الاسلام دین الفطره

اشارة

عنوان و نام پديدآور : الاسلام دین الفطره/ تحت اشراف المنتظری.

مشخصات نشر : قم: ارغوان دانش ‫، 1429ق. ‫= 1387.

مشخصات ظاهری : ‫544 ص.

شابک : ‫60000 ریال ‫ 978-964-2768-12-7 :

وضعیت فهرست نویسی : برون سپاری.

يادداشت : عربی.

یادداشت : ‫کتابنامه: ص. [533] - 540؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع : اسلام -- بررسی و شناخت

موضوع : اسلام -- عقاید

شناسه افزوده : منتظری ، حسینعلی ، ‫1301 - 1388.

رده بندی کنگره : ‫ BP11 ‫ /‮الف 486 1387 ‫

رده بندی دیویی : ‫ 297/02

شماره کتابشناسی ملی : 1574492

وضعيت ركورد : ركورد كامل

ص :1

اشارة

ص :2

الاسلام دین الفطره

تحت اشراف المنتظری

ص :3

المنتظري، حسين علي، 1301 -.

الإسلام دينُ الفطرة / تحت إشراف آية اللّه العظمى حسين علي المنتظري - قم: ارغوان دانش، 1429 ه = 1387 ه. ش.

544 صفحة.

60000 ريال 7-12-2768-964-978: NBSI

فهرست نويسي بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه: ص [533]-540، همچنين به صورت زيرنويس.

1. الإسلام. بحث و عرض. 2. الإسلام. العقائد. 3. الإسلام. بلسان واضح.

4. الأخلاق الاسلامى. الف. العنوان.

5 الف 8 م / 11 PB 297

1387

«الإسلام دينُ الفِطرة»

تحت إشراف: سماحة آية اللّه العظمى المنتظري

- الناشر: ارغوان دانش

المطبعة: عترت

الطبعة: الاُولى

تاريخ النشر: صيف 1387 (شعبان المعظم 1429)

عدد النسخ: 3000 نسخه

سعر النسخة: 6000 تومان

الرقم الدولي: 7-12-2768-964-978

- مركز التوزيع: قم، شارع الشهيد محمّد المنتظري، الزقاق 8

هاتف: 14-37740011(025) * فكس: 37740015 * جوال: 5050 252 0912

البريد الإلكتروني: AMONTAZERI@AMONTAZERI . COM .

ص:4

ص:5

ص:6

«فهرس المواضيع»

تمهيد:... 19

الدّين 23

ما هو الدّين؟... 25

فطرية الدّين... 25

الغاية من الدّين... 27

أ - التوعية... 28

ب - الحُكم... 29

ج - تعيين المسؤوليات... 30

د - معرفة الكَوْن... 31

جواب عن سؤال... 33

النفور من الدّين... 34

شمولية الدّين... 37

مجال تعاليم الدّين... 38

العقل والدّين... 40

شمولية فهم الدّين... 42

مدخلية الافتراضات المسبقة في فهم الدّين... 43

يُسر الدّين... 47

التديّن... 48

الأديان... 50

ختم النبوّة... 52

الدّين والتطوّر... 54

الإسلام... 57

الشيعة... 58

الباب الأوّل: الإعتقادات 61

العقيدة... 63

العقيدة الحقّة... 64

الإيمان... 65

درجات الإيمان... 66

ما يجب الإيمان به... 68

ضرورة الإيمان... 69

فوائد الإيمان... 71

العلم والإيمان... 73

العقائد الباطلة... 74

الشرك... 75

الكفر... 80

اللّه 82

طرق معرفة اللّه... 83

منهج الإمام الصادق عليه السلام في إثبات وجود اللّه... 84

الإنسان، آية اللّه... 85

ص:7

نفي الصدفة... 87

معرفة اللّه أمر فطري... 87

صفات اللّه... 90

قرب اللّه... 91

عدم رؤية اللّه... 92

قدرة اللّه... 95

علم اللّه... 96

عدل اللّه... 96

التوحيد... 99

المراد من وحدانية اللّه... 100

مراتب التوحيد... 101

المرتبة الكاملة للتوحيد... 102

الأدلّة على وحدانية اللّه... 103

أقسام التوحيد... 105

1 - التوحيد في الذات... 106

2 - التوحيد في الصفات... 106

3 - التوحيد في الأفعال... 107

4 - التوحيد في العبادة... 108

افعال اللّه... 111

نظام فعل اللّه... 111

دور الموَكَّليْن... 112

اللّوح المحفوظ و لوح المحو والإثبات... 112

قواعد أفعال اللّه... 113

هدفية أفعال اللّه... 114

مشيئة اللّه... 114

القضاء والقدر... 114

هل يمكن تغيير القدر؟... 117

هل الإنسان مجبر؟... 118

لا جبر و لا تفويض... 120

الإيمان بالقضاء والقدر... 121

الشُرور... 122

النبوّة 126

الحاجة إلى الدليل والهداية... 126

ضرورة بعث النبيّ في المصادر الدينية... 128

سؤال حول محدودية المنطقة التي بعث...... 130

إتمام الحجة... 131

مكانة الأنبياء... 131

الأُصول المشتركة بين الأنبياء... 132

1 - الدعوة إلى التوحيد... 132

2 - الإخبار عن الآخرة... 133

3 - الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي... 133

اصطفاء الأنبياء... 134

الوحي... 135

تشخيص الوحي من قبل النبيّ... 136

طرق إثبات النبوّة... 136

المعجزة... 137

حقيقة المعجزة... 137

المعجزة و قانون العلّية... 138

الهدف من المعجزة... 138

ص:8

اختلاف المعجزات... 139

عصمة الأنبياء... 140

حقيقة العصمة... 140

منشأ العصمة... 141

ردّ على شبهة... 141

علم الأنبياء... 143

علم الغيب عند الأنبياء... 143

التفاوت بين الأنبياء... 144

بشرية الأنبياء... 145

سيرة الأنبياء... 146

خاتم الأنبياء... 149

سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 150

عبادته... 151

مدارة الناس... 152

النظافة والزينة... 152

الاعتدال... 153

موقفه من الأعداء... 154

الزهد والبساطة... 154

معجزة النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم... 155

القرآن و أسلوبه... 157

تواتر و قطعية نص القرآن... 158

الإمامة 160

أهمّيّة الإمامة... 160

شروط الإمامة... 161

1 - العلم... 161

2 - العصمة... 162

3 - التحلّي بصفات النبيّ... 163

4 - الصبر... 163

5 - الزهد... 164

الطريق إلى معرفة الإمام... 165

الإمامة الخاصّة... 166

الإمامة بَعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 166

خليفة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على أساس القرآن... 169

الولاية... 172

الولاية التكوينية والولاية التشريعية... 174

إمامة الإمام عليّ عليه السلام في الروايات... 176

نبوءة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 178

هواجس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من العصبية الجاهلية... 178

الإمام علي عليه السلام والخلافة... 179

الأئمة الإثنا عشر... 180

أسماء الأئمة عليهم السلام... 181

اختيار الأئمة عليهم السلام... 182

أهلية الأئمة عليهم السلام... 183

الإمامة في الطفولة... 185

آخر حجج اللّه... 186

ظهور المهدى (عج)... 187

انتظار ظهور المهدي (عج) قبل ولادته... 188

ولادة الإمام المهدي (عج)... 189

ص:9

غيبة الإمام المهدي (عج)... 189

الحكمة من غيبة إمام الزمان (عج)... 191

طول عمر إمام الزمان (عج)... 192

إنتظار الفرج والحكمة منه... 192

الآخرة 194

أجَل الإنسان... 195

الموت... 196

سهولة و صعوبة النزع... 197

الخوف من الموت... 198

البرزخ... 198

سؤال القبر... 199

علل مشارف القيامة... 200

زمان وقوع القيامة... 201

قرب وقوع القيامة... 201

أهوال القيامة... 202

الحشر والمعاد... 204

هل المعاد جسماني أم روحاني؟... 207

الحساب... 209

تجسّم الأعمال... 211

الشفاعة... 213

الصراط... 214

الجنّة... 215

جهنّم... 216

الباب الثاني: الأخلاق 219

علم الأخلاق... 221

فلسفة الأخلاق... 221

النظام الأخلاقي في الإسلام و خصائصه... 223

1 - التحول في الأخلاق... 223

2 - الواقعية... 224

3 - الاهتمام بالجوانب الوجودية للإنسان... 225

النفس و أقسامها... 225

النفس الأمّارة... 225

النفس اللّوامة... 226

النفس المُلْهَمَة... 227

النفس المطمئنة... 227

4 - الاعتدال... 227

5 - الترابط بين الأخلاق والعبادة... 229

6 - التقوى ركيزة للأخلاق... 230

7 - الاعتزاز بالنفس... 233

8 - الاُسرة التربوية... 234

9 - الثبات والمرونة في القضايا الأخلاقية... 236

10 - شمولية النظام الأخلاقي في الاسلام... 237

هدف النظام الأخلاقي في الاسلام... 238

أُسس النظام الأخلاقي في الإسلام... 239

مكانة النظام الأخلاقي في الاسلام... 240

الأخلاق الفردية... 242

السلوك الشخصي... 243

ص:10

الإخلاص... 245

العُجب... 246

الجاه و حُبّ الشهرة... 247

حُبّ الدنيا... 248

الزهد... 250

القناعة... 252

الصبر... 253

الدعاء والتوسل... 254

الأخلاق الأُسَرِيّة... 257

الزوج والزوجة... 257

الوالدان والأولاد... 260

الأقارب... 261

صِلةُ الرَحم... 262

الأخلاق الاجتماعية... 263

العزلة والتواصل... 264

حُسْنُ الخُلق... 264

علاقة الأُخُوَّة والإيمان... 265

الموقف من المُنكَرات... 266

المحبّة... 267

أصدقاء السوء... 269

الأصدقاء الصالحون... 270

الكلام... 270

النميمة... 272

الغِيبة... 272

النفاق... 274

الكذب... 275

السبّ... 275

التكبّر... 276

الحَسَد... 278

الغضب... 278

العصبية... 280

الحلم... 281

العفّة... 282

الإحسان... 283

التراحم والمودّة... 284

المداراة... 285

آداب المعاشرة... 287

أخلاق الأُمراء والمسؤولين... 288

1 - الصفح... 290

2 - تهذيب النفس... 292

3 - مداراة الناس... 293

4 - رفض التملّق و اجتناب سيرة الجبابرة... 295

5 - كتمان السرّ... 298

6 - اجتناب الغضب... 298

7 - اجتناب الكِبْر... 299

8 - سعة الصدر... 300

9 - المداراة... 301

10 - الحلم... 302

11 - العدالة... 302

ص:11

الباب الثالث:

التكاليف و المسؤوليات 305

الأحكام... 307

أفضلية التشريع الإلهي... 308

مصادر التشريع... 309

1 - القرآن... 309

2 - السُنّة (قول، فعل و تقرير المعصوم)... 310

3 - الإجماع... 310

4 - العقل... 311

الاجتهاد و تاريخه... 311

1 - دور تعلّم و نشر الأحكام... 312

2 - دور الاجتهاد الابتدائي... 312

3 - دور الاجتهاد التخصُّصي... 313

التقليد... 313

شروط مرجع التقليد... 314

التكليف... 315

شروط التكليف... 316

الفرق بين التكليف والحق... 317

أبواب الفقه... 318

العبادات 319

الصلاة... 319

أهمّية الصلاة... 319

الصلوات الواجبة... 321

مقدّمات الصلاة... 322

وقت الصلاة... 322

مكان المصلّي... 322

القِبلة... 323

ثياب المصلّي... 324

الطهارة... 324

أ - الطهارة الظاهرية... 324

النجاسات... 325

طرق إثبات النجاسة... 326

طرق تنجّس الأشياء الطاهرة... 326

المطهِّرات... 326

1 - الماء... 326

الماء القليل والكر... 327

2 - الأرض... 328

3 - الشمس... 328

4 - الاستحالة... 329

5 - ذهاب ثلثي العصير العنبي... 329

6 - الانتقال... 329

7 - الإسلام... 329

8 - التبعية... 330

9 - زوال عين النجاسة... 330

10 - استبراء الحيوان الجلّال... 330

11 - غيبة المسلم... 330

ب - الطهارة المعنوية... 330

الوضوء... 331

ص:12

الوضوء الترتيبي والارتماسي... 331

شروط الوضوء... 332

مبطلات الوضوء... 333

الغسل... 333

الأَغسال الواجبة... 334

كيفية الغسل... 335

أحكام الغسل... 335

أحكام الجنابة... 336

ما يحرم على الجنب... 336

أحكام الحيض... 337

التيمُّم... 337

كيفية التيمم... 338

ما يصحّ به التيمم... 338

موارد التيمم... 339

واجبات الصلاة... 339

أحكام الصلاة... 341

مستحبات الصلاة... 342

مبطلات الصلاة... 343

صلاة المسافر... 344

صلاة الجماعة... 345

شروط صلاة الجماعة... 346

شروط إمام الجماعة... 346

الصلوات الواجبة الأُخرى... 346

صلاة الجمعة... 346

كيفية صلاة الجمعة... 347

شروط إمام الجمعة... 347

صلاة العيدين... 348

كيفية صلاة العيد... 348

صلاة الآيات... 349

وقت صلاة الآيات... 350

كيفية صلاة الآيات... 350

أحكام الموتى... 351

الاحتضار... 351

أحكام ما بعد الوفاة... 351

غسل الميّت... 351

أحكام غسل الميّت... 352

ألحنوط و أحكامه... 352

أحكام تكفين الميّت... 353

أحكام صلاة الميّت... 353

الدفن... 354

صلاة الوحشة... 355

نبش القبر... 355

الصوم... 356

من لايجب عليهم الصوم... 357

مبطلات الصوم... 358

أحكام الصوم... 359

تكريم شهر رمضان... 360

الاعتكاف... 360

شروط الاعتكاف... 361

أحكام الاعتكاف... 361

ص:13

الحج... 362

1 - الجانب العبادي للحج... 362

2 - تأثير الحج في الرقى والبقاء الثقافي... 366

3 - الجانب الاجتماعي والسياسي للحج... 367

شروط وجوب الحج... 368

أقسام الحج... 369

كيفية حج التمتّع... 369

1 - عمرة التمتّع... 370

2 - حج التمتّع... 371

العمرة المفردة... 372

زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أهل البيت عليهم السلام... 372

النذر والعهد والقسم... 373

الاُسرة 376

مكانة و أهمية الاُسرة... 376

الزواج... 377

العلاقة الطبيعية بين المرأة والرجل... 377

الزواج نوع من العبادة... 377

الاهداف الأساسية من الزواج... 379

اختيار الزوج... 379

1 - الحريّة في اختيار الزوج... 380

إذن الأب في زواج ابنته... 380

2 - معايير اختيار الزوج... 381

3 - من لايقع الزواج بينهم (المحارم)... 382

عقد الزواج... 384

دور المرأة في صيانة العفاف في المجتمع... 384

أحكام النظر واللّمس والصوت... 385

الواجبات الأُسرية... 386

النفقه و إدارة شؤون الاُسرة... 388

من تجب إعالتهم... 390

حقوق الطفل... 390

الأعمال المستحبة بعد الولادة... 391

الزواج المؤقت... 391

لماذا الزواج المؤقت؟... 391

أحكام الزواج المؤقّت... 393

تعددُّ الزوجات... 394

شروط تعدد الزوجات... 395

الطلاق... 396

قيود وقوع الطلاق... 397

أقسام الطلاق... 398

أ - الطلاق البائن... 398

ب - الطلاق الرجعي... 399

أحكام العِدّة... 400

عدّة الطلاق... 400

المرأة التي لا عدّة عليها... 400

عدّة المرأة في الزواج المؤقت... 401

عدّة الوفاة... 401

ما يجب على المرأة في عدّة الوفاة... 401

التغذية... 402

1 - اللُّحوم... 402

ص:14

أ - الحيوانات الحلال اللّحم... 402

شروط ذباحة الحيوان... 403

أحكام الصيد بالأسلحة... 404

صيد الأسماك... 405

ب - الحيوان المحرّم اللحم... 405

2 - المأكولات المأخوذة من غير الحيوان... 405

المأكولات الحرام المأخوذة من غيرالحيوان... 406

أ - النجاسات... 406

ب - المواد المضرّة... 406

ج - السوائل والأشربة المحرمة... 406

أحكام الأطعمة... 406

وسائل الترفيه والتسلية... 407

المسابقات... 408

أحكام بعض الوسائل الترفيهية... 409

1 - الغناء... 409

2 - الألعاب السحريّة... 409

3 - إحضار الأرواح والتنويم المغناطيسي... 409

4 - القمار... 410

5 - المخدرات... 410

الاقتصاد 411

أهمية الاقتصاد... 411

القوانين الاقتصادية... 412

الفقر؛ أسبابه و تأثيراته... 413

الملكية و أنواعها... 414

الملكية العامّة... 415

الملكية الخصوصية... 416

الثراء... 416

الإسراف والتبذير... 417

العمل والسعي... 418

شروط الملكية... 419

الوصية... 419

الإرث... 421

الغصب... 422

المحجور عليه... 422

أنواع المعاملات... 423

الأحكام العامّة للمعاملات... 426

أنواع البيع... 426

موارد فسخ المعاملة... 427

آداب البيع والشراء... 428

الاحتكار والتسعير... 428

المعاملات الباطلة... 429

الأعمال المحرّمة... 430

النقد... 430

القَرض الحسَن... 431

الربا... 431

المعاملة والربا... 432

أنواع الربا... 433

المصارف... 433

الكُمبِيالة (السند)... 434

ص:15

التكاليف المالية... 434

1 - الإنفاق... 436

2 - النهي عن تكديس الثروة... 436

3 - إيتاء الزكاة... 437

مصرف الزكاة... 438

زكاة الفطرة... 439

4 - الخمس... 439

مصرف الخمس... 440

السياسة 441

الدين والحكومة... 441

الحكومة، ضرورة اجتماعية... 441

الغاية من إقامة الحكومة... 442

القدرة على تنفيذ القوانين و حماية المجتمع... 443

الحكومة وسيلة لتحقيق الأهداف الدينية... 444

أنواع الحكومات، والحكومة الدينية... 445

أ - الحكم الاستبدادي والمطلق... 445

ب - الحكم الدستوري... 447

ج - الحكم الديني الدستوري... 448

خصائص الحكم الديني... 448

الاستفادة من التجارب البشرية في الحكم... 450

الفصل بين السلطات... 451

الحكومة: وكالة أم ولاية... 452

أ - الوكالة، عقد جائز... 452

ب - الحكومة، عقد لازم... 453

ج - الولاية مستقاة من العهد والميثاق... 454

د - البيعة و دورها في شرعية الحكومة... 456

القيد الزماني للمناصب الحكومية... 457

السُبُل القانونية لعزل الحاكم... 458

شروط الحاكم... 459

أ - الإسلام والإيمان... 460

ب - النضوج العقلي... 461

ج - حُسن التدبير والسياسة... 462

د - العلم والإجتهاد... 463

ه - العدالة... 465

و - حُسن الخُلُق... 467

كيفية الحكم... 467

أ - صيانة الحريّات الفردية والإجتماعية... 468

ب - المساواة أمام القانون... 469

ج - الإشراف العام على المسؤولين... 470

د - الرضا العام... 472

ه - التساهل... 473

و - حفظ المصلحة العامّة داخلياً و خارجياً... 474

ز - اجتناب إثارة التوتّر... 476

ح - الاقتصاد في النفقات... 477

ط - حفظ حقوق الأقلّيّات... 477

الأحكام السياسية... 481

أ - الواجبات السياسية والاجتماعية الفردية... 481

صلاة الجماعة، والجمعة والعيدين... 482

الحجّ، تجمع عبادي - سياسي دولي... 483

ص:16

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 484

رعاية القوانين الاجتماعية... 486

التقيّة والكتمان... 487

المشاركة في الحياة الاجتماعية و عدم العزلة... 488

ب - الواجبات السياسية الاجتماعية العامة...... 488

1 - الشؤون الثقافية... 489

أ - التعليم والتربية العامّة... 489

ب - الدعوة إلى الدين... 490

ج - العلاقات الثقافية الدولية... 491

د - الكُتُب و وسائل الإعلام... 492

2 - الشؤون الاقتصادية... 493

أ - الأنفال... 494

ب - المباحات العامّة... 495

ج - الضرائب... 495

د - الخمس والزكاة... 496

ه - الأوقاف العامّة... 496

العلاقات الاقتصادية الدولية... 496

العدالة الاقتصادية... 497

3 - الشؤون السياسية... 499

أ - الوحدة والأخوّة الإسلامية... 499

ب - حوار الأديان... 500

ج - التعايش السلمي... 501

د - المعاهدات الدولية... 502

ه - تقيّة المداراة... 503

و - الإصلاح بين الناس في السياسة...... 505

ز - الاستقلال التام... 506

4 - الشؤون العسكرية والأمنية... 506

أ - تأسيس و إدارة القوات المسلّحة... 507

ب - الجهاد والدفاع... 507

ج - السلام والأمن... 509

د - تأمين الطرق والحدود والمدن في...... 509

ه - الأمن والمخابرات... 510

5 - الشؤون القضائية... 512

أ - القضاء و شروطه... 513

ب - كيفية القضاء... 514

ج - الحدود والتعزيرات... 516

د - القصاص... 517

ه - الديّات... 518

و - المرحلة الثالثة من الأمر بالمعروف...... 518

ز - الردّة و حكم المرتد... 519

ح - الإساءة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والتجديف... 521

ط - السجن والسجناء... 523

ى - العفو عن المحكومين... 526

الأحكام في خدمة الأهداف... 527

أ - ضرورة الانسجام في الأحكام الاجتماعية... 527

ب - طريقية الأحكام الشرعية... 528

ج - الأهداف النهائية هي الأحكام...... 530

المصادر... 533

ص:17

ص:18

تمهيد:

(بسم اللّه الرّحمن الرّحيم)

الحمد للّه ربّ العالمين والصلوة والسلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين

الإنسان كيانٌ مركّبٌ من شيئين؛ روح و جسد. و قد خلقه اللّه ببالغ حكمته و جميل تدبيره لغاية ذات أهمية قصوى. فالغاية من حياته هي أن يتكامل و تنضج شخصيّته و يسير على الطريق المؤدية نحو الكمال الإلهي المطلق. فَلو شاء الإنسان أن يحثّ الخُطا نحو هذا الهدف، لكي يرتقي و يسير نحو التكامل، فلابّد من ضمان متطلباته الروحية إلى جانب متطلباته الجسدية. و هذا ما يستدعي بطبيعة الحال توجيهاً و ارشاداً و هداية. والدّين يؤدّي هذه الوظيفة و ينهض بهذه المهمّة. فهو يقدّم للإنسان منهجاً كفيلاً بتوفير متطلّباته، و هي المتطلّبات التي يتعذر نيل الكمال إلّابها. كما أن الدّين يسلّط الأضواء على حقائق يحتاجها بنو الإنسان في حياتهم المعنوية، مما لايمكن استيعابه بالعقل أو بالحس و لا بالحدس والظنون. و بعض التعاليم التي يبسطها بين يديه من سنخ آخر يفوق التجربة والإدراك العقلي مثل عالم الآخرة و عالم الغيب، و إن كان الأصل الذي يكون به الثواب والعقاب، أصل عقلي.

الملاحظة الأُخرى في ما يخص مكانة الدّين هو تأثيره الخاص في دفع الإنسان إلى ممارسات أشياء يهتدي إليها بالعقل. و دور الدّين لا غنىً عنه في تحفيز الإنسان على فعل العمل الصالح و اجتناب كل قبيح و رذيلة. و من الحقائق المشهودة هي أنّ الدّين ينظّم الحياة و يجعلها ذات نسق متسق و انضباط تام، و يزوّد الإنسان بمقدرة على التكيّف مع مصاعب الحياة و تحمل مشاقّها و تيسير العسير منها. كما أنّ الاعتقاد باليوم الآخر يهوّن من شدّة المصائب التي قد تتكالب عليه بسبب السير على طريق الحق.

الدّين يضفي على المجتمع انسجاماً و اتّساقاً، و ينقل العادات والتقاليد الصحيحة

ص:19

والأصيلة والتراث الثقافي من جيل إلى آخر. و مما لايخفى أيضاً أنّ الدّين يغمر الحياة بالبهجة والنشاط، فضلاً عن نشر و ترسيخ القيم الأخلاقية في الوسط الاجتماعي.

و علاوة على دوره في تلبية الحاجات والمتطلّبات الفردية، فإنّه يلبي المتطلّبات الاجتماعية أيضاً. و هذا يعني أنه يقدّم أفضل عون للإنسان على بسط الأمن والحريّة والعدالة التي يمكن في ضوئها نشر و تفعيل القيم المعنوية.

و بناءً على ما سبق ذكره يتّضح أن للدين دوراً في غاية الأهمية و لذلك لابُدّ من معرفته، والاطّلاع على حقيقة تعاليمه جهد الإمكان.

و أُولى المسؤوليات التي تفرض نفسها على المؤمن هي أن يتعرّف على الدّين عن وعي و بصيرة، معتمداً في ذلك على العقل و على المصادر الدينية. و إذا عرف الإنسان دينه و ما فيه من تعاليم و ارشادات و ما يتطلع إليه من أهداف و غايات، يكون بذلك قد عرف سُبُل الحياة و هذا ما يسهّل عليه طبعاً وضع المنهج الكفيل بالارتقاء به نحو الرقي والتكامل. و انطلاقاً من هذه الضرورة كُرِّس جانب مهم من رسالة الأنبياء للتعريف بالدين و إبلاغ رسالته.

و على العموم يمكن القول إنّ للإنسان ثلاث مراحل وجودية:

1 - مرحلة العقل والتفكير، و هي أعلى المراحل، و بها يتميّز عن الحيوانات.

2 - مرحلة الأهواء والغرائز والعواطف.

3 - مرحلة البدن والأعضاء والجوارح.

المرحلتان الاخيرتان خاضعتان لسيطرة و إدارة المرحلة الأُولى. و معيار التكليف وجود المرحلة الأُولى. والحيوانات ساقط عنها التكليف لأنها فاقدة لها.

الدّين غاية تنظيم و ضبط و تكامل المراحل الثلاثة. و لذلك فهو يتألّف من ثلاثة مكوّنات:

1 - المعتقدات والمعارف.

2 - الأخلاق.

3 - الأحكام العملية.

قطع علماء و فقهاء الإسلام منذ زمن بعيد أشواطاً طويلة على طريق التعريف

ص:20

بالدين و مختلف جوانبه، و ألّفوا الكتب التي يتسنّى للناس أن يطلعوا من خلالها على أصول الدّين، والأخلاق والأحكام. و لقد كانت لديهم صورة واضحة بأن كل زمان له ظروفه و متطلباته التي تستدعي وضع مؤلفات تتناسب مع التطوّر الفكري لذي المجتمع و تواكب حاجاته.

و استجابة لهذا الواقع فقد كُتبت مؤلفات تتناول الميادين الثلاثة؛ العقائد، والأخلاق، والأحكام، حتى بلغت الأمور حداً أخذ معها حجم الموضوعات يزداد يوماً بعد آخر، و أخذ حجم الرسائل العملية يتضخّم بالأسئلة الفقهية في مجال الأحكام. و قد أدّت كل هذه الأساليب مجتمعة إلى أن تكون عامّة الناس غير قادرة على الاستفادة من هذه الرسائل إلّافي القليل النادر، و نادراً ما يُتاح لها معرفة أصول العقائد والمعارف والأخلاق. و هذا ما يدعو فقهاء الإسلام و علماءَه إلى أن يهتموا - إضافة إلى الرسائل العملية التي تشتمل على الأحكام و قسمٍ من الفروع الفقهية - بجوانب الإسلام الأُخرى و تبيين المعارف الإسلامية بأسلوبها التخصصي والمُبسّط، لمختلف المستويات الثقافية لأبناء الأمّة، و يتكفّلوا إلى جانب ذلك بمهمة الرد على الشبهات الجديدة والتساؤلات التي تراود أذهان الناس أحياناً و خاصّة جيل الشباب.

جاء تأليف هذا الكتاب استجابة لهذه الضرورة. والغاية من تقديم معرفة إجمالية لمنظومة المسائل الاعتقادية والأخلاقية و نبذة عن الأحكام الضرورية لعموم الناس.

نأمل أن يكون خطوة على طريق تحقيق هذه الغاية.

في الختام أودّ أن أعرب عن شكري و تقديري لكل السادة الأفاضل الذين ساهموا في إعداد و تأليف و تعريب هذا الكتاب. و نسأل اللّه لهم جزيل الأجر والثواب.

و أدعوا جميع الاخوة والأخوات إلى تشجيع و حثّ أبنائهم على قراءة الكتب الدينية التي تتناول المعارف والأخلاق والقيم الإسلامية.

والسلام على جميع إخواننا المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته.

ربيع الأوّل 1427

حسين علي المنتظري

ص:21

ص:22

الدّين

اشارة

ص:23

ص:24

ما هو الدّين؟

الدّين بمعنى الجزاء، والقانون، والعادة، والعبادة، والطاعة.(1) و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم بهذه المعاني: (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (2) فاللّه تعالى مالك يوم الجزاء، (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) (3) أي ما كان يستطيع حبس أخيه وفقاً لقانون الملك. (أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) (4) أي اعلموا أنّ الطاعة الخالصة للّه.

و أمّا في المعنى الاصطلاحي، فتطلق كلمة الدّين على بعض الأُمور المقدّسة التي لها صلة وثيقة بذات الإنسان، و تلبّي حاجاته المعنوية، و تروي ظمأه. و في رأينا إنّ هذا لايكون حقاً إلّاإذا كان مُنزلاً من اللّه تعالى. و في هذه الحالة فقط يصحّ إطلاق تسمية الدّين عليه حقيقة. و قد ورد في القرآن الكريم صراحة: (وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (5) أي أنّ كل مَن يطلب ديناً آخر غير الإسلام لن يقبل منه أبداً.(6)

تُستعمل كلمة الدّين أحياناً في مقابل الشريعة، و يُراد به اصول الدّين، بينما تضمّ الشريعة الجوانب الأخلاقية والفقهية.

فطرية الدّين

الفَطر: بمعنى الشق طولاً. و «الفِطرة» مصدر نوعي بمعنى خلق و إبداع الشيء، بحيث

ص:25


1- - الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ج 4، ص 225.
2- - سورة الفاتحة (1)، الآية 4.
3- - سورة يوسف (12)، الآية 76.
4- سورة الزمر (39)، الآية 3.
5- سورة آل عمران (3)، الآية 85.
6- تجدر الإشارة إلى أنّ مقولة الدّين المقبول عند اللّه متفاوتة من حيث الجزاء على العمل الصالح، و كما يلاحظ في آيات أُخرى من القرآن الكريم أن أتباع سائر الأديان إن كانوا يؤمنون باللّه و يعملون عملاً صالحاً، سيكون لهم أجرهم.

يظهر منه عمل خاص. والفطرة - كالغريزة والطبع - عبارة عن ميل و نزوع ذاتي. أي أنّ الموجود الفطري هو ما خلق بحيث يكون له توجّه ذاتي نحو شيء معين بدون تعليم و تجربة، مثل فهم الحسن والقبح. و مثل هذا التوجّه والانجذاب الذاتي ليس أمراً مادياً و خاضعاً للمقاييس، و لايمكن حسابه و تقييمه بالحسابات الماديّة. و للاُمور الفطرية خصائص و هي أنّها: عمومية، ذاتية، ثابتة لاتتبدل، غير مادية.

إنّ النظر الدقيق في ميول الناس و سلوكهم يكشف بكل جلاء عن حقيقة، و هي أنّ لبني الإنسان توجهات و ميولاً باطنية. فبنو الإنسان على العموم يبدون ميلاً نحو الجمال، والسلوك الاخلاقي، و حُبّ الحقيقة، و حُبّ الاستطلاع والانبهار بالموجودات المتميّزة، والميل إلى الكشف عن الأماكن والأشياء الجميلة، والاعتناء بالذات، و إظهارها بمظهر حميد حسن، و إنفاق أموال طائلة من أجل التوصل إلى الحقيقة، والرغبة في إظهار سلوك أخلاقي حميد منذ الأيام الاُولى لإدراكهم العقلي. فلماذا كل هذه الميول؟ والجواب: لأنّ الأخلاق الحميدة كالصدق والأمانة جزء من الفطرة الاُولى للإنسان، أمّا الأخلاق السيئة كالاحتيال والخُداع والكذب فهي تتعارض مع الفطرة؛ لأنها دخيلة على فطرة الإنسان السليمة.

الإنسان بطبيعته يبجّل الكائنات العظمى و ينحني إجلالاً لها، بل قد يصل به الحال إلى عبادتها. و هذا ما يكشف عنه تاريخ البشرية بكل جلاء، و هناك شواهد دالة على فطرية هذا الميل في ذات الإنسان، تتجلى في ظهور الأديان والممارسات العبادية الغريبة، و تقديم القرابين لتلك الآلهة التي يقع عليها اختياره، و تضرّعه لها بهدف استعطافها و نيل القرب منها، فضلاً عن اتخاذ السحر كوسيلة للنفوذ إلى قلوبها، إضافة إلى ما يحتفظ به الكهنة من أحراز و أوراد للتعامل مع تلك الآلهة. و يكشف تاريخ الإنسان أنّ حياته كانت حافلة بالأسرار والألغاز. و كان الاعتقاد بوجود عالم غيبي غامض غير هذا العالم المادي، من الحقائق المشهودة في تاريخه. و ما عبادة الظواهر الطبيعية أو حتى عبادة الأصنام إلّاتعبير عن هذا الميل الذاتي، و إن كان من المحتمل - طبعاً - وقوع انحراف عن الإرادة الأصلية عند ممارسة هذا الميل. و على العموم فإنّ الميل إلى العبادة يعكس احد معاني فطرية الدّين.

ص:26

و قد صرّح القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) .(1)

إنّ فطرية الدّين تعني أنّ الدّين جاء إلى الناس بما يميلون إليه بفطرتهم الذاتية.

و أمّا الوجه الآخر لفطرية الدّين فهو أن الناس يسعون إلى العثور على القوانين والأحكام التي تضمن لهم سعادتهم، بيد أنّ ما يتوصلون إليه في هذا المضمار لايحقق لهم هذه الغاية، لذلك فهم يتطلعون إلى سبيل أكثر وثوقاً. والدّين هو السبيل الموثوق الذي يسعى الناس بجدٍ للعثور عليه.

أمّا الجانب الثالث لفطرية الدّين فيعزى إلى نزعة المنفعة والكمال عند الإنسان.

فالإنسان يسعى على الدوام في سبيل تحقيق مصلحته و منفعته الذاتية، ليتسنّى له إضافةً إلى تحقيقها، بلوغ مرتبة أعلى على طريق التكامل. و لاشكّ في أنّ مُتابعة الطريق الآمن لبلوغ الكمال و جني المنفعة الذاتية تمثل قضية حيوية لبني الإنسان. والدّين و ما فيه من تعاليم يرشدهم إلى هذا الطريق الآمن.

إذاً و فطرية الدّين هي التي تلبّي نزعة الإنسان إلى العبادة، و ترشده إلى طريق آمن نحو السعادة، و تضمن له تحقيق منفعته و بلوغ ما يصبو إليه من الكمال.

الغاية من الدّين

اشارة

نبدأ كلامنا حول هذا الموضوع بإثارة عدد من الأسئلة و هي: ماذا سيحصل لو لم يكن هناك دين؟ و هل الحياة متعذرة بلا دين؟ ألا يكفي عقل الإنسان و تجاربه لرسم مصيره؟

رغم أنّ المجتمعات البشرية لم تعش تجربة حياتية خالية من الدّين - بما يعنيه من أمر يتعاطى مع الفطرة - يمكن في ضوئها بيان حالة الحياة بدون وجود الدّين، و لكنّ واقع الحال ينبئنا عن مدى ضرورة الدّين، و أنه من المتعذر أن تكون حياة الناس خالية منه. فوجود الدّين يدور مدار حياة الإنسان. و من غير الممكن وجود الإنسان مجرّداً من هويته

ص:27


1- سورة الروم (30)، الآية 30.

الإنسانية، فميله الذاتي إلى ممارسة الشعائر الدينية جزء من هويته. و يمكن القول بعبارة أُخرى: إنّ الدّين عبارة عن استجابة مناسبة لنداء الفطرة. و يؤدي الدّين بالدرجة الاُولى عدّة وظائف مهمة، و يضطلع تبعاً لذلك بأدوار مهمة في الحياة. و يمكن إيجاز وظائف الدّين - فضلاً عمّا سبق ذكره - بما يلي:

أ - التوعية

يكتسب الناس عادة الكثير من التجارب عند إدارة شؤون حياتهم والتعاطي مع الواقع المحيط بهم. و هم عادة يكتسبون أو يكتشفون كل ما يلزم لحياتهم و سلامتهم والدفاع عن كيانهم. و رغم كل ذلك، فهناك جوانب في الحياة لاتخضع للتجربة، و إخضاعها للتجربة يعني فقدان كل شيء. و من الأُمور التي يتعذّر على الإنسان تلمّسها حتى عن طريق الحدس والظن، وجود كائنات غير مادية في هذا الوجود، و كيفية تدبير شؤون هذا الكَوْن، و مصيره، و بعث الناس من جديد في عالم آخر، و ما شابه ذلك. و قد تحدّث القرآن الكريم عن رسُل أرسلهم اللّه ليعلّموا أقوامهم: (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) .(1)

فقد تحدثت هذه الآية عن نوعين من التعليم: تعليم الكتاب والحكمة، و تعليم الأشياء التي لايمكن أن يتعلّمها الناس إلاّ عن طريق الأنبياء بواسطة الوحي.

تظهر تجارب بعض النحل والاتجاهات مثل البوذية، أنّ البوذيين على الرغم من إنكارهم لِما وراء الطبيعة و لبعث الأنبياء،(2) غير أنهم يتّصفون بمسلكية أخلاقية شبيهة بما تدعو إليه الأديان التوحيدية، و يُعزى سبب ذلك إلى ما تنطوي عليه البوذية من تعاليم معنوية.

وانطلاقاً من ذلك يبدو أنّ المتديّنين استطاعوا تحقيق ما هو صالح و ما ينبغي لهم العمل

ص:28


1- سورة البقرة (2)، الآية 151.
2- - هذا على فرض أن بوذا لم يكن نبياً و لم يكن دينه ديناً سماوياً، و اعتبرناه مجرّد إنسان دعا إلى الاهتمام بالجوانب المعنوية.

به، عن طريق الوحي والتعاليم الدينية على نحو أفضل، سواء على صعيد الاعتقاد بما في هذا العالم من حقائق خفية و ظاهرة، أو عن طريق السلوك الفردي والجماعي. فعلاقة الفرد مع ربّه، و مع أبناء جنسه، و حتى مع البيئة المحيطة به، من جملة الأُمور التي تعالجها التعاليم الدينية. و من الطبيعي أنّ كشف حقائق هذه الأشياء متعذّر على البشر، و لكن لايمكن لأحد الحزم بأنّ ما توصل إليه بنو البشر و جرّبوه هو ما ينبغي أن يكون دون غيره.

و يتضح من خلال رسالات الأنبياء أنّهم لم يكونوا يرتضون أيّ نوع من العلاقة بين العبد و ربّه. و ليس كل أنواع العلاقة بين العبد و ربّه - اى كل ما يُعبر عنه باسم العبادة - مقبولة.

إنّ علاقة البشر مع بعضهم من قبيل علاقة المرأة بالرجل، و علاقة الجيران، والرجال مع أزواجهم، والأبناء مع آبائهم، والعلاقة بين أتباع الدّين الواحد، و غير ذلك، تقوم أحياناً على التجربة و رعاية المصالح العامّة. كما يؤكّد الدّين على المصالح المعنوية والاُخروية التي لايمكن التوصّل إليها بالتجربة. فالناس قد يحسبون الخير شرّاً، أو يرون في الشر خيراً،(1)

غير أنّ الواقع ليس كذلك: (وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ...) .(2)

ب - الحُكم

يؤدّي الدّين دوراً في موضوع الحكم بين الناس و البتّ في ما ينشأ بينهم من خصومات.

فالتعارض بين المصالح يوقع الناس أحياناً في نزاعات و خصومات. و أفضل الحلول لمثل هذه المنازعات هو القضاء فيها، مع أخذ كل جوانب مصالحهم بنظر الاعتبار، و إصدار الحكم فيها تبعاً لِما تقتضيه مصلحتهم في الدنيا والآخرة: (... فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ...) .(3)

و في ضوء الملاحظتين المذكورتين آنفاً، لابُدّ من التنبيه إلى أنّ الدّين يؤازر عقل الإنسان للوصول إلى ما يحتاجه من حقائق، و يُعتبر بمثابة محكّ تُقاس به معطيات العقل و

ص:29


1- - «عَسى ان تكرهوا شيئاً و هُوَ خيرٌ لكم وَ عَسى ان تُحِبّوا شَيئاً و هُوَ شرٌّ لكم»؛ سورة البقرة (2)، الآية 216.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 180.
3- سورة البقرة (2)، الآية 213.

يتقرر خطؤها من صوابها. والعقل رغم ما يتسم به من قدرات إلّاأنّه يقع أحياناً أسيراً لأهواء النفس و يبقى عاجزاً عن إدراك ما هو حسن، بل قد يسوق الإنسان أحياناً إلى الفساد و إراقة الدماء.

فالكثير من الحروب والدمار كان الموجّه والقائد إليها هو العقل. و انطلاقاً من ذلك لابُدّ من وجود قوة رادعة و هادية أُخرى تأخذ بزمام العقل.

ج - تعيين المسؤوليات

وضع الدّين على رأس اهتماماته إبلاغ الناس بتكاليفهم، أو ما يمكن أن نسمّيه بتعبير آخر: هدايتهم. فعلى الناس تكاليف و مسؤوليات في كل ما يواجههم من شؤون الحياة.

و هذه المسؤولية إن كانت معيّنة عن طريق الوحي فهي عين الواقع. إضافة إلى أن المرء إذا تعرض لأيّة مؤاخذة أو مساءلة في هذا المضمار لايمكنه أن يدّعي الجهل بما عليه من التكاليف: (إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً * وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) .(1)

إنّ ما يعلّمه الدّين للناس - سواء في باب الاعتقادات أم في باب الأحكام - إنّما يهدف إلى إيصالهم إلى مرحلة الكمال والسعادة اللّذين يُعتبران من الحاجات الأساسية لكل إنسان. و لابُدّ من الإشارة إلى أن مثل هذا الكمال و هذه السعادة لايتوقّف تحقيقهما على التطوّر المادي و اضلال وسائل العيش المرفّه؛ إذ كثيراً ما يحصل الناس على هذه المعطيات و لكنّهم لايشعرون بأنهم قد بلغوا السعادة والكمال، و نحن نرى كثيراً من الناس ينالون ما يصبون إليه من رفاه مادّي، و لكنهم يواصلون السعي من أجل نيل السعادة. في حين أنّ اللّه

ص:30


1- سورة النساء (4)، الآيات 163-165.

عزّوجلّ قد بَيَّن في سياق ما شرّعه من أحكام الدّين بأن الالتزام بما أمر به من عبادة و جهاد و تقوى كفيل بإيصال العبد إلى ساحل النجاة والسعادة: (... اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .(1)

د - معرفة الكَوْن

إضافة إلى ما سبق ذكره، للدين تأثيرات و معطيات أُخرى في أذهان الناس و قلوبهم، لاتقل عن الغاية الأساسية التي جاء من أجلها الدّين. فالدين يعلّم الإنسان مايجعله يعيش في انسجام و تناغم مع العالم الذي يعيش فيه؛ لأنّه في حالة انعدام مثل هذا الانسجام بين الإنسان والعالم المحيط به تصبح الحياة عسيرة، و يشعر الإنسان معها بالخواء والضياع.

و رغم أن الإنسان لا دور له في صنع العالم الذي يعيش فيه، أو ليس لديه معلومات وافية عن بدايته و نهايته، غير أنّ التحليل والرؤية التي يقدّمها الدّين للإنسان عن الكَوْن والحياة يذلّلان أمامه الكثير من هواجس الحياة و آلامها، و يبعثان في نفسه الأمل بحياته و مستقبله، و ينتشلانهِ من عواصف الأزمات الروحية، و يخلقان لديه القدرة على التكيّف مع المصاعب والشدائد، و ينتزعانهِ من ظلمة الأوهام و مشاعر الخواء والعبثية، و ينقلانه إلى ظروف إيجابية: (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ...) .(2)

الإنسان المؤمن والمتديّن يعتبر نفسه عبداً للّه، و يدرك أنّ العالم مخلوق، و أنّ الخالق إله رحيم تمتد خيمة رأفته و لطفه لتظلّل بظلالها كل شيء في هذا الوجود. و هو يستشعر قرب العلاقة بينه و بين اللّه، و لاتخالجه مشاعر الغربة عن هذا الكَوْن. و هو لاينظر إلى الآلام والمتاعب كشوكة تعيقه عن مواصلة الدرب. و يلمس مشيئة اللّه في كل شيء و على كل حال. و في ضوء مثل هذا الفهم والشعور يأخذ على عاتقه عبء المسؤولية والالتزام.

و يحمل على الدوام مشاعر ايجابية إزاء العالم، و هو يعيش كل شيء في هذا الوجود لِما يمثّله من آية دالة على خلق اللّه.

ص:31


1- سورة المائدة (5)، الآية 35.
2- سورة ابراهيم (14)، الآية 5.

و اخيراً، فإنّ الدّين يمثّل بالنسبة إليه ملاذاً معنوياً في الظروف العصيبة و في أوقات الشدائد، و باعثاً على الأمل والبهجة في ظروف العافية والراحة. و يرى فيه طاقة لاتنضب عند ما يتخلّى عنه الجميع، فيولّد في نفسه النشاط والحيوية.

الدّين يربّي الإنسان على حالة من الاتزان أساسها التوكّل عند الفقر، والاحتراز من الانانية والطغيان عند الغنى. و يستنقذ الإنسان من الجمود والضحالة المادية، و يخلع عليه طابع النضارة والحيوية، و يمنحه الحصانة: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) . (1) و في المقابل يواجه المعرضون عن دين اللّه و عن ذكر اللّه ضنكاً و عسراً في الحياة حتى و إن كانوا يتقلّبون في وافر النعمة والرفاه: (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) . (2) أمّا المؤمن باللّه، فيعيش حياة زاخرة بالمعنوية، و هي الحياة التي يصفها القرآن الكريم بالحياة الطيّبة، بعيداً عن الرذيلة والفساد والانحطاط، و تغمرها البهجة الروحية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) .(3)

إنّ ما سبق ذكره لاينطبق على الحياة الفردية فحسب، و إنّما يشمل الحياة الاجتماعية أيضاً، فعندما يعيش كل واحد من أفراد المجتمع في حالة من الاتزان الروحي والحياة المعنوية، فهذا يعني أنّ ذلك المجتمع يعيش في صفاء كصفاء الحياة في المدينة الفاضلة، حيث تقوم العلاقات الاجتماعية وفقاً للمُثُل والقيم السماوية، و تكون الحياة فيه خالية من كل أنواع الضيق والاستياء، والقلق والمخاوف.

إنّ الدّين بصفته دافعاً ذاتياً يحمل للبشرية ضمانة تنفيذية للمبادىء الأخلاقية.

فالأحكام الدينية إضافة إلى ما فيها من إرشادات و نصائح مؤكّدة على السلوك الأخلاقي، و ما تدعو إليه من قواعد أخلاقية كثيرة، فهي تحمل العناصر الكفيلة بحثّ الإنسان على الالتزام بالوازع الأخلاقي. فعلى الرغم ممّا تتسم به الأخلاق من طابع فطري، غير انها تبقى هشّة و واهنة بسبب ما يتهددها من وساوس و مغريات نابعة من ذات الإنسان أو من

ص:32


1- - سورة النحل (16)، الآية 97.
2- - سورة طه (20)، الآية 124.
3- سورة الأنفال (8)، الآية 24.

خارجها، بحيث لايتسنّى الحفاظ عليها بأساليب القهر والإكراه و ذلك لأنَّ الأخلاق ذات دوافع ذاتية تُبادر إليها النفس طواعية. و هذا يعني أنها لاتتوج بالعمل والتطبيق إلّا بالتشجيع والحوافز الذاتيّة، والدّين يضطلع بهذا الدور الحيوي أيضاً.

و في الختام تجدر الإشارة إلى أنّ تعاليم الدّين حملت للبشرية بشائر الحضارة والمدنية المبنية على فكرة التدين. و يمكن القول: إنّ ازدهار كثير من العلوم رهين بالدين. و مع أن مثل هذه المعطيات لم تكن هي الغاية الأساسية للدين، غير أن الدّين قدّمها للمجتمع البشري كهدية كبرى.

جواب عن سؤال

و في ضوء ما عرضناه من صورة عن الدّين، قد يتبادر إلى الأذهان سؤال مفاده: إن هذه التوضيحات بشأن الدّين انّما كانت لزمن كان فيه الإنسان يفتقر إلى التطوّر و لم تكن لديه إمكانات واسعة، فجاء الدّين لتسكين معاناة و آلام مجتمعات العصور المظلمة التي كانت تنعدم لديها بوارق الأمل بالمستقبل، أمّا اليوم، فقد تطوّر الإنسان و أصبحت لديه الكثير من الإمكانيات، و بلغت الصناعة ذروتها، و حتى الفضاء غدا مسخّراً للإنسان، و غير ذلك من معالم التقدم التقني والعلمي الذي ساهم في حلّ أسرار الحياة و ألغازها لصالح البشرية، و بلغ الإنسان ذروة الرفاه، فما الحاجة إلى الدّين و مسكّناته؟

والجواب هو: أنّ الدّين ليس مهنة يؤدّي تعلّمها إلى تسكين الآلام و إزالة الاضطراب، و إنّما هو شعور قلبي تتمخض عنه الآثار والمعطيات التي سبق ذكرها. و إضافة إلى ما يجلبه الدّين من تقدّم و رفاه، فإنّ الشيء المهم الذي يُعطي الحياة معناها هو الجانب المعنوي فيها، و هو ما يُنال عادة بفضل الدّين. فتنظيم العلاقات بين الناس، و راحة البال والسكينة، حقائق لايمكن بلوغها بالرفاه وحده. فمن المعروف أنّ وجود الإنسان في هذه الدنيا لاينحصر في الجانب المادّي حتى يمكن القول: إنّ مقوّماتها و أسبابها متوفّرة و لم يعد للدين أيّ دور في الحياة. فكلّما تعاظم التطوّر العلمي والصناعي، ازدادت حاجة الإنسان إلى الشؤون المعنوية والأخلاقية. و مهما كسب من الأُمور المادية، يغدو - إن كان مجرّداً من المعنوية -

ص:33

أشدّ حرصاً و أبعد عن القناعة.

إنّ التطوّر المادي والصناعي لايهب الإنسان حياة طيّبة مليئة بالعدالة والإنصاف والروح الإنسانية، بل إنّ الإنسان أدرك بالتجربة أنّ التطوّر العلمي والتقني لايحلّ مشاكله الروحية، فالاكتشافات و ما رافقها من تطوّر أتاحت لأصحابها التفوّق على خصومهم، و ربّما ممارسة الظلم على من وقع تحت سلطتهم، في حين أنّ البشر بحاجة إلى سلوك أخلاقي قويم، و هذا ما يأتي عن طريق الدّين.

النفور من الدّين

و هنا قد يتبادر إلى الأذهان سؤال مفاده: إن كانت للدين كل هذه الفوائد، اضافة إلى حاجة الإنسان الماسّة إليه، فلماذا يواجه على الدوام مثل هذا الهجوم، و يظهر لنا أن الكثيرين ينفرون منه، أو يرفضون قبول الدّين الحق؟ و إن كان الدّين من المتطلّبات الفطرية للإنسان، فلماذا يأبى البعض الانضواء تحت لوائه، بل يرفضون قبول أي دين؟

إنّ الفهم الذي يلزم الصحيح للإجابة عن السؤال المذكور، يستدعي الفصل بين مجموعتين: الاُولى: هم كل من آمنوا بدين و شعروا بأنّه يلبي حاجاتهم، فهم بطبيعة الحال يعتبرونه حقاً مطلقاً، و لايقبلون أي دين غيره. والثانية: هم كل من لم يؤمنوا بدينٍ، أو تخلّوا عنه بَعد الإيمان به، و تُطلق عليهم تسمية الكفرة.

بالنسبة إلى الجماعة الاُولى، لايمكن وصفها بالنفور من الدّين حتى و إن كانت على غير الدّين الحق؛ لأنَّ اعتناق أي دين يمثل في واقع الحال استجابة لحاجة قلبية، و أداءً لتكليف، و تلبية لنداء الفطرة. و أكثر الناس في العالم يعتنقون ديناً و يعيشون معه و يشعرون بالانشداد إليه.

و أمّا الذين لايؤمنون بدين أو أعرضوا عنه بَعد الإيمان به، فقد يُعزى سبب ذلك الى العوامل التالية:

أ - للإنسان جوانب و نوازع شتّى، و من الطبيعي فإنّ الاهتمام ببعضها يؤدي إلى تجاهل الأُخرى. فقد يهتم الإنسان باللّذائذ العابرة و يتغاضى عن غيرها من المتطلّبات، و هو ما قد

ص:34

يؤدّي بالنتيجة إلى عدم بروزها بوضوح، أو قد يحلّ محلّها بديل زائف كمن يشعر بالجوع فيتناول أطعمة تسدّ الشهية بدلاً من تناول أطعمة مفيدة.

ب - أن يأتي سلوك الإنسان و ردّ فعله من مزيج من المشاعر والقوّة العقلية. و متى ما سار الشعور والعقل سيراً متزناً بعيداً عن الإفراط والتفريط، يكون فعلهما منسجماً، و ينتهج الإنسان على أثر ذلك منهجاً معتدلاً، و يتصرف تصرفاً عقلانياً في الوقت المناسب، أو يتصرف وفقاً للمشاعر والأحاسيس في الموضع المناسب أيضاً.

و عند التعامل مع المفاهيم والمقولات الدينية، إذا كان هناك انسجام بين العقل والمشاعر، سيكون موقع الدّين في النفس قوياً و رصيناً، و لكن لو تم تجاهل أحدهما فسوف يخرج عن حدّ الاتزان، فإذا عطّل العقل و تعامل مع الدّين من منطلق المشاعر فلن يجد فيه سوى مجموعة من الشعارات والغيبيات والخوارق. و من الطبيعي أنّ مثل هذا التوجّه يخلق فجوة بين الدّين والعقلانية، و يظهر الدّين و كأَنّه ممّا لايمكن الدفاع عنه دفاعاً عقلياً.

كما أنّ التعامل العقلي الصرف مع الدّين، يجعل المرء يقف حائراً و لايجد إجابة مقنعة إزاء الكثير من المفاهيم ذات الطابع التعبّدي المحض. و نتيجة لعدم اقتناع العقل، يجد الإنسان نفسه مدفوعاً إلى الإعراض عن الدّين. كما أنّ النظرة العقلية الصرفة إلى الدّين قد تصوّر الحاجات الفطرية للانسان، و كأَنّها أشياء وهمية فيعرض عنها، ثم يحاول اصطناع بديل عن الدّين. و قد حذّرت النصوص الدينية من هذه النزعة، فقد روي عن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: «إنّ دين اللّه لايُصابُ بالعقول الناقصة»(1) والمراد من ذلك هو ان يُستعان لهذه المهمّة بمحض العقل و ليس بالعقل المحض. فالباري عزّوجلّ يجعل اعتباراً للعقل المحض، أمّا ما يضل الإنسان فهو الاكتفاء بمحض العقل.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «واعلموا انّهُ ليس من علمِ اللّهِ و لا من أمرِهِ أن يأخذَ أحدٌ من خلقِ اللّهِ في دينِهِ بهَوىً و لا رأىٍ و لا مقائيس».(2)

ص:35


1- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 2، ص 303، الحديث 41.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ج 27، ص 37، الحديث 2.

و جاء في حديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إنّ المؤمن أخذَ دينهُ عن ربّهِ و لم يأخذهُ عن رأيه».(1)

و لاشكّ في أنّ مثل هذه المواجهة بين العقل والدّين، لاتأتي على الدوام من النزعة العقلية المفرطة، بل كثيراً ما يؤدي عدم فهم كُنه و حقيقة مفهوم من المفاهيم الدينية إلى زعزعة الإيمان. و قد يكون عدم التوجيه العقلاني لجوانب من الدّين مدعاة لردود فعل سلبية من العقل تجاه الدّين.

و بناءً على ذلك ينبغي السعي - في ذات الوقت الذي يكون هناك انسجام بين العقل والمشاعر - لتبيين المفاهيم التي تتطلب توجيهاً عقلانياً.

ج - التأثير السلبي لبعض الشخصيات التي تعدّ أنفسها رموزاً دينية، و لمن يوصفون بالقدوات المعنوية، في نفوس و تديّن مَن يأخذون دينهم عنهم. فالسلوك المتناقض للرموز الدينية مع أحكام الدّين، يترك تأثيرات سيئة في نفوس الأفراد، و قد يكون سبباً لنفورهم من الدّين. و لعل تأثير هذا العامل في ظروف معيّنة يفوق تأثير العوامل الأُخرى.

د - كذلك تؤدّي النظرة المادية، إلى إنكار المفاهيم الدينية، والشك فيها بسبب عدم القدرة على قياسها بالمعايير المذكورة؛ أو قد لايجد المرء إجابة وافية عنها. و هو ما ينتهي - بالنتيجة - بأصحاب هذه النظرة إلى الابتعاد عن الدّين.

ه - عوامل البيئة والتربية تدخل في عداد العوامل التي قد تحجب المرء منذ البداية و بالتدريج عن الشؤون المعنوية والدينية. فهناك من الناس من ينشأون - بسبب ظروف البيئة والتربية - على عادات و تقاليد و ثقافة من نوع خاص و يتخذونها ديناً لهم.

و لاشكّ في أنّ طبيعة الأفراد و إرادتهم و عزمهم لها دورها في تعيين مدى تأثير العوامل، و لايمكن القول: إن الإنسان خاضع لتأثير العوامل الخارجية وحدها.

و مع كل ذلك يبدو أنّ ضرر هذه العوامل يلحق بالمؤسسات والمظاهر الدينية، و إلّافإنّ أصل الدّين شمس لاتغرب.

ص:36


1- المصدر السابق، ص 45، الحديث 21.

شمولية الدّين

جاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد. حتى لايستطيع عبدٌ يقول:

لو كان هذا نزل في القرآن؟ إلّاو قد أنزله اللّه فيه».(1)

يدل هذا الحديث إضافة إلى أحاديث أُخرى و آيات قرآنية، على أن كل ما يحتاجه الناس قد جاء في تعاليم الدّين، و أنّ كل شيء قد ورد ذكره في الدّين. و قد عبّر القرآن الكريم عن هذه التعليمات الشاملة بقوله: (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ) (2) و (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ) .(3)

و لتسليط الضوء على معنى شمولية الدّين ينبغي الالتفات إلى أنّ شمولية كل شيء تُقاس بالشيء نفسه، و بالهدف المراد تحقيقه من ورائه. فأيّ شيء إن كان فيه كل ما يلزمه فهو كامل و شامل. والدّين غير مستثنىً من هذه القاعدة. و شمولية الدّين و كماله، تتمثل في ما يتضمّنه من تعليمات على طريق هداية الإنسان نحو الغاية المرسومة، و هو ما يُعبَّر عنه بالهداية. و سرّ هذه التعليمات، هو إيجاد علاقة متناسبة بين الإنسان و عالم الوجود. و مجموعة التعاليم الدينية تكشف عن حقيقة أنّ الغاية من الدّين هي الهداية. ففي الآيتين المذكورتين آنفاً وردت بَعد الجملتين المذكورتين كلمة (هُدىً) و هي تبيّن الغاية العامّة للدين.

إنّ المراد من قول الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ اللّه أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتّى واللّه ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد»،(4) و كذا قول الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّة إلّاأنزله في كتابه و بيّنه لنبيّه».(5) إنّ الدّين فيه دعوة الناس إلى اللّه و بيان للقيم المعنوية، و هي أُمور لاسبيل للناس إليها بغير الدّين. و على هذا الأساس، لاينبغي أن يرتجى من الدّين ما يمكن تحقيقه بالعقل الفردي أو الجماعي.

ص:37


1- الكُلَيني، الكافي، ج 1، ص 59، الحديث 1.
2- - سورة يوسف (12)، الآية 111.
3- سورة النحل (16)، الآية 89.
4- - الكُلَيني، الكافي، ج 1، ص 59، الحديث 1.
5- - المصدر السابق، الحديث 2.

مجال تعاليم الدّين

التوجّه الأساسي للدين، هو دعوة الناس إلى اللّه و إلى إصلاح أُمورهم بأنفسهم.

و جوهر الدّين، هو توجّه الناس إلى اللّه، واليقين بأنّه حاضر في كل مكان و ناظر إلى كل شيء.

إذا سلّمنا بأنّ قبول الدّين أمرٌ اختياريٌ و قلبيٌّ، فعلينا الإجابة عن السؤال التالي: إن كان الدّين يكتفي بتقديم الإرشادات اللازمة للناس، و يتحاشى التدخل في شؤونهم، و إنّما يتركهم على حالهم و لايكلفهم بأية مسؤولية إلى يوم القيامة حيث يُنظر هناك في أعمالهم، ثم إنّ الكثير منهم انحرفوا و وقعوا في الضلال بسبب انعدام الرقيب والناظر، فهل يكون الدّين في مثل هذه الحالة قد بلغ الغاية المنشودة منه؟

و بعبارة أُخرى، إذا لم ينجح المصلحون الدينيون في إصلاح الأُمور بالإرشاد والموعظة، و أدّت العوامل الخارجية المدعومة بالأجهزة الإعلامية والوساوس النفسية إلى إغواء الناس، فهل تقع على المؤمنين مسؤولية إيجاد مؤسسات تتكفل بمهمة السهر على حماية القيم الدينية؟

والجواب هو: إن الغاية الأساسية للدين هي الهداية والإرشاد إلى الطريق القويم، و من يطلب السعادة هو الذي ينبغي أن يختار الطريق و يسير عليه. و هذا طبعاً مما لاإكراه فيه و لا إجبار، و إنّما ينبغي أن يحصل التدين عن رغبة و إقدام ذاتي. والإكراه في مثل هذا الحال لايؤدّي إلى التديّن.

نعم، هناك مجموعة من الأحكام الهادفة إلى تنظيم الشؤون والعلاقات الاجتماعية، و لكن الغاية إجراء هذه الأحكام بنفسها، و لايشترط فيها القصد والنيّة، و هذه الأحكام شبيهة بالقوانين الموجودة في كل مكان في العالم و هي إلزامية، و عليها تتوقّف مسيرة الحياة الاجتماعية. و هي حتى و إن لم يرد فيها أمر مباشر، فإنّ مجرّد الأمر بها يستدعي إيجاد المؤسسة الكفيلة بإجرائها، كما هو الحال بالنسبة إلى الأحكام القضائية التي يُراد من ورائها إحقاق حقوق الناس، و لكن ليس في برنامج الدّين - طبعاً - تقديم نمط خاص

ص:38

للحياة، كأن يدعو إلى حياة بدوية أو حضرية أو قروية. و إنّما يدعو الدّين الناس حيثما كانوا إلى الالتزام بمجموعة من التعاليم، والعيش وفقاً لِما يقتضيه الدّين. والدّين لايجيز - طبعاً - تعدّي الحدود التي رسمها، سواء أكانت على صعيد الفرد أم على صعيد المجتمع.

الدّين يقدّم منهجاً عاماً للحياة، و لايبيّن أسلوباً خاصاً لحل المشاكل الاجتماعية، فهو - على سبيل المثال - ينظر باهتمام إلى قضية العدالة الاجتماعية لِما يُمثّله الظلم و فقدان العدالة من عائق أمام سعادة الناس و إقبالهم على عبادة اللّه. أمّا أساليب معالجة هذه القضية فقد تُركت إلى الناس ليتعاملوا معها حسب ظروفهم و أجوائهم و بيئتهم، و لم يأمرهم الدّين باتباع اسلوب أو منهج معين لحلّها، و ذلك لأنَّ تدخل الدّين في أمثال هذه الأُمور يجرّه إلى معضلات كثيرة و يزيحه من ساحة الحياة، بسبب ما يستجد فيها من تطوّرات و تغييرات لتحل محلّه المعطيات التجريبية والعلمية، و عندئذ تتكشف لبني الإنسان عدم كفاءة الدّين و عدم قدرته على بعث الازدهار والتقدم. في حين أنّ الدّين يؤدي دوره في ما يقدّمه على الدوام من إرشادات و مواعظ لرعاية الأُصول والقيم. و انطلاقاً من ذلك تُلاحظ في تعليمات الأنبياء - بكل جلاء - أحكام تهدف إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية تنظيماً عادلاً، و من ذلك مثلاً، قول الباري تعالى في كتابه الكريم: (وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ...) .(1)

و في ضوء ما سبق ذكره يتّضح أنّ الدّين لايرمي إلى الدعوة إلى الاكتشافات، والصناعة، والزراعة، و تربية الحيوانات، و بناء المدن و ما شابه ذلك، و إنّما يُعنى بتعيين الأُصول والمبادىء و يدعو إلى الالتزام بها.

عند المقارنة بين نظرة الدّين إلى الدنيا والآخرة، يجعل الدّين من الآخرة هدفه الأساسي. و بدون الدّين لايهتدي الإنسان إلى الطريق الموصل إلى السعادة الاُخروية.

و هذا الكلام لايعني طبعاً أنّ الدّين لايولي أهمّية للدنيا؛ فالسعادة في الآخرة يمرّ طريقها عبر هذه الدنيا، بل إنّ السعادة الاُخروية تنتفي ما لم يتم تبيين العلاقات الصحيحة في الدنيا.

ولو كان الدّين قد تجاهل الدنيا لعُدَّ ذلك تقصير منه في بيان السبيل إلى سعادة الآخرة.

ص:39


1- سورة هود (11)، الآية 84.

العقل والدّين

العقل يعني في الأصل الإمساك والاستمساك كعقل البعير بالعقال،(1) و هو يعني اصطلاحاً القوّة التي يكون بها التمييز بين القبح والحُسن.(2)

تحدثت النصوص الأخلاقية عن القوى الثلاث الشهوية والغضبية والعقلية. والفارق بين العقل التقليدي الذي يُقرن بالشهوة والغضب، والعقل الحديث، هو أنّ العقل التقليدي ذوطابع فردي، و هو ما يُسمّى بالعقل الغريزي. بينما العقل الحديث عقل نقّاد و قائم بذاته، و يكشف عن ذاته عن طريق الحوار وتبادل الآراء، و له بطبيعة الحال مكانة قيّمة.

و سواء اعتبرنا العقل خاضعاً لتأثير الأُمور الفطرية (العقل الغريزي)، أم خازناً يحمل الكثير من التجارب والمكنوزات العلمية، أم صاحب رؤية في المجال العملي «العقل العملي»، أم غيره «العقل النظري»، فعلى جميع هذه الاعتبارات ثبت بأنه ينطوي على قدرات هائلة. والعقل يزود الإنسان بالمعرفة إلى جانب ما يزوده به الوحي. و يمكن القول:

إنّ هناك طريقين لاستقاء المعرفة، أحدهما الوحي، والآخر العقل. والمصادر الدينية أثنت على العقل و قالت في وصفه ما يلي:

1 - العقل حجة اللّه: «الحُجّةُ فيما بين العباد و بين اللّه، العقل».(3) و قد ذم اللّه عزّوجلّ في عدّة آيات من كتابه الكريم من لايتفكرون في آيات اللّه و حقّانية الأنبياء.(4) و وردت مشتقات كلمة العقل في القرآن تسعاً و أربعين مرّة، و جاءت كلمة «اُولو الألباب» ستّ عشرة مرة، كما وردت كلمات: القلب، والفؤاد، والفكر، مرات عديدة في القرآن الكريم.

2 - يُعتبر العقل من المستقلات العقلية، إلى جانب الكتاب والسُنّة والإجماع، أيّ أنّه من المصادر المستقلّة للأحكام الدينية. و كمثال على ذلك، إنّ العقل يدرك بصورة مستقلة حُسن العدل و قُبح الظلم. و هذا العقل مشابه من عدّة جوانب لِما يُسمّى اليوم بالعقل

ص:40


1- - الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 578.
2- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ج 4، ص 18.
3- - الكُلَيني، الكافي، ج 1، ص 25، الحديث 22.
4- - سورة المائدة (5)، الآية 75؛ سورة المؤمنون (23)، الآية 70؛ سورة العنكبوت (29)، الآية 63.

المستقل أو العقل الحديث.

جاء في روايات عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و عن الأئمة المعصومين عليهم السلام أنهم وصفوا العقل بأنه أفضل شيء: «ما قسّم اللّه للعباد شيئاً أفضل من العقل».(1) و وُصفَ أعلم الناس بأمر اللّه، بالأحسن عقلاً: «أعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً»(2) و إنّ كمال إيمان المؤمن رهن بكمال عقله: «لايكونُ المؤمنُ مؤمناً، حتى يكون كامل العقل».(3)

و من ناحية أُخرى وصف العقل بعدم القدرة على إدراك كُنه و حقيقة الدّين في كل الظروف والأوضاع، و أنه عاجز عن فهم جزئيات الدّين والأُمور القدسية: «اِنّ دينَ اللّه لايصاب بالعقول الناقصة».(4)

السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هنا هو: كيف يمكن التوفيق بين هاتين الرؤيتين؟ حيثُ ترى إحداهما أنّ اعلم الناس بأمر اللّه أكملهم عقلاً، و أنّ كمال إيمان المؤمن بكمال عقله، بينما ترى الأُخرى أنّ دين اللّه لايدرك بالعقول.

نعم! إنّ العقل أفضل ما يدرك به أمر اللّه وتُفهم به الحقائق، و بدونه لايكون على الإنسان تكليف، والعقل يكشف طريق استنباط الأحكام. و قد يُعد العقل أحياناً بمثابة قرينة لفهم القرآن والسنة، والاستدلال العقلي يجعل القلب مهيئاً لقبول الشيء. والدّين يمدّ العقل و يدفعه نحو التفكير. فقد نُقل عن الإمام علي عليه السلام أنه قال في كلمة له: «وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ».(5) فالدين يعلّم العقل أشياء لايتسنى له تعلّمها بدون الدّين.

