكل الذي يجعلهم يرتكبون هذه الآثام ثم يحاسبهم عليها؟.

2 - هناك تفاوت بين الناس لايمكن إنكاره، من حيث تكوينهم الجسمي و من حيث وضعهم المعاشي. فالبعض مصاب بعاهات جسدية و آخرون يعانون من آلام و مصاعب، و قسم من الناس يموت مبكّراً، والبعض يقع تحت تسلط الظلمة والجبابرة فلا يهنأ في حياته و لايتذوق طعم السعادة. فلماذا خلق اللّه هذه الحالات؟ فكيف تجتمع العاهات والشقاء والظلم مع العدل؟ فلو كان هناك موجود آخر غير اللّه يخلق الشرور والقبائح فذلك يستلزم الشرك و نسبة النقص إلى اللّه، و إن كان اللّه تعالى هو الذي خلقها وارتضاها فهذا لايتماشى مع عدله، و لابُدّ أن يكون ناجماً عن نقص فيه.

فهاتان القضيّتان جعلتا صفة العدالة عند اللّه تختلف عن سائر صفاته، الأمر الذي أدّى في النهاية الى وقوع جدل بين المسلمين حول عدل اللّه.

أمّا بالنسبة إلى القضية الأُولى: فلاشكّ في أنّ اللّه هو خالق كل شيء، و من ذلك أنّه هو خالق الإنسان و فعل الإنسان. فهو تعالى السبب الأساسي لكلّ حادثة و لكل موجود، و لكن الناس لديهم أيضاً قدرة على التصميم والإرادة، وهم يفعلون أفعالاً حسنة أو قبيحة بإرادتهم؛ و بذلك يسجّلون لأنفسهم بأيديهم مصيراً حسناً أو سيّئاً.

لقد خلق اللّه الإنسان حرّاً و أودع فيه حريّة الاختيار، لكي يختار بإرادته الحق أو

ص:97


1- سورة آل عمران (3)، الآية 182.

الباطل. و على هذا، فإنّ اقتراف القبائح إنّما هو من فعل الناس أنفسهم، و يقومون به بإرادتهم وهم مسؤولون عن عملهم. و طالما كان الأمر كذلك، يتضح أنّ ثواب المحسنين وعقاب المسيئين أمر منطقي و موجّه. و هذا أقل ما يرتجى من إلهٍ حكيم و عادل. فاللّه لايجبر أحداً على فعل، لكي لايبدو عمله قبيحاً فيما لو عاقب أحداً على سوء فعله.

إذا ارتكب الإنسان المعاصي، واقترف فسقاً و فجوراً، وهضم حقوق الآخرين و ظلمهم من جهة، و قام بأعمال حسنة من جهة أُخرى، كأن قام بمساعدة المحتاجين و بادر إلى فعل الخيرات، فان أُخذت هذه الأعمال على حدٍّ سواء و لم يُجاز على الحُسن و على القبيح من أفعاله، فإنّ هذا الحال لايتناسب مع عدل اللّه و لاينسجم مع حِكمته. فَهل من العدل أن يستوي من يفعل السيئات و يظلم مع من يفعل الخيرات ويُحسن؟ و هل يستوي المحسنون والمسيئون؟ و هل من الحكمة أن يتساوى من يتحمّلون المشقّة و يؤدون ما عليهم من تكاليف و فرائض و يجتنبون اللذائذ المحرّمة، مع المتهتّكين والظلمة والفُسّاق؟ العقل يحكم بأنَّ مثل هذا التساوي بعيد عن العقل والحكمة.

و أمّا بالنسبة إلى القضية الثانية: فإنّ ما يعانيه البعض من عاهات و ما يقع لبعضهم الآخر من موت مبكّر، و ما يوجد بين الناس من تفاوت في القدرات والمؤهّلات و ما شابه ذلك، فهي أُمور تعود إلى ما يقع في العالم من وقائع وتغيّرات. إنّ اللّه هو المصدر الأساسي لكل التحوّلات والأحداث في العالم، و لكنّ هذه التحوّلات تقع ضمن قواعد وسنن. أي أنّ اللّه خلق العالم ليسير في إطار مجموعة من الأسباب والمسبّبات. فكل علّة تنتج معلولها حسب مقتضياتها. فإن تَمّت الظروف والمقتضيات يأتي المعلول تاماً و متناسباً مع علّته، و إلّافإنّه يأتي ناقصاً. فالعاهات البدنية، والموت المبكر، والآلام والأمراض، والمعاناة، تأتي كلها نتيجة لتفاعل عوامل طبيعيّة، و قد جُعلت العوامل الطبيعية في نظام الخلقة لتقدّم معطياتها بشكل شمولي، و عند التعارض مع بعضها يتضرّر المعلول بالعامل الغالب و يحصل النقص.

و علاوة على ذلك، فإنّ ما يعطيه اللّه فهو من جوده و فضله. والإكثار أو الإقلال في العطاء للبعض خاضع لمدى استيعابهم و للظروف المحيطة بهم. و ما يقع لبعض الناس من

ص:98

مساوىء لايُعزى إلى اللّه، و إنّما إلى الظروف التي يعيشون فيها.

و خلاصة الكلام هي أنّ العدل يصدق حيثما يكون لأحد حق و يجب أداء حقّه له، و إذا لم يُعط فهذا ظلم و عدم التزام بالعدل. إنّ الباري عزّوجلّ حينما يُعطي الناس إنّما يعطيهم بجوده و فضله. و هذا يعني أنّ ما لدى الأفراد و ما يفتقرون إليه غير ناجم عن عدم عدل اللّه و إنّما سببه شيء آخر.

التوحيد

اشارة

التوحيد: هو الاعتقاد بوجود مبدأ واحد لهذا الكَوْن. ويُطلق هذا الاصطلاح على اللّه وحده دون سواه، للدلالة على ماله من وجود أزلي و أبدي و أنه لا شريك له و لا هو مركب لا من حيث الذات و لا من حيث الصفات، و يتّصف بالعلم المطلق والكمال المطلق. و لايمكن تصوّر أيِّ نوع من الارتباط والاحتياج بشأنه. و هو عبارة عن ذاتٍ حاوية لكل الكمالات.

و هو مدبّر عالم الوجود، و بإرادته وتقديره ظهرت الموجودات، و هي تسير في نظام متناسق وفقاً لمشيئته.

و يقع في مقابل التوحيد، الشرك. و للشرك مظاهره التي منها الثنوية والتثليث، و تعدد الآلهة. فالثنوية ترى أنّ للوجود مبدأين: مبدء الخير و مبدء الشر. أمّا التثليث فيؤمن بأنَّ مبدأ الوجود واحد، و لكنّه في الوقت ذاته ثلاثة، و أنّ الأقانيم الإلهية ثلاثة، و لكل واحد منها مرتبة الإله، و أنّ الأب والإبن و روح القدس هم اللّه. و مع أنهم يقولون إنّا نعتقد بجوهر واحد لا أكثر، و لكنّ قولهم هذا يستدعي القول بالكثرة العددية للّه. و كان هناك أقوام يعتقدون بوجود آلهة بعدد أنواع الكائنات و كانوا يعبدونها، حيث كانوا يؤمنون بوجود الكثير من أرباب الأنواع و أنّ لكل شيء ربّه النوعي. و هذه المعتقدات كلها شرك و لاتتفق مع التوحيد. فالتوحيد هو الاعتقاد بوجود إلهٍ واحد في كل الجوانب والمجالات.

ص:99

المراد من وحدانية اللّه

المراد من وحدانية اللّه هي أنّه واحد لايقبل التقسيم، و صفاته عين ذاته و لاتعدد فيها.

و وحدانيّته في الأُلوهية أنه لا شريك له في العبادة. و قدرته و علمه و حياته ليست كقدرة و علم و حياة الآخرين؛ لأنّ صفات اللّه عين ذاته.

أمّا تقسيم صفات اللّه و فصلها عن ذاته، فهو من عندنا و نحن نقوم به في مقام المعرفة، و أمّا هو تعالى فلا يقبل التعدد والتقسيم: (وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) .(1)

والمقصود بأنّ اللّه واحد ليس الوحدة العددية التي نطلقها على سائر الأشياء، فالوحدة العددية والكثرة المنبثقة عنها من صنع اللّه؛ و ذلك لأَنَّ العدد يستلزم المحدودية بينما الذات الإلهية مطلقة في جميع الكمالات و لا محدودية لها (وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ) ، (2)(وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) ، (3)(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) ، (4)(أَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) .(5)

فهذه الآيات و غيرها من الآيات المشابهة لها تدلّ على ذات اللّه المطلقة و صفاته الكمالية، و أنه لا شريك له و لا شبيه لا في الذات و لا في الصفات. و لهذا فلا معنى للوحدة العددية بشأنه؛ لأَنَّ أيَّ وجود و كمال في الأصل للذات، و ما لايفترض وجود ثان له لايوصف بالعدد، لأنَّ العدد دليل على المحدودية.

ذكروا إنَّ أعرابياً قام يوم الجمل إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال: يا أميرالمؤمنين أتقول: إنّ اللّه واحد؟ قال: فحمل الناس عليه، قالوا: يا أعرابي، أما ترى ما فيه أميرالمؤمنين من تقسّم القلب، فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: دعوه، فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: يا أعرابي، إنّ القول في أن اللّه واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لايجوزان على اللّه عزّوجلّ، و وجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لايجوزان عليه، فقول القائل: واحد يقصد به

ص:100


1- سورة البقرة (2)، الآية 163.
2- - سورة الرعد (13)، الآية 16.
3- - سورة الروم (30)، الآية 54.
4- سورة البقرة (2)، الآية 165.
5- سورة النور (24)، الآية 25.

باب الأعداد، فهذا ما لايجوز، لأن ما لا ثاني له لايدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال: ثالث ثلاثة.(1) و قول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لايجوز عليه، لأنّه تشبيه، وجَلّ ربنا عن ذلك و تعالى. و أمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربُنا، و قول القائل: إنه عزّوجلّ أحَدِيُّ المعنى، يعني به أنه لاينقسم في وجود و لا عقل و لا وَهم كذلك ربنا عزّوجلّ.(2)

مراتب التوحيد

من أعمق المباحث في باب المعارف هو بحث التوحيد. و يختلف فهم التوحيد تبعاً لاختلاف أفهام الناس. و رغم كل ذلك فالناس حسبما تملي عليهم فطرتهم، متّفقة آراؤهم في أصل وجود ذات الباري تعالى. أمّا اختلاف أفهام الناس حول التوحيد، فهو أنّ البعض قد جعلوا إله هذا العالم كالأصنام والأحجار والأخشاب التي يصنعونها بأيديهم، و فهموا من دعوة الأنبياء إلى التوحيد في حدِّ الوحدة العددية: (أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ) .(3)

أمّا الصفات الكمالية التي يذهب إليها الناس في بيان ذات اللّه، فلابّد و أنّها تنطوي على المحدودية التي تطبع تلك الألفاظ. و لهذا السبب يقول اللّه عزّوجلّ: (سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ * إِلاّ عِبادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ) ، (4) و يقول أيضاً: (وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ، (5)(وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) .(6)

جاء عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: وَ لَاتُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِك فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.(7) و لعل هذا هو السبب الذي جعل الروايات تكثر من تنزيه اللّه. فكل صفة نثبتها له لابُدّ و ان يكون إلى جانبها تنزيه له؛ لأَنَّ بياننا قاصر عن الإفصاح عن

ص:101


1- - اشارة إلى الآية: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ)، سورة المائدة (5)، الآية 73 و هي حول المسيحيين الذين يعتبرون اللّه ثالث ثلاثة؛ أي اللّه، و روح القدس و عيسى عليه السلام.
2- الصدوق، التوحيد، ص 83 و 84، الحديث 3.
3- سورة ص (38)، الآية 5.
4- - سورة الصافّات (37)، الآيتان 159 و 160.
5- سورة طه (20)، الآية 110.
6- سورة الأنعام (6)، الآية 91.
7- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 91، ص 125.

وجوده المطلق.(1)

ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: «تَكَلَّموا في خَلْقِ اللّه تَعالى و لاتَتَكلّمُوا فِي اللّهِ، فَإنَّ الكلامَ فِي اللّهِ لايَزدادُ صاحِبُهُ إلاّ تَحَيُّراً».(2)

و للتوحيد مراتب، و هذا ما جعل الموحدين متفاوتين في هذا المجال، فقد يكون هناك من هم موحّدون في التوحيد الذاتي، و لكنّهم يقعون في الشرك في التوحيد العبادي و في الطاعة. فالشيطان - كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام - عَبَدَ اللّه ستة آلاف سنة،(3) و لكنه تكبّر و عصى أمر ربّه. و هذا يعني أنه لم يكن لديه توحيد في الطاعة. و على صعيد آخر قد يكون هناك من لديه إخلاص تام في العبادة، و لكن التوحيد الأفعالي غير مكتملٍ لديه. ثم إنّ هناك الكثير ممّن يكثرون من العبادة والذكر والتسبيح، و لكنهم ضعفاء في التوكل عليه والاستعانة به، و عدم التعويل على ذوي الجاه والمنصب والمال.

و خلاصة القول هي أنّ الموحّد هو من يؤمن بأن اللّه واحد و يخضع تعظيماً له، و لايتّكل إلّا عليه، و يوقن بأنَّ كل شيء منه، و ليس في الوجود ما يضاهيه أو يضارعه.

المرتبة الكاملة للتوحيد

للتوحيد - بما يعنيه من الاعتقاد بوحدانيّة اللّه - مراتب. و مرتبته الكاملة هي الإيمان بأن للّه العلم والقدرة والكمال والخلق والرزق والإحياء والإماتة، و أن الخضوع والعبادة له وحده، و أن لايتذلل الإنسان و لايمرّغ خدّه في التراب لأحدٍ سواه، و ان لايرجو إلّارحمته، و لايخشى إلّاسخطه.

و أمّا على صعيد العقيدة والعمل فيجب الخضوع والانصياع له وحده. و هذا ما نقل عن أميرالمؤمنين عليه السلام في قوله: «و كمال توحيده الاخلاص له».(4) و ينص القرآن على أنّ أيّة

ص:102


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطب 152 و 163 و 186؛ الصدوق، التوحيد، ص 308، الحديث 2؛ الكُليني، الكافي، ج 1، ص 138، الحديث 3؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 4، ص 304؛ المفيد، الاختصاص، ص 236.
2- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 92، الحديث 1.
3- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192، ص 287.
4- - المصدر السابق، الخطبة 1، ص 39.

طاعة عمياء لغير اللّه شرك و مخالفة للتوحيد. فبعض أهل الكتاب الذين أسلموا قيادهم لعلمائهم من غير تروٍّ، اعتبر القرآن عملهم هذا بمثابة عبادة لغير اللّه، و قال في وصفهم:

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ) .(1)

الأدلّة على وحدانية اللّه

1 - الانتظام والانسجام يدلّان على وجود منهج متناغم مع ظروف جميع المجالات والقطاعات. فلو كان في هذا الكَوْن مدبّران لشؤونه لاختلّ النظم فيه قطعاً؛ لأن كلّ واحد منهما يريد العمل وفقاً لإرادته. إذاً فالانتظام والانسجام اللّذان يحكمان هذا الكَوْن الفسيح، و عدم وجود أيِّ خلل أو عيب فيه، يدلّان على وجود مدبّر واحد يديره بدقّة و إتقان.

و هذا العالم الذي نعيش فيه يتّصف بمثل هذا الانسجام والاتقان؛ و هناك تناسق تام بين موجوداته. فكلّ واحد منها في موضعه الصحيح، و يكمّل كلّ واحد منها الآخر. و كل هذا يدلّ على أنّ مدبّره واحد لا شريك له.

لو كان في هذا العالم عدّة آلهةٍ، فلابّد أن تكون له - حسبما تقتضي أُلوهيته - إرادة مستقلة عن غيره، و غير منسجمة و لا متوافقة مع إرادة سائر الآلهة، و هو ما يوقع العالم طبعاً في فوضى. أي أنّ كثرة الآلهة تعني أنّ كل واحد منهم يسعى إلى تحقيق إرادته، و من الطبيعي أن تكون إرادة كل واحد منهم متعارضة مع إرادة غيره، و عند التطبيق تتعارض الإرادات و ينهار كلّ شيء في هذا العالم. ويُفصح القرآن الكريم عن هذا الاستدلال بعبارة موجزة و هي قوله تعالى: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ) .(2)

لو كان في الوجود آلهة متعددة لكان لكلّ واحد منهم مخلوقاً، ولسعى كلٌّ وراء خالقه، و لوقع العالم على أثر ذلك في تعارض، ولحاول كلّ واحد منهم - بحكم أُلوهيته المطلقة - السيطرة على العالم و إخضاع كل الكائنات لتدبيره، و هذا ما يفضي بالنتيجة إلى نشوب

ص:103


1- سورة التوبة (9)، الآية 31.
2- سورة الأنبياء (21)، الآية 22.

صراعات، و يفضي إلى توقّف النظم في العالم فينهار و يتلاشى. و قد رسم الباري تعالى صورة يبيّن فيها مثل هذا الحال في قوله: (مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ) .(1)

جاء في رواية أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: «فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفلك جارياً، واختلاف الليل والنهار، والشمس والقمر، دلّ صحّة الأمر والتدبير و ائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد».(2)

2 - و جاء في نهاية الرواية التي نقلها هشام بن الحكم عن الإمام الصادق عليه السلام برهان أو دليل آخر على وحدانية اللّه، و هو ما يُسمّى ببرهان الفُرجة، و هو كالآتي: فإن قلت إنهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة، أو مفترقين من كل جهة، فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفلك جارياً، والتدبير واحداً والليل والنهار، والشمس والقمر دلّ صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبّر واحد، ثم يلزمك إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثاً بينهما قديماً معهما فيلزمك ثلاثة، فإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة، ثم يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة.(3)

و قد جاء في صدر هذه الرواية أنّ زنديقاً جاء إلى الإمام الصادق عليه السلام و عرض عليه أسئلة حول الوحدانية والتعددية في الآلهة، فقال له الإمام عليه السلام: لايخلو قولك إنهما اثنان أن يكونا قديمين قويين، أو ضعيفين، أو يكون أحدهما قوياً والآخر ضعيفاً، والمراد بالقويّ أن يكون قادراً على فعل الكلّ و فاعلاً له بالإرادة مع استبداده به، والمراد بالضعيف الذي لايقوى على فعل الكلّ و لايستبد به و لايقاوم القوي، فإن كانا قويين فلِمَ لايدفع كلّ منهما صاحبه و يتفرد به، أي يلزم منه عدم وقوع الفعل و إن كان أحدهما ضعيفاً فيلزم من ضعف وجوده احتياجه إلى العلّة الموجدة.

ص:104


1- سورة المؤمنون (23)، الآية 91.
2- الصدوق، التوحيد، ص 244، الحديث 1.
3- الكُليني، الكافي ج 1، ص 81، الحديث 5.

3 - الدليل الآخر على وحدانية اللّه هو عدم وجود آثار لإله آخر، و من ذلك الرسالة؛ فكل الأنبياء الذين بعثوا حتى الآن قالوا إنهم قد أُرسلوا من قبل إلهٍ واحد، و لم يظهر حتى الآن نبي يزعم بأنه مبعوث من قبل إله آخر. قال الإمام علي عليه السلام في سياق وصاياه لابنه الحسن عليه السلام: «وَاعْلَم يا بُنَىَّ! انّه لَو كانَ لِربّكَ شَريك لَأَتَتْكَ رُسُله وَ لَرأيْتَ آثارَ مُلكِه وَ سُلطانِه وَ لَعَرفتَ افعالَهُ وَ صِفاته وَ لكنَّه إلهٌ واحدٌ كَما وَصَف نَفْسَه لايضادّه في مُلكِهِ احَدٌ».(1)

4 - أن وجود إله آخر في العالم يعني وجود نقص في اللّه، و أنّ هذا الإله يفتقر إلى كمالات إلهٍ آخر، والإله الآخر يفتقر إلى كمالات هذا الإله. إذاً فكلاهما ناقصان. و من الطبيعي أنّ افتراض وجود إله ناقص يتنافى مع أُلوهيّته؛ و ذلك لأَنَّ اللّه وجود مطلق و ذات كاملة. ولو كان فيه نقص لَما أصبح أهلاً للأُلوهية.

أقسام التوحيد
اشارة

يُقسم التوحيد إلى عدّة اقسام و هي: التوحيد في الذات، والتوحيد في الصفات، والتوحيد في الأفعال، والتوحيد في العبادة. والتوحيد ليس مفهوماً دينياً و سماوياً فقط، و إنّما التوحيد الواقعي هو أن يتجلّى - فضلاً عن الاعتقاد - في السلوك الفردي والاجتماعي؛ أي في الأخلاق والعمل، و إلّافإنه يبقى شيئاً نظرياً كسائر العلوم التي تدوّن في الكتب و لايظهر له أيُّ أثر في الواقع الخارجي.

و نحن عندما نتأمل في تعاريف و مفاهيم التوحيد التي سنشرحها في ما يلي تحت عناوين التوحيد في الذات، و في الصفات، و في الأفعال، و في العبادة، نخلص إلى نتيجة مؤدّاها أنّ هذا المعنى من التوحيد لاينطوي سوى على استقلال الإنسان في مقابل قوى و آلهة التسلط والقهر في الأرض، و يمنح الإنسان شعوراً بالقوّة والاعتزاز بالذات، و هذا طبعاً من مستلزمات المجتمع المدني السليم. و بعبارة أُخرى: إنّ ما يُسمّى اليوم باسم

ص:105


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 31، ص 396.

المجتمع المدني يمكن الوصول إليه بشكل أيسر عن طريق التفكير والحياة التوحيدية الحقيقية.

1 - التوحيد في الذات

و هو يعني الاعتقاد بأن ذات اللّه واحدة لاتقبل التعددية، و لاتوجد ذات أُخرى إلى جانب ذات اللّه. روي أنّ رجلاً جاء إلى الإمام الحسن بن علي عليه السلام و قال له: يابن رسول اللّه، صف لي ربّك حتى كأني أنظر إليه، فأطرق الحسن بن علي عليه السلام ملياً، ثم رفع رأسه، فقال:

الحمد للّه الذي لم يكن له أول معلوم و لا آخر متناهٍ، و لا قبل مدرك، و لا بعد محدود، و لا أمد بحتى و لا شخص فيتجزّأ، و لا اختلاف صفة فيتناهى، فلاتدرك العقول و أوهامها، و لا الفِكَر و خطراتها، و لا الألباب و أذهانها صفة فتقول: متى، و لا بدأ ممّا، و لا ظاهر على ما، و لا باطن فيما، و لا تارك، فهلّا خلق الخلق فكان بديئاً بديعاً، ابتدأ ما ابتدع، وابتدع ما ابتدأ، و فعل ما أراد و أراد ما استزاد، ذلكم اللّه ربُّ العالمين».(1)

و روى الإمام الصادق عليه السلام، قال: خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أصحابه فقال: ما جمعكم هنا؟ قالوا: اجتمعنا نذكر ربّنا و نتفكّر في عظمته، فقال: «لن تُدركوا التفكر في عظمته.».(2)

و هذه الوصية تزيح الستار عن حقيقة، و هي أنّ إدراك الذات الإلهية متعذر؛ لأنها ذات لا متناهية، بل إنّ مثل هذه المحاولات لا ثمرة منها، و قد توقع الإنسان في ورطة فكرية مردّها عدم التناسب بين فكره و بين تلك الذات المطلقة، و هذا ما يخرجه عن حد السلوك المعتدل، و يطبع حياته بالاضطراب. و على هذا الأساس ينبغي أن يعتقد الإنسان باللّه من غير أن يفكّر في ذاته، و إنّما يفكّر في صفاته و مخلوقاته.

2 - التوحيد في الصفات

و يعني الاعتقاد بأن صفات اللّه تعالى - المتّصف بجميع صفات الكمال - هي عندما

ص:106


1- الصدوق، التوحيد، ص 455، باب النهى عن الكلام، الحديث 5.
2- - المصدر السابق، الحديث 4.

تصدر إلى الواقع عين بعضها و عين ذاته. فذاته واحدة و فيها كل صفات الكمال من علم، و قدرة، و حكمة و ما شابه ذلك، و لكنّ هذه الصفات ليست زائدة أو مضافة إلى وجود اللّه، بل إنها عين وجوده؛ و ذلك لأنّه لو كانت صفة أو مجموعة صفات متمايزة و خارجة عن ذاته، لاستلزم ذلك التركيب في ذاته، و هذا يعني أنّه يحتاج إلى مجموعة من الصفات. و هذا بطبيعة الحال يتعارض مع ذاته الغنية.

3 - التوحيد في الأفعال

و معناه أنّ كلّ ما يجري في العالم إنّما هو من فعل اللّه، و لا شريك له في أفعاله. فهو الخالق والرازق والمدبّر لكلّ الكَوْن، لايعينه أحد في أفعاله، و ليس من أحد قادر على إعانته بشيء من ذلك. و هو غني عن غيره في خلق العالم و إدارة شؤونه. و هكذا الحال أيضاً في إرسال الأنبياء و تشريع الدّين. و كلّ شيء خاضع لقدرته. و هو تعالى المؤثّر الوحيد في أعمال عباده، و لا أحد غيره يؤثّر فيها. و لهذا ينبغي أن يتوجّه إليه المؤمنون في أعمالهم: (وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً) .(1)

كما أنّ من تصرّفوا في عالم الوجود من الأنبياء عليهم السلام بإذن اللّه في مواقف خاصّة، كالنبي عيسى عليه السلام الذي صنع من الطين طيراً أو أحيا نفساً ميتة،(2) و غير ذلك، إنّما كان ذلك بإذن اللّه، و لم تكن لهم استقلالية في فعلهم. والتوحيد في الأفعال لايعني طبعاً أن لا أحد يستطيع القيام بعمل في عالم الوجود؛ لأَنَّ الناس يقومون في كلّ يوم بما لايُحصى من الأعمال، كما أنّ هناك منهم من يفعل ذلك إلحاداً و من غير اعتقاد بخالق العالم و مدبّره. إنّ التوحيد في الأفعال معناه التمسّك بالاعتقاد بأنَّ كلّ شيء في الوجود خاضع لربوبية اللّه، و لا شيء يقع خارج أمره. و على هذا الأساس فإنّ الموحّد يعتبر نفسه ملزماً بأداء أعماله في سياق مشيئة اللّه، و بالتوكّل عليه والإستعانة به.

ص:107


1- سورة الإسراء (17)، الآية 111.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 49.
4 - التوحيد في العبادة

في الرؤية التوحيدية - إضافة إلى الإيمان بوحدانية اللّه في الذات، والصفات، والأفعال - يجب الخضوع له وحده، والامتثال لأمره، وعبادته وحده. و هذا هو ما يُسمّى بتوحيده في العبادة. والتوحيد في العبادة هو آخر مراحل معرفة اللّه، و أدقّ درجات الإيمان والعبودية. فقد يكون المرء موحّداً في رؤيته، و لكنّه مشرك في فعله وسلوكه.

فإبليس كان على الصعيد النظري يحمل نظرة توحيدية، و يؤمن بوحدانية مبدىء الوجود، و يعلن عن براءته في يوم القيامة من شرك المشركين و كفر الكافرين،(1) و لكنّه عصى أمر ربّه فخرج بذلك من صفوف الموحّدين.

إنّ العبادة خاصة باللّه، و ليس لأحبّ عباد اللّه إليه نصيب من هذه العبادة، بل هم أيضاً يتعيّن عليهم عبادة اللّه. و انطلاقاً من هذا فقد لفت القرآن الأنظار إلى هذه القضية بشأن الأنبياء، و هي أنّ إنزال الكتب السماوية عليهم، وجعلهم حكّاماً بين الناس، و إعطاءهم منصب النبوّة، لايبيح لهم أبداً أن يأمروا الناس بالعبودية لهم إلى جانب عبادة اللّه: (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ...) .(2)

جاء في بيان شأن نزول هذه الآية أنّ أبا رافع القرظي اليهودي، جاء برفقة رئيس وفد نصارى نجران إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و قالوا له: أتريد يا محمد أن نعبدك و نتّخذك إلهاً؟ فقال:

معاذ اللّه أن أعبد غير اللّه أو آمر بعبادة غير اللّه، ما بذلك بعثني و لا بذلك أمرني».(3)

ربّما تكون الآية بشأن النصارى الذين قالوا بأُلوهية عيسى عليه السلام، كما ورد ذلك في تفسير علي بن إبراهيم القُمّي: إنّ عيسى لم يقل للناس إنّي خلقتكم فكونوا عباداً لي من دون اللّه، و لكن قال لهم: كونوا ربّانيين.(4)

ص:108


1- - سورة ابراهيم (14)، الآية 22.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 79.
3- الواحدي، اسباب النزول، ص 80 و ايضاً: الطبرسي، مجمع البيان، ج 1، ص 466، ذيل الآية.
4- علي بن ابراهيم القُمّي، تفسير القُمّي، ج 1، ص 106.

لقد نهى القرآن صراحة عن اتخاذ الأنبياء أرباباً: (وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .(1)

عند إلقاء نظرة إجمالية على آيات القرآن الكريم تتضح أمامنا هذه الحقيقة، و هي أنّ دعوة الأنبياء تركّز بشكل أساسي على توحيد اللّه، و توحيده في العبادة معناه اجتناب الشرك و إطاعة اللّه وحده، و خشيته: (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ) .(2)

إنّ التوحيد يعني محاربة الآلهة المزيّفة والأصنام المُنتحلة التي وضعها الطغاة للناس بهدف استعبادهم. (... أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً...) .(3)

يمكن القول بإيجاز: إنّ هدف الأنبياء هو نشر توحيد اللّه في العبادة و محاربة منتحلي الأُلوهية من دون اللّه: (وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) .(4)

هناك في عالم الوجود أُناس و كائنات لهم مكانة مرموقة، و منزلة مقرّبة عند اللّه، و قد جعل اللّه لهم مكانة كريمة بين الناس، و دعاهم إلى احترامهم وتكريمهم. و لعلّ هذه المكانة تبلغ أحياناً حدّ الأمر بالإيمان بهم مع التهديد بشديد العقاب لمن يكفر بهم. و رغم كل ذلك فإنّ تكريمهم واحترامهم لاينبغي أن يبلغ مرحلة عبادتهم، فهذا يتنافى مع التوحيد. و يجب أن يكون تكريمهم و حتى التوسّل بهم في الحدّ الذي أذن به اللّه. و قد كشف القرآن الكريم و عند حديثه عن أهل الكتاب و ما كانوا يطلقونه من تقوّلات اعتباطية بشأن أنبيائهم، عنّفهم على غلوّهم فيهم و قولهم غير الحق بشأنهم، وجعلهم في مكانة أعلى ممّا أراد اللّه لهم:

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ...) .(5)

ص:109


1- سورة آل عمران (3)، الآية 80.
2- سورة نوح (71)، الآيتان 2 و 3.
3- سورة الأنعام (6)، الآية 74.
4- سورة الزخرف (43)، الآية 45.
5- سورة النساء (4)، الآية 171.

جاء في رواية أنّ رجلاً جاء إلى رسول اللّه و قال له: يا رسول اللّه، نسلّم عليك كما يُسلّم بعضنا على بعض؟ أفلا نسجد لك؟ فقال: لاينبغي أن يُسجد لأحد من دون اللّه، و لكن أكرموا نبيّكم واعرفوا الحق لأهله».(1)

لقد كان الأنبياء والأولياء مطيعون للّه أكثر من غيرهم، و كانوا في هذا المضمار مثالاً و قدوة يحتذي بهم الناس. و كانوا يصفون أنفسهم بأنهم عباد للّه، و يفتخرون بذلك. و كان الأنبياء يحذرون أشد الحذر من أن يقول فيهم الناس بأكثر مما يتّصفون به، و كانوا يجتنبون؛ بل و يتبرّأون من أي عمل يضعف نوازع التوحيد في نفوس الناس، و يعود عليهم ولو بشائبة من شوائب الشرك.

روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: «يهلك فيَّ اثنان و لا ذنب لي: مُحبّ مفرط، و مبغض مفرّط. و إنا لنبرأ إلى اللّه عزّوجلّ ممّن يغلو فينا فَيرفعَنا فوق حدّنا كبراءة عيسى ابن مريم عليه السلام من النصارى. قال اللّه عزّوجلّ: (وَ إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ...) و قال عزّوجلّ: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ) . و قال أيضاً: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) . فمن ادّعى للأنبياء ربوبية أو ادّعى للأئمة ربوبية أو نبوّة، أو لغير الأئمة إمامةً، فنحن براء منه في الدنيا والآخرة».(2)

و خلاصة الكلام: إنّ التوحيد في العبادة على قدر عظيم من الأهمية، بحيث إنّ اللّه عزّوجلّ أوصى به و أكد عليه في آيات عديدة من القرآن الكريم، و حذّر عباده من عصيان أمره واتخاذ إله آخر بدلاً منه. لقد بيّنت الآيات المعيار الذي يُعرف به المعبود الحقيقي الذي يمكن للناس عبادته على أساس الإدراك الصحيح والفهم السليم، و من ذلك أن يكون بيده الخلق والرزق، و أفعال العباد، و إجابة دعوة المضطرين، وهداية العباد، والرحمة، والقدرة على الخلق الأول، والإماتة والبعث.(3)

ص:110


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 25، ص 262.
2- المصدر السابق، ج 25، ص 134 و 135، الحديث 6؛ و ص 272، الحديث 17.
3- سورة النمل (27)، الآيات 60-65.

افعال اللّه

نظام فعل اللّه

أفعال اللّه رهينة بإرادته. فمتى ما أراد لشيء أن يكون فإنه يكون و يتحقق في عالم الوجود: (... وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) . (1) فلو شاءت إرادة اللّه تحقق شيءٍ لايمنعها مانع، و كل ما يقع إنّما يقع بإذنه و إرادته: (وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ...) ، (2)(وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ...) ، (3)(وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً...) ، (4)(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ...) .(5)

لايستعين اللّه بشيء على تحقيق مشيئته، و لا شيء يثنيه عن تحقيق إرادته. و فعله في إيجاد العالم لايتجاوز لحظة واحدة: (وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) . (6) و فعله عزّوجلّ لايقتصر على خلق المخلوق و تركه، و إنّما يتولى تدبير شؤونه لحظة بَعد أُخرى:

(ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ) . (7) في الرؤية التوحيدية تخضع جميع الأُمور في العالم لمشيئة اللّه، و لايتحقق شيء منه بدون إرادته، بل حتى أفعال العباد كذلك (وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى...) .(8)

و فعل اللّه محيط بكل شيء بما في ذلك الأسباب والعلل، و هي لاتؤثر إلّاأن يشاء اللّه.

و رغم أنّ العلّة علّة، غير أنّ موجدها هو اللّه و لا استقلالية لها. و هذا ما يجعل كل شيء مرجعه إلى اللّه. و مع أنّ الكلام يدور أحياناً حول العلل المادية و غيرها، أو حول الموكلين

ص:111


1- - سورة البقرة (2)، الآية 117.
2- - سورة الأعراف (7)، الآية 58.
3- سورة البقرة (2)، الآية 102.
4- - سورة آل عمران (3)، الآية 145.
5- سورة التغابن (64)، الآية 11.
6- - سورة القمر (54)، الآية 50.
7- - سورة الأنعام (6)، الآية 102.
8- سورة الأنفال (8)، الآية 17.

بإدارة شؤون هذا العالم كقوله تعالى: (قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ...) (1)

و لكن في الوقت ذاته يُنسب هذا العمل إلى اللّه: (اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها...) .(2)

دور الموَكَّليْن

جاء في الآيات والروايات ذكر موجودات باسم الملائكة، و هم يقومون بما يفوّضه اللّه إليهم من أعمال. فجبرائيل مكلّف بإبلاغ الوحي من اللّه: (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ...) . (3) و ميكائيل يتولّى الأرزاق، و إسرافيل ينفخ في الصور و يتكفّل بمهمة إحياء الأموات يوم القيامة، و عزرائيل يقبض الأرواح: (قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) .(4)

و هناك ملائكة يدورون حول عرش اللّه و يذكرونه و يسبّحونه: (وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) . (5) والملائكة لايرتكبون إثماً أو معصية:

(لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) .(6)

إنّ اللّه عزّوجلّ يتولى شؤون العالم بنفسه، و لكنه يسيّرها بأسبابها و عللها. و هناك موكَّلون - سواء من الموجودات المادّية أو المجرّدة - يؤدون ما يوكل إليهم من أعمال، و لكن ذلك كُلّه يجري بإذن اللّه. و هذا عين التوحيد.

اللّوح المحفوظ و لوح المحو والإثبات

في إدارة شؤون العالم هناك نوعان من الألواح والصحف التي تسجّل فيها الأعمال، أحدهما اللوح المحفوظ و هو ما لايمكن تغيير ما يسجل فيه، و يأتي وفقاً لعلم اللّه بمجريات الأُمور، والآخر هو لوح المحو والإثبات، و هو ما قد يُسَجَّل فيه شيء، ثم يُمحى لاحقاً بسبب بعض المتغيّرات أو المستجدّات. إنّ اللّه تعالى يدبّر شؤون هذا الكَوْن وفقاً

ص:112


1- - سورة السجدة (32)، الآية 11.
2- سورة الزمر (39)، الآية 42.
3- - سورة البقرة (2)، الآية 97.
4- سورة السجدة (32)، الآية 11.
5- - سورة الزمر (39)، الآية 75.
6- سورة التحريم (66)، الآية 6.

لسننٍ. و هذه السنن تخضع لظروف ومُقتضيات. و في العالم الإلهي تكون السنن و ظروفها و مقتضياتها معلومة. و بالنتيجة لايقع فيها تغيير. و هذا هو ما يُسمّى باللوح المحفوظ. أمّا في مرحلة التطبيق فهي تخضع لظروف تبدو في الظاهر و كأَنّها خاضعة للتغيير. و في هذه الحالة يُقال: إنّ هذا اللّوح يحصل فيه تبدّل وتغيير. فربّما كان من المفترض أن تقع حادثة لشخصٍ و لكنّه يقوم بعمل صالح يمنع اللّه تعالى به وقوعها. و بعبارة أُخرى إنّ الوقائع والظواهر خاضعة لظروف قد تكون خافية عن أعين الناظرين الذين لايرون عادة إلّاظواهر الأُمور.

قواعد أفعال اللّه

هل تجري أفعال اللّه وفقاً لقوانين و قواعد، أم تجري بغير قوانين و لا قواعد؟ و إن كانت أفعاله تجري وفقاً لقواعد مرسومة، فكيف يتناسب هذا مع تدبيره لشؤون الكَوْن لحظة بلحظة، و إدارتها وفقاً لإرادته؟

يُستفاد من الآيات والروايات والأدلّة العقلية أنّ اللّه تعالى قد خلق العالم و هو الذي يدبّره، و لكنه في الوقت ذاته يعتمد الأسباب في أفعاله؛ أي إنّه يجريها وفقاً لسنن و قواعد.

فهناك في القرآن عدّة آيات تتحدث عن سنن إلهية. و حذّر في آيات عديدة أقواماً من سريان السنن والقوانين الكَوْنية عليهم. (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) .(1)

هذا العالم يجري بأسباب و علل، و في الوقت ذاته فإنّ اللّه هو المدبّر الأصلي لهذا الكون. جاء مثلاً في القرآن الكريم حول إنزال المطر ما يلي: (اللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) .(2)

و من أمثلة ذلك أنه عندما يجري الكلام عن إنزال المطر، ينسب اللّه هذا العمل إلى نفسه، و لكن في الوقت ذاته يحصل ذلك عن طريق إرسال الرياح والغيوم: (وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ

ص:113


1- راجع: سورة الأنفال (8)، الآية 38 و سورة الأحزاب (33)، الآية 62.
2- سورة الروم (30)، الآية 48.

لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) .(1)

و هذا يعني أنّ كل شيء يجري في هذا الكَوْن وفقاً لقانون العليّة، و بما يتماشى مع إرادة و تدبير اللّه.

هدفية أفعال اللّه

لايمكن افتراض هدف لأفعال اللّه من الجانب الفاعلي؛ أي لايمكن القول: إنّ اللّه فعل هذا الفعل رغبة في شيء؛ لأنه في مثل هذه الحالة يظهر و كأَنّ هناك شيئاً خارجاً عن ذات اللّه و يريد الحصول عليه. و هذا طبعاً لايتّفق مع غنى اللّه، و لكن لابُدّ و أن يكون هناك هدف لكلّ فعل من أفعاله على اعتبار أنها صادرة من خالق حكيم. و لايمكن أن تكون عبثية. (وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) . (2) و هذا يعني أن لاتأتي أفعاله عن عبث أو تكون خالية من هدف: (وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ... وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) .(3)

مشيئة اللّه

لقد خلق اللّه المشيئة قبل أن يخلق الأشياء. ثم إنّ جميع الوقائع والأحداث في العالم رهينة بمشيئة اللّه. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «خلق اللّهُ المشيَّةَ قبل الأشياء ثم خلق الأشياءَ بالمشيَّة»(4) و هذا يعني أنّ أفعال اللّه تأتي وفقاً لتخطيط، و هذا التخطيط هو الذي يتحقق و يظهر إلى العالم الخارجي.

القضاء والقدر

اشارة

القضاء في اللغة: بمعنى الفصل والبتّ. و تستعمل هذه الكلمة بكثرة في حالات التحكيم؛ لأَنَّ الاختلافات يُبتّ فيها بواسطة القضاء، و لكن عندما تأتي كلمة القضاء مقرونة

ص:114


1- سورة الحجر (15)، الآية 22.
2- - سورة الأنبياء (21)، الآية 16.
3- سورة الأنعام (6)، الآية 73.
4- - الصدوق، التوحيد، ص 339، الحديث 8.

مع كلمة القدر، فهي لاتأتي بمعنى الحُكم. كلمة القضاء في القرآن تعني الإلزام والتشريع(1)

تارة، و بمعنى الحكمية والتحكيم تارة أُخرى.(2) و بمعنى الظروف والعلل في موارد أُخرى،(3) كما تأتي أيضاً بمعنى الانتهاء والإتمام.(4) و أكثر ما ورد استعمال هذه الكلمة و مشتقّاتها في القرآن بمعنى القطع والبتّ (وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) . (5)(... وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ...) . (6) والقضاء الإلهي يعني البتّ في أمر من قبل اللّه.

و أمّا كلمة القدر: فتعني الكمية والقياس. والقَدَر الإلهي بمعنى حدود الأشياء بالنسبة إلى ذات اللّه (وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) . (7) جاء في رواية عن الإمام الكاظم عليه السلام قال فيها: القدر تقدير الشيء من طوله و عرضه، والقضاء الإمضاء(8) والفارق بين القضاء والقدر هو أنّ القدر تهيئة المقدّمات، و توفيرها، و أمّا القضاء فهو العلّة التامّة لحصول الأشياء، و يفيد معنى حتميّة وقوعها. و مثل هذا التقدير يشمل كلّ شيء(9) و ظواهر خاصّة كالشمس(10) والقمر(11) و نزول المطر(12) و غيرها، كما يشمل أيضاً أفعال الإنسان و حوادث العالم. والتقدير هو قدر كل شيء جعله اللّه لها. والتقدير له مقدّمات، و من المحتمل أن يتغيّر فيما إذا تغيّرت المقدّمات. نذكر من ذلك مثالاً: إنّ الصدقة، والدعاء، والإحسان، و صلة الرحم توجب إحداث تغييرات في التقدير. و مرتبة التقدير سابقة لمرتبة القضاء.

و كل عمل يُقاس في البداية وتُعيّن مقاديره ثم يُتخذ القرار النهائي بشأنه.

إنّ القضاء والقدر كما - جاء في الروايات - طريق مظلم و بحر عميق لاينبغي الغوص فيه. نقل الصدوق رحمه الله رواية عن أميرالمؤمنين عليه السلام جاء فيها: أنّ رجلاً جاءه وسأله عن القدر.

فقال له الإمام: بحر عميق فلا تلجه. قال: يا أميرالمؤمنين أخبرني عن القدر، قال عليه السلام: طريق

ص:115


1- - سورة الإسراء (17)، الآية 23.
2- - سورة غافر (40)، الآية 20.
3- - سورة البقرة (2)، الآية 117.
4- سورة القصص (28)، الآية 29.
5- - سورة البقرة (2)، الآية 117.
6- سورة هود (11)، الآية 110.
7- - سورة الفرقان (25)، الآية 2.
8- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 150، الحديث 1.
9- - سورة القمر (54)، الآية 49.
10- - سورة يس (36)، الآية 38.
11- سورة يس (36)، الآية 39.
12- سورة المؤمنون (23)، الآية 18.

مظلم فلا تسلكه. قال: يا أميرالمؤمنين أخبرني عن القدر. قال عليه السلام: سرّ اللّه فلا تَكَلّفه.(1)

يمكن القول بشكل عام: إن اللّه وضع خطّة لعباده حسب مشيئته اسمها القدر. وجعل لهم مقدّرات تتناسب مع روح وجسم كل واحد منهم؛ ليفهموا كيف يتدبّرون أمرهم، و يعلموا أنهم ليسوا خارج دائرة الإرادة الإلهية.

روي عن الإمام السجّاد عليه السلام أنه قال: إنّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد، فالروح بغير جسد لاتحسّ، والجسد بغير روح صورة لا حراك بها، فإذا اجتمعا قَوَيا و صَلُحا، و كذلك العمل والقدر، فلو لم يكن القدر واقعاً على العمل لم يُعرف الخالق من المخلوق، و كان القدر شيئاً لايُحسّ، ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر لم يمض و لم يتم، و لكنهما باجتماعهما قويا.(2)

يتعلق كل من القضاء والقدر بالعلم الإلهي المسبق بالأشياء. والعلم الإلهي إن كان يخصّ وجود و ظهور الأشياء فهو قضاء، و إن كان يتعلق بحدودها و مقاديرها فهو قدر. و وفقاً لهذا المعنى، فإنَّ كل ما ينبغي أن يقع في العالم يقع و لامناص منه.

و أعمال الإنسان غير مستثناة من هذه القاعدة. و من هنا تأتي شبهة مفادها: أنّ الإنسان مجبور في أفعاله و لا إرادة له.

جاء في كتاب الكافي أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كان جالساً بالكوفة بَعد منصرفه من صفّين، إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثم قال له: يا أميرالمؤمنين، أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من اللّه و قدر؟ فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة و لاهبطتم بطن وادٍ إلّابقضاء من اللّه و قدر، فقال له الشيخ: عند اللّه أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين؟ فقال له أميرالمؤمنين: مع مَن يا شيخ! فواللّه لقد عظم اللّه الأجر في مسيركم و أنتم سائرون، و في مقامكم و أنتم مقيمون، و في منصرفكم و أنتم منصرفون، و لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين و لا إليه مضطرين. و كان بالقضاء والقدر مسيرنا و منقلبنا و منصرفنا؟ فقال له:

و تظن أنه كان قضاء حتماً و قدراً لازماً؟ إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والأمر

ص:116


1- الصدوق، التوحيد، ص 365، الحديث 3.
2- الصدوق، التوحيد، ص 366 و 367، الحديث 4.

والنهي، والزجر من اللّه، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب و لا محمدة للمحسن، و لكان المذنب أوْلى بالإحسان من المحسن، و لكان المحسن أوْلى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن و حزب الشيطان و قدرية هذه الأُمة و مجوسها. إنّ اللّه تبارك و تعالى كلّف تخييراً، و نهى تحذيراً، و أعطى على القليل كثيراً، و لم يعص مغلوباً و لم يطع مكرهاً، و لم يملك مفوضاً و لم يخلق السماوات والأرض و ما بينهما باطلاً، و لم يبعث النبيين مبشرين و منذرين عبثاً، ذلك ظنّ الذين كفروا.(1)

هل يمكن تغيير القدر؟

إن كان القدر الإلهي حتميّاً و لابُدّ من وقوع ما كان قد رسمه اللّه، فما فائدة الدعوة إلى أعمال الخير كالصدقة والدعاء، و ما تأثير ذلك في العالم؟ و إن كان التقدير الإلهي واقعاً لامحالة، فلا ينبغي أن يمدّ المرء يده بالدعاء؟ جاء في القرآن الكريم: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) . (2) يُستفاد من هذه الآية أنّ اللّه قد يغيّر مقدّرات العالم والناس، فقد جاء حول قوم النبيّ يونس عليه السلام ما يلي: (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) . (3) و يفهم على أساس هذه الآية أنّ قوم يونس عليه السلام كانوا قد حكم عليهم بالعذاب، و لكنّهم دفعوا العذاب الإلهي عن أنفسهم بالتوبة. فمثل هذا التغيير الظاهري يفيد أنّ ما فُهم حسب الظاهر أنّه قضاء لم يكن قضاءً منذ البداية، و أنّ التغيير الذي حصل كان مرسوماً منذ البداية. و مثله في ذلك كمثل تحذيرات الأب لابنه أو المعلم للتلميذ من عدم النجاح! وسيكون مصيرك الفشل! و هذه التحذيرات للابن و للتلميذ هدفها الحث على الدراسة و ليس الإخبار عن حتميّة الفشل.

إنّ حتميّة التقدير بشأن الإنسان تتوقف على ظروف وأُمور أُخرى أيضاً، منها الاختيار المتاح له؛ أي إنّ القضاء الحتمي يتقرر من قبل اللّه و من قبل صاحب الاختيار كالإنسان.

ص:117


1- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 155، الحديث 1.
2- - سورة الرعد (13)، الآية 39.
3- - سورة يونس (10)، الآية 98.

من ذلك مثلاً إنّ قوم يونس عليه السلام كان قد حكم عليهم بالعذاب حسب الظاهر، و لكنهم لم يصرّوا على التمسّك بالظروف التي خلقوها، ولو أنهم كانوا قد قطعوا بما عزموا عليه لكان قد جرى عليهم القضاء المحتّم. و هذا يعني أنّ وعيد اللّه بعذاب الكافرين والمذنبين والمكذّبين باللّه والمعاد قد يتغير - إذا غير العباد ما بأنفسهم - و ينجون من العذاب.

هل الإنسان مجبر؟

إنّ عزم الإنسان على شيء ثم نقضه لِما عزم عليه، و ما يستجد لديه من تحوّلات فكرية وسلوكية، و ما يعرض في عالم الوجود من متغيّرات و منعطفات بشأن الإنسان، يدلّ على أنّ الإنسان حرّ مختار، و هو يقدم بإرادته على ما هو حسن أو قبيح من الأعمال.

و رغم هذا الواقع، هناك سؤال حول مدى اختيار الإنسان، و هو: إن كان اللّه قد قدّر في علمه وقوع شيء، فلابّد أن يقع. و إن لم يقع فهو خلاف لعلم اللّه. و من جانب آخر، إنّ كل ما يقع في العالم هو من تقدير اللّه و بقدرته. و مع أنّ تحقيق الإرادة الإلهية يأتي عن طريق أسباب، بيد أنّ ذلك يمثل في نهاية الأمر: إرادة اللّه، و لايمكن أن يجري ذلك لولاها. و في ضوء هاتين المقدّمتين، أيمكن القول بَعد ذلك: إنَّ الإنسان موجود مختار؟

إن كان ما سلف من علم اللّه هو الذي خلق كل شيء و من جملة ذلك الإنسان، فهذا شيء لاريب فيه. إذ من غير الممكن خلق شيء من غير علم حتى و إن كان صغيراً، فما بالك بهذا الكَوْن الهائل الذي نعيش فيه. و من الطبيعي أنّ خلق موجود عظيم كالإنسان يدخل ضمن هذه القاعدة، و لكن هل العلم يوجب الجبر في سلوك الإنسان، فهذا موضع تأمل. فإن كان علم اللّه لايتغيّر فلابّد أن تتحقق الحادثة المقررة في علم اللّه، و إلّافمعنى ذلك أنّ علم اللّه يصبح في مرحلة التطبيق جهلاً، و لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ علم اللّه لايعني أنّ الإرادة الإلهية قد قررت مسبقاً أن يكون بنو الإنسان مجرّد آلات مسيّرة و لا إرادة لهم، مثل أية قطعة من قطع السيارة التي تتحرك بسبب حركة القطع الأُخرى، و لكن الإنسان ليس على هذه الشاكلة. فهو منذ أن جُبلت طينته الأُولى أودع اللّه فيه المقدرة على أن يكون ذا تصميم و إرادة.

ص:118

و رغم أنّ الإنسان يعيش كالموجودات الأُخرى في سياق القوانين الخاصّة السارية في هذا العالم و لايمكنه الخروج من سلطتها، و لكنه رغم ذلك تابع لتكوينه الذاتي. فقد أودعت في الإنسان قدرة على اتخاذ القرار، والتراجع عنه، واختيار واحد من عدّة خيارات، و بَعد الاختيار يمكنه إعادة النظر في ما وقع اختياره عليه.

و بعبارة أُخرى: جُبل الإنسان وفقاً لعلم اللّه الأزلي على القدرة على اتخاذ القرار، و على العزم والإرادة مع إعادة النظر في ما عزم عليه. فالإنسان لايستطيع التحرّك خارج دائرة نظام الوجود، بحيث يستطيع فعل كل ما يشاء من غير أن تحدّه قيود، و لا هو مسلوب الإرادة بحيث يمكن تسييره كما يُسيّر الحجر.

و عمل الإنسان معلول لإرادته واختياره، رغم أنّ إرادته جزء من عالم الوجود، و كل نظام رهين بإرادة اللّه الأزلية.

إنّ قضاء اللّه حتمي لاتبديل له، و لكن ليس من الواضح ما هو المصير الذي يؤول إليه كل موجود. و رغم أنّ قضاء اللّه حتمي، و لكن بما أنّ التقديرات خاضعة لمختلف علل عالم الطبيعة، و هذه العلل غير معدودة بحيث يمكن القول: إنَّ حادثة معيّنة ستقع بفعل تأثير عامل أو عدّة عوامل. فكل ظاهرة في الوجود، خاضعة لعللها و أسبابها، و قد تكون لها أنواع من العلل والأسباب. و وقوع الحادثة الواحدة لايمكن عزوه إلى سبب واحد أو عدّة أسباب.

و قد تكون للحادثة عدّة أنواع من العلل الناقصة غير المعروفة؛ أي أن يكون للمقادير المتفاوتة تأثيرها في تكوينها و إيجادها. فقضاء اللّه في وقوع الحادثة حتمي و لكن تقديره ليس كذلك؛ أي لابُدّ من تظافر الأقدار لوقوع أمرٍ ما، و عندما تتحقق كلها تقع الحادثة، ويُعرف حينذاك أنّ القضاء الإلهي أراد لها الوقوع. و لعلّ هذا هو ما يُفسِّر لنا ما فعله أميرالمؤمنين عليه السلام حين قام من تحت الحائط المائل، حيث نُقل أنه كان جالساً إلى جانب حائط مائل فنهض من هناك. فقيل له: أتفرّ من قضاء اللّه؟ قال: أفر من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عزّوجلّ.(1) فسقوط الحائط كان قضاءً محتماً، و هو الذي جعله يفرّ منه.

ص:119


1- الصدوق، التوحيد، ص 369، الحديث 8.

و على هذا الأساس فإنَّ كل ما يقع يقع، بقضاء اللّه: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ) .(1)

إنّ الإنسان محيط بأفعاله، و هو إذا أراد شيئاً و فعله تتحقق إرادته، وتقع الحادثة.

والحقيقة هي أنّ إرادة الإنسان تشكّل أيضاً جزءاً من قضاء اللّه و قدره. و أمّا علم اللّه الأزلي بالاُمور فهو علمه بالنظام، و من جملة النظام صدور الأفعال من الفاعل المختار.

الواقع يظهر لنا بكل جلاء أنّ القضاء والقدر لايُجبران الإنسان على شيء. فلو كان الإنسان - بموجب القضاء والقدر - مجبوراً على فعل شيءٍ، لَما أنزل اللّه كل هذه الآيات، و لما دعا إلى الإيمان والعمل الصالح، و لما حذّر من جهنّم وعذابها. فقد ورد في القرآن الكثير من التحذير لبني الإنسان، كما ورد فيه الكثير من البشائر. و هذا ما يدّل بكل وضوح على أنّ للإنسان دوراً أساسياً في رسم وصياغة مصيره: (ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ...) ، (2)(إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً) .(3)

لا جبر و لا تفويض

إذا كان اللّه لايجبر العباد على فعل شيءٍ معين، فهو تعالى مع ذلك لايُفوّض إليهم كل شيء. فالكَوْن و كل ما فيه - و منه الإنسان - خاضع لتدبير اللّه، و لكن هذا التدبير ليس على النحو الذي يجعلهم مسيّرين لا إرادة لهم. و إنّما أفعال العباد تجري بإرادتهم، و كذلك بإرادة و قدرة اللّه. أي أنّ إرادة العبد تقع في طول إرادة اللّه.

ورد في حديث شريف: «لا جبرَ و لا تفويضَ و لكن أمرٌ بَينَ أمرين.».(4) حقيقة الجبر هي إرغام العبد على فعل شيء من غير أن تكون له فيه إرادة. و حقيقة التفويض هي أنّ اللّه غير قادر على التأثير في عمل الإنسان، أي أنّ الإنسان متروك و شأنه. في حين أنّ الواقع

ص:120


1- سورة التغابن (64)، الآية 11.
2- - سورة الأنفال (8)، الآية 53.
3- سورة الإنسان (76)، الآيتان 2 و 3.
4- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 160، الحديث 13؛ الصدوق، التوحيد، ص 362، الحديث 8.

ينمّ عن شيء آخر. فبالتزامن مع عزم الإنسان على فعل شيء، هناك أيضاً إرادة اللّه التي لها تأثيرها في فعل الإنسان. والدليل على وجود إرادة الإنسان هو قدرته على ترك ذلك العمل.

و أمّا الدليل على وجود و تأثير إرادة اللّه فهو أنّ الإنسان كثيراً ما يعزم على القيام بعملٍ، و لكن تحصل موانع تثنيه عن تنفيذ إرادته. و هذا ما يكشف عن وجود إرادة أُخرى فوق إرادة الإنسان. و هو ما يعبر عنه أميرالمؤمنين عليه السلام بقوله: «عرفتُ اللّهَ سبحانه بفسخ العزائم و حلّ العقود و نقض الهِمَم».(1) فلو لم تكن هناك إرادة أُخرى، لماذا لاتتحقق كل رغبات الإنسان و إراداته؟ و في هذا السياق ورد حديث نقله الإمام الصادق عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حول أفعال العباد و مشيئة اللّه، قال فيه ما يلي: «مَن زَعَمَ انّ اللهَ يأمرُ بالسُوءِ والفَحْشاءِ فَقَد كَذَبَ عَلَى اللّهِ، وَ مَنْ زَعَمَ انّ الخيرَ والشرَّ بِغَيرِ مشيّةِ اللّهِ فَقَدْ اخْرَجَ اللّهَ من سُلطانِهِ، وَ من زَعَم انَّ المعاصِىَ بغيرِ قوّةِ اللّهِ فقد كَذَبَ على اللّهِ، وَ مَن كَذَبَ عَلَى اللّهِ ادْخَلَهُ اللّهُ النّارَ».(2)

الإيمان بالقضاء والقدر

الإيمان بالقضاء والقدر من المعتقدات الإسلامية. فقد روى أميرالمؤمنين عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن لم يَرْضَ بقَضائي و لم يؤمِنْ بقَدَري فَلْيلتمس الهاً غَيري».(3) و في الوقت ذاته قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «في كلِّ قضاءِ اللّهِ خيرةٌ للمؤمن».(4)

للإيمان بالقضاء والقدر صورة ظاهرة و هي عبارة عن الاعتقاد بأن كل ما يقع للناس في هذا العالم يأتي بقضاء اللّه و قدره، و لايقع فيه إلّاما قدّره اللّه: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اللّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا) .(5)

هناك من الناس من يرى في القضاء والقدر مدعاة للتراخي والتواكل والنكول عن أداء

ص:121


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 250، ص 511.
2- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 158، الحديث 6؛ الصدوق، التوحيد، ص 359، الحديث 2.
3- - الصدوق، التوحيد، ص 371، الحديث 11.
4- المصدر السابق.
5- سورة التوبة (9)، الآية 51.

الواجبات، والاستسلام للظلم. و هذا طبعاً فهم مغلوط للموضوع؛ لأنه يؤدي إلى الاستسلام للحوادث و عدم القيام بأي جهد للتحرر من الشقاء والظلم.

الملاحظة الأُخرى بشأن عقيدة القضاء والقدر هي أنّ الإنسان يجب أن يعلم بأن نظام الكَوْن يسير على قوانين، و لابُدّ لهم من صياغة أفعالهم وفقاً لهذه القوانين، و لايتصورون أنهم متروكون سدىً، و هو ما يعني بالنتيجة أنهم يستطيعون فعل ما يشاؤون، بل هناك السنن الإلهية. إنّ القضاء والقدر يبعث في النفوس الأمل بأن اللّه رقيب على كل ما يجري في هذا العالم، و أنه لا مفرّ لأحد من قضاء اللّه، و أنّه يستطيع فعل ما يشاء.

و في ضوء هذه الرؤية يسعى الإنسان إلى تحقيق إرادته، و إصلاح الفاسد من الأُمور والقضاء على الظلم من غير أن يشعر بأنه حرّ يفعل ما يشاء.

و لاشكّ في أنّ التسليم للقضاء والقدر لايعني أبداً الإحجام عن القيام بأي عمل، انطلاقاً من التصور بأن كل شيء يجري وفقاً لِما قُدِّر وكُتب من قبل، و هو ما يعني بالنتيجة أنه مجرّد من التأثير.

الشُرور

هناك الكثير من مظاهر الشر التي تصيب بني الإنسان كالعاهات، والمرض، والفقر، والوقوع في البلاء، والوقوع فريسة لظلم الظالمين، والموت، والمصائب الأُخرى، و ما إلى ذلك. و هذه قضية ذات أهمية كبيرة لبني الإنسان، و تشغل أفكارهم على الدوام. فما هو مصدر كل هذه الحوادث والظواهر المؤلمة والمريرة؟ فهل أنّ إرادة اللّه قضت أن يعيش الناس في البأساء والضراء و لايذوقوا طعم السعادة؟

يمكن إخضاع قضية الشرور للبحث من جانبين: أحدهما أن يُعزى الشر إلى اللّه. و لكن هذا لاينسجم مع ما يتّصف به سبحانه من حكمة وعدل. و أمّا الجانب الثاني فهو هل الفقر والشر والآلام والأمراض من صنع اللّه أم لا؟ فإن كان الجواب نعم، فلأي شيء خلق اللّه هذه الأُمور؟

نحن نشاهد بعض الناس يعيشون في شقاء و تعاسة و بلاء، بينما يعيش آخرون في رغد

ص:122

و نعمة و رفاه و رغم كل ذلك فإنّ بعضاً منهم جاحد لنعم اللّه. فعلى أي شيء يدل وجود مثل هذه الأُمور في العالم؟ و كيف يمكن تبرير وجودها؟ لابُدّ طبعاً من إيجاد تبرير لوجود هذه الشرور في العالم.

و لغرض تسليط الضوء على هذا الموضوع، نبيّن الأُمور التالية:

1 - النظام الذي نعيش فيه هو أفضل نظام ممكن لهذه الحياة، إذ يتجلّى فيه جمال الباري عزّوجلّ. فقد خلق اللّه العالم و جعل لكل شيء ما يتناسب معه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى) . (1) إذ إنه خلق كل شيء جميلاً: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ) ، (2) و هو أحسن الخالقين.(3) فاللّه جميل و قد جعل العالم تجلياً لجماله.

2 - ما يفعله اللّه يأتي بناءً على مقتضيات الحكمة. و كل ما يصدر عن الحكيم لا قبح فيه و لا زلل. و بما أنّ الشر شيء غير صحيح، فهو لاينطوي على مصلحة ذاتية، فلا وجه لايجاد الشرّ و العادة.

3 - الخير والشر أمران نسبيّان. بمعنى أنّ الشيء عندما يُقاس بشيء آخر، تُستنتج أوجه تفاوت يرى الإنسان بعضها خيراً و يعتبر البعض الآخر منها شرّاً. ثم إنّ الحديث عن الشرور لايكون إلّافي المواضع التي يُرتجى فيها خير.

إنّ كل شر يمكن أن يُطرح إلى جانب الخير. و إن انعدم وجود الخير يحصل تصوّر بأن هناك شراً. والشر نفسه حصيلة لوجود الخير. و لايمكن تصور موضع يكون فيه شر بدون وجود الخير.

4 - المادة التي يتألّف منها العالم لها مقتضياتها. و لابُدّ أن تتبدّل أحوالها لكي تسير نحو التطوّر والكمال، و لايحصل أي تكامل في هذا العالم من غير تبدّل و تحوُّل، و هذا الكَوْن لاينسجم مع الثبات، و إنّما شأنه الحركة. و عندما يكون الشيء في حركة دائمة فلابّد أن تقع في أثناء ذلك أُمور تبدو في الظاهر شرّاً. و يفهم من خلال النظرة الكلية أنه ما لم يكن هناك شر لايتحقق الخير. و إذا لم تعرض على المادة عوارضها فهي تفتقد لخاصيّتها المادية.

ص:123


1- - سورة الأعلى (87)، الآيتان 1 و 2.
2- سورة السجدة (32)، الآية 7.
3- سورة المؤمنون (23)، الآية 14.

و عندما يعرض لها ذلك تواجه حالة من الزيادة والنقصان. و هذا الأمر يوصف بأنّه شرٌّ. و إذا اريد للمادة أن تقدّم شيئاً فلابّد أن يحصل فيها نوع من التبدّل، والتبدّل يفرز حالات من الزيادة والنقصان، و هذا هو ما يُسمّى بالشرور. والمادة التي تنشأ منها الموجودات الطبيعية ذات قدرات، و يصاحبها أحياناً نقصان، و لابد أن يحصل فيها تحوّل لفقد شيء. و إلى جانب هذا التبدّل يُسمّى ما يُفقد شرّاً. و إذا كان هناك تصوّر بان المادة لاينبغي أن تفقد شيئاً عند الصيرورة لكي لايقع شر، فهذا التصوّر خلاف لماهية المادّة. ولو ان مثل هذا الشيء لايحصل لما تحقق أي تكامل في عالم المادّة، و هذا بحد ذاته شرّ أعظم.

و على أيّة حال فإن عالم الطبيعة هو عالم التدرّج والحركة. و في مثل هذا العالم لابد أن تقع تبدّلات في المادّة لكي تطوي الطبيعة مسارها الصحيح و تصل إلى الوضع المطلوب.

و في خضم عملية التبدّل والتغيير تُفقد أشياء و تُكسب أشياء أخرى غيرها. و ما يُفتقد يُحسب شراً بالمقارنة مع ما يُكتسب، و لكن للخير المكتسب أهمية يهون إلى جانبها الشرّ الحاصل.

5 - هناك بين الموجودات أوجه من التفاوت والاختلاف ناتجة عن طبيعتها، و على أساس الدور المرسوم لكل واحد منها في هذا الوجود. و لايمكن أن تكون الأشياء متساوية أو على نمط واحد لأَنَّ ذلك يعني توقف كل شيء وهلاكه. و في الكثير من المواقف ربّما يُعزى الشر إلى وجود هذه الاختلافات أو عدم التساوي.

فهناك تصور بأنّه لاينبغي أن تكون بعض الموجودات أضعف من غيرها. و يمكن القول بإيجاز: إنّ العلّة المادّية لبعض الكائنات، والعلّة الغائية لبعضها الآخر، هو الذي أدى إلى ظهور فوارق و تفاوت بينها. و هذا عين الحكمة.

و على هذا الأساس فإنَّ بعض الشرور منبثقة من طبيعة العالم و ناجمة عن حركته.

والحقيقة أنها ليست ذات أهمّية بالقياس إلى الخير الذي يتمخّض عنها.

إنّ بعض الشرور ناتجة عن السلوك غير الأخلاقي لبني الإنسان، و متأتّية عن الاختيار والقدرة المغروسة في ذات كل واحد منهم. و من الطبيعي أن يحصل تعارض وتزاحم بين الناس عند سعي كل واحد منهم لتحقيق أهدافه و غاياته، و هو ما يؤدّي بالنتيجة إلى طمس

ص:124

الحق و إزهاقه، و لكن بعض الشرور هي في الواقع ليست إلّافي النظرة العرفية، كالموت الذي ليس فيه شر بحدّ ذاته.

و يمكن القول بإيجاز: إنّ كل ما خلقه اللّه يتسم بالحكمة. أمّا الشر فهو شيء نسبي و ناتج عن طبيعة الأشياء، و ملازم لحركتها نحو الغاية التي خلقت لها. و أمّا الشر الناتج عن التزاحم بين مصالح الناس، فهو ممّا لايرتضيه اللّه، و قد شرّع سبحانه الأحكام والقوانين للحيلولة دون وقوعه.

ص:125

النبوّة

الحاجة إلىٰ الدليل والهداية

اشارة

الإنسان لايملك إلّاقدرة محدودة لمعرفة كل جوانب هذه الحياة الطويلة الحافلة بالمنعطفات. و على صعيد آخر فقد خلق الإنسان و هو يحمل بين ثناياه الكثير من الميول والرغبات. و هذا ما جعل منه مخلوقاً متميزاً عن غيره من المخلوقات، و لكن جعله - في الوقت ذاته - عرضة للكثير من المخاطر. و لاشكّ في أنّ معرفة الطريق القويم، و وجود القدوة الصالحة من ضروريات حياة الإنسان. و على صعيد آخر يعتبر الإنسان كائناً اجتماعياً. ثم إنّ العيش في المجتمع واجتناب المخاطر المحتملة ممكن مع وجود الإرشاد والهداية.

إنّ العيش في الحياة الاجتماعية يؤدّي إلى تعارض المصالح و تضاربها. و ذلك بسبب رغبة كل إنسان في حيازة المنافع لذاته و إبعاد الضرر عن نفسه. و من هنا فهو يعمل في سبيل تسخير الآخرين لخدمته. و هذا ما يؤدي بالنتيجة إلى ظهور الحياة الاجتماعية التي يحصل في أثنائها أحياناً اعتداء على حقوق الآخرين.

الناس يستفيدون من بعضهم عادة بشكل متبادل، و كل واحد منهم يخدم الآخرين بشكل مباشر أو غير مباشر. و إذا كان تسخير بعضهم لبعض يجري سلمياً و تعاونياً فلا تقع مشكلة، أو قد تتقلص المشاكل إلى أدنى حدٍّ ممكن، و لكن، بما أنّ بني الإنسان متفاوتون من حيث القدرات والكفاءات والجوانب الأُخرى، فمن الطبيعي أن يؤدّي ذلك إلى أن تتمخّض عن أعمالهم و نشاطاتهم نتائج متفاوتة. و على صعيد آخر يتّسم الإنسان بصفة حُبّ التفوّق والتعالي. كما أنّ تقاطع المصالح يضيّق المساحة المفسوحة للسلوك الاجتماعي السلمي. وهنا ينبغي البحث عن السُّبل الكفيلة بحصول أفراد المجتمع على

ص:126

حقوقهم، و تضمن سعادتهم و تحول دون عدوان بعضهم على بعض.

لكل إنسان من حيث كَوْنه إنساناً حقوق، منها: حق الحياة، والحريّة، واختيار العمل والسكن. و حفظ النظام الاجتماعي، و منع هضم حقوقهم، يتطلب أن يعرفوا حدود سلوكهم، و أن يسيروا في إطار القوانين المقررة لهم. و لاشكّ في أنّ القوانين الفاعلة لأداء هذه المهمّة تتسم بما يلي:

1 - أن يكون الناس مؤمنين و مقتنعين بها، و يعتبرون الالتزام بها جزءاً من واجباتهم.

2 - أن تأخذ بنظر الاعتبار مصالح كل الناس.

3 - أن تجعل نصب عينها جميع جوانب حياة الإنسان الدنيوية والأخروية.

4 - أن تلبّي تطلعات الإنسان و تستجيب لمتطلّباته الأساسية.

5 - أن تكون لها ضمانة تنفيذية، فضلاً عن دوافع ذاتية تنطلق من نفوس الأفراد و تجعلهم يلتزمون بأوامرها و يمتنعون عن نواهيها.

من الممكن طبعاً تلبية قسم من هذه الخصائص بواسطة العقود الاجتماعية، أو من خلال التعويل على رأي أكثرية الناس، و لكن لايمكن تلبيتها كلّها بالعقد الاجتماعي أو برأي الأكثرية.

و فضلاً عما ذكر آنفاً لايمكن لأحد سنَّ مثل هذه القوانين للناس، إلّاإذا كانت لديه إحاطة تامّة بكل خصائصهم و متطلباتهم و مصالحهم. والناس بأنفسهم غير قادرين على سنّ قوانين تراعي الخصائص التي سبق ذكرها؛ و ذلك لسببين.

أوّلاً: لأنهم بمقتضى طبيعتهم محكومون بالنزعة النفعية وحُبّ التفوّق والاستعلاء. و من الطبيعي أنّ كل شخص أو جماعة تحرص على تشريع القانون الذي يخدم مصالحها الذاتية والفئوية.

و ثانياً: إنّ تشريع القانون يستلزم أن يكون المشرّع على معرفة تامّة بكل متطلّبات الإنسان و أن يأخذ بنظر الاعتبار مسبقاً الضمانة التنفيذية له، هذا فضلاً عن الوعي بعواقب تنفيذ ذلك القانون، و مدى شموليته لكل جوانب و مراحل حياة الإنسان الطويلة.

ص:127

الإنسان ليس لديه اطلاع على بعض الأُمور، و هناك أُمور أُخرى ليس لديه اطلاع تام بشأنها. نذكر من ذلك على سبيل المثال: أنّ الطريق إلى السعادة شيء مطلوب لدى الإنسان، و لكنّه في الوقت ذاته مجهول لديه، بل حتى لو كانت لديه معلومات وتصوّرات عنه، غير أنه غير واثق بها و لامتأكّد منها. و لايمكن أن يحيط بكل جوانب حياة الإنسان إلّااللّه. و من الطبيعي أن يكون التشريع الصادر منه تعالى، مراعياً لكلّ المصالح و عادلاً. و أمّا الدعامة التنفيذية لتطبيق أحكام اللّه و تشريعاته فهي الإيمان القلبي بها. فكل مؤمن يشعر بالمسؤولية أمام اللّه و يحرص على رعاية حرمة القوانين الإلهية.

و على صعيد آخر فإنّ اللّه عزّوجلّ مطلق، بينما الإنسان موجود مادي و محدود. و قد اصطفى اللّه من الناس أفضلهم و أخيرهم و كلّفه بمهمة إبلاغ رسالته إلى عباده، و دعاهم فيها إلى العمل بما فرضه عليهم فيها من التكاليف ليكون في ذلك ضمان لتنظيم العلاقات بينهم، و منع بعضهم من الاعتداء على حقوق الآخر منهم.

و على هذا الأساس يمكن القول: إنّ الأنبياء هم أول المشرّعين الذين كان كل واحد منهم بمثابة دليل وهادٍ لضمان تحقيق الجانب المعنوي لبني الإنسان، و كان لهم دور في مساعدتهم في تحقيق السعادة والحياة الهانئة.

ضرورة بعث النبيّ في المصادر الدينية

لعالم الوجود خالق حكيم، خلقه بحكمته وجعل له غاية يسعى إليها. والكائنات في هذا الوجود تسير بانتظام و انسجام نحو الغاية التي رسمها اللّه لها: (إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، (1)(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) . (2) إنّ كل ظواهر الوجود ذات هدف و هي آيات اللّه تعالى. ففي خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار آيات لأولي الألباب.(3) و في هذا المضمار، يتّصف الإنسان بمقدرة و مؤهّلات و قدرة عالية على الفهم والاستيعاب. كما أنّه يتّصف بحبّ الكمال والسعي إلى الحق، واجتمعت في ذاته نوازع

ص:128


1- - سورة الشورى (42)، الآية 53.
2- سورة طه (20)، الآية 50.
3- - سورة آل عمران (3)، الآية 190.

متضادّة. و مثل هذه الخصائص جعلت منه موجوداً متميّزاً، و لكن هذا جعل منه أيضاً كياناً معرّضاً لكثير من المخاطر. حيث من المحتمل أن ينحرف عن المسار الذي أراده اللّه له.

فميوله النفعية تسوقه إلى منحدرٍ آخر و تجعل منه موجوداً خطيراً: (أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ) .(1)

مع أنّ الإنسان طاهر و نقي بالفطرة، و مجبول على الهداية تكويناً، بيد أنه بحاجة ماسّة إلى هداية أُخرى. هناك غاية أرادها اللّه من خلق الإنسان (أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) .(2)

الإنسان لم يُخلق ويُترك على هواه، ولو أنه كان قد خلق و تُرك على هواه، لكان ذلك فعلاً عبثاً. و إنّما يحيط الخالق تعالى الإنسان بالرعاية والاهتمام وجعل له أحسن ما يمكن من القوام و قوى الإدراك. و حتى أنه كما يقول ابن سينا: خصّ الإنسان بتقعير الأخمص من القدمين.(3) و هذا يعني أنه لايتركه سدىً، و لايمكن أن لايرسل له هادياً؛ إذ إنّ هذه القضية في غاية الأهمية. فالباري عزّوجلّ زوّد الإنسان من حيث التكوين بأُذنين و عينين، و لسانٍ، و شفتين، و غيرها من الأعضاء الأُخرى الضرورية لممارسة حياته المادية، و لإدراك الأضرار والمفاسد الظاهرية و معرفة المصالح والمنافع الدنيوية. و أمّا بالنسبة إلى معرفة طريق السعادة والكمال فقد جعل له عقلاً و أرسل له الأنبياء (أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ * وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) .(4)

و قد ورد في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال رداً على سؤال زنديق سأله عن الكيفية التي يمكن أن يثبت بها وجود الأنبياء: «إنا لَمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا و عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصانع حكيماً متعالياً، لم يجز أن يشاهده خلقه و لايلامسوه فيباشرهم و يباشروه، و يحاجهم و يحاجّوه، ثبت أنّ له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه و عباده، و يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما به بقاؤهم و في تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبّرون عنه

ص:129


1- سورة البقرة (2)، الآية 30.
2- سورة المؤمنون (23)، الآية 115.
3- - ابن سينا، الشفاء، ج 2، المقالة 10، ص 441.
4- سورة البلد (90)، الآيات 8-10.

جلّ وعزّ، و هم الأنبياء عليهم السلام و صفوته من خلقه».(1) و استناداً إلى هذا الحديث فإنّ حكمة اللّه تقضي أن يرسل للناس الأنبياء ليبيّنوا لهم طريق المصالح والمفاسد، والنهج الموصل إلى الكمال.

و قد صرّح القرآن الكريم بهذه الضرورة في قوله: (وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (2) و قال في موضع آخر أيضاً: (وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ) .(3)

سؤال حول محدودية المنطقة التي بعث فيها الأنبياء

من الممكن أن يُثار هنا تساؤل و هو: إن كانت هناك مثل هذه الضرورة لبعثة الأنبياء، فلماذا ذكر فقط الأنبياء الذين بعثوا في منطقة محددة كالشرق الأوسط؟ ألم يُبعث أنبياء في البقاع الغربية من الأرض أو في المشرق، و إن كانوا قد بعثوا فلماذا لم يُذكروا؟.

و كما سبقت الإشارة فإنّ الحاجة إلى الأنبياء من الأُمور التي يحتاج إليها جميع الناس.

و قد أكّد القرآن على أنّ كلّ أُمة جاء فيها رسول. و إذا لم يُذكر أنبياء بعض الأقوام فهذا لايدلّ على عدم بعث نبي فيهم، هذا أولاً، و أمّا ثانياً: فإنَّ القرآن ذكر بعض الأنبياء و لم يذكرهم كلهم، كما نص على ذلك بقوله: (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) . (4) و معنى هذا أنّ عدم ذكر أنبياء مناطق أُخرى لايشكّل دليلاً على عدم بعث الرسل لهم.

و على صعيد آخر أُريد من بعثة هؤلاء الأنبياء أن تصل مدياتها إلى أكبر عدد ممكن من جموع المخاطبين. و كان تطوّر الكتابة في عصر الأنبياء المتاُخرين سبباً لتدوين و حفظ ثقافاتهم المكتوبة و رسالاتهم، في حين أنّ التدوين الذي ادّى إلى حفظ اليهودية والمسيحية لم يشاهد مثله بشأن البوذية و الكونفو شيوسية و الزرادشتية، و إلّافالكثير من هؤلاء يُنظر إليهم كمصلحين و دعاة إلى المعنوية. و لعلّهم كانوا أيضاً أنبياء مبعوثين من اللّه.

ص:130


1- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 168، الحديث 1.
2- - سورة يونس (10)، الآية 47.
3- سورة فاطر (35)، الآية 24.
4- - سورة غافر (40)، الآية 78.

و لابد من الإشارة أيضاً إلى أنّ مكان بعض الأنبياء الذين ذكروا في القرآن لايُعلم حتى الآن على وجه الدقّة، أو أنّ أسماءهم باللغة العربية لاتتطابق مع الأسماء المحلية المعروفة لهم، لكي يتضح انعكاس رسالاتهم في ضوء ذلك، كنوح، و إدريس، و أنبياء عاد وثمود، إذ هناك جدل حول المنطقة التي بُعث إليها كل واحد منهم.

إتمام الحجة

ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال: «إنّ للّه على الناس حجّتين: حجة ظاهرة، و حجّة باطنة؛ فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء، و أمّا الباطنة فالعقول».(1) و قد صرّح القرآن الكريم على حجية الأنبياء و إتمام حجة اللّه على عباده بإرسال الأنبياء. و من ذلك ما ورد في سورة النساء بَعد الإشارة إلى وظيفة الأنبياء في التبشير والإنذار، و هو قوله: (لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) . (2) فهو وجلّ يحتج في يوم القيامة على الناس و يقول لهم: ألم أبعث لكم رسلاً يتلون آياتي عليكم.(3)

و بيّن القرآن الكريم - أيضاً - أنّ اللّه لايهلك قوماً إلّابَعد إتمام الحجّة عليهم.(4)

و أشار أميرالمؤمنين عليه السلام - في الخطبة الأُولى من نهج البلاغة - إلى أنّ اللّه لايترك الأرض من غير حجّة. و من أسباب بعث الأنبياء أيضاً تذكير الناس بالميثاق الفطري بين العباد وربّهم، وللاحتجاج عليهم أيضاً بما أودعه اللّه فيهم من فطرة «و يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغ».(5)

مكانة الأنبياء

النبوّة رقي للسعة الوجودية بحيث يستطيع الشخص إيجاد علاقة مع عالم الغيب

ص:131


1- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 16، الحديث 12.
2- - سورة النساء (4)، الآية 165.
3- سورة الأنعام (6)، الآية 130.
4- سورة القصص (28)، الآية 59؛ سورة يونس (10)، الآية 47.
5- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 1، ص 43.

والملائكة و تلقّي رسالة منهم. و كيفية تلقي الوحي من قبل النبيّ هي أن ضمير النبيّ يتّصل بعالم الغيب والملكوت. و اثناء العروج الروحي للنبي يبلغ مقاماً يمكن أن يكون فيه واسطة بين عالم الغيب والشهادة و يتبوّأ منزلة يكلّمه فيها ربّه. و بعبارة أخرى ان الرسالة عبارة عن انبعاث داخلي يتعلق من ناحية بالنبيّ نفسه بحيث يستطيع الارتقاء إلى هذا المقام، و من ناحية أخرى تمنحه الرعاية الإلهية مثل هذه الأهلية و تثبّتها فيه.

الأُصول المشتركة بين الأنبياء

اشارة

هناك أُصول مشتركة بين دعوة الأنبياء، و إذا تجاوزنا الأساليب والأحكام الخاصّة، يتضح أنهم يؤكّدون على مبادىء واحدة أيضاً، و أهمها ما يلي:

1 - الدعوة إلىٰ التوحيد

المحور الأساسي في دعوة الأنبياء هو الدعوة إلى التوحيد، و رفض الشرك وعبادة الأصنام. وجوهر تعاليم الوحي منذ بدايتها و إلى نهايتها هو التوحيد بكل جوانبه. و أمّا سائر المبادىء التي دعوا إليها فهي متفرعة عنه و تأتي في مرتبة لاحقة، و منها محاربة المفاسد الأخلاقية والرذائل الاجتماعية.

وردت في سورة الأعراف العبارة التالية نقلاً عن عدد من الأنبياء: (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (1) و بيّنت سورة الأنبياء قبل الحديث عن قصص بعضهم، أنّ الهدف المشترك بينهم جميعاً هو الدعوة إلى عبادة اللّه الواحد الأحد (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) .(2)

ص:132


1- - سورة الأعراف (7)، الآيات 59، 65، 73 و 85.
2- سورة الأنبياء (21)، الآية 25. و في هذا المجال أيضاً راجع: سورة الأنبياء (21)، الآية 108؛ سورة الصافّات (37)، الآية 126؛ سورة ص (38)، الآية 65؛ سورة الزمر (39)، الآيات 11، 12، 64 و 65؛ سورة غافر (40)، الآية 66؛ سورة الزخرف (43)، الآيات 45، 63 و 64.
2 - الإخبار عن الآخرة

من أهمّ المحاور المشتركة بين الأنبياء هو الإخبار عن الآخرة، ولفت أنظار الناس إلى رجوعهم إلى ذلك العالم. و قد وردت في القرآن الكريم أكثر من ألف و خمسمئة آية حول المعاد باعتباره عالم الغيب. و هو العالم الذي لايستطيع غير الأنبياء الإخبار عنه والدعوة إلى الإيمان به. و لهذا يؤكّد القرآن الكريم في عدّة آيات على هذا المبدأ، و هو أنّ من يؤمنون باللّه والآخرة و يعملون صالحاً يجزيهم اللّه أحسن الجزاء.(1)

3 - الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي

لرسالة الأنبياء جوانب اعتقادية و أخلاقية واجتماعية، و هي لاتقتصر على الدعوة إلى عبادة اللّه والإيمان باليوم الآخر. فقد دأب الأنبياء على محاربة الخرافات والمفاسد الأخلاقية والمفاسد الاجتماعية. ففي عصر موسى عليه السلام كانت المسألة الأكثر أهمية من بَعد التوحيد، هي الانعتاق من الحكم المستبد في عصره، والسعي لتحقيق الحريّة الاجتماعية.

و قد حرص النبيّ موسى عليه السلام على طرح هذه القضايا أكثر من غيرها.(2)

و في عصر نوح عليه السلام،(3) و في عصر هود عليه السلام،(4) و في عصر صالح عليه السلام(5) كانت المشكلة الأساسية استكبار الطبقة المترفة. و في العصر الذي بُعث فيه النبيّ شعيب عليه السلام كانت الظاهرة الشائعة هي الفساد الاقتصادي و بخس الوزن في البيع.(6) أمّا الظاهرة التي كانت شائعة في عهد النبيّ لوط عليه السلام، فهي ظاهرة اللّواط بحيث كان الهدف الأساسي الذي ركّزت عليه رسالته هي محاربة هذه الظاهرة القبيحة.(7) و كانت رسالة هؤلاء الأنبياء تدعو إلى عبادة

ص:133


1- سورة البقرة (2)، الآية 62؛ سورة المائدة (5)، الآية 69.
2- سورة الشُعراء (26)، الآيات 10-68.
3- - سورة الشُعَراء (26)، الآيات 105-122.
4- سورة الشُعَراء (26)، الآيات 123-140.
5- سورة الشُعَراء (26)، الآيات 141-159.
6- - سورة الشُعَراء (26)، الآيات 176-190؛ سورة الأعراف (7)، الآيات 85-93؛ سورة هود (11)، الآيات 84 و 95.
7- - سورة الشعراء (26)، الآيات 160-174.

اللّه مع توجيه الأنظار إلى أركان المعتقدات الدينية، و كانت في الوقت ذاته تحارب الظواهر السلبية السائدة في المجتمع.

تدل كل هذه المعالم على أنّ الهواجس الأساسية التي كانت تجتذب اهتمام الأنبياء هي فكرة التوحيد وتطهير أفكار و أرواح الناس من معتقدات الشرك والخرافة. و توجيه الأنظار إلى عالم الآخرة، هذا إلى جانب معالجة القضايا الاجتماعية و واقع الحياة. لكن المحور الأساسي لدعوة الأنبياء هو تطهير النفوس والارتقاء بالجانب المعنوي من أجل قبول فكرة التوحيد والابتعاد عن الشرك، و لكنّهم لم يقفوا عند هذا الحد و إنّما اهتموا بالجوانب الأُخرى كمقدمة و تمهيد للرقي المعنوي، مثل قضية العدالة و محاربة الظلم.

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم حول مهمّة الأنبياء: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ...) .(1)

اضطلع الأنبياء بدور بارز في الإصلاح الاجتماعي. و هناك قسم مهم مما تحدّث به القرآن حول الأنبياء يتعلّق بدورهم الاجتماعي.(2) و هذا يعني أنّ هدف الأنبياء كان إصلاح شؤون الناس الدنيوية والأخروية. و هذا ما لم يكن بوسع الناس تحقيقه بدون المنهج الذي جاء به الأنبياء. و حتى لو أنهم توصّلوا إلى شيء في هذا المجال، فإنّهم ما كانوا يعرفون السبيل المؤدية إلى تنفيذه بنجاح.

اصطفاء الأنبياء

لقد اصطفى اللّه للنبوّة من بين الناس أطهرهم و أصلحهم و أفضلهم سمعة و خيرهم سيرة، ليحوزوا إضافة إلى ثقة اللّه، ثقة أبناء مجتمعهم؛ و ذلك لأن ظاهر كلام كل نبيّ يكون مع أبناء مجتمعه، فإن لم يكن موضع ثقتهم، أو لم تكن له سمعة طيّبة بينهم لاتثمر الجهود التي يبذلها لهدايتهم، و يفشل في إثبات نبوّته.

ص:134


1- سورة الحديد (57)، الآية 25.
2- - الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان، ج 3، ص 146 و 147.

الوحي

اشارة

الوحي بمعنى الإشارة السريعة، والكلام الذي يأتي على سبيل الرمز والتعريض.(1) و تدل موارد استعمال كلمة الوحي في القرآن على أنّ المراد منها نوع من العلاقة الرمزية والإشارية. و قد تكون مثل هذه العلاقة بين اللّه و مخلوقاته، أو بين الناس، أو بين الشياطين. جاءت كلمة الوحي في القرآن بشأن تدبير السماوات، والوحي إلى الأرض، والوحي إلى النحل، والوحي إلى أُمّ موسى عليه السلام، والوحي إلى الأنبياء. و يستدلّ من الأُمور المذكورة على أنّ الوحي شيء خفي ورمزي.

تتحقق علاقة اللّه مع الأنبياء بواحد من الطرق المذكورة: الوحي، التكلم من وراء حجاب أو إرسال الرسل: (وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) . (2) و قد يأتي الوحي إلى الأنبياء في اليقظة تارة، أو أثناء المنام تارة أُخرى. و يتّخذ طابع الرؤيا كما حصل بالنسبة إلى النبيّ إبراهيم عليه السلام الذي رأى في المنام أنه يذبح ابنه(3) فاعتبره حُكْماً إلهياً، و نفّذ ما وجب عليه تنفيذه.

والأنبياء معصومون في تلقّي الوحي و حفظه و إبلاغه للناس. و لا تأثير لهم في مضمون الوحي، و يحظون بتسديد إلهي خاصّ أثناء تلقي الوحي و إبلاغه.

الّذين لايدركون حقيقة الوحي لاينبغي لهم إنكاره؛ لأَنَّ عدم إدراك الشيء لايعني انعدامه. مثلما هو الحال بالنسبة إلى الأعمى الذي يعجز عن إدراك الألوان بطرق وثيقة لديه، و لهذا لايستطيع تصوّرها و قبولها عندما يُخبر عنها في المرّة الأُولى، و لكنّ هذا الحال لايبيح له - طبعاً - إنكار ذلك.

و يمكن من باب التشبيه اعتبار الوحي كالمنام. فمثلما أنّ الإنسان يدرك في عالم المنام حقائق قد لايدركها في عالم اليقظة. ويُحتمل أن يدرك في عالم اليقظة حقائق عن طريق

ص:135


1- - الراغب الاصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ص 858.
2- - سورة الشورى (42)، الآية 51.
3- - سورة الصافّات (37)، الآيات 102-104.

سبل غير متعارفة. و قد يأتي ما يراه في عالم الرؤيا صريحاً تارة، و قد يحتاج إلى تفسير تارة أُخرى. فإن كان هناك شخص لم يمر بتجربة المنام، و قيل له بأن بعض الناس عندما ينامون و تتوقف كل حواسهم عن العمل كالموتى، و لكنّهم قد يتّفق لهم أن يطّلعوا - وهم في هذا الحال - على بعض الحقائق، فهو بطبيعة الحال قد لايصدق و قد يقول: إنّ وسائل الإدراك لدى الإنسان هي الحواس الظاهرية، فإذا توقفت عن العمل، لايتسنّى له إدراك شيء، و لكنّ التجربة تثبت بطلان رأيه طبعاً. فمثلما يدرك العقل في مرتبة معيّنة حقائق من المعقولات التي لاتُدرك بالحواس، فهكذا الحال أيضاً في ما يخصّ الوحي؛ إذ يُعطى النبيّ في هذه المرتبة بصيرة يدرك بها الأُمور الغيبية الخافية على العقل.

تشخيص الوحي من قبل النبيّ

كيف و عن أي طريق يُدرك النبيّ بأنه قد أُوحي إليه؟ و بأيّ معيار يفهم بأن ما يحصل له وحياً و ليس وساوس و هواجس شيطانية؟ هذا السؤال عرضه زرارة على الإمام الصادق عليه السلام، فأجابه بما يلي: «إنّ اللّه إذا اتّخّذَ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكأنَّ الذي يأتيه من قبل اللّه مثل الذي يراه بعينه».(1) و انطلاقاً من هذه الثقة، كان الأنبياء يطرحون تعاليمهم بحزم و من غير تردّد. و ليس هناك من نبي كانت لديه شكوك في ما دعا إليه الناس. و هذا هو أحد الفوارق المهمّة بين الأنبياء والنوابغ، فالنوابغ رغم ما يتّصفون به من نبوغ غير أنهم كثيراً ما يبدّلون آراءهم و يحتملون خلاف ما يقولون به. بينما النبيّ عندما يتلقّى الوحي و يشهد الواقع، تزول من أمامه الحجب، و يدرك كل شيء بالعلم الحضوري.

طرق إثبات النبوّة

اشارة

النبوّة أمر معنوي و إلهي. و للوثوق من صحّة ادّعاء من يدعي هذا المقام، لابُدّ أن تكون لديه حُجّة. و نحن نورد في ما يلي بضع ملاحظات - بإيجاز - في مضمار إثبات نبوّة النبيّ،

ص:136


1- - تفسير العياشي، ج 2، ص 201؛ الصفّار، محمّد بن الحسن، بصائر الدرجات، ص 370.

حالات الأنبياء قبل وبَعد البعثة، والمنهج الذي سلكوه، تمثّل شاهداً صريحاً على حقّانيّتهم.

كما ورد على صفحات التاريخ أنّ النجاشي ملك الحبشة أيقن بحقّانية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و آمن به، بعد أن استخبر عن أحواله من موفدي قريش إليه.(1) و من السُبُل الموصلة إلى ذلك، النظر في محتوى رسالته و تعاليمه، و مقارنة كل نبي مع من سبقه من الأنبياء، وتصديقه لمن جاؤوا قبله منهم و بشارة نبي قبله بمجيئه، والأهم من كل ذلك أن تكون له معجزة.

المعجزة
اشارة

جعل اللّه لكل بني دلالات يُستدل بها على صدق ما يدّعيه. والتعابير التي استعملها القرآن للتعبير عن هذا المعنى هي: البينة، والبرهان، والحجة، والآية. فالبيّنة هي الدليل الواضح الذي لايبقى معه لدى المنصف أي شكّ في صدق المدّعى. نقلت سورة هود عن الأنبياء نوح و صالح و شعيب عليهم السلام أنّ كل واحد منهم قال لقومه: (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) . (2) و من الطبيعي أنّ الناس يتوقّعون من مدّعي النبوّة أن يقدّم براهين تثبت ارتباطه باللّه. كما أنّ السنّة الإلهية قضت بتزويد الأنبياء ببراهين بيّنة لكي يؤمن الناس بهم بثقة واطمئنان (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) .(3)

و لكنّ الناس أحياناً ما كانوا يكتفون بهذا، و إنّما كانوا يطالبون الأنبياء بمعجزات لإثبات صحّة ما جاؤوا به. و في مثل هذه الحالات كان النبيّ يأتي بما من شأنه أن يبيّن للناس بأنّه يستند إلى قدرة تفوق قدرة البشر، و أنه على ارتباط عميق بعالم الغيب.

حقيقة المعجزة

المعجزة عمل خارق يقع لإثبات ادّعاء أمر إلهي. فمدّعي النبوّة يأتي بمعجزة لإثبات منصبه الإلهي، و يتحدّى مكذّبيه في أمر النبوّة بحيث يبقون عاجزين عن الإتيان بالعمل الذي يظهره للناس. و هذا يعني طبعاً أنّ الأعمال الخارقة التي يقوم بها المشعوذون

ص:137


1- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 20، ص 392، الحديث 8.
2- - سورة هود (11)، الآيات 28، 63 و 88.
3- سورة الروم (30)، الآية 47.

والمرتاضون والسّحرة لاتعد من المعاجز؛ و ذلك لأنهم يأتون بمثل هذه الأعمال نتيجة لخبرة و تمرين يكتسبونه من الآخرين، ثم أنهم لايدّعون النبوّة، و ليست لديهم مقدرة على التحدّي؛ لأنهم يعلمون بقدرة الآخرين على الإتيان بنظير هذه الأعمال عن طريق التمرين والتعلّم.

المعجزة و قانون العلّية

إنّ المعجزة - باعتبارها عملاً خارقاً للعادة - تثير في الأذهان شبهة مفادها أنّ مثل هذا العمل ينقض قانون العلّيّة. والحقيقة هي أنّ الأمر ليس كذلك، و إنّما المعجزة شيء قابل للتحقق بحد ذاته، و لكن لايمكن تحقيقه بشكل عادي و بالعلل والأسباب الطبيعية، و لكن النبيّ يقوم به بإذن اللّه و بطرق غير معهودة. نذكر على سبيل المثال أنّ نواة التمر إذا غرست قد تصبح نخلة بَعد عشر سنوات، و لكنّها قد تثمر في مدّة أقل لو تولّى رعايتها شخص متخصص بالزراعة، و فيما لو تطوّر علم الزراعة، و لكن تحويل النواة إلى نخلة في دقيقة واحدة ليس في مقدرة البشر، غير أنه ليس أمراً مستحيلاً. فأمثال هذه الأُمور ممكنة، و لكن لابُدّ أن تكون هناك علّة لها. والعلل قد تكون ظواهر طبيعية تارة، أو قد تكون غير طبيعية و غير محسوسة تارة أُخرى. فتأتي قدرة وعلّة أُخرى و تعجّل في حصول العوامل، فيقع ذلك الأمر في أقل زمان فيقال بأنّ معجزة وقعت. و من أعظم العلل الموجبة للمعجزة، إرادة و قدرة اللّه التي تأتي عن طريق علل خفيّة.

الهدف من المعجزة

تأتي المعجزة للكشف عن حقيقة فحسب، و لكن ربّما كان أعداء و معارضو الأنبياء يطلبون منهم الإتيان بمعجزة، و لكن تلك المعجزة قد لاتتحقق و ذلك للأسباب التالية:

أوّلاً: إنّ المطالبين بالمعجزة لايريدون التوصل إلى الحقيقة و إنّما غايتهم إيذاء النبيّ.

نذكر مثلاً، أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما

ص:138

زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) . (1) و هذه المطاليب تدل بكل وضوح، على أنّ هدف المشركين لم يكن التوصل إلى الحقيقة، و إنّما طلبوا تلك المطاليب من باب العناد والمكابرة. و هذا يعني أنهم لايؤمنون حتى لو تحققت هذه المطاليب.

ثانياً: كان هدف المعجزات هو ان يستثير الأنبياء فطرة الناس و يستميلوا قلوبهم نحو الجانب المعنوي. و لهذا قال لهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً) . (2)(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) .(3)

ثالثاً: والأهم من كل ذلك أنّ الاحتجاج بالمعجزات ليس هو الأصل في عمل الأنبياء و إنّما الأصل في ذلك، الدليل والشاهد على الرسالة والنبوّة و قبول ذلك عن ثقة.

اختلاف المعجزات

يُستشفّ من المتوفّر بين أيدينا من معلومات حول معجزات الأنبياء عليهم السلام، أنها كانت على أنماط شتّى؛ و تتناسب مع طبيعة الظروف الاجتماعية والبيئية والفكرية التي يعيشها الناس. فقد سُئِل الإمام الكاظم عليه السلام عن السبب الذي جعل معجزة موسى عليه السلام اليد البيضاء والعصا، و جعل معجزة المسيح الطبابة و شفاء المرضى، و معجزة النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم الفصاحة، فقال: «إنّ اللّه لَمّا بعث موسى عليه السلام كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن في وسعهم مثله، و ما أبطل به سحرهم و أثبت به الحجة عليهم، و إنّ اللّه بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات و احتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن عندهم مثله، و بما أحيى لهم الموتى و أبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه و أثبت به الحجة عليهم، و أن اللّه بعث محمداً صلى الله عليه و آله و سلم في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام و أظنّهُ قال: الشعر، فأتاهم من عنداللّه من

ص:139


1- - سورة الإسراء (17)، الآيات 90-93.
2- سورة الإسراء (17)، الآية 93.
3- سورة العنكبوت (29)، الآية 50.

مواعظه و حكمه ما أبطل به قولهم و أثيت به الحجّة».(1)

و هكذا يتضح بأن اختلاف المعجزات خاضع لظروف الزمان و متطلبات كل عصر.

عصمة الأنبياء

اشارة

لابد لأداء الرسالة من توفّر ثقة الناس و اطمئنانهم من إبلاغ الرسالة بالشكل الصحيح.

و هذا يقتضي عصمة الأنبياء من الخطأ والمعصية. و أما الذين يتدنّسون بالذنوب و معصية أمر اللّه و هضم حقوق عباد اللّه والطمع فيها، و لايتّصفون بالتفاني و نكران الذات، لايمكن أن يكونوا موضع ثقة و لايفوّض إليهم أمر خطير كالنبوّة.

و من الطبيعي أنّ الاطمئنان من صحة إبلاغ الرسالة الإلهية يستدعي عصمة المرسلين من الأخطاء والذنوب. فمن يتدنّس بالآثام لاتُستبعد منه معصية اللّه أو هضم حقوق العباد، و لايحظى بملكة نفسية تصونه من الانزلاق إلى تحقيق أهوائه فيما إذا أُتيحت له الفرصة. و مثل هذا الشخص لايمكن الوثوق به و تفويض أمر خطير - كالرسالة الإلهية - إليه.

حقيقة العصمة

ينقسم الناس من حيث موقفهم من الآثام والذنوب إلى ثلاثة أقسام: غير المُبالي، والعادل، والمعصوم. و غير المُبالي هو من لايتّصف بقوّة معنوية و رادع ذاتي يصونه من الوقوع في الإثم، و هذا يعني أنه لايتورّع عن ممارسة الآثام والذنوب. والعادل هو من يتحلّى بملكة نفسية و ورع يصونه من اقتراف القبائح. و في الوقت ذاته قد تستحوذ عليه نفسه وتغلبه فيقترف إثماً، و لكنّه بَعدما ينتبه يتوب.

أمّا إذا كان يتحلّى بملكة اجتناب الإثم والورع عن محارم اللّه بحيث لايعصي اللّه في

ص:140


1- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 24، الحديث 20؛ الفيض الكاشاني، الوافي، ج 1، ص 110-113، الرقم 22.

جميع الظروف والأحوال، فهذا هو الحاصل على درجة العصمة. والعصمة مرحلة فوق العدالة، و هي تعني أنّ الشخص بلغ درجة ينفر فيها من الذنب، و لايُدنس نفسه به أبداً. قال الإمام الصادق عليه السلام في وصف العصمة والمعصوم: «المعصومُ هو الممتنعُ باللّه من جميعِ محارمِ اللّه، و قد قال اللّه - تبارك و تعالى -: (وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (1)».(2)

منشأ العصمة

للعصمة منشآن: أحدهما لطف من اللّه على خاصة من عباده. والمنشأ الآخر الوعي و كمال الإيمان. فإن وصل أحد درجة من الإيمان والوعي بحيث تتكشف له حقائق الأُمور، و يمتنع بالنتيجة عن ارتكاب أيّ ذنب، فهذا يعني أنه قد نال مرتبة العصمة. إنّ الإيمان والوعي يمنعان الإنسان عن الذنب. والمعصوم لديه رادع قوي من الوعي والإيمان، يحول بينه و بين الآثام والأخطاء بحيث يمكن تشبيهه بمن يرى مادة و يوقن بأنّها سمّ قاتل فيجتنب تناولها. و هذا يعني أنّ منشأ العصمة ليس قوّة خارجية، و إنّما هو اختيار واعٍ يميّزه عن غيره و يمنحه مقام العصمة.

ردّ على شبهة

إن كان الأنبياء معصومون من كبائر الذنوب وصغائرها، فهذا يستدعي أن تكون عصمتهم على الصعيد النظري و على الصعيد العملي على حدٍّ سواء. و إن كان الأمر كذلك، فكيف يمكن توجيه ما جاء في القرآن الكريم بشأن بعض الأنبياء، و من ذلك قوله تعالى في آدم: عليه السلام (وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ، (3) أو ما جاء على لسان النبيّ يونس عليه السلام من قوله تعالى: (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ) . (4) و ورد عن النبيّ موسى عليه السلام أنه قال رداً على

ص:141


1- سورة آل عمران (3)، الآية 101.
2- المجلسي، بحارالأنوار، ج 25، ص 194 و 195، الحديث 6.
3- - سورة طه (20)، الآية 121.
4- - سورة الأنبياء (21)، الآية 87.

فرعون الذي قال له: إنك ارتكبت ذلك العمل - أي قتله لرجل قبطي حينما استنصره رجل سبطي -: (فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضّالِّينَ) .(1)

ولتسليط الضوء على التساؤل الوارد آنفاً لابُدّ من توضيح ثلاثة أُمور:

1 - هنالك اختلاف حول المراد من العصمة هنا، و هل هي عصمة من الذنب أم عصمة من الخطأ. فبعض أهل السنّة يقول: إنه عصمة من الذنب و ليس من الخطأ. و هكذا يوجِّهون عصيان آدم وخطأ يونس و موسى عليهم السلام.

2 - إنّ أوامر و نواهي اللّه ليست كلها على درجة واحدة؛ فبعضها واجب، و بعضُها مستحب، و بعضها جائز و مباح. و هكذا الحال بالنسبة إلى النواهي أيضاً؛ فهناك نوعان من النهي: نهي تحريم و نهي كراهة. أي أنّ النهي يوجب اجتناب ما نُهي عنه تارة، وتارة أُخرى لايدل على الحرمة، و لكن يستحسن فيه الترك، و لكن لو ارتكب فلا عقوبة عليه؛ لأَنَّ العمل الذي ارتكب كان من الأفضل أن لايُرتكب.

3 - هناك من الذنوب والأخطاء ما يُقاس بمكانة الأفراد و منزلتهم. بمعنى: إن كان الشخص محطّ أنظار الناس، ويُرتجى منه أن يكون عمله في غاية الصلاح، و بعيداً عن كل شائبة أو إجحاف، فمن الطبيعي أن يكون أي خلل أو زلل في سلوكه مدعاة للتساؤل والشكوك. و هكذا يصدق على الأنبياء بسبب ما لهم من منزلة عند اللّه، و ما عليهم من مسؤولية أمام الناس. فلابّد إذاً أن يُرتجى منهم ما لايُرتجى من غيرهم. نذكر كمثال على ذلك، أنّ ما فعله النبيّ موسى عليه السلام (و هو القتل) جاء في سياق الدفاع عن المظلوم و لم يكن خلافاً للشرع، و لكنّه كان بالنسبة إلى موسى عليه السلام عملاً غير مناسب؛ لذلك أعرب عن ندمه عليه. و عندما بُعث بالرسالة و ذهب إلى فرعون، كانت أول مؤاخذة أثارها فرعون ضدّه هي هذه الحادثة.

أمّا بالنسبة إلى النبيّ يونس عليه السلام، فلم يكن من المناسب لنبي أن يهاجر و يترك قومه ولّما ينزل عليهم العذاب. وخلاصة الكلام هي أنّ ذنب كل شخص يتناسب مع مكانته. فما قد

ص:142


1- سورة الشُعَراء (26)، الآية 20.

يُحتسب على البعض ذنباً لايُحتسب كذلك على غيره، و لهذا قيل: «حسناتُ الأبرارِ سيّئاتُ المُقرّبين».(1) و أمّا بالنسبة إلى استغفار الأنبياء فيمكن توجيهه في هذا السياق أيضاً. فالنبي بما له من مقام معنوي و عروج روحي يُعتبر آثماً فيما لو انشغل لحظة بأمور عادية. و هذا لايعني - طبعاً - أنّ إثمه يستحق العقاب، و إنّما هو خلاف لِما يتوقّع منه.

أمّا بالنسبة إلى معصية آدم عليه السلام لِما نهاه عنه ربّه من الاقتراب من تلك الشجرة المحرّمة، فقد كان نهياً إرشادياً. و كانت مخالفته توقع آدم نفسه في مشقّة. و كان الأكل من ثمار تلك الشجرة سبباً لفقدان آدم لحالة الاستقرار والسكينة و مكابدة النصب والعناء: (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) .(2)

علم الأنبياء

اشارة

الأنبياء خيرة اللّه،(3) اصطفاهم و ألهمهم العلم والحكمة. وهم يتّصفون بالفضيلة، والأمانة، و حسن الأخلاق، والتقوى، والإخلاص، والصبر، و غير ذلك من الصفات الحميدة.

و قد جاء صراحة أنّ بعض الأنبياء ألهموا علماً الهياً.(4) و قد نصّت سورة الأنعام بَعد ذكر أسماء ثمانية عشر نبياً و بيان فضائلهم على ما يلي: (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ) . (5) و إضافة إلى العلم فقد حظي الأنبياء بالحكمة أيضاً. والحكمة هي الفهم العميق والبصيرة.

علم الغيب عند الأنبياء

حظي الأنبياء في سياق المهمة الموكلة إليهم بإبلاغ رسالات اللّه، بما لم يحظ به غيرهم

ص:143


1- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 17، ص 39.
2- سورة طه (20)، الآية 117.
3- - سورة الفاطر (35)، الآية 32.
4- - سورة البقرة (2)، الآية 31؛ سورة آل عمران (3)، الآية 48؛ سورة المائدة (5)، الآية 110؛ سورة يوسف (12)، الآية 22؛ سورة مريم (19)، الآية 43؛ سورة الأنبياء (21)، الآية 74؛ سورة النمل (27)، الآية 15؛ سورة القصص (28)، الآية 14.
5- - سورة الأنعام (6)، الآية 89.

من الاطلاع على أُمور غيبية (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) .(1)

عرض القرآن موارد من علم غيب الأنبياء، و من ذلك ما أخبر به عيسى عليه السلام بني إسرائيل،(2) و اطِّلاع نبيّنا على أسرار كانت تخفيها إحدى زوجاته.(3) و شم يعقوب عليه السلام قميص يوسف عليه السلام من مسافة بعيدة.(4) و رغم ذلك فقد نصّت بعض آيات القرآن على أنّ علم الغيب للّه، و لايطلع عليه أحداً: (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ) . (5) و جاء في آيات أُخرى أنّ الأنبياء نفوا عن أنفسهم علم الغيب (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) . (6) و ورد أيضاً هذا المعنى في قوله تعالى: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاّ ما شاءَ اللّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ) .(7)

إنّ ما جاء في بعض آيات القرآن الكريم من إثبات العلم الغيب للأنبياء، و ما جاء في آيات أُخرى من نفي لذلك، يُعزى إلى أنّ علم الغيب للّه و لايحيط به أحد إلّابإذنه. و أمّا الذي لدى الأنبياء من علم الغيب، فيدخل في دائرة ما يأذن به اللّه لهم، و أنه هو الذي تكرّم عليهم بمثل هذه الفضيلة والمقدرة.

التفاوت بين الأنبياء

لكل الأنبياء منزلة كريمة عند اللّه، و لكنهم في الوقت نفسه متفاوتون في ما بينهم من حيث المكانة المعنوية من جهة، و في مقام النبوّة والرسالة من جهة أُخرى: (وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) ، (8)(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) .(9)

عُرف بعض الأنبياء بتسمية أولي العزم (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) .(10)

ص:144


1- سورة الجن (72)، الآيتان 26 و 27.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 49.
3- سورة التحريم (66)، الآية 3.
4- - سورة يوسف (12)، الآية 94.
5- - سورة يونس (10)، الآية 20.
6- - سورة الأنعام (6)، الآية 50.
7- سورة الأعراف (7)، الآية 188.
8- - سورة الإسراء (17)، الآية 55.
9- سورة البقرة (2)، الآية 253.
10- - سورة الأحقاف (46)، الآية 35.

و تدل آيتان في القرآن الكريم على أنّ المراد من الأنبياء أُولي العزم هم الأنبياء الخمسة:

النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم، و نوح عليه السلام، و إبراهيم عليه السلام، و موسى عليه السلام، و عيسى عليه السلام، قال تعالى:

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) . (1) والآية الثانية هي التي تتحدث عن أخذ الميثاق من النبيين و خاصّة من الأنبياء الخمسة الذين سلف ذكر أسمائهم.(2) و تجدر الإشارة إلى أنّ هؤلاء الأنبياء أصحاب شرائع، و قد جاء كل واحد منهم إلى قومه بشريعة وفقاً لمقتضيات الزمان.

بشرية الأنبياء

كان الأنبياء بشراً و من جنس الناس، و كانوا بطبيعة الحال يقومون بأعمالهم اليومية مثل أي إنسان آخر. و كانوا مثل سائر الناس يأكلون و يشربون. (وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ) . (3) و قد اتخذ خصوم الأنبياء هذه الصفة ذريعة لإنكار نبوّتهم فكانوا يقولون: (إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا) . (4) و كان جواب الأنبياء لهم:

نعم نحن بشر مثلكم و لكن اللّه يمنّ على من يشاء من عباده و يصطفيه للنبوّة.(5)

و سرّ هذا الاصطفاء هو أنَّ الأنبياء هداة للناس، و اسوة لهم في العمل والأخلاق والسلوك. و لهذا يجب أن يكونوا من بينهم ليكون الناس على بيّنة بأن الإنسان يستطيع أن يكون تقياً و صالحاً و عمله مقبول عند اللّه. و ربّما لو كان الأنبياء من الملائكة لحظوا باقبال أكثر من الناس، و لكنهم ما كانوا يستطيعون تحقيق كل أهداف الأنبياء و ذلك لأن هدف الأنبياء لم يكن إبلاغ الرسالة فقط و إنّما كانوا تجسيداً للإنسان المثالي الذي دعوا إليه الناس في رسالاتهم. و لهذا قال تعالى في كتابه الكريم: (لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) .(6)

ص:145


1- - سورة الشورى (42)، الآية 13.
2- - سورة الأحزاب (33)، الآية 7.
3- - سورة الأنبياء (21)، الآية 8.
4- - سورة إبراهيم (14)، الآية 10.
5- سورة إبراهيم (14)، الآية 11.
6- سورة الأنعام (6)، الآية 9.

سيرة الأنبياء

كان الأنبياء أُناساً متفانين من أجل البشرية، و كرّسوا كل مساعيهم في سبيل انتشال بني البشر من الفساد. فكانوا أحياناً يشعرون بالحزن والأذى بسبب عدم إيمان الكُفّار: (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) .(1)

الأنبياء كغيث يستجلب الرحمة الإلهية، يروون كل العباد بينبوع الوحي، من غير أن يرتجوا منهم أجراً، و تحمّلوا الكثير من العناء والمشقّة لكي يعبّدوا أمام الناس طريقاً مستقيماً، و جاهدوا بكل ما أوتوا من قوّة لكي يُقبل الناس إلى منهج السعادة والفلاح و يسيروا عليه.(2) و قد انصَبّت مساعي الأنبياء على استمالة الناس إلى عبادة اللّه، أي هدايتهم. و كان خطابهم موجهاً إلى كل أبناء الأُمّة من غير تمييز بين هذا و ذاك.

نذكر من ذلك - على سبيل المثال - أنّ اللّه عزّوجلّ لَمّا بعث موسى و هارون عليهما السلام بالرسالة، أمرهما أن يشملا بالدعوة جميع الناس و حتى أمثال فرعون، و أن يذهبا إليه و يعظاه و يتكلما معه برفق: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) . (3) و يفهم من هذا:

أوّلاً: إنّ كل الناس و حتى أشقاهم بحاجة إلى دعوة الأنبياء.

و ثانياً: إنّ الدعوة بلين و رفق تؤثّر حتى في مثل قلب فرعون، و تستثير فيه خشية اللّه.

اتبع الأنبياء في أداء رسالاتهم أُسلوب التبشير والإنذار، و حذّروا الناس من القبائح والآثام، و أنذروهم من العواقب الوخيمة للكفر والمعصية، و بشّروا الصالحين والمؤمنين والمحسنين بالثواب والأجر العظيم. و لم يغفلوا لحظة عن دعوتهم إلى التوحيد. و قد أُوذوا في هذا السبيل وعُذِّبوا وأُبعدوا، و حتى أنّ بعضهم قُتلوا، و لكنّ مهمّة التبليغ و دعوة الناس إلى عبادة اللّه لم تتوقف، و بقيت متواصلة على الدوام.

استعمل الأنبياء في دعوتهم أُسلوب اللين والمرونة، وسعوا إلى استمالة الناس إلى عبادة اللّه عن طريق إثارة المشاعر الإنسانية فيهم. و قد وصف اللّه تبارك و تعالى رسوله

ص:146


1- سورة الشُعراء (26)، الآية 3.
2- - سورة التوبة (9)، الآية 128.
3- - سورة طه (20)، الآية 44.

الكريم بما يلي: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) . (1) و قد أبدى الأنبياء صلابة منقطعة النظير على طريق هدفهم (وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ) .(2)

لم يكن لدى الأنبياء طمع في الحصول على أجر من الناس لقاء تبليغ رسالاتهم (وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) .(3)

و قد اتّبع معارضو الأنبياء - كأي مستبد آخر - أُسلوب الإيذاء والتبعيد والقتل ضدّهم و إلصاق التهم بهم، و لكنّ الأنبياء كانوا يجتنبون الأساليب الانفعالية، والصخب، والضغظ، والإكراه، والعنف والتُهم، في نشر الدّين.

إنّ سيرة الأنبياء تمثّل درساً و عبرة يجب أن يحتذي بها كل دعاة الاصلاح الاجتماعي والتربوي. فالأنبياء هم روّاد الاصلاح، و دعاة الناس إلى التقوى والإخلاص. و لم يكونوا يدلون برأي أو يقومون بعمل يبدو في نظر الناس متناقضاً. و كانوا يتّصفون بالثبات على موقف معنوي واحد في حالتي النصر والهزيمة، و هو التوجّه إلى اللّه.

كان الأنبياء ثابتين على مبادئهم؛ فلم يكونوا يتلوّنون في كل يوم بلونٍ، و لا كانوا يمارسون الألاعيب السياسية، و إنّما كانت القيم الدينية أصلاً و مبدءاً ثابتاً لديهم على الدوام. و على هذا الأساس كانوا يتمسّكون بما يعاهدون الناس عليه و بالمعاهدات التي يبرمونها مع جهات أُخرى، و لم ينقضوها قط. (وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) .(4)

كان الأنبياء كثيراً ما يواجهون معارضة من أُولئك الذين يرون في تعاليم السماء خطراً يهدد مصالحهم. و رغم كل تلك العراقيل والإساءات، فإنَّ الأنبياء كانوا يصفحون عنهم.

و كان من دأب الأنبياء أيضاً الدفاع عن المظلومين والدعوة إلى الحق. و كانوا لايتّبعون أساليب الزيف والخداع لتحقيق أهدافهم، و لايبيحون كل وسيلة لبلوغ الغاية. و كانوا يتعاملون مع المؤمنين و طلبة الحق و عموم الناس بتواضع، و لكنّهم عندما تقتضي الضرورة

ص:147


1- - سورة آل عمران (3)، الآية 159.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 146.
3- سورة الشُعَراء (26)، الآية 109.
4- سورة آل عمران (3)، الآية 161.

تجدهم رجال جهاد وصولات. و ما كان في قلوبهم خوف إلّاخوف اللّه، و كانت قلوبهم مشدودة إلى اللّه و متعلقة به. و يمكن القول بإيجاز: إّنهم كانوا ولهين بعبادة اللّه؛ و موحّدين له بكل معنى الكلمة.

كان الأنبياء يعيشون في وسط مجتمعاتهم ويُعتبرون أنفسهم جزءاً من المجتمع الذي يعيشون فيه، و يحرصون على قيادة سفينة المجتع إلى ساحل النجاة. و كانوا بطبيعة الحال يعيشون بين الناس بزهد و بساطة. و قد وصف أميرالمؤمنين عليه السلام ذهاب موسى و هارون عليهما السلام إلى فرعون بقوله:

وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَدَوَامَ عِزِّهِ فَقَالَ: الاَ تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَبَقَاءَ الْمُلْك وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ، فَهَلاِّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ، وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ، وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَوُحُوشَ الأرضينَ لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُ وَاضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ، وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ، وَ لاَ اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ، وَ لاَ لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا، وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ.(1)

وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ كَافٍ لَكَ فِي الْأُسْوَةِ، وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا؛ إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا وَفُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا. وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، وَاللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً يَأْكُلُهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الأرض، وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ، لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ. وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ وَ قَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ وَيَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا

ص:148


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192 (القاصعة)، ص 291.

وَيَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا؟ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ وَيَأْكُلُ الْجَشِبَ، وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ وَظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأرض لِلْبَهَائِمِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَ لاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ وَ لاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلاهُ وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ، قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً وَ لَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً وَ أَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ وَ حَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَ صَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلاِّ حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ، وَ تَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ، لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلَّهِ وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَلَقَدْ كَانَ يَأْكُلُ عَلَى الأرض وَ يَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَ يَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ وَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ.(1)

خاتم الأنبياء

ولد نبي الإسلام محمد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله و سلم في عام 570 للميلاد.(2) و كان أبوه قد توفّي قبل ولادته. و توفيت أمّه و هو في السادسة. فكفله جدّه عبدالمطلب (رضوان اللّه عليه). وبَعد سنتين توفي جدّه عبدالمطلب، فكفله عمّه أبو طالب (رضوان اللّه عليه). و كان صلوات اللّه عليه - كأكثر أهل مكة - أميّاً (فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) .(3)

و رغم أنه عاش في أجواء مكّة و ما جاورها، غير أنه لم يصطبغ بصبغتها؛ فقد كان معروفاً بالأمانة حتى أنه عرف باسم محمد الأمين، و لم يسجد لصنم قط. و قد قال عنه

ص:149


1- المصدر السابق، الخطبة 160، ص 226-228.
2- - الشيء المعيّن وقته والمسلّم به في التاريخ أمران: الأوّل هو أن هجرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كانت في يوم السبت الثامن من ربيع الأوّل، المصادف 20 سبتمبر من عام 622 م؛ و كان سنّه حين الهجرة حوالي اثنين و خمسين سنة، والآخر وفاته. و يمكن التوصّل من خلال ذلك إلى أنّ ولادته كانت حوالي عام 570 م.
3- سورة الأعراف (7)، الآية 158.

علي عليه السلام: «وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ».(1)

و في الأربعين من عمره ذهب في أحد الأيام - كما كان يذهب عادة للتعبد - إلى غار حراء، فبُعِث بالنبوّة و بدأ منذ ذلك اليوم مهمّته في أداء الرسالة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) .(2)

و كان محتوى دعوته، و وقع الآيات التي يتلوها على الناس، يتّسم بكثير من الجاذبية، بحيث حار فيه معارضوه حتى وصفوه بالسحر والكهانة والجنون.

بدأ بإبلاغ الرسالة من أُسرته، ثم تدرج منها إلى قبيلته، و بَعد ذلك إلى عموم الجزيرة العربية، ثم في نهاية المطاف إلى العالم كلّه: (وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ) .(3)

و بَعد عقد من الزمن شعّ نور الرسالة من مكّة وبلغ المدينة. و لم يمر وقت طويل حتى أقام في المدينة دولة. و قد واجهت الرسول حينذاك مشاكل داخلية و خارجية خطيرة، و لكنّها لم تفتّ في عضده و لم تثنه عن عزمه، بل بالعكس زادته تصميماً على مواصلة دربه.

فنجح صلوات اللّه عليه في أن يجعل من أولئك الأعراب الأجلاف رجالاً في غاية الورع والإخلاص والتقوى والإيثار.

سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

ورد في حديث مشهور عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «اَدَّبَني رَبّي فَأحْسَنَ تَأديبي».(4)

و ورد عنه أيضاً أنه قال: «اَنا أديب اللّه وَ علِيٌّ أديبي».(5)

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شخصية إلهية، و رجلاً فذّاً في عالم الوجود. كانت كل أعماله

ص:150


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192، ص 300؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 14، ص 475.
2- سورة العلق (96)، الآيتان 1 و 2.
3- سورة الأنعام (6)، الآية 19.
4- المجلسي، بحارالانوار، ج 16، ص 210؛ الطبرسي، مجمع البيان، ج 5، ص 333، في ختام الآية 4 من سورة القلم.
5- المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 231.

وسيرته إلهية. و قد جاء في رواية: إنّ اللّه عزّوجلّ أدّب نبيه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (1) ثم فوض إليه أمر الدّين والأُمّة ليسوس عباده.(2)

و انطلاقاً من ذلك جعله الباري تعالى أُسوة لعباده و قال: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (3) و لمعرفة المزيد عن جوانب شخصية الرسول صلى الله عليه و آله و سلم نسلّط الضوء في ما يلي على ملامح من سيرته.

عبادته

كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مكلّفاً بقيام الليل و أداء نافلة الليل، و قراءة القرآن (يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (4) و كانت أعظم مفخرة لرسول اللّه أنه كان عبداً للّه. و قد وصفه عزّوجلّ في القرآن الكريم بأنه عبده.(5) و قد كان قبل الرسالة يمضي قسماً من وقته بالعبادة في غار حراء.(6)

كان يكثر من البكاء من خشية اللّه حتى يُغمى عليه. و لما قيل له: لِمَ تتعب نفسك و قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟ فقال: ألا أكون عبداً شكوراً.(7)

كان يستغفر اللّه في كل يوم سبعين مرّة.(8) و كان يصوم حتى يُقال: لايفطر. ثم صام يوماً و أفطر يوماً. ثم صام الاثنين والخميس. ثم آل من ذلك إلى صيام ثلاثة أيام في الشهر؛ الخميس في أول الشهر، والأربعاء في وسط الشهر، والخميس في آخر الشهر. و كان صلى الله عليه و آله و سلم يقول: ذلك صوم الدهر.(9)

ص:151


1- - سورة القلم (68)، الآية 4.
2- الكليني، الكافى، ج 1، ص 266، الحديث 4؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 17، ص 4، الحديث 3.
3- - سورة الأحزاب (33)، الآية 21.
4- - سورة الإسراء (17)، الآية 79.
5- - سورة الإسراء (17)، الآية 1.
6- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192، ص 300.
7- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 95، الحديث 6.
8- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 505، الحديث 5؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 258، الحديث 41.
9- الصدوق، من لايحضره الفقيه، باب صوم السنة، ج 2، ص 48، الحديث 1.
مداراة الناس

روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ جبرائيل عليه السلام جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و قال له: يا محمد، ربّك يقرئك السلام و يقول لك: دارِ خلقي.(1) و كان رفقه بالناس و مداراته لهم سبباً لاستمالة قلوبهم، فجعل من أُولئك الناس القساة الطباع و ذوي القلوب المتحجّرة أُناساً رؤفاء:

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) .(2)

روي أنّ رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يكلّمه فأرعد، فقال: هوّن عليك، فلست بملك، إنّما أنا ابن امرأة كانت تأكل القد.(3)

قال الإمام الحسين عليه السلام: سألت أبي: كيف كانت سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جلسائه؟ فقال: كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ و لا صخّاب و لا فحّاش و لا عيّاب... قد ترك نفسه من ثلاث: المِراء، والإكثار، و ما لايعنيه.(4)

و قد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يجالس الفقراء، و يؤاكل المساكين، و يناولهم بيده.(5) و كان إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيّام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، و إن كان شاهداً زاره، و إن كان مريضاً عاده.(6)

و عندما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أوصاه بأمور منها أنه قال له: إياك أن تشتم مسلماً(7) و قال للناس في خطبة حجة الوداع: أيها الناس، إنّ دماءكم و أعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا.(8)

النظافة والزينة

كان صلى الله عليه و آله و سلم يولي أهمّية خاصّة للنظافة. و كان من عادته أن ينظر في المرآة و يرجّل شعره

ص:152


1- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 116، الحديث 2.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 159.
3- المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 229، ذيل الحديث 35.
4- المصدر السابق، ص 152 و 153؛ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 318 و 319.
5- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 228، الحديث 34.
6- المصدر السابق، ص 233.
7- - الحرّاني، تحف العقول، ص 26.
8- المصدر السابق، ص 31.

