سید المرسلین صلی الله علیه و آله : دراسه موضوعیه لحیاه الرسول الاکرم...

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar

عنوان و نام پديدآور:سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله: دراسه موضوعیه لحیاه الرسول الاکرم.../ جعفر السبحانی؛ بقلم جعفر الهادی.

مشخصات نشر:قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1441ق.= 1399.

مشخصات ظاهری:2ج.

شابک:دوره:978-964-357646-2 ؛ ج.1:978-964-357647-9 ؛ ج.2:978-964-357648-6

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

موضوع:محمد(ص)، پیامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11ق.

موضوع:Muhammad, Prophet, d. 632

موضوع:غزوات

موضوع:Ghazavat

موضوع:سنت نبوی

موضوع:*Wonts of the Prophet

موضوع:اسلام -- تاریخ -- از آغاز تا 11ق

موضوع:Islam -- History -- To 632

شناسه افزوده:هادی، جعفر، 1325 - 1399.

شناسه افزوده:Hadi, Ja’far

رده بندی کنگره:BP22/9

رده بندی دیویی:297/93

شماره کتابشناسی ملی:6181606

وضعيت ركورد:فیپا

ص :1

المجلد 1

اشارة

سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله: دراسه موضوعیه لحیاه الرسول الاکرم...

جعفر السبحانی؛ بقلم جعفر الهادی

ص:2

هويّة الكتاب

سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم

دراسة موضوعية لحياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وما رافقها من أحداث تاريخية ودينية وسياسية وعسكرية واجتماعية

محاضرات

العلّامة المحقّق

الشيخ جعفر السبحاني

بقلم

جعفر الهادي

الجزء الأوّل

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:3

سبحانى تبريزى، جعفر 1308 -

سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم / تأليف جعفر السبحاني؛ تعريب جعفر الهادي. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1399.

2 ج. (1. VOL ) 9-647-357-964-978 ISBN

(2VOL.SET) 2-646-357-964-978 ISBN

فهرست نويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زير نويس.

1. محمد صلى الله عليه و آله و سلم، پيامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11 ق -- سرگذشت نامه. الف. هادى، جعفر، 1325 - مترجم. ب. مؤسسه امام صادق عليه السلام. ج. عنوان.

9 س 2 س/ 22/9 BP 93/297

1399

اسم الكتاب:... سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم / ج 1

المؤلف:... العلّامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني

بقلم:... الأُستاذ الشيخ جعفر الهادي

الموضوع:... السيرة النبوية

الطبعة:... الأُولى

تاريخ الطبع:... 1399 ه. ش / 1441 ه ق/ 2020 م

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

القطع:... وزيري

عدد النسخ:... 1000

التنضيد والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1072 تسلسل الطبعة الأُولى: 507

حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة، فلا يجوز شرعاً استنساخ أو نشر اصدارات

المؤسسة إلّابعد التنسيق مع المؤسسة واستحصال الموافقة الرسمية

توزيع: مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

? 37745457؛ 09121519271

www.shia.ir

www.tohid.ir

http://www.imamsadiq.org

ص:4

بسم الله الرحمن الرحيم

ص:5

ص:6

السيرة المحمَّدية مدرسة الأجيال

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» .(1)

النبيُّ الأكرم «محمّد» صلى الله عليه و آله و سلم أُسوةٌ للمسلمين... أُسوةٌ يقتدون بها في جميع مناحي حياتهم: الفردية والاجتماعية، والسياسية... أُسوة إلى الأبد... في كلّ زمان و مكان، في كلّ عصر و مصر، لجميع المسلمين من كلّ لون ولغة.

ولكن كيف يتأسّى المسلمون - في مختلف الأجيال والأدوار - برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكيف يقتدون بسيرته المثلى، ويهتدون بهديه العظيم؟

إنّ هذا لا يتسنّى إلّاإذا كانت حياة رسول الإسلام بجميع خصوصياتها، وتفاصيلها، وفي جميع مجالاتها ونواحيها، مدوّنة مسجّلة، بل ومحلّلة تحليلاً دقيقاً وعميقاً.

من هنا فإنّ الضرورة تقضي بوجود تاريخ مدوَّن، مشفوع بالتحليل الدقيق، والدراسة الموضوعية لشخصية وسيرة سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم في كافّة مجالاتها الشخصية والرسالية والسياسية والعسكرية.

حقّاً إنّ في حياة رسول الإسلام العظيم «محمّد بن عبداللّه» صلى الله عليه و آله و سلم - كما هو واضحٌ لمن تتبّعَ وتصفّحَ - أُموراً دقيقة، ولكن بالغة العظمة في مداليلها ومعانيها، بالغة الأهميّة في معطياتها ودروسها.

فرسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم هو خاتم الأنبياء، ورسالته وشريعته خاتمة الرسالات

ص:7


1- . الأحزاب: 21.

والشرائع ونهضته هي النهضة الكبرى الّتي مهّدَ لها الأنبياء السابقون، وقد فتحت هذه النهضة الإلهية صفحة جديدة في حياة البشرية، وغيّرت مسار التاريخ الإنساني تغييراً جذريّاً، وأسّست حضارة كبرى لا تزال أمواجها - رغم مرور أربعة عشر قرناً - حيّة نابضة، فاعلة، تهزُّ الضمائر، وتتفاعلُ مع العقول.

ولهذا فإنَّ السيرة المحمّدية مشحونةٌ بالمناهج والدروس، زاخرة بالبصائر والعبر، بقدر ما هي مليئة بالدقائق والحقائق، واللطائف والأسرار.

حقّاً إنّ حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بحاجة إلى تعمّقٍ جديدٍ كلّما تجدّد الزمن، وكلّما تقدّمت العلوم والمعارف، وتطوّرت الحياة، وانفتحت أمام البشرية آفاق جديدةٌ في شتّى الأصعدة والمجالات.

ولا شكّ أنّ هذه المهمّة ليست عملاً بسيطاً ومهمّة سهلة، وخاصّة مع ما عليه الكثير من المصادر التاريخية الأُولى من تصحيف أوتحريف أوتشويه للحقائق، أو تغيير للأحداث.

فإنّ هذه المهمّة تحتاج - في ما تحتاج إليه - إلى ثلاثة شروط أساسية:

1. عقلية متفتّحة، متدبّرة، نافذة، متأنّية.

2. جهود كبيرة، وتتبّع واسع، وتمييز للصحيح عن السقيم، والدخيل عن الأصيل.

3. معرفة بجوانب تتّصل بالسيرة المحمَّدية اتّصالاً وثيقاً كالمعرفة بمكانة سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم في القرآن الكريم.

فمع توفّر هذه الشروط يمكن الحصول على صورة نقيّة، ومفيدة للسيرة المحمَّدية المباركة، صورة تتّفق مع روح القرآن، وتلتقي مع الواقع، وتصلح للاقتداء، والاهتداء، وإقتفاء الأثر.

ص:8

ولقد توفّرت هذه الشروط - وللّه الحمدُ - في أُستاذنا العلّامة المحقّق سماحة آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني، حفظه اللّه.

فهو المعروف بسلسلته القرآنية «مفاهيم القرآن» الّتي تكشف عن إحاطة كبيرة بكتاب اللّه العزيز، وإلمام قليل النظير بمفاهيمه. كما عرف بأعماله الفكرية، الناضجة المتنوعة الكاشفة عن عقلية متفتّحة واعية ومعاصرة.

ولهذا كان خيرَ مَن قام في عصرنا الحاضر بدراسة السيرة المحمَّدية الطاهرة العبقة، فكان هذا العمل التاريخي المبارك الّذي توفّرت فيه المستلزمات الثلاثة الآنفة الذكر: العقلية المتفتّحة، والمعرفة الواسعة بالقرآن الكريم وخاصّة في ما يتّصل بالرَّسول الأكرم، إلى جانب التتبّع الواسع والاستقصاء الكبير لمواقع العبرة والإسوة في حياة خاتم الأَنبياء وسيّد المرسلين.

ولا أجدني - في هذا التقديم العابر - بحاجة إلى ذكر نقاط القوّة الكثيرة في هذه الدراسة المستوعبة لشخصية وحياة رسول الإسلام، بل أرى أن يحاول القارئ الكريم بنفسه الاطّلاع على ذلك حتّى لا يفوته شيء ممّا لا يفوّت، وسيقف بنفسه أيضاً على جسامة ما بذل في هذه الدراسة من جهد، وروعة ما ضُمِّنت من تحليل، وأهمية ما احتوته من حقائق.

وفي الختام أسأل اللّه العلي القدير أن يتقبّل منّا جميعاً هذا الجهد، ويجعله ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إنّه خير معين.

جعفرالهادي

30 شعبان 1409 ه

قم المقدّسة

ص:9

ص:10

مقدّمة المحاضر

اشارة

التاريخُ في أَعظَم ملاحمه

يُحاولُ الإنسان دائماً أن ينظر إلى كلّ قضيّة من القضايا من نافذة الحسّ، وأن يدرسها من خلال الرؤية الحسيّة الماديّة، لأنَّ أوثقَ المعلومات لديه هي تلك الّتي تتألّف من هذه «المعلومات الحسّية» ولهذا فإنّ المسائل الّتي تحظى بأَدلّة حسّية أكثر، تكسب في العادة قسطاً أكبر من ثقة الإنسان وتصديقه.

وعلى هذا الأساس عمَدَ العالم اليوم إلى تأسيس آلاف المختبرات الضخمة للتحقيق في شتّى القضايا العلمية، ويعكف العلماءُ في هذه المختبرات على دراسة وتحليل الأُمور المتنوّعة بأُسلوب خاص وطريقة معيّنة.

ولكن هل يمكن - يا تُرى - أن تدخلَ المسائلُ والقضايا الاجتماعية في نطاق التجربة المختبرية، وتخضع للمجهر والميكروسكوب، ليمكن الحكم في هذه المجالات من خلال ذلك؟!

فمثلاً؛ هل يمكن أن نعرفَ عن طريق التجارب المختبرية ما يؤدّي إليه الاختلافُ والتشرذم في المجتمع الواحد، وما يصيب شعباً من الشعوب أو أُمّة من الأُمم من هذا الطريق؟

أم هل يمكن تقييمُ ما تنتهي إليه جهودُ المستعمرين، أو ما يؤول إليه الظلمُ والحيف، من خلال تجربة حسّية؟

أم هل يمكنُ الوقوفُ على نتائج «الاختلاف الطبقيّ»، «والتمييز العنصريّ» في المجتمع عن طريق التجربة المختبرية؟

في الإجابة عن كلّ هذه الأسئلة يجب أن نقول: كلّا مَعَ الأسف.

ص:11

وذلك لأنَّه لا توجَد للقضايا الاجتماعية - رغم أهميّتها القصوى - مثل هذه المختبرات، وحتّى لو أمكن توفير مثل هذه المختبرات المناسبة لتحليل وتقييم ودراسة القضايا الاجتماعية، فإنّ إنشاءها وإيجادها يكلِّف نفقات باهضةً، وتستدعي جهوداً عظيمة.

ولكنَّ الأمر الّذي في مقدوره أن يقلّل من حجم هذا النقص إلى حدّ كبير هو أنّنا نملك اليوم شيئاً يُسمّى ب: «تاريخ الماضين» والّذي يشرح لنا ما كان عليه البشرُ - أفراداً وجماعات - طوال آلاف السنين من الحياة على هذه الأرض، كما ويعكس مختلف الذكريات والخواطر عنهم، من إنتصارات وهزائم، ونجاحات وانتكاسات، ويوقفنا بالتالي على كلّ ما وقع في حياة الأُمم والشعوب من حوادث مرّة أو حلوة.

إنَّ التاريخ يذكر لنا: كيف وُجدَت الحضارات المشرقة والمدنيات العظمى في العالم، وكيفَ سلكت - بعد مدّة - طريق السقوط والانقراض، حتّى أنّها قد مُحيت عن صفحة الوجود بالمرّة، وأصبحت خبراً بعد أثر، وبالتالي ما هي العوامل الّتي كانت وراء سيادة الشعوب ثم اندحارها.

إنّ حياة الماضين وتاريخهم يحتفظ لنا في صفحاته بقسط كبير ومهمّ جداً من هذه الحوادث، ولهذا صحّ أن يقال: «التاريخ مختبر الحياة العظيم»، فبمعونة التاريخ يمكن تقييم مختلف القضايا الاجتماعية، ودراستها واستخلاص النتائج والعبر المفيدة منها.

عندما يلتقي العالم الحاضر بالعالم الغابر

وإنَّ من حُسن الحظ أنّنا لم نكن أوّل من حطَّ قدمه على هذا الكوكب، فهذه الأرضُ بسهولها وشعابها العريضة، وتلك السماء بنجومها وكواكبها الزاهرة شهدتا ملايين الملايين من البشر الذين سكنوا الأرض من قبلنا، وشهدتا أفراحهم

ص:12

وأتراحهم، همومهم وغمومهم، وحروبهم، ومصالحاتهم، وكلّ ما رافق واكتنف حياتهم من حبّ وبغض وظلمات وأنوار، وارتقاء وهبوط، إلى غير ذلك من شؤون وشجون الحياة البشرية الّتي يزخر بها تاريخ الشعوب والأقوام والأُمم.

صحيح أنّهم قد اختفوا مع الكثير من أسرار حياتهم، وغابوا جميعاً - أشخاصاً وأسراراً - في بحر من النسيان وانسدل عليهم الستار، إلّاأنّ قسطاً مُلفِتاً للنظر وجملة يُعتد بها من تلك الأُمور إمّا أنّها قد دُوّنت بأيدي أصحابها، أو لا تزال طبقاتُ الأرض وبطون التلال تحتفظ بها في ثناياها وطيّاتها، كما ولا تزال ذات الأطلال الصامتة - في ظاهرها - تشكل أضخم متحف، وأغنى معرض، وأكبر مختبر، يعيد لنا شريط التاريخ ويحكي وقائعه وأحداثه، ويشرحُ رموزه وأسراره.

إنَّ مُطالعة تلكم الصفحات من تاريخ الأُمم الغابرة في الكتب، أو في الأطلال العظيمة، أو في ما يعثر عليه المنقِّبون في بطون التلال، وثنايا الأرض تعلّمنا أُموراً كثيرة، وتضيف إلى عُمرنا عُمراً جديداً وزمناً إضافياً، لا يُستهان به وذلك بما تقدّمُ لنا مِنَ الخبرة والعبرة، والهدى والبصيرة.

أليست حصيلة العمر ما هي إلّاما استفاده المرء من تجارب؟ ألا يجعل التاريخ خلاصة أفضل التجارب تحت تصرّفنا؟

ولقد أشار الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في وصية لولده إلى هذه الحقيقة حيث قال:

«أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ؛ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ؛ بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى

ص:13

إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ».(1)

ولكنّ المؤسف أن كُتُب التاريخ الموجودة الآن تعاني من نقص كبير من حيث الإشارة إلى العبر والدروس الاجتماعية المفيدة، لأنّ هذه المصنّفات لم تدوَّن لأَجل هذا الغرض، ولهذا أُغفِلَ فيها - في الأغلب - كلّ ما هو مؤثرٌ في كشف الحقائق التاريخية، وإبراز العلل الكامنة وراء الحوادث المتنوّعة والوقائع المختلفة، وبالتالي فقد تجاهلت تلك الكتب والدراساتُ ما هو المفتاح الطبيعيّ لحلِّ الرُّموز الكبرى في مسيرة التاريخ البشري، واعتنتْ - بدلاً عن ذلك - بالقضايا التافهة.

لقد تصدّى كثيرٌ من المؤرّخين لتدوين وتسجيل القضايا التاريخية، تارة بهدف التسلية وأُخرى بدافع إبراز الفضل لأقوامهم أو طوائفهم، وإظهار تفوّقها على الأقوام والطوائف الأُخرى، وثالثة بدافع الحب والبغض، أو التعصّب لهذا أو ذاك ولهذا عجزت هذه المؤلّفات والكتب عن حلّ أيّة مشكلة، وتبديد أيّة حيرة، بل هي تزيد المرء ضلالاً إلى ضلال، وحيرة إلى حيرة!

ولكن رغم كلّ هذا يستطيع أُولو النباهة والبصيرة، وأصحاب الفهم والتحقيق أن يتوصّلوا - من خلال مطالعة هذه المؤلّفات التاريخية على ما فيها من عيوب ونقائص، ومع ما فيها من أساطير عن الشعوب المختلفة - إلى ما يساعدهم على كشف الكثير من أسرار وخلفيّات القضايا والأُمور المتعلّقة بالشعوب الماضية، تماماً كما يفعل الطبيبُ الحاذق، أو القاضي البارعُ الّذي يمكنهما من خلال الوقوف على القرائن الجزئية المتفرّقة، التوصّل إلى اكتشاف نوع «المرض» أو حالة «المتّهم» الحقيقية، وما يعاني منه في واقعه النفسي.

***

ص:14


1- . نهج البلاغة: قسم الكتب برقم 31.

حياة العظماء والخالدين

إنَّ أعظم صفحات التاريخ قيمة هي تلك الّتي تعكس لنا حياة العظماء وسيرة الرجال الخالدين، وتبحث عنها بصدق وأمانة وموضوعية.

فإنَّ لحياتهم أمواجاً خاصّة، كما أنّها زاخرة بأنواع الحوادث.

لقد كانوا عظماء حقّاً، وكذلك كان كلّ ما يرتبط بهم، ومن ذلك تاريخهم، إنّه شيء عظيم يستحقّ التأمّل والتدبّر، فهو يتّسِمُ بِلمعان يلفت الأنظار، ويخلب الألباب وإنّه غني بالعظات والعبر، زاخرٌ بالبصائر والدروس إلى درجة لا توصف.

إنّهم معجزةُ الخليقة بلا ريب، وإنّ حياتهم لهي - في الحقيقة - ملحمة التاريخ الكبرى، وساحة البطولات الخالدة، ومسرح الحماسات العظمى، الحيّة النابضة على مرّ العصور، والأيام.

لقد كان أُولئك العظماء يعيشون في الأغلب على خطّ الثورات والتغييرات الاجتماعية الأَوّل، وبعبارة أصحّ: كانت الثورات والتحوّلات الاجتماعية تجد مصداقيتها في حياتهم وتتجسّد في مواقفهم، ولهذا كانوا يشكّلون - في واقع الأمر - حلقة الاتّصال بين الحضارات المختلفة المتناقضة، وكانت حياتهم الحافلة بالأحداث شاهدة للألوان المختلفة والمشاهد المثيرة المتنوّعة.

***

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وحياة حافلة بالأحداث

لم تتّسم حياة أحد من الرجال التاريخيّين والعظماء الخالدين - من حيث وفرة الأحداث، وكثرة المواقف الخالدة، وشمولية الوقائع - كما اتّسمت به حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ولا اتّصفت شخصية بمثل ما اتّصف به ذلك النبيّ العظيم.

فلم يستطع أحدٌ سواه أن يؤثِّر في بيئته، ثم في جميع العالم، وينفذ إلى

ص:15

أعماق الأعماق بمثل السرعة والسعة الّتي حصلت له صلى اللّه عليه وآله.

ولم يوجد أيُّ واحد منهم قط من مجتمعه المنحطّ المتخلّف، حضارة بتلك العظمة والشموخ، كما فَعلهُ رسولُ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم، وتلك حقيقة يقرّ بها كلّ مؤرّخي الشرق والغرب.

إنّ مطالعة عميقة لسيرة وحياة هذا الإنسان العظيم، قادرة على أن تعلّمنا الكثير الكثير، وأن توقفنا على مشاهد متنوّعة في غاية النفع ومنتهى الفائدة.

منها: الأَيام الأُولى مِن بناء الكعبة المعظّمة، واستيطان أسلاف النبيّ الكريم «مكّة»، وهجوم عسكر الفيل الفاشل لهدم بيت اللّه المعظّم، والأحداث والملابسات المرافقة لمولد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.

ومنها: المشاهد المحزنة والأليمة، كوفاة «عبداللّه» و «آمنة» والدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مطلع حياته الشريفة بتلك الكيفية المؤلمة.

ومنها: المشاهد العظيمة والمهيبة والحافلة بالأسرار مثل الأيام الأُولى من نزول الوحي، وما جرى في جبل «حراء»، وما تبعه من مواقف الاستقامة والمقاومة الّتي أبداها واتّخذها رسول اللّه وأصحابه المعدودون طيلة ثلاثة عشر عاماً، في سبيل نشر الدين الإسلامي في مكّة، ومكافحة الوثنية والجاهلية.

وكذا مشاهد مثيرة وساخنة وحماسية مثل وقائع السنة الأُولى من الهجرة المباركة وما عقبتها من حوادث ومواقف.

***

وقد أُلّفت حَول حياة رسول الإسلام - أعظم قادة البشرية على الإطلاق - كتبٌ ورسائلٌ ودراساتٌ كثيرة، بحيث لو أُتيح لنا أن نجمعها في مكان واحد لشكّلت مكتبة عظيمة وضخمة.

ويمكن القولُ - بشكل قاطع - بأنّه ليس ثمة من عظيم استقطب اهتمام

ص:16

التاريخ والمؤرّخين والمفكّرين العالميّين الكبار، كما ليس ثمّة شخصيّة من شخصيّات العالم كتب حولها المؤلّفون والباحثون هذا القدر الهائل من المؤلّفات والمصنّفات، والرسائل والكتب، كما حصل لرسول الإسلام محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

إلّا أنّ أكثر هذه الكتب والمؤلّفات تعاني من أحد إشكالين: إمّا أنّ الكتاب جاء على نسق التسجيل المجرّد للحوادث، أو النصوص التاريخية، من دون أن يتصدّى فيه مؤلّفه لتحليلها، ودراسة خلفياتها ونتائجها، وإصدار الحكم اللازم فيها، بل إنّ البعض قد تجنّب عن بيان علل الوقائع الإسلامية وأسبابها، وثمارها ومعطياتها كذلك.

أو أنّ المؤلّف - في بعضها الآخر - عمَد إلى طائفة من الآراء الحدسية، والاجتهادات الباطلة، العارية عن الدليل وأثبتها في مؤلَّفه على أنّها الحكم الحقّ، وخلط هذه الأحكام مع بيان الحوادث، ومن ثم أخرج كتابه ذاك إلى الجمهور المتعطّش إلى تاريخ الإسلام، على أنّه التاريخ المحقَّق، المُمحَّص.

إنّ الإشكال الّذي يَردُ على الطائفة الأُولى هو: أنّ الهدف من التاريخ ليس هو مجرَّد تسجيل الحوادث التاريخية وضبطها وتدوينها، إنّما هو كتابة صفحات التاريخ، وقضاياه وأحداثه من المصادر الصحيحة الموثوق بها، وإبراز عللها وأسبابها، وثمارها ونتائجها، والتاريخ بهذا الشكل أعظم كنز تركه الأقدمون لنا، ومثل هذا النوع من الدراسة التاريخية لم تُدوَّن - أو أنه قلّما دُوِّنت - حول أعظم قادة البشر، محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم فقد تجنّب أكثر كتّاب السيرة النبوية عن إظهار الرأي في الحوادث، أوالقيام بأي تحليل للوقائع، بحجّة الحفاظ على أُصول الحوادث ونصوصها.

في حين أنَّ هذا العُذر، وهذه الحجة غير كافية لتبرير هذا الموقف، لأنّه كان في مقدور أُولئك المؤرّخين - للحفاظ على ما ذكروه - أن يؤلفوا نوعين من الكتب،

ص:17

نوعاً يختص بسرد الوقائع والنصوص التاريخية على ما هي عليه من دون إبداء رأي، أو تحليل ودراسة، ونوعاً آخر يعتني بذكر الحوادث والقضايا التاريخية مع تحليلها ودراستها بصورة موضوعية صحيحة، أو أن يتم كلا الأمرين في كتاب واحد بأن تفرز الحوادث التاريخية عن التحليل والرأي.

على كلّ حال قلّما نجد بين قدماء الكُتّاب المسلمين من تصدّى للسيرة النبوية المحمَّدية الطاهرة بهذه الصورة، وقلّما يوجد هناك كتابٌ يتناولُ حياة خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين بالتحليل المذكور.

بل لابدّ من القول بأنّ السيرة النبوية الطاهرة ليست هي وحدها التي حُرمت من مثل هذا النمط من التأليف والكتابة، بل شمل هذا الحرمان أكثر الحوادث التاريخية الّتي وقعت على مرّ العصور الإسلامية فهي أُدرجت في الكتب من دون دراسة موضوعية وتقييم دقيق.

نعم إنّ أوّل من فتح هذا الطريق بوجه عامّة المؤلّفين والكتّاب هو:

العلّامة المغربي «ابن خلدون»(1) فقد أسّس في مقدّمته المعروفة باسم (مقدّمة ابن خلدون) منهج التاريخ التحليلي بنحوٍ من الأنحاء.

وأمّا الطائفة الثانية من تلك الكتب فهي وإن أُلّفت على نمط التاريخ التحليلي واتّسمت بصفة التحقيق والدراسة ولكن حيث إنّ بعضهم لم يتجشّم عناء التتبّع والاستقصاء، أو أنّه اعتمد في تحليله للحوادث على المصادر غير المتقنة وغير الصحيحة، فقد تورّط في أخطاء فظيعة محيّرة، وأكثر مؤلفات المستشرقين - الّتي لم تكتَب في الأغلب بهدف التوصّل إلى الحقيقة - من هذا النمط، ومن هذه القُماشة.

ص:18


1- . هو القاضي عبدالرحمن بن محمَّد الحضرمي المالكي المتوفّى عام 808 ه، ومقدّمته وتاريخه - على ما فيهما من أخطاء فظيعة في التحليل - معدودان من الكتب الجيدة المفيدة، وهما مبتكران في موضوعهما.

ولقد دأبنا في هذه الدراسة - بعد ملاحظة هذه الإشكالات - على أن نقدّم إلى القرّاء - جهد الإمكان - كتاباً يخلو عن عيوب ونقائص كلتا الطائفتين.

***

مزايا هذا الكتاب

قد لا يكون من الضروري بيان مزايا هذا الكتاب، واستعراض امتيازاته في مقدّمته، فذلك أمرٌ ينبغي أن يقف عليه القارئ الكريم بنفسه ضمن مطالعته لهذه الدراسة، إلّاأنّه إلفاتاً لنظر القارئ نشير إلى مزيتين هامّتين هما:

الأُولى: أنّنا عمدنا - في هذا الكتاب - إلى تناول وبيان الحوادث والوقائع المهمّة الّتي تنطوي على قَدَر أكبر من الفائدة، والعبرة، وأعرضنا صفحاً عن ذكر الأحداث الجزئية، والوقائع الصغيرة مثل الكثير من السرايا.

ثم إنّنا أخذنا الحوادث التاريخية هذه من المصادر الأصلية، والأوّلية، الّتي دُوِّنت في القرون الإسلامية المشرقة الأُولى، فقد استخلصنا الحادثة من مجموعة تلك المصادر، ثم أشرنا إلى مصدر أو مصدرين من المصادر الّتي ذكرت الحادثة بصورة أكثر تفصيلاً ودقّة.

وربّما يظن بعضُ القرّاء الكرام أنّنا اكتفينا في نقل الحوادث والوقائع بمراجعة مصدر أو مصدرين ممّا ذكرناه في هامش الصفحة، في حين أنّ الواقع هو غير هذا، فنحن قد راجعنا حتّى في نقل الحوادث مهمّا صغرت، أكثر المصادر الأصلية المعروفة، وبعد التحقّق والتثبّت منها، لخصّناها وذكرناها في هذا الكتاب.

ولو أنّنا أشرنا - في جميع الحوادث والوقائع - إلى جميع المصادر الّتي مررنا بها لاستأثر جدول المصادر بقسم كبير من صفحات هذا الكتاب، وهو أمرٌ من شأنه أن يبعث على الملل عند القرّاء، فلكي لا يحس القرّاء بأيّ تعَب أو مَلَل من جانب،

ص:19

ولأجل أن نحافظ على وثائقية الكتاب وأصالة أبحاثه وإتقانها من طرف آخر، اكتفينا بذكر القدر اللازم من المصادر وتجنبنا تحشيدها بتلك الصورة الممِلّة.

وأمّا المزية الثانية: فإنّنا أشرنا - ضمن فصول الكتاب - إلى الاعتراضات والإشكالات، بل وأحيانا إلى مواطن الإساءة الّتي قام بها المستشرقون المغرضون وأجبْنا على جميع الانتقادات والاعتراضات غير المبرَّرة وغير الصحيحة بأجوبة مقنعة وقاطعة وصحيحة، وجرَّدْناهم من الأسلحة الّتي شَهَرُوها في وجه الإسلام ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كما يقول المثل - وتلك حقيقة يقف عليها القارئ الكريم بنحو أجلى في محلّها.

وعلى هذا الأساس عَمَدنا إلى ذكر رأي المؤلّفين الشيعة (في المسائل المختلف فيها بين المؤرّخين الشيعة والمؤرّخين السنّة) مع ذكر المصادر والشواهد التاريخية الواضحة والمبرهنة عليه، وأزحْنا كل ما يَدُور حول ذلك الرأي من شبهة أو إشكال، ويستهدف إنكار صحّته وحقّانيته.

ويشتمل كتابنا هذا على 66 فصلاً في جزأين.

إنّنا إذ نقدّمُ هذه الدراسة التحليليّة لشخصية وحياة خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه و آله و سلم إلى القرّاء الكرام، نأمل أن يهتم بها عامّة المسلمين وخاصّة المثقفين والشّباب منهم بوجه خاصّ، ويتناولوا هذه السيرة العطرة بالمطالعة المتأنّية والتأمّل والتدبّر، ونأمل أن يستطيع شبابُنا المؤمن المتحمّس من أن يرسم خريطة حياته وحياة مجتمعه، على ضوء ما يستلهمُه ويستوحيه من سيرة وحياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الحقبة البالغة الخطورة. واللّه وليّ التوفيق. جعفر السبحاني

26 / جمادى الآخرة / 1392 ه

ص:20

1 سيّد المرسلين في ضوء القرآن الكريم

لقد سلّط القرآن الكريم الضوء على رسول الإسلام محمَّد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله و سلم في آيات كثيرة تناولت بيان أسمائه ونشأته وصفاته وخصاله، وبشارات الأنبياء السابقين به، وعصمته وأُمّيته، ورسالته، وخاتميته، وجهوده العظيمة التي بذلها في سبيل إبلاغ مهمّته، والخطابات الخاصّة الإلهية الموجّهة إليه، وما يجب على المؤمنين تجاهه في حياته وبعد وفاته، وما يجب عليهم تجاه أهل بيته وعترته.

ولكي تكون هذه الرؤية القرآنية الشاملة الدقيقة هي القاعدة الإساسية في دراسة الشخصية والسيرة المحمَّدية العظيمة، آثرنا إدراج طائفة من هذه الآيات في مقدّمة هذا الكتاب.

1. قوله تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» .(1)

2. قال تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» .(2)

3. قال تعالى: «وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» .(3)

4. قال تعالى: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى * وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى

ص:21


1- . آل عمران: 144.
2- . الفتح: 29.
3- . الصف: 6.

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى * أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى * وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى» .(1)

5. قال تعالى: «أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» .(2)

6. قال تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ» .(3)

7. قال تعالى: «اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» .(4)

8. قال تعالى: «اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» .(5)

9. قال تعالى: «اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ» .(6)

10. قال تعالى: «فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» .(7)

11. قال تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ

ص:22


1- . الضحى: 3-8.
2- . الانشراح: 1-4.
3- . آل عمران: 81.
4- . الأعراف: 157.
5- . البقرة: 146.
6- . الأنعام: 20.
7- . الأعراف: 158.

وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .(1)

12. قال تعالى: «وَ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» .(2)

13. قال تعالى: «وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ» .(3)

14. قال تعالى: «اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ * اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .(4)

15. قال تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى * وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى * فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى * ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى * أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى * وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» .(5)

16. قال تعالى: «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» .(6)

17. قال تعالى: «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ

ص:23


1- . الجمعة: 2-4.
2- . النساء: 113.
3- . العنكبوت: 48.
4- . العلق: 1-5.
5- . النجم: 2-17.
6- . الحاقة: 44-47.

مُبِينٌ» .(1)

18. قال تعالى: «وَ يَقُولُونَ أَ إِنّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ» .(2)

19. قال تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ» .(3)

20. قال تعالى: «وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ» .(4)

21. قال تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» .(5)

22. قال تعالى: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .(6)

23. قال تعالى: «وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ» .(7)

24. قال تعالى: «وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» .(8)

25. قال تعالى: «إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» .(9)

26. قال تعالى: «وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً» .(10)

27. قال تعالى: «أَ لَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» .(11)

28. قال تعالى: «وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» .(12)

ص:24


1- . يس: 69.
2- . الصافات: 36-37.
3- . الحاقة: 40-41.
4- . التكوير: 24.
5- . الأعلى: 6.
6- . البقرة: 137.
7- . المائدة: 67.
8- . التوبة: 74.
9- . الحجر: 95.
10- . الإسراء: 73-74.
11- . الزمر: 36.
12- . الطور: 48.

29. قال تعالى: «تِلْكَ آياتُ اللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ» .(1)

30. قال تعالى: «اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ» .(2)

31. قال تعالى: «وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» .(3)

32. قال تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» .(4)

33. قال تعالى: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» .(5)

34. قال تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» .(6)

35. قال تعالى: «وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .(7)

36. قال تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» .(8)

37. قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً» .(9)

38. قال تعالى: «وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ» .(10)

39. قال تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» .(11)

40. قال تعالى: «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .(12)

ص:25


1- . آل عمران: 108.
2- . العنكبوت: 45.
3- . الأحزاب: 2.
4- . الشعراء: 214.
5- . الحجر: 94.
6- . الحج: 49.
7- . المؤمنون: 73.
8- . الفرقان: 1.
9- . الفرقان: 56.
10- . الأنفال: 33.
11- . التوبة: 128.
12- . التوبة: 128.

41. قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» .(1)

42. قال تعالى: «إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ» .(2)

43. قال تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» .(3)

44. قال تعالى: «إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ» .(4)

45. قال تعالى: «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» .(5)

46. قال تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .(6)

47. قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ» .(7)

48. قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً * وَ داعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً» .(8)

49. قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً» .(9)

ص:26


1- . الأنبياء: 107.
2- . الحج: 67.
3- . الشعراء: 193-194.
4- . البقرة: 119.
5- . البقرة: 151.
6- . آل عمران: 164.
7- . الفتح: 28-29.
8- . الأحزاب: 46.
9- . سبأ: 28.

50. قال تعالى: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» .(1)

51. قال تعالى: «فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» .(2)

52. قال تعالى: «وَ أَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً» .(3)

53. قال تعالى: «وَ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» .(4)

54. قال تعالى: «إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ» .(5)

55. قال تعالى: «لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً» .(6)

56. قال تعالى: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» .(7)

57. قال تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ» .(8)

58. قال تعالى: «وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .(9)

59. قال تعالى: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ

ص:27


1- . سبأ: 46.
2- . الذاريات: 50.
3- . النساء: 78.
4- . النساء: 113.
5- . النساء: 163.
6- . النساء: 166.
7- . الأحزاب: 40.
8- . الأعراف: 158.
9- . يونس: 65.

وَكِيلٌ» .(1)

60. قال تعالى: «وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» .(2)

61. قال تعالى: «وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ» .(3)

62. قال تعالى: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» .(4)

63. قال تعالى: «وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السّاجِدِينَ * وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» .(5)

64. قال تعالى: «وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» .(6)

65. قال تعالى: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» .(7)

66. قال تعالى: «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» .(8)

67. قال تعالى: «وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ * وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ * وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» .(9)

ص:28


1- . هود: 12.
2- . هود: 120.
3- . الرعد: 32.
4- . الحجر: 88.
5- . الحجر: 97-99.
6- . النحل: 127-128.
7- . الكهف: 6.
8- . طه: 130.
9- . الحج: 42-44.

68. قال تعالى: «وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً» .(1)

69. قال تعالى: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» .(2)

70. قال تعالى: «وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ» .(3)

71. قال تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» .(4)

72. قال تعالى: «وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ» .(5)

73. قال تعالى: «وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» .(6)

74. قال تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .(7)

75. قال تعالى: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ» .(8)

76. قال تعالى: «وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ» .(9)

77. قال تعالى: «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ» .(10)

78. قال تعالى: «وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ

ص:29


1- . الفرقان: 31.
2- . الشعراء: 3.
3- . النحل: 127.
4- . الروم: 60.
5- . لقمان: 23.
6- . فاطر: 4.
7- . الأسراء: 1.
8- . فاطر: 8.
9- . فاطر: 25.
10- . يس: 76.

اَلْمَنْصُورُونَ» .(1)

79. قال تعالى: «وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ * وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» .(2)

80. قال تعالى: «وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ * وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» .(3)

81. قال تعالى: «اِصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» .(4)

82. قال تعالى: «أَ لَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» .(5)

83. قال تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ» .(6)

84. قال تعالى: «وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ» .(7)

85. قال تعالى: «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» .(8)

86. قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى

ص:30


1- . الصافات: 171-172.
2- . الصافات: 173-175.
3- . الصافات: 178-179.
4- . ص: 17.
5- . الزمر: 36.
6- . المؤمن: 55.
7- . الأنعام: 52.
8- . الكهف: 28.

أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .(1)

87. قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيماً» .(2)

88. قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .(3)

89. قال تعالى: «وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ

ص:31


1- . النور: 62-63.
2- . الأحزاب: 53.
3- . الحجرات: 1-5.

لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ» .(1)

90. قال تعالى: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .(2)

91. قال تعالى: «وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» .(3)

92. قال تعالى: «وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .(4)

93. قال تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .(5)

94. قال تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» .(6)

95. قال تعالى: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً» .(7)

96. قال تعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .(8)

97. قال تعالي: «فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .(9)

98. قال تعالى: «إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا

ص:32


1- . الحجرات: 7.
2- . القلم: 4.
3- . الحجر: 88.
4- . الشعراء: 215.
5- . التوبة: 129.
6- . آل عمران: 159.
7- . الأحزاب: 21.
8- . آل عمران: 31.
9- . النساء: 65.

عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً» .(1)

99. قال تعالى: «إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» .(2)

100. قال تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (3).(4)

ص:33


1- . الأحزاب: 56.
2- . الكوثر: 1-3.
3- . الأحزاب: 33.
4- . ولقد بحث سماحة الأُستاذ العلّامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني دام ظلّه صاحب هذه المحاضرات، حول جميع هذه الآيات ونظائرها في دراسة معمّقة وشاملة في الجزء السابع من موسوعته «مفاهيم القرآن»، فراجع.

2 شبه الجزيرة العربية أو مَهْد الحضارة الإسلامية

اشارة

تقع شبه الجزيرةُ العَربية في الجنوب الغربي من قارة آسيا، وتبلغ مساحتُها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع، أي ضِعف مساحة إيران، وستة أضعاف فرنسا، وعشرة أضعاف إيطاليا، وثمانين ضِعف سويسرا.

ويَحدُّ شبه الجزيرة - الّتي هي أشبه ما يكون بمستطيل غير متوازي الأضلاع - من الشمال فلسطين وصحراءُ الشام، ومن الشرق الحيرة ودجلة والفرات والخليج الفارسي، ومن الجنوب المحيط الهندي والبحر العربي، ومن الغرب البحر الأحمر.

وعلى هذا يحاصر هذه الجزيرة من الغرب والجنوب البحر، ومن الشمال والشرق الصحراء، والخليج.

وقد جرت العادة بتقسيم هذه المنطقة من القديم إلى ثلاثة أقسام:

1. القسم الشمالي والغربي ويُسمّى بالحجاز.

2. القسم المركزي والشرقي ويُسمّى بصحراء العرب.

3. القسم الجنوبي ويُسمّى باليمن.

وتُشكّل داخلَ شبه الجزيرة هذا صحاري كبيرة، ومناطق شاسعة رملية حارة، وغير قابلة للسكنى تقريباً، ومن جملة هذه الصحارى صحراء «بادية السماوة» الّتي تُسمّى اليوم بصحراء «النفوذ»، وصحراء أُخرى واسعة الأطراف تمتد إلى الخليج الفارسيّ يُطلق عليها اليوم اسم «الربع الخالي» وقد كان يُسمّى قسمٌ من هذه

ص:34

الصحارى سابقاً بالأحقاف، ويُسمّى القسم الآخر بالدهناء.

فعليه فالصحارى تُشكّل ثُلث مساحة شبه الجزيرة العربية، هي أراضي خالية من الماء والعشب وغير قابلة للسكنى، اللهم إلّابعض المياه المتجمّعة بسبب تساقط الأمطار، فيجتمع حولها بعض القبائل العربية بعض الوقت، ويرعون فيها إبلهم وأنعامهم ردحاً قليلاً من الزمن.

وأمّا حالة المناخ في شبه الجزيرة العربية، فالهواء في الصحاري والأَراضي المركزية (الوسطى) حارٌ وجافٌ جداً، وفي السواحل مرطوبٌ، وفي بعض النقاط معتدلٌ، وبسبب رداءة الطقس فعدد السكّان بالنسبة للمساحة قليل جدّاً.

وتوجد في هذه الجزيرة سلسلة جبال تمتد من الجنوب إلى الشمال، ويقارب ارتفاع أعلى قممها 2470 متراً.

وقد كانت معادن الذهب والفضة والأحجار الكريمة تشكل مصادر الثروة في شبه الجزيرة العربية منذ القدم، وكان سكّانها يعتنون - من بين الأنعام والحيوانات - بتربية الإبل والفرس أكثر من غيرهما، ومن بين الطيور بالحمام والنعامة أكثر من الطيور الأُخرى.

بيد أنّ أكبر مصدر للثروة في الجزيرة العربية اليوم يأتي عن طريق استخراج النفط.

وتعتبر مدينة «الظهران» - الّتي يُسمّيها الأُوربيّون بالدهران - المركز النفطي الرئيسي في هذه الجزيرة، وتقع هذه المدينة في منطقة الأحساء الّتي تقع في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية على حدود الخليج الفارسي.

ولكي يتعرّف القارئ الكريم على الأَوضاع في شبه الجزيرة العربية بنحو أكثر تفصيلاً فإنّنا نعمد إلى شرح الأقسام الثلاثة المذكورة:

ص:35

1. «الحجاز» وهي المنطقة الّتي تشكل القسم الشمالي والغربي من الجزيرة العربية وتمتد أراضيها على ساحل البحر الأحمر ابتداء من فلسطين وحتّى حدود اليمن.

والحجاز منطقة جبلية، وذات صحار قاحلة، وأراض حجرية، وصخرية، يكثر فيها الحصى.

ولقد كانت هذه المنطقة - في التاريخ - أكثر شهرة من غيرها، ومن المعلوم أنَّ هذه الشهرة جاءت بسبب جملة من العوامل المعنوية والدينية، فهي الآن تضمّ بين جوانحها بيت اللّه الحرام «الكعبة المعظمة»، قبلة ملايين المسلمين، ومهوى أفئدتهم.

وقد كانت البقعةُ الّتي تقوم عليها «الكعبة المعظمة» تحظى منذ سنوات مديدة قبل بزوغ الإسلام باحترام العرب وغيرهم، ولهذا حَرَّموا القتال حول الكعبة تعظيماً لها، حتّى إذا جاء الإسلام أقَرَّ للكعبة ولما حولها، مثل ذلك الاحترام، والتعظيم أيضاً.

ومن أهمّ مُدن الحجاز: «مكّة» و «المدينة» و «الطائف»، وكان للحجاز منذ القديم ميناءان هما: ميناء «جدّة» الّذي يستخدمه أهل مكّة، وميناء «ينبع» الّذي يستخدمه أهلُ المدينة، في سَدِّ الكثير من إحتياجاتهم، ويقع هذان الميناءان على ساحل «البحر الأحمر».

مَكةُ المعظمة

وهيَ من أَشهر مُدُن العالم وأكثر المُدُن الحجازية سُكّاناً، وترتفع عن سطح البحر بما يقارب 300 متر.

ص:36

وإذ تقع مدينة «مكّة» بين سلسلتين من الجبال لذلك فإنّها لاتُرى من بعيد.

تاريخ مكّة

يبدأ تاريخ «مكّة المكرمة» من زمن النبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام، فقد أسكن هذا النبيُّ ولده «إسماعيل» مع أُمّه «هاجر» في أرض مكّة، فنشأ اسماعيل هناك، وتزوّج من إحدى القبائل الّتي سكنت على مقربة من تلك المنطقة، الّتي تعرف ب: قبيلة جرهم.

ثم إنّ إبراهيم عليه السلام بنى وبأمر من اللّه تعالى البيت الحرام «الكعبة».

وتقول بعض الروايات الصحيحة: إنّ الكعبة بُنيت على يد النبيّ نوح عليه السلام وإنّ إبراهيم عليه السلام جدّد بناءها.

وهكذا نشأت وبعد هذا تأسّست مدينة مكّة.

وتتكوّن نواحي «مكّة» من أراض سبخة شديدة الملوحة غير قابلة للزراعة أصلاً، حتّى أنّ بعض المستشرقين يذهب إلى أنّه لا يوجد أية منطقة في العالم في رداءة أوضاعها الجغرافية والمحيطية والطبيعية، مثل هذه المنطقة.

المَدينةُ المنوَّرةُ

وهي مدينة تقع في شمال مكّة وتبعد عنها ب: 90 فرسخاً تقريباً (الفرسخ يساوي 5,5 كيلومتراً تقريباً) وتحيط بها بساتين ومزارع ونخيل وافرة، وأرضها صالحة للزراعة.

وكانت المدينة المنوّرة تُسمّى قبل الإسلام ب «يثرب»، وبعد أن هاجر إليها رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم سُمّيت بمدينة الرسول، ثم اطلقت عليها لفظة «المدينة» مجرّدة، تخفيفاً.

ص:37

ويحدّثنا التاريخ أنّ العمالقة كانوا أوّل من سكن هذه الديار، ثم خلف العمالقة طائفة اليهود، والأوس والخزرج الذين سُمِّي المسلمون منهم بالأَنصار فيما بعد.

هذا وقد سلمت الحجاز - على عكس سائر المناطق - من طمع الطامعين وغزو الغزاة والفاتحين، ولم نشاهد فيها أي شيء من آثار حضارة الامبراطوريتين العظيمتين آنذاك قبل الإسلام: الروم والفرس، وذلك لأنها كانت تتألَّف من أراض قاحلة مجدبة غير قابلة للسكنى والعيش فلم تحظ باهتمام أحد من أُولئك الفاتحين حتّى يفكّر في تسيير العساكر، وتجييش الجيوش لفتحها ليعود بعد تحمّل الكثير من المشاكل الّتي تستلزمها عملية الاستيلاء على أراضي تلك المنطقة، خالي الوفاض صفر اليدين.

وللوقوف على هذه الحقيقة اقرأ القصة التالية التي نقلها «ديودرس».

عندما دخل ديميتريوس القائد اليوناني الكبير «بطرا» (وهي مدينة قديمة من مدن الحجاز) بهدف فتح جزيرة العرب خاطبهُ سكّانُ تلك المدينة قائلين:

لماذا تحاربنا أيها الملك ديميتريوس ونحن من سُكان الصحارى الّتي لا تُسدُّ فيها خلّة، ترانا نقطن في هذه البقاع القاحلة فراراً من العبودية. إقبل هديتنا، وارجع إلى حيث كنت، سنكون من أوفى الأصدقاء لك، ولكنّك إذا رغبت في حصرنا حُرِمْتَ كلّ هناءة، ورأيت عجزك عن إكراهنا على تبديل طرق حياتنا الّتي تعوَّدناها منذ نعومة أظفارنا، وإذا قدرت على أسر بعضنا أيقنت أنّك لن تجد واحداً ممّن أسرت يستطيع أن يألف حياة غير الّتي ألفناها.

هنالك رأى ديميتريوس أن يقبل هديتهم وأن يرضى بالمآب.(1)

ص:38


1- . حضارة العرب تأليف غوستاف لوبون: 91-92 ترجمة عادل زعيتر.

2 - المنطقة الوسطى والشرقية، التي تُسمّى ب «صحراء العرب»، ومنطقة «نجد» الّتي هي جزء من هذه المنطقة، وهي أرض مرتفعة يقوم فيها بضع قُرى صغيرة معدودة.

ولقد أصبحت الرياضُ - الّتي اتّخذها السعوديون عاصمة لهم بعد سيطرتهم على البلاد - من المراكز المهمة في هذه الناحية من الجزيرة.

3 - المنطقة الجنوبية الغربية من الجزيرة العربية، والّتي تسمى ب «اليمن» وتمتد طولاً من الشمال إلى الجنوب حوالي (750) كيلومتراً ومن الغرب إلى الشرق حوالى (400) كيلومتر.

وتقدر مساحة هذا البلد بستين ألف ميل مربع تقريباً، ولكنّها كانت - قبل ذلك - أوسع من هذا القدر، وقد كان قسم منها (وهوعدن) خلال النصف الأوّل من القرن الأخير تحت الانتداب البريطاني، ومن هنا ينتهي شمالاً إلى نجد، وجنوباً إلى عدن، وغرباً إلى البحر الأَحمر وشرقاً إلى صحراء الربع الخالي.

ومن مُدُن اليمن المعروفة مدينة «صنعاء» التاريخية العريقة، ومن موانئها المشهورة ميناء «الحديدة» الواقع على البحر الأحمر.

واليمن من أكثر مناطق الجزيرة العربية خصوبة وبركة، ولها تاريخ مشرقٌ وعريق في المدنية والحضارة، فقد كانت اليمن مقرّاً لملوك تُبَّع، الذين حكموا اليمن سنيناً طويلة، وكانت اليمن قبل الإسلام مركزاً تجارياً مهمّاً، وهي في الحقيقة ملتقى طرق الحجاز، اشتهرت في العصور القديمة بمناجم الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، وكانت تصدّر إلى خارج البلاد.

ولا تزال آثار الحضارة اليمنية القديمة باقية إلى الآن.

ولقد قام أهلُ اليمن الاذكياء ببناء الدور والعمارات العالية والجميلة بهممهم

ص:39

العالية في عصور كان البشر يفقد فيها الوسائل الثقيلة، والأجهزة المعقّدة.

كان ملوك اليمن يحكمون البلاد دون أي منازع، إلّاأنهم رغم ذلك لم يكونوا يمتنعون عن تنفيذ ما رسمه حكماء اليمن ورجالهم من أنظمة وقوانين للحكم وإدارة البلاد آنذاك.

ولقد سبقوا الآخرين في الزراعة والفلاحة، ووضعوا لإحياء الأراضي وزراعتها، نظاماً دقيقاً للريّ طبقوا بنوده بدقّة، ولهذا كانت بلادهم تعدّ - آنذاك - من البلدان الراقية المتقدّمة من هذه الناحية.

فها هو «غوستاف لوبون» المؤرّخ الفرنسي المعروف يكتب حول اليمن قائلاً: وهي أغنى جزيرة العرب وأخصبها وأكثرها سكاناً، وهي أهم جزء من البقاع الّتي كان يسمّيها القدماء! بلاد العرب السعيدة.(1)

ويكتب الإدريسيّ المؤرّخ المعروف الّذي كان يعيش في القرن الثاني عشر حول «صنعاء» قائلاً: كانت صنعاء مقر ملوك اليمن، وعاصمة جزيرة العرب، وإنّه كان لملوكها قصر متين شهير، وأنّها كانت تشتمل على بيوت مصنوعة من الحجارة المنحوتة(2).

هذه الآثار العجيبة الّتي عثر عليها المستشرقون وعلماء الآثار في تنقيباتهم الأخيرة تثبت حضارة عجيبة لليمن في عصورها القديمة وذلك في مختلف نواحيها مثل «مأرب» و «صنعاء» و «بلقيس».

ففي مدينة مأرب (وهي مدينة سبأ المعروفة) قصور نضرة ذات أبواب عسجدية، وآينة من ذهب وفضة وسرر من المعادن الثمينة. وقال أرتيميدور: إنّ

ص:40


1- . حضارة العرب: 55.
2- . نزهة المشتاق في اختراق الآفاق على ما في حضارة العرب: 55.

قصورها ذات سقوف مزخرفة بالذهب والعاج والحجارة الثمينة، وذات أثاث فاخر وآنية منقوشة.(1)

ومن آثار «مأرب» التاريخية السدُّ المعروفُ باسم ذلك البلد والّذي لا تزال أطلاله باقية، وهو السدّ الّذي تهدَّم بسبب السيل الّذي سماه القرآن الكريم بسيل العَرِم.

وقد جاء ذكر سبأ في قوله تعالى:

«لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ * وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ * فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ» (2).(3)

ص:41


1- . حضارة العرب: 94.
2- . سبأ: 15-19.
3- . للوقوف على المزيد من المعلومات عن اليمن قديماً وحديثاً، راجع الكتب المؤلّفة حول جغرافية العالم الإسلامي.

3 العَرَب قبلَ الإسلام

اشارة

لمعرفة أوضاع العرب قبل الإسلام يمكن الرجوع إلى المصادر التالية:

1. التوراة، رغم ما فيها من تحريف.

2. كتابات اليونانيين والروميين في القرون الوسطى.

3. الكتابات التاريخية الّتي كتبها علماء الإسلام ومؤلّفوه.

4. الآثار القديمة الّتي عثر عليها المستشرقون في تنقيباتهم والّتي استطاعت من أن تكشف النقاب عن طائفة لا يُستهان بها من الحقائق في هذا الصعيد.

إلّا أنّه مع وجود كلّ هذه المصادر والمراجع لا تزال هناك نقاطٌ كثيرةٌ عن تاريخ العرب في القرون البعيدة تعاني من الغموض.

ولكن حيث إنَّ دراسة أوضاع العرب قبل الإسلام هي من باب المقدّمة في هذا الكتاب، والهدف الأساسي إنّما هو دراسة السيرة النبوية الطاهرة، من هنا نكتفي في هذا الفصل باستعراض النقاط الخاصّة والواضحة من حياة العرب قبيل الإسلام على أنّنا يمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب خاصّة قبيل بزوغ الإسلام من خلال مصدرين إسلاميّين أساسيّين هما:

1. القرآن الكريم.

2. ماورد عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة.

فقد وردت في هذين المصدرين تصريحاتٌ ونصوصٌ صريحة تكشف

ص:42

عمّا كان عليه العرب في الجاهلية من سوء الأحوال والأوضاع والأخلاق في جميع الأصعدة والأبعاد، وسنشير إلى أبرز هذه النصوص ونقف عندها بعض الشيء، ولكنّنا نستعرض قبل ذلك شيئاً من تاريخ العرب في القرون البعيدة فنقول:

إنّ من المسلَّم به أنّ شبه الجزيرة العربية كانت منذ أقدم العصور موطناً لقبائل كثيرة انقرض بعضها بمرور الأيام، وفي ثنايا الأحداث، بيد أنّ هناك ثلاث قبائل قد تشعَّبتْ عنها أفخاذٌ وفروعٌ تحظى بشهرة أكثر من بين مَن سكنوا هذه المنطقة.

وهذه القبائل الأُمّ هي:

1. العرب البائدة: وإنما سُمّيت بالبائدة لأنّها أُبيدت بالعذاب الإلهي السماويّ أو الأرضيّ بسبب عصيانها وتمرّدها، وهلكت شيئاً فشيئاً، ولم يبق على وجه الأرض من نسلهم أحد!

ولعلّهم كانوا هم المعنيون بقوم «عاد» و «ثمود» الذين جاء ذكرُهم في القرآن الكريم مراراً.

2. القحطانيّون: وهم أبناء يَعرُب بن قحطان الذين كانوا يقطنون في «اليمن» وسائر المناطق الجنوبية من الجزيرة العربية ويُسمّون بالعرب الأُصلاء، وهم اليمنيون اليوم، ومنهم قبائل الأوس والخزرج وهما قبيلتان كبيرتان كانتا تقطنان المدينة المنورة إبان ظهور الإسلام.

وقد كان للقحطانيّين حكومات كثيرة، كما كانت لهم جهودٌ كبرى في تعمير أرض اليمن وإحيائها، وقد تركوا من ورائهم حضارات ومدنيّات لا يستهان بها.

وتوجد الآن كتابات تُقرأ بصورة علمية توضّحُ إلى حدّ كبير تاريخ

ص:43

القحطانيّين وكلُ ما يقال عن مدنيّة العرب وحضارتهم قبل الإسلام تعود في الحقيقة إلى هذه الطائفة وخاصة من سكَنَ منهم أرضَ اليمن.

3. العدنانيّون: وهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السلام، وسوف يأتي ذكر جذور هذه الطبقة في الأبحاث القادمة. وخلاصة ذلك: أنّ إبراهيم الخليل عليه السلام أُمِرَ أن يسكن وَلده الرضيع إسماعيل مع زوجته «هاجر» أُم اسماعيل في أرض مكّة، فخرج بهما إبراهيم عليه السلام من «فلسطين» وهبط بهما في ذلك الوادي العميق الخالي من الماء والعشب «مكّة» ثم إنّ يد العناية الإلهية امتدّت إلى تلك العائلة المهاجرة، وجادت عليها بعين «زمزم» الّذي جلب الرواء والحياة إلى تلك المنطقة القاحلة الضامئة. ثم تزوّج إسماعيل من قبيلة «جُرهُمْ» الّتي خيّمت بالقرب من مكّة، وأصاب من هذا الزواج عدداً كبيراً من الأبناء، والأحفاد، وأحفاد الأحفاد كان من جملتهم «عدنان» الّذي ينتهي نسب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليه.

ثم تشعَّبت ذريةُ إسماعيل إلى بطون وأفخاذ، وعشائر وقبائل عديدة، كان من بينها قبيلة قريش الّتي حظيت بشهرة أكبر، ومنها عشيرة بني هاشم الّتي انحدر منها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما ستعرف ذلك بالتفصيل، عمّا قريب.

أخلاقُ العرب وتقاليدُهم العامّة

والمراد منها هو الأَخلاق والآداب الاجتماعية الّتي كانت سائدة في ذلك المجتمع، وقد سادت بعض هذه الأخلاق والعادات والتقاليد في المجتمع العربي عامّة.

ويمكن تلخيصُ ما كانَ العربُ يتمتعون به من أخلاق وصفات حسنة عامّة في ما يلي:

ص:44

لقد كان العرب زمن الجاهلية وبخاصّة ولد «عدنان» أسخياء بالطبع، يكرمون الضيف، وقلّما يخونون الأمانة، لا يغتفرون نقض العهود، ولا يتهاونون مع من يتنكّر للمواثيق، يضحّون في سبيل المعتقد، ويتحلّون بالصراحة الكاملة، وربّما وجد فيهم مَن تمتع بذكاء لامع، وذاكرة خارقة يحفظ بها الأشعار والقصائد الطوال، والخطب المفصّلة.

هذا إلى جانب براعتهم في فن الشعر والخطابة بحيث لم يسبقهم في ذلك غيرهم، وإلى جانب أنّهم كانوا مضرب المثل في الشجاعة والجرأة، والمهارة في الفروسية والرمي.

وكانوا يرون الفرار والإدبار في الحرب عاراً لازماً، وصفة ذميمة يلام صاحبها بسببها أشدّ اللوم.

ولكن في مقابل ذلك كلّه كانوا يعانون من مفاسد أخلاقية تطغى على كلّ كمال عندهم، وتنسي كلّ فضيلة.

ولولا تلك الكوّة المباركة الّتي فتحت عليهم من عالم الغيب، لطويت صفحة حياتهم الإنسانية على القطع واليقين.

أي لو لم تبزغ شمس الإسلام في أواسط القرن السادس الميلادي، ولم تسطع أشعتها الباعثة على الحياة، على عقولهم وقلوبهم لما رأيت اليوم من العرب العدنانيين أيُّ أثر، ولتكرّرت مقولة العرب البائدة مرّة أُخرى!

لقد حَوَّل فقدان القيادة الرشيدة، وغياب الثقافة الصحيحة حياة العرَب، من جانب، وانتشار الفساد والفحشاء من جانب آخر إلى حياة حيوانية مُزرية حتّى أنّ صفحات التاريخ تروي لنا أخباراً وقصصاً مفصّلة عن حروب دام بعضها خمسين عاماً، وبعضها الآخر مئة عام قد نشبت بين القبائل العربية لأسباب بسيطة ودوافع تافهة جدّاً.

ص:45

لقد أدّى عدم سيادة النظام والقانون على الحياة العربية، وعدم وجود حكومة قويّة مسيطرة على الأوضاع، تُوقف البغاة والمتمرّدين عند حدودهم، إلى أن يعيش العرب - آنذاك - في صورة القبائل الرُحّل، ويرحلوا في كلّ سنة إلى منطقة معيّنة من الصحراء التماساً للعشب والماء لأنفسهم ولأنعامهم، فإذا عثروا على ماء وعُشب أو شيء من آثار الحياة نزلوا عنده، وأنزلوا رحالهم بجواره، فإذا سمعوا عن وجود مكان أفضل استأنفوا رحلتهم الصحراوية التماساً لحياة أكثر بركة، وعطاء، وأوفر خصباً وأمناً. هذه الحيرة وهذا الضياع وعدم الاستقرار كان ناتجاً من أمرين:

الأوّل: سوء الأوضاع الجغرافية ورداءة الأحوال الطبيعية للجزيرة العربية، وخاصّة من حيث الماء والمناخ والمراعي.

والثاني: الحروب والمصادمات الدمَوية الكثيرة، واضطراب الأحوال الاجتماعية، الّتي كانت تُلجئ جماعات كثيرة إلى التنقل الدائم والرحيل عن الأوطان ومغادرتها، وعدم الاستقرار في منطقة واحدة.

هل كانَ للعرب حضَارةٌ قبل الإسلام؟

يستنتج مؤلّف كتاب «حضارة العرب» من دراسته لأوضاع العرب في الجاهلية أنّهم كانوا أصحاب حضارة عريقة سبقت الإسلام بقرون.

فالقصور الضخمة الّتي أقاموها في مختلف نقاط ومناطق الجزيرة العربية، والعلاقات التجارية الّتي كانت لهم مع أرقى شعوب الأَرض، شواهد قوية على تمدّنهم وحضارتهم الغابرة، لأنّ قوماً أنشأوا المدن العظيمة - قبل الرومان بقرون كثيرة - وكانت علاقاتهم بأرقى وأكبر شعوب الأرض وثيقة، لا يمكن عدّهم همجاً، وشعباً بلا حضارة.

ص:46

ثم إنّه يستدل - في موضع آخر من كتابه - على حضارة العرب الغابرة بآدابهم ووحدة وكمال لغتهم إذ يقول:

«ولو كان التاريخ صامتاً إزاء حضارة لقطعنا - مع ذلك - بوجودها قبل ظهور «محمَّد» بزمن طويل، ويكفي لتمثّلها أن نذكر أنّه كان للعرب آداب ناضجة ولغة راقية.

والحق أنَّ الآداب واللغة من الأُمور الّتي لا تأتي عفواً، وهي تتّخذ دليلاً على ماض طويل، وينشأ عن اتّصال أُمّة بأرقى الأُمم اقتباسُها لما عند هذه الأُمم الراقية من التمدّن إذا كانت أهلاً لذلك».

وقد خَصَّصَ المؤلّفُ المذكور صفحات عديدة في كتابه لإثبات حضارة عريقة وعظيمة للعرب قبل الإسلام معتمداً في ذلك على ثلاثة أُمور:

1. وجود لغة راقية.

2. وجود علاقات مع الأُمم الراقية.

3. وجود قصور وأبنية ضخمة، وفخمة في اليمن كما يصفها المؤرّخان المسيحيان المعروفان «هيردوتس» و «ارتميدور» اللذان كانا يعيشان قبل المسيح بقرون، وقدامى المؤرخين المسلمين كالمسعودي(1).

لا كلام في أنّه كانت هناك في بعض مناطق الجزيرة العربية بعضُ حضارات، ولكن الأدلّة الّتي استند اليها المؤلفُ المذكورُ لا يمكن أن تكون شاهداً ودليلاً على وجود الحضارة في جميع نقاط الجزيرة العربية أبداً.

صحيح أنّ تكامل اللغة يسير جنباً إلى جنب مع غيره من مظاهر المدنيّة، ولكن لا يمكن أن نعتبر اللغة العربية لغة مستقلة وغير مرتبطة باللغات الأُخرى، أي

ص:47


1- . لاحظ: حضارة العرب: 78-100.

العبرانية والسريانية والآشورية والكلدانية، لأنّ جميع هذه اللغات - حسب ما يؤيّده ويؤكّده المتخصّصون في علم اللغات - كانت ذات يوم متّحدة الأصل، وقد تشعّبت من لغة واحدة، وفي هذه الحالة يحتمل أن تكون اللغة العربية قد حقّقت تكاملها عبر اللغة العبرانية أو الآشورية، وبعد تكاملها أصبحت لغة مستقلة، أي أنّ الآخرين أسهموا في تكميلها.

كما أنه لا شكّ أنّ وجود علاقات تجارية مع الأُمم والشعوب الراقية هو الآخر دليل على الحضارة والمدنية، إلّاأنّه هل كانت جميع مناطق الجزيرة العربية تملك مثل هذه العلاقات، أم إنّ أكثرها كانت محرومة من ذلك؟

هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى فإنّ وجود علاقات بين حكومتين في الحجاز وهما:

«الحيرة وغسّان» وبين حكومتي «الفرس» و «الروم» لا يدل أبداً على وجود حضارة في المنطقتين الحجازيتين، إذ أن جميع هذه الحكومات كانت متّصفة بالعمالة، فإنّ الكثير من البلاد الافريقية هي اليوم من مستعمرات الدول الأُوربية ومع ذلك لا توجد فيها أيّة مؤشرات ولا أيّة مظاهر من الحضارة الغربية الواقعية. طبعاً لا يمكن إنكار حضارة «سبأ ومأرب اليمن» العجيبة لأنّه مضافاً إلى ما جاء حول هذه الحضارة في التوراة، وما نُقِلَ عن «هيردوتس» وغيره، كتبَ المؤرّخ المعروفُ «المسعودي» عن مأرب يقول: إنّ أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن وأَثراها وأغدقها، وأكثرها جناناً وغيطاناً وأفسحها مُروجاً، مع بُنيان حسن، وشجر مصفوف، ومساكب للماء متكاثفة، وأنهار وأزهار متفرّقة، وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجدّ على هذه الحالة، وفي العرض مثل ذلك، وأنّ الراكب والمارّ كان يسير في تلك الجنان من أوّلها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا تواجهه الشمس ولا تعارضه لاستتار الأرض بالعمارة الشجرية واستيلائها عليها وإحاطتها

ص:48

بها، وكان أهلها في أطيب عيش وأرفهه، وأهنأ حال وأرغد قرى، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء، وتدفُّق الماء وقوة الشوكة، واجتماع الكلمة، ونهاية المملكة... فذلّت لهم البلاد، وأذعن لطاعتهم العباد فصاروا تاج الأرض.(1)

وخلاصة القول: إنّ هذه الدلائل لا تدلّ على وجود حضارة في كلّ مناطق الجزيرة العربية وخاصّة منطقة الحجاز الّتي لم تذق طعم الحضارة أبداً، حتّى أنّ «غوستاف لوبون» نفسه يعترف بهذه الحقيقة إذ يقول: إنّ جزيرة العرب نجَتْ من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية، وإنّ عظماء الفاتحين من مصريّين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممّن انتهبوا العالم لم يَنالوا شيئاً من جزيرة العرب الّتي أوصدت دونهم أبوابها.(2)

وعلى فرض صحّة كلّ ما قيلَ عن وجود حضارة شاملة في جميع مناطق الجزيرة العربية فإنّه يجب القول بأنّ القدر المسلَّم في هذا المجال هو أنّه لم يبق أي أثر من هذه الحضارات في منطقة الحجاز، إبان طلوع الإسلام، وبزوغ شمسه، وهي حقيقة يصرّح بها القرآن الكريمُ إذ يقول تعالى: «وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» .(3)

وينْبغي هنا أن نقف عند القرآن الكريم قليلاً - كما وعَدْنا بذلك - فإنّه خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بدقّة متناهية وبشمولية ماوراءها شمولية.

ملامح المجتمع الجاهلي العربي من منظار القرآن الكريم

اشارة

إنّ القرآن يكشف إجمالاً عن أنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بُعِثَ إلى قوم لم يبعث إليهم

ص:49


1- . مروج الذهب: 2/161 و 162.
2- . حضارة العرب: 93.
3- . آل عمران: 103.

أحدٌ قبله إذ يقول: «وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .(1)

ويقول في آية أُخرى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» .(2) ومن المعلوم أنّ المقصود في هاتين الآيتين ونظائرهما هم قريش والقبائل القريبة منها.

على أنّ أشمل وصف قرآنيّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي وأحواله هو قول اللّه تعالى: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» .(3)

فإنَّ هذه الآية تصوّرُ حياة العرب تصويراً مرعباً، إذ تُصوِّرُهُمْ أوّلاً وكأنّهم قد سقطوا في قعر بئر الجاهلية، والضلال، والشقاء، فلا ينقذهم شيء من قعر التردّي والسقوط إلّاالتمسُّك بحبل اللّه، حبل الإيمان والقرآن.

وتصوِّرُهُمْ ثانياً وكأَنّهم على شفير جهنم يوشك أن يسقطوا فيه ويهووا في نيرانه، وليست تلك النار إلّانيران العداوات والحروب الّتي لو لم يقض عليها الإسلامُ بتعاليمه لأحرقت حياة العرب جميعاً.

هذه هي صورةٌ سريعةٌ عمّا كان عليه العرب في الجاهلية من جهل وتردّي.

وأمّا تفصيل ذلك فيمكن الوقوف عليه بمراجعة الآيات الأُخرى التي تعرضت لذكر عادات العرب وأخلاقهم، وأفعالهم، وتقاليدهم، بصورة مفصّلة، وها نحن نشير هنا إلى تلكم العادات والأخلاق الفاسدة على ضوء تلك الآيات على

ص:50


1- . القصص: 46.
2- . السجده: 3.
3- . آل عمران: 103.

نحو الاختصار تاركين التوسّع في ذلك إلى مجال آخر.

لقد اتّصف المجتمعُ العربيُ الجاهلي قبل الإسلام وشاعت فيه أخلاق وعادات من أبرزها مايلي:

1. الشِرْكُ في العِبادة

صحيح أنّ العرب في الجاهلية كانت - كما يكشف القرآن ذلك لنا - موحِّدة في جملة من الأُمور والمجالات كالخالقية والذات،(1) إلّاأنّهم كانوا - في الأكثر - مشركين في العبادة، بل قد ذَهبُوا في هذا السبيل الباطل إلى أحطَّ المستويات في اتّخاذ المعبودات والوثنية.

وإلى ذلك يشير قوله تعالى: «وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَصِفُونَ» .(2)

وقوله تعالى: «أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَ الْعُزّى * وَ مَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى» .(3)

وغير ذلك من الآيات الّتي تشير إلى ما كانَ يعبُدُه الجاهِليُّون مِن أوثان وأصنام ومبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط، واسفاف وانحراف في هذا المجال.

2. إنكارُ المعاد

كان المشركون والجاهليّون يرفُضُون الاعتراف بالمعاد الّذي يعني عودة الإنسان إلى الحياة في عالم آخر للحساب والجزاء، ويصفون مَن يخبر عن ذلك

ص:51


1- . نعم يُستَفاد من آيةٍ واحدةٍ أنّه كان هناك اتجاهٌ نادرٌ بين العرب في الجاهلية ينسب الظواهرالطبيعية إلى الطبيعة والدهر يقول اللّه تعالى: وَ قالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ» (الجاثية: 24).
2- . الأنعام: 100.
3- . النجم: 19 و 20.

اليوم بالجنون أو الكذب على اللّه!!

يقول تعالى: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ» .(1)

3. هَيْمَنةُ الخرافات

لقد كانت حياة العرب الجاهلية مليئةً بالخرافات الّتي كان منها تحريمهم الأكل من أنعام أربعة ذكرها القرآن مندّداً بهذه البدعة إذ قال: «ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» .(2)

البحيرة على وزن فعيلة بمعنى المفعول من البحر وهو الشق، وبحرت أُذن الناقة أبحرها بحراً: إذا شققتها شقاً واسعاً. وهي الناقة إذا كانت نتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكراً - وقيل أُنثى - بحروا أُذنها وامتنعوا من ركوبها ونحرها، ولا تُطرد عن ماء، ولا تُمنع من مرعى، وإذا لقيها المعيى لم يركبها.(3)

والسائبة: على وزن فاعلة من ساب الماء إذا جرى على وجه الأرض. وهي المخلاة وهي المسيبة. وكانوا في الجاهلية إذا نذر إنسان نذراً لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في التخلية.(4) وقيل هي الّتي تسيّب للأصنام أي تعتق لها. وقيل: إنّ السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر

ص:52


1- . سبأ: 7 و 8.
2- . المائدة: 103.
3- . مجمع البيان: 3/430-431.
4- . التبيان: 4/38.

إناث ليس فيهن ذكر، سيبت فلم يركبوها ولم يجزّوا وبرها ولم يشرب لبنها إلّا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أُنثى شق أُذنها، ثم يخلّى سبيلها مع أُمها وهي البحيرة.(1)

الوصيلة: على وزن فعيلة وهي في الغنم كانت الشاة إذا ولدت أُنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكراً وأُنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جدياً ذبحوه لآلهتهم ولحمه للرجال دون النساء، وإن كان عناقاً استحيوها وكانت من عرض الغنم، وإن ولدت في البطن السابع جدياً وعناقاً قالوا: إنّ الأُخت وصلت أخاها فحرّمته علينا، فحرما جميعاً، فكانت المنفعة واللبن للرجال دون النساء.

وقيل: الوصيلة: الشاة إذا أتأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر، جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت، فكان ما ولدته بعد ذلك للذكور دون الإناث.(2)

والحام: هو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمي ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء، ولا من مرعى.3

والظاهر أنّ هذا المذهب تجاه هذه الأنواع من الأنعام كان بدافع الاحترام والشكر لما وهب أصحابها من النعم والبركات، غير أنّ هذا العمل - كان في حقيقته - نوعاً من الإيذاء والإضرار بهذه الحيوانات، لأنّهم كانوا يُهملونها ويحرمونها من العناية اللازمة فكانت تشقى بقية حياتها، وتقاسي من الحرمان، مضافاً إلى ما كان يصيبُها من التلف والضياع، وما يلحق ثروتهم والنعم الّتي وهبها اللّه لهم من هذا الطريق من الضرر والخسارة.

ص:53


1- . مجمع البيان: 3/430 و 432.
2- (2و3) . مجمع البيان: 3/432.

والأسوأ من كلّ ذلك أنّهم - كما يُستفاد من ذيل الآية - كانوا ينسبون هذه المبتدعات المنكرات وهذا المنع والحظر إلى اللّه سبحانه وتعالى، إذ يقول سبحانه: «وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ» وقد أعلمَ اللّه في مطلع الآية أنّه لم يحرّم مِن هذه الاشياء شيئاً، وأنّهم ليكذبون على اللّه بادّعائهم أنّ هذه الأشياء من فعل اللّه أو أمره.

وقد أشار القرآن إلى هذه الخرافات الّتي كانت تُكبّل عقول الناس في ذلك المجتمع إذ يقول: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» .(1)

4. الفساد الأخلاقي

كان المجتمع الجاهلي العربي يعاني من فساد ذريع في الأخلاق، وقد أشار القرآن الكريم إلى اثنين من أبرز وسائل الفساد ومظاهره هما: القمار (الّذي كانوا يسمّونه بالميسر، وإنّما اشتق من اليسر لأنّه أخذ مال الرجل بيُسر وسهولة من غير كدٍّ ولا تعب) والخمر.

وقد بلغ شغفهم بالخمر أنّهم أعرضوا عن قبول الإسلام واعتناقه لأنّه يحرّم تناول الخمر وشربه، كما نقرأ ذلك في قصة الأعشى عمّا قريب.

يقول القرآنُ في هذا الصعيد: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» .(2)

وقد استطاع القرآن الكريم عبر مراحل أربع أن يستأصل هذه العادة البغيضة الّتي كانت قد تجذرت بشكل عجيب في نفوس أُولئك القوم، حتّى أصبحت السمة البارزة لحياتهم وأصبح التغنّي بالخمرة، ووصفها الطابع الغالب لآدابهم،

ص:54


1- . الأعراف: 157، وراجع المحبّر: 330-340.
2- . البقرة: 219.

واللون البارز الّذي يصبغ قصائدهم وأشعارهم.

على أنّ الفساد الأخلاقي في المجتمع الجاهلي العربي قبل الإسلام لم يكن ليقتصر على معاقرة الخمر، ومزاولة الميسر؛ بل تعدّى إلى ألوان أُخرى ذكرها القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعاً، حيث عدّ منها الزنا، واللواط، والقذف، وإكراه الفتيات على البغاء، وما شاكل ذلك.(1)

5. وَأدُ البنات وإقبارُهن

يشير القرآن الكريم أيضاً إلى عادة جاهلية سيئة أُخرى كانت رائجة بين قبائل العرب الجاهلية قاطبة وهي دفن البنت حيةً.

فقد شجب القرآن الكريم هذه العادة البغيضة وهذا العمل اللا إنساني ونهى عنه بشدة في أربعة مواضع، إذ قال تعالى: «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» (2). وقال تعالى: «وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً» .(3)

وقد أتى جدُ «الفرزدق» «صعصعة بن ناجية بن عقال» رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعدّ من أعماله الصالحة في الجاهلية أنّه فدى مئتين وثمانين موؤدة في الجاهلية، وأَنقَذهُنَّ من الموت المحتَّمْ باشترائهنَّ من آبائهن بأمواله.

وقد افتخر «الفرزدق» بإحياء جدِّه للموءُودات في كثير من شعره إذ قال:

ومنّا الّذي منَع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يُوأد(4)

ص:55


1- . راجع للوقوف على ذلك: سورة النساء: 15 و 16. وسورة النور: 2 و 3 وغيرها. وراجع المحبّر: 330-340.
2- . التكوير: 8 و 9.
3- . الإسراء: 31.
4- . بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 3/45-46.
6. تصوّراتهم الخرافية حول الملائكة

وممّا أشار إليه القرآن الكريم تصورات عرب الجاهلية حول الملائكة، فقد كانوا يعتقدون أنّ الملائكة من الإناث وأنّهن بنات اللّه، إذ يقول تعالى:

«فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» .(1)

7. كيفية الانتفاع من الأنعام

إذا كانت العربُ الجاهلية تمتنع من تناول لحوم الأنعام الأربعة المذكورة آنفاً وتجتنب عن استعمال ألبانها وشعورها وأصوافها إلّاأنّها كانت في المقابل تتناول الدم، والميتة والخنزير، وتأكل من الحيوانات والأنعام الّتي تقتلها بصورة قاسية، وبالتعذيب والأذى، وربّما كانت تعتبر ذلك نوعاً من العبادة، ويُعرف ذلك من الآية التالية الّتي نزلت تنهى بشدة عن أكل هذه اللحوم، وتحرّم تناولها، إذ يقول سبحانه:

«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ» .(2)

فقد حرم اللّه في هذه الآية أكل:

1. الميتة.

2. الدم.

3. لحم الخنزير.

ص:56


1- . الصافّات: 149-154.
2- . المائدة: 3.

4. ما ذكر اسم غير اللّه عليه.

5. الّتي تموت خنقاً، وهي المنخنقة.

6. الّتي تضرب حتّى تموت، وهي الموقوذة.

7. الّتي تقع من مكان عال فتموت وهي المتردية.

8. الّتي تموت نطحاً من حيوان آخر وهي النطيحة.

9. ما افترسه سبع إلا إذا ذُكي قبل موته.

10. وما ذُبِح أمام الأصنام.

8. الاستقسام بالأزلام

فقد كان تقسيم لحم الذبيحة يتم عن طريق الأزلام، والأزلام جمع (زلم) بوزن (شَرَف) وهي عيدان وسهام تستخدم في ما يشبه القرعة لتقسيم لحم الذبيحة.

فقد كان يشتري عشرة أنفار بعيراً ثم يذبحونه، ثم يكتبون على سبعة منها اسهماً مختلفة من الواحد إلى السبعة ولا يكتبون على ثلاثة منها شيئاً، ويجعلونها في كيس ثم يستخرجونها واحدة بعد أُخرى، كلُ واحدة باسم أحدهم فيأخذ كل واحد منهم من الذبيحة ما خرج له من السهم، وهكذا يقتسمون الذبيحة بينهم(1)، فنهاهم اللّه عن ذلك بقوله: «وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ» لأنَّه ضربٌ من القمار الّذي ينطوي على مفاسد الميسر والقمار.

9. النسيء

كان العرب الجاهليون يعتقدون حرمة الأشهر الحرم (وهي أربعة: المحرّم،

ص:57


1- . راجع للوقوف على تفصيل هذه الطريقة بلوغ الأرب: 3/62-63، والمحبّر: 332 و 335.

ورجب وذوالقعدة، وذوالحجة) فكانوا يتحرجّون فيها من القتال، وجرت عادة العرب على هذا من زمن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

إلّا أنّ سَدَنة الكعبة أو رؤساء العرب كانوا يعمَدُون أحياناً، ولقاء مبالغَ يأخذُونها، أو جرياً مع أهوائهم، إلى تأخير الأشهر الحُرمَ، وهو الأمر الّذي عبّر عنه القرآن الكريم بالنسيء ثمّ نهى عنه وعدّه كفراً إذ قال: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» .(1)

وقد ذكرت كُتُب التاريخ والسير كيفية النسيء وتأخير الأشهر الحرم، الّذي كان يتمّ بصور مختلفة منها: أنّ جماعة ما لو كانت ترغب في استمرار الغارة والقتال ولم تطق تأخير الحرب مدة الأشهر الحرم كانت تطلب من سدنة الكعبة، لقاء ما تقدّمه لهم من هدايا وأموال، تجويز الغارة والقتال في شهر مُحرّم، وتحرم القتال في شهر صفر بدله ليتم عدد الأشهر الحرم (وهي أربعة). وهذا هو معنى قوله تعالى:

«لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللّهُ» وكانوا إذا أحلُّوا الْقتالَ والغارة في المحرّم من سنة حَرَّمُوه في المحرّم مِنَ السَنة التالية، وهذا هو معنى قوله تعالى: «يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً» .

10. الربا

وممّا يشير إليه القرآنُ الكريم من المفاسد الشائعة، والأعمال المنكرة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام: «الربا» الّذي كان يشكل العمود الفقري في اقتصاد ذلك المجتمع.

وقد حاربَ القرآنُ الكريمُ هذه العادة المقيتة، وهذا الفسادَ الاقتصادي حرباً

ص:58


1- . التوبة: 37.

شعواء، إذ قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ» .(1)

والعجيب أنهم كانُوا يُبرّرونَ هذا العمل اللا إنساني بقولهم «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» (2) فإذا كان البيعُ حلالاً وهو أخذ وعطاء فليكن الرّبا كذلك حلالاً، فإنّه أخذٌ وعطاء أيضاً، مع أن «الرّبا» من أبشع صور الاستغلال، وقد ردَّ سبحانه على هذه المقالة بقوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا» (3) ففي البيع والشراء يتساوى الطرفان في تحمّل الضرر المحتمل، بينما لا يتضرّر المرابي في النظام الربوي أبداً وإنّما يلحق الضرر بمعطي الربا دائماً، ولهذا تنمو المؤسّسات الربوية، ويعظم رصيدُها، وثروتها يوماً بعد يوم فيما يزداد الطرفُ الآخر بؤساً وفقراً، ولا يحصل من جهوده المضنية إلّاعلى ما يسدُّ جوعته، ويقيم أوده، لا أكثر، كلُّ ذلك نتيجة لهذا الأُسلوب الاقتصادي غير العادل.

صورٌ من الوضع الجاهلي

ما قدّمناه كان أبرز المفاسد الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الّتي أشار اليها القرآن الكريمُ، وأمّا التاريخ فمليء بالصور والقصص الّتي تحكي عن تردّي حالة العرب الجاهلية وسقوطها الفظيع في قعر الفساد في جميع المناحي والجهات.

واليك في ما يلي نماذج وصوراً معدودة تكفي للوقوف على الحالة العامّة في ذلك المجتمع نقتبسها لك من أصحّ المصادر وأوثقها:

ص:59


1- . البقرة: 278 و 279.
2- . البقرة: 275.
3- . البقرة: 275.

وها نحن نقدم قصة «أسعد بن زرارة» الّتي تسلّط الضوء على ما كان عليه الوضع الجاهلي في أكثر مناطق الحجاز، فقد قال الطبرسي في «إعلام الورى بأعلام الهدى»: قدم «أسعد بن زرارة» و «ذكوان بن عبد قيس» وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلاً، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم «يوم بُعاث» وكانت للأوس على الخزرج؛ فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنّه كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب الحلف عليهم، فقال له عتبة: بعدت دارنا من داركم ولَنا شغل لا نتفرّغ لشيء. قال سعد: وما شغلكم وأنتمْ في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة: خرج فينا رجلٌ يدّعي أنّه رسول اللّه، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا وأفسدَ شُبّاننا، وفرّق جماعَتَنا، فقال له أسعد: مَن هو منكم؟ قال: ابن عبداللّه بن عبدالمطلب من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً. وكان أسعد وذكوان، وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم - النضير وقريظة وقينقاع - أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنكم به يا معشر العرب، فلمّا سمعَ ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعَ من اليهود، قال: فأينَ هو؟ قال: جالس في الحجر، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّافي الموسم، فلا تسمع منه ولا تكلّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصَرة بني هاشم في الشعب، فقال له «أسعد»: فكيف أصنعُ وأنا معتمر لابدَّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال: ضعْ في أُذنيكَ القطنَ، فدخل «أسعدُ» المسجد وقد حشا أُذُنيه بالقطن، فطاف بالبيت ورسول اللّه جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه، فلمّا كان في الشوط الثاني قال في نفسه:

ما أجد أجهلَ مني؟ أيكونُ مثل هذا الحديث بمكّة فلا أتعرّفه حتّى أرجع إلى قومي

ص:60

فأخبرهم، ثم أخذ القطن من أُذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنعَمْ صباحاً، فرفع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رأسه إليه وقال: قد أبدَلَنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم، قال له أسعد: إنَ عهدَك بهذا لقريب، إلى مَا تدعُويا محمَّد؟ قال: إلى شهادة ألّا إله إلّااللّه، وإنّي رسولُ اللّه، و أدْعُوكُمْ إلى: «أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .(1)

فلمّا سمع «أسعد» هذا قال له: أشهد أن لا إله إلّااللّه، وأنك رسولُ اللّه، يا رسول اللّه بأبي أنت وأُمّي....(2)

إنّ الامعان في مفاد هاتين الآيتين يغنينا عن دراسة شاملة وواسعة لأوضاع العرب الجاهلية؛ لأنّ هاتين الآيتين تكشفان عن الأمراض الأخلاقية الّتي كانت تكتنف حياة العرب الجاهلية. ولهذا تلا رسول اللّه الآيات الّتي تشير إلى هذه الأدواء والأمراض ليلفت نظر «أسعد» إلى أهداف رسالته الكبرى.

العقيدة والدين في الجزيرة العربية

عند ما رفع «إبراهيم الخليل» عليه السلام لواء التوحيد في البيئة الحجازية، وأعاد بناء الكعبة المعظمة ورفع قواعدها بمعونة ابنه «إسماعيل»، تبعه في ذلك طائفة من الناس ممّن أنار اللّه به قلوبهم، إلّاأنّه من غير المعلوم إلى أيّ مدى استطاع ذلك

ص:61


1- . الأنعام: 151-152.
2- . بحار الأنوار: 19/8-9؛ إعلام الورى: 1/137-138.

النبيّ العظيم أن يعمّم دين التوحيد ويبسط لواءه على الجميع، ويؤلّف صفوفاً متراصّة، وجبهة عريضة قويّة من الموحّدين، غير أنّ من المعلوم أنّه أصبحت تلك المنطقة مسرحاً للوثنية ولعبادة الأشياء المختلفة مع الأيام فقد كانت الطبقة المثقّفة من العرب تعبد الكواكب والقمر، فهذا هو المؤرّخ العربي الشهير الكلبي الّذي توفّي عام 206 هجرية يكتب في هذا الصدد قائلاً كان «بنومليح» من خزاعة يعبدون الجن، وكانت «حمير» تعبد الشمس، و «كنانة» تعبد القمر، و «تميم» الدبران، و «لخم» و «جذام» المشتري، و «طي» سُهيلاً، و «قيس» الشِّعرى، و «أسد» عطارداً.

أمّا الدهماء والذين كانوا يشكلون أغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون - مضافاً إلى الصنم الخاص بالقبيلة أو العائلة - ثلاثمئة وستين صنماً، وكانوا ينسبون أحداث كلّ يوم من أيّام السنة إلى واحدٍ منها.

وقد دخَلَتْ عبادةُ الأصنام والأوثان في مكّة بعد «إبراهيم الخليل» عليه السلام على يد «عمر بن لحي»، ولكنّها لم تكن في بداية أمرها بتلك الصورة الّتي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها في بداية الأمر شفعاء إلى اللّه ووسطاء بينه وبينهم، ولكنّهم تجاوزوا هذا الحدّ في ما بعد حتّى صاروا يعتقدون شيئاً فشيئاً بأنّها ذوات قدرة ذاتية مستقلة، وأنّها بالتالي آلهة وأرباباً.

وكانت الأصنام المنصوبة حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية، ولكن الأصنام الخاصّة بالقبائل كانت موضع احترام جماعة خاصّة فقط، ولأجل أن تبقى حرمة هذه الأصنام والأوثان الخاصّة محفوظة لا يمسّها أحد بسوء كانوا ينشئون لها أماكن وبيوت خاصّة، وكانت سدانة هذه البيوت والمعابد تنتقل من جيل إلى آخر بالوراثة.

أمّا الأصنام العائلية فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم وليلة، فإذا أراد

ص:62

أحدهم السفر كان آخر ما يصنعه في منزله هو أن يتمسّح به أيضاً.

وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها، واتخذهُ رَبّاً وجعَلَ ثلاثة أثافيّ لقدْره، وإذا ارتحل تركه.

وكان من شَغَفَ أهلِ مكّة وَحُبّهم للكعبة والحرم أنّه كان لا يسافر منهم أحدٌ إلّا حَمَل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، وحبّاً له فحيثما حلّوا نصبوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة بها، ويمكن أن تكون هذه هي «الأنصاب» الّتي فُسّرت بالأحجار العادية غير المنحوتة وتقابلها الأوثان، وهي الأحجار المنحوتة على هيئة خاصّة، وأمّا «الأصنام» فهي المعمولة من خَشَب أو ذهب أوفضة على صورة إنسان.

لقد بلغ خضوعُ العرب أمام الأصنام والأوثان حدّاً عجيباً جدّاً، فقد كانوا يعتقدون بأنّهم يستطيعون كسبَ رضاها بتقديم القرابين إليها، وكانوا بعد نحر الهدايا يلطخون وجوه الأصنام ورؤوسها بدماء تلك الهدايا، وكانوا يستشيرونها في مهام أُمورهم، وجلائل شؤونهم، فإذا أرادوا الوقوف على مستقبل الأمر الّذي تصدّوْا له ومعرفة عاقبته أخيرٌ هو أم شرٌ استقسمَ لهم أمين القداح بقدحي (الأمر والنهي) وهيَ قطع كُتِبَ على بَعضها (إفْعَلْ) وعلى بعضها الآخر (لا تَفْعَلْ) فيمدُّ أمين القداح يده ويجيل القداح ويخرج واحداً فإنْ طَلَع الآمر فعل أو الناهي ترك.

وخلاصة القول: إنّ الوثنيّة كانت هي العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية، وقد تفشَّتْ فيهم في مظاهرَ متنوّعة ومتعدّدة، وكانت الكعبة المعظّمة - في الحقيقة - محطَّ أصنام العرب الجاهلية وآلهتهم المنحوتة، فقد كان لكلّ قبيلة في هذا البيت صنم، وبلغ عدد الأصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (360) صنماً في مختلف الأشكال والهيئات والصور، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة، وقصّة إبراهيم.

ص:63

وكان من جملة تلك الأصنام: «اللات» و «العُزّى» و «مناة» الّتي كانت تعتبرها قريش بنات اللّه وتختص عبادتها بقريش.

وكانت «اللات» تعتبر أُمُّ الآلهة، وكان موضعها بالقرب من «الطائف» وكانت من الحجر الأبيض، وأمّا «مناة» فكانت في عقيدتهم إلهة المصير وربَّة الموت والأجل وكان موضعها بين «مكّة» و «المدينة».

ولقد اصطحب «أبوسفيان» معه يوم «أُحد»: «اللات» و «العزّى».

ويروى أنّه مرض ذات يوم «أبو أُحيحة» وهو رجل من بني أُمية، مرضه الّذي مات فيه، فدخل عليه أبولهب يعوده، فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا با أُحيحة؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ قال: لا ولكني أخاف أن لا تُعبَد العزّى بعدي! قال أبولهب: واللّه ما عُبدَت حياتك (لأجلك) ولا تُترك عبادتُها بعدك لموتك!! فقال أبو أُحيحة: الآن علمتُ أنّ لي خليفة(1).

ولم تكن هذه هي كلّ الأَصنام الّتي كانت تعظِّمها وتعبُدُها العربُ بل كانت لقريش أصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان أعظمها «هُبَل»، كما أنّه لم يكن لكلّ قبيلة صنم خاص فحسب، بل كانت كلّ عائلة تعبد صنماً خاصّاً بها مضافاً إلى صنم القبيلة، وكانت المعبودات تتراوح بين الكواكب، والشمس، والقمر، والحجر، والخشب، والتراب، والتمر، والتماثيل المنحوتة المختلفة في الشكل، والهيكل، والاسم، المنصوبة في الكعبة أو في سائر المعابد. لقد كانت الأصنام جميعها أو أغلبها معظَّمة عند العرب، يتقرّبون عندها بالذبائح ويقرّبون لها القرابين، وجرت عادة بعض القبائل آنذاك أن تختار من بين أفرادها كلّ سنة شخصاً في مراسيم خاصّة ثم تذبحه عند أقدام أصنامها، وتقبر جسده على مقربة من المذبح.

ص:64


1- . الأصنام للكلبي: 23.

هذا العرض المختصر يكشف لنا كيف أنّ أرض الجزيرة العربية برمّتها كانت قد أصبحت مسرحاً للأصنام ومستودعاً ضخماً للأوثان، وكيف تحوّلت هذه البقعة من العالم ببيوتها وأزقتها وصحاريها وحتّى بيت اللّه المحرم كانت قد تحولت إلى مخزن للنُّصُب المؤلَّهة، والتماثيل المعبودة، ويتجلّى هذا الأمر من قول شاعرهم الّذي أسلم وراح يستنكر ما كان عليه من عبادة الأصنام المتعدّدة الخارجة عن الإحصاء والعدّ، إذ قال:

أَرَبّاً واحِداً أمْ ألف رَب أدينُ إذا تقسَّمَتِ الأُمورُ

عَزلتُ اللاتَ والعزى جميعاً كذلك يَفعَلُ الجَلِدُ الصَبُور

فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها ولا صَنَميْ بني عمرو أزُورُ

ولا غنماً أزورُ وكان ربّاً لنا في الدهر إذ حلمي يسيرُ

ولكن أعبدُ الرحمان رَبِّي لِيَغْفِرَ ذَنبِيّ الربُّ الغفُورُ(1)

وقد حدثت بسبب الاختلاف والتعدّدية في عبادة الأصنام والأوثان المؤلَّهة السخيفة الباطلة، تناقضاتٌ، وصراعاتٌ، وحروب ومناحرات، قد جرّت بالتالي ويلات ومآس وخسائر مادّية ومعنوية كبرى على تلك الجماعة المتوحشة، الضالّة.

***

عقيدة العرب حول حالة الإنسان بعد الموت

وعن مصير الإنسان وحالته ما بعد الموت هذه المشكلة الفلسفية العويصة كانت رؤية العرب ونظرتهم تتلخّص في ما يلي:

ص:65


1- . بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 3/249.

عند ما يموت الإنسان تخرج روحه من جسده على هيئة طائر شبيه بالبوم يسمى عندهم ب «الهامّة والصدى» ثم يبقى هذا الطائر قريباً من جسد الميّت ينوح نوحاً مقرحاً وموحشاً، وعند ما يوارى الميّت يبقى هذا الطائر مقيماً عند قبره إلى الأبد!

وربّما وقفَ على جدار منزل الميّت أحياناً لِتَسقُّطِ أخبار عائلته والاطّلاع على أحوالهم!!

قال شاعرهم في ذلك:

سُلِّطَ المُوتُ والمنونُ عليهم فَلَهم في صدى المقابر هامُ

وإذا كان المرء قد مات بموتَة غير طبيعية كما لو قُتِلَ - مثلاً - فإنَّ ذلك الحيوان ينادي باستمرار: «اسقوني... اسقوني» أي إسقوني بسفك دم القاتل وإراقته؛ ولا يسكن عن هذا النواح والنداء الخاص إلا بعد الانتقام والثأر من قاتله.

قال أحدهم في ذلك:

فياربّ إنْ أهلَكْ ولم تُروَ هامتي بِلَيلي أَمُتْ لا قَبرَ أَعطَشَ مِن قَبري(1)

من هنا بالضبط تتجلّى الحقيقة للقارئ ويعلم جيداً كيف أنّ تاريخ العرب ما قبل الإسلام وتاريخهم ما بعد الإسلام ما هو إلّاتاريخان على طرفي نقيض:

فذلك تاريخ جاهلية، ووثنية وإجرام، وهذا تاريخ علم ووَحدانية وإنسانية وإيمان، وشتان ما بين وأد البنات، وبين رعاية الأيتام، وبين السلب والنهب والإغارة، وبين المواساة والإيثار، وبين عبادة الأوثان والأصنام الصمّاء العمياء، والتقرّب إلى اللّه الواحد القادر.

ص:66


1- . بلوغ الأرب: 2/311-312.

الآداب مرآة أخلاق الشعوب ونفسياتها

إنّ الحركة الفكرية والثقافية، وما يتركه أيُ شعب من الشعوب من قصص وحكايات أفضل وسيلة للتعرّف على خلفياته النفسية والأخلاقية، ذلك لأنّ الآداب بما فيها الشعرُ والقصةُ، والخطبةُ والحكايةُ، والمثلُ والكنايةُ مرآةٌ صادقةٌ تعكس المستوى الفكري لأيّة جماعة، وتعتبرُ خير مقياس لتمدّنها، وحضاراتها، وأفكارها ونفسياتها، تماماً كما تحكي اللوحاتُ الفنيةُ عن حياة عائلة، أو منظر طبيعي جميل، أو اجتماعات صاخبةٍ، أو مشاهدَ قتالية.

إنَ القصائد والأَمثال العَربية الّتي كانت رائجة آنذاك تستطيع - قبل كلّ شيء - أن تكشف عن الوجه الحقيقي لتاريخهم ونمط حياتهم وسلوكهم، ولهذا السبب لا يجوز لأي مؤرّخ واقعي يسعى إلى الحصول على صورة كاملة عن تاريخ شعب من الشعوب أن يتجاهل التركة الفكرية والأدبية والثقافية لذلك الشعب، سواء أكان شعراً أم نثراً، أمثالاً أم حكماً، قصصاً أم أساطير.

ومن حسن الحظ أنّ مؤرّخي الإسلام أثبتوا وسجلوا بإتقان ما أُثِرَ من العرب ممّا يرتبط بآدابهم في العصر الجاهلي بقدر ما أُتيحَ لهم ذلك.

وقد كان أبو تمّام «حبيب بن أويس» (المتوفّى عام 231 هجرية) والّذي يُعتبر من كبار أُدباء الشيعة، وله قصائد رائعة في مدح آل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ممّن اعتنى عناية بالغة بهذه الناحية، حيث جَمع في كتابٍ واحدٍ طائفة كبيرة جدّاً من الشعر الجاهلي مفصّلة في عشرة أبواب هي:

1. الحماسة.

2. المراثي.

3. الأدب.

ص:67

4. النسيب.

5. الهجاء. 6. الإضافات.

7. الصفات.

8. السير.

9. المُلَح.

10. مذمّة النساء.

وقد تناولَ هذا الديوان التاريخيُ القيّم عددٌ كبيرٌ من أُدباء المسلمين وعلمائهم بشرح أبياته، وتفسير غوامضها، وبيان أغراضها، ومقاصدها.

كما ترجم أصلُ الديوان إلى لغات أجنبية عديدة جاء ذكر طائفة منها في كتاب «معجم المطبوعات».(1)

مكانة المرأة عند العرب الجاهلية

إنّ الباب العاشر من هذا الديوان خير وسيلة لمعرفة ما كانت عليه المرأة في العصر الجاهلي من الحرمان، وأقوى دليلٍ على أنّها كانت تعيشُ - في ظل ذلك العهد - في أسوأ الحالات وأشد الظروف وأتعسها.

هذا مضافاً إلى أنّ الآيات القرآنية الّتي تنزّلت وهي تشجبُ بعنف معاملة الجاهلين للعنصر النسائي، وقسوتهم على الأُنثى، هي الأُخرى أفضل شاهد على مدى الإنحطاط الأخلاقي والتدهور السلوكي الّذي انحدروا إليه في هذا المجال.

ص:68


1- . معجم المطبوعات: 297، وقد اشتهر هذا الديوان ببابه الأوّل: «الحماسة» فسمي ديوان الحماسة.

إنّ القرآن الكريم يصف عادة وأد البنات بقوله: «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ» (1)أي ليسأل يوم القيامة عن البنات اللاتي وُئدن وهنّ أحياء.

إنّ القرآن الكريم بهذه العبارة الموحية إنما يتحدّث - في الحقيقة - عن عادة وأد البنات بمرارة، ويشجبها بشدة حتّى أنّه يعتبرها جريمة نكراء لا تمر - في الآخرة - بدون حساب شديد، وسؤال خاص.

حقاً إنّه لأمرٌ يكشف عن مدى القسوة الّتي كانت عليها قلوبُ تلك الجماعة.

إنّها قسوة تغشى كلّ عواطف المرء فلا يعود يسمع معها نداء الضمير، ولا يحسُّ معها بوخز الوجدان، إنّه لا يعود يسمع معها حتّى صراخ بنته الجميلة البريئة، واستغاثاتها المؤلمة وهي ترى بأُمّ عينيها حفيرتها، وتحس بيدي والدها القاسي، وهو يدفعها إلى تلك الحفرة ويدفنها حيّة!

إنّها قسوة تكشف عن أسوأ وأحطّ درجات الانحطاط الخلقي، والتقهقر الإنساني.

وبنو تميم هي أوّل قبيلة أقدمت على هذه الجريمة النكراء، وكان السبب أنّ «بني تميم» امتنعوا عن دفع ضريبة الأتاوة الّتي كانت عليهم إلى الملك، فجرّد إليهم النعمان بن المنذر حاكم العراق آنذاك جيشاً كبيراً لضرب هذا التمرّد، وانتصر على «بني تميم» في المآل وغنم منهم الغنائم وسبى منهم الفتيات والنساء، فوفدت وفود «بني تميم» على النعمان بن المنذر وكلّموه في الذراري والنساء، فحكم النعمان بأن يجعل الخيار في ذلك إلى النساء، فأية امرأة اختارت زوجَها ردّت عليه، فاختلَفْنَ في الخيار، فاختار بعضهُنَّ العودة إلى الأهل والآباء، واختارت بنتٌ لقيس بن عاصم

ص:69


1- . التكوير: 8.

سابيها على زوجها مما أثار هذا الموقف والاختيار غيظ والدها العجوز «قيس بن عاصم» فنذرَ من ذلك الحين أنْ يدسَ كلَّ بنتٍ تُولَد له. وهكذا سنّ لقومه الوأد، وأخذت بقية القبائل بهذه العادة البغيضة الوحشية إرضاءً لغيرتهم وظلّوا يمارسونها أعواماً متمادية.(1)

وإليك واحدة من القصص المأساوية في هذا المجال:

قيل لماوفد «قيس بن عاصم» على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سأله بعض الأنصار عمّا يتحدّث به في الموءُودات، فأخبر أنّه ما ولدت له بنت إلّاوأدها، قال: كنتُ أخاف العار وما رحمتُ منهنَ إلّابُنيّة كانت ولدتها أُمّها وأنا في سفر، فدفعتها إلى أخواتها، وقدمت أنا من سفري فسألتها عن الحمل، فأُخبِرت أنّها ولَدت ولداً ميتاً، وكتمتْ حالها، حتّى مضت على ذلك سنونٌ، وكبرت الصبيّة، وينعت، فزارت أُمّها ذات يوم، فدخلتُ فرأيتها وقد ظفرت شعرها وجعلت في قرونها جداداً ونظمت عليها ودعاً، وألبستها قلادة من جزع، فقلت لها: من هذه الصبيّة؟ وقد أعجبني جمالها فبكت أُمّها، وقالت: هذه ابنتك، فأمسكتُ عنها حتّى غفلتْ أُمّها ثم أخرجتها يوماً فحفرتُ لها حفرة وجعلتها فيها وهي تقول: يا أبت ما تصنع؟ أخبرني بحقّك!! وجعلتُ أُقلّب عليها التراب، وهي تقول: أنت مغط عليَّ بهذا التراب، أنت تاركي وحدي، ومنصرفٌ عني، وجعلتُ أقذفُ عليها حتّى واريتها، وانقطع صوتُها، فتلك حسرتها في قلبي، فَدَمعتْ عينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «إن هذه لقسوة، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم».(2)

وقد ذكر ابن الأثير في كتابه «أُسد الغابة» في مادة: قيس: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سأل قيساً عن عدد البنات اللاتي وأدهنَّ في الجاهلية؟ فأجاب قيسٌ

ص:70


1- . بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 3/42-43.
2- . حياة محمَّد: تأليف محمَّد علي الحاج سالمين: 24 و 25.

بأنّه وأد اثنتي عشرة بنتاً له.(1)

ورُوي عن ابن عباس أنّه قال: كانت الحامل إذا قَربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإذا ولدت ولداً حبسته.(2)

المرأة ومكانتها الاجتماعية عند العرب

كانت المرأة عندهم تباع وَ تُشترى كالمتاع، وكانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعيّة والفردية، حتّى حقّ الإرث.

وقد كان المثقّفون من العرب يعُدُّون النساء من الحَيوانات، ولهذا كانوا يعتبرونهن جزءاً من أثاث البيت ويعاملونهن معاملة الرياش والفراش حتّى سار فيهم المثلُ المعروفُ: «وإنّما أُمّهات الناس أوعية».

كما أنّهم غالباً ما كانوا يقتلون بناتهم في اليوم الأوّل من ميلادهن خشية الفقر تارة، ودفعاً للعار والشنآن تارة أُخرى.

وقد كان هذا القتل يَتُمُّ إمّا بذبحهن أو إلقاءهنّ من شاهق، أو إغراقهنّ في الماء أو الدفن وهن أحياء كما سبق.

وقد تعرّض القرآنُ الكريم - الّذي يعدّ من وجهة نظر المستشرقين الكتابَ والمصدرَ التاريخي العلمي الوحيد الّذي لم تنله يدُ التحريف - تعرَّض لذكر قصة من هذا النوع ضمن آيات من سورة النحل حيث قال: «وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ * يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى

ص:71


1- . راجعُ: أُسد الغابة: 4/220، وجاء في بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 3/43 أنّه وأد بضع عشرة بنتاً.
2- . بلوغُ الأرب: 3/43.

هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» .(1)

هذا والمؤسف أكثر هو ما كان عليه وضع الزواج في الجاهلية، حيث لم يكن يستند إلى أي قانون، ولم يخضع لأيّواحد من النظم المعقولة، بل كان وضعاً عديم النظير في ذلك الزمان، فلم يكن لعدد الزوجات - مثلاً - حدّ معلوم، أو قاعدة ثابتة.

كما أنّه كلّما أرادوا التخلّص من مهر الزوجة عمدوا إلى إيذائها بقسوة، حتّى تتخلّى هي بنفسها عن حقّها، وكان اقترافها لأيّ عَمل مناف للعفة هو الآخر سبباً لسقوط حقّها في المهر بالمرّة.

ولطالما استغلَّ بعض الأشخاص هذا القانون الجائر للتخلّص مِن مهور زوجاتهم فاتّهموهن بالخيانة الزوجية!!

ومن قبيح ما كانوا يفعلون أن يتزوّج الرجل بزوجة أبيه بعد تطليقها، أو وفاته وربّما تناوب الأبناء على امرأة أبيهم واحداً بعد واحد، فقد روى محمد بن حبيب في المحبّر: وكانَ الرجل (من العرب الجاهلية) إذا مات قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه، فورث نكاحها. فإن لم يكن له حاجة فيها تزوّجها بعضُ إخوته بمهر جديد.(2)

وقد أبطل الإسلامُ هذه العادة الفاسدة حيث قال اللّه تعالى: «وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً» .(3)

ص:72


1- . النحل: 58 و 59.
2- . المحبّر: 325-326.
3- . النساء: 22، و كانوا يُسمّون من يتزوج زوجة أبيه الضيزن، وكان هذا الزواج يسمّى في الجاهلية «نكاح المقت» ويُسمّى الولد منه: مقتيّ. (راجع: بلوغ الأرب: 2/53؛ ومجمع البيان للطبرسي: 3/26.

وقد ذكرت كتبُ التاريخ والسيرة طائفة ممّن فعلوا هذا نعرض عن ذكر أسمائهم.

كما ذكرت تلك الكتب أنواعاً أُخرى من المناكح الفاسدة الشنيعة الّتي أبطلها الإسلام.(1)

ثم إنّ المطلَّقة لم يكن لها الحقّ - في زمن الجاهلية - في أن تتزوّج برجل آخر بعد انقضاء عدّتها إلّاإذا أذنَ لها الزوجُ الأوّل الّذي كان غالباً مّا يأخذ مهرها في الزواج الثاني في قبال الإذن.

وربما مَنَع أُولياؤُها من أن تتزوّج بزوجها الأوّل الّذي طلَّقها، ثم خطبها بعد انقضاء العِدّة إذا رضيَتْ به ورغبت فيه، أو أنْ تتزوّج بمن أرادَت وأحبَّت - بعد انقضاء العِدّة - أصلاً، حميّة جاهلية.

وكان الرجُل يرث امرأة ذي قرابته إذا مات عنها، تماماً كما يرث ما خَلف من أمتِعةِ المنزل، زاعماً بأنّه أحقُّ بها من غيره، فيعضلها (يمنعها من الزواج) أو ترّدُ إليه صداقها. وفي رواية: إن كانت جميلة تزوّجها، وإن كانت دميمة حبسها حتّى تموتَ فيرثها، وقد نهى اللّه تعالى عن ذلك، وأبطلَ تلك العادات إذ قال تعالى: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .(2)

وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» .(3)

وقال تعالى: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ

ص:73


1- . لاحظ: المحبّر: 337-340.
2- . البقرة: 232.
3- . النساء: 19.

سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» .(1)

وخلاصة القول؛ إنّ المرأة كانت في العَهد الجاهِليِّ بشرّ حال، ويكفي لتلخيص ما قلناهُ أنّه لمّا خطب أحدهم إلى رجل إبنَتَه، وذكَرَ لَهُ المهر والصداق قال: إنّي وإن سِيْقَ إليّ المهْر ألْف وعَبْدانِ (أي عَبيدَ ومماليك) وذَوْد (وهو من الإبل مِنَ الثلاث إلى العشر) عَشْرُ، أَحَبُّ أصْهاري إليّ القَبْرُ، وقال شاعرهم، في ذلك.

لِكُلِّ أبي بِنتٍ يُراعي شُؤْونَها ثلاثةُ أصهار إذا حمد الصهرُ

فَبَعَلٌ يراعيها وخدر يكنّها وَقبرٌ يُواريها، وأفضَلُها القبر(2)

كما أنّ العرب كانت مصفقة ومتّفقة على توريث البنين دون البنات.(3)

مقارنة بسيطة

ولو لاحظتَ أيّها القارئ الحقوقَ الّتي قرّرها الإسلام في مجال (المرأة) لأذعنتَ - حقّاً - بأنّ هذه الأحكام والمقرّرات وهذه الخطوات المؤثَرة الّتي خطاها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في سبيل إصلاح حقوق المرأة، وتحسين أوضاعها، هي بذاتها شاهدُ حق، ودليل صدق على حقانيّته، وصدق ارتباطه بعالم الوحي. فأيّة رعاية ولطف بالمرأة وحقوقها وأيُّ اهتمام بشأنها وكرامتها أعلى وأكثر من أن يوصي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم - مضافاً إلى ما جاء في آيات وأحاديث كثيرة تؤكّد على حقوق المرأة وتوصي أتباع هذا الدين بالرحمة بهن واحترامهن - في خطبته الشهيرة في (حَجّة الوداع) بالمرأة، ويؤكّد على ذلك أشد تأكيد إذ يقول صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:74


1- . البقرة: 231.
2- . بلوغ الإرب: 2/9.
3- . المحبّر: 236.

«أيّها النَّاسُ إنَّ لِنسائكُمْ عَلَيكُمْ حقّاً، ولكم عليهنَّ حقاً... فاتّقوا اللّه في النِّساء واْستوصُوا بهنَّ خيراً، فإنهنَّ عندكم عوانٌ (أي أسيرات)... أطعمُوهُنَّ ممّا تأكُلُون، واكسوهن ممّا تَلبِسُونَ».(1)

العربُ والرُّوح القتالية

من الناحية النفسية يمكن القول بأنّ عرب الجاهلية كانوا النموذج الكامل للإنسان الحريص، الموصوف بالطمَع الشديد، القويّ التعلّق بالمادّيات.

لقد كانوا ينظرون الى كلّ شيء من زاوية منافعه ومردوداته المادّية، كما أنّهم كانوا دائماً يرون لأنفسهم فضيلة وميزة على الآخرين.

كانوا يحبّون الحرية حبّاً شديداً، ولذلك كانوا يكرهون كلّ شيء يقيّد حريتهم.

يقول ابن خلدون عنهم: «إنّهم (أي العرب الجاهلية) بطبيعة التوحُّش الّذي فيهم أهلُ انتهاب وعيث، ينتهبون ما قدروا عليه... وكان ذلك عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة وهذه الطبيعة منافيةٌ للعمران ومناقضة له».

ويضيف قائلاً: «فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأنّ رزقهم في ضلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال الناس حدُّ ينتهون إليه، بل كلّما امتدت أعينهم إلى مال أو مَتاع أو ماعون انتهبوه»(2).

لقد كانت الإغارة والنهب والقتال من العادات المستحكمة عند القوم، ومن

ص:75


1- . وردت هذه العبارات في مصادر مختلفة مع شيء طفيف من الاختلاف، راجع: تحف العقول: 32-33؛ عوالي اللآلي: 1/255 برقم 16؛ سنن النسائي: 5/364 برقم 9152.
2- . مقدّمة ابن خلدون: 149.

الطبائع الثانوية في نفوسهم، وقد بلغ ولعهم وشغفهم بكلّ ذلك ونزوعهم الشديد إليه أنّ أحدهم - كما يقال - سأل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن سمع منه وصف الجنة وما فيها من نعيم: وهل فيها قتال؟

ولمّا سمع الجواب بالنفي قال: إذن لا خير فيها!!

أجل لقد سجّل التاريخ للعرب ما يقرب من (1700) وقعة وحرباً، إمتد أمدُ بعضها إلى مائة سنة أو أكثر، يعني أنّ أجيالاً كثيرة كانت تتوارث الحرب، وتستمر في قتال الخصم، وربَّ حرب دامية طويلةُ الأمد إندَلعت بسبب قضيَة تافهة.(1)

لقد كان العربي في العهد الجاهلي يعتقد بأنَ الدم لا يغسلهُ إلّاالدم، وقضية «الشنفري» الّتي هي أشبه بالأساطير لغرابتها يمكن أن تعكس مدى «العصبية الجاهلية» الّتي كانت سائدة آنذاك.

فالشنفري يُهانُ على يد رجل من «بني سلامان» فيعزم على الانتقام منه، وذلك بأن يقتل مائة من تلك القبيلة، وبعد التربُّص الطويل يغتال تسعاً وتسعين، ويبقى مشرَّداً حتّى تغتالُه جماعة من اللصوص عند بئر فتفعل جمجمته - بعد مقتله - فعلتها، اذْ تتسبَّبُ بعد مرور سنين في قتل رجل من قبيلة «بني سلامان» وبذلك يكتمل العدد الّذي حلف على قتلهم من تلك القبيلة، وذلك عندما يمر رجل من «بني سلامان» على تلك المنطقة فيهب طوفان شديد يلقي بجمجمة

ص:76


1- . العرب قبل الإسلام: 319 و 320. هذا وتعتبر حرب داحس والغبراء، من أيام العرب التاريخية قبل الإسلام، وقد نشأت بسبب سباق بين فرسين هما داحس والغبراء (وهما فرسين لقيس بن زهير من بني عبس) وفرسين آخرين (لحذيفة الغدر) انتهى إلى التنازع في السباق وازداد التنافر بين المتسابقين وانجرّ إلى طعن أحدهما الآخر، وأن تتهيّأ على إثر ذلك مقدّماتُ حرب طويلة بين قبيلتي الرجلين وحلفائهما استمرّت من عام 568 م إلى عام 608 م وهلاك الكثير من القبيلتين. (راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير: 1/566).

«الشنفري» على ذلك الرجل فتصيبُه في رجله بشدة، فيموتُ بما لحقه من ألم وجراحة.(1)

ولقد بلغ أُنس العرب الجاهلية بالقتال وسفك الدماء أن جعلوا القتل والسفك للدماء من مفاخر الرجال!!

ويبدو ذلك جليّاً لمن يقرأ قصائدهم الملحمية الّتي تفوح منها رائحة الدم، ويخيّم عليها شبح الموت، تلك القصائد الّتي يمدح فيها الشاعر نفسه أو قبيلته بما أراقوه من دماء!! وما أزهقوه من أرواح وما سبوه من نساء!! وأيتموه من أطفال!!

ونجد في البيت الشعريّ التالي مدى انزعاج الشاعر العربيّ الجاهلي لما أصابَ قبيلته مِن نكسةٍ وذل وهزيمة في ميدان القتال، إذ يقول:

فَلَيْتَ لي بِهمُو قَوماً إذا ركَبُوا شَنُّوا الإغارَة رُكباناً وفُرسانا

ويصف القرآن الكريم هذه الحالة بقوله: «وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» .(2)

الأخلاق العامّة في المجتمع الجاهلي العربي

ومهما يكن من أمر فإنّ عوامل مختلفة كالجهل وضيق ذات اليد، وجشوبة العيش، وعدم وجود قانون صحيح يحكم الحياة الاجتماعية، وحالة البداوة الموجبة للتوحّش، والكسل والبطالة وغير ذلك من الرذائل الاخلاقية كانت قد حَولَّتْ جوَّ الجزيرة العربية إلى جوّ فاسدٍ قاتمٍ، حتّى أنّ أُموراً يندى لها الجبين قد أخذت طريقها إلى حياة تلك الجماعة وراحت تتخذ شيئاً فشيئاً صفة العادات المتعارفة!!

ص:77


1- . تاريخ العرب: 1/111، وراجع أيضاً بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 2/145-146.
2- . آل عمران: 103.

لقد كانت الغارات وعملياتُ النهب، والقمار، والربا، والأسر، والسبي من الأعمال والممارسات الرائجة في حياة العرب الجاهلية، وكان شرب الخمر ومعاقرتها بلا حدود هو الآخر من الأعمال القبيحة الشائعة لديهم، ولقد ترسَّخت هذه العادة القبيحة في حياتهم إلى درجة أنّها صارت جزءاً من طبيعتهم، وحتّى أنّ شعراءهم خصّصوا مساحات كبيرة في قصائدهم لامتداح الخمرة ووصفها، وكانت الحانات مفتوحة تستقبل الزبائن طول الوقت، وقد نُصِبَت عليها رايات.

فها هو شاعرُهم يقول:

إذا متُّ فادفِنّي إلى جَنبِ كَرَمةٍ تُرَوّي عِظامي بَعدَ مَوتى عُرُوقُها

ولا تَدفِنَنّي في الفَلاةِ فإنَّنِي أخافُ إذا مامِتُّ أن لا أذوقُها(1)

لَقَدْ بَلغت معاقَرةُ الخمر من الرواج في الحياة العربية الجاهلية بحيث أصبحت لفظة «التجارة» تعادل في عرفهم بيع الخمور، والاتّجار بها.

ولقد كانت الأخلاق تفسَّر عند العرب الجاهلية بنحو آخر عجيب، فإنّهم مثلاً كانوا يمدحون الشجاعة والمروءة والغيرة، ولكنهم كانوا يقصدون من «الشجاعة» القدرة على الإغارة وسفك الدماء، وكثرة عدد القتلى في الحروب!!

كما أن الغيرة كانت تعني عندهم وأد البنات، حتّى أنّ هذا العمل الوحشيّ كان يُعدّ عندهم من أعلى مظاهر الغيرة، وكانوا يرون الوفاء والوحدة في نصرة الحليف حقاً أو باطلاً، وهكذا فإن أكثر القصص التي نُقِلَت عن شجاعتهم وشَغَفهم بالحرية كانت الشجاعة والشغف بالحرية فيها تتلخص وتتجسَّد في الإغارة والإنتقام.

أنّهم كانوا يعشقون - في حياتهم - المرأة والخمرة والحرب ليس غير.

ص:78


1- . تفسير مفاتيح الغيب: 6/107.

النزوع إلى الخرافة والأساطير في المجتمع الجاهلي

ولقد بَيَّنَ القرآنُ الكريمُ أهدافُ البعثة المحمَّدية المقدّسة بعبارات موجزة، وممّا يلفت النظر - أكثر من أيّ شيء - ما ذكرهُ تعالى في الكتاب العزيز حول أهم هذه الأهداف والغايات العليا إذ قال: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» .(1)

فلابدَّ أن نعرفَ ماذا كانت تلك الأغلال والسلاسلَ الّتي كانتْ عَربُ الجاهلية ترزحُ تحتها حتّى قَبيْل بُزوغ فجر الإسلام؟

لا ريبَ أَنَّها لم تكن من جنس الأَغلال والسَلاسل الحديدية، ولم يكن المقصودُ منها ذلك أبداً، فماذا كانت إذَنْ يا ترى؟

أجَل إنَّ المقصودَ مِنْ هذه الأغلال هي الأوهام والخرافات الّتي كانت تَقيِّد العقلَ العربي عن الحركة، وتعيقه عن النمو والتقدّم، ولا شكّ أن مثل هذه السلاسل والأغلال الّتي تقيّد الفكر البشري وتمنعه من التحليق والتسامي، أثقل بكثير من الأغلالَ والقيود الحديدية وأضرّ على الإنسان منها بدَرجات ومراتب، لأنّ الأغلالَ الحَديديَة توضَع عن الأيدي والأرجل بعد مضيّ زمان، ويتحرّر الإنسان منها، بعد حين، ليدخل معترك الحياة بعقلية سليمة مبرّأة من الأوهام والخرافات، وقد زالَتْ عنه ما تركته تلك الحدائد من جروح وآلام.

أمّا السلاسل والأغلال الفكرية (ونعني بها الأوهام والأباطيل والخرافات) التي قد تهيمن على عقل الإنسان وتكبّلُ شعوره فإنّها طالما رافقت الإنسان إلى لحظة وفاته، وأعاقته عن المسير والانطلاق، دون أن يستطيع التحرّر منها، والتخلّص من آثارها، وتبعاتها، اللهم إلّاإذا استعان على ذلك بالتفكير السليم، والهداية الصحيحة.

ص:79


1- . الأعراف: 157.

فبالتفكير السليم وفي ضوء العقل البعيد عن أيّ وهم وخيال يمكنه التخلّص مِن تلك الأغلال والقيود الثقيلة، وأمّا بدون ذلك فإن أيّ سعي للإنسان في هذا السبيل سيبوء بالفشل.

إنّ من أكبر مفاخر نبيّ الإسلام أنّه كافَحَ الخرافات، وأعلن حرباً شعواء على الأساطير، ودعا إلى تطهير العقل من أدران الأوهام والتخيّلات، وقال: لقد جئت للأخذ بساعِد العقل البشري، وأشدّ عضدَه، وأُحارب الخرافة مهمّا كان مصدرها، وكيفما كان لونها وأيّاً كانت غايتها، حتّى لو خَدَمَت أهدافي، وساعَدَتْ على تحقيق مقاصدي المقدّسة.

إنّ ساسة العالم الذين لايهمهم إلّاإرساء قواعد حكمهم وسلطانهم على الشعوب، لا يتورّعون عن التوسّل بأية وسيلة، والاستفادة من أيّة واقعة في سبيل تحقيق مآربهم حتّى أنّهم لا يتأخّرون عن التذرّع بترويج الخرافات والأساطير القديمة بين الشعوب للوصول إلى سدّة الحكم، أو البقاء فيها ما أمكنهم ذلك. ولو اتّفق أن كانوا رجالاً موضوعيين ومنطقيين فإنّهم في هذه الحالة دافعوا عن تلك الخرافات والأوهام والأساطير الّتي لا تنسجم مع أيّ مقياس عقلي بحجة الحفاظ على التراث القومي، أو احترام رأي أكثرية الشعب، أوما شابه ذلك من الحجج المرفوضة.

ولكنَّ رسولَ الإسلام لم يكتف بإبطال المعتقدات الخرافية الّتي كانت تُلحِق الضرر به، وبمجتَمعه، بل كان يكافح ويحارب بجميع قواه كلّ أُسطورة أو خرافة شعبية أو فكرة فاسدة باطلة، تخدم غرضه، وتساعد على تحقيق التقدّم في دعوته ويسعى إلى أن يجعلَ الناسَ يعشقون الحقيقة لا أن يعبدوا الخرافات، ويكونوا ضحايا الأساطير والأوهام، واليك واحداً من هذه المواقف العظيمة على سبيل المثال لا الحصر.

ص:80

لما ماتَ إبراهيم بن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو ابنه الوحيد، حزن عليه النبيُّ حزناً شديداً، فكانت تنحدر الدموع منه على غير اختيار، واتّفق أن انكسفت الشمس في ذلك اليوم أيضاً، فذهب المولعون بالخرافة في ذلك المجتمع (العربي) على عادتهم إلى ربط تلك الظاهرة بموت إبراهيم واعتبار ذلك دليلاً على عظمة المصاب به فقالوا: انكسفت الشمسُ لموت ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فصعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المنبرَ فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيُّها الناس إنَّ الشمسَ والقمر آيتان من آيات اللّه يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياتِه، فإذا انكسفا، أو أحدُهما صلّوا».

ثم نزل من المنبر فصلى بالناس صلاة الكسوف.(1) وهي ما تسمّى بصلاة الآيات.

إنّ فكرة انكساف الشمس لموت ابن صاحب الرسالة وإن كان من شأنها أن تقوّي من موقع النبيّ في قلوب الناس، وتخدم بالتالي غرضه، وتساعد على انتشار دعوته، وتقدّمها، إلا أنّه صلى الله عليه و آله و سلم رفض أن يحصل على المزيد من النفوذ في قلوب الناس بواسطة هذا الطريق.

على أنّ محاربَة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للخرافات والأساطير الّتي كانت نموذجا بارزاً من محاربته للوثنية، وتأليه المخلوقات وعبادتها، لم تكن من سيرته في عهد الرسالة بل كان ذلك دأبه في جميع أدوار حياته، حتّى يوم كان صبياً يدرج، فإنّه كان يحارب الأوهام والخرافات، ويعارضها في ذلك السن أيضاً.

تقول حليمةُ السعدية مرضعة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:... فلمّا تمَّ له (أي لمحمَّد) ثلاث سنين قال لي يوماً: «يا أُمّاهُ مالِيَ لا أرَى أخَوَيَّ بالنّهار»؟

ص:81


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 88/155 ح 12.

قلت له: يا بُنيّ إنّهما يرعيان غنيمات، قال: «فَمالي لا أخْرُج مَعَهما»؟ قلت له:

تحبُّ ذلك؟ قال: نَعَمْ.

فلمّا أصبح دهَّنته وكَحَّلته وعلَّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يمانية (وهي من التمائم الباطلة كانت تعلّق على الشخص في أيام الجاهلية لدفع الآفات عنه)، فنزَعَها، ثمّ قال لي: «مَهْلاً يا أُماه فَإنَّ مَعِيَ مَنْ يَحْفُظنِيْ».(1)

الخرافات في عقائد العرب في الجاهلية

كانت عقائدُ جميع الأُمم والشعوب العالمية يوم بزوغ شمس الإسلام ممزوجة بألوان من الخرافات والأساطير.

فالأساطير اليونانية والساسانية كانت تخيّم على أفكار الشعوب الّتي كانت تعدُّ في ذلك اليوم من أرقى الشعوب والمجتمعات.

على أنّه لا تزال خرافات كثيرة تسود وإلى الآن في المجتمعات الشرقية المتقدّمة، ولم تستطع الحضارةُ الراهنة أن تزيلها من حياة الناس ومعتقداتهم.

إنّ تنامي الخرافة يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالمستوى العلمي والثقافي في كلّ مجتمع، فبقدر ما يكون المجتمع متخلّفاً من الناحية الثقافية والعلمية تزداد نسبة وجود الخرافة ومقدار نفوذها في عقول الناس ونفوسهم.

لقد سجّل التاريخ عن سُكّان شبه الجزيرة العربية طائفة هائلة وكبيرة من الأوهام والخرافات، وقد جمع السيّد محمود الآلوسي أكثرها في كتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب»، مُرفقاً كل ذلك بما حصل عليه من الشواهد الشعرية وغيرها.

ومن يتصفّح هذا الكتاب يقف على ركام هائل من الخرافات الّتي كانت تملأ

ص:82


1- . بحار الأنوار: 392/15.

العقل العربي الجاهل آنذاك وتعشعش في نفوسهم، وقد كانت هذه السلسلة الرهيبة من الأوهام هي السبب في تخلّف هذا الشعب عن بقية الشعوب والأُمم الأُخرى.

ولقد كانت هذه الخرافات من أكبر السدود في طريق تقدّم الدعوة الإسلامية، ولهذا أجتهد النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بكل طاقاته في محو وإزالة آثار الجاهلية الّتي لم تكن سوى تلك الأوهام والأساطير والخرافات.

فعندما وجَّه «معاذ بن جبل» إلى اليمن أوصاه بقوله:

«وأمِتْ أمرَ الجاهِليَّة إلّاما سنَّهُ الإسلامُ، وَأظهِرْ أمرَ الأسلام كلّه صغيرهُ وكبيرهُ».(1)

لقد وقف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمام جماهير كبيرة من العرب الذين كانت عقولُهم ترزخ تحت الأفكار والمعتقدات الخرافية ردحاً طويلاً من الزَمن يعلن عن نهاية عهد الأفكار والأوهام الجاهلية إذ قال: «ألا إنّ كُلُّ دم ومال ومأثرة كانت فيْ الجاهِليَّة تحتَ قَدَميّ هذه إلى يوم القيامة».(2)

نماذج من الخرافات في المجتمع الجاهلي

اشارة

وللوقوف على مَدى أهمية التعاليم الإسلامية وقيمتها نلفت نظر القارئ الكريم إلى نماذج من هذه الخرافات، ومن أراد التوسّع فليراجع «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب».(3)

ص:83


1- . تحف العقول: 25.
2- . كنز العمال: 5/130 برقم 12357؛ السيرة النبوية لابن كثير: 4/401، دار المعرفة، بيروت.
3- . لاحظ: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 286/2-369.
1. الاستسقاء بإشعال النيران

كانت العرب إذا أجدبت، وأمسكت السماء عنهم، وأرادوا أن يستمطروا، عَمَدوا إلى السلع والعشر (وهما أشجار سريعة الاشتعال) فحزموهما، وعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النيران وأصعَدوها في جبل وَعر، واتبعوها يدعون اللّه تعالى، ويستسقونه، وإنّما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلاً للبرق بالنار...

وكانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات الأُخرى، وكانت هذه الثيران والأبقار إذا صاحت من وجع الاحتراق ظنّت العرب بأنّ ذلك هو الرعد!!!

وقد قال شاعرهم في ذلك:

يا (كحلُ) قَد أثقَلتَ أذنابَ البَقَر بسَلع يُعقَدُ فيها وعُشر

فَهَل تَجُودينَ بِبَرقٍ أو مَطَر؟

2. ضرب الثور إذا عافت البقر الماء

كانوا إذا أورَدُوا البقر فتمتنع من شرب الماء، ضرَبوا الثورَ لِيقتحمَ الماء، بعدَه ويقولون: إنْ الجنَّ تصدُّ البقرَ عن الماء، وأنّ الشيطان يركَبُ قَرَني الثورَ، ولا يدع البقر تشربُ الماء، ولذلك كانوا يضربون وجه الثور.

وقد قال في هذا شاعرهم:

كَذاك الثورُ يضرَبْ بالهَراوى إذا ما عافَت الْبَقَر الظِماءُ

وقال آخر:

فإني إذاً كالثَور يُضرب جَنبُهُ إذا لَم يَعْف شُرباً وعافت صواحبه(1)

ص:84


1- . عافت أي كرهت شرب الماء.

وقال ثالث:

فلا تجعلوها كالبقير وفحلُها يُكسِّر ضرباً وهْو للورد طائعُ

وما ذَنبُه إن لم ترد بَقَراته وَقَدْ فاجأتْها عند ذاك الشرائعُ

3. كيّ صحيح الإبل ليبرأ السقيمُ

إذا كان يصيب الإبل مرض أو قرح في مشافرها وأطرافها عمدوا إلى بعير صحيح من تلك الإبل فكوَوْا مِشفَرَهُ وعَضُدَه وفَخذَه يرون أنّ ذلك إن فعلوه ذهبَ العُرُّ والقرح والمرض عن إبلهم السقيمة، ولا يعرف سبب ذلك.

وقد احتمل البعض أنّهم إنّما كانوا يفعلون ذلك وقاية للصحاح من الإصابة بالعُرّ الّذي أصاب غيرها، أو أنّه نوع من المعالجة العلمية، ولكن لماذا ترى كانُوا يَعمدُونَ إلى بعير واحد من بين كلّ تلك الإبل، فلابدّ من القول بأنّ هذا الفعل كان ضرباً من الأعمال الخرافية الّتي كانت سائدة في ذلك المجتمع الجاهلي قبل الإسلام.

وقد قال شاعرهم عن ذلك:

وَكَلّفتني ذنبَ امرئ وتركتُه كذِي العُرّ يكوى غيرُه وهو راتع

وقال آخر:

كمن يكوي الصحيح يروم بُرءاً بِه مِن كلِ جَرباء الإهاب

وقال ثالث:

فالزمْتَنِي ذنباً وغيريَ جرَّه حنانيل لا تكو الصَحيح بأجربا

ص:85

4 - حبس ناقة عند القبر إذا مات كريمٌ

إذا ماتَ منهم كريمٌ عقلوا ناقته أوبعيره عند القبر الّذي دُفِنَ فيه ذلك الكريم، فعكَسُوا عنقها، وأداروا رأسها إلى مؤخَّرها وتركوها في حفيرة لا تطعَم ولا تسقى حتّى تموت، وربما أُحرقَت بعد موتها وربما سُلِخَتْ ومُلئ جِلدُها ثماماً، وكانوا يزعمون أنّ مَن مات ولم يُبْلَ عليه (أي لم تعقل ناقة عند قبره هكذا) حُشِر ماشياً، ومن كانت له بلية (أي ناقة عقلت هكذا) حُشِر راكباً على بليّته.

وقد قال أحدهم في هذا الصدد:

إذا مِتُّ فادفنَّي بحرّاء ما بها سوى الأصرخين أو يفوِّز راكبُ

فإن أنتَ لم تُعْقرْ عَليَّ مطيَّتي فلا قامَ في مال لك الدهر حالبُ

وقال آخر وهو يوصي ولده بأن يفعلوا له ذلك:

أَبُنيَّ لا تنسَ البليّة إنّها لأبيك يومَ نُشُوره مركوبُ

5. عَقرُ الإبل عَلى القُبُور

كانوا إذا ماتَ أحدُهم ضربوا قوائم بعير بالسَيف عند قبره، وقيل إنّهم كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميّت المضياف على ما كان يعقره من الإبل في حياته وينحره للأضياف.

وقد أبطلت الشريعة المقدّسة هذه العادة الباطلة في ما أبطلته فقد جاء في الحديث «لا عَقْر في الإسلام».

وقد قال أحدُهم حولَ العَقر هذا:

قُلْ للقوافِل والغُزاة إذا غَزَوا والباكرين وللمجدّ الرائح

إنَ الشَجاعة والسَماحة ضُمِّنا قبراً بِمروَ عَلى الطريق الواضح

ص:86

فإذا مررتَ بِقبره فاعقِرْ بهِ كُومَ الجلاد وكلّ طِرف سابحِ

وأنضحْ جَوانبَ قبره بدمائها فَلَقدْ يكونُ أخا دم وذبائح

6. التعشير

ومن خرافاتهم أنّ الرجلَ منهم كان إذا أرادَ دخولَ قرية فخافَ وباءها أوجنّها، وقف على بابها قبل أن يدخلها فنَهقَ نهيقَ الحمار، ثم علّق عليه كعبَ أرنب كأنَّ ذلك عوذة له، ورقية من الوباء والجن، ويسمّون هذا النهيق التعشير.

قال شاعرهم:

ولا يَنْفَعُ التعشير أن حُمَّ واقع ولا زعزعٌ يُغني ولا كَعبُ أرنب

وقال الآخر:

لعمريَ إن عشّرتُ من خيفة الرَّدى نِهاق حَمير أنّني لجزوعُ

7. تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي

كان الرجلُ منهم إذا ضَلّ في فلاة قَلَب قميصه وصفق بيديه، كأنّه يومئ بهما إلى انسان مهتدي.

قال أعرابي في ذلك:

قلبتُ ثيابي والظنونُ تجولُ بي وترمي برجلي نحو كلَ سَبيل

فلأياً بلائي ما عرفت حليلتي وأبصرتُ قصداً لم يُصَب بدليل

ص:87

8. الرتم

وذلك أنّ الرجل منهم كان إذا سافر عَمَد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أوفي ساقها فإذا عاد نظر إلى ذلك الخيط فإنْ وجده بحاله علم أنّ زوجتَه لم تخنهُ، وإن لم يَجِدْه أو وَجَدَهُ محلولاً قال: قد خانتني. وذلك العقد يسمى «الرتم».

قال شاعرهم في ذلك:

خانته لما رأتْ شَيْباً بمفرقه وغَرّه حِلفُها والعَقْدُ للرتم

وقال الآخر:

لا تحسَبنّ رتائماً عقدّتَها تنبيك عنها باليقين الصادق

وقال ثالث:

يعلل عمروٌ بالرتائم قلبه وفي الحيّ ظبيُّ قد أحلّت محارقه

فما نَفَعَتْ تِلكَ الوصايا ولا جَنَتْ عَليهِ سوى ما لا يحبُّ رتائمه

9. وطيُ المرأة القتيل الشريف لبقاء وَلَدها

فقد كانت العرب تقول: إنّ المرأة المقلاة - وهي الّتي لا يعيش لها وَلَدٌ - إذا وطئت القتيلَ الشريف عاشَ وَلَدُها.

قال أحدُهم:

تظلّ مقاليت النساء يَطأنه يَقُلْنَ ألا يلقى على المرء مئزر

ص:88

10. طَرْحُ السِنّ نَحو الشَمْس إذا سَقَطَتْ

ومن تخيّلات العرب وخرافاتهم أنّ الغلام منهم إذا سَقَطَتْ له سنٌ أخذها بين السبابة والإبهام واستقبل الشمسَ إذا طلعت وقذف بها وقال: يا شمس أبدليني بسنّ أحسن منها، وليجر في ظلمها أياتك، أو تقول: أياؤك، وهما جميعاً شعاع الشمس.

قال أحدهم وهو يصف ثغر معشوقته:

سقته اياه الشمس إلّالثاته أسفَّ ولم تكرم عليه باثمدِ

أي كأنّ شعاع الشمس أعارته ضوءها.

هذا وقد أشار شاعرُهم إلى هذا الخيال (أوقل الخرافة المذكورة) إذ قال:

شادنٌ يحلو إذا ما ابتسَمَتْ عن أقاح كأقاح الرمل غر

بدلته الشمسُ من منبته بَرَداً أبيضَ مصقولَ الأثر

11. تعليق شيء نجس على الرجل وقاية من الجنون

ومن تخيّلات العرب أنّهم كانوا إذا خافُوا على الرجل الجنونَ، وتعرّض الأرواح الخبيثة له نجَّسوه بتعليق الأقذار، كخرقة الحيض وعظام الموتى قالوا:

وأنفعُ من ذلك أن تعلِّقُ عليه طامثٌ عظامَ موتى ثم لا يراها يومَه ذلك. وأنشدوا في ذلك:

فلو أن عِندي جارتَين وراقياً وعَلَّقَ أنجاساً عَلّي المعلقُ

وقالت امرأة وقد نَجَّست ولَدها فلم ينفعه ذلك ومات:

نجّستُهُ لا ينفعُ التنجيسُ والموتُ لا تفوتُه النفوسُ

ص:89

12. الاستشفاء بدم الرئيس

فقد كانت العرب تعتقد أنّ دم الرئيس أو الكبير يشفي من عضة الكلْب الكَلِب.

قال الشاعر:

بناةُ مكارم وأساة جُرحٍ دِماؤُهُمْ من الكَلبِ الشفاءُ

وقال آخر:

أحلامُكُمْ لسِقامِ الجهل شافيةٌ كَما دِماؤكُمُ تشفي من الكَلَب

13. شقّ البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل

ومن أوهامهم وتخيّلاتهم أنّهم كانوا يزعمون أنّ الرجل إذا أحب امرأة وأحبّته فشقّ برقعها وشقّت رداءه صلح حبُهما ودام، فإن لم يفعلا ذلك فَسَد حبُهما، قال في ذلك أحدهم:

وكم شَقَقْنا مِن رداء محبِّرٍ وَ مِنْ بُرقُعٍ عَنْ طَفلة غير عانس

إذا شُق بُردٌ شُق بالبرد بُرقعٌ دواليك حتّى كلُّنا غير لابسِ

نروم بهذا الفعل بُقياً على الهوى وإلف الهوى يُغوى بهذي الوساوس

14. معالجةُ المرضى بالأُمور العجيبة

ومن مذاهبهم الخرافية في معالجة المرضى إذا بثرت شفة الصبي حمل منخلاً على رأسه ونادى بين بيوت الحيّ: الحلأ الحلأ، الطعام الطعام، فَتُلقي له النساءُ كِسَرَ الخبز، واقطاع التمر واللحم في المنخل ثم يُلقي ذلك للكلاب فتأكله، فيبرأ مِنَ المرض، فإن أكل صبيٌّ من الصبيان من ذلك الّذي ألقاهُ للكلابِ تمرة أو

ص:90

لقمة أو لحمة، بثرت شفته.

فقد روى عن إمرأة أنّها أنشدت:

ألا حلأ في شفة مشقوقَه فقد قضى منخلُنا حقوقَه

ومن أعاجيبهم أنّهم كانوا إذا طالت علّة الواحد منهم، وظنُّوا أنَّ به مسّاً من الجن لأنّه قَتَلَ حية، أو يربوعاً، أو قنفذاً، عملوا جِمالاً من طين وجعلوا عليها جوالق وملاؤها حنطة وشعيراً وتمراً، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس وباتوا ليلتهم تلك، فإذا أصبحوا نظروا إلى تلك الجمال الطين فاذا رأوا أنّها بحالها، قالوا: لم تقبل الدية فزادوا فيها، وإن رأوها قد تساقطت وتبدّد ما عليها من الميرة قالوا: قد قبلت الدية، واستدلّوا على شفاء المريض وفرحوا وضربوا الدفّ.

قال بعضهم:

قالُوا وقد طالَ عَنائي والسَّقمْ إحمِلْ إلى الجِن جمالات وضَمّ

فَقَد فَعَلت والسقام لم يرم فبالذي يملَك برئي اعتصمْ

وقال آخر:

فياليتَ أنّ الجن جازُوا حمالَتي وزُحزحَ عني ما عناني من السقم

أُعلّلُ قلبي بالَّذي يزعُمونه فَيالَيتَني عُوفيت في ذلك الزعم

ومن مذاهبهم في هذا المجال أنّ الرجلَ منهم كان إذا ظهرت فيه القوباء (وهو مرض جلدي) عالجها بالريق.

قال أحدهم:

يا عَجَباً لهذه الفليقة هَل تُذهِبَنَّ القُوَباءَ الريقة

ص:91

15. خرافاتٌ حول الغائب منهم

كانوا إذا غُمَّ عليهم أمرُ الغائب ولم يعرفوا له خبراً جاءُوا إلى بئر عادية (أي مظلمة بعيدة القعر) أو جاءُوا إلى حصن قديم ونادوا فيه: يا فلان أو يا أبا فلان (ثلاث مرّات)، ويزعمون أنّه إن كان مَيّتاً لم يسمَعوا صوتاً، وإن كان حيّاً سمعُوا صوتاً ربّما توهموه وهماً، أو سمعوه من الصدى فَبَنَوا عليه عقيدَتهم، قال بعضهم في ذلك:

دَعوتُ أبا المِغوار في الحَفْر دعوة فما آضَ صوتي بالذي كنت داعيا(1)

أظنُ أبا المغوار في قصر مظلم تجرُّ عليه الذارياتُ السَوافيا

وقال آخر:

وكمْ ناديتُه والليلُ ساج بِعاديّ البِئار فما أجابا

ومن ذلك أنّ الرجل منهم كان إذا اختلجت عينه قال: (أرى من أُحبُّه) فإن كان غائباً توقّع قدومَه، وإنْ كان بعيداً توقَّعَ قربه، وقالَ أحدهم:

إذا اختلَجَتْ عَيني أقولُ لعَلَّها فَتاة بني عمرو بها العينُ تَلْمعُ

وقال آخر:

إذا اختلَجَت عَيني تَيقَّنتُ إنّني أراكَ وَ إن كانَ المزارُ بَعيدا

وكانوا إذا لا يُحِبُّونَ لمسافر أنْ يعودَ إليهم أوقدُوا ناراً خَلفَهُ ويقولون في دعائهم «أبعَدهُ اللّهُ وأسحقَهُ وأوقدَ ناراً إثرهُ» قال بعضهم:

صحوتُ وأوْقدتُ لِلجَهلِ ناراً وَرد عليك الصبا ما استعارا

ص:92


1- . آضَ أي عاد ورجع.
16. عقائدهُمْ العجيبة في الجنّ وتأثيرُهُ

كانت العربُ في الجاهلية تعتقد في الجن وتأثير هذا الكائن في شتى مجالات حياتهم اعتقاداتٌ عجيبة وفي غاية الغرابة.

فتارة تستعيذُ بالجن، وقد إستعاذَ رجلٌ منهُمْ وَ مَعَهُ ولدٌ فأكلهُ الأَسدُ فقال:

قَدْ استعَذْنا بعظيم الوادي مِن شَرِّ ما فيهِ مِنْ الأعادي

فلم يجرنا من هزبر عادي

وعن الاستعاذة بالجنّ قال اللّه سبحانَهُ في القرآن: «وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» .(1)

ومن ذلك إعْتقادُهُمْ بهتاف الجن، ولهم في هذا المجال أساطيرُ خرافيةٌ مذكورة في محلّها.

ومن هذا القبيلُ إعتقادهُم بالغول، فقد كانت تزعم العربُ في الجاهلية أنّ الغيلان في الفلوات (وهي من جنس الشياطين) تتراءى للناس، وتغول تغولاً أي تتلوّن تلوناً فتضلّهم عن الطريق، وتهلكهم، ومن هذا القبيل أيضاً إعتقادُهم بالسعالي!!

وقد قال أحدُهم في ذلك:

وساحرةٌ عينيّ لو أنَّ عينَها رَأَت ما أُلاقيهِ مِنَ الهَول جَنّتِ

أبيتُ وسعلاةٌ وغولٌ بِقَفْرة إذا الليلُ وارى الجن فيه أرنت

17. تشاؤمهم بالحيوانات والطيور والأشياء

ومن مذاهبهم الخرافية تشاؤمهم بأشياء كثيرة وحالات عديدة:

ص:93


1- . الجن: 6.

فمن ذلك؛ تشاؤمهم بالعطاس.

وتشاؤمهم بالغراب حتّى قالوا: فلانٌ أشآم من غراب البَيْن، ولهم في هذا المجال أبياتٌ شعرية كثيرةٌ منها قول أحدهم:

ليتَ الغرابُ غداة ينعَبُ دائباً كانَ الغرابُ مقطَّعَ الأوداجِ

وكذا تشاؤُمُهمْ وتطيّرهم بالثور المكسور القرن والثعلب. إلى غير ذلك من التخيّلات والأوهام والخرافات والأساطير، والإعتقادات العجيبة، والتصوّرات الغريبة الّتي تزخر بها كتبُ التاريخ المخصّصةِ لبيان أحوال العرب قَبْلَ الإسلام وحتّى إبّان قيام الحضارة الإسلامية.

مكافحةُ الإسلام لهذه الخرافات

ولقد كافح الإسلامُ جميع هذه الخرافات بطرق مختلفة، وأساليب متنوّعة.

أمّا بالنسبة إلى ما كانوا يفعلونَهُ بالحيوانات، فمضافاً إلى أنّ أيّ شيء من هذه الأَعمال لا ينسجم مع العقل والمنطق والعلم؛ لأنّ المطر والغيث لا ينزل من السماء بإشعال النيران، وضرب الثيران لا يؤثر في البقر، كما لا ينفع كيُّ البعير الصحيح في شفاء الإبل السقيمة، وتعتبر هذه الأعمال نوعاً من تعذيب الحيوانات، وقد نهى الإسلام بشدة عن تعذيب الحيوانات وإيذائها، بأيّ شكل كان.

فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لِلدّابةِ عَلى صاحبها ستُّ خصال:

1. يَبدأ بعلفها إذا نَزَل.

2. ويُعرضُ عليها الماء إذا مَرَّ به.

3. ولا يضرب وجهها فإنّها تسبِّحُ بحمدِ ربِّها.

4. ولا يقفْ على ظهرها إلّافي سَبيل اللّه عزّ وجلّ.

5. ولا يحمّلها فوق طاقتها.

ص:94

6. ولا يكلّفها من المشي إلّاما تطيقُ.

وقد رويت في ذلك روايات عن رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

ومن هنا ندركُ أنّ التعاليم في مجال الرفق بالحيوان، وحمايته، على النقيض من العادات الجاهلية السائدة في البيئة العربية آنذاك.

وأمّا بالنسبة إلى التمائم والأَشياء الأُخرى الّتي كانت تعلّقها العربُ على أعناق وصدور رجالها، وأولادها، من الأحجار والخَرَز، وَ عظام الموتى، ومعالجة المرضى والمصابين وغيرهم بها أحياناً، فقد حاربَها الإسلامُ، بعد أن أبطلها كما أبطل الأفاعيل الّتي سبق أن ذكرناها قبل هذا.

فلمّا جاءت جماعات من الأعراب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وسألوه عن الرّقى والقلائد الّتي كانوا يتداوون بها أو يسترقونها بدلاً عن التداوي بالعقاقير والأدوية قائلين يا رسول اللّه: أنتداوى؟

قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «تداووا فإنَّ اللّه لَمْ يَضَعْ داء إلّاوَضَعَ لَهُ دَواء».(2)

بل نجد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يأمر سعد بن أبي وقاص عندما أُصيب بمرض في فؤاده أن يعالج نفسَه عِند طبيب إذ قال له لمّا عادَه وعرف بحاله: «إنَك رجلٌ مفودٌ، إئتِ الحارثَ بن كِلْدة أخا ثقيفٍ فإنَّهُ رَجلٌ يتطبَّب».(3)

هذا مضافاً إلى أنّه وردت أحاديث كثيرة تصرّح ببطلان التمائم السحريّة الّتي لا تنفع ولا تضرّ أبداً، وها نحنُ نشير في ما يلي إلى نموذجين من هذه الأحاديث:

ص:95


1- . من لا يحضره الفقيه: 2/286 برقم 2465. وراجع للوقوف على أحاديث حقوق الحيوان كتابنا: الشؤون الاقتصادية: 130-159.
2- . سنن أبي داود: 2/219 برقم 3855، كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى.
3- . كنز العمال: 10/85 برقم 28468.

1. تقول أُم قيس: دخلتُ بابن لي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد أعلقت عليه من العُذْرَة (وهي قلادة سحرية جاهلية) فقال: «علام تدغَرْن أولادَكنَّ بهذا العِلاق، عليكنَّ بهذا العُود الهِنْديّ» وكان صلى الله عليه و آله و سلم يقصد عصارة هذا العود.(1)

2. رُوي عن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنَّ كثيراً مِنَ التمائم شِرْكٌ».(2)

هذا مضافاً إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأوصياءه الكرام - بارشادهمُ الناس إلى ما ينبغي أن يتداووا به من العقاقير والأدوية وما أعطوْه من تعاليم قيّمة كثيرة في هذا المجال ممّا جمعه المحدّثون الكبار تحت عنوان: «طبّ النبيّ» و «طب الرضا» و... - قد وجّهوا ضربة قوّية أُخرى إلى تلك الأوهام والتخيّلات، والخرافات والأساطير الّتي كان يعاني منها المجتمعُ العربي الجاهلي قبل الإسلام.(3) وأمّا الغول، والطيرة، والتشاؤم، والهامّة، والنَوء، فقد حاربها النبيّ بصراحة إذ قال: صلى الله عليه و آله و سلم «لا هامَّة، ولا نَوء، ولا طِيرَة، ولا غول».(4)

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «العِيافَةُ والطِيَرةُ والطَرْق مِن الجبْت».(5)

ص:96


1- . صحيح البخاري: 7/17، كتاب الطب، باب اللدود.
2- . وسائل الشيعة: ج 4، الباب 41 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 4.
3- . وقد فتح المحدّثون من الفريقين أبواباً خاصّة لأحاديث الطبّ النبويّ في كتب الحديث أيضاً.
4- . التاج الجامع للأُصول: 3/196 و 197، الفصل الرابع باب نفي مزاعم الجاهلية، قال مؤلّف التاج: الهامّة طائر أو البوم إذ سقط في مكان تشاءم أهلُه، أو دابّة تخرجُ من رأس القتيل أو من دمه، فلا تزالُ تصيح حتّى يؤخدَ بثاره، والنَوء نجمٌ يأتي بالمطر وآخر يأتي بالريح (حسب عقيدة الجاهلية)!!
5- . مسند أحمد: 3/477؛ التاج الجامع للأُصول: 3/201. قال مؤلّف التاج: العيافة زجر الطّيْر والتفاؤل بأسمائها وأصواتها كالتفاؤل بالعُقاب على العِقاب، وبالغُراب على الغُربة، وبالهُدْهُدْ على الهُدى، وكذا بأفعالها، وكيفية طيرانها فكانت العرب تزجر الطيرَ وتثيره، فما أخذ منها ذات

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً أنه قال: «إنَّ الرقى والتمائم والتولَة شركٌ».(1)

وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلتُ يا رسولَ اللّه: أُموراً كنّا نصنعها في الجاهلية، كنّا نأتي الكهّان، قال: فلا تأتوا الكهانَ، قال: قلت: كنّا نتطيّر؟ قال: «ذاك شيء يجدُهُ أحدُكُمْ في نفسِه فلا يَصُدَّنكم».(2)

إنّ وجودَ النهي الشديد والمكرّر في الأحاديث الكثيرة عن الطيرة والتشاؤم، والزجر والعيافة والتمائم والتولة والهامّة والنوء والغول، والكهانة، وإيذاء الحيوانات وكيّهنّ، وتعذيبهن، وماشابه ذلك يدل بوضوح وقوّة على مدى رسوخ هذه العادات الباطلة في الحياة العربيّة الجاهلية، يكشف عن مبلغ اعتقادهم بها، ونزوعهم إليها، وهو بالتالي يكشف عن مغزى قوله تعالى: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» (3) فأيّة سلاسل وأَغلال أثقل وأسوأ عاقبة وأشدّ وطئاً، من هذه الأغلال... أغلال الخرافة والوهم، وسلاسل التخيّلات والأساطير؟!!

أوضاع العرب الإجتماعية قبيل ظهور الإسلام

إنّ أوّل خطوة خطاها البَشَر باتّجاه النمط الإجتماعي كانت عندما أقْبَل على تأسيس وإقامة الحياة القبلية، فالقبيلة تتكوّن من إجتماع عدّة عوائل وأُسر مترابطة فيما بينها بوشائج القربى والنسب تحت زعامة شيخ القبيلة، وبهذا يتحقّق أبسط نمط من أنماط الحياة الإجتماعية.

ص:97


1- . سنن ابن ماجة: 2/1167 برقم 3530؛ التاج الجامع للأُصول: 3/203. قال مؤلِّف الجامع: «التولة»: نوع من السحر يحبّب الرجلَ إلى زوجته، وهو من عمل المشركين (أي في الجاهلية).
2- . صحيح مسلم: 7/35، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان.
3- . الأعراف: 157.

وقد كانت الحياةُ العربية - آنذاك - من هذا القبيل، فكلُ مجموعة من العوائل المترابطة نسبياً تتجمع في شكل قبيلة، وتشكل بذلك مجتمعاً صغيراً يخضع فيه الجميع لأوامر رئيس القبيلة وزعيمها، ولقد كان الجامع بين أفراد القبيلة هو الرابطة القومية، والوشيجة النسبية، وكانت هذه القبائل تختلف في عاداتها ورسومها، وتقاليدها وأعرافها، اختلافاً كبيراً، وإذ كانت كلّ قبيلة تعتبر القبائل الأُخرى غريبة عنها لذلك كانت لا تقيم للآخرين وزناً ولا قيمة، ولا تعترف لهم بأيّ حق أو حرمة.

ولهذا كانت ترى الإغارة على الآخرين وقتلهم، ونهب أموالهم، وسلب ممتلكاتهم وسبي نسائهم من حقوقها القانونية المشروعة، اللّهم إلّاأن يكون بين القبيلة، والقبيلة الأُخرى حلف أو معاهدة.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر كانت القبيلة الّتي تتعرض للإغارة من جانب قبيلة أُخرى ترى من حقّها أن تردَّ الصاع صاعين، فتقتل كلّ أفراد القبيلة المغيرة، لأنّ الدّم - في نظرهم - لا يغسله إلّاالدّم!!!

ولقد تبدّلت أخلاقيةُ العرب هذه بعد انضوائهم تحت لواء الإسلام الحنيف، بل تحوَّلوا من نمط الحكومة القبلية المتخلّفة والنظام العشائري الضيّق هذا، إلى حكومة عالميّة، واستطاع رسولُ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم أن يؤلّف من القبائل العربية المتفرّقة أُمّة واحدة.

ولا شكّ أنّ تأليف أُمّة واحدة من قبائل وجماعات اعتادت طوال سنين مديدة من التاريخ على التناحر والتنازع، والتخاصم والتقاتل، والتهاجم والإغارة فيما بينها، واستمرأت سفك الدماء، وإزهاق الأرواح، وذلك في مدّة قصيرة، عملٌ عظيم جدّاً، ومعجزة اجتماعية لا نظير لها، لأن مثلَ هذا التحوُّل العظيم إذا أُريدَ لَهُ أن

ص:98

يتمَّ عبر التحوُّلات والتطوّرات العاديّة لاحتاج إلى تربية طويلة الأمد، ووسائل لا تحصى كثرة.

يقول «توماس كارليل» في هذا الصدد: لقد أخرج اللّه العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور، وأحيا به منها أُمّة خاملة لا يُسمعُ لها صوتٌ ولا يُحسُّ فيها حركة، حتّى صار الخمولُ شُهرة، والغموض نباهة، والضعة رفعة، والضعف قوّة، والشرارة حريقاً، وشمل نورُه الأَنحاء، وعمَّ ضوؤه الأرجاء، وما هُو إلا قرنٌ بعد إعلان هذا الدين حتّى أصبح للعرب (المسلمين) قدمٌ في الهند وأُخرى في الأندلس.(1)

وإلى هذه الحقيقة يشير أيضاً مؤلّف تاريخ اللغات السامية الشهير «رينان» قائلاً: «لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسيّ والثقافي والدينيّ قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الّذي صار به العربُ أُمّة فاتحة مُبدعة ولم يكن لجزيرة العرب شأنٌ في القرون الأُولى مِنَ الميلاد، حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ».(2)

أجل إنَّ هذه القبائل العربية الجاهلية المختلفة المتناحرة لم تكن تعيش أيّة حضارة، ولم تمتلك أيّة تعاليم وقوانين، وأنظمة وآداب قبل مجيء الإسلام، لقد كانت محرومة من جميع المقوّمات الإجتماعية الّتي توجبُ التقدّم والرقي، ولهذا لم يكن من المتوقّع أبداً أن تصل إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد والعظمة، ولا أن تنتقل من نمط الحياة القبلية الضيّقة إلى عالم الإنسانية الواسع، وأُفق الحضارة الرحيب بمثل هذه السُّرعة الّتي وَصَلت إليه والزمن القصير الّذي انتقلت فيه.

ص:99


1- . المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام للصواف: 38؛ الإسلام والعلم الحديث: 33. وراجع الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل: 2/624.
2- . حضارة العرب: 87.

إنَّ مَثَل الشعوب والأُمم البشرية مثل المباني والعمارات تماماً.

فكما أنّ البناء القويّ الراسخ يحتاج إلى موادّ إنشائية قويّة معدَّة بإتقان ومحضّرة بإحكام حتّى يستطيع البناء المصنوع من هذه الموادّ، والمؤسّس بعناية وهندسة متقَنة من الوقوف في وجه الأعاصير، والأمطار الغزيرة كذلك يحتاج كيانُ كلّ أُمّة رشيدة من الأُمم إلى أُسس وقواعد محكمة (وهي الأُصول والآداب الكاملة، والأخلاق الإنسانية العالية) لتستطيع البقاء والتقدّم.

ولهذا السبب لابدّ من التأمّل في أمر وسرّ هذه الظاهرة العجيبة ولابد أن نتساءل:

كيف تحقّق ذلك التطوّرُ العظيم، وذلك التحوّل العميق للعرب الجاهلية، ومن أين نشأ؟؟

كيف أمكن أن تتحوّل جماعة متشتتة، متعادية، متناحرة، متباغضة، فيما بينها، بعيدة عن النظم الإجتماعية، بمثل هذه السرعة إلى أُمّة متآلفة متآخية متعاونة متسالمة متحابّة، وتشكّل دولة قوّية وكياناً سياسياً شامخاً أوجب أن تخضع لها دول العالم وشعوبه، وتطيعها، وتحترم مبادءها وأخلاقها وآدابها آنذاك.

حقّاً لو كان في مقدور العرب أن يحرزوا ذلك التقدّم الهائل بفعل عامل ذاتي فلماذا لم تستطع عربُ اليمن الّذين كانوا يمتلكون شيئاً كبيراً من الثقافة والحضارة، والذين عاشوا الأنظمة الملكية سنيناً عديدة، بل وربَّت في أحضانها ملوكاً وقادة كباراً، أن تصل إلى مثل هذه النهضة العظيمة الشاملة، وتقيم مثل هذه الحضارة العريضة الخالدة.

لماذا لم تستطع العربُ الغساسنَة الذين كانوا يجاورون بلادَ الشام المتحضّرة، ويعيشون تحت ظلّ حضارة «الروم» أن يصلوا إلى هذه الدرجة من الرشد؟

ص:100

لماذا لم تستطع عربُ الحيرَة الذينَ كانُوا - وإلى الأمس القريب - يعيشون في ظلّ الإمبراطورية الفارسية أن ينالوا مثل هذا الرقي والتقدّم؟ وحتّى لو وصلوا إلى هذه الدرجة من التقدّم وحقّقوا هذه القفزة فإنّه لم يكن أمراً يثير العجب لأنّهم كانوا يعيشون في أحضان مدنيات كبرى، ويتغذون منها، ولكن الّذي يثير الدهشة، والعجب هو أن يستطيع عرب الحجاز من تحقيق هذه النهضة الباهرة، ويرثوا الحضارة الإسلامية العظمى وهم الذين كانوا يفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحضارة الذاتية، ولم يكن لهم عهدٌ بأيَّ تاريخ حضاريّ مشرق، بل كانُوا كما عرفت يرزحون تحت أغلال الوَهْم والتخَيُّل، ويسيرون في ظلمات الخرافات والأساطير.

***

دُوَل الحيرة وغسّان

على العموم كانت المناطقُ ذاتُ المناخ الجيّد من الجزيرة العربية حتّى آخر قرن قبل الإسلام تحت سيطرة ثلاث دول كبرى هي: «إيران»، «الروم»، «والحبشة».

فالشرق والشمال الشرقي من هذه المنطقة كانت تحت حماية «إيران».

والشمال الغربي كان تابعاً للروم.

والمناطق المركزية والجنوب كانت تحت نفوذ «الحبشة».

وعلى إثر مجاورة هذه المناطق للدول المتحضّرة المذكورة، وما كان بينها من نزاع وتنافس دائمين، ظهرَت في المناطق الحدودية للجزيرة العربية دول شبه متحضّرة، وشبه مستقلّة كان كلُّ واحدة منها تابعة في حضاراتها لدولة متمدّنة عظمى تجاورها.

وقد كانت دول «غسان»، و «الحيرة» «وكندة» من هذه الدول شبه المستقلّة

ص:101

وشبه المتمدّنة، وكانت كلُّ واحدة منها تابعة لإحدى الدول العظمى آنذاك: «إيران»، «الروم»، «الحبشة».

الحيرة: يتبيَّن من الآثار والأخبار أنّه هاجرت - في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد - بعضُ الطوائف العربية، وذلك في نهايات الحكم الأشكناني، إلى الأراضي المجاورة للفرات، وسيطروا على قسم من أراضي العراق، وقد أوجدت هذه الجماعةُ المهاجرةُ القرى والقلاع هناك، شيئاً فشيئاً، وأحدثت المدنَ الّتي مِن أهمّها: «الحيرة» الّتي كانت تقعُ على حافة صحراء بالقرب مِن مدينة الكوفة الحالية. وقد كانت هذه المدينة - وكما يظهر من اسمها - في بداية أمرها قلعة (لأنّ الحيرة تعني في اللغة السريانية: الدير وما يشبهه) يسكنها العرب ثم تطوّرت شيئاً فشيئاً إلى مدينة.

وقد ساعد مناخها الجميل، والمياهُ الوافرة الّتي تأتي إليها من الفرات، وجودة الأحوال الطبيعية الأُخرى إلى أن تجتذب اليها أصحاب الصحراء، وسكان البوادي، والقفار، كما واستطاعت هذه المدينة وبفضل مجاورتها للحضارة الفارسية أن تكتسب من ثقافتها ومدنيتها ما أفاض عليها لوناً من الحضارة والمدنية، وقد بُنيت بالقرب من «الحيرة» قصورٌ مثل «الخورنق» الّذي أضاف إلى هذه المدينة جمالاً وبهاء خاصّين، وقد تعرَّف العربُ الساكنون في هذه المنطقة على الخط والكتابة، ويمكن أن تكون الكتابة والقراءة قد سرتا منها إلى بقية مناطق الحجاز ومُدُنها.(1)

ولقد كان ملوك «الحيرة» وأمراؤها من اللخميّين العرب يؤيّدون من قِبَل الدولة الإيرانية بقوّة، وسبب هذا التأييد، والحماية الإيرانية لأُمراء الحيرة وملوكها

ص:102


1- . فتوح البلدان للبلاذري: 457.

كان يكمن في أنّ ملوك إيران - آنذاك - كانوا يُريدون أن تكونَ الحيرة سَدّاً، وحاجزاً بينهم وبين عرب البادية، يدفعون بهم خطرَ الغزاة من أهل الصحارى على الحدود الإيرانية.

ولقد سجَّلَ التاريخُ أسماء هؤلاء الأُمراء؛ وقد نظم «حمزة الأصفهاني» فهرستاً بأسمائهم، وجدولاً بأعمارهم ومُدد حكوماتهم، ومن كان يعاصرهم من ملوك بني ساسان الإيرانيين.(1)

ومهما يكن الأمر فإنّ دولة اللخميّين العرب كانت من أكبر الحكومات العربية شبه المتحضّرة في منطقة الحيرة، وكان آخر ملوك هذه السلسلة هو «النعمان بن المنذر» صاحب القصة التاريخية الّتي تتضمّن خلعه من الحكم، وقتله بواسطة الملك الإيراني: «خسرو برويز».(2)

غَسان: في أوائل القرن الخامس أو أوائل القرن السادس الميلادي هبط جماعة من المهاجرين اليمنيين في الشمال الغربي - أقصى نقاط الجزيرة العربية - وفي جوار الإمبراطوريّة الروميّة، وأسّسوا دولة الغساسنة، وقد كانت هذه الدولة تحت حماية الروم، وكان مُلوكُها يُنصبّون من جانب إمبراطوريات «قسطنطينية» مباشرة، تماماً كما كان مُلُوك «الحيرة» يُنصبّون من جانب ملوك إيران.

ولقد كانت دولة الغساسنة متحضّرة نوعاً ما، وحيث إنّ مراكز حكمها كانت قريبة من ناحية إلى «دمشق» ومجاورة ل: «بُصرى» مركز القسم الرومي من الجزيرة العربية من ناحية أُخرى، لذلك تأثّرت بحضارة الروم تأثّراً كبيراً وبالغاً.

ولقد كان الغساسنة متحالفين مع الروم بسبب ما كان بينهم وبين ملوك الحيرة اللخميّين العرب والإيرانيين من الاختلاف والنزاع، ولقد حكم في دولة الغساسنة

ص:103


1- . لاحظ: سِنيِّ ملوك الأرض: 73-76.
2- . لاحظ: الأخبار الطوال: 109.

تسعة أو عشرة من الأُمراء والملوك تباعاً.

الدين في أرض الحجاز

لقد كان الدينُ الرائج في الحجاز هو الوثنية، وعبادة الأصنام.

نعم كانت هناك أقليّات دينية يهودية تقطن في يثرب (المدينة فيما بعد) وخيبر، كما أنّه كان هناك من يتبع المسيحية وهم سكّان نجران، البلد الحدودي لليمن والحجاز.

وكان الدين الرائج في المناطق الشمالية من الحجاز (أي الشام حالياً) هو المسيحية بسبب مجاورة هذه المناطق للروم وخضوعها للسيادة الرومية.

ولو أنّنا استثنينا من الحجاز هذه المناطق الحسّاسة الثلاث لما وجدنا في بقية مناطق الحجاز إلّاالوثنية في أشكال مختلفة، واعتقادات متنوعة، اللّهم إلّابضع أفراد كان عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد ممّن يُسمّون بالأحناف كانوا على دين التوحيد، وكان عددهم بالنسبة إلى الأكثرية الساحقة من العرب الوثنيين قليلاً جدّاً.

فمنذ زمن النبيّ «إبراهيم» الخليل وابنه «إسماعيل» عليهما السلام دخل التوحيد، ودخلت بعض التعاليم الأخلاقية والدينية إلى أرض الحجاز، وكان الحج وأداء مناسكه إحتراماً للكعبة الشريفة هو أحدُ هذه التعاليم والسنن الّتي دخلت مع «الخليل» إلى هذه المنطقة، ثم إنّ رجلاً من قبيلة «خزاعة» يسمى «عمرو بن لحي» الّذي كانت زعامة مكّة قد عهدت إليه، أدخل عبادة الأوثان في مكّة في ما بعد، وذلك عندما سافر هذا الخزاعي إلى بلاد الشام فوجد قوماً من العمالقة يعكفون على تماثيل جميلة النقش والمنظر يعبدونها، ويؤلّهونها، فقال لهم: ما هذه الأصنام الّتي أراكُم تعبدون؟؟ قالوا له: هذه أصنامٌ نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها

ص:104

فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنماً يقال له: «هُبَل» فقدم به مكّة فنصبه ودعا الناس إلى عبادته، وتعظيمه.(1)

وهكذا دخلت الوثنية إلى «مكّة» المكرّمة، وأصبحت عبادة الأوثان والأصنام عبادة رائجة في تلك الديار.

وأشهر أصنام العرب هي:

1. هبل وكانت أعظم أصنام العرب الّتي في جوف الكعبة.

2. اساف.

3. نائلة وكانت هي واساف على موضع زمزم ينحرون عندهما.

4. اللات وكانت لثقيف بالطائف.

5. العُزّى وكانت بنخلة الشامية، وكانت لقريش وبني كنانة.

6. مناة وكانت للأوس والخزرج ومن ذهب مذهبهم من أهل يثرب.

7. عميانس وكان بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم.

8. سعد.

9. ذوالخلصة وكانت لدوس وخثعم وبجيلة.

10. مناف.(2)

ولقد كانت هذه هي أشهر أصنام العرب علاوة على الأصنام الأُخرى غير المعروفة الّتي كانت تختصُّ بطائفة دونَ أُخرى، أو بعائلة دون عائلة.

ص:105


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/50-51. والعمالقة هم طائفة من العرب عاشوا وسادوا ثمّ بادوا قبل الإسلام.
2- . راجع الأصنام للكلبي، والمحبر: 315-319.

العلم والثقافة في الحجاز

كان أهلُ الحجاز يوصَفون بالأُميّين، والأُميّ هو من لم يتعلّم القراءة والكتابة، فهو كمن ولدتهُ أُمّه، أو هو باق في عَدم العلم بالقراءة والكتابة على الحالة الّتي ولدته عليها أُمّه. ولأجل أن نعرف مدى ما كان عليه العلمُ والثقافة عند العرب من القيمة يكفي أن نعلم بأنّ عدد الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة بين قريش إلى ما قبل ظهور الإسلام لم يكن يتجاوز (17) شخصاً في مكّة و (11) نفراً فقط من بين الأوس والخزرج في المدينة.(1)

إذا لاحظنا هذا التخلّف والانحطاط في مجال العلم والثقافة في البيئة العربية الجاهلية يتّضح لنا مدى تأثير الإسلام، وأدركنا عظمة التعاليم الإسلامية في جميع الحقول الإعتقادية والإقتصادية والأخلاقية والثقافية، ولابدّ في تقييم الحضارات أن نطالع وندرس الحلقة السابقة، ثم نقيّم الحلقة التالية في ضوء ذلك، وفي هذه الصورة نقف على عظمة تلك الحضارة الحقيقية.(2)

الإمام عليّ عليه السلام يصف العهد الجاهليّ

وقد وصف الإمامُ عليّ أميرُالمؤمنين عليه السلام تلك الحالة في خطبه، وحيث إنّه

ص:106


1- . راجع: فتوح البلدان: 457-459.
2- . للوقوف على معلومات أوسع وأكثر حول عقائد مختلف طوائف المجتمع العربي الجاهلي، وثقافتها وتقاليدها راجع الكتابين التاليين: ألف: «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» تأليف السيد محمود الآلوسي المتوفّى عام 1270 هجري قمري. باء: «المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام» تأليف الأُستاذ جواد علي، وهذا الكتاب أُخرجَ في (10) مجلدات، وقد بُحثَ فيها كل ما يرتبط بحياة العرب في العهد الجاهلي.

عاصر ذروة ذلك الوضع المأساوي ووصفه وصفاً دقيقاً، لذلك ينبغي أنْ نقف عند كلامه قليلاً ليتبيْن لنا جيّداً ما كان عليه العربُ إبّان عهد الرسالة الإسلامية المباركة:

قال عليه السلام في الخطبة (الثانية) من «نهج البلاغة»:

«... وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً عَبدُهُ وَ رَسوله أرْسَلَهُ بالدينِ المَشْهُور والعَلَمِ المأثور، والكِتاب المَسْطُور، والنُّور الساطِع، والضِياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحة للشُبهات واحتجاجاً بالبَّيِنات وَ تَحْذيراً بالآيات، وتَخْويفاً بالمَثُلات(1)، والناسُ في فتن انْجَذَم(2) فيها حَبْلُ الدِّينِ، وتزَعْزَعتْ سَواري(3) اليَقْينِ واْختَلَفَ النَجْرُ(4)، وتَشتَّتَ الأمرُ، وَضاقَ الَمخْرَجُ، وعَمِيَ المَصْدَرُ، فالهُدى خامِلٌ، والعَمى شامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمنُ و نُصِرَ الشَيْطانُ وَ خُذِلَ الإيْمانُ، فَانْهارَت دَعائِمهُ، وتَنكَّرَتْ مَعالِمُهُ وَدَرَست(5) سُبُلُه وعَفَت شُرُكُه(6)، أطاعُوا الشَيْطانَ فَسلكُوا مسالِكه، وورَدُوامناهِلَه(7) بِهِمْ سارتْ أعلامُه، وقامَ لِواؤُهْ في فِتَن داستْهُمْ بأَخْفافِها(8)ووَطِئَتْهُمْ بِأَظْلافِها(9) وقامَتْ عَلى سَنابِكِها(10) فَهُمْ فيها تائهون حائرُونَ جاهِلُونَ مَفْتُونُونَ في خَيْر دار وَشَرِّ جِيْران نُومُهُمْ سُهُودٌ وَ كُحْلُهمْ دُمُوعٌ بأَرْض عالِمُهْا مُلْجَمٌ وجاهِلُها مُكرَمٌ.(11)

ص:107


1- . المثلات: العقوبات.
2- . انجذم: انقطع.
3- . السواري: الدعائم.
4- . النجر: الأصل.
5- . درست: انطمست.
6- . الشُرك: الطُرق.
7- . المنهل: مورد النهر.
8- . الخف: هو للبعير كالقدم للإنسان.
9- . الظلف: للبقر والشاة كالخفّ للبعير والقدم للإنسان.
10- . السنابك: طرف الحافر.
11- . نهج البلاغة: 46-47، تحقيق صبحي الصالح.

وقال في الخطبة (التاسعة والثمانين) أيضاً:

«أرْسَلَهُ (صلّى اللّه عليه وآله) عَلى حِين فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَطُول هَجْعة من الأُمَم واعْتزام(1) مِنَ الفِتَن، وانْتِشار مِن الأُمور وَتلظٍّ(2) مِنَ الحرُوب، والدُّنْيا كاسِفَةُ النُّور ظاهِرَةُ الغُرُور، عَلى حينِ اْصفِرار مِنَ وَرَقها، وإياس مِنْ ثَمَرها واغْورار(3) مِنْ مائها، قَد دَرَسَت مَنارُ الْهُدى وَ ظَهَرَتْ أَعلامُ الرَّدى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَة(4) لأهْلِها عابِسةٌ فيْ وَجْه طالِبها، ثَمَرُها الفِتْنَةِ وَ طَعامُها الجيْفَةُ (5)، وشعارُها الخوفُ، وَدثارُها السَيْفُ».(6)

وَقالَ في الخطبة (السادسة والعشرين): «إنَّ اللّه بَعَث مُحمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم نَذيراً لِلعالَمِين، وأمِيْناً عَلى التَّنْزيْل، وَأنتُم مَعشَر العَرَب عَلى شَرِّ دينٍ وَفي شَرِّ دار، مُنِيخُونَ (7) بَيْنَ حِجارَةٍ خُشْنٍ (8) وحَيّات صُمٍّ (9) تَشربُونَ الكَدِرَ وَتَأَكُلُونَ الجَشِبَ (10) وَتَسْفِكُونَ دِماءكُمْ وتقطعُونَ أَرْحامَكُمْ، الاْصنامُ فيكُم مَنْصوبَة، وَالآثامُ بِكُمْ مَعْصُوبَة(11)».(12)

ص:108


1- . اعتزم الفرس: إذا مرّ جامحاً.
2- . تلظٍّ: تَلَهُّبٍ.
3- . اغورار الماء: ذهابه.
4- . تجهّمه: استقبله بوجه كريه.
5- . إشارة إلى أكل العرب للميتة من شدة الاضطرار.
6- . نهج البلاغة: 121-122.
7- . منيخون: مقيمون.
8- . الخُشّن: جمع خشناء من الخشونة.
9- . الصُمّ: الّتي لا تسمع لعدم انزجارها بالأصوات.
10- . الجشِب: الطعام الغليظ.
11- . معصوبة: مشدودة.
12- . نهج البلاغة: 68.