إنّ العقل و رغم كل ما يتّسم به من قدرات، إلّاأنه عاجز عن الإحاطة بجميع الحقائق، بسبب ما يشوبه من أهواء و أوهام و تقاليد بالية و تعاليم مغلوطة، والأهم من كل ذلك إنه معرّض للوقوع في الخطأ. و في ضوء ذلك لايمكن الوثوق بصواب ما يتوصل إليه العقل.

ص:41


1- - الكُلَيني، الكافي، ج 1، ص 12، الحديث 11.
2- - المصدر السابق، ص 16، الحديث 12.
3- المجلسي، بحارالأنوار، ج 1، ص 109، الحديث 5.
4- المصدر السابق، ج 2، ص 303، الحديث 41. تجدر الإشارة إلى أن هذا الحديث نقله ابن عصام عن الكليني، غير أن الكليني نفسه لم يورده في مذمّة العقل (ج 1، ص 57) و هذا هو الحديث الوحيد الوارد في ذم العقل. و نظراً إلى أنه ورد مقروناً بقيود مثل الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة فمن المحتمل جداً انه يشير إلى تيار فكري خاص كان في زمن الإمام السجاد عليه السلام.
5- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 1، ص 43.

فتبيين المتطلّبات الأساسية للروح و ما يكتنف طريق الإنسان من مصاعب يستلزم مصدراً وثيقاً، و ذلك هو الدّين والتعاليم القادمة عن طريق الوحي. و هناك بطبيعة الحال أُمور لايدركها العقل ما لم يرشده إليها الوحي، مثل عالم الغيب، و عالم الملائكة، والحياة الآخرة.

شمولية فهم الدّين

إنّ مصدري الدّين - و هما الكتاب والسنّة - طبقاً لِما ورد فيهما، يمكن لكل الناس فهمهما، و هما ليسا حكراً على طبقة أو فئة بعينها: (وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ...) ، (1)(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ) .(2)

وردت تأكيدات مكررة على التفكّر في آيات اللّه، و على التعلُّم واكتساب المعرفة، و أنّ الإعراض عن تعلّم الدّين دلالة على البداوة،(3) و أنّ اللّه لاينظر إلى من لايسعون لتعلّم الدّين.(4) و هذا مما يدل بكل جلاء على إمكانية فهم الدّين من قبل جميع الناس..

و رغم أنّ فهم الدّين متاح لجميع الناس و ليس حكراً على فئة معيّنة، إلّاأنّ ذلك لايعني أنه مجرّد من القواعد والضوابط، بل لايمكن التوصل إلى حقيقة الدّين إلّابرعاية اصول الفهم. فالدين عبارة عن مجموعة من التعليمات والإرشادات الإلهية التي ابلغت في مدة زمنية، و قد أخذت بنظر الاعتبار عند تشريعه ظروف و مقتضيات الزمان والمكان.

و جاءت بعض أحكامه مجملة في حين جاء بعضها الآخر مفصّلاً و ناظراً إلى موارد خاصة، و بعضها قد نسخ، بينما يشكّل فهم البعض الآخر أرضية للتوصل إلى الحقيقة. و كان ابتعاد الأجيال اللاحقة عن صدر الإسلام، و امتزاج الأذهان بالعادات والتقاليد الشائعة في كل إقليم و ولاية، أن تترك تلك العوامل تأثيرها في فهم الدّين على نحو متفاوت، و إلى احتمال وقوع تحريف و دسّ في الدّين.

و في ضوء ذلك لابُدّ أن يحرز العاملون في حقل التحقيق في الدّين، الشروط اللازمة

ص:42


1- - سورة التوبة (9)، الآية 122.
2- سورة الأنبياء (21)، الآية 10.
3- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 31، الحديث 6.
4- المصدر السابق، الحديث 7.

لهذه المهمة ثم يجتهدون في الدّين، كما هو الحال في سائر العلوم. إلّاأنّه - و للأسف طبعاً - من الظواهر غير المحبّذة أن ينبري من ينبري للإدلاء برأيه في قضايا الدّين - بكل أبعاده وسعته - من غير حيازة الشروط اللازمة. في حين يعتقد في المجالات الأُخرى برأي أصحاب النظر و أصحاب الاختصاص.

من الطبيعي أنّ الدّين يختلف عن سائر مجالات الحياة بسبب حُبّ الناس له و تعلّقهم به، و لهذا فالمرجو هو أن تُراعى عند إدلاء النظر في قضاياه القواعد والأُصول المسلّمة، و ضوابط الاجتهاد، و فهم الدّين والمقدمات الضرورية لها، و لاينبغي لأحد أن يَظنّ في نفسه القدرة على الفهم والاستنباط الصحيح للأحكام قبل حيازة المقدمات التمهيدية لهذه المهمّة، و إنهاء المراحل العلمية اللازمة لها.

مدخلية الافتراضات المسبقة في فهم الدّين

ربّما يقترن فهم الدّين - فضلاً عن القواعد والأُصول اللازمة - بافتراضات مسبقة يكون لها تأثير واضح في فهمه. أمّا بالنسبة إلى مدى تأثير هذه الافتراضات المسبقة في فهم الدّين، و هل يمكن التوصل إلى حقيقة الدّين مع وجودها، فهو مما ينبغي التأمل فيه بدقّة.

فقد ظهرت طيلة تاريخ الاجتهاد في الدّين و جهات نظر متفاوتة في الفهم بين الفقهاء والمتكلمين، و انبثقت على أثر ذلك نِحَل و مشارب شتّى. فهل كانت كل تلك الاجتهادات صحيحة و تمثّل حقيقة المعطيات الدينية؟

لاشكّ في أن من يسمعون الوحي أو كلام الأولياء يحملون في أذهانهم تصورات عن تلك المفاهيم، بل قد تكون لديهم تصوّرات حتى عن اللّه، والملائكة، والمعاد، والجنّة، والعبادة، والتضرّع إلى اللّه و كيفية ارتباط العباد به. و هذا ما بيّنه قول الإمام الباقر عليه السلام:

«كلُّ ما ميَّزتموهُ بأوهامكم في أدقِّ معانيهِ مخلوقٌ مصنوع مثلكم، مردود إليكم و لعلّ النملَ الصغارَ تتوهّمُ انَّ للّهِ تعالى زبانيتين».(1)

ص:43


1- المجلسي، بحارالانوار، ج 66، ص 292 و 293، الحديث 23.

هناك عوامل تؤثر في فهم الدّين، و تجعل كل من يشاء يستنتج منه ما يشاء، و من ذلك التطوّر الذي قد يطرأ على مرّ الزمان على بعض المفاهيم، والتغيّرات الاجتماعية و ما يرافقها من تبدّلات في أوضاع المجتمعات، إضافة إلى ما تبتغي التيارات المختلفة انتزاعه من فهم يصب في سياق تطلّعاتها. فهل هذه كلها من الدّين، والسائرون عليها سائرون على الطريق الصحيح القويم؟ أم أنّه يُعتبر مثل هذا الفهم تطويعاً للمفاهيم الدينية وفقاً لمشتهيات الأذهان والرغائب؟

إنّ التفاوت في تفسير الدّين والاستنباط منه، شيء صحيح طبعاً، و لكن لاينبغي هنا إغفال قضية مهمّة، و هي أنّ من تلقَّوا الدّين و أبلغوه كانوا على اتصال بالوحي من جهة، و على صلة مع الناس من جهة أُخرى. و كان من المهام الملقاة على عاتق الأنبياء تبيين الدّين للناس على وجه دقيق: (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ...) ، (1)(وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ، (2)(وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) .(3)

عندما أدّى حملة الوحي رسالاتهم في تبيين الآيات الإلهية كما ينبغي، تكوّن لدى الناس والمتلقين فهم جماعي متقارب للأشياء، و كان هناك اتفاق في الآراء حول مختلف القضايا. و هو ما أدّى إلى إيجاد سيرة المتشرعة التي انتقلت تدريجياً إلى الأجيال اللاحقة.

و قد أدّى أوصياء الأنبياء و خاصة أوصياء النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم هذه المهمة الخطيرة؛ إذ كان لهم حضور بين الناس مدّة طويلة و جابهوا يومذاك ما دخل في الدّين من بدع و تحريفات، و بيّنوا للناس حقيقة الدّين، و قاربوا بين وجهات نظر المتديّنين رغم اختلاف الرؤى والأفهام. و قد انتهت هذه الجهود إلى إيجاد فهم عرفي و جماعي، و رسم منهج واضح بين المتشرعين.

وقعت في الأديان السابقة للإسلام تغييرات، و هي ما يُعبّر عنها بالتحريفات والبدع.

و قد كشف القرآن عن هذا الواقع بقوله تعالى: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ

ص:44


1- - سورة المائدة (5)، الآية 15.
2- سورة ابراهيم (14)، الآية 4.
3- سورة النحل (16)، الآية 44.

قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ) . (1) كثيراً ما جاء هذا النمط من التعاطي مع أحكام الدّين انطلاقاً من دوافع نفعية، أو لفرض المعتقدات والرؤى والأذواق الفكرية على تعاليم الدّين، و هو ما يفضي بالنتيجة إلى وضع الدّين ضمن دائرة ضيّقة. و هذا المنهج بيّنه القرآن الكريم عند وصفه لموقف بعض اليهود من الإسلام:

(أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) .(2)

و بالإضافة إلى ذكر القضية الآنفة في القرآن، هناك أيضاً آيات تبيّن أنّ ما أراده اللّه هو الدّين الحقيقي، و لايحق للآخرين - و حتى النبيّ - أن يضيف إليها إضافة: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ * وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) .(3)

لاريب في أنّ الخوض في المباحث الدينية من غير رعاية القواعد اللازمة، يثير المخاوف من احتمال وقوع تحريف في الدّين. والتحريف بطبيعة الحال لايقتصر على التحريف اللفظي فحسب، و إنّما قد يكون التحريف معنوياً أحياناً، أي أن نستفيد من قضية دينية على وجهة غير الوجهة التي أرادها الدّين. و قد ورد في كتاب اصول الكافي باب حول البدعة والرأي والمقاييس في الدّين، و تناول في أحاديث هذا الباب آثار البدعة والمبتدعين، و وصف في سياقه الأحكام الإلهية بأنّها ممّا لايقبل التغيير والتبدّل:

«حلالُ مُحَمَّدٍ حَلالٌ أبداً إلى يَومِ القيامَة و حَرامُهُ حرامٌ أبداً إلى يَومِ القيامَة».(4) و هذا حديث صحيح و دلالته واضحة. و استناداً إلى مفاد هذا النوع من الأدلّة لايمكن حمل أي إسناد إلى الدّين و أي فهم له على محمل الصحّة.

نذكر من ذلك على سبيل المثال أنّ بعض التأويلات الباطلة التي تذهب إليها بعض الفرق لاتتناسب مع ظواهر الألفاظ، و لا مع قواعد فهم الدّين. إنّ منهج النظر إلى الدّين نظرة سطحية تزايلها الأحاسيس، والتشبّث اعتباطاً (و من غير دليل) بآية أو رواية، و إصدار

ص:45


1- - سورة المائدة (5)، الآية 13.
2- سورة البقرة (2)، الآية 75.
3- سورة الحاقّة (69)، الآيات 43-46.
4- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 58، الحديث 19.

حكم ديني على أساسها لايُعدّ من الصواب. بينما المنهج الذي يتّبعه ذووالاختصاص فهو يقوم على قواعد واُسس معروفة، و في ضوء ذلك يجرون عملية الاستنباط، و بشكل يتماشى مع سائر فقرات الدّين وجوهره و حقيقته. و في مثل هذه الحالة يمكن قبول تباين الأفهام مثلما يحصل عادة بين الفقهاء و حتى المتكلمين.

إنّ جوهر و حقيقة الدّين ليس أمراً مغلقاً و متعذّر المنال، و إنّما يعني الغاية من تشريع الدّين، والهدف المراد من بعث الأنبياء و إنزال الكتب، و هو الرقي الأخلاقي والمعنوي لبني الإنسان.

و من الضروري أيضاً استذكار هذه القضية، و هي أن المراد من ثبات الأحكام الإلهية - الذي أُشير إليه في الحديث الآنف ذكره - هو الحفاظ على حكم الشريعة مع بقاء موضوع الحكم؛ و ذلك لأنَّ نسبة أي حكم إلى موضوعه كنسبة العلة إلى المعلول، و لايمكن عقلاً زوال المعلول مع بقاء العلّة. و على هذا الأساس ففي حالة تغيّر الموضوع، و هو ما يعني بالنتيجة زوال الموضوع الأول، يتغير حُكْمه. و هذا التغيير يمكن أن يقع بطرق شتّى، منها:

تبدّل ماهيّة موضوع الحكم، كالاستحالة في الأشياء النجسة، و انطباق أحد العناوين الثانوية على الموضوع عرضاً، وتزاحم حُكْمين في مقام الامتثال على فرض رجحان أحدهما على الآخر، و انتهاء الموسم في الأحكام الموسمية، و زوال العلّة في الحالات التي يكون فيها الحكم منصوص العلّة. و في كل الحالات المذكورة رغم أنّ كشف مصالح أو مفاسد الأحكام المتغيّرة لايتيسّر إلّاللشارع المقدّس، و لكن إذا تبدّل الحكم فمن المؤكّد أنّ المصالح أو المفاسد لابُدّ و أن يطالها التغيير والتبدّل. و على أساس ذلك يمكن للفقيه - في مجال الأحكام غير التعبّدية - إذا أيقن - استناداً إلى تشخيص ذوي الاختصاص - بتغيّر المصلحة والمفسدة الواقعيّتين، بحيث يكون بقاء الحكم الأول عبثاً، يمكنه استنباط حكم جديد. والحقيقية هي أنّ الحكم السابق في مثل هذه الموارد لم يتغيّر، و إنّما الذي تغيّر هو موضوعه الحقيقي و هو المصالح والمفاسد الواقعية، و أمّا إطلاق عبارة تغيير الحكم عليه فهو نابع من التسامح في التعبير.

ص:46

يُسر الدّين

إن المشرّع للدين هو اللّه عزّوجلّ، و قد جعل تشريعه لصالح الناس. والناس على مستويات متباينة من القدرات العقلية والمؤهّلات والاستعدادات الفكرية. فبعضهم ضعفاء من حيث الاستعداد و بعضهم الآخر أقوياء. و قد راعى الدّين أحوالهم في تشريعاته. والدّين ينسجم مع الفطرة، و هذا يعني أنه لايمكن أن يكون عسيراً و معقّداً و منهكاً و باعثاً على الأذى. فلو أنّ الدّين فرض فرائض عسيرة على المكلّفين لكان مدعاة لابتعاد الناس عنه، و فرارهم من طروحاته المعنوية. و هذا نقض للغرض الذي من أجله جاء الدّين، و لايتيح له تحقيق أهدافه.

إنّ الغاية من انسجام الدّين مع الطبيعة و فطرة الناس، هي تربيتهم. و من الطبيعي أنّ الشدّة والقسر والاكراه في تطبيق فرائض الدّين لايأتي بالنتيجة المنشودة، لأنّ ذلك يتعارض مع طبيعة الإنسان. قال اللّه تعالى: (ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ...) ، (1)(... وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ...) .(2)

إنّ يسر التكاليف الدينية لايعني رفعها أو زوالها أو خلوّها من المصاعب كلياً.

فالتكاليف الدينية مقرونة بالمشقة، و لكن إذا كان هناك تعلّق قلبي بها، و رغبة و اندفاع ذاتي لأدائها، فهي تبعث في النفس بهجة و لذّة لايشعر معها بأية معاناة أو مشقّة.

و على الرغم من سهولة التكاليف الدينية و مبدأ التيسير على العباد في الأعمال الدينية، بيد أنّ هناك تكاليف ذات مشقّة، أو أنّ بعض الناس لاتحدوه رغبة في أدائها. و هذا الشعور بعدم الرغبة يؤدّي بحد ذاته إلى جعل التكليف أشقّ و أعسر. و قد وصف الباري عزّوجلّ شعور الإنسان تجاه بعض التكاليف بالتململ والإستياء كما في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ

ص:47


1- - سورة المائدة (5)، الآية 6.
2- سورة الأعراف (7)، الآية 157.

هُوَ شَرٌّ لَكُمْ) .(1)

و لابد من الالتفات إلى أنّ أصل تشريع التكليف إنّما جعل من أجل صقل النفس وتهذيبها و كمالها، و هذا مما لاينال من غير تعب و عناء و مشقّة. والعسر الذي تصطبغ به بعض الفرائض الدينية أشبه ما يكون بالتمارين المتواصلة التي يمارسها رياضي، أو كاحتماء المريض من بعض الأشياء المحببة إليه، وامتناعه عن تناولها، أو مداومته على تناول أشياء تفرض عليه حالته تناولها، حتى و إن كان يشمئز منها. مع كل ذلك فإنّ مشقّة التكليف لاتقع على الجميع، و إنّما يُرفع التكليف حيثما لاتُطاق المشقة. و هذه قاعدة عامّة و هي أنّ كل إنسان يقع عليه من التكليف على قدر طاقته.

التديّن

التديّن يعني الالتزام بالدين والعمل وفقاً له. والتديّن يتطلب التزاماً قلبياً، و لايكفي منه العمل بالظواهر، فحرمة التظاهر والرياء والعجب و غيرها تكشف عن أنّ الأعمال الدينية تُقبل إذا جاءت عن نية صالحة، و قصدِ نيل رضا اللّه تعالى، أمّا إذا شابتها شائبة من الرياء، وقُصد بها غير وجه اللّه، فلا تعدّ تديّناً. بل إنّ التظاهر والرياء في بعض الأعمال يوجب بطلانها، و إذا أدّى الإنسان فريضة دينية من غير نيّة و قصد فلا تُقبل منه، و تكون مثل مئات الأعمال اليومية، والعمل إنما يعتبر من الدّين إذا ما جاء لوجه اللّه، و حتى الأُمور المباحة إذا أدّاها المرء بقصد القربة إلى اللّه يكون لها الأثر الوضعي للتديّن، وتُقرّبُه إلى ربّه.

للدين مجموعة من الآداب والشعائر التي يمكن وصفها بالقشريات والظواهر. و حتى هذه الأُمور - فضلاً عن صورتها الظاهرية - لها طبقة داخلية أيضاً و هي التسليم للّه. و أداء الأعمال الظاهرية علامة دالّة على الميل والرغبة الباطنية للشخص، و لكن يمكن أن تكون في الوقت ذاته خداعاً و تحايلاً، أو عادة دأب على ممارستها. و يصح التديّن فيما إذا كان هناك ترابط وثيق بين الأعمال الظاهرية وجوهرها و حقيقتها. و أمّا إذا جاءت هذه الأعمال

ص:48


1- سورة البقرة (2)، الآية 216.

بدافع العادة أو بقصد الخداع فستكون ذات تأثير سلبي؛ أو لاتكون ذات أثر ديني في النفس على الأقل.

إنّ للتدين مراتب. والعباد ليسوا كلهم على درجة واحدة من الرغبة والاستعداد. فالبعض قد يصل إلى درجات عليا من التدين على أثر الاستعداد والمثابرة والمجاهدة. والبعض الآخر قد لاينال مثل هذه الدرجات لسبب. و درجة تديّن العباد يعلمها اللّه، و لايحقّ لأحد أن يحاسبهم على مرتبة تديّنهم. و حتى لو كانت للتدين تجليات ظاهرية فحقيقته باطنية، و لايحق لأحد تصنيف عباد اللّه وفقاً لدرجات تديّنهم.

هناك ملاحظة مهمة ينبغي الانتباه لها بشأن التديّن، و هي أنّ وصف حقيقة التديّن بأنّه شأن يتعلق بالنفس، قد يفهمه البعض أنه مجرّد تطهير للنفس من الرذائل والقبائح، و أنّ الظواهر والفرائض الدينية غير ذات أهمّية. والتصوّر في هذه الرؤية هو أنه إذا كان المراد من التديّن التسليم للّه والتقرّب إليه، فإنّ القلب منشغل على الدوام بذكر اللّه و لاحاجة لظواهر الشريعة، و أنّ التوجّه الداخلي يكفي لتحقيق الغاية المنشودة من التديّن.

نعم! إنّ حقيقة التدين أمر داخلي، و لكن ظواهر الشريعة جزء لايتجزّأ من الدّين، و إنّما جُعلت لأجل الحفاظ على ذلك الجوهر. و كانت الغاية من ذلك أن تمتزج الصورة الظاهرية للتدين بجوهره و حقيقته، و أن ينصب الاهتمام على الاثنين معاً؛ إذ لايتحقق التدين بدونهما معاً.

التدين هو الالتزام بجميع أحكام الدّين. و أمّا التبعيض فيها و انتقاء البعض منها و رفض الباقي فلا يُعتبر من التدين. و قد وصف اللّه عزّوجلّ هذه الظاهرة بالكفر، فقال في كتابه الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً * أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) .(1)

ص:49


1- سورة النساء (4)، الآيتان 150-151.

الأديان

يظهر من تاريخ البشرية أنّ سلوك المجتمعات كان حافلاً بالميل إلى الدّين. و يمكن القول: إنّ تاريخ الإنسان و تاريخ الدّين شيء واحد و متطابق. و هذا ما تكشف عنه المصادر الإسلامية أيضاً. واستناداً إلى ما ورد في القرآن الكريم فإنَّ الإنسان الأول و هو آدم عليه السلام كان قد تحدّث عن أمر اللّه و نهيه له، و بعثه بالنبوّة.(1) و استجابة لِما تمليه عليهم ميولهم و متطلباتهم فقد اصطنع الناس لأنفسهم أدياناً، أو جاءهم الأنبياء بدين حق من اللّه تعالى.

كالأديان التي جاء بها موسى عليه السلام و عيسى عليه السلام و نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

و نحن هنا لسنا بصدد تسليط الضوء على الجوانب التاريخية للدين؛ و إنّما بصدد معرفة هل إنّ لكل واحدٍ من الأديان نصيب من الأحقية أم لا؟ و هل إنّ من يعتنقون ديناً جرياً وراء مقتضيات بيئتهم و تربيتهم، يُقبل منهم أم لا؟

و هنا يمكن تقسيم الأديان إلى طائفتين: الأديان الوضعية، والأديان التي جاء بها الأنبياء من اللّه تعالى و أبلغوها للناس. فالأديان الوضعية بما أنها ليست منزلة من اللّه و لاجاء بها الأنبياء فهي كبقية المعطيات البشرية تفتقر للقدسية، حتى و إن أطلقت عليها تسمية الدّين.

و ما عُرف من الأديان الإلهية هي: اليهودية، والمسيحية، والإسلام.

و هناك رأي يفيد أنّ المجوسية (الديانة الزرادشتية)، و ديانة الصابئة تعدّ في عداد الأديان السماوية أيضاً و يستند هذا الرأي إلى الآيات القرآنية التي ذكرت أسماء هؤلاء، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، (2)(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) .(3)

و لكنّ الحق أنّ هذه الآية لاتفيد بأن المجوسية كانت ديناً سماوياً، رغم أنّ الأخبار

ص:50


1- - سورة البقرة (2)، الآية 30؛ سورة آل عمران (3)، الآية 33.
2- - سورة البقرة (2)، الآية 62.
3- سورة الحج (22)، الآية 17.

الواردة تفيد بأن المجوس أصحاب كتاب سماوي.

يعتقد المجوس بكتاب سماوي و بنبوّة زرادشت. و يدّعي الصابئة أنّ لهم كتاباً سماوياً و أنهم يؤمنون باللّه، والملائكة، والجنة، والنار، و بعض الأنبياء.(1)

تعرضت الأديان للتحريف تدريجياً في معناها و في محتواها. و هو ما يعني بالنتيجة أنها فقدت دورها، فبعث اللّه على أثر ذلك نبياً جديداً.

كان كل واحد من الأنبياء في زمن ظهوره يدّعي أحقيّته، و يعلن نسخ الشريعة السابقة له و انتهاء عهدها. و لكل نبيٍّ في الوقت الحاضر أتباع في شتّى أرجاء العالم، و يدافعون عن وجودهم و أحقيّتهم.

أظهر الأنبياء في زمن بعثتهم أُموراً خارقة للعادة كالمعجزات من أجل إثبات أحقيّتهم.

و على صعيد آخر جاء كل دين بتعاليم مختلفة عن تعاليم الدّين الآخر، و لم تقتصر على مجرد الاعتقاد بالاُمور الغيبية. فاليهود يعتبرون المعيار في صحّة المعتقد، الإيمان بنبوّة موسى عليه السلام، و أمّا المسيحيون فيرون معيار الانتماء للمسيحية، الإيمان بنبوة المسيح عليه السلام، بينما يرى المسلمون أنّ الاعتقاد بنبوة محمد صلى الله عليه و آله و سلم خاتم الأنبياء هو معيار الدّين المقبول عند اللّه.

من الواضح طبعاً أنّ مجرّد الاعتقاد بموسى عليه السلام الذي عاش قبل عدة آلاف من السنين، والاعتقاد بالمسيح عليه السلام الذي عاش قبل ألفي سنة، أمر غير مقبول لدى من بُعث إليهم آخر الأنبياء. والسبب الذي يدعو إلى اعتناق الدّين القديم هو ذات السَبب الذي يدعو إلى اعتناق الدّين الخاتم. إذ بَعد ظهور الأديان اللاحقة لايكفي التشبّث بالأديان السابقة لإثبات أحقّيتها. فعندما يُبعث رسول من اللّه و يقدّم الأدلة الكافية لإثبات حقّانيّته، يكون مبعثه كمبعث أوّل نبي. و لايجوز لأحد رفض اعتناق الدّين الجديد بسبب اعتقاده بدين وتقاليد معيّنة. و قد تحدّث القرآن الكريم عن أقوام سابقين وقفوا ضد الأنبياء و لم يستجيبوا لدعواتهم و كانت ذريعتهم أنهم أخذوا عن آبائهم ما كان لديهم من معتقدات وتقاليد

ص:51


1- للاطلاع على مزيد من المعلومات حول الصابئة راجع كتاب: دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية. ج 3، ص 392-412.

موروثة: (قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) .(1)

إذا أعلن أتباع الأديان السابقة تمسكهم بمعتقداتهم رغم ظهور دين جديد، فهناك حالتان يمكن تصوّرهما لهذا الوضع وهما: أن يكونوا مؤمنين حقّاً بدينهم السابق و لم تثبت لهم أحقية الدّين الجديد، أو أنّهم يرفضون الدّين الجديد عناداً و مكابرة. و في الحالة الاُولى يُقبل إيمانهم بدينهم القديم، والإسلام يعترف بوجودهم: (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ) .(2)

و أمّا في الحالة الثانية فإنّ من يرفضون الدّين الحق عناداً و تعصباً فهم الكفار الذين يرفضون الانصياع للأنبياء: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) .(3)

ختم النبوّة

بعث خاتم الأنبياء قبل حوالي ألف و أربعمائة و أربعين سنة، و أعلن ضمن إبلاغه رسالة اللّه، ختم الوحي والنبوّة. و هذا ما صرّح به القرآن الكريم الذي هو آخر الكتب السماوية:

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ) .(4)

هناك شيء ينبغي التنبيه إليه، و هو أنّ أنبياء كثيرين بعثوا على مدى الزمان، و لكن اللّه بعث نبياً واحداً لآخر الزمان مهما امتد، و لايُبعث نبيٌّ من بَعده أبداً.

والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هنا هو: إذا كان الدّين من المتطلّبات الأساسية للبشر، و هو يتعرّض على مرّ الزمن للتحريف والتغيير، و يفقد كفاءته و تأثيره، ثم إنّ هناك مستجدات تطرأ على الحياة، فلماذا لايُشرع دين جديد ليواكب كل عصر في تلبية المتطلّبات المستجدة للبشر؟ و قبل الإجابة عن هذا السؤال لابُدّ من تسليط الضوء على الأُمور التالية:

1 - أن ختم النبوة و تشريع دين ثابت لآخر الزمان لايعني ختم الهداية.

ص:52


1- سورة يونس (10)، الآية 78.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 113.
3- سورة آل عمران (3)، الآية 70.
4- سورة الأحزاب (33)، الآية 40.

2 - من أسباب بعثة أنبياء كثيرين في بقاع مختلفة من الأرض هو أنّ أداء رسالة اللّه ما كان يكتمل بنبي واحد أو بضعة أنبياء، في حين أنّ آخر الزمان شهد اكتمال أداء الرسالة و يمكن أن تكون رسالة النبيّ الخاتم في متناول أيدي جميع الناس بكل سهولة. و في مثل هذه الحالة لاتبقى ثمة حاجة لدين جديد.

3 - الناس القدماء لم يبلغوا حدّاً من التجربة والعقلانية بحيث يستطيعون استدامة حياتهم الجماعية بلا أنبياء و بلا تعاليم تأتيهم تباعاً من السماء، والمحافظة على الدّين الذي انزل إليهم والاستفادة منه في تلبية متطلّباتهم الدينية، بينما في آخر الزمان يبلغ الناس مرحلة من الرقي يستطيعون معها مواصلة حياتهم مستنيرين بهدي آخر رسالة سماوية، و بها يُلبّون متطلباتهم المعنوية.

4 - كانت الشرائع والكتب السماوية في العهود السالفة تتعرض للتحريف والتغيير بسبب انعدام المستلزمات الضرورية، في حين لايهدد مثل هذا الخطر آخر كتاب و دين سماوي.

5 - الدّين الخاتم يضم جميع القضايا التي يحتاجها الإنسان، و يقوم ذووالأهلية العلمية باستنباطها من بين ثناياه و وضعها في متناول أيدي الآخرين.

6 - الدّين الخاتم كامل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً...) . (1) و كل ما بلغ كماله لا داعي لإعادة النظر فيه. و كل ما يحتاجه البشر ورد فيه مجملاً، و أمّا التفاصيل الجزئية فلا ضرورة للخوض فيها. و ليس هذا فحسب، بل ان طرحها يؤدّي إلى الإنغلاق و انسداد باب المعرفة.

7 - آخر الكتب السماوية، و أوصياء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و علماء الدّين، يؤدّون دورهم على مدى الزمان ويُهَيّئون الأذهان كما ينبغي، و عن هذا الطريق تنتقل القضايا اللازمة إلى الأجيال اللاحقة.

إنّ الأديان السماوية السابقة مثل سُلّم صفوف الدراسة الجامعية، والإسلام آخر صفّ

ص:53


1- - سورة المائدة (5)، الآية 3.

فيها، حيث يصل الطلبة هناك إلى حدٍّ من المعرفة والفهم والعلم لايحتاجون معها إلى معلم و مرشد جديد، و إنّما يقبلون هم بأنفسهم على التفكير والتحقيق.

الدّين والتطوّر

بقيت الأديان السابقة تتبدل تبعاً لِما يمرّ به الإنسان من تجارب جديدة، و ما يستجد من ظروف و مقتضيات، ويُشرّع على أثر ذلك دين جديد من اللّه تعالى، ليحل محل الدّين السابق، و يواكب التطوّرات التي تحصل في المفاصل المهمّة من الحياة. واستمرت هذه التبدلات متواصلة إلى حين عصر ختم النبوّة، حيث أخذت الأحكام تُشَرّع في عصر ظهور آخر الأديان السماوية (الإسلام) على نحو تدريجي، و تبعاً للظروف و مدى استعداد الناس، ونُسخت في الوقت ذاته أحكام أُخرى كانت قد شُرّعت من قبل. و قد بَيّن اللّه سبحانه و تعالى هذه الحقيقة على النحو التالي: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها...) .(1)

و بَعدما تم تشريع جميع جوانب آخر الأديان أعلن ختم النبوّة. و غدا ما شُرع من اصول و كليّاته أمراً ثابتاً لايقبل التغيير والتبدّل، وسيبقى الدّين الإسلامي ثابتاً و خالداً إلى يوم القيامة.

قطع الإنسان و لايزال يقطع أشواطاً طويلة على طريق التقدّم، واستطاع أن يُسخّر الطبيعة لخدمته على نحو يدعو للدهشة، و أخذ يُدخل كثيراً من التعديلات التي شملت الإنسان نفسه والحيوان والكائنات النباتية والطبيعية لأجل تحسينها والاستفادة منها على نحو أمثل، و لكن بعض هذه التغييرات تتعارض مع مبادىء الدّين؛ لأنَّ كل واحد منها يأتي على حساب شيء آخر. و من الأمثلة على ذلك تبديل الجنس، و تحسين النسل، والتلقيح الصناعي، و تحديد النسل من خلال إحداث تغييرات في الجسم، وزَرْع الأعضاء. والسؤال الذي يُثار هنا هو: هل يقرّ الدّين مثل هذه التغييرات أم يرفضها؟ فإن كان يقرّها، كيف يمكن

ص:54


1- سورة البقرة (2)، الآية 106.

حلّ هذا التعارض؟ و بعبارة أُخرى كيف يتسنى للدين مواكبة هذه المتغيّرات المتزايدة؟

إنّ التطوّر الذي ينجزه الإنسان له جوانب سلبية وأُخرى إيجابية. أمّا السلبية منها فلا يماشيها الدّين و لايُتأمّل منه مماشاتها. والمراد من التطوّر السلبي تلك التغييرات التي لاتؤخذ فيها مصلحة الإنسان بنظر الاعتبار، حتى و إن كان ظاهرها يوحي بالإيجابية، لأَنَّ الجديد لايحمل بشائر الخير والصلاح دائماً. و أمّا التغييرات التي تساهم في تذليل سبل الحياة، و تنسجم مع العقل والتجربة والمبادىء الإنسانية، فلا ينظر إليها الدّين نظرة سلبية.

و يمكن شرح كيفية استجابته للتطوّرات على النحو التالي:

للناس جوانب ثابتة لايؤثر فيها التغيير والتبدّل. والدّين في هذا المجال ثابت أيضاً و يُلبّي تلك المطاليب الثابتة. والدّين فيه جوانب اعتقادية، و أخلاقية، و عملية. والجوانب الاعتقادية تتعلق بتلك الجوانب الثابتة التي ليس من المنطقي ان يحصل أي تغيير فيها. نعم قد تؤدّي بعض المعطيات والإنجازات العلمية حول العالم، أو التفسير العلمي للعالم، إلى تغيير نظرة بعض الناس إلى الكوْن و علاقته بمبدأ الوجود؛ فتوحي بعدم أو قلّة تأثير اللّه والقوى غير المادية. و مهما كانت التطوّرات فإنّها لاتؤثّر في واقع العالم. و هي قد تُحدث تغييراً في أمور جزئية و لكنها لاتُفسد النظام العام للوجود، و لاتُبطل مفعول نظام العليّة، و لاتنقض القوانين السائدة في عالم الوجود أو تبدّلها. فالاعتقادات قائمة على واقع الوجود، و ان الناس يجب أن يؤمنوا استناداً إلى ما هو قائم. و هذا الواقع الثابت يستدعي اعتقادات ثابتة لاتبدّل فيها. و لهذا فالأديان السابقة مهما حصل فيها من تغيير، بقي هذا الجانب منها ثابتاً لايقبل التغيير.

أما بالنسبة إلى التعاليم الأخلاقية، فهي ذات صلة وثيقة بالطبيعة الإنسانية. والكثير من الوصايا الأخلاقية للدين جاءت من باب الإرشاد بحكم العقل أو الفطرة. والناس يدركون هذا الجانب من الأمور الأخلاقية حتى من غير وجود التعاليم الدينية. و أمثال هذه التعليمات تستمد جذورها من الناس أنفسهم، و هي كسابقتها ثابتة و تُعدّ من المتطلّبات الأساسية لبني الإنسان، و لايمكن الاستغناء عنها مهما تقدّم اجتماعياً و علمياً و صناعياً و عقلياً، و هي من لوازم الإنسان سواء كان متخلّفاً أم متطوّراً.

ص:55

بعض هذه التعاليم يتعلّق بكيفية عبادة اللّه، و لهذا نادراً مايطالها تغيير. و مهما كان التطوّر فهو غير قادر على أن يكشف للناس خطأها أو صوابها. و هذه الطائفة من التعاليم ثابتة لاتقبل التغيير.

أمّا الجانب المعني بتنظيم العلاقات الاجتماعية، فقد لاينسجم في بعض الحالات مع مايحصل من تطوّرات. و هناك جوانب رئيسية تابعة لمبادىء إنسانية ثابتة كالعدالة، والتعاون، و حقوق الناس، و حسن المعاشرة، و ما شابه ذلك. و هي عند التعارض مع المبادىء المذكورة تسقط من الاعتبار. قال تعالى في كتابه الكريم: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ) .(1)

و ينبغي خلال كل ذلك الالتفات إلى عدم إهمال و تجاهل الأهداف الكلية للدين في ضوء ما يحصل من تطوّرات، بحيث لايؤدّي عمل أو موقف إلى إلغاء حكم ديني؛ و ذلك لأن الأحكام تابعة لمصالح، و تلك المصالح تابعة لظروف و مقتضيات واقعية. جاء في كتاب فقه الرضا عليه السلام: «... لم يحرّم اللّه الا ما فيه الضرر والتلف والفساد»(2) و مع ذلك فقد جُعلت في الأحكام الدينية نفسها آليّات تُكسبها قابلية التطابق مع الظروف والمقتضيات في المواضع اللازمة. فهناك آيات تدل على أن بعض الأحكام رغم قداستها تتصف بالمرونة و يمكن أن تتبدل في ظروف خاصة أو حتى تُعطّل، مثلما هو الحال في رفع الحرمة عن الميتة و لحم الخنزير و ما شابه ذلك. و هذا يعبّر عن حقيقة و هي أن الأحكام تابعة لمقتضيات و ظروف، و هي تدور مدارها و تنتفي بانتفائها.

و مع كل هذا فإنّ بقاء باب الاجتهاد في الأحكام الدينية مفتوحاً، يعدّ بحد ذاته حلاًّ لكثير من المستعصيات. فالفقيه الجامع للشرائط يمكنه استناداً إلى الأصول تطبيق الأحكام على الموضوعات والاجتهاد في تطبيقها. والاجتهاد يحظى بتأييد الدّين، و هو يمهّد الطريق

ص:56


1- سورة الحديد (57)، الآية 25.
2- - النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة، ج 16، ص 165، الحديث 5. تجدر الإشارة إلى ان مضمون هذا الكلام جاء في رواية وردت عن الإمام الباقر عليه السلام في حرمة الخمر. راجع: الصدوق، علل الشرائع، الباب 237، ج 2، ص 196، الحديث 1.

لكي يتماشى الدّين مع مستجدّات كل عصر. قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّما علينا أن نُلقىَ إليكم الأصول و عليكم أن تفرّعوا».(1) و روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: «علينا ألقاء الأصول و عليكم التفريع».(2)

و على العموم يمكن القول فيما يخص جميع الأحكام العملية للإسلام: أما أن المجتهد العارف بمقتضيات الزمان يستخرج الملاك القطعي للحكم الشرعي، أو أنه لايستخرجه، و فيما إذا استخرج الملاك القطعي للحكم الشرعي، فأما أن يكون ذلك الملاك ثابتاً لايقبل التغيير، أو أنه خاضع للتغيير والتبدل تبعاً لتبدّل الظروف والأحوال. و في الحالة الأخيرة يبدي المجتهد رأيه في تغيّر ذلك الحكم و تطابقه مع مستجدّات الزمان. والكثير من أحكام الإسلام السياسية والاجتماعية من هذا القبيل.

الإسلام

كلمة (الإسلام) مشتقة من مادة «سَلمَ» التي تعني (التسليم). و هذا الاسم هو ما اختاره اللّه لدينه كما جاء في القرآن: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ) . (3) كما صرّح القرآن الكريم أيضاً في موضع آخر بكمال و شمولية هذا الدّين، بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) . (4) والنبيّ الذي جاء بهذا الدّين هو محمد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله و سلم، الذي اصطفاه اللّه بَعد حوالي ستمئة سنة من ميلاد المسيح عليه السلام في مكة المكرمة لإبلاغ دينه إلى الناس بتمامه، و ليكون خاتمة النبوات والشرائع السماوية.

الدّين الإسلامي امتداد للشرائع السماوية السابقة و مكمّل لها. و هو دين الدنيا والآخرة على حد سواء. و قد حرّم هذا الدّين الرهبانية، و لكنّه امتدح الزهد. و قد أباح الإسلام للإنسان الاستفادة الصحيحة من النعم الإلهية، غير أنّه في الوقت نفسه حرّم التهالك على

ص:57


1- - الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ج 27، ص 61-62، الحديث 51.
2- المصدر السابق، ص 62، الحديث 52.
3- - سورة آل عمران (3)، الآية 19.
4- - سورة المائدة (5)، الآية 3.

الدنيا والإفراط في طلب ملذّاتها: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ...) .(1)

يتألف الإسلام من ثلاثة مكوّنات و هي: الاعتقادات، والأخلاق، والفقه. و قد شبّهوا منشأ هذا التقسيم بمراحل وجود الإنسان، و قالوا بأنَّ المرحلة الاُولى تمثّل المرحلة العليا للإنسان و هي العقل والفكر و إليهما تنتهي الاعتقادات والرؤية الكَوْنية التي يحملها الإنسان. و أمّا المرحلة الثانية فهي عبارة عن المرحلة المتوسّطة التي تدخل ضمن إطارها الغرائز والعواطف والمشاعر و ما ينبغي فعله لضبطها وتهذيبها، والأخلاق هي التي تضطلع بمثل هذا الدور طبعاً. والمرحلة الثالثة تمثل الوجود النازل للإنسان و يتألف من الأعضاء والجوارح التي يُعنى الفقه ببحث ما يتعلّق بها من وظائف.

و في ضوء ذلك قُسّم هذا الكتاب الذي بين أيديكم و هو كتاب «الإسلام دين الفطرة» - إلى ثلاثة أبواب، و هي: الاعتقادات، والأخلاق، والتكاليف والمسؤوليات.

الشيعة

ينقسم المسلمون إلى فرق و مذاهب متعددة مثل: الزيدية، الحنبلية، الشافعية، المالكية، والحنفية، والشيعة الاثني عشرية، والاسماعيلية، و فرق أُخرى. و هذه الفرق والمذاهب تشترك و تتفق على الاعتقاد على الأُصول الأساسية للإسلام، كالتوحيد، والنبوّة، والمعاد، و كتاب اللّه. و كلهم متفقون على تكريم واحترام الإمام علي عليه السلام والسيدة فاطمة عليها السلام. أمّا الفرق الأساسية في الإسلام فهي عبارة عن المذاهب السنيّة الأربعة والمذهب الشيعي.

والفارق الأساسي بينها هو أنّ الشيعة يؤمنون بعصمة الإمام علي عليه السلام و فاطمة الزهراء عليها السلام، إضافة إلى أحد عشر إماماً آخرين من ذرِّية علي عليه السلام.

و على هذا الأساس فإنّ الشيعة تطلق اصطلاحاً على أتباع الإمام علي عليه السلام والسيدة فاطمة عليها السلام والائمة المعصومين. والشيعة هم من يعتقدون بأن الخلافة والإمامة قد جعلت

ص:58


1- سورة الأعراف (7)، الآية 32.

من بَعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مباشرة إلى الإمام علي عليه السلام، و هم يستندون في ذلك الى نص متواتر جاء فيه: إنّ علياً نصب يوم الثامن عشر من ذي الحجة في السنة العاشرة للهجرة عند غدير خم، بأمر من اللّه، على يد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمنصب الولاية والإمامة بَعد النبيّ.

واصطلاح الشيعة هذا أطلقه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في زمان حياته على أتباع الإمام علي عليه السلام. فقد روي عن جابر بن عبداللّه الأنصاري أنه قال: «كنا عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأقبل علي، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: والذي نفسي بيده إنّ هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة».(1)

و قال ابن عباس: «لمّا نزلت الآية: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (2) قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعلي: هم أنت و شيعتك».(3) و نقل الشيخ المفيد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: «سُئِلت امّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن علي بن أبي طالب عليه السلام فقالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: إنّ علياً و شيعته هم الفائزون».(4)

من البديهي أنّ هذه الأحاديث لاتعني أنّ مجرّد الانتماء إلى التشيّع يكون مدعاة لغفران الذنوب والنجاة أو الفوز يوم القيامة، و أنّ كلّ مَن لاينتمي إلى الشيعة - و إن لم يكن عن جحود و عناد - لا ينجو يوم القيامة.

و قد كانت كلمة الشيعة شائعة في عصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حتى أنّ جماعة من أصحابه كسلمان و أبي ذر والمقداد و عمار بن ياسر رضوان اللّه عليهم كانوا يُعرفون بالشيعة.(5)

ص:59


1- - السيوطي، الدر المنثور، ج 8، ص 538، ذيل الآية الأخيرة من سورة البيّنة.
2- - سورة البيّنة (98) الآية 7.
3- البحراني، السيّد هاشم، البرهان في تفسير القرآن، ج 8، ص 351، الحديث 13؛ ابن شهر آشوب، المناقب، ج 3، ص 68.
4- - المفيد، الارشاد، ج 1، ص 42-43؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 65، ص 7، الحديث 1؛ ص 9، الحديث 5؛ ص 22، الحديث 39.
5- سعد بن عبداللّه الأشعري القُمّي، المقالات والفرق، ص 15، الرقم 50.

ص:60

الباب الأوّل: الإعتقادات

اشارة

ص:61

ص:62

العقيدة

اشارة

العقيدة: تعني انشداد فكر الإنسان و ذهنه إلى شيءٍ، وتخصيص حيّزٍ له في قلبه. و تأتي كلمة الاعتقاد عادة في وصف ما يربط الشخص من و شائج بما يعتقد به. و هذا يعني بطبيعة الحال أنّ العقيدة نوع من التصديق الذي يتعلق به خاطر المرء، سواء كان حقاً أو باطلاً، واقعياً كان أم وهمياً. والعقيدة حصيلة لنمط من أنماط المعرفة التي قد تكون دعائمها راسية على أوهام و ظنون، أو ربّما تكون عقيدة اكتسابية. و في مثل هذه الحالة، يبلغ المرء درجة من الثقة بمعتقده، بحيث إنه يجاهر به و يعلنه على رؤوس الأشهاد، بل و قد يبدي تعصبه له و تمسكه به.

العقيدة إفراز لا إرادي مبعثه الفكر، و ينحصر تأثير الإنسان في تقويمه و توجيهه و لا تأثير له في أصل منشئه. والإنسان مجبول على أن لايكون خلواً من عقيدةٍ، و هي عادة الإطار الذي يتحرك ضمنه الفكر والسلوك. بل يبدو أنّ الاعتقاد يؤلف جزءاً من تكوين الإنسان.

العقيدة أمر لامناص منه، حتى أنّ أصل وجودها لايتطلّب دعوة إليها، و لايستدعي تحريضاً و حثّاً عليها. ولغالبية الناس رؤاهم واعتقاداتهم بما يجرى حولهم في هذا العالم. و كل شخص يختار عقيدته في ضوء ظروفه الفكرية و بيئته التربوية و يتعايش معها. غير أنّ القضية المهمة، هي صواب المعتقد و أحقيّته، فما كلّ ما يعتنقه المرء من المعتقدات صحيح و صائب. فهو كثيراً ما يرث معتقداته من محيط الاُسرة أو البيئة الاجتماعية التى يشبّ و يترعرع بين أحضانها. و في مثل هذه الأجواء، يتبلور قوام العمود الفقري لمعتقداته التي يؤدي ترسيخها إلى أن ينزع المرء في حياته نزعة دينية. بيد أنّ أمثال هذه المعتقدات لاتكاد تخلو من خرافات و أوهام، أو ربّما كانت واهية و بعيدة عن الرصانة، بحيث تضمحل

ص:63

و تتلاشى عند أدنى شبهة. فمجرّد شيوع شيء بين الناس لايعد برهاناً على صوابه. و حتى المؤمنون قد تتغلغل بين ثنايا معتقداتهم وسلوكهم مكوّنات مغلوطة. و هذا ما يفرض علينا بطبيعة الحال استقاء معتقداتنا من مناهلها السليمة، و إحكام بنائها.

العقيدة الحقّة

العقيدة الحقّة: هي ما قامت على العقل السليم ويُقرّ صوابها الوحي والأنبياء عليهم السلام، أو كانت مستقاة من الوحي الذي جاؤوا به. و يمكن القول بكلمة أدق: إنّ المعيار الذي تُقاس به أحقيّة العقيدة هو مدى تطابقها مع الوحي والفطرة، و انسجامها مع الموازين العقلية. فإنْ كانت الاعتقادات الدينية تتّسق مع ما تقضي به موازين العقل و أثبتت على مرّ الزمن مقدرتها على تلبية المتطلّبات الدينية لبني الإنسان، فهذا يعني أنها حقّة.

إنّ مجرّد إطلاق تسمية الدّين على مجموعة من التعاليم والأحكام، أو محض ادعاء من يدّعى بأنه قد جاء بدين من عند اللّه، لايُعدّ برهاناً كافياً على الحقّانية؛ إذ ربّما يستغل بعض ذوي المكر والحيلة جهل الناس و يبتدعون لهم ديناً من عند أنفسهم، وربّما يجد هذا الدّين أتباعاً و أنصاراً إلى أمدٍ. والقول الفصل في هذا المضمار هو إنّ احقيّة الدّين لابُدّ أن تثبت ببراهين قطعية، و أن تكون مختومة بخاتم التأييد الإلهي.

قد تكون هناك بين مكوّنات الدّين تعاليم و أحكام يتعذّر الحصول على تفسير عقلي لها، و لايمكن فهمها على وجه الدقّة. و هذه الأُمور إن كانت مدعومة بأدلة رصينة تُثبت أنها من الدّين، فهي من غير شكّ جزء من الدّين و لابُدّ من الإيمان بها؛ و ذلك لأن اللّه تعالى قد أنزل أحكاماً و فرض على عباده العمل بها تعبّداً و إظهاراً للطاعة، و بعضها ذات أسرار خفيّة وضعت للاختبار والعبودية. فعندما يثبت أنّ هناك حُكْماً أمر به اللّه، فلا مناص من القبول به.

و على أية حال فإنّ ما ينبغي على كل مسلم، بل و على كل إنسان، هو أن يكون لديه إلمام - ولو بسيط - بالمعتقدات الحقّة والباطلة، ليتسنّى له اختيار الحق والصحيح منها و هضمه و تمثيله في حياته، واجتناب الفاسد والباطل منها.

ص:64

الإيمان

كلمة الإيمان: مشتقة من «أمن» الذي هو ضد الخوف.(1) والإيمان عبارة عن شغف قلبي يأتي كحصيلة لنوع من المعرفة التي يمازجها حُبّ و اندفاع، و يعقبها حصول الفراغ والأمن والراحة للقلب. و لابُدّ من التنبيه إلى أنّ مجرد الرغبة في الشيء أو الوعي له ليست إيماناً.

فنحن نحب الكثير من الأشياء كالبلدان والأشخاص والأطعمة والثياب، و لكننا لانقول إننا نؤمن بها. و إنما الإيمان عبارة عن التعلّق والانشداد القلبي الذي يمازجه نوع من الوعي تجاه أُمور حسيّة تارة أو غير حسيّة تارة أُخرى. كالإيمان باللّه و بالغيب، أو بموضع ذي أثر معنوي.

الإيمان يبعث في الروح الطمأنينة و ينتشلها من خلجات الشكّ والريب، و يبلغ بها ساحل الأمن الفكري واليقين. يقول الإمام علي عليه السلام في وصف الإيمان بأنه مأمن لمن يلجه:

«مَن آمَنَ أمِنَ».(2)

المؤمن ينتزع ذاته بإيمانه مما يعتريه من ريب و يصل ساحل الأمن. والأمن والإيمان يعودان من حيث الاشتقاق اللُّغوي إلى مصدر واحد.

المؤمن الذي يعيش بإيمانه قلّما تزعزعه عوادي الدهر، و هو أشبه ما يكون بالجبل الراسخ الذي لاتزعزعه العواصف. و لاتتسرّب إلى قلبه مخاوف ذهاب النفس والمال والولد والجاه والمكانة الاجتماعية. و لاتهزهزه أمثال هذه الهزاهز المريرة. و إنما يسلم قياده - لمجابهتها - إلى ربّه: (وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) .(3)

ورد في حديث شريف وصف حقيقة الإيمان بأنّه التسليم المطلق للّه.(4) و هذا ما

ص:65


1- - الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج 1، ص 108.
2- الخوانساري، جمال الدّين، شرح غُرَر الحِكَم، ج 5، ص 2314، الحديث 7639.
3- سورة البقرة (2)، الآيتان 155-156.
4- - الكليني، الكافي، ج 2، ص 52-53، الحديث 1.

استجلاه اللُّغوي المعروف ابن منظور حين قال في معنى الإيمان: الإيمان إظهار الخضوع، والقبول للشريعة و لما أتى به النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و اعتقاده و تصديقه بالقلب.(1) و لاريب في أنّ مثل هذا المعنى لايتحقق إلّاعن طريق الارتباط الوثيق باللّه. فمن يُسْلِم قلبه للّه بكل كيانه، لايجد الشكُّ إليه من سبيل، بل يتبدل إيمانه إلى طمأنينة، و يعيش على الدوام في سكينة واستقرار. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) . (2) و في مقابل هذه الطائفة هناك طائفة أُخرى خالية من الإيمان، و من الطبيعي أنّها تعيش على الدوام في شكّ و حيرة: (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) .(3)

درجات الإيمان

للإيمان درجات تتوقف كل واحدة منها على مدى معرفة و انشداد المرء إلى ربّه، و هي تبدأ من مرحلة الإقرار باللّسان حتى تبلغ أسمى الرتب «وَ سُئِلَ [علي عليه السلام] عَنِ الإيمان فَقَالَ: الإيمان مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَ إِقْرَارٌ بِاللّسَانِ، وَ عَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ».(4) و كلّما كان اهتمام الإنسان بالأُمور غير الإلهية و غير المعنوية أشد، ينحدر إيمانه نحو الضعف: (ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (5) و يُقاس إيمان القلب حسب درجة تعلّقه باللّه من جانب، و بالأشياء الأُخرى من جانب آخر. فإن كان يميل إلى الدنيا والآخرة و إلى اللّه والأُمور الدنيوية بدرجة واحدة، فقيمة إيمانه تكون في تلك الدرجة. و من الطبيعي أنّ الأشياء ذات السنخ الواحد والتي لايوجد تعارض بينها و لاتزاحم، لامُشاحّة و لا إشكال في أن يكون الإيمان بها جميعها في عرض واحد، كالإيمان بالكتب السماوية، والأنبياء، والمعاد. و حتى في هذه الأُمور تتباين درجات الإيمان تبعاً لمعرفة كل شخص و رغبته.

ص:66


1- - ابن منظور، لِسان العرب، ج 1، ص 114.
2- - سورة الحجرات (49)، الآية 15.
3- سورة التوبة (9)، الآية 45.
4- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 227، ص 508.
5- - سورة الأحزاب (33)، الآية 4.

و على أية حال، فإنَّ للإيمان درجات، و يمكن أن يُستحثّ ويُستنهض نحو مراتب أسمى. والعكس صحيح أيضاً؛ إذ يؤدّي إهماله إلى اضمحلاله و ضموره.

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إذا أذنب الرجل خرجت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت.(1) و ورد في حديث آخر عنه: «إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم يصعد منه مرقاة بَعد مرقاة، فلا يقولَنَّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد: لست على شيء».(2)

و ورد أيضاً في حديث آخر عنه: «ان اللّه عزّوجلّ وضع الإيمان على سبعة أسهم... فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل...».(3)

يفهم من هذه الملاحظة التي تضمّنتها هذه الرواية و من آيات و روايات أُخرى، أنه لايجوز التعامل مع الناس على أساس درجة و نوع إيمانهم، وجعل حقوقهم الاجتماعية خاضعة لما يعتنقونه من معتقدات.(4)

قال عبدالرحيم القصير: كتبت إلى أبي عبداللّه الصادق عليه السلام رسالة مع عبدالملك بن أعين أسأله فيها عن الإيمان، فكتب إليَّ: «الإيمان هو الإقرار باللسان و عقد في القلب و عمل بالأركان».(5)

و في هذه الرواية و روايات أُخرى جُعِل الإقرار باللِّسان جزءاً من الإيمان. و لابد طبعاً من الانتباه إلى أنّ الإقرار هو في الواقع بداية الإيمان، و طالما لم يتغلغل الإيمان في القلب فما هو بإيمان. فقد صرّح القرآن الكريم بأنَّ الإقرار اللِّساني الذي صدر من الأعراب ليس إيماناً، وانّما هو مجرّد دخول في الإسلام: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) .(6)

و أيّدت آية أُخرى هذه الحقيقة مبيّنة أنّ الإقرار وحده ليس إيماناً (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ

ص:67


1- - الكليني، الكافي، ج 2، ص 271، الحديث 13.
2- - المصدر السابق، ص 44 و 45، الحديث 2.
3- الكليني، الكافي، ج 2، ص 42.
4- راجع من جملة ذلك: رسالة الحقوق، ص 15 و 32-39؛ كرّاسة درس الخارج في المكاسب المحرّمة، تحت عنوان «سبّ المؤمن»، تتمة «حرمة سبّ الإنسان بما هو إنسان»، ص 5-7.
5- الكليني، الكافي، ج 2، ص 27، الحديث 1.
6- سورة الحجرات (49)، الآية 14.

يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) .(1)

و من جانب آخر يُنظر إلى العمل بالتكاليف كجزء من الإيمان، حيث ينبغي القول: إنّ العمل شبيه بالإقرار و هو يأتي كإفراز و كأثر للإيمان، و لكنّه ليس الإيمان نفسه. والحقيقة هي أنّ من يدّعي الإيمان إذا لم يعمل وفقاً لما يقتضيه إيمانه، فذلك مؤشر على أنّه لا إيمان له. فالعمل دلالة على صدق المدّعى. و إن لم يقترن الإيمان بالعمل فمعنى ذلك عدم صدق الإيمان. و ما يتعيّن على المؤمن هو أن يقترن إيمانه بالعمل. والسعادة إنما تأتي من اقتران هذين الأمرين معاً. و ذكرهما إلى جانب بعضهما في القرآن الكريم دليل على أنّ الإيمان شيء آخر غير العمل، و أنّ المؤمن من ينعقد قلبه على شيء و يظهر في عمله و سلوكه، قال اللّه تعالى: (وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) .(2)

هناك علاقة طردية متبادلة بين الإيمان والعمل الصالح؛ فكلَّما كان الإيمان أقوى ازداد العمل الصالح. و كلما ازداد العمل استحكم الإيمان. فالعمل ثمرة الإيمان، والإيمان منطلق و حافز للعمل الصالح. و قوام العمل الصالح رهن بالإيمان.

من الطبيعي أنّ نيل معالي الرتب الإيمانية رهين بالعمل والمجاهدة. فهناك من يستطيعون تمتين إيمانهم، و يكونون على الدوام منصاعين لأمره، و يجعلون قلوبهم حرماً للّه لايدخلها غيره.(3) إنّ مجاهدة المؤمنين ترفعهم إلى منزلة رفيعة و تجعلهم في عداد أولياء اللّه و أحبائه.

ما يجب الإيمان به

المؤمن: هو من يؤمن باللّه و بالمعاد والنبوّة و ضروريات الدّين (وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ

ص:68


1- سورة البقرة (2)، الآية 8.
2- سورة النساء (4)، الآية 124.
3- - المجلسي، بحارالانوار، ج 67، ص 25، الحديث 27.

رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ) . (1) و إنكار هذه الأُمور كفر (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) . (2) فالمؤمن هو من يؤمن باللّه و بصفات جماله وجلاله و ربوبيّته و وحدانيّته، و أنه هو الخالق والمدبّر لكل عالم شؤون الوجود، و ينزِّهه عن كل شرك و نقص.

إنّ التصديق بالنبوّة و بأنّ كل الأنبياء مبعوثون من اللّه عزّوجلّ، جزء من الإيمان. و من مسلتزمات الإيمان أيضاً الاعتقاد بالنبوة و بشخص النبيّ، و بالوحي والكتاب السماوي والملائكة. و في هذا المجال يُعتبر الإيمان بآخر الرسل النبي محمد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله و سلم و كتابه السماوي، و كل ما أبلغه للناس من ضروريات الدّين، و أوصيائه، من الأوامر الإلهية القطعية، و عدم الإيمان بها يخرج المرء من الجماعة المؤمنة.

كما يُعتبر الإيمان بالبرزخ، والمعاد، والجنّة، والنار، والصراط، والشفاعة، والجزاء والعذاب من اصول الدّين، و لايتحقق الإيمان الكامل إلّابالاعتقاد بها قلبياً.

الأُصول الأساسية للإيمان هي الاعتقاد باللّه و بالنبوّة و بالمعاد. و أمّا بقية الأُمور فهي تبع لها و منبثقة منها، و هي من متعلّقات الإيمان التي لاسبيل إلى إنكارها.

و يمكن القول بكلمة أُخرى: إنّ ما ينبغي الإيمان به هو اللّه الذي يخضع كل شيء لإرادته و مشيئته. والأنبياء، والوحي، والكتب السماوية، والملائكة و رسله، والمعاد أيضاً هو الرجوع إليه سبحانه، والدّين هو أحكامه المفروضة.

ضرورة الإيمان

الإيمان والمعتقد من المتطلّبات الأساسية للإنسان، و هما في الوقت ذاته تكليف ملقىً على عاتقه، و أهميّتهما بالنسبة إليه كالطعام. فمثلما يحتاج الإنسان إلى الطعام، فهو يحتاج أيضاً إلى العقيدة والإيمان. و يمكن القول من باب التمثيل - لا الاستدلال مثلما أنّ الإنسان لايؤذن له بتناول أي طعام كان لسدّ جوعه؛ إذ ربّما تُعتبر بعض الأطعمة بمثابة سمّ قاتل له،

ص:69


1- - سورة البقرة (2)، الآية 285.
2- - سورة النساء (4)، الآية 136.

كذلك الحال أيضاً بالنسبة إلى الإيمان؛ إذ يجب عليه أن يدقِّق و ينقّب بشأنه غاية ما يمكن؛ و ذلك لأنّ عمله و سلوكه إنّما ينتظم وفقاً لما يختاره من المعتقدات والإيمان.

و في ضوء ما سبق ذكره هناك، ملاحظتان مهمّتان تسترعيان الانتباه في ما يخص ضرورة الإيمان: أولاهما هي أنّ الإيمان - كما سبق ذكره - عبارة عن تعلّق و انشداد.

و يمكن القول بعبارة أُخرى: إنّ الإيمان والكفر من شؤون القلب و خاضعان لإرادته. فكيف يمكن غرس مثل هذه الحالة في القلب، أو دعوة الآخرين إليها؟ إنّ الاعتقاد أمر قلبي، و إقبال القلب عليه أو رفضه له يتوقف على ظروف خاصّة. فبعض الناس تبعاً لظروفه النفسية والتربوية قد تستهويه بعض الأُمور و يميل إليها، و قد ينفر من أُمور أُخرى و يتجنّبها. فهو قد يحب بعض الأماكن، والأطعمة، والصور، و حتّى الناس، و لكنّه ينفر و يشمئز من أشباهها و مثيلاتها. بينما يستقبح آخرون تلك الأشياء نفسها و ينفرون منها كليّاً.

و في مثل هذا الوضع هل من المنطقي أن يُقال: ينبغي الإيمان ببعض الاشياء والتعلّق بها، و كره أشياء أُخرى والكفر بها؟

و أمّا الملاحظة الأُخرى فهي: ما الداعي للإيمان بأُمور معيّنة على وجه الخصوص بحيث يؤدي إنكارها و عدم الاعتقاد بها إلى استحقاق العذاب؟

أمّا بالنسبة إلى الملاحظة الأُولى فهي رغم أنّ الحب والبغض - و هما من خصائص النفس - أُمور لا إرادية، بَيْد أنّ مقدّماتهما بيد الإنسان نفسه. فعلى الرغم مما يبدو ظاهرياً من أنّ الكثير من نوازع الحب والكره تأتي من غير مقدّمات، لكن الواقع ليس كذلك.

و لاشكّ في أنّ كل محبّة أو كراهية تُعزىء الى علل و مقدّمات كثيراً ما تكون اختيارية.

يمكن تحويل المحبّة إلى عداء، أو تقليص المحبّة و تضخيم العداء. فالإيمان خاضع لمقدّمات و شروط؛ فإن توفّرت مقدّماته العقلية والحسيّة تنغرس عند ذاك بذور الإيمان، و هكذا الحال بالنسبة إلى الكفر أيضاً.

و بعبارة أُخرى: إنّ وجود الناس و ميولهم الذاتية تمتزج عادة بالعقيدة والإيمان. و هم إن لم ينشَدُّوا إلى حقيقة عالم الوجود، فقد يصنعون لأنفسهم ركيزة من حجر و خشب يصنعون منها أوثاناً يتعلّقون بها. إذاً فالأولى، بل إنّ الضرورة تفرض أن يكون التعلّق والانشداد إلى

ص:70

حقيقة الوجود، و أن لاتحل محلّه أشياء أُخرى تافهة. و هذا هو سر دعوة الأنبياء إلى أُصول الإيمان، وجعل الأُصول الجزئية من تكاليف الناس الذين إذا أنكروها شملهم العذاب الإلهي. و هذا ما حصل بالفعل حيث وقع العذاب على أقوام أنكروها بعناد.

فهي من باب الظروف والخلفيات المتوفّرة لدى الأفراد. إذاً فالدعوة إلى الإيمان أمر عقلاني، و كذا الدعوة إلى تمهيد مقدّماته، إذ إنها مقدّمات اختيارية.

و أما ما يخص الملاحظة الثانية: فمن الضروري الإيمان ببعض الأُمور سوية، و لايمكن الفصل بينها والإيمان بقسم منها و رفض القسم الآخر انطلاقاً من التكوين والتوجُّهات الخاصة بكل إنسان. فشخصية الإنسان تتبلور من خلال ميوله و تعلّقاته و أفكاره. و كلّما كانت هذه الأُمور أقرب إلى حقائق الوجود تتبلور شخصيته على نحو أفضل و أقوم، و كلّما كانت وهمية و بعيدة عن الواقع يبتعد الإنسان عن هويّته أكثر فأكثر. و من البديهي أنّ أهم واقع في نظام الوجود هو مبدؤه المدبّر له الذي إليه المعاد.

إنّ مركز ثقل الوجود هو اللّه عزّوجلّ. والوجود كُلّه منه و إليه. و في ضوء ذلك فإنّ أي مركز آخر ينشدّ إليه الإنسان و يتعلّق به ليس إلّاوهماً، و لايزيده إلّابُعداً عن حقيقة الوجود و عن هويته الذاتية. فالإنسان لايهديه إلى الطريق القويم في معترك الحياة، و لايرشده إلى مبدأ الوجود إلّاهذه الهوية التي لايصل بدونها إلى أية غاية.

فوائد الإيمان

1 - الإيمان - كما ذكرنا من قبل - ناجم عن حاجة أساسية لدى الإنسان. و هذا يعني أولاً و بالذات، أنّ الإنسان يسعى تلبية لهذه الحاجة. و في الوقت ذاته يمثل الإيمان ملاذاً حصيناً له، والتمسّك به يجعل منه كالجبل الراسخ الصامد في وجه الأمواج العاتية. أمّا الأحزان والأفراح فليست لدى المؤمن إلّاأُموراً عابرة كالزبد الطافي فوق سطح الماء.

2 - الإيمان حصن حصين يقي المؤمن من الأعاصير الجارفة، و يبلغ به إلى ساحل الأمان، و يصونه من الخواء والعبثية. والتيارات الجارفة لاتثير الأمواج في محيط الإيمان الهادىء. والإيمان إن كان حقيقياً فهو كفيل بصيانة الإنسان من دواعي القلق. والمؤمن يرى

ص:71

للوجود هدفاً و غاية، و يرى لذاته دوراً سامياً في هذا الوجود. والمؤمن راضٍ بقضاء اللّه و قدره، و يعيش حياة تغمرها السكينة والطمأنينة. و هو يعيش دوماً في ذكر اللّه، و يرى اللّه عزّوجلّ هو الذي يدبّر شؤون الوجود مراعياً جميع المصالح (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) .(1)

و قلب المؤمن زاخر بمحبة اللّه و بالإيمان بمن يُظلُّ عالم الوجود بظلال رحمته.

والإيمان يرسم أمام ناظري المؤمن مستقبلاً مشرقاً و زاهراً، و يبعث في قلبه الأمل، و لايدع اليأس يتسرّب إلى نفسه.

3 - الإيمان يخلق في ذات المؤمن حالة تجعله يرى أنّ كل شيء للّه، و انطلاقاً من ذلك يكون على استعداد لبذل كل كيانه في سبيله (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ) .(2)

والآخرون ينتفعون عادة من تضحية المؤمن كأنصار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الذين وصفهم القرآن.(3) والإيمان يربّي المؤمن على نحو يجعله في أقسى الظروف سبّاقاً إلى التضحية و متهافتاً على البذل والعطاء، و يغلب المؤمن الواحد عشرة من الكفار.(4)

4 - للمؤمن بصيرة نافذة يستشرف بها الحوادث و يتخذ ما يناسبها من المواقف:

«المؤمن ينظر بنور اللّه».(5) و (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) .(6)

5 - الإيمان يجعل المؤمن قنوعاً بما عنده، و لايبيح له إطلاقاً التطاول على حرمة الغير لنيل المزيد من المكاسب، بل يحثّه على الجود بما يملك على غيره، و أن يكرّس جهده في سبيل الارتقاء بمستوى الآخرين و تحسين أوضاعهم. و أن يضمر المحبّة لعباد اللّه و يحفظ حرماتهم. و أن يكون من ذوي العفو والرحمة. و من الطبيعي أنّ مثل هذه النوازع

ص:72


1- سورة الاسراء (17)، الآية 30.
2- سورة البقرة (2)، الآية 207.
3- - سورة الحشر (59)، الآية 9.
4- سورة الأنفال (8)، الآية 65.
5- - الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 61، الحديث 250.
6- سورة البقرة (2)، الآية 257.

والتوجّهات تبعث على بناء مجتمع يرضاه اللّه، و أن يأتي ذلك كلّه طواعية و بعيداً عن دواعي القهر والإكراه.

6 - المؤمنون موضع رعاية اللّه ولطفه: (إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (1) و ينزل الباري تعالى عليهم بركاته بسبب إيمانهم: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ) .(2)

7 - الإيمان يدعو المؤمن إلى فعل الخير، و يجعل عليه رقيباً دائماً من نفسه. و ينهاه عن افتعال الشر و إثارة الفتنة. و يفهم في ضوء ما سبق ذكره أنّ جماعة المؤمنين يغمرها حُبّ اللّه و احترام خلق اللّه. و أفراد هذه الجماعة يعيشون حياة زاخرة بالبهجة والسرور، و يحلّون ما يعرض لهم من مشكلات بروح أخوية و بالتعاضد والتكافل.