و يمتشط، وربّما نظر في الماء وسوّى جمّته فيه. ولقد كان يتجمّل لأصحابه فضلاً عن تجمّله لأهله. و كان يقول: إنّ اللّه تعالى يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيّأ لهم و يتجمّل.(1) و كان يستاك ثلاث مرّات كل ليلة: مرة قبل نومه، و مرّة إذا قام من نومه إلى ورده، و مرّة قبل خروجه إلى صلاة الصبح.(2) و كانت هناك أشياء لاتفارقه في أسفاره: قارورة الدهن، والمكحلة، والمقراض، والمسواك، والمشط.(3) و روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينفق على الطيب أكثر ممّا ينفق على الطعام.(4)

الاعتدال

وصف القرآن الكريم الأُمّة الإسلامية بالأُمّة الوسط في قوله تعالى: (وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (5) والأُمّة الوسط أي المعتدلة. و قد نقل الإمام الباقر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: من صارت عبادته إلى سنّتي فقد اهتدى، و من خالف سنّتي فقد ضل و كان عمله في تباب. أما إنّي أُصلّي و أنام و أصوم و أفطر، و أضحك و أبكي. فمن رغب عن منهاجي فليس منّي.(6) و كان له مقام معنوي يجل عن الوصف؛ فقد كان يوحى إليه و يسعى بكل ما أُوتي من قوة لإبلاغ دين اللّه من غير أن يثنيه عن ذلك شيء، و لكنّه كان في غاية التواضع في التعامل مع الناس، و كان في بعض الأحيان يمزح مع أصحابه. فقد قال الإمام الصادق عليه السلام: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يداعب و لايقول إلّاالحق.(7)

نُقل أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يأتيه الأعرابي فيهدي إليه الهدية، ثم يقول مكانه: أعطنا ثمن هديّتنا، فيضحك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. و كان إذا اغتّم يقول: ما فعل الأعرابي ليته أتانا.(8)

ص:153


1- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 249.
2- - المصدر السابق، ص 254.
3- - المصدر السابق، ص 250.
4- المصدر السابق، ص 248.
5- - سورة البقرة (2)، الآية 143.
6- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 85، الحديث 1.
7- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 66 من أحكام العشرة، ج 8، ص 408، الحديث 2.
8- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 80 من أحكام العشرة، الحديث 1، ج 12، ص 112.
موقفه من الأعداء

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال في وصف سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و موقفه من الأعداء: «إنه متى ما بعث أميراً على سَرِيَّة كان يوصيه بتقوى اللّه عزّوجلّ في خاصّة نفسه، ثم في أصحابه عامة، ثم يقول: اغز باسم اللّه و في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه و لاتغدروا و لاتغلُّوا و تمثّلوا و لاتقتلوا وليداً، و لامتبتلاً في شاهق، و لاتحرقوا النخل و لاتغرقوه بالماء، و لاتقطعوا شجرة مثمرة و لاتحرقوا زرعاً؛ لأنكم لاتدرون لعلكم تحتاجون إليه، و لاتعقروا من البهائم ممّا يؤكل لحمه».(1)

و كان صلوات اللّه عليه يأسى لعدم إيمان قومه إلى أن أوحى إليه ربّه: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) . (2) و في فتح مكّة أقبل على قريش و قال لهم: ما ترون أنّي صانع بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال لهم:

اذهبوا فأنتم الطلقاء.(3)

الزهد والبساطة

روي عن علي أميرالمؤمنين عليه السلام أنه وصف زهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: كان فراش رسول اللّه عباءة، و كانت مرفقته أدم حشوها ليف، فثُنّيت له ذات ليلة. فلمّا أصبح أمر صلى الله عليه و آله و سلم أن يُجعل بطاق واحد.(4)

و قال الإمام الباقر عليه السلام في أحوال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لم يورّث ديناراً و لا درهماً و لا عبداً و لا وليدة و لا شاة و لا بعيراً، و لقد قُبض و إنّ درعه مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير».(5)

ص:154


1- الكُليني، الكافي، ج 5، ص 29، الحديث 8.
2- - سورة الكهف (18)، الآية 6.
3- المسعودي، مروج الذهب، ج 2، ص 297.
4- المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 217، الحديث 5.
5- المصدر السابق، ص 219، الحديث 8.

و قال أميرالمؤمنين عليه السلام: ما شبع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من خبز برّ ثلاثة أيام حتى مضى لسبيله.(1)

و روى الإمام الباقر عليه السلام إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض مع العبيد، و ركوبي الحمار مُؤكفاً، و حلبي العنز بيدي، و لبس الصوف، والتسليم على الصبيان.(2)

معجزة النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

ذكرنا سابقاً إنّ كل نبي كانت له معجزة لإثبات نبوّته و حقّانيته. و بما أنّ النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم خاتم الأنبياء، فلابّد أن تكون له معجزة تتناسب مع خاتميّته، و لابُدّ أن تكون بطبيعة الحال خالدة مع خلود العالم، و فيها إثبات لنبوّته و حقّانية دينه.

في ذلك الوقت كان العرب يتفاخرون بالفصاحة، و كانوا يتنافسون في ما بينهم بأساليب البلاغة في الشعر والنثر. و في سياق ذلك التنافس علّق عرب الجاهلية أبدع قصائدهم الشعرية و هي المعلقات السبع(3) على جدار الكعبة، حيث نبغوا في هذا المضمار إلى حد بعيد، و حسبوا أنّ الإبداع في هذا الفن بلغ ذروته، و لكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جاءهم - دون أن تكون له سابقة في الفصاحة والبلاغة والقراءة والكتابة - بكلام حيّر عقولهم، و جاذبية لاينكرها مُنكِر. و كان لكلامه سحر أخذ بمجامع قلوبهم. فهو يتسم بنظم و إيقاع، و تمثيل و كناية، و تشبيهات واستعارات و إيجاز. غير أنّ العصبية الجاهلية منعت البعض منهم من الاعتراف بالحق، و دفعهم العناد إلى أن يصفوه تارة بالشعر،(4) و يصفوه تارة أُخرى بالسحر،(5) و قال جماعة منهم: إنه عبارة عن أساطير،(6) و حسبه آخرون كلام كاهن.(7) و

ص:155


1- - المصدر السابق، ص 220، الحديث 15.
2- المصدر السابق، ص 215، الحديث 2؛ و ص 220، الحديث 11.
3- - و هي قصائد لأبرع شعراء العرب علّقوها على جدار الكعبة تفاخراً بها لكي يراها الوافدون إلى الكعبة.
4- - سورة الأنبياء (21)، الآية 5.
5- - سورة سبأ (34)، الآية 43.
6- سورة الأنعام (6) الآية 25.
7- سورة الطور (52)، الآية 29؛ سورة الحاقّة (69)، الآية 42.

دفعهم الخوف من تأثيره إلى أن يأمروا الناس بصمِّ أسماعهم عَنه. و لاشكّ في أنّ كل هذه الأقوال والأفعال تنطوي على اعتراف ضمني بأنّ للقرآن سحراً يفوق ما كان معروفاً بينهم من أساليب البلاغة والفصاحة التي تتسم بها الخطب والأشعار في عصرهم. و هذا الموقف على ما فيه من معارضة، فهو ينم أيضاً عن عجزهم عن مجابهة القرآن، و قد تحدّاهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يأتوا بمثل هذا الكلام إن كانوا لايؤمنون به و ينكرون أنه كلام اللّه:

(وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) .(1)

تجدر الإشارة إلى أنّ التحدي بالإتيان بمثلٍ للقرآن جاء على ثلاث مراحل؛ ففي المرحلة الأُولى جاء بطلب الإتيان بمثلٍ للقرآن كله،(2) و في المرحلة الثانية جاء على شكل دعوة للإتيان بعشر سور كسور القرآن.(3) و في المرحلة الأخيرة كانت الدعوة للإتيان بسورة واحدة(4) أو بكلام مشابه للقرآن.(5) و قد حاول كثيرون الاستجابة لذلك التحدّي، و فكّروا في أنفسهم أن ينسجوا أشياء تحاكي القرآن، و لكنهم عندما قارنوها مع القرآن لم يتجرأوا على إعلانها أمام الناس. و أمّا الذين تجرأوا على المجاهرة بما نسجوه من عند أنفسهم فلم يثبتوا سوى عجزهم عن مجاراة القرآن. و قد عبّر القرآن عن هذا العجز مسبقاً بقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) .(6)

إنّ ما حاول خصوم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مضاهاته هو فصاحة القرآن و بلاغته، و قد فشلوا في محاولاتهم هذه فشلاً ذريعاً. و لاشكّ في أنّ ما يميّز القرآن - ككتاب سماوي - هو محتواه الخالد وعطاؤه للبشرية. و هذا يعني أنّ إعجاز القرآن لاينحصر في مجال إعجازه الأدبي والبلاغي فحسب.

ص:156


1- سورة البقرة (2)، الآية 23؛ و أيضاً راجع: سورة يونس (10)، الآية 38.
2- - سورة الإسراء (17)، الآية 88.
3- - سورة هود (11)، الآية 13.
4- - سورة البقرة (2)، الآية 23.
5- سورة الطور (52)، الآية 34.
6- سورة الإسراء (17)، الآية 88.

وردت في القرآن الكريم أخبار كثيرة عن مغيّبات و حوادث مستقبلية. كما سرد أيضاً قصص الغابرين من الأنبياء، و شخصيات تاريخية أُخرى كلقمان، و فرعون، والنمرود، و ملكة سبأ. كما كشف أيضاً عمّا عزم عليه خصوم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كاتفاقهم في دارالندوة على قتله أو نفيه: (وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) ، (1) و أزاح الستار أيضاً عما كان يتّخذ في أوساط المنافقين من قرارات ضد النبيّ (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) . (2) كما أخبر القرآن الكريم عن نصر قريب يحرزه الروم على ملوك فارس.(3) و قد جاءت هذه النبوءات في وقت لم يكن فيه للنبي ناصر و لا معين. و قد أُثيرت يومذاك ضجّة إعلامية صاخبة ضد هذه النبوءات واستُغلّت للتشنيع على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

بيّن القرآن حقائق علمية لم يتوصّل إليها البشر إلّابَعد مئات السنين، لأنه لم تكن هناك أدوات علمية لإثباتها يومذاك، مثل حركة الأرض،(4) والرياح التي تكوّن السحب،(5) و كيفية تكاثف الغيوم،(6) و وجود طبقات ثلجية في السماء،(7) و حركة الكواكب في مدارات معيّنة،(8) و زوجية الكائنات،(9) والنباتات.(10) و كل ذلك يعبّر عن حقيقة لا مجال لإنكارها، و هي أنّ القرآن ليس نتاجاً بشرياً و لايمكن اعتباره في مصاف الكتب العادية.

القرآن و أسلوبه

الأُسلوب الذي اتّبعه القرآن في انتقاء الكلمات، وصياغات الجُمل، مع مراعاة الألفاظ المناسبة لكل موضوع، والإيجاز والإطناب، أُسلوب بديع لم يسبق إليه سابق، و لايلحقه فيه لاحق. و حتى كلام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم نفسه فهو يختلف عنه اختلافاً جذرياً في السبك

ص:157


1- - سورة الأنفال (8)، الآية 30.
2- - سورة النساء (4)، الآية 108.
3- - سورة الروم (30)، الآيات 1-6.
4- - سورة النبأ (78)، الآية 6.
5- سورة الحجر (15)، الآية 22.
6- - سورة الروم (30)، الآية 48.
7- سورة النور (24)، الآية 43.
8- - سورة يونس (10)، الآية 5؛ سورة يس (36)، الآية 40.
9- سورة الرعد (13)، الآية 3؛ سورة الذاريات (51)، الآية 49.
10- سورة طه (20)، الآية 53.

والأُسلوب. يعتمد القرآن أُسلوب البشارة والإنذار، و فيه مواعظ و تشريعات، و يتّبع المنهج الإرشادي تارة، و يختار طريق الاستدلال تارة أُخرى. و هو يتحدث بشدّة و غلظة حيناً حتى يبدو و كأَنّه يجلد بالسياط، بينما يتلطّف أحياناً أُخرى و يبعث السكينة والطمأنينة، و يتحدّث مع كل مخاطب بما يستدعيه حاله.

إنّ اتّباع القرآن أُسلوباً واحداً على مدى ثلاث و عشرين سنة في شتّى الظروف والأحوال وخلال معالجته لمواضيع شتّى يُظهر أنّ مصدره حكيم و عالم مطلق فوق قدرة البشر، و قد كان العرب حينذاك على معرفة بشتّى أساليب البيان. و كانوا يتذوّقون جمالية الكلام الحسن. ولو كان في القرآن موضع واحد من ركاكة الأُسلوب - حاشاه عن ذلك - لعابوه عليه؛ انطلاقاً من رغبتهم في مجابهة النبيّ بأي نحو كان.

كان الوليد بن المغيرة خبيراً بكلام العرب، و قد قال يصف القرآن في محفل لقريش:

«واللّه لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجنّ و إنّ له لحلاوة، و إنّ عليه لطلاوة، و إنّ أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق، و إنه يعلو و لايُعلى عليه».(1)

تواتر و قطعية نص القرآن

يُجمِع المسلمون كافة على أنّ القرآن نقل عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم متواتراً لساناً عن لسان، وصدراً عن صدر، و هو محفوظ من أيّ تحريف. و قد صرّح كبار علماء الشيعة ابتداءً من الشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والسيد المرتضى، والطبرسي، و انتهاء بالعلماء المعاصرين، أنّ القرآن الذي بين أيدينا هو عين ما نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، لم يطرأ عليه أي تحريف و لا زيادة أو نقصان. و إن كان هناك من الشيعة والسنّة من قالوا بتحريف القرآن، فهذا يعني أنهم لم يميّزوا بين الروايات الموثقة و بين الروايات الضعيفة الفاقدة للإجماع، والتي لايمكن التعويل عليها. ورأي هذه الجماعة القليلة لاينال من القول

ص:158


1- الطبرسي، مجمع البيان، ج 5، ص 387، ذيل الآية 11 من سورة المدثر.

بتواتر القرآن وكَوْنه موضع إجماع، خاصة إذا لاحظنا أنّ ما تذهب إليه هذه الجماعة هو القول بنقص القرآن، و إلّافهم يتفقون أيضاً على أنّ القرآن الحالي لا زيادة فيه.

جاء في آية قرآنية شريفة: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ) ، (1) و جاء في آية أُخرى أيضاً: (وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .(2)

هذا تأكيد من اللّه على أنّ هناك مقدّمات و أسباب جعلها كفيلة بالحيلولة دون حصول أيّ تحريف في القرآن.

ص:159


1- - سورة الحجر (15)، الآية 9.
2- سورة فصلت (41)، الآيتان 41-42.

الإمامة

اشارة

الإمام هو الرئيس(1) والمقتدى.(2) و يُحتمل أن تكون هذه الكلمة مشتقة من كلمة «أمام» بمعنى القُدّام، أو من كلمة «الأُم» بمعنى الأصل، أو من كلمة «أَمَّ» بمعنى قصد.(3) و كثيراً ما تأتي هذه الكلمة في القرآن والحديث بهذا المعنى. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إنّ الأئمة في كتاب اللّه عزّوجلّ إمامان: قال اللّه تبارك و تعالى: (وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا...) و قال تعالى في موضع آخر: (وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ) . (4) وسُمّي أميرُ الحاج في رواية بالإمام، في قولهم: «سِرْ فإنّ الإمام لايقف».(5)

و رغم أنّ كلمة الإمام تحمل معنى القائد إلى الخير أو القائد إلى الشر على حد سواء، إلّا أنّ هذه الكلمة تطلق عند الشيعة على شخصيات روحية عظيمة و على درجة عالية من التقوى، و على من هم مثل أعلى للناس علماً و عملاً.

أهمّيّة الإمامة

الإمامة على درجة عالية من الأهمية، بحيث أنّ القرآن الكريم عبّر عنها بالميثاق والعهد، في قوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ) . (6) فهذه الآية تتعلق بموضوع الإمامة التي طلب النبيّ إبراهيم عليه السلام من اللّه أن تكون في ذريّته.

جاء في رواية عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: إنّ الإمامة خصَّ اللّه عزّوجلّ بها إبراهيم

ص:160


1- - ابن منظور، لسان العرب، ج 1، ص 109.
2- الجوهري، صحاح اللغة، ج 5، ص 1865.
3- - للإطلاع على مزيد من المعلومات في هذا المجال، راجع: دراسات فى ولاية الفقيه، ج 1، ص 74.
4- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 216، الحديث 2.
5- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 5 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، ج 13، ص 525، الحديث 1.
6- - سورة البقرة (2)، الآية 124.

الخليل عليه السلام بَعد النبوّة والخلّة... فقال الخليل سروراً بها: و من ذريتي....(1)

في اعتقاد الشيعة تُعتبر الإمامة من أُصول الدّين، و هي امتداد للنبوّة واستمرار لمسؤولية التبليغ والهداية التي كان يقوم بها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. وللإمامة عندهم شروط تتناسب مع الوظيفة التي ينهض بها الإمام في تفسير القرآن، و بيان الأحكام، وردّ الشبهات والذود عن حياض الشريعة. والإمامة ذات أهمّية بالغة، بحيث نزلت في آواخر حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم آية تأمر بإبلاغها، و تحذّره أن عدم إبلاغها بمثابة عدم أداء الرسالة.(2)

نقل الشيعة والسنّة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «مَنْ ماتَ و لم يعرِفْ إمامَ زمانِهِ مات ميتةً جاهلية»(3) و هذا يدل على مدى أهمّية الإمامة، و يضعها ضمن أُصول الدّين. ولو كانت من فروعه لما اعتُبر جهلها مدعاة لموت المرء ميتة جاهلية.

شروط الإمامة

1 - العلم

الإمامة قدوة في كل شيء. والإمامة قيادة دينية و أخلاقية للناس نحو اللّه. و لابُدّ أن تتوفر فيها شروط من أهمّها العلم. وسيرة العقلاء في العالم كُلّه هي أنّهم إذا أرادوا اختيار شخص يفوّضون إليه أُمورهم، فهم يختارون عاقلاً عالماً أميناً قادراً على إنجاز أُمورهم كما ينبغي، خاصة في القضايا التي تتطلب العلم والوعي، حيث يختارون في مثل هذه الحالات الأعلم بها.

في هذا الجانب لا فرق في أن يكون الإمام منصوصاً عليه من اللّه - كما يقول الشيعة الإمامية - أو منتخباً من قبل الأُمّة كما يعتقد أهل السنّة، والآية الشريفة: (أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى) (4) تشير إلى هذا المعنى. والنتيجة هي أنّ

ص:161


1- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 199، الحديث 1.
2- سورة المائدة (5)، الآية 67.
3- - لمزيد من التفصيل، راجع: الأميني عبدالحسين، الغدير، ج 10، ص 360.
4- - سورة يونس (10)، الآية 35.

الإمام والقائد يجب أن يكون عالماً؛ لتجري هدايته بشكل صحيح، بل ينبغي أن يكون أعلم أهل زمانه لكي تشمل دائرة إمامته الجميع.

2 - العصمة

يجب أن يكون الإمام - كالنبي - معصوماً من الذنب والخطأ. فلو كان الإمام يذنب أو يُخطِىء فهذا يؤدّي إلى زعزعة مكانته في النفوس، و عدم الوثوق بكلامه. و هو إذا لم يكن معصوماً ثم أمر الناس بشيء أو نهاهم عن شيء لايكون لكلامه تأثير في نفوسهم، و لايثقون بكلامه و لايرونه ملزماً لهم، و بالنتيجة فإنّهم لايطيعونه. بل إنّ الإمامة الدينية تتحقق من خلال العصمة. و لابُدّ أن تكون لدى السامعين ثقة بكلام من يدعوهم إلى الدّين، و أن يكونوا على علم بانَّ كلامه ليس خطأً و لايأتي عن هوس؛ و إلّافإنّهم لايتقبّلون أمره و نهيه.

و يكون منصبه و رسالته عبثاً.

إطاعة الإمام واجبة بحكم الآية: (أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) . (1) و إذا لم يكن الإمام معصوماً فقد يبين دين اللّه خطأً، و في مثل هذه الحال تكون طاعته بمثابة اتباع الباطل، و مثل هذا الأمر مستحيل على اللّه تعالى.(2) و طاعة اللّه - استناداً إلى صدر الآية - مطلقة، إذا كان ولي الأمر غير معصوم لاتكون طاعته لازمة بشكل مطلق، بينما الأمر الوارد في الآية يدعو إلى طاعته بشكل مطلق. و هذه الآية في مقام تعظيم الرسول و أُولي الأمر؛ لأنها جعلت طاعتهم في مصاف طاعة اللّه. فلابّد إذاً أن تكون فيهم هذه الأهلية. و قد نقل عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: و إنّما أمر اللّه بطاعة الرسول لأنه معصوم مطهّر لايأمر بمعصيته، و إنّما أمر اللّه بطاعة أُولي الأمر لأنهم معصومون مطهّرون لايأمرون بمعصيته.(3)

ص:162


1- - سورة النساء (4)، الآية 59.
2- - الحلّي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 364 و 365؛ الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 313 و 314، الباب 2 من الركن 2. و هناك أيضاً احتمالات أُخرى طُرحت بشأن هذه الآية الشريفة، و لمزيد من التفصيل، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 64-69.
3- الحُويزي، نور الثقلين، ج 1، ص 500 و 501، الحديث 337.
3 - التحلّي بصفات النبيّ

الإمام خليفة رسول اللّه، و ينهض بالدور الذي كان يقوم به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم. و بناءً على ذلك يجب أن يتّصف الإمام بجميع الصفات التي توجب عليه أداء دور النبيّ باستثناء النبوّة؛ لأنّ الغاية من وجود الإمام تتحقق عندما يؤدي دور الرسول في المجتمع، و يكون قدوة للمتديّنين في جميع الفضائل الأخلاقية والقيم الدينية.

من يحوز مقام الإمامه يجب أن تكون له جاذبية معنوية. و أن يكون عادلاً و معصوماً، من أجل أن يثق به الناس. والأهم من كل ذلك أن يكون موحّداً لم يسجد لغير اللّه. و لهذا السبب قال الباري تعالى لإبراهيم عليه السلام عندما طلب منه أن يكون هذا المقام لذريته:

(لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ) .(1)

نقل ابن مسعود عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: قال اللّه عزّوجلّ لإبراهيم: لا أُعطيك عهداً لظالم من ذريّتك. قال: ياربّ، و من الظالم من ولدي الذي لاينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً، و لايصلح أن يكون إماماً.(2)

4 - الصبر

من الطبيعي أن كل أمّة تواجه مشاكل كثيرة، وتقع مسؤوليتها بالدرجة الأُولى على عاتق الإمام. و هذا ما يستلزم من الإمام أن يكون صبوراً ليكون قادراً على مجابهة المشاكل والشدائد. و على صعيد آخر لايستوي الأفراد في مؤهلاتهم و قدراتهم على مواكبة الإمام.

فالإمام تجتمع فيه ذروة الكمالات، و هو رائد الناس والمقدام فيهم، و لكنه في الوقت ذاته لابُدّ و أن يُراعي أضعف الأفراد. و هذا أيضاً يتحقق من خلال الصبر والأناة. و لعل هذا هو السبب الذي جعل اللّه تعالى يقول لنبيّه صلى الله عليه و آله و سلم بسبب ما له من مقام النبوة و إمامة الناس:

ص:163


1- سورة البقرة (2)، الآية 124.
2- البحراني، البرهان في تفسير القرآن، ج 1، ص 151، الحديث 13.

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) . (1) و قد ورد في رواية: أنّ الإمام عليّاً عليه السلام استند إلى هذه الآية، والآية الشريفة: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، (2) و قال: الصبر على ولاة الأمر مفروض.(3)

5 - الزهد

الإمام أُسوة يقتدي به الناس وتقع عليه مسؤولية تطهير الأنفس، و هذا ما يفرض عليه أن يكون ذا نفس طاهرة نقيّة، و أن يجتنب كل ما يدنس الروح؛ لكي يكون داعياً للناس إلى الصلاح بسلوكه. فالإمام يعيش في الدنيا و يتنعّم بنعمها، و لكنّ عليه في الوقت نفسه أن لايكون حريصاً عليها؛ من أجل أن يدعو الناس بسلوكه إلى الزهد. إذا كانت لدى الإمام نزعة إلى الدنيا و لذائذها لاينجح في قيادته للناس. فمن الطبيعي أنّ الناس ليسوا على مستوى معاشي واحد، فربما يعجز الكثيرون منهم عن توفير القوت و أدنى متطلّبات العيش لأنفسهم ولأُسرهم، فإذا رأوا القائد والإمام يرفل بالنعم والملذّات يشمئزون منه و يمقتونه، و يشعرون بأن الثروة والرفاه المادي قيمة و فضيلة. و لاشكّ في أنّ انغماس من ينصب نفسه للناس إماماً في الملذّات الدنيوية، ينطوي على سلبيات فادحة، فهو يؤدّي من جهة إلى نفور الفقراء عنه والشعور بالغربة عنه، و يؤدّي من جهة أُخرى إلى شعوره هو بالكبر والميل إلى اكتناز الثروة.

و قد كتب علي عليه السلام إلى واليه عثمان بن حنيف عن نفسه بصفته إماماً لدين الناس و دنياهم، ما يلي: هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَ لَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَاطَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَ لَاعَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَ حَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَ أَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَ حَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ وَ حَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

ص:164


1- سورة الأحقاف (46)، الآية 35.
2- - سورة الأحزاب (33)، الآية 21.
3- الطبرسي، أبو منصور، الاحتجاج، ج 1، ص 587.

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أميرالمؤمنين وَ لَاأُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ.(1)

الطريق إلىٰ معرفة الإمام

الإمامة كالنبوّة منصب إلهي، و يحتاج تمييزها و معرفتها إلى توفر مجموعة من العلائم والميزات التي يمكن عن طريقها معرفة الإمام الصحيح الصادق من الكذابين الذين يدّعون الإمامة زوراً و بهتاناً.

سأل شخص الإمام الصادق عليه السلام عن الكيفية التي يمكن بها معرفة من يدّعي الإمامة فأجابه قائلاً: يُسأل عن الحلال والحرام، ثم بين ثلاث طرائق لمعرفة الإمام منها أن يكون أوْلى الناس بمن كان قبله، و أن تكون لديه وصيّة ظاهرة من الإمام السابق.(2)

و جاء في رواية أُخرى عنه أنه اشترط أن يتّصف الإمام بالأوصاف التالية: و هي أن تكون لديه وصية ظاهرة، و لايستطيع أن يطعن عليه أحد في أنه كذّاب و يأكل أموال الناس، و ما أشبه هذا.(3)

مثلما أنّ أحد الطرق لإثبات حقّانية القرآن هي التحدي و عدم قدرة أحد على الاستجابة لذلك التحدّي، فكذلك من طرق إثبات الإمامة و حقّانية الإمام، هي مقدرته على الإجابة عن جميع المعارف الدينية، و عدم عجزه عن أيٍّ منها. و على مدّعي الإمامة أن يثبت أهليته لمنصب الإمامة بالتحدّي في المسائل العلمية والأحكام.

جاء في تاريخ حياة بعض الأئمة، أنّ الشيعة كانوا يعرضون عليهم أسئلة علمية لمعرفة مدى أهليّتهم لإحراز منصب الإمامة. و لهذا وردت في المصادر الحديثية احتجاجات منهم تسترعي الاهتمام.

ص:165


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 45، ص 418.
2- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 284، الحديث 2.
3- المصدر السابق، الحديث 3.

الإمامة الخاصّة

الإمامة بَعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

بعث اللّه عزّوجلّ محمداً صلى الله عليه و آله و سلم آخر الأنبياء لخلقه. و قد جعل صلى الله عليه و آله و سلم كل همّه إعلاء كلمة الاسلام إلى حدّ أنه كان مستعداً للتضحية بكل شيءٍ في سبيل هذا الدّين. و قد ضحّى بالمئات من خيرة أبناء هذه الأُمّة في سبيل هذه الغاية. و مع كل تلك المساعي والجهود كان يدرك أنّ الإسلام لم يستقطب كل جزيرة العرب، و لم يرسخ بَعد في القلوب. و قد كانت هناك قوّتان تجابهان الإسلام وهما: الفرس والروم. أمّا النبيّ فكان على معرفة بصفات العرب و تعصّبهم القبلي، حيث إنّ العادات الجاهلية لازالت رواسبها كامنة في أعماق نفوسهم، و كان المنافقون يتحيّنون الفرص للانقضاض على الإسلام. و كان النبيّ يعلم أيضاً بأنَّ حُبّ الدنيا وحُبّ الجاه من المخاطر التي تهدد كبار الصحابة على وجه الخصوص، و كان يعلم بأنّ الأُمّة معرّضة لخطر الردّة إلى الجاهلية. و قد حذّر القرآن من هذه الحقيقة المريرة بقوله تعالى: (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) .(1)

و قد أعرب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن خشيته من هذه الأوضاع حين قال: يُجاء برجال من أُمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: ياربّ أصيحابي، فيقال: إنك لاتدري ما أحدثوا بَعدك.

فأقول كما قال العبد الصالح: (وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (2) فيقال: إنّ هؤلاء لايزالون مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.(3)

و في مثل هذه الأوضاع لايُعقل أن يترك النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، بما له من عقل و دراية - فضلاً عن مقام النبوّة واهتمامه بِنشر الاسلام - زمام هذا الأمر و لايرسم له خطّة، و يترك المسلمين و شأنهم. و كيف يمكن ان يُعقل أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يفكر في العهد الذي كان يعيش هو فيه و

ص:166


1- سورة آل عمران (3)، الآية 144.
2- سورة المائدة (5)، الآية 117.
3- البُخاري، الصحيح، ج 5، ص 228، الحديث 4625.

لايضع منهجاً لِما بَعد حياته بما يضمن استمرار الرسالة والدعوة؟ لاشكّ في أنّ مسؤول أيّة جماعة لو أراد مغادرة جماعته، ولو مغادرة وقتية، فلابّد أن يعيّن لهم خلال مدّة غيابه من يتولّى إدارة أُمورهم و يرجعون إليه في قضاياهم. و قد كانت سيرته تجري على هذا المنوال أيضاً؛ فهو متى ما كان يغادر لسفر أو غزوة كان يعيّن من يخلفه لتمشية أُمور الناس. و إن كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يترك الأُمّة و شأنها؟

ينقل أنّ ابن الخليفة الثاني قال لأبيه عندما كان على فراش الموت: زعموا أنك غير مستخلف، و أنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثم جاءك و تركها، رأيت أنه قد ضيّع؟ فرعاية الناس أشد. فوافقه قَوْلي.(1)

و قالت عائشة لعبد اللّه بن عمر: يابني، أبلغ عمر سلامي، و قل له: لاتدع أُمّة محمد بلا راع. استخلف عليهم و لاتدعهم بَعدك هملاً، فإني أخشى عليهم الفتنة.(2)

و روي أيضاً أنّ جماعة عادوا عمر في مرضه و طلبوا منه أن يستخلف أحداً من بعده.(3)

فهل كان غير النبيّ عارفاً بمصلحة الاستخلاف، والنبيّ لايعرف هذه المصلحة، بينما وصفه اللّه تعالى بالحرص على المؤمنين والرأفة بهم.(4)

كيف يُعقل أنّ ديناً عالمياً خالداً يشتمل على كل المعارف الأصيلة، والأُصول الأخلاقية، والأحكام الفرعية في جميع الجوانب الفردية والاجتماعية، لايحتاج إلى مفسّر و حافظ خلافاً لجميع القوانين التي تحتاج عادة إلى مفسّر و حافظ، و أن لاتكون الأُمّة الإسلامية - خلافاً لكل الأُمم - بحاجة إلى إمامٍ و قائد؟ من المنطقي أنّ كل عاقل يقدم على أمر مهمٍّ و يهدف إلى تحقيق غاية باهضة الثمن، لابُدّ و أن يفكر في استمرارها إلى حين تحققها، و أن يضع لها خطة تكفل لها النجاح.

إنّ مثل هذا الموضوع لايخرج عن عدّة افتراضات و هي:

1 - إنّ الاسلام محدود بعمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و لا علاقة له بما سيجري بَعد ذلك.

ص:167


1- النيسابوري، مسلم، الصحيح، كتاب الامارة، ج 12، ص 205 و 206.
2- الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1، ص 42.
3- الطبري، تاريخ الطبري، ج 2، ص 580.
4- سورة التوبة (9)، الآية 128.

2 - أن يكون المسلمون قد بلغوا في حياة النبيّ مرحلة من النضوج الفكري والعلمي بحيث غَدوا يستطيعون معرفة تكاليفهم في ضوء القرآن والسُنّة من غير حاجة إلى قائد ديني.

3 - أن تكون مهمة اختيار الخليفة قد تُركت للمسلمين أنفسهم.

4 - كان من واجب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن ينظر بعيداً لِما بَعد عهده، و يضع خطّة لاستمرار التحرّك الذي بدأه، و يعمل وفقاً لها.

والافتراض الأول باطل طبعاً؛ لأنه يستلزم القيام بعمل عبثي لا فائدة منه. فليس من المنطقي أن تُبذل كل تلك الجهود ثم تترك الأُمور سُدىً، ثم إنّ هذا يتناقض مع ادعاء الخاتمية و مع الغاية التي جاء من أجلها الدّين.

والافتراض الثاني غير صحيح أيضاً؛ لأَنَّ الواقع التاريخي يثبت خلاف ذلك. فما وقع بَعد الرسول من خلافات دموية أحياناً حول شؤون السلطة والقضايا السياسية، يكشف أنّ المسلمين لم يبلغوا تلك الدرجة من النضوج الفكري.

أمّا بالنسبة إلى الافتراض الثالث فهو افتراض غير عملي؛ لأَنَّ الأُمّة لم تتفق على شخص واحد بسبب ما كان يتجاذبها من تعصب قبلي و تنافس بين البطون والأُسر. و إنّما دعت كل جماعة إلى شخص. و أوضح دليل على ذلك ما وقع من تجاذبات و منازعات في السقيفة.

فالشخص الذي بويع في السقيفة لم تبايعه الأُمّة كلّها. و فضلاً عن ذلك فإنّ الإمامة تعد امتداداً للنبوّة والرسالة. و كان لابُدّ من اختيار شخص جدير بهذا المنصب. و إذا افترضنا أنّ مسؤولية اختيار الإمام متروكة للمسلمين، كيف يتسنّى لهم تحديد أنّ هذا الشخص أو ذاك لديه القدرة على النهوض بهذه المسؤولية الخطيرة.

يرى الشيعة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و هو العاقل الحكيم، كان حريصاً على تحقيق الغاية التي كان يهدف إليها بأفضل الأساليب، و لم يكن غافلاً عن هذه القضية المهمّة والمصيرية.

و حتى أنه كان يؤكّد عليها في مواقف و مقاطع مختلفة. و يمكن الاستدلال على صحّة هذا الادّعاء من خلال تحليل الأخبار التاريخية في ضوء المعايير التي يُدرس فيها أي خبر تاريخي.

ص:168

نعم، هناك شواهد و أدلّة و قرائن كثيرة تثبت أنّ النبيّ كان يعير أهمّية كبرى لهذه القضية، و قد وضع الحل لها. فقد تلقى الأمر من ربّه حول خليفته، و فعل ما أُمر به.

خليفة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على أساس القرآن

أمر اللّه المؤمنين في القرآن بطاعة اللّه والرسول وأُولي الأمر.(1) واقتران طاعة أُولي الأمر بطاعة الرسول يفيد أنّ طاعة الرسول و طاعة أُولى الأمر من سنخ واحد. والمراد من طاعة الرسول وأُولي الأمر هي الطاعة في الأوامر الولائية والحكومية التي تصدر منهم؛ لأَنَّ طاعتهم في الأحكام الدينية إرشادية و غير منفكّة عن طاعة اللّه.

و نظراً إلى مجيء طاعة أُولي الأمر و طاعة الرسول و طاعة اللّه في مساق واحد، فلابّد أن يكون أُولو الأمر معصومين من الخطأ والذنب، و إلّافإنّ هذا الأمر يستلزم طاعة المذنبين. و يستقبح طبعاً صدور مثل هذا الأمر من اللّه الحكيم.(2) و بما أنّ أُولي الأمر يجب أن يكونوا معصومين، و نظراً إلى عدم ادعاء العصمة إلّالأهل البيت عليهم السلام، فقد جاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: أهل البيت هم الذين قال فيهم اللّه عزّوجلّ: (أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، و قال أيضاً: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ) .(3)

هناك روايات كثيرة تذكر أن الإمام عليّاً عليه السلام تصدّق بخاتمه على فقير و هو في الركوع، ثم نزلت هذه الآية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ) .(4)

وبَعدما تلقّى النبيّ هذه الآية قرأها على أصحابه و قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه.

ص:169


1- - سورة النساء (4)، الآية 59.
2- - الطبرسي، مجمع البيان، ج 2، ص 64؛ للاطلاع على مزيد من التفصيل وللاطلاع على الاحتمالات الاخرى، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 64-69.
3- سورة المائدة (5)، الآية 55؛ الكُليني، الكافي، ج 1، ص 286 و 288، الحديثان 1 و 3.
4- سورة المائدة (5)، الآية 55. جاء في بعض الروايات ان الصدقة المذكورة كانت عبارة عن حُلّة ثمينة. الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 7 من أحكام الملابس، ج 5، ص 18، الحديث 9.

اللهم والِ مَن والاه و عاد مَن عاداه.(1)

جاءت كلمة الولي بمعنى الأُولى بالتصرّف والمفوّض بالاُمور. و على العموم تتضمن كلمة الولاية و مشتقاتها نوعاً من التصرف بالآخرين، و لا تعني مجرّد المحبّة التي هي أمر قلبي. نذكر على سبيل المثال: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ...) ، (2) و (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا...) ، (3) و (وَ ما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ...) .(4)

و في ضوء ما سبق ذكره فلا يمكن حمل آية الولاية على مجرد المحبّة المحضة. و إنّما يعني الولي: الحاكم والمشرف. واستناداً إلى الرواية و شأن النزول فإنّ المراد من (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ) (5) هو علي عليه السلام.

قد يقول قائل: إنّ الآية وردت بصيغة الجمع (الَّذِينَ يُقِيمُونَ... وَ يُؤْتُونَ...) مع أنّ المتصدّق في الصلاة هو علي فقط، والجواب عن ذلك هو أوّلاً: أحياناً يأتي الكلام بصيغة الجمع بينما يكون المراد مفرداً.(6) و ثانياً: إنّ وجه الإتيان بالجمع و إرادة المفرد هو من باب التعظيم و ترغيب الآخرين.(7)

و قد أنزل اللّه عزّوجلّ بشأن إمامة الإمام علي عليه السلام الآية المعروفة باسم آية التبليغ و هي (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) .(8)

ص:170


1- أحمد بن حنبل، المسند، ج 5، ص 494، الحديث 18793؛ عبدالحسين الأميني، الغدير، ج 1، ص 77-93.
2- - سورة الأحزاب (33)، الآية 6.
3- - سورة البقرة (2)، الآية 257.
4- سورة الأنفال (8)، الآية 34.
5- سورة المائدة (5)، الآية 55.
6- - مثل: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) سورة آل عمران (3)، الآية 173؛ فقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في نعيم بن مسعود؛ و في آية المباهلة أيضاً أُطلقت كلمات: الأبناء، والنساء والأنفس على الحسنين و فاطمة الزهراء و علي عليهم السلام.
7- قال الزمخشري و هو من مفسّري أهل السنّة: جيء به على لفظ الجمع و ان كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، ولينبّه على ان سجية المؤمنين يجب ان تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والاحسان و تفقّد الفقراء حتى ان لزمهم أمر لايقبل التأخير وهم في الصلاة، لم يؤخروه إلى الفراغ منها. الكشاف، ج 1، ص 649.
8- سورة المائدة (5)، الآية 67.

حيث جاء في شأن نزول آية التبليغ (1)- حسبما نقل كل من الشيعة والسُنّة - ما يلي:

عندما كان النبيّ عائداً إلى المدينة من حجة الوداع و برفقته تسعون ألفاً أو مئة و عشرون ألفاً من المسلمين، نزلت الآية المذكورة في موضع يُقال له خُم. فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بجمع الناس، و ألقى فيهم خطبة قال فيها: أتعلمون أني أوْلى بكم من أنفسكم؟ و كرّر هذا ثلاث مرات، والقوم يقولون في كل مرّة: نعم! ثم قال: «من كنتُ مولاه فعلىٌّ مولاه». و هذا الحديث نقله عدد كبير من الصحابة بقليل من الاختلاف.(2) و نقل هذا القول عن رسول اللّه في مواقف شتّى.

تكشف آية التبليغ حقيقة و هي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان مكلّفاً بإبلاغ أمر خطير بحيث أنه إن لم يبلّغه فكأَنّما لم يبلغ الرسالة. ويُستفاد من طمأنة اللّه للنبيّ بأنه كان هناك من يعارضون هذا الأمر، و أنهم كانوا سيعارضونه فيما لو أعلنه. فما هو هذا الأمر المهم الذي يطمئن اللّه خاطر نبيّه من أجله و يعده بالمحافظة عليه من شر الناس؟ ذهب البعض إلى القول: إن هذا الأمر المهم يتعلّق بأهل الكتاب بدليل أنّ الآية جاءت في سياق آيات تتعلق بأهل الكتاب، و لكن من الواضح أنّ اليهود والنصارى لم يكونوا يومذاك في وضع بحيث يخشاهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، بل إنّ مثل هذه الخشية لم تكن حتى في أوائل الهجرة إلى المدينة حيث كانت شوكة اليهود أقوى، فما بالك بما بَعد توطيد دعائم قوّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

و لم يكن هذا الأمر المهم هو الدّين كلّه؛ لأَنَّ النبيّ كان قد أبلغ معظم الدّين طيلة مدّة رسالته. و يستفاد من عموم كلمة «الناس» أنه كان هناك بين أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إضافة إلى المؤمنين، منافقون و في قلوبهم مرض، ممن لايمكن فرزهم. و جملة (إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) في مقام تعليل لجملة (وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ) . والمراد بالكفر هو الكفر بالحكم المُشار إليه في (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) . والمراد بعدم هدايته تعالى هؤلاء القوم

ص:171


1- - السيوطي، الدر المنثور، ج 2، ص 298.
2- - ليس هناك أي شكّ في حديث الغدير، حتى ان ابن حجر صرّح في الصواعق بصحّته. وجاء في رواية أحمد بن حنبل ان ثلاثين من الصحابة سمعوه. المظفر الحلي، دلائل الصدق... و أورد العلامة الأميني مائة و عشرة من رواة الحديث من الصحابة مع ذكر المصدر. وللاطلاع على مزيد من التفاصيل، راجع كتاب الغدير، ج 1، ص 14 إلى 61؛ و دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 49 و 50.

الكافرين عدم هدايته إياهم في كيدهم و مكرهم، و منعه الأسباب التي تمكّنهم من تحقيق ما يرومونه من الشر والفساد.(1)

هذه الآيات و غيرها من الآيات الأُخرى التي بيّنت الروايات دلالتها على ولاية أميرالمؤمنين والأئمة عليهم السلام، تعبّر عن مدى مكانة إمامة و ولاية علي والأئمة المعصومين عليهم السلام في استمرار رسالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. و رغم ذلك قد يُثار تساؤل و هو: لماذا لم يأت بصراحة ذكر أصل الإمامة واستمرارها بَعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أشخاص المعصومين. والجواب هو: يكفي أنّ أصل الإمامة قد طرح في القرآن. و ثانياً: إنّ رسالة النبيّ التي ذكرت صراحة في القرآن هي الزعامة الدينية، بينما تُركت إليه الكثير من أُمور الدّين و تفسيرها و شرحها و بيان كيفيتها.

و ليس هناك ضرورة تدعو إلى ذكر جميع القضايا صراحة في القرآن، و إن كانت ذات أهمّية.

فالإمامة قد ورد أصلها في القرآن، و أما بيان و تفسير جزئيّاتها فهو من واجب الرسول، كما هو الحال في أُمور كثيرة، كالصلاة والحج و سائر المسائل العبادية والاجتماعية، بل و حتّى رسالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم التي ورد ذكرها صراحة في القرآن مع إقامة المعجزات عليها، هل آمن بها الجميع؟ لقد تم أداء ما ينبغي أداؤه في سبيل الإيمان بالإمامة، و كان ذلك كافياً لبيان الحق.

الولاية

اشارة

الولاية: من الولي، بمعنى القرب والمداناة.(2) والوِلاية تعني النصرة، والوَلاية تعني تولّي الأمر و تدبير الأُمور.(3) وتُطلق كلمة الولي على اللّه لأنّه مدبّر الأُمور.

تشتمل كلمة الولي والولاية على نوع من التصرّف في أمور الآخرين؛ و هذا الأمران المتواليان والمتقاربان لايخلوان من تأثير و تصرّف في بعضهما. و قد طرحت معانٍ متعددة لكلمة «المولى». فيقال - مثلاً - لوجود شخص إلى جوار آخر للتصدي لبعض شؤونه و سد

ص:172


1- الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان، ج 6، ص 51.
2- - الجوهري، صحاح اللغة، ج 6، ص 2528.
3- الراغب الاصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ص 885.

بعض نواقصه، ولاية.(1) و مراد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من جملة «من كنت مولاه فعلىٌ مولاه» إثبات الولاية في التصرف. والأولوية المذكورة في الآية (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (2) هما بمعنى واحد في كلا الحالتين. فلو كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بصدد بيان محبة علي عليه السلام فقط لَما كان من الضروري بيان حق أولويته بالمؤمنين، ثم إنّ إعلان المحبّة ليس له أهمّية تستدعي أن يوقف مئة و عشرين ألف شخص في غدير خم، في وسط الصحراء، ليعلن لهم ذلك الأمر.

جاء في حديث آخر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «إنّ عليّاً منّي و أنا منه و هو وليّ كلّ مؤمن بَعدي»(3) و قوله «بعدي» ينفي احتمال كَوْن الكلمة بمعنى المحبّة القلبية، بل هي هنا بمعنى الأولوية والإمامة؛(4) و ذلك لأَنَّ المحبّة لاتختص بما بَعد رحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، في حين أنها إذا كانت بمعنى الولاية والتصرّف يزول الإشكال و يكون المعنى كاملاً؛ لأَنَّ النبيّ كان يقوم بهذا الدور في زمن حياته، و بوجوده لاحاجة لوجود غيره.

و للولاية حسب التحقق الخارجي مراتب نبيّنها كالآتي(5):

1 - مرتبة الاستعداد والصلاحية؛ أي أن يكون الشخص حائزاً للصفات والملكات الذاتية والاكتسابية التي يصير بها عند العقلاء صالحاً للولاية، و بدونها يكون الجعل عندهم جزافاً. والباري تعالى بصفته حكيماً مطلقاً لايعطي منصب النبوّة والإمامة إلّالمن لديه لياقة ذاتية و أهلية لهذا المنصب. و هذه المرتبة من الولاية كمال ذاتي في الشخص، و حقيقة خارجية، و لايمكن سلبها أو غصبها أو تفويضها إلى الغير أو التصالح عليها.

2 - المنصب المجعول للشخص اعتباراً مِن قِبَل مَن له ذلك، و إن فرض عدم ترتّب الأثر المترقّب منها عليه. كمن يعيّن شخصاً ليتولّى إدارة أعماله نيابة عنه. و هذه المرتبة من الولاية اعتبارية، وجعلها مشروط بلياقة الشخص و ما يقرّره صاحب الولاية.

ص:173


1- - للإطلاع على مزيد من المعلومات في هذا المجال، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 55 و 56.
2- - سورة الأحزاب (33)، الآية 6.
3- - سنن الترمذي،، الباب 20 من أبواب كتاب المناقب، ج 5، ص 591، الحديث 3712.
4- - لمزيد من التفصيل، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 55-57.
5- لمزيد من التفصيل، راجع: المصدر السابق، ص 78-80.

3 - الولاية والسلطة الفعلية الحاصلة من مبايعة الناس له، مثل ما حصل لأمير المؤمنين عليه السلام بَعد عثمان، حيث بايعه الناس. و لهذه المرتبة وجهتان:

أ - وجهة كَوْنها مقاماً وسلطة يتنافس عليها المتنافسون.

ب - وجهة كَوْنها أمانة من اللّه و من الناس، و لاتستعقب إلّامسؤولية و تكليفاً.

في هذا المجال أشار أميرالمؤمنين عليه السلام إلى نعله المخصوف و قال: «واللّه لهي أحبّ إليّ من إمرَتكم إلاّ أن اقيمَ حقاً أو أدفعَ باطلاً».(1) و من المؤكد أنه لو كان المراد من الولاية والإمارة، الحقيقة الخارجية والكمال النفسي لشخصه هو، لَما قال إنّ النعل المخصوف خير من العلوم والفضائل التي بسببها صار أهلاً لهذا المقام. كما أنه لايقصد ذلك المنصب الذي جعله له اللّه واعلنه له النبيّ في غدير خم، و إنّما يقصد الجانب الدنيوي للإمارة والرئاسة على الناس. و هذا هو ما بيّنه في الخطبة الشقشقية حين قال «... لألقيتُ حبلها على غاربها... و لألفيتم دنياكم هذهِ أزهدَ عندي مِن عَفْطةِ عَنْزٍ»،(2) و هي التي قال عنها: «واللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة و لا في الولاية إربة».(3)

الولاية التكوينية والولاية التشريعية

الولاية بمعنى القدرة على التصرف والتحكم، و هي تُقسم إلى ولاية تكوينية، و ولاية تشريعية، و لها مراتب. و مرتبتها الكاملة مختصة باللّه، و هناك مرتبة من الولاية التكوينية للرسول صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة عليهم السلام، و كذلك لبعض الأنبياء، بل حتى لبعض الأولياء، بما يتناسب مع سموّهم الروحي و مقدرتهم النفسية وارتباطهم باللّه، لأن معجزات الأنبياء والأئمة عليهم السلام، و كرامات الأولياء، هي نوع من التصرف في التكوين؛ و إن كانوا يأتون بها في طول مشيئة اللّه و بإذنه. و من أمثلة الولاية التكوينية التي أُشير إليها في القرآن إحياء الطير بأمر إبراهيم عليه السلام،(4) و تحويل العصا حيّة لموسى عليه السلام،(5) و صنع طير من الطين والنفخ فيه،

ص:174


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 33، ص 76.
2- - المصدر السابق، الخطبة 3، ص 50.
3- المصدر السابق، الخطبة 205، ص 322.
4- - سورة البقرة (2)، الآية 260.
5- سورة الأعراف (7)، الآية 107.

و إحياء الموتى لعيسى عليه السلام،(1) و إحضار عرش ملكة سبأ في لحظة لسليمان عليه السلام من قِبل آصف بن برخيا.(2)

أمّا الولاية التشريعية و هي حق تشريع الأحكام للناس - أو ما يُسمّى بالتقنين - فهي للّه؛ ثم فوّضت منه إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و من بَعده إلى الأئمة عليهم السلام. جاء في رواية عن الإمام الرضا عليه السلام في تفسير أولي الأمر(3) بآل محمد أنه قال: وهم الذين يستنبطون من القرآن و يعرفون الحلال والحرام.(4) و جاء في رواية أُخرى أنّ اللّه جعل الأئمة مواضع الأنبياء غير أنهم لايحلّون شيئاً و لايحرّمونه.(5) والولاية التكوينية والولاية التشريعية ثابتتان إجمالاً للأئمة عليهم السلام.(6) و صلاحيتهم في هذا المجال محصورة طبعاً في طيف الأحكام الإلهية، و ولايتهم منبثقة من ولاية اللّه.

و لايخفى طبعاً أنّ الولاية التشريعية للائمة لاتتعارض مع خاتمية الدّين الإسلامي، و ذلك للأسباب التالية:

أوّلاً: ثبوت هذه الولاية مصرّح بها بين طيّات الدّين، و مستقاة من آيات القرآن الكريم و أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و منها حديث الثقلين المتواتر.(7)

ثانياً: استناداً إلى ما صرّح به الأئمة المعصومون أنّ حديثهم حديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و متصل بكلام اللّه، كما روى هشام بن سالم و حمّاد بن عثمان و غيرهما عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: حديثي حديث أبي، و حديث أبي حديث جدّي، و حديث جدّي حديث الحسين، و حديث الحسين حديث الحسن، و حديث الحسن حديث أميرالمؤمنين عليه السلام، و حديث أميرالمؤمنين حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و حديث رسول اللّه قول اللّه عزّوجلّ.(8)

ص:175


1- - سورة آل عمران (3)، الآية 49.
2- سورة النمل (27)، الآية 40.
3- - سورة النساء (4)، الآية 83.
4- - الحُويزي، نور الثقلين، ج 1، ص 523، الحديث 429.
5- - المصدر السابق، ج 1، ص 500، الحديث 334.
6- - راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 74-76.
7- «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي ما إن تمسَّكتُم بهما لَن تضلّوا أبداً».
8- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 53، الحديث 14.

و هذا يعني أنّ دور أهل البيت عليهم السلام هو نقل أحاديث الرسول، و تفسير القرآن، والوقوف بوجه الانحرافات، وجعل أنفسهم قدوة للناس، و تجسيد تعاليم الدّين، و شرح و تفصيل السُنّة. مثلما كان دور رسول اللّه عليهم السلام نقل الوحي و كلام اللّه وتبيينه للناس: (وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى) ، (1) و كذلك (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) . (2) و نظراً إلى ما يتّسمون به من عصمة، فإن قولهم و فعلهم وتقريرهم حجة و مطابق للواقع.

إمامة الإمام عليّ عليه السلام في الروايات

بيّن رسول اللّه عليهم السلام إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام، بالقول و بالفعل. فالمواقف العملية للرسول صلى الله عليه و آله و سلم منه عليه السلام، والمسؤوليات التي أناطها به، تدل على أنه كان يعتبره شخصية متميّزة، مثل مؤاخاته إياه بنفسه، و إنكاحه ابنته السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، و أنه لم يندبه لأمر مهم، و لابعثه في بعث، إلّاكان هو المقدّم فيه والوالي عليه، و لم يولِّ عليه أحداً من أصحابه. و إغلاق جميع الأبواب المؤدية إلى المسجد إلّابابه،(3) كلُّها أمور تشير إلى موقعه الخاص في النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

ولرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تعبيرات سامية في وصف أميرالمؤمنين عليه السلام منها قوله فيه: إمام المتقين، وسيد المسلمين، و قائد الغر المحجّلين، و أمير الدّين، و أخو رسول اللّه، و علم الهدى، و نور أتباع محمد صلى الله عليه و آله و سلم، و أول المسلمين، والمجاهد من أجل تأويل القرآن، والصدّيق الأكبر، و باب علم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و نفس النبيّ،(4) و غير ذلك.

و هذه التعبيرات و إن كانت غير دالّة صراحة على إمامة علي عليه السلام، غير أنها تكشف على الأقل عن علوّ فضله، و أهليّته لهذا المنصب.(5)

ص:176


1- - سورة النجم (53)، الآيتان 3 و 4.
2- - سورة النحل (16)، الآية 44.
3- - الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، الباب 2 من الركن 2، ج 1، ص 315-321؛ والباب 4، ص 362-364.
4- السيّد شرف الدّين، المراجعات، ص 240-254؛ المظفر، دلائل الصدق، ج 2، ص 349-494.
5- السيّد شرف الدّين، المراجعات، ص 256.

و قد احتج أميرالمؤمنين عليه السلام على أعضاء شورى الخلافة بمكانته و سابق فضله، وهم أقرّوا له بذلك.(1) و من ذلك مؤاخاته مع رسول اللّه، و أنّ له أخاً مثل جعفر الطيار رضوان اللّه عليه، و عمّاً كحمزة رضوان اللّه عليه، و أنه حامل لواء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و مبير المشركين، و خليفة رسول اللّه في المدينة أثناء غزوة تبوك، و أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد توفي في حجره، و أنه هو الذي تولّى غسله و كفنه مع الملائكة، كما استدل عليهم أيضاً بقصّة خيبر و فرار الآخرين، وثباته في معركة أُحد، و معركة الخندق، و مبارزته لعمرو بن عبد ودّ، و أنه هو الذي نزلت فيه آيات (وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ) ، (2) والمباهلة،(3) والولاية،(4) و آية (أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ) . (5) و من الطبيعي أنّ سرد هذه الفضائل والمناقب في ذلك الاجتماع المصيري لم تكن لمجرّد استذكار الماضي، و إنّما لإحياء أمر مغفولٍ عنه و منسي و مهضوم، ألا و هو الإمامة و قيادة شؤون المسلمين.

ورد في نهج البلاغة أنّ شخصاً قال له: إنّك على هذا الأمر لحريص! فقال عليه السلام موضّحاً ما يختلف به عن غيره، مبيّناً ما لديه من المؤهلات والفضائل: و إِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي.(6) و قال في موضع آخر: «اَرى تُراثي نَهْباً».(7) و قال أيضاً: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي.(8) و قال: أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى.(9)

ص:177


1- - الطبري، ابن رستم، المسترشد، ص 332-364؛ الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 360-373؛ العسقلاني، الصواعق المحرقة، ص 120.
2- - سورة الواقعة (56)، الآية 10.
3- (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)، سورة آل عمران (3)، الآية 61.
4- (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ)، سورة المائدة (5)، الآية 55.
5- - سورة التوبة (9)، الآية 19.
6- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 172، ص 246.
7- - المصدر السابق، الخطبة 3، ص 48.
8- المصدر السابق، الخطبة 74، ص 102.
9- المصدر السابق، الخطبة 3، ص 48.
نبوءة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

لقد كان من المتوقّع - كما يبدو - أنّ قريشاً لن تنصاع لإمامة وخلافة علي عليه السلام. و قد كان الرسول على بيّنة من هذا الأمر، و لم يكتم هواجسه من هذه القضية. و تظهر الشواهد التاريخية أنه أفصح عن وجهة نظره في هذا الصدد في مواقف شتّى، محاولاً ترسيخ ولاية علي عليه السلام. ففي أعقاب خروج عائشة على الإمام علي عليه السلام في حرب الجمل، احتجّت عليها أُمّ سلمة بمجموعة أُمور منها: أنها قالت لها: «أتذكرين حين كُنا أنا و أنت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في سفر له، و كان علي يتعاهد نعلَي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخصفها، و يتعاهد أثوابه فيغسلها، فنقبت له نعل، فأخذها يومئذ يخصفها، و قعد في ظل شجرة، و جاء أبوك و معه عمر، فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، و دخلا يحادثانه فيما أرادا، ثم قالا:

يارسول اللّه، إنا لاندري قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من تستخلف علينا، ليكون لنا بعدك مفزعاً؟ فقال لهما: أما إني قد أرى مكانه، ولو فعلت لتفرقتم عنه، كما تفرقت بنوإسرائيل عن هارون بن عمران، فسكتا ثم خرجا. فلمّا خرجنا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، قلتِ له، و كنتِ أجرأ عليه منا: مَن كنت يا رسول اللّه مستخلفاً عليهم؟ فقال: خاصف النعل، فنظرنا فلم نَرَ أحداً إلّاعلياً».(1)

هواجس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من العصبية الجاهلية

كانت العصبية القبلية ضاربة بأطنابها في المجتمع القبلي الذي كان يعيش في جزيرة العرب. و قد بذل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم محاولات دؤوبة لاستئصال شأفة تلك الظاهرة و حقّق نجاحاً باهراً، و لكن رغم كل ذلك فقد بقي هناك ما يثير القلق والمخاوف. و من الطبيعي أنّ كل سياسي نبيه يدرك لو أنّ النبيّ نصب لقيادة المسلمين من بَعده شاباً في الثالثة والثلاثين من عمره لكان ذلك مدعاة لإثارة الاحقاد والضغائن. إذ من الطبيعي أنّ مثل ذلك الشاب

ص:178


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 218، شرح الخطبة 79؛ سنن ابن ماجه، ج 5، ص 592، الحديث 3715، الباب 20 مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام.

الذي كانت له كل تلك الفضائل المتميّزة كان يثير حسد كثير من الأفراد. كانت مخاوف الرسول من قضية الاستخلاف من الشدّة بحيث أنه كان يخشى أن تؤدّي لو طرحها إلى ضياع كل جهوده، و لكن اللّه عزّوجلّ طمأنه بقوله: (وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ) .(1)

فحتى لو لم يسمحوا للخلافة الظاهرية أن تصير إلى أهلها، غير أنّ النور والمعرفة المتّصلة بينبوع الوحي والرسالة لاينطفئان أبداً. فالمعارف الإلهية، و تفسير القرآن، و دفع الشبهات من قبل أهل بيت النبيّ قد شاعت في كل مكان لتروي المتعطّشين إلى معرفة الحقيقة. و إن كان علي و ذرِّيته قد تسلّموا الخلافة الظاهرية مدّة من الزمن أو لم يتسلّموها، فإنّ ذلك العصر قد مرَّ و انقضى، و ما بقي هو الحق والثقافة الغنية للإسلام والتشيّع.

فهم قادرون على رفد الحركة المعنوية للمجتمع، والسير به نحو الغايات السامية. وتبقى حقيقة الإسلام في خضم المساجلات والمذاهب المصطنعة، و إلّافلا معنى لإكمال الدّين و إتمام النعمة و إلقاء الحجة.

الإمام علي عليه السلام والخلافة

في الوقت الذي كان فيه علي عليه السلام و أصحابه منهمكين في المصيبة الكبرى لرحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، اجتمع أهل السقيفة وعيّنوا خليفة للنبي. وبَعد هذا العمل صاروا يقفون سوية بوجه أي عمل آخر. واستطاعوا أن يسيطروا على زمام الأُمور بذكاء وضجيج مفتعل، و منح امتيازات لهذا و ذاك، و إسكات المعارضين البارزين، و قمع جماعة آخرين. و أصبحت الظروف بالشكل الذي لايسمح لعلي عليه السلام أو لأي شخص آخر أن يقوم بأي عمل. و هكذا وجد الإمام أنّ احتجاجه لايجدي نفعاً. و لايؤدي سوى إلى الفتنة والاقتتال واجتثاث الدّين والمؤمنين. ورأى الإمام يومذاك أن يتغاضى عن الخلافة تلافياً للشر والفتنة؛ لأنه كان يدرك فداحة المخاطر التي تهدد الإسلام. فقد برز في أرجاء جزيرة العرب منافقون و مدّعون للنبوّة الذين كانوا يشكلون تهديداً خطيراً لبيضة الإسلام، فهم كانوا يتربّصون فى

ص:179


1- - سورة المائدة (5)، الآية 67.

منتظرين الفرصة المناسبة للانقضاض على الإسلام والقضاء عليه.

و كان من الطبيعي في مثل تلك الظروف أن يؤدّي أي عمل يقوم به علي عليه السلام في أمر الخلافة، إلى نشوب صراع خطير تصعب السيطرة عليه. فجلس في داره حِرصاً على حفظ دين اللّه و لكي لايشق عصا المسلمين.(1)

لقد بذل الإمام علي عليه السلام جهوده متى ما وجد الظرف المناسب لبيان معارف الدّين و تفسير كتاب اللّه، و كان في الوقت ذاته يسعى من أجل إعادة الخلافة والإمامة إلى مسارها، و مؤكّداً على حقّه في الخلافة.

و قال في ردّه على الخوارج الذين قالوا له: أنت الوصي ولكّنك ضيّعت الوصاية، وجعلت الحكم إلى غيرك: أنتم كفرتم و قدّمتم عليَّ غيري، و أزلتم الأمر عنّي، و ليس على الأوصياء الدعاء إلى أنفسهم... و قد قال اللّه تعالى: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) . (2) فلو ترك الناس الحج لم يكن البيت ليكفر بتركهم إيّاه، و لكن كانوا يكفرون بتركه؛ لأَنَّ اللّه تعالى قد نصبه لهم علماً، و كذلك نصبني علماً، حيث قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ياعلي أنت بمنزلة الكعبة تُؤتى و لاتأتي.(3)

الأئمة الإثنا عشر

اشارة

كان عدد أوصياء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و خلفائه إثني عشر إماماً. و هناك مجموعتان من الأحاديث والروايات الدالّة على هذا: مجموعة الأحاديث التي تؤكد على وجود الإمام في المجتمع بشكل عام، و منها الحديث المروي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ الأرض لاتخلو من حجّة.(4)

ص:180


1- السيّد شرف الدّين، المراجعات، ص 385-387؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 21، شرح الخطبة 26.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 97.
3- الطبري، ابن رستم، المسترشد، ص 387 و 394؛ ابن الأثير، اسدُ الغابة في معرفة الصحابة، ج 4، ص 31.
4- أو مثل هذا الحديث: «لايزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان.» صحيح مسلم، كتاب الامارة، ج 12، ص 201؛ الطبري، ابن رستم، المسترشد، ص 387، ذيل الرقم 130؛ و ص 394، ذيل الرقم 132.

يدل هذا النوع من الروايات على وجوب وجود إمام حق في كل زمان لكي لاتخلو الأرض من حجة إلهية، وليتخلّص الناس بمعرفته من الجاهلية.

والمجموعة الأُخرى هي الروايات التي تنص على عدد و أوصاف أوصياء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد وردت ثلاثمئة رواية من طرق مختلفة حول عدد خلفاء النبيّ، و تنص كلّها على العدد اثني عشر. و إن كانت هناك أخبار أُخرى تنص على غير هذا العدد فلابّد من تأويلها أو تركها؛ لأَنَّ المتواتر من الروايات يفيد أنّ عدد الأئمة - مع الإمام علي - إثنا عشر إماماً.

و في مصادر أهل السُنّة نُقلت روايات ذات مضمون واحد تقريباً و هو أنّ عدد خلفاء النبيّ إثنا عشر خليفة، مثل: «يكون من بَعدي اثنا عشر أميراً»،(1) و «لايزالُ هذا الأمرُ عزيزاً إلى اثني عشر خليفة».(2) والمراد من الإثني عشر من يستحقون الخلافة؛ أي تتوفر فيهم شروط الإمامة كالعدالة والعلم و غير ذلك.(3)

يوجد في كتاب الكافي ثلاثة عشر باباً في أسماء و أوصاف الأئمة، و أحدها يتعلق بالنص على إمامة الأئمة، و أمّا الأبواب الإثنا عشر الأُخرى فتتحدث عن كل واحد من الأئمة (من الإمام علي إلى الإمام المهدي عليه السلام) استناداً إلى ما أدلى به الإمام السابق له، أو استناداً إلى حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(4)

أسماء الأئمة عليهم السلام

أسماء الأئمة المعصومين عند الشيعة هم بالترتيب التالي:

الإمام الاوّل: الإمام أميرالمؤمنين علىّ بن أبي طالب عليه السلام

الإمام الثاني: الإمام الحسن بن عليّ المجتبى عليهما السلام

الإمام الثالث: الإمام الحسين بن عليّ سيّدالشهداء عليهما السلام

ص:181


1- - سنن الترمذي،، كتاب الفتن، الباب 46، ج 4، ص 434، الحديث 2223.
2- - صحيح مسلم، كتاب الامارة، ج 12، ص 202؛ النعماني، كتاب الغيبة، ص 175؛ الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 2، ص 157-165.
3- لمزيد من التفصيل، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 377.
4- الكُليني، الكافي، ج 1، كتاب الحجة، ص 286-329.

الإمام الرابع: الإمام عليّ بن الحسين سيّدالساجدين عليهما السلام

الإمام الخامس: الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليهما السلام

الإمام السادس: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام

الإمام السابع: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام

الإمام الثامن: الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليهما السلام

الإمام التاسع: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليهما السلام

الإمام العاشر: الإمام عليّ بن محمّد الهادي عليهما السلام

الإمام الحادي عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكري عليهما السلام

الإمام الثاني عشر: الإمام حجة بن الحسن المهدي عليهما السلام

كما يعتقد الشيعة - استناداً إلى تصريحات و إشارات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - بأنّ السيدة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام أُمّ الأئمة عليهم السلام هي محور الإمامة والولاية، و سيّدة نساء العالمين في الدنيا والآخرة. و هي أُسوة لكل الناس في كل عصر. و بما أنها من المعصومين أيضاً، فإنّ قولها و فعلها و تقريرها حجة. و رضاها رضى اللّه و رسوله، و غضبها غضب اللّه و رسوله.

و هؤلاء هم العترة، و أهل بيت النبيّ الذين أوصى بهم، و هم يتّصفون بأوصافه - مع فارق واحد، و هو أنهم لايوحى إليهم - و معصومون من كل خطأ و ذنب.

اختيار الأئمة عليهم السلام

الأئمة أناس اصطفاهم اللّه. و مثلما اصطفى من بين الناس رسلاً لإبلاغ رسالته، ولتكون لهم الزعامة في الناس، كذلك اصطفى الأئمة لتكون لهم إمامة الناس. و كان في الأُمم الماضية من اصطفاهم اللّه مثل آل إبراهيم و آل عمران.(1) و قد قال اللّه عزّوجلّ في ما يخص الأُمّة الإسلامية: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) . (2) و روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «لنا مِنْ رَسولِ اللّهِ الوِلادةُ وَ لنا مِنْ كِتابِ اللّهِ الوِراثةُ».(3)

ص:182


1- - سورة آل عمران (3) الآيتان 33-34.
2- - سورة فاطر (35)، الآية 32.
3- الطبري، ابن رستم، المسترشد، ص 600.
أهلية الأئمة عليهم السلام

إضافة إلى النصوص المعتبرة والمتعددة حول إمامة الأئمة، فقد كانت لهم شخصيات بارزة و مؤهلات و مراتب من الكمال توجب أن تُفوّض لهم الزعامة والإمامة. فقد كان الأئمة عليهم السلام هم المؤسسون لكثير من العلوم، و لم يكن هناك بعد النبيّ من يضاهيهم في المرتبة العلمية والمعنوية. والمثال الأبرز على ذلك، الإمامان الباقر عليه السلام والصادق عليه السلام، فهما حينما توفّرت لهما الظروف أظهرا علمهما وربّيا كثيراً من التلاميذ. قال أبو زهرة و هو أحد الباحثين المصريين المعاصرين في وصف دور الإمام الباقر عليه السلام: «كان مَقْصَدَ العلماء من كلِّ البلاد الإسلامية».(1)

نقل النجاشي في كتاب رجاله عن الحسن بن علي الوشّاء أنه قال: أدركت في هذا المسجد (مسجد الكوفة) تسعمئة شيخ كلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد.(2)

و لايدّعي أحد طبعاً أنّ هؤلاء الأئمة قد اكتسبوا كل علومهم من الآخرين، أو درسوها في مدرسة. و تدل غزارة علمهم، و ما نشروه من العلوم دون أن يتعلّموا ذلك من أحد، على أنهم كان لديهم علم إلهي و أنهم كانوا يؤدون في الأُمّة ذات الدور الذي كان يؤدّيه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

إنّ ما يوجب التمسّك بأهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة الإثني عشر هو النص عليهم من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واستقاء علومهم من علمه. يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المجال: ألا و إنّا أهل بيتٍ مِن علمِ اللّه علمنا، و من قول صادقٍ سمعنا، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، و إن تدبروا عنا يهلككم بأيدينا أو بما شاء، و معنا راية الحق من تبعها لَحِق، و من تأخر عنها محق، ألا و بنا يفتح، و بنا يختم لابكم، فإنه عزّوجلّ قد أمر بطاعة أقوام بأعيانهم، والرسول قد دل عليهم، و حظر على المتمسكين بهم أن يضلوا، والدليل على ذلك أن اللّه قد طبعهم على الخير، و عملهم ما احتاجت إليه الأُمّة، و لايجالسون فقهاءها، و لايتدارسون كتبها، بل ينظرون في علم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.(3)

ص:183


1- أبو زَهره، الإمام الصادق، ص 18.
2- رجال النجاشي، ص 40، الرقم 80، سيرة الحسن بن علي الوشّاء.
3- الطبري، ابن رستم، المسترشد، ص 561، الحديث 238.

و بَيّن الإمام الصادق أنّ مصدر علم الأئمة هو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام، و قال أيضاً: إنّا نعلم الأُمور أحياناً بالإلهام.(1)

و قال الإمام الباقر عليه السلام:... أترون أنّ اللّه تبارك و تعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يخفي عنهم أخبار السموات والأرض، و يقطع عنهم مواد العلم في ما يرد عليهم ممّا فيه قوام دينهم؟(2) و قال الإمام الصادق عليه السلام: لايحتجّ اللّه تبارك و تعالى على خلقه بحجة لايكون عنده كل ما يحتاجون إليه.(3)

و جاء في رواية أنّ الإمام الباقر عليه السلام استشهد بالآية الشريفة: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (4) على أنهم يعلمون بما يقدّره اللّه و يقضيه.(5) و قال عمار الساباطي: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الإمام، يعلم الغيب؟ فقال: لا، و لكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه اللّه ذلك.(6)

و جاء في رواية أُخرى أنّ الإمام الصادق عليه السلام استدل بالآية الشريفة: (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) (7) و قارنها بالآية: (... وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (8) بأنّ علم هذا أكثر من علم الذي أشارت إليه الآية السابقة: و قال: «علم الكتاب واللّه كلّه عندنا».(9)

(10) و قال المفضل: جعلت فداك يفرض اللّه طاعة عبد على العباد و يحجب عنه خبر السماء؟ قال: لا. اللّه أكرم و أرحم و أرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحاً و مساءً.(11)

ص:184


1- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 264، الحديث 2.
2- - المصدر السابق، ج 1، ص 261، الحديث 4.
3- المصدر السابق، ص 262، الحديث 5.
4- - سورة الجن (72)، الآيات 26-27.
5- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 256، الحديث 2.
6- المصدر السابق، ص 257، الحديث 4.
7- - سورة النمل (27)، الآية 40.
8- سورة الرعد (13)، الآية 43.
9- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 257، الحديث 3.
10- حول الآية (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ)، هناك رواية تقول انها تتعلق بآصف بن برخيا، الذي كان من أتباع النبيّ سليمان عليه السلام، والآية (وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) تنطبق على الإمام علي عليه السلام. نور الثقلين، ج 4، الصفحات 87-92. أمّا الوجه في ترجيح دلالة الآية (وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) على الآية الأُخرى هو أن الحرف (مَنْ) في تلك الآية دالّ على التبعيض، أمّا في هذه الآية فقد وردت عبارة (عِلْمُ الْكِتابِ) بشكل مطلق.
11- الكيني، الكافي، ج 1، ص 261، الحديث 3.

الإمامة في الطفولة

يعتقد الشيعة الإمامية بأنّ الأئمة المعصومين عليهم السلام يُعطون شأن الإمامة منذ الطفولة؛ لأَنَّ الإمامة منصب إلهي، و لمقام الإمامة المقدرة على تلبية المقتضيات التي يسلتزمها هذا المنصب؛ أي أن يكون الإمام حجّة للّه على الخلق. و بما أنّ هذا يُحتمل فيه أن ينال الإمام منصب الإمامة منذ عهد الطفولة، فإنّ اللّه تعالى يهبه مثل هذا العِلم و هذا المنصب. و هذا ليس بالشيء الجديد في تاريخ الدّين. فقد كان هناك في الأُمم الماضية من أُعطوا مقام النبوّة والوصاية في عهد الطفولة.

عيسى عليه السلام عندما كان وليداً تكلم في المهد و قال: (... إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا) ، (1) و جاء في شأن يحيى عليه السلام: (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) . (2) و استند الإمام الباقر عليه السلام إلى هاتين الآيتين ليبيّن أنّ عيسى و يحيى كانا حجتين و نبيين منذ الطفولة.(3)

قال صفوان بن يحيى: قلت للرضا عليه السلام: قد كنا نسألك قبل أن يهب اللّه لك أبا جعفر عليه السلام فكنت تقول: يهب اللّه لي غلاماً، فقد وهب اللّه لك فقَرَّ عيوننا، فلا أرانا اللّه يومك، فإن كان كَوْن فإلى مَن؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر عليه السلام و هو قائم بين يديه، فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين!؟ قال: و ما يضرّه من ذلك شيء، قد قام عيسى عليه السلام بالحجّة و هو ابن ثلاث سنين».(4)

و جاء في خبر آخر أنه قيل للإمام الجواد عليه السلام: إنهم يقولون في حداثة سنّك، فأشار إلى قصة سليمان و داود و قال: إنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان و هو صبي يرعى الغنم.(5)

ص:185


1- - سورة مريم (19)، الآية 30.
2- - سورة مريم (19)، الآية 12.
3- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 382، الحديث 1.
4- المصدر السابق، ص 383، الحديث 2.
5- المصدر السابق، الحديث 3.

آخر حجج اللّه

اشارة

الاعتقاد بالمنجي والأمل بقيام حكومة عالمية تبسط العدالة، موجودان في كل الأديان بشكل أو آخر. فقد جاءت البشرى بالمصلح في الديانة اليهودية، والمسيحية، و حتى في الهندوسية والزرادشتية والبوذية. فقد جاء في مزامير داود التي أُدخلت اليوم ضمن كتاب العهد القديم، ما يلي: و يقطع ذرية الأشرار، أمّا الصديقون فيرثون الأرض و يسكنونها إلى الأبد.(1) و جاء في موضع آخر أيضاً: المباركون من الرب يرثون الأرض، والملعونون منه ينقطعون.(2)

و قد صرّح القرآن الكريم بأن اللّه قد وعد في كتب الأنبياء السابقين أنّ الأرض سيرثها الصالحون: (وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ) . (3) و جاء في آية أُخرى: (وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) .(4)

و نقل أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال: إنّ المراد من الصالحين الإمام المهدي (عج) و أنصاره.(5)

و جاء في روايات كثيرة ذكر المنقذ العالمي و آخر الأوصياء بألقاب مثل المهدي، و قائم آل محمد، و حجة اللّه. و في كتب الحديث، و منها كتب الحديث عند أهل السُنّة روايات كثيرة حول الإمام المهدي (عج) ادّعى البعض تواترها.(6) و قد جاء في إحداها أنّ رجلاً من ذرية النبيّ اسمه المهدي سيظهر في آخر الزمان «لاتذهبُ الدنيا حتّى يليَ امَّتي رجلٌ مِنْ اهْلِ بَيْتي يُقالُ لَهُ المَهْدي».(7)

ص:186


1- - المزامير، المزمور (37)، الآيتان 22 و 23.
2- المصدر السابق، الآية 29.
3- - سورة الأنبياء (21)، الآية 105.
4- سورة النور (24)، الآية 55.
5- المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 47، الحديث 6.
6- - للعلامة الشوكاني كتاب في هذا المجال عنوانه: «التوضيح في تواتر ما جاء فى المنتظر والدجّال والمسيح».
7- الطوسي، كتاب الغيبة، ص 182؛ الحَمويني، فرائد السمطين، ج 2، ص 328؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 79 و 81.
ظهور المهدى (عج)

قال ابن أبي الحديد في شرح قول الإمام علي عليه السلام: «خلّف فينا رايةَ الحقّ»: راية الحق:

الثقلان المخلفان بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و هما القرآن والعترة(1) و قال في سياق شرحه لجملة: «حتى يطلع اللّه لكم من يَجمَعكم و يَضُمّ نَشْرَكم»: و هذا إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الوقت.(2)

جاء في ما نقل من كلام الأئمة عليه السلام: أنّ المهدي من ذرية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. و فضلاً عن ذلك فقد ذُكر آباؤه بالترتيب. و نصّت روايات على أنّ الإمام المهدي من ذرية الحسين عليه السلام؛ فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: الأئمة من بعدي إثنا عشر إماماً تسعة منهم من ذرية الحسين، والمهدي من هؤلاء التسعة.(3)

سُئل أميرالمؤمنين عليه السلام عن معنى قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي» مَن هم العترة؟ فقال: أنا والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديهم و قائمهم.(4)

و روي أنّ الإمام الحسن عليه السلام ذكر المهدي (عج) و قال: إنه التاسع من ولد أخي الحسين.(5)

و ذكرت روايات أُخرى أن المهدي من ذرية فاطمة عليها السلام؛ إذ نُقل أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لفاطمة: نبيّنا خير الأنبياء و هو أبوك، و وصينا خير الأوصياء و هو بعلك، و منا المهدي و هو من ذرّيتك.(6)

وردت أحاديث حول المهدي في مسند أحمد بن حنبل وصحيح البخاري اللذين يعود

ص:187


1- - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 85، شرح الخطبة 99.
2- المصدر السابق، ص 94.
3- الطوسي، كتاب الغيبة، ص 188 و 189 و 191؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 35 و 66 و 133.
4- الصدوق، إكمال الدّين، ج 1، ص 351.
5- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 132، الحديث 1.
6- المصدر السابق، ج 51، ص 67، الحديث 6؛ و ج 36، ص 369 و 370.

تاريخ تأليفهما إلى القرن الثالث، و هو قرن ولادة الإمام المهدي (عج).(1) و هذان الكتابان من الكتب المعتبرة عند أهل السنّة. و من الأحاديث التي نقلها أحمد بن حنبل في مسنده، الحديث التالي: «لو لم يبقَ من الدُنيا الإّ يوم بَعَثَ اللّه عزّوجلّ رجلاً منّا يملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً».(2)

أمّا بالنسبة إلى الوهابيين الذين يعتقدون - تبعاً لابن تيمية - بمعتقدات خاصّة مُخالفة لمعتقدات جميع الفرق الإسلامية المعروفة، فقد أقروا صحّة الأحاديث المتعلّقة بالمهدي، فقد جاء في البيان الذي أصدرته رابطة العالم الإسلامي - و مقرُّها في مكّة - في عام 1976، في سياق الإجابة عن سؤال تقدّم به شخص حول الإمام المهدي، أنّ ابن تيمية قد أقرّ صحّة الأحاديث المتعلّقة بالمهدي، و جاء ضمن الجواب: إنه (أي المهدي) آخر الخلفاء الراشدين الإثني عشر، الذين ذكرتهم كتب الصحاح نقلاً عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. والأحاديث المتعلّقة بالمهدي رواها الكثير من صحابة النبيّ. و قد أشير في هذا البيان إلى الكتب التي أُلّفت في هذا الموضوع، وصرّح أن الأحاديث المتعلّقة بالمهدي متواترة.

و قد شكك ابن خلدون في بعض هذه الأحاديث معترفاً بانّها كانت مشهورة لدى المسلمين على مرّ القرون والأعصار، و لازالت موجودة، و هي تدل على أنه سيظهر في آخر الزمان رجل من ذرية النبيّ... و اقرّ بأن بعض الأحاديث لايمكن الشكّ فيها.(3)

انتظار ظهور المهدي (عج) قبل ولادته

وردت البشارة بظهور الإمام المهدي (عج) في الروايات المنقولة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة عليهم السلام، إلى حد أنّ أصحاب الأئمة كانوا ينتظرون ظهور شخص باسم قائم آل محمد حتى في عصر الأئمة، و كانوا يسألون الأئمة أحياناً: هل أنت القائم من آل محمد؟ قال يونس بن عبدالرحمن: دخلت على موسى بن جعفر عليهما السلام فقلت: يا بن رسول اللّه، أنت القائم

ص:188


1- - أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج 1، ص 84 و 99 و 448؛ و ج 5، ص 277.
2- المصدر السابق، ج 1، ص 99.
3- ابن خلدون، المقدمة، ص 322 و ما بعدها.

بالحق؟ فقال: أنا القائم بالحق، و لكن القائم الذي يطهّر الأرض من أعداء اللّه هو الخامس من ولدي.(1)

ولادة الإمام المهدي (عج)

أشهر التواريخ حول ولادة الإمام المهدي هو النصف من شعبان من عام 255 للهجرة، و هو الوصي الثاني عشر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، واسمه و كنيته كاسم و كنية النبيّ. وُلِد من الإمام الحسن العسكري و زوجته نرجس في مدينة سُرَّ من رأى (سامرّاء).(2) و بعد ولادته عقّ عنه الإمام الحسن العسكري عليه السلام وتصدّق و أعلن لبعض الشيعة خبر ولادته.(3) و عرضه على بعض أصحابه، و هنّأ جماعة بولادة ابنه(4) فقال لهم: هذا صاحبكم من بعدي... و هو القائم الذي تمتد إليه الأعناق بالانتظار. فإذا امتلأت الأرض جوراً و ظلماً خرج فملأها قسطاً و عدلاً.(5)

غيبة الإمام المهدي (عج)

بعد استشهاد الإمام الحسن العسكري عليه السلام رأى جماعة من الشيعة الإمام المهدي عليه السلام، و كانوا في تلك المدّة واسطة بينه و بين شيعته، و من هؤلاء أفراد يُسمّون بالنواب الأربعة.

و قد وصفهم الإمام العسكري بالثقاة والعدول، و منهم أبو عمرو عثمان بن سعيد، وابنه محمد بن عثمان، و غيرهم من السفراء.(6) ويُطلق على هذه المرحلة اسم الغيبة الصغرى، و بدأت من عام 260 للهجرة إلى عام 329 للهجرة. و بدأت بعدها الغيبة الكبرى و هي مستمرة إلى

ص:189


1- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 31 من أبواب الأمر بالمعروف، ج 12، ص 282، الحديث 6.
2- - المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 23 و 24 و 25؛ الشيخ الطوسي، كتاب الغيبة، ص 234؛ الصدوق، اكمال الدّين، الباب 42، ص 424.
3- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 5، الحديث 9 و 11؛ الصدوق، إكمال الدّين، باب 42، ص 430 و 431، الحديث 6.
4- - الشيخ الطوسي، كتاب الغيبة، ص 251.
5- المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 5، الحديث 11.
6- - الشيخ الطوسي، كتاب الغيبة، ص 108 و 109؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 343 إلى 366، الباب 16.

أن يأذن اللّه للإمام بالظهور.

ورد اصطلاح الغيبة الصغرى والكبرى في كلام الأئمة قبل ولادة الإمام المهدي (عج)، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: «إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: إحداهما تطول...».(1)

غيبة الإمام المهدي ليس بمعنى أنه مختفٍ في موضع ما، و لكن المراد أنّ الناس لايعرفونه. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: المهدي مثل يوسف فيوسف، كان بين إخوته فلم يعرفوه. والمهدي أيضاً بين الناس و هم لايعرفونه حتى يأذن اللّه أن يعرّفهم نفسه كما أذن يوسف حين قال لهم: (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) . (2) سوف يأذن اللّه للناس في الوقت المناسب أن يعرفوا إمام زمانهم.(3)

إنّ غيبة الإمام والقائد في أية امّة من الأُمم أمر غير طبيعي، و يصعب على عموم الناس تصديقه. أمّا بالنسبة إلى غيبة الإمام المهدي فقد جرى التمهيد لها تدريجياً من قبل النبيّ والأئمة، و أصبحت هذه المحاولات أكثر وضوحاً في زمان الإمامين الهادي والعسكري عليه السلام؛ حيث أخذ يتقلص لقاء الشيعة مباشرة بالإمام العسكري عليه السلام، و أخذت الأُمور تُطرح عن طريق نواب. و كان هذا بمثابة محاولة لتمهيد الظروف ولإعداد الشيعة لقبول غيبة المهدي (عج) و عمد الإمام العسكري في الوقت ذاته إلى عرض الإمام المهدي على بعض الشيعة ليطمئنوا أنّ حجة الأرض موجود في الأرض، وليُعلموا بقية الشيعة بهذا الأمر. و في إحدى المّرات قال الإمام العسكري في مجلس كان فيه محمد بن عثمان بن سعيد (السفير الثاني للإمام المهدي (عج)) مع أربعين رجلاً من الشيعة، فإذا بغلام كأَنّه قطع قمر أشبه الناس بالإمام العسكري، فقال: «هذا إمامُكم من بعدي و خليفتي عليكم... ألا و إنّكم لاتَرَونه بعد يومكم هذا».(4)

ص:190


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 52، ص 153، الحديث 5.
2- - سورة يوسف (12)، الآية 89.
3- الصدوق، إكمال الدّين، الباب 5، ص 144 و 145، الحديث 11.
4- الشيخ الطوسي، كتاب الغيبة، ص 357؛ الصدوق، إكمال الدّين، الباب 43، ص 435، الحديث 2؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 346 و 347.
الحكمة من غيبة إمام الزمان (عج)

الاعتقاد بوجود المهدي (عج) و غيابه أمر ديني. وجود الإمام المعصوم تجسيد للطف اللّه واستناداً إلى السنن الإلهية لتكون هناك حجة إلهية على الناس في كل زمان: «اللهم بلى لاتخلو الأرضُ من قائمٍ للّه بحُجَّةٍ إمّا ظاهراً مشهوراً و إمّا خائفاً مغموراً لئلّا تبطل حُجَجُ اللّه و بيّناتُه».(1)

إن غيبة الإمام و عدم بسط يده و حرمان الناس من حضوره قضيّة تعود إلى المكلّفين أنفسهم، فقد يكون الإمام حاضراً و لكن لا سلطة له أو أن الناس أنفسهم يحرمون أنفسهم من تعاليمه و ظل وجوده. مثلما كان الحال في زمان الإمام علي عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام و سائر الأئمة حيث إنّ الناس لم يستفيدوا من وجودهم كما ينبغي و كما هم أهل له.

إنَّ وجود إمام روحي حي - حتى و ان كان يتعذّر الوصول إليه - مهم لأنه يجعل أتباعه يتعلّقون به و ينظمون حياتهم في ضوء ذلك و يسعون إلى التشبّه به. و هذا الشيء موجود لدى جميع الأمم التي لديها كتاب سماوي و غيرهم.

إنَّ استمرار الحضور الظاهري للإمام بين الناس له شروط، و ما لم تتهيّأ تلك الظروف تماماً، يتعذر حضوره المستمر. و سبب غيبة إمام الزمان (عج) هو عدم توفّر الأرضية المناسبة لإمامته الظاهرية.

إمام الزمان (عج) آخر ما ادّخره اللّه و لا حجّة من بعده. و هو يظهر حين تتوفر ظروف تطبيق أحكام اللّه في الكون كلّه و تُطوى صفحة الشرك و عبادة الأصنام:

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) . (2) و لابد طبعاً أن تتوفر لمثل هذا الهدف المهم الظروف والأرضية المناسبة. و ينبغي أن يكون الضمير العام لأبناء البشرية مهيئاً لقبول مثل هذا التحوّل الكبير.

ص:191


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 147؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 52، ص 92، الحديث 6.
2- - سورة التوبة (9)، الآية 33.
طول عمر إمام الزمان (عج)

من القضايا التي يدور حولها جدل كثير فيما يخص الإمام المهدي (عج) طول عمره. فقد مضى حتى الآن ما يقارب اثني عشر قرناً من عمره، و ربّما يقدّر له أن يستمر أكثر من ذلك.

و في ضوء متوسط أعمار الناس في كل العالم، يتبادر إلى الأذهان سؤال و هو كيف يمكن أن يكون لشخص مثل هذا العمر الطويل؟ و رغم غرابة هذه الظاهرة و استبعاد وجودها غير أنّ القرآن الكريم يصرّح بأن النبي نوح عليه السلام دعا قومه ألف سنة إلّاخمسين عاماً.(1) و قال الإمام الصادق عليه السلام إنّ النبي نوح عليه السلام عاش 2500 سنة.(2) و عاش أصحاب الكهف ثلاثمائة و تسع سنين في النوم.(3) و ذكرت كتب السيرة والتاريخ أفراداً عمّروا طويلاً. فقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ان النبي إبراهيم عاش 175 سنة، و عاش آدم عليه السلام 930 سنة،(4) و كانت مدّة نبوّة هود عليه السلام 670 سنة. و كان عمر أفراد قومه 400 سنة.(5)

و فضلاً عن ذلك، من الناحية الطبية لدى كل خليّة قدرة على العيش آلاف السنين. و إذا لم تعرض للإنسان عوارض كالمرض و غيره فهو قادر على العيش آلاف السنين. و على هذا الأساس لايمكن القول بتعذّر أو استحالة طول العمر لمجرد أنه خلاف الأعمار المتعارفة بين الناس.

إنتظار الفرج والحكمة منه

اعتبر انتظار الفرج عبادة. و وصف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم انتظار الفرج بأنّه أفضل الأعمال عند اللّه.(6) و جاء في حديث آخر: المُنتَظِر للثاني عشر كالشاهر سيفه بين يدي

ص:192


1- - سورة العنكبوت (29)، الآية 14.
2- - الصدوق، إكمال الدّين، الباب 46، ص 523، الحديث.
3- - سورة الكهف (18)، الآية 25.
4- - الصدوق، إكمال الدّين، ص 523، الحديث 3.
5- المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 108، قطب الدّين الراوندي، قصص الأنبياء، الباب 3، ص 90، الجزائري، قصص الأنبياء، ص 69.
6- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 52، ص 122، الحديث 2.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يذب عنه.(1)

و لكن ما معنى الانتظار؟ الانتظار لايعني التحني عن الحياة والتنصّل عن المسؤولية.

والانتظار ليس شيئاً عبثياً من غير غاية و لا مفهوم.

القادة البارزون والنابغون في حقل القيادة بمثابة طاقة محرّكة تستحثّ الأمّة و تنتشلها من حالة السبات و تبعث فيها الحياة والنشاط. و أمثال هؤلاء القادة لايؤثرون في حاضر أُممهم فقط، بل يؤثرون في مستقبلها أيضاً. و فضلاً عن الشخصيات الواقعية، فإنّ الأبطال الأسطوريين الموجودين لدى جميع الأمم تقريباً لهم تأثير في ثقافات تلك الأمم.

و يمكن القول بكل جرأة ان الدّين الوحيد الذي فيه شخصيات قيادية واقعية تتناسب مع مختلف الأزمنة والظروف هو الإسلام.

إنّ كل شيعي يعتقد بوجود إمام الزمان، و هذه العقيدة تؤثر فيه شاء أم أبى. و غيبة هذا القائد تجعل من هذا الشيعي يعيش حالة الانتظار. و في هذه الحالة يكون للإمام الغائب دور تربوي و بناء. و في الجانب الاجتماعي يؤدّي انتظار الفرج إلى تقوية نزعة مقارعة الظلم والظالمين - من أجل تهيئة الأرضية لظهور الإمام المنتظر (عج) - لدى الناس و تبعث فيهم حالة الاستعداد والتحرّك.

ص:193


1- المصدر السابق، ج 52، ص 129.

الآخرة

اشارة

هناك عالم آخر غير هذا العالم الذي نعيش فيه، يُسمّى عالم الآخرة. و هو امتداد لهذه الحياة الدنيا.

والإيمان بعالم الآخرة من الأُمور الأساسية التي دعا إليها كل الأنبياء. فالناس بعد الموت ينتقلون إلى ذلك العالم و يُحاسبون هناك من قبل اللّه على معتقداتهم و أعمالهم و خصالهم. و عالم الآخرة من العوالم التي خلقها اللّه ضمن خلقه للأشياء في أحسن نظام.

العالم الذي نعيش فيه حياتنا الدنيا محدود بأجل، و لابُدّ أن ينتهي يوماً ما و ننتقل من بعده إلى العالم الآخر: (ما خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى) .(1)

إنّ عالم الآخرة على درجة من الأهمية بحيث يعتبر الإيمان به جزءاً من المعتقدات الدينية، و يدخل في عداد أُصول الدّين، و بدونه لايكتمل الإيمان: (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) . (2) و قال تعالى أيضاً:

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) .(3)

يبدو أنّ فكرة وجود عالم آخر غير هذا العالم، حاجة فطرية منبثقة من ذات الإنسان. فمن الطبيعي أنّ الإنسان لايرتضي أن يعيش سنوات معدودة في هذه الدنيا ثم تُطوى صفحة وجوده إلى الأبد. فهذا السؤال كان على الدوام و لازال يراود فكر الإنسان، و هو، إلى أين سينتهي مصيره. و هذا السؤال يمثل في الواقع تعبيراً عن هذه الحقيقة، و هي أنّ الحياة يجب أن تستمر؛ و إلّافإنّ خلق العالم يعتبر عبثاً.

ص:194


1- سورة الروم (30)، الآية 8.
2- - سورة النساء (4)، الآية 136.
3- - سورة النحل (16)، الآية 22.

الدنيا تعتبر بمثابة مزرعة بالنسبة إلى الآخرة. «الدنيا مزرعةُ الآخرة».(1) فما نزرعه في هذه الدنيا نحصده في تلك الدار الآخرة. والدنيا فرصة ليتزوّد الإنسان فيها بالزاد والمتاع للطريق الطويل الذي ينتظره في عالم الآخرة. و يمكن القول بعبارة أُخرى: إنّ الدنيا مقطع من حياة طويلة، بل هي مقطع ضروري لكي يكتنز كل شخص فيها على قدر همّته واستعداده ما ينجيه و يرفعه في عالم الآخرة.

و في المقابل تعتبر الآخرة ذات أهمّية بالغة بالمقارنة مع الدنيا، بحيث وصف عزّوجلّ الدنيا باللّعب و اللّهو.(2) و في ضوء ذلك يجدر بالإنسان أن لايستبدل الدار الأبدية بما هو لعب و لهو، و إلّافإنه يبقى بلا مأوى.(3) نصَّ القرآن صراحة على أنّ عالم الآخرة أفضل من الدنيا، بل إنّ هذه الحقيقة صرّحت بها التوراة وصحف إبراهيم عليه السلام.(4) والآخرة حياة أبدية و لا حكم فيها إلّاللّه، و لا أمر و لا نهي لأحد إلّابإذنه. يمثل وجود عالم الآخرة تلبية لحاجة بشرية، و فضلاً عن ذلك فإنّ له تأثيراً حاسماً في وجود الناس لأنّه يبعث على السيطرة على سلوكه من الداخل، و يردعه عن اقتراف المفاسد، و يغرس في ذاته الأمل باستمرار الحياة.

و لاشكّ في أنّ انعدام وجود عالم آخر يُطفيء جذوة الأمل في نفس الإنسان و يشعره بالفراغ والضياع والعبثية، و لكن الآخرة تبعث في نفوس الصالحين الأمل بحسن الجزاء، وتُضيء في نفوس المظلومين الأمل بالحصول على حقوقهم يوماً ما. و تجعل الظلمة والمجرمين يستشعرون الخوف والهلع.

لاشكّ في أنّ الاعتقاد بعدم وجود عالم آخر من شأنه أن يؤدّي إلى أن يصبح هذا العالم مليئاً بالقهر والظلم، و يجعله خالياً من أية مشاعر معنوية.

أجَل الإنسان

الإنسان مثل أي مخلوق مادي آخر له مدّة معيّنة للعيش في هذه الدنيا، و هو ما يُعبر عنه

ص:195


1- - ورّام بن أبي فراس، مجموعة ورّام، ج 1، ص 183؛ ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي، ج 1، ص 267، الحديث 66.
2- - سورة الأنعام (6)، الآية 32؛ سورة العنكبوت (29)، الآية 64.
3- - سورة البقرة (2)، الآية 86.
4- - سورة الأعلى (87)، الآيات 17-19.

ب «الأجل». و عندما يحين أجل أيّ مخلوق لايمهل و إنّما يُساق نحو الموت.

و هناك نوعان من الأجل: أجل مسمّى، و أجل معلّق: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) . (1) الأجل المسمّى هو الأجل الطبيعي الذي يتناسب مع روح وجسم كل شخص. و يمكن هنا تشبيه البدن بالبذرة التي متى ما توفّرت لها ظروف الإنبات تنبت و تورق و تنمو و تثمر، و متى ما انتهت مدّتها تجف و تتساقط أوراقها.

و أما الأجل المعلّق فهو الأجل الذي يتوقف عليه استمرار حياة الإنسان أو أي كائن حي آخر. فإن تعرض الكائن الحي لخطر يقضي على الحياة كالمرض القاتل أو حادثة مميتة، فمن الطبيعي أن تنتهي حياته و يموت قبل الأجل الطبيعي. و متى ما حلّ أحد الأجلين يكون في ذلك الموت: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ...) (2) و (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ...) ، (3)(وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) .(4)

و بعد الموت تفتح صفحة جديدة من الحياة، فإن كانت الأعمال والخصال والمعتقدات للإنسان في هذه الدنيا صالحة، ينعم حينها بحياة ألذ و أطيب، و إذا كانت من غير زاد و لا عمل صالح فلا يجنى في الحياة الآخرة سوى الخزي والخسران.

الموت

الموت ضد الحياة المادية، و هو يحيل الكائن الحي إلى جسم جامد لا خاصية فيه.

و هذه الحالة تبدو في الظاهر و كأَنّها انعدام، و لكن الموت - كما اشارت إليه في الرواية - ليس إلّاجسراً «فما الموتُ إلاّ قنطرةٌ».(5)

إنّ استعمال كلمة قنطرة للتعبير عن الموت، واستعمال القرآن لكلمة «توفّي»،(6) يفيدان

ص:196


1- - سورة الأنعام (6)، الآية 2.
2- - سورة النساء (4)، الآية 78.
3- سورة آل عمران (3)، الآية 185.
4- سورة المنافقون (63)، الآية 10.
5- المجلسي، بحارالأنوار، ج 6، ص 154، الحديث 9.
6- - سورة السجدة (32)، الآية 11؛ سورة الزمر (39)، الآية 42.

أنّ ما يحصل في عملية الموت هو عبارة عن انفصال الروح عن الجسم. «التوفّي» هو استيفاء الشيء كاملاً. و إطلاق هذه الكلمة على الموت يفيد أنّ الموت ليس انعداماً و إنّما انتقال. جاء في حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «ما خلقتُم للفناء، بل خلقتُم للبقاء».(1)

والموت بيد اللّه مثلما الحياة بيد اللّه.(2) و للموت ملائكة مكلّفون به و إليهم يُنسب أحياناً.(3) الموت يجعل يد الإنسان قصيرة عن الدنيا و يحول بين المرء و عمله. و عليه أن لاينتظر بعد الموت إلّانتيجة عمله، و لاحيلة و لامناص لمن حلَّ أجله.

سهولة و صعوبة النزع

استناداً إلى الآيات والروايات، يقع الموت بخروج الروح من الجسم، أو ما يُسمّى بقبض الروح، و هذه العملية؛ أي عملية قبض أو نزع الروح، تختلف من إنسان إلى آخر تبعاً للحال التي كان عليها في الدنيا. والموت طبعاً لا مفرّ منه، و لايعلم الإنسان متى و أين يموت،(4)

و لكن روحه قد تُنزع بصعوبة و ألم، أو بسهولة و يسر، تبعاً لمعتقداته و أفعاله في الحياة الدنيا.

فالمؤمنون يلقون أثناء الموت البشرى والتحية والمحبّة من الملائكة.(5) روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إذا أتى ملكُ الموت المؤمن لقبض روحه جزع، و لكن ملك الموت يصبّره و يسلّيه.(6) و جاء في خبر آخر أنّ أرواح المؤمنين تأتي لاستقبال المؤمن وتقدّم له البشرى.(7) و جاء في رواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال فيها: الموت للمؤمن كأطيب ريح يشمّه، فينعس لطيبه و ينقطع كلّ التعب والألم عنه، و للكافر كالأفاعي والعقارب و أشدّ.(8)

ص:197


1- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 133، الحديث 2291؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 6، ص 249.
2- - سورة الزمر (39)، الآية 42؛ سورة يونس (10)، الآية 104.
3- - سورة النحل (16)، الآية 32؛ سورة السجدة (32)، الآية 11.
4- - سورة لقمان (31)، الآية 34.
5- - سورة النحل (16)، الآية 32.
6- - الكُليني، الكافي، ج 3، ص 127، الحديث 2.
7- - الكُليني، الكافي، ج 3، ص 130، الحديث 2.
8- الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 274، الحديث 9.
الخوف من الموت

الموت قضية مثيرة للخوف والهلع بالنسبة للإنسان طيلة حياته؛ فهو يرى الموت يلاحقه في كل حين، و هو يفر منه، و نادراً ما تجد من يرحّب به. فالبعض يخاف الموت بسبب خشيته من الفناء الأبدي، و هذا ناتج طبعاً عن جهله بحقيقة الموت. والبعض الآخر يعرف حقيقته و لكنه خرّب تلك الدار و لايودّ الانتقال إليها. و من الطبيعي أنّ الانتقال إلى موضع كريه يثير في النفس الهلع. جاء في رواية عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال في سبب الخوف من الموت: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم.(1)

و جاء في القرآن الكريم في وصف خوف اليهود من الموت: (وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ) .(2)

و في المقابل هناك من يؤمنون بالآخرة و قد عمروا آخرتهم؛ و هؤلاء لايخشون الموت، بل حتى يتمنّونه.

و حريّ بنا طبعاً الاعتبار بهذه الإرشادات، و إعداد أنفسنا لذلك اليوم الذي نترك فيه و عملنا، و لاينفعنا مال و لا جاه و لا أولاد: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ) .(3)(4)

البرزخ

هناك بين عالمي الدنيا والآخرة عالم آخر و هو عالم البرزخ. والبرزخ في اللغة بمعنى الحاجز والحد بين الشيئين.(5) و سبب تسميته بهذا الاسم يعود إلى وقوعه بين الدنيا والقيامة. فعندما يموت الإنسان تنتقل روحه إلى عالم البرزخ. يقول القرآن في وصف تلك الحال: (حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) .(6)

ص:198


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 6، ص 129، الحديث 18.
2- سورة الجمعة (62)، الآية 7.
3- سورة الشُعَراء (26)، الآية 88.
4- المجلسي، بحارالأنوار، ج 6، ص 129.
5- - الراغب الأصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ص 118.
6- سورة المؤمنون (23)، الآيتان 99 و 100.

جاء في الأحاديث أنّ الروح بعدما ترحل عن البدن، تحل في عالم البرزخ في أبدان مثالية شبيهة بالأبدان الدنيوية.(1) يحظى المؤمنون في عالم البرزخ الذي يُعبّر عنه بعالم القبر أيضاً، بنوع من الحياة، و يكون لديهم اطلاع على ما يجري في الدنيا و ما يعيشه أهلهم من فرح أو حزن.(2)

يُستفاد من الآيات والروايات والتوصيات المؤكّدة على زيارة أهل القبور، أنّ الإنسان بعد الموت يتمتع بنوع من الحياة. روى عبداللّه بن سليمان أنه سأل الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام عن زيارة القبور، فقال: «إذا كان يوم الجمعة فزرهم، فإنه من كان منهم في ضيق وسع عليه ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يعلمون بمن أتاهم في كل يوم. فإذا طلعت الشمس كانوا سدى. قلت: فيعلمون بمن أتاهم فيفرحون به؟ قال: نعم:

و يستوحشون إذا انصرف عنهم».(3)

قال أبو بصير: سألت أبا عبداللّه الصادق عن أرواح المؤمنين فقال: في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها، و يشربون من شرابها، و يقولون: ربنا أقم الساعة لنا، و انجز لنا ما وعدتنا، و ألحِق آخرنا بأوّلنا.(4) و سأله أيضاً أبو بصير عن أرواح المشركين فقال: في النار يندبون و يقولون: ربنا لاتقم لنا الساعة و لاتنجز لنا ما وعدتنا و لاتلحق آخرنا بأولنا.(5)

سؤال القبر

في عالم البرزخ أو القبر يتعرض الإنسان للمسألة عن معتقداته و أفعاله. و من الأسئلة التي كثيراً ما تراود الأذهان هي أنّ الإنسان إذا مات تتعطل إدراكاته و حواسّه. فكيف يحزن و يفرح و يتعرض للمسألة؟ والجواب هو أنّ ما يتعرض للمسألة هو روح الإنسان. والروح باقية، و يكون لها نشاط يتناسب مع العالم الذي تعيش فيه. و لعل إدراكها يصبح أقوى بعد

ص:199


1- - الكُليني، الكافي، ج 3، ص 244 و 245، الحديث 1 و 6 و 7.
2- الكُليني، الكافي، باب أنّ الميت يزور أهله، ج 3، ص 230.
3- المجلسي، بحارالأنوار، ج 6، ص 256، الحديث 88.
4- - الكُليني، الكافي، ج 3، ص 244، الحديث 4.
5- الكليني، الكافي، ج 2، ص 245، ح 1.

انفصالها عن عالم المادّة. فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «النّاسُ نيامٌ، فَإذا ماتوا انتَبَهوا».(1)

و على هذا الأساس فلا مانع من تعرّض الروح للمسألة بعد الانفصال عن الجسد، أو تتأذى من ضغط القبر؛ لأَنَّ هذه الأُمور تتعلق بالروح التي تمثّل حقيقة الإنسان، و إلّافهناك من الناس من لايوضع في قبر كما هو حال من يغرق و تأكله الأسماك، أو من تأكله الوحوش في البراري، أو من يحترق بالنار. والعذاب أو الراحة في القبر له صلة بالروح و خصائصها.

فعندما يموت الإنسان و تتحرر الروح من اللذائذ المادية، تزول موانع الفهم الحقيقي للأُمور، و يدرك الإنسان الواقع كما هو؛ فيتعذّب بسبب ذنوبه، أو يدخله السرور لِما فعله من خير و عمل صالح. بل إنّ هذا قد يحصل حتى في الدنيا. فيشعر المذنب والمسيء بالتأنيب، و يشعر المحسن بالبهجة والراحة.

علل مشارف القيامة

للعالم الذي نعيش فيه أجل و مدّة معيّنة. و يوم يحلّ أجله يضطرب في واقعه مثيرة للدهشة والعجب. فالشمس والنجوم تتكور و تنكدر.(2) و تخرج الشمس والقمر من مدارهما و يجتمعان.(3) و يقع زلزال عظيم يدمّر كل شيء.(4) و تتساوى الجبال والوديان وتصير قاعاً صفصفاً.(5) و تخرج الأرض كل ما في داخلها.(6) و تنشق البحار و تجري(7) و تتبدل أمواج البحار إلى كُتل نارية(8) و تُحمل الجبال فتُدكّ (9) و تغدو الجبال كالعهن المنفوش(10) و تصير كالكثيب المهيل(11) و تكون كالهباء المنبث،(12) و تنشقّ السماء و تصير

ص:200


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 4، ص 43، الباب 5، الحديث 18.
2- - سورة التكوير (81)، الآيتان 1-2.
3- - سورة القيامة (75)، الآيتان 9-10.
4- سورة الزلزلة (99)، الآية 1.
5- - سورة طه (20)، الآيات 105-107.
6- سورة الزلزلة (99)، الآية 2.
7- سورة الإنفطار (82)، الآية 3.
8- - سورة التكوير (81)، الآية 6.
9- سورة الحاقة (69)، الآية 14.
10- - سورة المعارج (70)، الآية 9.
11- سورة المزمل (73)، الآية 14.
12- سورة الواقعة (56)، الآيتان 5 و 6.

وردة كالدهان،(1) و تصبح كالمهل،(2) و تُطوى كطي السجل،(3) و تأتي بدخان مبين،(4) و تنكدر النجوم(5) و تتناثر الكواكب.(6)

الحسابات العلمية غير قادرة على الاخبار عمّا سيؤول إليه مستقبل العالم. و قد أشار القرآن إلى جانب من هذه التغييرات التي سيشهدها العالم، و لكن الكيفية التي ستحصل بها غير واضحة، و لكن هذه الوقائع الهائلة تنبيء عن قرب وقوع القيامة و نهاية الدنيا. و هذا ما يُعبر عنه بأشراط الساعة. و زمان وقوعها غير بعيد. فعلينا الحذر واغتنام الفرصة.

زمان وقوع القيامة

إنَّ القيامة ستقوم يوماً ما و لكن لا أحد يعلم زمان وقوعها. و قد جعل اللّه علم ذلك له وحده و لم يخبر أحداً بذلك (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) (7) وسرّ هذا الكتمان هو أن جهل كثير من الأشياء خير للإنسان من علمها، ولو علم الإنسان بحوادث المستقبل التي ستغيّر مصيره فإنّه لايقدم على أي عمل. و إذا علم وقت موته تصبح الحياة مريرة بالنسبة له و لاتُطاق و يفقد الأمل و لايبادر إلى عمل، و ينفرط عقد الحياة و نظمها.

قرب وقوع القيامة

إنَّ وقوع يوم القيامة قطعي بل و قريب أيضاً.(8) و هذه الساعة قريبة الوقوع إلى درجة ان الباري عزّوجلّ أخبر عنها بالفعل الماضي (اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ) (9) و مع ان الناس يلاحظون قرب نهاية العالم و يشاهدون نهاية خطّه و يعلمون أن أعمارهم إلى زوال، بيد أنّهم غارقون في اللعب و غافلون عن ذهاب حياتهم (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ...) .(10)

ص:201


1- - سورة الرحمن (55)، الآية 37.
2- سورة المعارج (70)، الآية 8.
3- سورة الأنبياء (21)، الآية 104.
4- سورة الدخان (44)، الآية 10.
5- سورة التكوير (81)، الآية 2.
6- سورة الانفطار (82)، الآية 2.
7- - سورة الاعراف (7)، الآية 187.
8- - سورة الأنبياء (21)، الآية 1.
9- - سورة القمر (54)، الآية 1.
10- سورة الأنبياء (21)، الآيتان 2-3.

و لكن ينبغي أن نحذر و نعلم أن القيامة - شئنا أم أبينا - واقعة و لا مفر منها. و هي قريبة جداً (وَ ما أَمْرُ السّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) .(1)

أهوال القيامة

حين يفنى كل حي الا وجه اللّه و من شاء له البقاء، يأتي نداء اللّه:

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ) .(2)

يُنفخ في الصور مرّة أخرى و تكون النفخة هذه المرّة للبعث والإحياء؛ إذ يُبعث الأموات من قبورهم وهم ينظرون.(3) و يأتي الناس أفواجاً إلى الحشر،(4) و يكون الناس يومئذ كالسكارى(5) و يفقدون القدرة على الوقوف و تكون قلوب الذين أساءوا مليئة بالخوف والرعب.(6) و يشيب الرضع من هول ذلك اليوم(7) و يفر القريب من قريبه(8) و يودّ المجرم لو يفتدي نفسه بكل ما لديه لينجو من العذاب(9) و هو يوم مقداره خمسون ألف سنة(10) و يظن الخاسرون يومذاك أنهم لم يعيشوا في الدنيا الا يوماً واحداً.(11) و في ذلك اليوم تكون الأرض غير الأرض والسموات غير السموات.(12) و يكون كل شيء غريباً، و يخرج الكفار من القبور سراعاً نحو ساحة المحشر خاشعة أبصارهم و ترهقهم ذلّة،(13) ذلك يوم ندم و حسرة الناس(14) و يعضّون على أصابعهم على ما فرّطوا به و يقولون ياليتنا اتخذنا مع الرسول سبيلاً و لم نتخذ فلاناً خليلاً.(15)

و يومئذ تكون الأصوات همساً: (وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً) .(16)

ص:202


1- سورة النحل (16)، الآية 77.
2- سورة غافر (40)، الآية 16.
3- - سورة الزمر (39)، الآية 68.
4- سورة النبأ (78)، الآية 18.
5- - سورة الحج (22)، الآيتان 1-2.
6- - سورة النازعات (79)، الآية 8.
7- سورة المزمل (73)، الآية 17.
8- سورة عبس (80)، الآيات 33-37.
9- - سورة يونس (10)، الآية 54؛ سورة آل عمران (3)، الآية 91.
10- سورة المعارج (70)، الآية 4.
11- - سورة يونس (10)، الآية 45.
12- - سورة إبراهيم (14)، الآية 48.
13- - سورة المعارج (70)، الآيتان 43-44.
14- - سورة مريم (19)، الآية 39.
15- سورة الفرقان (25)، الآيتان 27-28.
16- سورة طه (20)، الآية 108.

والأخلاء يتنازعون يومئذ، بينما المؤمنون والمتقون بعيدون عن ضجيج و خوف ذلك اليوم. و يتبرّأ عبدة الأصنام مما كانوا يعبدون.(1) و يشكو الناس الذين أغواهم قادتهم الفاسدون و يلقون عليهم باللائمة.(2) و تكشف الحقائق في يوم القيامة و لاتبقى خافية.

و يُفضح المنحرفون الذين شاهدوا الحقيقة و لكنهم كتموها عناداً أو نزولاً عند أهوائهم.

و يُكشف النقاب عن المرائين الذين كانوا يتظاهرون بالصلاح. و ترى الوجوه هناك مكفهرّة و وجلة و يبحث الناس عن طريق للخلاص و لكن لا مِن مناص.

و يحشر الناس في القيامة جماعات حسب أعمالهم. بينما يأتي المتقون وفداً (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) . (3) جاء في حديث إنّ الإمام الصادق عليه السلام قال:

«ان اللّه يُحشر الناس على نياتهم يوم القيامة».(4)

والناس في القيامة تبيضّ وجوهم أو تسودّ حسب أعمالهم (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ...) (5) و يقسمون بشكل عام إلى ثلاث مجموعات: السابقون في الإيمان، و أصحاب اليمين، و هاتان الجماعتان مأواهما الجنة، و أصحاب الشمال أو الأشقياء و هؤلاء يدخلون النار.(6) و يُصنف الناس هناك على أساس قادتهم و سُبُلهم، و يُدْعَوْنَ بأسماء قادتهم (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) . (7) و سبب ذلك هو أن مَن ينضوي تحت لواء شخص أو جماعة لابد أن يتطبع بطباعهم و يعتنق معتقدهم إلى درجة أنه حينما يُنادى بأسمائهم يجيب من فرط عادته عليهم و شعوره بالقرب منهم. والكلمة الأخيرة هي ان اللّه قد جعل هذا اليوم من أجل إحقاق حق المظلومين الذين سُحِقت حقوقهم.

إن رسم مثل هذه الصورة المروّعة ليوم القيامة إنما هو بمثابة تحذير للناس ليتأهبوا لمثل هذا اليوم. و أمثال هذه التحذيرات لايُراد منها إظهار قدَرة اللّه فحسب، و إنّما الغاية منها إلقاء الخوف في قلوب العباد ليحذروا؛ لأن طبيعة الناس هي إنّهم يخشون الخطر أكثر.

ص:203


1- - سورة البقرة (2)، الآية 167.
2- - سورة سبأ (34)، الآيات 31-33.
3- - سورة مريم (19)، الآية 85.
4- الحر العاملى، وسائل الشيعة، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات، ج 1، ص 48، الحديث 5.
5- - سورة آل عمران (3)، الآية 106.
6- - سورة الواقعة (56)، الآيان 7-48.
7- - سورة الإسراء (17)، الآية 71.

ان مشقّة وعذاب يوم القيامة قد جُعِلا لمن لم يكسبوا القدرة و لم يتحلوا بالاستعداد اللازم و لم تتعلق قلوبهم بربّهم. و أما الذين تزوّدوا من دنياهم لآخرتهم و آمنوا بأن اللّه رقيب عليهم واختاروا لأنفسهم مساراً صحيحاً في الحياة فلا يخشون عذاب ذلك اليوم و أهواله. و بما انهم يعلمون عدم عسر ذلك اليوم عليهم فنهم يدخلون ساحة الحساب يوم القيامة بقلوب مطمئنة.

الحشر والمعاد

الناس بعد الموت لايفنون، و إنّما يأتي يوم يُبعثون فيه، و تتواصل حياتهم على نحو آخر. ولإعادة حياة الإنسان أهمّية قصوى في التعاليم الدينية من جهة و بين الناس أنفسهم من جهة أُخرى. فقد كانت قضية الموت والمعاد والحياة الأبدية أمراً تكتنفه الأسرار.

و كثيراً ما يتساءل الناس: لماذا وُلِدوا و لماذايجب أن يموتوا؟ و ما الذي سيحلُّ بهم بعد الموت؟ و إذا كانت حصيلة الحياة هي الموت، فلماذا يجب أن يأتوا إلى الدنيا؟ أليس من الأفضل أن لايأتوا إلى هذه الدنيا، لكي لايكابدوا كل هذا العناء، و لكي لا يُرغموا على الموت يوماً؟

كانت إحدى غايات الأنبياء الكشف عن هذا اللُّغز؛ إذ إنهم كشفوا عن ذلك و بيّنوا للناس بأنهم بعد الموت لايفنون و إنّما ينتقلون من موضع إلى آخر. و هذا الانتقال يكون عن طريق الموت؛ حيث تبقى الروح و يعود البدن إلى التُراب.

و قد يتبادر إلى أذهان الناس سؤال آخر بعد إدراك هذا الواقع، و هو كيف يمكن أن يعود هذا الإنسان بما يتّصف به من تعقيد في الخلق، إلى الحياة بعد الموت، و بعدما يفنى و يتلاشى بدنه؟ و قد تحدث القرآن الكريم عمن كانوا لايؤمنون بالبعث، و أقسموا أنّ الموتى لايُبعثون: (وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ) . (1) و يُستدل من هذه الآية و أمثالها على أنّ قضية المعاد كانت من القضايا الغامضة لديهم، و كانوا كثيراً ما

ص:204


1- - سورة النحل (16)، الآية 38.

يجادلون الأنبياء بشأنها. لأنها كانت أمراً غيبياً عجيباً بالنسبة لهم، يجدون أنفسهم عاجزين عن استيعاب حقيقته، و كثيراً ما يتساءلون: (وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) (1) أي كيف يمكن لمن يموت أن يُبعث إلى الحياة من جديد، و يأتي جواب اللّه عن هذه التساؤلات والشبهات بقول تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) . (2) و على هذا الأساس يذكرهم بهذا ليخرجهم من غفلتهم (أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً) . (3) لو كان الناس موجودين قبل الخلق، و قيل لهم: إنّ عالماً عظيماً سيُخلق، فمن الطبيعي أنهم ما كانوا يصدّقون ذلك، وربّما كان استبعادهم لهذا الأمر و إنكارهم له أكثر من إنكارهم للمعاد. لذلك أقسم اللّه بحزم أنه سيحييهم و يحشرهم: (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ...) (4) و بيّن كذلك (ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) . (5) و قد أوحى اللّه عزّوجلّ إلى نبيّه أن يجيب عن كل هذه التساؤلات بقوله تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) .(6)

وردت في القرآن الكريم أمثلة متعددة لإحياء الموتى في هذه الدنيا. نذكر من ذلك مثلاً أنّ جماعة من بني إسرائيل طلبوا من موسى أن يروا اللّه، و قالوا له: إننا لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة، و لكن اللّه عاقبهم على هذا الإصرار بصاعقة أخذتهم، ثم أحياهم مرّة أُخرى.(7)

و مَرَّ النبيّ عُزير عليه السلام على قرية خربة و كانت عظام الموتى بادية فيها: فتساءل عجباً:

كيف يحيي اللّه هؤلاء الموتى؟ فأماته اللّه و بعد أن مرّت مئة سنة أحياه و قال له: انظر إلى طعامك و شرابك لم يتغيّر، و انظر إلى حمارك، و إلى العظام كيف نكسوها لحماً.(8)

و هناك أمثلة أُخرى من هذا القبيل ورد ذكرها في القرآن، كالذي ورد في قصّة النبيّ إبراهيم عليه السلام من قتل و إحياء الطير،(9) أو القوم الذين خرجوا من ديارهم حذراً من الموت فأماتهم اللّه ثم أحياهم.(10)

ص:205


1- - سورة الإسراء (17)، الآية 49.
2- - سورة يس (36)، الآيات 79.
3- - سورة مريم (19)، الآية 67.
4- - سورة مريم (19)، الآية 68.
5- - سورة لقمان (31)، الآية 28.
6- سورة يس (36)، الآيات 79.
7- سورة البقرة (2)، الآيتان 55-56.
8- سورة البقرة (2)، الآية 259.
9- - سورة البقرة (2)، الآية 260.
10- سورة البقرة (2)، الآية 243.

أشار اللّه تعالى إلى الطبيعة لإثبات وقوع المعاد، ولفت الأنظار إلى هذه الظاهرة(1) إذ لاشكّ في أنّ ازدهار الطبيعة من بعد الشتاء دليل آخر على أنّ لأعمار الكائنات الحية و منها الإنسان مراحل، أو أنّ الموت والحياة يعد نوعاً من التحوّل والانتقال.

و هناك سؤال ربّما يراود أذهان البعض، و هو: ما الداعي لخلق كل هذا الكَوْن العظيم ثم تدميره، و لماذا يُخلق الناس ثم يموتون ثم يُبعثون؟ و لماذا يفعل اللّه ذلك ثم يدعو الناس إلى التفكير فيه، و أرسل الأنبياء لدعوة الناس للإيمان بذلك، حتى صار ذلك على مدى تاريخ الأديان جزءاً من أُصول الدّين، والكفر به يوجب العذاب؟ إذ ورد في الكتب السماوية السابقة - كالإنجيل - ذكر المعاد، حيث جاء فيه: لاتتعجبوا من هذا، ستجيء ساعة يَسمعُ فيها صوته جميعُ الذين في القبور، فيخرج الذين عملوا الصالحات....(2)

علينا أن نعلم بأن خلق العالم حصيلة خالقية اللّه و فيضه، لتنال الكائنات من فيضه فهو يخلق أمثلة ممتازة من الكائنات لتجسيد قدرته، لكي تحظى الكائنات بالمقدّرات ثم تبلغ كمالها. و في الختام يؤول الكَوْن بمقتضى طبيعته إلى الشيخوخة ثم التفسّخ ثم الزوال؛ و بما أنّ زوال العالم يتنافى مع خالقية اللّه. إذاً فلابّد من استمرار الوجود و بقائه.

أمّا الغاية من المعاد فهي لغربلة خلاصة الوجود، فمن يستفيدون من عالم الوجود و يسيرون على طريق الحق، يتبوّأون المنزلة الكريمة اللائقة بهم و يكون نصيبهم حياة طيّبة، في حين أنّ من لم يواكبوا تيار الوجود، و لم يقنعوا بما هو حق، و تطاولوا على حقوق الغير، أو بعبارة أُخرى: لم يعملوا عملاً صالحاً، يلقون جزاءهم في الحياة الآخرة و يذوقون و بال سوء أعمالهم. يأتي المعاد للكشف عن كيفية تحويل أشياء بسيطة كالتراب إلى كائنات عظيمة بقدرة اللّه! و كيف ينبثق من المادّة الجامدة إنسان كامل يعتلي صدارة الملكوت، و تكون له أفضلية حتى على موجودات سامية كالملائكة. المعاد امتداد لخالقية اللّه و من مظاهر عظمته. إنّ عدم وجود المعاد يعني خواء الحياة الدنيا، و بدونه تبدو الحياة مجرّدة من البهجة و عارية من أي هدف.