وقال عليه السلام في الخطبة (الثالثة والثلاثين): «إنَّ اللّه بعثَ مُحمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم ولَيسَ أحدٌ مِنَ العَرب يقرأُ كِتاباً ولا يدّعي نُبوّة، فساق الناس حتّى بوَّأَهُمْ محلَّتهُمْ (1)، وَبلَّغهُمْ مَنجاتَهُمْ، فَاستقامَتْ قَناتُهُمْ (2)، واطمأَنَّت صفاتُهُمْ».(3)

وقال في الخطبة (الخامسة والتسعين) أيضاً:

«... بَعَثَهُ (صلّى اللّه عليه وآله) والنّاسُ ضُلالٌ في حَيْرَة، وَحاطِبُونَ في فِتْنَةٍ، قَد اسْتَهْوَتْهُمْ الأَهْواء، وَاسْتَزَلَّتْهُمْ الْكِبْرياء وَاسْتَخَفَّتْهُمْ (4) الجاهِليَّةُ الجَهْلاء، حُيارى في زلْزال مِنَ الأَمْر، وَبَلاء مِنَ الْجَهْلِ، فَبالَغَ صلى الله عليه و آله و سلم في النَّصِيْحَةِ، وَمَضى عَلى الطَّريْقَةِ، وَدَعا إلى الْحِكْمَةِ وَ الْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ».(5)

وقال عليه السلام: في الخطبة (السادسة والتسعين) أيضاً:

«... مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، وَمَنْبَتُهُ أشْرَفُ مَنْبَتٍ في مَعادِنِ الْكَرامَة، وَمَماهِدِ(6)السَّلامَةِ، قَدْ صُرفَتْ نَحْوَهُ أَفْئدةُ الأَبرار، وَثُنِّيَتْ إلَيْهِ أزمَّةِ الأَبْصار، دَفَنَ اللّه بِهِ الضَّغائِنَ، وَأطْفأَ بِهِ الثَّوائرَ(7) أَلَّف بِه إخْواناً، وَفَرَّقَ بِهِ أقْراناً، أَعزَّ بِهِ الذّلة، وَأَذَلِّ بِهِ الْعِزَّة، كَلامُهُ بَيانٌ وَ صَمْتُهُ لِسان».(8)

وقال عليه السلام في الخطبة (151) أيضاً:

ص:109


1- . بَوّأهم محلَّهُمْ: أنزلَهم منزلتهم.
2- . القناة: العود كناية عن القوّة.
3- . نهج البلاغة: 77.
4- . استخفتّهم: طيّشَتْهُمْ.
5- . نهج البلاغة: 140.
6- . الممهَد: ما يُبسَط فيه الفراش.
7- . الثائرة: العدواة.
8- . نهج البلاغة: 141.

«... أضاءتْ بِه [صلى الله عليه و آله و سلم] البلاد بَعْدَ الضَّلالَةِ المُظْلِمَةِ، والْجهالَةِ الغالِبَةِ، والْجَفْوَة الْجافِيَةِ، وَالنّاسُ يسْتَحِلُّونَ الْحَريمَ، وَيَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيْمَ، يَحْيونَ عَلى فَتْرَة(1)، وَيَمُوتُونَ عَلى كَفْرَة».(2)

وقال عليه السلام في الخطبة (198):

«.. ثُمَّ إنَّ اللّه سُبْحانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم بِالْحَقِّ حِيْن دَنا مِنَ الدُّنْيا الإنْقِطاعُ وَ أقْبَلَ مِنَ الآخِرَة الإطّلاع(3)، وَأظْلَمَتْ بَهْجَتُها بَعْدَ إشْراقٍ، وَقامَتْ بأهْلِها عَلى ساقٍ، وَخَشُنَ مِنها مِهادٌ(4)، وَأَزفَ (5) منها قيادٌ، في انْقِطاعٍ مِنْ مدّتها وَاقْتِراب مِنْ أَشْراطِها(6)، وَتَصَرُّم(7) مِنْ أَهْلِها وانْفِصامٍ (8) مِنْ حَلْقَتِها، وَانْتِشارٍ(9) مِنْ سببها وَعَفاء(10) مِنْ أعْلامِها، وَتَكَشُّفٍ مِنْ عَوْراتِها وَ قِصَرٍ مِنْ طُولِها».(11) وقال عليه السلام في الخطبة (213):

«أَرْسَلَهُ بِالضِّياء وَ قَدَّمَهُ في الْإصْطِفاء، فَرتَقَّ (12) به المَفاتِقَ (13)، وَساوَرَ(14)بِه المُغالِبَ، وَذَلَّلَ بِه الصُّعُوبَة، وَسَهّل بِهِ الحُزُونَةَ (15)، حَتّى سَرَّحَ الضَّلالَ عَنْ

ص:110


1- . على فترة: على خلوّ من الشرائع.
2- . نهج البلاغة: 210.
3- . الاطّلاع: الإتيان.
4- . خشونة المهاد: كناية عن شدّة آلام الدنيا.
5- . ازف: قرب.
6- . الشَرط: العلامة.
7- . التصرّم: التقطّع.
8- . الانفصام: الانقطاع.
9- . انتشار الأسباب: تبدّدها حتّى لا تُضبّط.
10- . عفاء الأعلام: اندراسها.
11- . نهج البلاغة: 314-315.
12- . رتق: سدّ به الفتقَ.
13- . المفاتق: مواضع الفتق.
14- . ساور: ثاوبَ.
15- . الحزونة: غلظ في الأرض.

يمين وَ شِمال».(1)

وقال في الخطبة (191):

«وَأشهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه ابْتَعَثه وَ النّاسُ يَضربُون في غَمْرةٍ (2)، وَيَمُوجُونَ في حَيْرَةٍ قَدْ قادَتْهُمْ أزمَّةُ الحَيْنِ (3)، وَاستَغْلَقَتْ عَلى أَفْئدَتِهِمْ أقْفالُ الرَّيْنِ»(4).(5)

فاطمة الزهراء عليها السلام تصف الوضع الجاهلي

وقد وصفت السيّدة فاطمة الزهراء بنتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم العهدَ الجاهلي بمثلِ ذلك إذ قالت في خطبتها أمام أبي بكر والمسلمين:

«فَبَلَّغَ (أي رسولُ اللّه) الرِّسالة صادِعاً بالنَّذارة،(6) مائلاً عن مَدْرَجَةِ المُشْركيْن ضارباً ثَبَجَهُمْ،(7) آخِذاً بأَكْظامِهمْ داعِياً إلى سَبِيْل رَبِّه بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعظَةِ الْحَسَنَةِ يجف الْأَصْنامَ و يَنْكُثُ الهامَ (8) حتّى انْهَزَمَ الجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُر حَتى تَفَرّى الليلُ عَنْ صُبْحِهِ وَأسْفَرَ الحَقُ عَنْ محْضِهِ (9) وَنَطَقَ زَعيمُ الدين وَخَرستْ شَقاشقُ (10) الشَّياطين وطاحَ وَشِيظُ(11) النَّفاقِ وانَّحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْر

ص:111


1- . نهج البلاغة: 330.
2- . الغَمرة: الماء الكثير.
3- . الحين: الهلاك.
4- . الرين: التغطية.
5- . نهج البلاغة: 283.
6- . النذار: الإنذار.
7- . الثبج: الكاهل.
8- . الهامة: الرأس.
9- . المحض: الخالص.
10- . الشقشقة: شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير إذا هاج.
11- . الوشيظ: الأتباع والخدم.

والشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإخْلاص في نفَر مِنَ البيض الْخِماص وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّار مُذْقَةَ (1) الشّارب، وَنُهْزَة(2) الطامِع وقَبْسَةِ العِجْلان(3)، وَمَوطئَ الأَقْدامِ تَشْرَبُونَ الطَرقَ (4). وَ تَقْتاتُونَ القِدَّ(5)، أذِلَّةً خاسِئينَ، تَخافُونَ أنْ يَتخَطَّفَكُم النّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذكُمُ اللّه تبارك وتَعالى بِمُحَمَّدٍ بَعْدَ أن مُنِيَّ بِبُهْم(6) الرجال وَ ذُؤبانِ الْعَرَب، وَمَرَدة أهْلِ الْكِتاب(7)، كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرب أطْفأَها اللّه، أوْ نجَمَ (8) قَرْنُ الشَّيْطانِ أوْ فَغرَتْ (9) فاغِرَةً مِنَ الْمُشركيْن، قَذَفَ أخاهُ في لَهواتِها(10)فَلا يَنْكَفِئُ (11) حَتّى يَطَأ جناحها بَأخْمصِهِ».(12)

جعفر بن أبي طالب يصف العهد الجاهلي

ويشهد بذلك أيضاً ما قاله جعفر بن أبي طالب رحمه الله عند النجاشي ملك الحبشة عندما أراد مَبعوثا قريش استعادتَهما إلى مكّة:

أيّها الملك، كُنّا قوماً أهلَ جاهِليَّة، نعبدُ الأصنام، ونأكلُ الميتة، ونأتي

ص:112


1- . المذقة: شربة من اللبن الممزوج بالماء.
2- . النهزة: الفرصة.
3- . قبسة العجلان: الشعلة من النار الّتي يأخذها الرجل العاجل.
4- . الطرق: الماء الّذي خوضته الابل وبوّلت فيه.
5- . القد: قطعة جلد غير مدبوغ.
6- . البهمة: الشجاع الذى لا يهتدي من أن يؤتى.
7- . المارد: العاتي.
8- . نجم: طلع.
9- . فَغرت: فتحت.
10- . اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم.
11- . ينكفئ: يرجع.
12- . الاحتجاج للطبرسي: 1/136. وراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 16/250؛ بلاغات النساء لابن طيفور: 12-13.

الفواحِشَ، ونقطعُ الأرْحام، ونسيء الجوارِ، ويأكلُ القويُ مِنّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتّى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبَه وصدقَه وأمانَتَه وعفافَه، فدعانا إلى اللّه لنوحِّده ونعبده، ونخلعُ ما كنّا نعبدُ نحنُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسْنِ الجوار، والكفِّ عن المحارم والدّماء، ونَهانا عنِ الفَواحِش، وقول الزُور، وأكل مالِ اليَتيمِ، وقذفِ المحصَناتِ، وأمَرنا أنْ نَعبُدَ اللّه وَ حدَهُ لا نشركُ بِهِ شيئاً، وأمَرَنا بالصّلاةِ والزّكاةِ والصِيام - قالت: فعدّد عليه أُمور الإسلام -(1) فصدّقناه وآمَنّا به واتَّبْعناهُ على ما جاء به من اللّه، فعبدنا اللّه وحدَه فلم نشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرّمَ عَلَيْنا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فَعدا علينا قومُنا فَعذَّبُونا وافتتنونا عن ديننا، ليردُّونا إلى عبادة الأَوثان مِنْ عِبادَة اللّه تعالى، وأنْ نَسْتَحِلَّ ما كنا نَستحِلَّ من الخَبائث.(2)

ص:113


1- . يعني: أُمّ سلمة، راوية الحديث.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/223-224.

4 إمبراطوريّتا الرُوم وإيران إبّان عهدِ الرِّسالةِ

اشارة

للوقوف على أهميّة النهضة الإسلامية المباركة الّتي تحقّقت على يدي النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بعد إرساله من جانب اللّه تعالى وقيمتها، تكتسبُ دراسة بيئتين اجتماعيّتين أهميّة قصوى، وتانِك البيئتان هما:

1. بيئةُ نزول القرآن الكريم، أي البيئة الّتي ظهر فيها الإسلامُ، وترعرع ونما.

2. البيئة العالمية (خارج الجزيرة العربية)، ويعرف ذلك بدراسة عقائد الناس وأفكارهم في أكثر مناطق العالم - يومَذاكَ - مدنية وحضارة، ومطالعة آدابهم وأخلاقهم وتقاليدهم، وأعرافهم، ومدنيّاتهم الّتي كانت تعتبرُ أفضل الأفكار والمدنيّات، وأرقى الحضارات، والأوضاع آنذاك.

ولقد كانت بيئتا: الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الإيرانية ألمع نقطة في ذلك اليوم، كما يدلنا التاريخ على ذلك. ولابدَّ استكمالاً لهذا البحث من دراسة الأَوضاع في هاتين الإمبراطوريتين، في مناطقها، ومن نواحيها المختلفة، لنقف من هذا الطريق على قيمة الحضارة الّتي أتى بها الإسلام، ونعرف ذلك بوجه أفضل.

***

أوضاع الروم إبَان عهد الرسالة

إنّ أوضاع الروم لم تكن بأقل سوءاً من أوضاع منافستها «إيران» فالحروب

ص:114

الداخلية من جانب والمعارك الخارجية المستمرة مع «إيران» وصراعها الدائم المستمر مع الأخيرة على منطقة «أرمينية» وغيرها، كلّ ذلك كان يهيّئ الناس في تلك البلاد للقبول بثورة جديدة تضع حدّاً لمآسيهم ومحنهم.

ولقد كان للاختلافات والمنازعات الطائفية والمذهبية النصيب الأكبر والأَوفر في توسيع رقعة هذه الاختلافات، والمنازعات.

فالحربُ لم تتوقَفْ أبداً بين الوثنيّين والمسيحيّين ولم تنطفئ شرارتها يوماً أبداً.

فكان إذا غَلَب رجالُ الكنيسة على دست الحكم وأخذوا بمقاليده مارسوا أشدّ أنواع الضغط والاضطهاد بحقِّ خصومهم ومنافسيهم الأمر الّذي كان يساعد على إيجاد أقليّة ناقمة من جهة، كما ويمكن اعتبار ذلك عاملاً مساعداً من جهة أُخرى على تهيئة الشعب الروماني لاحتضان الدعوة الإسلامية، وتقبّلها.

لقد كان حرمانُ طوائف كثيرة ومختلفة ناشئاً من ممارسات رجال الكنيسة القاسية ومواقفهم المتزمتة.

هذا مضافاً إلى أنّ اختلاف القساوسة والرهبان النصارى فيما بينهم من جهة، وتعدّد المذاهب من جهة أُخرى كان يعمل على التقليل من هيبة الإمبراطورية الرومانية وجرّها إلى الضعف والوهن المتزايد يوماً بعد يوم.

هذا بغضّ النظر عن أنَ البيض والصُفر من سُكّان الشمال والمشرق كانوا يفكّرون في السيطرة على المناطق الغنية من أُوربا، وربّما ألحق أحدُهما بالآخر خسائر فادحة وباهضة في الصراعات والصادامات الّتي كانت تقع بينهما. وكان هذا هو نفسُه السبب في أن تنقسم الامبراطوريةُ الرومانية إلى معسكرين: المعسكر (أو القسم) الشرقي، والمعسكر (أو القسم) الغربي.

ص:115

ويعتقد المؤرّخون أنّ أوضاع الروم السياسية، والاجتماعية والاقتصادية في القرن السادس كانت مضطربة، ومتدهورة جدّاً، حتّى أنّهم لا يرون في غلبة الروم وتفوّقها على إيران شاهداً على قدرتها العسكرية، بل يرون أنّ هزيمة إيران كانت بسبب الفوضى الّتي كان سائدة آنذاك في جهاز الحكم الإيراني. إنّ هاتين الدولتين اللتين كانتا تتربَّعان على عرش السيادة والسياسة العالمية في مطلع ظهور الإسلام كانتا تعيشان حالة سيئة من الفوضى، والهرج والمرج، ومن البديهيّ أنَّ مثل هذه الأَوضاع كان من شأنها أن توجد حالة من التهيّؤ الكبير والظمأ الشديد إلى دين صحيح يضع حَدّاً ونهاية لتلك الحالة، ويعيد تنظيم حياتهم.

ظاهرة الجدل العقيم في المجتمع الرومي

المتعارف أن يعمد جماعةٌ مِنَ البطّالين والفسقة إلى طرح سلسلة من القضايا التافهة والمسائل الخاوية، والنقاش حولها بهدف التوصُّل إلى أغراض فاسدة، فيستهلكون بذلك أوقات الناس، ويهدرون أعمارهم على منحر الجدل العقيم.

وهي حالة لها مصاديق كثيرة وشواهد عديدة في كثير من بلاد المشرق، ولسنا بصدد التوسّع فيها فعلاً.

وقد كانت «الروم» تعاني يومئذ من مثل هذه الحالة أكثر من أيّ مكان آخر.

فقد كان ملوك الروم ورجال الحكم والسياسة تبعاً لمذاهب دينية كنسيّة يعتقدون بأنّ المسيح ذو طبيعتين ومشيئتين، ولكن طائفة أُخرى من النصارى وهم «اليعقوبية» كانوا يقولون بأنّه: ذو طبيعة ومشيئة واحدة.

وقد وجهت هذه المسألة الباطلة نفسها، والجدل الواهي حولها ضربة

ص:116

شديدة إلى وحدة الروم ومن ثم استقلالها، وأحدثت في صفوفها إنشقاقاً عميقاً حيث كانت السلطات الحاكمة تضطر إلى الدفاع عن معتقداتها، ولذلك كانت تضطهد معارضيها، وتلاحقهم وهذا الاضطهادُ والضغطُ الروحيّ سبَّب في لجوء البعض إلى الدولة الإيرانية، كما كان هؤلاء همُ الذين تركوا المقاومة عند مواجهة الجيش الإسلامي، وألقوا السلاح، واستقبلوا جنود الإسلام بالأحضان.

كانت الرومُ تمرُّ آنذاك بظروف أشبه ما تكون بظروف القرون الأُوربية الوسطى الّتي ينقل عنها «فلاماريون» الفلكيّ الشهير القضايا التالية الّتي تدلُّ على المستوى الفكريّ والثقافيّ لأُورُبا في القرون الوسطى:

لقد كان كتابُ «المجموعة اللاهوتية» المظهر الكامل للفلسفة المدرسية في القرون الوسطى، وقد بقي هذا الكتاب يُدرَّس في أوربا خلال أربعمئة سنة ككتاب رسمي ومعترف به.

وقد كان من الأبحاث المطروحة في هذا الكتاب البحث حول عدد الملائكة الّتي يمكنها أن تستقر على رأس إبرَة؟! أو عدد الفراسخ بين العين اليسرى والعين اليمنى للأب الخالد؟! إلى غير ذلك من القضايا التافهة!!

إنّ الإمبراطورية الرومية السيئة الحظ فيما كانت تعاني من الحروب الخارجية الكثيرة، كانت تعاني كذلك من النزاعات والاختلافات الداخلية - الّتي كانت - على الأغلب - تتصف بالصبغة المذهبية والطائفية - وكانت تدفع بالبلاد إلى حافّة الهاوية، وتزيدها قرباً إليها يوماً بعد آخر.

ولمّا رأى اليهود (وهي الزمرة الشرّيرة المتآمرة على الشعوب دائماً) تصاعد الإضطهاد والضغط الّذي يمارسه الإمبراطور المسيحي الرومي، خطّطت لإسقاط ذلك النظام، فاحتلت مدينة أنطاكية ذات مرّة، ومثّلت بأسقف أنطاكية الأكبر فصلموا

ص:117

أُذنه، وجدعوا أنفه، فانتقمت حكومة الروم لهذه الجناية بعد مدّة، وقتلت اليهود في أنطاكية في مذبحة كبيرة.

وقد تكرَّرت هذه الجرائم الفظيعة وهذه المذابح، والمذابح الانتقامية المضادّة بين اليهود والنصارى عدّة مرّات، وربّما سرت موجة الروح الانتقامية أحياناً إلى خارج البلاد، فمثلاً اشترى اليهود من إيران ذات مرّة ثمانين ألف مسيحي ثم حزّوا رؤوسهم انتقاماً وتشفّياً.

من هذا يستطيع القارئ الكريم أن يقف على الصورة القاتمة للوضع السيّئ والمتردّي الّذي كان عليه العالم إبان بزوغ شمس الإسلام، ويذعن - مع المذعنين - بأنّ التعاليم الإسلامية الرفيعة التي أنقذت العالم من ذلك الوضع المأساوي لم تكن أبداً وليدة الفكر البشريّ، وأنّ نسيم الوحدة، المنعش، ونغمة السلام الّتي يهدف إليه الإسلام ويسعى إلى تحقيقه وإقراره في الحياة البشرية ليس لها من مصدر إلّا الغيب، إذ كيف يمكن القول بأنّ الإسلام الّذي يعترف حتّى للحيوانات بحقّ العيش والحياة نابع من تلك البيئة المغرقة في القسوّة والوحشية، وناشئ من ذلك المحيط المفحم بروح الانتقام والتشفّي.

لقد أبطل الإسلامُ جميع تلك المجادلات العقيمة والمناقشات التافهة حول مشيئة عيسى وشخصيته، وقال في نعته ووصفه:

«مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ» .(1)

إنّ هذه الآية أنهت الكثير من أبحاث رجال الكنيسة الباطلة الخاوية حول «الروح» و «المسيح» ودمه، وشخصيته، وحقيقته، كما أنّ الإسلام بفضل التعاليم

ص:118


1- . المائدة: 75.

الرفيعة، وإحياء السجايا والملكات الفاضلة أنقذ البشرية من المنازعات، الفارغة، والمذابح الفظيعة.

أوضاع إيران إبّان عَهد الرسالة

إنّ ما دفعَنا إلى دراسة أوضاع الإمبراطورية الرومية هو نفسه يحتّم علينا أيضا دراسة أوضاع إيران يومذاك.

لقد صادف ظهورُ الإسلام وبعثة الرسول الكريم محمّد صلى الله عليه و آله و سلم (611 ميلادية) عهد السلطان الإيراني خسرو برويز (590-628 م)، ففي عهد «خسرو برويز» هذا هاجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من مكّة إلى المدينة المنوّرة (الجمعة 16 تموز 622 م)، وصارت هذه الواقعة مبدأ للتاريخ الإسلامي.

في هذه الأَيام كانت الدولتان العظيمتان (الروم الشرقية وإيران الساسانية) تسيطران على معظم مناطق العالم المتحضّر، ولم تزل هاتانَ الدولتان في نزاع مستمرّ وصراع دائم على مناطق النفوذ حتّى بعد ظهور الإسلام.

فقد بدأت حروب إيران والروم الطويلة من عهد السلطان الإيراني أنوشيروان (531-589 م) واستمرَّت إلى عهد الملك «خسرو برويز» واستغرقت أربعاً وعشرين عاماً من الزمان.(1)

وقد سبَب تحمّل «إيران» و «الروم» للخسائر الكبرى، في الأرواح والأموال خلال هذه المعارك الطويلة في إضعاف تينك الدولتين، وتعطيل وشلّ قواهما بحيث لم يبق منهما إلّاشبحُ دولتين لا أكثر.

ولكي نقف على الوضع العام في إيران آنذاك من جهاته المختلفة، وأبعاده

ص:119


1- . لاحظ: تاريخ علوم وأدبيات در إيران: 3 و 4؛ وإيران در زمان ساسانيان: 267 (باللغة الفارسية).

المتنوّعة وبصورة أفضل، يجب أن نلقي نظرة فاحصة على وضع الحكومات الّتي توالت على سدّة القيادة الإيرانية بعد حكم «انوشيروان» وحتّى بداية دخول المسلمين.

البَذخ والتَرف في البلاط الساساني

كانت حياة الملوك الساسانيين تتّسم عموماً بالبذخ والترف، والتشريفات الطويلة العريضة، وكان البلاطُ الساساني الفخم جدّاً يخلب ببريقه، بريق العيون، ويسحر الأفئدة والعقول.

وكان للإيرانيين في عهد الساسانيين لواء يُعرف ب «درفش كاوياني» أي العلم الكاوياني نسبة إلى كاوه وهو بطل قومي إيراني أُسطوري، وقد كانوا يحملونه معهم في الحروب، أو ينصبونه فوق قصورهم أثناء إحتفالات الساسانيين الكبرى، وقد كان هذا اللواء موشّحاً ومزيّناً بأغلى أنواع المجوهرات بلغت قيمتها التقديرية - حسب قول بعض الكتاب: «000/200/1» درهم (أو ما يعادل 000/30 پوند).

وقد بلغت مجموعة المجوهرات والأشياء الثمينة والتصاوير والرسوم المحيرّة للعقول الّتي كانت تكتضُّ بها قصور الساسانيين من حيث الأهمية والقيمة حدّاً سحرت العيون وخلبَت الألباب.

ولو أنّنا أردنا أن نقف على عجائب ما في تلك القصور، وما كانت تحتوي عليه من غرائب الأشياء لكفانا أن نلقي نظرة واحدة إلى السجّادة البيضاء والكبيرة التي كانت مفروشة في إحدى صالات بعض تلك القصور، وهي السجّادة الّتي كانت تُدعى بالفارسية ب «بهارستان كسرى» وهو بساط كانوا يُعدّونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكانوا إذا أرادُوا الشرب وتعاطي الخمر فرشوه، وشربوا عليه

ص:120

فكأنهم في رياض وكان هذا البساط ستيناً في ستين أرضُه بذهب ووشيُه بفصُوص، وثمره بجوهر وورقه بحرير»(1)!!

وقيل أيضاً: إنّ هذا البساط كان مئة وخمسين ذراعاً في سبعين ذراعاً، وكان منسوجاً من خيوط الذهب والمجوهرات الغالية جداً!!

وقد كان «خسرو برويز» أكثر الملوك الساسانيين ميلاً إلى الترف، والبذخ، واتّخاذ الزينة، وقد بلَغَت عددُ نسائه وجواريه ثلاثة آلاف امرأة واثنا عشر كما نقل حمزة الأصفهاني في كتابه «سني ملوك الأرض».(2)

وجاء في تاريخ الطبري: كان «كسرى برويز» هذا قد جمع من الأموال ما لم يجمعه أحدٌ من الملوك،... وكان أرغب الناسِ في الجوهر والأواني.(3)

الوضع الاجتماعي في إيران

لم يكن الوضعُ الإجتماعي في عهد الساسانيين بأفضل من الوضع السياسي آنذاك أبداً، فقد بلغ الاختلاف الطبقي الّذي كان سائداً في إيران منذ زمن بعيد أشدَّه وأقوى درجاته، وأسوأ حالاته.

فطبقة النبلاء والكهنة كانت تتميّز على بقية الطبقات تميّزاً كاملاً، فهم يختصّون بجميع المناصب الاجتماعية الحسّاسة والعليا، بينما حُرم الكسبة والمزارعون وبقية أبناء الشعب من كافّة الحقوق الاجتماعية، ولم يكن لهم من

ص:121


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 3/130. وجاء فيه: كانت القطف ستين ذراعاً في ستين ذراعاً، بساطاً واحداً مقدار جريب فيه طرق كالصور، وفصوصٌ كالأنهار وخلال ذلك كالدَّير وفي حافاته كالأَرض المرزوعة والأَرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب، ونواره بالذَهب والفضّة!!
2- . لاحظ: سنيّ ملوك الأرض والأنبياء: 420.
3- . تاريخ الطبري: 1/616.

واجب ودور في النظام إلّادفع الضرائب الثقيلة والمشاركة في الحروب.

يكتب أحدُ الكتّاب الإيرانيين وهو الأُستاذ سعيد نفيسي في هذا الصعيد قائلاً:

إنّ ما كان يثير روح النفاق بين الإيرانيين أكثر هو سياسة التمايز الطبقي القاسي جداً الّذي كان الساسانيون يتبعونها في التعامل مع الشعب، وكان لها جذورٌ في العهود والحضارات السابقة، ولكنها بلغت ذورتها في العهد الساساني بالذات!! ففي الدرجة الأُولى كان للعائلات السبع من النبلاء، ثم للطبقات الخمس، إمتيازاتٌ خاصّة حُرمَ منها عامّة أبناء الشعب.

فالملكية كانت محصورة - تقريباً - في تلك العائلات السبع مع العلم أنّ الشعب في العهد الساساني كان يقاربُ عدد نفوسه مئة وأربعين مليوناً في حين لا يبلغ عددُ كلّ واحد من تلك العائلات الممتازة والمتميّزة في شؤونها مئة ألف شخص، فيكون مجموعُها سبعمئة ألف.(1)

وإذا افترضنا أنَّ حرّاسَ الحدود وأمراءهم والمُلّاك الذين كانوا يتمتعون هم الآخرون بشيء من حق الملكية كان يبلغ عددهم أيضاً سبعمئة ألف أيضاً فيكون حق التملّك والمالكية حينئذٍ خاصّاً بمليون ونصف من مجموع مئة وأربعين مليوناً، فقد كانت تلك الزمرة القليلة هي الّتي تملك، وأمّا الآخرون وهم الأكثرية الساحقة فقد كانوا محرومين من هذا الحقّ الطبيعي الموهوب لهم من جانب اللّه أساساً وأصلاً.

لقد كان الكسبة والفلاحون المحرومون من جميع الحقوق، والإمتيازات إلّا

ص:122


1- . تاريخ اجتماعي إيران: 2/6-24 (باللغة الفارسية).

أنّهم يتحمَّلون نفقات حياة البذخ والرفاهية الّتي كان يرفل بها النُبلاء والأشراف والطبقات العليا، لا يأملون خيراً وراء استمرار هذه الأوضاع، ودوامها، ولهذا كثيراً ما كان المزارعون والفلاحون والطبقات الدنيا من الشعب يغادرون أعمالهم، ومزارعهم ويلجأون إلى الأديرة فراراً من الضرائب الباهضة والأتاوات القاصمة للظهور، المبددة للثروات.(1)

يقول مؤلف كتاب «إيران في عهد الملوك الساسانيين».

إنّ حروب إيران - الروم الطويلة بدأت من عهد حكومة الملك الإيراني أنوشيروان (531-589 م).(2)

وخلاصة القول: إنّه كان في الإمبراطورية الساسانية أقلية صغيرة - تقلّ نسبتُها عن 1/5% (واحد ونصف بالمئة) من مجموع الشعب - تملك كلّ شيء بينما كان أكثر من (98,5%) من الشعب الإيراني محرومين من حق الحياة تماماً كالعبيد.

حَقٌّ التعلّم خاصٌ بالطبقات العليا!!

في العهد الساساني كان أبناء الأغنياء والبيوتات الرفيعة هم وحدهم الذين يتمتعون بحقّ التعليم، بينما كان عامّة جماهير الشعب، والطبقات الوسطى والدنيا محرومين من تحصيل العلوم واكتسابها.

وقد كانت هذه المنقصة بادية وواضحة في عصور إيران القديمة جدّاً بحيث ذكرها الشعراء الكبار في ملاحمهم ودواوينهم الملكية المعروفة بالرغم من أنّ الهدف من تلك الملاحم والدواوين كان هو الحماسة، والتفاخر بالبُطولات

ص:123


1- . لاحظ: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي: 70 و 71.
2- . إيران في عهد الملوك الساسانيين: 424.

وتجييش العواطف، بعد مدح الملوك والأمراء.

فها هو «الفردوسي»(1) الشاعر الملحمي الفارسي المعروف، بل أشهر شعراء إيران قد ذكر في شاهنامته (وهي الملحمة الشعرية الّتي يذكر فيها أمجاد ملوك الفرس في قرابة ستين ألف بيت) قصّة في هذا الصدد تعتبر أفضل شاهد على ما قلناه. وقد وقعت هذه القصّة في زمن «أنو شيروان»، أي في الوقت الّذي كانت الإمبراطورية الساسانية تمرُّ فيه بعهدها الذهبي.

وهذه القصّة تشهد بأنّ أكثرية الشعب في عهد هذا الملك أيضاً كانت محرومة من حقّ التعلم، وممنوعة عن اكتساب الثقافة.

يقول الفردوسي: لقد أبدى حذّاء استعداده لتحمّل نفقات الجيش الإيراني - في حربه مع الروم - بدفع ما يحتاجون إليه من ذهب وفضة.

ومع أنّ السلطة في عهد «انوشيروان» كانت بحاجة ماسّة إلى مساعدات مالية كبيرة إذ كان يتعيّن عليها أن تجهّز ما يقرب من ثلاثمئة ألف مقاتل قد أُصيبوا بالمجاعة وقلّة العتاد، بحيث أدى ذلك إلى وقوع بعض الاعتراضات، وإلى ظهور الفوضى في الجنود، ممّا أدى بدوره إلى قلق الملك الإيراني «أنوشيروان».

والتخوّف من مضاعفات هذه الحالة، وآثاره السيئة في قتاله للروم، ولذلك بادر إلى استدعاء وزيره المحنّك «بزرجمهر» للتشاور معه في المخلص من ذلك الوضع المحرج، ثم أمره بالتوجّه إلى منطقة «مازندران» وجمع الأموال اللازمة من سكانها.

ولكن «بزرجمهر» حذَّر الملك من مغبّة هذا العمل، وأضاف بأنّ هذا من

ص:124


1- . راجع للتعرّف على شخصية هذا الشاعر: الموسوعة العربية الميسرة: 1286.

شأنه أن يضاعف من الخطر ثم اقترح جمع الأموال اللازمة عن طريق القروض الشعبية فاستحسن «انوشيروان» اقتراحه وأمره باتخاذ الترتيبات اللازمة على التو، فيرسل الوزير مندوبين له إلى المدن الإيرانية ليكلّم التجار وأصحاب الثروة في الأمر.

فيبدى الحذّاء المذكور استعداده لتحمّل كلّ نفقات الجيش لوحده إلّاأنّه اشترط لذلك بأن يسمحوا لولده الوحيد الراغب في تحصيل العلم جدّاً أن يتعلّم.

فاستحقر الوزير شرطه ووعده بالإنجاز، والسماح لولده بالتعلّم وتحصيل العلم، ثم عرض الأمر على الملك انو شيروان وهو يأمل في أن يتجاوب الملك مع رغبة الحذّاء وطلبه الصغير إذا ما قيس بما سيعطيه من أموال طائلة في تلك الأوضاع الحرجة.

ولكن الملك استشاط غضباً لهذا الطلب، ونهر الوزير قائلاً: دع هذا، ما أسوأ ما تطلبه، إنّ هذا لا يمكن أن يكون، لأنّ ابن الحذّاء بخروجه من وضعه الطبقي يهدم التقليد الطبقيّ المتبع، فينفرط بذلك عقد الدولة، ويكون ضرر هذا المال علينا أكثر من نفعه، وشره أكثر من خيره.

ثم إنّ الفردوسي يعمد إلى شرح المنطق الميكافيلي حكاية عن لسان انوشيروان إذ يقول ناظماً ذلك في أبيات(1) إليك ترجمتها:

وإذا أصبح إبنُ الحذّاء عالماً كاتباً عارفاً فعندما يجلس ولدنا على مسند

ص:125


1- . وإليك هذه الأبيات باللغة الفارسية: چو بازارگان بچه گردد دبير هنرمند و با دانش و ياد گير چو فرزند ما برنشند به تخت دبيرى ببايدش پيروز بخت هنر بايد از مرد موزه فروش سپارد بدو چشم بينا و گوش بدست خردمند مرد نژاد نماند جز از حسرت و سرد باد

الحكم والسلطنة واحتاج إلى كاتب، فإنّه سيضطر إلى الاستعانة بابن ذلك الحذّاء - الكاتب - (وهو من عامّة الشعب ومن أبناء الطبقة الدنيا، وفي حين جرت عادتنا إلى الآن على أن نستعين بأبناء الأشراف والنبلاء لا أبناء الطبقة الدنيا!!!

وإذا حصل ابن الحذّاء وبائع الأحذية على العلم والمعرفة أعاره العلم والمعرفة حينئذٍ عيوناً بصيرة، وآذاناً سميعة فيرى حينئذٍ ما يجب أن لا يراه، ويسمع ما يجب أن لا يسمعه، وحينئذ لا يبقى لأبناء الملوك إلا الحسرة والتأسّف.(1)

وهكذا يعيد الملك دراهم الحذّاء المسكين إليه رافضاً طلبه ويعود الحذّاء خائباً وهو يتوسّل بما يتوسّل به المستضعفون والمحرومون المظلومون وهو الدعاء والضراعة إلى اللّه في الليل، وفي هذا قال الفردوسي: عاد مبعوث الملك بدراهم الحذّاء إليه فأُصيب الحذّاء لذلك بغمّ شديد، ثمّ لما جنّ الليل تضرع الحذّاء إلى اللّه وشكا إليه الملك طالباً عدالته.(2)

والعجيب هو أن يصف البعض هذا السلطان بالعادل وهو الّذي لم يعالج أسوأ مشكلة في المجتمع الإيراني أيام حكمه وسلطانه وهي المشكلة الثقافية، بل تسبّب في أن يصاب الشعبُ الإيراني بالمزيد من المشاكل الاجتماعية وغيرها.

فقد وأد ودفن في القبور ما يقرب من ثمانين ألف انسان وهم أحياء (أو مئة ألف كما قيل) في حادثة واحدة، وهي فتنة مزدك، حتّى أنّه ظنَّ أنّه قد قضى على جذور تلك الفتنة وهو لا يعلم أنّها لم تُستأصل؛ لأنّ مثل هذه الأساليب القمعية إنّما تقضي فقط على المسبَّب دون السبب وتكافح المجرم لا الجرم.

ص:126


1- . راجع شاهنامه (باللغة الفارسية) وتاريخ اجتماعي إيران: 618.
2- . فرستاده برگشت و شد بادرم دل كفشگر زان درم پر زغم شب آمد، غمى شد ز گفتار شاه خروش جرس خواست از بارگاه

لقد كان السبب الحقيقي وراء تلك الفتنة هو الظلم الاجتماعي، والاختلاف الطبقيّ، واحتكار الثروات، والمناصب على أيدي طبقة خاصّة وحرمان الأكثرية الساحقة من الشعب، وغير ذلك من المفاسد وكان عليه لو أراد الإصلاح أن يعالج هذه الأُمور ليأتي على المشكلة من أساسها، ولكنّه بدل ذلك كان يريد - بالقهر والقمع وفي ظلّ الحراب والسياط - أن يظهر الناس أنفسهم بمظهر الراضين عن السلطة، الموافقين على تصرفاتها، وأحوالها وأوضاعها السيئة!!!

ومن هنا نعرف بطلان الحديث المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الّذي قال فيه:

(وُلدتُ في زمن الملك العادل) ويقصد به انوشيروان.(1)

صفحةٌ سوداءٌ من جرائم خسروبرويز

ومن جرائم الملك خسروبرويز ومظالمه المنكرة ما فعله بوزيره الشهير «بزرجمهر» الّذي خدم البلاط الشاهنشاهي الإيرانيّ ثلاثة عشر عاماً، وكان ذلك موجباً لشهرته في البلاد وحسن سمعته بين الناس.

فقد عَمَدَ هذا الملك إلى سجن الوزير المذكور، والنكاية به، وقدكتب إلى الوزير المسجون رسالة يقول فيها: إنَّ حظَّك مِنَ العلم والمعرفة أنّه عرّضك للقتل!!

فأجابه «بزرجمهر» بقوله: «فقد انتفعتُ بعلمي مادام قد حالفنى الحظُ، وحيث عاكسني الآن، فإنّني اصبر وأنتفعُ بصبري، فإذا فاتني فعلُ خير كثير فإنّني سعيدٌ لأنَّني لم أرتكب كذلك شرّاً كثيراً، وإذا ما سلبتني منصب الوزارة فإنّي في

ص:127


1- . راجع في هذا المجال: شعب الإيمان للبيهقي: 4/305؛ تذكرة الموضوعات للفتني: 88؛ الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للملا علي القاري: 362؛ كشف الخفاء للعجلوني: 2/340.

الوقت نفسه قد استرحت كذلك من غم الحيف بالناس، فلا أُبالي بما أنا فيه».

ولما بلغَت هذه الرسالة إلى الملك «برويز» استشاط غضباً، وأمر بقطع شفتي الوزير، وجَدْع أنفه، وعندما عرف الوزيرُ بهذا الأمر الظالم قال: أجل أن شفتي تستحقان أكثر من هذا. فسأله خسروبرويز: ولماذا؟ فقال: لأنَهما وصفتاك عند العامّة والخاصّة بما لا تستحق من الأوصاف، وأعطتاك ما ليس فيك من الخصال، فأمالتا إليك القلوب، ورغَّبتا فيك النفوس، والأفئدة، وأشاعتا عنك أمجاداً لم تستحقّها، يا أسوأ الملوك وأظلم الحكّام، تقتلني الآن بسوء الظن بعد أن كنت على يقين من وفائي، وصدقي، وإخلاصي، وسلامتي، فمَن بعد هذا يأمل في عدلك، ومَن بعد هذا يثق بقولك؟!

فازداد «خسروبرويز» لسماع هذه الكلمات الساخنة غضباً على غضب، وأمر من فوره بقتل الوزير، فضرب عنقه في التوّ.(1)

وتلك هي معاملة ذلك الملك الموصوف زوراً بالعادل مع أقرب مقرّبيه، وأكثر معاونيه إخلاصاً، ووفاء له فكيف كانت يا تُرى معاملته مع سائر أفراد الرعية وبقية أفراد الشعب؟!

حكم التاريخ في الملوك الساسانيين:

لقد اتّخذ الحكّام الساسانيُّون في عهودهم وحكوماتهم سياسة ظالمة وقاسية، وقد أخضعوا الناس لسلطانهم بالسيف والعنف.

كانوا يفرضون على الناس ضرائب ثقيلة وأتاوات باهضة قاصمة للظهور،

ص:128


1- . يذكر الفردوسي الشاعر الملحمي هذه القصة في شاهنامته المعروفة عند ذكر وقائع انوشيروان أثناء حربه مع الروم (لاحظ: الشاهنامه: 6/257-260).

ولهذا السبب كان عامّة الشعب الإيراني غير راضين على حكمهم وسيرتهم، ولكنّهم خوفاً على نفوسهم، ما كانوا يتمكّنون من الإعلان من استيائهم هذا، بل لم يكن لأرباب الفكر والرأي والعارفين بالأُمور شأن ولا قيمة في البلاط الشاهنشاهي.

لقد بلغ الاستبداد لدى الحكّام الساسانيين حدّاً لم يستطع معه أحدٌ من إظهار رأيه، ولم يجرأ أحدٌ على إبداء أية ملاحظة في شأن من الشؤون.

لقد بلغت القوة بخسروبرويز حدّاً عجيباً وصفه الثعالبي بقوله:

قيل لخسرو برويز (كسرى) دعونا فلاناً الوالي فتباطأ عن الامتثال، فأمر الملك من فوره قائلاً إن كان يصعب عليه مجيئه ببدنه كلّه، فإنّنا يكفينا شيء منه، فليؤتى برأسه فحسب.(1)

الفوضى في الحكومة الساسانية

وممّا يجب أن لا نغفل عن ذكره هو ما تعرُضت له الحكومة الساسانية في أواخر عهدها من الفوضى الإدراية، وتفاقم الهرج والمرج في جهازها الحكومي.

فقد دبّ الصراع والنزاع ونشب التنافس الحاد بين الأُمراء، والأعيان وقاده الجيش في ذلك العهد وذهب كلُّ فريق يختار أميراً من أبناء العائلة المالكة، ويقوم بتصفية الطائفة الأُخرى الّتي اختارت أميراً آخر.

وعندما فكّر العرب المسلمون في فتح إيران كانت العائلة الساسانية المالكة قد بلغت ذروة الضَّعف والإنقسام.

وممّا يدل على ذلك تعاقبُ ما يقرب من (14) ملكاً على مسند الحكم

ص:129


1- . إيران در عهد ساسانيان: 318.

والسلطان خلال مدّة أربعة أعوام من مقتل الملك «خسرو برويز» وجلوس «شيرويه» مجلسه وحتّى آخر ملكٍ من ملوك بني ساسان.

وهذا يعني أنّ حكومة إيران انتقلت خلال مدّة لا تتجاوز أربعة أعوام من يد إلى يد أُخرى (14 مرة)!! ومن الواضح ما يلحق بأيّة دولة ومملكة تتعرض ل (14) انقلاب يُقتل فيه ملك، ويحل محلّه ملك آخر في مثل هذه المدّة القصيرة.

فقد كان كلُ حاكم يتسلَّم زمام الحكم ويستولي على عرش السلطان يعمد إلى قتل واغتيال كلّ مَن كان يطمع في العرش، ولا يتورّع في سبيل إرساء قواعد حكمه من ارتكاب كلّ ما يراه ضرورياً، فكان الأب يقتل ابنه، والابنُ يقتل أباه، وربّما يقتل الأخ إخوته، والزوجة زوجها وهكذا...

فقد قتل «شيرويه» أباه(1) للحصول على مقعد الحكم والسلطان، كما أباد أربعين شخصاً من أبناء الملك «خسروبرويز» أي إخوته!!.(2)

وكان «شهر براز» يقتل كلّ من لا يثق به، وقد أدّى هذا إلى أن يقضي على كل أبناء سلالته من الأُمراء الساسانيين ممّن كان قد تسنَّم عرش السلطان والملوكية قبله، رجلاً كان ذلك أم امراة، صغيراً كان أم كبيراً، لكي لا يبقى في الوجود من يطمع في السلطان أو يدّعيه!!

وصفوة القول: إنّ الفوضى السياسية بلغت في أواخر العهد الساساني حدّاً بحيث كانوا يجلسون فيه الأطفال والصبيان والنساء على أريكة الحكم، ثم يثورون عليهم ويقتلونهم بعد أيام أو أشهر ويحلون محلَّهم أشخاصاً آخرين!!

وعلى هذا فإن الدولة الساسانية رغم قوّتها الظاهرية كانت آخذة في

ص:130


1- . تاريخ الطبري: 2/297.
2- . تاريخ اجتماعي إيران: 2/15-19 (بالفارسية).

الانحطاط والإنحلال وسائرة نحو التمزّق والفناء.

الفوضى الدينية في إيران الساسانيين

لقد كان أهمّ عامل للفوضى الّتي كانت تعاني منها الأوضاع في العهد الساساني هو الاختلاف في المعتقدات الدينية الّتي كانت سائدة آنذاك.

فحيث إنّ «أردشير بن بابك» مؤسّس السلسلة الساسانية كان ابن مؤبد (وهو رجل دين زردشتي) وقيّماً على بيت نار، وقد تمكّن من السلطان بفضل الموابدة، فإنّه اجتهد في الترويج لدين آبائه في إيران.

وفي عهد الساسانيين كان الدين الرسمي والشائع في أوساط الشعب الإيراني هو الدين الزرادشتي، ولمّا كانت السلالة الساسانية قد توصّلت إلى الحكم بواسطة الموابدة - كما أسلفنا - لذلك كان الموابدة والقيّمون على بيوت النار (ونعني بهم رجال الدين الزرادشتي) يحظون بمكانة كبرى لدى البلاط الساساني إلى درجة أنّهم أصبحوا يشكّلون في أواخر العهد الساساني أقوى طبقة، وأشدّ الأجنحة نفوذاً في المجتمع الإيراني آنذاك.

ولقد كان الحكام الساسانيّون دائماً ممَّن رشحهم للحكم الموابدة ورجال الدين الزردشتي المجوسي، ولذلك كان الحكّام يأتمرون بأوامرهم، ولو أنّ أحداً منهم خالف الموابدة عارضوه أشدَّ المعارضة، وسحبوا عنه تأييدهم ودَعْمهمْ، ولهذا اجتهد الملوك الساسانيون في كسب رضا الموابدة، والعناية بهم أكثر من غيرهم من الطبقات، وقد تسبَّبت عناية أُولئك الملوك بالموابدة وحمايتهم لهم في تزايد عددهم، يوماً بعد يوم.

وقد كان الساسانيون يستغلون رجال الدين المجوس أكبر استغلال لتثبيت قواعد حكمهم، وتقوية مواقعهم في السلطان، ولذلك أقاموا في مختلف مناطق

ص:131

البلاد الإيرانية العريضة بيوت النار (وهي معابد المجوس) جاعلين في كلّ واحد من هذه المعابد ثلّة كبيرة من الموابدة كسدنة.

فقد كتب المؤرّخون يقولون: إنّ «خسرو برويز» شيّد بيتاً للنار عظيماً ووكّل به (12 ألف) هيربد (وهو منصب خاص ورتبة خاصة في نظام القيادة الدينية المجوسية) لينشدوا فيه الأناشيد الدينية، ويؤدوا الطقوس والشعائر المجوسيّة!!.(1) وعلى هذا الأساس كان الدين المجوسي دين البلاط، وكان رجاله في خدمة الملوك.

هذا وقد اجتهد الموابدة - بكلّ ما في وسعهم - في إبقاء الطبقات الكادحة والمحرومة من أبناء الشعب الإيراني في حالة من الركود والجمود وحالة عدم الإحساس بالآلام والرضا بالأمر الواقع.

ولقد تسبّبت الصلاحياتُ الواسعة والحريات المطلقة المخوّلة إلى الموابدة في ابتعاد الناس عن الدين المجوسي والنفور منه، فجماهير الشعب كانت تبحث لنفسها عن غير ما يتديّن به الأشراف من عقيدة ودين.

يقول مؤلّف كتاب «تاريخ اجتماعي إيران»: وقد سعى الشعب الإيراني - في المآل - إلى أن يتخلّص من ضغوط الأشراف والموابدة واضطهادهم، ولهذا ظهر بيت الزردشتيين في قبال الدين الرسمي «المزدية الزردشتية» الّذي كان دين البلاط كما عرفنا، وكان يدعى: بهدين (أي: الدين الأفضل) مذهبان آخران.(2)

أجل وبسبب ضغوط الأشراف وتشدّدات الموابدة في العهد الساساني

ص:132


1- . تاريخ تمدن ساساني: 1/1 (بالفارسية).
2- . لاحظ: تاريخ اجتماعي إيران: 2/20.

ظهرت في إيران مذاهب مختلفة الواحد تلو الآخر، وقد حاول «مزدك» ومِنْ قبله «ماني» أن يوجدا بأنفسهِما تحوّلاً في الأوضاع الدينية وفي العقائد والمؤسسات، إلّا أنّهما منيا بالفشل في هذا السبيل(1).

فحوالي سنة (497 ميلادية) قام «مزدك»، وألغى المالكية الانحصارية (الخاصّة)، ونسخ عادة تعدّد الزوجات، ونظام الحريم وكان ذلك في مقدّمة برامجه الإصلاحية، وقد لقيت أفكاره هذه تأيّيداً قوّياً من قِبل الطبقات المحرومة المسحوقة الّتي فجرت بقيادة «مزدك» ثورة كبرى، وانقلاباً هائلاً في المجتمع الإيراني.

ولقد كانت هذه الثورات والانتفاضات الشعبية لأجل أن يتوصّل الناس إلى حقوقهم المشروعة، الممنوحة لهم من قبل اللّه خالقهم وبارئهم.

ولقد قوبل مذهب «مزدك» باعتراض شديد من قِبَل الموابدة، وأُمراء الجيش، وجرّ إلى فتنة كبيرة، وإلى تردّي الأوضاع في إيران آنذاك.

كما أنّ المذهب الزردشتي قد فقد - في أواخر العهد الساساني - حقيقته بصورة كاملة، ووصل الأمر بعبادة النار وتقديسها إلى درجة أنّهم كانوا يحرِّمون الدقّ على حديدة محماة اكتسبت لون النار ولهيبها بمجاورتها لها.

وبكلمة واحدة؛ لقد كانت أكثر المعتقدات الزردشتية المجوسية تتألّف من الخرافات والأساطير، وقد أعطت حقائق هذا الدين - في هذا العهد - مكانها لحفنة من الشعائر الجوفاء، والطقوس الفارغة، الّتي أضاف إليها الموابدة سلسلة من التشريفات الطويلة العريضة تثبيتاً لمواقعهم، ودعماً لمكانتهم في المجتمع الإيراني يومئذ.

ص:133


1- . المذهب المانوي هو المذهب الزردشتي الخليط بالمسيحية، فقد اخترع ماني من مسلك قومي وآخر أجنبي مذهباً جديداً ثالثاً.

لقد بلغت سيطرة الخرافات والأساطير البعيدة عن العقل والمنطق على هذه العقيدة، ورسوخها في هذا الدين حدّاً أقلق حتّى رجال الدين الزردشتي أنفسهم أيضاً، وقد كان بين الموابدة أنفسهم من أدرك منذ البداية تفاهة الطقوس والشعائر الزردشتية الجوفاء فتخلّى عنها.

هذا من جانب ومن جانب آخر كان قد انفتح على الشعب الإيراني منذ أيام الملك «أنوشيروان» فما بعد، طريق التفكير، والتأمّل، والتحقيق، وممّا قد قوّى هذا الأمر ما حصل من اتصالات بين العقائد الزردشتية والمعتقدات المسيحية وغيرها من العقائد والأديان وما تحقّق من تلاقح بينها نتيجة تسلل الثقافة اليونانية والهندية، وغيرها إلى الوسط الإيراني، وتسبّب كلّ ذلك في يقظة الشعب الإيراني، ولذلك أصبح يعاني من هذه الخرافات والأساطير الّتي كانت الديانة الزردشتية تعج بها أكثر من أي وقت مضى.

وعلى أيّة حال فإن الفساد الّذي ظهر في أوساط رجال الدين الزردشت، وتطرّق الخرافات والأساطير الواهية الكثيرة إلى المعتقدات الزردشتية تسَبّبَ في حصول مزيد من التشتّت والاختلاف والتشرذم في آراء الشعب الإيراني وعقيدته.

ومع ظهور هذا الاختلاف وعلى أثر إنتشار المذاهب المتنوّعة ظهرت روح الشكّ والتردّد لدى الطبقة المفكّرة والمثقّفة، وسرت منهم إلى بقية الأصناف والفئات ممّا أدى ذلك إلى أن تفقد جماهير الشعب ثقتهم وإيمانهم القطعي، واعتقادهم الكامل السابق بتلك المعتقدات.

وهكذا استشرى الهرج والمرج وعمَّت الفوضى واللادينية كلّ مناطق إيران والمجتمع الإيراني، وقد رسم «برزويه» الطبيب الشهير في العهد الساساني ذلك الحال فصوّر نموذجاً كاملاً عن الاختلاف الاعتقادي والتشرذم الفكري، وبالتالي اضطراب الأوضاع الإيرانية في العهد الساساني، في مقدمة «كليلة ودمنة».

ص:134

الحروب الإيرانية الرومية

لقد أنقذ «بزرجمهر» - الوزير الإيراني الشهير الّذي كان يحتل مكان الصدارة في حكومة «أنوشيروان» وكان موصوفاً بالتدبير والكفاءة العالية - إيران من الأخطار الّتي أحدقت بها في أكثر الأحايين، ولكن علاقته بالسلطان (أنوشيروان) كانت تتأثّر أحياناً بسعاية الساعين ووشاية الوشاة الذين كانوا يوغرون صدر الملك ضدّه فيستصدرون منه قراراً بحبسه وسجنه.

وقد أوغرّ هؤلاء السعاة والواشون أنفسُهم صدرَ «أنوشيروان» ضد امبراطور الروم، وألّبوه عليه، وشجّعوه على توسيع رقعة نفوذه، وتوسيع حدود بلاده، وإضعاف سيطرة منافسه الخطير، متجاهلاً وثيقة «الصلح الخالد» الّتي عقدها مع الروم واتّفق فيها الجانبان على عدم التعرّض بعضهم لبعض.

وأدّى هذا التحريض بأنوشيروان إلى مهاجمة الروم، واشتعلت على إثرها نيران الحرب، واستطاع جنود إيران أن يفتحوا سورية (وقد كانت مستعمرة رومية) في مدّة قصيرة تقريباً، وحرق أنطاكية ونهب آسيا الصغرى.

وبعد عشرين عاماً من القتال وسفك الدّماء، والكرّ والفر بين الروم وإيران وبعد أن فقد الجانبان قدراتهم وطاقاتهم في تلك المعارك الطاحنة، وبعد الخسائر العظيمة الّتي تحمّلها الطرفان، إضطرّا إلى عقد وثيقة الصلح مرّة ثانية، وحدّدوا حدود بلادهما، ومناطق نفوذهما كما كانت عليه في السابق شريطة أن تدفع دولة الروم كلّ عام ما يعادل (عشرين ألف) دينار إلى دولة إيران.

ومِنَ الواضح الّذي لا يخفى ولا يحتاج إلى البيان أنّ حروباً طويلة الأمد تدور رحاها بعيداً عن مركز الدولة من شأنها أن تأتي بالنتائج السيّئة والتبعات الثقيلة على اقتصاد الشعب المحارب، وصناعته وتوجه إلى هذه الجوانب ضربات قوية،

ص:135

لا تزول آثارها إلّابعد زمان طويل خاصّة مع ملاحظة الوسائل والأدوات في تلك العصور. ومهما يكن فإنّ هذه الحروب، وهذه الحملات المكلّفة هيّأت المقدّمات الموجبة لسقوط الحكومة الإيرانية الحتمي.

فإنّ آثار هذه المعارك لم تَزُل بعد إلّاوقد نشبت حربٌ أُخرى دامت سبعة أعوام فإنّ «تي باريوس» امبراطور الروم بعد أن تسنّم عرش السلطان هدّد بحملاته الكبيرة استقلال الدولة الإيرانية بدافع الانتقام.

وفي الأثناء - وقبل أن يتضح موقف الطرفين وموقعهما في تلك المعارك من الهزيمة أو الانتصار - مات «أنوشيروان» وخلفه في إدراة البلاد ابنه «خسروبرويز».

وقد حمل هذا الأخير على الروم أيضاً، وذلك عام (614 م) بحجج معيّنة، وفتح في أوّل حملة من حملاته: بلاد الشام وفلسطين وأفريقية ونَهب أُورشليم، وأحرق كنيسة القيامة ومزار السيّد المسيح عليه السلام وهدم المدن، ودمّرها.

وقد انتهت هذه الحرب بعد مقتل تسعين ألف من النصارى لصالح الإيرانيين.

في مثل هذه المرحلة الّتي كان فيها العالمُ المتحضّر آنذاك يحترق في نيران الحروب والظُلم، بُعِث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالرسالة الإسلامية، وبلغ نداؤه المحيي للنفوس والعقول سمع البشرية، وقام يدعو الناس إلى الصلح والسلم، وإلى النظم والأمن.

ولقد أدّى انهزامُ الروميين المتدينين، المؤمنين باللّه على أيدي المجوس الكفّار، عبدة النار، إلى أن يتفاءل أهلُ مكّة الوثنيون بهذا الحدث، ويحدّثوا (ويمنّوا) أنفسهم بالانتصار على المسلمين المؤمنين باللّه عمّا قريب، وانطلقوا يردّدون هذه

ص:136

الأُمنية أمام المسلمين وهم يحاولون بها إضعاف معنويّاتهم، وزعزعة إيمانهم، الأمر الّذي أقلق المسلمين.

ولم يتّخذ النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم موقفاً تجاه هذه الظاهرة انتظاراً لما سينزل به عليه الوحيُ إلى أن نزلت آيات في هذا المجال هي الآيات الأُولى من سورة الروم الّتي تقول: «الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .(1)

وقد تحقّقت نبوءة القرآن هذه حول الروم في عام (627 ميلادية) حيث استولى «هرقل» على «نينوى» في حملة واحدة.

وعلى أيّة حال كانت الدولتان المتنافستان تطويان الدقائق والساعات الأخيرة من حياتهما فيما تستعدّان من ناحية أُخرى لتجميع القوى، والتهيّؤ لشن حملات جديدة، وخوض حروب ومعارك أُخرى ولكن حيث إنّ الإرادة الإلهية كانت قد تعلّقت بأن يسطع على تلك المنطقتين نورُ التوحيد وتنتعش نفوسُ الروميين والفرس الذابلة الميّتة بنسائم الإسلام الحيّة، وأشعته الهادية، لذلك لم يلبث أن قُتِل «خسرو برويز» على يدي ابنه «شيرويه» الّذي لم يَدُم سلطانه بعد اغتياله لأبيه أكثر من ثمانية أشهر، ثم سادت إيران بعد «شيرويه» فوضى شاملة خلال أربعة أشهر، حيث تناوب على مسند الحكم حُكامٌ وأُمراء عديدون أربعة منهم من النساء، إلى أن أنهى الجيشُ الاسلاميّ بحملاته الناجحة هذه الأوضاع، ووضع نهاية لهذا الصراع السياسي الحادّ الّذي استمرّ خمسين عاماً والّذي ساعد بدوره على تقدّم الفتوحات الإسلامية.

ص:137


1- . الروم: 1-6.

5 أسلاف رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم

1. بطل التوحيد: إبراهيم الخليل عليه السلام

اشارة

إنّ الهدف من استعراض حياة النبيّ العظيم إبراهيم الخليل عليه السلام هو التعريف بأجداد النبيّ محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وأسلافه، لانتهاء نسبه الشريف إلى النبيّ إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وحيث إنّ لهاتين الشخصيتين العظيمتين وبعض أسلاف النبيّ العظام نصيبٌ هامٌّ في تاريخ العرب والإسلام، لهذا ينبغي الحديث عن أحوالهم بصورة مختصرة، خاصَّة أنَّ حوادث التاريخ الإسلامي ترتبط ارتباطاً كاملاً - كحلقات سلسلة واحدة - بالحوادث السابقة، أو المقارنة لبزوغ الإسلام.

فعلى سبيل المثال تُعْتَبر كفالة «عبدالمطلب» لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته له، وجهود «أبي طالب» ودفاعه الطويل عن النبيّ، وعظمة الهاشميّين وسموّ مقامهم وأخلاقهم، وجذور معاداة الأمويين لهم، الأُسس والقواعد الموضوعية لحوادث التاريخ الإسلامي، ولهذا كان لابدّ من تخصيص فصل كامل في التاريخ الإسلامي لهذه الأبحاث.

إنّ في حياة حامل راية التوحيد النبيّ «إبراهيم الخليل» عليه السلام نقاطاً مشرقة وبارزة جدّاً.

فجهاده العظيم في سبيل إرساء قواعد التوحيد واقتلاع جذور الوثنية ممّا لا ينسى.

وهكذا حواره اللطيف والزاخر بالمعاني مع عَبَدة النجوم والكواكب في

ص:138

عصره والّذي ذكره القرآن الكريم ليعرّفنا على أفضل وأسمى درس توحيدي لطلاب الحقيقة وبغاة الحق.

مولد إبراهيم عليه السلام

لقد وُلدَ بطَلُ التوحيد في بيئةٍ مظلمة كانت تسربلها ظلمات الوثنية، وعبادة البشر... في بيئة كان الإنسان فيها يخضع لأَصنام نحتها بيديه، كما يخضع لكواكب ونجوم.

لقد وُلد حامل لواء التوحيد «إبراهيم الخليل» عليه السلام في «بابل» الّتي يعدّها المؤرّخون إحدى عجائب الدنيا السبع، ويذكرون حولها قصصاً وأُموراً كثيرة تنبئ عن عظمتها وأهمّية حضارتها، فيقول «هيردوتس» المؤرّخ المعروف - مثلاً -: لقد كانت بابل بنية بشكل مربَّع طول كل ضلع من أضلاعه الأربعة (120 فرسخاً) ومحيطه (480 فرسخاً)(1).

إنَّ هذا الكلام مهما كان مبالغاً فيه إلّاأنّه على كلّ حال يكشف عن حقيقة لا تقبل الإنكار، إذا ما ضُمَّ إلى ما كتبه الآخرون عن تلك المدينة التاريخية.

غير أنّنا لا نرى من تلك المدينة اليوم ومن مناظرها الجميلة، وقصورها الرائعة، إلّاتلاًّ من التراب في منطقة بين «دجلة» و «الفرات»، فالموت يخيّم على كلّ تلك المنطقة، اللّهم إلّاعندما يكسر علماء الآثار بتنقيباتهم جدار الصمت أحياناً، بحثاً عن آثار تلك المدينة، ويستخرجون بقاياها الموقوف على معالم من حضارة أصحابها وسكانها.

لقد فتح رائد التوحيد ومُرسي أركانه «إبراهيم الخليل» عليه السلام عينيه في دولة «نمرود بن كنعان».

ص:139


1- . قاموس الكتاب المقدّس، مادّة بابل.

وكان نمرود هذا رغم أنّه يعبدُ الصنم يدّعي الأُلوهيَّة ويأمر الناس بعبادته.

وقد يبدو هذا الأمر عجيباً جدّاً فكيف يمكن أن يكون الشخص عابد صنم ومع ذلك يدّعي الأُلوهية في الوقت نفسه، إلّاأنّ القرآن الكريم يذكر لنا نظير هذه المسألة في شأن «فرعون مصر»، وذلك عندما هزّ النبيّ موسى بن عمران عليه السلام قواعد العرش الفرعوني بمنطقه القويّ، وحجّته الصاعقة، فاعترض أنصار فرعون وملؤه على هذا الأمر، وخاطبوا فرعون بلهجة معترضة قائلين: «أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ» .(1) ومن الواضح جدّاً أنّ «فرعون» كان يدّعي الإلوهية فهو الّذي كان يقول: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» (2)، وهو القائل: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» (3) ولكنّه كان في الوقت نفسه عابد صنم ووثنياً.

بَيْدَ أَنَّ هذه الازدواجية ليست بالأمر الغريب عند الوثنيّين، ولا يمنع مانع في منطقهم من أن يكون الشخصُ نفسه وثنياً يعبد الصنم، ومع ذلك يَدَّعي أنّه إلهٌ ويدعو الناس إلى عبادته فيكون إلهاً معبوداً، يعبد إلهاً أعلى منه، لأنّ المقصود من المعبود والإله ليس هو خالق الكون بل هو من يتفوَّق على الآخرين بنحو من أنحاء التفوّق ويمتلك زمام حياتهم بشكل من الإشكال.

هذا والتاريخ يحدّثنا أنّ العوائل في بلاد الروم كانت تعبد كبارها، ومع ذلك كان أُولئك الكبار المعبودين أنفسهم يتّخذون لأنفسهم معبوداً أو معبودات أُخرى.

إنّ أكبر وسيلة توسَّل بها «نمرودُ» في هذا السبيل هو استقطاب جماعة من

ص:140


1- . الأعراف: 127.
2- . النازعات: 24.
3- . القصص: 38.

الكهنة والمنجّمين الذين كانوا يُعدّون الطبقة العالمة والمثقَّفة في ذلك العصر.

فقد كان خضوعُ هذه الطبقة يمهّد لاستعمار الطبقة الدنيا والجاهلة من الناس.

هذا مضافاً إلى أنّه كان يُناصر «نمرود» بعضُ من ينتسب إلى «الخليل» عليه السلام بوشيجة القربى مثل «آزر» الّذي كان يصنع التماثيل، وكان عارفاً بأحوال النجوم والفلك أيضاً، وكان هذا هو الآخر أحد العراقيل الّتي كانت تمنع الخليل من إنجاح مهمّته، لأنّه مضافاً إلى مخالفة الرأي العام له، كان يواجه مخالفة أقاربه أيضاً.

لقد كان نمرود غارقاً في عالم خيالي عندما دقّ المنجمون فجأة أوّل ناقوس للخطر وقالوا له: سوف تنهار حكومتُك، ويتهاوى عرشك وسلطانك على يد رجل يولد في تلك البيئة، الأمر الّذي أيقظ أفكاره النائمة، فتساءل من فوره، وهل وُلد هذا الرجل؟ فقيل له: لا، إنّه لم يولد بعد. فأمر من فوره بعزل الرجال عن النساء (وذلك في الليلة الّتي انعقدت فيها نطفة إبراهيم الخليل عليه السلام عدو نمرود، وهادم ملكه، ومزيل سلطانه وهي الليلة التي حدّدها وتكهّن بها المنجمون والكهنة من أنصار نمرود) ومع ذلك كان جلاوزة «نمرود» يقتلون كلّ وليد ذكر، وكان على القوابل أن يسجِّلن أسماء المواليد في مكتبه الخاص.

ولقد اتّفق أن انعقدت نطفةُ «الخليل» في نفس الليلة الّتي منع فيها أيَّ لقاء جنسي بين الرجال، وأزواجهم.

لقد حملت أُم إبراهيم به كما حملت أُم موسى به، وأمضت فترة حملها في خفاء وتستّر، ثم لجأت بعد وضع وليدها العزيز إلى غار بجبل على مقربة من المدينة حفاظاً عليه، وراحت تتفقده بين حين وآخر من الليل والنهار، قدر المستطاع.

ص:141

وقد أرضى هذا الأَسلوبُ الظالمُ «نمروداً» وأراح باله بمرور الزمن، إذ أيقن بأنّه قد قضى به على عدو عرشه، وهادم سلطانه، وتخلّص منه.

لقد قضى «إبراهيم» عليه السلام ثلاثة عشر عاماً في ذلك الغار الّذي كان يتصل بالعالم الخارجي عبر باب ضيّق، ثم أخرجته أُمّه من ذلك الغار بعد ثلاثة عشر عاماً، ودخل «إبراهيم» في المجتمع، فاستغرب المجتمع النمرودي وجوده وأنكروه.(1)

لقد خرج «إبراهيم» من الغار، مؤمناً باللّه بفطرته، وقوّى توحيده الفطري، بمشاهَدة الأَرض والسماء، والنظر في سطوع الكواكب والنجوم والتأمّل في ما يجري في عالم النبات من نمو وحركة، إلى غير ذلك ممّا يجري في عالم الطبيعة العجيب.

لقد واجه إبراهيم عليه السلام بعد خروجه من الغار جماعة من الناس بهرتهم أحوال الكواكب وعظمة أمرها، ففقدوا عقولهم تجاه هذه الظاهرة، كما رأى جماعة أُخرى أحطَّ فكريّاً من سابقتها يعبدون أصناماً منحوتة، بل واجه ما هو أسوأ بكثير من أعضاء الطوائف والجماعات الضالّة إذ رأى رجلاً يستغل جهل الناس وغباءهم ويدّعي الإلوهية ويفرض عليهم عبادته والخضوع له!!

لقد كان إبراهيم عليه السلام يرى أَنَّ عليه أن يهيّئ نفسه لخوض المعركة في هذه الجهات الثلاث المختلفة، وقد نقل القرآن الكريم قصة نضال النبيّ «إبراهيم» عليه السلام في هذه الأصعدة والجبهات الثلاث، وسننقل لك في ما يأتي وباختصار ما ذكره القرآن في هذا المجال.

ص:142


1- . تفسير البرهان: 1/535.
إبراهيم ومكافحته للوثنية

كانت ظلمات الوثنية قد خيَّمت على منطقة بابل (موضع ولادة الخليل) برمّتها.

فالآلهة المدَّعاة، والمعبودات (السماوية والأرضية) الباطلة قد سحرت عقول مختلف فئات الشعب، فبعضها في نظرهم هي أرباب القدرة والسلطة، وبعضها الآخر وسيلة الزلفى والتقرّب إلى اللّه، إلى غير ذلك من التصوّرات السخيفة في هذا الصعيد.

وحيث إنّ طريقة الأَنبياء في هداية البشرية وإرشادهم هي الاستدلال بالبراهين، والاحتجاج بالمنطق، لأنّهم إنّما يتعاملون مع قلوب الناس وعقولهم، ويبتغون إيجاد حكومة تقوم على أساس الإيمان واليقين، ومثل هذه الحكومة لا يمكن إقامتها بالسيف أو بالنار والحديد. لهذا يبدأون حركتهم بالتوعية الفكرية.

إنّ علينا أن نفرّق بين الحكومات الّتي أراد الأنبياء تأسيسها، وحكومة الفراعنة والنماردة.

إنّ هدف الطائفة الثانية هو: الرئاسة والزعامة، والحفاظ عليها بكلّ وسيلة ممكنة في حياتهم، وإن تلاشت وتهاوت من بعدهم.

ولكنّ الأنبياء والرسل يريدون حكومة تبقى قائمة في جميع الحالات وماثلة في جميع الأوقات، في الخلوة والجلوة، في وقت الضعف، وفي وقت القوّة، في حياتهم وبعد مماتهم... إنّهم يريدون أن يحكموا على القلوب لا على الأبدان، وهذا الهدف لا يتحقّق أبداً عن طريق القوّة واستخدام العنف والقهر!! إنّما يتحقّق عن طريق الحجّة والبرهان.

لقد بدأ النبيُ «إبراهيم» عملَه بمكافحة ما كان عليه أقرباؤُه الذين كان في

ص:143

طليعتهم وعلى رأسهم «آزر» وهو الوثنية وعبادة الأصنام، ولكنّه لم ينته من هذه المعركة ولم يحرز إنتصاراً كاملاً في هذه الجبهة بعد، إلّاوواجه عليه السلام جبهة أُخرى، وكانت هذه الجماعة أعلى مستوى من أفراد الجماعة السابقة في الفهم والثقافة. لأنّ هذه الجماعة - على خلاف أقرباء إبراهيم - قد نبذت عبادة الأوثان والأَصنام(1)، والمعبودات الأرضية الحقيرة، وتوجهت بعبادتها وتقديسها إلى الكواكب والنجوم والأجرام السماوية. ولقد بيَّن «الخليل» عليه السلام في حواره العقائدي مع عُبّاد الأجرام السماوية، ومكافحته لمعتقداتهم الفاسدة، سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية الّتي لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك، وذلك ببيان بسيط مدعوم بأدلّة لا تزال إلى اليوم موضع إعجاب كبار العلماء، وروّاد الفلسفة والكلام.

والأَهم من ذلك - في هذا المجال - أنّ القرآن الكريم نقل أدلّة «إبراهيم الخليل» عليه السلام باهتمام خاص وعناية بالغة، ولهذا ينبغي لنا أن نتوقّف عندها قليلاً، وهذا ما سنفعله في هذه الصفحات.

حوار إبراهيم الخليل عليه السلام مع عبدة الكواكب

ذات ليلة وقف إبراهيم عليه السلام عند ابتداء مغيب الشمس يتطلّع في السماء - وهو ينوي هداية الناس - وبقي ينظر إلى النجوم والكواكب من أوّل الغروب من تلك الليلة إلى الغروب من الليلة التالية، وخلال هذه الساعات الأربع والعشرين حاور وجادل ثلاث فرق، من عبدة النجوم وأبطل عقيدة كلّ فرقة منها بأدلّة محكمة، وبراهين متقنة قوّية.

ص:144


1- . ترتبط آية 74 من سورة الأنعام بحواره عليه السلام مع الوثنيّين، بينما ترتبط الآيات اللاحقة لها بعبدة الأجرام السماوية.

فعندما أقبل الليلُ وخيّم الظلام على كلّ مكان وهو يخفي كلّ مظاهر الوجود ومعالمه في عالم الطبيعة، ظهر كوكبُ «الزُهرة» من جانب الأُفق وهو يتلألأ.

فقال إبراهيم لِعُبّاد هذا الكوكب - وهو يتظاهر بموافقتهم جلباً لقلوبهم، ومقدّمة للدخول معهم في حوار -: «هذا رَبِّي» .

وعندما أفل ذلك الكوكب وغاب عن الأنظار قال: «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» .

وبمثل هذا المنطق الجميل أبطل عقيدة عبدة الزهرة، وأظهر خواءها وفسادها.

ثمّ إنّه عليه السلام نظر إلى القمر المنير الّذي يسحر القلوب بنوره وضوئه، فقال - متظاهراً بموافقة عبدة القمر -: «هذا رَبِّي» ثم ردّ بأُسلوب منطقي محكم تلك العقيدة أيضاً، عندما امتدّت يد القدرة المطلقة ولمّت أشعة القمر من عالم الطبيعة، وعندها اتّخذ إبراهيم عليه السلام هيئة الباحث عن الحقيقة ومن دون أن يصدم تلك الفرق المشركة ويجرح مشاعرها، إذ قال: «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ» (1) لأَنّ القمر قد أَفل أيضاً كما أَفل سابقُه فهو كغيره أسير نظام عُلويٍّ لا يتخلّف، وما كان كذلك لا يمكن أن يُعدَّ رباً يُعبَد، ويتوَجّه إليه بالتقديس والتضرّع.

ولمّا وَلّى الليل وأدبر، واكتسحت الشمس الوضّاءة بأشعتها حجب الظلام، وبثّت خيوطها الذهبية على الوهاد والسهول، والتفت عَبدَة الشمس إلى معبودهم، تظاهر إبراهيم بالإقرار بربوبيتها اتّباعاً لقواعد الجدل والمناظرة ولكن أُفول الشمس وغروبها أثبت هو الآخر بطلان عبادتها أيضاً بعد أن أثبت خضوعها للنظام الكوني العام، فتبرّأ «الخليل» عليه السلام من عبادتها بصراحة.

ص:145


1- . الأنعام: 77.

وعندئذ أعرض عليه السلام عن تلك الطوائف الثلاث وقال: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .(1)

لقد كان المخاطبون في كلام إبراهيم عليه السلام هم الذين يعتقدون بأنّ تدبير الكائنات الأرضية، ومنها الإنسان قد أُنيطت إلى الأجرام السماوية وفوّضت إليها!!

وهذا الكلام يفيد أنّ الخليل عليه السلام لم يقصد المطالب الثلاثة التالية:

1. إثبات الصانع (الخالق).

2. توحيد الذات وأنّه واحد غير متعدد.

3. التوحيد في الخالقية، وأنّه لا خالق سواه.

بل كان تركيزه عليه السلام على التوحيد في «الربوبية» و «التدبير» وإدارة الكون، وأنّه لا مدبّر ولا مربي للموجودات الأرضية إلّااللّه سبحانه وتعالى، ومن هنا فإنّه عليه السلام فور إبطاله لربوبية الأجرام السماوية قال: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ...» وهو يعني أنّ خالق السماوات والأَرض هو نفسه مدبّرها وربُها، وأنّه لم يفوَّض أي شيء من تدبير الكون - لا كلّه ولا بعضه - إلى الأجرام السماوية، فتكون النتيجة: أنّ الخالق والمدبّر واحد، لا أنّ الخالق هو اللّه والمدبّر شيء آخر.

ولقد وقع المفسّرون، والباحثون في معارف القرآن في خطأ، والتباس عند التعرّض لمنطق «إبراهيم» عليه السلام وشرح حواره هذا، حيث تصوّروا أنّ الخليل عليه السلام قصد نفي «أُلوهية» هذه الأجرام يعني الأُلوهية الّتي يعتقد بها جميع شعوب الأرض ويكون هذا الكون الصاخِب آية وجوده.

بينما تصوّر فريق آخر أنّ «إبراهيم» كان يقصد نفي «الخالقية» عن هذه

ص:146


1- . الأنعام: 79.

الأجرام السماوية، لأنّه من الممكن أن يخلق إله العالم كائناً كامل الوجود والصفات ثم يفوض إليه مقام الخالقية، في حين أنّ هذين التفسيرين غير صحيحين، بل كان هدف الخليل عليه السلام - بعد التسليم بوجود إله واجب الوجود، وتوحيده، ووحدانية الخالق - البحث في قسم آخر من التوحيد، ألا وهو التوحيد «الربوبي»، وبالتالي إثبات أنّ خالق الكون هو نفسُه مدبر ذلك الكون أيضاً، وعبارة «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ...» أفضل شاهد على هذا النوع من التفسير.

من هنا كان التركيز الأكبر في بحث إبراهيم على مسألة «الربّ» و «الربوبية» في صعيد الأجرام كالقمر والزهرة والشمس.(1)

هذا واستكمالاً للبحث الحاضر لابدَّ من توضيح برهان النبيّ «إبراهيم» عليه السلام.

لقد استدلّ «إبراهيم» في جميع المراحل الثلاث بأُفول هذه الأجرام على أنّها لا تليق بتدبير الظواهر الأرضية وبخاصّة الإنسان.

وهنا ينطرح سؤال: لماذا يُعتبر أُفول هذه الأجرام شاهداً على عدم مدبِّريتها؟

إنّ هذا الموضوع يمكن بيانُه بصور مختلفة، كلّ واحدة منها تناسب طائفة معيّنة من الناس.

إنّ تفسير منطق «الخليل» عليه السلام وأُسلوبه في إبطال مدبِّرية الأجرام السماوية وربوبيّتها بأشكال وصور مختلفة أفضل شاهد على أنّ للقرآن الكريم أبعاداً مختلفة، وأنّ كل بُعدٍ منها يناسب طائفة من الناس.

ص:147


1- . لقد بيّنا مراتب التوحيد من وجهة نظر القرآن الكريم في موسوعتنا مفاهيم القرآن، الجزء الأوّل: «معالم التوحيد في القرآن الكريم» وأثبتنا هناك أنّ التوحيد في الذات غير التوحيد في الخالقية، وأنّ هذين النوعين من التوحيد غير التوحيد في الربوبية، وهي غير المراتب الأُخرى للتوحيد، فراجع الكتاب المذكور تقف على هذه الحقيقة.

وإليك في ما يلي التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال:

أ. إنّ الهدف من اتّخاذ الربّ هو أن يستطيع الكائن الضعيف في ظلّ قدرة ذلك الرب من الوصول إلى مرحلة الكمال، ولابدّ أن يكون لمثل هذا الربّ ارتباطٌ قريبٌ مع الموجودات المراد تربيتها بحيث يكون واقفاً على أحوالها، غير منفصل عنها، ولا غريب عليها.

ولكن كيف يستطيع الكائن الّذي يغيب ساعات كثيرة عن الفرد المحتاج إليه في التربية ويُحرم ذلك الفرد من فيضه وبركته، أن يكون ربّاً للموجودات الأَرضية ومدبّراً لها؟!

من هنا يكون أُفول النجم، وغروبه، الّذي هو علامة غربته وانقطاعه عن الموجودات الأرضية خير شاهد على أنّ للموجودات الأرضية ربّاً آخر، منزّهاً عن تلك النقيصة، بعيداً عن ذلك العيب.

ب. إنَّ طلوع الأجرام السماوية وغروبها وحركتها المنظّمة دليل على أنّها جميعاً خاضعة لمشيئة فوقها، وأنّها في قبضة القوانين الحاكمة عليها، والخضوع لقوانين منظمة هو بذاته دليل على ضعف تلك الموجودات، ومثل هذه الموجودات الضعيفة لا يمكن أن تكون حاكمة على الكون، أو شيء من الظواهر الطبيعية، وأمّا استفادة الموجودات الأرضية من نور تلك الأجرام وضوئها فلا يدلّ أبدّاً على ربوبية تلك الأجرام، بل هو دليل على أنّ تلك الأجرام تؤدّي وظيفة تجاه الموجودات الأرضية بأمر من موجود أعلى.

وبعبارة أُخرى: إنّ هذا الأمر دليل على التناسق الكوني، وارتباط الكائنات بعضها ببعض.

ج. ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات؟ هل الهدف هو أن تسير من النقص إلى الكمال أو بالعكس؟

ص:148

وحيث إنّ الصورة الثانية غير معقولة، وعلى فرض تصوّرها لا معنى لأن يسير المربّي والمدبّر للكون من مرحلة الكمال إلى النقص والفناء، يبقى الفرضُ الأوّل وهو بنفسه دليل على وجود مربٍّ آخر يوصل هذه الموجودات القوّية في ظاهرها من مرحلة إلى مرحلة، هو - في الحقيقة - الربُّ الّذي يبلغ بهذه الموجودات وما دونها إلى الكمال.

طريقة الأنبياء في الحوار والجدال

لقد أسلفنا في ما سبق أنّ «إبراهيم» - بعد خروجه من الغار - واجه صنفين منحرفين عن جادّة التوحيد، هما:

1. الوثنيون.

2. عَبَدة الأجرام السماوية.

ولقد سمعنا حوار «إبراهيم» عليه السلام وجداله مع الفريق الثاني، وعلينا الآن أن نعرف كيف حاور الوثنيين وعبدة الأصنام؟

إنّ تاريخ الأنبياء والرسل يكشف لنا عن أنّهم كانوا يبدأون دعوتهم من إنذار الأقربين ثمّ يوسّعون دائرة الدعوة لتشمل عامّة الناس كما فعل رسول الإسلام في بدء دعوته حيث بدأ بإنذار عشيرته الأقربين لمّا أمره اللّه تعالى بذلك، إذ قال:

«وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (1). وبذلك أسّس دعوته على إصلاح أقربائه وعشيرته.

ولقد سلك «الخليل» عليه السلام نفس هذا المسلك أيضاً، إذ بدأ عمله الإصلاحي بإصلاح أقربائه.

ص:149


1- . الشعراء: 214.

ولقد كان لآزر بين قومه مكانة اجتماعية عُليا فهو - مضافاً إلى معلوماته في الصناعة وغيرها - كان منجّماً ماهراً، وذا كلمة مسموعة ورأي مقبول في بلاط «نمرود» في كلّ ما يخبر به من أخبار النجوم، وكلّ ما يستخرجه وما يستنبطه من الأُمور الفلكية ويذكره من تكهّنات.

لقد أدرك «إبراهيم» أنّه بجلبه لآزار (عمّه) يستطيع أن يسيطر على أوساط الوثنيّين، ويجرّدهم من ركيزة هامّة من كبريات ركائزهم، ولهذا بادر إلى منع عمّه آزر - وبأفضل الأساليب - عن عبادة الأوثان، بيد أنّ بعض الأسباب أوجبت أن لا يقبل «آزر» بنصائح «إبراهيم» عليه السلام، والمهم لنا في هذا المجال هو أن نتعرّف على كيفية دعوة الخليل وعلى أُسلوب حواره مع «آزر».

إنّ الإمعان في الآيات الّتي تنقل حوار «إبراهيم» عليه السلام مع «آزر» توضح لنا أدب الأنبياء، وأُسلوبهم الرائع في الدعوة والإرشاد، ولنقف عند حوار إبراهيم ودعوته، ليتّضح لنا ذلك.

يقول القرآن الكريم عن ذلك: «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا * يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا * يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا» .

فأجابه «آزر» قائلاً: «أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا» .

ولكن «إبراهيم» بسعة صدره وعظمة روحه تجاهل ردّ «آزر» العنيف ذلك وأجابه قائلاً: «سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي» .(1)

ص:150


1- . مريم: 42-47.

وأيّ جواب أفضلُ مِنْ هَذا البيان، وأيُّ لغة أليَن مِنْ هذه اللغة وأحبّ إلى القلب، وأكثر رحمة ولطفاً؟!

هَل كان آزر والدَ إبراهيم؟

إنّ الظاهر من الآيات المذكورة وكذا الآية (115) من سورة «التوبة» والآية (14) من سورة الممتحنة هو: أنّ «آزر» كان والد إبراهيم عليه السلام.

وقد كان إبراهيم يسمّيه أباً في حين كان «آزر» وثنياً، فكيف يصحّ ذلك وقد اتّفقت كلمة علماء الشيعة عامّة على كون والد النبيّ الكريم «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم وجميع الأَنبياء مؤمنين باللّه سبحانه موحّدين إيّاه تعالى.

ولقد قال الشيخ المفيد رضوان اللّه عليه في كتابه القيّم «أوائل المقالات»:

واتّفقت الإمامية على أنّ آباء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من لدن آدم إلى عبداللّه بن عبدالمطلب مؤمنون باللّه عزّ وجلّ موحّدون له. واحتجّوا في ذلك بالقرآن والأخبار. وأجمعوا على أنّ عمّه أبا طالب رحمه الله مات مؤمناً، وأنّ آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، وأنّها تحشر في جملة المؤمنين.(1)

وفي هذه الصورة ما هو الموقف من ظواهر الآيات المذكورة الّتي تفيد أُبوّة «آزر» لإبراهيم، وما هو الحلّ الصحيح لهذه المشكلة؟؟

يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ لفظة «الأب» وإن كانت تُستعمل عادة في لغة العرب في «الوالد»، إلّاأنّ مورد استعمالها لا ينحصر في ذلك.

بل ربّما استعملت - في لغة العرب وكذا في مصطلح القرآن الكريم - في:

(العمّ) أيّضاً. كما وقع ذلك في الآية التالية الّتي استعملت فيها لفظة الأب بمعنى العم إذ يقول سبحانه:

ص:151


1- . أوائل المقالات: 45، باب القول في آباء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وأُمّه وعمّه أبي طالب.

«إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» .(1)

فإنّ ممّا لا ريب فيه أنّ «إسماعيل» كان عمّاً ليعقوب لا والداً له، فيعقوب هو ابن إسحاق، وإسحاق هو أخو إسماعيل. ومع ذلك سمّى أولادُ يعقوب «إسماعيل» الّذي كان (عمَّهم) أباً.

ومع وجود هذين الاستعمالين (استعمال الأب في الوالد تارة، وفي العمّ تارة أُخرى) يصبح احتمال كون المراد بالأب في الآيات المرتبطة بهداية «آزر» هو العمّ، أمراً وارداً، وبخاصّة إذا ضَمَمْنا إلى ذلك قرينة قويّة في المقام وهي: إجماع العلماء الّذي نقله المفيد رحمه الله على طهارة آباء الأنبياء وأجدادهم من رجس الشرك والوثنية.

ولعلّ السبب في تسمية النبيّ «إبراهيم» عمَّه بالأب هو أنّه كان الكافل لإبراهيم ردحاً من الزمن، ومن هنا كان «إبراهيم» ينظر إليه بنظر الأب، وينزله منزلة الوالد.

القرآن ينفي أُبوّة «آزر» لإبراهيم عليه السلام

ولكي نعرف رأي القرآن الكريم في مسألة العلاقة بين «آزر» و «إبراهيم» عليه السلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى توضيح آيتين:

1. لقد أشرقت منطقةُ الحجاز بنور الإيمان والإسلام بفضل جهود النبيّ «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم وتضحياته الكبرى، وآمن أكثر الناس به عن رغبة ورضا، وعلموا بأنّ عاقبة الشرك، وعبادة الأوثان والأصنام هو الجحيم والعذاب الأليم.

إلّا أنّهم رغم ابتهاجهم وسرورهم بما وُفقوا له من إيمان وهداية، كانت

ص:152


1- . البقرة: 133.

ذكريات آبائهم وأُمّهاتهم الذين مضوا على الشرك والوثنية تزعج خواطرهم وتثير شفقتهم، وأسفهم.

وكان سماع الآيات التي تشرح أحوال المشركين في يوم القيامة يحزنهم ويؤلمهم، وبغية إزالة هذا الألم الروحي المجهد طلبوا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يستغفر لآبائهم وأُمّهاتهم كما فعل «إبراهيم» في شأن «آزر» فنزلت الآية في مقام الردّ على طلبهم ذاك، إذ قال سبحانه:

«ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ * وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ» .(1)

إنَّ ثمة قرائن كثيرة تدلّ على أنّ محادثة النبيّ «إبراهيم» وحواره مع «آزر» ووعده بطلب المغفرة له من اللّه سبحانه قد انتهى إلى قطع العلاقات، والتبرّي منه في عهد فتوَّة «إبراهيم»، وشبابه، أي عندما كان «إبراهيم» لا يزال في مسقط رأسه «بابل» ولم يتوجّه بعد إلى فلسطين ومصر وأرض الحجاز.

إنّنا نستنتج من هذه الآية أنّ «إبراهيم» قطع علاقته مع «آزر» - في أيام شبابه - بعدما أصرّ «آزر» على كفره، ووثنيته، ولم يعد يذكره إلى آخر حياته.

2. لقد دعا «إبراهيم» عليه السلام في أُخريات حياته - أي في عهد شيخوخته - وبعد أن فرغ من تنفيذ مهمّته الكبرى (تعمير الكعبة) وإسكان ذريته في أرض مكّة القاحلة، دعا وبكلّ إخلاص وصدق لجماعة، منهم والداه، وطلب من اللّه إجابة دعائه، إذ قال في حين الدعاء:

«رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» .(2)

ص:153


1- . التوبة: 113 و 114.
2- . إبراهيم: 41.

إنّ هذه الآية تفيد بصراحة أنّ الدعاء المذكور كان بعد الفراغ من بناء الكعبة المعظّمة، وتشييدها، يوم كان إبراهيم يمر بفترة الشيخوخة، فإذا كان مقصودُه من الوالد في الدعاء المذكور هو «آزر» وإنّه المراد له المغفرة الإلهية كان معنى ذلك أنّ «إبراهيم» كان لم يزل على صلة ب «آزر» حتّى أنّه كان يستغفر له في حين أنّ الآية التي نزلت ردّاً على طلب المشركين أوضحت بأنّ «إبراهيم» كان قد قطع علاقاته ب «آزر» في أيّام شبابه، وتبرّأ منه، ولا ينسجم الاستغفار مع قطع العلاقات. إن ضَمَّ هاتين الآيتين بعضهما إلى بعض يكشف عن أنّ الّذي تبرّأ منه «إبراهيم» في أيام شبابه، وقطع علاقاته معه، واتّخذه عدواً، هو غير الشخص الّذي بقي يذكره، ويستغفر له إلى أُخريات حياته.(1)

إبراهيم محطِّم الأَصنام

لقد حلَّ موسم العيد، وخرج أهلُ بابل المغفّلين الجهلة إلى الصحراء للاستجمام، ولقضاء فترة العيد، وإجراء مراسيمه، وقد أخلوا المدينة.

ولقد كانت سوابق «إبراهيم»، وتحامله على الأصنام، واستهزاؤه بها قد أوجدت قلقاً وشكّاً لدى أهل بابل، ولهذا طلبوا منه - وهم الذين يساورهم القلق من موقفه تجاه أصنامهم - الخروج معهم إلى الصحراء، والمشاركة في تلك المراسيم، ولكن اقتراحهم هذا بل إصرارهم واجه رفض إبراهيم الّذي ردّ على طلبهم بحجّة المرض إذ قال: «إِنِّي سَقِيمٌ» وهكذا لم يشترك في عيدهم، وخروجهم وبقي في المدينة.

حقّاً لقد كان ذلك اليوم يوم ابتهاج وفرح للموحّد والمُشرك، وأمّا للمشركين فقد كان عيداً قديماً عريقاً يخرجون للاحتفال به، وإقامة مراسيمه وتجديد ما

ص:154


1- . لاحظ: مجمع البيان: 6/86؛ والميزان في تفسير القرآن: 7/170.

كان عليه الآباء والأسلاف إلى الصحراء حيث السفوح الخضراء والمزارع الجميلة.

وكان عيداً لإبراهيم بطل التوحيد كذلك، عيداً لم يسبق له مثيل، عيداً طال انتظارُه، وأفرح حضوره وحلوله، فها هو إبراهيم يجد المدينة فارغة من الأغيار، والفرصة مناسبة للانقضاض على مظاهر الشرك والوثنية، وحدث هذا فعلاً.

فعندما خرج آخر فريق من أهل بابل من المدينة، إغتنم «إبراهيم» تلك الفرصة ودخل وهو ممتلئ إيماناً ويقيناً باللّه في معبدهم حيث الأصنام والأوثان المنحوتة الخاوية، وأمامها الأطعمةُ الكثيرة الّتي أحضرها الوثنيون هناك بقصد التبرّك بها، وقد لفتت هذه الأطعمة نظر «الخليل» عليه السلام، فأخذ بيده منها كسرة خبز، وقدمها مستهزئاً إلى تلك الأصنام قائلاً: لماذا لا تأكلون من هذه الأطعمة؟

ومن المعلوم أنّ معبودات المشركين الجوفاء هذه لم تكن قادرة على فعل أيّ شيءٍ أو حركةٍ مطلقاً، فكيف بالأكل؟!

لقد كانت تخيّم على جوّ ذلك المعبد الكبير سحابة من الصمت القاتل ولكنّها سرعان ما تبددت إثر أصوات المعول الّذي أخذ «إبراهيم» يهوي به على رؤوس وأيدي تلك التماثيل الجامدة الواقفة بلا حراك.

لقد حطّم «الخليل» عليه السلام جميع الأصنام وتركها ركاماً من الأعواد المهشّمة، والأحجار والحديد المتحطّم، وإذا بتلك الأصنام المنصوبة في أطراف ذلك الهيكل قد تحوّلت إلى تلّة في وسط المعبد.

غير أنّ «إبراهيم» ترك الصنم الأكبر من دون أن يمسّه بسوء، ووضع المعول على عاتقه، وهو يريد بذلك أن يظهر للقوم بأنّ مُحطِمَ تلك الأَصنام هو ذلك الصنمُ الكبير، إلّاأنّ هدفه الحقيقي من وراء ذلك كان أمراً آخراً سنبينهُ في ما بعد.

ص:155

لقد كان «إبراهيم» عليه السلام يعلم بأنَّ المشركين بعد عودتهم من الصحراء، ومن مراسم عيدهم سيزورون المعبد، وسوف يبحثون عن علّة هذه الحادثة، وأنّهم بالتالي سوف يرون أنّ وراء هذه الحادثة واقعاً آخر، إذ ليس من المعقول أن يكون صاحب تلك الضربات القاضية هو هذا الصنم الكبير الّذي لا يقدر أساساً على فعل شيء على الإطلاق.

وفي هذه الحالة سوف يستطيع «إبراهيم» عليه السلام أن يستفيد من هذه الفرصة في عمله التبليغي ويستغل اعتراضهم بأنّ هذا الصنم الكبير لا يقدر على شيء أبداً، لتوجيه السؤال التالي إليهم: إذن كيف تعبدونه؟!!

فمنذ أن أخذت الشمس تدنو إلى المغيب ويقتربُ موعد غروبها، وتتقلّص أشعتها وتنكمش من الرَّوابي والسهول، أخذَ الناسُ يؤوبون إلى المدينة أفواجاً أفواجاً.

وعندما آن موعد العبادة، وتوجّهوا إلى حيث أصنامهم، واجهوا منظراً فظيعاً وأمراً عجيباً لم يكونوا ليتوقَّعونه!!

لقد كان المشهد يحكي عن ذلّة الآلهة وحقارتها، وهو أمرٌ لفت نظر الجميع شيباً وشبّاناً، كباراً وصغاراً.

ولقد كانت تلك اللحظة لحظة ثقيلة الوطأة على الجميع بلا استثناء.

فقد خَيَّم سكوتٌ قاتلٌ مصحوب بحنق ومضض على فضاء ذلك المعبد المنكود الحظ.

إلا أنّ أحدهم خرق ذلك الصمت الرهيب وقال: مَن الّذي ارتكب هذه الجريمة، ومَن فعل هذا بألهتنا؟!

ولقد كانت آراء «إبراهيم» ومواقفه السلبية السابقة ضد الأصنام وتحامله

ص:156

الصريح عليها تبعثهم على اليقين بأنّ «إبراهيم» وليس سواه هو الّذي صنع ما صنع بآلهتم وأصنامهم.

ولأجل ذلك تشكّلت فوراً محكمة يرأسها «نمرود» نفسه، فدعا نمرود أُمّ إبراهيم فقال لها: ما حملك على أن كتمتي أمر هذا الغلام حتّى فعل بآلهتنا ما فعل؟

ولقد أجابت أُمّ إبراهيم على هذا السؤال بقولها: أيّها الملك (فعلت هذا) نظراً منّي لرعيّتك، قال (نمرود): وكيف ذلك؟ قالت: رأيتك تقتل أولاد رعيّتك فكان يذهب النسل، فقلت: إن كان هذا الّذي يطلبه دفعتُه إليه ليقتله ويكف عن قتل أولاد الناس، وإن لم يكن ذلك فبقي لنا ولدنا، وقد ظفرت به فشأنك، فكف عن أولاد الناس، فصوّب رأيها.

ثم جاء دور مساءلة إبراهيم عليه السلام فسأله قائلاً: «أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» (1)، فقال إبراهيم: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» .(2)

وقد كان «إبراهيم» عليه السلام يهدف من هذه الإجابة المصحوبة بالسخرية والازدراء هدفاً آخر، وهو أنّ «إبراهيم» عليه السلام كان على يقين بأنّهم سيقولون في معرض الإجابة عن كلامه هذا: إنّك تعلم يا إبراهيم أنّ هذه الأصنام لا تقدر على النطق، وفي هذه الصورة يستطيع «إبراهيم» أن يُلفت نظر السلطات الّتي تحاكمه إلى نقطة أساسية.

وقد حدث فعلاً ما كان يتوقّعه «إبراهيم» عليه السلام لما قالوا له وقد نكسوا على رؤوسهم: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» فقال إبراهيم ردّاً على كلامهم هذا الّذي كان يعكس حقارة تلك الأصنام والأوثان وتفاهة شأنها: «أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا

ص:157


1- . الأنبياء: 62.
2- . الأنبياء: 63.

يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» .(1)

إلّا أنَّ تلك الزمرة المعاندة الّتي ران على قلوبها الجهلُ والتقليدُ الأعمى لم يجدوا جواباً لأبراهيم الّذي أفحمهم بمنطقه الرصين إلّاأن يحكموا بإعدامه حرقاً، فأَوقدوا ناراً كبيرة وألقوا بإبراهيم عليه السلام فيها إلّاأنّ العناية الإلهية شملت إبراهيم الخليل عليه السلام، وحفظته من أذى تلك النار، وحوّلت ذلك الجحيم الّذي أوجده البشر، إلى جُنينة خضراء نضرة، إذ قال: «يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» .(2)

العِبَر القيمة في هذه القصة

مع أنّ اليهود يعتبرون أنفسَهم في مقدّمة الموحِّدين، لم ترد هذه القصة في توراتهم الحاضرة رغم كونها معروفة بينهم، بل تفرّد القرآنُ الكريم من بين الكتب السماوية بذكرها لأهمّيتها.

ص:158


1- . الأنبياء: 66-67.
2- . وقد ذكرت تفاصيل هذه القصّة في الآيات 51 إلى 70 من سورة الأنبياء وها نحن ندرج كل هذه الآيات هنا: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنّا بِهِ عالِمِينَ * إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ * قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ * قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاّعِبِينَ * قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ * وَ تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ * قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ * قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ * قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ * قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ * قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ * قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ * وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ». وللوقوف على تفاصيل وخصوصيات ولادة إبراهيم عليه السَّلام وتحطيمه للأصنام راجع: الكامل لابن الأثير: 1/94-100؛ وبحار الأنوار: 12/14-55.

من هنا فإنّنا نذكرُ بعض النقاط المفيدة، والدروس المهمّة في هذه القصة الّتي يَهدِفُ القرآن من ذكرها وذكر أمثالها من قصص الأنبياء والرسل.

1. إنّ هذه القصّة خير شاهد على شجاعة «إبراهيم الخليل» عليه السلام وبطولته الفائقة.

فعزم إبراهيم على تحطيم الأصنام، ومحق وهدم كلّ مظاهر الشرك والوثنية المقيتة لم يكن أَمراً خافياً على النمروديّين؛ لأنّه عليه السلام كان قد أظهر شجبه لها، وأعلن عن استنكاره لعبادتها وتقديسها من خلال كلماته القادحة فيها، واستهزائه بها، فقد كان عليه السلام يقول لهم بكلّ صراحة بأنّه سيتخذ من تلك الأصنام موقفاً مّا إذا لم يتركوا عبادتها وتقديسها، فقد قال لهم يوم أرادوا أن يخرجوا إلى الصحراء لمراسيم العيد:

«وَ تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» .(1)

ولقد كان موقف الخليل عليه السلام ينمَّ عن شجاعة كبرى فقد قال الإمام الصادق عليه السلام في هذا الصدد:

«ومنها (أي وممّا تحلّى به النبيّ إبراهيم) الشجاعة وقد كشفت (قضيةُ) الأصنام عنه...، ومقاومة الرجل الواحد أُلوفاً من أعداء اللّه عزّوجلّ تمام الشجاعة».(2)

2 - إنّ ضربات «إبراهيم» القاضية وإن كانت في ظاهرها حربّاً مسلّحة، وعنيفة ضد الأصنام، إلّاأنّ حقيقة هذه النهضة - كما يُستفاد من ردود «إبراهيم» على أسئلة الذين حاكموه، واستجوبوه - كانت ذات صبغة تبليغية دعائية.

فإنّ «إبراهيم» لم يجد وسيلة لإيقاظ عقول قومه الغافية، وتنبيه فطرتهم الغافلة، إلّاتحطيم جميع الأصنام، وترك كبيرها وقد علق القدوم على عاتقه ليدفع

ص:159


1- . الأنبياء: 57.
2- . بحار الأنوار: 12/67.

بقومه إلى التفكير في القضية من أساسها، وحيث إنّ العمل لم يكن أكثر من مسرحية، إذ لا يمكن أن يصدّق أحدهم بأنّ تلك الضربات القاضية كانت من صنع ذلك الصنم الكبير وفعله، حينئذٍ يستطيع إبراهيم أن يستثمر فعله هذا في دعوته، ويقول إنَّ هذا الصنم الكبير لا يقدر - وباعترافكم - على فعل أيّ شيء مهمّا كان صغيراً وحقيراً فكيف تعبدونه إذن؟!

ولقد استفاد «إبراهيم» من هذه العملية فعلاً، وتوصّل إلى النتيجة الّتي كان يتوخّاها، فقد ثابوا إلى نفوسهم بعد أن سمعوا كلمات «إبراهيم» عليه السلام، واستيقظت ضمائرهم وعقولهم ووصفوا أنفسهم بالظلم بعد أن تبيّن لهم الحقّ وبطل ما كانوا يعبدون، إذ قال تعالى: «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظّالِمُونَ» (1) وهذا بنفسه يفيد بأنّ سلاح الأنبياء القاطع في بدء عملهم الرسالي كان هو: سلاح المنطق والاستدلال ليس إلّا، غاية الأمر أنّه كان يتعامل في كلّ دورة بما يناسبها من الوسائل، وإلّا فما قيمة تحطيم عدد من الأَصنام الخشبية بالقياس إلى مخاطرة النبيّ «إبراهيم الخليل» بنفسه وحياته، وبالقياس إلى الأخطار الّتي كانت تتوجّه إليه نتيجة هذا العمل الصارخ.

إذن فلابدّ أن يكون وراء هذه العملية الخطيرة هدفٌ كبيرٌ وخدمة عظمى تستحق المخاطرة بالنفس، ويستحق المرء امتداح العقل له إذا عرّض حياته للخطر في سبيلها.

3. لقد كان إبراهيم يعلم بأنّ هذا العمل سيؤدّي بحياته، وسيكون فيه حتفه، فكانت القاعدة تقتضي أن يسيطر عليه قلقٌ واضطرابٌ شديدان، فيتوارى عن أعين الناس، أو يترك المزاح، والسخرية بالأَصنام على الأقل، ولكنّه كان على العكس من ذلك رابط الجأش، مطمئن النفس، ثابتَ القدم، فهو عندما دخَلَ في المعبد الّذي

ص:160


1- . الأنبياء: 64.

كانت فيه الأصنامُ تقدّم بقطعة من الخبز إلى الأصنام ودعاها ساخراً بها، إلى الأكل، وثم ترك الأَصنام بعد اليأس منها تلاًّ من الخشب المهشّم، واعتبر هذا الأَمرَ مسألة عادية لا تستأهل الوَجلَ والخوف، وكأنّه لم يفعل ما يستتبع الموت المحقَّق ويستوجب الإعدام المحتّم.

فهو عندما يأخذ مكانه أمام هيئة القضاة يقول معرّضاً بالأصنام: فعله كبير الأصنام فاسألوه، ولا شكّ أنّ هذا التعريض والسخرية بالأصنام إنّما هو موقف من لا يوجس خيفة، ولا يشعر بوجَل من عمله، بل هو فعل من قد هيّأ نفسه لكلّ الأخطار المحتملة، واستعدّ لكل النتائج مهما كانت خطيرة.

بل الأعجبُ من هذا كلّه دراسة وضع «إبراهيم» نفسه حينما كان في المنجنيق وقد تيقّن أنّه سيكون وسط ألسنة اللهب بعد هنيئة، وتلتهمه النار المستعرة تلك النار الّتي جمع أهل «بابل» لها الحطب الكثير تقرّباً إلى آلهتهم، وكانوا يعتبرون ذلك العمل واجباً مقدّساً... تلك النار الّتي كان لهيبها من القوّة بحيث ما كانت الطيور تستطيع من التحليق على مقربة منها.

في هذه اللحظة الخطيرة الحسّاسة جاءه جبرئيل وأعلن عن استعداده لإنقاذه وتخليصه من تلك المهلكة الرهيبة قائلاً له: هل لك إليّ من حاجة؟

فقال «إبراهيم»: أمّا إليك فلا، وأمّا إلى ربِّ العالمين فنعم.(1)

إنّ هذا الجواب يجسِّدُ إيمان «إبراهيم» العظيم، وروحه الكبرى.

لقد كان «نمرود» الّذي جلس يراقب تلك النار من عدّة فراسخ، ينتظر بفارغ الصبر لحظة الانتقام، وكان يحب أن يرى كيف تلتهم ألسنة النار «إبراهيم». فما أرهب تلك اللحظات!

لقد وضع إبراهيم عليه السلام في المنجنيقُ، وبهزّة واحِدة أُلقي في وسط النار غير أَنّ

ص:161


1- . لاحظ: عيون أخبار الرضا: 2/60؛ وأمالي الصدوق: 542؛ وبحارالأنوار: 12/35.

مشيئة اللّه، وإرادته النافذة تدخلت فوراً لتخلّص خليل اللّه ونبيّه العظيم، فحوّلت تلك النّار المحرقة الّتي أوقدتها يَدُ البشر إلى روضة خضراء أدهشت الجميع حتّى أَنَّ نمرود عندما أشرف على النار ورأى ذلك، التفت إلى «آزر» وقال - من دون إرادته -: «يا آزر ما أكرمَ إبراهيم على ربّه».(1) إنّ انقلاب تلك النّار الهائلة إلى روضة خضراء لإبراهيم قد تمّ بأمر اللّه المسبّب للأسباب والمعطّل لها متى شاء، المعطي لها آثارها، والسالب عنها ذلك، متى أراد.

أجل إنّ اللّه الّذي منح الحرارة للنّار والإضاءة للقمر، والإشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبّب الاسباب، ومعطّلها.

غير أنّ جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع أن توفر لإبراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ، فقد قرّرت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد «إبراهيم» ونفيه، وقد فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم، وتهيّأت بذلك أسبابُ رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وأرض الحجاز.

هجرة الخليل عليه السلام

لقد حكمت محكمة «بابل» على «إبراهيم» بالنفي والإبعاد من وطنه، ولهذا اضطرّ عليه السلام أن يغادر مسقط رأسه، ويتوجّه صوبَ فلسطين ومصر، وهناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به، ونَعِمَ بهداياهم الّتي كان من جملتها جارية تدعى «هاجر».

ص:162


1- . لاحظ: تفسير البرهان: 3/826 برقم 7161.

وكانت زوجته «سارة» لم تُرزق بولد إلى ذلك الحين، فحرّكت هذه الحادثة عواطفها ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم، ولذلك حثّته على الزواج من تلك الجارية علّه يُرْزَقُ منها بولد، تقرّ به عينه وتزدهر به حياته.

فكان ذلك، وولدت «هاجر» لإبراهيم ولداً ذكراً سُمّي بإسماعيل، ثم بعد مضي مدة من الزمان حبلت سارة هي أيضاً وولدت - بفضل اللّه ولطفه - ولداً سُمّي بإسحاق.(1)

وبعد مدّة من الزمان أمر اللّه تعالى «إبراهيم» بأن يذهب بإسماعيل وأُمّه «هاجر» إلى جنوب الشام «أي أرض مكّة» ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين... واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية الذاهبة من الشام إلى اليمن، والعائدة منها إلى الشام، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً، وأمّا في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة، خالية من السكان.

لقد كانت الإقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لامرأة عاشت في ديار العمالقة وألفت حياتهم وحضارتهم، وترفهم وبذخهم.

فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب أمام أبصار المقيمين.

وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الأمر، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته «هاجر» وولده «إسماعيل» في ذلك الواد قال لزوجته «هاجر» وعيناه تدمعان: «إنّ الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم».

ثمّ قال في ضراعة خاصة: «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ

ص:163


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 12/118 ح 58.

مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» .(1)

وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت إليهما وقال داعياً:

«رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» .(2) إنَ هذه السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها أمراً صعباً، وعملية لا تطاق، إلا أنّ نتائجها الكبرى - الّتي ظهرت فيما بعد - أوضحت وبيّنت أهمّية هذا العمل، لأنّ بِناء الكعبة، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع، وخلق نواة نهضة، دينية عميقة، انبثقت على يد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم، كلُّ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

كيف ظهرت عين زمزم؟

لقد غادر «إبراهيم» عليه السلام أرض مكّة تاركاً زوجته وولده «إسماعيل» بعيون دامعة، وقلب يملأه الرضا بقضاء اللّه والأمل بلطفه وعنايته.

فلم تمض مدّة إلّاونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب، وجفّ اللبن في ثديي «هاجر»، وتدهورت أحوال الرضيع «إسماعيل»، وكانت دموع الأُم الحزينة تنحدر على حجرها، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتّى وصلت إلى جبل «الصفا»

ص:164


1- . البقرة: 126.
2- . إبراهيم: 37.

فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل «مروة»، فأسرعت إليه مهرولة، غير أنّ الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الّا السراب الخادع، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والإياب إلى الصفا والمروة أملاً في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرّر، والذهاب والإياب المتعدّد بين الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً.

كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل وأشرفت على النهاية، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتّى على الأنين.

ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه «إبراهيم»، إذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت أقدام «إسماعيل».

فسرت تلك الأُم المضطربة - الّتي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الأخيرة من حياته، وكانت على يقين بأنّه سرعان ما يموت عطشاً، وجهداً - سروراً عظيماً بمنظر الماء، وبرق في عينيها بريق الحياة، بعد أن اظلمّت الدنيا في عينيها قبل دقائق، فشربت من ذلك الماء العذب، وسقت منه رضيعها الظامئ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كلّ غيوم اليأس، وسحُب القنوط الّتي تلبّدت وخيّمت على حياتها.

ولقد أدّى ظهور هذه العين الّتي تدعى بزمزم إلى أن تتجمّع الطيور في تلك المنطقة و تحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور، وارتادتها الحمائم، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة إلى أن تتنبه إلى ظهور ماء فيها لمّا رأت تساقط الطيور وتحليقها، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر، وبعد بحث طويل وكثير، انتهيا إلى

ص:165

حيث حلّت الرحمة الإلهية، وعندما اقتربا إلى «هاجر» وشاهدا بأُمِّ عينيهما «امرأة» و «طفلاً» عند عين من الماء الزلال الّذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه، فأخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة، وتخيّم عند تلك العين لتطرد عن «هاجر» وولدها مرارة الغربة، ووحشة الوحدة، وقد أدّى نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة إلى أن يتزوّج إسماعيل من تلك القبيلة، ويصاهرهم، وبذلك يحظى بحمايتهم له، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم له. ولهذا ينتمي أبناء «إسماعيل» إلى هذه القبيلة من جهة الأُم.

تجديد اللقاء

كان إبراهيم عليه السلام بعد أن ترك زوجته «هاجر» وولده «إسماعيل» في أرض «مكّة» بأمر اللّه، يتردّد على ولده بين فينة وأُخرى.

وفي إحدى سفراته ولعلّها السفرة الأُولى دخل «مكّة» فلم يجد ولده «إسماعيل» في بيته، وكان ولده الّذي أصبح رجلاً قوياً، قد تزوّج بامرأة من جرهم.

فسأل «إبراهيم» زوجته قائلاً: أين زوجك؟ فقالت: خرج يتصيَّد، فقال لها:

هل عندك ضيافة؟ قالت: ليس عندي شيء وما عندي أحد، فقال لها إبراهيم: «إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له: فَلْيغيّر عتبة بابه».

وذهب إبراهيم عليه السلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه «إسماعيل» له وقد قال لها ما قال.

ولمّا جاء إسماعيل عليه السلام وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت:

جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفِّة بشأنه، قال: فماذا قال لك؟ قالت: قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له: فليغيّر عتبة بابه!!

ص:166

فطلّقها وتزوج أُخرى، لأنّ مثل هذه المرأة لا تصلح أن تكون زوجة وشريكة حياة.(1)

وقد يتساءل أحد: لماذا لم يمكث إبراهيم عليه السلام هناك قليلاً ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد، وقد قطع تلك المسافة الطويلة، وكيف سمح لنفسه بأن يعود بعد تلك الرحلة الشاقّة من دون أن يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب أرباب التاريخ على ذلك بأنّ إبراهيم إنّما استعجل في العودة من حيث أتى لوعد أعطاه لزوجته سارة بأن يعود إليها سريعاً، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من أخلاق الأنبياء.

ثمّ إن «إبراهيم» سافر مرة أُخرى إلى أرض مكّة بأمر اللّه، وليبني الكعبة الّتي تهدّمت في طوفان «نوح»، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

إنّ القرآن الكريم يشهد بأنّ أرض «مكّة» قد تحوّلت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيم عليه السلام، لأنّ إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلاً:

«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» (2) على حين دعا عند نزوله مع زوجته، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلاً:

«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» .(3)

وهذا يكشف عن أنّ مكّة تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل عليه السلام، بعد أن كانت صحراء قاحلة، وواد غير ذي زرع.

***

ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالاً لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء

ص:167


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 12/112 ح 38 نقلاً عن قصص الأنبياء.
2- . إبراهيم: 35.
3- . البقرة: 126.

الكعبة المعظمة، ونستعرض التاريخ الإجمالي لذلك، بيد أنّنا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب أعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز وأشهر أجداد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في التاريخ.

2. قُصَيُّ بنُ كلاب

إنّ أسلاف الرَّسول العظيم صلى الله عليه و آله و سلم هم على التوالي: عَبْدُ اللّه، عَبْدالْمُطَّلِبْ، هاشِم، عبدُ مَناف، قُصّيّ، كِلابٌ، مُرَّة، كَعْب، لُؤيّ، غالِب، فِهْر، مالِك، النَضر، كِنانة، خُزيمَة، مدُركة، إلياس، مُضَر، نَزار، مَعدّ، عَدنان.(1)

من المسلّم أنّ نسب النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم إلى عدنان هو ما ذُكر، فلا خلاف فيه، إنّما وقع الخلاف في عدد، وأسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيل عليه السلام، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ قال: «إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا»(2) هذا مضافاً إلى أَنّ النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك، ونهى عن ذكر من بعده إلى إسماعيل، وقد روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:

كَذِبَ النَسّابُونَ.

ولهذا فإنّنا نكتفي بذكر من اتفِق عليه، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم.

ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين، ومشهورين في تاريخ العرب، بيد أنّ حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام، ولهذا فإنّنا نقف عند حياة «قصيّ» ومَن لحقه إلى والد النبيّ «عبداللّه» ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من

ص:168


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 2/5-33.
2- . بحار الأنوار: 15/105 ح 49 عن مناقب ابن شهرآشوب: 1/134؛ وكشف الغمّة: 1/15.

أجداده وأسلافه صلى الله عليه و آله و سلم ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة.(1)

أمّا «قُصَيّ» وهو الجدّ الرابع لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأُمّة «فاطمة» الّتي تزوّجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما: «زهرة» و «قصي» إلّاأنّ زوج فاطمة قد توفّي، وهذا الأخير لم يزل في المهد، فتزوّجت بزوج آخر يدعى ربيعة، وسافرت معه إلى الشام، وبقي «قصيّ» يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة، واشتدّ ذلك الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم، ممّا أحزن ذلك أُمّه، واضطرت إلى إرجاعه إلى «مكّة».

وهكذا أتت به يد القدر إلى «مكّة»، وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوّقه على أهل مكّة وبخاصّة قريش.

وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات العالية، وشغل المناصب الرفيعة، مثل حكومة «مكّة» وزعامة قريش، وسدانة الكعبة المعظّمة، وصار رئيس تلك الديار دون منازع.

ولقد ترك (قصيّ) من بعده آثاراً كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة، وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من أجل التداول في الأُمور وحلّ المشاكل يدعى بدار الندوة.

وقد توفّي «قصيّ» في القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما:

«عبد الدار» و «عبد مناف».

ص:169


1- . لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع: 2/5-23.

3. عبدمناف

وهو الجدّ الثالث لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واسمه «المغيرة» ولقبه «قمر البطحاء»، وكان أصغر من أخيه «عبدالدار» إلّاأنّه كان يحظى بمكانة خاصّة عند الناس دون أخيه، وكان شعاره التقوى، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم، بيد أنّه مع ما كان له من المكانة القوّية لم ينافس أخاه «عبدالدار» في المناصب العالية الّتي كان يشغلها. فقد كانت الزعامة لأخيه عبدالدار حسب وصيّة أبيهما «قصيّ».

ولكن بعد وفاة هذين الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب، وانتهى ذلك الصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات، وتقرر أن يتولى أبناء عبدالدار سدانة الكعبة وزعامة دار الندوة، ويتولى أبناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.

وقد بقي هذا التقسيم المتّفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام.(1)

4. هاشم

اشارة

وهو الجدُّ الثاني لنبي الإسلام واسمه «عَمْرو» ولقبه «العُلاء» وهو الّذي وُلِدَ مع «عبد شمس» توأمين، وأخواه الآخران هما: «المطّلب» و «نوفل».

ص:170


1- . لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم أُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كلّ ذلك تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات، وكانت هذه المناصب التي استمّرت إلى زمن ظهور الإسلام عبارة عن: 1. سدانة الكعبة. 2. سقاية الحجيج. 3. رفادتهم وضيافتهم. 4. زعامة المكّيين وقيادة جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.

هذا وثمّة خلاف بين أرباب السيَر وكتّاب التاريخ في أنّ هاشماً وعبد شمس كانا توأمين، وأنّ هاشما ولد وإصبعٌ واحدة من أصابع قدمه ملصقة بجبهة «عبد شمس» وقد نزعت بسيلان دم، فتشاءم الناس لذلك.(1)

يقول الحلبي في سيرته: فكانوا يقولون: سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما، أي بين بني العباس (وهم من أولاد هاشم) وبين بني أُميّة (وهم من أولاد عبد شمس).(2)

وكأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني أُميّة وأبناء عليّ عليه السلام، في حين أنّ تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو أُمية وأُهرقَت فيها دماء ذرية رسول اللّه وعترته الطاهرة، أقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلّف السيرة الحلبية ولم يشر إليها مطلقاً؟!

ثم إنّ من خصوصيات أبناء «عبد مناف» حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي، وما جاء فيه من أشعار، أنّهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم - مثلاً - توفّي في «غزة» وعبد شمس مات في «مكّة»، ونوفل في أرض العراق، والمطلب في أرض اليمن.(3)

وكان من سجايا هاشم وأخلاقه الفاضلة أنّه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرّفة، وخطب قائلاً:

«يا معشر قريش إنّكم سادة العرب، وأحسنها وجوهاً، وأعظمها أحلاماً (أي عقولاً) وأوسط العرب (أي أشرَفها) أنساباً، وأقرب العرب بالعرب أرحاماً.

ص:171


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/13؛ السيرة الحلبية: 1/7.
2- . السيرة الحلبية: 1/7.
3- . السيرة الحلبية: 1/8.

يا معشر قريش إنّكم جيرانُ بيت اللّه تعالى أكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته، وخصّكم بجواره، دون بني إسماعيل، وإنّه يأتيكم زوّار اللّه يعظّمون بيته فهم أضيافه وأحق مَن أكرم أضياف اللّه أنتم، فأكرموا ضيفه وزوّاره، فإنّهم يأتون شعثاً غبراً من كلّ بلد على ضوامر كالقداح، فأكرموا ضيفه وزوّار بيته، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرجٌ من طَيّب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم، ولم يؤخذْ بظلم، ولم يُدخل فيه حرامٌ، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعلَ، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلّاطيّباً لم يؤخذ ظلماً، ولم يقطع فيه رحمٌ، ولم يؤخذ غصباً».(1) ولقد كانت زعامة «هاشم» وقيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم.

ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدّة الوطأة عن أهل مكّة، وبالتالي أدى إلى عدم إحساسهم بالقحط، وآثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة وأعماله النافعة جدّاً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير «غسان» من المعاهدة، الأمر الّذي دفع بأخيه «عبد شمس» إلى أن يعاهد أمير الحبشة، وبأخويه الآخرين «المطلب» و «نوفل» إلى أن يعاهدا أمير اليمن وملك إيران بأن تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان من العدوان والتعرّض.

وقد أزالت هذه المعاهداتُ الكثير من المشاكل، وكانت وراء ازدهار التجارة في «مكّة المكرّمة» حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ص:172


1- . السيرة الحلبية: 1/9-10.

ثم إنّ من أعمال «هاشم» وخطواته النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدّث عنهما القرآن الكريم إذ يقول: «رحْلة الشتاء والصْيف» وهما رحلة إلى الشام، وكانت في الصيف، ورحلة إلى اليمن، وكانت في الشتاء، وقد استمرّت هذه السيرة حتّى ما بعد ظهور الإسلام أيضاً.

أُميّة بن عبدشمس يحسد هاشماً

ولقد حسد «أُمية بن عبد شمس» ابن أخي هاشم عمَّه «هاشماً» على ماحظي به من المكانة والعظمة، والنفوذ إلى قلوب الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه، وما كان يقوم به من بذل وإنفاق، وحاول جاهداً أن يقلّده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنّه رغم كلّ ما قام به من جهود ومحاولات لم يستطع أن يتشبّه به و يتّخذ سيرته، وكما لم يستطع بإيقاعه والطعن به، من أن يُقلّل من شأنه، بل زاده رفعة وعظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب «أُمية» يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم، حتى دفع به إلى أن يدعو عمَّه «هاشماً» للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرئاسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن، وكانت عظمة «هاشم» وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن أخيه (أُميّة) إلّاأنّه رضي بالمنافرة هذه تحت إصرار (أُميّة) بشرطين:

1. أن يعطي المغلوبُ خمسين من النيَاق سود الحدق تنحر بمكة.

2. جلاء المغلوب عن مكّة عشر سنين.

ومن حسن الحظِّ أنّ ذلك الكاهن نَطق بمدح «هاشم» بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال: «والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر... لقد سبق هاشمُ أُميّة إلى المآثر» إلى آخر كلامه. فقضى لهاشم بالغلبة وأخذ هاشم الإبل فنحرها

ص:173

وأطعمها، وغاب أُمية عن مكّة والعيش بالشام عشر سنين.(1)

وقد استمّرتْ آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى 130 عاماً بعد ظهور الإسلام، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم إنّ القصّة السابقة مضافاً إلى أنّها تبيّن مبدأ العداوة بين الأُمويّين والهاشميّين، تبيّن أيضاً علل نفوذ الأُمويّين في البيئة الشامية، ويتبيّن أنّ علاقات الأُمويّين العريقة بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأُمويّة في تلك الديار.

هاشم يَتَزوَّج

كانت «سلمى» بنت «عمرو الخزرجي» امرأة شريفة في قومها، قد فارقت زوجها بطلاق، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد، ولدى عودة «هاشم» من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش، ولنبله وكرمه، ورضيت بالزواج منه بشرطين: أحدهما أن لا تلد ولدها إلّا في أهلها، وحسب هذا الإتّفاق بقيت «سلمى» مع زوجها «هاشم» في مكّة بعض الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى: «يثرب» وهناك وضعت ولداً أسموه «شيبة». وقد اشتهر في ما بعد ب «عبدالمطلب».

وكتب المؤرّخون في علّة تسميته بهذا الاسم بأنّ هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لأخيه «المطلب»: يا أخي أدرك عبدك شيبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم: «عبدالمطلب».

وقيل: إنّ أحد المكّيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من أزقّة يثرب، وينتضلون بالسهام، ولمّا سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً: «أنا ابنُ سيّد

ص:174


1- . الكامل لابن الأثير: 2/17؛ والسيرة الحلبية: 1/7.

البطحاء» فسأله الرجل عن نسبه وأبيه فقال: أنا شيبة بن هاشم بن عبدمناف، فلمّا قدم الرجلُ مكّة أخبر «المطلب» أخي «هاشم» بما سمعه ورآه، فاشتاق «المطلبُ» إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة، ولمّا وقعت عيناه على ابن أخيه «شيبة» عرف شبه أخيه هاشم، وتوسَّم فيه ملامحه، ففاضت عيناه بالدموع، وتبادلا قُبُلات الشوق، والمحبّة، وأراد أن يأخذه معه إلى «مكّة» وكانت أُمُه تمانع من ذلك، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه إلى «مكّة» وأخيراً تحققت أُمنية العم فقد استطاع «المطلبُ» أن يحصل على إذن أُمه، فأردفه خلفه وتوجّه حدب «مكّة» تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم.

وفعلت شمسُ الحجاز وأشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه، ولهذا ظنَّ أهل «مكّة» عند دخوله مع عمه «مكّة» أنّه غلام اقتناه «المطلبُ» فكان يقول بعضهم لبعض: هذا عبدالمطلب، وكان المطلب ينفي هذا الأمر، ويقول: إنّما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلتَه، وعُرف «شيبة» بعبد المطلب.(1)

وربما يقال: إنّ سبب شهرته بهذا الاسم هو أنّه تربّى وترعرع في حجر عمّه «المطلب» وكانت العربُ تُسمّي مَن يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.

5. عبدُ المطّلب

اشارة

عبدُالمطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأوّل للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، كان رئيس قريش وزعيمها المعروف، وكانت له مواقف بارزة، وأعمال عظيمة في حياته، وحيث إنّ ما وقع من الحوادث في أيام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.

ص:175


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/8 و 9، السيرة الحلبية: 1/10-11.

لا شكّ أنّ المرء مهما تمتّع بنفسية قويّة فإنّه سيتأثر - في المآل - ببيئته وعاداتها، وتقاليدها، الّتي تصبغ فكره، بصبغة خاصّة، وتطبع عقليته بطابع معيّن.

بيد أنّ هناك بين الرجال من يقاوم تأثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة، ويصون نفسه من التلوّث بشيء من أدرانها وأقذارها.

وبطلُ حديثنا هنا هو أحد النماذج الصادقة لأُولئك الرجال العظماء؛ لأنّ في حياته صفحات مشرقة عظيمة، وسطوراً لامعة تنبئ عن نفسيته القوّية، وشخصيته الشامخة.

فإنّ الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية، ومعاقرة الخمر، والربا، وقتل الأنفس البريئة، والفحشاء حتّى أنّ هذه الأُمور كانت من العادات والتقاليد الشائعة، ولكنّه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء، ويمنع عن الزواج بالمحارم، والطواف بالبيت المعظّم عرياناً، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد، وأداء النذر بلغ الأمر ما بلغ، لهو - حقّاً - نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم، ويقل نظيرهم في المجتمعات.

أجل إنّ شخصية أودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نورَ النبيِّ الأكرم أعظم قائد عالمي، يجب أن يكون إنساناً طاهر السُلوك، نقيَّ الجيب، منزّهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط، والفساد.

هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته القصار أنّه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة، وكان يردِّدُ دائماً: «لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى ينتقم منه، وتصيبُه عقوبة... واللّه إنّ وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه، ويعاقَبُ فيها المسيء بإساءته»(1) أي أنّ الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة، فإذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

ص:176


1- . السيرة الحلبية: 1/7.

ولقد كان «حرب بن أُمية» من أقربائه، وكان من أعيان قريش ووجوهها أَيضاً، وكان يجاور يهودياً فاتّفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض أسواق تهامة، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من «حرب»، ولمّا علم «عبدُالمطّلب» بذلك قطع علاقته بحرب، وسعى في استحصال دية اليهودي المقتول من «حرب» ودفعها إلى أولياء القتيل، وهذه القصّة تكشف عن حبّ عبدالمطلب للمستضعفين والمظلومين وحبّه للحقّ والعدل.

حَفرُ زَمزَم

منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكّة طوال سنين مديدة، وكانت تستفيد من مياه تلك العين، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في «مكّة»، وإقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين، ونضوب مائها بالمرّة.(1)

ويقال: إن قبيلة «جُرهُم» لمّا واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة واضطرت إلى مغادرة تلك الديار، وأيقن زعيمها «مضاض بن عمرو» بأنّه سرعان ما يفقد زعامته، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو، أمر بأن يُلقى الغزالان الذهبيان، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد أُهديت إلى الكعبة، في قعر بئر زمزم، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى أثره إعفاء كاملاً حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه أبداً، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكّة استخرج ذلك الكنز الدفين،

ص:177


1- . لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث، ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات، وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة، قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» سورة الأعراف، الآية: 96.

واستفاد منه. ثم نشب القتال بين «جرهم» و «خزاعة» واضطرت «جرهم» وكثير من أبناء إسماعيل إلى مغادرة «مكّة المكرّمة»، والتوجّه إلى أرض اليمن، ولم يرجع أحدٌ منهم إلى «مكّة» أبداً. ووقعت زعامة مكّة منذ هذا التاريخ بيد «خزاعة» حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكّة بوصول قصيّ بن كلاب (الجدَ الرابع لنبي الإسلام) إلى سدة الزعامة والرئاسة، ثم بعد مدّة انتهى أمر الزعامة إلى «عبدالمطلب» فعزم على أن يحفر بئر «زمزم» من جديد، ولكنّه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر أن يهيئ هو و ولده «حارث» مقدّمات ذلك.

وحيث إنّه يوجد في المجتمع دائماً مَن يتحجّج ويجادل - بسبب سلبيته - ليمنع من أي عمل إيجابي مفيد، انبرى منافسو «عبدالمطلب» إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرّد بإعادة حفر بئر زمزم، لكي لا يذهب بفخر هذا العمل العظيم، وقالوا له: إنّها بئر أبينا إسماعيل، وإنّ لنا فيها حقّاً فأشركنا معك، ولكن «عبدالمطلب» رفض هذا الطلب لبعض الأسباب، فقد كان «عبدالمطلب» يريد أن يتفرّد بحفر زمزم، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع، ويحول بذلك دون المتاجرة به، ولم يكن ليتسنّى له ذلك إلّاإذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد فتقرّر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به، فتوجّه «عبدالمطلب» ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك، وقرب الوفاة أخذوا يفكّرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا، فاقترح «عبدالمطلب» أن يبادر كلُّ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها، فإذا استمرّ بهم العطش

ص:178

وهلكوا يكون الجميع (ماعدا من بقي منهم على قيد الحياة) قد أُقبروا، ولم تغد أبدانهم طعمة للوحوش والطيور، فأيَّد الجميع هذا الإقتراح، واحتفر كلّ واحد منهم حفيرة لنفسه، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة، وعيون ذابلة، وفجأة صاح عبدالمطلب: «واللّه إنّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لانضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا، لعجزٌ» وحثّهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى أن يجدوا ما ينقذهم من الموت، فركب عبدالمطلب وركب مرافقوه، وأخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين، ولم يمض وقت حتّى ظهرت لهم عين ماء عذبة أنقذتهم من الموت المحتّم، وعادوا من حيث جاءُوا وهم يقولون لعبدالمطلب: «قد واللّه قضى لك علينا يا عبدالمطلب، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً، إنّ الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً» وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع، ولا شريك.(1)

فعمد «عبدالمطلب» وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر، وفجأة عثر «عبدالمطلب» على الغزالين المصاغين من الذهب، والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة، فشبَّ نزاع آخر بين «قريش» وبين «عبدالمطلب» على هذه الأشياء، واعتبرت «قريش» نفسها شريكة في هذا الكنز، وتقرّر أن يلجأوا إلى القرعة لحل هذه المشكلة، فخرجت القرعة باسم «عبدالمطلب»، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون «قريش»، ولكن عبدالمطلب خصّ بتلك الأشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة، وعلّق الغزالين الذهبيّين فيها.

ص:179


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/92-96.
التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر

رغم أنّ العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فإنّهم كانوا يتحلّون ببعض الصفات الحسنة، والخصال المحبَّبة.

وللمثال كان نقض العهود من أقبح الأفعال في نظرهم، فإذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أوثقوها بالأيمان المغلّظة المؤكّدة، والتزموا بها إلى النهاية، وربّما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في أدائها مهمّا كلّف ذلك من مشقّة وثمن.

ولقد أحسَّ «عبدالمطلب» عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلّة أولاده، ولهذا نذر إذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدّم أحدهم قرباناً للكعبة، ولم يُطلِعْ أحداً على نذره هذا.

ولم يمض زمان الّا وبلغ عَدَدُ أبنائه عشرة، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر، وهو أن يذبح أحدهم قرباناً للكعبة.

ولا شكّ أنّ تصور مسألة كهذه فضلاً عن تنفيذها كان أمراً في غاية الصعوبة على عبدالمطلب، ولكنّه كان في نفس الوقت يخشى أن يعجز عن تحقيق هذا الأمر فيكون من الناقضين للعهد، التاركين لأداء النذر، ومن هنا قرّر أن يشاور أبناءه في هذا الأمر، وبعد أن يكسب رضاهم وموافقتهم يختار أحدهم للذبح بالقرعة.(1)

وتمّت عملية القرعة، فأصابت «عبدَاللّه» والد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأخذ عبدالمطلب بيد ابنه، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

ولمّا علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصّة النذر المذكور وما آلت إليه عملية

ص:180


1- . هذه القضية ذكرها كثير من المؤرّخين وكتّاب السيرة، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنّها تجسّد مدى إيمان «عبدالمطلب» وقوّة عزمه، وصلابة إرادته، وتبيّن جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.

القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصّة لذلك حزنا شديداً وبكوا وضجّوا، وقال أحدُهم: ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

فاقترحت قريشٌ على عبدالمطلب بأن يفدّي «عبداللّه»، وأظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك، فتحيّر «عبدالمطلب» تجاه تلك المشاعر الساخنة، والاعتراضات القوية، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره، ويفكّر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة، فقال له أحدهم: لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلّاً.

فوافق «عبدالمطلب» وأكابر قريش على هذا الاقتراح، وتوجّهوا بأجمعهم نحو «يثرب» قاصدين ذلك الكاهن، ولمّا قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم: كم دية المرء عندكم؟ قالوا:

عشرٌ من الإبل.

فقال: إرجعوا إلى بلادكم، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم «أي عبداللّه» القداح، فإن خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً، حتّى يرضى ربُّكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.

فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهبة لدى الناس، لأنّ نحر مئات الإبل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل «عبداللّه» يتشحّط في دمه.

ولهذا فإنّهم فور عودتهم إلى «مكّة» بادروا إلى إجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ عدد الإبل مئة خرجت القداح على الإبل، ونجا «عبداللّه» من الذبح، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس، بيدَ أَنّ «عبدالمطلب» طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلاً: «لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً»، وأنّما أراد ذلك ليستيقن أنّ ربّه قد رضي عنه، ولكن في كلّ مرّة كانت القداح تخرج على

ص:181

الإبل المئة فنحرت الإبلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع.(1)

حادثة عام الفيل

عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في أُمّة من الأُمم وخاصّة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فإنّه سرعان ما يتحوّل - بفعل إعجاب الناس عامّة به - إلى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبيّ موسى يعتَبر مبدأ للتاريخ عند اليهود، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

وهذا يعني أنّ كل أُمّة من الأُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها.

وأحياناً تتخذُ الأُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع أنّها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه، فقد اتّخذت الثورةُ الفرنسية، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا، والاتحاد السوفياتي، بحيث أصبح يقاس بهما كلّ ما وقع من الحوادث بعدهما. ولكن الشعوب غير المتحضّرة الّتي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتّخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلاً من الثورات والتحوّلات الاجتماعية، وهذا ما حدث عند العرب قبل الإسلام.

ص:182


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 2/5-7؛ بحار الأنوار: 16/74، وقد نُقلّ عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «أنا ابْن الذبيحين» يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيل عليه السلام والثاني أباه «عبداللّه» الّذي كاد أن ينحر ولكنّه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيل عليه السلام.

فإنّهم - بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة - اتّخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرّة، كالحرب والزلزال، والمجاعة والقحط أو الحوادث غير الطبيعية، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

ولهذا نجد بدايات متعدّدة للتاريخ عند العرب، آخرها: حادثة عام الفيل وهجوم «أبرهة» على «مكّة» بهدف هدم الكعبة المشرفة، الّتي صارت فيما بعد مبدأ للتاريخ، تؤرّخ بالنسبة إليه بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.

ونظراً لأهميّة هذا الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام 570 م، واتّفقت فيه ولادة النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم فإنّنا نتناول هذه القصّة بالعرض والتحليل:

ماهي أسباب هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصّة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصّرة، وسوف ننقل - هنا - الآيات الّتي نزلت حول هذه القصّة بعد حوادثها.

يكتب المؤرّخون عن علّة هذه الحادثة أنّ ملك اليمن «تُبان أسعد» والد ذي نواس بعد أن أرسى قواعد حكمه مرّ في إحدى رحلاته على يثرب (المدينة)، وقد كانت ل «يثرب» في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ، فقد قطنها جماعة من اليهود، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيّين الروميّين، والمشركين العرب.

ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من أساليب مؤثّرة أثرها في نفس ذلك الأمير واختار اليهودية، واجتهد في بثّها ونشرها.(1)

ص:183


1- . راجع السيرة النبوية لابن هشام: 1/12.

ثم ملك من بعده ابنه «ذو نواس» الّذي جدّ في بثّ اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.

بيد أنّ أهل نجران الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية، وقاوموا «ذي نواس» مقاومة شديدة، فشقّ ذلك على ملك اليمن، وأغضبه فتوجّه أحد قادته إلى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها، فعسكر هذا الجيش على مشارف نجران، واحتفر قائده خندقاً كبيراً، وأوقد فيه ناراً عظيمة، وهدّد المتمردين بالإحراق بالنار.

ولكن أهل نجران الذين أحبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة أظهروا شجاعة كبرى، واستقبلوا الموت حرقاً، وغدوا طعمة للنيران.

يقول المؤرّخ الإسلاميُّ «ابنُ الأثير الجزري» بعد ذكر هذه القصّة: لمّا قتل «ذونواس» من قتل من أهل اليمن في الأُخدود لأجل العود عن النصرانية أفلَت منهم رجلٌ يقال له: دوس ذو ثعلبان حتّى أعجز القوم فقدم على «قيصر» فاستنصره على «ذي نواس» وجنوده وأخبره بما فَعل بهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك عنّا، ولكن سأكتبُ إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم، فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره، فأرسل معه ملكُ الحبشة سبعين ألفاً، وأمّر عليهم رجلاً يقال له «أرياط» وفي جنوده «أبرهة الأشرم» فساروا في البحر حتّى نزلوا بساحل اليمن، وجمع «ذو نواس» جنوده فاجتمعوا وكتب إلى زعماء قومه من أهل اليمن يدعوهم إلى الاجتماع لمقاتلة عدوّهم، فلم يجيبوه، فانهارت حكومته أمام حملة جيش الحبشة، وسيطر الأحباش على أرض اليمن، وجُعِلَ «أبرهة» أميراً عليها من قِبَل «النجاشي» بعد مقتل «أرياط»

ص:184

على يد «أبرهة» في صراع على السلطة.(1)

وهذه القصّة هي الّتي تعرف في القرآن الكريم بقصة «أصحاب الأُخدود» وقد جاء ذكرها في سورة البروج إذ يقول اللّه تعالى: «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ * اَلنّارِ ذاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ * وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» .(2)

وقد ذكر المفسّرون هذه القصّة في شأن نزول هذه الآيات بصورة مختلفة.(3)

ثم إنّ «أبرهة» الّذي أسكره الانتصار والغلبة على منافسه، وتمادى في الشهوات بنى في صنعاء كنيسة عظيمة تقرّباً إلى ملك الحبشة، وإرضاء له ثمّ كتب كتاباً إلى «النجاشي» ملك الحبشة يقول فيه: «إنّي قد بَنيتُ لك أيّها الملك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمُنْته حتّى أصرف إليها حج العرب».

وقد أدّى معرفة العرب بما جاء في هذا الكتاب إلى ردّة فعل شديدة لديهم، إلى درجة أنّ امرأة مِن قبيلة «بني أفقم» تسلّلت ذات ليلة إلى تلك الكنيسة وأحدثت فيها، فأثار هذا العمل الّذي كان يدلّ على مدى ازدراء العرب بكنيسة «أبرهة» واحتقارهم لها، غضب «أبرهة»، هذا من جانب ومن جانب آخر كان «أبرهة» كلمّا زاد في تزيين تلك الكنيسة زاد ذلك من حقد العرب، وحنقهم عليه، واحتقارهم لكنيسته، فتسبّب كلّ ذلك في أن يحلف أبرهة على السير إلى الكعبة وهدمها، فسيَّر لذلك جيشاً عظيماً، وقدّم أمامهُ الفِيَلة المقاتلة، وخرج متوجهاً صوب مكّة وهو

ص:185


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 1/431-433؛ والسيرة النبوية: 1/24-27.
2- . البروج: 4-9.
3- . راجع مجمع البيان: 10/312.

يعتزم هدم الكعبة بيت اللّه الحرام!!

فلمّا عرف زعماء العرب بغايته، وأدركوا خطورة ذلك العمل وأيقنوا بأنّ استقلال العرب وسيادتهم تتعرض لخطر السقوط، لم يمنعهم ما عهدوه من قوّة «أبرهة» وانتصاراته، بل خرج بعضهم إلى حربه فقاتلوه بكلّ شجاعة وبسالة مدفوعين بدافع الغيرة والحفاظ على الشرف المهدَّد بالخَطر.

فقد خرج «ذو نفر» وهو من أشراف أهل اليمن وملوكهم، ودعا قومَه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب «أبرهة» ولكن سرعان ما تغلّب «أبرهة» عليه بجيشه الكبير، ثم خرج له بعد ذلك «نفيل بن حبيب» وبقي يقاتله مدّة طويلة فهزمه «أبرهة» وأُخِذَ له أسيراً، فطلب «نفيل» العفو منه، فاشترط عليه أن يدلّه على طريق مكّة ليعفو عنه، فدلّه نفيل حتّى الطائف، وأوكل الدلالة على بقية الطريق إلى شخص آخر يُدعى «أبو رغال» فدلّه أبورغال على الطريق حتّى أرض «المغمَّس» وهي منطقة قريبة من «مكّة» فنزل «أبرهة» وجيشه بالمغمَّس، فأرسل أبرهة رجلاً من الحبشة - على عادته - إلى ضواحي «مكّة» فاستولى على أموال قريش من الإبل والغنم فساق إليه في جملة ذلك مائتي بعير لعبد المطلب، ثم أمر رجلاً آخر يدعى «حُناطة» ليدخل «مكّة» ويبلغ أهلها عنه ما جاء من أجله، وهو هدم البيت المحرّم الكعبة المعظمة، وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفها، ثم قل له: إنّ الملك يقول لك: «إنّي لم آت لحربكم، إنّما جئتُ لهدم هذا البيت، فإن تعرّضوا دونه بحرب فلا حاجة لي في دمائكم»، فإن هو لم يرد حربي فأتني به.

فدخل «حُناطة» مكّة ولمّا سأل عن سيد قريش و شريفها، وقد كانت قبائل قريش المختلفة قد تجمعت في أطراف البلد جماعات جماعات تتذاكر في أمر «أبرهة» وما يجب اتّخاذه من موقف تجاهه.

ص:186

فدلّوه على بيت «عبدالمطلب»، ولمّا دخل على «عبدالمطلب» أبلغه مقالة «أبرهة» فقال له عبدالمطلب: «واللّه ما نُريدُ حربَه، وما لَنا بذلك من طاقة، هذا بيت اللّه الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلّي بينه وبينه فواللّه ما عندنا دفع عنه»؟

فسرّ «حناطة» رسول أبرهة بمنطق عبدالمطلب ومقالته الّتي كانت تحكي عن قوّة إيمانه، وعن روحه المسالمة فطلب منه أن يصحبه إلى «أبرهة»، قائلاً:

فانطلق معي إليه فإنّه قد أمرني أن آتيه بك.

عَبدُالمطّلب يَذهب إلى مُعسكر أَبرهة

فتوجّه عبدالمطلب هو وجماعة من ولده إلى معسكر أبرهة، فأُعجب «أبرهة» بوقار رئيس قريش وهيبته إعجاباً شديداً، وبهر به حتّى أنّه نزل له من تخته إجلالاً، وأخذ بيده، وأجلسه إلى جنبه، فسأله عن طريق مترجمه متأدّباً: ما الّذي أتى به وماذا يريد؟ فأجابه عبدالمطلب قائلاً: حاجتي أن يردَّ الملكُ عليَّ مئتي بعير أصابها لي.

فقال «أبرهة» لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني، أتكلّمني في مئتي بعير أصبتُها لك، وتترك بيتاً هو دينك و دين آبائك قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه؟!

فقال له عبدالمطلبُ: إنّي أنا ربُّ الإبل، وأنّ للبيت رباً سيمنعه، فقال «أبرهة» مغتراً بنفسه: ما كان ليمتنع منّي.

ثم أمر بأن ترد الإبل إلى أصحابها.

***

ص:187

إنتظار قريش

ولقد انتظرت قريش عودة «عبدالمطلب» من معسكر «أبرهة» بفارغ الصبر لتعرفَ نتيجة ما دار بينه وبين أبرهة، وعندما عاد «عبدالمطلب» أخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج معه من مكّة، والتحرز في رؤوس الجبال من معرّة الجيش فخرجوا إلى الشعاب، والجبال، ثم لمّا كان الليل نزل عبدالمطلب مع جماعة من قريش إلى الكعبة وأخذ بحلقة بابها يدعون اللّه ويستنصرونه على أبرهة و جنده وقال «عبدالمطلب» مناجياً اللّه سبحانه: «اللَّهُم أنتَ أنيسُ المستَوْحشين ولا وحشة معك فالبيت بيتُك، والحرمُ حرمك، والدارُ دارُك، ونحن جيرانك تمنعُ عنه ما تشاء، وربُ الدار أولى بالدار» ثم قال:

لاهمّ إن(1) العبد يمنع رَح له فامنع حِلالك(2)

لا يغلِبنَّ صليبُهم ومحالهم عَدواً مِحالَك(3)

وقال أيضاً:

يا ربِّ لا أرجُو لهم سواكا يا ربِّ فامنَع مِنهُمو حِماكا

إن عدوَّ البَيتِ مَن عاداكا إمَنعهُمُ أن يخربُوا قراكا

ثم إنّه ترك حلقة الباب، ولجأ ومن معه من قريش إلى الجبل لينظروا ما سيجري.

وفي الصباح وعندما كان «أبرهة» وجنده يستعدّون للتوجّه إلى «مكّة»، وإذا بأسراب من الطيور تظهر من جهة البحر يحمل كلّ واحد منها ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجرين في رجليه، فأظلم سماء الجيش بتحليق تلك الطيور فوق

ص:188


1- . لاهم أصلها: اللّهم والعرب تحذف الالف واللام وتكتفي بما بقي.
2- . الحلال جمع حلة وهي جماعة البيوت.
3- . المحال: القوّة والشدّة.

رؤوس الجند، وتركت تلك الأحجار الصغيرة الحقيرة في ظاهرها أثرها العجيب، فقد رجمت تلك الطيور جنود «أبرهة» بتلك الأحجار بأمر اللّه، فكانت لا تصيب منهم أحداً إلّاتحطّم رأسَه، وتمزق لحم بدنه، وهوى صريعاً، وهلك من توّه، فأصابت واحدةٌ من تلك الأحجار رأس «أبرهة» نفسه فارتعدت فرائصه وأيقن بغضب اللّه وسخطه عليه، فنظر إلى جنوده وهم أشلاء مبثوثون هنا وهناك على الأَرض كورَق الشجر في فصل الخريف، فصاح بِمَن لم يزل على قيد الحياة من جنده يأمرهم بأن يتهيّأوا للعودة إلى اليمن، من حيث أتوا، فأخذ بقية الجند طريق اليمن هاربين، غير أنّ هذه البقية قد هَلكَتْ شيئاً فشيئاً في أثناء الطريق حتّى أنّ أبرهة نفسه لم يصل إلى صنعاء إلّابعد أن تفرّق لحمُ بدنه، وسقطت أعضاؤه وجوارحُهُ ومات بصورة عجيبة.

وقد دَوَّى صوتُ هذه الواقعة العجيبة والرهيبة في العالم آنذاك، وقد ذكرها القرآن الكريمُ في سورة الفيل إذ يقول تعالى: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ * أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» .

وما ذكرناهُ هنا - في هذه الصفحات - ليس هو في الحقيقة إلّاخلاصة ما وَردَ في كتب التاريخ الإسلامي، وصرح به القرآنُ الكريم.(1)

واستكمالاً لهذا البحث نعمد هنا إلى دراسة نظرية المفسّر المصري الكبير الشيخ «محمَّد عبده» والكاتب المعروف الدكتور «هيكل» وزير الثقافة المصري السابق في هذا المجال.

ص:189


1- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/28-37؛ تاريخ الطبري: 1/551-556؛ والكامل في التاريخ: 1/442-447؛ وبحار الأنوار: 5/130-146.
كلمة حول المعجزة

لقد أوجدَ التقدّم العلميُّ الأخير في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والفضائية، وما استلزم ذلك من تهافت طائفة كثيرة من الفرضيات، ضجّة عجيبة في الغرب، فمع أنّ جميع تلك التطورات كانت مجرّدَ تطورات علمية تجري في مجال المسائل الطبيعية أو الفلكية، ولم يكن لها أيّة صلة بالمعتقدات الدينية، فإنّ هذا التحول والتطوّر وتلك الكشوف أوجدت شكّاً عجيباً لدى بعض الناس انسحب على جميع المعارف والمعتقدات الدينية الموروثة على وجه الإطلاق! والسرّ في ذلك هو أنّ العلماء رأوا بأنّ الفرضيات القديمة، الّتي بقيت تسيطر على الأوساط العلمية لمدّة طويلة من الزمان، قد أصبحت اليوم عرضةً للبطلان والسقوط تحت مطارق التجربة وبواسطة الاختبارات العلميّة، والتحقيقات المختبرية، فلم يَعُد - بعد هذا - مجالٌ للقول بفرضية الأفلاك التسعة الّتي طَلع بها «بطلميوس»، ولا بفرضية مركزية الأرض، ولا غيرها من عشرات الفرضيات، فقالوا في أنفسهم: ولماذا لا تكون بقية المعلومات والمعارف الدينية من هذا القبيل؟!

وقد تفاقم هذا النوع من الشكّ في قلوب جماعة من العلماء بالنسبة إلى جميع المعتقدات والمعارف الدينية ونما بشكل قويّ في فترة قصيرة، وعمَّ الأوساط العلمية كأيّ مرض!!

هذا مضافاً إلى أنّ محاكم التفتيش وتشدّد الكنيسة وأربابها كان لها النصيب الأكبر في ظهور هذه الحالة بل في نموّها، واطّرادها، لأنّ الكنيسة كانت تقضي على العلماء الذين نجحوا في اكتشاف القوانين العلمية تحت التعذيب والاضطهاد القاسي بحجّة أنّها تخالف الكتاب المقدّس، وتعارض مقرَّرات الكنيسة!!

وممّا لا يخفى أنَّ مثل هذه الضُغُوط، وهذا الاضطهاد والتعجرف ما كان ليمرَّ

ص:190

من دون حدوث ردّة فعل، وقد كان من المتوقَع منذ البداية أنّ العلماء في الغرب لو أُتيحت لهم الفرصة لانتقموا من الدين، بسبب سوء تصرّف أرباب الكنيسة، وسوء معاملتهم لهم خاصّة، وللناس عامّة.

وقد حدث هذا فعلاً فكلّما تقدم العلمُ خطوةً، واطّلع العلماء على العلاقات السائدة بين الكائنات الطبيعية، واكتشفوا المزيد من الحقائق الكونية، والعلل الطبيعية لكثير من الحوادث والظواهر المادّية، وكذا علل الأمراض، قلّ اعتناؤهم بالقضايا الميتافيزيقية، وما يدور حول المبدأ والمعاد والأفعال الخارقة للعادة كمعاجز الأنبياء، وازداد عدد المنكرين لها والشاكّين فيها، والمتردّدين في قبولها يوماً بعد يوم!!

لقد تسبَّب الغرورُ العلميُّ الّذي أُصيب به العلماء في الغرب في أن ينظر بعض أُولئك العلماء إلى جميع القضايا الدينية بعين الازدراء والتحقير، وأن يمتنعوا حتّى عن التحدّث في المعاجز الّتي يخبر بها التوراة والإنجيل، ويعتبروا عصا موسى عليه السلام ويده البيضاء، ونفخة المسيح عليه السلام الّتي كانت تشفي المرضى وتحيي الموتى من الأساطير، وراحوا يتساءلون - في عجب واستنكار -: وهل يمكن أن تتحوّل قطعةٌ من الخشب اليابس إلى أفعى، أو ثعبان؟ أو هل يمكن أن تعود الحياة إلى ميّتٍ بكلمات من الدعاء؟

لقد تصوّر العلماء الذين أسكرتهم فتوحاتهم العلمية، أنّهم ملكوا مفاتيح جميع العلوم، ووقفوا على جميع العلاقات بين الكائنات الطبيعية والظواهر الكونية، ومن هنا تصوَّرُوا أنّه لا توجد أيّةُ علاقة بين قطعة الخشب والثعبان، أو بين جملة من الدعاء والتفاتةٍ من بشر وعودة الروح إلى الموتى، ولهذا أخذوا ينظرون إلى هذه الأُمور بعين الشكّ والترديد، وربّما بعين الإنكار والرفض المطلق!!

ص:191

وقد سرى هذا النوعُ من التفكير إلى أوساط بعض العلماء المصريّين الذين تأثّروا بهذا الإتّجاه أكثر من غيرهم، مع بعض التعديل في ذلك الموقف، وشيء من الاختلاف في النظرة المذكورة، ولهذا اتّبعوا تلك السيرة في تحليل الوقائع والحوادث التاريخية والعلمية من هذا النوع، والسِرّ في تأثّر بعض علماء مصر بهذه النظرة قبل وأكثر من غيرهم، هو احتكاك هذه الجماعة بالأفكار الواردة من الغرب قبل غيرهم، ومن هذه المنطقة سَرتْ بعضُ النظريات والآراء الغربية إلى البلاد الإسلامية الأُخرى.

لقد اختار هؤلاء طريقاً خاصّاً قَصَدُوا به الحفاظ على حرمة الكتاب العزيز، والأحاديث القطعية ومكانتها من جهة، وكسب نظر العلماء المادّيين الطبيعيّين إلى أنفسهم من جهة أُخرى، أو أرادوا أن لا يختاروا ما لا يمكن التوفيق بينه وبين القوانين العلمية الطبيعية وتطبيقه عليها.

لقد وجَدَ هؤلاء من جهة أنّ القرآن الكريم يخبر عن سلسلة من المعجزات والخوارق الّتي لا يمكن تفسيرها بالعلوم العادية المتعارفة، لأنّ العلم لا يستطيع أن يدرك العلاقة بين العصا الخشبية اليابسة والثعبان، ومن جهة أُخرى كان القبول بالنظريات الّتي لا يمكن إثباتها بالحسّ والتجربة أمراً في غاية الصعوبة لهم.

ولهذا السبب، وفي خِضمِّ الصراع بين هذين العاملين: العلم والعقيدة، اختار هؤلاء الكتّاب والعلماء نهجاً يستطيعون به وضع نهاية لهذا الصراع، والتنازع، فيحافظون على ظواهر القرآن والأحاديث من جانب، ويتجنبون القول بما يخالف منطق العلم من جانب آخر، ويتلخّص هذا النهج في تفسير جميع المعاجز و جميع خوارق العادة الّتي جرت على أيدي الأنبياء بالموازين العلمية الحاضرة الرائجة في هذا العصر بصورة تبدو وكأنّها أُمورٌ طبيعية، وبهذا يكونون قد حافظوا على مكانة القرآن الكريم والأحاديث القطعية المسلّمة، ولم يتفوّهوا بما يخالف العلم الحديث

ص:192

ويتعارض مع معطياته.

ونحن هنا نذكر من باب النموذج والمثال: التفسير الّذي ذكره العلّامة المصري المعروف «محمَّد عبده» لقصة أصحاب الفيل وماجرى لهم:

فهو يقول عند تفسيره لسورة الفيل:

«فيجوز لك أن تعتقد أنّ هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الّذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الّذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامّه فأثار فيه تلك القروح الّتي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، وأنّ كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعُدّ من أعظم جنود اللّه في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأنّ هذا الحيوان الصغير، الّذي يسمونه الآن بالميكروب، لا يخرج عنها».(1)

وقال أحد الكتّاب مؤيّداً هذا الاتّجاه بقوله: «إنّ الطير المستعمل في الكتاب العزيز يراد منه مطلق ما يطير، ويشمل الذباب والبعوض أيضاً».(2)

ولابدَّ قبل دراسة هذه الأقوال أن نستعرض مرّة أُخرى الآيات النازلة في أصحاب «الفيل».

يقول اللّه تعالى: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ * أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» .

إنّ ظاهر هذه الآيات يفيد أنّ جيش أبرهة أُصيب بالغضب والسخط الإلهي،

ص:193


1- . راجع: تفسير في ظلال القرآن: 8/667 (في تفسير السورة).
2- . نفس المصدر.

وأنّ هلاكه وفناءه كان بهذه الأحجار الّتي حملتها تلك الطيور، وألقتْ بها على رؤوس الجند وأبدانهم.

إنّ الإمعان في مفاد هذه الآيات يعطي أنّ مَوتهم كان بسبب هذه الأسلحة غير الطبيعية (الصغيرة الحقيرة في ظاهرها، القوّية الهدّامة بفعلها وأثرها).

وعلى هذا فإنَّ أي تفسير يخالف ظاهر هذه الآيات لا يمكن الذهاب إليه وحمل الآيات عليه ما لم يقم على صحته دليل قطعيّ.

نقاطٌ تقتضي التأمّل في التفسير المذكور

1. أنَّ التفسير المذكور لا يستطيع كذلك أَن يجعل كلّ تفاصيل هذه الحادثة أمراً طبيعياً، بل هناك جوانب في تلك الواقعة التاريخية العجيبة لابدّ من تفسيرها بالعوامل والأسباب الغيبية، لأنّه مع فرض أنّ هلاك الجُند وتلاشي أجسادهم تمَّ بواسطة ميكروب: «الحصبة» و «الجدري»، ولكن من الّذي أرشد تلك الطيور إلى تلك الأحجار الصغيرة الملوّثة بميكروب الحصبة والجدري، فتوجّهت بصورة مجتمعة إلى تلك الأحجار الخاصّة بدل التوجّه إلى الحَبّ والطعام، ثمّ كيف بعد حمل تلك الأَحجار بمناقيرها وأرجلها حلَّقتْ فوق معسكر «أبرهة» ورجمت جنده كما لو أنّها جيشٌ منظّم موجّه؟؟

هل يمكن اعتبار كل ذلك أمراً عادياً، وحدثاً طبيعياً؟

ترى لو أنّنا فسَّرنا طرفاً من هذه الحادثة العظيمة والعجيبة بالعوامل الغيبية، وبإرادة اللّه النافذة فهل تبقى مع ذلك أيّة حاجة إلى أن نفسّر جانباً من هذه الحادثة بتفسير طبيعي مألوف، ونركض وراء التوجيهات الباردة، لنجعلها أمراً مقبولاً.

2. إنَّ الكائنات الدقيقة، أو ما يُسمّى الآن ب «الميكروب» لا شكّ أنّها عدوّة لمطلق الإنسان، وليس بصديقة لهذا أو ذاك، ومع ذلك كيف توجّهت إلى جنود

ص:194

«أبرهة» وقتلتهم دون غيرهم، وكيف نسيت المكيّين بالمرّة؟!

إنَّ التاريخ المدوَّنْ يثبت لنا أنّ جميع الضحايا في هذه الواقعة العظيمة كانوا من جند «أبرهة» ولم يلحق فيها: أيّ أذى - إطلاقاً - بقريش، وغيرهم من سُكان الجزيرة العربية، في حين أنّ الحصبة والجُدَريِّ من الأمراض المعدية، الّتي تنقلها العوامل الطبيعية كالرياح وغيرها من منطقة إلى أُخرى، ورُبَما تُهلِك أهل قطر بأجمعهم.

فهَل مع هذا يمكن أن نعدّ هذه الحادثة حدثاً طبيعياً عادياً؟!

3. أنّ اختلاف هذا الفريق في تحديد نوعية الميكروب، يضفي على هذا الادّعاء مزيداً من الإبهام، ويجعله أقرب إلى البطلان.

فتارة يقولون: إنَّه ميكروب الوباء، وتارةً أُخرى يقولون: إنَّه داء الحصبة والجدري، في حين أنّنا لم نجد مستنداً صحيحاً لهذا الخلاف، ومبرراً وجيهاً لهذا الاختلاف، اللّهمَ إلّاما احتمله «عكرمة» من بين المفسّرين، وعكرمة هو نفسه موضع نقاش بين العلماء، وإلّا لما ذهب «ابن الأثير» من بين المؤرّخين وأرباب السيّر إلى ذكر هذا الرأي في صورة الاحتمال الضعيف، قائلاً: وقال كثير من أهل السير أنّ الحصبة والجدري أوّل ما رؤيا في العرب بعد الفيل، وكذلك قالوا: إنّ العشر والحرمل والشيح لم تعرف بأرض العرب إلّابعد الفيل. ثم عاد فردّ هذا القول فوراً بقوله: وهذا ممّا لا ينبغي أن يعرج عليه فإنّ هذه الأمراض والأشجار قبل الفيل مذ خلق اللّه العالم.(1)

والأعجب من الجميع ما أعطاه مؤلّف كتاب «حياة محمَّد» الدكتور هيكل وزير المعارف المصري السابق من تفسير، عند ذكر قصة الفيل.

ص:195


1- . الكامل في التاريخ: 1/263، ذكر أمر الفيل، تحقيق الشيخ عبدالوهاب النّجار، طبع مصر - 1348 ه.

فهو بعد ذكر تلك القصة سرد آيات سورة الفيل، ومع أنّه أتى بقول اللّه تعالى «وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ» قال عن هلاك جنود أبرهة: «ولَعلّ جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر، وأصابت العدوى أبرهة نفسه»(1) فإذا كان الّذي جاء بهذا الميكروب هو الريح، فلماذا حلّقت طيورُ الأبابيل على رؤوس جيش أبرهة، وألقت بالأَحجار الصغيرة على رؤوسهم دون غيرهم، وأي أثر كان لهذه الأحجار في هلاك أُولئك الجنود وموتهم؟

فالحقّ هو: أن لا يُتبعَ هذا النمط من التفكير، وأن لا نسعى لتفسير معجزات الأَنبياء الكبرى بمثل هذه التأويلات والتفسيرات، بل إنّ طريق المعجزات والإعجاز أساساً يختلف عن طريق العلوم الطبيعية الّتي تتحدّد دائرتها بمعرفة العلاقات العادية بين الظواهر الطبيعية، ولهذا يجب علينا أن لا نعمد - إرضاء لهوى جماعة ممّن لا يمتلكون أيّة معلومات دينية، وليست لديهم أيّة معرفة بهذا النوع من القضايا - إلى التنازل عن أُسُسنا الدينية المسلّمة، في حين لا توجد أيّة حاجة مُلزمة إلى مثل ذلك التنازل والاعتذار!

نقطتان هامّتان

وهنا لابد من أن نذكّر بنقطتين:

الأُولى: يجب أن لا يظنّ أحدٌ - خطأ - أنّنا بما قلناه هنا نريد تصحيح كلّ ما تلوكه ألسنُ الناس، وتنسبه إلى الأنبياء العظام، أو إلى عباد اللّه الكرام، من دون أن يكون له أي سند صحيح أو وجه معقول، بل وربما اتَّسَمْ بطابع الخرافة في بعض الأحيان والموارد.

بل مقصودنا هو: أن نثبّت - وطبقاً للمصادر الصحيحة والقطعية المتوفّرة - أنّ

ص:196


1- . حياة محمَّد لمحمَّد حسين هيكل: 102 و 103.

الأنبياء كانوا يقومون - لإثبات ارتباطهم بما وراء هذه الطبيعة - بأعمال خارقة للعادة، خارجة عن الناموس الطبيعيّ المألوف، تعجز العلومُ الطبيعية الرائجة عن إدراك عللها، وأسبابها.

فهدُفنا هو الدفاع عن هذه الطائفة من المعاجز.

الثانية: إنّنا لا نقول مطلقاً: أَنَّ وجود المعجزة هو تخصيصٌ لقانون العلّية العامّ، بل إنّنا في الوقت الّذي نحترمُ فيه هذا القانون المسلّم، نعتقد بأَنّ لجميع حوادث هذا العالم عللاً خاصّة وأسباباً معيّنة، وإنّه من المستحيل أن يوجَد شيء بعد عدمه من دون علّة، بَيْد أنّنا نقول: إنّ لهذه الطائفة من الظواهر والوقائع (أي المعاجز) عللاً غير طبيعية، وإنّ هذه العلل ميسَّرة ومتاحة لأنبياء اللّه ورسله والرجال الإلهيّين خاصّة، وليس في مقدور أحد - لم يستطع لا عن طريق الحس ولا عن طريق التجربة أن يكتشف هذه العلل - أن يتنكّر لها، وينكرها، بل أنّ جميع الأعمال الخارقة الّتي يقوم بها أنبياء اللّه ناشئة عن علل لا يمكن تفسيرها بالعلل الطبيعية المألوفة، ولو أنّها خضعت للتفسير والتوجيه لخرجت عن كونها معجزة، ولم يصدُق في حقّها عنوان الإعجاز.

ولكي نقف على حقيقة هذا الأمر، ونعرف مدى بطلان المذهب المذكور (مذهب تفسير الخوارق والمعاجز بالتفسير المادّي والمألوف المحض) ينبغي أن نتبسّط قليلاً في شرح مسألة الإعجاز ونبحث في مدى علاقتها بقانون العلّية العام.

بحثٌ علميُّ حول المعجزة
اشارة

:

إنّ الحديثَ العلميَّ عن المعجزة لابدَّ أن يتركَّز على عدة نقاط أساسيَة هي:

1. ماهي المعجزة وما هو تعريفها؟

2. هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟

ص:197

3. هل المعجزة تصدر عن علل مادّية غير عادية فقط؟

4. كيف تدل المعجزة على صِدق ادّعاء النبوّة؟

5. كيف وبماذا نميّز المعجزة عن الخوارق الأُخرى؟ إنَّ الاجابة عن هذه الأسئلة كفيلة بتوضيح حقيقة المعجزة، وبيان مدى بطلان الإتّجاه المذكور، نعني: تفسير المعاجز بالتفسير المادّي الطبيعي.

على أنّنا - نظراً لضيق المجال - سنختصر الجواب عن هذه الأسئلة، وعلى من أراد التوسّع أن يرجع إلى كتب الكلام والعقيدة.

1 - ماهي المعجزةُ وما هو تعريفها؟

لقد عرَّف علماء العقيدة المعجزة بتعاريف مختلفة أتقنها وأكملها هو: أنّ المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة، مقرونٌ بالدَّعوى، والتحدّي، مع عدم المعارضة، ومطابقة الدعوى.(1)

ويعني الشرطُ الأولُ (أي كون المعجزة أمراً خارقاً للعادة) أنّ كلّ ظاهرة من الظواهر الطبيعية الحادثة مرتبطة بعلّة حتماً، فلا يمكن صدورها من دون علّة، وهذا الكون مشحون بالعلل الّتي يكتشفها البشر شيئاً فشيئاً وتدريجاً عبر وسائله العادية أو العلميّة، ولكنّ المعجزة مع كونها ظاهرة واقعية ولهذا فهي كغيرها مرتبطةٌ بعلّة، بيد أنّها تختلف عن غيرها من الظواهر في أنّ من غير الممكن كشف عللها من الطريق العادية أو بواسطة التجارب والتحقيقات العلمية، ولا يمكن تفسيرها وتبريرها بالعِلَل العادية أو بما يكتشفه العلمُ من العلل لمثل هذه الحوادث، والمقصود من خرق العادة هو أنْ تقع المعجزةُ على خلاف ما عهدناه وتعوَّدنا عليه

ص:198


1- . راجع للوقوف على هذا التعريف: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلّامة الحلّي شرحاً، والمحقّق نصيرالدين الطوسي متناً: 157، وأيضاً شرح تجريد الاعتقاد للعلّامة القوشجي: 465.

في الظواهر الأُخرى وعِللها، مثل إشفاء المرضى من دون علاج ودواء كما هو المعهود، وإخراج الماء من صخرة صمّاء من دون حفر أو تنقيب كما هو المألوف، وتحويل العصا إلى أفعى من دون تبييض وتفريخ وتوالد وتناسل، بل بمسح من يد، أو بعبارة من لسان، أو بضرب من عصا!!

من هنا نكتشفُ أَنّ كلّ ظاهرة يقف الناس العادّيون بالطرق العادية أو العلماء خاصّة بالطرق العلمية على عللها وأسبابها لا تكون معجزة لأنّه في هذه الصورة لم يقع أي شيء على خلاف العادة، والمألوف ليدل على مزية في الأنبياء.

فإنّ مثل هذه الظاهرة الّتي يكون لها علةٌ عاديةٌ يعرفها جميعُ الناس، أو سببٌ علمي خاصٌ يعرفه علماء ومتخصّصو ذلك العلم يمكن أن يقوم بإيجاد أمثالها جميعُ الناس، فلا تكون حينئذٍ معجزة.

ولا يعني هذا - وكما أسلفنا - أَنَّ المعجزة لا تنتهي إلى أيّة علّة، أصلاً، بل هي تستند إلى علّة غير متعارفة وغير عادية، ولمزيد التوضيح سنبحث في هذا المجال عند الإجابة عن السؤال الثالث.

ويُقصَد من الشرط الثاني (أي كون الإعجاز مقروناً بالدعوى) أن يَدّعي صاحبُ المعجزة النبوّة والسفارة من جانب اللّه تعالى، ويأتي بالمعجزة دليلاً على صحّة دعواه هذه، إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمرُ الخارق للعادة معجزةً بل يُطلَق عليه في الاصطلاح الديني لفظ «الكرامة» كما كان لمريم بنت عمران الّتي كلّما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً فإذا سألها: من أين لها ذلك؟

قالت: هو من عند اللّه(1).

ويعني الشرطُ الثالثُ أن يكون الإعجاز مقروناً بدعوة الناس إلى الإتيان

ص:199


1- . راجع سورة آل عمران: 37.

بمثله، وعجز الناس عن هذه المعارضة، وعدم قدرتهم على الإتيان بمثله مطلقاً، إذ في هذه الصورة يتّضح أَنَّ النبيّ يعتمد على قوة إلهية غير متناهية، قوّة خارجة عن حوزة الإنسان العادي وإمكاناته.

وأمّا الشرط الرابع فيعني أنّ الأمر الخارق للعادة إنّما يكون عملاً إعجازياً، ويستحق وصف المعجزة الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الإلهيّ، إذا وافق الأمرُ الواقعُ ما يدّعي أنّه قادر على الإتيان به.

فلو قال: سأجعلُ هذا البئر الجاف الفارغ من الماء، يفيض بالماء بإشارة إعجازية، ثم يقع ما قاله، كان هذا الأمر معجزة حقّاً، وأمّا إذا حصل عكس ما قال، لم يكن ذلك إعجازاً، بل كان تكذيباً لمدّعيها.

هذا هو خلاصة ما يمكن أن يُقال حول تعريف المعجزة والإعجاز وهو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ.

2. هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟

وبهذا يتّضح جواب السؤال المطروح في هذا المجال وهو أن يقال: إنّ قانون العليّة (أي: ارتباط كلّ معلول حادث بعلّة) ممّا ارتكز عليه الذهنُ البشريُ وقبلَه العلمُ والفلسفة، ولذلك فإنّنا نلاحظ: كلّما وقف الإنسانُ على ظاهرة - مهما كانت - بحَثَ عن علّتها فوراً، فإذا رأى حيّة، مثلاً عرف بأنّ علّتها الطبيعية هي أن تبيض حيّة، ثم خروج حيّة من البيض بعد سلسلة من التفاعلات، فكيف يمكن القبول بالمعاجز مع أنّها لا تنشأ عن مثل هذه العلل ولا تمرُّ بمثل هذه المقدّمات والمراحل والتفاعلات الطبيعيّة، مثل انقلاب العصا إلى ثعبان، أو نبوع الماء من الصخر من دون حفر أو تنقيب.

أليس هذا هدمٌ، أو تخصيصٌ لذلك القانون العقليّ المسَلَّم العام؟

ص:200

فإنّ الجواب على هذا السؤال هو أنّ مثل هذا السؤال لا يطرحه إلّاالَّذين يحصرُون العلل والعلاقات بين الأشياء في العلل والعلاقات الماديّة الطبيعية.

ولكن الحق هو أنَّ أيَّة ظاهرة مادّية يمكن أن يكون لها نوعان من العلل:

1. العلةُ العادية الّتي تخضع للتجربة.

2. العلةُ غير العادية الّتي لا يعرفها الناس ولم تكن متعارفة ولا تخضع للتجربة العلمية.

وهذا يعني أنّه لا توجد أيّة ظاهرة في هذا العالم بدون علّة.

وتوضيحُ هذا أنّ أصل وجود الحيّة ونبوع الماء من الصخرة وتكلّم الطفل - مثلاً - أمرٌ ممكنٌ، ولا يُعدّ من المحالات، لأَنّها لو كانت من المحالات لما تحقّق وجودها أبداً.

نعم أَنّها بحاجة إلى علّة لكي تتحقّق، والعلّة - سواء في المعاجز أو غيرها - يمكن أن تكون إحدى الأُمور التالية:

أ. العلّة الطبيعية العادية وهي ما ألِفناها وأعتدنا عليها، مثل ظهور شجرة من نواة بعد سلسلة من التفاعلات.

ب. العلّة الطبيعية غير العادية وغير المعروفة وهذا يعني أنّه قد يكون لظاهرة معينة نوعان من العلل، وطريقان للتحقّق والوجود أحدهما معروف ومعلوم، والآخر مجهول غير معلوم، والأنبياء بحكم اتّصالهم بالعلم والقدرة الإلهية، يمكن أن يقفوا على هذا النوع مِنَ العلل - عن طريق الوحي - ويوجدوا الظاهرة.

ج. تأثير النفوس والأرواح

إنَّ بعض الظواهر يمكن أن تكون ناشئة من تأثير أرواح الأَنبياء ونفوسهم القوية، كما نلاحظ ذلك في مجال المرتاضين الهنود الذين يبلغون درجة

ص:201

يستطيعون معها أن يقوموا بما يعجز عنه الأفرادُ العاديُّون، وذلك بفضل الرياضات النفسية الّتي يخضعون لها. وهو ما يُسمّى باليوغا أحياناً، وقد كتبت حوله كتب ودراسات(1).

وقد أشار إلى هذا جملةٌ من علماء الإسلام وفلاسفته منهم الفيلسوف الإسلامي الشهير صدر الدين الشيرازي حيث يقول: لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوّةٌ إلهيةٌ تكون بقوّتها كأنّها نفسُ العالم فيطيعُها العنصرُ طاعة بدنها لها، فكلّما ازدادت النفسُ تجرّداً وتشبّها بالمبادئ القصوى، ازدادت قوّةً وتأثيراً في ما دونها.

وإذا صار مجرّدُ التصوّر والتوهّم سبباً لحدوث هذه التغيّرات في هيوليّ البدن لأجل علاقة طبيعيّة، وتعلّقٍ جبلّي لها إليه، لكان ينبغي أن تؤثر في بدن الغير وفي هيوليّ العالم مثل هذا التأثير، لأجل مزيد قوّة شوقية، واهتزاز علوي للنفس ومحبّة إلهية لها، فيؤثر نفسُه في إصلاحها، وإهلاك ما يضرّها ويفسدها.(2)

د. العللُ المجرّدة عن المادة

يمكن أن تكون للظواهر عللٌ مجرّدة عن المادة كالملائكة، ذلك بأن تقوم الملائكة بأمر من اللّه سبحانه بتدمير قرية، أوتقوم بمعجزة بعد طلب النبيّ منها ذلك.

والملائكة مظاهرُ القدرة الإلهية في الكون، وهي الّتي تدبّر أُمور الكون بأمر

ص:202


1- . راجع كتاب الطاقة الإنسانية لأحمد حسين.
2- . راجع: المبدأ والمعاد: 355 و 356 لصدر المتألهين المشهور بصدر الدين الشيرازي، وشرح المنظومة للحكيم السبزواري: 327 قال السبزواري ناظماً: يطيعه العنصرُ طاعة الجَسَد للنفس فالكلُ كجسمه يُعَدّ

اللّه تعالى كما يقول القرآن الكريم: «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» (1)، وهي بالتالي جنود اللّه في السماوات والأَرض «وَ لِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ» .(2)

فلابدّ من إرجاع الظواهر الطبيعية الواقعة إلى أحد هذه العوامل الأربعة، ولا يمكن أبداً حصر العلّة في العلّة الطبيعية العادية المعروفة كما تصوّر منكرو الإعجاز، بل يمكن أن تكون كلُ واحدة من هذه العلل سبباً لحدوث الظاهرة الطبيعية، فإذا لم نشاهد علّة ظاهرة من الظواهر لم يجز لنا أن نُبادر - فوراً - إلى تصوّر أنّها ناشئةٌ من غير علّة.