العلم والإيمان

لابد في البداية من التنبيه إلى أنّ المراد من العلم هنا هو المعنى الأعم للكلمة، أي مجمل الوعي والمعرفة، و ليس العلم بمعناه الاصطلاحي الذي يشير إلى العلم التجريبي.

هناك بين العلم والإيمان تفاوت، و إن كان الإيمان ينطوي بحدّ ذاته على نوع من المعرفة والوعي، بيد أنّ الإيمان ليس علماً، و لا العلم إيماناً. بل و ليس ثمّة بين هذين الاثنين من تلازم قطعي. فهناك أشياء كثيرة نعرفها لكنّنا لانؤمن بها. و في الوقت نفسه هناك أُمور نؤمن بها و لكنّنا لاندرك كُنهها و حقيقتها، مثل عالم الغيب، والملائكة، و غير ذلك.

و قد ورد في القرآن الكريم أنّ أهل الكتاب كانوا يعرفون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما يعرفون أبناءهم، و لكنّهم لم يؤمنوا به.(3) و في المقابل جاء في وصفه للمتقين أنهم يؤمنون بالغيب.(4) و على هذا الأساس يتبين أنّ معرفة الشيء لاتعني بالضرورة الإيمان به، أو أن يستتبع العلم به إيماناً به. فهناك من الناس من يدرك حقيقة شيء و كنهه و لكنّه لايؤمن به لدواعٍ مختلفة، من قبيل ما يحمله من خلفيات ذهنية، أو لخصال فيه تحجبه عن ذلك.

ص:73


1- - سورة غافر (40)، الآية 51.
2- سورة الأعراف (7)، الآية 96.
3- - سورة الأنعام (6)، الآية 20.
4- - سورة البقرة (2)، الآيتان 2-3.

و قد رد في القرآن الكريم وصف لبعض أهل الكتاب حيث أنهم بَعدما تكشّف لهم أنّ لاسلام حقّ حاولوا ثني المسلمين عنه: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) .(1)

إنّ لكلٍّ مِن العلم والإيمان تأثير حاسم في الآخر، و يتباين مدى هذا التأثير تبعاً لظروف كل واحد منهما. فتأثير العلم في الإيمان سواء في انبثاقه أو في ترسيخه، خاضع للتوجهات الفكرية والميول القلبية. فإن كان هناك مَن ينقّب و يتقصّى للحصول على معلومات حول شيء ما، فمن الطبيعي أنه يميل إليه و يؤمن به، إن كان يتساوق مع توجهاته الفكرية، و إلّا فلن تقوده معلوماته إلى الإيمان به. نذكر على سبيل المثال، إنّ مَن يضع على بساط البحث كتاباً سماوياً بقصد العثور على مواطن الضعف والنقص فيه، لايكون له أيّ تأثير فيه. و أما مَن يعكف على دراسته عن شغف، و بهدف العثور على حقيقةٍ، فسيزيد ذلك من رغبته فيه و يدفعه إلى الإيمان به. إنّ لكلٍّ مِن العلم والإيمان آثاراً وتبعات. فالإيمان ذو توجّه معنوي و هادف، بينما العلم يمنح المرء وعياً و معرفة، و يضع بين يديه أسباب القوّة و يزيد من قدراته، و لكن عدم التلازم بين هذين الأمرين، و عدم مواكبة أحدهما للآخر، كثيراً ما يكون مدعاة لمشاكل لاتحمد عقباها، فالمؤمن إن لم يتسلّح بالعلم يقع ضحيّة للتخلّف، والعالِم المجرّد من الإيمان يصنع أدوات مدمّرة تهدد حياة بني البشر بأنواع الكوارث والفجائع.

العقائد الباطلة

اشارة

إنّ كل عقيدة لايقرّها الوحي، و لا كتاب سماوي، و لا تنسجم مع العقل والفطرة فهي باطلة. والعقيدة الباطلة بإيجاز هي ما لا تسليم فيها للّه: (وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) .(2)

والعقيدة الباطلة ليست كلها باطلة على الدوام، و إنّما قد تكون مزيجاً من حق و باطل.

و يصح العمل بها عندما تكون حقّاً، و لكنّها تفقد كفاءتها بمرور الزمن، على اعتبار أنها قد

ص:74


1- سورة البقرة (2)، الآية 109.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 85.

شُرّعت لمرحلة زمنية معيّنة، و قد انقضى زمانها و بُعث دين جديد من اللّه عزّوجلّ يَنقضُها.

و هذا ما يستدعي طبعاً العدول عنها و اعتناق عقيدة الدّين الجديد.

و بما أنّ اجتناب العقيدة الباطلة يتسنّى عن طريق التعرّف على المعتقدات الباطلة، و نظراً إلى أنّ معرفة الحق بشكل أفضل رهينة بمعرفة الباطل، استناداً إلى قولهم - تُعرف الأشياء بأضدادها - نشير هنا في حدود ما يسمح به هذا الموجز إلى موردين:

الشرك

الشرك لغة: بمعنى وجود شيء مشترك لاثنين فصاعداً، و يعني اصطلاحاً: الاعتقاد بوجود شريك للّه.(1) والمشرك: مَن حاد عن التوحيد، و كما هو واضح من أصل الكلمة، فإنّه يقر بوجود اللّه و لكنه يعتقد بشريك له، أو يؤمن بأنّ لبعض الموجودات أثراً أو تأثيراً مستقلاً عن إرادة اللّه.

الشرك، من الاعتقادات التي حاربها الإسلام بكل صورها و أساليبها. و قد وصف القرآن الكريم الشرك بالظلم العظيم،(2) والافتراء على اللّه،(3) و ممّا يبغضه اللّه،(4) والذنب الذي لايغتفر.(5) والشرك أمر وهمي مبعثه الظن(6) والجهل. و قد وصف اللّه نفسه بأنه أجلّ من أن يُشرك به: (فَتَعالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ) (7) و نعت المشركين بالنجس بسبب افترائهم على اللّه.(8)

اتّخّذَ الشرك صوراً شتّى على مرِّ العصور منها:

1 - الشرك الصريح كعبادة الأصنام.

2 - شرك الرياء، و هو ما يتحدّث عنه علم الأخلاق.

3 - الغلو و عبادة الشخصية.

ص:75


1- - الراغب الاصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ص 451-452.
2- - سورة لقمان (31)، الآية 13.
3- سورة النساء (4)، الآيتان 48، 50.
4- سورة الأعراف (7)، الآيات 70، 71، 152.
5- - سورة النساء (4)، الآية 48.
6- سورة يونس (10)، الآية 66.
7- - سورة الأعراف (7)، الآية 190.
8- سورة التوبة (9)، الآية 28.

4 - الشرك الحديث، كاتخاذ العلم والتقنية ربّاً من دون اللّه، واستخفاف الإنسان بذاته أمام الأشياء التي صنعها بنفسه.

و كل أنواع الشرك سواء منها البدائي أم الجديد تشترك في عنصر واحد.

تطوّر الشرك من أنواع بدائية بسيطة كاتخاذ الخشب والحجارة شركاء للّه، إلى أن اتّخّذَ صوراً أُخرى معقّدة تبعاً لتطوّر التجربة البشرية. ففي العصور الغابرة حين لم يكن الإنسان قد خبر التطوّر الصناعي الموجود في عالم اليوم، كان لايعرف إلّاالطبيعة و عناصرها، فعبدها و عبدالشمس والقمر والكواكب الأُخرى، و لكن هذه الأشياء اضمحلت تدريجياً و حلّت محلها أشياء و مفاهيم أُخرى. ففي الماضي كانوا يتوهّمون أنّ اللّه يمكن أن يُرى، و هذا ما دفعهم إلى اختيار عناصر من الطبيعة أو مما يصنعونه بأيديهم و اتخاذه مظهراً له؛ فيبنون لها المعابد و يقدّمون لها النذور والقرابين، و يشرّعون لها رسوماً و شعائر، و يتولّى الكهنة إدارتها.

و كانت مظاهر الطبيعة القاهرة و ما يقع من أحداث مريرة و حلوة، تدفع الإنسان إلى البحث عن مسبّباتها. فكان كل قوم يختارون شيئاً وفقاً لِما تذهب إليه بهم الظنون، و يعزون إليه كل الأسباب والمسبّبات بل حتى أنهم يعتبرونه إلهاً و يتوسلون إليه خشية منه، و يعبدونه تقرباً إليه و حفاظاً على أنفسهم منه.

كتب المؤرخ المعروف (المسعودي) عن الأقوام الذين عاشوا بَعد طوفان نوح ما يلي:

بَعدما و فى نوح عليه السلام لقومه بما وعدهم من العذاب الإلهي، كان الناس من بَعده لايجحدون الصانع، إلّاأنهم دخلت عليهم شبهة بَعد ذلك لتركهم البحث واستعمال النظر، و مالت نفوسهم إلى الدِّعة و ما تدعو، اليه الطبائع من الملاذ والتقليد، و كان في نفوسهم هيبة الصانع، والتقرّب إليه بالتماثيل و عبادتها، لظنّهم أنها مقرّبة لهم إليه.(1)

و كتب أيضاً حول أهالي الهند والصين ما يلي: كان كثير من أهل الهند والصين يعتقدون بأنّ اللّه عزّوجلّ جسم، و أنّ الملائكة أجسام لها أقدار، و أنّ اللّه تعالى و ملائكته احتجبوا

ص:76


1- المسعودي، مروج الذهب، ج 2، ص 145.

بالسماء، فدعاهم ذلك إلى أن اتّخّذَوا تماثيل و أصناماً على صورة الباري عزّوجلّ، و بعضها على صورة الملائكة، و يعبدونها و يقرّبون لها القرابين، و ينذرون لها النذور.(1) و كتب في ذلك أيضاً: إنّ البعض اعتبروا النجوم والكواكب أقرب الاجسام المرئية إلى اللّه تعالى، و أنّ كل ما يحدث في هذا العالم فإنّما هو على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر اللّه، فعظّموها و قرّبوا لها القرابين، وجعلوا لها أصناماً و تماثيل على صورها و أشكالها. و في بلاد فارس رأوا أنّ النار أشبه شيء بضوء الشمس والكواكب؛ فعظّموها على اعتبار أنّ النور أفضل من الظلمة.(2)

إنّ نزعة التقديس لدى الإنسان كانت تدفعه أحياناً إلى أن يبحث عن صنم و يعتبره مظهراً للّه، و يعكف على عبادته. و ذهب آخرون إلى تقديس كائنات ذات قدرة خارقة.

بينما جعل آخرون من الملائكة شركاء للّه. و هناك من الناس من يرفع بعض الأنبياء إلى منزلة اللّه و يثنون عليه إلى درجة العبادة، والحال أنّ عملهم هذا قائم على أوهام و ظنون.

و كمثال على ذلك أنّ النبيّ عيسى عليه السلام حين ولد بمعجزة من غير أب،(3) وتكلم و هو في المهد،(4) و كانت له معجزات كبرى كإحياء الموتى و إبرار الأكمه والأبرص،(5) عظمت هذه الأُمور في أعين الناس إلى درجة أنهم جعلوه بمنزلة اللّه. و قد ورد في القرآن الكريم أنّ اللّه جلّ شأنه سأل عيسى عن ذلك: (وَ إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ) .(6)

إنّ ذكر هذه القضية في القرآن الكريم ينمّ عن أنه لاينبغي وضع أيّ موجود في منزلة تفوق منزلته، أو جعله بمنزلة اللّه، أو اعتباره مؤثّراً بذاته في عالم الوجود، مهما كانت له من منزلة مقرّبة عند اللّه.

و من البديهي أنّ هذا العمل شرك، والشرك باطل. و لذلك قال عيسى المسيح عليه السلام في جواب اللّه: (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ

ص:77


1- - المصدر السابق، ص 236.
2- المصدر السابق، ص 236-237.
3- - سورة آل عمران (3)، الآيات 45، 47.
4- - سورة مريم (19)، الآيتان 29 و 30.
5- سورة آل عمران (3)، الآية 49.
6- سورة المائدة (5)، الآية 116.

عَلِمْتَهُ) (1) ثم واصل جوابه قائلاً: (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ) .(2)

هذه التوجُّهات والنوازع البشرية و أمثالها حدت بالأنبياء إلى أن يعلنوا للناس أنهم أُناس مثلهم، و لكن يوحى إليهم، و ليس لهم دور في هذا العالم سوى النبوّة.(3)

حظيت الأصنام التي كان الناس يصنعونها من الحجارة والخشب بمكانة رفيعة، حيث كانت تمثّل أحياناً مظهر رحمة اللّه، و كياناً أُسطورياً يُعبد، في حين أنها جمادات لاتضر و لاتنفع: (وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ) ، (4) و لم يكن ذلك انطلاقاً من أحقيّتها، و إنّما بسبب ما كانت تمثّله من تقليد متوارث عن الآباء: (ما يَعْبُدُونَ إِلاّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) ، (5) و كانوا يخوضون صراعاً مع الأنبياء حول تلك الأوثان و يصرّون على معتقداتهم.(6) و كان هناك من عبدة الأوثان من يتخذ منها وسيلة للتقرّب إلى اللّه: (ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى) (7) و يصفونها بالشفعاء عند اللّه:

(هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ) .(8)

إنّ الاعتقاد بتأثير موجودات غير اللّه في هذا العالم، إنّما هو من عمل المشركين و يجب إنكاره. و من الواضح - طبعاً - أنّ الشفاعة إذا كانت بإذن اللّه مع الاعتقاد بوجود علل في طول إرادة اللّه لايعتبر شركاً، بل هو عين التوحيد. أمّا الشرك المنهي عنه فهو عبادة غير اللّه أو تقديسه إلى درجة تشعر بعبادة غير اللّه فيه.

إذاً هذا هو الشرك الصريح الذي كان حسب الطباع البسيطة للإنسان القديم، غير أنّ الشرك اتّخّذَ على مرّ الزمن مظاهر أُخرى أعقد، و بالنتيجة صار التخلّص منه أعقد ممّا كان في الماضي. اليوم فقدت الأصنام المنحوتة من الحجر والخشب قيمتها و حلّت محلّها النوادي، والأحزاب، والمنتجات الصناعية، والدول، و ما شابه ذلك، و قلّما يمارس إنسان

ص:78


1- - سورة المائدة (5)، الآية 116.
2- سورة المائدة (5)، الآية 117.
3- سورة فصلت (41)، الآية 6.
4- - سورة يونس (10)، الآية 18.
5- - سورة هود (11)، الآية 109.
6- - سورة هود (11)، الآية 53.
7- - سورة الزمر (39)، الآية 3.
8- سورة يونس (10)، الآية 18.

اليوم توحيد اللّه عملياً، و إنّما يتوجّه بذلك نحو أرباب آخرين اتّخّذَهم من دون اللّه، و يرتجي منهم نظم شؤون هذا العالم.

و من أخطر أنواع الشرك هو الشرك الخفي، أو ما يُعرف بالرياء، و هو ما وصفه أميرالمؤمنين عليه السلام بقوله: «واعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْك»(1) و هو أن يتظاهر الشخص أمام الآخرين بالورع والتقوى، و يستغل الأعمال العبادية لتحقيق مآرب أُخرى. و من المؤسف أنّ ظاهرة الرياء تزدهر حيثما يكون هناك بناء اجتماعي مغلوط. و من الطبيعي أنّ المرائي لايحصل على سوى التعب والمشقّة.

و هناك صورة أُخرى من الشرك قلّما يُنظر إليها بعين الاهتمام، و إنّما تحوّلت إلى ظاهرة مألوفة، و هي طاعة أدعياء الزعامة الدينية الذين يُحرّمون حلال اللّه ويُحلّلون حرام اللّه في سبيل مصالحهم الذاتية. يقول أبو بصير: سألت الإمام الصادق عليه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ:

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ) (2) فقال: أما واللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم. ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم، و لكن أحَلّوا لهم حراماً و حرّموا عليهم حلالاً؛ فعبدوهم من حيث لايشعرون.(3) و جاء في حديث آخر: واللّه ما صلّوا لهم و لاصاموا، و لكنّهم أحَلّوا لهم حراماً و حرّموا عليهم حلالاً فاتبعوهم.(4) و جاء في حديث آخر أيضاً: إنهم أطاعوهم في معصية اللّه فكانوا أربابهم من دون اللّه.(5)

و لعل هذا السبب هو الذي حدا ببني أُميّة إلى منع الناس من تعلّم الشرك، لكي يتسنّى لهم فرض الشرك عليهم بسهولة. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال في وصف سياسة بني أُميّة إزاء علماء الدّين ما يلي: إنّ بني أُميّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان، و لم يطلقوا لهم تعليم الشرك، لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه.(6)

ص:79


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 86، ص 117.
2- - سورة التوبة (9)، الآية 31.
3- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 398، الحديث 7.
4- - البرقي، المحاسن، ص 246، الحديث 245.
5- الحُويزي، نور الثقلين، ج 2، ص 209، الحديث 114.
6- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 415-416، الحديث 1.

والشرك قد يكون في ذات اللّه؛ أي ان يتخذ من موجود شريكاً للّه، و قد يكون في صفاته؛ أي أن يرى للّه صفات هي ليست من ذاته و إنّما زائدة عليها. و قد يكون الشرك في الأفعال؛ أي جعل شرك للّه في أفعاله؛ أو قد يكون شركاً في العبادة؛ أي عبادة غير اللّه إلى جانب عبادة اللّه.

الكفر

الكفر في اللغة: بمعنى ستر الشيء، و وُصِف الليلُ بالكافر لستره الأشخاص، والزارع لستره البذر في الأرض.(1) والكفر في الواقع احتجاب عن الحق، وستر الحق. و في ضوء هذا المعنى سمّي جحود النعمة كفراناً.

الكفر اصطلاحاً: يعني إنكار العقيدة الحقّة و عدم الإيمان بها مع العلم بحقّانيّتها. و يعني إنكار ما يجب الإيمان به أو إنكار شيء ضروري من ضروريات الدّين، سواء أنكرها ابتداءً أم بَعد الإيمان بها، و هو ما يسمى بالردة أو الارتداد.

بما أنّ الدّين والتديّن يتحقق من خلال الاعتقاد بمجموعة من الأُصول، لهذا فالكفر هو إنكارها عناداً؛ أي أن يكون عن وعي و إرادة.

و باستثناء إنكار الأُصول الثلاثة و هي: التوحيد، والنبوّة، والمعاد، ينطبق معنى الكفر أيضاً على إنكار أمر ضروري من الدّين عن وعي و عناد، والاعتقاد بما يجب تنزيه اللّه عنه، كالقول: إن له شريكاً،(2) والقول، إنّ له ولداً، و تجريده من إحدى صفاته، و خاصة صفة الربوبية والهيمنة على الكَوْن.(3)

بما أنّ الكفر إنكار للعقيدة الحقّة عن قصد و إرادة، فهو ينم عن ظاهرة مرضية، و يعني أنّ الكافر إنسان مريض و متعصب ومُنكِر للحق. و هذا يدل على أنّ عقل الكافر لايسمح له بالتفكرُّ في حقائق الوجود و إدراك كُنهها: (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) .(4)

و

ص:80


1- - الراغب الاصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ص 714.
2- - سورة المائدة (5)، الآية 73.
3- سورة الرعد (13)، الآية 5.
4- - سورة الأعراف (7)، الآية 101.

نظراً إلى أنّ الكافر مُنكِر للحقيقة فقد وصفه اللّه بعمى القلب و عدم التعقّل: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) . (1) و إذا وصل الكافر إلى هذه المرحلة فلا جدوى من السعي لهدايته؛(2) لأنه كالحيوان الذي لايتناهى إلى سمعه من الكلام إلّاالأصوات، و لايعي من دعوة الحق إلّاهمهمة، و لذلك يتولّد في نفسه تدريجياً نفور من الحق،(3) و لايبقى ثمّة طريق لهدايته.(4)

إنّ ما سبق من الكلام ينطبق على من يختار الكفر عن وعي و إرادة و عناد، و أمّا الكفر الذي يأتي بسبب الجهل أو البيئة التربوية من غير إصرار و لا عناد فهو قابل للإصلاح.

و أبرز شاهد على ذلك، المُنكِرون الذين استجابوا لدعوة الأنبياء في ما بعد، و صاروا من أنصارهم والمؤمنين بهم.

من الطبيعي أنّ من يستر الحق عن قصد و إرادة، يفقد القدرة على إدراك الحقائق، و لاتكون لعمله أيَّة قيمة معنوية؛ لأَنَّ قيمة العمل تأتي من خلال النيّة، والكافر يفتقر إلى النيّة الخيّرة. و لهذا فقد شبّه اللّه عزّوجلّ في كتابه الكريم ما يفعله الكافر من عمل صالح - في الظاهر - بالسراب،(5) و شبهه في آية أُخرى برمادٍ تذروه الرياح.(6)

و على الرغم من أنّ الكافر في ضلال، غير أنّه يتمتع بنعم إلهية وفيرة. و هذه النعم تأتي طبعاً في سياق سُنّة من السنن الإلهية، و هي أنّ اللّه تعالى يمنح الرزق لجميع العباد، غير أنّ ذلك لايعني طبعاً أنّ اللّه يتركهم على حالهم أو أنهم في أمان من غضب اللّه،(7) و إنّما يمهلهم إلى أجل و لكن ليس فيه خير له،(8) ثم يواجهون غضب اللّه و يقعون في أشد العذاب.

ص:81


1- - سورة البقرة (2)، الآية 171.
2- - سورة البقرة (2)، الآية 6.
3- - سورة فاطر (35)، الآية 42.
4- سورة البقرة (2)، الآية 264.
5- سورة النور (24)، الآية 39.
6- سورة ابراهيم (14)، الآية 18.
7- - سورة البقرة (2)، الآية 126.
8- سورة آل عمران (3)، الآية 178.

اللّه

اشارة

اللّه اسم تكتنفه الأسرار، و لكن في الوقت ذاته رؤوف رحيم. و أكثر بني آدم يدركونه و يمدون أيديهم إليه بالدعاء والتضرّع. و كل واحد منهم يعرفه في حدود معلوماته و يتصوّره ضمن دائرة وعيه. وله أسماء مختلفة لدى كل شعب و قوم. و لايوجد في هذا العالم إلّاقليل من الناس لايعرفون اللّه.

الإيمان بوحدانيّة اللّه قوام كل الأديان السماوية. و كل معتقداتها مستمدّة من اللّه و منبثقة عنه. و يعود الإيمان باللّه في قِدَمِهِ إلى قِدَمِ وجود الإنسان. و قد كان أكثر الناس فوق الكرة الأرضية منذ بداية ظهور الخليقة إلى يومنا، يؤمنون باللّه و يعبدونه بشكل أو بآخر تبعاً للمجتمعات التي عاشوا فيها، و طبيعة نظرتها إلى مُبدىء الوجود وصفاته. لقد كانت غرائز العبودية للّه و مناجاته من أقدم و أدوم انطباعات الروح لدى الإنسان، و هي التي تدفعه نحو اللّه.

يتضح من خلال دراسة آثار الحياة البشرية أنّ الإنسان حيثما وجد كانت هناك عبادة لموجود يفوق الموجودات الأُخرى. و هذا يعني أنّ الأنبياء لم ينزلوا العبادة للناس وانّما علّموهم العبادة الصحيحة، و كيف ينبغي أن يُعبد اللّه، هذا إضافة إلى إزالة الشرك من أذهان الناس لكي لايُعبد إلى جانب اللّه موجود آخر.

والبرهان الساطع على هذه الحقيقة، هو القرآن الكريم الذي تحدّث عن عبادة اللّه، و نفي الشرك عنه بكل صورة وصيغة، أكثر ممّا تحدّث عن معرفة اللّه على أساس إثباته. و هذا الأُسلوب بحد ذاته يدلّ على أنّ وجود اللّه لايحتاج إلى إثبات، و أنّ الإنسان يعرف اللّه بالفطرة. ففطرة الإنسان تدلّه على وجود اللّه، إضافة إلى ما تمثّله من مصدر لمعرفة اللّه.

فالإنسان كان منذ البداية موحّداً و يعبد إلهاً واحداً. و أمّا ما ذكره التاريخ من اتخاذ الإنسان

ص:82

للأصنام والقمر والكواكب آلهة، و أشار إليه القرآن الكريم، فهو من الانحرافات التي وقعت في ما بَعد.

طرق معرفة اللّه

اشارة

وجود اللّه بديهي إلى درجة أنّه لايحتاج إلى إثبات. و قد عَمَّ كل الوجود بلطفه. و كل الوجود منبثق بفضل جوده و كرمه. و حيثما ينظر المرء يرى معالم وجوده بكل جلاء. و هو باسط ظله على الوجود كله، بل لايمكن تصور الوجود بدونه. و تدبيره مشهود في كل شيء بجلاء. فهل ثمة حاجة إلى دليل لإثبات وجود النهار؟ فوجود اللّه أسطع من ضوء النهار.

كل إنسان و حتى الطفل يرى أنّ لكل حادث علّة. و على هذا الأساس تراه يبحث عن أسباب و علل الأحداث والوقائع. والذين يعلمون بأن لكل ظاهرة علّة يحرصون عادة على البحث عنها. ولو كان الافتراض المسبق لديهم أنّ كل شيء يقع عن طريق الصدفة لَما توجهوا نحو الاكتشافات، و لكان عملهم في هذا المضمار عبثاً.

لاشكّ في أنّ مظاهر الخلق كلّما كانت أكثر تعقيداً و عظمة، دلّت على مدى عظمة و قدرة صانعها. و لهذا السبب فنحن نطلق تسمية الحكيم على خالق هذا الكَوْن الذي نعيش فيه و لانعرف إلّاشيئاً يسيراً عنه. فهذا الوجود على درجة من العظمة والتعقيد والنظم بحيث لايمكن أن يكون بلا خالق، أو يكون خالقه فاقداً للقدرة والحكمة. فإنّ ما كشفه علماء الأحياء والفلك و غيرهم حتى الآن لايكاد يمثّل إلّاشيئاً يسيراً من هذا الوجود، و لم يعرفوا من أسراره إلّاالقليل.

إنّ كتاب الطبيعة حافل بالأسرار، و لكن من المتعذّر على الإنسان كشفها و دراستها كلّها، غير أنّ الاطلاع عليها يفتح أمامه آفاقاً جديدة، و يدعوه إلى التأمل في ما تزخر به من تنوّع و دقّة و إتقان. فكيف يمكن القول: إنّ هذا حصل صدفة و من غير تدبير؟ و لهذا كان الرسل يسألون أقوامهم: (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ) . (1) فهذه لغة

ص:83


1- - سورة ابراهيم (14)، الآية 10.

معبّرة عن إدراك وجود اللّه، و هي لغة يفهمها كل بني الإنسان. و لهذا السبب استعملها الأنبياء.

فكل ما في هذا الكَوْن يُعتبر بمثابة دلائل على وجود خالق مدبّر: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) .(1)

إنّ ما جاء في القرآن من عبارات دالّة على أنّ مثل هذه الآيات لايعقلها إلّاذووالألباب، انّما يُراد به التنبيه إلى أنّ الآيات معروضة أمام جميع الناس، و لكن لايوفّق الجميع إلى الاستفادة منها، و إنّما يوفق البعض إلى الاهتداء بها، و لايهتدي بها غيرهم.

منهج الإمام الصادق عليه السلام في إثبات وجود اللّه

قال هشام بن الحكم: كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبداللّه عليه السلام، فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها، فقيل له: هو بمكّة فخرج الزنديق إلى مكّة و نحن مع أبي عبداللّه عليه السلام، فقاربنا الزنديق - و نحن مع أبي عبداللّه عليه السلام - في الطواف فضرب كتفه كتف أبي عبداللّه عليه السلام، فقال له جعفر عليه السلام: ما اسمك؟ قال: إسمي عبدالملك، قال: فما كنيتك؟ قال:

أبو عبداللّه، قال: فمن الملك الذي أنت له عبد، أمن ملوك السماء أم من ملوك الأرض؟ و أخبرني عن ابنك، أعبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ فسكت، فقال أبو عبداللّه عليه السلام: قل ما شئت تخصم. قال هشام بن الحكم، قلت للزنديق: أما ترد عليه؟ فقبّح قولي، فقال له أبوعبداللّه عليه السلام: إذا فرغت من الطواف فأتنا، فلمّا فرغ أبو عبداللّه عليه السلام أتاه الزنديق فقعد بين يديه و نحن مجتمعون عنده، فقال للزنديق: أتعلم أنَّ للأرض تحتاً و فوقاً؟ قال: نعم، قال:

فدخلت تحتها؟ قال: لا، قال: فما يدريك بما تحتها؟ قال: لا أدري إلّاأنّي أظنُّ أن ليس تحتها شيءٌ، قال أبو عبداللّه عليه السلام: فالظنُّ عجز ما لم تستيقن.

قال أبوعبداللّه عليه السلام: فصعدت إلى السماء؟ قال: لا، قال: فتدري ما فيها؟ قال: لا، قال فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما؟ قال: لا، قال: فعجباً لك لم تبلغ المشرق،

ص:84


1- سورة آل عمران (3)، الآية 190.

و لم تبلغ المغرب، و لم تنزل تحت الأرض، و لم تصعد إلى السماء، و لم تجز هنالك فتعرف ما خلقهن؟ و أنت جاحد ما فيهنَّ؟ و هل يجحد العاقل ما لايعرف؟ فقال الزنديق: ما كلّمني بهذا أحد غيرك، قال أبو عبداللّه عليه السلام: فأنت في شكّ من ذلك فلعلَّ هو، أو لعلَّ ليس هو، قال الزنديق: و لعلَّ ذاك: فقال أبو عبداللّه عليه السلام: أيّها الرجل ليس لمن لايعلم حجّة على من يعلم، فلا حجّة للجاهل، يا أخا أهل مصر تفهَّم عنّي فإنّا لانشكُّ في اللّه أبداً، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان و لايشتبهان، يذهبان و لايرجعان قد اضطرا، ليس لهما مكان إلّا مكانهما؟ فإن كانا يقدران على أن يذهبا و لايرجعان فَلِمَ يرجعان؟ و إن لم يكونا مضطرّين فَلِمَ لايصير اللّيل نهاراً والنهار ليلاً؟ اضطُرّا واللّه يا أخا أهل مصر إلى دوامهما، والذي اضطرَّهما أحكم منهما و أكبر منهما، قال الزنديق: صدقت.

ثمَّ قال أبو عبداللّه عليه السلام: يا أخا أهل مصر الذي تذهبون إليه وتظنّونه بالوهم، فإن كان الدهر يذهب بهم لِمَ لايردُّهم؟ و إن كان يردُّهم لِمَ لايذهب بهم؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر، السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، لم لاتسقط السماء على الأرض؟ و لم لاتنحدر الأرض فوق طاقتها فلا يتماسكان و لايتماسك من عليهما؟ فقال الزنديق: أمسكهما واللّه ربّهما وسيّدهما، فآمن الزنديق على يدي أبي عبداللّه عليه السلام. فقال له حمران بن أعين: جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يديك فقد آمنت الكفّار على يدي أبيك. فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبداللّه عليه السلام: اجعلني من تلامذتك. فقال أبو عبداللّه عليه السلام لهشام بن الحكم:

خذه إليك فعلّمه. فعلّمه هشام فكان معلّم أهل مصر و أهل الشام، و حسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبداللّه عليه السلام.(1)

الإنسان، آية اللّه

لو نظر الإنسان إلى الطعام الذي يتناوله يومياً لأدرك بأنه و ما فيه من فائدة و تنوّع مخلوق خالق حكيم. فالطعام خلق بشكل يلبّي متطلّبات كل أعضاء البدن من العظم

ص:85


1- الصدوق، التوحيد، ص 293-295، الحديث 4.

واللحم والشعر والأوردة والجلد والدهون و غير ذلك. و من غير الممكن أن يكون هذا قد خلق بغير تدبير. (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ * أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا * وَ عِنَباً وَ قَضْباً * وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً * وَ حَدائِقَ غُلْباً * وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا * مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ) .(1)

و قد خُلق الناس بشكل يتكيّفون به مع البيئة المحيطة بهم. و قدرة و طاقة بدن الإنسان و روحه متناسبتان مع الأوضاع المختلفة و يعتريهما ضعف و قوّة و يتغيّران بالإمكانيات المتاحة في عالم الطبيعة، فيزول ما يلمّ بهما من ضعف. و جُعلت في البدن أجهزة قادرة على الكشف عن تلك المخاطر المحتملة. و هناك مؤشّرات تبيّن ما يلمّ بالبدن من اضطراب في نظمه الكلّي. فالحرارة والبرودة والسُعال و ما شابه ذلك هي بمثابة تحذيرات تُطلق للإنسان لمعرفة الأخطار المحتملة والسعي إلى التخلّص منها. و كل هذا النظم ينم عن صانع حكيم.

الإنسان مظهر للعالم الذي يعيش فيه. و يمكن القول أنه هو العالم الأكبر. فكل ما في هذا العالم قد أودع فيه بنحوٍ ما. و لهذا فإنَّ معرفة الإنسان تؤدّي إلى معرفة خالقه. (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) .

الإنسان يحتاج إلى النوم لمواصلة الحياة، و عليه أن يرتاح. ثم أنه يستيقظ من بعد النوم، (وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) .(2)

الإنسان يتكلم بقطعة لحم و حنجرة من اللحم،(3) و خلقت له من ذلك البدن نفسه أذن سامعة و عين باصرة.(4) و حسب تعبير أميرالمؤمنين عليه السلام: «اعْجَبُوا لِهَذَا الْإِنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْمٍ وَ يَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ وَ يَسْمَعُ بِعَظْمٍ وَ يَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ».(5) و رغم ان الإنسان مخلوق من طين و تراب غير أنه خلق بجسم و صورة متناسقة،(6) و جُعل الناس على صور و أشكال شتّى، و صارت لهم لغات مختلفة.(7) و أودعت في البدن قوى و طاقات مدهشة

ص:86


1- سورة عبس (80)، الآيات 24-32.
2- سورة النبأ (78)، الآية 9.
3- - سورة الرحمن (55)، الآيتان 3 و 4؛ سورة البلد (90)، الآية 9.
4- - سورة الأنعام (6)، الآية 46.
5- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 8، ص 470.
6- - سورة الكهف (18)، الآية 37.
7- - سورة الروم (30)، الآية 22.

مُحيّرة للعقول. فهذا المخلوق العجيب يدل بحد ذاته و بلا أي دليل آخر، على وجود خالق مدبّر.

نفي الصدفة

ربّما يُحمل كل ما في هذا الوجود من أُمور كثيرة على أنها جاءت حصيلة لصدفة، او أنها ظهرت فجأة و بدون تدبير سابق، و لكن لو كان الأمر كذلك كيف يمكن تجاهل الحقائق والنظم المشهود في تدبيرها؟ و كيف حصل كل ذلك؟ و من أين نشأت هذه الأشياء؟ هل يمكن إنكار أو تجاهل كل ذلك؟ أم نعتبر ذلك كُلّه حصل مصادفة و في توافق عجيب من غير أن يكون له صانع و مدبّر، و نؤمن بأنَّ كل شيء جاء من غير مادّة وصورة سابقة؟ و هل يُصدّق أنّ الوجود بكل عظمته قد حصل بلا صانع؟ و كل شيء فيه يسير في اتجاه مرسوم له ولتحقيق هدف معيّن، من غير أن يكون هناك مهندس وضع له تصميمه وهندسته؟ و هل يصدق أحد أنّ طائرة مثلاً تُصنع من غير هندسة وتصاميم وتطير في الهواء وتقطع المسافات و تنقل الركّاب؟ و هل يصدّق أحد أنّ البواخر التي تمخر عباب البحار والمحيطات ظهرت من تلقاء ذاتها و أنها تسير من غير ربّان، و تعرف من تلقاء ذاتها الموانىء التي يجب أن ترسي فيها و تحمل البضائع والركَّاب و تنقلهم حيث ما ينبغي نقلهم؟ و هل يتقبّل العقل أنّ موجودات عجيبة و معقّدة كالإنسان ظهرت إلى الوجود ذاتياً و لم يكن لها خالق و مدبّر؟ كيف يمكن القبول بأنّ عالماً بهذه العظمة، من تنوّع الموجودات، يظهر إلى الوجود و يسير ملايين السنوات في مدار صحيح، و يتدبّر أمره من غير وجود مدبّر حكيم؟

معرفة اللّه أمر فطري

تمثّل أعمال و تصرفات كل إنسان مظهراً لمعرفته و ميوله الباطنية. و نحن نستطيع أن نعرف من خلال تصرف كل إنسان و طريقة تعامله و نمط معيشته، عقيدته و أهدافه. كما أنّ الآثار المتبقية من الإنسان القديم، تقدّم لنا دليلاً قاطعاً على أنّ الإنسان كانت له ميول بالإضافة إلى حاجته للمتطلبات المادية من قبيل الماء والنوم والتعليم و غير ذلك حاجات

ص:87

معنوية أيضاً، و هذه الميول كانت من الدوافع التي تدفعه للقيام بفعاليّاته. فالحضارات انعكاس لمتطلبات البشر المادية والمعنوية. و هناك علامات و آثار مستفيضة من الأُمم الماضية تدلّ على أنّ المجتمع البشري كان مولعاً بذات مقدّسةٍ غير متناهية و كان يعبدها، و ظهور الحضارات يؤيّد هذا الأمر. و هذا الميل الباطني موجود عند الانسان المعاصر أيضاً، و هو مجبول عليه بصورة ذاتية و من دون أيِّ تعليم، و على الرغم من أنّ هذا الميل الباطني قد يتضاءل بمرور الزمن، بتأثير الاحتياجات المتنوعة، أو قد يشبع الإنسان هذا الميل الباطني لديه بالتوجّه إلى رموز غير واقعية.

وجود اللّه واحد من هذه الميول والتوجُّهات الباطنية. والفطرة السليمة تذعن بوجود ذات غير متناهية حكيمة و مقدّسة ذات قدرة و علم كامل. وخير مثال على هذا ما جاء في القرآن الحكيم: (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ) (1) و كذلك الأمر بالنسبة إلى خلق العالم (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) .(2)

تكشف الحوادث العصيبة والمآزق والمخاطر التي يتعرض لها الإنسان عن هذا الميل الباطني بوضوح. و توجد في القرآن الكريم آيات متعددة تحكي لسان حال أُناس أُحيط بهم في وسط البحر الهائج المتلاطم الأمواج، و قد أشرفوا على الغرق و ليست لديهم أية وسيلة للنجاة؛ في تلك الحال يُظهِر هؤلاء ما يكمن في صدورهم و يطلبون الغوث والنجاة من اللّه العظيم. كما جاء في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ) .(3)

الفطرة: عبارة عن مجموعة من الخصائص التي ولدت مع الإنسان منذ بدء الخليقة. في أعماق كل إنسان هناك توجهات إلى المعارف والاعتقادات والميول أرقى من تلك الموجودة عند المخلوقات الأُخرى، من قبيل حُبّ الخير والفضيلة، والانشداد إلى الكمال،

ص:88


1- - سورة الزخرف (43)، الآية 87.
2- سورة الزخرف (43)، الآية 9.
3- سورة يونس (10)، الآية 22.

والميل إلى الحبّ والعبادة. و هذه نماذج من الفطرة الإنسانية هي التي تشكل أساس القيم الإنسانية؛ حيث تتيح هذه القيم للإنسان إمكانية الإستعانة بهذه الهداية الباطنية - طالما لم يستحوذ عليه الكفر والشرك، والضلال ورَيْن الذنوب - للسير نحو السعادة والفوز. و من ضمن الميول الفطرية عند الإنسان التوجه إلى اللّه و عبادته. و معرفة اللّه الفطرية تعني: أنّ كل إنسان و حسب تكوينه الوجودي يعرف اللّه من غير تعليم. و هذا الأمر لاينبثق من فهم عقلي بل منشؤه القلب والرغبة والميل الباطني.

نزعة الانشداد إلى اللّه أمر فطري مغروس في وجود الإنسان، و هو نوع من الانجذاب المعنوي، يعني أن الإنسان جبل على نحو لايستغني معه عن العبادة. و لهذا ترى أنّ جميع الناس يمارسون العبادة بشكل أو آخر. و هذا يدلّ على أن العبادة جزء من الفطرة البشرية، أي إنَّ البشر - بالفطرة - له ميل ورغبة في التقرّب إلى شيء مقدس و منزّه و عظيم. و هذا الميل موجود عند جميع البشر.

عندما ندقق في الحالات النفسيّة للإنسان ندرك أنّه محب للحُسن والكمال، و هو لايقف عند حدٍّ معيّن أو محدود في حبّه للكمال. بل يتطلع الى أعلى مراتب الكمال؛ لأنّه مولع بالكمال المطلق و لايكتفي بالمرتبة التي يصل إليها.

إنّ الإنسان و بحسب تكوينه الروحي الخاص خُلق مجبولاً على البحث عن اللّه.

الرغبة إلى اللّه و عبادة اللّه مغروستان في ذات الإنسان فطريّاً، وهما تمثّلان نوعاً من الانجذاب المعنوي بين قطبين هما: قلب الإنسان و مشاعره من جهة، و مركز الوجود (أي المبدأ الأعلى والكمال المطلق) من جهة أُخرى.

في سريرة و فطرة كل إنسان هناك ميل إلى اللّه، مثلما توجد المعرفة الحضوريّة التي لاتحتاج إلى واسطة بالنسبة لذاته المقدّسة، أي إنّ الإنسان - و بدون تعلُّم - يستشعر في عمق باطنه و بصورة جليّة بأنه مشدود إلى وجود متعالٍ كاملٍ قائمٍ بذاته، و أنه يصل إلى الرشد والمعرفة والكمال تحت علم و تدبير و ربوبيّة ذلك الوجود المتعالي، و هذه هي أوّل مرحلةٍ من مراحل الهداية التي غرست تكوينياً في سريرة الإنسان. وتُعتبر هذه المرحلة من مراحل الهداية الإجمالية. حيث إن الهداية التفصيلية يمكن إدراكها عن طريق العقل

ص:89

والشرع. و ذلك لأنَّ أي ميل يستلزم وجود نوع من التوجّه والعلم بالنسبة للشيء الذي يميل إليه.

عندما يكون هناك شعور باطني لدى الإنسان بالميل إلى اللّه، فلابّد أن تكون لديه معرفة به، و إلّافلا يمكن أن يكون هناك ميل إلى مجهولٍ مطلق، و لايمكن أن يميل الإنسان إلى شيء ليس لديه أيُّ علم به.

هذه النزعة الذاتية لدى الإنسان تتجلى بشكل أوضح في الشدائد والظروف العصيبة، مثلما هو الحال بالنسبة إلى من يركبون سفينة و يأتيها الطوفان فيدعون اللّه عن إخلاص و يطلبون منه النجاة (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) . (1)(وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) .(2)

صفات اللّه

اشارة

للّه صفات و أفعال يمكن للبشر معرفتها، و إن كانت هذه المعرفة معرفة محدودة. طبعاً ذات اللّه لايمكن معرفتها، و لكن صفاته و أفعاله المتجسّدة في هذا العالم، يمكننا فهمها و معرفتها.

يروي عبدالرحيم بن عتيك القصير: كتبتُ على يدي عبدالملك بن أعين إلى أبي عبداللّه عليه السلام: «أنّ قوماً بالعراق يصفون اللّه بالصورة و بالتخطيط، فإن رأيت - جعلني اللّه فداك - أن تكتب إلي بالمذهب الصحيح من التوحيد. فكتب إلي: سألت - رحمك اللّه عن التوحيد و ما ذهب إليه من قِبَلَك، فتعالى اللّه الذي ليس كمثله شيء و هو السميع البصير، تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبّهون اللّه بخلقه المفترون على اللّه، فاعلم - رحمك اللّه - أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه جلّ وعزّ، فانف عن اللّه تعالى البطلان والتشبيه، فلا نفي و لاتشبيه».(3)

إنّ أفضل طريق لمعرفة صفات اللّه، هو الرجوع إلى المصادر الدينية. و مع أنّ اللّه هو

ص:90


1- - سورة العنكبوت (29)، الآية 65.
2- سورة لقمان (31)، الآية 32.
3- الكليني، الكافي، ج 1، ص 100، الحديث 1.

مصدر لكل صفات الكمال، و لكن لايحق لأيِّ أحد أن يصفه بما يشاء من الصفات.

يوصف اللّه سبحانه بنوعين من الصفات: الصفات السلبية والصفات الثبوتية.

الصفات السلبية أو الجلالية: و هي الصفات التي يتنزّه عنها اللّه و لايتّصف بها، كأن يكون ممكن الرؤية أو أن يكون جسماً، أو أن يتّصف بالجهل أو أن يحتاج إلى النوم والطعام، أو أن يكون موضعاً للحوادث و....

الصفات الثبوتية أو الجمالية: و هي الصفات المعبّرة عن كمال اللّه، و يمكن أن نجمع بين هذين النوعين من الصفات (السلبية والثبوتية) فنقول: إنَّ اللّه جامع لكل الكمالات، و لذا فلا نقص و لاعيب فيه.

و هناك تقسيم آخر لصفات اللّه، و هي أن تُقسّم إلى ذاتية و فعليّة.

الصفات الذاتية: و هي الصفات المرتبطة بذات اللّه والمختصة بها و لاتقبل الإنفكاك عنها، مثل العلم والقدرة والحياة.

الصفات الفعلية: و هي الصفات المرتبطة بأفعال اللّه، و هي الصفات المنتزعة من فعل اللّه، والتي قد انتُزعت من موضوع الفعل. و بالطبع فإنَّ جميع صفات اللّه عين ذاته و لاتلحق به من الخارج.

والاختلاف بين هذين القسمين من الصفات، هو أنّ الصفات الذاتية هي دائماً عين ذاته، والصفات الفعلية منبثقة من الذات أيضاً، و لكنَّها متوقفة على تحقُّق الفعل في الخارج مثل الخالقية والرازقية و....

يتّصف اللّه بجميع صفات الكمال و ليس فيه أيُّ نقص: فوجود أي نوع من النقص أو عدم وجود الكمالات اللازمة في اللّه، يعني أنه لايتّصف بالصفات اللازمة لأن يكون إلهاً، والحال أنّه إله، إذاً فهو يتّصف بجميع صفات الكمال.

قرب اللّه

بسبب الوجود غير المتناهي للّه، فهو حاضر في كل مكان، و لايمكن أن ننسب له نسبة

ص:91

القرب أو البعد (وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) . (1) و لذا فإنّ الآيات والروايات التي تحثّ على السعي للتقرُّب إلى اللّه جاءت لتحثّ الإنسان على السعي ليكون محبوباً عند اللّه و حبيباً له. و أن يشعر بأنّه قريب إلى اللّه و في رعايته، و إلّافإن الجميع خاضعون لسنن ربِّ العالمين و تحت نظره.

جاء في روايةٍ أن معنى الآية (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (2) هو أنّ اللّه قريب من جميع الموجودات على حدٍّ سواء، و هذا يعني أن قربه جلَّ وعلا من شيء لايعني بعده عن شيء آخر. ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: إستوى من كل شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء.(3)

و قال عليه السلام: استوى في كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء لم يبعد منه بعيد و لم يقرب منه قريب. استوى في كل شيء.(4)

عدم رؤية اللّه

يشير القرآن بصراحة إلى أنَّ اللّه لايُرى (ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) .(5)

للإنسان بُعدان: مادي و معنوي. و في وجود الإنسان ميول غير مادية أيضاً، و لكن بما أنّ البشر بالدرجة الأُولى مولود عالم الطبيعة و هو مستأنس بها، لذا فإن ميله إلى المظاهر الطبيعية أكثر و أقوى. فهو يقبل بسهولة الأشياء المحسوسة والمرئية والخاضعة للتجربة، أمّا الأُمور غير المحسوسة والتي يحتاج إثباتها إلى برهان و دليل فإن قبولها يكون بصعوبة و بعد تردد و تأمّل.

مع أنّ البشر باحث عن اللّه فطرياً، و يؤمن بقوى ما وراء الطبيعة والغيب، و لكنّه يسعى

ص:92


1- - سورة ق (50)، الآية 16.
2- - سورة طه (20)، الآية 5.
3- الكليني، الكافي، ج 1، ص 128، الحديث 7.
4- الكليني، الكافي، ج 1، ص 128، الحديث 8.
5- سورة الأنعام (6)، الآيتان 102 و 103.

إلى أن يُبدّلها إلى رموز طبيعية. و لهذا فقد اصطنع لنفسه أشكالاً من الخشب والحجر والمواد الطبيعية و أخذ يقدّسها. إنّ قيام الإنسان بهذا العمل نابع من هذه الذات التي فيه والتي تبحث - بطبيعتها - عن الكمال والتعالي. فهو يُحب أن يكون له ربٌّ جليل و أن يعبده، و في الوقت نفسه يستطيع الوصول إليه والإحساس به...

النزعة الحسية عند الإنسان دفعته إلى اتخاذ أشياء طبيعية كمظاهر ترمز الى قوى ما وراء الطبيعة. و قد أدّى المزج بين هذه النوازع الذاتية الجامحة و مظاهر الطبيعة إلى ظهور الشرك. و يعود سبب ذلك طبعاً إلى رغبته في رؤية الأشياء التي يرغب فيها و يميل إليها.

و هو يحمل مثل هذا التصوّر عن اللّه أيضاً؛ إذ يَظنّه مرئياً و ملموساً و حسيّاً.

ذكر اللّه عزّوجلّ عن بني اسرائيل أنهم قد شاهدوا معجزات كثيرة على يد النبيّ موسى عليه السلام، غير أنّهم رغم كل ذلك طلبوا منه أن يريهم اللّه (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) . (1) و جاء في قسم آخر من قصّتهم بأنهم ما إن أنجاهم اللّه من ظلم آل فرعون، و فلق لهم البحر ليعبروه، و أهلك من لاحقوهم، وقعت أبصارهم على قوم كانوا يعبدون الأصنام، فاستهواهم ذلك العمل و طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً مثل إله هؤلاء القوم: (وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) .(2)

عند الحديث عن عدم القدرة على رؤية اللّه أو بعبارة أُخرى: لماذا لم يكن اللّه مرئياً؟ لابُدّ من أخذ عدة ملاحظات بنظر الاعتبار:

1 - أن إدراك الإنسان محدود. فالعين تستطيع رؤية الأجسام في ظروف معيّنة كأن تكون على درجة معيّنة من الوضوح والقرب والحجم. فالأجسام الصغيرة لايمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، و كذلك الأشياء البعيدة والأشياء التي لم تُخلق بَعد. فلابّد إذاً من توفّر بعض الشروط لرؤية أو لمس أو سماع أو شمّ الأشياء. و من غير المنطقي إنكار وجودها بسبب عدم توفر الظروف المناسبة، أو عدم مقدرة الحواس على أن تقوم بدورها، أو بسبب

ص:93


1- - سورة النساء (4)، الآية 153.
2- سورة الأعراف (7)، الآية 138.

وجودها خارج نطاق الحواس.

الحواس أشبه شيء في عملها بشبكة صيد الأسماك. فشبكة الصيد تستطيع صيد الأسماك في ظروف معيّنة، كأن تتصف بالقدرة على صيد أسماك بأحجام مختلفة، و أن تكون هناك أسماك في متناولها. فحتى أفضل الشباك لاتستطيع صيد سمكة واحدة في البر.

أو إذا أُلقيت في البحر شبكة كثيرة الشقوق فهي أيضاً لاتصيد سمكاً. فهل يمكن في مثل هذه الظروف الجزم بعدم وجود السمك. فانعدام التناسب المنطقي بين الأشياء و بالنتيجة عدم الترابط الصحيح بينها لايعدُّ دليلاً على عدم الوجود.

2 - كلُّ حاسة من حواس الإنسان تعمل ضمن النطاق الخاص بها. و من العبث ان يُرتجى منها ما هو ابعد من ذلك. والحواس تستطيع إدراك الأُمور المادية فحسب. واللّه ليس مادة.

3 - الحواس مجرّد وسائل، و أمّا مهمّة تحليل المعلومات التي تأتي عن طريق الحواس، فهي من واجب النفس. فالمعلومات القادمة عن طريق العين تنعكس في الذهن وبَعد ذلك تحصل عملية الرؤية و يتحقق الإدراك. إذاً فالحواس مقدّمة لعمل الذهن.

4 - هناك كائنات كثيرة في هذا الوجود لايراها الإنسان و لكنّه في الوقت ذاته يوقن بوجودها، كالهواء، والجاذبية، والمجال المغناطيسي، والتيار الكهربائي، والعواطف، والمحبّة، والعداوة، والحقد، والحسد، والعقل و غيرها، و لكن لايمكن لمسها أو رؤيتها أو تذوّقها و ما إلى ذلك. و إنّما يُفهم وجودها من خلال معطياتها و نتائجها.

5 - إضافة إلى الحواس الظاهرية يتمتّع الإنسان بحواس أُخرى أيضاً. و مثلما ندرك المحسوسات بالعين المجرّدة، نستطيع استشعار الأُمور غير المحسوسة بالحواس الباطنية.

نذكر من ذلك مثلاً أننا نستطيع إدراك بعض الحقائق عن طريق القلب إذا طهُر من اقتراف الذنوب. قال يعقوب بن إسحاق: كتبتُ إلى أبي عبداللّه عليه السلام أسأله كيف يعبد العبد ربّه و هو لايراه؟! فوقّع عليه السلام: يا أبايوسف! جلّ سيدي و مولاي والمنعم عليَّ و على آبائي، أن يُرى. قال: و سألته هل رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ربّه؟ فوقّع عليه السلام: إن اللّه تبارك و تعالى أرى

ص:94

رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب.(1)

و جاء في رواية أُخرى أنّ رجلاً من الخوارج دخل على الإمام الباقر عليه السلام فقال له: يا أباجعفر، أيَّ شيء تعبد؟ قال: اللّه، قال: رأيته؟ قال: لم تره العيون بمشاهدة العيان، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لايعرف بالقياس، و لايدرك بالحواس، و لايشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لايجور في حُكْمه، ذلك اللّه لا إله إلّاهو. قال: فخرج الرجل و هو يقول: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.(2)

(3)

و روي أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: جاء حبر إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال:

يا أميرالمؤمنين، هل رأيت ربَّك حين عبدته؟ فقال: ويلك، ما كنت أعبد ربّاً لم أره. قال:

و كيف رأيته؟ قال: ويلك، لاتدركه العيون في مشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.(4)

قدرة اللّه

القدرة: هي استطاعة فعل شيء أو تركه. والباري تعالى يتحلّى بمثل هذه الصفة. و هي فيه على درجة من الوضوح بحيث لاتحتاج إلى إثبات؛ فاللّه كُلّه علم و قدرة. والآثار التي تدل الإنسان على وجود اللّه تدلّه أيضاً على قدرته. و هو تعالى خالق العالم، والخالق لايمكنه أن يخلق بلا قدرة. هذا من جانب، و من جانب آخر، إن لم يكن اللّه قادراً فمعنى ذلك أنه ناقص و يفتقد الكمال.

في مخلوقات اللّه عجائب دالّة على أنّ لخالقها قدرة تفوق القدرة العادية. فهو ذو قدرة بحيث أنّه يستطيع فعل كل شيء: (إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) .(5)

و رغم أنّ القدرة الإلهية مطلقة غير أنّها قد لاتتعلق ببعض الأُمور. فالمفاهيم التي نعرفها تُقسم من حيث تعلّق القدرة إلى عدّة أنواع: فهناك أشياء يمكن القيام بها بسهولة، و فعلها

ص:95


1- الصدوق، التوحيد، ص 108، الحديث 2.
2- سورة الأنعام (6)، الآية 124.
3- الصدوق، التوحيد، ص 108، الحديث 5.
4- المصدر السابق، ص 109، الحديث 6.
5- سورة البقرة (2)، الآية 148.

يتوقف على التناسب بين صاحب القدرة و ذلك الشيء. فالشخص العادي يستطيع حمل وزن عادي في الظروف الاعتيادية، و لكن هناك أشياء تفوق قدرته كأن يتكوّن الوزن من عدّة أطنان.

و هناك أشياء لايمكن وقوعها؛ بمعنى أنها ذاتياً غير قابلة للتحقق. جاء في رواية أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام سُئل: هل يقدر ربُّك على أن يُدخل الدنيا في بيضة دون أن يصغّر الدنيا أو يكبّر البيضة؟ فقال: ويلك إنّ اللّه لايوصف بالعجز والذي سألتني لايكون.(1)

علم اللّه

اللّه عليم مطلق: (وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ) . (2) و هو تعالى يعلم بالمخلوقات قبل خلقها و بَعده. و علمه لايقتصر على ما هو ظاهر من أُمور العالم، و إنّما لديه علم تام بما هو خاف منها أيضاً: (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) .(3)

إنّ إحاطة اللّه بكلّ شيء و علمه المطلق، يعني أنه لاتخفى عليه خافية. فهو في كل مكان و قبل كل شيء. و ما يُعتبر غيباً بالنسبة لنا إنّما هو مكشوف عند اللّه، و هو محيط بتفاصيل كل شيء و إلّافإنّه إن لم يكن كذلك يوصف بالجهل. و هذا طبعاً يتعارض مع كماله.

و نسبته إلى الأشياء متساوية، و علم الغيب والشهادة عنده سبحانه على حدّ سواء.

(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) .(4)

عدل اللّه

العدل: هو وضع كل شيء في موضعه المناسب. والقاضي إذا حكم بإعطاء صاحب الحق حقّه يوصف حُكْمه بالعدل؛ لأنه جعل الحق في موضعه المناسب. والعدالة التي تشترط في إمام الجماعة من اجتناب الكبائر و عدم الإصرار على الصغائر، تنطوي على هذه الحقيقة

ص:96


1- الصدوق، التوحيد، ص 130، الحديث 10؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 4، ص 143.
2- - سورة البقرة (2)، الآية 282.
3- سورة البقرة (2)، الآية 33.
4- سورة سبأ (34)، الآية 3.

أيضاً. و ذلك لأنَّ المعصية خروج عن المسار الذي رسمه اللّه. و في ضوء التعريف السابق للعدالة، فإنّ اللّه عزّوجلّ عادل. و هو يفعل العدل في حُكْمه بين الناس: (وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) .(1)

لصفة العدل أهمّية تفوق سائر صفات اللّه، لسببين:

1 - أن كان كل شيء في الكَوْن من فعل اللّه، و هو الذي يخلق أفعال الناس، فلماذا يحاسبهم عليها؟ فما توجيه ما وعد به من شديد العذاب و ما علاقة ذلك بعدله؟ و هل من المعقول أن يجبر اللّه الناس على الظلم والقبائح، و يخلقهم بالشكل الذي يجعلهم يرتكبون هذه الآثام ثم يحاسبهم عليها؟.

2 - هناك تفاوت بين الناس لايمكن إنكاره، من حيث تكوينهم الجسمي و من حيث وضعهم المعاشي. فالبعض مصاب بعاهات جسدية و آخرون يعانون من آلام و مصاعب، و قسم من الناس يموت مبكّراً، والبعض يقع تحت تسلط الظلمة والجبابرة فلا يهنأ في حياته و لايتذوق طعم السعادة. فلماذا خلق اللّه هذه الحالات؟ فكيف تجتمع العاهات والشقاء والظلم مع العدل؟ فلو كان هناك موجود آخر غير اللّه يخلق الشرور والقبائح فذلك يستلزم الشرك و نسبة النقص إلى اللّه، و إن كان اللّه تعالى هو الذي خلقها وارتضاها فهذا لايتماشى مع عدله، و لابُدّ أن يكون ناجماً عن نقص فيه.

فهاتان القضيّتان جعلتا صفة العدالة عند اللّه تختلف عن سائر صفاته، الأمر الذي أدّى في النهاية الى وقوع جدل بين المسلمين حول عدل اللّه.

أمّا بالنسبة إلى القضية الأُولى: فلاشكّ في أنّ اللّه هو خالق كل شيء، و من ذلك أنّه هو خالق الإنسان و فعل الإنسان. فهو تعالى السبب الأساسي لكلّ حادثة و لكل موجود، و لكن الناس لديهم أيضاً قدرة على التصميم والإرادة، وهم يفعلون أفعالاً حسنة أو قبيحة بإرادتهم؛ و بذلك يسجّلون لأنفسهم بأيديهم مصيراً حسناً أو سيّئاً.

لقد خلق اللّه الإنسان حرّاً و أودع فيه حريّة الاختيار، لكي يختار بإرادته الحق أو

ص:97


1- سورة آل عمران (3)، الآية 182.

الباطل. و على هذا، فإنّ اقتراف القبائح إنّما هو من فعل الناس أنفسهم، و يقومون به بإرادتهم وهم مسؤولون عن عملهم. و طالما كان الأمر كذلك، يتضح أنّ ثواب المحسنين وعقاب المسيئين أمر منطقي و موجّه. و هذا أقل ما يرتجى من إلهٍ حكيم و عادل. فاللّه لايجبر أحداً على فعل، لكي لايبدو عمله قبيحاً فيما لو عاقب أحداً على سوء فعله.

إذا ارتكب الإنسان المعاصي، واقترف فسقاً و فجوراً، وهضم حقوق الآخرين و ظلمهم من جهة، و قام بأعمال حسنة من جهة أُخرى، كأن قام بمساعدة المحتاجين و بادر إلى فعل الخيرات، فان أُخذت هذه الأعمال على حدٍّ سواء و لم يُجاز على الحُسن و على القبيح من أفعاله، فإنّ هذا الحال لايتناسب مع عدل اللّه و لاينسجم مع حِكمته. فَهل من العدل أن يستوي من يفعل السيئات و يظلم مع من يفعل الخيرات ويُحسن؟ و هل يستوي المحسنون والمسيئون؟ و هل من الحكمة أن يتساوى من يتحمّلون المشقّة و يؤدون ما عليهم من تكاليف و فرائض و يجتنبون اللذائذ المحرّمة، مع المتهتّكين والظلمة والفُسّاق؟ العقل يحكم بأنَّ مثل هذا التساوي بعيد عن العقل والحكمة.

و أمّا بالنسبة إلى القضية الثانية: فإنّ ما يعانيه البعض من عاهات و ما يقع لبعضهم الآخر من موت مبكّر، و ما يوجد بين الناس من تفاوت في القدرات والمؤهّلات و ما شابه ذلك، فهي أُمور تعود إلى ما يقع في العالم من وقائع وتغيّرات. إنّ اللّه هو المصدر الأساسي لكل التحوّلات والأحداث في العالم، و لكنّ هذه التحوّلات تقع ضمن قواعد وسنن. أي أنّ اللّه خلق العالم ليسير في إطار مجموعة من الأسباب والمسبّبات. فكل علّة تنتج معلولها حسب مقتضياتها. فإن تَمّت الظروف والمقتضيات يأتي المعلول تاماً و متناسباً مع علّته، و إلّافإنّه يأتي ناقصاً. فالعاهات البدنية، والموت المبكر، والآلام والأمراض، والمعاناة، تأتي كلها نتيجة لتفاعل عوامل طبيعيّة، و قد جُعلت العوامل الطبيعية في نظام الخلقة لتقدّم معطياتها بشكل شمولي، و عند التعارض مع بعضها يتضرّر المعلول بالعامل الغالب و يحصل النقص.

و علاوة على ذلك، فإنّ ما يعطيه اللّه فهو من جوده و فضله. والإكثار أو الإقلال في العطاء للبعض خاضع لمدى استيعابهم و للظروف المحيطة بهم. و ما يقع لبعض الناس من

ص:98

مساوىء لايُعزى إلى اللّه، و إنّما إلى الظروف التي يعيشون فيها.

و خلاصة الكلام هي أنّ العدل يصدق حيثما يكون لأحد حق و يجب أداء حقّه له، و إذا لم يُعط فهذا ظلم و عدم التزام بالعدل. إنّ الباري عزّوجلّ حينما يُعطي الناس إنّما يعطيهم بجوده و فضله. و هذا يعني أنّ ما لدى الأفراد و ما يفتقرون إليه غير ناجم عن عدم عدل اللّه و إنّما سببه شيء آخر.

التوحيد

اشارة

التوحيد: هو الاعتقاد بوجود مبدأ واحد لهذا الكَوْن. ويُطلق هذا الاصطلاح على اللّه وحده دون سواه، للدلالة على ماله من وجود أزلي و أبدي و أنه لا شريك له و لا هو مركب لا من حيث الذات و لا من حيث الصفات، و يتّصف بالعلم المطلق والكمال المطلق. و لايمكن تصوّر أيِّ نوع من الارتباط والاحتياج بشأنه. و هو عبارة عن ذاتٍ حاوية لكل الكمالات.

و هو مدبّر عالم الوجود، و بإرادته وتقديره ظهرت الموجودات، و هي تسير في نظام متناسق وفقاً لمشيئته.

و يقع في مقابل التوحيد، الشرك. و للشرك مظاهره التي منها الثنوية والتثليث، و تعدد الآلهة. فالثنوية ترى أنّ للوجود مبدأين: مبدء الخير و مبدء الشر. أمّا التثليث فيؤمن بأنَّ مبدأ الوجود واحد، و لكنّه في الوقت ذاته ثلاثة، و أنّ الأقانيم الإلهية ثلاثة، و لكل واحد منها مرتبة الإله، و أنّ الأب والإبن و روح القدس هم اللّه. و مع أنهم يقولون إنّا نعتقد بجوهر واحد لا أكثر، و لكنّ قولهم هذا يستدعي القول بالكثرة العددية للّه. و كان هناك أقوام يعتقدون بوجود آلهة بعدد أنواع الكائنات و كانوا يعبدونها، حيث كانوا يؤمنون بوجود الكثير من أرباب الأنواع و أنّ لكل شيء ربّه النوعي. و هذه المعتقدات كلها شرك و لاتتفق مع التوحيد. فالتوحيد هو الاعتقاد بوجود إلهٍ واحد في كل الجوانب والمجالات.

ص:99

المراد من وحدانية اللّه

المراد من وحدانية اللّه هي أنّه واحد لايقبل التقسيم، و صفاته عين ذاته و لاتعدد فيها.

و وحدانيّته في الأُلوهية أنه لا شريك له في العبادة. و قدرته و علمه و حياته ليست كقدرة و علم و حياة الآخرين؛ لأنّ صفات اللّه عين ذاته.

أمّا تقسيم صفات اللّه و فصلها عن ذاته، فهو من عندنا و نحن نقوم به في مقام المعرفة، و أمّا هو تعالى فلا يقبل التعدد والتقسيم: (وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) .(1)

والمقصود بأنّ اللّه واحد ليس الوحدة العددية التي نطلقها على سائر الأشياء، فالوحدة العددية والكثرة المنبثقة عنها من صنع اللّه؛ و ذلك لأَنَّ العدد يستلزم المحدودية بينما الذات الإلهية مطلقة في جميع الكمالات و لا محدودية لها (وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ) ، (2)(وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) ، (3)(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) ، (4)(أَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) .(5)

فهذه الآيات و غيرها من الآيات المشابهة لها تدلّ على ذات اللّه المطلقة و صفاته الكمالية، و أنه لا شريك له و لا شبيه لا في الذات و لا في الصفات. و لهذا فلا معنى للوحدة العددية بشأنه؛ لأَنَّ أيَّ وجود و كمال في الأصل للذات، و ما لايفترض وجود ثان له لايوصف بالعدد، لأنَّ العدد دليل على المحدودية.

ذكروا إنَّ أعرابياً قام يوم الجمل إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال: يا أميرالمؤمنين أتقول: إنّ اللّه واحد؟ قال: فحمل الناس عليه، قالوا: يا أعرابي، أما ترى ما فيه أميرالمؤمنين من تقسّم القلب، فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: دعوه، فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: يا أعرابي، إنّ القول في أن اللّه واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لايجوزان على اللّه عزّوجلّ، و وجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لايجوزان عليه، فقول القائل: واحد يقصد به

ص:100


1- سورة البقرة (2)، الآية 163.
2- - سورة الرعد (13)، الآية 16.
3- - سورة الروم (30)، الآية 54.
4- سورة البقرة (2)، الآية 165.
5- سورة النور (24)، الآية 25.

باب الأعداد، فهذا ما لايجوز، لأن ما لا ثاني له لايدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال: ثالث ثلاثة.(1) و قول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لايجوز عليه، لأنّه تشبيه، وجَلّ ربنا عن ذلك و تعالى. و أمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربُنا، و قول القائل: إنه عزّوجلّ أحَدِيُّ المعنى، يعني به أنه لاينقسم في وجود و لا عقل و لا وَهم كذلك ربنا عزّوجلّ.(2)

مراتب التوحيد

من أعمق المباحث في باب المعارف هو بحث التوحيد. و يختلف فهم التوحيد تبعاً لاختلاف أفهام الناس. و رغم كل ذلك فالناس حسبما تملي عليهم فطرتهم، متّفقة آراؤهم في أصل وجود ذات الباري تعالى. أمّا اختلاف أفهام الناس حول التوحيد، فهو أنّ البعض قد جعلوا إله هذا العالم كالأصنام والأحجار والأخشاب التي يصنعونها بأيديهم، و فهموا من دعوة الأنبياء إلى التوحيد في حدِّ الوحدة العددية: (أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ) .(3)

أمّا الصفات الكمالية التي يذهب إليها الناس في بيان ذات اللّه، فلابّد و أنّها تنطوي على المحدودية التي تطبع تلك الألفاظ. و لهذا السبب يقول اللّه عزّوجلّ: (سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ * إِلاّ عِبادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ) ، (4) و يقول أيضاً: (وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ، (5)(وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) .(6)

جاء عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: وَ لَاتُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِك فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.(7) و لعل هذا هو السبب الذي جعل الروايات تكثر من تنزيه اللّه. فكل صفة نثبتها له لابُدّ و ان يكون إلى جانبها تنزيه له؛ لأَنَّ بياننا قاصر عن الإفصاح عن

ص:101


1- - اشارة إلى الآية: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ)، سورة المائدة (5)، الآية 73 و هي حول المسيحيين الذين يعتبرون اللّه ثالث ثلاثة؛ أي اللّه، و روح القدس و عيسى عليه السلام.
2- الصدوق، التوحيد، ص 83 و 84، الحديث 3.
3- سورة ص (38)، الآية 5.
4- - سورة الصافّات (37)، الآيتان 159 و 160.
5- سورة طه (20)، الآية 110.
6- سورة الأنعام (6)، الآية 91.
7- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 91، ص 125.