ص:206


1- - سورة الروم (30)، الآيات 19، 24، 25 و 27.
2- انجيل يوحنّا، الباب 5، الرقم 27 و 28.
هل المعاد جسماني أم روحاني؟

هل يتحقق المعاد بهذا البدن الدنيوي، أم الروح هي التي يؤتى بها يوم القيامة بعد مفارقتها البدن والانتقال إلى عالم البرزخ؟ أمثال هذه الشكوك والتساؤلات كانت تراود أذهان المشركين في عصر نزول القرآن، فكانوا يتساءلون كيف يمكن إعادة الروح إلى البدن الذي تفسّخ و تحولت عظامه إلى رميم؟ (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ) .(1)

الإشكال الآخر الذي يُثار حول مسألة المعاد هو أنّ الكائن الحي إذا سار على طريق الكمال و وصل إلى حد مناسب من التطوّر، لابُدّ و أنّ عودته إلى حالته الأُولى تتطلّب إعادة الظروف والزمان والأسباب إلى ما كانت عليه آنذاك. أي لابُدّ من عودة تلك الظروف التي نشأ فيها ذلك الكائن و تدرج في التطوّر. و هذا أمر غير ممكن طبعاً. و هذا يعني أنّ المعاد إذا اريد له أن يتحقق فليس من الممكن أن يتحقق بصورة المعاد الجسماني، و لابُدّ أن يكون روحانياً.

يُستفاد من الآيات و من الروايات المنقولة عن أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّ المعاد جسماني؛ إذ يُستدل من شهادة الأيدي والأرجل في موقف الحساب،(2) والوعد بما لذّ و طاب من الأطعمة والأشربة،(3) والملذات الجنسية،(4) والنعيم الذي يلقاه المحسنون في الظلال والعيون،(5) والثياب الفاخرة والناعمة،(6) والإتكاء على الأرائك(7) و ما شابه ذلك، إنّ الناس يحضرون بأجسامهم في يوم القيامة و مواقفه. و فضلاً عن ذلك فقد قال الباري عزّوجلّ في الرد على شبهة المشركين الذين استبعدوا بعث الإنسان من جديد: (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ؛ (8) أي أكّد عودة الموجود السابق.

ص:207


1- سورة يس (36)، الآية 78.
2- - سورة طه (20)، الآية 55.
3- - سورة الطور (52)، آية 19.
4- سورة الرّحمن (55)، الآيات 56، 58، 72؛ و آيات متعددة أُخرى من القرآن الكريم.
5- - سورة المرسلات (77)، الآية 41.
6- سورة الكهف (18)، الآية 31.
7- سورة الواقعة (56)، الآيتان 15-16.
8- سورة يونس (10)، الآية 4.

ليس من المتعذر على اللّه إعادة خلق البدن المتفسّخ أو الذي أكلته الحيوانات، أو الذي احترق بالنار؛ إذ ليس من العسير على اللّه إعادة جميع ما تلاشى و تناثر من الأبدان (أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (1) فهذا العمل ليس بأصعب من خلق الإنسان ابتداءً؛ إذ لم يكن له حينذاك شكل أو قوام، فمثلما تنبعث الحياة من جديد في الأشجار بعد جفافها، أو كما تنبثق النباتات من باطن الأرض بعدما ذوت، فإنّ الباري الذي يخلق من التراب كائنات معقّدة، يستطيع أن يبعث فيها الحياة مرّة أُخرى.

أمّا القول: إنّ البعث من جديد يستلزم إعادة الظروف الزمانية والمكانية والأجواء الأُخرى إلى ما كانت عليه في السابق، فهذا الإشكال يمكن نقضه. فحقيقة الإنسان تكمن في الروح التي تفارق الجسم و تمكث في البرزخ. و يؤتى بها يوم القيامة. الروح هي قوام البدن و هويّته. و بما أنّ كل الصفات والمعتقدات الحسنة والقبيحة تكتسبها الروح، لذلك من الطبيعي أن يكون كل شيء متعلقاً بها. و من المحتمل أن يؤتى بالروح في هيكل آخر و في الوقت ذاته تحتفظ بهويّتها.

البدن يعيش في الدنيا في حالة من التغيير والتبدّل؛ فتتفسّخ بعض خلاياه وتزول و تحلّ محلّها خلايا جديدة، و لكن هويته و شخصيته باقية، لأَنَّ جميع مكوّناته خاضعة لإرادة روح واحدة. وتلك الروح التي تؤلّف هوية أي شخص، تؤدّي دورها في الملكات التي اكتسبتها. و هي تؤدّي عملها بواسطة أعضاء وجوارح البدن الجديد. و تعبير «خلق جديد»(2) الذي ورد في القرآن يتناسب مع هذا المعنى. و يمكن أيضاً اعتبار مثل هذه الحالة متطابقة مع الرواية التي تقول: «الناس في الجنّةِ على صُوَرِ أبدانهم لو رأيتَهُ لقُلتَ فلانٌ...».(3) و بعبارة أُخرى: تزول الأجزاء المادية الدنيوية بعد الموت وتبقى الروح.

و تستطيع الروح أن تؤدّي دورها - في ضوء ما اكتسبته في الدنيا - في قالب آخر، و تسير على ذات النهج في الحياة الآخرة، و تتلقى جزاءها و تذوق طعم اللذائذ والآلام سواء كانت

ص:208


1- - سورة القيامة (75)، الآيتان 3-4.
2- - سورة سبأ (34)، الآية 7؛ سورة ق (50)، الآية 15.
3- - الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 1، ص 466، الحديث 1527.

روحية أم جسمية. و يشهد كلّ عضو من أعضاء البدن بما يتناسب مع عمل الروح. و يمكن القول - كما قال صدر المتألهين الشيرازي - إنّ الروح في عالم البرزخ و في عالم الآخرة، تواصل حياتها ببدن مثالي مشابه لبدنها المادي. نظير ما يحصل في عالم المنام حين تواصل الروح نشاطها ببدن مثالي، بينما البدن المادي مضطجع في الفراش.

والنتيجة هي أنّ المعاد الجسماني أمر قطعي، و هذا ما أكّده القرآن الكريم، و لكنّنا غير قادرين على إدراك كل خصائصه. و ما ينبغي الاعتقاد به ويُعتبر من ضرورات الدّين هو المعاد الجسماني و ليس خصائصه و كيفياته.

الحساب

يؤتى بالموتى إلى موقف الحساب بعد نفخ الصور. و من الطبيعي أنّ الحساب في هذا الموقف - الذي يعتبر من مواقف القيامة - يجري بصورة واضحة و شفافة لا لبس فيها؛ و ذلك بسبب علم اللّه المطلق بكل شيء. هناك لاتُهمل ذرة واحدة من أعمال كل شخص.(1) إذ تُعرض هناك كتب مسجّلة فيها أعمال العباد، و يحضر الأنبياء و شهود الأعمال ويُقضى بين الناس بالحق. استناداً إلى ما هو مدوّن في كتاب أعمال كل إنسان: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (2) و في هذا الكتاب مدوّن كل ما هو صغير أو كبير من الأعمال: (وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (3) و يوضع أمام كل شخص يوم القيامة كتاب أعماله ليقرأ ما فيه و تجري محاسبته استناداً إليه.(4)

في ذلك الموقف يكون كل شخص مسؤولاً عن أعماله؛ فمن عمل صالحاً تغمره الفرحة والسرور (وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) . (5) بينما لايجني المسيء غير الخوف والرعب: (وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) .(6)

ص:209


1- - سورة الزلزلة (99)، الآيتان 7-8.
2- - سورة ق (50)، الآية 18.
3- - سورة القمر (54)، الآية 53.
4- سورة الإسراء (17)، الآيتان 13-14.
5- - سورة الإنشقاق (84)، الآية 9.
6- - سورة الكهف (18)، الآية 49.

في ذلك اليوم يأتي اللّه بكل أعمال العباد - حتى و إن كانت في أقصى مكان - و يحاسبهم عليها.(1) فيتحمل كل أحد وزر أعماله، و لايتحمل عبء أعمال غيره (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) .(2)

و في المقابل يضاعف اللّه الإحسان للمحسنين (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (3) في حين يكون جزاء المذنب على قدر الذنب نفسه: (وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها) .(4)

يعاقب الإنسان يوم القيامة على ما رسخ في ذاته من ذنوب، وربّما يأتي خلوده في العذاب بسبب رسوخ الرغبة في الآثام والذنوب في ذات الشخص. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إنّما خلد أهل النار في النار لأَنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً.(5) و يختلف الحساب يوم القيامة تبعاً لاختلاف أعمال الناس؛ فبعضهم يحاسب حساباً يسيراً، ويُعطى أحدهم كتابه بيمينه،(6) بينما يُعطى آخرون كتابهم من وراء ظهورهم، فينادون بالهلاك والثبور،(7) و يتمنون لو أنّهم لم يعطوا كتب أعمالهم.(8) و يضيق المجال على الكفار في ذلك الموقف و يفضحون بحيث يتمنون لو أنهم كانوا تراباً،(9)

و لم يُخلقوا، و لاتُقبل من الكافرين يومئذ فدية، و لاينصرهم أحد،(10) و هناك لاينفع مال و لا بنون،(11) و لاينجو إلّامن ادّخر لآخرته عملاً صالحاً. والجزاء يأتي كنتيجة حتميّة للعمل و تجسيداً له. و لا مفرّ هناك لأحد. و لاتنفع ندامة؛ لأَنَّ وقت الندم قد فات؛ إذ يحضر يوم القيامة عند الحساب شهود: (وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ) .(12)

كل إجراءات حضور الأنبياء والصالحين والشهود والملائكة، من أجل تجسيد ما وعد

ص:210


1- - سورة لقمان (31)، الآية 16.
2- سورة الأنعام (6)، الآية 164.
3- - سورة الأنعام (6)، الآية 160.
4- سورة الأنعام (6)، الآية 160.
5- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 85، الحديث 5.
6- - سورة الإنشقاق (84)، الآيتان 7-8.
7- - سورة الإنشقاق (84)، الآيتان 10-11.
8- سورة الحاقّة (69)، الآية 25.
9- - سورة النبأ (78)، الآية 40.
10- - سورة آل عمران (3)، الآية 91.
11- - سورة آل عمران (3)، الآية 10؛ سورة الشُعَراء (26)، الآية 88.
12- سورة ق (50)، الآية 21.

به اللّه بصورة ملموسة. و يقوم الحساب على موازين العدل(1) و لايظلم أحد (وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) .(2)

العنصر الأساسي في سعادة الإنسان الإيمان والعمل الصالح، و أمّا سبب شقائه الأبدي فهو الكفر والشرك. قال اللّه جلّ وعلا بشأن المؤمنين الذين يعملون الصالحات: (وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) . (3) و أمّا من يعمل صالحاً من غير إيمان فإنّ كفره و إنكاره يحبط عمله الصالح؛ لأن النيّة شرط وركن في قبول العمل.

و بعبارة أُخرى يمكن القول: إنَّ الأعمال ذات الأثر هي الأعمال التي تكون صالحة من جهة، و أن يكون الباعث عليها حُبّ الخير و نيل مرضاة اللّه من جهة أُخرى. و هذا لاينطبق طبعاً على من لايحمل عقيدة صحيحة: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ...) . (4) و في المقابل يكون للإيمان تأثير إلى درجة أنه يجعل للعمل الصالح تأثيراً، و ليس هذا فحسب، بل يؤدّي أيضاً إلى محو بعض الذنوب.(5)

تجسّم الأعمال

يقول الفلاسفة و علماء الأخلاق: إن ما يداوم عليه الإنسان و يكرر ممارسته يرسخ في ذاته تدريجياً، و بتعبير آخر يصبح ملكة ذاتية، والأعمال ترسخ في النفس إلى درجة يكون لها تأثير بالغ في شخصيّته. و تتجلى الملكات النفسية حيثما يظهر كل شيء بوضوح.

و يمكن اعتبار الجزاء تابعاً لهذه الخصائص والملكات المطبوعة في النفس.

يُحشر الإنسان يوم القيامة على أساس صورته الباطنية وسيرته الداخلية. وعقوبات الآخرة ليست عقوبات تعاقدية على غرار العقوبات الدنيوية. و إنّما هي على غرار الأُمور التكوينية. و حقيقة الذنب، تتجسد يوم القيامة بالجزاء. إذ يمكن تشبيه الذنب بسكين يفقأ

ص:211


1- - سورة الأنبياء (21)، الآية 47.
2- سورة فصلت (41)، الآية 46.
3- - سورة النساء (4)، الآية 124.
4- - سورة ابراهيم (14)، الآية 18.
5- سورة النساء (4)، الآية 31.

بها الشخص عينه، حيث يكون العمى في مثل هذه الحالة أمراً تكوينياً و ليس تعاقدياً.

وجزاء الذنب كالمحصول الطبيعي للزرع؛ فكل من يزرع شيئاً يحصد ذلك الشيء نفسه.

والعمل الذي يرسخ في ذات الإنسان يبقى ملازماً له. و بما أنّ مثل هذا العمل يضرب بأطنابه في أعماق النفس و يغدو جزءاً من الذات، فمن الطبيعي أن يستمر أثره و لايزول بسرعة. قال أميرالمؤمنين عليه السلام في وصف اللّحظات الأخيرة من حياة الإنسان في الدنيا: إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا و أوّل يوم من أيام الآخرة مثل له ماله و ولده و عمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: واللّه أني كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك؟ فيقول:

خذ مني كفنك، قال: فيلتفت إلى ولْده فيقول: واللّه أني كنت لكم محباً و إني كنت عليكم محامياً فماذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك نواريك فيها، قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: واللّه إني كنت فيك لزاهداً و أنّك كنت عليّ لثقيلاً فماذا لي عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك و يوم نشرك حتى أُعرض أنا و أنت على ربك، قال: فإن كان للّه ولياً أتاه أطيب الناس ريحاً و أحسنهم منظراً و أحسنهم ريشاً فقال: أبشر بروح وريحان وجنّة نعيم و مقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح ارتحل من الدنيا إلى الجنّة.

و إنه ليعرف غاسله و يناشد حامله أن يعجّله، فإذا أُدخل قبره أتاه ملكا القبر يجران أشعارهما و يخدان الأرض بأقدامهما، أصواتهما كالرعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف فيقولان له: من ربك؟ و ما دينك؟ من نبيّك؟ فيقول: اللّه ربيّ و ديني الإسلام، و نبيّي محمد صلى الله عليه و آله و سلم. فيقولان له: ثبتك اللّه فيما تحب و ترضى، و هو قول اللّه عزّوجلّ: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ) ثم يفسحان له في قبره مدّ بصره ثم يفتحان له باباً إلى الجنّة، ثم يقولان له: نم قرير العين، نوم الشاب الناعم، فإن اللّه عزّوجلّ يقول: (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً) قال: و إن كان لربه عدواً فإنه يأتيه أقبح من خَلَقَ اللّه زِيّاً و رؤياً و أنتنه ريحاً فيقول له: أبشر بنزل من حميم و تصليه جحيم.(1)

ص:212


1- الكُليني، الكافي، ج 3، ص 231 و 232، الحديث 1.

و روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: لابُدّ لك من قرين يدفن معك هو حي و أنت ميّت، فإن كان كريماً أكرمك، و إن كان لئيماً أسلمك، ثم لايحشر إلّامعك، و لاتبعث إلّامعه، و لاتُسأل إلّاعنه. فلا تجعله إلّاصالحاً؛ فإنه إن صلح أنست به، و إن فسد لم تستوحش إلّا منه، و هو عملك.(1)

الشفاعة

الشفع: ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة: الانضمام إلى آخر يكون ناصراً له، و أكثر ما يُستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة و مرتبة إلى من هو أدنى لمعاونته.(2) و على الرغم من تأكيد القرآن الكريم على أن لاشفيع و لانصير يوم القيامة (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ) ، (3) و لكن هناك آيات تحدّثت بصراحة عن الشفاعة و تأثيرها في إنقاذ الإنسان، و إنّما نفيت الشفاعة للظالمين(4) و للكافرين.(5) فالشفاعة لاتشمل المشركين والكفار و من ينكرون حقائق الدّين.

فقد قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: و أمّا شفاعتي ففي أصحاب الكبائر ما خلا أهل الشرك والظلم.(6) و يتفق المسلمون على أنّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مقام الشفاعة الذي كرّمه اللّه به و أرضاه (7)(وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) . (8) و قد اعتبر هذا المقام حصيلة لتهجّد النبيّ و إحيائه الليل.(9)

إنّ اللّه تعالى قد أذن بالشفاعة للصالحين و لمن ارتضى من عباده: (وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى) . (10) والمراد من الذين ارتضى، الأنبياء والأوصياء والملائكة، و بعض المؤمنين.(11)

ص:213


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 128.
2- - الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 457 و 458.
3- - سورة الأنعام (6)، الآية 51.
4- - سورة غافر (40)، الآية 18.
5- سورة المدّثر (74)، الآيات 46 و 48.
6- - الصدوق، الخصال، باب السبعة، ص 355، الحديث 36.
7- - الطبرسي، مجمع البيان، ج 5، ص 505؛ الآلوسي، روح المعاني، ج 28، ص 160.
8- - سورة الضحى (93)، الآية 5.
9- سورة الإسراء (17)، الآية 79.
10- - سورة الأنبياء (21)، الآية 28.
11- الصدوق، الإعتقادات، الباب 21، ص 44 و 45.

الشفاعة ليست عملاً خارجاً عن الضوابط و إنّما هي لطف وتكرّم من اللّه على عباد ذوي اعتقاد و عمل صالح، و لكنّهم أخطأوا واقترفوا أحياناً ذنباً و لم يوفَّقوا للتوبة، و لاشكّ في أنّ من يتوب عن الذنب لايحتاج إلى شفاعة؛ إذ جاء في حديث شريف: «لاشفيعَ انجحُ من التوبةِ».(1) و من الطبيعي أنّ الاعتقاد بالتوحيد والسير على الصراط الإلهي القويم، شرط للشفاعة؛ لأن الشفاعة تعني سدَّ النقص، و هي تنمّ عن ارتباط وثيق بين الشفيع والمشفّع فيه. و لاتعني طبعاً أن يقترف الشخص ما يشاء من الذنوب ثم تُغفر ذنوبه بالشفاعة.

و على هذا الأساس فإنّ الشفاعة لاتبيح لأحد اقتراف الذنوب، و لا أحد يتجرأ على المعصية في مثل هذه الشروط والضوابط. الشفاعة تبعث في النفوس بصيص الأمل و تشجّع الناس و تحثهم على أداء ما يجب عليهم من فرائض و واجبات، و لكن الفرائض تكون أحياناً عسيرة و يصعب على البعض أداؤها، خاصة و أنّ الدنيا دار وسوسة و زلّات، و أمثال هؤلاء الأشخاص ينجيهم اللّه من العذاب و يرفعهم درجات بفضل شفاعة عبد من أوليائه.

الصراط

هنالك يوم القيامة جسر يُسمّى «الصراط»، و قيل في وصفه «الصراطُ أدقُّ من الشَعر و أحَدُّ من السيف».(2) و لابدّ لكلّ الناس بعد البعث من جديد، أن يجتازوا الصراط ليصلوا إلى جنة الخُلد. و كل شخص يستطيع أن يعبره على قدر ما لديه من نور اكتسبه من اتصاله بحقائق العالم،(3) و يمكن للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، والمتقين والأولياء والصالحين، عبوره بسهولة، بينما يتعذر على المشركين والفاسقين عبوره، فيسقطون في الهاوية.(4) و بعض يمر عليه سريعاً والبعض يتعثّر(5) و بعض يسقط في نار جهنم.

ص:214


1- - الصدوق، الأمالي، مجلس 52، ص 399، الحديث 9.
2- - الكُليني، الكافي، ج 8، ص 312، الحديث 486؛ المفيد، تحقيق الاعتقاد، مصنفات المفيد، ج 5، ص 109.
3- - سورة الحديد (57)، الآية 12.
4- سورة المؤمنون (23)، الآية 74.
5- الكُليني، الكافي، ج 8، ص 312، الحديث 486.

و هناك تتعالى الأصوات و كل يُنادي وانفساه، و تحجب الأبصار و تضطرب الأنفاس، وتزداد نبضات القلوب. و من الطبيعي أنّ مثل هذه الحالة لو عرضت لأحد فإنّه يتعثر في مشيته حتّى لو كان يسير على أرض مستوية، فما بالك إذا كان يمر على صراط دقيق وخطير. إنّ عبور هذه العقبة بنجاح ينتهي بالمرء إلى الاتصال بعالم الحق، فيثبت قدمه هناك وتطمئن نفسه، و يبلغ مرحلة السكينة والاستقرار. و هذا لايتحقق طبعاً إلّابما ادّخره المرء من عمل صالح في دنياه.

والإشارة إلى هذه الملاحظة لاتخلو من فائدة، و هي أنّ المراد من دقّة الصراط ربّما يكون الحقائق التوحيدية، والمعتقدات الحقّة، والعمل الصالح الذي يُعتبر - حقاً - شيئاً دقيقاً و أدقّ من الشعرة، و يحتمل فيه السقوط والانحراف في أية لحظة. و هذا ما يوجب على المرء أن يكون في حذر منها على الدوام و يسأل ربّه الثبات على هذا الصراط، و أن لايكله إلى نفسه طرفة عين أبداً. و أخيراً و بعد انجلاء أهوال و شدّة القيامة والنظر في أعمال العباد، ينال كل واحد منهم جزاءه بما يتناسب مع عمله و معتقده، و يتّجه نحو المكان المخصّص له فيسير المؤمنون إلى جنان الخُلد، بينما يُساق الكفرة والعاصون إلى جهنم.

الجنّة

و بعد النظر في أعمال العِباد و معقتداتهم، يدخل قسم منهم إلى الجنة جزاءً على إيمانهم و صالح أعمالهم. والجنّة هي المكان الذي ينتهي إليه المؤمنون الذين يحيون الليل بالعبادة و ينفقون مما رزقهم اللّه،(1) و هي للذين يجاهدون في سبيل نشر الاسلام و يضحون لهذا الهدف بأنفسهم و أموالهم،(2) و يمكن القول بإيجاز: إنّ الجنّة يدخلها الذين يعبدون ربّهم، و يحترمون حقوق و حرمات الآخرين للّه، و يؤدّون واجباتهم من غير طمع في شيء.

يتنعّم من يدخل الجنّة من النساء والرجال بما جعل اللّه لهم فيها من لذائذ الطعام والشراب، و كل ما يحبون و ما تشتهي أنفسهم،(3) و هناك نعمة أعظم من كل تلك النعم

ص:215


1- - سورة السجدة (32)، الآيات 15-19.
2- - سورة التوبة (9)، الآية 111.
3- - (وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ)؛ سورة الزخرف (43)، الآية 71.

واللذائذ و هي رضوان اللّه،(1) و هناك لايواجه أهل الجنّة أي تعب أو مشكلة،(2) و إنّما يعيشون في أمن وسلام،(3) و هم خالدون فيها و لايأتيهم الموت.(4)

ذكر الجنّة يبعث الأمل في النفس، و يحث العبد على الطاعة و عمل الخير واجتناب الذنوب والآثام.(5) فالناس - كما يقول علي عليه السلام - لم يُخلقوا للخلود في الدنيا، و إنّما الدنيا بالنسبة لهم ممرٌّ لنيل الجنة والسعادة الأبدية.(6) و قد قال عليه السلام في وصف الدنيا و مدى تناسبها مع الآخرة: أَلَا حُرٌّ يَدَعُ هَذِهِ اللُّمَاظَةَ لِأَهْلِهَا، إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا.(7) و قال أيضاً في موضع آخر: مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ وَ مَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ وَكُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ فَهُوَ مَحْقُورٌ وَ كُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ.(8) فقد قال تعالى في كتابه الكريم: (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (9) و قال تعالى أيضاً في القرآن الكريم في وصف الجنّة: (وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (10) و قال أميرالمؤمنين عليه السلام في تعظيم الجنّة: أَلَا وَ إِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا.(11)

جهنّم

جهنّم مظهر غضب اللّه، و جاء في وصفها: أنها عبارة عن هاوية فيها نار متأجج لهيبها و متّقد شررها (وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ) ، (12) و خزنتها ملائكة غلاظ شداد،(13) و حرارة الدنيا - كما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - لاتكاد تساوي جزءاً من سبعين جزءاً من نار جهنم،(14)

ص:216


1- - (وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ)؛ سورة التوبة (9)، الآية 72.
2- (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)؛ سورة الحجر (15)، الآية 48.
3- (وَ اللّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ)؛ سورة يونس (10)، الآية 25.
4- (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ)؛ سورة الدخان (44)، الآية 56.
5- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 31.
6- - المصدر السابق، الخطبة 132 (صبحي الصالح).
7- - المصدر السابق، الحكمة 456.
8- - المصدر السابق، الحكمة 387.
9- - سورة الصافّات (37)، الآية 61.
10- - سورة آل عمران (3)، الآية 133.
11- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 28 (صبحي الصالح).
12- - سورة البقرة (2)، الآية 24.
13- سورة التحريم (66)، الآية 6.
14- - علي بن ابراهيم، تفسير القُمّي، ج 1، ص 366؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 8، ص 288، الحديث 21.

و هي ذات شرر عظيم لايذر شيئاً إلّاأحرقه،(1) و طعام أهل جهنم الزقوم والصديد،(2) و ماؤها كالمهل، و هو المعدن المذاب بالحرارة،(3) و نارها تسري في أعماق الإنسان و تستعر في القلوب،(4) و ثياب أهلها النار، ويُلقى على وجوههم و رؤوسهم ماء يغلي.(5)

و هناك مقامع من حديد فوق رؤوس أهل النار،(6) و لايمكن الفرار منها أبداً،(7) و جلودهم تتبدل على الدوام من شدّة النار، والجلود تحترق و تذوب، و لكن لاتنتهي و تحلُّ محلها جلود غيرها (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (8) و هم في عذاب دائم (لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى) ، (9) و أيديهم و أعناقهم مغلولة بالسلاسل والأغلال.(10) و يعيشون في حسرة و ندم دائم على تفريطهم بالفرصة التي أُتيحت لهم في الدنيا، و يتمنون لو كان رفاقهم في الدنيا رفاق خير نصحاء، ولو انّهم كانوا يسيرون على الصراط المستقيم.

فهل تستحق أيام الدنيا العابرة أن يغفل المرء عن ربّه، أو يظلم عباد اللّه؟ أو أن لايؤدّي فرائض اللّه، فيذلّ و يخزى؟ هناك كثير من آيات القرآن الكريم و أحاديث النبيّ والمعصومين في وصف عالم الآخرة وجهنّم وعذابها الشديد. و لاشكّ في أنّ رسالات اللّه و تحذيرات الأنبياء والأوصياء إنّما هدفها توعية و إيقاظ الناس؛ إذ لاينبغي أن ينهمك الناس في نعم الدنيا و ملذّاتها بحيث ينسوا ما عليهم من فرائض و تكاليف، و يضيّعوا آخرتهم في خضم التهافت على الحياة الدنيا. و ينبغي أن لايكون الإقبال على ملذّات الدنيا إلى الحدّ الذي يوقع المرء في عذاب الآخرة. إنّ العقل والمنطق يفرض علينا الاصغاء لهذه التحذيرات و أخذها على محمل الجد؛ فهذه التحذيرات ليس هدفها إبعاد الناس عن نعم الدنيا، و إنّما الغاية منها إيجاد توازن في السلوك بين الدنيا والآخرة.

ص:217


1- - سورة المدّثر (74)، الآيات 26-28.
2- سورة الحاقّة (69)، الآية 36؛ سورة الواقعة (56)، الآية 52.
3- - سورة الكهف (18)، الآية 29.
4- سورة الهُمَزة (104)، الآية 7.
5- سورة الحج (22)، الآية 19.
6- - سورة الحج (22)، الآية 21.
7- سورة الحج (22)، الآية 22.
8- - سورة النساء (4)، الآية 56.
9- سورة طه (20)، الآية 74.
10- - سورة غافر (40)، الآية 71.

ص:218

الباب الثاني: الأخلاق

اشارة

ص:219

ص:220

علم الأخلاق

الفضائل الأخلاقية من المنجيات الموصلة إلى السعادة الابدية، ورذائلها من المهلكات الموجبة للشقاوة السرمدية. فالتخلّي عن الثانية والتحلي بالأُولى من أهم الواجبات للوصول إلى الحياة الحقيقية.(1)

و علم الأخلاق يعلّم النفس الإنسانية كيفية تحصيل الخلق بحيث تصدر جميع الأحوال والأفعال بإرادتها، لتكون جميلة و حميدة.(2) فالنفس الإنسانية ذات ميول و غرائز شتّى.

و قد وضِع علم الأخلاق لتهذيب الميول والرغبات الباطنية للإنسان. فمن الطبيعي أنّ أفعال الإنسان و أعماله إنّما تصدر عن ملكاته وصفاته الحسنة أو القبيحة، و معرفة هذه الملكات تتعلق بعلم الأخلاق. و علم الأخلاق يعلّم الإنسان كيفية نبذ الرذائل واكتساب الفضائل.

و هو يُعنى بإصلاح الإنسان والارتقاء باستعداداته إلى الكمال. روي عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: «اَلْزَمُ الْعِلْم لَك، ما دَلَّكَ عَلى صَلاحِ قَلْبِكَ وَ اظْهَرَ لَكَ فَسادَهُ».(3) إذاً فالأخلاق هي معرفة الفضائل والرذائل والتحلّي بالفضائل، إضافة إلى التحلّي بمحاسن الأخلاق المنبثقة من طباع حسنة.

فلسفة الأخلاق

يتناول علم الأخلاق دراسة الحسن الأخلاقي والقبح الأخلاقي، والأوامر والنواهي الأخلاقية. و أمّا فلسفة الأخلاق فمهمتها الإجابة عن أسئلة مثل: ما هو معيار الخير والشرّ

ص:221


1- النراقي، الملا مهدي، جامع السعادات، ج 1، ص 9 و 10.
2- - الطوسي، الخواجة نصيرالدّين، اخلاق ناصري، ص 48.
3- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 1، ص 220، الحديث 54.

والحسن والقبح؟ و لماذا هذا الشيء حسن و ذلك الشيء قبيح؟ و ما منشأ اعتبار الأوامر والنواهي الأخلاقية؟ و هل الأُمور الأخلاقية نسبية أم مطلقة؟ و كيف يُنظر إلى الجَمال؟ و لماذا يرى البيضُ مصاديق معيّنة للجمال و يرى السودُ مصاديق أُخرى للجمال، مما لايوافقهم غيرهم عليها؟ و نحن هنا في هذا الكتاب نتناول علم الأخلاق. و أمّا فلسفة الأخلاق فعلى الرغم مما تتصف به من الروعة والجذّابية إلّاأنها خارج هدف و موضوع هذا الكتاب.

الإنسان مجبول بالفطرة على حُبّ الجمال، و قد أبدع الكثير من معالم الجمال المسموعة والمرئية في مختلف المجالات. و لاشكّ في أنّ نشوء وتطوّر الكثير من الفنون الجميلة كالرسم، والموسيقى، والنحت، و فن العمارة و غيرها منبثقة أساساً من هذه الفطرة و جاءت بهدف إشباع هذا الميل. والإنسان حسب طبيعته البدائية يستشعر اللّذة والارتياح من أُمور، والنفور من أُمور أُخرى. و على هذا الأساس يقسّم الأُمور إلى جميلة و قبيحة، و حسنة و سيّئة. و هذا التقسيم ينطبق على ما هو محسوس و على ما هو غير محسوس.

فعندما نرى شخصاً يعمل من أجل الآخرين و يمد لهم يد العون، نكرّم هذه النزعة الإنسانية فيه و نرى عمله جميلاً. و من جانب آخر إذا رأينا شخصاً يضرب شخصاً ضعيفاً من غير سبب نستقبح عمله. و كذلك نصف بالعدل مَن يحكم بين الناس بعيداً عن مؤثرات الحب والبغض و بحسب الشواهد والأدلّة، و نصف بالظلم مَن يفعل خلاف ذلك. و أساس السلوك الأخلاقي هو الحسن والقبح اللّذان يقرُّهما العقل والفطرة. والصفة الأخلاقية الفاضلة هي ما يستحسنها الآخرون، و أمّا الصفة الأخلاقية الرذيلة فهي ما يستقبحها الآخرون.

إنّ منطلقات سلوك الناس ليست من نمط واحد. فَبَعضُها تنطلق من دوافع حسيّة و من غير وعي و إرادة، كالصياح عند مواجهة خطر مفاجىء، و إغماض العينين تلقائياً عند الاصطدام بشيء خارجي. و بعض الأفعال الأُخرى مبعثها الغريزة والميول الذاتية كالأكل والشرب عند استشعار الجوع والعطش، والدفاع عن الذات عند مجابهة خطر.

و هناك نوع آخر من السلوك مبعثه الفطرة كحب الجمال وحُبّ الحقيقة. والتوجّهات والسلوكيات المنطلقة منها خاصّة بالإنسان دون سواه من الكائنات. و ما يلاحظ من

ص:222

الحضارات والثقافات منبثق من هذه الخصال. و هناك قسم من السلوك - و هو ما يُسمّى بالسلوك الأخلاقي - يأتي انطلاقاً من دوافع فطرية. فالسلوك الذي يؤدّي إلى الكمال، و يتّصف بالحسن والجمال يعتبره أمراً لازماً (و هو ما يُسمّى بالأوامر، أو ما ينبغي فعله)، أمّا السلوك المخالف للكمال و ما يستشعر النفور منه فيرى لزوم تركه (و هو ما يُسمّى بالنواهي أو ما لاينبغي فعله).

النظام الأخلاقي في الإسلام و خصائصه

اشارة

تؤلّف الإرشادات والتوجيهات الأخلاقية قسماً مهماً من تعاليم الدّين الإسلامي، و منها يتكون النظام الأخلاقي، و هي تتصف بالخصائص التالية:

1 - التحول في الأخلاق

من أهداف التعاليم الأخلاقية في الإسلام إحداث تغيير في الأخلاق، و نقل المجتمع من الأخلاق الجاهلية إلى الأخلاق الإسلامية، و إيجاد نظام أخلاقي سامٍ منسجم مع الفطرة الإنسانية. فقد كانت القيم الأخلاقية قد ضعفت في العصر الجاهلي و حلّت محلّها القيم القبلية. و بالرغم من وجود قيم أخلاقية حسنة في العصر الجاهلي غير أنها كانت محدودة من جهة، و من جهة أُخرى كانت مدياتها لاتتعدى أفراد القبيلة الواحدة. حيث كان التعصب القبلي هو أساس السلوك، و كان نسيج الحياة الاجتماعية قائماً على قاعدة الحياة القبلية، و لكن بعد ظهور الإسلام تغيّرت هذه المفاهيم الأخلاقية على نحو واسع، و حلّ مبدأ «الإنسان» بدلاً من فكرة القبيلة. و حصل تطوّر هائل في مضامين المفاهيم الأخلاقية، و أخذ مبدأ الأُخوَّة الدينية مكانته بدلاً من العادات والتقاليد الجاهلية.(1) و طرح الإسلام فكرة «الأُمّة الإنسانية الواحدة» كبديل لفكرة الأعراق والأقوام.(2)

ص:223


1- - انظر: سورة المجادلة (58)، الآية 22.
2- سورة الحجرات (49)، الآية 13.

كانت هناك في العصر الجاهلي سجايا أخلاقية حميدة، و قد أقرّها الإسلام و أمضاها، كالضيافة والمروءة. و هذا يعني أنّ الاسلام لم يحارب كل ما كان موجوداً في الجاهلية، و إنّما أقرَّ واستحسن ورسّخ صفات حسنة كالمروءة، والكرم، والشهامة، والضيافة، والشجاعة، و غير ذلك.

2 - الواقعية

اهتم الاسلام في تعاليمه الأخلاقية بحاجات الإنسان الفطرية، و طرح القيم بشكل واقعي يأخذ بنظر الاعتبار صعوبات الحياة كالفقر والجوع والمرض والعوز، و دعا إلى تلك القيم بطريقة تتسم بالمرونة في مثل هذه الظروف، بحيث لايقع المكلّف في عسر و حرج.

التعاليم الأخلاقية في الإسلام قائمة على رؤية واقعية، و هي ليست مجرد وصايا جامدة و خالية من الروح، و مقرونة بتوجيه لفائدتها والغاية التي وضعت لأجلها. و هناك تأكيدات على أنّ الالتزام بالقيم الأخلاقية يعود بالفائدة على الشخص نفسه، و هذا يمثّل بحد ذاته تشجيعاً على العمل بها. والنظام الأخلاقي في الإسلام لايكتفي بذكر مفاهيم أخلاقية عامّة و قضايا أخلاقية بديهية، و إنّما جرى تبيان مصاديق كل مفهوم عام. و ما يُعرف باسم القيم الأخلاقية عبارة عن أُمور ذات قيمة و خاضعة للمصلحة. و ما يُعرف بأنه غير قيمي فهو يتعارض مع القيم و ينطوي على مفسدة، كما هو الحال بالنسبة إلى الدعوة إلى العدل والإحسان: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ) (1) والنهي عن الفحشاء والمُنكَر (وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ) .(2)

يهتم الإسلام بعواطف الإنسان وضبط المشاعر و توظيفها لترسيخ القيم الأخلاقية. كما أنه يوجّه الغرائز و يهذّبها. و يعير اهتماماً واضحاً للرقي المعنوي والوصول إلى بناء اجتماعي متكامل. كما يعنى المنهاج التربوي في الإسلام بالعلاقات العاطفية في إطار الاُسرة، و في العلاقات مع الأُخوة في الدّين.

ص:224


1- - سورة النحل (16)، الآية 90.
2- سورة النحل (16)، الآية 90.

3 - الاهتمام بالجوانب الوجودية للإنسان

اشارة

من خصائص النظام الأخلاقي المفيد والفاعل أن يتعامل عن وعي مع مكوّنات الإنسان و قدراته. و هذه الميزة موجودة في النظام الأخلاقي الذي جاء به الإسلام.

من الواضح أنّ الإنسان يملك عقلاً و وعياً و مشاعر و متطلبات و حاجات مادية و معنوية، و هو مجبول على فطرة و غرائز، والكثير من حاجاته الفطرية والطبيعية ذات تأثير في سلوكه، و من خلالها تتبلور صياغة شخصيته. و لاشكّ في أنّ تجاهل أيّ من تلك العناصر والمكوّنات قد يفضي إلى بناء إنسان غير متزن في الجوانب الأخلاقية والتربوية، و لكنّ الإسلام قد وضع نصب العين - في تعاليمه الأخلاقية - جميع مكونات الإنسان؛ لأنّ عدم أخذ تلك الجوانب بنظر الاعتبار يُفقد الإرشادات الأخلاقية فاعليّتها.

النفس و أقسامها
اشارة

يهتم النظام الأخلاقي في الإسلام بشكل أساسي بتنمية و تهذيب الجانبين الروحي والعقلي لدى الإنسان، و يرى أنّ الشؤون الأخلاقية مبنية على الاختيار والوعي والعقل.

والإنسان ذو نفس حيّة، و لها تأثيرات و وظائف شتّى. و منها أنها تقوم بمهمة توجيهه. و من الطبيعي أنّ الميول والرغبات أُمور واقعية في وجود الإنسان و مبعثها النفس. و قد أُخذت هذه الرغبات والنوازع بنظر الاعتبار في التعاليم الأخلاقية. و هناك تعاليم كثيرة وضعت لتهذيب النفس و تنظيم دورها و تأثيرها، و لكن دون أن تستهدف إلغاءها و كبتها.

نورد في ما يلي أمثلة من أفعال النفس و تأثيراتها مع ذكر التعاليم الأخلاقية التي وضعت لها:

النفس الأمّارة

تحدّث القرآن الكريم عن النفس بتعبيرات شتّى، منها أنه نصّ مثلاً على: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي) . 1 و تُسمّى هذه النفس بالأمّارة؛ و بها تربط الأهواء والنزوات، و هذه النفس تسعى إلى تحقيق رغائبها. و إذا خضعت أعضاء الإنسان وجوارحه إلى هيمنة النفس الأمّارة، تستحوذ عليها و تسوقها إلى تنفيذ كل ما تمليه عليها، و تسوق الأيدي والأعين والأرجل إلى ارتكاب المعاصي، و تدفع اللّسان إلى اقتراف قبائح كالغيبة والتهمة والشتم والإساءة. و هذه أسوأ حالات النفس، و هي التي تسوق الإنسان إلى الضياع و تجعل منه عبداً للشهوات والأهواء و وحشاً كاسراً، بل قد تؤدّي نفس أمّارة واحدة إلى إفساد خلق كثير. و إذا لم يقف الإنسان ضد أهوائه النفسية و ترك العنان للنفس الأمّارة فسيصبح أكثر خطورة من أيّ وحش كاسر.

ص:225

تحدّث القرآن الكريم عن النفس بتعبيرات شتّى، منها أنه نصّ مثلاً على: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي) . (1) و تُسمّى هذه النفس بالأمّارة؛ و بها تربط الأهواء والنزوات، و هذه النفس تسعى إلى تحقيق رغائبها. و إذا خضعت أعضاء الإنسان وجوارحه إلى هيمنة النفس الأمّارة، تستحوذ عليها و تسوقها إلى تنفيذ كل ما تمليه عليها، و تسوق الأيدي والأعين والأرجل إلى ارتكاب المعاصي، و تدفع اللّسان إلى اقتراف قبائح كالغيبة والتهمة والشتم والإساءة. و هذه أسوأ حالات النفس، و هي التي تسوق الإنسان إلى الضياع و تجعل منه عبداً للشهوات والأهواء و وحشاً كاسراً، بل قد تؤدّي نفس أمّارة واحدة إلى إفساد خلق كثير. و إذا لم يقف الإنسان ضد أهوائه النفسية و ترك العنان للنفس الأمّارة فسيصبح أكثر خطورة من أيّ وحش كاسر.

النفس اللّوامة

للنفس وظيفة أُخرى ذات جانب إيجابي، و هو ما يُسمّى بالنفس اللوّامة: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ * وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ) . (2) و كلمة اللوّامة صيغة مبالغة - كما هو الحال بالنسبة إلى النفس الأمّارة - أي كثيرة اللّوم. و هذه النفس إذا اضطلعت بدورها و لم يتضاءل تأثيرها بفعل الجوانب الأُخرى، فهي كفيلة بالارتقاء بالإنسان إلى مستوى الكمال. و هي تلوم الإنسان و تعنّفه. كما يُعبّر عنها أحياناً باسم الضمير أو الوجدان.

و تأثير النفس اللوّامة هي أنّ الإنسان إذا اقترف قبيحاً يلتفت إلى خطئه و يتوجّه باللّوم إلى ذاته، و لكن يحتمل في الوقت ذاته أن تفقد هذه النفس تأثيرها على مرّ الزمن، و يتلاشى دورها بسبب تكرار الفعل القبيح.

خلق اللّه للإنسان قدرات تحول بينه و بين الخروج عن حدود الإنسانية. و لاشكّ في أنّ اللّوم الذي تبديه النفس يخلق لدى المرء حالة من التوبة والإنابة التي تؤدي بدورها إلى تهيئة الظروف للامتناع عن تكرار الذنب. إذاً فالنفس اللّوّامة تسوق الإنسان نحو الكمال؛ و لهذا أقسم بها اللّه عزّوجلّ شأنه.

ص:


1- - سورة يوسف (12)، الآية 53.
2- - سورة القيامة (75)، الآيتان 1-2.
النفس المُلْهَمَة

و هناك صفة أُخرى للنفس، و هي صفة ذات جانب أخلاقي و هي الإلهام. جاء في القرآن الكريم بخصوص هذا المعنى ما يلي: (وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها) .(1)

و هذه النفس إذا تيقّظت تحظى برعاية من اللّه، و يمكنها عند ذلك البتّ في ما هو صحيح أو ما هو خطأ من الأعمال. و لهذه النفس نوع من الارتباط بعالم الغيب و هي قادرة على تمييز الخطأ من الصواب.

النفس المطمئنة

النفس الإنسانية تتيقّظ و تجد طريقها و تسلك منهج العمل واليقين. و عندما تبلغ أعلى مراحلها و لاتساورها أية شكوك أو هواجس تغدو «مطمئنة»، و هذه النفس متّصلة بالحق، و هذا الاتصال باللّه يبعث فيها الاطمئنان: (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً...) .(2)

4 - الاعتدال

إحدى الخصائص الأُخرى للتعليمات الأخلاقية، هي الدعوة إلى الاعتدال في تلبية المتطلّبات والحاجات. فهي لاتطلب من الناس كبت غرائزها و تجاهل اللّذائذ الدنيوية، و على صعيد آخر لاتريد لهم الانهماك بها؛ لأنّ أهم هدف للتعاليم الأخلاقية هو انتهاج مسلك الاعتدال واجتناب الإفراط والتفريط. فالإفراط تعدٍّ و تجاوز للحد، والتفريط تقصير و قصور في أداء ما ينبغي أداؤه. كما أنّ تجاوز الحدّ في طلب الشيء إفراط، والتهاون أو التقصير في طلبه تفريط. و من الطبيعي أنّ الإنسان إذا أرسى بناء حياته على الإفراط أو

ص:227


1- سورة الشمس (91)، الآيات 7-8.
2- سورة الفجر (89)، الآيتان 27-28.

التفريط، فلابّد أن يتّجه تدريجياً نحو التعدّي أو ينتهي في سلوكه إلى أن يكون سبباً في تعدي الغير. فمثل هذا السلوك، يفضي إلى إحداث خلل في السلوك الاجتماعي العام و يُلحق ضرراً بشخصية الفرد.

إنّ الإنسان عبارة عن مجموعة من الغرائز والميول والرغبات والنوازع المختلفة.

و تجتمع فيه القوة العاقلة، والقوة الغضبية، و غيرها. ورغبات الإنسان و طموحاته كثيرة و لا حد لها و لا حصر. و مهما حقق من الطموحات والأماني لايشبع. ولو أعطيت له الدنيا بأسرها لطلب المزيد. و قد دعا الإسلام إلى الاعتدال و وضع له معايير انطلاقاً من حرصه على تحجيم مثل هذا الخطر. و من خصائص الإسلام أنّ تعاليمه و أحكامه تلتزم منهج الاعتدال والحد الوسط، حتى أنّه سمّى الأُمّة الإسلامية «أُمّة وَسطاً» في قوله تعالى (وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ) .(1)

ذهب الإسلام إلى اعتبار عباد اللّه الخاصّين هم المعتدلون البعيدون عن الإفراط والتفريط، كما جاء في قول العزيز الحكيم: (وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) . (2) و فيما يتعلق بهذه الصفة أمر اللّه تعالى نبيّه محمداً صلى الله عليه و آله و سلم أن لايجعل يده مغلولة إلى عنقه في الإنفاق و لايبسطها تماماً؛ لأنّ ذلك يؤدّي به إلى أن يقعد ملوماً محسوراً.(3) كما أمر تعالى في موضع آخر نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم بعدم اتباع من ينتهجون منهج الإفراط والتفريط، استناداً إلى ما ورد في الآية الشريفة: (وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) .(4)

و قال أميرالمؤمنين عليه السلام في وصف الإفراط والتفريط: لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هَذَا الإنسان بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ، وَ ذَلِك الْقَلْبُ، وَ ذَلِك أَنَّ لَهُ مَوَادَّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ أَضْدَاداً مِنْ خِلافِهَا، فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَذَلَّهُ الطَّمَعُ، وَ إِنْ هَاجَ بِهِ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ، وَ إِنْ مَلَكَهُ الْيَأْسُ قَتَلَهُ الْأَسَفُ، وَ إِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِهِ الْغَيْظُ، وَ إِنْ أَسْعَدَهُ الرّضَى نَسِيَ التَّحَفُّظَ، وَ إِنْ غَالَهُ الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحَذَرُ، وَ إِنِ اتَّسَعَ لَهُ الْأَمْرُ اسْتَلَبَتْهُ الْغِرَّةُ، وَ إِنْ أَفَادَ مَالاً أَطْغَاهُ الْغِنَى، وَ إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ

ص:228


1- سورة البقرة (2)، الآية 143.
2- - سورة الفرقان (25)، الآية 67.
3- - سورة الإسراء (17)، الآية 29.
4- سورة الكهف (18)، الآية 28.

فَضَحَهُ الْجَزَعُ، وَ إِنْ عَضَّتْهُ الْفَاقَةُ شَغَلَهُ الْبَلاءُ، وَ إِنْ جَهَدَهُ الْجُوعُ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ، وَ إِنْ أَفْرَطَ بِهِ الشِّبَعُ كَظَّتْهُ الْبِطْنَةُ، فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَ كُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ.(1)

من المعروف أنّ الإفراط والتفريط كليهما رذيلة، والفضيلة هي الحد الوسط بينهما. فإذا تجاهل الإنسان أمانيه و تطلّعاته تجاهلاً تاماً فلابدّ أنّه سيكابد الحسرة والغم، و إذا انهمك في اللّهاث وراء رغباته يستحوذ عليه الطمع. والاعتدال في ذلك، هو الحد الوسط. قال أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المجال: «لاترى الجاهلَ إلّامُفرطاً او مُفَرّطاً».(2)

و قال أيضاً: ثمرة التفريط الندامة.(3) والعدالة التي أكّدتها النصوص الدينية كثيراً، هي حالة الاعتدال واجتناب الإفراط والتفريط في شؤون الحياة.

5 - الترابط بين الأخلاق والعبادة

ينبغي طبعاً إخضاع الإنسان للتربية منذ الطفولة، من أجل أن يكتسب الفضائل الأخلاقية و يبتعد عن الرذائل. فالطفل مرن يمكن صياغته بالنحو الذي يُراد. و في هذا الطور يتعيّن على الوالدين و من يتولى شؤون الطفل أن يوجهوه إلى المسار السليم. و عندما يكبر يجد أمامه مجموعة من التعاليم التي يمكنه من خلال الالتزام بها تربية و تهذيب ذاته.

إذ تتضمن الفرائض العبادية أسمى المناهج التربوية و أساليب تهذيب النفس. و لم يستخدم الاسلام - بل و حرّم أيضاً - الطرائق غير المتعارفة و أساليب الرياضة الروحية القاسية والصارمة في التهذيب والتربية. و إنّما أمر بتهذيب النفس عن طريق العبادة التي هي أمر فطري. و من الطبيعي أنّ الالتزام بهذه الفرائض والتعاليم يؤدي بشكل تلقائي و من غير ضغوط إلى تهذيب وضبط الغرائز. نذكر مثلاً: إنّ للصلاة والصوم و سائر العبادات تأثير فاعل في هذا المضمار.

و من الفرائض الأُخرى المؤثرة في تهذيب النفس، الحج. فالحج يعتبر من بدايته و إلى نهايته بمثابة نظام تربوي متكامل. فالحاج يجب أن يخلع من البداية ثيابه و يرتدي ثياب

ص:229


1- الكُليني، الكافي، خطبة الوسيلة، ج 8، ص 19؛ الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 108، ص 487.
2- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 70.
3- - المصدر السابق، الحكمة 181، ص 502.

الإحرام. و لابُدّ أن يكون البدن طاهراً والثياب طاهرة و مباحة و ليس فيها حق لأحد. بل ينبغي حتى اجتناب الكثير من الحلال، و يجب أداء الحج في وقت معيّن، و بأعمال و حركات معينة. ففي الحج يبلغ التدريب والضبط النفسي ذروته. فهذا التكليف بمثابة تمرين على تهذيب الذات و بنائها، لأنّها تغرس في النفس تأثيرات عميقة بنحو تدريجي. و هي كفيلة بقطع دابر الغرور والكبر. و هي بالنتيجة تنتهي بالمرء من الأنانية وعبادة الذات إلى عبادة اللّه. كما أنّ العبادة تكرّس في النفس نزعة حُبّ الخير للآخرين.

والصوم فريضة عبادية أُخرى، يجب فيها على المكلّفين الامتناع عن أُمور معيّنة لمدّة شهر في كل سنة، و أمّا في بقية السنّة فهي مباحة له. ويُفرض عليه في هذا الشهر أن يمتنع عما ينبغي الامتناع عنه، في وقت معيّن بإرادته، والانتهاء من ذلك في وقت معين آخر.

و لاشكّ في أنّ لهذا العمل أثراً تربوياً و أخلاقياً عميقاً في النفس من حيث الجانب الفردي أو الاجتماعي، و هو يبعث في الإنسان مشاعر التعاطف مع أبناء جنسه. والصوم يدفع الفرد إلى الاهتمام بأحوال الفقراء والمساكين.

6 - التقوى ركيزة للأخلاق

ينص القرآن الكريم على أنّ طريق الفلاح والنجاة هو تهذيب النفس و تنقيتها من الدنس والرذيلة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى) ، (1) و أنّ النتيجة الطبيعية لدنسها و تجاهل تهذيبها هي الخسران والشقاء (وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها) . (2) و من البديهي أنّ الانهماك في الرذائل يترك تأثيراً سلبياً في النفوس، و يغدو عائقاً يحول دون المعرفة والإيمان. قال الباري عزّوجلّ في وصف مكذّبي آيات اللّه: (كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) .(3)

لقد اهتم الأنبياء عليهم السلام قبل أي شيء آخر بتهذيب النفس والارتقاء بمستوى الأخلاق.

و قال اللّه سبحانه و تعالى في وصف أحوال الأنبياء السابقين و أُممهم ما يلي: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما

ص:230


1- - سورة الأعلى (87)، الآية 14.
2- - سورة الشمس (91)، الآية 10.
3- سورة المطففين (83)، الآية 14.

كانُوا يَكْسِبُونَ) . (1) و يُستدل - من خلال تأكيد اللّه عزّوجلّ على التقوى على أنّ هذه الخصلة تعدّ سبباً مهماً لاستقرار وثبات المجتمعات وسعادتها في الدنيا والآخرة، و أنّ السير على خلاف منهج التقوى لايعود على أهله إلّابالخسران والهلاك.

و كلمة التقوى مشتقة أساساً من كلمة «وقى»، و منها الوقاية و هي حفظ الشيء ممّا يؤذيه و يَضرّه.(2) والتقوى تعني قدرة الإنسان على ضبط نفسه في حالات الغضب أو الميول والرغبات. و قلّما تجد سورة في القرآن لم تتحدث عن التقوى. و يبيّن القرآن الكريم أنّ البرّ لايأتي إلّامن التقوى،(3) و كذلك الحال في ما يخص المعرفة والقدرة على تمييز الحق من الباطل،(4) و أن يكون الإنسان في أمان من وساوس الشياطين،(5) و بالتقوى ينال النصر الإلهي،(6) و أنه تعالى يَمُنّ بالنصر والعون على المتقين،(7) و بها تُنال السكينة والاطمئنان،(8) و أنها هي السبيل إلى النجاة.(9) و فضلاً عما للتقوى من آثار أُخروية فهي ذات آثار دنيوية أيضاً، كسعة الرزق والنجاة من الشرور،(10) و يمكن القول بإيجاز: إنّ النجاة للمتّقين،(11) والمتقون أحبّاء اللّه.(12)

دعا اللّه تعالى العباد في مواضع و مناسبات كثيرة إلى الورع والتقوى، و وصفها بأنها درع يصون الإنسان من المشاكل، و بيّن أنّ التقوى سبب للكرامة و علو المنزلة عند اللّه، و ليس هناك شيء آخر من الأموال والحسب والنسب والمقام والمنصب يضاهي التقوى أو يعطي لفرد ميزة عن غيره. فالتقوى - إذاً - مصدر الفضائل كلها (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ) .(13)

ص:231


1- - سورة الأعراف (7)، الآية 96.
2- - الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 881.
3- - سورة البقرة (2)، الآية 189.
4- - سورة الأنفال (8)، الآية 29.
5- سورة الأعراف (7)، الآية 201.
6- - سورة آل عمران (3)، الآيات 120 و 125.
7- سورة البقرة (2)، الآية 194؛ سورة النحل (16)، الآية 128.
8- - سورة الأعراف (7)، الآية 35.
9- سورة النمل (27)، الآية 53؛ سورة الزمر (39)، الآية 61؛ سورة فصلت (41)، الآية 18.
10- - سورة الأعراف (7)، الآية 96؛ سورة الطلاق (65)، الآيات 2 و 4؛ سورة الليل (92)، الآيات 5-7.
11- سورة النور (24)، الآية 52.
12- سورة آل عمران (3)، الآية 76.
13- سورة الحجرات (49)، الآية 13.

من الطبيعي أنّ المتقي لايرتكب حراماً و لايترك واجباً، بل يحتاط حتى عند الشبهات.

قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «لا وَرَعَ كالوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبْهَة».(1) و من المعروف أنّ التقوى فوق الإيمان.(2) و نُقل أنّ الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال للمفضّل بن عمر: «اِنّ قَليلَ الْعَمَلِ مَعَ التّقْوى خَيْرٌ مِنْ كَثيرِ الْعَمَلِ بِلاتَقْوى» وهنا يقول المفضّل: إنّي سألت الإمام كيف يكون العمل الكثير بلا تقوى. فقال: مثل الرجل يطعم الطعام و يرفق بجيرانه، و لكن إذا فتح له باب من الحرام دخل فيه. فهذا العمل بلا تقوى، و لكن هناك من ليست عنده هذه الخصال غير أنه لو فُتِح له باب الحرام لم يدخل فيه.(3)

و ممّا يروى في هذا المجال أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقف بعد معركة بدر على قتلى المشركين فقال: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّاً فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ فقال المنافقون: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يكلّم الموتى. فنظر إليهم فقال: لو أُذن لهم في الكلام لقالوا:

«نعم و إنّ خير الزاد التقوى».(4)

و كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم متى ما ودّع المؤمنين قال لهم: «زَوّدكُمُ اللّه التّقوى».(5) و قال علي بن أبي طالب عليه السلام في جواب من سأله: فأي عمل أفضل؟ قال: التقوى.(6)

و قال الإمام محمد الباقر عليه السلام: التقوى وصية اللّه فيكم و في الذين من قبلكم. قال اللّه عزّوجلّ: (وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللّهَ) .(7)

و في ضوء ما ورد آنفاً يمكن أن نفهم بوضوح أكثر معنى قول أميرالمؤمنين عليه السلام: «التُّقى رئيسُ الأخلاق»(8) لأنّ من يتحلّى بالتقوى قادر في كل الأحوال والظروف على صيانة نفسه و حفظها من الذنوب والآثام.

ص:232


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 113، ص 488.
2- - الكُليني، الكافي، باب فضل الإيمان على الإسلام، ج 2، ص 51.
3- المصدر السابق، ص 76، الحديث 7.
4- الصدوق، من لايحضره الفقيه، باب التعزية، ج 1، ص 114، الحديث 536.
5- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، آداب السفر، الباب 29، ج 11، ص 180، الحديث 1.
6- الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 4، ص 383، ح 5833.
7- الكُليني، الكافي، ج 3، ص 423، الحديث 6.
8- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 410، ص 548.

7 - الاعتزاز بالنفس

الإنسان ينفر من الذلّ بطبعه، و يميل إلى العزّ. و هذه خصلة واضحة عند جميع الناس.

و في النظام الأخلاقي الإسلامي يتطلب التحلّي بالأخلاق الحسنة أن يكون الشخص معتزاً بنفسه و لايقبل بالذل والحقارة أمام الغير. و لاينبغي لمؤمن أن يذلّ نفسه في مقابل الآخرين، أو يبيع ماء وجهه أو يمتهن كرامته و يكون مدعاة للسخرية. و لا مسوّغ لأحد باحتقار نفسه واستصغارها أمام الغير. إنّ التواضع شيء والذل شيء آخر. والتحلّي بحسن الخُلق لايدعو إلى سحق الكرامة والاستهانة بالذات. قال عزَّ من قائل: (وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ) . (1) والمؤمن ينبغي أن يتّصف بالشموخ والاعتزاز بالنفس، و بالصلابة في مقابل الأعداء و أهل الختل والخداع، و أن يكون في منتهى الحزم والجد في التعامل مع الأُمور، و لاينبغي لأحد أن يتّصف بالميوعة والتفاهة والخضوع لتأثير الآخرين، أو يكون أداة في أيديهم.

جاء في حديث شريف: لايحق لأحد إراقة ماء وجهه بذريعة أنّ خيار كل شيء بيده، و من حقّه أن يفعل ما يحلو له، خاصّة من كَسَبَ كرامته عن طريق الدّين، فهو لايحق له هتك كرامته بأي ثمن كان، أو في مقابل شيء تافه. قال الإمام الصادق عليه السلام: «وَ لاتَكُنْ فظّاً غليظاً يكره الناس قُربَك و لاتَكُنْ واهناً يُحقّرُك مَنْ عَرَفَك».(2)

و جاء في حديث آخر: «إنَّ اعْظَمَ النّاسِ قَدْراً مَنْ لايَرَى الدُّنْيا لِنَفْسِه خَطَراً».(3) و قال الإمام علي عليه السلام في وصية لابنه الحسن: «اَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلّ دَنيّةٍ وَ إنْ ساقَتْكَ الَى الرّغائب فَانَّكَ لَنْ تَعْتاضَ بِما تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً، وَ لاتَكُنْ عَبْدَ غَيْرِك وَ قَدْ جَعَلَكَ اللّهُ حُرّاً».(4)

ص:233


1- - سورة المنافقون (63)، الآية 8.
2- الحرّاني، تُحف العقول، ص 304.
3- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 19؛ الحرّاني، تُحف العقول، ص 389.
4- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 31، ص 401؛ النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 33 من أبواب الصدقة، ج 7، ص 231 و 232؛ الحديث 7.

لايليق بمسلم أن يتّصف بصفات دنيئة كالتملّق والذل والهوان، حيث ورد هذا المعنى في حديث قاله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام و هو: «إنّ الحرَّ حُرٌّ على جَميعِ احْوالِه».(1)

ورد في القرآن الكريم ثناء على جماعة من المؤمنين ممن عرفوا باسم أصحاب الصُفّة، حيث وصفهم بما يلي: إنهم على درجة عالية من الاعتداد بالنفس والعزّة بحيث أنهم لايسألون أحداً و لايطلبون من أحدٍ شيئاً رغم فقرهم، بل إذا رآهم من لايعرفهم يحسب أنهم أغنياء من التعفف.(2)

روي أنّ الإمام علي عليه السلام قال: «رَضىَ بالذُلِّ من كشفَ عن ضُرّه».(3) و روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: ليس من أخلاق المؤمن التملّق والحسد إلّافي طلب العلم.(4)

8 - الاُسرة التربوية

من خصائص الأديان السماوية أنها تعرض في ما يتعلق بالشؤون التربوية أسوة عملية لتعاليمها الأخلاقية والسلوكية. والأسوة تعني تقديم شيء أو أحد بمثابة دليل يُقتدى به.

والاقتداء بأحد يعني السير على خطاه واحتذاء دربه في المعتقد والقول والسلوك. وتكمن ضرورة الأسوة العملية في الأخلاق في أنّ الإنسان ربّما يعجز عن تشخيص وتطبيق الأُطر العامة الموضوعة لهذا الغرض، أو أنه قد يقع عند ممارستها عملياً في الإفراط أو التفريط.

و لعل البعض قد تدفعه الرغبة في اكتساب المعنوية، إلى أساليب الرياضة الروحية الشاقة بأكثر ممّا هو مطلوب، أو ربّما بما يتنافى مع الشرع أحياناً. و في مثل هذه الحالات التي يُحتمل فيها الشطط عن حدِّ الاعتدال، أو يُحتمل فيها عدم فهم المسائل و تطبيقها بشكل صحيح، يصبح من الضروري وجود الأُسوة التي تساعده عند التأسي بها على انتهاج مسلك أخلاقي خالٍ من النقص والزلل. و قد كان الأنبياء أئمة هدى صالحين، نصبهم اللّه للناس

ص:234


1- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 89، الحديث 6.
2- كما جاء في سورة البقرة (2)، الآية 273.
3- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 2، ص 469.
4- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 119 من أحكام العشرة، ج 9، ص 81، الحديث 4.

علماً و أسوة يُستدل بهم على ما أنزله من تعاليم سماوية. و في القرآن الكريم بعد أن استعرض في سورة الأنعام سلسلة الأنبياء مع ذكر أسماء بعضهم، توجّه بالخطاب إلى النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) . (1) والملاحظة ذات الأهمية البالغة في هذه الآية هي أنه تعالى لم يقل حين دعا إلى الاقتداء بالأنبياء: «فبهم اقتده» أي اقتدِ بهم، و إنّما أمر بالاقتداء بهديهم و قال: (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) و هذه إشارة إلى أنّ ميزتهم الهداية من اللّه، و هذا هو ما ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار عند الاقتداء والتأسي بالأسوة.

إذاً ينبغي التأسي بمن يتّصفون بجانب إيجابي و بمن تتوفر فيهم فضيلة بارزة. و لابد أن يكون التأسي عن وعي و إرادة، و بقصد الاستفادة المعنوية والسمو الأخلاقي.

كل الأنبياء أسوة حسنة للناس في كل الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية، و لكن القرآن الكريم وصف اثنين منهم بعلو المرتبة والأهلية للتأسي بهما: و أحدهما خليل اللّه إبراهيم عليه السلام الذي قال فيه تعالى: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ) ، (2) والآخر هو خاتم الأنبياء نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم الذي قال فيه تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً) .(3)

استعرض القرآن الكريم سيرة أُناس صالحين آخرين غير الأنبياء، وجعل منهم أُسوة يتأسى بهم الناس، و يمكن أن نذكر منهم اسمي امرأتين عظيمتين: إحداهما آسية زوجة فرعون، والأُخرى مريم بنت عمران أُم عيسى عليه السلام: (وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ... * وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) .(4)

كانت آسية زوجة رجل يدّعي الربوبية و لايرى أحداً أعلى من نفسه، و كانت نزعته الاستكبارية تأبى عليه حتى الاستماع إلى كلمة الحق أو التفكّر فيها. و كان يشق بطون الحوامل و يقتل ما فيها من الأجنّة مخافة أن يولد مَن يشكّل خطراً على حُكْمه في المستقبل. و قد جابه فرعون النبيّ موسى عليه السلام و مارس كل أنواع الأذى ضد أتباعه والمؤمنين به. و في ختام الأمر غرق عند ملاحقته لهم في البحر، و بقي جسده آية دالة على

ص:235


1- - سورة الأنعام (6)، الآية 90.
2- - سورة الممتحنة (60)، الآية 4.
3- سورة الأحزاب (33)، الآية 21.
4- سورة التحريم (66)، الآيتان 11-12.

قدرة اللّه. كانت آسية زوجة مثل هذا الحاكم، و لكنّها في الوقت نفسه استهانت بكل تلك الحياة الرغيدة و آمنت باللّه و لم تقع تحت تأثير زوجها.(1)

و أمّا بالنسبة إلى مريم فقد كانت امرأة طاهرة، و قد وصفها اللّه بالطهر والعفاف،(2)

و كانت أمّاً لنبيٍّ و كانت مطيعة للّه، و قد حملت بعيسى بنفخة إلهية.(3)

إنّ طهارة هاتين السيّدتين و طاعتهما للّه قد جعل منهما شخصيّتين مثاليّتين، بحيث ضرب اللّه بهما مثلاً للمؤمنين.

9 - الثبات والمرونة في القضايا الأخلاقية

الفضائل الأخلاقية في النظام الأخلاقي في الاسلام، من الثوابت التي لاتخضع لمستجدّات الأُمور. و لايجوز لأيّ كان أن يصوغ سلوكه الأخلاقي وفقاً لمقتضيات الظروف التي يعيش فيها. فان كان يعيش في أجواء يغلب عليها طابع اللّاأُبالية يصبح لا أُبالياً، و إذا استلزمت النفاق نافق، و إن كان يغلب عليها السلوك الإيماني انتهج أُسلوب الإيمان. إنّ الأخلاق خاصّة بالإنسان و يجب على الإنسان - حيثما كان - الالتزام بسلوك أخلاقي مبني على المعايير الإنسانية. و من الواضح أنّ الأُمور الأخلاقية قد وضعت من أجل رقي الإنسان وتكامله، و هذا ما يمكن تحقيقه من خلال العمل والمعرفة، و لايمكن اعتباره خاضعاً للظروف.

و في الوقت ذاته، تتصف بعض التعاليم الأخلاقية بالمرونة و ينبغي الالتزام بها في ضوء ما تتطلبه المصالح العامّة. و على الرغم من ثبات الأُمور الأخلاقية، غير أنّ المقتضيات الاجتماعية تتطلب أحياناً استبدال سلوك أخلاقي بسلوك أخلاقي آخر. نذكر من ذلك - على سبيل المثال - أنّ الصدق من القضايا الأخلاقية الفائقة الأهمية، و لكن قد تعرض أحياناً مصلحة أهم تستدعي التغاضي عن الصدق. فلو كانت نفس إنسانية محترمة معرّضة للخطر مثلاً يمكن عدم قول الصدق، بل يجب عدم الصدق.

ص:236


1- سورة التحريم (66)، الآية 11.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 42.
3- سورة التحريم (66)، الآية 12.

يمكن في الواقع أن يُقال بشأن القضايا الأخلاقية التي تُستبدل باُخرى في حالات استثنائية: عندما يريد الإنسان أداء تكليفه الأخلاقي يكون أمامه أحياناً أمران متضادّان، فما العمل في مثل هذه الحالة؟

عند إجراء تقييم أخلاقي دقيق للظروف، لابد من تقديم الأمر الأخلاقي الأعم مصلحة والأكثر فائدة. و على هذا الأساس، ينبغي القول بعبارة أُخرى: إنّ المكلّف لم يقع منه تخلّف عن أداء الأمر الأخلاقي من جهة، و من جهة أُخرى في حالة تعارض الأمرين، تمّ تقديم أحدهما على الآخر رعاية لمصلحة أهم. و يجب بطبيعة الحال الالتزام بأقصى درجات الاحتياط في مثل هذه الحالات، لكي لايُعطل أثناء ذلك أمر أخلاقي من غير مبرر، أو أن تؤدّي الغفلة إلى وقوع المكلّف في زلل.

10 - شمولية النظام الأخلاقي في الاسلام

اشارة

النظام الأخلاقي في الإسلام ليس نظاماً احاديّ الجانب. فالإرشادات الأخلاقية في الإسلام لاتنحصر فقط في الأمر بالابتعاد عن الدنيا واجتناب الناس والزهد والانهماك في العبادة، و إنّما أُخذت بنظر الاعتبار في هذا النظام جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية. فهذا النظام يهتم بتزكية النفس من جهة، كما اهتم من جهة أُخرى بالشعور بالمسؤولية والإحساس بالواجب إزاء القضايا الاجتماعية.

روى الإمام جعفر الصادق عليه السلام أو الإمام محمد الباقر عليه السلام: مرّ أميرالمؤمنين بمجلس من قريش، فإذا هو بقوم بيض ثيابهم، صافية ألوانهم، كثير ضحكهم، يشيرون بأصابعهم إلى من يمرُّ بهم، ثم مرّبمجلس للأوس والخزرج فإذا قوم بليت منهم الأبدان، و دقت منهم الرقاب واصفرت منهم الألوان، و قد تواضعوا بالكلام، فتعجب علي عليه السلام من ذلك و دخل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: بأبي أنت و أُمّي إني مررت بمجلس لآل فلان، ثم وصفهم، و مررت بمجلس للأوس والخزرج فوصفهم، ثم قال: و جميع مؤمنون. فأخبرني يا رسول اللّه بصفة المؤمن. فنكس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ثم رفع رأسه فقال: عشرون خصلة في المؤمن فإن لم تكن فيه لم يكمل إيمانه، إن من أخلاق المؤمنين يا علي: الحاضرون الصلاة... جعلنا اللّه و أياكم

ص:237

من المتقين.(1) واستناداً إلى هذا الحديث يُعرف المؤمن بالعلامات التالية: حضور صلاة الجماعة، المسارعة إلى دفع الزكاة، إطعام المساكين، المسح على رأس اليتيم، الاهتمام بالنظافة والطهارة، العفّة، الصدق في نقل الحديث، الوفاء بالوعد، الأمانة، العبادة في الليل، المروءة والشجاعة في النهار، كثرة الصوم، عدم إيذاء الجار، التواضع في المشي، تفقّد بيوت الأرامل، المشاركة في تشييع الجنائز.

و هذا يعني أنّ الإسلام لم يركّز في تعاليمه الأخلاقية على جانب واحد فقط من جوانب الحياة - مهما كانت أهميّته - و إنّما ركّز على جميع جوانبها.

هدف النظام الأخلاقي في الاسلام

إنّ الغاية التي يهدف إليها النظام الأخلاقي في الإسلام، هي السعادة الأبدية.(2) و هذا ما يتحقق عن طريق الارتباط بعالم الغيب والاستعداد لسفر روحي و معنوي، والانطلاق نحو غايات سامية. فالإنسان بطبعه، يميل إلى الكمال واللَّذة. والطريق إلى الكمال واللّذة، يتوقّف على ما يحمله المرء من نظرة إلى الكَوْن والحياة. فمن ينظر إلى هذا العالم نظرة مادية ضيّقة لاتتعدى حدود المادّة والدنيا الزائلة يطلب من الكمال واللّذائذ بما يتناسب مع هذه النظرة الضيّقة. بينما إذا كانت لديه رؤية تتجاوز في مدياتها حدود عالم المادّة، فلابّد أن يسعى إلى كمال ولذّة أبعد من حدود هذا العالم.

لقد وجه الإسلام نزعة حُبّ الكمال وحُبّ السعادة عند الإنسان و أرشده إلى أهداف سامية و نبيلة من خلال المقارنة بين الأهداف والغايات الدنيوية الآنية العابرة والأهداف واللّذائذ الخالدة في الآخرة.(3)

ص:238


1- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 232، الحديث 5؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 4 من أبواب جهاد النفس، ج 15، ص 188، الحديث 15.
2- - يبين القرآن ان طريق السعادة ينتهي إلى جنة الخلد، و طريق الشقاء ينتهي إلى الخلود في جهنم. سورة هود (11)، الآيات 106-108.
3- سورة الأعلى (87)، الآيتان 16-17.
أُسس النظام الأخلاقي في الإسلام

هناك مجموعة من مبادىء النظام الأخلاقي في الإسلام مرتبطة بالمبدأ، بينما ترتبط مجموعة أُخرى منها بالمعاد، أمّا الإرشادات الأخلاقية فمرتبطة بكليهما، و إن بدا الكثير منها كإرشادات اجتماعية في الظاهر. إنَّ التوجهات الأساسية للسلوك الأخلاقي يجب أن تكون موجّهة صوب اللّه والتوحيد، و إلّافإنها لن تكون مدعاة للرقي والتكامل. و من الطبيعي أنّ الإرشادات الأخلاقية تؤدّي إلى خلق نظام اجتماعي سليم أيضاً، بيد أنّ الفارق الأساسي الذي يميّز النظام الديني عن سائر النظم الاجتماعية، هو أنّ الاتجاه الأساسي لكل عمل في ظل النظام الديني هو اللّه، بينما الأمر ليس كذلك في النظم غير الدينية.

في النظام الديني يُعتبر اللّه مصدر كل شيء و إليه يعود كل شيء. و لابدّ للمؤمن أن يربط كل سلوكه باللّه ويُرجعه إلى اللّه. و هذا النمط من الرؤية الكَوْنية يفضي إلى ترصين الأُمور الأخلاقية و وضعها في الاتجاه الصحيح، و يخلق لدى الناس محفّزات للتمسّك بالقيم الأخلاقية واجتناب كل ما يتعارض مع الأخلاق. أما بالنسبة إلى حسن أو قبح الأعمال، فهو يتقرر في ضوء ما يتمخّض عنها من تأثيرات في مختلف جوانب الحياة، أو بعبارة أُخرى:

استناداً إلى تأثيرها في سعادة أو شقاء الفرد.

لا يمكن لنظام أخلاقي أن يتبلور بمعزل عن النظام الفكري والعقائدي و في هذا النظام الأخلاقي يجب أن تكون غاية الأفعال الأخلاقية رضا اللّه، و إلّافستكون قيمتها الأخلاقية ذات مستوى هابط، بل و قد تكون مضادة للقيم. نذكر من ذلك - على سبيل المثال - أنّ الإنفاق على المحتاجين يعتبر عملاً أخلاقياً في الظاهر، و لكن من وجهة النظر الإسلامية يُعتبر هذا العمل ذا قيمة فيما إذا كان خالياً من دوافع الرياء و من المَنّ والأذى، و إن لم تتوفر فيه هذه الشروط فهو مجرّد من القيمة الأخلاقية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا) .(1)

ص:239


1- سورة البقرة (2)، الآية 264.

يُستفاد من هذه الآية، أنّ النيّة الخالصة هي التي تضفي على العمل قيمة، و تجعل منه عملاً سامياً و نبيلاً. و في المقابل، فإنَّ مَثل من ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه و تثبيتاً لقلوبهم كمثل جنّة في موضع مرتفع، فهطَلَ عليها مطر غزير فأثمرت ضعف محصولها، و حتى لو لم ينزل مطر و فير و نزل مطر قليل، فهي تُثمر أيضاً.(1) إنّ قيمة أي عمل صالح - حتى و إن كان من خير الأعمال و أفضلها - يتوقّف على النيّة المقصودة من ورائه. إذاً فالأعمال رهينة بنيّة فاعليها. والنيّة الخالية من الرياء هي التي تضفي على العمل وجاهة، و تجعل منه باعثاً على الكمال. أمّا الاعمال التي لايُراد بها وجه اللّه فلا قيمة لها، بل إنها تقطع السبيل المؤدّية إلى اللّه. و قد يرتضي البعض مثل هذه الأعمال لنفسه و يكتفي بها بدلاً من المبادرة إلى أعمال صالحة فيها رضاً للّه.

مكانة النظام الأخلاقي في الاسلام

المفاهيم الأخلاقية في الإسلام، تابعة لنظام ديني. و هناك علاقة عميقة بين المفاهيم الأخلاقية، والقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. و لايمكن فصل الأخلاق عن السياسة و عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية.

إنَّ كلّ واحد من أحكام الإسلام له موقعه في الموضع المخصص له، و عدم وجوده في موضعه يُعدُّ بمثابة نقص، و يؤدّي إلى عدم فاعلية الأحكام الأُخرى. نذكر مثلاً أنّ التزكية تعني(2) تهذيب و إصلاح النفس، وقُرنت في بعض الآيات القرآنية المكّية بإنفاق الأموال و بالتقوى.(3) و أمّا في السور المدنية فغالباً ما قُرنت الزكاة بالصلاة. و لعلَّ السبب الكامن وراء استعمال هذه الكلمة في القرآن هو أنّ إنفاق المال يجب أن يكون ذا منطلق أخلاقي، و بقصد تهذيب النفس وتزكيتها من الرذائل الأخلاقية كالبخل والحسد، وتقوية ما فيها من فضائل أخلاقية. و بهذا العمل تتحقق الغاية الأساسية من وراء الزكاة و هي الطهارة والتهذيب:

ص:240


1- - سورة البقرة (2)، الآية 265.
2- - سورة الأعلى (87)، الآية 14؛ سورة الشمس (91)، الآية 9.
3- - سورة الليل (92)، الآيتان 17 و 18.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها) .(1)

لقد اعتبرت مجموعة الإرشادات الأخلاقية والاعتقادات والفروع والأحكام العملية بمثابة صفات للأبرار. و هذا يدلّ على أنّ الأُمور الأخلاقية في الإسلام قائمة على الإيمان و مستندة إلى ضمانة إيمانية.

فالدين بلا أخلاق غير مجدٍ و لامؤثّر. و متى ما كان الإيمان ضمانة للإخلاق فإنّها تكون فاعلة و مؤثّرة. و متى ما اضمحلّ الإيمان الديني تتراجع الفضائل الأخلاقيّة تبعاً له. و على العكس من ذلك متى ما ازدهر الإيمان والالتزام الديني تزدهر على أثره الأخلاق أيضاً.

و هذا يعني أنّ النظام الأخلاقي ينجح متى ما كان قائماً على الإيمان. و ذلك لأن الأخلاق تعني بالدرجة الأُولى محاربة الرغبات الجامحة. و من الطبيعي أنّ التغلّب على أهواء النفس يتطلب سنداً و دعامة قوية، والقوّة الوحيدة التي تتيح للإنسان التغلب على أهوائه النفسية هي الإيمان والاعتقاد الديني.

إنّ الإيمان باللّه يتغلغل في أعماق النفس، و يجعل الإنسان يُسلّم قياده للّه. و ليس هناك من عنصر آخر كالضمير أو حُبّ أبناء الجنس البشري له مثل هذا التأثير. والأخلاق لاتحظى بالثبات بلا قاعدة دينية و إيمانية. والنماذج التي طرحها الإسلام لتكون أُسوة، كانت تمزج بين الأخلاق والعمل، والمعتقد والعبادة، و ليس بمعزلٍ عنها.

من البديهي أنّ بعض الأُمور الأخلاقية إلزامية كإلزامية الأحكام الدينية الأُخرى، نذكر مثلاً إنّ وجوب الوفاء بالعهد(2) و أداء الأمانة(3) واجتناب الغيبة(4) لايختلف عن وجوب الأوامر الشرعية والحقوقية والفقهية؛ و بعضها قد تكون ذات طابع أخلاقي من جهة، و ذات طابع فقهي و حقوقي من جهة أُخرى. إنّ التعاليم الأخلاقية قادرة على تهذيب النفس، و كفيلة بتكامل الفرد. و على من يبغي الكمال والرقي أن يأخذ بها و يلتزم بها بدقّة.

ص:241


1- سورة التوبة (9)، الآية 103.
2- - سورة الإسراء (17)، الآية 34.
3- سورة البقرة (2)، الآية 283.
4- سورة الحجرات (49)، الآية 12.

الأخلاق الفردية

ينبغي في ضوء ما سبق ذكره تصحيح التصوّر الذي يظهر الأخلاق و كأَنّها ذات طابع اجتماعي صِرف، و أنّ جميع الإرشادات الأخلاقية تتعلق بطريقة السلوك مع الآخرين.

فالأخلاق ذات طابع فردي من جهة و ذات طابع اجتماعي من جهة أُخرى. و تدلّ التعاليم الأخلاقية بأن الأخلاق الاجتماعية لاتكفي بمفردها لصياغة شخصية الإنسان صياغة أخلاقية، و إنّما التعاليم الأخلاقية تنظم سلوك الإنسان مع الآخرين، و تنطوي في الوقت ذاته على ما يقرّب الإنسان إلى ربّه. و على هذا الأساس فإنّ مجرّد تنظيم السلوك الأخلاقي مع الآخرين لايكفي للاتصاف بالأخلاقية. فهناك قسم من السلوك الاجتماعي قد يكون حسناً و مفيداً للحياة الاجتماعية، و لكنه غير مقبول دينياً. نذكر على سبيل المثال أنّ احترام الناس و مساعدة المحتاجين منهم وتقديم العون المادّي للمعوزين، من أُمور الخير والإحسان، و هي مطلوبة، و لكن من وجهة النظر الدينية تصحّ هذه الأعمال فيما إذا كان القصد منها التقرب إلى اللّه، و أن تكون خالية من الرياء. ولو أدّى الإنسان أعمالاً كثيرة بدون قصد التقرّب إلى اللّه فلن تصل به إلى الكمال والسمو. فالأخلاق هي السلوك الحسن مع العباد، و فضلاً عن ذلك لابدّ أن تقرّب الإنسان إلى اللّه.

من الأُمور المهمّة في الأخلاق الفردية اجتناب الخبائث وتطهير النفس منها، واستحضار نيّة التقرّب إلى اللّه في الأعمال الفردية والجماعية، والإخلاص في العمل، وخشوع القلب، والذكر، و آداب الأكل والنوم، والقناعة، و حالات القلب، والشكر والصبر، والخوف والرجاء، والزهد، والتوكل، والرضا بقضاء اللّه.

و يفهم من مجموع التعاليم الأخلاقية في الإسلام أنّ من يريد الرقي والتكامل فلابّد له من نظام يسير عليه. إذ لايمكن طي الطريق والسلوك المعنوي إلى اللّه من غير عمل مُنظّم.

فهناك إرشادات و تعليمات لكل ساعة من ساعات اللّيل والنهار، و هي تعبير عن هذا المعنى و تعد بمثابة منهاج يومي، و مثل هذه التعليمات والإرشادات لاينحصر هدفها في الجانب الجماعي فقط، و إنّما وضعت لأجل اللحظات التي يعيش فيها الإنسان مختلياً بنفسه.

ص:242

السلوك الشخصي

اشارة

أحد التعاليم الأخلاقية للإسلام هو أن يكون لدى الشخص نظام و رؤية مستقبلية. إذ ينبغي للمؤمن أن ينظّم سلوكه الشخصي وفقاً للتعاليم الأخلاقية التي دعا إليها الدّين. و عليه أن لاينسى ربّه في الخلوات، و أن يكون في تفكير دائم، و أن يستفيد من عقله و فكره إلى أبعد ما يمكن. روي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنه قال: إنّ العبادة ليست في كثرة الصوم والصلاة، و إنّما في كثرة التفكير في أمر اللّه.(1)

يجب على المؤمن أن يسعى لتقوية إيمانه باللّه تعالى و أن يصل إلى حدّ اليقين.

وسيدرك عند ذاك بأن اللّه هو المدبّر لكل شؤون العالم و أنّ إرادته هي التي ترسم كل الحوادث. و حينذاك يتوكّل عليه في كل أُموره، و يرضى بقضائه. جاء في ما روي من الأحاديّث أن الإمام الصادق عليه السلام سُئل عمّا يُعرف به المؤمن، فقال: بالتسليم للّه والرضا في ما ورد عليه من سرور أو سخط.(2)

و في ضوء الحقيقة السالف ذكرها يتولد لدى الإنسان خوف من أن يقوم بعمل يؤدي إلى سخط اللّه عليه أو قطع رحمته عنه. و على صعيد آخر، بما أنّ اللّه أرحم الراحمين و يتكرّم على عباده دوماً باللُّطف والرحمة، فقد يدفعه هذا التصوّر إلى تجاهل أداء فرائض الطاعة والعبودية، و يقصّر في أداء ما يجب عليه أداؤه انطلاقاً من الأمل برحمة اللّه الواسعة. و من المحتمل طبعاً أنّ حالة الرجاء بلا خوف والخوف بلا رجاء تؤدّي إلى إبعاد الإنسان عن النهوض بمهامّه و واجباته أو زرع اليأس في نفسه. و كلا هاتين الحالتين تتعارضان مع روح التوحيد. فالمؤمن يجب أن يعيش على الدوام بين حالتي الخوف والرجاء. فقد نُقل أنّ الإمام الصادق عليه السلام سُئِل: ما كان في وصية لقمان لابنه؟ فقال: كان فيها الأعاجيب، و كان أعجب ما فيها أن قال لابنه: خِف اللّه عزّوجلّ خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذّبك، وارجُ اللّه رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك.(3)

ص:243


1- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 55، الحديث 4.
2- المصدر السابق، ص 63، الحديث 12.
3- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 67، الحديث 1.

المؤمن لايضيع وقته هباءً، و إنّما هو مشغول على الدوام بذكر اللّه و بالعبادة. و في الوقت الذي يمارس فيه أعماله اليومية لتمشية و إدارة شؤون أُسرته بشرف و كرامة، فإنه لايغفل عن ذكر اللّه. و هو يقوم بمساعيه في الحياة طاعة للّه و أداءً لِما هو مفروض عليه. و حتى ما هو مُباح من شؤون الحياة يؤدّيه لوجه اللّه و بهدف نيل مرضاته.

الإنسان قد تنتابه الغفلة و يبتعد عن المسار الإلهي في خضم الحياة اليومية، و في معترك الحياة و مجابهة حلوها و مرّها، وربّما ينزلق و ينحدر في شراك الشيطان. و لاجتناب مثل هذه المخاطر عليه أن يضع نظاماً يومياً لمحاسبة نفسه؛ فإن عثر على خطأ أو ذنب في أعماله ندم وتاب وعزم أن لايعود إليه، و إن وجد عملاً صالحاً شكر اللّه و طلب منه توفيق الاستزادة منه. روي عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: «لَيْسَ منّا مَنْ لَمْ يُحاسب نفسَهُ في كلِّ يَوْمٍ فَاِن عَمِل حَسَناً اسْتَزادَ اللّهَ و انْ عَمِلَ سَيِّئاً اسْتَغْفَرَ اللّهَ مِنْهُ وَ تابَ إلَيْه».(1)

و إن وجد في نفسه قصوراً أو تقصيراً في عمل الخير، بادر إلى تلافي ما سلف منه.

و بالإضافة إلى ما يعزم عليه من عدم تكرار الذنب و عدم الوقوع في شراك الشيطان، عليه أن يراقب نفسه و يكون بمثابة العين الساهرة على سلوكه و أفعاله مخافة الانحراف عن المسار الإلهي. فالغفلة عن هذه المهمة قد تُبعد الإنسان عن سبيل اللّه.

إنّ لكلٍّ مِن النهوض والجلوس، والمشي والنوم و ما شاكل ذلك آداباً، و كل واحدة منها تستدعي ذكر اللّه و شكره. وردت في الروايات تأكيدات على التحرّي عن حلّية الطعام والشراب، و أن يُبدأ بتناولها بذكر اسم اللّه،(2) و غسل اليدين(3) إضافة إلى الرضا بما يتناوله من الطعام. و أن يتناول لُقماً صغيرة، و يضع الطعام في فمه بيده اليُمنى، و أن يتأنى و لايتعجّل في الأكل. قال الإمام الصادق عليه السلام أطيلوا الجلوس على الموائد فإنّها ساعة لاتُحسب من أعماركم.(4) و يجب مضغ الطعام جيّداً، و بعد الانتهاء من الطعام يحمد اللّه،

ص:244


1- - المصدر السابق، ص 453، الحديث 2.
2- - الكُليني، الكافي، باب التسمية والتحميد، ج 6، ص 292.
3- المصدر السابق، باب الوضوء قبل الطعام، ص 290.
4- - الطبرسي، حسن بن فضل، مكارم الأخلاق، الفصل الثالث في آداب الأكل، ج 2، ص 305، الحديث 3.

و أن ينوي نيّة صالحة لتناول الطعام و بقصد التقوّي على طاعة اللّه. و أن لايكثر من الطعام، و يقوم عنه قبل أن يشبع منه. قال الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام في ذم كثرة الأكل: إنّ أبغض الأشياء إلى اللّه البطن المملوء.(1) و يكره أن يأكل الشخص زاده وحده. فقد كان من سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنه لم يأكل وحده.(2)

و عند أكل الطعام مع جماعة يُكره النظر إلى طعام الآخرين. و إذا كان على مائدة الطعام أشخاص من ذوي الفضل لاينبغي البدء بالأكل قبل أن يبدأوا. و ينبغي أيضاً مؤاكلة الآخرين و مراعاة حالهم و عدم رفع اليد عن الطعام قبلهم، و يستحسن الابتعاد عن التصنّع والمجاملات الزائدة.

و كما تلاحظون فإنَّ كل هذه الارشادات والآداب والمستحبّات والمكروهات قد وردت بشأن الطعام وحده، فهكذا الحال أيضاً بالنسبة إلى بقية السلوك الفردي؛ إذ إنّ له آدابه، و يجدر بالمؤمن التحلّي بهذه الآداب في سلوكه الشخصي.

الإخلاص

الإخلاص هو تطهير النية والعمل عن أية شائبة مناقضة للتوحيد، والإخلاص سرّ من الأسرار الإلهية توهب للمحبوبين من العِباد. و هذه الحالة يجب أن تعم جميع الشؤون الفردية والاجتماعية، و لكن بما أنّ مثواها و مقرّها ذات الإنسان، فهي حالة فردية تماماً.

للإخلاص مكانة رفيعة بين التعاليم الدينية، و عليه يتوقف أحياناً تأثيرها وصحّتها. و له من التأثير درجة بحيث أنّ مَن يُخلص للّه أربعين يوماً تثبت الحكمة في قلبه و ينطق بها لسانه،(3) والاخلاص يؤدي أيضاً إلى عجز إبليس عن إغواء الإنسان.(4)

و بالإخلاص - كما يقول أميرالمؤمنين عليه السلام - يكون الخلاص.(5) ثم إنّ قبول الأعمال عند اللّه و حتى الصالح منها، مشروط بإخلاص النيّة فيها للّه. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه

ص:245


1- - الكُليني، الكافي، ج 6، ص 270، الحديث 11.
2- الطبرسي، مكارم الأخلاق، ص 32.
3- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 16، الحديث 6.
4- سورة الحجر (15)، الآية 40.
5- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 8، مقدمة العبادات، ج 1، ص 59، الحديث 2.

قال: «قال اللّه عزّوجلّ: انَا خَيْرُ شريكٍ؛ مَنْ اشْرَكَ مَعِي غَيْري في عَمَله لَمْ اقْبَلْهُ الاّ ما كان لي خالِصاً».(1) إنّ أفضل الأعمال إن كان فاقداً للنيّة لا خير فيه و لا فائدة منه، و حتى من يقتلون في ميادين الجهاد قيل فيهم: يؤتى يوم القيامة بمن قُتل في سبيل اللّه، فيقال:

ما فعلت، فيقول: قاتلتُ في سبيل اللّه حتى قُتلت، فيقال: بل قاتلت ليُقال فلان شُجاع جريء.(2) و هذا يعني أنّ المعيار في قبول الأعمال حتى الجهاد في سبيل اللّه رهين بأن يكون القصد فيه للّه. فإن كان القصد للّه فهذا العمل يبلغ بصاحبه أعلى الرتب، و إلّافلا ينال أي مقام حتى و إن قتل في ساحة المعركة.

العُجب

العُجب: هو أن يكون المرء مغتراً أو معجباً بذاته و بأفعاله و بخاصّة العبادية. و كل مَن يشعر بالعلو والتفوّق على غيره و يعجب بنفسه يُقال دخله العُجب. و مثل هذه الحالة تُحدث لدى الإنسان الكِبْر. و إذا كان الإنسان يستشعر في ذاته أفضلية على غيره و ظهر ذلك في سلوكه، فذلك يُسمّى كِبْراً، و قد يصل إلى حد الاستكبار. و هذا طبعاً من الأخلاق الذميمة.

و حتى لو كَتم هذا الشعور داخل ذاته، فهذا مذموم أيضاً؛ لأن مثل هذا الشعور يحجبه عن السعي إلى الكمال. قال الإمام الصادق عليه السلام: «من دَخَلَهُ العُجب هلك».(3) و ذكر الإمام محمد الباقر عليه السلام ثلاثة أشياء، واعتبرها من دواعي هلاك الإنسان و هي: البخل، والهوى، و إعجاب المرء بنفسه.(4)

و نظراً إلى ما ينطوي عليه العُجب من خطر شديد على المؤمن، فقد حذّر منه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً: لولا الذنب خير للمؤمن من العُجب ما خلّى اللّه بين عبده المؤمن و بين ذنب أبداً.(5)

ص:246


1- - المصدر السابق، ص 61، الحديث 9.
2- - النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 12، مقدمة العبادات، ج 1، ص 111، الحديث 7.
3- - الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، باب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ج 1، ص 101، الحديث 8.
4- المصدر السابق، ص 103، الحديث 13.
5- المصدر السابق، ص 104، الحديث 19.

العُجب يوقع الإنسان في وهم الصلاح والتقوى، و هذا مما يُبعده طبعاً عن سبيل اللّه.

و مثل هذه الحالة تثير طمع الشيطان فيه، و يستدرجه إلى منزلقات بعيدة عن ربّه. و وجود مثل هذه الحالة في الإنسان يُطمع الشيطان فيه و بالنتيجة يبتعد عن ربّه و يسوء ظنّه بسائر عباد اللّه. و هذا يختلف طبعاً عن البهجة التي تنبعث في نفسه على أثر توفيقه في عبادة اللّه.

إنّ الجهل والغفلة يدفعان الإنسان إلى الغرور. والصحة، والسلامة، والذكاء، والمال، والجاه، والحسب والنسب، والأولاد، والقدرات، بل و حتى الأوهام أحياناً تكون مدعاة للغرور وسوق الإنسان إلى مرتع الشيطان. وهنا ينبغي الانتباه والابتعاد عن الغفلة.

الجاه و حُبّ الشهرة

إنَّ حبّ الشُهرة رغبة نابعة من ذات الإنسان. و إذا لم تلجم هذه الرغبة تتمخض عنها نتائج خطيرة؛ إذ إنها تعيقه عن المسير نحو الغاية الإلهية، و تلقيه في حبائل الشيطان. فإنّ مَن يروم الشهرة يسعى إلى أن يُعرف بين الناس بأي ثمن كان. ثم إنّ هذه الرغبة تقوده تدريجياً إلى محاولة إخضاع سائر الناس لطاعته بالقوّة. و من هنا ينبثق الجور والطغيان. لا مانع طبعاً إذا جاءت الشهرة بشكل تلقائي و لوجه اللّه، و إذا استثمرت لمقاصد إلهية. إنّ الجاه والصيت من مصائد إبليس و يجب الحذر منه، فقد قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: كفى بالرجل أن يُشار إليه بالأصابع.(1)

و لمّا كان الصيت والشهرة يجعلان الإنسان عرضة للكثير من المنزلقات فلابّد من اجتنابها و ترجيح أن يكون مغموراً بين الناس. فقد ورد في مناجاة عن الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام قال فيها: اللهم لاترفعني في الناس درجة إلّاحططتني عند نفسي مثلها، و لاتحدث لي عزّاً ظاهراً إلّاأحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها.(2) و جاء في حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: حُبّ المال والجاه ينبتان النفاق في القلب.(3) و قال

ص:247


1- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 51 من أبواب جهاد النفس، ج 11، ص 387، الحديث 17.
2- - الصحيفة السجّادية، دعاء مكارم الأخلاق، الرقم 20، ص 100.
3- - الشهيد الثاني، كشف الريبة عن أحكام الغيبة، ص 93.

الإمام الصادق عليه السلام في هذا المعنى: ملعون من ترأس، ملعون من هم بها، ملعون من حدّث بها نفسه.(1)

حُبّ الدنيا

الأجواء التي نعيش فيها و تسمّى الدنيا، هي عبارة عن إمكانات و مقدّرات مادية.

والمقدّرات وسائل الحياة و لايمكن استمرار الحياة بدونها. و هي كلها نعم إلهية يضعها اللّه تحت تصرّف العباد مدّة من الزمن. و وجودها ضروري و لا مندوحة منه، و لكن في الوقت نفسه ورد في التعاليم الدينية الكثير في ذم الدنيا واللّهاث وراءها والحرص عليها والتحلّق بها؛ لأن هذه السلوكية تعيق الإنسان أحياناً عن السعي نحو الكمال. فحلاوة الدنيا في نظر الإنسان تجعله شديد التعلّق بها و غير مستعد للخروج منها. و حبّ الدنيا يوقع الإنسان في المنزلقات، و يبعده عن أهدافه الإنسانية السامية. فقد جاء في كلام للنبي عيسى عليه السلام: طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلّما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى يقتله.(2)

و هناك سؤال قد يتبادر إلى أذهان البعض و هو: هل الدنيا غير ذات قيمة حقّاً؟ و لماذا كل هذه المذمة لها والحث على اجتنابها؟ والجواب عن ذلك هو أن للدنيا معنيين: «الدنيا بمعنى النعم الإلهية»، و «الدنيا بمعنى التعلق بها والانشداد إليها». نأتي هنا على شرح كل واحد من هذين المعنيين على حدة:

1 - إن كان المقصود من الدنيا هي مخلوقات هذا العالم و ما فيه مِن نِعَم يستفيد منها الإنسان و يتنعم بها فلا بأس بها. فالدنيا موضع يعيش فيه الناس، و هي موضع تعليم و تربية وعبادة اللّه و بلوغ الكمال. و هذا المعنى للدنيا شيء جيّد، بل لولاها لَما كان هناك إيمان، وتقوىً، و كمال، بل لَما كان هناك معنىً للآخرة.

روي أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام سمع رجلاً يذمّ الدنيا فقال له: «أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُغْتَرُّ

ص:248


1- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 298، الحديث 4.
2- ورام بن أبي فراس، مجموعة ورام، ج 1، ص 149.

بِغُرُورِهَا الْمَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا أَ تَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْك مَتَى اسْتَهْوَتْك أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ. ثم قال: إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَ دَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَ دَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ وَ مُصَلَّى مَلائِكَةِ اللَّهِ وَ مَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ وَ مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ وَ رَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ».(1)

و ممّا روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال في وصف الدنيا: نعم العون الدنيا على الآخرة.(2) و قال أيضاً ليس منا مَن ترك دنياه لآخرته، أو ترك آخرته لدنياه.(3)

2 - و أمّا إذا كان المراد من الدنيا، التعلّق بها والانشداد إليها والشره إلى ما فيها من زينة و طعام و شراب و مال و جاه، بحيث يتخذ المرء من هذه الأُمور غاية يسعى إليها، فهذا هو الشيء المذموم الذي ينبغي اجتنابه؛ لأنّ مثل هذه التعلّقات تجعل المرء في غفلة عن ذكر اللّه، و عن الغاية الأساسية التي جُعلت له و هي بلوغ الكمال و بناء الآخرة.

و بعبارة أُخرى: إذا نُظر إلى الدنيا كمقدمة و وسيلة و مزرعة للآخرة، فهي شيء قيّم و لا مذمّة لها، و لكن إذا اتّخّذَ أحد من الدنيا غاية و هدفاً كالمسافر الذي يشغله النظر إلى مشهد جميل عرض له في الطريق عن الوصول إلى المقصد، أو يستغرق في الانشغال في المنازل التي يمرّ بها حتى كأَنّه ليس بمسافر و كأنّ تلك هي داره. ويُفهم في ضوء ما ذكر أنّ الدنيا المذمومة هي ما تُتخذ هدفاً بالمقارنة مع الآخرة. قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «مَنْ ابْصَرَ بِها بَصَّرَتْهُ وَ مَنْ ابْصَرَ الَيْها اعْمَتْهُ»(4) و على هذا فإنّ الانتفاع من الدنيا في هذا السياق والتنعّم بنعمها غير منهي عنه، بل بالعكس هناك حث عليه و ترغيب فيه، كما قال اللّه عزّوجلّ في كتابه الكريم: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) .(5)

ص:249


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 131، ص 492.
2- الصدوق، من لايحضره الفقيه، باب المعايش، ج 3، ص 156، الحديث 3567.
3- المصدر السابق، الحديث 3568.
4- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 82، ص 106.
5- سورة الأعراف (7)، الآية 32.

الزهد

الزهد هو الاستهانة بالدنيا و عدم الرغبة فيها. و قد وردت تأكيدات كثيرة على الزهد.

فمن ذلك قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إزهد في الدنيا يحبّك اللّه»(1) و قال الإمام الصادق عليه السلام:

«مَنْ زَهِدَ في الدُّنيا، اثْبَتَ اللّهُ الْحِكْمةَ في قَلْبِه».(2) والزهد مقام رفيع يبلغ بالإنسان درجات عليا من المعنوية. و قال الإمام علي عليه السلام في وصف الزهد: «الزهد ثروة».(3)

و حقيقة الزهد هي الإعراض عن شيء إلى ما هو أفضل منه. و هذا يعني أنّ الزهد لايعني الإعراض عن كل شيء. و لايعني الشعث و لبس الأطمار. و لا هو التشبّه بالمتسوّلين والتظاهر بالمرض والغول. و إنّما الزهد، هو عدم الانكباب على الدنيا و عدم التعلّق بها.

الزاهد من يعيش في هذه الدنيا و يتمتع بنعيمها، و لكنّه يرى نفسه كالمسافر الذي لا تطول إقامته فيها، و عليه أن يستعد للسفر إلى مقصد آخر. والزاهد من يعيش في هذه الدنيا و بما فيها من نعم و مقدّرات من غير أن يتعلّق بها إلى الحد الذي يعيقه عن مواصلة سفره. جاء في رواية عن إمام معصوم قال فيها: «اِعمَلْ لِدُنياك كاَنّكَ تَعيشُ ابَداً واعْمَلْ لِآخِرَتِك كانّكَ تَموتُ غَداً».(4)

هناك فارق أساسي بين الزهد والرهبانية. الرهبانية بدعة مذمومة. و قد تحدّث القرآن الكريم عن الرهبانية واصفاً إياها: (وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) ؛ (5) لأن الرهبانية تعني الإعراض عن كل شيء، بينما لم يحرم الإسلام الزينة والرزق الطيّب الحلال، بل حثّ عليها و دعا إليها،(6) و لكن إذا كان الانشغال

ص:250


1- - «ازهد فى الدنيا يُحبَّك اللّهُ»، سنن ابن ماجه، ج 2، ص 1374، الحديث 4102.
2- - الكُلَيني، الكافي، ج 2، ص 128، الحديث 1.
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 4، ص 469.
4- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 25 من أبواب الطهارة، ج 1، ص 146، الحديث 1؛ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، باب المعايش، ج 3، ص 94، الحديث 4.
5- - سورة الحديد (57)، الآية 27.
6- - سورة الأعراف (7)، الآية 32.

بالدنيا وزينتها و نعيمها مدعاة للتوقف عن التكامل، فهو يعتبر في مثل هذه الحالة مخالفاً للزهد. و هذا ما حذّر منه القرآن الكريم في الآية الشريفة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) .(1)

قال المفسّرون: إنّ النبيّ جلس يوماً فذكّر الناس و وصف القيامة، فرقَّ الناس و بكوا.

واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار، و يقوموا الليل، و لايناموا على الفرش، و لايأكلوا اللحم، و لايقربوا النساء والطيب، و يلبسوا المسوح، و يرفضوا الدنيا، و يسيحوا في الأرض، وهمّ بعضهم أن يَجُبَّ مذاكيره. فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأتى دار عثمان، فلم يصادفه، فقال لامرأته: أحق ما بلغني عن زوجك و أصحابه؟ فقالت: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك. فانصرف رسول اللّه.

فلمّا دخل عثمان، أخبرته بذلك، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو و أصحابه، فقال لهم رسول اللّه:

ألم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا و كذا؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و ما أردنا إلّاالخير.

فقال رسول اللّه: إني لم أؤمر بذلك. ثم قال: إن لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا، فإني أقوم و أنام، و أصوم و أفطر، و آكل اللحم والدسم، و آتي النساء، و من رغب عن سنّتي، فليس منّي. ثم جمع الناس وخطبهم، و قال: ما بال أقوام حرّموا النساء، والطعام، والطيب، والنوم، و شهوات الدنيا؟ أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسيسين و رهباناً، فإنه ليس في ديني ترك اللحم، و لا النساء، و لا اتخاذ الصوامع، و إن سياحة أُمتي الصوم، و رهبانيتهم الجهاد، اعبدوا اللّه، و لاتشركوا به شيئاً، و صوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد: شدّدوا على أنفسهم، فشدّد اللّه عليهم، فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع. فأنزل اللّه الآية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا) .(2)

(3)

و قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «إنّ أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْد».(4) و إذا كان زاهداً في الدنيا

ص:251


1- سورة المنافقون (63)، الآية 9.
2- سورة المائدة (5)، الآية 87.
3- الطبرسي، مجمع البيان، ج 2، ص 235 و 236.
4- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 28، ص 472.

لا يصح منه أن يظهر ذلك؛ لأن الزهد عدم رغبة، واظهار هذه الصفة رياء و دليل على التعلّق بالدنيا. و يجب أنّ يكون الزهد بالاختيار لا بالإجبار. فإنّ الزهد في الدنيا يجعل المرء يستهين بالمصائب(1) و قد قيل: لا زهد كالزهد في الحرام.(2)

القناعة

القناعة هي الاكتفاء بمقدار الحاجة. و أصل هذه الكلمة من القناع الذي يُغطّى به الرأس، و تُطلق كلمة قانع على الفقير الذي يستر فقره على اعتبار أنه يقنّعه.(3) و تأتي كلمة القناعة في مقابل الطمع بمال الغير. والغاية من هذا المبدأ الأخلاقي هي أن يجتنب الإنسان الطمع والحرص، و أن يكتفي في منهج حياته بما هو مُتاح له من امكانيات و مقدّرات محدودة، و لكن بعض الناس ممّن لا قناعة لهم يوقعهم طمعهم في الذل والهوان. بينما القناعة تجعل حياة الإنسان هادئة و خالية من الهواجس والمنغّصات.

قال الإمام علي عليه السلام في مواعظه: «إِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا لَمْ يَشْبَعْ وَ إِنْ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ»(4)

و قال عليه السلام في موضع آخر في وصف القناعة: «كَفَى بِالْقَنَاعَةِ مُلْكاً»؛ و ذلك لأنّ القانع يحفظ ماء وجهه و لايقع في الذل والمهانة. و قال في تفسير الآية الشريفة: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) (5) هي القناعة.(6) عنه أيضاً: «عز من قنع و ذلّ من طمع». و قال أيضاً في رواية أُخرى: «من قنع عزّ واستغنى».(7) و جاء في حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «القناعة كنز لا يَفنى».(8)

ص:252


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 31، ص 472.
2- المصدر السابق، الحكمة 113، ص 488.
3- - الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 685 و 686.
4- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 150، ص 497.
5- - سورة النحل (16) الآية 97.
6- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 229، ص 508.
7- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ج 2، ص 715.
8- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، ج 15، ص 226.

الصبر

إنّ عوادي الدهر و ما يكتنفه من سرّاء وضرّاء، و كذلك مواجهة الذنوب، قد تبعد الإنسان أحياناً عن الطريق القويم، فتزل قدمه عن طريق اللّه من غير أن يشعر و يقع في حبائل الشيطان. و انطلاقاً من ذلك فقد وردت إرشادات و وصايا موكّدة تحث على الصبر والثبات على طريق الحق، و عدم الانجراف إلى مهاوي النزوات. والصبر يعني سعة الصدر والقدرة على تحمّل الشدائد والحوادث المريرة. و قد فسّر الخواجة نصيرالدّين الطوسي الصبر بضبط النفس ولجمها عن الجزع في الملمّات.(1)

الصبر ليس موقفاً سلبياً واستسلاماً مطلقاً للحوادث، و هو لايعني الخمود والجمود والانهيار أمام الشدائد، و إنّما هو عبارة عن جهد حثيث وسعي دؤوب لحل عقدة مستعصية والعثور على سبيل للتخلّص من منعطف ضيّق، و من مأزق عصيب، مع التحمّل و عدم الجزع، والصبر يصنع إنساناً صلباً يخوض غمار الحياة بجَلَدٍ و يعالج صعاب الأُمور بأناة و تدبير. و من ثمار شجرة الصبر الحلم و كظم الغيظ.

إنَّ الغاية من تهذيب النفس سحق الأهواء والتحرر من النزوات. و هذا بطبيعة الحال يستلزم ضرباً من المشقّة و ترويض النفس، و لابُدّ له من صبر وثبات. و لاشكّ في أنّ الصبر يحصّن النفس بوجه الأهواء، و يطبعها على تحمل الشدائد. و للصبر درجات تتناسب مع مراتب المصاعب. و قد يكون الصبر تارة في مواجهة المصائب والمعضلات، و قد يكون تارة أُخرى صبراً على الطاعة، و يكون تارة ثالثة صبراً عن المعصية و محاربة هوى النفس.

جاء في حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «الصبرُ ثلاثةٌ: صَبرٌ عِنْدَ المُصيبَةِ وَ صَبرٌ عَلَى الطّاعةِ و صَبرٌ عَنِ الْمعصيَة».(2)

و في ضوء الحديث الآنف الذكر ندرك معنى قول الإمام الصادق عليه السلام: «الصبرُ من الإيمان بمنزلةِ الرأسِ من الجسد».(3) فعندما يُقطع الرأس يَفنى الجسد، و كذلك الصبر إذا

ص:253


1- الطوسي، نصيرالدّين، اوصاف الاشراف، ص 108، الفصل 5، الباب 3.
2- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 91، الحديث 15.
3- - المصدر السابق، ص 87، الحديث 2.

زال يزول الإيمان. و قد روى أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام أنه سمعه يقول ذات مرّة:

«الحرُّ حرٌّ على جميع أحواله؛ إن نابته نائبة صبر لها، و إن تداكّت عليه المصائب لم تكسره... فاصبروا و وطِّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا».(1) والصبر من صفات الأنبياء.(2) و قد أمر اللّه تعالى النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم بالصبر، في قوله: (وَ اصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ) .(3)

والصبر لايتنافى طبعاً مع الشكوى للّه والتضرّع بين يديه، مثلما حصل للنبي أيوب عليه السلام؛ إذ أنّ اللّه تعالى ضرب به المثل في الصبر والثبات: (إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ) (4) ولكّن ذلك لم يمنعه من الشكوى إلى اللّه حين قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ) .(5)

الدعاء والتوسل

أحد التعاليم المؤكّدة في الإسلام هو الدعاء. والدعاء هو طلب شيء من اللّه، و لابد طبعاً أن يكون ذلك الشيء أسمى من أُمور الحياة العادية كأَنّ يكون طلب المُثُل والمبادىء الصحيحة، و طلب التحلّي بالأخلاق الفاضلة والصفات ذات القيمة المعنوية. والدعاء التزام و توجّه و تصميم على عدم الانسياق وراء أُمور تافهة و غرائز حيوانية. والدعاء وسيلة للارتباط الروحي باللّه عزّوجلّ.

و من الطبيعي أنّ ما يطلب في الدعاء هو الأُمور التي يكون فيها خير وسعادة للفرد والاُسرة والمجتمع. و لهذا فلابّد من تعلّم الدعاء و مضامينه المعنوية من ذوي العلم والفضل.

والأدعية المأثورة لدينا، ذات وقع و تأثير على النفس و ترقى بالروح ببديع الكلمات وسمو المضامين. والروح تتأثر عادة بالدعاء حتى و كأَنّها ماثلة بين يدي ربّها و به لائذة.

ص:254


1- - المصدر السابق، ص 89، الحديث 6.
2- - سورة الأنعام (6)، 34؛ سورة الأنبياء (21)، الآية 85؛ سورة ص (38)، الآية 44.
3- سورة يونس (10)، الآية 109.
4- - سورة ص (38)، الآية 44.
5- سورة ص (38)، الآية 41.

جاء في رواية نقلها الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال:

«الدعاء سلاحُ المؤمن و عِمادُ الدّين و نُورُ السَّمواتِ والأرض».(1) و وصف الإمام جعفر الصادق عليه السلام الدعاء بأنه مفتاح كل رحمة و نجاح في كل طلبة، و لايحصل أحد على ما عند اللّه إلّابالدعاء.(2) و جاء في القرآن الكريم في بيان أهمية الدعاء: (وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) .(3)

و على هذا الأساس فإنَّ الدعاء والتوسّل وارتباط الإنسان بربّه بتوجيه من الدّين و في ضوء القواعد الاعتقادية، يهدي الإنسان إلى ربّه من خلال تعليمه كلمات و مفاهيم معيّنة.

و هذا يمنح الإنسان شوقاً و اندفاعاً و يغرس فيه انشداداً و تحرّكاً. و لهذا فالدعاء سُنّة من سنن اللّه و حركة في طريق تكامل الإنسان، واجابته تأتي أيضاً ضمن هذا السياق و وفقاً لهذه القاعدة. لقد جاءت أغزر مضامين الأدعية في القرآن الكريم و في كلمات أهل البيت عليهم السلام. فسورة الحمد تدعونا إلى التضرّع للّه خمس مرّات في اليوم: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ) . (4) و تتنوّع هذه الأدعية والمطاليب في آيات أخرى حتى تمتد إلى غفران الذنوب،(5) والهداية إلى الصلاح،(6) و تمنّي خير الدنيا والآخرة سوية،(7) والخلاص من الظالمين.(8) كما تضمّنت الأدعية الواردة عن أهل البيت مثل دعاء كميل، و دعاء أبي حمزة الثمالي، و دعاء مكارم الأخلاق، معارف و موضوعات مثل معرفة اللّه، و معرفة الإنسان، والمبادىء الأخلاقية، والأصول الاجتماعية، و حقوق الأفراد على بعضهم، و بيان المُثُل والقيم الإنسانية، و يتوضح فيها سمو المطاليب المعنوية.

ص:255


1- - الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 37، الحديث 95؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 90، ص 288، الحديث 1.
2- - الطبرسي، الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، الفصل الاول في فضل الدعاء، ج 2، ص 9.
3- سورة البقرة (2)، الآية 186.
4- - سورة الفاتحة (1)، الآيات 5-7.
5- - سورة آل عمران (3)، الآيتان 16-17.
6- سورة البقرة (2)، الآية 128.
7- سورة البقرة (2)، الآيات 200-102.
8- - سورة النساء (4)، الآية 75.

ينبغي أن لايُظَنّ طبعاً بأنّ الدعاء تهرّب من المسؤولية، و نكول عن مجابهة الشدائد، واستبدال العمل والمثابرة بالكلام والتوسّل، و إنّما الدعاء هو عبارة عن محاولة لسدّ النواقص و نقاط الضعف التي ترافق العمل والتفكير - اتكالاً على قدرة اللّه و طلباً للتوفيق والنجاح منه - و نفهم من خلال الأدعية التي علّمنا إياها نبيّنا و أئمتنا أنهم لم يلجأوا إلى الدعاء كبديل عن الجهد والمسؤولية الاجتماعية والاستفادة من المقدّمات، و إنّما كانوا يحرصون على توفير كل المقدّمات والأسباب اللازمة لأي عمل، و يضعون نصب أعينهم الخطة والمتطلّبات اللازمة لإنجاز ذلك العمل، و لكن كانوا يقدّمون عليه اتكالاً على اللّه و من خلال الاستعانة به.

و على صعيد آخر يقترن الدعاء أحياناً بالتوسل بأناس لهم وجاهة عند اللّه كالنبيّ والأولياء، و هذا لايتعارض مع التوحيد؛ لأنّ التوسل بهم يعني أننا نطلب العون منهم لمساعدتنا للارتباط باللّه. و هذا هو اعتماد الوسيلة التي ذكرها اللّه في كتابه الكريم:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) . (1) كما يخبرنا القرآن الكريم عن سنّة أُخرى و هي أنّ المسلمين في صدر الإسلام كانوا متى ما أذنبوا جاؤوا إلى النبيّ واستغفروا اللّه، و كان هو بدوره يستغفر لهم.(2) و هناك دليل يؤيد هذا المعنى و هو أبناء يعقوب الذين جاءوا إلى أبيهم و قالوا: (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئِينَ) .(3)

و للدعاء آداب منها: أن يكون بخشوع و أن لايكون بصوت عالٍ، لكي لايتسبّب في إزعاج الآخرين (وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ) ، (4) و لايكون فيه تظاهر ورياء. و هذا المعنى أكّده القرآن الكريم في الآية المباركة: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً) .(5)

ص:256


1- - سورة المائده (5)، الآية 35.
2- - سورة النساء (4)، الآية 64.
3- سورة يوسف (12)، الآية 97.
4- - سورة الأعراف (7)، الآية 205.
5- سورة الاعراف (7)، الآية 55.

الأخلاق الأُسَرِيّة

اشارة

من الجوانب الأُخرى للأخلاق حسن المعاشرة مع أفراد الاُسرة، والتعامل الحسن بين الزوج والزوجة و بين الأبناء والوالدين.

الاُسرة هي الحِجر الذي يتربّى فيه الإنسان و تتكامل شخصيته. و بين أحضان الاُسرة يُصاغ تفكير الإنسان و تديّنه. و نظراً إلى أهمية الاُسرة في تكوين الشخصية، فقد أبدى الإسلام اهتماماً واضحاً بها. و شرّع لهذا الأمر أحكاماً فقهية و حقوقية أوردناها في الموضع المناسب من هذا الكتاب، كما وضع له تعاليم أخلاقية. و لكل واحد من أعضاء الاُسرة حقوق يجب على بقية الأعضاء رعايتها. والتعاضد والتكافل بين أعضاء الاُسرة يؤدّي بهم إلى الرقي. و لاشكّ في أنّ تجاهل هذه الأُمور و عدم الانسجام بين أعضاء الاُسرة يحول دون تقدّمهم مادياً و معنوياً. و إذا فقد التعاون بين أعضاء الاُسرة الواحدة أو غلبت عليهم النزاعات فَسوف يكرّس كل واحد منهم جهوده من أجل إفشال الآخر.

من الطبيعي أنّ لكلٍّ مِن الأب والأم والأولاد والأقارب مكانته و موقعه في هذا الكيان، كما تقع على كل واحد منهم مسؤوليات و واجبات إزاء الآخرين. و لايحق لأي منهم تجاهل دور و مكانة الأعضاء الآخرين، أو التهاون في أداء ما عليه من مسؤوليات إزاءهم.

إنّ القرابة توجب نوعاً من المسؤولية فضلاً عما تمثّله من رابطة إنسانية. و لايمكن لمن تربطهم علاقات قربى أن يتجاهلوا بعضهم و يتعاملوا كالغرباء، و إنّما يجب أن يشاركوا بعضهم في السرّاء والضرّاء. و كل مسلم مسؤول عن أقربائه على قدر وسعه. و قد شرّع الإسلام أحكاماً و وضع إرشادات للمحافظة على صلات القربى، و ألزم المسلمين برعايتها.

الزوج والزوجة

يؤلف الزوج والزوجة كيان الاُسرة، و من الطبيعي أن تتأثر أخلاق بقية أعضاء الاُسرة وسلوكها واعتقاداتها بما يتّصف به الأبوان. والأبوان يتأثران عادة بأخلاق و معتقدات و

ص:257

آراء بعضهما، و يؤثران في صياغة سلوك و أخلاق و آراء و معتقدات أبنائهما. و هذا ما يستدعي منهما الدقّة والحذر في الأقوال والأفعال. و كلما كان الأبوان يعيشان حياة قويمة وسليمة كان ذلك مفيداً في بناء شخصية الأولاد.

من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف في الأذواق بين الزوج والزوجة إزاء مختلف الموضوعات، غير أنّ الحياة الزوجية و ما ينشأ عنها من رباط وثيق و محبّة تجعلهما يتغاضيان عن الكثير من الاختلافات. و قد بيّن القرآن أنّ المحبّة التي تنشأ بعد الزواج بين شخصين لم تكن بينهما أية علاقة سابقاً، من آيات اللّه: (وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .(1)

و رغم كل ذلك يبقى هناك احتمال لنشوء اختلافات بين الرجل والمرأة، خاصة في بداية تكوين الاُسرة حيث لم يكونا قد عرفا بعد طبائع بعضهما بشكل جيّد. و إذا لم تُعالج اختلافات الزوجين، تسري تأثيراتها المدمّرة إلى الأبناء والأقارب بل حتى إلى المجتمع.

الطفل الذي ينشأ في أُسرة يسودها الاضطراب والمشاكل و كثرة النزاع بين الوالدين، سوف يتّصف بعدم الاتّزان و يغلب عليه القلق والهواجس، و هذا يحول دون ازدهار ما لديه من طاقات. و من الطبيعي أن تؤدي الضغوط النفسية و عدم الاستجابة لمتطلّباته المشروعة إلى تراكم العقد في نفسه، و عندما يبلغ سن الشباب و يدخل في الحياة الاجتماعية تنعكس هذه العقد المكبوتة على شكل سلوك غير مرضٍ قد يتجسّد أحياناً على شكل تضاد مع الآخرين، أو ربّما يوقع الشخص في الجريمة و حبّ المغامرة.

إنّ أكثر السلوك الاجتماعي السلبي يعود في جذوره إلى تصرّفات أفراد الاُسرة الأكبر سنّاً. فالذين لايسلكون سلوكاً حسناً في البيت لكي يتعلّم منهم الأطفال هم المسؤولون عن اعوجاج سلوك أبنائهم.

و نظراً إلى أهمية الاُسرة والجو الأُسري السليم في تربية الأبناء، فقد ركّز القرآن الكريم

ص:258


1- سورة الروم (30)، الآية 21.

على اصلاح شؤون الاُسرة و حلّ ما يبرز من اختلافات بين الزوج والزوجة. فقد أوصى القرآن الكريم بكتمان الاختلافات الأُسرية جهد الإمكان و أن يحاول الزوجان حلّها بتدبير و بما فيه مصلحة الاُسرة لكي لاتُهتك حرمة الاُسرة وتُفشى أسرارها. فقد وردت في القرآن الكريم التوصيات التالية: (وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .(1)

ويُفهم من هذه الآية، أنّ البخل والشحَّ من الأسباب التي تخلق الأزمات بين أفراد الاُسرة، و تدفعهم إلى التنازع والخِصام. و يمكن تبديد مثل هذه المخاطر بالإحسان والتقوى.

و أمّا إذا لم يفلح الزوجان في حلّ ما ينشب بينهما من اختلافات، فعليهما الاستعانة بالكبار من الأقارب لحلّها: (وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما...) .(2)

يجب أن تُبنى الحياة الأُسرية على التفاهم والانسجام. و لابُدّ من التضحية و ترك الأنانية في محيط الاُسرة أكثر و قبل أي مكان آخر. فقد عبّر القرآن الكريم عن أعضاء الاُسرة ب «النفس» حين قال: (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) (3) و بدلاً من أن يقول: سلّموا على بعضكم، قال: سلّموا على أنفسكم؛ أي أن الأشخاص الذين في البيت بمنزلة أنفسكم. فالأب، والأُم، والزوجة، والأولاد، والأُخ، والأخت، و كل عضو من أعضاء الاُسرة هم منكم وليسوا غرباء.

و مما ينبغي على الرجل أن لايتوانى و لايقصّر في أداء ما فرضه عليه اللّه من حقوق الأولاد والعِيال، و عليه أن يسعى لتلبية متطلّباتهم على قدر وسعه. و لايضيّع حقوقهم. قال الصادق عليه السلام: «كفى بالمر ء إثماً أنّ يضيّع مَن يَعولُ»(4) و عليه أيضاً أن يصبر على ما قد يصدر من بعض أفراد الاُسرة من أخطاء و أن يسعى إلى تقويمهم، و يحرص على تربيتهم

ص:259


1- سورة النساء (4)، الآية 128.
2- سورة النساء (4)، الآية 35.
3- - سورة النور (24)، الآية 61.
4- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 17، ص 68، الحديث 8.

تربية سليمة إضافة إلى تلبية متطلّباتهم والاهتمام بشؤونهم؛ فإنّه يُسأل يوم القيامة عنهم.

و قد أمر القرآن الكريم بما يلي: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً...) .(1)

لاشكّ في أنّ معاشرة الصبيان والشبّان والنساء لها أُسلوبها الخاص. فلكل رجل أو امرأة، أولاد يعيشون معهم، و عليهم معرفة كيفية تربيتهم و ما ينبغي تعليمه لهم، و عليهم أن يلبّوا الصحيح من مطاليبهم، و أمّا غير الصحيح منها فعليهم توعيتهم بأضراره و مساوئه.

فربُّ الاُسرة هو مطعمها و معلّمها و مديرها الذي ينبغي أن يسير بها قُدُماً و ينتهي بها إلى حسن الختام. و هذا طبعاً يعود عليه بثواب و فير من ربّه.

على الرجل أن يحترم زوجته. فقد ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «خَيرُكُمْ، خَيرُكُمْ لنسائه و أنا خيركم لنسائي»(2) و كان هو صلوات اللّه عليه خير الناس لأَهله.

الوالدان والأولاد

لاحترام الوالدين والإحسان إليهما أهمية بالغة. فقد جاء في القرآن الكريم: (وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) . (3) و احترام الوالدين قضية إنسانية وردت تأكيدات كثيرة عليها.(4) و قد روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حديث قال فيه: «و طاعتهما واجبة إلّافي ما فيه معصية للّه و لايحق للأولاد القيام حتى ببعض المستحبّات إلّابإذنهما» و قد أوصى اللّه خيراً بالوالدين خاصة في الكبر، فقال: (إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) . (5) و وردت في هذا المجال رواية عن الإمام جعفر الصادق قال فيها: «لو علم اللّه أدنى من أفٍ لنهى عنه، فهذا الحد هو أدنى أنواع العقوق، و من العقوق أيضاً أن ينظر الرجل إلى والديه بحدّة».(6) يجب على الولد ان

ص:260


1- سورة التحريم (66)، الآية 6.
2- الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 3، ص 443، الحديث 4538.
3- - سورة العنكبوت (29)، الآية 8.
4- - سورة البقرة (2)، الآية 83؛ سورة النساء (4)، الآية 36؛ سورة الأنعام (6)، الآية 151؛ سورة الإسراء (17)، الآية 23؛ سورة لقمان (31)، الآية 14؛ سورة الأحقاف (46)، الآية 15.
5- - سورة الإسراء (17)، الآية 23.
6- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 349، الحديث 7.