ويجب إرجاع معاجز الأَنبياء إلى إحدى الطرق الأخيرة، والقول بأنّ الأنبياء استخدموا - في إيقاع الخوارق والمعاجز - إمّا العلل المادّية غير المعروفة للعُرف، والعلم، وأما نفوسهم القوّية الّتي حصلت لهم بفعل الجهاد الرُوحيّ العظيم والرياضات النفسية الشديدة فهي علة تلك الأفعال الخارقة للعادة.

كما ويمكن أن تكون جميع تلك الأفعال العجيبة ناشئة عن جملة من العلل والعوامل الغيبية المدبِّرة للكون بأمر اللّه ومشيئته.

إذن فلا تتحقّق المعجزة بدون علة كما يُتصوَّر، ولا يهدم الإعجاز القوانينَ العقلية المسلّمة.

3. هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟

قد يتصوّر البعض أنّ المعاجز تصدر عن علل مجرّدة عن المادة فقط، نافين أن تكون لها أيَّة علل مادية معروفة أوغير معروفة، في حين لا يصحّ هذا السلب

ص:203


1- . النازعات: 5.
2- . الفتح: 4.

الكلي، إذ ما أكثر الخوارق الّتي تنشأ عن أُمور عادية وعبر سلسلة من التفاعلات الطبيعية.

فعندما يرقُد مرتاض هنديٌ ليمرَّ عليه تراكتور من دون أن تحدث في جسمه أيّة جراحات أو إصابات، فإنّ هناك أُموراً مادّية كثيرة دخلت في هذا الأمر الخارق، مثل: وقوع هذا الحدث في إطار الزمان الخاص، والمكان الخاص، ومثل جسم المرتاض، وما كنة الحراثة.

فإنّ جميع هذه الأشياء المادية أثّرت في ظهور هذا العمل الخارق.

وهكذا عندما تنقلب عصا الكليم عليه السلام إلى حيّة على نحو الإعجاز، فإنّ العصا شيء مادّي، وهكذا الحال في غيره من الموارد.

ولهذا لا يمكن أن نتجاهل تأثير العوامل والأُمور المادّية في ظهور الأُمور غير العادية، وننكر دخالتها بمثل هذا الإنكار.

وهذه هي أكثر النظريات اعتدالاً في هذا المجال.

وفي مقابل ذلك التفريط(1) أفرط آخرون إذ قالوا: إنّ جميع المعاجز والخوارق ناشئة من علل مادّية غير معروفة.

وحتّى ما يقوم به المرتاضون يعود إلى هذه العوامل الطبيعية الّتي لا يعرفها ولا يقف عليها حتّى النوابغ من الناس فضلاً عن العاديين، لأنّ العوامل الطبيعية على نوعين: المعروفة وغير المعروفة، والناس يستفيدون في حياتهم اليومية - في الأغلب - من القسم الأوّل، بينما يستخدم الأنبياء والمرتاضون تلك العوامل الطبيعية غير المعروفة الّتي وقفوا عليها وأدركوها دون غيرهم.

ص:204


1- . أي حصر علل الخوارق والمعاجز في العوامل المجرَّدة ونفي تأثير العلل الماديّة على نحوالإطلاق.

والسبب في وصفنا هذه النظرية بالإفراط والتطرُّف هو عدم وجود دليل لإثباتها، بل يمكن أن يقال أنّ مثل هذا الموقف ناشئ عن الانهزامية تجاه العالم المادّي، أو أنّه لإرضاء المادّيين، والنافين لما يدخل في إطار العالم المادّي، فإنّ المادّيين يرفضون أيّ عالم آخر غير الطبيعة وآثارها وعلاقاتها وخواصها، وحيث إنّ إرجاع المعجزات إلى العلل المجرّدة عن المادّة يخالف منطق المادّيين، ويضاد اتّجاههم وتصوّرهم، لهذا عمد أصحاب هذه النظرية (نظرية إرجاع المعاجز والخوارق إلى علل طبيعية غير معروفة وغير عادية) إلى مثل هذا التفسير إقناعاً للمادّيين، وإرضاء لهم فقالوا: إنّ جميع الخوارق والمعاجز ناشئة من علل طبيعية وماديّة على الإطلاق، غاية ما في الأمر أَنّها علل غير معروفة، شأنها شأن كثير من العوامل الطبيعية المجهولة.

ونحن بدورنا نترك هذه النظرية في دائرة الإجمال وبقعة الإمكان، لعدم الدليل لا على صحّتها ولا على خطئها.

4. كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟

إنّ صفحات التاريخ مليئة بذكر من ادّعوا النبوّة خداعاً وكذباً، واستغلالاً للناس، منتهزين سذاجة الأغلبية الساحقة من جانب، وانجذابهم الفطري إلى قضايا التوحيد والإيمان من جانب آخر.

فكيف وبماذا يُميَّز النبيّ الصادق عن مدّعي النبوة؟؟

إنّ المعجزة هي إحدى الطرق التي تدل على صحّة إدعاء النبوّة.

وإِنما تدلُّ المعجزةُ على صدق ادّعاء النبوّة، وارتباط النبيّ بالمقام الربوبي لأن اللّه الحكيم لا يمكن أن يزوّدَ الكاذب في دعوى النبوّة بالمعجزة، لأنّ في

ص:205

تزويد الكاذب تغريراً للناس الذين يعتبرون العمل الخارق دليلاً على ارتباط الآتي به بالمقام الربوبيّ.

وإلى هذا أشار الإمامُ جعفر الصادق عليه السلام في جواب أبي بصير حين سأله عن علّة إعطاء اللّه المعجزة لأنبيائه ورسله: وقال: «لِيَكُونَ دَليلاً عَلى صِدق مَن أتى به، والمعجزة علامةٌ للّه لا يعطيها إلّاأنبياءه وَرسَله، وحجَجَه، ليعرفَ به صدق الصادق مِنْ كذب الكاذِب».(1)

5. بماذا نميّز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟

لا شَكَّ في أنَّ السَّحَرة والمرتاضين يقومون بأفعال خارقة للعادة مثيرة للعجب والدهشة حتّى أنّ البسطاء ربّما يذهب بهم الاندهاش إلى حدّ الاعتقاد بأنّ القائمين بهذه الخوارق مزوَّدون بقوى غامضةٍ غيبيةٍ لا يتوصّلُ إليها البشر.

فكيف يمكن إذن أن نُمَيّز بَينَ المعاجز وتلك الخوارق والعجائب؟

إنّ التمييز بين هذه وتلك يمكن أن يتم إذا لاحظنا العلائم الفارقة بين المعجزة وغير المعجزة من الأعمال الخارقة للعادة، كأعمال السحرة والمرتاضين (أصحاب اليوغا) ونظائرهم.

وهذه الفوارق هي عبارة عن الأُمور التالية:

1. أنّ القوّة الغامضة الحاصلة لدى المرتاضين والسحرة ناشئة بصورة مباشرة من التعلّم عند أساتذة تلك العلوم، وذلك طيلة سنين عديدة من الزمان.

بينما لا يرتبط الإعجاز بالتعلّم والتلمّذ أبداً، والتاريخ خير شاهد على هذا الكلام.

ص:206


1- . علل الشرائع: 1/122 ح 1، باب (100) علّة المعجزة.

2. أنّ أَفعال السَّحرة والمرتاضين العجيبة قابلة للمعارضة والمقابلة بأمثالها، وربّما بما هو أقوى منها، على عكس الإعجاز، فالمعجزات غير قابلة لأن تعارض وتقابل بمثلها أبداً.

3. المرتاضون والسَّحرة لا يَتحدُّون أحداً بأفعالهم، ولا يطلبُون معارضة أحد لَهُمْ وإلّا لافْتضَحُوا وكبتوا.

بينما يتحدّى الأنبياء والرسل بمعاجزهم جميع الناس ويدعونهم لمعارضتهم والإتيان بمثل معاجزهم لوقدروا، واستطاعوا.

وهذا هو القرآن الكريم ينادي بأعلى صوته على مر العصور: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» .(1)

وذلك لأنَ أفعال السَّحرة الخارقة مهما كانت فإنّها تستند إلى الطاقة البشرية المحدودة، ولا تتجاوزها بينما يعتمد الأنبياء والرسل العنصر الغيبي، والإرادة الإلهية.

4. أنّ أفعال السحرة والمرتاضين الخارقة للعادة أُمور محدودة ومقتصرةٌ على ما تعلَّموه وتمرّنوا عليه، بينما لا تكون معاجز الأنبياء والرسل مقتصرة على أُمور خاصّة، فهم لا يعجزون عن الإتيان بكلّ ما يطلبه الناس منهم، طبعاً حسب شرائط خاصّة مذكورة في محلّها في أبحاث الإعجاز.(2)

ص:207


1- . الإسراء: 88.
2- . مثل أن لا يكون ما يطلبه الناس محالاً عقلياً كرؤية اللّه، وأن لا يكون ما سيأتي لهم به دليلاً على ارتباطه بالمقام الربوبي، كما لو طلبوا منه أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب وبيتٌ من ذهب، لأنّ هذه الأُمور لا تكون دليلاً على النبوّة إذ نلاحظ أنّ كثيراً مِنَ الناس يملكون هذه وليسوا مع ذلك بأنبياء.

فتلك معاجز موسى عليه السلام المتعدّدة الابتدائية، والمقترحة، ومعاجز المسيح عليه السلام المتنوّعة خير مثال على هذا الأمر.

5. أنّ أصحاب المعاجز يقصدون من معاجزهم دائماً دعوة الناس إلى أهداف إنسانية عالية وغايات إلهية سامية وبالتالي هداية المجتمع البشري إلى المبدأ والمعاد، والأخلاق الفاضلة فيما لا يهدفُ المرتاضون والسحَرة إلّاتحقيق مآرب دنيوية حقيرة، ونيل مكاسب مادّية رخيصة.

هذا مضافاً إلى أنّ الأنبياء والرسل أنفسهم يختلفون عن السحرة والمرتاضين في نفسيّتهم العالية، وأخلاقهم الفاضلة وتاريخهم المشرق، وصفاتهم النبيلة على العكس من السحرة والمرتاضين.

هذه هي أَهمُّ العلامات الفارقة بين المعاجز الّتي تدلّ على نبوّة الأنبياء والخوارق الّتي يقوم بها المرتاضون والسحرة.

وبعد أن تبيَّن كلّ هذا اتّضح أنَّ الخوارق الإلهية الّتي هي من مقولة المعاجز أيضاً تختلف عن الأُمور العادية في أنّ عللها لا تنحصر في العلل المادّية غير المعروفة فضلاً عن الأُمور المادية المعروفة، بل ربّما تكون مستندة إلى العلل المجرّدة، فليس من الصحيح أن نسعى لتفسير الخوارق الإلهية مثل: «قصة الفيل» الّتي أهلك اللّه تعالى فيها جيش «أبرهة» العظيم بأحجار صغيرة من سجيل رمتها طيور أبابيل بالعلل المادية المعروفة كما فعل من أشرنا إلى أسمائهم في مطلع هذا البحث.(1)

ص:208


1- . أي الأُستاذ الشيخ محمَّد عبده والأُستاذ محمَّد حسين هيكل.

ولهذا عَدلَ «سيد قطب» عن رأيه الّذي كان قد أبداه في ما سبق في أمثال هذه الأُمور، وقال: إنّ الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره، وفي التصوّر الإسلامي وتكوينه... أن ينفُض الإنسان من ذهنه كلَّ تصوّر سابق، وأن يواجه القرآن بغير مقرَّرات تصوّرية أو عقلية أو شعورية سابقة، وأن يبني مقرَّراته كلّها حسبما يصورُ القرآنُ والحديثُ حقائق هذا الوجود، ومن ثمّ لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن، ولا ينفي شيئاً يثبته القرآن ولا يُؤَوّلَه، ولا يثبت شيئاً ينفيه القرآن أو يبطله، وما عدا المثبت والمنفي في القرآن، فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته.

نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن... وهم مع ذلك يؤوّلون نصوصه هذه لتوائم مقرّرات سابقة في عقولهم، وتصوّرات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود.(1)

وأمّا الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، ويعتسفون نفي هذه التصوّرات لمجرّد أنّ العلم لم يصل إلى شيء منها فهم مضحكون حقّاً! فالعلمُ لا يعلم أسرار الموجودات الظاهرة بين يديه والّتي يستخدمها في تجاربه، وهذا لا ينفي وجودها طبعاً! فضلاً عن أنّ العلماء الحقيقيّين أخذت كثرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون، لأنّهم بالتجربة وجدوا أنفسهم - عن طريق العلم ذاته - أمام مجاهيل فيما بين أيديهم ممّا كانوا يحسبون أنّهم فرغوا من الإحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعاً علمياً نبيلاً ليست عليه سمةُ الادّعاء، ولا طابع التطاول على المجهول كما يتطاول مُدّعو العلم، ومدّعو التفكير العلمي، ممّن

ص:209


1- . وهنا قال سيّد قطب في هامش هذا الكلام ما نصه: وما أُبرئ نفسي أنني فيما سبق من مؤلّفاتي وفي الأجزاء الأُولى من هذه الظلال قد انسقتُ إلى شيء من هذا... وأرجو أن أتداركه في الطبعة التالية إذا وفق اللّه.

يُنكرون حقائق الديانات وحقائق المجهول.(1)

ثم يقول في موضع آخر من تفسيره ناقداً موقف الأُستاذ عبده من قصة الفيل الّتي هي إحدى الخوارق حيث حفظ اللّه تعالى بيته المعظّم على نحوٍ خارق للعادة:

ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعملُ عملها، أنّ تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى، وأنّ الطير قد تكون هي: الذباب والبعوض الّتي تحمل الميكروبات، فالطير هو كلّ ما يطير.

ثم ينقلُ كلام الأُستاذ «عبده» الّذي ذكرناه بنصّه مع قوله: هذا ما يصحّ الاعتماد عليه في تفسير السورة، وما عدا ذلك فهو ممّا لا يصحّ قبوله إلّابتأويل إن صحّت روايته، وممّا تعظم به القدرة أن يُؤخذَ من استعز بالفيل - وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسماً - ويُهْلكَ بحيوان صغير لا يظهر للنظر ولا يدرك بالبصر حيث ساقه القدرُ، لا ريب عند العاقل أنّ هذا أكبر وأعجب وأبهر.

ثم يقول: ونحن لا نرى أنّ هذه الصورة الّتي افترضها الأُستاذُ الإمامُ - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم... - أدلَّ على قدرة، ولا أولى بتفسير الحادث، فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع، ومن حيث الدلالة على قدرة اللّه، وتدبيره، ويستوي عندنا أن تكون السنّة المألوفة للناس، المعهودة المكشوفة لعلمهم، هي الّتي جرت، فأهلكت قوماً أراد اللّه إهلاكهم، أو أن تكون سنّة اللّه قد جَرت بغير المألوف للبشر، وغير المعهود المكشوف لعلمهم فحقّقت قدره ذاك.

ص:210


1- . في ظلال القرآن: 8/326 (تفسير سورة الجن).

ثم يقول: فقد كان اللّه سبحانه يريد بهذا البيت(1) أمراً، كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً وليكون نقطة تجمّع للعقيدة الجديدة تزحفُ منه حرّة طليقة في أرض حرّة طليقة لا يهيمن عليها أحدٌ من خارجها ولا تسيطر عليها حكومةٌ قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها، ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال، حتّى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة، ويضربها مثلاً لرعاية اللّه لحرماته وغيرته عليها.

فممّا يتناسق مع جوّ هذه الملابسات كلّها أن يجيء الحادثُ غير مألوف ولا معهود بكلّ مقوّماته وبكلّ أجزائه، ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفردٌ فذٌ.

وبخاصة أنّ المألوف في الجدري والحصبة لا يتّفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده، فإنّ الجدري أو الحصبة لا يُسقطُ الجسم عُضواً عضواً، وأنملة أنملة، ولا يشق الصدر عن القلب!!(2)

ثم إنّ «سيد قطب» يشير إلى علل تفسير هذه الحادثة الخارقة للعادة بالتفسير المادّي العادي الطبيعي، والمدرسة العقلية الّتي كان الأُستاذ «عبده» على رأسها، وضغط الفتنة بالعلم الّتي تركت آثارها في تلك المدرسة، ونحن نكتفي بهذا القدر بالمناسبة، وإشعاراً بما يمكن أن يجنيه مثل هذا الاتجاه على مقولات الدين ومفاهيمه ومقرراته عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية.(3)

هذا و يجدر بنا أن ننقل هنا ما قاله صاحب تفسير «مجمع البيان» في هذا

ص:211


1- . أيّ الكعبة المشرّفة.
2- . في ظلال القرآن: 8/670.
3- . لاحظ: في ظلال القرآن: 8/668-671 (في تفسير سورة الفيل).

الصدد في شأن حادثة الفيل استكمالاً لهذا البحث وتأكيداً لمعجزة هذا الحدث.

قال صاحب المجمع: وكان هذا من أعظم المعجزات القاهرات، والآيات الباهرات في ذلك الزمان، أظهرهُ اللّه تعالى ليدل على وجوب معرفته، وفيه إرهاص لنبوّة نبينا صلى الله عليه و آله و سلم لأنّه ولد في ذلك العام،... وفيه حجةٌ لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين المنكرين للآيات الخارقة للعادات، فإنّه لا يمكن نسبة شيء ممّا ذكره اللّه تعالى من أمر اصحاب الفيل إلى طبع وغيره، كما نسبوا الصيحة والريح العقيم والخسف وغيرهما ممّا أهلك اللّه تعالى به الأُمم الخالية إلى ذلك، إذ لا يمكنهم أن يروا في أسرار الطبيعة إرسال جماعات من الطير معها أحجارٌ معدّة مهيَّأة لهلاك أقوام معينين، قاصدات إيّاهُمْ دون من سواهم، فترميهم بها حتّى تُهلِكهم، وتدّمرَ عليهم، حتّى لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم، ولا يشكّ من له مسكة عن عقل ولب أنّ هذا لا يكون إلّامن فعل اللّه تعالى، مسبّب الأسباب ومذلِّل الصعاب، وليس لأحد أن ينكر هذا؛ لأنّ نبينا صلى الله عليه و آله و سلم لما قرأ هذه السورة على أهل مكّة لم ينكروا ذلك، بل أقرّوا به وصدّقوه مع شدّة حرصهم على تكذيبه، واعتنائهم بالردِّ عليه، وكانوا قريبي العهد بأَصحاب الفيل، فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقةٌ وأصلٌ لأنكَرُوهُ، وجحدوه، وكيف وأنّهم قد أرّخوا بذلك كما أرّخوا ببناء الكعبة، وموت قصيّ بن كعب وغير ذلك.

وقد أكثر الشعراء ذكر الفيل ونظّموه ونقلته الرواةُ عنهم فمِن ذلك ما قاله (أُميّة) بن أبي الصلت:

إنّ آيات ربِّنا بَيِّناتٍ ما يُماريْ فيهِنّ إلّاالكَفُورُ

حبَس الفِيْلَ بالمُغمَّس حَتى ظَلّ يحبو كأنه مَعْقُورُ

وقال عبداللّه بن عمرو بن مخزوم:

ص:212

أنتَ الجليل ربَنا لم تُدْنِس أنت حبَسْت الفيل بالمغمَّس

مِنْ بعد ما همَّ بشيء مَبْلسِ حبَستَه في هيئة المكركس(1)

وقال ابن قيس الرقيّات في قصيدة:

وَاسْتَهلَّتْ عَليْهِمُ الطَيْر با لجندلِ حَتى كأَنَّه مَرْجُومُ (2)

ماذا بَعْدَ هزيمة الأحباش؟

لقد استوجب مقتل أبرهة وتحطّم جيشه وهلاكهم، وبالتالي هزيمة أعداء الكعبة المشرّفة، وأعداء قريش، أن يتعاظم شأن المكيّين، وشأن الكعبة الشريفة في نظر العرب، فلا يجرأ أحدٌ - بعد ذلك - في أن يحدِّث نفسه بغزو مكّة، والإغارة على قريش، أو أن يفكّر في التطاول على الكعبة المعظّمة صرح التوحيد الشامخ، فقد أخذ الناس يقولون في أنفسهم: إنّ اللّه أهلك أعداء بيته المعظّم بمثل ذلك الإهلاك إحتراماً لبيته وتعظيماً لشأن قريش، وقلّما كان يتصوّر أحدٌ أنّ ما وقع كان لأجل المحافظة عى الكعبة فقط، أي من دون أن يكون لمكانة قريش ومنزلتهم وشأنهم دخل في ذلك، ويشهد بذلك أنّ قريشاً تعرّضت مراراً لحملات متكرّرة من غزاة ذلك العصر دون أن يُصابُوا بمثل ما أُصيب به جندُ «أبرهة» الّذي قصد الكعبة بالذات ويواجهوا ما واجهه، من الردع والكبت.

إنَّ هذا الفتح والظفر الّذي نالته قريش من دون تعب ونصب، ومن دون إراقة أية دماء من أبنائها، أحدثت في نفوس القرشيّين حالات جديدة خاصّة، فقد زادت من غرورهم وحمّيتهم، وعنجهيتهم، واعتزازهم بعنصرهم، فأخذوا يفكّرون في تحديد شؤون الآخرين، والتقليل من وزنهم، اعتقاداً منهم بأنّهم الطبقة الممتازة من

ص:213


1- . المنكَّس.
2- . تفسير مجمع البيان للطبرسي: 10/448 في تفسير سورة الفيل.

العرب دون سواهم. كما أنّها دفعتهم إلى أن يتصوَّروا أنّهم وحدهم موضع عناية الأَصنام (الثلا ثمائة والستين) فهم وحدهم الذين تحبُّهم تلك الأصنامُ، وتحميهم وتدافع عنهم!! ولأجل هذا تمادوا في لَهوهم، ولعبهم، وتوسّعوا في ممارسة اللذة والترف حتّى أنّهم أظهروا وَلعاً شديداً بالخمر، فكانوا يحتسونها في كلّ مناسبة، وربّما مدّوا موائد الخمر في فناء الكعبة، وأقاموا مجالس سَمرهم وأُنسهم إلى جانب أصنامهم الخشبية، والحجرية، الّتي كان لكلّ قبيلة من العرب بِينها صَنمٌ أو أكثر، ويقضون فيها أسعدَ لحظات حياتهم - حَسب تصوّرهم - وَهم يتناقلون فيها كل ما سمعوه من أخبار وقصص حول «مناذرة» الحيرة و «غساسنة» الشام وقبائل اليمن، وهم يتصوّرون أنّ هذه الحياة الجميلة هي من بركة تلك الأصنام والأوثان، فهي الّتي جعلت عامّة العرب تخضع لقريش، وجعلت قريشاً أفضل من جميع العرب!!

أوهام قريش تتفاقم!!

إنَّ أخطرَ ما يمرُّ به إنسانٌ في حياته هو أن يصفو عيشه من المشاكل، ردحاً من الزمن ويحسّ لنفسه بنوع من الحصانة الوهمية، فعندها تجده يخصّ الحياة بنفسه ويستأثر بكلّ شيء في الوجود، ولا يرى لغيره من أبناء نوعه وجنسه من البشر أيّ حق في الحياة، ولا أيّ شأن وقيمة تذكر، وذلك هو ما يصطلح عليه بالاستكبار والاستعلاء، والإحساس بالتفوّق، والغطرسة.

وهذا هو بعينه ما حصل لقريش بعد اندحار جيش «أبرهة» وهلاكه، وهلاك جنده بذلك الشكل العجيب الرهيب.

فقد عزمت قريش منذ ذلك اليوم - وبهدف إثبات تفوقّها وعظمتها للآخرين -، على أن تلغي أي احترام لأهل الحلّ لأنّهم كانوا يقولون: إنّ جميع

ص:214

العرب محتاجون إلى معبدنا، وقد رأى العرب عامّة كيف اعتنت بنا آلهةُ الكعبة، خاصّة، وكيف حمتنا من الأعداء!!

ومن هنا بدأت قريش تضيّق على كلّ مَن يدخل مكّة من أهل الحل للعمرة أو الحج، وتتعامل معهم بخشونة بالغة، وديكتاتورية شديدة، ففرضت على كلّ من يريد دخول مكّة للحج أو العمرة أن لا يصطحب معه طعاماً من خارج الحرم، ولا يأكل منه، بل عليه أن يقتني من طعام أهل الحرم، ويأكل منه، وأن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مكّة التقليدية القومية، أو يطوف عرياناً بالكعبة إن لم يكن في مقدوره شراؤها واقتناؤها، ومَن كان يَرفُض الخضوع لهذا الأمر، مِن رؤساء القبائل وزعمائها، كان عليه أن ينزع ثيابه - بعد انتهائه من الطواف - ويلقيها جانباً، ولا يحق لأحد أن يمسّها أبداً لا صاحبها ولا غيره.(1)

أمّا النساء فكان يجب عليهن إذا أردنَ الطواف أن يُطفنَ عراة، وأن يضعن خرقة على رؤوسهن فقالت امرأة من العرب، وهي كذلك تطوف بالبيت:

اليوم يبدو بعضُه أو كُلّه وما بدا منه فلا أُحِلُّه(2)

ثم إنّه لم يكن يحق لأيّيهودي أو مسيحي - بعد هزيمة «أبرهة» الّذي كان هو أيضاً مسيحياً - أن يدخل مكّة إلّاأن يكون أجيراً لمكيٍّ، وحتّى في هذه الصورة كان يجب عليه أن لا يتحدّث في شيء من أمر دينه ومن أمر كتابه.

لقد بلغت النخوةُ والعصبية بقريش حدّاً جعلتهم يتركون بعض مناسك الحج الّتي كان يجب الإتيان بها خارج الحرم!!

ص:215


1- . وكانت تسمّى عندهم «اللّقى»، أي الملقى على الأرض، وقيل: أصل اللقى أنّهم كانوا إذا طافوا خلعوا ثيابهم وقالوا: لا نطوف في ثياب عصينا اللّه فيها فيلقونها عنهم، ويسمّون ذلك الثوب لقى، فإذا قضوا مناسكهم لم يأخذوها وتركوها بحالها ملقاة. لاحظ: بحار الأنوار: 19/67.
2- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 1/452؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1/131.

لقد أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا بمناسك عرفة كما يفعل بقية الناس فتركوا الوقوف بعرفة، والإفاضة منها مع أنّ آباءهم (من ولد إسماعيل) كانوا يُقرّون أنّها من المشاعر والحج،(1) وكانت هيبة قريش وعظمتها الظاهرية رهنٌ - برمتها - بوجود الكعبة بين ظهرانيها، وبوظائف الحج ومناسكه هذه، إذ كان يجب على الناس في كلّ عام أن يأتوا إلى هذا الوادي الخالي عن الزرع وهذه الصحراء اليابسة لأداء المناسك، إذ لو لَم يكن في هذه النقطة من الأَرض أيُ مطاف أو مشعر لما رغب أحد حتّى في العبور بها فضلاً عن المكث فيها عدّة أيام وليال. لقد كان ظهورُ مثل هذا الفساد الأخلاقي وهذا الموقف المتعصِّب من الآخرين أمراً لابدَّ منه بحسب المحاسبات الاجتماعية.

فالبيئة المكيّة لابدّ أن تغرق في الفساد والإنحراف حتّى يتهيّأ العالم لانقلاب أساسيّ ونهضة جذرية.

إنّ كلّ ذلك الانفلات الأخلاقي والترف والانحراف كان يهيّئ الأرضية ويعدّها لظهور مصلح عالمي، أكثر فاكثر.

ولهذا لم يكن غريباً أن يغضب «أبوسفيان» فرعون مكّة وطاغيتها على «ورقة بن نوفل» حكيم العرب الّذي تنصّر في أُخريات حياته واطّلع على ما في الإنجيل، كلّما تحدَّث عن اللّه والأنبياء ويقول له: «لا حاجة إلى مثل هذا الإله وهذا النبيّ، تكفينا عناية أصنامنا»!!

عَبدُ اللّه والدُ النبيّ:

يوم فدى «عبدُالمطلب» ولده «عبداللّه» بمائة من الإبل، نحرها، وأطعم الناس في سبيل اللّه، لم يكن يمض من عمر «عبداللّه» أكثر من أربعة عشر ربيعاً،

ص:216


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 1/452.

وقد تسبَّبَتْ هذه الواقعةُ في أن يكتسب «عبدُاللّه» شهرة خاصّة بين عشيرته مضافاً إلى شهرته الكبرى بين قريش، وأن يحظى بمكانة كبيرة عند أبيه: «عبدالمطلب» بنحو خاص، لأنّ ما يُكلِّفُ الإنسان غالياً، ويتحملُ في سبيله عناء أكثر لابدَّ أن يحظى لديه بمكانة أكبر، ويحبّه محبّة تفوقُ المتعارف.

ومن هنا كان «عبدُاللّه» يتمتعُ باحترام يفوق الوصف بين أبناء عشيرته وأفراد عائلته وأقربائه.

ثم إنّ «عبدَاللّه» يوم كان يتوجّه برفقة والدهِ إلى المذبح كان يعاني من مشاعر وأحاسيسَ متناقضة ومتضادة، فهو من جانب كان يُكِنّ لوالده احتراماً كبيراً وحبّاً شديداً، ولهذا لم يكن يَجدُ بدّاً من طاعته، والانصياع لمطلبه، بينما كان من جانب آخر يعاني من قلق، واضطراب شديدين على حياته الّتي كان يرى كيف تعبث بها يدُ القدر، وتكادُ تقضي عليها كما يقضي الخريفُ على أوراق الشجر.

كما أنّ «عبدالمطلب» نفسه كان هو الآخر تتجاذبه قوّتان متضادتان: قوةُ الإيمان والعقيدة من جانب، وقوةُ العاطفة والمحبّة الأبوية من جانب آخر، وقد أوجدَت هذه الواقعة في نفسي هاتين الشخصيتين آثاراً مُرّة يصعُب زوالها، بيد أن تلك المشكلة حيث عولجت بالطريقة الّتي ذكرناها ونجا «عبداللّه» من الموت المحقّق، فكّر «عبدالمطلب» فوراً في أن يغسل عن قلب «عبداللّه» تلك المرارة القاسية بزواج «عبداللّه» بآمنة، وبذلك يقوّي من عرى حياته الّتي بلغت درجة الانصرام، بأقوى السُّبُل، وأمتن الوسائل.

ومن هنا توجّه «عبدالمطلب» إلى بيت «وهَب بن عبدمَناف» - فور رُجوعه من المذبح آخذاً بيد ولده عبداللّه - وعقد لولده على «آمنة بنت وَهَب» الّتي كانت تُعرَفُ بالعِفة، والطُهر، والنجابة، والكمال.

ص:217

كما أنّه عقد لنفسه - في ذات المجلس - على «دلالة» ابنة عم آمنة، ورُزقَ منها «حمزة» عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمشابه له في السن.(1)

غير أنّ الأُستاذ المؤرّخ «عبدالوهاب النجار» المدرّس بقسم التخصّص في الأزهر الّذي صحح «الكامل في التاريخ» لابن الأثير، وعلَّق عليه بملاحظات وهوامش مفيدة، شكّك في صحة هذه الرواية، واستغربها، وقال: لا أظنُ أنّه يصحّ شيء في هذه الرواية، إذ المعقولُ أن يتريث «عبدالمطلب» بعد ذلك المجهود المضنيّ حتّى يريح نفسه ثم يذهب ليخطب لابنه.(2)

ولكنَّنا نعتقد بأنّ المؤرّخ المذكور لو نَظرَ إلى المسألة مِن غير هذه الزاوية لسَهُل عليه التصديقُ بهذه الرواية.

ثم إنّ «عبدالمطَّلب» عَيَّن موعداً للزفاف، وعند حلول ذلك الموعد تمّت مراسمُ الزفاف في بيت «آمنة» طبقاً لما كان متعارفاً عليه في قريش، ولبث «عبداللّه» مع «آمنة» ردحاً من الزمن حتّى سافر إلى الشام للتجارة، وعند عودته توفّي أثناء الطريق، كما ستعرف.

دَورُ الأَيادي المشْبُوهَة في تاريخ الإسلام

لا شكّ أَنَّ التاريخ سَجَّلَ في صفحاته كُلَّ ما يتعلّق بالشعوب والأقوام من نقاط مضيئة أو مظلمة، كقصص للعبرة والعظة.

ولكنّ الحب والبغضَ تارة، والتساهل والبدعة تارة أُخرى، وحبّ إظهار المقدرة وإبراز القوة الأدبية تارة ثالثة، وغير ذلك من العوامل والأسباب عملت عملها فتدخّلت - في جميع الأدوار والعصور - في صياغة التاريخ، وخلَطت الغث

ص:218


1- . تاريخ الطبري: 2/7، والمذكور في هذا المصدر «هالة».
2- . الكامل في التاريخ: 2/4، قسم الهامش.

بالسمين والحقيقة بالخرافة، وتلك هي مشكلة كبرى تقع في طريق المؤرّخ الّذي يريد عرض حوادث التاريخ في أمانة وإستقامة، ولذلك يجب عليه أن يميّز الحقّ عن الباطل، والصدق عن الكذب من خلال الأخذ بالموازين العلمية، والممارسة الكاملة للتاريخ. ولقد كان للعوامل المذكورة تأثير أيضاً في تدوين التاريخ الإسلامي، فالأيادي المريبة المشبوهة عملت على تحريف الحقائق في هذا المجال، بل وربّما عمد بعض الأصدقاء - بهدف تعظيم شأن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم إلى نسبة بعض الأُمور الّتي يظهرُ عليها آثار الاختلاق والوضع، إليه صلى الله عليه و آله و سلم، وهو منها بُراء.

فقد جاء في التاريخ أنّ نور النبوَّة كان يسطع في جبين «عبداللّه» والد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم دائماً(1)، كما نقرأ أنّ «عبدالمطلب» كان يأخذ بيد ولده «عبداللّه» في سنين الجدب والقحط، ويصعد الجبل ويستسقي متوسِّلاً إلى اللّه بالنور الّذي كان بيّنا في جبين «عبداللّه»، فهذا هو ما كتبه وسجَّله كثيرٌ من علماء الشيعة والسنّة في مؤلّفاتهم، ونحن لا نملك أيّ دليل على عدم صحّته.(2)

ولكن هذا النور صار أساساً لبعض الأساطير الّتي لا يمكن أن نقبل بها مطلقاً، وهذا ما نلاحظه في القصة التالية!!

قِصَّة فاطمة الخَثعَمِيَّة

«فاطمةُ» هذه هي أختُ «ورَقَة بن نوفل» الّذي كان من حكماء العرب وكُهّانهم، وكان له معرفة كبيرة بالإنجيل. وقد سجّل التاريخ حديثه مع خديجة في بدء بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، وسوف نشير إليه في محلّه من هذا الكتاب.

وكانت «فاطمة» أُخت «ورقة» قد سمعت من أخيها عن نبوّة رجل من أحفاد

ص:219


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/63.
2- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 2/7-8؛ بحار الأنوار: 15/114.

«إسماعيل»، ولهذا ظلّت تنتظر، وتبحث.

وذات يوم وعندما كان «عبدالمطلب» متوجّهاً إلى بيت آمنة بنت وهب بعد قفوله ومنصرفه من المذبح وهو آخذ بيد «عبداللّه»، شاهدت «فاطمة الخثعمية» - الّتي كانت تقف على مقربة من منزلها - النور الساطع من جبين «عبداللّه»، والّذي كانت تنتظره مدّة طويلة وتبحث عنه بشوق، فقالت: أين تذهب يا عبداللّه؟ لكَ مِثلُ الإبل الّتي نُحِرَت عنك، وقعْ عليَّ الآن.

فقال: إنّ معي أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه!!.

ثمّ تزوّج «عبداللّه» بآمنة في نفس ذلك اليوم، وقضى معها ليلة واحدة.

ثم في الغد من ذلك اليوم أتى المرأة «الخثعمية» الّتي عرضت نفسها عليه، وأبدى استعداده لتنفيذ رغبتها، ولكن «الخثعمية» قالت له: ليس لي بك اليوم حاجة، فلقد فارقك النورُ الّذي كان مَعك أمس!!.

وقيل: إنه لمّا عرضت تلك المرأة «الخثعمية» على «عبداللّه» ما عرضت، أجابها «عبداللّه» بالبداهة ببيتين من الشعر هما:

أمّا الحَرامُ فالمماتُ دُونَهُ وَالحِلُّ لاحلٌ فاستبينهُ

فكيفَ بالأَمر الّذي تبغِينَهُ يحمي الكريمُ عرضَه ودينَهُ

ولكن لم تمر ثلاثة من زواجه بآمنة، وإقامته عندها حتّى دعته نفسُه إلى أن يأتي الخثعمية، وعرض نفسه عليها قائلاً: هل لك فيما كنت أردتْ؟ فقالت: لقد رأيت في وجهك نوراً فأردتُ أن يكون لي فأبى اللّه إلّاأن يجعله حيث أراد، فما صنعت بعدي؟

ص:220

قال: زوَّجني أبي آمنة بنت وهب»!!.(1)

علائم الإختلاق في هذه القصة!

لقد غَفل مختلِقُ هذه القصْة عن أُمور كثيرة عند صياغته لها، ولم يستطع إخفاء آثار الإختلاق عنها.

فلو كان يكتفي بالقول - مثلاً - بأنّ «فاطمة» صادفت «عبداللّه» ذات يوم في زقاق من الأزقة، أو سوق من الأسواق، وشاهدت نورَ النبيّ ساطعاً من طلعته ففكّرت في الزواج منه، رغبة في ذلك النور، لكان من الممكن التصديق بهذه القصة، بيدَ أنّ نصَّ القصة جاء بصورة لا يمكن القبول بها للأسباب التالية:

1. أنّ هذه القصة تفيد أنَّ المرأة «الخثعمية» عندما عرضت نفسها على «عبداللّه»، كانت يد «عبداللّه» في يد والده «عبدالمطلب»، فكيف يمكن أن تعرض تلك الفتاة نفسَها عليه وتبيّن مطلوبها له، ويدور بينهما ما دار، ولا يشعر بهما عبدالمطلب؟!

ثمّ ألم تستحِ من عظيم قريش «عبدالمطلب» الّذي لم يثنه عن طاعة اللّه تعالى شيء حتّى قتلُ ولده وذبحه.

ولو قلنا: إنّ مطلبها كان حلالاً مشروعاً، فإنّ ذلك لا ينسجم مع البيتين من الشعر اللَّذين ردّ بهما «عبداللّه» طلبها.

2. والأصعب من ذلك قصّة عبداللّه نفسه. فإنّ ولداً مثل «عبداللّه» يحترم والده إلى درجة الاستعداد لأن يُذْبَحَ وفاءً لنذر والده، كيف يمكن أن يتفوّه في حضرة والده بما نُقِلَ عنه؟!

ص:221


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/101-103؛ تاريخ الطبري: 2/5-7؛ والكامل في التاريخ: 2/7-8.

ترى أيمكن لشاب نجا لتوّه من السيف والذبح، ولا يزال يعاني من آثار الصدمة الروحية أن يستجيب لرغبات امرأة، أو يبدي استعداده ورضاه القلبيّ لذلك لولا وجود والده معه؟!! ترى هل كانت تلك المرأة جاهلة بالظروف، لا تقدّر الأحوال، ولا تعرف الوقت المناسب لطرح مطلبها، أو أنَّ مختلق هذه القصة غَفل عن نقاط الضعف البارزة هذه؟!!

ثم إنّ ممّا يفضح هذه القصّة ويُظهر بطلانها ما جاء في الصورة الثانية لها، فإنّ عبداللّه - كما لاحظنا - جابه طلب تلك المرأة ببيتين من الشعر وقال ما حاصله بأنّ الموت أسهل عليه من ارتكاب هذا الفعل الحرام الّذي يأتي على دين الرجل وشرفه، فكيف يجوز لمثل هذا الشاب الطاهر الغيور أن يقع فريسة لتلك الأهواء، والرغبات الرخيصة الفاسدة، والحال أنّه لم ينقض من زواجه أكثر من ثلاث ليال، وتدفعه غريزته الجنسية إلى أن يبادر إلى بيت المرأة الخثعمية.

إنَّ ماجابَه به «عبداللّه» دعوة تلك المرأة، وما جاء في ذينك البيتين من الشعر اللّذين يطفحان بالغيرة، والإباء، لخيرُ دليل على طهارة «عبداللّه» وعفّته، وتقواه، وترفّعه عن الآثام والأدران، وابتعاده عن الأنجاس والأدناس.

وقد علّق الأُستاذ العلّامة «النجار» على هذه الأُسطورة بقوله: «ليس من المعقول أن يذهب عبداللّه يبغي الزنا في الساعة الّتي تزوج فيها، ودخل فيها على امرأته».

ولكنّ الأُستاذ «النجار» أخطأ في تشكيكه في النور النبويّ الساطع في جبين «عبداللّه» حيث قال معقباً على كلامه السابق: «ولكنّها مسألة النور في وجهه يريدون إثباتها ورسول اللّه غني عن هذا كلّه».(1)

ص:222


1- . هامش الكامل في التاريخ: 2/4.

فإنّ ذلك ممّا رواه جميع المؤرّخين بلا استثناء، فلا داعي ولا وجه للتشكيك فيه!

طهارة النبيّ من دنس الآباء وعهر الأُمّهات

:

وينبغي هنا - وبالمناسبة - أن نشير إلى مسألة مهمّة في تاريخ النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم ألا وهي طهارة النسب النبوي من دنس الآباء ودناءتهم وعهر الأُمّهات وفسادهن، فلا يكون في أجداده وجدّاته سفاح، وزنا.

وهذا ممّا اتّفق عليه المسلمون، بعد أن دلّ عليه العقل، إذ لو لم يكن النبيّ منزّهاً عن دناءة الآباء وعهر الأُمّهات، لتنفّرت عنه الطباع ولم يرغب أحدٌ في متابعته، والانقياد لأوامره ونواهيه.

ولقد صرّح رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بذلك في أحاديث رواها السنّة والشيعة.

فقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:

«نقلت من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة نكاحاً لا سفاحاً».(1)

وجاء أيضاً أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«لم يزل اللّه ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة».(2)

وقال الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

«وأشهد أنّ محمَّداً عبدُه ورسولُه وسيّدُ عباده كلما نسخَ اللّه الخلقَ فرقتين جعله في خيرهما لم يُسهِم فيه عاهرٌ، ولا ضربَ فيه فاجرٌ».(3)

وروي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام في هذا الصدد عند تفسير قول اللّه

ص:223


1- . كنز الفوائد: 70.
2- . السيرة الحلبية: 1/70.
3- . نهج البلاغة: 2/194، الخطبة 214، طبعة عبده.

تعالى: «وَ تَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ» (1) أنّهما قالا:

«في أصلاب النبيّين، نَبيٍّ بعد نبيٍّ، حتّى أخرجه من صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم».(2) وقد صرّح علماء الإسلام من الفريقين بهذا الأمر، واشترطوه في النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

قال المحقّق نصير الدين الطوسي في «تجريد الاعتقاد»: ويجب في النبيّ العصمة... وعدم السهو، وكلّ ما ينفّرُ عنه من دناءة الآباء وعهر الأُمّهات....(3)

وقد وافقه على هذا العلّامة القوشجي الأشعري في شرح التجريد.(4)

وقال العلّامة المتكلّم المقداد السيوري في «اللوامع الإلهية»: ويجب أن لا يكون مولوداً من الزنا ولا في آبائه دنيّ ولا عاهر.(5)

وفاةُ عَبْد اللّه في «يَثْرب»:

لقد بَدَأ «عبدُاللّه» بالزواج فصلاً جديداً في حياته، وأضاء ربوعها بوجود شريكة للحياة في غاية العفّة والكمال هي زوجته الطاهرة «آمنة»، وبعد مدّة من هذا الزواج المبارك توجّه في رحلة تجارية - وبصحبة قافلة - إلى الشام بهدف التجارة.

دقت أجراسُ الرحيل، وتحرّكت القافلة التجارية وفيها عبداللّه، وبدأت رحلتها من «مكّة» صوب الشام، وهي مشدودة بمئات القلوب والأفئدة.

وكانت «آمنة» تمر في هذه الأيام بفترة الحمل، فقد حملت من زوجها

ص:224


1- . الشعراء: 219.
2- . تفسير مجمع البيان: 7/358، عند تفسير الآية.
3- . كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 472، تحقيق الشيخ حسن زاده الآملي.
4- . راجع: شرح القوشجي لتجريد الاعتقاد: 359.
5- . اللوامع الإلهية: 311.

«عبداللّه».

وبعد مُضيّ بضعة أشهر طلعت على مشارف مكّة بوادر القافلة التجارية وهي عائدة من رحلتها، وخرج جمع كبير من أهل مكّة لاستقبال ذويهم المسافرين العائدين. ها هو والد «عبداللّه» ينتظر - في المنتظرين - ابنه «عبداللّه»، كما أنّ عيون عروسة ولده «آمنة» هي الأُخرى تدور هنا وهناك تتصفّح الوجوه وتبحث عن زوجها «عبداللّه» في شوق لا يوصف.

ولكن ومع الأسف لا يجدان أثراً من «عبداللّه» بين رجال القافلة!!

وبعد التحقيق يتبيّن أنّ «عبداللّه» قد تمرّض أثناء عودته في يثرب، فتوقّف هناك بين أخواله لكي يستريح قليلاً، فإذا تماثل للشفاء عاد إلى أهله في «مكّة».

وكان من الطبيعي أن يغتمّ هذان المنتظران «عبدالمطلب، وآمنة» لهذا النبأ، وتعلو وجهيهما آثار الحزن، والقلق وتنحدر من عيونهما دموع الأسى والأسف.

فأمرَ «عبدُالمطّلب» أكبر ولده: «الحارث» إلى أن يتوجَّه إلى «يثرب»، ويصطحب معه «عبداللّه» إلى مكّة.

ولكنّه عندما دخل يثرب عرف بأنّ أخاه: «عبداللّه» قد توفّي بعد مفارقة القافلة له بشهر واحد، فعاد الحارث إلى مكّة، فأخبر والده «عبدالمطلب»، وكذا زوجته العزيزة «آمنة» بذلك، ولم يخلّف «عبداللّه» من المال سوى خمسة من الابل، وقطيع من الغنم، وجارية تدعى «أُمّ أيمن» صارت فيما بعد مربية النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

ص:225


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/7 و 8؛ والسيرة الحلبية: 1/81-82.

6 مَولدُ رَسُول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

كانت سُحُبُ الجاهلية الداكنة تُغطّي سماء الجزيرة العربية، وتمحي الاعمالُ القبيحةُ والممارساتُ الظالمة، والحروبُ الداميةُ، والنهبُ والسلبُ، ووأدُ البنات، وقتلُ الاولاد، كُلَّ فضيلة أخلاقية في البيئة العربية، وكان المجتمع العربيّ قد أصبح في منحدر عجيب من الشقاء، ليس بينهم وبين الموت إلّاغشاء رقيق ومسافة قصيرة!!

في هذا الوقت بالذات طلعت عليهم شمس السعادة والحياة فأضاءت محيط الجزيرة الغارق في الظلام الدامس، وذلك عندما أشرقت بيئة الحجاز بمولد النبيّ المبارك «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم وبهذا تهيّأَت المقدّمات اللازمة لنهضة شعب متخلّف طال رزوحُه تحت ظلام الجهل، والتخلّف، وطالت معاناته لمرارة الشقاء. فإنّه لم يمض زمن طويل إلّاوملأ نور هذا الوليد المبارك أرجاء العالم وأسّس حضارة إنسانية عظمى في كلّ المعمورة.

فترةُ الطُفولة في حَياة العُظماء

إنّ جميع الفصول في حياة العظماء جديرةٌ بالتأمّل، وقمينة بالمطالعة، فربّما تبلغ العظمة في شخصية أحدهم من السعة، والسموّ بحيث تشمل جميع فصول حياته بدء من الطفولة، بل وفترة الرضاع فتكون حياته وشخصيته برمّتها سلسلة متواصلة من حلقات العظمة.

إنّ جميع الأدوار، والفترات في حياة العظماء، والنوابغ وقادة المجتمعات

ص:226

البشرية، وروّاد الحضارات الإنسانية وبُناتها تنطوي في الأغلب على نقاط مثيرة وحساسة وعلى مواطن توجب الإعجاب.

إنّ صفحات تاريخهم وحياتهم منذ اللحظة الّتي تنعقد فيها نطفهم في أرحام الأُمّهات، وحتّى آخر لحظة من أعمارهم مليئة بالأسرار، زاخرة بالعجائب.

فنحن كثيراً ما نقرأ عن حياة أُولئك العظماء في أدوار طفولتهم أنّها كانت تقارن سلسلةً من الأُمور العجيبة، والمعجزة.

ولو سهل علينا التصديق بهذا الأمر في شأن الرجال العاديين من عظماء العالم، لكان تصديقنا بأمثالها في شأن الأنبياء والرسل أسهل من ذلك بكثير، وكثير.

إنّ القرآن الكريم ذكر فترة الطفولة في حياة النبيّ موسى عليه السلام في صورة محفوفة بكثير من الأسرار، فهو يقول ما خلاصته: إنّ مئآت من الاطفال قُتِلوا وذُبحوا بأمْر من فرعون ذلك العصر منعاً من ولادة موسى ونشوئه.

ولكنّ إرادة اللّه شاءت أن يُولد الكليم، وظلّت هذه المشيئة تحفظه من كيد الكائدين، ولهذا لم يعجز أعداؤه عن القضاء عليه أو إلحاق الأذى به فحسب، بل تربّى في بيت فرعون أعدى أعدائه.

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى * إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» .

ثمّ يقول: «إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ» .(1)

ثمّ إنّ القرآن الكريم يذكر قصّة ولادة المسيح، ويصوّر طفولته

ص:227


1- . طه: 37-40.

ونشأته بشكل أعجب إذ يقول:

«وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا * قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا * قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا * فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا * فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا * فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا * يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا * وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» .(1)

فإذا كان أتباع القرآن والتوراة والإنجيل يشهدون بصحّة هذه المطالب حول ولادة هذين النبيين العظيمين من أُولي العزم موسى وعيسى عليهما السلام، ويقرّون بصدقها، فلا يصحّ في هذه الصورة أن نستغرب وقوع أمثالها في شأن رسول الإسلام، ونتعجب من الحوادث العجيبة الّتي سبقت أو رافقت ميلاده المبارك، ونعتبرها

ص:228


1- . مريم: 16-33.

أُموراً سطحية لا تدلّ على شيء.

فنحن نقرأ في الكتب التاريخية وفي كتب الحديث عن وقوع حوادث عجيبة يوم ولادة النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم مثل: ارتجاس(1) أيوان كسرى، وسقوط أربع عشرة شرفة منه، وانخماد نار فارس الّتي كانت تُعبد، وانجفاف بحيرة ساوة، وتساقط الأصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها، وخروج نور معه صلى الله عليه و آله و سلم أضاء مساحة واسعة من الجزيرة، والرؤيا المخيفة الّتي رآها أنوشيروان ومؤبدوه، وولادة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مختوناً مقطوع السُرّة، وهو يقول: «أللّه أكبر، والحمدُ للّه كثيراً، سُبحان اللّه بكرة وأصيلاً».

وقد وردت جميع هذه الأُمور في المصادر التاريخية الأُولى، والجوامع الحديثية المعتبرة.(2)

ومع ملاحظة ما ورد في حقّ موسى وعيسى عليهما السلام ونقلنا بعضه هنا، لا يبقى أيّ مجال للشكّ في صحّة هذه الحوادث.

نعم ينبغي أن نسأل هنا: ماذا كانت تهدف هذه الحوادث غير العادية؟

وفي الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نقول:

إنّ هذه الحوادث الخارقة والعجيبة كانت تهدف إلى أمرين:

الأوّل: أن تدفع بالجبابرة، والوثنيين وعَبدة الأصنام إلى التفكير فيما هم فيه فيسألوا أنفسهم: لماذا انطفأت نيرانُهم الّتي طالما بقيت مشتعلة تحرسها أعيان السَّدنة والكهنة؟

ص:229


1- . ارتجاس البناء أي رجف واضطرب وتحرك حركة يسمع لها صوت. تاج العروس: 8/304، مادة «رجس».
2- . لاحظ: تاريخ اليعقوبي: 2/5؛ بحار الأنوار: 15/248-331؛ تاريخ الطبري: 1/580؛ البداية والنهاية: 2/327؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: 4/60 وغيرها.

لماذا سبّبت هزةٌ خفيفةٌ في ارتجاس إيوان كسرى العظيم المحكم البنيان، ولم يحدث لبيت عجوز في نفس ذلك البلد شيء؟

لماذا تهاوت الأصنامُ المنصوبة في الكعبة وحولها، وانكبَّت على وجوهها بينما بقيت غيرها من الأشياء على حالها لم يصبها شيء أبداً؟

لو كانوا يفكّرون في تلك الحوادث لعرفوا أنّ تلك الحوادث كانت تبشّر بعصر جديد... عصر انتهاء فترة الوثنية وزوال مظاهر السلطة الشيطانية واندحارها؟

الثاني: إنّ هذه الحوادث جاءت لتبرهن على شأن الوليد العظيم، وأنّه ليس وليداً عادياً، فهو كغيره من الأنبياء العظام الذين رافقت مواليدهم أمثال تلك الحوادث العجيبة، والوقائع الغريبة، كما يُخبر بذلك القرآن الكريم عن حياة الأنبياء - كما عرفت - وتحدّثت بها تواريخ الشعوب والأُمم المسيحية واليهودية.

وأساساً لا يلزم أن تكون تلك الحوادث سبباً للعبرة ووسيلة للإتّعاظ يوم وقوعها، بل يكفي أن تقع حادثة في إحدى السنين، ثم يعتبرُ بها الناس بعد أعوام عديدة، وقد كانت حوادثُ الميلاد النبويّ من هذه المقولة، لأنّ الهدف منها كان هو إيجاد هزة في ضمائر أُولئك الناس الذين كانوا قد غرقوا في أوحال الوثنية، والظلم، والانحراف الأخلاقي حتّى قمة رؤوسهم، وعشعشت الجهالة والغفلة في أعماقهم حتّى النخاع.

إنّ الذين عاشوا في عصر الرسالة، أو مَن أتى من بعدهم عندما يسمعون نداء رجل نهض - بكلّ قواه - ضدّ الوثنية، والظلم، ثم يطالعون سوابقه، ويلاحظون إلى جانب ذلك ما وقع ليلة ميلاده من الحوادث العظيمة الّتي تتلاءم مع دعوته، فإنّهم ولا شكّ سيعتبرون تقارن هذين النوعين من الحوادث دليلاً على صحّة دعواه، وصدق مقاله، فيصدِّقونه، وينضوون تحت لوائه.

إنّ وقوع أمثال هذه الحوادث الخوارق عند ميلاد الأنبياء مثل «إبراهيم» و

ص:230

«موسى» و «المسيح» و «محمَّد» (صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين) لا يقلّ أهمّية عن وقوعها في عصر رسالتهم ونبوّتهم، فهي جميعاً تنبع من اللُّطف الإلهي، وتتحقّق لهداية البشرية، وجذبها إلى دعوة سفرائه ورسله.

في أيّ يوم وُلدَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟

لقد اتّفق عامّة كُتّاب السيرة على أنّ ولادة النبيِّ الكريم كانت في عام الفيل سنة 570 ميلادية.

لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم رحل إلى ربه عام (632) ميلادية عن (62) أو (63) عاماً، وعلى هذا الأساس تكون ولادته المباركة قد وقعت في سنة (570) ميلادية تقريباً.

كما أنّ أكثر المحدّثين والمؤرّخين يتّفقون على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم ولدَ في شهر ربيع الأوّل.

إنّما وقع الخلاف في يوم ميلاده، والمشهور بين محدّثي الشيعة أنّه كان يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأوّل بعد طلوع الفجر.

والمشهور بين أهل السنّة أنّه صلى الله عليه و آله و سلم وُلدَ في يوم الاثنين الثاني عشر من ذلك الشهر.(1)

أيُّ القولين هو الصحيح؟

إنّ من المؤسف جدّاً أن يعاني التقويم الدقيق لميلاد رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم ووفاته، بل مواليد ووفيات أكثر قادتنا وأئمتنا مثل هذا الارتباك، وأن لا تكون أوقاتها وتواريخها محدّدةً معلومة على وجه التحقيق واليقين!.

ص:231


1- . وقد ذكر المقريزي في «الإمتاع»: 3، جميع الأقوال المذكورة في يوم ميلاد النبيّ وشهره وعامه، فراجع.

ولقد تسبّب هذا الارتباك في أن لا تستند أكثر احتفالاتنا ومآتمنا إلى تاريخ قطعيّ، في حين نجد أنّ علماء الإسلام كانوا يهتمّون - عادة - بتسجيل الوقائع الّتي حدثت على مدار القرون الإسلامية في نظم خاص وعناية كبيرة، ولكنّنا لا ندري ما الّذي منع من تسجيل مواليد هذه الشخصيات العظيمة ووفياتهم على نحو دقيق، وصورة قطعية؟!

على أنّ مثل هذه المشكلة يمكن حلّها بدرجة كبيرة بالرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام، فإنّ أي مؤرخ لو أراد أنْ يكتب عن حياة شخصيّة من الشخصيات وأراد أن يُلمّ بكلّ تفاصيلها ودقائقها لم يسمح لنفسه بأن يفعل ذلك من دون أن يراجع أبناء أو أقرباء تلك الشخصية الّتي يزمع ترجمتها والكتابة عنها.

ولقد مضى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخلّف من بعده ذرية وقربى وهم الذين يطلق عليهم أهل البيت.

وأهل بيته يقولون: لو كان صحيحاً وحقّاً أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أبونا وجدّنا، وقد نشأنا في بيته وترعرعنا في حجره فإنّنا نقول إنّه قد ولد يوم كذا وتوفّي يوم كذا، فهل يبقى بعد ذلك مجال لأن نتجاهل قولهم ورأيهم، ونختار ما يقوله الآخرون من الأبعدين، وقديماً قالوا: أهل البيت أدرى بما في البيت؟(1)

فَتْرَةُ الحَمْل

المعروفُ أنّ النورَ النبويَ الشريف استقرّ في رحم آمنة الطاهر في أيام التشريق - وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي

ص:232


1- . ومن هنا لابد من الاعتراف بأنّ ما ينقله ويكتبه الإمامية من تفاصيل تتعلّق بحياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هي أقرب من غيرها إلى الحقيقة لأنّها مأخوذة عن أقربائه وأبنائه عليهم السلام.

الحجة(1) - ولكن هذا الأمر لا ينسجم مع الرأي المشهور بين عامّة المؤرّخين من كون ولادة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في شهر ربيع الأوّل، إذ في هذه الصورة يجب أن نعتبر مدة حمل «آمنة» به صلى الله عليه و آله و سلم إمّا ثلاثة أشهر وإمّا سنة وثلاثة أشهر، وكلا الأمرين خارجان عن الموازين العادّية في الحمل، كما أنّه لم يعدّهُ أحدٌ من خصائص النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

ولقد عالَج المحققُ الكبير الشهيد الثاني (911-966 ه) هذا الإشكال بالنحو التالي إذ قال:

إنّ إيام التشريق لم تكن ثابتة عند العرب زمن الجاهلية بل كانت تتغير أو تتأخر حسب اختيار العرب الجاهلي من ذلك. وهذا هو المعبّر عنه في القرآن الكريم بالنسيء في قوله تعالى: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللّهُ» (3).(4)

وتوضيح هذا هو أنّ أبناء «إسماعيل» كانوا تبعاً لأسلافهم يؤدّون مناسك الحج في شهر ذي الحجة، ولكنّهم رأوا - في ما بعد - أن يحجّوا في كلّ شهر عامين يعني أن يحجّوا في ذي الحجّة عامين، وفي المحرم عامين، وفي صفر عامين وهكذا.

وهذا يعني أنّ الحج يعود كلّ أربعة وعشرين سنة في موضعه الطبيعي (أي شهر ذي الحجّة).

وقد جرى العربُ المشركونَ على هذه الطريقة حتّى صادفت أيامُ الحج شهر

ص:233


1- . لاحظ: الكافي: 1/439 أبواب التاريخ، باب مولد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ووفاته.
2- . قد ذكر الطريحي فقط في «مجمع البحرين» في مادة «شرق» قولاً بهذا لم يُسم قائله.
3- . التوبة: 37.
4- . الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 5/433.

ذي الحجّة في السنة العاشرة من الهجرة النبوية فحّج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تلك السنة حجّة الوداع، فنهى في خطبة له عن هذه الفعلة (الّتي تُسمّى بالنسيء بمعنى تأخير الحج عن موضعه وموعده) فقال: «ألا وَإنَّ الزَّمان قد استَدارَ كَهيئتهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّه السَّماواتِ وَالأَرضَ، السَّنة اثنا عشَرَ شَهراً، مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاثٌ مَتوالِياتٌ:

ذوالقعدة، وذوالحجة، والمحرَّم، ورجَب مضر الّذي بَين جمادى وشعبان».(1)

وقد أراد صلى الله عليه و آله و سلم بذلك أنّ الأشهر الحُرم رجَعت إلى مواضعها، وعاد الحجّ إلى ذي الحجة وبَطل النسيء.

ونزل في هذه المناسبة قولُ اللّه تعالى: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً» .(2)

من هنا تنتقل أيامُ التشريق كلّ سنتين من مواضعها، على ما عرفت، وحينئذٍ لا منافاة بين القول بأنّ نور النبيّ انتقل إلى رحم أُمّه «آمنة بنت وهب» في أيام التشريق، وبين ما أجمع عليه عامّة المؤرّخين من أنّه وُلدَ في شهر ربيع الأوّل. وإنّما تكون المنافاة بين هذين الأَمرين إذا كان المراد من أيام التشريق هو اليومُ الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة خاصّة، ولكن قلنا: إنّ أيام التشريق كانت تنتقل من شهر إلى آخر باستمرار، فيلزم أن يكون عام حمل أُمّه به، وعام ولادته أيام الحجّ الواقعة في شهر جمادى الأُولى، وحيث إنّه صلى الله عليه و آله و سلم وُلدَ في شهر ربيع الأَوّل فتكون مُدّة حَمل «آمنة» به عشرة أشهر تقريباً.(3)

ص:234


1- . مجمع البيان: 5/54.
2- . التوبة: 37.
3- . لاحظ: الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 5/433-435.

مُؤاخَذاتٌ وإشكالاتٌ عَلى هذا البَيان:

إنّ النتيجة الّتي توصّل إليها المرحومُ «الشهيد الثاني» ليست صحيحة، كما أنّ المعنى الّذي ذكره للنسيء لم يقل به من بين المفسّرين إلّامجاهد، وأمّا الآخرون فقد فسَّروهُ بنحو آخر فلا يكون التفسيرُ الّذي مَرَّ قوّياً، وذلك:

أوّلاً: لأنّ «مكّة» كانت مركزاً لجميع الاجتماعات كما كانت معبداً للعرب جميعاً، ولا يخفى أنَّ تغيير الحجّ في كلّ سنتين مرّةً واحدةً من شأنه أن يسبّب الالتباسَ لدى الناس ويوقعهم في الخطأ والاشتباه، وبالتالي يتعرّض ذلك الاجتماع العظيم، وتلك العبادة الجماعية إلى خطر الزوال.

ولهذا يُستَبعد أن ترضى قريش والمكيّون بأن يخضع ما هو وسيلة لعزّتهم وافتخارهم للتغيير والتبدّل الّذي من عواقبه أن يتعرّض وقته وموعده للنسيان، فيذهب ذلك الإجتماع، ويزول من الأساس.

ثانياً: إذا أخضَعنا ما قاله «الشهيد الثاني» لمحاسبة دقيقة فإنّ كلامه يستلزم أن تكون أيام التشريق والحج في السنة التاسعة من الهجرة واقعة في شهر ذي القعدة لا جمادى الأُولى في حين أنّ أميرالمؤمنين عليّاً عليه السلام كُلِّفَ في هذه السنة بالذات بأن يقرأَ سورة البراءة على المشركين في أيام الحجّ، والمفسّرون والمحدّثون متّفقون على أنّه عليه السلام تلاها عليهم في العاشر من شهر ذي الحجّة ثم أمهلهم أربعة أشهر ابتداء من شهر ذي الحجة لا ذي القعدة.(1)

ثالثاً: أنّ النسيء يعني أنَّ العرب حيث لم يكن لديهم مصدر صحيح للرزق بل كانوا يعيشون في الأغلب، على النهب والغارة لهذا كان من الصعب عليهم ترك

ص:235


1- . ولقد قام العلّامة المجلسي في بحار الأنوار: 15/253 بهذه المحاسبة، وإنْ لم يشر إلى الإشكال الّذي أوردناه، فليراجع.

الحرب، في الأشهر الحرم الثلاث (وهي ذوالقعدة وذوالحجة، والمحرّم) لهذا ربّما طلبوا من سدَنة الكعبة بأن يسمحوا لهم بالقتال في شهر المحرم، ثم يتركون الحرب في شهر صفر، وهذا هو معنى النسيء فلم يكن نسيء وتأخير للشهر الحرام في غير شهر محرَّم، وفي الآية نفسها إشارةٌ إلى هذا المطلب: «يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً» .(1) والّذي نراه في حلّ هذه المشكلة هو: أنّ العرب كانوا يحجُّون في وقتين:

أحدهما شهر ذي الحجة، والثاني شهر رجب، وقد كانوا يؤدُّون كلّ مناسك الحج في هذين الوقتين على السواء، فيمكن أن يكون المقصودُ من حَمْل «آمنة» برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أيام التشريق هو شهر رجب، فإذا اعتبرنا يوم ولادته هو السابع عشر من شهر ربيع الأوّل كانت مدّة حمل «آمنة» به ثمانية أشهر وأياماً.

الإحتفال بذكرى المولد النبوي

ينبغي أن يحتفل المسلمون جميعاً بمولد النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ويقيموا المهرجانات الكبرى في هذه المناسبة الشريفة الّتي كانت مبدأ الخير والبركة، ومنشأ السعادة والكرامة للبشرية جمعاء، وأيّة مناسبة أحرى بالإحتفال والاحتفاء من هذ المناسبة؟

على أنّ إقامة مثل هذه الاحتفالات هو نوع من تكريم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو أمرٌ مطلوب ومحبوب في الشريعة المقدّسة.

فقد قال اللّه تعالى: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .(2)

ص:236


1- . التوبة: 37.
2- . الأعراف: 157.

وعزّر بمعنى فخَّم وعظَّم وأعان ونَصر كما في اللغة(1)، وهو لا يختص بزمان دون زمان، فعلى المسلمين في كل وقت وزمان أن يعظّموا شأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويكرّمونه، سواء في حياته أو بعد مماته، لما له من فضل عظيم على الناس، ولما له من منزلة عنداللّه تعالى.

كيف لا والاحتفال بميلاده لا يعني سوى ذكر أخلاقه العظيمة، وسجاياه النبيلة، والإشادة بشرفه وفضله وهي أُمور مدحه القرآن الكريم بها إذ قال سبحانه:

«وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (2)، وقال تعالى أيضاً: «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» (3) وغير ذلك من الآيات المادحة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فإنّ الاحتفال بميلاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي يتحقّق بذكر صفاته وأخلاقه والإشادة به خير مصداق لرفع ذكره، الّذي فَعلهُ اللّه بنحوٍ مّا.

ولو كان رفع ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أمراً غير جائز ولا صحيح، بل فعلاً قبيحاً لما فعله اللّه، فيكفي في حسنه وصحّته بل ومشروعيته ومطلوبيته أنّ اللّه تعالى فعله بالنسبة لنبيّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وهل يكون الاحتفال بمولد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإظهار السرور والشكر للّه تعالى بمقدم نبيه المبارك عبادة للنبيّ كما يزعم البعض إذ يقول:

«الذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم».(4)

والحال أنّ العبادة في مفهومها الاصطلاحي الموجب للشرك والكفر ليس إلّا

ص:237


1- . راجع: لسان العرب: 4/562، مادة «عزر».
2- . القلم: 4.
3- . الشرح: 4.
4- . القائل هو محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنّة المحمدية في هوامشه على كتاب فتح المجيد: 154، ثمّ نقل عن كتاب قرّة العيون ما يشابه هذا المضمون.

الخضوع لمن يُعتَقَدْ بإلوهيته وتعظيمه بهذه النيّة،(1) وأين هذا من ذكر فضائل النبيّ في يوم مولده والابتهاج بمقدمه والشكر للّه على ولادته.

ثم إنّ تعظيم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينطلق من كونه عبداً مطيعاً للّه تعالى، أدّى رسالته بصدق وإخلاص، وجسّد بسلوكه وسيرته كلّ مكارم الأخلاق أصدق تجسيد فالاحتفال بمولده الكريم إحتفال بالقيّم السامية، وشكر للّه على منّه، وإظهار للحب الكامن في النفوس ليس إلّا.

والزعم بأنّه محرّم لكونه بدعة، أو لأنّه لا يخلو عن اشتماله على منكرات ومحرّمات كالرقص والغناء فهو مرفوض، مردود لأنّ الكلام إنّما هو حول أصل الاحتفال مجرّداً عن المحرّمات والمنكرات. إنّ الاحتفاء والاحتفال بمولد خاتم النبيين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما هو تكريم لمن كرّمه اللّه تعالى، وأمر بتكريمه، وحثّ على احترامه وحبّه، ومودّته، وإنّه بالتالي أداء شكر للّه تعالى على تلك الموهبة العظيمة، وتلك العطيّة المباركة حيث مَنّ سبحانه على البشرية عامّة وعلى المسلمين خاصّة بأن شرّف الأرض بمولد عظيم نَعُمت الأرض ببركة شخصيته وخلقه، وأشرقت بنور رسالته ودعوته، فأيّة نعمة تُرى أولى بالشكر من هذه، وأي شكر أجمل وأفضل من الإحتفاء بمولد هذا النبيّ العظيم صلى الله عليه و آله و سلم، وذكر فضائله، ومناقبه، للتعرّف عليها، والاقتداء بها، وتشديد الحب له بسببها، والابتهال إلى اللّه في يوم ميلاده، وطلب التوفيق الإلهي لمتابعته، والسير على نهجه، والدفاع عن رسالته، والذبّ دون دينه، بعد الشكر للّه تعالى على موهبته هذه؟؟

هذا ولقد درج المسلمون في العصور الإسلامية الأُولى على الإحتفال بذكرى المولد النبوّي وأنشدوا القصائد الرائعة في مدحه، وذكر خصاله ومكارم

ص:238


1- . راجع مفاهيم القرآن (في معالم التوحيد): 1/404-440.

أخلاقه، وأظهروا السرور بمولده والشكر للّه تعالى بلطفه، وتفضله به صلى الله عليه و آله و سلم على البشرية.

قال الإمام الدياربكري في تاريخ الخميس في هذا الصدد:

لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم.(1)

مَراسمُ تسمية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

حلَّ اليومُ السابعُ من الميلاد المبارك، فعقَّ عبدالمطلب عن النبيّ بكبش شكراً للّه تعالى ودعا جماعة ليشتركوا في الاحتفال الّذي حضرهُ عامّة قريش لتسمية النبيّ، وسمّاه «محمَّداً»، وعندما سألوه عمّا حَمله على أن يُسمّي هذا الوليد المبارك «محمَّداً» وهو اسم لم يعرفه العرب إلّانادراً أجاب قائلاً: أردتُ أن يحمَده اللّه في السماء وتحمده الناس في الأَرض.(2)

وإلى ذلك يشير حسان بن ثابت بقوله:

فَشقَّ لَهُ مِنْ إسُمهِ لِيُجلَّهُ فذو العَرْش مَحْمُودٌ وَ هذا محمَّدُ(3)

ومن المسلّم أنّ هذا الإختيار لم يكن ليتم من دون دخالة للإلهام الالهي، لأَنّ اسم «محمَّد» وإن كان موجوداً عند العرب إلّاأنّه قَلّ مَن كان قد تسمّى بهذا الاسم، فحسب ما استقصاه بعضُ المؤرّخين لم يتسَم به إلى ذلك اليوم من العرب إلّاستة عشر شخصاً كما يقول شاعرهم:

ص:239


1- . تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس: 1/223، نقلاً عن المواهب اللدنية: 1/27، للقسطلاني.
2- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/128.
3- . بحار الأنوار: 120/16؛ السيرة الحلبية: 1/128.

إنَ الذينَ سَمُّوا باسم محمدٍ مِنْ قَبلِ خير الخَلقِ ضِعف ثمان(1)

ولا يخفى أن نُدرة المصاديق لأي لفظ من الالفاظ أو اسم من الأسماء من شأنِها أن تقلّل فرص الاشتباه فيه، وحيث إنّ الكتب السماوية كانت قد أخبرتْ عن اسم النبيّ الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم وصفاته، وعلائمه الرُّوحية والجسمية، لذلك يجب أن تكون علائمُه صلى الله عليه و آله و سلم واضحةً جدّاً جدّاً حتّى لا يتطرّق إليها التباسٌ أو اشتباهٌ، وقد كان من علائمه صلى الله عليه و آله و سلم اسمُه الشريف، فيجب أن تكون مصاديقُها قليلة جدّاً حتّى يزيل ذلك أيّ عروض للشكّ والترديد في تشخيص النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة إذا ضمَّتْ إليه بقية أوصافِه وعلائِمهِ، وخصوصياته.

خَطأ الْمُستَشْرقينْ

لقد ذكر القرآنُ الكريمُ اسمين أو عدّة أسماء للنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

ففي سورة آل عمران ومحمَّد والأحزاب والفتح في الآيات 144 و 2 و 40 و 29 سمّاه «محمَّداً».(2)

وفي سورة الصف الآية 6(3) دعاه «أحمد».

والعلّةُ في تسميّته بهذين الاسمين أنّ أُمّهُ «آمنة» سمّته «أحمداً» قبل أن

ص:240


1- . السيرة الحلبية: 1/134 ثمّ يذكر صاحب السيرة أُولئك الأشخاص في بيتين آخرين.
2- . قال تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ». وقال تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ». وقال سبحانه: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ». وقال عزّوجلّ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ».
3- . إذ قال سبحانه: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ».

يُسمّيه جدّه، كما هو مذكور في التاريخ.

وعلى هذا فإنّ ما ذكرهُ بعضُ المستشرقين - في معرض الاعتراض - بأنّ الإنجيل - حسب تصريح القرآن الكريم في سورة الصف الآية 6 - بشَّر بنبيّ اسمُه «أحمد» لا «محمَّد» كلامٌ لا أساسَ له ولا مبرر، لأنّ القرآن الكريم الّذي سمّى نبيّنا ب «أحمد» سمّاه في عدّة مواضع ب «محمَّد»، فإذا كان المصدر في تعيين اسم النبيّ هو:

القرآن الكريم، فإنّ القرآن سَمّاه بكلا الاسمين، في موضع باسم «محمَّد»، وفي موضع آخر باسم «أحمد».

«أحمد» كانَ مِنْ أسماء النبيّ المشهورة

كلُّ مَن كان له أدنى إلمامٍ بتاريخ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عَلِمَ أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يُدعى باسمين في الناس منذ صغره أحدهما: «محمَّد» الّذي سَمّاه به جَدُّه «عبدالمطلب»، والآخر «أحمد» الّذي سمّته به أُمّه «آمنة».

وهذه حقيقة من حقائق التاريخ الإسلامي، وقد روى المؤرّخون هذا الأمر، ويمكن للقارئ الكريم أن يقرأه في السيرة الحلبية.(1)

ولقد أنشأ عمُّه «أبوطالب»، الّذي أُنيطَت إليه كفالته بعد وفاة عبدالمطلب، فبقي يقوم بهذه المهمّة طوال اثنين وأربعين عاماً بكل حرص ورغبة، ولم يمتنع في هذا السبيل عن بذل كلّ ما استطاع من غال ورخيص، أنشأ في ابن أخيه أبياتاً سمّاه في بعضها «محمَّد» وفي بعضها الآخر «أحمد»، وهذا يكشف عن أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان معروفاً آنذاك بكلا الاسمين.

وإليك فيما يأتي بعض هذه الأبيات الّتي سَمّى فيها «أبوطالب» النبيّ باسم أحمد:

ص:241


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/128، باب تسميته صلى الله عليه و آله و سلم محمد وأحمد.

1. إنْ يكُنْ ما أتى بهِ أحمدُ اليومَ سَناءً وكانَ في الحشر ديناً

2. وقالوا لأحمد أنتَ اْمرؤٌ خَلُوفُ الحديث ضَعيف النُسبْ

3. ألا إنّ أحمدَ قد جاءهم بحقٍ ولم يَأتِهمْ بالكَذِبْ

4. أرادُوا قَتْل أحمد ظالموه وَليس لقتله فيهم زعيم

5. ألا إنَّ خيرَ الناس نفْساً ووالداً إذا عُدَّ ساداتُ البرية أحمدُ

6. فَلسْنا وبيتُ اللّه نسلم أحمداً لِعزّاء من عض الزمان ولا كرب(1)

وقد سمّى «أبوطالب» النبيَ صلى الله عليه و آله و سلم في أبيات أُخرى بأحمد أيضاً قد ذكرها كبار المحقّقين من المؤرّخين والمحدّثين ونسبوها إلى أبي طالب ولكنّها غير موجودة في ديوانه.(2)

ص:242


1- . لاحظ: ديوان أبي طالب عليه السلام؛ إيمان أبي طالب للمفيد: 31؛ مناقب ابن شهرآشوب: 1/58؛ الغدير: 7/332 و 364.
2- . مثل قوله: لَعمري لقد كلِفتُ وَجْداً بأحمد وَأحبَبْتُهُ حُب الحبيب المواصلِ زعمتْ قريشٌ أَن أحمد ساحرٌ كَذِبَتْ وَربّ الراقصاتِ إلى الحَرم راجع ديوان أبي طالب، وسيرة ابن هشام: 1/180؛ وشرح النهج لابن أبي الحديد: 14/79 وغيرها.

كما وأنّه قد سَمّاه غيرُ أبي طالب في أبياته بأحمد ممّا يدلّ على أنّه كان مشتهراً بهذا الاسم في ذلك الزمان، وتلك الأبيات كثيرة تفوق حدّ الحصر والإحصاء لكنّنا ننقل نماذج منها هنا:

قال حسّان بن ثابت في رثائه للنبي صلى الله عليه و آله و سلم:

مفجعةٌ قد شفّها فقدُ أحمد فظلَّت لآلاء الرسول تُعدّدُ

أطالت وقوفاً تذرف العينَ جُهدها على طَلل القبر الّذي فيه أحمدُ(1)

وقال في رثائه أيضاً:

صَلّى الإلهُ وَمنْ يحف بعرشِهِ والطَّيِبُونَ عَلى المبارك أحمدِ(2)

وقال في رثاء جعفر بن أبي طالب الطيّار:

فمن كان أو من قد يكون كأحمد نظام الحق أونكال لملحد(3)

وقال حَسّان وهو يذكر معجزة من معاجز النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:243


1- . سيرة ابن هشام: 2/666-667؛ البداية والنهاية: 5/301.
2- . الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/323.
3- . أُسد الغابة: 2/4؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: 2/149.

ففي كَفِّ أحمدَ قد فجّرت عُيونٌ مِنَ الماءِ يومَ الظمأ(1)

وقال كَعبُ بن مالك:

فهذا نَبِيُّ اللّه أحمدُ سَبّحت صِغارُ الحصى في كَفِّه بالتَرنّم(2)

وقال «ورقة بن نوفل» يومَ أخبرتهُ خديجةُ بنزول الوحي على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

فإنْ يَكُ حَقّاً يا خَديجةُ فاعلمي حَديثك إيّانا فأحمدُ مُرسَلُ (3)

وقالت عاتكةُ بنتُ عَبدالمطلب ترثي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

يا عينُ جُودي ما بقيتِ بعبرة سَحّاً على خير البرية أحمدِ(4)

وقال العباسُ في مناسبة تزويج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بخديجة:

أحمدُ سَيّدُ الوَرى خير ماشٍ وَ راكِب(5)

ص:244


1- . بحار الأنوار: 16/413.
2- . بحار الأنوار: 16/415.
3- . بحار الأنوار: 18/195؛ إمتاع الأسماع: 3/20.
4- . طبقات ابن سعد: 2/326؛ إمتاع الأسماع: 14/598.
5- . بحار الأنوار: 16/72.

فتْرَةُ الرِّضاع في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

لم يرتضع وليدُ قريش المبارك «محمَّد» من أُمّه سوى ثلاثة أيام، ثم حَظِيَت بفخر إرضاعه - بعد ذلك - امرأتانُ هما:

1. «ثويبة» مولاة «أبي لهب»، وقد أرضعته أربعة أشهر فقط، وكان النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم وزوجتُه الوفيّة: «خديجة بنت خويلد» يقدّران هذا العمل لها حتّى آخر لحظات حياتها.(1)

و «ثويبة» هذه كانت قد أرضَعَتْ قبلَ ذلك «حمزة» عمَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و «أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي» أيضاً فكانوا إخوة من الرضاعة.(2)

وقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد مَبعثه، مَن يشتريها من «أبي لهب» ليعتقها فأبى.

وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يكرمها كلّما دخلت عليه، وكان يبعث إليها بالصّلة إلى أن بلغه خبرُ وفاتها عند منصرفه من وقعة «خيبر» فسأل عن ابنها؟ فقيل: مات قبلها، فسأل عن قرابتها؟ فقيل: لم يبق منهم أحد.(3)

2. «حليمة السعدية» بنت أبي ذؤيب الّتي كانت من قبيلة سعد بن بكر بن هوازن، وكان أولادها عبارة عن: «عبداللّه»، «أنيسة»، «شيماء»، وقد قامت آخر أولادها وهي «الشيماء» بحضانة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً:

وقد كان من عادة العرب يومذاك هو أن يدفعوا أولادهم الرضعاء إلى المراضع اللائي كُنَّ يَعِشنَ في البوادي لينشأوا في تلك البيئات المعروفة بطيب

ص:245


1- . تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس: 1/222.
2- . الكامل في التاريخ: 1/459.
3- . تاريخ الخميس: 1/222، نقلاً عن سيرة مغلطاي وغيره.

هوائها، وقلّة رطوبتها، وعذوبة مائها ببنية قويّة، هذا مضافاً إلى صيانتهم عن خطر الوباء الّذي كان يهدد الأطفال في «مكّة»، ولأنّ ذلك كان له مدخلٌ عظيم، وتأثيرٌ بليغ في فصاحة المولود لسلامة لغة أهل القبائل الساكنة في البوادي آنذاك.

وكانت مراضعُ بني سعد من المشهورات بهذا الأمر بين العرب، فقد كانت نساء هذه القبيلة الّتي كانت تسكن حوالي «مكّة» ونواحي الحرم يأتين «مكّة» في كل عام في موسم خاص يلتمسنَ الرضَعاء ويذهبن بهم إلى بلادهنَّ حتى تتمّ الرضاعة.

وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد تجاوز شهره الرابع لمّا قدمت نساء من بني سعد «مكّة» يلتمسنَ الرضعاء في سنة جدب وقحط، ولهذا كنَّ بحاجة شديدة إلى مساعدة أشراف «مكّة» وأعيانها.

ويقول بعض المؤرّخين: إنّه لم تقبل أيّة واحدة من تلك المراضع أن تأخذ «محمَّداً» بسبب يتمه، وقد كان أغلبهن يُردْنَ أن يأخذنّ مَن يكون له أبٌ حيٌّ حتى يُغدق عَلَيْهنَّ بالمساعدات والصّلات، وحتّى «حليمة» هي الأُخرى أبتْ أخذَهُ، ولكنَّها أيضاً لم تحصل على طفل لِهزال جسمها، فاضطرّت إلى أن تأخذ حفيد «عبدالمطلب» وقالت لزوجها: واللّه لأذهبنَّ إلى ذلك اليتيم فلآخذنَّه، فقال لها زوجُها: لا عليك أن تفعلي، وعسى اللّه أن يجعل لنا فيه بركة.

ولقد أصاب الزوجان في ظنّهما هذا، فمنذ أن أبدت «حليمة» استعدادها لخدمة ذلك اليتيم شملت الألطاف الإلهية كلّ مجالات حياتها.(1) إنّ القسم الأوّل من هذه القصّة ليس سوى اسطورة، لأنّ مكانة البيت الهاشمي الرفيعة، وشخصية رجل عُرِفَ بِكمال الجود والإحسان، وبعون

ص:246


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/105-106؛ بحار الأنوار: 15/364.

المحتاجين والمحرومين كانت سبباً في أن لا تعرض المرضعات عن أخذ «محمَّد» فحسب، بل يتنازعن على أخذه، ولهذا لا يكون هذا القسمُ مِنَ التاريخ سوى أُسطورة تكذبها الحقائق.

وأمّا علّة عدم إعطائه صلى الله عليه و آله و سلم إلى غير «حليمة» من المرضعات فهي: أنّ وليد قريش لم يقبل أيّ ثدي من أثداء تِلكم المرضعات، ولم يزل كذلك حتّى قبلَ ثدي «حليمة السعدية»، فسرّ بذلك «عبدُالمطلب» وأهله سروراً عظيماً، بعد أن حزنهم امتناعُه عنهنَّ قبل ذلك.(1)

قالت «حليمة»: استقبلني عبدُالمطلب فقال: مَن أنت، فقلت: أنا امرأة من بني سعد، قال: ما اسمُك؟ قلتُ: حليمة، فتبسَّم «عبدالمطلب» وقال: بَخ بَخ سَعدٌ وحلْمٌ، خصلتان فيهما خيرُ الدهر، وعز الأبد.(2)

نَظرةُ الإسلام في تأثير الرضاع

وهنا ينبغي بالمناسبة أن نشير إلى نظرة الإسلام في تأثير الرضاع في شخصيّة الإنسان.

فقد سبق الإسلامُ العلمَ الحديثَ في الكشف عن آثار اللبن في تكوين الإنسان الخُلقي والنفْسيّ والعضوي سَلباً وإيجاباً.

ولهذا حثَّ الإسلام على استرضاع الأُم، كما حثّ على اختيار المرضعات الصالحات ونهى عن استرضاع اليهودية والمجوسية والنصرانية والمجنونة منعاً من انتقال طباعِهنَ إلى الطفل عن طريق اللبن.

ص:247


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 15/342-343.
2- . السيرة الحلبية: 1/147.

واستكمالاً لهذا البحث نورد جملة من الأحاديث الّتي تصرّح بهذه الحقيقة العلمية الهامّة:

1. قال اميرالمؤمنين علي عليه السلام:

«تَخَيّرُوا للرضاع كما تَتَخيَّرون لِلنِّكاح فإنّ الرِّضاعَ يُغيّرُ الطِباعَ».(1)

2. وعنه عليه السلام أيضاً:

«اُنظرُوا مَنْ تُرضعُ أولادكُمْ فَإنّ الوَلَد يَشُبُّ عَليهِ».(2)

3 - عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال:

«لا تَسْتَرضعُوا الحَمقاء فإنّ اللبن يُعدي، وإنّ الغُلامَ يَنزع إلى اللَبن...».(3)

4. وعنه عليه السلام أيضاً:

«استرضعْ لولَدك بِلَبنِ الحِسان وإيّاكَ وَ القِباحُ فإنَّ اللَبنَ قد يُعدي».(4)

5. وعن علي عليه السلام أنّه قال:

«ما مِنْ لَبَن يَرضَعُ به الصَبيُّ أعظمُ بَركَةً عَليْه مِنْ لَبنِ أُمَّهِ».(5)

ص:248


1- . قرب الأسناد: 93 ح 312.
2- . فروع الكافي: 6/3 ح 10، باب مَن يكره لبنه وهو لا يكره.
3- . وسائل الشيعة: ج 21، الباب 78 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 2 (آل البيت).
4- . التهذيب: 8/110 ح 25 (376).
5- . الكافي: 6/40 ح 1، باب الرضاع.

7 فَتْرةُ الطفُولة في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

إنّ صفحات التاريخ تشهد بأنّ حياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم من بداية طفولته وأوان صباه وإلى يوم بعثه بالرسالة كانت مشحونة بسلسلة من الحوادث العجيبة الّتي تعَدُّ بأجمعها من كراماته صلى الله عليه و آله و سلم وتدلّ على أنّ حياة النبيّ لم تكن حياة عادية.

وينقسم المؤلّفون في تفسير هذه الحوادث إلى طائفتين:

1. الماديُّون، وجماعة من المستشرقين: فإنّ العلماء المادّيين الذين يحصرون الوجود في نطاق المادّة، ويعتبرون جميع الظواهر ظواهر مادّية، وينحتون لكل واحدة منها علّة طبيعية، لا يهتمون بهذه الحوادث ولا يُعيرونها أيّة أهمية، لامتناع واستحالة وقوع أمثال هذه الظواهر حسب النظرة المادّية، ولهذا فكلّ ما يصادفونه في ثنايا التاريخ من هذا الباب يعتبرونه من ولائد الخيال، وممّا نسجته أوهامُ التابعين لذلك الدين، أو الطريقة.

وقد تبعهم في هذا الموقف جماعة من المستشرقين فرغم أنّهم يعتبرون أنفسهم - حسب الظاهر - في عداد الموحِّدين، والمؤمنين باللّه، وبما بعد الطبيعة من عوالم الغيب، إلّاأنّهم - لضعف إيمانهم وبسبب غرورهم العلمي، وغلبة النزعة المادية على أفكارهم وأذهانهم - اتبعوا - لدى تحليلهم لهذه الحوادث - المنهج الماديّ، فنحن نقرأ في كتاباتهم مراراً وتكراراً زعمهم بأنَ النبوة ماهي إلّانبوغٌ بشريٌّ، وأنّ النبيّ مجرّد نابغة اجتماعي استطاع تغيير مسار الحياة البشرية بأفكاره النيَّرة!!

ولا شكّ أنّ مثل هذا التصوّر ينبع من طريقة التفكير المادّي الّذي يعتبر

ص:249

جميع الأديان من ولائد الفكر البشري وإفرازات الذهن الإنساني، في حين أنّ علماء العقيدة أثبتوا في: مباحث «النبوَّة العامة» أنَّ النبوّة عطية إلهية، وموهبة ربّانية هي في الحقيقة منشأ جميع الإلهامات والارتباطات المعنوية، ومصدر لمناهج الأنبياء وبرامجهم، ليست أبداً وليدة نبوغهم الإنساني، ولا نسيجة فكرهم البشري، وليس لها مصدر إلّاالإلهام من الغيب، ولكن عندما ينظر المستشرقُ المسيحي إلى هذه القضايا من زاوية الفكر المادّي ويريد تفسير جميع هذه الظواهر بالأُسس العلمية الّتي كشفت عنها التجربةُ ينتقد مثل هذه الحوادث ذات الطابع الإعجازي، وربّما أنكرها من الأساس.

2. المؤمنون باللّه: الذين يعتقدون بأنّ العالم المادّي بجميع خصوصياته وخواصّه يخضع لتدبير عالم آخر، وأنّ ذلك العالم (أي عالم التجرّد وماوراء الطبيعة) هو المنظِم لهذه الطبيعة، وهو المدّبِر لهذا الكون المادّي.

وبعبارة أُخرى: إنّ عالم المادّة ليس عالماً مسيِّباً، مستقلّاً عن غيره، وإنّ جميع الأنظمة والقوانين الطبيعية والعلمية مسبَّبةٌ عن تأثيرات موجودات عُليا، وبخاصّة ناشئةٌ عن إرادة اللّه الخالقِ، الّذي أعطى للمادّة وجودها، وأوجد القوانين والعلاقات الصحيحة بين أجزائها، وبنى بقاءها على سلسلة من النواميس الطبيعية.

إنَ هذا الفريق من الناس مع احترامهم للقوانين العلمية، وإذعانهم الصادق بما قاله العلماء في صعيد العلاقات، والروابط القائمة بين القوانين ممّا أثبته العلم وأكّده، يعتقدون بأنّ مثل هذه القوانين الطبيعية ليست أُموراً لا تقبل التغيير، والتبدّل.

فهم يعتقدون بأنّ العالم الأعلى يمكنه - إذا أراد - أن يُغيّر تلك القوانين لغايات خاصّة، وليس في مقدوره ذلك فقط، بل فعلَ ذلك في جملة من الموارد لأهداف عُليا.

وبعبارة أُخرى: إنَّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل، بل

ص:250

إنَّ علّتها غير طبيعيّة، وافتقاد العلّة الطبيعية (وخاصّة العلة الطبيعية غير المعروفة) ليس دليلاً على افتقاد مطلق العلّة.

والخلاصة؛ إنّ قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها، وتغيّرها بإرادة بارئها وخالقها.

إنّهم يقولون: إنَّ جميع خوارق العادة، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة الّتي تتّصف بصفة الإعجاز، والخارجة عن إطار القوانين الطبيعية، تتحقّق من هذه الزاوية.

إنَّ هذا الفريق من الناس لا يسمَحُون لأنفسهم بأن يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة، والكرامات الّتي جاء ذكرها في القرآن الكريم، والأحاديث، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة، أو يشكّوا فيها بحجّة أنّها لا توافق الموازين الطبيعية، والقوانين العلمية.

وها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومع أخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أيُّ مجال للترديد، أو الاستبعاد:

1. لقد نقَلَ المؤرّخون عن «حليمة السعدية» قولها بأنّها لمّا تكفَّلت إرضاع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أرادت أن ترضعه، فلمّا دخلت الدار وسمع عبدالمطلب بمجيئها جاء من ساعته ودخل الدار، ووقف بين يدي حليمة، ففتحت حليمة جيبها وأخرجت ثديها الأيسر، وأخذت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فوضعته في حجرها، ووضعت ثديها في فمه، والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ترك ثديها الأيسر، واضطرب إلى ثديها الأيمن، فأخذت «حليمة» ثديها الأيمن من يد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ووضعت ثديها الأيسر في فمه، وذلك أنَّ ثديها الأيمن كان جهاماً (أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به) لم يكن فيه لبن، وخافت (حليمة) أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا مصَّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ - بعده - الأيسر.

ولكن النبيّ أصرَّ على أخذ الثدي الأيمن، فلمّا مصَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الأيمن امتلأ فانفتح

ص:251

حتّى ملأ شدقيه بأمر اللّه تعالى وببركته....(1)

2. وتقول «حليمة» أيضاً: إنّ البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد، فدخلتُ مكّة ونساء بني سعد قد سبقن إلى مراضعهنّ... فأخذتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فعرفنا (به) البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتّى أثرينا، وكثرت مواشينا، وأموالنا.(2)

إنَّ مَن المسلم أنَّ حكم المادّيين، أومن يحذو حذوهم ويتّبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.

فإنّ أتباع المنهج المادّي إذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية، نجدهم يبادرون إلى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال، ومن ولائد الأوهام، وأمّا إذا كانوا أكثر تأدّباً لقالوا: إنّ رسول الإسلام ليس بحاجة إلى أمثال هذه المعاجز.

ونحن نقول: لا نقاش في أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم غنيّ عن هذه المعاجز، إلّاأنّ عدم الحاجة شيء، والحكم بصحّة هذه الأُمور أوبطلانها شيء آخر.

وأمّا المؤمن باللّه الّذي يردُّ النظام الطبيعي، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وإرادته العليا، ويعتقد بأنّ كلّ الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من أصغر أجزائه (الذرة) إلى أكبر موجوداته (المجرّة) يجري تحت تدبيره، ونظارته، فإنّه بعد التحقّق من مصادر هذه الحوادث والتأكّد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضاً قاطعاً.

ولقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول «مريم» أُمّ عيسى، فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجَنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة

ص:252


1- . بحار الأنوار: 15/345-346 بتصرّف يسير.
2- . المناقب لابن شهرآشوب: 1/32؛ بحار الأنوار: 15/332-333.

المسيح عندما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول:

«... أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا» .(1)

إنّه وإن كان الفرق بين «مريم» و «حليمة» شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة، والمنزلة، إلّاأنّ منزلة «مريم» عليها السلام لو استوجبت مثل هذا اللطف الإلهي، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم، ومكانته عنداللّه تعالى أن تشمله العناية الإلهية.

كما أنّه قد جاء في القرآن الكريم حول مريم عليها السلام أُمور أُخرى مشابهة.

إنّ عصمة هذه المرأة الطاهرة، وتقاها وطهرها البالغ كانت بحيث أنّ «زكريا» كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً، فإذا سألها: مِن أينَ لكِ هذا؟ قالت: هو مِنْ عِنداللّه؟(2).

وَ على هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لأنفسنا بأن نشكّ في مثل هذه الكرامات، أو نستبعدها.

خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء

أمضى وليدُ «عبدالمطلب» في قبيلة «بني سعد» مدّة خمسة أعوام، بلغ فيها أشُدّه.

وخلالَ هذه المدّة أخذته «حليمة» إلى أُمّه مرّتين أو ثلاث، وقد سلّمته إلى أُمّه في آخر مرّة.

وكانت المرّة الأُولى من تلك المرّات عند فطامه، ولهذا السبب أتت به صلى الله عليه و آله و سلم

ص:253


1- . مريم: 24 و 25.
2- . «... وَ كَفَّلها زكريّا كُلَّما دَخلَ عَلَيْها زكَريّا المِحْرابَ وَجدَ عِنْدها رزْقاً قال يا مَريَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُو مِنْ عِنْداللّه» (آل عمران: 37).

«حليمة» إلى مكّة ولكنّها عادت به إلى الصحراء بإصرار منها، وكان السبب وراء هذا الإصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أنّ هذا الوليد قد أصبح مبعث خير ورخاء، وبركة في منطقتها، وقد دفع شيوعُ الوباء في «مكّة» إلى أن تقبل أُمُّه الكريمة بهذا الطلب.(1)

وأمّا المرّةُ الثانيةُ من تلك المرّات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى الحبشة إلى الحجاز، فوقع نظرهم على محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم في «بني سعد»، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الّذي سيأتي بعد عيسى المسيح عليه السلام، ولهذا عزموا على أخذه غيلة إلى بلادهم لما عرفوا أنّ له شأناً عظيماً، لينالوا شرف احتضانه ويذهبوا بفخره.(2)

ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأنّ علائم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ذُكِرَت في الإنجيل حسب تصريح القرآن الكريم، فلا يبعد أنّ علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم الّتي قرأوها ودرسوها في كتبهم.

يقول القرآن الكريم في هذا المجال:

«وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» .(3) ثمّ إنّ في هذا الصعيد آياتٌ أُخر صرَّحت بجلاء بأنّ علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح، ومن غير إبهام، وأنّ الأُمم السابقة كانت على علم بهذا الأمر.(4)

ص:254


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 401/15.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 108/1.
3- . الصف: 6.
4- . اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ» (الأعراف: 157).

8 العَوْدة إلى أحضان العائلة

اشارة

لقد خَلقَت يدُ القدرة الإلهية كلّ فرد من أفراد النوع الإنساني لأمر معيّن، فهناك من خلق لاكتساب العلم والمعرفة، وهناك من خُلقَ للاختراع والاكتشاف، وثالثٌ خلق للسعي والعمل، وبعض للتدبير والسياسة، وفريق للتدريس والتربية، وهكذا.

وإنّ المربِّين المخلصين الذين يهمّهم تقدم الأَفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نَصب أحد في عمل من الأعمال ولا يعهدون إليه مسؤولية من المسؤوليات إلّابعد اختبار سليقته ومواهبه، بغية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، إذ في غير هذه الحالة يتعرِّض المجتمع لضررين كبيرين: أحدهما: أن لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به، والثاني: أن يبقى العمل الّذي قام به ناقصاً، مبتوراً.

وقد قيل في المثل: لكلّ إنسان موهبة، والسعيد هو مَن اكتشف تلكم المواهب، وأصابها.

وقد ذكروا أنّ أُستاذاً كان ينصح تلميذاً له كسولاً، ويعدّد له مضارَّ الكسل والتواني، ويصف له حال من ترك الاشتغال بالعلم، وضيّع ربيع حياته في البطالة والغفلة.

وبينما الأُستاذ ينصح تلميذه - وهو يسمع مواعظ أُستاذه - رأى تلميذه يرسم بقطعة من الجص صورة على المنضدة، فأدرك من فوره أنّ هذا الصبيّ لم يُخلق

ص:255

للدرس وتحصيل العلم، بل خلقته يد القدرة للرسم، فطلب منه أن يصطحب أباه إلى المدرسة في اليوم القادم، ثم قال لوالد الصبيّ: إذا كان ولدك هذا كسولاً في التعلّم، والتحصيل فإنّه يمتلك ذوقاً رفيعاً في الرسم، ورغبة كبيرة في التصوير.

وقبل الوالد نصيحة المعلّم هذه ولم يمض زمانٌ طويل إلّاوبرع الصبي وغدا قمة في هذا الفن، بعد أن تابع هوايته بشغف وأكثر من ممارستها.

إنّ فترة الطفولة والصبا في حياة الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم، ويتعرّفوا عليها من خلال تصرّفاتهم، وأفكارهم وردودهم، لأنّ حركات الطفل وأقواله الجميلة والحلوة خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب وقابليات وصفات لوتوفرت لها ظروف التربية الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة، وأحسن وجه.

إنّ مطالعة فاحصة لحياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأقواله وأفعاله إلى وقت البعثة تُوقفنا على صورة كاملة لشخصيته صلى الله عليه و آله و سلم وتوضح لنا أهدافه العليا، على أنّ مطالعة صفحات الطفولة في حياته صلى الله عليه و آله و سلم فقط لا تكشف لنا عن مستقبله المشرق، بل أنّ دراسة الصورة الإجمالية لحياته وتاريخه إلى يوم مبعثه الشريف، وإعلانه عن نبوَّته وقيادته للمجتمع، تخبرنا عن ذلك المستقبل العظيم، وبالتالي عن هذه الحقيقة وهي أنّ هذه الشخصية خُلِقَت لأيّ عمل، وأن إدعاء الرسالة والقيادة له هل ينسجمُ مع سوابقه التاريخية أم لا؟ هل تُؤيّد تفاصيلُ حياتِه خلال أربعين سنة قبل الرسالة، وهل تؤيّد أفعالُه وأقوالُه، وبالتالي: سلوكه مع الناس ومعاشرته الطويلة مع الآخرين، رسالته أم لا؟

من هنا نعمدُ إلى عرض بعض الصفحات من حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أيّامها وسنواتها الأُولى.

ص:256

لقد حافظت مرضعةُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عليه خمس سنوات، وقامت في هذه المدّة برعاية شؤونه خير قيام، وبالغت في كفالته والعناية به، وخلال هذه المدّة تعلّم النبيّ لغة العرب على أحسن ما يكون، حتّى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يفتخر بذلك في ما بعد إذ كان يقول:

«أنا أعربكُمْ (أي أفصحكم)... واسترضعت في بني سعد».(1)

ثم إنّ «حليمة» جاءت به إلى «مكّة»، وبقي عند أُمّه الحنون ردحاً من الزمن، وفي كفالة جده العظيم: «عبدالمطلب» ردحاً آخر منه، وكان هو السلوة الوحيدة لأقاربه والبقية الباقية من أبيه: «عبداللّه».(2)

سَفْرةٌ إلى يثرب

منذ أن فقَدت كَنّة «عبدالمطلب» وعروس ابنه: «آمنة» زوجها الشاب الكريم:

«عبداللّه» باتت تترقب الفرص لتذهب إلى «يثرب» وتزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب، وتزور أقاربها في يثرب في نفس الوقت.

وذات مرّة فكَّرت بأنّ تلك الفرصة قد سنحت، وأنّ ولدها «محمَّداً» قد كبُر، ويمكنه أن يشاركها في حزنها، فتهيّأت هي وأُمّ أيمن للسفر، واتّجهت نحو يثرب برفقه «محمَّد»، ولبثت هناك شهراً.

ولقد انطوت (وبالأحرى حملت) هذه السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش «محمّد» لأنه صلى الله عليه و آله و سلم رأى فيها ولأوّل مرّة البيت الّذي توفّي فيه والده

ص:257


1- . السيرة الحلبية: 1/146.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/109.

العزيز، ودفن(1) وكانت والدته قد حدَّثته بأُمور عن والده إلى ذلك الحين.

وكانت لا تزال سحابةُ الحزن تخيّم على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة أُخرى، وغشيه موج آخر من الحزن لأنّه عند عودته إلى مكّة فقد أُمّه العزيزة في أثناء الطريق في منطقة تُدعى ب «الأبواء».(2)

إنَ هذه الحادثة قد عزَّزتْ مكانة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم في عشيرته أكثر فأكثر، وجعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم، فهو الزهرة الوحيدة من تلك الجنينة المباركة، كما أنّه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جدّه «عبدالمطلب» ولهذا كان يحبُّه أكثر من أبنائه، بل ويؤثره عليهم جميعاً.

ومن ذلك أنّه كان يُمدُّ في فناء الكعبة المعظمة بساطٌ لزعيم قريش «عبدالمطلب» فيجلس هو عليه ويتحلَّقُ حوله وجوهُ قريش وسادتها وأولادُه، فإذا وقَعت عيناه على بقية عبداللّه «محمَّد» أمر بأن يُفرَّجَ له حتّى يتقدّم نحوه ثم يُجلِسُه إلى جنبه على ذلك البساط المخصوص به.(3)

إنّ القرآن الكريم يُذكّر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بفترة يتمه ويقول: «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى» .(4) إن الحكمة وراء يُتم وليد قريش ليست واضحة لنا تمام الوضوح، ولكنّنا نعلم إجمالاً بأنّ سيل هذه الحوادث المؤلمة أحياناً، والمزعجة أحياناً أُخرى لم يك خالياً عن حكمة معقولة ومصلحة رشيدة، بيد أنّنا مع كلّ هذا يمكن لنا الحدس بأنّ

ص:258


1- . كان البيت الّذي يضمّ قبر «عبداللّه» عليه السّلام لا يزال موجوداً حتّى قُبيل توسعة الدائرة حول المسجد النبوي الطاهر، ولكنه أُزيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/109؛ السيرة الحلبية: 3/497.
3- . السيرة النبوية: 1/109.
4- . الضحى: 6.

اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشري ومعلّمه، وإمام الإنسانية وهاديها - وقبل أن يتسلّم مهامه، ويزاول مسؤولياته العظمى ويبدأ قيادته - حُلو الحياة ومرَّها، ويجرِّب سرّاء العيش وضرّاءه، حتّى تتهيَّأ لديه تلك الروحُ الكبرى الصبورة الصامدة، ويدّخر من تلك الحوادث الصعبة تجارب ودروساً، ويعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد والمصاعب، والمشاق والمتاعب الّتي كانت تنتظره في المستقبل.

و ربّما أراد اللّه تعالى أن لا تكون في عنق نبيِّه طاعة لأحد، ولهذا أنشأه حرّاً خليّاً من كلّ قيدٍ، منذ الأيام الأُولى من حياته، يصنع نفسَه بنفسِه ويقيّض لها موجبات الرشد، وأسباب الرقيّ ليتّضح أنّ نبوغَهُ ليس نبوغاً بشريّاً عادياً ومألوفاً، وأنّه لم يكن لوالديه أي دخل فيه وفي مصيره، وبالتالي فإنّ عظمته الباهرة نابعةٌ من مصدر الوحي، وليست من العوامل العادية والأسباب المأنوسة المتعارفة.

وَفاة عبْدالمُطَّلب

لقد جرت عادة الحياة أن تتعرّض للمرء باستمرار، وتستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة مُوجِّهة ضرباتها القوية لروحه، ونفسه.

أجل هذه هي طبيعة الحياة وسنّتها مع أفراد النوع الإنساني من دون استثناء.

ولم يكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمعزل عن هذه السنّة المعروفة وهذه القاعدة الحياتية العامّة.

فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لوفاة والديه بعد حتّى فاجأته مصيبة كبرى أُخرى.

إنّه لم يكن يمض من عمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أكثر من ثمان سنوات إلا وفقد جدّه العظيم «عبدالمطلب»، وقد اعتصَرت وفاة «عبدالمطلب» قلب رسول اللّه ألماً وحزناً، وكان لها وقعٌ شديدٌ على نفسه المباركة، حتّى أنّه بكى لفقده بكاء شديداً

ص:259

وظلّت دموعُه تجري من أجله إلى أن وري في لحده، ولم ينس ذكره أبداً!!.(1)

كفالة أبي طالب للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

سيكون لنا حديثٌ مفصَّل حول شخصيّة أبي طالب في فصل خاص(2)وسنثبت هناك إيمانه برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالوثائق والأدلّة القاطعة، ولكنَّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث المرتبطة بفترة كفالته للنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

لقد تكَفَّل أبوطالب - ولأَسباب خاصّة - رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وتقبّل تحمُّل هذه المسؤولية بفخر واعتزاز، ولأنّ أباطالب - مضافاً إلى العلل المشار إليها - كان أخاً لوالد النبيّ من أُمٍّ واحدة أيضاً،(3) كما أنّه كانَ معروفاً بجوده وكرمه، ومن هنا أوكَل «عبدالمطلب» أمر كفالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حفيده، إليه، وسوف نقصّ عليك تدريجاً سطوراً ذهبية من تاريخه، تمثّل شاهد صدق على خدماته القيّمة، وأياديه الجليلة. يقولون: إنّ النبيّ شارك وهو في العاشرة من عمره جنباً إلى جنب مع عمّه في حرب من الحروب،(4) وحيث إنّ هذه الحرب وقعت في الأشهر الحُرم لذلك سُمّيت بحرب «الفجار» وقد وردت تفاصيل حروب «الفجار» في التاريخ بشكل مسهَب.

ص:260


1- . كتب اليعقوبي في تاريخه: 2/10 و 11 حول سيرة عبدالمطلب، وأنّه كان موحِّداً لاوثنياً، وذكر أنّ الإسلام أمضى الكثير من سننه.
2- . في حوادث السنة العاشرة.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/71 و 116، وأُمّهما هي فاطمة المخزومية.
4- . لقد كتب اليعقوبي في تاريخه: 2/15، طبعة النجف، أنّ أبا طالب لم يشترك في هذه الحرب قط، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضاً، لأنه كان ظلماً وعدواناً وقطيعة رحم واستحلالاً للشهر الحرام.

سَفرةٌ إلى الشام

لقد جرت العادة أن يسافر تجّار قريش إلى الشام كلّ سنة مرّة واحدة.

فعزم «أبوطالب» على أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرّة، وعالج مشكلة ابن أخيه «محمَّد» الّذي ما كان يقدر على مفارقته بأنّه قرّر أن يتركه في مكّة في حراسة جماعة من الرجال، ولكنّه ساعة الرحيل واجه من ابن أخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور، فقد شاهد «محمَّداً» وقد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم «أبي طالب»، فأحدثت ملامح «محمَّد» الكئيبة طوفاناً من المشاعر العاطفية في قلب «أبي طالب» بحيث اضطرته إلى أن يرضى بمشقّة اصطحاب «محمَّد» في تلك الرحلة.(1)

لقد كانت سفرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هذه الّتي قام بها بصحبة عمّه وكافله «أبي طالب» في الثانية عشرة من عمره، من أجمل وأطرف أسفاره صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم عَبر فيها على: «مَديَن» و «وادي القرى» و «ديار ثمود» واطّلع على مشاهد الشام الطبيعية الجميلة.

ولم تكن قافلة قريش التجارية قد وَصلت إلى مقصدها حتّى حدثت في

ص:261


1- . ويذكر «أبوطالب» في أبيات له قصّة هذه السفرة وما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض الأبيات: إنَّ ابنَ آمِنة النبيّ محمَّداً عِندي يفوقُ منازل الأولاد لما تعَلّق بالزمام رحمتُه والعيسُ قد قلَّصْنَ بالأزواد فَارفضَّ من عينيّ دمع ذارفٌ مثل الجمان مُفرّق الأفراد راعيتُ فيه قرابة موصولة وحفَظت فيه وصية الأجداد وأمرتُه بالسير بين عمومة بيض الوجوه مصالت أنجاد حتّى إذا ما القومُ بُصرى عاينوا لاقوا على شرك من المرصاد حبراً فاخبرهم حديثاً صادقاً عنه وردّ معاشر الحُسّاد (تاريخ ابن عساكر: 3/12-13؛ وديوان أبي طالب: 33-35).

منطقة تُدعى «بصرى» قضية غيرت برنامج «أبي طالب» وتسببت في عدوله عن المضيّ به في تلك الرحلة والقفول إلى مكّة.

وإليك فيما يلي مجمل هذه القضية:

كان يسكن في «بصرى» من نواحي الشام راهبٌ مسيحي يدعى «بحيرا» يتعبّد في صومعته، يحترمه النصارى في تلك الديار.

وكانت القوافل التجارية إذا مرّت على صومعته توقّفت عندها بعض الوقت وتبرّكت بالحضور عنده.

وقد اتّفق أن التقى هذا الراهبُ قافلة قريش الّتي كان فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلفت نظره شخصيةُ «محمَّد»، وراح يحدق في ملامحه، وكانت نظراته هذه تحمل سراً عميقاً ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد وبعد دقائق من النظرات الفاحصة، والتحديق في وجه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خرج عن صمته وانبرى سائلاً: أُنشدكم باللّه أيّكم وليّه؟

فأشار جماعة منهم إلى «أبي طالب» وقالوا: هذا وليّه.

فقال «أبوطالب»: إنّه ابن أخي، سلني عمّا بدا لك.

فقال «بحيرا»: إنّه كائن لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا، هذا سيّدُ العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه رحمة للعالمين. إحذرْ عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليقصدنَّ قتلَه.(1) هذا وقد اتّفق أكثر المؤرّخين على أنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يتعدَّ تلك المنطقة، وليس من الواضح أنّ عمّه «أبا طالب» بعثه إلى مكّة مع أحد، (ويُستَبعد أن يكون عمُّه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من الراهب بحيرا)، أم أنّه

ص:262


1- . روى الطبري في تاريخه: 2/32 و 33؛ وابن هشام في سيرته: 1/116-119، هذه القصّة بتفصيل أكبر وقد اختصرناها هنا تمشياً مع حجم هذا الكتاب.

اصطحبه بنفسه إلى مكّة، وانثنى عن مواصلة سفره إلى الشام.(1)

وربّما قيل إنّه تابع - بحذر شديد - سفرَهُ إلى الشام مع ابن أخيه «محمَّد».

أكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن

لقد آلينا على أنفسنا في هذا الكتاب أن نشير إلى أخطاء المستشرقين بل وربّما أكاذيبهم، واتّهاماتهم الباطلة، وشُبههُم الواهية ليتّضح للقرّاء الكرام الى أي مدى يحاول هذا الفريق إرباك أَذهان البُسطاء من الناس، وبلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!!

إنّ قضية اللقاء الّذي تمّ - في بصرى - بين النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والراهب «بحيرا» لم تكن سوى قضية بسيطة، وحادثة عابرة وقصيرة، إلّاأنّها وقعت في ما بعد ذريعة بأيدي هذه الزمرة (المستشرقون) فراحوا يصرّون أشدّ إصرار على أنّ ما أظهره رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من تعاليم رفيعة سامية بعد 28 عاماً، واستطاع أن يُحيي بها تلك الأُمة الميّتة قد تلقّاها من الراهب «بحيرا» في هذه السفرة. ويقولون: إنّ «محمَّداً» بما تمتع به من قوّة ذاكرة، وصفاء نفس ودقّة فكر، وعظمة روح وهبته إيّاها يد القدر، أخذ من الراهب «بحيرا» في لقائه به، قصص الأنبياء السالفين والأقوام البائدة مثل عاد وثمود، وكثيراً من تعاليمه الحيوية.

ولا ريب في أنّ هذا الكلام ليس سوى تصوّر خيالي لا يتلاءم ولا ينسجم مع حياته صلى الله عليه و آله و سلم بل وتكذّبه الموازين العقلية، واليك بعض الشواهد على هذا:

1. لقد كان «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم بإجماع المؤرّخين أُميّاً، لم يتعلّم القراءة والكتابة، وكان عند سفره إلى الشام، ولقائه ب «بحيرا» لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد، فهل يصدق العقل - والحال هذه - أن يستطيع صبيٌ لم يدرس ولم يتعلّم القراءة والكتابة

ص:263


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/118 و 119.

ولم يتجاوز ربيعه الثاني عشر أن يستوعب تلك الحقائق من «التوراة» و «الإنجيل»، ثم يعرضها - في سن الأربعين - على الناس بعنوان الوحي الإلهيّ والشريعة السماوية؟!

إنّ مثل هذا الأمر خارج عن الموازين العادية، بل ربّما يكون من الأُمور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم الإستعداد البشري.

2. إنّ مدّة هذا اللقاء كان أقل بكثير من أن يستطيع محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم في مثل تلك الفترة الزمنية القصيرة أن يستوعب «التوراة» و «الانجيل»، لأنّ هذه الرحلة كانت رحلة تجارية ولم يستغرق الذهاب وإلاياب والإقامة أكثر من أربعة أشهر، لأنّ قريشاً كانت تقوم في كل سنة برحلتين، في الصيف إلى «الشام»، وفي الشتاء إلى «اليمن»، ومع هذا لا يُظنّ أن تكون الرحلة برّمتها قد استغرقت أكثر من أربعة أشهر، ولا يستطيع أكبر علماء العالم وأذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه المدّة القصيرة جدّاً محتويات ذينك الكتابين، فضلاً عن صبيّ لم يدرس، ولم يتعلّم القراءة والكتابة من أحد.

هذا مضافاً إلى أنّه لم يكن صلى الله عليه و آله و سلم مصاحباً لذلك الراهب كلّ تلك الأشهر الأربعة بل أنّ اللقاء الّذي وقع إتفاقاً في أحد منازل الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا أكثر.

3. إنّ النَص التاريخي يشهد بأنّ «أباطالب» كان ينوي اصطحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى الشام، ولم يكن مقصده الأصلي «بُصرى» بل إنّ «بُصرى» كان منزلاً في أثناء الطريق تستريح عنده القوافل التجارية أحياناً، ولفترة قصيرة جدّاً.

فكيف يمكن في مثل هذه الصورة أن يمكث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك المنطقة، ويشتغل بتحصيل علوم «التوراة» و «الإنجيل» ومعارفهما؟ سواء قلنا بأنّ

ص:264

«أباطالب» أخذه معه إلى الشام، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكّة أو أعاده بصحبة أحدٍ إلى مكّة؟!

وعلى كلّ حال فإنّ مقصد القافلة ومقصد «أبي طالب» لم يكن «بُصرى» ليقال: إنّ القافلة اشتغلت فيها بتجارتها، بينما اغتنم «محمَّد» الفرصة واشتغل بتحصيل معارف العهدين.

4. إذا كان محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم قد تلقّى أُموراً ومعارف من الراهب المذكور إذن لاشتهر ذلك بين قريش حتماً، ولتناقل الجميع خبر ذلك بعد العودة إلى مكّة.

هذا مضافاً إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نفسه ما كان يستطيع أن يدّعي أمام قومه في ما بعد بأنّه أُمّي لم يدرس كتاباً، ولا تلمذ على أحد، في حين أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم افتتح رسالته بهذا العنوان، ولم يقل أحدٌ، يا محمَّد كيف تدّعي بأنّك لم تقرأ ولم تدرس عند أحد وقد درست عند راهب «بصرى» وتلقّيت منه هذه الحقائق الناصعة وأنت في الثانية عشرة من عمرك؟

لقد وَجَّه مشركو مكّة جميع أنواع الإتّهام إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وبالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرّعوا بها لتفنيد دعوته، حتّى أنّهم عندما شاهدوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ذات مرّةْ عند «المروة» يجالس غلاماً نصرانياً استغلّوا تلك الفرصة وقالوا: لقد أخذ «محمّد» كلامه من هذا الغلام، ويروي القرآن الكريم مزعمتهم هذه بقوله:

«وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» .(1)

ولكن القرآن الكريم لم يتعرّض لذكر هذه الفرية قط، كما أنّ مشركي قريش

ص:265


1- . النحل: 103.

المجادلين المعاندين لم يتذرّعوا بها أبداً، وهذا هو بعينه دليلٌ قاطعٌ وقويٌ على أنّ هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا هذا، ومن نسج خيالهم!!

5 - إنّ قصص الأنبياء والرسل الّتي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض وتتنافى مع ما جاء في التوراة والإنجيل.

فقد ذُكِرَت قصصُ الأنبياء وأحوالهم في هذين الكتابين بصورة مشينة جدّاً، وطُرحت بشكل لا يتّفق مع المعايير العلمية والعقلية مطلقاً، وأنّ مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب وبين القرآن الكريم من جانب آخر تثبت بأنّ قضايا القرآن الكريم ومعارفه لم تتخذ من ذينك الكتابين بحال، ولو أنّ النبيَّ محمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم قد اكتسب معارفه ومعلوماته حول الأنبياء والرسل من العهدين لجاء كلامُه مزيجاً بالخرافات والأَوهام.(1) 6 - إذا كان راهب «بُصرى» يمتلك كلّ هذه الكمّية من المعلومات الدينية والعلميّة الّتي عرضها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلماذا لم يحض هو بأي شيء من الشهرة، ولماذا ترى لم يُربِّ غير «محمَّد» في حين أنّ معبَده كان مزار الناس ومقصدَ القوافل؟!

7 - يعتبرُ الكتاب المسيحيّون «محمّداً» صلى الله عليه و آله و سلم رجلاً أميناً صادقاً، والآيات القرآنية تصرّح بأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن على علم مسبق أصلاً بقصص الأَنبياء والأُمم السابقين، وأنّ معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلّاعن طريق الوحي.

فقد جاء في سورة «القصص» هكذا: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى

ص:266


1- . تتجلى هذه الحقيقة أكثر فأكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن الكريم، وبين ما جاء في نصوص العهدين (التوراة والأنجيل) وقد تصدّى بعض الكتاب الإسلاميّين لمثل هذه المقارنة، وتعرضنا لها أيضاً في بعض دراساتنا.

مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ» .(1)

وجاء في سورة «هود» بعد نقل قصة نوح: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» .(2)

إنّ هذه الآيات توضّح أن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن على علم أبداً بهذه الحوادث، والوقائع.

وهكذا جاء في سورة «آل عمران»: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» .(3)

إنّ هذه الآية وغيرها من الآيات العديدة تصرّح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق الوحي فقط، وهو لم يكن على علم بها مطلقاً.

نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة

إنَّ هذا الكتاب السَماويّ تورَّط في تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء والمرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقاً، وها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتّضح لنا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لو كان قد أخذَ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلماذا لا يحتوي هذا الكتاب العظيم على تلك الأضاليل الّتي انطوت عليها «التوراة» و «الإنجيل».

وإليك بعض ما جاء حول الأَنبياء والمرسلين في «التوراة» و «الإنجيل» ونقارن ذلك بما جاء في القرآن الكريم ليتّضح مدى الفرق بين العهدين، والقرآن..

***

ص:267


1- . القصص: 44.
2- . هود: 49.
3- . آل عمران: 44.

1. داود عليه السلام:

جاء في التوراة: «وكان في وقت المساء أنّ داود قام من سريره وتمشّى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح المرأة تستحمّ، وكانت المرأة جميلة المنظر جدّاً، فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أُوريا الحثي، فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها، وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إنّي حُبلى،... وفي الصباح كتب داود مكتوباً إلى يوآب... وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أُوريّا في وجه الحرب الشديدة(1)، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت... فلما سمعت امرأة أُوريّا أنّه قد مات أُوريّا رجلُها ندبت بعلها، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له إمرأة، وولدت له إبناً، وأمّا الأمرُ الّذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب»!!.(2)

هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود، وترميه بالزنا، وإكراه امرأة محصنة على خيانة زوجها!!

بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داود عليه السلام بأفضل الأوصاف إذ يقول سبحانه:

«وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالاَ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ ... وَ قالَ يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» .(3)

ص:268


1- . أي في مقدّمة الجيش المحارب.
2- . العهد القديم (التوراة): صموئيل، الثاني، الإصحاح الحادي عشر 2 إلى 27.
3- . النمل: 15-16.

2. النبيّ سليمان عليه السلام:

تقول «التوراة» عن النبيّ العظيم سليمان عليه السلام:

1 - «وداود الملكُ ولد سليمان من الّتي لأُوريّا».(1)

أي أنّ سليمان النبيّ الكريم - والعياذ باللّه - هو ابن زنا!!

2 - وَ أَحَبَّ المَلِكُ سُلَيمان نساء غريبة... مِنَ الأُمم الذين قالَ عَنْهُمْ الربُ لبنيّ اسرائيل: لا تدخلونَ إليهم، وهُمْ لا يَدُخلونَ إليكم لأَنَّهُمْ يُميلونَ قلوبَكم وراء آلهتهم، فالتصق سلَيمانُ بهؤلاء بالمحبَّة، وكانت له سبع مئة من النساء السيدات، وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبَهُ وكان في زمان شيخوخة سليمان أنّ نساءه أملن قلبه وراء آلهة أُخرى، ولم يكن قلبُه كاملاً مع الرب إلهِهِ كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عَشتُورت إلاهة الصيدونيّين، وملكوم رجس العمونيين، وعمل سليمان الشرَّ في عيني الرب، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه،... فغضب الربُ على سليمان لأنّ قلبه مال عن الرب إله إسرائيل...»!!!.(2)

إنّ سليمان - حسب هذه التعابير التوراتية - يعشق النساء الأجنبيات، ويتقرّب إليهن بصنع أصنام لَهُنَّ. ويعبدها معهن، ويرتكب الشرور الّتي أغضبت الرب!!

بينما يقول القرآن الكريم عن سليمان عليه السلام «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً» .(3)

ويقول: «وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ» .(4)

ص:269


1- . العهد الجديد (إنجيل مَتَّى): الاصحاح الأول 6.
2- . التوراة: الملوك الأوّل، الإصحاح: 11، العبارات 1:11.
3- . النمل: 15.
4- . الأنبياء: 81.

إنّه نبيّ عظيم اختاره اللّه تعالى لوحيه، وأصطفاه لأَداء رسالاته.

3. يعقوب عليه السلام:

إنَّ «التوراة» تصف النبيّ العظيم يعقوب عليه السلام بأنّه رجل كذّاب مخادع، أخذ النبوّة من أبيه بالمكر والخداع، «وحدث لمّا شاخَ إسحاقُ وكَلّت عيناهُ عن النظر أنّه دعا عيسو ابنه الأكبر، وطلب منه أن يصطاد له صيداً، ويصنع له طعاماً جيّداً حتّى يباركه، ويعطيه النبوّة، ولكن يعقوب (إبن إسحاق من رفقة زوجته الأُخرى) بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه وتظاهر بأنّه عيسو، لابساً ثياب عيسو، وقطعاً من جلود جَدْيي المعزى على عنقه، لأنّ عيسو كان مشعراً وكان يعقوب أملس الجسد، فبارك إسحاق ابنه يعقوب ومنحه النبوّة، وبعد ذلك قدم عيسو من الصيد، فعرف إسحاقُ بأنّه خُدِع، وأنّ يعقوب أخذ منه النبوّة بالمكر، فارتعد إسحاقٌ ارتعاداً عظيماً جدّاً وقال لعيسو متأسّفاً: قد جاء أخوك بمكر، وأخذ بركتك»!!.(1)

هذا هو حال يعقوب في لسان «التوراة» المحرّفة!!

وأمّا القرآن الكريم فإنّه يقول عن هذا النبيّ الطاهر:

«وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» .(2)

ويقول تعالى أيضاً:

«وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ * إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ * وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» .(3)

ص:270


1- . لاحظ: العهد القديم: سفر التكوين: الإصحاح السابع والعشرون: 1 إلى 46، وقد ذكرنا هذه القصّة من التوراة بتلخيص.
2- . الأنعام: 84.
3- . سورة ص: 45-47.

4. إبْراهيم عليه السلام:

تقول «التوراة» عن إبراهيم عليه السلام إنّه لمّا أراد أن يدخلَ مصر قال لِزوجته سارة:

إنّي قد علمتُ أنّك امرأة حسَنة المنظر، فيكون إذا رآك المصريون أنّهم يقولون:

هذه امرأَته، فيقتلونني، ويَسْتَبْقونكِ، قولي إنّكِ أُختي، ليكونَ لي خيرٌ بسببكِ وتحيا نفسي من أجلِكِ.

وكذلك فعَلتْ سارة و أُخِذت إلى بيت فرعون، فصنع إلى إبرام خيراً بسببها، وصار له غنم، وبقر، وحمير، وعبيد، وإماء، وأُتن، وجمال، ولمّا عرف فرعون - في ما بعد - أنّ سارة زوجة إبراهيم، وليس أُخته عاتبه قائلاً: لماذا لم تخبرني إنّها امرأتك، لماذا قلت: هي أُختي حتّى أخذتها لي لتكونَ زوجتي والآن هو ذا إمرأتك، خذْها واذهب».(1)

إنّ إبراهيم الخليل عليه السلام في وصف التوراة رجلٌ كذّابٌ، يكذب ويحتال.

أمّا القرآن الكريم فيصف هذا النبيّ الجليل بأعظم الأوصاف، ويعتبره أعظم الأنبياء إذ يقول عنه إنّه:

1. حنيف مُوحِّدٌ للّه: «وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً» .(2)

2. إمامُ الناس: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً» .(3)

3. مُسْلِمٌ: «وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» .(4)

4. حَليمٌ: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ» .(5)

ص:271


1- . لاحظ: العهد القديم: سفر التكوين: الإصحاح الثاني عشر 1-20. بتلخيص واختصار.
2- . آل عمران: 67.
3- . البقرة: 124.
4- . آل عمران: 67.
5- . التوبة: 114.

5. أُمّة كامِلَة بمفرده: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً» .(1)

6. أواهٌ يَخشى اللّه: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ» .(2)

7. مصطفى: «لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» .(3)

8. ذو قلبٍ سَليم: «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .(4)

5. المسيح عليه السلام:

إنّ عيسى: يحتقر أُمّه، ويزدري بها، - حسب رواية الإنجيل - «فجاءت حينئذٍ إخوته وأُمه ووقفوا خارجاً وأرسلوا يدعونه، وكان الجمع جالساً حوله، فقالوا له:

هو ذا أُمُّك وإخوتك خارجاً يطلبونك، فأجابَهُم قائلاً: من أُميّ وإخوتي؟ ثم نظرَ حوله إلى الجالِسين وقال: ها أُمّي وإخوتي، لأَنَّ مَنْ يصنع مشيئة اللّه هو أخي وأُختي وأُمّي»!!(5)

إنّه يقول هذا الكلام عن أُمّه الّتي وصفها القرآن الكريم بأنّ اللّه تعالى اصطفاها على نساء العالمين.(6)

إنه يفَضِّل تلاميذه الذين لم يؤمنوا به في قلوبهم ذرة من خردل، والذين خذلوه ليلة الهجوم عليه من جانب اليهود(7) - كما يقول الإنجيل - على أُمّه الصدّيقة.

ص:272


1- . النحل: 120.
2- . التوبة: 114.
3- . ص: 47.
4- . الصافات: 84.
5- . إنجيل مرقس: الإصحاح الثالث: 31-35.
6- . آل عمران: 42.
7- . لاحظ: انجيل متّى: الإصحاح السابع والعشرون 1-6. انظر كيف وافق يهوذا الاسخريوطي وهو أحد الحواريين مع المتآمرين ضدّ المسيح، وأيضاً راجع نفس السفر: الإصحاح السادس والعشرين: وراجع إنجيل متّى: الإصحاح العاشر أيضاً.

كما أنّ الإنجيل يقول: إنّ المسيح حوّل الماء إلى الخمر في عرس(1) بل يقول إنّه عليه السلام: شرب الخمر، والحال أنّ الإنجيل يصرّح بحرمة الخمر في مواضع عديدة.(2)

هذا هو «عيسى» النبيّ الطاهر وحواريوه حسب رواية الإنجيل!!.(3)

أمّا القرآن الكريم فيقول عنه غير ما يقوله: «الإنجيل» وإليك بعض ما جاء في الكتاب العزيز حول «المسيح» عليه السلام.

قال اللّه تعالى: «وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» .(4)

وقال تعالى أيضاً: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ» .(5)

ويكفي في عظمة المسيح عليه السلام وعلوّ شأنه أنّه عليه السلام كلَّم الناس في المهد صبيّاً وقال: «إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا * وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» .(6)

هذه هي مواقف القرآن الكريم من الأنبياء الكرام، والرسل العظام، وتلك هي مواقف «التوراة» و «الإنجيل» المشينة، المسيئة إلى شخصيّة سفراء اللّه مبلّغي رسالاته، فكيف يُعقل أن يكون القرآن الكريم مقتبساً من تلك الكتب وبينهما بُعد

ص:273


1- . لاحظ: إنجيل يوحنا: الإصحاح الثاني: 1-11.
2- . لاحظ: إنجيل لوقا: الإصحاح الأوّل 15 وغيره.
3- . على أنّ خرافات التوراة والإنجيل لا تنحصر في ما ذكرناه هنا، وللتوسّع راجع: أنيس الأعلام تأليف فخر الإسلام، والهدى إلى دين المصطفى للعلّامة البلاغي.
4- . البقرة: 87.
5- . النساء: 171.
6- . مريم: 30-34.

المشرقين؟!

ثم لو أنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان قد اطّلع على هذه القضايا والقصص قبل إخباره بنبوّته فلماذا لم يرشح منها شيء في أحاديثه قبل الرسالة وقد عاش بين قومه طويلاً؟!

قال اللّه سبحانه في معرض الردّ والجواب على اقتراح المشركين على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأن يأتي لهم بقرآن غير الّذي جاء به:

«قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» .(1) فالآية تؤكّد على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان لابثاً في قومه، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن، أو آياً من آياته، فكلّ ما أخبر به هو ممّا أوحى به اللّه تعالى إليه بعد أن بعثه بالرسالة.(2)

ص:274


1- . يونس: 16.
2- . للتوسّع راجع مفاهيم القرآن: 3/321-323.

9 فَترة الشَباب في حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

يجب أن يكون قادة المجتمع أقوياء شجعان، لايرهبون أحداً، ولا يخافون شيئاً، يمتلكون قوّة روحية كبرى، ويتمتّعون بصبر عظيم، وإرادة قوّية، صلبة.

فكيف يستطيع الضعفاء والجبناء والمتردّدون، وضعّاف النفوس قيادة المجتمع، والخروج به من المآزق والمشاكل، وكيف يستطيعون أن يقاوموا أعداءهم ويحفظوا كيانهم وشخصيّتهم من عدوان هذا أو ذاك؟!

إنّ لعظمة القائد الروحية، ولقواه البدنية والنفسية تأثيراً عظيماً وعجيباً في أتباعه وأنصاره، فعند ما اختار الإمام أميرُ المؤمنين عليه السلام أحدَ أصحابه المخلصين لولاية «مصر» كتب إلى أهل «مصر» المظلومين الذين ذاقوا الأَمرّين على أيدي ولاتهم السابقين كتاباً ذكر فيه شجاعة هذا الوالي الجديد، وقدرته النفسية الفائقة، وإليك فيما يلي بعض الفقرات من ذلك الكتاب الّذي يعكس الشروط والمواصفات الواقعية في القائد:

«أمّا بعدُ فقَد بَعثتُ إليكم عَبداً مِن عباد اللّه لا ينامُ أيّام الخوف، ولا ينكُل عن الأعداء ساعات الروع، أشدّ على الفُجار من حريق النّار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابقَ الحق، فإنه سَيْفٌ مِن سُيوف اللّه، لا كليلُ الظَبَّة، ولا نابِي الضريبة».(1)

ص:275


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 38.

رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة

لقد كانت آثار الشجاعة، والقوّة باديةً في جبين عزيز قريش منذ طفولته وصباه، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة، وقبيلة هوازن من جهة أُخرى، وتدعى «حرب الفجار»، وقد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النَّبل.

فها هو «ابن هشام» ينقل عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «كُنْتُ أُنبّلُ عَلى أعْمامِيْ».(1)

إنّ مشاركته صلى الله عليه و آله و سلم في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعته صلى الله عليه و آله و سلم وقدرته الروحية الكبرى، وتساعدنا على أن ندرك مغزى ما قاله أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في حقّ النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم: «كُنّا إذا أحمر الْبأَسُ إتّقيْنا برَسُول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنّا أقرَبَ إلى العَدوِّ مِنْهُ».(2)

وسوفَ نشير - وبعون اللّه عند ذكر جهاد المسلمين للكفّار والمشركين - إلى نظام العسكرية الإسلامية وكيفية جهاد المسلمين وقتالهم لأعدائهم الّتي تمَّت بأجمعها بتوجيه من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وهو في نفسه من الأبحاث الشيّقة في تاريخ الإسلام.

حُروبُ الفِجار

إنَّ الحديث بتفصيل عن هذه الوقائع وعن تكتيكات هذه الحوادث التاريخيّة خارج عن إطار هذه الدراسة، بيد أنّنا - مع ذلك - نعمد إلى بيان أسباب

ص:276


1- . السيرة النبوية: 1/120، وقد قال ابن الأثير في النهاية: 5/10، مادة «نبل» بعد نقل هذا الحديث وضبط الكلمة «انبل» مشدّدة «اُنبِّل»: «إذا ناولته النبل ليرمي».
2- . نهج البلاغة: فصل من غريب كلامه المحتاج إلى التفسير، الرقم 9.

هذه الحروب الّتي شارك في إحداها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بناء على رواية بعض المؤرّخين وحوادثها على نحو الإجمال بغية إطلاع القارئ الكريم.

كانت العرب تقضي عامها كلّه بالقتال والإغارة، وقد تسبب هذا الوضع في اختلال حياتهم، واضطراب أُمورهم، ولأجل هذا كانوا يحرّمون القتال ويتوقّفون عنه في أربعة أشهر من كلّ عام (هي شهر رجب، ذوالقعدة، ذوالحجة، محرّم) ليتسنّى لهم - في هذه المدّة - أن يقيموا أسواقهم، ويستغلّوها بالكسب والتجارة والبيع والشراء.(1)

ولهذا كانت أسواق «عكاظ» و «مجنَّة» و «ذوالمجاز» تشهد طوال هذه الأشهر الحرام اجتماعات كبرى وتجمعات حافلة وحاشدة، كان يلتقي فيها العدوّ والصديق جنباً إلى جنب، يتبايعون، ويتفاخرون.

فقد كان شعراء العرب المشهورون يلقون قصائدهم في هذه الاجتماعات الكبرى، كما يلقي كبارُ خطباء العرب وفصحاؤهم خطباً قوية، وأحاديث في غاية الفصاحة والبلاغة، وكان اليهودُ والنصارى والوثنيون يعرضون معتقداتهم في هذه المناسبات من دون خوف أو وجلٍ.

ولكنَ هذه الحرمة قد هُتكت أربعَ مرات في تاريخ العرب، وتقاتلت القبائلُ العربية فيما بينها في هذه الأشهر الحرم، ولهذا سُمِّيت تلك الحروب بحروب «الفجار»، وفي مايلي نشير إليها على نحو الإجمال:

الفِجارُ الأُولى:

ووقعت الحربُ فيها بينَ قبيلتي «كنانة» و «هوازن» وجاء في سبب نشوب

ص:277


1- . يُستفاد من قوله تعالى في الآية 36 من سورة التوبة: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان ذا جذور دينية، وكانت العرب الجاهلية تحترم هذه الأشهر اتّباعاً لسُنّة «إبراهيم الخليل» عليه السَّلام.

هذه الحرب أنّ رجلاً يُدعى «بدر بن معشر» كان قد أعدَّ لنفسه مكاناً في سوق «عكاظ» يحضر فيه، ويذكر للناس مفاخره، فوقف ذات مرّة شاهراً سيفه يقول: أنا واللّه أعزُّ العرب فمن زعم أنّه أعزّ منّي فليضربها بالسيف.

فقام رجلٌ من قبيلة أُخرى فضرب بالسيف ساقه فقطعها، فاختصم الناس وتنازعت القبيلتان، ولكنّهما اصطلحتا من دون أن يُقتل أحدٌ.(1)

الفِجار الثانية:

وكان سببها أنّ فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من «بني عامر» وهي جميلة، عليها برقع، فقالوا لها: إسْفري لننظر إلى وجهِك، فلم تفعلْ، فقام غلامٌ منهم، فجمع ذيل ثوبها إلى مافوقه بشوكة، فلمّا قامت انكشف جسمُها، فضحكوا، فصاحت المرأة قومها، فأتاها الناسُ، واشتجروا حتّى كاد أن يكون قتالٌ، ثم اصطلحوا، وانفضُّوا بسلام.

الفِجارُ الثالثة:

وسببه أنّ رجلاً من «كنانة» كان عليه دَيْنٌ لرجل من «بني عامر»، وكان الكناني يماطل، فوقع شجارٌ بين الرجل، واستعدى كلّ واحد منهما قبيلته، فاجتمع الناسُ، وتحاوروا حتّى كاد يكونُ بينهم القتالُ، ثم اصطلحوا.

الفِجارُ الرابعة:

وهي الحرب الّتي - قيل: إنّه - شارك فيها النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد ادّعى البعض إنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يومذاك في الخامسة عشرة، أو الرابعة عشرة من عمره.

ص:278


1- . ولقد كان ممّا أزاله الإسلام ومحاه هذا التفاخر الجاهلي المقيت، وستعرف هذا في الأبحاث القادمة.

وقال بعضٌ: إنّه كان في العشرين من عمره وحيث إنّ هذه الحرب قد استمرّت أربع سنوات. لهذا يمكن أن تكون جميع هذه الأقوال صحيحة.(1)

وقيل في سببها: إنّ «النعمان بن المنذر» ملك الحيرة كان يبعث إلى سوق «عكاظ» في كلّ عام بضاعة في جوار رجل شريف من أشراف العرب، يُجيرها له حتّى تباع هناك ويشتري بثمنها من أقمشة «الطائف» الجميلة المزر كَشة ممّا يحتاج إليه، فأجارها «عروة الرجال الهَوازني» في تلك السنة، ولكن «البراض بن قيس الكناني» انزعج لمبادرة «عروة» إلى ذلك، فشكاه عند «النعمان بن المنذر» ولم يجد اعتراضه وشكواه، فحسد على «عروة» حسداً شديداً، فتَربَّص به حتّى غدر به في أثناء الطريق، وبذلك لطّخ يده بدم هوازني.

وكانت قريش يومذاك حليف كنانة، وقد اتّفق وقوعُ هذا الأمر يوم كانت العرب مشغولة بالكسب والتجارة في سوق عكاظ، فأخبر رجل قريشاً بمقتل الهوازنيّ على يد الكنانيّ، ولهذا عرفت قريش وحليفتها بنوكنانة بالأمر قبل هوازن، وأسرعوا في الخروج من «عكاظ» وتوجّهوا نحو الحرم (والحرم هو أربعة فراسخ من كلّ جانب من مكّة، وكانت العرب تحرّم القتال في هذه المنطقة) ولكن هوازن علمت بذلك فلاحقت قريش وحليفتها فوراً، وأدركتهم قبل الدخول في الحرم فوقع بينهم قتال، ولمّا جنّ الليل كفّوا عن الحرب فاغتنمت «قريش» وحليفتُها فرصة الليل، وواصلت حركتها باتجاه الحرم المكي وبذلك نجت من خطر العدو.

ومنذ ذلك اليوم كانت تخرج قريش وحليفتها من الحرم بين الفينة والأُخرى وتقاتل هوازن، وقد شارك النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في بعض تلك الأيام مع أعمامه على النحو الّذي مرّ بيانه.

وقد استمر الأمر على هذه الحال مدّة أربع سنوات، حتّى أن وُضعَت نهاية

ص:279


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/119 و 120؛ تاريخ الخميس: 1/259.

لهذه الحرب الطويلة بدفع قريش لهوازن دية القتلى الذين كانوا يزيدون على قتلى قريش على يد هوازن.(1)

وقد أسلفنا أنّ تحريم القتال في الأشهر الحُرم كانت له جذورٌ دينية، وحيث إنّ حرب «الفجار» استمرّت أربع سنوات فيمكن أن يكون لمشاركة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فيها وجهاً وجيهاً وهو الدفاع، خاصة أنّه لمّا سُئل صلى الله عليه و آله و سلم عن مشهده يومئذ فقال: «ما سَرّني أنّي لم أَشْهدهُ، إنَّهُمْ تَعَدَّوْا عَلى قَومي، عرضوا (أي قريش) عَلَيْهم (أي على هوازن) أنْ يَدْفعُوا إلَيْهِم البرّاض صاحِبَهُمْ (أي الّذي قتل عروة) فأَبُوا».(2)

ويحتمل أن تكون مشاركته صلى الله عليه و آله و سلم في غير الأشهر الحُرم بناء على استمرار هذه الحروب مدّة أربعة أعوام، وإنمّا سُميّت مع ذلك بالفجار لأنّ بدايتها وافقت الأشهر الحرم لا أنّها وقعت بتمامها في الأشهر الحُرم.

وبذلك لا يبقى مجال لأن تُسْتَبْعَد مشاركة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في بعض أيام تلك الحرب.

حِلْفُ الْفُضُول:

لقد كان في ما مضى ميثاقٌ وحلفٌ بين الجرهميّين يُدعى بحلف «الفُضُول»، وكان هذا الحِلفْ يهدف الى الدفاع عن حقوق المظلومين، وكان المؤسّسون لهذا الحلف هم جماعة كانت أسماؤهم برمّتها مشتقة من لفظة الفضل، وأسماؤهم - كما نقلها المؤرّخ المعروف «عماد الدين ابن كثير» - هي عبارة عن: «فضل بن فضالة»، و

ص:280


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/119؛ الأغاني: 22/307-321.
2- . الأغاني: 22/319.

«فضل بن الحارث»، و «فضل بن وداعة»(1)، وحيث إنّ الحلف الّذي عقدته جماعة من قريش فيما بينها كان متّحداً في الهدف (وهو الدفاع عن حقوق المظلومين) مع حلف «الفضول» لذلك سُمّي هذا الاتّفاق وهذا الحلف بحلف «الفُضول» أيضاً.

فقبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين عاماً دخل رجلٌ من «زبيد» في مكّة في شهر ذي القعدة، وعرض بضاعة له للبيع فاشتراها منه «العاص بن وائل»، وحبس عنه حقّه، فاستعدى عليه الزبيديّ قريشاً، وطلب منهم أن ينصروه على العاص، وقريش آنذاك في أنديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته:

يا آل فِهر لمظلوم بضاعتُه بِبطن مكّة نائي الدار والنَفَر

ومُحرمٌ أشعثُ لم يَقض عُمْرتَه يا للرِّجال وبَيْن الحجر والحَجَر

إنّ الحرامَ لِمَن تمَّت كرامتُه ولا حَرام لِثوب الفاجر القذر

فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر رجال من قريش، وهيّجت غيرتهم، فقام «الزُبير بن عبدالمطّلب» وعزم على نصرته، وأيّده في ذلك آخرون، فاجتمعوا في دار «عبداللّه بن جَدْعان» وتحالفوا وتعاهدوا باللّه ليكونَنّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتّى يؤدّى إليه حقّه ما أمكنهم ذلك، ثم مَشوا إلى «العاص بن وائل» فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وقد أنشدَ الزبير بن عبدالمطلب في ذلك شعراً فقال:

ص:281


1- . البداية والنهاية: 2/357.

إنّ الفُضُولَ تَعاقَدُوا وتَحالَفوا ألّا يقيمَ بِبطن مَكَّة ظالمُ

أمرٌ عَليْهِ تَعاقَدُوا وتواثقُوا فالجارُ والمُعترُّ فيهم سالمُ

وقال أيضاً:

حَلفْت لَنعْقَدن حلفاً عليهمْ وإن كُنّا جميعاً أهلَ دار

نسمّيه «الفُضُولَ» إذا عَقَدْنا يَعُزُّ به الغَريبُ لِذي الجوار

ويعْلَمُ منْ حَوالي البيتِ أنّا أُباة الضَيْم نَمنَعُ كُلَّ عار(1)

وقد شارك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، في هذا الحلف الّذي ضمن حقوق المظلومين وحياتهم، وقد نُقِلت عنه صلى الله عليه و آله و سلم عبارات كثيرة يشيد فيها بذلك الحلف ويعتزُّ فيها بمشاركته فيه، وها نحن ننقل حديثين منها في هذا المقام.

قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«لقد شَهدْتُ في دار عبداللّه بن جدعان حلفاً لو دُعيتُ به في الإسلام لأجبتُ».(2)

كما أنّ ابن هشام نقل في سيرته أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يقول في ما بعد عن هذا

ص:282


1- . البداية والنهاية: 2/355-356.
2- . البداية والنهاية: 2/355.

الحلف: «لقد شهدت في دار عبداللّه بن جدعان حلفاً ما أُحبُّ أنَّ لي به حُمُرَ النِعَم ولو أُدعى به الإسلام لأجبت».(1)

ولقد بقي هذا الحلف يحظى بمكانة واحترام قويّين في المجتمع العربي والإسلامي حتّى أنّ الأجيال القادمة كانت ترى من واجبها الحفاظ عليه والعمل بموجبه، ويدلّ على هذا قضيةٌ وقعت في عهد إمارة «الوليد بن عتبة» الأموي(2)على المدينة.

فقد وقعت بين الإمام الحسين بن علي عليه السلام وبين أمير المدينة هذا منازعة في مال متعلّق بالحسين عليه السلام، ويبدو أنّ «الوليد» تحامل على الحسين في حقّه لسلطانه، فقال له الإمامُ السبط الّذي لم يرضخ لحيف قط، ولم يسكت على ظلم أبداً:

«أَحلِفُ باللّه لتَنْصِفَنّي مِنْ حَقّي، أوْ لآخُذَنَّ سَيْفيْ ثمَّ لأَقُومَنَّ في مَسجد رَسُول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثمَّ لأَدْعُونَّ بِحلفِ الفُضُول».(3)

فاستجاب للحسين فريقٌ من الناس منهم «عبداللّه بن الزبير»، وكرّر هذه العبارة وأضاف قائلاً: وأنا أحْلِفُ باللّه لئن دعا به لآخُذَنَّ سَيْفي ثُمّ لأَقُومَنَّ مَعه حتّى يُنْصَفَ مِنْ حَقّهِ أوْ نَمُوتَ جَميعْاً.(4)

وبلغت كلمة الحسين السبط عليه السلام هذه إلى رجال آخرين ك «المسورة بن مخرمة بن نوفل الزُهري» و «عبدالرحمان بن عثمان» فقالا مثل ما قال «ابن الزبير»، فلمّا بلغ ذلك «الوليد بن عتبة» أنصف الحسين عليه السلام من حقّه حتّى رضي.(5)

ص:283


1- . السيرة النبوية: 1/87.
2- . من قبل عمّه معاوية.
3- . السيرة الحلبية: 1/215.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/288.
5- . البداية والنهاية: 2/358 بتصرّف.

10 من فترة الشباب إلى مزاولة التجارة

اشارة

يحمل القادة الإلهيّون العظماء وأصحاب الرسالات السماوية على كواهلهم مسؤوليات كبرى، ومهام عظمى تلازم - في الأغلب - التعرض للمتاعب والمصاعب، والعذاب، وتحمّل الأذى، بل وربّما التعرض للقتل والاغتيال، وكلّما كبرت الأهداف، عظمت المشاكل، والمتاعب.

وعلى هذا الأساس، فإنّ نجاح القادة الرساليّين يتوقّف على مدى صبرهم واستقامتهم في وجه الاتّهامات والمضايقات، وفي وجه الأذى والعذاب، لأن الصبر والتحمّل في جميع مراحل الجهاد والعمل هو الشرط الأساسيّ للوصول إلى المقصود، وإلى تحقيق الهدف المنشود والغاية المطلوبة.

من هنا ليس لقائد حقيقي أن يخشى كثرة العدو، وليس له أن ينسحب، أو يضعف لقلّة الأتباع والمؤيّدين وبالتالي ليس له أن يقلق للنوائب فتخور عزيمته، أو تضعف إرادته، مهما عظمت حلقة البلاء واشتدّت، ومهما تزايدت الأزمات أو تواترت.

إنّنا نقرأ في تاريخ الأَنبياء وقصصهم أُموراً يعسر على الإنسان العاديّ هضمها، ويصعب تصوُّرها.

فعن نوح النبيّ عليه السلام نقرأ أنّه دعا قومه تسعمائة وخمسين عاماً، ولم تنتج هذه الدعوة الطويلة المضنيةُ سوى قلّة من المؤمنين والمؤيدين الذين لم يتجاوز عددهم الواحد والثمانين، وهذا يعني أنّه لم يوفق في كلّ اثنى عشر عاماً إلّالهداية شخص واحد.

ص:284

إنَّ إرادة الصبر، وقوَّة التحمّل، والتصبّر تظهر لدى الإنسان شيئاً فشيئاً، فلابدّ أن تتلاحق حوادثٌ صعبةٌ، ولابد أن يمرَّ المرء بنوائب مزعجة حتّى تأنس روحُه بالأُمور الثقيلة، والقضايا الصعبة.

لقد قضى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شطراً من حياته قبل البعثة في رعي الغنم في الصحاري والقفار، ليكون بذلك صبوراً في تربية الناس الذين سيكلَّف بقيادتهم وهدايتهم، وليستسهل كلّ صعب في هذا المجال.

إنّ إدارة المجتمع البشريّ من أصعب الأُمور الّتي تواجه القادة، ورجال الإصلاح. والمقدرة على الإدارة هذه لا تسنح ولا تتهيَّأ لأَحد إلّابعد مزاولة الأُمور الصعبة، وممارسة الأعمال الشاقّة، وربّما يكون قيام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم برعي الغنم من هذا الباب، ولهذا جاء في الحديث.

«ما بَعثَ اللّهُ نَبيِّاً قَطُّ حَتّى يَسْتَرْعيْه الغَنم، يُعلّمهُ بذلِكَ رعْيَةَ النّاسِ».(1)

لقد قضى النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم شطراً من عمره الشريف في هذا المجال، وينقل كثيرٌ من أرباب السير والمؤرّخين هذه العبارة عنه صلى الله عليه و آله و سلم:

«ما بعث اللّه نبياً إلّاوَقَدْ رَعى الغَنم» فقال له أصحابه: وَ أَنتَ يا رَسُول اللّه؟

فقال: «وأنا رَعيْتُها لأَهْل مَكَّة بِالقَراريطِ».(2)

إنّ شخصية عظيمة يُفتَرضُ فيها أن تواجه - في المستقبل - أشخاصاً عنودين كأبي جهل وأبي لهب، وأن تصنع ممّن انحطّت أفكارهم حتّى أنّهم سجدوا لكلّ حَجر ومَدر، أفراداً لا يخضعون لأي شيء سوى إرادة الحقّ ومشيئته، لابدَّ أن تتسلّح قبل ذلك بسلاح الصبر، وتتجهّز بأداة التحمّل، وتتزوّد مسبقاً بقدرة

ص:285


1- . علل الشرائع: 1/32 ح 2، الباب 29؛ بحار الأنوار: 11/65.
2- . البداية والنهاية: 2/360؛ السيرة الحلبية: 1/205.

الاستقامة على طريق الهدف، وهذا لا يكون إلّابتعويد النفس على هذه الصفات، وحملها على مشاق الأعمال.

سبب آخر لرعي الغنم

ويمكن أن نذكر هنا سَبباً آخر أيضاً وهو أنّ رجلاً حرّ النفس والعقل كرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تجري في شرايينه وعروقه دماء الغيرة والشجاعة كان يشقّ عليه أن يشاهد كلّ ذلك الظلم والحيف الّذي كان يمارسه طغاة مكّة، وعتاة قريش وزعماؤها الظالمون القساة بحقّ الضعفاء، والمحرومين، وكذا كان يشقّ عليه أن يرى تظاهرهم بالعصيان والفسوق في حرم اللّه، وعند بيته المعظم.

إنّ إعراض سُكّان مكّة عن عبادة اللّه الواحد الحقّ، وطوافهم حول تلك الأصنام الخاوية هي - بلا ريب - أسوأ وأقبح ما يكون في نظر الرجل الفاهم، والعاقل العالم، وأثقل ما يكون عليه.

من هنا رأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يقضي ردحاً من الزمن في الصحاري والقفار وعند سفوح الجبال الّتي كانت يومئذ بعيدة بطبيعة الحال عن تلك المجتمعات الفاسدة وأحوالها وأوضاعها، ليستريح (أو يتخلّص) بعض الشيء من آلامه الروحية الناشئة مِن رؤية تلك الأوضاع المزرية، والأحوال المشينة. على أَنَّ هذا الأمر لا يعني أنّ للرجل المتّقي أن يسكت على الفساد والظلم، ويقرّ عليهما. ويفرّق بين حياته وحياة الآخرين ويعتزل عنهم ويتّخذ موقف اللامبالاة تجاه الأوضاع المنحرفة، والأحوال الشاذّة، بل أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا كان مأموراً من جانب اللّه سبحانه بالسكوت والانتظار، لأنّه لم تكن ظروف «البعثة» والهداية قد توفّرت وتهيّأت بعد، لذلك اتّخذ صلى الله عليه و آله و سلم مثل هذا الموقف.

***

ص:286

سببٌ ثالث

ولقد كان هذا العمل (أي الاشتغال برعي الأغنام في البراري والقفار وعند السهول وسفوح الجبال) فرصة جيدة لأن يتمكّن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من النظر في خلق السماوات والتطلّع في النجوم والكواكب وأحوالها وأوضاعها، وبالتالي الإمعان في الآيات الأنفسية والآفاقية التي هي جميعاً من آيات وجود اللّه تعالى، ومن مظاهر قدرته وحكمته وعلمه وإرادته.

إنّ قلوب الأنبياء والمرسلين مع أنّها منوَّرة بمصابيح المعرفة المشرقة ومضاءة بأنوار الإيمان والتوحيد منذ بدء فطرتها، وخلقتها، ولكنّهم مع ذلك لا يرون أنفسهم في غنىً عن النظر في عالم الخلق، والتفكّر في الآيات الإلهية، إذ من خلال هذا الطريق يصلون إلى أعلى مراتب الإيمان، ويبلغون أسمى درجات اليقين، وبالتالي يتمكّنون من الوقوف على ملكوت السماوات والأرضين.

إقتْراح أبي طالب

لقد دفع وضع (محمَّد) المعيشي الصعب «أبا طالب» سيد قريش وزعيمها الّذي كان معروفاً بالسخاء وموصوفاً بالشهامة، وعلو الطبع، وإباء النفس إلى أن يفكّر في عمل لابن أخيه، كيما يخفف عنه وطأة ذلك الوضع.

ومن هنا اقترح على ابن أخيه «محمَّد» العمل والتجارة بأموال «خديجة بنت خُويلد» الّتي كانت امرأة تاجرة، ذات شرف عظيم، ومال كثير، تستأجر الرجال في مالها أوتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم منه.

فقد قال أبوطالب للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:... وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيراتها فيتّجرون لها في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها فوضعتَ

ص:287

نفسَك عليها لأسرعتْ إليك، وفضَّلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك....

ولكن إباء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلوّ طبعه، منعاه من الإقدام بنفسه على هذا الأمر من دون سابق عهد، ولهذا قال صلى الله عليه و آله و سلم لعمّه: «فلعلّها ترسل إليّ في ذلك»، لأنّهاتعرف بأنّه المعروف بالأمين بين الناس.

فبلغ «خديجة» بنت خويلد، ما كان من محاورة عمّه «أبي طالب»، له، فقالت:

ما علمت أنّه يريد هذا، ثم أرسلت إليه صلى الله عليه و آله و سلم فقالت: إنّي دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعفَ ما أُعطى رجلاً من قومك وأبعثُ معكَ غلامين يأتمران بأمرك في السفر.

ففعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولقي عمّه أبا طالب فذكر له ذلك فقال: «إنّ هذا لرزق ساقهُ اللّهُ إليك».(1)

هل عَمِلَ النبيُّ أجيراً لخديجة؟

وهنا لابدّ من التذكير بنقطة في هذا المجال وهي:

هل عمل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أجيراً في أموال خديجة، أم أنّه قد عمل في تجارتها بصورة أُخرى كالمضاربة، وذلك بأن تعاقد النبيّ مع خديجة على أن يتاجر بأموالها على أن يشاركها في أرباح تلك التجارة؟

إنّ مكانة البيت الهاشميّ، وإباء النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ومناعة طبعه، كلّ تلك الأُمور والخصال توجب أن يكون عملُ النبيّ في أموال خديجة قد تمَّ بالصُورة الثانية (أي العمل في تجارتها على نحو المضاربة لا الإجارة)، وتؤيّد هذا المطلب أُمور هي:

ص:288


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/216.

أوّلاً: أنّه لا يوجد في اقتراح أبي طالب أيّة اشارة ولا أي كلام عن الإجارة، بل قد تحاور أبوطالب مع إخوته (أعمام النبيّ) في هذه المسألة من قبل وقال:

«امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتّى نسألها أن تُعطي محمَّداً مالاً يتّجر به».(1)

ثانياً: أنّ المؤرّخ الأقدم المعروف باليعقوبي كتب في تاريخه:... وأنّه ما كان ممّا يقول الناس أنّها استأجرته بشيء، ولا كان أجيراً لأحد قط.(2)

ثالثاً: أنّ الجنابذي صرّح في كتابه «معالم العترة النبوية» مرفوعاً عن محمد بن إسحاق قال: كانت «خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم منه (أي من ذلك المال أومن ربحه).(3)

***

رحلة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم التجارية إلى الشام

تهيّأت قافلة قريش التجارية للسفر إلى الشام، وفيها أموال «خديجة» أيضاً، في هذه الأثناء جعلت «خديجة» بعيراً قوياً وشيئاً من البضاعة الثمينة تحت تصرّف وكيلها (أي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم) وأمرت غلاميها (ميسرة وناصح) اللّذين قرّرت أن يرافقاه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يمتثلا أوامراه، ويطيعاه، ويتعاملا معه بأدب طوال تلك الرحلة، ولا يخالفاه في شيء.(4)

ص:289


1- . بحار الأنوار: 16/22.
2- . تاريخ اليعقوبي: 2/21.
3- . بحار الأنوار: 16/9 نقلاً عن «معالم العترة النبوية» لأبي محمد بن عبدالعزيز الأخضر الجنابذي الحنبلي.
4- . قالت خديجة لهما: إعلما أنّني قد أرسلتُ إليكما أميناً على أموالي، وأنّه أمير قريش وسيّدها، فلا يدٌ على يده، فإن باع لا يُمنع، وإن ترك لا يؤمر، وليَكُنْ كلامُكما له بلطف وأدب، ولا يعلو كلامكما على كلامه. (بحار الأنوار: 16/29).

وأخيراً وصلت القافلة إلى مقصدها واستفاد الجميع في هذه الرحلة التجارية أرباحاً، إلا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ربح أكثر من الجميع، كما أنّه ابتاع أشياء من الشام لبيعها في سوق «تهامة».

ثم عادت تلك القافلة التجارية إلى «مكّة» بعد ذلك المكسب الكبير، والحصول على الربح الوفير.

ولقد تسنّى لفتى قريش «محمَّد» أن يمرّ - للمرة الثانية في هذه السفرة - على ديار عاد وثمود.

وقد حمله الصمتُ الكبير الّذي كان يخيّم على ديار وأطلال تلك الجماعة العاصية المتمرّدة في نقلة روحانية إلى العوالم الأُخرى أكثر فأكثر، هذا مضافاً إلى أنّ هذه الرحلة جدّدت خواطره وذكرياته في السفرة الأُولى، فقد تذكّر يوم طوى مع عمّه «أبي طالب» هذه الصحاري نفسها وهذه القفار ذاتها، وما كان يحظى فيها من عمّه من الحبّ والعناية. وعند ما اقتربت قافلة قريش إلى «مكّة»، وصارت عند مشارفها، التفت «ميسرة» غلامُ خديجة، إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «يامحمَّد لقد جزنا عقبات بليلة كنّا نجوزها بأيام كثيرة، وربحنا في هذه السفرة ما لم نربح في أربعين سنة ببركتك يا محمد، فاستقبل بخديجة وابشرها بربحنا» فأخذ النبيّ باقتراح ميسرة، وسبق القافلة العائدة في الدخول إلى مكّة، وتوجه نحو بيت «خديجة» بينما كانت خديجة جالسة في غرفتها، فلمّا رأت النبيّ مقبلاً عليها، نزلت من منظرتها وركضت نحوه واستقبلته، وأدخلته في غرفتها، فخبّرها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما ربحوا، ببيان جميل، وكلام بليغ، فسرت «خديجة» بذلك سروراً عظيماً، ثم قدم «ميسرة» في الأثر، ودخل عليها، وأخبرها بكلّ ما رآه وشاهده من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تلك السفرة من الكرامة والخير، والخُلق العظيم، والخصال الكريمة، ومن الأُمور الّتي كانت برمّتها

ص:290

تدلّ على عظمة شخصيته صلى الله عليه و آله و سلم، وسمو خصاله.(1)

ومن جملة ما حدّثها به ميسرة هو أنّه لمّا وقع بين النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وبين رجل تلاح وجدال في بيع قال له ذلك الرجل: إحلف باللّات والعُزى، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ما حلفتُ بهما قط، وإنّي أمرُّ فاعرضُ عنهما.(2)

وحدّثها أيضاً بأنّه لمّا مرّ ببصرى نزلا في ظل شجرة ليستريحها فقال راهبٌ كان يعيش هناك لمّا رأى النبيّ يستريح في ظل تلك الشجرة: «ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلّانبيّ» سأل عن اسمه، فأخبره ميسرة باسمه فقال: «هو نبيّ وهو آخر الأنبياء، إنّه هو هو ومُنزّلِ الإنجيل، وقد قرأت عنه بشائر كثيرة».(3)

خَديجة زَوجةُ الرَّسول الأُولى

حتّى قبل ذلك اليوم لم تكن حالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الاقتصادية ووضعه المالي يُحسدُ عليه، فقد كان بحاجة إلى مساعدة عمّه «أبي طالب» المالية، ولم يكن شغله على النحو الّذي يكفي لضمان نفقاته، من جانب، وتمكينه من اختيار زوجة وشريكة حياة وتكوين عائلة، من جانب آخر.

ولكن هذه السفرة إلى الشام وبخاصة على نحو الوكالة والمضاربة في أموال امرأة جليلة، معروفة في قريش (أعني خديجة) ساعدت وإلى حدّ كبير على تثبيت وضعه الاقتصادي وتقوية بنيته المالية.

ولقد أعجبت «خديجة» بعظمة فتى قريش وسموّ أخلاقه، ومقدرته التجارية

ص:291


1- . بحار الأنوار: 16/5 بتصرّف واختصار.
2- . الطبقات الكبرى: 1/130 وفي بحار الأنوار: 16/18: أنّه صلّى اللّه عليه وآله قال: إليك عنّي ثكلتك أُمّك فما تكلّمت العربُ بكلمة أثقل عليَّ من هذه الكلمة.
3- . بحار الأنوار: 16/18؛ الطبقات الكبرى: 1/130.

حتّى أنّها أرادت أن تعطيه زيادة على ما تعاقدا عليه، تقديراً له، وإعجاباً به، ولكنّه اكتفى بأخذ ما تقرّر في البداية ثم توجّه إلى بيت عمه «أبي طالب» وقدّم كل ما أخذه من «خديجة» إلى عمّه «أبي طالب» ليوسّع به على أهله.

ففرح «أبو طالب» بما عاين من ابن اخيه، وبقية أبيه «عبدالمطلب»، وأخيه «عبداللّه» وأغرورقت عيناه بالدموع، وسرّ بما حقّق من نجاح وما حصل عليه من ربح من تلك التجارة سروراً كبيراً، واستعدّ أن يعطيه بعيرين يسافر عليهما ويتاجر، وراحلتين يُصلح بهما شأنه، ليتسنّى له بأن يحصل على ثروة ومال يعطيه لعمّه ليختار له زوجة.

في مثل هذه الظروف بالذات عزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عزماً قاطعاً على أن يتّخذ لنفسه شريكة حياة ويكوّن أُسرة، ولكن كيف وقع الاختيار على «خديجة» الّتي سبق لها أن رفضت كلّ طلبات الزواج الّتي تقدّم بها كبار الأثرياء والشخصيات القرشية مثل «عقبة بن أبي معيط»، و «أبوجهل» و «أبوسفيان» للزواج بها؟؟!، وماذا كانت العلل الّتي جمعت هذين الشخصين غير المتشابهين، من حيث مستوى الحياة، والثراء؟ وكيف ظهرت تلك الرابطة القوية، وتلك العلاقة المعنويّة العميقة، والأُلفة والمحبّة بينهما إلى درجة أنَّ «خديجة» سلام اللّه عليها وهبت كل ثروتها للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لينفقها في نشر الإسلام، وإعلاء كلمة الحقّ، وإرساء قواعد التوحيد، وبثّ الدين الجديد، وأصبحت تلك الدار الفخمة الّتي كانت تزينها الكراسي المرصّعة، والستر المطرّزة، المصنوعة من أغلى الأقمشة الهندية، والإيرانية، ملجأ للمسلمين، وملتقى لأنصار الرسالة؟!!

لابدَّ من البحث عن جذور هذه الحوادث في تاريخ حياة «خديجة» نفسها، فإنّ من المسلَّم والبديهيّ أنّ هذا النوع من الفداء، والتفاني والإيثار لم يكن ثابتاً ليتحقّق ما لم يكن لها جذور معنوية وطاهرة.

ص:292

إن صفحات التاريخ لتشهد بأنّ هذا الزواج كان ناشئاً من إيمان «خديجة» بتقوى عزيز قريش وفتاها الأمين «محمَّد» وطهره، وحبها الشديد لعفّته وكرم أخلاقه، ولهذا قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في حقّها:

«أفضل نساء الجنة أربع: خديجة...».(1)

إنّها أوّل امرأة آمنَتْ برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد قال علي أميرالمؤمنين عليه السلام: في خطبته الّتي يشير فيها إلى غربة الإسلام في مبدأ البعثة النبوية الشريفة:

«ولَمْ يَجمَعْ بَيْتٌ واحِدٌ يَوْمَئذٍ في الإسْلام غَيرَ رَسُول اللّه وَ خَديجَة وأَنا ثالِثُهما».(2)

ويكتب «ابن الأثير»: وقال: عفيف الكندي: كنت امرَأً تاجراً فقدمت مكّة أيام الحج فأتيت العباس فبينما نحن عنده إذ خرج رجل فقام تجاه الكعبة يصلّي ثم خرجت امراةٌ تصلّي معه، ثم خرج غلامٌ فقام يصلّي معه، فقلت: يا عباس ما هذا الدين؟ فقال:

هذا محمَّد بن عبداللّه ابن أخي زعم أنّ اللّه أرسله وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة آمنت به، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به، وأيمُ اللّه ما أعلم على ظهر الأَرض أحداً على هذا الدين إلّاهؤلاء الثلاثة.(3)

وينبغي هنا أن نعطي لمحة عن مكانة خديجة في الإسلام تكميلا لهذه الدراسة.

ص:293


1- . خصال الصدوق: 206 ح 2.
2- . نهج البلاغة: 300، الخطبة 192؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي: 13/197 و 201.
3- . الكامل في التاريخ: 2/57.

خديجة في أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

لقد اكتسَبَت «خديجة» بفضل إيمانها العميق بالرسالة المحمدية، وتفانيها في سبيل الإسلام وبسبب حرصها العجيب على حياة صاحب الرسالة وسلامته، وعملها المخلص على إنجاح مهمته، ومشاركتها الفعّالة، في دفع عجلة الدعوة إلى الأمام، ومشاطرتها للنبيّ في أكثر ما تحمّله من محن وأذى بصبر واستقامة وحب ورغبة.

لقد اكتسبت خديجة بفضل كلّ هذا وغيره مكانة سامية في الإسلام، حتّى أنّ النبيّ ذكرها في أحاديث كثيرة وأشاد بفضلها، ومكانتها وشرفها على غيرها من النساء المسلمات المؤمنات، وذلك ولا شك ينطوي على أكثر من هدف.

فمن جملة الأهداف التي ربّما توخّاها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من الإشادة بخديجة عليها السلام إلفات نظر المرأة المسلمة إلى القدوة الّتي ينبغي أن تقتدي بها في حياتها وسلوكها في جميع المجالات والأبعاد، والظروف، والحالات.

هذا مضافاً إلى ما يمكن أن تقدّمه المرأة وهي نصف المجتمع (إن لم تكن أكثره أحياناً) من دعم جدّي للرسالة، مادّياً كان أو معنوياً.

وفيما يلي نأتي ببعض الأحاديث الشريفة الّتي تعكس مكانة خديجة، ومقامها، ومدى إسهامها في نصرة الإسلام ودعم دعوته، وإرساء قواعده.

1. عن أبي زرعة عن أبي هريرة يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أتى جبرئيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقال يا رسول اللّه: هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربّها ومنّي، وبَشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصب لا صخَبَ فيه ولا نصَبِ».(1)

ص:294


1- . صحيح البخاري: 4/231، باب تزويج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خديجة وفضلها؛ صحيح مسلم: 7/133.

2. عن عائشة قالت: ما غِرتُ على امرأة ما غِرتُ على خديجة، ولقد هَلَكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث سنين، لما كنتُ أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربُه عزّوجلّ أن يبشرها ببيت من قصب في الجنة، وإنْ كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها (أي خليلاتها وصديقاتها).(1)

3. وعن عائشة أيضاً قالت: ما غِرت على نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّاعلى خديجة، وإنّي لم أدركها، قالت: وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت «أي عائشة»: فأغضبتُه يوماً فقلت: خديجة!! فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي قد رزقت حبّها».(2)

4. ومن هذا القبيل ما كان يقوم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع صاحبات خديجة من الاحترام لهن والاحتفاء بهنّ:

فقد وقف صلى الله عليه و آله و سلم على عجوز فجعل يسألها، ويتحفاها، وقال:

«إنّ حسن العهد من الإيمان، إنّها كانت تأتينا أيام خديجة».(3)

5. وروي عن أنس قال: كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا أُتي بهدية قال: «إذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنّها كانت صديقة لخديجة، إنّها كانت تحب خديجة».(4)

6. روى مجاهد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها، فغضب حتّى اهتزّ مقدَمُ شعره من الغضب، ثم قال: «لا واللّه ما أبْدلَني اللّه

ص:295


1- . صحيح مسلم: 7/133-134، باب فضائل خديجة عليها السلام.
2- . صحيح مسلم: 7/134.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 18/108. وذكر نحوه الحاكم في مستدركه: 1/16.
4- . الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: 1/126.

خيراً منها، آمنَتْ إذْ كَفَر الناسُ، وصدَّقتني وكذَّبني الناسُ، وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ، ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء». قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئةٍ أبداً.(1)

7. عن يعلى بن المغيرة عن ابن أبي رواد قال: دخل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على خديجة في مرضها الّذي ماتت فيه، فقال لها:

«بالكره منّي ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل اللّه في الكُره خيراً كثيراً، أما علمت أن اللّه تعالى زوَّجني معك في الجنة مريم بنتَ عمران، وكلثمَ أُخت موسى وآسية امرأة فرعون...».(2)

8. عن عكرمة عن ابن عباس قال: خطَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أربع خطط في الأَرض وقال: أتدرون ما هذا؟ قلنا: اللّه ورسولُه أعلم، فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أفضل نساء الجنة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».(3)

9. عن أنس قال: أتى جبرئيل عليه الصلاة والسلام إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعنده خديجة رضي اللّه عنها فقال: إنّ اللّه يقرئ خديجة السلام، فقالت: إنّ اللّه هو السلام، وعليك السلام، ورحمة اللّه وبركاته.(4)

10. عن أبي الحسن الأوّل (الكاظم) عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:296


1- . أُسد الغابة: 5/438؛ الاستيعاب لابن عبدالبرّ: 4/1823؛ ورواها مسلم أيضاً: 7/134؛ وكذا البخاري: 5/39 وقد حذفا آخرها من: فغضب حتّى... إلى آخر الرواية.
2- . أُسد الغابة: 5/439؛ البداية والنهاية: 2/74.
3- . الخصال للصدوق: 205 ح 22؛ بحار الأنوار: 16/2، ح 3.
4- . المستدرك على الصحيحين: 3/186.

«إنّ اللّه اختار من كلّ شيء أربعة... واختار من النساء أربعاً: مريم و آسية وخديجة وفاطمة».(1)

11. عن أبي اليقظان عمران بن عبداللّه عن ربيعة السعدي قال: أتيت حذيفة بن اليمان وهو في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فسمعتُه يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«خديجةُ بنتُ خويلد سابقةُ نساء العالمين إلى الإيمان باللّه وبمحمد صلى الله عليه و آله و سلم».(2)

12. عن عروة قال: قالت عائشة لفاطمة (رضي اللّه عنها بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم): ألا أبشّرك أني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:

«سيدات نساء أهل الجنة أربع: مريم بنت عمران، وفاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وخديجة بنت خويلد، وآسية».(3)

13. عن أبي عبداللّه (الصادق) عليه السلام قال: دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منزله، فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول: واللّه يا بنت خديجة، ماترين إلا أنّ لأُمِّكِ علينا فضلاً، وأيُ فضل كانَ لها علينا؟! ماهي إلّاكبعضنا.

فسمع صلى الله عليه و آله و سلم مقالتها لفاطمة، فلمّا رأت فاطمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكت، فقال: ما يبكيك يا بنت محمَّد؟! قالت: ذكرتْ أُمّي فتنقّصتْها فبكيتُ، فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال:

«مَهْ يا حُميراء، فإنّ اللّه تبارك وتعالى بارك في الوَدُود الولود، وأَنّ خديجة (رحمها اللّه) ولدَتْ مِنّي طاهِراً، وهو عَبْدُ اللّه وهو المطهّر وَ وَلدَتْ منّي القاسم، وفاطمة، ورقية، وأُم كلثوم، وزينب، وأنت ممّن أعقم اللّهُ رحمه فلم تلدي

ص:297


1- . الخصال: 225 ح 58؛ بحار الأنوار: 16/2، ح 5.
2- . المستدرك على الصحيحين: 3/184.
3- . مستدرك الحاكم: 3/185-186.

شيئاً».(1)

أجل هذه هي «خديجة بنت خويلد» شرفٌ وعقلٌ، وحبٌ عميق لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ووفاء وإخلاص، وتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الإسلام الحنيف.

هذه هي «خديجة» أوّل مَن آمنت باللّه ورسوله، وصدّقت محمَّداً فيما جاء به عن ربّه، من النساء، وآزرته، فكان صلى الله عليه و آله و سلم لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردّ عليه، وتكذيب له الّا فرّجَ اللّه عنه بخديجة الّتي كانت تخفّف عنه(2)، وتهوّن عليه ما يلقى من قومه، بما تمنحه من لطفها، وعطفها، وعنايتها به صلى الله عليه و آله و سلم، في غاية الإخلاص والودّ والتفاني.

ولهذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحبُّها حبّاً شديداً ويجلّها ويقدرها حقّ قدرها(3)، ولم يفتأ يذكرها، ولم يتزوّج عليها غيرَها حتّى رحلت وفاء لها، واحتراماً لشخصها ومشاعرها، وكان يغضب إذا ذكرها أحدٌ بسوء، كيف وهي الّتي آمنت به إذ كفر به الناسُ، وصدّقته إذ كذّبه الناسُ، وواسته في مالها إذ حرمهُ الناسُ.