وجوده المطلق.(1)

ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: «تَكَلَّموا في خَلْقِ اللّه تَعالى و لاتَتَكلّمُوا فِي اللّهِ، فَإنَّ الكلامَ فِي اللّهِ لايَزدادُ صاحِبُهُ إلاّ تَحَيُّراً».(2)

و للتوحيد مراتب، و هذا ما جعل الموحدين متفاوتين في هذا المجال، فقد يكون هناك من هم موحّدون في التوحيد الذاتي، و لكنّهم يقعون في الشرك في التوحيد العبادي و في الطاعة. فالشيطان - كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام - عَبَدَ اللّه ستة آلاف سنة،(3) و لكنه تكبّر و عصى أمر ربّه. و هذا يعني أنه لم يكن لديه توحيد في الطاعة. و على صعيد آخر قد يكون هناك من لديه إخلاص تام في العبادة، و لكن التوحيد الأفعالي غير مكتملٍ لديه. ثم إنّ هناك الكثير ممّن يكثرون من العبادة والذكر والتسبيح، و لكنهم ضعفاء في التوكل عليه والاستعانة به، و عدم التعويل على ذوي الجاه والمنصب والمال.

و خلاصة القول هي أنّ الموحّد هو من يؤمن بأن اللّه واحد و يخضع تعظيماً له، و لايتّكل إلّا عليه، و يوقن بأنَّ كل شيء منه، و ليس في الوجود ما يضاهيه أو يضارعه.

المرتبة الكاملة للتوحيد

للتوحيد - بما يعنيه من الاعتقاد بوحدانيّة اللّه - مراتب. و مرتبته الكاملة هي الإيمان بأن للّه العلم والقدرة والكمال والخلق والرزق والإحياء والإماتة، و أن الخضوع والعبادة له وحده، و أن لايتذلل الإنسان و لايمرّغ خدّه في التراب لأحدٍ سواه، و ان لايرجو إلّارحمته، و لايخشى إلّاسخطه.

و أمّا على صعيد العقيدة والعمل فيجب الخضوع والانصياع له وحده. و هذا ما نقل عن أميرالمؤمنين عليه السلام في قوله: «و كمال توحيده الاخلاص له».(4) و ينص القرآن على أنّ أيّة

ص:102


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطب 152 و 163 و 186؛ الصدوق، التوحيد، ص 308، الحديث 2؛ الكُليني، الكافي، ج 1، ص 138، الحديث 3؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 4، ص 304؛ المفيد، الاختصاص، ص 236.
2- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 92، الحديث 1.
3- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192، ص 287.
4- - المصدر السابق، الخطبة 1، ص 39.

طاعة عمياء لغير اللّه شرك و مخالفة للتوحيد. فبعض أهل الكتاب الذين أسلموا قيادهم لعلمائهم من غير تروٍّ، اعتبر القرآن عملهم هذا بمثابة عبادة لغير اللّه، و قال في وصفهم:

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ) .(1)

الأدلّة على وحدانية اللّه

1 - الانتظام والانسجام يدلّان على وجود منهج متناغم مع ظروف جميع المجالات والقطاعات. فلو كان في هذا الكَوْن مدبّران لشؤونه لاختلّ النظم فيه قطعاً؛ لأن كلّ واحد منهما يريد العمل وفقاً لإرادته. إذاً فالانتظام والانسجام اللّذان يحكمان هذا الكَوْن الفسيح، و عدم وجود أيِّ خلل أو عيب فيه، يدلّان على وجود مدبّر واحد يديره بدقّة و إتقان.

و هذا العالم الذي نعيش فيه يتّصف بمثل هذا الانسجام والاتقان؛ و هناك تناسق تام بين موجوداته. فكلّ واحد منها في موضعه الصحيح، و يكمّل كلّ واحد منها الآخر. و كل هذا يدلّ على أنّ مدبّره واحد لا شريك له.

لو كان في هذا العالم عدّة آلهةٍ، فلابّد أن تكون له - حسبما تقتضي أُلوهيته - إرادة مستقلة عن غيره، و غير منسجمة و لا متوافقة مع إرادة سائر الآلهة، و هو ما يوقع العالم طبعاً في فوضى. أي أنّ كثرة الآلهة تعني أنّ كل واحد منهم يسعى إلى تحقيق إرادته، و من الطبيعي أن تكون إرادة كل واحد منهم متعارضة مع إرادة غيره، و عند التطبيق تتعارض الإرادات و ينهار كلّ شيء في هذا العالم. ويُفصح القرآن الكريم عن هذا الاستدلال بعبارة موجزة و هي قوله تعالى: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ) .(2)

لو كان في الوجود آلهة متعددة لكان لكلّ واحد منهم مخلوقاً، ولسعى كلٌّ وراء خالقه، و لوقع العالم على أثر ذلك في تعارض، ولحاول كلّ واحد منهم - بحكم أُلوهيته المطلقة - السيطرة على العالم و إخضاع كل الكائنات لتدبيره، و هذا ما يفضي بالنتيجة إلى نشوب

ص:103


1- سورة التوبة (9)، الآية 31.
2- سورة الأنبياء (21)، الآية 22.

صراعات، و يفضي إلى توقّف النظم في العالم فينهار و يتلاشى. و قد رسم الباري تعالى صورة يبيّن فيها مثل هذا الحال في قوله: (مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ) .(1)

جاء في رواية أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: «فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفلك جارياً، واختلاف الليل والنهار، والشمس والقمر، دلّ صحّة الأمر والتدبير و ائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد».(2)

2 - و جاء في نهاية الرواية التي نقلها هشام بن الحكم عن الإمام الصادق عليه السلام برهان أو دليل آخر على وحدانية اللّه، و هو ما يُسمّى ببرهان الفُرجة، و هو كالآتي: فإن قلت إنهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة، أو مفترقين من كل جهة، فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفلك جارياً، والتدبير واحداً والليل والنهار، والشمس والقمر دلّ صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبّر واحد، ثم يلزمك إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثاً بينهما قديماً معهما فيلزمك ثلاثة، فإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة، ثم يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة.(3)

و قد جاء في صدر هذه الرواية أنّ زنديقاً جاء إلى الإمام الصادق عليه السلام و عرض عليه أسئلة حول الوحدانية والتعددية في الآلهة، فقال له الإمام عليه السلام: لايخلو قولك إنهما اثنان أن يكونا قديمين قويين، أو ضعيفين، أو يكون أحدهما قوياً والآخر ضعيفاً، والمراد بالقويّ أن يكون قادراً على فعل الكلّ و فاعلاً له بالإرادة مع استبداده به، والمراد بالضعيف الذي لايقوى على فعل الكلّ و لايستبد به و لايقاوم القوي، فإن كانا قويين فلِمَ لايدفع كلّ منهما صاحبه و يتفرد به، أي يلزم منه عدم وقوع الفعل و إن كان أحدهما ضعيفاً فيلزم من ضعف وجوده احتياجه إلى العلّة الموجدة.

ص:104


1- سورة المؤمنون (23)، الآية 91.
2- الصدوق، التوحيد، ص 244، الحديث 1.
3- الكُليني، الكافي ج 1، ص 81، الحديث 5.

3 - الدليل الآخر على وحدانية اللّه هو عدم وجود آثار لإله آخر، و من ذلك الرسالة؛ فكل الأنبياء الذين بعثوا حتى الآن قالوا إنهم قد أُرسلوا من قبل إلهٍ واحد، و لم يظهر حتى الآن نبي يزعم بأنه مبعوث من قبل إله آخر. قال الإمام علي عليه السلام في سياق وصاياه لابنه الحسن عليه السلام: «وَاعْلَم يا بُنَىَّ! انّه لَو كانَ لِربّكَ شَريك لَأَتَتْكَ رُسُله وَ لَرأيْتَ آثارَ مُلكِه وَ سُلطانِه وَ لَعَرفتَ افعالَهُ وَ صِفاته وَ لكنَّه إلهٌ واحدٌ كَما وَصَف نَفْسَه لايضادّه في مُلكِهِ احَدٌ».(1)

4 - أن وجود إله آخر في العالم يعني وجود نقص في اللّه، و أنّ هذا الإله يفتقر إلى كمالات إلهٍ آخر، والإله الآخر يفتقر إلى كمالات هذا الإله. إذاً فكلاهما ناقصان. و من الطبيعي أنّ افتراض وجود إله ناقص يتنافى مع أُلوهيّته؛ و ذلك لأَنَّ اللّه وجود مطلق و ذات كاملة. ولو كان فيه نقص لَما أصبح أهلاً للأُلوهية.

أقسام التوحيد
اشارة

يُقسم التوحيد إلى عدّة اقسام و هي: التوحيد في الذات، والتوحيد في الصفات، والتوحيد في الأفعال، والتوحيد في العبادة. والتوحيد ليس مفهوماً دينياً و سماوياً فقط، و إنّما التوحيد الواقعي هو أن يتجلّى - فضلاً عن الاعتقاد - في السلوك الفردي والاجتماعي؛ أي في الأخلاق والعمل، و إلّافإنه يبقى شيئاً نظرياً كسائر العلوم التي تدوّن في الكتب و لايظهر له أيُّ أثر في الواقع الخارجي.

و نحن عندما نتأمل في تعاريف و مفاهيم التوحيد التي سنشرحها في ما يلي تحت عناوين التوحيد في الذات، و في الصفات، و في الأفعال، و في العبادة، نخلص إلى نتيجة مؤدّاها أنّ هذا المعنى من التوحيد لاينطوي سوى على استقلال الإنسان في مقابل قوى و آلهة التسلط والقهر في الأرض، و يمنح الإنسان شعوراً بالقوّة والاعتزاز بالذات، و هذا طبعاً من مستلزمات المجتمع المدني السليم. و بعبارة أُخرى: إنّ ما يُسمّى اليوم باسم

ص:105


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 31، ص 396.

المجتمع المدني يمكن الوصول إليه بشكل أيسر عن طريق التفكير والحياة التوحيدية الحقيقية.

1 - التوحيد في الذات

و هو يعني الاعتقاد بأن ذات اللّه واحدة لاتقبل التعددية، و لاتوجد ذات أُخرى إلى جانب ذات اللّه. روي أنّ رجلاً جاء إلى الإمام الحسن بن علي عليه السلام و قال له: يابن رسول اللّه، صف لي ربّك حتى كأني أنظر إليه، فأطرق الحسن بن علي عليه السلام ملياً، ثم رفع رأسه، فقال:

الحمد للّه الذي لم يكن له أول معلوم و لا آخر متناهٍ، و لا قبل مدرك، و لا بعد محدود، و لا أمد بحتى و لا شخص فيتجزّأ، و لا اختلاف صفة فيتناهى، فلاتدرك العقول و أوهامها، و لا الفِكَر و خطراتها، و لا الألباب و أذهانها صفة فتقول: متى، و لا بدأ ممّا، و لا ظاهر على ما، و لا باطن فيما، و لا تارك، فهلّا خلق الخلق فكان بديئاً بديعاً، ابتدأ ما ابتدع، وابتدع ما ابتدأ، و فعل ما أراد و أراد ما استزاد، ذلكم اللّه ربُّ العالمين».(1)

و روى الإمام الصادق عليه السلام، قال: خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أصحابه فقال: ما جمعكم هنا؟ قالوا: اجتمعنا نذكر ربّنا و نتفكّر في عظمته، فقال: «لن تُدركوا التفكر في عظمته.».(2)

و هذه الوصية تزيح الستار عن حقيقة، و هي أنّ إدراك الذات الإلهية متعذر؛ لأنها ذات لا متناهية، بل إنّ مثل هذه المحاولات لا ثمرة منها، و قد توقع الإنسان في ورطة فكرية مردّها عدم التناسب بين فكره و بين تلك الذات المطلقة، و هذا ما يخرجه عن حد السلوك المعتدل، و يطبع حياته بالاضطراب. و على هذا الأساس ينبغي أن يعتقد الإنسان باللّه من غير أن يفكّر في ذاته، و إنّما يفكّر في صفاته و مخلوقاته.

2 - التوحيد في الصفات

و يعني الاعتقاد بأن صفات اللّه تعالى - المتّصف بجميع صفات الكمال - هي عندما

ص:106


1- الصدوق، التوحيد، ص 455، باب النهى عن الكلام، الحديث 5.
2- - المصدر السابق، الحديث 4.

تصدر إلى الواقع عين بعضها و عين ذاته. فذاته واحدة و فيها كل صفات الكمال من علم، و قدرة، و حكمة و ما شابه ذلك، و لكنّ هذه الصفات ليست زائدة أو مضافة إلى وجود اللّه، بل إنها عين وجوده؛ و ذلك لأنّه لو كانت صفة أو مجموعة صفات متمايزة و خارجة عن ذاته، لاستلزم ذلك التركيب في ذاته، و هذا يعني أنّه يحتاج إلى مجموعة من الصفات. و هذا بطبيعة الحال يتعارض مع ذاته الغنية.

3 - التوحيد في الأفعال

و معناه أنّ كلّ ما يجري في العالم إنّما هو من فعل اللّه، و لا شريك له في أفعاله. فهو الخالق والرازق والمدبّر لكلّ الكَوْن، لايعينه أحد في أفعاله، و ليس من أحد قادر على إعانته بشيء من ذلك. و هو غني عن غيره في خلق العالم و إدارة شؤونه. و هكذا الحال أيضاً في إرسال الأنبياء و تشريع الدّين. و كلّ شيء خاضع لقدرته. و هو تعالى المؤثّر الوحيد في أعمال عباده، و لا أحد غيره يؤثّر فيها. و لهذا ينبغي أن يتوجّه إليه المؤمنون في أعمالهم: (وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً) .(1)

كما أنّ من تصرّفوا في عالم الوجود من الأنبياء عليهم السلام بإذن اللّه في مواقف خاصّة، كالنبي عيسى عليه السلام الذي صنع من الطين طيراً أو أحيا نفساً ميتة،(2) و غير ذلك، إنّما كان ذلك بإذن اللّه، و لم تكن لهم استقلالية في فعلهم. والتوحيد في الأفعال لايعني طبعاً أن لا أحد يستطيع القيام بعمل في عالم الوجود؛ لأَنَّ الناس يقومون في كلّ يوم بما لايُحصى من الأعمال، كما أنّ هناك منهم من يفعل ذلك إلحاداً و من غير اعتقاد بخالق العالم و مدبّره. إنّ التوحيد في الأفعال معناه التمسّك بالاعتقاد بأنَّ كلّ شيء في الوجود خاضع لربوبية اللّه، و لا شيء يقع خارج أمره. و على هذا الأساس فإنّ الموحّد يعتبر نفسه ملزماً بأداء أعماله في سياق مشيئة اللّه، و بالتوكّل عليه والإستعانة به.

ص:107


1- سورة الإسراء (17)، الآية 111.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 49.
4 - التوحيد في العبادة

في الرؤية التوحيدية - إضافة إلى الإيمان بوحدانية اللّه في الذات، والصفات، والأفعال - يجب الخضوع له وحده، والامتثال لأمره، وعبادته وحده. و هذا هو ما يُسمّى بتوحيده في العبادة. والتوحيد في العبادة هو آخر مراحل معرفة اللّه، و أدقّ درجات الإيمان والعبودية. فقد يكون المرء موحّداً في رؤيته، و لكنّه مشرك في فعله وسلوكه.

فإبليس كان على الصعيد النظري يحمل نظرة توحيدية، و يؤمن بوحدانية مبدىء الوجود، و يعلن عن براءته في يوم القيامة من شرك المشركين و كفر الكافرين،(1) و لكنّه عصى أمر ربّه فخرج بذلك من صفوف الموحّدين.

إنّ العبادة خاصة باللّه، و ليس لأحبّ عباد اللّه إليه نصيب من هذه العبادة، بل هم أيضاً يتعيّن عليهم عبادة اللّه. و انطلاقاً من هذا فقد لفت القرآن الأنظار إلى هذه القضية بشأن الأنبياء، و هي أنّ إنزال الكتب السماوية عليهم، وجعلهم حكّاماً بين الناس، و إعطاءهم منصب النبوّة، لايبيح لهم أبداً أن يأمروا الناس بالعبودية لهم إلى جانب عبادة اللّه: (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ...) .(2)

جاء في بيان شأن نزول هذه الآية أنّ أبا رافع القرظي اليهودي، جاء برفقة رئيس وفد نصارى نجران إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و قالوا له: أتريد يا محمد أن نعبدك و نتّخذك إلهاً؟ فقال:

معاذ اللّه أن أعبد غير اللّه أو آمر بعبادة غير اللّه، ما بذلك بعثني و لا بذلك أمرني».(3)

ربّما تكون الآية بشأن النصارى الذين قالوا بأُلوهية عيسى عليه السلام، كما ورد ذلك في تفسير علي بن إبراهيم القُمّي: إنّ عيسى لم يقل للناس إنّي خلقتكم فكونوا عباداً لي من دون اللّه، و لكن قال لهم: كونوا ربّانيين.(4)

ص:108


1- - سورة ابراهيم (14)، الآية 22.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 79.
3- الواحدي، اسباب النزول، ص 80 و ايضاً: الطبرسي، مجمع البيان، ج 1، ص 466، ذيل الآية.
4- علي بن ابراهيم القُمّي، تفسير القُمّي، ج 1، ص 106.

لقد نهى القرآن صراحة عن اتخاذ الأنبياء أرباباً: (وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .(1)

عند إلقاء نظرة إجمالية على آيات القرآن الكريم تتضح أمامنا هذه الحقيقة، و هي أنّ دعوة الأنبياء تركّز بشكل أساسي على توحيد اللّه، و توحيده في العبادة معناه اجتناب الشرك و إطاعة اللّه وحده، و خشيته: (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ) .(2)

إنّ التوحيد يعني محاربة الآلهة المزيّفة والأصنام المُنتحلة التي وضعها الطغاة للناس بهدف استعبادهم. (... أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً...) .(3)

يمكن القول بإيجاز: إنّ هدف الأنبياء هو نشر توحيد اللّه في العبادة و محاربة منتحلي الأُلوهية من دون اللّه: (وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) .(4)

هناك في عالم الوجود أُناس و كائنات لهم مكانة مرموقة، و منزلة مقرّبة عند اللّه، و قد جعل اللّه لهم مكانة كريمة بين الناس، و دعاهم إلى احترامهم وتكريمهم. و لعلّ هذه المكانة تبلغ أحياناً حدّ الأمر بالإيمان بهم مع التهديد بشديد العقاب لمن يكفر بهم. و رغم كل ذلك فإنّ تكريمهم واحترامهم لاينبغي أن يبلغ مرحلة عبادتهم، فهذا يتنافى مع التوحيد. و يجب أن يكون تكريمهم و حتى التوسّل بهم في الحدّ الذي أذن به اللّه. و قد كشف القرآن الكريم و عند حديثه عن أهل الكتاب و ما كانوا يطلقونه من تقوّلات اعتباطية بشأن أنبيائهم، عنّفهم على غلوّهم فيهم و قولهم غير الحق بشأنهم، وجعلهم في مكانة أعلى ممّا أراد اللّه لهم:

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ...) .(5)

ص:109


1- سورة آل عمران (3)، الآية 80.
2- سورة نوح (71)، الآيتان 2 و 3.
3- سورة الأنعام (6)، الآية 74.
4- سورة الزخرف (43)، الآية 45.
5- سورة النساء (4)، الآية 171.

جاء في رواية أنّ رجلاً جاء إلى رسول اللّه و قال له: يا رسول اللّه، نسلّم عليك كما يُسلّم بعضنا على بعض؟ أفلا نسجد لك؟ فقال: لاينبغي أن يُسجد لأحد من دون اللّه، و لكن أكرموا نبيّكم واعرفوا الحق لأهله».(1)

لقد كان الأنبياء والأولياء مطيعون للّه أكثر من غيرهم، و كانوا في هذا المضمار مثالاً و قدوة يحتذي بهم الناس. و كانوا يصفون أنفسهم بأنهم عباد للّه، و يفتخرون بذلك. و كان الأنبياء يحذرون أشد الحذر من أن يقول فيهم الناس بأكثر مما يتّصفون به، و كانوا يجتنبون؛ بل و يتبرّأون من أي عمل يضعف نوازع التوحيد في نفوس الناس، و يعود عليهم ولو بشائبة من شوائب الشرك.

روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: «يهلك فيَّ اثنان و لا ذنب لي: مُحبّ مفرط، و مبغض مفرّط. و إنا لنبرأ إلى اللّه عزّوجلّ ممّن يغلو فينا فَيرفعَنا فوق حدّنا كبراءة عيسى ابن مريم عليه السلام من النصارى. قال اللّه عزّوجلّ: (وَ إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ...) و قال عزّوجلّ: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ) . و قال أيضاً: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) . فمن ادّعى للأنبياء ربوبية أو ادّعى للأئمة ربوبية أو نبوّة، أو لغير الأئمة إمامةً، فنحن براء منه في الدنيا والآخرة».(2)

و خلاصة الكلام: إنّ التوحيد في العبادة على قدر عظيم من الأهمية، بحيث إنّ اللّه عزّوجلّ أوصى به و أكد عليه في آيات عديدة من القرآن الكريم، و حذّر عباده من عصيان أمره واتخاذ إله آخر بدلاً منه. لقد بيّنت الآيات المعيار الذي يُعرف به المعبود الحقيقي الذي يمكن للناس عبادته على أساس الإدراك الصحيح والفهم السليم، و من ذلك أن يكون بيده الخلق والرزق، و أفعال العباد، و إجابة دعوة المضطرين، وهداية العباد، والرحمة، والقدرة على الخلق الأول، والإماتة والبعث.(3)

ص:110


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 25، ص 262.
2- المصدر السابق، ج 25، ص 134 و 135، الحديث 6؛ و ص 272، الحديث 17.
3- سورة النمل (27)، الآيات 60-65.

افعال اللّه

نظام فعل اللّه

أفعال اللّه رهينة بإرادته. فمتى ما أراد لشيء أن يكون فإنه يكون و يتحقق في عالم الوجود: (... وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) . (1) فلو شاءت إرادة اللّه تحقق شيءٍ لايمنعها مانع، و كل ما يقع إنّما يقع بإذنه و إرادته: (وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ...) ، (2)(وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ...) ، (3)(وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً...) ، (4)(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ...) .(5)

لايستعين اللّه بشيء على تحقيق مشيئته، و لا شيء يثنيه عن تحقيق إرادته. و فعله في إيجاد العالم لايتجاوز لحظة واحدة: (وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) . (6) و فعله عزّوجلّ لايقتصر على خلق المخلوق و تركه، و إنّما يتولى تدبير شؤونه لحظة بَعد أُخرى:

(ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ) . (7) في الرؤية التوحيدية تخضع جميع الأُمور في العالم لمشيئة اللّه، و لايتحقق شيء منه بدون إرادته، بل حتى أفعال العباد كذلك (وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى...) .(8)

و فعل اللّه محيط بكل شيء بما في ذلك الأسباب والعلل، و هي لاتؤثر إلّاأن يشاء اللّه.

و رغم أنّ العلّة علّة، غير أنّ موجدها هو اللّه و لا استقلالية لها. و هذا ما يجعل كل شيء مرجعه إلى اللّه. و مع أنّ الكلام يدور أحياناً حول العلل المادية و غيرها، أو حول الموكلين

ص:111


1- - سورة البقرة (2)، الآية 117.
2- - سورة الأعراف (7)، الآية 58.
3- سورة البقرة (2)، الآية 102.
4- - سورة آل عمران (3)، الآية 145.
5- سورة التغابن (64)، الآية 11.
6- - سورة القمر (54)، الآية 50.
7- - سورة الأنعام (6)، الآية 102.
8- سورة الأنفال (8)، الآية 17.

بإدارة شؤون هذا العالم كقوله تعالى: (قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ...) (1)

و لكن في الوقت ذاته يُنسب هذا العمل إلى اللّه: (اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها...) .(2)

دور الموَكَّليْن

جاء في الآيات والروايات ذكر موجودات باسم الملائكة، و هم يقومون بما يفوّضه اللّه إليهم من أعمال. فجبرائيل مكلّف بإبلاغ الوحي من اللّه: (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ...) . (3) و ميكائيل يتولّى الأرزاق، و إسرافيل ينفخ في الصور و يتكفّل بمهمة إحياء الأموات يوم القيامة، و عزرائيل يقبض الأرواح: (قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) .(4)

و هناك ملائكة يدورون حول عرش اللّه و يذكرونه و يسبّحونه: (وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) . (5) والملائكة لايرتكبون إثماً أو معصية:

(لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) .(6)

إنّ اللّه عزّوجلّ يتولى شؤون العالم بنفسه، و لكنه يسيّرها بأسبابها و عللها. و هناك موكَّلون - سواء من الموجودات المادّية أو المجرّدة - يؤدون ما يوكل إليهم من أعمال، و لكن ذلك كُلّه يجري بإذن اللّه. و هذا عين التوحيد.

اللّوح المحفوظ و لوح المحو والإثبات

في إدارة شؤون العالم هناك نوعان من الألواح والصحف التي تسجّل فيها الأعمال، أحدهما اللوح المحفوظ و هو ما لايمكن تغيير ما يسجل فيه، و يأتي وفقاً لعلم اللّه بمجريات الأُمور، والآخر هو لوح المحو والإثبات، و هو ما قد يُسَجَّل فيه شيء، ثم يُمحى لاحقاً بسبب بعض المتغيّرات أو المستجدّات. إنّ اللّه تعالى يدبّر شؤون هذا الكَوْن وفقاً

ص:112


1- - سورة السجدة (32)، الآية 11.
2- سورة الزمر (39)، الآية 42.
3- - سورة البقرة (2)، الآية 97.
4- سورة السجدة (32)، الآية 11.
5- - سورة الزمر (39)، الآية 75.
6- سورة التحريم (66)، الآية 6.

لسننٍ. و هذه السنن تخضع لظروف ومُقتضيات. و في العالم الإلهي تكون السنن و ظروفها و مقتضياتها معلومة. و بالنتيجة لايقع فيها تغيير. و هذا هو ما يُسمّى باللوح المحفوظ. أمّا في مرحلة التطبيق فهي تخضع لظروف تبدو في الظاهر و كأَنّها خاضعة للتغيير. و في هذه الحالة يُقال: إنّ هذا اللّوح يحصل فيه تبدّل وتغيير. فربّما كان من المفترض أن تقع حادثة لشخصٍ و لكنّه يقوم بعمل صالح يمنع اللّه تعالى به وقوعها. و بعبارة أُخرى إنّ الوقائع والظواهر خاضعة لظروف قد تكون خافية عن أعين الناظرين الذين لايرون عادة إلّاظواهر الأُمور.

قواعد أفعال اللّه

هل تجري أفعال اللّه وفقاً لقوانين و قواعد، أم تجري بغير قوانين و لا قواعد؟ و إن كانت أفعاله تجري وفقاً لقواعد مرسومة، فكيف يتناسب هذا مع تدبيره لشؤون الكَوْن لحظة بلحظة، و إدارتها وفقاً لإرادته؟

يُستفاد من الآيات والروايات والأدلّة العقلية أنّ اللّه تعالى قد خلق العالم و هو الذي يدبّره، و لكنه في الوقت ذاته يعتمد الأسباب في أفعاله؛ أي إنّه يجريها وفقاً لسنن و قواعد.

فهناك في القرآن عدّة آيات تتحدث عن سنن إلهية. و حذّر في آيات عديدة أقواماً من سريان السنن والقوانين الكَوْنية عليهم. (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) .(1)

هذا العالم يجري بأسباب و علل، و في الوقت ذاته فإنّ اللّه هو المدبّر الأصلي لهذا الكون. جاء مثلاً في القرآن الكريم حول إنزال المطر ما يلي: (اللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) .(2)

و من أمثلة ذلك أنه عندما يجري الكلام عن إنزال المطر، ينسب اللّه هذا العمل إلى نفسه، و لكن في الوقت ذاته يحصل ذلك عن طريق إرسال الرياح والغيوم: (وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ

ص:113


1- راجع: سورة الأنفال (8)، الآية 38 و سورة الأحزاب (33)، الآية 62.
2- سورة الروم (30)، الآية 48.

لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) .(1)

و هذا يعني أنّ كل شيء يجري في هذا الكَوْن وفقاً لقانون العليّة، و بما يتماشى مع إرادة و تدبير اللّه.

هدفية أفعال اللّه

لايمكن افتراض هدف لأفعال اللّه من الجانب الفاعلي؛ أي لايمكن القول: إنّ اللّه فعل هذا الفعل رغبة في شيء؛ لأنه في مثل هذه الحالة يظهر و كأَنّ هناك شيئاً خارجاً عن ذات اللّه و يريد الحصول عليه. و هذا طبعاً لايتّفق مع غنى اللّه، و لكن لابُدّ و أن يكون هناك هدف لكلّ فعل من أفعاله على اعتبار أنها صادرة من خالق حكيم. و لايمكن أن تكون عبثية. (وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) . (2) و هذا يعني أن لاتأتي أفعاله عن عبث أو تكون خالية من هدف: (وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ... وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) .(3)

مشيئة اللّه

لقد خلق اللّه المشيئة قبل أن يخلق الأشياء. ثم إنّ جميع الوقائع والأحداث في العالم رهينة بمشيئة اللّه. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «خلق اللّهُ المشيَّةَ قبل الأشياء ثم خلق الأشياءَ بالمشيَّة»(4) و هذا يعني أنّ أفعال اللّه تأتي وفقاً لتخطيط، و هذا التخطيط هو الذي يتحقق و يظهر إلى العالم الخارجي.

القضاء والقدر

اشارة

القضاء في اللغة: بمعنى الفصل والبتّ. و تستعمل هذه الكلمة بكثرة في حالات التحكيم؛ لأَنَّ الاختلافات يُبتّ فيها بواسطة القضاء، و لكن عندما تأتي كلمة القضاء مقرونة

ص:114


1- سورة الحجر (15)، الآية 22.
2- - سورة الأنبياء (21)، الآية 16.
3- سورة الأنعام (6)، الآية 73.
4- - الصدوق، التوحيد، ص 339، الحديث 8.

مع كلمة القدر، فهي لاتأتي بمعنى الحُكم. كلمة القضاء في القرآن تعني الإلزام والتشريع(1)

تارة، و بمعنى الحكمية والتحكيم تارة أُخرى.(2) و بمعنى الظروف والعلل في موارد أُخرى،(3) كما تأتي أيضاً بمعنى الانتهاء والإتمام.(4) و أكثر ما ورد استعمال هذه الكلمة و مشتقّاتها في القرآن بمعنى القطع والبتّ (وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) . (5)(... وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ...) . (6) والقضاء الإلهي يعني البتّ في أمر من قبل اللّه.

و أمّا كلمة القدر: فتعني الكمية والقياس. والقَدَر الإلهي بمعنى حدود الأشياء بالنسبة إلى ذات اللّه (وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) . (7) جاء في رواية عن الإمام الكاظم عليه السلام قال فيها: القدر تقدير الشيء من طوله و عرضه، والقضاء الإمضاء(8) والفارق بين القضاء والقدر هو أنّ القدر تهيئة المقدّمات، و توفيرها، و أمّا القضاء فهو العلّة التامّة لحصول الأشياء، و يفيد معنى حتميّة وقوعها. و مثل هذا التقدير يشمل كلّ شيء(9) و ظواهر خاصّة كالشمس(10) والقمر(11) و نزول المطر(12) و غيرها، كما يشمل أيضاً أفعال الإنسان و حوادث العالم. والتقدير هو قدر كل شيء جعله اللّه لها. والتقدير له مقدّمات، و من المحتمل أن يتغيّر فيما إذا تغيّرت المقدّمات. نذكر من ذلك مثالاً: إنّ الصدقة، والدعاء، والإحسان، و صلة الرحم توجب إحداث تغييرات في التقدير. و مرتبة التقدير سابقة لمرتبة القضاء.

و كل عمل يُقاس في البداية وتُعيّن مقاديره ثم يُتخذ القرار النهائي بشأنه.

إنّ القضاء والقدر كما - جاء في الروايات - طريق مظلم و بحر عميق لاينبغي الغوص فيه. نقل الصدوق رحمه الله رواية عن أميرالمؤمنين عليه السلام جاء فيها: أنّ رجلاً جاءه وسأله عن القدر.

فقال له الإمام: بحر عميق فلا تلجه. قال: يا أميرالمؤمنين أخبرني عن القدر، قال عليه السلام: طريق

ص:115


1- - سورة الإسراء (17)، الآية 23.
2- - سورة غافر (40)، الآية 20.
3- - سورة البقرة (2)، الآية 117.
4- سورة القصص (28)، الآية 29.
5- - سورة البقرة (2)، الآية 117.
6- سورة هود (11)، الآية 110.
7- - سورة الفرقان (25)، الآية 2.
8- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 150، الحديث 1.
9- - سورة القمر (54)، الآية 49.
10- - سورة يس (36)، الآية 38.
11- سورة يس (36)، الآية 39.
12- سورة المؤمنون (23)، الآية 18.

مظلم فلا تسلكه. قال: يا أميرالمؤمنين أخبرني عن القدر. قال عليه السلام: سرّ اللّه فلا تَكَلّفه.(1)

يمكن القول بشكل عام: إن اللّه وضع خطّة لعباده حسب مشيئته اسمها القدر. وجعل لهم مقدّرات تتناسب مع روح وجسم كل واحد منهم؛ ليفهموا كيف يتدبّرون أمرهم، و يعلموا أنهم ليسوا خارج دائرة الإرادة الإلهية.

روي عن الإمام السجّاد عليه السلام أنه قال: إنّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد، فالروح بغير جسد لاتحسّ، والجسد بغير روح صورة لا حراك بها، فإذا اجتمعا قَوَيا و صَلُحا، و كذلك العمل والقدر، فلو لم يكن القدر واقعاً على العمل لم يُعرف الخالق من المخلوق، و كان القدر شيئاً لايُحسّ، ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر لم يمض و لم يتم، و لكنهما باجتماعهما قويا.(2)

يتعلق كل من القضاء والقدر بالعلم الإلهي المسبق بالأشياء. والعلم الإلهي إن كان يخصّ وجود و ظهور الأشياء فهو قضاء، و إن كان يتعلق بحدودها و مقاديرها فهو قدر. و وفقاً لهذا المعنى، فإنَّ كل ما ينبغي أن يقع في العالم يقع و لامناص منه.

و أعمال الإنسان غير مستثناة من هذه القاعدة. و من هنا تأتي شبهة مفادها: أنّ الإنسان مجبور في أفعاله و لا إرادة له.

جاء في كتاب الكافي أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كان جالساً بالكوفة بَعد منصرفه من صفّين، إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثم قال له: يا أميرالمؤمنين، أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من اللّه و قدر؟ فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة و لاهبطتم بطن وادٍ إلّابقضاء من اللّه و قدر، فقال له الشيخ: عند اللّه أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين؟ فقال له أميرالمؤمنين: مع مَن يا شيخ! فواللّه لقد عظم اللّه الأجر في مسيركم و أنتم سائرون، و في مقامكم و أنتم مقيمون، و في منصرفكم و أنتم منصرفون، و لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين و لا إليه مضطرين. و كان بالقضاء والقدر مسيرنا و منقلبنا و منصرفنا؟ فقال له:

و تظن أنه كان قضاء حتماً و قدراً لازماً؟ إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والأمر

ص:116


1- الصدوق، التوحيد، ص 365، الحديث 3.
2- الصدوق، التوحيد، ص 366 و 367، الحديث 4.

والنهي، والزجر من اللّه، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب و لا محمدة للمحسن، و لكان المذنب أوْلى بالإحسان من المحسن، و لكان المحسن أوْلى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن و حزب الشيطان و قدرية هذه الأُمة و مجوسها. إنّ اللّه تبارك و تعالى كلّف تخييراً، و نهى تحذيراً، و أعطى على القليل كثيراً، و لم يعص مغلوباً و لم يطع مكرهاً، و لم يملك مفوضاً و لم يخلق السماوات والأرض و ما بينهما باطلاً، و لم يبعث النبيين مبشرين و منذرين عبثاً، ذلك ظنّ الذين كفروا.(1)

هل يمكن تغيير القدر؟

إن كان القدر الإلهي حتميّاً و لابُدّ من وقوع ما كان قد رسمه اللّه، فما فائدة الدعوة إلى أعمال الخير كالصدقة والدعاء، و ما تأثير ذلك في العالم؟ و إن كان التقدير الإلهي واقعاً لامحالة، فلا ينبغي أن يمدّ المرء يده بالدعاء؟ جاء في القرآن الكريم: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) . (2) يُستفاد من هذه الآية أنّ اللّه قد يغيّر مقدّرات العالم والناس، فقد جاء حول قوم النبيّ يونس عليه السلام ما يلي: (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) . (3) و يفهم على أساس هذه الآية أنّ قوم يونس عليه السلام كانوا قد حكم عليهم بالعذاب، و لكنّهم دفعوا العذاب الإلهي عن أنفسهم بالتوبة. فمثل هذا التغيير الظاهري يفيد أنّ ما فُهم حسب الظاهر أنّه قضاء لم يكن قضاءً منذ البداية، و أنّ التغيير الذي حصل كان مرسوماً منذ البداية. و مثله في ذلك كمثل تحذيرات الأب لابنه أو المعلم للتلميذ من عدم النجاح! وسيكون مصيرك الفشل! و هذه التحذيرات للابن و للتلميذ هدفها الحث على الدراسة و ليس الإخبار عن حتميّة الفشل.

إنّ حتميّة التقدير بشأن الإنسان تتوقف على ظروف وأُمور أُخرى أيضاً، منها الاختيار المتاح له؛ أي إنّ القضاء الحتمي يتقرر من قبل اللّه و من قبل صاحب الاختيار كالإنسان.

ص:117


1- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 155، الحديث 1.
2- - سورة الرعد (13)، الآية 39.
3- - سورة يونس (10)، الآية 98.

من ذلك مثلاً إنّ قوم يونس عليه السلام كان قد حكم عليهم بالعذاب حسب الظاهر، و لكنهم لم يصرّوا على التمسّك بالظروف التي خلقوها، ولو أنهم كانوا قد قطعوا بما عزموا عليه لكان قد جرى عليهم القضاء المحتّم. و هذا يعني أنّ وعيد اللّه بعذاب الكافرين والمذنبين والمكذّبين باللّه والمعاد قد يتغير - إذا غير العباد ما بأنفسهم - و ينجون من العذاب.

هل الإنسان مجبر؟

إنّ عزم الإنسان على شيء ثم نقضه لِما عزم عليه، و ما يستجد لديه من تحوّلات فكرية وسلوكية، و ما يعرض في عالم الوجود من متغيّرات و منعطفات بشأن الإنسان، يدلّ على أنّ الإنسان حرّ مختار، و هو يقدم بإرادته على ما هو حسن أو قبيح من الأعمال.

و رغم هذا الواقع، هناك سؤال حول مدى اختيار الإنسان، و هو: إن كان اللّه قد قدّر في علمه وقوع شيء، فلابّد أن يقع. و إن لم يقع فهو خلاف لعلم اللّه. و من جانب آخر، إنّ كل ما يقع في العالم هو من تقدير اللّه و بقدرته. و مع أنّ تحقيق الإرادة الإلهية يأتي عن طريق أسباب، بيد أنّ ذلك يمثل في نهاية الأمر: إرادة اللّه، و لايمكن أن يجري ذلك لولاها. و في ضوء هاتين المقدّمتين، أيمكن القول بَعد ذلك: إنَّ الإنسان موجود مختار؟

إن كان ما سلف من علم اللّه هو الذي خلق كل شيء و من جملة ذلك الإنسان، فهذا شيء لاريب فيه. إذ من غير الممكن خلق شيء من غير علم حتى و إن كان صغيراً، فما بالك بهذا الكَوْن الهائل الذي نعيش فيه. و من الطبيعي أنّ خلق موجود عظيم كالإنسان يدخل ضمن هذه القاعدة، و لكن هل العلم يوجب الجبر في سلوك الإنسان، فهذا موضع تأمل. فإن كان علم اللّه لايتغيّر فلابّد أن تتحقق الحادثة المقررة في علم اللّه، و إلّافمعنى ذلك أنّ علم اللّه يصبح في مرحلة التطبيق جهلاً، و لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ علم اللّه لايعني أنّ الإرادة الإلهية قد قررت مسبقاً أن يكون بنو الإنسان مجرّد آلات مسيّرة و لا إرادة لهم، مثل أية قطعة من قطع السيارة التي تتحرك بسبب حركة القطع الأُخرى، و لكن الإنسان ليس على هذه الشاكلة. فهو منذ أن جُبلت طينته الأُولى أودع اللّه فيه المقدرة على أن يكون ذا تصميم و إرادة.

ص:118

و رغم أنّ الإنسان يعيش كالموجودات الأُخرى في سياق القوانين الخاصّة السارية في هذا العالم و لايمكنه الخروج من سلطتها، و لكنه رغم ذلك تابع لتكوينه الذاتي. فقد أودعت في الإنسان قدرة على اتخاذ القرار، والتراجع عنه، واختيار واحد من عدّة خيارات، و بَعد الاختيار يمكنه إعادة النظر في ما وقع اختياره عليه.

و بعبارة أُخرى: جُبل الإنسان وفقاً لعلم اللّه الأزلي على القدرة على اتخاذ القرار، و على العزم والإرادة مع إعادة النظر في ما عزم عليه. فالإنسان لايستطيع التحرّك خارج دائرة نظام الوجود، بحيث يستطيع فعل كل ما يشاء من غير أن تحدّه قيود، و لا هو مسلوب الإرادة بحيث يمكن تسييره كما يُسيّر الحجر.

و عمل الإنسان معلول لإرادته واختياره، رغم أنّ إرادته جزء من عالم الوجود، و كل نظام رهين بإرادة اللّه الأزلية.

إنّ قضاء اللّه حتمي لاتبديل له، و لكن ليس من الواضح ما هو المصير الذي يؤول إليه كل موجود. و رغم أنّ قضاء اللّه حتمي، و لكن بما أنّ التقديرات خاضعة لمختلف علل عالم الطبيعة، و هذه العلل غير معدودة بحيث يمكن القول: إنَّ حادثة معيّنة ستقع بفعل تأثير عامل أو عدّة عوامل. فكل ظاهرة في الوجود، خاضعة لعللها و أسبابها، و قد تكون لها أنواع من العلل والأسباب. و وقوع الحادثة الواحدة لايمكن عزوه إلى سبب واحد أو عدّة أسباب.

و قد تكون للحادثة عدّة أنواع من العلل الناقصة غير المعروفة؛ أي أن يكون للمقادير المتفاوتة تأثيرها في تكوينها و إيجادها. فقضاء اللّه في وقوع الحادثة حتمي و لكن تقديره ليس كذلك؛ أي لابُدّ من تظافر الأقدار لوقوع أمرٍ ما، و عندما تتحقق كلها تقع الحادثة، ويُعرف حينذاك أنّ القضاء الإلهي أراد لها الوقوع. و لعلّ هذا هو ما يُفسِّر لنا ما فعله أميرالمؤمنين عليه السلام حين قام من تحت الحائط المائل، حيث نُقل أنه كان جالساً إلى جانب حائط مائل فنهض من هناك. فقيل له: أتفرّ من قضاء اللّه؟ قال: أفر من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عزّوجلّ.(1) فسقوط الحائط كان قضاءً محتماً، و هو الذي جعله يفرّ منه.

ص:119


1- الصدوق، التوحيد، ص 369، الحديث 8.

و على هذا الأساس فإنَّ كل ما يقع يقع، بقضاء اللّه: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ) .(1)

إنّ الإنسان محيط بأفعاله، و هو إذا أراد شيئاً و فعله تتحقق إرادته، وتقع الحادثة.

والحقيقة هي أنّ إرادة الإنسان تشكّل أيضاً جزءاً من قضاء اللّه و قدره. و أمّا علم اللّه الأزلي بالاُمور فهو علمه بالنظام، و من جملة النظام صدور الأفعال من الفاعل المختار.

الواقع يظهر لنا بكل جلاء أنّ القضاء والقدر لايُجبران الإنسان على شيء. فلو كان الإنسان - بموجب القضاء والقدر - مجبوراً على فعل شيءٍ، لَما أنزل اللّه كل هذه الآيات، و لما دعا إلى الإيمان والعمل الصالح، و لما حذّر من جهنّم وعذابها. فقد ورد في القرآن الكثير من التحذير لبني الإنسان، كما ورد فيه الكثير من البشائر. و هذا ما يدّل بكل وضوح على أنّ للإنسان دوراً أساسياً في رسم وصياغة مصيره: (ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ...) ، (2)(إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً) .(3)

لا جبر و لا تفويض

إذا كان اللّه لايجبر العباد على فعل شيءٍ معين، فهو تعالى مع ذلك لايُفوّض إليهم كل شيء. فالكَوْن و كل ما فيه - و منه الإنسان - خاضع لتدبير اللّه، و لكن هذا التدبير ليس على النحو الذي يجعلهم مسيّرين لا إرادة لهم. و إنّما أفعال العباد تجري بإرادتهم، و كذلك بإرادة و قدرة اللّه. أي أنّ إرادة العبد تقع في طول إرادة اللّه.

ورد في حديث شريف: «لا جبرَ و لا تفويضَ و لكن أمرٌ بَينَ أمرين.».(4) حقيقة الجبر هي إرغام العبد على فعل شيء من غير أن تكون له فيه إرادة. و حقيقة التفويض هي أنّ اللّه غير قادر على التأثير في عمل الإنسان، أي أنّ الإنسان متروك و شأنه. في حين أنّ الواقع

ص:120


1- سورة التغابن (64)، الآية 11.
2- - سورة الأنفال (8)، الآية 53.
3- سورة الإنسان (76)، الآيتان 2 و 3.
4- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 160، الحديث 13؛ الصدوق، التوحيد، ص 362، الحديث 8.

ينمّ عن شيء آخر. فبالتزامن مع عزم الإنسان على فعل شيء، هناك أيضاً إرادة اللّه التي لها تأثيرها في فعل الإنسان. والدليل على وجود إرادة الإنسان هو قدرته على ترك ذلك العمل.

و أمّا الدليل على وجود و تأثير إرادة اللّه فهو أنّ الإنسان كثيراً ما يعزم على القيام بعملٍ، و لكن تحصل موانع تثنيه عن تنفيذ إرادته. و هذا ما يكشف عن وجود إرادة أُخرى فوق إرادة الإنسان. و هو ما يعبر عنه أميرالمؤمنين عليه السلام بقوله: «عرفتُ اللّهَ سبحانه بفسخ العزائم و حلّ العقود و نقض الهِمَم».(1) فلو لم تكن هناك إرادة أُخرى، لماذا لاتتحقق كل رغبات الإنسان و إراداته؟ و في هذا السياق ورد حديث نقله الإمام الصادق عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حول أفعال العباد و مشيئة اللّه، قال فيه ما يلي: «مَن زَعَمَ انّ اللهَ يأمرُ بالسُوءِ والفَحْشاءِ فَقَد كَذَبَ عَلَى اللّهِ، وَ مَنْ زَعَمَ انّ الخيرَ والشرَّ بِغَيرِ مشيّةِ اللّهِ فَقَدْ اخْرَجَ اللّهَ من سُلطانِهِ، وَ من زَعَم انَّ المعاصِىَ بغيرِ قوّةِ اللّهِ فقد كَذَبَ على اللّهِ، وَ مَن كَذَبَ عَلَى اللّهِ ادْخَلَهُ اللّهُ النّارَ».(2)

الإيمان بالقضاء والقدر

الإيمان بالقضاء والقدر من المعتقدات الإسلامية. فقد روى أميرالمؤمنين عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن لم يَرْضَ بقَضائي و لم يؤمِنْ بقَدَري فَلْيلتمس الهاً غَيري».(3) و في الوقت ذاته قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «في كلِّ قضاءِ اللّهِ خيرةٌ للمؤمن».(4)

للإيمان بالقضاء والقدر صورة ظاهرة و هي عبارة عن الاعتقاد بأن كل ما يقع للناس في هذا العالم يأتي بقضاء اللّه و قدره، و لايقع فيه إلّاما قدّره اللّه: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اللّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا) .(5)

هناك من الناس من يرى في القضاء والقدر مدعاة للتراخي والتواكل والنكول عن أداء

ص:121


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 250، ص 511.
2- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 158، الحديث 6؛ الصدوق، التوحيد، ص 359، الحديث 2.
3- - الصدوق، التوحيد، ص 371، الحديث 11.
4- المصدر السابق.
5- سورة التوبة (9)، الآية 51.

الواجبات، والاستسلام للظلم. و هذا طبعاً فهم مغلوط للموضوع؛ لأنه يؤدي إلى الاستسلام للحوادث و عدم القيام بأي جهد للتحرر من الشقاء والظلم.

الملاحظة الأُخرى بشأن عقيدة القضاء والقدر هي أنّ الإنسان يجب أن يعلم بأن نظام الكَوْن يسير على قوانين، و لابُدّ لهم من صياغة أفعالهم وفقاً لهذه القوانين، و لايتصورون أنهم متروكون سدىً، و هو ما يعني بالنتيجة أنهم يستطيعون فعل ما يشاؤون، بل هناك السنن الإلهية. إنّ القضاء والقدر يبعث في النفوس الأمل بأن اللّه رقيب على كل ما يجري في هذا العالم، و أنه لا مفرّ لأحد من قضاء اللّه، و أنّه يستطيع فعل ما يشاء.

و في ضوء هذه الرؤية يسعى الإنسان إلى تحقيق إرادته، و إصلاح الفاسد من الأُمور والقضاء على الظلم من غير أن يشعر بأنه حرّ يفعل ما يشاء.

و لاشكّ في أنّ التسليم للقضاء والقدر لايعني أبداً الإحجام عن القيام بأي عمل، انطلاقاً من التصور بأن كل شيء يجري وفقاً لِما قُدِّر وكُتب من قبل، و هو ما يعني بالنتيجة أنه مجرّد من التأثير.

الشُرور

هناك الكثير من مظاهر الشر التي تصيب بني الإنسان كالعاهات، والمرض، والفقر، والوقوع في البلاء، والوقوع فريسة لظلم الظالمين، والموت، والمصائب الأُخرى، و ما إلى ذلك. و هذه قضية ذات أهمية كبيرة لبني الإنسان، و تشغل أفكارهم على الدوام. فما هو مصدر كل هذه الحوادث والظواهر المؤلمة والمريرة؟ فهل أنّ إرادة اللّه قضت أن يعيش الناس في البأساء والضراء و لايذوقوا طعم السعادة؟

يمكن إخضاع قضية الشرور للبحث من جانبين: أحدهما أن يُعزى الشر إلى اللّه. و لكن هذا لاينسجم مع ما يتّصف به سبحانه من حكمة وعدل. و أمّا الجانب الثاني فهو هل الفقر والشر والآلام والأمراض من صنع اللّه أم لا؟ فإن كان الجواب نعم، فلأي شيء خلق اللّه هذه الأُمور؟

نحن نشاهد بعض الناس يعيشون في شقاء و تعاسة و بلاء، بينما يعيش آخرون في رغد

ص:122

و نعمة و رفاه و رغم كل ذلك فإنّ بعضاً منهم جاحد لنعم اللّه. فعلى أي شيء يدل وجود مثل هذه الأُمور في العالم؟ و كيف يمكن تبرير وجودها؟ لابُدّ طبعاً من إيجاد تبرير لوجود هذه الشرور في العالم.

و لغرض تسليط الضوء على هذا الموضوع، نبيّن الأُمور التالية:

1 - النظام الذي نعيش فيه هو أفضل نظام ممكن لهذه الحياة، إذ يتجلّى فيه جمال الباري عزّوجلّ. فقد خلق اللّه العالم و جعل لكل شيء ما يتناسب معه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى) . (1) إذ إنه خلق كل شيء جميلاً: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ) ، (2) و هو أحسن الخالقين.(3) فاللّه جميل و قد جعل العالم تجلياً لجماله.

2 - ما يفعله اللّه يأتي بناءً على مقتضيات الحكمة. و كل ما يصدر عن الحكيم لا قبح فيه و لا زلل. و بما أنّ الشر شيء غير صحيح، فهو لاينطوي على مصلحة ذاتية، فلا وجه لايجاد الشرّ و العادة.

3 - الخير والشر أمران نسبيّان. بمعنى أنّ الشيء عندما يُقاس بشيء آخر، تُستنتج أوجه تفاوت يرى الإنسان بعضها خيراً و يعتبر البعض الآخر منها شرّاً. ثم إنّ الحديث عن الشرور لايكون إلّافي المواضع التي يُرتجى فيها خير.

إنّ كل شر يمكن أن يُطرح إلى جانب الخير. و إن انعدم وجود الخير يحصل تصوّر بأن هناك شراً. والشر نفسه حصيلة لوجود الخير. و لايمكن تصور موضع يكون فيه شر بدون وجود الخير.

4 - المادة التي يتألّف منها العالم لها مقتضياتها. و لابُدّ أن تتبدّل أحوالها لكي تسير نحو التطوّر والكمال، و لايحصل أي تكامل في هذا العالم من غير تبدّل و تحوُّل، و هذا الكَوْن لاينسجم مع الثبات، و إنّما شأنه الحركة. و عندما يكون الشيء في حركة دائمة فلابّد أن تقع في أثناء ذلك أُمور تبدو في الظاهر شرّاً. و يفهم من خلال النظرة الكلية أنه ما لم يكن هناك شر لايتحقق الخير. و إذا لم تعرض على المادة عوارضها فهي تفتقد لخاصيّتها المادية.

ص:123


1- - سورة الأعلى (87)، الآيتان 1 و 2.
2- سورة السجدة (32)، الآية 7.
3- سورة المؤمنون (23)، الآية 14.

و عندما يعرض لها ذلك تواجه حالة من الزيادة والنقصان. و هذا الأمر يوصف بأنّه شرٌّ. و إذا اريد للمادة أن تقدّم شيئاً فلابّد أن يحصل فيها نوع من التبدّل، والتبدّل يفرز حالات من الزيادة والنقصان، و هذا هو ما يُسمّى بالشرور. والمادة التي تنشأ منها الموجودات الطبيعية ذات قدرات، و يصاحبها أحياناً نقصان، و لابد أن يحصل فيها تحوّل لفقد شيء. و إلى جانب هذا التبدّل يُسمّى ما يُفقد شرّاً. و إذا كان هناك تصوّر بان المادة لاينبغي أن تفقد شيئاً عند الصيرورة لكي لايقع شر، فهذا التصوّر خلاف لماهية المادّة. ولو ان مثل هذا الشيء لايحصل لما تحقق أي تكامل في عالم المادّة، و هذا بحد ذاته شرّ أعظم.

و على أيّة حال فإن عالم الطبيعة هو عالم التدرّج والحركة. و في مثل هذا العالم لابد أن تقع تبدّلات في المادّة لكي تطوي الطبيعة مسارها الصحيح و تصل إلى الوضع المطلوب.

و في خضم عملية التبدّل والتغيير تُفقد أشياء و تُكسب أشياء أخرى غيرها. و ما يُفتقد يُحسب شراً بالمقارنة مع ما يُكتسب، و لكن للخير المكتسب أهمية يهون إلى جانبها الشرّ الحاصل.

5 - هناك بين الموجودات أوجه من التفاوت والاختلاف ناتجة عن طبيعتها، و على أساس الدور المرسوم لكل واحد منها في هذا الوجود. و لايمكن أن تكون الأشياء متساوية أو على نمط واحد لأَنَّ ذلك يعني توقف كل شيء وهلاكه. و في الكثير من المواقف ربّما يُعزى الشر إلى وجود هذه الاختلافات أو عدم التساوي.

فهناك تصور بأنّه لاينبغي أن تكون بعض الموجودات أضعف من غيرها. و يمكن القول بإيجاز: إنّ العلّة المادّية لبعض الكائنات، والعلّة الغائية لبعضها الآخر، هو الذي أدى إلى ظهور فوارق و تفاوت بينها. و هذا عين الحكمة.

و على هذا الأساس فإنَّ بعض الشرور منبثقة من طبيعة العالم و ناجمة عن حركته.

والحقيقة أنها ليست ذات أهمّية بالقياس إلى الخير الذي يتمخّض عنها.

إنّ بعض الشرور ناتجة عن السلوك غير الأخلاقي لبني الإنسان، و متأتّية عن الاختيار والقدرة المغروسة في ذات كل واحد منهم. و من الطبيعي أن يحصل تعارض وتزاحم بين الناس عند سعي كل واحد منهم لتحقيق أهدافه و غاياته، و هو ما يؤدّي بالنتيجة إلى طمس

ص:124

الحق و إزهاقه، و لكن بعض الشرور هي في الواقع ليست إلّافي النظرة العرفية، كالموت الذي ليس فيه شر بحدّ ذاته.

و يمكن القول بإيجاز: إنّ كل ما خلقه اللّه يتسم بالحكمة. أمّا الشر فهو شيء نسبي و ناتج عن طبيعة الأشياء، و ملازم لحركتها نحو الغاية التي خلقت لها. و أمّا الشر الناتج عن التزاحم بين مصالح الناس، فهو ممّا لايرتضيه اللّه، و قد شرّع سبحانه الأحكام والقوانين للحيلولة دون وقوعه.

ص:125

النبوّة

الحاجة إلىٰ الدليل والهداية

اشارة

الإنسان لايملك إلّاقدرة محدودة لمعرفة كل جوانب هذه الحياة الطويلة الحافلة بالمنعطفات. و على صعيد آخر فقد خلق الإنسان و هو يحمل بين ثناياه الكثير من الميول والرغبات. و هذا ما جعل منه مخلوقاً متميزاً عن غيره من المخلوقات، و لكن جعله - في الوقت ذاته - عرضة للكثير من المخاطر. و لاشكّ في أنّ معرفة الطريق القويم، و وجود القدوة الصالحة من ضروريات حياة الإنسان. و على صعيد آخر يعتبر الإنسان كائناً اجتماعياً. ثم إنّ العيش في المجتمع واجتناب المخاطر المحتملة ممكن مع وجود الإرشاد والهداية.

إنّ العيش في الحياة الاجتماعية يؤدّي إلى تعارض المصالح و تضاربها. و ذلك بسبب رغبة كل إنسان في حيازة المنافع لذاته و إبعاد الضرر عن نفسه. و من هنا فهو يعمل في سبيل تسخير الآخرين لخدمته. و هذا ما يؤدي بالنتيجة إلى ظهور الحياة الاجتماعية التي يحصل في أثنائها أحياناً اعتداء على حقوق الآخرين.

الناس يستفيدون من بعضهم عادة بشكل متبادل، و كل واحد منهم يخدم الآخرين بشكل مباشر أو غير مباشر. و إذا كان تسخير بعضهم لبعض يجري سلمياً و تعاونياً فلا تقع مشكلة، أو قد تتقلص المشاكل إلى أدنى حدٍّ ممكن، و لكن، بما أنّ بني الإنسان متفاوتون من حيث القدرات والكفاءات والجوانب الأُخرى، فمن الطبيعي أن يؤدّي ذلك إلى أن تتمخّض عن أعمالهم و نشاطاتهم نتائج متفاوتة. و على صعيد آخر يتّسم الإنسان بصفة حُبّ التفوّق والتعالي. كما أنّ تقاطع المصالح يضيّق المساحة المفسوحة للسلوك الاجتماعي السلمي. وهنا ينبغي البحث عن السُّبل الكفيلة بحصول أفراد المجتمع على

ص:126

حقوقهم، و تضمن سعادتهم و تحول دون عدوان بعضهم على بعض.

لكل إنسان من حيث كَوْنه إنساناً حقوق، منها: حق الحياة، والحريّة، واختيار العمل والسكن. و حفظ النظام الاجتماعي، و منع هضم حقوقهم، يتطلب أن يعرفوا حدود سلوكهم، و أن يسيروا في إطار القوانين المقررة لهم. و لاشكّ في أنّ القوانين الفاعلة لأداء هذه المهمّة تتسم بما يلي:

1 - أن يكون الناس مؤمنين و مقتنعين بها، و يعتبرون الالتزام بها جزءاً من واجباتهم.

2 - أن تأخذ بنظر الاعتبار مصالح كل الناس.

3 - أن تجعل نصب عينها جميع جوانب حياة الإنسان الدنيوية والأخروية.

4 - أن تلبّي تطلعات الإنسان و تستجيب لمتطلّباته الأساسية.

5 - أن تكون لها ضمانة تنفيذية، فضلاً عن دوافع ذاتية تنطلق من نفوس الأفراد و تجعلهم يلتزمون بأوامرها و يمتنعون عن نواهيها.

من الممكن طبعاً تلبية قسم من هذه الخصائص بواسطة العقود الاجتماعية، أو من خلال التعويل على رأي أكثرية الناس، و لكن لايمكن تلبيتها كلّها بالعقد الاجتماعي أو برأي الأكثرية.

و فضلاً عما ذكر آنفاً لايمكن لأحد سنَّ مثل هذه القوانين للناس، إلّاإذا كانت لديه إحاطة تامّة بكل خصائصهم و متطلباتهم و مصالحهم. والناس بأنفسهم غير قادرين على سنّ قوانين تراعي الخصائص التي سبق ذكرها؛ و ذلك لسببين.

أوّلاً: لأنهم بمقتضى طبيعتهم محكومون بالنزعة النفعية وحُبّ التفوّق والاستعلاء. و من الطبيعي أنّ كل شخص أو جماعة تحرص على تشريع القانون الذي يخدم مصالحها الذاتية والفئوية.

و ثانياً: إنّ تشريع القانون يستلزم أن يكون المشرّع على معرفة تامّة بكل متطلّبات الإنسان و أن يأخذ بنظر الاعتبار مسبقاً الضمانة التنفيذية له، هذا فضلاً عن الوعي بعواقب تنفيذ ذلك القانون، و مدى شموليته لكل جوانب و مراحل حياة الإنسان الطويلة.

ص:127

الإنسان ليس لديه اطلاع على بعض الأُمور، و هناك أُمور أُخرى ليس لديه اطلاع تام بشأنها. نذكر من ذلك على سبيل المثال: أنّ الطريق إلى السعادة شيء مطلوب لدى الإنسان، و لكنّه في الوقت ذاته مجهول لديه، بل حتى لو كانت لديه معلومات وتصوّرات عنه، غير أنه غير واثق بها و لامتأكّد منها. و لايمكن أن يحيط بكل جوانب حياة الإنسان إلّااللّه. و من الطبيعي أن يكون التشريع الصادر منه تعالى، مراعياً لكلّ المصالح و عادلاً. و أمّا الدعامة التنفيذية لتطبيق أحكام اللّه و تشريعاته فهي الإيمان القلبي بها. فكل مؤمن يشعر بالمسؤولية أمام اللّه و يحرص على رعاية حرمة القوانين الإلهية.

و على صعيد آخر فإنّ اللّه عزّوجلّ مطلق، بينما الإنسان موجود مادي و محدود. و قد اصطفى اللّه من الناس أفضلهم و أخيرهم و كلّفه بمهمة إبلاغ رسالته إلى عباده، و دعاهم فيها إلى العمل بما فرضه عليهم فيها من التكاليف ليكون في ذلك ضمان لتنظيم العلاقات بينهم، و منع بعضهم من الاعتداء على حقوق الآخر منهم.

و على هذا الأساس يمكن القول: إنّ الأنبياء هم أول المشرّعين الذين كان كل واحد منهم بمثابة دليل وهادٍ لضمان تحقيق الجانب المعنوي لبني الإنسان، و كان لهم دور في مساعدتهم في تحقيق السعادة والحياة الهانئة.

ضرورة بعث النبيّ في المصادر الدينية

لعالم الوجود خالق حكيم، خلقه بحكمته وجعل له غاية يسعى إليها. والكائنات في هذا الوجود تسير بانتظام و انسجام نحو الغاية التي رسمها اللّه لها: (إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، (1)(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) . (2) إنّ كل ظواهر الوجود ذات هدف و هي آيات اللّه تعالى. ففي خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار آيات لأولي الألباب.(3) و في هذا المضمار، يتّصف الإنسان بمقدرة و مؤهّلات و قدرة عالية على الفهم والاستيعاب. كما أنّه يتّصف بحبّ الكمال والسعي إلى الحق، واجتمعت في ذاته نوازع

ص:128


1- - سورة الشورى (42)، الآية 53.
2- سورة طه (20)، الآية 50.
3- - سورة آل عمران (3)، الآية 190.

متضادّة. و مثل هذه الخصائص جعلت منه موجوداً متميّزاً، و لكن هذا جعل منه أيضاً كياناً معرّضاً لكثير من المخاطر. حيث من المحتمل أن ينحرف عن المسار الذي أراده اللّه له.

فميوله النفعية تسوقه إلى منحدرٍ آخر و تجعل منه موجوداً خطيراً: (أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ) .(1)

مع أنّ الإنسان طاهر و نقي بالفطرة، و مجبول على الهداية تكويناً، بيد أنه بحاجة ماسّة إلى هداية أُخرى. هناك غاية أرادها اللّه من خلق الإنسان (أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) .(2)

الإنسان لم يُخلق ويُترك على هواه، ولو أنه كان قد خلق و تُرك على هواه، لكان ذلك فعلاً عبثاً. و إنّما يحيط الخالق تعالى الإنسان بالرعاية والاهتمام وجعل له أحسن ما يمكن من القوام و قوى الإدراك. و حتى أنه كما يقول ابن سينا: خصّ الإنسان بتقعير الأخمص من القدمين.(3) و هذا يعني أنه لايتركه سدىً، و لايمكن أن لايرسل له هادياً؛ إذ إنّ هذه القضية في غاية الأهمية. فالباري عزّوجلّ زوّد الإنسان من حيث التكوين بأُذنين و عينين، و لسانٍ، و شفتين، و غيرها من الأعضاء الأُخرى الضرورية لممارسة حياته المادية، و لإدراك الأضرار والمفاسد الظاهرية و معرفة المصالح والمنافع الدنيوية. و أمّا بالنسبة إلى معرفة طريق السعادة والكمال فقد جعل له عقلاً و أرسل له الأنبياء (أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ * وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) .(4)

و قد ورد في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال رداً على سؤال زنديق سأله عن الكيفية التي يمكن أن يثبت بها وجود الأنبياء: «إنا لَمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا و عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصانع حكيماً متعالياً، لم يجز أن يشاهده خلقه و لايلامسوه فيباشرهم و يباشروه، و يحاجهم و يحاجّوه، ثبت أنّ له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه و عباده، و يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما به بقاؤهم و في تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبّرون عنه

ص:129


1- سورة البقرة (2)، الآية 30.
2- سورة المؤمنون (23)، الآية 115.
3- - ابن سينا، الشفاء، ج 2، المقالة 10، ص 441.
4- سورة البلد (90)، الآيات 8-10.

جلّ وعزّ، و هم الأنبياء عليهم السلام و صفوته من خلقه».(1) و استناداً إلى هذا الحديث فإنّ حكمة اللّه تقضي أن يرسل للناس الأنبياء ليبيّنوا لهم طريق المصالح والمفاسد، والنهج الموصل إلى الكمال.

و قد صرّح القرآن الكريم بهذه الضرورة في قوله: (وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (2) و قال في موضع آخر أيضاً: (وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ) .(3)

سؤال حول محدودية المنطقة التي بعث فيها الأنبياء

من الممكن أن يُثار هنا تساؤل و هو: إن كانت هناك مثل هذه الضرورة لبعثة الأنبياء، فلماذا ذكر فقط الأنبياء الذين بعثوا في منطقة محددة كالشرق الأوسط؟ ألم يُبعث أنبياء في البقاع الغربية من الأرض أو في المشرق، و إن كانوا قد بعثوا فلماذا لم يُذكروا؟.

و كما سبقت الإشارة فإنّ الحاجة إلى الأنبياء من الأُمور التي يحتاج إليها جميع الناس.

و قد أكّد القرآن على أنّ كلّ أُمة جاء فيها رسول. و إذا لم يُذكر أنبياء بعض الأقوام فهذا لايدلّ على عدم بعث نبي فيهم، هذا أولاً، و أمّا ثانياً: فإنَّ القرآن ذكر بعض الأنبياء و لم يذكرهم كلهم، كما نص على ذلك بقوله: (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) . (4) و معنى هذا أنّ عدم ذكر أنبياء مناطق أُخرى لايشكّل دليلاً على عدم بعث الرسل لهم.

و على صعيد آخر أُريد من بعثة هؤلاء الأنبياء أن تصل مدياتها إلى أكبر عدد ممكن من جموع المخاطبين. و كان تطوّر الكتابة في عصر الأنبياء المتاُخرين سبباً لتدوين و حفظ ثقافاتهم المكتوبة و رسالاتهم، في حين أنّ التدوين الذي ادّى إلى حفظ اليهودية والمسيحية لم يشاهد مثله بشأن البوذية و الكونفو شيوسية و الزرادشتية، و إلّافالكثير من هؤلاء يُنظر إليهم كمصلحين و دعاة إلى المعنوية. و لعلّهم كانوا أيضاً أنبياء مبعوثين من اللّه.

ص:130


1- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 168، الحديث 1.
2- - سورة يونس (10)، الآية 47.
3- سورة فاطر (35)، الآية 24.
4- - سورة غافر (40)، الآية 78.

و لابد من الإشارة أيضاً إلى أنّ مكان بعض الأنبياء الذين ذكروا في القرآن لايُعلم حتى الآن على وجه الدقّة، أو أنّ أسماءهم باللغة العربية لاتتطابق مع الأسماء المحلية المعروفة لهم، لكي يتضح انعكاس رسالاتهم في ضوء ذلك، كنوح، و إدريس، و أنبياء عاد وثمود، إذ هناك جدل حول المنطقة التي بُعث إليها كل واحد منهم.

إتمام الحجة

ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال: «إنّ للّه على الناس حجّتين: حجة ظاهرة، و حجّة باطنة؛ فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء، و أمّا الباطنة فالعقول».(1) و قد صرّح القرآن الكريم على حجية الأنبياء و إتمام حجة اللّه على عباده بإرسال الأنبياء. و من ذلك ما ورد في سورة النساء بَعد الإشارة إلى وظيفة الأنبياء في التبشير والإنذار، و هو قوله: (لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) . (2) فهو وجلّ يحتج في يوم القيامة على الناس و يقول لهم: ألم أبعث لكم رسلاً يتلون آياتي عليكم.(3)

و بيّن القرآن الكريم - أيضاً - أنّ اللّه لايهلك قوماً إلّابَعد إتمام الحجّة عليهم.(4)

و أشار أميرالمؤمنين عليه السلام - في الخطبة الأُولى من نهج البلاغة - إلى أنّ اللّه لايترك الأرض من غير حجّة. و من أسباب بعث الأنبياء أيضاً تذكير الناس بالميثاق الفطري بين العباد وربّهم، وللاحتجاج عليهم أيضاً بما أودعه اللّه فيهم من فطرة «و يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغ».(5)

مكانة الأنبياء

النبوّة رقي للسعة الوجودية بحيث يستطيع الشخص إيجاد علاقة مع عالم الغيب

ص:131


1- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 16، الحديث 12.
2- - سورة النساء (4)، الآية 165.
3- سورة الأنعام (6)، الآية 130.
4- سورة القصص (28)، الآية 59؛ سورة يونس (10)، الآية 47.
5- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 1، ص 43.