يكلّم والديه بإجلال و إكرام، و حتى عند الاحتضار والوصية عليه أن يخصص لهما مقداراً من ماله في الوصيّة. فقد جاء في القرآن: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) . (1) و عند الإنفاق على الفقراء تكون الأولوية للأب والأُم. (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ) .(2)

و مما يروى في هذا المجال «أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و قال: يا رسول اللّه، إنّي راغب في الجهاد، قال: فجاهد في سبيل اللّه، فإنك إن تُقتل كنت حيّاً عند اللّه تُرزق، و إن متّ فقد وقع أجرك على اللّه، و إن رجعت خرجت من الذنوب كما ولدت. فقال:

يا رسول اللّه، إنّ لي والدين كبيرين يأنسان بي و يكرهان خروجي. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أقِم مع والديك، فوالذي نفسي بيده لأُنسُهُما بك يوماً و ليلة خير من جهاد سنة».(3) و قال علي بن موسى الرضا عليه السلام: «إنّ اللّه أمر بثلاثة أشياء و قرن بها ثلاثة أُخرى و هي أنه أمر بالصلاة والزكاة معاً؛ فمن صلّى و لم يزكّ لاتُقبل صلاته، كما أمر تعالى بالشكر له و للوالدين، فالذي لايشكر والديه لايشكر ربّه...».(4) و روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه وصف النظر إلى الوالدين حُبّاً لهما بأنه عبادة.(5)

و من جانب آخر ينبغي أن يحترم الوالدان أبناءهما، و يسعيا في تلبية حاجاتهم. و لابد طبعاً من تعليم الأولاد، الآداب الدينية والاجتماعية، و تزويجهم و معاملتهم بالعدل. و هذه الأُمور من مسؤوليات الوالدين.

الأقارب

للأُسرة مفهوم واسع يشمل جميع الأقارب السبَبِيين والنَسَبِيين. والقرابة متى ما تحققت أوجبت للقريب حقاً. و من اللازم طبعاً رعاية الأولوية في درجات القربى. (وَ أُولُوا

ص:261


1- - سورة البقرة (2)، الآية 180.
2- سورة البقرة (2)، الآية 215.
3- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 160، الحديث 10.
4- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 3 من أبواب تحريم منع الزكاة، ج 9، ص 25، الحديث 25.
5- المجلسي، بحارالأنوار، ج 71، ص 84، الحديث 59 و 60.

اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ) . (1) والقرابة توجد حقّاً إلى درجة أنّ اللّه تعالى أباح تناول الطعام من بيت الأب أو الأُمّ أو الأخ أو الأخت أو العم أو العمّة أو الخال أو الخالة أو ما كانت مفاتيحه بيد الشخص.(2)

صِلةُ الرَحم

أفراد الاُسرة الكبيرة لايعتبرون في رأي الاسلام غرباء إذا كانوا متباعدين في مناطق سكناهم. و أفراد الاُسرة الواحدة أقارب و أعضاء في تلك الاُسرة حتى و إن غادروا تلك الاُسرة وتباعدت مساكنهم. وتقع عليهم مسؤوليات إزاء بعضهم، و يفترض أن يشاركوا بعضهم في السرّاء والضرّاء، و يطّلعوا على أحوال بعضهم. و لهذا طرحت في الإسلام قضية صلة الرحم، و وردت تأكيدات كثيرة عليها.

قال أميرالمؤمنين عليه السلام في الحثّ على صلة الرحم: «صِلوا ارحامَكُم ولو بالتسليم، يقول اللّهُ تبارك و تعالى: (وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ) (3)». (4) و روي عنه أيضاً أنه قال: «صِلُوا ارْحامَكم وَ انْ قَطَعوكُمْ».(5) و روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال:

«إنّ أفضل الناس في الدنيا والآخرة من يعفو عمن ظلمه، و يعطي من حرمه، و يصل من أقاربه من قطعه».(6)

و روي عن علي عليه السلام أنه قال: «أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، و أصلك الذي إليه تصير، و يدك التي بها تصول».(7) إنّ لصلة الأرحام أهمّية عظيمة، حتى أنّ تأثيرها يمتد إلى الآخرة و يوجب سهولة الحساب على الأعمال في موقف القيامة،(8) و أمّا

ص:262


1- - سورة الأنفال (8)، الآية 75؛ سورة الأحزاب (33)، الآية 6.
2- سورة النور (24)، الآية 61.
3- - سورة النساء (4)، الآية 1.
4- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 155، الحديث 22.
5- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 14 من أبواب جهاد النفس، ج 15، ص 223، الحديث 14.
6- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 96 من أحكام العشرة، ج 9، ص 10، الحديث 3.
7- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 31، ص 405.
8- - الطوسي، محمّد بن الحسن، تهذيب الأحكام، ج 9، ص 177، الحديث 14.

تأثيرها الدنيوي فهي تطيل العمر،(1) و على العكس من ذلك يؤدّي قطع الرحم إلى قصر العمر.(2)

الأخلاق الاجتماعية

اشارة

يمكن إيجاز الأخلاق الاجتماعية بأنها حسن معاشرة الآخرين. و يتألف القسم الأعظم من حياة الناس من علاقاتهم الإنسانية. وتكتسب العلاقة مع الآخرين أهمّيتها من جانبين:

تأثير العلاقة مع الآخرين على الإنسان نفسه، والحقوق التي تنشأ للآخرين على أثر تلك العلاقة، و خاصة المؤمنين منهم.

واحترام الإنسان لنفسه وللآخرين على رأس قائمة الأخلاق. و لاينبغي أن تطغى النزعات الذاتية والأهواء النفسية على العلاقات مع الآخرين، كأن يحاول الإنسان التباهي أو التكبّر على غيره.

و هناك أنواع أُخرى من السلوك الذي ينشأ من نزوات ذاتية و يؤدي إلى الإساءة إلى الآخرين وهضم حقوقهم. و هو طبعاً سلوك غير أخلاقي و لابُدّ من اجتنابه. بل إنّ بعض التصرّفات قد تستسيغها النفس، و لكنها تؤدّي بالنتيجة إلى الإساءة إلى الغير والمساس بحقوقهم. و هذا أيضاً مما ينبغي الاحتراز منه.

الاسلام يدعو المؤمنين إلى حسن المعاشرة و إقامة علاقات طيّبة في ما بينهم، و يبدو أنه من غير الصحيح أن يكون كل مؤمن مشغولاً بشؤونه الخاصّة و منقطعاً عن الآخرين، فاللّه تعالى لايحب هذه الصفة. فالتعاليم الدينية قد شرّعت على نحو يدعو إلى التواصل مع الآخرين، و هذا فضلاً عمّا في بعض الأحكام والفرائض من جانب اجتماعي كصلاة الجماعة، والحج، و دفع الفرائض المالية للمحتاجين و غير ذلك. و هناك تأكيدات كثيرة تحثّ على المشاركة في الحياة الاجتماعية والتزاور بين المؤمنين.

ص:263


1- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 150 إلى 157.
2- المصدر السابق، باب قطيعة الرحم، ص 346.

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «من زار أخاه في بيته قال اللّه عزّوجلّ له: أنت ضيفي و زائري».(1)

العزلة والتواصل

قد تكون للعزلة الاجتماعية نتائج مفيدة في السلوك الأخلاقي، إذ إنها تحول دون الكثير من الذنوب التي تقع عادة بين الجماعة كالغيبة والرياء، و لكنها في الوقت ذاته تحرمه من المعطيات الإيجابية للاجتماع، و لكن لو كانت العزلة هي الحل الوحيد لهروب الإنسان من الذنوب، و كان الإنسان لايجني من جرّاء وجوده في الوسط الاجتماعي إلّاالذنوب فعليه الابتعاد عن المجتمع جهد المستطاع.

يتعلّم الإنسان من خلال العلاقات الاجتماعية كثيراً من الأشياء و يستفيد من تجارب الآخرين، و يقدّم للآخرين ما لديه من معلومات. يتعلّم من الآخرين و يعلّمهم الأدب، و يفيدهم و يستفيد منهم. و هناك في الوسط الاجتماعي فرص كثيرة لأعمال الخير التي يمكن القيام بها والحصول على ثوابها. و في ضوء ما سبق ذكره فإنّ الإسلام يرجّح الروح الاجتماعية والتواصل على العزلة والابتعاد عن المجتمع، و لكنّه في الوقت ذاته حثّ المؤمنين على اجتناب آفات الاجتماع. إنّ مَن يعتزل المجتمع قد يبلغ مقامات معنوية رفيعة و يتخلّص - في الوقت ذاته - من الهواجس والمشاكل الاجتماعية، و لكنه يحرم نفسه قطعاً من فضيلة الجهاد في سبيل اللّه و خدمة الناس، و لا يحذو حذو الأنبياء والأولياء والأئمة. و هذه فضيلة كبرى يخسرها المعتزلون.

حُسْنُ الخُلق

ينبغي تنظيم العلاقات بين الناس الذين يعيشون إلى جانب بعض، بشكل لايسيء إلى المبادىء الإنسانية. و يفترض بالإنسان أن يعيش بين الناس بالنحو الذي وصفه

ص:264


1- المصدر السابق، ص 176 و 177، الحديث 6.

أميرالمؤمنين عليه السلام و هو أن يبكوا عليه إذا مات و يحنّوا إليه إذا عاش.(1) و وصف اللّه عزّوجلّ نبيّه بأنه على خلق عظيم: (وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) . (2) و جاء في حديث نبوي وصف حسن الخلق بأنه أفضل ما أُعطي للإنسان، و أنه من موجبات دخول الجنّة.(3)

و جاء في كلام للإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «ما مِن شيء أرجح من حسن الخلق عندما توزن الأعمال يوم القيامة».(4) و قال الإمام محمد الباقر عليه السلام «إنّ حسن الخلق علامة على كمال الإيمان».(5) و لاشكّ في أنّ الثمرة التي تُجنى من حسن الخُلق هي الأُلفة بين أفراد المجتمع.

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام في وصف حسن الخلق: «تُلينُ جانِبَكَ و تُطيبُ كلامَكَ و تَلقى اخاك ببِشرٍ حَسَن».(6) و مما ورد عنه عليه السلام أيضاً أنه قال «إنّ حسن الخلق من صفات الأنبياء».(7)

علاقة الأُخُوَّة والإيمان

يعتبر الإسلام المؤمنين إخوة. و قد أبدى اهتماماً كبيراً بعلاقاتهم في ما بينهم و حث على ذلك، و من جملة ما دعا إليه أن يكون هناك تآلف بين المؤمنين، و أن تزول كلُّ دواعي الأحقاد والجفاء.

قال أميرالمؤمنين عليه السلام في وصف طبائع الناس: «قُلُوبُ الرِّجَالِ وَحْشِيَّةٌ فَمَنْ تَأَلَّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ».(8) وتآلف المؤمنين نعمة إلهية عظمى جاد اللّه بها على رسوله: (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) . (9) و من خصائص المؤمن

ص:265


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 10، ص 470.
2- - سورة القلم (68)، الآية 4.
3- الفيض الكاشاني، المحجّة البيضاء، ج 3، ص 284.
4- - المصدر السابق، ج 3، ص 289؛ الديلمي، إرشاد القلوب، ج 1، ص 133.
5- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 68، ص 373، الحديث 1.
6- - الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 4، ص 295، الحديث 893.
7- المجلسي، بحارالأنوار، ج 71، ص 394، الحديث 17.
8- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 50، ص 477.
9- - سورة الأنفال (8)، الآية 63.

أنه يتآلف مع الآخرين و لايحبّذ العزلة والانزواء، و يخالط الآخرين و يتّصف بقوّة جاذبة لاطاردة. و قد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في وصف المؤمن: «المؤمن آلفٌ مألوف و لاخير في من لايألف و لا يؤلف».(1) و قد ورد أنّ الابتعاد عن الناس يؤدّي إلى العداوة و سوء الظنّ، و هذا ما بيّنه الإمام الباقر عليه السلام أو الإمام الصادق عليه السلام في قوله: «إنّ الانقباض عن الناس يُكسب العداوة».(2) و من الواضح أنّ المبادىء الأخلاقية في الاسلام تحثّ على التآلف بين المؤمنين بشتّى السُبُل والوسائل، و لهذا السبب جُعلت الأُخوة بين المؤمنين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) . (3) و جاء في حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «مثل الأخوين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأُخرى، و ما التقى المؤمنان قط إلّاأفاداللّه أحدهما من صاحبه خيراً».(4)

الموقف من المُنكَرات

كيف ينبغي التعامل مع المُنكَرات التي تؤدّي أحياناً إلى هضم حقوق أفراد المجتمع؟ فمن الطبيعي أنّ التغاضي عنها كثيراً ما يكون سبباً لتجرؤ البعض على ارتكابها من جديد، هذا من جهة، و من جهة أُخرى قد يؤدّي الوقوف بوجهها إلى سلبيات أو نزاعات، و هي طبعاً ممّا نهت عنه الشريعة.

هناك نوعان من التعليمات في ما يخص الوقوف بوجه مثل هذه الأعمال المُنكَرة. فمن جهة لاينبغي فسح المجال أمام من يحاولون انتهاك حرمة الآخرين والمساس بالجو الاجتماعي السليم. و من جهة أُخرى لدينا تعاليم دينية أُخرى تدعو إلى التغاضي عن أخطاء الآخرين. قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) .(5)

و جاء في آية شريفة أُخرى (وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) .(6)

ص:266


1- - الفيض الكاشاني، المحجّة البيضاء، ج 3، ص 285.
2- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 638، الحديث 5.
3- - سورة الحجرات (49)، الآية 10.
4- الفيض الكاشاني، المحجّة البيضاء، ج 3، ص 285.
5- - سورة المؤمنون (23)، الآية 96.
6- سورة فصلت (41)، الآية 34.

و جاء في أقوال الإمام علي عليه السلام ما يلي: «عاتِبْ أخاكَ بالاحسانِ إليه وَارْدُدْ شَرَّهُ بِالْاِنْعامِ عَلَيْه».(1) و جاء في كلام آخر له: إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكراً للمقدرة عليه.(2)

و من الواضح أنّ هذه التوجيهات كفيلة ببناء المجتمع من جهة و بتزكية نفس الإنسان من جهة أُخرى. فمقابلة إساءة الآخرين بالإحسان تتطلب نفساً كريمة وسموّاً في الشخصية.

أما ما هي الحالات التي تستدعي موقفاً حازماً و متشدداً؟ و ما هي الحالات التي ينبغي فيها التسامح؟ فهذا من الأُمور التي تستلزم كثيراً من النباهة والفطنة، و لكن القاعدة العامّة في التعامل مع الآخرين هي العفو والتسامح، بل ينبغي العمل بهذا السلوك جهد الإمكان لكي تسود الروح المعنوية في المجتمع، مع الابتعاد عن العناد و روح الانتقام. و حتى إذا كان سلوك الفرد سلبياً في الظاهر يجب حمله على وجه حسن. فقد جاء في حديث شريف «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه. و لاتظنن بكلمة خرجت من فم أخيك سوءاً و أنت تجد لها في الخير محملاً».(3)

و لكن رغم كل ذلك يجب ان لايفوتنا أنّ التغاضي عن المُنكَرات التي يرتكبها الأقوياء و ما يبدونه من خصال التكبر والتعدّي على الغير قد يدعوهم إلى الاستهتار والتمادي في الإثم والظلم. و في هذه الحالة لابُدّ من التصدّي لهم في إطار القواعد المقرّرة في هذا المضمار.

المحبّة

الإنسان مخلوق اجتماعي بالفطرة و يميل بطبعه إلى إقامة علاقات و محبّة مع الآخرين.

والحاجة إلى المحبّة واحدة من العوامل المؤثّرة في الحياة الاجتماعية. و هذا ما يدعو الناس إلى العيش إلى جانب بعضهم. و قد يكون هذا الشعور أحياناً على درجة من الشدّة بحيث يغيّر مسار حياة الإنسان كلياً.

ص:267


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 158، ص 500.
2- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 11، ص 470.
3- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 362، الحديث 3.

و في المقابل تبرز أيضاً خصال الحقد والعداء بين الناس بسبب دوافع شيطانية او أطماع مادية، و تدفع بهم نحو التناحر والنزاع. والاسلام يحثُّ الناس على المحبّة والمودّة، و يدعوهم إلى نبذ الأحقاد. قال نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم: «رأس العقل بعد الدّين، التودّد إلى النّاسِ واصطناع الخير إلى كلّ برٍّ و فاجر».(1)

لا يمكن طبعاً إنكار تأثير الناس على بعضهم تربوياً و أخلاقياً. فمن المعروف أنّ من العوامل المؤثّرة في التربية، الأصدقاء؛ إذ إنّ لهم تأثير بالغاً في صياغة شخصية الفرد. وهُناك حديث نبوي شريف يصف هذا التأثير و يقول إنّ الشخص على دين خليله، و على المرء أن ينظر إلى من يكون خليله.(2) لدى كل إنسان حاجة عاطفية للمحبّة والصداقة، حتى أنّ الأحاديث دعت إلى أن يتخذ المرء إخواناً و أصدقاء.

روي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: «عليكم بالإخوان فإنّهُم عُدّةٌ في الدنيا والآخرة؛ الا تَسمعُ إلى قولِ أهلِ النار فما لنا من شافعين و لا صديقٍ حميمٍ».(3)

و ورد أيضاً عن أميرالمؤمنين عليه السلام في سياق دعوته إلى عدم الإفراط في الحبّ والبغض ما يلي: «أَحْبِبْ حَبِيبَك هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَك يَوْماً مَا، وَ أَبْغِضْ بَغِيضَك هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَك يَوْماً مَا».(4)

و ينبغي بطبيعة الحال اجتناب مصادقة الفاسق، لِما في ذلك من انعكاسات سلبية و مضرّة. فمن لايخشى ربّه لايسلم صاحبه من شرّه. والمحبّة إذا لم تكن عن إيمان و إخلاص لا دوام لها. والفاسق يتخلّى عن صاحبه عند الشدّة والضيق. و على المؤمن مصادقة من هو على شاكلته. و كما قال لقمان الحكيم: «لا صداقة بين الذئب والكبش، و لا صداقة بين البر والفاجر»(5) قال تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ

ص:268


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 71، ص 392، الحديث 12.
2- - الفيض الكاشاني، المحجّة البيضاء، ج 3، ص 309.
3- المصدر السابق، ج 3، ص 289.
4- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 268، ص 522.
5- - الفيض الكاشاني، المحجّة البيضاء، ج 3، ص 312.

اَلدُّنْيا) (1) و قال تعالى أيضاً: (وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) .(2)

يجب أن يكون صديق المرء على شاكلته(3) و قد قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «لا يكونُ الصّديقُ صديقاً حتّى يَحفَظَ اخاهُ في ثلاثٍ: في نكبتهِ و غيبتهِ و وفاتهِ».(4)

على المؤمن أن يختار صديقاً كصديق أميرالمؤمنين عليه السلام الذي قال في وصفه: «كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّهِ وَ كَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ وَ كَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ فَلا يَشْتَهِي مَا لَايَجِدُ وَ لَايُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ وَ كَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَ نَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ وَ كَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابٍ وَصِلُّ وَادٍ لَايُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً وَ كَانَ لَايَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ وَ كَانَ لَايَشْكُو وَجَعاً إِلَّا عِنْدَ بُرْئِهِ وَ كَانَ يَقُولُ مَا يَفْعَلُ وَ لَايَقُولُ مَا لَايَفْعَلُ وَ كَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ وَ كَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ وَ كَانَ إِذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ يَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى فَيُخَالِفُهُ فَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْخَلائِقِ فَالْزَمُوهَا وَ تَنَافَسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِيرِ».(5)

أصدقاء السوء

أوصى الإمام علي عليه السلام ابنه الحسن المجتبى عليه السلام بما يلي: «يا بُني إياك و مصادقة:

1 - الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، و إياك و مصادقة 2 - البخيل فإنّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه. و إياك و مصادقة 3 - الفاجر فإنّه يبيعك بالتافه، و إياك و مصادقة 4 - الكذاب فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد، و يُعبد عنك القريب».(6)

و قال عليه السلام في موضع آخر: «واحذر صحابة من يفيل رأيه و يُنكر عمله، فإنَّ الصاحب

ص:269


1- سورة النجم (53)، الآية 29.
2- سورة لقمان (31)، الآية 15.
3- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 31، ص 403.
4- المصدر السابق، الحكمة 134، ص 494.
5- المصدر السابق، الحكمة 289، ص 526.
6- المصدر السابق، الحكمة 38، ص 475.

معتبر بصاحبه».(1) و قال أيضاً: «لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك»(2)

«مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان و محضرة للشيطان».(3)

الأصدقاء الصالحون

روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم إنّه قال: «يا روح اللّه من نجالس؟ قال: من يذكركم اللّه رؤيته و يزيد في علمكم منطقه، و يرغّبكم في الآخرة عمله».(4)

و أوصى الإمام علي عليه السلام ابنه محمد بن الحنفية (رضوان اللّه عليه): «و من خير حظ المرء قرين صالح، جالس أهل الخير تكُن منهم، و باين أهل الشر و من يصدّك عن ذكر اللّه عزّوجلّ و ذكر الموت بالأباطيل المزخرفة والاراجيف الملفّقة تَبِن منهم».(5) كما انّه أوصى أباذر (رضوان اللّه عليه): «جالس المساكينَ و عُدهُمْ إذا مَرِضوا و صلِّ عليهم إذا ماتوا واجعلْ ذلك مخلصاً».(6)

الكلام

الكلام وسيلة للتعبير عما في النفس من جهة، وللارتباط مع الآخرين من جهة أُخرى.

و من الطبيعي أنّ التعبير عن الآراء وسماع آراء الآخرين يفتح الباب أمام الناس لإقامة علاقات في ما بينهم. و عندما يُوظّف اللّسان للتعبير عن الحقائق بشكل صحيح، تُبنى العلاقات عند ذاك على الإخلاص والصدق. أمّا إذا اتُخذ اللسان وسيلة للمكر والخداع، فمن الطبيعي أن لاتكون العلاقات سليمة و قويمة. فهذه النعمة الإلهية الكبرى، إذا وضعت في خدمة الإنسان والأهداف الإلهية، فهي تقود الإنسان نحو الرُّقي والكمال، و لكن إذا كُرّست لِما يُخالف ذلك تُرديه في المهالك.

ص:270


1- - المصدر السابق، الكتاب 69، ص 459.
2- المصدر السابق، الكتاب، 31، ص 4.3.
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 86، ص 177.
4- الكليني، الكافي، ج 1، ص 39، ح 3.
5- - الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 4، ص 275 و 276.
6- النوري، ميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 6 من أبواب الاحتضار، ج 2، ص 78، الحديث 17.

قال رسول اللّه: «من وُقي شرّ قَبقبه و لَقلقه و ذَبذبه، فقد وُقي الشرّ كلّه».(1) و روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم «و ما يكب الناس على مناخرهم في النار إلّاحصائد ألسنتهم».(2) و أكّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على بيان أهمية اللِّسان و ما ينطق به، و أنّ شخصية كل إنسان تكمن في قوله وسلوكه، و أنّ ما يأتي على اللسان إنّما هو انعكاس لِما في القلب.(3)

و قال الإمام علي عليه السلام في وصف مدى أهمية الكلام: «كلام الرجل ميزان عقله»(4) أي يمكن قياس مدى رجاحة عقل أي شخص من خلال ما ينطق به من الكلام. و من الطبيعي أنّ الكلام المناسب في المقام المناسب دليل على العقل. قال أميرالمؤمنين «لسانُ العاقلِ وراءَ قلبهِ و قلب الجاهل وراء لسانه»؛(5) أي أنه يفكر في الموضوع أوّلاً ثم يتفوّه لاحقاً بالكلام المناسب الذي ينبغي الإدلاء به، في حين أنّ قلب الجاهل وراء لسانه؛ بمعنى أنه ينطق بالكلام من غير تروٍّ و تأمُّل. قال أميرالمؤمنين: «التروّي في القول يُؤمن الزلل»(6)

والملاحظة الأُخرى هنا هي أنّ الكلام كالدواء؛ قليله مفيد و كثيره قاتل. و ممّا ورد من الأقوال في هذا المضمار قول الإمام علي عليه السلام «إنّ قلة الكلام دليل على رجحان العقل».(7)

إنّ الأقوال تُسجل مثلما تسجّل الأعمال، و لابُدّ يوماً من أن يُسأل عنها الإنسان، إذ جاء في آية شريفة: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) . (8) كما حثّ القرآن الكريم في آيات كثيرة على حسن الكلام مع الناس مع اجتناب الكلمات اللاذعة والمؤلمة؛ لأنّ هذه الأساليب من حيل الشيطان التي يتّبعها لإثارة البغضاء والعداوات بين الناس.(9) و من المواثيق التي أخذها اللّه عزّوجلّ على بني اسرائيل: (وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً) . (10) واعتبر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لين الكلام ضرباً من العبادة حين قال: «إنّ من العبادة لين الكلام...».(11)

ص:271


1- - الديلمي، إرشاد القلوب، ج 1، ص 103.
2- - المصدر السابق.
3- إنّ الكلام لفي الفؤاد و انّما جعل اللّسان على الفؤاد دليلا
4- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 209، الحديث 4032.
5- - المصدر السابق، الحديث 4079.
6- - المصدر السابق، ص 375، الحديث 8.
7- المصدر السابق، الحديث 4083.
8- - سورة ق (50)، الآية 18.
9- - سورة الإسراء (17)، الآية 53.
10- - سورة البقرة (2)، الآية 83.
11- الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 215، الحديث 4210.

لعلّ أي عضو من أعضاء البدن لايقترف من الذنوب بقدر ما يقترفه اللسان؛ لأنّ اللسان يَجمَع من الذنوب الكذب، والنميمة، والسُباب، والجدل، و إيذاء الآخرين، والغيبة، و انتهاك الحرمات، والافتراء، والذم، و مدح الظالم، و إثارة الفتنة، و إشاعة الفحشاء، و كتم ما ينبغي قوله، و ترويج الباطل، والغناء، و هتك حرمات المؤمنين، والسخرية بالآخرين، و غير ذلك.

النميمة

نقل أقوال هذا و ذاك من شخص إلى آخر، بقصد إثارة الفتنة هو ما يسمّى بالنميمة، و هو طبعاً عمل مذموم. قال الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام: «مُحرَّمةٌ الجنّةُ على القتّاتينَ المشّائينَ بالنميمةِ».(1) فالنمّام عندما ينقل كلام الناس من أحدهم إلى الآخر يؤدّي طبعاً إلى زرع البغضاء بينهم. و قد أمر القرآن الكريم النبيّ صراحة (وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَهِينٍ * هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ) . (2) قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «إياكم والنمائم فإنّها تورث الضغائن».(3)

الغِيبة

إذا تكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه - حتى و إن كان صدقاً - سُمّي غيبة، و إن كان كذباً سُمّي بهتاناً.(4) و كذلك ذكر الشخص بما يتنقص منه و توبيخه بأشياء لايروق له أن تُقال له ممّا يعيبه به الناس، غيبة أيضاً.(5)

و قال الشيخ الأنصاري بعد ذكر آراء أهل اللغة في الغيبة و ما ورد فيها من الأحاديث:

الغيبة أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه.(6) و يمكن القول: إنّ أفضل تعريف للغيبة هو ما نقل عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ذِكْرُكَ اخاكَ بِما يَكْرَهه»،(7) يقول الراوي: سألت

ص:272


1- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 369، الحديث 2.
2- - سورة القلم (68)، الآيتان 10-11.
3- الآمدي، غرر الحكم، ص 242، الحديث 4454.
4- - الجوهري، صحاح اللغة، ج 1، ص 196.
5- الشهيد الثاني، كشف الريبة عن أحكام الغيبة، ص 51.
6- - الأنصاري، الشيخ مرتضى، المكاسب المحرمة، ص 41.
7- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 152 من أحكام العشرة، ج 12، ص 281، الحديث 9.

النبيّ إن كان ما قيل فيه؟ فقال: إن كان فيه فهو غيبة، و إن لم يكن فهو بهتان.

الغيبة من الذنوب التي نهى عنها القرآن صراحة في الآية الشريفة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) . (1) فكما يكره الإنسان أكل لحم الميتة، فلابّد أنه يكره الغيبة أيضاً. و ممّا يروى في ذم الغيبة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لما رجم رجلاً في الزنا، قال رجل لصاحبه. هذا أقعص الكلب. فمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم معهما بجيفة، فقال: انهشا منها. فقالا: يارسول اللّه ننهش جيفة؟ فقال: ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه.(2)

الغيبة مؤشّر يدلّ على ما يعانيه المُغتاب من مرض واضطراب نفسي. فالشخص الذي يغتاب الآخرين يشعر بنقص و يريد التعويض عنه. قال الإمام علي عليه السلام في هذا المعنى:

«الغيبةُ جُهْدُ الْعاجِز».(3) و نقل عنه أيضاً أنه قال: «طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاس».(4) و قال الإمام جعفر بن محمد عليه السلام قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «يا معشر من أسلم بلسانه و لم يخلص الإيمان إلى قلبه، لاتذمّوا المسلمين و لاتتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عوراتهم تتبع اللّه تعالى عورته، و من تتبع اللّه عورته يفضحه ولو في بيته».(5)

و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً: «كلّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ دمُهُ و مالُهُ و عِرضُهُ».(6)

من الطبيعي أنّ الغيبة لاتأتي عند جميع الأشخاص من منطلق واحد؛ فالبعض قد يغتاب عن حقد و بقصد استصغار الآخرين والحط من قيمتهم. بينما يغتاب آخرون بسبب الغفلة والجهل بالعواقب الدنيوية والأُخروية التي يلقاها المغتاب. و هناك أيضاً من الناس من يدركون طبيعة الإثم الذي يرتكبونه، و لكنّهم يحاولون بتبريرات واهية أن يُحلّوا لأنفسهم ما حرّمه اللّه؛ لذلك فهم يرتكبون بدل الإثم الواحد عدّة آثام. فقد يقولون - مثلاً - إنّ فلاناً تجوز غيبته، أو يقول المغتاب: إنني على استعداد لقول هذا الكلام أمامه، أو قد يقول:

ص:273


1- - سورة الحجرات (49)، الآية 12.
2- الفيض الكاشاني، المحجّة البيضاء، ج 5، ص 253.
3- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 461، ص 556.
4- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 176، ص 243.
5- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 354، الحديث 2.
6- الشهيد الثاني، كشف الريبة عن أحكام الغيبة، ص 52.

إنّ فلاناً فاسق و غيبته مباحة، بل ربّما يقول: إنّ غيبته واجبة. قال المرحوم الشهيد الثاني في كتاب كشف الريبة، ما يلي: «أقبح أنواع الغيبة ما تصدر من بعض أهل العلم؛ لأنَّ هؤلاء يظهرون كأَنّهم يجتنبون الغيبة و يغتابون عن هذا الطريق؛ فهم قد اقترفوا الغيبة والرياء في وقت واحد».(1)

و لكن لماذا تُستعظم الغيبة إلى هذا الحد؟ والجواب هو لأنّ المغتاب يستبيح إيمان المجتمع و روحه المعنوية، و يغرس في القلوب أحقاداً وعداوات. و هذا يعني أنه تعرّض لحق اللّه من جهة، و تعدّى على حق الناس من جهة أُخرى. و بهذا فإنّ المغتاب ينال من كرامة و حيثية إنسان آخر.

الغيبة من الذنوب التي تستلزم طلب العفو ممّن وقعت عليه الغيبة؛ لأنّ الغيبة ظلم له و لابُدّ من تلافي هذا الظلم بشكل أو آخر. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إنّ كفارة الغيبة هي أن تستغفر لمن اغتبته كلّما ذكرته».(2)

النفاق

النفاق هو أن يكون كلام الإنسان وسلوكه الظاهري خلاف ما يضمره في باطنه. مثلاً يمدح أحداً بلسانه و يضمر له العداء في قلبه، و يتملّق له في وجهه، و يغتابه وراءه. والمنافق يعاني من الحيرة و ازدواج الشخصية. عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «من لقي المسلمين بوجهين و لسانين جاء يوم القيامة و له لسانان من نار».(3) قال الإمام محمد الباقر عليه السلام:

«بئس العبد عبد يكون ذا وجهين و ذا لسانين».(4) و من أبرز صفات أهل النفاق، الرياء، والتظاهر بالزهد، والإيحاء بأنه على الحق، وتقديم النفس على الغير، و كثرة الكلام و قلّة العمل، والنميمة و إثارة الفتنة، يظهر لك صفاء الود و يظهر العداوة في غيبتك، الانتهازية.

والنفاق صفة شيطانية ذميمة. فإبليس جاء إلى آدم و حوّاء من باب النصيحة و أظهر لهما أنه

ص:274


1- المصدر السابق، ص 62.
2- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 357، الحديث 4.
3- - المصدر السابق، ص 343، الحديث 1.
4- - المصدر السابق، الحديث 2.

من الناصحين وخدعهما بنعومة اللّسان: (وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ) (1)

بينما كان في الباطن يضمر لهما العداء.

قال النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم في وصف المنافق: «إنّ المنافق كالجذع الأعوج الذي لايستقيم لصاحبه في البناء أينما يضعه، فيضطر صاحبه في آخر المطاف إلى إحراقه».(2) بينما الإنسان الذي غرس الإيمان في قلبه يجتنب النفاق؛ لأنّ النفاق حالة مرضية تُخرج المرء من حالة الاتّزان. والمنافق يعاني و يكابد بسبب نفاقه كما أنه يخرج المجتمع من حالة الصدق والشفّافية.

الكذب

من آفات اللسان، الكذب و قول ما يخالف الحقيقة. و لهذا فإنّ من واجبات اللسان اجتناب الكذب. قال الإمام محمد الباقر في بيان خطورة و قبح الكذب: «إنّ اللّه عزّوجلّ جعل للشر أقفالاً و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرٌّ من الشراب».(3)

و قال أيضاً في هذا المجال «إنّ الكذب خراب الإيمان».(4)

و لا فرق في الكذب بين صغيره و كبيره، و هذا ما بيّنه الإمام علي بن الحسين السجّاد عليه السلام حين دعا إلى اتقاء القليل والكثير من الكذب في الجد والهزل معلِّلاً ذلك بأن من يكذب في صغار الأُمور يجترىء في كبارها.(5)

السبّ

السبُّ واللّعن من الأعمال المنهي عنها، و لايجوز لأحد كيل السُباب والشتائم للآخرين تحت أية ذريعة كانت. و هذا النهي في ما يخص المؤمنين أشد، حيث جاء في حديث شريف أنّ من يسبّ مؤمناً كمن يشرف على الهلاك.(6) و نقل الإمام محمد الباقر عليه السلام عن

ص:275


1- - سورة الأعراف (7)، الآية 21.
2- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 396، الحديث 5.
3- - المصدر السابق، ص 339، الحديث 3.
4- المصدر السابق، الحديث 4.
5- المصدر السابق، ص 338، الحديث 2.
6- - المصدر السابق، ص 359، الحديث 1.

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حديثاً قال فيه: «سبابُ المؤمن فسوقٌ و قتالُه كفرٌ و أكلُ لحمهِ معصيةٌ و حرمةُ مالهِ كحُرمةِ دمهِ».(1)

السُباب من دواعي إيجاد الحقد والعداء. و ممّا جاء في هذا المجال حديث رواه الإمام الباقر و فيه أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و طلب منه أن يوصيه بأمر فيه خير فقال له النبيّ:

«لاتَسُبُّوا النّاسَ فَتَكْتَسِبُوا العَداوةَ بَيْنَهُمْ».(2)

التكبّر

التكبّر حالة نفسية يشعر فيها الإنسان بالأفضلية على غيره. و على الصعيد الاجتماعي يؤدّي التكبّر إلى زعزعة التوازن الذي يحكم السلوك الاجتماعي. و أمّا من الناحية الأخلاقية فهو يبعث على إيجاد الضغينة والكراهية ضدّ المتكبر. و على الصعيد الذاتي فالتكبّر يحجب المرء عن الرُّقي والتكامل، و لابُدّ من الإشارة إلى أنّ التكبّر يأتي كثمرة للعُجب،(3) و ينجم عن الشعور بالنقص. قال الإمام الصادق عليه السلام مبيّناً هذا الشعور:

«ما مِن رجل تكبّر أو تجبّر إلّالذلّةٍ وجدها في نفسه»(4) و قال الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في ما يخص التكبّر: «فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ فَأَلْصَقُوا بِالأرض خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَابْتَلاهُمْ بِالْمَجْهَدَة».(5) و جاء في القرآن الكريم في ذم الكبر: (إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) .(6)

و دعا الإمام جعفر الصادق عليه السلام إلى اجتناب الكِبر مبيّناً بأن هذه الصفة «رداء اللّه، و كل

ص:276


1- المصدر السابق، ص 360، الحديث 2.
2- المصدر السابق، الحديث 3.
3- - الراغب الاصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ص 697.
4- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 312، الحديث 17.
5- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192، ص 290.
6- سورة النساء (4)، الآية 36.

من ينازع اللّه رداءه يرديه و يذلّه يوم القيامة».(1) و قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم «لا يدخل الجنة من كان في قلبه كبر ولو بمقدار حبّة خردل».(2) والإنسان يتكبر عادة حينما يكون غافلاً عن حقيقة حاله و عن بدايته و نهايته، و أنه لو التفت إلى أنّ أوّله نطفة و آخره جيفة و هو عاجز عن جلب الرزق لنفسه أو دفع الحتف عنه، لَما تكبّر.(3)

و كان أحد أسباب طرد إبليس من رحمة اللّه تكبّره على آدم. و هناك في العالم الكثير من الشياطين(4) و لكن اللّه ذكر أكثرهم تكبّراً و غروراً. كما يوجد بين الناس كثير من العلماء الذين يسيرون بأهوائهم و لايعملون بعلمهم، و لكن ذُكر منهم بلعم بن باعوراء و علماء اليهود الذين لايطبّقون ما لديهم من علم.

كان سبب معصية إبليس لأمر اللّه و عدم السجود لآدم هو تكبّره.(5) و قال أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً في بيان مدى خطورة الكبر: إنّ اللّه قد أحبط ما كان قد فعله آدم من عمل طويل وجهد جَهيد عن كبر ساعة واحدة. إذاً فمن الذي يكون في أمان من عذاب اللّه بعد إبليس فيما لو ارتكب معصية كمعصيته؟ «مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً».(6) و خلاصة الكلام هي أنّ التكبر يدفع الإنسان إلى تجاهل الحقيقة والامتناع عن العبادة(7) و تكذيب آيات اللّه(8) و مخالفة الأنبياء(9) و مواجهة الحق بعناد و تعصّب.(10)

ص:277


1- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 58 من أبواب جهاد النفس، ج 15، ص 376، الحديث 9.
2- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 2، ص 141، الحديث 1.
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 454، ص 555.
4- - سورة الأنعام (6)، الآية 112.
5- - سورة البقرة (2)، الآية 34؛ سورة ص (38)، الآية 74.
6- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192.
7- - سورة النساء (4)، الآيتان 172-173.
8- سورة الأعراف (7)، الآيات 36 و 40.
9- سورة الأعراف (7)، الآيات 75 و 76 و 88؛ سورة نوح (71)، الآية 7.
10- سورة الأحقاف (46)، الآية 10.

الحَسَد

الحَسَدُ مرض نفسي ينبغي الاستعاذة باللّه منه: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ *... وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) . (1) قال بعض المفسرين: إنّ اللّه تعالى قد جمع كل الشرور في هذه السورة ثم ختمها بالحسد ليُعلم أنه أخَسُّ الطبائع.(2) والحسد نار تحرق العلاقات الإنسانية ويُثير الفتنة بين الناس. والسبب الآخر الذي منع إبليس من السجود لآدم حسده لمقامه. و هذه الصفة الذميمة هي التي انتهت به إلى معصية أمر ربّه، فعجز عن إدراك أنّ الموجود الترابي يمكن أن يصل إلى مقام يكون لديه فيه علم بالأسماء و تسجد له الملائكة.

كان الحسد هو السبب في إراقة دم أوّل إنسان بريء في عالم الخلقة حين حسد قابيل أخاه هابيل و كان ذلك هو السبب في قتله. و قد أمر اللّه عزّوجلّ النبيّ أن يتلو هذه القصّة على الناس ليعرفوا مدى فضاعة الحسد التي يدفع الناس حتى إلى القتل: (وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) . (3) و قد شبّه الإمام الصادق عليه السلام الحسد بالنار، و قال: إنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب.(4) و قال الإمام علي عليه السلام في النهي عن الحسد: «دع الحسد والكذب والحقد، فإنّهن ثلاثة تشين الدّين و تهلك الرجل».(5)

الغضب

القوّة الغضبية من نعم اللّه الكبرى التي أودعها في الإنسان ليكون على استعداد للدفاع

ص:278


1- - سورة الفلق (113)، الآيات 1 و 2 و 5.
2- - الطبرسي، مجمع البيان، ج 5، ص 569.
3- - سورة المائدة (5)، الآيات 27-30.
4- - الكليني، الكافي، ج 2، ص 306، الحديث 2.
5- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 55 جهاد النفس، ج 12، ص 23، الحديث 17.

عن دينه و ماله و عرضه. و هذه الخصلة تحفّز الإنسان على الحركة، و تدفع عنه الكسل والتهاون، و لكنّ هذه الخصلة إذا لم تضبط في حدودها تؤدّي بالمرء إلى الانتقام والحقد والتنازع. قال الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ الغضب شعلة يضرمها الشيطان في قلب الإنسان».(1)

يجب محاربة الغضب الذي يحصل من أجل منافع دنيوية و لأغراض ذاتية. و ينبغي طبعاً عدم الغضب على الضعفاء والبائسين؛ لأنّ مثل هذا الغضب يزيل الإيمان، و يفكّك عرى الصداقة. روى الإمام الصادق عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حديثاً قال فيه: «الغضب يُفْسِدُ الإيمان كما يُفْسِدُ الخلُّ العسل».(2) فالكثير من الجرائم والجنايات مصدرها الغضب. و هذا هو السبب الذي جعل كظم الغيظ من الصفات النبيلة التي يتّصف بها المتقون: (وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّاءِ وَ الضَّرّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النّاسِ وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .(3)

و روي الصدوق عن شيخ من أهل اليمن عن عبدالرزاق يقول: جعلت جارية لعلي بن الحسين عليهما السلام تسكب الماء عليه و هو يتوضّأ للصلاة، فسقط الابريق من يد الجارية على وجهه فشجه فرفع علي بن الحسين عليه السلام رأسه إليها. فقالت الجارية: ان اللّه عزّوجلّ يقول:

(وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) ، فقال لها: قد كظمت قالت: (وَ الْعافِينَ عَنِ النّاسِ) قال لها:

قد عفى اللّه عنك، قالت (وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال: اذهبي فأنت حرة.(4)

و روي عن الإمام الباقر قوله: «مكتوبٌ في التوراةِ... يا موسى! أَمسِكْ غضبَك عمّن ملّكتُك عليه أُكفُّ عنك غضبي».(5)

و قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام سمعت أبي يقول: جاء أعرابي إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و قال له:

أنا من أهل البادية فعلّمني ما فيه جوامع الكلم. فقال له النبيّ: أُوصيك أن لاتغضب، فأعاد الأعرابي المسألة ثلاث مرّات والنبيّ يقول له: لاتغضب.(6) و قال الإمام الصادق عليه السلام أيضاً:

ص:279


1- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 304 و 305، باب الغضب، الحديث 12.
2- - المصدر السابق، ج 2، ص 302، الحديث 1.
3- سورة آل عمران (3)، الآيتان 133 و 134.
4- بحارالأنوار، ج 46، ص 68، الحديث 36.
5- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 303، الحديث 7.
6- - الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 15، ص 359، الحديث 7.

كان أبي يقول: أيّ شيء أشد من الغضب؟! فإنّ مَن يغضب يقتل النفس التي حرّم اللّه و يرمي المحصنة بالزنا.(1)

و ذكر الغضب عند الإمام الباقر عليه السلام فقال: إذا غضب الرجل و هو قائم فليجلس، و إذا غضب على ذي رحم فليقترب منه و يلمسه فإنَّ الرحم إذا مسّت سكنت.(2) و من المفيد أثناء الغضب أن ينشغل الغاضب في شيء آخر ليحوّل فكره عما غضب من أجله و يغيّر من حالته إلى أن يسكن الغضب. قال الإمام علي عليه السلام: «وَ تَجَرَّعِ الْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً وَ لَاأَلَذَّ مَغَبَّةً».(3) و قال في موضع آخر: «وَاحْذَرِ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيسَ».(4)

العصبية

العصبية: من العُصبة (ذو رحم من الأب) و هي بمعنى الدفاع والنصرة للأقارب. والعصبة جماعة متعاضدة يحمي بعضُها بعضاً.(5) والعصبية هي الدفاع عن شخص بسبب التماثل في اللّون أو اللّغة، أو العرق، أو الفئة الاجتماعية. و هذا يعني أنّ العصبية بعيدة عن أُسس العدل والإنصاف، و أنّ مؤدّاها الظلم، بينما العلاقات الاجتماعية يجب أن تُبنى على الحق والعدل.

و هذا يعني أنّ العصبية تتنافى مع مبادىء الإنسانية والتعاليم الدينية. و هذا يفرض على المسلم أن لايبني سلوكه على العصبية.

يدعو القرآن الكريم إلى القيام بالقسط والشهادة بالحق ولو على النفس أو الوالدين أو الأقارب.(6) والتعصّب يبعث على العمل بما يخالف العدالة. و ورد في هذا المعنى حديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال فيه: «من تَعصَّبَ أو تُعُصّبَ لَه، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإيمان مِنْ عُنُقِه».(7)

ص:280


1- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 303، الحديث 4.
2- - المصدر السابق، ص 302، الحديث 2.
3- - الشريف الرضي، نَهج البلاغة، الكتاب 31، ص 403.
4- المصدر السابق، الكتاب 69، ص 459.
5- - الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 568.
6- - سورة النساء (4)، الآية 135.
7- المصدر السابق، ص 307، الحديث 1.

الحلم

الحِلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغَضب. و قال البعض: إنه بمعنى العقل؛ لكونه من مسبَّبات العقل. وسُمّي زمان البلوغ حُلُماً لكون صاحبه جديراً بالحلم(1) والحليم من يتأنّى عند خطأ غيره و لايتعجّل في عقوبته. والحليم من صفات اللّه (وَ إِنَّ اللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) . (2) و ذكرت هذه الصفة للنبي إبراهيم في موضعين في القرآن.(3)

قال الإمام علي عليه السلام: إنّ أول عوض يتلقّاه الحليم عن حلمه أنّ الناس يناصرونه على الجاهل.(4) و قال أيضاً في موضع آخر: «الْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيه»؛(5) لأن الحليم بسلوكه النبيل يرغم الجاهل على الصمت في مقابله. و قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام في بيان صفات الشيعة: «خمش البطون و ذبل الشفاه و أهل ورع و علم و حلم».(6) و قال أيضاً في بيانه لِما ينبغي أن يتّصف به من يبغي الحج إلى بيت اللّه الحرام «كان أبي يقول: ما يُعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: خلق يخالق به من صحبه و حلم يملك به غضبه و ورع يحجزه عن محارم اللّه عزّوجلّ».(7) و روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يكمل المؤمن في إيمانه إلّاأن تكون فيه ثلاث خصال: حلم يردعه عن الجهل،...».(8)

و قال أميرالمؤمنين عليه السلام: إن لم تكن حليماً فعليك بالتحلّم؛ فإنه نادراً ما يتشبّه أحد بقوم إلّا يوشك أن يكون منهم.(9)

ص:281


1- - الراغب الاصفهاني، مفردات إلفاظ القرآن، ص 253.
2- سورة الحج (22)، الآية 59.
3- راجع: سورة التوبة (9)، الآية 114؛ وسورة هود (11)، الآية 75.
4- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 206.
5- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 211، ص 506.
6- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 233، الحديث 10.
7- - الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 2، ص 273، باب ما يجب على المسافر في الطريق، الحديث 2424؛ الكُليني، الكافي، ج 4، ص 285، الحديث 1؛ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 5، ص 445، الحديث 195.
8- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 26 من أبواب جهاد النفس، ج 11، ص 288، الحديث 6.
9- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 207، ص 506.

العفّة

العفّة: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة،(1) و هي تعني اجتناب التحلل والتهتّك. والعفّة تدعو المرء إلى ترك الصفات البذيئة و كل ما هو قبيح من القول والفعل والتغلّب عليها. والعفّة والحياء مصدران لمحاسن الصفات، و رادعان عن كل ما هو مستقبح.

و من أبرز مصاديق العفّة ضبط الشهوة الجنسية و عدم السماح لها بالامتداد إلى خارج ما رسمته لها الشريعة. إذ لايفلح من ترك عنان شهوته. و يبيّن القرآن الكريم أنّ أبرز صفات المؤمنين العفّة: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ... وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ...) . (2) و أجدر من ينبغي له أن يتّصف بهذه الصفة، العزّاب الذين لايتيسّر لهم الزواج، و ذلك في قوله تعالى: (وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .(3)

و أبرز أبطال العفة والطهارة الذين ذكرهم القرآن هو النبيّ يوسف عليه السلام الذي اجتمعت فيه السيرة الملكوتية والسيرة الملائكية، و كان يتّصف بجمال ظاهري و باطني. فهو كان في الظاهر غلاماً من غلمان البلاط، و لكنّه كان في واقع الحال أكثر تحرراً من أيّ حرّ. و قد أُلقي في السجن الذي اختاره بنفسه مرجّحاً إياه على حريّة مصحوبة بالإثم الذي دعته إليه زوجة عزيز مصر و نساء البلاط. و كان ردّه على ما دعته إليه زوجة عزيز مصر أن قال:

(مَعاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) .(4)

و من مظاهر العفّة اجتناب النظر الحرام، و عدم النظر إلى الأجنبية بريبة و شهوة؛ لأن النظر بشهوة - كما قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم - سهم من سهام إبليس.(5) و قال عليه السلام: «و كم من نظرة أورثت حسرة طويلة».(6)

ص:282


1- - الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 573، مادة «عف».
2- - سورة المؤمنون (23)، الآيات 1-3؛ سورة المعارج (70) الآيتان 29-30.
3- سورة النور (24)، الآية 33.
4- سورة يوسف (12)، الآية 23.
5- - الصدوق، من لايحضره الفقيه، باب ما جاء في النظر إلى النساء، ج 4، ص 18، الحديث 4969.
6- الكافي، ج 5، ص 559، الحديث 12.

و من صفات المسلم العفّة والطهارة؛ عفّة النظر، و طهارة الذيل، والعفّة في مراعاة شروط الزينة و ظُروفها. و في الوسط الاجتماعي الذي تهتك فيه حجب العفّة، لابدّ من أن تُخترق أسوار حياء أفراد المجتمع. و لاشكّ في أنّ معالم المجتمع الإسلامي في علاقاته الاجتماعية، و خاصة العلاقة بين الرجل والمرأة، ينمّ عن وقار و حياء و رزانة و عفّة و تحرّز من أيّ قول أو فعل مثير للشهوة. و لابُدّ من أن يكون الكلام واللّباس والسلوك الاجتماعي معبّراً عن عفّة و حياء باطني.

جاء في القرآن الكريم خطاب لأزواج الرسول صلى الله عليه و آله و سلم يحثهُنّ على التقوى و عدم الخضوع في القول: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (1) ناهياً إيّاهن من التبرّج (وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) . (2) كما يسرد القرآن أيضاً قصّة بنت شعيب عليه السلام التي أرسلها أبوها لدعوة النبيّ موسى للقدوم إليه، مبيّناً ذلك بقوله: (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) .(3)

و هناك مجالات أُخرى ينبغي التزام العفّة فيها، و هي المجالات المالية والعلاقات الاقتصادية؛ و منها أن لايجاهر المعوز بعوزه، بل عليه أن يتعفّف و يحافظ على عزة نفسه، و لايبدي حاجته أمام كل أحد. جاء في القرآن الكريم: (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً) .(4)

الإحسان

التعاون في الحياة الاجتماعية من الضروريات. وتقديم العون للآخرين هو ما يُسمّى بالإحسان. و هذه الكلمة مشتقة من «الحسن» بمعنى العَمل الجميل والصالح. و كل عمل جميل سواء جاء على شكل تقديم الخير والمعونة المالية أو القيام بأعمال خيرية أُخرى يُسمّى إحساناً. والإحسان يمثّل ذروة التكافل الاجتماعي لمعالجة المشاكل المالية أو الإنسانية للمجتمع. والإسلام لايحبّذ للمسلم التقوقع على ذاته والاهتمام بأُموره الذاتية

ص:283


1- - سورة الأحزاب (33)، الآية 32.
2- - سورة الأحزاب (33)، الآية 33.
3- سورة القصص (28)، الآية 25.
4- سورة البقرة (2)، الآية 272.

فحسب، مع عدم الاهتمام بما يجري حوله، أو يتجاهل ما يدور في بيئته الاجتماعية و لايبدي أيّ رد فعل إزاء ذلك.

غالباً ما تحمل الارشادات الاجتماعية جانباً اجتماعياً. و هي تحمل بين ثناياها دلالات على أنّ الإسلام قد فَرَض على المسلم المبادرة إلى أعمال الخير والمشاركة في إصلاح شؤون المجتمع. فما حثّ عليه الإسلام من إحسان، و برٍّ، و أمر بالمعروف و نهي عن المُنكَر، ورحمة، ورأفة، و تعاون على الخير، و مساعدة المحرومين والفقراء والمحتاجين، و إنفاق، و صدقة، يُصب كُلّه في مسار تأمين الحاجات الاجتماعية للناس. و مؤدّاه بالنتيجة تحسين وضع المجتمع. و على العموم فالإحسان من المبادىء الأساسية في التعاليم الدينية والتربوية، و قد أمر اللّه تعالى بالعدل والإحسان.

قال تعالى في كتابه الكريم: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) .(1)

و معنى هذا ليس أنّ الفرد إذا عمل صالحاً لاتعود فائدته على الآخرين فقط، بل إنّ فائدة عمله الصالح تعود عليه، هذا فضلاً عما يجنيه من أجرٍ معنوي. و إضافة إلى ما ذُكر فإنّ محبّة المحسن تنغرس في القلوب، علاوة على أنه لايلقى حسداً أو حقداً و عداءً من أحد. و إذا واجهته مشكلة لايجد نفسه وحيداً إزاءها. و لابُدّ من الإشارة طبعاً إلى أنّ الإحسان يجب أن يكون لوجه اللّه و لنيل رضاه، و أن يكون أيضاً بعيداً عن الإسراف والتبذير.

التراحم والمودّة

من أبرز صفات اللّه صفة الرحمن والرحيم. قال تعالى في القرآن: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (2) و هو يحب أن تكون هذه الصفة في عباده. قال نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللّهَ عزّوجلّ رَحيمٌ و يُحِبُّ كلَّ رَحيمٍ».(3) و وصف اللّه تبارك و تعالى في القرآن الكريم النبيّ بالرحمة، قائلاً: (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ، (4) و وصفه في موضع آخر بأنه

ص:284


1- - سورة الإسراء (17)، الآية 7.
2- - سورة الأنعام (6)، الآية 54.
3- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 71، ص 394، الحديث 16.
4- - سورة الأنبياء (21)، الآية 107.

حريص على المؤمنين و بهم رؤوف رحيم: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) . (1) إنّ الأُسلوب الذي مارسه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في التعامل برأفة ورحمة مع أُناس كانت الغلظة والقسوة جزءاً من طبيعتهم، أدّى إلى أن يصنع منهم أُناساً مؤمنين و يتّصفون بالرأفة والرحمة.

فالرحمة والمودة التي غمرهم بها النبيّ، كانت باعثاً على ازدهار مكارم الأخلاق والفضائل الإنسانية فيهم.

ممّا أوصى اللّه به المؤمنين أن يتبعوا أُسلوب الرأفة والرحمة في التعامل مع عباده. روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «من لايَرْحم لايُرحَم».(2)

و قال الإمام الصادق عليه السلام في هذا المجال: «تَواصَلوا و تَبارُّوا و تَراحَمُوا و كونوا إخْوةً بَرَرةً كما امَرَكُمُ اللّه».(3) و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «وقروا كباركم وارحموا صغاركم».(4)

و هذا طبعاً يستدعي مزيداً من الاهتمام خاصة بشؤون غير القادرين على العيش الكريم فهؤلاء ينبغي أن يحصلوا على مزيد من الرعاية والاهتمام.

المداراة

المداراة تعني السلوك الذي يتسم بالرأفة واللين مع الآخرين. و هذه الصفة من الأُمور ذات الأهمية البالغة في العلاقات الاجتماعية؛ أي كيف ينبغي التحدث مع الآخرين والتعامل معهم بحيث تكون أجواء الحياة هادئة و بعيدة عن التناحر والجدال.

إن أساس التعاليم الأخلاقية في الأديان السماوية مبني على الرأفة والمودّة وحُب الخير للآخرين. نذكر على سبيل المثال أنّ فرعون ادّعى الأُلوهية و كان ظالماً و مستبداً وسفاحاً إلى أبعد الحدود، و لكن اللّه بعث إليه موسى و هارون عليهما السلام عسى أن تؤثر فيه الدعوة

ص:285


1- - سورة التوبة (9)، الآية 128.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 19 من أبواب المواقيت، ج 4، ص 197، الحديث 16.
3- - المصدر السابق، الباب 124 من أحكام العشرة، ج 12، ص 216، الحديث 3.
4- المصدر السابق، الباب 18 من أحكام شهر رمضان، ج 7، ص 227، الحديث 20.

المعنوية: (... فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) . (1) و ممّا ورد في هذا المعنى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «اَعْقلُ النّاسِ اشَدُّهم مُداراةً للنّاس».(2)

و روي عنه أيضاً أنه قال: «مُداراةُ الناس صدقةٌ».(3) والصدقة لاتقتصر على العون المالي فحسب، بل حسن الأخلاق، والبشاشة، و مداراة الناس هي أيضاً نوع من الصدقة.

فلو قدّمت مالاً لفقير و لكن بأُسلوب يتسم بالغلظة والأذى، لَما كانت لهذا العمل قيمة.

جاء في القرآن الكريم: (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى) . (4) و يأمر اللّه نبيّه بما يلي: (وَ إِمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) .(5)

نقل أحد أصحاب الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه سمعه يقول: إنّ المؤمن لايكون مؤمناً إلّاإذا كانت فيه ثلاث خصال: و إحدى هذه الخصال أن تكون لديه سنّة من نبيّه و هي مداراة الناس امتثالاً لأمر اللّه تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ) .(6)

روى الإمام الصادق عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «مُداراةُ النّاسِ نِصْفُ الإيمان والرِّفْقُ بِهِم نِصفُ الْعَيْشِ»(7) فالشخص إذا كان حاد المزاج وسيّىء الأخلاق فإنّه يجعل الحياة مرّة بالنسبة إلى نفسه و إلى غيره. والإنسان الغشوم المجرّد من العواطف لايغرس في الأنفس سوى العنف والقسوة و لايحصد طبعاً غير الحقد والعداء. يقول الإمام علي بن أبي طالب: «مَنْ لانَ عُوْدُهُ كَثُفَتْ اغْصانُه».(8) بمعنى أنّ صاحب الأخلاق الدمثة لديه قدرة على اجتذاب كثير من الأصدقاء، و لايبقى وحيداً أبداً في منعطفات الحياة، على خلاف سيّىء الطباع الذي لايرغب أحد في الاقتراب منه. يروى في هذا المضمار أنّ آخر وصايا

ص:286


1- - سورة طه (20)، الآية 44.
2- الصدوق، معاني الاخبار، باب معنى الغايات، ص 196، الحديث 1؛ من لايحضره الفقيه، ج 4، ص 282، الحديث 836.
3- - نهج الفصاحة، ص 566، الحديث 2736.
4- - سورة البقرة (2)، الآية 264.
5- سورة الإسراء (17)، الآية 28.
6- سورة الأعراف (7)، الآية 199. والكليني، الكافي، ج 2، ص 241، الحديث 39.
7- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 117، الحديث 5؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 121 من أحكام العشرة، ج 12، ص 201، الحديث 5.
8- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 214، ص 507.

الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام أنّ الرفق بعباد اللّه أحبّ الأُمور إلى اللّه؛ لأنه ما مِن أحد يرفق بآخر في الدنيا إلّايرفق اللّه به يوم القيامة.(1)

والمؤمن ينبغي أن يتعامل مع الناس بوجه بَشوش و طلاقة محيا. فقد ورد في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام أمر أن يلقى المؤمن اخاه بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ.(2)

و قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «ابذل لأخيك دمك و مالك، و لعدوّك عدلك و إنصافك، و للعامّة بشرك و إحسانك».(3)

آداب المعاشرة

نجاح الإنسان في الحياة يعود قسم منه إلى المجتمع، و يتوقّف على كيفية علاقته بسائر الناس. فمن المهم بالنسبة لنا أن نعرف كيف نتعامل مع الناس؟ و كيف نحترمهم و نكون على بيّنة من مسؤوليّتنا إزاءهم؟ و أن لانعتبر أنفسنا بمعزلٍ عنهم. و انطلاقاً من هذه الرؤية فقد وردت في التعاليم الإسلامية وصايا تعتبر من مكمّلات الأخلاق، و فيها عون للإنسان في الحياة، و هذا ما يفرض عليه طبعاً العمل بها. نذكر من ذلك مثلاً أنه من المناسب أن يسلّم المؤمن على من يلقاه. و هذا العمل بحدّ ذاته مستحب و لكن جوابه واجب(4) و قال الإمام الصادق عليه السلام إنّ البخيل هو من يبخل بالسلام.(5) و من محاسن الأخلاق الاجتماعية أيضاً البِشْر؛ إذ قال الإمام الصادق عليه السلام في بيان أهميته أنّ هناك ثلاثة أشياء من أتى بواحدة منهنَّ وجبت له الجنّة و هي: الإنفاق من إقتار، والبشر لجميع الناس، والإنصاف مع الناس(6) كما وردت تأكيدات كثيرة تحثّ على المصافحة فقد قال الإمام محمد الباقر عليه السلام: إنّ المؤمنين إذا التقيا وتصافحا أدخل اللّه يده بين أيديهما.(7) و هذا يعني بأن حسن التعامل مع الناس

ص:287


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 13، ص 294، الحديث 8.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 12، الباب 107 من أحكام العشرة، الحديث 2.
3- الحرّاني، تُحف العقول، ص 212.
4- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 644، الحديث 1.
5- - المصدر السابق، ص 645، الحديث 6.
6- - المصدر السابق، ص 103، الحديث 2.
7- - المصدر السابق، ص 179، الحديث 2.

يوجب رضا اللّه و يكون مدعاة للنجاح في الحياة.

و من محاسن الأخلاق الاجتماعية أيضاً الصدق مع الناس واجتناب الكذب. و دعا الإمام الصادق عند بيانه لأهمية هذه الخصلة إلى عدم النظر إلى طول سجود الرجل وركوعه، لأنه ربّما اعتاد على هذه الممارسة و يستشعر الوحشة إذا تركها، و لكن انظروا إلى صدقه في الحديث و أدائه للأمانة.(1)

ينبغي طبعاً التعامل مع الآخرين بإنصاف؛ و أن نحبَّ للآخرين ما نحبّ لأنفسنا. روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك، و مواساة الآخر في اللّه، و ذكر اللّه عزّوجلّ على كل حال».(2) و في الوقت الذي يمدّ فيه الإنسان يد العون للآخرين عليه أن يستغني عنهم و لايمد يد الحاجة إليهم. و هذه الخصلة أشار إليها الإمام محمد الباقر عليه السلام حين بين أنّ اليأس مما في أيدي الناس عزّ للمؤمن في دينه.(3) و في الوقت ذاته ينبغي أن يهتم المؤمن بأُمور المسلمين و لايعتزلهم، امتثالاً لقول رسولنا صلى الله عليه و آله و سلم: من أصبح و لم يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم.(4) و يُفترض طبعاً المبادرة إلى قضاء حاجات المؤمنين و معالجة مشاكلهم، خاصة إذا كان هناك اختلاف بينهم؛ إذ ينبغي الإسراع إلى حلّه.

كما يتعيّن أيضاً اجتناب الجدل والمنازعات الفارغة؛ لأنّ مثل هذه الممارسات تؤدّي إلى مرض القلب و غرس النفاق في النفوس.(5)

أخلاق الأُمراء والمسؤولين

اشارة

إحدى الخصائص التي تتميّز بها التعاليم الإسلامية في ما يخصّ أخلاق المسؤولين، فضلاً عن آليّة الرقابة الخارجية على أعمالهم، والتأكيد على حقّ الانتخاب والنقد، هي أنّ

ص:288


1- المصدر السابق، ص 105، الحديث 12.
2- - المصدر السابق، ص 145، الحديث 7.
3- - المصدر السابق، ص 149، الحديث 6.
4- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 18 من أبواب فعل المعروف، ج 16، ص 336، الحديث 2.
5- الكليني، الكافي، باب المراء والخصومة، ج 2، ص 300.

فيها وصايا و توجيهات أخلاقية للمسؤولين؛ لكي يكون لديهم وازع ذاتي و اندفاع نحو تهذيب الأخلاق و بناء الذات. إذ ينبغي على المسؤولين و أصحاب المناصب أن يضعوا نصب أعينهم على الدوام فى سلوكهم أمرين:

الأوّل: ضبط ميولهم و أهوائهم النفسية، مع الحرص على أن لاتأتي أفعالهم من باب الانسياق وراء الأهواء النفسية. و إذا رأوا أنّ بعض الأعمال ينطلق من رغبات و نوازع نفسية، فعليهم اجتنابها. روي أن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: «اَجَلُّ الاُمَراءِ مَنْ لَمْ يَكُن الهوى عَلَيْهِ اميراً».(1)

الثاني: نظراً إلى وجودهم في مواقع مؤثّرة و حسّاسة، فعليهم اجتناب كل ما مِن شأنه هدر حقوق الناس. و عليهم أن لايفعلوا - و إنّ كان بشكل غير مباشر - ما يترك تأثيراً سلبياً في سلوك الناس، مثل الإكثار من الكماليات، و إطلاق أيدي أفراد الاُسرة والأقارب لاستغلال المقدرات العامّة لأغراض شخصية و ما شابه ذلك.

و في ضوء ذلك و بما أن المسؤولين معرضون لاستغلال مواقعهم و مناصبهم، و يحتمل منهم أكثر مما يُحتمل من غيرهم من الناس، و قد يصدر منهم استعمال القوّة ضدّهم والإجحاف بحقّهم، لذلك يجب عليهم أن يراقبوا سلوكهم أكثر من غيرهم: «قلوبُ الرّعيةِ خَزائنُ راعيها فَما اوْدَعَها من عدل او جور وجده».(2)

و نظراً إلى حساسية موقع المسؤولين و تأثيرهم في الناس، و لما كانوا أقدر من غيرهم على استغلال مناصبهم، وهم معرضون للانحراف والانزلاق أكثر من سائر الناس، فقد تضمّنت التعاليم الدينية - فضلاً عن الإرشادات العامّة الواردة لكل الناس - وصايا خاصّة بهم. و جاءت عن المعصومين عليهم السلام تعاليم و وصايا أخلاقية للمسؤولين، و هي تتناسب بطبيعة الحال مع الآفات التي غالباً ما تُبتلى بها هذه الشريحة. لقد قدّم الإمام علي عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر رضوان اللّه عليه وصايا في تهذيب النفس، قبل أن يقدّم له وصايا في

ص:289


1- الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 340، الحديث 7782.
2- المصدر السابق، ص 346، الحديث 7982.

شؤون الولاية والحكومة؛ و ذلك لأنّ المسؤول الحكومي يجب أن يكون مهذّباً حتى يستطيع تهذيب الناس. فالكثير من الناس يقتدي بالمسؤولين. والحاكم طالما لم يصلح نفسه، لايستطيع اصلاح الآخرين: «من نَصَبَ نفسَهُ للنّاسِ إماماً فَلْيبدأ بتَعْليم نَفْسِهِ قبلَ تعليمِ غيرِهِ وليَكُنْ تأديبُهُ بسيرتهِ قبلَ تأديبهِ بِلِسانهِ و مُعَلِّمُ نفسِهِ و مُؤدّبها احَقُّ بالاِجْلالِ من مُعَلّمِ النّاس و مُؤَدّبِهِمْ».(1)

عَزى أميرالمؤمنين عليه السلام سقوط الدول إلى عدّة أسباب حين قال: «يستدلُّ على إدبار الدوَلِ بأربعة: تضييعُ الأُصول، والتمسُّك بالغرور، و تقديمُ الأراذل و تأخيرُ الأفاضل».(2)

نستعرض في ما يلي مجموعة من الملاحظات المهمّة التي ينبغي على المسؤولين الالتزام بها في سلوكهم و أخلاقهم:

1 - الصفح

المسؤولون و أصحاب المناصب الحكومية يكون موقعهم في صدارة الأُمور، و لهذا السبب فإنَّ الناس يعقدون عليهم الكثير من الآمال، و لكن حين يشعر الناس أنّهم لا ينجزون لهم أعمالهم، أو أنهم يهدرون حقوقهم، فمن المحتمل أن يغضبوا عليهم و حتى قد يشتموهم. و على المسؤولين والمتصدّين لزمام الأُمور أن يصفحوا عمّا يصدر من الناس من أخطاء تجاه الحُكّام، و أن يسامحوهم عليها. فمن المساوىء التي قد تلحق بالمسؤولين على الدوام هي التعدّي والطغيان والتعامل مع الناس بقسوة.

قال الإمام علي عليه السلام: «اَقْبَحُ افْعالِ المُقْتَدرِ الانتقام».(3) و كأَنّ الإمام يريد أن يقول بكلمة أُخرى: إنّ الصفح عن خطأ المخطىء أمر محمود. و هو يقول لمن يظفر بالمسيء إليه: إن أوْلى الناس بالعفو أقدرهم على الانتقام ممّن أساء إليه.(4) و يقول أيضاً في موضع آخر:

ص:290


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 73، ص 480.
2- الخوانساري، جمال الدّين، شرح غُرَر الحِكَم، ج 6، ص 450 و 451، الحديث 10965.
3- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 346، الحديث 7952.
4- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 52، ص 478.

«العفوُ زينُ القُدرة».(1) و هو يقول في عهده إلى مالك الاشتر إنّ الناس «يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَ الْخَطَإ».(2) و يواصل الإمام كلامه هذا بالقول: «فاَعْطِهمْ من عَفْوِك و صَفْحِكَ مِثْلَ الّذي تُحبُّ أن يُعطيكَ اللّهُ من عَفْوِهِ و صَفْحِهِ». صحيح انّك حاكم على الناس و مسلّط عليهم، و لكن فوقك الذي ولّاك، واللّه فوق الوالي الذي ولّاك.

و جاء في مقطع آخر مما عهد به عليه السلام إلى مالك الاشتر (رضوان اللّه عليه) إنّ ظُلم الرعية حرب على اللّه. «و لاتَنْصِبنَّ نفسَكَ لِحَربِ اللّه».

إنَّ ظلم أي أحدٍ من الناس و خاصة المسلم، بمثابة حرب على اللّه. و أنت لا طاقة لديك لدفع غضب اللّه و انتقامه، و بالنتيجة تصيبك المسكنة والذلّة في مقابل غضب اللّه. و أنت لايمكن أن تستغني أبداً عن رحمة اللّه. إذاً طالما أنت بحاجة إلى عفو اللّه ورحمته و مغفرته، عليك أن تعامل الرعية الذين تحت يدك بالعفو والرحمة. و عليك ان لاتندم على العفو، و لايدخل عليك السرور لمعاقبة أحد.(3)

احد الأُمور التي تؤكد عليها التعاليم الدينية هو العفو عن سلوك الجاهلين، و عمّن لايراعون حقّ الحكّام، و يتصرّفون معهم بأُسلوب مُهين. جاء في القرآن الكريم خطاب موجّه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و هو: (خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) . (4) و جاء في موضع آخر: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) .(5)

و جاء في حديث مروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنّه قال: «أما علمت أنّ امارة بني أُمية كانت بالسيف والعسف والجور و إنّ إمارتنا بالرفق والتألف والوقار والتقية و حسن الخلطة والورع والاجتهاد، فرغِّبوا الناس في دينكم و فيما أنتم فيه».(6)

ص:291


1- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 342، الحديث 7815.
2- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 53.
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 53، ص 428.
4- سورة الأعراف (7)، الآية 199.
5- سورة آل عمران (3)، الآية 159.
6- - الصدوق، الخصال، باب السبعة، ص 354 و 355، الحديث 35.

ابرز موانع العفو والصفح هو الخشية من إصرار المخطىء على خطئه أو المجرم على جُرمه، و هذا ما يؤدي عادة إلى ثني الحاكم عن العفو. و قد ورد في رواية عن الإمام محمد الباقر عليه السلام إنّه قال: «النَّدامةُ عَلَى العَفْوِ افْضَلُ وَ ايْسَرُ من النَّدامَةِ عَلَى العُقُوبة».(1)

و من الأخلاق الحسنة الأُخرى التي ينبغي أن يتحلّى بها المسؤولون هي التغافل والتغاضي عن إساءات و مخالفات الأفراد لحقوق الحكومة. و كذلك التواضع للناس والابتعاد عن الكبر والغرور والاستبداد و ما شابه ذلك.

2 - تهذيب النفس

تهذيب النفس صفة ينبغي أن يسعى إليها كل الناس. و بما أنّ من يتبوّأون مواقع حساسة يحظون عادة بإقبال جماهيري، أو تكون تحت تصرّفهم مقدّرات هائلة، معرّضون أكثر من غيرهم لوساوس النفس والشيطان، فلابّد أن تكون المسؤولية الملقاة عليهم في تهذيب أنفسهم أكثر من المسؤولية الملقاة على غيرهم. الناس كلّهم معرّضون في كل لحظة للوقوع في منزلقات الأهواء. و كما ذكرنا أنّ الإمام عليّاً عليه السلام قال: «اَجَلُّ الاُمَراءِ مَنْ لَمْ يَكُنِ الهوى عَلَيْهِ اميراً».(2) فعلى مَن يتحمّلون مسؤوليات اجتماعية ان يسيروا بحذر و انتباه لكي لايقعوا عند أداء واجباتهم الاجتماعية في منزلقات تجعلهم يقترفون خيانة أو خشونة بدلاً من خدمة الناس، فيكون ذلك مدعاة للخسران في الآخرة. قال الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر: «و إذا احْدَثَ لكَ ما انتَ فيهِ من سُلطانِك ابّهةً او مَخيلةً فانْظُرْ إلى عِظَمِ مُلكِ اللّهِ فَوقَك». واذكر أن سلطان اللّه فوق سلطانك. و أنت مخلوق اللّه و حياتك و موتك بيده.

وانظر إلى عظمة ملك اللّه، و لاتنسَ أن اللّه قادر على ما عندك أكثر من قدرتك. و أنت إذا ذكرت عظمة اللّه اضمحلت في نفسك دواعي الغرور والكِبر، وتبددت منك الحِدّة. فالكبر والغرور يستشري في النفس عند غياب العقل؛ إذ إن العاقل يعلم أنه لا شيء، و أنه مجرد

ص:292


1- الكليني، الكافي، ج 2، ص 108، الحديث، ص 108، الحديث 6.
2- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 340، الحديث 7782.

مخلوق للّه، والعقل لايُرخي لصاحبه زمام الجموح، و لكن استذكار عظمة اللّه يعيد إلى ناظريك ما غاب عن عقلك.

ثم قال: «ايّاك و مُساماةَ اللّه في عَظَمَتِهِ»، و مثلما ترى اللّه كبيراً تستكبر و تحاول مضاهاة اللّه في عظمته، و عليك أن لاتكون كما قال فرعون (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) . (1) و تتشبّه بما للّه من عظمة وجبروت. و إذا عرضت عندك هذه الحالة من الكبر فإنَّ اللّه يذلّك «فإنّ اللّه يُذلُّ كلَّ جبّار و يُهينُ كلّ مُختال».(2)

أوصى الإمام علي عليه السلام مالك الأشتر في عهده إليه ان يلجم نفسه عند الشهوات، و أن يخضعها لإرادته فيما إذا حاولت التمرد والعصيان؛ لأن النفس تأمر بالسوء والفحشاء.

فهو عليه السلام يقول له: عليك أن تشحّ بنفسك عما لايحل لك؛ لأن هذا النوع من الشُحّ إنصاف منها في ما أحبَّت أو كرهَت.(3) في بعض الأحيان قد تكره النفس شيئاً ممّا لايتماشى مع مشتهاها، و لكن يكون فيه خير؛ فالإنسان يكره الحرب مثلاً و لاترتاح نفسه للوقائع المؤلمة والمريرة، و لكن هذه الأُمور قد تكون ضرورية لنضجه و كماله. قال تعالى في كتابه الكريم:

(وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ) .(4)

3 - مداراة الناس

الغاية الأساسية من وجود الحكومة هي نظم أُمور الناس و إصلاح أُمورهم. والحكومة لم تُجعل من أجل السيادة على الناس والتسلط عليهم، بل للتخطيط لإدارة شؤونهم و توفير الأمن والمعاش لهم. و انطلاقاً من ذلك يجب على الحكومة أن تسعى لتلبية الحاجات المشروعة للناس و كسب رضاهم.

قال أميرالمؤمنين عليه السلام مخاطباً مالك الأشتر: «وَلْيَكُنْ احَبُّ الأُمور الَيْكَ اوْسَطَها فِي الْحقّ وَ اعَمّها فِي الْعَدْلِ وَ اجْمَعَها لِرِضَى الرَّعِيَّة». و كلّما كان الناس راضين عنك أكثر

ص:293


1- - سورة النازعات (79)، الآية 24.
2- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 53، ص 428.
3- - المصدر السابق.
4- سورة البقرة (2)، الآية 216.

كان ذلك أفضل: «فاِنَّ سُخْطَ الْعامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخاصَّةِ وَ انَّ سُخْطَ الْخاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضىَ الْعامَّة».(1)

الحكام يسعون عادة إلى ضمان مصالحهم و مصالح الجماعة المحيطة بهم. و في هذه الحالة يثيرون سخط عامّة الشعب. و أما إذا سعى الحاكم إلى كسب رضا عامة الشعب، فلابّد أن يؤدّي ذلك إلى سخط المقرّبين والأصدقاء، و لكن أي هذين الخيارين أفضل؟ لاشكّ في أن من مصلحة الشعب والحاكم أن يكسب رضا الناس حتى و إن كان في ذلك إثارة لسخط المقربين. و تعليل ذلك هو أن الشعب إذا سخط و ثار على الحاكم فسيؤدي ذلك إلى ذهاب رضا المقربين، و لكن إذا رضي الشعب فلن يكون لسخط المقرّبين من ضرر.

في الظروف العادية يشكل المقرّبون من الحكام أثقل الناس عبئاً عليهم، و في الظروف العصيبة يكونون أقل الناس نصرة لهم. فإذا كان ثقل الشؤون الاجتماعية والدينية يقع على عامّة الناس، فلابّد أن ينصبّ الاهتمام والرعاية عليهم دائماً. و على الحاكم أن يرجّح رضا العامّة على رضا المقرّبين إليه.

على الحكومة أن تُلبّي المطاليب المشروعة لأبناء الشعب، و أن تُبدي محبتها لهم، فالمحبّة تستميل قلوب الآخرين. والإنسان يحرص عادة على أن يكون محبوباً و موضع اهتمام. و إذا رأى الإنسان محبّة من أيّ موجود كان فإنّه يميل إليه. و هذا ما يفرض على الحكّام إبداء المحبّة لأبناء الشعب من أجل كسب تأييدهم ورضاهم.

كتب أميرالمؤمنين عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر، ما يلي: «وَ اشْعِرْ قَلْبَك الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَةِ وَالمَحبّةَ لهم واللُّطفَ بِهِمْ». و مؤدّى هذا الكلام هو أن لاتكون محبّتك للناس في الظاهر فقط، أو تكتفي بمجرّد الادّعاء بالدفاع عنهم و حماية مصالحهم، بل ينبغي أن تنطلق هذه المحبّة والاحترام من أعماق القلب؛ و ينبغي عدم المتاجرة باسم الشعب للمصلحة الخاصّة.

و يجب أن تكون محبتك للشعب غير منفصلة عنك، و كأن تكون كالثياب الداخلية الملصقة بالبدن، و أن لاتكون هناك فاصلة بينك و بين الشعب.

ص:294


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 53.

ثم يبيّن الإمام في سياق كلامه الأخلاق التي ينبغي أن يتحلّى بها المسؤولون و يقول:

«و لاتكوننّ عليهم سبُعاً ضارياً تَغْتَنم أكلَهُم فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدّين و إمّا نظير لك في الخلق». فأنت إنسان، والمواطن إنسان أيضاً، و ينبغي أن لايكون سلوك الناس مع بعضهم كسلوك الحيوانات مع بعضها.

يتعيّن على المسؤولين الحكوميين عدم الاكتفاء بالتقارير للاطّلاع على مشاكل الناس، بل عليهم تخصيص جزء من وقتهم للاطلاع على الأوضاع و على آراء الناس عن كثب.

و هذا يؤدي إلى الاطّلاع على مشاكل الشعب و معاناتة من جهة، و يؤدّي من جهة أُخرى إلى إعطاء أبناء الشعب شخصية وجعلهم يشعرون بأن الحكومة منهم، و هذا ما يدفع أبناء الشعب بطبيعة الحال إلى مؤازرة الدولة على سَدِّ النواقص.

كتب أميرالمؤمنين عليه السلام في عهده إلى مالك الاشتر يحثُّه على أن يخصّص جزءاً من وقته لمقابلة من لديه حاجة من الناس، و دعاه أيضاً إلى أن يجلس هو شخصياً للاستماع إليهم و أن يتواضع للّه ويُبعد عنهم جنده و حرسه لكي تكون لهؤلاء الناس حريّة في الكلام.

و يشترط أيضاً أن يكون هذا المجلس خالياً من مظاهر الأُبّهة بحيث لا يتجرّأ أحد من الناس على الكلام.(1)

و كان أميرالمؤمنين عليه السلام قد ألقى في صفين خطبة قال فيها: إنّ اللّه جعل لي حقّاً عليكم بما توليتُ من أمركم وجعل لكم حقاً علي. والذي يسترعي الانتباه في هذا الكلام هو التأكيد على الحقوق المتبادلة بين الحاكم والشعب. و قال في سياق كلامه أيضاً: «فَلَيْسَتْ تَصْلحُ الرّعيةُ الاّ بِصَلاحِ الوُلاةِ و لاتَصْلحُ الوُلاةُ إلاّ بِاسْتِقامَةِ الرَّعيةِ...».

4 - رفض التملّق و اجتناب سيرة الجبابرة

و من التعاليم الأخلاقية الأُخرى التي ينبغي أن يتّصف بها المسؤولون هي الحيلولة دون شيوع ثقافة التملّق في المستويات العليا لإدارة البلاد. و هذا ما يفهم بكل جلاء من خلال سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والإمام علي عليه السلام في مدّة حكومته القصيرة.

ص:295


1- المصدر السابق، الكتاب 53، ص 439.

حينما أكثَرَ أحدُ أصحابه من مدحه والثناء عليه، مبدياً استعداده للطاعة، تحدّثَ عليه السلام ضمن كلام له قال فيه: «فَلا تُكَلِّمُوني بِما تكلّم به الْجَبابِرة و لاتَتحفَّظوا منّي بما يتحفّظ به عِنْد اهْلِ البادرة». أي يجب أن لايكون سلوككم معي مصطنعاً، و لاتظنوا أنني استثقل سماع كلمة الحق، و لااريد أن تعظّموني و تتحفّظوا منّي؛ لأن كل من يثقل عليه سماع الحق و دعوة العدالة، لابُدّ و أن تطبيق الحق و إجراء العدالة سيكون عليه أثقل و أشد، و على هذا فعليكم أن لاتتورعوا عن قول الحق والدعوة إلى العدل، فأنا لست أكبر من أن أُخطِىء، و لا أنا في عملي مصون من الخطأ، إلّاأن يكفيني اللّه نفسي، فهو أقدر عليها مني.(1)

يضع الحكام عادة حاجزاً من التشريفات بينهم و بين أبناء الشعب. و بهذا يجعلون لأنفسهم مكانة متميّزة عن سائر الشرائح الاجتماعية، و يعتبرون أنفسهم أعلى منزلة من الشعب، و ليس الشعب إلّاتحت أيديهم وعبيداً لهم، و يرى البعض أن واجب أبناء الشعب هو خدمة الحكّام والتضحية من أجلهم. و هذه الممارسات تؤدّي بالتدريج إلى غرس آثار سلبية في الحكام و تجعلهم يعتقدون أنهم ظل اللّه في الأرض. والإسلام طبعاً يعارض هذا المنهج الذي يجعل للطبقة الحاكمة امتيازات، و يضعها بمعزل عن الشعب، و يجعلها فوق المساءلة. إنَّ مقام: «لايُسئلُ عمّا يفعل»(2) خاص باللّه وحده. فالإسلام قد أزال الحدود والفواصل المصطنعة بين الناس، و علّمنا أنّ الحُكم ليس بالإكثار من الأُبّهة و مظاهر السلطة المُترفة. والحُكم ليس بالاستيلاء على الأموال العامّة بشكل أو آخر، و لا هو السلب والنهب لصالح الحاكم و بطانته. و إنّما تقع على الحاكم واجبات يجب أن يؤدّيها بصفته أميناً للأُمّة.

عندما كان أميرالمؤمنين عليه السلام متوجِّهاً إلى محاربة معاوية في صفين، مرَّ بمدينة الأنبار، فاستقبله دهاقنتها و أهاليها و ترجّلوا و أسرعوا بين يديه. فقال لهم: ما هذا الذي تفعلونه؟ قالوا خلق منا نعظّم به امراءنا. فقال لهم:

واللّه ما ينتفع بهذا امراؤُكم و إنكم لتشقون به على انفسكم في دنياكم و تشقون به في

ص:296


1- المصدر السابق، الخطبة 216، ص 248 إلى 333.
2- - إشارة إلى الآية الشريفة: (لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ) سورة الأنبياء (21)، الآية 23.

آخرتكم؛ و ما أخسر المشقّة وراءها العقاب، و أربح الدَعة وراءها الأمان من النار.(1)

و كتب عليه السلام في كتاب إلى أحد ولاته: «فَاخْفِضْ للرعيّة جَنَاحَكَ وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ».(2) نحن نعلم أن ما يفعله الحاكم له تأثير مباشر على المقرّبين منه، و على الشرائح الاجتماعية الأُخرى. فإذا كان الحاكم مسرفاً و مبذّراً، فلابّد أنّ الآخرين يسيرون بهذه السيرة أيضاً.

إنَّ وَهْمَ العظمة ينبغي أن لايدفع الحاكم إلى التعامل مع الناس بوجه مُكفَهرّ و بأُسلوب الزجر. ورد في كتب التاريخ أن عبداللّه بن عباس لَمّا أصبح والياً على البصرة أخذ يتعقّب من ناصروا طلحة والزبير في معركة الجمل، و يضيّق عليهم، فبعث إليه أميرالمؤمنين عليه السلام كتاباً جاء فيه: أرِبْع بما جرى على لسانك من خير أو شرّ.(3) من الواضح أنَّ لكلٍّ مِن المداراة والخشونة موضعه المناسب. و ليس هناك تأكيد على واحد منهما بشكل مُطلق. والمهم هو تطبيق كل واحد منهما في موضعه.

وصرّح عليه السلام في موضع آخر: حين يعتبر اللِّين ضعفاً يجب استبداله بالشدّة. أي ينبغي التصرّف بلين مع الناس، و لكن إذا استُغِلَّ اللِّين، لابُدّ من انتهاج أُسلوب آخر. قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «إذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً»(4) و حتى عندما ضربه أشقى الأشقياء، أوصى ابنه و هو على فراش الموت: «إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وَ إِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي وَ إِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ وَ هُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ فَاعْفُوا أَ لاتُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ».(5)

و بعد فتح مكّة سار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع أصحابه إلى حُنين، و غنموا في تلك المعركة غنائم كثيرة من المشركين، فأعطى النبيّ قسماً كبيراً منها لأشراف قريش - كأبي سفيان و أمثاله - ممّن شاركوا في تلك المعركة تأليفاً لقلوبهم ورداً للفتنة.(6)

ص:297


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 37، ص 475.
2- - المصدر السابق، الكتاب 46، ص 420 و 421.
3- - المصدر السابق، الكتاب 18، ص 375.
4- - المصدر السابق، الكتاب 31، ص 402.
5- المصدر السابق، الكتاب 23، ص 378.
6- ابن هشام، السيرة النبوية، ج 4، ص 139.

5 - كتمان السرّ

على الحكومة أن تكتم ما تعرفه وتطّلع عليه من أسرار الناس. فلا يحق للحاكم انتهاك حرمات الناس والإساءة إلى كرامتهم و مكانتهم الاجتماعية من خلال الكشف عمّا في يده من وثائق و مستمسكات بشأنهم. بل و ينبغي أن يتعامل بشدّة وصرامة مع المأمورين الذين يسعون للتنقيب عن معايب الناس لجمعها كمستمسكاتٍ ضدّهم، و أن لايسمح لأحد بالكشف عن أسرار الناس بذرائع مختلفة واتّخاذها مستمسكات توجّه كحراب ضدّهم.

كتب أميرالمؤمنين عليه السلام في عهده إلى مالك: «وَلْيَكُنْ ابْعَدُ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَ اشنَؤُهُمْ عِنْدَكَ اطْلَبَهُمْ لِمَعايِبِ النّاس».(1) لأنّ مثل هذا الشخص يتجاهل محاسن الناس، و يتشبّث بنواقصهم و عيوبهم، و يسعى إلى تقبيح المجتمع بنظر الحاكم. و من الطبيعي إنّ الناس غير معصومين و فيهم الكثير من المعايب، والحكام أوْلى من غيرهم بسترها. فالحاكم كالوالد بالنسبة إلى أبناء الشعب، و عليه أن يحرص على كتمان أسرارهم.

6 - اجتناب الغضب

من الطبيعي إنّ كل الناس ملزمون بكظم ما لايكون في موقعه من الغضب. و لاشكّ في أنّ المسؤولين و أصحاب السلطة والنفوذ أوْلى من غيرهم بالعمل بهذه الوصية؛ لأنّ الغضب ينتابهم أكثر من غيرهم، و لأنّهم أكثر قدرة من غيرهم على ممارسة هذا الغضب، و ذلك لشعورهم بالقدرة على تنفيذ ما يشاؤون بكلِّ سهولة. و عندما تكون لدى الإنسان إلى جانب هذه الغريزة قوّة وسلطة، فإنَّ نار الغضب تشتعل فيه أكثر من غيره. فصاحب السلطة متعطّش إلى ممارسة سلطته، و يميل إلى الانتقام من معارضيه. و قد جاء في الأحاديث وصايا تحثّ أصحاب السلطة والحُكّام على الاتّصاف بالتحمّل وسعة الصدر(2) و أوصى

ص:298


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 53.
2- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 342، الحديث 7825.

أميرالمؤمنين عليه السلام عبدَ اللّه بن عباس حينما عيّنه والياً على البصرة، بعدم الغضب، قائلاً:

«اِيّاك وَالْغَضَبَ فإنّه طَيرَةٌ منَ الشيطانِ».(1)

و جاء في عهد أميرالمؤمنين عليه السلام إلى مالك الاشتر ما مضمونه: إيّاك والغضب في ما يمكن اجتنابه من الغضب، و عليك بكظم غيظك. فالغضب والحدّة قد يأتيان بسبب شعورك بأنك حاكم ولك اليد الطولى و يجب أن تُطاع، و تريد أن تُمارس سلطانك و إمرتك على الرعية، و من لايُطيع يُعاقب باعتباره متمرداً على الأوامر الحكومية، و لكن يجب أن لاتكون لأنك بهذه الطريقة تُفسد قلبك، و يزداد تعاليك و كبرك على الناس، مما يؤدي بالنتيجة إلى ضعف إيمانك. والحكومة التي تتعامل مع شعبها بقسوة و شدّة، و تسجن و تعذّب لأتفه الأسباب، لن يُكتب لها الدوام، بل يطالها التغيير والتبدّل.

7 - اجتناب الكِبْر

الرذيلة الأُخرى التي قد يتّصف بها أصحاب المقام والسلطة هي التكبر والتباهي.

فالإنسان مجبول - إذا لم يهذّب نفسه - على الشعور بالكِبْر بمجرّد أن ينال أدنى قدر من القوّة والإمكانات. يقول القرآن: (كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) .(2)

و جاء في مضمون حديث شريف: إنَّ أحوال الإنسان تتغير في ثلاثة مواقف، أي إنّ معظم الناس يتغيّرون في هذه الظروف: الأوّل إذا أُوكلت إليه مسؤولية، والثاني عند الاقتراب من صاحب مسؤولية و منصب، والثالث عندما يتحسّن وضعه المالي. و من لم تغيّره هذه الحالات الثلاث فهو يتّصف برجاحة العقل، وثبات الأخلاق.(3) إنّ عواقب الكبر والغرور وخيمة بالنسبة إلى جميع الناس، و هو على الحُكّام والمسؤولين أشدّ و أخطر. و إذا كان الحاكم لايؤمن بالآخرة و لايسعى لها، و لايبالي فليس من مصلحة حُكْمه

ص:299


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 76، ص 465.
2- سورة العلق (96) الآيتان 6-7.
3- - الخوانساري، جمال الدّين، شرح غُرَر الحِكَم، ج 2، ص 546، الحديث 2133.

الدنيوي أيضاً أن يتعامل مع الناس بغرور، و يتصور أنّهم كائنات جاهلة، و أنه هو عبقري العالم كلّه. و من الطبيعي ان مثل هذه الحكومة لاتعير أيَّ اعتبار لشعبها، و ترى نفسها الفارس الوحيد الذي يصول و يجول في الميدان، و تُقدم على كل ما ترتئيه من غير مبالاة، و هكذا فإنّها تضع نفسها عرضة للمخاطر.

روي عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: «آفَةُ الرّياسَةِ، الفَخْر»(1) و قال أيضاً: إنّ لكل شيء زكاة وزكاة السلطان الإنصاف.(2) و على أيّة حال يتعيّن على المسؤول أن يدرك بأنَّ السلطة مثلما جاءت إليه يوماً ستذهب عنه يوماً. قال الإمام علي عليه السلام في هذا المجال:

«الدولةُ كما تُقْبِل تُدْبِر».(3) و على كل مسؤول أن يرعى حاله قبل أن يرعى الوقوف إلى جانب الآخرين: «حقّ على الملك انْ يَسُوسَ نَفْسَهُ قَبْلَ جُندِه».(4)

8 - سعة الصدر

سعة الصدر معناها أن تكون لدى المرء مقدرة عالية على التحمّل. وسعة الصدر أداة يسوس بها الحُكّام الرعية. و لايمكن تحمّل المسؤوليات الاجتماعية من غير سعة صدر؛ و ذلك لأن مشاكل أفراد المجتمع، و هي مشاكل لا عدَّ لها و لا حصر، تتوجه عادة إلى الحكام والمسؤولين. و إذا كانت قدرة الحاكم على التحمّل قليلة فسوف يعجز عند الشدائد عن اتّخاذ القرارات اللازمة، وتخونه الشجاعة وتقعده عن إجراء ما عزم على إجرائه. و على المسؤولين والمتصدّين لزمام الأُمور أن يوطّنوا أنفسهم على الدوام لمجابهة المشاكل والشدائد. و أن يشمّروا عن السواعد لخدمة الناس انطلاقاً من الثقة بالنفس والاستعانة باللّه. و من مستلزمات هذه الأخلاق طبعاً استقبال النقد، بل و تحمّل حتى الكلمات الفظّة من الناس.

ص:300


1- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 346، الحديث 7957.
2- - النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، ج 7، ص 46.
3- - الخوانساري، جمال الدّين، شرح غُرَر الحِكَم، ج 1، ص 321، الحديث 1226.
4- الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 340، الحديث 7786.

و انطلاقاً من هذه الرؤية نلاحظ أميرالمؤمنين يقول: «آلةُ الرياسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ».(1) كما أنّ حرص النبي موسى عليه السلام على حسن أداء رسالته جعله يدعو ربّه أن يمنّ عليه بسعة الصدر فقال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) .(2)

9 - المداراة

من الخصال الأساسية الأُخرى التي يجب أن تتوفّر في من يتولّى زمام الحكم هي روح المداراة واللِّين، و دماثة الخلق واجتناب المشاحنات مع الناس. جاء عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال نقلاً عن رسول صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ هناك ثلاثة أُمور من لاتكون فيه لايكمل عمله، و هي أن تكون له تقوى تحجزه عن المحارم، و خلق حسن يداري به الناس، و حلم يدرأ به جهل الجاهلين.(3)

و جاء في قول آخر: «مُداراةُ النّاسِ نِصْفُ الإيمان وَالرِّفْقُ بِهِمْ نِصْفُ الْعَيْشِ».(4)

و قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب: «وَاعْلَمْ انّ رَأسَ الْعَقْلِ بَعْدَ الإيمان بِاللّه عَزَّوجَلَّ، مُداراةُ النّاسِ».(5) و جاء في رواية صحيحة عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول اللّه قال: «اَمَرَني رَبّي بِمُداراةِ النّاسِ كَما امَرَني بِاَداءِ الْفَرائض».(6)

و روي عن نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: إنني قد أُمرت بمداراة الناس مثلما أُمرت بتبليغ الرسالة.(7) و أوصى الإمام عليٌّ الحُكام بالرفق بقوله: «رأسُ السياسةِ استعمالُ الرفق».(8)

ص:301


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 176، ص 501.
2- سورة طه (20)، الآية 25.
3- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 116، الحديث 1.
4- المصدر السابق، ص 117، الحديث 5.
5- - الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 4، ص 387، الحديث 5834.
6- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 117، الحديث 4.
7- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 74، ص 151، الحديث 97.
8- الآمدي، غرر الحكم، ص 342، الحديث 7830.

10 - الحلم

لابد أن يتحلّى الحُكّام بالحلم والصبر في التعامل مع أخطاء الناس. فقد روى الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن أبيه أنه وصف الإمامة والحكومة بأنها تصلح لِمن يتّصف بثلاث خصال: و هي تقوى تثنيه عن الحرام، و حلم يلجم به غضبه، و حسن التعامل مع من تولّى حتى يكون لهم كالوالد الرحيم.(1) و بيّنت رواية أُخرى الشروط التي يلزم توفّرها في من يتصدّى لزمام الإمامة والحكومة، و ذكرت بعد التقوى أنه يجب أن يكون لديه «حِلمٌ يَرُّدُ بِهِ جَهْلَ الجاهل»(2) و قال أميرالمؤمنين: «الحِلمُ رأسُ الِّرياسَة».(3)

11 - العدالة

العدالة من المبادىء الأساسية التي دعا إليها جميع الأنبياء، و هي من الآمال التي بقيت تداعب مخيّلة بني الإنسان طيلة تاريخ حياتهم، وسعى الناس من أجل تحقيقها على مرّ التاريخ. والعدالة للناس كماء الحياة، و قد ضحّى بنو الإنسان في سبيلها بالغالي والنفيس.

قال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في وصف حلاوة العدل: «اَلْعَدْلُ احْلى مِنَ الْماءِ يُصيبُهُ الظَّمْآنُ ما اوْسَعَ الْعَدْل اذا عدل فيه وَ ان قَلَّ».(4)

و مع أنّ العدالة من الأُمور الفطرية ذات الحُسن الذاتي، لكنّها بقيت على الدوام عرضة لعدوان المعتدين. فالذين استولوا على زمام السلطة و حازوا المقدّرات، اعتبروا أنفسهم درّة عالم الوجود، و حاولوا بأنواع الأساليب تجاهل حقوق الناس. و هكذا وقعت العدالة بذرائع وتبريرات شتّى فريسة لظلم المستكبرين. كانت العدالة من الأُمور التي كان الأنبياء يتطلعون إلى تربية الناس عليها بحيث يقومون هم أنفسهم بتطبيقها.(5)

ص:302


1- - الصدوق، الخصال، باب الثلاثة، ص 116، الحديث 97.
2- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 116، الحديث 1.
3- الآمدي، غرر الحكم، ص 342، الحديث 7814.
4- الكُلَيني، الكافي، ج 2، ص 146، الحديث 11.
5- سورة الحديد (57)، الآية 25.

العدالة من الأُمور الحسنة عقلاً؛ أي ممّا يستطيع العقل الحكم بحسنها، و هي من الأُمور الفطرية التي لاتتطلب تعليماً. و هذا ما يجعلها مقدّمة على أي شيء آخر، و لايخضع تطبيقها للشروط والمصلحة، بل هي بذاتها أسنى المصالح و أعلاها. و هذا ما جعلها لا تميّز بين عدو و صديق و لا بين مؤمن و كافر، و تنظر إلى الجميع من منظار واحد. و هنا يقول اللّه تعالى في كتابه الكريم حول أهمية العدالة: (وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) .(1)

العدالة توطّد ركائز المجتمع و ترسّخ أركان الحكم. و مع أنّها شأن اجتماعي غير أنّها من أهم واجبات الحكومة. و تجاهل الحكومة للعدالة يسيء إلى الحكومة نفسها، و يلحق الأذى والضرر بأبناء الشعب.

كتب الإمام علي عليه السلام في ما كتبه في عهده إلى مالك الأشتر: «وَ انَّ افْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاة اسْتِقامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاد وَ ظُهورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَة».

نَقل الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «طُوبى لِمَنْ يَنْصِفُ النّاسَ مِنْ نَفْسِهِ».(2) و جاء عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: أفضل الأعمال ثلاثة:

إنصاف الناس من نفسك حتى لاترضى لهم إلّاما ترضاه لنفسك، و مساعدة أخيك بمالك، و ذكر اللّه في كل حال.(3)

و جاء في رواية أن أعرابياً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حين كان عازماً على السير في إحدى غزواته، و قال له: يا رسول اللّه، علّمني عملاً أدخل به الجنّة، فقال له: ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم، و ما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم.(4)

و قال الإمام علي: إنّ أحبَّ العباد إلى اللّه من جعل العدل قرينه.(5) و أُولى مراحل العدل - طبعاً - اجتناب هوى النفس، و قول الحق، والعمل به.

ص:303


1- سورة المائدة (5)، الآية 8.
2- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 144، الحديث 1.
3- المصدر السابق، ص 144، الحديث 3.
4- المصدر السابق، ص 146، الحديث 10.
5- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 87، ص 118.

ص:304

الباب الثالث: التكاليف و المسؤوليات

اشارة

ص:305

ص:306

الأحكام

اشارة

يعيش الإنسان على الدوام متأرجحاً بين الشهوات والرغائب من جهة، و بين العقل من جهة أُخرى، و لكن بما أنَّ الإنسان لم يُخلق عبثاً، و أنَّ مكانته تتوقف على اختياره للسبيل الصحيح من بين هذه السُبُل والاتجاهات، و بلوغ المرتبة التي تليق به، لذلك فهو بحاجة إلى منهاج و قانون، لكي يتعلّم في ضوئه كيف يعيش و كيف يلبّي متطلباته، و يضمن سعادته.

و على صعيد آخر، الإنسان كائن اجتماعي بالطبع، بمعنى إنّه مجبول على الحياة مع بقية الناس، هذا إضافة إلى أنّه لايستطيع تأمين كل متطلبات حياته بنفسه، و لابُدّ من تظافر جهود جميع الناس من أجل تمشية شؤون الحياة، فيحمل كل واحد منهم عبئاً من أعباء الحياة، و يتآزر الجميع لبلوغ الرفاه والسعادة والكمال.

من الطبيعي أن كل إنسان يتطلّع إلى حياة أفضل و أكمل، و هو لذلك، يسعى للانتفاع أكثر ما يمكن من النعم التي وفّرها اللّه للناس. و هذه رغبة طبيعية لدى جميع الناس، و هي التي تدفعهم نحو الكدِّ والعمل. و في هذا المسعى العام يُحتمل أن يحاول عدد كبير من الناس الاستفادة من شيء معين، فيقع تزاحم و تنافس بينهم. و إن لم تكن هناك قيود وضوابط تحدد كيفية الاستفادة من ذلك الشيء فقد يحصل تنازع وتصارع بينهم، و هذا ما يؤدّي - طبعاً - إلى انفراط عقد الحياة الاجتماعية، و انفلات النظام في الحياة.

ولغرض تفادي مثل هذه الصراعات والنزاعات لا مناص من وضع حدود و قيود و معايير يلتزم بها الجميع. والذي يُعيّن هذه الحدود والمعايير في كل نظام هو القانون. القانون ضروري لتفادي وقوع الفوضى في الحياة الاجتماعية، و لكن هذا لايعني أنَّ أيَّ قانون سيفي بهذا الغرض، و ذلك لأن القانون قد يضمن مصالح فئة معيّنة دون غيرها، و هذا بطبيعة

ص:307

الحال يجعل المجتمع عرضة لأنواع الأزمات والمشاكل. فالقانون يجب أن يُسَنَّ على أساس العدل وضمان مصالح عموم الناس.

و بالإضافة إلى مهمة القانون في التنظيم للعلاقات الاجتماعية بهدف المحافظة على حقوق الناس و تعيين مسؤولياتهم الاجتماعية، فهم بحاجة أيضاً إلى أحكام تمهّد لهم السبيل نحو بلوغ الكمال والسعادة الأبدية. و لاشكّ في أن تشخيص كل هذه الأُمور و كيفية العمل بها لايتأتّى عن طريق القانون الجماعي والبشري. والعقل غير قادر على تشخيص كل ما ينبغي فعله.

أفضلية التشريع الإلهي

اتّضح من خلال ما سبق ذكره أنّ تشريع القوانين يهدف إلى تحقيق غايتين:

1 - بسط النظام والعدالة في المجتمع؛ لتفادي وقوع الاضطراب والفوضى.

2 - الارتقاء بالإنسان نحو الكمال و تحقيق سعادته الأبدية.

في ما يخص الفئة الأُولى من القوانين، لايذهب المشرّعون إلى أكثر من القول: إنّ القوانين التي يسنّونها ترمي إلى الحفاظ على المجتمع و نظمه، و تحسين الوضع المادّي للناس. و أمّا بالنسبة إلى الفئة الثانية من القوانين فينسبها القائمون عليها إلى اللّه، و يقولون:

إنّ هذه القوانين تهدف إلى إقرار النظام و حفظ المجتمع، و فضلاً عن ذلك تتكفّل بمهمة الارتقاء بالإنسان إلى مرحلة الكمال، و إنّ الالتزام بهذه القوانين يضمن تحقيق السعادة الحقيقية للإنسان، أي الكمال الفردي والاجتماعي، والمادي والمعنوي من جميع الجوانب.

و ذكروا لهذه الطائفة من القوانين مزايا تفتقر إليها الطائفة الأُولى، و منها:

1 - بما أن علمَ اللّه مطلق و هو مطّلع على أسرار الكَوْن وخباياه، و من جملة ذلك الإنسان، فهو قد شَرَّع قانوناً شاملاً و كاملاً لا نقص فيه و لا خلل.

2 - هذا القانون خالٍ من أيّ دافع شخصي أو منافع خاصّة أو مصالح فئوية.

3 - وضع وفقاً لمقتضيات العدل و مصلحة الناس.

ص:308

الكثير من القضايا التي تُطرح اليوم في العالم باسم الحقوق بشتّى أنواعها (كالحقوق الأساسية، والحقوق المدنية، و حقوق الاُسرة، والحقوق الجزائية، والحقوق السياسية و ما شابه ذلك) قد جاءت في القوانين الإلهية، أو يمكن استنباطها من بين ثناياها. و على هذا الأساس فإن للدين تعاليم و قوانين و أحكاماً في شتّى ميادين الحياة الفردية والاجتماعية.

يُستَشَفُّ من خلال التتبع في آيات القرآن الكريم، والأخبار الواردة عن المعصومين عليهم السلام، و أبواب الفقه، أنّ أحكام الدّين الإسلامي الحنيف لاتنحصر في القضايا العبادية والأخلاق الفردية، بل له أحكامه و تعاليمه في الشؤون الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والقضائية والجزائية، و فيما يتعلّق بالسلطة والحكم، و شروط الحاكم والعلاقة بين الحاكم والمحكوم. و لابُدّ من رعاية هذه الجوانب في مَسار الحياة.

مصادر التشريع

اشارة

فإذا كانت هذه القوانين من اللّه، يتبادر إلى الأذهان هنا سؤال و هو: ما هو الطريق للوصول إلى هذه القوانين؟ و كيف يمكن الوصول إلى الأحكام الشرعية؟

هناك أربعة مصادر لاستنباط الأحكام الشرعية و هي: الكتاب، والسُنّة، والإجماع، والعقل.

1 - القرآن

القرآن هو الكتاب الموحى من اللّه، و بقي لدى المسلمين محفوظاً بتمامه من كل أنواع التلاعب والتحريف محفوظاً من اللّه تعالى، و برعاية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و بفضل جهود واهتمام المسلمين. و هو وثيقة معتبرة لاستقاء معارف و أحكام الدّين منه. و كما أشرنا مِن قبل، يعتبر القرآن وثيقة رسالة نبيّ آخر الزمان، و أهم مصدر لمعرفة عقائد و أحكام الإسلام. بل إن حجّية السُنّة واعتبارها يثبت بالقرآن.

ص:309

2 - السُنّة (قول، فعل و تقرير المعصوم)

وردت الأُصول العامة للشريعة في القرآن الكريم، و للتوصل إلى التفاصيل والجزئيات فقد بيّن النبيّ للناس تعاليم الدّين و فسّرها لهم من خلال ما كشفه له الوحي، و في ضوء إفاضة اللّه ولطفه. و مع كل ذلك فقد كان على حذر شديد أن لايقول بغير حُكمِ اللّه.(1)

و كانت الرعاية الإلهية الخاصّة طبعاً تحفّه في هذا المسعى،(2) يُضاف إلى ذلك الأمر الإلهي الصريح للمسلمين بطاعته و وجوب النظر إلى أوامره، و كأَنّها أوامر مباشرة من اللّه.(3)

و مع أن الأئمة المعصومين عليهما السلام لم يكونوا هم الذين جاؤوا بالدين، و لكن اللّه قد جعلهم بواسطة النبيّ، مبيّنين للشريعة الإلهية، و حملة و مفسّرين للأحكام الإسلامية، و على هذا الأساس يمثّل قولهم سنداً قاطعاً لكشف الحكم الإلهي. وسيرة النبيّ والأئمة - تأسيساً على ما هو معروف من عصمتهم و طهارتهم - عند وجود سند قطعي عليها، تُعتبر دليلاً جلياً، و في حالة تأييدهم (تقريرهم) لعمل الآخرين، يمكن فهم ذلك التأييد على أنه حكم شرعي.

3 - الإجماع

إذا لم يوجد دليل من الكتاب والسُنّة على حكم لموضوعٍ معين، و لكن الفقهاء القريبين من عصر الأئمة اتفقوا على رأي واحد فيه، ممّن نعلم أنّهم لايأخذون بالقياس والاستحسان الظني والحدسي، و إنّما يتبعون الكتاب والسُنّة، و يفهم طبعاً أنهم يفتون على ما في أيديهم من مستمسك من السُنّة، و لم يعثر الفقهاء المتأخّرون على تلك الرواية، أو يظهر للمتأخرين أن المعصوم أيّد هذا الرأي فهذا هو ما نسمّيه بالإجماع. والواقع إنّ حجية الإجماع تأتي استناداً إلى سُنّة ليست متوفّرة بين أيدينا.

ص:310


1- - سورة النجم (53)، الآية 3.
2- - سورة الإسراء (17)، الآيتان 73-74.
3- سورة النساء (4)، الآية 59.
4 - العقل

إنْ لم يكن هناك حكم شرعي لحالة معيّنة - و بما أنّ الأحكام الإلهية تابعة للمصالح والمفاسد، والعقل قادر إجمالاً على تشخيص المصالح والمفاسد - فإذا توصّل العقل جزماً و يقيناً إلى حكمةٍ خاصة إلى جانب سائر الحِكَم، يحصل عندئذ الحكم الشرعي لتلك الحالة. و كذلك إذا كان للشرع حكم واجب لقضية معيّنة، و لكن أداء ذلك الواجب يتوقف على عمل آخر خاضع لتشخيص العقل، فهنا يكون لحكم العقل اعتبار و وثاقة في هذه الحالة والحالات الأُخرى التي تسمّى ب «غير المستقلات العقلية».

و على العموم في المستقلات العقلية لها قيمة واعتبار في كشف الحكم الشرعي إلى درجة وجود تلازم بين حكم العقل والشرع، و قيل: «كلّما حكم به العقل حكم به الشرع و كلّما حكم به الشرع حكم به العقل»، و ذلك لأن حجيّة العقل ذاتية و لاتحتاج إلى دليل آخر.

هذا طبعاً فيما إذا توصل العقل بشكل قطعي و يقيني إلى مصلحة واجبة تلزم المكلّف بأداء ذلك العمل، أو كشف عن فساد يوجب عليه اجتنابه، و هو ما يُطلق عليه اصطلاحاً أنه كشف عن الملاك والمناط الواقعي بشكل يقيني، و إلّافإنَّ مجرد الظن والحدس والتخمين لايمكن ان تُطلق عليه تسمية حكم العقل.

الاجتهاد و تاريخه

اشارة

كل من يكشف عن الأحكام المقررة و يفهم تكاليفه الدينية عن طريق فهم آيات القرآن والتحقيق في الأحاديث والمصادر المذكورة، يغدو صاحب رأي و نظر في هذا المضمار، ويُسمّى «مجتهداً».

و لكنّ فهم أحكام الدّين لم يكن في جميع الأزمان على مستوىً واحد من حيث السهولة والصعوبة، و إنّما مَرَّ بأدوار مختلفة نستعرض كل واحدة بإيجاز في ما يلي:

ص:311

1 - دور تعلّم و نشر الأحكام

في عهد حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عُرضت التعاليم الدينية على الناس من قبل النبيّ بالتدريج و بما يتناسب مع الظروف والمتطلّبات. و عندما كان عدد المسلمين قليلاً و أحكام الإسلام محدودة كان بإمكان كل المسلمين الاتّصال بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و تعلّم الأحكام منه مباشرة، و لكن بعدما انتشر الإسلام و دخل فيه أُناس كثيرون في مختلف الأرجاء من غير مشاهدة النبيّ ولو لمرّة واحدة، خاصّة غير العرب، أو العرب الذين كانت يتحدّثون بلهجة تختلف عن اللهجة التي نزل بها القرآن، داعياً لأن ينتدب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عدداً من المسلمين لهذه المهمّة الخطيرة، و هي تعليم الإسلام والقرآن والتعاليم الدينية لمن كانوا قد أسلموا حديثاً.(1) و في هذا الدور كان هناك اجتهاد بشكل أو آخر و لكن على نطاق محدود. و كان المندوبون الذين يبعثهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى مناطق بعيدة يجتهدون في بعض الحالات.

2 - دور الاجتهاد الابتدائي

في عصر الأئمّة المعصومين عليهم السلام حين شهد المجتمع الإسلامي مزيداً من الاتّساع، و لم يكن الاتصال سهلاً، هذا إضافة إلى ظهور مسائل و قضايا جديدة، كان الأئمة - رغم وجودهم في المجتمع - يوعزون إلى بعض أصحابهم بالاجتهاد و استخراج الفروع من الأُصول. و هذا ما جاء في بعض الروايات كقولهم: «علينا إلقاء الأُصول و عليكم التفريع».(2)

و لاشكّ في أنّ الروايات الكثيرة التي جاءت عن الأئمة الأطهار عليهم السلام في موضوعات و مسائل مختلفة، جعلت من الفقه الشيعي فقهاً غنياً بالقياس إلى بقية المذاهب، فأصبحت الحاجة أقل إلى بذل الجهود في هذا المضمار. و كان الفقهاء يعرضون مشاكلهم على الأئمة عليهم السلام حدّ الإمكان - رغم بُعد المسافات والصعوبات الأُخرى - و لكن في الوقت نفسه لم يكن الشيعة يجدون أنّهم في غنىً عن التفقّه والاجتهاد.

ص:312


1- - سورة التوبة (9)، الآية 122.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ج 27، ص 62، الحديث 52.
3 - دور الاجتهاد التخصُّصي

في عهد غيبة الإمام المهدي عليه السلام - حيث تعذّر الاتصال المباشر بالمعصوم - صار الاجتهاد حلّاً للكثير من المستجدّات والمسائل المستحدثة. و بهذا يحفظ الدّين حيويّته و أصالته الإلهية. و في هذا الدور بدأ الاجتهاد بمعناه الاصطلاحي؛ أي ردّ الفروع إلى الأُصول وتطبيق الأُصول على الفروع مع الاّطلاع التام على المصادر، والمعرفة بقواعد الاستنباط و آراء الفقهاء السابقين.

في رأي الإسلام، الاستنباط والاجتهاد ليس حكراً على طبقة أو فئة من الناس دون سواها. و بإمكان كل من يملكون الأهلية العلمية أن يجتهدوا. و كل من لديهم القدرة على فهم الأحكام الإلهية من مصادرها، بإمكانهم عند إحراز الصلاحية، استبناط الأحكام من خلال الرجوع إلى النصوص الدينية و مصادر التشريع.

و أمّا الأخبار الواردة في ذم الاجتهاد والعمل بالرأي فالمراد منها هو الاجتهاد المتداول عند بعض فقهاء أهل السنّة، الذين يفتون - عند عدم وجود نص - وفقاً للاستحسانات الظنّية والحدسية. في حين أنّ مرادنا من الاجتهاد هو استنباط الفروع من الأُصول الكلّية الواردة، و هو ما كان الأئمة أنفسهم قد أسّسوه وروّجوا له، حيث قالوا: «علينا إلقاء الأُصول و عليكم التّفريع»(1) و هذا شيء معقول و منطقي طبعاً.

التقليد

اشارة

بحكم العقل من اللازم والضروري معرفة الأحكام والواجبات الدينية التي فرضها اللّه على كل مُسلم؛ لأن سعادة الإنسان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعمله بالفرائض الدينية؛ إذ لا يمكن العمل بالواجبات دون معرفتها.

ص:313


1- المصدر السابق.

و مع أنَّ العناوين الكلية والوظائف العملية الواضحة - كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، و غيرها - موضع اتفاق جميع المسلمين، و من ضروريات الدّين، بَيْد أنَّ الاّطلاع على كثير من تفاصيلها الجزئية يحمل جانباً تخصُّصياً. و إذا لم يكن أحد حائزاً على هذا التخصص، عليه الرجوع إلى من لديه اطلاع واختصاص كاف، أي يجب عليه الرجوع في أمر الدّين إلى مجتهد صاحب نظر و حائز على الشرائط. فمثلما يرجع كل الناس في أعمالهم اليومية - في المجالات التي ليس لهم فيها خبرة واختصاص - إلى من يثقون به من ذوي الاختصاص والخبرة، فانَّ التقليد يعني في الحقيقة الأخذ برأي متخصص في القضايا التي تحتاج إلى تخصص.

التقليد يسري فقط على الأحكام العملية من الدّين، و أما أُصول الدّين والشؤون الاعتقادية فيه فلا تخضع للتقليد. فالإيمان والاعتقاد بحقائق الوجود، والتمسّك بالقضايا الاعتقادية وأُصول الدّين، يجب أن تكون بالدليل والبرهان و كسب العلم واليقين. فلا يمكننا القول: إنَّ اللّه واحد لأن آباءنا أو العلماء يقولون ذلك، أو إنَّ الحياة بعد الموت حق لأن كل المسلمين يعتقدون بذلك. نعم يمكن الاعتقاد والاطمئنان بذلك استناداً إلى ما قاله الأنبياء. و لابُدّ طبعاً أن يتناسب الدليل مع فهم المكلّف، كما حصل بالنسبة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حينما سأل عجوزاً بيدها مغزل، عن اللّه، أوقفت الغزل و قالت: مثلما أنّ هذا المغزل لايدور بدون وجود من يدّوره، فإنّ هذا العالم العظيم لايدور دون مدبّر.

شروط مرجع التقليد

يجب أن تتوفر في مرجع التقليد الشروط التالية:

1 - الاجتهاد؛ فلابّد أن يكون مرجع التقليد جامعاً لشروط الإفتاء، و قادراً على استنباط المسائل الشرعية من مصادرها الأصلية.

2 - العدالة؛ يجب أن يتّصف مرجع التقليد بملكة العدالة. وتطلق كلمة «عادل» على من يكون مستقيماً و معتدلاً في العقيدة والأخلاق والعمل، بحيث أنه يلتزم في الظروف العادية بما هو واجب عليه و يترك ما هو محرّم عليه.

ص:314

3 - الأعلمية؛ الرجوع إلى المجتهد في الحالات التي يوجد فيها اختلاف بين المجتهدين في فهم الحكم الإلهي، أمر مشابه لغيره من قضايا الحياة. أي متى ما حصل اختلاف بين آراء المتخصّصين في أمر مهمّ مثل علاج مرض عضال، فمن المنطقي أن يُقبل رأي أكثرهم تخصُّصاً. و على هذا الأساس يبدو من الضروري تقليد الأعلم في المسائل الاختلافية.

4 - أن يكون على قيد الحياة؛ الاجتهاد أُسلوب سيّال و حيّ في فهم أحكام الدّين و تحديثها، و هو يسير عادة مواكباً ظهور متطلّبات وعلاقات و قضايا بشرية مستجدّة.

و على هذا الأساس يجب أن يكون هناك على الدوام في المجتمع مجتهدون متنوّرون و يعيشون في ميدان الحياة الاجتماعية. و أمّا الحالات التي يجيز فيها المرجع الحي، البقاء على تقليد الميّت - في المجالات التي يعيّنها هو - فهي تمثّل في الحقيقة تقليداً للمجتهد الحيّ.

كما و يجب أن يكون مرجع التقليد بالغاً، عاقلاً، شيعياً اثني عشرياً، و طيب المولد، و بناءً على الاحتياط الواجب يجب أيضاً أن لايكون مولعاً بالدنيا و مغرماً بها و منكبّاً عليها. و إذا اعتبرنا دليل الرجوع إلى المجتهد هو بناء العُقلاء، يمكن أن تكون المرأة مرجع تقليد أيضاً. لأن العقلاء لايفرّقون عند الرجوع إلى رأي ذوي الاختصاص - في المسائل التي ليس لديهم فيها تخصص كافٍ - بين المرأة والرجل. و مسألة المرجعية والتقليد في معزل عن قضية السلطة والقضاء.

التكليف

اشارة

تُسمى الواجبات الدينية للأفراد المسلمين «تكليفاً» و كل الأعمال التي يؤدّيها الإنسان إرادياً لها في نظر الدّين حكم معين، و هي على العموم لاتخرج عن واحدة من الحالات الخمس التالية:

1 - الواجب؛ و هو ما ينبغي فعله و لايجوز تركه كالصلاة. و إذا كان رأي المجتهد في مسألة هو «الاحتياط الواجب» فمعنى ذلك هو أنه لم يتوصّل في تلك المسألة إلى الرأي

ص:315

القطعي. و لهذا على من يقلّد هذا المجتهد أن يعمل بهذا الاحتياط الذي يأتي في المرتبة بعد الفتوى، أو يجب عليه في هذه المسألة الرجوع إلى المجتهد الأعلم.(1)

2 - المستحب؛ و هو ما يكون من الأفضل والمحبّذ أداؤه، و في أدائه رضاً للّه، و ليس في تركه إثم، مثل المشاركة في صلاة الجماعة. و «الاحتياط المستحب» فيه عندما يُفتي المجتهد برأي قطعي، و يشير في الوقت ذاته إلى طريق الاحتياط أيضاً. و يمكن للمقلّد العمل بفتوى المجتهد في تلك المسألة، أو يعمل شخصياً بالاحتياط، و لا يمكنه الرجوع فيها إلى مجتهد آخر.

3 - الحرام؛ و هو ما ينبغي تركه، و في فعله إثم و معصية، كالظلم.

4 - المكروه؛ و هو العمل الذي يكون تركه أوْلى، كمزاولة الأعمال التي لاتستسيغها طباع الإنسان، كالاشتغال في شؤون الموتى.

5 - المباح؛ و هو العمل الذي يتساوى في نظر الدّين فعله و تركه، و هو خاضع لرغبة الشخص و إرادته مثل اختيار أيّ عمل حلال و جائز. والأُمور المباحة إذا فعلها المرء لنيل رضا اللّه فهي تُعتبر عبادة.

شروط التكليف

كل مسلم بالغ و عاقل ولديه القدرة على أداء الأحكام الإلهية مكلّف بأداء الفرائض المقررة عليه من اللّه. و على هذا فالأحكام الدينية مرفوعة عن غير البالغ، و عن المجنون، و عن غير القادر.

علامة البلوغ عند الفتيات والفتيان من الناحية الشرعية، واحدة من الأُمور الثلاثة التالية:

أ - نمو شعر خشن تحت البطن، و فوق العورة.

ب - خروج المني، في النوم أو في اليقظة.

ص:316


1- تُطلق كلمة «فالاعلم» على المجتهد الأدنى مرتبة علمية من المجتهد الأعلم، و يكون أعلى مرتبة من سائر المجتهدين.

ج - إكمال خمس عشرة سنة قمرية للفتيان، و تسع سنوات قمرية للفتيات.(1)

في بعض الحالات لايكفي السن وحده لصحّة العمل، بل لابُدّ من توفّر شروط أُخرى أيضاً. نذكر من ذلك، الإقدام على الزواج والقبول به، والتعامل في الشؤون المالية، إذ يُعتبر إضافة إلى البلوغ، النمو الجسمي والعقلي، والقدرة على التمييز بين الخير والشرّ، والمصالح والمفاسد، و لاتصح معاملة من لايشخّص الشيء الصحيح، ويُحتمل أن يقع في الخديعة.

الفرق بين التكليف والحق

يتميّز «التكليف» و «الحق» أحدهما عن الآخر، في بعض الحالات التي نذكر منها:

1 - التكليف لايُغتصب من قبل شخص آخر، و لكن الحق مُعرَّض للغَصب.

2 - التكليف واجب يتعيّن على كل مكلّف به أداؤه، و لايجوز له تركه. و أما الحق فهو شيء يجب أن يحوزه كل من يكون له، و إذا غُصِبَ أو صار تحت تصرّف شخص آخر، يجب إعادته إلى صاحبه.

3 - الحق بشكل عام و على الغالب، يمكن التغاضي والصفح عنه في الحالات التي تكون فيها مصلحة عامّة للمسلمين أو خاصّة للفرد المسلم، بينما التكليف ليس كذلك.

4 - يكون الحق عادة منشأً لتكليف على آخر. أي أنّ كل من يكون له حق على آخر، يترتّب على ذلك الآخر تكليف خاص. بينما التكليف ليس بهذه الصورة إلّافي موارد خاصّة.

5 - حالات الحق تكون عادة ذات طرفين. و بعبارة أُخرى: كل من يكون له حق على أحدٍ لابد في المقابل أن يكون للآخر حق على هذا الشخص أيضاً، عدا اللّه الذي له حقوق على عباده، و لكنه في المقابل غَير مكلّف بشيء إزاءهم، و إن كان قد أوجب على نفسه الرحمة بعباده، تفضُّلاً منه عليهم.(2)

ص:317


1- تكتمل الخمسة عشرة سنة القمرية قبل مثيلتها الشمسية بما يقارب 164 يوماً، أي حوالي خمسة أشهر و نصف. و تكتمل التسع سنوات القمرية قبل مثيلتها الشمسية بما يقارب 98 يوماً.
2- (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)، سورة الأنعام (6)، الآية 54.