ولهذا أيضاً كانت وفاتها مصيبة عظيمة أحزنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودفعته إلى أن يُسمّي ذلك العام الّذي توفّي فيه ناصراه وحامياه، ورفيقا آلامه (زوجته هذه:

خديجة بنت خويلد، وعمّه المؤمن الصامد الصابر أبوطالب عليهما السلام) بعام الحداد، أو عام الحزن(4) وأن يلزم بيته ويقلّ الخروج(5)، وأن ينزل صلى الله عليه و آله و سلم عند دفنها في

ص:298


1- . الخصال: 405 ح 116؛ بحار الأنوار: 16/3 ح 6.
2- . نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري: 18/171.
3- . أعلام النساء: 1/330.
4- . السيرة الحلبية: 3/498؛ تاريخ اليعقوبي: 2/35. وقد روي اليعقوبي أيضاً عنه عليه السلام أنّه قال بهذه المناسبة: «اجتمعت على هذه الأُمّة مصيبتان لا أدري بأيّهما أنا أشدّ جزعاً».
5- . لاحظ: السيرة الحلبية: 2/41؛ المواهب اللدنية حسب نقل تاريخ الخميس: 1/302 وفيه إضافة: ونالت قريش منه ما لم تكن تنال.

حفرتها، ويدخلها القبر بيده، في الحجون.(1)

عن ابن عباس في حديث طويل في زواج فاطمة الزهراء عليها السلام بعلي عليه السلام اجتمعن (نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم) عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكان في بيت عائشة (ليسألنّه أن يُدخلَ الزهراء على (عليّ) عليه السلام) فأحدقْن به وقُلنَ: فَديناك بآبائنا وأُمهاتنا يا رسول اللّه قد اجتمعنا لأمر لو أنّ «خديجة» في الأحياء لقرّتْ بذلك عينُها.

قالت أُمُّ سلمة: فلمّا ذكرنا «خديجة» بكى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: «خديجة وأين مثل خديجة، صدَّقْتني حين كذَّبني الناس، وآزرتني على دين اللّه وأعانتني عليه بمالها، إنَ اللّه عزّوجلّ أمرَني أنْ أُبشّر خديجة ببيت في الجنة من قصب (الزمرّد) لا صخَبَ فيهِ ولا نصَب».(2)

لقد كانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفاً، وأكثرهنّ مالاً، وأحسنهن جمالاً، وأقواهنُّ عقلاً وفهماً، وكانت تُدعى في الجاهلية بالطاهرة لشدَّة عفافها وصيانتها3؛ ويقال لها: سيدة قريش4، وكان لها من المكانة والمنزلة بحيث كان كلُّ قومها وسُراة أبناء جلدتها حريصين على الاقتران بها5، وقد خطبها - كما يحدّثنا التاريخ - عظماء قريش وبذلوا لها الأموال، وممّن خطبها «عقبة بن أبي معيط» و «الصلت بن أبي يهاب» و «أبوجهل» و «أبوسفيان» فرفضتهم جميعاً، واختارت رسول اللّه - وهي في سن الأربعين وهو صلى الله عليه و آله و سلم في الخامسة والعشرين - وهي تمتلك تلكم الثروة الطائلة، وهو صلى الله عليه و آله و سلم لا يمتلك من حطام الدنيا إلّاالشيء اليسير اليسير، رغبة في الاقتران به ولما عرفت فيه من كرم الأخلاق، وشرف النفس، والسجايا الكريمة والصفات العالية، وهي ما كانت تبحث عنه في حياتها وتتمنّاه وإذا بتلك المرأة الغنية الثرية المتنعّمة في أفضل عيش تصبح في بيت زوجها

ص:299


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 2/40.
2- . بحار الأنوار: 43/131 نقلاً عن كشف اليقين.

الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تلك الزوجة المطيعة الخاضعة، الوفيّة المخلصة، وتسارع إلى قبول دعوته، واعتناق دينه بوعي وبصيرة وإرادة منها واختيار، وهي تعلم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ومتاعب، وتجعل كلّ ثروتها في خدمة العقيدة والمبدأ، وتشاطر زوجها آلامه، ومتاعبه، وترضى بأن تذوق مرارة الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات وفي سنّ الرابعة أو الخامسة والستين. وهي مع ذلك تواجه كلّ ذلك بصبر وثبات(1)، ودون أن يذكر عنها تبرُّم أو توجّع.

هذا مضافاً إلى أنّها كانت تعامل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأدب تامّ يليق بمقام الرسالة والنبوة، على العكس من غيرها من بعض نساء النبيّ اللائي كنّ ربّما يثرن سخطه وغضبه، ويؤذينه في نفسه وأهله.

وإليك فيما يأتي بعض ما قاله عنها كبار الشخصيات، والمؤرّخين ممّا يكشف عن عظيم مكانتها عند المسلمين أيضاً، قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

«كنتُ أوّلَ مَن أسلَم، فمكَثْنا بِذلِكَ ثلاث حجَج، وما عَلى الأَرض خَلْقٌ يُصلّي ويشهَد لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما أتاهُ غيْري، وغير ابنة خويلد رحمها اللّه وقد فعل».(2)

وقال محمَّد بن إسحاق: كانت خديجة أوّلَ مَن آمن باللّه ورسوله وصدّقت بما جاء من اللّه، ووازرته على أمره، فخفّف اللّه بذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلّافرّج اللّه ذلك عن

ص:300


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/59 قال: خديجة بنت خويلد وهي عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله محاصَرة في الشِّعب.
2- . بحار الأنوار: 16/2؛ ومثله في روايات متعدّدة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/119 و 120.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بها إذا رجع إليها تثبِّتُه، وتخفّف عنه، وتهوّن عليه أمر الناس حتّى ماتت رحمها اللّه.(1)

وعنه أيضاً: أنّ «خديجة بنت خويلد» و «أباطالب» ماتا في عام واحد، فتتابع على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هلاك خديجة وأبي طالب، وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام، وكان رسول اللّه يسكن إليها.(2)

وقال أبو أُمامة ابن النقّاش: إنّ سبق خديجة وتأثيرها في أوّل الإسلام ومؤازرتها ونصرتها وقيامها للّه بمالها ونفسها لم يشركها فيه أحدٌ لا عائشة ولا غيرها من أُمّهات المؤمنين.(3)

وقد جاء في «المنتقى»: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند ما أُمِرَ بأن يصدع بالرسالة صعد على الصفا، وأخبر الناس بما أمره اللّه به فرماه أبوجهل (قبحه اللّه) بحجر فشجّ بين عينيه، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتّى أتى الجبل، فسمع عليٌّ و خديجةٌ بذلك فراحا يلتمسانه صلى الله عليه و آله و سلم وهو جائع عطشان مرهق، ومضت خديجة تبحث عنه في كلّ مكان في الوادي وهي تناديه بحرقة وألم، وتبكي وتنحب؛ ونظر جبرئيل إلى خديجة تجول في الوادي فقال: يا رسول اللّه ألا ترى إلى خديجة قد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ أُدعُها إليك فاقرئها منّي السلام وقل لها: إنّ اللّه يقرئك السلامَ، وبشّرها أنّ لها في الجنةِ بيتاً من قصب لا نصَبَ فيه ولا صخَب، لؤلؤاً مكلّلاً بالذهب؛ فدعاها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والدماء تسيلُ من وجههِ على الأرض وهو يمسحها ويردّها،... فلمّا جنّ عليهم الليل انصرفت خديجة رضي اللّه عنها ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلي عليه السلام ودخلت به منزلها، فأقعدَتْه على الموضع الّذي فيه الصخرة، وأظلّته بصخرة من فوق رأسه، وقامت في وجهِه تستره ببُردها، وأقبلَ المشركون

ص:301


1- . بحار الأنوار: 16/10-12.
2- . نفس المصدر.
3- . تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس: 1/266.

يرمونه بالحجارة، فإذا جاءتْ من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة، وإذا رمَوْهُ مِن تحته وقتْهُ الجدرانُ الحُيّط، وإذا رُميَ من بين يديه وقتْهُ خديجة (رضي اللّه عنها) بنفسها، وجعَلتْ تنادي يا معشر قريش تُرمى الحُرّةُ في منزلها؟ فلَمّا سمِعوا ذلك انصرفُوا عنه، وأصبَحَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وغدا إلى المسجد يُصلّي.(1)

ولقد بَلَغ من خضوعها لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحبّها له أنّها بعد أن تمَّ عقدُ زواجها برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قالت له صلى الله عليه و آله و سلم: «إلى بيتك، فبيتي بيتك، وأنا جاريتك».(2) وجاء في السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: ولسبقها إلى الإسلام وحسن المعروف جزاها اللّه سبحانه، فبعث جبرئيل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهو بغار حراء وقال له: اقرأ عليها السَّلام من ربها ومنّي، وبشّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب؛ فقالت: هو السلام ومنه السلام وعلى جبرئيل السلام، وعليك يا رسول اللّه السلام ورحمة اللّه وبركاته، وهذا من وفور فقهها (رضي اللّه عنها) حيث جعلت مكان ردّ السلام على اللّه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره، قال ابن هشام: والقصب هنا اللؤلؤ المجوّف، وأبدى السهيلي لنفي النصب لطيفة هي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا دعاها إلى الإيمان أجابت طوعاً ولم تحوجه لرفع صوت ولا منازعة ولا نصب بل أزالت عنه كلّ تعب، وآنسته من كلّ وحشة، وهوّنت عليه كلّ عسير فناسب أن تكون منزلتها الّتي بشّرها بها ربُّها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها (رضي اللّه عنها) وإقراء السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها، وتميّزت أيضاً بأنّها لم تسؤه صلى الله عليه و آله و سلم ولم تغاضبه قط، وقد جازاها فلم يتزوّج عليها مدة حياتها، وبلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته.(3)

ص:302


1- . بحار الأنوار: 18/242-243. باختصار وتصرّف يسير.
2- . بحار الأنوار: 16/4 نقلاً عن الخرائج والجرائح: 1/140.
3- . سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/169.

افتخار أهل البيت بخديجة عليها السلام

وما يدلّ على سموّ مقامها وعلوّ منزلتها أنّ أهل البيت عليهم السلام طالما افتخروا بأنّ خديجة منهم، وأنّهم من خديجة وقد كانوا يعتزّون بها، ويشيدون بمكانتها:

فقد خطب معاوية بالكوفة حين دخلها والحسن والحسين عليهما السلام جالسان تحت المنبر فذكر عليّاً عليه السلام فنال منه ثم نال من الحسن، فقام الحسين عليه السلام ليردَّ عليه، فأخذه الحسن بيده وأجلسه ثم قام فقال:

«أيُّها الذاكِرُ عَليّاً أنا الحَسن وأبي عليّ وأنت معاويةُ وأبوك صخرٌ، وأُمّي فاطمة وأُمُّك هند، وجدّي رسُولُ اللّه وجدُّك عُتبةُ بنْ رَبيعة، وجدّتي خديجة وجدتُك قتيلة، فلعن اللّه أخْمَلَنا ذكراً، والأَمُنا حَسَباً، وشَرَّنا قديماً وحديثاً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً». فقال طوائفُ من أهل المسجد: آمين(1).

وقيل: إنّ «الحسين» عليه السلام ساير «أنس بن مالك» فأتى قبرَ خديجة فبكى، ثم قال: إذْهَبْ عَنّي قال «أنس»: فاستخفيتُ عنه فلمّا طال وقوفُه في الصلاة سمعته يقول:

يا رَبِّ يَا رَبِّ أنْتَ مَولاهُ فَاْرحَمْ عُبيْداً إلَيْكَ مَلْجاهُ

يا ذا المَعالِي عَلَيْكَ مُعْتَمدي طُوبْى لِمَنْ كُنْت أَنتَ مَوْلاهُ

طُوْبى لِمَنْ كانَ خادِماً أرقاً يَشْكُوْ إلى ذِيْ الجَلالِ بَلْواهُ

إلى آخر الأبيات.(2)

هكذا كان أهل البيت النبوي - اقتداءً برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - يحترمون خديجة ويكرمونها، لما كان لها من شخصية عظيمة، ولما أسدته إلى الإسلام وإلى رسول

ص:303


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: 16/46-47.
2- . بحار الأنوار: 44/193، نقلاً عن عيون المحاسن.

الإسلام من خدمات لا تُنسى على مرّ الدهور.

إنّ بيان ونقل الأحاديث والروايات، وكذا الأقوال الّتي وردت في شأن خديجة والحديث عن شخصيّتها ومكانتها ومدى إسهامها في إنجاح ونصرة الدعوة المحمّدية خارج عن إمكانية هذه الدراسة، ونطاقها، لذلك نكتفي بهذه الإلماعة العابرة.

ولنَعُدْ إلى تبيين الأسباب الظاهرية والباطنية لزواجها من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

العللُ الظاهرية والحقيقية وراء زواج خديجة بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

إنّ الإنسان الماديّ الّذي ينظر إلى كلّ ما يحيط به من خلال المنظار المادّي، ويفسّره تفسيراً مادّياً قد يتصوّر (وبالأحرى يظن) أنّ «خديجة» كانت امرأة تاجرة تهمُّها تجارتها، وتنمية ثروتها، ولأنّها كانت بحاجة ماسّة إلى رجل أمين قبل أي شيء، لذلك وجدت ضالّتها في محمَّد الصادق الأمين صلى الله عليه و آله و سلم فتزوّجت منه، بعد أن عرضت نفسها عليه ومحمَّد صلى الله عليه و آله و سلم هو الآخر حيث إنّه كان يعلم بغناها وثروتها، قبِل بهذا العرض رغم ما كان بينه وبينها من فارق كبير في السن.

ولكنّ التاريخ يثبت أنّ ثمّة أسباباً وعللاً معنويّة لا مادّية هي الّتي دفعت بخديجة للزواج بأمين قريش وفتاها الصادق الطاهر.

وإليك في ما يأتي شواهدنا على هذا الأمر:

1. عندما سألت «خديجة» ميسرة عمّا رآه في رحلته من فتى قريش «محمَّد» فخبّرها ميسرة بما شاهد ورأى من «محمَّد» في تلك السفرة، وبما سمعه من راهب الشام حوله أحسَّت «خديجة» في نفسها بشوق عظيم ورغبة شديدة نحوه كانت نابعة من إعجابها بمعنوية محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم وكريم خصاله، وعظيم أخلاقه، فقالت من دون إرادتها: «حسبُك يا ميسرة؛ لقد زدتني شوقا إلى محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم، إذهبْ فأنت حرٌ

ص:304

لوجه اللّه، وزوجتك وأولادك، ولَك عندي مائتا درهم وراحلتان» وخلعَت عليه خلعة سنية.(1)

ثم إنّها ذكرت ما سمعته من «ميسرة» لورقة بن نوفل وكان من حكماء العرب: فقال ورقة: «لئنْ كانَ هذا حَقّاً يا خديجة، إنّ محمَّداً لنبيُّ هذهِ الأُمُّة».(2)

2. مرَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يوماً بمنزل «خديجة بنت خويلد، وهي جالسة في ملأ من نسائها وجواريها وخدمها، وكان عندها حبرٌ من أحبار اليهود، فلمّا مرّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نظر إليه ذلك الحبر وقال: ياخديجة اعلمي أنّه قد مرّ الآن ببابك شاب حدث السن، فأمري مَنْ يأتي بهذا، فأرسلت إليه جارية من جواريها، وقالت: يا سيدي مولاتي تطلبك، فأقبل ودخل منزلَ «خديجة»،... فقال له الحبر: إكشفْ لي عَنْ بطنك، فكشف له، فلمّا رآه قال: هذا واللّه خاتم النبوّة، فقالت له خديجة: لو رآك عمه وأنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء، وإنّ أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود.

فقال الحبر: ومَن يقدر على «محمَّد» هذا بسوء، هذا وحقّ الكليم رسولُ الملك العظيم في آخر الزمان، فطوبى لمن يكون له بعلاً، وتكون له زوجة وأهلاً فقد حازت شرف الدنيا والآخرة.

فتعجَّبت «خديجة»، وانصرف «محمَّد» وقد اشتغل قلبُ خديجة بنت خويلد بحبّه... فقالت: أيّها الحبر بمَ عرفت محمَّداً أنّه نبيّ؟

قال: وجدتُ صفاته في التوراة أنّه المبعوثُ آخر الزمان، يموت أبوه وأُمُّه، ويكفله جدّه وعمه، وسوف يتزوّج بامرأة من قريش سيدة قومها وأميرة عشيرتها، وأشار بيده إلى خديجة... فلمّا سمعت «خديجة» ما نطق به الحبر تعلّق قلبُها بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وكتمت أمرها، فلمّا خرج من عندها قال: إجتهدي أن لا يفوتك

ص:305


1- . بحار الأنوار: 16/52.
2- . السيرة النبوية لابن هشام الحميري: 1/123.

«محمَّدٌ» فهو الشرف في الدنيا والآخرة.(1)

3. كان لخديجة عم يقال له: ورقة، وكان قد قرأ الكتب كلّها (وكان من كُهّان قريش وقد قرأ صحف «شيث» عليه السلام وصحف «إبراهيم» عليه السلام وقرأ التوراة والإنجيل وزبور «داود» عليه السلام) وكان عالماً حبراً، وكان يعرف صفات النبيّ الخارج في آخر الزمان، وكان عند ورقة أنّه يتزوّج بامرأة سيدة من قريش، تسود قومها، وتنفق عليه مالها، وتمكّنه من نفسها، وتساعده على كلّ الأُمور، فعلم ورقة أنّه ليس بمكّة أكثر مالاً من خديجة، فرجا ورقة أن تكون ابنة أخيه خديجة، وكان يقول لها: «يا خديجة سوف تتّصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء».(2)

هذه قضايا ذكرها بعض المؤرّخين، وهي منقولةٌ ومثبتة في طائفة كبيرة من الكتب التاريخية، وهي بمجموعها تدلّ على العلل الحقيقية والباطنية لرغبة خديجة في الزواج برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإنّ هذه الرغبة كانت ناشئة من إعجاب «خديجة» بأخلاق فتى قريش الأمين، ونبله، وطهارته، وعظيم سجاياه وخصاله وحبّها لهذه الأُمور، وليس هناك أي أثر في علل هذا الزواج لأمانة «محمَّد» وكونه أصلَح من غيره لهذا السبب للقيام بتجارة «خديجة».

كيفَ تمَّت خِطبةُ خديجة؟

من المسلّم به أنّ اقتراح الزواج جاء من جانب «خديجة» نفسها أوّلاً، حتّى أنّ ابن هشام(3) نقل في سيرته: أنّ «خديجة» لمّا أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالت له: «يا ابْنَ عم إنّي قد رغبتُ فيك لقرابتك، وسِطَتِكَ (4)

ص:306


1- . بحار الأنوار: 16/20-21، نقلاً عن كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري.
2- . بحار الأنوار: 16/21.
3- . السيرة النبوية: 1/122.
4- . يسط في حسبه سطة: حلّ وسطه أي أكرمه. وأصل الكلمة الواو وهو بابها، والهاء فيها عوض

في قومك، وأمانتك وحُسن خلقك، وصدق حديثك» ثمّ اقترحَت عليه أن تتزوّج به.

ويعتقدُ أكثرُ المؤرّخين أنّ «نفيسة بنت عليّة» بَلّغتْ رسالة «خديجة» إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على النحو التالي:

قالت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «يا محمَّد ما يمنعك أن تتزوّج... فإن كفيت ذلك ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فمَن هي؟

فقالت: خديجة، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: وكيف لي بذلك؟ فقالت: عليَّ، فذهبت إلى خديجة فأخبرتها، فأرسلت خديجة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بوكيلها «عمرو بن أسد»(1) لتحديد ساعة من أجل مراسم الخطبة في محضر من الأقارب.(2)

فشاور النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم أعمامه وفي مقدّمتهم «أبوطالب»، ثم عقدوا مجلساً فخماً حضره كبارُ وجوه قريش، ورؤساؤها فخطبَ «أبوطالب»، وبعد أنَ حَمداللّه وأثنى عليه وصفَ ابن أخيه محمَّداً بقوله:

«ثم إنّ ابْن أخي هذا محمَّد بن عبداللّه بن عبدالمطلب لا يوزَنُ برجل من قريش إلّارجح، ولا يقاس بأحد منهم إلّاعظم عنه، وإن كان في المال قل فإنّ المالَ

ص:307


1- . المعروف أنّ والد خديجة توفّي في حرب الفجار ولهذا قام بالإيجاب من قبلها عمّها عمروبن أسد، ولهذا لا يصحّ ما ذكره بعض المؤرّخين من أنّ خويلد (والد خديجة) امتنع من تزويجها لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بداية الأمر، ثم رضي بذلك نزولاً عند رغبة خديجة.
2- . لاحظ: تاريخ الخميس: 1/264.

رزق حائل، وظِلٌّ زائلٌ، وَلَهُ في خديجة رغبةٌ ولها فيه رغبةٌ، والصَّداق ما سألتم عاجله وآجله مِن مالي...».(1)

وحيث إنّ «أباطالب» تعرَّض في خطبته لذكر قريش، وبني هاشم وفضيلتهم، ومنزلتهم بين العرب، لذلك تكلّم «ورقة بن نوفل بن أسد» الّذي كان من أقارب خديجة(2) وقال في خطبة له: «لا تنكُرُ العشيرة فضلكُمْ، ولا يَرُدُّ أحدٌ من الناس فخركم وشرفكُمْ، وقد رغبنا في الإتصال بحبلكم وشرفكُمْ».(3)

ثم أُجري عقد النكاح ومهرها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أربعمائة دينار وقيل أصدقها عشرين بكرة.(4)

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

المعروف المشهور أنّ خديجة عليها السلام تزوّجت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهي في سنّ الأربعين وأنّها وُلدَت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً.

وذكر البعضُ أقلَّ من ذلك أيضاً.

وقيل: إنّها تزوّجت قبل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم برجلين أوّلهما «عتيقُ بن عائذ» ثمَ من بعده أبوهالة التميمي وقد توفّي كلاهما بُعيد زواجه بخديجة.

وقد شكّك بعض العلماء في قضية زواجها قبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برجلين بل

ص:308


1- . بحار الأنوار: 16/16-17.
2- . المعروف أنّ ورقة كان عمّاً لخديجة ولكن هذا موضع نقاش لأنّ «خديجة بنت خويلد بن أسد» وورقة بن نوفل بن أسد فيكونان أولاد عمومة، أي أنّه ابن عم خديجة وهي بنت عمّه. ولذلك جاء في بعض المصادر وصفه ب «ابن عمّها» (تاريخ الخميس: 1/282) وراجع قبله السيرة النبوية لابن هشام: 1/156.
3- . بحار الأنوار: 16/16؛ السيرة الحلبية: 1/227؛ تاريخ الخميس: 1/264.
4- . السيرة الحلبية: 1/226.

قطع بعضهم بأنّ خديجة لم تتزوج غير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد ذكر أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي (المتوفّى 352 ه) في الاستغاثة حيث يقول: إنّ الإجماع من الخاص والعام من أهل الآثار ونقلة الأخبار على أنّه لم يبق من أشراف قريش من ساداتهم وذوي النجدة منهم إلّامن خطب خديجة ورام تزويجها فامتنعت على جميعهم من ذلك فلمّا تزوجها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غضب عليها نساء قريش وهجرنها وقلن لها خطبك أشراف قريش وأُمراؤهم فلم تتزوّجي أحداً منهم وتزوّجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له، فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة يتزوّجها أعرابي من تميم وتمتنع من سادات قريش وأشرافها على ما وصفناه، ألا يعلم ذو التمييز والنظر أنّه من أبين المحال وأفظع المقال، ولما وجب هذا عند ذوي التحصيل ثبت أنّ خديجة لم تتزوج غير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم....(1)

وقال ابن شهرآشوب: وروى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر في التلخيص أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تزوّج بها وكانت عذراء. يؤكد ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار والبدع: أنّ رقية وزينب كانتا ابنتي هالة أُخت خديجة.(2)

وقال الإصبهاني في دلائل النبوّة: كانت خديجة امرأة باكراً.(3)

كما استدل المشككون على ذلك باختلاف الروايات وتناقضها حول زواج

ص:309


1- . الاستغاثة: 1/70.
2- . مناقب ابن شهرآشوب: 138/1، المكتبة الحيدرية، النجف - 1376 ه؛ بحار الأنوار: 191/22.
3- . دلائل النبوّة: 178، ط. دار طيبة، الرياض.

خديجة قبل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

وقد روي أنّه كانت لخديجة أُخت اسمها هالة تزوّجها رجل مخزومي، فولدت له بنتاً اسمها هالة، ثم خلف عليها - هالة الأُولى - رجل تميمي يقال له: أبو هند فأولدها ولداً اسمه هند، وكان لهذا التميمي امرأة أُخرى قد ولدت له زينب ورقية فماتت ومات التميمي، فلحق ولده هند بقومه وبقيت هالة أُخت خديجة والطفلتان اللّتان من التميمي وزوجته الأُخرى، وضمّتهم خديجة إليها، وبعد أن تزوّجت بالرسول صلى الله عليه و آله و سلم ماتت هالة، فبقيت الطفلتان في حجر خديجة والرسول صلى الله عليه و آله و سلم وكان العرب يزعمون أنّ الربيبة بنت، ولأجل ذلك نسبتا إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

ونكتفي بهذا المقدار خوف الإطالة. واللّه العالم.

ص:310


1- . مثل اختلافهم في اسم أبي هالة، هل هو النبّاش بن زرارة أو عكسه، أو هند، أو مالك؟ وهل هو صحابي أو لا؟ وهل تزوجته قبل عتيق، أو تزوّجت عتيق قبله؟ لاحظ: الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم: 2/208. ولاحظ أيضاً الإصابة: 3/611؛ وأُسد الغابة: 5/12 و 13 و 71.
2- . وللمزيد من التفاصيل راجع الاستغاثة: 1/68-70؛ الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم للسيد جعفر مرتضى العاملي: 2/207-219.

11 من الزواج إلى البعثة

اشارة

تُعتَبر فترةُ الشباب من أهمّ وأخطر الفترات في حياة الإنسان، ففي هذه الفترة تبلغ الغريزة الجنسية نضجها وكمالها، وتصبحُ النفسُ البشرية لعبة في أيدي الأهواء ويغلب طوفان الشهوة على فضاء العقل، ويغطّي الظلامُ سماء التفكير، وتشتد حاكمية الغرائز المادّية، وتتضاءل شعلة العقل، وتتراءى أمام عيون الشباب بين الحين والآخر، وصباح مساء صروح عظيمة من الآمال الخيالية.

ولو مَلك الإنسانُ - في مثل هذه الفترة - شيئاً من الثروة، لتحوَّلتْ حياته إلى مسألة في غاية الخطورة فالغرائز الحيوانية، وصحّة المزاج من جهة والإمكانات المادّية والمالية من جهة أُخرى تتعاضدان وتغرقان المرء في بحر من الشهوات، والنزوات، وتهيِّئان له عالماً بعيداً عن التفكير في المستقبل.

ومن هنا يصف علماء التربية تلك الفترة الحسّاسة بأنّها الحدّ الفاصل بين الشقاء والسعادة، والفترة الّتي قلّما يستطيع شاب أن يرسم لنفسه فيها مساراً معقولاً، ويختار لنفسه طريقاً واضحاً على أمل الحصول على الملكات الفاضلة، والنفسية الرفيعة الطاهرة الّتي تحفظه عن أيّ خطر متوقَع(1). حقّاً إنّ كبح جماح النفس،

ص:311


1- . وإلى هذه الحقيقة أشار الشاعر أبو العتاهية بقوله: إنّ الفراغ والشباب والجدة مَفسدة للمرء أي مفسدة أعيان الشيعة: 3/398.

وزمَّها وحفظها مِنَ الانزلاق في مهاوي الشهوات، والنزوات في مثل هذه الفترة لهو أمر عسير جدّاً، ولو أنّ الإنسانَ حُرمَ من تربية عائلية صحيحة مستقيمة كان عليه أن ينتظر مصيراً سيّئاً، ومستقبلاً في غاية البؤس والشقاء.

فَترةُ الشَبابِ في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ليس من شكّ في أنّ فتى قريش «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم كان يتمتع في أيام شبابه بصحّة جيّدة، وقوّة بدنية عالية، وكان شجاعاً قوياً، لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم قد تربّى في بيئة حرّة بعيدة عن ضوضاء الحياة، وفتح عينيه في عائلة اتّصف جميع أفرادها وأعضائها بالشجاعة والفروسية، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان يمتلك ثروة «خديجة» الطائلة فكانت ظروفُ الترف، والعيش الشهواني متوفّرة له بشكل كامل، ولكن كيف ترى استفاد من هذه الإمكانات المادّية؟ هل مدَّ موائد العيش واللّذة وشارك في مجالس السهر والسمر واللهو واللعب، وأطلق العنان لشهوته، وفكّر في إشباع غرائزه الجنسية كغيره من شباب ذلك العصر، وتلك البيئة الفاسدة؟

أم أنَّه اختار لنفسه منهجاً آخر في حياته، واستفاد من كلّ تلك الإمكانات في سبيل تحقيق حياة زاخرة بالمعنوية، الأمر الّذي تبدو ملامحه بجلاء لمن تتبع تلك الفترة الحسّاسة من تاريخه؟ إنّ التاريخ ليشهد بأنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعيش كما يعيش أي رجل، رجلٍ عاقل لبيبٍ وفاضل رشيدٍ، وأنّه طوى تلك السنوات الحسّاسة من حياته كأحسن ما يكون، بعيداً عن العبث والترف والضياع والإنزلاق إلى الشهوات والانسياق وراء التوافه.

بل إنّ التاريخ ليشهد بأنّه كان أشدّ ما يكون نفوراً من اللهو، والعبث، والترف والمجون فقد كانت تلوح على محيّاه دائماً آثار التفكّر والتأمّل، وكثيراً مّا كان يلجأ إلى سفوح الجبال أوالكهوف والمغارات للابتعاد عن الجوّ الإجتماعي الموبوء في

ص:312

مكّة، يلبث هناك أيّاماً يتأمّل فيها في آثار القدرة الإلهية، وفي عظمة الصنع الإلهي، الرائع البديع.

مشاعر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الإنسانية في فترة الشباب

ولقد وقعت في إحدى أسواق مكّة ذات يوم حادثة هيّجت مشاعره الإنسانية وحرّكت عواطفه وأحاسيسه، فقد رأى مقامراً قد خسر بعيره وبيته، بل بلغ الأمر به أن استرقّهُ منافسُه عشرة أعوام.

وقد آلمت هذه القصة المأساوية فتى قريش «محمَّد» بشدّة، إلى درجة أنّه لم يَعُد يحتمل البقاء في «مكّة» ذلك اليوم فغادرها من فوره وذهب إلى الجبال المحيطة بمكة ثم عاد بعد هزيع من الليل.

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينزعج بشدة لهذه المشاهد المحزنة والأوضاع المأساوية، وكان يتعجّب من ضعف عقول قومه، وانحطاط مداركهم.

ولقد كان بيت «خديجة» قبل زواج النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم بها ملاذاً للفقراء وكعبة لآمال المساكين والمحرومين، وبعد أن تزوّج النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم بها لم يطرأ على وضع ذلك البيت أيُّ تغيير من جهة الإنفاق والبذل.

ففي سنين الجدب والقحط الّتي كانت تضرب مكّة وضواحيها بين الحين والآخر ربّما قدمت «حليمة السعدية» مكّة لتزور ولدها الرضاعي «محمَّد» فكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يكرمها ويحترمها، ويفرش رداءه تحت أقدامها، ويصغي لكلامها بعناية ولطف، وفاء لجميلها، وعرفاناً لعواطفها وأُمومتها.

فقد روي أنّ «حليمة» قدِمت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة بعد تزوّجه خديجة، فشكت إليه جدب البلاد وهلاك المواشي فكلَّم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «خديجة» فأعطتها بعيراً وأربعين شاة، وانصرفت إلى أهلها موفورة، مسرورة.

ص:313

وروي أيضاً أنّه استأذنت «حليمة» عليه ذات مرة فلمّا دخلت عليه قال: «أُمّي أُمّي» وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه.(1)

أولادُ خديجة

لا ريب في أنَّ وجودَ الأولاد في الحياة العائليّة ممّا يقوّي أواصر الوشيجة الزوجية، ويعمّق جُذُورها، ويمنح الجوَّ العائليّ بهاء، ورَوْنقاً، وجمالاً خاصّاً.

ولقد أنجبت «خديجةُ» لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ستة من الأولاد اثنين من الذكور، أكبرُهما «القاسم» ثم «عبدُاللّه» اللَّذان كانا يُدعَيان ب: «الطاهر» و «الطيّب» وأربعاً من الإناث.

كتب ابن هشام يقول في هذا الصدد: أكبرُ بناته رُقيَّة ثم زيْنَبْ ثم أُمُّ كلثوم، ثم فاطمة.

فأمّا الذكور من أولاده صلى الله عليه و آله و سلم فهلكوا في الجاهلية، وأمّا بناته فكلُّهن أدركنَ الإسلام.(2)

ورغم أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد عُرفَ بصبره وجَلده في الحوادث والنوائب فربّما انعكست أحزانه القلبية في قطرات دموعه الساخنة المنحدرة على خَدَّيه الشريفين في موت أولاده.

ولقد بلغ به الحزنُ والغمُ لموت ولده «إبراهيم» من زوجته ماريّة القبطية حدّاً لم يحدثْ لغيره من أولاده، إلّاأنّه رغم ذلك الحزن الآخذ من قلبه مأخذاً لم يفتر

ص:314


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/168-169.
2- . مناقب ابن شهرآشوب: 1/140، قرب الأسناد: 9 برقم 29؛ الخصال: 404 برقم 115؛ بحار الأنوار: 22/151-152. وقد ذكر البعض للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أكثر من ولدين، راجع: السيرة النبوية: 1/122-123؛ تاريخ الطبري: 2/35؛ بحار الأنوار: 22/166.

لسانه عن حمد اللّه وشكره حتّى أنّ أعرابياً اعترض عليه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا وجده يبكي على ولده قائلاً: يا رسول اللّه تنهى عن البكاء وأنت تبكي؟ أجابه بقوله:

«إنّما هذا رحمة، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم».(1)

حَدْسٌ لا أساس له من الواقع!!

لقد كتبَ الدكتور هيكل في كتابه: «حياة محمَّد» يقول: «لا ريب أنّ خديجة عند موت كلّ واحد منهما (أي ولدي النبيّ: القاسم وعبداللّه) في الجاهلية توجَّهت إلى آلهتها الأصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها».(2)

إنَّ هذا الكلام لا يستند إلى أي دليل تاريخي، وليس هو بالتالي إلّاحَدْسٌ باطل، وادّعاء فارغ ليس له من منشأ إلّاأنّ أغلبية أهل ذلك العصر كانوا عبَدة أوثان، فلابُدّ أنّ خديجة كانت على منوالهم!!

في حين أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يبغض الأصنام والأوثان من بداية شبابه، وقد اتّضح موقفُه منها أكثر في سفرته إلى الشام في أموال خديجة يوم قال لمن استحلفه باللّات والعزى: «إليك عنّي، ثكلتك أُمّك فما تكلَّمت العربُ بكلمةٍ أثقل عليَّ من هذه الكلمة».(3)

مع ذلك كيف يمكنُ القولُ بأنّ امرأة لبيبة عاقلة لم يكن شدّةُ حبّها وشغفها بزوجها موضعَ شكّ، أن تتوجَّه عند موت وَلديها إلى الأصنام التي كانت أبغض الأَشياء عند زوجها، وخاصّة أنّ حبّها لزوجها «محمَّد»، بل إقدامها على الزواج منه إنّما كان بسبب ما كان يتحلّى به من إيمان ومعنوية، وصفات فاضلة، وملكات

ص:315


1- . بحار الأنوار: 22/151.
2- . حياة محمَّد: 128.
3- . بحار الأنوار: 16/17.

أخلاقية عالية، فهي قد سمعت عنه بأنّه آخر نبيّ، وأنّه خاتم المرسلين، فكيف والحال هذه يمكن أن يحتمل أحد أنّها - مع هذا الاعتقاد - بثّت شكواها وحزنها إلى الأوثان والأصنام؟؟!

دَعِيُّ رسول اللّه: زيد بن حارثة

عند الحَجَر الاسود أعلن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن تبنّيه له... ذلك هو زيد بن حارثة.

وكان «زيدٌ» ممّن سباهُ العرب من حدود الشام، وباعُوه في أسواق مكّة رقيقاً لأحد أقرباء «خديجة» يُدعى «حكيم بن حزام»، ولكن لا يُعرف كيف انتقل إلى «خديجة» في ما بعد؟

يقول هيكل في كتابه «حياة محمَّد» في هذا الصدد «لقد ترك موتُ ولدَيْ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في نفس النبيّ أثراً عميقاً حتّى إذا جيء بزيد بن حارثة يُباعُ طلب إلى «خديجة» أن تبتاعه ففعلت ثم أعتقه وتبنّاه».(1)

ولكن أكثر المؤرّخين يقولون: إنّ «حكيم بن حزام» قد اشتراه لعمّته «خديجة بنت خويلد»، وقد أحبَّه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لذكائه وطهره، فوهبته «خديجة» له عند زواجه صلى الله عليه و آله و سلم منها. ففتش عنه والدُه «حارثة» حتّى عرف بمكانه في مكّة، فقدمها، ودخل على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فطلب منه أن يأذن لزيد ليرحل معه إلى موطنه، فدعاه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخيّره بين المقام معه صلى الله عليه و آله و سلم والرحيل إلى موطنه مع أبيه، فاختار المقام مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لما وجد من خلقه، وحنانه، ولطفه العظيم، فلمّا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذلك أخرجه إلى الحجر وأعتقه ثم تبنّاه على مرأى من الناس ومسمع قائلاً: «يا من

ص:316


1- . حياة محمَّد: 128.

حضر اشهدوا أنّ زيداً ابني».(1)

بدايةُ الخِلاف بَين الوثنيّين

لقد أوجدت البعثة النبويّةُ خلافاً واختلافاً كبيراً في أوساط قريش وفرّقْت صفوفهم، غير أنّ هذا الاختلاف قد وُجدت أسبابُه وعواملُه، وظهرت بوادرُه وعلائمُه قبل البعثة المباركة.

فقد أبدى جماعةٌ من الناس في الجزيرة العربية استياءهم من دين العرب وأنكروا عقائدهم الباطلة، وطالما كانوا يتحدّثون عن قرب ظهور النبيّ العربيّ الّذي يتمُّ على يديه إحياء التوحيد.

وكان اليهود يتوعّدون أهل الأصنام بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويقولون:

ليخرجنَّ نبيٌّ فَليكسرن أصنامكم.(2)

وكتب ابن هشام يقول: كان اليهود يقولون للعرب: إنّه قد تقارب زمان نبيّ يُبعث الآن نقتلكم معه قتلَ عاد وإرم.(3)

وكتب يقول أيضاً: وكانت الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، والكهّان من العرب قد تحدّثوا بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل مبعثه.(4)

هذه الكلمات تُصوِّر انقضاء عهد الوثنية في نظرهم إلى درجة أنّ بعض القبائل أجابت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا بُعثَ، ودعاهم إلى اللّه، بينما أحجمت اليهودُ عن الإيمان به وبرسالته وبقيت على كفرها وجحودها لنبوّته الّتي طالما بشّرت بها.

ص:317


1- . أُسد الغابة: 2/225 و 226.
2- . بحار الأنوار: 15/231.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/137؛ مكتبة محمد علي صبيح، مصر.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/132.

وقد نزل فيهم قولُه تعالى:

«وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (1).(2)

أعمدةُ الوثنيّة تهتزُّ

ولقد شهدَ أحدُ أعياد قريش حادثاً غريباً كان في نظر العقلاء وأصحاب الفكر الثاقب منهم بمثابة جرس إنذار اذِن باقتراب سقوط دولة الوثنيّين، وإنهيار صروح الوثنيّة وعبادة الأصنام، وانقراضها.

فقد اجتمعت قريش يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظّمونه وينحرون له، ويعكفون عنده، فتنحّى أربعةٌ ممّن عُرفوا بالعلم ناحية، وأخذوا يتحدَّثون سرّاً، وأخذوا ينتقدون عبادة الأوثان والأصنام، وما عليه قومهم من فساد العقيدة.

فقال بعضهم لبعض: تعلموا واللّه ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم!! ما حَجرٌ نُطيف به لا يسمعُ ولا يبصرُ، ولا يضرُ ولا ينفعُ! يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً...

وكان هؤلاء الأربعة هم:

1. «ورقة بن نوفل» الَّذي اختار النصرانية واستحكم فيها، واتّبع الكتب من أهلها حتّى علم علماً من أهل الكتاب.

2. «عبيداللّه بن جَحش» الّذي أسلمَ عند ظهور الإسلام، ثم هاجر مع

ص:318


1- . البقرة: 89.
2- . السيرة النبوية: 1/137.

المسلمين إلى الحبشة. ومعه امرأته حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة، فلمّا قدمها تنصّر وفارق الإسلام، حتّى هلك هناك نصرانياً.

3. «عثمان بن الحويرث» الّذي قدم على قيصر ملك الروم، فتنصَّر.

4. «زيد بن عمرو بن نفيل» الّذي اعتزل الأوثان، وقال: اعبدُ رب إبراهيم.(1)

إنّ ظهور مثل هذا الاستنكار والجحد للأوثان والوثنية لا يعني أبداً أنَّ دعوة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت تعقيباً لدعوة هذه الجماعة، واستمراراً لها!!

كيف يمكن أنْ نعتبر دعوة رسول اللّه العالمية مع ما انطوت عليه من أهداف كبرى، واستندت إليه من معارف وأحكام لا تُحصى، ردّة فعل لمثل هذا الحادث الصغير وتعبيراً عن مثل هذا الاستنكار المحدود؟!

إنّ الحنيفية وهي سُنّة إبراهيم ودينه لم تكن قد مُحِيت كلّيّاً في الحجاز بعد أيام بعثة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بل كان هناك لا يزال بعض الأحناف (وهم الذين كانوا على دين إبراهيم عليه السلام) منتشرين في أنحاء الجزيرة العربية، إلّاأنّ ذلك لا يعني أنّهم كانوا قادرين على التظاهر بعقيدتهم بين الناس، أو قيادة حركة، أو تربية أفراد على نهجهم، أو أنّ توجُّهاتهم التوحيدية كانت من القوّة بحيث تستطيع أن تكون مصدر إلهام لقيم ومعارف وتعاليم وأحكام لِشخصيّة مثل رسول الإسلام «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم.

فلم يُنقَل عن هؤلاء سوى بعض الإعتقادات المعدودة المحدودة مثل الاعتقاد بالمعاد واليوم الآخر، وشيء بسيط من البرامج الأخلاقية، وحتّى ما نقل عنهم من إبيات توحيدية لا يمكن تأكيد انتسابها إليهم، وإنْ لم يمكن نفي ذلك أيضاً.(2)

ص:319


1- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/147.
2- . ولقد نقل ابن هشام في كتابه: السيرة النبوية: 1/148-152 طائفة من الأبيات والقصائد

فهل يمكن والحال هذه أن نعتبر الثقافة الإسلامية العظيمة، والمعارف العقلية العالية، والقوانين والتشريعات المفصّلة، والأنظمة الأَخلاقية والسياسية والاقتصادية الإسلامية، الشاملة الكاملة، كنتيجة لمتابعة أُولئك النفر المعدود من «الأحناف» الموحّدين المنتشرين في أنحاء مختلفة من بلاد الحجاز الذين كانت جلُ عقائدهم تتألّف من مجرد الاعتقاد بوجود اللّه، واليوم الآخر وقضية أو قضيتين من قضايا الأخلاق؟!

نموذج آخر عن ضَعف قريش

لم يكن يمض على عُمر فتى قريش أكثر من خمس وثلاثين عاماً يومَ واجه اختلافاً كبيراً بين قريش، فأزال بحكمته ذلك التخاصم، ولقد كشفت هذه الحادثة عن مدى الإحترام الّذي كان فتى قريش «محمَّد» يحظى به لدى قريش، كما وتكشف عن قوة اعتقادهم بصدقه وأمانته.

واليك تفصيل هذه الحادثة:

انحدر سيلٌ رهيب من جبال مكّة المرتفعة نحو بيت اللّه المعظّم «الكعبة المقدّسة» فلم يسلم من هذا السيل بيت في مكّة حتّى الكعبة المعظمة، الّتي تصدَّعتْ جدرانُها تصدعاً كبيراً بفعل ذلك السيل.

فعزمت قريشٌ على تجديد تلك البِنية المعظمة، ولكنّها تهيّبت ذلك، وتردّدت في هدم الكعبة، فأقدم «الوليد بن المغيرة» وهدمَ ركنين منها على شيء

ص:320

من الخوف، فانتظر أهلُ مكّة أن يحل به أمرٌ، ولكنّهم لمّا رأوا «الوليد» لم يصبه غضب من الآلهة، اطمأنّوا إلى أنّه لم يرتكب قبيحاً، وأنّه عمل ما فيه رضى آلهتهم، فأقدَمُوا جميعاً على هدم ما تبقى من الكعبة، واتّفق أن تحطّمت سفينة قادمة من «مصر» في تجارة لروميّ عند ميناء «جدة» بفعل الرياح والعواصف، فعلمت بذلك قريش، وأرسلت رجالاً يبتاعون أخشابها ليستخدموها في بناء الكعبة المعظمة، وأوكلوا أمر نجارتها إلى نجّار قِبطيّ محترف كان يقطن «مكّة».

ولمّا ارتفعت جدران الكعبة إلى قامة الرجل، وآن الأوان لوضع الحجر الأسود في محله من الركن وقع الاختلاف بين زعماء قريش، وتنازعوا في مَن يتولّى وضع الحجر الأسود في مكانه.

وتحالفت قبيلة «بني عبدالدار» مع «بني عَديّ» على أن يمنعوا من أن ينال هذا الفخار غيرُهم، وعمدوا إلى إناء مملوء بالدم فوضعوا أيديهم فيه تأكيداً لذلك الميثاق.

من هنا تأخّرت عملية البناء وتوقّفت خمسة أيام بلياليها، وكاد أن تنشب بينهم حربٌ دامية، وربّما طويلة، فقد اجتمعت طوائف مختلفة من قريش في المسجد الحرام وهي تنتظر حادثة خطيرة، فعمد - في الأخير - شيخ من شيوخ قريش يُدعى «أبو أُميّة بن مغيرة المخزومي» من زعماء قريش وقال: يا معشر قريش، إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أوّل مَن يدخل من باب هذا المسجد(1)يقضي بينكم فيه، فقبلوا برأيه أجمع، فكان أوّل داخل عليه فتى قريش «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمَّد.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: هلم إليّ ثوباً، فأخذ الحجَر ووضعه فيه ثم قال:

ص:321


1- . وفي رواية: أوّل مَن يدخل باب الصفا.

«لتأخذْ كلُّ قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوهُ جميعاً»

ففعلوا حتّى إذا بلغوا به موضعه من الركن وضعه صلى الله عليه و آله و سلم هو بيده مكانه، وبهذا حال دون وقوع حوادث دامية كادت أن تقع بسبب تنازع قريش، واختلافها، وحلَّ الوفاق محل الشقاق بعد أن رضي الكلُّ بحكمه.(1) وإلى قضية التحكيم هذه يشير «هبيرة بن أبي وهب» في أبيات صوَّرت هذه الحادثة التاريخية الكبرى، إذ قال:

تشاجَرَتِ الأحياء في فَصْل خطةٍ جرت طيرهم بالنَحس مِن بعد أسعد

فلاقَوا لها بالبُغض بعد مَودَّة وأوقدوا ناراً بينهم شرّ موقد

فلما رأينا الأمر قد جدَّ جدُّه ولم يبقَ شيء غيرُ سلّ المهند

رضينا وقلنا العدل أوّلُ طالع يجيء من البطحاء على غير موعد

فلم يفجأنا إلّاالأمينُ محمَّدٌ فقلنا رضينا بالأمين محمَّد

بخير قريش كلِّها أمسى شيمة وفي اليوم مع ما يُحدثُ اللّه في غد

فجاء بأمر لم ير الناس مثلَه أعمَّ وأرضى في العواقب والبَدِ

فتلك يدٌ منهُ علينا عظيمة يروح بها ركب العراق ويغتذ(2)

ص:322


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/124-127.
2- . إمتاع الأسماع: 4/108. والجدير بالذكر أنّهم قالوا عند تجديد بناء الكعبة: «يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها مِن كسبكم إلّاطيّباً، لا يدخلُ فيها مهر بغيّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس» (البداية والنهاية: 2/368) ولا شكّ أنّ هذه من بقايا تعاليم الأنبياء الّتي بقيت بينهم ولم تمح بالمرّة.

أمينُ قَريشُ يَكْفُلُ عَليّاً

أجدبت مكةُ وضواحيها سنة من السنين، وقلّ فيها الماء، وأصابت الناس أزمة شديدة، وكان أبوطالب عليه السلام كثير العيال، فعزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أن يساعد عمّه أباطالب، ويخفّف عنه عبء العيال، فانطلق إلى عمّه العباس وقال له: «إنّ أخاك أباطالب كثير العيال وقد أصابَ الناس ماترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفّفْ من عياله، آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنتَ رَجلاً».

فكفل العباسُ جعفراً، وكفل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً عليه السلام.

يقول أبوالفرج الاصفهاني المؤرّخ المعروف في هذا الصدد:

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذ «عليّاً» من أبيه وهو صغير في سنة أصابت قريشاً وقحط نالهم، وأخذ حمزة جعفراً، وأخذ العباس طالباً ليكفوا أباهم مؤونتهم ويخفّفوا عنهم ثقلهم، وأخذ هو (أي أبوطالب) عقيلاً لميله كان إليه فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «اخترتُ مَن اختار اللّه لي عليكم: عليّاً».(1)

إنّ هذه الحادثة وإن كانت في ظاهرها تعني أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أقدم على هذا الأمر ليساعِدَ عمَّه أباطالب في تلك الأزمة، لكن الهدف الأعلى والأخير كان أمراً آخر وهو أنْ: يتربّى علي عليه السلام في حجر النبيّ، ويغتذي من مكارم أخلاقه ويتبعه في كريم أفعاله.

ولقد أشار الإمام عليُّ عليه السلام نفسُه إلى هذا الموضوع بقوله:

«وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ رَسُول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالقَرابَةِ القريبَة وَ المَنزِلَةِ الخَصيْصَة، وضعني في حجره وَ أنا ولَد يَضمُّنِي إلى صَدْرهِ وَ يَكنفُني في فِراشِه... وَ

ص:323


1- . مقاتل الطالبيين: 15؛ السيرة النبوية: 1/162 باب أنّ عليّ بن أبي طالب أوّل ذكر أسلم.

لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبعُهُ اتّباعَ الفَصِيْل أَثر أُمِّه، يَرفَعُ لِي في كُلِّ يَوْم مِنْ أخْلاقِهِ عَلَماً، وَيأمُرُني بالإقتداء بِه»(1).

إيمان النبيّ وآبائه وكفلائه قبل الإسلام

تدلُّ الدلائل التاريخيّة، القوّية، فضلاً عن الأدلّة العقلية والمنطقية على أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لم يعبُدْ غير اللّه تعالى منذ وُلِدَ، وإلى أن رحل إلى ربّه، بل وكان كفلاؤه مثل عبدالمطلب وأبي طالب مؤمنون موحِّدُونَ هم أيضاً:

إيمان جدّه عبدالمطّلب

وأمّا عبدالمطلب كفيل النبيّ الأوَّل فلا ننسى أنّه عندما قصد «أبرهة» هدم الكعبة في جيش الفيل، نزل في جوف الليل إلى الكعبة وأخذ بحلقة بابها يَدْعو اللّه سبحانه ويناجيه:

«اللّهم أنيسَ المُسْتَوحشِين، ولا وحشة مَعكَ، فالبيتُ بَيْتُكَ، والحرم حرمك، والدارُ دارُك، ونحنُ جيرانكَ، انّك تمْنَعُ عَنْه ما تشاء، وربّ الدّار أولى بالدّار».(2)

ثم أنشأَ يقول:

يا ربّ لا أرجُو لَهُمْ سِواكا ياربِّ فاْمنَعْ مِنْهُمُو حِماكا

إنَ عَدُوَّ الْبيْت مَنْ عاداكا إمنَعْهُمُو أن يُخربوا فناكا(3)

وهذا يكشف بوضوح عن إيمان عبدالمطلب باللّه تعالى، وتوكّله عليه سبحانه، وأنّه كان الرجل الموحّد الّذي لا يلتجئ في المصائب والمكاره إلى غير

ص:324


1- . نهج البلاغة: الخطبة 192.
2- . بحار الأنوار: 15/66.
3- . الكامل في التاريخ: 1/444؛ بحار الأنوار: 15/70. ولعبدالمطلب مواقف أُخرى مشابهة، وعديدة، راجع بصددها مفاهيم القرآن: 5/136-140.

كهف اللّه، ولا يعرف إلّاباب اللّه على عكس ما كانت الوثنية عليه فإنّ قومه كانوا يستغيثون بالأصنام المنصوبة حول الكعبة.

وممّا يدلّ على إيمانه أيضاً توسّله لكشف غمّته باللّه سبحانه فقد تتابعت على قريش سنون جدب ذهبت بالأموال، وأشرفت الأنفس واجتمعت قريش لعبدالمطلب، وعَلَوا جبل أبي قبيس ومعهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم محمَّد وهو غلام فتقدّم عبدالمطلب وقال: لاهم (أي اللّهم) هؤلاء عبيدك وإماؤك وبنو إمائك، وقد نزل بنا ماترى، وتتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف والخف والحافر، - أي الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير - فأشرفت على الأنفس - أي أشرفت على ذهابها - فأذهِب عنا الجدب، وائتنا بالحياء والخصب، فما برحوا حتّى سالت الأودية، وفي ذلك تقول رقيقة:

بشيبة الحمد أسقى اللّه بلدتنا وقد عدمنا الحيا واجلوّذ المطر

إلى أن تقول:

مبارك الاسم يستسقى الغمام به ما في الأنام له عدل ولا خطر(1)

وإلى هذه الواقعة يشير أبوطالب في قصيدة أوّلها:

أبونا شفيع الناس حين سقوا به من الغيث رجاس العشير بكور

ونحن - سنين المحل - قام شفيعنا بمكة يدعو والمياه تغور

وقد نقل الشهرستاني هذه الواقعة في كتابه «الملل والنحل» قال: وممّا يدلّ

ص:325


1- . السيرة الحلبية: 1/181-182.

على معرفته (أي عبدالمطلب) بِحال الرسالة وشرف النبوة أنّ أهل مكّة لمّا أصابهم ذلك الجدب العظيم، وأمسك السحاب عنهم سنتين أمر أباطالب ابنه، أن يُحضر المصطفى محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم فأحضره أبوطالب، وهو رضيع في قماط، فوضعه في يديه واستقبل الكعبة، ورماه إلى السماء، وقال: يا رب بحقّ هذا الغلام، ورماه ثانياً وثالثاً وكان يقول: بحقّ هذا الغلام أسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلاً، فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر، حتّى خافوا على المسجد.(1)

وقال أيضاً: وببركة ذلك النور كان عبدالمطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثّهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيات الأُمور.(2)

وببركة ذلك النور كان يقول في وصاياه: «إنّه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتّى ينتقم اللّه منه وتصيبه عقوبة»، إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة، فقيل لعبدالمطلب في ذلك، ففكّر وقال: واللّه إنّ وراء هذا داراً يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب فيها المسيء بإساءته.(3)

إنّ توسّل عبدالمطلب باللّه سبحانه وتولّيه عن الأصنام والأوثان، والتجاءه إلى ربّ الأرباب آية توحيده الخالص، وإيمانه باللّه وعرفانه بالرسالة الخاتمة، وقداسة صاحبها، فلو لم يكن له إلّاهذه الوقائع لكفت في البرهنة على إيمانه باللّه، وتوحيده له.

وقد اعترف المؤرّخون لعبدالمطلب بهذا، فقد قال اليعقوبي: «ورفض (عبدالمطلب) عبادة الأصنام، ووحّدَ اللّه عزّوجلّ، ووفى بالنذر، وسنّ سنناً نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنّة الشريفة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بها، وهي: الوفاء

ص:326


1- . الملل والنحل: 2/240؛ دار المعرفة، بيروت.
2- . الملل والنحل: 2/239.
3- . الملل والنحل: 2/239-240.

بالنذور، ومائة من الإبل في الدية، وأن لا تنكح ذاتُ محرم، ولا تؤتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءُودة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا، والحدّ عليه، والقرعة، وأن لا يطوف أحد بالبيت عرياناً، وإضافة الضيف، وأن لا ينفقوا إذا حجّوا إلّامن طيّب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحُرُم، ونفي ذوات الرايات.(1)

هذا وعن أُم أيمن «رضي اللّه عنها» قالت: كنتُ أحضن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم (أي أقوم بتربيته وحفظه)، فغفلت عنه يوماً فلم أدر إلّابعبدالمطلب قائماً على رأسي يقول «يا بركة».

قلت: لبيك.

قال: أتدرين أين وجدتُ ابني؟

قلت: لا أدري.

قال: وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، لا تغفلي عن ابني، فإنّ أهل الكتاب يزعمون أنّه نبيّ هذه الأُمّة، وأنا لا آمن عليه منهم.

وكان عبدالمطلب لا يأكل طعاماً إلّايقول عليّ بابني (أي أحضروه). قال:

وكان عبدالمطلب إذا أتى بطعام أجلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى جنبه، وربّما أقعده على فخذه، فيؤثره بأطيّب طعامه.(2)

ثم إنّه لمّا بلغ أجله أوصى إلى أبي طالب برسول اللّه وقال له: قد خلّفت في أيديكم الشرف العظيم الّذي تطئون به رقاب العرب، وقال لأبي طالب:

أُوصيك يا عبد منافٍ بعدي بمفرد بعد أبيه فرد

ص:327


1- . تاريخ اليعقوبي: 2/10-11، دار صادر بيروت. وفي بعض ما عدّه المؤرّخ المذكور نظر.
2- . سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/180.

فارقهُ وهو ضجيع المهد فكنت كالأُمّ له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبد فأنت من أرجى بنيي بعدي

لدفع ضيم أو لشدّ عقدِ(1)

هذا هو عبدالمطلب، وتعوّذه ببيت اللّه الحرام، ومواقفه بين قومه، وكلماته في المبدأ والمعاد، وعطفه وحنانه على رسول الإسلام، واهتمامه برسالة خاتم النبيّين، وهي بمجموعها من أقوى الشواهد على توحيده، وإيمانه باللّه، واعترافه برسالة الرسول الكريم.

إيمان كفيله وعمه أبي طالب

وهكذا كان حال كفيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الثاني أبوطالب عليه السلام، فإنّ له مواقفَ بارزة وكثيرة قبل البعثة النبوية، وبعدها تكشف عن عمق إيمان شيخ الأباطح، وتوحيده.

ومن تلك المواقف استسقاؤه برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في صباه:

فقد أصاب مكّة قحطٌ شديدٌ في سنة من السنين فطلبت قريش من «أبي طالب» أن يستسقي لها فخرج ومعه غلامٌ - وهو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كأنّه شمسُ دجن تجلّت عنها سحابة قتماء وحوله أُغيلمةٌ، فأخذه «أبوطالب» فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بإصبعه (أي أشار بها إلى السماء) وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق، واغدودق وانفجر له الوادي، وأخصب البادي والنادي.

ففي ذلك يقول أبوطالب - في مدح رسول اللّه -:

وابيضُ يُستَسقى الغمامُ بوجهه ثمالُ اليتامى عِصْمةٌ لِلأرامِلِ

ص:328


1- . تاريخ اليعقوبي: 2/13.

يَلُوذُ بِهِ الهُلاكُ مِن آلِ هاشِم فَهُمْ عِنْدهُ في نَعمةٍ وَفَواضِل

وميزانُ عَدْل لايَخيسُ شعيرة ووَزّانُ صِدْق وزنُه غير هائل(1)

وكلّ هذا يعرب عن توحيد كفيلي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الخالص، وإيمانهما باللّه تعالى، ولو لم يكن لهما إلّاهذين الموقفين لكفياهما دليلاً وبرهاناً على كونهما مؤمنين موحّدِين.

كما أنّ ذلك يدل أيضاً على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نشأ وترعرع ونما في بيتٍ كانت الديانة السائدة فيه هي توحيد اللّه، وعبادته وحده ورفض الأصنام والأوثان.

إيمان والدَي النبيّ الأكرم

لقد نقلت عن عبداللّه والد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلمات وأبيات تدلّ على إيمانه ومن ذلك ما نقله أهل السير عندما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه لما كانت ترى على وجهه من النور، فأبى وقال:

أمّا الحرامُ فالمماتُ دونَه والحِلّ لاحِلّ فاستبينُه

يحمي الكريمُ عرضَه ودينَه فكيفَ بالأمر الّذي تبغينه(2)

وقد روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لم أزلْ أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» ولعلّ فيه إيعازاً إلى طهارة آبائه وأُمّهاته من كلّ دنس وشرك.(3)

وأمّا الوالدة فيكفي في إثبات إيمانها ما رواه الحفّاظ عنها عند وفاتها فإنّها

ص:329


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/190، وللتوسّع راجع الغدير: 7/345 و 346، وقد ذكرنا مواقف أبي طالب الإيمانية عند البحث عن شخصيته فراجع.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/235؛ السيرة الحلبية: 1/63.
3- . سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/58.

(رضي اللّه عنها) خَرجت مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهو ابن خمس أو ست سنين ونزلت بالمدينة تزور أخوال جدّه وهم بنو عدي بن النجار ومعها أُمّ أيمن «بركة» الحبشية، فأقامت عندهم، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر أُموراً حدثت في مقامه ويقول: إنّ أُمّي نزلت في تلك الدار، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ فنظر إليَّ رجلٌ من اليهود فقال: يا غلام ما اسمك؟ فقلت: أحمد، فنظر إلى ظهري، وسمعته يقول: هذا نبيّ هذه الأُمّة، ثم راح إلى إخوانه فأخبرهم، فخافت أُمّي عليِّ فخرجنا من المدينة، فلمّا كانت بالأبواء توفّيت ودُفنت فيها.

وروى أبو نعيم في «دلائل النبوّة» عن أسماء بنت رهم قالت: شهدت آمنة أُمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في علّتها الّتي ماتت بها، ومحمَّد عليه السلام غلام يفع (أي يافع) له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها:

إن صحَّ ما أبصرتُ في المنام فأنت مبعوثٌ إلى الأنام

فاللّه أنهاكَ عن الأصنام أن لا تواليها مع الأقوام

ثمّ قالت: كلّ حيّ ميّت، وكلّ جديد بال، وكلّ كبير يفنى، وأنا ميّتة وذكري باق وولدتُ طهراً. وقال الزرقاني في شرح المواهب نقلاً عن جلال الدين السيوطي تعليقاً على قولها: وهذا القول منها صريح في أنّها كانت موحِّدة إذ ذكرت دين إبراهيم عليه السلام، وبشّرت ابنها بالإسلام من عنداللّه، وهل التوحيد شيء غير هذا، فإنّ التوحيد هو الاعتراف باللّه وأنّه لا شريك له، والبراءة من عبادة الأصنام.(1)

ونلفت نظر القارئ الكريم هنا إلى ما قاله المرحوم الشيخ المفيد في كتابه «أوائل المقالات» في هذا الصدد:

ص:330


1- . الإتحاف للشبراوي: 144؛ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/57.

اتّفقت الإمامية على أنّ آباء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من لدن آدم إلى عبداللّه بن عبدالمطلب مؤمنون باللّه عزّوجلّ موحّدون له، واحتجّوا في ذلك بالقرآن والأخبار. قال اللّه عزّوجلّ: «اَلَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ * وَ تَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ» (1).(2)

ثمَّ إنّ هنا سؤالين هما:

1 - هل كان صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة مُوحِّداً؟

2 - بماذا وبأيِّ دين كان يتعبَّد صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة؟

وإليك الحديث فيهما:

إيمان النبيّ باللّه وتوحيده قبل البعثة

إنَ الدلائل التاريخية - بالإضافة إلى البراهين العقلية والكلامية - تدلّ على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قبل أن يبعثه اللّه بالإسلام، مؤمناً باللّه، موحّداً إيّاه، لم يعبد وثناً قط، ولم يسجد لصنمٍ أبداً، وإنّ ذلك من المسلّمات.

وهذا الأمر وإن كان أمراً مسلّماً وواضحاً كوضوح الشمس، إلّاأنّنا نذكر بعض ما جاء في التاريخ الثابت الصحيح ليقترن ذلك الاتّفاق بأصحّ الدلائل التاريخية:

أمّا بغضه للأَصنام وتجنبه للأوثان وما يكون من هذا القبيل، فإليك بعض ما ذكره التاريخ الصحيح في هذا المجال:

1. جاء في حديثٍ طويلٍ عن حليمة السعدية إنَّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا تمّ له ثلاث

ص:331


1- . الشعراء: 218-219.
2- . أوائل المقالات: 45، دار المفيد، بيروت - 1414 ه.

سنين قال لي يوماً: يا أُمّاه (مرضعته حليمة السعدية): مالي لا أرى أخَويَّ بالنهار؟ قلت له: يا بُنيّ إنّهما يرعَيان غُنَيْمات.

قال: فمالي لا أخرج معهما، قلت له: تحبُ ذلك؟ قال: نعم. فلمّا أصبَحَ محمَّد دهّنته (تقول حليمة) وكحّلته وعلّقتُ في عنقه خيطاً فيه جِزعٌ يمانيّ، فنزعها ثم قال لي:

«مَهْلاً يا أُمّاهُ فَإنَّ مَعِيَ مَنْ يَحفظني».(1)

2. روي أنّ «بَحيرا» الراهب قال للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في سفرته الأُولى مع عمّه أبي طالب إلى الشام: ياغلام أسألك بحقّ اللّات والعزى إلّاأخبَرْتَني عمّا أسألك، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا تسأَلْنِي باللّات والعُزّى فواللّه ما أبغَضتُ شَيئاً بغضَهُما» قال (الراهب):

فباللّه إلّاأخْبَرْتني عمّا أسالك عنه، قال صلى الله عليه و آله و سلم: سَلْني عمّا بدا لك.(2)

3. روي أنّه قد وقع بين النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وبين رجل تلاح في سفرته الثانية إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها «ميسرة» بعد أن باع صلى الله عليه و آله و سلم سلعته، فقال له الرجل: إحلِفْ باللّات والعزى، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«ما حلفتُ بهما قطُّ، وإنّي أمُرُّ فأُعرِضُ عنهما».

وفي رواية أُخرى:

«إليكَ عَني ثكلتْكَ أُمُّكُ فما تكلّمت العربُ بكلمة أثقلَ عليَّ من هذه الكلمة».

فقال الرجل: القولُ قولك. ثم قال لميسرة: هذا واللّه نبيّ تجده أحبارنا

ص:332


1- . المنتقى، الباب الثاني من القسم الثاني - للكازروني كما في البحار: 15/392.
2- . الطبقات الكبرى: 1/154، السيرة النبوية: 1/117.

منعوتاً في كتبهم.(1)

وأمّا عبادته للّه تعالى فقد أجمع المؤرّخون على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يخلو بحراء كلّ عام شهراً يعبد فيه اللّه تعالى.

وقد قال الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في هذا المجال:

«وَ لَقَدْ كانَ يُجاورُ في كلِّ سَنة بحراء، فأراه وَ لا يراهُ غيري».(2)

حتّى أنّ جبرئيل وافاهُ بالرسالة في ذلك المكان، وفي تلك الحال.

وقد صَرَّح بهذا أصحابُ الصحاح الستة أيضاً إذ قالوا:

«وَ كانَ يخلو بغار حراء فيتحنّثُ فيه، وهو التعبّد الليالي ذوات العدد».(3)

كما أنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام وصف هذا المقطع من حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بقوله:

«ولقد قرَن اللّه به صلى الله عليه و آله و سلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ».(4)

وجاء في الأخبار أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حجّ قبل البعثة حجّات عديدة وكان يأتي بمناسكها على وجه صحيح بعيداً عن أعين قريش.

قال الإمامُ الصادقُ عليه السلام: في حديث ابن أبي يعفور:

«حج رَسُولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عشر حجَّات مُستتراً في كُلِّها».(5)

وفي رواية: عشرين حجّة.(6)

ص:333


1- . الطبقات الكبرى: 1/130؛ بحار الأنوار: 16/17-18.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 192.
3- . صحيح البخاري: 1/3، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؛ صحيح مسلم: 1/97، باب بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.
4- . نهج البلاغة: الخطبة رقم 192.
5- . وسائل الشيعة: ج 8، الباب 45 من أبواب وجوب الحج وشرائطه، الحديث 5.
6- . وسائل الشيعة: ج 8، الباب 45 من أبواب وجوب الحج وشرائطه، الحديث 6.

والسبب في هذا الاستتار هو أنّ قريش كانت قد أسقطت بعض مناسك الحج، والعمرة، فكانت تؤدّي الحج بصورة غير صحيحة وربّما غيّرت أشهر الحج أحياناً لبعض الاعتبارات السياسية والمادّية، وهو ما سمّي بالنسيء، وقد مرّ بيانه.

إنّ هذه الوقائع وغيرها - وهي ليست بقليلة - أصدق دليل على إيمانه صلى الله عليه و آله و سلم، وتوحيده، إذ كيف يمكن أن يتنكَّب مثل هذه الشخصية الّتي نشأت وترعرعت في ذلك البيت الطاهر، وقرن اللّه به ملكاً يتولّاه بالتربية والهداية عن جادة التوحيد.

ثم إنّ ممّا لا ريب فيه أنّ الرسول الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم هو أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين بنصّ القرآن الكريم.

وقد صرّح القرآن بأنّ بعض الأنبياء بلغوا درجة النبوّة في الصغر، أو الصبا، ونزلت عليهم الكتب في تلك الفترات.

فَمثلاً يقول القرآن الكريم عن يحيى بن زكريا: «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» .(1)

ثم يقول عن «عيسى بن مريم» عندما كان في المهد وكان وجوه القوم من بني اسرائيل قد استنكروا ولادته من غير أب، وطلبوا من «مريم البتول» أن توضّح لهم الأمر، وتبيّن لهم كيف حملت بعيسى؟!! فأشارت إلى المسيح عليه السلام أن كلِّموه وهو آنذاك في المهد لم يمض على ولادته سوى أيام معدودات؛ فنطق المسيح بفصاحة كبيرة وقال:

«إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» .(2)

ص:334


1- . مريم: 12.
2- . مريم: 30-31.

لقد بيَّن وليد «مريم» للناس أُصول دينه وفُروعه في فترة الطفولة والرضاعة، وأعلن لهم عن توحيده وإيمانه باللّه سبحانه.

فهل يرضى ضميرك أيّها القارئ الكريم أن يكون «يحيى» و «المسيح» عليهما السلام مؤمنين معلنين عن توحيدهما، وإيمانهما منذ طفولتهما، وصباهما، ويكون أفضل الأنبياء والمرسلين، وأشرف الخلق أجمعين إلى سِنّ الأربعين على غير إيمان، وتوحيد، مع أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان مشتغلاً بالتعبّد في جبل «حراء» عند نزول الوحي عليه لأوّل مرّة؟

وإليك بعض ما قاله المؤرّخون، والعلماء في هذا المجال استكمالاً لهذا المبحث: قال ابن هشام: فكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يجاور ذلك الشهر من كلّ سنة يطعم مَن جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جواره من شهره ذلك، كان أوّل ما يبدأ به إذا انصرف من جواره، الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوفُ به سبعاً أو ما شاء اللّه من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتّى إذا كان الشهر الّذي أراد اللّه تعالى به فيه ما أراد من كرامته من السنة الّتي بعثه اللّه تعالى فيها، وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى «حراء» كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتّى إذا كانت الليلة الّتي أكرمه اللّه فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبرئيل عليه السلام بأمر اللّه تعالى.(1)

وقال العلّامة المجلسي: وقد ورد في أخبار كثيرة أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يطوف، وأنّه كان يعبد اللّه في حراء، وأنّه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند الأكل وغيره، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل على اللّه تعالى أن يهمل أفضل أنبيائه أربعين سنة بغير عبادة؟ والمكابرة في ذلك سفسطة.(2)

ص:335


1- . السيرة النبوية: 1/155.
2- . بحار الأنوار: 18/280.

فإيمان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وتوحيده قبل البعثة، إذن، أمرٌ مسلّمٌ لا شبهة فيه، ولا غبار عليه.

ولكن بعض الكُتّاب من المسيحيين ومن تبعهم، من المستشرقين وغيرهم، أبوا إلّاأن ينتقصوا النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فادّعوا ضلالَهُ قبل البعثة، وإنّه كان على غير إيمان، أو توحيد، واستدلّوا لزعمهم الباطل هذا بما توهّموا أنّه يدلّ على دعواهم من الآيات القرآنية، وأبرزها الآيات التالية:

1. «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى» .(1)

2. «وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ * وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» .(2)

3. «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .(3)

4. «قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» .(4) 5. «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» .(5)

شبهات المستشرقين على عدم إيمان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة

اشارة

لقد استدلّ المستشرقون ومَن لفّ لفّهم ومن سبقهم أو لحقهم من المخطّئة بهذه الآيات على ضلال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة، وسلب الإيمان عنه، ولكنّها لا تدلّ على ما يريدون، ولأجل تسليط الضوء على مقاصدهم نبحث عنها واحدة واحدة.

ص:336


1- . الضحى: 6-7.
2- . المدّثر: 4-5.
3- . الشورى: 52.
4- . يونس: 16.
5- . القصص: 86.
الآيةُ الأُولى: الهداية بعد الضلالة

ذكرالمفسّرون لقوله تعالى: «وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى» (1) الّذي يشعر بهداية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد الضلالة احتمالات عديدة، في معرض الإجابة عن استدلال مَن استدلّ به لإثبات ضلال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة، ولكن الحقّ أن يقال: إنّ الضال يُستعمل في عرف اللغة في موارد:

1. الضالّ: من الضلالة ضدّ الهداية والرشاد.

2. الضالّ: من ضلّ البعير إذا لم يعرف مكانه.

3. الضالّ: من ضلّ الشيء إذا ضؤل وخفى ذكره.

وتفسير الآية بأيّ واحدة من هذه المعاني لا يثبت ما يدّعيه الذين يتمسّكون بها لأثبات ضلال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة.

أمّا المعنى الأوّل فهو المقصود في كثير من الآيات قال سبحانه: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ» .(2)

لكن الضلالة على نوعين:

النوع الأوّل ما تكون الضلالة فيه أمراً وجودياً في النفس يوجب ظلمة النفس ومنقصتها، مثل الكفر والشرك والنفاق، والضلالة بهذا المعنى قابلة للزيادة والنقصان قال سبحانه: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ» .(3)

النوع الثاني ما تكون الضلالة فيه أمراً عدَمياً، وذلك عندما تكون النفس فاقدة للرشاد، وعندئذ يكون الإنسان ضالّاً بمعنى أنّه غيرُ واجدٍ للهداية من عند نفسه، وذلك كالطفل الّذي أشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير والشر، ويميز

ص:337


1- . الضحى: 7.
2- . الفاتحة: 7.
3- . التوبة: 37.

بين الصلاح والفساد فهو آنذاك ضالٌّ بمعنى أنّه غير واجد للنور الّذي يهتدي به في سبل الحياة، لا بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في نفسه وروحه.

والمراد من الضالّ في قوله تعالى «وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى» لو كان ما يضادد الهداية فهو يهدف إلى النوع الثاني، فيكون المعنى أنّك في إبّان عمرك كنت غير واجدٍ للهداية من عند نفسك فهداك اللّه إلى أسباب السعادة وعرفك عوامل الشقاء، وهو إشارة إلى قانون إلهي عام في حياة البشر أنبياء وأُناساً عاديين، وهو أنّ هداية كلّ إنسان بل كلُّ ممكن مكتسبة من اللّه قال سبحانه: «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .(1)

وعلى هذا الأساس فالآية تهدف إلى ذكر النعم الّتي أنعم اللّه بها على نبيّه الحبيب منذ أن استعدّ لها فآواه بعد ما صار يتيماً، وأفاض عليه الهداية بعدما كان فاقداً لها بحسب ذاته، وبحكم طبيعته، ويعود زمن هذه العناية الربّانية بنبيّه إلى مطلع حياته، وأُوليات عمره وأيام صباه بقرينة ذكر ذلك بعد الإيواء الّذي تحقّق باليتم، وتمّ بجدّه عبدالمطلب فوقع في كفالته إلى ثمانية سنين. ويؤيّد ذلك قولُ إمام المتّقين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: «و لقد قَرنَ اللّه به صلى الله عليه و آله و سلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ».(2)

وصفوة القول: إنّ المراد بكونه ضالّاً هو أنّ لازم كون النبيّ ممكناً بالذات هو كونه فاقداً في ذاته لكلّ كمال وجمال، مفاضاً عليه كلّ جميل من جانب اللّه تعالى، وهذا هو إشارة إلى مقتضى التوحيد الافعالي، وأين هذا من الضلالة المساوقة

ص:338


1- . طه: 50؛ وراجع الآيات: 2 و 3 من سورة الأعلى، و 43 من سورة الأعراف، و 78 من سورة الشعراء، وغيرها.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 192.

للكفر أو الشرك أوالفسق والعصيان؟!

ثم إنّ من المحتمل أن تكون الضلالة في الآية مأخوذة من «ضلّ الشيء إذا لم يُعرف مكانه» وفي الحديث «الحكمة ضالّة المؤمن» أي مفقودته، لاضدّ الهداية والرشاد، فيكون الضالّ بهذا المعنى منطبقاً على ما نقله أهلُ السير والتواريخ عمّا جرى للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في أيام صباه يوم ضلّ في شعاب مكّة، وهو صغير فمنّ اللّه عليه إذ ردّه إلى جدّه، وقصته معروفة في كتب السير والتاريخ(1)، ولولا رحمة اللّه سبحانه لأدركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً فشملتهُ العناية الإلهية.

أو أن تكون الضلالة في الآية مأخوذة من «ضلّ الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين» فالإنسان الضال هو الإنسان المخفيّ ذكره، المنسيّ اسمُه لا يعرفه إلّاالقليل من الناس، ولا يهتدي كثير منهم إليه.

ولو كان هذا هو المقصود، كان معناه حينئذٍ أنّه سبحانه رفع ذكره، وعرّفه للناس بعدما كان خاملاً ذكره منسيّاً اسمُه.

ويؤيّد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح الّتي نزلت لتوضيح ما ورد في سورة الضحى قائلاً:

«أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» .(2)

فرفع ذِكْره في العالم عبارة عن هداية الناس إليه، ورفع الحواجز بينه وبينهم، وعلى هذا فالمقصود من «الهداية» هو هداية الناس إليه لا هدايته بعد ضلال، فكأنّه

ص:339


1- . لاحظ السيرة الحلبية: 1/180. وغيره، وفي هذه القصة يروي عن حيدة بن معاوية العامري سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول: ياربّ ردّ راكبي محمَّداً أردده ربّي واصطنع عندي يدا
2- . الإنشراح: 1-4.

قال: فوجدك ضالاً، أي خاملاً ذكرك، باهتاً اسمُك، فهدى الناس إليك، وسيّر ذكرك في البلاد.

وإلى ذلك يشير الإمام الرضا عليه السلام على ما في خبر ابن الجهم بقوله: «قال اللّه عزّوجلّ لنبيه محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم: «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى» يقول «ألم يَجدْكَ» وحيداً فآوى إليك الناسَ «وَ وَجَدَكَ ضالاًّ» يعني عند قومك «فَهَدى» أي هَداهُمْ إلى معرفَتِك»(1). قال الأُستاذ الشيخ محمَّد عبده في هذا المجال:

لقد بُغِّضتْ إليه (أي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم) الوثنيّةُ من مبدأ عمره فعاجلته طهارةُ العقيدة، كما بادره حسنُ الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله: «وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى» لا يُفهَم منه أنّه كان على وثنيةٍ قبلَ الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم، قبل الخلق العظيم حاشَ للّه، إنّ ذلكَ لهوَ الإفكُ المُبِين(2).

الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز

استدلّوا بقول اللّه تعالى: «وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» على وجود أرضية لعبادة الصنم والوثن في شخصية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وذلك بتفسير الرجز بالصنم، والوثن، ويتّضح بطلان هذا الادّعاء والاستنباط إذا أمعنّا في معاني واستعمالات هذه اللفظة في الكتاب العزيز.

إنّ الرجز استعمل في القرآن الكريم في معان ثلاثة: العذاب، القذارة، الصنم.

وقد استعمل الرجز (بكسر الراء) في تسع موارد في القرآن الكريم، وقد أُريد منه في جميعها العذاب إلّافي مورد واحد: وهي: البقرة - 59، والأعراف - 134 (وجاءت اللفظة فيها مرّتين) و 135 و 162 والأنفال - 11 وسبأ - 5 والجاثية - 11

ص:340


1- . بحار الأنوار: 16/142، الحديث 5.
2- . رسالة التوحيد للشيخ محمَّد عبده: 135 و 136.

والعنكبوت - 34.

وجاء الرُجز - بضمّ الراء - مرّة واحدة وهي الآية الّتي نحن بصددها هنا.(1)

وهذه الآية لا تدلّ على ما ذهب إليه الذين يزعمون بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان على غير التوحيد قبل البعثة.

وإليك بيان هذا الموضوع مفصّلاً:

1. إنّ الرُجز لو كان بمعنى «العذاب» دَلّت الآية على هجر ما يستلزم العذابَ، فيكون الخطابُ حينئذٍ مسوقاً من باب التعليم، ومن باب «إيّاك أعني وأسمعي يا جارة»، فيكون ظاهر الأمر هو مخاطبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ونهيه عمّا يستلزم العذاب، وإرادة تعليم الأُمّة مثل قول اللّه تعالى في خطابه للنبي «فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» (2)، وقوله تعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (3)، فكما لا تدلّ الآية على وجود أرضية الشرك في شخصية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كذلك لا تدلّ الآية على وجود أرضية التعرّض للعذاب في شخصية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

2. إن الرُجز لو كان بمعنى (القذارة) وهي تنقسم إلى مادّية ومعنوية فيحتمل أن يكون المراد - بناء على المعنى الأوّل - إشارة إلى ما ورد في الروايات من أنّ أباجهل جاء بشيء قذر، وأمر رجلاً من قريش بإلقائه على النبيّ، ففعل، فأمراللّه نبيّه بتطهير ثوبه من الدنس.

ويحتمل أن تكون الآية دعوة إلى اجتناب الصفات الذميمة بناء على إرادة المعنى الثاني للفظة الرُجز، فتكون الآية تعليماً للناس على النمط السابق، فلا تدلّ على اتّصاف النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بها.

3. الرُجز بمعنى الصنم، لنفترض أنّ المقصود منه في الآية هو الصنم، لكن لا

ص:341


1- . المدَّثر: 5.
2- . القصص: 86.
3- . الزمر: 65.

بمعنى أنّه وضعَ لذاك المعنى، وإنّما وضعَ اللفظُ لمعنى جامع يعمُّ الصنم والخمر والأزلام لاشتراك الجميع في كونها رجزاً، ولأجل ذلك وصِف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» .(1)

ولكن يجاب عن هذا أيضاً بأنّ النبيّ يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن بل كان مشمّراً عن ساعد الجدّ لتحطيم الأصنام ومكافحة عبدتها، فلا يصحّ أن يخاطَب من هذا شأنه بهجر الأصنام إلّاعلى السبيل الّذي أشرنا إليه وهو توجيه الخطاب إلى النبيّ وإرادة الأُمّة به، لكون هذا النوع من الخطاب أبلغ في التأثير، لأنّه سبحانه إذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به.

الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب والإيمان
اشارة

قوله سبحانه: «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .(2)

زعم جماعة دلالة هذه الآية - والعياذ باللّه - على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان فاقداً للإيمان قبل الإيحاء إليه.

لكنَّ حياته الشريفة المشرقة بالإيمان، والتوحيد، تفنّد تلك المقالة، فالتاريخ يشهد على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم منذ بداية عمره إلى أن لاقى ربّه مؤمناً موحّداً، وذلك أمرٌ لاشكّ فيه، ولا شبهة تعتريه، وقد أجمع على ذلك أهلُ السير والتاريخ، وحتّى أنّ الأحبار والرهبان كانوا معترفين بأنّه نبيُّ هذه الأُمة، وخاتم النبيين، وكان يسمع تلك

ص:342


1- . المائدة: 90.
2- . الشورى: 52.

الشهادات منهم في فترات خاصّة في «مكّة» و «يثرب» و «بصرى» و «الشام»(1)وغيرها، فكيف والحال هذه يمكن أن يكون غافلاً عن الكتاب الّذي ينزل إليه أو يكون مجانباً للإيمان بوجوده سبحانه، و توحيده، والتاريخ المسلَّم الصحيح يؤكّد على عدم صدق ذلك الاستظهار من الآية الحاضرة.

فلابدّ إذن من الإمعان في مفاد الآية كما لابدّ - في تفسيرها - من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق.

بُعث النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لهداية قومه أوّلاً، وهداية جميع الناس ثانياً، بالآيات والبيّنات، ونخصُّ بالذكر منها: القرآن الكريم (معجزته الكبرى الخالدة) الّذي بفصاحته أخرسَ فرسان الفصاحة، وقادة الخطابة، وببلاغته قهر ارباب البلاغة وملوك البيان، وخلب عقولهم، وقد دعاهم إلى التحدّي والمقابلة، فلم يكن الجواب منهم إلّاإثارة الشكوك والتهم حوله، وحول ما جاء به، وعدم المعارضة بمثل القرآن قط.

فتارة قالوا: بأنّه يعلّمه بشر، وأُخرى بأنّه إفكٌ افتراه وأعانه عليه قومٌ آخرون، وثالثة: بأنّه أساطير الأوّلين، قد اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً، قال سبحانه ردّاً على هذه التهم الّتي أشرنا إليها: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ * وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» .(2)

وقال سبحانه «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً * وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً

ص:343


1- . راجع: السيرة النبوية والسيرة الحلبية وبحارالأنوار.
2- . النحل: 102-103.

رَحِيماً» .(1)

والآية المبحوثة بصدد بيان هذا الأمر، وأنّه وحي سماويٌ لا إفكٌ إفتراه، ولهذا بدأ كلامه بعبارة: «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» : أي كما أنّه سبحانه أوحى إلى سائر الأنبياء بإحدى الطرق الثلاثة الّتي بيّنها في الآية المتقدّمة، أوحى إليك أيضاً روحاً من أمره، وليس هذا كلامك وصنيعك، بل كلام ربّك وصنيعه.

هذا مجمل الكلام في الآية ولأجل رفع النقاب عن مرماها نقدّم أُموراً تسلّط الضوء على الآية:

الأوّل: أنّ المراد من الروح في الآية هو القرآن وسمّي روحاً لأنّه قوام الحياة الأُخروية، كما أنّ الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية، وتؤيّد ذلك أُمورٌ:

أ - أنّ محور البحث الأصلي في سورة الشورى هو: الوحي والآيات الواردة فيها البالغ عددُها (53) آية تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أوبغيرها.

ب - الآية الّتي تقدّمت على تلك، تبحث عن الطرق الّتي يكلّم بها سبحانه أنبياءه ويقول: «وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» .(2)

ج - أنّه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة: «وَ كَذلِكَ» : أي كما أوحينا إلى من تقدّم من الأنبياء كذلك أوحينا إليك بإحدى تلك الطرق «رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» ووجه الاشتراك بينه وبين النبيّين هو الوحي المتجلّي في نبينا بالقرآن وفي غيره بوجه آخر.

كلّ ذلك يؤيّد أنّ المراد من الروح في الآية المبحوثة هو القرآن الملقى إليه.

نعم ورد في بعض الروايات أنّ المراد منه هو روح القدس، ولكنّه لا ينطبق

ص:344


1- . الفرقان: 4-6.
2- . الشورى: 51.

على ظاهر الآية، لأنّ الروح بحكم كونه مفعولاً ل «أَوْحَيْنا» يجب أن يكون شيئاً قابلاً للوحي حتّى يكون موحى، وروح القدس ليس موحى بل هو الموحي (بالكسر) فكيف يمكن أن يكون مفعولاً ل «أَوْحَيْنا» ، ولأجله يجب تأويل الروايات إن صحّت أسنادها.

الثاني: إن هيئة «ما كُنْتَ» أو «ما كانَ» تُستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ» (1)، وقال عزَّ اسمه: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» .(2)

وعلى ضوء هذا الأصل يكون مفاد قوله: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ» أنّه لولا الوحيُ ما كان من شأنك أن تدري الكتاب ولا الإيمان، فإن وقفتَ عليهما فإنّما هو بفضل الوحي وكرامته.

الثالث: أنّ ظاهر الآية هو أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان فاقداً للعلم بالكتاب، والدراية بالكتاب، وإنّما حصلت الدراية بهما في ظل الوحي وفضله فيجب إمعان النظر في الدراية الّتي كان النبيُّ فاقداً لها قبل الوحي وصار واجداً لها بعده، فما تلك الدراية وذاك العلم؟

فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه إجمالاً والإيمان بوجوده وتوحيده سبحانه، أوالمراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب، والإذعان بها كذلك؟

لا شكّ أنّه لا سبيل إلى الأوّل لأنّ علمه - إجمالاً - بأنّه ينزل إليه الكتاب، أو إيمانه بوجود اللّه سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه، ولم يكن العلم بهما ممّا يتوقّف على الوحي، فإنّ الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوّته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالاً، وقد سمع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم منهم في فترات

ص:345


1- . آل عمران: 145.
2- . التوبة: 122.

مختلفة: أنّه النبيّ الموعود في الكتب السماوية، وأنّه خاتم الرسالات والشرائع، فهل يصحّ أن يقال إنّ علمه صلى الله عليه و آله و سلم بنزول كتاب عليه إجمالاً كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي، أو أنّه كان متقدّماً عليه و على بعثته، ومثلُهُ الإيمان باللّه سبحانه، وتوحيده، إذ لم يكن الإيمان باللّه أمراً مشكلاً متوقّفاً على الوحي، وقد كان الأحناف في الجزيرة العربية ومن جملتهم رجال البيت الهاشمي موحّدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي إليهم.

فيتعيّن الاحتمال الثاني وهو أنّ العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من الأُصول والتعاليم ثم الإيمان والإذعان بتلك التفاصيل، كانا متوقّفين على نزول الوحي، ولولاه لما كان هناك علمٌ بها، ولا إيمان.

وبعبارة أُخرى: إنّ العلم والإيمان بالأُمور السمعية الّتي لا سبيل للعقل إليها مثل المعارف والأحكام والقصص ومجادلات الأنبياء مع المشركين والكفّار، وما نزل بساحة أعدائهم من إهلاك وتدمير، لا يحصلان إلّامن طريق الوحي حتّى قصص الأُمم السالفة وحكاياتهم لتطرّق الوضع والدّس إلى كتب القصّاصين، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن.

***

تفسير الآية بآية أُخرى

إنّ الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات يوضّح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلاً، والإيمان ثانياً.

أمّا الأوّل: فيقول سبحانه: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها

ص:346

أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» (1) فالآية صريحة في أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء، وقد وقف عليها من جانب الوحي، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله: «ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ» وفي تلك الآية بقوله: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ» والفرق هو أنّ «الكتاب» أعمّ من «أنباء الغيب» والأوّل يشتمل على الأنباء وغيرها، وأمّا «الأنباء» فإنّها مختصّة بالقصص، والكلّ مشتركان في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده.

وأمّا الثاني فقوله سبحانه: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (2)، فقوله: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ» صريحٌ في أنّ متعلّق الإيمانِ الحاصل بعد الوحي، هو الإيمان «بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ» ، أعني: تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة، لا الإيمان باللّه وتوحيده، وعندئذ يرتفع الإبهام في الآية الّتي تمسّكت بها المخطّئة ومَن ينسبون عدم الإيمان باللّه وتوحيده إلى النبيّ قبل البعثة، ويتبيّن أنّ متعلّق الإيمان المنفيّ في قوله: «وَ لاَ الْإِيمانُ» هو «ما أُنْزِلَ» * لا الإيمان بالمبدأ وتوحيده.

والحاصل: إنّ هُنا شيئاً واحداً هو: «الإيمان بما أُنزل من المعارف والأحكام والأنباء» فقد نُفيَ عنَه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرةً إلى فترة ما قبل البعثة، وأثبت له في الآية الأُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.

قال الطبرسي: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ» ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الإيمان.(3)

ص:347


1- . هود: 49.
2- . البقرة: 285.
3- . مجمع البيان: 9/65.

وقال الفخر الرازي: المراد من الإيمان هو الإقرار بجميع ما كلّف اللّه تعالى به، وإنّه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف اللّه تعالى، بل إنّه كان عارفاً باللّه...

ثم قال: صفات اللّه تعالى على قسمين: منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقل، ومنها ما لا يمكن معرفته إلّابالدلائل السمعية، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوّة.(1)

وقال العلّامة الطباطبائي في «الميزان»: إنّ الآية مسوقة لبيان أنّ ما عنده صلى الله عليه و آله و سلم الّذي يدعو إليه إنّما هو من عند اللّه سبحانه لا من قِبَل نفسه، وإنّما أُوتي ما أُوتي من ذلك بالوحي بعد النبوّة، فالمراد بعدم درايته بالكتاب هو عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية، فإنّ ذلك هو الّذي أُوتي العلمُ به بعد النبوّة والوحي، وبعدم درايته بالإيمان عدم تلبّسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقّة والأعمال الصالحة، وقد سُمّي العمل إيماناً في قوله: «وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» (2)(والمراد الصلوات الّتي أَتى بها المؤمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ وتحويل القبلة). فالمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح (علمُ) الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبّساً بما أنت متلبّس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي الاعتقادي والعملي بمضامينه، وهذا لا ينافي كونه صلى الله عليه و آله و سلم مؤمناً باللّه، موحّداً قبل البعثة صالحاً في عمله، فإنّ الّذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملاً، ونفي العلم والالتزام التفصيليين لا يلازم نفي العلم والالتزام الإجماليّين بالإيمان باللّه، والخضوع للحقّ.(3)

ص:348


1- . مفاتيح الغيب: 190/27.
2- . البقرة: 143.
3- . الميزان: 77/18.
الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب اليه

قال تعالى: «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» .(1)

استدلّوا بأنّ ظاهر الآية نفيُ علمه بإلقاء الكتاب إليه، فلم يكن النبيُّ راجياً لذلك، ولا واقفاً عليه.

أقول: إنّ توضيح مفاد هذه الآية يتوقّف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية - أعني قوله: «إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» - حتّى يتّضح المقصود، وقد ذكر المفسّرون في توضيحها وجوهاً ثلاثة نأتي بها:

1. أنّ «إلّا» استدراكية، وليست استثنائية فهي بمعنى «لكنَّ» لاستدراك مابقي من المقصود، وحاصل معنى الآية: «ما كنت يا محمَّد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك، إلّاأنّ ربّكَ رَحِمَكَ، وأنعم به عليك وأراد بك الخير» نظير قوله سبحانه: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» (2): أي ولكن رحمة من ربّك خصّك بها، وهذا هو المنقول عن الفرّاء.(3)

وعلى هذا لم يكن للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أيُّ رجاء لإلقاء الكتاب إليه، وإنّما فاجأه الإلقاء لأجل رحمة ربه.

ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلّاإذا امتنع كون الاستثناء متّصلاً، لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

2. أن يكون «إلّا» للاستثناء لا للاستدراك وهو متّصل لا منقطع، ولكن

ص:349


1- . القصص: 86.
2- . القصص: 46.
3- . تفسير الرازي: 25/22.

المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام، وهو كما في «الكشّاف»:

«وما ألقى عليك الكتاب إلّارحمة من ربك»(1): أي لم يكن لإلقائه عليك وجهٌ إلّا رحمة ربك، وعلى هذا الوجه أيضاً لا يُعلَم أنّه كان للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رجاء لإلقاء الكتاب عليه وإن كان الاستثناء متصلّاً.

وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه، محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر وإنّما يصار إليه إذا لم يصحّ إرجاعُه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيَّن في الوجه الثالث.

3. أن يكون «إلّا» استثناء من الجملة السابقة عليه أعني قوله: «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا» ويكون معناه: ما كنت ترجو (إلقاء الكتاب عليك) إلّاأن يرحمك اللّه برحمته فينعم عليك بذلك، (فتكون النتيجة): أي ما كنت ترجو إلّاعلى هذا.(2)

فيكون هنا رجاء منفيّاً، ورجاء مثبتاً؛ أمّا الأوّل فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً.

وأمّا رجاؤه به عن طريق الرحمة الإلهية فكان موجوداً، فنفيُ أحد الرجاءين لا يستلزم نفيَ الآخر، بل المنفيّ هو الأوّل، والثابت هو الثاني، وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية.

وقد سبق منّا أنّ جملة: «ما كُنْتَ» وما أشبهه تستَعمل في نفي الإمكان، والشأن، وعلى ذلك يكون معنى الجملة: لم تكن راجياً لأن يلقى إليك الكتاب، وتكون طرفاً للوحي والخطاب إلّامن جهة خاصّة، وهي أن تقع في مظلة رحمته وموضع عنايته، فيختارك طرفاً لوحيه، ومخاطباً لكلامه، فالنبيّ بما هو إنسان عادي

ص:350


1- . تفسير الكشاف: 3/194.
2- . تفسير الرازي: 25/22.

لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحيُ، ويلقى إليه الكتاب، وبما أنّه صار مشمولاً لرحمته وعنايته، وصار إنساناً مثالياً، قابلاً لتحمّل المسؤولية، وتربية الأُمّة، كان راجياً به، وعلى ذلك فالنفي والإثبات غير واردين على موضع واحد.

وبهذا خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان إنساناً مؤمناً، موحّداً، عابداً للّه، ساجداً، قائماً بالفرائض العقلية والشرعية، مجتنباً عن المحرّمات، عالماً بالكتاب ومؤمناً به إجمالاً، وراجياً لنزوله إليه إلى أن بُعث لإنقاذ البشرية من الجهل، وسوقها إلى الكمال.

الآية الخامسة: لو لم يشأ ما تلوته

قال سبحانه: «قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» (1)، والآية تؤكّد أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان لابثاً في قومه، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن، أو آية من آياته وليس هذا شيء ينكره القائلون بالعصمة، فقد اتّفقت كلمتهم على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقف على ما وقف عليه من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي، ولم يكن قبله عالماً به، وأين هذا من قول المخطّئة من نفي الإيمان منه قبلها؟

وإن أردت الإسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدّمة، فترى فيها اقتراحين للمشركين وقد أجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدّمة وعن الآخر في نفس هذه الآية، وإليك نصّها: «قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ

ص:351


1- . يونس: 16.

إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .(1)

اقترح المشركون على النبيّ أحد أمرين:

1. الإتيان بقرآن غير هذا مع المحافظة على فصاحته وبلاغته.

2. تبديل بعض آياته ممّا فيه سبٌّ لآلهتهم وتنديدٌ بعبادتهم للأوثان والأصنام.

فأجابَ عن الثاني في نفس الآية بأنّ التبديل عصيان للّه، وأنّه يخافُ من مخالفة ربه، ولا محيص له إلّااتّباعُ الوحي من دون أنْ يزيدَ فيه أو ينقص عنه.

وأجاب عن الأوّل في الآية المبحوث عنها بأنّ ذلك أمر غير ممكن؛ لأنّ القرآن ليس من صنعي وكلامي حتّى أذهب به وآتي بآخر، بل هو كلام اللّه سبحانه وقد تعلّقت مشيئته بتلاوتي، ولو لم يشأ لما تلوته عليكم ولا أدراكُمْ به، والدليل على ذلك أنّي كنت لابثاً فيكم عُمُراً من قبل فما تكلّمت بسورة أو بآية من آياته، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلّم به، أيام معاشرتي السابقة معكم في المدة الطويلة، المديدة.

قال العلّامة الطباطبائي في تفسير الآية: إنّ الأمر فيه إلى مشيئة اللّه لا إلى مشيئتي، فإنّما أنا رسول، ولو شاء اللّه أن ينزل قرآناً غير هذا ولم يشأ (تلاوة) هذا القرآنُ ما تلوتُه عليكم، ولا أدراكم به فإني مكثت فيكم عُمُراً من قبل نزول القرآن...، ولو كان ذلك إليّ وبيدي لبادرتُ إليه قبل ذلك، وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه.(2)

ص:352


1- . يونس: 15.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 10/28-29؛ ولاحظ: تفسير المنار: 11/320.

فكيف يمكنُ والحال هذه أنّ يكون مجانباً للإيمان باللّه وتوحيده، لاهياً عن عبادته وتقديسه.

هذا وفي هذا المجال حديث واسع اكتفَيْنا مِنه بهذا القدر، ومن أراد التوسّع عليه مراجعة موسوعتنا «مفاهيم القرآن».(1)

وأمّا الكلام في الجهة الثانية وهي: أنّه بماذا وبأيّ دينٍ كان يتعبَّدُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة، فقد وقع ذلك محطّاً للبحث بين العلماء، وحيث إنّه لا ينطوي على فائدة كبرى، بعد أن تبيّن أنّه كان قبل البعثة مؤمناً، موحّداً، يعبُد اللّه، فإنّه يكفي أن نعرف أنّه كان صلى الله عليه و آله و سلم يلتزم بما ثبت له أنّه شرع اللّه تعالى... وبما يؤدّي إليه عقله الفطري السليم، وأنّه بالتالي كان مؤيّداً مسدّداً، وأنّه كان أفضل الخلق وأكمَلَهم خَلقاً، وخلقاً، وعقلاً، وأنّه كان يعمل حسب ما يُلهَم سواء أكان مطابقاً لشرع ما قبله أم مخالفاً، وأنّ هاديه وقائده منذ صباه إلى أن بُعث هو نفس هاديه بعد البعثة.(2)

ص:353


1- . لاحظ: مفاهيم القرآن: 5/263-335.
2- . وللتوسّع والوقوف على الآراء المختلفة في هذا المجال راجع: مفاهيم القرآن: 5/283.

12 بدء الوَحْي

اشارة

إنَّ التاريخَ الإسلامي يبدأ في الحقيقة من يوم بعثة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالرسالة، والّتي وقعت على أثره حوادث خاصّة.

ويوم بُعثِ النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لهداية الناس، ودوّى في سمعه الشريف نداء «إنّك لرسول اللّه» الصادر عن ملاك الوحي أُلقيَت على كاهله مسؤولية كبرى وثقيلة جدّاً، على نمط الوظيفة الهامّة الّتي أُلقيت على كاهل مَن سبقه من الأنبياء والرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين.

منذ ذلك اليوم اتّضح هدف أمين قريش، أكثر فأكثر، وتجلّت خطّته أكثر فأكثر.

ونحن نرى من اللازم قبل شرح الحوادث الأُولى الواقعة عند البعثة أن نعطي بعض الإيضاحات حول مسألتين:

1. وجوبُ بعث الأنبياء.

2. دورُ الأنبياء في إصلاح المجتمع.

لقد أودعَ اللّه تعالى في كيان كُلّ كائن من الكائنات أدوات تكامله، وجهّزه - لسلوك هذا الطريق - بالوسائل المتنوّعة، والأجهزة المختلفة اللازمة.

ولنأخذ مثلاً: نبتة صغيرة، فإنّ ثمة عوامل كثيرة تتفاعل فيما بينها وتعمل لتحقيق التكامل فيها.

إنّ جذور كلّ نبتة تعمل أكبر قدر ممكن لامتصاص العناصر الغذائية، وتلبية

ص:354

احتياجات النبتة، وتوصل العروق والقنوات المختلفة، عصارة ما تأخذه من الأرض إلى جميع الأغصان والأوراق.

إنّنا لو درسنا تركيب الوردة لرأيناه أكثر مدعاة للإعجاب وأشدّ إثارة للتعجّب من تركيب بقية النباتات.

فللكأس وظيفة توفير الغطاء اللّازم للأوراق الناعمة اللطيفة في الوردة.

وهكذا الحال بالنسبة إلى بقية الأجهزة في (الوردة) ممّا أُنيط إليها مسؤولية الحفاظ على كائن حيّ، وضمان رشده ونموّه، فإنّها جميعاً تقوم بوظائفها المخلوقة لها بأحسن شكل، وأفضل صورة.

ولو أنّنا خطونا خطوات أكثر وتقدّمنا بعض الشيء لدراسة الأجهزة العجيبة في عالم الأَحياء، لرأينا أنّها جميعاً وبدون استثناء مُزوّدة بما يضمن بلوغها إلى مرحلة الكمال المطلوب لها.

وإذا أردنا أن نصبّ هذا الموضوع في قالب علميّ لوجب أن نقول: إنّ الهداية التكوينية، الّتي هي النعمة المتجلّية في عالم الطبيعة، تشمل كلّ موجودات هذا العالم من نبات، وحيوان وإنسان.

ويبيّن القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية الشاملة بقوله:

«رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .(1)

فإنّه يصرّح بأنّ كلَّ شيء في هذا الكون من الذرة إلى المجرَّة ينعم بهذا الفيض العامّ، وأنَّ اللّه تعالى بعد أن قَدَّر كلَ موجود وكائن، بيّن له طريق تكامله، ورُقيّه، وهيّأ لكلّ كائن مِن تلك الكائنات ما يحتاج إليه في تربيته ونموه، وهذه هي

ص:355


1- . طه: 50.

(الهداية التكوينية العامّة) السائدة على كلّ أرجاء الخليقة دونما استثناء.

ولكن هل تكفي هذه الهداية الفطرية، التكوينية لكائن مثل الإنسان، أشرف الموجودات، وأفضل ما في هذه الخليقة؟!

بكل تأكيد: لا.

لأنّ للإنسان حياة أُخرى غير الحياة المادّية، تشكل أساس حياته الواقعية، ولو كان للإنسان حياة مادّية جافّة فقط مثلما لعالم النباتات، والحيوانات، لكفت العواملُ والعناصرُ المادّية في تكامله، والحال أنّ للإنسان نوعين من الحياة، يكمن في تكاملهما معاً رمز سعادة الإنسان ورقيّه.

إنّ الإنسان الأوّل، ونعني به إنسان الكهوف والحياة البسيطة والفطرة السليمة الّتي لم يطرأ على جبلته أيُّ إعوجاج لم يكن بحاجة إلى ما يحتاج إليه الإنسان الإجتماعيّ من التربية والهداية.

ولكن عندما خطا الإنسانُ خطوات أبعد من ذلك، وبدأ الحياة الاجتماعية، وسادت على حياته فكرة التعاون والعمل الجماعي برزت في روحه ونفسيته سلسلة من الانحرافات نتيجة للاحتكاك الاجتماعي، وغيّرت الخصال القبيحة والأفكار الخاطئة صفاتِه الفطرية، وبالتالي أخرج المجتمع من حالة التوازن! إنّ هذه الانحرافات حملت خالقَ الكون على أن يرسل إلى البشرية رجالاً أفذاذاً صالحين يتولّون تربية البشر، وليقوموا بتنظيم برنامج المجتمع، والتخفيف من المفاسد الناشئة - بصورة مباشرة - عن النزعة الاجتماعية لدى الإنسان، وليضيئوا - بمشاعل الوحي المشعّة المنيرة - طريق السعادة والخير للإنسانية في جميع المجالات والأبعاد.

إذ لا نقاش في أنَّ الحياة الاجتماعية والعيش بصورة جماعية مع كونه مفيداً،

ص:356

ينطوي على مفاسد لا تُنكر، ويجرّ إلى انحرافات كثيرة لا تقبل الترديد.

ولهذا بعث اللّه سبحانه رجالاً مصلحين، وهداة مرشدين يعملون - قدر الإمكان - على الحدّ من الإنحرافات والمفاسد، ويضعون عجلة المجتمع - بتنظيم القوانين الواضحة والأنظمة الحكيمة - على الطريق الصحيح، ويضمنون دورانها وحركتها في المسار المستقيم.

وقد يُستفاد هذا الأمر - بوضوح - من قوله تعالى:

«كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» .(1)

دَور الأنبياء في إصلاح المجتمع:

إنّ الّذي يتصوّره الناس عادة هو أنّ الأنبياء مجرّد معلّمين إلهيّين بُعِثوا لتعليم البشرية.

فكما يتعلّم الطفل خلال حركته التعليمية ابتداء من الابتدائية ومروراً بالمتوسطة وانتهاء بالجامعة، دروساً معيّنة ومواضيع خاصّة على أيدي الأساتذة والمعلمين، كذلك يتعلّم الناس في مدرسة الأنبياء أُموراً خاصّة، ويكتسبون معارف معيّنة، وتتكامل أخلاقهم وصفاتهم وخصالهم الاجتماعية جنباً إلى جنب مع اكتسابهم المعرفة والعلم على أيدي الأنبياء والمرسلين.

ولكنّنا نتصوّر أنّ مهمّة الأنبياء ووظيفتهم الأساسية هي تربية المجتمعات البشرية لا تعليمها، وأنّ أساس شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد، وأنّه ما لم تنحرف الفطرة البشرية عن مسارها الصحيح، وما لم تلفّها غشاوات الجهل والغفلة

ص:357


1- . البقرة: 213.

لعرفت وأدركت خلاصة الدين الآلهي، وعصارته، من غير إبهام، ولا خفاء.

على أنّ هذه الحقيقة قد أشار إليها قادة الإسلام العظماء.

فقد قال أميرالمؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة» عن هدف الأنبياء:

«أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وَعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ (ايمانهم)، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ، وَاتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ، وَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهٖ، وَاقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ».(1)

مثالٌ واضح في المقام

إذا قلنا: إنّ وظيفة الأنبياء في تربية الناس وإصلاح نفوسهم هي وظيفة صاحب البستان في تربية شجيرة من الشجرات، أو قلنا: إنّ مَثَل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية البشرية وهدايتها، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الأودية والجبال، لم نكن في هذا القول مبالغين.

وتوضيح ذلك أنّ النبتة، أو الشجيرة الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الأُولى كُلَّ قابليات النمو، والرشد، فإذا توفَّر لها الجوُ المناسب للنمو، دبّت الحياة والحركة في كلّ أجزائها، واستطاعت بفعل جذورها القوّية وأجهزتها المتنوّعة وفي الهواء الطلق، والضوء اللازم، من أن تقطع أشواطاً كبيرة من التكامل، والنموّ.

فمسؤولية البستاني في هذه الحالة تتركّز في أَمرين:

1. توفير الظروف اللازمة لتقوية جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة

ص:358


1- . نهج البلاغة: الخطبة رقم 1.

في تلك النبتة أو الشجيرة، وتخرج من حيّز القوّة إلى مرحلة الفعلية، والتحقّق.

2. الحيلولة دون تعرّض تلك الشجرة أو النبتة للانحرافات والآفات، وذلك عندما تتّجه القوى الباطنية صوب الوجهة المخالفة لسعادتها، وتسلك طريقاً ينافي تكاملها.

ومن هنا فإنّ مسؤولية البستاني ووظيفته ليست هي الإنماء بل هي المراقبة وتوفير الظروف اللازمة ليتهيّأ لتلك الشجرة والنبتة أن تُبرز كمالها الباطني.

لقد خلق اللّه سبحانه البشرَ وأودع في كيانه طاقات متنوّعة، وغرائز كثيرة، وعجن فطرته وجبلَّته بالتوحيد، وحبّ معرفة اللّه، وحبّ الحقّ والخير، والعدل والإنصاف، كما وأودع فيه غريزة السعي والعمل.

وعندما تبدأ خمائر هذه الأُمور وبذورها الصالحة المودعة بالعمل والتفاعل في كيان الإنسان تتعرّض في الجو الاجتماعي لِبعض الانحرافات بصورة قهرية، فغريزة العمل والسعي تتخذ شيئاً فشيئاً صفة الحرص والطمع، وغريزة حبّ السعادة والبقاء تتّخذ صورة الأنانية، وحبّ الجاه والمنصب، ويتجلّى نور التوحيد والإيمان في لباس الوثنية وعبادة الأصنام.

في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه إلى البشرية: (الأنبياء والرسل) على تهيئة أجواء الرُّشد والنموّ الصحيح لتلك الغرائز وتلك القوى والطاقات على ضوء الوحي، والبرامج الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع الإلهي الهادي، ويقومون بالتالي بتعديل انحرافات الغرائز، والوقوف دون تجاوزها حدودها المعقولة المطلوبة.

ولقد قال أميرالمؤمنين عليه السلام في مامرّ من كلامه: إن اللّه أخذ - في مبدأ الخلق - ميثاقاً يدعى «ميثاق الفطرة».

ص:359

فما هوترى المقصود من ميثاق الفطرة هذا؟

إنّ المقصود من هذا الميثاق هو: أنّ اللّه تعالى بخلقه وإيداعه الغرائز المفيدة في الكيان الإنساني، وبمزج الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق الطيّبة والسجايا الصالحة يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقاً فطرياً بأن يتبع خصال الخير، ويأخذ بالغرائز الطيبّة الصالحة.

فإذا كان منح جهاز البصر (العين) للإنسان هو نوع من أخذ الميثاق من الإنسان بأن يتجنّب المزالق، ولا يقع في البئر، فكذلك إيداع حسّ التديّن، وغريزة الانجذاب إلى اللّه، وحبّ العدل، في كيانه هو الآخر نوع من أخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمناً باللّه، موحّداً إيّاه، عادلاً، منصفاً محبّاً للخير والحقّ.

وإنّ وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا الناس على العمل بمقتضى ميثاق الفطرة، وبالتالي فإنَّ مهمّتهم الأساسية الحقيقية هي تمزيق أغشية الجهل وتبديد سحب الغفلة الّتي قد تغلب على جوهرة الفطرة المطعمة بنور الإيمان، فتمنعها من الإشراق على وجود الإنسان، وتحرمُ الإنسان من هدايتها.

ومن هنا قالوا: إنّ أساس الشرائع الإلهية يتألّف من الأُمور الفطرية، الّتي فُطر الإنسان عليها.

وكأنّ صرح الكيان الإنساني (جَبَلٌ) اختفت بين ثنايا صخوره وفي بطونه أحجار كريمة كثيرة ومعادن ذهبية ثمينة، فالوجود الإنساني هو الآخر قد أُودعَت فيه فضائل وعلوم، ومعارف وخصال، وأخلاق متنوّعة. فعندما يغورُ الأنبياء والمهندسون الروحيّون في أعماق نفوسنا وذواتنا وهم يعلمون جيّداً أنّ نفوسنا معجونة بطائفة من الصفات والسجايا النبيلة والمشاعر والأحاسيس الطيّبة، ويعملون على إعادة نفوسنا - بتعاليم الدين وبرامجه - إلى جادة

ص:360

الفطرة المستقيمة السليمة، فإنّهم في الحقيقة يذكّروننا بأحكام فطرتنا، ويُسمّعوننا نداء ضمائرنا، ويلفتونها إلى الصفات، وإلى الشخصية المودعة فيها.

تلك هي رسالة الأنبياء، وذلك هو عملهم الأساسي، وهذا هو دورهم في إصلاح النوع الإنساني، أفراداً وجماعات.

أمين قريش في غار حِراء

يقع جبل «حِراء» في شمال «مكّة» ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة تقريباً.

ويتألّف ظاهر هذا الجبل من قطع صخرية سوداء، لا يُرى فيها أيُّ أثر للحياة أبداً.

ويوجد في النقطة الشمالية من هذا الجبل غار يمكن للمرء أن يصل إليه ولكن عبر تلك الصخور، ويرتفع سقف هذا الغار قامة رجل، وبينما تضيء الشمس قسماً منه، تغرق نواح أُخرى منه في ظلمةٍ دائمةٍ.

ولكن هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه، وقضى ساعات بل وأياماً وأشهراً في رحابه... ذكريات يشتاق الناس - وحتّى هذه الساعة - إلى سماعها من ذلك الغار، ولذلك تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار، متحمّلين في هذا السبيل كلّ عناء، للوصول إلى رحابه، لكي يستفسروا منه عمّا جرى فيه عند وقوع حادثة: «الوحي» العظيمة، وليسألونه عمّا تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الأكبر ممّا جرت حوادثه في ذلك المكان التاريخي، العجيب.

ويتحدّث ذلك الغار هو الآخر إليهم بلسان الحال ويقول: هاهنا المكان الّذي كان يتعبّد فيه عزيز قريش وفتاها الصادق الأمين.

ص:361

وهاهنا قضى ليالي وأياماً عديدة وطويلة قبل أن يبلغ مرتبة الرسالة، في عبادة اللّه، والتأمّل في الكون، وفي آثار قدرة اللّه وعظمته.

أجل، لقد اختار محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم ذلك المكان البعيد عن ضجيج الحياة، للعبادة والتحنّث، فكان يمضي جميع الأيام من شهر رمضان فيه، وربّما لجأ إليه في غير هذا الشهر أحياناً أُخرى، إلى درجة أنّ زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع إلى منزلها، تعرفُ أنّه قد ذهب إلى «غار حراء» وأنّه هناك مشتغل بالعبادة والتحنّث والاعتكاف، وكانت كلّما أرسلَتْ إليه أحداً وجده في ذلك المكان مستغرقاً في التأمّل والتفكير، أومشتغلاً بالعبادة والتحنّث.

لقد كان صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يبلغ مقام النبوة، ويُبْعَث بالرسالة يفكّر - أكثر شيء - في أمرين:

1 - كان يفكّر في ملكوت السماوات والأرض، ويرى في ملامح كلّ واحد من الكائنات الّتي يشاهدها نور الخالق العظيم، وقدرته، وعظمته وعلمه، وقد كانت تفتح عليه من هذا السبيل نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الإلهيّ المقدّس. 2. كان يفكر في المسؤولية الثقيلة الّتي ستوضع على كاهله.

إنّ اصلاح المجتمع في ذلك اليوم على ما كان عليه من فساد عريق وانحطاط عريض، لم يكن في نظره وتقديره بالأمر المحال الممتنع. ولكن تطبيق مثل هذا البرنامج الإصلاحيّ لم يكن في نفس الوقت أمراً خالياً من العناء والمشاكل، من هنا كان يفكّر طويلاً في الفساد في حياة المجتمع المكّي وما يراه من ترف قريش، وكيفيّة رفع كلّ ذلك وإصلاحه.

لقد كان صلى الله عليه و آله و سلم حزيناً لما يرى في قومه من فساد العقيدة المتمثّل في الخضوع للأوثان الجامدة، والعبادة للأصنام الخاوية الباطلة، ولطالما شوهدت آثار ذلك

ص:362

الحزن على محيّاه، وملامح وجهه الشريف، ولكن لمّا لم يكن مأذوناً بالإفصاح بالحقائق، لذلك كان يتجنّب ردع الناس عن تلك المفاسد، ومنعهم عن تلك الانحرافات.

بدء الوحي

لقد أمر اللّه ملكاً من ملائكته بأن ينزل على أمين قريش وهو في غار حراء ويتلو على مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة، معلناً بذلك تتويجه بالنبوّة، ونصبه لمقام الرسالة.

كان ذلك المَلَك «جبرئيل»، وكان ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف الّذي سنتحدّث عن تاريخه في المستقبل.

ولا ريب أنّ ملاقاة المَلك ومواجهته أمرٌ كان يحتاج إلى تهيّؤ خاصّ، ولو لم يكن محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم يمتلك روحاً عظيمة، ونفسية قوّية، لم يكن قادراً قط على تحمّل ثقل النبوّة، وملاقاة ذلك الملك العظيم.

أجل لقد كان «أمين قريش» يمتلك تلك الروح الكبرى، وتلك النفس العظيمة وقد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة، والتأمّل العميق الدائم، إلى جانب العناية الإلهية.

ولقد روى أصحاب السير والتاريخ أنّه رأى رؤىًّ عديدة قبل البعثة كانت تكشف عن واقع بَيّن واضحٍ وضوح النهار(1).

ولقد كانت ألذّ الساعات وأحبّها عنده بعد كلّ فترة، تلك الساعات الّتي يخلو فيها بنفسه، ويتعبَّد فيها بعيداً عن الناس.

ص:363


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 1/22، كتاب العلم؛ بحار الأنوار: 18/194.

ولقد قضى على هذا الحال مدّة طويلة حتّى أتاه - في يوم معيّن - ملكٌ عظيم بلوح نصبَهُ أمامه وقال له: «إقرأ»، وحيث إنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان أُميّاً لم يدرس أجاب المَلَك بقوله: «ما أنا بقارئ».

وتكرّر هذا العمل مرّات أحسّ بعدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في نفسه أنّه قادر على قراءة ما في ذلك اللوح، فقرأ ساعتها تلك الآيات الّتي تشكّل - في الحقيقة - ديباجة كتاب السعادة البشرية، وأساس رقيّها.

لقد قرأ صلى الله عليه و آله و سلم قوله تعالى:

«اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ * اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .(1)

وبعد أَنْ انتهى جبرئيل من أداء مُهِمّتِه الّتي كُلِّفَ بها من جانب اللّه تعالى، وبلّغ إلى النبيّ تلكم الآيات الخمس، انحدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من جبل حراء، وتوجّه نحو منزل خديجة.(2)

ولقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إجمالاً، وبيّنت وبشكل واضح أنّ أساس الدين يقوم على القراءة والكتابة، والعلم والمعرفة، واستخدام القلم.

ظاهرة القضايا الغيبيّة في رأي الماديّين

لقد تسبّب التقدّمُ العظيم والمتزايد الّذي تحقّق في ميدان العلوم الطبيعية في سلب الكثير من العلماء القدرة على فهم وإدراك القضايا المعنوية والخارجة عن إطار العلوم الطبيعية، وبالتالي أدى إلى تحديد وتضييق آفاق الفكر عندهم.

ص:364


1- . العلق: 1-5.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/155.

فإذا بهم أصبحوا يتصوّرون أنّ الوجود يتلخّص في هذا الكون المادّي، وأنّه ليس في الوجود من شيء سوى المادّة، وأنّ كل ما لا يمكن تفسيره وتبريره بالقوانين والقواعد المادّية فهو أمر باطل، ومن نسج الخيال!!

إنّ هذا الفريق - لتسرّعه في إصدار الحكم في الأُمور المتعلّقة بالغيب وقضايا ماوراء الطبيعة، وحصر أدوات المعرفة بالحسّ والتجربة - أنكروا عالم الوحي، بحجّة أنّ الحسّ والتجربة لا يقودانهم إلى ذلك العالم، ولا يخبرانهم عن مثل تلك الموجودات، فلكونها بالتالي لا تخضع لمبضع التشريح، ومجهر الإختبار أنكروها بالمرّة، وكانت النتيجة أنّ أدوات المعرفة المعروفة (الحسّ والتجربة) حيث إنّها لا تهدي إلى عالم ماوراء المادّة فإذن لا وجود خارجي لذلك العالم ولحقائقه أبداً!

إنَّ هذا النمط من التفكير نمط ضيّق ومحدود جدّاً، مضافاً إلى أنّه يتّسم بالغرور والغطرسة، فهو من باب «استنتاج عدم الوجود من عدم الوجدان» في خطوة متعجّلة فجّة!!

فمادامت هذه الحقائق الّتي يعتقد بها الإلهيّون المؤمنون باللّه لا يمكن التوصّل إليها عن طريق الأدوات الفعلية المتعارفة بينهم للإدراك والمعرفة فهي إذن لا أساس لها من الواقع!!

إنّ الّذي لا شكّ فيه هو: أنّ الماديين لم يدركوا مقالة العلماء الإلهيّين حتّى في مسألة إثبات الصانع الخالق فكيف بالعوالم الأُخرى لما فوق الطبيعة، ولو أنّ الفريقين تحاورا في جوّ علمي مناسبٍ، بعيداً عن الأغراض والعصبيّات، لكان من المتوقّع أن تزول الفواصل بين المادّيين والإلهيّين في أقرب وقت، وأن يرتفع هذا الاختلاف الّذي قسَّم العلماء إلى فريقين على طرفي نقيض؟!

ص:365

لقد أقام المؤمنون الموحِّدون عشرات الأدلّة والبراهين القاطعة على وجود اللّه تعالى، وأثبتوا بأَنَّ هذه العلوم الطبيعية هي نفسها تقودنا إلى الخالق العالم القادر، وأنّ هذا النظام العجيب السائد في ظواهر الكائنات الطبيعيّة وبواطنها لدليل قاطع، وبرهانٌ ساطع على وجود مبدع لهذا النظام، وأنّ جميع أجزاء هذا الكون المادّيّ، من ذرّاته إلى مجرّاته، يسير وفق قوانين دقيقة متقنة، ولا تستطيع الطبيعة الصمّاء العمياء أبداً أن تكون مبتكرة لهذا النظام البديع، ومبدعة لهذا الترتيب الدقيق.

وهذا هو بنفسه برهان «نظام الوجود» أو (برهان النظم) الّذي ألّف العلماء الإلهيّون الموحدّون حوله عشرات الكتب والدراسات.

وحيث إنّ برهان النظم هذا ممّا يفهمه جميع الناس على مختلف مراتبهم ومداركهم، لذلك ركّزت عليه الكتب الاعتقادية دون سواه، وسلك كُلُّ واحد من العلماء طريقاً معيّناً وخاصّاً لتقريره، وبيانه، كما ودرست الأدلّة والبراهين الأُخرى الّتي لا تتّسم بمثل هذه الشمولية، في الكتب، والمؤلّفات الفلسفية والكلاميّة بصورة مفصّلة ومبسوطة.

إنّ للعلماء الإلهيّين بيانات وأدلّة في مجال (الروح المجردة)، وعوالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) نشير إلى بعضها هنا:

الروح المجرّدة

إنّ الاعتقاد بالروح من القضايا ذات الطبيعة الشائكة، وقد استقطبت اهتمام العلماء وشغلت بالهم بشدة.

فهناك فريقٌ - ممّن اعتاد أن يُخضِعَ كلّ شيء لمبضع التشريح - ينكر وجود الروح، ويكتفي بالاعتقاد بالنفس ذات الطابع المادّي، والعاملة ضمن نطاق القوانين الطبيعية فقط.

ص:366

ووجود «الروح» والنفس غير المادّية (أي المجرّدة المستقلّة عن المادّة) من القضايا الّتي عُولجت ودُرست من قِبَل المؤمنين باللّه، والمعتقدين بالعالم الروحاني، بصورة دقيقة، وعميقة.

فهم أقاموا شواهِدَ عديدةً على وجود هذا الكائن (غير المادّيّ) وهي أدلّة وبراهين لو تمَّ التعرّف عليها ومناقشتها في جوّ علمي هادئ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يقوم عليه منطق الإلهيّين - في هذا المجال - من قواعد وأُسس، لأدّى ذلك إلى التصديق الكامل بها.

على أنّ ما يقوله الإلهيّون في مجالات أُخرى مشابهة مثل: (الملائكة) و (الوحي) و (الإلهام) يقوم هو الآخر على الأساس الّذي شيّدوه ومهّدوه وبرهنوا عليه قبل ذلك بالأدلّة المحكمة، المتقنة(1).

ظاهرة الوحي عِند الماديّين

يُعتبَر الاعتقاد بالوحي أساساً لجميع الرسالات، والأديان السماوية، وتقوم هذه الظاهرة (ظاهرة الوحي) على أنّ الّذي يوحى إليه يمتلك روحاً قوّية تقدر على تلقّي المعارف الإلهيّة من دون واسطة، أو بواسطة ملَك من الملائكة.

ويلخّصُ العلماء المختصُّون تعريفَهم للوحي على النحو التالي: «الوَحيُ تعليمُهُ تعالى مَنْ اصْطفاهُ مِنْ عِباده كُلَّ ما أرادَ اطّلاعه عليه من ألوان الهداية والعِلم ولكِنْ بطريقة خَفيّةٍ غير مُعْتادَة للبَشر».

ولكنّ الماديّين - كما قلنا - لم يستطيعوا هضم هذه الحقيقة، وإدراك هذه الظاهرة على حالها، وصورتها الغيبية بسبب ما ذكرناه من منهجهم ونظرتهم إلى

ص:367


1- . جاء تفصيل هذه البراهين والأدلّة في الكتب الفلسفية مثل: «الإشارات» و «الأسفار». وقد أشرنا إلى بعض هذه الأدلّة في كتاب (اللّه خالق الكون)، فراجع.

الأُمور والكائنات فذهبوا في تفسير ظاهرة الوحي - الّتي هي كما أسلفنا من قضايا الغيب ومن عوالم ما فوق الطبيعة - مذاهب مختلفة ترجع برمّتها إلى الرؤية المادّية للوجود.

وإليك أبرز هذه التفاسير الماديّة لظاهرة الوحي الغيبية:

أبرز النظريات المادّية لظاهرة الوحي

1. قالوا: الوحي هي القدرة الفكرية، والنفسية والعقلية الّتي تحصل للإنسان بسبب التمرينات والرياضات الروحية الّتي على أثرها تنفتح عليه أبوابٌ من الغيب، فيخبر عن أُمور طالما تتّفق مع الواقع على نحو ما يحصل للمرتاضين الهنود.(1)

فالأنبياء بسبب اعتزالهم للمجتمع - على غرار ما يفعل المرتاضون - وإقبالهم على الرياضات الروحية تحصل لهم المقدرة على الإخبار بالغائبات، والكائنات الخفيّة على غيرهم.

والجواب على هذه النظرية هو:

أوّلاً: أنّ دراسة حالات المرتاضين تكشف لنا عن أنّهم طالما يخطأون في إخباراتهم أخطاء فاضحة، بينما لم يُعهَد من نبيٍّ أنّه أخطأ في إخباراته، وإنباءاته.

وثانياً: أنّ ما يفعله المرتاضون لا ينطوي على أيّة أهداف إصلاحية عليا للمجتمع البشري، بل غاية همّهم هو: عرض الأفعال العجيبة على الناس وربّما تسلية المتفرجين، بينما يهدف الأنبياء إلى إصلاح المجتمعات البشرية وقيادتها إلى ذرى الكمال والتقدّم.

ص:368


1- . وهم الّذين يمارسون رياضة اليوغا.

وثالثاً: أنّ المرتاضين لا يثقون بما يخبرون به، كما لم يُعرَف إلى الآن أنّ أحداً منهم قدّم للمجتمع البشريّ برامج كاملة وشاملة للحياة البشرية الفردية والاجتماعية، بينما نجد الأنبياء يخبرون الناس بما أُمروا به وهم على إيمان كامل، ويقين ثابت منه، هذا إلى جانب أنّهم يحملون إلى البشرية برامج اجتماعية وحيوية جامعة الأطراف، كاملة الأبعاد، رفيعة الأهداف، عميقة الغايات، ترجع إليها كلُّ فضيلة وكلّ خير عرفته المجتمعات إلى الآن.

ورابعاً: أنّ أعمال المرتاضين وما تحصَلُ لهم من قوى وتنفتح عليهم من آفاق، محدودة، بينما لا تقف طاقاتُ الأنبياء وآفاق علومهم، وأبعاد أعمالهم عند حدّ.

فلا يمكن أبداً تفسير وتعليل ظاهرة (الوحي) وما يحصل للرسل والأنبياء على أثره من أُمور تتخطّى حدود العالم المادّي المحدود، بالرياضة الروحية الّتي يمارسها المرتاضون وما يحصل لهم على إثرها من أُمور.

2 - قالوا: إنَّ (الوحي) نوعٌ من النبوغ، أو أنّه ناشئ من النبوغ، وأنّ الأنبياء هم نوابغ اجتماعيون لا أكثر.

وقد شرحوا نظريتهم هذه قائلين: بأنّ نظام الخليقة قد ربّى في أحضانه نوابغَ صالحين، اهتدوا بفعل نبوغهم الفكري الرفيع إلى أفكار وقيم رفيعة ودعوا مجتمعاتهم إلى الأخذ بها، والسير على هديها، لتحقيق الخير والعدالة، فكان لهم بذلك أكبر نصيب في إرشاد البشرية إلى سعادتها، فكلّ ما طرحوه من أفكار، وكلّ ما عرضوه على تلك المجتمعات باسم الدين أوالقانون ليست - في الحقيقة - سوى نتيجة ما تمتّعوا به مِن نبوغ، وفكر خارق، ولا علاقة له بعالم آخر غير هذا العالم المادّي المألوف.

ص:369

وقالوا: وإن ممّا يساعد على تقوية هذا النبوغ أُمور أبرزها:

الحبُّ، التعرّضُ للظلم الطويل، الطفولة وما يكتنفها من ضعف وعجز، الوحدة، السكوت، التربية الأُولى، والعيش في صورة الأقليّة وما يرافقها من ظروف إجتماعية غير مؤاتية.

فإنّ جميع هذه الأُمور أو بعضها تدفع بالشخص إلى الإنطوائية، والتفكير والتأمّل، للاهتداء إلى مخرج من المشاكل والصعوبات، ومخلص من الظروف الصعبة، والأحوال الشاقّة.

ويُجاب عن هذه النظرية بأنّ أصحابها حكموا على هذه القضية على أساس موقف اتّخذوه سَلفاً فهُم حَصَروا الأشياء في المادّة والأُمور المادّية ثم فسّروا ما يرتبط بعالم الغيب بذلك، فجاء تفسيرهم لهذه الظاهرة الغيبية تفسيراً مادّياً، غفلة منهم عن أنّ مثل هذا التفسير والتعليل لا يليق بظاهرة (الوحي) الّتي تجسد أعلى قضيّة في سلّم الحقائق العلمية والفلسفية، ويرجع اليها أعظم القوانين والبرامج للسعادة البشرية.

نحن لا ننكر أنّ لما ذكروه من العوامل تأثيراً في تقوّية عملية «التفكير» لدى الإنسان إلى درجة إيجاد ما يُسمّى بظاهرة النبوغ لديه، إلّاأنّه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الأَمر نبيّاً خضعت جميع النوابغ البشرية لعظمة تعاليمه الّتي أتى بها طوال أربعة عشر قرناً.

نبيّاً لم يزل ما جاء به من معارف عقلية وفلسفية، وقوانين ترتبط بعالم الطبيعة وبالنظام الاجتماعي وآداب السلوك تحافظ على قوّتها، وعمقها، وأصالتها، ولمعانها كلّ المحافظة رغم كلّ ما أحرزه البشر في ضوء نشاطه الفكري والعقلي من تقدّم، في المعارف والعلوم.

ص:370

هذا مضافاً إلى أنّ نسبة هؤلاء الأنبياء جميع ما عرضوه على المجتمعات البشرية إلى العالم الآخر وإصرارهم على أنّها من جانب اللّه تعالى وليست من نسيج أفكارهم يناقض نظرية هذه الطائفة، الّتي تفسّر النبوّة بالنبوغ.

لنقرأ معاً الآية الّتي يقول اللّه تعالى فيها حاكياً عن رسول الإسلام محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم:

«إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ» .(1)

أو يقول سبحانه:

«إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى» .(2)

3. يقولون: إنّ الوحي هو ظهور الشخصية الكامنة في النبيّ وإيحاؤها لما ينفعه وينفع قومه المعاصرين له، إليه.

وربّما قالوا: إنَّ معلومات «محمَّد» وأفكارَه وآمالَه وَلّدتْ لديه إلهاماً فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفيّة على مخيلته السامية، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملَك ماثلاً أمامه وهو يتلو على سمعه ما حدّث به بعد ذلك.

وتوضيح هذه النظرية هو: أنّ لكلّ إنسان شخصيتين:

1. الشخصية الظاهرة العادية وهي الّتي تخضع للحواس الخمس وتعمل بها.

2. الشخصية الباطنية وهي الّتي تعمل عندما تتعطّل الحواس، ويتعطّل الشعورُ الظاهري.

وهذه الشخصية هي الّتي تحرّك جميع أعضاء الجسم الإنساني الّتي لا تخضع لإرادته كالكبد، والقلب، والمعدة وغيرها، كما أنّها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيبة في الظروف الحرجة.

ص:371


1- . الأنعام: 50.
2- . النجم: 4.

ثم قالوا: وهذه الشخصية الباطنية قد أصبحت مدركة بالحس، فإنّ المنوَّم مغناطيسياً يظهر بمظهر العقل الراجح، والفكر الثاقب والنظر البعيد، ويقوم بما لا يقوم به في حالته العادية.

وقد انتهى هؤلاء المادّيون من خلال تحقيقاتهم وتجاربهم إلى: أنّ شخصية الإنسان الباطنية أرقى من شخصيته العادية، وإنّ ما يتوصَّل إليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة جداً، وما قد يتمتّع به من روح قوية هو من مظاهر هذه الشخصية وفعاليتها.

فقالوا: وإنّ هذه الشخصية هي الّتي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من اللّه، وقد تظهر لهم متجسّدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء!!!

فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح على الأُسلوب التجريبي لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلغه كلاماً عن اللّه، بل يكون في تجلّي روح الإنسان عليه بواسطة شخصيته الباطنة فتعلّمه ما لم يكن يعلم، وتهديه إلى خير الطرق لهداية نفسه وترقية أُمّته.(1)

ولكنّ هذه النظرية هي الأُخرى تنبع من الغُرور العلميّ الّذي أصاب هذا النمط من العلماء الَّذين يحاولون تفسير كلّ ظواهر هذا العالم بالتفسير المادّي، وهو لا شكّ ينشأ من عِلمهم المحدود القاصر عن إدراك حقائق الوجود.

إنّنا لا نشكّ في وجود ما يُسمّى بالشخصية الباطنيّة لدى الإنسان فهو ممّا سبق إلى كشفه والتنويه عليه الفلاسفة الإسلاميّون من قبل، ولكن كيف وعلى أيّ أساس حقَّ لهؤلاء أن يفسّروا ظاهرة (الوحي الإلهيّ) والنبوّة بهذا الأمر؟

ص:372


1- . دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي: 10/719، مادّة «وحي».

هذا أوّلاً

وثانياً: أنَّ تجلّي الشخصيّة قلّما يحدث في الأشخاص الأصحّاء، بل هو يحدث في الأغلب عند المتعبين القلقين، والسكارى، والمصابين بالهزيمة والنكسة، لأنّ نافذة (اللّا وعي) عند غيرهم من الأصحّاء تنسد بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليومية وهمومها، ولا يبقى للشخصية الباطنية مجال للنشاط والفعالية، كما هو العكس عند المتعبين والسكارى والمرضى الذين يقلّ اهتمامهم بالحياة اليومية فيترك (الوعيُ) مكانه للّاوعي، وتترك الشخصية الظاهرية المعطّلة مكانها للشخصية الباطنية.

ولذلك نجد بين آلاف العلماء والمفكّرين مفكّراً أو عالماً واحد اتّفق له في بداية عمره أن اهتدى بصورة لا شعورية إلى فكرة خاصّة أونظرية معيّنة من دون سابق تفكير أواستدلال قائم على الشعور.

وخلاصة القول: إنّ تجلّي الشخصية الباطنية في الحياة الإنسانية قضية نادرة جداً، وهي لا تحدث إلّافي ظروف خاصّة مثل: المنامات والأحلام وغيرها من التحوّلات الحياتية الّتي تقلّل من توجّه الإنسان إلى العالم الخارجيّ وتصرفُ التفاته وتوجُّهَه إلى الشخصية الباطنية.

ولكن هذه الحالة وهذه الشرائط (أي الغفلة عن هموم الحياة اليومية الخارجية) لم تحصل للأنبياء قط.

فالنبي الأكرم محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم كان طوال (23 سنة) وهي أعوام الرسالة، مشتغلاً كلّ الاشتغال بقضايا الحياة اليومية، فالنشاطات السياسية، والتبليغية وقضايا الدعوة والقيادة كانت تهيمن على كلّ توجّهه واهتمامه، وتملأ عقله وروحه ونفسه.

فالكثير من آيات الجهاد ترتبط بساحات القتال والجهاد، وهذا يعني أنّه كان

ص:373

مشدوداً بروحه وعقله كلّه إلى تلك الأُمور.

وثالثاً: أنَ هذه النظرية يمكن أن تصدق على نبوّة الأنبياء لو كان هؤلاء الأنبياء أفراداً متعبين، منهزمين، منتكسين، مرضى، معتزلين عن الحياة ليقال حينئذٍ إنّ هذه الحالات والظروف مهَّدت لانقطاعهم عليهم السلام عن هموم الحياة، وقضاياها، وبالتالي مهَّدت لفعالية الشخصية الباطنية وعملها.

ولكن تاريخ الأنبياء يشهد بوضوح لا إبهام فيه، بأنّهم كانوا - طيلة حياتهم الرسالية - رجالاً مجاهدين، لا يهمهم إلّاإصلاح المجتمعات وقيادة الجماعات وحلّ المشكلات الاجتماعية، ورفع مستويات الناس معنوياً وفكرياً، وكانوا يعملون لتحقيق هذه الأهداف ليل نهار، بلا سأم ولا ملل، ولا تعب ولا نصب.

فكيف يمكن القول والحال هذه بأنّ الشخصية الباطنية تجلّت لديهم وأوحت إليهم بحقائق وقيم وأفكار؟

إنّ تفسير (الوحي الإلهي) الّذي يُلقى إلى الأنبياء ويكشف لهم عن أدقّ الحقائق وأرفعها، وأعظم المناهج وأكملها، بتجلّي الشخصية الباطنية، ناشئ من اعتقاد هذا الفريق من العلماء بأصالة المادّة، أو بعبارة أُخرى: حصر الوجود في المادّة، ومن هنا حاولوا إلْباس كلّ شيء - حتّى الأُمور المعنوية والغيبية - اللباس الماديّ، وأغلقوا على أنفسهم باب عوالم الغيب، وعمدوا إلى التفتيش عن علّة مادّية حتّى لظاهرة (الوحي) الّتي لا تُقاس بمقاييس العالم المادّي.

هذا مضافاً إلى أنّ تفسير (الوحي الإلهيّ) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية، وخاصّة في شأن رسول الإسلام «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم يواجه إشكالات ومؤاخذات أُخرى تجعل هذه النظرية في عداد الأساطير!!

وإنّ أبرز هذه الإشكالات الواردة على هذه النظرية في مجال رسول

ص:374

الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم هي: أنّ هذه النظرية ليست رأياً جديداً وتهمة جديدة توجه إلى نبوّة رسول الإسلام.

فإنّ نظرية «الشخصية الباطنية، والوحي النفسي الذاتي» هي نظرية متبلورة ومتقدّمة لتهمة (الجنون والصَّرع) التي كان يَرمي بها العربُ الجاهليّون رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم!!

فقد كان المشركون في بدء الدعوة يقولون: إنّ ما يقوله «محمَّد» وما يتكلّم به ليس إلّاأفكاره القلقة المضطربة الناشئة عن خياله، وأنّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة الّتي تسرّبت إلى فضاء عقله من دون إرادة منه ولا اختيار!!

لنستمع إلى القرآن الكريم وهو ينقل عنهم هذا الاتّهام:

«بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ» (1).

ولكنّ القرآن الكريم يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله:

«وَ النَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى * وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» (2).

إنّ القرآن الكريم يشجب - في هذه الآيات المنتظمة انتظاماً رائعاً وبديعاً - هذه المزعمة (أي مقولة أنّ القرآن وليدُ الخيال لدى محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم)، ويردُّ الأمر إلى الوحي الإلهي، والتوجيه الربانيّ العُلويَّ.

إنّ نظرية الوحي النفسيّ وتَجلّي الشخصية الباطنية الّتي طلع بها المادّيون في عصرنا ما هيَ في الحقيقة إلّاغطاء لمزعمة المشركين وتهمة الجنون والخيال، الّتي سبق أن رمى بها أعداء الرسالة الإسلامية ومعارضوها النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم تلك التهمة الّتي

ص:375


1- . الأنبياء: 5.
2- . النجم: 1-5.

يذكرها القرآن الكريمُ بقوله:

«وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» (1).

وهي تهمة كان يوجّهها المعارضون دائماً إلى المصلحين وأصحاب الرسالات(2)، وقد اتّخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة، وتبلورت في نظرية:

«الوحي النفسيّ، وتجلّي الشخصية الباطنية». إنّ القرآن الكريم يردّ على هذه المزاعم والتصوّرات الباطلة حول عمليّة الوحي ومسألة النبوّة ويرد على نسبة الكهانة وماشابه ذلك كالخبر المنقول عن أهل السير بمحاولة إلقاء النبيّ نفسه من شاهق في بداية الوحي الّذي يشبه نسبة الجنون إليه صلى الله عليه و آله و سلم إذ يقول تعالى:

«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ * لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» .(3) بهذا البيان تبيَّنَ بطلان هذا التفسير وجميع التفاسير الأُخرى الّتي تحاول إعطاء (الوحي) طابعاً مادّياً مألوفاً، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة، ونحن استكمالاً لهذا البحث نشير إلى ما هو الحقُّ في هذا المجال، ممّا يؤيّد الواقع والعقل والدين:

ص:376


1- . الحجر: 6، وأيضاً راجع الآيات التالية: سبأ: 8، الصافّات: 36، الدخان: 14، الطور: 29، القلم: 2، التكوير: 22.
2- . إذ يقول القرآن في هذا الصدد: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» (الذاريات: 52 و 53).
3- . التكوير: 20-28.

ظاهرةُ الوحي في منظار العقل والدين

لا شكّ أنّ حياة كلّ فرد من أفراد الإنسان تبدأ من «الجهل» ثم يأخذ الإنسان بالدخول في مجال العلم شيئاً فشيئاً، إلى أن تنفتح عليه بالتدريج نوافذُ على الواقع الخارج عن ذهنه.

فيبدأ الإنسانُ بالتعرّف على الحقائق عن طريق الحواسّ الظاهرية، ثم على أثر التكامل في جهازه العقليّ والفكري يهتدي إلى الحقائق الخارجة عن مجال الحس واللمس، فيغدو عقلانياً استدلاليّاً، ويقف على طائفة من الحقائق الكليّة والقوانين العلمية.

وربّما يظهر بين أفراد النوع الإنساني أصحابُ نفوس عالية يقفون عن طريق الإلهام ومن خلال بصيرة خاصّة على حقائق وأُمور لا يُهتدى إليها حتّى عن طريق الاستدلال والبرهنة!

ومن هنا قسّم العلماء إدراك البشر إلى ثلاثة أنواع: «إدراك العامّة»، «إدراك المفكّرين وأرباب الاستدلال»، «إدراك العرفاء وأصحاب البصائر والنفوس الكبرى».

وكأَنَّ أصحاب الظاهر يستعينون على اكتشاف الحقيقة بالحسّ، والمفكّرين يستعينون بالاستدلال والبرهنة، وأصحاب البصائر والمعرفة بالإلهام والإشراق وبالفيض عليهم من العالم الأعلى.

إنّ النوابغ في مجال الأخلاق، وإنّ عقول العلماء الخلّاقة، وأفكار الفلاسفة العظيمة كلّها تؤيّد وتشهد بأنّ ما يحصلون عليه، وما يطلعون به على المجتمع البشري ممّا لم يعرفوه من قبل ما هي إلّاشرارات مضيئة وملهمة تخطر لهم، ثم يعمدون إلى تنميتها وبلورتها بالتجربة، أو بالاستدلال والبرهنة والتأمّل.

ص:377

قنواتُ المعرفة الثَلاث

من هذا الكلام نستنتج أنّ أمام بني البشر ثلاث طرق للوصول إلى مقاصدهم؛ فالطريق الأوّل يستفيد منه جماهير الناس غالباً، بينما يستفيد طائفة خاصّة منهم من الطريق الثاني، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلّاأفراد معدودون قلةٌ تكاملت عقولُهم، وتسامت أرواحهم. وهي كالتالي:

1 - الطريق التجريبي والحِسي، والمقصود منه ذلك القسم من الإدراكات والمعلومات الواردة إلى محيط الذهن البشريّ عن طريق الحواس الظاهرية كالمرئيات، والمشمومات والمطعومات وغيرها ممّا يستقرُّ في محيط إدراكنا بواسطة الأجهزة المختصّة بها.

وقد استطاع البشر اليوم، وبفضل اختراع التلسكوبات والميكروسكوبات وأجهزة التلفاز والراديو أن يقدّم خدمة كبرى للبشرية في مجال الإدراكات الحسية ويمهِّد لمزيدٍ من سيطرتها على البعيد والقريب.

2 - الطريقُ التعقُّلي الإستدلالي: فإنّ المفكّرين يتوصّلون إلى كشف طائفة من القوانين الكلّيّة الخارجة عن الحسّ عن طريق عملية التفكير والتأمّل وتشغيل جهاز العقل، وإقامة سلسلة من المقدّمات البديهية الواضحة، وبذلك يمكن الوصول إلى قمم المعرفة والكمال العلمي.

إنَّ انكشاف القوانين العلميّة الكليّة، والمسائل الفلسفية، والمعارف المرتبطة بصفات اللّه وأفعاله سبحانه والقضايا المطروحة في علم العقيدة والأديان ناشئ برمَّته من جهاز العقل، وحركته، وناتج من عملية التفكير، والإستدلال المذكورة.

3 - طريق الإلهام: وهذا هو الطريق الثالث لمعرفة الحقائق، وهو فوق نطاق

ص:378

الحسّ والتعقّل.

إنّه نوعٌ جديدٌ من المعرفة ونمط متميّز من إدراك الحقائق، ليس محالاً من وجهة نظر العلم وإن كان يصعُب على أصحاب الإتجاه المادّي القبول به لكونه طريقاً غير حسّي ولا تعقّلي.

وأمّا من جهة الأُصول العِلمية فلا مجال لإنكاره، ولا مبرّر لعدّه من المحالات.

إنّ طريق التعرُّف على حقائق الكون الخارج عن الذهن - في منهج المادّيين، وأصحاب النزعة المادّية - ينحصر في قناتين لا أكثر، وهما اللّذان سبق ذكرُهما، في حين أنّ هناك - حسبَ نظرة الأديان والشرائع الكبرى وحسب نظرة الفلاسفة والعرفاء الإلهيّين - قناة ثالثة أيضاً.

بل إنَّ هذا الطريق الثالث - كما أسلفنا في مسألة الوحي - أكثر واقعية، وأقوى أُسُساً، وأوسع آفاقاً عند من يدَّعون الرسالة، والنبوّة من جانب اللّه سبحانه، وإن نفوس أُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاء وطراوةً بفضل هذا الطريق، وفي ضوء هذه القناة.

وكلّما حصل ارتباط بين اللّه، وبين فرد من أفراد النوع الإنساني على نحو خاص، أُلقيت الحقائق في وجوده من دون توسّط الحواسّ الظاهرية، وإعمال الفكر، واستخدام جهاز العقل.

وهذا النوع من الإلقاء يسمّى حيناً بالإلهام، وبالإشراق حيناً آخر.

ولكن كلّما نتج من ارتباط الإنسان بما وراء الطبيعة سلسلة من التعاليم العامّة والأنظمة والبرامج الشاملة أُطلِق على هذا النوع من الإلقاء عنوان (الوحي)، وسمِّيَ الآتي بها (ملَك الوحي) والآخذ لها (نبيّاً).

ص:379

هذا وقد يوجب الإلهام الثقة والاطمئنان للملهَم إليه، ولكنّهُ لا يمكن أن يكون مبعث الإطمئنان والثقة عند الآخرين.(1)

من هنا اعتبر العلماء «الوحيَ» الطريقَ المطمئنّة الوحيدة إلى المعرفة العامّة...

الوحي الّذي ينزل على الأنبياء الذين ثبتت نبوّتهم بالدلائل القاطعة، من المعجزة وغيرها.

أنواع الوحي وأصنافه

إنّ في مقدور الروح الإنسانية بسبب ما تملك من كمالات أن تتّصل بالعوالم الروحانية من الطرق المختلفة، ونحن هنا نشير إلى هذه الطرق الّتي جاء ذكرها في أحاديث قادة الإسلام وأئمته، باختصار:

1. تارة يتلقّى الحقائق السماوية العليا على نحو الإلهام، فيتّخذ ما يتمّ إلقاؤه في النفس عبر هذا الطريق حكم (العلوم البديهية) الّتي لا يتطرّق إليها أي ريب وشك.

2. وقد يسمع عبارات وكلمات من جسم معيّن (كالجبل والشجرة) كسماع موسى عليه السلام كلام اللّه من الشجرة.

3. وربّما تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار.

4. وقد ينزلُ عليه ملَكٌ من جانب اللّه بكلام خاص.

ص:380


1- . وإنّما قلنا «قد» أي يمكن أن يوجب الاطمئنان ولم نقطع بذلك لأنّ مصدر هذه الإلهامات ليست معلومة وواضحة، ولا يمكن الاعتماد على مطلق الواردات القلبية والفجائية الّتي لا تستند إلى أُصول معلومة. وبعبارة أُخرى: يجب الفصل والتمييز بين الإلهامات الرحمانية والإلقاءات الشيطانية بواسطة الموازين العقلية والشرعية.

وقد نزل القرآن الكريم على النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من هذا الطريق، وقد صرّح القرآن الكريم نفسه بهذا عند قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» .(1)

أساطيرُ مختَلقة

لقد كتب المؤرّخون والكتّاب عن حياة كثير من الشخصيات العالمية، وضبطوا كلّ ما جلَّ ودقَّ في هذا المجال، وربّما تحمّلوا عناء الرحلات الطويلة والأسفار الشاقّة لتكميل دراساتهم، وكتاباتهم.

غير أنّ التاريخ لا يعرف شخصية مثل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ضبطت تفاصيل سيرته الدقيقة، واهتم أتباعه وأصحابه ومحبّوه بكلّ شاردة وواردة في حياته الشريفة.

إنَّ هذا الولع الشديد بتسجيل كلّ شيء - مهما صغر - من حياة النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم وسيرته العطرة كما ساعد على ضبط جميع الجزئيات والتفاصيل في هذا المجال، تسبّب في بعض الموارد في إلصاق بعض الزوائد بحياة النبيّ الأكرم وشخصيته العظيمة، الطاهرة.

ومثل هذا لا يبعد عن المحبّين الجهلاء فكيف بالأعداء الألدّاء العارفين.

من هنا يتعيّن على كلّ مؤلّفٍ يكتب عن سيرة شخصية من الشخصيات أن لا يغفل عن مبدأ (الحذر والإحتياط) في تحليله لحوادثها، وقضاياها، فلا يغفل عن تقييم كلّ ما جاء حولها من روايات وقصص في ضوء الموازين التاريخيّة الدقيقة.

وإليك بقية ما جرى في واقعة نزول (الوحي) في حراء:

ص:381


1- . الشعراء: 193-195، وقد أُشير في سورة الشورى الآية 51 إلى هذه الطرق الأربع جميعها.

بقية حادثة نزول الوحي

استنارت نفس رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وروحه الكبرى بنور «الوحي» المبارك، وتعلّم كلّ ما ألقى عليه مَلَك الوحي في ذلك اللقاء العظيم، وانتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة.

وقد خاطبه نفس ذلك المَلَك بعد تلاوة تلكم الآيات بقوله:

يا محمَّد... أنت رسولُ اللّه... وأنا جبرئيل.

وقيل: إنّه صلى الله عليه و آله و سلم سمع هذا النداء عند نزوله من غار حراء وقد اضطرب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهذين الحدَثين، اضطرب لعظمة المسؤولية الكبرى الّتي أُلقيت على كاهله.

وكان هذا الاضطراب طبيعياً بعض الشيء، وهو لا ينافي بالمرّة يقينه صلى الله عليه و آله و سلم وإيمانهُ بصدق ما أُنزلَ عليه لأنّ الروح مهما بلغت من العظمة والسموّ والقوّة والصلابة، ومهمّا كانت قوّة ارتباطها بعالم الغيب، وبالعوالم الرُّوحانية العُليا فإنَّها عندما تواجه لأوّل مرّة مَلَكاً لم تره من قبل، وذلك في مثل المكان الّذي التقى النبيُّ (فوق الجبل) لابُدَّ أنْ يحصل لها مثل هذا الاضطراب، ولهذا زال ذلك الاضطراب عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ما بعد. ثم إنَ الاضطراب والتعب الشديد قد تسبّبا في أن يتوجّه النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم إلى بيت «خديجة» عليها السلام، وعندما دخل بيتها ووجدت على ملامحه آثار الاضطراب والتفكير سألته عن ما جرى له، فحدَّثها بكلّ ما سمع ورأى وقصَّ عليها ما كان من أمر جبرئيل معه، فعظّمت «خديجةُ» عليها السلام أمره، ودعت له، وقالت: إبشر فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً.

ثم إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كان يشعر بالجهد والتعب قال لزوجته الوفيّة

ص:382

«خديجة»: دثّريْني... دَثِّريني.

فدثّرته، فَنام بعض الشيء.

خديجة تذهب إلى ورقة بن نوفل

لقد تحدّثنا في الصفحات الماضية عن «ورقة» وقلنا: إنّه كان ممّن تنصَّر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل وكان ابن عمّ خديجة.

فعندما سمعت «خديجة» زوجة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ما سمعته منه انطلقت إلى «ورقة» لتخبره بما سمعته من زوجها الكريم، وشرحت له كُلّ شيء ممّا جرى له مع جبرئيل.

فقال «ورقة» في جواب ابنة عمّه: واللّه إنّ ابن عمّك لصادق، وإنّ هذا لبدء نبوّة، وإنّه ليأتيه الناموس الأكبر (أي الرسالة والنبوّة).(1)

إنّ ما ذكرناه إلى هنا هو في الحقيقة ملخّص الروايات التاريخية المتواترة الّتي وصلت إلينا، والّتي دُوِّنت في جميع الكتب.

بيد إنّنا نلاحظ بين ثنايا هذه الحادثة أُموراً لا تتّفق مع ما نعرفه عن أنبياء اللّه ورُسُله العظام، كما أنّها لا تتّفق مع ما قرأناهُ إلى الآن عن حياة هذا النبيّ العظيم صلى الله عليه و آله و سلم.

وما سنذكره الآن من هذه الزوائد إمّا يجب اعتباره من قبيل الأساطير التاريخية، أو أنّ علينا تأويله بنوع من التأويل.

وإنا لنعجب قبل كلّ شيء من المفكّر المصريّ الدكتور «هيكل» كيف سمح لنفسه وهو الّذي تحدّث في مقدّمة كتابه عن مشكلة تسرب الأساطير إلى التاريخ

ص:383


1- . الطبقات الكبرى: 1/195.

النبويّ، وقال: بأنّ هناك من دسَّ في السيرة النبوية، عن عداوة أو جهل، بعض الأكاذيب.

ولكنّه مع ذلك ينقل هنا أُموراً لا أساس لها من الصحّة أبداً، في حين أعطى فريقٌ من علماء الشيعة - كالمرحوم الطبرسي - ملاحظات مفيدة في هذا الصعيد.

وإليك في ما يلي بعض هذه الأساطير والقضايا المختلقة، على أنّها لم تكن جديرة بالإشارة أبداً لولا أنّ بعض المحبّين الجَهلاء، والأعداء الأذكياء ذكروها في كتبهم، وكرّروها في دراساتهم:

1. قالوا: إنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عندما دخل منزل خديجة، كان يفكّر في نفسه: لعلّ بصرَه خدعه، أو أنّه كاهن، أو فيه جنون!!

ولكن لمّا قالت له خديجة: «إنّ اللّه لا يفعل بك ذلك يا ابْن عبداللّه، إنّك تصدق الحديث، وتؤدّي الأمانة، وتصلُ «الرحم» اطمأنَّ، وزالَ عنه الشكُّ والتردّد، وألقى على «خديجة» نظرَ شكر ومودّة، ثم طلب أن يُزمَّل، فزمِّلَ فنام!!(1)2. يقول الطبري وغيره من مؤرّخي السيرة: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا سمع نداء يقول: «يا محمَّد أنت رسول اللّه» أصابَهُ خوفٌ شديدٌ حتّى أنّه همَّ بأن يطرح نفسَهُ من أعلى الجبل، فتبدّى له (مَلَك الوحي) ومنعه عن ذلك!!!

3 - ثم إنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ذهب ليطوف بالكعبة بعد ذلك اليوم، فرأى «ورقة بن نوفل» وشرح لورقة ما جرى له مع جبرئيل، فقال له ورقة:

«والّذي نفسي بيده، إنَّك لنبيَّ هذه الأُمة، ولقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الّذي جاء موسى ولتُكذبَنَّه، ولتوذينَّه ولتخرجَنَّه ولتقاتلنّه» فأحسّ «محمَّد» بأنّ ورقة

ص:384


1- . الطبقات الكبرى: 1/195؛ حياة محمَّد: 134.

يصدّقه، فاطمأن.(1)

بُطلانُ هذه المزاعم

إنّ الّذي نتصوّره هو أنّ جميع هذه القصص مختلقة من الأساس، وقد دُسَّت في التاريخ والتفسير عن قصدٍ وهَدف، أو دخلت فيهما عن غير ذلك.

وذلك:

أوّلاً: لأنّنا لتقييم هذه المزاعم يجب أن نُلقي نظرة فاحصة على تاريخ الأنبياء الماضين وسيرهم.

إنّ القرآن الكريم قصَّ علينا قضاياهم، وسيرهم، وقد وردت في هذا المجال روايات وأخبار كثيرة.

وإنّنا لا نجد أيّ أثر لمثل هذه القصص المشينة في حياة أيّ واحدٍ منهم.

إنّ القرآن الكريم يقصّ علينا قصّة بدء نزول (الوحي) على «موسى» بشكل كاملٍ ويبيّن جميع التفاصيل في قصته عليه السلام ولا يذكر أيّ شيء من الخوف، والارتعاش، والوحشة والفزع، بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار على أثر سماع الوحي!! مع أنّ أرضية الخوف والفزع في مجال «موسى» كانت متوفرة أكثر، لأنّه سمع في ليلة ظلماء وهو في صحراء خالية نداء من الشجرة يخبره بأنّه نبيُّ مرسَلٌ.

ولكن موسى - كما يصرّح القرآن الكريم، بهذه الحقيقة - حافظ على هدوئه، وسكونه، وعندما خاطبَهُ اللّه تعالى بقوله: «أَنْ أَلْقِ عَصاكَ» * ألقاها من فوره، وكان

ص:385


1- . السيرة النبوية: 1/156.

خوفه من ناحية العصى الّتي تبدّلت إلى ثعبان مخيف، لا من جهة الإيحاء إليه.

فهل يمكن، أو يجوز لنا أن نقول: كان «موسى» لحظة الوحي إليه مطمئناً هادئاً ساكناً، ولكن أفضل الأنبياء والمرسلين اضطرب عند سماع كلام المَلك، وفزع إلى درجة فكَّر في إلقاء نفسه من أعلى الجبل؟! هل هذا كلام معقول؟!

لا ريب أنّ روح محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم ما لم تكن مهيَّأة من جميع الجهات وبصورة كاملة لتلقّي السرّ الإلهيّ (النبوّة) لا يمكن أن يمنَّ عليه الربُ الحكيمُ بمنصب النبوّة، ويختاره لمقام الرسالة، لأنّ الهدف الجوهريّ من ابتعاث الرُسل، وإرسال الأنبياء هو هداية الناس وإرشادهم.

ومن كان كذلك من حيث ضعف الروح ووهن النفس بهذه المرتبة بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار خوفاً(1) وفزعاً كيف يمكن أن ينفذ إلى نفوس الناس ويؤثّر فيهم؟!

ثانياً: كيف يمكن أن يطمئن موسى بمجرد سماعه للنداء الإلهيّ إلى أنّه صادرٌ من جانب اللّه، فطلبَ من ربّه من فوره أن يجعل أخاه هارون وزيراً له لأنّه أفصحُ منه قولاً(2)، بينما لا يطمئن سيد المرسلين وخاتمهم؟!

ثالثاً: لقد كان «ورقة» مسيحيّاً حتماً، ولكنّه عندما أراد أن يزيل عن «محمَّد» الشكّ والإضطراب ذكر نبوَّة «موسى» عليه السلام وقال: لقد جاءك الناموس الأكبر الّذي جاء موسى.(3)

ص:386


1- . كما نقل هيكل في كتابه: «حياة محمَّد».
2- . طه: 29.
3- . السيرة النبوية: 1/156. وقد نقل المرحوم المجلسي في بحار الأنوار: 18/228 هذه العبارة عن المنتقى ولكنّه بإضافة لفظة «عيسى» أيضاً ولكن لا وجود لذلك في صحيح البخاري وسيرة ابن هشام اللّذين هما الأساس لهذه الأُمور.

ألا يدلُّ هذا على أنّ ثمة يداً اسرائيليّة وراء هذه الحبكة هي الّتي صاغت هذه القصة واختلقتها في غفلةٍ عما كان يدين به «ورقة» بطلُ القصة؟!

كلّ هذا بغضّ النظر عن أنّ مثل هذه الأُمور تتنافى والعظمة الّتي نعهدها من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ولا تنسجم معها أبداً، ويبدو أنّ مؤلّف «حياة محمَّد» أدرك إلى درجة ما خرافية هذه القصّة ولذلك نجده ينقل بعض مواضيعها بعد جملة: «كما يقولون».

وقد حارب أئمةُ الشيعة هذه الأساطير بكلّ قوّة، وأبطلوها برمّتها.

فعندما يسأل زرارة الإمام الصادق عليه السلام مثلاً: كيف لم يَخفْ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيما يأتيه من قِبَل اللّه أن يكون ممّا ينزغ به الشيطان؟

قال الإمام عليه السلام: «إنّ اللّه إذا اتّخذَ عبداً ورسولاً، أنزل عليه السكينة والوقار، فكان يأتيه من قِبَل اللّه عزّوجلّ مثل الّذي يراه بعينه».(1)

ويقول العلّامة الشيعي الكبير المرحوم الطبرسي في تفسيره، في هذا الصدد:

«إنّ اللّه لا يوحي إلى رسوله إلّابالبراهين النيّرة والآيات البيّنة الدالّة على أنّ ما يوحى إليه إنّما هو من اللّه تعالى، فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزعُ، ولا يَفْرُق».(2)

ص:387


1- . بحار الأنوار: 18/262، الحديث 16 نقلاً عن تفسير العياشي: 2/201، الحديث 106.
2- . مجمع البيان: 10/174.

13 متى نزل الوحي أوّلاً؟

اشارة

لقد تَعرّضَ يوم مبعث رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم للاختلاف من حيث التعيين والتحديد فهو مثل يوم ولادته ويوم وفاته صلى الله عليه و آله و سلم غير مقطوع به، من وجهة نظر المؤرّخين وكُتّاب السيرة النبويّة.

فلقد اتّفق علماء الشيعة على القول بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بُعِث بالرسالة في السابع والعشرين من شهر رجب، وأنّ نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسِه.

بينما اشتهر عند علماء السُنّة أنّ رسول الإسلام قد أُوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك.

ففي ذلك الشهر الفضيل كُلِّف «محمّد» صلى الله عليه و آله و سلم من جانب اللّه تعالى بهداية الناس، وبُعثَ بالرسالة.

ولمّا كانت الشيعة تشايع عترة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته الصادقين، وتعتقد بصحّة ما يرونه ويقولون به اتّباعاً لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيهم، في حديث الثقلين:

«إنّهما لن يفترقا» فإنّهم اتّبعوا - في تحديد يوم المبعث النبوي الشريف - القول المأثور - بنقل صحيح - عن عترة النبيّ المطهّرين في هذا المجال.

فقد روي عن أبناء الرسول وعترته الطاهرة أنّ عظيمَ هذا البيت و سيّده (أي النبيّ) قد بُعِثَ في السابع والعشرين من شهر رجب، وهم في ذلك حجّة.

ولهذا لا يمكن الشكّ والتردّد في صحّة هذا القول وثبوته.(1)

ص:388


1- . راجع بحار الأنوار: 18/189.

نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسِه بأنّ آيات القرآن نزلت في شهر رمضان، وحيث إنّ يومَ بعثة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كانَ هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي، والقرآن عليه، لهذا يجب القول بأنّ يوم البعثة الشريفة إنّما كان في نفس الشهر الّذي نزل فيه القرآن الكريم: أي شهر رمضان المبارك.

وإليك فيما يأتي الآيات الّتي تدلّ على أنّ القرآن الكريم نزل في شهر رمضان:

1. «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» .(1)

2. «حم * وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» (2) وتلك الليلة هي ليلة القَدْر الّتي قال عنها سبحانه: «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» .(3)

ما أجاب به علماء الشيعة

ولقد أجاب مُحدِّثو الشيعة ومفسّروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا:

الجوابُ الأوَّل:

إنّ الآيات المذكورة إنّما تدلّ على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان وبالذات في ليلة مباركة منه هي «ليلة القدر»، ولكنّها لا تتعرّض لذكر محلّ نزول هذه الآيات، وأنّها أين نزلت؟ وهي بالتالي لا تدلّ أبداً ومطلقاً على أنّها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول اللّه؟

ص:389


1- . البقرة: 185.
2- . الدخان: 1-3.
3- . القدر: 1 و 3.

فيحتمل أن يكون للقرآن نزولات متعدّدة إحداها نزول القرآن على رسول اللّه تدريجاً.

والآخر نزوله الدفعي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور.(1)

وعلى هذا فما المانع من أن تكون بعض آيات القرآن (من سورة العلق) قد نزلت على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في السابع والعشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر رمضان من مكان معيّن أسماه القرآن باللوح المحفوظ، إلى موضع آخر عُبّر عنه في بعض الروايات بالبيت المعمور.

ويؤيّد هذا الرأي قولُ اللّه تعالى في سورة الدخان: «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» فإنَّ هذه الآية - بحكم رجوع الضمير فيها إلى الكتاب - تصرّح بأنّ الكتاب العزيز بأجمعه نزل في ليلةٍ مباركةٍ (في شهر رمضان)، ولابدَّ أنَ يكون هذا النزول غير ذلك النزول الّذي تحقّق في يوم المبعث الشريف، لأنّ في يوم المبعث لم تنزل سوى آيات معدودة لا أكثر.

وخلاصة الكلام هي أنّ الآيات الّتي تصرّح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة (ليلة القدر) لا يمكن أن تدلّ على أنّ يوم المبعث الّذي نزلت فيه بضعُ آيات أيضاً كان في ذلك الشهر نفسِه، لأنَّ الآيات المذكورة تدلّ على أنّ مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك الشهر، في حين لم تنزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة كما نعلم.

وفي هذه الصورة يحتمل أن يكون المراد من النزول الجمعيّ للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك الشهر من «اللوح المحفوظ» إلى «البيت المعمور».

ص:390


1- . للتعرف على معنى اللوح المحفوظ راجع كتب التفسير.

وقد روى علماء الشيعة والسنّة روايات وأخباراً بهذا المضمون، وبخاصّة الأُستاذ الأزهري محمّد عبدالعظيم الزرقاني الّذي أورد روايات عديدة في هذا الصدد في كتابه.(1)

الجواب الثاني:

وهو أمتن الأجوبة والردود على هذا القول.

فقد بذل الأُستاذُ الطباطبائي جهداً كبيراً لتوضيحه وبيانه في تفسيره القيّم؛ وإليك خلاصته:

إنّ قول اللّه تعالى إنا أنزلناه في شهر رمضان، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّ للقرآن مضافاً إلى وجوده التدريجي، واقعية أطلع اللّه تعالى نبيّه العظيم عليها في ليلة معيّنةٍ من ليالي شهر رمضان المبارك.(2)

وحيث إنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بأن لا يعجل بقراءته حتّى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجاً إذ يقول تعالى: «وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» .(3)

وخلاصة هذا الجواب هي: أنَّ للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً وهو الّذي نزل على الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم مرّة واحدة في شهر رمضان، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في يوم المبعث، واستمرّ تنزله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.

الجواب الثالث: التفكيك بين نزول القرآن والبعثة

إنّ للوحي - كما أوضحنا ذلك في مبحث أنواع الوحي إجمالاً - مراتب

ص:391


1- . لاحظ: مناهل العرفان في علوم القرآن: 1/37.
2- . لاحظ: الميزان في تفسير القرآن: 2/14-16.
3- . طه: 114.

ومراحل، تتمثّل أوّلُ مراتبه في الرؤيا الصادقة الّتي رآها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

والمرتبة الأُخرى تمثّلت في سماعه للنداء الغيبيّ الإلهي من دون وساطة ملك.

وآخر تلك المراتب هو أن يسمع النبيُّ كلام اللّه من ملك يبصره ويراه، ويتعرّف عن طريقه على حقائق العوالم الأُخرى.

وحيث إنّ النفس الإنسانية لا تستطيع في الوهلة الأُولى تحمُّل مراتب (الوحي) جميعها دفعة واحدة بل لابدّ أن تتحمّلها تدريجاً، لهذا يجب القول بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد سمع يوم المبعث (اليوم السابع والعشرون من شهر رجب) النداء السماويّ الّذي يخبره بأنّه رسول اللّه، فقط ولم تنزل في مثل هذا اليوم أيّة آية قط، وقد استمر الأمر على هذا المنوال مدّة من الزمان. ثم بعد مدّة بدأ نزول القرآن الكريم على نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان.

وخلاصة هذا الجواب هي أنّ ابتعاث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتماً. وعلى هذا الأساس ما المانع من أن يُبعَث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شهر رجب، وينزل القرآنُ الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام؟

إنّ هذه الإجابة وإن كانت لا توافق كثيراً من النصوص التاريخية (لأنّ كثيراً من المؤرّخين صرّحوا بأنّ الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في يوم المبعث نفسه) إلّاأنّ هناك - مع ذلك - روايات ذكرت قصة البعثة بسماع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للنداء الغيبيّ، ولم تذكر شيئاً عن نزول قرآن أو آيات، بل هي تشرح الواقعة على النحو التالي إذ تقول:

في ذلك اليوم سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ملكاً يقول له: يا محمَّد إنّك لرسول

ص:392

اللّه، وجاء في بعض الأخبار أنّه سمع هذا النداء، فقط، ولم تذكر شيئاً عن مشاهدة الملك.

وللمزيد من التوضيح، والتوسّع يُراجع «بحار الأنوار» في هذا المجال.(1)

على أنَ هذه الإجابة تختلف عن الإجابة الرابعة الّتي تقول بأنّ مبعثَ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان في شهر رجب، وكان نزولُ القرآن الكريم بعد انقضاء الدعوة السرّية الّتي استغرقت ثلاثة أعوام.

الأنبياء والبشارة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

وينبغي - استكمالاً لهذا الفصل من التاريخ النبوي - أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الرسالة المحمَّدية المباركة، ممّا بشّر به جميع الأنبياء المتقدّمين زمنياً على خاتم الأنبياء والمرسلين محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك إذ قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ» .(2)

وهذه الآية وإن كانت تكشف عن أصل عام وكلّي وهو: وجوب تصديق اتّباع النبيّ السابق للنبي اللاحق، إلّاأنّ المصداق الأتمّ لها هو رسول الإسلام الكريم.

ص:393


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 18/184 و 190 و 193 و 253؛ الكافي: 2/460؛ تفسير العيّاشي: 80/1. وهذا الجواب لا ينسجم مع ما رواه البخاري من أنّ بعثة النبيّ رافقت نزول آيات من سورة العلق عليه.
2- . آل عمران: 81.

فيظهر من هذه الآية أنّ اللّه تعالى أخذ الميثاق المؤكّد من جميع الأنبياء أو من أصحاب الشرائع منهم أن يؤمنوا برسالة محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم، ويدعوا أتباعهم إلى تصديقه واتّباعه ونصرته.

روى الفخر الرازي عن أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام:

«إنّ اللّه تعالى ما بَعث آدم عليه السلام ومَن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسَّلام إلّا أخذ عليهم العهد لئن بُعث محمَّد وهو حي ليؤمننّ به ولينصرنه».(1)

وممّا يؤيّد هذا أنّ القرآن دعا أهل الكتاب إلى بيان ما قرأوه ووجدوه في كتبهم حول رسول الإسلام للناس من دون كتمان، واليك فيما يأتي طائفة من الآيات المصرّحة بهذا الأمر:

1. قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» .(2)

2. قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .(3)

3. وقال تعالى:

«اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ

ص:394


1- . تفسير الرازي: 8/123.
2- . آل عمران: 187.
3- . البقرة: 174.

لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» .(1)

4. وقال سبحانه:

«اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .(2)

إنّ القرآن الكريم يصرّح بجلاء أنّ السيد المسيح عليه السلام أخبر عن رسول الإسلام ورسالته إذ يقول تعالى:

«وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» .(3)

كما يتحدّث القرآنُ الكريمُ عن أهل الكتاب الذين تنكّروا لرسالة النبيّ محمّد صلى الله عليه و آله و سلم عندما بُعثَ وقد كانوا من قبل يخبرون عنه ويطلبون النصر به على أعدائهم إذ قال سبحانه:

«وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» .(4)

بل ويخبرنا القرآنُ الكريم بأَنَّ إبراهيم عليه السلام يومَ أحلّ زوجتَه وولده إسماعيل بأرض مكّة دعا قائلاً:

ص:395


1- . البقرة: 146.
2- . الأعراف: 157.
3- . الصف: 6.
4- . البقرة: 89.

«رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .(1)

وقد انطبقت هذه الأوصاف على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ يصفه القرآن الكريم بقوله:

«لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .(2)

محمَّد خاتم الأنبياء

واستكمالاً لهذا البحث ينبغي أيضاً أن نشير إلى أبرز ناحية في رسالة النبيّ محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم ونبوته وهي مسألة الخاتمية.

فإنّ القرآن الكريم صرّح في آيات عديدة بكون رسول اللّه محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم خاتم النبيّين، وشريعته خاتمة الشرائع، فلا نبيّ بعده، ولا رسالة بعد رسالته.

وها نحن ندرج أبرز الآيات الواردة في هذا المجال:

1. قال تعالى:

«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» .(3)

2. قال سبحانه:

«تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» .(4)

3. وقال سبحانه:

ص:396


1- . البقرة: 129.
2- . آل عمران: 164.
3- . الأحزاب: 40.
4- . الفرقان: 1.

«وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ» .(1)

4. وقال تعالى:

«وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .(2)

والآياتُ الثلاث الأخيرة تفيد بأنّ رسالة النبيّ محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم عامّة وعالمية وأبدية لأَنّه في غير هذه الحالة وفي غير هذه الصورة لن يكون نبياً للناس كافّة، وللعالمين جميعاً. ولن يكون نذيراً لقومه ولمن بلغه نداؤه.

هذا وقد صرّح النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم نفسه في أحاديث كثيرة بهذا الموضوع وهو الصادق المصدّق.

فعن أبي هريرة قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أُرسلتُ إلى الناس كافّة وبي خُتِم النبيّون».(3)

ص:397


1- . الأنعام: 19.
2- . سبأ: 28.
3- . الطبقات الكبرى: 1/192.

14 ما سَبَقني أحدٌ

أوَّلُ من آمنَ بالنبيَّ منَ الرجال والنِّساء

لقد انتشرَ الإسلامُ في العالَم بصورة تدريجية، ويوصَف الذين بادروا إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية والمساعدة على نشرها قبل غيرهم ب «السابقين».

وقد كان السبق إلى الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في صدر الإسلام معياراً للفضل ولهذا يجب أن ندرس هذا الموضوع في ضوء المصادر الصحيحة، ونتعرّف على مَن سَبق إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية من الرجال، ومن النساء.

مِنَ النساء: «خديجة»

إنّ من المسلَّم به تاريخياً أنّ «خديجة» كانت أوّل امرأة آمنت برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،(1) ولم يخالف في هذا أحدٌ، ونحن هنا ننقل مستنداً تاريخياً مهمّاً واحداً ذكره المؤرّخون نقلاً عن إحدى زوجات النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، مكتفين به رعايةً للاختصار. تقول عائشة: كان رَسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر «خديجة» فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيّام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلّاعجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها، فغضب حتّى اهتز مقدّم شعره من الغضب ثم قال:

ص:398


1- . لاحظ: مستدرك الحاكم: 3/184؛ أُسد الغابة: 5/437؛ البداية والنهاية: 3/20.

«لا واللّه ما أبدَلني اللّه خيراً منها، آمنَت بي إذ كَفَر الناسُ، وَ صَدَّقَتني وكَذَّبني النّاسُ، وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ، ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد الناس».(1)

وممّا يدل أيضاً على سبق خديجة في الإيمان برسول اللّه كلّ نساء العالم جمعاء ما جرى في قضية بدء الوحي، ونزول القرآن، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عندما انحدر من غار «حراء» وأخبر زوجته «خديجة» بما جرى له واجه - رأساً - إيمان زوجته به وقبولها لكلامه، وتصديقها برسالته، تصريحاً وتلويحاً.