والملائكة و تلقّي رسالة منهم. و كيفية تلقي الوحي من قبل النبيّ هي أن ضمير النبيّ يتّصل بعالم الغيب والملكوت. و اثناء العروج الروحي للنبي يبلغ مقاماً يمكن أن يكون فيه واسطة بين عالم الغيب والشهادة و يتبوّأ منزلة يكلّمه فيها ربّه. و بعبارة أخرى ان الرسالة عبارة عن انبعاث داخلي يتعلق من ناحية بالنبيّ نفسه بحيث يستطيع الارتقاء إلى هذا المقام، و من ناحية أخرى تمنحه الرعاية الإلهية مثل هذه الأهلية و تثبّتها فيه.

الأُصول المشتركة بين الأنبياء

اشارة

هناك أُصول مشتركة بين دعوة الأنبياء، و إذا تجاوزنا الأساليب والأحكام الخاصّة، يتضح أنهم يؤكّدون على مبادىء واحدة أيضاً، و أهمها ما يلي:

1 - الدعوة إلىٰ التوحيد

المحور الأساسي في دعوة الأنبياء هو الدعوة إلى التوحيد، و رفض الشرك وعبادة الأصنام. وجوهر تعاليم الوحي منذ بدايتها و إلى نهايتها هو التوحيد بكل جوانبه. و أمّا سائر المبادىء التي دعوا إليها فهي متفرعة عنه و تأتي في مرتبة لاحقة، و منها محاربة المفاسد الأخلاقية والرذائل الاجتماعية.

وردت في سورة الأعراف العبارة التالية نقلاً عن عدد من الأنبياء: (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (1) و بيّنت سورة الأنبياء قبل الحديث عن قصص بعضهم، أنّ الهدف المشترك بينهم جميعاً هو الدعوة إلى عبادة اللّه الواحد الأحد (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) .(2)

ص:132


1- - سورة الأعراف (7)، الآيات 59، 65، 73 و 85.
2- سورة الأنبياء (21)، الآية 25. و في هذا المجال أيضاً راجع: سورة الأنبياء (21)، الآية 108؛ سورة الصافّات (37)، الآية 126؛ سورة ص (38)، الآية 65؛ سورة الزمر (39)، الآيات 11، 12، 64 و 65؛ سورة غافر (40)، الآية 66؛ سورة الزخرف (43)، الآيات 45، 63 و 64.
2 - الإخبار عن الآخرة

من أهمّ المحاور المشتركة بين الأنبياء هو الإخبار عن الآخرة، ولفت أنظار الناس إلى رجوعهم إلى ذلك العالم. و قد وردت في القرآن الكريم أكثر من ألف و خمسمئة آية حول المعاد باعتباره عالم الغيب. و هو العالم الذي لايستطيع غير الأنبياء الإخبار عنه والدعوة إلى الإيمان به. و لهذا يؤكّد القرآن الكريم في عدّة آيات على هذا المبدأ، و هو أنّ من يؤمنون باللّه والآخرة و يعملون صالحاً يجزيهم اللّه أحسن الجزاء.(1)

3 - الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي

لرسالة الأنبياء جوانب اعتقادية و أخلاقية واجتماعية، و هي لاتقتصر على الدعوة إلى عبادة اللّه والإيمان باليوم الآخر. فقد دأب الأنبياء على محاربة الخرافات والمفاسد الأخلاقية والمفاسد الاجتماعية. ففي عصر موسى عليه السلام كانت المسألة الأكثر أهمية من بَعد التوحيد، هي الانعتاق من الحكم المستبد في عصره، والسعي لتحقيق الحريّة الاجتماعية.

و قد حرص النبيّ موسى عليه السلام على طرح هذه القضايا أكثر من غيرها.(2)

و في عصر نوح عليه السلام،(3) و في عصر هود عليه السلام،(4) و في عصر صالح عليه السلام(5) كانت المشكلة الأساسية استكبار الطبقة المترفة. و في العصر الذي بُعث فيه النبيّ شعيب عليه السلام كانت الظاهرة الشائعة هي الفساد الاقتصادي و بخس الوزن في البيع.(6) أمّا الظاهرة التي كانت شائعة في عهد النبيّ لوط عليه السلام، فهي ظاهرة اللّواط بحيث كان الهدف الأساسي الذي ركّزت عليه رسالته هي محاربة هذه الظاهرة القبيحة.(7) و كانت رسالة هؤلاء الأنبياء تدعو إلى عبادة

ص:133


1- سورة البقرة (2)، الآية 62؛ سورة المائدة (5)، الآية 69.
2- سورة الشُعراء (26)، الآيات 10-68.
3- - سورة الشُعَراء (26)، الآيات 105-122.
4- سورة الشُعَراء (26)، الآيات 123-140.
5- سورة الشُعَراء (26)، الآيات 141-159.
6- - سورة الشُعَراء (26)، الآيات 176-190؛ سورة الأعراف (7)، الآيات 85-93؛ سورة هود (11)، الآيات 84 و 95.
7- - سورة الشعراء (26)، الآيات 160-174.

اللّه مع توجيه الأنظار إلى أركان المعتقدات الدينية، و كانت في الوقت ذاته تحارب الظواهر السلبية السائدة في المجتمع.

تدل كل هذه المعالم على أنّ الهواجس الأساسية التي كانت تجتذب اهتمام الأنبياء هي فكرة التوحيد وتطهير أفكار و أرواح الناس من معتقدات الشرك والخرافة. و توجيه الأنظار إلى عالم الآخرة، هذا إلى جانب معالجة القضايا الاجتماعية و واقع الحياة. لكن المحور الأساسي لدعوة الأنبياء هو تطهير النفوس والارتقاء بالجانب المعنوي من أجل قبول فكرة التوحيد والابتعاد عن الشرك، و لكنّهم لم يقفوا عند هذا الحد و إنّما اهتموا بالجوانب الأُخرى كمقدمة و تمهيد للرقي المعنوي، مثل قضية العدالة و محاربة الظلم.

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم حول مهمّة الأنبياء: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ...) .(1)

اضطلع الأنبياء بدور بارز في الإصلاح الاجتماعي. و هناك قسم مهم مما تحدّث به القرآن حول الأنبياء يتعلّق بدورهم الاجتماعي.(2) و هذا يعني أنّ هدف الأنبياء كان إصلاح شؤون الناس الدنيوية والأخروية. و هذا ما لم يكن بوسع الناس تحقيقه بدون المنهج الذي جاء به الأنبياء. و حتى لو أنهم توصّلوا إلى شيء في هذا المجال، فإنّهم ما كانوا يعرفون السبيل المؤدية إلى تنفيذه بنجاح.

اصطفاء الأنبياء

لقد اصطفى اللّه للنبوّة من بين الناس أطهرهم و أصلحهم و أفضلهم سمعة و خيرهم سيرة، ليحوزوا إضافة إلى ثقة اللّه، ثقة أبناء مجتمعهم؛ و ذلك لأن ظاهر كلام كل نبيّ يكون مع أبناء مجتمعه، فإن لم يكن موضع ثقتهم، أو لم تكن له سمعة طيّبة بينهم لاتثمر الجهود التي يبذلها لهدايتهم، و يفشل في إثبات نبوّته.

ص:134


1- سورة الحديد (57)، الآية 25.
2- - الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان، ج 3، ص 146 و 147.

الوحي

اشارة

الوحي بمعنى الإشارة السريعة، والكلام الذي يأتي على سبيل الرمز والتعريض.(1) و تدل موارد استعمال كلمة الوحي في القرآن على أنّ المراد منها نوع من العلاقة الرمزية والإشارية. و قد تكون مثل هذه العلاقة بين اللّه و مخلوقاته، أو بين الناس، أو بين الشياطين. جاءت كلمة الوحي في القرآن بشأن تدبير السماوات، والوحي إلى الأرض، والوحي إلى النحل، والوحي إلى أُمّ موسى عليه السلام، والوحي إلى الأنبياء. و يستدلّ من الأُمور المذكورة على أنّ الوحي شيء خفي ورمزي.

تتحقق علاقة اللّه مع الأنبياء بواحد من الطرق المذكورة: الوحي، التكلم من وراء حجاب أو إرسال الرسل: (وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) . (2) و قد يأتي الوحي إلى الأنبياء في اليقظة تارة، أو أثناء المنام تارة أُخرى. و يتّخذ طابع الرؤيا كما حصل بالنسبة إلى النبيّ إبراهيم عليه السلام الذي رأى في المنام أنه يذبح ابنه(3) فاعتبره حُكْماً إلهياً، و نفّذ ما وجب عليه تنفيذه.

والأنبياء معصومون في تلقّي الوحي و حفظه و إبلاغه للناس. و لا تأثير لهم في مضمون الوحي، و يحظون بتسديد إلهي خاصّ أثناء تلقي الوحي و إبلاغه.

الّذين لايدركون حقيقة الوحي لاينبغي لهم إنكاره؛ لأَنَّ عدم إدراك الشيء لايعني انعدامه. مثلما هو الحال بالنسبة إلى الأعمى الذي يعجز عن إدراك الألوان بطرق وثيقة لديه، و لهذا لايستطيع تصوّرها و قبولها عندما يُخبر عنها في المرّة الأُولى، و لكنّ هذا الحال لايبيح له - طبعاً - إنكار ذلك.

و يمكن من باب التشبيه اعتبار الوحي كالمنام. فمثلما أنّ الإنسان يدرك في عالم المنام حقائق قد لايدركها في عالم اليقظة. ويُحتمل أن يدرك في عالم اليقظة حقائق عن طريق

ص:135


1- - الراغب الاصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ص 858.
2- - سورة الشورى (42)، الآية 51.
3- - سورة الصافّات (37)، الآيات 102-104.

سبل غير متعارفة. و قد يأتي ما يراه في عالم الرؤيا صريحاً تارة، و قد يحتاج إلى تفسير تارة أُخرى. فإن كان هناك شخص لم يمر بتجربة المنام، و قيل له بأن بعض الناس عندما ينامون و تتوقف كل حواسهم عن العمل كالموتى، و لكنّهم قد يتّفق لهم أن يطّلعوا - وهم في هذا الحال - على بعض الحقائق، فهو بطبيعة الحال قد لايصدق و قد يقول: إنّ وسائل الإدراك لدى الإنسان هي الحواس الظاهرية، فإذا توقفت عن العمل، لايتسنّى له إدراك شيء، و لكنّ التجربة تثبت بطلان رأيه طبعاً. فمثلما يدرك العقل في مرتبة معيّنة حقائق من المعقولات التي لاتُدرك بالحواس، فهكذا الحال أيضاً في ما يخصّ الوحي؛ إذ يُعطى النبيّ في هذه المرتبة بصيرة يدرك بها الأُمور الغيبية الخافية على العقل.

تشخيص الوحي من قبل النبيّ

كيف و عن أي طريق يُدرك النبيّ بأنه قد أُوحي إليه؟ و بأيّ معيار يفهم بأن ما يحصل له وحياً و ليس وساوس و هواجس شيطانية؟ هذا السؤال عرضه زرارة على الإمام الصادق عليه السلام، فأجابه بما يلي: «إنّ اللّه إذا اتّخّذَ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكأنَّ الذي يأتيه من قبل اللّه مثل الذي يراه بعينه».(1) و انطلاقاً من هذه الثقة، كان الأنبياء يطرحون تعاليمهم بحزم و من غير تردّد. و ليس هناك من نبي كانت لديه شكوك في ما دعا إليه الناس. و هذا هو أحد الفوارق المهمّة بين الأنبياء والنوابغ، فالنوابغ رغم ما يتّصفون به من نبوغ غير أنهم كثيراً ما يبدّلون آراءهم و يحتملون خلاف ما يقولون به. بينما النبيّ عندما يتلقّى الوحي و يشهد الواقع، تزول من أمامه الحجب، و يدرك كل شيء بالعلم الحضوري.

طرق إثبات النبوّة

اشارة

النبوّة أمر معنوي و إلهي. و للوثوق من صحّة ادّعاء من يدعي هذا المقام، لابُدّ أن تكون لديه حُجّة. و نحن نورد في ما يلي بضع ملاحظات - بإيجاز - في مضمار إثبات نبوّة النبيّ،

ص:136


1- - تفسير العياشي، ج 2، ص 201؛ الصفّار، محمّد بن الحسن، بصائر الدرجات، ص 370.

حالات الأنبياء قبل وبَعد البعثة، والمنهج الذي سلكوه، تمثّل شاهداً صريحاً على حقّانيّتهم.

كما ورد على صفحات التاريخ أنّ النجاشي ملك الحبشة أيقن بحقّانية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و آمن به، بعد أن استخبر عن أحواله من موفدي قريش إليه.(1) و من السُبُل الموصلة إلى ذلك، النظر في محتوى رسالته و تعاليمه، و مقارنة كل نبي مع من سبقه من الأنبياء، وتصديقه لمن جاؤوا قبله منهم و بشارة نبي قبله بمجيئه، والأهم من كل ذلك أن تكون له معجزة.

المعجزة
اشارة

جعل اللّه لكل بني دلالات يُستدل بها على صدق ما يدّعيه. والتعابير التي استعملها القرآن للتعبير عن هذا المعنى هي: البينة، والبرهان، والحجة، والآية. فالبيّنة هي الدليل الواضح الذي لايبقى معه لدى المنصف أي شكّ في صدق المدّعى. نقلت سورة هود عن الأنبياء نوح و صالح و شعيب عليهم السلام أنّ كل واحد منهم قال لقومه: (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) . (2) و من الطبيعي أنّ الناس يتوقّعون من مدّعي النبوّة أن يقدّم براهين تثبت ارتباطه باللّه. كما أنّ السنّة الإلهية قضت بتزويد الأنبياء ببراهين بيّنة لكي يؤمن الناس بهم بثقة واطمئنان (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) .(3)

و لكنّ الناس أحياناً ما كانوا يكتفون بهذا، و إنّما كانوا يطالبون الأنبياء بمعجزات لإثبات صحّة ما جاؤوا به. و في مثل هذه الحالات كان النبيّ يأتي بما من شأنه أن يبيّن للناس بأنّه يستند إلى قدرة تفوق قدرة البشر، و أنه على ارتباط عميق بعالم الغيب.

حقيقة المعجزة

المعجزة عمل خارق يقع لإثبات ادّعاء أمر إلهي. فمدّعي النبوّة يأتي بمعجزة لإثبات منصبه الإلهي، و يتحدّى مكذّبيه في أمر النبوّة بحيث يبقون عاجزين عن الإتيان بالعمل الذي يظهره للناس. و هذا يعني طبعاً أنّ الأعمال الخارقة التي يقوم بها المشعوذون

ص:137


1- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 20، ص 392، الحديث 8.
2- - سورة هود (11)، الآيات 28، 63 و 88.
3- سورة الروم (30)، الآية 47.

والمرتاضون والسّحرة لاتعد من المعاجز؛ و ذلك لأنهم يأتون بمثل هذه الأعمال نتيجة لخبرة و تمرين يكتسبونه من الآخرين، ثم أنهم لايدّعون النبوّة، و ليست لديهم مقدرة على التحدّي؛ لأنهم يعلمون بقدرة الآخرين على الإتيان بنظير هذه الأعمال عن طريق التمرين والتعلّم.

المعجزة و قانون العلّية

إنّ المعجزة - باعتبارها عملاً خارقاً للعادة - تثير في الأذهان شبهة مفادها أنّ مثل هذا العمل ينقض قانون العلّيّة. والحقيقة هي أنّ الأمر ليس كذلك، و إنّما المعجزة شيء قابل للتحقق بحد ذاته، و لكن لايمكن تحقيقه بشكل عادي و بالعلل والأسباب الطبيعية، و لكن النبيّ يقوم به بإذن اللّه و بطرق غير معهودة. نذكر على سبيل المثال أنّ نواة التمر إذا غرست قد تصبح نخلة بَعد عشر سنوات، و لكنّها قد تثمر في مدّة أقل لو تولّى رعايتها شخص متخصص بالزراعة، و فيما لو تطوّر علم الزراعة، و لكن تحويل النواة إلى نخلة في دقيقة واحدة ليس في مقدرة البشر، غير أنه ليس أمراً مستحيلاً. فأمثال هذه الأُمور ممكنة، و لكن لابُدّ أن تكون هناك علّة لها. والعلل قد تكون ظواهر طبيعية تارة، أو قد تكون غير طبيعية و غير محسوسة تارة أُخرى. فتأتي قدرة وعلّة أُخرى و تعجّل في حصول العوامل، فيقع ذلك الأمر في أقل زمان فيقال بأنّ معجزة وقعت. و من أعظم العلل الموجبة للمعجزة، إرادة و قدرة اللّه التي تأتي عن طريق علل خفيّة.

الهدف من المعجزة

تأتي المعجزة للكشف عن حقيقة فحسب، و لكن ربّما كان أعداء و معارضو الأنبياء يطلبون منهم الإتيان بمعجزة، و لكن تلك المعجزة قد لاتتحقق و ذلك للأسباب التالية:

أوّلاً: إنّ المطالبين بالمعجزة لايريدون التوصل إلى الحقيقة و إنّما غايتهم إيذاء النبيّ.

نذكر مثلاً، أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما

ص:138

زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) . (1) و هذه المطاليب تدل بكل وضوح، على أنّ هدف المشركين لم يكن التوصل إلى الحقيقة، و إنّما طلبوا تلك المطاليب من باب العناد والمكابرة. و هذا يعني أنهم لايؤمنون حتى لو تحققت هذه المطاليب.

ثانياً: كان هدف المعجزات هو ان يستثير الأنبياء فطرة الناس و يستميلوا قلوبهم نحو الجانب المعنوي. و لهذا قال لهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً) . (2)(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) .(3)

ثالثاً: والأهم من كل ذلك أنّ الاحتجاج بالمعجزات ليس هو الأصل في عمل الأنبياء و إنّما الأصل في ذلك، الدليل والشاهد على الرسالة والنبوّة و قبول ذلك عن ثقة.

اختلاف المعجزات

يُستشفّ من المتوفّر بين أيدينا من معلومات حول معجزات الأنبياء عليهم السلام، أنها كانت على أنماط شتّى؛ و تتناسب مع طبيعة الظروف الاجتماعية والبيئية والفكرية التي يعيشها الناس. فقد سُئِل الإمام الكاظم عليه السلام عن السبب الذي جعل معجزة موسى عليه السلام اليد البيضاء والعصا، و جعل معجزة المسيح الطبابة و شفاء المرضى، و معجزة النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم الفصاحة، فقال: «إنّ اللّه لَمّا بعث موسى عليه السلام كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن في وسعهم مثله، و ما أبطل به سحرهم و أثبت به الحجة عليهم، و إنّ اللّه بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات و احتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن عندهم مثله، و بما أحيى لهم الموتى و أبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه و أثبت به الحجة عليهم، و أن اللّه بعث محمداً صلى الله عليه و آله و سلم في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام و أظنّهُ قال: الشعر، فأتاهم من عنداللّه من

ص:139


1- - سورة الإسراء (17)، الآيات 90-93.
2- سورة الإسراء (17)، الآية 93.
3- سورة العنكبوت (29)، الآية 50.

مواعظه و حكمه ما أبطل به قولهم و أثيت به الحجّة».(1)

و هكذا يتضح بأن اختلاف المعجزات خاضع لظروف الزمان و متطلبات كل عصر.

عصمة الأنبياء

اشارة

لابد لأداء الرسالة من توفّر ثقة الناس و اطمئنانهم من إبلاغ الرسالة بالشكل الصحيح.

و هذا يقتضي عصمة الأنبياء من الخطأ والمعصية. و أما الذين يتدنّسون بالذنوب و معصية أمر اللّه و هضم حقوق عباد اللّه والطمع فيها، و لايتّصفون بالتفاني و نكران الذات، لايمكن أن يكونوا موضع ثقة و لايفوّض إليهم أمر خطير كالنبوّة.

و من الطبيعي أنّ الاطمئنان من صحة إبلاغ الرسالة الإلهية يستدعي عصمة المرسلين من الأخطاء والذنوب. فمن يتدنّس بالآثام لاتُستبعد منه معصية اللّه أو هضم حقوق العباد، و لايحظى بملكة نفسية تصونه من الانزلاق إلى تحقيق أهوائه فيما إذا أُتيحت له الفرصة. و مثل هذا الشخص لايمكن الوثوق به و تفويض أمر خطير - كالرسالة الإلهية - إليه.

حقيقة العصمة

ينقسم الناس من حيث موقفهم من الآثام والذنوب إلى ثلاثة أقسام: غير المُبالي، والعادل، والمعصوم. و غير المُبالي هو من لايتّصف بقوّة معنوية و رادع ذاتي يصونه من الوقوع في الإثم، و هذا يعني أنه لايتورّع عن ممارسة الآثام والذنوب. والعادل هو من يتحلّى بملكة نفسية و ورع يصونه من اقتراف القبائح. و في الوقت ذاته قد تستحوذ عليه نفسه وتغلبه فيقترف إثماً، و لكنّه بَعدما ينتبه يتوب.

أمّا إذا كان يتحلّى بملكة اجتناب الإثم والورع عن محارم اللّه بحيث لايعصي اللّه في

ص:140


1- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 24، الحديث 20؛ الفيض الكاشاني، الوافي، ج 1، ص 110-113، الرقم 22.

جميع الظروف والأحوال، فهذا هو الحاصل على درجة العصمة. والعصمة مرحلة فوق العدالة، و هي تعني أنّ الشخص بلغ درجة ينفر فيها من الذنب، و لايُدنس نفسه به أبداً. قال الإمام الصادق عليه السلام في وصف العصمة والمعصوم: «المعصومُ هو الممتنعُ باللّه من جميعِ محارمِ اللّه، و قد قال اللّه - تبارك و تعالى -: (وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (1)».(2)

منشأ العصمة

للعصمة منشآن: أحدهما لطف من اللّه على خاصة من عباده. والمنشأ الآخر الوعي و كمال الإيمان. فإن وصل أحد درجة من الإيمان والوعي بحيث تتكشف له حقائق الأُمور، و يمتنع بالنتيجة عن ارتكاب أيّ ذنب، فهذا يعني أنه قد نال مرتبة العصمة. إنّ الإيمان والوعي يمنعان الإنسان عن الذنب. والمعصوم لديه رادع قوي من الوعي والإيمان، يحول بينه و بين الآثام والأخطاء بحيث يمكن تشبيهه بمن يرى مادة و يوقن بأنّها سمّ قاتل فيجتنب تناولها. و هذا يعني أنّ منشأ العصمة ليس قوّة خارجية، و إنّما هو اختيار واعٍ يميّزه عن غيره و يمنحه مقام العصمة.

ردّ على شبهة

إن كان الأنبياء معصومون من كبائر الذنوب وصغائرها، فهذا يستدعي أن تكون عصمتهم على الصعيد النظري و على الصعيد العملي على حدٍّ سواء. و إن كان الأمر كذلك، فكيف يمكن توجيه ما جاء في القرآن الكريم بشأن بعض الأنبياء، و من ذلك قوله تعالى في آدم: عليه السلام (وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ، (3) أو ما جاء على لسان النبيّ يونس عليه السلام من قوله تعالى: (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ) . (4) و ورد عن النبيّ موسى عليه السلام أنه قال رداً على

ص:141


1- سورة آل عمران (3)، الآية 101.
2- المجلسي، بحارالأنوار، ج 25، ص 194 و 195، الحديث 6.
3- - سورة طه (20)، الآية 121.
4- - سورة الأنبياء (21)، الآية 87.

فرعون الذي قال له: إنك ارتكبت ذلك العمل - أي قتله لرجل قبطي حينما استنصره رجل سبطي -: (فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضّالِّينَ) .(1)

ولتسليط الضوء على التساؤل الوارد آنفاً لابُدّ من توضيح ثلاثة أُمور:

1 - هنالك اختلاف حول المراد من العصمة هنا، و هل هي عصمة من الذنب أم عصمة من الخطأ. فبعض أهل السنّة يقول: إنه عصمة من الذنب و ليس من الخطأ. و هكذا يوجِّهون عصيان آدم وخطأ يونس و موسى عليهم السلام.

2 - إنّ أوامر و نواهي اللّه ليست كلها على درجة واحدة؛ فبعضها واجب، و بعضُها مستحب، و بعضها جائز و مباح. و هكذا الحال بالنسبة إلى النواهي أيضاً؛ فهناك نوعان من النهي: نهي تحريم و نهي كراهة. أي أنّ النهي يوجب اجتناب ما نُهي عنه تارة، وتارة أُخرى لايدل على الحرمة، و لكن يستحسن فيه الترك، و لكن لو ارتكب فلا عقوبة عليه؛ لأَنَّ العمل الذي ارتكب كان من الأفضل أن لايُرتكب.

3 - هناك من الذنوب والأخطاء ما يُقاس بمكانة الأفراد و منزلتهم. بمعنى: إن كان الشخص محطّ أنظار الناس، ويُرتجى منه أن يكون عمله في غاية الصلاح، و بعيداً عن كل شائبة أو إجحاف، فمن الطبيعي أن يكون أي خلل أو زلل في سلوكه مدعاة للتساؤل والشكوك. و هكذا يصدق على الأنبياء بسبب ما لهم من منزلة عند اللّه، و ما عليهم من مسؤولية أمام الناس. فلابّد إذاً أن يُرتجى منهم ما لايُرتجى من غيرهم. نذكر كمثال على ذلك، أنّ ما فعله النبيّ موسى عليه السلام (و هو القتل) جاء في سياق الدفاع عن المظلوم و لم يكن خلافاً للشرع، و لكنّه كان بالنسبة إلى موسى عليه السلام عملاً غير مناسب؛ لذلك أعرب عن ندمه عليه. و عندما بُعث بالرسالة و ذهب إلى فرعون، كانت أول مؤاخذة أثارها فرعون ضدّه هي هذه الحادثة.

أمّا بالنسبة إلى النبيّ يونس عليه السلام، فلم يكن من المناسب لنبي أن يهاجر و يترك قومه ولّما ينزل عليهم العذاب. وخلاصة الكلام هي أنّ ذنب كل شخص يتناسب مع مكانته. فما قد

ص:142


1- سورة الشُعَراء (26)، الآية 20.

يُحتسب على البعض ذنباً لايُحتسب كذلك على غيره، و لهذا قيل: «حسناتُ الأبرارِ سيّئاتُ المُقرّبين».(1) و أمّا بالنسبة إلى استغفار الأنبياء فيمكن توجيهه في هذا السياق أيضاً. فالنبي بما له من مقام معنوي و عروج روحي يُعتبر آثماً فيما لو انشغل لحظة بأمور عادية. و هذا لايعني - طبعاً - أنّ إثمه يستحق العقاب، و إنّما هو خلاف لِما يتوقّع منه.

أمّا بالنسبة إلى معصية آدم عليه السلام لِما نهاه عنه ربّه من الاقتراب من تلك الشجرة المحرّمة، فقد كان نهياً إرشادياً. و كانت مخالفته توقع آدم نفسه في مشقّة. و كان الأكل من ثمار تلك الشجرة سبباً لفقدان آدم لحالة الاستقرار والسكينة و مكابدة النصب والعناء: (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) .(2)

علم الأنبياء

اشارة

الأنبياء خيرة اللّه،(3) اصطفاهم و ألهمهم العلم والحكمة. وهم يتّصفون بالفضيلة، والأمانة، و حسن الأخلاق، والتقوى، والإخلاص، والصبر، و غير ذلك من الصفات الحميدة.

و قد جاء صراحة أنّ بعض الأنبياء ألهموا علماً الهياً.(4) و قد نصّت سورة الأنعام بَعد ذكر أسماء ثمانية عشر نبياً و بيان فضائلهم على ما يلي: (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ) . (5) و إضافة إلى العلم فقد حظي الأنبياء بالحكمة أيضاً. والحكمة هي الفهم العميق والبصيرة.

علم الغيب عند الأنبياء

حظي الأنبياء في سياق المهمة الموكلة إليهم بإبلاغ رسالات اللّه، بما لم يحظ به غيرهم

ص:143


1- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 17، ص 39.
2- سورة طه (20)، الآية 117.
3- - سورة الفاطر (35)، الآية 32.
4- - سورة البقرة (2)، الآية 31؛ سورة آل عمران (3)، الآية 48؛ سورة المائدة (5)، الآية 110؛ سورة يوسف (12)، الآية 22؛ سورة مريم (19)، الآية 43؛ سورة الأنبياء (21)، الآية 74؛ سورة النمل (27)، الآية 15؛ سورة القصص (28)، الآية 14.
5- - سورة الأنعام (6)، الآية 89.

من الاطلاع على أُمور غيبية (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) .(1)

عرض القرآن موارد من علم غيب الأنبياء، و من ذلك ما أخبر به عيسى عليه السلام بني إسرائيل،(2) و اطِّلاع نبيّنا على أسرار كانت تخفيها إحدى زوجاته.(3) و شم يعقوب عليه السلام قميص يوسف عليه السلام من مسافة بعيدة.(4) و رغم ذلك فقد نصّت بعض آيات القرآن على أنّ علم الغيب للّه، و لايطلع عليه أحداً: (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ) . (5) و جاء في آيات أُخرى أنّ الأنبياء نفوا عن أنفسهم علم الغيب (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) . (6) و ورد أيضاً هذا المعنى في قوله تعالى: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاّ ما شاءَ اللّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ) .(7)

إنّ ما جاء في بعض آيات القرآن الكريم من إثبات العلم الغيب للأنبياء، و ما جاء في آيات أُخرى من نفي لذلك، يُعزى إلى أنّ علم الغيب للّه و لايحيط به أحد إلّابإذنه. و أمّا الذي لدى الأنبياء من علم الغيب، فيدخل في دائرة ما يأذن به اللّه لهم، و أنه هو الذي تكرّم عليهم بمثل هذه الفضيلة والمقدرة.

التفاوت بين الأنبياء

لكل الأنبياء منزلة كريمة عند اللّه، و لكنهم في الوقت نفسه متفاوتون في ما بينهم من حيث المكانة المعنوية من جهة، و في مقام النبوّة والرسالة من جهة أُخرى: (وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) ، (8)(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) .(9)

عُرف بعض الأنبياء بتسمية أولي العزم (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) .(10)

ص:144


1- سورة الجن (72)، الآيتان 26 و 27.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 49.
3- سورة التحريم (66)، الآية 3.
4- - سورة يوسف (12)، الآية 94.
5- - سورة يونس (10)، الآية 20.
6- - سورة الأنعام (6)، الآية 50.
7- سورة الأعراف (7)، الآية 188.
8- - سورة الإسراء (17)، الآية 55.
9- سورة البقرة (2)، الآية 253.
10- - سورة الأحقاف (46)، الآية 35.

و تدل آيتان في القرآن الكريم على أنّ المراد من الأنبياء أُولي العزم هم الأنبياء الخمسة:

النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم، و نوح عليه السلام، و إبراهيم عليه السلام، و موسى عليه السلام، و عيسى عليه السلام، قال تعالى:

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) . (1) والآية الثانية هي التي تتحدث عن أخذ الميثاق من النبيين و خاصّة من الأنبياء الخمسة الذين سلف ذكر أسمائهم.(2) و تجدر الإشارة إلى أنّ هؤلاء الأنبياء أصحاب شرائع، و قد جاء كل واحد منهم إلى قومه بشريعة وفقاً لمقتضيات الزمان.

بشرية الأنبياء

كان الأنبياء بشراً و من جنس الناس، و كانوا بطبيعة الحال يقومون بأعمالهم اليومية مثل أي إنسان آخر. و كانوا مثل سائر الناس يأكلون و يشربون. (وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ) . (3) و قد اتخذ خصوم الأنبياء هذه الصفة ذريعة لإنكار نبوّتهم فكانوا يقولون: (إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا) . (4) و كان جواب الأنبياء لهم:

نعم نحن بشر مثلكم و لكن اللّه يمنّ على من يشاء من عباده و يصطفيه للنبوّة.(5)

و سرّ هذا الاصطفاء هو أنَّ الأنبياء هداة للناس، و اسوة لهم في العمل والأخلاق والسلوك. و لهذا يجب أن يكونوا من بينهم ليكون الناس على بيّنة بأن الإنسان يستطيع أن يكون تقياً و صالحاً و عمله مقبول عند اللّه. و ربّما لو كان الأنبياء من الملائكة لحظوا باقبال أكثر من الناس، و لكنهم ما كانوا يستطيعون تحقيق كل أهداف الأنبياء و ذلك لأن هدف الأنبياء لم يكن إبلاغ الرسالة فقط و إنّما كانوا تجسيداً للإنسان المثالي الذي دعوا إليه الناس في رسالاتهم. و لهذا قال تعالى في كتابه الكريم: (لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) .(6)

ص:145


1- - سورة الشورى (42)، الآية 13.
2- - سورة الأحزاب (33)، الآية 7.
3- - سورة الأنبياء (21)، الآية 8.
4- - سورة إبراهيم (14)، الآية 10.
5- سورة إبراهيم (14)، الآية 11.
6- سورة الأنعام (6)، الآية 9.

سيرة الأنبياء

كان الأنبياء أُناساً متفانين من أجل البشرية، و كرّسوا كل مساعيهم في سبيل انتشال بني البشر من الفساد. فكانوا أحياناً يشعرون بالحزن والأذى بسبب عدم إيمان الكُفّار: (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) .(1)

الأنبياء كغيث يستجلب الرحمة الإلهية، يروون كل العباد بينبوع الوحي، من غير أن يرتجوا منهم أجراً، و تحمّلوا الكثير من العناء والمشقّة لكي يعبّدوا أمام الناس طريقاً مستقيماً، و جاهدوا بكل ما أوتوا من قوّة لكي يُقبل الناس إلى منهج السعادة والفلاح و يسيروا عليه.(2) و قد انصَبّت مساعي الأنبياء على استمالة الناس إلى عبادة اللّه، أي هدايتهم. و كان خطابهم موجهاً إلى كل أبناء الأُمّة من غير تمييز بين هذا و ذاك.

نذكر من ذلك - على سبيل المثال - أنّ اللّه عزّوجلّ لَمّا بعث موسى و هارون عليهما السلام بالرسالة، أمرهما أن يشملا بالدعوة جميع الناس و حتى أمثال فرعون، و أن يذهبا إليه و يعظاه و يتكلما معه برفق: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) . (3) و يفهم من هذا:

أوّلاً: إنّ كل الناس و حتى أشقاهم بحاجة إلى دعوة الأنبياء.

و ثانياً: إنّ الدعوة بلين و رفق تؤثّر حتى في مثل قلب فرعون، و تستثير فيه خشية اللّه.

اتبع الأنبياء في أداء رسالاتهم أُسلوب التبشير والإنذار، و حذّروا الناس من القبائح والآثام، و أنذروهم من العواقب الوخيمة للكفر والمعصية، و بشّروا الصالحين والمؤمنين والمحسنين بالثواب والأجر العظيم. و لم يغفلوا لحظة عن دعوتهم إلى التوحيد. و قد أُوذوا في هذا السبيل وعُذِّبوا وأُبعدوا، و حتى أنّ بعضهم قُتلوا، و لكنّ مهمّة التبليغ و دعوة الناس إلى عبادة اللّه لم تتوقف، و بقيت متواصلة على الدوام.

استعمل الأنبياء في دعوتهم أُسلوب اللين والمرونة، وسعوا إلى استمالة الناس إلى عبادة اللّه عن طريق إثارة المشاعر الإنسانية فيهم. و قد وصف اللّه تبارك و تعالى رسوله

ص:146


1- سورة الشُعراء (26)، الآية 3.
2- - سورة التوبة (9)، الآية 128.
3- - سورة طه (20)، الآية 44.

الكريم بما يلي: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) . (1) و قد أبدى الأنبياء صلابة منقطعة النظير على طريق هدفهم (وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ) .(2)

لم يكن لدى الأنبياء طمع في الحصول على أجر من الناس لقاء تبليغ رسالاتهم (وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) .(3)

و قد اتّبع معارضو الأنبياء - كأي مستبد آخر - أُسلوب الإيذاء والتبعيد والقتل ضدّهم و إلصاق التهم بهم، و لكنّ الأنبياء كانوا يجتنبون الأساليب الانفعالية، والصخب، والضغظ، والإكراه، والعنف والتُهم، في نشر الدّين.

إنّ سيرة الأنبياء تمثّل درساً و عبرة يجب أن يحتذي بها كل دعاة الاصلاح الاجتماعي والتربوي. فالأنبياء هم روّاد الاصلاح، و دعاة الناس إلى التقوى والإخلاص. و لم يكونوا يدلون برأي أو يقومون بعمل يبدو في نظر الناس متناقضاً. و كانوا يتّصفون بالثبات على موقف معنوي واحد في حالتي النصر والهزيمة، و هو التوجّه إلى اللّه.

كان الأنبياء ثابتين على مبادئهم؛ فلم يكونوا يتلوّنون في كل يوم بلونٍ، و لا كانوا يمارسون الألاعيب السياسية، و إنّما كانت القيم الدينية أصلاً و مبدءاً ثابتاً لديهم على الدوام. و على هذا الأساس كانوا يتمسّكون بما يعاهدون الناس عليه و بالمعاهدات التي يبرمونها مع جهات أُخرى، و لم ينقضوها قط. (وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) .(4)

كان الأنبياء كثيراً ما يواجهون معارضة من أُولئك الذين يرون في تعاليم السماء خطراً يهدد مصالحهم. و رغم كل تلك العراقيل والإساءات، فإنَّ الأنبياء كانوا يصفحون عنهم.

و كان من دأب الأنبياء أيضاً الدفاع عن المظلومين والدعوة إلى الحق. و كانوا لايتّبعون أساليب الزيف والخداع لتحقيق أهدافهم، و لايبيحون كل وسيلة لبلوغ الغاية. و كانوا يتعاملون مع المؤمنين و طلبة الحق و عموم الناس بتواضع، و لكنّهم عندما تقتضي الضرورة

ص:147


1- - سورة آل عمران (3)، الآية 159.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 146.
3- سورة الشُعَراء (26)، الآية 109.
4- سورة آل عمران (3)، الآية 161.

تجدهم رجال جهاد وصولات. و ما كان في قلوبهم خوف إلّاخوف اللّه، و كانت قلوبهم مشدودة إلى اللّه و متعلقة به. و يمكن القول بإيجاز: إّنهم كانوا ولهين بعبادة اللّه؛ و موحّدين له بكل معنى الكلمة.

كان الأنبياء يعيشون في وسط مجتمعاتهم ويُعتبرون أنفسهم جزءاً من المجتمع الذي يعيشون فيه، و يحرصون على قيادة سفينة المجتع إلى ساحل النجاة. و كانوا بطبيعة الحال يعيشون بين الناس بزهد و بساطة. و قد وصف أميرالمؤمنين عليه السلام ذهاب موسى و هارون عليهما السلام إلى فرعون بقوله:

وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَدَوَامَ عِزِّهِ فَقَالَ: الاَ تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَبَقَاءَ الْمُلْك وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ، فَهَلاِّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ، وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ، وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَوُحُوشَ الأرضينَ لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُ وَاضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ، وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ، وَ لاَ اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ، وَ لاَ لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا، وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ.(1)

وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ كَافٍ لَكَ فِي الْأُسْوَةِ، وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا؛ إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا وَفُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا. وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، وَاللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً يَأْكُلُهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الأرض، وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ، لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ. وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ وَ قَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ وَيَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا

ص:148


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192 (القاصعة)، ص 291.

وَيَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا؟ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ وَيَأْكُلُ الْجَشِبَ، وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ وَظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأرض لِلْبَهَائِمِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَ لاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ وَ لاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلاهُ وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ، قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً وَ لَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً وَ أَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ وَ حَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَ صَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلاِّ حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ، وَ تَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ، لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلَّهِ وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَلَقَدْ كَانَ يَأْكُلُ عَلَى الأرض وَ يَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَ يَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ وَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ.(1)

خاتم الأنبياء

ولد نبي الإسلام محمد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله و سلم في عام 570 للميلاد.(2) و كان أبوه قد توفّي قبل ولادته. و توفيت أمّه و هو في السادسة. فكفله جدّه عبدالمطلب (رضوان اللّه عليه). وبَعد سنتين توفي جدّه عبدالمطلب، فكفله عمّه أبو طالب (رضوان اللّه عليه). و كان صلوات اللّه عليه - كأكثر أهل مكة - أميّاً (فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) .(3)

و رغم أنه عاش في أجواء مكّة و ما جاورها، غير أنه لم يصطبغ بصبغتها؛ فقد كان معروفاً بالأمانة حتى أنه عرف باسم محمد الأمين، و لم يسجد لصنم قط. و قد قال عنه

ص:149


1- المصدر السابق، الخطبة 160، ص 226-228.
2- - الشيء المعيّن وقته والمسلّم به في التاريخ أمران: الأوّل هو أن هجرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كانت في يوم السبت الثامن من ربيع الأوّل، المصادف 20 سبتمبر من عام 622 م؛ و كان سنّه حين الهجرة حوالي اثنين و خمسين سنة، والآخر وفاته. و يمكن التوصّل من خلال ذلك إلى أنّ ولادته كانت حوالي عام 570 م.
3- سورة الأعراف (7)، الآية 158.

علي عليه السلام: «وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ».(1)

و في الأربعين من عمره ذهب في أحد الأيام - كما كان يذهب عادة للتعبد - إلى غار حراء، فبُعِث بالنبوّة و بدأ منذ ذلك اليوم مهمّته في أداء الرسالة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) .(2)

و كان محتوى دعوته، و وقع الآيات التي يتلوها على الناس، يتّسم بكثير من الجاذبية، بحيث حار فيه معارضوه حتى وصفوه بالسحر والكهانة والجنون.

بدأ بإبلاغ الرسالة من أُسرته، ثم تدرج منها إلى قبيلته، و بَعد ذلك إلى عموم الجزيرة العربية، ثم في نهاية المطاف إلى العالم كلّه: (وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ) .(3)

و بَعد عقد من الزمن شعّ نور الرسالة من مكّة وبلغ المدينة. و لم يمر وقت طويل حتى أقام في المدينة دولة. و قد واجهت الرسول حينذاك مشاكل داخلية و خارجية خطيرة، و لكنّها لم تفتّ في عضده و لم تثنه عن عزمه، بل بالعكس زادته تصميماً على مواصلة دربه.

فنجح صلوات اللّه عليه في أن يجعل من أولئك الأعراب الأجلاف رجالاً في غاية الورع والإخلاص والتقوى والإيثار.

سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

ورد في حديث مشهور عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «اَدَّبَني رَبّي فَأحْسَنَ تَأديبي».(4)

و ورد عنه أيضاً أنه قال: «اَنا أديب اللّه وَ علِيٌّ أديبي».(5)

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شخصية إلهية، و رجلاً فذّاً في عالم الوجود. كانت كل أعماله

ص:150


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192، ص 300؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 14، ص 475.
2- سورة العلق (96)، الآيتان 1 و 2.
3- سورة الأنعام (6)، الآية 19.
4- المجلسي، بحارالانوار، ج 16، ص 210؛ الطبرسي، مجمع البيان، ج 5، ص 333، في ختام الآية 4 من سورة القلم.
5- المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 231.

وسيرته إلهية. و قد جاء في رواية: إنّ اللّه عزّوجلّ أدّب نبيه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (1) ثم فوض إليه أمر الدّين والأُمّة ليسوس عباده.(2)

و انطلاقاً من ذلك جعله الباري تعالى أُسوة لعباده و قال: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (3) و لمعرفة المزيد عن جوانب شخصية الرسول صلى الله عليه و آله و سلم نسلّط الضوء في ما يلي على ملامح من سيرته.

عبادته

كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مكلّفاً بقيام الليل و أداء نافلة الليل، و قراءة القرآن (يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (4) و كانت أعظم مفخرة لرسول اللّه أنه كان عبداً للّه. و قد وصفه عزّوجلّ في القرآن الكريم بأنه عبده.(5) و قد كان قبل الرسالة يمضي قسماً من وقته بالعبادة في غار حراء.(6)

كان يكثر من البكاء من خشية اللّه حتى يُغمى عليه. و لما قيل له: لِمَ تتعب نفسك و قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟ فقال: ألا أكون عبداً شكوراً.(7)

كان يستغفر اللّه في كل يوم سبعين مرّة.(8) و كان يصوم حتى يُقال: لايفطر. ثم صام يوماً و أفطر يوماً. ثم صام الاثنين والخميس. ثم آل من ذلك إلى صيام ثلاثة أيام في الشهر؛ الخميس في أول الشهر، والأربعاء في وسط الشهر، والخميس في آخر الشهر. و كان صلى الله عليه و آله و سلم يقول: ذلك صوم الدهر.(9)

ص:151


1- - سورة القلم (68)، الآية 4.
2- الكليني، الكافى، ج 1، ص 266، الحديث 4؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 17، ص 4، الحديث 3.
3- - سورة الأحزاب (33)، الآية 21.
4- - سورة الإسراء (17)، الآية 79.
5- - سورة الإسراء (17)، الآية 1.
6- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 192، ص 300.
7- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 95، الحديث 6.
8- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 505، الحديث 5؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 258، الحديث 41.
9- الصدوق، من لايحضره الفقيه، باب صوم السنة، ج 2، ص 48، الحديث 1.
مداراة الناس

روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ جبرائيل عليه السلام جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و قال له: يا محمد، ربّك يقرئك السلام و يقول لك: دارِ خلقي.(1) و كان رفقه بالناس و مداراته لهم سبباً لاستمالة قلوبهم، فجعل من أُولئك الناس القساة الطباع و ذوي القلوب المتحجّرة أُناساً رؤفاء:

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) .(2)

روي أنّ رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يكلّمه فأرعد، فقال: هوّن عليك، فلست بملك، إنّما أنا ابن امرأة كانت تأكل القد.(3)

قال الإمام الحسين عليه السلام: سألت أبي: كيف كانت سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جلسائه؟ فقال: كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ و لا صخّاب و لا فحّاش و لا عيّاب... قد ترك نفسه من ثلاث: المِراء، والإكثار، و ما لايعنيه.(4)

و قد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يجالس الفقراء، و يؤاكل المساكين، و يناولهم بيده.(5) و كان إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيّام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، و إن كان شاهداً زاره، و إن كان مريضاً عاده.(6)

و عندما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أوصاه بأمور منها أنه قال له: إياك أن تشتم مسلماً(7) و قال للناس في خطبة حجة الوداع: أيها الناس، إنّ دماءكم و أعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا.(8)

النظافة والزينة

كان صلى الله عليه و آله و سلم يولي أهمّية خاصّة للنظافة. و كان من عادته أن ينظر في المرآة و يرجّل شعره

ص:152


1- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 116، الحديث 2.
2- سورة آل عمران (3)، الآية 159.
3- المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 229، ذيل الحديث 35.
4- المصدر السابق، ص 152 و 153؛ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 318 و 319.
5- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 228، الحديث 34.
6- المصدر السابق، ص 233.
7- - الحرّاني، تحف العقول، ص 26.
8- المصدر السابق، ص 31.

و يمتشط، وربّما نظر في الماء وسوّى جمّته فيه. ولقد كان يتجمّل لأصحابه فضلاً عن تجمّله لأهله. و كان يقول: إنّ اللّه تعالى يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيّأ لهم و يتجمّل.(1) و كان يستاك ثلاث مرّات كل ليلة: مرة قبل نومه، و مرّة إذا قام من نومه إلى ورده، و مرّة قبل خروجه إلى صلاة الصبح.(2) و كانت هناك أشياء لاتفارقه في أسفاره: قارورة الدهن، والمكحلة، والمقراض، والمسواك، والمشط.(3) و روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينفق على الطيب أكثر ممّا ينفق على الطعام.(4)

الاعتدال

وصف القرآن الكريم الأُمّة الإسلامية بالأُمّة الوسط في قوله تعالى: (وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (5) والأُمّة الوسط أي المعتدلة. و قد نقل الإمام الباقر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: من صارت عبادته إلى سنّتي فقد اهتدى، و من خالف سنّتي فقد ضل و كان عمله في تباب. أما إنّي أُصلّي و أنام و أصوم و أفطر، و أضحك و أبكي. فمن رغب عن منهاجي فليس منّي.(6) و كان له مقام معنوي يجل عن الوصف؛ فقد كان يوحى إليه و يسعى بكل ما أُوتي من قوة لإبلاغ دين اللّه من غير أن يثنيه عن ذلك شيء، و لكنّه كان في غاية التواضع في التعامل مع الناس، و كان في بعض الأحيان يمزح مع أصحابه. فقد قال الإمام الصادق عليه السلام: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يداعب و لايقول إلّاالحق.(7)

نُقل أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يأتيه الأعرابي فيهدي إليه الهدية، ثم يقول مكانه: أعطنا ثمن هديّتنا، فيضحك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. و كان إذا اغتّم يقول: ما فعل الأعرابي ليته أتانا.(8)

ص:153


1- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 249.
2- - المصدر السابق، ص 254.
3- - المصدر السابق، ص 250.
4- المصدر السابق، ص 248.
5- - سورة البقرة (2)، الآية 143.
6- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 85، الحديث 1.
7- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 66 من أحكام العشرة، ج 8، ص 408، الحديث 2.
8- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 80 من أحكام العشرة، الحديث 1، ج 12، ص 112.
موقفه من الأعداء

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال في وصف سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و موقفه من الأعداء: «إنه متى ما بعث أميراً على سَرِيَّة كان يوصيه بتقوى اللّه عزّوجلّ في خاصّة نفسه، ثم في أصحابه عامة، ثم يقول: اغز باسم اللّه و في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه و لاتغدروا و لاتغلُّوا و تمثّلوا و لاتقتلوا وليداً، و لامتبتلاً في شاهق، و لاتحرقوا النخل و لاتغرقوه بالماء، و لاتقطعوا شجرة مثمرة و لاتحرقوا زرعاً؛ لأنكم لاتدرون لعلكم تحتاجون إليه، و لاتعقروا من البهائم ممّا يؤكل لحمه».(1)

و كان صلوات اللّه عليه يأسى لعدم إيمان قومه إلى أن أوحى إليه ربّه: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) . (2) و في فتح مكّة أقبل على قريش و قال لهم: ما ترون أنّي صانع بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال لهم:

اذهبوا فأنتم الطلقاء.(3)

الزهد والبساطة

روي عن علي أميرالمؤمنين عليه السلام أنه وصف زهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: كان فراش رسول اللّه عباءة، و كانت مرفقته أدم حشوها ليف، فثُنّيت له ذات ليلة. فلمّا أصبح أمر صلى الله عليه و آله و سلم أن يُجعل بطاق واحد.(4)

و قال الإمام الباقر عليه السلام في أحوال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لم يورّث ديناراً و لا درهماً و لا عبداً و لا وليدة و لا شاة و لا بعيراً، و لقد قُبض و إنّ درعه مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير».(5)

ص:154


1- الكُليني، الكافي، ج 5، ص 29، الحديث 8.
2- - سورة الكهف (18)، الآية 6.
3- المسعودي، مروج الذهب، ج 2، ص 297.
4- المجلسي، بحارالأنوار، ج 16، ص 217، الحديث 5.
5- المصدر السابق، ص 219، الحديث 8.

و قال أميرالمؤمنين عليه السلام: ما شبع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من خبز برّ ثلاثة أيام حتى مضى لسبيله.(1)

و روى الإمام الباقر عليه السلام إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض مع العبيد، و ركوبي الحمار مُؤكفاً، و حلبي العنز بيدي، و لبس الصوف، والتسليم على الصبيان.(2)

معجزة النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

ذكرنا سابقاً إنّ كل نبي كانت له معجزة لإثبات نبوّته و حقّانيته. و بما أنّ النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم خاتم الأنبياء، فلابّد أن تكون له معجزة تتناسب مع خاتميّته، و لابُدّ أن تكون بطبيعة الحال خالدة مع خلود العالم، و فيها إثبات لنبوّته و حقّانية دينه.

في ذلك الوقت كان العرب يتفاخرون بالفصاحة، و كانوا يتنافسون في ما بينهم بأساليب البلاغة في الشعر والنثر. و في سياق ذلك التنافس علّق عرب الجاهلية أبدع قصائدهم الشعرية و هي المعلقات السبع(3) على جدار الكعبة، حيث نبغوا في هذا المضمار إلى حد بعيد، و حسبوا أنّ الإبداع في هذا الفن بلغ ذروته، و لكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جاءهم - دون أن تكون له سابقة في الفصاحة والبلاغة والقراءة والكتابة - بكلام حيّر عقولهم، و جاذبية لاينكرها مُنكِر. و كان لكلامه سحر أخذ بمجامع قلوبهم. فهو يتسم بنظم و إيقاع، و تمثيل و كناية، و تشبيهات واستعارات و إيجاز. غير أنّ العصبية الجاهلية منعت البعض منهم من الاعتراف بالحق، و دفعهم العناد إلى أن يصفوه تارة بالشعر،(4) و يصفوه تارة أُخرى بالسحر،(5) و قال جماعة منهم: إنه عبارة عن أساطير،(6) و حسبه آخرون كلام كاهن.(7) و

ص:155


1- - المصدر السابق، ص 220، الحديث 15.
2- المصدر السابق، ص 215، الحديث 2؛ و ص 220، الحديث 11.
3- - و هي قصائد لأبرع شعراء العرب علّقوها على جدار الكعبة تفاخراً بها لكي يراها الوافدون إلى الكعبة.
4- - سورة الأنبياء (21)، الآية 5.
5- - سورة سبأ (34)، الآية 43.
6- سورة الأنعام (6) الآية 25.
7- سورة الطور (52)، الآية 29؛ سورة الحاقّة (69)، الآية 42.

دفعهم الخوف من تأثيره إلى أن يأمروا الناس بصمِّ أسماعهم عَنه. و لاشكّ في أنّ كل هذه الأقوال والأفعال تنطوي على اعتراف ضمني بأنّ للقرآن سحراً يفوق ما كان معروفاً بينهم من أساليب البلاغة والفصاحة التي تتسم بها الخطب والأشعار في عصرهم. و هذا الموقف على ما فيه من معارضة، فهو ينم أيضاً عن عجزهم عن مجابهة القرآن، و قد تحدّاهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يأتوا بمثل هذا الكلام إن كانوا لايؤمنون به و ينكرون أنه كلام اللّه:

(وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) .(1)

تجدر الإشارة إلى أنّ التحدي بالإتيان بمثلٍ للقرآن جاء على ثلاث مراحل؛ ففي المرحلة الأُولى جاء بطلب الإتيان بمثلٍ للقرآن كله،(2) و في المرحلة الثانية جاء على شكل دعوة للإتيان بعشر سور كسور القرآن.(3) و في المرحلة الأخيرة كانت الدعوة للإتيان بسورة واحدة(4) أو بكلام مشابه للقرآن.(5) و قد حاول كثيرون الاستجابة لذلك التحدّي، و فكّروا في أنفسهم أن ينسجوا أشياء تحاكي القرآن، و لكنهم عندما قارنوها مع القرآن لم يتجرأوا على إعلانها أمام الناس. و أمّا الذين تجرأوا على المجاهرة بما نسجوه من عند أنفسهم فلم يثبتوا سوى عجزهم عن مجاراة القرآن. و قد عبّر القرآن عن هذا العجز مسبقاً بقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) .(6)

إنّ ما حاول خصوم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مضاهاته هو فصاحة القرآن و بلاغته، و قد فشلوا في محاولاتهم هذه فشلاً ذريعاً. و لاشكّ في أنّ ما يميّز القرآن - ككتاب سماوي - هو محتواه الخالد وعطاؤه للبشرية. و هذا يعني أنّ إعجاز القرآن لاينحصر في مجال إعجازه الأدبي والبلاغي فحسب.

ص:156


1- سورة البقرة (2)، الآية 23؛ و أيضاً راجع: سورة يونس (10)، الآية 38.
2- - سورة الإسراء (17)، الآية 88.
3- - سورة هود (11)، الآية 13.
4- - سورة البقرة (2)، الآية 23.
5- سورة الطور (52)، الآية 34.
6- سورة الإسراء (17)، الآية 88.

وردت في القرآن الكريم أخبار كثيرة عن مغيّبات و حوادث مستقبلية. كما سرد أيضاً قصص الغابرين من الأنبياء، و شخصيات تاريخية أُخرى كلقمان، و فرعون، والنمرود، و ملكة سبأ. كما كشف أيضاً عمّا عزم عليه خصوم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كاتفاقهم في دارالندوة على قتله أو نفيه: (وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) ، (1) و أزاح الستار أيضاً عما كان يتّخذ في أوساط المنافقين من قرارات ضد النبيّ (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) . (2) كما أخبر القرآن الكريم عن نصر قريب يحرزه الروم على ملوك فارس.(3) و قد جاءت هذه النبوءات في وقت لم يكن فيه للنبي ناصر و لا معين. و قد أُثيرت يومذاك ضجّة إعلامية صاخبة ضد هذه النبوءات واستُغلّت للتشنيع على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

بيّن القرآن حقائق علمية لم يتوصّل إليها البشر إلّابَعد مئات السنين، لأنه لم تكن هناك أدوات علمية لإثباتها يومذاك، مثل حركة الأرض،(4) والرياح التي تكوّن السحب،(5) و كيفية تكاثف الغيوم،(6) و وجود طبقات ثلجية في السماء،(7) و حركة الكواكب في مدارات معيّنة،(8) و زوجية الكائنات،(9) والنباتات.(10) و كل ذلك يعبّر عن حقيقة لا مجال لإنكارها، و هي أنّ القرآن ليس نتاجاً بشرياً و لايمكن اعتباره في مصاف الكتب العادية.

القرآن و أسلوبه

الأُسلوب الذي اتّبعه القرآن في انتقاء الكلمات، وصياغات الجُمل، مع مراعاة الألفاظ المناسبة لكل موضوع، والإيجاز والإطناب، أُسلوب بديع لم يسبق إليه سابق، و لايلحقه فيه لاحق. و حتى كلام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم نفسه فهو يختلف عنه اختلافاً جذرياً في السبك

ص:157


1- - سورة الأنفال (8)، الآية 30.
2- - سورة النساء (4)، الآية 108.
3- - سورة الروم (30)، الآيات 1-6.
4- - سورة النبأ (78)، الآية 6.
5- سورة الحجر (15)، الآية 22.
6- - سورة الروم (30)، الآية 48.
7- سورة النور (24)، الآية 43.
8- - سورة يونس (10)، الآية 5؛ سورة يس (36)، الآية 40.
9- سورة الرعد (13)، الآية 3؛ سورة الذاريات (51)، الآية 49.
10- سورة طه (20)، الآية 53.

والأُسلوب. يعتمد القرآن أُسلوب البشارة والإنذار، و فيه مواعظ و تشريعات، و يتّبع المنهج الإرشادي تارة، و يختار طريق الاستدلال تارة أُخرى. و هو يتحدث بشدّة و غلظة حيناً حتى يبدو و كأَنّه يجلد بالسياط، بينما يتلطّف أحياناً أُخرى و يبعث السكينة والطمأنينة، و يتحدّث مع كل مخاطب بما يستدعيه حاله.

إنّ اتّباع القرآن أُسلوباً واحداً على مدى ثلاث و عشرين سنة في شتّى الظروف والأحوال وخلال معالجته لمواضيع شتّى يُظهر أنّ مصدره حكيم و عالم مطلق فوق قدرة البشر، و قد كان العرب حينذاك على معرفة بشتّى أساليب البيان. و كانوا يتذوّقون جمالية الكلام الحسن. ولو كان في القرآن موضع واحد من ركاكة الأُسلوب - حاشاه عن ذلك - لعابوه عليه؛ انطلاقاً من رغبتهم في مجابهة النبيّ بأي نحو كان.

كان الوليد بن المغيرة خبيراً بكلام العرب، و قد قال يصف القرآن في محفل لقريش:

«واللّه لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجنّ و إنّ له لحلاوة، و إنّ عليه لطلاوة، و إنّ أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق، و إنه يعلو و لايُعلى عليه».(1)

تواتر و قطعية نص القرآن

يُجمِع المسلمون كافة على أنّ القرآن نقل عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم متواتراً لساناً عن لسان، وصدراً عن صدر، و هو محفوظ من أيّ تحريف. و قد صرّح كبار علماء الشيعة ابتداءً من الشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والسيد المرتضى، والطبرسي، و انتهاء بالعلماء المعاصرين، أنّ القرآن الذي بين أيدينا هو عين ما نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، لم يطرأ عليه أي تحريف و لا زيادة أو نقصان. و إن كان هناك من الشيعة والسنّة من قالوا بتحريف القرآن، فهذا يعني أنهم لم يميّزوا بين الروايات الموثقة و بين الروايات الضعيفة الفاقدة للإجماع، والتي لايمكن التعويل عليها. ورأي هذه الجماعة القليلة لاينال من القول

ص:158


1- الطبرسي، مجمع البيان، ج 5، ص 387، ذيل الآية 11 من سورة المدثر.

بتواتر القرآن وكَوْنه موضع إجماع، خاصة إذا لاحظنا أنّ ما تذهب إليه هذه الجماعة هو القول بنقص القرآن، و إلّافهم يتفقون أيضاً على أنّ القرآن الحالي لا زيادة فيه.

جاء في آية قرآنية شريفة: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ) ، (1) و جاء في آية أُخرى أيضاً: (وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .(2)

هذا تأكيد من اللّه على أنّ هناك مقدّمات و أسباب جعلها كفيلة بالحيلولة دون حصول أيّ تحريف في القرآن.

ص:159


1- - سورة الحجر (15)، الآية 9.
2- سورة فصلت (41)، الآيتان 41-42.

الإمامة

اشارة

الإمام هو الرئيس(1) والمقتدى.(2) و يُحتمل أن تكون هذه الكلمة مشتقة من كلمة «أمام» بمعنى القُدّام، أو من كلمة «الأُم» بمعنى الأصل، أو من كلمة «أَمَّ» بمعنى قصد.(3) و كثيراً ما تأتي هذه الكلمة في القرآن والحديث بهذا المعنى. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إنّ الأئمة في كتاب اللّه عزّوجلّ إمامان: قال اللّه تبارك و تعالى: (وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا...) و قال تعالى في موضع آخر: (وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ) . (4) وسُمّي أميرُ الحاج في رواية بالإمام، في قولهم: «سِرْ فإنّ الإمام لايقف».(5)

و رغم أنّ كلمة الإمام تحمل معنى القائد إلى الخير أو القائد إلى الشر على حد سواء، إلّا أنّ هذه الكلمة تطلق عند الشيعة على شخصيات روحية عظيمة و على درجة عالية من التقوى، و على من هم مثل أعلى للناس علماً و عملاً.

أهمّيّة الإمامة

الإمامة على درجة عالية من الأهمية، بحيث أنّ القرآن الكريم عبّر عنها بالميثاق والعهد، في قوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ) . (6) فهذه الآية تتعلق بموضوع الإمامة التي طلب النبيّ إبراهيم عليه السلام من اللّه أن تكون في ذريّته.

جاء في رواية عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: إنّ الإمامة خصَّ اللّه عزّوجلّ بها إبراهيم

ص:160


1- - ابن منظور، لسان العرب، ج 1، ص 109.
2- الجوهري، صحاح اللغة، ج 5، ص 1865.
3- - للإطلاع على مزيد من المعلومات في هذا المجال، راجع: دراسات فى ولاية الفقيه، ج 1، ص 74.
4- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 216، الحديث 2.
5- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 5 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، ج 13، ص 525، الحديث 1.
6- - سورة البقرة (2)، الآية 124.

الخليل عليه السلام بَعد النبوّة والخلّة... فقال الخليل سروراً بها: و من ذريتي....(1)

في اعتقاد الشيعة تُعتبر الإمامة من أُصول الدّين، و هي امتداد للنبوّة واستمرار لمسؤولية التبليغ والهداية التي كان يقوم بها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. وللإمامة عندهم شروط تتناسب مع الوظيفة التي ينهض بها الإمام في تفسير القرآن، و بيان الأحكام، وردّ الشبهات والذود عن حياض الشريعة. والإمامة ذات أهمّية بالغة، بحيث نزلت في آواخر حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم آية تأمر بإبلاغها، و تحذّره أن عدم إبلاغها بمثابة عدم أداء الرسالة.(2)

نقل الشيعة والسنّة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «مَنْ ماتَ و لم يعرِفْ إمامَ زمانِهِ مات ميتةً جاهلية»(3) و هذا يدل على مدى أهمّية الإمامة، و يضعها ضمن أُصول الدّين. ولو كانت من فروعه لما اعتُبر جهلها مدعاة لموت المرء ميتة جاهلية.

شروط الإمامة

1 - العلم

الإمامة قدوة في كل شيء. والإمامة قيادة دينية و أخلاقية للناس نحو اللّه. و لابُدّ أن تتوفر فيها شروط من أهمّها العلم. وسيرة العقلاء في العالم كُلّه هي أنّهم إذا أرادوا اختيار شخص يفوّضون إليه أُمورهم، فهم يختارون عاقلاً عالماً أميناً قادراً على إنجاز أُمورهم كما ينبغي، خاصة في القضايا التي تتطلب العلم والوعي، حيث يختارون في مثل هذه الحالات الأعلم بها.

في هذا الجانب لا فرق في أن يكون الإمام منصوصاً عليه من اللّه - كما يقول الشيعة الإمامية - أو منتخباً من قبل الأُمّة كما يعتقد أهل السنّة، والآية الشريفة: (أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى) (4) تشير إلى هذا المعنى. والنتيجة هي أنّ

ص:161


1- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 199، الحديث 1.
2- سورة المائدة (5)، الآية 67.
3- - لمزيد من التفصيل، راجع: الأميني عبدالحسين، الغدير، ج 10، ص 360.
4- - سورة يونس (10)، الآية 35.

الإمام والقائد يجب أن يكون عالماً؛ لتجري هدايته بشكل صحيح، بل ينبغي أن يكون أعلم أهل زمانه لكي تشمل دائرة إمامته الجميع.

2 - العصمة

يجب أن يكون الإمام - كالنبي - معصوماً من الذنب والخطأ. فلو كان الإمام يذنب أو يُخطِىء فهذا يؤدّي إلى زعزعة مكانته في النفوس، و عدم الوثوق بكلامه. و هو إذا لم يكن معصوماً ثم أمر الناس بشيء أو نهاهم عن شيء لايكون لكلامه تأثير في نفوسهم، و لايثقون بكلامه و لايرونه ملزماً لهم، و بالنتيجة فإنّهم لايطيعونه. بل إنّ الإمامة الدينية تتحقق من خلال العصمة. و لابُدّ أن تكون لدى السامعين ثقة بكلام من يدعوهم إلى الدّين، و أن يكونوا على علم بانَّ كلامه ليس خطأً و لايأتي عن هوس؛ و إلّافإنّهم لايتقبّلون أمره و نهيه.

و يكون منصبه و رسالته عبثاً.

إطاعة الإمام واجبة بحكم الآية: (أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) . (1) و إذا لم يكن الإمام معصوماً فقد يبين دين اللّه خطأً، و في مثل هذه الحال تكون طاعته بمثابة اتباع الباطل، و مثل هذا الأمر مستحيل على اللّه تعالى.(2) و طاعة اللّه - استناداً إلى صدر الآية - مطلقة، إذا كان ولي الأمر غير معصوم لاتكون طاعته لازمة بشكل مطلق، بينما الأمر الوارد في الآية يدعو إلى طاعته بشكل مطلق. و هذه الآية في مقام تعظيم الرسول و أُولي الأمر؛ لأنها جعلت طاعتهم في مصاف طاعة اللّه. فلابّد إذاً أن تكون فيهم هذه الأهلية. و قد نقل عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: و إنّما أمر اللّه بطاعة الرسول لأنه معصوم مطهّر لايأمر بمعصيته، و إنّما أمر اللّه بطاعة أُولي الأمر لأنهم معصومون مطهّرون لايأمرون بمعصيته.(3)

ص:162


1- - سورة النساء (4)، الآية 59.
2- - الحلّي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 364 و 365؛ الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 313 و 314، الباب 2 من الركن 2. و هناك أيضاً احتمالات أُخرى طُرحت بشأن هذه الآية الشريفة، و لمزيد من التفصيل، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 64-69.
3- الحُويزي، نور الثقلين، ج 1، ص 500 و 501، الحديث 337.
3 - التحلّي بصفات النبيّ

الإمام خليفة رسول اللّه، و ينهض بالدور الذي كان يقوم به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم. و بناءً على ذلك يجب أن يتّصف الإمام بجميع الصفات التي توجب عليه أداء دور النبيّ باستثناء النبوّة؛ لأنّ الغاية من وجود الإمام تتحقق عندما يؤدي دور الرسول في المجتمع، و يكون قدوة للمتديّنين في جميع الفضائل الأخلاقية والقيم الدينية.

من يحوز مقام الإمامه يجب أن تكون له جاذبية معنوية. و أن يكون عادلاً و معصوماً، من أجل أن يثق به الناس. والأهم من كل ذلك أن يكون موحّداً لم يسجد لغير اللّه. و لهذا السبب قال الباري تعالى لإبراهيم عليه السلام عندما طلب منه أن يكون هذا المقام لذريته:

(لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ) .(1)

نقل ابن مسعود عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: قال اللّه عزّوجلّ لإبراهيم: لا أُعطيك عهداً لظالم من ذريّتك. قال: ياربّ، و من الظالم من ولدي الذي لاينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً، و لايصلح أن يكون إماماً.(2)

4 - الصبر

من الطبيعي أن كل أمّة تواجه مشاكل كثيرة، وتقع مسؤوليتها بالدرجة الأُولى على عاتق الإمام. و هذا ما يستلزم من الإمام أن يكون صبوراً ليكون قادراً على مجابهة المشاكل والشدائد. و على صعيد آخر لايستوي الأفراد في مؤهلاتهم و قدراتهم على مواكبة الإمام.

فالإمام تجتمع فيه ذروة الكمالات، و هو رائد الناس والمقدام فيهم، و لكنه في الوقت ذاته لابُدّ و أن يُراعي أضعف الأفراد. و هذا أيضاً يتحقق من خلال الصبر والأناة. و لعل هذا هو السبب الذي جعل اللّه تعالى يقول لنبيّه صلى الله عليه و آله و سلم بسبب ما له من مقام النبوة و إمامة الناس:

ص:163


1- سورة البقرة (2)، الآية 124.
2- البحراني، البرهان في تفسير القرآن، ج 1، ص 151، الحديث 13.