أبواب الفقه

نظراً إلى أنَّ الفقه يتّسع لكل ميادين الحياة، لذلك قسّمه الفقهاء إلى أبواب مختلفة.

و حاولنا في هذا الكتاب تقسيم أبواب الفقه تبعاً للأهمية التي اكتسبتها بعض الموضوعات، و في ضوء ما تحظى به من اهتمام، و جعلناها على النحو التالي: العبادات، الاُسرة، الاقتصاد، السياسة.

ص:318

العبادات

اشارة

يتناول هذا القِسم الموضوعات المتعلّقة بكيفية ارتباط الإنسان مع ربّه، كالصلاة، والصوم، والحج، والاعتكاف، والنذر، و هي ما يشترط فيها القصد، و نيّة التقرّب إلى اللّه.

و تجدر الإشارة إلى أن بعض العبادات تتسم بطابع سياسي اجتماعي إضافة إلى كَوْنها عبادة للّه، مثل صلاة الجماعة، وصلاة الجمعة، والحج و....(1)

بعض العبادات واجبة، مثل الصلوات الواجبة، و بعضها الآخر مستحبّ مثل الصلوات المستحبّة، والدعاء، والتوسّل، والزيارة.

الصلاة

اشارة

الصلاة تعني المناجاة و إظهار العبودية والشكر للّه - بطريقة و شكل خاص - أمام الإله الذي يؤمن به الإنسان، و يرى أن وجوده و ما لديه من نعم كلّها من عنده. والصلاة علاقة معنوية بين المخلوق والخالق، و طلباً للعون منه ليتمكن من حفظ إنسانيّته والسير على طريق الحق والحقيقة. و هناك في الدّين تعاليم تبيّن للمكلّفين كيفية مناجاة خالقهم و ما هي الصفات التي يليق أن ينعتونه بها.

أهمّية الصلاة

للصلاة تأثير مهم في تهذيب الإنسان والارتقاء به نحو الكمال. والصلاة تنتشل الإنسان

ص:319


1- الزكاة والخمس لهما جانب عبادي، و يجب دفعهما بقصد القربة، و لكن بما أنّ الجانب المالي فيهما أقوى، سيجري بحثهما في باب الاقتصاد.

من الهواجس والاضطراب؛ لأن ذكر اللّه يبعث في القلوب السكينة: (أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (1) و هي أعظم ذكر للّه (وَ لَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ) ، (2) و هي أيضاً عمود الدّين: «اللّه اللّه في الصلاة فإنّها عمود دينكم».(3) ولو روعيت كل شروط الصلاة و آدابها فإنّها كفيلة بتطهير النفس من الرذائل والمنكرات (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ) . (4) فالصلاة ذات تأثير بالغ في صياغة شخصية الإنسان بحيث إنه إذا التزم المصلّي بكل شروطها فهي تردعه عن القبائح والرذيلة. نضرب مثالاً على ذلك أنَّ أحد شروط الصلاة هو أن لايكون مكان وثوب المصلّي مغصوباً، و لاتُقبل صلاته حتى و إن كان في ثيابه خيطٌ واحد مغصوب. و عندما يجد المصلّي نفسه ملزماً باجتناب الحرام إلى هذا الحد، فمن الطبيعي أن لايتصرّف في مالٍ حرام و لايَظلم أحداً حقّه أبداً. كما أنّ الصلاة تكون لها تأثيرات معنوية أيضاً فيما إذا اجتنب الإنسان بعض الرذائل الأخلاقية كالبخل والحسد و غيرهما.

و إذا كان البعض ممّن يؤدّون الصلاة يقترفون بعض الممارسات القبيحة فإنَّ سبب ذلك يعزى إلى عدم التزامهم بالتعليمات اللازمة في الصلاة، و بالنتيجة لاتترك الصلاة التأثير اللازم فيهم، و لايقطفون شيئاً من ثمارها. روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «أنّما مثل الصلاة، فيكم كمثل السري - و هو النهر - على باب أحدكم يخرج إليه في اليوم والليلة يغتسل منه خمس مرّات فلم يبق الدّرن مع الغسل خمس مرّات، و لم تبق الذنوب مع الصلاة خمس مرّات».(5)

و روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إنَّ أول ما يحاسب العبد عليه الصلاة فإذا قبلت قُبل سائر عمله و إذا رُدّت عليه رُدّ سائر عمله».(6)

و على العموم فقد أظهرت الشريعة المقدّسة أهمية كبرى للصلاة، بحيث إنّها أوجبتها في كل الأحوال و حتى في حالة الاحتضار، و إذا تعذّر على المحتضر التلفّظ بالصلاة بلسانه،

ص:320


1- - سورة الرعد (13)، الآية 28.
2- سورة العنكبوت (29)، الآية 45.
3- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 47، ص 422.
4- - سورة العنكبوت (29)، الآية 45.
5- الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 1، ص 311، باب فضل الصلاة، الحديث 640.
6- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 6 من أعداد الفرائض، ج 3، ص 25، الحديث 3.

عليه أن يصلّي بقلبه. و كذلك إذا تعذّرت عليه الصلاة أثناء الحرب والخوف من العدو، أو إذا لم يتمكن من الصلاة نحو القبلة في حال الاضطرار، لايجب عند ذاك الصلاة نحو القبلة، و لكنّ الصلاة تجب على كل حال.

و قد ورد كثير من الذم والتقبيح لِمن يستخف بالصلاة و لايرعاها حق رعايتها. قال تعالى في القرآن الكريم: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) . (1) و على هذا يتعيّن الاهتمام بأمر الصلاة و أدائها في أول وقتها. روي عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال: «لما حضرت أبي الوفاة، قال لي: يا بني أنه لاينال شفاعتنا من استخف بالصلاة».(2)

و روي أنه دخل رجل مسجداً فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فخفّف سجوده دون ما ينبغي و دون ما يكون من السجود، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «نقر كنقر الغراب، لو مات هذا على هذا مات على غير دين محمد».(3)

لقد خُلق الإنسان من أجل بلوغ الكمال، و لايمكن له التكامل إلّامن خلال الارتباط باللّه. و أفضل وسيلة للارتباط باللّه هي الصلاة. و هذا ما يفرض أن تؤدّى الصلاة بتوجّه قلبي تام وخشوع و وقار مع اجتناب الاستعجال والغفلة، و عليه ان ينتبه مع من يتكلّم.

و على أيّة حال فإن لترك الصلاة تأثيرات سيّئة في حياة الإنسان، هذا إضافة إلى حرمانه من رحمة اللّه، و يتبعه عذاب أُخروي. جاء في القرآن الكريم ما مفاده أنّ أهل النار يُسألون يوم القيامة عمّا سلكهم في سقر، فيقولون: إنهم ما كانوا من المصلين.(4)

الصلوات الواجبة

على كل مكلّف عدد من الصلوات الواجبة و هي عبارة عن:

1 - الصلوات اليومية 2 - صلاة الجمعة 3 - صلاة الآيات 4 - صلاة الميّت 5 - صلاة الطواف الواجب 6 - قضاء ما فات من صلاة الوالدين على الابن الأكبر، أو احتياطاً تجب

ص:321


1- - سورة الماعون (107)، الآيات 4-5.
2- الكُليني، الكافي، ج 3، ص 270، الحديث 15.
3- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 9 من أبواب اعداد الفرائض، ج 4، ص 37، الحديث 6.
4- سورة المدّثر (74)، الآيات 40-43.

على أكبر الذكور من الورثة 7 - ما يجب من الصلاة بالإجارة أو النذر أو العهد أو القسم 8 - صلاة عيدي الفطر والأضحى عند توفّر شروطهما.

مقدّمات الصلاة
اشارة

هناك مجموعة من المقدّمات التي يلزم توفّرها للصلاة والوقوف بين يدي اللّه و إظهار العبودية له، و لاتصح الصلاة من غير أداء هذه المقدّمات. و هذه المقدّمات عبارة عن:

الوقت، المكان، القبلة، الثياب والطهارة.

وقت الصلاة

الصلوات اليومية التي يجب على المسلم المكلّف أداؤها، هي خمس صلوات، و هي:

صلاة الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. و يجب أداء كل واحدة منها في وقتها.

1 - صلاة الصبح، ركعتان و وقتها من أول بياض الصبح إلى حين شروق الشمس.

2 - صلاة الظهر، أربع ركعات (في غير السفر) و وقتها من أوّل الظهر إلى مقدار أربع ركعات قبل غروب الشمس (و هو الوقت المخصّص لصلاة العصر).

3 - صلاة العصر، أربع ركعات (في غير السفر) و وقتها من بعد أربع ركعات بعد أوّل الظهر (و هو الوقت المخصص لصلاة الظهر) إلى غروب الشمس.

4 - صلاة المغرب، ثلاث ركعات، و وقتها من أوّل المغرب إلى منتصف الليل.

5 - صلاة العشاء، أربع ركعات (في غير سفر) و وقتها من بعد ثلاث ركعات من أوّل المغرب (و هو الوقت المخصص لصلاة المغرب) إلى منتصف الليل.

مكان المصلّي

يجب أنْ تتوفر في مكان المصلّي الشروط التالية:

1 - الإباحة.

2 - السكون و عدم الحركة. فلا تصح الصلاة في الأماكن التي لا استقرار فيها و لا سكون

ص:322

كالمواضع النابضة أو وسائط النقل المتحركة إلا عند الاضطرار مثل ضيق الوقت. و عند الاضطرار أيضاً يجب المحافظة جهد إلامكان على صورة الصلاة، و أن يتوقف المصلي عن الصلاة عند اهتزاز أو تحرّك المكان، و متى ما انحرفت واسطة النقل عن القبلة يجب أن يستدير هو أيضاً صوب القبلة.

3 - طهارة موضع السجود، و غير موضع السجود يجب أن يخلو أيضاً من النجاسة السارية.

4 - استواء موضع الصلاة، بحيث لايكون موضع الجبهة أعلى أو أدنى من موضع ركبتيه بمقدار أربعة أصابع مضمومة، والأحوط وجوباً أن لايكون موضع الجبهة أعلى أو أدنى من سائر أعضاء السجود، بأكثر من أربعة أصابع مضمومة.

5 - يجب أن يكون موضع المصلّي بحيث يستطيع القيام والركوع والسجود بشكل صحيح، إلا عند الاضطرار حيث يجب عليه أداؤها بالقدر الممكن.

6 - يجب أن لايكون موضع المصلّي من الأماكن التي يحرم الوقوف أو المكوث أو الجلوس فيها، مثلاً يجب أن لاتكون فوق قبور المعصومين أو أمامها بل حتى إذا كانت الصلاة في موازاتها توجب هتكاً لحرمتهم، يجب أن لايصلّي هناك.

القِبلة

طبعاً ليس هناك اتجاه معيّن للتوجّه إلى اللّه وعبادته، كما تنص على ذلك الآية الشريفة:

(فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) . (1) غير أنّ الكعبة قد جعلت قبلة لأسباب معيّنة منها توحيد وُجْهةِ جميع المسلمين ولفت أنظارهم إلى البقعة التي انبثق منها نور الإسلام؛ و هو الموضع الذي بُني باسم التوحيد. و أُعيد بناؤه على يد النبيّ إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام.

و أما الذين يصلّون في المسجد الحرام و قريباً من الكعبة فيجب أن يقفوا باتجاه الكعبة تماماً؛ و لكن مَن يُصلّون في أماكن بعيدة فيجب أن يكون وقوفهم باتجاه القبلة بالشكل الذي يكفي فيه أن يُقال إنهم واقفون باتجاه القبلة.

ص:323


1- - سورة البقرة (2)، الآية 115.

و يجوز للمسلم أداء الصلاة المستحبّة ماشياً أو راكباً. و إذا صلّى أحد صلاة مستحبّة في هاتين الحالتين، لايلزم أن يكون متوجّهاً نحو القبلة.

ثياب المصلّي

1 - يجب على الرجل ستر عورتيه حال الصلاة، و إنْ لم يكن هناك من يراه، والأفضل أن يستر من سرّته إلى الركبتين. و يجب على المرأة أن تستر تمام بدنها، و لايجب أن تسْتُر من وجهها ما يُغسل في الوضوء، و يديها إلى الزندين و قدميها إلى المفصلين. و لكي يحصل لها اليقين بستر المقدار الواجب، يجب أن تستر مقداراً من أطراف الوجه و مقداراً من أسفل الزند و مفصل القدم.

2 - يجب أن تكون ثياب المصلّي طاهرة. و إذا كانت نجسة يجب تطهيرها.

3 - يجب أن تكون ثياب المصلّي مباحة على الأحوط وجوباً. و على هذا الأساس فمن يعلم أن ارتداء الثوب المغصوب حرام، ثم صلّى عمداً بثوب بعضه مغصوب كأن تكون خيوطه أو أزراره أو أي شيء آخر فيه، فالأحوط وجوباً إعادة صلاته بثوب غير مغصوب.

4 - بجب أن لاتكون في ثياب المصلّي و لا معه أشياء من ميتة أو من حيوان يحرم أكله.

و يسري هذا الحكم من باب الاحتياط الوجوبي على الحيوان من غير ذي النفس السائلة أيضاً.

5 - لايجوز للرجال ارتداء ثياب منسوجة من حرير خالص أو مطرّزة بالذهب، والصلاة بها باطلة، و على المرأة احتياطاً أن لاتُصلّي في ثياب حرير، و لكن لا اشكال في أن ترتدي المرأة ثياباً منسوجة بالذهب أو التزيّن بالذهب بشكل عام في صلاة أو غيرها.

الطهارة

اشارة

يجب أن يكون بدن المصلّي طاهراً. والطهارة على نوعين: ظاهرية، و باطنية معنوية.

أ - الطهارة الظاهرية
اشارة

الطهارة الظاهرية هي أن لايكون بدن وثوب المصلّي متنجّساً بأشياء نجسة. و هذا يعني

ص:324

أنه يجب أن يكون قد أزال النجاسة مسبقاً، ثم صلّى بعد إزالة النجاسة، إلاّ في حالة المشقّة أو الحالات المستثناة في الأحكام الشرعيّة على مذهب أهل البيت عليهم السلام.(1)

النجاسات

هناك أشياء نجسة يجب أن لايكون أثر منها على بدن المصلّي أو ثيابه. و إذا كانت موجودة يجب عليه ازالتها عن بدنه وثيابه قبل الصلاة. و هي عبارة عما يلي:

1 و 2 - بول و غائط الإنسان والحيوانات التي يحرم أكلها. والأحوط وجوباً اجتناب بول الحيوان الذي يحرم أكله و ليس له نفس سائلة، و لكن لايجب اجتناب غائطه.

3 و 4 و 5 - مني و دم و ميتة الإنسان والحيوان ذي النفس السائلة، و إن كان ممّا يؤكل لحمه. و مع أن نجاسة مني الحيوانات التي يحل أكل لحمها غير ثابت، و لكن ينبغي اجتنابه احتياطاً.

6 و 7 - الكلاب والخنازير البريّة نجسة، و أما البحرية منها فطاهرة.

8 - الخمر و كل مُسكر للإنسان، إذا كان مائعاً بطبعه، نجس و يحرم تناوله، أما إذا كان غير مائع كالحشيشة، فهو طاهر و إن أصبح سائلاً بالعرض بخلطه بالماء و لكن يحرم تناوله.

9 - يلزم اجتناب عرق الجنب من الحرام على الأحوط وجوباً.

10 - يلزم على الأحوط وجوباً اجتناب عرق البعير المعتادة على أكل نجاسة الإنسان، بل عرق كل حيوان اعتاد على نجاسة الإنسان.

الكثير من الفقهاء يعتبرون الكافر نجساً أيضاً. والكافر هو من ينكر وجود اللّه عناداً وجحوداً، أو يجعل له شريكاً، أو ينكر نبوّة النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم أو ينكر المعاد، و لكن يبدو أن أهل الكتاب كاليهود والنصارى والزرادشتية إذا لم يتنجّسوا بالخمور ولحم الخنزير و ما شابه ذلك لاتُستبعد طهارتهم. و نجاسة الكّفار من غير أهل الكتاب موضع إشكال، و على فرض نجاستهم فإنَّ ذلك ليس من قبيل سائر النجاسات، و إنّما هو حكم سياسي جعله الإسلام، و كانت غاية الشريعة من وراء ذلك إبعاد المسلمين عن التداخل والتواصل مع

ص:325


1- الأحكام الشرعيّة على مذهب أهل البيت عليهم السلام، المسائل 858-873.

الكفار، لكي لايقعوا تحت تأثير أفكارهم و معتقداتهم. و هذا لايتعارض مع التباحث العلمي والعلاقات الاقتصادية معهم، إنْ لم تكن في ذلك مفسدة.

طرق إثبات النجاسة

تثبت نجاسة أي شيء بواحدٍ من الطرق الثلاثة التالية:

أ - أن يكون الشخص نفسه موقناً بنجاسة الشيء.

ب - إذا شهد بنجاسته من هو في يده و لم يكن متهماً بالكذب.

ج - شهادة رجلين عادلين بنجاسة الشيء، بل حتى إذا شهد رجل عادل واحد بنجاسته يجب اجتنابه من باب الاحتياط الوجوبي.

طرق تنجّس الأشياء الطاهرة

إذا لامس الشيء النجس شيئاً طاهراً، و كان أحدهما أو كلاهما رطباً بنحو تسري الرطوبة من أحدهما إلى الآخر، يتنجّس الطاهر. أما إذا كانت الرطوبة بمقدار قليل بحيث لاتسري بينهما، فالطاهر منهما لايتنجّس.

المطهِّرات

تطهر المتنجّسات بأحد عشر شيئاً، و تسمّى المطهرات و هي:

1 - الماء

الماء يطهّر الشيء المتنجّس بشروط أربعة هي:

1 - أن يكون الماء مطلقاً. و عليه فالماء المضاف - كماء الورد - لايطهر الشيء النجس على الأحوط وجوباً.

2 - أن يكون الماء طاهراً.

3 - أن لايتحول الماء حين التطهير إلى ماء مضاف، و أن لاتتأثر رائحته أو لونه بالنجاسة.

4 - أن لاتبقى عين النجاسة في الشيء بعد تطهيره.

ص:326

الماء القليل والكر

يُقسَّم الماء من حيث المقدار و خاصيّة التطهير إلى قسمين:

1 - الماء الكر، و هو مقدار الماء الذي إذا لاقى الأشياء النجسة لايتنجّس، و يطهّرها، بشرط أن لاتُغيّر عين النجاسة رائحة أو لون أو طعم ذلك الماء، و يساوي بالوزن 384 كيلو غراماً تقريباً، و يساوي حسب الحجم ثلاثة أشبار و نصف طولاً و عرضاً وارتفاعاً بشبر الشخص العادي، و هو ما يقارب 73 سانتمتر.

2 - الماء القليل، هو الماء الذي لاينبع من الأرض، و لايبلغ كُرّاً.

و إذا أردنا تطهير الشيء النجس بالماء القليل بواسطة إبريق مثلاً أو دوْرق أو ما شابه ذلك، يجب إراقة الماء من الأعلى إلى الأسفل. و إذا لاقت النجاسة الماء القليل يتنجّس، و لكن الماء الكر إذا لاقى الشيء النجس لايتنجس إلّاإذا تغيّرت واحدة من ثلاث صفات فيه و هي اللّون والرائحة والطعم.

يجب غسل الإناء النجس ثلاث مرّات بالماء القليل، و لكن تكفي مرة واحدة بالماء الجاري والماء الكر. أما الإناء الذي ولغ فيه الكلب و شرب منه ماء أو مائعاً آخر، يجب تعفيره بالتراب الطاهر أولاً، ثم بالتراب الممزوج بشيء من الماء على الأحوط وجوباً، و بعد ذلك غسله بالماء ثلاث مرّات على الأحوط. و كذلك الحال بالنسبة إلى الإناء الذي لطعه الكلب، أو سال لعابه فيه، فالأحوط وجوباً أن يُعفّر بالتُراب قبل غسله بالماء. و يجب غسل الإناء الذي ولغ فيه الخنزير سبع مرّات بالماء القليل، و بالكر والجاري أيضاً سبع مرّات على الأحوط. و لايجب تعفيره بالتراب، و إن كان الأحوط استحباباً. والإناء المتنجّس بالخمر يطهر بغسله بالماء القليل ثلاث مرّات، و كذلك بالماء الكر الجاري على الأحوط.

يطهر المخرج بالماء مع رعاية الشروط المذكورة في الأحكام الشرعيّة(1) بالحجر والخرق و أمثالها.

ص:327


1- - راجع: الأحكام الشرعيّة، المسائل 66، 69، 70.
2 - الأرض

تطهّر الأرض باطن القدم و باطن النعل المتنجّس بخمسة شروط:

1 و 2 - أن تكون طاهرة و جافّة على الأحوط وجوباً.

3 - أن تكون نجاسة باطن القدم والنعل و أمثالها حاصلة من المشي على الأرض المتنجّسة و ملاقاتها.

4 - أن تزول عين النجاسة أو المتنجّس - كالدم والبول والطين - التي تكون على باطن القدم أو النعل بالمشي على الأرض أو المسح بها.

5 - أن تكون الأرض تراباً أو حصىً أو حجراً أو مفروشة بالآجر. أمّا الأفرشة والسجّادة والحصير والعشب، فلا يطهر باطن القدم والنعل بالمشي عليها. و طهارة باطن القدم والنعل بالمشي على الأرض المزفّتة والأرض المفروشة بالأخشاب محل إشكال.

3 - الشمس

تطهّر الشمس، الأرض والأبنية و ما يدخل في بنائها مثل الأبواب والشبابيك، و كذلك المسامير المثبتة في الجدران التي تعدّ جزءاً من البناء بستّة شروط:

1 - أن يكون الشيء المتنجّس رطباً، بحيث إذا لامسه شيء آخر سرت رطوبته إليه.

2 - أن تزول عنه عين النجاسة إن كانت، قبل أن تشرق عليه الشمس.

3 - أن لايكون حائل بينه و بين الشمس. فلو أشرقت عليه الشمس من خلف ستار أو غيم وجفّفته، لايطهر، و لكن إذا كان الغيم خفيفاً بحيث لايمنع أشعة الشمس، فلا إشكال فيه.

4 - أن تستقلّ الشمس بتجفيف الشيء المتنجّس. فلو جفّ بسبب الريح والشمس معاً، لم يطهر. أمّا إذا كان الربح قليلاً بحيث لايقال إنّه ساعَدَ في تجفيفه. فلا إشكال فيه.

5 - أن تجفّف الشمس المقدار المتنجّس من الأرض والبناء مرّة واحدة. فلو أشرقت الشمس عليه في المرّة الأُولى وجفّفت ظاهرة، ثمّ اشرقت مرّة أُخرى وجفّفت باطنه، يطهر ظاهره و يبقى باطنه على نجاسته.

ص:328

6 - أن لايكون بين ظاهر الأرض أو البناء الذي تشرق عليه الشمس و بين باطنه فاصل من هواء أو جسم طاهر آخر، و إلّافإنّ الباطن لايطهر و إن جفّ بسبب شروق الشمس.

4 - الاستحالة

يطهر الشيء النجس أو المتنجّس إذا تغيّر جنسه إلى شيء طاهر، ويُسمّى ذلك الاستحالة. كأن يحترق الخشب المتنجّس و يصير رماداً، أو يسقط الكلب في بحيرة أملاح و يستحيل إلى ملح. أمّا إذا لم يتحوّل جنسه، كما لو طحنت الحنطة المتنجّسة، أو صنعت خبزاً، فإنّها لاتطهر.

5 - ذهاب ثلثي العصير العنبي

غليان عصير العنب الذي يوجب حرمته يكون في حالتين:

أ - إذا غلى عصير العنب بالنار يحرم تناوله و هو نجس احتياطاً. و لايطهر و لايحل إلّا إذا غلى بحيث يتبخّر ثلثاه.

ب - إذا غلى بنفسه يتنجّس و يحرم تناوله، و لايطهر و لايحل إلّاإذا صار خلّاً.

6 - الانتقال

إذا دخل دم الإنسان أو الحيوان ذي النفس السائلة، إلى جسم حيوان ليس بذي نفس سائلة كالبرغش، و صار يُعّدُّ من دمه، صار طاهراً. ويُسمّى ذلك: الانتقال، مثل الدم الذي تمتصه البعوضة من جسم الإنسان أو حيوان آخر و يصير جزءاً من جسم البعوضة.

7 - الإسلام

إذا نطق الكافر بالشهادتين؛ يعني أن يقول: «أشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أشهد أنَّ محمّداً رسول اللّه»، عن اعتقاد وعزم - حتى و إن كان بلغةٍ أُخرى - يصير مسلماً - و بناءً على القول بنجاسة الكافر - يطهر بدنه و عرقه.

ص:329

8 - التبعية

و هي طهارة الشيء النجس تبعاً لطهارة شيء نجس آخر، كالخمر إذا استحال خَلّاً، يطهر الإناء الذي كان فيه تبعاً لطهارة الخل.

9 - زوال عين النجاسة

إذا تنجّس بواطن الإنسان - مثل داخل الحلق والأنف - ثم تلاشت النجاسة يطهر الموضع و لايجب تطهيره بالماء. و كذلك إذا تنجّس بدن الحيوان وزالت عنه النجاسة. أمّا إذا تنجّس شيء خارجي موضوع في الفم - كالسن الاصطناعي مثلاً - فطهارته بمجرّد زوال عين النجاسة موضع إشكال.

10 - استبراء الحيوان الجلّال

الأحوط وجوباً نجاسة بول و غائط الحيوان الجلّال المعتاد على أكل نجاسة الإنسان.

و إذا أُريد تطهيره، وجب أن يُستبرأ؛ يعني يُمنع لمدّة - ورد بيانها في الأحكام الشرعيّة (1)- من أكل النجاسات ويُعطى طعاماً طاهراً.

11 - غيبة المسلم

إذا كان بدن المسلم أو ثيابه أو الأواني التي يستعملها متنجّسة، ثم غاب ذلك المسلم و كان هناك احتمال في تطهير تلك الأشياء بالماء، أو طهارتها بنزول المطر عليها، أو بالماء الكر أو الجاري، فلا يجب اجتنابها.

ب - الطهارة المعنوية
اشارة

هناك إضافة إلى الطهارة التي سبق الكلام عنها، نوع آخر من الطهارة التي أوجبها

ص:330


1- - راجع: الأحكام الشرعيّة، المسألة 227.

الإسلام، و اشترطها لصحّة أعمال عبادية منها الصلاة. و هي تتحقق بثلاثة أشياء: الوضوء، والغُسل، والتيمم.

الوضوء

الوضوء: اغتسال خاص يقوم به الإنسان بأمر اللّه قبل الصلاة و بعض العبادات الأُخرى، لتطهير القلب والتقرّب إلى اللّه. والوضوء عمل لطهارة الروح والاستعداد للعبادة. و لهذا فهو على درجة كبيرة من الأهمية، و قد وُصِفَ في رواية بأنه نور.(1)

و أمّا الأُمور التي يجب لها الوضوء فهي: الصلاة، والطواف الواجب، ومَسَّ كتابة القرآن، و كذلك لأداء نذر أو عهد أو قَسَم. والمصلّي يتهيّأ بهذا الاغتسال الظاهري لإزالة الخبائث والأدران الروحية والقلبية. و لهذا كلّما كان الإنسان يتوضّأ بمزيد من الاهتمام و حضور القلب، يكون له توجّه و إخلاص أكثر في الصلاة، و لكن لاينبغي طبعاً حصر الحكمة من الوضوء بهذه الأُمور أو بأُمور أخرى مثل رعاية جوانب الصحّة والنظافة. و ما يجب في الوضوء هو التعبّد والخضوع للّه الواحد.

يجب في الوضوء غسل الوجه واليدين، و مسح مقدّم الرأس و ظاهر القَدَميْن. و يمكن فعل ذلك بطريقين: الترتيبي، والارتماسي.

الوضوء الترتيبي والارتماسي

الوضوء الترتيبي هو صبُّ الماء على كل واحد من أعضاء الوضوء و غسله من الأعلى إلى الأسفل و بالترتيب. و أما في الوضوء الارتماسي فيغمر كل عضوٍ في الماء بالترتيب.

في الوضوء الترتيبي يجب غسل الوجه طولاً من منبت الشعر إلى نهاية الذقن من الأعلى إلى الأسفل، و عرضاً بمقدار ما شمله الإبهام والإصبع الوسطى. و لأجل أن يحصل له اليقين بغسل تمام هذه المساحة، يجب أن يغسل شيئاً مما حولها. و بعد الوجه، يغسل اليد

ص:331


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 8 من أبواب الوضوء، ج 1، ص 377، الحديث 8.

اليمنى ثم اليسرى، و أن يكون غسل اليدين من المرفق إلى نهاية الأصابع من الأعلى إلى الأسفل. و لأجل أن يحصل له اليقين بغسل المرفق كاملاً، يجب غسل مقدار قليل أعلى المرفق.

بعد تمام غسل اليدين يجب مسح ربع الرأس الواقع فوق الجبهة بالرطوبة الباقية على كف اليد، ثم يمسح ظاهر القدمين ابتداءً من رأس إحدى الأصابع إلى كعب القدم.

و عند المسح يجب أن يكون موضع المسح جافّاً، و أن يثبّت الرأس والقدم و يسحب اليد عليها. ولو كان الشعر طويلاً بحيث لو مشّطه مثلاً يصل إلى وجهه أو سائر أجزاء الرأس، يجب أن يمسح على أُصوله أو يفرّقه و يمسح على البشرة. أما لو لم يكن هذا الشعر طويلاً إلى هذا الحد يكفي المسح على ظاهر الشعر. والأحوط وجوباً مسح الرأس بكفّ اليد اليمنى من الأعلى إلى الأسفل بثلاثة أصابع. و في مسح القدمين توضع اليد على رؤوس الأصابع ثم تُسحب على ظهر القدم، لا أن توضع كل اليد على ظاهر القدم و تُسحب قليلاً.

شروط الوضوء

لصحة الوضوء ثلاثة عشر شرطاً:

1 و 2 - أن يكون ماء الوضوء طاهراً و مطلقاً.

3 - أن يكون الماء مباحاً، والأحوط وجوباً أن يكون الفضاء الذي يقع فيه الوضوء مباحاً أيضاً.

4 و 5 - أن يكون إناء ماء الوضوء مباحاً و ليس من الذهب والفضة.

6 - أن تكون أعضاء الوضوء حين الغسل والمسح طاهرة على الأحوط وجوباً.

7 - أن يكون هناك وقت كافٍ للوضوء والصلاة، و إلّافعليه أن يتيمّم.

8 - أن يكون الوضوء بقصد القربة؛ يعني يتوضّأ امتثالاً لأمر اللّه تبارك و تعالى.

9 و 10 - أداء أفعال الوضوء بالترتيب والموالاة والمتابعة.

ص:332

11 - أن يباشر الإنسان أعمال الوضوء بنفسه، لا أن يوضئه أو يساعده على الوضوء شخص آخر.

12 - أن لايكون في استعمال الماء ضرر عليه.

13 - أن لايكون على أعضاء الوضوء مانع من وصول الماء.

القماش واللّفاف الذي تُضَمّد به الجروح، والقماش أو البلاستيك اللاصق الذي يوضع على الجرح مؤقتاً لمنع وصول الماء إليه يُسمّى «جبيرة». و أي وضوء أو غسل أو تيمم يجري فوق هذا القماش أو اللّفاف أو اللاصق يُسُمى وضوء أو غُسل أو تيمم الجبيرة. و هو صحيح إذا جرى وفقاً للشروط التي بيّنتها الرسائل العملية.(1)

مبطلات الوضوء

مبطلات الوضوء سبعة:

1 و 2 - خروج البول والغائط.

3 - خروج ريح من مخرج الغائط.

4 - النوم الذي لاترى فيه العين و لاتسمع الأُذن، و لكن إذا توقّفت إحداهما فقط عن العمل لايبطل الوضوء.

5 - الأشياء المُذهبة للعقل مثل الجنون والسكر والإغماء.

6 - الاستحاضة.

7 - الأفعال التي توجب الغُسل، كالجنابة والحيض والنفاس والاستحاضة، بل مسّ الميّت على الأحوط، بعد برودته و قبل غسله.

الغسل

أحياناً يشترط «الغُسل» لصحة العبادة. يعني يجب غسل تمام البدن بترتيب و شروط خاصّة و بقصد القربة، و لايكفي الوضوء وحده. و في بعض الحالات يُستحب الغسل.

ص:333


1- راجع: الأحكام الشرعيّة، المسائل 332-352.
الأَغسال الواجبة

يجب الغُسل في عدّة موارد للصلاة و كل عمل يجب أداؤه بوضوء.

1 - غسل الجنابة، و هو ما يجب بسببين، الأوّل: الجماع، والثاني: خروج المني سواء في اليقظة أو في النوم.

2 و 3 و 4 - غسل الحيض، والاستحاضة والنفاس، الحيض هو الدم الذي يخرج من رحم المرأة عادة عدّة أيام من كل شهر، و لاتكون مدّة الحيض أقل من ثلاثة أيام، و لا أكثر من عشرة أيام. أمّا وقت و عدد أيام حيض المرأة فهو تابع للانتماء العرقي للمرأة و أُسرتها و ظروفها الجسمية و غير ذلك، فهي تحيض في زمان و مدّة خاصّة، و هو ما يُسمّى بالعادة.

والاستحاضة: و هي ما تراه المرأة من الدم الذي تقل مدّته عن ثلاثة أيام أو تزيد على عشرة أيام.

النفاس: و هو كل دم تراه المرأة من أول خروج جزء من الطفل من بطنها و مدته مثل مدّة العادة الشهرية. و إذا لم تكن هناك مدّة ثابتة للعادة، فإنّ مدّة النفاس لاتكون أكثر من عشرة أيام، و لكن قد تكون أقل من ثلاثة أيام.

و في كل واحدة من هذه الحالات الثلاثة يجب على المرأة بعد أن تطهر أن تغتسل غسل الحيض، أو الاستحاضة، أو النفاس، من أجل الصلاة والعبادات الأُخرى. و تفصيل ذلك مذكور في الرسائل العملية.(1)

5 - غسل مسّ الميّت، يجب أن يغتسل الإنسان غسل الميّت مسّ الميّت إذا مسّ الميّت، أي لامس بجزء من بدنه بدنَ الميت - عدا الشعر بعد أن يبرد و قبل أن يُغَّسل.

و يشمل هذا الحكم أيضاً إذا مسَّ قطعة منفصلة من جسم الميّت إن كان فيها عظم.

6 - غسل الميّت، يجري غسل الميّت على نحو خاص؛ إذ يجب ابتداءً غسل تمام

ص:334


1- راجع: الأحكام الشرعيّة، المسائل 400-527.

البدن بالماء المخلوط بالسِدر، و من بَعده يُغسل بالماء المخلوط بالكافور، ثم بالماء الخالص القراح، بالنحو الذي جاء في الرسائل العملية.(1)

7 - الغُسل الذي يجب بالنذر أو اليمين أو العهد.

كيفية الغسل

يمكن الغسل بطريقين: الغسل الترتيبي، والغسل الارتماسي. و في الغسل الترتيبي يجب غسل الرأس والرقبة أوّلاً، ثم على الأحوط وجوباً غسل الجانب الأيمن من البدن، ثم غسل الجانب الأيسر. والغسل الارتماسي أن يرمس الإنسان بدنه في الماء دفعة واحدة بنيّة الغسل.

أحكام الغسل

1 - كل الشروط التي ذكرت لصحّة الوضوء، تُشترط في صحّة الغسل أيضاً، و لكن لا يجب في الغسل غسل البدن من الأعلى إلى الأسفل، و لاتجب الموالاة والمتابعة في الغَسل، بشرط أن لايأتي بما يبطل الوضوء.

2 - من تجب عليه عدّة أغسال يمكنه أن ينويها جميعاً في غسل واحد. و يمكنه أيضاً الغسل مرّة واحدة عن عدّة أغسال واجبة و مستحبّة.

3 - من يغتسل عن الجنابة لايتوضّأ للصلاة، و لكن لايصح أن يصلّي بالأغسال الأُخرى، والأحوط وجوباً أن يتوضّأ معها.

4 - يشترط على الأحوط وجوباً في صحة الغسل الارتماسي أن يكون جميع البدن طاهراً. و لايجب ذلك في الغسل الترتيبي، بل يكفي فيه تطهير كل جزء قبل غسله.

5 - لايجوز للصائم صوماً واجباً معيناً أن يغتسل غسلاً ارتماسياً حين الصوم؛ لأن الصائم يجب أن لايغمر كل رأسه في الماء.

ص:335


1- راجع: المصدر السابق، المسائل 557-577.

6 - إذا أحَدَث أثناء الغُسل ما يوجب الوضوء، فالأحوط وجوباً أن يستأنف الغُسل و أن يتوضّأ.

7 - إذا وجب على المكلّف غسل آخر و لم يغتسل، ثم أجنب واغتسل من الجنابة، يكفيه غسل الجنابة عن الأغسال الأُخرى و إن لم يلتفت إليها عندما اغتسل.

أحكام الجنابة

الغُسل الوحيد الذي صَرّح به القرآن الكريم هو غسل الجنابة: (وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (1) و من هنا يُستفاد أنه يمكن الصلاة بغُسل الجنابة و لايجب الوضوء.

و مع وجوب غسل الجنابة للصلوات الواجبة والصوم الواجب والطواف، و لكن الإتيان به لذاته مستحب، ويُذم البقاء على الجنابة، ويكره كراهة شديدة الأكل والشرب والنوم في حال الجنابة. وتزول الكراهة في هذه الحالات الثلاثة بالوضوء أو التيمم قربة إلى اللّه تعالى في حالة النوم لعدم وجدان الماء.

ما يحرم على الجنب

يحرم على الجنب خمسة أشياء:

1 - مسّ كتابة القرآن، بأي جزء من أجزاء البدن، و كذا لفظ الجلالة على الأحوط وجوباً. و كذلك مسّ أسماء الأنبياء والأئمّة والزهراء - عليهم الصلاة والسلام - إذا استلزم مسّها هتكاً و إهانة كما تقدّم ذكره في الوضوء.

2 - الدخول إلى المسجد الحرام و مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و إن دخل عابراً من باب و خرج من آخر.

3 - المكث في المساجد الأُخرى. و كذلك على الأحوط وجوباً حرم مشاهد الأئمّة عليهم السلام. أمّا إذا دخل من باب و خرج من آخر، أو دخل المسجد لأخذ شيء منه فلا حرمة عليه.

ص:336


1- سورة المائدة (5)، الآية 6.

4 - وضع شيء في المسجد.

5 - قراءة سور العزائم التي فيها آيات السجدة الواجبة. و هي أربع سور: 1 - السورة الثانية والثلاثون (ألم تنزيل). 2 - السورة الحادية والأربعون (حم السجدة). 3 - السورة الثالثة والخمسون (والنّجم). 4 - السورة السادسة والتسعون (إقرأ). فإذا قرأ الجنب حرفاً من هذه السور - ولو غير آية السجدة - فهو حرام على الأحوط وجوباً، و أمّا من آية السجدة فحرام بدون شكّ.

أحكام الحيض

1 - يَحرم الجماع في أيام الحيض.

2 - لاتجوز عليها العبادات التي تُشترط فيها الطهارة كالصوم والصلاة، و لكن يستحب لها في وقت الصلاة اليومية أن تتوضّأ و تجلس نحو القبلة و تدعو و تذكر اللّه.

3 - لاقضاء للصلوات اليومية التي لم تصلّها المرأة حال الحيض، و لكن يجب أن تقضي ما فاتها من الصوم الواجب.

4 - كل ما يحرم على الجنب، يحرم على الحائض أيضاً، و يجب عليها اجتنابه و يجب عليها الاغتسال بعد الطهارة من الحيض.

التيمُّم

شُرّعت الأحكام في الإسلام على نحو يسهل العمل بها، و لا تُوقِع الأفراد والمجتمع في عُسرِ و مشقّة. و نذكر على سبيل المثال الطهارة لأداء الصلاة، فلو تعذّر الوضوء أو الغُسل لسبب أو آخر يجب التيمم بدلاً من الوضوء أو الغُسل. قال اللّه تعالى في التيمم:

(ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .(1)

ص:337


1- سورة المائدة (5)، الآية 6.

إنّ الغاية من الوضوء أو الغسل ليست النظافة فقط حتّى يقال: كيف يمكن احراز النظافة بالتيمم. فأحكام الشريعة الإسلامية المقدّسة فيها إضافة إلى الحِكَم والغايات التي يفهمها الكثير من الناس، مصالح و علل أُخرى ربّما لايتيسّر فهمها لجميع الناس. والجوهر المشترك في جميع الأحكام الإلهية هو إيجاد حالة من التعبد و غرس روح الطاعة والخضوع للّه.

كيفية التيمم

التيمم عبارة عن ضرب كفّي اليدين على الأرض و مسحهما على الوجه و ظاهر الكفّين، وفقاً للشروط التالية:

1 - نيّة التيمم بدلاً من الوضوء أو الغسل.

2 - ضرب كفي اليدين معاً على الأحوط، على ما يصح التيمم به.

3 - مسح تمام الجبهة و طرفيها بكفّي اليدين معاً، من منبت الشعر إلى الحاجبين و أعلى الأنف. والأحوط وجوباً مسح الحاجبين أيضاً.

4 - مسح تمام ظاهر الكفّ اليمنى من الزند إلى أطراف الأصابع بباطن الكفّ اليسرى، ثم مسح تمام ظاهر الكفّ اليسرى بباطن اليد اليمنى. والأحوط أن يضرب كفّي اليدين على الأرض مرّتين، ثمّ يمسح الجبهة و ظاهر الكفين بهما، ثم يضرب الكفّين مرّة أُخرى على الأرض و يمسح ظاهر الكفين بهما.

ما يصحّ به التيمم

يصح التيمم بالتراب والحصى والحجر والمدر والطين المطبوخ كالآجر والخزف و حجر الجص والنورة و أحجار الرخام و سائر أقسام الحجر، و لكن التيمم على المعادن مثل حجر العقيق والفيروزج، باطل. و لايُترك احتياطاً تقديم التراب على الباقي خصوصاً الحجر.

يجب أن يكون ما يُتيمم به طاهراً و غير مغصوب، و إذا كان التيمم بما فيها غبار، فالأحوط أن يعلق باليد شيء من الغبار.

ص:338

موارد التيمم

1 - تعذر الحصول على الماء الكافي للوضوء أو الغسل.

2 - إذا لم يتمكن من الحصول على الماء بسبب شيخوخته أو خوفه من سارق أو سبع و أمثالهما، أو لعدد وجود وسيلة لحمل الماء.

3 - الخوف من المرض أو أن يطول أو يشتد عليه المرض بسبب استعمال الماء.

4 - إذا خاف - من صرف الماء في الوضوء أو الغسل، على نفسه، أو زوجته و أولاده، أو رفقائه، أو نفس محترمة يجب حفظها - الموت عطشاً أو المرض أو العطش الذي يشق تحمّله، و كذلك إذا خاف على حيوان كالفرس والبغل مما لايُذبح عادة لأكل لحمه، فيجب عليه في مثل هذه الحالة أن يتيمّم بدلاً من الغسل أو الوضوء.

5 - ضرورة صرف الماء لتطهير البدن أو الثوب النجس.

6 - إذا لم يكن عنده ماء أو إناء غير ما يحرم استعماله.

7 - إذا كان وقت الصلاة ضيّقاً و لم يكن هناك وقت كافٍ للوضوء أو الغسل.

واجبات الصلاة

1 - النيّة؛ و تعني العزم والإرادة على فعل شيء. و إذا كان الإنسان منتبهاً للعمل الذي يؤدّيه، فلابّد أن يكون قاصداً له ولديه نيّة على أدائه. و على الإنسان أن يؤدّي العبادات و منها الصلاة بنيّة القربة إلى اللّه؛ أي امتثالاً لأمر اللّه تعالى. و لايجب أن يستحضر النيّة في قلبه، و لا أن يتلفظ بها بلسانه.

2 - القيام؛ عند الإمكان يجب أن يكون المصلّي في حالة قيام أثناء التكبير و قراءة الحمد والسورة. والقيام حال تكبيرة الإحرام، والقيام الذي عنه يركع ركنان.

3 - تكبيرة الإحرام؛ تبدأ الصلاة بقول «اللّه أكبر». و من بعدها يجب على المصلّي اجتناب كل ما لايناسب حال الصلاة.

ص:339

4 - القراءة؛ و هي قراءة سورة الحمد وسورة أُخرى من القرآن في الركعتين الأُولى والثانية، و قراءة التسبيحات الأربعة و هي «سبحان اللّه والحمد لِلّه و لا إله إلّااللّه واللّه أكبر» ثلاث مرّات أو قراءة سورة الفاتحة وحدها في الركعتين الثالثة والرابعة.

5 - الركوع؛ و هو الانحناء إلى الأمام بعد قراءة الحمد والسورة أو التسبيحات الأربعة في كل ركعة، بحيث يمكنه أن يضع يديه على ركبتيه، و أن يكون في ذلك الحال في توجه كامل إلى اللّه، و يذكر عظمته، و يكفي فيه الإتيان بأي ذكر كان، والأحوط وجوباً إن أراد «سبحان اللّه» أن يقولها ثلاث مرّات. و إذا أراد أن يقول شيئاً آخر غير ذلك، لايقلّ عن قول «سُبحان اللّه» ثلاث مرّات، أو مرّة واحدة «سُبحان رَبِّىَ العَظيم و بِحَمده». والأحوط اختيار التسبيح من بين الأذكار.

6 - السجود؛ يقف المصلّي بعد الركوع ثم يسجد بكل تواضع. والسجود هو أن يضع جبهته، و كفّي يديه، ورأس ركبتيه، ورأس إبهامي قدميه على الأرض، و يذكر اللّه بالتعظيم و يقول ثلاث مرّات «سبحان اللّه» أو مرة واحدة «سُبحانَ رَبّىَ الْاَعْلى وَ بِحَمْدِه» أو أي ذكر آخر بالنحو الذي ورد تفصيله في الركوع. ثم يرفع رأسه من السجود و يجلس ثم يسجد السجدة الأُخرى.

يجب السجود على الأرض أو ما أنبتت مما لايؤكل و لايُلبس، كالخشب و أوراق الأشجار و أمثال ذلك، و لكن يبطل السجود على ما يلبسه و يأكله الإنسان كالحنطة والشعير والخبز، كما يبطل السجود على الذهب والفضة و كذا العقيق والفيروزج على الأحوط وجوباً. أما السجود على الأحجار المعدنية كحجر المرمر والأحجار السود و حجر الجص و حجر النورة فلا إشكال فيه، بل يصحّ السجود أيضاً على الجص والنورة المطبوخين، و على الآجر والكوز الطيني و أمثالها، و إن كان الأحوط تركه.

7 - التشهد؛ على المصلّي في الركعة الثانية من كل الصلوات الواجبة والمستحبّة والركعة الثالثة من صلاة المغرب، والرابعة من صلاة الظهر والعصر والعشاء؛ أن يجلس بعد السجدة الثانية و يأتي بالتشهّد و هو مستقر البدن فيقول: «اَشْهَدُ انْ لا الهَ الاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لاشَريكَ لَه، وَ اشْهَدُ انَّ مُحَمّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ.»

ص:340

8 - السلام؛ يستحب بعد التشهّد في الركعة الأخيرة من الصلاة أن يقول و هو جالس مستقر البدن: «السَّلامُ عَلَيْكَ ايُّهَا النَّبِىُّ وَ رَحْمَةُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ» و يجب عليه أن يقول بعده:

«السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَةُ اللّهِ وَ بَرَكاتُه» أو يقول: «السَّلامُ عَلَيْنا وَ عَلى عِبادِ اللّهِ الصّالِحينَ»؛ و لكن إذا أتى بهذا السلام الأخير، يحسن أن يتبعه بقوله: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَةُ اللّهِ وَ بَرَكاتُه».

9 - الذكر؛ يجب على المصلّي أن يأتي باذكار الركوع والسجود والتشهد والسّلام كما مرّ بيانه.

10 - الترتيب؛ الترتيب في الصلاة معناه أن يأتي بواجبات الصلاة بالترتيب المذكور، و إذا أخلَّ بالترتيب بين أجزاء الصلاة عامداً فصلاته باطلة.

11 - الموالاة؛ يجب على المصلّي أن يأتي بالصلاة بنحو الموالاة؛ أي أن يُتابع بين أفعالها كالركوع والسجود والتشهد، و يتابع بين تلاوتها بالنحو المتعارف. فإذا فصل بينها بمقدار لايُقال له أنه يُصلّي، وخرج بذلك عن هيئة المصلّي، فصلاته باطلة.

أحكام الصلاة

1 - هناك مِن بين واجبات الصلاة خمسة أركان، والأركان الخمسة للصلاة هي: النيّة، و تكبيرة الإحرام، والقيام حال تكبيرة الإحرام، والقيام المتّصل بالركوع، والركوع، والسجدتان. فإذا زاد أو نقص أحد هذه الأركان عمداً أو سهواً تبطل صلاته. و سائر واجبات الصلاة ليس ركناً؛ أي إذا زاده أو نقّصه عمداً تبطل صلاته، و إذا نقّصه أو زاده سهواً لاتبطل.

2 - يجب على كل مسلم تعلّم جميع كلمات الصلاة باللغة العربية و بالشكل الصحيح، و أن يقرأها بشكل صحيح.

3 - يجب على الرجل والمرأة أن يقرأ الحمد والسورة في صلاة الظهر والعصر إخفاتاً.

و يجب على الرجل أن يقرأ الحمد والسورة في صلاة الصبح والمغرب والعشاء جهراً، و لكن هذا غير واجب على المرأة.

ص:341

4 - يجب أن يكون البدن مستقراً حال الأذكار الواجبة، بل الأحوط وجوباً أن يكون مستقراً حال الأذكار المستحبّة، إذا أتى بها بنيّة كَوْنها ذِكْراً من الأذكار المستحبّة الواردة في الصلاة، عدا قول «بِحَوْلِ اللّهِ وَ قُوَّتِهِ اقُومُ وَ اقعُد» فعليه أن يقولها حال النهوض للوقوف لركعة أُخرى.

مستحبات الصلاة

مثلما في الصلاة أركان و أذكار واجبة، كذلك فيها أعمال مستحبّة وردت تأكيدات كثيرة عليها، و لها تأثير كبير في التوجّه إلى اللّه:

1 - الأذان والإقامة؛ يستحب للمصلّي الأذان والإقامة قبل الصلوات الواجبة اليومية.

و يستحب أن يقول قبل صلاة عيد الفطر والأضحى ثلاث مرّات: «الصلاة»، بدلاً من الأذان والإقامة.

الأذان ثماني عشرة جملة:

«اللّه أكبر»، أربع مرّات. «أشهد أنْ لا إله إلّااللّه». «أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه».

«حَىَّ عَلَى الصَّلاة». «حَىَّ عَلى الفَلاح». «حَىَّ عَلى خَيرِ العمل». «اللّه أكبر». «لا إله إلّا اللّه» كل واحدة من هذه الجمل مرّتان.

والإقامة سبع عشرة جملة:

حيث ينقص من جمل الأذان مرّتان «اللّه كبر» من أوّلها، و مرّة واحدة «لا اله الّا اللّه» من آخرها، و يضاف بعد «حىّ على خير العمل»، «قد قامت الصلاة»، مرّتان.

«أشهد أنّ علياً ولي اللّه»، ليست جزءً من الأذان والإقامة، و لكن يحسن الإتيان بها بعد «أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه»، بقصد القربة المطلقة لا بقصد الورود.

2 - القنوت؛ يستحب القنوت قبل ركوع الركعة الثانية، و هو أن يرفع يديه مقابل وجهه و يذكر اللّه بما هو شأنه، والأفضل أن يقرأ فيه من الأدعية المأثورة عن المعصومين، أو من آيات القرآن الكريم.

ص:342

3 - يستحب مؤكّداً قول «اللّه أكبر» بعد كل عمل، و كذلك قبل الركوع، و أن لايترك هذا جهد الإمكان.

4 - يُستحب حال كل تكبيرة - و خاصة حال تكبيرة الإحرام - أن يرفع يديه إلى مقابل أُذنيه بحيث يكون باطن الكفين باتجاه القبلة.

5 - يستحب حال القيام النظر إلى موضع السجود، و حال القنوت النظر إلى باطن الكفّين، و حال الركوع النظر إلى ما بين القدمين، و حال الجلوس النظر إلى حجره.

6 - يُستحب أن يقول بعد الوقوف الكامل من الركوع والاستقرار «سَمِعَ اللّهُ لِمَنْ حَمِدَه»؛ و أن يقول حين النهوض لركعة أُخرى: «بِحَوْلِ اللّهِ وَ قُوَّتِهِ اقومُ وَ اقعُد».

7 - يستحب بعد الصلاة أن يجلس قليلاً و يفكر و يناجي ربّه، و لايشترط أن يكون ذلك باللُّغة العربية، و لكن الأفضل الإتيان بالمسنون الوارد عن المعصومين. ويُستحب قراءة ما علّمهُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة الزهراء عليها السلام والمعروف باسم تسبيح الزهراء عليها السلام و هو بالترتيب التالي: 34 مرّة «اللّه أكبر»، 33 مرّة «الحمد للّه» و 33 مرّة «سبحان اللّه».

و تُستحب بعد الصلاة سجدة الشكر، و يقول فيها ثلاث مرّات «شكراً للّه» أو «شكراً» أو «عفواً».

مبطلات الصلاة

من المفترض طبعاً أن يقف العبد في الصلاة بين يدي ربّه بحضور قلب و انتباه تام إلى عظمة اللّه، و في الوقت ذاته، عليه أن ينتبه أن لايصدر منه ما يوجب الذهول عن الصلاة و بطلانها.

و مبطلات الصلاة إثنا عشر:

1 - إذا انتفى أثناء الصلاة أحد شروطها، مثل انكشاف الستر اللازم للمرأة والرجل.

2 - إذا حدث أثناءها سهواً أو عمداً أو اضطراراً مايُبطل الوضوء والغُسل كخروج البول مثلاً.

3 - أن وضع المصلّي إحدى يديه على الأُخرى معتبراً ذلك من واجبات الصلاة، فالأحوط وجوباً أن يعيد صلاته.

ص:343

4 - أن يقول عمداً «آمين» بعد الحمد.

5 - تعمّد استدبار القبلة أو الانحراف عنها إلى جهة اليمين أو جهة الشمال.

6 - تعمّد التلفّظ بكلمة خارج الصلاة يقصد معناها، بل حتى إذا لم يقصد معناها على الأحوط وجوباً.

7 - تعمد الضحك المشتمل على صوت، و إذا ضحك سهواً بصوت وخرج بذلك عن هيئة المصلّي فصلاته باطلة، و لكن التبسّم لايبطل الصلاة.

8 - تعمّد البكاء المشتمل على صوت لأمرٍ دنيوي، و لكن إذا بكى بلا صوت لأمرٍ دنيوي عمداً من دون اختيار فقيه إشكال.

9 - إذا جاء بفعل يمحو صورة الصلاة.

10 - الأكل والشرب.

11 - الشك في عدد ركعات الصلاة الثنائية، أو الثلاثية، أو في الركعتين الأُوليين من الرباعية.

12 - زيادة الركن أو نقصانه عمداً أو سهواً، أو زيادة غير الركن من واجبات الصلاة أو نقصانه عمداً.

صلاة المسافر

1 - يجب على المسافر أن يصلّي صلاة الظهر والعصر والعشاء قصراً (أي يصلّي ركعتين لكل واحدة منها).

2 - من نوى ثمانية فراسخ، يجب أن يقصر صلاته عندما يصل إلى مكان لايرى فيه سور البلد و لايسمع أذانه.

3 - مَن شغلهم السفر كالجمّال والسائق والراعي والبحّار و أمثال هؤلاء يجب أن يتمّوا الصلاة في غير سفرهم الأوّل. و أما في سفرهم الأوّل فيجب أن يقصروا الصلاة و إن طال، إلا أن يكون طويلاً جداً بحيث يصدق عليهم عرفاً أنّ عملهم السفر، أو يكون سفرهم متواصلاً بعد وصولهم إلى مقصدهم الأوّل إلى أمكنة أُخرى دون أن يرجعوا إلى وطنهم.

ص:344

4 - التاجر والكاسب الدوّار، والعُمّال والمضيّفون في القطارات والسُفن والطائرات، والمعلّم والآمر والمأمور السيّار، والطلاب الذين يضطرّون للسفر في كل أسبوع عدّة أيام إلى مدينة أُخرى و يقطعون المسافة الشرعية، يكون حُكْمهم حكم من عمله السفر وصلاتهم تامّة و يجب عليهم الصوم أيضاً.

5 - من سافر و نوى الإقامة عشرة أيام متوالية في مكان، يجب أن يتم صلاته.

6 - إذا كان في السفر ضرر له كأن يُسافر للسرقة أو لإيذاء و ظلم الغير، أو لشراء و بيع أشياء محرّمة كالمشرو بات الكحولية، يجب عليه أن يتم صلاته.

صلاة الجماعة

وردت تأكيدات كثيرة على صلاة الجماعة، فقد جاء في الحديث أنه إذا كانا اثنين كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة مئة وخمسين صلاة، و إذا كانوا ثلاثة، كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة ستمئة صلاة، (و كلّما زاد عددهم زاد ثواب صلاتهم إلى أن يصل عددهم إلى العشرة) و متى ما كانوا أكثر من عشرة، فلو صارت السموات كلها قرطاساً، والبحار مداداً، والأشجار أقلاماً، والثقلان مع الملائكة كُتّاباً، لم يقدروا أن يكتبوا ثواب ركعة واحدة.(1)

يُستحب أداء الصلوات اليومية، والصلاة على الميّت، وصلاة الآيات جماعة. و قد ورد التأكيد أكثر في الصلوات اليومية، و خاصّة صلاة الصبح والمغرب والعشاء، وخصوصاً لجار المسجد، و من يسمع أذان المسجد.

وتُقام صلاة الجماعة بشخصين، أحدهما يتقدّم و يبدأ بالصلاة و هو الإمام، والآخر يقتدي به و هو المأموم.

والإمام يقرأ بدلاً من الآخرين الحمد والسورة، والآخرون ينصتون و يذكرون اللّه بقلوبهم، كما جاء في القرآن: (وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .(2)

ص:345


1- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 1 من أبواب صلاة الجماعة، ج 6، ص 444، الحديث 3.
2- سورة الأعراف (7)، الآية 204.
شروط صلاة الجماعة

1 - يجب أن لايكون هناك بين الإمام والمأموم ساتر، و كذلك بين المأموم والمأموم الآخر الذي يتصل بواسطته بالإمام، و لكن إذا كان الإمام رجلاً والمأموم إمرأة، فلا إشكال في وجود الساتر و أمثاله بينها و بين الإمام، أو بينها و بين المأموم الرجل الذي تتصل بواسطته بالإمام، و لكن يلزم أن يكون بحيث يعدّ الجميع عرفاً جمعاً واحداً.

2 - يجب أن لايكون موقف الإمام أعلى من موقف المأموم.

3 - الأحوط وجوباً أن لايكون الفاصل بين مسجد المأموم و موقف الإمام، و بين المأمومين أنفسهم أكثر من خطوة متعارفة.

4 - لايجوز أن يتقدم المأموم في موقفه على الإمام، والأحوط وجوباً أن لايساويه.

شروط إمام الجماعة

يجب أن يكون إمام الجماعة عاقلاً، عادلاً، إمامياً إثني عشرياً، طاهر المولد، والأحوط وجوباً أن يكون بالغاً، و أن يؤدي الصلاة بشكل صحيح. و إذا كان المأمومون رجالاً أو رجالاً و نساءً، يجب أن يكون الإمام رجلاً، و لكن إمامة المرأة للمرأة جائزة.

الصلوات الواجبة الأُخرى
صلاة الجمعة

تُصلّى يوم الجمعة - حين توفّر شروطها - بدلاً من صلاة الظهر. و قد ورد في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تأكيد كثير عليها.

و إذا أمكن تحصيل شروط صلاة الجمعة في زمن غيبة الإمام المهدي (عج) فالأحوط وجوباً إقامتها. و إذا انعقدت فالأحوط وجوباً لواجدي الشرائط أن يحضروها و لايتركوها

ص:346

بدون عذر شرعي.

صلاة الجمعة من التعاليم الاجتماعية المهمة في الإسلام؛ و لها أهمية بالغة، و لأجل أن يشترك فيها أكبر عدد من الناس فقد جُعلت لها الشروط التالية:

1 - يحضر الناس لإقامتها من مسافة فرسخين.

2 - يجب أن لايكون الفاصل بين الجمعتين أقلَّ من فرسخ شرعي؛ فيتفرّق الناس إلى جماعات صغيرة، و إنّما يشاركون كلّهم في اجتماع أكبر و يجنون المزيد من نتائجه الاجتماعية.

3 - لايجوز القيام بأي عمل يزاحم صلاة الجمعة، نظير المعاملات التي تجري قبل الانتهاء من صلاة الجمعة، و لكنّها غير باطلة.

كيفية صلاة الجمعة

صلاة الجمعة ركعتان كصلاة الصبح. ويُستحب مؤكّداً قراءة سورة «الجمعة» بعد الحمد في الركعة الأُولى، وسورة (المنافقون) بعد الحمد في الركعة الثانية. ويُستحب فيها قنوتان؛ الأوّل في الركعة الأُولى قبل الركوع، والثاني في الركعة الثانية بعد الركوع، و يجب فيها أن يخطب الإمام قبل الصلاة خطبتين.

شروط إمام الجمعة

يجب أن يكون إمام الجمعة بالغاً، عاقلاً، رجلاً، مؤمناً، طاهر المولد، عادلاً، قادراً على الخطبة من قيام. كما أن الأحوط وجوباً أن يكون منصوباً من قبل المجتهد الجامع لشرائط الحكم. و إذا تعدّد المجتهدون الجامعون للشرائط، فيجب أن يكون منصوباً من قبل المجتهد المتصدّي لإدارة شؤون المسلمين الاجتماعية والسياسية. و إذا لم تكن إدارة هذه الشؤون بيد المجتهد العادل فالأحوط وجوباً أن يكون إمام الجمعة مجتهداً لائقاً بهذا المقام، أو منصوباً من قِبل مثل هذا المجتهد. و إذا لم يكن إمام الجمعة جامعاً للشرائط لاتجب المشاركة في تلك الجمعة و لاتصح الصلاة فيها.

ص:347

يحسن أن يكون إمام الجمعة رجلاً مخلصاً، شجاعاً، صريحاً، حاسماً، وقوراً، خطيباً، ذافصاحة و بلاغة، و معرفة بأوضاع العالم الإسلامي و بصيراً بمصالح الإسلام والمسلمين، و أن يطرح في الخطب المسائل الاجتماعية والسياسية، و مصالح المسلمين و حاجاتهم المادّية والمعنوية، و أن يحرص في الخطبة على رفع مستوى وعي المسلمين و رشدهم السياسي والمعنوي، و أن ينبّه المسلمين إلى كيفية تعاملهم مع بعضهم و تعاملهم مع سائر الأُمم، و أن يعلّمهم طرق المقاومة ضد المستعمرين والظالمين.

و نظراً إلى أن صلاة الجُمعة كصلاة العيدين والحج، عبادة ممتزجة بالسياسة، فيلزم الاستفادة من هذه الفرائض لمصلحة استقلال و عزّة الإسلام والمسلمين؛ لأن الإسلام أخذ بعين الاعتبار جميع شؤون المسلمين و أبعاد حياتهم، و من جملتها قضاياهم السياسية والاقتصادية. والذين يرفضون طرح قضايا الإسلام السياسية والاقتصادية لم يعرفوا الإسلام كما يليق به.

صلاة العيدين

على المسلمين حيثما كانوا أن يصلّوا ركعتي صلاة العيدين، في كل واحد من العيدين الإسلاميين الكبيرين، وهما عيد الفطر (الأول من شهر شوّال)، و عيد الأضحى (العاشر من شهر ذي الحجة)، وقت صلاة العيد من شروق الشمس يوم العيد حتّى الظهر.

تجب هذه الصلاة في زمان حضور الإمام المعصوم عليه السلام و بسط يده، و يجب أن تُصلّى جماعة. و في زمان الغيبة إذا كان تحصيل شروطها ميسّراً، فالأحوط وجوباً أن تُقام، و أن يحضرها الأشخاص الواجدون للشروط، إذا لم يكن لهم عذر شرعي.

كيفية صلاة العيد

صلاة العيد ركعتان. والأحوط وجوباً أن يكبّر بعد قراءة الحمد والسورة في الركعة الأُولى خمس تكبيرات، و يقنت بعد كلّ تكبيرة، ثم يكبّر بعد القنوت الخامس تكبيراً آخر، و يهوي إلى الركوع، ثمّ يأتي بسجدتين، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، و يكبّر بعد قراءة الحمد

ص:348

والسورة أربع تكبيرات، و يقنت بعد كلّ تكبيرة، ثم يكبّر الخامسة و يهوي إلى الركوع، و يأتي بعده بسجدتين ثم يتشهدّ و يسلّم، و يجب أن يخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين.

و ما يعتبر في إمام الجمعة من الشروط يُعتبر في إمام صلاة العيد الواجبة أيضاً.

الأفضل أن يقرأ في الركعة الأُولى من صلاة العيد سورة الأعلى و في الركعة الثانية سورة الشمس، أو يقرأ في الركعة الأُولى سورة الشمس و في الركعة الثانية سورة الغاشية.

يكفي في قنوت صلاة العيدين أن يقرأ أيَّ دعاء أو ذكر، و لكن الأفضل أن يقرأ الدعاء التالي بنيّة رجاء الثواب:

«اللّهمّ اهْلَ الْكِبرياءِ والْعَظَمةِ وَ اهْلَ الْجُودِ وَالْجَبَروتِ وَ اهْلَ الْعَفْوِ وَالرَّحْمةِ وَ اهْلَ التَّقْوى وَالْمَغْفِرةِ، اسئلُكَ بِحقّ هذَا الْيَومِ الَّذي جَعَلْتَهُ لِلْمُسْلِمينَ عيداً وَ لِمُحَمّدٍ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَ آله ذُخْراً وَ شَرَفاً وَ كَرامَةً وَ مَزيداً، ان تُصَلِّىَ عَلى مُحَمّدٍ وَ آلِ مُحَمّدٍ و انْ تُدْخِلَني في كُلِّ خَيْرٍ ادْخَلْتَ فيه مُحَمّداً و آلَ مُحَمّدٍ وَ انْ تُخْرِجَني مِنْ كُلّ سُوءٍ اخْرَجْتَ مِنْهُ مُحَمّداً وَ آلَ مُحَمّدٍ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَ عَلَيْهِم. اللّهُمَّ انّي أسْئلُكَ خَيْرَ ما سَأَلَكَ بِه عِبادُكَ الصّالِحون وَ اعُوذُ بِكَ مِمَّا اسْتَعاذَ مِنْهُ عِبادُكَ الْمخلَصونَ».

صلاة الآيات

عند كسوف الشمس و خسوف القمر و إن كان جزئياً و لم يخف منهما أحد، والزلزلة و إن لم يخف منها أحد، والرعد والبرق والريح السوداء والحمراء، فيما إذا خاف منها أغلب الناس، بل الأحوط لكل آية سماوية أو أرضية خارجة عن المتعارف و إن لم يُخَف منها على الأغلب، يجب صلاة ركعتين، و هذه هي صلاة الآيات.

قبل الإسلام كان الناس يخافون من هذه الظواهر، و يقومون بأفعال مُختلفة إزاءها، و كان الحال يصل بهم أحياناً إلى حدِّ التضحية بأبنائهم. أما في الإسلام فقد دعت الشريعة إلى صلاة ركعتين من أجل لفت الأنظار إلى خالق الكَوْن و مدبّر شؤون هذا العالم. و لهذا السبب سُمّيت هذه الصلاة بصلاة الآيات.

ص:349

وقت صلاة الآيات

يبدأ وقت صلاة الآيات في حالتي الكسوف والخسوف من بدء الكسوف أو الخسوف و يبقى وقتها ما دام جميع القرص لم ينجل بشكل كامل، و لكن إذا صلّاها بعد تمام الانجلاء فيجب أن ينوي القضاء.

عدا الكسوف والخسوف، متى ما حدثت زلزلة أو رعد أو برق و أمثالها، يجب أن يُصلّي صلاة الآيات فوراً، و إذا لم يصلّها يرتكب معصية، و تبقى واجبة عليه حتى آخر العمر، و في أي وقت صلّاها فهي أداء.

كيفية صلاة الآيات

صلاة الآيات ركعتان. في كل ركعة خمسة ركوعات. و يمكن صَلاتها على نحوين:

أ - أن ينوي و يكبّر و يقرأ الحمد وسورة كاملة و يركع، ثم يرفع رأسه من الركوع و يقرأ مرّة ثانية الحمد وسورة ثم يركع، إلى خمس مرّات. و بعد القيام من الركوع الخامس يسجد سجدتين، ثم يقوم و يأتي بالركعة الثانية مثل الركعة الأُولى، و يتشهد ويُسلّم.

ب - بَعد النيّة والتكبير و قراءة الحمد، يقسم السورة الواحدة خمسة أقسام، و يقرأ القسم الأول منها ثم يركع، ثم يرفع رأسه من الركوع و يقرأ القسم الثاني منها دون أن يقرأ الحمد ثم يركع، و هكذا حتى يتمّ السورة قبل الركوع الخامس. و بعد رفع رأسه من الركوع الخامس يسجد السجدتين. و يأتي بالركعة الثانية مثل الركعة الأُولى، و بعد سجدتيها يتشهّد و يُسلّم.

حينما ينوي تقسيم السورة إلى خمسة أقسام، يقرأ مضافاً إلى البسملة على الأحوط آية أو أكثر أو أقلّ بشرط أن تكون جملة مستقلة.

يمكن أداء صلاة الآيات جماعة، و كيفيتها كسائر الصلوات اليومية التي تُصلّى جماعة.

ص:350

أحكام الموتى
الاحتضار

على من يرى قرب أجله أن يلتفت إلى ما سلف من أعماله، و إن كان للناس حق في رقبته، أو على عاتقه تكليف والتزام لهم، فعليه أن يبتّ فيه و يتّخذ قراراً بشأنه. و أن يتوب عن سيّئاته الماضية و يحاول جهد الإمكان التخلّص من تبعاتها.

يُقال لمن يشارف على الموت «محتضر». و يلزم على الأحوط وجوباً توجيه المسلم المحتضر الذي تظهر عليه أمارات الموت إلى القبلة، بأن يمدد على ظهره بحيث يكون باطن قدميه إلى القبلة. و إذا لم يكن تمديده بهذا النحو كاملاً، ينبغي أن يُعمل بما يمكن منه، و إن تعذّر تمديده بأيّ وجه، يُجلَس باتجاه القبلة، و إذا تعذّر ذلك أيضاً يمدد بنيّة الاحتياط على جنبه الأيمن أو الأيسر باتجاه القبلة. والأحوط وجوباً أن يمدد الميّت إلى القبلة مثل المحتضر ما لم يتم غسله، و لكن بعد الغسل يُمدَد على الحالة التي يجب أن يكون عليها حين الصلاة عليه.

أحكام ما بعد الوفاة

تجب بعض الأُمور على المسلمين واجباً كفائياً - أي إذا قام به جماعة سقط عن الآخرين، و إذا لم يقم به أحد فمعنى ذلك أن الجميع قد ارتكبوا معصية - و فعل هذه الأُمور يجب أن يكون عند الإمكان طبعاً و بأذن ولي الميّت، و هذالأُمور:

1 - الغسل؛ 2 - الحنوط؛ 3 - الكفن؛ 4 - صلاة الميّت؛ 5 - الدفن.

غسل الميّت

يجب غسل الميّت بثلاثة أغسال بنيّة القربة ولرضا اللّه، على الترتيب التالي:

1 - غسله بماء السدر؛ والسدر الذي يُخلط بالماء يجب أن لايكون كثيراً بحيث يصير

ص:351

الماء مضافاً. ويُغسل به رأسه و رقبته، ثم جانبه الأيمن، و من بعده جانبه الأيسر.

2 - غسله بماء الكافور على النحو المتقدّم.

3 - غسله بالماء الخالص القراح.

أحكام غسل الميّت

1 - غسل الميّت مثل غسل الجنابة. والأحوط وجوباً أن لايُغسل الميّت ارتماساً مادام الترتيبي ممكناً.

2 - إذا توفي الطفل المسلم يجب غسله. و يجب تغسيل السقط إذا تمّ له أربعة أشهر أو أكثر. و إذا لم يتم له أربعة أشهر، فالأحوط وجوباً أن يُلف بقطعة قماش ويُدفن بدون غُسل.

3 - لا غسل و لا كفن على الشهيد الذي يستشهد في ميدان القِتال في المعركة قبل أن يصلوا إليه، بل يُدفن بثيابه دون تغسيل.

4 - يجب في من يَغسل المسلم الإمامي الإثني عشري أن يكون مسلماً إمامياً اثني عشرياً، عاقلاً، و يجب على الأحوط أن يكون بالغاً و عارفاً بأحكام الغسل، و أن يُغسّل الميّت بقصد القربة، وأَن يجدد النيّة في أوّل الغسل الثاني والثالث.

5 - الأحوط وجوباً تطهير الموضع المتنجّس من بدن الميّت قبل تغسيله. والأحوط استحباباً أن يكون كل البدن طاهراً قبل الشروع بالغسل.

6 - من مات على جنابةٍ أو حيض أو كان عليه غُسل آخر، لايجب غسل الجنابة أو الحيض أو غسل آخر، و يكفي غسل الميّت وحده.

الحنوط و أحكامه

يجب بعد غسل الميّت، والأحوط وجوباً قبل تكفينه مسح مواضع السجود و هي جبهته و كفّاه وركبتاه ورأسا إبهامي قدميه بالكافور، و مسح أرنبة أنفه أيضاً على الأحوط وجوباً.

والأحوط أن يوضع مقدار من الكافور على هذه المواضع مضافاً إلى مسحها به. ويُسمّى هذا العمل «تحنيطاً». و تحنيط الميّت تعبير آخر عن حقيقة الموت. قال الإمام جعفر

ص:352

الصادق عليه السلام: «الموت للمؤمن كأطيب ريح يشمّه؛ فينعس لطيبه و ينقطع التعب والألم كُلّه عنه».(1)

أحكام تكفين الميّت

يجب تكفين الميّت المسلم بثلاث قطع قماش على الترتيب التالي:

1 - المئزر؛ يجب أن يُغطّي جوانب البدن من السُرّة إلى الركبة؛ والأفضل أن يكون من الصدر حتى ظاهر القدم. و لايُترك ذلك قدر الإمكان.

2 - القميص؛ و يجب أن يُغطّي كل البدن من الأمام والخلف من أعلى الكتفين إلى نصف الساق. والأفضل أن يصل إلى ظاهر القدم.

3 - الإزار؛ و يجب أن يكون طوله بحيث يمكن ربط طرفيه بعد تغطية تمام بدن الميّت به، و عرضه بحيث يرد جنبه على جنبه الآخر.

أحكام صلاة الميّت

1 - تجب الصلاة على كل ميّت مسلم أكمل ستّ سنين. و إذا لم يكن أكمل الستَّ و لكن كان يدرك الصلاة و يميّزها، فالأحوط وجوباً الصلاة عليه، بشرط أن يكون أبواه أو أحدهما مسلماً.

2 - يجب الصلاة على الميّت بعد تغسيله و تحنيطه وتكفينه. و لاتكفي إذا صُلّيت قبل ذلك أو خلاله، ولو نسياناً أو جهلاً بالحكم الشرعي.

3 - لايُشترط في صلاة الميّت أن يكون المصلّي متوضئاً أو متيمماً أو غير مجنب أو طاهر البدن واللّباس، أو لباسه غير غصبي، أو الشروط الأُخرى المعتبرة في الصلوات اليومية، و إن كان الأحوط استحباباً مراعاة كل ما يجب مراعاته في الصلوات الأُخرى.

والأحوط وجوباً اجتناب مبطلات الصلوات الأُخرى أثناء الصلاة على الميّت و أن يستر

ص:353


1- الصدوق، الإعتقادات، باب الاعتقاد في الموت، ص 32.

المصلّي عورته أيضاً.

4 - يجب أن يستقبل المصلّي على الميّت القبلة. و يجب أن يمدد الميّت على ظهره مقابل المصلّي، بحيث يكون رأسه إلى يمين المصلّي و رجلاه إلى يساره.

5 - تجب الصلاة على الميّت قياماً و بنيّة القربة، و أن يُعيّن الميّت حين النيّة. و إذا لم يوجد أحد يستطيع الصلاة على الميّت من قيام، جاز أن يصلّي عليه من جلوس.

لصلاة الميّت خمس تكبيرات، و يجب أن يقول بعد النيّة ما يلي:

1 - بعد التكبيرة الأُولى يقول: «اَشْهدُ انْ لا الهَ الاّ اللّهُ وَ انّ مُحَمَّداً رَسولُ اللّه.»

2 - بعد التكبيرة الثانية يقول: «اللّهمَّ صَلِّ عَلى مُحَمّدٍ وَ آلِ مُحَمّدٍ.»

3 - بعد التكبيرة الثالثة يقول: «اللّهُمَّ اغْفِرْ لِلمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِنات.»

4 - بعد التكبيرة الرابعة يقول: «اللّهمَّ اغْفِرْ لِهذَا الْمَيِّت»؛ و إذا كانت امرأة يقول: «اللّهُمَّ اغْفِرْ لِهذِهِ الْمَيِّتة» ثم يقول التكبيرة الخامسة.(1)

تجب قراءة التكبيرات والأدعية على من يصلّي على الميّت جماعة. و إذا كانت هناك جنازتان أو عدّة جنائز يمكن الصلاة على كل ميّت بمفرده، و يجوز الصلاة عليهم جميعاً مرّة واحدة. و في هذه الحالة يجب أن توضع الجنائز كلها أمام المصلّي مصفوفة إلى جانب بعضها، و يثّني المصلّي الضمائر أو يجمعها بعد التكبيرة الرابعة.

الدفن

1 - يجب دفن بدن الميّت المسلم.

2 - يجب أن يُمدد الميّت في القبر على جانبه الأيمن، بحيث يكون مقدّم بدنه مواجهاً للقبلة. و أن يكون القبر عميقاً بحيث لاتخرج رائحته، و لاتتمكن الوحوش من اخراج جثمانه.

3 - يجب إخراج مصارف قبر الميّت من أصل تركته.(2)

ص:354


1- لصلاة الميّت كيفية كاملة. راجع: الأحكام الشرعيّة، المسألة 615.
2- لدفن الميّت مستحبات. راجع: المسائل 637-642 من كتاب الأحكام الشرعيّة.
صلاة الوحشة

1 - تُستحب صلاة الوحشة لأجل الميّت في الليلة الأُولى من الدفن، و هي ركعتان: يقرأ في الركعة الأُولى بعد الحمد آية الكرسي مرّة واحدة، و في الثانية بعد الحمد سورة القدر عشر مَرّات، و يقول بعد السلام: «اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَ ابْعَثْ ثَوابَها الى قَبْرِ فُلان» و يذكر اسم الميّت بَدَل فُلان.

2 - يجوز الإتيان بصلاة الوحشة في أي وقت من اللّيلة الأُولى؛ والأفضل الإتيان بها في أوّل الليل بعد صلاة العشاء.

نبش القبر

1 - يحرم نبش قبر المسلم. أمّا إذا تلاشى بدنه و صار تُراباً فلا إشكال فيه.

2 - يحرم نبش قبور أولاد الأئمة عليهم السلام، والشهداء، والعلماء، والصلحاء، و إن تمادى عليها الزمن، فيما إذا صارت مراقد يزورها الناس. بل الأحوط وجوباً عدم نبشها و إن لم تصر مزارات.

3 - لايحرم نبش القبر في موارد، منها:

1 - إذا كان الميّت قد دُفن بلا غُسل أو بلا كفنٍ، أَو عُلِم أن غسله كان باطلاً. أو أنه لم يُكفّن بالطريقة الشرعية، أو أنه لم يوضع في القبر مستقبل القبلة، إن لم يكن بدنه قد تلاشى، و لكن إذا لم يكن قد صلّي عليه أو كانت الصلاة عليه باطلة فيجب الصلاة على قبره، و لايجوز نبش القبر.

2 - من أجل أمر شرعي تفوق أهميته نبش القبر.

3 - إذا اريد إثبات حق بمشاهدة بدن الميّت.

4 - إذا دفن الميت في أرض مغصوبة، و لم يرض صاحبها ببقائه فيها.

5 - إذا كان كفن الميّت مغصوباً أو دفن مع شيء مغصوب و لم يرض صاحبه ببقائه.

6 - إذا دُفن الميّت في مكان ينافي احترامه.

ص:355

7 - إذا خيف على بدن الميّت أن يمزّقه وحش، أو يجرفه سيل، أو يخرجه عدو.

8 - إذا اريد دفن جزء من بدن الميّت لم يُدفن معه، و لكن الأحوط وجوباً أن يُدفن ذلك الجزء في قبره بحيث لايُرى بدنه.

9 - إذا دُفِن في موضع آخر خلافاً لوصيّته، و لكن لايجوز ذلك إن كان البدن قد تلاشى أو كان نبش القبر يُنافي احترامه.

الصوم

اشارة

الصوم من العبادات التي لها معطيات مادية و معنوية مؤثّرة جداً سواء على صعيد الإصلاح الفردي وتهذيب النفس، أم على صعيد الجوانب الاجتماعية.

و هذه العبادة واحدة من تشريعات الدّين الإسلامي المقدّس، بل جميع الأديان الإلهية، ولو روعيت آدابها و شروطها، لكانت لها تأثيرات بالغة. فصوم شهر كامل بالنسبة للإنسان الذي يحول معترك الحياة اليومية دون اهتمامه بنفسه، يوفّر له فرصة لتحرير نفسه واكتساب قيم معنوية، وتقوية إرادته و بناء ذاته، و كسب مزيد من التقوى ليعيش بقية أشهر السنة حياة تغمرها الطهارة والنقاء. فالصائم يدرك معاناة الفقراء والمحرومين في المجتمع، و يعي مايقع عليه من المسؤولية، ازاءهم، فيحرص على مدّ يد العون لهم، و بهذا يجني المجتمع ثمار الصوم.

الصوم معناه الإمساك والامتناع. و هو في الاصطلاح الشرعي يعني أن يمتنع الصائم من أوّل أذان الصبح إلى المغرب عن فعل مجموعة من الأُمور. و منها أن يمسك عن الأكل والشرب والمجامعة و غيرها من الأُمور التي تُبطل الصوم. و بالإضالة إلى ذلك يحرص على أن لايصدر منه إثم أو معصية، فضلاً عن الاحتراز عن الرذائل الأخلاقية؛ لأن هذه الأُمور لاتنسجم مع العبادة. ورد في حديث صحيح أن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال:

«الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، إذا صمت فليصم سمعك و بصرك من الحرام والقبيح ودَع المِراء».(1)

ص:356


1- الكُليني، الكافي، ج 4، ص 87، الحديث 3.

و قال عليه السلام أيضاً في موضع آخر: «إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك و بصرك من الحرام، و جارحتك و جميع اعضائك من القبيح، ودع عنك الهذي، و أذى الخادم وليكن عليك وقار الصائم، و الزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلّاعن ذكر اللّه و لاتجعل يوم صومك كيوم فطرك».(1)

أشار اللّه عزّوجلّ في سورة البقرة إلى أن الصوم كان في تشريعات الأمم الماضية أيضاً، مبيّناً أن الأثر المهم للصوم هو بلوغ مقام التقوى، ثم ذكر في الآيات التالية زمان الصوم و شروطه.(2) و جاء في حديث قدسي: «اَلصَّوْمُ لي وَ انَا اجْزي عَليه».(3)

كتب أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام إلى من سأله عن علّة الصوم: «لعرفانِ مَس الجوع والعطش، ليكون العبد ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً صابراً فيكون ذلك دليلاً على شدائد الآخرة، مع ما فيه من الانكسار عن الشهوات».(4)

و جاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة، فليصم».(5)

و جاء أيضاً «صوموا تَصِحّوا».(6) نعم! ان للصوم هذه الفوائد أيضاً، هذا طبعاً فضلاً عن آثاره التربوية وتهذيبه للأخلاق.

من لايجب عليهم الصوم

لا يجب الصوم على كلٍّ مِن:

مَن لايستطيع الصوم أو كان شاقاً عليه بسبب شيخوخته، والمرضعة قليلة اللبن إذا كان مضرّاً بالطفل أو بها هي، الحامل إذا كان في الصوم ضرر أو مشقة على حملها، أو عليها هي.

و على العموم لايجب الصوم على من يكون في الصوم مشقة عليهم، و من يسبب لهم الصوم

ص:357


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 93، ص 292، باب آداب الصائم، الحديث 16.
2- سورة البقرة (2)، الآيات 183-185.
3- الكُليني، الكافي، ج 4، ص 63، الحديث 6؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 93، ص 255.
4- المعزّي، جامع أحاديث الشيعة، ج 10، ص 291، الحديث 14692.
5- - الكُليني، الكافي، ج 4، ص 63 و 64، الحديث 7.
6- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 93، ص 255، الحديث 33.

مرضاً أو يزيد من مرضهم، و لايجب أيضاً على من كان مريضاً بمرض العطاش و لايستطيع تحمل العطش أو كان تحمّله شاقاً عليه. و لايجب على الفتاة التي وصلت سنَّ البلوغ، و لكنّها في وضع جسمي يتعذّر عليها الصوم أو يكون فيه عسر و حرج عليها، أو يكون فيه ضرر عليها.

قال الإمام عليه السلام في جواب من سأله عن حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار فقال: «ذلك إليه هو أعلم بنفسه، إذا قوي عليه فليصم».(1)

يجب على من لايستطيع الصوم، عدا الفتاة التي وصلت سن البلوغ و لكن يتعذّر عليها الصوم - و في بعض الحالات على الأحوط وجوباً - أن يُعطي إلى فقير عن كل يوم فدية مُداً من طعام.

مبطلات الصوم

الأُمور التي تُبطل الصوم عشرة:

1 و 2 - الأكل والشرب.

3 - الجماع.

4 - الاستمناء.

5 - الكذب على اللّه و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة المعصومين عليهم السلام، و على الأحوط وجوباً الكذب على السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام أيضاً، و سائر الأنبياء و أوصيائهم.

6 - إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق على الأحوط وجوباً.

7 - غمس تمام الرأس في الماء على الأحوط وجوباً.

8 - البقاء على الجنابة أو الحيض أو النفاس إلى أذان الصبح.

9 - الحقنة بالمائعات.

10 - التقيّؤ عمداً.

ص:358


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 20 من أبواب من يصح منه الصوم، ج 10، ص 220، الحديث 3.
أحكام الصوم

1 - يجب على مَن يريد الصيام أن ينوي في كل ليلة من ليالي شهر رمضان، صوم الغد، و لكن الأفضل أن يُضيف إلى ذلك نيّة صيام الشهر كُلّه في الليلة الأُولى. و لايجب طبعاً استحضار النيّة في القلب و لا التلفّظ بها باللسان، بل يكفي أن يُمسك عمّا يُبطل الصوم عن التفات من أجل امتثال أمر اللّه.

2 - إذا أكل الصائم أو شرب شيئاً عن خطأ أو نسيان، لايبطل صومه، سواء كان صومه واجباً أم مستحبّاً.

3 - إذا كان في الصوم ضرر عليه لايجب عليه الصوم، و إذا صام مع وجود الضرر فصومه باطل و يجب عليه قضاؤه.

4 - من كان على جنابة و أراد أن يصوم صوماً واجباً معين الوقت - كصوم شهر رمضان - إذا لم يغتسل عمداً إلى أن ضاق الوقت فالأحوط وجوباً أن يتيمّم و يصوم، ثم يقضيه و يدفع كفّارة.

5 - إذا نام الجنب في ليلة شهر رمضان واستيقظ، فالأحوط وجوباً أن لاينام ثانية قبل أن يغتسل، و إن احتمل أنه إذا نام ثانية فسوف يستيقظ قبل طلوع الفجر.

6 - المرأة التي لم تصم بسبب الحيض أو النفاس يجب عليها بعد أن تطهر قضاء الأيام التي لم تصمها.

7 - المسافر الذي يجب عليه التقصير في صلاته لايجوز له أن يصوم. أما المسافر الذي يتمُّ في صلاته، يجب عليه الصوم في السفر.

8 - من كان صائماً و أراد السفر فانَّ لذلك عدّة حالات و هي:

أ - إذا سافر قبل الظهر، عندما يصل إلى حد الترخُّص و هو الحد الأدنى من المسافة الشرعية (ثمانية فراسخ ذهاباً أو أربعة فراسخ ذهاباً و أربعة فراسخ إياباً) يبطل صومه و يجب عليه قضاؤه.

ب - إذا سافر قبل الظهر أقل من المسافة الشرعية، صومه صحيح و يجب أن يكمله.

ص:359

ج - إذا سافر بعد أذان الظهر، صومه صحيح و يجب أن يكمله.

9 - إذا وصل المسافر في رمضان قبل الظهر إلى وطنه أو إلى المكان الذي يريد الإقامة فيه عشرة أيام، و لم يكن قد قام بفعل يبطل الصوم، يجب عليه أن يصوم ذلك اليوم. أما إذا كان قد قام بفعل يبطل الصوم، فلا يجب عليه صوم ذلك اليوم.

10 - من أفطر في شهر رمضان عمداً و بلا عذر يجب عليه القضاء والكفّارة. و هو مخيّر في كفّارة صيام شهر رمضان بين واحد مما يلي:

أ - صوم ستين يوماً، على أن يصوم واحداً وثلاثين يوماً منها على التوالي. ولو لم يصم الباقي على التوالي فلا إشكال فيه.

ب - أن يعطي ستين مُدَّ طعام ستين فقيراً، أو إشباع ستين فقيراً.

تكريم شهر رمضان

من المناسب في شهر رمضان أن يكثر الإنسان من الاهتمام بالأعمال الصالحة و فعل الخيرات، واغتنام ليالي القدر لتهذيب نفسه، و من المناسب أيضاً أن يقرأ القرآن كُلّه بتدبّر ودقّة، و أن يبدي مزيداً من الرأفة بمن هو مسؤول عنهم، و أن يمد العون للمساكين على قدر استطاعته. و قد روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «يا معشر الناس إذا طلع هلال شهر رمضان غُلّت مردة الشياطين و فتحت أبواب السماء و أبواب الجنان و أبواب الرحمة، و غُلقت أبواب النار واستجيب الدعاء».(1)

الاعتكاف

اشارة

الاعتكاف هو أن يمكث الإنسان في المسجد - بشروط سنذكرها - بقصد القربة و لأجل عبادة اللّه عزّوجلّ. و هذا العمل من المستحبّات التي وردت تأكيدات كثيرة عليه. فقد روي انّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال:

ص:360


1- المعزّي، جامع أحاديث الشيعة، ج 10، ص 141، الحديث 14395.

«اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجّتين و عمرتين».(1) و روي أيضاً: «اعتكف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في العشر الأواخر من شهر رمضان، ثم لم يزل يعتكف في العشر الأواخر».(2)

يمكن الاعتكاف في أي وقت من السنة - عدا الأيام التي يحرم فيها الصوم - و أفضل أوقاته شهر رمضان و خاصة العشر الأخيرة منه.

الأحوط وجوباً أن يكون الاعتكاف في أحد المساجد الأربعة: المسجد الحرام، مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، مسجد الكوفة، مسجد البصرة، أو مسجد تصلّي فيه صلاة الجمعة الصحيحة. أما في غير هذه المساجد فيكون الاعتكاف برجاء الإثابة.

على من يعتكف أن يمكث في المسجد ثلاثة أيام متواصلة، و لايخرج منه إلّالضرورة، كأن يضطر إلى الخروج من المسجد لقضاء حاجة.

شروط الاعتكاف

1 - الإسلام؛ فلا يصح اعتكاف غير المسلم، والإيمان شرط لقبوله.

2 - العقل.

3 - قصد القربة؛ فلا يصح أن يكون لغير وجه اللّه.

4 - الصوم؛ فلا يصح اعتكاف من لايستطيع الصيام لأي سبب كان.

5 - البقاء في المسجد ثلاثة أيام؛ فلا يصح اعتكاف من يبقى أقل من هذه المدّة أو ينوي البقاء أقل منها.

أحكام الاعتكاف

يجب على المعتكف الامتناع في النهار عما يبطل الصوم. و يبطل الاعتكاف إذا فعل المعتكف واحداً من الأعمال التالية ليلاً أو نهاراً:

ص:361


1- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب الاعتكاف، ج 10، ص 534، الحديث 3.
2- المصدر السابق، الحديث 4.

1 - مباشرة النساء بالجماع، بل على الأحوط باللمس والتقبيل بشهوة.

2 - فعل ما يؤدّي إلى خروج المني (على الأحوط وجوباً).

3 - شم الطيب.

4 - البيع والشراء، و حتى على الأحوط وجوباً فيما هو لازم وضروري.

5 - المجادلة لأجل الغلبة و أظهار الفضيلة سواء في أُمور دينية أم إُمور دنيوية.

الحج

اشارة

هناك بين الأحكام والتعاليم الدينية تأكيد كثير على أداء فريضة الحج والعمرة، مع ذكر آثار هذه الفريضة. و مع انَّ الحج عمل عبادي و يؤدّى قربة إلى اللّه، و له منافع معنوية و انجذاب روحي، فإنّ له أيضاً منافع اجتماعية، و سياسية، و اقتصادية، و ثقافية.

1 - الجانب العبادي للحج

الحج واحد مِن الاختبارات الإلهية الكبرى و تمهيد لتحوّل معنوي و انطلاق في السير والسلوك، و هو عبارة عن انتقال من قفص «الذات» نحو «اللّه». و قد اعتبر أميرالمؤمنين عليه السلام في الخطبة القاصعة الحجَّ باباً من أبواب رحمة اللّه، و من عوامل بناء الذات وتهذيب النفس من الرذائل.(1) و بيَّن في خطبة أُخرى أن الحج مظهر لتواضع الناس أمام عظمة اللّه و إذعان منهم لعظمته و جلاله.(2) و هذا يحسن ممن يريد أداء هذه الفريضة الكبرى، كما قال الإمام الصادق عليه السلام: «اِذا ارَدْتَ الحجَّ فَجَرِّدْ قَلبَكَ لِلّهِ عزّوجلّ مِنْ قبل عزمك مِنْ كُلِّ شاغِلٍ...

وَدَعِ الدُّنيا وَ الرّاحَةَ والخَلْق...».(3)

و يبدو في الظاهر من قضية حج إبراهيم عليه السلام و أعمال و مناسك الحج كأَنَّ الحج، يتألف من مجموعة من الأعمال المنفصلة عن بعضها، غير أن الدراسة الدقيقة لها تكشف أن هذه

ص:362


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192، ص 292-294.
2- - المصدر السابق، الخطبة 1، ص 45.
3- مصباح الشريعة، ص 86 و 89.

المناسك تؤلّف سلسلة مترابطة ترمي إلى تحقيق هدف واحد، و هذا الهدف هو الانطلاق في سير وسلوك روحي، للارتقاء في مراتب الطلب والحضور و مراسم الحب والإخلاص، و تنطوي بين ثناياها على الانعتاق من قوقعة الذات والذو بان في بحر الوجود. و كلّما أكثر المرء من الإمعان والتأمل في هذا المضمار، تجلّت له أُمورٌ أكثر روعة و لطافة.

قال الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام للشبلي: «حين نزلت الميقات نويت أنك خلعت ثوب المعصية ولبست ثوب الطاعة؟ و حين تجردت عن مخيط ثيابك، نويت أنّك تجرّدت مِن الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ و حين اغتسلت نويت أنك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ قال: لا، قال: فما نزلت الميقات، و لاتجردت عن مخيط الثياب، و لااغتسلت، ثم قال: تنظفت، و أحرمت، و عقدت الحج؟ قال: نعم، قال: فحين تنظفت و أحرمت و عقدت الحج، نويت أنك تنظّفت بنور التوبة الخالصة للّه تعالى؟ قال: لا، قال:

فحين أحرمت نويت أنك حرّمت على نفسك كل مُحرَّم حرمه اللّه عزّوجلّ؟ قال: لا، قال:

فحين عقدت الحج نويت أنك قد حللت كل عقد لغير اللّه؟ قال: لا، قال له عليه السلام: ما تنظفت، و لا أحرمت، و لا عقدت الحج. قال له: أدخلت الميقات و صلّيت ركعتي الإحرام و لبّيت؟ قال: نعم، قال: فحين دخلت الميقات، نويت أنك بنيّة الزيارة؟ قال: لا، قال: فحين صلّيت الركعتين، نويت أنك تقربت إلى اللّه بخير الأعمال من الصلاة، و أكبر حسنات العباد؟ قال: لا، قال: فحين لبّيت، نويت أنك نطقت للّه سبحانه بكل طاعة، وصمت عن كل معصية؟ قال: لا، قال له عليه السلام: ما دخلت الميقات و لا صلّيت، و لا لبّيت. ثم قال له:

أدخلت الحرم و رأيت الكعبة و صلّيت؟ قال: نعم. قال: فحين دخلت الحرم، نويت أنك حرّمت على نفسك كل غيبة تستغيبها المسلمين من أهل ملّة الإسلام؟ قال: لا، قال:

فحين وصلت مكّة، نويت بقلبك أنك قصدت اللّه؟ قال: لا. قال عليه السلام: فما دخلت الحرم، و لا رأيت الكعبة، و لا صلّيت. ثم قال: طفت بالبيت، و مسست الأركان، و سعيت؟ قال:

نعم. قال عليه السلام: فحين سعيت نويت أنك هربت إلى اللّه، و عرف منك ذلك علّام الغيوب؟ قال: لا. قال: فما طفت بالبيت، و لا مسست الأركان و لا سعيت. ثم قال له: صافحت الحجر، و وقفت بمقام إبراهيم عليه السلام، و صلّيت به ركعتين؟ قال: نعم، فصاح عليه السلام صيحة كاد

ص:363

يفارق الدنيا ثم قال: آه آه، ثم قال عليه السلام: من صافح الحجر الأسود، فقد صافح اللّه تعالى، فانظر يا مسكين لاتضيع أجر ما عظم حرمته، و تنقض المصافحة بالمخالفة، و قبض الحرام نظير أهل الآثام.

ثم قال عليه السلام: نويت حين وقفت عند مقام إبراهيم عليه السلام: أنك وقفت على كل طاعة، و تخلفت عن كل معصية؟ قال: لا. قال: فحين صلّيت فيه ركعتين، نويت أنك صلّيت بصلاة إبراهيم عليه السلام، و أرغمت بصلاتك أنف الشيطان؟ قال: لا. قال له: فما صافحت الحجر الأسود، و لا وقفت عند المقام، و لا صلّيت فيه ركعتين.

ثم قال عليه السلام له: أشرفت على بئر زمزم، و شربت من مائها؟ قال: نعم. قال: نويت أنك أشرفت على الطاعة، و غضضت طرفك عن المعصية؟ قال: لا.

قال عليه السلام: فما أشرفت عليها، و لا شربت من مائها. ثم قال له عليه السلام: أسعيت بين الصفا والمروة، و مشيت و ترددت بينهما؟ قال: نعم. قال له: نويت أنك بين الرجاء والخوف؟ قال: لا، فقال له: فما سعيت، و لا مشيت، و لا ترددت بين الصفا والمروة. ثم قال:

أخرجت إلى منى؟ قال: نعم. قال: نويت أنك آمنت الناس من لسانك و قلبك و يدك؟ قال: لا. قال: فما خرجت إلى منى.

ثم قال له: أوقفت الوقفة بعرفة، و طلعت جبل الرحمة، و عرفت وادي نمرة، و دعوت اللّه سبحانه عند الميل والحجرات؟ قال: نعم. قال: هل عرفت بموقفك بمعرفة اللّه سبحانه أمر المعارف والعلوم، و عرفت قبض اللّه على صحيفتك و اطلّاعه على سريرتك و قلبك؟ قال: لا. قال: نويت بطلوعك جبل الرحمة، إنّ اللّه يرحم كل مؤمن و مؤمنة، و يتولى كل مسلم و مسلمة؟ قال: لا. قال: فنويت عند نمرة أنك لاتأمر حتى تأتمر، و لاتزجر حتى تنزجر؟ قال: لا. قال: فعندما وقفت عند العلم والنمرات، نويت أنها شاهدة لك على الطاعات، حافظة لك مع الحفظة بأمر السماوات؟ قال: لا. قال: فما وقفت بعرفة، و لاطلعت جبل الرحمة، و لاعرفت نمرة، و لادعوت، و لاوقفت عند النمرات. ثم قال: مررت بين العلمين. وصلّيت قبل مرورك ركعتين، و مشيت بمزدلفة، و لقطت فيها الحصى، و مررت بالمشعر الحرام؟ قال: نعم، قال: فحين صلّيت ركعتين،

ص:364

نويت أنها صلاة شكر في ليلة عشر، تنفي كل عسر، و تيسر كل يسر؟ قال: لا. قال:

فعندما مشيت بين العلمين و لم تعدل عنهما يميناً و شمالاً، نويت أن لاتعدل عن دين الحق يميناً و شمالاً لا بقلبك، و لا بلسانك، و لا بجوارحك؟ قال: لا. قال: فعندما مشيت بمزدلفة، ولقطت منها الحصى، نويت أنك رفعت عنك كل معصية و جهل، و ثبتت كل علم و عمل؟ قال: لا. قال: فعندما مررت بالمشعر الحرام، نويت أنك أشعرت قلبك إشعار أهل التقوى والخوف للّه عزّوجلّ؟ قال: لا. قال: فما مررت بالعلمين، و لا صلّيت ركعتين، و لا مشيت بالمزدلفة، و لا رفعت منها الحصى، و لا مررت بالمشعر الحرام. ثم قال له: وصلت منى و رميت الجمرة، و حلقت رأسك، و ذبحت هديك، و صلّيت في مسجد الخيف، و رجعت إلى مكّة، و طفت طواف الإفاضة؟ قال: نعم. قال فنويت عندما وصلت منى، و رميت الجمار، أنك بلغت إلى مطلبك، و قد قضى ربك لك كل حاجتك؟ قال: لا. قال: فعندما رميت الجمار نويت أنك رميت عدوك إبليس و غضبته بتمام حجك النفيس؟ قال: لا. قال: فعندما حلقت رأسك، نويت أنك تطهرت من الأدناس و من تبعة بني آدم، و خرجت من الذنوب كما ولدتك أمك؟ قال: لا. قال: فعندما صلّيت في مسجد الخيف، نويت أنك لاتخاف إلّااللّه عزّوجلّ و ذنبك، و لاترجو إلّارحمة اللّه تعالى؟ قال: لا. قال: فعندما ذبحت هديك، نويت أنك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسكت به من حقيقة الورع، و أنك اتبعت سنّة إبراهيم عليه السلام بذبح ولده و ثمرة فؤاده و ريحان قلبه، سنّة لمن بعده، و قربة إلى اللّه تعالى لمن خلفه؟ قال: لا. قال: فعندما رجعت إلى مكّة و طفت طواف الإفاضة، نويت أنك أفضت من رحمة اللّه تعالى و رجعت إلى طاعته، و تمسكت بوده، و أديت فرائضه، و تقربت إلى اللّه تعالى؟ قال: لا. قال له زين العابدين عليه السلام: فما وصلت منى، و لا رميت الجمار، و لا حلقت رأسك، و لا أديت نسكك، و لا صلّيت في مسجد الخيف، و لا طفت طواف الإفاضة، و لا تقربت فإنك لم تحج».(1)

ص:365


1- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، كتاب الحج، الباب 17 من أبواب العود إلى منى، ج 10، ص 166-172، الحديث 5.

في مثل هذه الحالة إذا أدّى الإنسان مثل هذه المناسك فإنّها تجعله مبرّءاً من الذنوب كهيئة يوم ولدته أُمّه.(1)

يجتمع ملايين المسلمين في كل سنة لأداء مناسك الحج، و لكنّهم و للأسف قلّما يستفيدون من هذا السفر الإلهي رغم كل ما يبذلونه له من تعب و مشقّة، و مقدّمات مُضنية و نفقات هائلة، و لاينتفعون إلّاالقليل من خصائصه المعنوية و تأثيراته الاجتماعية.

قال ابن عباس: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجة الوداع فأخذ بباب الكعبة ثم أقبل على الناس يخبرهم عن أشراط الساعة والناس في آخر الزمان و قال: «تَحُجُّ اغْنِياءُ امّتي لِلنُّزْهَة وَ تَحُجُّ اوْساطُها لِلتّجارَة وَ تَحُجُّ فُقَرائُهم لِلرّياء والسُّمْعَة».(2)

هذه المخاوف التي أظهرها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في كلامه هذا، فيها تحذير للمسلمين كيلا يفقد الحج جوهره، و يكون مدعاة لأهداف غير إلهية بدلاً من أن يكون ممارسة بنّاءة

2 - تأثير الحج في الرقى والبقاء الثقافي

وصف الإمام علي عليه السلام في الخطبة الأُولى من نهج البلاغة بيت اللّه الحرام بَعلَم الإسلام:

«جَعَلَهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى لِلْاِسْلامِ عَلَماً».(3)

و قد سأل هشام بن الحكم الإمام جعفر الصادق عليه السلام حول الغاية من الحج، فأجابه بعدما بيّن مجموعة من الغايات التي يرمي إليها الحج قائلاً: «فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولتعرف آثار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و تعرف أخباره، ويُذكر و لايُنسى، ولو كان كل قوم إنّما يتكلمون على بلادهم و ما فيها، هلكوا و خربت البلاد وسقط الجلب و عميت الأخبار، و لم تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج».(4)

الحج عبارة عن إطلالة على التوحيد وتاريخ حُماته والدُعاة إليه، ابتداءً من آدم عليه السلام، و مروراً بإبراهيم عليه السلام، و إسماعيل عليه السلام، ثم تاريخ الإسلام و نبيّه، و هذا الصراع المحتدم على

ص:366


1- الكُليني، الكافي، ج 4، ص 252، الحديث 2.
2- المجلسي، بحارالأنوار، ج 6، ص 308، الحديث 6.
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 1، ص 45.
4- الصدوق، علل الشرايع، الباب 142، ج 2، ص 109، الحديث 6.

الدوام بين الإيمان من جهة والكفر والنفاق من جهة أُخرى. و ببقاء الكعبة مَعْلماً قائماً - باعتبارها تاريخاً يتجسّد فيه التوحيد، و دلالة على أن حقائق الدّين قد انبثقت منه - تتخلد ثقافة التوحيد. «لايزال الدّين قائماً ما قامت الكعبة».(1)

الحج ممارسة عملية لثقافة العدالة، والمساواة، والأُخوَّة، والتعاون على الخير و على ما فيه مصلحة للناس، و هو فرصة مناسبة لنشر الثقافة الإسلامية الغنيّة بين شريحة واسعة من المسلمين.

في الحجّ يدرك المسلمون عمق ثقافة التوحيد الإبراهيمي الخالص و يذوبون في مناسكها، دون أنْ يتنصّلوا عن عاداتهم و تقاليدهم الوطنية الخاصة التي تكوّن شكل الحياة، و ليس جوهرها و محتواها.

الحج في الحقيقة انتقال ثقافات، واطّلاع على الثقافة الفطرية الإنسانية، للتوصل إلى هوية مشتركة تجمعها الثقافة الإسلامية؛ لكي يتسنّى لتلك الحشود المليونية عند العودة إلى بلدانها أن تغرس ما تعلّمته من أغصان الثقافة الإسلامية في جذع ثقافاتها القومية، لكي تجود متى و حيثما كانت بثمار الوحدة والسيادة والقوّة والرُّقي.

و قد وردت رواية عن الإمام الرضا عليه السلام يبيّن فيها أن منافع الحج تعود على كل أهل الشرق والغرب، سواء من حجّوا أو من لم يحجّوا.(2) و هذا بحدّ ذاته يستدعي مزيداً من الدقّة والاهتمام. فهذا التجمع ليس من نوع التجمعات الفئوية والحزبية التي نراها اليوم، و هي لاتهتم عادة إلّابمصالحها الحزبية والفئوية الضيّقة؛ إذ إن اجتماع الحجّ يرمي إلى تحرير الناس و مكافحة الحرمان و إيجاد الوحدة بين الشعوب والسير على طريق إصلاح العالم، و نشر نداء التوحيد في كل أرجاء المعمورة.

3 - الجانب الاجتماعي والسياسي للحج

جاء في القرآن الكريم: (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ) . (3) فمن أبرز

ص:367


1- الكليني، الكافي، ج 4، ص 271، الحديث 4.
2- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب وجوب الحج، ج 11، ص 13، الحديث 15.
3- - سورة المائدة (5)، الآية 97.

مقوّمات أيِّ شعب استقلاله الثقافي، والاقتصادي، والسياسي، و كذلك وحدة و عزّة ذلك الشعب والروح المعنوية التي يتحلّى بها. و في هذه الآية الشريفة اعتبرت الكعبة هي الوسيلة لبلوغ هذه الغاية. فاتحاد الأُمّة الإسلامية الكبرى الذي يُعتبر واحداً من أسمى القيم والأهداف السياسية والاجتماعية التي يسعى إليها الإسلام، يتعلّمه الحُجّاج عياناً في شعائر الحج الكبرى.

المسلمون كلهم بمثابة أُسرة واحدة يعيشون في بقاع مختلفة من العالم. و خليق بهم أن يأنسوا و يألفوا بعضهم، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الفئوية؛ إذ إنّ الانتماء للإسلام أسمى من الانتماء إلى شعب أو قوم أو لغة.

اليوم يشعر بنو الإنسان بالحاجة إلى مكان يحظى باحترام عالمي، ليكون على الصعيد الدولي موضعاً للمؤتمرات والتجمعات وتبادل الأفكار، و مرجعاً يُحتكم إليه لحلّ النزاعات والبتّ في الخلافات الكبرى. عسى أن يفوق الناس و ينتقلوا من عالم الأخلاق إلى صعيد الحقيقة. و على المسلمين أن يدركوا بأنّه قد وُضِعت لهم مثل هذه الجمعية العامّة التي تقترن بمراسيم معنوية وعبادية لإرساء أُسس وحدة شاملة و كاملة بينهم. و لابُدّ من الانتباه طبعاً إلى أن هذه الحالة الفردية يمكن استثمارها و توظيفها لصالح العالم الإسلامي، و لما فيه مصلحة المسلمين. و ينبغي أيضاً اغتنام هذه الفرصة التي أتاحها اللّه للمسلمين، من أجل توحيدهم في كل المجالات: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) .(1)

شروط وجوب الحج

جاء في القرآن الكريم حول وجوب الحج ما يلي: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (2) يجب الحجّ في العمر مرّة واحدة على البالغ العاقل المستطيع، بشرط أن لايضطر - بسبب الذهاب إلى الحج - إلى ارتكاب حرام أو ترك واجب أهم في الشرع من الحج.

ص:368


1- سورة الحج (22)، الآية 28.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 97.

أما الاستطاعة فتتحقّق باُمور منها:

1 - أن يكون عنده نفقات السفر و ما يحتاج إليه حسب حاله في سفر الحجّ.

2 - أن يكون عنده مؤونة من يجب أن يعولهم إلى حين العودة.

3 - السلامة الصحيّة والقدرة البدنية على أداء الحجّ.

4 - أن لايكون في الطريق مانع من الذهاب و إلاياب.

5 - أن يكون عنده وقت بمقدار أداء أعمال الحجّ.

6 - أن لايوجب الحجَّ ذهاب ملكه أو كسبه الذي يحتاج إليه في إعاشة نفسه و من يعول.

أقسام الحج
اشارة

الحج على ثلاثة أقسام: قسمان منه يخصّان أهل مكّة و ما حولها إلى مسافة ستة عشر فرسخاً، وهما المعروفان باسم «حج الإفراد» و «حج القِران». والقسم الثالث أو ما يُسمّى بحجّ التمتّع، و هو لمن يبعد محلّ إقامتهم عن مكّة أكثر من هذه المسافة،(1) و هو على قسمين: عمرة التمتّع و حج التمتّع.

في حج التمتّع تؤدّى العمرةُ قَبلَ الحجِّ و هي مرتبطة به وتُعدُّ جزءاً منه، و يجب أداؤهما في سنة واحدة و في أشهر الحج، و لكن في حج الإفراد و حج القِران تبقى العمرة مستقلة عن الحج تماماً. و في حج التمتّع يجب النحر في منى يوم عيد الأضحى، ويُعد مِن أعماله. و في حج القِران يقترن النحر منذ البداية بالإحرام، و يجب أن يبقى إلى يوم العيد في منى، و لكن في حج الإفراد لايجب النحر.

كيفية حج التمتّع

يتألف حج التمتّع من عملين عباديين هما: «عمرة التمتّع» و «حجّ التمتّع» و يؤدّى بالترتيب التالية:

ص:369


1- - في بعض الحالات يُستبدل واجب بعض الافراد المرضى أو المعذورين من حج التمتّع إلى حج الافراد.
1 - عمرة التمتّع

تجب في عمرة التمتّع ستة أُمور:

الأول - نيّة عمرة التمتّع.

الثاني - الإحرام من أحد المواقيت. و تجب في الإحرام ثلاثة أشياء:

أ - النيّة

ب - لبس ثوبي الإحرام، وهما «الإزار» و «الرداء».

ج - التلبية، و هي على النحو التالي: «لَبَّيْكَ اللّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَريكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَ الْمُلْكَ (لَكَ) لا شَريكَ لَكَ لَبَّيْكَ».

و هناك عدّة أشياء يمتنع عنها المُحرم، وجوباً أو احتياطاً وجوبياً، ممّا يوجب ارتكاب البعض منها إعادة العمرة أو الحجّ، و يوجب ارتكاب الكثير منها دفع كفّارة، و قد ورد بيانها في مناسك الحج بالتفصيل.

الثالث - الطواف سبع مرّات حول بيت اللّه الحرام، و يجب الابتداء به من محاذاة الحجر الأسود، و يُسمّى كل دورة منه شوطاً.

الرابع - صلاة الطواف؛ و هو أن يصلّي بعد الانتهاء من الطواف الواجب، ركعتين خلف مقام ابراهيم بنيّة «صلاة الطواف».

الخامس - السعي بين الصفا والمروة؛ وهما جبلان معروفان، و هو أن يبدأ من الصفا باتجاه المروة، ثم يعود من المروة إلى الصفا، سبع مرّات، تُسمّى كل مرّة منها شوطاً. إذاً فالسعي يبدأ من الصفا و ينتهي بالمروة.

السادس - التقصير و هو أن يأخذ بعد السعي بقصد القربة، و بنيّة خالصة، شيئاً من أظافر يده أو رجله أو شيئاً من شعر رأسه أو شاربه أو لحيته. و من الأفضل، بل الأحوط عدم الاكتفاء يقصّ الأظافر بل يقصّ مقداراً من الشعر، و لايكفي حلق الرأس و نتف الشعر.

ص:370

2 - حج التمتّع

واجبات حج التمتّع أربعة عشر:

الأول - نيّة حج التمتّع.

الثاني - إحرام حج التمتّع، و هو كإحرام العمرة، عدا أنه في إحرام الحج يجب أن يحرم من مكّة المكرّمة بنيّة حج التمتّع.

الثالث - الوقوف بعرفات؛ و هو أن يكون المحرم بإحرام الحج في ظهر يوم عرفة - التاسع من ذي الحجة - في عرفات، و ينوي الوقوف هناك بنيّة القربة. و أن يذهب احتياطاً من أوّل الظهر إلى عرفات و يبقى هناك إلى الغروب الشرعي.

الرابع - الوقوف في المشعر؛ و هو أن يرحل الحاج بعد الوقوف في عرفات، عند الغروب في ليلة العيد إلى «المشعر الحرام»، بحيث يصلّي المغرب والعشاء في المشعر.

و يجب أن يكون الوقوف في المشعر بقصد القربة، و وقته من طلوع الفجر إلى شروق الشمس. و أن يبقى احتياطاً ليلة العاشر في المشعر أيضاً إلى طلوع الفجر بقصد القربة.

الخامس والسادس والسابع - أداء مناسك منى في يوم عيد الأضحى و هي عبارة عن:

أ - رمي جمرة العقبة، و هو رمي سبع حجرات، سيراً على خُطا النبيّ إبراهيم عليه السلام الذي كان يرمي الشيطان في هذا المكان.

ب - الهدي، والحاج مخيّر فيها بين أن ينحر بدنَة أو بقرة أو شاة. و لايجزي حيوان آخر عن أحد هذه الحيوانات الثلاثة. والهدي، إضافة إلى ما له من آثار اجتماعية و مساعدة للمساكين، فهو يدل أيضاً على التقوى والتضحية والإيثار، كما قال تعالى في القرآن الكريم:

(لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) .(1)

ج - حلق الرأس أو التقصير (تقصير الشعر أو الأظافر) والحاج مخيّر بين هذين الأمرين، و لكن النساء يجب أن يقصّرن فقط. و على من يحج المرّة الأُولى أن يحلق رأسه احتياطاً وجوبياً.

ص:371


1- سورة الحج (22)، الآية 37.

الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر - أداء مناسك الحرم و هي عبارة عن: الطواف، صلاة الطواف، السعي بين الصفا والمروة، طواف النساء، وصلاة طواف النساء.

الثالث عشر والرابع عشر - أعمال منى في أيام الحادي عشر والثاني عشر، و بالنسبة للبعض يوم الثالث عشر من ذي الحجة، و هي عبارة عن:

أ - المبيت في منى.

ب - رمي الجمرات الثلاثة (الأُولى، والوسطى، والعقبة) و يجب أن يرمي في كل يوم سبع حصيّات لكل واحدة من الجمرات الثلاثة.

العمرة المفردة

من المستحبات المؤكّدة التي عبّرت عنها الروايات بالحج الأصغر، هي العمرة المفردة.

و يمكن أداؤها في كل أوقات السنة، و هناك تأكيد كثير على عمرة شهر رجب.

واجبات العمرة المفردة التي يجب أن يكون فيها قصد القربة عبارة عما يلي: النيّة، الإحرام، الطواف، صلاة الطواف، السعي بين الصفا والمروة، حلق الرأس أو التقصير، طواف النساء، صلاة طواف النساء.

زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أهل البيت عليهم السلام

أحد الأُمور التي يختص بها أتباع أهل البيت عليهم السلام هو الاهتمام بزيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و قبور الأئمة المعصومين عليهم السلام. و تعود أسباب هذا الاهتمام إلى تأكيدات كثيرة وردت عنهم. فقد جاء في روايات أهل السنّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ وَ لَمْ يَزُرْني فَقَدْ جَفاني».(1) و في مصادر الشيعة أيضاً روايات كثيرة تحث على زيارة قبر النبيّ و قبور

ص:372


1- - راجع: الجزري، عبدالرحمن، الفقه على المذاهب الاربعة، كتاب الحج، باب زيارة قبر النبيّ، ج 1، ص 711-715؛ المُتّقي الهندي، كنز العمال، ج 5، ص 135 و 136، الحديث 12368-12373، الحديث 42582-42584؛ و ج 15، ص 651 و 652؛ و قريب من هذا المضمون في وسائل الشيعة، الباب 3 من أبواب المزار، ج 14، ص 333، الحديث 3.

أهل بيته. فهذه الأماكن يُستجاب فيها الدعاء و تغفر الذنوب.

جاء في رواية: «إنَّ لكلّ إمامٍ عهداً في عنق أوليائه و شيعته، و إنّ من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم».(1) و فضلاً عن ذلك ففي زيارة قبورهم آثار و فوائد اجتماعية و معنوية جمّة. ففي زيارة قبورهم تمتين لأواصر العلاقة بهم و ترسيخ لمحبّتهم في القلوب.

تقترن زيارة القبور عادة باجتماع المؤمنين و تآلفهم و تعارفهم على غيرهم، و انبثاق روح الأُخوّة والمساواة والاستعداد للانصياع للأوامر الإلهية واجتناب الأهواء النفسية.

والأدعية المأثورة التي تُقرأ في هذه المناسبات زاخرة بهذه المعاني، والاعتراف بقدسية الإسلام و رسالة النبيّ و دعوة كل مسلم إلى أداء ما عليه من فرائض دينية، والخشوع للّه، والعمل بالأوامر واجتناب النواهي والمعاصي.(2) بل إنّ بعض هذه الزيارات مثل زيارة «أمين اللّه» وردت في أبلغ تصوير لوحدانية اللّه والخشوع التام له.

و مما جاء في آداب الزيارة، أن يقول بعد الانتهاء من صلاة الزيارة: «اَللّهُمّ إنّي لَكَ صَلَّيْتُ وَ لَكَ رَكَعْتُ وَ لَكَ سَجَدْتُ وَحْدَكَ لا شَريكَ لَك، فَإِنَّهُ لاتَجُوزُ الصَّلاة وَالرّكوع والسُّجُود الّا لَكَ لِاَنَّكَ انْتَ اللّهُ الذي لااِلهَ الّا انْتَ. اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمّدٍ وَ آلِ مُحَمّدٍ...».(3)

و لهذا ينبغي عند زيارة الأئمة الأطهار عليهم السلام التوجّه إلى توحيد اللّه و ربوبيّته، والتوسّل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة عليهم السلام؛ أي جعلهم وسيلة للتقرّب إلى اللّه، و أخذ سيرتهم وعبوديّتهم للّه بنظر الاعتبار.

النذر والعهد والقسم

الوفاء بالعهد من أسمى الفضائل الأخلاقية، و دليل على نقاء الفطرة وسلامة الطِباع والإسلام يبدي اهتماماً منقطع النظير للوفاء بالعهد، قال الباري عزّوجلّ: (وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ

ص:373


1- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 2 من أبواب المزار، ج 14، ص 322، الحديث 5.
2- - على سبيل المثال راجع: ابن قولويه، كامل الزيارات، ص 250.
3- مفاتيح الجنان، الزيارة السابعة من زيارات الإمام الحسين عليه السلام المعروفة بزيارة وارث.

إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) .(1)

الحياة الاجتماعية لاينتظم عقدها من دون الالتزام بالعهد. فهذه الخصلة مدعاة لوثوق الناس ببعضهم، و بدونها لاتبقى للعهود والوعود قيمة. واستناداً إلى الآية المذكورة آنفاً يجب الالتزام بكل العهود. و متى ما أُبرم عَهد سواء باسم اللّه، أم على شكل قسم أو نذر أو عقد، فمن الطبيعي أن التخلّف عنه يُعتبر قبيحاً من الناحية الأخلاقية، إضافة إلى أنه إثم و يستوجب الكفّارة.

أنزل الباري تعالى في كتابه الكريم عدداً من الآيات حول العهود والعقود والنذر والقسم، منها قوله: (وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ) . (2) و قال عزَّوجلّ من قائل في موضع آخر: (وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ * وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ...) .(3)

و على أية حال هناك نوع آخر من العلاقة بين العبد وربّه، و هو أنَّ الإنسان يوجب على نفسه فعل أو ترك عملٍ معيّن لوجه اللّه تعالى من خلال عهدٍ أو نذرٍ أو قسمٍ.

والنذر على عدّة أقسام:

1 - نذر البرّ؛ و هو ما يُنذر لشكر نعمة دنيوية أو أُخروية، كأن يقول: «نذر عليَّ للّه إن وفّقني للحج أن أفعل كذا عمل خير»، أو أن يكون شكراً لترك ذنب أو لشفاء من مرض، أو أية مشكلة أُخرى.

2 - نذر الزجر؛ و هو ما يوقعه المكلّف لمنع نفسه عن فعلِ حرام أو مكروه كأن يقول مثلاً: نذر عليَّ للّه إن اغتبت أحداً عمداً أن أصوم يوماً.

3 - نذر التبرّع؛ و هو ما جاء مطلقاً من غير التعلّق بشرط، كأن يقول: نذر عليَّ أن أصوم الغد.

ص:374


1- سورة الإسراء (17)، الآية 34.
2- - سورة البقرة (2)، الآية 270.
3- سورة النحل (16)، الآيتان 91-92.

والنذر يصحّ في الأعمال الصحيحة شرعاً. و على هذا فلو نذر أن يفعل حراماً أو مكروهاً أو ترك واجب أو مستحبّ، لايصحّ نذره. و حتى لو نذر لفعل أو ترك عمل مباح، لايصح نذره أيضاً فيما إذا كان الفعل والترك متساويين من كل الجوانب.

في النذر والعهد لايكفي مجرّد القصد والنيّة، بل لابُدّ أن يُلفظ بالصيغة و تجري فيه عبارة «للّه» على اللّسان، و لكن لايشترط أن يُقال باللغة العربية. وعبارة «للّه» بأية لغة كانت، يجب أن تكون في صيغة النذر؛ كأن يقول مثلاً: نذر عليَّ للّه إذا شفى فلان من المرض أن أفعل كذا.

و إذا نذر أن يترك عملاً إلى وقت معيّن، يمكنه فعل ذلك بعد مضيّ ذلك الوقت، و إذا فعل ذلك اختياراً قبل انقضاء ذلك الوقت فعليه أن يدفع كفّارة.

و إذا عيّن كفّارة لتخلّفه عن نذر أو قسم أو عهدٍ كأن يقول مثلاً: أُعاهد اللّه على أن لا أُدخّن سيجارة بعد الآن، و إذا دخّنت اتصدّق بمائة درهم، فإذا تخلّف عليه أن يفعل ما عيّنه و لا كفّارة أُخرى عليه.

ص:375

الاُسرة

مكانة و أهمية الاُسرة

خلق اللّه المرأة والرجل ليكونا سكناً لبعضهما، و عقد أواصر المحبة والمودة بينهما ليعيشا في ودٍّ و وئام (وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً) . (1) النقطة المهمة في ما يخص الاُسرة هو تأثيرها في تربية الاستعدادات و تنمية المجتمع و نشر القيم المعنوية بين أفراد البشر. فالاُسرة تساعد على الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والأخلاقي و تؤثر في صياغة الاقتصاد السالم والمتوازن.

يستفاد من الكثير من الآيات والروايات مدى أهمية الاُسرة و دورها في خلق الاستقرار والمحبة و تهذيب العواطف الإنسانية، يقول القرآن عن العلاقة بين المرأة والرجل:

(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) .(2)

المجتمعات التي يقوم فيها كيان الاُسرة على أُسس متينة، يسود فيها عادة الاستقرار والطمأنينة والتقارب بين أفرادها وتقوم الاُسرة بدورها بمنع الجريمة و تربية الأبناء وسلامة المجتمع بشكل جيد. لذا يجب وضع مسألة حفظ الاُسرة واستقرارها ضمن جدول أعمال المجتمعات، و عندما يتعارض حفظ واستقرار هذا الكيان مع النشاطات الاجتماعية، يجب - بسبب أهمية و حساسيّة الاُسرة - تنظيم شؤون الحياة بالشكل الذي لايمسّ بهذا الكيان. و من جهة أُخرى فقد أكّد الإسلام على أهمية التواصل والارتباط مع أعضاء الاُسرة الأكبر سناً على أوسع مستوى - أي الأب والأم والإخوان والأخوات

ص:376


1- - سورة الروم (30)، الآية 21.
2- سورة البقرة (2)، الآية 187.

والأقرباء - و بيّن وظائف و واجبات معينة كاحترام الوالدين والاعتناء بهما و صلة الرحم والاهتمام الخاص بأحوالهم المعاشية.

إن التأكيد على مكانة الاُسرة بمعناه العام يندرج في سياق حفظ القيم، و دوام القيم المعنوية و بقاء المودة وتقوية العواطف و حلّ المشاكل الإنسانية.(1)

الزواج

العلاقة الطبيعية بين المرأة والرجل

أوجد اللّه ميلاً و انجذاباً طبيعياً بين المرأة والرجل يربطهما ببعضهما و يستميلهما إلى العيش المشترك معاً.