هذا مضافاً إلى أنّها كانت قد سمعت من قبل أخباراً تتعلّق بنبوّته ومستقبل رسالته من كهنة العرب وأهل الكتاب، وهذه الأخبار وأمانة فتى قريش وصدقه الّذي اشتهر به هي الّتي دفعت بها إلى أن تتزوّج بالفتى الهاشميّ (محمَّد).

أقدمُ الرجال إسلاماً: «عليّ» عليه السلام

إنّ المشهور المقارب للمتَّفق عليه بين المؤرّخين، سنّة وشيعة، هو أنّ «عليّاً» كان أوّل من آمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الرجال.(2)

ونرى في مقابل هذا القول المشهور أقوالاً أُخر نادرة قد نقل ناقلوها ما يخالفها أيضاً:

فمثلاً يقال: إنّ زيد بن حارثة ربيب رسول اللّه وابنه بالتبنّي، أو أبوبكر كان أوّل من أسلم، ولكن دلائلَ عديدة (نذكر بعضها هنا على سبيل الاختصار) تشهد على خلاف هذين القولين.

وإليك بعض هذه الدلائل:

ص:399


1- . أُسد الغابة لابن الأثير الجزري: 5/438؛ الوافي بالوفيات للصفدي: 13/181.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 38/201 و 228-277، الباب 65.

1. عليٌّ تربّى في حجر النبيّ

لقد تلقّى عليٌ عليه السلام تربيته في حجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ونشأ وترعرع في بيته منذ طفولته، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يجتهد في تربيته والعناية به كالوالد الرحيم.

قال عامّة المؤرّخين وكُتّاب السيرة بالاتّفاق: إنَّ قريشاً أصابتهم أزمةٌ شديدةٌ (قبل بعثة النبيّ) وكان أبوطالب ذا عيال كثير، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للعباس عمّه، وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس إنّ أخاك أباطالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ماترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلْنخفّف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكفلهما عنه، فقال العباس: نعم، فانطلقا حتّى أتيا أباطالب فقالا له: إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه (إلى أن قال:) فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً فضمّه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمّه إليه، فلم يزل عليٌ مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبيّاً فاتّبعه علي رضي اللّه عنه وآمن به وصدّقه.(1)

في هذا الصورة يجب أن نقول بأنّ عليّاً عليه السلام انتقل إلى بيت النبيّ وهو دون الثامنة، لأَنَّ الغرض من أخذ النبيّ إيّاه من أبيه «أبي طالب» هو التخفيف عن كاهل زعيم مكّة (أبي طالب)، ومن الواضح أنَّ صبيّاً في مثل هذا السنّ (دون الثامنة) مضافاً إلى أنَّ فصله عن والدَيه أمرٌ في غاية الصعوبة، لن يكونَ لأَخذهِ وتكفّلِهِ أيُ أثر هامّ في وضع أبيه (أبي طالب) المعيشيّ.

وعلى هذا يجب أن نفترض له عليه السلام عمراً يكون لأخذه فيه من قِبَل النبيّ تأثيراً معتداً به في وضع أبيه الإقتصادي والمعيشي.

فكيف يمكن القول - والحال هذه - أنّ أباعد عن البيت النبويّ مثل «زيد بن

ص:400


1- . السيرة النبوية: 1/162؛ البداية والنهاية: 3/34.

حارثة» وغيره اطّلعوا على أسرار الوحي، بينما جهل ابن عم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأقرب الناس إليه والّذي كان معه في أكثر الأوقات بما أتى به صلى الله عليه و آله و سلم وما نزل عليه.

إنّ غرضَ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من تربية الإمام عليّ وتكفّله إيّاه كان إلى حدّ كبير هو أداء ما أسدى إليه أبوطالب من خدمات، ولم يكن ثمّة شيء أحبَّ إلى رسول اللّه من أنْ يهديَ أحداً إلى الصراط المستقيم، فكيف يمكن أن يقال - والحال هذه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حرم ابن عمّه الّذي كان يتمتّع بذكاء باهر وضمير يقظ، من هذه النعمة الكبرى؟!

إنَ من الأفضل أن نسمَعَ هذا الأمر من لسان «علي» نفسه، فقد بيّن عليه السلام في الخطبة القاصعة منزلَته من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقربه إليه هكذا:

«وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ. وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ (وليدٌ) يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ... وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُنِي بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ، وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا. أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ».(1)

وجاء في تاريخ الطبري عن ابن إسحاق قال: كان أوّل ذكر آمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصلّى معه وصدّقه بما جاءه من عنداللّه «علي بن أبي طالب» عليه السلام وهو يومئذ ابن عشر سنين، وكان ممّا أنعم اللّه به على عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه كان في

ص:401


1- . نهج البلاغة: الخطبة 192، وفي الخطبة 131 يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ، وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم بِالصَّلَاةِ».

حجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل الإسلام.(1)

2. عليُّ وخديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

ينقل ابن كثير والطبرسي وكثير من علماء التاريخ والرجال القصة التالية عن عفيف الكندي، بأنّه قال:

كنت امرأً تاجراً فقدمتُ «منى» أيام الحج، وكان العباس بن عبدالمطلب امرأً تاجراً، فأتيته أبتاع منه وأبيعه، قال: فبينا نحن عنده إذ خرج رجلٌ من خباء فقام يصلّي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلّي، وخرج غلام يصلّي معه، فقلت: ياعباس ما هذا الدين، إنّ هذا الدين ما ندري ما هو؟ فقال: هذا محمَّد بن عبداللّه يزعم أنّ اللّه أرسله به، وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستُفتَح عليه، وهذه امرأته «خديجة بنت خويلد» آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه «علي بن أبي طالب» آمن به قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذٍ فكنت أكون (رابعاً).(2)

وهذه الواقعة ينقلها ويرويها حتّى الذين يقصرون في رواية فضائل الإمام عليّ وكتابتها، وفي إمكان القارئ الكريم أن يقف على هذه القصة في المصادر المذكورة على وجه التفصيل.

3. أنا الصِدّيق الأكبر

تلاحَظ هذه العبارة ونظائرُها كثيراً، في خطب الإمام عليّ عليه السلام وكلماته فهو يكرّر العبارات التالية بكثرة:

«أنا عَبْدُاللّه، وأخو رسوله صلى الله عليه و آله و سلم، وأنا الصِدّيقُ الأكبر، لا يقولُها بعدي إلّا

ص:402


1- . تاريخ الطبري: 2/57.
2- . البداية والنهاية: 3/35؛ إعلام الورى: 1/105. ولاحظ: تاريخ الطبري: 2/56-57؛ الكامل في التاريخ: 2/57؛ أُسد الغابة: 3/414.

كاذب مفتر، صَلّيتُ مَعَ رسُول اللّه قبل الناسِ بسَبْع سِنين».(1).

4. أوَّلكم إسلاماً: عليٌّ

ولقد وردت أحاديث متواترة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبتعابير متنوّعة قال فيها:

«أوَّلُكُمْ وارداً عَليَّ الحوضَ، أوَّلُكُمْ إسْلاماً عليُّ بنُ أبي طالب».(2)

وعند ما يدرس المنصف المحايد هذه الأحاديث، يقطع بأسبقية الإمام عليّ عليه السلام إلى الإسلام، وتقدّمه على غيره في الإيمان بالدعوة المحمَّدية، ولا يختار القولين الآخرين اللَّذين لا يذهبُ إليهما إلّاالأقليّة.

فإنَّ ما يناهز الستين شخصاً من الصحابة والتابعين يؤيّدون القولَ الأَوّلَ (أي أنّ عليّاً أوّلُ القوم إسلاماً وأقدمهم أيماناً) وحتّى الطبريّ نفسه الّذي شكَّكَ في هذا القول، واكتفى بنقله دون اختياره وتأكيده، روى بأنّ «ابن سعد» سأل أباه قائلاً: أكان أبوبكر أوّلكم إسلاماً، فقال: لا ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين.(3)

ومن غريب الأمر أنّ مؤرّخاً كبيراً كابن كثير يتنكّر لهذه الحقيقة الساطعة فقد ذكر في كتابه «البداية والنهاية» حديثاً صحيحاً بإسناد الإمام أحمد والترمذي في إسلام أميرالمؤمنين وأنَّه أوَّل من أسلم وصلّى ثمَّ أردفه بقوله: وهذا لا يصحّ من أيّ وجه كان روي عنه، وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم من هذه الأُمَّة أحاديثٌ كثيرةٌ لا يصحّ منها شيء... إلخ.(4)

وقد تصدّى العلّامة المحقّق الأميني رحمه الله للردّ على هذا المقال بالتفصيل

ص:403


1- . تاريخ الطبري: 2/56؛ سنن ابن ماجه: 1/44 برقم 120؛ سنن النسائي: 5/107؛ مستدرك الحاكم: 3/112 وغيرها.
2- . يراجع مصادر هذا الحديث في الغدير: 3/21.
3- . تاريخ الطبري: 2/60.
4- . البداية والنهاية: 7/370.

ونظراً لأهميّة ما كتبه العلّامة الأميني وما احتوى عليه من نصوص تاريخية نسرده هنا بكامله مع ما فيه من تكرار بسيط لبعض ما ذكرناه.(1)

يقول العلّامة الأميني:

ألا مسائل هذا الرَّجل لِمَ لا يصحّ شيء منها من أيّ وجه كان؟! والطرق صحيحةٌ، والرِّجال ثقات، والحفّاظ حكموا بصحَّته، وأرباب السير أطبقوا عليه، وكان من المتسالم عليه بين الصَّحابة الأَوَّلين والتابعين لهم بإحسان.

ونحن لو نقتصر على كلمتنا هذه يحسبها القارئ دعوى مجرّدة لدة دعوى ابن كثير (أعاذنا اللّه عن مثلها) وتخفى عليه جليَّة الحال فيهمنا ذكرُ نزر ممّا يدلُّ على المدَّعى وإن لم يسعنا إيراد كثير منه روماً للاختصار.

النصوص النبوية:

1. قال صلى الله عليه و آله و سلم: «أوَّلكم وارداً - وروداً - على الحوض أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب».

أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 136 وصحَّحه م - والخطيب البغدادي في تاريخه ج 2 ص 81 و يوجد في الاستيعاب 2 ص 457. شرح ابن أبي الحديد 3، ص 258.

وفي لفظ: «أوَّل هذه الأُمّة وروداً على الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب، رضي اللّه عنه». السيرة الحلبيَّة 1 ص 285. سيرة زيني دحلان 1 ص 188 هامش الحلبيَّة.

وفي لفظٍ: «أوَّل الناس وروداً على الحوض أوّلهم إسلاماً عليُّ بن أبي

ص:404


1- . الغدير: 3/219-236.

طالب». مناقب الفقيه ابن المغازلي [: ص 34 ح 22]. مناقب الخوارزمي [: ص 52 ح 15].

2. قال صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة: «زوّجتك خير أُمَّتي، أعلمهم علماً، وأفضلهم حلماً، وأوَّلهم سلماً». راجع ما مرَّ ص 95.

3. قال صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة: «إنَّه لأوَّل أصحابي: إسلاماً. أو: أقدم أُمَّتي سلماً.

حديث صحيحٌ، راجع ص 95.

4. أخذ صلى الله عليه و آله و سلم بيد عليّ، فقال: «إنَّ هذا أوَّل من آمن بي، وهذا أوَّل من يُصافحني يوم القيامة، وهذا الصدِّيق الأكبر». راجع الجزء الثاني ص 313، 314.

5. عن أبي أيوب قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لقد صلّت الملائكة عليّ وعلى عليّ سبع سنين لأنّا كنّا نصلّي وليس معنا أحدٌ يُصلّي غيرنا».

مناقب الفقيه ابن المغازلي [: ص 32 ح 17] باسنادين م - أُسد الغابة 4:18؛ ومناقب الخوارزمي [: 53 ح 17] وفيه: ولِمَ ذلك يا رسول اللّه؟ قال: لم يكن معي من الرجال غيره.

كتاب الفردوس للديلمي. شرح ابن أبي الحديد عن رسالة الاسكافي 3 ص 258. فرائد السمطين الباب 47.

6. ابن عبّاس قال: قال النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم: «إنَّ أوَّل من صلّى معي عليّ». فرائد السمطين الباب 47 بأربع طرق.

7. معاذ بن جبل قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «يا عليُّ! أخصمك بالنبوَّة ولا نبوَّة بعدي، وتخصم الناس بسبع ولا يُجاحدك فيه أحدٌ من قريش، أنت أوَّلهم إيماناً باللّه، وأوفاهم بعهد اللّه، وأقومهم بأمراللّه». الحديث. (حلية الأولياء: 1 / 66).

ص:405

8. أبوسعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعلّي - وضرب بين كتفيه -:

«يا عليُّ لك سبع خصال لا يُحاجّك فيهنَّ أحدٌ يوم القيامة؛ أنت أوَّل المؤمنين باللّه إيماناً، وأوفاهم بعهداللّه، وأقومهم بأمر اللّه». الحديث. (حلية الأولياء 1 ص 66).

9. من حديث أبي بكر الهذلي وداود بن أبي هند الشعبي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنَّه قال لعليّ عليه السلام: «هذا أوّل مَن آمن بي وصدَّقني وصلّى معي». شرح ابن أبي الحديد 3 ص 256.

10. إنَّ أبابكر وعمر خطبا فاطمة فردَّهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «لم أُؤمر بذلك». فخطبها عليُّ فزوَّجه إيّاها وقال لها: «زوَّجتكِ أقدم الأُمَّة إسلاماً». روى هذا الحديث جماعةٌ من الصحابة منهم: أسماء بنت عميس، وأُمّ أيمن، وابن عبّاس، وجابر بن عبداللّه. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 257.(1)

كلمات أمير المؤمنين عليه السلام

1. قال عليه السلام: «أنا عبداللّه، وأخو رسول اللّه، وأنا الصِّديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلّاكاذبٌ مفتري، ولقد صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين، وأنا أوَّل مَن صلّى معه».

إسناده من طريق ابن أبي شيبة والنسائي وإبن ماجة والحاكم والطبري صحيحٌ رجاله ثقات، راجع الجزء الثاني من كتابنا 314.

2. قال عليه السلام: «أنا أوَّل رجل أسلم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم».

أخرجه أبو داود بإسناده الصحيح كما في شرح ابن أبي الحديد 3، ص 258.

3. قال عليه السلام: «أنا أوّل من أسلم مع النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم».

أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه 4، ص 233.

ص:406


1- . الغدير: 3/219-221.

4. قال عليه السلام: «أنا أوَّل من صلّى مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم».

أخرجه أحمد، والحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» وقال: رجاله رجال الصحيح غير حبَّة العرني وقد وثق. وأخرجه أبوعمرو في الإستيعاب 2، ص 458.

وابن قتيبة في «المعارف» ص 74 من طريق أبي داود عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبّة عنه عليه السلام. والإسناد صحيحٌ رجاله ثقاتٌ.

5. قال عليه السلام: «أسلمت قبل أن يسلم النّاس بسبع سنين». الرِّياض النضرة: 2 / 158.

6. قال عليه السلام: «عبدت اللّه مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سَبع سنين قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأُمَّة». مستدرك الحاكم: 3/112.

7. قال عليه السلام: عن حكيم مولى زاذان قال: سمعت عليّاً يقول: «صلّيت قبل النّاس سبع سنين، وكنّا نسجد ولا نركع، وأوَّل صلاة ركعنا فيها صلاة العصر» شرح ابن أبي الحديد: 3/258.

8. قال عليه السلام: «عبدت اللّه قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأُمَّة خمس سنين».

الإستيعاب: 2/448؛ الرِّياض النضرة: 2/158؛ السيرة الحلبيَّة: 1/288.

9. قال عليه السلام: «آمنت قبل الناس سبع سنين». خصائص النسائي: 3.

10. قال عليه السلام: «ما أعرف أحداً من هذه الأُمَّة عَبَدَ اللّه بعد نبينا غيري، عبدتُ اللّه قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأُمَّة تسع سنين». خصائص النسائي: 3.

11. من خطبة له عليه السلام يوم صفِّين: «وابن عمِّ نبيِّكم معكم بين أظهركم يدعوكم إلى طاعة ربِّكم، ويعمل بسنَّة نبيِّكم صلى الله عليه و آله و سلم فلا سواء من صلّى قبل كلِّ ذكَر لم يسبقني بصلاتي مع رسول اللّه». كتاب نصر (صفين): 355؛ شرح ابن أبي الحديد:

1/503.

ص:407

12. قال عليه السلام: «اللهمَّ لا أعرف عبداً من هذه الأُمَّة عبدَك قبلي غير نبيّك».

[قاله ثلاث مرّات] ثمَّ قال: لقد صلّيت قبل أن يُصلّي الناس. وفي لفظ: قبل أن يُصلّي أحدٌ. أخرجه أحمد، أبويعلى، البزّار، الطبراني، الهيثمي في المجمع 9، ص 102. وقال: إسناده حسنٌ. شيخ الإسلام الحموئي في الفرائد الباب 48.

13. من كتاب له عليه السلام كتبه إلى معاوية: «إنَّ أولى النّاس بأمر هذه الأُمَّة قديماً وحديثاً أقربها من رسول اللّه، وأعلمها بالكتاب، وأفقهها في الدين، وأوَّلها إسلاماً، وأفضلها جهاداً». كتاب صفِّين لابن مزاحم: 168، ط. مصر.

14. في حديث عنه عليه السلام: «لا واللّه إن كنت أوَّل من صدَّق به فلا أكون أوَّل من كذّب عليه». المحاسن والمساوئ 1، ص 36. تاريخ القرماني هامش الكامل لابن الأثير 1، ص 218.

15. قال عليه السلام: «بُعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء».

مجمع الزوائد: 9/102. تاريخ القرماني: 1/215. الصواعق: 72. تاريخ الخلفاء للسيوطي 112. إسعاف الراغبين 148.

16. من كتاب كتبه عليه السلام إلى معاوية: «إنَّ محمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم لمّا دعا إلى الإيمان باللّه والتوحيد كنّا أهل البيت أوَّل من آمن به؟ وصدَّق بما جاء به، فلبثنا أحوالاً مجرَّمة (أي كاملة) وما يعبد اللّه في ربع ساكن من العرب غيرنا». كتاب صفِّين لابن مزاحم:

100.

17. قال عليه السلام يوم صفِّين مخاطباً أصحاب معاوية: «ويحكم أنا أوَّل مَن دعا إلى كتاب اللّه، وأوَّل مَن أجاب إليه». كتاب نصر (صفيّن): 561.

18. قالت معاذة بنت عبداللّه العدويَّة: سمعت عليَّ بن أبي طالب على منبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «أنا الصدّيق الأكبر، آمنت قبل أن يُؤمن أبوبكر، وأسلمت

ص:408

قبل أن يسلم أبوبكر». راجع الجزء الثاني ص 314.

19. قال عليه السلام في خطبة خطبها في معسكر صفِّين: «أتعلمون أنّ اللّه فضَّل في كتابه السابق على المسبوق، وأنّه لم يسبقني اللّه ورسوله أحدٌ من الأُمَّة؟!» قالوا:

نعم. راجع الجزء الأوّل (الغدير) ص 195.

20. قال عليه السلام: «صلّيت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثلاث سنين قبل أن يُصلّي معه أحدٌ من النّاس». أخرجه أحمد باسنادين.

21. قال عليه السلام: يوم الشورى في حديث أسلفناه: «أمنكم أحدٌ وحَّد اللّه قبلي؟» قالوا: لا. «أمنكم أحدٌ صلّى القبلتين غيري؟» قالوا: لا. راجع ج 1 ص 159-163، وهذه الفقرة من الحديث عدَّها ابن أبي الحديد ممّا استفاضت به الرِّوايات.

22. مرَّ في الجزء الثاني ص 25 في أبيات له عليه السلام كتبها إلى معاوية:

سبقتكمُ إلى الإسلام طرّا غلاماً ما بلغت أوان حلمي

23. ذكر ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول: 11 له عليه السلام:

أنا أخو المصطفى لا شكَّ في نسبي به رُبيت وسبطاه هما ولدي

صدَّقته وجميع النّاس في بُهم من الضَّلالة والإشراك والنكد

قال: قال جابر: سمعت عليّاً يُنشد بهذا ورسول اللّه يسمع: فتبسَّم رسول اللّه وقال: صدقت يا علي؟(1)

ص:409


1- . الغدير: 3/221-224.

كلمة الإمام السبط الحسن عليه السلام:

24. من خطبة للإمام الحسن عليه السلام في مجلس معاوية قوله: «أُنشدكم اللّه أيّها الرَّهط؟ أتعلمون أنَّ الّذي شتمتموه منذ اليوم صلّى القبلتين كلتيهما؟ وأنت يا معاوية بهما كافرٌ، تراها ضلالة، وتعبد اللات والعزّى غواية؛ وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنَّه بايع البيعتين كلتيهما: بيعة الفتح وبيعة الرضوان؟ وأنت يا معاوية بإحداهما كافرٌ، وبأُخرى ناكثٌ. وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنَّه أوَّل الناس ايماناً؟! وإنَّك يا معاوية وأباك من المؤلَّفة قلوبهم». شرح ابن أبي الحديد: 2/101.

25. وفي خطبة له عليه السلام مرَّت في ج 1، ص 198: «فلمّا بعث اللّه محمَّداً للنبوَّة، واختاره للرِّسالة، وأنزل عليه كتابه ثمَّ أمره بالدعاء إلى اللّه، فكان أبي أوَّل من استجاب للّه ولرسوله، وأوَّل من آمن وصدَّق اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم وقد قال اللّه في كتابه المنزل على نبيِّه المرسل: «أفمن كان على بيِّنةٍ من ربِّه ويتلوه شاهدٌ منه» فجدّي الَّذي على بيِّنةٍ من ربِّه، وأبي الّذي يتلوه وهو شاهدٌ منه».(1)

رأي الصحابة والتابعين في أوّل مَن أسلم

1. أنس بن مالك قال: نُبِّئ (بُعث) النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يوم الإثنين وأسلم عليّ يوم الثَّلاثاء. وفي لفظ له: بُعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء.

أخرجه الترمذي في جامعه 2، ص 214. الطبراني. الحاكم في المستدرك 3 ص 112. ابن عبدالبرّ في الإستيعاب 3 ص 32. ابن الأثير في جامع الأُصول كما في تلخيصه تيسير الوصول 3 ص 271. الحموئي في فرائد السمطين الباب 47. وأوعز إليه العراقي في التقريب 1، ص 85. ويوجد في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

ص:410


1- . الغدير: 3/224.

تذكرة السبط 63. السراج المنير شرح الجامع الصغير 2 ص 424. شرح المواهب 1 ص 241.

2. بُريدة الأسلمي قال: أُوحي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 112 وصحَّحه هو وأقرَّه الذهبي.

3. زيد بن أرقم قال: أوَّل من أسلم مع رسول اللّه عليّ بن أبي طالب.

تاريخ الطبري بإسنادين صحيحين رجالهما ثقات. مسند أحمد 4، ص 368.

مستدرك الحاكم 4، ص 336 وصحَّحه هو وأقرَّه الذهبي. الكامل لابن الأثير 2، ص 22.

4. زيد بن أرقم قال: أوَّل مَن صلّى مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليُّ.

أخرجه أحمد والطبراني كما في مجمع الهيثمي 9 ص 103 وقال: رجال أحمد رجال الصحيحين. أبوعمرو في الإستيعاب 2، ص 459.

5. زيد بن أرقم قال: أوَّل مَن آمن باللّه بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليُّ بن أبي طالب. الإستيعاب 2، ص 459.

6. عبداللّه بن عبّاس قال: أوَّل مَن صلّى عليّ.

جامع الترمذي 2، ص 215. تاريخ الطبري 2، ص 241 بإسناد صحيح.

الكامل لابن الأثير 2 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 256.

7. عبداللّه بن عبّاس قال: لعليٍّ أربع خصال ليست لأحد: هو أوَّل عربيّ وأعجميٍّ صلّى مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. مستدرك الحاكم 3، ص 111، الإستيعاب 2 ص 457.

8. عبداللّه بن عبّاس قال مجاهد: إنَّه قال: أوَّل مَن ركع مع النبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم عليُّ بن أبي طالب فنزلت فيه هذه الآية: «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ» .(1) تذكرة السبط 8.

ص:411


1- . البقرة: 43.

9. عبداللّه بن عبّاس قال في خطبة له: إنَّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعواناً على عليٍّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول اللّه وصهره وأوَّل ذكر صلّى معه.

كتاب صفِّين لابن مزاحم 360. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 504. جمهرة الخطب 1 ص 175.

10. عبداللّه بن عبّاس قال: فرض اللّه تعالى الإستغفار لعلي في القرآن على كلّ مسلم بقوله تعالى: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ» (1) فكلُّ مَن أسلم بعد عليٍّ فهو يستغفر لعليٍّ. شرح ابن أبي الحديد: 3/256.(2)

11. عبداللّه بن عبّاس قال: أوّل مَن أسلم عليُّ بن أبي طالب.

الإستيعاب 2 ص 458. مجمع الزوائد 9 ص 102.

12. عبداللّه بن عبّاس قال: كان عليّ أوَّل مَن آمن من الناس بعد خديجة رضي اللّه عنهما.

الإستيعاب 2 ص 457 وقال: قال أبوعمرو رضي اللّه عنه: هذا إسنادٌ لامطعن فيه لأحد لصحَّته وثقة نقلته. وصحَّحه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242.

13. كان ابن عبّاس بمكَّة يُحدِّث على شفير زمزم ونحن عنده فلمّا قضى حديثه قام إليه رجلٌ فقال: يابن عبّاس؟ إنّي امرؤ من أهل الشام من أهل حمص إنَّهم يتبرَّأون من عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه ويلعنونه. فقال: بل لعنهم اللّه في الدنيا والآخرة وأعدَّلهم عذاباً مهيناً. ألِبُعد قرابته من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ وإنّه لم يكن أوّل ذكران العالمين إيماناً باللّه ورسوله؟ وأوَّل مَن صلّى وركع وعمل بأعمال البرّ؟ قال الشامي: إنَّهم واللّه ما يُنكرون قرابته وسابقته غير أنَّهم يزعمون أنّه قتل

ص:412


1- . الحشر: 10.
2- . الغدير: 3/224-226.

الناس. الحديث. المحاسن والمساوئ للبيهقي 1، ص 30.

14. عفيف قال: جئت في الجاهليَّة إلى مكّة وأنا أُريد أن ابتاع لأهلي من ثيابها وعطرها فأتيت العبّاس بن عبدالمطلب وكان رجلاً تاجراً فأنا عنده جالسٌ حيث أنظر إلى الكعبة وقد حلقت الشمس في السَّماء فارتفعت وذهبت إذ جاء شابّ فرمى ببصره إلى السَّماء ثمَّ قام مستقبل الكعبة، ثمَّ لم ألبث إلّايسيراً حتّى جاء غلامٌ فقام على يمينه، ثمَّ لم يلبث إلّايسيراً حتّى جاءت امرأةٌ فقامت خلفهما، فركع الشابُّ فركع الغلام والمرأة، فرفع الشابُّ فرفع الغلام والمرأة، فسجد الشابُّ فسجد الغلام والمرأة فقلت: يا عبّاس؟ أمرٌ عظيمٌ. قال العبّاس: أمرٌ عظيمٌ، أتدري مَن هذا الشابُّ؟ قلت: لا. قال: هذا محمَّد بن عبداللّه ابن أخي. أتدري مَن هذا الغلام؟ هذا عليّ ابن أخي. أتدري مَن هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجته، انَّ ابن أخي هذا أخبرني أنَّ ربَّه ربّ السماء والأرض أمره بهذا الدين الّذي هو عليه، ولا واللّه ما على الأَرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.

خصائص النسائي 3. تاريخ الطبري 2 ص 21. الرِّياض النضرة 2 ص 158.

الإستيعاب 2 ص 459. عيون الأثر 1 ص 93. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. السيرة الحلبيَّة 1 ص 288.

15. سلمان الفارسي قال: أوَّل هذه الأُمَّة وروداً على نبيِّها الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

الإستيعاب 2 ص 457. مجمع الزوائد 9 ص 102 وقال: رجاله ثقاتٌ. وعدَّه الإسكافي في رسالته على العثمانيَّة. وأبو عمرو في الإستيعاب. والعراقيُّ في شرح التقريب 1 ص 85. والقسطلاني في المواهب 1 ص 45 ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم.

16. أبو رافع قال: صلّى النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم أوَّل يوم الاثنين وصلّت خديجة آخره

ص:413

وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء من الغد.

أخرجه الطبراني كما في شرح المواهب 1 ص 240. عيون الأثر 1 ص 92.

وتجده وسابقه في الرِّياض النضرة 2 ص 158. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

17. أبو رافع قال: مكث عليّ يصلّي مستخفياً سبع سنين وأشهراً قبل أن يصلّي أحدٌ. أخرجه الطبراني. والهيثمي في المجمع 9 ص 103. والحموئي في الفرائد ب 47.

18. أبوذر الغفاري، عدَّ ممَّن روى أنَّ عليَّ بن أبي طالب أوَّل من أسلم.

الإستيعاب 2 ص 456. التقريب وشرحه 1 ص 85. المواهب اللدنيَّة 1 ص 45.

19. خباب بن الأرت قال: رأيت عليّاً يُصلّي قبل الناس مع النبيّ وهو يومئذ بالغٌ مستحكم البلوغ. رسالة الإسكافي. وعُدَّ ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم في الاستيعاب 2 ص 456. والمواهب اللدنيَّة 1 ص 45.

20. المقداد بن عمرو الكندي، ممَّن روى أنَّ عليّاً أوّل مَن أسلم كما في الإستيعاب 2 ص 456. والتقريب وشرحه 1 ص 85. والمواهب اللدنيَّة 1 ص 45.(1)

21. جابر بن عبداللّه الأنصاري، قال: بُعث النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. الطبري 2 ص 211. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258، وعدّه أبوعمرو والعراقيُّ والقسطلاني ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل من أسلم.

22. أبو سعيدالخدري روى أنَّ عليَّ بن أبي طالب أوَّل من أسلم.

ص:414


1- . الغدير: 3/226-227.

الإستيعاب 2 ص 456. شرح التقريب 1 ص 85. المواهب اللدنيَّة 1 ص 45.

23. حذيفة بن اليمان قال: كنّا نعبد الحجارة ونشرب الخمر وعليٌّ من أبناء أربع عشرة سنة قائمٌ يصلّي مع النبيِّ ليلاً ونهاراً، وقريش يومئذ تسافه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما يذبُّ عنه إلّاعليّ. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

24. عمر بن الخطاب، قال عبداللّه بن عبّاس: سمعت عمر وعنده جماعةٌ فتذاكروا السابقين إلى الإسلام فقال عمر: أمّا عليّ فسمعت رسول اللّه: يقول فيه ثلاث خصال، لوددت أن تكون لي واحدة منهنَّ، وكانت أحبّ إليَّ ممّا طلعت عليه الشمس، كنت أنا وأبو عبيدة وأبوبكر وجماعة من أصحابه إذ ضرب النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم على منكب عليٍّ رضي اللّه عنه فقال له: يا عليُّ؟ أنت أوَّل المؤمنين إيماناً، وأوَّل المسلمين إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

رسالة الإسكافي. مناقب الخوارزمي [: 55 ح 19]. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

25. عبداللّه بن مسعود قال: أوَّل حديث علمته من أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّي قدمت مكّة مع عمومة لي (وذكر مثل حديث عفيف المذكور ص 226) رسالة الإسكافي.

26. أبو أيّوب الأنصاري، أخرج الطبراني عنه أنَّه قال: أوَّل الناس إسلاماً عليُّ بن أبي طالب. شرح التقريب 1 ص 85. شرح الزرقاني 1 ص 242.

27. أبومرازم يعلى بن مرَّة، عدَّه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممَّن قال: إنَّ عليّاً أوَّل الناس إسلاماً.

28. هاشم بن عُتبة المرقال قال: أنت يا أميرالمؤمنين! أقرب الناس من

ص:415

رسول اللّه رحماً، وأفضل الناس سابقة وقدماً. كتاب نصر (صفين): 125. جمهرة الخطب 1 ص 151.

29. في كلام لهاشم بن عُتبة يوم صفِّين: إنَّ صاحبنا هو أوَّل من صلّى مع رسول اللّه، وأفقهه في دين اللّه، وأولاه برسول اللّه.

كتاب نصر (صفين) 403. تاريخ الطبري 6 ص 24. الكامل لابن الأثير 3 ص 135. وقال هاشم يوم صفِّين:

مع ابن عمّ أحمد المعلّى فيه الرَّسول بالهدى استهلا

أوّل من صدَّقه وصلّى فجاهد الكفّار حتّى أبلى(1)

30. مالك بن الحارث الأشتر قال في خطبة له: معنا ابن عم نبيِّنا وسيفٌ من سيوف اللّه عليُّ بن أبي طالب، صلّى مع رسول اللّه لم يسبقه إلى الصلاة ذكَر، حتّى كان شيخاً لم يكن له صبوةٌ ولا نبوةٌ ولا هفوةٌ، فقيهٌ في دين اللّه، عالمٌ بحدود اللّه.

كتاب نصر 268. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 484. جمهرة الخطب 1 ص 183.(2)

31. عدّي بن حاتم قال في خطبة له مخاطباً معاوية: ندعوك إلى أفضل الأُمَّة سابقة، وأحسنها في الإسلام آثاراً.

كتاب نصر 221. تاريخ الطبري 6 ص 2. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 344.

وفي لفظ ابن الأثير في الكامل 3 ص 124: إنَّ ابن عمّك سيد المسلمين أفضلها سابقةً.

ص:416


1- . كتاب صفين لابن مزاحم: 371، طبعة مصر.
2- . الغدير: 3/227-229.

32. عديّ بن حاتم قال في خطبة أُخرى له: إن كان له - لعليٍّ - عليكم فضلٌ فليس لكم مثله فسلّموا وإلّا فنازعوا عليه، واللّه لئن كان إلى العلم بالكتاب والسنَّة؟ إنّه لأعلم الناس بهما. ولئن كان إلى الإسلام؟ إنَّه لأخو نبي اللّه والرأس في الإسلام.

الإمامة والسياسة 1 ص 103.

33. محمَّد بن الحنفيَّة قال سالم بن أبي الجعد قلت له: أبوبكر كان أوَّلهم إسلاماً؟! قال: لا. الاستيعاب 2 ص 458. إذا ثبت أنَّ أبابكر لم يكن أوَّل الناس إسلاماً فعليّ عليه السلام هو المتعيَّن سبق إسلامه.

34. طارق بن شهاب الأحمسي في كلام له: ثمَّ قلت: ادع عليّاً وهو أوَّل المؤمنين إيماناً باللّه وابن عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ووصيّه، هذا أعظم، الحديث. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 76.

35. عبداللّه بن هاشم المرقال قال في خطبة له: يا أيّها الناس! إنَّ هاشماً جاهد في طاعة ابن عمّ رسول اللّه، وأوَّل من آمن به؛ وأفقههم في دين اللّه. كتاب نصر 405.

36. عبداللّه بن حجل قال: يا أميرالمؤمنين! أنت أوَّلنا إيماناً، وآخرنا بنبيِّ اللّه عهداً. الإمامة والسياسة 1 ص 103، كتاب نصر.

37. أبو عمرة بشير بن محصن قال في جمع من أصحاب علي ومعاوية: إنَّ صاحبي أحق البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من رسول اللّه. كتاب نصر 210.

38. عبداللّه بن خباب بن الأرت قال ابن قتيبة: إنّ الخارجة الّتي خرجت على عليٍّ بينما هم يسيرون فإذا هم برجل يسوق امرأته على حمار له فعبروا إليه الفرات فقالوا له: مَن أنت؟ قال: أنا رجلٌ مؤمنٌ، قالوا: فما تقول في عليِّ بن أبي

ص:417

طالب؟ قال: أقول: إنَّه أميرالمؤمنين وأوَّل المسلمين إيماناً باللّه ورسوله. قالوا: فما اسمك؟ قال: وأنا عبداللّه بن خباب بن الأرت صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. الإمامة والسياسة 1 ص 122.

39. عبداللّه بن بُريدة قال: أوَّل الرجال إسلاماً عليُّ بن أبي طالب ثمّ الرهط الثلاث: أبوذر وبُريدة وابن عمّ لأبي ذرّ. أخرجه محمَّد بن إسحاق المدني في الجزء الأَوَّل من المغازي.

40. محمَّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية كتاباً منه: فكان أوّل من أجاب وأناب، وصدّق ووافق، وأسلم وسلم أخوه وابن عمِّه عليُّ بن أبي طالب - إلى أن قال -: أوَّل الناس إسلاماً، وأصدق الناس نيَّة - إلى قوله - يالك الويل! تعدل نفسك بعليٍّ وهو وارث رسول اللّه ووصيّه وأبو ولده، وأوّل الناس له اتِّباعاً، وآخرهم به عهداً، يُخبره بسرِّه، ويشركه في أمره. نصر في كتاب صفِّين 133.(1)

41. عمرو بن الحمق قال لعلي: أحببتك لخصال خمس: إنَّك ابن عمِّ رسول اللّه، وأوَّل من آمن به. وفي لفظ: وأسبق النّاس إلى الإسلام، أبوالذريَّة الّتي بقيت فينا من رسول اللّه، وأعظم رجل من المهاجرين سهماً في الجهاد. كتاب صفِّين 115. جمهرة الخطب 1 ص 149.

42. سعيد بن قيس الهمداني يرتجز في صفِّين بقوله:

هذا عليُّ وابن عمِّ المصطفى أوَّل من أجابه ممّن دعا(2)

هذا الإمام لا يُبالي من غوى

43. عبداللّه بن أبي سفيان قال مجيباً الوليد:

ص:418


1- . الغدير: 3/229-230.
2- . شرح النهج لابن أبي الحديد: 13/232 وفيه «أوّل من أجابه فيما روى».

وإنَّ وليّ الأمر بعد محمَّدٍ عليّ و في كلِّ المواطن صاحبه

وصيُّ رسول اللّه حقّاً وصنوه وأوَّل مَن صلّى ومَن لان جانبه

رسالة الإسكافي، وذكرهما الحافظ الكنجي في الكفاية: 48 للفضل بن العبّاس.

44. خزيمة بن ثابت الأنصاري عدَّه العراقي في شرح التقريب 1 ص 85، والزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممّن قال بأنَّ عليّاً أوَّل الناس إسلاماً.

وقالا: أنشد المرزبان له في عليٍّ:

أليس أوَّل من صلّى لقبلتكم وأعلم النّاس بالقرآن والسنن؟؟

وذكر له الإسكافي في رسالته كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 259:

وصيُّ رسول اللّه من دون أهله وفارسه مذ كان في سالف الزمنْ

وأوَّل من صلّى من الناس كلّهم سوى خيرة النسوان واللّه ذو المننْ

وذكرهما له الحاكم في المستدرك 3 ص 114، وذكر قبلهما:

إذا نحن بايعنا عليّاً فحسبنا أبو حسن ممّا نخاف من الفتنْ

وجدناه أولى النّاس بالنّاس أنَّه أطبّ قريش بالكتاب وبالسننْ (1)

45. كعب بن زهير، ذكر الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 له. من قصيدة يمدح بها أميرالمؤمنين عليه السلام:

إنَّ عليّاً لميمون نقيبته بالصّالحات من الأفعال مشهورُ

صهر النبيِّ وخير النّاس كلّهُم فكلّ من رامه بالفخر مفخورُ

صلّى الصلاة مع الأُمِّي أوَّلهم قبل العباد وربُّ الناس مكفورُ

ص:419


1- . ولهذه الأبيات بقية توجد في الفصول المختارة: 267.

46. ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، ذكر جمعٌ من الأعلام له أبيات وذكرها آخرون لغيره وهي:

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرفٌ عن هاشم ثمَّ منها عن أبي حسن

أليس أوَّل مَن صلّى لقبلتهم؟! وأعلم النّاس بالآيات والسنن؟!

وآخر النّاس عهداً بالنبيِّ؟ ومَن جبريل عون له في الغسل والكفن؟

مَن فيه ما فِيهمُ ما تمترون به؟! وليس في القوم ما فيه من الحسنِ

ماذا الّذي ردَّ كم عنه؟! فنعلمه ها إنَّ بيعتكم من أوَّل الفتنِ

وذكر الإسكافي في رسالته البيتين الأوَّلين منها ونسبهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أُميَّة بن عبد شمس حين بويع أبوبكر. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 259.

47. الفضل بن أبي لهب قال ردّاً على قصيدة الوليد بن عقبة:

ألا إنَّ خير النّاس بعد محمَّدٍ مهيمنه التاليه في العرف والنكرِ

وخيرته في خيبر ورسوله بنبذ عهود الشرك فوق أبي بكر

وأوَّل مَن صلّى صنو نبيِّه وأوَّل من أردى الغواة لدى بدر

فذاك عليُّ الخير من ذا يفوقه؟! أبو حسن حلف القرابة والصهر

48. مالك بن عبادة الغافقي حليف حمزة بن عبدالمطلب قال:

رأيت عليّاً لا يلبّث قرنه إذا ما دعاه حاسراً أو مسربلا

فهذا وفي الإسلام أوَّل مسلم وأوَّل من صلّى وصام وهلّلا

49. أبو الأسود الدؤلي يهدِّد طلحة والزبير بقوله:

وإنَّ عليّاً لكم مصحرُ يماثله الأسد الأسودُ

ص:420

أما إنَّه أوَّل العابدين بمكّة واللّه لا يُعبدُ(1)

50. جندب بن زهير كان يرتجز يوم صفين بقوله:

هذا عليُّ والهدى حقّاً معه يا ربّ فاحفظه ولا تضيِّعه

فإنَّه يخشاك ربّي فارفعه نحن نصرناه على مَن نازعه

صهر النبيِّ المصطفى قد طاوعه أوَّل مَن بايعه وتابعه(2)

51. زفر بن يزيد(3) بن حُذيفة الأسدي قال:

فحوطوا عليّاً فانصروه فإنَّه وصيُّ وفي الإسلام أوَّل أوَّل

وإن تخذلوه والحوادث جمَّة فليس لكم عن أرضكم متحوّل(4)

52. النجاشي بن الحارث بن كعب قال:

فقل للمضلّل من وائل ومن جعل الغثَّ يوماً سمينا

جعلت ابن هند وأشياعه نظير عليٍّ أما تستحونا؟!

إلى أوَّل النّاس بعد الرسول أجاب النبيَّ من العالمينا

وصهر الرَّسول ومن مثله إذا كان يوم يشيب القرونا؟!(5)

53. جرير بن عبداللّه البجلي قال:

فصلّى الإله على أحمد رسول المليك تمام النعمْ

وصلّى على الطهر من بعده خليفتنا القائم المدَّعمْ

عليّاً عنيت وصيَّ النبيَّ يجالد عنه غواة الأُممْ

ص:421


1- . رسالة الإسكافي كما شرح ابن أبي الحديد: 13/232.
2- . الغدير: 3/230-232.
3- . في بعض المصادر: زفير بن زيد.
4- . رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي الحديد: 13/232.
5- . كتاب صفين لنصر بن مزاحم: 66.

له الفضل والسبق والمكرما ت وبيت النبوَّة لا المهتضمْ

54. عبداللّه بن حكيم التميمي قال:

دعانا الزبير إلى بيعة وطلحة من بعد أن أثقلا

فقلنا: صفقنا بأيماننا فإن شئتما فخذا الأشملا

نكثتم عليّاً على بيعة وإسلامه فيكمُ أوَّلا

55. عبدالرحمن بن حنبل [جعل] الجمحي حليف بني الجمح قال:

لعمري لئن بايعتم ذا حفيظة على الدين معروف العفاف موفَّقا

عفيفاً عن الفحشاء أبيض ماجداً صدوقاً وللجبّار قدماً مصدِّقا

أبا حسن فارضوا به وتبايعوا فليس كمن فيه يرى العيب منطقا

عليُّ وصيُّ المصطفى ووزيره وأوَّل مَن صلّى لذي العرش واتَّقى(1)

56. أبو عمرو عامر الشعبي الكوفي قال: أوَّل مَن أسلم من الرِّجال عليُّ بن أبي طالب وهو ابن تسع سنين. رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي الحديد: 3 / 260.

57. أبو سعيد الحسن البصري قال: عليُّ أوَّل مَن أسلم بعد خديجة. أخرجه أحمد عن عبدالرَّزاق عن معمر عن قتادة عنه. ورواه الإسكافي في رسالته عن عبدالرَّزاق كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

وقال الحجّاج للحسن وعنده جماعةٌ من التابعين وذكر عليّ بن أبي طالب:

ص:422


1- . كفاية الطالب للحافظ الكنجي: 48.

ما تقول أنت يا حسن؟ فقال: ما أقول؟ هو: أوَّل مَن صلّى إلى القبلة، وأجاب دعوة رسول اللّه. وإنَّ لعليٍّ منزلة من ربِّه وقرابة من رسوله، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردَّها أحد. فغضب الحجّاج غضباً شديداً وقام عن سريره فدخل بعض البيوت.

وقال رجل للحسن: مالنا لا نراك تثني على عليٍّ وتقرّظه؟ قال: كيف؟! وسيف الحجّاج يقطر دماً، إنَّه أوَّل من أسلم، وحسبكم بذلك. رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

58. الإمام محمَّد بن عليّ الباقر عليه السلام قال: أوَّل مَن آمن باللّه عليُّ بن أبي طالب وهو ابن إحدى عشرة سنة. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

59. قتادة بن دعامة الأكمه البصري قال: عليُّ أوَّل مَن أسلم بعد خديجة.

أخرجه أحمد كما سمعت، والقسطلاني عدّة ممّن قال به في المواهب 1 ص 45، وأقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص 242.

60. محمَّد بن مسلم المعروف بابن شهاب(1) عدَّه القسطلاني في المواهب 1 ص 45، وأقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص 242 من القائلين بأنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم.

61. أبوعبداللّه محمَّد بن المكندر المدني قال: عليّ أوَّل مَن أسلم. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

62. أبو حازم سلمة بن دينار المدني قال: عليّ أوّل من أسلم. تاريخ الطبري 1 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

63. أبو عثمان ربيعة بن أبي عبدالرَّحمن المدني قال: عليّ أوَّل مَن أسلم.

ص:423


1- . نسبة إلى جد جده.

تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

64. أبو النضر محمَّد بن السائب الكلبي قال: عليّ أوَّل من أسلم، أسلم وهو ابن تسع سنين. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

65. محمَّد بن إسحاق قال: كان أوّل ذكر آمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصلّى معه وصدّقه بما جاءه من عنداللّه عليُّ بن أبي طالب وهو يومئذ ابن عشر سنين(1)وكان ممّا أنعم اللّه به على عليِّ بن أبي طالب أنَّه كان في حجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل الإسلام.

وقال: وذكر بعض أهل العلم أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا حضرت الصَّلاة خرج إلى شعاب مكَّة وخرج معه عليُّ بن أبي طالب، مستخفياً من عمِّه أبي طالب وجميع أعمامه وسائر قومه فيصلّيان الصَّلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ماشاء اللّه أن يمكثا، ثمَّ إنَّ أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصلِّيان فقال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يابن أخي ما هذا الدين؟ الحديث.

تاريخ الطبري 2 ص 213. سيرة ابن هشام 1 ص 264، 265. سيرة ابن سيِّد الناس 1 ص 93. الكامل لابن الأثير 4 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

السيرة الحلبيَّة 1 ص 287.

66. جُنيد بن عبدالرَّحمن قال: أتيت من حوران إلى دمشق لآخذ عطائي فصلَّيت الجمعة ثمَّ خرجت من باب الدرج فإذا عليه شيخٌ يقال له: أبو شيبة القاصّ يقصُّ على الناس، فرغَّب فرغبنا، وخوَّف فبكينا، فلمّا انقضى حديثه قال: اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب. فلعنوا أبا تراب عليه السلام، فالتفت إليَّ من على يميني فقلت له:

فمّن أبو تراب؟ فقال: عليُّ بن أبي طالب ابن عمَّ رسول اللّه، وزوج ابنته، وأوَّل النّاس إسلاماً، وأبوالحسن والحسين. فقلت: ما أصاب هذا القاص؟! فقمت إليه

ص:424


1- . في الكامل لابن الأثير: 2/32: احدى عشرة سنة. نقلاً عن ابن اسحاق.

وكان ذا وفرة فأخذت وفرته بيدي وجعلت ألطم وجهه وأبطح برأسه الحائط، فصاح فاجتمع أعوان المسجد فوضعوا ردائي في رقبتي وساقوني حتّى دخلوني على هشام بن عبدالملك وأبو شيبة يقدمني فصاح: يا أميرالمؤمنين؟ قاصّك وقاصّ آبائك وأجدادك أتى إليه اليوم أمرٌ عظيمٌ. قال: مَن فعل لك؟ فقال: هذا. فالتفت إليَّ هشام وعنده أشراف النّاس فقال: يا أبا يحيى؟ متى قدمت؟ فقلت: أمس وأنا على المصير إلى أميرالمؤمنين فأدركتني صلاة الجمعة فصلَّيت وخرجت إلى باب الدرج فإذا هذا الشيخ قائمٌ يقصُّ فجلست إليه فقرأ فسمعنا، فرغَّب مَن رغَّب، وخوّف مَن خوّف؛ ودعا فأمّنا، وقال في آخر كلامه: اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب، فسألت مَن أبو تراب؟

فقيل: عليُّ بن أبي طالب، أوَّل الناس إسلاماً، وابن عم رسول اللّه، وأبوالحسن والحسين، وزوج بنت رسول اللّه. فواللّه يا أميرالمؤمنين؟ لوذكر هذا قرابة لك بمثل هذا الذكر ولعنه بمثل هذا اللعن لأحللت به الّذي أحللت، فكيف لا أغضب لصهر رسول اللّه وزوج إبنته؟! فقال هشام: بئس ما صنع. تاريخ ابن عساكر 3 ص 407.(1)

هذه جملةٌ من النصوص النبويَّة، والكلم المأثورة عن أميرالمؤمنين والصحابة والتابعين في أنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم: وهي تربو على مائة كلمة، أضف إليها ما مرَّ (ج 2 ص 276) من أنَّ أميرالمؤمنين سبّاق هذه الأُمَّة. وأشفع الجميع بما أسلفناه (ج 2 ص 306) من أنَّه صلوات اللّه عليه صدِّيق هذه الاُمة، وهو الصِّديق الأكبر.

فهل تجد عندئذ مساغاً لمكابرة ابن كثير تجاه هذه الحقيقة الراهنة وقوله:

وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم. إلخ؟! فإذا لا يصحُّ مثل هذه فما الَّذي يصحّ؟ وإن كان

ص:425


1- . الغدير: 3/232-236.

لا يصحّ شيء منها فما قيمة تلك الكتب المشحونة بها؟! كلّا، إنَّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون.

وأنت ترى الرجل يزيّف هذه الكلم والنصوص الكثيرة الصحيحة بحكم الحفّاظ الأثبات بكلمة واحدة قارصة، ويعتمد في إثبات أيِّ أمر يروقه في تاريخه على المراسيل والمقاطيع والآحاد، ونقل المجاهيل وأفناء الناس. انتهى كلام العلّامة الأميني قدس سره.(1)

مناظرة بين المأمون وإسحاق:

ولقد دار بين المأمون العباسي وإسحاق وهو من العلماء المشهورين حوار طريف في هذا المجال ينقله ابن عبد ربّه في كتابه «العقد الفريد» نذكر هنا خلاصته:

قال المأمون: يا إسحاق أي الأعمال كان أفضل يوم بَعث اللّه رسوله؟

إسحاق: الإخلاص بالشهادة.

المأمون: أليس السبق إلى الإسلام؟

إسحاق: نعم.

المأمون: إقرأ ذلك في كتاب اللّه يقول: «وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (2) إنَّما عُني من سبق إلى الإسلام، فهل علمت أحداً سبق عليّاً إلى الإسلام؟

إسحاق: إنَ عليّاً أسلَم وهو حديث السنّ لا يجوز عليه الحكمُ، وأبوبكر أسلمَ وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.

وهنا أمسك المأمونُ بزمام الكلام وقال:

ص:426


1- . الغدير: 3/219-236.
2- . الواقعة: 10-11.

أخبرني عن إسلام عليّ حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دعاه إلى الإسلام، أو يكون إلهاماً من اللّه؟

قال إسحاق: بل دعاه رسول اللّه إلى الإسلام.

قال المأمون: يا إسحاق هل يخلو رسول اللّه حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر من اللّه أو تكلَّف ذلك من نفسه؟

ثمّ قال: يا إسحاق لا تنسب رسولَ اللّه إلى تكلّف فإنّ اللّه يقول: «وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» .(1)

فإذا دعاه بأمر اللّه وليس من صفة الجبّار - جلَّ ذكرُه - أن يُكلِّفَ رسلَه دعاء مَنْ لا يجوز عليه حكم، أفتراه في قياس قولك يا إسحاق؟ أن عليّاً أسلم صبيّاً لا يجوز عليه الحكمُ قد تكلَّف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من دعاء الصبيان ما لا يطيقون.(2)

وعلى هذا الأساس يجب اعتبار إيمان عليّ عليه السلام إيماناً صحيحاً ثابتاً لم يقلّ عن إيمان الآخرين أهميةً وقيمة بل هو أفضل مصداق لقوله تعالى:

«وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» ، هو الإمام علي بن أبي طالب.

قضيّةُ «انقطاع الوَحْي»

لقد أضاءت روحُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ونفسُه الشريفة واستنارت بنور الوحي، ودفَعَه ذلك إلى التأمّل والتفكير في الوظيفة الكبرى والثقيلة الّتي جعلها اللّه على كاهله، وخاصّة عندما خاطبه الله تعالى بقوله: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ» .(3)

ص:427


1- . ص: 86.
2- . العقد الفريد: 5/352، طبعة بيروت، دار الكتب العلمية، و ج 5/94، طبعة لجنة التأليف، القاهرة.
3- . المدثر 1-3.

وهنا طرح المؤرّخون و بخاصّة الطبريّ الَّذي لا يخلو تاريخه من الأساطير الإسرائيليّة قضيّة باسم «انقطاع الوحي» فقالوا: إنّ رسول اللّه بعد أن رأى ذلك الملَك وسمع منه الآيات الأُولى من القرآن الكريم بقي ينتظر نزولَ خطاب آخر من جانب اللّه تعالى، ولكن دون جدوى، فهو لم يرَ ذلك المَلك الجميل بعد ذلك، ولا أنّه سمع النداء الغيبيّ مرّة أُخرى على غرار ما رأى وسمع في بدء نزول الوحي. ولو كان لانقطاع الوحي في بداية عهد الرسالة (الّذي ادّعاه هؤلاء) حقيقة فما هو سوى النزول التدريجي للقرآن ليس إلّا.

وقد تعلَّقت المشيئة الإلهية أساساً بأن ينزلَ الوحيُ على رسول اللّه تدريجاً، لا دفعةً واحدةً وذلك لمصالح معيّنة، وحيث إنّ الأَمر في بدء الوحي كان على أوّله وفي بدايته، لذلك لم ينزل الوحي الإلهي بعد المرّة الأُولى فوراً، ولكن حُمِلَ هذا على «انقطاع الوحي» ولم يكن لا انقطاع الوحي ولا أيّة مسألة أُخرى من هذا القبيل.

وحيث إنّ هذه المسألة قد تذرَّع بها الكُتّابُ المغرضون لذلك ينبغي أن نعطيها بعض الاهتمام ليتّضح أنّ ما أُدّعي من انقطاع الوحي، قضيةٌ فارغةٌ عن الحقيقة ولذلك لا صحّة لتطبيقِ الآيات القرآنية عليها.

ولتوضيح هذا الأمر ننقل هنا نصّ ما كتبه الطبريّ ونقله في تاريخه، ثم نعمد بعد ذلك إلى نقده.

يكتب الطبري حول بداية نزول الوحي على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وما تبعه من أحداث قائلاً:... ثم أبطأ عليه (على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجزع جزعاً شديداً) جبريل فقالت له خديجة: ما أرى ربَك إلّاقد قلاك، قال: فأنزل اللّه عزّوجلّ قوله: «وَ الضُّحى * وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى * وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى * أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى

ص:428

وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَ أَمَّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» (1).(2)

ولقد أوجدَ نزولُ هذه الآيات سروراً عظيماً لدى خديجة عليها السلام، وعلمت بأنّ ما قالته حول رسول اللّه لا أساس له من الصحّة.

أُسطورة وليس تاريخاً!

إنَّ ذاكرةَ التاريخ تحفظ وتتذكّر جيّداً تاريخ حياة السيدة خديجة.

إنَّ خديجة الّتي كانت أخلاق محمَّد الفاضلة وخصاله المجيدة، وأفعاله الحميدة ماثلة أمام عينيها والّتي كانت تؤمن بعدل ربّها، كيف يجوز أن تسيء الظن باللّه تعالى وبنبيّه الكريم، العظيم الشأن؟!

إنَّ مقامَ النبوَّة ومنصبَ الرسالة، والسفارة الإلهية لا يُعطى إلّالمن يملك طائفةً من الصفات النبيلة والخصال الرفيعة، وما لم يتّصف شخصُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بهذه الصفات العليا، وما لم تتوفّر فيه مثل هذه الشرائط الخاصّة والمواصفات المعيّنة لم يُمنح له ذلك المنصب قط. وتقع العصمة والسكينة القلبية، والاعتماد والتوكل في طليعة هذه الخصال والمواصفات، ومع هذه الأوصاف والخصال يستحيل أن يدور في خلده مثل تلك التصوّرات الخاطئة.

ولقد قال العلماء: إنّ المسيرة التكاملية عند الأنبياء تبدأ من فترة الطفولة والصبا، فإنّ الغشاوات والحجب تبدأ تتساقط وتنقشع الواحدة تلو الأُخرى منذ ذلك الوقت، ويستمر ذلك حتّى تصل الإحاطة العلمية لديهم حدَّ الكمال فلا يشكّون في شيء يرونه أو يسمعونه أبداً، ومَن حاز هذه المراتب لا يمكن أن يتطرّق الشكّ والحيرة والتردّد إلى قلبه وعقله مطلقاً.

ص:429


1- . الضحى: 1-11.
2- . تاريخ الطبري: 2/48.

إنَّ آيات سورة «الضحى» وخاصّة عبارة «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» (1) تفيد فقط بأنّ هناك من قال مثل هذه العبارة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأمّا مَن هو قائلها؟ وكم تركت هذه العبارة مِن تأثير في نفسية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وروحيته فهي ساكتة عن كلّ ذلك؟ وذهب بعضُ المفسّرين إلى أنّ قائلها هم بعضُ المشركين، ولهذا الاحتمال لا تكون جميع الآيات مرتبطة ببدء الوحي، لأنّه لا أحد غير «عليّ» و «خديجة» كان يعرف في بدء البعثة بنزول الوحي، ليتسنّى له أن يعترض على رسول اللّه، ويعيّره بانقطاعه عنه بعد ذلك، فإنّ أمر المبعث والرسالة - كما سنقول ذلك فيما بعد - بقيَ خافياً على أكثر المشركين لمدّة ثلاثة أعوام تماماً، فهو لم يكن مكلَّفاً بإبلاغ رسالته إلى عامّة الناس، إلى أن نزَل قولُه تعالى: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» (2) الّذي أمره اللّه فيه بالجهر بأمر رسالته لعامّة الناس بلا استثناء.

اختلافُ المؤرّخين في مسألة «انقطاع الوحي»

لم يرد في القرآن الكريم أيُّ ذكر مطلقاً لمسألة (انقطاع الوحي) بل لم ترد به إشارة أيضاً، إنّما نلاحظها في كتب السيرة والتفسير فقط، ويختلف كُتّاب السيرة والمؤرّخون في علّة (انقطاع الوحي) هذا، ومدّته اختلافاً كبيراً يجعلنا لا نعتمد على أيّ واحد منها، وها نحن نشير إليها بشكل مّا:

1. أنّ اليهود سألوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن أصحاب الكهف، وعن الروح، وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسّلام: سأُخبركم غداً، ولم يستثن، فاحتبس عنه الوحي.(3)

ص:430


1- . الضحى: 3.
2- . الحجر: 94.
3- . روح المعاني: 30/157. ولاحظ: السيرة الحلبية: 1/499.

بناء على هذا لا يمكن أن نربط هذه المسألة ببدء الوحي ومطلع عهد الرسالة لأنّ اتّصال علماء اليهود وأحبارهم مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق قريش وسؤالهم إيّاه حول هذه الأُمور الثلاثة، وقع في حدود السنة السابعة من البعثة يوم توجّه وفد من قريش إلى المدينة ليسألوا علماء اليهود عن صحّة ما جاء به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فاقترح اليهود عليهم أن يسألوا النبيَّ عن تلك الأُمور الثلاثة.(1)

2. قالت خولة - كانت تخدم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم -: إنّ جرواً دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أياماً لا ينزلُ عليه الوحيُ، فقال: يا خولة ما حدث في بيتي، ما بجبرئيل لا يأتيني؟ قالت خولة: فقلت لو هيّأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جروٌ ميّت فألقيته خلفَ الجدار... فأنزلَ اللّهُ هذه السورة، ولمّا نزل جبرئيل سأله النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم عن التأخّر؟ فقال: أما علمت أنّا لا ندخلُ بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ.(2)

3. إنّ المسلمين قالوا: يا رسول اللّه، مالكَ لا ينزلُ عليكَ الوحيُ؟ فقال:

«وكيف ينزِلُ عليّ وأنتمْ لا تنقون رواجبكم، ولا تقصُّون أظفاركُمْ، ولا تأخذونَ من شواربكم»؟ فنزلَ جبرئيلُ بهذه السورة.(3)

4. أهدىَ عثمان إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عنقود عنب وقيل عِذق تمر، فجاء سائلٌ فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدّمه إليه صلى الله عليه و آله و سلم ثانياً ثم عاد السائل فأعطاه، وهكذا ثلاث مرّات، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: ملاطفاً لا غضبان: أسائلٌ أنت يا فلان أم تاجر؟ فتأخّر الوحيُ أيّاماً فاستوحش، فنزلت السورة.(4)

ص:431


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/196.
2- . تفسير القرطبي: 93/20.
3- . تفسير القرطبي: 93/20.
4- . روح المعاني: 157/30.

5. إن جرواً لأحد نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو أحد أقربائه حال دون نزول الوحي عليه.(1)

6. إنَ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا سأل جبرئيلَ عن تأخّر الوحي؟ قال جبرئيل: لا أملِكُ من نفسي شيئاً إنّما أنا عبدٌ مأمورٌ.(2)

ثم إنّ هناك أقوالاً أُخرى يمكنُ الحصول عليها من مراجعة التفاسير.(3)

ولكنَ الطبريّ نقَلَ وجهاً آخر تمسَّكَ به المغرضون والمرضى من الكُتّاب واعتبروه دليلاً على طروء الشكّ على قلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو أنّ الوحي انقطع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد حادثة (حراء) فقالت خديجة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: ما أرى ربَّك إلّا قد قلاك!!

فأنزل اللّه:

«وَ الضُّحى * وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» .(4)

وممّا يدلُّ على أَهداف هذا النوع من الكُتّاب، المريضة، أو عدم تتبّعهم واستقصائهم، أنّهم تمسّكوا من بين جميع الأقوال بهذا الاحتمال، واستندوا إليه للحكم على شخصية كرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي لم يرَ في حياته أي أثر للشكّ والحيرة مطلقاً.

وإنّنا مع ملاحظة النقاط التالية يمكننا أن نقف على بطلان هذا الاحتمال وتفاهته:

1. لقد كانت السيدة خديجة من النساء اللواتي أحببن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حبّاً

ص:432


1- . غرائب القرآن في هامش تفسير الطبري: 30/108.
2- . تفسير أبوالفتوح الرازي: 12/108.
3- . مجمع البيان: 10 / تفسير سورة الضحى.
4- . تفسير الطبري: 30/291.

صادقاً وعميقاً، فهي الّتي وفت لزوجها حتّى النفس الأخير، ووقفت ثروتها الطائلة لتحقيق أهدافه، وكانت في عام البعثة قد قضيت خمسة عشر عاماً من حياتها الزوجية، ولم تر خديجة طوال هذه الفترة من زوجها إلّاالتقوى والطهر ولم تلمس منه إلّاكَرَم الصفات و نبل الأخلاق، فقد كانت من المصدّقين له صلى الله عليه و آله و سلم من أوّل يوم وكانت تراعي نهاية الأدب في تكلّمها معه وعشرتها إيّاه صلى الله عليه و آله و سلم فكيف تتكلّم مثل هذه المرأة المؤمنة الوفيّة، مع زوجها بغليظ القول، وتوجّه له مثل هذه الكلمة غير المهذَّبة، بل والجارحة؟!!

2. إنّ آية: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» لا تدلّ على أنّ «خديجة» قالت مثل هذا الكلام لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بل غاية ما تفيده هذه الآية هي أنَّ مثل هذا الكلام قد وُجّه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأمّا مَن هو القائل، ولماذا قال هذا الكلام؟ فليس ذلك معلوماً.

3. إنّ ناقل هذه الرواية يصف «خديجة» تارة بأنّها طمأنت النبيّ، وسكّنت من روعه إلى درجة أنّها منعته عن الانتحار، ولكنّه يصفها تارة أُخرى بأنّها قالت له بأنّ اللّه عاداه وقلاهُ، ألا ينبغي هنا أن نقول: «كن ذكوراً ثم أكذب»؟!

4. إذا كان الوحيُ قد انقطع بعد حادثة جبل (حراء) ونزول بضع آيات من سورة «العلق» إلى أن نزلت سورة «الضحى»، فذلك يقتضي - في هذه الصورة - أن تكون سورة «الضحى» ثاني سورة من حيث الترتيب التاريخي لنزول السُّور، في حين أنَّ تاريخ نزول الآيات و السور القرآنية يفيد أنّها السورةُ الحادية عشَرة من سُور القرآن الكريم؛ لأنّ فهرس السور القرآنية حسب نزولها هو كالتالي:

1. العلق.

2. القلم.

3. المزمِّل.

ص:433

4. المدّثر.

5. تبّت (المَسَد).

6. التكوير.

7. الأعلى.

8. الإنشراح.

9. والعصر.

10. الفجر.

11. الضحى.(1)

نعم انفرد اليعقوبي من بين المؤلّفين باعتبار سورة الضحى - في تاريخه(2) - السورة الثالثة من حيث تاريخ النزول، وحتّى هذا الرأي لا ينسجم مع القصة المذكورة «انقطاع الوحي».

الإختلاف في مدة انقطاع الوحي

لقد تعرّض تحديد مدّة انقطاع الوحي بشكله المزعوم لإبهام كبير، فقد ذكر ذلك بصور مختلفة في التفاسير والأقوال التالية هي: 4. أيّام.

12. يوماً.

15. يوماً.

19. يوماً.

ص:434


1- . تاريخ القرآن للزنجاني: 58.
2- . تاريخ اليعقوبي: 2/33.

25. يوماً.

40. يوماً.

ولكن بعد دراسة فلسفة النزول التدريجي للقرآن الكريم سنرى أنّ انقطاع الوحي وتوقفّه لم يكن حدثاً إستثنائياً، لأنّ القرآن الكريم أعلن منذ أوّل يوم أنّ المشيئة الإلهيّة تعلّقت بأن ينزل القرآن بصورة تدريجية، منجّمة إذ يقول تعالى:

«وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ» .(1)

ويكشفُ القرآن النقاب - في موضع آخر - عن سرِّ نزول القرآن تدريجاً إذ قال:

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً» .(2)

ومع ملاحظة طريقة نزول الآيات والسور القرآنية هذه يجب أنْ لا يُتَوقع نزولُ الآيات كلّ يوم وكلَّ ساعة، وأن ينزل جبرئيلُ على النبيّ على الدَّوام، ويأتي إليه بالآيات دون انقطاع، بل إنَ الآيات القرآنية كانت تنزل على رَسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في فواصل زمنية مختلفة وفقاً للاحتياجات، وبحسب الأسئلة المطروحة على النبيّ، ولأسرار أُخرى في النزول التدريجي شرحها علماء الإسلام(3).

وفي الحقيقة لم يكن هناك ما يُسمّى بانقطاع الوحي، بل كلّ ما كان في الأمر هو أنّه لم يكن ثمّة ما يوجب النزول الفوري، والمتلاحق للوحي.

ص:435


1- . الإسراء: 106.
2- . الفرقان: 32.
3- . راجع للوقوف على هذه المسألة: «مفاهيم القرآن»: 2/122-124 معالم الحكومة الإسلامية.

15 الدَعْوَةُ السِرِّيَّة ودَعوَةُ الأقربين

اشارة

استمرّ النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يدعو إلى دينه سِرّاً مدّة ثلاثة أعوام. وقد عَمَدَ في هذه السنوات إلى بناء الكوادر وإعدادها بدل توجيه الدعوة إلى عامّة الناس، فإنَّ اعتبارات معيّنة في ذلك الوقت كانت توجبُ أنْ لا يجهَر بدعوته ولا يُعْلِنَ عن رسالته، ويكتفي بالاتّصالات الفردية السِّرية ويدعو أشخاصاً معيّنين إلى دينه.

وقد كانت هذه الدعوة السرِّية هي السبب في أن ينجذب إلى الدّين الإسلامي جماعة من الناس، وتواجه دعوته صلى الله عليه و آله و سلم منهم بالقبول، وقد سجَّل التاريخ أسماء هؤلاء السابقين الذين آمنوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، في هذه الفترة من عهد الرسالة، وتاريخ الإسلام، واليك بعضهم:

1. السيدة خديجة بنت خويلد (زوجة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم).

2. عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

3. زيد بن حارثة.

4. الزبير بن العوام.

5. عبدالرحمن بن عوف.

6. سعد بن أبي وقاص.

7. طلحة بن عبيداللّه.

8. أبوعبيدة الجراح.

9. أبو سلمة.

ص:436

10. الأرقم بن أبي الأرقم.

11. عثمان بن مظعون.

12. قدامة بن مظعون.

13. عبداللّه بن مظعون.

14. عبيدة بن الحارث.

15. سعيد بن زيد.

16. خباب بن الأرتّ.

17. أبوبكر بن أبي قحافة.

18. عثمان بن عفان.

وغيرهم من الذين قبلوا دعوة النبيّ، وآمنوا بنبوّته في هذه الفترة.(1)

ولقد كان أقطاب قريش و أسيادها منهمكين - طيلة هذه الأعوام الثلاثة - في لهوهم ومجونهم، ومع أنّهم كانوا قد عرفوا بعض الشيء عن دعوة النبيّ السرّية إلّا أنّهم لم يظهروا أيّة ردّة فِعل تجاهها، ولم يقوموا بشيء ضدّها.

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه السنوات الّتي تعتبر فترةُ صياغة الفرد يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكّة للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش.

واتّفق أن رآهم بعض المشركين في ما كانوا يُصلّون في شعب من شعاب مكّة، واستنكروا عملهم هذا، وأدّى ذلك إلى منازعة عابرة بينهم وبين المشركين جرح على أثرها أحد المشركين على يدي «سعد بن أبي وقاص» أحد المسلمين، ومن هنا قرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اتّخاذ بَيْت «الأرقم بن أبي الأرقم» محلّاً للعبادة بدل

ص:437


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/165-166.

شعاب مكّة، ليستطيع القيام فيه بالتبليغ والعبادة بحريّة وأمان، بعيداً عن أعين المشركين.(1) ولقد كان «عمّار بن ياسر» و «صهيب بن سنان» الروميّ ممّن آمنوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك البيت.(2)

دَعْوةُ الأَقْرَبيْن

يبدأ العقلاء من الناس من أصحاب البرامج الواسعة والمشاريع الكبرى، أعمالهم الكبرى - عادة - من بدايات صغيرة ونقاط محدّدة، فإذا حقّقوا نجاحاً في هذه البدايات بادروا إلى توسيع نطاق نشاطهم فوراً، وهكذا جنباً إلى جنب مع النجاحات الّتي يحقّقونها في كلّ خطوة يوسّعون دائرة العمل، ويجتهدون في تحقيق المزيد من النجاح، والتكامل لما هم بصدده.

ولقد سأل أحد الشخصيات زعيماً في دولة كبيرة من الدول الكبرى المعاصرة: ما هو سرّ نجاحكم في الأعمال الإجتماعية، وما هو الأمر الّذي يساعدكم على النجاح في مشاريعكم؟

فأجابه ذلك الزعيم قائلاً: إنّ طريقة عملنا نحن الغربيّين تختلف عن طريقتكم أنتم أهل الشرق، فنحن دائماً نخطّطُ لمشاريع كبرى و نبدأ من مكان صغير، وبعد إحراز النجاح نعمد إلى توسيع نطاق العمل، وإذا اكتشفنا في منتصف الطريق خطأ برنامجنا غيّرنا أُسلوب عمَلنا، وعَدلنا إلى طريقة أُخرى، وبدأنا بعمل آخر.

ص:438


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/61.
2- . هذا البيت كان عند جبل الصفا، وكان معروفاً إلى مدّة ب «دار الخيزران». أُسد الغابة: 4/44، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: 1/192؛ السيرة الحلبية: 1/456.

أمّا أنتم الشرقيون فتدخلون ساحةَ العمل في برامجكم الكبرى من مكان كبير، وتبدأون من نقطة واسعة، وتحاولون تطبيق مشروعكم جملة واحدة، فإذا واجهتم في خلال العمل طريقاً مسدودة لم يكن في إمكانكم أن ترجعوا من منتصف الطريق إلّابتحمل خسائر كبرى فادحة.

هذا مضافاً إلى أنّ أنفسكم كأنّها قد عُجنت بالعجلة ولذلك تودُّون قطفَ ثِمار جهودكم ونتيجة عملكم في الحال دونما صبر وترقّب وانتظار، وهذه هي بنفسها طريقة تفكير إجتماعيّة خاطئة، من شأنها أن تجعل الإنسان أمام طُرق مسدودة كثيرة وغريبة.

هذا ما قاله ذلك الغربيّ.

ولكن الّذي نتصوّره ونعتقده نحن هو: أنّ هذه الطريقة من التفكير لا ترتبط لا بالشرق ولا بالغرب، بل هي ميزة العقلاء الأذكياء من الناس، فإنّهم يعتمدون هذا الأُسلوب لإنجاح مهامّهم، وتحقيق مقاصدهم.

ولقد اتّبع قائد الإسلام الأكبر الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم هذه الطريقة في عمله الرسالي فركّز جهدَه على الدعوة السرّية إلى دينه مدّة ثلاثة أعوام من دون تعجُّل، وكان يعرضُ دينه على كلّ مَن وجده أهلاً للدعوة، ومستعدّاً من الناحية الفكرية للتبليغ.

فرغم أنّه كان يهدف إلى تشكيل دولة عالمية كبرى ينضوي تحت لوائها (لواء التوحيد) جميع أفراد البشرية، إلّاأنّه لم يعمد إلى الدعوة العامّة طيلة هذه الأعوام الثلاثة، بل لم يوجّه الدعوة الخاصّة حتّى إلى أقاربه، إنّما اكتفى بالاتصال الشخصي بمن وجده مؤهّلاً وصالحاً للدعوة، ومستعدّاً لقبول الدِّين، حتّى أنّه استطاع في هذه الأعوام الثلاثة أن يكسب فريقاً من الأتباع من الذين اهتدوا إلى دينه وقبِلُوا دعوته.

ص:439

وقد كان زعماء قريش - كما أسلَفنا - منهمكين طوال هذه الأعوام الثلاثة في اللذّة والهوى وكان فرعون «مكّة» وطاغيتها: «أبوسفيان» وجماعته كلّما سَمِعوا بالدَّعوة أطلقوا ضحكة استهزاء وقالوا لأنفسهم: إنّها أيّام وتنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فوراً، تماماً كما انطفأت من قبل دعوة «ورقة» و «أُميّة» (الَّلذين أخَذا يحبّذان إلى العرب التوجّه نحو المسيحية ونبذَ الوثنية بعد أن قرءا الإنجيل والتوراة) وبالتالي لن يمرّ زمانٌ حتّى يُنسى هذا الأُمر، ويغدو خبراً بعد أثر، بل لا شيء يُذكر.

بهذا التصوّر، وبهذه العقليّة واجَهت زعامة «مكّة» دعوة النبيّ في البداية، ولهذا لم يقم زعماء قريش خلال هذه السنوات الثلاث بأيّ عَملٍ عدائيّ ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بل ظلّوا ينظرون إليه بنظر الإحترام، ويُراعون معه قواعد الأدب والسلوك، وكان النبيّ هو أيضاً لا يتعرّض لأصنامهم وآلهتهم في هذه الأعوام الثلاثة بسوء ولا يتناولها بالنقد والاعتراض بصورة علنية، بل كان مركّزاً جهده على الاتصال الشخصي بذوي البصائر من الأشخاص وهدايتهم إلى دينه الحنيف.

ولكن منذ أنْ بدأ النبيُّ دعوة الأقربين وأخذ ينتقد وثنيّتهم، ويذكر أوثانهم بسوء ويعترض على تصرّفاتهم اللاإنسانية أصبح حديث الألسن. ومنذ ذلك اليوم أيضاً بدأت يقظة قريش، وعرفوا أمر محمَّد يختلف عن أمر «ورقة» و «أُميّة» اختلافاً بيّناً وأنّه لبين الدعوتين فرقاً كبيراً، ولهذا بدأت المعارضة والمخالفة السرّية والعلنية، لدعوة النبيّ.

وقد بدأ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بكسر جدار الصمت بدعوة أقربائه إلى دينه ثم شرع بعد ذلك بدعوة الناس أجمعين.

على أنّه ما من شكّ في أنّ الإصلاحات العميقة الّتي يراد لها أن تترك أثراً في جميع شؤون الناس وكلّ مناحي حياتهم، وتغيّر مسير المجتمع تحتاج قبل أيّ شيء إلى قوّتين:

ص:440

1. قوّةُ البيان، بأن يستطيع الداعية والمصلح بيان الحقائق الّتي جاء بها من أفكاره الخاصّة، أو ما تلقّاه عن طريق آخر إلى الناس بأُسلوب جذّاب، يأسر القلوب، ويسحر العقول.

2. القوّةُ الدفاعيةُ الّتي يستطيع تشكيل خطّ دفاعي منها عند التعرّض لهجوم الأعداء والخصوم، وفي غير هذه الصورة ستنطفئ شعلة الدعوة ويفشل المصلح في خطاه الأُولى.

ولقد كان البيان لدى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أعلى مرتبة من الكمال فكان قادراً كأقوى خطيب على بيان تعاليم دينه للناس في غاية الفصاحة والبلاغة. ولكنّه كان يفتقر في الأيام الأُولى من دعوته إلى عنصر (القوّة الثانية)، أي (القوّة الدفاعية)، الرادعة الحامية، لأنه استطاع في السنوات الثلاث الأُولى من رسالته أن يضم إلى دعوته قرابة أربعين شخصاً، وذلك في الظروف السرّية الشديدة، ولا ريب أنّ تلك القلّة القليلة من الأتباع لم تكن قادرة على أن تتولّى مسؤولية الدفاع عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وحماية رسالته.

من هنا عَمَد رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبهدف تحصيل القوّة الدفاعية المطلوبة وتشكيل النواة المركزية إلى دعوة أقربائه إلى دينه قبل التوجّه بالدعوة إلى عامّة الناس، ليتمكَّن من هذا الطريق، أن يزيل النقصَ من جهة عدم وجود القوة الثانية، ويكوّن منهم سياجاً قوياً يحفظه، ويحفظ رسالته من الأخطار المحتملة.

على أنّ فائدة هذه الدعوة كانت على الأقل دفع أبناء عشيرته إلى الدفاع عنه بدافع القربى والرحم على فرض أنّهم لم يؤمنوا برسالته، ولم يقبلوا دعوته.

هذا مضافاً إلى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعتقد أنّ أيّ إصلاح وتغيير لابد أن يبدأ من إصلاح الداخل وتغييره، فما لم يستطع الإنسان من إصلاح أبنائه وأقربائه وردعهم

ص:441

عن قبائح الأفعال لا يمكن لدعوته أبداً أن تؤثر في الأجانب والأبعدين، لأنَّ المناوئين سيعترضون عليه لدعوته في هذه الحالة، ويشيرون إلى أفعال أبنائه وعشيرته.

من هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين إذ خاطبه قائلاً:

«وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» .(1)

كما أنّه خاطبه بصدد دعوة الناس عامّة بقوله:

«فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» .(2)

كيفيّة دَعوة الأقربيْن

كانت طريقة رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في دعوة عشيرته الأقربين طريقة جميلة وذكيّة جدّاً، فقد تجلّت في ذلك حقيقة أوضحت أسرار هذه الدعوة في ما بعد أكثر فأكثر.

فإنّ المفسّرين كتبوا عند قوله تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (3) وكذا الأغلبية القريبة للإجماع مِنَ المؤرّخين أنّ اللّه أمر نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم بأنْ ينذر عشيرته الأقربين ويدعوهم إلى دينه و رسالته فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّ بن أبي طالب الّذي كان آنذاك في ربيعه الثالث عشر أو الخامس عشر بأن يُعدَّ طعاماً ولبناً، ثم دعا صلى الله عليه و آله و سلم خمساً وأربعين رجلاً من سراة بني هاشم ووجوههم، وعزم على أن يبوح لضيوفه ويكشف لهم عن أمر رسالته في خلال تلك الضيافة إلّاأنّه - وللأسف - ما أن انتهوا من الطعام حتّى بادر أبولهب فتكلّم بكلمات سخيفة قبل أن يتحدّث النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم ممّا جعل الجوّ غير مناسب لأنْ يطرَح النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم موضوع

ص:442


1- . الشعراء: 214.
2- . الحجر: 94 و 95.
3- . الشعراء: 214.

رسالته عليهم، فانفضّ المجلسُ دون تحقيق هذا الغرض.

ولمّا كان من غد أمر النبيُّ عليّاً عليه السلام بإعداد الطّعام واللّبن ثانية، وكرّر دعوة تلك الجماعة، إلى ضيافة أُخرى، وبعد أن فرغوا من الطعام تكلّم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال:

«يا بَني عَبْدِ الْمُطَّلِب إنّي وَ اللّه ما أعلَمُ شابّاً في العَربَ جاء قومَهُ بأَفضَل ممّا قد جِئتُكُمْ به، إنّي قَدْ جِئْتُكم بِخير الدُّنيا والآخِرة، وَقَدْ أَمرَني اللّه تعالى أن أدْعوكُمْ إليه، فأيّكُمْ يؤازرُني عَلى هذا الأمر على أنْ يكونَ أخي وَوَصِيّي وَ خَليفَتي فِيكُم»؟

قال (علي عليه السلام): فأحجم القوم عنها جميعاً وقلت - وإنّي لأحدثهم سنّاً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً -:

أنا يا نبي اللّه أكونُ وَزيركَ عليه».

(فأعاد القول، فأمسكوا وأعدت ما قلت)، فأخذ برقبتي ثم قال لهم:

«إنَّ هذا أخي وَ وَصيّي وَ خَليفَتي فيكُمْ (أو عَليْكُمْ) فاسْمَعُوا لهُ، وَ أطِيْعُوا».

فقامَ القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب «قد أمرك أن تسمع لابنكَ وتطيعَ».(1)

إنَ ما كتبناه هو - في الحقيقة - خلاصةٌ لحديث مفصَّل رواه أكثر المفسّرين والمؤرّخين بعبارات مختلفة، ولم يشكّك في صحّته أحدٌ، بل اعتبروه من مسلَّمات التاريخ، إلّا «ابن تيمية» الّذي اتّخذ موقفاً خاصّاً من أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و عليهم أجمعين.

ص:443


1- . تاريخ الطبري: 2/62 و 63؛ الكامل في التاريخ: 2/62-63؛ مسند أحمد: 1/111، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/210 و 211.

خِيانةٌ تاريخيّةٌ و جِنايَةٌ أدبيّة!!

إنّ تحريفَ الحقائق وقلبَها، أو إخفاء الوقائع لهُو حقّاً من أوضح مصاديق الخيانة والجناية.

ولقد سلَكَ فريقٌ من الكُتّاب المتعصّبين عبر التاريخ للأسف مثل هذا الطريق المقبوح، وأسقطوا مؤلّفاتهم العلميّة والتاريخيّة بارتكابهم خطيئة التحريف في جملة من الحقائق، من الاعتبار، وهم يخالون أنّ عملهم قادر على أن يبقي الحقائق في هالة الإهمال والغموض.

إلّا أنّ أمر هؤلاء قد انكشف مع انْقضاء الزّمن، وتكامُل العِلْم، ودَفع بفريق من أهل التحقيق والإنصاف إلى أن يمزقوا بأطراف أقلامهم حجب الزيف والتحريف ويُظهروا الوقائع والحقائق على حقيقتها.

وإليك في ما يأتي بعض هذا الخيانات:

1. لقد ذكر محمَّد بن جرير الطبري (المتوفّى عام 310 ه) في تاريخه حادثة دعوة الأقربين بشكل مفصَّل وعلى النحو الّذي مرّ على القارئ الكريم.

بيد أنّه حرّف في تفسيره(1) وكَتمَ، فهُو عند تفسير قوله تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» يذكرُ كلّ ما ذكره في تاريخه، ولكنّه يغيّر ويبدّل في قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حيث يقول: «على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي»، فهو يكتب في تفسيره هكذا: «على أنْ يكونَ أخي وكذا وكذا».

ولا ريب أنَّ في تغيير عبارة «أخي ووصيّي وخليفتي عَليكم (أوفيكم) إلى:

«كذا وكذا» غرضَاً مريضاً، وهو بالتالي خيانة تاريخية فاضحة.

ص:444


1- . تفسير الطبري: 19/149 برقم 20374.

على أنّ الطبريّ لم يكتف بهذا القدر من التغيير في كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بل غيّر حتّى في الجملة الّتي تعقبتها وهي قوله صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن قام عليُّ عليه السلام للمرّة الثالثة وأعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ بعد إحجام القوم وسكوتهم: «إنّ هذا أخي ووصيّي و خليفتي» حيث أبدلها بعبارة: «إنَّ هذا أخي وكذا وكذا»!!!

إنّ على المؤرّخ أن يكون حرّاً وشهماً في كتابة الحقائق وروايتها، فيثبتها ويرويها كما هي، بكلّ شجاعة، وصَلابَة.

ولا ريب أنّ الّذي دفع بالطبريِّ إلى أن يرتكب مثل ذلك التبديل والتغيير هو تعصّبه المذهبي، فهو لا يعتبر الإمام عليّاً خليفة رسول اللّه بلا فصل، وحيث إنّ تينك الكلمتين: «خَليفتي ووَصيّي» تصرّحان بخلافة «عليّ» للنبيّ ووصايته بلا فصل لذلك يغيّر ويبدّل حتّى ينتصر لمذهبه بالتحريف في شأن نزول هذه الآية أيضاً.

2. ولقد فعل ابن كثير (المتوفّى عام 732 ه) نظير هذا في تاريخه وكذا في تفسيره(1) وسلك نفس الطريق الّذي سلكه - من قبل - سلفُه الطبري ضارباً عرض الجدار مبدأ أمانة النقل!!!

ونحن لا نعذر ابن كثير في عمله هذا أبداً، لأنّه قد اعتمد - في رواياته التاريخية، في تاريخه وتفسيره معاً - تاريخ الطبري، لا تفسيره ولا شكّ أنّه قد مرَّ على هذه القصة في تاريخ الطبريّ، ولكنّه مع ذلك حاد عن الطريق السويّ فأعرض عن نقل رواية التاريخ - في هذه الحادثة - وعَمَد - بصورة غير متوقعة - إلى نقل رواية التفسير!!!

3. والأغرب من تينك الخيانتين ما ارتكبه - في عصرنا الحاضر - وزير

ص:445


1- . البداية والنهاية: 3/53؛ تفسير ابن كثير: 3/364.

المعارف المصرية الأسبق الدكتور «هيكل» في كتابه «حياة محمَّد»، وفتح بعمله باب التحريف في وجه الجيل الحاضر. والعجب أنّ «هيكل» هاجم - في مقدّمته - جماعة المستشرقين بشدة وانتقدهم بعنف لتحريفهم الحقائق التاريخية، واختلاقهم لبعض الوقائع في حين لم يقصر عنهم في هذا السبيل فهو:

أوّلاً: نقل الواقعة المذكورة (دعوة الأقربين المعروفة بحادثة يوم الدار أو حديث بدء الدعوة) في الطبعة الأُولى من كتابه المذكور بصورة مبتورة ومقتضبة جدّاً واكتفى من الجملتين الحسّاستين بذكر واحدة منهما فقط وهي قولُ النبيّ مخاطباً الحضور في ذلك اليوم: «مَنْ يُؤازرني يكونُ أخِيْ وَوصيّي و خَليِفَتِي» بينما حذف بالمرّة الجملة الّتي قالها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لِعَلي بعد أن قام للمرّة الثانية وأعلن مؤازرته للنبيّ وهي قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنَّ هذا أخيْ وَ وَصيّي وَ خَلِيْفتي»!!!

ثانياً: أنَّه خطا في الطبعات الثانية والثالثة والرابعة، خطوة أبعد حيث حذَف كلتا الجملتين معاً وبهذا قد وجّه ضربة كبرى إلى قيمته ككاتب، وقيمة كتابه، كدراسة تاريخية!!

النبوّة والإمامة توأمان

إنّ الاعلان عن وصاية عليّ عليه السلام وخلافته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر النبوّة يفيد - بقوة ووضوح - إنَّ هذين المنصبين ليسا بأمرين منفصليْن، ففي اليوم الَّذي يعلِنُ فيه رسولُ اللّه عن رسالته ونبوَّته، يعيّن خليفته ووصيَّه من بعده، وهذا يشهد - بجلاء - بأنّ النبوَّة والإمامة يشكِّلان قاعدة واحدة، وأنّ هذين المنصبين إن هما إلّاكحلقتين متّصلتين لا يفصل بينهما شيء.

كما أنّ هذه الحادثة تكشف - من جانب آخر - عن مدى الشجاعة الروحية

ص:446

الّتي كان يتحلّى بها الإمام أميرُ المؤمنين «عليُّ بن أبي طالب» عليه السلام، حيث قام - في مجلس أحجم فيه الشيوخ الدُهاة والسادة المجرِّبون عن قبول دعوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خوفاً وتهيّباً - وأعلن بكلّ شجاعة مؤازرته للنبيّ، واستعداده للتضحية في سبيل دينه ورسالته وهو آنذاك غلامٌ في ربيعه الثالث أو الخامس عشر، وما حابى أعداء الرسالة ولا ماشاهم كما فعل المصلحون من الساسة والزعماء المتخوّفون على مصالحهم ومراكزهم آنذاك!!!

صحيح أنّ «عليّاً» عليه السلام كان في ذلك اليوم أصغر الحاضرين سنّاً إلّاأنّ معاشرته الطويلة للنبيّ قد هيّأتْ قلبهُ لتقبُّل الحقائق الّتي تردّد شيوخ القوم في قبولها، بل عجزوا عن دركها وفهمها!!

ولقد أعطى أبو جعفر الإسكافي حقّ الكلام في هذا المجال إذ قال:

فهل يُكلّف عملُ الطعام، ودعاء القوم صغيرٌ غير مميّز، وغِر غير عاقل، وهل يؤتمَن على سرّ النبوّة طفلٌ... وهل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلّاعاقل لبيب، وهل يضع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يده في يده، ويعطيه صفقة يمينه بالأُخوة والوصيّة، والخلافة، إلّاوهو أهل لذلك، بالغ حدّ التكليف، محتمل لولاية اللّه، وعداوة أعدائه، وما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه ولم يلصق بأشكاله، ولم يُرَ مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه، وهو كأحدهم في طبقته، كبعضهم في معرفته، وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته... بل ما رأيناه إلّاماضياً على إسلامه، مصمّماً في أمره، محقّقاً لقوله بفعله، قد صدّق إسلامه بعفافه وزهده، ولصق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بين جميع من بحضرته، فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته.(1)

ص:447


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/244-245.

16 الدعوة العامّة

اشارة

كان قد انقضت ثلاث سنوات على بدء البعثة يوم عمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى دعوة الناس عامّة بعد دعوة عشيرته الأقربين.

فقد استطاع خلال السنوات الثلاث الأُولى من عمر الدعوة أن يهدي - من خلال الاتّصالات السرّية - مجموعة من الأشخاص إلى الإسلام ولكنّه دعا هذه المرّة وبصوت عالٍ عامّة الناس إلى دين التوحيد.

فعن ابن عباس قال: صعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم على الصفا فقال: يا صباحاه (وهي كلمةٌ كانت العربُ تطلقها كلّما أحسَّت بخطر، أو بلغها نبأ مُرعبٍ فكانت هذه الكلمة بمثابة جرس الخطر)(1) فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك؟

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: أرأيتكم إن لو أخبرتكم أنَّ العدوّ مُصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدّقوني؟

قالوا: بلى.

قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

فقال أبو لهب: تبّاً لك ألهذا دعوتنا.(2)

وفي رواية أُخرى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: إنّما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو

ص:448


1- . قال الجزري في النهاية: 2/271: صعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على الصفا وقال: يا صباحاه؛ هذه كلمة يقولها المستغيث، وأصلها إذا صاحوا للغارة لأنّهم أكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح ويسمّون يوم الغارة يوم الصباح، فكأنّ القائل: يا صباحاه يقول: قد غشينا العدو.
2- . سنن النسائي: 6/244 برقم 10819.

فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف: ياصباحاه.(1)

ولقد كانت قريش تعرف عن دينه بعض الشيء، قبل هذا ولكنّها تملَّكها الخوفُ هذه المرّة، وهي تسمعُ ذلك الإنذار القويّ فبادر أحد قادة الكفر إلى تبديد تلك المخاوف فوراً، إذ قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: تبّاً لك، ألهذا دعوتنا؟، وتفرّق على أثرها الناس.

الثباتُ والإستقامة على طريق الهدف

إنّ نجاح أيّ شخص مرهونٌ بأمرين:

الأوّل: الإيمان بالهدف.

والثاني: الاستقامة والثبات والسعي الدائب لتحقيق ذلك.

إنَّ الإيمان هو المحرِّك الباطني والقوّة الخفيّة الّتي تجر الإنسان - شاء أم لم يشأ - نحو الغاية الّتي يتوخّاها، وتسهِّل عليه الصعاب، وتدعوه إلى العمل الدائب لتحقيق مقصوده، لأنّ شخصاً كهذا يعتقد اعتقاداً قويّاً بأنَّ سعادته، ومجده يتوقَّفان على ذلك.

وبعبارة أُخرى: إذا آمن إنسان بأنّ سعادته ومجده يتوقّفان على تحقيق هدف معيّن فإنّه سيندفع بقوّة الإيمان نحو تحقيق ذلك الهدف، متجاوزاً كلّ الصعاب، ومتحدّياً كلّ المشكلات في ذلك السبيل.

فالمريض الّذي يرى شفاءه في شرب دواء مرّ مثلاً سيستسهل شُربه.

والغوّاص الّذي يعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ ثمّة درراً غالية الثمن تحت أمواج البحر سيلقي بنفسه في قلب تلك الأمواج دونما خوف أو وجل، ليخرج منها بعد

ص:449


1- . السيرة الحلبية: 1/460.

دقائق ظافراً بأغلى الجواهر.

بينما إذا كان المريض أو الغوّاص يشكُّ في عمله، أو يعتقد بعدم فائدته، فإنَّه لن يُقدمَ عليه قط، وإذا ما أقدم فإنّ عمله سيكون حينئذٍ مقروناً بالجهد والعناء. فقوة الإيمان إذن هي الّتي تذلّل كلّ مشكلة، وتسهِّل كلَّ معضلة.

غير أنّه لا ريب في أنَّ الوصولَ إلى الهَدف لا يخلو من مشاكلّ وموانع، فلابدّ من السعي لرفع تلك الموانع، وإزالة تلكم المشاكل.

وقد قيل قديماً: إنَّ مع كلّ وردة أشواك، فكيف يمكن قطف وردة دون أن تُدمى أنامل القاطف بالأشواك المحيطة بها؟؟

هذا وقد بيّن القرآنُ الكريمُ هذه المسألة (وهي أنّ رمز السعادة هو: الإيمان بالهدف والثبات في طريق تحقيقه) في جملة قصيرة إذ قال:

«إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» .(1)

ثَباتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وَ صَبرُهُ

لقد أدّت اتّصالاتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الخاصّة. قَبل الدعوة العامّة، وجهودُه الكبرى بعد الجهر بالدعوة، إلى ظهور ونشوء صفٍّ مرصوص من المسلمين في وجه صفوف الكفر، والوثنية.

فالَّذين دخَلُوا سرّاً في حوزة الإسلام والإيمان قبل الدعوة العامّة تعرَّفوا على المسلمين الجدد الذين لبُّوا داعي الإسلام بعد إعلان الرسالة، وشكّل القدامى والجدد جماعة قويّة متعاطفة متحاببة، وكان ذلك بمثابة إنذار لأوساط الكفر والشرك والوثنية، أربكها وجعلها تشعر بالخطر.

ص:450


1- . فُصّلت: 30.

على أنّ ضرب نهضة ناشئة والقضاء عليها كان أمراً سهلاً لقريش، ولكنّ الّذي أرعب قريشاً ومنعها من توجيه مثل هذه الضربة هي أنَّ أفراد هذه الجماعة، وعناصر هذه النهضة لم يكونوا من قبيلة واحدة، ليمكن مواجهتها وضربُها بكلّ قوّة، بل انتمى من كلّ قبيلة إلى الإسلام، عددٌ من الأفراد، ومن هنا لم يكن اتّخاذ أيّ قرار حاسم بحقّهم أمراً سهلاً وبسيطاً.

من هنا قرّر سادة قريش وكبراؤها - بعد تداول الأمر في ما بينهم - أن يبدأوا بالقضاء على أساس هذه الجماعة، ومحرِّك هذا الحزب، والداعي إلى هذه العقيدة بمختلف الوسائل فيحاولوا ثنيه عن دعوته بالإغراء والتطميع تارة، ويمنعوا من انتشار دينه بالتهديد والإيذاء تارة أُخرى.

وقد كان هذا هو برنامج قريش وموقفها من الدعوة طيلة عشر سنوات وهي المدّة المتبقية من سنوات البعثة من الفترة المكية، إلى أن قرّرت بالتالي قتله، ولكّنه استطاع أن يبطل مُؤامرتهم بالهجرة إلى المدينة قبل أن يتمكّنوا من القضاء عليه.

ولقد كان «أبوطالب» آنذاك زعيم بني هاشم ورئيسها المطلق، وكان رجلاً طاهر القلب عالي الهمّة، شجاعاً، كريماً، وكان بيته ملجأ دافئاً للمحرومين والمستضعفين، وملاذاً أميناً للفقراء والأيتام، وكان يتمتع في المجتمع العربي - علاوة على رئاسة مكّة و بعض مناصب الكعبة - بمكانة كبرى و منزلة عظيمة، وحيث إنّه كان كفيلاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد وفاة جدّه «عبدالمطلب»، لذلك حضر سادة قريش بصورة جماعية(1) عنده وقالوا له:

«يا أباطالب إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعابَ دينَنا، وسفَّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإمّا أن تكفّه عنّا، وإمّا أن تخلّي بيننا و بينه».

ص:451


1- . أدرج ابن هشام في سيرته: 1/170-171 أسماءهم بالتفصيل نذكر منهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان وأبو البختري وأبو جهل والوليد بن المغيرة... وغيرهم.

فقال لهم «أبو طالب» قولاً رفيقاً، وردَّهم ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنه.

بيد أنَّ نفوذ الإسلام وانتشاره كان يتزايد باستمرار، وكانت جاذبيّة الدّين المحمَّدي، وبيان القرآن البليغ يساعدان على ذلك، فيترك أثره في الناس، وخاصّة في الأشهر الحرم حيث يفد الحجيجُ على مكّة من مختلف أنحاء الجزيرة، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعرض دينه عليهم، فكانت أحاديثه الجذّابة، وكلماتُه البليغة، ودينُه المحبَّب تؤثر في قلوب كثير منهم، فيميلون إلى الإسلام ويقبلون دعوة الرسول.

وهنا أدرك طغاة مكّة وفراعنتها أنّ «محمَّداً» قد بدأ يفتح له مكاناً في قلوب جميع القبائل، وأصبح له أنصارٌ وأتباعٌ في كثير منها، ممّا دفعهم مرّة أُخرى إلى الحضور عند «أبي طالب» حاميه الوحيد، وتذكيره بالإشارة والتصريح بالأخطار المحدقة باستقلال المكّيين وعقائدهم نتيجة نفوذ الإسلام وانتشاره فقالوا له أجمع: يا أباطالب، إنّ لك سنّاً، وشَرفاً، ومنزلة فينا، وإنّا قد استنهيناك مِن ابن أخيك فلم تنهَه عنّا، وإنا واللّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتّى تكفه عنّا، أو ننازله وإيّاك في ذلك حتّى يهلك أحد الفريقين.

إنّ قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال له: يابن أخي إنّ قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا... فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«يا عَمّ، واللّه لو وضعُوا الشَمْس في يميني، والقمرَ في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهرهُ اللّه، أو أهلكَ فيه، ما تركتُه».

ثم استعبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فبكى ثم قام، فلمّا وليّ ناداه أبو طالب فقال: أقبل يابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال:

ص:452

«إذهَبْ يا ابْن أَخي فَقُلْ ما أحبَبْتَ فَواللّه لا أُسلمك لِشَيءٍ أبداً».(1)

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة

ثم إنّ قريشاً لمّا عرفت أنّ أبا طالب أبى خذلان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم مشوا إليه بعمارة بن الوليد ابن المغيرة فقالوا له:

يا أَبا طالب هذا عمارةُ بن الوليد أنهَدُ فتى في قريش وأجملُه، فخذهُ فلك عقلُهُ ونصرُه، واتخذه ولداً فهو لكَ، وأسلِمْ إليْنا ابن أخيكَ هذا، الّذي فرّق جماعة قومكَ، وَسفَّه أحلامَهُمْ فنقتله، فإنّما هو رجل برجل!!

فقال (أبوطالب وهو مستاء من هذه المساومة الظالمة):

«واللّه لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذُوهُ لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا واللّه ما لا يكون أبداً».

فقال «المطعم بن عدي بن نوفل»: واللّه يا أبا طالب لقد أنصفَك قومُك، فما أراك تريد أن تقبَل منهم شيئاً.

فقال أبوطالب للمطعم: واللّه ما أنصفوني، ولكنّك قد أجمَعتَ خُذْلاني، ومظاهرة القوم عليّ، فاصنَعْ ما بدا لك.(2)

قريش تحاولُ تطميع رسول اللّه!

ولمّا علمت قريش بأنّه لا يمكن إرضاء «أبي طالب» بخذلان ابن أخيه «محمَّد»، فهو وإن كان لا يتظاهر بالإسلام، إلّاأنّه يكنُّ لابن أخيه، وُدّاً عميقاً، ومحبّة

ص:453


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/171-172.
2- . تاريخ الطبري: 2/67-68؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1/172.

كبرى، من هنا قرّروا بأنْ يتركوا مفاوضته، إلّاأنّهم فكّروا في خطة أُخرى وهي أن يُحاولوا إثناء النبيّ عن المضيّ في دعوته بتطميعه بالمناصب، والهدايا، والأموال، والفتيات الجميلات، ولهذا مشوا إلى بيت «أبي طالب» ودخلوا عليه ومحمَّد جالسٌ إلى جنبه فتكلّم متكلِّمهُمْ وقال: يا محمَّد إنا بعثنا إليك لِنُكلِّمك، فإنّا واللّه لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعيّبت الدين، وسببت الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، ولم يبق أمر قبيح إلّا أتيته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنّما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنّما تطلب الشرف فينا فنحن نسوّدك ونشرّفك علينا، وإن كان هذا الّذي يأتيك تابعاً من الجّن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبّك.(1)

فقال أبوطالب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك، يزعمون أنّك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال: وأكثروا عليه من القول.

وتكلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا عم إنّي أُريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدّي إليهم بها العجم الجزية.

ففزعوا لكلمته، ولقوله فقال القوم: كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً.

قالوا: فماهي؟ فقال أبوطالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟

قال: «لا إله إلّااللّه».

قال: فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ» (2).(3)

ص:454


1- . السيرة الحلبية: 1/488.
2- . ص: 5.
3- . تاريخ الطبري: 2/65-66.

نماذجٌ من إيذاء قُريش وتعذيبها للمُسلمين

يومَ صدَعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما أُمر، وجَهر بدعوته للناس وأيس سادة قريش من قبوله لأيّ اقتراح من إقتراحاتهم بعدما سمعوه يقول: «واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يُظهِرَه اللّه أو أهلك دونه ما تركتُه» بدأت في الحقيقة مرحلة من أشدّ مراحل حياته، وأكثرها متاعبَ ومصاعبَ، لأنّ قريشاً كانت لا تزال إلى ذلك الوقت تراعي حرمته وتحترمه، وتسيطر على أعصابها، ولكنّها عندما فشلت في خططها لجرّه إلى مساومتها اضطرَّت إلى تغيير نهجها وأُسلوبها معه لتقفَ دون إنتشار دينه مهما كلَّف من الثمن مستخدمة في هذا السبيل كلّ الوسائل الممكنة.

من هنا قرّر سادة قريش بالإجماع أن يتوسَّلوا بسلاح الاستهزاء والسخرية، والإيذاء والتهديد، بهدف صرفه عن المضيّ في دعوته.(1)

ولا يخفى أنّ المصلح الّذي يفكّر في هداية العالم البشريّ كلّه يجب أن يتزوّد بقدر كبير من الصبر والتحمّل، أمام جميع المشكلات والمتاعب، والمكاره والشدائد، ليتغلّب عليها شيئاً فشيئاً، كما كان دأب كلّ المصلحين الآخرين.

ونحن هنا نورد طرفاً من أذى قريش لرسول اللّه وأتباعه ليتّضح مدى صبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وثباته، واستقامته على طريق الدعوة.

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتمتع - مضافاً إلى العامل الروحي والمعنويّ الباطني الّذي كان يساعده من الداخل، أعني: الإيمان والصبر والإستقامة والثبات - بعامل خارجيّ تولّى حراسته وحمايته وذلك حماية بني هاشم، وعلى رأسهم أبوطالب له صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّه عندما عرف «أبوطالب» بعزم قريش القاطع على إيذاء ابن

ص:455


1- . راجع لمعرفة أبرز من كان يؤذي النبيّ والمسلمين: المحبر: 157 و 161.

أخيه (محمَّد) دعا بني هاشم عامّة، وطلب منهُم جميعاً حماية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والقيام دونه، فلبَّوا نداء سيّدهم، وأجابوه إلى ما دعاهم من حماية رسول اللّه وحراسته بعضٌ بدافع الإيمان وآخر بدافع الرَّحم، إلّا «أبولهب» ورجلان آخران انضموا إلى أعداء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولكن هذا السياج الدفاعيّ لم يقدر - مع ذلك - على صيانته صلى الله عليه و آله و سلم من بعض الحوادث المرّة، لأنّ قريشاً ألحقت به الأذى، وأنزلت به مكروهاً، كلّما وجدته وَحيداً بعيداً عن أعين حُماته. وإليك فيما يأتي بعض النماذج من ذلك الأذى:

1. مَرَّ «أبوجهل» برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه ببعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلّمه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومولاة لعبداللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث «حمزة بن عبدالمطلب» رضي اللّه عنه أن أقبلَ متوشّحاً قوسَه راجعاً من قَنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتّى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمرّ على ناد من قريش إلّاوقف وسلَّم وتحدَّث معهم، وكان أعز فتى في قريش، وأشدّ شكيمة.

فلمّا مرّ بالمولاة، وقد رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى بيته قالت له: يا أبا عمارة (وتلك هي كنيته) لو رأيت ما لقي ابنُ أخيك محمَّد آنفاً من أبي الحكم بن هشام (وتعني أبا جهل): وجده هاهنا جالساً فآذاه وسبَّه، وبلَغَ منهُ ما يُكرَه، ثم انصرف عنه ولم يكلّمه محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم.

فاحتمل «حمزة» الغضب لمّا أراد اللّه به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، مُعِدّاً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به.

ص:456

فلمّا دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم، فأقبل نحوه، حتّى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجَّهُ شجّة منكرة، ثم قال: «أتشمته وأنا على دينه أقول كما يقول. فردَّ ذلك عليَّ إن استطعتَ».

فقامت رجالٌ من بني مخزوم إلى «حمزة» لينصروا «أباجهل» فقال أبوجهل:

دعوا أبا عمارة فإنّي واللّه قد سبَبْتُ ابن أخيه سبّاً قبيحاً(1). وبهذا منع «أبو جهل» الّذي كان ممّن يدرك خطورة مثل هذه المواقف من وقوع شجار وقتال.

إنَّ التاريخ الثابت والمسلَّم يشهد بأنّ وجودَ رجال ذوي بأس وقوّة بين صفوف المسلمين مثل «حمزة» الّذي أصبح في ما بعد من كبار قادة الإسلام، قد كان له أثرٌ كبيرٌ في حفظ الإسلام، والحفاظ على حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ودعم جماعة المسلمين، وتقوية جناحهم، فهذا ابن الأثير(2) يقول عن حمزة: لمّا أسلم حمزة عرفت قريش أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد عزّ وأنّ حمزة سيمنعه فكفّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

من هنا أخذت قريش تفكّرُ في إعداد خطط أُخرى لمواجهة قضية الإسلام والمسلمين، سنذكرها في المستقبل.

هذا ويرى بعضُ المؤرّخين مثل ابن كثير الشامي(3) على أنّ رُدود فعل إسلام «أبي بكر» و «عمر» وأثرهما لم تكن بأقلّ من تأثير إسلام «حمزة»، وإنَّ الدين قويَ جانبه بإسلام هذين الرجلين، وكسَبَ المسلمون بذلك القوة والحريّة في العمل والتحرّك، والحقيقة أنّه لا شكّ في أنّه لكلّ فرد تأثيره في تقوية ودعم الإسلام، إلّاأنّه لا يمكن القولُ بحال بأنّ تأثير إسلام الشيخين كان يعدل تأثير إسلام

ص:457


1- . السيرة النبوية: 1/188-189؛ تاريخ الطبري: 2/72.
2- . الكامل لابن الأثير: 2/83.
3- . البداية والنهاية: 2/26 و 32.

«حمزة»، فإنّ «حمزة» ما إنْ سمع بأنّ قريشاً أساءت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلّا وتوجه، من دون أن يُعرّج على أحد، إلى المسيء وانتقم منه في الحال أشدّ انتقام، ولم يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه ومنع المسيء منه، ومن غضبه وانتقامه، بينما يكتب ابن هشام في سيرته عن «أبي بكر» أمراً يكشف عن أنّ «أبابكر» يوم دخل في صفوف المسلمين لم يكن قادراً على حماية نفسه، ولا على الدفاع عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. وإليك نصُّ الواقعة:

مرَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذاتَ يوم على جماعة من قريش وهم جلوسٌ عندَ الحجر، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنتَ الّذي تقول:

كذا و كذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

نعم أنا الّذي أقولُ ذلك، فأخذ رجلٌ منهم بمجمع ردائه (وهم يقصدون قتله) فقام «أبوبكر» دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول رَبّي اللّه؟ ثمّ انصرفوا عنه (ولم يقتلوه لأمر رأوه)، فرجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى منزله، ورجع «أبوبكر» يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه.(1)

إنّ هذه الرواية التاريخية إذا دلّت على مشاعر الخليفة تجاه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّاأنّها تدلّ قبل أي شيء على عجزه وضعفه.

إنّه يدلُّ على أنّه لم يملك ذلك اليوم أيّة مقدرة بدَنية وروحية، ولا أيّة مكانة اجتماعية تُرهَب، وحيث إنَّ إلحاق الأذى بشخص رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان ينطوي في نظر قريش على عواقب لا تحمد، لذلك تركوا رسولَ اللّه، وَوَجَّهُوا ضربتهم إلى رفيقه وصدعوا فرق رأسه.

ص:458


1- . السيرة النبوية: 1/187-188. وقد ذكر الطبري في تاريخه: 2/72، قصة صدع رأس أبي بكر بالتفصيل فراجع.

ولو أنّك قارنت بين هاتين الحادثتين وقايست بين موقف «حمزة» الشجاع وموقف الخليفة الأوّل هذا لاستطعت أن تقضي بسهولة بأنَّ عزة الإسلام وقوّة المسلمين، وتعزيز موقفهم، وخوف الكفّار كان يعود إلى إسلام أيّ واحد من ذينك الرجلين؟!

هذا وستقرأ في القريب العاجل كيفية إسلام «عمر». وسترى بأنَّ إسلامه - كإسلام صديقه - لم يزد هو الآخر من قدرة المسلمين الدفاعية، وأنّهم بالتالي لم يعتزّوا بإسلامه.

فيوم أسلم «عمر» كادَ أن يُقتل لولا «العاص بن وائل السهمي» لأنّه هو الّذي خاطب الذين قصدوا قتل «عمر» قائلاً: رَجُلٌ اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون [منه]؟ أترونَ بني عَدِيّ بن كعب يسلمون لكم صاحبَهم هكذا، خلوُّا عن الرجل.(1)

إنّ هذه العبارة الّتي قالها «العاص» لإنقاذ الخليفة الثاني من أيدي الذين اجتمعوا على قتله تفيد - بوضوح - أنّ الخوف من قبيلة «عمر» هو الّذي كان وراء تركهم إياه وعدم قتله، وقد كان دفاعُ القبائل عن أبنائها سنّة فطرية وعادة متعارفة يومذاك، وكان يتساوى فيها الكبير والصغير، والشريف والوضيع.

أجل إنَ بني هاشم هم كانوا - في الواقع - الحصن الحقيقي للمسلمين، وقد كان القسط الأكبر من هذا الأمر يتحمّله «أبوطالب» وذووه، وإلّا فإنَّ الأشخاص الآخرين الذين كانوا ينضمُّون إلى صفوف المسلمين لم تكن لديهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم، فكيف بالدفاع عن الإسلام وجماعة المسلمين ليقال: بأنّ المسلمين اعتزوا بهم؟

ص:459


1- . السيرة النبوية: 1/233.

أبوجهل يكمُن لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

لقد أغضب تقدّمُ الإسلام المطّرد قريشاً بشدّة فلم يمرُّ يوم دون أن يبلغهم نبأ عن انضمام واحد من أفراد قريش إلى صفوف المسلمين ولأجل هذا راح مرجل الغضب والحنق على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يغلي في نفوسهم؛ فهذا فرعون مكّة «أبوجهل» قال لقريش في مجلس من مجالسهم: يا معشر قريش إنّ محمَّداً قد أبى إلّا ما ترون: من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإنّي أُعاهِدُ اللّه لأَجلسنَّ له غداً بحجر ما أُطيق حمله - أو كما قال - فإذا سجد في صلاته فضختُ به رأسه.

فلمّا أصبح «أبوجهل» أخذ حجراً كما وصَف، ثم جلس لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينتظره، وغدا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما كان يغدو. وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمكة وقبلته إلى الشام، فكان إذا صلّى صلّى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يصلّي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبوجهل فاعلٌ، فلمّا سجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم احتمل «أبوجهل» الحجر، ثم أقبل نحوه، حتّى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه، مَرعوباً قد يبست يداه على حجره، حتّى قذف الحجَر من يده، وقامت إليه رجالُ قريش فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلتُ لكم البارحة، فلمّا دنوتُ منه عرضَ لي دونهُ فحل من الإبل، لا واللّه ما رأيت مثل هامته ولا مثل قصرته ولا أنيابه....(1)

إنه ليس من شكّ في أنَّ قوة غيبيّة أدركتْ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأمر اللّه تعالى في تلك اللحظة، وصوّرت ذلك المنظر الرهيب، وحفظت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما وعده

ص:460


1- . السيرة النبوية: 1/194.

تعالى وعداً لا خلف فيه إذ قال: «إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» .(1)

وهناك نماذج كثيرةٌ من أذى قريش لشخص رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سجَّلها التاريخ في صفحاته، وقد عقد «ابن الأثير»(2) فصلاً خاصّاً لهذا الموضوع ذكر فيه أسماء أعداء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الألدّاء، في مكّة، وبيّن أنواع ما كانوا يؤذُون به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وما قد مرّ ذكره في الصفحات السابقة ما هو إلّانماذج من ذلك، فقد كان صلى الله عليه و آله و سلم يواجه في كل يوم نوعاً خاصّاً من الأذى، والمضايقة.

فقد رُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يطوف ذات يوم فشتمه «عقبة بن أبي معيط» وألقى عمامَته في عنقه، وجرّه من المسجد، فأخذوه من يده، خوفاً مِن بني هاشم.(3)

أبولهب يؤذي رسول اللّه

ولقد تعرّض رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لأذى لا مثيل له من جانب عمّه «أبي لهب» وزوجته «أُم جميل» وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يجاورهم، فلم يألوا جهداً في إزعاجه وإيذائه فكم من مرّة ومرة ألقيا الرماد والتراب على رأسه الشريف وثيابه.

وكم من مرّة نشرت أُمّ جميل الشوك على طريقه، أو جمعته على باب بيته لتؤذيه عند الخروج.

ولا شكّ أنّ معارضَة أنسباء النبيّ وأقربائه لدعوته المباركة، وإيذاؤهم إيّاه كان أكثر إيلاماً لنفسه الشريفة، وأشدّ وقعاً عليها، حتّى أنّنا نجد القرآن يخصّ أبا

ص:461


1- . الحجر: 95.
2- . الكامل في التاريخ: 2/70 كما وعقد المجلسي رحمه اللّه في البحار: 18/148-243، باباًخاصاً بعنوان: «باب المبعث واظهار الدعوة وما لقي (صلّى اللّه عليه وآله) من القوم.
3- . مناقب ابن شهر آشوب: 1/52؛ وفي السيرة الحلبية: 1/293 نظيره.

لهب باللعن وينزل سورة خاصّة به وبزوجته ممّا يكشف عن هذه الحقيقة إذ يقول:

«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ * ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ * سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ * وَ امْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» .(1)

صبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واستقامته

ولكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يواجه كلّ ذلك الأذى وما شابهه من التحجّجات - الّتي سنشير إليها - بصبر عظيم، وثبات تتعجّب منه الجبال الشمّاء، وذلك إيماناً منه برسالته.

إيذاء المسلمين وتعذيبُهم!

اشارة

يرجع تقدّمُ الإسلام في مطلع عهد الرسالة إلى عوامل منها: ثبات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسه، وثباتُ أتباعه وأنصاره.

ولقد تعرّفنا - في ما سبق - على أمثلة ونماذج من ثبات قائد الإسلام الأكبر وصبره، واستقامته في ما لقي من أذىً ومضايقة.

على أنّ ثبات أنصاره وأتباعه الذين آمنوا في مكّة (مركز الحكومة الوثنية آنذاك) هو الآخر ممّا يدعو إلى الإعجاب ويستحقّ الاحترام. وسنذكر صمودَهم وثباتهم في حوادث ما بعد الهجرة في محلّه.

وأمّا هنا فنسلّطُ الضوء على حياة عدد من أتباع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم القدامى الذين تحمّلوا أشدّ أنواع العذاب وكانوا يعيشون في المحيط المكّي حيث لم يكن ملجأ لهم يلجأون إليه، وهاجروا منه لأغراض الدعوة والتبليغ بعد أن تحمّلوا شيئاً

ص:462


1- . المسد: 1-5.

كثيراً من الإيذاء والتعذيب على أيدي المشركين والوثنيّين القساة.

1. بلال الحبشي:

كان أبواهُ ممّن أُسروا في الجاهلية وجيء بهم من الحبشة إلى جزيرة العرب ثم إلى مكّة.

وأمّا بلال الّذي أصبح في ما بعد مؤذّن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقد كان غلاماً ل «أُميّة بن خلف» الّذي كان من أشدّ أعداء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

وحيث إنّ عشيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تولَّتِ الدِفاع عنه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته ولم يتمكّن أُمية من إلحاق الأذى برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمد إلى تعذيب غلامه بلال الّذي أسلم، أمام الناس، بأشدّ أنواع الأذى والتعذيب انتقاماً، وتشفّياً.

فقد كان أُميّة بن خلف يُخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكّة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتّى تموت، أو تكفر بمحمَّد، وتعبد اللّات والعزّى، فيقول وَهو في ذلك البلاء: أَحَدٌ أَحَدٌ.(1)

ولقد أثار ثباتُ هذا الغلام الأسود وجلدُهُ وصبرُه على أذى سيّده، إعجابَ الآخرين، حتّى كان «ورقة بن نوفل» يمرّ به وهو يعذّب بذلك، وهو يقول: أحَد أَحَدْ، فيقول: أحد أحد واللّه يا بلال ثم يقبل على أُميّة بن خلف ومن يصنع ذلك به من «بني جمح» فيقول: أحلف باللّه لئن قتلتموه على هذا لأتخذنّه حناناً (أي لأجعلنَّ قبره متبرّكاً ومزاراً).(2)

وربّما زاد «أُميّة» من تعذيبه لبلال فربط حبلاً بعنقه وترك الصبيان يديرون به

ص:463


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/210.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/210.

في الأزقة والسكك.(1) وقد أُسِر «أُميّة» وابنه في معركة «بدر» وكانا أوّلَ من أُسِرا من المشركين، ولم يوافق بعضُ المسلمين على قتلهما ولكنّ بلالاً قال: «رأسُ الكفر أُميّة بن خلف لا نجوتُ إنْ نجا». وأدّى إصرارُ بلال على قتلهما إلى قتل أُميّة وابنه جزاء أعمالهما الظالمة.(2)

2. آلُ ياسر رمز الصمود والمقاومة!

كان «عَمّار» ووالداه من السابقين إلى الإسلام فهم أسلموا يوم كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يلتقي بأصحابه ويدعو إلى الإسلام في بيت «الأرقم بن أبي الأرقم»، وعندما عرف المشركون بانضمامهم إلى صفوف المسلمين عمدوا إلى إيذائهم وتعذيبهم ولم يألوا جهداً في ذلك أبداً.

فقد كان المشركون يخرجون «عمّاراً» وأباه «ياسر» وأُمَّه «سُميّة» في وقت الظهيرة إلى رمضاء مكّة ليقضوا ساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، وفوق الرّمال الملتهبة والصخور المتّقدة كأنّها الجمرات.

وقد تكرّر هذا العذابُ مرّات عديدة حتّى أودى بحياة «ياسر» فقضى نحبَه على تلك الحال.

وقد خاشنت زوجتُه «سُميّة» أبا جَهل وكلمته في زوجها بغليظ القول، فطعنها اللعين برمح في قلبها فقضت - هي الأُخرى - نحبَها، وكانا أوّلَ شهيدين في الإسلام.(3)

وقد آلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما شاهده من حالهما وهما يعذّبان بأشد أنواع

ص:464


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى لابن سعد: 3/233.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/153؛ السيرة النبوية لابن هشام: 2/461.
3- . لاحظ: بحار الأنوار: 18/241؛ والسيرة الحلبية: 1/483.

العذاب فقال لهُما ولولدهما «عمّار» وهو يصبّرهم، والدموع تنحدر على خدّيه:

«صَبراً آلَ ياسِر فإنّ موعدكم الجنة».(1)

وبعد أن قضى والدا «عمّار» نحبَهما تحت التعذيب بالغ المشركون القساة في تعذيب «عَمّار» وإيذائه والتنكيل به، وأخذوا يعذّبونه على نحو ما كانوا يعذّبون به بلالاً، وهم يقصدون قتله، وإلحاقه بأبويه!! أو يتبرّأ من دين النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فاضطر إلى أن يعطيهم ما يريدون ويظهر الرجوع عن الإسلام، إبقاء على نفسه، وتقيّة منهم فتركوه، وانصرفوا عن قتله، ولكنّه سرعان ما ندم على فعله من التظاهر بترك الإسلام وتألّم من ذلك فجاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يبكي، فقال له النبيّ: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، قال: إن عادوا فعد، فنزلت الآية التالية في إيمان عمّار: «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ * مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» (2).(3)

هذا وروي أنّ أباجهل حينما قصد تعذيب «آل ياسر» وكانوا أضعف مَن بمكّة أمر بسوط ونارٍ ثم سحبوا عمّاراً وأبويه على الأرض، فكان يكوي بطرف السيف والخنجر المحمى بالنار المشتعلة أبدانهم، ويضربهم بالسوط ضرباً شديداً.

وقد تكرّر هذا العمل القاسي كثيراً حتّى استشهد «ياسر» وزوجته «سُميّة» بسبب ذلك التعذيب المرير، ولكن دون أن يفتئا حتّى النفس الأخير عن مدح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والإشادة بدينه.

ولقد أثار هذا المنظر المؤلم مشاعر فتيان من قريش فأقدموا - رغم عدائهم للإسلام ومشاركتهم لغيرهم من المشركين في بغض الرسول - على تخليص

ص:465


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/211؛ السيرة الحلبية: 1/482.
2- . النحل: 105 و 106.
3- . الدّر المنثور: 4/132 عند تفسير الآيتين المذكورتين.

«عمّار» الجريح المنهك عذاباً من براثن «أبي جهل» ليتمكّن من مواراة أبويه الشهيدين.

3. عَبدُاللّه بن مسعود

تشاور المسلمون في ما بينهم في مقرّهم السرّي في مَن يجهر بالقرآن على مسامع قريش، في المسجد الحرام لأنّها لم تسمع منه شيئاً إذ قالوا: واللّه ما سَمِعَتْ قريشٌ هذا القرآن يجهر لها قط فمَنْ رَجُلٌ يُسمِعُهُموه؟

فقال عبداللّه بن مسعود: أنا.

قالُوا: إنّا نخشاهم عليك، إنّما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.

قال: دَعوني فإنّ اللّه سيمنعني.

قال: فغدا «ابن مسعود» حتّى أتى المقامَ في وقت الضحى وقريش في أنديتها، حتّى قام عند المقام ثم قرأ: «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رافعاً بها صوته، «اَلرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ» .

قال: ثم استقبلها يقرؤها. قال: فتأمّلوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أُم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنّه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعَلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتّى بلَغَ منها ماشاء اللّه أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثّروا في وجهه فقالوا له: هذا الّذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء اللّه أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً....(1)

ص:466


1- . السيرة النبوية: 1/206.
4. أبوذر: أوّل المجاهرين بالإسلام

كان «أبوذر» رابع أو خامس من أسلم(1)، وعلى هذا فهو من الذين أسلموا في الأيّام الأُولى من بزوغ شمس الإسلام وطلوع فجره، فإذَنْ هو من السابقين إلى الإسلام.

وقد صرّح القرآنُ الكريمُ بأنّ للذين سبقوا إلى الإيمان برسول اللّه في بدء بعثته وبالتالي فإنَ للسابقين عنداللّه تعالى مكانة عظيمة، ومقاماً لا يضاهى إذ قال تعالى: «وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (2)، وقال تعالى فيهم أيضاً:

«وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .(3)

وقال تعالى كذلك في من آمن قبل فتح مكّة وفضلِهِم، ومكانتهم المعنوية المتفوّقة على مَن أسلم بعدَ إعتزاز الإسلام، واشتداد أمره، وقيام دَوْلته يعني أنّهم ليسوا سواء.

«وَ ما لَكُمْ أَلاّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لِلّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا...» .(4)

أجل هذه هي مكانة السابقين في الإسلام وكان «أبوذر» منهم.

هذا مضافاً إلى أنَّه يُعَدُّ أوّل من نادى بالإسلام على رؤوس الأشهاد وفي الملأ من قريش.

ص:467


1- . أُسد الغابة: 5/186؛ الإصابة: 7/107؛ الإستيعاب: 1/252 برقم 339 و ج 4/1653.
2- . الواقعة: 10-11.
3- . التوبة: 100.
4- . الحديد: 10.

فيومَ أسلم «أبوذر» كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يدعو الناس إلى الإسلام سرّاً، ولم تتهيّأ بعدُ ظروفُ الجَهْر بالدعوة إلى هذا الدّين، فإنَّ أتباع الإسلام والمؤمنين به لم يتجاوز عددُهم في ذلك اليوم عدد الأصابع، هم: النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم وخمسة ممّن آمنُوا به، وقبلوا دعوته، ومع ملاحظة هذه الإعتبارات والظروف لم يكن بدّ - حسب الظاهر - من أن يُخفي «أبوذر» إسلامَه، ويعودَ إلى قبيلته من دون أن يعرف به أحدٌ في مكّة.

ولكنَّ روحَ «أبي ذر» الطافحة بالإيمان والحماس أبت ذلك، وكأنّه قد خُلِقَ لينهض في كلّ زمان ومكان ضدّ الظلم والطغيان، ويرفع عقيدته في وجه الباطل وأهله، ويكافح الإنحراف والإعوجاج أيّاً كان مصدرُه، وصاحبه. وأيُّ باطل أكبر من أن يُطأطِئ الناسُ أمامَ أصنامٍ مصنوعةٍ من الحجر، ويخضعوا أمام أوثان منحوتة من الخشب لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع، ويسجدوا لها ويتخذوها آلهة دون اللّه الخالق الكبير المتعال؟؟

إنّه ليس في وسع «أبي ذر» أن يتحمَّل هذا المشهد البغيض المقرف!!

من هنا قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن مكث في مكّة قليلاً و قرأ شيئاً من القرآن: يا نبيّ اللّه ما تأمرني؟

قال: ترجعُ إلى قومك حتّى يبلُغك أمري.

فقال له: والّذي نفسي بيده لا أرجع حتّى أصرخ بالإسلام في المسجد.

قال: فدخل المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلّااللّه، وأنَّ محمَّداً عبدهُ ورسوله.

قال: فقال المشركون: صبأ الرجل صبأ الرجل، فضربوه حتّى صُرع، فأتاه العباس بن عبدالمطلب فأكبّ عليه - بطريقة لطيفة - وقال: قتلتم الرجل يا معشر قريش! أنتم تجّار طريقكم على غفار، فتريدون أن يقطع الطريق، فأمسكوا

ص:468

عنه.

ثم عاد اليوم الثاني فصنع مثل ذلك ثم ضربوه حتّى صرع، فأكب عليه العباس وقال لهم مثل ما قال في أوّل مرّة، فأمسكوا عنه.(1)

ولا شكّ في أنّه لو لم يكن العباس لما نجا أبوذر من مخالب المشركين في أغلب الظن، ولكن أباذر لم يكن بذلك الرجل الّذي يتراجع عن هدفه بسرعة، ولهذا بدأ جهاده من جديد.

ففي يوم رأى امرأة تطوف بالبيت، وتدعو ساف و نائلة (وهما صنمان لقريش) وتسألهما أن يقضيا لها حاجاتها، فانزعج أبوذر من جهل تلك المرأة، ولكي يفهمها بأنّها تدعو صنمين لا يضرّان ولا ينفعان بل ولا يشعران قال: أنكحي أحدهما صاحبه. فتعلّقت به وقالت: أنت صابئ، فجاء فتية من قريش فضربوه، وجاء ناس من بني بكر فنصروه.(2)

قبيلةُ غِفار تعتنق الإسلام

لقد أدرك رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم قابليات تلميذه وناصره الجديد، وصلابته الخارقة في مكافحة الباطل، ولكن حيث إنّ الوقت لم يكن يحنْ بعد للدخول في مواجهة ساخنة مع المشركين لهذا أمره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يلحق بقومه، ويدعوهم إلى الإسلام، قائلاً له: «إلحق بقومك فإذا بلغك ظهوري فأتني».

فعاد أبوذر إلى قومه، وأخذ يدعوهم إلى الإسلام ويكلّمهم عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويدعوهم إلى نبذ الأصنام وعبادة اللّه الواحد، والتخلّق بالأخلاق الرغيبة.

ص:469


1- . الطبقات الكبرى: 4/225؛ ولاحظ: الاستيعاب: 4/1654؛ الإصابة: 7/106؛ الدّرجات الرفيعة: 228.
2- . الطبقات الكبرى: 4/223.

فأسلم أبواه، أوّلاً، ثم أسلم نصف رجال قبيلته «غفار» ثم اختار البقية الإسلام بعد هجرة النبيّ إلى المدينة، ثم تبعتها قبيلة «أسلم» حيث وفدوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واعتنقوا الإسلام.

ثم التحق أبوذر بعد معركة بدر وأُحد برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة وأقام فيها.(1)

وربّما كان إيذاء المشركين للمسلمين المؤمنين برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتّخذ طابع التهديد والترهيب وممارسة الضغط النفسي والاقتصادي والاجتماعي.

فقد كان أبوجهل إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنّبه وأخزاه، وقال له: تركتَ دين أبيك وهو خير منك، لنُسَفِّهَنَّ حلمَك، ولنفيلنَّ رأيك، ولنضعنَّ شرفك.

وإن كان تاجراً قال له: لنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك.

وإن كان ضعيفاً ضربَهُ، وأغرى به.(2)

وروي أيضاً أنّ «خبّاب بن الأرت» صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قيناً بمكّة يعمل السيوف وكان قد باع من «العاص بن وائل» سيوفاً عملها له حتّى كان له عليه مال، فجاءه يتقاضاه، فقال له: يا خَبّاب أليس يزعم «محمَّد» صاحبكم هذا الّذي أنت على دينه أنّ في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم، قال خبّاب: بلى، قال: فأنظِرني إلى يوم القيامة يا خبّاب حتّى أرجعَ إلى تلك الدار، فأقضيك هنالك حقّك، فواللّه لا تكونُ أنت وصاحبك يا خبّاب آثر عنداللّه

ص:470


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 4/221 و 222 و 226؛ الدرجات الرفيعة: 225 و 226 و 229 و 230.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/211. قوله: لنفيلن رأيك: أي نضعفه ونفسده.

منّي!!(1)

أعداء النبيّ الألدّاء

إنّ للتعرّف على أعداء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخصومه الألدّاء، ومواقفهم دوراً هاماً في تحليل جملة من حوادث التاريخ الإسلامي الّتي وقعت بعد الهجرة النبوية.

ونحن نكتفي هنا بإدراج أسماء طائفة منهم ونذكر شيئاً من خصوصياتهم.

1. «أبولهب»: عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وقد كان جاراً له صلى الله عليه و آله و سلم وهو الَّذي لم يفتأ لحظة واحدة عن تكذيب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وإيذاء المسلمين.

2. «الأسود بن عبد يغوث» وكان أحد المستهزئين وهو ابن خال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاءً: قد جاءكم ملوك الأَرض الذين يرثون كسرى وقيصر!!(2)

ولم يمهله أجلُه ليرى بأُمّ عينيه كيف ورث المسلمون أرض كسرى وقيصر، ووطأوا عرشهما.

3. «الوليد بن المغيرة» شيخ قريش وحكيمها الّذي كان يملك ثروة هائلة، وسوف نتحدّث عنه وعن موقفه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الفصل القادم.

4. «أُميّة» و «أُبيّ» ابنا خلف، وقد مشى «أُبي» هذا بعظم رميم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم ففتّه في يده ثم نفخه نحو النبيّ وقال: أتزعم أنّ ربك يُحيي هذا بعدما ترى (أو بعدما رمّ)؟ فأنزل اللّه تعالى: «وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ

ص:471


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/238.
2- . السيرة الحلبية: 1/511.

عَلِيمٌ» .(1)

وقد قتل ابنا خلف هذان في بَدْر. 5. «أبو الحكم بن هشام» الّذي سمّاه المسلمون لعناده وتعصُّبه الجاهل ضدّ الإسلام بأبي جهل، وقد قُتل هو الآخر في بدر أيضاً.

6. «العاص بن وائل» وهو والد «عمرو بن العاص»، وهو الّذي وصف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالأبتر.

7. «عقبة بن أبي معيط» الّذي كان من ألدّ أعداء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وأشدّ خصومه بغضاً له صلى الله عليه و آله و سلم، وكان لا يألو جهداً في مضايقة المسلمين ولا يترك فرصةً تمرّ دون إيذائهم!.(2)

هؤلاء هم بعض أعداء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المبالغين في معاداته، وهناك غيرُهم كأبي سفيان ممّن ذكر المؤرّخون خصوصياتهم كاملة في مؤلّفاتهم، وقد أعرضنا عن إدراجهم بأجمعهم هنا رعاية للاختصار.

عمر بن الخطاب يعتنق الإسلام

لقد كان إسلام كلّ واحد من الذين أجابوا دعوة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم نابعاً من سبب معيَّن.

فربَّما أدَّت حادثةٌ صغيرةٌ إلى أن يعتنق فردٌ أو فريقٌ الإسلام، وينضمُّوا إلى صفوف المسلمين.

وقد اتّسمَ السَّبَبُ الّذي آل إلى إسلام عمر - من بين جميع تلكم الأسباب والعلل - بطرافة تقتضي التوقّف عنده في هذه الدراسة التاريخية التحليلية.

ص:472


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 7/34؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1/242-243.
2- . الكامل في التاريخ: 2/74. وراجع أيضاً أُسد الغابة، والإصابة والاستيعاب وغيرها.

على أنّ التسلسل التاريخي، والتنظيم الوقائعي لأحداث الإسلام وإن كان يقتضي منّا أن نأتي على ذكر هذه الحادثة بعد هجرة صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى الحبشة، إلّا أنّ الحديث حيث دار هنا حول صحابة النبيّ وكيفية إسلامهم ومواقفهم، ناسب أن نشير هنا إلى كيفية إسلام الخليفة الثاني.

يقول ابن هشام: كان إسلام عمر - في ما بلغني - أنّ أُخته فاطمة بنت الخطاب وكانت عند «سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل» وكانت قد أسلمت وأسلمَ زوجها «سعيدُ بن زيد»، وهما مستخفيان بإسلامهما من عُمَر (وهؤلاء هم كُلُّ من أسلم من آل الخطاب) وكان خبّاب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يُقرئها القرآن.

(وكان «عُمر» الّذي كانت بينه وبين المسلمين علاقات سيئة جدّاً قد أزعجه ما أصابَ المجتمع المكّي من تشتُّت وفرقة، وما لحق بقريش من المتاعب إثر ظهور الإسلام، من هنا عزم على أن يقضي على علّة هذا الأمر باغتيال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والفتك به).

فخرج عمر يوماً متوشّحاً سيفَه يريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورهطاً من أصحابه، وقد ذكروا له أنّهم قد اجتمعوا في بيتٍ عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمّه «حمزة» بن عبدالمطلب و «أبوبكر» و «علي بن أبي طالب» في رجال من المسلمين ممّن كان أقام مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمكّة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه «نعيم بن عبداللّه» (وقد كان صديقاً حميماً لعمر) فقال له: أينَ تريد يا عمر؟

فقال: أُريد محمَّداً هذا الصابئ، الّذي فرّق في أمر قريش، وسفّه أحلامها، وعابَ دينها، وسبَّ آلِهتها، فأقتُله.

فقال له نعيم: واللّه لقد غرّتك نفسُك من نفسِك يا عمر، أترى بني عبد مناف

ص:473

تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلتَ محمَّداً!! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرَهم؟ قال: وأيُ أهل بيتي؟

قال: ختنُك وابنُ عمّك «سعيد بن زيد» وأُختك «فاطمة بنت الخطاب» فقد واللّه أسلما، وتابعا محمَّداً على دينه فعليك بهما.

(فأغضب هذا النبأُ عُمر بشدّة فانصرف عن الهدف الّذي كان يرمي إليه) قال:

فرجع عمر عامداً إلى أُخته وختنه، وعندهما «خبّاب بن الأرت» معه صحيفة فيها سورة «طه» يقرئُهما إيّاها، فلمّا سمعوا حسّ «عُمر» تغيّب «خبّاب» في مخدع لهم، أوفي بعض البيت، وأخفت «فاطمة بنت الخطاب» الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع «عُمر» حين دنا إلى البيت قراءة «خبّاب» عليهما، فلمّا دخل قال: ما هذه الهينمة(1) الّتي سمعت؟

قالا له: ما سمعتَ شيئاً.

قال: بلى واللّه، لقد أُخبرِتُ أنّكما تابعتما محمَّداً على دينه.

وبطش بختنه «سعيد بن زيد» فقامت إليه أُختُه «فاطمة بنت الخطاب» لتكفَّه عن زوجها، فضربها فشجَّها.

فلمّا فعل ذلك قالت له أُخته وختنُه: نعم قد أسلمنا وآمنّا باللّه ورسوله، فاصنعْ ما بدا لك.

فلمّا رأى «عُمر» ما بأُخته من الدَّم نَدمَ على ما صنع، فارعوى، وقال لأُخته:

أعطيني هذه الصحيفة الّتي سمعتكم تقرأون آنفاً أنظرُ ما هذا الّذي جاء به محمَّد؟

فلمّا قال ذلك قالت له أُخته: إنّا نخشاك عليها. قال: لا تخافي وحلف لها

ص:474


1- . الهينمة: صوت كلام لا يُفهم.

بآلهته ليَرُدّنها إذا قرأها، إليها.

فلمّا قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أُخيّ، إنّك نجسٌ على شِركك وإنّه لا يمسُّها إلّاالطاهر، فقامَ «عمر» فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها (آياتٌ من سورة) «طه» هي:

«طه * ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى * اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى * لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى * وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى» .(1)

فقرأها، فلمّا قرأ منها صدراً - تركت هذه الآياتُ المحكمة الفصيحة البليغة تأثيراً شديداً في نفسه - قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه...؟

(وقرر الرجلُ، الّذي كان قبل ثوان عدوَّ الإسلام الأوّل، أن يُغيّر موقفه، فتوجّه إلى البيت الّذي ذكر له أنَّ فيه رسول صلى الله عليه و آله و سلم وجماعة من أصحابه وهو متوشّح سيفَه)، فضربَ عليهم الباب، فلمّا سَمِعُوا صوته قام رجلٌ مِن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فنظر من خلل الباب فرآه متوشّحاً السيفَ، فرجَع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو فزع فقال: يا رسول اللّه: هذا عمر متوشّحاً السيف، فقال حمزة: فائذن له، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه.

فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إئذن له، فأذِنَ له الرجل، ونهض إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى لقيه في الحجرة، فأخذ حجزته (وهو موضع شد الإزار) أو بمجمع ردائه ثم جَبذَهُ جبذَةً شديدةَ، وقال: ما جاء بك يابن الخطاب فواللّه ما أرى أن تنتهي حتّى ينزل اللّه بك قارعة؟!

فقال عُمر: يا رسول اللّه جئتك لأُؤمن باللّه وبرسوله وبماجاء من عند

ص:475


1- . طه: 1-7.

اللّه.(1)

وهكذا أسلم «عمر» عند رسول اللّه وأصحابه وانضوى إلى صفوف المسلمين.

ثم إنّ ابن هشام روى رواية أُخرى في كيفية إسلام عمر مَن أراد الوقوف عليها راجعها في السيرة النبوية.(2)

ص:476


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/229-231.
2- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/232.

17 رأي قريش في القرآن

اشارة

إنّ البحث حول حقيقة الإعجاز القرآني أمرٌ خارج عن إطار هدفنا في هذا الكتاب، فذلك متروكٌ إلى الكتب الإعتقادية والكلامية.

ولكن الأبحاثَ التاريخيَّة تهدينا إلى أنّ القرآن الكريم كان مَن أكبر وأقوى أسلحة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بحيث خضع أمام فصاحته البالغة وحلاوة كلماته وقوة آياته، وعباراته، أساتذة الفصاحة والبلاغة وأُمراء البيان والكلام، وعمالقة الكتابة والخطابة، واعترفوا برمَّتهم، وقضّهم وقضيضهم بأَنَّ القرآن الّذي جاء به محمَّد يحتل أعلى مكان في الفصاحة والبلاغة، وأنَّ مثل هذا الحديث لم يعرفه البشر ولم يعهد له التاريخ الإنساني نظيراً.

فلقد كانت جاذبيّة «القرآن الكريم» وتأثير حديثه بحيث ترتعد عند استماع آياته فرائص أعدى أعدائه، وربّما انهارت قواه، فبقي مدة طويلة، لا يقوى على حِراك، ولا يملك فعل شيء.

وفيما يلي نذكر بعض النماذج في هذا المجال:

رأي الوَليد في القرآن:

كان «الوليدُ بن المغيرة» ممّن ترجُع إليه العربُ لحلّ الكثير من مشاكلهم، وكان ذا سنٍّ، وثروة كبيرة فيهم.

وعندما واجهت قريش مشكلة ظهور الإسلام وانتشاره في القبائل مشى فريقٌ منهم إلى الوليد يلتمسون منه حلّاً لهذا الأمر الّذي بات يهدّد كيان الزعامة

ص:477

المكيّة الجاهلية، وطلبوا منه أن يبيّن رأيه في القرآن الكريم وقالوا له: يا أبا عبد شمس ما هذا الّذي يقول محمد أسحر، أم كهانة، أم خطب؟

فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو جالس في الحجر، فقال: يا محمَّد أنشدْني من شعرك.

فقال النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم: ما هو بشعر، ولكنّه كلام اللّه الّذي به بعث أنبياءه ورسله.

فقال: اتلُ عليّ منه، فقرأ عليه رسول اللّه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم».

فلمّا سمع: الرحمن، استهزأ منه وقال: تدعو إلى رجل باليمامة يُسمّى الرحمن؟

قال. لا، ولكنّي أدعو إلى اللّه وهو الرحمن الرحيم ثم افتتح سورة «حم السجدة»، فلمّا بلغ إلى قوله تعالى:

«فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ» .(1)

فلمّا سمعه (الوليد)، اقشعر جلده، وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.

فقالت قريش: يا أبا الحكم صبا أبو عبد شمس إلى دين محمَّد، أما تراه لم يرجع إلينا وقد قبل قوله، ومضى إلى منزله.

فاغتمّت قريش من ذلك غمّاً شديداً، وغدا عليه أبوجهل فقال: يا عم نكّست برؤوسنا وفضحتنا.

قال: وما ذاك يا ابن أخي؟

قال: صبوت إلى دين محمَّد.

ص:478


1- . فصّلت: 13.

قال: ما صبوتُ وإنّي على دين قومي وآبائي، ولكنّي سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود، قال أبوجهل: أشِعر هو؟

قال: ما هو بشعر.

قال: فخطبٌ هي؟

قال: لا وإنّ الخطب كلام متّصل، وهذا كلام منثور، لا يشبه بعضُه بعضاً، له طلاوة.

قال: كهانة هي؟

قال: لا.

قال: فما هو؟

قال: دعني أَفكر فيه.

فلمّا كان من الغد، قالوا: يا أبا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا: هو سحر فإنّه أخذ بقلوب الناس فأنزل اللّه تعالى فيه:

«ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً * وَ بَنِينَ شُهُوداً» إلى قوله: «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» (1).(2)

***

رأي عتبة بن ربيعة في القرآن

كان «عتبة بن ربيعة» من كبراء قريش وأشرافها، ويوم أسلم «حمزة» وأصبح أصحاب رسول اللّه يزيدون ويكثرون اغتمّت قريش كلّها، وخشي زعماء المشركين أن ينتشر الإسلام أكثر من هذا، فقال عتبة يوماً وهو جالس في نادي

ص:479


1- . المدثر: 11-30.
2- . بحار الأنوار: 17/211-212؛ إعلام الورى بأعلام الهدى: 1/110-112.

قريش، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى «محمَّد» فأُكلّمه وأعرض عليه أُموراً لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكف عنّا؟

فقالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلّمه. فقام إليه «عتبة» حتّى جلس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: يابن أخي إنّك منّا حيث ما قد علمت من الشرف في العشيرة، والمكان في النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامَهم، وعبت به آلهتهم، ودينهم، وكفّرت به مَن مضى من آبائهم، فاسمع منّي أُعرض عليك أُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منّا بعضَها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: قل يا أبا الوليد أسمع.

قال: يا ابن أخي إن كنتَ إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سَوَّدناك علينا حتّى لانقطع أمراً دونك، وإن كنتَ تريدُ به مُلكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الّذي يأتيك رئيّاً (وهو ما يتراءى للناس من الجنّ) تراه لا تستطيع ردَّهُ عن نفسك، طلبنا لك الطبَّ، وبذَلنا فيه أموالنا حتّى نُبرئك منه، فإنّه ربّما غلب التابع على الرجل حتّى يداوى منه؛ حتّى إذا فرغ «عتبة»، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يستمع منه قال: أقد فرغتَ يا أبا الوليد؟ قال: نعم قال: فاسمع منّي؛ قال: أفعل، قال:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ».(1)

ثم مضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيها يقرؤها عليه، فلمّا سمعها منه «عتبة» أنصت لها وألقى يديه خلفَ ظهره معتمداً عليهما يستمع منه، (وبقي على هذه مدة من

ص:480


1- . فصلت: 1-5.

الزمن صامتاً وكأنّه قد سُلِبَ قدرة النطق)، ثم انتهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى السجدة فسجد ثم قال:

«قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ فأنتَ وذاك».

فقام «عتبة» إلى أصحابه (وقد تغيَّرت ملامحُه) فقال بعضهم لبعض: نحلف باللّه لقد جاءكم أبوالوليد بغير الوجه الّذي ذهبَ به!! فلمّا جَلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي أنّي قد سمعت قولاً واللّه ما سمعت مثله قط، واللّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فواللّه ليكوننَّ لقوله الّذي سمعتُ منه نبأ عظيم، فإن تصِبهُ العربُ فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلكه ملكُكُم، وعزُّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به.

قالوا: سحرَكَ واللّه يا أبا الوليد بلسانه!!

قال: هذا رأيي فيه، فاصنَعوا ما بدا لكم.(1)

هذان نموذجان من رأي كبار فصحاء العرب في العهد الجاهليّ، في القرآن الكريم.

على أنّ هناك أمثلة ونماذج أُخرى كثيرة في هذا المجال.

تحجّجاتُ قريش العجيبة:

اجتمع «عتبة بن ربيعة»، و «شيبة بن ربيعة» و «أبوسفيان بن حرب» و «النضر بن الحارث»، و «أبو البختري»، و «الوليد بن المغيرة»، و «أبوجهل»

ص:481


1- . السيرة النبوية: 1/189-190.

و «العاص بن وائل» وغيرهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: إبعثوا إلى «محمَّد» فكّلِمُوه، وخاصموه حتّى تعذروا فيه، فبعثوا إليه؛ فجاءهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلَّمهم فيه بداء وأنّهم قد غَيَّروا مواقفهم، وكان يحبّ رشدهم وهدايتهم حتّى جلس إليهم. فقالوا له: يا محمَّد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمكَ، وانّا واللّه ما نعلم رجلاً من العرب أدخلَ على قومه مثلَ ما أدخلتَ على قومك لقد شتمتَ الآباء، وعبتَ الدّين، وشتمت الآلهة... ومضوا يعدّدون أُموراً من هذا القبيل ثم اقترحوا عليه أُموراً ذكرها اللّه تعالى بتمامها في الآية 90 إلى 93 من سورة الإسراء حيث يقول حاكياً عن لسانهم:

«وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى

1. تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا

2. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا

3. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا

4. أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً

5. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ

6. أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» !!

***

وحيث إنَّ مضمون هذه الآيات هو عدم تلبية النبيّ لِمطالبِ قُريش حيث قال: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً» قد تذرّع به المستشرقون للإيقاع بالرسالة المحمَّدية لذلك نعمد هنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات والعلل المنطقيّة لعدم تلبية النبيّ مطالب قريش ومقترحاتهم.

ص:482

الجواب: إنَّ الأنبياء لا يأتون بالمعاجز في كلّ ظرف و زمان، فإنّ للإعجاز شروطاً خاصة لم تتوفّر في هذه الاقتراحات، وهذه الشروط هي:

أوّلاً: أن لا تكون المعجزة من الأُمور المستحيلة الّتي لا يمكن تحقّقها، فإنّ مثلَ هذه الأُمور خارجة عن إطار القدرة، ولا تتعلّق بها مشيئة اللّه تعالى ولا مشيئة أيّ صاحب إرادة مطلقاً.

وعلى هذا الأساس إذا طلب الناسُ من النبيّ أمراً محالاً، فقوبل طلبهم بعدم الاهتمام من قبل النبيّ لم يكن ذلك دليلاً على إنكار صدور المعجزة على أيدي الأنبياء قط.

هذا الشرط لم يكن متوفّراً في بعض مقترحات المشركين المذكورة (المقترح الرابع) فإنّهم طَلبوا من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يأتي لهم باللّه سبحانه وتعالى ليقابِلوه وجهاً لوجه، ويروه جهرة ومن قريب، ورؤية اللّه تعالى أمر محال، لأنّ رؤيته تستلزم أن يكون سبحانه محدوداً بالزمان والمكان، وأن يكون جسماً وذا لون وصورة وهو تعالى منزهٌ عن المادّة ولوازم المادية.

بل حتّى مقترحُهم الثالث لو كان المقصود منه أن تسقط السماء عليهم (لا أن تسقط قطعة من الصخر على رؤوسهم و تقتلهم) فإنّ ذلك هو أيضاً من المحالات، إذ أن المشيئة الالهية تعلّقت بأن يفعل اللّه هذا في نهاية العالم، والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان قد أخبر المشركين بهذا الأمر أيضاً كما يدلّ عليه قولُهم: «كما زعمتَ».

إنَّ إنهدامَ المنظومة الشمسيّة وتبعثرَ النجوم وتساقطها وإن لم يكن في حد ذاته بالأمر المحال، ولكنّه - حسب المشيئة الإلهية الحكيمة وإرادته النافذة القاضية بأن يستمر النوع البشري، ويصل إلى مرحلة الكمال - يعدّ محالاً، ولا يمكن أن يفعل حكيمٌ خلاف ما يقتضيه هدفه وغايته.

ص:483

ثانياً: حيث إنّ الغاية المنشودة من اقتراح وطلب الإعجاز هو أن يستدِلّ به على صدق دعوى النبيّ، وصحة انتسابه إلى اللّه، وبالتالي يكون بدافع تحصيل سند على ارتباطه بعالم ما فوق الطبيعة، لذلك فإنّ أيّ اقتراح ومطالبة بالمعجزة لا تتوفّر فيها هذه الصفة يعني على فرض أن يلبّي النبيُ طلبَهم ويأتي لهم بالمعجزة لا يكون ذلك دليلاً على ارتباطه بعالم الغيب، فحينئذٍ لا معنى ولا موجب لأن يقوم النبيُّ بما لا يرتبط بشؤونه ولا يخدم هدفه.

وقد كانت بعض مقترحات المشركين المذكورة من هذا النوع، وذلك مثل تفجير ينبوع من الأرض، أو أن تكون له جَنّة من نخيل وعنب، أو أن يكون له بيتٌ من زخرف وذهب، فإنّ مثل هذه الأُمور لا تدلّ على نبوّة مَن يمتلكها، إذ ما أكثر الذين يمتلكون واحدة من هذه الأشياء وليسوا مع ذلك بأنبياء، بل ربّما يملكون أكثر من ذلك، ومع ذلك لا يشم فيهم رائحة الإيمان فضلاً عن النبوة.

فإذا لم ترتبط هذه الأشياء بمقام النبوّة، ولا تكون دليلاً على صدق مَن يدّعيها كان الإتيان بها أمراً لغواً وعبثاً تعالى عنه مقام النبوّة، وجلّت عنه منزلة الأنبياء.

وقد يقال: إنّ هذه الأشياء(1) لا تدلّ على صدق دعوى النبيّ إذا حصلت عن طريق الأسباب العادية، ولكنّها لو حصلت بصورة غير عاديّة ولا متعارفة كانت ولا شكّ من المعاجز الإلهية، ودلّت على صدق النبيّ وصحّة دعواه.

ولكنّ الظاهر أنّ هذه فكرةٌ باطلة؛ لأنّ المشركين كانوا يهدفون من اقتراحاتهم هذه أن يكون النبيُّ صاحب مال و ثروة، فقد كانوا يستبعدون أن يكون نبيُّ اللّه ورسولُه فقيراً لا يملك شيئاً من الثروة والمال، وكانوا يعتقدون أنّ الوحي

ص:484


1- . أي الأُمور الثلاثة المقترحة: الينبوع والجنة والبيت من ذهب.

الإلهي يجب أن ينزل على رجل غنيّ ذي طول وحول، ولذلك قالوا مستغربين ومستنكرين:

«وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (1)؟!!

أي لماذا لم ينزل هذا القرآن على رَجُلٍ ثَريّ من مكّة أو الطائف.

وممّا يدلّ على أنّ الهدف كان هو أن يملك النبيُ مثل هذه الأُمور بأي طريق كان، ولو بالطريق العاديّ أنّهم كانوا يريدون هذه الأشياء للنبيّ نفسه، إذ قالوا:

«أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ» .(2)

وبعبارة أُخرى: كانوا يقولون إذا أنت لا تمتلك بستاناً أو بيتاً من ذهب فإنّنا لن نؤمن لك!!

ولو كان الهدف هو أن يحصل هذان الأمران بواسطة القدرة الغيبية لم يكن وجه حينئذٍ لقولهم: ما لم يكن «لَكَ» بيتٌ من زخرف، فإنّنا نؤمن بك بل كان يكفي أن يقولوا: إذا لم تحدِث وتوجد بيتاً وجنّة فإنّنا لن نؤمن لك.

أمّا قولهم في مطلع اقتراحاتهم: «تُفجّرَ لَنا منَ الأَرض يُنبوُعاً» فإنّ مقصودَهم لم يكن هو أن يستخرج لهم بالإعجاز ينبوعاً لينتفعوا به، بل يفعل ذلك لكي يؤمنوا به.

ثالثاً: أنَ المقصود من المعجزة هو الاهتداء في ضوئها إلى صحّة دعوى النبيّ وصدق مقاله، والإيمان بمنصبه، والاعتقاد بمقامه، وعلى هذا إذا كان بين المقترحين للمعجزة من يكونُ الإتيان له بالإعجاز سبباً لإيمانه بالنبيّ، فحينئذٍ كان الإتيان بالمعجزة وتلبية اقتراحه أمراً مستحسناً، وغير مقبوح عقلاً.

أمّا إذا كان المقترحون، يقترحون عناداً ولجاجاً، أو يطلبون ما يطلبونه لهواً

ص:485


1- . الزخرف: 31.
2- . الإسراء: 93.

وتسليةً كما يفعل الناس مع السحرة والمرتاضين فإنّ منزلة النبيّ أجلّ - حينئذٍ - من أن يلبَّي مثلَ هذه المقترحات، ويستجيب لمثل هذه المطالب، وقد كانت بعض اقتراحات المشركين من هذا النمط.

فإنّ مطالبتهم بأن يصعَدَ النبيُّ إلى السماء، أو أن يُنزل من السماء كتاباً يقرأونه لم يكن بهدف إكتشاف الحقيقة لأنّهم لو كانوا ممّن يهدف الوصول إلى الحقيقة فلماذا لم يكتفوا بمجرّد صعوده إلى السماء بل كانوا يصرّون على أن يضمَّ أمراً آخر إلى عروجه وصعوده (وهو أن ينزّل معه كتاباً)!!

ثم إنّه يُستفاد من آيات أُخرى، غير هاتين الآيتين أيضاً، أنّهم كانوا سيعاندون، ويصرّون على كفرهم حتّى بعد نزول الكتاب عليهم من السماء كما يصرّح بذلك قوله تعالى:

«وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ» .(1)

فمن غير المستبعد أن يكون الكتابُ المنزّلُ في قرطاس إشارة إلى اقتراح المشركين الّذي جاء ضمن آيات سورة الإسراء أي قولهم: «أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» (2) فقال اللّه سبحانه: حَتّى لَو فعلنا لهم ذلك لكفروا، وأحجموا عن الإيمان.

رابعاً: أنَّ طلبَ المعجزة إنّما هو لأجل أن يستتبع الإتيانُ بها الإيمانَ بالرسالة والانضمام إلى صفوف المؤمنين، فإذا كانت نتيجةُ المعجزة هي إباء المقترحين، استلزم ذلك نقض الغرض المنشود من المعجزة، وانتفاء فائدتها.

فإذا كان المقصود من سقوط السماء عليهم، هو نزول الصخور السماوية

ص:486


1- . الأنعام: 7.
2- . الإسراء: 93.

لإبادتهم، فإنّ هذا الطلب لا يتّفق أبداً مع هدف الإعجاز وهو من أوضح مصاديق نقض الغرض.

وبالتالي ينبغي أن نذكّر بنقطة وهي: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على خلاف ما تصوّر المستدلّون بهذه الآية على نفي آية معجزة لرسول الإسلام، لم يصف نفسه بالعجز وعدم القدرة على الإتيان بالمعجزة، بل أفاد بقوله: «سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً» (1) أمرين:

1 - تنزيه اللّه، فهو بقوله: «سُبْحانَ رَبِّي» نزّه اللّه تعالى عن كلّ عجز ونقص كما نزّهه عن الرؤية ووصفه بالقدرة على كلّ شيء ممكن.

2. محدوديّة قدرة النبيّ، إذ بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً» أفاد بأنّه امرئ مأمور لا أكثر وأنّه مطيعٌ لأمر اللّه وإرادته فهو يأتي بما يريد ربُّه، والأمرُ إلى اللّه كلّه، وليس للنبيّ أن يُلبّي أيَ طلبٍ واقتراحٍ بإرادته.

وبعبارة أُخرى: أنّ الآية ركّزت في مقام الجواب على طلبهم بعد تنزيه اللّه عن العجز والرؤية على كلمتي: «البشر والرسول» والهدف هو أنّه: إذا أنتم قد طلبتم هذه الأُمور منّي من جهة إنّني بشر، كان طلبكم هذا طلباً غير صحيح، لأنّ هذه الأُمور تحتاج إلى قدرة الهية.

وإن طلبتموها منّي من جهة أنّي نبيّ ورسولٌ فإنّ النبيّ والرسولَ ما هو إلّا إمرئ مأمورٌ يفعلُ ما يأذنُ به اللّه، وليس له أن يفعل ما يشاء هو دون إرادة اللّه تعالى.

وبهذا اتّضح أنّ هذه الآيات لا تدلُّ على ما استدلّ به النافون لمعاجز النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

وكان ممّا تَحجّجت به قريش على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّهم قالوا:

ص:487


1- . الإسراء: 93.

لَوْ كانَ مُحمَّد نبيّاً لشغَلته النبوةُ عن النساء ولأمكنه جميع الآيات (أي لأتته الآيات دفعة واحدة) ولأمكنه منعُ الموت عن أقاربه، ولمّا مات أبوطالب وخديجة فنزل قولُه تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ * يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ * وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ» .

وبذلك ردّ عليهم(1).(2)

الدوافع وراء معاداة قريش وعنادهم:

اشارة

هذا القسم هو إحدى النقاط الجديرة بالدراسة في تاريخ الإسلام، لأنّ المرء قد يسائل نفسه، لماذا يا ترى كانت قريش تعارض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أشدّ المعارضة رغم أنّها كانت تعتبره الصادق الأمينَ ولم تعهد منه انحرافاً أو خطأ قط وكانت تسمع كلامَه الفصيح البليغ الّذي يأسر القلوب، وربّما شاهدوا حدوث بعض الخوارق للعادة، الخارجة عن حدود القوانين الطبيعية على يديه.

إنّ هذا التمرّد والمعارضة يعود إلى علّة أو علل عديدة هي:

1. حَسَدُهُمْ للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

لقد عارض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخالفه فريقٌ ممّن عارضه بسبب حسدهم له، فقد كانوا يتمنُّون أن يكونوا هم صاحب هذا المنصب، وصاحب هذه المنزلة.

ص:488


1- . الرعد: 38-40.
2- . بحار الأنوار: 19/17 عن المناقب لابن شهر آشوب: 1/50.

فقد قال المفسِّرونَ عند قوله تعالى: «وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (1) أنّ «الوليد بن المغيرة» قال: أيُنزَّل على محمَّد وأُترك وأنا كبير قريش وسيّدها ويترك «أبو مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي» سيد ثقيف، ونحن عظيما القريتين، فأنزل اللّه تعالى فيه الآية.(2)

وروي أنّه قال: واللّه لو كانت النبوّة حقّاً لكنتُ أولى بها منكَ، لأنَّنِي أكبرُ منكَ سنّاً، وأكثر منكَ مالاً.(3)

وكان «أُميّة بن أبي الصلت» من الذين كانوا يقولون هذا الكلام حول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكان يتمنّى كثيراً أن ينال هو هذا المقام ويحظى بهذا المنصب العظيم، ولم يتبع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى آخر حياته، وكان يؤلّب الناس عليه.

وقد سأل «الأخنسُ بن شريق» - وهو من أعداء رسول اللّه - أبا جهل يوماً: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعتَ من «محمَّد»؟

فقال: ماذا سمعتُ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرفَ، أطعَمُوا فأطعَمنا، وحَملوا فحمَلنا، وأعطوا فأعطينا، حتّى إذا تجاذبنا على الركب، وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبيُّ يأتيه الوحيُ من السماء، فمتى ندركُ مثل هذه، واللّه لا نؤمنُ به أبداً ولا نصدّقه.(4)

هذه النماذج تُظهِرُ الحسد الّذي كان يحول بين زعماء قريش وساداتها وبين إتّباع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتصديقه، فَعتَوا على اللّه وتركوا أمره عياناً، ولجّوا فيما هم عليه من الكفر، وهناك نماذج وأمثلة أُخرى سجّلتها صفحات التاريخ أعرضنا عن إدراجها هنا.

ص:489


1- . الزخرف: 31.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/242.
3- . بحار الأنوار: 18/235.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/208.
2. معارضة الدعوة الإسلامية لشهواتهم:

وكان لهذا العامل الأثر الأكبر في عتو قريش و معارضتها لدعوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّهم كانوا أصحاب لهو ولعب، وفسق ومجون، ومثل هؤلاء الذين أمضوا سنوات عديدة على هذا النحو، دون أن يقيّدهم شيء من الحدود والقيود، وجَدوا دعوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تخالف عاداتهم القديمة، وكان ترك مثل تلك العادات الّتي تتفق مع أهوائهم ورغباتهم النفسيّة أمراً يلازم النصب والعناء والجهد.

3. الخَوفُ مِن عُقُوبات اليوم الآخر:

إنّ سماع آيات العذاب الّتي تنذر الفَسقة والظالمين وتوعدهم بالعقوبات الثقيلة أرعب قلوبهم، وأقلق نفوسهم بشدة.

فعندما كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتلو الآيات المتعلّقة بيوم القيامة وأوضاعه، وقضاياه في الاجتماعات والأماكن العامّة، كان يحدث بذلك ضجةً كبرى في أوساطِهِم، فيهدم مجالس لهوهم، وأُنسهم.

إنّ العربي الّذي كان يسلِّحُ نفسه بكلّ ما استطاع من سلاح ليدفع عن نفسه أيَ خطر محتمل، ويعمد إلى ممارسة القرعة ويتعاطى الأنصاب والأزلام ليحصل على لقمة عيشه، ويتفأل بالأحجار، ويتطيّر ويتشاءم بالطيور ويستدلُّ بحالاتها على حوادث وقَعت أوتقعُ، لم يكن على استعداد لأن يهدأ من دون ان يحصل على ضمان بعدم التعرّض لما يخبر عنه «محمَّد» من عذاب وعقاب!!

من هنا كانوا يحاربون النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويخالفونه حتّى لا يسمعوا وعده ووعيده.

واليك بعض الآيات الّتي كانت تقلق بشدة نفوس المترفين من قريش:

«فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ * وَ صاحِبَتِهِ

ص:490

وَ بَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» .(1)

وبينما كانوا يمدّون موائد اللهو والشراب في ظلال الكعبة ويحتسون كؤوس الخمر كانوا فجأة يسمعون هذه الآية:

«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» .(2)

فتلقي في نفوسهم رعباً عجيباً، وينتابهم الاضطراب الشديد حتّى أنّهم كانوا يلقون بكؤوس الخمر جانباً ويتملّكهم خوف شديدٌ لم يعرفوا له مثيلاً.

4. الخَوفُ مِن القَبائل العَربية المشركَة:

قال «الحارث بن نوفل بن عبد مناف» لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّا لنعلم أنَّ قولك حقٌ، ولكن يمنعُنا أن نتبع الهُدى معك ونؤمن بك مخافةَ أن يتخطّفنا العربُ من أرضنا (إن تركنا الوثنية التي تدين بها ويعتبروننا سَدنة لأوثانها) ولا طاقة لنا بها.

فنزل (قوله تعالى يرد عليهم):

«وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا» (3).(4)

وهكذا كان تخوّف قريش من العرب إن هي تركت ما كان عليه العربُ من الوثنية والشرك أحد الأسباب لعتوهم وَإعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية.

ص:491


1- . عبس: 33-37.
2- . النساء: 56.
3- . القصص: 57.
4- . بحار الأنوار: 18/236.

طائفةٌ مِن اعتراضات المشركين:

وربّما اعترض المشركون على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قائلين: إنّ هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، وإنّما أرضُ الأنبياء الشامُ، فأت الشامَ.(1)

وكان أكثر المشركين يقولون - وذلك بوحي من اليهود - لماذا لا ينزل القرآن على «محمَّد» دفعة واحدة كالتوراة والإنجيل، فحكى القرآن الكريم إعتراضهم هذا بنصّه إذ قال:

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً» .

ثم قال تعالى ردّاً على اعتراضهم هذا:

«كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .(2)

إنّ القرآن يهتم بهذا الإعتراض، ويوضح مسألة «النزول التدريجي» للقرآن الكريم و يقطع الطريق على المستشرقين المغرضين ومن حذا حذوهم، بمنطقه المحكم، وبيانه القويّ.

وها نحن نعمد هنا إلى إعطاء شيء من التوضيح لهذه المسألة أيضاً:

القُرآن والنُزُولُ التدريجيّ:

إنّ التاريخ القطعيّ لنزول القرآن وكذا مضامين آيات سوره تشهد بأنّ آيات القرآن الكريم وسوره نزلت تدريجاً.

فبمراجعة فاحصة لأوضاع مكّة، والمدينة يمكن تمييز المكيّ من هذه الآيات عن مدنيّها.

فالآيات الّتي تتحدّثُ عن مكافحة الشرك والوثنية ودعوة الناس إلى اللّه

ص:492


1- . بحار الأنوار: 18/198.
2- . الفرقان: 32.

الواحد، والإيمان باليوم الآخر مكيّة، بينما تكون الآيات الّتي تدور حول الأحكام وتحثُّ على الجهاد والقتال مدنيّة، ذلك لأنّ الخطاب في البيئة المكيّة كان موجَّهاً إلى المشركين عَبدة الأوثان الذين كانوا ينكرون توحيدَ اللّه، واليوم الآخر، فهنا تكونُ الآيات الّتي تتحدّث حول هذا الموضوع قد نزلت في هذه البيئة.

في حين كان الخطاب في المدينة المنورة موجّهاً إلى المؤمنين باللّه، وإلى جماعة اليهود والنصارى، وكان الجهاد والقتال في سبيل إعلاء كلمة اللّه هو الأعمال المهمّة الّتي بدأها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وواصلها في هذه البيئة، من هنا تكون الآيات الّتي تتضمّن الحديث حول الأحكام والفروع والقوانين، ويدور الحديث فيها أيضاً حول عقائد اليهود والنصارى ومواقفهم وتتضمّن الحثَّ - كذلك - على الجهاد والقتال والتضحية في سبيل إعلاء كلمة اللّه وإعزاز دينه، آيات مدنيّة.

إنّ كثيراً من الآيات ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالحوادث الّتي وقعت في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهذه الحوادث هي الّتي تشكّل ما يسمّى بشأن أو أسباب النزول التي يكون الوقوفُ عليها مُوجباً لفهم مفاد الآية، وإيضاح مفادها، فإنّ وقوع هذه الحوادث كان سبباً لنزول آيات فيها بالمناسبة.

على أنّ بعض الآيات الأُخرى نزلت جواباً على أسئلة الناس، ولرفع حاجاتهم في المجالات المختلفة.

والبعضُ الآخر منها نزلت لبيان المعارف والأحكام الإلهية.

ولهذه الأسباب يمكن القولُ بأنّ القرآن الكريم نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تدريجاً لتدرّج موجبات النزول.

وقد صرَّح القرآن الكريم بهذا الأمر أيضاً في بعض المواضع إذ قال:

«وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ» .(1)

ص:493


1- . الإسراء: 106.

وهنا يطرح هذا السؤال وهو: لماذا لم تنزل آياتُ القرآن كُلّها على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جملة واحدة، ودفعة واحدة كما حدث ذلك للتوراة والإنجيل من قبل؟!

إنّ هذا السؤال لم يكن جديداً بل طرحه أعداء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومعارضوه في عصر الرسالة في صورة الاعتراض أيضاً حيث كانوا يقولون:

«لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً» .(1)

ويمكن تقرير و شرح هذا الاعتراض على نحوين:

1. إذا كان الإسلام ديناً إلهياً، وكان القرآن كتاباً سماوياً منزلاً من جانب اللّه على رسوله، فلابدّ أن يكون ديناً كاملاً، ومثل هذا الدين الكامل يجب أن ينزل بواسطة ملائكة الوحي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جملة واحدة من دون تدرّج ولا توقّف في نزول الآيات، إذ لا مبرّر ولا داعيَ لأن ينزل دينٌ كاملٌ من جميع الجهات، مكمّل من حيث الأُصول والفروع والتشريعات والواجبات والسنن، على نحو التدريج في 23 عاماً، ولمناسبات مختلفة.

وحيث إنّ القرآن نزَلَ منجّماً، وبصورة متفرّقة متناثرة، وعقيب طائفة من الأسئلة، أو وقوع حوادث و طروء حاجات في أزمنة مختلفة يمكن الحدس بأنّ هذا الدين لم يكن كاملاً من حيث الأُصول والفروع، وهو يتدرّج في التكامل ومثل هذا الدين الناقص الّذي يسير نحو كماله خطوة خطوة وبالتدريج لا يصحّ أن يوصَف بالدين الإلهيّ. 2. إنّ آيات القرآن والتاريخ القطعي والمسلّم للتوراة والإنجيل والزّبور تحكي جميعها عن أنّ هذه الكتب السماوية أُعطيت إلى المرسلين بها في ألواح مكتوبة مدوّنة، فلِمَ لم ينزل القرآن الكريم على هذا الغرار، كأن ينزل القرآن على

ص:494


1- . الفرقان: 32.

«محمَّد» في لوح مكتوب كما نزلت التوراة في ألواح مكتوبة؟!

وحيث إنّ المشركين لم يكونوا يعتقدون بهذه الكتب السماوية قط، ولم يكن لهم علم مسبق بكيفية نزولها، لذا يمكن القولُ بأنّ مقصودهم من هذا الاعتراض كان هوالشكل الأوّل من هذا التوضيح، والّذي يتلخّص في أنّه لماذا لم ينزّل ملائكة الوحي آيات القرآن على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جملة واحدة، بل نزلت هذه الآيات عليه صلى الله عليه و آله و سلم في فواصل زمنية متفاوتة، وبمناسبات و حسب وقائع مختلفة متدرّجة؟!

الأسرارُ المنطقيّة للنُزول التدريجي للقرآن:

ولقد كشف القرآنُ القناعَ - في معرض الردّ على إعتراض المشركين هذا - عن حِكَم وأسرار النزول التدريجيّ للقرآن الكريم.

وإليك توضيح هذا القسم الّذي أشار إليه الكتاب العزيز بعبارة مقتضبة قصيرة:

1. إنّ الرسولَ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يتحمَّل مسؤوليات كبرى، وإنّ شخصية كهذه من الطبيعي أن يواجه مشاكلَ ومتاعبَ باهضة وصعبة، ولا ريب أنّ تلك المشاكل والمتاعب توجب الكلل، وانخفاض مستوى النشاط مهما كانت الروحُ الّتي يتمتع بها الشخصُ عظيمة، وقويّة، في مثل هذه الحالة يكون تجديدُ الارتباط بالعالم الأعلى، وتكرّرُ نزول الملك من جانب اللّه تعالى باعثاً على تجدّد النشاط، وعاملاً قوياً في بثّ القوة والحماس والمعنوية الفاعلة في نفس النبيّ وروحه، وبالتالي فإنّ العناية والمحبّة الإلهية الممتدّة لنبيّه ورسوله إنّما تتجدّد بتكرّر نزول الوحي عليه صلى الله عليه و آله و سلم من جانبه تعالى.

وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة النفسية الكبرى إذ قال:

ص:495

«كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .(1)

2. ويمكن أن تكون الجملةُ المذكورة ناظرة إلى جهة أُخرى وهي: أنّ المصالح التربوية والتعليمية تقتضي أن يتنزّلَ القرآنُ الكريمُ على نحو التدريج ويُلقى إلى الناس على هذا الشكل أيضاً، وذلك لأنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم معلّم الأُمّة، وطبيبُها الروحيُّ الّذي بُعِث إلى الناس بالوصفات الإلهية لتعليمهم، وهدايتهم ومعالجة أمراضهم وأدوائهم الاجتماعية والخلقيّة، والفكرية، وكُلِّفَ بأن يُطبِّق هذه الوصفات في حياتهم العملية، ومثل هذا يتطلّب التدرّج لينفَع الدواء - حينئذٍ - وتنجعَ المعالجةُ.

إنّ أفضل وأنجح أساليب التربية هو أن يمتزج الجانب العمليّ بالجانب النظري في أيّة محاولة تربوية، وأن يطبق كلّ ما يدرسه الأُستاذ بصورة عملية تطبيقية، ويعطي لما يلقيه من معلومات، صبغة تحقيقية، ويتجنّبَ بشدة إتّصافَ أفكاره وآرائه بالطابع النظريّ البحت.

فلو أنّ الأُستاذ المتخصّص في الطبّ اكتفى بإلقاء جملة من المعلومات الكلّيّة والأُسس العامّة من الطبّ على طلابه في الصف حُرم النتائج المتوخّاة والغايات المطلوبة من تعليم الطبّ، بشكل كامل.

أمّا إذا قَرنَ الأُستاذ درسَه النظري بالإرشاد العمليّ وطبَّق ما ألقاه وبيّنه من أفكار ومعلومات في هذا المجال على جسم مريض راقد أمام الطلبة، فإنّه سيحصل على نتائج أحسن، ويساعد الطلبة على فهم أفضل للمواد الّتي درسوها في هذا المجال.

فلو أنَّ الآيات القرآنية الكريمة قد نزلت جملةً واحدة (والحال أنّ المجتمع

ص:496


1- . الفرقان: 32.

الإسلامي لم يكن يحتاج إلى كثير منها) كان القرآن - حينئذٍ - فاقداً لهذه المزية التربوية الهامّة الّتي أشرنا إليها قريباً في مثال تدريس الطب.

إنّ بيان الآيات الّتي يشعر الناس في أنفسهم بعدم الحاجة إلى أخذها وتعلّمها، لا يترك التأثيرَ الباهرَ في القلوب، بينما إذا نزل ملائكة الوحي بآيات القرآن حسب حاجات الناس الّتي يشعرون فيها بضرورة تعلّمها لتضمِّنها الأحكامَ والأُصولَ والفروعَ الّتي يحتاجون إليها، فإنّه لا شكَّ يكون لها في هذه الحالة تأثير أحسن وأقوى في قلوب الناس. كما سيكون لها ترسّخٌ أكبر في نفوسهم، وسيظهرُ الناس من أنفسهم استعداداً أكبر لأخذ ألفاظها ومعانيها، وفوق كلّ ذلك سيشعرون بنتائج هذه التعاليم عند تعليم النبيّ إيّاها لهم، وعندئذ تتحقّق المقولة التربوية الّتي أشرنا إليها في ما سبق وهي اقتران كلام المربّي بالنتيجة لأن النظريات اتّخذت طابعاً عملياً، ولم تكن مجرد نظريات لا ترتبط بالواقع.