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) . (1) و قد ورد في رواية: أنّ الإمام عليّاً عليه السلام استند إلى هذه الآية، والآية الشريفة: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، (2) و قال: الصبر على ولاة الأمر مفروض.(3)

5 - الزهد

الإمام أُسوة يقتدي به الناس وتقع عليه مسؤولية تطهير الأنفس، و هذا ما يفرض عليه أن يكون ذا نفس طاهرة نقيّة، و أن يجتنب كل ما يدنس الروح؛ لكي يكون داعياً للناس إلى الصلاح بسلوكه. فالإمام يعيش في الدنيا و يتنعّم بنعمها، و لكنّ عليه في الوقت نفسه أن لايكون حريصاً عليها؛ من أجل أن يدعو الناس بسلوكه إلى الزهد. إذا كانت لدى الإمام نزعة إلى الدنيا و لذائذها لاينجح في قيادته للناس. فمن الطبيعي أنّ الناس ليسوا على مستوى معاشي واحد، فربما يعجز الكثيرون منهم عن توفير القوت و أدنى متطلّبات العيش لأنفسهم ولأُسرهم، فإذا رأوا القائد والإمام يرفل بالنعم والملذّات يشمئزون منه و يمقتونه، و يشعرون بأن الثروة والرفاه المادي قيمة و فضيلة. و لاشكّ في أنّ انغماس من ينصب نفسه للناس إماماً في الملذّات الدنيوية، ينطوي على سلبيات فادحة، فهو يؤدّي من جهة إلى نفور الفقراء عنه والشعور بالغربة عنه، و يؤدّي من جهة أُخرى إلى شعوره هو بالكبر والميل إلى اكتناز الثروة.

و قد كتب علي عليه السلام إلى واليه عثمان بن حنيف عن نفسه بصفته إماماً لدين الناس و دنياهم، ما يلي: هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَ لَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَاطَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَ لَاعَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَ حَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَ أَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَ حَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ وَ حَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

ص:164


1- سورة الأحقاف (46)، الآية 35.
2- - سورة الأحزاب (33)، الآية 21.
3- الطبرسي، أبو منصور، الاحتجاج، ج 1، ص 587.

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أميرالمؤمنين وَ لَاأُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ.(1)

الطريق إلىٰ معرفة الإمام

الإمامة كالنبوّة منصب إلهي، و يحتاج تمييزها و معرفتها إلى توفر مجموعة من العلائم والميزات التي يمكن عن طريقها معرفة الإمام الصحيح الصادق من الكذابين الذين يدّعون الإمامة زوراً و بهتاناً.

سأل شخص الإمام الصادق عليه السلام عن الكيفية التي يمكن بها معرفة من يدّعي الإمامة فأجابه قائلاً: يُسأل عن الحلال والحرام، ثم بين ثلاث طرائق لمعرفة الإمام منها أن يكون أوْلى الناس بمن كان قبله، و أن تكون لديه وصيّة ظاهرة من الإمام السابق.(2)

و جاء في رواية أُخرى عنه أنه اشترط أن يتّصف الإمام بالأوصاف التالية: و هي أن تكون لديه وصية ظاهرة، و لايستطيع أن يطعن عليه أحد في أنه كذّاب و يأكل أموال الناس، و ما أشبه هذا.(3)

مثلما أنّ أحد الطرق لإثبات حقّانية القرآن هي التحدي و عدم قدرة أحد على الاستجابة لذلك التحدّي، فكذلك من طرق إثبات الإمامة و حقّانية الإمام، هي مقدرته على الإجابة عن جميع المعارف الدينية، و عدم عجزه عن أيٍّ منها. و على مدّعي الإمامة أن يثبت أهليته لمنصب الإمامة بالتحدّي في المسائل العلمية والأحكام.

جاء في تاريخ حياة بعض الأئمة، أنّ الشيعة كانوا يعرضون عليهم أسئلة علمية لمعرفة مدى أهليّتهم لإحراز منصب الإمامة. و لهذا وردت في المصادر الحديثية احتجاجات منهم تسترعي الاهتمام.

ص:165


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 45، ص 418.
2- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 284، الحديث 2.
3- المصدر السابق، الحديث 3.

الإمامة الخاصّة

الإمامة بَعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

بعث اللّه عزّوجلّ محمداً صلى الله عليه و آله و سلم آخر الأنبياء لخلقه. و قد جعل صلى الله عليه و آله و سلم كل همّه إعلاء كلمة الاسلام إلى حدّ أنه كان مستعداً للتضحية بكل شيءٍ في سبيل هذا الدّين. و قد ضحّى بالمئات من خيرة أبناء هذه الأُمّة في سبيل هذه الغاية. و مع كل تلك المساعي والجهود كان يدرك أنّ الإسلام لم يستقطب كل جزيرة العرب، و لم يرسخ بَعد في القلوب. و قد كانت هناك قوّتان تجابهان الإسلام وهما: الفرس والروم. أمّا النبيّ فكان على معرفة بصفات العرب و تعصّبهم القبلي، حيث إنّ العادات الجاهلية لازالت رواسبها كامنة في أعماق نفوسهم، و كان المنافقون يتحيّنون الفرص للانقضاض على الإسلام. و كان النبيّ يعلم أيضاً بأنَّ حُبّ الدنيا وحُبّ الجاه من المخاطر التي تهدد كبار الصحابة على وجه الخصوص، و كان يعلم بأنّ الأُمّة معرّضة لخطر الردّة إلى الجاهلية. و قد حذّر القرآن من هذه الحقيقة المريرة بقوله تعالى: (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) .(1)

و قد أعرب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن خشيته من هذه الأوضاع حين قال: يُجاء برجال من أُمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: ياربّ أصيحابي، فيقال: إنك لاتدري ما أحدثوا بَعدك.

فأقول كما قال العبد الصالح: (وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (2) فيقال: إنّ هؤلاء لايزالون مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.(3)

و في مثل هذه الأوضاع لايُعقل أن يترك النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، بما له من عقل و دراية - فضلاً عن مقام النبوّة واهتمامه بِنشر الاسلام - زمام هذا الأمر و لايرسم له خطّة، و يترك المسلمين و شأنهم. و كيف يمكن ان يُعقل أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يفكر في العهد الذي كان يعيش هو فيه و

ص:166


1- سورة آل عمران (3)، الآية 144.
2- سورة المائدة (5)، الآية 117.
3- البُخاري، الصحيح، ج 5، ص 228، الحديث 4625.

لايضع منهجاً لِما بَعد حياته بما يضمن استمرار الرسالة والدعوة؟ لاشكّ في أنّ مسؤول أيّة جماعة لو أراد مغادرة جماعته، ولو مغادرة وقتية، فلابّد أن يعيّن لهم خلال مدّة غيابه من يتولّى إدارة أُمورهم و يرجعون إليه في قضاياهم. و قد كانت سيرته تجري على هذا المنوال أيضاً؛ فهو متى ما كان يغادر لسفر أو غزوة كان يعيّن من يخلفه لتمشية أُمور الناس. و إن كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يترك الأُمّة و شأنها؟

ينقل أنّ ابن الخليفة الثاني قال لأبيه عندما كان على فراش الموت: زعموا أنك غير مستخلف، و أنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثم جاءك و تركها، رأيت أنه قد ضيّع؟ فرعاية الناس أشد. فوافقه قَوْلي.(1)

و قالت عائشة لعبد اللّه بن عمر: يابني، أبلغ عمر سلامي، و قل له: لاتدع أُمّة محمد بلا راع. استخلف عليهم و لاتدعهم بَعدك هملاً، فإني أخشى عليهم الفتنة.(2)

و روي أيضاً أنّ جماعة عادوا عمر في مرضه و طلبوا منه أن يستخلف أحداً من بعده.(3)

فهل كان غير النبيّ عارفاً بمصلحة الاستخلاف، والنبيّ لايعرف هذه المصلحة، بينما وصفه اللّه تعالى بالحرص على المؤمنين والرأفة بهم.(4)

كيف يُعقل أنّ ديناً عالمياً خالداً يشتمل على كل المعارف الأصيلة، والأُصول الأخلاقية، والأحكام الفرعية في جميع الجوانب الفردية والاجتماعية، لايحتاج إلى مفسّر و حافظ خلافاً لجميع القوانين التي تحتاج عادة إلى مفسّر و حافظ، و أن لاتكون الأُمّة الإسلامية - خلافاً لكل الأُمم - بحاجة إلى إمامٍ و قائد؟ من المنطقي أنّ كل عاقل يقدم على أمر مهمٍّ و يهدف إلى تحقيق غاية باهضة الثمن، لابُدّ و أن يفكر في استمرارها إلى حين تحققها، و أن يضع لها خطة تكفل لها النجاح.

إنّ مثل هذا الموضوع لايخرج عن عدّة افتراضات و هي:

1 - إنّ الاسلام محدود بعمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و لا علاقة له بما سيجري بَعد ذلك.

ص:167


1- النيسابوري، مسلم، الصحيح، كتاب الامارة، ج 12، ص 205 و 206.
2- الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1، ص 42.
3- الطبري، تاريخ الطبري، ج 2، ص 580.
4- سورة التوبة (9)، الآية 128.

2 - أن يكون المسلمون قد بلغوا في حياة النبيّ مرحلة من النضوج الفكري والعلمي بحيث غَدوا يستطيعون معرفة تكاليفهم في ضوء القرآن والسُنّة من غير حاجة إلى قائد ديني.

3 - أن تكون مهمة اختيار الخليفة قد تُركت للمسلمين أنفسهم.

4 - كان من واجب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن ينظر بعيداً لِما بَعد عهده، و يضع خطّة لاستمرار التحرّك الذي بدأه، و يعمل وفقاً لها.

والافتراض الأول باطل طبعاً؛ لأنه يستلزم القيام بعمل عبثي لا فائدة منه. فليس من المنطقي أن تُبذل كل تلك الجهود ثم تترك الأُمور سُدىً، ثم إنّ هذا يتناقض مع ادعاء الخاتمية و مع الغاية التي جاء من أجلها الدّين.

والافتراض الثاني غير صحيح أيضاً؛ لأَنَّ الواقع التاريخي يثبت خلاف ذلك. فما وقع بَعد الرسول من خلافات دموية أحياناً حول شؤون السلطة والقضايا السياسية، يكشف أنّ المسلمين لم يبلغوا تلك الدرجة من النضوج الفكري.

أمّا بالنسبة إلى الافتراض الثالث فهو افتراض غير عملي؛ لأَنَّ الأُمّة لم تتفق على شخص واحد بسبب ما كان يتجاذبها من تعصب قبلي و تنافس بين البطون والأُسر. و إنّما دعت كل جماعة إلى شخص. و أوضح دليل على ذلك ما وقع من تجاذبات و منازعات في السقيفة.

فالشخص الذي بويع في السقيفة لم تبايعه الأُمّة كلّها. و فضلاً عن ذلك فإنّ الإمامة تعد امتداداً للنبوّة والرسالة. و كان لابُدّ من اختيار شخص جدير بهذا المنصب. و إذا افترضنا أنّ مسؤولية اختيار الإمام متروكة للمسلمين، كيف يتسنّى لهم تحديد أنّ هذا الشخص أو ذاك لديه القدرة على النهوض بهذه المسؤولية الخطيرة.

يرى الشيعة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و هو العاقل الحكيم، كان حريصاً على تحقيق الغاية التي كان يهدف إليها بأفضل الأساليب، و لم يكن غافلاً عن هذه القضية المهمّة والمصيرية.

و حتى أنه كان يؤكّد عليها في مواقف و مقاطع مختلفة. و يمكن الاستدلال على صحّة هذا الادّعاء من خلال تحليل الأخبار التاريخية في ضوء المعايير التي يُدرس فيها أي خبر تاريخي.

ص:168

نعم، هناك شواهد و أدلّة و قرائن كثيرة تثبت أنّ النبيّ كان يعير أهمّية كبرى لهذه القضية، و قد وضع الحل لها. فقد تلقى الأمر من ربّه حول خليفته، و فعل ما أُمر به.

خليفة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على أساس القرآن

أمر اللّه المؤمنين في القرآن بطاعة اللّه والرسول وأُولي الأمر.(1) واقتران طاعة أُولي الأمر بطاعة الرسول يفيد أنّ طاعة الرسول و طاعة أُولى الأمر من سنخ واحد. والمراد من طاعة الرسول وأُولي الأمر هي الطاعة في الأوامر الولائية والحكومية التي تصدر منهم؛ لأَنَّ طاعتهم في الأحكام الدينية إرشادية و غير منفكّة عن طاعة اللّه.

و نظراً إلى مجيء طاعة أُولي الأمر و طاعة الرسول و طاعة اللّه في مساق واحد، فلابّد أن يكون أُولو الأمر معصومين من الخطأ والذنب، و إلّافإنّ هذا الأمر يستلزم طاعة المذنبين. و يستقبح طبعاً صدور مثل هذا الأمر من اللّه الحكيم.(2) و بما أنّ أُولي الأمر يجب أن يكونوا معصومين، و نظراً إلى عدم ادعاء العصمة إلّالأهل البيت عليهم السلام، فقد جاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: أهل البيت هم الذين قال فيهم اللّه عزّوجلّ: (أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، و قال أيضاً: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ) .(3)

هناك روايات كثيرة تذكر أن الإمام عليّاً عليه السلام تصدّق بخاتمه على فقير و هو في الركوع، ثم نزلت هذه الآية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ) .(4)

وبَعدما تلقّى النبيّ هذه الآية قرأها على أصحابه و قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه.

ص:169


1- - سورة النساء (4)، الآية 59.
2- - الطبرسي، مجمع البيان، ج 2، ص 64؛ للاطلاع على مزيد من التفصيل وللاطلاع على الاحتمالات الاخرى، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 64-69.
3- سورة المائدة (5)، الآية 55؛ الكُليني، الكافي، ج 1، ص 286 و 288، الحديثان 1 و 3.
4- سورة المائدة (5)، الآية 55. جاء في بعض الروايات ان الصدقة المذكورة كانت عبارة عن حُلّة ثمينة. الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 7 من أحكام الملابس، ج 5، ص 18، الحديث 9.

اللهم والِ مَن والاه و عاد مَن عاداه.(1)

جاءت كلمة الولي بمعنى الأُولى بالتصرّف والمفوّض بالاُمور. و على العموم تتضمن كلمة الولاية و مشتقاتها نوعاً من التصرف بالآخرين، و لا تعني مجرّد المحبّة التي هي أمر قلبي. نذكر على سبيل المثال: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ...) ، (2) و (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا...) ، (3) و (وَ ما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ...) .(4)

و في ضوء ما سبق ذكره فلا يمكن حمل آية الولاية على مجرد المحبّة المحضة. و إنّما يعني الولي: الحاكم والمشرف. واستناداً إلى الرواية و شأن النزول فإنّ المراد من (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ) (5) هو علي عليه السلام.

قد يقول قائل: إنّ الآية وردت بصيغة الجمع (الَّذِينَ يُقِيمُونَ... وَ يُؤْتُونَ...) مع أنّ المتصدّق في الصلاة هو علي فقط، والجواب عن ذلك هو أوّلاً: أحياناً يأتي الكلام بصيغة الجمع بينما يكون المراد مفرداً.(6) و ثانياً: إنّ وجه الإتيان بالجمع و إرادة المفرد هو من باب التعظيم و ترغيب الآخرين.(7)

و قد أنزل اللّه عزّوجلّ بشأن إمامة الإمام علي عليه السلام الآية المعروفة باسم آية التبليغ و هي (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) .(8)

ص:170


1- أحمد بن حنبل، المسند، ج 5، ص 494، الحديث 18793؛ عبدالحسين الأميني، الغدير، ج 1، ص 77-93.
2- - سورة الأحزاب (33)، الآية 6.
3- - سورة البقرة (2)، الآية 257.
4- سورة الأنفال (8)، الآية 34.
5- سورة المائدة (5)، الآية 55.
6- - مثل: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) سورة آل عمران (3)، الآية 173؛ فقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في نعيم بن مسعود؛ و في آية المباهلة أيضاً أُطلقت كلمات: الأبناء، والنساء والأنفس على الحسنين و فاطمة الزهراء و علي عليهم السلام.
7- قال الزمخشري و هو من مفسّري أهل السنّة: جيء به على لفظ الجمع و ان كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، ولينبّه على ان سجية المؤمنين يجب ان تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والاحسان و تفقّد الفقراء حتى ان لزمهم أمر لايقبل التأخير وهم في الصلاة، لم يؤخروه إلى الفراغ منها. الكشاف، ج 1، ص 649.
8- سورة المائدة (5)، الآية 67.

حيث جاء في شأن نزول آية التبليغ (1)- حسبما نقل كل من الشيعة والسُنّة - ما يلي:

عندما كان النبيّ عائداً إلى المدينة من حجة الوداع و برفقته تسعون ألفاً أو مئة و عشرون ألفاً من المسلمين، نزلت الآية المذكورة في موضع يُقال له خُم. فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بجمع الناس، و ألقى فيهم خطبة قال فيها: أتعلمون أني أوْلى بكم من أنفسكم؟ و كرّر هذا ثلاث مرات، والقوم يقولون في كل مرّة: نعم! ثم قال: «من كنتُ مولاه فعلىٌّ مولاه». و هذا الحديث نقله عدد كبير من الصحابة بقليل من الاختلاف.(2) و نقل هذا القول عن رسول اللّه في مواقف شتّى.

تكشف آية التبليغ حقيقة و هي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان مكلّفاً بإبلاغ أمر خطير بحيث أنه إن لم يبلّغه فكأَنّما لم يبلغ الرسالة. ويُستفاد من طمأنة اللّه للنبيّ بأنه كان هناك من يعارضون هذا الأمر، و أنهم كانوا سيعارضونه فيما لو أعلنه. فما هو هذا الأمر المهم الذي يطمئن اللّه خاطر نبيّه من أجله و يعده بالمحافظة عليه من شر الناس؟ ذهب البعض إلى القول: إن هذا الأمر المهم يتعلّق بأهل الكتاب بدليل أنّ الآية جاءت في سياق آيات تتعلق بأهل الكتاب، و لكن من الواضح أنّ اليهود والنصارى لم يكونوا يومذاك في وضع بحيث يخشاهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، بل إنّ مثل هذه الخشية لم تكن حتى في أوائل الهجرة إلى المدينة حيث كانت شوكة اليهود أقوى، فما بالك بما بَعد توطيد دعائم قوّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

و لم يكن هذا الأمر المهم هو الدّين كلّه؛ لأَنَّ النبيّ كان قد أبلغ معظم الدّين طيلة مدّة رسالته. و يستفاد من عموم كلمة «الناس» أنه كان هناك بين أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إضافة إلى المؤمنين، منافقون و في قلوبهم مرض، ممن لايمكن فرزهم. و جملة (إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) في مقام تعليل لجملة (وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ) . والمراد بالكفر هو الكفر بالحكم المُشار إليه في (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) . والمراد بعدم هدايته تعالى هؤلاء القوم

ص:171


1- - السيوطي، الدر المنثور، ج 2، ص 298.
2- - ليس هناك أي شكّ في حديث الغدير، حتى ان ابن حجر صرّح في الصواعق بصحّته. وجاء في رواية أحمد بن حنبل ان ثلاثين من الصحابة سمعوه. المظفر الحلي، دلائل الصدق... و أورد العلامة الأميني مائة و عشرة من رواة الحديث من الصحابة مع ذكر المصدر. وللاطلاع على مزيد من التفاصيل، راجع كتاب الغدير، ج 1، ص 14 إلى 61؛ و دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 49 و 50.

الكافرين عدم هدايته إياهم في كيدهم و مكرهم، و منعه الأسباب التي تمكّنهم من تحقيق ما يرومونه من الشر والفساد.(1)

هذه الآيات و غيرها من الآيات الأُخرى التي بيّنت الروايات دلالتها على ولاية أميرالمؤمنين والأئمة عليهم السلام، تعبّر عن مدى مكانة إمامة و ولاية علي والأئمة المعصومين عليهم السلام في استمرار رسالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. و رغم ذلك قد يُثار تساؤل و هو: لماذا لم يأت بصراحة ذكر أصل الإمامة واستمرارها بَعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أشخاص المعصومين. والجواب هو: يكفي أنّ أصل الإمامة قد طرح في القرآن. و ثانياً: إنّ رسالة النبيّ التي ذكرت صراحة في القرآن هي الزعامة الدينية، بينما تُركت إليه الكثير من أُمور الدّين و تفسيرها و شرحها و بيان كيفيتها.

و ليس هناك ضرورة تدعو إلى ذكر جميع القضايا صراحة في القرآن، و إن كانت ذات أهمّية.

فالإمامة قد ورد أصلها في القرآن، و أما بيان و تفسير جزئيّاتها فهو من واجب الرسول، كما هو الحال في أُمور كثيرة، كالصلاة والحج و سائر المسائل العبادية والاجتماعية، بل و حتّى رسالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم التي ورد ذكرها صراحة في القرآن مع إقامة المعجزات عليها، هل آمن بها الجميع؟ لقد تم أداء ما ينبغي أداؤه في سبيل الإيمان بالإمامة، و كان ذلك كافياً لبيان الحق.

الولاية

اشارة

الولاية: من الولي، بمعنى القرب والمداناة.(2) والوِلاية تعني النصرة، والوَلاية تعني تولّي الأمر و تدبير الأُمور.(3) وتُطلق كلمة الولي على اللّه لأنّه مدبّر الأُمور.

تشتمل كلمة الولي والولاية على نوع من التصرّف في أمور الآخرين؛ و هذا الأمران المتواليان والمتقاربان لايخلوان من تأثير و تصرّف في بعضهما. و قد طرحت معانٍ متعددة لكلمة «المولى». فيقال - مثلاً - لوجود شخص إلى جوار آخر للتصدي لبعض شؤونه و سد

ص:172


1- الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان، ج 6، ص 51.
2- - الجوهري، صحاح اللغة، ج 6، ص 2528.
3- الراغب الاصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ص 885.

بعض نواقصه، ولاية.(1) و مراد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من جملة «من كنت مولاه فعلىٌ مولاه» إثبات الولاية في التصرف. والأولوية المذكورة في الآية (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (2) هما بمعنى واحد في كلا الحالتين. فلو كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بصدد بيان محبة علي عليه السلام فقط لَما كان من الضروري بيان حق أولويته بالمؤمنين، ثم إنّ إعلان المحبّة ليس له أهمّية تستدعي أن يوقف مئة و عشرين ألف شخص في غدير خم، في وسط الصحراء، ليعلن لهم ذلك الأمر.

جاء في حديث آخر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «إنّ عليّاً منّي و أنا منه و هو وليّ كلّ مؤمن بَعدي»(3) و قوله «بعدي» ينفي احتمال كَوْن الكلمة بمعنى المحبّة القلبية، بل هي هنا بمعنى الأولوية والإمامة؛(4) و ذلك لأَنَّ المحبّة لاتختص بما بَعد رحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، في حين أنها إذا كانت بمعنى الولاية والتصرّف يزول الإشكال و يكون المعنى كاملاً؛ لأَنَّ النبيّ كان يقوم بهذا الدور في زمن حياته، و بوجوده لاحاجة لوجود غيره.

و للولاية حسب التحقق الخارجي مراتب نبيّنها كالآتي(5):

1 - مرتبة الاستعداد والصلاحية؛ أي أن يكون الشخص حائزاً للصفات والملكات الذاتية والاكتسابية التي يصير بها عند العقلاء صالحاً للولاية، و بدونها يكون الجعل عندهم جزافاً. والباري تعالى بصفته حكيماً مطلقاً لايعطي منصب النبوّة والإمامة إلّالمن لديه لياقة ذاتية و أهلية لهذا المنصب. و هذه المرتبة من الولاية كمال ذاتي في الشخص، و حقيقة خارجية، و لايمكن سلبها أو غصبها أو تفويضها إلى الغير أو التصالح عليها.

2 - المنصب المجعول للشخص اعتباراً مِن قِبَل مَن له ذلك، و إن فرض عدم ترتّب الأثر المترقّب منها عليه. كمن يعيّن شخصاً ليتولّى إدارة أعماله نيابة عنه. و هذه المرتبة من الولاية اعتبارية، وجعلها مشروط بلياقة الشخص و ما يقرّره صاحب الولاية.

ص:173


1- - للإطلاع على مزيد من المعلومات في هذا المجال، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 55 و 56.
2- - سورة الأحزاب (33)، الآية 6.
3- - سنن الترمذي،، الباب 20 من أبواب كتاب المناقب، ج 5، ص 591، الحديث 3712.
4- - لمزيد من التفصيل، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 55-57.
5- لمزيد من التفصيل، راجع: المصدر السابق، ص 78-80.

3 - الولاية والسلطة الفعلية الحاصلة من مبايعة الناس له، مثل ما حصل لأمير المؤمنين عليه السلام بَعد عثمان، حيث بايعه الناس. و لهذه المرتبة وجهتان:

أ - وجهة كَوْنها مقاماً وسلطة يتنافس عليها المتنافسون.

ب - وجهة كَوْنها أمانة من اللّه و من الناس، و لاتستعقب إلّامسؤولية و تكليفاً.

في هذا المجال أشار أميرالمؤمنين عليه السلام إلى نعله المخصوف و قال: «واللّه لهي أحبّ إليّ من إمرَتكم إلاّ أن اقيمَ حقاً أو أدفعَ باطلاً».(1) و من المؤكد أنه لو كان المراد من الولاية والإمارة، الحقيقة الخارجية والكمال النفسي لشخصه هو، لَما قال إنّ النعل المخصوف خير من العلوم والفضائل التي بسببها صار أهلاً لهذا المقام. كما أنه لايقصد ذلك المنصب الذي جعله له اللّه واعلنه له النبيّ في غدير خم، و إنّما يقصد الجانب الدنيوي للإمارة والرئاسة على الناس. و هذا هو ما بيّنه في الخطبة الشقشقية حين قال «... لألقيتُ حبلها على غاربها... و لألفيتم دنياكم هذهِ أزهدَ عندي مِن عَفْطةِ عَنْزٍ»،(2) و هي التي قال عنها: «واللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة و لا في الولاية إربة».(3)

الولاية التكوينية والولاية التشريعية

الولاية بمعنى القدرة على التصرف والتحكم، و هي تُقسم إلى ولاية تكوينية، و ولاية تشريعية، و لها مراتب. و مرتبتها الكاملة مختصة باللّه، و هناك مرتبة من الولاية التكوينية للرسول صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة عليهم السلام، و كذلك لبعض الأنبياء، بل حتى لبعض الأولياء، بما يتناسب مع سموّهم الروحي و مقدرتهم النفسية وارتباطهم باللّه، لأن معجزات الأنبياء والأئمة عليهم السلام، و كرامات الأولياء، هي نوع من التصرف في التكوين؛ و إن كانوا يأتون بها في طول مشيئة اللّه و بإذنه. و من أمثلة الولاية التكوينية التي أُشير إليها في القرآن إحياء الطير بأمر إبراهيم عليه السلام،(4) و تحويل العصا حيّة لموسى عليه السلام،(5) و صنع طير من الطين والنفخ فيه،

ص:174


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 33، ص 76.
2- - المصدر السابق، الخطبة 3، ص 50.
3- المصدر السابق، الخطبة 205، ص 322.
4- - سورة البقرة (2)، الآية 260.
5- سورة الأعراف (7)، الآية 107.

و إحياء الموتى لعيسى عليه السلام،(1) و إحضار عرش ملكة سبأ في لحظة لسليمان عليه السلام من قِبل آصف بن برخيا.(2)

أمّا الولاية التشريعية و هي حق تشريع الأحكام للناس - أو ما يُسمّى بالتقنين - فهي للّه؛ ثم فوّضت منه إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و من بَعده إلى الأئمة عليهم السلام. جاء في رواية عن الإمام الرضا عليه السلام في تفسير أولي الأمر(3) بآل محمد أنه قال: وهم الذين يستنبطون من القرآن و يعرفون الحلال والحرام.(4) و جاء في رواية أُخرى أنّ اللّه جعل الأئمة مواضع الأنبياء غير أنهم لايحلّون شيئاً و لايحرّمونه.(5) والولاية التكوينية والولاية التشريعية ثابتتان إجمالاً للأئمة عليهم السلام.(6) و صلاحيتهم في هذا المجال محصورة طبعاً في طيف الأحكام الإلهية، و ولايتهم منبثقة من ولاية اللّه.

و لايخفى طبعاً أنّ الولاية التشريعية للائمة لاتتعارض مع خاتمية الدّين الإسلامي، و ذلك للأسباب التالية:

أوّلاً: ثبوت هذه الولاية مصرّح بها بين طيّات الدّين، و مستقاة من آيات القرآن الكريم و أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و منها حديث الثقلين المتواتر.(7)

ثانياً: استناداً إلى ما صرّح به الأئمة المعصومون أنّ حديثهم حديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و متصل بكلام اللّه، كما روى هشام بن سالم و حمّاد بن عثمان و غيرهما عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: حديثي حديث أبي، و حديث أبي حديث جدّي، و حديث جدّي حديث الحسين، و حديث الحسين حديث الحسن، و حديث الحسن حديث أميرالمؤمنين عليه السلام، و حديث أميرالمؤمنين حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و حديث رسول اللّه قول اللّه عزّوجلّ.(8)

ص:175


1- - سورة آل عمران (3)، الآية 49.
2- سورة النمل (27)، الآية 40.
3- - سورة النساء (4)، الآية 83.
4- - الحُويزي، نور الثقلين، ج 1، ص 523، الحديث 429.
5- - المصدر السابق، ج 1، ص 500، الحديث 334.
6- - راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 74-76.
7- «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي ما إن تمسَّكتُم بهما لَن تضلّوا أبداً».
8- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 53، الحديث 14.

و هذا يعني أنّ دور أهل البيت عليهم السلام هو نقل أحاديث الرسول، و تفسير القرآن، والوقوف بوجه الانحرافات، وجعل أنفسهم قدوة للناس، و تجسيد تعاليم الدّين، و شرح و تفصيل السُنّة. مثلما كان دور رسول اللّه عليهم السلام نقل الوحي و كلام اللّه وتبيينه للناس: (وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى) ، (1) و كذلك (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) . (2) و نظراً إلى ما يتّسمون به من عصمة، فإن قولهم و فعلهم وتقريرهم حجة و مطابق للواقع.

إمامة الإمام عليّ عليه السلام في الروايات

بيّن رسول اللّه عليهم السلام إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام، بالقول و بالفعل. فالمواقف العملية للرسول صلى الله عليه و آله و سلم منه عليه السلام، والمسؤوليات التي أناطها به، تدل على أنه كان يعتبره شخصية متميّزة، مثل مؤاخاته إياه بنفسه، و إنكاحه ابنته السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، و أنه لم يندبه لأمر مهم، و لابعثه في بعث، إلّاكان هو المقدّم فيه والوالي عليه، و لم يولِّ عليه أحداً من أصحابه. و إغلاق جميع الأبواب المؤدية إلى المسجد إلّابابه،(3) كلُّها أمور تشير إلى موقعه الخاص في النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

ولرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تعبيرات سامية في وصف أميرالمؤمنين عليه السلام منها قوله فيه: إمام المتقين، وسيد المسلمين، و قائد الغر المحجّلين، و أمير الدّين، و أخو رسول اللّه، و علم الهدى، و نور أتباع محمد صلى الله عليه و آله و سلم، و أول المسلمين، والمجاهد من أجل تأويل القرآن، والصدّيق الأكبر، و باب علم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و نفس النبيّ،(4) و غير ذلك.

و هذه التعبيرات و إن كانت غير دالّة صراحة على إمامة علي عليه السلام، غير أنها تكشف على الأقل عن علوّ فضله، و أهليّته لهذا المنصب.(5)

ص:176


1- - سورة النجم (53)، الآيتان 3 و 4.
2- - سورة النحل (16)، الآية 44.
3- - الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، الباب 2 من الركن 2، ج 1، ص 315-321؛ والباب 4، ص 362-364.
4- السيّد شرف الدّين، المراجعات، ص 240-254؛ المظفر، دلائل الصدق، ج 2، ص 349-494.
5- السيّد شرف الدّين، المراجعات، ص 256.

و قد احتج أميرالمؤمنين عليه السلام على أعضاء شورى الخلافة بمكانته و سابق فضله، وهم أقرّوا له بذلك.(1) و من ذلك مؤاخاته مع رسول اللّه، و أنّ له أخاً مثل جعفر الطيار رضوان اللّه عليه، و عمّاً كحمزة رضوان اللّه عليه، و أنه حامل لواء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و مبير المشركين، و خليفة رسول اللّه في المدينة أثناء غزوة تبوك، و أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد توفي في حجره، و أنه هو الذي تولّى غسله و كفنه مع الملائكة، كما استدل عليهم أيضاً بقصّة خيبر و فرار الآخرين، وثباته في معركة أُحد، و معركة الخندق، و مبارزته لعمرو بن عبد ودّ، و أنه هو الذي نزلت فيه آيات (وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ) ، (2) والمباهلة،(3) والولاية،(4) و آية (أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ) . (5) و من الطبيعي أنّ سرد هذه الفضائل والمناقب في ذلك الاجتماع المصيري لم تكن لمجرّد استذكار الماضي، و إنّما لإحياء أمر مغفولٍ عنه و منسي و مهضوم، ألا و هو الإمامة و قيادة شؤون المسلمين.

ورد في نهج البلاغة أنّ شخصاً قال له: إنّك على هذا الأمر لحريص! فقال عليه السلام موضّحاً ما يختلف به عن غيره، مبيّناً ما لديه من المؤهلات والفضائل: و إِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي.(6) و قال في موضع آخر: «اَرى تُراثي نَهْباً».(7) و قال أيضاً: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي.(8) و قال: أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى.(9)

ص:177


1- - الطبري، ابن رستم، المسترشد، ص 332-364؛ الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 360-373؛ العسقلاني، الصواعق المحرقة، ص 120.
2- - سورة الواقعة (56)، الآية 10.
3- (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)، سورة آل عمران (3)، الآية 61.
4- (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ)، سورة المائدة (5)، الآية 55.
5- - سورة التوبة (9)، الآية 19.
6- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 172، ص 246.
7- - المصدر السابق، الخطبة 3، ص 48.
8- المصدر السابق، الخطبة 74، ص 102.
9- المصدر السابق، الخطبة 3، ص 48.
نبوءة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

لقد كان من المتوقّع - كما يبدو - أنّ قريشاً لن تنصاع لإمامة وخلافة علي عليه السلام. و قد كان الرسول على بيّنة من هذا الأمر، و لم يكتم هواجسه من هذه القضية. و تظهر الشواهد التاريخية أنه أفصح عن وجهة نظره في هذا الصدد في مواقف شتّى، محاولاً ترسيخ ولاية علي عليه السلام. ففي أعقاب خروج عائشة على الإمام علي عليه السلام في حرب الجمل، احتجّت عليها أُمّ سلمة بمجموعة أُمور منها: أنها قالت لها: «أتذكرين حين كُنا أنا و أنت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في سفر له، و كان علي يتعاهد نعلَي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخصفها، و يتعاهد أثوابه فيغسلها، فنقبت له نعل، فأخذها يومئذ يخصفها، و قعد في ظل شجرة، و جاء أبوك و معه عمر، فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، و دخلا يحادثانه فيما أرادا، ثم قالا:

يارسول اللّه، إنا لاندري قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من تستخلف علينا، ليكون لنا بعدك مفزعاً؟ فقال لهما: أما إني قد أرى مكانه، ولو فعلت لتفرقتم عنه، كما تفرقت بنوإسرائيل عن هارون بن عمران، فسكتا ثم خرجا. فلمّا خرجنا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، قلتِ له، و كنتِ أجرأ عليه منا: مَن كنت يا رسول اللّه مستخلفاً عليهم؟ فقال: خاصف النعل، فنظرنا فلم نَرَ أحداً إلّاعلياً».(1)

هواجس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من العصبية الجاهلية

كانت العصبية القبلية ضاربة بأطنابها في المجتمع القبلي الذي كان يعيش في جزيرة العرب. و قد بذل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم محاولات دؤوبة لاستئصال شأفة تلك الظاهرة و حقّق نجاحاً باهراً، و لكن رغم كل ذلك فقد بقي هناك ما يثير القلق والمخاوف. و من الطبيعي أنّ كل سياسي نبيه يدرك لو أنّ النبيّ نصب لقيادة المسلمين من بَعده شاباً في الثالثة والثلاثين من عمره لكان ذلك مدعاة لإثارة الاحقاد والضغائن. إذ من الطبيعي أنّ مثل ذلك الشاب

ص:178


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 218، شرح الخطبة 79؛ سنن ابن ماجه، ج 5، ص 592، الحديث 3715، الباب 20 مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام.

الذي كانت له كل تلك الفضائل المتميّزة كان يثير حسد كثير من الأفراد. كانت مخاوف الرسول من قضية الاستخلاف من الشدّة بحيث أنه كان يخشى أن تؤدّي لو طرحها إلى ضياع كل جهوده، و لكن اللّه عزّوجلّ طمأنه بقوله: (وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ) .(1)

فحتى لو لم يسمحوا للخلافة الظاهرية أن تصير إلى أهلها، غير أنّ النور والمعرفة المتّصلة بينبوع الوحي والرسالة لاينطفئان أبداً. فالمعارف الإلهية، و تفسير القرآن، و دفع الشبهات من قبل أهل بيت النبيّ قد شاعت في كل مكان لتروي المتعطّشين إلى معرفة الحقيقة. و إن كان علي و ذرِّيته قد تسلّموا الخلافة الظاهرية مدّة من الزمن أو لم يتسلّموها، فإنّ ذلك العصر قد مرَّ و انقضى، و ما بقي هو الحق والثقافة الغنية للإسلام والتشيّع.

فهم قادرون على رفد الحركة المعنوية للمجتمع، والسير به نحو الغايات السامية. وتبقى حقيقة الإسلام في خضم المساجلات والمذاهب المصطنعة، و إلّافلا معنى لإكمال الدّين و إتمام النعمة و إلقاء الحجة.

الإمام علي عليه السلام والخلافة

في الوقت الذي كان فيه علي عليه السلام و أصحابه منهمكين في المصيبة الكبرى لرحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، اجتمع أهل السقيفة وعيّنوا خليفة للنبي. وبَعد هذا العمل صاروا يقفون سوية بوجه أي عمل آخر. واستطاعوا أن يسيطروا على زمام الأُمور بذكاء وضجيج مفتعل، و منح امتيازات لهذا و ذاك، و إسكات المعارضين البارزين، و قمع جماعة آخرين. و أصبحت الظروف بالشكل الذي لايسمح لعلي عليه السلام أو لأي شخص آخر أن يقوم بأي عمل. و هكذا وجد الإمام أنّ احتجاجه لايجدي نفعاً. و لايؤدي سوى إلى الفتنة والاقتتال واجتثاث الدّين والمؤمنين. ورأى الإمام يومذاك أن يتغاضى عن الخلافة تلافياً للشر والفتنة؛ لأنه كان يدرك فداحة المخاطر التي تهدد الإسلام. فقد برز في أرجاء جزيرة العرب منافقون و مدّعون للنبوّة الذين كانوا يشكلون تهديداً خطيراً لبيضة الإسلام، فهم كانوا يتربّصون فى

ص:179


1- - سورة المائدة (5)، الآية 67.

منتظرين الفرصة المناسبة للانقضاض على الإسلام والقضاء عليه.

و كان من الطبيعي في مثل تلك الظروف أن يؤدّي أي عمل يقوم به علي عليه السلام في أمر الخلافة، إلى نشوب صراع خطير تصعب السيطرة عليه. فجلس في داره حِرصاً على حفظ دين اللّه و لكي لايشق عصا المسلمين.(1)

لقد بذل الإمام علي عليه السلام جهوده متى ما وجد الظرف المناسب لبيان معارف الدّين و تفسير كتاب اللّه، و كان في الوقت ذاته يسعى من أجل إعادة الخلافة والإمامة إلى مسارها، و مؤكّداً على حقّه في الخلافة.

و قال في ردّه على الخوارج الذين قالوا له: أنت الوصي ولكّنك ضيّعت الوصاية، وجعلت الحكم إلى غيرك: أنتم كفرتم و قدّمتم عليَّ غيري، و أزلتم الأمر عنّي، و ليس على الأوصياء الدعاء إلى أنفسهم... و قد قال اللّه تعالى: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) . (2) فلو ترك الناس الحج لم يكن البيت ليكفر بتركهم إيّاه، و لكن كانوا يكفرون بتركه؛ لأَنَّ اللّه تعالى قد نصبه لهم علماً، و كذلك نصبني علماً، حيث قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ياعلي أنت بمنزلة الكعبة تُؤتى و لاتأتي.(3)

الأئمة الإثنا عشر

اشارة

كان عدد أوصياء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و خلفائه إثني عشر إماماً. و هناك مجموعتان من الأحاديث والروايات الدالّة على هذا: مجموعة الأحاديث التي تؤكد على وجود الإمام في المجتمع بشكل عام، و منها الحديث المروي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ الأرض لاتخلو من حجّة.(4)

ص:180


1- السيّد شرف الدّين، المراجعات، ص 385-387؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 21، شرح الخطبة 26.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 97.
3- الطبري، ابن رستم، المسترشد، ص 387 و 394؛ ابن الأثير، اسدُ الغابة في معرفة الصحابة، ج 4، ص 31.
4- أو مثل هذا الحديث: «لايزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان.» صحيح مسلم، كتاب الامارة، ج 12، ص 201؛ الطبري، ابن رستم، المسترشد، ص 387، ذيل الرقم 130؛ و ص 394، ذيل الرقم 132.

يدل هذا النوع من الروايات على وجوب وجود إمام حق في كل زمان لكي لاتخلو الأرض من حجة إلهية، وليتخلّص الناس بمعرفته من الجاهلية.

والمجموعة الأُخرى هي الروايات التي تنص على عدد و أوصاف أوصياء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد وردت ثلاثمئة رواية من طرق مختلفة حول عدد خلفاء النبيّ، و تنص كلّها على العدد اثني عشر. و إن كانت هناك أخبار أُخرى تنص على غير هذا العدد فلابّد من تأويلها أو تركها؛ لأَنَّ المتواتر من الروايات يفيد أنّ عدد الأئمة - مع الإمام علي - إثنا عشر إماماً.

و في مصادر أهل السُنّة نُقلت روايات ذات مضمون واحد تقريباً و هو أنّ عدد خلفاء النبيّ إثنا عشر خليفة، مثل: «يكون من بَعدي اثنا عشر أميراً»،(1) و «لايزالُ هذا الأمرُ عزيزاً إلى اثني عشر خليفة».(2) والمراد من الإثني عشر من يستحقون الخلافة؛ أي تتوفر فيهم شروط الإمامة كالعدالة والعلم و غير ذلك.(3)

يوجد في كتاب الكافي ثلاثة عشر باباً في أسماء و أوصاف الأئمة، و أحدها يتعلق بالنص على إمامة الأئمة، و أمّا الأبواب الإثنا عشر الأُخرى فتتحدث عن كل واحد من الأئمة (من الإمام علي إلى الإمام المهدي عليه السلام) استناداً إلى ما أدلى به الإمام السابق له، أو استناداً إلى حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(4)

أسماء الأئمة عليهم السلام

أسماء الأئمة المعصومين عند الشيعة هم بالترتيب التالي:

الإمام الاوّل: الإمام أميرالمؤمنين علىّ بن أبي طالب عليه السلام

الإمام الثاني: الإمام الحسن بن عليّ المجتبى عليهما السلام

الإمام الثالث: الإمام الحسين بن عليّ سيّدالشهداء عليهما السلام

ص:181


1- - سنن الترمذي،، كتاب الفتن، الباب 46، ج 4، ص 434، الحديث 2223.
2- - صحيح مسلم، كتاب الامارة، ج 12، ص 202؛ النعماني، كتاب الغيبة، ص 175؛ الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 2، ص 157-165.
3- لمزيد من التفصيل، راجع: دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 377.
4- الكُليني، الكافي، ج 1، كتاب الحجة، ص 286-329.

الإمام الرابع: الإمام عليّ بن الحسين سيّدالساجدين عليهما السلام

الإمام الخامس: الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليهما السلام

الإمام السادس: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام

الإمام السابع: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام

الإمام الثامن: الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليهما السلام

الإمام التاسع: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليهما السلام

الإمام العاشر: الإمام عليّ بن محمّد الهادي عليهما السلام

الإمام الحادي عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكري عليهما السلام

الإمام الثاني عشر: الإمام حجة بن الحسن المهدي عليهما السلام

كما يعتقد الشيعة - استناداً إلى تصريحات و إشارات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - بأنّ السيدة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام أُمّ الأئمة عليهم السلام هي محور الإمامة والولاية، و سيّدة نساء العالمين في الدنيا والآخرة. و هي أُسوة لكل الناس في كل عصر. و بما أنها من المعصومين أيضاً، فإنّ قولها و فعلها و تقريرها حجة. و رضاها رضى اللّه و رسوله، و غضبها غضب اللّه و رسوله.

و هؤلاء هم العترة، و أهل بيت النبيّ الذين أوصى بهم، و هم يتّصفون بأوصافه - مع فارق واحد، و هو أنهم لايوحى إليهم - و معصومون من كل خطأ و ذنب.

اختيار الأئمة عليهم السلام

الأئمة أناس اصطفاهم اللّه. و مثلما اصطفى من بين الناس رسلاً لإبلاغ رسالته، ولتكون لهم الزعامة في الناس، كذلك اصطفى الأئمة لتكون لهم إمامة الناس. و كان في الأُمم الماضية من اصطفاهم اللّه مثل آل إبراهيم و آل عمران.(1) و قد قال اللّه عزّوجلّ في ما يخص الأُمّة الإسلامية: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) . (2) و روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «لنا مِنْ رَسولِ اللّهِ الوِلادةُ وَ لنا مِنْ كِتابِ اللّهِ الوِراثةُ».(3)

ص:182


1- - سورة آل عمران (3) الآيتان 33-34.
2- - سورة فاطر (35)، الآية 32.
3- الطبري، ابن رستم، المسترشد، ص 600.
أهلية الأئمة عليهم السلام

إضافة إلى النصوص المعتبرة والمتعددة حول إمامة الأئمة، فقد كانت لهم شخصيات بارزة و مؤهلات و مراتب من الكمال توجب أن تُفوّض لهم الزعامة والإمامة. فقد كان الأئمة عليهم السلام هم المؤسسون لكثير من العلوم، و لم يكن هناك بعد النبيّ من يضاهيهم في المرتبة العلمية والمعنوية. والمثال الأبرز على ذلك، الإمامان الباقر عليه السلام والصادق عليه السلام، فهما حينما توفّرت لهما الظروف أظهرا علمهما وربّيا كثيراً من التلاميذ. قال أبو زهرة و هو أحد الباحثين المصريين المعاصرين في وصف دور الإمام الباقر عليه السلام: «كان مَقْصَدَ العلماء من كلِّ البلاد الإسلامية».(1)

نقل النجاشي في كتاب رجاله عن الحسن بن علي الوشّاء أنه قال: أدركت في هذا المسجد (مسجد الكوفة) تسعمئة شيخ كلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد.(2)

و لايدّعي أحد طبعاً أنّ هؤلاء الأئمة قد اكتسبوا كل علومهم من الآخرين، أو درسوها في مدرسة. و تدل غزارة علمهم، و ما نشروه من العلوم دون أن يتعلّموا ذلك من أحد، على أنهم كان لديهم علم إلهي و أنهم كانوا يؤدون في الأُمّة ذات الدور الذي كان يؤدّيه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

إنّ ما يوجب التمسّك بأهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة الإثني عشر هو النص عليهم من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واستقاء علومهم من علمه. يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المجال: ألا و إنّا أهل بيتٍ مِن علمِ اللّه علمنا، و من قول صادقٍ سمعنا، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، و إن تدبروا عنا يهلككم بأيدينا أو بما شاء، و معنا راية الحق من تبعها لَحِق، و من تأخر عنها محق، ألا و بنا يفتح، و بنا يختم لابكم، فإنه عزّوجلّ قد أمر بطاعة أقوام بأعيانهم، والرسول قد دل عليهم، و حظر على المتمسكين بهم أن يضلوا، والدليل على ذلك أن اللّه قد طبعهم على الخير، و عملهم ما احتاجت إليه الأُمّة، و لايجالسون فقهاءها، و لايتدارسون كتبها، بل ينظرون في علم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.(3)

ص:183


1- أبو زَهره، الإمام الصادق، ص 18.
2- رجال النجاشي، ص 40، الرقم 80، سيرة الحسن بن علي الوشّاء.
3- الطبري، ابن رستم، المسترشد، ص 561، الحديث 238.

و بَيّن الإمام الصادق أنّ مصدر علم الأئمة هو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام، و قال أيضاً: إنّا نعلم الأُمور أحياناً بالإلهام.(1)

و قال الإمام الباقر عليه السلام:... أترون أنّ اللّه تبارك و تعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يخفي عنهم أخبار السموات والأرض، و يقطع عنهم مواد العلم في ما يرد عليهم ممّا فيه قوام دينهم؟(2) و قال الإمام الصادق عليه السلام: لايحتجّ اللّه تبارك و تعالى على خلقه بحجة لايكون عنده كل ما يحتاجون إليه.(3)

و جاء في رواية أنّ الإمام الباقر عليه السلام استشهد بالآية الشريفة: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (4) على أنهم يعلمون بما يقدّره اللّه و يقضيه.(5) و قال عمار الساباطي: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الإمام، يعلم الغيب؟ فقال: لا، و لكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه اللّه ذلك.(6)

و جاء في رواية أُخرى أنّ الإمام الصادق عليه السلام استدل بالآية الشريفة: (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) (7) و قارنها بالآية: (... وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (8) بأنّ علم هذا أكثر من علم الذي أشارت إليه الآية السابقة: و قال: «علم الكتاب واللّه كلّه عندنا».(9)

(10) و قال المفضل: جعلت فداك يفرض اللّه طاعة عبد على العباد و يحجب عنه خبر السماء؟ قال: لا. اللّه أكرم و أرحم و أرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحاً و مساءً.(11)

ص:184


1- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 264، الحديث 2.
2- - المصدر السابق، ج 1، ص 261، الحديث 4.
3- المصدر السابق، ص 262، الحديث 5.
4- - سورة الجن (72)، الآيات 26-27.
5- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 256، الحديث 2.
6- المصدر السابق، ص 257، الحديث 4.
7- - سورة النمل (27)، الآية 40.
8- سورة الرعد (13)، الآية 43.
9- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 257، الحديث 3.
10- حول الآية (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ)، هناك رواية تقول انها تتعلق بآصف بن برخيا، الذي كان من أتباع النبيّ سليمان عليه السلام، والآية (وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) تنطبق على الإمام علي عليه السلام. نور الثقلين، ج 4، الصفحات 87-92. أمّا الوجه في ترجيح دلالة الآية (وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) على الآية الأُخرى هو أن الحرف (مَنْ) في تلك الآية دالّ على التبعيض، أمّا في هذه الآية فقد وردت عبارة (عِلْمُ الْكِتابِ) بشكل مطلق.
11- الكيني، الكافي، ج 1، ص 261، الحديث 3.

الإمامة في الطفولة

يعتقد الشيعة الإمامية بأنّ الأئمة المعصومين عليهم السلام يُعطون شأن الإمامة منذ الطفولة؛ لأَنَّ الإمامة منصب إلهي، و لمقام الإمامة المقدرة على تلبية المقتضيات التي يسلتزمها هذا المنصب؛ أي أن يكون الإمام حجّة للّه على الخلق. و بما أنّ هذا يُحتمل فيه أن ينال الإمام منصب الإمامة منذ عهد الطفولة، فإنّ اللّه تعالى يهبه مثل هذا العِلم و هذا المنصب. و هذا ليس بالشيء الجديد في تاريخ الدّين. فقد كان هناك في الأُمم الماضية من أُعطوا مقام النبوّة والوصاية في عهد الطفولة.

عيسى عليه السلام عندما كان وليداً تكلم في المهد و قال: (... إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا) ، (1) و جاء في شأن يحيى عليه السلام: (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) . (2) و استند الإمام الباقر عليه السلام إلى هاتين الآيتين ليبيّن أنّ عيسى و يحيى كانا حجتين و نبيين منذ الطفولة.(3)

قال صفوان بن يحيى: قلت للرضا عليه السلام: قد كنا نسألك قبل أن يهب اللّه لك أبا جعفر عليه السلام فكنت تقول: يهب اللّه لي غلاماً، فقد وهب اللّه لك فقَرَّ عيوننا، فلا أرانا اللّه يومك، فإن كان كَوْن فإلى مَن؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر عليه السلام و هو قائم بين يديه، فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين!؟ قال: و ما يضرّه من ذلك شيء، قد قام عيسى عليه السلام بالحجّة و هو ابن ثلاث سنين».(4)

و جاء في خبر آخر أنه قيل للإمام الجواد عليه السلام: إنهم يقولون في حداثة سنّك، فأشار إلى قصة سليمان و داود و قال: إنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان و هو صبي يرعى الغنم.(5)

ص:185


1- - سورة مريم (19)، الآية 30.
2- - سورة مريم (19)، الآية 12.
3- الكُليني، الكافي، ج 1، ص 382، الحديث 1.
4- المصدر السابق، ص 383، الحديث 2.
5- المصدر السابق، الحديث 3.

آخر حجج اللّه

اشارة

الاعتقاد بالمنجي والأمل بقيام حكومة عالمية تبسط العدالة، موجودان في كل الأديان بشكل أو آخر. فقد جاءت البشرى بالمصلح في الديانة اليهودية، والمسيحية، و حتى في الهندوسية والزرادشتية والبوذية. فقد جاء في مزامير داود التي أُدخلت اليوم ضمن كتاب العهد القديم، ما يلي: و يقطع ذرية الأشرار، أمّا الصديقون فيرثون الأرض و يسكنونها إلى الأبد.(1) و جاء في موضع آخر أيضاً: المباركون من الرب يرثون الأرض، والملعونون منه ينقطعون.(2)

و قد صرّح القرآن الكريم بأن اللّه قد وعد في كتب الأنبياء السابقين أنّ الأرض سيرثها الصالحون: (وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ) . (3) و جاء في آية أُخرى: (وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) .(4)

و نقل أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال: إنّ المراد من الصالحين الإمام المهدي (عج) و أنصاره.(5)

و جاء في روايات كثيرة ذكر المنقذ العالمي و آخر الأوصياء بألقاب مثل المهدي، و قائم آل محمد، و حجة اللّه. و في كتب الحديث، و منها كتب الحديث عند أهل السُنّة روايات كثيرة حول الإمام المهدي (عج) ادّعى البعض تواترها.(6) و قد جاء في إحداها أنّ رجلاً من ذرية النبيّ اسمه المهدي سيظهر في آخر الزمان «لاتذهبُ الدنيا حتّى يليَ امَّتي رجلٌ مِنْ اهْلِ بَيْتي يُقالُ لَهُ المَهْدي».(7)

ص:186


1- - المزامير، المزمور (37)، الآيتان 22 و 23.
2- المصدر السابق، الآية 29.
3- - سورة الأنبياء (21)، الآية 105.
4- سورة النور (24)، الآية 55.
5- المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 47، الحديث 6.
6- - للعلامة الشوكاني كتاب في هذا المجال عنوانه: «التوضيح في تواتر ما جاء فى المنتظر والدجّال والمسيح».
7- الطوسي، كتاب الغيبة، ص 182؛ الحَمويني، فرائد السمطين، ج 2، ص 328؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 79 و 81.
ظهور المهدى (عج)

قال ابن أبي الحديد في شرح قول الإمام علي عليه السلام: «خلّف فينا رايةَ الحقّ»: راية الحق:

الثقلان المخلفان بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و هما القرآن والعترة(1) و قال في سياق شرحه لجملة: «حتى يطلع اللّه لكم من يَجمَعكم و يَضُمّ نَشْرَكم»: و هذا إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الوقت.(2)

جاء في ما نقل من كلام الأئمة عليه السلام: أنّ المهدي من ذرية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. و فضلاً عن ذلك فقد ذُكر آباؤه بالترتيب. و نصّت روايات على أنّ الإمام المهدي من ذرية الحسين عليه السلام؛ فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: الأئمة من بعدي إثنا عشر إماماً تسعة منهم من ذرية الحسين، والمهدي من هؤلاء التسعة.(3)

سُئل أميرالمؤمنين عليه السلام عن معنى قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي» مَن هم العترة؟ فقال: أنا والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديهم و قائمهم.(4)

و روي أنّ الإمام الحسن عليه السلام ذكر المهدي (عج) و قال: إنه التاسع من ولد أخي الحسين.(5)

و ذكرت روايات أُخرى أن المهدي من ذرية فاطمة عليها السلام؛ إذ نُقل أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لفاطمة: نبيّنا خير الأنبياء و هو أبوك، و وصينا خير الأوصياء و هو بعلك، و منا المهدي و هو من ذرّيتك.(6)

وردت أحاديث حول المهدي في مسند أحمد بن حنبل وصحيح البخاري اللذين يعود

ص:187


1- - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 85، شرح الخطبة 99.
2- المصدر السابق، ص 94.
3- الطوسي، كتاب الغيبة، ص 188 و 189 و 191؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 35 و 66 و 133.
4- الصدوق، إكمال الدّين، ج 1، ص 351.
5- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 132، الحديث 1.
6- المصدر السابق، ج 51، ص 67، الحديث 6؛ و ج 36، ص 369 و 370.

تاريخ تأليفهما إلى القرن الثالث، و هو قرن ولادة الإمام المهدي (عج).(1) و هذان الكتابان من الكتب المعتبرة عند أهل السنّة. و من الأحاديث التي نقلها أحمد بن حنبل في مسنده، الحديث التالي: «لو لم يبقَ من الدُنيا الإّ يوم بَعَثَ اللّه عزّوجلّ رجلاً منّا يملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً».(2)

أمّا بالنسبة إلى الوهابيين الذين يعتقدون - تبعاً لابن تيمية - بمعتقدات خاصّة مُخالفة لمعتقدات جميع الفرق الإسلامية المعروفة، فقد أقروا صحّة الأحاديث المتعلّقة بالمهدي، فقد جاء في البيان الذي أصدرته رابطة العالم الإسلامي - و مقرُّها في مكّة - في عام 1976، في سياق الإجابة عن سؤال تقدّم به شخص حول الإمام المهدي، أنّ ابن تيمية قد أقرّ صحّة الأحاديث المتعلّقة بالمهدي، و جاء ضمن الجواب: إنه (أي المهدي) آخر الخلفاء الراشدين الإثني عشر، الذين ذكرتهم كتب الصحاح نقلاً عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. والأحاديث المتعلّقة بالمهدي رواها الكثير من صحابة النبيّ. و قد أشير في هذا البيان إلى الكتب التي أُلّفت في هذا الموضوع، وصرّح أن الأحاديث المتعلّقة بالمهدي متواترة.

و قد شكك ابن خلدون في بعض هذه الأحاديث معترفاً بانّها كانت مشهورة لدى المسلمين على مرّ القرون والأعصار، و لازالت موجودة، و هي تدل على أنه سيظهر في آخر الزمان رجل من ذرية النبيّ... و اقرّ بأن بعض الأحاديث لايمكن الشكّ فيها.(3)

انتظار ظهور المهدي (عج) قبل ولادته

وردت البشارة بظهور الإمام المهدي (عج) في الروايات المنقولة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة عليهم السلام، إلى حد أنّ أصحاب الأئمة كانوا ينتظرون ظهور شخص باسم قائم آل محمد حتى في عصر الأئمة، و كانوا يسألون الأئمة أحياناً: هل أنت القائم من آل محمد؟ قال يونس بن عبدالرحمن: دخلت على موسى بن جعفر عليهما السلام فقلت: يا بن رسول اللّه، أنت القائم

ص:188


1- - أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج 1، ص 84 و 99 و 448؛ و ج 5، ص 277.
2- المصدر السابق، ج 1، ص 99.
3- ابن خلدون، المقدمة، ص 322 و ما بعدها.

بالحق؟ فقال: أنا القائم بالحق، و لكن القائم الذي يطهّر الأرض من أعداء اللّه هو الخامس من ولدي.(1)

ولادة الإمام المهدي (عج)

أشهر التواريخ حول ولادة الإمام المهدي هو النصف من شعبان من عام 255 للهجرة، و هو الوصي الثاني عشر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، واسمه و كنيته كاسم و كنية النبيّ. وُلِد من الإمام الحسن العسكري و زوجته نرجس في مدينة سُرَّ من رأى (سامرّاء).(2) و بعد ولادته عقّ عنه الإمام الحسن العسكري عليه السلام وتصدّق و أعلن لبعض الشيعة خبر ولادته.(3) و عرضه على بعض أصحابه، و هنّأ جماعة بولادة ابنه(4) فقال لهم: هذا صاحبكم من بعدي... و هو القائم الذي تمتد إليه الأعناق بالانتظار. فإذا امتلأت الأرض جوراً و ظلماً خرج فملأها قسطاً و عدلاً.(5)

غيبة الإمام المهدي (عج)

بعد استشهاد الإمام الحسن العسكري عليه السلام رأى جماعة من الشيعة الإمام المهدي عليه السلام، و كانوا في تلك المدّة واسطة بينه و بين شيعته، و من هؤلاء أفراد يُسمّون بالنواب الأربعة.

و قد وصفهم الإمام العسكري بالثقاة والعدول، و منهم أبو عمرو عثمان بن سعيد، وابنه محمد بن عثمان، و غيرهم من السفراء.(6) ويُطلق على هذه المرحلة اسم الغيبة الصغرى، و بدأت من عام 260 للهجرة إلى عام 329 للهجرة. و بدأت بعدها الغيبة الكبرى و هي مستمرة إلى

ص:189


1- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 31 من أبواب الأمر بالمعروف، ج 12، ص 282، الحديث 6.
2- - المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 23 و 24 و 25؛ الشيخ الطوسي، كتاب الغيبة، ص 234؛ الصدوق، اكمال الدّين، الباب 42، ص 424.
3- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 5، الحديث 9 و 11؛ الصدوق، إكمال الدّين، باب 42، ص 430 و 431، الحديث 6.
4- - الشيخ الطوسي، كتاب الغيبة، ص 251.
5- المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 5، الحديث 11.
6- - الشيخ الطوسي، كتاب الغيبة، ص 108 و 109؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 343 إلى 366، الباب 16.

أن يأذن اللّه للإمام بالظهور.

ورد اصطلاح الغيبة الصغرى والكبرى في كلام الأئمة قبل ولادة الإمام المهدي (عج)، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: «إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: إحداهما تطول...».(1)

غيبة الإمام المهدي ليس بمعنى أنه مختفٍ في موضع ما، و لكن المراد أنّ الناس لايعرفونه. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: المهدي مثل يوسف فيوسف، كان بين إخوته فلم يعرفوه. والمهدي أيضاً بين الناس و هم لايعرفونه حتى يأذن اللّه أن يعرّفهم نفسه كما أذن يوسف حين قال لهم: (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) . (2) سوف يأذن اللّه للناس في الوقت المناسب أن يعرفوا إمام زمانهم.(3)

إنّ غيبة الإمام والقائد في أية امّة من الأُمم أمر غير طبيعي، و يصعب على عموم الناس تصديقه. أمّا بالنسبة إلى غيبة الإمام المهدي فقد جرى التمهيد لها تدريجياً من قبل النبيّ والأئمة، و أصبحت هذه المحاولات أكثر وضوحاً في زمان الإمامين الهادي والعسكري عليه السلام؛ حيث أخذ يتقلص لقاء الشيعة مباشرة بالإمام العسكري عليه السلام، و أخذت الأُمور تُطرح عن طريق نواب. و كان هذا بمثابة محاولة لتمهيد الظروف ولإعداد الشيعة لقبول غيبة المهدي (عج) و عمد الإمام العسكري في الوقت ذاته إلى عرض الإمام المهدي على بعض الشيعة ليطمئنوا أنّ حجة الأرض موجود في الأرض، وليُعلموا بقية الشيعة بهذا الأمر. و في إحدى المّرات قال الإمام العسكري في مجلس كان فيه محمد بن عثمان بن سعيد (السفير الثاني للإمام المهدي (عج)) مع أربعين رجلاً من الشيعة، فإذا بغلام كأَنّه قطع قمر أشبه الناس بالإمام العسكري، فقال: «هذا إمامُكم من بعدي و خليفتي عليكم... ألا و إنّكم لاتَرَونه بعد يومكم هذا».(4)

ص:190


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 52، ص 153، الحديث 5.
2- - سورة يوسف (12)، الآية 89.
3- الصدوق، إكمال الدّين، الباب 5، ص 144 و 145، الحديث 11.
4- الشيخ الطوسي، كتاب الغيبة، ص 357؛ الصدوق، إكمال الدّين، الباب 43، ص 435، الحديث 2؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 346 و 347.
الحكمة من غيبة إمام الزمان (عج)

الاعتقاد بوجود المهدي (عج) و غيابه أمر ديني. وجود الإمام المعصوم تجسيد للطف اللّه واستناداً إلى السنن الإلهية لتكون هناك حجة إلهية على الناس في كل زمان: «اللهم بلى لاتخلو الأرضُ من قائمٍ للّه بحُجَّةٍ إمّا ظاهراً مشهوراً و إمّا خائفاً مغموراً لئلّا تبطل حُجَجُ اللّه و بيّناتُه».(1)

إن غيبة الإمام و عدم بسط يده و حرمان الناس من حضوره قضيّة تعود إلى المكلّفين أنفسهم، فقد يكون الإمام حاضراً و لكن لا سلطة له أو أن الناس أنفسهم يحرمون أنفسهم من تعاليمه و ظل وجوده. مثلما كان الحال في زمان الإمام علي عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام و سائر الأئمة حيث إنّ الناس لم يستفيدوا من وجودهم كما ينبغي و كما هم أهل له.

إنَّ وجود إمام روحي حي - حتى و ان كان يتعذّر الوصول إليه - مهم لأنه يجعل أتباعه يتعلّقون به و ينظمون حياتهم في ضوء ذلك و يسعون إلى التشبّه به. و هذا الشيء موجود لدى جميع الأمم التي لديها كتاب سماوي و غيرهم.

إنَّ استمرار الحضور الظاهري للإمام بين الناس له شروط، و ما لم تتهيّأ تلك الظروف تماماً، يتعذر حضوره المستمر. و سبب غيبة إمام الزمان (عج) هو عدم توفّر الأرضية المناسبة لإمامته الظاهرية.

إمام الزمان (عج) آخر ما ادّخره اللّه و لا حجّة من بعده. و هو يظهر حين تتوفر ظروف تطبيق أحكام اللّه في الكون كلّه و تُطوى صفحة الشرك و عبادة الأصنام:

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) . (2) و لابد طبعاً أن تتوفر لمثل هذا الهدف المهم الظروف والأرضية المناسبة. و ينبغي أن يكون الضمير العام لأبناء البشرية مهيئاً لقبول مثل هذا التحوّل الكبير.

ص:191


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 147؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 52، ص 92، الحديث 6.
2- - سورة التوبة (9)، الآية 33.
طول عمر إمام الزمان (عج)

من القضايا التي يدور حولها جدل كثير فيما يخص الإمام المهدي (عج) طول عمره. فقد مضى حتى الآن ما يقارب اثني عشر قرناً من عمره، و ربّما يقدّر له أن يستمر أكثر من ذلك.

و في ضوء متوسط أعمار الناس في كل العالم، يتبادر إلى الأذهان سؤال و هو كيف يمكن أن يكون لشخص مثل هذا العمر الطويل؟ و رغم غرابة هذه الظاهرة و استبعاد وجودها غير أنّ القرآن الكريم يصرّح بأن النبي نوح عليه السلام دعا قومه ألف سنة إلّاخمسين عاماً.(1) و قال الإمام الصادق عليه السلام إنّ النبي نوح عليه السلام عاش 2500 سنة.(2) و عاش أصحاب الكهف ثلاثمائة و تسع سنين في النوم.(3) و ذكرت كتب السيرة والتاريخ أفراداً عمّروا طويلاً. فقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ان النبي إبراهيم عاش 175 سنة، و عاش آدم عليه السلام 930 سنة،(4) و كانت مدّة نبوّة هود عليه السلام 670 سنة. و كان عمر أفراد قومه 400 سنة.(5)

و فضلاً عن ذلك، من الناحية الطبية لدى كل خليّة قدرة على العيش آلاف السنين. و إذا لم تعرض للإنسان عوارض كالمرض و غيره فهو قادر على العيش آلاف السنين. و على هذا الأساس لايمكن القول بتعذّر أو استحالة طول العمر لمجرد أنه خلاف الأعمار المتعارفة بين الناس.

إنتظار الفرج والحكمة منه

اعتبر انتظار الفرج عبادة. و وصف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم انتظار الفرج بأنّه أفضل الأعمال عند اللّه.(6) و جاء في حديث آخر: المُنتَظِر للثاني عشر كالشاهر سيفه بين يدي

ص:192


1- - سورة العنكبوت (29)، الآية 14.
2- - الصدوق، إكمال الدّين، الباب 46، ص 523، الحديث.
3- - سورة الكهف (18)، الآية 25.
4- - الصدوق، إكمال الدّين، ص 523، الحديث 3.
5- المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 108، قطب الدّين الراوندي، قصص الأنبياء، الباب 3، ص 90، الجزائري، قصص الأنبياء، ص 69.
6- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 52، ص 122، الحديث 2.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يذب عنه.(1)

و لكن ما معنى الانتظار؟ الانتظار لايعني التحني عن الحياة والتنصّل عن المسؤولية.

والانتظار ليس شيئاً عبثياً من غير غاية و لا مفهوم.

القادة البارزون والنابغون في حقل القيادة بمثابة طاقة محرّكة تستحثّ الأمّة و تنتشلها من حالة السبات و تبعث فيها الحياة والنشاط. و أمثال هؤلاء القادة لايؤثرون في حاضر أُممهم فقط، بل يؤثرون في مستقبلها أيضاً. و فضلاً عن الشخصيات الواقعية، فإنّ الأبطال الأسطوريين الموجودين لدى جميع الأمم تقريباً لهم تأثير في ثقافات تلك الأمم.

و يمكن القول بكل جرأة ان الدّين الوحيد الذي فيه شخصيات قيادية واقعية تتناسب مع مختلف الأزمنة والظروف هو الإسلام.

إنّ كل شيعي يعتقد بوجود إمام الزمان، و هذه العقيدة تؤثر فيه شاء أم أبى. و غيبة هذا القائد تجعل من هذا الشيعي يعيش حالة الانتظار. و في هذه الحالة يكون للإمام الغائب دور تربوي و بناء. و في الجانب الاجتماعي يؤدّي انتظار الفرج إلى تقوية نزعة مقارعة الظلم والظالمين - من أجل تهيئة الأرضية لظهور الإمام المنتظر (عج) - لدى الناس و تبعث فيهم حالة الاستعداد والتحرّك.