تشكل المرأة والرجل النواة الأساسية للأُسرة، و هذا الميل الطبيعي الذي يربطهما هو الميل الجنسي الذي يجب أن يوضع في اتجاهه الصحيح مثل بقية الغرائز. تنبثق الحياة المشتركة بين الزوجين في البداية من الميل الجنسي غالباً، و لكنّها لاتتوقف عند هذا الحد و إنّما تتطوّر إلى نوع من الارتباط الروحي والعاطفي والاعتقادي والاجتماعي العميق.

من النتائج الطيبة للزواج، بناء الاُسرة، و تربية الأولاد، والتهذيب الأخلاقي، و سعي كل من المرأة والرجل لتحقيق سعادتهما و سعادة أولادهما، والتعاون من أجل توفير المصالح المشتركة.

الزواج نوع من العبادة

أوْلى الإسلام أهمية بالغة لمسألة الزواج، و قد دعت الآيات القرآنية و أحاديث المعصومين عليهم السلام كثيراً إلى الزواج، حيث اعتبرته عملاً مقدساً و فعلاً للخير. إنّ الإسلام لايريد تعطيل أو كبت الغرائز والمواهب التي أُودعت في الإنسان لأجل حفظ وجود الفرد - بدافع حُبّ الذات - أو لأجل المصالح الاجتماعية - حُبّ الغير - بل هو يريد أن يضع

ص:377


1- بعض مباحث الأسرة ذكرت في قسم الاخلاق من هذا الكتاب فراجع.

- بالاستعانة بالأساليب العقلائية - طاقات البشر الطبيعية في مسيرها المناسب. والإسلام لايريد تجميد الطاقات أو تعطيلها أو يصدر أحكاماً معارضة لمسار الطبيعة والأُصول الفطرية للإنسان؛ لأن القانون الذي يخالف المسار الطبيعي لايمكن أن يطبق أو يدوم. هذا من جهة، و من جهة أُخرى لأن الأحكام الإسلامية تستند إلى الفطرة.

الغريزة الجنسية إذا وُظّفت بشكل صحيح ستكون سبباً لتحسين وضع الإنسان و توازنه، و سبباً لتكامل و بقاء النسل، و إذا لم توجّه الوجهة المناسبة فسوف تصبح سبباً لسقوط الإنسان و مدعاة للكثير من الانحرافات والعقد المختلفة.

الذين يمتنعون عن الزواج ربّما يقعون في الكثير من الآثام التي تؤدي إلى فقدانهم توازنهم الجسمي والنفسي. لقد خلق كل من الرجل والمرأة بشكل يشير كل منهما فيه بالنقص و عدم الاستقرار والراحة من دون الآخر، و بالتأليف بينهما يزول هذا النقص، و كل من الزوجين هو لازم و ملزوم، و وسيلة لحفظ وصيانة أحدهما الآخر، يقول القرآن عن الزواج: (وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ) . (1) و روي عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: «ما بُنِىَ بناءٌ فِي الإسلامِ أحَبُّ إلَى اللّهِ عَزَّوجَلَّ مِنَ التَّزويج».(2)

و قال أيضاً: الزواج سنتي، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.(3)

و قد عبرت بعض الروايات عن الزواج بأنه وسيلة لإحراز نصف الدّين و وسيلة لجلب الرزق.(4)

و قد ذمّت بعض الروايات الأُخرى العزّاب(5) و لهذا من الجدير أن يقيم الشبّان المسلمون هذه السنّة الإلهية و لايتقيدوا بالعادات والتقاليد الزائدة والمغلوطة.

ص:378


1- - سورة النور (24)، الآية 32.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح، ج 20، ص 14، الحديث 4.
3- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب الأول من أبواب النكاح، ج 14، ص 152 و 133، الحديث 15 و 18.
4- المجلسي، بحارالأنوار، ج 100، ص 217، الحديث 1؛ وص 219، الحديث 14.
5- - الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 3، ص 384، باب فضل المتزوّج على العزب، الحديث 4348 و 4349.
الاهداف الأساسية من الزواج

في الزواج فوائد يعود بعضها على الزوجين، و يعود بعضها الآخر على المجتمع. يمكن تلخيص أهم الفوائد التي تعود على الإنسان من الزواج في ثلاثة أشياء:

1 - إشباع الغريزة الجنسية عن الطريق الصحيح: كما نعلم أن كل إنسان لديه غريزة جنسية، و يجب أن تلبى هذه الحاجة الطبيعية، و تلبي الشريعة الإسلامية هذه الحاجة على وجه مشروع و طبيعي عن طريق الأمر بالزواج و لاترضى مطلقاً بالرهبانية والعزوبية، و من يتزوج يشبع هذه الحاجة الطبيعية، و لكن الذين يعزفون عن الزواج قد يوقعون أنفسهم والمجتمع في الانحراف والفساد. و قد روي عن رسول اللّه أنه قال: «من استطاع منكم الباه فليتزوّج و من لم يقدر فعليه بالصوم فإنّه له و جاء».(1)

2 - إيجاد السكينة عند الرجل والمرأة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) .(2)

هذه الآية القرآنية - و كذلك الآية 21 من سورة الرّوم التي تقدّم بيانها (3)- أسمى من اللّذة الجنسية و تهدف إلى إيجاد الطمأنينة والاستقرار والسكن والمودة والرحمة.

3 - استمرار النسل البشري، و تربية الأبناء المؤمنين الصالحين (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً... يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) .(4)

و قد جاء في الروايات - أيضاً - التأكيد على اختيار الزوجة الولود غير العقيم.

اختيار الزوج
اشارة

إن إحدى أكثر المسائل المتعلقة بالزواج و تشكيل الاُسرة حساسية، هي مسألة اختيار الزوج، و لابُدّ من الالتفات إلى عدة مسائل في هذا المجال و هي:

ص:379


1- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 13 من أبواب الصوم المندوب، ج 7، ص 506 و 507، الحديث 1.
2- سورة الأعراف (7)، 189.
3- - (وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً).
4- سورة الشورى (42)، الآية 11.

1 - الحريّة في اختيار الزوج.

2 - معايير اختيار الزوج.

3 - من لايقع الزواج بينهم.

1 - الحريّة في اختيار الزوج

الحياة الزوجية والمشتركة تكون مصدراً للسعادة متى ما كان هناك توافق فكري و تناسب روحي و أخلاقي بين الزوجين.

و يتحقق هذا الانسجام حينما يتمّ اختيار الزوج بدقة و حريّة واختيار كامل من قبل الطرفين، و لايكون الزوجان مجبرين و مكرهين في اختيار شريك الحياة.

أول شرط لصحة عقد الزواج هو أن يكون لكلٍّ مِن المرأة والرجل دور في إبرام هذا العقد، و بعد تحقّق الإيجاب والقبول لابدّ أن يكون ذلك عن رضىً واختيار تامّين.

جاء شاب إلى الإمام الصادق عليه السلام و قال له: إنّني أرغب في الزواج من امرأة، بينما يريد مني والداي أن أتزوج غيرها. فقال له الإمام: تزوّج التي ترغب أنت فيها، واترك التي يرغب فيها والداك.(1)

و نقل في رواية أُخرى أن فتاة جاءت إلى النبي و قالت: إنّ أباها زوّجها و هي كارهة، فترك النبي صلى الله عليه و آله و سلم لها الخيار في أمرها.(2)

إذن الأب في زواج ابنته

أكّدت التعاليم الإسلامية على أن تتزوج البنت بإذن من أبيها. و من الضروري الالتفات إلى النقاط التالية بهذا الشأن:

1 - بما أنّ الزواج منشأ علاقة اجتماعية بين أُسرتي الزوجين، لذا يوصى الأبناء والبنات باستشارة والديهم حول اختيار الزوج.

ص:380


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 13 من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، الحديث 1، ج 20، ص 293.
2- الشهيد الثاني، مسالك الافهام، ج 7، ص 123؛ سنن ابن ماجه، ج 1، ص 602 و 603، الحديث 1874.

إنّ التشاور هذا، نوع من الاحترام والحب للأبوين، و تعبير عن الامتنان لِما يحملاه من أجل تنشئة الأبناء و تربيتهم و هو أسلوب مناسب للاستفادة من تجاربهما الشخصية والاجتماعية، إضافة إلى أنّهما أفضل معين و مرشد في اختيار الزوج.

2 - و من اشترط إذن الأب في الزواج فإنّه قد اعتبر هذا الشرط في حالة البنت البكر، و من الواضح أن هذا الإجراء بخصوص هذه الفئة التي لاتملك أية تجربة في هذا المضمار، ينطوي على أهمية كبيرة و وضع رأي الأب كشرط في عقد الزواج يمثل حلاًّ مفيداً لهنَّ.

3 - شرط الإذن يكون ساري المفعول مادام الأب يسعى في سبيل مصلحة ابنته، و ليس في سبيل فرض رأيه ورغبته عليها، و متى ما تبيّن أن الأب يعمل خلاف مصلحة ابنته، و بضررها، تستطيع البنت أن تُقدم على الزواج بتشخيصها في حالة تناسب و كفاءة المتقدّم للزواج منها.

2 - معايير اختيار الزوج

على المرأة والرجل اللّذين ينويان الزواج أن يكون كل منهما على معرفة كافية بالآخر، و أن يضعا نصب عينيهما المعايير اللازمة لانتخاب الزوج المناسب. و أي تسرّع بهذا الخصوص ربما يكون سبباً للندم في المستقبل.

من جملة النقاط التي يجب وضعها نصب العين عند اختيار الزوج هي:

1 - الإيمان: قلنا في الأبحاث المتقدّمة أن الهدف من الزواج من وجهة نظر الإسلام ليس مجرد إشباع للّذة الجنسية، بل تشكيل الاُسرة والألفة والمودة، و إيجاد الجو المناسب لتربية أولاد نافعين للمجتمع الإسلامي.

الشرط الأوّل للوصول إلى هذه الأهداف هو أن يكون الزوجان مؤمنين و متمسكين بالإسلام، و عليه فإنّ زواج المسلمين حسب هذه الآية القرآنية بالمشركين(1) غير صحيح.

يلاحظ أحياناً أن هناك من يقول: إنّ الاختلاف في الأديان يجب أن لايكون مانعاً من الزواج بين المرأة والرجل.

ص:381


1- سورة البقرة (2)، الآية 221.

هذا اللّون من التفكير ينشأ طبعاً بسبب عدم الفهم الصحيح للدين والزواج. فلو كان الدّين كما يفهم من هذه الكلمة هو طريق وأُسلوب و منهج للحياة، و إذا كان الزواج ارتباطاً روحياً و قلبياً بين الزوجين، و تأسيس كيان يسوده الوئام والانسجام، كيف يمكن إيجاد مثل هذا الارتباط بين إنسانين أحدهما مؤمن والآخر كافر؟

لقد أثبتت التجربة العملية أن هذا النوع من الزواج إما أن ينتهي إلى الضمور الاعتقادي التدريجي للزوجين، أو على الأقل لأحدهما أو ينتهي إلى عدم الإنسجام.

2 - الاستقامة، العفة والفضائل الأخلاقية. يقول أحد أصحاب الإمام الجواد عليه السلام: كتبتُ إليه أسأله في أمر الزواج، فجاءني الجواب بأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه و تديّنه فزوّجوه، و إذا لم تفعلوا فإن ذلك يؤدي إلى فتنة و فساد.(1) و روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: الكفء من كان ذا عفة و يسار.(2) إنّ اختيار الزوج السيّيء الخلق والمنحرف فكرياً والمرتكب للذنوب عمل غير صائب، حتى و إن كان ثرياً و ذا مكانة اجتماعية ظاهرية، كما جاء في الحديث: إنّ من زوّج ابنته شارب الخمر فقد قطع ذريّتها.(3)

3 - من لايقع الزواج بينهم (المحارم)

توجد مجموعة من الأفراد لايجوز الزواج بينهم، إما بسبب علاقة نسبية أو سببية أو الرضاع(4) و هؤلاءهم:

1 - المحارم النسبيون؛ أي الأقارب الذين هم من أصل و نسب مشترك فيكونون محارم للشخص والزواج منهم حرام، فيحرم على الرجل: الأُم والجدة والبنت والأحفاد - مهما نزلوا - والأُخت و بنت الأخ و أحفادها و بنت الأُخت و أحفادها والعمّة والخالة و يشمل ذلك عمات و خالات الأب والأُم، مهما علوا.

ص:382


1- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 28 من أبواب مقدمات النكاح، ج 20، ص 77، الحديث 2.
2- - المصدر السابق، ص 78، الحديث 4.
3- المصدر السابق، الباب 29، ص 79، الحديث 1.
4- راجع: سورة النساء (4)، الآية 22.

و يحرم على المرأة: الأب والجد والإبن والأحفاد - مهما نزلوا - والأخ وابن الأخ و أحفاده وابن الأُخت و أحفاده والعم والخال و يشمل أعمام و أخوال الأب والأُم مهما علوا.

2 - المحارم السببيون: أي الأقارب الذين يرتبط بهم الشخص بنسبة سببيّة عن طريق الزواج و لايمكن الزواج بهم.

فيحرم على الرجل؛ زوجة الأب والجد، وأُم وجدّة المرأة فهما تحرمان على الصهر حرمة أبدية، و بنت الزوجة و أحفادها إذا كان الرجل قد دخل بأُمها و ليس بمجرد إجراء العقد، و زوجة الإبن وأُخت الزوجة مادامت الرابطة الزوجية موجودة مع تلك الزوجة، و يحرم على المرأة؛ أبو الزوج وجدّه وابن الزوج و زوج الأم و زوج البنت (الصهر) و زوج الأُخت مادام زوجاً لأُختها.

3 - المحارم بالرضاع؛ إذا حصلت إحدى النسب المتقدّمة عن طريق الرضاع - وفق الشرائط المذكورة للرضاع (1)- أدّت إلى الحرمة و بالنتيجة حرمة الزواج.

كذلك بالاضافة إلى الموارد المذكورة فإن الزواج مع هذه الفئة من النساء حرام أيضاً:

1 - المرأة التي في عدّة رجل آخر. 2 - المرأة المحصنة التي عقد عليها. 3 - المرأة المحصنة التي زنى بها على الأحوط وجوباً. 4 - بنت الخالة و على الأحوط وجوباً بنت العمّة فيما إذا زنى بأمّهما. 5 - بنت و أُم المرأة التي زنى بها على الأحوط وجوباً. 6 - أُمّ و أخت و بنت من لاط به. 7 - المرأة المُحرِمة التي عقد عليها في حالة الإحرام. 8 - الزوجة التي طلقها زوجها ثلاث مرّات؛ إلّابعد زواج المحلّل بها وفق الشروط المذكورة في الرسائل العملية.(2) 9 - بنت أُخت و بنت أخي الزوجة من دون إذنها. 10 - البنت الصغيرة التي تزوّجها و دخل بها على الأحوط وجوباً. 11 - الكافرون من غير أهل الكتاب (والزواج الدائم بالكافرات من أهل الكتاب و من غيرهم). 12 - الزوجة التي لاعنها.

و قد جاء تفصيل أحكام كل من هذه الموارد في الرسائل العملية.(3)

ص:383


1- راجع: الأحكام الشرعيّة، المسائل 2662-2682.
2- - راجع: المصدر السابق، المسألة 2731.
3- راجع: المصدر السابق، المسائل 2567-2594.
عقد الزواج

عندما يتفاهم اثنان على العيش المشترك معاً، و لكي يعربا عن إرادتهما القلبية واستعداهما لذلك، و لكي يحسما موضوع زواجهما بشكل نهائي، عليهما إبرام عقد الزواج بالتلفظ بكلمات تنمّ عن نيتهما الجادة، وليعلنا احترامهما لهذا العقد و لكل ما ورد فيه من وظائف و شروط.

بدايةً تقول الزوجة مخاطبة الزوج و بقصد إيجاد عقد الزوجية: «اَنكَحْتُكَ نَفْسي عَلَى الصِّداقِ الْمَعلوم» أو «زَوَّجْتُكَ نَفْسي عَلَى الصِّداقِ المَعْلوم». حسب العقد والشروط المتفق عليها؛ و بعد ذلك أيضاً يقول الرجل مباشرة: «قَبِلْتُ النّكاحَ عَلَى الصِّداق المَعْلوم» أو «قَبِلْتُ التَّزْويجَ عَلَى الصِّداقِ المَعلوم».

حسب القوانين الإسلامية، يمكن للزوجين إجراء صيغة العقد بينهما دون تدخل الآخرين و عند الحاجة و عدم قدرة الطرفين على إجراء العقد يمكنهما توكيل الغير.

والأحوط وجوباً أن تقرأ صيغة العقد عند الإمكان بلغة عربية صحيحة، و لكن إذا تعذّر ذلك تجوز قراءتها بأيّة لغة أُخرى مفهمة لمعنى «زوجت» و «قبلت».

دور المرأة في صيانة العفاف في المجتمع

رؤية المشاهد المثيرة لها دور كبير في إثارة الغريزة الجنسية، و غالباً ما تمهّد الأرضية لانحراف الشبّان، لذلك يفترض بالمرأة أن تهتم بدورها في حفظ العفة في المجتمع، والحذر من كل ما من شأنه دفع الآخرين لارتكاب الحرام. و على النساء أن لا يجعلن من أنفسهن فرجة للقاصي والداني، و أن لايصبحن أداة للقيام بالمعاصي و تمهيد الأرضية لارتكاب الذنوب من قبل الآخرين. فيجب أن لاتقوم المرأة بما يلفت اهتمام الرجال إليها بصفتها موجود خلقه اللّه سبحانه و تعالى للتسلية والانغماس في الشهوات، و عليهن أن يعرفن قدر أنفسهن و قدر شخصيتهن الإنسانية و خاصة مقام الأُمومة الذي حباهن اللّه به - و يجب عليهن أن يسعين إلى أن تنشأ في أحضانهن الشخصيات الفذّة والعظيمة - و قد جاءت في

ص:384

القرآن العظيم دعوة لضرورة عدم تبرُّج المرأة للأجنبي.(1)

و في الوقت ذاته أُمر الرجال بالعفّة و غضّ البصر أيضاً.(2)

أحكام النظر واللّمس والصوت

1 - يحرم على الرجل النظر إلى جسد المرأة ماعدا المحارم، سواء كان نظره بلذّة، أو بدون لذّة والنظر إلى الوجه والكفين أيضاً حرام إذا كان بقصد اللّذة، أو خاف الوقوع في الحرام، بل النظر بدون قصد اللّذة والخوف من الحرام أيضاً لايخلو من إشكال؛ إلّافي حالة الضرورة فلا إشكال فيه.

2 - النظر بدون قصد اللّذة إلى الوجه واليدين والشعر و ما لايستر عادة من نساء الكفّار و أهل الكتاب، إن لم يخف منه الوقوع في الحرام، فلا إشكال فيه.

3 - لايحرم أن يأخذ الرجل الصورة والفيلم للمرأة غير المحرم، و لكن لايجوز التقاط الصورة إذا كان يضطر بسببها إلى ارتكاب عمل آخر حرام.

4 - لا إشكال في نظر الرجل إلى صورة و فيلم المرأة غير المحرم، إذا كان لايعرفها أو كانت تلك المرأة متهتكة، بشرط أن لايترتب على هذا النظر مفسدة.

5 - من أراد الزواج يجوز له - من أجل التعرف - النظر بمقدار المتعارف فقط إلى وجه و شعر و كفَّي المرأة أو البنت المقصودة، و إذا لم يحصل الغرض من النظرة الأُولى فلا إشكال في التكرار، و لكن على أي حال يجب أن لايكون بقصد اللّذة. و لا إشكال بحصولها قهراً.

6 - إذا اضطر الرجل إلى معالجة امرأة غير محرم، واضطر من أجل معالجتها أن ينظر إليها أو يلمس بدنها فلا إشكال فيه، و لكن إذا استطاع أن يعالجها بالنظر، فلا يجوز اللّمس، و إذا استطاع أن يعالجها باللّمس، فلا يجوز النظر و إذا اضطر لذلك، فلا فرق بين العورة و غيرها.

7 - يجوز للمرأة والرجل الأجنبيين سماع صوت أحدهما الآخر دون تلذّذ، سواء كان ذلك بالتحدث أو بشكل آخر، و بشكل مباشر أو غير مباشر، و لكن إذا كان صوت المرأة مهيّجاً يجب على الأحوط اجتناب الاستماع إليه.

ص:385


1- سورة النور (24)، الآية 31.
2- سورة النور (24)، الآية 30.
الواجبات الأُسرية
اشارة

1 - بعد إجراء عقد الزواج تترتب الحقوق الزوجية على الطرفين، و تجب على الزوجين الالتزامات والوظائف التالية:

أ - التزامات الزوج بدفع المهر والنفقة ورعاية حقوق الزوجة.

حسب القانون الإسلامي بمجرد أن يجري العقد يصبح الزوج مديناً بالمهر للزوجة، و عليه الدفع إذا ما طالبته الزوجة به (وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) ؛ (1) إلّاأن يكونا قد وضعا شرطاً خاصاً في العقد، أو أن تقبل الزوجة بأن يبقى المهر في ذمة الرجل. على الزوج أيضاً توفير النفقات اللازمة والمأكل والملبس واحتياجات زوجته بما يليق بها و على قدر استطاعته وسعته، جاء في الرواية: «من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها و يطعمها ما يقيم صلبها، كان حقّاً على الإمام أن يفرّق بينهما».(2)

في الوقت نفسه - امتثالاً لأمر القرآن الكريم - فإن على كل زوج أن يكون حسن الأخلاق والسلوك مع زوجته(3) و أن لايحمّل شريكة حياته ما هو خارج عن نطاق الواجبات الزوجية.

من جملة حقوق المرأة الدائمية على زوجها هو إذا لم يكن بإمكانه المبيت عندها في كل ليلة، فعليه أن يمضي ليلة واحدة من كل أربع ليالٍ على الأقل في منزلها إلّاأن تتنازل عن حقها.

ب - وظيفة المرأة تجاه زوجها هي أن تكون حسنة الأخلاق و أن تمكّنه من نفسها، و أن تكون عفيفة و أمينة على ماله، و يجب عليها أن تعرف واجباتها الزوجية تجاه زوجها و أن تلتزم بها. و قد قال اللّه تبارك و تعالى: (وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً) (4) طبعاً على الزوج أيضاً أن يراعي مصالح

ص:386


1- - سورة النساء (4)، الآية 4.
2- الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 3، ص 441، باب حق المرأة على الزوّج، الحديث 4529.
3- - سورة النساء (4)، الآية 19.
4- - سورة الروم (30)، الآية 22.

زوجته بشكل كامل، كذلك على الزوجة - في جميع الأحوال - رعاية الأمانة والصدق تجاه الزوج في جميع جوانب الحياة المختلفة، و خاصة من ناحية تربية الأولاد و حفظ مال الزوج، و أن لاترهق زوجها بمطاليب غير ضرورية تفوق طاقته قد تدفعه إلى الانحراف عن الطريق المستقيم.

جاء في الحديث: يأتي زمان يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجته؛ تكلّفه ما لايطيق حتى يورده ذلك موارد الهلكة.(1)

و هناك أيضاً حقوق مشتركة بين الزوجين عليهما رعايتها:

أ - حق الاستمتاع واللّذة؛ و هو حق للطرفين في أن يستمتع أحدهما بالآخر على أساس الحدود التي وضعها الشارع لهما، إلّاأن يكون هناك مانع شرعي يحول دون ذلك، كذلك على الرجل أن لايقضي جميع أوقاته بعيداً عن أُسرته ولو في العبادة، فيفشل في تحسين وضع الزوجة والمعيشة والاهتمام بشؤون المنزل والأبناء، و ملء أوقات فراغ الاُسرة.

ب - حسن المعاشرة؛ على كل واحد من الزوجين أن يحرص على إرضاء الآخر و أن يبتعدا عمّا يؤدي إلى الاختلاف، روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: خير نسائكم الولود الودود العفيفة، الذليلة مع بعلها المتبرّجة مع زوجها.(2)

و نقل عن أميرالمؤمنين عليه السلام جهاد المرأة حسن التبعّل لزوجها.(3)

2 - للوالدين والأبناء مجموعة من الحقوق والواجبات المتبادلة فيما بينهم و إذا لم يعرف أي منهم تلك الواجبات أو لم يعمل بها فقد ظلم الآخر. و بما أن الأُمّ قد حملت طفلها في مدة الحمل بصعوبة، و منحته من ثمرة روحها، و حمته بكل وجودها، و حرمت نفسها حلاوة الراحة والنوم، و تحملت المرارة لكي يكبر صغيرها، فلها حق أن يشكرها في مقابل المتاعب والمعاناة التي تحملتها في سبيله، و أن يقوم بواجباته تجاهها.

ص:387


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 47.
2- الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، باب 6 من أبواب مقدمات النكاح، ج 20، ص 29، الحديث 2.
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 136، ص 495.

و للأب أيضاً حقوق من الواجب رعايتها؛ فالأب هو الأصل والإبن فرع منه، ولو لم يكن الأب لَما كان الإبن أيضاً. فكل نعمة ينعم بها الإبن فهي من والده.

لذا يجب على الإبن أن يحمد اللّه و أن لايغفل لحظة عن شكره على نعمة الأُبوّة.

والأبناء أيضاً لهم حقوق تجب رعايتها من قبل الوالدين، فحق الإبن على والديه أن يعتبراه جزءاً من وجودهما، و أنه منسوب إليهما، و أن مسؤولية سلامة و تربية و إرشاد الإبن في الأُمور الاعتقادية تقع على عاتق الوالدين، و بالتالي سوف يَريان أجر حسن أو جزاء سوء تربيتهما له. فعليهما تربيته بالشكل الذي يكون فيه مصدر عزّ لهما في الدنيا، و يعذران فيه أمام اللّه سبحانه و تعالى في الآخرة. و يجب أن يراعي الوالدان العدالة بين أبنائهما في البذل والمعاملة، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «اعدِلوا بَيْنَ أولادِكم».(1) و في رواية أيضاً: «ساووا بين أولادكم في العطيّة».(2)

3 - الأخ والأخت بمنزلة اليد والساعد والسند، و مصدر عزّة و قوّة أحدهما الآخر؛ و حقهما هو أن لايتخذ أحدهما الآخر وسيلة لارتكاب المعاصي والاعتداء على حرمات اللّه أو الناس، و أن يعين أحدهما الآخر في الشدائد والملمّات.

النفقه و إدارة شؤون الاُسرة

في كل مجتمع - و حتى في الاُسرة - نوعان من المسؤولية: الأوّل: مسؤولية كل عضو من الأعضاء اتجاه الآخر والحقوق التي تجب مراعاتها.

والثاني: الوظيفة الجماعية والعامّة لكل فرد تجاه الآخر، و في هذه الحالة يكون المجتمع مسؤولاً عن استمرار و قوة و ترابط الاُسرة، بعبارة أُخرى: من أجل التقدم الصحيح لأية جماعة لابُدّ من وجود نظام دقيق. و إذا لم تكن هناك أنظمة صحيحة، و لم توزع الوظائف على أساس التناسب الروحي و طاقات كل فرد، و حصل تداخل في المسؤوليات، فإمّا أن يقع الظلم والإجحاف في ذلك المجتمع، أو أن يؤدي ذلك إلى تآكل بنيان ذلك

ص:388


1- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 101، ص 92، الحديث 16.
2- المتّقي الهندي، كنز العمال، ج 16، ص 444، الحديث 45346.

المجتمع والاُسرة. و من أهم المسائل التي تواجه الاُسرة هي مسألة توفير سبل العيش من الملبس والمأكل والمسكن والظروف المناسبة لتعليم و تربية الأبناء، و قد أنيطت مسؤولية هذا الجانب من الحياة بالرجل، و على هذا الأساس تقع على عاتق الرجل مسؤولية حماية و إدارة شؤون الاُسرة.(1)

و هذه المسؤولية - كنظيراتها من المسؤوليات - تتطلب التضحية والإيثار، و لذا أُمر الإنسان بالدفاع فيما لو تعرض هو أو أُسرته إلى اعتداء. حتى و إن علم أنه يُجرح أو يُقتل.

و لهذا فإنَّ إيكال قيمومة الأبناء الذين لم يبلغوا سن الرشد إلى الأب، أو إذا اشترط اذنه في زواج ابنته الباكر، أو إذا اعطيت للزوج صلاحيات لإدارة شؤون البيت والأسرة، فهو لأجل أن لاتتفكك الأسرة و لايتشتت شملها، و لكي تسير الأمور وفقاً لمجراها الصحيح. و في ضوء هذا الواقع، فالرجل هو المسؤول عن شؤون الاُسرة، و إذا خرج عن حدوده و صدرت عنه مخالفة ما، وتصرف ضد مصالح الاُسرة أو أساء استغلال موقعه، عندئذ لايبقى له حق على أُسرته.

قيام الرجل بتوفير متطلبات الحياة و تحسين الأوضاع المعاشية للأُسرة عامل مهم جداً في خلق أجواء الارتياح والاطمئنان بين أفرادها، و من جملتهم الزوجة. و إن مثل هذا التدبير يعطي الفرصة لأعضاء الاُسرة للقيام بدورهم على أفضل وجه. طبعاً يجب أن لايتحول هذا الحق إلى أداة للظلم والاستبداد و فرض الرأي على المرأة والأبناء مطلقاً.

إنّ إدارة شؤون الاُسرة لايعني التحكم والاستبداد والتسلّط عليها؛ لأن الإدارة في الاُسرة - و في أي مكان آخر - تتطلب تدبيراً واستفادة من الأساليب الناجحة للإدارة والتربية الصحيحة.

بعض هذه السُبُل تستعد الاستفادة من آراء أعضاء الاُسرة، و إشراكهم في إدارة شؤونها، و بعضها يتحقّق عن طريق التشجيع والمداراة واللّين، و قسم آخر منها بالإنذار والتحذير.

ص:389


1- إشارة إلى الآية 34 سورة النساء: (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ).

و على أية حال فإنّ مسؤولية تربية الأبناء تقع على عاتق كلا الوالدين، و عليهما بالتعاون و مساعدة بعضهما للنهوض بهذه المهمّة الحساسة.

من تجب إعالتهم

يجب على الإنسان إعالة كل من:

1 - الزوجة الدائمة و كذلك المؤقتة إذا اشترطت النفقة ضمن العقد.

2 - الأب والأُم و آبائهما وأُمّهاتهما، و إن علوا.

3 - الإبن والبنت و أولادهما، و إن نزلوا.

و فيما عدا المرأة - التي تجب إعالتها على الزوج على كل الأحوال فقيرة كانت أم غنية - فإن الإنفاق على الأقارب مشروط بفقرهم و حاجتهم، و أما إذا كانوا يستطيعون توفير مصاريفهم بعمل يناسب حالهم و شأنهم لايجب تأمينها لهم. والأقارب الآخرون، كالأخ والأُخت والعمّ والعمّة والخال والخالة و أولادهم، ليس من الواجب الإنفاق عليهم، و لكن يستحب للإنسان إذا كان متمكّناً، و كانوا محتاجين أن يعيلهم.

حقوق الطفل

1 - الرضاعة؛ لايجب على المرأة إرضاع طفلها مجّاناً أو بالأُجرة، و لكن إذا انحصرت تغذية الطفل على حليب أُمّه أو كانت تغذيته من غيرها يسبّب للطفل الضرر والأذى، فيجب عليها أن ترضعه و يجوز لها أن تطالب بالأجرة و لكن من الأجدر ألّا تفعل ذلك.

مدة الرضاعة الكاملة سنتان، و يكفي واحد و عشرون شهراً. والأحوط مراعاة هذه المدة لو أمكن.

2 - التربية؛ بالإضافة إلى توفير نفقات المأكل والملبس و تعليم الأبناء، فإن من حق الإبن على أبيه تربيته الصحيحة والإشراف على شؤونه و كذلك تزويجه. طبعاً التربية هي بمعنى الإرشاد والتوجيه التي تكون في صالح الطفل، و بما يعود بالنفع عليه، و لايجوز ضرب الطفل.

ص:390

الأعمال المستحبة بعد الولادة

يستحب بعد الولادة غسل الوليد ولفّه بقطعة قماش بيضاء، والأذان في أُذنه اليمنى، والإقامة في أُذنه اليسرى، واختيار اسم حسن له. و من المستحبات المؤكّدة جداً، العقيقة عن الوليد و لها تأثير مهم على سلامة الطفل.

الزواج المؤقت
اشارة

يمكن أن يتمّ الزواج على صورتين: «دائم» و «مؤقّت».

الزواج المؤقّت والدائم يشتركان في بعض الأحكام و يختلفان في البعض الآخر. و ما يميز الاثنين بالدرجة الأُولى هو أن الزواج المؤقّت لابُدّ فيه من تعيين المدّة والمهر. و بعد انقضاء المدة يمدّدان بعقد جديد إن رغبا في التمديد و إلّاانفصلا. الاختلاف الجوهري بين هذين الزواجين هو أن الزواج المؤقت متحرر من بعض القيود والحدود التي سنذكرها فيما بعد للزواج الدائم. و هو مرتبط برغبة الطرفين والعقد المبرم بينهما، وتقييد هذا الزواج بزمن معين يمنح الطرفين أيضاً نوعاً من الحريّة في القرار.

لماذا الزواج المؤقت؟

إشباع الغريزة الجنسية حاجة إنسانية و خاصة في فترة الشباب. و إهمال هذه الحاجة و عدم الاهتمام بها ربما يعرّض المجتمع إلى أزمة جنسية، و يصاب - بسبب عدم تلبية هذه الحاجة - بآفات مثل التحلل الجنسي، والإدمان على المخدرات، والعنف والأمراض الخطيرة. و من جهة أُخرى قد لايكون الزواج الدائم أحياناً في مصلحة أو بمقدور الكثيرين.

والحل الذي يقدّمه القرآن الكريم هو الزواج المؤقت.(1)

ص:391


1- سورة النساء (4)، الآية 24.

على هذا يمكن أن يكون الهدف الأصلي من الزواج هو أُمور أُخرى، إضافة إلى تشكيل الاُسرة:

1 - المرأة والرجل إذا لم تكن لديهما القدرة على تحمل جميع شروط الزواج الدائم، و لايرغبان أو لايستطيعان تحمل كل مسؤوليات و واجبات هذا الزواج، و لكي يمكنهما الاتصال واللقاء والتعرف والاطمئنان لبعضهما قبل الزواج الدائم، يتزوجان لمدة معينة؛ و في هذه الحالة إذا اطمئنا لبعضهما اطمئناناً كاملاً يواصلان زواجهما و إلّاانفصلا.

2 - الرجال الذين يبتعدون عن زوجاتهم لفترات طويلة، أو من فقدت زوجته قدرتها الجنسية على أثر مرض و غير ذلك، أو من فقد زوجته و ليس بإمكانه الزواج الدائم ثانية.

3 - الشباب البالغون الذين لايتيسر لهم تشكيل الاُسرة والزواج الدائم، فإنّ ضغط الغريزة الجنسية والحرمان من الزوجة المناسبة يشغل أذهانهم أو يوقعهم في المعصية، و يسفر عن نتائج مريرة على الصعيد الاجتماعي والفردي.

و عليه، هناك أمامنا طريقان لا أكثر، إما أن يُترك هؤلاء و شأنهم ليقيموا علاقات غير مشروعة، أو أن يشبعوا غريزتهم الجنسية عن طريق مشروع، و بما أنهم لاتتوفر لهم إمكانية الزواج الدائم، لذا يكون الزواج المؤقت أفضل حلّ للحفاظ عليهم من ارتكاب الذنوب.

و تبعاً لذلك يكون على المشرعين المعارضين للزواج المؤقت، والذين يحرّمون الارتباط غير القانوني و غير الرسمي بين المرأة والرجل - و هو الزنا - إمّا أن يحظروا على الرجال والنساء أي نوع من الارتباط الجنسي خارج نطاق الزواج الرسمي الدائمي، أو إذا كانوا يشاهدون من الناحية العملية وجود روابط غير سليمة بشكل متنوع و ملحوظ بين الرجال والنساء، فيجب على المعارضين للزواج المؤقت - والحال هذه - إعادة النظر في روابط الزواج القانوني، و أن يعترفوا بأنّ عدم الاهتمام ببعض المتطلبات الضرورية هو الذي أدّى إلى هذه المخالفات والعلاقات اللامشروعة التي تؤدّي إلى الانحلال، و لا مناص من التفكير لوضع حلّ لها جميعاً.

لم يغفل الإسلام عن المتطلبات الفطرية، الجسمية منها والنفسية، فقدّم بواقعية تامّة لهذا النوع من المشاكل الاجتماعية حلولاً منطقية بعيدة عن الإفراط والتفريط؛ فطرح فكرة

ص:392

الزواج المؤقّت كأفضل حلّ لهذه المعضلة.

جاء في بعض الروايات عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام أنهما قالا:

لولا تحريم المتعة لَما زنى إلّاشقي.(1)

و لكنّ هذا الحكم قد يُساء استغلاله من قبل البعض، و لكن علينا أن ندرك بأن كل قانون لابُدّ و أن تكون فيه ثغرات جزئية يمكن استغلالها. غير أنَّ المهم هو منع سبل هذا الاستغلال.

أحكام الزواج المؤقّت

بالاضافة إلى تعيين المدة و مقدار المهر، يتضمن عقد الزواج غير الدائم أحكاماً يجب الالتفات إليها و منها:

1 - إذا اشترطت الزوجة في عقد المتعة أن لايقاربها الزوج، فالعقد والشرط صحيحان، و يجوز للزوج أن يتلذذ بها دون المقاربة، لكن إذا رضيت بالمقاربة بعد ذلك يجوز له أن يقاربها.

2 - في الزواج الدائم، يجب على الزوج - على أي حال - أن يهيّىء للزوجة الطعام والملبس والمسكن والحاجات الأُخرى من قبيل العلاج، أما في الزواج المؤقّت فلا تجب نفقة الزوجة إلّاإذا اشترطت النفقة ضمن العقد. فقد لايريد الرجل أو لايستطيع تحمل هذه النفقات، أو أنّ المرأة لاتريد الاستفادة من أموال الرجل.

3 - في الزواج الدائم يتولى الرجل مسؤولية إدارة الاُسرة، أما في الزواج المؤقت فيتوقّف ذلك على العقد الذي يُبرم بين الطرفين.

4 - في الزواج الدائم يحق للزوجين منع الحمل أو تحديد النسل بالتفاهم والتوافق، و لكن في الزواج المؤقت لا ضرورة لموافقة الطرف الآخر، و تستطيع المرأة أو الرجل منع الحمل.

ص:393


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب المتعة، ج 21، ص 5 و 10 و 11، الحديث 2 و 20 و 24 و 25.

5 - إذا ولد مِن هذا الزواج طفل فالرجل هو المسؤول عن إدارة و تأمين معيشته كما في الزواج الدائم.

6 - يحرم على المرأة أن تقترن بزوج آخر خلال المدّة المتفق عليها في العقد المؤقت كالزواج الدائم، و تنطبق عليها جميع تلك الأحكام.

7 - بعد انقضاء المدّة المحددة، ينفصل الزوجان تلقائياً عن بعضهما، و لا حاجة إلى حكم الطلاق، و لكن إذا كان الرجل قد قارب زوجته فيجب عليها أن تعتد لكي يعلم فيما إذا كانت حاملاً أم لا، و يتم تحديد الرجل المسؤول عن إدارة شؤون الطفل.

عدّة المرأة في هذا الزواج فيما إذا دخل بها و كانت المرأة تحيض فالأحوط وجوباً أن تعتد بأكثر المدّتين من مدة حيضتين أو طهرين، و إذا كانت لا تحيض فيجب أن تعتد إلى مدة خمسة و أربعين يوماً و إذا لم يقاربها أو كانت يائساً فلا عدة عليها.

8 - لا ترث الزوجة المؤقّتة زوجها و لايرثها أيضاً، إلّاإذا اشترطا التوارث ضمن العقد، و في هذه الحالة، على الأحوط أن تتم المصالحة مع الورثة و أن يقوم الورثة باسترضاء الطرف المعني.

تعددُّ الزوجات
اشارة

تعدد الزوجات أحد الأُمور الواقعية في المجتمعات، و في المسائل المطروحة للبحث في مجال نظام الاُسرة منذ أزمنة بعيدة. و بالنظر إلى حقيقة أن البعض لايكتفي بزوجة واحدة، و حتى من الممكن أن يقيم علاقة بصورة غير مشروعة مع امرأة أُخرى، لم يشجّع تعدد الزوجات و لم يُلغه و لكنّه أيضاً قام بتحديده بأربع نساء فقط والخامسة تحرم؛ أي وضع له حدّاً أعلى من ناحية، و من ناحية أُخرى جعل له قيوداً و شروطاً و هي أن يعدل الرجل بين زوجاته، و في حالة عدم استطاعته العدالة بينهنّ فيكتفي بواحدة كما جاء في القرآن الكريم، و قد انحاز الإسلام في هذا القانون إلى جانب المرأة فقد حدد علاقات الرجل الجنسية في نطاق الزواج القانوني، و منع العلاقات غير المنضبطة والمتحلّلة حفاظاً على حقوق الزوجة والاُسرة.

ص:394

للتعرف على الغاية من تعدد الزوجات، من الضروري طرح عدّة نقاط:

1 - بطبيعة الحال يكون تعدُّد الزوجات فيما لو كان عدد النساء المؤهّلات للزواج أكثر من عدد الرجال المؤهلين.

2 - وجود أسباب من قبيل العقر أو المرض، أو علل أُخرى.

3 - وجود نساء مستعدات للزواج من رجال متزوجين، وهنّ يقدمن على هذا الأمر برغبتهن، و على هذا ففي حالة قلّة عدد النساء المؤهلات للزواج بالنسبة للرجال و عدم ميولهن للزواج من الرجال المتزوجين، فهذا الأمر سينتفي تلقائياً.

4 - لو نظرنا نظرة واقعية فسوف ندرك مدى صواب هذا الحكم، و في الحقيقة إنّ جواز تعدُّد الزوجات الرسمي في البلاد الشرقية كان أهم عامل لتعزيز التوجّه للزواج من امرأة واحدة. ففي الظروف التي تظهر فيها الحاجة إلى تعدد الزوجات و يزداد عدد النساء المؤهّلات للزواج على عدد الرجال، إذا لم يعترف بحق هؤلاء النسوة بالزواج و لا يمنح الرجال المؤهّلون أخلاقياً و مالياً و جسمياً حق تعدد الزوجات، فإن العلاقات اللامشروعة سوف تؤثر سلباً على الزواج الشرعي.

تمّ تعديل هذا الحكم آخذاً بنظر الاعتبار مصلحة النساء، و كذلك العادات والتقاليد في الماضي والحاضر على النحو التالي:

شروط تعدد الزوجات

يجوز تعدد الزوجات بثلاثة شروط هي:

1 - حفظ حقوق الاُسرة و عدم ظلم الزوجة.

2 - تحديد العدد و هو أن لايتعدى الأربع نساء.

3 - رعاية العدالة بين الزوجات. لقد اشترطت الاستفادة من تعدّد الزوجات بهذا الحكم، و هو إقامة العدالة التامّة بين الزوجات بحيث لاتبقى فيه الزوجات كالمعلّقات، و أن لايُحرمنَ من حقوقهن (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) . (1) إنّ رعاية هذا الشرط

ص:395


1- - سورة النساء (4)، الآية 129.

تستلزم تحلّي الرجال بصفات و إمكانات خاصة، و إذا كانوا يفتقرون لها عليهم أن لايتزوّجوا بأكثر من زوجة واحدة (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) .(1)

في نظر الإسلام لايجوز ترجيح زوجة على سائر الزوجات بأي شكل يؤدّي إلى عدم المساواة بين الزوجات. نقل عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما في القِسم من نفسه و ماله جاء يوم القيامة مغلولاً مائلاً شقّه حتى يدخل النار.(2)

و نقل عن عائشة عن مساواة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بين زوجاته: كان رسول اللّه لايفضّل بعضنا على بعض في القِسم، و كان كلّ يومٍ يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كلّ امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها.(3)

و على أيّة حال، نظراً إلى الأهداف الأساسية للحياة، أي بناء الاُسرة على أساس المحبّة والمودة المتبادلة بين المرأة والرجل، فالأفضل الاكتفاء بامراة واحدة. و في الحالات الاستثنائية فقط يتسنّى اللجوء إلى تعدد الزوجات مع رعاية الشروط المذكورة آنفاً.

الطلاق
اشارة

تقدّم آنفاً، أن الإسلام قد حثّ على الزواج و وصفه بأنه سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. و أساس الزواج هو ميثاق على أساس المحبة والمودة والتقوى و حسن المعاشرة (وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) .(4)

و قد أوصى الإسلام كثيراً بالدقة في اختيار الزوجة، و دعا إلى محكمة عائلية، عند نشوب خلاف بين الزوجين؛ للمصالحة و إنهاء الخلاف.(5) و من جهة أُخرى ذمّ الطلاق

ص:396


1- سورة النساء (4)، الآية 3.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 4 من أبواب القسم والنشوز، ج 21، ص 342، الحديث 1.
3- سنن أبي داود، ج 2، ص 243، الحديث 2135.
4- سورة النساء (4)، الآية 21.
5- - سورة النساء (4)، الآية 35.

بشدّة، و جاء في روايات متعددة وصف الطلاق بأنه أبغض الحلال عند اللّه(1) و لهذا وضع الإسلام قيوداً كثيرة في شروط و أحكام الطلاق لكي لايُلجأ إليه إلّاعند الضرورة القصوى.

في الوقت نفسه أباح الطلاق لأنَّ استمرار الخلافات والمشاكل الزوجية بين المرأة والرجل تؤدي أحياناً إلى ضغوط نفسية غير قابلة للإصلاح، و لايمكن علاجها مع هذا، و لأجل منع وقوع الطلاق، مهّد الأرضية للمصالحة بوضع فترة العدة و نفقة المرأة على عاتق الرجل (في الطلاق الرجعي)، لكي يكون باستطاعة الرجل الرجوع فيما لو كان الطلاق قد تمّ بسبب الغضب والعجلة أو بسبب حجج واهية.

الملاحظة الأُخرى هي أن مسألة حق الطلاق بيد الرجل لايعني أنه حصر الطلاق به. بل يمكن عند إجراء عقد الزواج أخذ حق الوكالة للمرأة بالطلاق في موارد خاصّة.

قيود وقوع الطلاق

للحدّ من حالات الطلاق وضعت قيود و شروط كالاتي:

1 - حضور شاهدين عادلين، مع أنّ هذا الشرط لايوجد في أصل عقد الزواج، إلّاأنه لازم في الطلاق.

وجوب هذا الشرط يؤدّي إلى صعوبة وقوع الطلاق، و ربما يكون هذان الشاهدان العادلان سبباً لإصلاح ذات البين.

2 - ماعدا حالات خاصة(2) يشترط أن تكون الزوجة حال الطلاق طاهرة من دم الحيض والنفاس، و هو مهم جداً من الناحية النفسية.

3 - أن تطهر المرأة من الحيض بعد آخر مقاربة.

4 - دفع مهر الزوجة حيث جاء في القرآن الكريم: (وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) .(3)

طبعاً دفع المهر ليس من شروط الطلاق، و يمكن دفعه بالتوافق مع المرأة بعد الطلاق.

ص:397


1- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب الطلاق، ج 22، ص 7-9.
2- - راجع: الأحكام الشرعيّة...، المسألة 2704.
3- سورة النساء (4)، الآية 20.

5 - تحديد الطلاق الذي يحقّ للزوج فيه الرجوع إلى زوجته بالمرّتين الأُوليّتين (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) . (1) و شرط على من طلق زوجته الطلاق الثالث لكي يجوز له العقد عليها مرة أُخرى أن يعقد عليها رجل آخر بالعقد الدائم و يدخل بها ثم يطلقها فتحل عندئذ للزوج الأول. و قد كان تشريع هذا الحكم منذ البداية من أجل الحد من الطلاقات المتكررة.

6 - من أجل خفض نسبة الطلاق لم يجعل حق الطلاق بيد المرأة إلّافي موارد خاصّة، و ذلك لأن المرأة تغلب عليها المشاعر والعواطف، و قد تقع تحت تأثير العواطف واغواء الآخرين فتقوم بما يُلحق الأذى بحياتها.

أقسام الطلاق
أ - الطلاق البائن

هو الطلاق الذي لايحق للزوج بعده الرجوع إلى زوجته إلّابعقد، يعني لايقبلها زوجة له بدون عقد. و هو على ستة أقسام:

1 - طلاق الفتاة التي لم تكمل تسع سنين.

2 - طلاق المرأة اليائس.

3 - طلاق المرأة التي لم يقاربها زوجها بعد العقد.

4 - الطلاق الثالث لمن طلقها زوجها ثلاث مرّات.

5 - طلاق الخلع.

6 - طلاق المباراة.

«طلاق الخلع» هو طلاق المرأة التي لاتكون مستعدة للعيش مع زوجها لأي سبب كان؛ فتهبه مهرها أو مالاً أخر ليطلقها.

أمّا طلاق «المباراة» فهو الطلاق الذي لايريد فيه الزوج زوجته و لاتريد الزوجة زوجها، فتبذل له الزوجة مالاً ليُطلِّقها.

ص:398


1- - سورة البقرة (2)، الآية 229.

الفرق بين طلاق الخلع و طلاق المباراة هو أن طلاق الخلع، تبدي فيه المرأة رغبة في الطلاق من الرجل، أما في المباراة فيكون الطرفان راغبين في الطلاق. كذلك يجب أن لايكون المال الذي يأخذه الزوج في طلاق المباراة أكثر من المهر بل الأحوط أن يكون أقلّ، و لكن في طلاق الخلع، إذا كان أكثر فلا إشكال فيه.

ب - الطلاق الرجعي

يقال للحالات الأُخرى من الطلاق غير الطلاق البائن، الطلاق الرجعي.

ففي الطلاق الرجعي يحق للرجل الرجوع إلى زوجته بعد الطلاق، مادامت في العدّة.

و لاحاجة إلى عقد جديد، و فيه يمكن للرجل أن يرجع إلى زوجته بطريقين:

1 - أن يتكلم بكلام يفيد أنه جعلها زوجته مرة أُخرى. يعني أن ينشيء الرجوع.

2 - أن يقوم بعمل يقصد منه الرجوع، بحيث يفهم أنه رجع إليها؛ كأن يتصل بها بحيث يقال إنهما زوجان، و لايجب الإشهاد على الرجوع و لا إخبار المرأة، بل إذا قال بدون أن يعرف أحد: رجعت إلى زوجتي. فهو رجوع شرعي.

و تجري على المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً، في أيام العدة، أحكام الزوجة الشرعية و عليه تجب على الزوج نفقتها و فطرتها، و يرث أحدهما الآخر، و كذلك لايحق للزوج أن يتزوج في أيام العدّة، بأُختها أو بامرأة خامسة، و حرم على الزوج الذي طلق زوجته طلاقاً رجعياً أن يخرجها في أيام العدّة، من البيت الذي كانت تعيش فيه عند الطلاق.

و إذا طلّق الزوج زوجته مرّتين، و رجع بعد كلّ طلاق، أو طلَّقها مرتين و عقد عليها بعد كل طلاق و انقضاء العدّة، فإنها تحرم عليه بعد الطلاق الثالث، و تحلّ للزوج الأول فيما إذا تزوجت بزوج آخر بعد الطلاق الثالث زواجاً دائماً، و دخل بها الزوج الثاني ثم طلقها، فيجوز له العقد عليها مرة أُخرى. و شروط ذلك مذكورة في الأحكام الشرعيّة.(1)

ص:399


1- راجع: الأحكام الشرعيّة، المسألة 2731.
أحكام العِدّة
عدّة الطلاق

بعد طلاق المرأة من زوجها - إما بإجراء صيغة الطلاق، أو كان ذلك من موارد فسخ النكاح، أو بانقضاء المدّة، أو وهب الزوج لها المدّة في العقد المؤقت - يجب عليها أن تصبر خلال المدّة التي حُدّدت لها في الشرع المقدس باسم العدّة، و أن تمتنع خلال هذه المدّة عن الزواج برجل آخر.

عدّة الطلاق للنساء اللاتي تجب عليهن العدّة ثلاثة أطهار من الحيض؛ أي إذا طلق الزوج زوجته و كان قد قاربها، فعليها أن تعتد بعد الطلاق، يعني يجب أن تصبر بقية طهرها الذي وقع فيه الطلاق، إلى أن تحيض وتطهر، ثم تحيض وتطهر، ثم تحيض الحيض الثالث، فإذا حاضت الحيض الثالث، فقد تمت عدّتها، و يجوز لها أن تتزوج.

أما المرأة التي لاتحيض و هي في سنّ مَن تحيض، إذا كان زوجها قد قاربها و أراد طلاقها، فيجب عليه أن لايقاربها ثلاثة أشهر ثم يطلقها، و بعد الطلاق يجب عليها أن تعتدّ ثلاثة أشهر قمرية.

والمرأة الحامل عدّتها حتى تضع حملها، أو تسقطه. أما إذا كان الحمل من الزنا فالأحوط وجوباً بالإضافة إلى الشرط السابق أن تعتدّ ثلاثة أطهار أو ثلاثة أشهر من حين الطلاق أيضاً.

المرأة التي لا عدّة عليها

1 - لا عدّة على الفتاة التي لم تكمل تسع سنين إذا طلّقها زوجها قبل إكمال التاسعة.

2 - المرأة التي طلّقها زوجها قبل أن يقاربها.

3 - المرأة اليائس.

ص:400

عدّة المرأة في الزواج المؤقت

عدّة المرأة إذا كانت زوجة بالمتعة و تمت مدتها، أو وهبها زوجها باقي المدّة، على النحو الآتي:

1 - إذا لم يقاربها زوجها فلا عدّة عليها.

2 و 3 - لا عدّة على المرأة التي لم تكمل تسع سنين أو كانت يائساً حتى لو كان الزوج قد قاربها.

4 - المرأة التي أكملت تسع سنين و لم تبلغ سنّ اليأس، إذا قاربها زوجها يجب أن تعتدّ على النحو الآتي:

أ - إذا كانت تحيض فالأحوط وجوباً أن تعتدّ بأكثر المدّتين، من مدة حيضتين أو طهرين.

ب - إذا كانت لاترى الحيض، يجب أن تعتدّ إلى مدة خمسة و أربعين يوماً.

ج - إذا كانت حاملاً و لاترى الحيض فالأحوط وجوباً أن تعتدّ بأكثر المدّتين، وضع الحمل أو خمسة و أربعين يوماً.

عدّة الوفاة

الزوجة التي يتوفى زوجها يجب أن تعتد على النحو الآتي:

1 - إن لم تكن حاملاً، فيجب عليها أن تعتدّ أربعة أشهر و عشرة أيام، و أن لاتتزوج ولو كانت صغيرة أو يائسة، أو كان زواجها متعة، أو لم يقاربها زوجها.

2 - إذا كانت حاملاً فيجب عليها أن تعتدّ إلى وضع حملها، فإن وضعت الحمل قبل أربعة أشهر و عشرة أيام، يجب عليها أن تعتدّ من حين وفاة زوجها أربعة أشهر و عشرة أيام.

ما يجب على المرأة في عدّة الوفاة

يجب على المرأة في أشهر عدّة الوفاة أن تمتنع عن الأُمور التالية:

ص:401

1 - لبس الثياب الملونة التي تعدّ زينة.

2 - الاكتحال.

3 - الأعمال الأُخرى التي تعدّ زينة.

أمّا نظافة البدن واللِّباس، و تسريح الشعر والعيش في منزل مزيّن أثناء عدة الوفاة فلا مانع منه.

التغذية
اشارة

أولى الإسلام لموضوع التغذية - الذي هو في مقدّمة ضروريات الإنسان المادية أهمية كبيرة، و شرّع الأحكام بهذا الخصوص. و نحنُ نبيّن في ما يلي قسماً من هذه الأحكام.

1 - اللُّحوم

أحلّ الإسلام أكل لحوم الأنعام فقد جاء في القرآن الكريم: (وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ) .(1)

أ - الحيوانات الحلال اللّحم

لا مانع من أكل لحوم الحيوانات الأهلية والوحشية التالية:

1 - يحلّ من حيوانات البحر، الأسماك التي لها فلس أي قشر، والروبيان.

2 - يحلّ من ذوات الأربع الأهلية، لحم الإبل والبقر والغنم، و يكره أكل لحوم الخيول والبغال والحمير، والكراهية في الخيول أقل من غيرها.

3 - يحلّ من الحيوانات البرية والوحشية، لحم الغزال، والبقر الوحشي، والكبش والماعز الجبلي، و حمار الزّرد.

ص:402


1- سورة النحل (16)، الآية 5.

4 - تحرم لحوم الطيور ذوات المخالب المفترسة، كالصقر والعقاب والباز والشاهين، و أمثالها و كذلك على الأحوط وجوباً، أنواع الغربان، و لكنّ لحوم الطيور مثل أنواع الحمام والحجل والقطا والدجاج البيتي و أنواع العصافير و أمثالها، حلال، ولحم الخطّاف حلال، و لكنّه يكره قتله، والأحوط اجتناب أكل لحم الهدهد. و بيض الطيور المحلّلة اللّحم، حلال.

و تميّز عادة الطيور المحلّلة اللّحم عن الطيور المحرّمة اللّحم بطريقين:

1 - إذا كان دفيف الطير أكثر من صفيفه أي يحرّك جناحيه حال الطيران أكثر ممّا يبسطهما، فهو حلال، أما الطير الذي يكون بسط جناحيه حال الطيران أكثر من تحريكهما، فهو حرام.

2 - إذا كان للطير قانصة، أو حوصلة، أو صيصيّة - والصيصيّة، إصبع في رجل الطائر بمنزلة الإبهام من الإنسان - فهو حلال، و إن لم يكن له ذلك فهو حرام. و يحرم من الحيوان - حلال اللّحم - ستة عشر شيئاً.

1 - الدم 2 - الروث 3 - القضيب 4 - الفرج 5 - المشيمة 6 - الغُدد 7 - البيضتان 8 - خرزة الدماغ و هي حبّة في الدماغ بقدر نصف الحمّصة 9 - النُخاع 10 - العلياوان و هما عصبان ممتدان في طرفي الظهر 11 - المرارة 12 - الطحال 13 - المثانة 14 - عدسة العين و سوادها 15 - أُذنا القلب 16 - الأشاجع و هي في وسط حافر الحيوان.

شروط ذباحة الحيوان

إذا ذبح الحيوان حلال اللّحم على النحو الذي يذكر أدناه، يكون لحمه حلالاً و بدنه طاهراً. و لذباحة الحيوان خمسة شروط:

1 - أن يكون الذابح مسلماً، و أن لايظهر العداوة لأهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و لا فرق في أن يكون الذبح يدوياً أو آلياً.

2 - أن تكون آلة الذبح من الحديد، و لكن إذا لم يوجد الحديد و كان الحيوان بحيث إذا لم يذبح، مات، يجوز ذبحه بشيء حاد يقطع أوداجه الأربعة.

3 و 4 - أن يوجّه مقادم بدن الحيوان حال الذبح إلى القبلة و أن يذكر اسم اللّه تعالى عليه

ص:403

بنيّة الذبح، و يكفي من الذكر أن يقول: «بِسم اللّه». و أما إذا لم يذكر اسم اللّه تعالى عليه عن نسيان، فلا إشكال فيه.

5 - أن يتحرك الحيوان بعد الذبح، بحيث يعلم أنه كان حيّاً حين الذبح.

و من شروط ذبح الحيوان يجب أن تقطع الأوداج الأربعة، يعني مجرى الغذاء، و مجرى التنفس، والعرقين الكبيرين، من أسفل الجوزة بشكل كامل، بحيث يبقى قسم منها مع الرأس. و لذكاة الإبل يجب - مضافاً إلى الشروط الخمسة التي ذكرت لتذكية الحيوان - غرز السكين أو الآلة الحادة الأُخرى في لبّتها التي هي بين العنق والصدر. و يُسمى ذلك بالنحر.

لا إشكال في ذبح الحيوان بواسطة الآلات والمكائن إذا روعيت الشروط الشرعية للذبح، و لايجب ذكر «بسم اللّه» لكل واحدة، بل إذا قصد عند ضغط الزّر و ذكر «بسم اللّه» ذبح عدّة حيوانات معاً حلت جميعها، بشرط أن يقال عرفاً أنها ذبحت في وقت واحد.

أحكام الصيد بالأسلحة

إذا صيد الحيوان الوحشي حلال اللّحم بالأسلحة، يكون أكله حلالاً و ميتته طاهرة، بخمسة شروط:

1 - أن يكون سلاح الصيد قاطعاً مثل السكين والسيف، أو حاداً مثل الرمح والسهم، بحيث يفري بحدّته بدن الحيوان، أما إذا صيد الحيوان بواسطة الفخّ أو العصا أو الحجر و أمثالها فلا يطهر، و يحرم أكل لحمه، إلاّ أن يقبض عليه حياً و يذبح. و إذا صيد الحيوان بالبندقية و كانت طلقتها حادّة، بحيث تدخل في بدن الحيوان و تفريه، يكون طاهراً و حلالاً. أما إذا كانت طلقتها غير حادة، و إنما تدخل بالضغط في بدن الحيوان فتقتله، أو تحرق بدنه بحرارتها فيموت بسبب ذلك، فلا تخلو طهارته و حلّية لحمه من إشكال.

2 - أن يكون الصائد مسلماً و لاينصب العداوة لآل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

3 - أن يكون الرمي لأجل اصطياد الحيوان، فإذا استهدف مكاناً و صاد حيواناً صدفة، فلا يحلُّ ذلك الحيوان و لايكون طاهراً.

ص:404

4 - أن يذكر «بسم اللّه» حال الصيد، و لكن إذا نسي فلا إشكال فيه.

5 - أن يدرك الحيوان ميتاً، أو لايكون الوقت يسع لذبحه إذا أدركه حياً. فإن أدركه حياً و كان الوقت يسع لذبحه عليه أن يعمل وفقاً للتعليمات المذكورة آنفاً للذبح.

صيد الأسماك

إذا أُخِذ السمك ذو الفلس (القشر) من الماء حيّاً و مات خارج الماء، فهو طاهر و أكله حلال، و إن مات في الماء فهو طاهر و لكن لايحلّ أكله. و إذا ألقى الصياد الشبكة في الماء فمات فيها بعض الأسماك حين كَوْنها في الماء أو حين إخراجها منه فالأقوى يكون طاهراً و حلالاً. و كذلك فإن بيض السمك الحلال اللحم كالكافيار حلال، و لايجب أن يكون صيّاد السمك مسلماً أو أن يذكر «بسم اللّه» حين صيده.

ب - الحيوان المحرّم اللحم

لحم ولبن الحيوان النجس مثل الكلب والخنزير حرام، و كذلك لحم ولبن الحيوانات المفترسة التي لها ظفر و ناب عادةً، مثل الأسد والنمر والفهد والذئب والضبع وابن آوى والثعلب والهرّة، و كذلك الفيل والدب والأرنب، و كذا يحرم أكل الحيوانات الصغيرة والحشرات، كالفأرة والضبّ والحيّة والوزغ والعقرب والصرصور والزنبور والنمل والذباب والبقّ و أنواع الديدان.

2 - المأكولات المأخوذة من غير الحيوان

يجوز الأكل والشرب في المأكولات المأخوذة من غير الحيوان - باستثناء الموارد المشار إليها أدناه - بشرط أن لاتستوجب فعل حرام آخر، على سبيل المثال أن يكون المأكول يعود إلى شخص آخر فيجب أن يكون ذلك بأذنه ورضاه. أو أن لايؤدي الأكل إلى الإسراف والتبذير.

ص:405

المأكولات الحرام المأخوذة من غير الحيوان
أ - النجاسات

1 - يحرم أكل النجس و شربه، و كذا تقديم عين النجاسة ليأكلها الآخرون، بل يحرم إطعامها للأطفال في حالة ترتّب الضرر عليه. بل على الأحوط في حالة عدم الضرر أيضاً.

2 - يحرم الأكل والشرب من الأواني المصنوعة من جلد الكلب أو الخنزير أو الميتة.

ب - المواد المضرّة

يحرم أكل، وزرق، أو استعمال الشيء الذي يكون فيه للإنسان ضرر معتنى به.

ج - السوائل والأشربة المحرمة

كل مسكر للإنسان كالخمر والفقّاع «و هو ماء خاص يستخرج من الشعير و يسمى البيرة» والدم والمتنجس بالملاقاة، حرام. كذلك كل شيء ينفر منه طبع الإنسان فهو حرام على الأحوط وجوباً.

أحكام الأطعمة

1 - يحرم تناول مال الغير بدون إذنه ورضاه، و لابُدّ من إحراز ذلك بعلم و نحوه.

2 - يجوز أن يأكل و يشرب الإنسان من بيوت أو بستان الآباء والأُمّهات والأولاد، و إلاخوان والأخوات، والأعمام والعمّات، والأخوال والخالات، والأصدقاء، والزوجة و كذا الزوجة من بيت زوجها، و كذا يجوز لمن كان وكيلاً على بيت أحد مفوضاً إليه أُموره و حفظه بما فيه أن يأكل من بيت موكّله، إلّاإذا علم الإنسان كراهة صاحب البيت.

3 - لو اضطر بسبب الجوع أو العطش إلى أكل مُحَرَّم فليقتصر على مقدار الضرورة، ولو اضطر إلى أكل طعام الغير لسدّ رمقه، فعليه دفع عوضه.

ص:406

4 - يجوز التداوي لمعالجة الأمراض بكل مُحرّم - على مقدار الضرورة - إذا انحصر به العلاج ولو بحكم الحذّاق من الأطباء والثقات.

5 - لايجوز الجلوس على مائدة يُشرب عليها الخمر، إذا كان الجالس يُحسب أحد شاربي الخمر. كما يجب اجتناب الأكل من المائدة أيضاً.

6 - يحرم الأكل والشرب في أواني الذّهب والفضّة واستعمالها.

وسائل الترفيه والتسلية

نقل عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: «للمؤمن ثلاثُ ساعات: فساعةٌ يُناجي فيها ربَّه، و ساعةٌ يَرُمُّ معاشَهُ، و ساعةٌ يُخَلّي بَيْنَ نَفْسِه وَ بَيْنَ لَذَّتِها فيما يَحِلُّ وَ يَجْمُل».(1)

يتضمن هذا التقسيم نقاطاً مهمة:

1 - اهتمام الدّين بجوانب حياة الإنسان المختلفة.

2 - اهتمام الدّين و تأكيده على الكدح والسعي من أجل تأمين سبل العيش، و كذلك أداء حق البدن.

3 - يمكن النظر إلى اللّذات النفسية من عدة جوانب.

أ - أن الترفيه في حدوده يُعَدّ من مستلزمات الحياة، و هذا ما تؤيّده سيرة المسلمين على الدوام.(2)

ب - يجب أن يقترن الاهتمام بهذه الأُمور بجوانب تربوية، و أن لايقود المزاح إلى الاستهزاء بالآخرين والإساءة إليهم.(3)

ج - بما أن وسائل الترفيه السليمة ذات دور كبير في تكامل الجسم والروح، لهذا تترتب عليها فائدة عقلائية و مصلحة و غرض صحيحان. روي عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: «عَلِّمُوا ابْناءَكُم

ص:407


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 390، ص 545.
2- النجفي، محمّد حسن، جواهر الكلام، ج 28، ص 221 و 222.
3- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 663-665.

السّباحَة وَالرّماية»(1) بشكل عام تجوز وسائل الترفيه المختلفة، إذا كانت غير مصحوبة أو مستلزمة لفعل الحرام. و لذلك يجوز سماع و مشاهدة برامج التلفزيون والراديو والسينما والمسرح والإنترنت و نظائرها إذا لم تستلزم فساد أفكار و أخلاق الفرد أو المجتمع أو ترويج الباطل، و لكن يجب الانتباه إلى أن لاتكون هذه الوسائل مانعاً عن أداء الواجبات والوظائف و أن لاتستغرق جميع وقت الفرد المسلم، و خاصة الأطفال الذين يجب الاهتمام بهم أكثر في هذا المجال.

المسابقات

يجوز إقامة المسابقات التي تؤثّر في تقوية الوعي الديني، و رفع المستوى العلمي والأدبي والفني في المجتمع، مثل مسابقات حفظ القرآن، والأحكام، و كتابة المقالات، والمسابقات العلمية و... بدون الاشتراط بين الطرفين. و إذا منح شخص ثالث أو الدولة أو المؤسسة الراعية لهذه المسابقات جوائز للفائزين، فلا إشكال في ذلك. و يصبح الفائز مالكاً للجائزة. و يجوز الاشتراط في مسابقة الخيول والرماية، و أيضاً جواز الاشتراط في المسابقة بأنواع الأدوات والوسائل الحربية العصرية كالبندقية والطائرة الحربية، والدبابة و غيرها و هو غير بعيد.

في المسابقات التي يجوز فيها الاشتراط يجب رعاية الأُمور التالية:

1 - يجب في المسابقة، بيان الإيجاب والقبول بلفظ أو فعل دالٍّ عليهما.

2 - أن يكون الطرفان عاقلين و بالغين و مختارين و قاصدين للفعل.

3 - أن يكون مقدار الجائزة - عيناً أو ديناً - مُعيَّناً، و يقوم أحد الطرفين أو شخص ثالث بالدفع.

4 - بيان الجهات التي يؤدّي الجهل بها إلى الاختلاف، مثل الهدف، و مقدار المسافة، و خط البداية والنهاية، و نوع الوسيلة و....

ص:408


1- - الكُليني، الكافي، ج 6، ص 47، الحديث 4.
أحكام بعض الوسائل الترفيهية
1 - الغناء

الغناء و كل صوت مطرب مثير للشهوة الجنسية، و يؤدّي إلى الفساد الأخلاقي و ضياع العقل و مقام الإنسانية الرفيع أو ترويج الباطل، حرام فعله وسماعه، و أيضاً تعليمه و تعلّمه والتكسُّب به. و قد جاء في الروايات ذمٌّ شديد لكل ما هو لهو و لعب و غناء، فقد جاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: بيت الغناء لاتؤمن فيه الفجيعة، و لاتجاب فيه الدعوة، و لايدخله الملك.(1) نعم قد يستثنى غناء المغنيات في الأعراس، و لكن يجب أن لايسمع صوتهن رجل غير محرم، و أن لايتضمّن الغناء الكلام بالباطل، و لايترك الاحتياط وجوباً بالاقتصار على زفّ العرائس والمجلس المعدّ لهذا الغرض مقدّماً و مؤخّراً، لامطلق المجالس. و إذا شكّ في أنّ الغناء أو اللّحن عرفاً مناسب لمجالس الفسق والفجور؟ و من مصاديق الغناء الحرام أم لا؟ لايلزم الاجتناب، ولو أنّ الاحتياط أفضل.

2 - الألعاب السحريّة

تحرم الألعاب السحريّة إذا كان المقصود منها إراءة الحق باطلاً أو الباطل حقاً، و تجوز إذا كانت للتسلية و ملء أوقات الفراغ.

3 - إحضار الأرواح والتنويم المغناطيسي

يجوز إحضار الأرواح إذا كان لايؤدي إلى هتكها أو أذيتها أو الإخلال بالنظم العام و أمثال ذلك، والنوم غير الطبيعي (التنويم المغناطيسي) - إذا لم يترتب عليه ضرر - لايوجد دليل على حرمته.

ص:409


1- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ج 17، ص 303، الحديث 1.
4 - القمار

يحرم اللّعب والمسابقة بأدوات القمار الخاصة به، ولو كان ذلك لمجرد الأُنس و بدون شرط، على الأحوط. لكن يجوز اللعب والمسابقة بالأدوات التي لاتعتبر عرفاً من الأدوات الخاصة بالقمار، و فيما إذا خرجت حالياً بشكل كامل عن هذا الموضوع. و قد اعتبر سبحانه و تعالى القمار من عمل الشيطان الذي يورث العداوة والبغضاء بين المسلمين، و يبعد الإنسان عن ذكر اللّه: (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ) .(1)

5 - المخدرات

يحرم تناول المخدرات إذا كان فيها ضرر عقلائي على الإنسان، أو كان يحتمل مثل هذا الضرر، إلّاأن تكون علاجاً للمريض و يثبت ذلك من خلال حكم الحُذّاق و أهل الخبرة بانحصار التداوي والمعالجة بها.

ص:410


1- سورة المائدة (5)، الآية 91.

الاقتصاد

أهمية الاقتصاد

رغم ما للاقتصاد من أهمية، إلّاأنّ أهميته لاتمثّل البنية التحتية أو الأساس الذي تقوم عليه جميع القضايا الأخلاقية والاعتقادية للفرد والمجتمع، و لكن لايمكن لأحد طبعاً إنكار تأثيره في الثقافة و في الكثير من العادات والتقاليد و غيرها من مجريات الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات. أمّا ما يتعلق بالدين فهو بيان الأحكام الاقتصادية و مراعاة جوانب المعاملات والعمل والكدّ، و كل ما يتعلّق بالإنتاج والتوزيع والاستهلاك من قواعد و قوانين. و انطلاقاً من هذه الرؤية فقد حظت القضايا الاقتصادية، و خاصة قضية الفقر والغنى، باهتمام بالغ في التعاليم الإسلامية، إلى الحدّ الذي وصف فيه النبي صلى الله عليه و آله و سلم الفقر بقوله:

«كادَ الفقرُ انْ يَكُونَ كُفْراً».(1)

رسم الإسلام مجموعة من الأهداف - في الحياة الفردية والاجتماعية لبني الإنسان - التي يتعذّر تحقيقها من غير اقتصاد سليم. فمن ناحية يجب أن يحافظ الإنسان على حريّته و تُصان كرامته «لاتَكُنْ عَبْدَ غَيْرِك وَ قَدْ جَعَلَكَ اللّهُ حُرّاً».(2) و من ناحية أُخرى لابُدّ أن تدور عجلة حياة المجتمع على محور العدالة والإحسان (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ) .(3)

و لاشكّ في أن تحقيق هذه الأهداف يمكن في ظلّ الظروف التالية:

أوّلاً: أن لايكون الشعب المسلم محتاجاً في الجانب الاقتصادي؛ أي أن لايمدّ يد الحاجة إلى غير المسلم خاصّة؛ لأن الحاجة تقترن على الدوام بالتبعية، و هذا ممّا يسيء إلى

ص:411


1- الصدوق، الخصال، باب الواحد، ص 12، الحديث 40؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 69، ص 30.
2- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 31، ص 401.
3- سورة النحل (16)، الآية 90.

كرامة الإنسان طبعاً، حتى و إن لم تُطلق عليها تسمية الرق أو العبودية. و كل شعب يمد يد الفاقة إلى الشعوب الأُخرى في حياته الاقتصادية، فهو بمثابة العبد الأسير لها. قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «اَحْسِنْ إلى مَنْ شِئْتَ وَ كُنْ اميرَه، اسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ وَ كُنْ نَظيرَهُ، احتَج إلى مَنْ شِئْتَ وَ كُنْ اسيرَه».(1)

ثانياً: العدالة مفتاح لحل المشاكل و مدعاة لتقدّم المجتمع و رقيّه. فالمجتمع الذي يفتقر إلى التوازن الإقتصادي تُهدر فيه الطاقات. و هو سبحانه و تعالى لايحب تكدّس الثروة بيد فئة دون غيرها: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) . (2) و إذا كانت الثروة محصورة بيد فئة يختل التوازن الاجتماعي، و يُصاب الاقتصاد بظواهر مَرَضيّة و ينكمش النمو الاقتصادي.

القوانين الاقتصادية

الإنسان موجود اجتماعي و يحتاج إلى العلاقات الاجتماعية. و وجود العلاقات الإجتماعية يفضي عادة إلى ظهور تعارض و تضارب في المصالح. و لابُدّ من سنّ القوانين من أجل تنظيم العلاقات الاجتماعية. و على الصعيد الاقتصادي لابُدّ أن تتوضح حدود الحريّات والنشاطات الاقتصادية للفرد، و مدى تدخّل الحكومة في هذا القطاع. و لا مفرّ من وضع أُطر ترسم كيفية ظهور الملكية، و تأثير النقد، والعمل والاستثمار، و ما إلى ذلك.

لقد بيّن الإسلام الخطوط العامّة للاقتصاد في ما يتعلّق بالأهداف السامية لخلق الإنسان.

والحصول على الثروة، يجب أن يكون من طرق مشروعة و ليس عن طريق الباطل (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) . (3) والنشاط الاقتصادي، يشترط فيه أن لايؤدي إلى إلحاق ضرر بالغير. حيث أن الإسلام قد وضع قوانين عامّة، و فرض أن تجري كلُّ النشاطات الاقتصادية في إطارها، تفادياً لوقوع الظلم و عدم المساواة. و من هذه الزاوية قال أميرالمؤمنين عليه السلام:

ص:412


1- الخوانساري، شرح غُرَر الحِكَم، ج 2، ص 584، الحديث 2311 إلى 2313.
2- - سورة الحشر (59)، الآية 7.
3- - سورة البقرة (2)، الآية 188.

«اَلْفِقْه ثُمَّ الْمتْجَر».(1) و هذا ما جعل الفقهاء يصرّحون بأن من الواجب، تعلّم فقه المعاملات و مسائلها على قدر الحاجة.

الفقر؛ أسبابه و تأثيراته

كل من يعجز عن توفير متطلباته الضرورية يُسمّى فقيراً. و من المعروف أن الإسلام يذم الإقبال على الدنيا وزخرفها، غير أنه في الوقت ذاته يذم الفقر أيضاً. قال لقمان الحكيم في وصف الفقر: «ذُقْتُ المرارات كُلَّها فَما ذُقْتُ شَيْئاً أمرّ مِنَ الْفَقْرِ».(2)

و بيّن حديث شريف مدى سلبيات الفقر و إفرازاته بما يلي: «اِنَّ الْفَقْرَ منقصَةٌ لِلدّينِ، مدهشَةٌ لِلْعَقْلِ، داعِيَةٌ لِلْمقْتِ».(3) لأنّ همّ الفقير هو التخلّص من مخالب الفقر، و لايُعير كثير اهتمام لِما يسيء إلى كرامته الإنسانية. و لذلك ذهبت بعض الروايات إلى ذمّ الفقر قائلة:

إنّ القبر خير من الفقر،(4) و ذهبت في أحيان أُخرى إلى وصفه بالموت الأكبر،(5) و أنه كاد أن يكون كفراً،(6) والفقير غريب حتى في بلده،(7) والفقر يخرس الفطن.(8)

و بالاضافة إلى ذم الفقر، اهتمت الروايات أيضاً بذكر أسبابه، و منها:

1 - الكسل، و لذلك دعت إلى الهمّة والكدّ والعمل. و ممّا جاء في ذم الكسل والتواكل قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «ملعونٌ مَنْ الْقى كَلَّهُ عَلَى النّاسِ».(9) و روي أيضاً: «اِنّ اللّهَ عَزَّوَجَلَّ يُبْغِضُ الْعَبْدَ النَوّامَ الفارِغَ».(10) هذا من ناحية، و من ناحية أُخرى شجّعت الروايات العمل،

ص:413


1- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب آداب التجارة، ج 17، ص 381، الحديث 1.
2- المجلسي، بحارالأنوار، ج 13، ص 421، الحديث 16.
3- - الشريف الرضي، نَهج البلاغة، الحكمة 319، ص 531.
4- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 365، الحديث 8217.
5- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 163، ص 500.
6- المجلسي، بحارالأنوار، ج 69، ص 30.
7- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 3، ص 469.
8- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 3.
9- - الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 6 من أبواب مقدمات التجارة، ج 17، ص 32، الحديث 10.
10- - المصدر السابق، الباب 17، ص 58، الحديث 3.

و وصفت الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه: «الكادُّ عَلى عيالِهِ كَالُمجاهِدِ في سَبيلِ اللّه».(1)

2 - الخيانة، حيث اعتبرت الأحاديث الشريفة هذا العمل من أسباب الفقر، و من ذلك قول نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم: «اَلْخِيانَةُ تجلبُ الْفَقْرَ»،(2) و قول إمامنا أميرالمؤمنين عليه السلام: «فَما جاعَ فَقيرٌ الاّ بِما مُتّعَ بِهِ غَنِيٌ».(3)

3 - الإسراف والتبذير، فقد دعا الإسلام إلى الاقتصاد في النفقات و عدم التبذير مبيّناً أنّ الإسراف كثيراً ما ينتهي بالمسرف إلى الفقر، و إلى العجز عن توفير المتطلبات الأساسية في الحياة، إذ قيل: «اِنَّ السرفَ يُورِثُ الْفَقْرَ».(4)

4 - عدم كفاءة المسؤولين الحكوميين و ميلهم إلى المحاباة. و هذه الظاهرة تؤدي بطبيعة الحال إلى خلق فوارق طبقية و إلى إشاعة الفقر في المجتمع. كما أنّ فرض المزيد من الضرائب يؤدّي إلى ارتفاع أسعار السلع، و يفضي بالنتيجة إلى استشراء الفقر.

قال علي عليه السلام: «مَنْ طَلَبَ الخراجَ بِغَيرِ عِمارةٍ اخْرَبَ الْبِلادَ و اهْلَكَ الْعِبادَ وَ لَمْ يَسْتَقِمْ امْرُهُ الاّ قَليلاً».(5)

الملكية و أنواعها

اشارة

في الرؤية التوحيدية، الوجود و كل ما فيه للّه: (وَ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ) . (6) و أما ملكية الآخرين فهي نسبية وتقع في طول ملكية اللّه، و تجعل للمالك حقّاً في التصرّف في إطار ما رُسِم له، و ليس كما يشاء. والدّين يرى أنّ من كمال الإنسان أن يعتبر كل ما تحت تصرّفه من أموال ملكاً للّه.

سأل رجلٌ الإمام الصادق عليه السلام عن حقيقة العبودية، فذكر له عدّة أُمور منها: «يَرَوْنَ الْمالَ

ص:414


1- المصدر السابق، الباب 23، ص 67، الحديث 1.
2- - الحرّاني، تُحف العقول، ص 45.
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 328، ص 533.
4- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 22 من أبواب مقدمات التجارة، ج 17، ص 64، الحديث 1.
5- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 53، ص 436.
6- - سورة النجم (53)، الآية 31.

مالَ اللّه، يَضَعُونَهُ حَيْثُ امَرَهُمُ اللّهُ بِه».(1) و في الوقت ذاته جعل اللّه للإنسان مكانة رفيعة في الأرض، و سخّر له كل ما فيها (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) . (2) و أنّه تعالى قال: (وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) . (3) و قال: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) .(4)

والملكية التي جعلها اللّه للناس على نوعين: ملكية عامّة، و ملكية خاصّة.

الملكية العامّة

جعل الإسلام قسماً من الأموال ملكاً لعموم الناس، و ليس لها مالك خاص. و قد يدخل قسمٌ منها في ظروف معيّنة في الملكية الخاصّة للأشخاص، أو تصبح حقّاً خاصاً بهم. و هذه الأموال هي الانفال والمشتركات.

أ - الأنفال؛ و هي الأموال العامّة و تخضع للدولة الإسلامية الصالحة و تستثمر لِما فيه منفعة الجميع. والأنفال عبارة عن:

1 - الأراضي الموات والأراضي التي أعرض عنها أصحابها و تركوها.

2 - رؤوس الجبال و بطون الأودية والآجام.

3 - البحار و سواحلها والأنهار الكبيرة.

4 - المعادن.

5 - صفايا الغنيمة، و هي النفائس التي تعود لرؤساء حكومات وتقع في الحرب في أيدي المسلمين.

6 - غنائم الحروب التي تقع بغير إذن الإمام المعصوم أو الحكومة الإسلامية الصالحة.

7 - الأراضي التي يستولي عليها المسلمون من الكفار من غير قتال.

8 - أموال من لا وارث له.

ص:415


1- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 1، ص 225، الحديث 17.
2- - سورة البقرة (2)، الآية 29.
3- - سورة الرحمن (55)، الآية 10.
4- سورة هود (11)، الآية 61.

ب - المشتركات؛ و هي الأماكن التي ليس لها مالك، و هي مشتركة بين الناس. و هي عبارة عما يلي:

1 - الشوارع، والفروع، و مسالك البر والبحر والجو، و مراتع القرى لأهالي تلك القرى.

2 - المساجد، والمزارات، و ما يُبنى للناس.

الأنفال والمشتركات للدولة الإسلامية، و هي تتصرف فيها لِما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين. و يتساوى كل الناس في الانتفاع من الأموال والمشتركات، والأولوية فيها لمن سبق. والأموال التي يمكن تملّكها كالأسماك والمعادن تُمتلك بالحيازة بشروط. و من حق الدولة الإسلامية أن تسيطر عليها أو تعطيها لبعض الأشخاص بشكل مؤقّت أو دائم، بناءً على مقتضيات الدولة والشعب.

الملكية الخصوصية

يمكن حيازة قسم من الثروات الطبيعية بالكد والعمل وفقاً لشروط، فتكون ملكاً خاصاً، و على هذا الأساس، فالملكية الخاصة محترمة، لأن ذلك يبعث في الإنسان دوافع العمل، و بهذا تزداد معطيات العمل. و بهذا الأمر يُمنع الظلم والإحجاف أيضاً.

الثراء

كما بيّنا سابقاً إنّ للفقر مساوىء كثيرة و تنتج عنه انحرافات شتّى، و لكن في الوقت ذاته يلاحظ أن بعض الآيات والروايات قد ذَمّت الثراء واعتبرته سبباً للغرور والكِبْر والتباهي على الغير، و مدعاة لضعف الوازع الديني.

يُستفاد مِن مجموع التعاليم الدينية أنّ تنمية الثروة ليست شيئاً معيباً، و لكن تُذم الثروة إذا أُريدت لذاتها و بعيداً عن الروح المعنوية. والشيء الخطير هو اللُّهاث وراء الدنيا والتعلّق بالمال. و لهذا وصفت الروايات من يغالي في حُبّ المال بأنه عبد للدنيا.(1)

ص:416


1- سورة التكاثر (102)، الآيتان 1-2؛ سورة الكهف (18)، الآية 46. و روايات مثل: «المالُ مادّة الشّهوات»، الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 58، ص 478؛ «يا كميل! هلك خُزّان الاموال»، نهج البلاغة، 147، ص 496؛ «اِعْلَموا انّ كثرَة المالِ مَفْسدةٌ للدّين»، الحرّاني، تُحف العقول، ص 199؛ «حُبُّ المالِ يوهِنُ الدّين»، الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 368، الحديث 8316؛ «أربع يُمِتْن القلب... و مجالسة الموتى، فقيل له: يا رسول اللّه! و ما الموتى؟ قال: كل غنيٍّ مترف»، الصدوق، الخصال، باب الاربعة، ص 228، الحديث 65.

و بعبارة أُخرى، يُذم جمع المال حينما يكون هدفاً بحدّ ذاته، و في هذه الحالة لايمكن أن يكون الثراء سبباً للسعادة، بل بالعكس يكون سبباً للتعاسة والشقاء. يُذم الثراء لأنه يؤدي بالإنسان عادة إلى الغفلة عن ذكر اللّه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) . (1) و لهذا وُصفت الأموال في القرآن بالفتنة والاختبار (وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) .(2)

و انطلاقاً من هذه النظرة أيضاً ذَمّت الأحاديث من يحترم الغنيَّ لغناه: «مَنْ اتى غَنِياً فَتَواضَعَ لَهُ لِغناهُ، ذَهَبَ ثُلُثا دِينِهِ».(3)

و من هنا فإنَّ ممّا يُحمد كثيراً أن يستفيد المرء من المال والثروة على طريق الكمال، و لكن الكثير من الناس لاينجحون في هذا الاختبار. فمع أن الكثير منهم يسعون في مستهل الأمر لكسب المال لغايات وتطلّعات إنسانية، غير أنّ تلك الغايات تودع بمرور الزمان على رفّ النسيان، و تحل محلّها مآرب مادّية، و ينسحق ذكر الفقراء والاهتمام بأبناء الجنس البشري والدفاع عن الحق، تحت عجلة الرغبة في كسب الثروة.

الإسراف والتبذير

الإسراف هو الإكثار في الاستهلاك إلى حدٍّ يفوق المتعارف. والتبذير فمعناه العبث والتبديد في الإنفاق. و هذه من الأعمال المذمومة. و قد ربطت إحدى آيات القرآن الكريم بين الإسراف و عدم دفع الحقوق الإلهية:

(وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) . (4) و وصفت آية أُخرى

ص:417


1- - سورة المنافقون (63)، الآية 9.
2- سورة الأنفال (8)، الآية 28.
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 228، ص 508.
4- - سورة الأنعام (6)، الآية 141.

المبذرين بأنهم إخوان الشيطان: (وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) .(1)

العمل والسعي

لقد خلقت الثروات الطبيعية و وضعت بين يدي الإنسان من أجل أن يستثمرها نحو حياة أفضل: (أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ) .(2)

العمل يؤدي إلى زيادة قوّة الإنسان الروحية والبدنية، و بالعكس تؤدي البطالة إلى إهدار طاقاته و طمس الينبوع الدافق الذي يُنتج القدرة والقوّة. قال الإمام علي عليه السلام: «مَنْ يَعْمَل يَزْدَدْ قوّةً».(3) و فضلاً عن ذلك فإن العمل يخلق في النفس بهجة، و يحول دون ظهور الفساد والقبائح. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: الناس بالفراغ يصيرون إلى غاية الأشر والبطر حتى يكثر و تظهر الفواحش.(4)

والعمل ليس للناس المحتاجين فقط، بل حتى من لديهم ثروة تكفيهم للعيش بلا عمل، عليهم أن يعملوا أيضاً. فكم من الأثرياء دفعتهم البطالة إلى السقوط في الفواحش. قال الإمام الصادق عليه السلام لمن استشاره بترك العمل بسبب غناه: لاتترك التجارة فإنَّ ذلك يذهب العقل.(5)

والمراد من العمل هنا طبعاً هو العمل المُنتج والمفيد، والذي يؤدّي إلى إيجاد حياة أفضل. والتعاليم الإسلامية تذم العمل الذي لا تأثير له في الإنتاج أو الخدمات. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: إنِّي أكره أن أستأجر رحاة ثم أُؤجرها إلى شخص آخر بسعر أكثر من غير أن أُطوّرها و أُجهّزها.(6)

ص:418


1- سورة الإسراء (17)، الآيتان 26 و 27.
2- سورة لقمان (31)، الآية 20.
3- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 152، الحديث 2802.
4- المجلسي، بحارالأنوار، ج 3، ص 106.
5- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 2 من أبواب مقدمات التجارة، ج 17، ص 14، الحديث 4.
6- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 20 من أبواب كتاب الاجارة، ج 19، ص 124، الحديث 1.

شروط الملكية

لكل إنسان حق العمل والكسب المشروع، و أن يتمتع بحق الملكية. و في الإسلام هناك ثلاثة شروط أساسية للتملُّك:

1 - أن يكون المال من مصدر حلال؛ أي أن يأتي عن طريق مشروع لايتعارض مع أحكام الشريعة.

2 - إيجاد الملكية و ديمومتها يستلزم عدم الإضرار بالغير.

3 - أن لايستلزم ذلك إبطال حق أو إحقاق باطل.

و إذا كان المال مكتسب من مصدر حرام كالسرقة، والاحتيال، والغصب، والغش، والرشوة، والغناء المحرّم، و مدح الظالم و تقويته، و بيع بضاعة محرّمة كالخمر، و غير ذلك، فهو حرام، والمتصرّف فيه ضامن له.

الوصية

هي أن يوصي الإنسان أن يقوموا له بعمل بعد موته، أو يملّك شخصاً شيئاً من ماله بعد موته، أو يعيّنُ قيّماً مشرفاً على أولاده و من هم تحت ولايته. ويُسمَّى من يُوصي بالوصية «الموصي»، ويُسمّى الشخص الذي يوصى إليه «الوصي». روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: إن من مات بغير وصية فقد مات ميتة جاهلية.(1) و قال صلى الله عليه و آله و سلم: ما ينبغي لامرىء مسلم أن يبيت ليلة الّا و وصيته تحت رأسه.(2) و قال أيضاً: من لم يُحسن وصيّته عند موته كان نقصاً في مروّته.(3)

إذا ظهرت علامات الموت على المسلم وجب عليه العمل بما يلي:

1 - تأدية ما عنده من الأمانات إلى أصحابها بأسرع ما يمكن. و إذا كان عليه دين و قد حلّ موعده يجب أن يدفعه، و إن لم يكن قد حلَّ موعده يجب أن يوصي به، و يشهد على

ص:419


1- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب الوصايا، الباب 1، الحديث 8.
2- - المصدر السابق، الحديث 7.
3- المصدر السابق، الباب 6، الحديث 2.

الوصية. و إذا كان دينه معلوماً و كان مطمئناً بأنَّ الورثة يوفّونه عنه لاتجب الوصية.

2 - إذا كان مديناً بالخمس والزكاة والمظالم يجب عليه أن يدفعها فوراً. و إذا لم يستطِع دفعها فإن كان يحتمل أن يدفعها شخص عنه يجب أن يوصي بها. و كذا إذا كان الحج واجباً عليه.

3 - إذا كان عليه قضاء صلاة و صوم يجب عليه أن يوصي أن يستأجروا له من ماله.

بل إذا لم يكن له مال و يحتمل أن يؤدّيها شخص عنه بدون أُجرة يجب عليه أن يوصي أيضاً.

4 - إذا كان له مال عند شخص أو في مخبأ لايعلم به الورثة، و كان جهلهم به يسبّب ضياع حقّهم، يجب عليه إخبارهم. و يجب عليه أن يعيّن على أولاده الصغار قيّماً أميناً، إذا كان بقاؤهم بلا قيّم يسبب ضياع مالهم أو ضياعهم. يشترط في الموصي أن يكون بالغاً و عاقلاً، و أن تكون وصيّته عن إرادة واختيار. و كذلك المفلَّس الذي صدر من قبل الحاكم الشرعي حكم منعه من التصرّف بأمواله، لاتُمضى وصيّته، إلّاإذا تنازل الدائنون عن حقوقهم، و لكن تصحّ وصيّة الطفل الذي يبلغ عشر سنين و يميّز بين الحسن والقبيح، إذا أوصى بثلث تركته لأقاربه أو لعمل خير. وصحّة وصيّة السفيه في ثلث ماله لأهله أو لأعمال الخير محل إشكال.

و يشترط في الوصي أيضاً أن يكون عاقلاً وثقة، و على الأحوط وجوباً أن يكون بالغاً.

و إذا كان الموصي مسلماً، و كان العمل بالوصية يوجب سيطرته على الورثة، يجب أن يكون الوصي مسلماً. و إذا لم يكن يوجب سيطرة فالأحوط وجوباً أن يكون الوصي مسلماً.

تصحّ وصية المتوفى في ثلث ماله، و أمّا ما زاد عن ذلك فيحتاج الزائد منه إلى إذن الورثة.

إذا أوصى الإنسان بإعطاء شيء معيّن إلى شخص فالأحوط وجوباً انه يملك ذلك الشيء فيما إذا قبله بعد وفاة الموصي، و كفاية القبول في زمان حياة الموصي موضع إشكال.

ص:420

الإرث

الإرث أحد طرق الحصول على المال، و موجبات الإرث ثلاثة أُمور:

1 - القرابة بالنسب، و هم ثلاث طبقات:

الطبقة الأُولى - أبو الميّت و أُمّه و أولاده، و مع عدم وجود الأولاد، فأولاد الأولاد و إن نزلوا، يرث منهم أيّهم أقرب إلى الميّت، و مادام يوجد شخص واحد من هذه الطبقة فلا ترث الطبقة الثانية.

الطبقة الثانية - الجدّ والجدّة للأب أو الأُم و إن علوا، والأخ والأُخت. و مع عدم وجود الأخ والأُخت، فأولادهم و إن نزلوا يرث منه أيّهم أقرب إلى الميّت. و مادام يوجد شخص واحد من هذه الطبقة فلا ترث الطبقة الثالثة.

الطبقة الثالثة - العمّ والعمّة والخال والخالة مهما علوا، و أولادهم مهما نزلوا، و مادام يوجد شخص واحد من أعمام الميّت و عمّاته و أخواله و خالاته فلا يرث أولادهم. أمّا إذا ورث الميّت عمّه لأبيه، و ابن عمّه لأبيه و أُمّه، و لم يكن له وارث غيرهما، فالذي يرثه هو ابن عمّه لأبيه و أُمّه، و لايرث عمّه لأبيه.

2 - القُربى السببيون: وهم القُربى عن طريق الزواج، و به يتوارث الزوج والزوجة المتزوّجان بالزواج الدائم فيما بينهما، بالأقسام الثلاثة المذكورة آنفاً، و بأقسام الولاء وفقاً للترتيب المذكور في الأحكام الشرعيّة.(1)

3 - الولاء: و به يكون لأحدٍ نوع من الولاية على آخر - حين انعدام القرابة النسبية فيرثه. و من أقسام الولاء «ضمان الجريرة» و «الإمامة». في ضمان الجريرة يتعاقد شخص مع آخر على أن يضمن عنه ما يجنيه من جناية توجب الديّة عليه. و إذا لم يكن للمسلم وارث مسلم، يرثه أمام المسلمين.

و قد ورد تفصيل أحكام الإرث و كيفيّتها في الأحكام الشرعيّة.(2)

ص:421


1- راجع: الأحكام الشرعيّة، المسائل 2988-2998.
2- راجع: المصدر السابق، المسائل 2944-3006.

و لابد من الإشارة إلى أنّ التفاوت في أحكام الإرث بين المرأة والرجل قد شُرّع استناداً إلى نظام المسؤولية الاقتصادية في الاُسرة، الذي جعل على عاتق الرجل مُهمّة النفقة؛ أي تأمين متطلبات العيش لنفسه و زوجته و أولاده، بما في ذلك المأكل والمشرب والمسكن، و نفقات التعليم والتربية والصحّة، بينما لاتتحمّل المرأة أيَّ شيء من ذلك، و لا حتى نفقة نفسها، و هي في الوقت ذاته تتمتع بالاستقلال المالي.

الغصب

لا يمكن سلب الملكية الشرعية من أحد، إلّابحكم الحاكم الشرعي في محكمة صالحة.

و كذلك في الحالات التي تقتضيها الضرورة و يوجبها حفظ المصالح العامّة - مثل شق الطرق - إذا كانت تستدعي سلب الملكية، يمكن عند ذاك سلبها مع دفع تعويض فوري و عادل عنها. و في غير هذه الحالة لايجوز سلب الملكيّة؛ لأن مال المسلم حرام كحرمة دمه.(1)

و على هذا لو تسلّط شخص على مال شخص آخر أو حقّه فهو غاصب. و هذا العمل من الكبائر التي إذا ارتكبها الشخص فله يوم القيامة عذاب شديد. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: من غصب شبراً من أرض جاره، جعل اللّه ذلك طوقاً في عنقه من تخوم الأرض السابعة إلى أن يلقى اللّه مطوقّاً به يوم القيامة.(2)

المحجور عليه

من لايحق له في الشرع التصرّف بأمواله، و يتولّى الآخرون إدارة شؤون حياته، يُسمّى محجوراً عليه، و يشمل هذا العنوان كلاًّ من:

1 - الصبي الذي لم يبلغ.

2 - المجنون.

ص:422


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 281، الحديث 9.
2- المصدر السابق، الباب 1 من أبواب كتاب الغصب، ج 25، ص 386، الحديث 2.

3 - السفيه؛ و هو من لايعرف ما ينفعه أو يضرّه في الشؤون المالية، و غالباً ما يصرف أمواله في أعمال عبثية.

4 - المُفلَّس الذي صدر حكم إفلاسه من قبل الحاكم الشرعي.

أنواع المعاملات

تُسنّ في الأعراف الاجتماعية طرائق للمعاملات تتناسب مع متطلبات الإنسان. و تجوز هذه الطرائق إذا كانت متطابقة مع الشروط التي يقرّها الإسلام. و بعض أنواع هذه المعاملات والعقود لم تكن معروفة في الماضي كالتأمين، و لكن لا إشكال في المعاملات التي يقوم بها عقلاء كل زمان إذا لم تكن تتعارض مع المعايير والأحكام الشرعية العامّة، و تعتبر نافذة.

نستعرض في ما يلي مجموعة من أنواع المعاملات:

1 - البيع، أو البيع والشراء و هو مبادلة عين السلعة بسلعة أُخرى أو بِمال، من قبيل بيع الدار أو السيّارة و ما إلى ذلك. و في معاملات (الصرافة) عبارة عن مبادلة نقدٍ بنقدٍ آخر.

و هكذا الحال في مبادلة الحقوق المالية كحق التأليف، و حق الاختراع، و حق الاشتراك، و ما شابه ذلك.

2 - الإجارة، و هي بيع منفعة شيء يدخل في ملكه إلى شخص آخر لقاء عوض إجارة، على أن يبقى أصله، نظير وضع دارٍ تحت تصرّف طرف آخر لمدّة معيّنة لقاء مبلغ معيّن.

و يُسمّى صاحب المُلك مؤجِراً والمنتفع منه مستأجراً، والشيء المؤجر «متعلق الاجارة» والمبلغ الذي يدفع لقاء المنفعة «مال الإجارة».

3 - الشِرْكة، و هي أن يشترك اثنان أو أكثر في مال خاص أو دَيْن أو منفعة أو حق.

و تحصل الشركة تارة بالاختيار و بعقد، و تأتي تارة أُخرى من غير اختيار، كشركة شخصين أو أكثر في إرث يرثونه.

4 - الشفعة، إذا ما أراد أحد الشريكين بيع كلّ أو قسم من عِقار يعود له، يحق للشريك الآخر قلب المعاملة لنفسه مع دفع القيمة النهائية واستملاك ذلك السهم. ويُسمّى هذا بحق الشفعة، و لا شفعة لغير المسلم على المسلم.

ص:423

5 - الصلح، هو أن يتصالح شخص مع آخر على تمليكه مقداراً من ماله أو من منفعة ماله، أو يتنازل له عن دين أو حق له عليه، و يعطيه الآخر في مقابل ذلك مقداراً من ماله أو منفعة ماله، أو يتنازل عن حق أو دين له عليه. بل الصلح صحيح أيضاً إذا لم يأخذ عوضاً و أعطى الآخر من ماله أو من منفعة ماله و قبل الشخص، و كذلك إذا تنازل الشخص بعنوان الصلح عن دين أو حق له عليه، و قبل ذلك الطرف.

6 - المضاربة، عقد تجاري يتفق بموجبه صاحب المال مع العامل (و هو من يستثمر ذلك المال) على المشاركة في الأرباح بنسبة مئوية. و يجب أن يكون طرفا المضاربة عاقلين و بالغين و أن يكون للمالك حق التصرف في أمواله، و يستطيع العامل المتاجرة بذلك المال واستثماره. و يجب أن يكون أصل رأس المال معلوماً و نقداً. والأرباح فيه تقسّم بينهما حسب السهم المشاع الذي اتّفقا عليه، والضرر فيه يقع على صاحب المال.

7 - المزارعة، هي أن يعطي المالك أرضه إلى الزارع بقصد المزارعة، ليزرعها و يعطيه حصّةً مشاعةً من حاصلها.

8 - المساقاة، إذا تعامل شخصان على أن يضع أحدهما الأشجار المثمرة التي يملك ثمرها، أو التي يكون ثمرها تحت تصرّفه بيد الآخر ليقوم بتنميتها وسقيها، على أن يأخذ من الثمار حصّةً مشاعةً يتفقان عليها.

9 - الجُعالة، هي أن يجعل الإنسان مقداراً معيّناً من المال و يلتزم بدفعه إلى شخص آخر مقابل عمل يؤدّيه له، فيقول مثلاً: من وجد ما ضاع منّي أدفع له كذا مبلغ، و يسمّى من يلتزم بذلك «جاعلاً» و من يقوم بذلك العمل «عاملاً» والفرق بين الجعالة والإجارة: أنّ الأجير في الإجارة يجب عليه القيام بالعمل بعد إيقاع صيغة الإجارة، و أنّ من استأجره يكون مديناً له بالأُجرة. أمّا في الجعالة فللعامل أن لايقوم بالعمل، و ما لم يقم بالعمل، لايكون الجاعل مديناً له بشيء.

10 - التأمين، اتّفاق وعقد بين المؤمَّن له والمؤسسة، أو الشركة، أو الشخص الذي يقبل التأمين، و مفاده ضمان الشخص، أو المال بواسطة الشخص، أو الشركة، أو المؤسسة التي تقبل التأمين في مقابل عوض معين يدفعه المؤمّن له، و هو عقد مستقلّ ظاهراً.

ص:424

11 - الوكالة، هي أن يفوّض الإنسان العمل الذي له حقّ التدخّل فيه، إلى شخص آخر للقيام به من قِبله. مثلاً، يوكّل أحداً أن يبيع بيته.

12 - القرض، إعطاء سلعة أو مال إلى شخص آخر على أن يعيد مثله أو قيمته إليه في مدّة معيّنة.

13 - الرهن، هو أن يضع المدين مقداراً من ماله عند الدائن بعنوان الوثيقة، ليستوفي منه دينه إذا لم يدفعه المدين.

14 - الحوالة، إذا أحال المدين دائنه ليستوفي دينه من شخص آخر، و قبل الدائن والشخص الآخر؛ فإذا وقعت الحوالة، يصير الشخص الآخر مديناً، و لايجوز للدائن أن يطالب المدين الأول.

15 - الضمان، و هو على نوعين:

أ - ضمان عقد، و هو ضمان يحصل بعقد معيّن على نحو أن يضمن شخص آخر دفع دين المدين في يوم معين. وهنا يُسمّى من يتكفّل بدفع الدّين ضامناً.

ب - ضمان إلزامي، و هو ضمان يحصل من غير عقد خاص، مثل الحالات التي يستولي فيها شخص على آخر أو على أمواله و حقوقه المشروعة و يلحق بها ضرراً، يؤدّي إلى إتلافها أو زوالها، سواء أتلفها بنفسه أم أمر آخر بإتلافها.

16 - الكفالة، أن يضمن شخص تسليم شخص المدين في أي وقت يريد الدائن، و كذا إذا كان لشخص على آخر حق أو ادّعاء حق يمكن قبول دعواه، و ضمن إنسان تسليم المدّعى عليه في أي وقت أراد صاحب الحق أو المدّعي. فهذا العمل يسمّى «كفالة» ويُسمّى الضامن بهذا النحو «كفيلاً».

17 - الأمانة، إذا أعطى شخص ماله إلى أحدٍ، و قال له: هذا المال أمانة عندك من أجل حفظه، و أخذه ذلك الشخص أيضاً بقصد حفظه، صار ذلك أمانة، و يجب عليه العمل فيه بأحكام الأمانة.

18 - العارية، هي أن يعطي الإنسان ماله إلى شخص آخر ليستفيد منه و لايأخذ منه عوض استفادته شيئاً.

ص:425

19 - الهبة، و هي تمليك شيء لشخص مجّاناً.

20 - الوقف، و هو تحبيس ملك ثابت و إنفاق ريعه على شخص أو أشخاص أو لعمل آخر، كأن يوقف أرضاً و يخصّص ريعها و منافعها لمسجد أو حسينية أو مدرسة أو للفقراء.

ويُقال للعين التي تُحبس، «موقوفة» و يُسمّى الشخص الذي يوقفها «الواقف» وتُسمّى الجهة التي يُنفق عليها الريع «الموقوف عليه».

الأحكام العامّة للمعاملات

الشروط العامّة التي يجب توفّرها في المعاملات والعقود هي:

1 و 2 - أن يكون طرفا المعاملة بالغين و عاقلين.

3 - البلوغ العقلي، و هو أن تكون لديهما معرفة بالحدود المتعارفة للمعاملة التي يقومان بها. و على هذا الأساس، لاتصح معاملة السفيه، و هو الذي يصرف ماله عبثاً، و يقوم بأعمال غير عقلائية في نظر العرف.

4 - أن لا يكونا مجبرين.

5 - أن يكون لدى الطرفين اطّلاع تام على الشيء الذي تجري عليه المعاملة من حيث المقدار والخصائص المهمة كالشكل، واللون، و كيفية التسليم و ما شابه ذلك، بحيث لايبقى هناك لدى أي منهما غموض يؤدّي إلى الاختلاف لاحقاً.

6 - أن لايكون الحاكم الشرعي قد منع أحدهما أو كليهما من التصرّف في أمواله.

7 - أن يكونا مالكين للسلعة و عوضها، أو يكون بيدهما التصرّف في المال كأب الصغير، وجدّه، والوكيل في المعاملات.

8 - أن يتحقّق عندهما قصد المعاملة.

أنواع البيع

يحصل البيع والشراء بواحد من الطرق التالية:

أ - البيع النقدي، المعاملة النقدية هي ما لايُشترط فيها مدّة في تسليم البضاعة و عوضها.

ص:426

ب - النسيئة، معاملة النسيئة هي أن يسلّم البائع البضاعة للمشتري، و لكن يتّفقان على أن يسلّم المشتري ثمنها إلى البائع في وقت آخر. و يجب في هذا النوع من المعاملة، أن تعيّن المدّة بشكل كامل.

ج - السَلَف، بيع السلف هو أن يدفع المشتري ثمن البضاعة عند المعاملة، وتبقى في ذمّة البائع على أن يتسلّم المشتري البضاعة بعد مدّة في زمان معيّن.

موارد فسخ المعاملة

يُسمّى حق فسخ المعاملة، الخيار. و يحق للبائع أو المشتري في الموارد التالية أن يفسخ المعاملة:

1 - خيار المجلس، إذا لم يفترقا من مجلس البيع.

2 - خيار الغبن، أن يكون مغبوناً. فيحقّ للمغبون أن يفسخ أصل المعاملة، أو يرضى بها بالقيمة التي عُيّنت البضاعة بها، و لايحق له إجبار الطرف الآخر على دفع تفاوت القيمة، و لكن لا مانع منه برضى الطرفين.

3 - خيار الشرط، أن يشترط في المعاملة حق الفسخ لأحدهما أو لكلٍّ مِنهما إلى مدّة معيّنة.

4 - خيار التدليس، إذا عرض البائع أو المشتري سلعته بأحسن ممّا هي، و عمل بنحو يزيد قيمتها الماليّة في نظر الناس.

5 - خيار تخلف الشرط، إذا اشترط البائع أو المشتري القيام بعمل، أو أن يكون المال الذي يعطيه بنحو خاص، و لم يعمل بالشرط، فيحقّ للطرف الآخر أن يفسخ المعاملة.

6 - خيار العيب، أن يوجد عيب في السلعة أو ثمنها.

7 - خيار تبعّض الصفقة، إذا تبيّن أنّ مقدار من السلعة المباعة ملك لشخص آخر، و لم يرض بوقوع المعاملة، فيحقّ للمشتري أن يفسخ أصل المعاملة، أو يأخذ ثمن ذلك المقدار من البائع. و كذلك إذا تبيّن أنّ مقداراً من الثمن المتّفق عليه ملك لشخص آخر، و لم يرض صاحبه، فيحقّ للبائع أن يفسخ أصل المعاملة، أو يأخذ عوض ذلك المقدار من المشتري.

ص:427

8 - خيار الرؤية، إذا أخبر البائع المشتري بخصوصيّات السلعة المعيّنة التي لم يرها المشتري، ثمّ تبيّن بعد ذلك أنّها لم تكن كما قال، فيحقّ للمشتري في هذه الصورة أن يفسخ المعاملة. و كذلك الأمر أيضاً إذا أخبره المشتري بخصوصيّات العوض المعيّن، ثمّ تبيّن بعد ذلك أنّه لم يكن كما قال، فيحقّ للبائع أن يفسخ المعاملة.

9 - خيار التأخير، أن لايدفع المشتري الثمن الذي اتّفقا على دفعه نقداً إلى ثلاثة أيام، و لم يدفع البائع السّلعة أيضاً فإذا لم يشترط المشتري تأخير الثمن، و كذلك لم يشترط تأخير دفع الثمن، فيحقّ للبائع أن يفسخ المعاملة. و إذا كانت السلعة المشتراة مثل بعض الفواكه التي تفسد إذا بقيت لمدّة يوم، و لم يدفع ثمنها حتّى الليل، و لم يشترط تأخير دفع الثمن، و لم يشترط أيضاً تأخير دفع المثمن، فيحقّ للبائع أن يفسخ المعاملة.

10 - خيار الحيوان، إذا اشترى حيواناً فيحقّ للمشتري أن يفسخ المعاملة حتّى ثلاثة أيّام.

11 - خيار تعذّر التسليم، أن يتعذّر على البائع تسليم المبيع. كأن يفرّ الفرس الذي باعه. ففي هذه الصورة يحقّ للمشتري أن يفسخ المعاملة.

آداب البيع والشراء

يُستحب للبائع ان لايميّز بين المشترين في قيمة السلع، و أن لايتشدد في السِّعر، و إذا ندم المشتري و طلب فسخ المعاملة أن يقبل منه. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: ايّما عبد اقال مسلماً ندامة في بيع، أقال اللّه عثرته يوم القيامة.(1)

و من الأُمور التي تذكر في المعاملة كراهة القسم و إن كان صادقاً، و إذا كان كاذباً فهو حرام.

الاحتكار والتسعير

من الأعمال الخاطئة احتكار السلعة التي يحتاجها الناس حتى يرتفع سعرها، بحيث يواجه الناس شدّة وضنكاً بسبب هذا العمل. سواء كان ذلك بقصد الإضرار بهم أم بعدم القصد.

ص:428


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 3 من أبواب آداب التجارة، ج 17، ص 386، الحديث 2.

ذمّت الأحاديث الشريفة الاحتكار والمحتكر، و وصفت المحتكر بالملعون والخاطىء والخائن، و ذهبت بعض الأحاديث إلى حدّ وصفه بالقاتل. والمحتكر كما قالت بعض الأحاديث ملعون و محروم من نِعمة اللّه.(1)

و على الحكومة الصالحة أن تمنع الاحتكار، و لكن لصاحب السلعة حريّة البيع بالسعر الذي يشاء. و قد امتنع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن تقويم أو تسعير السلع المحتكرة، و لما طلبوا إليه أن يأمر بتسعير السلع غضب و قال: ذلك إلى اللّه يرفع السعر إذا شاء و يخِّففه إذا شاء.(2)

والحقيقة هي إنّ معادلة العرض والطلب كفيلة بحلّ المشكلة، و لكن على أية حال لو تواطأ الباعة و أجحفوا في الأسعار فعلى الحكومة الصالحة أن تمنع الإجحاف بالمقدار اللازم، و تعيّن سعراً متوازناً يضمن مصلحة الطرفين.

المعاملات الباطلة

تبطل المعاملات في الموارد التالية:

1 - شراء و بيع الأعيان النجسة لمنفعة محرّمة كالسكر، و لكن شراء و بيع ما فيه منفعة حلال كالدم للتزريق فحلال.

2 - شراء و بيع المال المستحصل عن طريق غير مشروع كالمال المغصوب أو المال الذي يأتي عن طريق السرقة أو القمار أو المعاملات الباطلة.

3 - شراء و بيع الأشياء التي ليست مالاً و لا قيمة لها أو تكون منافعها في العمل الحرام فقط كأدوات اللهو واللعب، حيث يستفاد منها في الحرام فقط.

4 - الشراء والبيع الذي فيه غش. و «الغش» هو مزج بضاعة غير مرغوبة ببضاعة مرغوبة بحيث لايمكن تمييزها. روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم انه قال: «من غشَّ أخاه المسلم نزع اللّه بركة رزقه و أفسد عليه معيشته، و وكله إلى نفسه».(3)

5 - المعاملة التي فيها ربا.

ص:429


1- المصدر السابق، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، ج 17، ص 423-427.
2- - المصدر السابق، الباب 30، ج 17، ص 430، الحديث 1.
3- المصدر السابق، الباب 86 من أبواب «ما يكتسب به»، الحديث 11.

الأعمال المحرّمة

من جملة الأعمال المحرّمة التي يجني أصحابها المال بواسطتها! السرقة، والربا، والرشوة، والمال المستحصل عن طريق الغناء المحرّم، و مدح وتقوية الظالم، و بيع الخمور، والسِّحر، والكهانة، والتنجيم، إذا كان يُنسَب فيه التأثير لغير اللّه، والشعبذة إذا كانت تُظهر الحق باطلاً والباطل حقاً، والشخص الذي يحصل على مال من هذه الطرق يحرم عليه التصرف فيه و هو ضامن له.

النقد

قبل ان تتسع الحياة الاجتماعية و حينما لم يكن هناك تقسيم للعمل والاختصاصات وتطوّر في الاتصالات والعلاقات، كانت حاجات الناس بدائية و بسيطة و يمكن تلبيتها بكل سهولة عن طريق المقايضة (و هي عملية تبادل سلعة مُنتجة بأخرى)، و لكن في اعقاب التطوّر الصناعي والتنمية الاقتصادية و تنوّع السلع و تشعّب العلاقات، أخذ تبادل السلع يتعقد و يواجه مشاكل كثيرة. و لهذا صار لابد من اتّخاذ النقد وسيلة لتبادل السلع و تعيين قيمتها. و قد أدّى هذا العمل إلى تذليل الكثير من الصعوبات و لكنه أدّى في الوقت ذاته إلى خلق مشاكل جديدة من أهمهما أن النقد فقد دوره الأساسي وخرج من كونه وسيلة و غدا يتخذ موضوعاً للمعاملة على نحو مستقل. و هكذا صار الأفراد يتخذون النقد طريقاً لكسب الثروة و هذه الطريقة بالنسبة إليهم أكثر اطمئناناً من الانتاج والعمل والجهد والمخاطرة. فصاروا يقرضون الآخرين مالاً و يطالبونهم بأرباح ثابتة ازاء ذلك. و هذا طبعاً يؤدّي إلى زيادة ثرواتهم يوماً بعد آخر، و ان كان يؤدّي من جهة أخرى إلى سحق جماعة آخرين. و هكذا فقد أفضى هذا العمل إلى ظهور نوع آخر من الربا، و أحدَثَ اضطراباً في المعاملات الاقتصادية وساهم في تفاقم الفوارق الطبقية بين أبناء المجتمع. و على هذا المنوال غدا النقد عاملاً من عوامل الفساد الاقتصادي والاجتماعي.

ص:430

القَرض الحسَن

الإقراض من المستحبات التي وردت تأكيدات كثيرة عليها في آيات القرآن الكريم و في أحاديث المعصومين عليهم السلام. قال تعالى في كتابه الكريم (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) . (1) و قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: من أقرض مؤمناً قرضاً ينظر به ميسوره، كان ماله في زكاة، والملائكة تصلّي عليه حتى يؤدّيه.(2)

و قال أيضاً في حديث آخر: ألف درهم أُقرضها مرّتين أحبُّ إليَّ من أن أتصدّق بها مرّة.(3)

والمقترض مَدين طبعاً بذلك المبلغ لا أكثر، و لكن بما أن التضخم الاقتصادي يؤدي أحياناً إلى إيجاد فارق واسع بين القدرة الشرائية للمبلغ حين الإقراض و حين الإعادة. ففي هذه الحالة يكون دفع المبلغ نفسه موضع إشكال، والأحوط أن يتصالح الطرفان.

الربا

من أقبح الممارسات الاقتصادية هي المعاملات الربوية التي تعدُّ في الواقع من أظلم و أبشع أنواع الاستثمار. والإسلام يحرّم الربا، و يذمّ المرابين بشدّة.

أُعلنت حرمة الربا في آيات القرآن الكريم على عدّة مراحل - تدرّجت من اللين إلى الشدّة - ففي المرحلة الأولى بيّنت أن زيادة الثروة بالربا لايكون مدعاة للزيادة عند اللّه:

(وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللّهِ) .(4)

و في مرحلة أُخرى ذمّت المرابين اليهود، لأنهم لايلتزمون بما نُهوا عنه في دينهم:

(وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ

ص:431


1- - سورة البقرة (2)، الآية 245.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 6 من أبواب الدَين والقرض، ج 18، ص 330، الحديث 3.
3- المصدر السابق، الباب 8، ص 334، الحديث 5.
4- سورة الروم (30)، الآية 39.

عَذاباً أَلِيماً) . (1) و نهت آية أُخرى عن الربا المضاعف، و هو عبارة عن إضافة الربا الناجم عن عدم الدفع في وقته المقرر إلى أصل المبلغ، واحتساب الربا على المبلغ كلّه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) . (2) و أخيراً حرّمت الربا بشدّة و بيّنت و أنذرت المؤمنين بحرب من اللّه و رسوله إذا لم يتركوا ما بقي من الربا في أعناقهم، و أوضحت لهم أنّهم إذا تابوا فلهم رؤوس أموالهم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ) .(3)

و أعلنت الأحاديث أن «درهم ربا أشدّ من سبعين زنية كلها بذات محرم».(4)

على المسلم أن يتّجه نحو القَرض الحسَن لِما فيه من الخير والبركة والرحمة، بدلاً من الربا و ما يترتّب عليه من تكديس للثروة بلا كد و لا تعب، و ما ينتجه ذلك من تأثيرات مدمّرة على الاقتصاد.

المعاملة والربا

اشارة

بعدما نزلت آيات تحريم الربا، أخذ المرابون يتساءلون: ما الفرق بين الربح الحاصل من الربا والربح الحاصل من البيع والشراء: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) . (5) و جاء جواب القرآن تأكيداً لِما سبق: (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا) . (6) والفرق واضح طبعاً، و هو أن البيع فيه خدمة يحتاجها المجتمع و هي عبارة عن عملية توزيع للسلع، بينما الربا و ما ينتج عنه من أرباح كبيرة وتكديس للثروات يُخلّ بالوضع الاقتصادي. و فضلاً عن ذلك فإن المعاملات خاضعة للعرض والطلب، و هي بالنتيجة ليست ذات ربح ثابت، بل تتوقف أرباحها على مدى الجهد والمعرفة بالشؤون الاقتصادية، بينما يؤدّي الربا بسبب ما فيه من

ص:432


1- - سورة النساء (4)، الآية 161.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 130.
3- سورة البقرة (2)، الآيتان 278-279.
4- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب الربا، ج 18، ص 117، الحديث 1.
5- - سورة البقرة (2)، الآية 275.
6- - سورة البقرة (2)، الآية 275.

أرباح ثابتة إلى إلحاق الضرر الكبير بالمقترضين. والربا بطبيعته معادلة تراكمية تدفع الفقراء نحو مزيد من الفقر، و بأصحاب الثروة نحو مزيد من الثراء من غير أن يحملوا أية هواجس أو هموم إزاء ما يصيب السوق من تضخُّم و بطالة و... والربا بطبيعته يؤدّي إلى إفقار مئات الأشخاص خلال عدّة سنوات، وتكديس أموالهم في يد شخص واحد.

أنواع الربا

الربا على نوعين:

أ - الربا المعاملي، و هو ما يكون في المعاملات، و هو بيع أحد المثلين مما يُكال و يوزن بالآخر مع زيادة في أحدهما. والزيادة إما أن تكون عينية كبيع مئة كيلو حنطة بمئة و عشرين كيلو حنطة، أو بيع مئة كيلو حنطة بمئة كيلو حنطة و دينار، أو بيع عشرين كيلو حنطة نقداً بعشرين كيلو حنطة نسيئاً، و في كل هذه الموارد تُعتبر المعاملة ربوية و هي باطلة.

ب - الربا القرضي، و هو أن يشترط المُقرِض على المُقتَرِض مبلغاً زائداً على ما اقترضه، أو يضيف إليه مقداراً من سلعة أُخرى، أو يقوم له بعمل أو أن يعيد له المبلغ بكيفية خاصة ذات قيمة مالية، و لكن لا إشكال لو دفع المقترض أكثر من المبلغ بإرادته ورغبته دون أن يشترط عليه المُقرِض ذلك، بل تُستحب مثل هذه الزيادة.

والربا القرضي لايحلّ أبداً، والحيل الشرعية الواردة في بعض الكتب لتحليله غير جائزة، و ما يؤخذ فيه من زيادة حرام.

المصارف

في أعقاب رواج النقد والعملة والنشاط التجاري، بات إنشاء المصارف ضرورة من ضروريات الحياة الاجتماعية. فالمصارف تقدّم للناس خدمات شتّى، و تتلقى في مقابلها أُجوراً، و تدخل في المعاملات التجارية كالمضاربة، و تدفع للإيداعات أرباحاً على الحساب، غير أن هذه الأرباح لايمكن أن تكون ثابتة. و من جهة أُخرى إذا كانت عقود المصارف ذات طابع صوري فحسب و بهدف التهرّب من الربا، ففي ذلك إشكال.

ص:433

الكُمبِيالة (السند)

الكُمبِيالة نوع من السندات والحوالات و هي على قسمين:

أ - السندات الحقيقية، و هي ما يقدّمه المدين إلى الدائن مقابل دَيْنه.

ب - سندات الصداقة، و هي التي يدفعها الأصدقاء لبعضهم دون أن يكون من يعطيها مديناً لصاحبه.

يجب أن يكون التعامل مع شخص آخر بالسندات الحقيقية التي يأخذها من المدين بنحو لايستلزم الربا، كأن يقترض مبلغاً من شخص آخر أو من مصرف و يوكّله بتحصيل السند، و بعد تحصيله يأخذ ما أقرضه لصاحبه و يأخذ الباقي كعمولة، بشرط أن يكون بمقدار العمولة المتعارفة، و لا يراد به الفرار من الربا. و إذا لم يعمل على هذا النحو، واقترض من شخص ثالث مبلغاً، و دفع له السند على أن يأخذ ذلك الشخص حين الموعد أكثر من قرضه، فهو ربا و حرام. و إذا باع مبلغ السند إلى شخص آخر بمبلغ أقل، فصحّته موضع إشكال.

التكاليف المالية

اشارة

يمكن من خلال نظرة بسيطة إدراك مدى الفوارق بين الدخل الفردي الناس. و هذه الأنواع من التفاوت تعود لأسباب وعوامل متعددة، يعزى بعضها إلى ممارسات و ظلم الحُكّام و أصحاب الثروات. فالغصب، والاحتكار، والتطاول على بيت المال و ما إلى ذلك، تؤدي عادة إلى ذهاب حقوق بعض أفراد المجتمع إلى جيوب عدد قليل من الناس، و هو ما ينتهي بالنتيجة إلى ظهور فوارق هائلة بين أفراد المجتمع. قال تعالى مذكّراً بنعمه: (وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ) .(1)

والظاهر ان المراد هو أن ما تقتضيه طبيعتكم و خلقتكم قد خلق لكم، و ان نعم اللّه لاتحصى.

والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هنا هو: إذاً لماذا كل هذا الفقر والعوز؟ و قد جاءت الجملة

ص:434


1- - سورة ابراهيم (14)، الآية 34.

الأخيرة جواباً عن هذا السؤال: و هو أن هذا النقص والعوز جاء بسبب ظلم الظالمين الذين يعتدون على أموال و حقوق الآخرين. قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «فما جاعَ فَقيرٌ إلاّ بِما مُتِّعَ بِهِ غِنىٌّ».(1)

فهناك جماعة يحصلون على أموال طائلة من غير تعب، و يتمتعون بكل مستلزمات الرفاه. و في المقابل يؤدّي كسل بعض الناس إلى عجزهم اقتصادياً و هو ما ينتهي بالنتيجة إلى ظهور فوارق طبقية هائلة. ان الظلم والكسل يؤدّيان إلى الاختلافات الاقتصادية بين الناس. و هذه الأمور لايقرّها الدّين و ينبغي أن لاتوضع في دائرة القضاء والقدر. و ينبغي طبعاً السعي لإقامة العدالة تلافياً للتعدي والتمييز، هذا من جهة، و يتعيّن من جهة أخرى ان يسعى كل فرد لتوفير رفاه نسبي لأسرته من خلال السعي والكد.