ولكن يبقى هنا سؤالٌ آخر وهو: إذا كان نزولُ القرآن قد تحقَّق على نحو التدريج وتبعاً للاحتياجات والحوادث المختلفة، فإنّ ذلك يستلزم انفصام العلاقات والروابط بين الآيات والسور، وهذا ينتج أن لا يهتم الفكر البشري بتعلّم وحفظ معارفها لتبعثرها، وتباعد أزمنتها وغياب علاقاتها، ولكن لو نزل القرآنُ جملة واحدة وتلاه ملائكة الوحي على رسول اللّه دفعة واحدة لرُوعيَت الروابطُ والعلاقات بين قضايا الوحي ولتضاعَفَت رغبةُ الناس واستعدادهم لأخذها وحفظها؟

ولقد أجاب القرآن الكريم أيضاً على هذا السؤال إذ قال: صحيح أنّ آيات القرآن الكريم نزلت على نحو التدريج تبعاً لطائفة من المقتضيات والموجبات إلّا أنّ هذا النزول التدريجي لا يمنع أبداً من ترابط مطالبه، وارتباط مواضيعه بعضها ببعض، فإنّ اللّه تعالى أفاض على هذه الآيات إِنسجاماً وترابطاً خاصاً يمكن

ص:497

الإنسان من تعلّمها وضبطها وحفظها إذا أعطى الموضوعَ قليلاً من الإهتمام، إذ قال تعالى:

«وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً» .(1)

أي إنّنا أعطينا آيات القرآن نظاماً معيناً وترتيباً خاصاً.

أسرارٌ أُخرى لِنُزُول القرآن تدريجاً:

3. لقد واجَه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في فترة رسالته ونبوّته فئات مختلفة من الناس:

كالوثنيّين، واليهود والمسيحيّين الذين كان لكلّ فئة منهم ديناً خاصاً، وعقائد وتصوّرات خاصّة حول المبدأ والمعاد، وغيرهما من المعارف العقلية.

وقد كانت اللقاءات المختلفة هذه توجب أن يعمد الوحي الإلهيّ إلى توضيح وبيان عقائد هذه الفئات (وإن لم يكن مطلوباً ومقترحاً من قبلهم) ويقيم الأدلّة والبراهين على بطلانها، وزيفها، هذا من جانب.

ومن جانب آخر كانت هذه اللقاءات في أزمنة متفاوتة، وأوقات مختلفة، لهذا لم يكن بدّ من أن ينزل الوحيُ الإلهي تدريجاً، وفي الأوقات المختلفة، ويتصدّى لبيان بطلان تلك العقائد والتصوّرات ويجيب على شبهات المخالفين واعتراضاتهم.

وربّما كانت توجب هذه المواجهاتُ العقائدية إلى أن يطرحوا على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعض الأسئلة إمتحاناً واختباراً له وكان على النبيّ أن يجيب عنها، وحيث إنّ هذه الأسئلة كانت تطرَح في أوقات مختلفة، لهذا لم يكن مناص من أن ينزل الوحيُ الإلهيُ في الأوقات والأزمنة المختلفة، وعلى نحو التدريج.

هذا مضافاً إلى أنّ حياة النبيّ نفسَها كان حياة ثورة، ووقائع، وكان النبيُ يواجه

ص:498


1- . الفرقان: 32.

باستمرار أحداثاً وقضايا يجب توضيح حكمها، وبيان المنهج فيها من جانب الوحي الإلهي.

وربّما كان الناس أنفسهم يواجهون في حياتهم اليومية حوادث وأُموراً يرجعون فيها إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يطلبون منه الحكم الإلهيّ فيها ويسألونه عمّا يجب اتّخاذه من الموقف الشرعيّ في تلك الحوادث وما يشابهها.

وحيث إنّ هذه الحوادث، وما يترتّب عليها من تساؤلات كانت تقع في أوقات مختلفة، وبمرور الزمن، لذلك لم يكن بد أيضاً من أن ينزل الوحيُ الإلهيّ بالتدريج ليجيب عن هذه الأسئلة أوّلاً بأوّل.

وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى هذه النقاط، وإلى نقاط أُخرى غيرها في قوله تعالى:

«وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً» .(1)

4. إنّ للنزول التدريجيّ للقرآن الكريم وراء كلّ ذلك سرّاً آخر، وعلّة أُخرى غفلوا عنها، ألا وهي: هداية الناس وتوجيه أنظارهم إلى منشأ هذا الكتاب، وأنّ القرآن ليس إلّاكتاباً سماوياً، ووحياً إلهياً لا غير، ولا يمكن أن يكون من نسج العقل البشريّ، لأن القرآن نزل خلال (23 عاماً) عبر طريق طويل من أنواع الحوادث والوقائع المسرّة والمحزنة، المقرونة بالنصر والهزيمة، والنجاح والإخفاق، ولا شكَّ أنّ هذه الحالات المختلفة، والأحاسيس والمشاعر المتنوّعة المتباينة، تترك أثراً عميقاً في نفس الإنسان، وروحه وعقله، ولا يمكن لإنسان واحد أن يتكلّم بكلام من نوع واحد، وبنبرة واحدة، في حالتين نفسيّتين متضادتين، فالكلام الصادر في حال الفرح والابتهاج والمسرّة من اللسان أوالقلم، يختلف من حيث الفصاحة

ص:499


1- . الفرقان: 33.

والبلاغة و جمال اللفظ وعمق المعنى اختلافاً بارزاً عن الكلام الصادر في حال الحزن والتعب، والإخفاق، والهزيمة.

بينما لا يوجد أي شيء من الاختلاف من حيث الألفاظ والمعاني بين آيات القرآن الكريم مع أنّها نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يمر بحالات مختلفةٍ من الحزن والسرور والإخفاق والانتصار والسرّاء والضرّاء، والعسر والرخاء والجهد والنشاط، بل نجد تلك الآيات على نمط ونسق واحدٍ من القوة والفصاحة والبلاغة، وجمال اللفظ وعمق المعنى بحيث يستحيل على أيّ بشر بلَغَ ما بلغ أن يعارض آية من آياته أو سورة من سوره، وكأنّ القرآن الكريم كمية من الفضّة المائعة خرجت من الأُتون جملة واحدة لا يوجد بين آياتها أيُّ شيء من التفاوت والاختلاف، أو كأنّه جوهرة واحدة أوّلها كآخرها وآخرها كأوّلها.

ولعلّ الآية التالية الّتي تنفي أيّ نوع من أنواع الاختلاف في القرآن إذ تقول:

«وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (1) إشارة إلى هذا السرّ.

إنَّ المفسّرين اعتبروا هذه الآية ناظرة إلى نفي الاختلاف والتناقض بين مفاهيم الآيات ومفاداتها، ومقاصدها، في حين لا تنفي هذه الآية مجرّد هذا النوع من الاختلاف بل تقدّس القرآن المجيد وتنزهه من جميع أنواع الاختلاف والتناقض الّذي هو من لوازم العمل والانتاج البشري.

ص:500


1- . النساء: 82.

18 إلى الحبشة

الهجرة الأُولى

تُعتَبر هجرة فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة دليلاً بارزاً على إيمانهم وإخلاصهم العميق لدينهم، ولربّهم؛ وذلك لأنّ فريقاً من الرجال والنساء يقرّرون - وبهدف الحفاظ على عقيدتهم والتخلّص من أذى قريش ومضايقتها والحصول على مكان آمن يقيمون فيه شعائرهم بحرية ويعبدون اللّه الواحد - مغادرة (مكّة)، التي ترزح تحت ظلام الوثنية، فلا يمكن أن يرفعوا نداء التوحيد عالياً في أيّة نقطة من نقاطها، ولا يمكنهم إقامة أحكام الدين الحنيف فيها من دون خوف أو وجل، وبعيداً عن الإرهاب، ويفكّرون، ويفكّرون، وأخيراً يقودُهم التفكير إلى أن يفاتحوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذه المسألة، ويطلبوا في ذلك رأي النبيّ الّذي يقوم دينه على مبدأ: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ» .(1)

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعرف أوضاع المسلمين المؤلمة جيداً، فقد كان هو يحظى بحماية بني هاشم، وكان الفتيان الهاشميّون يحمونه ويحفظونه من كلّ أذى، ولكنّ - الذين آمنوا به من الإماء والعبيد، ومن ليست لهم حماية من الأحرار المستضعفين - الّذين كانوا يشكّلون عدداً كبيراً من المسلمين السابقين - كانوا يتعرضون لشتّى صنوف العذاب والإيذاء والمضايقة من قريش الّتي لم تأل جهداً، ولم تدّخر وسعاً، ولم تفوّت فرصةً ولا وسيلةً لإلحاق العنت والأذى بالمؤمنين

ص:501


1- . العنكبوت: 56.

برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولا يستطيع صلى الله عليه و آله و سلم منعهم من ذلك.

وقد كان زعماء كلّ قبيلة يعمدون - للمنع من نشوب أيّ صِدام بين القبائل - إلى تعذيب مَن أسلم من أبناء قبيلتهم، وإيذائه والتنكيل به، وقد مرّت عليك نماذج وأمثلة من أذى قريش وتعذيبها القاسي للمسلمين.

لهذه الأسباب عند ما طلب أصحابُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رأيه في الهجرة من مكّة قال في جوابهم:

«لَوْ خَرجْتُمْ إلى أرض الحَبَشة، فإنَّ بِها مَلِكاً لا يُظلَمُ عِندَهُ أحَدٌ، وهي أرضُ صِدْقٍ حَتى يَجعَلَ اللّهُ لكُم فَرَجاً ممّا أنتُم فيهِ».(1)

أجَل انَ مجتمعاً صالحاً يتسلَّم زمامَ الأمر فيه رجلٌ صالحٌ عادلٌ نموذج مصغّر من جنّة عدن بالنسبة إلى المسلمين المضطهدين في بلدهم بسبب عقيدتهم، وهو ما كان يريده ويتمنّاه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليتمكّنوا من القيام بشعائر دينهم فيه في جوٍّ من الطمأنينة والأمن.

ولقد كان لكلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أثر قويٌ في نفوس تلك الثلّة المؤمنة الباحثة عن أرض تعبد فيها اللّه في أمان، بحيث لم يمض زمان إلّاوقد شدّت رحالها وغادرت مكّة ليلاً في غفلة من الأجانب المشركين مشاة وركباناً، متجهةً نحو جدّة، للسفر عبر مينائها إلى أرض الحبشة.

وكان هذا الفريق يتألّف من عشر أو خمسة عشر شخصاً بينهم أربعة من النسوة المسلمات.(2)

والآن يجب أن نرى لماذا لم يذكر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للمسلمين مناطقَ أُخرى للهجرة إليها، وإنّما ذكر الحبشة فقط؟

ص:502


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 213/1؛ تاريخ الطبري: 70/2.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 70/2.

إنّ سر هذا الاختيار يتّضح إذا درسنا أوضاع الجزيرة العربية وغيرها من المناطق آنذاك.

إنّ الهجرة إلى المناطق العربية الّتي كان سكانها من المشركين والوثنيّين قاطبة كان أمراً محفوفاً بالخطر، فإنّ المشركين كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم إرضاء لقريش أو وفاء وتعصباً لدين الآباء (الوثنيّة).

وكذلك المناطق الّتي كان يقطنها المسيحيّون أو اليهود، من الجزيرة العربية لم تكن تصلح لهجرة المسلمين إليها هي الأُخرى، لأنّ تينك الطائفتين كانتا تتقاتلان فيما بينهما في صراع مذهبيّ وطائفي، فلم تكن الأوضاع لتسمح بأن يدخل طرفٌ ثالث في حلبة الصراع، هذا مضافاً إلى أنّ ذينك الفريقين (اليهود والنصارى) كانا يحتقران العنصر العربيّ أساساً، فكيفَ يمكن الهجرة إلى مناطقهم والتعايش معهم؟!

أمّا «اليمن» فقد كان تحت سيطرة الحكم الإيرانيّ الملكيّ، ولم تكن السلطاتُ الإيرانية آنذاك لتسمح بإقامة المسلمين في ربوع «اليمن»، لما عُرف من نقمتها فيما بعد على الدعوة الإسلامية إلى درجة أنّه لما وصلت رسالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى «خسروبرويز» كتب إلى عامله على اليمن فوراً «احمل إليَّ هذا الّذي يذكر أنّه نبيٌّ، وبدأ باِسمه قبل اسمي، ودعاني إلى غير ديني»(1)!!.

وكذلك كانت «الحيرة» تحت الاستعمار والنفوذ الإيرانيّ كاليمن.

وأمّا «الشام» فقد كانت بعيدة عن «مكّة المكرمة»، هذا مضافاً إلى أنّ «اليمن» و «الشام» كانتا سوقين لقريش، وكانت تربُط قريش بسكان هاتين المنطقتين روابط وعلاقات وثيقة، فإذا كان المسلمون يلجأون إليها أُخرجوا منهما بطلبٍ من قريش، تماماً كما طلبت من ملك الحبشة مثل هذا الطلب، ولكنّه رفض طلبهم.

ص:503


1- . بحار الأنوار: 20/382.

وقد كانت الرحلة البحرية - في تلك الآونة - وبخاصة برفقة النساء والأطفال رحلة شاقّة جداً، من هنا كانت هذه الهجرة، وترك الحياة والمعيشة في الوطن دليلاً قوياً على إخلاص أُولئك المهاجرين لدينهم وعمق إيمانهم به، وصدقه.

ولقد كان ميناء «جدة» آنذاك ميناء تجارياً عامراً كما هو عليه الآن، ومن حسن التوفيق أنّ هذه الثلّة المهاجرة قد وصلت إلى هذا الميناء في الوقت الّذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على أُهبة الإقلاع، والتوجّه نحو الحبشة، فبادر المسلمون إلى ركوبها والسفر عليها دون تلكّؤ خشية لحاق قريش بهم والقبض عليهم، لقاء نصف دينار عن كلّ راكب.

وكان ذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه.(1)

ولمّا عرف المشركون بهجرة بعض المسلمين أمروا جماعةً من رجالهم بملاحقة أُولئك المهاجرين وإعادتهم إلى مكّة فوراً، ولكن المسلمين المهاجرين كانوا قد غادروا شواطئ «جدة» قبل أن يدركهم الطلب.(2)

ومن الواضح أنّ ملاحقة مثل هذه الثلة الّتي لم تلجأ إلى أرض الغير إلّالأجل الحفاظ على عقيدتها والفرار من الفتنة لنموذج بارز من عتوّ قريش وعنادها. فأُولئك المهاجرون مؤمنون تركوا الأهل والوطن، وأغمضوا الطرف عن المال، والتجارة، وخرجوا يطلبون أرضاً نائية يمارسون فيها شعائرهم بحرية، ومع ذلك لا يكف عنهم زعماء مكّة وجبابرتها وطغاتها!!

أجل أنّ رؤساء «دار الندوة» بمكة وأقطابها كانوا يعلمون جيداً أسرار هذه الهجرة وآثارها من خلال بعض القرائن، والمؤشرات ولذلك كانوا يردّدون فيما بينهم أُموراً سنذكرها في ما بعد.

ص:504


1- . بحار الأنوار: 18/412 نقلاً عن مجمع البيان للطبرسي: 3/400.
2- . السيرة النبوية: 1/321-323.

هذا والجدير بالذكر أنّ أعضاء هذا الفريق المهاجر لم يكونوا من قبيلة واحدة، بل كان كلّ واحد من هؤلاء العشرة ينتمي إلى قبيلة خاصة.

الهجرة الثانية إلى الحبشة:

ثم إنّه وقعت بعد هذه الهجرة هجرة أُخرى، وكان في مقدّمة المهاجرين هذه المرة «جعفر بن أبي طالب». ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد تمّت الهجرة الثانية في منتهى الحريّة، لأنّ المسلمين المهاجرين استطاعوا في هذه الهجرة أن يصطحبوا معهم نساءهم وأولادهم، بحيث بلغ عدد المسلمين في أرض الحبشة هذه المرة (83).

هذا إذا لم نحص من وُلد في أرض الحبشة لهُم، وإلّا كان العددُ أكثر من هذا الرقم.

ولقد وَجَدَ المسلمون المهاجرون أرضَ الحبشة كما وصفها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهم: منطقة عامرة، وبيئة آمنة حرّة، تصلح لأَن يُعبد فيها اللّه تعالى بحرية وأمان.

تقول «أُمّ سلمة» الّتي تشرّفت بالزواج من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ما بعد، عن تلك الأرض: لمّا نزلنا أرضَ الحبشة جاوَرنا بها خير جار النجاشي، أمنّا على ديننا، وعبدنا اللّه تعالى، لا نؤذى، ولا نسمع شيئاً نكرهه.(1)

كما أنّه يُستفاد ممّا قاله بعض أُولئك المهاجرين من الشعر في الحبشة، إنّهم أمنوا بأرض الحبشة، وحمدوا جوار النجاشي، وعَبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحداً.

ص:505


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/222.

ونحن نكتفي هنا بإدراج بعض الأبيات من قصيدة مطوَّلة أنشأها «عبداللّه بن الحارث» في هذا الصدد:

يا راكباً بَلِّغن عَنّي مُغلْغَلة(1) مَن كانَ يرجُو بلاغَ اللّه والدّينِ

كلَّ امرئ مِن عِباداللّه مضطَهدٍ ببَطنِ مكّة مقهور ومفتونِ

أنّا وجَدنا بِلادَاللّه واسعةً تُنجِي مِنَ الذُلِّ والمخزاة والهون

فَلا تُقيموا عَلى ذُلِّ الحَياة وَخز ي في المَماتِ وَعَيب غير مأمون(2)

ويقول ابن الأثير: وكان مسيرهم (إلى الحبشة) في رجب سنة خمس من النبوة، وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة، فأقاموا شعبان وشهر رمضان وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة، وكان سبب قدومهم إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه... بلغ الخبر مَن بالحبشة من المسلمين أنّ قريشاً أسلمت، فعاد منهم قومٌ وتخلّف قومٌ.(3)

هذا ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على تفاصيل هذا القسم في السيرة النبويّة لابن هشام.(4)

قريش توفد رجالاً لاسترداد المسلمين:

عندما بلغ قريشاً وزعماء «مكّة» ما أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن وحرية، وما حصلوا عليه من حسن الجوار والطمأنينة والراحة في أرض الحبشة ثارت ثائرة الحسد والغيظ في قلوبهم، وتوجّسوا خيفة من نفوذ المسلمين في الحبشة؛ لأنّ أرض الحبشة قد أصبحت قاعدة قوية للمسلمين، وكانت الزعامةُ

ص:506


1- . المُغلغلَة: الرسالة ترسَل من بلد إلى بلد.
2- . السيرة النبوية: 1/220.
3- . الكامل في التاريخ: 2/77.
4- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/245.

المكيةُ تتخوّفُ من أن يجد أنصارُ الإسلام وأتباعُه منفذاً إلى بلاط النجاشي زعيم الأحباش وملِكهم، ويُميّلوا قلبَه نحو الإسلام، ويكسبوا تأييده للمسلمين، فيؤول الأمر إلى أن يعبّئ جيشاً كبيراً للقضاء على حكومة المشركين الوثنيّين في شبه الجزيرة العربية، وعندها تكون الكارثة.

فاجتمع أقطابُ «دار الندوة» مرة أُخرى للتشاور في الأمر، فاستقرّ رأيهم على أن يبعثوا إلى البلاط الحبشيّ مَن يقدّم إلى النجاشيّ ووزرائه هدايا مناسبة يستميلونهم بها ليستطيعوا من هذا الطريق التأثير على النجاشي ثم يتسنّى لهم بعد ذلك أن يقنعوه بضرورة إخراج المسلمين المهاجرين من أرضه أن يتّهمونهم عنده بالسفاهة والجهل، وابتداع دين جديد منكر، والإرتداد عن دين الآباء والأجداد!!

ولكي تتحقّق خطّتهم هذه على أحسن وجه ويصلوا عن طريقها إلى أفضل النتائج اختاروا من بينهم رجلين ماكرين أصبح أحدُهما في ما بعد من دهاقنة السياسة وهما: «عمروُ بن العاص»، و «عبداللّه بن أبي ربيعة» وقد روى هذه الحادثة ابن هشام في سيرته عن أُمّ سلمة قالت:... ثم بعثوا بذلك عبداللّه بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما: إدفعا إلى كلّ بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشي فيهم، ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلّمهم.

قالت: فخرجا (موفَدا قريش) حتّى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلّادفعا إليه هديته قبل أن يكلّما النجاشي وقالا لكل بطريق منهم:

إنه قد ضوى(1) إلى بلد الملك منّا غُلمان سفهاء، فارقوا دينَ قومهم، ولم

ص:507


1- . ضوى أيّ لجأ وأتى ليلا.

يَدخلوا في دينكم، وجاءُوا بدين مبتدَع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملِك فيهم أشرافُ قومهم ليردَّهم إليهم فإذا كلَّمنا الملكُ فيهم، فأُشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا، ولا يكلّمهم، فإنّ قومَهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم.

فقالوا لهما: نعم.

ثم إنّهما قدّما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلّماه فقالا له:

أيّها الملك إنّه قد ضَوى إلى بلدك منّا غِلمان سفهاء، فارقوا دينَ قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءُوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بَعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقا أيّها الملك، قومُهم أعلى بهم عيناً، وأعلمُ بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.

قالت: فغضبَ النجاشيّ (وكان رجلاً حكيماً عادلاً) ثم قال: لاها اللّه، إذن لا أُسلمهم إليهما، ولا يُكادُ قوم جاوَرُوني، ونَزلوا بلادي، واختاروني على مَن سواي حتّى أدعوَهم فأسألهم عمّا يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتُهُم إليهما، ورددتُهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنتُ جِوارَهم ما جاوروني.

قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدعاهم، فلمّا جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ نقول واللّه ما علّمنا، وما أمرنا به نبيُنا صلى الله عليه و آله و سلم كائناً في ذلك ما هو كائن.

فلمّا جاءوا - وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله - سألهم فقال لهم:

ص:508

ما هذا الدين الّذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا (به) في ديني ولا في دين أحدٍ من هذه الملل؟

قالت: فكان الّذي كلّمه جعفر بن أبي طالب (رضوان اللّه عليه) فقال له:

«أيُّها الملك، كنّا قوماً أهلَ جاهلية، نعبُدُ الأَصنامَ، ونأكلُ الميتةَ، ونأتي الفواحش، ونقطعُ الأرحام، ونسيءُ الجوار، ويأكلُ القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتّى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبَه وصدقه وأمانته وعَفافه، فدعانا إلى اللّه لنوحِّدَه ونعبُدَه، ونخلَعَ ما كنّا نعبُد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الامانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبدَ اللّه وحدَه، لا نشركُ به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أُمور الإسلام - فصدّقناه وآمنّا به، واتّبعناه على ما جاء به من اللّه، فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذّبونا، وافتتنونا عن ديننا، ليردُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللّه تعالى، وأن نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَن سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلَم عندكَ أيّها الملك».

قال: فقال له النجاشي: هل معَك ممّا جاء به عن اللّه من شيء؟

قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشيّ: فاقرأهُ عليَّ، فقرأ عليه صدراً من «كهيعص» (قرأ جعفر آيات من مطلع سورة مريم، واستمرَّ في قراءته، وبذلك بيّن نظرة الإسلام إلى «مريم» عليها السلام وطهارة جيبها، وإلى مكانة المسيح عليه السلام، وعظمة شأنه، وجليل مقامه). قالت: فبكى واللّه النجاشيُ حتّى اخضلّت لحيتُه

ص:509

بالدموع، وبكت أسقافتُه(1) حتّى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم.

ثم قال النجاشي:

«إنّ هذا والّذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة واحدة، انطلقا فلا واللّه لا أُسلِّمهم إليكما ولا يُكادون.

قالت: لمّا خرجا من عنده قال «عمرو بن العاص» - وكان امرأً خدّاعاً ماكراً -:

واللّه لآتينّه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم (وهو يعني أنّه سيأتي بحيلةٍ تقضي على جذور المهاجرين بالمرة).

قالت: فقال له عبداللّه بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإنّ لهم أرحاماً وإن كانوا خالفونا، قال: واللّه لأخبرنّه أنّهم يزعمون أنّ عيسى ابن مريم عبد. ثمّ غدا عليه الغد فقال له:

أيّها الملك، إنّهم يقولون في «عيسى بن مريم» قولاً عظيماً. فأرسل إليهم فسلهم عمّا يقولون فيه.

قالت: فأرسل النجاشيُ إليهم ليسألهم عنه، وهو الملك المحنَّك الّذي لا يأخذ الأُمور على ظواهرها، ومن غير تحقيق ودراسة، فأدرك المسلمون بفطنتهم أنّه سيسألهم هذه المرة عن موقفهم من المسيح عليه السلام فاتّفقوا أن يكون «جعفر» متكلّمهم وخطيبهم وعندما سألوه عمّا سيجيب به الملك قال: أقول واللّه ما قال اللّه، وماجاء به نبيُّنا كائناً في ذلك ما هو كائن؟

قالت: فلمّا دخلوا عليه (النجاشيّ) قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟

قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الّذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه و آله و سلم: هو عبداللّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

ص:510


1- . الأساقفة؛ جمع أُسقف: علماء النصارى.

فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً، ثم قال: واللّه ماعدا عيسى بن مريم ما قلتَ هذا العود.

فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم واللّه، اذهبوا فأنتم شيوم (آمنون) في أرضي مَن سبّكم غُرمَ، ثم قال: مَن سبّكم غرمَ، ثم قال: مَن سبّكم غرم، ما أُحب أنّ لي دبراً من ذهب وإني آذيتُ رجلاً منكم. ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فواللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين ردّ عليّ مُلكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأُطيعهم فيه».

قالت: فخرجا (مبعوثا قريش) من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.(1)

***

وينبغي أن نسجّل هنا موقفاً آخر من مواقف أبي طالب في تأييد المسلمين، ونصرة الدين الحنيف.

فقد أرسل «أبوطالب» أبياتاً للنجاشيّ يحثُّه على الدفع عن المهاجرين وحسن جوارهم وتلك الأبيات هي:

ألا لَيتَ شِعري كيفَ في النأي جعفرٌ وعمروٌ وأعداء العدو: الأقاربُ؟

وهل نالَت أفعال(2) النجاشيّ جعفراً وأصحابه أو عاق ذلك شاغبُ؟

تَعلّم، أبيتَ اللعنَ، أنّك ماجِدٌ كريمٌ فلا يشقى لَديك المجانبُ

تعلّم بأنّ اللّه زادك بسطةً وأسبابَ خير كلّها بك لازب

وأنّك فَيضٌ ذوسجال غزيرة يَنالُ الأعادي نفعهُا والأقارب(3)

ص:511


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/222-225 باختلاف يسير.
2- . إحسان.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/222.

العَودةُ من الحبشة:

قلنا في ما مضى أنَّ المجموعة الأُولى من المهاجرين رجَعت من الحبشة إلى مكّة لأنباء بلغتها عن إسلام قريش عامة وانضوائها تحت راية الإسلام. حتّى إذا دنوا من «مكّة» بلغهم أنّما كانوا تحدّثوا به من إسلام أهل مكّة كان باطلاً، فلم يدخل منهم إلى «مكّة» إلّاقليل دخلوها مستخفين أو في جوار بعض الشخصيات القرشية بينما عاد الأكثرون من حيث جاءُوا.

وكان ممّن دخل «مكّة» بجوارٍ، «عثمان بن مظعون» الّذي دخلها بجوار «الوليد بن المغيرة» ولكنّه كان يشاهد ما فيه أصحابُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من البلاء، والعذاب، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة، قال: واللّه إنّ غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهلُ ديني يلقَون من البلاء والأذى في اللّه ما لا يصيبني لنقصٌ كبير في نفسي، فمشى إلى «الوليد بن المغيرة» فقال له: يا أبا عبد شمس وفَت ذِمّتُك، قد رَددْتُ إليك جوارَك.

فقال له: لِمَ يابن أخي؟ لعلَّه آذاك أحدٌ من قومي؟

قال: لا ولكنّي أرضى بجوار اللّه ولا أُريد أن أستجير بغيره.

قال: فانطلق إلى المسجد فاردُد عليّ جواري علانية كما أجرتُك علانيةً.

قال: فانطلقا فخرجا حتّى أتيا المسجدَ، فقال «الوليدُ» مخاطباً مَن حضر مِن قريش: هذا عثمان قد جاء يردُّ عليّ جواري.

قال: صدق، قد وجدتُه وفيّاً كريمَ الجوار، ولكنّي قد أحببتُ أن لا أستجيرَ بغيراللّه، فقد رددتُ عليه جواره.(1)

ص:512


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/247.

ثم لم يمض شيء مِنَ الوقت حتّى دخَلَ المسجدَ «لبيد بن ربيعة» وكان شاعراً متكلِّما بارزاً من شعراء العرب ومتكلّميها ووقف في مجلس من قريش ينشدهم و «عثمان بن مظعون» جالس معهم فقال مِن جملة ما قال شعراً:

ألا كلُ شيء ما خلا اللّه باطلُ

فقال عثمان بن مظعون: صدقتَ فقال: لبيد:

وكلُ نعيم لا محالة زائلُ

قال عثمان: كذبت، نعيمُ الجنة لا يزول، فاستثقل «لبيد» تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال: يا معشر قريش واللّه ما كان يؤذى جليسُكم، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجلٌ مِن القوم: إنَّ هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدنّ في نفسكَ من قوله.

فردّ عليه «عثمان» حتّى تفاقم الأمر بينهما، فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها (وأصابها)، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال: أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك عَمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمّة منيعة (وهو يريد أنّك لو بقيت في ذمّتي وجواري لما أصابك ما أصابك).

فقال عثمان رادّاً عليه: بل واللّه إنّ عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مِثل ما أصابَ أُختَها في اللّه، وإنّي لفي جوار مَن هو أعزُّ منكَ، وأقدرُ يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد: هلمّ يا ابنَ أخي إن شئت فعُد إلى جوارك، فقال ابنُ مظعون:

لا.(1)

وكانت هذه صورةٌ رائعةٌ من صور كثيرة لصمود المسلمين، وتفانيهمْ في

ص:513


1- . السيرة النبوية: 1/248.

سبيل العقيدة، وإصرارهم على النهج الّذي اختاروه، ومواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

وفدٌ مسيحيٌ لتقصّي الحقائق يدخل مكّة:

قدمَ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة، (مبعوثين من قِبَل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة، والتعرف على الإسلام). فوجدوا رسول اللّه في المسجد، فجلسوا إليه، وكلّموه وسألوه، ورجالٌ من قريش (فيهم «أبوجهل») في أنديتهم حول الكعبة.

فلمّا فرغوا من مسألة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمّا أرادوا، دعاهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى اللّه عزوجلّ وتلا عليهم (آيات من) القرآن، فلمّا سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له و آمنوا به وصدّقوه، وعرفوا منه ما كان يوصَف لهم في كتابهم (الإنجيل) من أمره.

فلمّا قامُوا عنه، اعترضهم «أبوجهل بن هشام» في نفر من قريش، فقالوا لهم:

خيَّبكُمُ اللّه مِن ركبٍ بعَثكُم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتّى فارقتُم دينكُم، وصدَّقتموهُ بما قال، ما نعلمُ ركباً أحمقَ مِنكُم.

فقالوا لهم: سلامٌ عليكم لا نُجاهِلكم، لنا ما نحنُ عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً.(1) وبذلك الكلام الجميل ردّوا على فرعون مكّة الّذي كان يبغي - كسحابة داكنة - حجب أشعة الشمس المشرقة، وحالوا دون وقوع صدام.

ص:514


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/263. وقد نزلت في هذا الشأن الآيات 52 إلى 55 من سورة القصص.

وفد قريش إلى يهود يثرب للتحقيق:

لقد أيقظ وفدُ نصارى الحبشة إلى مكّة وما نجم عن لقائهم برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قريشاً ودفعهم إلى تشكيل وَفد يتألّف من «النضر بن الحارث» و «عُقبة بن أبي معيط» وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودينه.

فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش: سَلوا محمَّداً عن ثلاث نأمركم بهنَّ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل، وإن لم يفعل فالرجلُ متقوّلٌ، فروا فيه رأيكم:

1. سلوه عن فتية ذَهبوا في الدهر الأوّل (يعنون بهم أصحاب الكهف) ما كان أمرهم، فإنّه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ.

2. وسلوه عن رجل طوّاف (يعنون به ذا القرنين) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟

3. وسلوه عن الروح ماهي؟

فإذا أخبركم بذلك فاتّبعوهُ، فإنّه نَبيّ، وإن لم يفعل، فهو رَجُلٌ متقوِّلٌ فاصنَعوا في أمره ما بدا لكم.

فعادَ وفد قريش إلى «مكّة» ولما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاءُوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وطرحوا عليه الأسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: انتظر في ذلك وحياً.

ثم نزل الوحيُ يحملُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأجوبة المطلوبة عن تلك

ص:515

الأسئلة.(1)

وقد ورَدَ الجواب عن السؤال عن الروح في الآية 85 من سورة الإسراء.

وأُجيبَ عن السؤالين الآخرين عن أصحاب «الكهف» وذي القرنين بتفصيل في سورة «الكهف» ضمن الآيات 9-28 و الآيات 73-93.

وقد وردت تفصيلاتُ هذه الإجابات الّتي أجابَ بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أسئلتهم في كتب التفسير.

ولابدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من «الرّوح» في سؤال القوم ليس هو الرُّوح الإنسانية، بل كان المراد هو جبرئيل الأمين، (بقرينة أنَّ المقترحين الأصليّين لهذه الأسئلة: هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الأمين، ويعادونه)، وهو أمرٌ مبحوثٌ في محلِّه من كتب التفسير.

ص:516


1- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/195.

19 الأسلحةُ الفاشلة والأساليب الباطلة

اشارة

نظّم أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يُثنُوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن المضيّ في مواصلة دعوته، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وماشابه ذلك، ولكن لم يحصلوا من ذلك على شيء، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه، وبدّد آمالهم في إثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية: «واللّه لو وَضعوا الشمس في يميني، والقَمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلتُ» وهو يعني أنّ تمليكه العالم كلَه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِبَ إليه وأُرسل به.

فعمدوا إلى سلاح آخر هو التهديد والأذى، والتنكيل به وبأصحابه وأنصاره، ولكنّهم واجهوا صمودَه وصمود أنصاره وأصحابه، وثباتهم الّذي أدّى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان، وخيبة المشركين وهزيمتهم.

وقد بَلَغ من ثبات المسلمين على الطريق أنّهم أقدموا على مغادرة الوطن، وترك الأهل والعيال، والهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى اللّه، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق.

ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجهات والميادين وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية، وفشل جميع الأسلحة الّتي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة،

ص:517

بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّه صحيحٌ أنّ إيذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في «مكّة» تمنع غيرهم من سُكان «مكّة» من الإنضواء إلى الإسلام إلّاأنّ الحجيج الذين كانوا يسافرون إلى مكّة في الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثَّرون بدعوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويتزعزعُ اعتقادهم بالأوثان على الأقل، إن لم يؤمنوا بدينه، ولم يستجيبوا لدعوته، ثم إنّهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وأنباء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى مواطنهم، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه، وأنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجَّه إلى صرح الوثنية في مكّة، وعاملاً قوياً في انتشار عقيدة التوحيد، وسطوع أمره.

من هنا اتّخذ سادةُ قريش أُسلوباً آخر، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام، واتّساع رقعته، وقطع علاقة المجتمع العربي به.

وإليك فيما يأتي بيان تفاصيل هذا الأُسلوب، وهذه الخطة:

1. الاتّهاماتُ الباطلة:

اشارة

يمكن التعرّف على شخصية أي واحد وتقييمها من خلال ما يرميه به أعداؤه من شتائم وسباب، وما يكيلون له من اتّهامات ونسب، فَإنّ العدو يسعى دائماً إلى أن يتّهم خصمَه بنوع من أنواع التهم ليُضِلَّ الناس، ويصرفهم عنه، وليتمكّن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في المجتمع وإسقاطه من الأنظار والأعين.

إنّ العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى أن ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الأقل، ويوجبُ شكَّهم في صدقه، ويتجنّب تلك النِسَب الّتي

ص:518

لا تصدَّق في شأنه، ولا تناسبُ أخلاقه وأفعاله المعروفة عنه، ولا تمسّه بشكلٍ من الأشكال، لأنّه سوف لا يَجني في هذه الحالة إلّاعكسَ ما يقصد، وخلاف ما يريد.

ومن هنا يستطيع المؤرّخُ المحقّقُ أن يتعرّف على الشخصية الواقعية لمَن يدرسه، وعلى مكانته الإجتماعية، وأخلاقه وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه، وما يكيلون له من أكاذيب وإفتراءات، ونسب باطلة واتّهامات، لأنّ العدوّ الّذي لا يخاف أحداً لا يقصّرُ في كيل كلِّ تهمة تنفعُهُ وتخدمُ غرضَه إلى الطرف الآخر، ويستخدم هذا السلاح (أي سلاح الدعاية) ما استطاع، وما ساعدته معرفُته بالظروف، ودرايته بالفَرص.

فإذا لم ينسَب إليه أيُّ شيء من تلك النسب الباطلة، فانّ ذلك إنّما هو لأجل طهارة جيبه، ونقاء صفحته، وتنزُّه شخصيته عن تلك النسب، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه.

ولو أنّنا تصفّحنا أوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أنّ قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء، وتحِملُ من حِقد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكانت تسعى بكلّ جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور، وأن تحطّ من شأن مؤسّسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح، وتستخدمه كاملاً.

فقد كانت تفكّر في نفسها: ماذا تقول في حقّ رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب إليه؟؟

هل تتّهمه بالخيانة المالية وها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟!(1)كما أنّ حياته الشريفة طوال الأربعين سنة الماضية جسّدت أمانته أمام الجميع، فهو الأمين بلا منازع؟

ص:519


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 19/62.

هل تتّهمه بالجري والانسياق وراء الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقّه مثل هذا الكلام مع أنّه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ إلى درجة مَا، وبقي معها حتّى لحظة انعقاد هذه الشورى في «دار الندوة» بهدف الدعاية ضدّه، ولم يُعهَد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

وبالتالي بماذا تتّهم محمَّداً الصادق الأمين، الطاهر العفيف، وأيّة تهمة ترى يمكن أن تُصدَّق في حقّه، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيَّر سادة «دار الندوة» وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقرَّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش ويطلبوا رأيه فيه، وهو «الوليد بن المُغيرة» وكان ذا سنّ فيهم، ومكانة، فقال لهم:

يا معشر قريش، إنّه قد حضر هذا الموسم، وإنّ وفود العرب ستقدَم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً، ويردُ قولُكم بعضُه بعضاً.

قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال: بل أنتم قولوا أسمَع.

قالوا: نقول كاهن.

قال: لا واللّه ما هو بكاهن، لقد رأينا الكُهّانَ فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.

قالوا: فنقول: مجنون.

قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه، ولا تخالجه،

ص:520

ولا وسوسته.

قالوا: فنقول شاعر.

قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.

قالوا: فنقول: ساحر.

فقال: ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

وهكذا تحيَّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وأخيراً أشار عليهم الوليد أن يقولوا: إنّه ساحر، جاء بقول هو سِحرٌ، يفرّق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته.

ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكّة الَّذين كان يُضرب بهم المثل في الوحدة والاتّفاق.(1)

وقد ذكر المفسِّرون في تفسير سورة «المدثّر» هذه القصة بنحو آخر فقالوا:

لمّا أُنزل على رسول اللّه «حم * تَنْزِيلُ الْكِتابِ...» * قام إلى المسجد و «الوليد بن المغيرة» قريب منه يسمع قراءته، فلمّا فطن النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم لاستماعه لقراءته، أعاد قراءة الآية، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً شديداً فانطلق إلى منزله، ولم يخرج منه أيّاماً، فسخرت منه قريشٌ وقالت: صبأ - واللّه - الوليدُ ثم مشى رجال من قريش إليه وسألوه رأيه في قرآن محمَّد، واقترح كل واحد منهم أمراً، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً، فقالت قريش: إذن ما هو؟ فتفكّر «الوليد» في نفسه ثم قال: ما هو إلّاساحرٌ أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله،

ص:521


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/174-175 بتلخيص.

ووُلده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر.(1) ويرى المفسّرون أنّ الآيات التالية نزلت في شأنه إذ يقول اللّه تعالى:

«ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً * وَ بَنِينَ شُهُوداً * وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ * فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ... (إلي قوله:) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» .(2)

***

الإصرار في نسبة الجنون إليه صلى الله عليه و آله و سلم:

يعتبر اتّصاف النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم واشتهاره بين الناس بالصدق والأمانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلَّمات التاريخ.

وهو بالتالي أمرٌ اعترف به حتّى أعداؤه الألدّاء، فقد دانوا بفضله، وأقرُّوا بأخلاقه الكريمة و سجاياه النبيلة، دون تلكؤ، ولا إبطاء.

وقد كانَ من أوصافه الحسنة البارزة أنّ جميع الناس كانوا يدعونه «الصادق» «الأمين» وكانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى(3) حتّى أنّ المشركين كانوا يودعون ما غلا من أموالهم عنده، واستمر هذا الأمر حتّى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

وحيث إنّ دعوته صلى الله عليه و آله و سلم قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا

ص:522


1- . لاحظ: مجمع البيان: 10/178.
2- . المدثر: من 11-51.
3- . بحار الأنوار: 19/62 عن عبيداللّه بن أبي رافع قال: كانت قريش تدعو محمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم في الجاهلية الأمين، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكّة من العرب في الموسم، وجاءته النبوة والرسالة والأمر كذلك.

عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض النسب الّتي توجب سوء الظنّ به، ومن ثم إفشال دعوته، وحيث إنّهم كانوا يعلمون أنّ النِسَبَ الأُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً، لأنّها أُمور بسيطة في نظرهم، من هنا رأوا بأنّ يتّهمونه بالجنون، والزعم بأنّ ما يقوله و يقرؤه ما هو إلّامن نسج الخيال، ومن أثر الجنون الّذي لا يتنافى مع الزهد، والأمانة، وذلك تكذيباً لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة، واتّخذت وسائل عديدة وما كرة لترويجها وبثّها بين الناس.

ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم كانوا يتّخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك، والترديد إذ يقولون:

«أَفْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» .(1)

وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية الّتي يتوسَّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عند ما يريدون تكذيب المصلحين العظام، وإسقاط خطواتهم وأفكارهم من الاعتبار، والحطّ من شأنها وأهميتها.

ويشير القرآنُ أيضاً إلى أنّ هذا الأُسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصّاً بالمعارضين في عهد الرسالة المحمَّدية، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسّلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل، والأنبياء إذ يقول عنهم:

«كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» .(2)

وتحدّث الأناجيلُ الحاضرة هي الأُخرى عن أنّ المسيح عليه السلام عندما وعظ

ص:523


1- . سبأ: 8.
2- . الذاريات: 52 و 53.

اليهود قالوا: إنّ به مسّاً من الشيطان، فهو يهذي فلماذا تصغون إليه؟!.(1)

ومن المسلّم والبديهي أنَّ قريشاً لو كان في مقدورها أن تتّهم رسولَ اللّه الصادق الأمين صلى الله عليه و آله و سلم بغير هذا الاتّهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخّرت عن ذلك، ولكن حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم المشرقة خلال الأربعين سنة الماضية، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئاً من تلك النسب القبيحة، الذميمة. لقد كانت «قريش» مستعدة لأن تستخدم أي شيء - مهما صغر - ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فمثلاً عند ما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى «جبر» عند المروة، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّه صلى الله عليه و آله و سلم فوراً فقالوا: واللّه ما يُعلِّمُ محمَّداً كثيراً ممّا يأتي به إلّا «جبر» النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله:

«وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» .(2)

«وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ» .(3)

القرآن يرد على جميع الاتهامات:

وربّما نسبوا إليه صلى الله عليه و آله و سلم الكهانة، والكاهن هو مَن يتصل بعناصر من الجن(4)

ص:524


1- . انجيل يوحنا: الفصل 10، الفقرة: 20.
2- . النحل: 103.
3- . الدخان: 13 و 14.
4- . الجن كائن من الكائنات ومخلوق من مخلوقات اللّه تعالى وقد أخبر به القرآن الكريم في مواضع عديدة كما سُمّيت إحدى السور باسم الجن.

أو الشياطين ويتلقّى منهم أخباراً حول الماضي والمستقبل، وكان هذا موجوداً قبل الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ.(1)

وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة و هذا الزعم إذ قال تعالى:

«وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ» .(2)

كما ردّ أيضاً تهمة السحر، والكذب والافتراء والشعر، إذ قال تعالى وهو يصف المتّهمين تارة بالكفر وأُخرى بالظلم:

«وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ» .(3)

وقال تعالى: «وَ قالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً» .(4)

وقال سبحانه متعجباً مِنهم: «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» .(5)

وقال تعالى: «وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» .(6)

وقال سبحانه: «وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» .(7)

وقال عزّوجلّ: «فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ» .(8)

وقال تعالى: «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .(9)

وقال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ» .(10)

وقال سبحانه: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ

ص:525


1- . راجع: بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب: 3/269 باب علم الكهانة والعرافة.
2- . الحاقة: 42.
3- . ص: 4.
4- . الفرقان: 8.
5- . الشعراء: 153.
6- . الحجر: 6.
7- . التكوير: 22.
8- . الطور: 29.
9- . النحل: 101.
10- . هود: 13.

آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً» .(1)

وقال سبحانه: «أَفْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» .(2)

وقال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» .(3) وقال تعالى: «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ» .(4)

وربّما وصفوا القرآن بأنّه أضغاث أحلام فردّهم سبحانه بقوله.

«بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ» .(5)

وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتّهام والتشويش على الشخصية المحمَّدية والرسالة الإسلامية كلّ مذهب، فمرّة وصفوه بأنّه كاهن، وأُخرى بأنّه ساحر، وثالثة بأنّه مسحور، ورابعة بأنّه مجنون، وخامسة بأنّه معلّم، وسادسة بأنّه كذاب، وسابعة بأنّه مفترٍ، وثامنة بأنّه مفترٍ أومجنون على سبيل الترديد، وتاسعة بأنّه شاعر، وعاشرة بأنّ ما يقوله ما هو إلّاأضغاث أحلام.

2. فكرةُ معارضة القرآن:

لم يُجدِ استخدام سلاح الاتّهام ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفعاً، ولم يأت بالثمار الّتي كان يتوخّاها المشركون منه، لأنّ الناس كانوا يُدركون بفطنتهم وفراستهم أنّ للقرآن جاذبيّة غريبة، وأنّهم لم يسمعوا كلاماً حلواً، وحديثاً عذباً مثله.

إنّ لكلماته من العمق والعذوبة بحيث يتقبّلها كلُّ قلب، وتسكن إليها كلّ نفس.

ص:526


1- . الفرقان: 4.
2- . سبأ: 8.
3- . الطور: 30.
4- . يس: 69.
5- . الأنبياء: 5.

من هنا لم ينفع اتّهام قريش لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو إلّا من نسج الخيال، ونتائج الجنون، شيئاً، فقرّرت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه، وعن الاستماع إلى كتابه، ألا وهو: معارضة القرآن الكريم.

فعمدت إلى «النضر بن الحارث» وكان من شياطين قريش، وممّن كان يؤذي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وينصب له العداوة، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث «رُستم» و «إسفنديار» وقصصهم، وحكاياتهم، وأساطيرهم، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مجلساً فذكَّر (الناس) فيه باللّه، وحذر قومه ما أصاب مَن قبلَهم من الأُمم من نقمة اللّه، خَلفه «النضرُ» في مجلسه إذا قام صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ، فأنا أُحدِّثكم أحسنَ من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و «رستم» و «اسفنديار» ثم يقول:

بماذا محمَّد أحسن حديثاً منّي وما حديثه إلّاأساطير الأَوّلين اكتتبها كما اكتتبتُها؟

وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى درجة أنّها لم تدم إلّاعدة أيّام لا أكثر حتّى أنّ قريشاً سأمت من أحاديث «النضر» وسرعان ما تفرّقت عنه.

وقد نزل في هذا الشأن آيات هي:

«وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي

ص:527

يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» (1).(2)

***

3. تحجّجات صبيانيّة وجاهليّة:

وربّما جسَّدوا معارضتهم للدعوة المحمَّدية في صورة تحجّجات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة أخذوها على رسول اللّه ورسالته، تنم عن تكبّر وجهل، وعناد ولجاج طبعوا عليه.

وها نحن نذكر أبرزها:

أ - لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ من أثرياء مكّة أو الطائف؟!

قال تعالى حاكياً قولهم: «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» .(3)

ب - لماذا لم يرسل إليهم ملائكة ولماذا هو بشر؟!

قال تعالى حاكياً عنهم: «وَ ما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً» .(4)

وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً:

«وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» .(5)

ج - أنَّه يدعو إلى خلاف ما كان عليه الآباء، من الدين والعقيدة والسلوك؟

يقول عنهم سبحانه:

ص:528


1- . الفُرقان: 5 و 6.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/195 و 239.
3- . الزخرف: 31.
4- . الإسراء: 94.
5- . الفرقان: 7.

«وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ» .(1)

د - تبديل الآلهة بإلهٍ واحدٍ.

قال اللّه حاكياً عنهم:

«وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ * أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ» .(2)

ه - القول بحشر الأجساد وتجدّد الحياة في يوم القيامة.

قال تعالى حاكياً عنهم:

«وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» .(3)

و - لماذا ليس عنده مثل ماكان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا، وقد توصّل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتّصالهم بأحبار اليهود.

يقول اللّه حاكياً عنهم:

«فَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى» .(4)

ز - لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهَد ويحضر معه في كلّ مقام ومشهد.

قال تعالى: «وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» .(5)

ص:529


1- . المائدة: 104.
2- . ص: 4 و 5.
3- . السجدة: 10.
4- . القصص: 48.
5- . الأنعام: 8.

4. مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة:

اشارة

وكان المشركون إذا نفذت تحجّجاتهم واعتراضاتهم الواهية، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في سياق معارضتهم لدعوته، ونورد هنا أبرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم من قومه:

لقد اقترحوا عليه:

1. أن يعبد أصنامهم سنة ويعبدوا إلهه سنة أُخرى وجعلوا ذلك شرطاً لإيمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم سورة «الكافرون»:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ * وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ».

2. تبديل القرآن، فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية، والازدراء على الأصنام، دفعهم إلى أن يطلبوا من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الأوثان والازدراء بالأصنام، وإبطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا: «وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» .(1)

فردّ اللّه عليهم بقوله: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .(2)

ص:530


1- . يونس: 15.
2- . يونس: 15.

3. مطاليب مادية عجيبة!!

وقد عمدوا - بسبب عنادهم وعتوّهم - إلى المطالبة بأُمور لا ترتبط بهداية الناس، مثل مطالبته بأن يفجر لهم ينابيع، أو يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً، أو يصعد إلى السماء، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب الّتي كانت إمّا مستحيلة في نفسها أوتناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكياً عنهم ذلك: «وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ» .(1)

صبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واستقامته وثباته:

ولقد قابل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّ هذه التحجّجات الإيذائية وما طرح مِنَ الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل، إيماناً منه بدعوته، وحرصاً على إبلاغ رسالته.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد:

1. «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» .(2)

2. «وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .(3)

3. «وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» .(4)

ص:531


1- . الإسراء: 90-93.
2- . الأحقاف: 35.
3- . يونس: 109.
4- . النحل: 127.

4. «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ» .(1)

5. «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» .(2)

6. «وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً» .(3)

***

معاجز النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم تنحصر في القرآن الكريم:
اشارة

وبالمناسبة لابد أن نذكر أنّ المشركين ومَن حذا حذوهم من الكفّار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمعاجز وديات لا بدافع الرغبة في الإيمان بدعوته، بل بدافع اللجاج والعناد، وإلّا فإنّ معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز، فقد أتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة أُخرى غير القرآن، كان كلّ واحدة منها تكفي للاقتناع برسالته، والإيمان بصحّة دعواه.

فالقرآن نفسه يشير إلى أبرز هذه المعاجز وهي:

1. شقّ القمر

فقد طلب المشركون من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يشق لهم القمر نصفين حتّى يؤمنوا به، فلمّا فعل ذلك لهم بإذن اللّه كفروا به وقالوا: إنّه سحر!!

يقول اللّه تعالى:

«اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ * وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» .(4)

ص:532


1- . الكهف: 28.
2- . القلم: 48.
3- . المزمل: 10.
4- . القمر: 1 و 2.
2. الإسراء والمعراج

إنّ العروج برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - والّذي سيأتي مفصّلاً - هو الآخر معجزة من معاجزه القوية، وقد نطق بها القرآن بقوله:

«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .(1)

3. مباهلة أهل الباطل

إنّ تقدّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع مَن خرج بهم إلى المباهلة، وإحجام النصارى عن مباهلته، معجزة أُخرى من معاجزه صلى الله عليه و آله و سلم وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية إذ قال:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» .(2)

وستأتي قصَّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

4. الإخبار بالمغيبات

أخبر القرآن الكريم بأُمور غيبية كثيرة، فقد أخبر عن غلبة الروم بعد سنين، قال تعالى:

«الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي

ص:533


1- . الإسراء: 1.
2- . آل عمران: 61.

بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» .(1)

هذا وقد أخبرت الأخبار والأحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم. ومن هذه المعاجز ما ذكره الإمام أمير المؤمنين علّي بن أبي طالب - كما في نهج البلاغة - حول سؤال المشركين من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قلع شجرة بعروقها وجذورها ولمّا فعل ذلك وقال: «يا أيّتها الشجرة إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر، وتعلمين أنّي رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يديّ بإذن اللّه».

فانقلعت بعروقها ولها دويّ عجيب ووقفت بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولكنّهم كذّبوا وقالوا: ساحر كذّاب، علوّاً واستكباراً.

وقد صرّح الإمام في كلامه هذا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أخبرهم بأنّهم لا يؤمنون وإن ظهرت لهم المعجزة الّتي طلبوها، وإنّ فيهم مَن يطرح في القليب (في معركة بدر) وإنّ منهم من يحزّب الأحزاب (لمعركة الخندق).(2)

حرص النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على هداية قريش:

كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يحرص على هداية قريش وإرشادهم وإيقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً بأنّ اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو إلّاأمر نابع من تقليد الآباء، والجدود، أو اتّباع أسياد القبيلة وكبرائها، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس وأُسس في عقولهم ونفوسهم.

ص:534


1- . الروم: 1-4. وقد أشار القرآن الكريم إلى موارد أُخرى من هذه القبيل. فقد أخبر عن هلاك أبي لهب قال تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ...». وأخبر عن هزيمة المشركين في بدر، قال سبحانه: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ» (القمر: 45).
2- . لاحظ: نهج البلاغة: الخطبة 192.

من هنا فإنَّ أيَّ انقلاب يحصل ويحدث في أوساط السادة والكبراء بأن يؤمن أحدهم مثلاً كان كفيلاً بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

من هنا كان ثمّة إصرار كبير على جرّ «الوليد بن المغيرة» الّذي أصبح ابنه «خالد» في ما بعد من قادة الجيش الإسلاميّ، لأنّه كان أسنَّ مَن في قريش وأكثرهم نفوذاً، وأعلاهُم مكانة، وأقواهم شخصية، وكان يُدعى حكيم العرب، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

وقد كلّمه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم في ذلك وقد طمع في إسلامه، فَبينا هو في ذلك إذ مرَّ به «ابن أُم مكتوم»، فكلّم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجعل يستقرئه القرآن فشقَّ ذلك منه على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أضجره، وذلك أنّه شغله عمّا كان فيه من أمر «الوليد». وما طمع فيه من إسلامه، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه، فنزل قوله تعالى:

«عَبَسَ وَ تَوَلّى * أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى * وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى * أَمّا مَنِ اسْتَغْنى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّى * وَ ما عَلَيْكَ أَلاّ يَزَّكّى * وَ أَمّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى * وَ هُوَ يَخْشى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهّى * كَلاّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ» (1).(2)

وقد فنّد علماء الشيعة ومحقّقوهم هذه الرواية التاريخية، واستبعدوا صدور مثل هذا السلوك عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي امتَدحَهُ ربُّ العالمين بالخلق العظيم، ووصفه بالرأفة بالمؤمنين، وقالوا: ليس في الآيات ما يدلّ على أنّ الّذي عبَس وتولّى هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّها نزلت في رجل من بني أُميَة، كان عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمّا رآه تقذر منه، وجمع نفسه، وعبس، وأعرض

ص:535


1- . عبس: 1-11.
2- . لاحظ السيرة النبوية لابن هشام: 1/244-245.

بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك.(1)

***

5. تحريم المشركين استماع القرآن

اشارة

كانت البرامجُ الواسعة الّتي دبّرها الوثنيّون في «مكّة» لمكافحة الإسلام والحيلولة دون انتشاره بين القبائل والجماعات، تُنفَّذ الواحدة تلو الآخرى، ولكن دون جدوى، ودون أن يكسب أصحابُها من ورائها أي نجاح، وأيّة نتائج على المستوى المطلوب، فقد كانت تلك المؤامرات تفشل في كلّ مرة، ولا يجني المشركون منها سوى الخيبة والفشل، وسوى النتائج المعكوسة في أغلب الأحايين.

فقد مارسوا الدعاية ضد رسول اللّه فترة من الزمن ولكن لم يحالفهم التوفيقُ الكاملُ في ذلك، فقد وجدوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أكثر ثباتاً واستقامة في طريقه وأشدّ إصراراً على هدفه، وكانوا يرون بأُمّ أعينهم بأنّ عقيدة التوحيد في انتشار مستمر ومتزايد، يوماً بعد يوم.

ولهذا قرَّر سادة قريش وزعماء «مكّة» المشركون أن يمنعوا الناس عن سماع القرآن. ولكي تتحقّق خطّتهم هذه وتلبس ثوب الوجود بَثّوا جواسيسهم في كلّ أنحاء مكّة ومداخلها ليمنعوا من يفدُ إليها للحج أوالتجارة من الاتّصال بمحمَّد، ومنعه بكلّ صورة ممكنة، عن الاستماع إلى القرآن، وأعلن مناديهم ما ذكره القرآن عند قوله تعالى:

ص:536


1- . مجمع البيان: 10/266. وقد بحثنا هذا الموضوع بالتفصيل في تفسيرنا «منية الطالبين في تفسير القرآن المبين»: 30/98-106، وأثبتنا أنّ العابس ليس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. فمن أراد التفصيل فليرجع إلى تفسيرنا المذكور.

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» .(1)

لقد كان القرآن أقوى أسلحة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقد ألقى رعباً عجيباً في نفوس الأعداء وأقضّ مضاجعهم.

وكان أشراف قريش وأسيادها يرون بأُمّ أعينهم كيف أنَّ أعدى أعداء النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم (وهو أبوجهل) عندما مشى إليه ليستهزئ به، ويسخر منه، ما أن سمع آيات من القرآن، إلّاوفقد السيطرة على نفسه، ولان قلبه، ولهذا لم يكن أمام أُولئك الأسياد إلّاأن يمنعوا من سماع القرآن منعاً باتاً، ويحرّموا التحدّث إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تحريماً قاطعاً.

ولهذا كان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعض ما يتلوه من القرآن وهو يصلّي إسترق السمع دونهم فرقاً منهم، فإن رأى أنّهم قد عرفوا أنّه يستمع منه ذهبَ خشيةَ أذاهُم فلم يستمع.(2)

واضعو القرار ينقضون قرارهم!!

ولكن من الطريف العجيب أنّ نفس الذين كانوا يمنعون الناس بشدة عن الاستماع إلى القرآن، وكانوا يعدون كلّ مَن يتجاهل قرار (تحريم الاستماع إلى القرآن) مخالفاً يتعرّض للملاحقة والعقاب، نقضوا بعد أيام من إصدار هذا القرار قرارهم وانضمُّوا إلى صفوف المخالفين له في الخفاء.

فإذا بالذين يمنعون من سماع القرآن في العلن، يستمعون إليه في الخفاء!

واليك بعض ما جرى في هذا الصعيد:

خرج «أبوسفيان» و «أبوجهل» و «الأخنس» ليلة ليستمعوا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يصلّي من الليل في بيته، فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه،

ص:537


1- . فصّلت: 26.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/206.

وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتّى إذا طلَعَ الفجرَ تفرَّقوا، فجمعهم الطريقُ، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا؛ حتّى إذا كانت الليلة الثانيةُ عاد كلُّ رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرة، ثم انصرفوا، حتّى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلُّ رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتّى نتعاهد ألّا نعود، فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرّقوا.(1)

***

6. منع الأشخاص من الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

بعد خطة (تحريم الاستماع إلى القرآن) بدأوا بتنفيذ خطة أُخرى وهي منع كلّ قريب وبعيد ممّن رغبوا في الإسلام وقدموا إلى مكّة ليتعرّفوا على النبيّ، وعلى ما أتى به من كتاب ودين، من الاتصال بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

فبثّت قريش جواسيسها في الطرق المؤدّية إلى مكّة ليتصلوا بمن يلقونه من هؤلاء ويبادروا إلى منعه من الاتصال برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والإيمان برسالته، بشتّى الحيل والأساليب.

وإليك نموذجين حيّين من هذا الأمر.

الأوّل: الأعشى بن قيس:

وكان من شعراء العهد الجاهلي البارزين، وكانت قصائده تتناقلها مجالس

ص:538


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/206-207.

السَّمر القرشية، وتتغنّى بها محافل أُنسهم.

وقد بلغ «الأعشى» في كبره نبأ ما جاء به رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من التوحيد ومن تعاليم الإسلام العظيمة، وكان يعيش في منطقة نائية عن مكّة، حيث لم تصل إليها أشعة الرسالة الإسلامية على وجه التفصيل بعد، ولكن ما قد سمع به من تعاليم الإسلام على نحو الإجمال قد أوجد في نفسه هياجاً خاصاً وحرّك مشاعره فأنشأ قصيدة مطوّلة يمدح فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم خرج إلى مكّة ليهديها إليه صلى الله عليه و آله و سلم وهو في نفس الوقت يريد الإسلام.

ورغم أنّ تلكم القصيدة لا تتجاوز أبياتُها 24 بيتاً، ولكنّها تُعدّ من أفضل وأفصح ما قيل من الشعر في الإسلام، وفي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في العهد النبوي ويوجد نصّها الكامل في «ديوان الأعشى» وقد قال فيها وهو يذكر بعض تعاليم الإسلام:

نَبيّاً يرى ما لا تَرون وذكرُه أغار لعَمري في البلاد وأنجدا

فإياك والميتات لا تقربنّها ولا تأخذ سَهماً حديداً لتفصدا

وذا النُصب المنصوب لا تُنسكُنَّه ولا تعبد الأوثان واللّه فاعبُدا

ولا تقربنَّ حُرَّة كان سرُّها عليك حراماً فانكحن أوتأبّداً

وذا الرحم القربى فلا تقطعنَّه لعاقبة، ولا الأسير المقيِّدا

وسبِّح على حين العشيات والضحى ولا تحمَد الشيطان واللّه فاحمدا

فلمّا كان بمكة أو قريباً منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسألوه عن أمره، فأخبرهم بأنّه جاء يريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليسلم، (وحيث إنّهم كانوا يعرفون بأنّ «الأعشى» رجل يحب النساء والخمر حبّاً كبيراً لذلك عمدوا إلى الضرب على هذا الوتر لينفّروه من الإسلام)، فقالوا له: يا أبا بصير (وهي كنية الأعشى) إنّه يُحرّم

ص:539

الزنا.

فقال الأعشى: واللّه إنّ ذلك لأمرٌ ما لي فيه من أرب.

فقالوا له: يا أبا بصير فإنَّه يحرِّم الخمرَ.

فقال الأعشى - وقد صُدِمَ بهذا الخبر -: أمّا هذه فواللّه في النفس منها لعلالات، ولكنّي منصرفٌ فاتروّى منها عامي هذا، ثم آتيه فأُسلم!! فانصرفَ فمات في عامه ذلك، ولم يَعُدْ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

الثاني: الطُفيل بن عَمرو الدوسيّ:

وهو الشاعر العربي الحكيم العذب اللسان، صاحب النفوذ والكلمة المسموعة في قبيلته.

يروى أنّه قدم «مكّة» ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بها، وكانت قريش تخشى أن يتّصل بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فيسلم.

ومن البديهي أنّ إسلام رجل مثله كان ممّا يشقّ على قريش جدّاً، ولهذا مشى إليه رجالٌ منهم وقالوا له - محذرين إيّاه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم -:

يا طُفيل، إنّك قدمت بلادَنا، وهذا الرجلُ الّذي بين أظهرنا قد أعضلَ بنا، وقد فرّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وإنّما قوله كالسحر يفرّق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنَّه، ولا تسمعنَّ منه شيئاً.

ففعلت تحذيراتُ قريش فعلتَها في نفس الطفيل وهم يكرّرونها عليه بقوة وإصرار، حتّى أنّه قرّر أن لا يسمع من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم شيئاً، ولا يكلّمه، وحشّى أُذنه - حين غدا إلى المسجد للطواف - قطناً، خوفاً من أن يبلغه شيء من قول رسول

ص:540


1- . السيرة النبوية: 1/259-260.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو لا يريد أن يسمعه!!!

يقول الطفيل: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائمٌ يصلّي عند الكعبة، فقمتُ منه قريباً فأبى اللّه إلّاأن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعتُ كلاماً حسناً، فقلت في نفسي: واثكلَ أُمّي، واللّه إنّي لرجل لبيبٌ شاعرٌ ما يخفى عليّ الحسَنُ من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الّذي يأتي به حسناً قبلتُه، وإن كان قبيحاً تركتُه؟

فمكثتُ حتّى انصرف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى بيته فاتّبعته حتّى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمَّد إنّ قومك قد قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا، فواللّه ما برحوا يخوّفونني أمرك حتّى مددت أُذني بكرسف لئلّا أسمع قولك، ثم أَبى اللّه إلّا أن يُسمعني قولك فسمعتهُ قولاً حسناً، فأعرض عليّ أمرك، فعرض عليِّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الإسلام وتلا عليّ القرآن، فلا واللّه ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمتُ وشهدتُ شهادة الحق. ثم قلت: يا نبيّ اللّه إنّي امرؤ مطاعٌ في قومي وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام.

ثم يكتب ابن هشام قائلاً: إنّ الطفيل لم يزل بأرض «دوس» يدعوهم إلى الإسلام حتّى هاجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة ومضى «بدر» و «أُحد» و «الخندق» فقدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمن أسلم معه من قومه وهم سبعون أوثمانون بيتاً ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخيبر فلحقوا جميعاً برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخيبر، وبقي مع النبيّ حتّى قُبِضَ صلى الله عليه و آله و سلم ثم سار مع المسلمين - في زمن الخلفاء - إلى «اليمامة» وشارك في معركتها وقُتِلَ فيها.(1)

ص:541


1- . السيرة النبوية: 1/256-258 بتلخيص.

20 أُسطورة الغرانيق

اشارة

قد يكون بين القرّاء من يودُّ التعرّف على أُسطورة «الغرانيق» الّتي رواها بعض مؤرّخي السنّة ومعرفة جذورها، كما يودّ التعرّف على الأيادي الخفية الّتي كانت وراء اختلاق هذه الأُسطورة، وأمثالها من الأكاذيب، والمفتريات.

كان اليهودُ وبخاصّة أحبارهم ولا يزالون العدوّ رقم واحد للإسلام.

وقد عَمَد فريقٌ منهم - مثل «كعب الأحبار» وغيره - ممّن تظاهروا باعتناق الإسلام إلى تحريف الحقائق باختلاق الأكاذيب وجعل الأخبار المفتراة على لسان الأنبياء.(1)

ولقد أدرج بعضُ المؤلّفين المسلمين بعض هذه المفتريات في مؤلّفاتهم وجعلوها في عداد الحديث والتاريخ الصحيح من دون تمحيصها والتحقيق فيها، ثقة بكلّ من أظهر الإسلام وتظاهر بالإيمان، وانضم إلى صفوف المسلمين!!

ولكنَّ اليوم حيث يجد العلماء فرصة أكبر للتحقيق في هذا النوع من الأحاديث والأخبار، والمنقولات والنصوص، وبخاصّة بعد أن توفّرت لديهم، بفضل جهود طائفة من المحقّقين المسلمين القواعد والضوابط الكفيلة بتمييز الحسن عن القبيح، والصحيح عن السقيم، وفرز الحقائق التاريخية عن القصص الخياليّة، والروايات الاسطورية.

من هنا لا ينبغي لكاتب مسلم ملتزم أن يعتبر كلّ ما يراه في مصنّف تاريخيّ

ص:542


1- . وهي الّتي يُطلَق عليها الاسرائيليات وقد أُلّفَت في هذا المجال بعض الكتب.

أو غير تاريخيّ متقدِّم أمراً صحيحاً مقطوعاً بسلامته، ويرويه في كتابه من دون دراسة وتحقيق، وتمحيص وتقييم.

ماهي أُسطورة الغرانيق؟!

يقولون: إنّ «الأسود بن المطلب» و «الوليد بن المغيرة» و «أُمية بن خلف» و «العاص بن وائل» وهم من زعماء قريش وأسيادها قالوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

يا محمَّد هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبدُ فنشترك نحن وأنت في الأمر!!

وقالوا ذلك رفعاً للاختلاف، وتضييقاً لشقّة الخلاف، فأنزلَ اللّه سبحانه سورة الكافرين الّتي أمر فيها نبيّه أن يقول في جوابهم:

«لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» .

ومع ذلك كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يرغب في أن يساوم قريشاً ويجاريهم وكان يقول في نفسه: ليت نزل في ذلك أمر يقرّبنا من قريش.

وذات يوم وبينما كان صلى الله عليه و آله و سلم يتلو القرآن عند الكعبة ويقرأ سورة «النجم» فلمّا بلغ قوله تعالى:

«أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَ الْعُزّى * وَ مَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى» .(1)

أجرى الشيطان على لسانِه الجُمْلتين التاليتين:

«تِلْكَ الْغَرانِيقُ الْعُلى. مِنْها الشفاعَةُ تُرْتَجى».

فقرأهما من دون إختيار، وقرأ ما بعدها من الآيات، ولمّا بلغ آية السجدة سجد هو ومن حضر في المسجد من المسلمين والمشركين أمام الأصنام، إلّا «الوليد» الّذي عاقه كبر سنه عن السجود!!

ص:543


1- . النجم: 19 و 20.

وفرح المشركون، وارتفعت نداءاتهم يقولون: لقد ذكر «محمَّد» آلهتنا بخير.

وانتشر نبأ هذه المصالحة والتقارب بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمشركين، المهاجرين إلى الحبشة، فعاد على أثرها جماعة منهم إلى مكّة، ولكنّهم ما أن كانوا على مشارف «مكّة» إلّاوعرفوا بأنّ الأمر تغيّر ثانية، وأنّ ملك الوحي نزل على النبيّ وأمره مرة أُخرى بمخالفة الأصنام ومجاهدة الكفّار والمشركين، وأخبره بأنّ الشيطان هو الَّذي أجرى تينك الجملتين على لسانه، وأنّه لم يقله، وأنّه ليس من «الوحي» في شيء أبداً.

وعندئذ نزلت الآيات (52-54) من سورة «الحج» الّتي يقول اللّه تعالى فيها:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .

«لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ * وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .

هذه هي خلاصة أُسطورة «الغرانيق» الّتي أوردها «الطبري» في تاريخه(1)ويذكرها ويردّدها المستشرقون المغرضون بشيء كبير من التطويل والتفصيل!!

محاسبة بسيطة لهذه الأُسطورة

لنفترض أنّ «محمّداً» لم يكن نبياً مرسلاً ولكن هل يمكن لأحد أن ينكر ذكاءه وحنكته، وفطنته وعقله؟!

فهل لعاقل فَطِن، محنَّك لبيب مثله أن يفعل مثل هذا؟!

ص:544


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/75-78.

إنّ الذكيّ اللبيب الّذي يجد أنصاره يتكاثرون ويتزايدون يوماً بعد يوم وتقوى صفوفهم أكثر فأكثر بينما تتفرّقُ صفوفُ أعدائه ومناوئيه ويتناقص معارضوه وخصومُه، هل يقدم في مثل هذه الحالة على عمل يوجب أن يسيء الجميعُ ظنّهم به، ويشك الصديق والعدوُ في أمره؟!

هل تصدّق أنت أيها القارئ الكريم أنّ رجلاً ترك جميع الأموال والمناصب الّتي عرضتها قريش عليه، في سبيل دينه الحنيف، وعقيدة التوحيد أن يصبح مرة أُخرى من دعاة الشرك، ومروّجي الوثنية؟؟!

إنّنا لن نصدّق بمثل هذا الاحتمال في حقّ مصلح أو سياسي عادي من الساسة والمصلحين فكيف برسول اللّه ونبيّه العظيم؟!

رأي العقل في هذه القصة:

1. إنّ العقل يحكم بأنّ المرشدين الذين يبعثهم اللّه تعالى إلى البشرية لهدايتها وإرشادها، وتزكيتها وتعليمها مصونون عن أي خطأ وزلل بقوة (العصمة) الّتي أُوتوها، إذ لو تعرّض مثل هؤلاء إلى الخطأ والزلل في أُمور الدين لزالت ثقة الناس بهم وبكلامهم.

يجب علينا أن نقارن بين أمثال هذه القصص، وبين هذا الأصل العقائديّ المنطقي ونعالج بواسطة معتقداتنا القوية المبرهَنة متشابهات التاريخ ومعضلاته.

إنّ من المسلَّم أنّ عصمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت تمنعه وتحفظه من أي نوع من هذه الحوادث في تبليغ رسالته السماوية.

2. إنّ هذه الأُسطورة تقوم أساساً على أنّ النبيّ قد تعب من أداء مهمَّته الّتي ألقاها اللّه سبحانه عليه، وقد شقَّ عليه ابتعاد الوثنيّين عنه، فكان يبحث عن مخلَص من هذا الوضع المتعِب، يكون طريقاً - حسب تصوّره - إلى إصلاح وضعهم!!

ص:545

ولكن العقل يقضي بأنّ على الأنبياء أن يكونوا صابرين حلماء أكثر ممّا يتصوّر، وأن يكونوا مضرب المثل عند الجميع في ذلك، فلا يُحدّثوا أنفسَهم بالتهرّب من المسؤولية وترك الساحة مطلقاً، مهما اشتدّت الظروف، وتأزّمت الأحوال. بينما لو صحّت هذه الرواية - الأُسطورة - لكانت دليلاً على أنَّ بَطلَ حديثنا قد فَقَد عنان الصبر وأفلت منه زمام الثبات والاستقامة وأنّه بالتالي تعب وملّ، وضني وكلّ، وهو أمرٌ لا ينسجم مع ما يحكم به العقل السليمُ في حقّ الأنبياء، كما لا يتّفق كذلك مع ما عهدناه من سوابق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن مستقبله أبداً.

إنّ مختلق هذه الأُسطورة لم يمرّ بخاطره وباله أنَّ القرآن الكريم شهد ببطلان هذه القصة، إذ يعد اللّه تعالى نبيه الكريم، بأن لا يتسرّب إلى القرآن أي شيء من الباطل، إذ قال:

«لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ» .(1)

كما وعده أيضاً بأن يَصونه عبَر جميع أدوار البشرية من أي حادث سيّئ، إذ قال سبحانه:

«إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ» .(2)

ومع ذلك كيف يستطيع الشيطان الرجيم عدو اللّه أن ينتصر على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويسرّب إلى القرآن شيئاً باطلاً، ويصبح القرآنُ الّذي تقوم معارفه وتعاليمه على أساس معاداة الوثنية ومحاربتها داعياً إلى الوثنية؟؟!!

إنّه لأمر عجيبٌ جداً أن يفتري مختلِقُ هذه الأُسطورة أمراً ضدَّ التوحيد في موضع قد كذّبه القرآنُ قبل هذا المكان بقليل، إذ قال اللّه تعالى:

ص:546


1- . فصّلت: 42.
2- . الحجر: 9.

«وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى» .(1)

فكيف يترك اللّه نبيّه - وقد وعده بهذا الوعد - من دون حفيظ، ويسمح للشيطان بأن يتصرّف في قلبه وعقله ولسانه؟!

إنّ هذه الأدلّة العقلية إنّما تفيد مَن يكون مؤمناً بنبوة محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم ورسالته.

وأمّا المستشرقون الذين لا يعتقدون بنبوته، ويعمدون إلى شرح ونقل وترديد أمثال هذه الأساطير للحطّ من شأن دينه ورسالته فلا تكفيهم هذه الدلائل، فلابدّ أن ندخل معهم في البحث من باب آخر.

تكذيب القِصَّة من طريق آخر

إنّ النصّ التاريخيّ يقول: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قرأ هذه السورة، وكبار قريش وأكثرهم من عمالقة الكلام، وأبطال الفصاحة والبلاغة العربية حضور في المسجد، ومنهم «الوليد بن المغيرة»، متكلّم العرب ومنطيقها المفوّه المعروف بينهم بالذكاء وحصافة العقل والنباهة، وقد سمعوا جميعاً هذه السورة إلى ختامها حيث سجد الجميع بسجدتها.

فكيف اكتفى هذا الجمعُ المؤسسُ للفصاحة والبلاغة الذين كانوا ينقدون كلّ ما يعرض عليهم نقداً دقيقاً؟!

كيف اكتفوا بتينك الجملتين اللتين امتدحتا آلهتهم، وقد تضمّنت الآيات السابقة عليهما، واللاحقة لهما على شتم آلهتم وتفنيدها، والازدراء بها بصورة صارخة و صريحة؟!

كيف تصوّر مختلق هذه الأُكذوبة الفاضحة، تلك الجماعة أصحاب اللغة العربية وآباءها ونقّاد الكلام المعدودين عند العرب كلّها من عمالقة الفصاحة

ص:547


1- . النجم: 3 و 4.

والبلاغة بلا منازع، والذين كانوا أعرف من غيرهم بإشارات تلك اللغة، وكناياتها (فضلاً عن تصريحاتها).

كيف اكتفى هؤلاء بتينك العبارتين في امتداح آلهتهم، وغفلوا عمّا سبقها ولحقها من الذمّ لها والطعن الصارخ فيها؟

إنّه لا يمكن قط أن نخدع العاديّين من الناس بهاتين الجملتين المحفوفتين بكلام مطوَّل يذم عقائدهم وسلوكهم، فكيف بمن عُرف باللب، والحصافة، والحكمة والذكاء؟!

وها نحن ندرج هنا الآيات المتعلّقة بالمقام ونترك أصفاراً (وفراغاً) في مكان الجملتين اللتين ادّعي إضافتهما، ثم نترك للقارئ نفسه أن يقيم بنفسه هل لتينَك الجملتين مكانٌ بين هذه الآيات (الّتي وردت في ذمّ الأصنام والقدح فيها):

وإليك هذه الآيات:

«أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَ الْعُزّى * وَ مَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى...1 * أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» .(1)

ثم هل يسمحُ إنسانٌ عاديّ لنفسه أن يكفَّ عن معاداة نبيٍّ هاجَمَ عقائدهُ طيلة عَشرة أعوام، وهدر إستقلاله وكيانه، وجرَّ عليه الشقاء بتسفيه أحلامه، وشتم آلهته، لعبارات متناقضة وكلام خليط من الذّم الكبير والمدح العابر.

دَليلٌ لغَويٌّ على تفنيد هذه الأُسطورة

يقول العلامةُ الجليلُ الشيخ محمَّد عبده: لم يُستعمَل لفظ الغرانيق في الآلهة

ص:548


1- . النجم: 19-23.

أبداً لا في اللغة ولا في الشعر العربي.(1)

و «غرنوق» و «غَرنيق» اللّذان جاءا في اللغة استعملا في نوع من طيور الماء أو الشابّ الجميل، ولا يَنطبق أيُ واحد من هذه المعاني على الآلهة.

وقد اعتبر «السيروليم مويير» أحدُ المستشرقين قصة «الغرانيق» هذه من مسلَّمات التاريخ واستدل لها بقوله: لم يكن يمض على هجرة المهاجرين الأُول إلى الحبشة أكثر من ثلاثة أشهر يوم صالح محمَّدٌ قريشاً فعادوا إلى مكّة.

إنّ المسلمين الذين هاجَروا إلى تلك الأَرض وكانوا يعيشون في أمن وطمأنينة في جوار النجاشيّ إذا لم يكونوا يبلغهم نبأ مصالحة النبيّ لقريش لما عادوا إلى مكّة للّقاء بذويهم.

فإذن لابدَّ أَنَّ «محمَّداً» قد تذرَّع بشيء لمصالحة قريش، والتقرّب إليها، وهذا الشيء هو قصة الغرانيق»!!.(2)

ولكن يجب أن نسأل هذا المستشرق المحترم:

أوّلاً: لماذا يجب أن تكون عودة المهاجرين ناشئة عن نبأ صحيح حتماً.

إنّ النفعيّين وذوي الأهواء والأغراض يسعون دائماً إلى بثّ عشرات بل مئات الأخبار الكاذبة بين جماعتهم لتحقيق مآرب خاصّة لهم، فما الّذي يمنع من أن نحتمل أنّ هناك من افتعل خبر مصالحة النبيّ لقريش بهدف إرجاع المهاجرين من الحبشة إلى «مكّة». وقد صدّق بعض أُولئك المهاجرين هذا الخبر الكاذب فعادوا إلى أرض الوطن، بينما لم ينخدع الآخرون بها وبقوا في الحبشة ولم يعودوا

ص:549


1- . نقله عنه القاسمي في تفسيره: 12/55-56.
2- . راجع حياة محمَّد: 165 و 166.

إلى مكّة؟

ثانياً: لنفترض أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يريد أن يصالح قريشاً، فهل يكونُ الطريق إلى السلام والمصالحة منحصراً في افتعال هاتين الجملتين.

ألم يكن إعطاء مجرَّد وَعد مناسب أو مجرّد السكوت عن عقائدهم كافياً لتهدئة خواطرهم، واجتذاب قلوبهم نحوه؟

وعلى كلّ حال فإنّ عودة المهاجرين لا يكونُ دليلاً على صحّة هذه الأُسطورة، كما أنّ المصالحة والتقارب غير متوقّفين على النُّطق بهاتين الجملتين.

والأعجب من هذا أنّ البعضَ تصوَّر الآيات (52-54 من سورة الحج) قد نزلت في قصة الغرانيق.

شبهات للمستشرقين والرد عليها

اشارة

وحيث إنّ هذه الآيات قد وقعت ذريعة بأيدي المستشرقين ومرتكبي جريمة التحريف في التاريخ، فإنّنا نعمدُ هنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات، ونبين للقارئ بأنّها تنظر إلى أمر آخر، ولا ترتبط بهذه القصة بتاتاً.

وها هو نصُّ الآيات المشار إليها: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ * وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .(1)

والآن يجب أن نبيّن مفاد الآيات ولنبدأ بالآية الأُولى:

ص:550


1- . الحج - 52-54.

إنّ الآية الأُولى تذكِّرُ بثلاثة أُمور هي:

1. أنَّ الأنبياء والرسل يتمنّون.

2. أنَّ الشيطانَ يتدخّل في تمنّياتهم.

3. أنّ اللّه يمحي آثار ذلك التدخّل.

وبتوضيح هذه النقاط الثلاث يتّضح مفاد الآية والمراد منها.

وإليك توضيح تلكم النقاط الثلاث:

1. ما هو المقصود من تمنّي الأنبياء والرُسل؟

لقد كان الأنبياء والرسل يحبّون هداية أُممهم، ونشر دينهم وتعاليمهم فيها، وكانوا يدبّرون أُموراً ويخطّطون خططاً لتحقيق أهدافهم هذه، كما كانوا يتحمّلون في هذا السبيل كلّ المتاعب والمصاعب، ويثبتون في جميع المشكلات والمحن.

ولم يكن رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم مستثنى عن هذه القاعدة، فقد كان صلى الله عليه و آله و سلم يخطّط لتحقيق أهدافه كثيراً، ويهيّئ مقدّمات ويبيّن القرآن هذه الحقيقة بقوله:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى» .

فاتّضح إلى هنا المراد من لفظ تمنّى ولنشرح الآن النقطة الثانية.

2. ما هو المقصود من تدخّل الشيطان؟

إنّ تدخُّل الشيطان يمكن أن يتمّ على نحوين:

1. أن يوجد الشكّ والترديد في عزم الأنبياء، ويوحي إليهم بأنَّ هناك عوائق كثيرة تحول بينهم وبين أهدافهم، ولذلك لن يحرزوا نجاحاً في تحقيق تلك الأهداف.

ص:551

2. بأنّ الأنبياء كلّما مهّدوا لأمر وهيَّأوا له مقدّماته، وَ ظهرت منهم أمارات تدلُّ على أنّهم مقدِمون على تنفيذه فعلاً أقام الشيطان ومن تبعه من شياطين الإنس العراقيل والموانع في طريقهم، ليمنعوهم من الوصول إلى غاياتهم.

أمّا الاحتمالُ الأوّل فلا ينسجم لا مع الآيات القرآنية الأُخرى ولا مع الآية اللاحقة.

أمّا مِن جهة الآيات الأُخرى فلأنّ القرآن ينفي بصراحة لا صراحة فوقها أنّه لا سلطان للشياطين على أولياء اللّه وعباده الصالحين (ولو بأن يصوّروا لهم بأنّهم لن يقدروا على تحقيق آمالهم، وأهدافهم) إذ يقول:

«إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» .(1)

ويقول أيضاً: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» .(2)

إنّ هذه الآيات، والآيات الأُخرى الّتي تنفي سلطان الشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين، وتأثيره في قلوبهم ونفوسهم لخيرُ شاهد وأفضل دليلٍ على أنَّ المقصودَ من تدخّل الشيطان في تمنّيات الأنبياء لَيس بمعنى إضعاف عزيمتهم، وإرادتهم وتكبير الموانع والعراقيل في نظرهم.

أمّا من جِهَة الآيات المبحوثة فإنّ الآية الثانية والثالثة تفسِّر وتشرح علّة التدخّل على النحو الآتي: إنّنا نختبر بهذا العمل فريقين من الناس: الفريق الأوّل: الَّذين في قلوبهم مرض، والفريق الثاني: الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر.

يعني أنَّ تدخُّل الشيطان في أعمال الأنبياء عن طريق تحريك الناس ضِدَّهم

ص:552


1- . الحجر: 42، الإسراء: 65.
2- . النحل: 99.

وضدَّ أهدافهم يوجب مخالفة الفريق الأوّل ومعارضتهم للأنبياء، في حين يكون الأمر على العكس من ذلك في الفريق الثاني فإنّه يزيد من ثباتهم وصمودهم.

وإنّ بيان أن لتدخل الشيطان في تمنّيات الأنبياء، مثل هذين الأثرين المختلفين (أي يحمل فريقاً على المخالفة وفريقاً آخر على الثبات والصمود) يفيد أنّ المراد بالتدخّل هنا هو المعنى الثاني، يعني أنّ التدخّل يحصل عن طريق تحريك الناس ضدّهم، وإلقاء الوساوس في قلوب أعدائهم، وخلق الموانع والعراقيل في طريقهم لا أنّهم يتصرّفون في نفوس الأنبياء وقلوبهم ويضعفون إرادتهم وعزمهم.

إلى هنا اتّضح معنى تدخّل الشيطان في تمنّيات الأنبياء والرسل.

والآن حان الحين لتوضيح المطلب الآخر يعني محو آثار هذا التدخّل.

3. ما هو المقصود من محو آثار التدخّل؟

إذا كان معنى تدخّل الشيطان هو تحريك الناس وتأليبهم ضد الأنبياء ليمنعوا الأنبياء والرسل من التقدّم في أهدافهم، فإنّ محو آثار التدخّل الشيطاني من قبل اللّه - حينئذٍ - يكون بمعنى أنّ اللّه يدفع عن أنبيائه ورسله كيد الشيطان ليتّضح الحقُّ للمؤمنين، ويكون اختباراً لمرضى القلوب كما يقول تعالى في آية أُخرى.

«إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» .(1)

وخلاصة القول: إنّ القرآن يخبر - في هذه الآيات - عن سنّة للّه قديمة في مجال الأنبياء وهي:

إنّ تَمنّي التقدّم في الأهداف وتمنّي التوفيق في هداية الناس هو فعل الأنبياء دائماً. ثم يأتي الدور لتدخّل الشيطان وأتباعه من شياطين الإنس والجنّ، وذلك

ص:553


1- . غافر: 51.

بإيجاد الموانع والعقبات في طريق الأنبياء والرسل.

ثم يأتي من بعد ذلك حلول المدد الإلهي الغيبيّ بمحو و فسخ كلّ التدابير الشيطانية المضادّة لأهداف الأنبياء المعرقِلة لتحقيق أمانيّهم.

وهذه هي إحدى السنن الإلهية الثابتة الّتي جرت في جميع الأُمم السالفة. إنّ تاريخ الأنبياء والرسل وقصصهم من نوح وإبراهيم وأنبياء بني إسرائيل وبخاصّة موسى وعيسى عليهما السلام، و تاريخ حياة الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم خير شاهد على هذا المطلب.

وينبغي استكمالاً لهذا البحث أن نقول: ولأجل ما ورد على هذه القصة الأُسطورية من مؤاخذات رفضها وفنّدها بعض المحقّقين من أهل السنّة إذ قال بعد ذكرها على النحو الّذي أدرجها الطبري في تاريخه وأرسله إرسال المسلّمات:

وأهل الأُصول يدفعون هذا الحديث بالحجّة.

ومن صحَّحهُ قال فيه أقوالاً:

منها: أنّ الشيطان قال ذلك وأذاعه والرسول عليه الصلاة والسَّلام لم ينطق به.

(وذكر وجوهاً أُخرى ثم قال:) والحديث على ما خيّلت غير مقطوع بصحّته.(1)

ص:554


1- . لاحظ: الروض الأنف (في تفسير السيرة النبوية لابن هشام) لعبد الرحمن السهيلي (المتوفّى 581 ه): 2/126.

21 الحصار الاقتصادي والاجتماعي

اشارة

إنّ أبسط وسيلة وأسهلها لضرب الأقلّيات في أي مجتمع، والقضاء عليها هو ما يُسمّى بالمكافحة السلبية الّتي تقوم أساساً على اتّحاد الأكثرية واتّفاقها على مقاطعة الأقليّة المتمرّدة.

إنّ عكس هذا يحتاج إلى أدوات متعدّدة مختلفة، لأنّه يتطلب مثلاً أن يحمل جماعة من المقاتلين السلاح، وتتوجّه نحو الأهداف المطلوبة عبر التضحية بقدر كبير من الأنفس والأموال، وإزالة العشرات من الموانع والسواتر، وهو أمر لا يُقدم عليه القادة المحنّكون إلّابعد توفّر كلّ مستلزمات المواجهة واتّخاذ جميع التدابير اللازمة، والاستعداد الكامل، وبالتالي لا يقدمون على هذه الخطوة ما لم تدعو الضرورة إليها، وتنحصرُ الحيلة في القتال.

ولكنّ المكافحة السلبية لا تتوقّف على مثل هذه الأُمور، بل تحتاج إلى أمر واحد وهو اتّفاق الأكثرية.

يعني أن يتّفق مَن يعنيهم الأمرُ ولهم عقيدة واحدة ويتحالفوا في ما بينهم بصدق على أن يقطعوا كلّ صلاتهم وعلاقاتهم بالأقليّة المعارضة، فيحرّموا التعامل التجاريّ معهم ويوقفوا الاتصال العائليّ بهم، ولا يشركونهم في أعمالهم الاجتماعية ولا يتعاونوا معهم في أُمورهم الشخصيّة أيضاً. في مثل هذه الحالة تضيق الأَرض على الأقلّية بما رحبت وتغدو الدنيا لهم على سعتها كسجن ضيق وصغير، ويصيرون عُرضة للانهيار والسقوط بأقلّ قدر ممكن من الضغط عليها.

ص:555

إنّ الاقليّة المخالفة المتمرّدة ربّما تستسلم - في هذه الحالة - وتؤوب من منتصف الطريق، وتطيع إرادة الأكثرية.

ولكن أقلية كهذه لابد أن تكون ممَّن لا تعود مخالفتها للأكثرية إلى أمر عقائديّ ولا يكون لانفصالها عن الأكثرية طابعٌ أُصوليٌ مبدئي، كما لو كان خلافها مع الأكثرية مثلاً على تحصيل ثروة أو منصب مهمّ أو ما شاكل ذلك.

فإنّ مثل هذه الأقلية إذا أحسّت بخطر جدّي، أو واجهت العذاب والسجن والحصار ستتراجع عن مخالفتها وتعود إلى طاعة الأكثرية مؤثرة اللّذة العابرة المؤقَّتة على اللّذة الاحتمالية، لأنّها لم تنطلق من دوافع إيمانية أصيلة، ولم يكن المحرّك لها محرّكاً روحياً معنوياً.

ولكن الجماعة الّتي يقوم خلافُها للأكثرية على أساس الإيمان بهدف مقدّس، لن تنصاع أبداً لمثل هذه الضغوط، ولن تنثني أمام هذه الرياح والعواصف، ولا يزيدها ضغطُ الحصار إلّاصلابة وقوة، وإصراراً وعناداً، وتردُّ جميع ضربات العدوّ بالصبر والاستقامة.

إنّ صفحات التاريخ البشريِّ تشهد بأنّ أقوى العوامل لثبات كلّ أقليّة وصمودها في وجه الأكثرية هو: قوةُ الإيمان، وعاملُ الاعتقاد، الّذي ربّما يؤدّي رسالة الثبات والمقاومة ببذل آخر قطرة دم في ساحة المواجهة.

ولنا على هذا عشرات بل ومئات الأمثلة من التاريخ الغابر والحاضر.

قريش تحاصر النبيّ والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً

لقد شقَّ على قريش انتشار الإسلام المتزايد وأزعجها نفوذه العجيب في القبائل العربية في مدة غير طويلة بالنسبة إلى عمر الدعوة ولهذا كانت تفكّر باستمرار في حلّ لهذه المشكلة.

ص:556

فإنّ إسلام شخصيات ذات أهمية ومكانة كبرى مثل حمزة، وكذا رغبة فتية قريش المتفتحين في الإسلام، وحرية العمل والتحرّك الّتي اكتسبها المسلمون على أثر الهجرة إلى أرض الحبشة، كلّ ذلك زاد من حيرة، واضطراب الزعامة الجاهلية في مكّة، الّتي زادها حيرة، وانزعاجاً، فشل جميع مخططاتها الإجهاضية ضد الإسلام والمسلمين، وعدم حصولها على أيّة نتائج تذكر!!

من هنا فكرت في خطة جديدة، وهي أن تفرض حصاراً اقتصادياً قوياً على النبيّ والمسلمين تقطع به كلّ الشرايين الحيوية للمسلمين، وبذلك تحدّ من سرعة انتشار الإسلام وتقف دون نفوذه، وبالتالي تخنق بين كمّاشة هذا الحصار مؤسّس هذه العقيدة التوحيدية، وأنصاره.

ولهذا اجتمع زعماء قريش في «دار الندوة» ووقّعوا ميثاقاً كتبه «منصور بن عكرمة» وعلّقوه في جوف الكعبة، وتحالفوا بأن تلتزم قريش ببنوده حتّى الموت.

ونصّ هذا العقد على الأُمور التالية:

1. أن لا يبتاعوا من أنصار النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولا يبيعوهم شيئاً.

2. أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم.

3. أن لا يؤاكلوهم ولا يكلّموهم.

4. أن يكونوا يداً واحدة على «محمَّد» وأنصاره.

وقد وقّعت على هذه الصحيفة الظالمة القاطعة كلُّ الشخصيات البارزة في قريش إلّا «مطعم بن عدي» وأعلنت عن سريان مفعوله بكلّ قوة وإصرار.

فلمّا علم حامي النبيّ الأكبر أبوطالب عليه السلام بذلك جمع بني هاشم و بني المطلب وحمّلهم مسؤولية الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والحفاظ على حياته وسلامته، وأمرهم بالخروج من مكّة وبدخول شعب كائن بين جبال مكّة كان

ص:557

يعرف بشعب أبي طالب فيه بعض البيوت العادية، والسقائف البسيطة جداً، والسكنى في ذلك الشعب بعيداً عن المجتمع المكّي المشرك.

وعمد إلى بثّ رجال منهم في نقاط مرتفعة للمراقبة والحراسة تحسّباً لأي هجوم مباغت تقومُ به قريش.(1)

وقد استمر هذا الحصار ثلاثة أعوام كاملة، وبلغ الجهدُ بالمحاصَرين في الشعب بحيث ارتفع صراخ الأطفال من الجوع والضر، وبلغت هذه الصرخات مسامع قساة مكّة إلّاأنّها لم تؤثر فيهم قط.

كان الشباب والرجال منهم يعيشون على تمرة واحدة طوال اليوم، وربّما تناصف اثنان تمرة واحدة، ولم يمكنهم الخروج من الشعب طوال هذه السنوات الثلاث إلّافي الأشهر الحرم حيث يسود الأمنُ كلّ أنحاء الجزيرة العربية.

فإذا حلّ الموسمُ كانت بنُو هاشم تخرج من الشعب فيشترون ويبيعون ثم يعودون إلى الشعب إلى الموسم الثاني.

وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يستغلّ هو أيضاً تلك المواسم في نشر دينه، والدعوة إلى ما أتى به. وكانت عناصر قريش تحاول مضايقة النبيّ وأنصاره وتمارس الحصار الاقتصادي عليهم بشكل من الأشكال حتّى في هذه المواسم، فكانوا يحضرون عند مواقع البيع والشراء، فإذا وجدوا مسلماً يريد أن يبتاع شيئاً اشتروه بثمن أغلى ليمنعوا المسلم منه!!

ص:558


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/234؛ تاريخ الطبري: 2/78، وقد كتبت هذه الصحيفة الظالمة في الليلة الأُولى من السنة السابعة للبعثة وعندما عرف أبوطالب بأمرها أنشد قصيدة في ذمهم مطلعها: ألم تعلموا أنا وجدنا محمَّداً نبياً كموسى خُطَّ في أوّل الكُتب

وكان «أبو لهب» أكثر الناس إصراراً على هذا العمل، فقد كان ينادي في الأسواق: يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمَّد حتّى لا يدركوا معكم شيئاً، فقد علمتم مالي ووفاء ذمّتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً، حتّى يرجع الرجل المسلم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب فيربّحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس!!.(1)

وكان «الوليد بن المغيرة» ينادي: أيّما رجل منهُم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه.(2)

وضع بني هاشم المأساوي في الشِعب

لقد بلغ الجهد والجوع بالمحاصَرين في الشعب حدّاً جعلهم يأكلون كلّ ما تقع عليه أيديهم من الخبط وورق السمر حتّى أن «سعد بن أبي وقاص» يقول: لقد جعت حتّى أنّي وطئتُ ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته، وما أدري ما هو إلى الآن.(3)

هذا وقد بثّت قريش جواسيسها على الطرق المؤدّية إلى الشعب ليمنعوا من إيصال الطعام إلى من فيه، فلا يصل إليهم شيء إلّاسراً و مستخفى به ممّن أراد صلتهم من قريش.

فقد روي أنّ «حكيم بن حزام» (ابن أخ خديجة) و «أبو العاص بن الربيع» و «هشام بن عمرو» كانوا يسرّبون إلى «بني هاشم» في الشعب سرّاً وفي أواسط

ص:559


1- . الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية: 2/127.
2- . سيرة ابن إسحاق (السير والمغازي): 2/140.
3- . الروض الأنف: 2/127.

الليل تحت جنح الظلام، فكان الواحد منهم يحمل قمحاً وتمراً على بعير ويأتي به إلى باب الشعب ثم يصيحُ بها فتدخلُ الشعب ويأخذه بنو هاشم.

وربّما صادفهم بعض جواسيس قريش، فهمُّوا بقتله، أو سبّبوا له بعض المتاعب.

فقد روي أنّ أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد، ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمّته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومعه في الشعب، فتعلّق به وقال: تذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت وطعامك حتّى أفضحَك بمكة. فجاءه أبو البختري فقال: مالك وله؟

فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم.

فقال له أبو البختريّ - وكان من أعداء الإسلام هو أيضاً -: طعام كان لعمّته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خل سبيل الرجل.

فأبى «أبوجهل» حتّى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ له «أبوالبختري» لحى بعير فضربه به فشجّه ووطأه وطئاً شديداً».(1)

وخلاصة القول؛ إنّ قريشاً بالغت في تضييق الحصار على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن تبعه حتّى أنّ مَن كان يدخل «مكّة» من العرب. كان لا يجسر على أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ومَن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله، وكان «أبوجهل»، و «العاص بن وائل» و «النضر بن الحارث بن كلدة»، و «عقبة بن أبي معيط» يخرجون إلى الطرقات الّتي تدخل «مكّة» فمَن رأوه معه ميرة وطعام نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ويحذرونه إن باع شيئاً منهم نهبوا ماله.

ص:560


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/236، هذا ويشكّك أحد المحقّقين في نوايا حكيم بن حزام في هذا العمل، وفي أن يكون قد حصل بدافع الوفاء لوشيجة القربى، بل كان بدافع الربح الأكثر لما ثبت - حسب قوله - من أنّه كان يحتكر الطعام على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

كما وعدوا على مَن أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتدّ البلاء عليهم، وأبدت قريش لبني عبدالمطلب الجفاء.

ولكن لم يستطع كلُّ ذلك أن يفتَّ في عضد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويقلّل من إصراره وثباته على الطريق، ولا مِن اصرار أتباعه وثباتهم وإيمانهم.

وأخيراً تركت صرخاتُ أطفالُ بني هاشم في الشعب من الجوع والعري والجهد والضر، وأوضاعهم المأساوية أثرها في نفوس بعض المشركين الموقعين على تلك الصحيفة الظالمة، وذلك الميثاق المشؤوم، فندموا على إمضائهم لتلك المقاطعة بشدة وصاروا يفكّرون في نقضها بشكل من الأشكال.

فمشى «هشام بن عمرو» إلى «زهير بن أبي أُمية» (وكان من أحفاد عبدالمطلب من جانب بناته) وقال له وهو يحثّه على نقض الصحيفة: يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت، لا يُباعون ولا يُبتاع منهم، ولا يُنكحون ولا يُنكحُ إليهم؟

أما إنّي أحلِفُ باللّه أن لو كانُوا أخوال أبي الحكم (أي أبي جهل) ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً؟

فقال زهير: ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنّما أنا رجلٌ واحدٌ، واللّه لو كان معي رجلٌ آخر لقمتُ في نقضها حتّى أنقضَها. قال: قد وجدتَ رجلاً.

قال: فمن هو؟ قال: أنا.

قال له زهير: أبغنا رجلاً ثالثاً. فذهب إلى «المطعم بن عدي» فقال له: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهدٌ على ذلك، موافقٌ لقريش فيه! أما واللّه لئن أمكنتُموُهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سراعاً؟

قال: ويحك! فماذا أصنع؟ إنّما أنا رجلٌ واحدٌ.

ص:561

قال: قد وجدتَ ثانياً.

قال: من هو؟ قال: أنا.

قال: أبغِنا ثالثاً.

قال: قد فعلتُ.

قال: مَن هوَ؟

قال: زهير بن أبي أُمية.

قال: ابغِنا رابعاً.

فذهب إلى «البَختري بن هشام» فقال له نحواً ممّا قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل مَن يُعين على هذا؟

قال: نعم.

قال: من هُوَ؟

قال: «زهير بن أبي أُمية» و «المطعم بن عديّ» وأنا معك.

قال: ابغنا خامساً.

فذهب إلى «زمعة بن الأسود بن المطلب» فكلَّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم فقال له: وهل على هذا الأمر الّذي تدعوني إليه من أحد؟

قال: نعم... ثم سمّى له القوم (الذين وعدوه بالمساعدة على نقض تلك الصحيفة القاطعة الظالمة).

فاتّفقوا على أن يحضروا في أندية قريش في المسجد ويُعلِنُوا مخالفَتهم لتلك الصحيفة.

فلمّا أصبحوا غَدوا إلى أنديتهم... ثم أقبل «زهير بن أبي أُميّة» على الناس

ص:562

وقال:

يا أهل مكّة أنأكل الطعام ونلبسُ الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يُباعون ولا يُبتاعُ منهم؟ واللّه لا أقعد حتّى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

فقال أبوجهل، وكان في ناحية المسجد: كذبتَ واللّه لا تُشقّ.

فانتصر زمعة لزهير وردَّ على أبي جهل قائلاً: أنت واللّه أكذبُ، ما رضينا كتابَها حيث كتبت.

وقال أبوالبختري من ناحية مؤيّداً موقف زميله: صدق زمعةُ لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقرّ به.

وقال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى اللّه منها، وممّا كتب فيها.

وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك.

فأحسّ أبوجهل بأنَّ ذلك كان أمراً مبيَّتاً مدبَّراً من قبل فقال:

هذا أمرٌ قُضِيَ بليل، تُشُوور فيه بغير هذا المكان.

وكان أبوطالب - حسب بعض الروايات التاريخية - جالساً ذلك اليوم في ناحية المسجد، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقَّها فوجد (الإرضة)(1) قد أكلتها، إلّا «باسمك اللَّهمَ» (الّتي صُدرَت بها تلك الصحيفة وهي جملة كانت قريش تبدأ بها عهودَها ورسائلها).(2)

فلمّا رأى «أبوطالب» ذلك رجع إلى الشعب وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما

ص:563


1- . وهي دودة بيضاء شبه النملة، وهي آفة كلّ شيء من خشب ونبات. راجع لسان العرب: 7/113، مادة «ارض».
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/252-253.

جرى، وعاد المحاصَرون في الشعب إلى منازلهم مرة أُخرى بعد المشورة مع «أبي طالب».

ويروي طائفةٌ من المؤرّخين أنّ «خديجة» و «أبا طالب» أنفقا أموالَهما برمّتها خلال سنوات المحاصرة.

وذكر بعض أهل العلم: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لأبي طالب: يا عمّ إنّ ربّي اللّه قد سلّط «الإرضة» على صحيفة قريش فلم تَدع فيها اسماً هوللّه إلّاأثبتتهُ فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان.

فقال أبوطالب: أربّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم، قال: فواللّه ما يدخلُ عليك أحَدٌ.(1)

ثم قامَ ولبسَ ثيابَه، ومشى هو ورسولُ اللّه وشخصٌ آخر حتّى دخلوا المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه، فلمّا دَنا أبوطالب منهم قامُوا إليه وعظَّموه، وتباشروا وظنّوا أنّ الحصَر والبلاء حمل أبا طالب على التخلّي عن موقفه، فقالوا له: قد آن لك أن تطيب نفسُك عن قتل رجل في قتله صلاحُكم وجماعتكم (أو قد آن لك أن تسلّم إلينا ابن أخيك).

فقال أبو طالب: واللّه ما جئت لهذا، ولكنَّ ابن أخي أخبرني ولم يكذّبني أنّ اللّه تعالى أخبَرهُ أنّه بعث على صحيفتكُم القاطعة دابَّة فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم اللّه، فهلم صحيفتكم، فإن كان حقّاً فاتّقوا اللّه وارجعُوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرَّحم.

وإن كان باطلاً دفعتُه إليكم فإن شئتم قتلتمُوهُ، وإن شئتم استحييتموه.

ص:564


1- . وإنّما اتخذ مثلَ هذا الإجراء حتّى لا يفشو ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالُوا للصحيفة ويكذّبوا بذلك خبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فقالوا: رضينا، وتعاقدوا على ذلك.

ثم بعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة، وعليها أربعون خاتماً.

فلمّا أتَوا بها نَظر كلُّ رجل منهم إلى خاتمه، ثم فكوها فإذا ليس فيها حرفٌ واحدٌ إلّا «باسمك اللّهمَّ»، كما أخبرهم بذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

غير أنَّ هذا لم يوجب هدايتهم بل زادهم شرّاً وعناداً، ورجع بنو هاشم مرّة أُخرى إلى الشعب وبقوا محاصرين فيه مدّة من الزمن، ولم يمكنهم الرجوعُ إلى منازلهم بمكة إلّابعد أن نقضها هشام.(1)

وقد قال «أبوطالب» في مدح هذا (أي نقض الصحيفة القاطعة والنَفر الذين قاموا بنقضها) قصيدة مطوَّلة جاء في مطلعها.

ألا هل أتى بَحريُّنا(2) صنعُ ربّنا على نأيهم واللّه بالناس أرودُ(3)

فيخبرهم أنَّ الصحيفة مُزّقَت وأنّ كلُّ ما لم يَرضه اللّه مُفسدُ(4)

هذه أمثلةٌ ونماذجُ من رُدود الفعل الظالمة والمواقف المناوئة الّتي اتّخذتها قريشٌ تجاه الدعوة المحمدية.

على أنّه لا يمكن الادّعاء القطعيّ بأنّ جميع هذه الردود قد وقعت على الترتيب الّذي ذكرناه تماماً، ولكن يمكن بمراجعة النصوص التاريخيّة تحصيل مثل هذا الترتيب وخاصّة أنّ مسألة انتهاء المحاصرة الاقتصادية قد وقعت في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة الشريفة.

ص:565


1- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/253.
2- . يقصد من هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر.
3- . أي أرفقُ.
4- . السيرة النبوية: 1/253-255. وقد أدرج ابن هشام القصيدة بتمامها، فراجع.

كما أنَّ أذى قريش وردود فعلها ضدّ الإسلام والمسلمين وضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة لم تنحصر في ما ذكرناه في هذه الفصول بل كانت هناك أساليب أُخرى سلكتها قريش لتحطيم شخصية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وإضعاف عزيمته مثل وصفهم للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بالأبتر.

فقد كان «العاصُ بن وائل السهمي» إذا ذكر رسول اللّه قال: دعوهُ، فإنَّما هو رجلٌ أبترٌ لا عقب له، لومات لا نقطع ذكره واسترحتم منه.

فأنزل اللّه تعالى في ذلك سورة الكوثر الّتي يقول فيها:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ».

وقد أخبر بها اللّه نبيَّه بأنّه سيهبُه ذريّة كثيرة.(1)

ولقد كتبَ العلّامة الفخر الرازي في تفسيره لهذه السورة: المعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قُتِلَ من أهل البيت؟ ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحدٌ يُعبأ به.(2)

ووجه المناسبة أنّ الكافر شمت بالنبيّ حين مات أحد أولاده وقال: إنّ محمَّداً أبتر فإن مات مات ذكره، فأنزل اللّه هذه السورة على نبيّه تسلية له كأنه تعالى يقول: إن كان ابنك قد مات فإنّا أعطيناك فاطمة، وهي وإن كانت واحدة وقليلة، ولكن اللّه سيجعل هذا الواحد كثيراً.

ص:566


1- . السيرة النبوية: 1/265. وجميع التفاسير.
2- . تفسير الرازي (مفاتيح الغيب): 32/124، تفسير سورة الكوثر.

22 أبو طالب رجل الإيمان والتضحيات

اشارة

في الوَقت الّذي كنّا نسطّر فيه مواضيع هذا الفصل كان سجن «القطيف» يضمُّ بين جدرانه رجلاً حر الضمير شجاعاً مقداماً لم يكن له من ذنب إلّاأنّه ألّف كتاباً باسم «أبو طالب مؤمن قريش» يتناول إسلام «أبي طالب» وإيمانه وإخلاصه مثبتاً كلّ ذلك من مصادر أهل السنّة.(1)

فطلبت منه السلطات القضائيّة في الحجاز - وفي عصر يتّسمُ بحرّية التفكير والبيانِ والإعتقادِ - بأن يتراجع عن كلامه، وحيث إنّه لم يكن ليريد أن ينكر حقيقة اعتقد بها عن قناعة ويقين، حكمت عليه تلك السلطات بالإعدام!!

وقد نجا هذا المؤمن الشجاع والكاتب الحرّ من الإعدام اثر جهود إسلامية واسعة وخُفِّضت عقوبته إلى الحبس المؤبّد، ومن ثمّ خفّضت إلى عقوبة الجَلد ثمانين جلدة!!.

وقد أُطلق سراحه بفضل الجهود المتضافرة لعلماء الشيعة ومفكّريهم.

لقد سقطت مؤامرة الحصار الاقتصادي ضدّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بفعل جهود ثلة من ذوي المروءة وأيضاً بفضل صمود النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وثباتهم العظيم. وخرج النبيّ وأنصاره من «شِعب أبي طالب» بعد ثلاث سنوات من النفي والعذاب وعادوا إلى منازلهم ظافرين مرفوعي الرؤوس.

ص:567


1- . والكتاب يقع في 340 صفحة طبع بالحجم الوزيري وطُبع في بيروت مراراً وقدّم له الأديبُ اللبناني المعروف «بولس سلامة» صاحب ملحمة الغدير وملاحم أُخرى.

وعاد التعامُل الاقتصادي مع المسلمين إلى ما كان عليه قبل الحصار، وكانت أوضاع المسلمين تسير نحو الانتعاش والانفراج شيئاً فشيئاً، وإذا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يُفاجَأ بحادث مؤلم مرٍّ ذلك هو وفاة شخصيةٍ كبرى أحدث فقدانها أثراً سيّئاً في نفوس المسلمين وبخاصّة المستضعفين منهم.

ولقد كان هذا الأثر عظيماً جداً بحيث لا يمكن قياسه بشيءٍ بالنظر إلى تلك الظروف الحسّاسة، وذلك لأنّ نمو أية عقيدةٍ وفكرة إنّما يكون في ظل عاملين أساسيّين: أحدهما: حرية التعبير، والآخر: القوة الدفاعية الّتي تحمي أصحاب تلك العقيدة والفكرة ضدّ حملات الخصوم الّتي لا ترحم.

ولقد كان المسلمون - آنذاك - يتمتعون بحرية البيان والتعبير، ولكنّهم افتقدوا بسبب الحادث المفاجئ المذكور العاملَ الجوهري والمصيري الثاني يعني: حامي الإسلام والمدافع الوحيد عنه الّذي وافته المنية في تلك الأيام الحسّاسة وحُرم المسلمون بوفاته من حمايته ودفاعه، ووقايته.

***

أجل لقد فَقَد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حاميه العظيم الّذي تولى مهمة كفالته والدفاع عنه، والمحافظة على حياته بصدق وإخلاص وجدّ و رغبة، وكان يقيه بنفسه وذويه ويؤثره على نفسه وأولاده وينفق عليه من ماله حتّى كَبُرَ وصار له مال وطول منذ أن كان صلى الله عليه و آله و سلم في السنة الثامنة من عمره وحتّى يوم وفاة ذلك الحامي العظيم، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الخمسين من عمره.

لقد فَقَد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شخصيةً خاطبها عبدُالمطلب عند وفاته بالشعر قائلاً:

أُوصِيكَ يا عَبدَ منافٍ بعدي بموحد بَعدَ أبيهِ فَردِ

ص:568

فأجابه أبوطالب قائلاً: يا أبَه لا توصني بمحمّد فإنّه ابني وابن أخي.(1)

ولعلّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد تذكّر في اللحظة الّتي ظهر فيها على جبين أبي طالب عرقُ الموت جميع الحوادث الحلوة والمرّة وقال في نفسه:

1. إنّ هذا الشخص المسجّى على فراش الموت هو عمّه الرؤوف الّذي ظلَّ يحرسه بالليل والنهار طيلة سنوات الحصار في الشعب، فاذا جاء الليل قام عند رأسه بالسيف يحرسه. ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مضطجع ثم يقيمه من فراشه إذا مضى شطرٌ من الليل ويضجعه في موضع آخر ويضجع مكانه ولده «علي بن أبي طالب» حتّى لا تغتاله قريش بعد أن رَصَدوا مكانه، وكمنوا له، وكان يفعل أبوطالب ذلك طوال الليل كلّه فيفديني بولده «علي» ويقيني به حتّى إذا قال له «عليٌ» ليلة:

«يا أبتاه إنّي مقتول ذات ليلة».

فأجابه أبوطالب بنبرة المتحمّس الصبور:

إصبِرَن يا بُنَيَّ فَالصبِرُ أحجى كُلُّ حَيٍّ مَصِيرُه لِشُعُوبِ

قَد بَلَوناك وَ البَلاءُ شَديدٌ لِفِداءِ النَجِيبِ وَ ابنِ النَجيبِ

فأجابه «عليٌّ» بكلام أكثر حلاوةً وعمقاً قائلاً:

أَتَأمُرُني بالصَّبرِ في نَصر أحمَدٍ؟ وَ وَاللّهِ ما قُلتُ الّذي قُلتُ جازعاً

وَلكِنَّني أَحبَبتُ أن تَرَ نُصرَتي وَ تعلَمَ أَنّي لَم أَزَل لَكَ طائِعاً(2)

2. إنّ هذا الجثمان الّذي فارقته الروح هو جثمان عمّي العطوف الّذي شُرّدَ هو وذووه، وعرَّض نفسَه وأهلَه للبَلاء والمحنَة بسبب الحصار لأجلي، وأمر بأن

ص:569


1- . مناقب ابن شهرآشوب: 1/34-35؛ بحار الأنوار: 35/86 ح 30.
2- . مناقب ابن شهر آشوب: 1/58؛ بحار الأنوار: 35/93.

يحرسونني ليلَ نهار، تاركاً زعامته وسيادته، وكلّ شؤُونه للحفاظ عليَّ والإبقاء على رسالتي، وأرسل إلى قريش رسالةً قويةً أعلنَ فيها عن وُقُوفه إلى جانبي وأنّه لن يسلمني ويخذلني مادام حيّاً إذ قال:

فَلا تَحسبُونا خاذِلين مُحمَّداً لذي عزّة مِنّا وَ لا متعزّب

سَتَمنعُه مِنّا يَدٌ هاشِميّةٌ وَ مَركَبُها في الناسِ أخشن مركب(1)

بعد أن تحقّق موت «أبي طالب» ارتفع الصراخ والنحيب من منازله وبيوته، واجتمع حول بيته العدوُّ والصديقُ، والقريبُ والبعيد، واشترك الجميعُ في مراسيم دفنه بقلوب آلمتها الفجيعة به، وقرّحها الحزنُ عليه.

وهل ترى تنتهي آثار وردود فعل وفاة شخصية عظيمة الشأن مثل «أبي طالب» الّذي كان زعيم قريش، وسيد عشيرته بمثل هذه السرعة، والبساطة؟

كلّا بل سيكون لفقدانه أكبر الأثر على مسيرة الدعوة كما ستعرف ذلك مستقبلاً.

نماذج من مشاعر أبي طالب ومودّته للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

إنّ التاريخ البشريّ يحتفظ في صفحاته بأمثلة كثيرة عن مشاعر تبادَلها الأشخاصُ وعواطف وديّة قويّة أبداها البعض تجاه بعض تدورُ أكثرها حول محور الدوافع المادية كالتي تدور حول معيار الجمال أو المال، ولهذا سرعان ما يذهب الحماسُ وتنطفئُ شعلةُ الحبّ، ويتضاءل لهيبُ العاطفةُ في كيانهم حتّى تزول بالمرَّة ولا يبقى منها شيء أبداً لعدم ثبات هذه الدوافع.

ولكنَّ المشاعرَ والعواطفَ الّتي تنبعُ من أواصر الإيمان بفضائل شخص ما

ص:570


1- . بحار الأنوار: 19/4 و 20 و ج 35/93، وفيه: لدى غربة منا ولا متقرب.

وكمالاتِه الروحية والمعنوية لا تنمحي ولا تتلاشى بسرعة.

وقد كانت مودة «أبي طالب» لمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم وحبّه الشديد له تنبع من كلا هذين الدافعّين.

فقد كان «أبو طالب» يؤمن بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم ويرى فيه من جانب الإنسان الكاملَ، بل يعتبره في قمّة الكمال الانساني، ومن جانب آخر كان «محمّد» ابن أخيه، وقد أحلّه ذلك من قلبه محلّ الابن والأخ.

لقد كانت لصفات «محمّد» وخصاله المعنوية والأخلاقية، وطهره مكانة كبرى في قلب عمّه «أبي طالب» إلى درجة أنّه كان يصطحبه معه إلى المصلّى، ويستسقي به أي أنّه يقسم على اللّه بمقامه أن يدفعَ عن الناس القحط والجدب وينزّلَ عليهم الغيث، فكانت دعوتُه تستجاب من دون تأخير.

فقد نقل كثيرٌ من المؤرّخين الحادثة التالية:

قحط الناسُ في «مكّة» وحواليها سنةً من السنين، ومَنعتِ السماء والأرض بركاتها عنهم بشكل عجيب، فمشت قريش بعيون باكية إلى «أبي طالب» تطلب منه بإلحاح أن يستسقي لهم، وأن يذهب إلى المصلّى ويدعو ربّه لينزِّلَ عليهم المطر وينقذهم من تلك المحنة الصعبة.

فخرج «أبو طالب» وقد أخذ بيد غلامٍ كأنّه شمسُ دجن (دجنة) تجلّت عنها غمامة، فأسند ظهره إلى الكعبة ورفع وجهه نحو السماء وقال: يا رب هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً، دائماً هاطلاً.

ويكتب المؤرّخون أنّ السماء كانت صافية لا غيم فيها أبداً ساعة استسقى «أبو طالب» برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولكن ما أن فرغ «أبوطالب» من دعائه إلّاوأقبلت السحاب في الحال، وغطّت سماء «مكّة» وما حولها من المناطق القريبة إليها،

ص:571

وأرعدت السماء وأبرقت ثم جرى غيث عظيم سالت به الأودية، وروت القريب والبعيد، وَسُرّ به الجميع ورضوا.(1)

وقد أشار «أبوطالب» في لا ميّته المعروفة إلى هذه الحادثة.

وقد أنشأ «أبوطالب» تلك القصيدة في أحلك الظروف وأشدّها، يوم زادت قريشٌ من ضغوطها على حامي الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ليسلِّمَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليها.

وقد ذكَّر فيها «أبوطالب» قريشاً بحادثة الاستسقاء برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل الإسلام وكيف أنّها أُمطِرَت ببركته، بعد قحط طويل، وجدب مهلِك، كاد يبيد الحرث والضرع، وذلك عندما يقول:

وابيض يُستسقى الغمامُ بوجهه ربيع اليتامى عصمة للأرامل

تلوذُ به الهُلاك مِن آل هاشم فهم عندَهُ في نعمة وفواضل

وقد نقل «ابن هشام» في سيرته(2) أربعة وتسعين بيتاً من هذه القصيدة، فيما أورد «ابن كثير» الشامي في تاريخه(3) اثنين وتسعين بيتاً فقط.

وهي قصيدة في منتهى الروعة والعذوبة، وفي غاية القوة والجمال، وتفوق في هذه الجهات كلّ المعلقات السبع الّتي كان عرب الجاهلية يفتخرون بها، ويعدّونها من أرقى ما قيل في مجال الشعر والنظم.

وقد أورد «أبو هفان العبدي» الجامع لديوان «أبي طالب» مائة وواحد وعشرين بيتاً من هذه القصيدة في ذلك الديوان، ويمكن أن تكون كلُّ تلك القصيدة وتمامها.

ص:572


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 18/2 و 3؛ السيرة الحلبية: 1/190.
2- . السيرة النبوية: 1/176-180.
3- . البداية والنهاية: 3/70-74.

ونحن نورد هنا أبياتاً متفرّقة من هذه القصيدة ممّا يتّصل منها برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بصورة صريحة.

كَذِبتُم وبيتِ اللّه نبزى محمّداً ولما نطاعِن دونه ونناضل(1)

ونُسلِمُه حتّى نُصرَّعَ حوله ونَذهَل عن أبنائنا والحلائِل

لَعمري لقد كلّفتُ وجداً بأَحمدٍ وإخوته دأبَ المحبِّ المواصل

فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها و زَيناً لمن والاه ربُّ المشاكل(2)

فَمَن مثلُه في الناس أيُ مؤمَّل إذا قاسَهُ الحُكام عند التفاضل

حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائش يُوالي إلاهاً ليس عنه بِغافِلِ

لقد علِمُوا أنَّ ابْننا لا مكذَّبٌ لدينا ولا يُعنى بقولِ الأباطِل

فأصبَحَ فينا أحمدٌ في أُرومة تقصّر عنه سَورة المتطاول(3)

حَدِبْتُ بنفسي دونَه وحميته ودافعتُ عنه بالذُّرا والكلاكل(4)

فَأيّدَهُ ربُّ العباد بنصره وأظهرَ ديناً حقُّه غير باطل(5)

التغيير في برنامج السفر

لم يكن يمض أكثر من اثني عشر ربيعاً من عُمُر «محمّد» بعد، عندما أراد «أبوطالب» التوجّه إلى الشام مع قافلة قريش التجارية.

وعندما استعدّت القافلة لمغادرة مكّة ودق جرس الرحيل، أخذ «محمّد»

ص:573


1- . أي نُغلَبَ عليه.
2- . المشاكل: العظيمات من الأُمور.
3- . السورة: الشدة والبطش.
4- . الذرا: جمع ذروة وهي أعلى ظهر البعير.
5- . راجع السيرة النبوية: 1/177-180.

فجأة بزمام الناقة الّتي كان يركبها عمُّه وكافله «أبوطالب» بينما اغرورقت عيناه صلى الله عليه و آله و سلم بالدموع وقال:

«يا عمّ إلى مَن تكلني، لا أب لي ولا أُم»؟. هذا المشهد المؤثّر وبخاصّة عند ما رأى «أبوطالب» عيني محمّد وقد اغرورقت بالدموع، فعل فعلته في نفس العم الكافل الحنون، فانحدرت عبرات العطف من عينيه وقرّر من فوره ومن دون سابق تفكير في الموضوع أن يصطحب ابن أخيه «محمّداً» معه في هذا الرحلة، ومع أنّه لم يحسب لهذا الأمر - من قبل - أي حساب، فإنّ «أباطالب» قبل بأن يتحمّل كلّ ما يترتّب على قراره هذا، فحمله معه على ناقته، وبقي يفكر في أمره، ويدبّر شأنه، ويحافظ عليه طوال تلك الرحلة، وشهد منه أثناء الطريق كرامات وخوارق، وقد أنشأ في ذلك قصيدةً موجودةً في ديوان أبي طالب، ومطلع هذه القصيدة هو:

إنَّ ابن آمنة النبيّ محمّداً عندي يفوقُ منازلَ الأولاد(1)

***

أبو طالب والدِفاعُ عن حوزة العقيدة والإيمان

ليست هناك قوةٌ تساعد على الثبات والمقاومة، والصمود والاستقامة، مثل قوة الإيمان، فالايمان بالهدف هو العامل القوي وراء تقدّم الإنسان في ميدان الحياة، فهو الّذي يهضم في نفسه كل الآلام والمتاعب، ويدفع بالمرء إلى المضي قدماً في طريق الوصول إلى أهدافه المقدّسة، حتّى ولو كلّفه ذلك التعرض للموت.

إنَّ الجنديّ المُسلَّح بقوةِ الإيمان منتصرٌ لا محالة.

ص:574


1- . لاحظ: إيمان أبي طالب للشيخ المفيد: 36؛ ديوان أبي طالب: 33-35؛ تاريخ ابن عساكر: 10/1.

إنّ الجنديّ الّذي يعتقد بأنّ الموت في طريق العقيدة هو عين السعادة لابدّ أن يحرز النصر.

إنّ على الجندي - قبل أن يسلِّحَ نفسَه بسلاح العصر - أن يتزوّد في قلبه من طاقة الإيمان بالهدف، ويضيء قلبه بمصباح الاعتقاد بالحقيقة، وحبِّها، ويجب أن يكون جهادُه وصلحُه من أجل العقيدة والدفاع عن حوزتها، وكيانها.

إِنَّ أفكارنا وعقائدنا نابعةٌ من روحنا، وفي الحقيقة أنَّ فكر الإنسان وليد عقله، فكما أنَّ الإنسان يحبُ ولده حبّاً شديداً كذلك يحب أفكاره الّتي هي ولائد عقله وروحه، بل إن حبّ الإنسان لعقيدته أكثر من حبّه لأولاده، ولهذا فهو يدافع عن عقائده حتّى الموت، ويغضي - في سبيل الدفاع عن حوزة العقيدة والحفاظ عليها - عن كلّ شيء بينما هو غير مستعدّ لأن يضحي بنفسه في سبيل الحفاظ على أولاده.

إنّ حب المرء للمال والمنصب حبُّ محدود، فهو ينساق مع هذا الحبّ مادام لم يهدّد حياته خطرُ الموت الحقيقي، ولكنّه مستعد لأن يمضي - في سبيل الدفاع عن حياض العقيدة - إلى حدّ الموت، ويؤثر الموت الشريف في سبيل العقيدة على الحياة، ويَرى الحياة الحقيقية والواقعية في وجود الرجال المجاهدين، وهو يردّد:

«إنّما الحياة عقيدة وجهاد».(1)

ولنلق نظرة فاحصة على حياة بطل حديثنا (ونعني به المدافع الوحيد عن الإسلام وحامي الرسول الأوحد في بدايات عهد الرسالة) فماذا كان دافعه إلى هذا

ص:575


1- . المراد من العقيدة المقدّسة هو بطبيعة الحال ما تذوب «الأنا» فيها في التوحيد والإيمان باللّه إذ هنا يصدُق قولُه: قِف عند رأيك واجتهد إنّ الحياة عقيدةٌ وجِهاد

الأمر، وما الّذي كان يحركه في هذا السبيل؟ وأي شيء كان وراء مضيه في هذا الطريق إلى حافّة العدم، والغض عن النفس والنفيس، والمقام، والقبيلة وغير ذلك والتضحية بكلّ ذلك في سبيل «محمّد» صلى الله عليه و آله و سلم.

إنّ من المتيقَّن أنّ دافعه إلى ذلك لم يكن المحرّك الماديّ، وبالتالي لم يقصد من وراء الدفاع عن ابن أخيه، وحمايته، والحدب عليه، كسب أمر مادي كتحصيل مال وثروة، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن له يومئذ مالٌ، ولا ثروة.

وكما أنّ مقصود «أبي طالب» لم يكن أيضاً تحصيل مقام، وإحراز مكانة اجتماعية؛ لأنّه كان يملك في ذلك المجتمع أعلى المناصب وأهمها، فقد كانت له رئاسه «مكّة» والبطحاء، بل هو فقد منصبه وشخصيته الممتازة و مكانته المنقولة بسبب دفاعه عن «محمّد»، وعدم الاستجابة لقومه في تسليمه إليهم، والتخلّي عنه؛ لأنّ دفاعه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد استوجب سخط زعماء قريش عليه واستياءهم من موقفه، وخروجهم عن طاعته، ودفعهم إلى التمادي في معاداة «بني هاشم» و «أبي طالب» والثورة عليهم!!

تصَوّرٌ باطلٌ

ربّما يتصوّر بعض ضعفاء البصيرة أنّ علّة حدب «أبي طالب» على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والتضحية في سبيله بالنفس والنفيس كانت هي: علاقة القربى، ووشيجة الرَّحِم، أو بتعبير آخر: إِنّ التعصّب القبليّ، والعصبية القومية هو الّذي دفع بأبي طالب إلى أن يعرّض نفسه لكلّ ذلك المكروه في سبيل ابن أخيه.

ولكنّ هذا ليس سوى مجرّد تصوّر باطل لا غير، ويتّضح بطلانه بدراسة مختصرة؛ لأنّه لا تسطيع أية وشيجة قربى على أن تدفع أحداً إلى أن يضحّي بنفسه في أحد أقربائه إلى هذه الدرجة من التضحية والمفاداة، بحيث يقي مثلاً

ص:576

ابن أخيه عليه، ويكون مستعداً لأن يتقطّع ولده بالسيوف إرباً إرباً دون ابن أخيه.

إنّ العصبيّات القبلية والعائلية وإن كانت تدفع بالإنسان حتّى إلى حافّة الموت، ولكن لا معنى لأن تختصّ، هذه الحماية الناشئة عن العصبية العائلية والقبلية الشديدة بفرد واحدٍ، وشخص خاص معيّن من أفراد العائلة والقبيلة، في حين نجد «أبا طالب» قد قام بكلّ هذه التضحية في سبيل شخص واحد، وفرد معين (أي النبيّ)، ولا يفعل مثل هذه في سبيل غيره من أبناء «عبدالمطلب» و «هاشم» وأحفادهما ومَن ينتمي إليهم بوشيجة القربى ورابطة الرحم.

الدافع الحقيقيّ لأبي طالب

وعلى هذا الأساس فإنّ المحرّك والدافِعَ الحقيقيّ لأبي طالب لم يكن أمراً مادياً ولا الجاه والمنصب، أو التعصب القومي، والعائلي، بل كان أمراً معنوياً، وأنّ ضغوط العدوّ وقوّته كانت تدفعه إلى الاستعداد للقيام بأي نوع من أنواع التضحية وذلك الأمر المعنويّ هو اعتقاده الراسخ برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعتبر «محمّداً» مظهراً كاملاً للفضيلة والإنسانية، ويعتبر دينه أفضل برنامج للسعادة، وحيث إنّه كان يحبُّ الحقيقة، ويعشق الكمالَ والحقّ، لذلك كان من الطبيعيّ أن يدافع عن الحقّ والحقيقة، وينصرهما بكلّ وجوده، وبكلّ قواه.

وهذا المعنى هو المستفاد من قصائد «أبي طالب» وأشعاره، فهو يصرّح بأنّ «محمّداً» رسولٌ كموسى وعيسى إذ يقول:

لِيَعلَم خِيارُ النّاسِ أَنَّ مُحمَّداً وزير لموسى وَ المَسيحِ بنِ مَريَمِ

ص:577

أَتانا بِهَدي مِثلَ ما أتيا بهِ فَكُلٌّ بِأمرِ اللّهِ يَهدي وَ يَعصِمِ (1)

ويقول في قصيدة أُخرى:

ألَم تَعلَمُوا أَنَّا وَجَدنا محمّداً نَبِيّاً كَمُوسى خطّ في أوّل الكُتب(2)

هذا وتعتبر أبياته الّتي سبق أن أشرنا إليها والكثير من أمثالها ممّا جاء ذكره في ديوان أبي طالب، وفي ثنايا التاريخ والتفسير والحديث شواهد حيّة وقوية على أنّ محرّك «أبي طالب» الواقعي ودافعه الحقيقي إلى الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان هو اعتقاده الخالص، وإسلامه الواقعي ولم يكن له أي دافع آخر سوى الإيمان والعقيدة.

ونحن هنا نكشف النقابَ عن بعض مواقفه في الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته بعد اضطلاعه بعبء الرسالة، ونترك لك أيّها القارئ بأن تدقّق في مثل هذه المواقف الفدائية ثم تقضي بنفسك: هل تنبع مثل هذه التضحية، ومثل هذا التفاني، والفداء إلّامن الإيمان والاعتقاد؟

***

لمحات من تضحيات أبي طالب

اجتمع أسياد قريش وأشرافها في بيت أبي طالب والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حاضر، وتبودلت بين الجانبين أحاديث حول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودينه وما خلق من مشكلات في مكّة، وحاول القرشيّون إثناء النبيّ عن دعوته وعمله ولكن دون

ص:578


1- . مجمع البيان: 4/32؛ مستدرك الحاكم: 2/623 و 624. وفي أعيان الشيعة: 4/121: (نظير) بدل (وزير).
2- . مجمع البيان: 4/31. وقد نقل ابن هشام في السيرة النبوية: 1/235-236 خمسة عشر بيتاً من هذه القصيدة.

جدوى، فلمّا يئسوا من الحصول على النتيجة الّتي كانوا يريدونها نهضوا من مكانهم ليتركوا بيت «أبي طالب» قال «عقبة ابن أبي معيط» غاضباً مهدّداً: لا نعود إليه أبداً، وما خير من أن نغتال محمّداً!!

فلمّا كان مساء تلك الليلة فقد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجاء «أبوطالب» وعمومته إلى منزله فلم يجدوه، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب، ثم قال - وهو يظن أنّ قريشاً كادت برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ليأخذ كلّ واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني إذا دخلت المسجد، فلينظر كلّ فتى منكم، فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية - يعنى أبا جهل - فإنّه لم يغب عن شر إن كان محمّد قد قتِل، فقال الفتيان: نفعل فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال فقال: يا زيد أحسست ابن أخي؟ قال: نعم كنت معه آنفاً.

فقال أبو طالب: لا أدخل بيتي أبداً حتّى أراه.

فخرج زيد سريعاً حتّى أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو في بيت عند الصفا و معه أصحابه يتحدّثون فأخبره الخبر، فجاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أبي طالب فقال: يا ابن أخي: أين كنت؟ أكنتَ في خير؟ قال: نعم، قال: أدخل بيتك، فدخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا أصبح أبوطالب غدا على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأخذ بيده فوقف على أندية قريش ومعه الفتيان الهاشميون والمطلبيون فقال: يا معشر قريش هل تدرون ما هممتُ به؟

قالوا: لا، فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان اكشفوا عمّا في أيديكم، فكشفوا، فإذا كلّ رجل منهم معه حديدة صارمة. فقال: واللّه لو قتلتموه ما بقّيت منكم أحداً حتّى نتفانى نحن وأنتم، فانكسر القوم، وكان أشدَّهم انكساراً أبوجهل.(1)

ص:579


1- . الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/202-203.

لو لاحظت أيها القارئ الكريم هذه الصفحات وغيرها من تاريخ «أبي طالب»، ودرستَ حياته لرأيت كيف أنّ «أبا طالب» ظلّ طوال اثنين وأربعين سنة بأيّامها ولياليها يحدب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويدافع عنه، ويحاميه، وبخاصة في السنوات العشر الأخيرة من حياته الّتي صادفت بعثة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودعوته، فقد أظهر من الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والحرص على حياته، وحماية هدفه أكثر ممّا يُتصوّر. ولقد كان العامل الوحيد الّذي دفعه إلى مثل هذا الموقف الراسخ العظيم في هذا السبيل هو: عمق الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقوة الاعتقاد الخالص برسالته.

ولو أنّنا ضممنا إلى تضحياته الشخصية تضحيات ولده العزيز «عليّ» لأدركنا مغزى البيتين اللّذين أنشدهما «ابن أبي الحديد» المعتزلي الشافعي إذ قال:

ولولا أبوطالب وابنُه لما مَثُلَ الدِّينُ شخصاً وقاما

فذاك بمكّة آوى وَ حامى وَ هذا بِيَثربَ جَسَّ الحماما(1)

تكفير أبي طالب قضيّةٌ ذات بواعث سياسيّة:

ليس من ريب في أنّه لو ثبت عُشر هذا القدر من الشواهد الدالّة على إسلام «أبي طالب» وإيمانه بالرسالة المحمّدية، لغيره ممّن هو بعيدٌ عن قضايا السياسة، وخارج عن دائرة الحقد والبغض لاتّفق الجميع سنةً وشيعةً على إسلامه وإيمانه، ولكن كيف ذهب فريقٌ إلى تكفير «أبي طالب» مع كلّ هذه الشواهد القويّة القاطعة على إيمانه، حتّى أنّ فريقاً من الكتّاب ذهب إلى أنّ بعض الآيات المشعرة بالعذاب

ص:580


1- . شرح نهج البلاغة: 14/84 يقول ابن أبي الحديد: صنّف بعض الطالبيّين في هذا العصر كتاباً في إسلام أبي طالب، وبعثه إليّ، وسألني أن أكتب عليه بخطّي نظماً أو نثراً أشهد فيه بصحّة ذلك، وبوثاقة الأدلّة عليه (إلى أن قال:) فكتبت على ظاهر المجلد هذه الأبيات.

نزلت في شأنه؟!

بينما توقّف في هذا الأمر، وذهب أفراد معدودون من علماء السنّة إلى الحكم بإسلامه وإيمانه، ومنهم «زيني دحلان» مفتي مكّة المتوفّى سنة 1304 من الهجرة.

ولكن الإنصاف هو أن يقال: إنّ الهدف من طرح هذه المسألة والتوقّف في إيمان «أبي طالب» أو تكفيره لم يكن إلّاالطعن في أبنائه، وبخاصّة أميرالمؤمنين الإمام عليّ عليه السلام.

ولقد جرّ بعض كتّاب السنّة - لتبرير تكفير أبي طالب - هذه المسألة إلى غير أبي طالب ووسع دائرة التكفير هذه حتّى شملت آباء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً حيث ذهب إلى أنّ أبوي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ماتا كافرين أيضاً.

ونحن لا يهمنا هنا أن نعلم بأنّ تكفير والدي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مخالفٌ لإجماع الإمامية والزيدية، وكذا جماعة من علماء السنّة، ومحقّقيهم، إنّما الكلام هو حول مَن اتّهموا ببساطة متناهية حامي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الوحيد والمدافع عنه بلا منازع.

الأدِلّة على إيمان أبي طالب

اشارة

إنّ التعرّف على عقيدة أحد، ومعرفة نمط تفكيره، يمكن عن ثلاث طرق هي:

1. دراسة ما ترك من آثار علميّة وأدبية.

2. أُسلوب عمله، وتصرفاته في المجتمع.

3. رأي أقربائه، وأصدقائه غير المغرضين فيه.

ونحن نستطيع أن نتعرَّف على إيمان «أبي طالب» وعقيدته من خلال هذه الطرق.

ص:581

فإنّ أشعار «أبي طالب» تدلّ بجلاء لا لُبس فيه على إيمانه وإخلاصه، وكذا تكونُ خدماته القيمة في السنوات العشر الأخيرة من عمره شاهداً قوياً على إيمانه العميق.

كما وأنَّ رأي أقربائه المنصفين متّفق على أنَّ «أبا طالب» كان مسلماً مؤمناً ولم يقل أحدٌ من أقربائه، في حقّه بغير هذا أبداً.

وإليك إثبات هذا الموضوع عن هذه الطرق الثلاث على وجه التفصيل:

الطريق الأوّل: آثار أبي طالب العلميّة والأدبية

نحن نختار هنا من بين قصائد «أبي طالب» المطوَّلة، بعض الأبيات الّتي تثبت إيمانه برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، واعتقاده بالإسلام، من غير إبهام.

1. لِيَعلَم خِيارُ النّاسِ أنَّ مُحمَّداً وزير لموسى وَ المَسيح بنِ مَريَمِ

أتانا بَهَدي مِثلَ ما أَتيا به فَكُلٌّ بِأمرِ اللّه يَهدِي وَ يَعصِمِ (1)

2. تمنيتمُ أن تَقتُلُوهُ وإنّما أمانيُّكُم هذي كَأحلامِ نائِم

نَبيٌّ أتاهُ الوحيُ من عِندِ رَبّهِ وَمَن قالَ لا يَقرَع بِها سنَّ نادِم(2)

3. ألَم تَعلَمُوا أنّا وَجَدنا محمّداً نبيّاً كَمُوسى خُطَّ في أوّلِ الكُتُب

وَ أنَّ عَلَيهِ في العِبادِ محبةً وَ لا حيفَ في من خصَّهُ اللّه بالحُبّ (3)

ص:582


1- . مجمع البيان: 4/32؛ مستدرك الحاكم: 2/623؛ أعيان الشيعة: 4/121، وفيه (نظير) بدل (وزير).
2- ديوان أبي طالب: 32؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/73.
3- . ديوان أبي طالب: 32؛ بحار الأنوار: 35/159؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1/234.

4. وَاللّهِ لَن يَصِلوا إلَيكَ بِجَمعِهم حَتّى أُوسَّدَ في التّراب دَفينا

فأمضي لأمرك ما عَلَيْكَ غَضاضةٌ وَابشِر وَقرَّ بذاك مِنكَ عُيُونا

وَدَعوتَني وعلمتُ أنّكَ ناصِحٌ وَلَقَد دَعَوت وَ كُنت ثمَّ أمِينا

وعرضت ديناً قد عرفت بأنّه مِن خَير أديان البَريّة دينا(1)

5. أوتُؤمنوا بكتاب منزل عَجَب عَلى نَبيّ كمُوسى أوكذِي النون(2)

6. لَقَد عَلِمُوا أنَّ ابنَنا لا مُكذَّبٌ لَدَينا وَ لا يَعني بِقولِ الأباطِل

فأيّده رَبُّ العِبادِ بِنَصرِهِ وَأظهَرَ ديناً حَقُّهُ غيرُ باطل(3)

إِنّ كلّ واحدة من هذه المقطوعات الشعريّة الّتي تشكّل قسماً صغيراً من قصائد مفصّلة لأبي طالب، تشهد بإيمانه بدين ابن أخيه «محمّد» صلى الله عليه و آله و سلم.

وخلاصة القول: إنَّ بيتاً واحداً من هذه الأبيات كافٍ في إثبات إيمان صاحبها وقائلها، ولو أنّ أحداً قالها وهو خارج عن فلك الصراعات السياسية، وبعيد عن دوائر التعصّبات والأغراض لحكم الجميعُ - بالاتّفاق - بإسلام قائله وإيمانه الخالص العميق.

ولكن لمّا كان «أبوطالب» هو قائلها، وكانت الأجهزة الدعائية في الحكومات الأُموية والعباسيّة تعمل بكلّ جهدها ضدّ آل «أبي طالب» من هنا أبى فريقٌ من الناس أن يُثبتوا مِثل هذه الفضيلة الكبرى لأبي طالب عليه السلام. هذا من جانب.

ص:583


1- . البداية والنهاية: 3/56.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/74؛ ديوان أبي طالب: 173.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/180.

ومن جانب آخر فإنّ أبا طالب والد «علي» الّذي كانت سلطات الخلفاء تعمل ضدّه على الدوام، وتستغل كلّ الوسائل للحطّ من شأنه، كان إسلام أبيه وإيمانه بالرسالة المحمدية يُعدُّ فضيلة بارزة من فضائله عليه السلام في حين أنّ كفر آباء الخلفاء وشركهم يعدُّ مثلبة توجب الحطّ من شأنهم، وقيمتهم.

وعلى كلّ حال قام جماعة بتكفير أبي طالب رغم كلِّ هذه الأشعار والأقوال، والمواقف الصادقة، بل لم يكتفوا بذلك، فادّعوا نزول آيات من القرآن تدلّ على كفره، وشركه!!!

الطريق الثاني: دفاع أبي طالب عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته له
اشارة

إنّ الطريق الثاني للبرهنة والتدليل على إيمان «أبي طالب» هو مواقفه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكيفية دفاعه وذبه عنه و حمايته له، وحدبه عليه صلى الله عليه و آله و سلم وما قام به من خدمات جليلة في هذا الطريق.

إنّ كلّ واحدة من هذه الخدمات تستطيع بمفردها أن تكون المرآة الصادقة الّتي تعكس فكر «أبي طالب» وعقيدته وما كان يحمله بين جوانحه من إيمان بالرسالة والرسول، وإخلاص للّه تعالى.

لقد كان «أبوطالب» هو ذلكم الشخصية الّتي لم يرض لنفسه بأن ينكسر قلب ابن أخيه لتركه في مكّة، واصطحبه معه إلى الشام في الرحلة التجارية الّتي سبق ذكرها، رغم الموانع الكثيرة، وفقدان الوسائل اللازمة، ورغم ما تَرتّب على اصطحابه معه من متاعب.

إنّ ايمانه بابن أخيه كان عميقاً إلى درجة أنّه أخذه إلى المصلّى واستسقى به، مقسماً به على اللّه تعالى أن يكشف العذاب عن قومه، ويرسل رحمته عليهم، فيستجيب اللّه دعاءه، وينزل عليهم غيثاً وافراً ممرعاً، بقيت قصته في ذاكرة التاريخ.

ص:584

إنّه ذلك الرجل الّذي لم يفتأ عن الحفاظ على حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لحظة واحدة، فهو الّذي تحمّل في سبيله ثلاثة أعوام عجاف من الحصار الاقتصادي والاجتماعي الصعب، مؤثراً العيش في الشعب وفي شغاف الجبال والوديان القاحلة على زعامة قريش، ورئاسة مكّة إلى أن أعيته تلك المحن والمتاعب ففقد بذلك صحّته، وانحرف بذلك مزاجه، وتوفّي متأثراً بتلك المتاعب والمصاعب، والمشاق والمحن بعد نقض الصحيفة، وانتهاء الحصار، والعودة إلى المنازل بأيام معدودة!!

لقد كان إيمان «أبي طالب» برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قوياً وراسخاً إلى درجة أنّه رضي بأن يتعرّض كل أبنائه لخطر القتل والاغتيال ليبقى «محمّد» ولا يمسُّه من أعدائه أي سوء، فكان يُضجِع ولده علياً في موضعه، حتّى إذا أرادوا إغتياله لا يصيبه شيء، وهذا يعني أنّه كان يقيه بنفسه وبأولاده.

وفوق هذا كلّه استعدَّ في يومٍ من الأيام لأن يقتل كلّ زعماء قريش وأسيادها انتقاماً لمحمّد، وكان من الطبيعي أن يقتل في هذا العملية بنو هاشم كلُّهم أيضاً.(1)

وصية أبي طالب عند وفاته

وعند وفاته قال لأولاده:

«أُوصيكم بمحمّد خيراً فإنّه الأمينُ في قُريش، وهو الجامعُ لكلّ ما أُوصيكم به، وقد جاءَ بأمرٍ قبله الجَنان، وأنكره اللِسان مخافة الشنئان، وأيم اللّه لكأنّي انظرُ إلى صعاليك العرب، وأهل البرّ في الأطراف، والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدّقوا كلمته، وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش و صناديدها أذناباً، ودُورُها خراباً، وضُعفاؤها أرباباً، وإذا أعظمهم عليه

ص:585


1- . راجع الصفحة 578 من هذا الكتاب.

أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده...».

ثم ختم وصيته هذه بقوله:

يا معشر قريش كونوا له ولاةً، ولحزبه حماةً، واللّه لا يسلك أحدٌ منكم سبيله إلّا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلّاسعد.(1)

نحن لا نشكّ في أنّ «أبا طالب» كان صادقاً في أُمنيّته هذه لأنّ خدماته الكبرى وتضحياته المتواصلة خلال عشر سنوات من بداية عهد الرسالة شاهدة على صدق مقاله، كما كان صادقاً في الوعد الّذي قطعه على نفسه لابن أخيه (محمّد) في مبدأ البعثة عندما جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعمامه وعشيرته الأقربين ودعاهم إلى الإسلام فقال له أبوطالب:

«اُخرج يا ابن أخي فإنّكَ الرفيعُ كعباً، والمنيع حزباً، والأعلى أباً.

واللّهِ لا يَسلِقُك لسانٌ إلّاسلَقتهُ ألسن حِداد، واجتذَبته سيوفُ حداد.

واللّهِ لَتَذلَنَّ لَكَ العربُ ذلَّ البُهم لحاضِنها».(2)

***

الطريق الثالث: رأي أقربائه وأصدقائه

ويحسن بنا أخيراً أن نسأل عن أبي طالب وعن إيمانه وإخلاصه، أقاربَه غير المغرضين لأنّ «أهل البيت أدرى بما في البيت».

1 - لمّا مات أبوطالب جاء عليٌ عليه السلام إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فآذنه بموته، فتوجّع

ص:586


1- . السيرة الحلبية: 2/49-50.
2- . الطرائف تأليف السيد ابن طاووس: 302 برقم 388، نقلاً عن كتاب «نهاية الطلب وغاية السؤول في مناقب آل الرسول» تأليف إبراهيم بن علي الدينوري الحنبلي.

توجّعاً عظيماً، وحزن حزناً شديداً، ثم قال له: امض فتولّ غسله فإذا رفعته على سريره فأعلمني، ففعل، فاعترضه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو محمول على رؤوس الرجال: قال: «وصلتك رحم يا عم، وجزيت خيراً فلقد ربّيت وكفلت صغيراً، ونصرت وآزرت كبيراً».

ثم تبعه إلى حفرته، فوقف عليه فقال:

«أما واللّه لأستغفرنَّ لك، ولأشفعنَّ فيك شفاعةً يعجبُ لها الثقلان».(1)

2. روي أنّ علي بن الحسين عليهما السلام سئل عن إيمان أبي طالب؟ فقال:

«واعجباً! إنّ اللّه تعالى نهى رسوله أن يقرّ مسلمة على نكاح كافر، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، ولم تَزَل تحتَ أبي طالب حتّى مات».(2)

3. روي عن محمّد بن علي الباقر عليهما السلام أنّه قال:

«لو وُضِعَ إيمان أبي طالِب في كفّة ميزان، وإيمانُ هذا الخلقِ في الكفّة الأُخرى لرجح إيمانه».

ثم قال:

«ألم تَعلَموا أنَّ أميرَالمؤمنين عليّاً عليه السلام كانَ يأمر أن يُحجَّ عن عَبدِاللّه وَأبيه أبي طالب في حياته، ثم أوصى في وصيّته بالحج عنهم».(3)

4. قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام:

«إنَّ أصحاب الكَهف أسَرُّوا الإيمان، وأَظهَروا الشركَ فآتاهُمُ اللّهُ أجرَهم

ص:587


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/76.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/69.
3- . شرح نهج البلاغة: 14/68.

مرّتين، وإنّ أبا طالِب أسرّ الإيمان، وأظهر الشرك، فآتاه اللّه أجرَه مَرّتين».(1)

رأي علماء الشيعة في أبي طالب

ولقد اتّفقَ علماءُ الإماميّة والزيديّة تبعاً لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على: أنّ «أبا طالب» كان من أبرز المؤمنين برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يخرج من الدنيا إلّابقلب يفيض إيماناً بالإسلام، وإخلاصاً للّه تعالى، وحبّاً للمسلمين، وقد أُلِّفَت في هذا المجال كتب ورسائل، ودراسات عديدة، يمكن الوقوف عليها لمن أراد.(2)

نظرة إلى حديث «الضحضاح»

اشارة

واستكمالاً لهذا الحديث ينبغي أن نلقي نظرة إلى رواية تشكّك في إيمان أبي طالب، فقد روى بعض الكتّاب مثل البخاري، ومسلم عن رواة نظير سفيان بن سعيد الثوري، عبدالملك بن عمير، عبدالعزيز بن محمّد الدراوردي حديثاً نسبوه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال عن أبي طالب رحمه اللّه:

«وجدتُه في غمرات من النّارِ فأخرجتُه إلى ضحضاحٍ».(3)

«لعلّهُ تنفعُه شفاعَتي يومَ القيامة فيجعَلُ في ضَحضاحٍ منَ النّار يبلغُ كعبَيه، يغلي منهُ دماغُهُ».(4)

إنّ هذه الرواية وإن كانت تكذّبها عشرات الأحاديث والروايات الإسلامية، والدلائل القاطعة الساطعة، وتثبت بطلانها وتفاهتها، ولكنّنا بهدف الوصول إلى

ص:588


1- . شرح نهج البلاغة: 14/70؛ بحار الأنوار: 35/111.
2- . راجع: الغدير: 7/330-409، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت؛ وص 402-404 طبعة النجف الأشرف.
3- . صحيح مسلم: 1/135، باب أهون أهل النار عذاباً، كتاب الإيمان.
4- . صحيح البخاري: 4/247، باب قصة أبي طالب.

مزيد من التوضيح نعمد إلى دراسة أمرين مرتبطين بهذا الحديث.

1. ضعف أسناد هذه الرواية

إنّ رواة هذه الرواية - كما أسلفنا - هم عبارة عن سفيان بن سعيد الثوري وعبدالملك بن عمير و عبدالعزيز بن محمّد الدراوردي الذين سندرس أحوالهم واحداً واحداً على ضوء أقوال علماء الرجال المعترف بهم عند أهل السنّة، حيث قالوا:

ألف. سفيان بن سعيد الثوري

قال أبوعبداللّه محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي - وهو من علماء الرجال البارزين عند أهل السنّة - في سفيان الثوري: كان يدلّس عن الضعفاء.(1)

إنّ هذا الكلام شاهد قوي على وجود التدليس عند الثوري، وعلى روايته عن الضعفاء أو المجهولين، وهو وصف يُسقطه عن درجة الاعتبار.

ب. عبدالملك بن عمير

قال عنه الذهبيّ: طال عُمره وساء حفظُه، قال أبو حاتم: ليس بحافظ، تغيّر حفظه، وقال أحمد: ضعيف يغلط، وقال ابن معين: مخلط، وقال ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه، وذكر الكوسج عن أحمد بن حنبل: أنّه ضعيف جداً.(2)

فمن مجموع هذه العبارات نعرف أنّ عبدالملك كان يتّصف بصفات عديدة هي أنّه:

1. سيّئ الحفظ.

ص:589


1- . ميزان الاعتدال: 2/169.
2- . ميزان الاعتدال: 2/660.

2. ضَعيف.

3. كثير الغلط.

4. مخلط.

ومن الواضح أنّ كلّ واحدة من الصفات والحالات المذكورة كافية لأن تبطلَ الأحاديث الّتي يرويها عبدالملك بن عمير، والحال أنّه قد اجتمعت جميع نقاط الضعف هذه في هذا الرجل. ج. عبدالعزيز بن محمد الدراوردي

ولقد وصفَهُ علماء الرجال عند أهل السنّة بالنسيان، وقلّة الحفظ فلا يمكن الاستناد إلى مروياته.

فقد قال أحمد بن حنبل عنه: إذا حدّث من حفظه جاء بأباطيل.

وقال أبو حاتم عنه: لا يُحتَجُّ به.

وقال أبو زرعة أيضاً: سيّئ الحفظ.(1) ومن مجموعة هذه العبارات يتّضح بجلاء أنّ الرواة الأصليّين لحديث الضحضاح ضعفاء في غاية الضعف، إلى درجة لا يمكن الاعتماد على مروياتهم.

2. نصّ حديث الضحضاح يخالف الكتاب والسنّة

لقد نُسِب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الرواية أنّه أخرج أبا طالب من نار جهنم إلى ضحضاح وبهذا خفَّفَ عنه العذاب، أو أنّه صلى الله عليه و آله و سلم تمنّى أن يشفع له، فيخفِّفَ اللّهُ عنه العذابَ، على حين نفى القرآنُ الكريم والسنّة النبوية الشريفة تخفيف العذاب عن الكفّار كما ونفيا شفاعة أحد في حقّهم.

ص:590


1- . ميزان الاعتدال: 2/634.

وعلى هذا الأساس فلو كان أبوطالب كافراً، لم يجز للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يخفّف عنه العذاب، أو يتمنّى له الشفاعة في يوم الجزاء.

وبهذا يظهر بطلان محتوى حديث الضحضاح.

وإليك فيما يأتي أدلّة ما قلناه من الكتاب والسنّة:

ألف: القرآن الكريم

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد:

«وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» .(1)

ب: السنّة النبوية

إنّ السنّة النبوية الطاهرة تنفي أيضاً الشفاعة للكفّار، ونذكر من باب النموذج بعض تلك الأحاديث:

1. روى أبوذر الغفاري عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:

«أُعطيت الشفاعة وهي نائلة من أُمّتي مَن لا يشرك باللّه شيئاً».(2)

2. روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:

«وشفاعتي لمَن شهد أن لا اله إلّااللّه مخلصاً، وأنَّ محمّداً رسول اللّه يصدِّق لسانُه قلبَه، وقلبُه لسانَه».(3)

إنّ الآيات والروايات المذكورة تثبت بوضوح بطلان نصّ حديث

ص:591


1- . فاطر: 36.
2- . مسند أحمد: 5/162؛ الترغيب والترهيب: 4/433.
3- . مسند أحمد: 2/307؛ الترغيب والترهيب: 4/437.

الضحضاح عند مَن يقول بأنّ أبا طالب مات كافراً.

ونتيجة البحث: أنّه تبيّن ممّا ذكر أنّ حديث الضحضاح لا أساس له من الصحّة لا من جهة السند والطريق، ولا من جهة المتن والنصّ، ولا يمكن الاستدلال به.

وبهذا ينهار أقوى حصن يتمسّكُ به البعض للخدشة في إيمان أبي طالب الثابت المسلّم.

ص:592

23 المعراج

المعراج في نظر القرآن والسنّة والتاريخ

كان الليل يخيم على الأُفق، ويسودُ الظلام على كلّ مكان.

فقد حان الأوانُ لأن ترقدَ جميع الأحياء في مساكنها، وتستريح في جحورها وأعشاشها، وتغمض الأجفان لبعض الساعات عن مظاهر الطبيعة، لتستعيد نشاطها من أجل العمل في يوم جديدٍ حافلٍ بالنشاط والحركة والسعي.

فذلك قانون الطبيعة في كلِّ ليلٍ ونهارٍ.

ولم يكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمستثنى عن هذا الناموس الطبيعي.

فهو صلى الله عليه و آله و سلم مضى ليستريح بعد أن صلّى صلاة العتمة أيضاً.

ولكنّه فجأةً سمع صوتاً مألوفاً مأنوساً له، وكان ذلك هو صوت أمين الوحي «جبرئيل» وهو يخبره بأنّ أمامه الليلة سفراً بعيداً ورحلة طويلة، وأنّه سيرافقه في هذا الرحلة إلى مختلف نقاط الكون، وسيسافر على متن دابة فضائية تدعى «البراق».

لقد بدأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رحلته الفضائية العظيمة من بيت أُخت علي بن أبي طالب(1) «أُمّ هاني»، وتوجّه على متن تلك الدابة إلى «بيت المقدس» في الأردن

ص:593


1- . لاحظ: مجمع البيان: 6/217.

وفلسطين والّذي يُسمّى «المسجد الأقصى» أيضاً، وهبط في تلك النقطة بعد مدة قصيرة جداً، وزار مواضع عديدة من ذلك المسجد، وتفقّد «بيت لحم» مسقط رأس «السيد المسيح» ومنازل الأنبياء وآثارهم ومحاريبهم، وصلّى عند كلّ محراب من بعض تلك المحاريب ركعتين.

ثم بدأ بعد ذلك القسم الثاني من رحلته، حيث عرج من ذلك المكان إلى السماوات العلى، وشاهد النجوم والكواكب، واطّلع على نظام العالم العلوي، وتحدّث مع أرواح الأنبياء، والملائكة السماويّين، واطّلع على مراكز الرحمة والعذاب (الجنة والنار)(1) ورأى درجات أهل الجنة، وأشباح أهل النار عن كثب، وبالتالي تعرف على أسرار الوجود، ورموز الطبيعة، ووقف على سعة الكون، وآثار القدرة الإلهيّة المطلقة، ثم واصل رحلته حتّى بلغ إلى سدرة المنتهى(2)، فوجَدها مسربلة بالعظمة المتناهية والجلال العظيم وعندها انتهى برنامج رحلته صلى الله عليه و آله و سلم، فأمر بأن يعود من حيث أتى فعاد صلى الله عليه و آله و سلم ومرّ في عودته على بيت المقدس ثانية، ثم توجّه منه إلى «مكّة»، ومرّ خلال الطريق على قافلة تجارية لقريش وقد ضلّ بعير لهم في البيداء وكانوا يبحثون عنه، ثم وجد في رحلهم قعباً مملوء من الماء فشرب منه وصبَّ بقيته على الأرض أو غطاه كما كان بناء على رواية. وترجّل عن مركبته الفضائية العجيبة في بيت «أُمّ هاني» قبيل طلوع الفجر، وأخبرها بالخبر قبل أي أحد، ثم كشف عن هذا الحادث في أندية قريش صباح نفس تلك الليلة.

فاستبعد السامعون قصة المعراج والحركة السريعة هذه، واعتبروه أمراً محالاً وأنكروه، وفشا هذا الخبر في جميع الأوساط وغضب بسببه أشراف قريش وساداتهم أكثر من غيرهم.

ص:594


1- . لاحظ: مجمع البيان: سورة الإسراء: 6/215.
2- . لتوضيح معنى سدرة المنتهى راجع كتب التفسير.

وكعادتها بادرت قريش إلى تكذيب هذه القصّة وقالوا: هذا واللّه الأمر البيّن (العجيب المنكر) واللّه إنّ العير لتطّرد شهراً من مكّة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة، أفيذهب ذلك «محمّدٌ» في ليلة واحدة؟

وقالوا: إن صدقَتَ فصف لنا بيتَ المقدس، فإنّ فينا من شاهدهُ.

فلم يصف لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيت المقدس فحسب بل أخبرهم بكلّ مامرّ به وفعله ورآه في طريق عودته من بيت المقدس إلى «مكّة» وقال: وآية ذلك أنّي مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، وقد ضلّ لهم بعير وقد همّوا في طلبه، وشربت من ماء في آنية لهم مغطاة بغطاء ثم غطّيت عليها كما كان، ثم مررتُ بعير بني فلان وقد نفّرت لهم ناقة وانكسرت يدها.

فقالت قريش: أخبرنا عن عير قريش.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: إنَّها الآن في التنعيم (وهو مبدأ الحرم) يتقدّمها جمل أورق (أبيض مائل إلى السواد) عليه غرارتان وستدخل الآن مكّة.

فغضبت قريش من هذه الأخبار القاطعة وقالت: سنعلمنَّ الآن صِدقه أو كِذبه.

ثم لم تمض لحظاتٌ إلّاوطلعت العير عليهم، وحدَّثهم أبوسفيان بكلّ ما أخبرهم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ضياع بعيرٍ لهم في الطريق وهمّهم في طلبه، وأنّهم وضعوا ماء مملوء فغطوه ولمّا رجعوا وجدوه مغطّى كما غطوه ولكن لم يجدوا فيه ماءً.

هذه هي خلاصة ما جاء في كتب التفسير، والتاريخ، والحديث حول المعراج.

وإذا أراد القارئ الكريم أن يقف على تفاصيل أكثر في هذا المجال فما عليه

ص:595

إلّا أن يراجع بحارالأنوار باب «المعراج».(1)

هل للمعراج جذور قرآنية؟

لقد جاءَ ذكر «المعراج» وسير الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم العجيب في العالم العلوي، والفضاء غير المتناهي في سورتين من القرآن الكريم بشكل واضح وصريح كما وأُشير إليه في سور أُخرى أيضاً. ونحن نكتفي هنا باستعراض الآيات الّتي ذكرت هذه القضيّة بصورةٍ واضحةٍ، ونقف عند بعض النقاط الجديرة بالدراسة فيها:

يقول اللّه تعالى في سورة الإسراء:

«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .(2)

ويستفاد من ظاهر هذه الآية أُمور:

1. لكي نعلم بأنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يطو تلك المسافات، ولم يقم برحلته إلى تلك العوالم بقوّة بشرية، بل تسنّى له كلُّ ذلك بقوة غيبيّة، فبها استطاع أن يطوي تلك المسافات البعيدة في زمن قصير جداً بدأ اللّه تعالى حديثه عن الإسراء بقوله:

«سُبْحانَ الَّذِي» وهو إشارة إلى تنزيه اللّه عن كلِّ نقص وعيب.

ولم يكتف بذلك بل وصف نفسَه بوضوح بأنّه هو تعالى سبب هذه الرحلة والمسيّرُ فيها إذ قال: «أَسْرى» : أي إنَّ اللّه تعالى هو الّذي سرى برسوله صلى الله عليه و آله و سلم، وأخذه إلى تلك الرحلة.

وهذه العناية لأجل أن لا يتصوّر الناس بأنّ هذه الرحلة تحقّقت بالوسائل

ص:596


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 18/283-410؛ السيرة النبوية: 2/273-276.
2- . الإسراء: 1.

العادية، وحسب القوانين الطبيعية ليتسنّى لهم إنكارها، إِنما تحقّقت بقدرة اللّه وعنايته الربوبية الخاصّة.

2. إنّ هذه الرحلة تحقّقت برمّتها خلال الليل، ويستفاد هذا المطلب - علاوة على كلمة ليلاً - من كلمة «أَسْرى» أيضاً؛ لأنّ العرب كانت تستعمل اللفظة المذكورة في السير ليلاً.

3. مع أنّ هذه الرحلة بدأت من بيت «أُمّ هاني» ابنة أبي طالب، فإنّ الآية صرّحت بأنّها تَمَّت من المسجد الحرام، ولعلّ هذا لأنّ العرب كانت تعتبر كلّ مكّة حرماً إلهياً، ومن هنا كان كلّ مكان من مكّة يتمتّع عندهم بحكم الحرم والمسجد الحرام، فيكون المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة، ومكّة والحرم كلّها مسجد، فصحَّ أن يقول: «مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» .

وتَذهب بعض الروايات إلى أنَّ المعراج كان من نَفس المسجد الحرام.

ثم إنَّ هذه الآية وإن كانت تصرّح بأنَّ المعراج بدأ من «المسجد الحرام» وانتهى ب: «المجسد الأقصى» إلّاأنّ ذلك لا ينافي أن يكون للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رحلة أُخرى إلى العالم العُلوي؛ لأنّ هذه الآية تبيّن فقط قسماً من هذه الرحلة، وأمّا القسم الآخر من برنامج هذه الرحلة فتتعرض لذكره آيات في مطلع سورة «النجم».

4. إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عرج بجسمه وروحه معاً، لا بالروح فقط.

ويدلُّ على ذلك قوله تعالى «بِعَبْدِهِ» الّذي يُستَعمل في «الجسم والروح معاً» ولو كان المعراج بالروح فقط لزم أن يقول: «بروحه».

5. إنَّ الغرض من هذا السير العظيم وهذه الرحلة العجيبة هو إيقاف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على مراتب الوجود، وإطّلاعه على الكون العظيم، وهذا ما سنشرحه فيما بعد.

وأمّا السورة الأُخرى الّتي تعرض لبيان حادثة المعراج بوضوح و صراحة

ص:597

هي سورة «النجم».

والآيات الّتي سندرجها هنا من هذه السورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عندما قال لقريش: «رأيت جبرئيلَ أوّل ما أُوحي إلي على صورته الّتي خُلِقَ عليها» جادلته قريش في ذلك، فنزلتِ الآيات التالية تجيب على اعتراضهم:

«أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى * وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» .(1)

أحاديث المعراج:

روى المفسّرون والمحدّثون أخباراً وروايات كثيرة حول معراج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وما شاهده في هذه الرحلة العظيمة، ليست برمّتها صحيحة مُسَلَّمة مقطوعاً بها.

ولقد قسّم المفسّر الشيعيُ الكبير المرحومُ «العلّامة الطبرسيّ» هذه الأخبار إلى أصناف أربعة إذ قال: وتنقسم جملتها إلى أربعة أوجه:

أحدها: ما يقطع على صحّته لتواتر الأخبار به، وإحاطة العلم بصحّته (مثل أصل المعراج).

وثانيها: ما ورد في ذلك ممّا تجوِّزه العقول ولا تأباه الأُصول (مثل طوافه في السماء ورؤيته أرواح الأنبياء وتحدّثه معهم ورؤيته للجنة والنار)، فنحن نجوّزه ثم نقطع على أنّ ذلك كان في يقظته، دون منامه.

وثالثها: ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الأُصول، إلّاأنّه يمكن تأويلها على

ص:598


1- . النجم: 12-18.

وجهٍ يوافق المعقول، فالأولى أن نؤوّله على ما يطابق الحقّ والدليل. (مثل أنّه رأى أهل الجنة وأهل النار وتحدّث معهما الّذي يجب أن يؤوّل فيُحمل على أنّه: رأى أشباحهم وصورَهُم وَ صفاتهم).

ورابعها: ما لا يصحّ ظاهره ولا يمكن تأويله إلّاعلى التعسف البعيد، (وهي ما أُلصِق وأُلحق بهذه الحادثة من الأساطير والخرافات، مثل ما روي من أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّم اللّه سبحانه جهرةً ورآه وقعد معه على سريره أو سمع صرير قلمه، ونحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه والتجسيم واللّه سبحانه يتقدّس عن ذلك كلّه)، فالأولى أن لا نقبله.(1)

***

متى وَقَعت هذه الحادثة؟

مع أنّ أهميّة هذه الحادثة العجيبة كانت تستوجب أن تكون مضبوطة التفاصيل من جميع الجهات، إلّاأنّها تعرّضت للاختلاف - مع ذلك - من بعض الجهات و منها تحديد تاريخ وقوعها.

فقد ادّعى كاتبا السيرة المعروفان: «ابن إسحاق» و «ابن هشام» أنّها وقعت في السنة العاشرة من البعثة الشريفة.

وذهب المؤرّخ الكبير «البيهقي» إلى أنّها وقعت في السنة الثانية عشرة من البعثة.

وذهب آخرُون إلى أنّها وقعت في أوائل البعثة، بينما قال فريق رابع: إنّها وقعت في أواسطها.

وربّما يقال في الجمع بين هذه الأقوال: إنّه كان لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معارج

ص:599


1- . مجمع البيان: 6/215.

متعدّدة.

ولكنّنا نعتقد أنّ المعراج الّذي فُرِضَت فيه الصلاة وَقع بعد وفاة أبي طالب عليه السلام في السنة العاشرة قطعاً.

لأنّ من مسلَّمات الحديث والتاريخ أنّ اللّه تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم في ليلة المعراج أن تصلّي أُمّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلَّ يوم وليلة خمس صلوات.

كما أنّه يُستفاد من ثنايا التاريخ أيضاً أنّ الصلاة لم تُفرَض مادام أبوطالب عليه السلام على قيد الحياة، بل فُرِضت بعد وفاته، لأنّه حضر عنده - ساعة وفاته - سراة قُريش وأسيادها، وطلبوا منه أن يبت لهم في أمر ابن أخيه «محمّد» ويمنعه من فعله، فيعطونه - في قبال ذلك - ما يريد فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك المجلس: نعم كلمة واحدة تعطونيها: «تقولون لا إله إلّااللّه وتخلعون ما تعبدون من دونه».(1)

لقد طلب منهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذا الأمر ولم يطلب منهم شيئاً آخر كالصلاة وغيرها من الفُروع أبداً، وهذا هو بنفسه يدلّ على أنّه لم تجب الصلاة حتّى ذلك اليوم، وإلّا كان الإيمان المجرّد عن العمل، والصلاة مفروضة، لا فائدة فيه.

وأمّا أنّه لم يذكر شيئاً عن نبُوّته ورسالته فلأنّ الإعتراف بوحدانية اللّه بأمره وطلبه صلى الله عليه و آله و سلم إعتراف ضِمنيّ برسالته ونبوّته، وفي الحقيقة أنَّ التلفُّظ بهذه العبارات بأمره يتضمّن شهادتين وإقرارين: الإقرار باللّهِ الواحد، والإقرار بنبوّة رسول الإسلام.

هذا مضافاً إلى أن كُتّاب السيرة ذكروا كيفية إسلام جماعة مثل «الطفيل بن عمرو الدوسي» الّذي أسلم قبل الهجرة(2) بأعوام اكتفى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالشهادتين،

ص:600


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/283.
2- . السيرة النبوية: 1/256.

ولم يجر أي حديث عن الصلاة أبداً.

إنّ هذه الأمثلة تكشف عن أنّ هذه الحادثة (المعراج) الّتي فُرضت فيها الصلاة وقعت قبل الهجرة بسنوات.

والذين تصوّروا أنّ المعراج وقع قبل السنة العاشرة مخطئون خطأ كبيراً، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان محصوراً في شعب أبي طالب منذ السنة الثامنة وحتّى السنة العاشرة، ولم يكن وضع المسلمين ليسمح بفرض تكليف زائد (مثل الصلاة) عليهم.

وأمّا سنوات ما قبل الحصار فعلاوة على ضغوط قريش على المسلمين والّتي كانت هي بنفسها مانعاً من فرض الصلاة على المسلمين، كان المسلمون قلّةً معدودين، ولم يكن نورُ الإيمان، وأُصول الإسلام قد ترسّخت في قلوب ذلك العدد القليل بشكل قوي بعد، ولذلك يكون من المستبعد أن يكلّفوا بأمر زائدٍ مثل الصلاة في مثل ذلك الظرف.

وأمّا ما ورد في بعض الأخبار والروايات من أنّ الإمام علياً عليه السلام صلّى مع رسول اللّه قبل البعثة بثلاث سنوات، واستمر على ذلك بعدها أيضاً فليس المراد منها الصلوات المحدودة المؤقتة بوقت، المشروطة بشروط خاصّة، بل كانت تلك الصلوات عبارة من عبادة خاصة غير محدودة(1)، أو كان المراد منها الصلوات المندوبة والعبادات غير الواجبة.

ص:601


1- . للمزيد من التحقيق في تاريخ وجوب الوضوء والصلاة والأذان يراجع الكافي: 3/482-489.

هل كان المعراج جسمانياً؟

لقد وقع النقاش والكلام في كيفية معراج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأنّه هل كان روحانياً، أو جسمانياً وروحانياً معاً؟ وقيل في ذلك كلام كثير.

ومع أنّ القرآن الكريم والأحاديث تشهد بجلاء لا غموض فيه بأن معراجه صلى الله عليه و آله و سلم كان جسمانياً(1)، فقد أُوردت في المقام بعض الإشكالات والاعتراضات الّتي منعت البعض عن قبول هذه الحقيقة، وبالتالي دفعتهم إلى ارتكاب التأويل، والزعم بأنّ معراج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان روحانياً، أي بالروح لا بالجسم.

لقد قال هؤلاء: إنّ روح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هي الّتي طافت في تلك العوالم ثم عادت إلى جسد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مرة أُخرى!! وذهب جماعة إلى أبعد من ذلك إذ ادّعوا بأنّ جميع هذه المشاهدات والقضايا تمّت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في عالم الرؤيا، فكلّ ما رآه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو فعله من الطواف واللقاء والصلاة كانت رؤيا، ورؤيا الأنبياء صادقة!!

على أنّ أقوال الفريق الأخير من البعد عن الواقع بحيث لا يمكن ذكره في عداد الأقوال والنظريات أبداً، لأنَّ قريش بعد أن سمعت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ادّعاءه بأنّه سار كلّ تلك المسافة الطويلة البعيدة، وطاف على كلّ تلك الأماكن المتباعدة العديدة في ليلة واحدة انزعجت بشدّة وهبّت لتكذيبه حقيقة، إلى درجة أنّ خبر المعراج أصبح حديث الساعة في نوادي قريش وأوساطها آنذاك.

ولو كان كلّ ذلك تحقّق للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المنام والرؤيا لما كان لتكذيب قريش وانزعاجها واستنكارها معنى، إذ لا موجب للنزاع لو كان صلى الله عليه و آله و سلم يقول: إنّي فعلت تلك الأُمور، ورأيت تلك المشاهد في الرؤيا والمنام، إذ هو على كلّ حال رؤيا،

ص:602


1- . لقد نقل الفقيه الجليل العلّامة الشيعيّ المرحوم الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» إجماع علماء الشيعة على جسمانية المعراج فراجع: 6/215.

وكلّ شيء - حتّى الأُمور المحالة أوالمستبعدة جداً - ممكن في عالم الرؤيا.

ومن هنا لا قيمة للقول الأخير أصلاً فلا يستحقّ المتابعة أصلاً.

ولكن مع الأسف استحسن بعض العلماء المصريّين (مثل فريد وجدي) هذا الرأي وسعى في تقويته وتبريره، ونحن نحبذ أن نتركه، وأن لا نناقش فيه.(1)

ما هو المراد من المعراج الروحاني؟

لقد عمد فريق ممّن عجز عن دفع وحلّ بعض الاعتراضات والإشكالات الواردة على المعراج الجسماني، إلى تأويل الآيات والأحاديث، واعتبر المعراج النبوي معراجاً روحانياً، لا غير.

والمقصود من المعراج الروحانيّ هو التدبّر في مخلوقات اللّه ومصنوعاته، ومشاهدة جلاله وجماله والاستغراق في ذكر الحقّ، والتفكّر فيه، وبالتالي التخلّص من القيود والأغلال المادية، والعلائق الدنيوية، والعبور من المراتب الإمكانية في المراحل الباطنية والقلبية الّتي يحصل بعد طيّها نوعٌ من القرب الخاص الّذي لا يمكن وصفه.

فإذا كان المراد من (المعراج الروحانيّ) هو التفكّر في عظمة الحقّ وسعة الخلق و.. و.. فلا شك أنّ هذا ليس من مختصّات رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بل كان أكثر الأنبياء، وكثير من الأولياء من ذوي البصائر القويّة الطاهرة يمتلكون هذه المرتبة، على حين أنّ القرآن الكريم يعتبر (المعراج) من خصائص رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويذكره على أنّه نوع من الامتياز الخاص به صلى الله عليه و آله و سلم.

هذا مضافا إلى أنّ مثل هذه الحالة (أعني: التفكّر في عظمة الخالق

ص:603


1- . يلاحظ: دائرة معارف القرن العشرين: 6/329، مادة «عرج».