ص:193


1- المصدر السابق، ج 52، ص 129.

الآخرة

اشارة

هناك عالم آخر غير هذا العالم الذي نعيش فيه، يُسمّى عالم الآخرة. و هو امتداد لهذه الحياة الدنيا.

والإيمان بعالم الآخرة من الأُمور الأساسية التي دعا إليها كل الأنبياء. فالناس بعد الموت ينتقلون إلى ذلك العالم و يُحاسبون هناك من قبل اللّه على معتقداتهم و أعمالهم و خصالهم. و عالم الآخرة من العوالم التي خلقها اللّه ضمن خلقه للأشياء في أحسن نظام.

العالم الذي نعيش فيه حياتنا الدنيا محدود بأجل، و لابُدّ أن ينتهي يوماً ما و ننتقل من بعده إلى العالم الآخر: (ما خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى) .(1)

إنّ عالم الآخرة على درجة من الأهمية بحيث يعتبر الإيمان به جزءاً من المعتقدات الدينية، و يدخل في عداد أُصول الدّين، و بدونه لايكتمل الإيمان: (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) . (2) و قال تعالى أيضاً:

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) .(3)

يبدو أنّ فكرة وجود عالم آخر غير هذا العالم، حاجة فطرية منبثقة من ذات الإنسان. فمن الطبيعي أنّ الإنسان لايرتضي أن يعيش سنوات معدودة في هذه الدنيا ثم تُطوى صفحة وجوده إلى الأبد. فهذا السؤال كان على الدوام و لازال يراود فكر الإنسان، و هو، إلى أين سينتهي مصيره. و هذا السؤال يمثل في الواقع تعبيراً عن هذه الحقيقة، و هي أنّ الحياة يجب أن تستمر؛ و إلّافإنّ خلق العالم يعتبر عبثاً.

ص:194


1- سورة الروم (30)، الآية 8.
2- - سورة النساء (4)، الآية 136.
3- - سورة النحل (16)، الآية 22.

الدنيا تعتبر بمثابة مزرعة بالنسبة إلى الآخرة. «الدنيا مزرعةُ الآخرة».(1) فما نزرعه في هذه الدنيا نحصده في تلك الدار الآخرة. والدنيا فرصة ليتزوّد الإنسان فيها بالزاد والمتاع للطريق الطويل الذي ينتظره في عالم الآخرة. و يمكن القول بعبارة أُخرى: إنّ الدنيا مقطع من حياة طويلة، بل هي مقطع ضروري لكي يكتنز كل شخص فيها على قدر همّته واستعداده ما ينجيه و يرفعه في عالم الآخرة.

و في المقابل تعتبر الآخرة ذات أهمّية بالغة بالمقارنة مع الدنيا، بحيث وصف عزّوجلّ الدنيا باللّعب و اللّهو.(2) و في ضوء ذلك يجدر بالإنسان أن لايستبدل الدار الأبدية بما هو لعب و لهو، و إلّافإنه يبقى بلا مأوى.(3) نصَّ القرآن صراحة على أنّ عالم الآخرة أفضل من الدنيا، بل إنّ هذه الحقيقة صرّحت بها التوراة وصحف إبراهيم عليه السلام.(4) والآخرة حياة أبدية و لا حكم فيها إلّاللّه، و لا أمر و لا نهي لأحد إلّابإذنه. يمثل وجود عالم الآخرة تلبية لحاجة بشرية، و فضلاً عن ذلك فإنّ له تأثيراً حاسماً في وجود الناس لأنّه يبعث على السيطرة على سلوكه من الداخل، و يردعه عن اقتراف المفاسد، و يغرس في ذاته الأمل باستمرار الحياة.

و لاشكّ في أنّ انعدام وجود عالم آخر يُطفيء جذوة الأمل في نفس الإنسان و يشعره بالفراغ والضياع والعبثية، و لكن الآخرة تبعث في نفوس الصالحين الأمل بحسن الجزاء، وتُضيء في نفوس المظلومين الأمل بالحصول على حقوقهم يوماً ما. و تجعل الظلمة والمجرمين يستشعرون الخوف والهلع.

لاشكّ في أنّ الاعتقاد بعدم وجود عالم آخر من شأنه أن يؤدّي إلى أن يصبح هذا العالم مليئاً بالقهر والظلم، و يجعله خالياً من أية مشاعر معنوية.

أجَل الإنسان

الإنسان مثل أي مخلوق مادي آخر له مدّة معيّنة للعيش في هذه الدنيا، و هو ما يُعبر عنه

ص:195


1- - ورّام بن أبي فراس، مجموعة ورّام، ج 1، ص 183؛ ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي، ج 1، ص 267، الحديث 66.
2- - سورة الأنعام (6)، الآية 32؛ سورة العنكبوت (29)، الآية 64.
3- - سورة البقرة (2)، الآية 86.
4- - سورة الأعلى (87)، الآيات 17-19.

ب «الأجل». و عندما يحين أجل أيّ مخلوق لايمهل و إنّما يُساق نحو الموت.

و هناك نوعان من الأجل: أجل مسمّى، و أجل معلّق: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) . (1) الأجل المسمّى هو الأجل الطبيعي الذي يتناسب مع روح وجسم كل شخص. و يمكن هنا تشبيه البدن بالبذرة التي متى ما توفّرت لها ظروف الإنبات تنبت و تورق و تنمو و تثمر، و متى ما انتهت مدّتها تجف و تتساقط أوراقها.

و أما الأجل المعلّق فهو الأجل الذي يتوقف عليه استمرار حياة الإنسان أو أي كائن حي آخر. فإن تعرض الكائن الحي لخطر يقضي على الحياة كالمرض القاتل أو حادثة مميتة، فمن الطبيعي أن تنتهي حياته و يموت قبل الأجل الطبيعي. و متى ما حلّ أحد الأجلين يكون في ذلك الموت: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ...) (2) و (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ...) ، (3)(وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) .(4)

و بعد الموت تفتح صفحة جديدة من الحياة، فإن كانت الأعمال والخصال والمعتقدات للإنسان في هذه الدنيا صالحة، ينعم حينها بحياة ألذ و أطيب، و إذا كانت من غير زاد و لا عمل صالح فلا يجنى في الحياة الآخرة سوى الخزي والخسران.

الموت

الموت ضد الحياة المادية، و هو يحيل الكائن الحي إلى جسم جامد لا خاصية فيه.

و هذه الحالة تبدو في الظاهر و كأَنّها انعدام، و لكن الموت - كما اشارت إليه في الرواية - ليس إلّاجسراً «فما الموتُ إلاّ قنطرةٌ».(5)

إنّ استعمال كلمة قنطرة للتعبير عن الموت، واستعمال القرآن لكلمة «توفّي»،(6) يفيدان

ص:196


1- - سورة الأنعام (6)، الآية 2.
2- - سورة النساء (4)، الآية 78.
3- سورة آل عمران (3)، الآية 185.
4- سورة المنافقون (63)، الآية 10.
5- المجلسي، بحارالأنوار، ج 6، ص 154، الحديث 9.
6- - سورة السجدة (32)، الآية 11؛ سورة الزمر (39)، الآية 42.

أنّ ما يحصل في عملية الموت هو عبارة عن انفصال الروح عن الجسم. «التوفّي» هو استيفاء الشيء كاملاً. و إطلاق هذه الكلمة على الموت يفيد أنّ الموت ليس انعداماً و إنّما انتقال. جاء في حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «ما خلقتُم للفناء، بل خلقتُم للبقاء».(1)

والموت بيد اللّه مثلما الحياة بيد اللّه.(2) و للموت ملائكة مكلّفون به و إليهم يُنسب أحياناً.(3) الموت يجعل يد الإنسان قصيرة عن الدنيا و يحول بين المرء و عمله. و عليه أن لاينتظر بعد الموت إلّانتيجة عمله، و لاحيلة و لامناص لمن حلَّ أجله.

سهولة و صعوبة النزع

استناداً إلى الآيات والروايات، يقع الموت بخروج الروح من الجسم، أو ما يُسمّى بقبض الروح، و هذه العملية؛ أي عملية قبض أو نزع الروح، تختلف من إنسان إلى آخر تبعاً للحال التي كان عليها في الدنيا. والموت طبعاً لا مفرّ منه، و لايعلم الإنسان متى و أين يموت،(4)

و لكن روحه قد تُنزع بصعوبة و ألم، أو بسهولة و يسر، تبعاً لمعتقداته و أفعاله في الحياة الدنيا.

فالمؤمنون يلقون أثناء الموت البشرى والتحية والمحبّة من الملائكة.(5) روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إذا أتى ملكُ الموت المؤمن لقبض روحه جزع، و لكن ملك الموت يصبّره و يسلّيه.(6) و جاء في خبر آخر أنّ أرواح المؤمنين تأتي لاستقبال المؤمن وتقدّم له البشرى.(7) و جاء في رواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال فيها: الموت للمؤمن كأطيب ريح يشمّه، فينعس لطيبه و ينقطع كلّ التعب والألم عنه، و للكافر كالأفاعي والعقارب و أشدّ.(8)

ص:197


1- - الآمدي، غُرَر الحِكَم، ص 133، الحديث 2291؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 6، ص 249.
2- - سورة الزمر (39)، الآية 42؛ سورة يونس (10)، الآية 104.
3- - سورة النحل (16)، الآية 32؛ سورة السجدة (32)، الآية 11.
4- - سورة لقمان (31)، الآية 34.
5- - سورة النحل (16)، الآية 32.
6- - الكُليني، الكافي، ج 3، ص 127، الحديث 2.
7- - الكُليني، الكافي، ج 3، ص 130، الحديث 2.
8- الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 274، الحديث 9.
الخوف من الموت

الموت قضية مثيرة للخوف والهلع بالنسبة للإنسان طيلة حياته؛ فهو يرى الموت يلاحقه في كل حين، و هو يفر منه، و نادراً ما تجد من يرحّب به. فالبعض يخاف الموت بسبب خشيته من الفناء الأبدي، و هذا ناتج طبعاً عن جهله بحقيقة الموت. والبعض الآخر يعرف حقيقته و لكنه خرّب تلك الدار و لايودّ الانتقال إليها. و من الطبيعي أنّ الانتقال إلى موضع كريه يثير في النفس الهلع. جاء في رواية عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال في سبب الخوف من الموت: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم.(1)

و جاء في القرآن الكريم في وصف خوف اليهود من الموت: (وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ) .(2)

و في المقابل هناك من يؤمنون بالآخرة و قد عمروا آخرتهم؛ و هؤلاء لايخشون الموت، بل حتى يتمنّونه.

و حريّ بنا طبعاً الاعتبار بهذه الإرشادات، و إعداد أنفسنا لذلك اليوم الذي نترك فيه و عملنا، و لاينفعنا مال و لا جاه و لا أولاد: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ) .(3)(4)

البرزخ

هناك بين عالمي الدنيا والآخرة عالم آخر و هو عالم البرزخ. والبرزخ في اللغة بمعنى الحاجز والحد بين الشيئين.(5) و سبب تسميته بهذا الاسم يعود إلى وقوعه بين الدنيا والقيامة. فعندما يموت الإنسان تنتقل روحه إلى عالم البرزخ. يقول القرآن في وصف تلك الحال: (حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) .(6)

ص:198


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 6، ص 129، الحديث 18.
2- سورة الجمعة (62)، الآية 7.
3- سورة الشُعَراء (26)، الآية 88.
4- المجلسي، بحارالأنوار، ج 6، ص 129.
5- - الراغب الأصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ص 118.
6- سورة المؤمنون (23)، الآيتان 99 و 100.

جاء في الأحاديث أنّ الروح بعدما ترحل عن البدن، تحل في عالم البرزخ في أبدان مثالية شبيهة بالأبدان الدنيوية.(1) يحظى المؤمنون في عالم البرزخ الذي يُعبّر عنه بعالم القبر أيضاً، بنوع من الحياة، و يكون لديهم اطلاع على ما يجري في الدنيا و ما يعيشه أهلهم من فرح أو حزن.(2)

يُستفاد من الآيات والروايات والتوصيات المؤكّدة على زيارة أهل القبور، أنّ الإنسان بعد الموت يتمتع بنوع من الحياة. روى عبداللّه بن سليمان أنه سأل الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام عن زيارة القبور، فقال: «إذا كان يوم الجمعة فزرهم، فإنه من كان منهم في ضيق وسع عليه ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يعلمون بمن أتاهم في كل يوم. فإذا طلعت الشمس كانوا سدى. قلت: فيعلمون بمن أتاهم فيفرحون به؟ قال: نعم:

و يستوحشون إذا انصرف عنهم».(3)

قال أبو بصير: سألت أبا عبداللّه الصادق عن أرواح المؤمنين فقال: في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها، و يشربون من شرابها، و يقولون: ربنا أقم الساعة لنا، و انجز لنا ما وعدتنا، و ألحِق آخرنا بأوّلنا.(4) و سأله أيضاً أبو بصير عن أرواح المشركين فقال: في النار يندبون و يقولون: ربنا لاتقم لنا الساعة و لاتنجز لنا ما وعدتنا و لاتلحق آخرنا بأولنا.(5)

سؤال القبر

في عالم البرزخ أو القبر يتعرض الإنسان للمسألة عن معتقداته و أفعاله. و من الأسئلة التي كثيراً ما تراود الأذهان هي أنّ الإنسان إذا مات تتعطل إدراكاته و حواسّه. فكيف يحزن و يفرح و يتعرض للمسألة؟ والجواب هو أنّ ما يتعرض للمسألة هو روح الإنسان. والروح باقية، و يكون لها نشاط يتناسب مع العالم الذي تعيش فيه. و لعل إدراكها يصبح أقوى بعد

ص:199


1- - الكُليني، الكافي، ج 3، ص 244 و 245، الحديث 1 و 6 و 7.
2- الكُليني، الكافي، باب أنّ الميت يزور أهله، ج 3، ص 230.
3- المجلسي، بحارالأنوار، ج 6، ص 256، الحديث 88.
4- - الكُليني، الكافي، ج 3، ص 244، الحديث 4.
5- الكليني، الكافي، ج 2، ص 245، ح 1.

انفصالها عن عالم المادّة. فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «النّاسُ نيامٌ، فَإذا ماتوا انتَبَهوا».(1)

و على هذا الأساس فلا مانع من تعرّض الروح للمسألة بعد الانفصال عن الجسد، أو تتأذى من ضغط القبر؛ لأَنَّ هذه الأُمور تتعلق بالروح التي تمثّل حقيقة الإنسان، و إلّافهناك من الناس من لايوضع في قبر كما هو حال من يغرق و تأكله الأسماك، أو من تأكله الوحوش في البراري، أو من يحترق بالنار. والعذاب أو الراحة في القبر له صلة بالروح و خصائصها.

فعندما يموت الإنسان و تتحرر الروح من اللذائذ المادية، تزول موانع الفهم الحقيقي للأُمور، و يدرك الإنسان الواقع كما هو؛ فيتعذّب بسبب ذنوبه، أو يدخله السرور لِما فعله من خير و عمل صالح. بل إنّ هذا قد يحصل حتى في الدنيا. فيشعر المذنب والمسيء بالتأنيب، و يشعر المحسن بالبهجة والراحة.

علل مشارف القيامة

للعالم الذي نعيش فيه أجل و مدّة معيّنة. و يوم يحلّ أجله يضطرب في واقعه مثيرة للدهشة والعجب. فالشمس والنجوم تتكور و تنكدر.(2) و تخرج الشمس والقمر من مدارهما و يجتمعان.(3) و يقع زلزال عظيم يدمّر كل شيء.(4) و تتساوى الجبال والوديان وتصير قاعاً صفصفاً.(5) و تخرج الأرض كل ما في داخلها.(6) و تنشق البحار و تجري(7) و تتبدل أمواج البحار إلى كُتل نارية(8) و تُحمل الجبال فتُدكّ (9) و تغدو الجبال كالعهن المنفوش(10) و تصير كالكثيب المهيل(11) و تكون كالهباء المنبث،(12) و تنشقّ السماء و تصير

ص:200


1- المجلسي، بحارالأنوار، ج 4، ص 43، الباب 5، الحديث 18.
2- - سورة التكوير (81)، الآيتان 1-2.
3- - سورة القيامة (75)، الآيتان 9-10.
4- سورة الزلزلة (99)، الآية 1.
5- - سورة طه (20)، الآيات 105-107.
6- سورة الزلزلة (99)، الآية 2.
7- سورة الإنفطار (82)، الآية 3.
8- - سورة التكوير (81)، الآية 6.
9- سورة الحاقة (69)، الآية 14.
10- - سورة المعارج (70)، الآية 9.
11- سورة المزمل (73)، الآية 14.
12- سورة الواقعة (56)، الآيتان 5 و 6.

وردة كالدهان،(1) و تصبح كالمهل،(2) و تُطوى كطي السجل،(3) و تأتي بدخان مبين،(4) و تنكدر النجوم(5) و تتناثر الكواكب.(6)

الحسابات العلمية غير قادرة على الاخبار عمّا سيؤول إليه مستقبل العالم. و قد أشار القرآن إلى جانب من هذه التغييرات التي سيشهدها العالم، و لكن الكيفية التي ستحصل بها غير واضحة، و لكن هذه الوقائع الهائلة تنبيء عن قرب وقوع القيامة و نهاية الدنيا. و هذا ما يُعبر عنه بأشراط الساعة. و زمان وقوعها غير بعيد. فعلينا الحذر واغتنام الفرصة.

زمان وقوع القيامة

إنَّ القيامة ستقوم يوماً ما و لكن لا أحد يعلم زمان وقوعها. و قد جعل اللّه علم ذلك له وحده و لم يخبر أحداً بذلك (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) (7) وسرّ هذا الكتمان هو أن جهل كثير من الأشياء خير للإنسان من علمها، ولو علم الإنسان بحوادث المستقبل التي ستغيّر مصيره فإنّه لايقدم على أي عمل. و إذا علم وقت موته تصبح الحياة مريرة بالنسبة له و لاتُطاق و يفقد الأمل و لايبادر إلى عمل، و ينفرط عقد الحياة و نظمها.

قرب وقوع القيامة

إنَّ وقوع يوم القيامة قطعي بل و قريب أيضاً.(8) و هذه الساعة قريبة الوقوع إلى درجة ان الباري عزّوجلّ أخبر عنها بالفعل الماضي (اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ) (9) و مع ان الناس يلاحظون قرب نهاية العالم و يشاهدون نهاية خطّه و يعلمون أن أعمارهم إلى زوال، بيد أنّهم غارقون في اللعب و غافلون عن ذهاب حياتهم (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ...) .(10)

ص:201


1- - سورة الرحمن (55)، الآية 37.
2- سورة المعارج (70)، الآية 8.
3- سورة الأنبياء (21)، الآية 104.
4- سورة الدخان (44)، الآية 10.
5- سورة التكوير (81)، الآية 2.
6- سورة الانفطار (82)، الآية 2.
7- - سورة الاعراف (7)، الآية 187.
8- - سورة الأنبياء (21)، الآية 1.
9- - سورة القمر (54)، الآية 1.
10- سورة الأنبياء (21)، الآيتان 2-3.

و لكن ينبغي أن نحذر و نعلم أن القيامة - شئنا أم أبينا - واقعة و لا مفر منها. و هي قريبة جداً (وَ ما أَمْرُ السّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) .(1)

أهوال القيامة

حين يفنى كل حي الا وجه اللّه و من شاء له البقاء، يأتي نداء اللّه:

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ) .(2)

يُنفخ في الصور مرّة أخرى و تكون النفخة هذه المرّة للبعث والإحياء؛ إذ يُبعث الأموات من قبورهم وهم ينظرون.(3) و يأتي الناس أفواجاً إلى الحشر،(4) و يكون الناس يومئذ كالسكارى(5) و يفقدون القدرة على الوقوف و تكون قلوب الذين أساءوا مليئة بالخوف والرعب.(6) و يشيب الرضع من هول ذلك اليوم(7) و يفر القريب من قريبه(8) و يودّ المجرم لو يفتدي نفسه بكل ما لديه لينجو من العذاب(9) و هو يوم مقداره خمسون ألف سنة(10) و يظن الخاسرون يومذاك أنهم لم يعيشوا في الدنيا الا يوماً واحداً.(11) و في ذلك اليوم تكون الأرض غير الأرض والسموات غير السموات.(12) و يكون كل شيء غريباً، و يخرج الكفار من القبور سراعاً نحو ساحة المحشر خاشعة أبصارهم و ترهقهم ذلّة،(13) ذلك يوم ندم و حسرة الناس(14) و يعضّون على أصابعهم على ما فرّطوا به و يقولون ياليتنا اتخذنا مع الرسول سبيلاً و لم نتخذ فلاناً خليلاً.(15)

و يومئذ تكون الأصوات همساً: (وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً) .(16)

ص:202


1- سورة النحل (16)، الآية 77.
2- سورة غافر (40)، الآية 16.
3- - سورة الزمر (39)، الآية 68.
4- سورة النبأ (78)، الآية 18.
5- - سورة الحج (22)، الآيتان 1-2.
6- - سورة النازعات (79)، الآية 8.
7- سورة المزمل (73)، الآية 17.
8- سورة عبس (80)، الآيات 33-37.
9- - سورة يونس (10)، الآية 54؛ سورة آل عمران (3)، الآية 91.
10- سورة المعارج (70)، الآية 4.
11- - سورة يونس (10)، الآية 45.
12- - سورة إبراهيم (14)، الآية 48.
13- - سورة المعارج (70)، الآيتان 43-44.
14- - سورة مريم (19)، الآية 39.
15- سورة الفرقان (25)، الآيتان 27-28.
16- سورة طه (20)، الآية 108.

والأخلاء يتنازعون يومئذ، بينما المؤمنون والمتقون بعيدون عن ضجيج و خوف ذلك اليوم. و يتبرّأ عبدة الأصنام مما كانوا يعبدون.(1) و يشكو الناس الذين أغواهم قادتهم الفاسدون و يلقون عليهم باللائمة.(2) و تكشف الحقائق في يوم القيامة و لاتبقى خافية.

و يُفضح المنحرفون الذين شاهدوا الحقيقة و لكنهم كتموها عناداً أو نزولاً عند أهوائهم.

و يُكشف النقاب عن المرائين الذين كانوا يتظاهرون بالصلاح. و ترى الوجوه هناك مكفهرّة و وجلة و يبحث الناس عن طريق للخلاص و لكن لا مِن مناص.

و يحشر الناس في القيامة جماعات حسب أعمالهم. بينما يأتي المتقون وفداً (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) . (3) جاء في حديث إنّ الإمام الصادق عليه السلام قال:

«ان اللّه يُحشر الناس على نياتهم يوم القيامة».(4)

والناس في القيامة تبيضّ وجوهم أو تسودّ حسب أعمالهم (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ...) (5) و يقسمون بشكل عام إلى ثلاث مجموعات: السابقون في الإيمان، و أصحاب اليمين، و هاتان الجماعتان مأواهما الجنة، و أصحاب الشمال أو الأشقياء و هؤلاء يدخلون النار.(6) و يُصنف الناس هناك على أساس قادتهم و سُبُلهم، و يُدْعَوْنَ بأسماء قادتهم (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) . (7) و سبب ذلك هو أن مَن ينضوي تحت لواء شخص أو جماعة لابد أن يتطبع بطباعهم و يعتنق معتقدهم إلى درجة أنه حينما يُنادى بأسمائهم يجيب من فرط عادته عليهم و شعوره بالقرب منهم. والكلمة الأخيرة هي ان اللّه قد جعل هذا اليوم من أجل إحقاق حق المظلومين الذين سُحِقت حقوقهم.

إن رسم مثل هذه الصورة المروّعة ليوم القيامة إنما هو بمثابة تحذير للناس ليتأهبوا لمثل هذا اليوم. و أمثال هذه التحذيرات لايُراد منها إظهار قدَرة اللّه فحسب، و إنّما الغاية منها إلقاء الخوف في قلوب العباد ليحذروا؛ لأن طبيعة الناس هي إنّهم يخشون الخطر أكثر.

ص:203


1- - سورة البقرة (2)، الآية 167.
2- - سورة سبأ (34)، الآيات 31-33.
3- - سورة مريم (19)، الآية 85.
4- الحر العاملى، وسائل الشيعة، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات، ج 1، ص 48، الحديث 5.
5- - سورة آل عمران (3)، الآية 106.
6- - سورة الواقعة (56)، الآيان 7-48.
7- - سورة الإسراء (17)، الآية 71.

ان مشقّة وعذاب يوم القيامة قد جُعِلا لمن لم يكسبوا القدرة و لم يتحلوا بالاستعداد اللازم و لم تتعلق قلوبهم بربّهم. و أما الذين تزوّدوا من دنياهم لآخرتهم و آمنوا بأن اللّه رقيب عليهم واختاروا لأنفسهم مساراً صحيحاً في الحياة فلا يخشون عذاب ذلك اليوم و أهواله. و بما انهم يعلمون عدم عسر ذلك اليوم عليهم فنهم يدخلون ساحة الحساب يوم القيامة بقلوب مطمئنة.

الحشر والمعاد

الناس بعد الموت لايفنون، و إنّما يأتي يوم يُبعثون فيه، و تتواصل حياتهم على نحو آخر. ولإعادة حياة الإنسان أهمّية قصوى في التعاليم الدينية من جهة و بين الناس أنفسهم من جهة أُخرى. فقد كانت قضية الموت والمعاد والحياة الأبدية أمراً تكتنفه الأسرار.

و كثيراً ما يتساءل الناس: لماذا وُلِدوا و لماذايجب أن يموتوا؟ و ما الذي سيحلُّ بهم بعد الموت؟ و إذا كانت حصيلة الحياة هي الموت، فلماذا يجب أن يأتوا إلى الدنيا؟ أليس من الأفضل أن لايأتوا إلى هذه الدنيا، لكي لايكابدوا كل هذا العناء، و لكي لا يُرغموا على الموت يوماً؟

كانت إحدى غايات الأنبياء الكشف عن هذا اللُّغز؛ إذ إنهم كشفوا عن ذلك و بيّنوا للناس بأنهم بعد الموت لايفنون و إنّما ينتقلون من موضع إلى آخر. و هذا الانتقال يكون عن طريق الموت؛ حيث تبقى الروح و يعود البدن إلى التُراب.

و قد يتبادر إلى أذهان الناس سؤال آخر بعد إدراك هذا الواقع، و هو كيف يمكن أن يعود هذا الإنسان بما يتّصف به من تعقيد في الخلق، إلى الحياة بعد الموت، و بعدما يفنى و يتلاشى بدنه؟ و قد تحدث القرآن الكريم عمن كانوا لايؤمنون بالبعث، و أقسموا أنّ الموتى لايُبعثون: (وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ) . (1) و يُستدل من هذه الآية و أمثالها على أنّ قضية المعاد كانت من القضايا الغامضة لديهم، و كانوا كثيراً ما

ص:204


1- - سورة النحل (16)، الآية 38.

يجادلون الأنبياء بشأنها. لأنها كانت أمراً غيبياً عجيباً بالنسبة لهم، يجدون أنفسهم عاجزين عن استيعاب حقيقته، و كثيراً ما يتساءلون: (وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) (1) أي كيف يمكن لمن يموت أن يُبعث إلى الحياة من جديد، و يأتي جواب اللّه عن هذه التساؤلات والشبهات بقول تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) . (2) و على هذا الأساس يذكرهم بهذا ليخرجهم من غفلتهم (أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً) . (3) لو كان الناس موجودين قبل الخلق، و قيل لهم: إنّ عالماً عظيماً سيُخلق، فمن الطبيعي أنهم ما كانوا يصدّقون ذلك، وربّما كان استبعادهم لهذا الأمر و إنكارهم له أكثر من إنكارهم للمعاد. لذلك أقسم اللّه بحزم أنه سيحييهم و يحشرهم: (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ...) (4) و بيّن كذلك (ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) . (5) و قد أوحى اللّه عزّوجلّ إلى نبيّه أن يجيب عن كل هذه التساؤلات بقوله تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) .(6)

وردت في القرآن الكريم أمثلة متعددة لإحياء الموتى في هذه الدنيا. نذكر من ذلك مثلاً أنّ جماعة من بني إسرائيل طلبوا من موسى أن يروا اللّه، و قالوا له: إننا لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة، و لكن اللّه عاقبهم على هذا الإصرار بصاعقة أخذتهم، ثم أحياهم مرّة أُخرى.(7)

و مَرَّ النبيّ عُزير عليه السلام على قرية خربة و كانت عظام الموتى بادية فيها: فتساءل عجباً:

كيف يحيي اللّه هؤلاء الموتى؟ فأماته اللّه و بعد أن مرّت مئة سنة أحياه و قال له: انظر إلى طعامك و شرابك لم يتغيّر، و انظر إلى حمارك، و إلى العظام كيف نكسوها لحماً.(8)

و هناك أمثلة أُخرى من هذا القبيل ورد ذكرها في القرآن، كالذي ورد في قصّة النبيّ إبراهيم عليه السلام من قتل و إحياء الطير،(9) أو القوم الذين خرجوا من ديارهم حذراً من الموت فأماتهم اللّه ثم أحياهم.(10)

ص:205


1- - سورة الإسراء (17)، الآية 49.
2- - سورة يس (36)، الآيات 79.
3- - سورة مريم (19)، الآية 67.
4- - سورة مريم (19)، الآية 68.
5- - سورة لقمان (31)، الآية 28.
6- سورة يس (36)، الآيات 79.
7- سورة البقرة (2)، الآيتان 55-56.
8- سورة البقرة (2)، الآية 259.
9- - سورة البقرة (2)، الآية 260.
10- سورة البقرة (2)، الآية 243.

أشار اللّه تعالى إلى الطبيعة لإثبات وقوع المعاد، ولفت الأنظار إلى هذه الظاهرة(1) إذ لاشكّ في أنّ ازدهار الطبيعة من بعد الشتاء دليل آخر على أنّ لأعمار الكائنات الحية و منها الإنسان مراحل، أو أنّ الموت والحياة يعد نوعاً من التحوّل والانتقال.

و هناك سؤال ربّما يراود أذهان البعض، و هو: ما الداعي لخلق كل هذا الكَوْن العظيم ثم تدميره، و لماذا يُخلق الناس ثم يموتون ثم يُبعثون؟ و لماذا يفعل اللّه ذلك ثم يدعو الناس إلى التفكير فيه، و أرسل الأنبياء لدعوة الناس للإيمان بذلك، حتى صار ذلك على مدى تاريخ الأديان جزءاً من أُصول الدّين، والكفر به يوجب العذاب؟ إذ ورد في الكتب السماوية السابقة - كالإنجيل - ذكر المعاد، حيث جاء فيه: لاتتعجبوا من هذا، ستجيء ساعة يَسمعُ فيها صوته جميعُ الذين في القبور، فيخرج الذين عملوا الصالحات....(2)

علينا أن نعلم بأن خلق العالم حصيلة خالقية اللّه و فيضه، لتنال الكائنات من فيضه فهو يخلق أمثلة ممتازة من الكائنات لتجسيد قدرته، لكي تحظى الكائنات بالمقدّرات ثم تبلغ كمالها. و في الختام يؤول الكَوْن بمقتضى طبيعته إلى الشيخوخة ثم التفسّخ ثم الزوال؛ و بما أنّ زوال العالم يتنافى مع خالقية اللّه. إذاً فلابّد من استمرار الوجود و بقائه.

أمّا الغاية من المعاد فهي لغربلة خلاصة الوجود، فمن يستفيدون من عالم الوجود و يسيرون على طريق الحق، يتبوّأون المنزلة الكريمة اللائقة بهم و يكون نصيبهم حياة طيّبة، في حين أنّ من لم يواكبوا تيار الوجود، و لم يقنعوا بما هو حق، و تطاولوا على حقوق الغير، أو بعبارة أُخرى: لم يعملوا عملاً صالحاً، يلقون جزاءهم في الحياة الآخرة و يذوقون و بال سوء أعمالهم. يأتي المعاد للكشف عن كيفية تحويل أشياء بسيطة كالتراب إلى كائنات عظيمة بقدرة اللّه! و كيف ينبثق من المادّة الجامدة إنسان كامل يعتلي صدارة الملكوت، و تكون له أفضلية حتى على موجودات سامية كالملائكة. المعاد امتداد لخالقية اللّه و من مظاهر عظمته. إنّ عدم وجود المعاد يعني خواء الحياة الدنيا، و بدونه تبدو الحياة مجرّدة من البهجة و عارية من أي هدف.

ص:206


1- - سورة الروم (30)، الآيات 19، 24، 25 و 27.
2- انجيل يوحنّا، الباب 5، الرقم 27 و 28.
هل المعاد جسماني أم روحاني؟

هل يتحقق المعاد بهذا البدن الدنيوي، أم الروح هي التي يؤتى بها يوم القيامة بعد مفارقتها البدن والانتقال إلى عالم البرزخ؟ أمثال هذه الشكوك والتساؤلات كانت تراود أذهان المشركين في عصر نزول القرآن، فكانوا يتساءلون كيف يمكن إعادة الروح إلى البدن الذي تفسّخ و تحولت عظامه إلى رميم؟ (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ) .(1)

الإشكال الآخر الذي يُثار حول مسألة المعاد هو أنّ الكائن الحي إذا سار على طريق الكمال و وصل إلى حد مناسب من التطوّر، لابُدّ و أنّ عودته إلى حالته الأُولى تتطلّب إعادة الظروف والزمان والأسباب إلى ما كانت عليه آنذاك. أي لابُدّ من عودة تلك الظروف التي نشأ فيها ذلك الكائن و تدرج في التطوّر. و هذا أمر غير ممكن طبعاً. و هذا يعني أنّ المعاد إذا اريد له أن يتحقق فليس من الممكن أن يتحقق بصورة المعاد الجسماني، و لابُدّ أن يكون روحانياً.

يُستفاد من الآيات و من الروايات المنقولة عن أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّ المعاد جسماني؛ إذ يُستدل من شهادة الأيدي والأرجل في موقف الحساب،(2) والوعد بما لذّ و طاب من الأطعمة والأشربة،(3) والملذات الجنسية،(4) والنعيم الذي يلقاه المحسنون في الظلال والعيون،(5) والثياب الفاخرة والناعمة،(6) والإتكاء على الأرائك(7) و ما شابه ذلك، إنّ الناس يحضرون بأجسامهم في يوم القيامة و مواقفه. و فضلاً عن ذلك فقد قال الباري عزّوجلّ في الرد على شبهة المشركين الذين استبعدوا بعث الإنسان من جديد: (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ؛ (8) أي أكّد عودة الموجود السابق.

ص:207


1- سورة يس (36)، الآية 78.
2- - سورة طه (20)، الآية 55.
3- - سورة الطور (52)، آية 19.
4- سورة الرّحمن (55)، الآيات 56، 58، 72؛ و آيات متعددة أُخرى من القرآن الكريم.
5- - سورة المرسلات (77)، الآية 41.
6- سورة الكهف (18)، الآية 31.
7- سورة الواقعة (56)، الآيتان 15-16.
8- سورة يونس (10)، الآية 4.

ليس من المتعذر على اللّه إعادة خلق البدن المتفسّخ أو الذي أكلته الحيوانات، أو الذي احترق بالنار؛ إذ ليس من العسير على اللّه إعادة جميع ما تلاشى و تناثر من الأبدان (أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (1) فهذا العمل ليس بأصعب من خلق الإنسان ابتداءً؛ إذ لم يكن له حينذاك شكل أو قوام، فمثلما تنبعث الحياة من جديد في الأشجار بعد جفافها، أو كما تنبثق النباتات من باطن الأرض بعدما ذوت، فإنّ الباري الذي يخلق من التراب كائنات معقّدة، يستطيع أن يبعث فيها الحياة مرّة أُخرى.

أمّا القول: إنّ البعث من جديد يستلزم إعادة الظروف الزمانية والمكانية والأجواء الأُخرى إلى ما كانت عليه في السابق، فهذا الإشكال يمكن نقضه. فحقيقة الإنسان تكمن في الروح التي تفارق الجسم و تمكث في البرزخ. و يؤتى بها يوم القيامة. الروح هي قوام البدن و هويّته. و بما أنّ كل الصفات والمعتقدات الحسنة والقبيحة تكتسبها الروح، لذلك من الطبيعي أن يكون كل شيء متعلقاً بها. و من المحتمل أن يؤتى بالروح في هيكل آخر و في الوقت ذاته تحتفظ بهويّتها.

البدن يعيش في الدنيا في حالة من التغيير والتبدّل؛ فتتفسّخ بعض خلاياه وتزول و تحلّ محلّها خلايا جديدة، و لكن هويته و شخصيته باقية، لأَنَّ جميع مكوّناته خاضعة لإرادة روح واحدة. وتلك الروح التي تؤلّف هوية أي شخص، تؤدّي دورها في الملكات التي اكتسبتها. و هي تؤدّي عملها بواسطة أعضاء وجوارح البدن الجديد. و تعبير «خلق جديد»(2) الذي ورد في القرآن يتناسب مع هذا المعنى. و يمكن أيضاً اعتبار مثل هذه الحالة متطابقة مع الرواية التي تقول: «الناس في الجنّةِ على صُوَرِ أبدانهم لو رأيتَهُ لقُلتَ فلانٌ...».(3) و بعبارة أُخرى: تزول الأجزاء المادية الدنيوية بعد الموت وتبقى الروح.

و تستطيع الروح أن تؤدّي دورها - في ضوء ما اكتسبته في الدنيا - في قالب آخر، و تسير على ذات النهج في الحياة الآخرة، و تتلقى جزاءها و تذوق طعم اللذائذ والآلام سواء كانت

ص:208


1- - سورة القيامة (75)، الآيتان 3-4.
2- - سورة سبأ (34)، الآية 7؛ سورة ق (50)، الآية 15.
3- - الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 1، ص 466، الحديث 1527.

روحية أم جسمية. و يشهد كلّ عضو من أعضاء البدن بما يتناسب مع عمل الروح. و يمكن القول - كما قال صدر المتألهين الشيرازي - إنّ الروح في عالم البرزخ و في عالم الآخرة، تواصل حياتها ببدن مثالي مشابه لبدنها المادي. نظير ما يحصل في عالم المنام حين تواصل الروح نشاطها ببدن مثالي، بينما البدن المادي مضطجع في الفراش.

والنتيجة هي أنّ المعاد الجسماني أمر قطعي، و هذا ما أكّده القرآن الكريم، و لكنّنا غير قادرين على إدراك كل خصائصه. و ما ينبغي الاعتقاد به ويُعتبر من ضرورات الدّين هو المعاد الجسماني و ليس خصائصه و كيفياته.

الحساب

يؤتى بالموتى إلى موقف الحساب بعد نفخ الصور. و من الطبيعي أنّ الحساب في هذا الموقف - الذي يعتبر من مواقف القيامة - يجري بصورة واضحة و شفافة لا لبس فيها؛ و ذلك بسبب علم اللّه المطلق بكل شيء. هناك لاتُهمل ذرة واحدة من أعمال كل شخص.(1) إذ تُعرض هناك كتب مسجّلة فيها أعمال العباد، و يحضر الأنبياء و شهود الأعمال ويُقضى بين الناس بالحق. استناداً إلى ما هو مدوّن في كتاب أعمال كل إنسان: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (2) و في هذا الكتاب مدوّن كل ما هو صغير أو كبير من الأعمال: (وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (3) و يوضع أمام كل شخص يوم القيامة كتاب أعماله ليقرأ ما فيه و تجري محاسبته استناداً إليه.(4)

في ذلك الموقف يكون كل شخص مسؤولاً عن أعماله؛ فمن عمل صالحاً تغمره الفرحة والسرور (وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) . (5) بينما لايجني المسيء غير الخوف والرعب: (وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) .(6)

ص:209


1- - سورة الزلزلة (99)، الآيتان 7-8.
2- - سورة ق (50)، الآية 18.
3- - سورة القمر (54)، الآية 53.
4- سورة الإسراء (17)، الآيتان 13-14.
5- - سورة الإنشقاق (84)، الآية 9.
6- - سورة الكهف (18)، الآية 49.

في ذلك اليوم يأتي اللّه بكل أعمال العباد - حتى و إن كانت في أقصى مكان - و يحاسبهم عليها.(1) فيتحمل كل أحد وزر أعماله، و لايتحمل عبء أعمال غيره (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) .(2)

و في المقابل يضاعف اللّه الإحسان للمحسنين (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (3) في حين يكون جزاء المذنب على قدر الذنب نفسه: (وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها) .(4)

يعاقب الإنسان يوم القيامة على ما رسخ في ذاته من ذنوب، وربّما يأتي خلوده في العذاب بسبب رسوخ الرغبة في الآثام والذنوب في ذات الشخص. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إنّما خلد أهل النار في النار لأَنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً.(5) و يختلف الحساب يوم القيامة تبعاً لاختلاف أعمال الناس؛ فبعضهم يحاسب حساباً يسيراً، ويُعطى أحدهم كتابه بيمينه،(6) بينما يُعطى آخرون كتابهم من وراء ظهورهم، فينادون بالهلاك والثبور،(7) و يتمنون لو أنّهم لم يعطوا كتب أعمالهم.(8) و يضيق المجال على الكفار في ذلك الموقف و يفضحون بحيث يتمنون لو أنهم كانوا تراباً،(9)

و لم يُخلقوا، و لاتُقبل من الكافرين يومئذ فدية، و لاينصرهم أحد،(10) و هناك لاينفع مال و لا بنون،(11) و لاينجو إلّامن ادّخر لآخرته عملاً صالحاً. والجزاء يأتي كنتيجة حتميّة للعمل و تجسيداً له. و لا مفرّ هناك لأحد. و لاتنفع ندامة؛ لأَنَّ وقت الندم قد فات؛ إذ يحضر يوم القيامة عند الحساب شهود: (وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ) .(12)

كل إجراءات حضور الأنبياء والصالحين والشهود والملائكة، من أجل تجسيد ما وعد

ص:210


1- - سورة لقمان (31)، الآية 16.
2- سورة الأنعام (6)، الآية 164.
3- - سورة الأنعام (6)، الآية 160.
4- سورة الأنعام (6)، الآية 160.
5- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 85، الحديث 5.
6- - سورة الإنشقاق (84)، الآيتان 7-8.
7- - سورة الإنشقاق (84)، الآيتان 10-11.
8- سورة الحاقّة (69)، الآية 25.
9- - سورة النبأ (78)، الآية 40.
10- - سورة آل عمران (3)، الآية 91.
11- - سورة آل عمران (3)، الآية 10؛ سورة الشُعَراء (26)، الآية 88.
12- سورة ق (50)، الآية 21.

به اللّه بصورة ملموسة. و يقوم الحساب على موازين العدل(1) و لايظلم أحد (وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) .(2)

العنصر الأساسي في سعادة الإنسان الإيمان والعمل الصالح، و أمّا سبب شقائه الأبدي فهو الكفر والشرك. قال اللّه جلّ وعلا بشأن المؤمنين الذين يعملون الصالحات: (وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) . (3) و أمّا من يعمل صالحاً من غير إيمان فإنّ كفره و إنكاره يحبط عمله الصالح؛ لأن النيّة شرط وركن في قبول العمل.

و بعبارة أُخرى يمكن القول: إنَّ الأعمال ذات الأثر هي الأعمال التي تكون صالحة من جهة، و أن يكون الباعث عليها حُبّ الخير و نيل مرضاة اللّه من جهة أُخرى. و هذا لاينطبق طبعاً على من لايحمل عقيدة صحيحة: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ...) . (4) و في المقابل يكون للإيمان تأثير إلى درجة أنه يجعل للعمل الصالح تأثيراً، و ليس هذا فحسب، بل يؤدّي أيضاً إلى محو بعض الذنوب.(5)

تجسّم الأعمال

يقول الفلاسفة و علماء الأخلاق: إن ما يداوم عليه الإنسان و يكرر ممارسته يرسخ في ذاته تدريجياً، و بتعبير آخر يصبح ملكة ذاتية، والأعمال ترسخ في النفس إلى درجة يكون لها تأثير بالغ في شخصيّته. و تتجلى الملكات النفسية حيثما يظهر كل شيء بوضوح.

و يمكن اعتبار الجزاء تابعاً لهذه الخصائص والملكات المطبوعة في النفس.

يُحشر الإنسان يوم القيامة على أساس صورته الباطنية وسيرته الداخلية. وعقوبات الآخرة ليست عقوبات تعاقدية على غرار العقوبات الدنيوية. و إنّما هي على غرار الأُمور التكوينية. و حقيقة الذنب، تتجسد يوم القيامة بالجزاء. إذ يمكن تشبيه الذنب بسكين يفقأ

ص:211


1- - سورة الأنبياء (21)، الآية 47.
2- سورة فصلت (41)، الآية 46.
3- - سورة النساء (4)، الآية 124.
4- - سورة ابراهيم (14)، الآية 18.
5- سورة النساء (4)، الآية 31.

بها الشخص عينه، حيث يكون العمى في مثل هذه الحالة أمراً تكوينياً و ليس تعاقدياً.

وجزاء الذنب كالمحصول الطبيعي للزرع؛ فكل من يزرع شيئاً يحصد ذلك الشيء نفسه.

والعمل الذي يرسخ في ذات الإنسان يبقى ملازماً له. و بما أنّ مثل هذا العمل يضرب بأطنابه في أعماق النفس و يغدو جزءاً من الذات، فمن الطبيعي أن يستمر أثره و لايزول بسرعة. قال أميرالمؤمنين عليه السلام في وصف اللّحظات الأخيرة من حياة الإنسان في الدنيا: إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا و أوّل يوم من أيام الآخرة مثل له ماله و ولده و عمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: واللّه أني كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك؟ فيقول:

خذ مني كفنك، قال: فيلتفت إلى ولْده فيقول: واللّه أني كنت لكم محباً و إني كنت عليكم محامياً فماذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك نواريك فيها، قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: واللّه إني كنت فيك لزاهداً و أنّك كنت عليّ لثقيلاً فماذا لي عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك و يوم نشرك حتى أُعرض أنا و أنت على ربك، قال: فإن كان للّه ولياً أتاه أطيب الناس ريحاً و أحسنهم منظراً و أحسنهم ريشاً فقال: أبشر بروح وريحان وجنّة نعيم و مقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح ارتحل من الدنيا إلى الجنّة.

و إنه ليعرف غاسله و يناشد حامله أن يعجّله، فإذا أُدخل قبره أتاه ملكا القبر يجران أشعارهما و يخدان الأرض بأقدامهما، أصواتهما كالرعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف فيقولان له: من ربك؟ و ما دينك؟ من نبيّك؟ فيقول: اللّه ربيّ و ديني الإسلام، و نبيّي محمد صلى الله عليه و آله و سلم. فيقولان له: ثبتك اللّه فيما تحب و ترضى، و هو قول اللّه عزّوجلّ: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ) ثم يفسحان له في قبره مدّ بصره ثم يفتحان له باباً إلى الجنّة، ثم يقولان له: نم قرير العين، نوم الشاب الناعم، فإن اللّه عزّوجلّ يقول: (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً) قال: و إن كان لربه عدواً فإنه يأتيه أقبح من خَلَقَ اللّه زِيّاً و رؤياً و أنتنه ريحاً فيقول له: أبشر بنزل من حميم و تصليه جحيم.(1)

ص:212


1- الكُليني، الكافي، ج 3، ص 231 و 232، الحديث 1.

و روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: لابُدّ لك من قرين يدفن معك هو حي و أنت ميّت، فإن كان كريماً أكرمك، و إن كان لئيماً أسلمك، ثم لايحشر إلّامعك، و لاتبعث إلّامعه، و لاتُسأل إلّاعنه. فلا تجعله إلّاصالحاً؛ فإنه إن صلح أنست به، و إن فسد لم تستوحش إلّا منه، و هو عملك.(1)

الشفاعة

الشفع: ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة: الانضمام إلى آخر يكون ناصراً له، و أكثر ما يُستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة و مرتبة إلى من هو أدنى لمعاونته.(2) و على الرغم من تأكيد القرآن الكريم على أن لاشفيع و لانصير يوم القيامة (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ) ، (3) و لكن هناك آيات تحدّثت بصراحة عن الشفاعة و تأثيرها في إنقاذ الإنسان، و إنّما نفيت الشفاعة للظالمين(4) و للكافرين.(5) فالشفاعة لاتشمل المشركين والكفار و من ينكرون حقائق الدّين.

فقد قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: و أمّا شفاعتي ففي أصحاب الكبائر ما خلا أهل الشرك والظلم.(6) و يتفق المسلمون على أنّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مقام الشفاعة الذي كرّمه اللّه به و أرضاه (7)(وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) . (8) و قد اعتبر هذا المقام حصيلة لتهجّد النبيّ و إحيائه الليل.(9)

إنّ اللّه تعالى قد أذن بالشفاعة للصالحين و لمن ارتضى من عباده: (وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى) . (10) والمراد من الذين ارتضى، الأنبياء والأوصياء والملائكة، و بعض المؤمنين.(11)

ص:213


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 128.
2- - الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 457 و 458.
3- - سورة الأنعام (6)، الآية 51.
4- - سورة غافر (40)، الآية 18.
5- سورة المدّثر (74)، الآيات 46 و 48.
6- - الصدوق، الخصال، باب السبعة، ص 355، الحديث 36.
7- - الطبرسي، مجمع البيان، ج 5، ص 505؛ الآلوسي، روح المعاني، ج 28، ص 160.
8- - سورة الضحى (93)، الآية 5.
9- سورة الإسراء (17)، الآية 79.
10- - سورة الأنبياء (21)، الآية 28.
11- الصدوق، الإعتقادات، الباب 21، ص 44 و 45.

الشفاعة ليست عملاً خارجاً عن الضوابط و إنّما هي لطف وتكرّم من اللّه على عباد ذوي اعتقاد و عمل صالح، و لكنّهم أخطأوا واقترفوا أحياناً ذنباً و لم يوفَّقوا للتوبة، و لاشكّ في أنّ من يتوب عن الذنب لايحتاج إلى شفاعة؛ إذ جاء في حديث شريف: «لاشفيعَ انجحُ من التوبةِ».(1) و من الطبيعي أنّ الاعتقاد بالتوحيد والسير على الصراط الإلهي القويم، شرط للشفاعة؛ لأن الشفاعة تعني سدَّ النقص، و هي تنمّ عن ارتباط وثيق بين الشفيع والمشفّع فيه. و لاتعني طبعاً أن يقترف الشخص ما يشاء من الذنوب ثم تُغفر ذنوبه بالشفاعة.

و على هذا الأساس فإنّ الشفاعة لاتبيح لأحد اقتراف الذنوب، و لا أحد يتجرأ على المعصية في مثل هذه الشروط والضوابط. الشفاعة تبعث في النفوس بصيص الأمل و تشجّع الناس و تحثهم على أداء ما يجب عليهم من فرائض و واجبات، و لكن الفرائض تكون أحياناً عسيرة و يصعب على البعض أداؤها، خاصة و أنّ الدنيا دار وسوسة و زلّات، و أمثال هؤلاء الأشخاص ينجيهم اللّه من العذاب و يرفعهم درجات بفضل شفاعة عبد من أوليائه.

الصراط

هنالك يوم القيامة جسر يُسمّى «الصراط»، و قيل في وصفه «الصراطُ أدقُّ من الشَعر و أحَدُّ من السيف».(2) و لابدّ لكلّ الناس بعد البعث من جديد، أن يجتازوا الصراط ليصلوا إلى جنة الخُلد. و كل شخص يستطيع أن يعبره على قدر ما لديه من نور اكتسبه من اتصاله بحقائق العالم،(3) و يمكن للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، والمتقين والأولياء والصالحين، عبوره بسهولة، بينما يتعذر على المشركين والفاسقين عبوره، فيسقطون في الهاوية.(4) و بعض يمر عليه سريعاً والبعض يتعثّر(5) و بعض يسقط في نار جهنم.

ص:214


1- - الصدوق، الأمالي، مجلس 52، ص 399، الحديث 9.
2- - الكُليني، الكافي، ج 8، ص 312، الحديث 486؛ المفيد، تحقيق الاعتقاد، مصنفات المفيد، ج 5، ص 109.
3- - سورة الحديد (57)، الآية 12.
4- سورة المؤمنون (23)، الآية 74.
5- الكُليني، الكافي، ج 8، ص 312، الحديث 486.

و هناك تتعالى الأصوات و كل يُنادي وانفساه، و تحجب الأبصار و تضطرب الأنفاس، وتزداد نبضات القلوب. و من الطبيعي أنّ مثل هذه الحالة لو عرضت لأحد فإنّه يتعثر في مشيته حتّى لو كان يسير على أرض مستوية، فما بالك إذا كان يمر على صراط دقيق وخطير. إنّ عبور هذه العقبة بنجاح ينتهي بالمرء إلى الاتصال بعالم الحق، فيثبت قدمه هناك وتطمئن نفسه، و يبلغ مرحلة السكينة والاستقرار. و هذا لايتحقق طبعاً إلّابما ادّخره المرء من عمل صالح في دنياه.

والإشارة إلى هذه الملاحظة لاتخلو من فائدة، و هي أنّ المراد من دقّة الصراط ربّما يكون الحقائق التوحيدية، والمعتقدات الحقّة، والعمل الصالح الذي يُعتبر - حقاً - شيئاً دقيقاً و أدقّ من الشعرة، و يحتمل فيه السقوط والانحراف في أية لحظة. و هذا ما يوجب على المرء أن يكون في حذر منها على الدوام و يسأل ربّه الثبات على هذا الصراط، و أن لايكله إلى نفسه طرفة عين أبداً. و أخيراً و بعد انجلاء أهوال و شدّة القيامة والنظر في أعمال العباد، ينال كل واحد منهم جزاءه بما يتناسب مع عمله و معتقده، و يتّجه نحو المكان المخصّص له فيسير المؤمنون إلى جنان الخُلد، بينما يُساق الكفرة والعاصون إلى جهنم.

الجنّة

و بعد النظر في أعمال العِباد و معقتداتهم، يدخل قسم منهم إلى الجنة جزاءً على إيمانهم و صالح أعمالهم. والجنّة هي المكان الذي ينتهي إليه المؤمنون الذين يحيون الليل بالعبادة و ينفقون مما رزقهم اللّه،(1) و هي للذين يجاهدون في سبيل نشر الاسلام و يضحون لهذا الهدف بأنفسهم و أموالهم،(2) و يمكن القول بإيجاز: إنّ الجنّة يدخلها الذين يعبدون ربّهم، و يحترمون حقوق و حرمات الآخرين للّه، و يؤدّون واجباتهم من غير طمع في شيء.

يتنعّم من يدخل الجنّة من النساء والرجال بما جعل اللّه لهم فيها من لذائذ الطعام والشراب، و كل ما يحبون و ما تشتهي أنفسهم،(3) و هناك نعمة أعظم من كل تلك النعم

ص:215


1- - سورة السجدة (32)، الآيات 15-19.
2- - سورة التوبة (9)، الآية 111.
3- - (وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ)؛ سورة الزخرف (43)، الآية 71.

واللذائذ و هي رضوان اللّه،(1) و هناك لايواجه أهل الجنّة أي تعب أو مشكلة،(2) و إنّما يعيشون في أمن وسلام،(3) و هم خالدون فيها و لايأتيهم الموت.(4)

ذكر الجنّة يبعث الأمل في النفس، و يحث العبد على الطاعة و عمل الخير واجتناب الذنوب والآثام.(5) فالناس - كما يقول علي عليه السلام - لم يُخلقوا للخلود في الدنيا، و إنّما الدنيا بالنسبة لهم ممرٌّ لنيل الجنة والسعادة الأبدية.(6) و قد قال عليه السلام في وصف الدنيا و مدى تناسبها مع الآخرة: أَلَا حُرٌّ يَدَعُ هَذِهِ اللُّمَاظَةَ لِأَهْلِهَا، إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا.(7) و قال أيضاً في موضع آخر: مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ وَ مَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ وَكُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ فَهُوَ مَحْقُورٌ وَ كُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ.(8) فقد قال تعالى في كتابه الكريم: (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (9) و قال تعالى أيضاً في القرآن الكريم في وصف الجنّة: (وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (10) و قال أميرالمؤمنين عليه السلام في تعظيم الجنّة: أَلَا وَ إِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا.(11)

جهنّم

جهنّم مظهر غضب اللّه، و جاء في وصفها: أنها عبارة عن هاوية فيها نار متأجج لهيبها و متّقد شررها (وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ) ، (12) و خزنتها ملائكة غلاظ شداد،(13) و حرارة الدنيا - كما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - لاتكاد تساوي جزءاً من سبعين جزءاً من نار جهنم،(14)

ص:216


1- - (وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ)؛ سورة التوبة (9)، الآية 72.
2- (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)؛ سورة الحجر (15)، الآية 48.
3- (وَ اللّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ)؛ سورة يونس (10)، الآية 25.
4- (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ)؛ سورة الدخان (44)، الآية 56.
5- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 31.
6- - المصدر السابق، الخطبة 132 (صبحي الصالح).
7- - المصدر السابق، الحكمة 456.
8- - المصدر السابق، الحكمة 387.
9- - سورة الصافّات (37)، الآية 61.
10- - سورة آل عمران (3)، الآية 133.
11- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 28 (صبحي الصالح).
12- - سورة البقرة (2)، الآية 24.
13- سورة التحريم (66)، الآية 6.
14- - علي بن ابراهيم، تفسير القُمّي، ج 1، ص 366؛ المجلسي، بحارالأنوار، ج 8، ص 288، الحديث 21.

و هي ذات شرر عظيم لايذر شيئاً إلّاأحرقه،(1) و طعام أهل جهنم الزقوم والصديد،(2) و ماؤها كالمهل، و هو المعدن المذاب بالحرارة،(3) و نارها تسري في أعماق الإنسان و تستعر في القلوب،(4) و ثياب أهلها النار، ويُلقى على وجوههم و رؤوسهم ماء يغلي.(5)

و هناك مقامع من حديد فوق رؤوس أهل النار،(6) و لايمكن الفرار منها أبداً،(7) و جلودهم تتبدل على الدوام من شدّة النار، والجلود تحترق و تذوب، و لكن لاتنتهي و تحلُّ محلها جلود غيرها (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (8) و هم في عذاب دائم (لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى) ، (9) و أيديهم و أعناقهم مغلولة بالسلاسل والأغلال.(10) و يعيشون في حسرة و ندم دائم على تفريطهم بالفرصة التي أُتيحت لهم في الدنيا، و يتمنون لو كان رفاقهم في الدنيا رفاق خير نصحاء، ولو انّهم كانوا يسيرون على الصراط المستقيم.

فهل تستحق أيام الدنيا العابرة أن يغفل المرء عن ربّه، أو يظلم عباد اللّه؟ أو أن لايؤدّي فرائض اللّه، فيذلّ و يخزى؟ هناك كثير من آيات القرآن الكريم و أحاديث النبيّ والمعصومين في وصف عالم الآخرة وجهنّم وعذابها الشديد. و لاشكّ في أنّ رسالات اللّه و تحذيرات الأنبياء والأوصياء إنّما هدفها توعية و إيقاظ الناس؛ إذ لاينبغي أن ينهمك الناس في نعم الدنيا و ملذّاتها بحيث ينسوا ما عليهم من فرائض و تكاليف، و يضيّعوا آخرتهم في خضم التهافت على الحياة الدنيا. و ينبغي أن لايكون الإقبال على ملذّات الدنيا إلى الحدّ الذي يوقع المرء في عذاب الآخرة. إنّ العقل والمنطق يفرض علينا الاصغاء لهذه التحذيرات و أخذها على محمل الجد؛ فهذه التحذيرات ليس هدفها إبعاد الناس عن نعم الدنيا، و إنّما الغاية منها إيجاد توازن في السلوك بين الدنيا والآخرة.

ص:217


1- - سورة المدّثر (74)، الآيات 26-28.
2- سورة الحاقّة (69)، الآية 36؛ سورة الواقعة (56)، الآية 52.
3- - سورة الكهف (18)، الآية 29.
4- سورة الهُمَزة (104)، الآية 7.
5- سورة الحج (22)، الآية 19.
6- - سورة الحج (22)، الآية 21.
7- سورة الحج (22)، الآية 22.
8- - سورة النساء (4)، الآية 56.
9- سورة طه (20)، الآية 74.
10- - سورة غافر (40)، الآية 71.

ص:218

الباب الثاني: الأخلاق

اشارة

ص:219

ص:220

علم الأخلاق

الفضائل الأخلاقية من المنجيات الموصلة إلى السعادة الابدية، ورذائلها من المهلكات الموجبة للشقاوة السرمدية. فالتخلّي عن الثانية والتحلي بالأُولى من أهم الواجبات للوصول إلى الحياة الحقيقية.(1)

و علم الأخلاق يعلّم النفس الإنسانية كيفية تحصيل الخلق بحيث تصدر جميع الأحوال والأفعال بإرادتها، لتكون جميلة و حميدة.(2) فالنفس الإنسانية ذات ميول و غرائز شتّى.

و قد وضِع علم الأخلاق لتهذيب الميول والرغبات الباطنية للإنسان. فمن الطبيعي أنّ أفعال الإنسان و أعماله إنّما تصدر عن ملكاته وصفاته الحسنة أو القبيحة، و معرفة هذه الملكات تتعلق بعلم الأخلاق. و علم الأخلاق يعلّم الإنسان كيفية نبذ الرذائل واكتساب الفضائل.

و هو يُعنى بإصلاح الإنسان والارتقاء باستعداداته إلى الكمال. روي عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: «اَلْزَمُ الْعِلْم لَك، ما دَلَّكَ عَلى صَلاحِ قَلْبِكَ وَ اظْهَرَ لَكَ فَسادَهُ».(3) إذاً فالأخلاق هي معرفة الفضائل والرذائل والتحلّي بالفضائل، إضافة إلى التحلّي بمحاسن الأخلاق المنبثقة من طباع حسنة.

فلسفة الأخلاق

يتناول علم الأخلاق دراسة الحسن الأخلاقي والقبح الأخلاقي، والأوامر والنواهي الأخلاقية. و أمّا فلسفة الأخلاق فمهمتها الإجابة عن أسئلة مثل: ما هو معيار الخير والشرّ

ص:221


1- النراقي، الملا مهدي، جامع السعادات، ج 1، ص 9 و 10.
2- - الطوسي، الخواجة نصيرالدّين، اخلاق ناصري، ص 48.
3- - المجلسي، بحارالأنوار، ج 1، ص 220، الحديث 54.

والحسن والقبح؟ و لماذا هذا الشيء حسن و ذلك الشيء قبيح؟ و ما منشأ اعتبار الأوامر والنواهي الأخلاقية؟ و هل الأُمور الأخلاقية نسبية أم مطلقة؟ و كيف يُنظر إلى الجَمال؟ و لماذا يرى البيضُ مصاديق معيّنة للجمال و يرى السودُ مصاديق أُخرى للجمال، مما لايوافقهم غيرهم عليها؟ و نحن هنا في هذا الكتاب نتناول علم الأخلاق. و أمّا فلسفة الأخلاق فعلى الرغم مما تتصف به من الروعة والجذّابية إلّاأنها خارج هدف و موضوع هذا الكتاب.

الإنسان مجبول بالفطرة على حُبّ الجمال، و قد أبدع الكثير من معالم الجمال المسموعة والمرئية في مختلف المجالات. و لاشكّ في أنّ نشوء وتطوّر الكثير من الفنون الجميلة كالرسم، والموسيقى، والنحت، و فن العمارة و غيرها منبثقة أساساً من هذه الفطرة و جاءت بهدف إشباع هذا الميل. والإنسان حسب طبيعته البدائية يستشعر اللّذة والارتياح من أُمور، والنفور من أُمور أُخرى. و على هذا الأساس يقسّم الأُمور إلى جميلة و قبيحة، و حسنة و سيّئة. و هذا التقسيم ينطبق على ما هو محسوس و على ما هو غير محسوس.

فعندما نرى شخصاً يعمل من أجل الآخرين و يمد لهم يد العون، نكرّم هذه النزعة الإنسانية فيه و نرى عمله جميلاً. و من جانب آخر إذا رأينا شخصاً يضرب شخصاً ضعيفاً من غير سبب نستقبح عمله. و كذلك نصف بالعدل مَن يحكم بين الناس بعيداً عن مؤثرات الحب والبغض و بحسب الشواهد والأدلّة، و نصف بالظلم مَن يفعل خلاف ذلك. و أساس السلوك الأخلاقي هو الحسن والقبح اللّذان يقرُّهما العقل والفطرة. والصفة الأخلاقية الفاضلة هي ما يستحسنها الآخرون، و أمّا الصفة الأخلاقية الرذيلة فهي ما يستقبحها الآخرون.

إنّ منطلقات سلوك الناس ليست من نمط واحد. فَبَعضُها تنطلق من دوافع حسيّة و من غير وعي و إرادة، كالصياح عند مواجهة خطر مفاجىء، و إغماض العينين تلقائياً عند الاصطدام بشيء خارجي. و بعض الأفعال الأُخرى مبعثها الغريزة والميول الذاتية كالأكل والشرب عند استشعار الجوع والعطش، والدفاع عن الذات عند مجابهة خطر.

و هناك نوع آخر من السلوك مبعثه الفطرة كحب الجمال وحُبّ الحقيقة. والتوجّهات والسلوكيات المنطلقة منها خاصّة بالإنسان دون سواه من الكائنات. و ما يلاحظ من

ص:222

الحضارات والثقافات منبثق من هذه الخصال. و هناك قسم من السلوك - و هو ما يُسمّى بالسلوك الأخلاقي - يأتي انطلاقاً من دوافع فطرية. فالسلوك الذي يؤدّي إلى الكمال، و يتّصف بالحسن والجمال يعتبره أمراً لازماً (و هو ما يُسمّى بالأوامر، أو ما ينبغي فعله)، أمّا السلوك المخالف للكمال و ما يستشعر النفور منه فيرى لزوم تركه (و هو ما يُسمّى بالنواهي أو ما لاينبغي فعله).

النظام الأخلاقي في الإسلام و خصائصه

اشارة

تؤلّف الإرشادات والتوجيهات الأخلاقية قسماً مهماً من تعاليم الدّين الإسلامي، و منها يتكون النظام الأخلاقي، و هي تتصف بالخصائص التالية:

1 - التحول في الأخلاق

من أهداف التعاليم الأخلاقية في الإسلام إحداث تغيير في الأخلاق، و نقل المجتمع من الأخلاق الجاهلية إلى الأخلاق الإسلامية، و إيجاد نظام أخلاقي سامٍ منسجم مع الفطرة الإنسانية. فقد كانت القيم الأخلاقية قد ضعفت في العصر الجاهلي و حلّت محلّها القيم القبلية. و بالرغم من وجود قيم أخلاقية حسنة في العصر الجاهلي غير أنها كانت محدودة من جهة، و من جهة أُخرى كانت مدياتها لاتتعدى أفراد القبيلة الواحدة. حيث كان التعصب القبلي هو أساس السلوك، و كان نسيج الحياة الاجتماعية قائماً على قاعدة الحياة القبلية، و لكن بعد ظهور الإسلام تغيّرت هذه المفاهيم الأخلاقية على نحو واسع، و حلّ مبدأ «الإنسان» بدلاً من فكرة القبيلة. و حصل تطوّر هائل في مضامين المفاهيم الأخلاقية، و أخذ مبدأ الأُخوَّة الدينية مكانته بدلاً من العادات والتقاليد الجاهلية.(1) و طرح الإسلام فكرة «الأُمّة الإنسانية الواحدة» كبديل لفكرة الأعراق والأقوام.(2)

ص:223


1- - انظر: سورة المجادلة (58)، الآية 22.
2- سورة الحجرات (49)، الآية 13.

كانت هناك في العصر الجاهلي سجايا أخلاقية حميدة، و قد أقرّها الإسلام و أمضاها، كالضيافة والمروءة. و هذا يعني أنّ الاسلام لم يحارب كل ما كان موجوداً في الجاهلية، و إنّما أقرَّ واستحسن ورسّخ صفات حسنة كالمروءة، والكرم، والشهامة، والضيافة، والشجاعة، و غير ذلك.

2 - الواقعية

اهتم الاسلام في تعاليمه الأخلاقية بحاجات الإنسان الفطرية، و طرح القيم بشكل واقعي يأخذ بنظر الاعتبار صعوبات الحياة كالفقر والجوع والمرض والعوز، و دعا إلى تلك القيم بطريقة تتسم بالمرونة في مثل هذه الظروف، بحيث لايقع المكلّف في عسر و حرج.

التعاليم الأخلاقية في الإسلام قائمة على رؤية واقعية، و هي ليست مجرد وصايا جامدة و خالية من الروح، و مقرونة بتوجيه لفائدتها والغاية التي وضعت لأجلها. و هناك تأكيدات على أنّ الالتزام بالقيم الأخلاقية يعود بالفائدة على الشخص نفسه، و هذا يمثّل بحد ذاته تشجيعاً على العمل بها. والنظام الأخلاقي في الإسلام لايكتفي بذكر مفاهيم أخلاقية عامّة و قضايا أخلاقية بديهية، و إنّما جرى تبيان مصاديق كل مفهوم عام. و ما يُعرف باسم القيم الأخلاقية عبارة عن أُمور ذات قيمة و خاضعة للمصلحة. و ما يُعرف بأنه غير قيمي فهو يتعارض مع القيم و ينطوي على مفسدة، كما هو الحال بالنسبة إلى الدعوة إلى العدل والإحسان: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ) (1) والنهي عن الفحشاء والمُنكَر (وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ) .(2)

يهتم الإسلام بعواطف الإنسان وضبط المشاعر و توظيفها لترسيخ القيم الأخلاقية. كما أنه يوجّه الغرائز و يهذّبها. و يعير اهتماماً واضحاً للرقي المعنوي والوصول إلى بناء اجتماعي متكامل. كما يعنى المنهاج التربوي في الإسلام بالعلاقات العاطفية في إطار الاُسرة، و في العلاقات مع الأُخوة في الدّين.

ص:224


1- - سورة النحل (16)، الآية 90.
2- سورة النحل (16)، الآية 90.

3 - الاهتمام بالجوانب الوجودية للإنسان

اشارة

من خصائص النظام الأخلاقي المفيد والفاعل أن يتعامل عن وعي مع مكوّنات الإنسان و قدراته. و هذه الميزة موجودة في النظام الأخلاقي الذي جاء به الإسلام.