و خلافاً للحالتين السابقتين اللتين تأتيان نتيجة للعلاقات الظالمة و طبيعة السلوك الفردي، هناك حالة أخرى تقوم على أساس الخلقة واستعداد الإنسان. فبعض الناس يخلقون عاجزين أو مصابين بعاهات، و آخرون يصابون بعاهات بسبب حوادث وسوانح طبيعية. و من جانب آخر هناك من الناس من يتمتع بدرجة ذكاء فائقة، وجسم قوي، ولديه خلّاقية، أو حاز مقدرة عالية على أثر الدراسة وارتقاء المستوى العلمي. و من الطبيعي أن كل من يحظى بقوّة أكثر تكون لديه مقدرة أعلى على الاستفادة من الإمكانات والنعم الطبيعية. و أما العاجز فلديه فرصة أقل للاستفادة من المصادر الطبيعية.

و على أية حال فالناس مختلفون في مدى قدرتهم على الحصول على المال والمقدّرات الأُخرى. و قد أقر الإسلام هذا التفاوت الطبيعي. و لكي لايكون هذا العامل مدعاة للتمايز بين الناس، و لكي لايعيش الأثرياء في رغد و رفاه و يعيش آخرون في فقر مدقع، فقد فرض على الأثرياء مجموعة من التكاليف إزاء الفقراء و أوصاهم بهم خيراً بهدف إزالة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، حتى أنه ورد حديث عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال فيه: من سمع رجلاً ينادي ياللمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم.(2)

والتكاليف الدينية في هذا المجال كثيرة، نذكر منها في ما يلي مجموعة من التكاليف المالية:

ص:435


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 328، ص 533.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 59 من أبواب جهاد العدو، ج 15، ص 141، الحديث 1.
1 - الإنفاق

من أكثر المواضيع التي تحدّث عنها القرآن في ما يخص الفرائض الاقتصادية هو موضوع الإنفاق. فقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم أكثر من ثمانين مرّة بتعبيرات مختلفة، و هي تحث المسلمين على إعطاء الآخرين قسماً مما أعطاهم اللّه.

المالك الحقيقي - حسب الرؤية الإسلامية - هو اللّه كما يقول: (وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ) ، (1) و قال أيضاً: (... وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، (2) و هو يحضّ المؤمنين على الإنفاق قبل أن يأتي يوم لاتنفعهم فيه الأموال. (وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) . (3) و قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً) . (4) فهو تعالى قد جعل في أموال الأغنياء حقّاً للسائل والمحروم.(5) و هذا الحق ينطبق على الصدقات والزكاة الواجبة والمستحبّة التي وردت في بحث الزكاة و شروطها و كيفية جمعها. جاء في الحديث «لقد فرض اللّه للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به و إنّما يؤتى الفُقراء مِن مَنْعِ مَنْ مَنَعَهم حقوقهم».(6) و على أية حال فإن كثرة الثروة إذا لم يرافقها إنفاق، تؤدّي إلى انحراف اقتصادي. و في هذه الحالة تصبح محرّمة.

2 - النهي عن تكديس الثروة

فُرض على المسلم أن لايحرص على تكديس الثروة. قال تعالى: (وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي

ص:436


1- - سورة النور (24)، الآية 33.
2- سورة البقرة (2)، الآية 3.
3- - سورة المنافقون (63)، الآية 10.
4- - سورة البقرة (2)، الآيتان 267-268.
5- - سورة المعارج (70)، الآيتان 24-25.
6- - الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، ج 9، ص 9 إلى 13، الحديث 2 و 3 و 6 و 9.

نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) .(1)

والكنز: جعل المال بعضه على بعض و حفظه.(2) و هذا مما نهت عنه التعاليم الدينية، و توجّهت بشديد الذم لمكتنزي الأموال و مكدّسي الثروات. قال الإمام الصادق عليه السلام: لقد أعطاكم اللّه هذه الأموال لتنفقوها حيث أراد لالتكنزوها.(3) و على أية حال فإنَّ العلة في النهي عن اكتناز الثروة هو إنّ هذا العمل يؤدّي إلى تكديس الثروة في موضع واحد و حرمان الآخرين، و يمهّد لأعمال محرّمة مثل الربا، و هو ما ينتهي في ختام الأمر إلى الطغيان والتمرّد على اللّه.

3 - إيتاء الزكاة
اشارة

مِن التكاليف المالية الأُخرى المفروضة على الأثرياء من أجل سدّ النواقص الاقتصادية في المجتمع، هو إيتاء الزكاة. و قد اقترنت في القرآن والأحاديث الزكاة بالصلاة. و حسب الرؤية الإسلامية تُسد النواقص والمتطلّبات الأساسية للمجتمع بالزكاة كما كان الحال في زمان حكومة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و حكومة الإمام علي عليه السلام. والأشياء التسعة التي تشملها الزكاة كانت هي الثروة المهمّة لدى الناس يومذاك.

هناك روايات كثيرة حول أهمية الزكاة والتأكيد على دفعها، منها قول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: حصّنوا أموالكم بالزكاة، و داووا مرضاكم بالصدقة، فما تلف مال في برّ أو بحر إلّا بمنع الزكاة.(4) فالزكاة في الحقيقة ضمانة للمال مثلما زكاة الفطرة ضمانة للعمر.

واستناداً إلى المشهور تجب الزكاة في تسعة أشياء: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والذهب، والفضة، والإبل، والبقر والغنم.

ص:437


1- سورة التوبة (9)، الآيتان 34-35.
2- - الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 727.
3- - الكُليني، الكافي، ج 4، ص 32، الحديث 5.
4- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 3 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، ج 9، ص 24 و 25، الحديث 8.

فإذا ملَكَ شخصٌ واحداً من هذه الأشياء التسعة، و كان بالغاً و عاقلاً و يستطيع التصرّف في ذلك المال، و بلغ ذلك المال مقدار النصاب، تجب عليه الزكاة.

و إذا ملك الإنسان البقر والغنم والإبل والذهب والفضة أحد عشر شهراً يُعطي زكاتها.

والأحوط أن تُعطى زكاة السُّلت (و هو نوع من الحبوب له نعومة الحنطة، و خاصيّة الشعير)، وزكاة العَلَس (و هو مثل الحنطة)، و كذلك زكاة الرُز والذرة «و سائر الغلّات» وفقاً لشروط الحنطة والشعير. بل ربّما يمكن القول: إنّ موضوع الزكاة أوسع من الموارد المذكورة، و يمكن للحاكم الإسلامي فرض الزكاة على أموال الناس وفقاً للحاجة والثروة العامّة، و بالنتيجة تؤخذ الضرائب كزكاة واجبة.

مصرف الزكاة

يمكن إنفاق الزكاة في الموارد التالية:

1 - الفقير، و هو من لايملك مؤونة سنة له و لعياله. و من كانت لديه صنعة أو ملك أو رأس مال يمكنه أن يحصل منها على مؤونة سنته، فليس بفقير.

2 - المسكين، و هو أسوأ حالاً من الفقير.

3 - العامل عليها و هو المنصوب لجمع الزكاة و حفظها و حسابها.

4 - المؤلّفة قلوبهم، وهم الكفّار الذين إذا أُعطوا الزكاة يميلون إلى دين الإسلام، أو يساعدون المسلمين في الحرب. و كذلك المسلمون ضعاف الإيمان، الذين إذا استميلوا بواسطة الزكاة يقوى إيمانهم.

5 - في الرقاب، أي في شراء العبيد و تحريرهم.

6 - الغارم، و هو المدين الذي لايستطيع وفاء دينه. و بشرط أن لايكون الدّين قد صرف في معصية.

7 - في سبيل اللّه، أي الأعمال ذات المنفعة الدينية العامّة، مثل بناء المساجد والمدارس أو مثل إنشاء الجسور و إصلاح الطرق....

8 - ابن السبيل، و هو المسافر المنقطع في سفره، و إن كان غنياً في بلده.

ص:438

زكاة الفطرة

زكاة الفطرة زكاة واجبة في كل سنة على كل مكلّف جامع للشرائط؛ و هي تصرف على الفقراء والمساكين في المجتمع. و زكاة الفطرة تحفظ الإنسان من الموت المفاجيء في ذلك العام.

و جاء في الروايات أنَّ مِن تمام الصوم إعطاء الزكاة، مثلما أن الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من تمام الصلاة.(1)

من كان عند غروب ليلة عيد الفطر بالغاً، و عاقلاً، و ليس مغمىً عليه، و لا فقيراً، يجب عليه أن يُعطي عن نفسه، وعمّن يعولهم إلى المستحق، عن كل واحدٍ منهم صاعاً واحداً، و هو ما يُعادل تقريباً ثلاث كيلوات من الحنطة أو الشعير أو التمر أو الزبيب أو الرز أو الذرة و أمثالها، بقصد زكاة الفطرة. والأحوط أن يدفع الفطرة من القوت المتعارف في بلده. و إذا أعطى ثمن أحد هذه الأشياء كفاه ذلك.

4 - الخمس
اشارة

الخمس واحد من خمسة من الدخل والأرباح التي تأتي من طرق متعددة، و يجب أن تُنفق في زمان غيبة إمام الزمان (عج) في مصارف معيّنة في الشرع تحت إشراف المجتهد الأعلم والجامع للشرائط. والحقيقة هي أن الخمس ميزانية، تُلبّى فيها الحاجات والمتطلّبات المشروعة للفقراء من السادات في زمان غيبة إمام الزمان (عج)، و إضافة إلى ذلك تضع الركائز العلمية والعملية لحكومة الحق القائمة على المذهب الجعفري. و لهذا فقد ورد في بعض الروايات ذكر الخمس بعنوان «حق الإمارة».

و جاء في الأحاديث تأكيد وافر على دفع الخمس، و من ذلك ما جاء في رواية أنّ الإمام الرضا عليه السلام كتب في جواب رسالة بعثها إليه أحد التجار يسأله الإذن في الخمس:... إنَّ الخمس عوننا على ديننا، و على عيالاتنا و على أموالنا و ما نبذله و نشتري من أعراضنا

ص:439


1- المصدر السابق، الباب 1 من أبواب زكاة الفطرة، ج 9، ص 318، الحديث 5.

ممّن نخاف سطوته فلا تزووه عنا، و لاتحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه فإنّ إخراجه مفتاح رزقكم، و تمحيص ذنوبكم و ما تمهدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي للّه بما عهد إليه، و ليس المسلم من أجاب باللِّسان و خالف بالقلب.(1) و قال الإمام الباقر عليه السلام:

من اشترى شيئاً من الخمس لم يعذره اللّه، اشترى ما لايحل له.(2)

على كل مسلم إخراج الخمس بما يتعلق به الخمس من أمواله. و كل تصرّف في ذلك المال حرام و لاتصحّ الصلاة فيه.

و هذا الواجب و إن كان لسدّ النواقص والمتطلّبات، و لكنَّه في الوقت نفسه واجب عبادي و يجب أداؤه بقصد القربة.

و يجب الخمس في سبعة أشياء: أرباح المكاسب، المعدن، الكنز، المال الحلال المختلط بالحرام، الجواهر التي تُستخرج بالغوص، غنائم الحرب، والأرض التي يشتريها الكافر الذمِّي من المسلم.(3)

مصرف الخمس

يجب بناءً على المشهور تقسيم الخمس إلى قسمين متساويين: قسم منه سهم الإمام عليه السلام، الذي يجب أن يُعطى في زماننا إلى المجتهد الجامع للشرائط، أو إنفاقه في المصرف الذي يجيزه. والقسم الآخر سهم السادة الذي يجب أن يُعطى إلى المجتهد الجامع للشرائط، أو يُعطى بإذنه إلى سيد فقير، أو سيد يتيم، أو سيّد ابن سبيل (و ان لم يكن فقيراً)، و لكن لو زاد سهم السادّة عن حاجة السادة، صرفه المجتهد الجامع للشرائط في مصارف سهم الإمام. و كذلك إذا لم يكف سهم السادة لحاجة السادة، يُصرف على السادة الفقراء من سهم الإمام عليه السلام. والحقيقة هي أن الخمس، و خاصّة خمس أرباح المكاسب حق لإمام المسلمين، و لكن ينبغي سدّ حاجة فقراء السادة منه.

ص:440


1- - المصدر السابق، الباب 3 من أبواب الأنفال، ج 9، ص 538، الحديث 2.
2- المصدر السابق، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، ج 9، ص 484، الحديث 5.
3- راجع: الأحكام الشرعيّة، المسائل 1811-1910.

السياسة

الدّين والحكومة

الحكومة، ضرورة اجتماعية

إحدى ضروريات الحياة البشرية وجود نظام اجتماعي و حكومي يضمن حقوق أفراد المجتمع. و لهذا السبب كان هناك في جميع أدوار حياة البشر - و حتى في دور العصر الحجري والحياة البدائية - نوع من الحكومة ولو بصورة بسيطة، و كانت مهمّتها حماية مصالح الجماعة.

و على صعيد آخر تختلف مصالح و نزعات أفراد المجتمع، و هذا ما يؤدي بطبيعة الحال إلى وقوع تزاحم و تعارض بين مصالحهم. فقد تؤدّي استفادة فردٍ من حقٍّ معين إلى الإضرار بمصالح الآخرين و حرمانهم من حقوقهم. أو أحياناً قد تكون الحاجات المتاحة أقل من الطلب عليها، و هذا يؤدي بطبيعة الحال إلى نشوب نزاعات، و هذا يستدعي طبعاً وضع تدابير وقائية، أو يستلزم الحكم والبَتَّ فيها. و هذه الأُمور تتطلب وجود حكومة طبعاً.

إذاً، الحكومة من ضروريات الحياة الإجتماعية لبني الإنسان، فهي القادرة على تفادي الفوضى والنزاعات؛ و ذلك لأن أبناء المجتمع لايمكنهم - كأفراد - القيام بإقرار الأمن مثلاً، أو توزيع الإمكانات العامّة بشكل صحيح، أو النظر في الخلافات و حسمها والبتّ فيها. إذاً، فلابّد من وجود حكومة تأخذ على عاتقها مهمة الأعمال العامّة للمجتمع.

و من ناحية أُخرى ينبغي تطبيق تعاليم الدّين و قيمه في المجتمع على نحو معقول و منطقي، و هذا يتطلب بطبيعة الحال وجود سلطة تتكفل بمهمة التخطيط لهذه المهمة، و أن تكون لديها الامكانات لتنفيذ ذلك، و توظيف الطاقات من أجل إشاعة القيم المعنوية بين

ص:441

الناس، و إزالة الموانع التي تقف دون ذلك. والكثير من هذه الأُمور يتعذّر تنفيذها من دون وجود حكومة. جاء في القرآن الكريم في وصف المؤمنين: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) .(1)

و فضلاً عن ذلك ينبغي الانتباه إلى أنّ بعض أحكام الدّين تُعدّ في الواقع ضمانة تنفيذية للأحكام الأُخرى، كما هو الحال بالنسبة للأحكام الجزائية كالحدود، والديّات، والقصاص.

و في مثل هذه الحالات لايمكن للأفراد الإقدام على تنفيذ تلك الأحكام بأنفسهم؛ لأن ذلك يؤدي إلى انتشار الفوضى. و هذا أيضاً من الجوانب التي تتطلب وجود حكومة. و من الطبيعي أن تكون الأهداف التي ذكرناها للحكومة، إضافةً إلى دورها في تحقيق الأمن والعدالة والحريّة، لايقتصر على الحكومة الدينية فقط؛ إذ بالإضافة إلى المهام التي تضطلع بها سائر الحكومات، يقع على الحكومة الدينية واجب الاهتمام بالقيم المعنوية والالتزام بتطبيقها.

كانت ضرورة إقامة الحكومة من الأُمور التي أكّدت عليها تعاليم الأئمة و وصاياهم؛ و من ذلك قول أميرالمؤمنين عليه السلام: «لاُبدّ للنّاسِ مِنْ اميرٍ برٍّ اوْ فاجِر»(2) و قوله أيضاً:

«والٍ ظَلومٌ غَشومٌ خَيْرٌ مِنْ فِتنةٍ تَدُوم».(3)

الغاية من إقامة الحكومة

الغايات التي يرمي إليها الناس من وراء إقامة الحكومة، أو من وراء إيجاد النظام الحكومي أساساً، هي عبارة عمّا يلي:

1 - بسط الأمن في جميع مجالات الحياة، و على الصعيدين الداخلي و مجابهة العدوان الخارجي.

2 - بسط العدالة والمساواة بين جميع الناس بما في ذلك المساواة أمام القانون، والتوزيع

ص:442


1- سورة الحج (22)، الآية 41.
2- - الشريف الرضي، نَهج البلاغة، الخطبة 40، ص 82؛ و راجع الكُلَيني، الكافي، ج 8، ص 373، الحديث 560: «و لابدَّ من امرَةٍ فى الأرض، برّةٍ اوْ فاجرة...».
3- الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 464، الحديث 10672.

العادل للثروات بينهم، و مشاركة الجميع في المسؤوليات، و في الثواب والعقاب في ما يستلزم ذلك من الإثابة والعقوبة.

3 - تنمية المجتمع وتطويره في جميع المجالات الاقتصادية والثقافية؛ المعنوية منها والماديّة.

و قد كانت هذه الغايات والأهداف منذ مطلع الحياة الاجتماعية - و بغض النظر عن التعاليم والأحكام الاجتماعية - محَّط أنظار كل أنواع الحكومات، و لم تزد عليها الحكومات الدينية شيئاً سوى اعتبار دعوة الناس إلى تلك الأهداف، بل اعتبار الدنيا كلّها مقدّمة للآخرة.

هذه الأهداف دفعت نحو تأسيس حكومة و وضع وسَنّ قوانين، فتطوّرت و تكاملت على مرّ الزمن. و في هذا السياق اعتبر الدّين الرقي المعنوي للإنسان من الضروريات الداعية لوجود الحكومة. فقد جاء في رواية: «الدّينُ وَالسّلطان أخوان توأمان لابدّ لكلّ واحدٍ مِنْهُما مِنْ صاحِبِه وَالدّين اسٌّ والسلطان حارسٌ وَ ما لا اسَّ لَه منهدمٌ وَ ما لا حارسَ لَه ضائع».(1)

القدرة على تنفيذ القوانين و حماية المجتمع

لابد أن تكون لدى الحكومة القدرة على تطبيق القانون و إقرار النظم؛ لأن الحكومة الضعيفة لاتستطيع حماية الناس وضمان حقوقهم. و أهم مصدر لسلطة الحكومة هو ثقة الشعب بها.

و على جانب آخر قد تتعرض مصالح شعبٍ ما لهجوم دول و قوى أُخرى، و هذا يوجب أن تكون لدى الحكومة قوّة عسكرية تحفظ بها هيبتها و تدفع بواسطتها أيَّ عدوان خارجي.

و هذا المبدأ صرّح به القرآن الكريم بكل وضوح بقوله: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ) .(2)

ص:443


1- المفيد، الاختصاص، ص 263؛ المُتّقي الهندي، كنز العمال، ج 6، ص 10، الحديث 14613.
2- سورة الأنفال (8)، الآية 60.

الحكومة وسيلة لتحقيق الأهداف الدينية

كل أحكام الشريعة وسيلة لتحقيق الأهداف الدينية. و هذه الأهداف كفيلة بضمان سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. و هذه الأحكام في الشؤون الاجتماعية تترتب على بعضها الآخر، و تؤلّف وحدة متكاملة تضمن للناس سعادتهم فيما لو روعيت كل جوانبها، و لكن لابُدّ من الإذعان إلى أنّ الأفراد يفتقرون عادة إلى الدوافع الذاتية للالتزام بالقوانين بكل حذافيرها، بل إنّ البعض يرى في بعض الحالات أن تجاهل القوانين أكثر انسجاماً مع رغباته. و هذا ما يفرض على الحكومة أن تكون ذات نظرة شاملة و أن تحرص على تطبيق كل القوانين. جاء في رواية صحيحة عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: «بُنِىَ الإسلامُ عَلى خَمْسَةِ أشياء؛ عَلَى الصَّلاة وَالزَّكاةِ وَالحَجِّ والصَّومِ والولاية. قال زُرارة: فَقُلتُ: وَ أىُّ شَىءٍ مِنْ ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضَل، لأنَّها مِفتاحُهُنَّ وَالوالي هو الدَّليلُ عَلَيْهِنَّ...»(1)

و على الحكومة باعتبارها الجهة التي تتكفّل بتطبيق أحكام الدّين، أن توفّر الحريّات اللازمة لتحقيق أهداف الدّين. و لاينبغي - طبعاً - النظر إلى المناصب الحكومية كأداة للسطوة الفردية و منطلقاً لاقتناص مآرب دنيوية، و كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «إنّ عمَلك ليسَ لَك بِطُعْمَة و لكنّه في عُنُقك أمانة».(2)

من المفترض أن يكون كلّ هم الشخص من وراء تسلّم أيّ منصب حكومي هو إحقاق الحقّ، و إصلاح الفساد و بسط العدالة والأمن الاجتماعي «لِنُرىَ المعالمَ من دينكَ و نُظهرَ الاِصْلاحَ في بلادِكَ وَ يأْمَنُ المَظلُومونَ مِنْ عِبادِكَ وَ يُعْمَلُ بِفَرائِضِكَ وَ سُنَنِكَ وَ احْكامِكَ».(3) فالحكومة التي تقوم على أساس تطبيق أحكام الدّين والقوانين الإنسانية هي حكومة دينية، و عليها أن توفر متطلبات الأمن والعدالة والتقدّم لأبناء شعبها. و في ظل مثل هذه الحكومة يعيش الناس في أمن، و لايأمن في ظلِّها أي معتدٍ على حقوق الآخرين.

ص:444


1- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 18 و 19، الحديث 5؛ راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 188 و 189.
2- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 5، ص 366؛ راجع: دراسات فى ولاية الفقيه، ج 1، ص 344.
3- - الحرّاني، تُحف العقول، ص 239؛ راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 313.

و كما ذكرنا سابقاً، إنّ أحكام و تشريعات الدّين الإسلامي الحنيف لاتنحصر في دائرة المسائل العبادية والشؤون الأخلاقية فحسب، بل للإسلام تشريعاته و تعاليمه في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، و في مجال القضاء والحُكم و شروط الحاكم والعلاقات الدولية. و حاكم المسلمين معنيٌّ - طبعاً - بتطبيق هذه الأحكام والتشريعات، و لايمكن أن يقف إزاءها موقف اللّامبالاة.

أنواع الحكومات، والحكومة الدينية

اشارة

جَرَّب الإنسان طيلة تاريخ حياته أنواعاً شتّى من الحكومات التي يمكن تقسيمها إلى أنواع عدّة تبعاً لهذا المعيار أو ذاك، و لكن يمكن تقسيمها من حيث الطبيعة والماهية العامّة إلى نوعين: الحكم الاستبدادي والمطلق، والحكم الدستوري والمقيّد.

أ - الحكم الاستبدادي والمطلق

في ظلّ الحكم الاستبدادي والمطلق، سواء كان فردياً أو جماعياً، تبقى مصلحة الفرد أو الجماعة الحاكمة هي المعيار، و ليس هناك أي قانون أو وسيلة يمكن بواسطتها تقييد ممارسة السلطة السياسية. و مثل هذه الحكومة تعتبر نفسها فوق المساءلة، و غير خاضعة لاستجواب الشعب حول سلوكها.

و من أقسام هذا النوع من الحكم، الحكم الملكي المطلق، والحكم الجمهوري مدى الحياة، و أنواع الحكومات الخالية من أي نوع من الشورى أو المجالس الاستشارية الحقيقية.

للإسلام موقف صريح و قاطع ضد الاستبداد، و هو يحذّر المسلمين من القبول به. ورد في القرآن الكريم رفض حازم لمنطق الغَلَبة و نفي حازم لصفة التجبّر، حيث قال تعالى:

(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) ، (1)(وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ) ، (2) ممّا يدلُّ على مذمة و رفض

ص:445


1- - سورة الغاشية (88)، الآية 22.
2- سورة ق (50)، الآية 45.

منطق التسلّط والتجبّر. قال علي عليه السلام: «ألا و إنّ اللَّبيبَ مَنْ استقَبَلَ وُجُوه الآراء بِفِكرٍ صائبٍ وَ نَظَرٍ في العَواقِبِ».(1) و قال عليه السلام: العاقل هو من يشك على الدوام في صواب رأيه.(2) و معنى ذلك أنه لاينبغي له أن يستبد برأيه، إذ جاء في رواية أُخرى أنَّ: «من استبدّ برأيه هلك».(3) و هذه المواقف تبيّن نظرة الإسلام الرافضة للاستبداد، سواء كان استبداداً فردياً أو حزبياً أو فئوياً.

إحدى الخصائص واللوازم السلبية للحكم الفردي، الطغيان. فالإنسان غير معصوم من الخطأ عادة، و هو معرّض على الدوام - فيما إذا توفّرت بيده مستلزمات القوّة - للانزلاق في منزلق الطغيان. و هذا المعنى أكّدهُ القرآن الكريم و بيّن أن هذه القاعدة تنطبق على الناس كلّهم: (كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) .(4)

و هناك في الإسلام حكم قرآني صريح ينهى عن التحاكم إلى الطاغوت، و هو قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) . (5) و قد كانت سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وسيرة أميرالمؤمنين عليه السلام من بعده مغايرة تماماً للحكم الاستبدادي.

و فضلاً عن كل ذلك فإنَّ العقل يرفض الحكم الاستبدادي الفردي؛ و ذلك لأنّ المتطلبات الكثيرة والمتشعّبة للمجتمعات البشرية، و سبل تلبيتها، ليست بالشيء اليسير الذي يمكن أن ينهض به شخص واحد. فالفرد مهما كانت لديه من مقدرة عقلية، لايمكنه الإحاطة بكل الأُمور والقضايا، و لايمكنه وضع حلول عملية لشتّى المشاكل والمعضلات. ويُستدل من مجمل ذلك على أن الحكم الفردي - حتى و إن لم يكن استبدادياً، و كان حُكْماً دستورياً - يفتقر إلى القدرة والكفاءة، و لايخلو من نواقص و معايب.

الملاحظة المهمّة في ما يتعلق برفض الحكم الاستبدادي، هي أن الحكم - تحت أيّة تسمية كان - يُقرّر للآخرين و يتصرّف في شؤونهم. و هذا التقرير والتصرّف إنّما يصح فيما لو

ص:446


1- - الخوانساري، شرح غرر الحكم، ج 2، ص 737، الحديث 2778.
2- - الخوانساري، شرح غرر الحكم، ص 464، الحديث 1851.
3- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 21 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 40، الحديث 6.
4- سورة العلق (96)، الآيتان 6-7.
5- - سورة النساء (4)، الآية 60.

كان هناك قبول ورضىً من أبناء الشعب. في حين أنَّ الحكم الاستبدادي يتخذ القرارات و يتصرّف في شؤون الناس من غير استشارتهم و لا الرجوع إلى آرائهم. و بما أنه قائم خلافاً لإرادة الشعب فهو غير مشروع. قال أميرالمؤمنين عليه السلام في كتاب بعثه إلى شيعته:

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذ عليَّ عهداً فقال: يا ابن أبي طالب، لك ولاء أُمّتي، فإن ولّوك في عافية و أجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، و إن اختلفوا عليك فدعهم.(1)

ب - الحكم الدستوري

نوع الحكم الذي يكون في مقابل الحكم الاستبدادي والتسلُّطي، هو الحكم الدستوري.

و في هذا النمط من الحكم تكون المصلحة العامّة هي المعيار الأساسي للقرارات، و تمارس السلطة السياسية عملها في ضوء القوانين الموضوعة لها. و وفقاً لهذا المبدأ تُعتبر الحكومة بمثابة أمانة يفوّضها الشعب إلى الحُكّام. و على هذا الأساس فالحُكّام منتخبون من قِبَل الشعب و مسؤولون أمامه.

أمر اللّه تعالى النبيّ محمداً صلى الله عليه و آله و سلم في القرآن الكريم قائلاً: (وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) . (2) فعندما يكون النبيّ، مع عصمته، مُلزماً بالتشاور في ما يتّخذه من قرارات، تتضح لنا حينذاك أهمية الحكم الجماعي، و ندرك المراد من الآية الشريفة: (وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) . (3) البلدان التي تبني فيها الحكومة قراراتها على الشورى والتشاور و استناداً إلى القرآن والسنّة و وفقاً لِما يحكم به العقل، فمعنى ذلك أن الحكومة هناك إسلامية.

إذاً، فالحكومة الدينية هي تلك التي تحكم وفقاً لدين اللّه و من خلال التشاور مع الجميع و خاصّة العلماء و أهل الاختصاص والخبرة. والحُكّام فيها منفّذون لآراء الشعب و أحكام الشريعة.

أمّا في الأُمور العقلية التي ليس للشريعة المقدّسة حكم قطعي فيها، فالمعيار الذي تتبنّاه الحكومة هو رأي أكثرية الشعب أو نوّابهم و علمائهم: «ثمّ امضِ ما يجتمعُ عليه اقاويل

ص:447


1- ابن طاووس، كشف المحجّة، ص 180. وللاطلاع على مزيد من المعلومات حول أدلّة شرط انتخاب الحاكم، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 493-511.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 159.
3- - سورة الشورى (42)، الآية 38.

الفقهاء بحضرتك من المسلمين...».(1) لأنّ ترجيح رأي الأقلّية على الأكثرية غير معقول، و جاءت في أقوال المعصومين عليهم السلام أيضاً دعوة للأخذ برأي الأكثرية و ترك رأي الأقليّة.(2)

ج - الحكم الديني الدستوري

ذكرنا أن الإسلام يرفض الحكم المطلق بما يعنيه من عدم التزام الحُكّام بالقوانين الإلهية والمواثيق البشرية، ممّن لايهمهم سوى تنفيذ الرغبات العابرة والنزوات الطائشة للحُكّام أو لفئة من الشعب.

و في مقابل الحكم المطلق يأتي الحكم الدستوري الذي يتضمّن معنى الالتزام بالقوانين والمواثيق الرسمية. فقد كان سول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة المعصومون عليهم السلام يشاورون الناس، امتثالاً لِما ورد في القرآن من دعوة إلى مشاورة الناس في أُمورهم. و من الطبيعي أنّ كل الشروط التي يتضمّنها الحكم الدستوري من فصل بين السلطات، و تحديد الصلاحيات، لابُدّ و أن يسري مفعولها على حكومة غير المعصوم. و هذا يعني أن الحكم الديني حكم جماعي و دستوري.

خصائص الحكم الديني

يمكن تلخيص الخصائص التي تتصف بها الحكومة الدينية بما يلي:

1 - بما أن النصب العام للفقهاء في زمان الغيبة (غيبة الإمام المعصوم) مُنتفٍ في مقام الثبوت والإثبات، فهذا يعني أن الحكم الإسلامي في هذا الزمان مُنتخب، و يفوّض إلى أبناء الشعب حق تقرير مصيرهم السياسي، و انتخاب الحاكم من بين من تتوفر فيهم الشروط اللازمة للحُكم.

2 - أن شكل الحكم الديني و كيفية انتخاب الحاكم، و شروط وخصائص المُنْتَخِبين، من الأُمور غير المنصوصة، و قد تركها الشرع للعُقلاء، و هي خاضعة لظروف و مقتضيات كل عصر.

ص:448


1- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 74، ص 252.
2- راجع: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 9 من صفات القاضي، ج 27، ص 106، الحديث 1.

3 - الحكم الديني معاقدة و معاهدة لازمة بين الأُمّة والوالي و تؤيّده الشريعة. والشعب بصفته أحد طرفي هذا العقد يستطيع تضمين هذا العقد اللازم عن طريق مجموعة من الشروط والقيود على الحاكم.

4 - يمكن للشعب تعيين مدّة لرئاسة الحاكم أو الحُكّام ضمن هذا العقد اللازم. و في هذه الحالة و بعد انقضاء المدّة المذكورة، لايبقى للحاكم أية مشروعية دينية أو سياسية، إلا إذا مَدّدها الشعب؛ بمعنى أن ينتخبه مرّة أُخرى.

5 - مثلما يحق للشعب انتخاب الحاكم، يحق له عزله أيضاً، فيما إذا فقد الشروط اللازمة للحكم أو أخلَّ بالتزاماته.

6 - الحالات التي لايوجد في الشريعة نص معيّن عليها، يُقدّم رأي الأكثرية على رأي الأقلية، و لكن لايجوز للأكثرية هضم حقوق الأقلية والتضييق عليها. و لابدّ من الانتباه إلى أن تغليب رأي الأكثرية على رأي الأقلية لايعني الكشف عن الحقيقة، و إنما هو إجراء يُتخذ عند التزاحم والتعارض من أجل الحفاظ على النظم الإجتماعي.

7 - في ظل الحكم الديني يجب أن يرى كل الحُكّام أنهم مسؤولون، و يحق لأبناء الشعب استجوابهم والإشراف على عملهم - عن طريق المؤسسات الشعبية التي تنشأ لهذا الغرض - كما يحق للشعب انتقاد الحُكام، بل إن هذه الممارسة تأتي من باب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» و «النصيحة لأئمة المسلمين». و على هذا الأساس يحق لأبناء الشعب تأسيس أحزاب سياسية و إصدار صحف مستقلّة.

8 - لايحق للحكومة الإسلامية التدخل في الشؤون الشخصية والخصوصية للناس، أو فرض أساليب و أنماط عيش معيّنة عليهم. والناس في مثل هذه الأُمور والمجالات أحرار، ما لم يضرّوا بحقوق المجتمع و أفراده. و واجب الحكومة فقط رسم الخطوط العريضة للحياة، والتوجيه، و توفير متطلّبات الحياة اللازمة للجميع، في إطار ما توجبه الشريعة و مصلحة المجتمع.

9 - على الحاكم الإسلامي - بعد ما ينتخبه الشعب لإدارة المجتمع - أن يجتنب الاستبداد برأيه، و إنّما عليه أن يمارس الحُكم على أساس التشاور و تبادل الآراء. و بعد التشاور

ص:449

يكون المعيار هو ما يستقر عليه رأيه، و يكون هو المسؤول عنه، و لكن يمكن في الدستور تضمين شرط في العقد، يلزمه في بعض الحالات بالأخذ بالرأي الاستشاري لذوي الاختصاص.

10 - القضاء واستنباط الأحكام من المصادر الشرعية يقع على عاتق المجتهدين، و لكن يمكن الاستعانة بآراء الشعب في السلطات الثلاث مع رعاية الضوابط الشرعية.

الاستفادة من التجارب البشرية في الحكم

أمر اللّه تعالى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في القرآن بمشاورة الناس: (وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) . (1) و هذا يعني أن بقية الناس والحُكّام أوْلى و أجدر بهذا العمل حتى و إن كانوا على درجة عالية من النبوغ. و قد يعترض البعض و يقول: إنّه لو كانت الشورى والانتخاب من قبل الأُمّة مصدراً للولاية شرعاً، لكان على الشريعة الإسلامية تثقيف الأُمّة و تنويرها بالنسبة إلى هذا الأمر، و بيان حدوده و شرائطه و كيفياته. و يمكن أن يُجاب على هذا الاعتراض بالقول:

أولاً - وردت توصيات حول مبدأ التشاور و أطراف المشاورة. ثانياً - من ميزات الدّين الإسلامي عدم تحديد الشورى والانتخاب بحسب الكيفية، و عدم مواصفات الناخب كماً و كيفاً و غير ذلك، و عدم صوغهما في قالب معيّن، حيث أراد الشارع بقاءها إلى يوم القيامة و انطباقها على مختلف الأعصار.(2) و بإلاضافة إلى ذلك، فإنَّ أُسلوب القرآن هو عدم الدخول في التفاصيل والجزئيات، فالقرآن لم يتطرق إلى بيان الجزئيات حتى في الأحكام العبادية مثل الصوم والصلاة.

لقد طرح الإسلام مبدأ الشورى و لزوم التشاور، و لكنّه ترك كيفية ذلك إلى عقلاء كل قوم و في أي زمان، والغاية هي توظيف ثمرة العقل الجماعي لصالح المجتمع الإسلامي.

و لاشكّ في أن تجاهل التشاور ظلم للأُمّة.

أمّا الاستفادة من تجارب الأُمم الأُخرى واستقاء العبر من تاريخ الأقوام المختلفة فهو

ص:450


1- - سورة آل عمران (3)، الآية 159.
2- - لمزيد من التفصيل، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 548 فما بعدها.

ممّا أكّدت عليه الشريعة المقدسة. و هذا ما يستلزم طبعاً دراسة تاريخ الحضارات البائدة والحاضرة، والتنقيب في الجوانب السلبية والإيجابية فيه. فالتجارب البشرية تكشف لنا أن حُبّ التسلّط من الغرائز التي لاتعرف الحدود، و فيها من المغريات أكثر ممّا في غيرها، و هذا ما يجعل منها خطراً يفوق غيره من المخاطر. و لذلك يجب اتّخاذ كل التدابير الوقائية لكبحها والسيطرة عليها، و من جملة ذلك الفصل بين السلطات، و حريّة الصحافة، و تحديد مدّة معيّنة لها، و غير ذلك من الإجراءات والأساليب التي كشفت عنها التجارب البشرية.

و من ناحية أُخرى، لدى الشعوب المتقدّمة في عالم اليوم تجارب يمكن أن تكون ذات فائدة للدول المتخلّفة. و هذا يستلزم طبعاً الأخذ بأساليبهم و مناهجهم مع رعاية القيم والخصائص الثقافية.

الفصل بين السلطات

من التجارب البشرية المفيدة هي فكرة الفصل بين السلطات، و عدم تركيز السلطات كلّها بيد شخص واحد. و مع أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و أميرالمؤمنين عليه السلام كانا يجمعان في أيديهما منصب الإفتاء (التشريع)، والتنفيذ، والقضاء، و لكنّهما كانا معصومَيْن، إضافة إلى أن الحكومة كانت بسيطة و بعيدة عن التعقيد الذي تتصف به الحكومة في الوقت الحاضر.

و تركيز السلطة بيد غير المعصوم يؤدّي إلى الفساد عادة. و أفضل الحلول لمعالجة مشكلة الاستبداد و إدارة شؤون البلاد على نحو سليم، هو أن يتم الفصل بين السلطات، بحيث تكون كل واحدة من السلطات مستقلة و لها طاقاتها و مقدّراتها - وفقاً لِما يرسمه القانون ورأي الشعب - و لاتتدخل أي منها في عمل الأُخرى.

و لاشكّ في أنّ إشراف كل واحدة من السلطات على الأُخرى، واستقلال كل واحدة منها عن الأُخرى يأتي بنتائج طيّبة للمجتمع، و من تلك النتائج تقليص النفقات بسبب تحاشي تكرار الأعمال. ثم إنّ كل واحدة من هذه السلطات تستمد مشروعيّتها من إرادة الشعب، و هناك علاقة منطقية بين مناصب الأفراد و مسؤولياتهم أمام أبناء الشعب، و بالنتيجة يحترز الحُكّام من النزعة الذاتية التي تتعارض عادة مع إرادة الشعب، إضافة إلى ذلك يترسّخ

ص:451

الانسجام بين الشعب والحكومة.

و أما السلطة القضائية فإنّها إذا كانت مستقلّة عن الحكومة فستكون ملاذاً لكل من يشعر بالغبن. و هناك ينبغي أن يتساوى الحاكم مع غيره من أبناء الشعب في الدعاوى و إعطاء كل ذي حق حقّه، ليشعر الناس كلهم بالاستقرار والأمن النفسي.

و لاشكّ في أنَّ أحد السُبُل الكفيلة بمنع وقوع الفساد هو التوزيع السليم للمقدّرات بين أبناء الشعب، والتوزيع الصحيح هو أن لايوضع أي فرد أو فئة في موضع يجعله يشعر بالطغيان؛ إذ ليس من الصحيح توفير كل موجبات الطغيان و أسبابه و لوازمه لشخص ثم يُطلب منه العفاف والورع والزهد و عدم ممارسة سلطته المطلقة. فالشأن الاجتماعي لايُبنى على الاحتمالات الضعيفة، و على الاستثناءات. بل لابُدّ من إتّخاذ التدابير العملية لتلافي الفساد والطغيان، لكي تنتفي موجباته و دواعيه من الأساس.

و يتّضح من خلال النظرة العامّة، و في ضوء نظرية الانتخاب في الحكم الإسلامي - في زمان غيبة المعصوم - يحق للشعب أن يبايع الحاكم وفقاً لعقد معيّن، و وضع أي شرط لايتعارض مع الشريعة، و على الحاكم أن يلتزم بما يشترطه عليه الشعب. و من جملة ذلك يمكن للشعب تضييق صلاحيات الحاكم أو توسيعها، و فصل المناصب السيادية و توزيعها على عدّة أشخاص، أو تعيين مدّة محدّدة لبقائهم في السلطة، أو إيكال مهمة الإشراف على القوانين إلى شخص، و إيكال مهمة تطبيقها إلى شخص آخر، أو اختيار شكل آخر لحكومتهم الدينية.

و على هذا الأساس يمكن أن تكون للحكومة الدينية أشكال شتّى بما يتناسب مع متطلّبات كل زمان.

الحكومة: وكالة أم ولاية

أ - الوكالة، عقد جائز

الوكالة اصطلاحاً عبارة عن عقد جائز يُبرم بين الموكّل والوكيل، و على أساسه تُفوّض إلى الوكيل صلاحيات من الموكّل لكي يمارسها نيابة عنه. و هذا التفويض يسمح طبعاً

ص:452

للموكّل بممارسة الإجراءات نفسها في ما يخص مورد الوكالة؛ بمعنى أن هذا العقد لايسلب الحق من الموكّل، و يحق لكل واحد منهما القيام بالعمل في ما يخص مورد الوكالة، و متى ما شاء الموكّل يمكنه عزل الوكيل وسلب الصلاحية منه، و لكن قلّما يشاهد وجود مثل هذه العلاقة في سياقات عمل الحكومة؛ إذ غالباً ما يحصل الوكلاء من موكّلهم على حق ممارسة دورهم، بدون أن يكون للموكّلين حق عزلهم - طيلة مدّة التوكيل أو النيابة - أو يكون لهم حق ممارسة دورهم في مورد الوكالة.(1)

المناصب الحكومية التي فوّضها و يفوّضها أبناء الشعب لنوّابهم، تتخذ في الحقيقة حالة تختلف عن الوكالة باصطلاحها الشرعي، و تتشابه معها في الاسم فحسب. فالانتخابات أو مبايعة الحاكم و إن كانت تعني توكيل الأُمور و تفويضها إلى شخص آخر، غير أن هذا يختلف اختلافاً أساسياً عن مسألة الوكالة، و يبدو أنه لايمكن اعتبار قضية الحكومة نوعاً من أنواع الوكالة.

إذا اعتبرنا أي نوع من تفويض الاعمال للآخرين و كالة، فهذا المعنى يشمل أيضاً الإجارة واستخدام الأجير والعامِل لإنجاز الاعمال الشخصية، في حين أنّ الرأي الفقهي لايقصد هذا النوع من التوكيل طبعاً. و هذا الاختلاف موجود في تفويض الشؤون الاجتماعية أيضاً.

ب - الحكومة، عقد لازم

إنّ طبيعة الحكومة تقتضي اللُّزوم والثبات؛ و إلّالايتسنّى إقرار النظم الاجتماعي. و لهذا فإنّ الطريقة الأساسية وربّما الوحيدة في سيرة العقلاء وتاريخ الحكومة هي اعتبار العلاقة والقوانين ذات الصلة بالحكومة والشعب أُموراً إلزامية.

والعقود اللازمة قد تكون دائمية، تارة، و قد تكون مؤقتة تارة أُخرى، و قد تكون مطلقة حيناً و مقيّدة حيناً آخر؛ أي لايمكن إلغاء العقد بدون دليل و مستند قانوني، و يكون

ص:453


1- في الحكومة الدينية يثبت هذا الحق للحاكم طالما لم يفقد الشروط اللازمة لتولّي المسؤولية، و مادام ملتزماً بمفاد مبايعة الشعب له.

الطرفان ملزمان بمفاد العقد و مستلزماته.

رجال الحكومة يجب أن يتمّ انتخابهم من قبل أبناء الشعب - بشكل مباشر أو غير مباشر - و حكم الناس بدون رضاهم عمل غير مشروع. في الماضي كانت هناك استثناءات في أصل الانتخاب، و هو أن اللّه عزّوجلّ كان يصطفي الصالحين للحكم، و لكن موافقة الناس و رضاهم كان سبباً لتحقق إرادة اللّه، بحيث إنّهم إذا كانوا لايرتضون الحاكم، فإنّه لايصل إلى سدّة الحكم. جاء في القرآن الكريم: (إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) . (1) و هذا كان يتعلّق ببني إسرائيل و جاء في أعقاب إخفاقهم في الوصول إلى نتيجة في انتخاب حاكمٍ، و تتحقق بعد رجوعهم في هذا الأمر إلى نبيّهم، و قد عُرضت لهم الأدلّة الموجبة لتفضيله على سائر الناس و هي أنه: (وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ) .(2)

و في غدير خم طُرحت هذه القضية أيضاً، و عُيّن أميرالمؤمنين عليه السلام بأمر اللّه إماماً للمسلمين، مِن قِبل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و أُخذت منهم البيعة له. و هذا العقد الإلهي تحقق في الواقع الخارجي من خلال بيعة الناس لبسط الحكم الإسلامي في العالم على يد أميرالمؤمنين عليه السلام و أولاده الطاهرين، و لكن بعد رحلة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نُقضت بيعة الغدير بتحرّك سياسي، و على أثر ذلك تصدّى آخرون لأمر الحكومة.

ج - الولاية مستقاة من العهد والميثاق

في بحث الحكومة، تعني الولاية: الإمارة والرئاسة الظاهرية، والتصدّي لمناصب حكومية رسمية. إنَّ التصدّي لشؤون الحكومة - و هو أمر يعود لأبناء الشعب أنفسهم و يُفوّض إلى أفراد معيّنين انطلاقاً من ضرورة الحياة الاجتماعية و تعذّر تصدّي جميع الناس للأعمال الاجتماعية - لايحصل من دون توافق والتزامات متبادلة ولو أن أحداً تصدّى لأمر الحكومة بدون موافقة الشعب، و لم يتخذ الشعب أي موقف معارض له، يكون ملزماً عقلاً و عرفاً بالالتزامات والشروط العامّة للحكومة الصالحة، حتى و إن لم يكن هناك عقد رسمي.

و بعبارة أُخرى: إنَّ الحكومة نفسها بصفتها سلوكاً عقلانياً تستلزم مجموعة من الشروط،

ص:454


1- - سورة البقرة (2)، الآية 247.
2- سورة البقرة (2)، الآية 247.

و يمكن تضييقها أو توسيعها في عقد رسمي. و لذلك هناك في ولاية القضاء أو ولاية الإفتاء أو ولاية التنفيذ، شروط عرفية و عامّة وعقلية إلى جانب شروط العقد (الشرعية أو العقلية)، و هي التي تعيّن واجبات المتولّين.

و أمّا قولنا: إنّ الولاية المنبثقة من عهد و ميثاق أو من عقد لازم التنفيذ، فمعنى ذلك أنه لايحق لأحد التخلّف عن العقد، سواء كانت عقود الشريعة المقدّسة مع الشعب، أو بعقود بشرية وضعية صرفة، و حقوق الحكام والشعب - فضلاً عن الموارد التي عيّنها اللّه - إنّما تكون بناءً على ما يرتضيه و يقرّه الطرفان.

في الحكومة الدينية لابُدّ من رعاية المستلزمات العقلائية للحكومة، و منها ضرورة رضا الشعب و قبولهم العملي؛ و ذلك لأن الحكومة أمر تبعي و ليس أصلياً، والمعيار الأصلي لها ممارسة حق سيادة الشعب، و لايمكن تحقيق سيادة الشعب بالقوة والإكراه.

سيرة العقلاء في كل العصور والبلدان مبنية على الدوام على أساس أنه توضع في كل منطقة مجموعة من الأنظمة والقوانين بهدف إيجاد النظم الاجتماعي، و تأمين المصالح العامّة و منع الاعتداء والظلم، ثم يختارون الفرد أو الأفراد الصالحين من بينهم لتطبيقها.

و هذا يعني أنه يُبرم بينهم و بين ذلك الفرد أو الأفراد عقد اجتماعي. و نلاحظ أنّ القرآن والسُنّة قد أقرّا هذه السيرة و أمضياها استناداً إلى مفاد الآية الشريفة: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1) و (أَوْفُوا بِالْعَهْدِ) . (2) و بهذا تثبت مشروعية هذا العمل. و معنى هذا الكلام أن أمر الحكومة ليس أمراً شرعياً أو أن الشريعة قد أسّسته، و إنما هو أمر عرفي وعقلائي و شأنه شأن سائر العقود الاجتماعية. و أصبح متداولاً بين الناس بسبب الضرورة والحاجة، و لم ترفضه الشريعة المقدّسة.

و عندما ينصب اللّه أشخاصاً لأمر الحكومة - كالأئمة المعصومين عليهم السلام - تجب على الناس طاعتهم، و يصبح حكم غيرهم فاقداً للشرعية. و في زمان عدم وجود الإمام المعصوم وُضعت للحاكم المُنتخب مجموعة من الشروط التي يجب أن تتوفر فيه رعاية للمصالح العامّة، و يجب على المنتخبين إحراز توفّرها فيه.

ص:455


1- - سورة المائدة (5)، الآية 1.
2- سورة الاسراء (17)، الآية 34.
د - البيعة و دورها في شرعية الحكومة

«البيعة» و «البيع» مترادفان من حيث المعنى اللُّغوي، و لكن أُطلقت كلمة البيعة اصطلاحاً، على العقد الذي يُبرم بين الناس والحاكم. و مثلما يفعل الناس في عملية البيع والشراء، و يتفحّصون و يدقّقون في الأشياء التي يريدون شراءها، ثم يتوافقون على أسعارها، ثم يجرون عقد البيع والشراء برضىً و توافق، و إذا أرادوا وضع شروط أُخرى، فإنّهم يدرجونها في العقد، و هكذا تجري الأُمور في البيعة بين الناس والحاكم أو الحُكّام.

الفارق الوحيد بين ما كان يسير عليه الماضون، و بين ما هو سائد اليوم، هو كيفية البيعة.

ففي الماضي كانوا يضعون أيديهم في أيدي الحكام و يضغطونها كدلالة على البيعة. أما اليوم فتتم البيعة عن طريق الانتخابات والتصويت لمن يرشّحون أنفسهم للانتخابات، وفقاً لمجموعة من الشروط القانونية المتّفق عليها كالدستور مثلاً.

و من الطبيعي أن الحكم يتوقّف على انتخاب الشعب و موافقته. بل حتى الصالحون الذين ينصبون من قِبل اللّه إذا لم يرتضهم الناس لايمكنهم إقامة حكومة. نذكر على سبيل المثال أن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عندما كان في مكّة لم تتوفر له الظروف لإقامة حكومة، و لكنّه بعدما التقى في العقبة الثانية بثلاثة و سبعين من رجالات أهل المدينة في موسم الحج، و قرأ عليهم مجموعة من آيات القرآن الكريم و دعاهم إلى الإسلام، استجابوا له، و قال لهم:

«أُبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم و أبناءكم» فبايعوه على ذلك ثم انّهم اختاروا بأمر النبيّ من كبارهم اثني عشر رجلاً ليضطلعوا بدور الإشراف على الآخرين، و يكونوا حلقة وصل بينهم و بين النبيّ. و هذه البيعة مهّدت لإرساء أُسس حكومته في المدينة، و كانت في الواقع بمثابة عقد اجتماعي بينه و بين أهل المدينة. و بعد دخول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة أُبرمت عهود مع يهود المدينة من أجل التعايش السلمي معهم ورعاية حقوقهم. و بعد ما فتح النبيّ مكّة و بايعه الرجال فيها، طلبت النساء البيعة أيضاً، وارتضى النبيّ بيعتهنَّ.

و حصل مثل هذا في حكومة أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً؛ أي رغم أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان قد

ص:456

طرح خلافة عليّ عليه السلام في مواقف متعددة، غير أنه بعدما نصبه بأمر اللّه تعالى للخلافة في غدير خم، أمر الناس بمبايعته، فبايعوه.

و بعد مقتل عثمان، هرع الناس إليه و بايعوه و قبلوا حكومته. و قد أشار هو عليه السلام عدّة مرّات إلى بيعة الناس له، واحتجّ بها.(1)

و قد ورد في روايات كثيرة أنّ الإمام المهدي (عج) بعدما يَظهر، يبايعه الناس، ولو لم يكن للبيعة تأثير في تحقيق الحكم، لَما كان كلّ هذا التأكيد عليها من قبل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة المعصومين عليهم السلام، و لَما أخذها القرآن بنظر الاعتبار.

و لما امتنع الإمام الحسين بن علي عليه السلام عن قبول حكومة يزيد بن معاوية و عن مبايعته - و هو ذلك الموقف الذي انتهى به إلى ثورة عاشوراء - قال في كلام له: «مثلي لايُبايعُ مثله».(2) ولو لم يكن للبيعة إلزام شرعي، لَما كان سيد الشهداء قد رفضها كل ذلك الرفض.

و نشير أخيراً إلى أن تحقيق الحكومة في الواقع الخارجي في زمان غيبة الإمام المهدي (عج) يتوقف على رضا الناس عن الحاكم و انتخابهم له، و لكن هذا لايعني أن كل حكومة يرتضيها الناس، حكومة مشروعة في نظر الدّين. فبحكم الشرع والعقل يجب أن تتوفّر في الحاكم شروط خاصة. و من الطبيعي أن الحكم يدوم فيما إذا لم يكن ظالماً و يرعى حقوق الناس، حتى و إن كان الحاكم كافراً. و هذا ما استجلاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «الملك يبقى مع الكفرِ و لايبقى مع الظلم».(3)

القيد الزماني للمناصب الحكومية

في الماضي، و حتى قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام كان هناك حكّام يستمر حكمهم مدى الحياة، و كانت هناك أيضاً حكومات توكل المناصب والمسؤوليات للأفراد لمدد محدودة،

ص:457


1- يمكن في هذا الخصوص الرجوع إلى خطب نهج البلاغة، خاصة الخطب 3، 8، 34، 137، 172، 218 و 229، والكتابين 6 و 54.
2- المجلسي، بحارالأنوار، ج 44، ص 325.
3- وردت هذه الرواية بهذا المضمون بكثرة في المصادر الشيعية، و لكن وردت بهذا التعبير في كتاب الغزالي، نصيحة الملوك، ص 82.

ثم توكل بعد انتهاء المدّة إلى غيرهم. و في أكثر الحكومات في عالم اليوم تحدد مدّة زمانيّة معيّنة للأفراد الذين يتسلّمون مناصب مثل رئاسة الجمهورية، و مجلس النواب و حتى القضاء.

و ليست هناك في مصادرنا الدينية دلالات صريحة - بشأن غير المعصومين - حول مدّة الحكم والسلطة و هل تكون دائمية أم مؤقّتة. و يبدو أن هذا الأمر متروك لفهم عقلاء كل قوم، ليقرروا أفضل السُبُل على أساس مصالح و تجارب البشر. و لاتخفى اليوم أفضلية و رجحان تحديد مدّة التصدي للحكم، على الحكم مدى الحياة، و ذلك من أجل أن يكون من الممكن استبدال الحكّام في حالة مخالفتهم للدستور، بحكّامٍ أكفأ و أصلح، و لكن عندما يكون تولّي الحاكم للحكم مدى الحياة، يضمحل هذا الاحتمال كثيراً، و كثيراً ما يميل الحاكم إلى الاستيلاء على كل مراكز القوّة، و يفرض عليها سلطته. و من الطبيعي أن عزل مثل هذا الحاكم ليس بالأمر الهيّن فكثيراً ما يلحق بالمجتمع خسائر فادحة.

السُبُل القانونية لعزل الحاكم

بما أن الناس غير معصومين، و معرّضون لكثير مِن الأخطاء في حياتهم الفردية والاجتماعية، فلابّد من البحث عن سبيل لعزل من ينبغي عزله عن السلطة والحكم، بشكل لايؤدي إلى إثارة الفوضى، من جهة، و يؤدّي من جهة أُخرى إلى إغلاق طريق الاستبداد والتفرّد بالسلطة.

فمع أن خروج الحاكم عن الدستور و عن قبول الشعب له، و فقدانه الأهلية الشرعية والقانونية، يجعله غير مؤهل للاستمرار في الحكم، لابُدّ من وجود طريقة قانونية لعزله عن الحكم. فإذا رفض الحاكم التخلّي عن السلطة، لابُدّ أن تكون مفاصل الحكم موزّعة على نحو يتيح ممارسة عملية العزل عند الحاجة إليها.

إن ما ورد في التعاليم الدينية، سواء كانت آيات أم روايات، حول الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها سلوك الحُكّام، أو الحالة التي يُفترض أن يكون عليها موقف الشعب إزاءهم، غالباً ما يتركّز حول مفاد ما ورد في حديث نبوي شريف و هو: «اِذا خَالَفَ الاَميرُ امْرى،

ص:458

فَاجْعَلُوا مَكانَهُ مَنْ يَتَّبِعُ امْرى».(1)

عندما ينهى القرآن عن قبول حكم الطاغوت: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ، (2) أو يرفض تسلّط منكري الحق والحقيقة على المسلمين تحت قاعدة «نفي السبيل» التي ترسمها الآية الشريفة (وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ، (3) أو حينما تتحدث الروايات عن تعذيب من يحجبون حق مؤمنٍ «مَنْ حَبَسَ حَقَّ الْمؤمِن... ثُمّ يُؤمَرُ بِهِ الَى النّار»،(4) فهذا في الحقيقة يبيّن للناس سبيل بقاء أو نفي هيمنة أصحاب القدرة على شؤون الناس.

و على هذا الأساس لابُدّ أن يؤخذ بالحُسبان أُسلوب حلٍّ عملي و قانوني في العقد الرسمي للحكومة (الدستور) لعزل الحُكّام. و من الطبيعي أن تحديد التصدّي للمناصب بمدّة معيّنة يمثّل طريقاً للحل لتخلّص الشعب من السلطة الفردية التي تخرج عن المسار الصحيح، و لكن ينبغي أيضاً أن يؤخذ بنظر الاعتبار سبيل للعزل قبل الموعد المقرر فيما إذا اقتضت الضرورة ذلك، لكي تجري هذه العملية بلا تبعاتٍ سلبية أو أضرار اجتماعية.

أما كيفية الوصول إلى الوضع المطلوب فينبغي انتزاعها والعمل بها في ضوء معطيات التجارب البشرية، و لكنّ النصوص والأحكام الدينية قد بيّنت أيضاً الحالات التي ينبغي فيها تجريد الحاكم من صلاحيّاته، و منها نقض العهد، و فقدان الشروط اللازمة للمسؤولية، والمخالفات الحقوقية والجزائية و ما شابه ذلك. و بعض هذه الحالات تابعة للقانون و للشروط التي توضع حين الانتخاب.

شروط الحاكم

اشارة

الجهة التي تثبت الشروط المعتبرة في الحاكم، العقل والنقل (يشمل الكتاب والسُنّة).

و لاشكّ في أن الشروط العامّة للحاكم مشتركة لدى جميع الشعوب والدول. و إذا كان هناك

ص:459


1- المُتّقي الهندي، كنز العمال، ج 5، ص 798، الحديث 14415.
2- - سورة النساء (4)، الآية 60.
3- - سورة النساء (4)، الآية 141.
4- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 367، الحديث 2.

أيُّ فارق بينها في هذا المجال فهو لايتعدّى الشروط الخصوصية. و قد سبق ذكر بعض هذه الشروط في الجانب الاخلاقي عند شرح أخلاق المسؤولين، و لكن توضيح بعضها الآخر مفيد هنا.

و قد ذهب عقلاء العالم إلى اعتبار عدّة شروط يلزم توفّرها فيمن يتصدّون لمناصب حكومية، و هي العقل والتدبير، والتخصص في علم يرتبط بمسؤوليتهم، والكفاءة التنفيذية، والمقدرة الجسمية والنفسية، والأمانة، والعدالة.

و هذه طبعاً من الأُمور العقلية التي يدرك كل عاقل أنّها يجب أن تتوفر في الحُكّام، و لاحاجة لأمر شرعي في هذا المجال.

و هناك شروط أُخرى ترى الشريعة المقدسة ضرورة توفّرها فيمن يحكم المسلمين، لتكون مدعاة لمزيد من وثوق الشعب بالحاكم و ذوي المناصب، و هي:

أ - الإسلام والإيمان

و هذا شرط وضعه الدّين بالنسبة إلى من يتولّى حكم المسلمين، و هو أن يكون مسلماً و مؤمناً بالدين و أحكامه، و لايتصدّى لهذا المنصب من لم يكن مؤمناً. جاء في القرآن الكريم:

(وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) . (1) و جاء في آية أُخرى من القرآن أيضاً: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْ ءٍ) .(2)

و لاشكّ في أنّ هذا الشرط أساسي، و من غير المنطقي أن يتصدّى غير المؤمن لمنصب حكومي مع وجود أُناس متدينين. و إذا كان الإيمان شرطاً في مناصب اجتماعية صغيرة مثل إمامة الجماعة، فمن الأُولى أن يؤخذ هذا الشرط بنظر الاعتبار في مناصب اجتماعية أكبر و أهم.

و فضلاً عن ذلك، هناك شروط أُخرى لابُدّ منها لبعض المسؤوليات كطهارة المولد، و قد وردت في النصوص الدينية، و يؤدي توفُّرها في الحاكم إلى مزيد من ثقة أبناء الشعب بالحكومة الدينية.

ص:460


1- - سورة النساء (4)، الآية 141.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 28.
ب - النضوج العقلي

بغض النظر عن الدليل العقلي وسيرة العقلاء، تؤكِّد النصوص الدينية على لزوم النضوج العقلي للحاكم، و عدم إيكال الأُمور إلى السفيه أو الضعيف العقل. قال تعالى: (وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً) . (1) فمن الواجبات الأساسية للحاكم توفير و توزيع المقدّرات المالية والاقتصادية. و من الواضح أن الأمن والكرامة أثمن من المستلزمات المادية. و لهذا فمن الأُولى أن لاتُجعل بيد السفهاء.

روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «لايَكونُ السَّفيهُ امامَ التّقي».(2)

و جاء في حديث عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «اِذا ارادَ اللّهُ بِقَوْمٍ شَرّاً وَلّى عَلَيْهِم سُفَهاءَهُمْ...».(3)

و بيّن أميرالمؤمنين عليه السلام في كلام له أن المراد من العقل ليس العقل العام؛ و ذلك لأنّ ضرورته من البديهيات، و إنّما المراد، النضوج العقلي، أو العقل المتكامل القادر على إدراك الأُمور المعقّدة، و على التدبير الحكيم: «لَيْسَ الْعاقِلُ مَنْ يَعْرِفُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرّ، وَ لكِنَّ الْعاقِلَ مَنْ يَعْرِفُ خَيْرَ الشَّرَّيْن».(4) العاقل هو من لايتوقف في حياته الاجتماعية عند مفترق طريقين، و إنّما يسلك الطريق العقلاني في خِضَمِّ حركة المجتمع حين يضطر إلى مجاراتها.

و في مجال الحكومة تحصل حالات كثيرة، يُرغم المرء فيها على الاختيار بين الضرر القليل، والضرر الكثير، مع الانتباه إلى أن أي إهمال أو تساهل يلحق ضرراً فادحاً بالدين والدولة. والحاكم الذي يرتضيه الدّين هو من يستطيع إدراك الأُمور المعقّدة والدقيقة. و هذا ما يعبّر عنه باسم النضوج أو البلوغ العقلي، أو حسب تعبير القرآن: (وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً) .(5)

ص:461


1- - سورة النساء (4)، الآية 5.
2- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 175، الحديث 2.
3- المُتّقي الهندي، كنز العمال، ج 6، ص 7، الحديث 14595.
4- - المجلسي، بحارالانوار، ج 75، ص 6، الحديث 58.
5- سورة يوسف (12)، الآية 22.
ج - حُسن التدبير والسياسة

هناك بَوْن شاسع بين الأعمال الحكومية من حيث سعة مجال المسؤولية الاجتماعية، و بين الأعمال الفردية. و كلّما كانت الجماعات تحت سلطة أوسع، يكون وضع الخطط أصعب، و تنفيذها يتطلّب مزيداً من الدقّة والبحث، و تكون الأرقام أضخم، و مديات التعديل والموازنة أدق، و ترتيب الأُمور أعقد، و إدارتها أصعب. و من الواضح أن أصحاب المناصب الحكومية لايستطيعون، من دون تدبير و أنظمة صحيحة، إدارة شؤون المجتمع على نحو منظم و متطوّر، وضمان سعادة و كمال أبنائه. و حتى لو كانت كل القطاعات الاجتماعية تؤدّي عملها بشكل جيّد على نحو انفرادي، مع انعدام النظم والتدبير والانسجام الصحيح على الصعيد العام، فمن المؤكّد أن ذلك المجتمع ينحدر نحو الهبوط، و لايذوق طعم السعادة.

أهم الشروط العملية لتسلّم منصب حكومي - من الوجهة العقلية والشرعية - بعد العقل والنضوج، هو حُسن التدبير. فقد يكون بعض الناس ناجحين في أعمال اجتماعية صغيرة أو شؤون فردية، و لكنهم يفشلون في إدارة شؤون اجتماعية كبيرة. قال أميرالمؤمنين عليه السلام «سبب التدمير سوء التدبير».(1) و قال: «قِوامُ الْعَيْشِ حُسْنُ التَّقْديرِ و مِلاكُهُ حُسْنُ التَّدْبير».(2)

حُسن السياسة والتدبير الصحيح يؤدّي إلى تماسك المجتمع، و تلاحم أبناء الشعب، و استقرار النظم الاجتماعي: «حُسْنُ السّياسَة قِوامُ الرَّعِية».(3) و حتى لو كان لدى الشعب اقتصادية هائلة، فإنَّه يقع ضحية للفقر والانحطاط والتخلّف فيما إذا انعدم التدبير، في حين أن حُسن التدبير يرفع الشعوب و يسير بها قُدُماً حتى و إنّ كانت فقيرة. «اَلْقَليلُ مَعَ التَّدْبيرِ ابْقى مِنَ الْكَثيرِ مَعَ التَّبْذير».(4) و جاء في حديث أيضاً أن سبب سقوط الدول و زوالها هو سوء التدبير.(5) و صرّح بأنّ «من ساء تدبيره تعجل تدميره».(6)

ص:462


1- - الآمدي، غرر الحكم، ص 354، الحديث 8088.
2- المصدر السابق، الحديث 8084.
3- - المصدر السابق، ص 331، الحديث 7616.
4- - المصدر السابق، ص 354، الحديث 8079.
5- المصدر السابق، الحديث 8096.
6- المصدر السابق، الحديث 8091.
د - العلم والإجتهاد

أحد الشروط المهمة التي يجب أن تتوفر في الحاكم الإسلامي هو أن يكون لديه علم و تخصص في أحكام الأعمال التي يتكفّل بها، بحيث تكون لديه إحاطة تامة بالمهمّة الموكلة إليه؛ و ذلك لأن الحكم الإسلامي يجب أن يجري على أساس قوانين الإسلام. و هذا طبعاً من الشروط التي يؤكّدها العقل والعقلاء و أقرّتها الشريعة المقدّسة؛ و سبب ذلك هو أن تصدي الجاهل و غير الواعي لأية مسؤولية يعدّ عملاً غير حكيم، و يتعارض مع الغاية من وجود الحكومة الإسلامية.

بيَّن القرآن الكريم معيار أفضلية طالوت على غيره في التصدّي لزمام الحكم، حين قال:

(وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ) . (1) و هذه القضية على درجة من الوضوح بحيث إنّ الباري عزّوجلّ طرحها لحكم الآخرين و قضائهم فيها: (أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) .(2)

و قد ورد في أحاديث شريفة متعددة كلام مفاده أن من سابق غيره للتصدّي لمنصب، و كان بين الآخرين من هو أعلم منه، إنّما يكون سبباً في ضلال الناس و انحطاط المجتمع.

و هناك أحاديث أُخرى مثل: «مَنْ دَعَا النّاسَ الى نَفْسِهِ وَ فيهِمْ مَنْ هُوَ اعْلَمُ مِنْهُ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضالّ»،(3) و قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَا وَلَّتْ امَّةٌ امرَها رَجُلاً قَطّ وَ فيهِمْ مَنْ هُوَ اعْلَمُ مِنهُ الّا لَمْ يَزَلْ امْرُهُم يَذْهَبُ سِفالاً حتّى يَرجِعُوا الى ما تَرَكُوا»،(4) تبيّن بكل وضوح مدى اهتمام الدّين بالعلم والتخصص إلى حد أنه اعتبر انحطاطهم ناتجاً عن هذا الإهمال.

في الحكومة الإسلامية، لاتنحصر الشروط الأساسية للحاكم في التخصُّص والاجتهاد البسيط، بل يشترط أن يكون هو الأعلم في الفقه والاجتهاد. و من واجب الفقهاء و علماء

ص:463


1- - سورة البقرة (2)، الآية 247.
2- سورة يونس (10)، الآية 35.
3- - الحرّاني، تحف العقول، ص 375؛ النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 8 من أبواب جهاد العدو، ج 11، ص 29، الحديث 3.
4- - النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، المصدر السابق، ص 30، الحديث 4.

الدّين - طبعاً - فيما يخص أمر الحكومة، الإشراف على التنفيذ الدقيق لأحكام اللّه في المجتمع، و خاصة من قِبل أصحاب المناصب الحكومية، و ليس من الضروري أن تكون الشؤون التنفيذية في أيدي الفقهاء. ويُفهم من هذا أنّ مناصب الإشراف الأساسية في الحكومة الدينية، لابُدّ أن تكون بيد الفقيه الأعلم - أو شورى الفقهاء الذين يجب أن يكون الأعلم أحدهم - استناداً إلى آراء أكثرية الشعب للحيلولة دون التخلّف عن تنفيذ أحكام اللّه. و هناك أحاديث كثيرة دالّة على هذا المعنى، و قد ورد ذكرها بالتفصيل في كتاب ولاية الفقيه.(1) و جاء في رواية صحيحة عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إنَّ أبي قال - و كان أفضل من على الأرض و أعلمهم بالقرآن - إنّ نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم قال: إنّ من دعا الناس إلى نفسه بالسيف و كان في المسلمين من هو أفضل منه، فهو ضال متعسّف.(2)

و جاء في تفسير النعماني عن أميرالمؤمنين عليه السلام في بيان صفة من يتولى إمامة المسلمين، عند ذكر الصِفة الثانية التي يجب توفّرها فيه، و هي أنه يجب أن يكون أعلم الناس بحلال اللّه و حرامه و ما يحتاجه الناس.(3)

و ورد في حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «مَنِ اسْتَعْمَلَ عامِلاً مِنَ الْمسلِمينَ وَ هُوَ يَعْلَمُ انَّ فيهِمْ اوْلى بِذلكَ مِنْهُ وَ اعْلَم بِكِتابِ اللّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ فَقَدْ خانَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ جميعَ الْمسلِمين»(4) و قال سيد الشهداء عليه السلام في خطبة منقطعة النظير حول العلماء: «مَجارِي الأُمور وَالْأحْكام عَلى ايْدِي الْعُلَماءِ بِاللّهِ الْاُمَناءِ عَلى حَلالِهِ وَ حَرامِه».(5)

إنَّ ما جاء في رسم معالم الحكومة الإسلامية تحت عنوان ولاية الفقيه - في شكلها الحالي - أو ما يُذكر بشأنها في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، يمثّل نموذجاً لحكومة دينية يمكن أن تكون هناك نماذج أُخرى لها، و لكنّ الشيء المسلّم به الذي لايمكن تجاهله هو ضرورة تطابق التشريعات الحكومية مع أحكام الدّين، و هذا يستدعي بطبيعة الحال إشراف الفقهاء و أصحاب الاختصاص في أحكام الدّين.

ص:464


1- - دراسات فى ولاية الفقيه، ج 1، ص 302-318.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، ج 15، ص 42، الحديث 2.
3- المجلسي، بحارالأنوار، ج 90، ص 44 و 45.
4- - سُنن البيهقي، ج 10، ص 118.
5- الحرّاني، تحف العقول، ص 238.
ه - العدالة

يوصف بسط العدالة بأنه أحد أهداف الأنبياء و هو الغاية من إرسال الأنبياء عليهم السلام:

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ) . (1) و لاشكّ في أن بسط العدالة يتطلب أن يقوم به عادل و مُنصِف. و من لايتّصف بالعدل والإنصاف لايمكن أن يقيم العدالة. و إذا كانت الحكومة الدينية تمهيداً لتطبيق أحكام الدّين، فلابّد أن يكون القائمون عليها قادرين على تطبيق أحكام الدّين و تشريعاته. و من يعجز عن النهوض بالتكاليف الفردية، لايرتجى منه أن يكون قادراً على بسط العدالة.

لاشكّ في أن اهتمام الإسلام بشرط العدالة في أدق الشؤون الاجتماعية و أعظمها يعزى إلى خاصيّة نفسية في بني الإنسان و هي أنَّ من يفتقد فضيلة فإنَّ هذا النقص يترك تأثيره في الآخرين، و يكون مصداقاً لقاعدة «النّاسُ عَلى دينِ مُلوكِهِم»، و هي أنّ صفاته و عاداته السيّئة تؤثّر في المجتمع. و فضلاً عن ذلك فإنَّ كل مَن يتّصف بصفة قبيحة يحب أن يزداد المتّصفون بها في المجتمع لكي يتخلّص من رهبة التفرّد بها، وتطيب حياته؛ و قد قيل:

«فَاِنَّ الْبَليّةَ اذا عَمَّتْ طابَتْ».

من يفتقر إلى صفة العدالة يستهويه استشراء الظلم، إذ حين يعيش في أجواء حافلة بالجور يتحرر من الضغوط النفسية و من تأنيب الضمير، و لذلك لايستطيع المشاركة في بسط العدالة في ظل حكومة دينية.

و هذا شرط يفرضه العقل و تؤيّده الشريعة. و لذلك اعتبر شرط العدالة في كلمات المعصومين عليهم السلام أمراً مفروغاً منه، و ينصَبُّ التركيز عادة على إفرازاته وعواقبه. نقرأ في رواية منقولة عن الإمام الباقر عليه السلام: «قالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: قالَ اللّهُ عَزَّوَجَلَّ: لَاُعَذِّبَنَّ كُلَّ رَعِيّةٍ فِي الْاِسْلامِ دانَتْ بِوِلايَةِ امامٍ جائرٍ ظالمٍ لَيْسَ مِنَ اللّه وَ انْ كانَت الرّعِيةُ عِنْدَ اللّهِ بارّةً تَقِيّةً وَ لَأَ عْفُوَنَّ عَن كلِّ رَعِيَّةٍ فِى الْاِسْلامِ دانَتْ بِوِلايَةِ كُلِّ امامٍ عادِلٍ مِنَ اللّهِ وَ انْ

ص:465


1- - سورة الحديد (57)، الآية 25.

كانَت الرَّعِيَّةُ في اعْمالِها ظالِمةً مُسيئةً».(1)

و قد روى عن أميرالمؤمنين عليه السلام انه قال: «انّ السلطان لأمين اللّه في الأرض و مقيم العدل في البلاد والعباد و وزعته في الأرض».(2) و عنه قال عليه السلام: «الظلم يدمر الديار».(3)

و قال أيضاً: «العدل قوام البرية».(4) و قال اللّه تعالى: (قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) .(5)

يتحمّل الحاكم في الحكومة الدينية العبء الأكبر من المسؤولية، و هو معرّض للاتهام أكثر من غيره. و هذا ما يوجب عليه طبعاً إغلاق أي منفذ يثير الشبهات ضدّه، و عليه أن يتحرّك على طريق العدل وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية كاملةً غير منقوصة.

يروى أن المسلمين في صدر الإسلام عندما شاهدوا الخليفة الثاني يرتدي ثوباً طويلاً اتهموه بأنه أخذ من بيت المال أكثر من سهمه، فاضطر إلى الإتيان بشاهد يدفع به هذه التهمة عن نفسه والقصة معروفة. و من الواضح أن الدافع الذي يقف وراء هذه الهواجس هو أن تسلّط الحكام على الأموال والمقدّرات العامّة إلى جانب وجود النفس الأمّارة، يفسح المجال لهم ولبطانتهم للاستغلال والاستئثار. و هذا ما يجعل أبناء الشعب بصفتهم أصحاب هذه الأموال يعيشون دائماً مثل هذه الهواجس. و لهذا تقع على عاتق الحُكّام والمسؤولين مهمة تبديد هذه الهواجس من خلال سلوكهم القويم الذي يبعث في أنفس الناس الثقة والأمان.

و من الطبيعي أن هذا الكلام لايعني أن كل المشاكل ينقطع دابرها فيما إذا أُحرزت صفة العدالة، أو أن وجودها كفيل بإغلاق كل منافذ الاستغلال والاستبداد والاستئثار بمقدرات البلاد والعباد، و إنّما هذه الصفة مؤثّرة كوازع داخلي و رادع ذاتي، و لابُدّ طبعاً من وجود رادع خارجي تمارسه أجهزة الرقابة و مؤسسات الإشراف الحكومي.

ص:466


1- الحرّ العاملي، إثبات الهداة، ج 1، ص 123، الحديث 193.
2- - الآمدي، غرر الحكم، ص 341، الحديث 7797.
3- المصدر السابق، ص 456، الحديث 10427.
4- - المصدر السابق، ص 339، الحديث 7751.
5- سورة الشورى (42)، الآية 15.
و - حُسن الخُلُق

هذا الشرط ليست له معالم واضحة، و لايتّسم بالشفّافية في العقود والأنظمة القانونية المدوّنة، و لكنّ له تأثيراً غير خافٍ لدى كل شعوب العالم، بل إن بعض الأُمم حكمها أشخاص بحُسن الأخلاق والسيرة الحميدة - رغم افتقادهم لشروط أساسية أُخرى - واستمروا في الحكم سنوات طويلة، و غدوا مثالاً و قدوات يحتذي بها نظراؤهم.

كيفية الحكم

اشارة

القضية المهمّة في باب الحكومة الدينية، هي كيف ينبغي أن تتعامل الحكومة مع الشعب.

فالحكومة التي تستمد كل كيانها وسلطتها من الشعب - والدّين الحنيف أقَرَّ صحّة هذه العملية - عليها أن ترسم في الخطوة الأُولى السُبُل العملية الموصلة إلى الأهداف البشرية والدينية المطلوب من الحكومة تحقيقها. و يمكن إيجاز ذلك بأن الفارق الأساسي الذي يميّز الحكومة الدينية عن غيرها من الحكومات، هو دأبها و حرصها على مداراة أبناء الشعب، و توفير حياة آمنة لهم، واحترام شخصيات المواطنين، والشعور بالمسؤولية إزاءهم. جاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يقارن فيها بين حكومة بني أُمية و حكومة أهل البيت عليهم السلام: «اَما عَلِمْتَ انّ امارةَ بَنى اُمَيّة كانَتْ بِالسَّيْفِ وَالْعَسْفِ وَالْجَوْر، و انّ امامَتَنا بِالرِّفْقِ وَالتَّأَلُّفِ وَالْوقارِ وَالتّقِيّةِ و حُسْنِ الخِلْطَةِ وَالْوَرَعِ وَالْاِجْتِهاد؛ فَرَغِّبُوا النّاسِ في دينِكُم وَ في ما انْتُم عَلَيْه».(1)

إذا كان الإنسان في حياته الفردية يحتاج إلى نظام، و لايمكنه دون ذلك أن يكون على تقوى أو تديّن صحيح، فهو في حياته الاجتماعية أحوج إلى ذلك. و انطلاقاً من هذه الرؤية يوصي أميرالمؤمنين عليه السلام ولديه الحسن والحسين عليهما السلام بقوله: «اوصيكُما وَ جميعَ ولدي وَ اهْلي وَ مَنْ بَلَغَهُ كِتابي بِتَقْوَى اللّهِ وَ نَظْمِ امْرِكُم».(2) كلام الإمام هذا يعبّر بكل جلاء عن

ص:467


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 14 من أبواب الأمر والنهي، ج 16، ص 165، الحديث 9.
2- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 47، ص 421.

يقينه بأن المجتمع المبني على التقوى لايمكن أن يتحقّق من غير وجود نظم وتخطيط منهجي، و ليس هناك مروق على التقوى الاجتماعية أسوأ من الفوضى وضياع النظم الاجتماعي.

والفوضى بطبيعتها مدخل للكثير من المعاصي والآثام. لذلك يُفضل الحاكم الفاجر على حالة الفوضى.(1) و لابدّ طبعاً من أن يكون النظم الاجتماعي مبنياً على أُسس و ركائز و أهداف منطقية لكي يتبلور قوامه. و نحن نعرض هنا على بساط البحث مجموعة من هذه الأهداف؛ لكي تتوضح في ضوء ذلك طبيعة السلوك الذي يتوخّاه أبناء الأُمّة من الحاكم الديني.

أ - صيانة الحريّات الفردية والإجتماعية

بما أنّ الغاية من وجود الحكومة هي تنظيم شؤون المجتمع، و لهذا يحق لها التدخّل فقط في الأُمور الاجتماعية التي لايوجد من يتصدّى لها، و لكن لايحق لها التدخل في الشؤون الشخصية للأفراد أو في الشؤون الاجتماعية التي تتولاها جهة غير حكومية، و أوكلت مهمة الإشراف عليها إلى الآخرين، إلّاإذا كان فيها ما يتعارض مع ضرورات اجتماعية حكومية، وتثبت بالأدلة المنطقية ضرورة تصدّي الحكومة لها.

و انطلاقاً من هذه الرؤية يجب أن يكون الناس أحراراً في مجالات مثل الزراعة، والصناعة، والتجارة، والمسكن، والملبس، والاُسرة، والتعليم، والسفر، والتجمّعات، والأحزاب، والصحف، و وسائل الإعلام، و ما شابه ذلك، إلّاإذا كانت هناك ضرورة تستدعي تدخّل الدولة.

من الواضح أن المصالح الاجتماعية والفردية تقتضي أن يكون الناس أحراراً في شؤون حياتهم، والحكومة ملزمة بمساعدتهم ورعايتهم، و إلّافإنّ روح الإبداع والانتاج تضمحل، و لكن ينبغي أن تقوم الدولة بدورها عند الضرورة و معالجة حالات التزاحم والتعارض.(2)

إذاً، تدخّل الدولة في مثل هذه الحالات يأتي من باب الاضطرار «الضّرورات تتقدّر بقدرها».

ص:468


1- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 464، الحديث 10672.
2- للاطلاع على مزيد من المعلومات في هذا المضمار راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 2، ص 25-30.

إنَّ أيَّ نوع من الإكراه و منع الناس من نيل حقوقهم و حريّاتهم الفردية والاجتماعية يتعارض مع الميول والتوجهات الطبيعية، و يناقض روح الدّين؛ لأن الدّين يتطابق مع الفطرة. جاء في رواية معتبرة أنّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: «اَلمؤمِنُ اعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ الْكَعْبَةِ».(1)

ب - المساواة أمام القانون

من عوامل ضعف و انهيار الحكومات و انحطاط الدول هو التمايز بين الناس في تطبيق القانون. فأصحاب القوّة يُسْتثنون عادة مِن شمول القوانين. و غالباً ما يحظى ذووهم و أقاربهم و أصدقاؤهم بتسهيلات لايحصل عليها سائر الناس. و من الطبيعي أن مثل هذا السلوك يؤدّي إلى فقدان ثقة الشعب بالحكومة، و ينتهي بها إلى الانهيار والسقوط. نقل عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «اَيُّهَا النّاسُ! انَّما اهْلَكَ الَّذينَ قَبْلَكُمْ انَّهُمْ كانُوا اذا سَرقَ فيهمُ الشَّريف تَرَكُوه وَ اذا سَرقَ فيهِمُ الضَّعيفُ اقامُوا عَلَيْهِ الْحَدّ؛ وَ ايْمُ اللّه، لَوْ انَّ فاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرقَتْ لَقطعْتُ يَدَها»(2) و كتب علي بن أبي طالب عليه السلام إلى أحد عماله ما يلي: «وَاللّهِ لَوْ انَّ الْحَسَنَ وَالحُسَيْنَ فَعَلا مِثْلَ الَّذي فَعَلْتَ ما كانَتْ لَهُما عِنْدي هوادَةٌ وَ لا ظَفِرا مِنّي بإرادةٍ، حَتّى آخُذَ الْحقَّ مِنهما وَ ازيلَ الْباطلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِما».(3) و كتب عليه السلام أيضاً في عهده إلى مالك الأشتر حديثاً عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و هذا الحديث بلغ في كتب الفريقين حد التواتر (التواتر الإجمالي على الأقل) و هو أنه قال: «فَإنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يَقولُ في غَيْرِ مَوْطنٍ: لَنْ تُقَدَّسَ امّةٌ لايُؤخَذُ لِلضَّعيفِ فيها حَقُّه مِنَ الْقَوِىّ غَيْر مُتتعتِعٍ».(4)

لاشكّ في أنّ فقدان القيم في مجتمعٍ يُعزى سببه إلى انعدام القيم في نظامه الاجتماعي.

و معنى ذلك أنه إن كان هناك ظلم، و يشعر الضعفاء بعدم الأمان، أو يعجزون عن استيفاء

ص:469


1- الصدوق، الخصال، باب الواحد، ص 27، الحديث 95.
2- - صحيح مسلم، كتاب الحدود، حد السرقة، ج 11، ص 186.
3- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 41، ص 414.
4- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 53، ص 439.

حقوقهم، فالسبب يعود إلى افتقار ذلك المجتمع إلى القيم الدينية والإنسانية. و مثل هذا المجتمع خالٍ من القدسية.

ج - الإشراف العام على المسؤولين

النظام الاجتماعي يتطلّب إشرافاً متبادلاً بين المسؤولين والمواطنين على سلوك بعضهما الآخر. أي إضافة إلى الاطلاع على آراء و توجُّهات كل منهما، يجب أن يكون هناك أيضاً إشراف عام و دائم على الأعمال والأولويات، و إصرار على تطبيق القانون.

في العصور التي كانت فيها وسائل الاتصال محدودة، كان الإشراف، و مراقبة أعمال المسؤولين متعذّراً، إلّاعن طريق الرسائل والعيون أو المسافرين الذين يشاهدون بعض الأحداث هنا و هناك، إلّاأن ذلك لم يمنع من الدعوة إلى أن يمارس أبناء الأُمّة حق الرقابة والإشراف على ممارسات المسؤولين.

أما في عصرنا الحاضر فقد تطوّرت وسائل الاتّصال، و تأثّرت علاقات الناس مباشرة بمعطيات هذا التطوّر؛ و أصبح بالإمكان الإطّلاع على ما يجري في أقصى بقاع العالم بكل سهولة، و إبداء الآراء بشأنها.

و بناءً على ذلك تكون أفضل وسائل الاتصال في حقل الإشراف والرقابة هي وسائل الإعلام العامّة - التي لاتخلو من الآفات طبعاً، و تستعمل أحياناً في أُمور مخالفة للشرع والعقل والعرف - إذ إنّ فوائدها لايمكن تجاهلها، و من جملة هذه الوسائل هي الصحف التي تؤدّي أهم الأدوار في ثبات و إصلاح سيرة الحكومات والأنظمة السياسية والاجتماعية.

و هناك أيضاً وسائل إعلام أُخرى كالإذاعة والتلفاز والشبكات الفضائية، والإنترنت، والهاتف، فضلاً عن السينما والمسرح والنتاجات الثقافية والفنية، و كلّها تقوم بدور لايُستهان به في نقل المعلومات بسرعة، مقارنة مع ما كانت عليه الأُمور في الماضي. و هذا ممّا يوفّر فرصاً واسعة للاتصال المستمر والإشراف الدقيق. من المعروف أنه كلّما ازدادت الرقابة والإشراف على مسؤولي الأُمور الاجتماعية، تضيق عليهم سبل التخلّف، و تكثر الأعمال القانونية والحميدة، و كلّما ضعف الإشراف تزداد المخالفات والفساد واستغلال السلطة.

ص:470

في عصر نزول الوحي كان الإسلام يشجع إلى حدٍّ بعيد على استقاء التجارب من سيرة الماضين، من أجل أن تتبلور للمسلمين أُمّة وسط في كل المجالات الفكرية والعلمية:

(لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ) .(1)

و أوضح شاهد على هذا، هو سرد قصص الأنبياء؛ إذ إنَّ القرآن حين عرض تاريخ و قصص الأُمم السالفة، دعا المسلمين إلى التأمل والتدبّر فيه، واستقاء العبر من تواريخ الغابرين. فقد أشار في سورة الحشر إلى تاريخ يهود المدينة الذين كانوا قد أخُرجوا من وطنهم، ثم قال: (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) .(2)

و في أقوال المعصومين عليهم السلام تأكيدات كثيرة و متكررة حول لزوم الوعي و فهم القضايا الاجتماعية. فهذه دعوة يوجّهها الإمام الحسين عليه السلام إلى علماء الدّين الذين يلفّهم الصمت و لايبدر منهم أي نقد لإساءات الحُكّام، يقول فيها: «وَ قَدْ تَرَوْنَ عُهودَ اللّهِ مَنْقوضَةً فَلا تَفْزَعُون وَ انْتُمْ لِبَعْضِ ذِمَمِ آبائِكُمْ تَفْزَعُونَ».(3)

و كان عليه السلام قد استعرض في صدر هذه الخطبة ما قصّه القرآن حول الأحبار والرهبان، قائلاً: إن اللّه قد ذمَّ عمل علماء بني اسرائيل لعدم قيامهم بواجباتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «و انّما عابَ اللّهُ ذلكَ عَلَيْهِم لِاَنَّهُمْ كانُوا يَرَوْنَ مِن الظَّلَمةِ الّذينَ بَيْنَ اظْهُرِهِم الْمنكَر وَالْفَساد فَلا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ ذلك».(4)

كان اطلاع الإمام الحسين عليه السلام على المظالم والانحرافات قد حدا به إلى أن تكون خطبته هذه زاخرة بالتقريع والمذمّة، و نقل الكثير من وقائع و ظروف المجتمع الإسلامي إلى علماء الدّين، ليستحثّهم على تحمل مسؤولياتهم إزاء القضايا الاجتماعية.

و قال أميرالمؤمنين عليه السلام في خطبته المعروفة باسم القاصعة: احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَذَمِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ وَزَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَمُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ

ص:471


1- سورة البقرة (2)، الآية 143.
2- سورة الحشر (59)، الآية 2.
3- الحرّاني، تُحف العقول، ص 238.
4- المصدر السابق، ص 237.

حَبْلَهُمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَاللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَالتَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَالتَّوَاصِي بِهَا وَاجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي.(1)

و جاء في عهد أميرالمؤمنين إلى مالك الأشتر: ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ وَتَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ.(2)

الملاحظة الأُخرى هي إشراف كل واحد من أبناء الشعب على السلوك الاجتماعي لولاة الأُمور، و هو ما يتجسّد عادة على شكل أحزاب و جمعيات سياسية و اجتماعية و نقابية.

و كل هذه الأُمور يجب أن تجري بأساليب مستساغة، و تحت إشراف قنوات رسمية و قانونية، لكي لاتكون منفذاً للفوضى والتدخل الاعتباطي في شؤون الآخرين.

د - الرضا العام

يجب أن تحرص الحكومة على أن يؤدّي سلوكها إلى كسب رضا الشعب، و أن لاتتعدى القوانين في هذا السياق. فقد ورد في ما كتبه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر: «وَلْيَكُنْ احَبُّ الأُمور الَيْكَ اوْسَطَها فِي الْحَقّ و اعَمَّها فِي الْعَدْل وَ اجْمَعَها لِرِضَى الرَّعِيَّة، فَاِنَّ سُخْطَ الْعامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخاصَّة وَ انَّ سُخْطَ الْخاصَّة يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعامَّة... وَ انّما عِمادُ الدّين وَ جماعُ المُسلِمينَ وَالعدّة لِلْاَعْداء، الْعامّةُ مِنَ الْاُمّة، فَلْيَكُنْ صَغْوُكَ لَهم وَ مَيْلُكَ مَعَهُمْ».(3)

و تضمّنت مقبولة عمر بن حنظلة سؤالاً عُرض على الإمام الصادق عليه السلام حول ما يكون فيه اختلاف بين الروايات، فأجاب عليه السلام: يُنظر إلى الرواية المُجمع عليها بين الأصحاب فيؤخذ بها، ويُترك الشاذ عن المشهور بين الأصحاب؛ لأن المُجمع عليه بين الأصحاب

ص:472


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192، ص 296 و 297.
2- المصدر السابق، الكتاب 53، ص 435 و 436.
3- المصدر السابق، الكتاب 53، ص 429.

لايُستراب به.(1)

و ليس مراد الإمام الصادق هنا هو أن الرواية المشهورة لاريب في صحّتها، بل المراد إنّها أكثرُ مدعاة للاطمئنان العرفي والاجتماعي من الرواية غير المشهورة، و هذا يعني إنّها في الحد الذي يوثق به دون تردّد.

و إذا كان هذا المعيار مقبولاً في ما يخص أصل حكم اللّه، فلابّد أن يكون هذا المنطق مقبولاً فيما يخص عمل الحكومة أيضاً. و كل سلوك يخالف الفهم العام للعلماء و عرف العقلاء. فهو سلوك غير منطقي.

و على أية حال، ينبغي العمل في ما يتعلّق بشؤون الناس وفقاً لِما يرتضون، و ذلك لأنّ ضرر الاستبداد و فرض آراء الحكام على الناس - مهما كانت تلك الآراء صحيحة - أكثر بكثير من أن يسير الناس أنفسهم في طريق ثم يدركون خطأهم. ففي الحالة الأخيرة يسيرون على طريق التكامل، و أما في الحالة الأُولى فتعني التوقّف عن المسير.

ه - التساهل

كل من أدرك إلى حدٍّ ما حقيقة الإنسان، واستوعب ما يكتنفها من نقص أو كمال، لابد و أن يعلم بوقوع كثير من المخالفات والأخطاء - رغم كل الوصايا والإرشادات والأحكام الشرعية والقانونية - حتى بات من المتيقّن أنه لايوجد شخص - عدا المعصومين عليهم السلام - مصون من الخطأ.

استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إرساء بناء اجتماعي سليم و تربية شخصيات تفتخر بها الإنسانية - في مجتمع غارق بالفساد - بسبب ما كان يتّصف به من الصبر والرأفة والدعوة إلى شريعة سمحاء. يقول القرآن: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ، (2) و (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ، (3) و (وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .(4)

ص:473


1- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 68، الحديث 10.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 159.
3- سورة الأنبياء (21)، الآية 107.
4- سورة القلم (68)، الآية 4.

من يتصدّون لمنصب قيادة المسلمين يجب أن يقتدوا بأخلاق النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة المعصومين عليهم السلام. و كل من يحمل رذيلة أخلاقية أو صفة سيّئة أو خصلة قبيحة غير جدير بمناصب اجتماعية. و مجرّد وجود واحدة من هذه السيّئات في شخصٍ ما يكفي لإثبات عدم كفاءته لتسلّم منصب اجتماعي مهم.

و من الصفات الحسنة التي ينبغي أن يتحلّى بها الحاكم الإسلامي هي صفة التغاضي والتغافل عن أخطاء الناس و عيوبهم. روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: «نِصْفُ الْعاقِلِ احْتِمالٌ وَنِصْفُهُ تَغافُلٌ».(1) و قال في موضع آخر: «لا عَقْلَ كَالتَّجاهل».(2) و ينبغي أن لايتّصف الحاكم بسوء الظن في الناس: «لاإيْمانَ مَعَ سُوءِ ظَنٍّ».(3) و من القبيح أن يرى الحاكم أنه أفضل من غيره و أن رأيه يرجح على آراء الآخرين: «شَرُّ النّاسِ مَنْ يَرى انَّهُ خَيْرُهُمْ».(4) و يُفترض أيضاً أن يتّصف بالحلم، و ذلك لعلمه أنه «لا خَيْرَ في عَقْلٍ لايُقارِنُهُ حِلْمٌ».(5) و قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «بالاحتمال والحلم يكون الناس أنصاراً و أعواناً».(6)

و روي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «اَلمؤمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ سَمْحٌ لَهُ خُلْقٌ حَسَنٌ، وَالْكافِر فظٌّ غَليظٌ لَهُ خُلْقٌ سَيّىءٌ وَ فيه جبرية».(7)

الأخلاق الفاضلة تقتضي التغاضي إلى أبعد حدٍّ ممكن عن عيوب الأفراد و نواقصهم.

و أن نحرص على التغافل إلى الحد الذي لايؤدّي إلى الإخلال بالنظم الاجتماعي العام.

و - حفظ المصلحة العامّة داخلياً و خارجياً

قد يكون المسؤولون الحكوميون - بغض النظر عن المكانة الاجتماعية الناجمة عن

ص:474


1- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 245، الحديث 5026.
2- المصدر السابق، ص 53، الحديث 432.
3- - المصدر السابق، ص 264، الحديث 5689.
4- - المصدر السابق، الحديث 7082.
5- المصدر السابق، ص 286، الحديث 6416.
6- المصدر السابق، ص 287، الحديث 6449.
7- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 106 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 159، الحديث 4.

المنصب الحكومي - أصحاب عزَّة واعتبار. و من بعد تسلّم المنصب الحكومي يبقى اهتمامهم منصبّاً على مكانتهم الفردية، و يحصل أحياناً تضارب و تعارض بين المصلحة والاعتبار الفردي أو الفئوي من جهة، و بين المصلحة التي يتطلبها المنصب الحكومي من جهة أُخرى، بحيث أنه إذا أراد حفظ اعتباره الشخصي، لايتمكن من أداء مسؤوليته الاجتماعية على نحو صحيح و كامل، فيضطر على أثر ذلك أن لايقف بوجه باطل و لايصمد أمام سلطة أعلى. و في مثل هذه الحالة إذا رجّح المصلحة العامّة قد يفشل في الحفاظ على مكانته و اعتباره الفردي، أو قد يفقد منصبه.

و مما ينبغي أن لايغيب عن الأذهان أنّ المنصب الحكومي عبارة عن ميثاق يُبرم بين أصحاب السلطة و بين الشعب. و يجب في كل الأحوال إعطاء الأولوية للمصلحة العامّة على المصلحة الفردية والفئوية للحُكّام، و إلّاففي ذلك خيانة للأُمّة، و خيانة الأُمّة عقابها شديد عند اللّه. روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «اِنَّ مِنْ اخْوَنِ الخِيانةِ، تجارةُ الْوالي في رَعِيتِهِ».(1) و قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «اِنّ هذِهِ الإمارَة أمانةٌ، فَمَنْ جَعَلَها خيانةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ الى يَوْمِ الْقِيامة».(2)

و على صعيد العلاقات الخارجية يجب التعامل بمزيد من الحرص والدقّة عند إبرام العقود، و أن تكون المصلحة العامّة فوق كل اعتبار. و لايفترض بالمسؤولين أن يجنوا لأنفسهم منافع و أرباحاً عن هذا الطريق. و يجب أن لايستغلوا ما كان منهم مَرْضيّاً عند الشعب من مواقف سياسية يوماً ما، ثم بدّلوا و حالوا عنها و انقضى تاريخ صلاحيتها، ليكسبوا بها مصالح شخصية بما يُلحق الضرر بالأُمّة. و من لم يجد في نفسه القدرة على تلبية هذه المتطلّبات، عليه أن لايُقحم نفسه في مناصب حكومية. روي عن الإمام الصادق عليه السلام:

«مَنْ وُلِّىَ شَيْئاً مِنْ امورِ المسْلِمينَ فَضَيَّعَهُم، ضَيَّعَهُ اللّهُ تَعالى».(3)

ص:475


1- - المُتّقي الهندي، كنز العمال، ج 6، ص 27، الحديث 14698.
2- القاضي النعمان، دعائم الإسلام، ج 2، ص 531، الحديث 1890.
3- الصدوق، ثواب الاعمال وعقاب الاعمال، ص 309، الحديث 1.
ز - اجتناب إثارة التوتّر

إحدى الآفات المرافقة للسلطة، الغرور والتكبّر. فبعض الأشخاص الذين يتّصفون بضيق الأُفق، بمجرد أن يتسلَّموا منصباً حتى يستحوذ عليهم شعور بالتفوّق على غيرهم، يدفعهم إلى الاستهانة بالآخرين و خاصة معارضيهم.

و من الطبيعي أنّ الاستهانة بالمعارضين السياسيين، واتّخاذ مواقف حادّة إزاءهم من قبل السلطة - سواء بالقول أو بالفعل - يدفع أُولئك المعارضين و أنصارهم إلى اتخاذ مواقف متطرّفة شديدة ضد السلطة، تفضي في نهاية المطاف إلى إثارة التوتر و خلق الأزمات بين الحكومة والشعب.

أما الذين يتّصفون بسعة الفِكر و بُعد الأُفق من المسؤولين السياسيين فلا يثيرون التوتر والأزمات؛ لأنهم يتعاملون مع الآخرين بالمداراة و حسن الخلق انطلاقاً من التعاليم الشرعية التي تحظر أية نظرة تستهين بالآخرين و كرامتهم وتثير مشاعرهم.

و هذا ما ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار في العلاقات الخارجية، لأن أي نوع من الاستهانة بمقدساتهم يثير مشاعرهم و سخطهم، وربّما يدفعهم إلى اتخاذ مواقف مماثلة،(1) و هذا مما قد يسوق البلد إلى الدخول في صراعات، و هو ما تأباه الشريعة قطعاً.

قد تنشأ الصراعات والحروب من كلمة يتفوّه بها بعض أركان السلطة، أو من سلوك طائش يبدر من أحد منهم. جاء في الحديث: «رُبَّ فِتْنَةٍ اثارَها قَولٌ»(2) و قيل أيضاً:

«كَمْ مِنْ دَمٍ سَفَكَهُ فَمٌ».(3)

مِن المؤكّد أن مساعي الحُكَّام في البلد الإسلامي إذا كانت في سياق السعي نحو التعايش السلمي فإن مثل هذه الأُمور لاتحصل و لا تؤدي إلى إثارة التوتّر.

ص:476


1- - مثلما دعا القرآن الكريم (في الآية 108 من سورة الأنعام) إلى عدم سبّ من يدعون من دون اللّه فيسبّوا اللّه جهلاً.
2- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 213، الحديث 4152.
3- المصدر السابق، الحديث 4158.
ح - الاقتصاد في النفقات

الأموال العامّة أمانة في أيدي الحُكّام، لكن هذا لايعني استباحة التصرّف بها خارج ما تمليه الالتزامات الشرعية. و توفير متطلبات الشعب مسؤولية كبرى ينوء بحملها المسؤولون الحكوميون، و يُحاسبون عليها حساباً عسيراً في الدنيا والآخرة. و لكلٍّ من صفة البخل أو التبذير في إنفاق بيت المال تبعات و انعكاسات سلبية لاتُعوّض.

كتب أميرالمؤمنين في عهده إلى مالك الأشتر لَمّا ولّاه مصر: وَ لَاتُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ وَ لَاجَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَ لَاحَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ.(1) و روي عن الإمام الصادق عليه السلام أن عيسى بن مريم عليه السلام قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن اللّه و أبرأت الأكمه والأبرص بإذن اللّه و عالجت الموتى فأحييتهم بإذن اللّه، و عالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه فقيل: ياروح اللّه، و ما الأحمق؟ قال: المعجب برأيه و نفسه، الذي يرى الفضل كُلّه له لا عليه، و يوجب الحق كُلّه لنفسه و لايوجب عليها حقاً، فذاك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته.(2) و هم المراد من السفهاء في هذه الآية: (وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً) . (3) الذين لو تسلّطوا على الأموال والأنفس، زادوا خساراً. يستطيع تلبية المتطلبات الاقتصادية للناس من لديه قدرة على التخطيط، و يتّصف بحسن التدبير، و هذه الصفات لاتتوفر إلّافيمن يتحلّى بفضائل بيّنها الإمام الباقر عليه السلام، و هي فهم الدّين، والصبر، والجَلَد في الشدائد، والقدرة على التخطيط الاقتصادي.(4)

ط - حفظ حقوق الأقلّيّات

من أصعب المهام في العلاقات الاجتماعية، رعاية حقوق الأقليّات القومية، والدينية،

ص:477


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 53، ص 430.
2- - المجلسي، بحارالانوار، ج 69، ص 319 و 320.
3- - سورة النساء (4)، الآية 5.
4- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 32، الحديث 32.

والسياسية. فتعاليم الدّين الحنيف تؤكّد بصراحة على وجوب رعاية حقوق الأقلّيّات، و ترى أنّ في تجاهلها دلالة على عدم التمسّك بأحكام الشريعة. من الصور المشرقة التي قدّمها الإسلام أنه ساوى بين الناس و أزال التمايز الاقتصادي والسياسي والثقافي، ودحض موجبات التفاخر القومي، حتى بلغ الحال بأمير المؤمنين عليه السلام أن بادر في بداية حكمه إلى إلغاء الامتيازات التي منحها الخلفاء السابقون لبعض الأفراد والفئات، و أعاد إقرار المساواة بين الناس من جديد.

في ما يتعلّق باحترام حقوق الأقلّيّات الدينية، تُعتبر مواثيق النبيّ وعهوده مع المسيحيين واليهود من الأدلّة الساطعة على ذلك. كما كانت سيرة المسلمين معهم على مرّ الزمن سيرة إنسانية. فقد جاء في العهد الذي أبرمه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مع نصارى نجران، ما يلي:

«لا يُغيّر ما كانوا عَلَيه وَ لايغيّر حَقٌّ مِنْ حُقوقِهم وَ امثلتِهِم».(1)

و جاء أيضاً في وثيقة النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع يهود المدينة: إنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم و للمسلمين دينهم، مواليهم و أنفسهم إلّامن ظلم و أثم، فإنه لايُوتغ إلا نفسه و أهل بيته، و إن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، و إن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، و إن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، و إن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، و إن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، و إن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم و أثم.(2)

أما بالنسبة إلى الأقلّيّات السياسية التي تظهر بين المسلمين و تحمل اتجاهات سياسية مختلفة، فالأمر واضح و هو التساوي في الحقوق، حتى أن علماء الدّين لم يبحثوا هذا الموضوع كثيراً بسبب وضوحه. و في سيرة المعصومين عليهم السلام و أقوالهم كثير مما يؤيد هذا المعنى.

كتب أميرالمؤمنين عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر حول رعاية حقوق الناس ما يلي:

«فَاِنَّهُمْ صِنْفان، امّا اخٌ لَكَ فِي الدّينِ وَ إِمّا نَظيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق».(3)

ص:478


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 76.
2- ابن هشام، السيرة النّبوية، ج 2، ص 149.
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 53، ص 427.

و معنى هذا الكلام أن الحاكم ملزم برعاية حقوق الآخرين سواء اتفقوا معه في الرأي أم لا.

هذا فضلاً عما ورد من أحاديث في ذمّ الإساءة إلى الناس(1) أو التصرف بأموالهم و مصادرة حقوقهم.(2) جاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إنّ اللّه لايؤوي خائناً. فسأله الراوي:

و من الخائن؟ قال: «مَنِ ادَّخَرَ عَنْ مُؤمِنٍ درهَماً اوْ حَبسَ عَنْهُ شَيْئاً مِنْ امْرِ الدُّنْيا».(3)

جاء في حديث معتبر عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ:

أين الصدود لأوليائي؟ فيقوم قوم على وجوههم لحم فيُقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين و نصبوا لهم و عاندوهم و عنّفوهم في دينهم ثم يؤمر بهم إلى جهنّم. قال أبوعبداللّه عليه السلام: كانوا واللّه الذين يقولون بقولهم: و لكنهم حبسوا حقوقهم و أذاعوا عليهم سرّهم».(4)

و جاء في حديث معتبر آخر عن الصادق عليه السلام انه قال: «مَنْ حَبس حَقَّ المٌؤمِنِ اقامَهُ اللّهُ عزَّوَجلَّ يَومْ القِيامَة خَمْسمِأة عامٍ عَلى رِجْلَيْهِ حَتّى يَسيلَ عَرَقُهُ اوْ دَمُهُ وَ يُنادي مُنادٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ: هذا الظّالِمُ الَّذي حَبسَ عَنِ اللّهِ حَقَّهُ. قال: فَيُوبّخُ اربعينَ يوماً ثُمَّ يُؤمَرُ بِه الَى النّار».(5)

و بغض النظر عن سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام ازاء المعارضين الذين رفعوا عقيرة مخالفته علانية و على شكل تكتّلات و جماعات، و لكنه لم يحرمهم من حقوقهم و لم يقطع عنهم عطاءهم من بيت المال و لم يسلبهم شيئاً من حريّة الرأي والعمل، هناك أدلة أخرى على ضرورة صيانة حقوق الأقليات، منها عهده إلى مالك الأشتر، حيث جاء فيه:

«سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: ان اللّه لايُقدس أُمّة لايأخذ الضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع». و هذا الحديث منقول عن طريق الفريقين باسناد مختلفة.(6)

ص:479


1- - الصدوق، معاني الاخبار، باب معنى الغايات، ص 195 و 196، الحديث 1.
2- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب كتاب الغصب، ج 25، ص 385.
3- الصدوق، الخصال، باب الثلاثة، ص 151، الحديث 185.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 145 من أبواب الأحكام العشرة، ج 12، ص 264 و 265، الحديث 2 و 3.
5- الكليني، الكافي، ج 2، ص 367، الحديث 2.
6- المتقي الهندي، كنز العمال، ج 3، الأحاديث 5544، 5549، 5587، 5588، 5590، 5591، 5606 و 5611.

و قد ورد مضمون هذا الحديث في حديث بسند صحيح عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال:

«ما قَدِّسَتْ أمّةٌ لَمْ تَأْخُذْ لِضعيفِها مِنْ قَوِيّها بِحَقِّهِ غَيْرَ مُتَّضِع».(1)

و قد أُشير في موضعه إلى أربعة عشر حقاً من حقوق المعارضين مسندة بالأدلّة سواء كان معارضين في المعتقد أم معارضين سياسيين، و سواء كانوا يقرّون أصل الحكم الديني أو يرفضونه، وسواء كانوا يقرّون أو يرفضون أهلية الحُكّام.

هذه الحقوق - بعضها مشترك يبن المؤيّد والمُعارض - عبارة عما يلي:

1 - حق حريّة البيان والتعبير عن الرأي في شتّى مجالات الحياة.

2 - حق تأسيس الجمعيات والتنظيمات، و يشترط في هذين الحقين عدم المساس بحقوق الآخرين.

3 - حق الاطلاع على قرارات السلطات الحاكمة و أسرارها، عدا الأسرار العسكرية في وقتها.

4 - حق الحصول على الحقوق المشروعة، أي يجب على السلطة الحاكمة اتخاذ التدابير الكفيلة بحصول الأفراد الضعفاء في خارج السلطة - سواء كانوا من المعارضين أم من المؤيدين - على حقوقهم.

5 - حق استيفاء الحقوق المشروعة و عدم المماطلة من قبل السلطة.

6 - حق المعاملة العادلة البعيدة عن التمييز.

7 - حق رعاية الكرامة الإنسانية.

8 - حق حماية النفس، والمال، والكرامة، والعمل، من أي تهديد.

9 - حق الحصانة من الملاحقة القضائية لمجرد مخالفة السلطة.

10 - حق ستر العيوب و عدم كشفها.

11 - حق العفو والتسامح إزاء الاشتباهات.

12 - حق الّلقاء الخاص مع الحكَّام دون حجّاب.

ص:480


1- الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 6، ص 180، الحديث 371.

13 - حق الحصول على الحقوق الاجتماعية والمدنية. و لافرق في هذا المضمار بين المسلم و غيره، أو الشيعي و غيره و هذه الطائفة من الحقوق تثبت لكل فرد من بعد قبوله القواعد الاجتماعية، وسلب أي واحد من هذه الحقوق يتطلّب دليلاً.

14 - حق المعارضين في ما يتعلّق بالمحاكم والسجون. هذا طبعاً مع ملاحظة عدم مشروعية سجن المعارضين السياسيين الذين يمارسون نشاطهم السياسي ضدّ النظام بشكل غير مسلّح، إذ لم تكن لهذا العمل سابقة في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و في عهد أميرالمؤمنين عليه السلام.

الأحكام السياسية

اشارة

في الدّين الإسلامي أحكام تُعنى بالحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين، و فيه تعاليم تهتم بتحسين و توثيق العلاقات في ما بينهم؛ فتروّج لبعض الأعمال و تحثّ عليها، أو تذم أعمالاً أُخرى و تنهى عنها. و هذه الأحكام والتعاليم تتعاطى مع الصعيدين الفردي، والاجتماعي.

أ - الواجبات السياسية والاجتماعية الفردية
اشارة

قسمٌ من الأحكام السياسية - الاجتماعية في الإسلام يهتم بالواجبات الفردية، و ليس للتحوّلات الاجتماعية تأثير في كيفية أدائها. أي أن كل فرد مكلّف بأداء ذلك العمل بمفرده على النحو الصحيح، سواء واكبه الآخرون فيه أم لا. و هناك قسم آخر من الأحكام يهتم بالواجبات الفردية، و لكنَّه يتأثر بالتحولات الاجتماعية، و لإقبال الناس عليه أو إعراضهم عنه تأثير في لزوم أو عدم لزوم أدائه.

نتناول في هذا القسم بيان الأحكام التي يُنظر إليها في جميع الأحوال كواجبات فردية، و لايشترط قيام الفرد بها بالتزام الآخرين بها.

ص:481

صلاة الجماعة، والجمعة والعيدين

العبادة بحدّ ذاتها أمر فردي تتحقق بقصد القربة إلى المعبود تعالى و بالنيّة الصحيحة. و أما الحكم بالتجمع لأدائها فقد شُرّع لأجل الحياة الاجتماعية، والفوائد المترتّبة على تجمع الناس.

و فضلاً عن التكليف العام للمسلمين بالتكتّل واجتناب الفرقة، فإن كل مسلم ملزم بأن يرسّخ في ذاته دواعي التلاحم والتآزر مع الآخرين، و خاصّة أبناء دينه. لزوم المشاركة في صلاة الجمعة والعيدين عند إقامتها مع مراعاة سائر شروطهما، و حتى التأكيد على المشاركة في صلاة الجماعة، فريضة فردية تماماً، و كل فرد مكلّف بأدائها بنفسه، و لايمكن إيكالها إلى الغير، والحقيقة هي إنّ أي حكم غير كفائي (عيني) في الإسلام يشمل كل المسلمين؛ و حتى إذا كان واجباً اجتماعياً و سياسياً، فالجانب الفردي منه يحظى باهتمام الشارع المقدّس أيضاً. والصلوات المذكورة تدخل في عداد هذه الواجبات والفرائض.

إنّ ضرورة تطرّق إمام الجمعة إلى مشاكل المسلمين في خطبتي صلاة الجمعة، واعتبار هاتين الخطبتين حزءاً من الصلاة، لايدع مجالاً للشك في أنّ صلاة الجمعة ذات جانب سياسي أيضاً.

جاء في مضمون رواية عن الإمام الرضا عليه السلام: إنّ الخطبة جُعلت يوم الجمعة؛ لأن الجمعة مشهد عام؛ فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم و ترغيبهم في الطاعة، و ترهيبهم من المعصية، و توقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم و دنياهم، و يخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق من الأهوال التي لهم فيها المضرّة والمنفعة.(1)

على الإمام طبعاً أن يحذّر الناس من الظلم، و يوقظ فيهم روح مقارعة الظلم و عدم الخنوع له، و ينبّه المسلمين بكل شجاعة إلى وظائفهم الفردية والاجتماعية.

و إذا تحقق هذا التجمع الضروري بكل شروطه، يستطيع أن يكوّن عائقاً صلداً أمام حكّام الجور، و قوّة هائلة تحمي المظلومين، و تضمن الحضور الدائم للناس في ميدان الحياة الاجتماعية.

ص:482


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 25 من أبواب صلاة الجمعة، ج 7، ص 344، الحديث 6.
الحجّ، تجمع عبادي - سياسي دولي

لعلّ الحضور في زمان مُعيّن لم تكن ضرورته مكشوفة للجميع يوم شرّع الدّين فريضة الحج، و لكن في عصر الاتصالات يمكن إدراك مدى بُعد نظر الشريعة و عمق تدبيرها.

فاليوم لاتستطيع أية قوة، حشد مثل هذه الجموع الغفيرة من الناس بمثل هذا التنوّع القومي واللُّغوي. و لولا القيود والموانع التي تضعها السلطات السياسية لكانت أعداد المشاركين في هذا الحشد، أكبر من الأعداد الحالية بكثير، و لكان لها تأثير حاسم في رسم مستقبل المسلمين.

و من المؤسف أن هذه القدرات بقيت مهملة و معطلة على مدى قرون متمادية بسبب تجاهل بعض ولاة أُمور المسلمين، و ظلّت قيمة هذه الفريضة الإلهية خافية على المسلمين.

و رغم أن وسائل الاتصال الحديثة في عالم اليوم قد تغلغلت داخل كل بيت بكل سهولة، غير أنّها لم تستطع قط أن تضع بين أيدي المسلمين فرصة تضاهي موسم الحج من حيث تأثيره الثقافي.

إنَّ إهمال ولاة أُمور المسلمين و تجاهلهم لهذه الفريضة لايعتبر مدعاة لعدم نهوض المسلمين بواجباتهم الفردية للاتصال بحجّاج الشعوب الأُخرى، و فهم مشاكلهم والتعرف على ما لديهم من طاقات و قدرات، و بسط روح الأُخوّة والتضامن معهم. فعلى كل مسلم أن يعتبر نفسه ملزماً باستثمار هذا التجمّع العظيم لإيجاد مزيد من التفاهم مع أبناء الشعوب الإسلامية؛ لأن الغاية الأساسية من تشريع الحج - بعد عبادة اللّه - هي الترابط والتفاهم بين المسلمين.

روى هشام بن الحكم عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه صرّح بأنّ اللّه أمر المسلمين بالحج لمصلحة دينهم و دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب، ليتعارفوا وليحصلوا على منافع تجارية و مادية، و ليتذكروا الأفكار الدينية... فذلك علّة الحج.(1)

ص:483


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب وجوب الحج، ج 11، ص 14، الحديث 18.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من أهم التعاليم السياسية الاجتماعية في الإسلام، مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تُعتبر كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام: كل أعمال البر في مقابلها كقطرة في بحر لُجّيٍّ.(1) و مفاد هذا الحكم الإلهي تحمل المسؤولية الاجتماعية المفروضة على جميع المسلمين، و إلقاء المسؤولية على كل واحد منهم إزاء سلوك الآخرين.

والحقيقة هي أن الدور التربوي للمجتمع و مسؤوليته، قد جعل بالنحو الذي يدفع كل فرد للنهوض بدوره؛ لكي يغدو السلوك الصحيح والمحمود اتّجاهاً عاماً يسير عليه الجميع، و لكي يُجابَه السلوك المنكر والقبيح بردود فعل رادعة من قبل المجتمع لتزول موجبات وقوعه.

تصوّر البعض أن «المعروف» و «المنكر» يقعان في مصاف الأحكام الواجبة والمحرّمة، ظناً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيان للأحكام و إلزام للناس بها. غير أنّ المعروف يجب أن يكون كل الناس على معرفة بحسنه. و هذا يستدعي - إن لم يكن الحكم قد وصل إلى هذه المرحلة - توفير المتطلّبات الكفيلة بمعرفة الناس له و وعيهم بهذا الحكم.

للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراحل، نلخّصها في ما يلي:

المرحلة الأُولى: هي أن يستنكر المسلم بقلبه أي عمل قبيح، و ينبغي أن يظهر هذا الاستنكار في وضعه و سلوكه الظاهري، لكي يتنبّه فاعل المنكر إلى قبح عمله و يشاهد تأثيره السلبي و يكفّ عنه.

و على العكس من ذلك ينبغي إظهار الارتياح إزاء الأعمال الحسنة، ليكون في ذلك تشجيعاً لفاعل الخير والمعروف على الاستزادة منه.

أمّا المرحلة الثانية: فهي التصريح بالكلام عن الرضا أو السخط إزاء المعروف أو المنكر؛ و هذا يتضمن الترحيب بفعل المعروف و فاعله، سواء بالقول أو الكتابة. و في مقابل ذلك

ص:484


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 374، ص 542.

إظهار الرفض والاستنكار بالكلام لكل فعل قبيح. و هذه المرحلة قد لايقدر عليها جميع الناس. و كل إنسان مكلّف في هذا المجال على قدر طاقته.

في هذه المرحلة يمكن توظيف جماعات سياسية واجتماعية كالأحزاب والمنظَّمات والنقابات المهنية والثقافية و وسائل الإعلام العامّة لأداء ما عليها من مسؤولية في هذا المضمار. فالواجب يحتم على كل مسلم أن ينهض بواجبه الديني والاجتماعي على أفضل نحو ممكن. و إذا كان تأسيس النقابات والجمعيات والأحزاب يساعد على أداء هذا العمل بشكل أفضل، فعليهم المبادرة إلى تأسيس مثل هذه التنظيمات.

و من أعظم ثمار توسيع هذه المسؤولية الاجتماعية هي مشاركة كل المسلمين في تقرير مصيرهم، بحيث يكون في ذلك رادع يمنع كل من تسوّل له نفسه تجاوز حدوده القانونية.

و انطلاقاً من هذه الرؤية جاء في كلام الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام:

«لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْروفِ وَ لَتنهُنَّ عَنِ الْمنكَر اوْ لَيُسْتَعْمَلُنَّ عَلَيْكُمْ شِرارُكُمْ فَيَدْعُو خِيارُكُمْ فَلا يُسْتَجابُ لَهم».(1)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني منح تخويل رسمي لكل من يمارس دور الرقابة والإشراف. و على الرغم من تأكيد الشرع والعقل على هذا العمل، إلّاأن الأفراد يتنصّلون عادة عن هذه المسؤولية و يتملّصون منها خشية ما ينجم عنها من متاعب و مخاطر، و لكن يوجد في كل عصر من ينهض بها بكل جرأة و إقدام.

و قد دعا القرآن الكريم إلى تحمل أعباء هذه المسؤولية: (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . (2) و لابد من التنبيه إلى أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عامة، أي أنها واجب يقع على كل مسلم بعينه، و لكن إذا نهض بها من يفي بالغرض ينتفي حكمها عن الآخرين.

الملاحظة الأُخرى هي أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشترط فيه التأثير. فلو

ص:485


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب الأمر والنهي، ج 16، ص 118، الحديث 4.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 104.

أدّى هذا العمل إلى عناد المقابل و إصراره على فعله، أو قد لايؤثر فيه هذا العمل، أو إذا كان فيه خطر أو ضرر على أحد، ينتفي حكمه كذلك.

أمّا الحالات المهمّة التي فيها مساس بالدين أو تحريف، له فلابّد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى و إن كان في ذلك خطر أو ضرر على النفس والمال.

المرحلة الثالثة: و هذه المرحلة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اختصاص الحكومة الصالحة التي تتوفر فيها الشروط. و هو ما سيأتي بحثه لاحقاً.(1)

رعاية القوانين الاجتماعية

على كل مسلم يعيش في أي مجتمع أن يلتزم بالقوانين والتقاليد السائدة هناك. و إذا كانت تلك القوانين تتعارض مع أحكام الإسلام فعليه اجتناب ذلك المجتمع جهد الإمكان.

و إذا كان حضوره ضرورياً في الوسط الاجتماعي فعليه أن يتجنّب مخالفة أحكام الإسلام دون أن يظهر معارضته لتلك القوانين الاجتماعية.

في المجتمعات الإسلامية التي تُدار شؤونها وفقاً لأحكام الإسلام لايجوز التخلّف عن أحكام الإسلام.

يُنظر إلى القوانين الاجتماعية و كأنها اتفاقيات و معاهدات متبادلة بين الدول والشعوب. و إذا لم يكن هناك إشكال شرعي في أصل العقد يصبح العمل بها بعد إقرارها ملزماً للجانبين.

أما بالنسبة إلى من يرغب في الإقامة أو السفر أو اكتساب الجنسية في بلاد غير إسلامية، فعليه الاطّلاع على قوانينهم مسبقاً؛ فإذا وجد فيها ما يتعارض مع الإسلام بشكل صريح، و لم تكن هناك ضرورة ملحّة لوجوده في تلك البلاد، عليه الامتناع عن الذهاب إليها. و إذا لم يكن هناك ما يتعارض مع أحكام الإسلام بشكل صريح، أو كان هناك تعارض جزئي، فلا إشكال في ذهاب المسلم إلى تلك البلاد.

ص:486


1- راجع: البند «و» من المورد الخامس من الوظائف السياسية والاجتماعية، ص 474 و 480 في هذا الكتاب.
التقيّة والكتمان

أحكام الإسلام ليست كلّها على درجة واحدة من حيث الوجوب أو من حيث الحُرمة.

فبعضها على النحو الذي يأمر اللّه العباد بتنفيذها أو الامتناع عنها في كل الظروف والأحوال، و هي ما يُعبر عنها ب «الواجبات المؤكّدة» أو «المحرّمات المؤكّدة». أما البعض الآخر من الأحكام فهي أدنى منها من حيث التأكيد، بل هناك تساهل فيها.

الإنسان له قيمة عليا و كرامة سامية، فقد جاء في رواية صحيحة عن الإمام الصادق عليه السلام إن حرمة المؤمن أعظم عند اللّه من حرمة الكعبة.(1) و جاء في الأثر أيضاً: إن حرمة مال المؤمن كحرمة دمه، و لعرضه أيضاً مثل هذه الحرمة.

هناك حقيقة لابدّ من الالتفات لها، و هي أن أحكام الإسلام شُرّعت كلّها من أجل سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. و هذا يعني أنها تتطابق مع الفطرة. ولو حصل تعارض بين حفظ نفس المؤمن و شخصيّته و حفظ أحكام الدّين، أو كان العمل بالأحكام مدعاة للمخاطرة بالنفس والعرض، فهنا يكون حفظ النفس والعرض مقدّم.

جاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «اِنّ التقيةَ ديني و دينُ آبائي»(2) و مفاد هذه الرواية واضح، و هو أن التأكيد على العمل بالحكم يُلغى في حالة وجود خطر يهدد كرامة المسلم أو نفسه، و لكنّ التقية ربّما لاتعني أحياناً أداء أو عدم أداء حكم، بل تعني الكتمان و حفظ السرِّ؛ أي عدم إفشاء الأسرار التي تؤدي إلى الإضرار بماله و نفسه و أموال و أنفس غيره. بل لاتعني التقية في حالات كثيرة ترك واجب و فعل محرّم، و إنّما التكتم في أداء الواجبات و عدم المجاهرة. غير أن هذا يتوقف عند حدود معيّنة؛ إذ لايجوز لأحد أن يبيح لنفسه قتل بريء لمجرّد الخوف من القتل فيما لو امتنع عن تنفيذ أوامر الجائرين. و هذه الحالات تدخل في عِداد حقوق الناس. والتقية تجوز، بل تجب في بعض الموارد في حق اللّه، عندما تتحقق شروطها.

ص:487


1- - الصدوق، الخصال، باب الواحد، ص 27، الحديث 95.
2- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي، ج 16، ص 210، الحديث 24.

و مما ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار في هذه الأُمور والأحوال هو ترتيب الأولويات و تقديم الأهم على المهم.

و هناك نوع آخر من التقية، و هو ما يسمّى بتقية المداراة التي تعني مراعاة الظرف الاجتماعي والمذاهب الإسلامية والأوضاع الدولية. و هو ما سيأتي شرحه لاحقاً في قسم الواجبات السياسية.

المشاركة في الحياة الاجتماعية و عدم العزلة

من الحالات التي تسود بين الأفراد أحياناً هي نزعة العزلة والانزواء أو الرهبانية، و هو ما نهى عنه الإسلام و دعا إلى المشاركة في ميادين الحياة الاجتماعية. فقد نهت روايات كثيرة لدينا عن الرهبانية والجلوس في كَنَف العزلة حتى بذريعة العبادة.