والاستغراق في التوجّه إلى الحقّ) كانت تتكرّر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في كلّ ليلة(1)، والحال أنّ (المعراج) الّذي هو محط الكلام قد وقع في ليلةٍ معيَّنة.

إنّ ما دفع بهذا الفريق إلى اتّخاذ مثل هذا الموقف من (المعراج)، وآل بهم اختيار هذا الرأي هو فرضية الفلكي اليوناني المعروف «بطلميوس» الّتي كانت سائدة في الأوساط العلمية في الشرق والغرب طيلة ألفي سنة بالكامل، والّتي أُلّف حولها مئات الكتب، وكانت تعدُّ حتّى حين من المسلّمات في مجال العلوم الطبيعية وهي على نحو الإجمال كالتالي:

إنّ الأجسام في هذا العالم على نوعين: أجسام عنصرية، وأجسام فلكية.

والجسم العنصري هي العناصر الأربعة المعروفة: «الماء، والتراب، والهواء، والنار».

وأوّل كرة تبدو لنا هي كرة التراب وهي مركزُ العالم، ثم تليها كرة الماء ثم كرة الهواء، وتأتي بعد كلّ هذه الثلاثة كرة النار، وكلٌّ من هذه الكرات محيطة بالأُخرى، وهنا (أي وعند كرة النار) تنتهي الكرات، وتبدأ الأجسام الفلكية.

والمقصود من الأجسام الفلكيّة هيَ الأفلاكُ التسعة الّتي تقع الواحدة فوق الأُخرى وتحيط الواحدة بالأُخرى على هيئة قشور البصل، وهي متّصلة بعضها ببعض من دون فاصلة بينها وهي غير قابلة للاختراق والالتئام (أي الشق والالتحام) والفصل والوصل ولا يستطيع أيّ شيء من اختراقها والتحرّك فيها بصورة مستقيمة؛ لأنّ ذلك يستلزم انفصام أجزاء الفلك.

من هنا يكون المعراج الجسماني مستلزماً لأن ينطلق النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من مركز العالم ويصعد بصورة مستقيمة إلى الأعلى عابراً الكرات العنصرية الأربع، ومخترقا

ص:604


1- . راجع وسائل الشيعة: ج 7، الباب 4 من أبواب الصوم المحرّم والمكروه، الحديث 4. قال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي لست كأحدكم، أنّي أظل عند ربّي فيطعمني ويسقيني».

الأفلاك التسعة الواحد تلو الآخر، بينما يستحيل خرق هذه الأفلاك ثم التحامها حسب نظرية بطلميوس وفرضيّته الفلكية.

وعلى هذا لا مناص من أن نعتقد بأنّ المعراج النبويّ كان معراجاً روحانياً، أي أنّ روحه صلى الله عليه و آله و سلم هي الّتي عرجت حتّى لا يمنع أيُّ جسم من عبورها وسيرها وصعودها إلى النقطة المطلوبة والغاية المرسومة.

الجواب:

إنّ هذا الكلام كان مقبولاً وذا قيمة عند ما كانت هيئة بطلميوس وفرضيته الفلكية لم تكن بعد قد فقدت قيمتها في الأوساط العلمية وكان هناك مَن يعتقد بها من صميم فؤاده.

ففي مثل تلك البيئة كان من الممكن التلاعب بالحقائق القرآنية، وتأويل صريح القرآن ونصوص الروايات.

أمّا الآن فقد فقدت أمثال هذه الفرضيات قيمتها، وظهر للجميع بطلانها، ولم يعد أحد يتحدّث عنها، إلّامن باب ما يُسمّى بتاريخ العلوم.

فاليوم وبالنظر إلى كلّ هذه الأجهزة الفلكية والآلات الفضائية الدقيقة، والتلسكوبات العملاقة، وهبوط المركبات الفضائية المتعدّدة على سطح القمر والمريخ، لم يعد مجال لهذه الفرضيات الخيالية.

فاليوم لا يعتبر العلماء المحقّقون فكرة العناصر الأربعة والفلك المتّصل كقشرة البصل إلّاجزءاً من الأساطير.

فإنّ العلماء لم يستطيعوا بالآلات العلمية وأجهزة الرصد الدقيقة والعيون المسلّحة من رؤية، تلك العوالم الّتي حاكها وصنعها بطلميوس بقوة خياله، من هنا فإنّ أية نظرية تقوم على هذا الأساس غير الصحيح تكون عارية عن أية قيمة، واعتبار.

ص:605

نَغمةٌ شاذةٌ:

ولقد طلع مؤسّس الفرقة الشيخية «الشيخ أحمد الأحسائي» في «الرسالة القطيفية» بنغمة شاذة في هذا الصعيد حيث أراد بإراءة طرحة جديدة أن يرضي كلا الطرفين (القائلين بروحانية المعراج النبوي والقائلين بجسمانيته) حيث قال: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عرج ببدنه البرزخي (الهورقليائي)(1) ثم استدلّ لذلك بقوله:

إنّ الصاعد كلّما صعد ألقى في كلّ رتبة من المراتب المذكورة ما فيها، فمثلاً إذا تجاوز كرة الهواء ألقى ما فيه من الهواء، وإذا تجاوز كرة النار ألقى ما فيها، وإذا رجع أخذ ما له من كرة النار، وإذا وصل إلى كرة الهواء أخذ ما له من الهواء.

ومن هنا فإنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عندما عرج إلى السماء ألقى في كلّ كرة واحداً من تلك العناصر الأربعة في كرته، وعرج ببدن فاقد لهذه العناصر.

ومثل هذا البدن لا يمكن أن يكون بدناً عنصرياً، فليس هو إلّاالبدن البرزخي (الّذي أسماه الهورقليائي) لا غير.(2)

وبهذا - حسب تصوّره - أرضى من نفسه كلا الطرفين المذكورين، لأنّه من جانب اعتقد بالمعاد الجسماني، وفي نفس الوقت تخلّص من إشكال «خرق الأفلاك والتحامها» لأنّ نفوذ الجسم البرزخي لا يستوجب أي خَرق وانفصال في جدار الفلك.

ص:606


1- . وهو البدن البرزخي الّذي يشبه البدن الّذي يفعل به الإنسان الأفعال المختلفة في عالم النوم والرؤيا ويقوم بكلّ نوع من أنواع النشاط.
2- . تقع الرسالة القطيفية ضمن مجموعة تحتوي على 92 رسالة باسم جوامع الكلم الّتي طبعت عام 1273. ومع هذا التصريح يدّعي البعض - للتسترّ على خطأ الشيخ وزلته هذه - بأنّ الشيخ يعتقد بأنّ المعراج كان جسمانياً عنصرياً، وأنّه موافق لرأي المشهور في هذا المجال.

ولكن هذه النظرية - كما هو واضح لكلّ عالِم متحرٍّ للحقيقة، بعيد عن العصبية - واضحة البطلان كسابقتها (نظرية المعراج الروحاني)، فمضافاً إلى أنّها مخالفة للقرآن وظاهر الأحاديث، لأنّه - كما أسلفنا - لو عرضنا آية المعراج (من سورة الإسراء) على أيّ عارف باللغة، مهما كان، وطلبنا منه رأيه في هذا الصدد لقال: إنّ مراد القائل هو البدن الدنيوي العنصري الّذي عَبّر عنه القرآن بلفظ العبد، في قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ» (1)، وليس الهورقليائي الّذي لم يكن يعرفه المجتمع العربيّ، ولا يعرف أمثاله في ذلك اليوم أساساً، في حين أنّهم كانوا هم المخاطَبون في آية المعراج في سورة الإسراء لا غيرهم.

هذا مضافاً إلى أنَّ ما دفع بالشيخ إلى ارتكاب هذا التأويل البارد هو الأُسطورة اليونانية المذكورة حول الفلك، حيث تصوّرها كحقيقة ثابتة من حقائق اللوح المحفوظ، وقد كذبها وفندها كلُّ فلكيّي العالم اليَومَ، وأعلنوا عن بطلانها.

فلا يجوز لنا أن نقلِّد تلك الفرضية تقليداً أعمى.

وإذا ما رأينا بعضَ القدماء من المشايخ قال بمثل هذا محسناً الظن بتلك الفرضية الفلكية القديمة وأمثالها أمكن إعذارهم، لعدم قيام أدلّة علمية قوية على خلافها آنذاك.

أمّا اليوم فلا ينبغي لنا أن نتجاهل الحقائق القرآنية لفرضية ثبت بطلانها في الأوساط العلمية.

المعراج وقوانين العلم الحديث:

قد يتصوّر فريقٌ من الناس أنّ القوانين الطبيعية والعلمية الحاضرة لا تتلاءم

ص:607


1- . الإسراء: 1.

مع معراج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وذلك لأنّه:

1. يقول العلم الحديث: إِنَّ الابتعاد عن الأرض يتطلّب التخلّص من جاذبية الأرض، وبعبارة أُخرى إبطال مفعولها.

فإنّ (الكرة) الّتي نقذفها إلى الأعلى تعود مرّة ثانية إلى الأرض بفعل الجاذبية، وكلّما كرّرنا قذف الكرة إلى الأعلى فإنها تعود وترجع إلى الأرض أيضاً.

فإذا أردنا أن نبطل مفعول جاذبية الأرض إبطالاً كاملاً بحيث لا تعود الكرة المقذوفة إلى الأعلى إلى الأرض ثانيةً بل تواصل مسيرها إلى الأعلى فإنّنا نحتاج لتحقيق هذا الهدف إلى جعل سرعة الكرة باتجاه معاكس للأرض تعادل 000/25 ميل في الساعة.

وعلى هذا فإنّ معنى المعراج هو أن يكون النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد خرج من محيط جاذبية الأرض، وأصبح في حالة انعدام الوزن.

ولكن يُطرح هنا سؤال وهو: كيف استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يطوي - بدون وسائل - هذه المسافة بمثل هذه السرعة، وهل البدن الطبيعي يتحمّل مثل هذه السرعة مع عدم توفّر الغطاء الواقي والوسائل اللازمة، الّتي تصون الجسم من التبعثر والذوبان بفعل السرعة الفائقة؟

2. أنّ الهواء القابل للاستنشاق غير موجود فوق عدد من الكيلومترات بعيداً عن سطح الأرض، بمعنى أنّنا كلما ذهبنا صعداً إلى الطبقات العليا وابتعدنا عن الأرض أصبح الهواء أرقّ، حتّى يغدو غير قابل للاستنشاق، وربّما نصل إذا واصلنا الصعود إلى الأعلى إلى منطقة ينعدم فيها الهواء اللازم للتنفس بالمرّة، فكيف استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبعد طي تلك المسافة الطويلة والبعيدة في أعالي الجو أن يعيش بدون وجود الاوكسيجين؟!

ص:608

3. أنَّ الأشعة الفضائية، والأحجار السماوية والشهب الكثيرة المتطايرة إذا اصطدمت بأي جسم أرضي أبادَتهُ، وأفنته، ولكنها عندما تصطدم بالغلاف الغازيّ المحيط بالأرض تتلاشى وتصبح كالغبار ولا تصل إلى الأرض، فيكون الغلاف الغازي في الحقيقة بمثابة درع يقي سُكّان الأرض من خطر تلك القذائف المهلكة.

ومع هذه الحالة كيف تهيّأ لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن يصون نفسَه من تلك الأشعة الفضائية، والأحجار السماوية؟!

4. إذا تغيّر ضغطُ الهواء على جسم الإنسان فزاد أو نقص اختلت حياته الطبيعية، فهو يمكنه أن يعيش تحت ضغط معين من الهواء، لا يوجَد في الطبقات العُليا من الجوّ، فكيف استطاع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والحال هذه أن يحافظ على حياته في أعالي الفضاء؟!

5. أنَّ سرعة الحركة الّتي سار بها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لا ريب كانت تفوق سرعة الحركة الّتي يسير بها النور ومع العلم بأنّ سرعة النور هي 000/300 كيلومتر في الثانية، مع العلم أيضاً أنّه ثبت في العلم الحديث أنّه لا يستطيع أيُّ جسم أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة النور، فكيف استطاع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يسير بسرعة تفوق سرعة النور، ومع ذلك يرجع إلى الأرض سالم الجسم كامله؟؟!

جوابنا:

وجوابنا هو: أنّنا إذا أردنا أن نناقش هذه المسألة على ضوء القوانين العلميّة الطبيعية لتجاوز عدد الاعتراضات والإشكالات ما ذكرناه آنفاً.

ولكنّنا نقول في جواب هذا الفريق متساءلين: ما هو مقصودكم من توضيح هذه النواميس الطبيعية؟

هل تريدون القول بأنّ السير في العوالم العليا أمرٌ غير ممكن، وممتنع ذاتاً وبالتالي أنّه أمر محال؟!

ص:609

فإننا نقول - حينئذ - في الجواب على ذلك بأن الجهود والتحقيقات العلمية الّتي بذلها علماء الفضاء في الشرق والغرب قد جعلت هذا الأمر - ولحسن الحظ - أمراً ممكناً، وعادياً، لأنّ مع إطلاق أوّل قمر اصطناعي عام (1957 م) إلى السماء والّذي أسماه علماء الفضاء ب «اسپوتنيك» اتّضح أنّه يمكن إبطال مفعول جاذبية الأرض بواسطة الصاروخ، كما أنّ إرسال السفن الفضائيّة الحاملة لروّاد الفضاء من البشر بواسطة الصاروخ أوضح أنَّ ما كان يَعِدّه البشر مانعاً من الصعود إلى الأعلى في الفضاء قد أصبح قابلاً لرفعه وإزالته، والتخلّص منه بفضل العلم والتكنولوجيا.

إنّ البشر استطاع بأدواته وآلاته العلمية والتكنولوجية أن يعالج مشكلات عديدة في مجال ارتياد الفضاء مثل مشكلة الشهب والنيازك المتطايرة في الجوّ ومشكلة الأشعة الفضائية، ومشكلة انعدام الغاز اللازم للتنفس و.. و.. وهاهو علم ارتياد الفضاء في حال توسع مستمرّ وأنّ العلماء أصبحوا الآن يثقون بأنّهم سرعان ما يتمكّنون من مدّ بساط الحياة والعيش في إحدى الكرات السماوية والسفر إلى إحدى الكواكب كالقمر والمريخ بِسهولة كبرى!(1)

إنَّ هذه الأحداث العلمية وهذا التقدّم التكنولوجي في مجال ارتياد الفضاء

ص:610


1- . بعد إطلاق الأقمار والسفن الاصطناعية لأوّل مرة يوم الأربعاء أبريل عام 1961 م بدأ الضابط الروسي جاجارين (27 سنة) رحلته الفضائية في سفينة فضائية، وكان أوّل إنسان أقدم على هذه الرحلة الفضائية، وابتعدت سفينته 302 كيلومتراً عن سطح الأرض، ودارت دورة واحدة حول الكرة الأرضية في ساعة ونصف. وبعد ذلك أقدمت أمريكا والاتحاد السوفيتي على إرسال السفن الفضائية إلى الفضاء في محاولة لغزو القمر حتّى حطّت السفينة الفضائية «أپولو» الحاملة لعدد من روّاد الفضاء على سطح القمر لأوّل مرّة، وكان هذا أوّل مرة يحط فيها إنسان قدمه على أرض القمر. وقد تكرّرت تجربة هذا البرنامج الفضائي فيما بعد مرّات ومرّات وكانت ناجحة على الأغلب. وكلّ هذه الجهود والنتائج تكشف عن أنّ هبوط الإنسان على سطح الكرات والكواكب أمرٌ ممكن، وما يستطيع البشر فعله عن طريق العلم يقدر اللّه خالق البشر على فعله بإرادته النافذة.

شاهدٌ قويٌّ على أنّ هذا العمل أمر ممكن مئة بالمئة، وليس من الأُمور المستحيلة.

وإذا كان مقصود المعترضين على المعراج هو أنّه لا يمكن القيام بمثل هذه الرحلة من دون أجهزة علميّة وتكنولوجية، ولم يكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يملك في تلك الليلة مثل هذه الأجهزة، فكيف طوى تلك المسافات وطاف على جميع تلك العوالم من دون أدنى وسيلةِ نقلٍ من هذا القبيل؟!

فإننا نقول في معرض الإجابة عن اعتراضهم هذا بأنّ جواب هذا الاعتراض يتّضح من الأبحاث الّتي سبقت منّا حول معاجز الأنبياء وخصوصاً بحثنا المفصَّل حول حادثة عام الفيل وهلاك جيش أبرهة العظيم بالأحجار الصغيرة، لأنّه من المسلَّم أنَّ ما يستطيع البشر فعله عن طريق الأدوات والآلات العلمية الصناعية يستطيع الأنبياء فعلَه بعناية اللّه تعالى، وإقداره وبدون الأسباب الظاهرية والخارجية.

لقد عرج رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم إلى السماء بعناية وبإقدار اللّه الّذي خلق الوجود كلّه، وأقام هذا النظام البديع برمّته، فهو الّذي أعطى للأرض جاذبيتها، وأعطى للشمس أشعتها وأوجد مختلف طبقات الهواء، وأنواع الغازات في الجوّ، ومتى أراد أخذَها وانتزعها منها، أو كبح جماحها، وردّ عاديتها.

فإذا تحقّق معراج النبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله و سلم في ظلّ العناية الإلهيّة فإنّ من المسلَّم أن جميع النواميس تخضع أمام قدرته القاهرة، وإرادته الغالِبة، وهي طوع إرادته، والسماوات والأرض مطويّات بيمينه والجميع في قبضته ورهن إشارته دائماً وأبداً، وفي كلّ حين وأوان.

وعلى هذا فماذا يمنع من أن يعمل اللّه الّذي منح للأرض جاذبيتها، وللأجرام السماوية أشعتها، على إخراج عبده المصطفى بقدرته المطلقة ومن دون

ص:611

الأسباب الظاهرية، من مركز الجاذبية الأرضيّة، ويصونه من أخطار الأشعة الكونية، وأن يعمد خالق كلّ هذا القدر الهائل من الأوكسيجين إلى إيجاد الهواء اللازم لنبيّه في الطبقات الّتي ينعدم فيها الهواء، وهذا هو معنى قولهم: «إنَّ اللّه مسبِّبُ الأسباب ومعطِّلُ الأسباب». إنّ أمر المعجزة يختلف ويفترق أساساً عن أمر العلل الطبيعية والقدرة البشرية.

ونحن يجب أن لا نقيس قدرة اللّه المطلقة بقدرتنا المحدودة، فإذا كنّا لا نقدر على شيء من دون الأسباب لم يصحَ أن نقول: إن القادر المطلق لا يقدر على مثله من دون الأسباب الطبيعية أيضاً.

إنَّ إحياء الموتى، وقلب العصا إلى ثعبان، وإبقاء يونس حيّاً في بطن الحوت، في قعر البحار، ممّا صدّقته جميع الكتب السماوية ونقلته إلينا، لا تقلّ إشكالاً ولا تختلف جواباً عن قصة المعراج النبوي

وخلاصة القول: إنّ جميع العلل الطبيعية والموانع الخارجية مسخَّرةٌ لِلّه تعالى خاضعة لإرادته، مطيعةٌ لأمره وإرادته يمكن تعلّقُها بكلّ شيء إلّابالأمر المحال، وأمّا غيرذلك أي ما يكون ممكناً بالذات مهما كان، فإنّهُ قابلٌ لأن يتحقّق في ظل إرادة اللّه ومشيئته، سواء يقدر البشر عليه أم لا يقدر.

على أنّ حديثنا هذا موجَّهٌ إلى مَن آمن باللّه، وعرف ربّه بصفاته الخاصّة به تعالى، وبالتالي آمن باللّه الأزليّ على أنّه القادر على كلّ شيء.

ما هو الهدفُ من المعراج؟

لقد بيّنت الأحاديث - بعد الآيات - الغرض من المعراج وإليك طائفة من هذه الأحاديث.

ص:612

1. يقول ثابت بن دينار سألت الإمامَ زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام عن اللّه جلّ جلاله هل يوصَف بمكان؟ فقال: «تعالى اللّهُ عَن ذلِكَ».

قلت: فلِمَ أسرى بنبيه محمّد صلى الله عليه و آله و سلم إلى السماء؟

قال: «لِيُريَهُ مَلكوتَ السماوات وما فيها من عجائب صنعِهِ وبدائع خلقه».(1)

2. وقال يونس بن عبدالرحمن قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام:

لأيّ عِلةٍ عرج اللّهُ بنبيّه إلى السماء ومنها إلى «سدرة المنتهى»، ومنها إلى «حجب النور» وخاطبه وناجاهُ هناك واللّه لا يوصف بمكان؟.

فقال عليه السلام: «إنَّ اللّه لا يُوصَفُ بمكان ولا يَجري عليهِ زمانٌ، وَلكنَّهُ عزوجل أرادَ أن يُشَرِّف به مَلائِكته، وسكّانَ سَماواتِه، ويكرِّمَهُم بمشاهدته، وَيُريَه من عجائب عظمته مايخبر بهِ بَعدَ هُبُوطِه، وليسَ ذلِكَ على ما يَقُولُه المشبّهون سبحانَ اللّهِ تعالى عَمّا يَصِفُون».(2)

أجل يجب أن يكون لرسول الإسلام وخاتم الأنبياء مثل هذا المقام العظيم ومثل هذه المنزلة السامقة، ليقول للبشرية العائشة في القرن العشرين، والّتي أصبحت تفكّر في الهُبوط على «المريخ» و «الزهرة» وغيرها من الأنجم البعيدة:

بأنّني قد فعلت هذا من دون أية وسيلة، وإنَّ ربّي قد مَنَّ عليّ وعرّفني على نظام السماوات والأرض، وأطلَعَني بقدرته وبعنايته على أسرار الوجود، ورموز الكون.

ص:613


1- . علل الشرائع: 1/131 ح 1؛ بحار الأنوار: 18/347 ح 57؛ التوحيد للصدوق: 175.
2- . علل الشرائع: 1/132 ح 2؛ بحار الأنوار: 18/348 ح 59.

24 سفره صلى الله عليه و آله و سلم إلى الطائف

اشارة

انقضت السنة العاشرة بكلّ حوادثها الحلوة والمرّة، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقد في هذا العام حامييه الكبيرين المتفانيين في سبيله، ففي البداية فقد كبير بني عبدالمطلب وسيدهم، والمدافع الوحيد عن حوزة الرسالة الإسلامية والذابّ بالإخلاص عن حياض الشريعة المحمّدية، والشخصية الأُولى في قريش، أعني:

«أبا طالب» عليه السلام.

ولم تنمح آثار هذه المصيبة المرّة عن خاطر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد إلّاوفاجأته مصيبة وفاة زوجته الوفية العزيزة، السيدة خديجة الكبرى الّتي جدّدت برحيلها عنه أحزان النبيّ وآلامه الروحية.(1)

لقد حامى أبوطالب ودافع عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وحافظ على حياته وسلامته ومكانته، وبينما ساعدت خديجة بثروتها الطائلة في نشر الإسلام وقدمت في هذا السبيل خدمات عظيمة لا تنسى.

من هنا سمّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تلك السنة بعام الحداد، أو الحزن.(2)

ومنذ أن توفّى اللّه الحاميين العظيمين والمدافعين القويين عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ظروفاً صعبة جدّاً قلّما واجهها من قبل.

ص:614


1- . جاء في تاريخ الخميس: 1/301 أنّه قيل بأنّ «خديجة» توفّيت بعد «أبي طالب» بشهرٍ وخمسة أيام، بينما ذهب آخرون مثل ابن الأثير في الكامل: 2/90 إلى أن السيدة خديجة توفّيت قبل أبي طالب، لا بعده.
2- . تاريخ الخميس: 1/301، السيرة الحلبية: 1/347.

فقد واجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منذ حلول السنة الحادية عشرة جوّاً مفعماً بالعداء له، والحقد عليه، وصارت الأخطار تهدّد حياته الشريفة في كلّ لحظة، وقد فقد كلّ الفرص لتبليغ الرسالة وكلّ إمكانات الدعوة إلى دينه.

يقول ابن هشام في هذا الصدد: إنّ «خديجة بنت خويلد» و «أبا طالب» هلكا (أي توفّيا) في عام واحد فتتابعت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المصائب بهلك خديجة وكانت له وزيرة صدق على الإسلام، وكان يسكن إليها، وبهُلك عمّه أبي طالب وكان له عضداً، وحرزاً في أمره، ومنعةً وناصراً على قومه، وذلك قبل هجرته الى المدينة بثلاث سنين. فلمّا هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتّى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً.

ولمّا نثر ذلك السفيه على رأس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذلك التراب، دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول لها:

«لا تبكي يا بُنيَّة فإنَّ اللّهَ مانع أباك».

ويقول بين ذلك:

«ما نالت مني قريشٌ شيئاً أكرَهُهُ حتّى مات أبوطالب».(1)

ولأجل تزايد الضغط والكبت هذا قرر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن ينتقل من المحيط المكّي إلى محيط آخر يتسنّى له تبليغ رسالته.

وحيث إنَّ الطائف كانت تعتبر آنذاك مركزاً هامّاً، لذلك رأى رسول

ص:615


1- . السيرة النبوية: 1/282-283؛ بحار الأنوار: 19/5 عن إعلام الورى: 1/131 عن محمّد بن إسحاق بن يسار.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يسافر لوحده إلى الطائف، ويجري بعض الاتّصالات مع زعماء قبيلة ثقيف وساداتها، ويعرض دينه عليهم علّه يحرز نجاحاً ويكسب أنصاراً جدداً لرسالته من هذا الطريق.

ولمّا انتهى صلى الله عليه و آله و سلم إلى الطائف عمد إلى نَفَر من قبيلة «ثقيف» هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وجلس صلى الله عليه و آله و سلم إليهم، ودعاهم إلى اللّه، فلم يؤثر فيهم كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا له: لئن كنتَ رسولاً من اللّه كما تقول لأنتَ أعظمُ خطراً من أن أردَّ عليك الكلام، ولئِن كنت تكذب على اللّهِ ما ينبغي لي أن أُكلّمك!!

فعرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من رَدّهم الصبياني أنّهم يحاولون التملُّص من قبول الدعوة واعتناقِ الإسلام، فقام صلى الله عليه و آله و سلم من عندِهِم بعد أن طلب منهم أن يكتموا ما جرى في هذا اللقاء خشية أن يعرف سفهاءُ ثقيف فيتجرّأوا عليه ويتّخذوا ذلك ذريعة لاستغلال غربته ووحدته، ومن ثم إيذائه، فوعدوه بالكتمان، ولكنّهم - وللأسف - لم يحترموا وعدهم هذا الّذي أعطوه لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، وفجأة وجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسه محاطاً بجمع كبير من أُولئك السفهاء يسبّونه ويصيحون به حتّى اجتمع الناس، وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه في تلك الساعة، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظلٍ فجلس فيه وهو يتصبّب عرقاً، وقد ألحقوا الأذى بمواضع عديدة من بدنه الشريف ورجلاه تسيلان من الدماء، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، وقد كانا من أثرياء قريش، يومئذ.

فلمّا اطمأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم توجّه إلى ربّه وناجاه قائلاً:

«أللّهُمَّ إلَيكَ أشكُو ضَعفَ قُوَّتي، وَ قِلَّةَ حِيلَتي، وَهَواني عَلى النّاسِ، يا أرحَمَ الرّاحِمين، أنتَ رَبُّ المُستَضعَفِين، وَ أنتَ رَبّي، إلى مَن تكِلُني؟ إلى بعيِدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أم إلى عَدُوّ ملكتَهُ أَمري؟

ص:616

إن لَم يَكُن بِكَ عَليَّ غَضَبُ فَلا أُبالِي، ولكنّ، عافِيتَكَ هِيَ أوسَعُ لِي.

أعُوذُ بِنُورِ وَجهك الّذي أشرقت لَهُ الظُّلماتُ، وَ صَلُحَ عَليهِ أمرُ الدُّنيا وَ الآخِرَة مِن أن يَنزِلَ بِي غَضَبُكَ، أو يَحِلَّ عليَّ سَخطُك.

لَكَ العُتبى حتّى تَرضى، وَ لا حولَ وَ لا قُوّةَ إلّابِكَ».(1)

هذه الكلمات وهذا الدعاء هي استغاثة شخصية عاش خمسين سنة عزيزاً مكرّماً في ظلّ حماية مَن دافعوا عنه بصدق وإخلاص ودفعوا عنه كلّ أذى ولكنّه الآن يضيق عليه رحب الحياة حتّى يلجأ إلى حائط عدوٍّ من أعدائه، ويجلس في ظل شجرة، مكروباً موجَعاً ينتظر مصيره.

فلمّا رآه ابنا ربيعة «عتبة وشيبة» (وكانا من الوثنيّين ومن أعداء الإسلام) وشاهدوا ما لقي من الأذى والعذاب، رَقّا لَهُ فدعوا غلاماً لهما نصرانياً من أهل نينوى يقال له «عداس» فقالا له: خذ قطفاً من العنب فضَعهُ في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى هذا الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس، ثم أقبل بالعنب حتّى وضعه بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ثم قال له: كل، فلمّا وضع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيه يده قال:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم».

فتعجب عداس من ذلك بشدة وقال: واللّه إنَّ هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومِن أهل أي البلاد أنتَ يا عداس وما دينك؟

قال: أنا نصراني، من أهل نينوى.

قال صلى الله عليه و آله و سلم: من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى.

فقال له عداس: وما يدريك ما (مَن) يونس بن متى؟

ص:617


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/284-286.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم(1): ذاك أخي كان نبياً وأنا نبيّ، أنا رسول اللّه، واللّه تعالى أخبرني خبر يونس بن متى.

فأكبَّ عداس على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد رأى في كلماته علائم الصدق وآيات الحق، وجعل يقبّل رأسَه ويديه، وقدميه، وهما تسيلان من الدماء وآمن به، ثم عاد بعد الاستئذان منه صلى الله عليه و آله و سلم إلى صاحبيه في البستان. فتعجّب ابنا ربيعة لِما رأياه في غلامهما عداس من الانقلاب الروحي العجيب، وسألاه قائلين: ويلك يا عداس مالك تقبّل رأس هذا الرجل، ويديه وقدميه وماذا قال لك؟!

فأجابهما الغلام قائلاً: يا سيدَيَّ ما في الأرض شيء خيرٌ من هذا، هذا رجلٌ صالح لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلّانبيُّ.

فشقَّ كلامُ عداس على ابني ربيعة، وقالا له بنبرة الناصحّ له: ويحك يا عداس، لا يصرفنّك هذا الرجلُ عن دينك فإنّ دينَك خير من دينه!!(2)

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعود إلى مكّة:

انتهت ملاحقةُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بلجوئه إلى حائط ابني ربيعة، وكان عليه الآن، وبعد أن يئس من خير ثقيف أن يعود إلى مكّة، ولكنَّ عودته إلى مكّة لم تكن لتخلو عن مشاكل، لأنّه قد فقد نصيره وحاميه ومدافعه الأكبر والأوحد فكان من المحتمل جداً أن يقبض عليه المشركون ويسفكوا دمه.

فقرر صلى الله عليه و آله و سلم أن يبقى في منطقة «نخلة» (وهي واد بين الطائف ومكّة) بعض الوقت.

ص:618


1- . وفي رواية البحار: 19/6 جملة اعتراضية هنا: - وكان لا يحقر أحداً أن يبلغه رسالة ربه -.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/287؛ بحار الأنوار: 19/6 و 7 و 22 مع اختلاف يسير.

لقد كان يريد أن يرسل أحداً إلى شخصية من شخصيات قريش يطلب منها أن تجيره حتّى يدخل مكّة بجوار، ولكنه صلى الله عليه و آله و سلم لم يجد مَن يقوم له بهذه المهمة.

فترك «نخلة» إلى حراء، وهناك التقى رجلاً خزاعياً وطلب منه أن يأتي «المطعم بن عدي» بمكة، وكان من الشخصيات المكية البارزة و يسأله أن يجير رسول اللّه ليدخل مكّة في أمان من أذى قريش وكيدها.

فدخل الخزاعيّ مكّة، وأبلغ المطعم ما طلبه منه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقبل المطعم - رغم كونه وثنياً مشركاً - أن يجير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال للخزاعي: ائته فقل له: إنّي قد أجرتك فتعال.

فدخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة ليلاً ونزل في بيت مطعم مباشرة، وبات ليلته هناك، ولمّا طلعت الشمس من صبيحة غد قال مطعم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لتعلمنّ قريش بأنّك في جوارنا، فأصحبنا إلى البيت، ليروا جوارنا.

فاستحسن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رأيه فأخذ المطعم وأهلُ بيته السلاح ودخلوا مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد الحرام، وكان ورودهم في المسجد بهيئة رائعة.

وكان أبوسفيان قد كمن للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ليكيد به، فلمّا رأى هذا المشهد المهيب غضب غضباً شديداً، وانصرف عن إيذاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فجلس المطعم وولده وأختانه وأخوه، وطاف رسول اللّه بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله.(1)

ص:619


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/255؛ طبقات ابن سعد: 1/210-212؛ بحار الأنوار: 19/7 و 8. ويستبعد بعض المحقّقين أن يكون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد طلب الجوار من مشرك أو دخل في جوار مشرك، على غرار عدم قبوله الهدية من المشرك، وذكر لذلك أدلّة ووجوها. ولكن يمكن الإجابة عن هذا بأنّ الإجارة كانت أمراً عادياً في ذلك العصر، ولم يكن فيها ما يوجب شيناً على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم تستلزم منّة عليه. ثم ما المانع في مثل هذا الجوار لو ترتبت عليه مصالح عليا، كتمكين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الدخول بسلام إلى مكّة، وتمكّنه من القيام بمهامّه الرسالية، خاصّة أنّ هذا الجوار لم يستغرق إلّايوماً أو

ولم يمض على هذه الحادثة زمان طويل حتّى هاجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من مكّة إلى المدينة، وتوفّي المطعم في أوائل الهجرة في مكّة، ولمّا بلغ رسول اللّه نبأ موته تذكّر صلى الله عليه و آله و سلم إحسانه وجوارَه، وأنشأ حَسّان بن ثابت شاعر الإسلام شعراً يمدحُه فيه تقديراً لخدمته.

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتذكّره كثيراً، حتّى أنّه تذكّره في واقعة «بدر» الّتي انهزمت فيها قريش وعادت منكسرة إلى مكّة بعد أن خسرت كثيراً من رجالها وأُسر منها عدد كبير، فتذكّر مطعم بن عدي ثمة وقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«لو كان مطعم بن عَديّ حياً لوهبت له هؤلاء».(1)

نقطة هامة:

إنَّ سفر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى الطائف يكشف عن إصراره في أداء رسالته واستقامته وصبره صلى الله عليه و آله و سلم كما أنّ تذكُّره لإحسان مطعم في المواقع المناسبة يقودنا إلى خصاله الحميدة وسجاياه الفاضلة، وخلقه العظيم.

ولكن الأهمَّ من هذا وذاك هو أنّنا نستطيع من خلال هذا تقييم خدمات أبي طالب القيمة، ومعرفة أهميتها الكبرى عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بمقايستها مع ما فعله مطعم.

فإن مطعم لم يفعل شيئاً إلّاأن أجار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحماه يوماً أو بعض يوم.

ص:620


1- . المغازي للواقدي: 1/110 ثم قال الواقدي: وكانت لمطعم بن عدي عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إجارة حين رجع من الطائف.

بينما حدب أبو طالب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودافع عنه وخدمه عمراً كاملاً، ولقى في سبيله من المحن والمتاعب ما لم يلق مطعم منها ولا شيئاً ضئيلاً.

فإذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعلن عن استعداده للإفراج عن جميع الأسرى في «بدر» تقديراً لما قام به مطعم من إجارة بسيطة قصيرة، فماذا عساهُ أن يقوم به تجاه ما أسداه إليه عمُّه وحاميه وكافله الأكبر والأوحد أبوطالب من خدمات طوال أكثر من أربعين عاماً، أنّه يجب أن يكون لمثل هذا الشخص العظيم - الّذي كفل صاحب الرسالة وقام بشؤونه مدّة أربعين عاماً بأيّامها ولياليها ودافع عنه في السنوات العشر الأخيرة وهي جلُّ عمر الرسالة الإسلامية في الفترة المكّية إلى درجة أن عرَّض راحته وسلامته بل حياته وحياة أبنائه لخطر الموت دفاعاً عن حياض الرسالة، وحمايةً لصرح النبوة - مقاماً عظيماً ومنزلة كبرى عند قائد البشرية، ومعلم الإنسانية، وهاديها العظيم.

كيف لا؛ والفرق بين هذين الشخصين كبير، والبون شاسع، فمطعم رجل وثني مشركٌ، بينما يعتبر أبوطالب واحداً من كبار الشخصيات الإسلامية العظيمة بلا جدال.

الدعوة في أسواق العرب:

كانت العرب تجتمع - في مواسم الحج - في نقاط مختلفة مثل: «عكاظ» و «المجنة» و «ذي المجاز»، وكان الشعراء والخطباء العرب البارعُون يقفون في هذه المناطق على أماكن مرتفعة ويلهون فريقاً من الناس بما يلقونه عليهم من خطب وقصائد تدور في الأغلب حول الحرب والقتال، والتفاخر، والعشق.

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شأنه شأن كلّ الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه يستغلّ هذه الفرصة - كغيرها - لإبلاغ رسالة ربه إلى الناس، ولم يكن لأحدٍ منعه أو الكيد به

ص:621

لحرمة القتال والجدال في الأشهر الحرم.

من هنا كان صلى الله عليه و آله و سلم إذا حلّ الموسم وقف على مكان مرتفع وخاطب الناس قائلاً:

«يا أيّها الناس قُولُوا لا إله إلّااللّهُ تُفلِحُوا وتملكوا بها العَرَب وتَذِلُّ لكُمُ العَجمُ، وَإذا آمَنتُم كُنتُم مُلُوكاً فِي الجَنَّة».(1)

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج:

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يلتقي في مواسم الحج في هذه النقاط برؤساء القبائل العربية وأشرافها، ويقف على منازلهم منزلاً منزلاً، ويعرض دينه عليهم، ويدعوهم إلى اللّه ويخبرهم أنّه نبيٌّ مرسل.(2)

وربّما مشى خلفه عمُّه «أبو لهب» فإذا فرغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من قوله وما دعا به، قال أبو لهب فوراً للناس: يا بني فلان إنّما يدعوكم هذا إلى أن تسلخوا اللّات والعزّى من أعناقكم...، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له.(3)

وقد قدمت جماعة من بني عامر إلى مكّة فدعاهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الإسلام وعرض عليهم نفسه، فقبلوا أن يعتنقوا الإسلام إلّاأنّهم اشترطوا عليه أن يكون إليهم خلافته من بعده إذ قالوا: أرأيتَ إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهركَ اللّهُ على مَن خالفَك، أيكونُ لنا الأمرُ من بعدك؟

ص:622


1- . الطبقات الكبرى: 1/216.
2- . قال ابن هشام: كان صلى الله عليه و آله و سلم لا يسمع بقادم يقدم مكّة من العرب له اسم وشرف إلّاتصدّى له فدعاه إلى اللّه وعرض عليه ما عنده. السيرة النبوية: 2/289.
3- . الكامل في التاريخ: 2/94.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«الأمرُ إلى اللّهِ يَضَعه حيثُ يشاءُ».

فرفضوا اعتناق الإسلام والإيمان باللّه ورسوله.

ثم لمّا عادوا إلى أوطانهم رَجَعُوا إلى شيخ لهم طاعنٍ في السنّ لم يقدر أن يحجَّ معهم و كان ذا بصيرة وفهم فحدّثوه بما جرى بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا: جاءنا فتى من قريش من بني عبدالمطلب يزعم أنّه نبي يدعونا إلى أن نمنعه(1) ونقوم معه.

فوضع الشيخ يديه على رأسه ووبَّخَهُم على رفضهم لدعوة الرسول وقال:

يا بني عامر والّذي نفسُ فلان بيده ما تَقَوَّلَها إسماعيليٌ قط(2)، وإنّها لحقٌ، فأين رأيكم كان عنكم؟!(3)

إنّ هذه القضية التاريخية تفيد - في ما تفيد - بأنّ مسألة الخلافة والإمامة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر تنصيصي، تعييني، لا انتخابي، أي أنّ تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعود إلى اللّه، ولاخيار للناس فيه، وإنّما عليهم الطاعة والرضا.

ص:623


1- . أي نحميه.
2- . أي ما ادّعى النبوة كاذباً أحدٌ من بني إسماعيل.
3- . لاحظ: السيرة النبوية: 2/289.

25 بيعة العقبة

اشارة

كان (وادي القرى) في ما مضى من الزمن طريق التجارة من اليمن إلى الشام، فكانت القوافل التجارية القادمة من اليمن تدخل وادياً طويلاً يُدعى بوادي القرى بعد العبور بالقرب من مكّة، وكانت المناطق الواقعة على طول هذا الوادي مناطق خضراء، ومن هذه المناطق مدينة قديمة كانت تُدعى ب: يثرب والّتي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول.

وقد سكن في هذه المدينة منذ أوائل القرن الرابع الميلادي قبيلتا: «الأوس والخزرج» اللّتان كانتا من مهاجري عرب اليمن (من القحطانيّين).

وكان يعيش إلى جانبهم الطوائف اليهودية الثلاث المعروفة: «بنو قريظة» و «بنو النضير» و «بنو قينقاع» الذين كانوا قد هاجروا إليها من شمال شبه الجزيرة العربية واستوطنوها.

وكان يقدم إلى مكّة كلّ عام جماعة من عرب يثرب للاشتراك في مراسيم الحج، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يلتقي بهم في تلك المواسم، ويجري معهم اتّصالات.

على أنّ كثيراً من تلك الاتصالات وإن لم تثمر ولم تنطو على أيّة فائدة فعلية إلّا أنّها تسبّبت في أن يحمل حجّاج يثرب - لدى عودتهم - أنباء ظهور النبيّ الجديد وينشروه في أوساط المدينة كأهم نبأ من أنباء الساعة، ويلفتوا نظر الناس في تلك الديار إلى مثل هذا الأمر المهم والخطير.

ولهذا ننقل هنا بعض اللقاءات والاتّصالات الّتي تمّت بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجماعات من أهل هذه المدينة في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة

ص:624

عشرة من البعثة لتتّضح بدراسة هذه المطالب علّة هجرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من مكّة إلى يثرب، وتمركز قوى المسلمين في تلك المنطقة.

1. كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّما سمع بقادم يقدم مكّة من العرب له اسم وشرف تصدّى له، ودعاه إلى الإسلام وعرض عليه ما عنده.

قدم «سويد بن الصامت» أخو بني عمرو بن عوف، مكة حاجاً أو معتمراً، فتصدى له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين سمع به، فدعاه إلى اللّه وإلى الإسلام فقال له سويد: فلعلّ الّذي معك مثل الّذي معي.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: وما الّذي معك؟

قال: مجلة لقمان، يعني حكمة لقمان.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إعرضها عليَّ، فعرضها عليه. فقال له: إنّ هذا الكلام حسن، والّذي معي أفضل من هذا. قرآنٌ أنزلهُ اللّهُ تعالى عليّ هو هدى ونور. فتلا عليه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال سويد: إنّ هذا قولٌ حسن (وآمَنَ برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم) فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنّا لنراه قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل يوم بعاث(1).(2)

2. لمّا قدم «أنس بن رافع» مكّة ومعه فتيةٌ من بني عبدالأشهل، فيهم «إياس بن معاذ»، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأتاهم وجلس إليهم، فقال لهم: هل لكم في خير ممّا جئتم له؟

فقالوا له: وما ذاك؟

قال: «أنا رسول اللّه بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا

ص:625


1- . بعاث موضع كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/289-291.

به شيئاً، وأنزل عليّ الكتاب» ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.

فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً شهماً: أي قوم هذا واللّه خير ممّا جئتم له. فقد أدركَ جيّداً أنّ دينَ التوحيد يكفُلُ كلَّ حاجاتهم فهو دينٌ شاملٌ مباركٌ؛ لأنّه سيصهِرُ الجميعَ في بوتقة الأُخوَّة الواحدةِ فتزول عندئذ أسبابُ العداء والقتال، وبذلك ينهي كلّ مظاهرِ الحرب والتنازع، وكلَّ مظاهر الفساد والتخريب فهو أفضل من طلبِ المساعدة العسكرية من قريش الّتي جاءُوا من أجلها إلى مكّة، فآمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من دون أن يكسب رضا رئيس قبيلته «أنس بن رافع» واستئذانه.

ولهذا غضب أنس بن رافع وأخذ حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجهَ إياس وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمَتَ إياس، وقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج.

ثم يلبث إياس أن هلك، وقد سمعه مَن حضره من قومه عند موته أنّهم لم يزالوا يسمعونه يهلّل اللّه تعالى ويكبّره ويحمده ويسبّحه حتّى مات، فما كانوا يشكّون أنّه قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما سمع.(1)

وقعة بُعاث:

كانت وقعة بُعاث من الحروب التاريخية بين الأوس والخزرج، ففي هذه الوقعة انتصر الأوسيون على منافسيهم، وأحرقوا نخيل الخزرجيين، ثم وقعت بعد ذلك حروب ومصالحات بينهم.

ولم يشترك «عبداللّه بن أُبيّ» وهو من أشراف الخزرج في هذه الوقعة من

ص:626


1- . السيرة النبوية: 2/291.

هنا كان موضع احترام من القبيلتين، وكاد الطرفان يفقدان مقاومتهما بسبب تكرر الحروب، وتحمّل الخسائر الثقيلة، ولهذا رغب الطرفان في عقد صلح بينهما يضع حدّاً لجميع أشكال العمليات العسكرية، والغزو والاقتتال، والثأر والانتقام، وأصرّت القبيلتان على «عبداللّه بن أُبي» بأن يقبل بقيادة عمليّة المصالحة هذه، بل وأعدّوا له تاجاً يتوّجونه به، حتّى يصبح أميراً في وقتٍ معيَّنٍ، ولكن هذا المشروع تعرض للانهيار والسقوط وواجه الفشل على أثر اعتناق جماعة من الخزرج الإسلام، ففي هذا الوقت بالذات التقى رسول اللّه بمكة بستة أشخاص من رجال الخزرج ودعاهم إلى الإسلام فآمنوا به، ولبُّوا دعوته.

تفصيل الحادث:

خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الموسم الّذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كلّ موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج وكانوا ستة أنفار أراد اللّه بهم خيراً. فقال لهم: مَن أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: أمِنْ موالي اليهود؟

قالوا: نعم.

قال: أفلا تجلسُون أكَلِّمُكُم؟

قالوا: بلى.

فجلسوا معه، فدعاهم إلى اللّه عزّوجلّ، وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن وكان ممّا صنع اللّه بهم في الإسلام، أنّ يهوداً كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهلَ شرك وأصحاب أوثان، وكان اليهود قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا وقع بينهم شيء قال اليهود لهم: إنّ نبياً مبعوث الآن، قد أظلّ (أو أطلّ) زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرَم.

ص:627

فلمّا كلَّمَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أُولئك النفر، ودعاهم إلى اللّه، قال بعضهم لبعض يا قوم: تعلموا واللّه إنّه للنبيُّ الّذي توعّدكم به اليهود فلا يسبقنّكم إليه.

فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنّا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم، فعسى أن يجمعهم اللّهُ بكَ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الّذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل أعزّ منك.(1)

بيعة العقبة الأُولى:

لقد أثّرت دعوة هؤلاء الستّة، الجادة في يثرب تأثيراً حسناً حيث سبّبت في إسلام فريقٍ من أهل يثرب واعتناقهم عقيدة التوحيد.

فلمّا كان العام المقبل (أي السنة الثانية عشرة من البعثة) قدم مكّة اثنا عشر رجلاً من أهل يثرب، فلقوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالعقبة، وانعقدت هناك أوّل بيعة إسلامية.

وأبرز هؤلاء الرجال هم: أسعد بن زرارة، وعبادة بن الصامت، وكان نص هذه البيعة - بعد الاعتراف بالإسلام والإيمان باللّه ورسوله - هو كما نقل عن عبادة بن الصامت قال: كنت في مَن حضر العقبة الأُولى، وكنّا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أن لا نشرك باللّه شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا و أرجلنا، ولا نعصيه في معروف.

(فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم): فإن وفيتم فلكمُ الجنة، وإن غشّيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى اللّه عزّوجل إن شاء عذَّبَ، وإن شاء غفر.(2)

ص:628


1- . تاريخ الطبري: 2/86؛ والسيرة النبوية لابن هشام: 2/292؛ بحار الأنوار: 19/25.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/295.

وهذه البيعة اصطلح على تسميتها المؤرّخون وكتّابُ السيرة ببيعة النساء، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أخذ البيعة من النساء في فتح مكّة على هذا النحو(1).

وعاد هؤلاء النفر إلى يثرب بقلوب مفعمةٍ بالإيمان، مترعة بمحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فعمدوا إلى نشرالإسلام وكتبوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يبعث لهم مَن يعلّمهم الإسلام والقرآنَ، فبعث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لهم «مصعب بن عمير» وأمره بأن يقرِّئهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم في الدين، فكان يُسمّى المقرئ بالمدينة.

واستطاع هذا المبلّغُ القديرُ، وهذا الداعية النشيط أن يجمع المسلمين بفضل عمله الدؤوب والحكيم وتبليغه الصحيح في غياب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويؤمّهم، ويصلّي بهم.(2)

بيعة العقبة الثانية:

لقد أحدث تقدّم الإسلام في يثرب هيجاناً كبيراً وشوقاً عجيباً في نفوس المسلمين من أهلها، فكانوا ينتظرون بفارغ الصبر حلول موسم الحجّ، ليقدموا مكّة، ويلتقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن كثب، ويُظهروا له عن استعدادهم لتقديم ما يطلبُ منهم من خدمةٍ وعملٍ، وليستطيعوا توسيع نطاق البيعة من حيث الكَمّ ومن حيث الكيف.

وأخيراً حلّ موسم الحجّ فخرجت قافلةٌ كبيرةٌ من أهل يثرب للحجّ تضمّ خمسمائة نفر فيهم ثلاث وسبعون من المسلمين من بينهم امرأتان، والباقي إمّا راغبون في الإسلام، وإمّا غير مكترث به، حتّى قدموا مكّة، والتقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فواعدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالعقبة للبيعة إذ قال: «موعدكم العقبة في الليلة الوسطى

ص:629


1- . والّتي جاء ذكرها في الآية 12 من سورة الممتحنة.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 19/25.

من ليالي التشريق».

فلمّا كانت الليلة الثالثة عشرة من شهر ذي الحجّة وهي الّتي واعدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيها باللقاء، ونام الناس حضر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع عمّه «العباس بن عبدالمطلب» قبل الجميع، وخرج المسلمون من رحالهم يتسلّلون تسلّل القطا مستخفين بعد أن ناموا مع قومهم في رحالهم، ومضى ثلث الليل لكيلا يحسّوا بخروجهم، حتّى اجتمعوا في الشعب عند العقبة، ولمّا استقرّ المجلس بالجميع، كان أوّل متكلّم هو: العباس بن عبدالمطلب فقال واصفاً منزلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنّما يسمّون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسَها - إنَّ محمَّداً مِنّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا،... فهو في عزّ من قومه، ومَنعة في بلده، وإنّه قد أبى إلّاالإنحياز إليكم، واللُحوق بكم، فإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترونَ أنكم مُسلِمُوهُ وخاذِلُوهُ بعدَ الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوهُ فإنّه في عزّ ومَنعةٍ من قومه وبلده. فقال الحضور: قد سمعنا ما قلتَ فتكلّم يا رسول اللّه، فخذ لنفسك ولربك ما أحببتَ.

فتكلمَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فتلا القرآن، ودعا إلى اللّه ورغّب في الإسلام ثم قال:

أُبايعُكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.

فأخذ البراء بن معرور بيد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: نعم والّذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك ممّا نمنع منه أُزُرنا(1)، فبايعنا يا رسول اللّه فنحن واللّه أبناء الحروب وأهل

ص:630


1- . الملاحظ في هذه البيعة انّها كانت بيعة للدفاع عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وليس بيعة للجهاد في سبيل اللّه، ولهذا فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يقدم على القتال في بدر إلّابعد أن كسب موافقة الأنصار ورضاهم.

الحلقة (أي السلاح) ورثناها كابراً عن كابر.

(فدبّ في الحضور حماس وسرور عظيم وتعالت الأصوات والنداءات من الخزرجيّين والّتي كانت تعبيراً عن شدة حماسهم، وسرورهم لهذا الأمر، فقام العباس وهو آخذ بيد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وفي هذه الأثناء نهض «البراء بن معرور» و «أبو الهيثم بن التيهان» و «أسعد بن زرارة» من مواضعهم وبايعوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم بايعه بقية القوم جميعاً).

وقد قال ابن التيهان عند مبايعته للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول اللّه إنّ بيننا وبين الرجال (أي اليهود) حبالاً (وعلاقات) وإنّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه، أن ترجعَ إلى قومك وتدعَنا؟

فتبسَّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: «بل الدَم الدَم، والهَدم الهَدم، أنا منكم وأنتم منّي، أُحارب من حاربتم، وأُسالم من سالمتم» يعني أنّه سيبقى على العهد، ولا يتركهم وكانت العرب تقول عند عقد الحلف: دمي دمُك، وهَدمي هَدمُك، وهي كناية عن البقاء على العهد واحترام الميثاق والحِلف.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: أخرجُوا إِليَّ منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم.(1)

فأخرَجوا منهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.(2)

وروى ابن إسحاق عن عبداللّه بن أبي بكر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال للنقباء أنتم على قومكم بما فيهم كُفَلاء، ككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم، وأنا كفيلٌ على

ص:631


1- . راجع: المحبر: 268-274.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/302-303، بتصرّف.

قومي (يعني: المسلمين) قالوا: نعم.(1)

وفي رواية أُخرى: أُبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريّين كفلاء على قومهم بما فيهم، وعلى أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم». فبايعوه على ذلك. وبعد أن تمّت مراسم البيعة وعدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يهاجِرَ إليهم في الوقت المناسب، ثم ارفض الجمع وعادَ القومُ إلى رحالهم.(2)

أوضاعُ المسلمين بعد بيعة العقبة:

والآن ينبغي أن نجيب بالتفصيل على السؤال الّذي يطرح نفسه هنا وهو: ما الّذي دعا أهل يثرب الذين كانوا بعيدين عن مركز ظهور الإسلام إلى أن يستجيبوا لنداء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ويأخذوا بتعاليمه أسرع من المكيّين مع ما كان بين المكيّين وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من القرابة القريبة؟!

وكيف تركت تلك اللقاءاتُ المعدودةُ القصيرةُ بأهل يثرب آثاراً تفوق الآثار الّتي تركتها الدعوةُ المحمّدية خلال ثلاثة عشر عاماً في مكّة؟!

إنّ علّة هذا التقدّم يمكن اختصارها وحصرها في أمرين:

أوّلاً: أنّ اليثربيّين جاوروا اليهودَ سنيناً عديدة وطويلة قبل الإسلام وكثيراً ما

ص:632


1- . السيرة النبوية: 2/305.
2- . بحار الأنوار: 19/25 و 26؛ السيرة النبوية لابن هشام: 2/302-305؛ الطبقات الكبرى: 1/221-223. وفي رواية أُخرى في البحار: 19/47، كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً. وقد كان هذا العمل النبوي حكيماً جداً لأنّ عامّة الناس لا يمكن التعويل والاتّكال على التزاماتهم بل لابد من الاعتماد - ضمناً - على رموز المجتمع ومفاتيحه وهم وجوه القوم وسراتهم.

كانوا يتحدّثون في مجالسهم وأنديتهم عن النبيّ العربيّ الّذي يظهر، ويأتي بدينٍ جديدٍ.

حتّى أنّ اليهود كانوا يقولون: للوثنيّين إنَّ هذا النبيّ سيقيم دينَ اليهود وينشره، ويمحي الوثنية ويقضي عليها بالمرة.

فتركت هذه الكلماتُ أثراً عجيباً في نفوس أهل يثرب، وهيّأت قلوبهم لقبول الدين الّذي كان يخبر عنه يهودُ وينتظرونه، بحيث عندما التقى الأنفار الستة من أهل المدينة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لأوّل مرّة، بادروا إلى الإيمان به من غير إبطاء ولا تأخير بعد أن قال بعضهم لبعض: واللّه إنَّه للنبيّ الّذي توعَّدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه.

ومن هنا فإنّ ممّا يأخذه القرآن على اليهود هو: أنّكم كنتم تهدّدون الوثنيّين بالنبيّ العربيّ، وتبشّرون الناس بأنّه سيظهر، وأنّكم قرأتم أوصافه وعلائمه في التوراة فلماذا رفضتم الإيمان به لمّا جاء صلى الله عليه و آله و سلم؟

يقول تعالى:

«وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» .(1)

ثانياً: أنّ العامل الآخر الّذي يمكن اعتبارهُ دخيلاً في التأثير في نفوس اليثربيّين وسرعة إقبالهم على الإسلام وتقبّلهم لدعوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو التعب والإرهاق الّذي كان أهل يثرب قد أُصيبوا به من جرّاء الحروب الطويلة الدامية فيما بينهم والّتي استمرّت مائة وعشرين عاماً والّتي أنهكتهم وكادت أن تذهب بما تبقّى من رَمقهم، وجعلتهم يملّون الحياة، ويفقدون كلّ أمَلٍ في تحسّن الأحوال والأوضاع.

ص:633


1- . البقرة: 89.

وإنّ مطالعة وقعة «بُعاث» وهي - حرب وقعت بين الأوس والخزرج - وحدها كفيلة بأن تجسّد لنا الوجهَ الواقعي الّذي كان عليه سكان تلك الديار. ففي هذه الوقعة انهزم الأوسيّون على يد الخزرجيّين، فهربوا إلى «نجد»، فعيّرهم الخزرجيّون بذلك، فَغضب «الحضير» سيد الأوس، لذلك غضباً شديداً، فطعن فخذه برمحه لشدة انزعاجه وغضبه، وترجّل عن فرسه وصاح بقومه قائلاً:

واللّه لا أقوم من مكاني هذا حتّى أُقتل!! فأوقد صمود «الحضير» وثباته نار الحمية والغيرة وأشعل روح الشهامة والبسالة في قومه، فقرّروا الدفاع عن حقّهم مهما كلّفهم الأمر، فقاتلوا أعداءهم مستميتين، والمستميت منتصر لا محالة، فانتصر الأوسيّون المغلوبون، هذه المرة، وهزموا الخزرج هزيمة نكراء وأحرقت مزارعهم ونزل بهم ما نزل على يد الأوسيّين!!.(1)

ثم تتابعت الحروب والمصالحات بعد ذلك، وكانت القبيلتان تتحمّلان في كلّ مرة خسائر كبرى، جعلتهم يواجهون عشرات المشاكل الّتي حوّلت حياتهم إلى حياة مضنية متعبة جداً.

من هنا لم تكن كلتا القبيلتين راضيتين على أوضاعهما، وكانتا تبحثان عن مخلص ممّا هما فيه، من الحالة السيئة، وتفتشان عن نافذة أمل، ومخرج من تلك المشاكل.

ولهذا وجد الخزرجيّون الستة ضالّتهم المنشودة عندما التقوا - ولأوّل مرّة - رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وسمعوا منه ما سمعوا، فتمنّوا أن يضعوا به حدّاً لأوضاعهم المتردّية إذ قالوا له: عسى أن يجمعهم اللّه بك فإن جمعهم اللّه بك فلا رَجلَ أعزّ منك.

ص:634


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 1/680.

كانت هذه هي بعض الأسباب الّتي دعت اليثربيّين إلى تقبّل الإسلام بشوقٍ ورغبةٍ وحماس.

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة:

كانت قريش تغطّ في نوم عميق وكانت تتصوّر بأنّها قد حدّت من تقدّم الإسلام في مكّة وأنّه قد بدأ يتقهقر ويسير باتجاه السقوط والاندحار، وأنّه لن ينقضي زمانٌ إلّاوتنطفئ جذوة الإسلام وتخمد شعلته، وتنمحي آثاره.

وفجأة استيقظت على دويّ بيعة العقبة الثانية الّتي كانت بمثابة انفجار قلبت كلّ المعادلات، وأسقطت كلّ تصوّرات قريش الساذجة، وذلك عند ما عرف زعماء الوثنيّين بأنّ ثلاثاً وسبعين شخصاً من اليثربيّين عقدوا ليلة أمس وتحت جنح الظلام بيعة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أن يدافعوا عنه كما يدافعون عن أبنائهم وأهليهم.

فأحدث هذا النبأ خوفاً عجيباً في قلوب قادة قريش وسادة مكّة المشركين المتغطرسين، لأنّهم أخذوا يقولون مع أنفسهم: لقد وجد المسلمون الآن قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية، وأنّه يُخشى أن يجمع المسلمون كلّ طاقاتهم المبعثرة فيها. ويعملون معاً على نشر دينهم، وبث عقيدتهم، وحينئذ ستواجه الوثنية في مكّة خطراً جدياً، يهدّدُها في الصميم.

ولهذا بادرت قريش إلى الاتّصال بالخزرجيّين صبيحة تلك الليلة وقالوا لهم:

يا معشر الخزرج إنّه قد بلغنا أنّكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنّه واللّه ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحربُ بينا وبينهم، منكم.

فحلفَ المشركون من أهل يثرب لقريش أنّه ما كان من هذا شيء، وما علموه، وقد صدقوا لأنّهم لم يعلموا بما جرى في العقبة. فإنّ قافلة اليثربيّين كانت

ص:635

تضمُّ خمسمائة شخص، تسلَّلَ منهم ثلاث وسبعون فقط إلى العقبة وبقية الناس نيام لا يعلمون بشيء.

فأتت قريشٌ إلى «عبداللّه بن أُبيّ بن سلول» فسألوه عَمّا جرى في ليلة العقبة، فأنكر ذلك وقال: إنّ هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا (أي يعملوه من دون مشورتي) وما علمته كان فانصرفوا عنه.(1)

فعرف المسلمون الذين حضروا ذلك المجلس وبايعوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بفشوّ أمرهم، وانكشاف سرهم، ولهذا قال بعضهم لبعض: مادمنا لم نُعرَف بعدُ فلنخرج من مكّة فوراً قبل أن يظفر المشركون بنا، ولهذا أسرعوا في الخروج من مكّة والتوجّه إلى المدينة، فزاد ذلك من سوء ظن قريش وعزّزت شكوكهم حولَ البيعة، وعرفوا بأنّه قد كان، فخرجوا في طلب جميع اليثربيّين، ولكنّهم لم يتنبّهوا لذلك إلّابعد خروج قافلة اليثربيّين من حدود مكّة، والمكيّين، ولم تظفر قريش إلّا بسعد بن عبادة. غير أنّ ابن هشام يرى بأنّهم ظفروا بنفرين هما: «سعد بن عبادة» و «المنذر بن عمر»، وكان كلاهما من النقباء الاثني عشر.

أمّا «المنذر» فاستطاع أن يخلّص نفسه منهم.

وأمّا «سعد» فقد أخذوه، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رَحله، ثم أقبلوا به حتّى أدخلوه مكّة يضربونه، ويجذبونه بجمّته(2) وكان ذا شعرٍ كثيرٍ.

قال سعد: فواللّه إنّي لفي أيديهم إذ طلع عليّ نفرٌ من قريش فيهم رجلٌ وضيء أبيض، طويل القامة، فقلت في نفسي: إن يكُ عندَ أحدٍ من القوم خير فعند

ص:636


1- . السيرة البنوية لابن هشام: 2/307.
2- . مجتمع شعر الرأس.

هذا.

قال: فلما دنا منّي رفع يده فلكمني لكمةً شديدةً.

فقلتُ في نفسي: لا واللّه، ما عندهم بعد هذا من خير.

قال: فواللّه إنّي لفي أيديهم يسحبونني إذ رقّ عليَّ رجلٌ ممّن كان معهم:

فقال: ويحك أما بينك وبين أحدٍ من قريش جوارٌ ولا عهدٌ؟

قلت: بلى كنتُ أُجير لجبير بن مُطعِمٍ بن عدي تجارةً، وأمنعهم ممّن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب، قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما، ففعل. وخرج ذلك الرجل إليهما... فقال لهما: إنّ رجلاً من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ويهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جواراً، قالا: ومَن هو؟ قال: سعد بن عبادة.

فقال مُطعِم: صدق واللّه إنّه كان ليجير لنا تجارّنا، ويمنعهم أن يُظلموا ببلده، فجاءا فخلّصا سعداً من أيديهم.(1)

تأثير الإسلام ونفوذه المعنوي:

يصرُّ المستشرقون على أنّ انتشار الإسلام ونفوذه في المجتمعات تمّ بواسطة السيف وفي ظلّ استخدام القوّة.

أمّا بطلان هذا الكلام فسيثبت من خلال الحوادث القادمة.

ونحن نذكر هنا للمثال حادثةً وقعت قبل الهجرة، ونلفت إليها نظر القارئ الكريم، فإنّ دراستها والتعمّق فيها يثبت بجلاء أنّ انتشار الإسلام ونفوذه في أوساط الناس كان في بداية الأمر نابعاً من جاذبيته الّتي كانت تجذب كلّ إنسان بمجرد

ص:637


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/308.

إعطاء شرح مختصر عنه وعن تعاليمه المحببة إليه.

وإليك الحادثة بنصّها:

قرّر مصعب بن عُمير المبلّغ والداعية الإسلامي المعروف الّذي بعثه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة بطلب من أسعد بن زرارة، ذات يوم أن يدعو هو وأسعد أشراف المدينة وساداتها إلى الإسلام بالمنطق والدليل، فدخلا حائطاً(1) من حوائط المدينة فجلسا هناك واجتمع إليهما رجال ممّن أسلم، وكان سعد بن معاذ وأُسيد بن حضير وهما من سادات بني الأشهل موجودين هناك أيضاً.

فقال سعد لأُسيد: جرّد حربتك وقل لهذين (يعني مصعباً وأسعد) ماذا جاء بهما إلى ديارنا يسفهان ضعفاءنا، ولولا أنّ سعد بن زرارة ابن خالتي، لكفيتُك ذلك.

ففعل أُسيد ذلك وقال لمصعب ما جاء بكما إلينا تسفّهان ضعفاءنا وراح يشتمهما فقال له مصعب داعية الإسلام الحكيم، والمتكلّم البليغ الّذي تعلّم أُسلوب الدعوة المؤثّر من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفَّ عنك ما تكره؟

قال: أنصفتَ ثم ركّزَ حربته وجلس إليهما يستمع لقولهما فكلّمه مصعبٌ بالإسلام، وقرأ عليه شيئاً من القرآن فأثّرت آياتُ القرآن وما قاله مصعب من المواعظ البليغة في نفسه حتّى عُرِفَ ذلك في إشراق وجهه، وانفراج أساريره، وشوقه فقال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله؟! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلُوا في هذا الدين؟ فقال مصعب وسعد له: تغتسل فتطهر وتغسل ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلّي.

فقام أُسيد بن حضير الّذي حضر لقتل مصعب وسعد من عندهما مبتهجاً

ص:638


1- . بستاناً.

مسروراً فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهّد شهادة الحقّ ثم قام فركع ركعتين.

ثم قال لهما: إنّ ورائي رجلاً إن اتّبعَكما لم يتخلّف عنه أحد من قومه وسأُرسله إليكما الآن، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد بن معاذ الّذي كان ينتظر عودته على أحرّ من الجمر، فلمّا نظر إليه سعد وقومه وهم جالسون في ناديهم قال:

أحلفُ باللّه لقد جاءكم أُسيد بن حضير بغير الوجه الّذي ذهب من عندكم، فلمّا وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟

قال: كلّمت الرجلين، فواللّهِ ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتُهما، فقالا: نفعل ما أحببتَ، فغضب سعدٌ لذلك غضباً شديداً، وأخذ الحربة من أُسيد، ثم خرج إلى مصعب وأسعد ليقتلهما، فلمّا رآهما سعد مطمئنين وقف عليهما متشتماً مهدّداً إيّاهما، ولكن مصعباً وزميله قابلا به بمثل ما قابلا به سابقه أُسيد، وجرى له ما جرى له، فقد فعلت كلمات مصعب في نفسه فعلتها، وخضع لمنطقه القوي، وبيانه الساحِر، وندم على ما قصد فعله، وقال لمصعب نفس ما قاله أُسيد واعتنق الإسلام واغتسل وتطهّر وصلّى ثم رجع إلى قومه وقال لهم: يا بني عبدالأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبةً.

قال: فإنّ كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرامٌ حتّى تؤمنوا باللّه وبرسوله، فالحمد للّه الّذي أكرمنا بذلك.

فلم يُمسِ في دار بني عبدالأشهل رجلٌ ولا امرأة إلّامسلماً أو مسلمة، وهكذا أسلم كلُّ قبيلة بني الأشهل قبل أن يروا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأصبحوا من الدعاة إلى الإسلام والمدافعين عن عقيدة التوحيد، لا بمنطق القوة إنّما بقوة المنطق.(1)

إنّ في التاريخ الإسلامي نماذجَ كثيرة من هذا القبيل تدلّ على بطلان وتفاهة

ص:639


1- . لاحظ: إعلام الورى: 1/139-141؛ بحار الأنوار: 19/10 و 11؛ السيرة النبوية: 297/2.

ما قاله أو روّجه المستشرقون حول أسباب تقدّم الإسلام وانتشاره، فإنّ العامل المعتمدَ في جميع هذه الموارد لم يكن المال والتطميع، ولا السلاح والتهديد، كما ادّعى المستشرقون، وإنّ الذين أسلموا في هذه الحوادث والوقائع لا هم رأوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولا أنّهم التقوا أو اتّصلوا به بنحوٍ من الأنحاء، إنّما كان السبب الوحيد هو: منطق الداعية الإسلامي القويّ وبيانه الساحر الجذّاب، فهُو الّذي كان يفعل في النفوس فعله العجيب، خلال دقائق معدودة، لا في نفس شخص واحد فحسب، بل ربّما في نفوس قبيلة بكاملها. أجل إنّه المنطقُ القوي والكلام المبرهن والحجة البالغة لاسواها.

مخاوف قريش المتزايدة:

لقد أيقظت حماية اليثربيّين للمسلمين قريشاً من غفلتها ونومها العميق مرة أُخرى، وكانت بيعة العقبة الثانية بمثابة ناقوس خطر لها فبدأت أذاها واضطهادها ومضايقتها لهم من جديد، وتهيّأت للعمل على الحيلولة دون انتشار الإسلام ونفوذه وتقدّمه في الجزيرة العربية، وبلغ ذلك الأذى مبلغاً عظيماً.

فشكا أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليه ما يلقونه على أيدي المشركين من ضغوط وأذى، واستأذنوه في الهجرة إلى مكان فاستمهلهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال:

«قد أُخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها».(1)

وبعد الإذن بالهجرة من قِبَل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أخذ المسلمون يخرجون من مكّة، ويتوجّهون إلى المدينة شيئاً فشيئاً وبحجج مختلفة لكي لا تمنعهم قريش من الهجرة.

ص:640


1- . الطبقات الكبرى: 1/226.

ولم يكن قد مضى على بداية هجرة المسلمين التدريجية هذه زمان طويل إلّا وفطن زعماء قريش لسرّها، وخطرها عليهم فأخذوا يمنعون من أي تنقل وسفر يقوم به المسلمون، وقرّروا أن يعيدوا إلى مكّة كلَ مَن وجدوه في أثناء الطريق، كما قرّروا أن يحبسوا زوجة كلّ مسلم يريد الهجرة وله زوجة قرشية ويمنعوها عنه، ولكنّهم كانوا يتجنّبون إراقة الدماء في هذا السبيل، بل وكان يقتصر أذاهم على الحبس والتعذيب ولا يتعدّاهما.

ولكن هذه المحاولات الّتي قام بها زعماء قريش لوقف الهجرة إلى المدينة لم تثمر لحسن الحظ.

فقد استطاعت مجاميع كبيرة من المسلمين النجاة بنفسها من أيدي قريش واللحاق بزملائهم وإخوانهم في يثرب حتّى أنّه لم يبق في مكّة من المسلمين إلّا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلي عليه السلام وعدد قليل من المسجونين، أو المرضى من المسلمين.

وقد زاد اجتماع المسلمين في يثرب من مخاوف قريش، وضاعف من قلقها، ولهذا اجتمع كلُّ رؤساء القبائل المكية في «دار الندوة» أكثر من مرّة للتشاور في كيفية القضاء على الإسلام وطُرحت في ذلك المجلس خطط متنوّعة، واقترحت أُمور كثيرة لتحقيق هذه الغاية ولكنّها فشلت برمّتها بتدبير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحكمته، وسياسته الدقيقة.

وأخيراً هاجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من «مكّة» إلى «المدينة» في شهر ربيع الأوّل سنة 14 من البعثة.

أجل لقد تضاعف قلق قريش منذ أن حصل محمّد على قاعدة ثانية خارجة عن نطاق هيمنة المكيّين وسيطرتهم وأصبحوا حيارى لا يدرون ماذا يفعلون، لأنّ جميع خططهم للمنع من انتشار الإسلام واتّساع رقعته، قد باءت بالفشل.

ص:641

لقد أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة والالتحاق بالأنصار وقال لهم: «إنَّ اللّه قد جعل لكم داراً وإخواناً تأمنُون بها»(1).(2)

ص:642


1- . بحار الأنوار: 19/26.
2- . لقد انتهينا من تسجيل حوادث السنوات الثلاث عشرة من البعثة، وقد حاولنا ذكر كلّ ما كان معلوماً مشهوراً من تواريخها، ولكن لا يمكن اعتبار تواريخ كلّ تلك الحوادث أُموراً مقطوعاً بها من هنا ذكرنا الحوادث المثبتة في الفصل 25 من دون إدراج تواريخ لها في الأغلب ولكن حيث إنّ الوقائع الحادثة بعد الهجرة وقعت في أوقات معينة معلومة لذلك فاننا سنرفق ذكر كل حادثة بتاريخ وقوعها في الفصول القادمة.

حوادث السنة الأُولى من الهجرة

26 قصّة الهجرة

اشارة

كان زعماء قريش و رؤساؤها يجتمعون عند كلّ نائبة تنوبهم في «دار الندوة» لحلّ المشاكل ومعالجة ما عرض لهم من نائبةٍ من خلال التشاور حولها وتداول الرأي فيها، ومن خلال تضافر الجهود على حلّها، ورفعها أو دفعها.

وفي السنوات الثانية عشرة، والثالثة عشرة من البعثة واجه أهل مكّة خطراً كبيراً جدّياً، فقد حصل المسلمون على مركز هام، وقاعدة صلبة في يثرب، وتعهّد اليثربيون الشجعان بحماية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والدفاع عنه، وكلّ هذا كان من علامات ومظاهر ذلك التهديد الخطير، الّذي بات يهدّد كيان المشركين والوثنيّين والزعامة القرشية.

وفي شهر ربيع الأوّل من السنة الثالثة عشرة من البعثة الّتي وقعت فيه هجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبينما لم يكن قد بقي من المسلمين في مكّة إلّارسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلي وأبوبكر و جماعة قليلة من المسلمين المحبوسين، أو المرضى، أو العجزة، وكان هؤلاء على أبواب الهجرة ومغادرة مكّة إلى المدينة اتّخذت قريش فجأة قراراً قاطعاً وحاسماً وخطيراً جداً في هذا المجال.

فقد انعقدت جلسة هامّة للتشاور في «دار الندوة» حضرها رؤساء قريش وزعماؤها وبدأ متكلّمهم(1) يتحدّث عن تجّمع القوى والعناصر الإسلامية

ص:643


1- . وروي أنّه كان: أبوجهل.

وتمركزها في المدينة والبيعة الّتي تمّت بين الخزرجيّين والأوسيّين وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم أضاف قائلاً:

يا معشر قريش إنّه لم يكن أحدٌ من العرب أعَزَّ مِنّا، نحن أهل اللّه تفد إلينا العرب في السنة مرتين، ويكرموننا، ونحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامعٌ، فلم نزل كذلك حتّى نشأ فينا «محمّد بن عبداللّه» فكنّا نسمّيه (الأمين) لصلاحه، وسكونه، وصدق لهجته، حتّى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنّه رسول اللّه، وأنّ أخبار السماء تأتيه، فسفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبّاننا، وفرّق جماعتنا، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا، وقد رأيت فيه رأياً قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن ندسّ إليه رجلاً منّا ليقتله، فإن طلبت بنو هاشم بدمه(1) أعطيناهم عشر ديات.

فقال رجلٌ مجهول(2) حضر ذلك المجلس وعرّف نفسه بأنّه شيخ من أهل نجد: هذا رأي خبيث، قالوا: وكيف ذاك؟ قال: لأنّ قاتل محمّد مقتول لا محالة، فمَن هذا الّذي يبذل نفسَه للقتل منكم؟ فإنّه إذا قُتِل محمّد تعصّب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وإنّ بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على وجه الأرض فيقع بينكم الحروب وتتفانوا.

فقال أبو البختري: نلقيه في بيت ونلقي إليه قوته حتّى يأتيه ريبُ المنون.

فقال الشيخ النجديّ مرةً أُخرى: وهذا رأيٌ أخبث من الآخر، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأنّ بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسمٌ من مواسم العرب استغاثوا بهم، واجتمعوا عليكم فأخرجوه.

فقال ثالث: نُخرجه من بلادنا ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا. وفي رواية أُخرى قال: نرحّل بعيراً صعباً ونوثّق محمّداً عليه كتافاً، ثم نضربُ البعيرَ بأطراف الرماح

ص:644


1- . وفي رواية: بديته.
2- . في بعض المصادر: وجاء إبليس في صورة شيخ كبير.

فيوشَكُ أن يقطّعه بين الصخور والجبال إرباً إرباً.

فانبرى ذلك الشيخ النجدي يخطّئ هذا الرأي أيضاً قائلاً: أرأيتم إن خلص به البعير سالماً إلى بعض الناس فأخذ بقلوبهم بسحر بيانه وطلاقة لسانه، فصبأ(1)القوم إليه واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلةٌ، فليسيرنَّ حينئذ إليكم الكتائب والجيوش فلتهلكنّ كما هلكت أياد ومن كان قبلكم.

فتحيّروا وساد الصمت ذلك المجلس، وفجأة قال أبوجهل (وعلى رواية:

قال ذلك الشيخ النجدي): ليس هناك من رأي إلّاأن تعمدوا إلى قبائلكم فتختاروا من كلّ قبيلة منها رجلاً قوياً ثم تسلّحوه حساماً عَضباً وليهجموا عليه معاً بالليل ويقطّعوه إرباً إرباً فيتفرّق دمه في قبائل قريش جميعاً فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلّها في صاحبهم فيرضون حينئذ بالدية منهم!!

فاستحسن الجميعُ هذا الرأي، واتّفقوا عليه، ثم اختاروا القتلة وتقرّر أن يقوموا بمهمتهم اذا جنّ الليل وساد الظلام كلّ مكان.(2)

الإمدادات الغيبية والعنايات الإلهية:

لقد كان أُولئك العتاة الجهلة يتصوّرون أنّ رسالة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم المدعومة من قبل اللّه تعالى والمؤيّدة من جانبه سبحانه يمكن أن يقضى عليها بواسطة هذه الحيل والمكائد، والخطط والمؤامرات، ولم يكونوا يدركون أنّ هذا النبيّ - كغيره من الأنبياء - يتمتّع بالمدد الإلهيّ الغيبي، وأنّ اليد الّتي حفظت مشعل الإسلام طوال ثلاثة عشر عاماً في وجه الأعاصير والرياح، قادرة على إفشال هذه الخطة الأثيمة،

ص:645


1- . صبأ فلان: أي خرج من دينٍ إلى دين غيره، وكانت العرب تُسمّي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الصابئ لأنّه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام، وتُسمّي المسلمين: الصباة.. وهو جمع الصابئ.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 1/227 و 228؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1/331-332؛ بحار الأنوار: 19/49-50، و 57-59 باختلاف في الألفاظ.

وتعطيل هذه المؤامرة أيضاً.

يقول المفسّرون: بعد أن دبّر الكفّار ما دبّروا نزل ملك الوحي «جبرئيل»، على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بما حاك ضدّه المشركون من مؤامرة، إذ قرأ عليه قول اللّه تعالى: «وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» .(1)

وعندئذ أُمِرَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالهجرة من مكّة إلى المدينة، ولكنّ التخلّص من أيدي القساة المكلّفين بقتله من قبل زعماء الوثنيّين وبالنظر إلى المراقبة الدقيقة الّتي كانوا يقومون بها لجميع التحرّكات، لم يكن بالأمر السهل وخاصّة بالنظر إلى بُعد المسافة بين مكّة والمدينة.

فإذا لم يكن رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخرج من مكّة وفق خطة دقيقة صحيحة كان من المحتمل جداً أنّ يدركه المكيّون في أثناء الطريق ويقبضوا عليه ويسفكوا دمه الشريف قبل أن يصل إلى أتباعه وأصحابه.

ولقد ذكر المفسّرون والمؤرّخون صوراً مختلفة لكيفية خروج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهجرته والاختلاف الّذي نلاحظه بين هؤلاء المفسّرين والمؤرّخين في خصوصيات وتفاصيل هذه الواقعة ممّا يقل نظيره في غيره من الوقائع.

وقد استطاع مؤلّف «السيرة الحلبية»(2) أن يُوفّق إلى درجةٍ مّا، بين المنقولات والمرويات المختلفة ببيان خاص، ولكنّه لم يوفّق لإزالة التناقض والاختلاف في بعض الموارد في هذا الصعيد.

ص:646


1- . الأنفال: 30. ليثبتوك أي ليسجنوك.
2- . لاحظ: السيرة الحلبية: 2/191 وما بعدها.

على أنّ الموضوع الجدير بالإهتمام هو أنّ أكثر المؤرّخين الشيعة والسنّة نقل كيفية هجرة النبيّ، وخروجه من منزله، ثم من مكّة بنحو مؤدّاه إسناد نجاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وخلاصه إلى عامل الإعجاز، وبالتالي فقد أسبغوا عليه صبغة الكرامة، والمعجزة.

في حين أنّ الإمعان في تفاصيل هذه القصة يكشف عن أنّ نجاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كانت نتيجة سلسلة من الإجراءات الاحترازية، والتحسّبات، والتدابير الحكيمة، وإنّ إرادة اللّه تعالى تَعَلّقت بأن ينجّي نبيّه الكريم، عن طريق الأسباب العادية المألوفة، وليس عن طريق التدخّل الغيبيّ وإعمال قدرته تعالى الغيبية.

ويدلّ على هذا المطلب أنَّ النبيّ توسّل بالعِلل الطبيعية، والوسائل والأسباب العادية (كمبيت شخص في فراش النبيّ، واختفاء رسول اللّه في الغار، وغير ذلك ممّا سيأتي ذكره)، وبهذا الطريق نجّا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسه، وتخلّص من أيدي أعدائه، العازمين على إراقة دمه.

ملك الوحي يخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخطّة قريش لاغتياله

لقد أخبر ملك الوحي «جبرئيل» رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخطّة قريش المشؤومة لاغتياله وأمره بالهجرة، وتقرّر - بغية إفشال عملية الملاحقة - أن يبيت شخصٌ في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليتصوّر المشركون أنَّ النبيّ لا يزال في منزله، ولم يخرج بعد، وبالتالي يركّزوا كلّ إهتمامهم على محاصرة البيت، وينصرفوا عن مراقبة طرقات مكّة، ونواحيها.

ولقد كانت فائدة هذا العمل أي حصر اهتمام المراقبين ببيت النبيّ أنّه تسنّى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اغتنام الفرصة والخروج من مكّة، والاختفاء في مكان مّا من دون أن يحسّ به أحد من الذين باتوا يراقبون بيته، ويبغون قتله.

ص:647

والآن يجب أن نرى مَن الّذي تطوَّع للمبيت في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفدى النبيّ بنفسه، ووقاه بحياته؟

ستقولون حتماً: إنّ الّذي سبق جميع المسلمين إلى الايمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبقي من بدء بعثته وإلى ذلك الحين يذب عنه، هوالّذي يتعيَّن أن يضحّي بنفسه في هذا السبيل، ويقي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحياته في هذه اللحظة الخطيرة، وهذا المضحّي بحياته ونفسه، هو «عليّ» ليس سواه أحد، أنّه تقدير صحيح، وحدس مصيب. فليس غير «علي» يصلح لهذه المهمة الخطيرة.

ولهذا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ عليه السلام:

يا عليّ إنَّ قريشاً اجتمعت عَلى المكر بي وقتلي، وإنّه أُوحي إليَّ عن ربّي أن أهجرَ دار قومي، فنُم عَلى فراشي والتحف ببردي الحضرميّ لِتُخفي بمبيتك عَليهم أثَري، فما أنت قائل وصانع؟

فقال علي عليه السلام: أوْ تَسلَمَنَّ بِمَبيتي هناك يا نبيَّ اللّه؟

قال: نعم، فتبسّم عليّ عليه السلام ضاحكاً مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من سلامته، فلمّا رفع رأسه قال للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

إِمض لما أُمرتَ فِداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومُرني بما شئتَ أكن فيه كمسرّتك، واقع منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلّاباللّه.

ثم رقدَ عليّ عليه السلام على فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واشتمل ببرده الحضرمي الأخضر، ولمّا مضى شطرٌ من الليل حاصرَ رَصَدُ قريش - وهم أربعون رجلاً - بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد جرّدوا سيوفَهم، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويتطلّعون إلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين والآخر ليتأكّدوا من بقاء

ص:648

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مضجعه، فيظنون أنَّ النائمَ فى الفراش هو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

وهنا أراد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يخرج من بيته.

فمن جانب يحاصر الأعداءُ بيته صلى الله عليه و آله و سلم من كلّ جانب، ويراقبون كلّ شيء، ومن جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى وإرادته القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أيدي تلك الزمرة المنحطة، فقرأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سورة (يس) لمناسبة مطلعها لظروفه حتّى بلغ إلى قوله تعالى: «فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» (1) وخرج من باب البيت دون أن يشعر به رصدُ قريش المكلّفون بقتله، وذهب إلى المكان الّذي كان من المقرر أن يختبئ فيه على النحو الّذي سيأتي تفصيله.(2)

وأمّا كيف استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يخترق الحصار البشريَ المشدَّد الّذي ضُرِبَ على بيته، ويتجاوز رصدَ قريش من غير أن يشعروا به فذلك غير معلوم جيداً.

إلّا أنّه يستفاد من رواية نقلها المفسّرُ الشيعيُ المعروفُ عليُ بن إبراهيم في تفسيره(3): قول اللّه تعالى: «وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» إنّ رجال قريش كانوا نياماً ينتظرون الفجر عند خروج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يكونوا يتصوّرون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد عرف بتدبيرهم ومؤامرتهم.

ولكن يصرّح غيره من المؤرّخين وكُتّاب السيرة(4) بأنّ المحاصرين لمنزل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كانوا يقظين حتّى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خرج من البيت عن طريق الإعجاز والكرامة من دون أن يروه ويحسّوا به.

ص:649


1- . يس: 9.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 19/60.
3- . لاحظ: تفسير القمي: 1/276.
4- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 1/228؛ تاريخ الطبري: 2/100.

إنّ إمكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس موضع شكّ، ولكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟! إنّ دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة تجعل هذه المسألة أمراً قطعياً وهي أنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان عارفاً بمؤامرة القوم قبل محاصرة بيته، وكان قد دبّر ورسم لنجاته خطةً طبيعيةً عاديةً، ولم يكن في الأمر أي إعجاز.

لقد كان يريد صلى الله عليه و آله و سلم بإضجاع علي عليه السلام في فراشه أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية والقنوات الطبيعية من غير الاستعانة بالإعجاز والكرامة.

وعلى هذا كان في مقدور النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يتحسّب لمسألة المحاصرة والطوق الّذي كان سيُضرَب على بيته من أوائل الليل، وذلك بمغادرة بيته قبل المحاصرة وقبل الغروب.

ولكن يمكن أن يكون لتوقّف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في البيت حتّى ساعة المحاصرة علّة لا نعرفها الآن.

من هنا يكون ادّعاء هذا الموضوع (وهو خروج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من البيت في الليل) غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غادر منزله قبل فرض الحصار عليه، وقبل غروب الشمس.

إ قتحام الأعداء لبيت الوحي:

طوّقت قوى الكفر مهبط الوحي وبيت الرسالة وباتت تنتظر لحظة الإذن في اقتحامه، والهجوم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في فراشه وضربه وتقطيعه بالسيوف إرباً إرباً!

وقد أصرّ جماعة منهم أن ينفّذوا خطتهم المشؤومة هذه في منتصف الليل وقبل الفجر، فمنعهم أبو لهب من ذلك وقال: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل، فإنَّ

ص:650

في الدار صبياناً ونساءً من بني هاشم، ولا نأمن أن تقع يدٌ خاطئة، فنحرسه الليلة، فإذا أصبحنا دخلنا عليه.

وربّما يقال أنّ علّة التأخير هي أنّهم أرادوا أن يقتلوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند الصباح أمام أعين بني هاشم حتّى يروا أنّ قاتله جماعة وليس واحداً.

وانقشع الظلام شيئاً فشيئاً، وانفجر الصبحُ، ودبّ في المشركين شوقٌ غريبٌ، مع اقتراب ساعة الصفر، فقد كانوا يتصوّرون بأنّهم سينالون ما يريدون قريباً، وبينما هم ينتضون سيوفهم دخلوا حجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبينما هم يهمّون بأخذ مَن كان راقداً في الفراش بسيوفهم، إذا بهم يواجهون علياً عليه السلام يثب في وجوههم وهو يكشف عن نفسه برد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأخضر، وقال لهم في منتهى الطمأنينة والشجاعة: ما شأنكم؟ وماذا تريدون؟

فقالوا له بغضب: أين محمّد؟

فقال عليه السلام: أَجَعَلتموني عليه رقيبا؟!

فغضِبَ القوم غضَباً شديداً، وكاد الغيظ يخنقهم، فقد ندموا على انتظارهم انفجار الصبح وحمّلوا أبا لهب الّذي منعهم من تنفيذ الهجوم على النبيّ في منتصف الليل فشل الخطة وتفويت الفرصة، فأقبلوا عليه يلومونه ويوبّخونه!!

أجل لقد انزعجت قريش بشدة لفشل هذه المؤامرة، ووجدوا أنفسهم أمام هزيمة نكراء بدّدت كلّ أحلامهم، وحيث إنّهم كانوا يتصوّرون بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لا يستطيع الخروج عن حدود مكّة في مثل تلك المدة القصيرة، فهو إما مختبئ في مكّة، أو أنّه لا يزال في طريق المدينة، لذلك أقدموا فوراً على العمل على ترتيب أمر ملاحقته والقبض عليه.(1)

ص:651


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 19/50-51.

النبيُّ في غار ثور:

إنّ ما هو مسلّم به هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمضى هو وأبوبكر ليلة الهجرة وليلتين أُخريين بعدها في غار ثور الّذي يقع في جنوب مكّة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة.(1)

وليس من الواضح كيف تمّت هذه المصاحبة والمرافقة ولماذا، فإنّ هذه المسألة من القضايا التاريخية الغامضة.

فإنّ البعض يعتقد بأنّ هذه المصاحبة كانت بالصدفة، فقد رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أبابكر في الطريق، فاصطحبه معه إلى غار ثور.

وروى فريق آخرٌ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذهب في نفس الليلة إلى بيت أبي بكر، ثم خرجا معاً في منتصف الليل إلى غار ثور.(2)

وقال فريق ثالث: إنّ أبابكر جاء هو بنفسه يريد النبيّ وكان صلى الله عليه و آله و سلم قد خرج من قبل فأرشدهُ «عليٌّ» إلى مخبأ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

وعلى كلّ حال فإنّ كثيراً من المؤرّخين يعُدّون هذه المصاحبة من مفاخر الخليفة ومناقبه، ويذكرون هذه الفضيلة ويتحدّثون عنها بكثير من الإسهاب والإطناب، وبمزيد من الإكبار والإعجاب.

قريش تفتش عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

لقد تسبّب فشل قريش في تغيير خطّتها، فقد بادرت إلى بثّ العيون والجواسيس في طرقات مكّة، ومراقبة مداخلها ومخارجها مراقبةً شديدةً، وبعثت

ص:652


1- . حيث إنّ الطريق المؤدّي إلى المدينة تقع في شمال مكّة، فاختبأ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في منطقة مقابلة، أي في أسفل مكّة، ليعمي بذلك على قريش فلا يتّبعوا أثره.
2- . تاريخ الطبري: 2/100-101.

القافّة تقتص أثره في كلّ مكان، وفي طريق مكّة - المدينة خاصّة.

ومن جانب آخر جعلت مائة إبل لمَن يأخذ نبي اللّه، ويردّه عليهم أو يأتي عنه بخبرٍ صحيح.

وعمد جماعةٌ من قريش إلى ملاحقة رسول اللّه والتفتيش عنه في شمال مكّة، حيث الطريق المؤدّي إلى المدينة، على حين أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قد اختبأ - كما قلنا - في نقطة بجنوب مكّة لإفشال عملية الملاحقة.

وتصدّت مجموعة أُخرى لتتبع أثر قدم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ورفيقه!!

وكان الّذي يقفو لهم الأثر يُدعى أبا مكرز فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: هذه قدم محمّد، فما زال بهم حتّى أوقفهم على باب الغار فانقطع عنه الأثر فقال: ما جاوز محمد ومَن معه هذا المكان، إمّا أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض، فإنّ بباب هذا الغار - كما ترون عليه - نسجُ العنكبوت والقبجة حاضنة على بيضها بباب الغار(1)، فلم يدخلوا الغار.

ولقد استمرت هذه المحاولات بحثاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ثلاثة أيام بلياليها ولكن دون جدوى، فلمّا يئس القوم بعد ثلاثة أيام من السعي تركوا التفتيش وكفّوا عن الملاحقة.

الإمام علي عليه السلام والتفاني في سبيل الحق:

إنّ النقطة المهمة في هذه الصفحة من التاريخ هي ما قام به علي عليه السلام من تفانٍ في سبيل الحقّ، والحقيقة.

ص:653


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 1/229؛ تاريخ الخميس: 1/327-328؛ بحار الأنوار: 19/73 وغيرها. ولقد ذكر عامّة المؤرّخين هذه الكرامة هنا، ولا ينبغي، نظراً لما ذكرناه في قصة الفيل وهلاك إبرهة وجنده بواسطة الأبابيل، تأويل مثل هذا الكرامات.

إنّ التفاني في سبيل الحقّ من شيمة الرجال الذين أحبّوا الحقّ وعشقوه بكلّ وجودهم وكيانهم.

إنّ الذين يغضون نظرهم عن كلّ شيء من أشياء الدنيا ويضحُّون بالنفس والمال والشخصية، ويستخدمون كلّ طاقاتهم المادية والمعنوية في سبيل خدمة الحقّ، وإحيائه، وإقامته هم ولا شك من عشاق الحقّ والحقيقة الصادقين. إنّهم يرون كمالهم وسعادتهم في هدفهم، وهذا هو الّذي يدفعهم إلى أن يصرفوا النظر عن الحياة العابرة، والعيش المؤقت، ويلتحقوا بركب الحياة الواقعيّة الأبدية.

إنّ مبيت عليّ عليه السلام في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك الليلة الرهيبة لَنمُوذجٌ بارزٌ من هذا الحبّ الحقيقيّ للحقّ، والعشق الصادق للحقيقة، فإنّ الدافع وراء التطوّع لمثل هذه المهمة الخطيرة لم يكن إلّاحبّ «عليّ» لبقاء الإسلام الّذي يكفل سعادة المجتمع، ويضمن ازدهار الحياة، لا غير.

إنّ لهذه التضحية والتفاني من القيمة العظمى بحيث مدحها اللّه تعالى في كتابه العظيم، ووصفها بأنّها كانت تضحية صادقة لكسب مرضاة اللّه، فإنّ الآية التالية نزلت - حسب رواية أكثر المفسّرين - في هذا المورد:

«وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» .(1)

إنّ عظمة هذه الفضيلة وأهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الإمام علي عليه السلام، وإلى أن يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والإيثار، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من

ص:654


1- . البقرة: 207.

المسلّمات كلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ إليها.(1)

إنَّ هذه الحقيقة لا يمكن كتمانها أبداً فإنّه من الممكن إخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلّاأنّه سرعان ما تمزّق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الأوهام، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة وبخاصّة للإمام أميرالمؤمنين عليه السلام ممّا لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الأكاذيب، ولكنّه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد «سمرة بن جندب»(2) الّذي أدرك عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم انضمّ بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم إلى بلاط معاوية بالشام، عمد إلى تحريف الحقائق لقاء أموال أخذها من الجهاز الأموي، الحاقد على أهل البيت.

ص:655


1- . لاحظ: مسند أحمد: 1/87؛ وكنز العمال: 6/407، وقد نقل كتاب الغدير: 2/47-49 طبعة لبنان مصادر نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام على نحو التفصيل، فراجع.
2- . سمرة بن جندب من العناصر المجرمة في الحكومة الأُموية، ولم يكتف سمرة بتحريف الحقائق وقلبها بما ذكرناه، بل أضاف إلى ذلك - حسب رواية ابن أبي الحديد - أمراً آخر أيضاً إذ قال: ونزل في شأن «عليّ» قول اللّه: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ» (البقرة: 204). ومن جرائم هذا الرجل أنّه قتل يوم وُلّيَ البصرة على عهد زياد بن أبيه العراق ثمانية آلاف ممّن كانوا يحبون أهلَ البيت ويوالونهم، وعندما سأله معاوية: هل تخاف أن تكونَ قد قتلتَ أحداً بريئاً؟ أجاب قائلاً: لو قتلتُ إليهم مثلَهم ما خشيت!! هذا ومخازي هذا الرجل أكثر من أن تستوعبه هذه الصفحات القلائل. وسمرة هذا هو ذلك الرجل الصلف الجاف الّذي رد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طلبَه بأن يراعي حقَّ جاره في قضية النخلة مراراً فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ولمزيد التوضيح راجع كتب الحديث والتراجم والتاريخ.

فقد طلب منه معاوية بإصرار أن يَرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام، ويقول للناس إنّها نزلت في حقّ قاتل عليّ (أي عبدالرحمن بن ملجم المرادي)، ويأخذ في مقابل هذه الأُكذوبة الكبرى، وهذا الاختلاق الفضيع الّذي أهلك به دينه مائة ألف درهم.

فلم يقبل «سمرة» بهذا العرض ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتّى بلغ أربعمائة ألف درهم، فقبل الرجل بذلك فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسوّداً بذلك صفحته السوداء أكثر من ذي قبل وذلك عند ما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية.(1) وقبل السامعون البسطاء قوله، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً أنّ (عبدالرحمن بن ملجم) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِدَ بعد آنذاك. فكيف يصح؟!

ولكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، ولا يمكن أن تنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد تعرّضت حكومة معاوية وتعرّض أهلها وأنصارها للحوادث، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الّذي وقع في عهده المشؤوم، وطلعت شمس الحقيقة والواقع من وراء حجُبُ الجهل والافتراء مرة أُخرى، واعترف أغلبُ المفسّرين الأجلّة والمحدّثين الأفاضل - في العصور والأدوار المختلفة - بأنّ الآية المذكورة نزلت في «ليلة المبيت» في بذل علي عليه السلام ومفاداته النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه.(2)

ص:656


1- . لاحظ: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/73.
2- . لاحظ: شرح نهج البلاغة: 13/262، ولقد أعطى ابن أبي الحديد حقّ الكلام حول هذه الفضيلة.

كلام من ابن تيمية:

أحمد بن عبدالحليم الحرّاني الحنبليّ الّذي مات في سجن بدمشق عام 728 ه من علماء السنّة، تعود إليه أكثر معتقدات الوهابيّين، وأفكارهم.

ولابن تيمية هذا آراء ومواقف خاصّة من النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأميرالمؤمنين، وعامّة أهل بيت النبوة، وقد صرّح بأكثر آرائه ومعتقداته هذه في كتابه «منهاج السنّة».

وقد دفعت عقائدُه المنحرفة وآراؤه الضالّة الكثير من علماء عصره إلى تكفيره، والتبرّي منه.

ومن المؤسف أن يكون قد تأثّر بآرائه بعض السذّج والجاهلين، فنجدهم يشيعون آراءه في المجتمع من دون تحقيق فيما قال، ومن دون مراجعة ذوي الاختصاص لمعرفة رأيهم في أفكاره ومعتقداته، وهم غافلون عن أنّ مثل هذه الآراء قد صدرت من منحرف، وكذّبه بل وكفّره بسببها أهل مذهبه.

ولابن تيمية رأي عجيب حول هذه الفضيلة (مبيت علي في فراش النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم) نذكره للقارئ الكريم مع تصرّف بسيط في الألفاظ.(1)

يقول: إنّ مبيت «عليّ» في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا تعدّ فضيلة، لأنّ عليّاً عرف من طريقين بأنّه لن يصيبَه شيء في تلك الليلة:

الأوّل: إخبار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الصادق المصدِّق نفسه إيّاه بذلك، إذ قال له في نفس تلك الليلة: «نَمْ في فِراشي فإنّه لن يَخْلُص إليكَ شيء تكرَهُهُ منهم»!!.

الثاني: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كلّفه بردّ الودائع وأداء الأمانات الّتي أودعها أهل مكّة

ص:657


1- . لاحظ: منهاج السنّة النبوية: 7/110، فصل (قال الرافضي: البرهان الثامن: قوله تعالى: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ»). تحقيق محمد رشاد سالم، الطبعة الأُولى - 1406 ه.

عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، إلى أصحابها.

فعلم - من ذلك - أنّهُ لن يُقتل وإلّا لكلّفَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الآخرين بها.

فعرف «عليٌ» من هذا التكليف أنّه لن يلحقه أذىً في هذه العمليّة وأنّه سيوفَّق لأداء ما كلّفَهُ به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

الجواب:

وقبل أن نجيب عن هذا الكلام على نحو التفصيل نقول إجمالاً: إنّ ابن تيميّة بإنكاره هذه الفضيلة أثبت فضيلة أعلى لعليّ عليه السلام؛ لأنّه إمّا أن يكون إيمان عليّ بصدق مقالة الرسول كان إيماناً عادياً، وإمّا أن يكون إيماناً قوياً جدّاً، وكانت جميع أقوال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وإخباراته لديه - في ضوء إيمانه - كالنهار في وضوحه. وعلى الفرض الأوّل لم يكن لعليّ يقينٌ بنجاته من تلك الواقعة، لأنّه لا يحصل لمثل هذه الطبقة من الناس (ولا شكّ أنّ عليّاً ليس منهم حتماً) يقينٌ من كلام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وحتّى لوقبلوا به في الظاهر، فإنّهم سيساورهم القلق، ولا يفارقهم الاضطراب، وإذا هم باتوا في فراشه في لحظات الخطر، فإنّهم سيبقون فريسة الخوف والوجل وستمرّ في نفوسهم احتمالاتٌ كثيرةٌ حول مآل الأمر ومصيره، وسيتمثّل أمامهم شبح الموت المرعب في كلّ لحظة وآن.

وعلى هذا الفرض لابد أن يقال: بأنَّ عليّاً عليه السلام لم يقدم على هذا الأمر الخطير إلّا وهو يحتمل الهلاك على أيدي المشركين، لا أنّه بات وهو يتيقّن النجاة والسلامة.

وأمّا بناءً على الفرض الثاني فإنّه تثبت لعليّ عليه السلام فضيلة أعلى وأعظم، لأنّ إيمانَ الرجل يجب أن يبلغ من القوة والكمال بحيث لا يفرّق بين صدق كلام النبيّ وبين وضوح النهار، أي أنّهما يكونان عنده بمنزلة سواء.

ص:658

ولا شك أنّ أهمية مثل هذا الإيمان لا يمكن أن يعادِلها شيء.

ونتيجة هذا الإيمان هي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عند ما قال له: نَم في فراشي فلن يصيبك من هجوم الأعداء الحاقدين مكروهٌ، أن ينام في فراش النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بقلبٍ واثِقٍ بالسلامة، ونفس مطمئنّةٍ إلى النجاة، ومن دون أن يخالج نفسَهُ أقل احتمال للخطر.

ولو كان مراد ابن تيمية من قوله: إنّ عليّاً كانَ واثقاً من سلامته، لأنّ الصادق المصدَّق أخبره بذلك، هو: إثبات أعلى درجات الإيمان لعليّ عليه السلام، فقد أثبت له عليه السلام من حيث لا يشعر أكبر فضيلة، وأعلى منقبة، وهي كمال الايمان والثقة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وإخباره.

هذا هو الجواب الإجمالي وإليك الجواب التفصيلي:

الجواب التفصيلي:

فنقول عن الدليل الأوّل: إنّ عبارة «لا يخلص إليك شيء تكرهه» لم ينقلها بعض أرباب السيرة ورجال علم التاريخ الذين لهم سابقة لا تنكر في هذا الصعيد.(1)

نعم روى ابن الأثير (المتوفّى عام 630 ه)(2)، والطبري (المتوفّى عام 310 ه)(3) هذه العبارة وكأنّما قد أخذاها عن ابن هشام في سيرته(4) الّتي نقل فيها

ص:659


1- . مثل ابن سعد (المولود عام 168 والمتوفّى عام 230 ه) في الطبقات الكبرى: 1/227 و 228، وكذا المقريزي في أمتاع الإسماع، عند ذكرهم لتفاصيل قضية المبيت.
2- . الكامل في التاريخ: 2/103.
3- . تاريخ الطبري: 2/99.
4- . السيرة النبوية: 1/333.

تلك العبارة بالصورة المتقدّمة الذكر، خاصة أنّ عبارة ذينك المؤلّفين (الطبري وابن الأثير) تطابق عبارة ابن هشام في هذا المجال تماماً.

هذا مضافاً إلى أنّ القضية لا توجد بهذه الصورة في مؤلّفات علماء الشيعة على ما نعلم. ولقد نقل شيخُ الطائفة الإمامية محمّد بن الحسن الطوسيّ (المتوفّى عام 460 ه) في أماليه قصة الهجرة بشكل أكثر تفصيلاً ودقّة، وذكر العبارة المذكورة مع تغيير بسيطٍ، إلّاأنّه تختلف صورة القضيّة مع ذلك عمّا هي عليه في كتب أهل السنّة، فإنّه رحمه اللّه يصرّح بأنّ عليّاً عليه السلام انطلق هو و «هند بن أبي هالة» ابن خديجة وربيب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في منتصف الليل بعد ليلتين من الهجرة حتّى دخلا على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقال صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ:

«إنّهم لن يَصِلُوا مِنَ الآن إليك يا علي بأمرٍ تكرهه حتّى تقدم عليّ».(1)

وهذه الجملة تشبه الجملة الّتي ذكرها ابن هشام والطبري وابن الأثير، ولكن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قالها لعليّ عليه السلام مطمئِناً إِيّاه بعد ليلتين من المبيت في الفراش، وليس ليلة المبيت كما يروي الثلاثة المذكورون.

هذا علاوة على أنّ كلام علي نفسه خير شاهد على ما نقول:

فلقد عدّ عليّ عليه السلام عمله هذا (أي المبيت في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك الليلة الرهيبة) نموذجاً من بذله وتفانيه في سبيل الحقّ كما يتّضح ذلك بجلاء من أشعاره حيث يقول:

وَقَيتُ بنفسي خيرَ مَن وَطئ الحصا ومَن طاف بالبيتِ العتيقِ وبالحجر

محمّد لما خافَ أن يمكُروا بهِ فَوقّاهُ ربّي ذُوالجلالِ مِن المَكرِ

ص:660


1- . أمالي الطوسي: 468 ح 37 (1031)، المجلس 16.

وَبِتُ أُراعيهم متى ينشرونني وَقَد وطّنَت نفسي على القتل والأسر

وباتَ رَسُولُ اللّهِ في الغار آمِناً هناكَ وَ في حفظِ الإله وفي سَترِ(1)

ومع هذه العبارات الصَريحة لا مجال للاعتماد على قول ابن هشام الّذي تدل قرائنٌ كثيرةٌ على خطئه، ويُحتمل، احتمالاً قوياً، بأنّ اشتباهه وخطأه قد نشأ من تلخيصه لسيرة ابن إسحاق، وحيث إنّه (ونعني ابن هشام) قد بنى في سيرته على الاختصار لذلك اكتفى بنقل أصل العبارة، مهملاً ظرف النطق بها لعدم أهمية زمن النطق بها وأنّها قيلت في الليلة الثانية أوالثالثة، في نظره، وروى الموضوع بنحوٍ يوهم بأنّ جميع هذه الأُمور وقعت في ليلةٍ واحدةٍ!!

ويؤيّد رأينا هذا أيضاً الحديث المعروف الّذي رواه كثيرٌ من علماء السنّة والشيعة وهو: أن اللّه أوحى إلى جبرئيل وميكائيل عليهما السلام أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيّكما يؤثر صاحبه بحياته؟

فاختار كلّ منهما الحياة وأحبّاها، فأوحى اللّه تعالى إليهما: عبداي أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب، آخيت بينه وبين «محمّد» فبات على فراشه يفديه بنفسه.

ثم أمرهما بالهبوط إلى الأرض وحراسة عليّ وحفظه من عدوه.(2)

الخطيب وقضية المبيت:

وينبغي أن نختم هذا الفصل بما كتبه الأُستاذ عبدالكريم الخطيب حول مبيت علي عليه السلام في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حيث قال: لقد دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً ليلة الهجرة، وطلب إليه أن يبيت في المكان الّذي اعتاد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أن يبيت فيه، وأن

ص:661


1- . أمالي الطوسي: 469 ح 37. هذا مضافاً إلى أنَّ الإمام عليه السلام نفسه قد استنشد المسلمين مراراً بهذه القضية مستدلّاً بها على تفانيه في سبيل الإسلام.
2- . بحار الأنوار: 19/39 نقلاً عن إحياء العلوم للغزالي.

يتغطّى بالبرد الحضرميّ الّذي كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يتغطّى به حتى إذا نظر ناظر من قريش إلى الدار رأى كأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نائم في مكانه مغطى بالبرد الّذي يتغطّى به، وهذا الذي كان من عليّ في ليلة الهجرة إذا نظر إليه في مجرى الأحداث الّتي عرضت للإمام علي في حياته بعد تلك الليلة فإنّه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة وإشارات دالّة على أنّ هذا التدبير الّذي كان في تلك الليلة لم يكن أمراً عارضاً، بل هو عن حكمة لها آثارها - إلى أن قال: - إنّه إذا غاب شخص الرسول كان عليٌ هو الشخصية المهيّأة لأن تخلفه وتمثّل شخصه وتقوم مقامه، حين نظرنا إلى عليّ وهو في برد الرسول وفي مثوى منامه الّذي اعتاد أن ينام فيه فقلنا: هذا خَلَفُ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والقائم مقامه.(1) وأمّا الدليل الثاني الّذي يستفيد منه ابن تيمية أنّ عليّاً كان يعلم بمصيره هو توصية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم له بأداء الأمانات والودائع إلى أهلها، الّتي كانت تَكشف عن أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعلم بأنّه لن يصلَ إليه مكروهٌ، ولهذا أمره بردّ الودائع والأمانات إلى أصحابها؛ فيمكن الإجابة عنه إذا استعرضنا بقية قصّة الهجرة بشكل صريح وكامل.

وإليك بقية قصّة الهجرة.

بقية قصةِ هجرةِ النبيّ:

انتهت المراحلُ الأُولى لنجاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفق تخطيط صحيح، بنجاح، فقد لجأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في منتصف اللّيل إلى غار ثور، واختبأ فيه، وبذلك أفشل محاولة المتآمرين عليه.

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طوال هذا الوقت مطمئنّاً لا يحسُّ في نفسه بأيّ

ص:662


1- . راجع كتاب علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة وخاتم الخلافة: 103-105 ملخّصاً.

قلق أو إضطراب، حتّى أنّه طمأن رفيقَ سفره عندما وجده مضطرباً في تلك اللحظات الحسّاسة بقوله:

«لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنا» .(1)

وبقي هناك ثلاث ليال محروساً بعين اللّه تعالى و مشمولاً بعنايته ولطفه، وكان يتردّد عليه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الأثناء عليٌ عليه السلام وهند ابن أبي هالة (ابن خديجة) على رواية الشيخ الطوسي في أماليه، وعبداللّه بن أبي بكر وعامر بن فهيرة راعي أغنام أبي بكر (بناء على رواية كثير من المؤرّخين).

يقول ابن الأثير: كان عبداللّه بن أبي بكر يتسمَّع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلاً، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره على مقربة من الغار، وكان عبداللّه بن أبي بكر إذا غدا من عندهما أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتّى يعفي أثره.(2)

يقول الشيخ الطوسي في أماليه: انطلق (علي) هو وهند بن أبي هالة حتّى دخلا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الغار (بعد ليلة الهجرة)، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هنداً أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين، فقال أبوبكر: قد كنتُ أعددت لي ولك يا نبي اللّه راحلتين نرتحلهما إلى يثرب.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّي لا آخذهما ولا أحدهما إلّابالثمن. قال: فهي لك بذلك، فأمر صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً عليه السلام فأقبضه الثمن.(3)

وكان من جملة وصايا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ عليه السلام في الغار في تلك الليلة أن يؤدّي أمانته على أعين الناس ظاهراً، وذلك بأن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوة

ص:663


1- . التوبة: 40.
2- . الكامل في التاريخ: 2/104.
3- . أمالي الطوسي: 467 ح 37.

وعشياً: ألا مَن كان له قبل محمّد أمانة أووديعة فليأت فلنؤدِّ إليه أمانته.(1) ثم أوصاه صلى الله عليه و آله و سلم بالفواطم (والفواطم هن: فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الحبيبة لديه والأثيرة عنده، وفاطمة بنت أسد أُمّ عليّ عليه السلام، وفاطمة بنت الزبير، ومن يريد الهجرة معه من بني هاشم)، وأمره بترتيب أمر ترحيلهم معه إلى يثرب وتهيئة ما يحتاجون إليه من زاد وراحلة.(2)

وهنا قال صلى الله عليه و آله و سلم عبارته الّتي تذرَّع بها ابن تيمية في دليله الأوّل: «أنّهم لن يصلوا من الآن إليك يا عليّ بأمرٍ تكرهه حتّى تقدم عليَّ».

فالملاحظ للقارئ هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما قال هذه العبارة عندما أمره بأداء أمانته، وذلك بعد انقضاء قضية ليلة المبيت.

أي أنّه أمر علياً بذلك، وقال له تلك العبارة وهو يتهيّأ للخروج من غار ثور.

يقول الحلبي في سيرته: وصّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في إحدى الليالي وهو بالغار علياً رضي اللّه عنه بحفظ ذمّته وأداء أمانته ظاهراً على أعين الناس.

وثم ينقل عن مؤلّف كتاب «الدر» ما يقتضي أنّه اجتمع به عند خروجه من الغار.(3)

وخلاصة القول: إنّه مع رواية شيخ جليل من مشايخ الشيعة الإمامية كالشيخ الطوسي بالاسناد الصحيحة أنّ الأمر بردّ الودائع والأمانات صدر من جانب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى عليّ عليه السلام بعد ليلة المبيت لا يحقّ لنا أن نعارض هذا النقل الصحيح، ونعمد إلى إلهاء العامّة بالتوافه، وأمّا رواية مؤرّخي أهل السنّة هذا المطلب بشكل آخر يوحي ظاهرُه بأنّ جميع وصايا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ تمت في ليلة واحدة هي ليلة

ص:664


1- . السيرة الحلبية: 2/205؛ أمالي الطوسي: 468 ح 37.
2- . لاحظ: أمالي الطوسي: 470.
3- . لاحظ: السيرة الحلبية: 2/204-205.

الهجرة (ليلة المبيت) فقابلٌ للتفسير والتوجيه، لأنّه لا يبعد أن عنايتهم كانت مركّزة على رواية أصل الموضوع، ولم يكن لظرف صدور هذه الوصايا والأوامر ووقت بيانها أهمية عندهم.

الخروج من الغار:

هيّأ علي عليه السلام بأمر النبيّ: ثلاث رواحل ودليلاً أميناً يُدعى أريقط، ليترحّلوها إلى المدينة، ويدلّهم الدليل على طريقها، وأرسل كلّ ذلك إلى الغار.

ولمّا سمع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رغاء البعير أو نداء الدليل نزل هو و صاحبه من الغار وركبا البعيرين وتوجّها من أسفل مكّة إلى «يثرب» سالكين إلى ذلك الخط الساحلي، وقد جاء ذكر المنازل الّتي مرّا بها في السيرة النبوية لابن هشام.(1)

صفحةُ التاريخ الأُولى:

أجل لقد حلّ الظلام في كلّ مكان، ولملمت الشمس أشعّتها الذهبية من هذا الوجه من الكرة الأرضية لتوجّهها إلى الوجه الآخر منها.

وعاد جماعة من رجال قريش الذين سلكوا كلّ طريق في مكّة وضواحيها بحثاً عن النبيّ، ثلاثة أيام، بلياليها، إلى بيوتهم ومنازلهم متعبين مرهقين، وقد يئسوا من الظفر بالجائزة (وهي مائة من الإبل) الّتي وضعتها سادة قريش لمن يأخذ محمّداً أو يدلّ على مكانه، وأُعيد فتح طريق مكّة - المدينة الّتي أُغلقت لهذه الغاية بعد اليأس من الظفر برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

وفي هذه اللحظات بالذات بلغ نداء الدليل الّذي كان يصطحب معه ثلاث

ص:665


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/340.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/104.

رواحل ومقداراً من الطعام، إلى مسمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورفيقه وهما في الغار وقد كان يقول بصوت خافت: لابد أن نتّخد من ظلام هذا الليل ستراً، ونسرع في الخروج من حدود المكيّين، ونختار طريقاً يقلّ سالكوه ولا يهتدي إليه أحد.

ويبدأ تاريخ المسلمين من العام الّذي تضمَّن تلك الليلة بالضبط، وجعل المسلمون يقيسون كلّ ما يقع من الحوادث بذلك العام وبذلك يحدّدون تاريخه وزمان حدوثه.

لماذا أصبح العامُ الهجريُ مبدأ للتاريخ؟

إنّ الإسلام أكمل الشرائع السماوية قاطبة، وقد جاء إلى البشرية بما تتضمّنه شريعة موسى وعيسى عليهما السلام ولكن بصورة أكمل وبصيغة تطابق وتتمشّى مع جميع الظروف والأوضاع.

ومع أنّ السيد المسيح عليه السلام وميلاده المبارك يحظى بالاحترام عند المسلمين إلّا أنّ ميلاده عليه السلام لم يُتخَذ لديهم مبدأ للتاريخ، والتوقيت.

وكانت العرب قد جعلت عام الفيل(1) مبدأ لتاريخها، وكانت تقيس حوادثها وأُمورها إليه فترة من الزمن، ومع أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قَد وُلِدَ في ذلك العام نفسه، إلّاأنّ المسلمين لم يتّخذوه مع ذلك مبدأ للتاريخ، لأنّه لم يكن ينطوي على ما يتّصل بقضية الإيمان والإسلام.

ولأجل هذا أيضاً لم يتّخذوا عام البعثة مبدأ لتاريخ المسلمين أيضاً؛ لأنّ عدد المسلمين لم يكن يتجاوز في ذلك اليوم ثلاثة أشخاص، إِذن فلم يكن في أي واحد من تلك الحوادث ما يعطي مبرراً قوياً لاتّخاذه مبدأ للتوقيت والتاريخ، إذ لابد أن يكون ما يتّخذ لذلك قضية مصيرية بالغة الأهمية.

ص:666


1- . وهو العام الّذي سيّر فيه أبرهة جيشاً لهدم الكعبة تتقدّمه الفيلة. راجع المحبّر: ص 5-8.

ولكنّه في السنة الأُولى من الأعوام الهجرية حقّق المسلمون انتصاراً عظيماً وباهراً، وقد أُسست فيه حكومة مستقلة وتخلّص المسلمون من التشرذم والتبعثر، وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطةٍ واحدةٍ، وبيئةٍ حرةٍ لا أثرَ فيها للكبت والاضطهاد، من هنا جعلوا ذلك العام (أي العام الّذي تحقّقت فيه هجرة النبيّ العظيم) مبدأً لتاريخهم، وأخذوا يقيسون إليه - وحتّى الآن - كلّ ما يحدث ويقع من خير وشر، لتحديد تاريخ وقوعه.

الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافّة:

ولقد جعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم التاريخ الهجريّ بنفسه.

وإنّ أيَّ إعراض وتجاهلٍ لهذا التاريخ، واختيار تاريخٍ آخر مكانه إعراضٌ عن سنّة رسول الإسلام الكريم صلى الله عليه و آله و سلم، ومخالفة لما رسمه للمسلمين في هذا المجال.

إنّ وجود تاريخ معين ثابت (مؤلّفٍ من السنة والشهر واليوم) في الحياة الإجتماعية البشرية، من الأُمور الضرورية الحيوية بل هو في غاية الضرورة والحيوية، من أجل أن لا تتوقّف عجلة الحياة الإجتماعية البشرية عن الدوران والحركة بسبب فقدان مقياس زمني ثابت ومعلوم للأُمور والحوادث.

وتلك حقيقة لا حاجة إلى إقامة البرهان عليها؛ لأنَّ الاستدلال عليها يكون مثل الاستدلال على الأُمور البديهية.

فهل يكون تنظيم المعاهدات، والمواثيق السياسية والعسكرية، والاتّفاقيات، والعقود الاقتصادية وتحويل وتسديد السندات والحوالات التجارية ودفع الديون وكتابة الرسائل العائلية من دون ذكر تاريخ معين فيها أمراً مفيداً؟ كلّا حتماً، ودون ريب.

ص:667

فعندما سأل بعض الصحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن علّة اختلاف أشكال القمر، وأنّه لماذا يكون هلالاً تارة ثم بدراً أُخرى. ثم يعود إلى سيرته الأُولى هلالاً، نزل الوحيُ الإلهي، يبيّنُ بعض حكمة هذه الظاهرة الطبيعية إذ قال تعالى:

«قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ» .(1)

أي أنّ اختلاف أشكال القمر وهيئاته إنّما هو لأجل أن يعرف الناسُ به الوقت والتاريخ فيعرفوا في أي يوم من الشهر هم، في مبدئه أو منتصفه، أو منتهاه، ولكي يعرفوا بواسطة ذلك مواعيد واجباتهم الشرعية والاجتماعية، ويعرف الدُّيّان موعد تسلّم دُيونهم، ويعمَدُ المَدِينون إلى دفع ما عليهم في وقته، ويقومَ المؤمنُون بفرائضهم المقيَّدة بالأزمنة والأوقات كالصوم والحج وماشابه ذلك. من هنا لا مجال للنقاش في احتياج كلّ أُمّة إلى تاريخ معينٍ ثابتٍ محدّد تجعله ملاكاً للتوقيت، ومداراً لتحديداتها الزمنية.

إنّما الكلام هو في ما ينبغي اتّباعه والجري عليه من التواريخ، وتنظيم المستندات والمكاتبات والمواعيد وفقاً له.

وبعبارة أُخرى: إنّ الكلام إنّما هو في ما ينبغي جعله مبدأً للتاريخ يقاس به كلّ العُقودِ والاتّفاقات من حيث الزمان، والتوقيت.

فما الّذي يصلح أوينبغي اتّخاذه مبدأً للتاريخ للأُمّة الإسلامية؟

الجواب:

إنّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة جداً، وهي:

إذا كانت لأُمّة من الأُمم حوادث لامعة وسوابق مشرقة في حياتها، وثقافة خاصّة بها، وديناً ومسلكاً مستقلاً وشخصيات علمية وسياسية بارزة، وأحداث

ص:668


1- . البقرة: 189 ومطلعها: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ...».

ووقائع عظيمة مثيرة، تبعث على الفخر والاعتزاز، ولم تكن كنبتة وحشية نبتت عفواً واعتباطاً من غير قانون ولا جذور كبعض الجماعات والشَعوب الجديدة الظهور الّتي لا ترتكز إلى أُصول ثابتة معلومة.

فإنّ على مثل هذه الأُمّة أن تتّخذ من أعظم حوادثها الاجتماعية والدينية مبدأً لتاريخها الّذي تقيس، وتنظم عليه بقية حوادثها وأعمالها الّتي سبقت تلكم الحادثة العظمى، أو الّتي وقعت أو تقع بعدها.

ومن هنا تكون قد أكسبت شخصيتها وكيانها قوةً أكبر، وصانت نفسها من التبعية للشعوب والأُمم الأُخرى، والميعان والفناء فيها.

وإذ لم يكن في تاريخ الأُمّة الإسلامية شخصية أعلى شأناً من شخصية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، كما لم يكن هناك حادثة أعظم، وأنفع من حادثة الهجرة النبوية المباركة، لأنّ هجرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فتحت - في الحقيقة - صفحةً جديدةً في حياة البشرية، فقد خرج رسول الإسلام وأتباعه من بيئة مكّة الرازحة تحت الكبت، إلى بيئة مناسبة حرّة مكنّتهم من إحداث انطلاقةٍ كبرى لم يشهد التاريخُ البشريُ برمّته لها مثيلاً.

فقد استقبل أهلُ المدينة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومَن هاجر معه من المسلمين إلى يثرب استقبالاً حاراً، ووضعوا تحت تصرّفه كلَّ ما توفّر لديهم من الإمكانات والقوى، فلم يمض زمن إلّاوتمتع الإسلام بفضل هذه الهجرة المباركة بتشكيلات سياسية وعسكرية، واتّخذ صورة وشكلَ حكومةٍ قويةٍ لها وزنُها، وشأنُها، وجانبُها المرهوب في شبه الجزيرة العربية، وسرعان ما نشر رايته على البسيطة كلّها تقريباً، وأسّس حضارةً عظمى لم تر البشرية لها نظيراً.

فإذا لم تحدث تلك الهجرة المباركة المعطاء لقُضي على الإسلام في محيط

ص:669

مكّة، وحُرمَ العالم الإنساني من هذا الفيض العظيم. من هنا، ولأجل هذا اتّخذ المسلمون هجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مبدأً لتاريخهم، ودأبوا على ذلك إلى الآن حيث ينقضي أكثر من ألف وأربعمائة عام، أي أنّ هذه الأُمّة الكبرى تركت وراءها إلى هذا اليوم أربعة عشر قرناً من الأمجاد والمفاخر، وهي الآن تدخل في القرن الخامس عشر؟

مَن الّذي جعل الهجرة مبدأً للتاريخ؟

على العكس ممّا هو مشهور بين المؤرّخين من أنّ الخليفة الثاني جعل هجرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مبدأً للتاريخ باقتراح وتأييد من الإمام أميرالمؤمنين علي عليه السلام وأمر بأن تؤرّخ الدواوين، والرسائل والعهود وما شابه ذلك بذلك التاريخ، فإنّ الإمعان في مراسلات النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومكاتباته الّتي هي مدرجة في كتب التاريخ والسيرة والحديث والسنّة، وكذا غير ذلك من الأدلّة الّتي سوف نذكرها في هذه الصفحات يثبت أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو نفسه أوّل مَن اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدأ للتاريخ، وكان يؤرّخ رسائله، وكتبه إلى أُمراء العرب، وزعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة بذلك التاريخ (أي التاريخ الهجري).

وها نحن ندرج هنا نماذج من تلك الرسائل النبوية المؤرّخة بهذا التاريخ، ثم نعمد بعد ذلك إلى استعراض الدلائل الأُخرى على هذا الأمر، ونحن نحتمل أن تكون هناك أدلّة أُخرى غير ما سنذكره هنا - أيضاً - لم نقف عليها.

نماذج من رسائل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والصحابة المؤرّخة:

1. طلب سلمان من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يكتب له ولأخيه (ماه بنداذ) ولأهله وصية مفيدة ينتفع بها، فاستدعى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً وأملى عليه أُموراً، وكتبها علي عليه السلام

ص:670

ثم جاء في آخر تلك الوصية:

«وكتب علي بن أبي طالب بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في رجب سنة تسع من الهجرة».(1)

2. أدرج المؤرّخُ الشهير «البلاذري» في كتابه «فتوح البلدان» نصَّ معاهدة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع يهود «المقنا» وذكر أنّ مصرياً رأى نصَ هذه المعاهدة في جلدٍ أحمر اللون عتيقٍ وكان قد استنسخَها، فقرأها لي.

ثم نقل البلاذري نصّ تلك المعاهدة وقد جاء في نهايتها:

«وليس عليكم أمير إلّامن أنفسكم أو من أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكتب علي بن أبو طالب في سنة تسع»(2) ومع أنّ «أبا طالب» يجب أن يكتب حسب القواعد الأدبية في المقام «أبي طالب» لكونه مضافاً إليه فقد كتب: «علي بن أبوطالب» ولكن مع ذلك ذكر المحقّقون أنّ قبيلة قريش كانت تتلفّظ لفظة أب في جميع الموارد (أي في حالة النصب والرفع والجرّ) ب «أبو» وتكتبها كذلك أيضاً، وقد صرح الأصمعيّ بهذا من بين الأدباء.

ويقول البروفيسور «محمّد حميد اللّه» مؤلّف كتاب «الوثائق السياسية»: إنّي لمّا كنت في المدينة المنوّرة في شهر محرم سنة 1358 وجدت في الكتابة القديمة الّتي في جنوبي جبل سلع في المدينة المنورة «أنا علي بن أبوطالب».(3)

3. أنّ كتاب الصلح الّذي كتبه الإمام علي عليه السلام بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لنصارى

ص:671


1- . طبقات المحدّثين بأصبهان لعبداللّه بن حبان (المتوفّى 369 ه): 1/234؛ ذكر أخبار أصبهان لأبي نعيم الحافظ الاصبهاني (المتوفّى 430 ه): 1/53.
2- . فتوح البلدان: 72.
3- . مكاتيب الرسول: 289، نقلاً عن شرح ملا علي القاري لشفاء القاضي عياض، وكذا الوثائق السياسية.

نجران مؤرَّخ بالسنة الهجرية الخامسة.

فقد جاء في هذه الرسالة:

«وأمر علياً أن يكتب فيه حين كتب عنه أنّه كتب لخمس من الهجرة».(1)

إنّ هذه الجملة تفيد بوضوح أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو واضع التاريخ الهجري ومؤسّسه الأوّل، وهو الّذي أمر علياً عليه السلام بأن يؤرّخ ذلك الكتاب بالتاريخ الهجري في ذيله. 4. جاء في مقدّمة الصحيفة السجادية: قال جبرئيل وهو يفسّر رؤيا رآها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثم تدور رحى الإسلام على رأس خمس وثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمساً، ثم لابد من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها».(2)

5. يروي المحدّثون الإسلاميُّون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لأُمّ سلمة:

«يُقتَل الحسين بن علي على رأس ستين من مهاجري».(3)

6. قال أنس بن مالك: «حدثنا أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: لاتأتي مائة سنة من الهجرة و منكم عين تطرف».(4)

7. أرّخ أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في أيام حياته الحوادث الإسلامية بهجرته فقالوا: وقع كذا في الشهر كذا من الهجرة، مثلا كانوا يقولون: حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في شهر شعبان وقيل في رجب، وكان عليه السلام يصلّي إلى بيت

ص:672


1- . التراتيب الإدارية (نظام الحكومة النبوية) للشيخ عبدالحي الإدريسي الفاسي: 1/181.
2- . الصحيفة السجادية (طبع الأبطحي): 622.
3- . مجمع الزوائد: 9/190.
4- . مجمع الزوائد: 1/197.

المقدس بالمدينة ستة عشر شهراً، وقيل: سبعة عشر شهراً، وقيل: ثمانية عشر شهراً.(1)

على رأس ثمانية عشر شهراً فرِضَ صوم شهر رمضان.(2)

وقال عبداللّه بن أنيس أمير الوفد الّذي بعثه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمس خلونَ من المحرم على رأس أربعةٍ وخمسين شهراً.(3)

وقال محمّد بن سلمة عن غزوة القرطاء: خرجتُ في عشر ليال خلون من المحرم فغبت تسع عشرة وقدمتُ لليلة بقيت من المحرم على رأس خمسة وخمسين شهراً.(4)

إنَّ هذا النوع من تاريخ الحوادث والوقائع يكشف عن أنّ المسلمين كانوا إلى السنة الخامسة من الهجرة يقيسون الحوادث بهجرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويؤرّخون بها عن طريق عدّ الأشهر، حتّى إذا كانت السنة الخامسة من الهجرة أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإحلال السنة الهجرية مكان الشهر الهجري (كما مرّ في الرسالة رقم 4) حيث أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأن يُؤرَّخ الكتاب الّذي كتبه لنصارى نجران بالعام الهجري.

8. نقل المحدّثون الإسلاميون عن الزهري قوله: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا قدم المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل (أي شهر قدومه المدينة).(5)

9. روى «الحاكم» عن «ابن عباس» قال: كان التاريخ الهجري في السنة الّتي

ص:673


1- . تاريخ الخميس: 1/367.
2- . المغازي: 2/531 تحقيق الدكتور مارسدن جونس.
3- . المغازي: 2/531.
4- . المغازي: 2/534.
5- . فتح الباري: 7/208.

قدم فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة.(1)

إنّ هذه النصوص تحكي عن أنّ قائد الإسلام الأكبر قد أوضح مسألة التاريخ من اليوم الأوّل. وأنّه جعل هجرته مبدأ لذلك التاريخ. غاية ما هنالك أنّ هذا التاريخ كان إلى فترة من الزمن يعدُّ بالأشهر ثم حلّ العدُّ بالأعوام منذ حلول السنة الخامسة من الهجرة محل العدّ بالأشهر.

10. جاء في معاهدة الصلح الّتي نظمها «خالد بن الوليد» لأهل دمشق، ونصّ فيها على احترام دمائهم، وأموالهم وكنائسهم: «وكتب سنة ثلاث عشرة»(2).

وكلّنا نعلم أنّ دمشق فتحت في أواخر حياة الخليفة الأوّل.

فما يدّعيه البعض من أنّ التاريخ الهجري قد اتّخذ في عهد الخليفة الثاني بإرشاد وتأييد من الإمام علي عليه السلام غير صحيح فإنّ تاريخ ذلك يرتبط بالسنة السادسة عشرة أوالسابعة عشرة من الهجرة، والحال أنّ هذه المعاهدة قد نظِّمت ودُوّنت وأُرخت بالتاريخ الهجري قبل ذلك بأربع سنوات.

سؤال:

ويمكن أن يسأل سائل: إذا كان حقّاً أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو مؤسّس التاريخ الهجري وواضعه الأوّل فماذا نفعل بالخبر الّذي رواه كثيرٌ من المحدّثين والمؤرّخين؟

فإنّهم يقولون: رفع رجل إلى عمر صكّاً مكتوباً على آخر بدَين يحلّ عليه في شعبان، فقال عمر: أي شعبان؟ أمِن هذه السنة، أم الّتي قبلها، أم الّتي بعدها؟

ثم جمع الناس (أي أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم) فقال: ضعوا للناس شيئاً

ص:674


1- . مستدرك الحاكم: 3/13-14 وقد صحّحه على شرط مسلم، وص 548.
2- . الأموال: 297، طبعة مصر.

يعرفون فيه حلول ديونهم. فيقال: إنّ بعضهم أراد أن يؤرّخوا كما تؤرّخ الفرس بملوكهم، كلّما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الّذي بعده فكرهوا ذلك.

ومنهم من قال: أرّخوا بتاريخ الروم من زمان اسكندر، فكرهوا ذلك، ولطوله أيضاً.

وقال آخرون: أرّخوا من مولد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وقال آخرون: أرّخوا من مبعثه. وأشار علي بن أبي طالب عليه السلام أن يؤرّخ من هجرته من مكّة إلى المدينة لظهوره على كلّ أحد، فإنّه أظهر من المولد والمبعث، فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرَّخ من هجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

الجواب:

إنّ هذا القسم من التاريخ لا يمكن الاستناد إليه في مقابل النصوص الكثيرة الّتي وصفت الرسول العظيم صلى الله عليه و آله و سلم بكونه واضعَ التاريخ الهجري ومؤسّسه الأوّل.

هذا مضافاً إلى أنّه من الممكن أن يكون التاريخ الهجري الّذي وضعه النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم قد تعرّض للترك، وفقد رسميته بمرور الزمن وقلّة الحاجة إلى التاريخ ولكن جُدِّد في زمن الخليفة الثاني، بسبب اتّساع نطاق العلاقات وأُعيد الاهتمام به لاشتداد الحاجة إليه في هذا العهد.

التذكير بنقطتين:

1. لا نجد في الاقتراحات الّتي عرضت على الخليفة في مجال التاريخ أي ذكر للتاريخ المسيحي الّذي يجعل ميلاد السيد المسيح عليه السلام مبدأً للتاريخ.

ص:675


1- . البداية والنهاية: 7/85. ولاحظ: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 12/74. الكامل لابن الأثير: 1/10.

والعلّة هي: أنّ التاريخ الميلادي ظهر في القرن الرابع الهجري الإسلامي بين المسيحيّين بعد سلسلة من المحاسبات التخمينية، فهو لم يكن رائجاً قبل ذلك.

2. أنّ البلاد والأقطار الإسلامية بحاجة اليومَ إلى الوحدة والاتّفاق أكثر من أي زمن مضى.

ومن مظاهر تلك الوحدة هو السعي للحفاظ على التاريخ الإسلامي الهجري. ومن هنا يتوجب على الأقطار الإسلامية أن تقيم كلّ روابطها، وعلاقاتها على أساس التاريخ الهجري، شمسياً(1) كان أو قمرياً.

وإنّ هذا الأمر بحاجة إلى مؤتمر إسلامي كبيرٍ يشترك فيه كبارُ الشخصيات الفكرية الإسلامية من أجل توحيد التاريخ، ودراسة السبل الكفيلة بالوصول إلى هذا الأمر، والتخلّص من التبعية الغربية في التاريخ. إنّ من المؤسف جداً أن تتجاهل بعض الدول الإسلامية والعربية التاريخَ الهجري وتعتمد التاريخ الميلادي المسيحيّ، حتّى أنّ شيخ الجامع الأزهر الّذي يشكّل قمّة القيادة الدينية في المجتمع السنّي يؤرّخ رسائله بالتاريخ الميلادي، ولا يذكر إلى جانبه التاريخ الهجري على الأقل!!(2)

ص:676


1- . التاريخ الهجري الشمسي يؤرّخ لهجرة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حسب أشهر السنة الإيرانية - الخاصّة بها - المرتّبة حسب الفصول الأربعة حيث تبدأ السنة الإيرانية بفصل الربيع وتنتهي بفصل الشتاء وعدد أيامها 365 يوماً. والسنة الكبيسة 366 يوماً كالسنة الميلادية.
2- . وقد رأيت أنا شخصياً رسالةً من شيخ الجامع الأزهر الأسبق هو الشيخ محمود عبدالحليم وعليها التاريخ الميلادي فحسب!!

مؤامرة الطاغوت:

وكانت إيران من الأقطار الإسلامية الّتي حافظت بشدة على التاريخ الهجري، واعتمدته في أعمالها، ولكن في المؤامرة الّتي نفّذت بواسطة الطاغية المقبور في عام 1399 ه، استبدلت التاريخ الهجري بالتاريخ الشاهنشاهي، وأُعلن في وسائل الإعلام عن وجوب اعتماد هذا التاريخ المختلَق بدل التاريخ الهجري الأصيل!!

ولقد تصوَّر الطاغوتُ الأرعن أنّه يستطيع بحذف التاريخ الهجري، واستبداله بالتاريخ الشاهنشاهي المشؤوم تثبيت قواعد حكومته المهزوزة، وسلطانه المنخور، ونظامه الظالم المتهرّئ، مدة أطول، ولكن العناية الإلهية، وهمّة الشعب الإيراني المسلم العالية، وقيادة الأُستاذ الأكبر آية اللّه العظمى الإمام الخميني قدس سره الشريف أفشلت هذه المحاولة النكراء، وآل الأمر إلى إسقاط النظام الشاهنشاهي بثورة الشعب المجيدة وإقامة حكومة الجمهورية الإسلامية على أنقاض الحكم الملكي المباد، وإحلال التاريخ الهجري الإسلامي المبارك محلّ التاريخ الشاهنشاهي المختلق. والحمدللّه.

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يبدأ رحلته إلى يثرب

لقد كان على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يقطع - للوصول إلى المدينة - ما يقرب من أربعمائة كيلومتراً، ولا شك أن طيّ هذه المسافة الطويلة تحت تلك الحرارة العالية الدرجة بحاجة إلى خطّة صحيحة، لضمان السلامة، خاصّة وأنّهم كانوا يخافون من أن يقوم الأعراب الذين كانوا ربّما يصادفونهم في أثناء الطريق بإخبار قريش بهم، ولهذا كانوا يسيرون ليلاً ويستريحون نهاراً.

ويبدو أنّ شخصاً شاهد النبيّ ومن معه في أثناء الطريق فرجع إلى مكّة وأخبر قريشاً بذلك فخرج «سراقة بن مالك بن جُعْشُم» يطلبهم طمعاً في جائزة

ص:677

قريش الكبرى فلحق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد صرفَ قريشاً عن ملاحقة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل ذلك ليتفرد بها.

يقول ابن الأثير: وكانت قريش قد جعلت لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم دية فتبعهم سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فلحقهم فقال أبوبكر: يا رسول اللّه أدركنا الطلبُ، فقال (رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم): «لاتحزن إنَّ اللّهَ معنا».

ودعا عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فارتطمت فرسه إلى بطنها وثار من تحتها مثل الدخان، فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني اللّه ولك عليّ أن أرد عنك الطلب، فدعا له فتخلّص، فعاد يتبعهم، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأُولى فقال: يا محمد قد علمت أنّ هذا من دعائك عليّ فادع لي ولك عهد اللّه أن أرد عنك الطلب، فدعا له فخلص، وقرب من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقال له: يا رسول اللّه خذ سهماً من كنانتي وإنّ إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت.

فقال (رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم): لا حاجة لي في إبلك.(1)

وروى المجلسي أنّ سراقة قال: فسلني حاجة.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: رُدَّ عنّا مَنْ يطلبُنا من قريش.

فانصَرف سراقة فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم: انصرفوا عن هذا الطريق، فلم يمرّ فيه أحد، وأنا أكفيكم هذا الطريق، فعليكم بطريق اليمن والطائف.(2)

وهكذا ما كان يمرّ بأحد إلّاوصرفه عن البحث عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في هذا

ص:678


1- . الكامل في التاريخ: 2/105.
2- . بحار الأنوار: 19/75. يذكر كثير من المؤرّخين القصة كما نقلناها هنا، ولكن مؤلف حياة محمّد يقول: إنّ سراقة تطيّر لمّا كبا به فرسُه واُلقي في روعه أنّ الآلهة مانعة منه ضالَّته.

الطريق بمثل هذا الكلام.

ثم إنّ كُتّاب السيرة من الشيعة والسنّة يذكرون لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كرامات كثيرة في طريق مكّة - المدينة ونحن ندرج واحدة منها:

مرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أثناء الطريق على خيمة أُمّ معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة تحتبي وتجلس في فناء الخيمة فسألوا تمراً أو لحماً ليشتروه، فلم يصيبوا عندها شيئاً...

فقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، فنظر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في كسر خيمتها فقال (صلى الله عليه و آله و سلم لها): ما هذه الشاة يا أُمّ معبد؟ قالت: شاةٌ خلّفها الجهدُ عن الغنم فقال: هل بها من لبن؟.

قالت: هي أجهدُ من ذلك، قال: أتأذنين في أن أحلبها؟.

قالت: نعم بأبي أنت وأُمّي إنّ رأيت بها حلباً فاحلبها.

فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالشاة فمسح ضرعَها، وذكر اسم اللّه، وقال: «اللّهم بارك في شاتها» فتفاجت ودرّت، فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإناء لها يربض الرهط فحلب فيه ثجاً حتّى علته الثمال فسقاها فشربت حتّى رويت، ثم سقى أصحابه فشربوا حتّى رووا، فشرب آخرهم، وقال:

«ساقي القوم آخرهم شرباً».

ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء فغادره عندها، ثم ارتحلوا عنها (إلى المدينة).(1)

وقد ذُكرت هذه الكرامة في كثير من كتب السيرة والتاريخ، وهو أمر ممكن في رؤية المؤمن باللّه، لأنّ الدعاء أحدُ الأسباب التي تستطيع أن تؤثر في الطبيعة،

ص:679


1- . بحار الأنوار: 18/43.

وشأنها شأن غيرها من الكرامات الّتي ورد ذكرها في الكتب الدينية وصدقته التجربة.(1)

النزول في قرية قباء:

تقع قرية قباء على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكّة و كانت مساكن «بني عمرو بن عوف» ومركزهم.

ولقد وصل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن معه إلى قباء في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل يوم الاثنين، ونزل على «كلثوم بن الهرم» وهو شيخ من بني عمرو و كان ثمة جمع كبير من المهاجرين والأنصار ينتظرون قدومه، ويستخبرون وروده.

ولقد لبث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قباء إلى آخر أيام الأُسبوع، وقد خط في هذه الفترة مسجداً لقبيلة «بني عمرو بن عوف»، ونصب قبلته.(2)

وكان البعض ممّن رافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يصرّ عليه أن يسارع في الدخول إلى المدينة، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان ينتظر ابن عمّه علياً.

ويقول: ما أنا بداخلها حتّى يقدم ابن عمّي، وابنتي (يعني عليّاً وفاطمة عليهما السلام).(3)

وأقام عليّ عليه السلام بمكة ثلاث ليال بأيّامها، حتّى أدّى عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الودائع الّتي كانت عنده للناس فقد وقف عليه السلام على مكان مرتفع في مكّة ونادى قائلاً:

ص:680


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 18/43 و ج 19/99-103؛ الطبقات الكبرى: 1/230 و 231؛ تاريخ الخميس: 1/333؛ أُسد الغابة: 1/377.
2- . لاحظ: تاريخ الخميس: 1/338.
3- . الفصول المهمة لابن صباغ المالكي: 1/302 دون أن يذكر اسماً؛ كشف الغمة: 2/32؛ أمالي الشيخ الطوسي: 469 ح 37.

«مَن كانَ لَه قِبَلَ محمّد أمانةٌ أو وديعةٌ فليأتِ فلنؤدّ إليه أمانتهُ».

فكان يأتيه مَن له أمانةٌ أو وديعة عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويذكر علامتها ويأخذها، فلمّا فرغ عليه السلام من أداء الأمانات والودائع خرج بفاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأُمّه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير وآخرين ممّن لم يكن قد هاجر مكّة حتى تلك الساعة، وتوجّه بهم نحو المدينة ليلاً سالكاً بها طريقاً في «ذي طوى».

روى الشيخ الطوسي في أماليه أنّ جواسيس قريش عرفت بسفر علي مع تلك الجماعة، فخرجوا لملاحقتهم، لغرض إعادتهم إلى مكّة، فأدركوهم في منطقة «ضجنان».

ووقع بين رجال قريش وبين علي عليه السلام تلاحٍ وتناوش، وأخذٌ وردٌّ، ودنا الرجال من النسوة، والمطايا ليثوروها، فحال عليّ عليه السلام بينهم، وبينها، ولم يجد عليه السلام طريقاً إلّاأن يدافع عن حرم الإسلام والمسلمين، فشدّ عليهم بسيفه شدَّة الأسد الغضِب والليث الغيور وهو يقول مرتجزاً:

خَلُّوا سبيل الجاهد المجاهِد آليتُ لا أعبُدُ غَيرَ الواحِدِ

فتصدّع عنه القوم وقالوا له: إغن عنّا نفسَكَ يا ابن أبي طالب، فقال عليه السلام:

«فإنّي مُنْطَلِقٌ إلى ابن عمّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيثرب، فمَن سرّهُ أن أُفري لحمه وأُريق دمه فليتعقبني أو فليدن مني».

فتركه القومُ وعادوا من حيث أتوا، وواصل الركبُ رحلته باتّجاه المدينة.(1)

يقول ابن الأثير: قدم «علي» المدينة وقد تفطّرت قدماه، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

ادعوا لي عليّاً، قيل: لا يقدر أن يمشي، فأتاه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واعتنقه وبكى رحمةً لما

ص:681


1- . لاحظ: أمالي الطوسي: 470.

بقدميه من الورم.(1) ولقد قدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قباء في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل، والتحق به عليُّ عليه السلام في منتصف ذلك الشهر نفسه.(2) ويؤيّد هذا القول ما ذكره الطبري في تاريخه إذ كتب يقول: وأقام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه بمكة ثلاث ليال وأيّامها حتّى أدّى عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الودائع الّتي كانت عنده إلى الناس.(3)

المدينة تهبُّ لقدوم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

ولقد كان يوم دخول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوماً عظيماً جداً، ومشهوداً.

فكم ترى ستكون عظيمةً فرحةُ الذين آمنوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منذ ثلاث سنوات، وظلّوا طوال هذه الأعوام يبعثون برسلهم ووكلائهم إليه، ويذكرون اسمه المقدّس، ويصلّون عليه في صلواتهم كلّ يوم، إذا سمعوا أنّ قائدهم ذلك الّذي طال انتظارهم إيّاه، واشتدّ تشوّقهم إليه كائن عند ميلين من مدينتهم قد نزل في قبا أيّاماً، وسيقدم إليهم ويدخل مدينتهم بعد أيام؟ وكم سيكون مبلغُ ابتهاجهم، وأي ابتهاج ترى سيعم كلّ صغير وكبير؟

إنّه حقّاً لأمر يعجزُ القلم عن بيانه، ويكلّ اللسان عن وصفه.

ولقد كان لفتية الأنصار وشبابهم الضامئين إلى الإسلام الحنيف برنامجٌ رائعٌ وعظيمٌ، فقد كانوا عمدوا بغية تطهير جوّ المدينة من أدران الوثنية إلى كلّ صنم في

ص:682


1- . الكامل في التاريخ: 2/106.
2- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 1/64 و 68. وعلى هذا تكون محاصرة بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد تمّت ثلاث ليال قبل شهر ربيع الأوّل من السنة الأُولى من الهجرة، وقد خرج النبيّ من داره ليلة الاثنين ودخل غار ثور وبقي ماكثاً فيه ثلاثة أيام، وخرج منه ليلة الخميس أوّل ربيع الأوّل وتوجّه نحو المدينة ووصل قباء في الثاني عشر منه. راجع تاريخ الخميس: 1/337-338.
3- . تاريخ الطبري: 2/106.

المدينة كان يقدّس ويعبد فأحرقوه وكسّروه، وقد كان كلّ شريف في بيته صنمٌ يمسحه ويطيّبه، ولكلّ بطن من الأوس والخزرج صنمٌ في بيت لجماعة يكرّمونه، ويجعلون عليه منديلاً ويذبَحون له.(1)

ولا بأس في أن نذكر نموذجاً من هذا العمل الجليل الّذي قام به الأنصار في التخلّص من الوثنية:

لمّا قدم مَن بايع من الأنصار في العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الإسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم «عمرو بن الجموح» وكان سيداً من سادات بني سلمة وشريفاً من أشرافهم وكان ابنه «معاذ» بن عمرو قد شهد بيعة العقبة، وبايع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وكان عمرو قد اتّخذ في داره صنماً من خشب يقال له: مناة، كما كانت الأشراف يصنعون، يتّخذه إلهاً يعظّمه ويطهّره، فلمّا أسلم فتيان بني سلمةَ: معاذ بن جبل، وابنه معاذُ بن عمرو بن الجموح كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو بن الجموح فيحملونه ويطرحونه في بعض حُفَر بني سلمة، وفيها عذر الناس، منكَّساً على رأسه!!

فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم مَن عدا على آلهتنا هذه الليلة؟

ثم يغدو يلتمسه حتّى إذا وجده غسله وطهّره وطيّبه. ثم قال للصنم: أما واللّه لو أعلمُ من فَعَلَ هذا بك لأُخزينّه!

فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه ثانيةً ففعلوا به مثل ما فعلوا به أوّلاً.

فيغدو فيجدُه في مثل ما كان فيه من الأذى والوسخ، فيغسله ويطهّره ويطيّبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك.

ص:683


1- . بحار الأنوار: 19/107.

فلمّا أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقَوه يوماً فغسله وطهّره وطيّبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إِنّي واللّه ما أعلم مَن يصنعُ بك ماترى، فإن كان فيك خيرٌ فامتنِعْ، فهذا السيف معك.

فلمّا أمسى ونام عمرو عَدَوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلباً ميّتاً فقرنوه به بحبلٍ، ثم ألقَوه في بئرٍ من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وفضلاتهم. ثم غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الّذي كان به. فخرج يتبعه حتّى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلبٍ ميّت، فلمّا رآه وأبصر شأنه وكلّمه مَن أسلم من رجال قومه، فأسلم برحمة اللّه وحسُنَ إسلامه.

فقال حين أسلم وعرف من اللّه ما عرف وهو يذكر صنمه ذلك، وما أبصر من أمره، ويشكر اللّه تعالى الّذي أنقذه ممّا كان فيه من العمى والضلالة:

واللّهِ لو كنتَ إلهاً لم تكنْ أنتَ وكَلبٌ وسطَ بئرٍ في قَرَنْ

أُفٍّ لملقاكَ إلهاً مستدَنْ الآن فتشناك عن سوءِ الغبن

فالحمدللّه العلي ذى المِنَنْ الواهب الرزاقِ دَيّان الدَينْ

هُوَ الّذي أَنَقَذني من قبلِ أن أكونَ في ظُلْمَةِ قَبْرِ مرتهَنْ

بأحمد المهدِيْ النبيّ المرتهَنْ (1)

النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يدخُلُ المدينة:

بعد أن التحق علي عليه السلام ومن معه برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قباء توجّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة ولمّا انحدر من ثنية الوداع (وهي منطقة قريبة من المدينة) وحطّ قدمه على تراب يثرب استقبله الناس رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، استقبالاً

ص:684


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 3/309-310.

عظيماً ورحّبوا به أعظم ترحيب، وردّد المرحّبون أناشيد الترحيب التالية:

طَلَعَ البدرُ عَلَينا مِنْ ثَنيات الوَداع

وَجَبَ الشُكْرُ عَلَينا ما دَعا للّهِ داع

أيّها المبعوثُ فينا جِئتَ بِالأمر المُطاع

وكانت بنو عمرو بن عوف قد اجتمعت عنده وأصرّت عليه بأن ينزل في قباء وقالوا: أقم عندنا يا رسول اللّه فإنا أهل الجدّ والجَلَد، والحلقة (أي السلاح) والمنعة، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يقبل.

وبلغ الأوسَ والخزرجَ خروجُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقرب نزوله المدينة فلبسوا السلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته لا يمرّ بحيٍّ من أحياء الأنصار إلّاوثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته، وأصرّوا عليه بأن ينزل عليهم، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: خَلُّوا سبيلها فإنّها مأمورة.

وأخيراً لمّا انتهت ناقته - وكان صلى الله عليه و آله و سلم قد أرخى زمامَها - إلى باب المسجد الّذي هو اليوم، ولم يكن مسجداً إنّما كان أرضاً واسعة ليتيمين من الخزرج يقال لهما: سهل وسهيل وكانا في حجر أسعد بن زرارة فبركت الناقة على باب «أبي أيوب» خالد بن زيد(1) الأنصاري الّذي كان على مقربة من تلك الأرض.

فاغتنمت أُمّ أبي أيوب الفرصة فبادرت إلى رحل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فحلّته وأدخلته منزلَها، بينما اجتمع عليه الناس ويسألونه أن ينزل عليهم.

فلمّا أكثروا عليه، وتنازعوا في أخذه قال صلى الله عليه و آله و سلم أين الرحل؟

فقالوا: أُمّ أبي أيوب قد أدخلته بيتها.

ص:685


1- . بحار الأنوار: 19/108 ولكن ذهب البعض (كصاحب الكامل في التاريخ: 2/109) إلى أنّهما كانا في حجر معاذ بن عفراء.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «المرء مع رحله» وأخذ أسعدُ بن زرارة بزمام الناقة فحوّلها إلى منزله.(1)

أصل النفاق ومنشؤه:

كانت الأوس والخزرج قد اتّفقتا على أن تملّك عبداللّه بن أُبي بن سلول (رئيس المنافقين وكبيرهم) عليهم، وذلك قبل أن تبايع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في العقبة وتؤمن به وتعتنق الإسلام، ولكن هذا القرار أُلغي بعد اتّصال الأوس والخزرج برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، من هنا حنق عبداللّه بن أُبي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأضمر له العداوة منذ ذلك الحين، ولم يؤمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى آخر حياته، بل كان ينافق بإسلامه.

ولمّا دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة وشاهد عبداللّه بن أُبي ذلك الاستقبال والترحيب العظيمين لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي قام بهما الأوس والخزرج، شقّ عليه ذلك جداً، ولم يستطع إخفاء حنقه وغضبه، وحقده وعداوته للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم! فعندما انتهى صلى الله عليه و آله و سلم إلى عبداللّه بن أُبي وقد أرخى صلى الله عليه و آله و سلم زمام ناقته لتبرك حيث تريد، أخذ عبدُاللّه كمّه ووضعه على أنفه، وقد ثارت الغبرةُ بسبب الزحام وقال للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بنبرة الحانِق الغاضب: يا هذا إذهب إلى الّذين غرَّوك وخدعوك وأتوا بك، فأنزل عليهم، ولاتُغشنا في ديارنا!!

فقام سعدُ بن عبادة - وقد خشي أن يسوء رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذا الموقف الوقِح الشِرير - فقال: يا رسول اللّه لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء، فإنّا كنّا اجتمعنا على أن نملِّكهُ علينا، وهو يرى الآن أنّك قد سَلَبتهُ أمراً قد كان أشرفَ

ص:686


1- . تاريخ الخميس: 1/341.

عليه.(1)

هذا ويتّفق عامّة المؤرّخين وكتّاب السيرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دخل يثرب يومَ الجمعة، وصلّى صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن وادٍ لهم، وكانت هذه أوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الإسلام، فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها في المدينة، وقد تركت هذه الخطبة البديعة البليغة الّتي لم يسمع أهل المدينة مثيلها لفظاً ومعنى من قبل، أثراً عميقاً وطيّباً في قلوبهم ونفوسهم.

وقد أدرج ابن هشام نصّ الخطبة في سيرته(2)، كما أدرجها المجلسي في بحاره(3) أيضاً.

غير أنّ عبارات ومضامين الخطبة الّتي نقلها ابن هشام وأثبتها في سيرته تختلف عمّا رواها وأثبتها المجلسي، وللاطّلاع على ذلك يراجَع المصدران المذكوران.

***

انتهى الجزء الأوّل من كتابنا

«سيد المرسلين»

والحمد للّه رب العالمين

ص:687


1- . بحار الأنوار: 19/108.
2- . لاحظ: السيرة النبوية: 2/347-348.
3- . لاحظ: بحار الأنوار: 19/126.

ص:688

فهرس المحتويات

الموضوع الصفحة

السيرة المحمَّدية مدرسة الأجيال... 7

مقدّمة المحاضر: التاريخُ في أَعظَم ملاحمه... 11

عندما يلتقي العالم الحاضر بالعالم الغابر... 12

حياة العظماء والخالدين... 15

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وحياة حافلة بالأحداث... 15

مزايا هذا الكتاب... 19

1. سيّد المرسلين في ضوء القرآن الكريم... 21

2. شبه الجزيرة العربية أو مَهْد الحضارة الإسلامية... 34

مَكةُ المعظمة... 36

تاريخ مكّة... 37

المَدينةُ المنوَّرةُ... 37

3. العَرَب قبلَ الإسلام... 42

أخلاقُ العرب وتقاليدُهم العامّة... 44

هل كانَ للعرب حضَارةٌ قبل الإسلام؟... 46

ملامح المجتمع الجاهلي العربي من منظار القرآن الكريم... 49

1. الشِرْكُ في العِبادة... 51

ص:689

الموضوع... الصفحة

2. إنكارُ المعاد... 51

3. هَيْمَنةُ الخرافات... 52

4. الفساد الأخلاقي... 54

5. وَأدُ البنات وإقبارُهن... 55

6. تصوّراتهم الخرافية حول الملائكة... 56

7. كيفية الانتفاع من الأنعام... 56

8. الاستقسام بالأزلام... 57

9. النسيء... 57

10. الربا... 58

صورٌ من الوضع الجاهلي... 59

العقيدة والدين في الجزيرة العربية... 61

عقيدة العرب حول حالة الإنسان بعد الموت... 65

الآداب مرآة أخلاق الشعوب ونفسياتها... 67

مكانة المرأة عند العرب الجاهلية... 68

المرأة ومكانتها الاجتماعية عند العرب... 71

مقارنة بسيطة... 74

العربُ والرُّوح القتالية... 75

الأخلاق العامّة في المجتمع الجاهلي العربي... 77

النزوع إلى الخرافة والأساطير في المجتمع الجاهلي... 79

الخرافات في عقائد العرب في الجاهلية... 82

نماذج من الخرافات في المجتمع الجاهلي... 83

1. الاستسقاء بإشعال النيران... 84

ص:690

الموضوع... الصفحة

2. ضرب الثور إذا عافت البقر الماء... 84

3. كيّ صحيح الإبل ليبرأ السقيمُ... 85

4. حبس ناقة عند القبر إذا مات كريمٌ... 86

5. عَقرُ الإبل عَلى القُبُور... 86

6. التعشير... 87

7. تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي... 87

8. الرتم... 88

9. وطيُ المرأة القتيل الشريف لبقاء وَلَدها... 88

10. طَرْحُ السِنّ نَحو الشَمْس إذا سَقَطَتْ... 89

11. تعليق شيء نجس على الرجل وقاية من الجنون... 89

12. الاستشفاء بدم الرئيس... 90

13. شقّ البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل... 90

14. معالجةُ المرضى بالأُمور العجيبة... 90

15. خرافاتٌ حول الغائب منهم... 92

16. عقائدهُمْ العجيبة في الجنّ وتأثيرُهُ... 93

17. تشاؤمهم بالحيوانات والطيور والأشياء... 93

مكافحةُ الإسلام لهذه الخرافات... 94

أوضاع العرب الإجتماعية قبيل ظهور الإسلام... 97

دُوَل الحيرة وغسّان... 101

الدين في أرض الحجاز... 104

العلم والثقافة في الحجاز... 106

الإمام عليّ عليه السلام يصف العهد الجاهليّ... 106

ص:691

الموضوع... الصفحة

فاطمة الزهراء عليها السلام تصف الوضع الجاهلي... 111

جعفر بن أبي طالب يصف العهد الجاهلي... 112

4. إمبراطوريّتا الرُوم وإيران إبّان عهدِ الرِّسالةِ... 114

أوضاع الروم إبَان عهد الرسالة... 114

ظاهرة الجدل العقيم في المجتمع الرومي... 116

أوضاع إيران إبّان عَهد الرسالة... 119

البَذخ والتَرف في البلاط الساساني... 120

الوضع الاجتماعي في إيران... 121

حَقٌّ التعلّم خاصٌ بالطبقات العليا!!... 123

صفحةٌ سوداءٌ من جرائم خسروبرويز... 127

حكم التاريخ في الملوك الساسانيين... 128

الفوضى في الحكومة الساسانية... 129

الفوضى الدينية في إيران الساسانيين... 131

الحروب الإيرانية الرومية... 135

5. أسلاف رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم... 138

1. بطل التوحيد: إبراهيم الخليل عليه السلام... 138

مولد إبراهيم عليه السلام... 139

إبراهيم ومكافحته للوثنية... 143

حوار إبراهيم الخليل عليه السلام مع عبدة الكواكب... 144

طريقة الأنبياء في الحوار والجدال... 149

هَل كان آزر والدَ إبراهيم؟... 151

القرآن ينفي أُبوّة «آزر» لإبراهيم عليه السلام... 152

ص:692

الموضوع... الصفحة

إبراهيم محطِّم الأَصنام... 154

العِبَر القيمة في هذه القصة... 158

هجرة الخليل عليه السلام... 162

كيف ظهرت عين زمزم؟... 164

تجديد اللقاء... 166

2. قُصَيُّ بنُ كلاب... 168

3. عبدمناف... 170

4. هاشم... 170

أُميّة بن عبدشمس يحسد هاشماً... 173

هاشم يَتَزوَّج... 174

5. عبدُ المطّلب... 175

حَفرُ زَمزَم... 177

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر... 180

حادثة عام الفيل... 182

ماهي أسباب هذه الحادثة؟... 183

عَبدُالمطّلب يَذهب إلى مُعسكر أَبرهة... 187

إنتظار قريش... 188

كلمة حول المعجزة... 190

نقاطٌ تقتضي التأمّل في تفسير «في ظلال القرآن»... 194

نقطتان هامّتان... 196

بحثٌ علميُّ حول المعجزة... 197

1. ماهي المعجزةُ وما هو تعريفها؟... 198

ص:693

الموضوع... الصفحة

2. هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟... 200

3. هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟... 203

4. كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟... 205

5. بماذا نميّز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟... 206

ماذا بَعْدَ هزيمة الأحباش؟... 213

أوهام قريش تتفاقم!!... 214

6. عَبدُ اللّه والدُ النبيّ... 216

دَورُ الأَيادي المشْبُوهَة في تاريخ الإسلام... 218

قِصَّة فاطمة الخَثعَمِيَّة... 219

علائم الإختلاق في هذه القصة!... 221

طهارة النبيّ من دنس الآباء وعهر الأُمّهات... 223

وفاةُ عَبْد اللّه في «يَثْرب»... 224

6. مَولدُ رَسُول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 226

فترةُ الطُفولة في حَياة العُظماء... 226

في أيّ يوم وُلدَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟... 231

أيُّ القولين هو الصحيح؟... 231

فَتْرَةُ الحَمْل... 232

مُؤاخَذاتٌ وإشكالاتٌ عَلى هذا البَيان... 235

الإحتفال بذكرى المولد النبوي... 236

مَراسمُ تسمية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 239

خَطأ الْمُستَشْرقينْ... 240

«أحمد» كانَ مِنْ أسماء النبيّ المشهورة... 241

ص:694

الموضوع... الصفحة

فتْرَةُ الرِّضاع في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 245

نَظرةُ الإسلام في تأثير الرضاع... 247

7. فَتْرةُ الطفُولة في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 249

خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء... 253

8. العَوْدة إلى أحضان العائلة... 255

سَفْرةٌ إلى يثرب... 257

وَفاة عبْدالمُطَّلب... 259

كفالة أبي طالب للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 260

سَفرةٌ إلى الشام... 261

أكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن... 263

نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة... 267

1. داود عليه السلام... 268

2. النبيّ سليمان عليه السلام... 269

3. يعقوب عليه السلام... 270

4. إبْراهيم عليه السلام... 271

5. المسيح عليه السلام... 272

9. فَترة الشَباب في حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم... 275

رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة... 276

حُروبُ الفِجار... 276

حِلْفُ الْفُضُول... 280

10. من فترة الشباب إلى مزاولة التجارة... 284

سبب آخر لرعي الغنم... 286

ص:695

الموضوع... الصفحة

إقتْراح أبي طالب... 287

هل عَمِلَ النبيُّ أجيراً لخديجة؟... 288

رحلة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم التجارية إلى الشام... 289

خَديجة زَوجةُ الرَّسول الأُولى... 291

خديجة في أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم... 294

افتخار أهل البيت بخديجة عليها السلام... 303

العللُ الظاهرية والحقيقية وراء زواج خديجة بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 304

كيفَ تمَّت خِطبةُ خديجة؟... 306

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 308

11. من الزواج إلى البعثة... 311

فَترةُ الشَبابِ في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 312

مشاعر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الإنسانية في فترة الشباب... 313

أولادُ خديجة... 314

حَدْسٌ لا أساس له من الواقع!!... 315

دَعِيُّ رسول اللّه: زيد بن حارثة... 316

بدايةُ الخِلاف بَين الوثنيّين... 317

أعمدةُ الوثنيّة تهتزُّ... 318

نموذج آخر عن ضَعف قريش... 320

أمينُ قَريشُ يَكْفُلُ عَليّاً... 323

إيمان النبيّ وآبائه وكفلائه قبل الإسلام... 324

إيمان جدّه عبدالمطّلب... 324

إيمان كفيله وعمه أبي طالب... 328

ص:696

الموضوع... الصفحة

إيمان والدَي النبيّ الأكرم... 329

إيمان النبيّ باللّه وتوحيده قبل البعثة... 331

شبهات المستشرقين على عدم إيمان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة... 336

الآيةُ الأُولى: الهداية بعد الضلالة... 337

الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز... 340

الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب والإيمان... 342

تفسير الآية بآية أُخرى... 346

الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب اليه... 349

الآية الخامسة: لو لم يشأ ما تلوته... 351

12. بدء الوَحْي... 354

دَور الأنبياء في إصلاح المجتمع... 357

مثالٌ واضح في المقام... 358

أمين قريش في غار حِراء... 361

بدء الوحي... 363

ظاهرة القضايا الغيبيّة في رأي الماديّين... 364

الروح المجرّدة... 366

ظاهرة الوحي عِند الماديّين... 367

أبرز النظريات المادّية لظاهرة الوحي... 368

ظاهرةُ الوحي في منظار العقل والدين... 377

قنواتُ المعرفة الثَلاث... 378

أنواع الوحي وأصنافه... 380

أساطيرُ مختَلقة... 381

ص:697

الموضوع... الصفحة

بقية حادثة نزول الوحي... 382

خديجة تذهب إلى ورقة بن نوفل... 383

بُطلانُ هذه المزاعم... 385

13. متى نزل الوحي أوّلاً؟... 388

ما أجاب به علماء الشيعة... 389

الأنبياء والبشارة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 393

محمَّد خاتم الأنبياء... 396

14. ما سَبَقني أحدٌ... 398

أوَّلُ من آمنَ بالنبيَّ منَ الرجال والنِّساء... 398

مِنَ النساء: «خديجة»... 398

أقدمُ الرجال إسلاماً: «عليّ» عليه السلام... 399

النصوص النبوية... 404

كلمات أمير المؤمنين عليه السلام... 406

كلمة الإمام السبط الحسن عليه السلام... 410

رأي الصحابة والتابعين في أوّل مَن أسلم... 410

مناظرة بين المأمون وإسحاق... 426

قضيّةُ «انقطاع الوَحْي»... 427

أُسطورة وليس تاريخاً!... 429

اختلافُ المؤرّخين في مسألة «انقطاع الوحي»... 430

الإختلاف في مدة انقطاع الوحي... 434

15. الدَعْوَةُ السِرِّيَّة ودَعوَةُ الأقربين... 436

دَعْوةُ الأَقْرَبيْن... 438

ص:698

الموضوع... الصفحة

كيفيّة دَعوة الأقربيْن... 442

خِيانةٌ تاريخيّةٌ و جِنايَةٌ أدبيّة!!... 444

النبوّة والإمامة توأمان... 446

16. الدعوة العامّة... 448

الثباتُ والإستقامة على طريق الهدف... 449

ثَباتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وَصَبرُهُ... 450

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة... 453

قريش تحاولُ تطميع رسول اللّه!... 453

نماذجٌ من إيذاء قُريش وتعذيبها للمُسلمين... 455

أبوجهل يكمُن لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 460

أبولهب يؤذي رسول اللّه... 461

صبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واستقامته... 462

إيذاء المسلمين وتعذيبُهم!... 462

1. بلال الحبشي... 463

2. آلُ ياسر رمز الصمود والمقاومة!... 464

3. عَبدُاللّه بن مسعود... 466

4. أبوذر: أوّل المجاهرين بالإسلام... 467

قبيلةُ غِفار تعتنق الإسلام... 469

أعداء النبيّ الألدّاء... 471

عمر بن الخطاب يعتنق الإسلام... 472

17. رأي قريش في القرآن... 477

رأي الوَليد في القرآن... 477

ص:699

الموضوع... الصفحة

رأي عتبة بن ربيعة في القرآن... 479

تحجّجاتُ قريش العجيبة... 481

الدوافع وراء معاداة قريش وعنادهم... 488

1. حَسَدُهُمْ للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 488

2. معارضة الدعوة الإسلامية لشهواتهم... 490

3. الخَوفُ مِن عُقُوبات اليوم الآخر... 490

4. الخَوفُ مِن القَبائل العَربية المشركَة... 491

طائفةٌ مِن اعتراضات المشركين... 492

القُرآن والنُزُولُ التدريجيّ... 492

الأسرارُ المنطقيّة للنُزول التدريجي للقرآن... 495

أسرارٌ أُخرى لِنُزُول القرآن تدريجاً... 498

18. إلى الحبشة... 501

الهجرة الأُولى... 501

الهجرة الثانية إلى الحبشة... 505

قريش توفد رجالاً لاسترداد المسلمين... 506

العَودةُ من الحبشة... 512

وفدٌ مسيحيٌ لتقصّي الحقائق يدخل مكّة... 514

وفد قريش إلى يهود يثرب للتحقيق... 515

19. الأسلحةُ الفاشلة والأساليب الباطلة... 517

1. الاتّهاماتُ الباطلة... 518

الإصرار في نسبة الجنون إليه صلى الله عليه و آله و سلم... 522

القرآن يرد على جميع الاتهامات... 524

ص:700

الموضوع... الصفحة

2. فكرةُ معارضة القرآن... 526

3. تحجّجات صبيانيّة وجاهليّة... 528

4. مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة... 530

صبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واستقامته وثباته... 531

معاجز النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم تنحصر في القرآن الكريم... 532

1. شقّ القمر... 532

2. الإسراء والمعراج... 533

3. مباهلة أهل الباطل... 533

4. الإخبار بالمغيبات... 533

حرص النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على هداية قريش... 534

5. تحريم المشركين استماع القرآن... 536

واضعو القرار ينقضون قرارهم!!... 537

6. منع الأشخاص من الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 538

الأوّل: الأعشى بن قيس... 538

الثاني: الطُفيل بن عَمرو الدوسيّ... 540

20. أُسطورة الغرانيق... 542

ماهي أُسطورة الغرانيق؟!... 543

محاسبة بسيطة لهذه الأُسطورة... 544

رأي العقل في هذه القصة... 545

تكذيب القِصَّة من طريق آخر... 547

دَليلٌ لغَويٌّ على تفنيد هذه الأُسطورة... 548

شبهات للمستشرقين والرد عليها... 550

1. ما هو المقصود من تمنّي الأنبياء والرُسل؟... 551

ص:701

الموضوع... الصفحة

2. ما هو المقصود من تدخّل الشيطان؟... 551

3. ما هو المقصود من محو آثار التدخّل؟... 553

21. الحصار الاقتصادي والاجتماعي... 555

قريش تحاصر النبيّ والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً... 556

وضع بني هاشم المأساوي في الشِعب... 559

22. أبو طالب رجل الإيمان والتضحيات... 567

نماذج من مشاعر أبي طالب ومودّته للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 570

التغيير في برنامج السفر... 573

أبو طالب والدِفاعُ عن حوزة العقيدة والإيمان... 574

تصَوّرٌ باطلٌ... 576

الدافع الحقيقيّ لأبي طالب في دفاعه عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 577

لمحات من تضحيات أبي طالب... 578

تكفير أبي طالب قضيّةٌ ذات بواعث سياسيّة... 580

الأدِلّة على إيمان أبي طالب، وفيها ثلاث طرق... 581

الطريق الأوّل: آثار أبي طالب العلميّة والأدبية... 582

الطريق الثاني: دفاع أبي طالب عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته له... 584

وصية أبي طالب عند وفاته... 585

الطريق الثالث: رأي أقربائه وأصدقائه... 586

رأي علماء الشيعة في أبي طالب... 588

نظرة إلى حديث «الضحضاح»... 588

1. ضعف أسناد هذه الرواية... 589

2. نصّ حديث الضحضاح يخالف الكتاب والسنّة... 590

23. المعراج... 593

ص:702

الموضوع... الصفحة

المعراج في نظر القرآن والسنّة والتاريخ... 593

هل للمعراج جذور قرآنية؟... 596

أحاديث المعراج... 598

متى وَقَعت هذه الحادثة؟... 599

هل كان المعراج جسمانياً؟... 602

ما هو المراد من المعراج الروحاني؟... 603

نَغمةٌ شاذةٌ: هل كان المعراج بالبدن البرزخي؟... 606

المعراج وقوانين العلم الحديث... 607

ما هو الهدفُ من المعراج؟... 612

24. سفره صلى الله عليه و آله و سلم إلى الطائف... 614

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعود إلى مكّة... 618

الدعوة في أسواق العرب... 621

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج... 622

25. بيعة العقبة... 624

وقعة بُعاث... 626

تفصيل الحادث... 627

بيعة العقبة الأُولى... 628

بيعة العقبة الثانية... 629

أوضاعُ المسلمين بعد بيعة العقبة... 632

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة... 635

تأثير الإسلام ونفوذه المعنوي... 637

مخاوف قريش المتزايدة... 640

حوادث السنة الأُولى من الهجرة... 643

26. قصّة الهجرة... 643

ص:703

الموضوع... الصفحة

الإمدادات الغيبية والعنايات الإلهية... 645

ملك الوحي يخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخطّة قريش لاغتياله... 647

إقتحام الأعداء لبيت الوحي... 650

النبيُّ في غار ثور... 652

قريش تفتش عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 652

الإمام علي عليه السلام والتفاني في سبيل الحق... 653

كلام من ابن تيمية حول مبيت الإمام علي عليه السلام في فراش النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 657

الجواب التفصيلي... 659

الخطيب وقضية المبيت... 661

بقية قصةِ هجرةِ النبيّ... 662

الخروج من الغار... 665

صفحةُ التاريخ الأُولى... 665

لماذا أصبح العامُ الهجريُ مبدأ للتاريخ؟... 666

الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافّة... 667

مَن الّذي جعل الهجرة مبدأً للتاريخ؟... 670

نماذج من رسائل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والصحابة المؤرّخة... 670

مؤامرة الطاغوت... 677

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يبدأ رحلته إلى يثرب... 677

النزول في قرية قباء... 680

المدينة تهبُّ لقدوم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 682

النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يدخُلُ المدينة... 684

أصل النفاق ومنشؤه... 686

فهرس المحتويات... 689

ص:704

المجلد 2

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar

عنوان و نام پديدآور:سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله: دراسه موضوعیه لحیاه الرسول الاکرم.../ جعفر السبحانی؛ بقلم جعفر الهادی.

مشخصات نشر:قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1441ق.= 1399.

مشخصات ظاهری:2ج.

شابک:دوره:978-964-357646-2 ؛ ج.1:978-964-357647-9 ؛ ج.2:978-964-357648-6

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

موضوع:محمد(ص)، پیامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11ق.

موضوع:Muhammad, Prophet, d. 632

موضوع:غزوات

موضوع:Ghazavat

موضوع:سنت نبوی

موضوع:*Wonts of the Prophet

موضوع:اسلام -- تاریخ -- از آغاز تا 11ق

موضوع:Islam -- History -- To 632

شناسه افزوده:هادی، جعفر، 1325 - 1399.

شناسه افزوده:Hadi, Ja’far

رده بندی کنگره:BP22/9

رده بندی دیویی:297/93

شماره کتابشناسی ملی:6181606

وضعيت ركورد:فیپا

ص :1

اشارة

سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله: دراسه موضوعیه لحیاه الرسول الاکرم...

جعفر السبحانی؛ بقلم جعفر الهادی

ص:2

هويّة الكتاب

سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم

دراسة موضوعية لحياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وما رافقها من أحداث تاريخية ودينية وسياسية وعسكرية واجتماعية

محاضرات

العلّامة المحقّق

الشيخ جعفر السبحاني

بقلم

جعفر الهادي

الجزء الثاني

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:3

سبحانى تبريزى، جعفر 1308 -

سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم / تأليف جعفر السبحاني؛ تعريب جعفر الهادي. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1399.

2 ج. (VOL.2) 6-648-357-964-978 ISBN

(2VOL.SET) 2-646-357-964-978 ISBN

فهرست نويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زير نويس.