من الواضح أنّ الإنسان يملك عقلاً و وعياً و مشاعر و متطلبات و حاجات مادية و معنوية، و هو مجبول على فطرة و غرائز، والكثير من حاجاته الفطرية والطبيعية ذات تأثير في سلوكه، و من خلالها تتبلور صياغة شخصيته. و لاشكّ في أنّ تجاهل أيّ من تلك العناصر والمكوّنات قد يفضي إلى بناء إنسان غير متزن في الجوانب الأخلاقية والتربوية، و لكنّ الإسلام قد وضع نصب العين - في تعاليمه الأخلاقية - جميع مكونات الإنسان؛ لأنّ عدم أخذ تلك الجوانب بنظر الاعتبار يُفقد الإرشادات الأخلاقية فاعليّتها.

النفس و أقسامها
اشارة

يهتم النظام الأخلاقي في الإسلام بشكل أساسي بتنمية و تهذيب الجانبين الروحي والعقلي لدى الإنسان، و يرى أنّ الشؤون الأخلاقية مبنية على الاختيار والوعي والعقل.

والإنسان ذو نفس حيّة، و لها تأثيرات و وظائف شتّى. و منها أنها تقوم بمهمة توجيهه. و من الطبيعي أنّ الميول والرغبات أُمور واقعية في وجود الإنسان و مبعثها النفس. و قد أُخذت هذه الرغبات والنوازع بنظر الاعتبار في التعاليم الأخلاقية. و هناك تعاليم كثيرة وضعت لتهذيب النفس و تنظيم دورها و تأثيرها، و لكن دون أن تستهدف إلغاءها و كبتها.

نورد في ما يلي أمثلة من أفعال النفس و تأثيراتها مع ذكر التعاليم الأخلاقية التي وضعت لها:

النفس الأمّارة

تحدّث القرآن الكريم عن النفس بتعبيرات شتّى، منها أنه نصّ مثلاً على: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي) . 1 و تُسمّى هذه النفس بالأمّارة؛ و بها تربط الأهواء والنزوات، و هذه النفس تسعى إلى تحقيق رغائبها. و إذا خضعت أعضاء الإنسان وجوارحه إلى هيمنة النفس الأمّارة، تستحوذ عليها و تسوقها إلى تنفيذ كل ما تمليه عليها، و تسوق الأيدي والأعين والأرجل إلى ارتكاب المعاصي، و تدفع اللّسان إلى اقتراف قبائح كالغيبة والتهمة والشتم والإساءة. و هذه أسوأ حالات النفس، و هي التي تسوق الإنسان إلى الضياع و تجعل منه عبداً للشهوات والأهواء و وحشاً كاسراً، بل قد تؤدّي نفس أمّارة واحدة إلى إفساد خلق كثير. و إذا لم يقف الإنسان ضد أهوائه النفسية و ترك العنان للنفس الأمّارة فسيصبح أكثر خطورة من أيّ وحش كاسر.

ص:225

تحدّث القرآن الكريم عن النفس بتعبيرات شتّى، منها أنه نصّ مثلاً على: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي) . (1) و تُسمّى هذه النفس بالأمّارة؛ و بها تربط الأهواء والنزوات، و هذه النفس تسعى إلى تحقيق رغائبها. و إذا خضعت أعضاء الإنسان وجوارحه إلى هيمنة النفس الأمّارة، تستحوذ عليها و تسوقها إلى تنفيذ كل ما تمليه عليها، و تسوق الأيدي والأعين والأرجل إلى ارتكاب المعاصي، و تدفع اللّسان إلى اقتراف قبائح كالغيبة والتهمة والشتم والإساءة. و هذه أسوأ حالات النفس، و هي التي تسوق الإنسان إلى الضياع و تجعل منه عبداً للشهوات والأهواء و وحشاً كاسراً، بل قد تؤدّي نفس أمّارة واحدة إلى إفساد خلق كثير. و إذا لم يقف الإنسان ضد أهوائه النفسية و ترك العنان للنفس الأمّارة فسيصبح أكثر خطورة من أيّ وحش كاسر.

النفس اللّوامة

للنفس وظيفة أُخرى ذات جانب إيجابي، و هو ما يُسمّى بالنفس اللوّامة: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ * وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ) . (2) و كلمة اللوّامة صيغة مبالغة - كما هو الحال بالنسبة إلى النفس الأمّارة - أي كثيرة اللّوم. و هذه النفس إذا اضطلعت بدورها و لم يتضاءل تأثيرها بفعل الجوانب الأُخرى، فهي كفيلة بالارتقاء بالإنسان إلى مستوى الكمال. و هي تلوم الإنسان و تعنّفه. كما يُعبّر عنها أحياناً باسم الضمير أو الوجدان.

و تأثير النفس اللوّامة هي أنّ الإنسان إذا اقترف قبيحاً يلتفت إلى خطئه و يتوجّه باللّوم إلى ذاته، و لكن يحتمل في الوقت ذاته أن تفقد هذه النفس تأثيرها على مرّ الزمن، و يتلاشى دورها بسبب تكرار الفعل القبيح.

خلق اللّه للإنسان قدرات تحول بينه و بين الخروج عن حدود الإنسانية. و لاشكّ في أنّ اللّوم الذي تبديه النفس يخلق لدى المرء حالة من التوبة والإنابة التي تؤدي بدورها إلى تهيئة الظروف للامتناع عن تكرار الذنب. إذاً فالنفس اللّوّامة تسوق الإنسان نحو الكمال؛ و لهذا أقسم بها اللّه عزّوجلّ شأنه.

ص:


1- - سورة يوسف (12)، الآية 53.
2- - سورة القيامة (75)، الآيتان 1-2.
النفس المُلْهَمَة

و هناك صفة أُخرى للنفس، و هي صفة ذات جانب أخلاقي و هي الإلهام. جاء في القرآن الكريم بخصوص هذا المعنى ما يلي: (وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها) .(1)

و هذه النفس إذا تيقّظت تحظى برعاية من اللّه، و يمكنها عند ذلك البتّ في ما هو صحيح أو ما هو خطأ من الأعمال. و لهذه النفس نوع من الارتباط بعالم الغيب و هي قادرة على تمييز الخطأ من الصواب.

النفس المطمئنة

النفس الإنسانية تتيقّظ و تجد طريقها و تسلك منهج العمل واليقين. و عندما تبلغ أعلى مراحلها و لاتساورها أية شكوك أو هواجس تغدو «مطمئنة»، و هذه النفس متّصلة بالحق، و هذا الاتصال باللّه يبعث فيها الاطمئنان: (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً...) .(2)

4 - الاعتدال

إحدى الخصائص الأُخرى للتعليمات الأخلاقية، هي الدعوة إلى الاعتدال في تلبية المتطلّبات والحاجات. فهي لاتطلب من الناس كبت غرائزها و تجاهل اللّذائذ الدنيوية، و على صعيد آخر لاتريد لهم الانهماك بها؛ لأنّ أهم هدف للتعاليم الأخلاقية هو انتهاج مسلك الاعتدال واجتناب الإفراط والتفريط. فالإفراط تعدٍّ و تجاوز للحد، والتفريط تقصير و قصور في أداء ما ينبغي أداؤه. كما أنّ تجاوز الحدّ في طلب الشيء إفراط، والتهاون أو التقصير في طلبه تفريط. و من الطبيعي أنّ الإنسان إذا أرسى بناء حياته على الإفراط أو

ص:227


1- سورة الشمس (91)، الآيات 7-8.
2- سورة الفجر (89)، الآيتان 27-28.

التفريط، فلابّد أن يتّجه تدريجياً نحو التعدّي أو ينتهي في سلوكه إلى أن يكون سبباً في تعدي الغير. فمثل هذا السلوك، يفضي إلى إحداث خلل في السلوك الاجتماعي العام و يُلحق ضرراً بشخصية الفرد.

إنّ الإنسان عبارة عن مجموعة من الغرائز والميول والرغبات والنوازع المختلفة.

و تجتمع فيه القوة العاقلة، والقوة الغضبية، و غيرها. ورغبات الإنسان و طموحاته كثيرة و لا حد لها و لا حصر. و مهما حقق من الطموحات والأماني لايشبع. ولو أعطيت له الدنيا بأسرها لطلب المزيد. و قد دعا الإسلام إلى الاعتدال و وضع له معايير انطلاقاً من حرصه على تحجيم مثل هذا الخطر. و من خصائص الإسلام أنّ تعاليمه و أحكامه تلتزم منهج الاعتدال والحد الوسط، حتى أنّه سمّى الأُمّة الإسلامية «أُمّة وَسطاً» في قوله تعالى (وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ) .(1)

ذهب الإسلام إلى اعتبار عباد اللّه الخاصّين هم المعتدلون البعيدون عن الإفراط والتفريط، كما جاء في قول العزيز الحكيم: (وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) . (2) و فيما يتعلق بهذه الصفة أمر اللّه تعالى نبيّه محمداً صلى الله عليه و آله و سلم أن لايجعل يده مغلولة إلى عنقه في الإنفاق و لايبسطها تماماً؛ لأنّ ذلك يؤدّي به إلى أن يقعد ملوماً محسوراً.(3) كما أمر تعالى في موضع آخر نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم بعدم اتباع من ينتهجون منهج الإفراط والتفريط، استناداً إلى ما ورد في الآية الشريفة: (وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) .(4)

و قال أميرالمؤمنين عليه السلام في وصف الإفراط والتفريط: لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هَذَا الإنسان بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ، وَ ذَلِك الْقَلْبُ، وَ ذَلِك أَنَّ لَهُ مَوَادَّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ أَضْدَاداً مِنْ خِلافِهَا، فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَذَلَّهُ الطَّمَعُ، وَ إِنْ هَاجَ بِهِ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ، وَ إِنْ مَلَكَهُ الْيَأْسُ قَتَلَهُ الْأَسَفُ، وَ إِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِهِ الْغَيْظُ، وَ إِنْ أَسْعَدَهُ الرّضَى نَسِيَ التَّحَفُّظَ، وَ إِنْ غَالَهُ الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحَذَرُ، وَ إِنِ اتَّسَعَ لَهُ الْأَمْرُ اسْتَلَبَتْهُ الْغِرَّةُ، وَ إِنْ أَفَادَ مَالاً أَطْغَاهُ الْغِنَى، وَ إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ

ص:228


1- سورة البقرة (2)، الآية 143.
2- - سورة الفرقان (25)، الآية 67.
3- - سورة الإسراء (17)، الآية 29.
4- سورة الكهف (18)، الآية 28.

فَضَحَهُ الْجَزَعُ، وَ إِنْ عَضَّتْهُ الْفَاقَةُ شَغَلَهُ الْبَلاءُ، وَ إِنْ جَهَدَهُ الْجُوعُ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ، وَ إِنْ أَفْرَطَ بِهِ الشِّبَعُ كَظَّتْهُ الْبِطْنَةُ، فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَ كُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ.(1)

من المعروف أنّ الإفراط والتفريط كليهما رذيلة، والفضيلة هي الحد الوسط بينهما. فإذا تجاهل الإنسان أمانيه و تطلّعاته تجاهلاً تاماً فلابدّ أنّه سيكابد الحسرة والغم، و إذا انهمك في اللّهاث وراء رغباته يستحوذ عليه الطمع. والاعتدال في ذلك، هو الحد الوسط. قال أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المجال: «لاترى الجاهلَ إلّامُفرطاً او مُفَرّطاً».(2)

و قال أيضاً: ثمرة التفريط الندامة.(3) والعدالة التي أكّدتها النصوص الدينية كثيراً، هي حالة الاعتدال واجتناب الإفراط والتفريط في شؤون الحياة.

5 - الترابط بين الأخلاق والعبادة

ينبغي طبعاً إخضاع الإنسان للتربية منذ الطفولة، من أجل أن يكتسب الفضائل الأخلاقية و يبتعد عن الرذائل. فالطفل مرن يمكن صياغته بالنحو الذي يُراد. و في هذا الطور يتعيّن على الوالدين و من يتولى شؤون الطفل أن يوجهوه إلى المسار السليم. و عندما يكبر يجد أمامه مجموعة من التعاليم التي يمكنه من خلال الالتزام بها تربية و تهذيب ذاته.

إذ تتضمن الفرائض العبادية أسمى المناهج التربوية و أساليب تهذيب النفس. و لم يستخدم الاسلام - بل و حرّم أيضاً - الطرائق غير المتعارفة و أساليب الرياضة الروحية القاسية والصارمة في التهذيب والتربية. و إنّما أمر بتهذيب النفس عن طريق العبادة التي هي أمر فطري. و من الطبيعي أنّ الالتزام بهذه الفرائض والتعاليم يؤدي بشكل تلقائي و من غير ضغوط إلى تهذيب وضبط الغرائز. نذكر مثلاً: إنّ للصلاة والصوم و سائر العبادات تأثير فاعل في هذا المضمار.

و من الفرائض الأُخرى المؤثرة في تهذيب النفس، الحج. فالحج يعتبر من بدايته و إلى نهايته بمثابة نظام تربوي متكامل. فالحاج يجب أن يخلع من البداية ثيابه و يرتدي ثياب

ص:229


1- الكُليني، الكافي، خطبة الوسيلة، ج 8، ص 19؛ الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 108، ص 487.
2- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 70.
3- - المصدر السابق، الحكمة 181، ص 502.

الإحرام. و لابُدّ أن يكون البدن طاهراً والثياب طاهرة و مباحة و ليس فيها حق لأحد. بل ينبغي حتى اجتناب الكثير من الحلال، و يجب أداء الحج في وقت معيّن، و بأعمال و حركات معينة. ففي الحج يبلغ التدريب والضبط النفسي ذروته. فهذا التكليف بمثابة تمرين على تهذيب الذات و بنائها، لأنّها تغرس في النفس تأثيرات عميقة بنحو تدريجي. و هي كفيلة بقطع دابر الغرور والكبر. و هي بالنتيجة تنتهي بالمرء من الأنانية وعبادة الذات إلى عبادة اللّه. كما أنّ العبادة تكرّس في النفس نزعة حُبّ الخير للآخرين.

والصوم فريضة عبادية أُخرى، يجب فيها على المكلّفين الامتناع عن أُمور معيّنة لمدّة شهر في كل سنة، و أمّا في بقية السنّة فهي مباحة له. ويُفرض عليه في هذا الشهر أن يمتنع عما ينبغي الامتناع عنه، في وقت معيّن بإرادته، والانتهاء من ذلك في وقت معين آخر.

و لاشكّ في أنّ لهذا العمل أثراً تربوياً و أخلاقياً عميقاً في النفس من حيث الجانب الفردي أو الاجتماعي، و هو يبعث في الإنسان مشاعر التعاطف مع أبناء جنسه. والصوم يدفع الفرد إلى الاهتمام بأحوال الفقراء والمساكين.

6 - التقوى ركيزة للأخلاق

ينص القرآن الكريم على أنّ طريق الفلاح والنجاة هو تهذيب النفس و تنقيتها من الدنس والرذيلة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى) ، (1) و أنّ النتيجة الطبيعية لدنسها و تجاهل تهذيبها هي الخسران والشقاء (وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها) . (2) و من البديهي أنّ الانهماك في الرذائل يترك تأثيراً سلبياً في النفوس، و يغدو عائقاً يحول دون المعرفة والإيمان. قال الباري عزّوجلّ في وصف مكذّبي آيات اللّه: (كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) .(3)

لقد اهتم الأنبياء عليهم السلام قبل أي شيء آخر بتهذيب النفس والارتقاء بمستوى الأخلاق.

و قال اللّه سبحانه و تعالى في وصف أحوال الأنبياء السابقين و أُممهم ما يلي: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما

ص:230


1- - سورة الأعلى (87)، الآية 14.
2- - سورة الشمس (91)، الآية 10.
3- سورة المطففين (83)، الآية 14.

كانُوا يَكْسِبُونَ) . (1) و يُستدل - من خلال تأكيد اللّه عزّوجلّ على التقوى على أنّ هذه الخصلة تعدّ سبباً مهماً لاستقرار وثبات المجتمعات وسعادتها في الدنيا والآخرة، و أنّ السير على خلاف منهج التقوى لايعود على أهله إلّابالخسران والهلاك.

و كلمة التقوى مشتقة أساساً من كلمة «وقى»، و منها الوقاية و هي حفظ الشيء ممّا يؤذيه و يَضرّه.(2) والتقوى تعني قدرة الإنسان على ضبط نفسه في حالات الغضب أو الميول والرغبات. و قلّما تجد سورة في القرآن لم تتحدث عن التقوى. و يبيّن القرآن الكريم أنّ البرّ لايأتي إلّامن التقوى،(3) و كذلك الحال في ما يخص المعرفة والقدرة على تمييز الحق من الباطل،(4) و أن يكون الإنسان في أمان من وساوس الشياطين،(5) و بالتقوى ينال النصر الإلهي،(6) و أنه تعالى يَمُنّ بالنصر والعون على المتقين،(7) و بها تُنال السكينة والاطمئنان،(8) و أنها هي السبيل إلى النجاة.(9) و فضلاً عما للتقوى من آثار أُخروية فهي ذات آثار دنيوية أيضاً، كسعة الرزق والنجاة من الشرور،(10) و يمكن القول بإيجاز: إنّ النجاة للمتّقين،(11) والمتقون أحبّاء اللّه.(12)

دعا اللّه تعالى العباد في مواضع و مناسبات كثيرة إلى الورع والتقوى، و وصفها بأنها درع يصون الإنسان من المشاكل، و بيّن أنّ التقوى سبب للكرامة و علو المنزلة عند اللّه، و ليس هناك شيء آخر من الأموال والحسب والنسب والمقام والمنصب يضاهي التقوى أو يعطي لفرد ميزة عن غيره. فالتقوى - إذاً - مصدر الفضائل كلها (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ) .(13)

ص:231


1- - سورة الأعراف (7)، الآية 96.
2- - الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 881.
3- - سورة البقرة (2)، الآية 189.
4- - سورة الأنفال (8)، الآية 29.
5- سورة الأعراف (7)، الآية 201.
6- - سورة آل عمران (3)، الآيات 120 و 125.
7- سورة البقرة (2)، الآية 194؛ سورة النحل (16)، الآية 128.
8- - سورة الأعراف (7)، الآية 35.
9- سورة النمل (27)، الآية 53؛ سورة الزمر (39)، الآية 61؛ سورة فصلت (41)، الآية 18.
10- - سورة الأعراف (7)، الآية 96؛ سورة الطلاق (65)، الآيات 2 و 4؛ سورة الليل (92)، الآيات 5-7.
11- سورة النور (24)، الآية 52.
12- سورة آل عمران (3)، الآية 76.
13- سورة الحجرات (49)، الآية 13.

من الطبيعي أنّ المتقي لايرتكب حراماً و لايترك واجباً، بل يحتاط حتى عند الشبهات.

قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «لا وَرَعَ كالوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبْهَة».(1) و من المعروف أنّ التقوى فوق الإيمان.(2) و نُقل أنّ الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال للمفضّل بن عمر: «اِنّ قَليلَ الْعَمَلِ مَعَ التّقْوى خَيْرٌ مِنْ كَثيرِ الْعَمَلِ بِلاتَقْوى» وهنا يقول المفضّل: إنّي سألت الإمام كيف يكون العمل الكثير بلا تقوى. فقال: مثل الرجل يطعم الطعام و يرفق بجيرانه، و لكن إذا فتح له باب من الحرام دخل فيه. فهذا العمل بلا تقوى، و لكن هناك من ليست عنده هذه الخصال غير أنه لو فُتِح له باب الحرام لم يدخل فيه.(3)

و ممّا يروى في هذا المجال أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقف بعد معركة بدر على قتلى المشركين فقال: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّاً فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ فقال المنافقون: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يكلّم الموتى. فنظر إليهم فقال: لو أُذن لهم في الكلام لقالوا:

«نعم و إنّ خير الزاد التقوى».(4)

و كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم متى ما ودّع المؤمنين قال لهم: «زَوّدكُمُ اللّه التّقوى».(5) و قال علي بن أبي طالب عليه السلام في جواب من سأله: فأي عمل أفضل؟ قال: التقوى.(6)

و قال الإمام محمد الباقر عليه السلام: التقوى وصية اللّه فيكم و في الذين من قبلكم. قال اللّه عزّوجلّ: (وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللّهَ) .(7)

و في ضوء ما ورد آنفاً يمكن أن نفهم بوضوح أكثر معنى قول أميرالمؤمنين عليه السلام: «التُّقى رئيسُ الأخلاق»(8) لأنّ من يتحلّى بالتقوى قادر في كل الأحوال والظروف على صيانة نفسه و حفظها من الذنوب والآثام.

ص:232


1- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 113، ص 488.
2- - الكُليني، الكافي، باب فضل الإيمان على الإسلام، ج 2، ص 51.
3- المصدر السابق، ص 76، الحديث 7.
4- الصدوق، من لايحضره الفقيه، باب التعزية، ج 1، ص 114، الحديث 536.
5- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، آداب السفر، الباب 29، ج 11، ص 180، الحديث 1.
6- الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج 4، ص 383، ح 5833.
7- الكُليني، الكافي، ج 3، ص 423، الحديث 6.
8- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 410، ص 548.

7 - الاعتزاز بالنفس

الإنسان ينفر من الذلّ بطبعه، و يميل إلى العزّ. و هذه خصلة واضحة عند جميع الناس.

و في النظام الأخلاقي الإسلامي يتطلب التحلّي بالأخلاق الحسنة أن يكون الشخص معتزاً بنفسه و لايقبل بالذل والحقارة أمام الغير. و لاينبغي لمؤمن أن يذلّ نفسه في مقابل الآخرين، أو يبيع ماء وجهه أو يمتهن كرامته و يكون مدعاة للسخرية. و لا مسوّغ لأحد باحتقار نفسه واستصغارها أمام الغير. إنّ التواضع شيء والذل شيء آخر. والتحلّي بحسن الخُلق لايدعو إلى سحق الكرامة والاستهانة بالذات. قال عزَّ من قائل: (وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ) . (1) والمؤمن ينبغي أن يتّصف بالشموخ والاعتزاز بالنفس، و بالصلابة في مقابل الأعداء و أهل الختل والخداع، و أن يكون في منتهى الحزم والجد في التعامل مع الأُمور، و لاينبغي لأحد أن يتّصف بالميوعة والتفاهة والخضوع لتأثير الآخرين، أو يكون أداة في أيديهم.

جاء في حديث شريف: لايحق لأحد إراقة ماء وجهه بذريعة أنّ خيار كل شيء بيده، و من حقّه أن يفعل ما يحلو له، خاصّة من كَسَبَ كرامته عن طريق الدّين، فهو لايحق له هتك كرامته بأي ثمن كان، أو في مقابل شيء تافه. قال الإمام الصادق عليه السلام: «وَ لاتَكُنْ فظّاً غليظاً يكره الناس قُربَك و لاتَكُنْ واهناً يُحقّرُك مَنْ عَرَفَك».(2)

و جاء في حديث آخر: «إنَّ اعْظَمَ النّاسِ قَدْراً مَنْ لايَرَى الدُّنْيا لِنَفْسِه خَطَراً».(3) و قال الإمام علي عليه السلام في وصية لابنه الحسن: «اَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلّ دَنيّةٍ وَ إنْ ساقَتْكَ الَى الرّغائب فَانَّكَ لَنْ تَعْتاضَ بِما تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً، وَ لاتَكُنْ عَبْدَ غَيْرِك وَ قَدْ جَعَلَكَ اللّهُ حُرّاً».(4)

ص:233


1- - سورة المنافقون (63)، الآية 8.
2- الحرّاني، تُحف العقول، ص 304.
3- - الكُليني، الكافي، ج 1، ص 19؛ الحرّاني، تُحف العقول، ص 389.
4- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب 31، ص 401؛ النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 33 من أبواب الصدقة، ج 7، ص 231 و 232؛ الحديث 7.

لايليق بمسلم أن يتّصف بصفات دنيئة كالتملّق والذل والهوان، حيث ورد هذا المعنى في حديث قاله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام و هو: «إنّ الحرَّ حُرٌّ على جَميعِ احْوالِه».(1)

ورد في القرآن الكريم ثناء على جماعة من المؤمنين ممن عرفوا باسم أصحاب الصُفّة، حيث وصفهم بما يلي: إنهم على درجة عالية من الاعتداد بالنفس والعزّة بحيث أنهم لايسألون أحداً و لايطلبون من أحدٍ شيئاً رغم فقرهم، بل إذا رآهم من لايعرفهم يحسب أنهم أغنياء من التعفف.(2)

روي أنّ الإمام علي عليه السلام قال: «رَضىَ بالذُلِّ من كشفَ عن ضُرّه».(3) و روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: ليس من أخلاق المؤمن التملّق والحسد إلّافي طلب العلم.(4)

8 - الاُسرة التربوية

من خصائص الأديان السماوية أنها تعرض في ما يتعلق بالشؤون التربوية أسوة عملية لتعاليمها الأخلاقية والسلوكية. والأسوة تعني تقديم شيء أو أحد بمثابة دليل يُقتدى به.

والاقتداء بأحد يعني السير على خطاه واحتذاء دربه في المعتقد والقول والسلوك. وتكمن ضرورة الأسوة العملية في الأخلاق في أنّ الإنسان ربّما يعجز عن تشخيص وتطبيق الأُطر العامة الموضوعة لهذا الغرض، أو أنه قد يقع عند ممارستها عملياً في الإفراط أو التفريط.

و لعل البعض قد تدفعه الرغبة في اكتساب المعنوية، إلى أساليب الرياضة الروحية الشاقة بأكثر ممّا هو مطلوب، أو ربّما بما يتنافى مع الشرع أحياناً. و في مثل هذه الحالات التي يُحتمل فيها الشطط عن حدِّ الاعتدال، أو يُحتمل فيها عدم فهم المسائل و تطبيقها بشكل صحيح، يصبح من الضروري وجود الأُسوة التي تساعده عند التأسي بها على انتهاج مسلك أخلاقي خالٍ من النقص والزلل. و قد كان الأنبياء أئمة هدى صالحين، نصبهم اللّه للناس

ص:234


1- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 89، الحديث 6.
2- كما جاء في سورة البقرة (2)، الآية 273.
3- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 2، ص 469.
4- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 119 من أحكام العشرة، ج 9، ص 81، الحديث 4.

علماً و أسوة يُستدل بهم على ما أنزله من تعاليم سماوية. و في القرآن الكريم بعد أن استعرض في سورة الأنعام سلسلة الأنبياء مع ذكر أسماء بعضهم، توجّه بالخطاب إلى النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) . (1) والملاحظة ذات الأهمية البالغة في هذه الآية هي أنه تعالى لم يقل حين دعا إلى الاقتداء بالأنبياء: «فبهم اقتده» أي اقتدِ بهم، و إنّما أمر بالاقتداء بهديهم و قال: (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) و هذه إشارة إلى أنّ ميزتهم الهداية من اللّه، و هذا هو ما ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار عند الاقتداء والتأسي بالأسوة.

إذاً ينبغي التأسي بمن يتّصفون بجانب إيجابي و بمن تتوفر فيهم فضيلة بارزة. و لابد أن يكون التأسي عن وعي و إرادة، و بقصد الاستفادة المعنوية والسمو الأخلاقي.

كل الأنبياء أسوة حسنة للناس في كل الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية، و لكن القرآن الكريم وصف اثنين منهم بعلو المرتبة والأهلية للتأسي بهما: و أحدهما خليل اللّه إبراهيم عليه السلام الذي قال فيه تعالى: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ) ، (2) والآخر هو خاتم الأنبياء نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم الذي قال فيه تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً) .(3)

استعرض القرآن الكريم سيرة أُناس صالحين آخرين غير الأنبياء، وجعل منهم أُسوة يتأسى بهم الناس، و يمكن أن نذكر منهم اسمي امرأتين عظيمتين: إحداهما آسية زوجة فرعون، والأُخرى مريم بنت عمران أُم عيسى عليه السلام: (وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ... * وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) .(4)

كانت آسية زوجة رجل يدّعي الربوبية و لايرى أحداً أعلى من نفسه، و كانت نزعته الاستكبارية تأبى عليه حتى الاستماع إلى كلمة الحق أو التفكّر فيها. و كان يشق بطون الحوامل و يقتل ما فيها من الأجنّة مخافة أن يولد مَن يشكّل خطراً على حُكْمه في المستقبل. و قد جابه فرعون النبيّ موسى عليه السلام و مارس كل أنواع الأذى ضد أتباعه والمؤمنين به. و في ختام الأمر غرق عند ملاحقته لهم في البحر، و بقي جسده آية دالة على

ص:235


1- - سورة الأنعام (6)، الآية 90.
2- - سورة الممتحنة (60)، الآية 4.
3- سورة الأحزاب (33)، الآية 21.
4- سورة التحريم (66)، الآيتان 11-12.

قدرة اللّه. كانت آسية زوجة مثل هذا الحاكم، و لكنّها في الوقت نفسه استهانت بكل تلك الحياة الرغيدة و آمنت باللّه و لم تقع تحت تأثير زوجها.(1)

و أمّا بالنسبة إلى مريم فقد كانت امرأة طاهرة، و قد وصفها اللّه بالطهر والعفاف،(2)

و كانت أمّاً لنبيٍّ و كانت مطيعة للّه، و قد حملت بعيسى بنفخة إلهية.(3)

إنّ طهارة هاتين السيّدتين و طاعتهما للّه قد جعل منهما شخصيّتين مثاليّتين، بحيث ضرب اللّه بهما مثلاً للمؤمنين.

9 - الثبات والمرونة في القضايا الأخلاقية

الفضائل الأخلاقية في النظام الأخلاقي في الاسلام، من الثوابت التي لاتخضع لمستجدّات الأُمور. و لايجوز لأيّ كان أن يصوغ سلوكه الأخلاقي وفقاً لمقتضيات الظروف التي يعيش فيها. فان كان يعيش في أجواء يغلب عليها طابع اللّاأُبالية يصبح لا أُبالياً، و إذا استلزمت النفاق نافق، و إن كان يغلب عليها السلوك الإيماني انتهج أُسلوب الإيمان. إنّ الأخلاق خاصّة بالإنسان و يجب على الإنسان - حيثما كان - الالتزام بسلوك أخلاقي مبني على المعايير الإنسانية. و من الواضح أنّ الأُمور الأخلاقية قد وضعت من أجل رقي الإنسان وتكامله، و هذا ما يمكن تحقيقه من خلال العمل والمعرفة، و لايمكن اعتباره خاضعاً للظروف.

و في الوقت ذاته، تتصف بعض التعاليم الأخلاقية بالمرونة و ينبغي الالتزام بها في ضوء ما تتطلبه المصالح العامّة. و على الرغم من ثبات الأُمور الأخلاقية، غير أنّ المقتضيات الاجتماعية تتطلب أحياناً استبدال سلوك أخلاقي بسلوك أخلاقي آخر. نذكر من ذلك - على سبيل المثال - أنّ الصدق من القضايا الأخلاقية الفائقة الأهمية، و لكن قد تعرض أحياناً مصلحة أهم تستدعي التغاضي عن الصدق. فلو كانت نفس إنسانية محترمة معرّضة للخطر مثلاً يمكن عدم قول الصدق، بل يجب عدم الصدق.

ص:236


1- سورة التحريم (66)، الآية 11.
2- - سورة آل عمران (3)، الآية 42.
3- سورة التحريم (66)، الآية 12.

يمكن في الواقع أن يُقال بشأن القضايا الأخلاقية التي تُستبدل باُخرى في حالات استثنائية: عندما يريد الإنسان أداء تكليفه الأخلاقي يكون أمامه أحياناً أمران متضادّان، فما العمل في مثل هذه الحالة؟

عند إجراء تقييم أخلاقي دقيق للظروف، لابد من تقديم الأمر الأخلاقي الأعم مصلحة والأكثر فائدة. و على هذا الأساس، ينبغي القول بعبارة أُخرى: إنّ المكلّف لم يقع منه تخلّف عن أداء الأمر الأخلاقي من جهة، و من جهة أُخرى في حالة تعارض الأمرين، تمّ تقديم أحدهما على الآخر رعاية لمصلحة أهم. و يجب بطبيعة الحال الالتزام بأقصى درجات الاحتياط في مثل هذه الحالات، لكي لايُعطل أثناء ذلك أمر أخلاقي من غير مبرر، أو أن تؤدّي الغفلة إلى وقوع المكلّف في زلل.

10 - شمولية النظام الأخلاقي في الاسلام

اشارة

النظام الأخلاقي في الإسلام ليس نظاماً احاديّ الجانب. فالإرشادات الأخلاقية في الإسلام لاتنحصر فقط في الأمر بالابتعاد عن الدنيا واجتناب الناس والزهد والانهماك في العبادة، و إنّما أُخذت بنظر الاعتبار في هذا النظام جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية. فهذا النظام يهتم بتزكية النفس من جهة، كما اهتم من جهة أُخرى بالشعور بالمسؤولية والإحساس بالواجب إزاء القضايا الاجتماعية.

روى الإمام جعفر الصادق عليه السلام أو الإمام محمد الباقر عليه السلام: مرّ أميرالمؤمنين بمجلس من قريش، فإذا هو بقوم بيض ثيابهم، صافية ألوانهم، كثير ضحكهم، يشيرون بأصابعهم إلى من يمرُّ بهم، ثم مرّبمجلس للأوس والخزرج فإذا قوم بليت منهم الأبدان، و دقت منهم الرقاب واصفرت منهم الألوان، و قد تواضعوا بالكلام، فتعجب علي عليه السلام من ذلك و دخل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: بأبي أنت و أُمّي إني مررت بمجلس لآل فلان، ثم وصفهم، و مررت بمجلس للأوس والخزرج فوصفهم، ثم قال: و جميع مؤمنون. فأخبرني يا رسول اللّه بصفة المؤمن. فنكس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ثم رفع رأسه فقال: عشرون خصلة في المؤمن فإن لم تكن فيه لم يكمل إيمانه، إن من أخلاق المؤمنين يا علي: الحاضرون الصلاة... جعلنا اللّه و أياكم

ص:237

من المتقين.(1) واستناداً إلى هذا الحديث يُعرف المؤمن بالعلامات التالية: حضور صلاة الجماعة، المسارعة إلى دفع الزكاة، إطعام المساكين، المسح على رأس اليتيم، الاهتمام بالنظافة والطهارة، العفّة، الصدق في نقل الحديث، الوفاء بالوعد، الأمانة، العبادة في الليل، المروءة والشجاعة في النهار، كثرة الصوم، عدم إيذاء الجار، التواضع في المشي، تفقّد بيوت الأرامل، المشاركة في تشييع الجنائز.

و هذا يعني أنّ الإسلام لم يركّز في تعاليمه الأخلاقية على جانب واحد فقط من جوانب الحياة - مهما كانت أهميّته - و إنّما ركّز على جميع جوانبها.

هدف النظام الأخلاقي في الاسلام

إنّ الغاية التي يهدف إليها النظام الأخلاقي في الإسلام، هي السعادة الأبدية.(2) و هذا ما يتحقق عن طريق الارتباط بعالم الغيب والاستعداد لسفر روحي و معنوي، والانطلاق نحو غايات سامية. فالإنسان بطبعه، يميل إلى الكمال واللَّذة. والطريق إلى الكمال واللّذة، يتوقّف على ما يحمله المرء من نظرة إلى الكَوْن والحياة. فمن ينظر إلى هذا العالم نظرة مادية ضيّقة لاتتعدى حدود المادّة والدنيا الزائلة يطلب من الكمال واللّذائذ بما يتناسب مع هذه النظرة الضيّقة. بينما إذا كانت لديه رؤية تتجاوز في مدياتها حدود عالم المادّة، فلابّد أن يسعى إلى كمال ولذّة أبعد من حدود هذا العالم.

لقد وجه الإسلام نزعة حُبّ الكمال وحُبّ السعادة عند الإنسان و أرشده إلى أهداف سامية و نبيلة من خلال المقارنة بين الأهداف والغايات الدنيوية الآنية العابرة والأهداف واللّذائذ الخالدة في الآخرة.(3)

ص:238


1- - الكُليني، الكافي، ج 2، ص 232، الحديث 5؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 4 من أبواب جهاد النفس، ج 15، ص 188، الحديث 15.
2- - يبين القرآن ان طريق السعادة ينتهي إلى جنة الخلد، و طريق الشقاء ينتهي إلى الخلود في جهنم. سورة هود (11)، الآيات 106-108.
3- سورة الأعلى (87)، الآيتان 16-17.
أُسس النظام الأخلاقي في الإسلام

هناك مجموعة من مبادىء النظام الأخلاقي في الإسلام مرتبطة بالمبدأ، بينما ترتبط مجموعة أُخرى منها بالمعاد، أمّا الإرشادات الأخلاقية فمرتبطة بكليهما، و إن بدا الكثير منها كإرشادات اجتماعية في الظاهر. إنَّ التوجهات الأساسية للسلوك الأخلاقي يجب أن تكون موجّهة صوب اللّه والتوحيد، و إلّافإنها لن تكون مدعاة للرقي والتكامل. و من الطبيعي أنّ الإرشادات الأخلاقية تؤدّي إلى خلق نظام اجتماعي سليم أيضاً، بيد أنّ الفارق الأساسي الذي يميّز النظام الديني عن سائر النظم الاجتماعية، هو أنّ الاتجاه الأساسي لكل عمل في ظل النظام الديني هو اللّه، بينما الأمر ليس كذلك في النظم غير الدينية.

في النظام الديني يُعتبر اللّه مصدر كل شيء و إليه يعود كل شيء. و لابدّ للمؤمن أن يربط كل سلوكه باللّه ويُرجعه إلى اللّه. و هذا النمط من الرؤية الكَوْنية يفضي إلى ترصين الأُمور الأخلاقية و وضعها في الاتجاه الصحيح، و يخلق لدى الناس محفّزات للتمسّك بالقيم الأخلاقية واجتناب كل ما يتعارض مع الأخلاق. أما بالنسبة إلى حسن أو قبح الأعمال، فهو يتقرر في ضوء ما يتمخّض عنها من تأثيرات في مختلف جوانب الحياة، أو بعبارة أُخرى:

استناداً إلى تأثيرها في سعادة أو شقاء الفرد.

لا يمكن لنظام أخلاقي أن يتبلور بمعزل عن النظام الفكري والعقائدي و في هذا النظام الأخلاقي يجب أن تكون غاية الأفعال الأخلاقية رضا اللّه، و إلّافستكون قيمتها الأخلاقية ذات مستوى هابط، بل و قد تكون مضادة للقيم. نذكر من ذلك - على سبيل المثال - أنّ الإنفاق على المحتاجين يعتبر عملاً أخلاقياً في الظاهر، و لكن من وجهة النظر الإسلامية يُعتبر هذا العمل ذا قيمة فيما إذا كان خالياً من دوافع الرياء و من المَنّ والأذى، و إن لم تتوفر فيه هذه الشروط فهو مجرّد من القيمة الأخلاقية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا) .(1)

ص:239


1- سورة البقرة (2)، الآية 264.

يُستفاد من هذه الآية، أنّ النيّة الخالصة هي التي تضفي على العمل قيمة، و تجعل منه عملاً سامياً و نبيلاً. و في المقابل، فإنَّ مَثل من ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه و تثبيتاً لقلوبهم كمثل جنّة في موضع مرتفع، فهطَلَ عليها مطر غزير فأثمرت ضعف محصولها، و حتى لو لم ينزل مطر و فير و نزل مطر قليل، فهي تُثمر أيضاً.(1) إنّ قيمة أي عمل صالح - حتى و إن كان من خير الأعمال و أفضلها - يتوقّف على النيّة المقصودة من ورائه. إذاً فالأعمال رهينة بنيّة فاعليها. والنيّة الخالية من الرياء هي التي تضفي على العمل وجاهة، و تجعل منه باعثاً على الكمال. أمّا الاعمال التي لايُراد بها وجه اللّه فلا قيمة لها، بل إنها تقطع السبيل المؤدّية إلى اللّه. و قد يرتضي البعض مثل هذه الأعمال لنفسه و يكتفي بها بدلاً من المبادرة إلى أعمال صالحة فيها رضاً للّه.

مكانة النظام الأخلاقي في الاسلام

المفاهيم الأخلاقية في الإسلام، تابعة لنظام ديني. و هناك علاقة عميقة بين المفاهيم الأخلاقية، والقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. و لايمكن فصل الأخلاق عن السياسة و عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية.

إنَّ كلّ واحد من أحكام الإسلام له موقعه في الموضع المخصص له، و عدم وجوده في موضعه يُعدُّ بمثابة نقص، و يؤدّي إلى عدم فاعلية الأحكام الأُخرى. نذكر مثلاً أنّ التزكية تعني(2) تهذيب و إصلاح النفس، وقُرنت في بعض الآيات القرآنية المكّية بإنفاق الأموال و بالتقوى.(3) و أمّا في السور المدنية فغالباً ما قُرنت الزكاة بالصلاة. و لعلَّ السبب الكامن وراء استعمال هذه الكلمة في القرآن هو أنّ إنفاق المال يجب أن يكون ذا منطلق أخلاقي، و بقصد تهذيب النفس وتزكيتها من الرذائل الأخلاقية كالبخل والحسد، وتقوية ما فيها من فضائل أخلاقية. و بهذا العمل تتحقق الغاية الأساسية من وراء الزكاة و هي الطهارة والتهذيب:

ص:240


1- - سورة البقرة (2)، الآية 265.
2- - سورة الأعلى (87)، الآية 14؛ سورة الشمس (91)، الآية 9.
3- - سورة الليل (92)، الآيتان 17 و 18.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها) .(1)

لقد اعتبرت مجموعة الإرشادات الأخلاقية والاعتقادات والفروع والأحكام العملية بمثابة صفات للأبرار. و هذا يدلّ على أنّ الأُمور الأخلاقية في الإسلام قائمة على الإيمان و مستندة إلى ضمانة إيمانية.

فالدين بلا أخلاق غير مجدٍ و لامؤثّر. و متى ما كان الإيمان ضمانة للإخلاق فإنّها تكون فاعلة و مؤثّرة. و متى ما اضمحلّ الإيمان الديني تتراجع الفضائل الأخلاقيّة تبعاً له. و على العكس من ذلك متى ما ازدهر الإيمان والالتزام الديني تزدهر على أثره الأخلاق أيضاً.

و هذا يعني أنّ النظام الأخلاقي ينجح متى ما كان قائماً على الإيمان. و ذلك لأن الأخلاق تعني بالدرجة الأُولى محاربة الرغبات الجامحة. و من الطبيعي أنّ التغلّب على أهواء النفس يتطلب سنداً و دعامة قوية، والقوّة الوحيدة التي تتيح للإنسان التغلب على أهوائه النفسية هي الإيمان والاعتقاد الديني.

إنّ الإيمان باللّه يتغلغل في أعماق النفس، و يجعل الإنسان يُسلّم قياده للّه. و ليس هناك من عنصر آخر كالضمير أو حُبّ أبناء الجنس البشري له مثل هذا التأثير. والأخلاق لاتحظى بالثبات بلا قاعدة دينية و إيمانية. والنماذج التي طرحها الإسلام لتكون أُسوة، كانت تمزج بين الأخلاق والعمل، والمعتقد والعبادة، و ليس بمعزلٍ عنها.

من البديهي أنّ بعض الأُمور الأخلاقية إلزامية كإلزامية الأحكام الدينية الأُخرى، نذكر مثلاً إنّ وجوب الوفاء بالعهد(2) و أداء الأمانة(3) واجتناب الغيبة(4) لايختلف عن وجوب الأوامر الشرعية والحقوقية والفقهية؛ و بعضها قد تكون ذات طابع أخلاقي من جهة، و ذات طابع فقهي و حقوقي من جهة أُخرى. إنّ التعاليم الأخلاقية قادرة على تهذيب النفس، و كفيلة بتكامل الفرد. و على من يبغي الكمال والرقي أن يأخذ بها و يلتزم بها بدقّة.

ص:241


1- سورة التوبة (9)، الآية 103.
2- - سورة الإسراء (17)، الآية 34.
3- سورة البقرة (2)، الآية 283.
4- سورة الحجرات (49)، الآية 12.

الأخلاق الفردية

ينبغي في ضوء ما سبق ذكره تصحيح التصوّر الذي يظهر الأخلاق و كأَنّها ذات طابع اجتماعي صِرف، و أنّ جميع الإرشادات الأخلاقية تتعلق بطريقة السلوك مع الآخرين.

فالأخلاق ذات طابع فردي من جهة و ذات طابع اجتماعي من جهة أُخرى. و تدلّ التعاليم الأخلاقية بأن الأخلاق الاجتماعية لاتكفي بمفردها لصياغة شخصية الإنسان صياغة أخلاقية، و إنّما التعاليم الأخلاقية تنظم سلوك الإنسان مع الآخرين، و تنطوي في الوقت ذاته على ما يقرّب الإنسان إلى ربّه. و على هذا الأساس فإنّ مجرّد تنظيم السلوك الأخلاقي مع الآخرين لايكفي للاتصاف بالأخلاقية. فهناك قسم من السلوك الاجتماعي قد يكون حسناً و مفيداً للحياة الاجتماعية، و لكنه غير مقبول دينياً. نذكر على سبيل المثال أنّ احترام الناس و مساعدة المحتاجين منهم وتقديم العون المادّي للمعوزين، من أُمور الخير والإحسان، و هي مطلوبة، و لكن من وجهة النظر الدينية تصحّ هذه الأعمال فيما إذا كان القصد منها التقرب إلى اللّه، و أن تكون خالية من الرياء. ولو أدّى الإنسان أعمالاً كثيرة بدون قصد التقرّب إلى اللّه فلن تصل به إلى الكمال والسمو. فالأخلاق هي السلوك الحسن مع العباد، و فضلاً عن ذلك لابدّ أن تقرّب الإنسان إلى اللّه.

من الأُمور المهمّة في الأخلاق الفردية اجتناب الخبائث وتطهير النفس منها، واستحضار نيّة التقرّب إلى اللّه في الأعمال الفردية والجماعية، والإخلاص في العمل، وخشوع القلب، والذكر، و آداب الأكل والنوم، والقناعة، و حالات القلب، والشكر والصبر، والخوف والرجاء، والزهد، والتوكل، والرضا بقضاء اللّه.

و يفهم من مجموع التعاليم الأخلاقية في الإسلام أنّ من يريد الرقي والتكامل فلابّد له من نظام يسير عليه. إذ لايمكن طي الطريق والسلوك المعنوي إلى اللّه من غير عمل مُنظّم.

فهناك إرشادات و تعليمات لكل ساعة من ساعات اللّيل والنهار، و هي تعبير عن هذا المعنى و تعد بمثابة منهاج يومي، و مثل هذه التعليمات والإرشادات لاينحصر هدفها في الجانب الجماعي فقط، و إنّما وضعت لأجل اللحظات التي يعيش فيها الإنسان مختلياً بنفسه.

ص:242

السلوك الشخصي

اشارة

أحد التعاليم الأخلاقية للإسلام هو أن يكون لدى الشخص نظام و رؤية مستقبلية. إذ ينبغي للمؤمن أن ينظّم سلوكه الشخصي وفقاً للتعاليم الأخلاقية التي دعا إليها الدّين. و عليه أن لاينسى ربّه في الخلوات، و أن يكون في تفكير دائم، و أن يستفيد من عقله و فكره إلى أبعد ما يمكن. روي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنه قال: إنّ العبادة ليست في كثرة الصوم والصلاة، و إنّما في كثرة التفكير في أمر اللّه.(1)

يجب على المؤمن أن يسعى لتقوية إيمانه باللّه تعالى و أن يصل إلى حدّ اليقين.

وسيدرك عند ذاك بأن اللّه هو المدبّر لكل شؤون العالم و أنّ إرادته هي التي ترسم كل الحوادث. و حينذاك يتوكّل عليه في كل أُموره، و يرضى بقضائه. جاء في ما روي من الأحاديّث أن الإمام الصادق عليه السلام سُئل عمّا يُعرف به المؤمن، فقال: بالتسليم للّه والرضا في ما ورد عليه من سرور أو سخط.(2)

و في ضوء الحقيقة السالف ذكرها يتولد لدى الإنسان خوف من أن يقوم بعمل يؤدي إلى سخط اللّه عليه أو قطع رحمته عنه. و على صعيد آخر، بما أنّ اللّه أرحم الراحمين و يتكرّم على عباده دوماً باللُّطف والرحمة، فقد يدفعه هذا التصوّر إلى تجاهل أداء فرائض الطاعة والعبودية، و يقصّر في أداء ما يجب عليه أداؤه انطلاقاً من الأمل برحمة اللّه الواسعة. و من المحتمل طبعاً أنّ حالة الرجاء بلا خوف والخوف بلا رجاء تؤدّي إلى إبعاد الإنسان عن النهوض بمهامّه و واجباته أو زرع اليأس في نفسه. و كلا هاتين الحالتين تتعارضان مع روح التوحيد. فالمؤمن يجب أن يعيش على الدوام بين حالتي الخوف والرجاء. فقد نُقل أنّ الإمام الصادق عليه السلام سُئِل: ما كان في وصية لقمان لابنه؟ فقال: كان فيها الأعاجيب، و كان أعجب ما فيها أن قال لابنه: خِف اللّه عزّوجلّ خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذّبك، وارجُ اللّه رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك.(3)

ص:243


1- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 55، الحديث 4.
2- المصدر السابق، ص 63، الحديث 12.
3- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 67، الحديث 1.

المؤمن لايضيع وقته هباءً، و إنّما هو مشغول على الدوام بذكر اللّه و بالعبادة. و في الوقت الذي يمارس فيه أعماله اليومية لتمشية و إدارة شؤون أُسرته بشرف و كرامة، فإنه لايغفل عن ذكر اللّه. و هو يقوم بمساعيه في الحياة طاعة للّه و أداءً لِما هو مفروض عليه. و حتى ما هو مُباح من شؤون الحياة يؤدّيه لوجه اللّه و بهدف نيل مرضاته.

الإنسان قد تنتابه الغفلة و يبتعد عن المسار الإلهي في خضم الحياة اليومية، و في معترك الحياة و مجابهة حلوها و مرّها، وربّما ينزلق و ينحدر في شراك الشيطان. و لاجتناب مثل هذه المخاطر عليه أن يضع نظاماً يومياً لمحاسبة نفسه؛ فإن عثر على خطأ أو ذنب في أعماله ندم وتاب وعزم أن لايعود إليه، و إن وجد عملاً صالحاً شكر اللّه و طلب منه توفيق الاستزادة منه. روي عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: «لَيْسَ منّا مَنْ لَمْ يُحاسب نفسَهُ في كلِّ يَوْمٍ فَاِن عَمِل حَسَناً اسْتَزادَ اللّهَ و انْ عَمِلَ سَيِّئاً اسْتَغْفَرَ اللّهَ مِنْهُ وَ تابَ إلَيْه».(1)

و إن وجد في نفسه قصوراً أو تقصيراً في عمل الخير، بادر إلى تلافي ما سلف منه.

و بالإضافة إلى ما يعزم عليه من عدم تكرار الذنب و عدم الوقوع في شراك الشيطان، عليه أن يراقب نفسه و يكون بمثابة العين الساهرة على سلوكه و أفعاله مخافة الانحراف عن المسار الإلهي. فالغفلة عن هذه المهمة قد تُبعد الإنسان عن سبيل اللّه.

إنّ لكلٍّ مِن النهوض والجلوس، والمشي والنوم و ما شاكل ذلك آداباً، و كل واحدة منها تستدعي ذكر اللّه و شكره. وردت في الروايات تأكيدات على التحرّي عن حلّية الطعام والشراب، و أن يُبدأ بتناولها بذكر اسم اللّه،(2) و غسل اليدين(3) إضافة إلى الرضا بما يتناوله من الطعام. و أن يتناول لُقماً صغيرة، و يضع الطعام في فمه بيده اليُمنى، و أن يتأنى و لايتعجّل في الأكل. قال الإمام الصادق عليه السلام أطيلوا الجلوس على الموائد فإنّها ساعة لاتُحسب من أعماركم.(4) و يجب مضغ الطعام جيّداً، و بعد الانتهاء من الطعام يحمد اللّه،

ص:244


1- - المصدر السابق، ص 453، الحديث 2.
2- - الكُليني، الكافي، باب التسمية والتحميد، ج 6، ص 292.
3- المصدر السابق، باب الوضوء قبل الطعام، ص 290.
4- - الطبرسي، حسن بن فضل، مكارم الأخلاق، الفصل الثالث في آداب الأكل، ج 2، ص 305، الحديث 3.

و أن ينوي نيّة صالحة لتناول الطعام و بقصد التقوّي على طاعة اللّه. و أن لايكثر من الطعام، و يقوم عنه قبل أن يشبع منه. قال الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام في ذم كثرة الأكل: إنّ أبغض الأشياء إلى اللّه البطن المملوء.(1) و يكره أن يأكل الشخص زاده وحده. فقد كان من سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنه لم يأكل وحده.(2)

و عند أكل الطعام مع جماعة يُكره النظر إلى طعام الآخرين. و إذا كان على مائدة الطعام أشخاص من ذوي الفضل لاينبغي البدء بالأكل قبل أن يبدأوا. و ينبغي أيضاً مؤاكلة الآخرين و مراعاة حالهم و عدم رفع اليد عن الطعام قبلهم، و يستحسن الابتعاد عن التصنّع والمجاملات الزائدة.

و كما تلاحظون فإنَّ كل هذه الارشادات والآداب والمستحبّات والمكروهات قد وردت بشأن الطعام وحده، فهكذا الحال أيضاً بالنسبة إلى بقية السلوك الفردي؛ إذ إنّ له آدابه، و يجدر بالمؤمن التحلّي بهذه الآداب في سلوكه الشخصي.

الإخلاص

الإخلاص هو تطهير النية والعمل عن أية شائبة مناقضة للتوحيد، والإخلاص سرّ من الأسرار الإلهية توهب للمحبوبين من العِباد. و هذه الحالة يجب أن تعم جميع الشؤون الفردية والاجتماعية، و لكن بما أنّ مثواها و مقرّها ذات الإنسان، فهي حالة فردية تماماً.

للإخلاص مكانة رفيعة بين التعاليم الدينية، و عليه يتوقف أحياناً تأثيرها وصحّتها. و له من التأثير درجة بحيث أنّ مَن يُخلص للّه أربعين يوماً تثبت الحكمة في قلبه و ينطق بها لسانه،(3) والاخلاص يؤدي أيضاً إلى عجز إبليس عن إغواء الإنسان.(4)

و بالإخلاص - كما يقول أميرالمؤمنين عليه السلام - يكون الخلاص.(5) ثم إنّ قبول الأعمال عند اللّه و حتى الصالح منها، مشروط بإخلاص النيّة فيها للّه. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه

ص:245


1- - الكُليني، الكافي، ج 6، ص 270، الحديث 11.
2- الطبرسي، مكارم الأخلاق، ص 32.
3- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 16، الحديث 6.
4- سورة الحجر (15)، الآية 40.
5- - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 8، مقدمة العبادات، ج 1، ص 59، الحديث 2.

قال: «قال اللّه عزّوجلّ: انَا خَيْرُ شريكٍ؛ مَنْ اشْرَكَ مَعِي غَيْري في عَمَله لَمْ اقْبَلْهُ الاّ ما كان لي خالِصاً».(1) إنّ أفضل الأعمال إن كان فاقداً للنيّة لا خير فيه و لا فائدة منه، و حتى من يقتلون في ميادين الجهاد قيل فيهم: يؤتى يوم القيامة بمن قُتل في سبيل اللّه، فيقال:

ما فعلت، فيقول: قاتلتُ في سبيل اللّه حتى قُتلت، فيقال: بل قاتلت ليُقال فلان شُجاع جريء.(2) و هذا يعني أنّ المعيار في قبول الأعمال حتى الجهاد في سبيل اللّه رهين بأن يكون القصد فيه للّه. فإن كان القصد للّه فهذا العمل يبلغ بصاحبه أعلى الرتب، و إلّافلا ينال أي مقام حتى و إن قتل في ساحة المعركة.

العُجب

العُجب: هو أن يكون المرء مغتراً أو معجباً بذاته و بأفعاله و بخاصّة العبادية. و كل مَن يشعر بالعلو والتفوّق على غيره و يعجب بنفسه يُقال دخله العُجب. و مثل هذه الحالة تُحدث لدى الإنسان الكِبْر. و إذا كان الإنسان يستشعر في ذاته أفضلية على غيره و ظهر ذلك في سلوكه، فذلك يُسمّى كِبْراً، و قد يصل إلى حد الاستكبار. و هذا طبعاً من الأخلاق الذميمة.

و حتى لو كَتم هذا الشعور داخل ذاته، فهذا مذموم أيضاً؛ لأن مثل هذا الشعور يحجبه عن السعي إلى الكمال. قال الإمام الصادق عليه السلام: «من دَخَلَهُ العُجب هلك».(3) و ذكر الإمام محمد الباقر عليه السلام ثلاثة أشياء، واعتبرها من دواعي هلاك الإنسان و هي: البخل، والهوى، و إعجاب المرء بنفسه.(4)

و نظراً إلى ما ينطوي عليه العُجب من خطر شديد على المؤمن، فقد حذّر منه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً: لولا الذنب خير للمؤمن من العُجب ما خلّى اللّه بين عبده المؤمن و بين ذنب أبداً.(5)

ص:246


1- - المصدر السابق، ص 61، الحديث 9.
2- - النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 12، مقدمة العبادات، ج 1، ص 111، الحديث 7.
3- - الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، باب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ج 1، ص 101، الحديث 8.
4- المصدر السابق، ص 103، الحديث 13.
5- المصدر السابق، ص 104، الحديث 19.

العُجب يوقع الإنسان في وهم الصلاح والتقوى، و هذا مما يُبعده طبعاً عن سبيل اللّه.

و مثل هذه الحالة تثير طمع الشيطان فيه، و يستدرجه إلى منزلقات بعيدة عن ربّه. و وجود مثل هذه الحالة في الإنسان يُطمع الشيطان فيه و بالنتيجة يبتعد عن ربّه و يسوء ظنّه بسائر عباد اللّه. و هذا يختلف طبعاً عن البهجة التي تنبعث في نفسه على أثر توفيقه في عبادة اللّه.

إنّ الجهل والغفلة يدفعان الإنسان إلى الغرور. والصحة، والسلامة، والذكاء، والمال، والجاه، والحسب والنسب، والأولاد، والقدرات، بل و حتى الأوهام أحياناً تكون مدعاة للغرور وسوق الإنسان إلى مرتع الشيطان. وهنا ينبغي الانتباه والابتعاد عن الغفلة.

الجاه و حُبّ الشهرة

إنَّ حبّ الشُهرة رغبة نابعة من ذات الإنسان. و إذا لم تلجم هذه الرغبة تتمخض عنها نتائج خطيرة؛ إذ إنها تعيقه عن المسير نحو الغاية الإلهية، و تلقيه في حبائل الشيطان. فإنّ مَن يروم الشهرة يسعى إلى أن يُعرف بين الناس بأي ثمن كان. ثم إنّ هذه الرغبة تقوده تدريجياً إلى محاولة إخضاع سائر الناس لطاعته بالقوّة. و من هنا ينبثق الجور والطغيان. لا مانع طبعاً إذا جاءت الشهرة بشكل تلقائي و لوجه اللّه، و إذا استثمرت لمقاصد إلهية. إنّ الجاه والصيت من مصائد إبليس و يجب الحذر منه، فقد قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: كفى بالرجل أن يُشار إليه بالأصابع.(1)

و لمّا كان الصيت والشهرة يجعلان الإنسان عرضة للكثير من المنزلقات فلابّد من اجتنابها و ترجيح أن يكون مغموراً بين الناس. فقد ورد في مناجاة عن الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام قال فيها: اللهم لاترفعني في الناس درجة إلّاحططتني عند نفسي مثلها، و لاتحدث لي عزّاً ظاهراً إلّاأحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها.(2) و جاء في حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: حُبّ المال والجاه ينبتان النفاق في القلب.(3) و قال

ص:247


1- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 51 من أبواب جهاد النفس، ج 11، ص 387، الحديث 17.
2- - الصحيفة السجّادية، دعاء مكارم الأخلاق، الرقم 20، ص 100.
3- - الشهيد الثاني، كشف الريبة عن أحكام الغيبة، ص 93.

الإمام الصادق عليه السلام في هذا المعنى: ملعون من ترأس، ملعون من هم بها، ملعون من حدّث بها نفسه.(1)

حُبّ الدنيا

الأجواء التي نعيش فيها و تسمّى الدنيا، هي عبارة عن إمكانات و مقدّرات مادية.

والمقدّرات وسائل الحياة و لايمكن استمرار الحياة بدونها. و هي كلها نعم إلهية يضعها اللّه تحت تصرّف العباد مدّة من الزمن. و وجودها ضروري و لا مندوحة منه، و لكن في الوقت نفسه ورد في التعاليم الدينية الكثير في ذم الدنيا واللّهاث وراءها والحرص عليها والتحلّق بها؛ لأن هذه السلوكية تعيق الإنسان أحياناً عن السعي نحو الكمال. فحلاوة الدنيا في نظر الإنسان تجعله شديد التعلّق بها و غير مستعد للخروج منها. و حبّ الدنيا يوقع الإنسان في المنزلقات، و يبعده عن أهدافه الإنسانية السامية. فقد جاء في كلام للنبي عيسى عليه السلام: طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلّما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى يقتله.(2)

و هناك سؤال قد يتبادر إلى أذهان البعض و هو: هل الدنيا غير ذات قيمة حقّاً؟ و لماذا كل هذه المذمة لها والحث على اجتنابها؟ والجواب عن ذلك هو أن للدنيا معنيين: «الدنيا بمعنى النعم الإلهية»، و «الدنيا بمعنى التعلق بها والانشداد إليها». نأتي هنا على شرح كل واحد من هذين المعنيين على حدة:

1 - إن كان المقصود من الدنيا هي مخلوقات هذا العالم و ما فيه مِن نِعَم يستفيد منها الإنسان و يتنعم بها فلا بأس بها. فالدنيا موضع يعيش فيه الناس، و هي موضع تعليم و تربية وعبادة اللّه و بلوغ الكمال. و هذا المعنى للدنيا شيء جيّد، بل لولاها لَما كان هناك إيمان، وتقوىً، و كمال، بل لَما كان هناك معنىً للآخرة.

روي أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام سمع رجلاً يذمّ الدنيا فقال له: «أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُغْتَرُّ

ص:248


1- الكُليني، الكافي، ج 2، ص 298، الحديث 4.
2- ورام بن أبي فراس، مجموعة ورام، ج 1، ص 149.

بِغُرُورِهَا الْمَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا أَ تَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْك مَتَى اسْتَهْوَتْك أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ. ثم قال: إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَ دَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَ دَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ وَ مُصَلَّى مَلائِكَةِ اللَّهِ وَ مَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ وَ مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ وَ رَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ».(1)

و ممّا روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال في وصف الدنيا: نعم العون الدنيا على الآخرة.(2) و قال أيضاً ليس منا مَن ترك دنياه لآخرته، أو ترك آخرته لدنياه.(3)

2 - و أمّا إذا كان المراد من الدنيا، التعلّق بها والانشداد إليها والشره إلى ما فيها من زينة و طعام و شراب و مال و جاه، بحيث يتخذ المرء من هذه الأُمور غاية يسعى إليها، فهذا هو الشيء المذموم الذي ينبغي اجتنابه؛ لأنّ مثل هذه التعلّقات تجعل المرء في غفلة عن ذكر اللّه، و عن الغاية الأساسية التي جُعلت له و هي بلوغ الكمال و بناء الآخرة.

و بعبارة أُخرى: إذا نُظر إلى الدنيا كمقدمة و وسيلة و مزرعة للآخرة، فهي شيء قيّم و لا مذمّة لها، و لكن إذا اتّخّذَ أحد من الدنيا غاية و هدفاً كالمسافر الذي يشغله النظر إلى مشهد جميل عرض له في الطريق عن الوصول إلى المقصد، أو يستغرق في الانشغال في المنازل التي يمرّ بها حتى كأَنّه ليس بمسافر و كأنّ تلك هي داره. ويُفهم في ضوء ما ذكر أنّ الدنيا المذمومة هي ما تُتخذ هدفاً بالمقارنة مع الآخرة. قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «مَنْ ابْصَرَ بِها بَصَّرَتْهُ وَ مَنْ ابْصَرَ الَيْها اعْمَتْهُ»(4) و على هذا فإنّ الانتفاع من الدنيا في هذا السياق والتنعّم بنعمها غير منهي عنه، بل بالعكس هناك حث عليه و ترغيب فيه، كما قال اللّه عزّوجلّ في كتابه الكريم: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) .(5)

ص:249


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 131، ص 492.
2- الصدوق، من لايحضره الفقيه، باب المعايش، ج 3، ص 156، الحديث 3567.
3- المصدر السابق، الحديث 3568.
4- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة 82، ص 106.
5- سورة الأعراف (7)، الآية 32.

الزهد

الزهد هو الاستهانة بالدنيا و عدم الرغبة فيها. و قد وردت تأكيدات كثيرة على الزهد.

فمن ذلك قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إزهد في الدنيا يحبّك اللّه»(1) و قال الإمام الصادق عليه السلام:

«مَنْ زَهِدَ في الدُّنيا، اثْبَتَ اللّهُ الْحِكْمةَ في قَلْبِه».(2) والزهد مقام رفيع يبلغ بالإنسان درجات عليا من المعنوية. و قال الإمام علي عليه السلام في وصف الزهد: «الزهد ثروة».(3)

و حقيقة الزهد هي الإعراض عن شيء إلى ما هو أفضل منه. و هذا يعني أنّ الزهد لايعني الإعراض عن كل شيء. و لايعني الشعث و لبس الأطمار. و لا هو التشبّه بالمتسوّلين والتظاهر بالمرض والغول. و إنّما الزهد، هو عدم الانكباب على الدنيا و عدم التعلّق بها.

الزاهد من يعيش في هذه الدنيا و يتمتع بنعيمها، و لكنّه يرى نفسه كالمسافر الذي لا تطول إقامته فيها، و عليه أن يستعد للسفر إلى مقصد آخر. والزاهد من يعيش في هذه الدنيا و بما فيها من نعم و مقدّرات من غير أن يتعلّق بها إلى الحد الذي يعيقه عن مواصلة سفره. جاء في رواية عن إمام معصوم قال فيها: «اِعمَلْ لِدُنياك كاَنّكَ تَعيشُ ابَداً واعْمَلْ لِآخِرَتِك كانّكَ تَموتُ غَداً».(4)

هناك فارق أساسي بين الزهد والرهبانية. الرهبانية بدعة مذمومة. و قد تحدّث القرآن الكريم عن الرهبانية واصفاً إياها: (وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) ؛ (5) لأن الرهبانية تعني الإعراض عن كل شيء، بينما لم يحرم الإسلام الزينة والرزق الطيّب الحلال، بل حثّ عليها و دعا إليها،(6) و لكن إذا كان الانشغال

ص:250


1- - «ازهد فى الدنيا يُحبَّك اللّهُ»، سنن ابن ماجه، ج 2، ص 1374، الحديث 4102.
2- - الكُلَيني، الكافي، ج 2، ص 128، الحديث 1.
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 4، ص 469.
4- النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الباب 25 من أبواب الطهارة، ج 1، ص 146، الحديث 1؛ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، باب المعايش، ج 3، ص 94، الحديث 4.
5- - سورة الحديد (57)، الآية 27.
6- - سورة الأعراف (7)، الآية 32.

بالدنيا وزينتها و نعيمها مدعاة للتوقف عن التكامل، فهو يعتبر في مثل هذه الحالة مخالفاً للزهد. و هذا ما حذّر منه القرآن الكريم في الآية الشريفة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) .(1)

قال المفسّرون: إنّ النبيّ جلس يوماً فذكّر الناس و وصف القيامة، فرقَّ الناس و بكوا.

واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار، و يقوموا الليل، و لايناموا على الفرش، و لايأكلوا اللحم، و لايقربوا النساء والطيب، و يلبسوا المسوح، و يرفضوا الدنيا، و يسيحوا في الأرض، وهمّ بعضهم أن يَجُبَّ مذاكيره. فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأتى دار عثمان، فلم يصادفه، فقال لامرأته: أحق ما بلغني عن زوجك و أصحابه؟ فقالت: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك. فانصرف رسول اللّه.

فلمّا دخل عثمان، أخبرته بذلك، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو و أصحابه، فقال لهم رسول اللّه:

ألم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا و كذا؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و ما أردنا إلّاالخير.

فقال رسول اللّه: إني لم أؤمر بذلك. ثم قال: إن لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا، فإني أقوم و أنام، و أصوم و أفطر، و آكل اللحم والدسم، و آتي النساء، و من رغب عن سنّتي، فليس منّي. ثم جمع الناس وخطبهم، و قال: ما بال أقوام حرّموا النساء، والطعام، والطيب، والنوم، و شهوات الدنيا؟ أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسيسين و رهباناً، فإنه ليس في ديني ترك اللحم، و لا النساء، و لا اتخاذ الصوامع، و إن سياحة أُمتي الصوم، و رهبانيتهم الجهاد، اعبدوا اللّه، و لاتشركوا به شيئاً، و صوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد: شدّدوا على أنفسهم، فشدّد اللّه عليهم، فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع. فأنزل اللّه الآية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا) .(2)

(3)

و قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «إنّ أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْد».(4) و إذا كان زاهداً في الدنيا

ص:251


1- سورة المنافقون (63)، الآية 9.
2- سورة المائدة (5)، الآية 87.
3- الطبرسي، مجمع البيان، ج 2، ص 235 و 236.
4- - الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة 28، ص 472.

لا يصح منه أن يظهر ذلك؛ لأن الزهد عدم رغبة، واظهار هذه الصفة رياء و دليل على التعلّق بالدنيا. و يجب أنّ يكون الزهد بالاختيار لا بالإجبار. فإنّ الزهد في الدنيا يجعل المرء يستهين بالمصائب(1) و قد قيل: لا زهد كالزهد في الحرام.(2)

القناعة

القناعة هي الاكتفاء بمقدار الحاجة. و أصل هذه الكلمة من القناع الذي يُغطّى به الرأس، و تُطلق كلمة قانع على الفقير الذي يستر فقره على اعتبار أنه يقنّعه.(3) و تأتي كلمة القناعة في مقابل الطمع بمال الغير. والغاية من هذا المبدأ الأخلاقي هي أن يجتنب الإنسان الطمع والحرص، و أن يكتفي في منهج حياته بما هو مُتاح له من امكانيات و مقدّرات محدودة، و لكن بعض الناس ممّن لا قناعة لهم يوقعهم طمعهم في الذل والهوان. بينما القناعة تجعل حياة الإنسان هادئة و خالية من الهواجس والمنغّصات.

قال ا