جاء في القرآن (وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) (1) و جاء في رواية: «لا رهبانيةَ فِي الْاِسْلام».(2) و جاء في رواية أُخرى: «وَ رَهبانيةُ امّتي الجَهاد في سبيل اللّه».(3) و قال القرآن في النصارى: (وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) .(4)

كُنا قد أشرنا في بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أنّ هذا الحكم يدعو إلى ضرورة الإشراف والرقابة الاجتماعية المستمرّة لكل أبناء الشعب في ضوء ما تمليه مسؤوليتهم الشرعية، و من يعتزل الحياة الاجتماعية يعطّل هذا الجانب من أحكام اللّه، و هي أحكام على درجة عالية من الأهمية.

ب - الواجبات السياسية - الاجتماعية العامة للمسلمين
اشارة

بعض الأحكام الدينية شُرّعت - بغض النظر عمّا فيها من مسؤولية على المسلمين

ص:488


1- - سورة القصص (28)، الآية 77.
2- - القاضي النعمان، دعائم الإسلام، ج 2، ص 193، الحديث 701.
3- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، باب 60 من أبواب الدفن، ج 2، ص 401، الحديث 42.
4- سورة الحديد (57)، الآية 27.

كأفراد - كقوانين إجتماعية، و أُوكلت مهمة النهوض بها إلى المجتمع الإسلامي و إلى ولاة الأُمور فيه.

الشؤون التي تتطلب تنظيماً و إدارة، لاتقع على عاتق المسلمين كأفراد، و إنما يجب أن تقوم بها الدولة نيابة عن عموم الناس، و منها مثلاً الشؤون الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والأمنية، والقضائية. والاهتمام ينصبّ هنا على الجانب الاجتماعي من هذه الأحكام و دورها في الاستقرار السياسي، و لايُعنى بحقوق و واجبات كل واحد من أفراد المجتمع.

نأتي في ما يلي على بحث الأحكام السياسية و واجبات عموم المسلمين تفصيلاً.

1 - الشؤون الثقافية

المراد بالشؤون الثقافية هنا: الأعمال ذات الاتجاه الثقافي التي تحظى باهتمام الشريعة المقدسة. و نأتي هنا على ذكر القطّاعات المهمة منها:

أ - التعليم والتربية العامّة

تقع مهمة التخطيط لتعليم و تربية أبناء المجتمع وتطويرها علمياً وثقافياً على عاتق الدولة و ولاة الأمر فيها، و يجب على المعنيين بذل أقصى ما يمكن من الجهود في هذا المجال «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم».(1) و قد بيّن القرآن الكريم أن واجب الأنبياء تعليم و تربية الأُمّة: (وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ) .(2)

و هناك تأكيد شرعي على طلب العلم حتى و إن كان في مناطق قاصية مثل الصين «اُطْلُبوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصّين».(3)

عملية التخطيط للتعليم والتربية يُفترض أن تكون بالنحو الذي يُعطى أكبر قدر من

ص:489


1- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 30، الحديث 1.
2- سورة الجمعة (62)، الآية 2.
3- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، ج 27، ص 27، الحديث 20؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 1، ص 177، الحديث 55.

الاهتمام والاعتبار الاجتماعي، للعلم والتقنية، و يرفع المكانة الاجتماعية للعلماء والباحثين فوق مكانة الحكام، إذ قيل: «العلماء حكّام على الملوك».(1)

ب - الدعوة إلى الدّين

الدّين عبارة عن مجموعة من الأحكام والمعتقدات التي يتوقف قبول تفاصيلها أحياناً على فهم الأُمور الدقيقة في العلم والحكمة، و بعض الأحكام شُرّعت لمنع التجاوز على حقوق الغير. و كل من يروم الدعوة إلى شيء، لايذهب عادة إلى غوامضه أو الأُمور المعقّدة فيه، بل يركِّز على الجوانب البسيطة والقريبة إلى الأذهان والمحبّبة إلى النفوس.

عند الدعوة إلى الدّين و إلى شريعة الإسلام ينبغي الإبتداء بما تمتاز به شريعة المصطفى على غيرها من الشرائع، و عرض الأوجه المشتركة في موضعها. والحقائق الشرعية تكون مقبولة عند الناس حين تُقدّم لهم على انها قوانين قطعية لا مناص منها و تؤدّي إلى بناء مجتمع متكامل أخلاقياً، و سياسياً، و اقتصادياً و اجتماعياً. و لايصح طبعاً التركيز على الأحكام القاسية التي شُرّعت لمنع الظلم والعدوان - و هي طبعاً لازمة أحياناً - إذ انها قد تكون سبباً لعدم قبول الدّين عند الناس، و بهذا يكون هذا الأسلوب ناقضاً لغرض الدعوة.

يصف القرآن الكريم و مضات من الشريعة المحمدية على النحو التالي: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) .(2)

تؤكد الأحاديث الشريفة على منهج الترغيب: «رَغِّبوا النّاسَ في دينِكم».(3) و من أعظم الآثام التي قد يقترفها المرء، تنفير الناس من الدّين بسبب سوء الدعوة إليه.

ها هو القرآن الكريم يلخّص لنا ببيان جميل، المنهج المناسب في الدعوة إلى الدّين:

ص:490


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 1، ص 183، الحديث 92.
2- سورة الأعراف (7)، الآية 157.
3- - الصدوق، الخصال، باب السبعة، ص 355، الحديث 35.

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .(1)

من البديهي إنّ أفضل أساليب الدعوة و أكثرها تأثيراً هو أن يكون ولاة الأمر - على اعتبار أنهم على رأس المتصدين لقضية الدعوة - أنفسهم أُناساً صالحين و يسلكون النهج القويم في أداء مسؤولياتهم الاجتماعية و واجباتهم القانونية. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام:

«كُونُوا دُعاةَ النّاسِ بغير الْسِنَتِكُمْ».(2)

والحكومة التي تحكم باسم الدّين تبرز فيها هذه الخصائص على نحو أوضح. قال الإمام الصادق عليه السلام: «انَّ الحَسَن من كلِّ احدٍ حَسَنٌ وَ إنّه مِنْكَ احْسَن لِمكانِكَ مِنّا، وَ انَّ القبيحَ مِن كُلِّ احدٍ قَبيحٌ وَ إنّه مِنْكَ اقْبَح».(3)

هذا البيان يظهر أن الحكومة الدينية تتحمل مسؤولية كبرى و شاقّة، و إنّ أدنى خطأ يصدر منها قد تكون له آثار وخيمة تسيء إلى صورتها الشرعية.

يقع على عاتق المتصدّين لزمام الأُمور من الحكّام المسلمين أن يكرّسوا وسائل الإعلام، و كل وسائل الاتصالات الحديثة والواسعة في عالم اليوم، من أجل النهوض بما عليهم من واجبات شرعية، و في اتجاه الدعوة إلى الدّين، و في ضوء ما تمليه الأولويات القانونية والمنطقية.

ج - العلاقات الثقافية الدولية

العلاقات الدولية في عالم اليوم تخضع للنهج الذي يسير عليه حُكّام البلدان فما يريده أو ما لايريده الحّكّام هو الذي يؤدِّي إلى بناء أو قطع العلاقات بين الدول، و تضع الشعوب أحياناً في مواجهة بعضها الآخر. و هذه الأُمور تخضع في الشريعة الإسلامية إلى مصلحة عموم أفراد المجتمع الإسلامي. فإذا كانت المصلحة تقتضي إيجاد علاقات مع دولة، على الحكام أن يستجيبوا لهذه المصلحة و يقيموا علاقات معها. و أما إذا كان ضرر تلك العلاقات أكثر من فائدتها، فعليهم أن لايُقدموا عليها. و لابد من التنبيه طبعاً إلى أنّ مصلحة عموم

ص:491


1- سورة النحل (16)، الآية 125.
2- المجلسي، بحارالأنوار، ج 67، ص 309.
3- المصدر السابق، ج 47، ص 349 و 350.

المجتمع الإسلامي حين تؤخذ بنظر الاعتبار، فذلك لا يعني إلحاق الضرر بحقوق شعوب أُخرى أو أُناس آخرين.(1)

أما على الصعيد الثقافي، فإنّ وجود العلاقات مفيد عادة باستثناء حالات قليلة تستدعي قطع العلاقات الثقافية بين المسلمين و شعوب أُخرى. والتبادل العلمي والثقافي شيء مطلوب على الدوام في الشريعة المحمدية، و لاينبغي منعه إلّافي حالات الضرورة؛ لأن الإسلام يقوم على منطق رصين و لايخشى مواجهة الأفكار الأُخرى.

و من جملة واجبات الدولة الإسلامية، تعريف المسلمين بعلوم وثقافات شعوب الدول الأُخرى، و تسويق الفكر الإسلامي و فنون المسلمين إلى تلك الشعوب. فمن المعروف أن الشعوب الأُخرى لديها علوم كثيرة ينبغي الاطّلاع عليها. فقد قيل: «اَعْلَمُ النّاسِ مَنْ جَمَعَ عِلْمَ النّاسِ الى عِلْمِهِ».(2)

هناك مكوّنات من حضارات و ثقافات الدول الأُخرى لايمكن نقلها، كالآثار والأبنية التاريخية. و هذا ما يستدعي طبعاً اطّلاع المسلمين عليها لاستقاء العِبَر منها امتثالاً لِما أمر به القرآن من السير في الأرض والنظر في تواريخ الأُمم.

و على المسؤولين المعنيين أن يطلعوا على تجارب الأُمم الأُخرى و ينقلوها إلى المسلمين للاستفادة منها.

د - الكُتُب و وسائل الإعلام

على الدولة الإسلامية و مسؤوليها العمل على توفير المستلزمات الكفيلة بالارتقاء بالمجتع الإسلامي إلى قمّة التطوّر العلمي والفنّي، و فسح المجال أمام التبادل الثقافي والنقد والانتقاد. و عدم منع شيء منها إلّاحين تكون تأثيراته السلبية - حسب رأي أهل الاختصاص - أكثر من الإيجابيّات.

و أما إذا اختلفت آراء ذوي الاختصاص المسلمين حول مدى ضررها أو نفعها بحيث

ص:492


1- راجع: رسالة الحقوق (باللغة الفارسية)، ص 15 و 32-39.
2- الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 4، ص 395، باب النوادر، الحديث 5840.

لم يحصل اطمئنان برجحان ضررها على نفعها، لايحق للحكومة شرعاً حرمان المجتمع من تلك النتاجات الثقافية، أو من وسائل الإعلام التي تنقلها، و في هذه الحالة تترك القضية إلى الوجدان الفردي للمسلم ليتعامل معها وفقاً لتكليفه الشخصي، و يجتنب ما فيها من آثام و أضرار، و يأخذ منها ما يمكن أن ينفعه في تطوير ذاته و ما يؤدي إلى سعادته و كماله.

ينبغي أن يعلم أبناء الشعب والمسؤولون والعلماء أنّ الكثير من مشاكل المسلمين ناجمة عن النظرة الضيّقة، و عدم الاطّلاع على مدى الفوائد والأضرار التي تنطوي عليها التقنيات الحديثة والمنتجات الصناعية الجديدة. و نظراً إلى أنها ذات قابليات متفاوتة، و هي بمثابة سيف ذي حدّين، و يمكن الاستفادة منها على نحو السلب والإيجاب، فالأنظار تتركز عادة على أضرارها و تتجاهل منافعها.

و إذا كان تجاهل الحكام المسلمين لأمثال هذه الأُمور سبباً لتخلّف الشعوب الإسلامية، رغبة منهم في اتّباع السبيل الأقل متاعباً حسب الظاهر، فإنّ هذا التجاهل يؤدّي إلى حجب التطوّر والمدنية عن المجتمع، والمسؤولية في ذلك تقع على عاتق الحكام؛ لأن مثل هذا العمل يثبّط عزائم العلماء المسلمين، و يسيء إلى سمعة الإسلام.

والملاحظة الأُخرى التي ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار، هي أنّ منع نشر كتاب أو مقالة غالباً ما يكون سبباً لتشجيع المنشورات السريّة أو توزيع ذلك الكتاب بالخفية، ممّا يدعو إلى المزيد من الإقبال عليه والولع به والحرص على اقتنائه والاطّلاع عليه، خاصة في الظروف الحالية حيث سهّلت وسائل الطباعة الحديثة كل صعب. والمنع في مثل هذه الحالة يوهن الحق؛ لأن التظاهر بالمظلومية يفضي إلى المزيد من إشاعة الباطل و ترويجه، و يعمي المنطق والاستدلال. و أفضل الحلول لمثل هذه الحالات هو الارتقاء بالمستوى الفكري والثقافي لأبناء الشعب. عن طريق النقد و تبادل الآراء بأُسلوب المنطق والاستدلال.

2 - الشؤون الاقتصادية

أثبتت التجارب البشرية أنّ الدولة غير ناجحة في إدارة الشؤون الاقتصادية، و يجب أن لاتتدخل فيها مباشرة، و واجبها الأساسي في هذا الحقل هو الإشراف، و تشريع القوانين و

ص:493

تنفيذها في سبيل تحسين الوضع الاقتصادي للشعب. والشؤون المالية ينبغي أن تسير في ظل التنافس الاقتصادي السليم. و كثيراً ما يؤدي تدخّل السلطات و أصحاب النفوذ فيها إلى خلق مشاكل عديدة، إلّاإذا كان ذلك لمنع الفساد الاقتصادي و رعاية ضمانات العمل والاستثمار وفقاً لرأي علماء الاقتصاد و مفاد قوانين العمل.

الإسلام بصفته دين الفطرة، يؤكّد على ضرورة النشاط الطبيعي في الإنتاج و توزيع الثروة والخدمات، و يدعو المسؤولين إلى رعاية المعطيات الطبيعية للشؤون الاقتصادية، و يحذّر من المشاريع غير المدروسة.

و بالإضافة إلى عملية التبادل التجاري الطبيعي، فإنّ بعض القضايا المالية الكبيرة تقع على عاتق المسؤولين، و هو ما يعني أن الكثير من الثروات الطبيعية خاضعة للدولة الإسلامية.

و نحن نستعرض في ما يلي - بإيجاز - القطاعات الاقتصادية الخاضعة للدولة الإسلامية.

أ - الأنفال

ذكرنا في فصل الاقتصاد، أنّ بعض ما يتعلق بعموم الناس من الأموال يُسمّى «الأنفال».

و ذُكرت مصادرها. والأنفال في الحقيقة هي من الثروات الطبيعية والأموال العامّة التي تكون تحت تصرّف الدولة الإسلامية. و ينبغي الاستفادة منها بشكل صحيح و مفيد لكل المجتمع.

العائدات التي يدرّها إيجار واستثمار هذه الأموال، يعد جزءاً من بيت المال و يجب إنفاقه في مظانّه. و على المسؤولين التخلّي عن النظرة الضيّقة و عدم فرض قيود في هذا المجال، بل عليهم ممارسة دور الإشراف، و تفويض أمر الاستفادة من هذه المصادر إلى ذوي الخبرة لكي لاتضمحلّ دواعي الجهد والكدح والنشاط.

و حتى إذا فُوّض أمر الاستفادة منها إلى الأفراد، فإنّ الدولة هي صاحبة القرار العملي لتوجيهها و إدارتها بما يصب في مصلحة الأُمّة.

ص:494

ب - المباحات العامّة

و هي الأشياء الموجودة في الطبيعة و لاتعود ملكيّتها إلى شخص معين. جاء في حديث نبوي شريف: «الناسُ شُرَكاء في ثَلاثَة: النّارِ وَالماءِ وَالْكَلأِ».(1) و يبدو أن المراد من النار، الطاقة الحرارية، و لكن هناك احتمال قوي بأنَّ المراد منها هو مصدر الحرارة؛ أي الوقود.

و على هذا فإنّ مسؤولية إدارتها تقع على عاتق الدولة تفادياً لِما قد يقع بين الناس المستفيدين منها من تعارض في المصالح. و من الطبيعي أن تقع مهمّة حماية البيئة أيضاً على عاتق الدولة التي يجب أن تشرّع القوانين التي تتكفل بالحفاظ على الغابات والمراتع والمياه والجبال والهواء النقي والبحار، و منع إهدارها.

هذه المباحات ملك لجميع الناس و لايجوز أن تكون حكراً على فئة معيّنة؛ لأن هذا يتعارض مع ما تدعو إليه الشريعة المحمدية.

لقد تحوّلت حماية البيئة اليوم إلى قضية دولية، و هكذا الحال بالنسبة إلى المصادر المشتركة خاصة ما يتعلّق بالمياه والبحار والنفط والغاز؛ لأن هذه المصادر غدت سبباً لصراعات مدمّرة. و على الدول الإسلامية أن تسعى إلى الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية، مع الحفاظ على مصالح شعوبها و حماية الحقوق الإنسانية والطبيعية لشعوبها.

ج - الضرائب

كل دولة مكلّفة بالقيام بمجموعة من الخدمات إضافة إلى حماية أمن شعوبها ضد أي تهديد داخلي أو خارجي. و هي تنفق على هذه الأُمور من الضرائب التي تستوفيها من العائدات العامّة. فهي تفرض الضرائب بنسبة مئوية معيّنة على الدخل الفردي، و تقرّر تعرفة معيّنة على الصادرات والواردات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

والإسلام لايعارض هذا العمل و لكن يشترط فيه العدالة و رعاية حقوق دافعي الضرائب.

ص:495


1- - النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 4 من أبواب إحياء الموات، ج 17، ص 114، الحديث 2.
د - الخمس والزكاة

بعض الضرائب ذكرتها المصادر الدينية صراحة، و من أشهرها الخمس والزكاة. و أساس تشريع هاتين الفريضتين الماليّتين هو ما يقتضيه الإنفاق على بعض الشؤون الاجتماعية، كالاهتمام بشؤون الفقراء والمساكين و أبناء السبيل و حتى بعض الأعمال الخيرية التي يعود نفعها على جميع المسلمين.

تنفق أموال الخمس والزكاة في زمان غياب الإمام المعصوم عليه السلام تحت إشراف المجتهد الجامع للشرائط، في الموارد التي عيّنتها الشريعة. و لابُدّ طبعاً من وضع نظام لاستلام و دفع هذه الضرائب، و تركها إلى المكلّفين لايفي بالغرض الذي ترمي إليه الشريعة.

ه - الأوقاف العامّة

الدولة الإسلامية هي المسؤولة شرعاً عن الأوقاف العامّة و إدارتها. و مع أن الأوقاف يجب أن تنفق وفقاً لإرادة الواقف، و لكنها مما ينطبق عليه الصدقة الجارية، و يجب على الدولة إنفاق عائداتها في تلك الموارد و بناءً على ما تقتضيه مصالح المسلمين.

العلاقات الاقتصادية الدولية

في هذه الظروف التي تقاربت فيها حياة الناس بشكل لافت للنظر، حيث تطوّرت واتّسعت سبل و وسائل النقل إلى حدٍّ بعيد، و كثرت الاتفاقيات والمعاهدات الاقتصادية الدولية، تعاظم تبعاً لذلك دور الحكومات في ضمان مصالح أبناء الشعب بالعدالة؛ إذ أن العلاقات السياسية والثقافية البنّاءة تعود على الشعب بفوائد اقتصادية هائلة، والعكس صحيح أيضاً. و هذا ما يستدعي العمل من أجل تعزيز العلاقات الدولية برؤية شمولية، و عدم اللُّجوء إلى قطعها أو إضعافها؛ لأن الناس من سنخ واحد و بحاجة ملحّة للتعايش السلمي.

و على الدولة أن تحرص على حفظ حقوق الشعب - مع عدم الإضرار بسائر الشعوب -

ص:496

في العقود والاتفاقيات الاقتصادية الدولية، مع الحرص على مشاركة القطاعات غير الحكومية والاهتمام بالمتطلبات الضرورية لعموم الشعب.

و في هذا المجال ينبغي إعطاء الأولوية لحريّة التجارة، و فسح المجال أمام الصادرات والواردات، هذا طبعاً إلى جانب رعاية الاستقلال والسيادة الوطنية و حماية المنتج والمستهلك.

و على الدولة أيضاً أن تحول دون تسلط الأجانب على اقتصاد البلاد انطلاقاً من قاعدة نفي السبيل المستقاة من قوله تعالى (وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) .(1)

و من الواضح أنّ الوضع المعقّد للتجارة العالمية في عصرنا الراهن يتطلب خبرة لايجيدها إلّاالمختصّون في حقل الاقتصاد والسياسة. و على أصحاب القرار في الدولة الإسلامية أن يستفيدوا من أصحاب هذه الاختصاصات لمعرفة السُبُل الصحيحة والسير عليها.

لاشكّ في أنّ التشدد في العلاقات الاقتصادية الدولية، أو التساهل في العقود، يؤدي عادة إلى إهدار حقوق الشعوب و تضييع مصلحة الناس. و هؤلاء ينالهم سخط اللّه. جاء في حديث شريف: «مَنْ وُلِّىَ شَيْئاً مِنْ امُورِ المسْلِمين فَضَيَّعَهُمْ، ضَيَّعَهُ اللّه».(2)

العدالة الاقتصادية

للدولة دور مهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي والمساواة؛ و ذلك لأنّ مصادر الثروات العامّة بيدها. والقرارات التي تتّخذ عادة في المجال الاقتصادي تؤدّي إلى إثراء البعض على نحو يُساهم في حصول فوارق طبقية شاسعة، و تؤدّي في الوقت ذاته إلى إفقار البعض إلى أدنى درجات الفقر.

من المعروف أن الإسلام يعارض تكديس الثروة والفوارق الطبقية، و لكنّ بعض

ص:497


1- سورة النساء (4)، الآية 141.
2- الصدوق، ثواب الاعمال وعقاب الاعمال، ص 309، الحديث 1.

الضرورات الاجتماعية تمنع القيود. و توزيع الثروات والمقدّرات العامّة مهمّة دقيقة، و تحتاج إلى تدبير سليم من قبل المسؤولين. و ينبغي - طبعاً - ترجيح رضا العامّة على رضا الخواص.

و يجب بطبيعة الحال مراعاة الاختلاف في القدرات والاستعدادات؛ لأنّ هذه الظاهرة طبيعية و معقولة، و تتماشى مع العدل والانصاف. فليس المراد من العدالة الاجتماعية النظر إلى الاستعدادات بعين واحدة و تجاهل الاختلاف في الطاقات والقدرات. و مع ذلك لابُدّ من الانتباه إلى عدم فرض رغبات و ميول غير عادلة على المجتمع تحت ذريعة هذه المتطلّبات الصحيحة.

يمكن من خلال الحسابات الصحيحة والإحصائيات الدقيقة استشراف النتائج التي تتمخّض عن القرارات والإجراءات السياسية، والاقتصادية والثقافية، و معرفة مدى تطابقها أو عدم تطابقها مع الأهداف والغايات المنشودة. فالقرار الصحيح يؤثّر إيجابياً في حركة المجتمع، و أدنى خطأ يُرتكب في هذا المجال تظهر تأثيراته. هذا يستدعي طبعاً الوقوف بوجه استمرار و تراكم القرارات الخاطئة، تلافياً لوقوع المزيد من الخسائر.

جاء في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام: «ما اوْسَعَ الْعَدْلَ، انَّ النّاسَ يَسْتَغْنُونَ اذا عُدِلَ فيهِم وَ تُنْزِلُ السّماءُ رِزْقَها وَ تُخْرِجُ الأرضُ بَرَكَتَها بِاِذْنِ اللّهِ تَعالى».(1)

تجدر الإشارة إلى أنّ الشعوب الإسلامية مرّت بعهود من الظلم والتمييز أدت إلى ظهور طبقات تفصلها فوارق شاسعة من الفقر والغنى. والمتصدّون العادلون لايتسنّى لهم ادّعاء تطبيق العدالة دون أخذ الماضي بنظر الاعتبار.

المجتمع الذي أُرسيت فيه ركائز كل أنواع التمييز، و ظهرت فواصل طبقية عميقة بين شرائحه، إذا أُريد تطبيق العدالة فيه، لابُدّ من معرفة الأسباب الجذرية والتعويض عمّا فات.

و أحياناً تتطلب الحاجة توجيه المقدّرات إلى مناطق عاش الناس فيها في فقر و حرمان مريرين.

ص:498


1- الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 2، ص 53، باب الخراج والجزية، الحديث 1677؛ الكُلَيني، الكافي، ج 3، ص 568، الحديث 6؛ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 4، ص 136، الحديث 380.

و يتعيّن في هذا المضمار توخّي الدقّة و أخذ المصلحة العامّة بنظر الاعتبار، لكي لاتتخذ إجراءات ظالمة تحت ذريعة إعادة الحق إلى أصحابه. و إذا كانت مدّة التمييز قد طالت و بات من المتعذر معرفة أصحاب الأموال الأصليين، ينبغي إزالة الحرمان عن أبناء المجتمع عن طريق التركيز على تخصيص المزيد من الثروات العامّة للمحرومين.

أوصى أميرالمؤمنين عليه السلام مالكاً الأشتر في عهده إليه: «ثُمَّ اللّهَ اللّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلى مِنَ الّذينَ لاحيلَةَ لَهمْ مِنَ الْمَساكينِ وَالمحْتاجين وَ اهْلِ الْبُؤسى وَ الزّمنى... وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مالكَ وَ قِسْماً مِنْ غَلّاتِ صَوافِي الْاِسْلامِ في كُلِّ بَلَدٍ فَاِنَّ لِلْاَقْصى مِنْهُمْ مثلَ الّذي لِلْاَدْنى...».(1)

و بالإضافة إلى واجب الدولة في التخطيط من أجل رعاية عموم الشعب و إدارة دفّة البلاد، عليها أيضاً أن تأخذ بنظر الاعتبار الضعفاء الذين يعجزون عن تأمين لقمة العيش لأنفسهم و لأُسرهم، و أن تحوطهم بمزيد من الرعاية: «وَ تَفَقَّدْ امورَ مَنْ لايَصِلُ الَيْك مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُون وَ تَحْقِرُهُ الرّجال فَفَرِّغْ لِاُولئكَ ثِقَتَكَ مِنْ اهْلِ الْخشيَةِ وَالتَّواضُع»(2)

أي على مسؤولي الدولة أن يبذلوا للفقراء من الجهد والرعاية ما يُعذرون به أمام اللّه يوم القيامة «ثُمَّ اعْمَلْ فيهِمْ بِالإعْذارِ الَى اللّهِ يَوْمَ تَلْقاه».(3)

و قال عليه السلام أيضاً في موضع آخر: «اِنَّ السُّلْطانَ لَاَمينُ اللّهِ فِي الأرض وَ مُقيمُ الْعَدْلِ فِي الْبِلادِ وَالْعِبادِ وَ وَزعتُهُ فِي الأرض».(4)

3 - الشؤون السياسية
أ - الوحدة والأخوّة الإسلامية

يؤكد القرآن كثيراً على وحدة الأُمّة الإسلامية، و يأمر بها، كما في قوله تعالى:

(وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (5) و في هذه الآية أمر بالوحدة و نهي عن الفرقة.

ص:499


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 53.
2- - المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 341، الحديث 7797.
5- - سورة آل عمران (3)، الآية 103.

الأحكام الشرعية إما أن يؤمر بها و إما أن يُنهى عنها، و تُترك لوازمها للمكلَّف؛ أي أنّ المكلَّف يعلم بالعمل الذي يؤمر بالامتناع عنه، و لكن في ما يخص الوحدة التي ضدّها الفرقة ورد التصريح بكلا الأمرين. فقد ورد التصريح بوجوب الوحدة من جهة و حرمة الفرقة من جهة أُخرى. و لعلّ هذا الأمر قد جاء من أجل إغلاق الباب أمام أي ذريعة للتهرّب من قضية الوحدة. و لعل النظرة إلى الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم، والفرقة المريرة التي نشأت بينهم منذ أربعة عشر قرناً، والأضرار التي لحقت بهم من جرّاء ذلك، يمكن أن تكشف لنا عن السر الكامن وراء كل هذا التأكيد الإلهي على قضية الوحدة.

ب - حوار الأديان

أمر القرآن الكريم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بدعوة أهل الكتاب إلى الالتفاف حول راية التوحيد في العبادة: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ) . (1) و في هذا الأمر لم يرد ذكر نبوّة محمد صلى الله عليه و آله و سلم رغم أهميّتها و قطعيتها، لكي لاتكون هناك كلمة اختلاف، تؤدّي إلى فشل الوحدة في الخطوة الأُولى.

و على المسلمين نبذ كل ما يدعو إلى الاختلاف وسوء الظن، والالتفاف حول كلمة «سواء» و جعلها قاعدة للوحدة، و اجتناب كل قول أو فعل يؤدّي إلى الفرقة.

لعلّ أهم سبيل عملي للوحدة هو الاعتراف باختلاف الآراء، والابتعاد عن الإساءة إلى البعض الآخر، والتأكيد على المشتركات. و يحق طبعاً لعلماء جميع الأديان والفرق طرح و جهات نظرهم، و لكن من الأفضل طبعاً أن يجري بحث مواطن الاختلاف من خلال البحث والنقاش في أجواء علمية، من أجل التوصّل إلى وفاق واتّفاق في الآراء. ثم يُطرح ذلك في الأوساط الأُخرى. و في حالة بقاء اختلاف الآراء، يبقى كل واحد متشبّثاً بما لديه من أدلّةٍ و حجج يراها صائبة.

ص:500


1- - سورة آل عمران (3)، الآية 64.
ج - التعايش السلمي

على المتصدّين لإدارة شؤون الدولة الإسلامية الحفاظ على الاستقرار والتعايش السلمي، والابتعاد عن التوتر و إثارة الصراعات بين الناس، إضافة إلى معاملة أتباع الأديان الأُخرى بالحُسنى، بل يعاملون بالحسنى كل الناس. يصرّح القرآن الكريم: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (1) و يأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بما يلي: (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ) . (2) و عن الصادق عليه السلام «افُش السَّلام في العالَم».(3)

و على هذا الأساس يجب أن تكون كلمات وسلوك جميع الحكّام المسلمين دقيقة، و تأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أن يتمخّض عنها من نتائج على الصعيد العالمي. و عليهم الاحتراز من كل كلام يثير التوتر و يمهّد لوقوع الحرب والعداوات أو يؤدي إلى تضييق الخِناق على المسلمين، و خاصة في الأماكن التي يشكل فيها المسلمون أقلية. و ينبغي تقديم توضيح منطقي و معقول لأي سوء فهم ينتج عن بعض الأقوال والمواقف حفاظاً على الاستقرار. و إذا كان اهمال المسؤولين سبباً في إثارة الأديان والمذاهب الأخرى و أدّى إلى وقوع خسائر مادية و معنوية، فالمسؤولية الشرعية تقع على عاتق اولئك المسؤولين. قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «كُلُّ انسانٍ مُؤاخَذٌ بِجنايَةِ لِسانِهِ وَ يَدِهِ»(4) و قال في موضع آخر:

«رُبَّ فِتْنَةٍ اثارَها قَوْلٌ».(5)

الذين يشغلون مناصب حكومية مهمّة يجب أن يكونوا ممّن يزنون الكلام، و إذا بَدَر منهم خطأ عليهم المسارعة إلى تلافيه في أسرع وقت.

لقد كانت النزعات القومية والأنانية أهم أسباب الحروب التي شهدتها البشرية. و قد

ص:501


1- - سورة الممتحنة (60)، الآية 8.
2- سورة الأنفال (8)، الآية 61.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 34 من أبواب جهاد النفس، ح 15، ص 284، الحديث 7.
4- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 213، الحديث 4157.
5- المصدر السابق، الحديث 4152.

نهى الإسلام عن كل هذه النوازع. إنّ الدعوة التي أطلقها نبي الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم للأديان التوحيدية و دعاها فيها الى التضامن والوحدة، أبرز دليل على لزوم التعايش السلمي بين أبناء البشرية. و هذه الدعوة لازالت باقية على قوّتها. و على أتباعه ان يشمروا عن سواعد العزم على هذا السبيل.

من الواضح أنّ التعايش السلمي يعني الاعتراف بالآخر والاحترام المتبادل. أما الفوارق الموجوة بين الناس فهي من أجل التعارف فحسب(1) و هذا يعني إمكانية التعايش السلمي رغم وجود الفوارق والاختلافات. إنّ الصورة السلبية التي تُكرّس في بعض المجتمعات و تظهر أن دين اللّه لايحتوي على رسالة سوى رسالة الحروب و إراقة الدماء، لاتنسجم طبعاً مع حقيقة دين اللّه، و لاتقوم على أي اساس علمي و منطقي.

و استناداً إلى ما سبق ذكره، إضافة إلى كثرة أدلّة لزوم العدل والإنصاف بشأن كل أبناء العالم، فإنَّ أي إقدام يرمي إلى العبث بالاستقرار مخالف للعقل والشرع. و لايحق لمسلمٍ الإقدام على أعمال عدائية ما لم يكن هناك من يقومون بمثل هذه الأعمال العدائية ضدّه.

والسبيل الوحيد المتاح لهم هم الدعوة إلى أفكارهم و آرائهم بالحق.

د - المعاهدات الدولية

من الجائز، بل من الواجب أحياناً عقد الاتفاقيات والمعاهدات بين المسلمين والدول الأُخرى بناءً على ما فيها من منافع و مكتسبات، مثلما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتعاقد مع المشركين، مثلاً. و من الأهداف التي تسعى إليها الحكومة عادة بسط الأمن و توفير الأجواء المناسبة للتجارة الدولية بما يحفظ مصالح الشعوب. والإسلام يؤيد هذا المسعى أيضاً و يدعو إليه.

و من الواضح أن الاتفاقيات مع البلدان الأُخرى يجب أن لايكون فيها مَساس بكرامة المسلمين، امتثالاً لقوله تعالى: (وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ) . (2) قال الإمام

ص:502


1- - سورة الحجرات (49)، الآية 13.
2- - سورة المنافقون (63)، الآية 8.

الصادق عليه السلام: «اِنَّ اللّهَ تَبارَكَ وَ تَعالى فَوَّضَ الَى الْمؤمِن كُلَّ شَىْ ءٍ الاّ اذْلالَ نَفْسِهِ».(1)

الاتفاقيات التي تضمن مصالح بلد معين و لكنّها تضر بشعب آخر أو تنطوي على ظلم فادح له، لاترضاها الشريعة المحمدية، و يجب اجتنابها. قال تبارك و تعالى في آية الإحسان - التي ذكرناها في المبحث السابق - و في قوله: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) (2) و يُستفاد من هاتين الآيتين و من الآيات السابقة والتالية لها، و من آيات أُخرى أيضاً، أنَّ الإحسان يشمل كل الناس، و لايستثنى منه إلّاالمحاربون الذين يقاتلون المسلمين، و من يمارسون الظلم ضد المسلمين.

ه - تقيّة المداراة

يستطيع المتصدّون لإدارة الشؤون الاجتماعية التغاضي وقتياً عن بعض الفروع الجزئية للأحكام رعاية لمبدأ الوحدة بين المسلمين، أو تفادياً لِما يمكن أن يقع بينهم من سوء فهم للتعاليم الدينية. و هذا هو ما يُسمّى بتقية المداراة، و هو يُعدّ من المباحث المهمة في السياسة الاجتماعية في الإسلام.

يعمل بالتقية عادة في مقابل جهات أقوى أو في حالات الضرر البالغ، و لكنها تكون أحياناً بمثابة نوع من ضبط النفس رعاية لمصالح ذات نطاق أوسع و بما له صِلة بالمذاهب الإسلامية. و في ضوء ذلك إذا تبيّن للدولة الإسلامية من خلال القنوات المختصّة أنّ العمل ببعض الأحكام يعود على الأُمّة الإسلامية أو على الإسلام بأضرار لا تُعوّض، يمكنها، بل ينبغي عليها التغاضي مؤقتاً عنها. خاصة إذا كانت الأوضاع الداخلية أو الدولية تؤدي إلى إثارة الفوضى والسخط، و إلى زعزعة مرتكزات الدّين و ثقة الناس بالحكومة الدينية فيما إذا أصرت الحكومة على بعض الأعمال الشرعية أو القرارات الحكومية الداخلية.

ص:503


1- - الكُليني، الكافي، ج 5، ص 63، الحديث 3.
2- - سورة الممتحنة (60)، الآيتان 8-9.

جاء في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: «التِّقيةُ في كُلِّ شَىْ ءٍ يَضْطَرُّ الَيْهِ ابْنُ آدَم، فَقَدْ احَلَّهُ اللّهُ لَهُ».(1) و روي عن الإمام الصادق عليه السلام: «اِنَّ تِسْعَةَ اعْشارِ الدّينِ فِي التّقية وَلادينَ لِمنْ لا تَقيّةَ لَهُ».(2) و قال «كلّما تَقَارَبَ هذا الأمر كانَ أشدّ للتقية».(3)

و جاء في رواية إنّ الإمام الصادق عليه السلام حذّر هشام بن الحكم من الإتيان بعمل يكون سبباً للملامة أو مدعاة للإساءة لأهل البيت، قال الإمام في هذه الرواية: «... صَلُّوا في عَشائرِهِم وَ عودوا مَرضاهُم وَ اشهَدوا جنائزهُم وَ لايَسبِقوَنَكُم إلى شَىءٍ مِنَ الخَير؛ فَأنتُم أولى بِه مِنهُم. وَاللّهِ ما عبداللّه بِشَىءٍ أحَبّ إلَيه مِنَ الخَبَأ. فقال الرّاوي قُلتُ: وَ ما الخَبَأ؟ قال عليه السلام: التقية».(4)

لابد أيضاً من الالتفات إلى أنّ ما ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار، مصالح العالم الإسلامي على الصعيد الدولي؛ و ذلك لأن الكثير من الساسة في العالم أو المفكّرين غير المسلمين قد وقعوا تحت تأثير السلوك المغلوط لبعض المسلمين على مدى التاريخ - من قبيل الممارسات الدموية القاسية التي كانت ترتكب في أيام الدولة العثمانية والصفوية، أو في أيام بني أُمية و بني العبّاس، أو ما يُقترف اليوم من جرائم باسم الإسلام - و هو ما يحملهم على تكوين صورة غير واقعية عن الإسلام و أحكامه. و لعلّهم لا ذنب لهم في هذا التصوّر.

و لهذا فإنَّ واجب قطاع الإعلام في الدولة الإسلامية هو إراءة صورة دقيقة وصحيحة عن الإسلام، من أجل تبديل أية دوافع لمعارضة أحكام الإسلام، و لكي لاتتكون لدى علماء العالم صورة سيّئة عن أحكام الإسلام النيّرة.

و هذا بطبيعة الحال طريق طويل و شاق. و إذا كان هذان العاملان يحولان دون اتّخاذ الطُرق الصحيحة للوصول إلى هذه الغاية، فسوف تطول مدّة وجوب التقية، و تمتد حالة الاضطرار للعمل بالأحكام الثانوية والمتطابقة مع المصالح العامّة للمسلمين. و مسؤولية ذلك تقع على عاتق أُولئك الذين يتوانون عن وضع الخطط الطويلة المدى، و يكتفون

ص:504


1- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 220، الحديث 18.
2- المصدر السابق، ج 2، ص 217، الحديث 2.
3- المصدر السابق، ج 3، ص 220، الحديث 17.
4- المصدر السابق، ج 2، ص 219، الحديث 11؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 16، ص 219، الحديث 2.

بالخطط القصيرة المدى، و في ذلك يتبجّح بعض الأفراد بالقول: إننا نطبق أحكام الإسلام و لا نبالي لِما يقوله الآخرون، و لكن عدم المبالاة لانعكاسات السلوك الاجتماعي ليست دليلاً على الكمال والتقوى. إذ من واجبات المسلمين ملاحظة تأثير سلوكهم في المجتمعات الأُخرى. و عليهم أن يجذبوا الآخرين إلى الإسلام بحسن سلوكهم.

و من الضروري أيضاً التنبيه إلى أن السلوك العنيف لبعض المسلمين في الماضي والحاضر لايتطابق مع القيم الدينية، و لا مع سنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو سيرة الأئمة المعصومين عليهم السلام. و مثل هذه الأعمال لاتتماشى مع الأحكام الأولية للإسلام. و في هذه الحالات لايصل الدور إلى الأحكام الثانوية و لزوم التقية، و يجب اجتنابها على أيّة حال.

و - الإصلاح بين الناس في السياسة الخارجية والداخلية

يتعيّن على المسؤولين في الدولة الإسلامية الالتزام بمتطلبات التصدّي للمناصب الاجتماعية، و أهم تلك المتطلبات قيامهم بدور الحَكَم في الوسط الاجتماعي. فالقرارات التي تُتخذ شبيهة إلى حدٍّ ما بالتحكيم الذي تؤدّي فيه العدالة إلى استقرار السلطة و ثباتها، و أما الظلم فيه فيؤدّي إلى زعزعة السلطة. «اَلحيفُ يَدْعُو الَى السَّيْفِ».(1)

تبرز عادة في الوسط الاجتماعي اختلافات فئوية، و قومية، و سياسية و غيرها. و على المسؤولين أن يؤدّوا فيها دور الحَكَم المحايد، كالأب الذي يسعى إلى إقامة الحق بين أبنائه بعيداً عن جرح مشاعر أحدٍ منهم، و يحاول التوفيق بينهم و إصلاح ذات بينهم. و هكذا الحال أيضاً على صعيد الصراعات بين الدول، إذ يجب السعي لحل الاختلافات عن طريق السلوك المنطقي، و بالنحو الذي يعكس الوجه الحقيقي للدولة الإسلامية، التي تُعتبر في الواقع الترجمان الأصيل للروح الإسلامية التي أوجزها القرآن بالآية الشريفة (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) .(2)

الدولة الإسلامية ترحّب بإحلال السلام والمحبّة بين شعوب العالم، و تعتبر ذلك جزءاً

ص:505


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 476، ص 559.
2- سورة الأنبياء (21)، الآية 107.

من أهدافها. و في الوقت ذاته تعتبر دعم المظلومين و إحقاق حقوقهم المشروعة جزءاً من سياستها القائمة على العدالة.

إن الإصلاح بين الناس دعوة قرآنية، و هو مما أكدت عليه روايات كثيرة.

ز - الاستقلال التام

يجب أن تتمتع الدولة الإسلامية بالاستقلال التام في جميع قراراتها، بما يخدم مصالحها الداخلية والخارجية، و لاتسمح بأن يُفرض عليها شيء خارج المسار الطبيعي. والتدبير الصائب للمسؤولين قادر على منع الكثير من القرارات الاضطرارية، و إبقاء طريق الاستقلال مفتوحاً على مصراعيه و لايوقع الشعب في ما لايرغب فيه.

إنَّ القدرة على التحليل و كشف متطلّبات الأُمور، والحِسّ السياسي واستشراف الوقائع يمكن أن يرسم معالم الشخصية المستقلة للحاكم الإسلامي. و يجب أن لاتكون أفعال الدولة الإسلامية بمثابة ردود أفعال على الواقع الذي يخلفه الآخرون، بل يجب أن يكون لها دور فاعل يؤثر في الواقع، و أن ترسم سياستها قبل وقوع الحوادث.(1) فكل من تفوته الفرص التاريخية و لايستثمرها في حينها، يجد نفسه في اتخاذ القرار فاقداً لاستقلاله.

4 - الشؤون العسكرية والأمنية

من ضرورات الحياة الاجتماعية وجود قوات مسلّحة لمجابهة الحوادث المحتملة والدفاع عن ثغور البلاد ضد أي عدوان خارجي. و وجود قوى الأمن، للحفاظ على الأمن الداخلي.

لقد أكّد الإسلام على الاهتمام بهذه الأُمور، حين أقر الأساليب التي كانت سائدة في المجتمعات السابقة، و قدّم إرشادات للاستفادة المثلى من تلك الأساليب. و لاشكّ في أنّ الالتزام بهذه القيم والمبادىء يساعد على تحقيق أهداف الدولة الإسلامية و تمييز المجتمع الديني عن غيره.

ص:506


1- - عن علي عليه السلام: «كلّ شيء طلبته في وقته فقد فات وقته» ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 20، ص 323، الحديث 700.
أ - تأسيس و إدارة القوات المسلّحة

دعا القرآن الكريم صراحة إلى إعداد القوّة العسكرية: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ) . (1) و هذه الدعوة تبدو ردَّ فعل طبيعي لايغمض عينيه عن الواقع في عالم يحتكم فيه كل شيء إلى القوّة و إلى السلاح.

و رغم أن الدّين يتطلّع إلى بناء عالم يخلو من الصراعات والحروب، و هو بطبيعة الحال عالم لايحتاج إلى كثير من إعدادات القوّة العسكرية، و لكن هذا العالم المليء بالقوى العسكرية المجهّزة بأحدث الأسلحة المدمّرة، لايمكن للعالم الإسلامي أن يتوانى أو يتهاون في تجهيز نفسه بالقوّة العسكرية اللازمة للدفاع عن كيانه و عن كرامة المسلمين.

و أما على الصعيد الداخلي للدولة الإسلامية فلابُدّ أيضاً من وجود قوّة قادرة على ردع الظالمين و حماية المظلومين. و ظالما كان هناك تعدٍّ على حقوق الآخرين، فلابّد من وجود قوّة مسلحة تردع الظالمين عن التعدّي على المظلومين.

من المعروف أن الواجب الأساسي للدولة بسط الأمن الاجتماعي والاقتصادي والسهر على أموال الناس و أرواحهم، و لابُدّ طبعاً أن تكون لدى الدولة الإسلامية الوسائل المناسبة للنهوض بهذه المهمة.

ب - الجهاد والدفاع

سبق - عند الحديث عن أهداف الحكومة - أنّ إحدى الضرورات التي دفعت الإنسان إلى إقامة الدولة والحكومة هي الحاجة إلى الدفاع عن المجتمع و مصالحه ضدَّ أي عدوان.

و انطلاقاً من هذه الرؤية أقرّ الإسلام مبدأ الدفاع والجهاد الدفاعي، لكي يكون توازن القوى سبباً لإزالة أو تقليل احتمالات التفكير بالهجوم والعدوان على الغير. و إذا كان هناك عدو

ص:507


1- - سورة الأنفال (8)، الآية 60.

غاشم فلابّد أن يواجه مقاومة من أجل أن تكون كلفة العدوان غالية، فيصدّه ذلك عن التفكير في العدوان.

و قد قَسّم الفقهاء، الجهاد، إلى نوعين: ابتدائي و دفاعي، و لكن بعد إمعان النظر في هذا الموضوع يمكن القول: إنّ الجهاد في كل الأحوال دفاعي؛ أي لمنع الظلم و لأجل الدفاع عن الحق. و قد حدثت بعض الوقائع التي يوحي ظاهرها بأن جبهة الحق هي التي بدأت بالهجوم والعدوان، و لكنَّ حقيقة الحال هي أن مواقفها لم تكن إلّادفاعاً عن القيم الإنسانية، و عن حقوق الناس المسحوقين تحت عجلة الظلم. و هذا من أكثر الأساليب منطقية. جاء في القرآن الكريم: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (1)

و قال تعالى في آية أُخرى: (وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) .(2)

الغاية من تشريع الجهاد هو الدفاع ضدّ من يعتدي على حقوق الناس ويُربك الأمن. و ما حصل في صدر الإسلام في زمان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من معارك مثل معركة بدر، إنّما كان دفاعاً تأخّر عن حينه بضع سنين بسبب الافتقار للقوة الدفاعية. كان المسلمون قبل ذلك قد أخرجوا من ديارهم و هاجروا من مكّة و بقيت أموالهم فيها بسبب شدّة الضغوط التي واجهوها من المشركين. واستطاعوا في معركة بدر استعادة قسمٍ منها بما غنموه من المعتدين.

ولو أنّ شعباً مظلوماً كالشعب الفلسطيني أُتيحت له فرصة استعادة أرضه - حتى و إن كان ذلك بعد عشرات السنين من اغتصابها - فإنّ عمله هذا يُعتبر جهاداً دفاعياً و ليس هجومياً. و هناك كلام لأميرالمؤمنين عليه السلام يقول فيه: «فإنّ الحق القديم لايبطله شيء»،(3)

و يمكن جعله قاعدة لهذا العمل.

ص:508


1- سورة الحج (22)، الآيتان 39-40.
2- سورة البقرة (2)، الآية 251.
3- - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ذيل الخطبة 15، ج 1، ص 269.

و نحن إذا نظرنا من هذه القاعدة و هي أن الحق لايبطل على مرّ الزمان، سنلاحظ أن الأعمال العسكرية التي قام بها النبيّ، و غزواته و سراياه، لم تكن إلاّ دفاعاً عن المظلومين ولإزالة العراقيل التي وضعها المشركون على طريق المسلمين، أو على طريق من يريدون اعتناق الإسلام، حرصاً على توفير السبيل أمامهم لاختيار معتقدهم بحريّة.

ج - السلام والأمن

إذا توفرت سبل أُخرى لاستحصال حقوق المسلمين من غير الطرق العسكرية، ينبغي اغتنامها و دراسة إمكانية الاستفادة منها، و لكن ينبغي أن لايكون ذلك سبباً للفتور والتهاون، بل يجب الاحتفاظ بالقوّة العسكرية الكافية للدفاع.

يدعو القرآن الكريم بصراحة إلى السلام و نبذ الحرب: (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) . (1) قال الإمام الصادق عليه السلام في بيانه لمعنى حديث منقول عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إذا حاصر جيش المسلمين قوماً من المشركين، ثم برز أحدهم فقال: أعطوني الأمان حتى أُحدِّث أميركم و أناظره، فأعطاه أحد المسلمين الأمان وجب حتى على كبار قادة الجيش الالتزام بذلك الأمان.(2)

د - تأمين الطرق والحدود والمدن في زمان الصلح

من الواجبات المهمّة للحكومة حراسة حدود البلد، و مراقبة تحرُّكات القوات المسلّحة للبلد المجاور، هذا إضافة إلى ضبط الأمن على الطرق و في المدن.

اليوم يتولّى جهاز الشرطة بسط الأمن الاجتماعي و كسب ثقة الشعب و محاربة الجريمة. طبعاً ليس هناك مجتمع يخلو من المخالفات والجرائم. و يتولى هذا الجهاز أيضاً تنفيذ الأحكام القضائية. والشريعة المقدّسة لاتمانع من اتّباع هذا الأُسلوب، و إنّما تقرّ ما يرتضيه العقلاء.

ص:509


1- - سورة الأنفال (8)، الآية 61.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 20 من أبواب جهاد العدو، ج 15، ص 67، الحديث 1.

روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: «اَقِمِ النّاسَ عَلى سُنَّتِهِمْ وَ دينِهِمْ... وَ تَعاهَدْ ثُغُورَهُمْ وَ اطْرافَهُمْ».(1)

و لكن رغم كل ذلك ينبغي أن لايغيب عن الأذهان أنّ نجاح عمل القوات المسلحة و قوى الأمن يتوقف على تعاون الشعب، و مسايرتهم له. و هذا ما يدعوهم إلى الابتعاد عن أساليب الظلم والشدّة والتدخل في الشؤون الشخصية للأفراد، مع التغاضي عن الهفوات و عدم الخوض في الصراعات الحزبية والفئوية.

ه - الأمن والمخابرات

من الأجهزة التي تمارس بها الحكومة دورها و إشرافها على طريق تحقيق أهداف المجتمع، هو جهاز الأمن والمخابرات. و هو طبعاً من الأجهزة الحسّاسة التي تتوقف ثقة الشعب بالحكومة أو عدمها على كفاءتها و حسن أدائها. و من المعروف أن تطوّر وسائل الاتصال عقّد مهمة ضبط الأمن. و من الطبيعي إنّ كل شعب لديه أسرار يجب أن تبقى طيّ الكتمان؛ لِما لها من أهمية في تقدّم البلد أو تخلّفه، سواء كانت من نوع الأسرار العسكرية أو الاقتصادية أو العلمية أو السياسية أو التقنية.

في العصر الذي نعيش فيه يحتل الأمن مكانة مهمة. ويُفترض بالمجتمع الإسلامي أن لاينسى موقعه في هذا التنافس والصراع. و على الحكومة الإسلامية بصفتها ممثلاً عن شعبها ان تهتم بالأمن آخذة بنظر الاعتبار دوره في استقرار البلد أو إثارة الاضطرابات فيه.

و ان تستفيد من التجارب البشرية في الجانب الإيجابي والمشروع منها.

لقد دعا الإسلام منذ مطلع ظهوره و إقامة دولته في مدينة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى الأخذ بأساليب حفظ الأمن التي كانت متّبعة في ذلك الوقت. و هذا ما يلاحظ وجوده في الآثار المتبقية منذ ذلك الوقت، مثل كلمات العيون، و «العين» والشرطة، والعرفاء، و ما إلى ذلك، التي تشير إلى أجهزة الأمن والاستخبارات.

ص:510


1- الآمدي، غُرَر الحِكَم، ج 2، ص 215، الحديث 2419.

و من أهم الضرورات التي تدعو في الوقت الحاضر إلى وجود أجهزة الأمن والاستخبارات هي:

1 - وجود جهاز مركزي لجمع المعلومات الأمنية والاهتمام بالجانب الأمني و مكافحة عمل الأجهزة الأمنية المضادّة.

2 - الإشراف الأمني على القوات المسلّحة في ضوء ما يمكن أن يحصل من مؤامرات عسكرية وسوء استغلال للسلاح، و ما قد يحصل من تحرّكات تزعزع أمن البلاد. و ينبغي أن يقتصر دورها هنا على جمع المعلومات، و أما بقية الأمور فتترك لمسؤولي البلاد.

3 - مكافحة النشاط الأمني الأجنبي المعادي والمضاد لمصالح المجتمع الإسلامي في داخل و خارج البلد.

في العهود الماضية كانت مهمة مراقبة أعمال الولاة و عمّال الدولة توكل إلى وكلاء سريين (العيون) و إلى الأجهزة الأمنية، و لكن هذه المهمّة أصبحت تؤدّى في العصر الحديث من قبل وسائل الإعلام بسبب ما تتصف به من سرعة نقل المعلومات.

و نظراً إلى ما يتسم به عمل الأجهزة الأمنية من سريّة لذلك تصعب مراقبته. و هذا ما يجعله معرّضاً لكثير من الإنحرافات كالخيانة، والتقارير الكاذبة، واختلاق التُهم للآخرين.

و لهذا يجب أن يكون لمؤسسات الدولة إشراف دقيق و رقابة صارمة على الأجهزة الأمنية، مع وضع تشريعات رادعة في هذا المجال. إذ كلّما كان تدخل هذه الأجهزة في شؤون البلد أقل، يستتب الأمن في البلد أكثر. و في مثل هذه القضايا ينبغي الاكتفاء بما هو ضروري منها، و لايجوز ان يُسمح لجماعة بالاطلاع على جميع أسرار الناس و استغلالها.

و لعل قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كما جاء في احدى الروايات -: «إنّ العرافة حَقٌّ وَ لابُدَّ لِلنّاسِ مِنَ العُرَفاءِ و لكنَّ العُرَفاءَ في النّار»،(1) ينم عن مدى خطورة هذا العمل، و سبب اخفاق بعض العاملين في هذا الحقل في إنجاز واجباتهم الشرعية والقانونية، و تخطّيهم الحدود المرسومة لهم. و انطلاقاً من ذلك يفترض توخّي أقصى درجات الدقّة في تفويض

ص:511


1- - سنن أبى داود، باب في العرافة، ج 3، ص 132، الحديث 2934.

المسؤوليات الأمنية إلى الأفراد بالنحو الذي لايؤدّى إلى هتك الحرمات والإساءة إلى الناس، و بالتالي إلى التشكيك في مشروعية النظام.

روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام انه قال: «إيّاكَ انْ تَكُونَ... شُرطياً اوْ عَريفاً... فَانَّ نَبِيَّ اللّهِ خَرَجَ ذاتَ لَيْلَةٍ فَنَظَر الَى السَّماء فَقال: اما انَّها السَّاعَةُ الّتي لاتَرَدّ فيها دَعْوةٌ الّا دَعْوَةُ عريفٍ... اوْ شُرطي...».(1) و كل هذه الأحاديث تدل على مدى حساسية عمل الأجهزة الأمنية والمنزلقات التي تحفّ به.

و على أية حال فإنَّ وجود مثل هذا الجهاز ضروري لحفظ الأمن، و لكن ينبغي الاكتفاء فيه بما تمليه الضرورة. و يجب طبعاً منع هذا الجهاز من التجسُّس على الحياة الخصوصية للناس، كما ينبغي أن لايدخل فيه إلاّ من تتوفر فيهم الأهلية الأخلاقية والإنسانية، و لايكون منفذاً يستغله المفسدون للإساءة إلى أبناء الشعب.

و على هذا الأساس لابُدّ أن يقتصر عمل هذا الجهاز على الشؤون الأمنية الداخلية منها والخارجية، و لاتفوّض إليه صلاحيات قضائية؛ لأن القضاء و مقدّماته من الأُمور التي يجب أن تجري في العلن. بينما عمل الأجهزة الأمنية يقوم على مبدأ الكتمان. و يفترض أيضاً أن تكون صلاحيات و مجالات عمل هذا الجهاز محددة، و يخضع لإشراف دقيق من قبل أجهزة حكومية، و تكون عليه رقابة من قبل وسائل الإعلام والمؤسسات الشعبية، عدا الأسرار العسكرية في مدّة معيّنة. و عندئذ يكون هذا الجهاز مفيداً للدولة الإسلامية.

5 - الشؤون القضائية

للقضاء في الدولة الإسلامية أهمية فائقة؛ و يعزى سبب هذه الأهمية إلى وجود خلافات قد تقع بين أبناء الشعب، أو بينهم و بين مسؤولين حكوميين، و يتعيّن على القضاء الحكم فيها. فالقضاء في حقيقته يمثّل حلقة وصل بين الشعب والحكومة؛ لأنه يمارس سلطته بواسطة قوّة الدولة و مؤسّساتها، و هو بذلك يُظهر استقلاله عن الحُكّام والمسؤولين في

ص:512


1- - الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 100 من أبواب ما يُكتسب به، ج 17، ص 315، الحديث 12.

الدفاع عن حقوق الشعب أمام السلطة و رجال الحكم.

في الماضي كان هذا المنصب في يد السلاطين و رؤساء الحكومات، و لكن التجربة البشرية أثبتت أنّ تقسيم السلطات يُقلل من مساوىء الحكم. و لهذا يفترض ان يكون هذا الأمر إلى القضاة و ان يكون مستقلاً عن عمل الحكومة.

الكثير من الفقهاء لايجيزون تصدّي غير المجتهد الجامع للشرائط لمنصب القضاء، و هذا موافق للاحتياط أيضاً. و ينبغي أن يكون القضاء أيضاً في يد من لايدخل في تنافس مع أبناء الشعب في القضايا الاجتماعية أو السياسية، و أن لايكون من ذوي الميول والاتجاهات الحزبية والفئات السياسية.

و أفضل السبل لاختيار مسؤولي القضاء الرجوع إلى آراء ذوي النظر في الشؤون الحقوقية والقضائية أو الرجوع إلى الرأي العام.

أ - القضاء و شروطه

مهمّة القضاء أصعب المهام و أكثرها تعرّضاً للمحاسبة يوم القيامة؛ لأنّ أدنى ظلم يرتكبه القاضي يؤاخذ عليه أمام اللّه. و قد وردت في الأحاديث تأكيدات كثيرة على آداب المحاكمات والعدالة في سلوك القاضي. و من ذلك أن الإمام الصادق عليه السلام قال في تصنيف القضاء: إنّ القضاة أربعة؛ ثلاثة في النار و واحد في الجنّة: رجل قضى بجور و هو يعلم، فهو في النار. و رجل قضى بجور و هو لايعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحق و هو لايعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحق و هو يعلم فهو في الجنّة.(1)

إنّ صعوبة هذه المهمة جَعَل الكثير من الفقهاء العظام يتردّدون في التصدّي لها؛ لأنّ إجراء الكثير من أحكام اللّه يختص بزمان وجود الإمام المعصوم عليه السلام.

يقوم أساس القضاء في الإسلام على مبدأ تحقيق العدالة والدقة في حقوق الناس، مع تفويض الكثير من الصلاحيات للقاضي للعفو في ما يخص حق اللّه، أو منع إثبات الجرم.

ص:513


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، ج 27، ص 22، الحديث 6.

ففي ما يخص اللّه يجب على القاضي تفهيم المتّهم بالعقوبة التي تتربّص به فيما لو اعترف بالذنب. و أمّا الإجراءات المعقّدة لإثبات بعض الذنوب فهي نابعة من عدم رغبة الإسلام في إثبات الجرم والمعاقبة عليه؛ لأنه يُفضل في مثل هذه الحالة أن يتوب المجرم بنفسه، و ليس من الضروري أن يتحمل القاضي مشقّة تطهيره من الذنب. أما بالنسبة إلى حقوق الناس فقد وردت أقوال كثيرة في الحَثّ على العفو عن المجرم و أن يصفح ذوو الحق عنه، و لكن إذا أصرّ صاحب الحق على تنفيذ العقوبة لايمكن للقاضي التغاضي عن إحقاق حق الناس.

جهاز القضاء يجب أن يكون على النحو الذي لايفقد فيه أحدٌ الأمل بأخذ حقّه، و لايشعر فيه المجرمون بالأمان من العقاب. و ينبغي أن لايحمل جهاز القضاء أية توجهات سياسية أو فئوية تجعل حكم القاضي معروفاً سَلَفاً.

و من الأفضل، بل من اللازم في القضايا الصعبة والمعقّدة، أن لايتحمل قاضٍ واحد عبء الحكم فيها، و إنّما تقوم جماعة من الحقوقيين بالتشاور و تطبيق المصاديق على القوانين و إصدار الحكم. روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللّه، انْ عَرَضَ لي امْرٌ لَمْ يَنْزِلْ فيهِ قَضاءٌ في امْرِه وَ لا سُنّةٌ، كَيْفَ تَأْمُرُني؟ قال: تَجْعَلُونَهُ شورى بَيْنَ اهْلِ الفِقْهِ وَالْعابِدينَ مِنَ المؤمِنين و لاتَقْضي بِرأيٍ خاصّةٍ».(1)

و جاء في حديث نبوي شريف: «شرارُ امّتي مَنْ يَلي الْقَضاءَ، إنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَمْ يُشاوِرْ وَ إنْ اصابَ بَطِرَ وَ إنْ غَضِبَ عَنَّفَ».(2)

و من المؤكّد أنّ شمولية أدلّة المشورة يمكن أن تشمل الشؤون القضائية أيضاً. أما الشروط والحالات الأُخرى فقد أشبعتها الكتب الفقهية بحثاً. و يمكن لمن يشاء الرجوع إليها للاطّلاع على مزيد من المعلومات.

ب - كيفية القضاء

لا ينبغي عند التحرّي والاستنباط دفع المتهم إلى الإقرار تحت الترهيب أو الترغيب أو

ص:514


1- المُتّقي الهندي، كنز العمال، ج 5، ص 812، الحديث 14456.
2- المصدر السابق، ج 6، ص 93، الحديث 14990.

التعزير؛ لأن الإقرار الناجم عن هذه الأساليب غير معتبر، و لايجوز شرعاً الاستناد إليه. نقل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: «مَنْ اقَرَّ عِنْدَ تَجْريدٍ اوْ حَبْسٍ اوْ تَخْويفٍ اوْ تَهديدٍ فَلا حَدَّ عَلَيْه»،(1) أي ليس لإقراره اعتبار شرعي. و هناك أحاديث معتبرة دالة على هذا، والفقهاء كلّهم متفقون عليه. و حتى الإقرار في جلسة المحاكمة يجب أن يكون خالياً من هذه العوامل، و إن جاء تحت تأثير أي منها فلا اعتبار له.

يجب أن يأتي إقرار المتّهم في حالة من السكينة لأجل أن يكون له اعتبار. و إقرار المتهم يُقبل في ما يخُصّه هو فقط و لايسري إقراره على غيره. و لمثل هذا الإقرار اعتبار في حدود وجود القرينة.

و أمّا الشهود فيجب أن يكونوا عدولاً، و أن لاتكون لهم مصلحة في الحكم، و يجب أن يكون هناك شاهد مع القسم على الأقل في بعض الموارد، أو شاهدان في بعض الأحكام (أو أربعة شهود عدول على الزنا - مثلاً - بشروط خاصّة) لكي يكون هناك إثبات شرعي.

و في القسامة يجب أن يقسم خمسون شخصاً ليثبت الجُرم، والاكتفاء بما دون الخمسين مع تكرار القسم من قبل الأشخاص الموجودين، موضع إشكال.

والبيّنة الشرعية، و إن كانت في أُمور خاصّة كشهادة الشهود العدول والقسامة، و لكن كل ما يؤدي إلى كشف الحقيقة و يتّضح أن لا خطأ فيه و مفيد للعلم كطبع الأصابع و تحليل الدم و ما شابه ذلك، يمكن للقاضي أن يتّخذه مستنداً لحكمه، و إن كان اعتبار علم القاضي في بعض الأُمور - خاصّة الجنسية - موضع إشكال.

و يجب أن تكون المحاكمات علنية، و لايجوز أن تجرى في أماكن يتعذر وصول الناس إليها كالمعتقلات السريّة، أو الزنزانات، أو الغرف المغلقة. و يجب أن تتوفر للمتّهم إمكانية الاعتراض و إيصال صوته إلى الآخرين حين التحرّي والاستنطاق، و إذا كان ذلك يجري في أماكن مجاورة للأماكن العامّة تتقلّص احتمالات الضغط على المتّهم. و لهذا يفترض بالدولة الإسلامية و جهاز القضاء فيها توفير الظروف التي تتيح للمتهم مزيداً من السكينة

ص:515


1- - الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 10، ص 148، الحديث 592؛ الكُليني، الكافي، ج 7، ص 261، الحديث 6.

والاستقرار. كما يجب على الأجهزة القضائية توفير الأمن للشهود بأي نحو ممكن، لكي لايكون خوفهم على حياتهم سبباً في عدم كشفهم عن الحقائق. و على صعيد آخر ينبغي اتخاذ كل ما مِن شأنه منع شهادة الزور.

يجب على جهاز القضاء أن لايجعل مبدأ عمله إثبات تحقق الجرم، ثم محاولة إثبات ذلك بأي نحو ممكن. بل ينبغي أن ينظر بحيادية إلى وقوع الجُرم أو عدمه، و أن يدرس الأدلة والشواهد والقرائن، و في حالة عدم ثبوت الجرم شرعاً و قانوناً، يجعل الأصالة لبراءة المتّهم.

والملاحظة الجديرة بالذكر هنا، هي أنّ بعض الاجراءات السائدة اليوم في العالم لإظهار الحق و تحقيق العدالة، لم تكن معروفة في النظام القضائي الإسلامي، و لكن بما أنها تصبّ في مسار العدالة و تساهم في تقليص احتمالات خطأ القاضي، فمن الضروري اتّباعها في جهاز القضاء مثل وجود محامٍ عن المتهم، و حضور هيئة إنصاف في المحاكم، و حق الطعن في الحكم أو ما يُسمّى بالتمييز، و عدم قطعية الحكم في المرحلة الأُولى، و مسائل من هذا القبيل. و بما أنّ العدالة هي أساس القضاء و غايته القصوى، لذلك يجب الاستفادة من أيّة وسيلة تساعد على تحقيق هذا الهدف. و تجدر الإشارة إلى أنّ بعض هذه الأساليب يمكن استنباطها من المصادر الإسلامية.

ج - الحدود والتعزيرات

في أحكام الإسلام الجزائية نوعان من العقوبات. نوع بيّنته الشريعة المقدّسة و شرحت حدوده كمّاً و كيفاً، و هو ما يُعرف باسم الحدود. و نوع آخر لم تبيّن بوضوح كميّته و كيفيّته، و إنّما عيّنت السقف الأعلى له، و تركت جزئيات و تفاصيل العمل به إلى الحاكم، و هو ما يُسمّى بالتعزير.

والحدود إما أن تكون من موارد حق اللّه، مثل حدّ شرب الخمر، أو من موارد حق الناس، مثل حدّ المحاربة و حدّ السرقة، أو ما يجتمع فيه كلا الأمرين كبعض العقوبات المقررة لجرائم الفساد الأخلافي. و هناك تعزيرات لكلا هاتين الحالتين. و يمكن للقاضي المجتهد الجامع للشرائط اعتماد رأيه في هذه الأُمور.

ص:516

في الحدود الشرعية يُعتبر أي زيادة أو تهاون خارج حدود الصلاحيات تخلّفاً.

والمتخلّف عن القانون تجب معاقبته. و في موارد الشبهة، يجب توخّي الدقّة والاحتياط لكي لايُطمس حقٌّ. قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «إدرأوا الحدودَ بِالشّبهات».(1)

و ممّا ينبغي ملاحظته أيضاً أن العقوبات المقرّرة للجرائم الموجبة للحدّ، ذات طابع ردعي، و قد جُعلت طريقة إثباتها بالنحو الذي يندر تحققه، و على فرض تحققها فإنَّ حالات سقوط العقوبة كثيرة أيضاً فيها.

والملاحظة الأُخرى التي تُستشف من الأحاديث، هي أنّ الغاية من التعزيرات إصلاح الفرد والمجتمع و عدم تكرار الجُرم. و يُفهم من ذلك ما يلي:

أوّلاً: إنّها لاتنحصر في الجَلْد والسجن و إنّما تشمل كل عقوبة تحقق هذه الغاية.

ثانياً: لَمّا كان تنفيذ العقوبة نوعاً من التصرّف في شؤون إنسان آخر، فهذا التصرّف يكون ذا مشروعية فيما إذا كانت الشريعة قد أجازت ذلك.

ثالثاً: نوع التعزير و كيفية إجرائه يجب أن لايكون مدعاة للإساءة إلى الشخص و انتهاك كرامته، أو يتعارض مع القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع. و انتهاك الكرامة من العناوين العرفية والمتغيّرة، و تختلف تبعاً لاختلاف الزمان والمكان و عادات الشعوب.

د - القصاص

وضع القصاص في الشريعة لرعاية حق الناس، و لمنع وقوع المزيد من الخسائر، و تقليل الجريمة إلى أدنى حدٍّ ممكن. في الكثير من موارد حق الناس وُضِعت العقوبات وفقاً للقانون الفطري والطبيعي و هو قانون المقابلة بالمثل. و في بعض الحالات يحثّ الشرع أصحاب الحق على اختيار عقوبة أخف و أقل من الجريمة، كالامتناع عن القصاص في حالات قتل النفس، والاكتفاء بالدية.

القصاص يجب أن يكون على يد صاحب الحق، و لايجوز لجهاز القضاء أن يبادر إلى

ص:517


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 28، ص 47، الباب 24، الحديث 4.

تطبيق العقوبة؛ لأنه في مثل هذه الموارد قد لايملك الإنسان القدرة أحياناً على اّتخاذ قرار القتل، مما يؤدّي بالنتيجة إلى حقن الدماء، أو ربّما يُعفى عن القاتِل أو تؤخذ منه دية، و لكن لو كُلّف جهاز القضاء بأداء هذا العمل و أخذ على عاتقه تنفيذ حكم القصاص، فسوف تنتفي الغاية من تشريع هذا الحكم، و هذا لايتساوق طبعاً مع ما تبتغيه الشريعة المقدّسة، و يؤدي إلى إراقة مزيد من الدماء.

القصاص حق لوليّ دم من يُقتل أو يُجرح في وضع عادي، و في ظروف آمنة و مستقرة، من غير سبب شرعي أو قانوني. و في مثل هذه الحالة يُقتصُّ من الفاعل في حالتي القتل أو الجرح، و لكن في الظروف غير الآمنة كالحروب والصراعات المسلّحة لو قُتل أو جُرح شخص، ثم تبيّن بعد انتهاء الحرب والصراع أن شخصاً معيّناً هو الذي ارتكب تلك الحادثة، فلا يمكن تنفيذ القصاص فيه هنا؛ لأن من يذهب إلى ميدان الحرب يُعرّض نفسه للقتل.

و حكم القصاص ينطبق على أجواء الحياة العادية الآمنة، و لاينطبق على ساحة المعركة.(1)

و على أيّة حال فإنّ مِن الأفضل أن يعفو أولياء الدم أو يأخذوا الديّة.

ه - الديّات

عيّنت الشريعة المقدّسة مبالغ مالية كديّات للحالات المختلفة، و قد وردت تفاصيلها في الكتب الفقهية والحقوقية. و هناك فوارق في مبالغ الديّات تبعاً للحالات، فهناك مثلاً فارق بين دية الرجل و دية المرأة. و يبدو أن سبب ذلك يعود إلى الدور الاجتماعي لكلٍّ منهما، و إلى عبء المسؤولية التي تقع على عاتق كل منهما، و لا صلة لذلك بالشخصية والمنزلة الحقيقية لكلٍّ منهما.

و - المرحلة الثالثة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

و من الوظائف الأُخرى للحكومة، تنفيذ المرحلة الثالثة من مراحل الأمر بالمعروف

ص:518


1- - للإطلاع على مزيد من المعلومات في هذا المجال راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 2، ص 796.

والنهي عن المنكر. ذكرنا قبل هذا إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجري في ثلاث مراحل. و في مرحلتي الإنكار بالقلب واللسان يقع على كل الناس و على كل المسؤولين واجب مشترك. أما المرحلة الثالثة، فهي مما لايستطيع الناس التدخّل فيها مباشرة. ولو تدخل فيها الأفراد و انتهت الأُمور إلى ضرب و جرح و قتل، فهذا بحدّ ذاته من أكبر المنكرات وربّما يؤدّي إلى الفوضى والفَلَتان. و هذا طبعاً خطر ماحق يهدد أساس النظام.

و عندما تؤخذ كل جوانب هذا الموضوع بنظر الاعتبار، يلاحظ أن الشريعة المقدّسة أوكلت هذه المهمة إلى الحكّام الصالحين و لايمكن الإقدام على أمر من هذا القبيل إلا بأمرهم و بالتنسيق معهم.

ز - الردّة و حكم المرتد

في بداية قيام الدولة الإسلامية (في مدينة النبيّ)، حيكت مؤامرة كان الهدف منها زعزعة معتقدات الداخلين حديثاً في الإسلام. والمخطّط الذي رسمته تلك المؤامرة هو أن يأتي جماعة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بعدما يطرحون عدداً من الأسئلة يتظاهرون بأنهم قد آمنوا برسالة النبيّ واعتنقوا الإسلام، و في آخر النهار يختلقون بعض الأسباب والمبرّرات التي يثيرون فيها الشكوك، و يزعمون أنّ الإسلام دين ناقص، و ذلك بغية تثبيط عزائم المسلمين و إثارة الشكوك في نفوسهم. و قد نبّه اللّه تعالى في القرآن الكريم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى ذلك.(1)

و كانت هذه الواقعة والقضايا المشابهة التي حصلت لاحقاً سبباً لتشريع حكم الردّة في الإسلام. و هو حكم كان معروفاً لدى الأُمم السابقة أيضاً.

لهذا الحكم طابع ردعي، والغرض الأساسي من تشريعه درء أيّة محاولة للاستهانة بالأديان والشرائع السماوية. أما الشروط التي وُضعت لهذا الحكم، و موضوع الحكم - كالجحود والإنكار والقصد والإرادة و تناسب الحكم والموضوع - فتظهر أنّ الغاية التي كان النبيّ يرمي إليها مِن وراء تشريع هذا الحكم الشديد هي إجهاض أية محاولة للتآمر و

ص:519


1- - سورة آل عمران (3)، الآية 72.

إيجاد الفساد. و كان الرد على ذلك بأُسلوب المجابهة الثقافية.

ينطبق حكم المرتد على من يحاول غرس بذور الشك عمداً، في حين أنه مؤمن بذلك (وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا) ، (1) و غرضه التآمر على المجتمع الإسلامي. و هذا يعني أن المرتد هو من يبذل جهداً لتغيير الركائز العقائدية للمسلمين بهدف صدّ الناس عن الرقي والتكامل المعنوي، و إفشاء الفساد بدلاً من ذلك.

و بعبارة أُخرى: إنّ معيار حكم المرتد ليس تغيير الاعتقاد القلبي، و ذلك لأن العقيدة تابعة عادة لمقدّماتها، و خارجة عن إرادة الفرد، و إنّما المعيار في ذلك محاولة الإفساد.

و يبدو أن الفوارق بين حكم المرتد الملّي والمرتد الفطري(2) مردّها إلى هذا الجانب؛ و ذلك لأن المرتد الملّي يُحتمل أن تؤثر فيه معتقداته السابقة والتقاليد القديمة التي نشأ عليها.

و لهذا فقد أُتيحت له فرصة أكثر. أما بالنسبة إلى المرتد الفطري، فليست له مثل هذه الخلفيّة، و لذا هناك احتمال أكثر بالجحود والإنكار و انعدام الدافع المقبول.

و لكن لو أن أحداً لم يتوصّل إلى حقائق الدّين، أو أثّرت فيه استدلالات خصوم الدّين، و أثارت في نفسه شكوكاً في أحكامه الضرورية أو في الأُصول الاعتقادية، من غير أن تكون لديه نيّة في التآمر أو زعزعة إيمان أحد، و قد خرج من الدّين ظناً منه بإمكانية البحث عن الحقيقة خارج دائرة الدّين، و أخذ بالتعبير عن مخالفته للدين عن طريق الاستدلال والنقاش العلمي فحسب، فهو ليس مصداقاً لحكم المرتد؛ و ذلك لأنّنا في زمان غيبة المعصومين عليهم السلام، و كثرة الاختلافات بين المسلمين في الكثير من المعتقدات والأحكام، و تداخل الحق والباطل، و لبس ثوب الإسلام بالمقلوب (3)- حسب تعبير أميرالمؤمنين عليه السلام - يصبح من العسير علينا - نحن الناس العاديين - فهم حقائق الدّين والشريعة، و لايمكن أن يترك الناس شؤون حياتهم و يتفرّغوا لكشف حقائق الدّين، هذا

ص:520


1- - سورة النمل (27)، الآية 14.
2- - المراد من المرتد الملي هو أن يرتد عن الإسلام شخص لم يكن مسلماً بالولادة ثم اسلم لاحقاً ثم ارتد بعد ذلك. أما المرتد الفطري فهو من وُلِد على الإسلام، و بعد البلوغ يرتد عن الإسلام.
3- - «لُبِسَ الإسلام لُبْس الفَرْو مقلوباً.» الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 108، ص 157 و 158.

فضلاً عن عدم وجود ضمانة بالتوصل - بعد بذل كل الجهود - إلى أصل الدّين و عدم الانحراف عن الحق.

و انطلاقاً من ذلك إذا جاء تغيير العقيدة على أثر شبهة، ثم طالب المرتد بالإجابة عن تلك الشبهة، لابُدّ من تلبية طلبه، و لايمكن إجراء حكم الردّة عليه. و كذلك الحال إذا كان الشخص جاهلاً و جاءت ردّته من غير بصيرة مثلما كان إسلامه من غير بصيرة.

إضافة إلى ذلك يبدو أن حكم المرتد أو حكم الناصبي كان في الأساس حكماً سياسياً و ولائياً، و تؤخذ بنظر الاعتبار فيه ظروف الزمان والمكان. نذكر على سبيل المثال أنه جاء في كتاب الإمام الرضا عليه السلام إلى المأمون: «لا يَحِلُّ قَتْلُ احَدٍ مِنَ النُصّابِ والْكُفّار في دارِ التّقية الاّ قاتلٌ أو ساعٍ في فَسادٍ».(1)

ح - الإساءة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والتجديف

كل من يتطاول على القيم الدينية والمعتقدات الصحيحة للمسلمين أو ينشر ما يسيء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته عليهم السلام، يُدان من جانبين:

الأوّل: إنّ السَبَّ والإساءة لاتصدر إلّاممّن يفتقرون إلى العِلم والعقل؛ أي من الجَهَلة؛ و ذلك لأن إيذاء الغير والإساءة إلى الآخرين عمل قبيح، فما بالك بالإساءة إلى الرموز الدينية و إلى المقدّسات.

الثاني: كل من يسيء إلى معتقدات الناس، فمعنى ذلك أنه أقحم نفسه في معترك الصراع مع الأكثرية و إثارة مشاعرهم. و من حق المجتمع في مثل هذه الحالة أن يُقدم على ردع ذلك الشخص.

و في ما يخص حكم التجديف والسَبّ والإساءة إلى المقدّسات، لابُدّ من تسليط الضوء على الأُمور التالية:

ص:521


1- الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 26 من أبواب جهاد العدو، ج 15، ص 82، الحديث 9؛ و في عيون اخبار الرضا عليه السلام، ج 2، ص 124، وردت كلمة «لايجوز»، بدلاً من كلمة «لايحل».

1 - كلمة «سب» ذات ميزة خاصّة، و هو أخصّ من الإهانة؛ فالسبُّ شتم صريح و لايشمل كل قول و لا حتى كل إهانة. فقد يُعتبر بعض الكلام أو السلوك مهيناً و لكنه لايُعتبر سبّاً، و إن كان السبَّ يُعتبر إهانة.

2 - حكم السبّ يختص بسب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والسيّدة فاطمة عليها السلام والأئمة المعصومين عليهم السلام والأنبياء عليهم السلام.

3 - يتوقف إجراء حكم السبّ على ما يلي:

أوّلاً: أن يكون عن اختيار، لا عن إكراه.

ثانياً: أن يصدر في حالة عادية و ليس في حالة هياج أو ضغط نفسي أو جنون آنيّ.

و عند الشك يجب عدم إجراء الحدّ، تطبيقاً لقاعدة «الحدود تُدْرَأ بِالشّبهات».(1)

ثالثاً: أن يثبت السبّ بالبيّنة الشرعية أو الإقرار في محكمة صالحة، و ليس تحت الإكراه والخوف.

رابعاً: أن لاتنتج عن إجراء الحكم من قبل المحكمة الصالحة عواقب سلبية مهمّة.

4 - المقصود من الإساءة كل قول أو فعل ينطوي على إهانة أو تحقير أو استهزاء أو اعتداء على حرمة إنسان. و لابُدّ أن يثبت للقاضي قصد الإهانة. و ليس من سبيل إلى ذلك سوى إقرار المتّهم نفسه بحريّة تامة. كما ينبغي أن يؤخذ العرف في ذلك المجتمع بنظر الاعتبار، أي أن يُعتبر ذلك العمل إساءة في عرف ذلك المجتمع.

5 - كلمة مقدّسات: مشتقّة من كلمة «قدس» و تعني الطهارة والتنزيه. والمراد من مقدّسات الإسلام الأُمور التي تُعتبر بحد ذاتها طاهرة و منزهة من النواقص والعيوب، و لا اختلاف بين المسلمين في قدسيّتها. و لابُدّ طبعاً أن يكون الشخص الذي صدرت منه الإهانة عالماً بقدسية ذلك الأمر.

6 - إذا ثبت السبّ بالإقرار في المحكمة الصالحة، يجوز للحاكم الإسلامي العفو عنه.

و كل الأنواع الأُخرى من الإساءة تخضع تعزيراتها لظروف الزمان والمكان، و نوع الإساءة و

ص:522


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.

شدّتها، و يتراوح التعزير عليها بين الوعظ والتغاضي والتخويف والتهديد إلى المراتب العليا من التعزير. و تشخيص ذلك بيد الحاكم الشرعي. و بناءً على ذلك يمكنه العفو عنه استناداً إلى بعض الاعتبارات. روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: «ربّ ذنبٍ مقدارُ العُقُوبَةِ عَليه اعلامُ المذنِبِ بِه».(1)

7 - لايجوز في الإسلام سبّ مقدّسات أي دين و مذهب، حتى و إنّ كان محرّفاً أو باطلاً.

ورد هذا في بيان صريح دعانا إليه القرآن الكريم: (وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) .(2)

و هنا لابُدّ من التنبيه إلى ملاحظة و هي: إنّ النهي عن الإهانة والإساءة يجب أن لايتخذ سيفاً يُشهَر ضد أي نقد أو نقاش علمي. و لابُدّ أن تبقى أبواب البحث والنقد العلمي في المجتمع الإسلامي مفتوحة في كل المجالات. ولو أن شخصاً في المجتمع الإسلامي أثار تساؤلاً أو نقداً، فعلى العلماء والباحثين المسلمين تقديم إجابة منطقية صحيحة، مثلما كان عليه الحال في السيرة العملية للأئمة المعصومين.

ط - السجن والسجناء

ترى الشريعة الإسلامية لزوم سجن المجرمين في حالات خاصة، و تجيز ذلك في موارد معدودة. واستناداً إلى قول الإمام علي عليه السلام: «اَلسِّجْنُ أَحَدُ الْقَبْرَيْن».(3) يجب عدم الاستهانة بحكم السجن أو إصدار هذا الحكم على أحد من غير مسوّغات شرعية. أي أن التعزير بالحبس يجب أن يقتصر على الحالات الضرورية، والحرص على تطبيق أنواع التعزيرات الأُخرى بدلاً منه كالغرامات المالية مثلاً.

الحكم بالحبس يكلّف خزينة الدولة أموالاً طائلة. و هذا الحكم يتضمن أيضاً حكماً على بيت المال بدفع النفقات للمجرم. و هذا لايتناسب طبعاً مع تعزير و معاقبة المجرم. كما

ص:523


1- الآمدي، غُرَر الحِكَم، الحديث 5342.
2- سورة الأنعام (6)، الآية 108.
3- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 479، الحديث 11026.

أن عقوبة السجن تقترن عادة بمعاقبة أُسرة المجرم أيضاً، و هذا يتنافى مع العدالة طبعاً.

و على هذا الأساس يجب اتباع أساليب تجعل الضرر موجهاً نحو المجرم وحده، و أن تكون ذات قوّة رادعة تمنع المجرم من تكرار جريمته، خاصة حين يفقد السجن دوره الإصلاحي، و يتحوّل إلى مركز لتعليم الجريمة و إيجاد العصابات الخطيرة.

و لامناص من القول: إنّ السجن في شكله الحالي ليس له أساس ديني، و لاجذور له في تاريخ صدر الإسلام. والسجن في الإسلام على أنواع ثلاثة:

1 - أن يكون السجن حدّاً على المجرم في الحالات الموجبة للحد.

2 - أن يكون السجن تعزيراً على الجرائم التي يستطيع فيها حاكم الشرع الواجد للشرائط تعزير المجرم بالجلد أو السجن. و في هذه الحالات يتعين أن يكون عدد الجلدات أقل من الحدّ، و مدّة السجن يجب أن تتناسب أيضاً مع التعزير بالجلد الذي هو أقل من الحد.

و تعيين مدّته بيد أهل الاختصاص. و بما أن الغاية الأساسية من التعزير - كما أوضحنا من قبل - هي تنبيه و إصلاح المجرم و ليس الانتقام منه بدافع الحقد، لهذا فانَّ التعزير لاينحصر في عقوبتي السجن والجَلْد، و إنّما له مراتب تبدأ عادة بالتوبيخ والتهديد إلى أن يصل الدور في آخر المطاف إلى الجَلْد أو السجن. و قد كان هذا النوع من العقوبات شائعاً في المجتمعات السابقة، و لكن هناك في الوقت الحاضر أساليب أخرى أكثر تأثيراً في إصلاح نفوس المجرمين، و يجب اتّباعها طبعاً.

السجن في الحالتين الآنف ذكرهما (الحد والتعزير) يجب أن يكون من بعد ثبوت الجرم في المحكمة الصالحة التي يتصدّى لها المجتهد العادل الواعي. و لايجوز قبلها سجن المتّهم أبداً.

3 - سجن التحرّي؛ و هو أن يُحبس المتهم قبل إثبات الجرم إلى أن يتم التحقيق والتحرّي. والذي يُستفاد من الأحاديث و من فتاوى الفقهاء ان القدر المتيقّن لهذا النوع من السجن يقتصر على تُهمة القتل و لايتعدى السبعة أيّام.

جاء في حديث ان الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يحبس في تهمة الدم

ص:524

ستّة أيّام، فإن جاء أولياء المقتول بثبت، و إلّاخلّى سبيله».(1) و يمكن أن يُستنبط من ذلك أيضاً جواز حبس المتهم في حالات الاعتداء على الحقوق المهمة الأخرى، فيما اذا كان يُحتمل فيها هُروب المتّهم.

و على أساس ذلك يجوز حبس المتّهمين في الحالات التي يحصل فيها طمس واضح لحقوق الآخرين، و تكون للتهمة صلة بجرائم كبرى كالقتل، مع مراعاة جميع الجوانب القانونية و ضمن المدّة المحددة، و لكن لايجوز حبس أحد مدّة طويلة لمجرّد كونه متّهماً، حتى و ان كانت التهمة ثقيلة. و يجب في مثل هذه الحالات إطلاق سراح المتّهم بضمانة تتناسب مع حجم الجريمة. و يجب أن نعلم بأن ما يرتجيه الإسلام من مسؤولي الشؤون القضائية هو الاهتمام والسعي لإحقاق الحق و ليس إحقاق الحق نفسه. و من الطبيعي ان فرار متهم من قبضة العدالة أفضل من مكوث بريء في السجن خلافاً لمقتضيات الحق والعدالة و حرمانه من حقوقه الأساسية.(2) جاء في الحديث: «مَنْ حَبس حَقَّ المؤمن...

ثُمَّ يُؤمَرُ بِه الَى النّار».(3)

و أما بالنسبة إلى حقوق السجين في الحالات التي توجب السجن، فهي من الأُمور التي أكّد عليها الإسلام و منها: صيانة كرامته و حقوقه الإنسانية، و تلبية متطلباته و حاجاته المادية والمعنوية، كالجوانب الصحية والمأكل المناسب والأشياء الضرورية، و توفير متطلبات المقابلة مع السجناء. و من الضروري أيضاً أن يهتم المسؤولون الجدد في جهاز القضاء بأوضاع و أحوال السجناء القُدامى. كما أنّ على الحكومة الضمان في حالة التقصير أو التفريط في حقوق السجناء. و ينبغي أيضاً الاهتمام بشؤونهم الدينية، و أن يكون له محامٍ يتولّى مهمة الدفاع عنه، و غير ذلك.(4)

ص:525


1- - الحر العاملي، وسائل الشيعة، باب 12 من أبواب دعوى القتل، ج 29، ص 160، الحديث 1.
2- - راجع في هذا المجال: دراسات في ولاية الفقيه، ج 2، ص 481 و 482.
3- الصدوق، ثواب الاعمال و عقاب الاعمال، باب عقاب من منع مؤمناً شيئاً، ص 286، الحديث 1؛ الكليني، الكافي، ج 2، ص 367، الحديث 2.
4- وردت دراسة السجن والسجناء بالتفصيل في كتاب دراسات في ولاية الفقيه، ج 2، ص 421 فما بعدها.

ان ملاقاة الأسرة والأصدقاء أمر معقول و مؤثّر في ما يتعلّق بالغاية من سجن المجرم.

و يجب أن تكون في حدٍ معقول و مؤثر في ايجاد العاطفة لدى المجرم و إصلاحه. و قد حثّت بعض الأحاديث المسؤولين على إحضار السجناء إلى صلاة الجمعة. و ينبغي طبعاً أن لايكون ذلك على نحو يسيء إلى كرامة السجناء و يفضحهم أمام الناس. كما يفترض أن يكون برضاهم و عدم ارغامهم على ذلك.

ى - العفو عن المحكومين

يمكن للدولة الإسلامية في بعض الظروف العفو عمّن حكم بسبب عدم رعاية حق اللّه، أو العفو عمّن حُرموا من الحقوق الفردية أو الاجتماعية. و إزالة الحرمان عنهم، بل هناك حالات أُخرى - ورد تفصيلها في كتب الفقه - يمكن فيها العفو حتى عن المحكومين بسبب التعدّي على حق الناس.

في ما يتعلق بالعفو العام، قد يقول قائل: إنّ مثل هذا العفو قد يشمل أشخاصاً لايستحقّون، و لا هم جديرين به، و لهذا يجب عدم إصدار مثل هذا العفو، و لكن ينبغي أن لاننسى أنّ هناك أُناساً يجب أن يتحرّروا من قيود الحرمان.

جاء في حديث معتبر عن الإمام الباقر عليه السلام قال فيه: «النّدامَةُ عَلَى الْعَفْوِ افْضَل وَ ايْسَر مِنَ النّدامَةِ عَلَى الْعُقُوبة».(1)

و هذا ما يستدعي طبعاً أن يُقدم المسؤولون كل عدّة سنوات على إصدار عفو عام، و يستثنى من ذلك، المحكومون على جرائم الحق الخاص التي لها مدّعٍ خاص. فهذا العمل يشيع العفو والتسامح في المجتمع الإسلامي. و حتى في ما يخص حالات حق الناس ينبغي توفير الأرضية لإحقاق حقوق المتضررين، بما يتيح الفرصة أمام إطلاق سراح السجناء.

ص:526


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 112 من أبواب أحكام العشرة، ج 12، ص 170، الحديث 4.

الأحكام في خدمة الأهداف

اشارة

وردت في الأحاديث و في أقوال الأعلام تأكيدات على ضرورة نظم الأمر من أجل تحقيق أهداف الدّين، أو حتى من أجل بناء حياة سليمة. و كل الأديان متفقة على القول إنّ عدم الالتزام بأحكام الدّين يقود إلى الضلال والحيرة والابتعاد عن الأهداف الحقيقية للخلقة. والشريعة وضعت سبلاً أفضل لبلوغ الغاية. و هذا يعني أن الأحكام بمثابة سبل لبلوغ الغاية، و لاتُعتبر بنفسها غاية.

من المعايير في كل عصر و زمان - للكشف عن الأحكام الاجتماعية - هو أن تكون متناسبة مع المصالح الاجتماعية والكمال المعنوي. و هذا يعود إلى القول بفطرية الأحكام الإلهية.

والأساس في فروع الأحكام هو انسجام كل حكم مع سائر الأحكام والمعتقدات. و إن كان هناك أي تعارض فهو دليل على عدم تطابقه مع الشرعية، و عدم شرعية ذلك الحكم.

أ - ضرورة الانسجام في الأحكام الاجتماعية

في كل نظام اجتماعي، محور النظم هو قوانين ذلك المجتمع. و إذا كان هناك أي تناقض أو تعارض فيها، فلابّد أن تحلّ بالنظم الاجتماعي حالة من الاضطراب و فقدان الاستقرار.

الدّين يقدّم لبني الإنسان أحكاماً و تعاليم قائمة على الفطرة، و لذلك لايمكن أن يتّصف بالتعارض و عدم الانسجام في منظومته الذاتية؛ و ذلك لأنَّ الاختلال و فقدان النظم يتعارض مع الفطرة. نقل أميرالمؤمنين عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «اِذا اتاكُمُ الْحديثُ مُتجاوباً مُتفاوتاً، فما يُكذّب بعضُه بَعضاً، فَلَيْسَ مِنّي وَ لَمْ اقُلْهُ وَ انْ قيلَ قَدْ قالَهُ، وَ اذا اتاكُمُ الْحديثُ يُصَدّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً فَهُوَ مِنّي وَ أنَا قُلْتُهُ».(1)

ص:527


1- الطبرسي، مشكاة الأنوار، ص 153.

و روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: «... إنّا عَنِ اللّهِ وَ عَن رَسولِهِ نُحَدّث وَ لانَقُولُ قالَ فلانٌ وَ فلانٌ فَيتناقَضُ كلامُنا. انَّ كَلامَ آخِرِنا مثلُ كلامِ اوّلِنا وَ كَلامُ اوَّلِنا مُصَدِّقٌ لِكَلامِ آخِرِنا فَاِذا اتاكُمْ مَنْ يُحَدِّثُكُمْ بِخِلافِ ذلِك فَرُدُّوهُ عَلَيْه».(1)

و جاء في القرآن الكريم: (وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) .(2)

و في ضوء ما ذكر ينبغي أن يؤخذ انسجام الأحكام الشرعية بنظر الاعتبار.

و يتعيّن أن يُعاد النظر بالأحكام الفقهية و آراء الفقهاء والقوانين الموجودة استناداً إلى هذا المعيار.

ب - طريقية الأحكام الشرعية

القوانين وسيلة لبلوغ الأهداف؛ سواء كانت قوانين إلهية أم بشرية، و لكن أحياناً ينحصر الطريق إلى الهدف بمورد واحد لا غير. و في هذه الحالة تكون أهمية الطريق بقدر أهميّة الهدف. والظاهر أنّ الأحكام العبادية من هذا النوع، و هي الطريق الوحيد للوصول إلى الهدف و أدنى تخلّف فيها ينفي أو يقلّص بشدّة إمكانية بلوغ الهدف. أما الأحكام غير العبادية فتابعة للمصالح والمفاسد الذاتية، و ليست ذات معايير لايمكن إدراكها؛ و ذلك لأنها شُرّعت من أجل الارتقاء بمستوى حياة الإنسان.(3) و إن كانت آثارها و تبعاتها الأُخروية موضع نظر الشارع أيضاً.

ليس لدينا دليل قاطع على أن جميع الأحكام غير العبادية في الإسلام ثابتة، و لاتتأثر موضوعاتها بظروف الزمان والمكان و لاتتغيّر تبعاً لها، و أنّها قد شُرّعت كطريق وحيد للوصول إلى الغاية، بل ان قبول بعض المستجدّات كالمعاطاة في العقود والمعاملات أو الإقرار بتغيّر موضوعات بعض الأحكام كالنحت والتصوير، والاستناد إلى بيّنة علمية و عرفية إلى جانب الأدلّة الشرعية في كشف الجرائم و ما شابه ذلك من الأمور من قبل الفقهاء،

ص:528


1- رجال الكشّي، سيرة المغيرة بن سعيد، ص 224 و 225، الحديث 401.
2- سورة النساء (4)، الآية 82.
3- - راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 2، ص 438.

يدل على أنَّ موضوعات مثل هذه الأحكام تتغير تبعاً للتحوّلات الاجتماعية و متغيّرات الزمان والمكان، و بالنتيجة تتغير أحكامها بما يتناسب مع تلك التغييرات.

و بعبارة أُخرى، عندما نأخذ بالعقل كواحد من أدلّة الأحكام الشرعية، و نعتبر سيرة العقلاء - إذا لم يُحرز ردعها من قبل الشارع - حجّة في هذا السياق، فإنّ أيَّ أسلوب عقلاني يضمن تنفيذ مقصود الشارع يُعتبر شرعياً، و كل هذه الأُمور تدلّ على طريقية الأحكام الشرعية في أمور غير عبادية (أي كَوْنها وسيلة) و ليس موضوعيّتها (أي كَوْنها هدفاً و غاية).

كلمة الشرع والشريعة: تعني في الأساس النهر أو الشرعة التي تتفرّع من نهر أكبر أو من طريق أوسع بحيث تنتفع منها مناطق خاصة. و في الاصطلاح، الطريق أو الرافد الذي يستقي ماءه من الشرعة الواسعة أو الينبوع العظيم لدين اللّه. و لهذا جاء في القرآن الكريم:

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً) .(1)

يُعزى اختلاف الشرائع - بغض النظر عن الخصائص الزمانية والمكانية - إلى كمال الشرائع المتأخرة مقارنة بالشرائع المتقدّمة. و هذا يعني بطبيعة الحال أن الشريعة المحمدية أكمل من سائر الشرائع: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) .(2)

و قال اللّه عزّوجلّ في كتابه الكريم: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) . (3) يبدو أن هذه الآية تبيّن ضرورة اتّباع أفضل الأساليب لتحقيق أهداف الدّين. و لاينبغي طبعاً التخلّي عن الطرق والأساليب الشرعية لمجرد توهّم العثور على أسلوب أفضل، و إنّما يجب تنقيح المناط - حسب إصطلاح الفقهاء - بشكل قطعي، و اتّخاذ مناط و ملاك منصوص و موثوق بشأن الايصال إلى مقصود الشرع باسلوب جديد يؤيده العقلاء.

ص:529


1- سورة المائدة (5)، الآية 48.
2- سورة المائدة (5)، الآية 3.
3- - سورة القصص (26)، الآية 49.
ج - الأهداف النهائية هي الأحكام السياسية والاجتماعية

الهدف النهائي للشريعة الإسلامية المقدّسة - كما أشرنا من قبل - غاية الإنسان نحو طريق السعادة في الدنيا والآخرة. والحياة السعيدة هي تلك الحياة التي تقترن بالأمن، والرفاه، والرقي. والطريق الوحيد للسعادة هو العدالة. والنظم والعدالة يؤديان إلى الأمن والرفاه والرقي في الدنيا والآخرة.

ان الإيمان بالنظم الكامل والعدالة المطلقة للّه تعالى في يوم الحساب والقيامة، والعمل الصالح، يكون فيه الأمان من العذاب الإلهي، و مدعاة لدخول جنّات عدن. ففي الحياة الدنيا يؤدّي الالتزام بالقوانين والاعتدال في القول والعمل إلى تحقيق الاستقرار الفكري والعملي في كل مجالات الحياة و يجلب الرفاه الاجتماعي و يفتح أمام الإنسان سبيل التقدّم المعنوي والعلمي.

في الكثير من آيات القرآن الكريم، حين يأتي ذكر الأحكام، تُبين عادة معطياتها والآثار والنتائج الإيجابية لها. و أفضل دليل على الأهداف الأساسية لدين اللّه هو ما يأتي على تبيانه من نتائج الأحكام الاجتماعية، كالخير، والأمن، والعدالة، والرفاه، والرقي. نقرأ في القرآن الكريم: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ * اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) . (1) و جاء في ما يخصّ القضاء: (... وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) .(2)

***

يضم هذا الكتاب بين دفّتيه لمحات من مختلف جوانب الدّين الإسلامي الحنيف.

و لايخفى على ذوي الحِجا أنّ المواضيع التي جاءت فيه تستلزم مزيداً من البسط

ص:530


1- - سورة قريش (106)، الآيتان 3-4.
2- سورة المائدة (5)، الآية 42.

والتفصيل، بيد أننا أرتأينا الاكتفاء بهذا القدر منها لِما فيها من تناسب مع الشريحة المتوسطة من أبناء المجتمع.

و كلّنا نأمل طبعاً أن يسعى العلماء والباحثون المسلمون إلى تبيين معالم الدّين، و تسليط الأضواء على مختلف جوانبه على النحو الذي يرتجيه هذا الدّين من أبنائه، و خاصة من الدُعاة إليه، و أن يكثّفوا جهودهم و يكرّسوا طاقاتهم من أجل تنوير الأُمّة بما يزخر به هذا الدّين من قيم و أحكام، و ما يدعو إليه من فضائل و مكارم أخلاق، و ما ينشدُه لأتباعه من رقي وسمو في شتّى ميادين الحياة.

و لايفوتنا أن نشير إلى أنَّ الغاية من هذا الكتاب - كغيره من الكتب المشابهة - هو أن يتزود القارىء منها بما يعينه على العمل الصالح.

نسأل كُلَّ مَنْ تقع عيناه على هذه السطور أن يدعو لنا بالخير والمغفرة.

وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ العالَمينَ

وَ صَلَّى اللّهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطّاهِرينَ

ص:531

ص:532

المصادر

1 - إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، محمّد بن الحسن المعروف بالحرّ العاملي، مع تعليقات أبي طالب التجليل التبريزي، مطبعة العلمية، قم.

2 - الاحتجاج، أبو منصور احمد بن علي الطبرسي، تحقيق ابراهيم بهادري والشيخ محمّد هادي به، منشورات اسوه، مجلّدان، الطبعة الاُولى.

3 - الاختصاص، أبو عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد، تحقيق علي اكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي، التابعة لجماعة المدرّسين، قم.

4 - اختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشّي، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، تحقيق حسن المصطفوي، جامعة مشهد، 1348 ه. ش.

5 - اخلاق ناصري، الخواجة نصيرالدين الطوسي، تحقيق مجتبى مينوي و علي رضا حيدري، طهران، شركت سهامي منشورات خوارزمي، 1360 ه. ش.

6 - ارشاد القلوب، أبو محمّد الحسن بن محمّد الديلمي، منشورات الشريف الرضي، قم.

7 - الارشاد في معرفة حجج اللّه على العباد، أبو عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان معروف بالشيخ المفيد، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.

8 - اسد الغابة في معرفة الصحابة، عزالدين أبوالحسن علي بن الكرم، المعروف بابن الأثير، طهران، ناصر خسرو، پاساژ مجيدي.

9 - الاعتقادات، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين المعروف بالشيخ الصدوق، تحقيق غلام رضا المازندراني، نشر محقق قم، 1412 ه.

10 - إعلام الورى بأعلام الهدى، امين الاسلام أبو علي الفضل بن الحسن المعروف بالطبرسي، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم، الطبعة الاُولى.

11 - الأمالي، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين المعروف بالشيخ الصدوق، مؤسسة البعثة، قم، الطبعة الاُولى.

12 - الإمام الصادق حياته و عصره، محمّد أبو زهرة، دارالفكر العربي، القاهرة، 1993 م.

ص:533

13 - الإمامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء، أبو محمّد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، تحقيق علي شيري، منشورات الشريف الرضي، الطبعة الاُولى، 1413 ه.

14 - بحارالأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، محمّد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 ه.

15 - البرهان في تفسير القرآن، السيّد هاشم الحسيني البحراني، دارالكتب العلمية، قم.

16 - بصائر الدرجات في فضائل آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، أبو جعفر محمّد بن الحسن الصفار القمي، تحقيق الميرزا محسن كوچه باغي التبريزي، مكتبة آية اللّه النجفي المرعشي، قم.

17 - تاريخ الطبري، المعروف بتاريخ الامم والملوك، أبو جعفر محمّد بن جرير، دارالكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1408 ه.

18 - ترتيب كتاب العين، خليل بن احمد الفراهيدي، تحقيق مهدي المخزومي و ابراهيم السامرائي، منشورات اسوه، الطبعة الاُولى، 1414 ه.

19 - تحف العقول عن آل الرّسول صلى الله عليه و آله و سلم، حسن بن علي بن الحسين الحرّاني، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الخامسة، 1389 ه.

20 - تصحيح الاعتقاد، أبو عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد، مطبوع ضمن مصنفات المفيد، ج 5، طبع مؤتمر الألفية العالمية للشيخ المفيد، 1413 ه.

21 - تصنيف غرر الحكم و درر الكلم، عبدالواحد بن محمّد التميمي الآمدي، تحقيق مصطفى درايتي، مكتب الاعلام الاسلامي، الطبعة الاُولى.

22 - تفسير العياشي، أبوالنضر محمّد بن مسعود العياشي، مؤسسة البعثة، قم، الطبعة الاُولى، 1421 ه.

23 - تفسير القمي، أبوالحسن علي بن ابراهيم القمي، تحقيق السيّد طيب الموسوي الجزائري، مكتبة الهدى، 1387 ه.

24 - تفسير نور الثقلين، عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي، تحقيق السيّد هاشم رسولي المحلاتي، طبعة مطبعة العلمية، قم.

25 - التوحيد، أبو جعفر، محمّد بن علي بن الحسين المعروف بالشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم.

26 - تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي المعروف بالشيخ الطوسي، تحقيق و تعليق علي اكبر الغفاري، مكتبة الصدوق، طهران، الطبعة الاُولى، 1376 ه. ش.

ص:534

27 - ثواب الاعمال و عقاب الاعمال، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين، المعروف بالشيخ الصدوق، تحقيق علي أكبر الغفاري، مكتبة الصدوق، طهران.

28 - جامع احاديث الشيعة، الشيخ اسماعيل المعزي الملايري، مطبعة مهر قم، 1417 ه.

29 - جامع السعادات، المولى محمّد مهدي النراقي، مع تعليقات السيّد محمّد كلانتر، مطبعة النجف، النجف الاشرف، 1383 ه، افسيت مؤسسة مطبوعات اسماعيليان قم.

30 - جامع الاخبار أو معارج اليقين في اصول الدين، محمّد بن محمّد السبزواري، تحقيق علاء آل جعفر، منشورات مؤسسة آل البيت عليهم السلام، الطبعة الاُولى، 1414 ه.

31 - الجامع الصحيح، أو سنن الترمذي، أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة، تحقيق كمال يوسف الحوت، دارالفكر، بيروت.

32 - جواهر الكلام في شرح شرايع الاسلام، محمّد حسن النجفي، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1981 م.

33 - الخصال، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين المعروف بالشيخ الصدوق، تحقيق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم.

34 - دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الاسلامية، حسين علي المنتظري، المركز العالمي للدراسات الاسلامية، الطبعة الثانية، 1409 ه.

35 - درس هايى از نهج البلاغة (= دروس من نهج البلاغة)، حسين علي المنتظري، نشر سرايي، طهران، الطبعة الاُولى، 1380 ه. ش.

36 - الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي، تحقيق الشيخ نجدت نجيب، مع مقدمة بقلم عبدالرزاق المهدي، دار احياء التراث العربي، بيروت.

37 - دعائم الاسلام و ذكر الحلال والحرام، أبو حنيفة النعمان بن محمّد التميمي، تحقيق آصف بن علي اصغر الفيضي، دارالمعارف، مصر، الطبعة الثانية.

38 - دلائل الصدق، محمّد حسن مظفر، دارالمعلّم للطباعة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1396 ه.

39 - ديدگاهها، البيانات والآراء الصادرة عن آية اللّه العظمى المنتظري، المجلد الأوّل، الطبعة الثانية، 1381 ه. ش.

40 - رسالة الاستفتاءات، طبقاً لفتاوى آية اللّه العظمى المنتظري، نشر سايه، طهران، مجلّدان؛ المجلد الأول: الطبعة الثالثة، 1384 ه. ش؛ المجلد الثاني: الطبعة الاُولى، 1383 ه. ش.

ص:535

41 - رسالة توضيح المسائل، طبقاً لفتاواى آية اللّه العظمى المنتظري، مع اصلاحات و اضافات، نشر تفكر، طهران، الطبعة العشرون.

42 - رسالة الحقوق، حسين علي المنتظري، منشورات سرايي، طهران، الطبعة الاُولى، 1383 ش.

43 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، أبوالفضل شهاب الدين السيّد محمود آلوسي بغدادي، تحقيق السيّد محمود شكري آلوسي، منشورات جهان، طهران.

44 - سنن ابن ماجه، الحافظ أبو عبداللّه محمّد بن يزيد القزويني، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي، دار احياء التراث العربي، 1395 ه.

45 - سنن أبي داود، أبو داوود سليمان بن الاشعث السجستاني، تحقيق محمّد محيي الدين عبدالحميد، دار احياء السنة النبوية، بيروت.

46 - السنن الكبرى، أبوبكر احمد بن الحسين بن علي البيهقي، مع كتاب الجوهر النّقي، دارالمعرفة، بيروت.

47 - السيرة النبوية، أبو محمّد عبدالملك بن هشام بن ايوب، منشورات ايران، مطبعة مهر قم، 1363 ه. ش.

48 - شرح غرر الحكم و درر الكلم، جمال الدين محمّد الخوانساري، منشورات جامعة طهران، 1373 ه. ش، تحقيق المحدّث الاُرموي.

49 - شرح نهج البلاغة، عزالدين عبدالحميد المعروف بابن ابي الحديد، مكتبة آية اللّه النجفي المرعشي، الطبعة الثانية.

50 - الشفاء، ابن سينا، مع مقدمة ابراهيم مدكور، منشورات ناصر خسرو، طهران، مطبعة آرمان، الطبعة الاُولى، 1363 ه. ش.

51 - الصحاح، تاج اللغة و صحاح العربية، أبو نصر اسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، تحقيق احمد عبدالغفور العطّار، دارالعلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1407 ه.

52 - الصحيح، المعروف بصحيح البخاري، أبو عبداللّه محمّد بن اسماعيل بن ابراهيم، تحقيق الشيخ عبدالعزيز بن عبداللّه بن باز، دارالفكر، بيروت، 1419 ه.

53 - الصحيح، المعروف بصحيح مسلم، أبوالحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، مع شرح النووي، دارالكتاب العربي، بيروت، 1407 ه.

ص:536

54 - الصحيفة السجادية الكاملة، الإمام زين العابدين عليه السلام، مؤسسة النشر الاسلامي، التابعة لجماعة المدرّسين قم، الطبعة الثالثة، القطع الجيبي.

55 - الصواعق المحرقة، احمد بن حجر الهيتمي المكي، مع تعليقات عبدالوهاب عبداللطيف، مكتبة القاهرة، الطبعة الثانية، 1385 ه.

56 - علل الشرايع، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين المعروف بالشيخ الصدوق، دارالحجة للثقافة، الطبعة الاُولى، 1416 ه.

57 - عوالي اللئالي العزيزية، محمّد بن علي بن ابراهيم الاحسائي المعروف بابن أبي جمهور، مع مقدمة بقلم آية اللّه السيّد شهاب الدين النجفي المرعشي، تحقيق آقا مجتبى العراقي، مطبعة سيدالشهداء، قم، الطبعة الاُولى، 1403 ه.

58 - عيون اخبار الرضا، محمّد بن علي بن الحسين المعروف بالشيخ الصدوق، تحقيق سيد مهدي الحسيني اللاجوردي، الناشر رضا مشهدي، الطبعة الثانية.

59 - الغدير في الكتاب والسنة والادب، عبدالحسين احمد الاميني النجفي، دارالكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1397 ه.

60 - فتوح البلدان، أبوالحسن البلاذري، مع تعليقات رضوان محمّد رضوان، منشورات ارومية، قم، 1404 ه.

61 - فرائد السمطين في فضائل المرتضي، ابراهيم بن محمّد بن المؤيد الحمّويي الخراساني، تحقيق محمّد باقر محمودي، مؤسسة محمودي، بيروت، الطبعة الاُولى، 1400 ق.

62 - الفقه على المذاهب الاربعة، عبدالرحمن الجزري، داراحياء التراث العربي، 1406 ه.

63 - القاموس المحيط، مجدالدين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي، مؤسسة نوري.

64 - قصص الانبياء، السيّد نعمة اللّه الجزائري، مكتبة آية اللّه النجفي المرعشي، قم، 1404 ه.

65 - قصص الأنبياء، قطب الدين سعيد بن هبة اللّه الراوندي، مؤسسة البحوث في الروضة الرضوية المقدّسة، 1409 ه.

66 - الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني، تحقيق علي أكبر الغفاري، دارالكتب الاسلامية، ايران.

67 - كتاب الغيبة، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، تحقيق الشيخ عبداللّه الطهراني والشيخ علي احمد ناصح، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، الطبعة الاُولى، 1411 ه.

ص:537

68 - كامل الزيارات، جعفر بن محمّد بن جعفر بن موسى بن قولويه القمي المعروف بابن قولويه، مكتبة الصدوق، طهران، الطبعة الاُولى، 1375 ه. ش.

69 - الكتاب المقدس، العهد القديم والعهد الجديد، طبعة عام 1895 م.

70 - الكشاف عن حقائق غوامض من التنزيل، جاراللّه محمود بن عمر الزمخشري، مكتب الاعلام الاسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1414 ه.

71 - كشف الريبة عن احكام الغيبة، زين الدين الجبعي العاملي الشامي، تحقيق علي الخراساني، مطبعة سيدالشهداء عليه السلام، قم، الطبعة الاُولى، 1403 ه.

72 - كشف المحجّة لثمرة المهجة، السيّد بن طاووس، النجف، مطبعة الحيدرية، 1370 ه.

73 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، الخواجة نصيرالدين الطوسي، تحقيق حسن حسن زاده الآملي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، الطبعة الخامسة.

74 - كمال الدين و تمام النعمة، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين المعروف بالشيخ الصدوق، تحقيق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين قم، الطبعة الثالثة.

75 - كنز العمال في سنن الاقوال والافعال، المتقي بن حسام الدين الهندي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1399 ه.

76 - لسان العرب، أبوالفضل جمال الدين محمّد بن مكرم الافريقي المصري المعروف بابن منظور، دار صادر، بيروت، الطبعة الاُولى، 1997 م.

77 - مباني فقهي حكومت اسلامي (= الأسس الفقهية للحكومة الاسلامية)، حسين علي المنتظري، ترجمة و تقرير محمود صلواتي و أبوالفضل شكوري، نشر تفكر، طهران.

78 - مثنوي معنوي، جلال الدين محمّد البلخي المولوي، تحقيق نيكلسون، طبعة مهارت، منشورات بهزاد.

79 - مثنوي معنوي، جلال الدين محمّد البلخي المولوي، تحقيق و تصحيح و تعليقات محمّد استعلامي، كتابفروشي زوار، طهران، الطبعة الثانية، 1369 ه. ش.

80 - مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو علي الفضل بن الحسن المعروف بالطبرسي، المكتبة الاسلامية، طهران.

81 - مجموعة ورّام أو تنبيه الخواطر و نزهة النواظر، أبوالحسين ورّام بن أبو فراس المالكي الاشتري، مكتبة فقيه، قم.

ص:538

82 - المحاسن، أبو جعفر احمد بن محمّد بن خالد البرقي، تحقيق السيّد جلال الدين الحسيني، دارالكتب الاسلامية، قم، الطبعة الثانية.

83 - المحجة البيضاء في تهذيب الاحياء، محمّد محسن بن المرتضى المعروف بالمولى محسن الفيض الكاشاني، تحقيق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، الطبعة الثانية.

84 - المراجعات، السيّد شرف الدين، تحقيق و تعليق حسين الراضي، بيروت، الطبعة الثانية، 1402 ه.

85 - مروج الذهب و معادن الجوهر، أبوالحسن علي بن الحسين المعروف بالمسعودي، دارالفكر، بيروت.

86 - مسالك الافهام، زين الدين بن علي العاملي المعروف بالشهيد الثاني، مؤسسة المعارف الإسلامية، الطبعة الاُولى، 1416 ه.

87 - مستدرك الوسائل، الميرزا حسين النوري الطبرسي، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم، و طبعت منه حتى الآن تسعة مجلدات بعنوان الخاتمة.

88 - المسترشد في امامة اميرالمؤمنين عليّ بن ابي طالب عليه السلام، محمّد بن جرير بن رُستم الطبري الآملي، تحقيق احمد المحمودي، مؤسسة كوشانپور للثقافة الاسلامية، الطبعة الاُولى.

89 - المسند، احمد بن حنبل، الطبعة الاُولى، بيروت، دار صادر.

90 - مصباح الشريعة و مفتاح الحقيقة، المنسوب الى الامام جعفر الصادق عليه السلام، ترجمة و شرح حسن المصطفوي، نشر انجمن اسلامي حكمت و فلسفة ايران، طهران، 1360 ه. ش.

91 - معاني الاخبار، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين المعروف بالشيخ الصدوق، تحقيق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم.

92 - مفردات الفاظ القرآن، الحسين بن محمّد بن المفضل المعروف بالراغب الاصفهاني، تحقيق صفوان عدنان داوودي، دارالقلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الاُولى، 1416 ه.

93 - المقالات والفرق، سعد بن عبداللّه ابي خلف الاشعري القمي، تحقيق محمّد جواد شكور، مركز منشورات علمي و فرهنگي، مجلّد واحد، الطبعة الثانية، 1360 ه. ش.

ص:539

94 - مقدمة ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمّد بن خلدون، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1408 ه.

95 - مكارم الاخلاق، أبو نصرالحسن بن الفضل الطبرسي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم.

96 - المكاسب المحرّمة، الشيخ مرتضى الأنصاري، تبريز، الطبعة الحجرية.

97 - الملل والنحل، الشهرستاني، نشر مطبعة حجازي، 1368 ه. ش.

98 - مناقب آل أبي طالب، أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني، دارالأضواء، بيروت، الطبعة الثانية، 1412 ه.

99 - من لا يحضره الفقيه، محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق، تحقيق السيّد حسن الموسوي الخرسان، دارالتعارف، بيروت، 1401 ه.

100 - منية المريد في ادب المفيد والمستفيد، زين الدين بن علي العاملي المعروف بالشهيد الثاني، تحقيق رضا مختاري، مكتب الاعلام الاسلامي، الطبعة الاُولى، 1409 ه.

101 - الميزان في تفسير القرآن، السيّد محمّد حسين الطباطبائي، مؤسسة الاعلمي، بيروت.

102 - نصيحة الملوك، محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالي الطوسي، تعليق و تحقيق جلال الدين همائي، منشورات بابك، 1361 ه. ش.

103 - النهاية في غريب الحديث والأثر، مجدالدين أبوالسعادات المبارك بن محمّد الجزري المعروف بابن الاثير، تحقيق طاهر احمد الزاوي و محمود محمّد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت.

104 - نهج البلاغة، أبوالحسن محمّد بن ابي احمد الحسني المعروف بالشريف الرضي، شرح صبحي الصالح، مؤسسة دارالهجرة، ايران، الطبعة الاُولى، 1407 ه.

105 - نهج الفصاحة، أبوالقاسم پاينده، سازمان منشورات جاويدان، الطبعة الخامسة عشر، 1360 ه. ش.

106 - الوافي، محمّد محسن بن المرتضي، المعروف بالمولى محسن الفيض الكاشاني، مكتبة الإمام اميرالمؤمنين عليه السلام، اصفهان، الطبعة الاُولى.

107 - وسائل الشيعة، محمّد بن الحسن المعروف بالحرّ العاملي، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام، الطبعة الثانية.

ص:540

(باسمه تعالى)

دروس سماحة آية اللّه العظمى المنتظري، متوفّرة بأقراص ممغنطة ( CD

1 - مجموعة آثاره و فيها خمسون مجلّداً من كتبه المطبوعة (قرص واحد CD )

2 - دروس من نهج البلاغة، 195 درساً صوتياً (عشرة أقراص CD )

3 - دروس من نهج البلاغة، 195 درساً مصوراً (اربعة و ستون قرصاً CD )

4 - دروس الخارج في الفقه (المكاسب المحرمة)، 565 درساً صوتياً (ستة اقراص CD )

5 - دروس بحث الخارج في الفقه (كتاب الزكاة)، 722 درساً صوتياً (سبعة اقراص CD )

6 - العروة الوثقى (صلاة المسافر)، 24 درساً صوتياً (قرص واحد CD )

7 - العروة الوثقى (صلاة المسافر)، 24 درساً مصوراً (اثناعشر قرصاً CD )

8 - دروس الفلسفة (منظومة الحكمة، امور عامة)، 119 درساً صوتياً (قرص واحد CD )

9 - دروس الفلسفة (منظومة الحكمة، امور عامة)، 119 درساً مصوراً (مائة و تسعة عشر قرصاً CD )

10 - دروس الفلسفة (منظومة الحكمة، الالهيات)، صوتياً (الدرس متواصل) (قرصان CD )

11 - دروس الفلسفة (منظومة الحكمة، الالهيات)، مصوراً (الدرس متواصل) (عشرون قرصاً CD )

12 - دروس بحث الخارج في الفقه (سبّ المؤمن)، 10 دروس صوتية (قرص واحد CD )

13 - دروس بحث الخارج في الفقه (سبّ المؤمن)، 10 دروس مصوّرة (ستة اقراص CD )

14 - من المبدأ إلى المعاد (نص الكتاب مقروءاً) (قرص واحد CD )

15 - الروضة من الكافي، 119 درساً صوتياً (ستة اقراص CD )

16 - الروضة من الكافي، 119 درساً مصوراً (ثمانية و اربعون قرصاً CD )

17 - مراسيم صلاة عيد الفطر من عام 2005 إلى عام 2007 (ثلاثة اقراص CD )

18 - دروس الاخلاق (جامع السعادات، صوتياً (الدرس متواصل) (قرصان CD )

19 - دروس الاخلاق (جامع السعادات)، مصوراً (الدرس متواصل) (مائة قرصاً CD )

20 - اسوة في الثبات - صوتي و مصوّر (قرص واحد CD )

ص:541

مسرد بمؤلّفات المرجع الديني الأعلى سماحة آية اللّه العظمى المنتظري

الصادرة باللغة الفارسية:

1 - درسهايى از نهج البلاغه (3 مجلّدات) (= دروس من نهج البلاغة - ثلاثة مجلّدات) 11500 تومان

2 - خطبۀ حضرت فاطمۀ زهرا عليها السلام (= خطبة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام) 3000 تومان

3 - از آغاز تا انجام (در گفتگوى دو دانشجو) (= من المبدأ إلى المعاد - في حوار بين طالبين) 1500 تومان

4 - إسلام دين فطرت (= الإسلام دين الفطرة) 6000 تومان

5 - موعود اديان (= موعود الأديان) 4000 تومان

6 - مبانى فقهى حكومت إسلامى (8 مجلّدات) (= الأسس الفقهية للحكومة الإسلامية - ثمانية مجلّدات) 25000 تومان

جلد اول: دولت و حكومت (= المجلد الاول: الدولة والحكومة) 2500 تومان

جلد دوم: امامت و رهبرى (= المجلد الثاني: الإمامة والقيادة) 2500 تومان

جلد سوم: قواى سه گانه، امر به معروف، حسبه و تعزيرات (= المجلد الثالث: السلطات الثلاث: الامر بالمعروف، والحسبة، والتعزيرات) 3000 تومان

جلد چهارم: احكام و آداب ادراۀ زندانها و استخبارات (= المجلد الرابع: أحكام و آداب ادارة السجون والاستخبارات) 2500 تومان

جلد پنجم: احتكار، سياست خارجى، قواى نظامى و اخلاق كارگزاران حكومت إسلامى (= المجلد الخامس: الاحتكار، والسياسة الخارجية، والقوات المسلّحة و اخلاق المسؤولين في الحكومة الإسلامية) 2500 تومان

جلد ششم: منابع مالى حكومت إسلامى (= المجلد السادس: المصادر المالية للحكومة الإسلامية) 3000 تومان

جلد هفتم: منابع مالى حكومت إسلامى، فىء، انفال (= المجلد السابع: المصادر المالية للحكومة الإسلامية، الفىء، الانفال) 4500 تومان

جلد هشتم: احياء موات، ماليات، پيوست ها، فهارس (= المجلد الثامن: احياء الموات، الضرائب، الملحقات، الفهارس) 4500 تومان

ص:542

7 - رسالۀ توضيح المسائل (= رسالة توضيح المسائل) 2000 تومان

8 - رسالۀ استفتائات (3 مجلّدات) (= رسالة الاستفتاءات - ثلاثة مجلدات) 9000 تومان

9 - رسالۀ حقوق (= رسالة الحقوق) 500 تومان

10 - احكام پزشكى (= الاحكام الطبية) 1500 تومان

11 - احكام و مناسك حج (= أحكام و مناسك الحج) 2000 تومان

12 - احكام عمرۀ مفرده (= احكام العمرة المفردة) 500 تومان

13 - معارف و احكام نوجوان (= معارف و أحكام الشباب) 1500 تومان

14 - معارف و احكام بانوان (= معارف و احكام النساء) 2000 تومان

15 - استفتائات مسائل ضمان (= استفتاءات في مسائل الضمان) (غير متوفّر)

16 - جلوه هاى ماندگار (= تجلّيات باقية) 3000 تومان

17 - حكومت دينى و حقوق انسان (= الحكومة الدينية و حقوق الإنسان) 1500 تومان

18 - مجازات هاى اسلامى و حقوق بشر (= العقوبات الإسلامية و حقوق الإنسان) 1500 تومان

19 - مبانى نظرى نبوت (= الأسس النظرى للنبوة) 1000 تومان

الكتب الصادرة باللغة العربية:

20 - دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الاسلامية (أربعة مجلدات) 11000 تومان

21 - كتاب الزكاة (أربعة مجلدات) 10000 تومان

22 - دراسات في المكاسب المحرمة (ثلاثة مجلدات) 12000 تومان

23 - نهاية الاصول 3200 تومان

24 - نظام الحكم في الاسلام 4000 تومان

25 - البدر الزاهر (في صلوة الجمعة والمسافر) 2500 تومان

26 - كتاب الصوم 4500 تومان

27 - كتاب الحدود 500 تومان

28 - الخمس والانفال 4500 تومان

ص:543

29 - التعليقة على العروة الوثقى 700 تومان

30 - الاحكام الشرعية على مذهب اهل البيت عليهم السلام 1500 تومان

31 - مناسك الحج والعمرة 250 تومان

32 - مجمع الفوائد 2500 تومان

33 - من المبدأ الى المعاد (في حوار بين طالبين) 1500 تومان

34 - الأفق أو الآفاق (في مسألة الهلال) 1000 تومان

35 - منية الطالب (في حكم اللحية والشارب) 500 تومان

36 - رسالة مفتوحة (ردّاً على دعايات شنيعة على الشيعة و تراثهم) 500 تومان

37 - موعود الأديان 4000 تومان

38 - الإسلام دين الفطرة 6000 تومان

ص:544

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.