1. محمد صلى الله عليه و آله و سلم، پيامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11 ق -- سرگذشت نامه. الف. هادى، جعفر، 1325 - مترجم. ب. مؤسسه امام صادق عليه السلام. ج. عنوان.

9 س 2 س/ 22/9 BP 93/297

1399

اسم الكتاب:... سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم / ج 2

المؤلف:... العلّامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني

بقلم:... الأُستاذ الشيخ جعفر الهادي

الموضوع:... السيرة النبوية

الطبعة:... الأُولى

تاريخ الطبع:... 1399 ه. ش / 1441 ه ق/ 2020 م

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

القطع:... وزيري

عدد النسخ:... 1000

التنضيد والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1073 تسلسل الطبعة الأُولى: 508

حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة، فلا يجوز شرعاً استنساخ أو نشر اصدارات

المؤسسة إلّابعد التنسيق مع المؤسسة واستحصال الموافقة الرسمية

توزيع: مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

? 37745457؛ 09121519271

www.shia.ir

www.tohid.ir

http://www.imamsadiq.org

ص:4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

ص:5

ص:6

مقدمة المؤلّف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

مُميّزات النهضة الإلهية وخصائصها

خصيصة «الخلود» والعمق في شخصية رسول الإسلام

تُشبّهُ نهضة «الأنبياء» الإلهية الّتي قام بها رسلُ اللّه وسفراؤه لتخليص البشرية من براثن الأوهام، والخرافات، ولإنقاذها من جور المستكبرين وظلم الظالمين أكثرَ شيء، بأمواج البحر الّتي تبدأ بدوائر صغيرة محدودة، ولكنّها كلّما ابتعدت عن مركز الدائرة ازدادت اتّساعاً واتّساعاً، واشتدّت قوّتها أكثر فأكثر.

إنّ الإنقلاب المعنويّ العريض والتحوّل الروحيّ العظيم الّذي وُضِعت أُسُسُه في أرض مكّة على يدي رسول الإسلام العظيم، أضاء بشعاعه و نوره الباهر في اليوم الأوّل غار حراء ثم منزل خديجة وبعض البيوت المتواضعة في مكّة فقط، ولكنّه اتّسع نطاقه بمرور الزمان، حتّى عمَّ في مدّة ليست بالطويلة شرق الأرض وغربها، ودوّى نداءُ التوحيد في منطقة واسعة جدّاً من العالم (ابتداء من

ص:7

فرنسا وانتهاءً بجدار الصين وما وراءه)(1).

إن مُؤسّسي هذا النوع من النهضات الدينية(2) يتمتعون - من حيث الأخلاق والفضائل الإنسانية - بخصيصة الخلود واللانهاية فإنّ الزمن يكشف

ص:8


1- . كتبت هذه المقدّمة وما بعده خلال تواجدي في الصين عام 1408 ه، وقد جئت إليها في مهمّة استطلاعية وتبليغية إسلامية، وقد زرت في نفس الفترة الّتي كنت فيها مشتغلاً بكتابة هذه المقدّمة المسجد الجامع في (بكين) العاصمة، والتقيت بإمام ذلك المسجد الّذي رحَب بي وبمَن كان معي أشدّ ترحيب، وأتحفني بنسخة من ترجمة القرآن الكريم باللغة الصينية، وزرت خلال وجودي في ذلك المسجد قبر رجلين مسلمين من إيران أحدهما تاجر، والآخر عالم جاءا إلى الصين في القرن السادس الهجري، ونشرا الإسلام في بكين وما حولها، وقد نصبت عند قبرهما لوحتان من المرمر نقش عليهما اسمهما، وخصوصياتهما بالأحرف العربية. وهناك تذكرت حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «اطلبوا العلم ولو بالصين». قلت في نفسي: لعلّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يقصد فيما يقصد في هذا الحديث دفع المسلمين إلى نشر مبادئ الإسلام في تلك البلاد العريضة الّتي تضم خمس سكان العالم. وقد قام المسلمون الغيارى على دينهم، الحريصون على نشره وبثّه بهذه المهمّة فيما سبق وأدوا ما كان عليهم. فماذا فعلنا نحن؟ وهل ترى يجوز أن يجهل خمس سكان العالم دين اللّه، ولا ينعموا بخيراته؟! أم هل ترى يجوز في شريعة الانصاف أنّ يعاني ذلك الشعب الكبير من الأباطرة الطغاة في الماضي، ومن الأنظمة والآيديولوجيات الجائرة الملحدة في الحاضر، هذا والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يحرص على هداية فرد واحد، والقرآن يقول: «وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً»؟؟ هل خُصّصت نهضة الأنبياء الإلهية برقعة صغيرة من الأرض هي الجزيرة العربية، وما حولها؟ أمّ أنّها رحمة للعالمين جميعاً؟ سؤال نطرحه على أبناء الإسلام دعاةً ورعايا، حكومات و شعوباً لعلّهم يتفكّرون؟ (جعفر الهادي).
2- . المقصود من الدين هو المنهاج الواسع الشامل الّذي يتكفّل سعادة البشرية في الحياتين الدنياوالأُخرى وليس مجرّد سلسلة من الطقوس الفارغة الخاوية كما هو الحال في المسيحية الحاضرة.

باستمرار عن أبعاد أوسع و آفاق جديدة من شخصياتهم فهي تتّسع كلّما تقادم بها العهد تماماً كأمواج البحر، وكأنّ الأنبياء نسخة ثانية من الطبيعة، فكما أنّنا كلّما أمعنا النظر أكثر في الطبيعة ظهرت لنا منها حقائق أكثر، وانكشفت لنا رموز وأسرار جديدة لم نعهدها من قبل فهكذا شخصيات الأنبياء والمرسلين، وسفراء اللّه إلى البشرية.

وتتجلّى هذه الحقيقة أكثر فأكثر كلّما تعاظمت شخصية من تلك الشخصيات.

وخلاصة القول: إنّنا كلّما ازددنا تعمّقاً وإمعاناً فيهم، اكتشفنا أسراراً كثيرة، وحقائق جديدة عن حياتهم.

ويدلّ على كلامنا هذا تلك المؤلّفات الكثيرة الوافرة الّتي كتبها علماء التاريخ وأصحاب السير، قديماً وحديثاً، حول رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم ولكن مع ذلك كلّه كلّما تقادم العهد به، و كلما اتسعت النظرات وازدادت عمقاً، اكتشف المحققون مزيداً من الآفاق، وجديداً من الابعاد في هذه الشخصية الإلهية.

ولقد كان تعاطي السيرة النبوية والحديث حولها في البداية منحصراً (أو بالأحرى مقتصراً) على مشاهدات أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومسموعاتهم.

ومع ظهور جيل جديد يُدعى بالتابعين بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم اتّخذت الأحاديث والسنن الإسلاميّة، وتفاصيل الحياة النبويّة، وقصص غزواته وحروبه رونقاً جديداً، وأحسّ الجيل الجديد برغبة شديدة في أخذ الأحاديث الإسلامية، والتعرّف على الحوادث الّتي وقعت في عصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وأيّام حياته من مولده إلى وفاته.

وكلّما ازدادت حالات الوفاة، في أوساط الصحابة والتابعين الذين كانوا

ص:9

يشكّلون المنبع الأوّل والمصدر الأصيل لهذا النوع من العلوم الإسلامية، اتّسع الاهتمام بالسيرة وما شابهها وتعاظمت الرغبة فيها وتزايد عطش المسلمين إلى أخذ ومعرفة الأحاديث الّتي تتضمّن بيان خصوصيات حياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم، وجزئيات سيرته الطاهرة. هذا من جانب.

ومن جانب آخر كان تشدّد الخليفة الثاني(1)، ومنعه عن كتابة أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد أوجب أن يندثر كثير من الأحاديث الإسلامية، الّتي سمعها بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وتدفن تحت التراب بموتهم.

ولقد استمر منع الخليفة عن كتابة الحديث النبوي وبقيّ ساري المفعول لمدة طويلة بعد وفاته(2)، حتّى أتى إلى الحكم خليفة معتدل السيرة من الأمويين هو: «عمر بن عبدالعزيز» فأمر - في رسالةٍ وجّهها إلى أبي بكر بن حزم حاكم المدينة وقاضيها - بكتابة أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خوفاً من اندراس العلم وزواله(3).

المصادر الأُولى والأصيلة للكتابة عن سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

ومن حسن الحظ أنّ الخليفة الثاني لم يمنع إلّامن تدوين وكتابة الأحاديث النبويّة، فلم يشمل هذا المنع كتابة الحوادث والوقائع الّتي وقعت في عصر الرسالة.

ولهذا أُلِّفت في تلك الفترة كتبٌ كثيرة عن حياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم، وأوّل مَن كتب حول وقائع عصر الرسالة، وأرّخ حوادث الصدر الأوّل من الإسلام هو:

ص:10


1- . لاحظ: تقييد العلم للخطيب البغدادي: 48-53.
2- . لم يترك نهي الخليفة أي أثر على علماء الشيعة الذين كانوا يتبعون عليّاً عليه السلام، فقد عمدوا في فترة محدودة إلى تدوين وضبط الأحاديث، وحفظوا كنوزاً عظيمة من علوم أهل البيت النبوي. للتوسّع في هذا المجال راجع كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام».
3- . لاحظ: إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 1/195 و 196.

«عروة بن الزبير بن العَوّام» الصحابي المعروف الّذي توفّي عام 92 أو 96 من الهجرة(1).

ثمّ عمد بعده جماعة في المدينة وآخرون في البصرة إلى جمع وتدوين تفاصيل السيرة، وحروب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وغزواته، وبيان هذا الأمر على نحو التفصيل خارج عن نطاق هذه الدراسة.

ولقد كانت هذه الكتب والمؤلّفات هي المنبع والأساس للكتب الّتي دوّنت فيما بعد في صورة كتب السيرة النبويّة، أو تاريخ الإسلام.

وقد بدأ تدوين سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بشكل جميل وبصورة بديعة منذ أوائل المنتصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وكان من بين مَنْ قام بجهد مشرّف ومشكور في هذا المجال العالمُ الشيعيُ الكبير محمد بن إسحاق (المتوفّى عام 151 ه) فهو أوّل مَن استخرج تفاصيل الوقائع الإسلامية من كتب الماضين، ومن ثنايا رواياتهم و منقولاتهم وألّفها وأخرج شيئاً جامعاً حول السيرة النبويّة إلى عالم الكتب والمؤلّفات.

كما أنّ أوّل مَن ضبط ودوَّن غزوات رسول الإسلام بشكل مفصّل هو الواقدي صاحب «المغازي» و «فتوح الشام» (المتوفّى عام 207 ه)(2).

ص:11


1- . تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 233. اختلفت الأقوال في مَن هو أوّل مَن صنّف في علم المغازي والسير في الإسلام. فقال السيوطي في كتاب الأوّليات بأنّه عروة بن الزبير. وقال الأفندي في «كشف الظنون» إنّه محمد بن إسحاق. والحقّ إنّه لا الأوّل ولا الثاني بل عبيد اللّه بن أبي رافع فإنّه تقدّمهما في التصنيف في السير والمغازي.
2- . عدّ الشيخ الطوسي في رجاله ابن إسحاق من تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وتوجد نسخة

وقد لُخّصت سيرة ابن اسحاق على يد ابن هشام أبي محمد عبدالملك (المتوفّى عام 218 ه) و عرفت فيما بعد بسيرة ابن هشام (أو السيرة الهشامية) وهو الآن معدود من مصادر التاريخ الإسلامي و سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم الموثّقة.

ولو أنّنا تجاوزنا هذه الشخصيات لكان لشخصيّتين أُخريين سهمٌ كبيرٌ في تدوين وتسجيل تاريخ حياة رسول الإسلام وهما:

1. محمد بن سعد الكاتب الواقدي (المتوفّى عام 230 ه) مؤلّف «الطبقات الكبرى» الّذي أورد فيه سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه على نحو التفصيل.

وقد طبع هذا الكتاب في لندن مؤخراً، كما أعيد طبعه في لبنان في 9 مجلدات.

2. محمد بن جرير الطبري (المتوفّى عام 310 ه) مؤلّف كتاب «تاريخ الأُمم والملوك».

على أنّ تثمين جهود هذه الثلّة من الكتّاب والمؤلّفين لا يعني بالضرورة أنّ كلّ ما أدرجوه في مؤلّفاتهم هو الثابت الصحيح، بل تحتاج مؤلّفاتهم - كغيرها من المؤلّفات، والكتب - إلى التحقيق الواسع والتمحيص الدقيق.

ثم إنّ حركة التأليف حول شخصية رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وسيرته استمرت بعد ذلك طيلة القرون الإسلامية اللاحقة. ونحن اليوم أمام مكتبة زاخرة من الكتب، والدراسات، المختلفة في أحجامها ومستوياتها، والمتنوعة في طرائقها و أساليبها، الّتي أُلفت حول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهذا إنّما يدلّ على خصيصة العمق واللانهاية الّتي اتّسمت بها شخصية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الخالدة العظيمة.

ص:12

وقد أراد صاحب هذه الدراسة أن يقدم للجيل الحاضر شرحاً ناطقاً عن حياة رسول الإسلام العظيم، في حدود ما تسمح به إمكاناته المحدودة، ولم يأل جهداً - لتحقيق هذا الهدف على وجه أفضل - في مراجعة كتب الفريقين المعتبرة، وإن اكتفى بذكر عددٍ قليل من المصادر عند التأليف، وقد بيّنا عذرنا من هذا في الجزء الأوّل من هذه الدراسة.

ولقد تناول الجزءُ الأول من هذا الكتاب حوادث مكّة من بدء نشأتها إلى نهاية السنوات الثلاث عشرة الأُولى من عصر الرسالة أي ما قبل الهجرة، وها هو الجزء الثاني وهو يتناول حوادث العشر سنوات للهجرة الشريفة، ومن اللّه التوفيق.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

21 شعبان 1392 ه

ص:13

حوادث السنةِ الأُولى من الهجرة

اشارة

حوادث السنةِ الأُولى من الهجرة(1)

27 أوَّل عمل إيجابي للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة

عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم

حملت وجوه فتية الأنصار المستبشرة، المبتهجة، بمقدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والاستقبال العظيم الّذي قام به أغلبية الأوسيّين والخزرجيّين له حملته صلى الله عليه و آله و سلم، على أن يعمد قبل أي شيء إلى تأسيس مركزٍ عامٍ لتجمّع المسلمين فيه في الأوقات المختلفة، وللقيام بالأعمال التربوية والتثقيفية، والسياسية والعسكرية في رحابه.

كما أنّ عبادة اللّه الواحد تقع في طليعة البرامج الّتي جاء بها رسول الإسلام، ولذا رأى من اللازم أن يعمد قبل أي عمل آخر إلى بناء مسجد للمسلمين حتّى يتسنّى لهم أن يعبدوا اللّه ويذكروه فيه في أوقات الصلوات.

أجل كانت الحاجة إلى مثل هذا المركز شديدة فلابد من مكان ليجتمع

ص:14


1- . لابدّ أنّك أيّها القارئ الكريم تتذكّر جيداً أنّنا قصدنا من السنة الأُولى للهجرة الأشهر العشرة المتبقية الّتي قضى رسول اللّه شهرين منها في مكّة وحط في الباقي من شهرها الثالث (أي ربيع الأوّل) على أرض يثرب، بناء على هذا تكون السنة الأُولى من الهجرة تسعة أشهر تقريباً، وتبدأ السنة الهجرية الثانية من شهر محرّم الحرام (وليس من الثاني عشر من ربيع الأوّل).

أعضاء حزب الإسلام (حزب اللّه) كلّ أُسبوع في يومٍ معيّنٍ فيه، ويتشاوروا في شؤون الإسلام والمسلمين ومصالحهم، وليجتمع فيه عامّة المسلمين مضافاً إلى هذا اللقاء الأُسبوعيّ مرّتين كلّ عام لأداء صلاة العيد، فكان المسجد الّذي بناه كأوّل عمل قام به بعد قدومه المدينة.

فلم يكن المسجد على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للعبادة فقط بل كانت تلقى فيه كلّ أنواع العلوم والمعارف الإسلامية الشاملة للأُمور التربوية وغيرها.

لقد كان يعلّم فيه كلّ التعاليم والمواد الدينية والعلمية، حتّى الأُمور المرتبطة بالقراءة والكتابة.

وقد بقيت أغلب المساجد على هذا المنوال حتّى مطلع القرن الرابع الهجريّ الإسلاميّ، فقد كانت في غير أوقات الصلاة تتحوّل إلى مراكز لتدريس العلوم المتنوّعة(1).

وربما اتّخذ مسجد المدينة صورة المركز الأدبيّ، عندما كان يُلقي فيه كبار فصحاء العرب وبلغاؤهم قصائدهم المنسجمة مع التعاليم الأخلاقية والمعايير الإسلامية بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما فعل «كعب بن زهير» إذ ألقى قصيدته المعروفة ب «البردة» عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد، وأعطاه النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم صلة جيّدة، وخلع عليه بخلعة عظيمة(2).

ص:15


1- . راجع صحيح البخاري: ج 1 كتاب العلم، بل حتّى عند فصل المراكز العلمية عن المساجد في ما بعد، بقيت المدارس تبنى وتشيَّد إلى جانب المساجد فكان هذا العمل يجسد الصلة الوثيقة بين العلم والدين.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 939/4 قال: أنشد كعب بن زهير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد: بانت سعاد.

أو كما كان يفعل «حسّان بن ثابت» الّذي كان يدافع بشِعره عن حوزة الإسلام والمسلمين إذ كان يلقي بعض قصائده في المسجد عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد كانت مجالس الدرس والتعليم في مسجد المدينة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تتسم بروعة كبيرة بحيث عندما شاهد وفد ثقيف مشهداً من مشاهدها انبهروا به، وعجبوا بشدة لاهتمام المسلمين بتعلّم الأحكام واكتساب المعارف والعلوم(1).

كما أنّه كانت تمارَس الأُمور القضائية والفصل بن الخصومات، وإصدار الحكم على المجرمين في المسجد، فكان المسجد يومذاك بمنزلة محكمة (بكلّ معنى الكلمة) أي أنّها تقوم بكلّ ما تقوم به المحاكم اليوم.

هذا مضافاً إلى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يلقي خطبه الحماسية والجهادية لتعبئة المسلمين من أجل مجاهدة الكفّار والمشركين في المسجد.

ولعلّ من حكمة الاجتماع في المسجد لأجل تحصيل المعارف وتعلّم العلوم هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أراد بذلك أن يثبت عملياً أن العلم والدين توأمان لا ينفكان، فكلّما كان هناك مركز للإيمان وجب أن يكون محلّاً للعلم أيضاً.

وأما ممارسة القضاء والقيام بالخدمات الاجتماعية، واتّخاذ القرارات العسكرية في المسجد فقد كان لأجل أن يعلن للجميع بأنّ دينه ليس مجرّد أمرٍ معنوي لا يتّصل بالأُمور الدنيوية ولا تهمه قضايا الحياة وشؤون المعيشة المادّية، بل هو دينٌ شاملٌ كاملٌ لا يحضّ الناس على التقوى، ولا يدعوهم إلى الإيمان إلّاويهتم أيضاً بشؤونهم المعيشية وإصلاح أوضاعهم الاجتماعية.

فليس هو بالتالي يهتمُّ بجانب ويُغفِلُ جانباً، بل هو دين شامل جامع يتكفّل الأُمور

ص:16


1- . تاريخ الخميس: 136/2.

المادّية والمعنوية معاً.

ولقد كان هذا التلاقي والانسجام (بين العلم والإيمان) محطَّ اهتمام المسلمين ونصب أعينهم دائماً حتّى بعدما اتّخذت المراكزُ التعليمية والمؤسساتُ العلمية البحتة شكلاً مستقلّاً وصار لها محلٌ خاص تُدرّس فيه، فإنّهم ظلّوا يبنون الجامعات إلى جانب الجوامع ويشيّدون المعاهد إلى جانب المساجد، ليثبتوا للعالم أنّ هذين الأمرين اللّذين يكفلان إسعاد الحياة والإنسان لا يمكن أن ينفصلا، ويبتعد بعضهما عن بعض.

مع عمّار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ

لقد ابتاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأرضَ الّتي بركت فيها ناقته يوم قدومه المدينة، من أصحابها بعشرة دنانير لإقامة مسجد فيها. واشترك كافّة المسلمين في تهيئة موادّه الإنشائية وبنائه، وعمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسُه في تشييده أيضاً، فكان صلى الله عليه و آله و سلم ينقل معهم اللبن، والحجارة، وبينما هو صلى الله عليه و آله و سلم ذات مرة ينقل حجراً على بطنه استقبله «أُسيدُ بن حضير» فقال: يا رسول اللّه إعطني أحمله عنك.

قال صلى الله عليه و آله و سلم: لا، إذهَب فاحمِل غيرَه(1).

وبهذا الأُسلوب العملي كشف رسول الإسلام العظيم عن جانب من برنامجه الرفيع، إذ بيّن بعمله أنّه رجل عمل وليس رجل قول، رجل فعل وليس رجل كلام، وكان لهذا الأُسلوب الأثر الفعّال في نفوس أتباعه.

فقد أنشد أحد المسلمين بهذه المناسبة يقول:

ص:17


1- . بحار الأنوار: 112/19.

لَئِن قَعَدنا وَالنبيّ يعمَلُ فذاكَ مِنّا العمل المضَلّل(1)

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يردّد وهو يبني ويعمل: لا عيش إلّاعيش الآخرة، اللهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة.

وقد كان «عثمان بن عفان» ممّن يهتمّ بنظافة ثيابه، ويحرص على أن يمنع عنها الغبار والتراب، فلم يعمل في بناء المسجد لهذا السبب، فأخذ عمّار ينشد أبياتاً تعلّمها من أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام، وفيها تعريض بمَن لا يعمل ويحرص على ثيابه أن لا تتّسخ بالغبار:

لا يستوي مَن يَعمرُ المساجدا يَدأبُ فيها قائماً وقاعِدا

ومن يُرى عنِ الغُبارِ حائدا(2) وقد أغضب مفادُ هذه الأبيات عثمان بن عفان، فقال لعمّار مهدّداً: قد سمعتُ ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية، واللّه إنّي لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك، أي أضربك بها، وفي يده عصا!!

فلمّا عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكلام عثمان غضب وقال:

«ما لَهُم وَ لِعَمّار، يَدعوهُم إلى الجنّة، وَيَدعُونَه إلى النار.

إنَّ عماراً جلدةُ ما بين عينيّ وأنفي...»(3).

ص:18


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 344/2، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، مصر - 1383 ه.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 344/2؛ تاريخ الخميس: 345/1؛ والسيرة الحلبية: 76/2. ومع أنّ ابن إسحاق صرّح باسم عثمان بن عفان ولكن ابن هشام الّذي لخّص سيرة ابن إسحاق امتنع عن تسمية عثمان. وقال صاحب المواهب اللدنية: المراد في هذه الأبيات عثمان بن مظعون، راجع هامش سيرة ابن هشام أيضاً.
3- . تاريخ الخميس: 345/1.

وكان «عمّار» فتى الإسلام القوي، يحمل قدراً كبيراً من اللبن والأحجار في بناء المسجد ولا يكتفي بحمل شيء قليل منها.

فكان البعض يستغل طيب قلبه وإخلاصه فيثقله باللبن والأحجار.

ويروى أنّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم جعل يحمل كلّ واحد لبنة لبنة وعمّار يحمل لبنتين لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم محبة منه لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1).

وذات مرّة رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد حمّلوه ثلاث لبنات أو أحجار ثقيلة، فشكا إليه عملهم وقال: يا رسول اللّه قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون فنفض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفرته(2) وكان رجلاً جعداً وهو يقول قولته التاريخية:

«ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، إنّما تقتلك الفئة الباغية»(3).

وقد كان هذا الخبرُ الغيبي من الدلائل القوية على نبوّة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم وصدق دعواه، وصحّة إخباراته، فقد وقع ما أخبره كما أخبر، فقد قتل «عمّار» وهو في التسعين من عمره في معركة صفّين عندما كان يقاتل جيش الشام بين يدي علي عليه السلام، فقتله حزب معاوية، وقد أحدث هذا الخبر الغيبي أثراً عجيباً في حياة المسلمين، ققد جعله المسلمون معياراً لمعرفة الحقّ، أي كانوا يعرفون حقّانية أي جهة من الجهات وأي طرف من الأطراف في الصراعات والنزاعات بانضمام عمّار إليه.

وعند ما قُتِلَ عمّار في ساحة القتال بصفّين، دبّ في أهل الشام اضطراب عجيب.

ص:19


1- . السيرة الحلبية: 71/2، البداية والنهاية: 217/2.
2- . أي شعر رأسه.
3- . المصدران السابقان.

فالذين كانوا في شكّ في حقّانية عليّ عليه السلام وموقفه في هذه الحرب بفعل الدعاية المضادّة الّتي كان يقوم بها معاوية ومساعده عمرو بن العاص ضد الإمام قد انتبهوا إلى خطائهم وعرفوا بمقتل «عمّار» على أيدي أنصار معاوية بأنّ علياً على حقّ وأنّ معاوية وجماعته هي الفئة الباغية الّتي أخبر عنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ومن هؤلاء «خزيمة بن ثابت» الأنصاريّ الّذي خرج مع الإمام عليّ عليه السلام لقتال معاوية، ولكنّه كان متردّداً في مقاتلته، بيد أنّه جرّد سيفه بعد مقتل «عمّار» على أيدي أهل الشام، وحمل عليهم(1).

ومنهم «ذوالكلاع» الحميري الّذي خرج على رأس عشرين ألف مقاتل وهم تمام رجال قبيلته، مع معاوية لمحاربة الإمام عليّ عليه السلام، وكان معاوية يعتمد على نصرته اعتماداً كبيراً، حتّى أنّه لم يقدم على اتّخاذ قرار الحرب إلّابعدَ أن اطمأنَّ إلى تأييده له، ومشاركته في قتال علي عليه السلام.

فقد صُدِمَ القائد المخدوع بشدّة عندما سمع بوجود «عمّار» في معسكر الإمام «علي».

فأرادَ رجالُ معاوية أن يموِّهُوا الأمر، ويشوشوه عليه فقالوا: ما لعمّار ولصفّين؟ فذلك ما يقوله أهل العراق وما يبالون من الكذب.

ولكن ذا الكلاع لم يقتنع بهذا فقال لعمرو بن العاص: يا أبا عبداللّه أما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ عمّاراً تقتله الفئة الباغية»؟

فقال عمرو: أجل، ولكن ليس عمّار في رجال علي.

فقال ذوالكلاع: فلابدّ إذن أن أعرف ذلك بنفسي.

ص:20


1- . المستدرك على الصحيحين: 3/385؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: 259/3.

ثم أمر رجالاً بأن يتحقّقوا من الأمر. وفي هذه اللحظة الحسّاسة أدرك معاوية وعمرو خطورة الموقف، إذ لو تحقّق ذوالكلاع من وجود عمّار في معسكر «علي» أو عرف بمقتله بين يديه عليه السلام إذن لأحدث ذلك شرخاً كبيراً وتمزّقاً فضيعاً في جيش الشام، من هنا تمّت تصفية ذوالكلاع فوراً إذ قُتل بصورة غامضة(1).

إنّ اشتهار هذا الحديث لدى محدّثي السنّة والشيعة ليغنينا عن استعراض مصادره، واسناده.

فقد روى أحمد بن حنبل أنّه لمّا قُتِلَ عمّار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال قُتل عمّار وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: تقتله الفئة الباغية؟ فقام عمرو بن العاص فزعاً يرجع (أي يقول: إنا للّه وإنا إليه راجعون) حتّى دخل على معاوية، فقال معاوية: ما شأنك؟ قال: قُتِل عمّار فقال معاوية: قد قُتِل عمّار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: تقتله الفئة الباغية، فقال له معاوية:

أو نحن قتلناه إنّما قتله عليٌّ وأصحابه جاءُوا به حتّى ألقوه بين رماحنا (وسيوفنا)(2).

ولكن لا يخفى أنّ هذا التأويل الباطل الّذي لجأ إليه ابن أبي سفيان لتهدئة جنود الشام، ليس مقبولاً عند اللّه تعالى قط، كما لا يقبل به أيُّ عاقلٍ لبيبٍ.

فإنَّ هذا هو الاجتهاد في مقابل النص، وهو ممّا لا قيمة له أبداً، فإنّ هذا النوع من الاجتهاد في مقابل الآيات والروايات الصريحة هو الّذي سبّب في أن يعمد فريقٌ من المجرمين والجناة إلى تبرير جرائمهم وفضائعهم بحجّة «الاجتهاد»، وتحت غطائه.

ص:21


1- . وقعة صفين: 377.
2- . مسند أحمد بن حنبل: 198/4.

وإليك نموذجاً من هذا الأمر:

ضئرٌ أرأف من والدة!!

لا يجد المرءُ عبارةً أفضلَ من هذه تعرّف حقيقةَ مؤرّخ القرن الثامن الهجري (ابن كثير الشامي مؤلّف البداية والنهاية).

فقد انبرى هذا الرجل إلى الدفاع عن معاوية في كتابه إذ قال: لا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاةً تكفيرهم...، لأنّهم وإن كانوا بغاةً في نفس الأمر فإنّهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كلّ مجتهدٍ مصيباً، بل المصيب له أجران، والمخطئ له أجر - ثم يقول: - وأمّا قوله: يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار، فإنّ عمّاراً وأصحابهُ يدعون أهل الشام إلى الأُلفة واجتماع الكلمة، وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون مَن هو أحقّ به، وأن يكون الناس أوزاعاً على كلّ قطر إمامٌ برأسه، وهذا يؤدّي إلى افتراق الكلمة واختلاف الاُمّة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم وإن كانوا لا يقصدونه!!(1).

ونحن لم نجد اسماً يناسب هذا العمل إلّاالتحريف للحقائق.

فإنّ مؤيّدي الفئة الباغية مع كلّ ما أُوتوا من قدرة على إخفاء الحقائق وطمسها لم يستطيعوا إنكار هذه الحقيقة، ولكن مؤرّخاً مثل ابن كثير عمد - رغم ورود هذا الحكم الغيبي في شأن تلك الفئة - إلى تحريف بارد قد غفلت تلك الفئة هي ذاتها عنه!! روى أحمد بن حنبل في مسنده عن حنظلة بن خويلد العنبري قال: بينما أنا عند معاوية إذ جاء رجلان على معاوية يختصمان في رأس عمّار يقول كلّ واحد

ص:22


1- . البداية والنهاية: 265/3.

منهما أنا قتلته، فقال عبداللّه بن عمرو: وليطب به أحدكما نفساً لصاحبه فإنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: تقتله الفئة الباغية، قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال:

إنّ أبي شكاني إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: أطع أباك مادام حيّاً، ولا تعصه، فأنا معكم ولستُ أُقاتل(1).

إنّ اعتذار «عبداللّه بن عمرو بن العاص» يشبه تأويل ابن كثير الشامي الّذي يقول: إنّ معاوية قاتل «عليّاً» في صفين اجتهاداً وإيماناً، وإن أخطأ في اجتهاده؛ وذلك لأنّ إطاعة الوالد واجبة مالم تجر إلى مخالفة الشرع، فهذا هو القرآن الكريم يقول:

«وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» .(2)

كما أنّ الاجتهاد إنّما يصحّ إذا لم يكن في المقام نصٌّ صريح ورد عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ولهذا كان اجتهاد معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهما باطلاً مرفوضاً، لكونه في مقابل النصّ النبوي.

ولو أنّنا فتحنا باب الاجتهاد هكذا بدون أيّة ضوابط لكان جميع المشركين والمنافقين معذورين في معارضتهم، ومحاربتهم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، كما لابدّ - حينئذ - أن نقول: إنّ يزيد والحجاج وأشباههما كانوا معذورين في سفكهم لدماء الأئمّة المعصومين، والصالحين من المسلمين، بل ومأجورين في عملهم هذا.

***

انتهى النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون من بناء المسجد، وظل يوسّع فيه كلّ عام شيئاً فشيئاً.

ص:23


1- . مسند أحمد بن حنبل: 164/2-165.
2- . العنكبوت: 8.

وقد بُني إلى جانب المسجد صفة ليسكن فيها الفقراء والمهاجرون المحرومون. وكلّف «عبادة بن الصامت» بأن يعلّمهم الكتابة، وقراءة القرآن.

التآخي أعظم معطيات الإيمان

لقد فتح تمركز المسلمين في المدينة فصلاً جديداً في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم .

فقد كان صلى الله عليه و آله و سلم قبل دخوله المدينة لا يهمّه إلّاجذب القلوب والدعوة إلى دينه، ولكنّه اليومَ عليه أن يعمل - كصاحب دولة محنَّك - على حفظ كيانه وكيان جماعته، ولا يسمح للأعداء الداخليّين والخارجيّين بالتسلّل والنفوذ في صفوفهم، ولكنّه كان يواجه في هذا السبيل ثلاث مشاكل كبرى:

1. خطر قريش وعامة الوثنيّين في شبه الجزيرة العربية.

2. خطر يهود يثرب الذين كانوا يقطنون داخل أو خارج المدينة ويمتلكون ثروة كبيرة.

3. الاختلاف الّذي كان بين أتباعه من المهاجرين وبين الأوس والخزرج.

وحيث إنّ المهاجرين والأنصار قد نشأوا في بيئتين مختلفتين، لهذا كان من الطبيعي أن يختلفوا في طريقة المعاشرة، وآداب السلوك، وأُسلوب التفكير اختلافاً كبيراً.

هذا مضافاً إلى أنّ الأوس والخزرج الذين كانوا يشكّلون جماعة الأنصار كانوا هم يعانون من رواسب عداءٍ قديمٍ وبقايا ضغائن نشأت خلال حروب دموية طويلة استغرقت مائة وعشرين سنة بلا انقطاع.

ومع وجود مثل هذه التناقضات والأخطار المحتملة لم تكن مواصلة الحياة الدينية، والسياسية المستقرّة أمراً ممكناً قط.

ص:24

ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تغلّب على كلّ هذه المشكلات بطريقة حكيمة، غاية في الحنكة والإبداع.

فبالنسبة إلى المشكلتين الأُوليين فقد عالجهما بالقيام بأعمال سيأتي ذكرها في المستقبل.

وأمّا بالنسبة إلى مشكلة التناقضات بين فئات وأصناف جماعته فقد عالج تلك المشكلة بحذقٍ كبير، وتدبير رائع جداً.

فقد أُمر من جانب اللّه تعالى بأن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.

فجمعهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم وقال لهم:

«تآخوا في اللّه أخوَينِ أَخَوَينِ».(1)

وقد ذكرت المصادرُ التاريخية الإسلامية، مثل «السيرة النبوية» لابن هشام(2)أسماء كل متآخيين من المهاجرين والأنصار.

وبهذا الأُسلوب عزّز رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الوحدةَ السياسية والمعنوية بين المسلمين وقوّى أُسسَها ودعائمها.

وقد سببت هذه الوحدة وهذا التآخي الواسع في حلّ المشكلتين الأُوليين بسرعة وسهولة.

منقبتان عظيمتان

ولقد ذكر أكثر مؤرّخي السنّة والشيعة ومحدّثيهم في هذا الموضع منقبتين عظيمتين، نذكرهما نحن هنا أيضاً: لقد آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين ثلاثمائة من

ص:25


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 351/2. نشر مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، مصر - 1383 ه.
2- . السيرة النبوية: 351/2-353.

أصحابه من المهاجرين والأنصار وهو يقول: يا فلان أنت أخ لفلان.

ولمّا فرغ من المؤاخاة، جاء عليّ عليه السلام، تدمع عيناه فقال:

«يا رسول اللّه آخيتَ بين أصحابكَ ولم تؤاخِ بيني وبين أحد»؟

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد أخذ بيده:

«يا عليّ أنت أخي في الدنيا والآخرة»(1).

وقد ذكر القندوزي الحنفي هذه القضية بنحو أكثر تفصيلاً إذ قال:

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ:

«والّذي بعثني بالحقّ نبيّاً ما أخّرتُكَ إلّالنفسي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي، فأنتَ أخي ووارثي»(2). غير أنّ ابن كثير شكّك في صحّة هذه الرواية(3)، وحيث إنّ هذا التشكيك نابع من نفسيّته الخاصّة، ولا يقلّ تفاهةً وبطلاناً من اعتذاره ودفاعه عن معاوية وزمرته الباغية عن قتل الصحابي العظيم عمّار بن ياسر، لهذا نرجّح أن نصرف النظر عن النقاش فيه، ونترك القضاء والحكم عليه للقارئ المنصف، والمتتبّع العدل.

منقبةٌ أُخرى لعليّ عليه السلام

فرغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بناء المسجد، وقد بُنِيَت منازلُه ومنازل أصحابه حولَ المسجد، وكلٌ شرع منه باباً إلى المسجد، وخطّ لحمزة خطاً فبنى منزلَه فيه،

ص:26


1- . المستدرك على الصحيحين: 14/13.
2- . ينابيع المودة: 159/1، الباب الخامس.
3- . البداية والنهاية: 371/7، حديث المؤاخاة.

وشرع بابَه إلى المسجد، وخطّ لعليّ بن أبي طالب مثل ما خطّ لهم فبنى منزله فيه وشرع بابه إلى المسجد، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد من تلك الأبواب.

وفجأة نزل جبرئيل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال:

«يا محمّد إنَّ اللّه يأمُركَ أن تأمر كلّ مَن كان له بابٌ إلى المسجدِ أنْ يَسدَّهُ ولا يكون لِأَحَدٍ بابٌ إلى المسجد إلّالكَ ولعليّ عليه السلام».

يقول ابن الجوزي: فأوجدَ هذا الأمرُ ضجّة عند البعض، وظنُّوا أنّ هذا الاستثناء قد نشأ عن سبب عاطفي، فخطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الناس وقال فيما قال:

«واللّه ما أنا أمرتُ بذلك، ولكنّ اللّه أمَر بسدّ أبوابِكم وَتركِ بابِ عليٍّ»(1).

وخلاصة القول: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قضى عن طريق المؤاخاة الإسلاميّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين على الاختلافات القديمة الّتي كانت رواسبها باقية بين المسلمين إلى ذلك اليوم، وبذلك حلّ مشكلة من المشاكل الثلاث الّتي مرّ ذكرها.

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب

كانت المشكلة الثانيةُ الّتي يواجهها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة هي مشكلة يهود يثرب الذين كانوا يقطنون المدينة وخارجها وكانوا يمسكون بأزمّة التجارة والاقتصاد في تلك المنطقة.

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يدرك جيداً إنّه ما لم تصلح الأوضاع الداخلية في

ص:27


1- . تذكرة الخواص: 46، بتصرف بسيط. ولاحظ: بحار الأنوار: 112/19.

المدينة وما لم يضمَّ إلى صفوفه يهود يثرب، وبالتالي ما لم يقم وحدةً سياسيةً عريضةً في مركز حكومته، لم تتهيأ لشجرة الإسلام أن تنمو، ولن يتهيّأ له صلى الله عليه و آله و سلم أن يفكّر في أمر الوثنيّين والوثنيّة في شبه الجزيرة العربيّة، ولا يستطيع معالجة المشكلة الثالثة، أعني: قريش خاصّة.

والمشكلة واحدةٍ ما لم يستتبّ الأمن والاستقرار في مقرّ القيادة لن يمكن الدفاع ضدّ العدوّ الخارجي.

ولقد قام بين يهود المدينة والمسلمين في بداية هجرتهم إليها نوعٌ من التفاهم لأسباب خاصّة، لأنّ كلا الجانبين كانا موحّدَين يعبدان اللّه، ويرفضان الأوثان، وكان اليهود يتصوّرون أنّهم يستطيعون - إذا اشتدّ ساعد المسلمين، وقويت شوكتهم - أن يأمنوا حملات المسيحيّين الروم، هذا من جانب، ومن جانب كان بينهم وبين الأوس والخزرج علاقات عريقة ومواثيق قديمة.

من هنا حاولَ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يكرّس هذا التفاهم، ويبلوره بعقد معاهدة تعايش، ودفاعٍ مشترك بين الأنصار والمهاجرين وقَّع عليها يهود المدينة أيضاً(1).

وقد احترمَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك المعاهدة دين اليهود وثروتهم في إطار شرائط معيّنة.

وقد أدرج كُتّاب السيرة والمؤرّخون النصَّ الكامل لهذه المعاهدة في كتبهم(2).

ص:28


1- . المقصود منهم يهود الأوس والخزرج، وأمّا يهود بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة فقد عقد النبي صلى الله عليه و آله و سلم معهم معاهدةً مستقلةً سنذكرها.
2- . مثل: السيرة النبوية لابن هشام: 348/2.

ونظراً لأهميّتها الخاصّة، ولأنها تُعتبر مستنداً تاريخياً حيّاً، قويَّ الدلالة، ولكونها تكشف عن مدى التزام رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم بمبادئ الحرية والنظم والعدالة، ومبلغ مراعاته واحترامه لها في الحياة، ولأنّها تكشف لنا كيف أنّها أوجدت جبهةً متحدةً قويةً في وجه الحملات الخارجية، نذكرها هنا ونسجّلها كواحدٍ من أكبر الانتصارات السياسية الّتي أحرزتها الحكومة الإسلامية الناشئة في العالم ذلك اليوم.

أعظم معاهدة تاريخية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذا كتابٌ من محمّد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم.

«البند الاوّل»

1. إنّهم أُمّةٌ واحدةٌ من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم (أي على الحال الّتي جاء الإسلام وهم عليها) يتعاقلون بينهم (أي يدفعون دية الدم) وهم يفدون عانيهم (أسيرهم) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

2. وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأُولى، وكلُّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وهكذا بنو ساعدة، وبنو الحارث، وبنو جشم، وبنو النجار، وبنو عمرو بن عوف، وبنو النبيت، وبنو الأوس كلّ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأُولى (والحال الّتي جاء الإسلام وهم عليها من حيث التعاون على الديات إلى أولياء المقتول، ودفع الفدية معاً لفكِ الأسير).

ص:29

3. وإنَّ المؤمنين لا يتركون مفرحاً (أي مثقلاً بالدَّين وكثير العيال) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداءٍ أو عقل (أي دفع ديةٍ أو فداء أسير).

4. وإنَّ المؤمنين المتّقين (يدٌ واحدة) على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة (عظيمة) ظلمٍ، أو إثمٍ، أو عُدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإنّ أيديهم عليه جميعاً ولو كان وَلدَ احدهم.

5. وأَن لا يحالف مؤمنٌ مولى (أي عبد) مؤمنٍ دونه (أي دون إذنه).

6. وأن لا يقتل مؤمنٌ مؤمناً في كافر (أي قصاصاً لمقتل كافر على يَدَي ذلك المؤمن) ولا ينصر كافراً على مؤمنٍ.

7. وإنَّ ذمةَ اللّه واحدة (تشمل جميع المسلمين بلا استثناء) يجيرُ عليهم أدناهم (فاذا أجار عبدٌ مسلمٌ كافراً قُبِلَت إجارته واحترِمَ أمانه).

8. وإنّ المؤمنين بعضَهُم مواليَ بعض دون الناس.

9. وإنّه مَن تبعنا من يهود فإنَّ له النصرَ والأُسوةَ غيرَ مظلومِين، ولا متناصر عليهم.

10. وإنَّ سلمَ المؤمنين واحدة لا يُسالَمُ مؤمنٌ دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلّاعلى سواءٍ وعَدل بينهم (فلا يجوز لأحد أن ينفرد بعقدِ معاهَدةِ صلحٍ مع أحدٍ من غير المسلمين إلّابموافقة المسلمين).

11. و إنَّ كلّ غازيةٍ غزت معنا يعقّب بعضها بعضاً (أي يتناوب المسلمون في المشاركة في الجهاد)، وانّ المؤمنين يبئ بعضهُم على بعض بما نالَ دماءَهم في سبيل اللّه (أي يراقُ منهم الدمُ على السواء لا أن يتعرّض للقتل بعضٌ دون بعض).

12. وإنّ المؤمنين المتّقين على أحسنِ هدى وأقومه.

13. وأن لا يجيرَ مشركٌ (من مشركي المدينة) مالاً لقريش، ولا نفساً، ولا

ص:30

يحولَ دونه على مؤمنٍ (أي لا يمنعه من مؤمن).

14. وإنّه من اعتبط مؤمناً (أي قتل من المؤمنين مؤمناً بلا جناية منه توجب قتله) قتلاً عن بيّنة فإنّه قِوَدٌ به (أي يُقتَل بقتله قصاصاً) إلّاأن يرضى وليُّ المقتول.

وإنّ المؤمنين عليه كافّة، ولا يحلُّ لهم إلّاقيامٌ عليه.

15. وإنه لا يحلُّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمنَ باللّهِ واليومِ الآخر، أن يَنصُرَ مُحدِثاً (صاحب بدعة) ولا يؤويه؛ وإنّه من نصرَهُ، وآواه فعليهِ لعنةُ اللّهِ وغضبُه يوم القيامة، ولا يُؤخذُ منه صرفٌ ولا عدلٌ.

16. وإنّكم مهما اختلفتم فيه من شيءٍ فإنّ مردَّهُ إلى اللّه عزّوجلّ وَ إلى محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

«البندُ الثاني»

17. وإنّ اليهودَ ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين (ودفاعاً عن المدينة).

18. وإنّ يهود بني عوف أُمّةٌ مع المؤمنين (وبنو عوف قبيلة من قبائل الأنصار) لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلّا من ظلم وأثم، فإنّه لا يوتغ (لا يهلك) إلّانفسه وأهل بيته (والسبب في هذا هو أنّ أهل بيت الرجل يتبعونه ويؤيّدونه في فعله غالباً وعادةً).

(والمراد من هذا الاستثناء هو أنّ العلاقات والاتّحاد يبقى قائماً بين تلك الطائفة من اليهود وبين المسلمين مادام لم يكن ثمّة ظالِمٌ ومعتدٍ).

19. وإنّ ليهود بني النجار، وبني الحارث وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس وبني ثعلبة، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، (من الحقوق والامتيازات) إلّامَن ظلم وأثم، فإنّه لا يوتغ إلّانفسه وأهل بيته.

ص:31

وإن جفنة بطن من ثعلبة (أي تلك القبيلة فرعٌ من هذه) كأنفسهم، وإنّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

20. وإنَّ البرَّ دونَ الإثم (أي أن تغلب حسناتُهم على سيّئاتِهم).

21. وإنَّ موالي ثعلبة (أي المتحالفين معهم) كأنفسهم.

22. وإنّ بطانة يهود (أي خاصّتهم) كأنفسهم.

23. وأنّه لا يخرج منهم أحدٌ (من هذه المعاهدة) إلّابإذن محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

24. وإنّه لا ينحجر على ثأر جرح (أي لا يضيع دمٌ حتّى الجرح)، وإنّ مَن فتك (بأحد) فبنفسه فتك، وأهل بيته إلّامَن ظلم (أي إلّاإذا كان المفتوك به ظالماً).

25. وإنّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإنّ بينهم النصرَ على مَن حارب أهلَ هذه الصحيفة (أي أنّ على كلّ جماعةٍ من المسلمين واليهود أن يقوم بنصيبه من نفقات الحرب).

26. وإنّ بينهم النصحَ والنصيحة (أي أن تكون العلاقات على هذا الأساس) والبر دون الإثم.

27. وإنّه لم يأثم امرؤٌ بحليفه (أي لا يحقُّ لأحدٍ أن يظلم حليفَه) وأن النصرَ للمظلوم (لو فعل أحد ذلك).

28. وإنّ يثرب حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصحيفة (أي أنّ داخل المدينة حرمٌ ومأمنٌ لجميع مَن وقَّعَ على هذه الصحيفة).

29. وإنَّ الجار (وهو مَن يدخل في أمانِ أحد) كالنفس غير مضارٍّ ولا آثم، (فلا يجوز إلحاق ضرر به).

30. وإنّه لا تُجار حرمةٌ إلّابإذن أهلها.

ص:32

31. وإنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدَث أو اشتجار يُخاف فسادُه فإنّ مردَّهُ إلى اللّهِ عزّوجلّ، وإلى محمّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإنَّ اللّه على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرهُ (أي أنّه تعالى ناصر وولي لمَن التزم بهذه المعاهدة).

32. وإنّه لا تجارُ قريشٌ ولا مَن نَصَرَها.

«البند الثالث»

33. وإنّ بينهم (أي بين اليهود والمسلمين) النصر على من دهم يثربَ (فعليهم معاً أن يدافعوا عن المدينة ضدَّ المعتدين).

34. وإذا دُعوا (أي دعا المسلمون اليهود) إلى صلح يصالحونه، ويلبسونه، فإنّهم يصالحونهُ ويَلبسونه.

وإنّهم إذا دُعوا (أي إذا دعا اليهودُ المسلمين) إلى مثل ذلك (الصلح) فإنّه لهم على المؤمنين إلّامَن حاربَ في الدين.

(فعلى اليهود أن يوافقوا على كلّ صلح يعقِدُه المسلمون مع الأعداء وهكذا على المسلمين أن يقبَلوا بكلِّ صلح يعقده اليهود مع الأعداء إلّاإذا كان ذلك العدوّ ممّن يخالفُ الإسلام ويعاديه ويتآمر عليه).

35. وإنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة.

«البندُ الرابع»

36. وإنّهُ لا يحول هذا الكتاب دون ظالمٍ وآثم. (فلا يمكن لأحد أن يتسير وراءه ليتخلّص من العقاب إذا ارتكبَ خطيئةً وجنايةً).

37. وإنّه مَن خرج (من المدينة) آمنٌ، ومَن قعد آمن بالمدينة إلّامن ظلم أو

ص:33

أثم.

ثم خُتِمَت هذه المعاهدة بالعبارة التالية:

«وإنّ اللّه جارٍ لِمَن بَرَّ واتّقى ومحمَّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم»(1).

إنَّ هذه المعاهدة السياسية التاريخية الّتي أدرجناها هنا تعدُّ نموذجاً كاملاً لرعاية الإسلام وحرصِه على مبدأ حرّية الفكر والاعتقاد، ومبدأ الرفاه الاجتماعي العام، وضرورة التعاون في الأُمور العامّة؛ بل وتوضّح هذه المعاهدةُ - فوق كلّ ذلك - حدودَ صلاحيّات واختيارات القائد، ومسؤوليّة كلّ الموقّعينَ عليها، وعلى أمثالها.

على أنّه وإن لم يشترك يهودُ «بني قريظة» و «بني النضير» و «بني قينقاع» في إبرام هذه المعاهدة والتوقيع عليها، بل شارك فيها يهودُ الأوس والخزرج فقط، إلّا أنّ تلك الطوائف اليهودية (الثلاث) قد وقّعت فيما بعد مع قائد المسلمين وزعيمهم على معاهدات مماثلة أهم بنودها هي: أن لا يُعينوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولا على أحدٍ من أصحابه بلسان ولايدٍ ولا بسلاح ولا بكراع (أي الخيل وغيرها من المراكب) في السر والعلانية لا بليلٍ ولا بنهارٍ، اللّه بذلك عليهم شهيد، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلٍّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم، ونسائهم، وأخذ أموالهم.

وقد كتبَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لكلِّ قبيلة منهم كتاباً على حدة على هذا الغرار، ثم وقّع عليها «حييُ بن أخطب» عن قبيلة بني النضير، و «كعب بن أسد» عن بني

ص:34


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 348/2-351 بتفاوت يسير؛ البداية والنهاية: 273/3-275.

قريظة، و «المخيريق» عن قبيلة بني قينقاع(1).

وبهذا سادَ الأمنُ يثرب وضواحيها بعد أن اعتبرت المنطقة حرماً آمناً.

والآن جاء دور أن يعالج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المشكلة الأُولى، يعني قريش؛ لأنّه مادام هذا العدوُّ يعرقل حركة الدعوة ويقف سدّاً أمام تبليغ الإسلام، فلن يُوَفَّقَ لنشر هذا الدين وتطبيق أحكامه وتعاليمه المباركة.

ممارسات اليهود الإجهاضية

لقد تسبّبت تعاليمُ الإسلام الرفيعة وأخلاق الرسول العظيم في أن يتزايد عددُ المنتمين إلى الإسلام يوماً بعد يوم، وتزداد بذلك قوّةُ الإسلام العسكرية والاقتصادية والسياسية.

وقد أحدث هذا التقدمُ المتزايد الباهر قلقاً وضجّةً عجيبةً في الأوساط اليهودية الدينية، لأنّهم كانوا يتصوَّرون أنّهم يستطيعون بدعمهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتقويته وتأييده جرَّه إلى صفوفهم، ولم يكونوا يتصوّرون قط أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سيحصل بذاته على قوةٍ تفوق قوة اليهود والنصارى، من هنا بَدَأوا بممارسة الأعمال الإجهاضية مثل طرح الأسئلة الدينية العويصة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بغية زعزعة إيمان المسلمين بنبيّهم، ولكن جميع هذه المخططات باءت بالفشل ولم تترك أي أثر في صفوف المسلمين المتراصّة وإيمانهم العميق برسول الإسلام.

وقد جاء ذكر بعض هذه المناظرات والمجادلات في سورتي البقرة والنساء.

ويستطيع القارئ العزيزُ من خلال قراءة آياتِ هاتين السورتين والتمعّن

ص:35


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 110/19 و 111. احتفظ في ذاكرتك أيّها القارئ الكريم بهذا القسم من المعاهدة الثانية؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عاقب اليهود بسبب نقضهم لهذه المعاهدة.

فيهما أن يقف على مدى العناد واللجاج الّذي كان يُبديه اليهودُ.

فمع أنّهم كانوا يتلقّون من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أجوبة واضحة لكلِّ واحد من أسئلتهم كانوا يتهرّبون من الانضواء تحت راية الإسلام ويحجمون عن الاعتراف به، وكانوا يقولون في مقام الردّ على دعوة النبيّ إيّاهم إلى اعتناق الإسلام:

«قُلُوبُنا غُلْفٌ» : أي لانفهم ما تقول!!!(1).

إسلام عبداللّه بن سلّام

هذه المناظرات والمجادلات وإن كانت لا تزيد غالبية اليهود إلّاتعنّتاً وعناداً، ولكنّها كانت تسبّب أحياناً يقظة البعض وإقبالهم على الإسلام مثل «عبداللّه بن سلّام». فقد أسلم ابن سلام الّذي كان من علماء اليهود وأحبارهم، برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد سلسلة من المناظرات والمجادلات المطوّلة.

ولم يمض وقتٌ كبيرٌ على إسلام ابن سلام إلّاوالتحق به عالمٌ آخر من علماء اليهود هو «المخيريق».(2)

وكان عبداللّه بن سلّام يعلم بأنه سيذمُّه قومُه من اليهود إذا عرفوا بإسلامه وترك دينهم، من هنا طلب من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يكتم عن الناس إسلامه، ريثما يحصل أوّلاً على اعتراف من قومه بعلمه وتقواه، وبمعرفته وصلاحِه قائلاً: «يا رسول اللّه إن يهود قومٌ بُهُت، وإنّي أُحبُّ أن تُدخلني في بعضِ بيوتك، وتغيّبني

ص:36


1- . للوقوف على نصّ هذه المناظرات راجع: السيرة النبوية لابن هشام: 2/358-409، بحار الأنوار: 303/9 وما بعدها.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 362/2.

عنهم ثم تسألهم عنّي حتّى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنّهم إن علموا به بهتوني وعابوني».

فأدخله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بعض بيوته وأخفاه عن الأنظار ثم قال لليهود الداخلين عليه:

«أيُّ رجلٍ الحصينُ بنُ سلام فيكم؟»

قالوا: سيدُنا وابنُ سيدنا، وحَبرُنا وعالمُنا، فخرجَ عليهم «عبدُ اللّه بنُ سلام» من مخبئه وقال لهم: يا معشر يهود اتّقوا اللّهَ واقبَلوا ما جاءكم به، فواللّه إنّكم لتعلمون إنّه لرسول اللّه تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإنّي أشهدُ أنّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأُؤمن به وأُصدّقه وأعرِفُه.

فغضب اليهودُ من مقالته، وقالوا له: كذبتَ، ووقعوا فيه، وعابوه، وبهتوه(1).

خطةٌ يهودية أُخرى للقضاءِ على الحكومة الإسلامية

لم تُضعف مجادلاتُ اليهود وأسئلتهم العويصة عقيدةَ المسلمين وإيمانَهم برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فحسب، بل تسبَّبَت في أن تتضح مكانته العلمية، وقيمة معارفه الغيبية للجميع أكثر من ذي قبل.

ففي ظلّ هذه المجادلات والمحاورات رغب جماعات كبيرة من الوثنيّين واليهود في الإسلام فآمنوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصدَّقوه.

من هنا دبَّر اليهودُ مؤامرة أُخرى وهي التذرُّع بأُسلوب «فرِّقْ تسُدْ»، لإلقاء الفرقة في صفوف المسلمين.

فقد رأى دهاة اليهود وساستهم أن يستغلّوا رواسب الاختلافات، ويؤجّجوا

ص:37


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 360/2-361.

نيران العداء القديم بين الأوس والخرج الّذي زال بفضل الإسلام وبفضل ما أرساه من قواعد الأُخوّة والمساواة والمواساة والمحبّة، بعد أن كانت مشتعلةً طوال مائة وعشرين عاماً متوالية، ليستطيعوا بهذه الطريقة تمزيق صفوف المسلمين بإثارة الحروب الداخلية بينهم، والّتي من شأنها ابتلاع الأخضر واليابس والقضاء على الجميع دونما استثناء.

ففيما كان نفرٌ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدّثون فيه إذ مرّ عليهم «شاس بن قيس» وهو يهوديٌ شديد العداء للإسلام، عظيمُ الكفر، شديدُ الضغن على المسلمين، فغاظه ما رأى من أُلفةِ الأوس والخزرج، واجتماعهم وتوادُدِهم، وصلاح ذاتَ بينهم على الإسلام بعد الّذي كان بينهم من العداوةِ الطويلةِ في الجاهلية، فأمر فتى من يهود كان معه فقال له: إعْمِدْ إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يومَ بعاث(1) وما كان قبله وأنشدهم بعضَ ما كانوا تقاولوا وتبادلوا فيه من الأشعار!! إيقاعاً بين هاتين الطائفتين من الأنصار، وإثارة لنيران الأحقاد الدفينة، والعداوات الغابرة.

ففعل ذلك الغلامُ اليهوديُ ما أمره به «شاس» فتكلّمَ القومُ عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا، حتى تواثبَ رجلان من القبيلتين على الرُّكَب وأخذ كلّ منهما يهدّدُ الآخر، وتفاقم النزاعُ، وغضب الفريقان وتصايحا، وقاما إلى السلاح وكاد أن يقع قتالٌ ودمٌ بعد أن ارتفعت النداءات القبلية بالاستغاثة والاستنجاد على عادة الجاهلية، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعرف بمكيدة اليهود، ومؤامرتهم الخبيثة هذه، فخرج إلى تلك الجماعة المتصايحة من الأوس والخزرج في جمع من

ص:38


1- . قد مرّ ذكر هذه الوقعة في الجزء الأوّل وقلنا: هو يوم اقتتلت فيه الأوسُ والخزرج وكان الظفريومئذ للأوس على الخزرج.

أصحابه المهاجرين فقال:

«يا معشر المسلمين، اللّهَ اللّهَ أَبِدَعوى الجاهليةِ وأنا بينَ أظهُرِكُم بَعدَ أن هَداكُم اللّه للإسلام، وأكرَمَكُم به، وقطع به عنكم أمرَ الجاهِليّة، واستنقذكُم به من الكُفر، وألَّف به بينَ قُلُوبِكُم».

فعرف القومُ أنّها مؤامرة مبيَّتة من اليهود أعداءِ الإسلام والمسلمين، وكيدٌ خبيثٌ منهم، فندموا على ما حدث، وبكَوا وعانَق الرجال من الأوس والخزرج بعضهُم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سامعين مطيعين، قد أطفأ اللّهُ عنهم كيدَ أعدائهم(1).

إلّا أنّ مؤامرات اليهود لم تتوقّف عند هذا الحدّ، ولم تنته بهذا، فقد اتّسعت دائرة خيانتهم وجنايتهم، ونقضهم للعهد وأقاموا علاقات سرية وخاصة مع مشركي الأوس والخزرج، ومع المنافقين والمتردّدين في إسلامهم واعتقادهم، واشتركوا بصورةٍ صريحةٍ في اعتداءات قريش على المسلمين، وفي الحروب الّتي وقعت بين الطرفين، وكانوا يُقدّمون كلّ ما أمكنهم من الدعم والمساعدة للوثنيّين، ويعملون لصالحهم!!

وقد جَرّت هذه النشاطاتُ السرّية والعلنيةُ المضادَّةُ المعاديةُ للإسلام والمسلمين، وهذا التعاون المشؤوم مع مشركي قريش، جرّت إلى وقوع مصادمات وحروب دامية بين المسلمين والطوائف اليهودية أدت في المآل إلى القضاء على الوجود اليهودي في المدينة.

وسيأتي ذكر هذه الحوادث في وقائع السنة الثالثة والرابعة من الهجرة، وسيتضح هناك كيف أن الجماعة اليهودية ردت على الجميل الّذي تعكسه كلتا

ص:39


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/396-397.

المعاهدتين من أوّلهما إلى آخرهما، بنقض العهد، ومعاداة الإسلام والمسلمين، والتآمر ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة، وبنصرة أعدائه، ودعم خصومِه، الأمرُ الّذي أجبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على تجاهل تلك المعاهدات الودية والإنسانية ومن ثم محاربتهم، وإخراجهم من المدينة وما حولها والقضاء على ما تبقى مِن كياناتهم الشريرة. لقد أقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة من ربيع الأول من السنة الأُولى للهجرة إلى شهر صفر من السنة الثانية حتّى بنى المسجد والبيوت والمنازل المحيطة به، وقد أسلم في هذه الفترة من تبقّى من الأوس والخزرج، ولم تبق دارٌ من دور الانصار إلّاأسلم أهلُها، ما عدا بعض العوائل والفروع ممّن بقوا على شركهم، ولكنّهم أسلموا بعد معركة بدر(1).

ص:40


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 344/2.

حوادث السنة الثانية من الهجرة

28 مناوراتٌ عسكرية واستعراضاتٌ حربية

اشارة

الهدفُ من هذا الفصل هو شرحُ وبيان الأسرار الكامنة وراء سلسلة الاستعراضات الحربية، والمناورات العسكرية، الّتي قام وأمر بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد بدأت هذه المناورات منذ الشهر الثامن من الهجرة واستمرت حتّى شهر رمضان من السنة الثانية، وتعد في الحقيقة أوّل مناورات عسكرية، وعروض حربيّة قام بها المسلمون.

إنّ التفسير الصحيح لهذه الوقائع، وبيان رموزها وأسرارها إنّما يتيسَّر إذا طالعنا نصّ ما كُتِبَ حول هذه الوقائع في المصادر التاريخية من دون زيادة أو نقصان ثم نعرض على القارئ الكريم رأي المحقّقين من المؤرّخين فيها.

وإليك فيما يأتي خلاصة هذه الحوادث:

ص:41

1. لم يكن يمضي على إقامة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة أكثر من ثمانية أشهر عندما عقد النبيّ أوّل لواءٍ لقائدٍ عسكريّ شجاع هو «حمزة بن عبدالمطلب» وقد أمّره على ثلاثين رجلاً من المهاجرين بعثهم إلى سواحل البحر الأحمر حيث الطرق التجارية الّتي تمر فيها قافلة قريش التجارية، فالتقوا قافلة قريش في «العيص» فيها أبوجهل في ثلاثمائة رجل من أهل مكّة، فاصطفّوا للقتال، ولكنّهما تفرّقا ولم يقع قتال لوساطة قام بها «مجديّ بن عمرو» الّذي كان حليفاً للفريقين، فانصرف حمزة راجعاً إلى المدينة، وتوجّه أبوجهل في عيره وأصحابه إلى مكة(1).

تهديد خطوط قريش التجارية

إنقضت السنة الأُولى من الهجرة بكلّ حوادثها الحلوة والمرّة، والمسرّة والمحزنة، ودخل النبيّ وأصحابهُ العامَ الثاني من الهجرة.

والسنة الثانية من الهجرة تتضمّن حوادث عظيمة وباهرة، ومن أبرزها حادثتان تحظيان بمزيد من الأهمية: إحداهما: تغيير القبلة، والأُخرى وقعة بدر الكبرى. ولكي تتّضح أسباب وعلل معركة بدر نذكر سلسلةً من الوقائع الّتي وقعت قبلها، إذ بتحليلها ودراستها تتّضح أسباب معركة بدر.

لقد كان من بين الحوادث الّتي وقعت في أواخر السنة الأُولى وبدايات السنة الثانية من الهجرة: بعث «الدوريات العسكرية» إلى خطوط قريش

ص:42


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 431/2؛ بحار الأنوار: 186/19؛ إمتاع الأسماع: 71/1؛ الكامل في التاريخ: 77/2 و 78؛ المغازي للواقدي: 9/1-19.

التجارية(1) والآن يجب أن نرى ما هو هدف الحكومة الإسلامية من هذه التحرّكات العسكرية؟

هناك مصطلحان رائجان في كتابات المؤرّخين وكُتّاب السيرة أكثر من أي مصطلح آخر، وهما لفظة: «الغزوة» و «السريّة»(2).

والمقصود من «الغزوة» تلك العمليات العسكرية الّتي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يشارك فيها بنفسه، ويتولّى قيادتها بشخصه.

على حين يكون المقصود من «السريّة» إرسال مجموعات عسكرية وفرق وكتائب نظاميّة لا يشترك فيها رسول اللّه بنفسه بل يؤمِّرُ عليها أحدَ قادته العسكريّين ويوجّهها إلى الوجهة الّتي يريدُها.

وقد أُحصيت غزواتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فكانت (27) أو (26) غزوة.

ويعود الاختلاف في العدد إلى أنّ بعض المؤرّخين يعتبر غزوة «خيبر» و غزوة «وادي القرى» اللّتين حدثتا تباعاً ومن دون فاصلة، غزوتين والبعض الآخر عدَّهما غزوةً واحدةً (3).

وقد وقع نظير هذا الخلاف في تعداد سرايا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً فأحصى

ص:43


1- . لقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دوريات عسكرية عديدة إلى ضواحي المدينة وأطرافها لتهديدقوافل قريش التجارية. وقد كان ينبغي - طبقاً للترتيب الموضوعي والتسلسل التاريخي - أن نذكر بعض السرايا مثل سرية حمزة وسرية عبيدة بن الحارث في فصل وقائع السنة الأُولى للهجرة، بيد أنّه لوجود مناسبة بينها وبين حوادث السنة الثانية ذكرناها في أحداث السنة الثانية. هذا مضافاً إلى أنّ ابن هشام - تبعاً لابن إسحاق - يرى وقوع هذه الحوادث في السنة الثانية من الهجرة وإن كان الواقدي يعتبر بعضها من حوادث السنة الأُولى.
2- . راجع المحبَّر: 110-116.
3- . مروج الذهب: 287/2 و 288.

المؤرّخون (35)، (36)، (48)، و حتّى (66) سرية.

ويعود هذا الاختلاف إلى أن بعض السرايا لم يُحسب لها حساب لقلّة أفرادها، ولهذا حدث هذا الاختلاف في العدد.

من هنا كلّما ذكرنا لفظَ السريّة قصدنا منه مالم يشارك فيه النبيّ، وكلّما ذكرنا لفظَ الغزوة قصدنا منه ما شارك فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه.

وقد أحجمنا عن ذكر السرايا إلّاسرايا السنوات الأُولى من الهجرة؛ لأنّ في بيان هذه الطائفة من السرايا أثراً مهماً في تفسير بعض الغزوات مثل غزوة «بدر».

وإليك بيان هذه السرايا والغزوات وشرح تفاصيلها.

2. في نفس الوقت الّذي بعث فيه رسولُ اللّه سريّة حمزة، عقد لواءً آخر لعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، وبعثه في ستين راكباً من المهاجرين بهدف التعرّض لقافلة قريش التجارية، فسار حتّى بلغ ماءً بالحجاز بأسفل «ثنية المُرة»(1). فلقي بها جمعاً عظيماً من قريش يبلغ مائتين بقيادة أبي سفيان، ولكن لم يكن بينهم قتال إلّاأنّ «سعد بن أبي وقاص» رُميَ يومئذٍ بسهم، كما أنّه التحق رجلان مسلمان كانا في صفوف أبي سفيان بالمسلمين وقد خرجا مع الكفّار وجعلا ذلك وسيلة للوصول إلى المسلمين والالتحاق بهم(2).

3. بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شهر ذي القعدة في السنة الأُولى من الهجرة سريّة أُخرى بقيادة «سعد بن أبي وقاص» على رأس ثمانية

ص:44


1- . لاحظ: المحبّر: 116.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 2/428.

أشخاص آخرين من المهاجرين للتحقيق في تنقلات قريش ورصد تحرّكاتها خارج المدينة، فخرجوا حتّى بلغوا منطقة «الخرّار» ولكنّهم لم يجدوا أحداً فعادوا إلى المدينة(1).

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يلاحق قريشاً بنفسه

4. في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة استعمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على المدينة «سعد بن عبادة» وأناط إليه إدارة أُمورها الدينية وخرج بنفسه مع جماعة من المهاجرين والأنصار، لملاحقة ركب قريش التجاري واعتراضه، وعقد معاهدةَ موادعة مع «بني ضمرة» حتّى بلغ الأبواء، ولكنّه لم يلق أحداً من قريش، فرجع صلى الله عليه و آله و سلم هو ومن معه إلى المدينة(2).

5. وفي شهر ربيع الأوّل من السنة الثانية للهجرة استعمل صلى الله عليه و آله و سلم مرة أُخرى على المدينة: «السائب بن عثمان» أو «سعد بن معاذ» وخرج هو على رأس مائتين من الرجال يريد قريشاً حتّى بلغ بَواط (وهو جبلٌ من جبال بقرب ينبع على بُعد 90 كيلومتراً من المدينة تقريباً) ولكنّه لم يظفر بقافلة قريش الّتي كان يقودُها «أُميّة بن خلف» وعلى رأس مائة رجل من قريش، فرجع إلى المدينة.

6. وفي منتصف شهر جمادى الأُولى من السنة الثانية للهجرة جاءَ الخبر أنّ قافلة قريش التجارية تخرج من مكّة بقيادة أبي سفيان تريد الشام للتجارة، وقد جمعت قريش كلّ أموالها في تلك القافلة، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جمع من أصحابه لاعتراضها حتّى بلغ «ذات العشيرة» وقد استعمل على المدينة هذه المرة

ص:45


1- . المحبّر: 116.
2- . تاريخ الخميس: 363/1 نقلاً عن ابن اسحاق.

«أبا سلمة بن عبد الأسد»، وبقي صلى الله عليه و آله و سلم في ذات العشيرة إلى أوائل شهر جمادى الآخرة ينتظر قافلة قريش، ولكنّه لم يظفر بها، ثم وادَعَ فيها بني مدلج وعقد معاهدةَ عدم اعتداء ذكرتها المصادر التاريخية بالنص(1).

وفي هذه الغزوة (والمكان) نزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجماعته في بواط عند عين فنام علي وعمّار فوجدهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نائمين في رقعاء من التراب فأيقظهما، وحرّك عليّاً فقال: قم يا أبا تراب ألا أُخبرك بأشقى الناس: أُحيمر ثمود عاقر الناقة، والّذي يضربك على هذه [يعني قرنه] فيخضِّب هذه منها [يعني لحيته](2).

7. بعد أن رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة بعد اليأس من قافلة قريش لم يقم بالمدينة إلّاليالي قلائل لا تبلغ العشر حتّى هاجم «كرز بن جابر الفهري» على إبل أهل المدينة ومواشيهم الّتي كانت قد سرحت للرعي بالغداة.

فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في طلبه وقد استعمل على المدينة «زيد بن حارثة» حتّى بلغ وادياً من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يدركه ثم رجع صلى الله عليه و آله و سلم ومن معه إلى المدينة فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجباً وشعبان(3).

8. وفي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «عبداللّه بن جحش» على رأس ثمانية رهط من المهاجرين لملاحقة قافلة قريش التجارية، وقد كتب له كتاباً بالمهمة الّتي يجب ان ينفّذها، وأمره أن لا ينظر

ص:46


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 433/2؛ تاريخ الخميس: 363/1.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 123/2.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 2/435؛ الطبقات الكبرى: 9/2. وقد عدّ بعض المؤرّخين هذه الحادثة ضمن الغزوة الّتي عُرفت في التاريخ باسم غزوة صفوان أو غزوة بدر الأُولى.

فيه(1) قائلاً له:

«قد استَعمَلتُكَ على هؤلاء النَفَر فامضِ حتّى إذا سرتَ ليلتين فانشُر (أي افتح) كتابي ثم امض (أي نفّذ) لما فيه».

ثم عيّن له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الوجهة الّتي يجب أن يتوجّه إليها.

فانطلق عبدُاللّه ورفقاؤه وساروا يومين كاملين كما أمرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم فتح عبداللّه كتاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقرأ ما فيه، فاذا فيه:

«إذا نَظَرتَ في كتأبي هذا فامض حتّى تنزلَ نَخلَة بينَ مكّة والطائِفَ على اسم اللّه وبركته فترصَّد بها قريشاً، وتعلّم (أي حصّل) لنا من أخبارهم ولاتُكرهنّ أحداً من أصحابكَ وامضِ لأمري فيمن تبعك».

فلمّا قرأ الكتاب قال لأصحابه: قد أمرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن أمضيَ إلى نخلة أرصد بها قافلة قريش حتّى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن استكره أحَداً منكم، فمَن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فَلينطلق، ومَن كره ذلك فليرجع، فأمّا أنا فماضٍ لأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومن أرادَ الرجعة فمن الآن.

فقال أصحابه أجمعون: نحن سامعون مطيعون للّه ولِرسوله ولكَ فسِر على بَرَكة اللّه حيث شئتَ؛ فسارَ هو ومَن معه لم يتخلَّف منهم أحدٌ حتّى جاء نخلة فوجد قافلةً لقريش يرأسها «عمرو بن الحضرمي» وهي عائدة من الطائف إلى مكّة، فنزل المسلمون بالقرب منهم، ولكي لا يكتشفهم العدوّ، ولا يعرف بأمرهم

ص:47


1- . يقال إنّه كان الجنود - إلى حين الحرب العالمية الثانية - إذ انتهوا من خدمتهم العسكرية تُسَلَّم إليهم مع وثيقة الانتهاء من الخدمة العسكرية رسالة مغلقة مختومة يؤمر الجندي فيها بالمحافظة عليها كأمانة عسكرية لا يجوز له فتحها إلّاعند حالات النفير العام، والعمل بمضمونها وقد سبق النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى هذا التكتيك العسكريّ في أعماله النظامية.

ومهمّتهم حلقوا رؤوسهم ليتصوّر العدو أنّهم عمّار يعتزمون الذهاب إلى مكّة للعمرة، فلمّا رآهم رجالُ قريش على هذه الحال اطمأنّوا وأمنوا جانبهم وقالوا:

عُمّارٌ لا بأس عليكم منهم.

ثم تشاور المسلمون فيما بينهم في جلسة عسكرية للنظر فيما يجب عمله فتبيّن لهم: أنّهم إذا تركوا القوم (أي قريشاً) في تلك الليلة (وكانت آخر ليلة من شهر رجب) لدخلوا الحَرَم، ولم يمكن قتالهم فيه، وان خرج الشهر الحرام.

فأجمعوا على قتل مَن قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، من هنا باغتوا تلك القافلة، ورمى «واقدُ بن عبداللّه» قائدها «عمرو بن الحضرمي» بسهم فقتله، وفرَّ رجالُه إلّانفرين هما: «عثمان بن عبداللّه» و «الحكم بن كيسان» حيث أسرهما المسلمون، وعاد عبداللّه بن جحش وأصحابه بالقافلة مع ما فيها من أموال قريش والأسيرين إلى المدينة.

ولمّا قدموا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة وأخبروه بأنّهم قاتلوا القومَ في الشهر الحرام (رجب) انزعج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من تصرّف قائد المجموعة وعدم استفساره لما يجب أن يفعله بشدَّة وقال:

«ما أمرتُكُم بِقتال في الشهرِ الحرام».

وقد استخدَمت قريش هذه القضية كسلاحٍ دعائيٍّ ضدَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واشاعت بأنَّ «محمَّداً» وأصحابه قد استحلّوا الشهرَ الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا الاموال، كما أنّه تشاءم اليهود بهذه القضية وأرادوا أن يثيروا فتنةً، وعاب المسلمون على «عبداللّه بن جحش وأصحابه» فعلتهم هذه، هذا من جانب ومن جانب آخر وقَف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الأموالَ والأسيرين وأبى أن يأخذ من كلّ ذلك شيئاً وبقي ينتظر الوحي، وفجأة نزلَ جبرئيل بهذه الآية:

ص:48

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» .(1)

أي إِن كُنتم قَتلْتُم في الشهر الحرام، فقد صَدّوكم عن سبيل اللّه مع الكفر به وصدّوكم عن المسجد الحرام، وإخراجُكم منه وأنتم أهله أكبر عند اللّهِ مِن قتل من قُتِلَ منهم «وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» أي ما كانوا يرتكبونه من فتنة المسلم في دينِه حتّى يردُّونَه إلى الكفر بعد إيمانه أكبر عند اللّه من القتل.

ولمّا نزل القرآنُ بهذا الأمر، وفرّج اللّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف والحيرة قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأموالَ، والأسيرين وقسّمها بين المسلمين، وكانت أوّل غنيمة غنمها المسلمون.

وبعثت قريشٌ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في فداء أصحابهم فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

«لَن نفديهما حتّى يَقدمَ صاحبانا».

يعني رجلين من المسلمين كانا قد أُسِرا من قِبَل قريش، قد اشتركا في هذه العمليّة ولكنّهما أضلّا طريقهما في الصحراء فأسرتهما رجال من قريش.

وهكذا أبى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يطلق سراح أسيرَي قريش لقاء فدية إلّاإذا أطلق المشركون أسيرَي المسلمين، قائلاً لموفدي قريش:

«إنّي أخافُ على صاحِبَيَّ فَإن قَتَلتُم صاحِبيَّ قَتلتُ صاحِبَيكُم».

فاضطرت قريشٌ إلى الإفراج عن المسلمَين الأسيرَين، ومع وُصولهما إلى المدينة أفرجَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن أسيرَي قريش.

ومن حُسن الحَظ أنَّ أحد الأسيرَين أسلمَ ورَجَعَ الآخر إلى مكة(2).

ص:49


1- . البقرة: 217.
2- . لاحظ: المغازي: 13/1-18، السيرة النبوية لابن هشام: 435/2-438.
ما هو الهدف من المناورات العسكرية؟

لقد كان الهدفُ الأساسي من بعث وتوجيه السرايا، وعقد الاتّفاقيات والمعاهدات العسكرية مع القبائل القاطنة على خطوط التجارة المكّيّة هو إيقاف قريش على قوة المسلمين العسكرية، واشتداد ساعِدِهم، وخاصّة عندما كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يشترك بنفسه في العمليات، ويترصّد مع مجموعات كبيرة من أنصاره تحرّكات قريش الاقتصادية، ويعترض قوافلها التجارية.

لقد كان رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم يريد بذلك إفهام حكومة مكّة الوثنيّة بأنّ جميع طرق التجارة المكّيّة هي في متناول يده، وأنّه يستطيع - متى شاء - أن يُشلّ اقتصاد المكيّين بتعريض خطوطهم وطرقهم التجارية، للتهديد الجدّي.

ولقد كانت التجارة أمراً حَيَويّاً وحسّاساً جدّاً بالنسبة إلى أهل مكّة، وكانت البضائع الّتي تنقل منها إلى الطائف والشام تشكّل أساسَ الاقتصاد المكّي، فإذا كانت هذه الخطوط تتعرّض للتهديد من قِبَل العدوّ وحلفائه مثل «بني ضمرة» و «بني مدلج» فإن ذلك كان يعني انهدام وانهيار حياتهم. لقد كان الهدف من بعث تلك الدوريات العسكرية هو: أن تعرف قريش بأنّ طريق تجارتها الرئيسية هي الآن تحت رحمة المسلمين، فإذا استمرُّوا في معاداتهم للإسلام وللمسلمين وحالوا دون انتشار الإسلام والدعوة إليه واستمروا في إيذاء مَن تبقّى من المسلمين المستضعفين والعجزة في مكّة واضطهادهم، قطع المسلمون شريان اقتصادهم.

وخلاصة القول: إنّ الهدف كان هو أن تعيد قريشٌ النظر في مواقفها في ضوء الحالة الجديدة، والتهديد العسكريّ الإسلامي الجدّي، وتترك للمسلمين الحرية في الدّعوة إلى عقيدتهم، وتفتح الطريقَ لزيارة بيت اللّه الحرام، ونشر التوحيد

ص:50

ليستطيع الإسلام بمنطقه القويّ، والمحكم أن ينفذ في القلوب، ويتجلّى نورُ الإسلام ويشعَّ على جميع نقاط شبه الجزيرة العربية، وربوعها، وبخاصّة منطقة الحجاز مركز الجزيرة، وقلبها النابض.

فإنّ المتكلّم مهما كان قويَّ المنطق، سديد البرهان، وأنَّ المربّي والمرشد مهما كان مخلصاً مجداً فإنّه لا يستطيع أن يحرز أي نجاح في تنوير العقول، وتهذيب النفوس، وبثّ الفكر الصحيح إذا لم تتوفّر له حرية العمل، ولم تتهيّأ له البيئةُ المطمئِنّة وأجواءُ الحرّية والديمقراطية.

ولقد كان الاضطهادُ والكبتُ وسلبُ الحريات الّتي كانت تمارسها قريش هي الموانع الكبرى أمام تقدُّم الإسلام وسرعةِ انتشارِ نفوذه، وكان الطريق إلى كسر هذا السدّ، وإزالة هذا المانع ينحصر في تهديد اقتصادها وتعريض خطوطِها التجارية، للخطر، وكانت هذه الخطّة تتحقّق فقط عن طريق القيام بتلك المناورات العسكرية والاستعراضات الحربية، والعمليات الاعتراضية.

نظرية المستشرقين

ولقد وقع المستشرقون عند تحليلهم لهذه العمليّات في خطأ كبير، وتفوّهوا نتيجة ذلك بكلامٍ يخالف القرائن والشواهد الموجودة في التاريخ.

فهم يقولون: لقد كان هدف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من مصادرة أموال قريش، والسيطرة عليها هو تقوية نفسه.

في حين أنَّ هذا الرأي لا يلائم نفسيّة أهل يثرب؛ لأنَّ الغارَة، وقطع الطريق، واستلاب الأموال، من شيم الأعراب أهل البوادي، البعيدين عن روح الحضارة، وقيم المدنية وأخلاقها، بينما كان مسلمو يثرب عامّة، أهل زرع، وفلاحة، ولم يُعهَد

ص:51

منهم أن قطعوا الطرق على القوافل، أو سلبوا أموال القبائل الّتي كانت تعيش خارج حدودها.

وأمّا حروب الأوس والخزرج فقد كان لها أسبابٌ وعلل محلّيّة، وقد كان اليهودُ هم الذين يؤجّجون نيرانها، بغية إضعاف القوى والصفوف العربية وتقوية أنفسهم ومواقعهم.

ومن جانب آخر لم يكن المسلمون المهاجرون الذين كانوا حول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ينوون تلافي ما خسروه، رغم أنَّ ثرواتِهم وممتلكاتهم كانت قد صودِرت من قِبَل المكيّين، ويدلّ على ذلك أنّهم لم يتعرّضوا بعد معركة «بدر» لأيّة قافلة تجارية لقريش.

كيف لا وقد كان الهدف وراء أكثر هذه الإستطلاعات العسكرية هو تحصيل وجمع المعلومات، عن العدوّ وتحرّكاته وخططه، والمجموعات الّتي لم يكن يتجاوز عدد أفرادها غالباً الثمانية أو الستين أو الثمانين رجلاً لا يمكنها قطع الطريق، واستلاب الأموال، ومصادرة القوافل التجارية الكبرى الّتي كان يقوم بحراستها رجال أكثر عدداً وأقوى عُدّة من تلك السرايا، بأضعاف المرّات غالباً. فإذا كان الهدف هو الحصول على المال والثروة من هذا الطريق فلماذا خُصَّت قريش بذلك، ولم يعترض المسلمون تجارة غيرهم من القبائل المشركة؟

ولماذا لم يمسّ المسلمون شيئاً من أموال غير قريش؟

وإذا كان الهدف هو الغارة، وقطع الطريق واستلاب الأموال، فلماذا كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يبعث المهاجرين فقط، ولا يستعين بأحد من الأنصار في هذا المجال غالباً؟

وربما قال هؤلاء المستشرقون: إنّ المقصود من هذه العمليات الاعتراضية

ص:52

كان هو الانتقام من قريش، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه تعرّضوا على أيدي المكيّين لألوان التعذيب والاضطهاد والأذى، فدفعتهم غريزة الانتقام والثأر - بعد أن حصلوا على القوة - إلى تجريد سيوفهم، للانتقام من الذين طالما اضطهدوهم، وليسفكوا منهم دماً!!

ولكن هذا الرأي لا يقل في الضعف والوَهن والسخافة عن سابقه، لأنّ الشواهد والقرائن التاريخية الحيّة العديدة، تكذّبه وتفنّده، وتوضّح - بجلاء - أنّ الهدف من بعث تلك السرايا والدوريات العسكرية لم يكن أبداً القتال والحرب، والانتقام وسفك الدماء.

وإليك مايدلُّ على بطلان هذه النظرية:

أوّلاً: إذا كان هدف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من بعث تلك المجموعات العسكرية هو القتال واستلاب الأموال وأخذ المغانم، وجب أن يزيد في عدد أفراد تلك المجموعات، ويبعث كتائب عسكرية مسلَّحة، ومجهزة تجهيزاً قوياً، إلى سيف البحر، وشواطئه، في حين نجد أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث مع «حمزة بن عبد المطلب» ثلاثين شخصاً، ومع «عُبيدة بن الحارث» ستين شخصاً، ومع «سعد بن أبي وقاص» أفراداً معدودين لا يتجاوزون العشرة، بينما كانت قريش قد أناطت حراسة قوافلها إلى أعداد كبيرة جداً من الفرسان، تفوق عدد أفراد المجموعات العسكرية الإسلامية.

فقد واجه «حمزة» ثلاثمائة، و «عبيدة» مائتي رجل من قريش، وقد ضاعفت قريش من عدد المحافظين والحرس على قوافلها خاصّة بعد أن عرفت بالمعاهدات والتحالفات الّتي عقدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع القبائل القاطنة على الشريط التجاريّ؟!

ص:53

هذا مضافاً إلى أنّه لو كان قادة هذه البعوث والدوريات مكلَّفين بمقاتلة العدوّ فلماذا لم يسفك من أحد قطرة دم في أكثر تلك العمليات؟! ولماذا انصرف بعضهم لوساطةٍ قامَ بها «مجدي بن عمرو» بين الطرفين؟!

ثانياً: أنّ كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كتبه لعبداللّه بن جحش شاهدٌ حيٌّ على أنّ الهدف لم يكن هو القتال، والحرب.

فقد جاء في ذلك الكتاب: «إنزِل نَخلَة بين مكّة والطائف فترصَّد بها قريشاً وتعلم (أي حصّل) لنا من أخبارهم».

إنّ هذه الرسالة توضّح بجلاء أنَّ مهمة عبداللّه وجماعته لم تكن القتال قط، بل كانت جمع المعلومات حول العدوّ وتنقّلاته وتحرّكاته، أي مهمة استطلاعية حسب.

وأمّا سبب الصدِام في «نخلة» ومصرع عمرو الحضرمي فقد كان هذا القرار من الشورى العسكرية الّتي عقدتها نفس المجموعة، وليس بقرار وأمر من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ومن هنا انزعج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمجرّد سماعه بنبأ هذا الصِدام الدموي ولامهم على فعلتهم وقال: «ما أمَرتُكُم بِقتال».

ويؤيّد هذا ما ورد في مغازي الواقدي عن سليمان بن سحيم أنّه قال: ما أمرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالقتال في الشهر الحرام، ولا غير الشهر الحرام، إنّما أمرهم أن يتحسّسوا أخبار قريش(1).

والعلّة في أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يختار لهذه الدوريات والاستطلاعات رجالاً

ص:54


1- . المغازي: 16/1.

من المهاجرين دون الأنصار هي أنّ الأنصار قد بايعوا في العقبة على الدفاع، أي أنّ معاهدتهم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت معاهدة دفاعية تعهّدوا بموجبها بأن يمنعوه من أعدائه ويدافعوا عنه إِذا قصدَهُ عدوٌّ.

من هنا ما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يريد أن يفرضَ عليهم مثل هذه المهمات، ويبقى هو في المدينة، ولكنّه عند ما خرج - فيما بعد - بنفسه أخذ معه جماعةً من رجال الأنصار تقوية لروابط الأُخوّة والوحدة بين المهاجرين والأنصار، ولهذا كان رجاله في غزوة «بواط» أو «ذات العشيرة» يتكوّنون من الأنصار والمهاجرين.

وعلى هذا الأساس يتّضح بطلان نظرية المستشرقين حول الهدف من بعث الدوريات العسكرية.

كما أنَّ بالتأمّل والإمعان في ما قلناه يتّضح أيضاً بطلان ما قالوه في هذا المجال في تلك العمليات الّتي شارك فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه، إذ أنّ الذين خرجوا معه ما كانوا ينحصرون في المهاجرين خاصّة، بل كانوا خليطاً من المهاجرين والأنصار، والحال أنّ الأنصار لم يبايعوا النبيّ على القيام بأيّة عملية هجوميّة ابتدائية، بل كلّ ما بايعوا عليه النبيّ كما قلنا هو: العمل الدفاعي، فكيف يصح أن يدعوهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى عمليات قتالية ابتدائية هجوميّة؟!

وتشهد بما نقول حادثةُ وقعة بدر الّتي سنشرحها في ما بعد، فما لم يعلن الأنصار عن موافقتهم على قتال قريش لم يقرّر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الحرب، في تلك الواقعة.

هذا والسبب في تسمية أصحاب السير والتواريخ هذا النوع من العمليات الّتي خرج فيها النبيّ بنفسه (غزوة) وإن لم يقع فيها قتالٌ وغزوٌ، هو أنّهم أرادوا أن يجمعوا كلّ الحوادث تحت عنوانٍ واحدٍ، وإلّا فلم يكن الهدف الأساسي من هذه العمليات هو الحربُ والقتال، أو السيطرة على الأموال وسلبها.

ص:55

29 تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

اشارة

لم يكن قد مضى على هجرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة عدة أشهر إلّاوبدأت نغمة معارضة اليهود للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تظهر شيئاً فشيئاً!!

وفي الشهر السابع عشر من الهجرة بالضبط(1) أمر اللّه تعالى نبيَّه صلى الله عليه و آله و سلم بالأمر المؤكَّد القاطع بأن يتحول إلى الكعبة ويتّخذها من الآن فصاعداً قبلةً له وللمسلمين كافّة، فيتوجّهون إلى المسجد الحرام في أوقات الصلوات.

هذا هو مجمل القصّة، وإليك بيانها على وجه التفصيل.

صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثلاثةَ عَشَر عاماً كاملة في مكّة نحو بيت المقدس.

وبعد الهجرة إلى المدينة كان الأمر الإلهيّ له هو أن يبقى على الحالة من حيث القبلة، أي أن يصلّي إلى بيت المقدس، كما كان يفعل في مكّة.

وقد كان هذا الإجراء نوعاً من المحاولة لإقامة التعاون والتقارب بين الدينين القديم والجديد، ولكن تنامي قوة المسلمين واشتداد ساعدهم أحدث رعباً كبيراً،

ص:56


1- . الطبقات الكبرى: 1/241 و 242؛ إعلام الورى بأعلام الهدى: 71 و 72. ويقول ابن هشام في السيرة النبوية لابن هشام: 391/2: ولمّا صرف القبلة عن الشام إلى الكعبة وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة... ويرى ابن الأثير أنّ ذلك حدث في منتصف شهر شعبان (الكامل في التاريخ: 2/80).

وأوجد قلقاً واسعاً في أوساط اليهود القاطنين في المدينة؛ لأنّ تقدّم الإسلام والمسلمين المطرّد كان يدلّ على أنّ الدين الإسلامي سيعمّ في أقرب وقت كلّ أنحاء شبه الجزيرة العربية، وستتقلّص (بل تزول) في المقابل قوة اليهود وسلطانهم، ومكانتهم، من هنا نصب أحبارُ اليهود العداوة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وعمدوا إلى ممارسة سلسلةٍ من الأعمال الإجهاضية والإيذائية.

لقد أخذوا يؤذون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين بمختلف الطرق وبشتّى الوسائل والسبل، والمعاذير والحجج ومن جملتها التذرّع بقضيّة صلاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين إلى بيت المقدس.

فكانوا يقولون معيّرين إيّاه: أنتَ تابعٌ لنا تصلّي إلى قبلتنا!!

أو كانوا يقولون: يخالفنا محمَّد في ديننا ويتّبع قبلتنا(1).

فشقّ هذا الكلام على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واغتمّ لذلك غمّاً شديداً فكان يخرج من بيته في منتصف الليل ويتطلّع في آفاق السماء ينتظر من اللّه أمراً ووحياً في هذا المجال كما يفيد قوله تعالى: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» .(2)

ويُستفاد من الآيات القرآنية في هذا المجال إنّه كان لتغيير القبلة مضافاً إلى الردّ على دعوى اليهود سببٌ آخر أيضاً، وهو: إنّ هذه المسألة كانت من المسائل الاختبارية الّتي أراد اللّه تعالى بها أن يمتحن المسلمين، ويميّز المؤمن الواقعي الحقيقي عن أدعياء الإيمان، المنتحلين له كذباً ونفاقاً، وأن يعرف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم به من حوله معرفةً جيدةً؛ لأنّ اتّباع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الأمر الثاني الّذي نزل على رسول

ص:57


1- . مجمع البيان: 1/255 أو: ما درى محمَّد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم.
2- . البقرة: 144.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أثناء الصلاة (وهو التوجه إلى المسجد الحرام) كان علامة قوية من علامات الإيمان والتسليم، والإخلاص والوفاء للدين الجديد.

بينما كانت مخالفته علامةً قويةً من علامات النفاق والتردّد كما يصرّح القرآن الكريم بنفسه بذلك إذ يقول:

«وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ» (1).

ومن المسلَّم أنّه يمكن الوقوف على حِكَم أُخرى لهذا الأمر (أي صرف القبلة من الشام إلى الكعبة) إذا تتبّعنا تاريخ الإسلام بشكل أوسع، وطالعنا أوضاع شبه الجزيرة العربية.

ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الحِكَم مضافاً إلى ما ذكرناه:

أوّلاً: أنّ الكعبة الّتي رفعت قواعدها على يَدَي بطل التوحيد وناشر لوائه النبيّ العظيم «إبراهيم الخليل» عليه السلام كانت موضع احترام وتقديس من المجتمع العربي، فقد كان العرب يحبّون الكعبة ويعظمونها غاية التعظيم على ماهم عليه من الشرك والفساد، فكان اتّخاذها قبلة من شأنه كسب رضا العرب، واستمالة قلوبهم، وترغيبهم في الإسلام تمهيداً لاعتناق دين التوحيد ونبذ الأوثان والأصنام.

وأيّ هدفٍ، وأيّة غاية ترى أسمى وأجلُّ من أن يؤمن المشركون المعاندون المتخلّفون عن ركب الحضارة والمدنية، وينتشر الإسلام بسببهم في كلّ أنحاء العالم.

ص:58


1- . البقرة: 143. ويمكن بيان هذه العلّة بصورة أُخرى وهي إنّما أُمروا بالصلاة إلى بيت المقدس لأنّ مكّة وبيت اللّه الحرام كانت العرب آلفة بحجّها، فأراد اللّه أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر مَن يتبع الرسول ممّن لا يتبعه. (راجع: مجمع البيان: 222/1 و 223).

ثانياً: أنّ الابتعاد عن اليهود - الذين لم يكن يؤمَل في إذعانهم للإسلام، وإيمانهم برسالة (محمّد) - كان يبدو أمراً ضرورياً، لأنّهم كانوا يقومون بأعمال إيذائية ضد الإسلام والمسلمين ويطلعون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين الفينة والأُخرى بأسئلة عويصة يشغلونه بها، يظهرون بها - حسب تصوّرهم - أنّهم يعرفون أُموراً كثيرة وأنّهم علماء، وبذلك يضيّعون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الوقتَ، ويشغلونه عن مهامّه الكبرى.

فكان تغيير القبلة واحداً من مظاهر الابتعاد عن اليهود واجتنابهم، تماماً مثل نسخ صوم يوم عاشوراء الّذي تمّ لنفس هذا الغرض.

فقد كانت اليهود تصوم يوم عاشوراء قبل الإسلام فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بأن يصوموا هذا اليوم أيضاً، ثم نسخ الأمر بصوم عاشوراء وفرض مكانه صوم شهر رمضان(1).

وعلى كلّ حال فإنّ الإسلام الّذي يتفوّق على جميع الأديان، يجب أن تتجلّى فيه هذه الحقيقة بحيث يغدو أمرُ تكامله وتفوّقه بادياً للعيان، واضحاً للجميع.

وفي هذه الحالة تصوَّر بعض المسلمين أنّ ما أتوا به من صلاة وعبادة وهم متّجهين إلى بيت المقدس كان باطلاً إذ قالوا: كيف بأعمالنا الّتي كنّا نعمل في قبلتنا الأُولى، أو حال مَن مضى من أمواتنا وهم كانوا يصلّون إلى بيت المقدس؟!

فنزل الوحيُ الإلهيُ يقول:

«وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (2).

ومع ملاحظة هذه الاعتبارات وبينما كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد انتهى من الركعة

ص:59


1- . مجمع البيان: 273/1.
2- . البقرة: 143. والمراد من الإيمان هنا هو العمل وهو من الموارد الّتي استعمل فيها لفظ الإيمان وأُريد به العمل.

الثانية من صلاة الظهر، نزل عليه جبرئيل، وأمره بأن يتوجّه بالمصلِّينِ معه صوب المسجد الحرام.

وجاء في بعض الأخبار أنَّ جبرئيل أخذ بيد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأداره نحو المسجد الحرام، فتبعه الرجال والنساء الذين كانوا يأتمّون به في المسجد(1).

فتحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس، وآخرها إلى الكعبة.

ومنذ ذلك الحين جعلت الكعبة المعظمة - زاد اللّه من شرفها - قبلة مستقلّة للمسلمين يتوجّهون إليها في كثير من واجباتهم وشعائرهم الدينية(2).

هذا والغريب أنّ اليهود الذين كانوا قبل نزول الأمر بالتحوّل من بيت المقدس إلى الكعبة المعظّمة يفتخرون على المسلمين بأنّهم يصلّون على قبلة اليهود، لما حُوّل المسلمون إلى الكعبة المعظمة، وأُمروا بالصلاة إليها دون بيت المقدس أخذوا يعيبون على المسلمين التوجّه إلى نقطة مّا في الأرض فردّ اللّه عليهم بقوله:

«سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (3).

أي أنّ اللّه فوق الزمان والمكان، والتوجّه إلى نقطة خاصّة في حالة العبادة إنّما هو لمصالح اجتماعية خاصّة فالصلاة إلى الكعبة توجّه إلى اللّه كالصلاة إلى بيت المقدس سواء.

ص:60


1- . بحار الأنوار: 201/19 عن «من لا يحضره الفقيه».
2- . كالصلاة والذبح ودفن الموتى، والدعاء وغير ذلك.
3- . البقرة: 142.
كرامةٌ علمية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

وما ينبغي الإشارة إليه هنا هو: أنّ العرض الجغرافي للمدينة - طبقاً لمحاسبات علماء الفلك القدامى - هو 25 درجة، وطولها 75 درجة و 20 دقيقة، ولهذا كانت قبلة المدينة لا توافق محراب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الباقي على حالته السابقة إلى الآن في مسجده الشريف، وقد سبّب هذا الاختلاف حيرةً لدى بعض المتخصّصين في هذا العلم، وربما دفعهم إلى ارتكاب توجيهات وتبريرات لرفع هذا الاختلاف.

ولكن القائد المعروف بسردار الكابلي أثبت في الآونة الأخيرة - طبقاً للمقاييس المعروفة اليوم - أن خط المدينة الجغرافي على عرض 24 درجة و 57 دقيقة وطول 39 درجة و 59 دقيقة(1).

وتكون نتيجة هذه المحاسبة هي أن قبلة المدينة تكون في نقطة الجنوب تماماً وتنحرف عن نقطة الجنوب ب 45 دقيقة فقط.

وهذا الاستخراج الفلكي للقبلة ينطبق على محراب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أفضل تطبيق، ويُعَدُّ هذا من كرامات النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حيث توجّه في حالة الصلاة(2) من بيت المقدس إلى الكعبة بصورة دقيقة ومن دون أي انحراف ولا جزئي مغتفر وذلك من دون أية محاسبةٍ فلكيّة، وعلميّة.

وقد أخذ جبرئيل بيده وحوّل وجهه نحو الكعبة المعظمة كما أسلفنا(3).

ص:61


1- . تحفة الأجلّة في معرفة القبلة: 71، طبعة 1359 ه.
2- . لاحظ: من لا يحضره الفقيه للصدوق: 178/1.
3- . وقد نقل الحرّ العاملي في وسائل الشيعة: في أبواب القبلة: 215/3 و 216 حادثة تحوّل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، فراجع.

30 معركة بدر الكبرى

اشارة

معركة «بدر» من معارك الإسلام الكبرى ومن حروبه البارزة، وقد اكتسب الذين شاركوا في هذه المعركة منزلة خاصّة بين المسلمين فيما بعد.

فالواقعة الّتي كان يشارك فيها فردٌ أو عدةُ أفراد من المجاهدين في «بدر» أو اذا كانوا يشهدون على أمر قال المسلمون: ووافقنا عليه البدريون.

أجل إنّ الذين شاركوا في معركة بدر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يدعون بالبدريّين، ولم يكن هذا إلّالأهميّة تلكم الوقعة التاريخية.

وتتّضح علّة هذه الأهميّة إذا نحن استعرضنا تفاصيل هذه الوقعة.

لقد قلنا في ما سبق أنّه بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في منتصف جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة، أنّ قافلة قريش التجارية خرجت من مكّة إلى الشام بقيادة «أبي سفيان بن حرب».

فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لملاحقتها إلى «ذات العشيرة» وتوقّف هناك إلى مطلع الشهر التالي، ولم يعثر على تلك القافلة، وقد كان وقت عودة القافلة معلوماً تقريباً، فقد كانت قافلة قريش تعود من الشام إلى مكّة في أوائل الخريف.

ومن المعلوم أنّ أوّل خطوة على طريق الانتصار في مثل هذه المجالات هو تحصيل أكبر قدر من المعلومات حول العدوّ؛ لأنّ قائد الجيش مالم يعرف شيئاً عن

ص:62

استعدادات العدوّ، ونقطة تمركزه وتواجده، ومعنويات أفراده، فإنّه ربما ينهزم وينكسر في أوّل مواجهة.

ولقد كان من أساليب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الرائعة في جميع الحروب والمعارك الّتي ستقرأ تفاصيلها هو جمع المعلومات حول مدى استعداد العدوّ، ومبلغ تهيُّئِه و مكان تواجده، وتمركزه، وهذه مسألة تحظى وإلى اليوم بأهميّة خاصّة في الحروب العالمية والمحلّية، بل وترصد لها ميزانيّات كبرى، وتستخدم أجهزة عريضة في عالمنا الحاضر، كما هو معلوم للجميع، وكما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

وقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عَيناً له على قافلة قريش اسمه «عدي» - حسب رواية المجلسي(1) - أو «طلحة بن عبيداللّه» و «سعيد بن زيد» حسب ما قال صاحب «حياة محمّد» نقلاً عن المصادر التاريخية(2)، لإخباره عن مسير تلك القافلة، وعدد حرّاسها ورجالها ونوعية البضائع المحمّلة.

فلمّا عاد العين أخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

1. بأنّ قافلة قريش قافلةٌ كبرى شارك فيها كلّ أهل مكّة، حتّى أنّه ما من قرشيّ أو قرشية بمكّة له مثقال فصاعداً إلّابعث به في تلك القافلة.

2. أنّ البضائع يحملُها ألفُ بعير وأنّ قيمتها تبلغ خمسين ألف دينار.

3. وأنّه يقودها «أبوسفيان بن حرب» في أربعين رجلاً.

وحيث إنّ أموال المسلمين المهاجرين إلى المدينة كانت قد صُودرت في مكّة على أيدي قريش، من هنا كان الوقت مناسباً جداً لأن يأخذَ المسلمون أموال

ص:63


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 217/19.
2- . المغازي: 19/1.

قريش في تلك القافلة، ويحتفظوا بها ريثما تفرج قريش عن أموال المسلمين المهاجرين المصادرة بمكّة، فإذا لجّوا وأصرّوا في مصادرة أموالِ المسلمين قسَّم المسلمون في المقابل أموال قريش المأخوذة فيما بينهم وتصرّفوا فيها كغنائم حرب، من هنا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهم:

«هذا عِيرُ قريش (أي قافلتهم) فيها أموالهم، فاخرجوا اليها لعَلّ اللّه ينفلْكُمُوها»(1).

من هنا استخلفَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة «عبداللّه بن أُمّ مكتوم» للصلاة بالناس، والقيام بالشؤون الدينية، و «أبا لبابة» للقيام بالشؤون السياسية. ثم خرج من المدينة في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً لمصادرة أموال قريش أو بالأحرى توقيفها وحبسها.

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يتوجّه إلى منطقة ذَفران

(2)

لقد ترك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة بعد أن أتاه الخبر عن تحرّك قافلة قريش، قاصداً وادي ذفران حيث طريق القافلة، في يوم الاثنين، الثامن من شهر رمضان، وقد عقد رايتين: سلّمْ إحداهما إلى مصعب بن عمير، والأُخرى (وتُسمّى العقاب)

ص:64


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 440/2؛ المغازي: 20/1.
2- . وادي ذفران الّذي كان تمرّ به قافلة قريش التجارية يقع على مرحلتين من بدر. وقد ذكر ابن هشام في سيرته جميع المراحل الّتي طواها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من المدينة إلى وادي ذفران ومنه إلى بدر الّذي ارتحل إليه رسول اللّه بعد أن بلغه نبأ تحرك قافلة قريش. وبدر كان موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم به سوقٌ كلّ عام يتبايعون فيه ويتفاخرون على غرار سوق عكاظ، وكان يقع على طريق مكّة والمدينة والشام. (راجع: السيرة النبوية لابن هشام: 2/446-447).

إلى علي بن أبي طالب عليه السلام.

ولقد كانت المجموعة الّتي خرج بها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تتألّف من اثنين وثمانين من المهاجرين، ومائة وسبعين من الخزرج، وواحد وستين من الأوس، وكان عندهم ثلاثة أفراس فقط.

ولقد بلغ حبُّ الشهادة عند المسلمين يومئذ مبلغاً عجيباً حتّى أنّ فتياناً دون الحلم اشتركوا في هذه المعركة، وردّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعضهم إلى المدينة لمّا استصغرهم(1).

إن كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يفيد بأنّه صلى الله عليه و آله و سلم قد وعدهم بالرخاء والانفراج في المعيشة وذلك عن طريق السيطرة على أموال قريش، وأخذِ بضائعها، وكان المسوّغ لهذا العمل هوما سبق أن ذكرناه، وهو أنّ قريشاً كانت قد صادرت كلّ أموال المهاجرين المسلمين في مكّة، منقولها وغير منقولها، ومنعت من دخولهم مكّة، وخروجهم منها.

ومن الواضح أن يسمح العاقل لنفسه - أيّاً كان - بأن يعامِلَ عدوه بمثل هذه المعاملة الّتي عامَلَهُ بها العدوُّ.

وأساساً يجب أن نعلم أنّ سبب هجوم المسلمين على قافلة قريش هو أنّهم

ص:65


1- . لاحظ: المغازي: 21/1. وروى أنّه كان الرجل يساهم أباه في الخروج مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رغبةً في الجهاد في سبيل اللّه والشهادة، فكان ممّن ساهم «سعد بن خيثمة» وأبوه في الخروج إلى بدر، فقال سعد لأبيه: إنّه لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا. فقال خيثمة: آثِرني، وقرّ مع نسائك! فأبى سعد. فقال خيثمة: إنه لابدَّ لأحدنا من أن يقيم، فاسْتَهما (أي اقترعا) فخرج سهم سعد فقتل ببدر (المغازي: 20/1).

قد ظُلِمُوا وقُهِروا، الأمرُ الّذي يذكره القرآن الكريم أيضاً، ولذلك يسمح للمسلمين بأن يقاتلوا عدوَّهم ويعترضوا تجارتهم إذ يقول:

«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» (1).

ولقد كان أبوسفيان قد عرف - عند توجّهه بالقافلة إلى الشام - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يترصّد القافلة، ولهذا اتّخذ كافّة الاحتياطات عند قفوله ورجوعه من الشام، فكان يسأل القوافلَ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكان إذا رأى أحداً منهم سأله: هل أحسستَ أحداً؟!

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد خرج مع أصحابه من المدينة، يلاحق قافلة قريش، وقد نزل في وادي ذفران.

ولمّا أحسّ أبوسفيان بذلك أحجم عن الاقتراب إلى منطقة بدر ولم يرَ بُدّاً من أن يخبر قريشاً بالخطر الّذي يحدق بتجارتهم، وأموالهم، ويطلب مساعدتهم، فاستأجر رجلاً يُدعى «ضمضم بن عمرو الغفاري» وأمرهُ بأن يجدع بعيره (يقطع أنفه) ويحوِّل رَحْله، ويشقَّ قميصَه من قُبُله وَ دُبُرِه ويصيح الغوث! الغوث، ويخبر قريشاً أنّ محمّداً تعرّض لتجارتهم!!

فخرج ضمضم سريعاً إلى مكّة، ولمّا قدِمها وقف ببطن الوادي يصيح بأعلى الصَوت: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة(2)، أموالكم مع أبي سفيان قد تعرّض لها محمّد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث(3).

فأثار هذا المنظرُ المثيرُ، واستغاثات ضمضم المتتابعة أهل مكّة، فتجهّزوا

ص:66


1- . الحج: 39.
2- . اللطيمة: الإبل الّتي تحمل الأقمشة والعطور، والنداء يعني: أدركوا اللطيمة أدركوها.
3- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 2/116؛ المغازي: 28/1؛ بحار الأنوار: 215/19-216.

سراعاً، وتهيّأوا للخروج، وأعدَّ كلّ صناديد قريش ورجالها المقاتلون أنفسهم للتحرّك نحو المدينة إلّاأبو لهب الّذي لم يشترك في هذا الخروج، وأرسل مكانه «العاصي بن هشام» لقاء أجرٍ قدرُه أربعةَ آلاف درهم.

وأراد «أُميّة بن خلف» هو الآخر أن يتخلّف لأسباب خاصّة، فقد قيل له: أنّ محمّداً يقول: لأقتلنّ أُميّة بن خلف.(1)

فرأى أشراف قريش وسادات مكّة أنّ تخلّف رجل مثله يضرّ بقريش ويوهن من عزيمة الجيش، فقرّروا إثارته وتحريكه فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل ومع عقبة مجمرة فيها بخور، ومع أبي جهل مكحلة ومرود فأدخلها عقبة تحته وقال: تبخّر فإنّما أنت امرأة! وقال أبو جهل: اكتحل فإنّما أنت امرأة!!

فغضب أُميّة، وهاجت به الحمية، فتجهّز من فوره، وخرج مع الناس.(2)

وخلاصة القول: إنّه أُرعبت قريش لمّا سمعت بتعرّض قافلتها وأموالها للخطر من قبل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، فكانوا بين رجلين إمّا خارج أو باعث مكانه رجلاً، وما بقي أحدٌ من عظماء قريش إلّاأخرج مالاً لتجهيز الجيش، وأخرجوا معهم المغنّيات يضربن بالدفوف ويهيّجن الرجال للقتال.

المشكلة الّتي كانت تواجهها قريش

ولمّا أُعلن عن موعد الرحيل تذكرت قريش بأنّ بينهم وبين قبيلة «بني بكر» عداءً قديماً، فخافوا أن يوجّهوا إليهم ضربةً من الخلف، أو يحملوا على نسائهم وذراريهم في مكّة في غياب منهم، فكاد ذلك يثنيهم عن الخروج.

ص:67


1- . المغازي: 35/1.
2- . المغازي: 36/1. ولاحظ: البداية والنهاية: 315/3، شرح نهج البلاغة: 100/14.

وقد كان العداء بين قريش وبني بكر يعود إلى دمٍ سُفك بينهم في قصّة ذكرها ابن هشام وغيره من كتّاب السيرة(1).

ولكن سراقة بن جعشم المدلجي - وكان من أشراف بني كنانة وهم من بني بكر - طمأنهم ووعدهم بأن لا تأتيهم بنو بكر من خلفهم بشيء يكرهونه، ولمّا اطمأنّوا خرجوا صوب المدينة سراعاً.

وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابُه قد خرجوا من المدينة لاعتراض قافلةِ قريش التجارية، وهبطوا في وادي ذفران، وبقوا هناك ينتظرون مرورها، ولكنّه فجأة بلغه خبرٌ جديدٌ غيّر أفكار قادة الجيش الإسلامي، وفتح - في الحقيقة - فصلاً جديداً في حياتهم.

فقد أتاه الخبر عن مسير قريش باتّجاه المدينة لحماية قافلتها التجارية، وأنّ جيشها قد وَصَل إلى مشارف المنطقة الّتي تواجد فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، وأنّ طوائف متعدّدة قد ساهمت وشاركت في تكوين هذا الجيش.

فوجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والقائد الأعلى للمسلمين نفسَه أمام خيارين:

إمّا أن يقاتل، ولكنّه لم يخرج هو أو أصحابه الذين مرّ ذكرهم إلّالمصادرة أموال قريش، فلم يكونوا متهيّئين لمقاتلة الجيش المكّي الكبير، لامن حيث العدد، ولا من حيث العُدّة. وإمّا أن يرجع إلى المدينة من حيث أتى، وهذا يعني أن ينهار كلّ ما كسبوه من الهيبة والمهابة، بفضل المناورات العسكرية، والعروض النظامية السابقة.

وبخاصّة إذا تقدّم العدوّ نحو المدينة في ظلّ هذا الانسحاب واجتاح مركز

ص:68


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 443/3-445؛ المغازي: 37/1-38.

الإسلام «المدينة المنورة».

فرأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن لا ينسحب، بل يقاتل العدوّ بما عنده من العدّة القليلة والعدد القليل ويقاوم حتّى اللحظة الأخيرة والنفس الأخير.

والجدير بالذكر أنّ أكثر الذين كانوا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانوا من شبّان الأنصار وكان عدد المهاجرين لا يتجاوز 82 شخصاً.

وكانت بيعة العقبة الّتي بايع فيها الأنصار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيعةً على الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته لا القتال والحرب.

أي أنّهم بايعوه صلى الله عليه و آله و سلم على أن يمنعونه في المدينة فلا يصل إليه أحد من أعدائه وهو بينهم.

أَمّا أن يخرجوا معه إلى خارج المدينة لقتال العدوّ فلم يبايعوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على مثل ذلك، فماذا يفعل القائدُ الأعلى للمسلمين؟

إنه لم يرَ مناصاً من استشارة الناس الذين معه، ومعرفة رأيهم في ما يجب اتّخاذه من طريقةِ حلٍّ لهذه المشكلة.

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعقد شورى عسكرية

وهنا وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك الجماعة وقال: أشيروا عليَّ أيّها الناس.

فقام أبو بكر وقال: يا رسول اللّه إنّها قريش، وخيلاؤُها ما آمَنَت منذ كَفَرَت، ولا ذَلَّت مُنذ عزّت، ولم نخرج على أهبة الحرب!!

وهذا يعني أنّه رأى من الصالح أن ينسحبوا إلى المدينة، ولا يواجهوا قريشاً.

فقال له رسول اللّه: إجلس.

ثم قام عمر بن الخطاب، وكرّر نفس مقالة أبي بكر، فأمره النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

ص:69

بالجلوس أيضاً.

ثم قام «المقدادُ بن عمرو» وقال: يا رسولَ اللّه إمض لِما أراك اللّهُ فنحنُ معك، واللّهِ لا نقولُ لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ» .(1)

ولكن إذهَب أنتَ وربُّك فقاتِلا، وإنّا مَعَكُما مُقاتِلون.

فَوَ الَّذي بعثكَ بالحقِّ لو سِرتَ بنا إلى برك الغماد (وهو موضع بناحية اليمن) لجالَدنا معك مِن دونه، حتّى تبلغَه، ولو أمرتنا أن نخوضَ جَمر الغضا (أي النار المتقدة) وشوكَ الهراس (وهو شجرٌ كبير الشوك) لخضناه معك.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خيراً ودعا له.

إخفاء الحقائق وكتمانها

إذا كان إخفاء الحقائق، والتعتيم عليها وسترها، والتعصب الباطل أمراً مشيناً مِن كلّ من ألَّفَ وكَتَبَ، فإنّه ولا شك أقبحُ من المؤرّخ، المؤتَمنَ على التاريخ وحقائقه.

فإنّ على المؤرّخ أن يكون مرآةً صادقة للأجيال القادمة لا يكدرها غبار التعصّب، وغشاوة التحريف والتبديل والكتمان للحقائق.

ولقد ذكر ابن هشام(2) والحلبي(3) والطبري(4) ما وقع في الشورى العسكرية الّتي عقدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأدرج فيها ما قاله المقداد، وقاله سعد بن

ص:70


1- . المائدة: 24.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/447.
3- . السيرة الحلبية: 385/2.
4- . تاريخ الطبري: 140/2.

معاذ في كتبهم على وجه التفصيل، ولكنّهم أحجموا عن إدراج ما قاله أبوبكر وعمر وإنّما قالوا: وقال فلانٌ وأحسَنَ، وقال فلانٌ وأحسنَ!!

وهنا نسأل أُولئك المؤرّخين إذا كان ما قاله فلان وفلان حسناً أرضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلماذا تركوا ذكره على نحو التفصيل كما فعلوا بالنسبة إلى كلام المقداد وسعد؟!

بلى؛ إنّهما لم يقولا إلّاما ذكرناه قبل قليل، ليس غير. وإذا كان أُولئك المؤرّخون يكتمون الحقائق، فقد أظهرها الآخرون وسجّلوا نصَ ما قاله الرجلان(1)، ولم يكن قولاً حسناً ولا كلاماً طيباً، بل كان كلامهما مثبّطاً، ينمّ عن خوف، ووحشة، فهما صوّرا قريشاً قوةً لا تُقهر، وجيشاً لا يُدحَر، غير آبهين بما تترك كلماتهم من الأثر السيئ في نفوس المسلمين في ذلك الظرف الدقيق، واللحظة الخطيرة!!

وإنّك أيّها القارئ لتستطيع أن تعرفَ مدى إنزعاج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من مقالتهما، ممّا ذكره الطبري نفسُه في الصفحة ذاتها، فإنّ الشيخين كما تلاحظ، كانا أوّل مَن نطقا في تلك الشورى، ثم تكلّم بعدهما المقداد، وسعد بن معاذ.

فإنّ الطبري يروي عن ابن مسعود أنّه قال: لقد شهدت من المقداد مشهداً لئن أكون أنا صاحبه أحبُّ إليَّ ممّا في الأرض من شيء، كان رجلاً فارساً وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا غضب احمرّت وجنتاه؛ فأتاه المقداد على تلك الحال(2) فقال:

أبشر يا رسول اللّه فواللّه لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ» ، ولكن والذي بعثك بالحقّ لنكوننّ من بين يديك

ص:71


1- . المغازي: 48/1؛ إمتاع الأسماع: 93/1؛ بحار الأنوار: 217/19.
2- . أي وهو غاضب من مقالة وتثبيط من تقدّماه.

ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك أو يفتح اللّه لك.(1)

ولقد كان ذلك المجلسُ مجلسَ استشارة وتبادل للرأي وكان لكلّ أحدٍ الحقُّ في أن يُدلي برأيه، ويطرح نظره على القائد الأعلى، ولكنَّ مجريات الأحداث أثبتت أنّ المقداد كان أقرب إلى الصواب، وأكثر توفيقاً في إصابة الحقّ من ذينك الرجلين.

وقد أشار القرآن الكريم إلى تخوّف بعض المسلمين من مواجهة العدوّ في هذه الموقعة إذ قال سبحانه:

«كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ» (2).

وقال تعالى:

«يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ» (3).

قرار الشورى الحاسِم أو رأي زعيم الأنصار

كانت الآراء الّتي طُرِحت آراء شخصيّة وفردية على العموم، والحالَ أنّ الهدف الأساسي من عقد تلك الشورى كان هو الحصول على رأي الأنصار، فلمّا لم يدلِ الأنصارُ برأيهم لم يمكن لتلك الشورى أن تتّخذ رأياً حاسماً، وتبتّ في الأمر.

من هنا أعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «أشيروا عليّ أيّها الناس» وهو يريد الأنصار.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري وقال: واللّه لكأنّك تريدنا يا رسول اللّه؟

فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: أجل.

ص:72


1- . تاريخ الطبري: 140/2.
2- . الأنفال: 5.
3- . الأنفال: 6.

فقال سعد: بأبي أنتَ وأُمّي يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنا قد آمنّا بكَ، وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئتَ به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول اللّهِ لما أردتَ فنحنُ معك، فوالّذي بعثك بالحقّ، لو استعرضت بنا هذا البحر(1) فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منّا رجلٌ واحدٌ، وما نكرهُ أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبّرٌ في الحرب، صدُق في اللقاء، لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسِر بنا على بركة اللّه، وصِل مَن شئتَ، واقطعْ من شئتَ، وخذْ مِن أموالنا ما شئتَ، و ما أخذت من أموالنا أحبُّ إلينا ممّا تركتَ.

فسرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقول سعد ونشّطه ذلك، وأزال سحابة اليأس من النفوس، وأشعل ضياء الأمل في القلوب.

ولهذا لم يفرغ ذلك الأنصاريُ البطل والقائد المؤمن الشجاع من مشورته الشجاعة إلّاوأصدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمره بالرحيل قائلاً: «سيروا على بركة اللّه وأبشروا فإنّ اللّه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه وعده.

واللّه لكأنّي الآنَ أنظُر إلى مصارع القوم».

وتحرك الجيشُ الإسلامي بقيادة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ونَزَل عند آبار «بدر»(2).

جمع المعلومات حول العدوّ

مع أنّ المبادئ العسكريّة والتكتيكات الحربية في الوقت الحاضر تختلف عمّا كان عليه في العصور الغابرة اختلافاً كبيراً، إلّاأنّ مسألة جمع المعلومات حول

ص:73


1- . يقصد البحر الأحمر.
2- . لاحظ: المغازي للواقدي: 48/1-49؛ السيرة النبوية لابن هشام: 447/2-448.

العدوّ ومعرفة أسراره العسكرية، ومدى استعداداته ومبلغ قواه الّتي يستخدمها، ودرجة معنويات أفراده كانت على أهمّيتها وقيمتها، لم تتغيّر، بل ازدادت أهمّيتها في العصر الحاضر - كما أسلفنا -.

فهي تشكّل الآن أيضاً مفتاحاً في الحروب، ومنطلقاً للانتصارات العسكرية.

على أنّ هذه المسألة قد اتّخذت اليوم صبغة التعليم والتمرين، فقد أصبح لها اليومَ كتبٌ ومعاهدُ تتولّى تعليم طرائق التجسّس العسكري وأساليبه، كما ويعزي قادة المعسكر الغربي والشرقي الكثير من نجاحاتهم إلى نجاحهم في توسعة دوائر التجسس ومنظماته الّتي تستطيع إطلاع أصحابها على معلومات دقيقةٍ ومفصّلة عن خطط العدو وقواه، وأماكن تمركزه وتواجده، وخطوط إمداده، وتموينه تمهيداً لإفشالِ تحركاته أو إجهاضها فوراً. من هنا استقر الجيشُ الإسلامي في منطقةٍ تلائم مبادئ التستر بشكل كامل، ومنع عن أي عمل من شأنه انكشاف أسراره، كما أنّ فرقاً مختلفةً و متعدّدة كُلّفت بجمع المعلومات عن قريش وقافلتها وجيشها.

فكانت المعلومات الّتي توفرت لدى القيادة الإسلامية هي كالتالي:

1. أنّ النبيّ نفسه ركب هو ورجل من قادة جيشه حتّى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم؟ فأخبرهم بأنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، وإنّه إن كان صدق الّذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا (وكذا للمكان الّذي كان به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم)، وإنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، وإنّه إن كان الّذي أخبره صدقه فهم اليوم بمكان كذا (وكذا: للمكان الّذي فيه قريش).

وهكذا عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نقطة تواجد قريش، واستقرار قواتهم.

ص:74

2. بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جماعة «الزبير بين العوام» و «سعد بن أبي وقاص» بقيادة علي عليه السلام إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر، فأصابوا إبلاً يستقى عليها الماء لقريش فيها غلامان أحدهما لبني الحجاج والآخر لبني العاص فأتوا بهما إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فسألهما النبيّ عن قريش فقالا: هم واللّه وراء هذا الكثيب الّذي ترى بالعدوة القصوى.

فقال لهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: كم القوم وما عدّتهم؟ فقالا: لا ندري، كثير. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: كم ينحرون (من الإبل) كلّ يوم؟ قالا: يوماًتسعاً ويوماً عشراً.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: القوم فيما بين التسعمائة والألف.

ثم سألهما: فمَن فيهم من أشراف قريش؟

قالا: عتبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأُمية بن خلف، و... و...

فأقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أصحابه وقال:

«هذه مكّة قد ألقَت إليكم أفلاذ كبدها»(1).

3. كُلِّف شخصان بالدخول إلى قرية بدر وتقصّي الحقائق حول قافلة قريش فيها فمضيا حتّى نزلا بدراً فأناخا إبلهما إلى تلّ قريب من الماء، ثم تظاهرا بأنّهما يريدان أن يستسقيا، فسمعا جاريتين من جواري الحاضر وهما تتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنّما تأتي القافلة غداً أو بعد غدٍ فأعملُ لهم ثم أقضيك الّذي لك.

فقال لها «مجدي بن عمرو الجهني»، وكان على مقربة منهما: صدقت، ثم

ص:75


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 449/2.

خلص بينهما.

فسرّ صاحبا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لما سمعا، فعادا في سرّية كاملة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبراه بما سمعا(1).

والآن وبعد أن أصبح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عارفاً بوقتِ ورود القافلة، ومكان تواجد قريش، معرفةً دقيقةً عمد إلى ترتيب المقدّمات اللازمة.

كيف هربَ أبو سفيان؟

لقد تعرّض أبوسفيان قائد قافلة قريش لدى توجّهه بها إلى الشام للملاحقة من قبل مجموعة من المسلمين، وإنّه كان يعلم جيداً بأنّهم سوف يتعرّضون له عند قفوله من الشام أيضاً. ولهذا عندما وصل بقافلة قريش إلى المنطقة الخاضعة للمراقبة الإسلامية أراحَها في منطقة بعيدة عن متناول أيدي المسلمين ودخل هو قرية «بدر» يتجسّس، ويسأل عن أخبار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فالتقى «مجدي بن عمرو» على ماء بدر فسأله: هل أحسستَ أحداً؟ (ويقصد هل رأيتَ أحداً من عيون محمَّد ورجاله؟).

فأجابه مجدي قائلاً: ما رأيتُ أحداً أنكرُهُ، إلّاأنّي قد رأيتُ راكبين قد أناخا إلى هذا التلّ ثم استقيا في شنٍّ لهم، ثم انطلقا.

فأتى أبو سفيان مُناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففتّه، فإذا فيه النوى فقال:

هذه - واللّه - علائف يثرب.

ص:76


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/449-450.

فرجع إلى أصحابه سريعاً وحرّك القافلة عن الطريق، فساحل بها (أي أخذ بها جهة ساحل البحر الأحمر) وترك بدراً بيسار، وانطلق حتى أسرع. كما أنّه كلّف أحداً بإخبار قريش فوراً، بأنّ قافلتهم أفلتت من يد محمّد وأصحابه، وأنّ أموالهم نجت فليرجعوا وليتركوا محمّداً تكفيه العرب.(1)

علم المسلمين بإفلات قافلة قريش

عرف المسلمون بإفلات قافلة قريش، وانتشر هذا النبأ بينهم بسرعة، فاغتمّ مَن خرجَ مع المسلمين يريد الحصولَ على شيء من تلك الأموال، فقال اللّه تعالى تثبيتاً لهم وتسكيناً لقلوبهم:

«وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» (2).

إختلاف قريش في القتال

عندما وافى رسول أبي سفيان قريشاً وهم بالجحفة، وأبلغهم رسالة أبي سفيان وطلب منهم الرجوعَ إلى مكّة، حدث بين رجال قريش اختلاف عجيب.

أمّا أبوجهل فقد أصرّ على مواصلة التقدّم نحو المدينة، وعدم الرجوع إلى مكّة خلافاً لطلب أبي سفيان، قائلاً:

واللّه لا نرجع حتّى نرد بدراً - وكان بدر موسماً من مواسم العرب، يجتمع

ص:77


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 450/2.
2- . الأنفال: 7-8.

لهم به سوق كلُّ عام - فنقيمَ عليه ثلاثاً، فننحر الجزر (الأباعر)، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان والمغنيّات، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلايزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا!!

وقال الأخنس بن شريق بن عمرو الثقفي، وكان حليفاً لبني زهرة، وهم بالجحفة: يا بني زهرة، قد نجّا اللّه لكم أموالكم، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنّما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جبنها وارجعوا، فإنّه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا، يعني أبا جهل... فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق فلم يشهد بدراً من هاتين القبيلتين أحد.

ومضى القوم، وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: واللّه لقد عرفنا يا بني هاشم، وإن خرجتم معنا، إن هواكم لمع محمد. فرجع طالب إلى مكّة مع مَن رجع.(1) حملت كلماتُ أبي جهل المغرية قريشاً على مواصلة التقدّم نحو المدينة، ونزلت في مكان مرتفع(2) خلف كثيب.

وأمطرت السماء مطراً غزيراً فأصاب قريشاً منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، ومنعهم من مزيد التقدّم.

بينما لم يُحدِث المطرُ أي مشكلة في العدوة الدنيا للمسلمين ولم يمنع من تحركهم بل كان بحيث لبّد الأرض حتّى ثبتت أقدامهم(3).

ص:78


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 450/2-451.
2- . وهو ما يُسمّى بالعدوة القصوى.
3- . ويقال كان المطر ينزل على قريش كأفواه القرب وعلى أصحاب رسول اللّه رذاذاً بقدر ما لبّد الأرض.

و «بدر» منطقة واسعة يتكون جنوبها من مكان مرتفع (العدوة القصوى) وشمالها من مكان منخفض منحدر (العدوة الدنيا) وكانت في هذا الوادي الواسع بضع آبار وعيون ماء، فكان منزلاً للقوافل ينزلون فيه ويستقون، ويستريحون ردحاً من الزمن.

وهنا تقدّم «الحباب بن المنذر بن الجموح» وكان فارساً مجرّباً وعسكرياً محنّكاً باقتراح إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذ قال: يا رسول اللّه أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكهُ اللّه ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أُمّ هو الرأي والحرب والمكيدة؟

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «بَل هو الرأيُ والحربُ والمكيدة».

فقال: يا رسول اللّه فإنّ هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتّى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ثمّ نغوّر (أي ندفن العين) ماوراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشربَ ولا يشربون.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لقد أشرتَ بالرأي.

فنهض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومَن مَعه من الناس، فسار حتّى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب (الآبار) فغوّرت، وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه، فمُلئ ماءً ثم قذفوا فيه الآنية.(1)

إن هذه الحادثة تكشف جيّداً عن إهتمام رسول الإسلام بالمشاورة، واحترامه لآراء الآخرين واتّساع صدره لاقتراحاتهم، والأخذ بما يفيد منها دون تكبّر أو انزعاج.

ص:79


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 452/2؛ تاريخ الطبري: 144/2.
«العريش» أو غرفة القيادة

وقيل إن «سعد بن معاذ» تقدّم هو الآخر بمقترح عسكري وهو بناء وإقامة برج لرسول اللّه يقود منه العمليات ويشرف على سيرها ويكون مأمناً له من كيد الأعداء فقال: يا نبي اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا اللّه وأظهرَنا على عدوّنا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأُخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام يا نبيّ اللّه ما نحن بأشدّ لك حبّاً منهم، ولو ظنّوا أنّك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك، يمنعك اللّه بهم، يناصحونك ويجاهدون معك.

فأثنى عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودعا له بخير. ثم بُني له صلى الله عليه و آله و سلم عريش فوق مكان مرتفع مشرف على ساحة القتال والحرب، وكان سعد و جماعة من فتيان الأنصار يحرسونه في بعض حالات القتال!!(1).

نظرة إلى مسألة «العريش»

إنّ مسألة بناء العريش لرسول اللّه، وحراسة «سعد بن معاذ» وجماعة من فتيان الأنصار له هو ممّا ذكره ورواه الطبري في تاريخه نقلاً عن ابن إسحاق وتبعه الآخرون في ذلك، ولكن هذه القصّة لا يمكن القبول بها لأسباب هي:

أوّلاً: أنّ هذا العمل يفتُّ في عَضُد الجنود، ويضعف من معنوياتهم القتالية؛ لأنّ معناه أنّ القائد يفكّر في وسيلة لنجاة نفسه دون أن يفكّر في نجاة جنوده، ومثل هذه القيادة لا يمكنها أن تستحوذ على قلوب جنودها، وتجعلها مطيعة

ص:80


1- . تاريخ الطبري: 145/2، السيرة النبوية لابن هشام: 452/2-453.

لأوامرها.

ثانياً: أنّ هذه القصّة تتنافى مع الأخبار القطعية الّتي بشّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بها المسلمين في ضوء ما نزل عليه من آيات.

فهو صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يواجه المسلمون قريشاً وعد أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة إحدى الطائفتين، أي إمّا الظفر بقافلة قريش التجارية قطعاً، أو الانتصار على الجيش المكّيّ حتماً ويقيناً إذ قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» (1).

وإنّما أُقدم على بناء العريش لرسول اللّه - بناءً على رواية الطبري - في الوقتِ الّذي كانت قافلة قريش قد أفلتت وهربت من أيدي المسلمين، ولم يبق الّا الجماعة المسلحة الّتي خرجت لحماية القافلة، وكان المسلمون يعلمون - طبقاً لذلك الوَعد الإلهي القاطع - أنّهم سينتصرون على تلك الجماعة الكافرة: «وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» فلم يكن المجال مجال تردّد وشك.

وبهذا يكون حديث هزيمة المسلمين في هذه المواجهة ولزوم بناء عريش لحماية النبيّ، وإعداد إبل سريعة السير عند العريش لينجو صلى الله عليه و آله و سلم عليها بنفسه حديثاً باطلاً لا مبرّر له، ولا مسوّغ.

يقول ابن سعد نقلاً عن عمر بن الخطاب قال: لمّا نزلت «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ» (2) قلت: وأيُّ جمع يُهزَم ومَن يُغلَب؟ فلمّا كان يوم بدر نظرت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يثب في الدرع وثباً وهو يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ»

ص:81


1- . الأنفال: 7.
2- . القمر: 45.

فعلمتُ أنّ اللّه تبارك وتعالى سيُهزمهم(1).

ومع هذا هل يحتمل أن يدور في خلد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه شيء حول الهزيمة أو يحدّثوا أنفسهم بالفرار؟

ثالثاً: أنّ النبيّ الّذي يصف الإمام علي عليه السلام موقفه وحالته عند اشتداد ضراوة القتال لا تنسجم أبداً ولا تلائم هذا التكتيك الّذي لا يتّسم بالشجاعة والثبات.

يقول عليّ عليه السلام:

«كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ»(2). فهل يفكّر مثل هذه الشخصية الّتي يصفها أوّل تلامذة مدرسته، وأقرب صحابته إليه بمثل هذا الوصف، في الفرار، أو اتّخاذ الاحتياطات اللازمة لذلك؟!

نحن نعتقد أنّ بناء العريش لم يكن إلّامن باب إعداد غرفة للعمليّات ولمراقبة سير القتال من مكان مشرف على ساحة القتال، لأنّ القيادة ما لم تكن مشرفة على ساحة القتال لا يمكنها أن تتصرّف بواقعية وإتقان، ولا يمكنها أن تقود الجنود والحشود من منطلق الواقع القتالي والعسكري.

من هنا لم يكن الهدف من العريش إن صحّ أصل القصّة هو الإعداد والتحسّب للفرار وما شاكل ذلك.

ص:82


1- . الطبقات الكبرى: 25/2.
2- . نهج البلاغة: 520، فصل في غريب كلامه برقم 9. ويقول السيد الرضي رضى الله عنه: معنى ذلك: إنّه إذا عظم الخوف من العدوّ، واشتدّ عضاض الحرب فزع المسلمون إلى قتال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه فينزل اللّه عليهم النصر به ويأمنون ممّا كانوا يخافونه بمكانه.
تحرّك قريش باتّجاه بدر

في صبيحة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ارتحلت قريش من وراء الكثيب وانحدرت إلى وادي بدر، فلمّا رآها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«اللّهم هذهِ قريشٌ قد أقبَلت بُخيَلائِها، وفَخرِها تحادُّك وَ تكذّبُ رسُولَك.

اللّهمَّ فَنَصرُكَ الّذي وَعَدتني بِهِ، اللّهمَّ أحِنهم(1) الغداة».(2)

قريش تتشاور في القتال

استقرّت قوى قريش في منطقة من أرض بدر استعداداً للمواجهة، وحيث إنّهم لم يكونوا يعرفون شيئاً عن عدد أفراد المسلمين ومبلغ استعداداتهم، لذلك كلّفوا «عمير بن وهب الجمحيّ» - وكان فارساً ماهراً في الإحصاء والتخمين - بأن يحرز (ويقدّر بالحدس) عدد أصحاب محمّد.

فاستجال بفرسه حول عسكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم رجع إلى قريش وقال:

ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتّى انظرَ ألِلْقومِ كمينٌ، أو مددٌ.

فضرب في الوادي حتّى أبعد ولكنّه لم يرَ شيئاً.

فرجع إلى قريش ثانيةً وهو يحمل لهم خبراً مرعباً إذ قال: ما وجدت شيئاً (أي كميناً أو مدداً وراء المسلمين) ولكنّي قد رأيتُ يا معشر قريش البلايا(3)

ص:83


1- . أي أهلكهم.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 453/2؛ المغازي: 59/1؛ تاريخ الطبري: 145/2.
3- . البلايا: جمع بلية وهي الناقة أو الدابة.

تحمل المنايا، نواضح(1) يثرب تحمل الموتَ الناقعَ (2)، قومٌ ليسَ مَعَهُم مَنعةٌ ولا مَلجأ إلّاسيوفهم.

واللّه ما أرى أن يُقتلَ رَجلٌ منهم حتّى يَقتلَ رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فَرَوا رأيكم!!!(3)

وروى الواقدي عبارات عمير بنحو آخر إذ قال: قال عمير: واللّه ما رأيت جلداً ولا عدداً ولا حلقة ولا كراعاً، ولكنّي رأيت قوماً لا يريدون أن يؤبوا إلى أهليهم، قوماً مستميتين ليست لهم مَنَعَة ولا ملجأ إلّاسيوفهم، زرق العيون كأنّهم الحصى تحت الحجَفَ (4).(5)

وروى المجلسي ما قاله عمير بنحو ثالث إذ قال: قال عمير: ما لهم كمينٌ ولا مددٌ، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقَع، أما ترونهم خُرساً لا يتكلّمون، يتلمّظون تلمّظ الأفاعي، ما لهم ملجأ إلّاسيوفهم، وما أراهم يولّون حتّى يقتلوا، ولا يُقتلون حتّى يقتُلوا بعددهم فارتاؤا رأيكم(6).

اختلاف قادة قريش في أمر القتال

أوجدت كلمات عمير الفارس الشجاع ضجّة كبرى بين رجال قريش وسادتها وزعمائها، وانتاب الجميعَ خوفٌ بالغ ورعبٌ شديدٌ من المسلمين.

ص:84


1- . الإبل يستقى عليها الماء.
2- . الموت الثابت البالغ في الإفناء.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 453/2-454.
4- . الحجف جمع الحجفة وهي التُّرس.
5- . المغازي: 62/1.
6- . بحار الأنوار: 224/19.

فمشى حكيم بن حزام إلى عتبة بن ربيعة ليقنعه بالعدول عن مقاتلة المسلمين، فقال له: يا أبا الوليد إنّك كبير قريش وسيّدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ فقال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمرَ (دم) حليفك عمرو بن الحضرمي، وما أصاب محمّد من ماله ببطن نخلة(1) إنّكم لا تطلبون من محمّد شيئاً غير هذا الدم والمال؟!

فاقتنع عتبة برأي حكيم، فجلس من فوره على جمله، ووقف يخطب في المشركين من قريش بنطق جميل وبليغ يقول: يا معشر قريش، إنّكم واللّه ما تصنعون بأن تلقوا محمّداً وأصحابه شيئاً، واللّه لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا وخلّوا بين محمّد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الّذي أردتم وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون(2).

وفي «مجمع البيان» قال: وخطب عتبة فقال في خطبته: يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر، إنّ محمّداً له إل(3) وذمّة، وهو ابن عمّكم، فخلّوه والعرب، فإن يك صادقاً، فأنتم أعلى عيناً به؛ وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره....(4)

وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل وأخبره برأي عتبة ومقالته، هذا وأبو جهل يهيِّئُ درعه، فانزعج أبوجهل من مقالة عتبة وموقفه انزعاجاً شديداً، وثارت

ص:85


1- . إشارة إلى ما جرى في سرية عبداللّه بن جحش.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 454/2.
3- . الإل: العهد.
4- . مجمع البيان: 440/4؛ بحار الأنوار: 224/19.

ثائرته حسداً على عتبة، وتعنتاً عن الحقّ (1)، وبعث من فوره رجلاً إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو الّذي قُتل في غزوة عبداللّه بن جحش بنخلة وقال له: هذا حليفك (عتبة) يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثارك بعينك، فقم وأنشد خفرتك(2) ومقتل (أو دم) أخيك.

فقام عامر وكشف عن رأسه، وأخذ يحثو التراب على رأسه، وصاح مستغيثاً واعَمراه واعَمراه، فحميت الحرب، وحقب أمر الناس، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة.(3)

ولكن عتبة هذا الّذي كان يميل إلى اعتزال الجيش وترك الحرب، هاجت مشاعره هو الآخر فقام من فوره ولبس لامة حربه واستعدّ لقتال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه. وهكذا نجد كيف يتضاءل نور العقل عند هبوب رياح العاطفة الملتهبة، والمشاعر الثائرة الباطلة وتنطفئ شعلة الفكر، ولا يعود يضيء لصاحبه درب المستقبل حتّى أنّ الرجل الّذي كان قبل قليل داعية السلام، والتعايش الأخوي يتحوّل تحت تأثير ذلك الهياج العاطفي، العابر، الأحمق إلى أوّل مبادر إلى القتال وسفك الدماء وإزهاق الأرواح!!!

ص:86


1- . قال الواقدي في المغازي: 1/63-64: فحسده أبو جهل حين سمع خطبته وقال: إن يرجع الناس من خطبة عتبة يكن سيد الجماعة، وعتبة أنطق الناس!!!
2- . أي اطلب من قريش الوفاء بخفرتهم وعهدهم لك؛ لأنّه كان حليفاً لهم.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 454/2-455.
ما هو الأمر الّذي حتّم القتال؟

لمّا أبصر الأسود بن عبدالأسد المخزومي وكان رجلاً شرساً سيِّئ الخلق، الحوضَ الّذي بناه المسلمون عند البئر لشربهم قال: أُعاهد اللّه لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنّه، أو لأموتنّ دونه!!

فلمّا خرج، خرج له حمزة بن عبد المطلب، فلمّا التقيا ضربه حمزة فأطنّ قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد زعم أن يبر يمينه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.(1)

فتسبّبت هذه الحادثة في أن يصبح القتال امراً مسلّماً وحتمياً، لأنّه ليس ثمّة شيء يقدر على تحريك المشاعر، وإثارة العواطف ودفع الناس للقتال كسفك الدم.

فالذين كان الغيظ والحنق على المسلمين يكاد يقتلهم، وكانوا يبحثون عن ذريعة يشعلون بها نيران الحرب ويفجّرون فتيلها، قد حصلوا الآن على ما يريدون.

المبارزات الفردية أوّلاً

كان التقليد المتبَّع عند العرب في الحروب أن يبدأ القتال بالمبارزات الفرديّة ثم تقع بعدها الحملاتُ الجماعية.

فلمّا قُتِلَ الأسودُ المخزومي خرج ثلاثة فرسان من صناديد قريش

ص:87


1- . تاريخ الطبري: 147/2.

المعروفين من صفوف الجيش المكّيّ ودعوا إلى المبارزة.

وهؤلاء الصناديد الثلاثة هم:

1. عتبة(1).

2. شيبة.

وهما ابنا ربيعة بن عبد شمس.

3. الوليد بن عتبة بن ربيعة.

فأخذوا يجولون في ميدان القتال ويدعون إلى المبارزة، فخرج إليهم من المسلمين فتية من الأنصار ثلاثة وهم: «عوف» و «معوذ» ابنا الحارث و «عبداللّه بن رواحة».

ولمّا عرف عتبة أنّهم من رجال المدينة قال: مالنا بكم من حاجة.

ثم نادى مناديهم: يا محمَّد، أخرج الينا أكفاءنا من قومنا.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قم يا عبيدَةَ بن الحارث وقم يا حمزة، وقم يا عليّ».

فقاموا، وخرجوا للمبارزة، ولمّا دَنَوا منهم، سألهم عتبة عن أسمائهم فعرّفَ أبطال الإسلام أنفسهم وذكروا أسماءهم.

فقال رجال المشركين الثلاثة: نعم أكفّاء كرام.

ويرى البعض أنّه بارز كلّ من هؤلاء الثلاثة مَن كان على سنّه من الكفّار فبارز عليٌّ عليه السلام الوليدَ (خال معاوية بن أبي سفيان)، و بارز حمزة (وهو أوسطهم) عتبة

ص:88


1- . وعتبة هذا هو الّذي اقترح الانسحاب وعدم القتال كما عرفت. ويروى أنّه لمّا خرج قال له حكيم بن حزام: أبا الوليد مهلاً، مهلاً تنهى عن شيء وتكون أوّله!! (المغازي: 67/1).

(جدّ معاوية لأُمّه)، وبارز عبيدة (وهو أسنّ الثلاثة) شيبة وهو أسنّ الكفّار الثلاثة.

غير أنّ ابن هشام يقول: بارز «حمزة» شيبة، وبارز «عبيدة» عتبة، وبارز «عليٌّ» الوليد بن عتبة(1).

وهذا يعني أنّ حمزة (الأوسط في السن) قاتل الأسنّ من الكفّار.

أيّ القولين هو الأصحّ؟

إنّ ملاحظة أمرين توضح الحقيقة في هذا المجال:

الأوّل: أنّ المؤرّخين كتبوا: أنّ علياً وحمزة قتلا خصميهما في الحال، ثمّ ساعدا عبيدة على قتل خصمه(2).

الثاني: أنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام كتب في كتاب له إلى معاوية:

«وَعِنْدِيَ السَّيْفُ الَّذِي أَعْضَضْتُهُ بِجَدِّكَ وَخَالِكَ وَأَخِيكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ»(3).

فمن هذا الكتاب يتّضح بجلاء أنّ الإمام عليه السلام شارك في قتل جدّ معاوية (أي عتبة) هذا من جانب.

كما أنّنا نعلم من جانب آخر أنّ كلّاً من حمزة وعلياً قد قتل خصمه في اللحظة الأُولى من المبارزة. فإذا كان خصم حمزة هو عتبة (جدّ معاوية) لم يكن - حينئذ - أي معنى لقول الإمام عليه السلام «أنا قتلت جدَك».

فلا مناص من أن نقول: إنّ الّذي بارز حمزة هو شيبة، وأن الّذي بارز عبيدة

ص:89


1- . راجع لمعرفة كلا الرأيين: سنن البيهقي: 276/3.
2- . تاريخ الطبري: 148/2، السيرة النبوية لابن هشام: 456/2 قال: وكرّ حمزة وعليٌّ بأسيافهما على عتبة.
3- . نهج البلاغة: 454، قسم الكتب الرقم 64. واعضضته به جعلته يعضّه.

هو عتبة، ليصح حينئذ أن يقال إن علياً وحمزة، ذهبا - بعد الفراغ من قتل خصميهما - إلى عتبة وكرّا بأسيافهما عليه وقتلاه، ثم احتملا صاحبَهما «عبيدة» وأتيا به إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1).

وبهذا تترّجح النظرية الثانية، والقاضية بعدم التكافؤ بين أسنان كلّ من المتبارزين.

الهجومُ العامُّ

إثر مقتل صناديد قريش الثلاثة في المبارزة الفردية بدأ الهجومُ العامُ.

ثمّ تزاحفَ الناسُ ودنا بعضهم من بعض، وقد أمرَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصحابَه أن لا يحملوا حتّى يأمرَهم، فقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل.

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عدّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده سهمٌ يعدّل به القوم. فمر بسوّاد بن غزية، وهو متقدّم من الصف، فطعن في بطنه بالسهم الّذي معه وقال له: استو يا سَوّاد.

فقال: يا رسول اللّه أوجَعتني، وقد بَعَثَكَ اللّه بالحقّ والعدل فأقِدني (أي اقتصَّ لي من نفسك). فكشف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن بطنه وقال: استقد (أي أنت اقتصَّ) فاعتنقه سوّاد وقبَّل بطنه صلى الله عليه و آله و سلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ما حملك على هذا يا سوّاد؟

قال: يا رسولَ اللّه حضر ماترى (من القتال) فأردتُ أن يكون آخرَ العهد بك

ص:90


1- . ثم إنّ المقصود من أخ معاوية الّذي أشار الإمام علي في كلمته إلى قتله هو حنظلة بن أبي سفيان بن حرب. راجع: السيرة النبوية لابن هشام: 525/2؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 19/18.

أن يمس جلدي جلدَك.

فدعا له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخير(1).

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن عدّل الصفوف رجع إلى غرفة العمليّات (العريش) فدخله وتوجّه إلى ربه بقلبٍ مفعم بالإيمان يناشده ما وعده من النصر وقال في مناجاته لربه في تلك اللحظات:

«اللّهمَّ إنْ تَهْلَك هذه العِصابة من أهل الإسلام لاَ تُعبدَ في الأرضِ أبداً».

ثمّ خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الناس فحرضّهم ونفل كلّ امرئ منهم ما أصاب وقال: «وَالَّذي نَفْسُ محمّدٍ بِيَدهِ لا يُقاتِلُهُم اليُومَ رَجُلٌ فَيُقتَلُ صابراً مُحتسباً مُقبلاً غيرَ مُدْبِرٍ، إلّاأدْخَلَهُ اللّهُ الجنَّةَ».(2)

ولقد كانت كلمات القائد الأعلى هذه تفعل فعلتها في النفوس، فتثير الهمم، وتوجد شوقاً عجيباً إلى الشهادة في المقاتلين المسلمين، حتّى أن أحدهم ويُدعى «عُمَير بن الحمام» أخو بني سلمة قال للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وفي يده تَمرات يأكلُهُنَّ يا رسول اللّه: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخلَ الجنَّةَ إلّاأن يقتلني هؤلاء.

ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتّى قُتِلَ (3).

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذَ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشاً ثم قال:

«شاهَتِ الوُجُوه».

ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه، فقال: شدُّوا(4).

ص:91


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 456/2-457.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 457/2؛ تاريخ الطبري: 149/2-150.
3- . السيرة ا النبوية لابن هشام: 458/2.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 458/2؛ تاريخ الطبري: 150/2؛ البداية والنهاية: 347/3.

ولم يمض وقتٌ طويل حتّى ظهرت بوادر انتصار المسلمين على أعدائهم المشركين فقد انتابَ المشركين خوفٌ ورعبٌ شديدان، وأخذوا ينهزمون أمام زحف المسلمين.

فقد كان المسلمون يقاتلون عن إيمان، وإخلاص ويعلمون بأنّهم ينالون السعادة قَتَلُوا أو قُتِلُوا، فلم يرهَبُوا شيئاً، وما كان يمنعهم شيء عن التقدّم والإقبال.

رعاية الحقوق

لقد كان لابدّ من رعاية الحقوق بالنسبة إلى طائفتين في معسكر المشركين:

الأُولى: أُولئك الذين أحسنوا إلى المسلمين في مكّة، ودافعوا عنهم كأبي البختري الذي كان ممن قام في نقض الصحيفة الظالمة الّتي سبق الحديث عنها.

الثانية: أُولئك الذين أُكرهوا على الخروج من المشركين إلى بدر، وكانوا يرغبون في قرارة أنفسهم في الإسلام مثل معظم رجال بني هاشم كالعباس بن عبدالمطلب عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

مصرع أُميّة بن خلف

ولقد أُسِّر «أُميّة بن خلف» وابنه على يد عبدالرحمن بن عوف، وكان بينه وبين أُميّة صداقة بمكّة طلب أُميّة من عبدالرحمن أن يخرجه من أرض المعركة لكي لا يُقتَلَ هو وولدُه، أو ليُعدّا من الأسرى.

فرضى عبدالرحمن بذلك، وبينما هو يقودهما إذ رآه بلال، وكان أُميّة هو الّذي يعذب بلالاً بمكّة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكّة إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضعُ على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا حتّى تفارقَ دين محمَّد، فيقولُ بلال: أحد، أحد.

ص:92

فلمّا رآه بلال في الأسر وقد أقدم عبدالرحمن على حمايته والذبّ عنه وهو يريد نجاته وولده، صاح مستصرخاً المسلمين: يا أنصار اللّه رأسُ الكفر أُميّة بن خلف، لا نجوتُ إن نجا.

فأحاط المسلمون بأُميّة وولده من كلّ جانب وقطّعوهما بسيوفهم حتّى فرغوا منهما(1).

وقد نَهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن قتل أبي البختري الّذي كان له دورٌ مشرّفٌ في نقض الحصار الاقتصادي الّذي ضربَتهُ قريش على المسلمين في مكّة، وكان لا يؤذي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلقيه رجلٌ من المسلمين يُدعى «المجذّر بن زياد البلوي» حليف الأنصار، فأراد أسره واستبقاءه ريثما يأخذه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليرى فيه رأيه، ولكنّه نازل «المجذّر» وأبى إلّاالقتال، فاقتتلا فقتله المجذّر.

ثم إنّ المجذّر أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: والّذي بعثك بالحقّ لقد جهدتُ عليه أن يُستأسَر فآتيك به فأبى إلّاأن يقاتلني فقاتلته فقتلته(2).

خسائر بدر في الأرواح والأموال

لقد قُتِلَ في معركة «بدر» من المسلمين أربعة عشر رجلاً، وقُتِلَ من المشركين سبعون وأُسِرَ سَبعُون من أبرزهم: النضر بن الحارث، وعقبة ابن أبي معيط، وأبو غرة، وسهيل بن عمرو، والعباس، وأبو العاص بن الربيع (صهر النبيّ)(3).

ص:93


1- . لاحظ: سيرة ابن هشام: / 461.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 459/2؛ الطبقات الكبرى: 23/2.
3- . المغازي: 138/1-173؛ السيرة النبوية لابن هشام: 524/2-532.

ثم دُفِنَ شهداء بدر في جانب من أرض المعركة، وقبورهم باقية إلى الآن.

ثم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يُلقى بقتلى المشركين في البئر.

قال ابن إسحاق: ولمّا أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهم (أي المشركين) أن يلقوا في القليب(1)، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب فنظر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في وجه «أبي حذيفة» ابن عتبة فاذا هو كئيب، قد تغيّر لونه، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: يا أبا حذيفة لعلّك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟! فقال: لا واللّه يا رسول اللّه، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنّني كنتُ أعرف من أبي رأياً وحِلماً وفَضلاً فكنتُ أرجو أن يهديَه ذلك إلى الإسلام، فلمّا رأيتُ ما أصابَه وذكرتُ ما ماتَ عليه مِنَ الكفر بعدَ الّذي كُنتُ أرجو له، أحزنني ذلك!!.

فدعا له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخير(2).

إن هذه القصّة لتكشف عن مدى حبّ المسلمين لدينهم، ورغبتهم الصادقة في أن يهتدي إليه الناس كما تكشفُ أيضاً عن أنّهم كانوا يقدّمون المعيار الديني على المعيار العائلي إذا تَعارضا.

«ما أنتم بأسمع منهم»

لقد انتهت معركة بدر بانتصار عظيم في جانب المسلمين وهزيمة نكراء في جانب المشركين.

فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربين صوب مكّة مخلّفين وراءَهم

ص:94


1- . القليب: البئر.
2- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 468/2.

سبعين قتيلاً من صناديدهم وساداتهم وفتيانهم الشجعان وسبعين أسيراً.

ولمّا أمر النبيّ بألقاء قتلى المشركين في القليب، وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند القليب وأخذ يخاطب القتلى واحداً واحداً ويقول:

«يا أهل القليب، يا عُتبة بنَ ربيعة، ويا شيبةَ بنَ ربيعة، ويا أُميّة بنَ خلف، ويا أبا جهل (وهكذا عدّد من كان منهم في القليب) هَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقاً، فَإِنّي قَدْ وجَدْتُ ما وَعَدَني رَبّي حَقّاً».

فقال له بعض أصحابه: يا رسول اللّه أتنادي قوماً قد جيفوا؟

فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«ما أنْتُمْ بَأسْمَعَ لِما أقُولُ مِنْهُمْ ولكنّهمْ لا يَسْتَطيعُونَ أنْ يُجيْبُوني».

وكتب ابن هشام يقول: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال يوم قال هذه المقالة:

«يا أَهْلَ القليب بِئسَ عشيرة النبيّ كُنْتُم لِنَبيّكُمْ! كَذَّبْتُموني وصَدَّقنيَ الناسُ، وَأخْرجْتُموني وآوانيَ الناسُ، وقاتلتموني ونصرنيَ الناسُ، (ثم قال:) هَلْ وَجَدتُمْ ما وَعَدَكُمْ ربّي حَقّاً؟»(1).

الشعر يخلّد هذه القصة

يُعتبر هذا الموضوع من القضايا الثابتة والمسلَّمة في التاريخ الاسلاميّ، فقد ذكرهُ جميعُ المحدّثين والمؤرّخين من الشيعة والسنّة، وقد ذكرنا طائفة من مصادره في الهامش.

وقد كان من دأب حسّان بن ثابت شاعر عصر الرسالة أن ينشد أبياتاً في كلّ

ص:95


1- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 466/2-467؛ السيرة الحلبية: 431/2، و غيرهما.

واقعة من وقائع الإسلام البارزة، وبذلك يقوّي من عزيمة المسلمين ويشدّ من أزرهم؛ لأنّ الشعر يجلي البطولات ويكرّم المواقف ويخلّد الأمجاد ويحافظ على المفاخر ويكسبها طابعاً أبدياً، ولهذا يُعد وسيلة جيّدة لتقوية المعنويات، وإبطال مفعول الحرب الباردة والنفسية الّتي يقوم بها العدوّ.

وقد طبع ديوان «حسّان» لحسن الحظ، ويمكن لنا أن نقف على الكثير من أيام الإسلام وأمجاده من خلال قصائده، وأبياته المدرجة فيه.

وقد أنشد حسّان قصيدة بائية رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض أبياتها إلى هذه الحقيقة، أعني قصّة القليب إذ يقول:

يُناديهُمْ رسولُ اللّه لمّا قَذَفْناهُمْ كباكبَ في القليبِ

ألَمْ تَجِدُوا كلامي كانَ حَقّاً وَأمْر اللّهِ يَأخُذُ بالقُلُوبِ؟

فما نَطَقُوا وَلَو نَطقُوا لقالُوا صَدقتَ وكنتَ ذا رأي مصيب!

على أنّه لا توجد عبارة أشدّ صراحة من ما قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المقام حيث قال: «ما أنتم بأسمع منهم».

وليس ثمّة بيانٌ أكثر إيضاحاً وأشدّ تقريراً لهذه الحقيقة من مخاطبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لواحدٍ واحدٍ من أهل القليب، ومناداتهم بأسمائهم وتكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة.

فلا يحقّ لأيّمسلمٍ مؤمنٍ بالرسالة والرسول أن يسارع إلى إنكار هذه القضية التاريخية الإسلامية المسلّمة، ويبادر قبل التحقيق ويقول: إنّ هذه القضية غير صحيحة؛ لأنّها لا تنطبق على موازين عقلي المادّي المحدود.

وقد نقلنا هنا نصّ هذا الحوار، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يصرّح بهذه الحقيقة بحيث لا توجد فوقه عبارةٌ في

ص:96

الصراحة، والدلالة على هذه الحقيقة.

ومَن أراد الوقوف على مصادر هذه القصّة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش أدناه(1).

بعد معركة بدر

يعتقد كثير من المؤرّخين المسلمين أنّ المبارزات الفردية ومن بعدها القتال الجمعي في غزوة بدر استمر حتّى زالت الشمس وانتهت المعركة بفرار المشركين وأسر جماعة منهم. ثم بعد أن فرغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه من دفن شهداء المسلمين صلّى بالناس العصر في بدر ثم غادر أرض بدر قبل غروب الشمس من ذلك اليوم، هذا وقد كلّفَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أشخاصاً بجمع الغنائم من أيدي الناس.

وهنا واجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أوّل اختلاف بين أصحابه في كيفية تقسيم الغنائم، فقد كان كلّ فريق يرى نفسه أولى من غيره بها، نظراً لدوره في تلكم المعركة.

فالذين كانوا يحرسون عريش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مخافة أن يكرّ عليه العدو كانوا يرون أن عملهم لا يدانيه في الأهمية أيّ عمل آخر، لأنّهم كانوا يحرسون القائد، ويحافظون على مقرّ القيادة.

وبينما كان الذين جمعوا الغنائم يرون أنّهم الأحقّ؛ لأنّهم جمعوها، فيما كان

ص:97


1- . إن تكلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع رؤوس الشرك الموتى الذين أُلقيت أجسادهم في البئر من مسلّمات التاريخ والحديث، وقد أشار إلى هذا من بين المحدّثين والمؤرّخين: صحيح البخاري: 21/5، باب قصّة غزوة بدر، صحيح مسلم: 163/8، كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنّة؛ مسند أحمد: 31/2 و 38 و 131 و ج 104/3 و 145 و 220 و 263 و 287 و ج 29/4؛ المغازي: 112/1، غزوة بدر؛ بحار الأنوار: 346/19.

الذين قد قاتلوا العدو ولاحقوه وطاردوه يقولون: واللّه لولا نحن ما أصبتموه، إنّا لنحن الذين شغلنا عنكم القومَ حتّى أصبتم ما أصبتم(1).

ولا ريب أنّ أسوأ ما يصيب أيّ جيش هو أن يدبّ الخلافُ بين قطعاته وأفراده، فينفرط عقده وتتلاشى وحدته.

من هنا بادر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، للقضاء على هذه الآمال والمطامع المادّية، وبغية إسكات كلّ تلك الأصوات، إلى إيكال جمع الغنائم وحملها، والمحافظة عليها إلى «عبداللّه بن كعب المازني» وأمر جماعة من أصحابه أن يعينوه ريثما يفكّر في طريقة تقسيمها. لقد كان قانون العدل والإنصاف يقضي بأن يشترك جميع أفراد ذلك الجيش في تلك الغنائم، لأنّهم ساهموا بأجمعهم في تلك المعركة، وكان لكلٍّ منهم دورٌ ومسؤولية فيها، فما كان لفريق أن يحرز نجاحاً من دون أن يقوم الآخرون بأدوارهم.

من هنا قسّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الغنائم بينهم - في أثناء الطريق - على قدم المساواة، وفرز لذوي الشهداء أسهماً منها.

ولقد أثارت طريقة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تقسيم الغنائم (وذلك بقسمتها على جميع المشاركين معه في معركة بدر بالتساوي) سخط «سعد بن أبي وقاص» فقال: يا رسول اللّه أيعطى فارسُ القوم الّذي يحميهم مثل ما يعطى الضعيف؟ فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «ثكلتك أُمُّك، وهل تُنْصَرونَ إلّابضعفائكم»(2).

وهو صلى الله عليه و آله و سلم يقصد أنّ هذه الحرب لم تكن إلّالأجل الدفاع عن الضعفاء، ورفع الحيف عنهم، وأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يُبعَث إلّالإزالة هذه الفوارق والامتيازات

ص:98


1- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 469/2.
2- . المغازي: 99/1.

الظالمة، وإلّا لأجل إقرار المساواة في الحقوق بين الناس.

هذا ورغم أنّ خمس الغنيمة هي بنصّ آية الخمس(1) للّه ولرسوله ولذي القربى واليتامى وابن السبيل من أهل بيته صلى الله عليه و آله و سلم إلّاأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يخمِّس غنائم «بدر» بل وزّع الخمس على المشاركين في بدر أيضاً.

على أنّه يمكن أن تكون آية الخمس لم تنزل آنذاك بعد، أو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يتمتّع باختيارات خاصّة، فصرف النظر عن أخذ الخمس لنفسه وقرباه، تكثيراً لأسهم المجاهدين، وذلك ولا ريب خطوة حكيمة جداً وخاصّة في أوّل مواجهة عسكرية مع العدوّ(2).

قتل أسيرين في أثناء الطريق

ولمّا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في «الصفراء» وهي أحد المنازل على طريق (بدر - المدينة) عرض عليه الأسرى، فأمر بقتل النضر بن الحارث وكان من أعداء المسلمين الألدّاء.

وأمر بأن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط إذ كان بعرق الظبية.(3)

وهنا ينطرح سؤال وهو: إنّ حكم الإسلام في أسرى الحرب هو أنّهم عبيدٌ للمسلمين والمجاهدين، يُباعون ويشترون بأثمان مناسبة، فلماذا حكم رسول

ص:99


1- . الأنفال: 1.
2- . وجاء في بعض المصادر التاريخية أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ضرب من الغنائم أسهماً لأشخاص لم يحضروا بدر ولم يشتركوا في القتال مع رغبتهم في ذلك، وذلك إمّا لأُمور أصابتهم عند الخروج إلى بدر، أو لقيامهم بمهمّات، تتعلّق بأُمور مراقبة العدو في الطرق أو للقيام بمهمات إدارية داخل المدينة.
3- . لاحظ: البداية والنهاية: 372/3.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شأن هذين الأسيرين بحكم آخر؟.

ثم إنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الّذي خاطب المسلمين في «بدر» في الأسرى الذين بأيديهم وأوصاهم بهم خيراً قائلاً:

«اسْتَوْصوا بالأُسارى خيراً».

كيف اتّخذ مثل هذا القرار في حقّ بعضهم؟

يقول أبو عزيز بن عمير أخو مصعب لأبيه وأُمّه، وكان صاحب لواء في جيش قريش: كنت (أسيراً) في أيدي رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز، وأكلوا التمر (والخبز عندهم قليل والتمر زادهم) لوصية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إيّاهم بنا، ما تقع في يد رجلٍ منهم كسرة خبز إلّانفحني بها فأستحي فاردُّها على أحدهم فيردُّها عليّ، وكانوا يحملوننا ويمشون(1)!! مع ملاحظة هذه الأُمور لابدّ من الإذعان بأنّ قتل هذين الأسيرين كان ممّا تقتضيه المصالحُ الإسلامية العامّة، لا أنّه كان بدافع الانتقام، فقد كان ذانك الأسيران من رؤوس الكفر، ومن مخطّطي الخطط الجهنَّمِية ضد الإسلام والمسلمين، وضدّ الرسالة والرسول، وكانا ممّن يؤلّبون القبائل ضدّ رسول الإسلام، فلعلّه لو كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يفرج عنهم ويطلق سراحهم عادوا إلى تدبير المؤمرات ضدّ الإسلام والمسلمين، وعملا على تخطيط الخطط، وتأليب القبائل، فلم يكن بدٌ من تصفيتهم والقضاء عليهم.

ص:100


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 473/2، المغازي: 119/1.
بشائر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة

كلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «عبد اللّه بن رواحة»، و «زيد بن حارثة» بأن يسبقاه إلى المدينة، ليبشّرا المسلمين بما حقّقه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه في بدر من الانتصار الكاسح والفتح المبين، ويخبرا أهلها بمصرع رؤوس الكفر والشرك كعتبة وشيبة وأبي جهل وأبي البختري وأُميّة، ونبيه ومنبه و... و...

فما قدم المبعوثان إلى المدينة إلّاوالمسلمون عائدون من دفن ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زوجة عثمان بن عفان فامتزجت الأفراح بالأحزان، واختلط السرور بانتصار النبيّ وأصحابه بالحزن على موت ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وقد أُرعب المشركون واليهودُ والمنافقون بخبر انتصار المسلمين الساحق على قريش، وراحوا يحاولون تكذيبه، وتفنيده حتّى إذا دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة ودخل بعده أسرى قريش أصبح الخبر قطعياً مسلّماً، فباءت محاولات المنافقين بالفشل.

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم

كان «الحيسمان الخزاعي» أوّل مَن قدم مكّة وأخبر الناس بأحداث «بدر» الدامية وبمصرع طائفة كبيرة من سادة قريش على أيدي المسلمين.

يقول أبو رافع، الّذي كان غلاماً للعباس بن عبدالمطلب آنذاك ثم أصبح من أصحاب النبيّ وعليّ فيما بعد: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت، فأسلم العباس وأسلَمَت أُمّ الفضل و أسلمتُ، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه، وكان أبو لهب قَد تخلّف عن بدر،... فلمّا جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من

ص:101

قريش كبته اللّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوّةً وعزاً.

وكنت رجلاً ضعيفاً وكنتُ أعمل الأقداح (السهام والنبال) أنحتها في حجرة زمزم، فواللّه بينما أنا جالسٌ فيها أنحت أقداحي، وعندي أُمّ الفضل جالسة، وقد سرَّنا ما جاءَنا من الخبر عن هزيمة قريش، إذ أقبل أبولهب يجرّ رجليه بشرٍّ حتّى جلس عند طنب(1) الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناسُ: هذا أبوسفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقال أبولهب: هلمَّ إليَّ فعندكَ لعمري الخبر.

فجلس إليه والناس قيامٌ عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمرُ الناس؟

قال أبوسفيان: واللّه ما هو إلّاأن لقينا القومَ فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءُوا، ويأسروننا كيف شاءُوا، وأيمُ اللّه مع ذلك مالمتُ الناسَ، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بُلق بين السماء والأرض، واللّه ما تُبقي شيئاً ولا يقومُ لها شيء.

يقول أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلتُ: تلك واللّهِ الملائكة.

فرفعَ أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربةً شديدة(2).

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر

يبقى أن نعرف أنّ مسألة اشتراك العباس عمّ النبيّ في غزوة بدر من مشكلات التاريخ وغوامضه، فهو من الذين أَسَرَهُمُ المسلمون في بدر فهو من جانب يشارك في الحرب، ومن جانب آخر يحضر في بيعة العقبة، ويدعو أهل المدينة إلى حماية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ونصرته.

ص:102


1- . الطنب: الطرف.
2- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 473/2-474.

فكيف يكون هذا؟

إنّ الحل يكمن في ما قاله أبو رافع غلام العباس نفسه: كان العباس قد أسلم ولكنّه كان يهاب قومه ويكره خلافهم ويكتم إسلامه، مثل أخيه أبي طالب لاقتضاء المصالح الإسلامية ذلك، ومن هذا الطريق كان يساعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويخبره بمخططات العدو ونواياه وتحرّكاته واستعداداته كما فعل ذلك في معركة «أُحد» أيضاً(1). فقد كان أوّل مَن أخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بتحرّك قريش وخططهم واستعداداتهم.

المنع من النَوح والبكاء في مكة

وقد أفجع مقتل سبعين رجلاً من رجال مكّة وفتيان قريش أكثر البيوت والعوائل في مكّة، وسلبهم البهجة والفرح، والنشاط والحركة، وتحوّلت مكّة برمّتها إلى مأتم كبير، قال الواقدي: فناحت قريش على قتلاها شهراً، ولم تبق دار بمكّة إلّا فيها نوح، وجزّ النساء شعر الرؤوس...(2).

غير أنّ أبا سفيان عمد - لإبقاء أهل مكّة على حالة الحنق والغضب - إلى منع النوح والبكاء على القتلى وحثّ الناس باستمرار على الاستعداد للثأر والانتقام من محمَّد وأصحابه فقال: يامعشر قريش لا تبكوا على قتلاكم، ولاتنح عليهم نائحة ولا يبكهم شاعر، وأظهروا الجلد والعزاء، فإنّكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم، فأكلّكم ذلك عن عداوة محمّد وأصحابه. ولعلّكم تدركون ثأركم.

ص:103


1- . السيرة الحلبية: 217/2.
2- . المغازي: 122/1.

ولكي يلهب أبوسفيان مشاعر الناس أكثر فأكثر أو يبقي على سخونتها على الأقل، قال: والدهن والنساء عليّ حرامٌ حتّى أغزو محمّداً.

وكان «الأسود بن المطلب» قد أُصيب له ثلاثة من ولده: زمعة وعقيل والحارث، وكان يحب أن يبكي على بنيه، ولكنّه ما كان ليستطيع ذلك لمنع أبي سفيان من النواح والبكاء على القتلى.

فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له - وقد ذهب بصرُه -:

هل أُحلّ النحب، هل بكت قريشُ على قتلاها لعلّي أبكي على زمعة، فإن جوفي قد احترق؟

فلمّا رجع إليه الغلام قال: إنّما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته، فأنشد الأسود بن المطلب حينها:

أتبكي أن يضلَّ لها بعيرُ ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر(1) ولكن على بدر تقاصرت الجدودُ

على بدر سراةِ بني هصيص ومخزومٍ ورهطِ أبي الوليدِ

وبكّي إن بكيتِ على عقيل وبكّي حارثا أسد الأسود(2)

رسول الإسلام ومكافحة الأُميّة

أعلن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن قرار تاريخي عظيم وهو: إن كان في الأسرى مَن يكتب ولا مال له للفداء، فيقبل منه أن يعلّم عشرة من غلمان الأنصار الكتابة ويخلّى

ص:104


1- . البكر: الفتى من الإبل.
2- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 475/2.

سبيله.(1)

وروى أحمد بإسناده عن ابن عباس قال: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فداءهم أن يعلّموا أولاد الأنصار الكتابة.(2)

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مدى اهتمام الإسلام بالثقافة والتثقيف، والوعي والتوعية، فإنّ معرفة القراءة والكتابة بداية التثقيف والتوعية.

ولابدّ أن نقول هنا أيضاً: إنّ إطلاق الأُسارى العارفين بالقراءة والكتابة لقاء تعليم صبيان المسلمين تعدّ أوّل عملية لمكافحة الأُمّية الّتي اهتمّ بها العالم الحاضر.

ففي الوقت الّذي كانت الكثير من الدول في عصرالإسلام الأوّل تمانع من تثقيف أبنائها ورعاياها - كما مرّ عليك في دراسة أوضاع الامبراطوريتين الفارسية والرومية - أعلن رسول الإسلام أنّ من لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة من غلمان المدينة (أي صبيانها) يعلّمهم الكتابة فإذا تعلّموا كان ذلك فداءه... وما أعظمها من خطوة ثقافية وحضارية.

ما ورد في السيرة حول مصير الأسرى

ذكر ابن هشام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعلن عن أنّ مَن علّم من الأسرى عشرة من الغلمان والصبيان من أولاد الأنصار الكتابة والقراءة، كان ذلك فداؤه وخلّي عن سبيله من غير أن يؤخذ منه مال.

وإن مَن دفع فدية قدرها أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم خلّي سبيله، وإنّ

ص:105


1- . لاحظ: الروض الأنف لعبد الرحمن الخثعمي السهيلي: 84/3؛ إمتاع الأسماع: 119/1.
2- . مسند أحمد: 247/1.

من كان فقيراً لامال له أُفرِجَ عنه دون فداء.

فأحدث هذا النبأ في مكّة لدى عوائل الأسرى حركة عجيبة ودفعهم إلى التفكير في تقديم الفداء إلى المسلمين، وإطلاق أسراهم.

فهيّأ كلّ واحدٍ منهم ما استطاع وقدم المدينة يفدي أسيره.

وعندما أُفرج عن سهيل بن عمرو لقاء فدية قال عمر بن الخطاب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول اللّه دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو (أي أسنانه الأمامية) ويدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا أُمثّل به فيمثّل اللّه بي وإن كنتُ نبيّاً»(1).

وتلك لفتة انسانية أُخرى من لفتات النبيّ العظيم الكثيرة في المعارك.

وقد كان في الأُسارى أبوالعاص بن الربيع زوج ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: زينب.

وكان أبو العاص من رجال مكّة المعدودين مالاً وأمانة وتجارة، وقد تزوّج بزينب ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الجاهلية.

ولمّا جاء الإسلام آمنت خديجة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وآمنت بناته، (ومنهن زينب) كذلك وشهدن أنّ ما جاء به الحقّ، ودِنّ بدينه، وثبت أبو العاص على شركه، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يقدر على أن يفرّق بينهما.

وقد اشترك أبو العاص هذا في معركة بدر مع قريش، وأُسر بأيدي المسلمين.

فلمّا بَعث أهل مكّة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة (قد

ص:106


1- . سيرة ابن هشام: 476/2؛ المغازي: 107/1. يقول صاحب المغازي في الصفحة 105 من نفس الجزء: كان عمر يحض على قتل الأسرى لا يرى أحداً في يديه أسير إلّاأمر بقتله!!

أهدتها إليها ليلة دخول أبي العاص بها ليلة زفافها).

فلمّا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم القلادة عرفها ورقّ لها وذكر خديجة عليها السلام وترحّم عليها (وما أسدته إلى الإسلام من خدمات وقدّمته من تضحيات، وبكى بكاء شديداً). وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردّوا إليها متاعها فعلتم.

فقالوا: نعم يا رسول اللّه، نفديك بأنفسنا وأموالنا.

فأطلقوا أبا العاص بن الربيع، وردّوا على زينب متاعها.(1) وبذلك احترم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حقوق المسلمين وما يرجع إليهم من أموال؛ بل أنّها واللّه أعظم مظهر من مظاهر الديمقراطية، (إن صحّ التعبير) فالنبيّ مع أنّ له ماله من الولاية على المسلمين يقترح عليهم الإفراج عن زوج زينب ويترك الأمر لاختيارهم.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذ على أبي العاص الميثاق بأن يخلّي سبيل زينب، ويبعثها إلى المدينة.

ففعل أبو العاص ما تعهّد به، وبعث زينب إلى المدينة.(2)

ثم إنّ أبا العاص نفسه أسلم أيضاً وقدم المدينة، وردّ عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زينباً بالنكاح الأوّل أو بنكاح جديد(3).

كلام لابن أبي الحديد في المقام

يقول العلّامة ابن أبي الحديد: قرأت على (أُستاذي) النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد البصري العلوي هذا الخبر، فقال: أترى أبابكر وعمر لم يشهدا

ص:107


1- . المغازي: 130/1-131.
2- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 479/2.
3- . سيرة ابن هشام: 482/2-483.

هذا المشهد؟ أما كان يقتضي التكريمُ والاحسانُ أن يُطيِّبا قلبَ فاطمة عليها السلام بفدك، ويستوهب لها من المسلمين (أي يستوهب فدكاً من المسلمين ويردّه عليها).

أتقصُر منزلتُها عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن منزلة زينب أُختِها وهي سيدةُ نساء العالمين؟!

هذا إذا لم يثبت لها حقٌ، لا بالنحلة ولا بالإرث؟

فقلت له: فدك بموجب الخبر الّذي رواه أبوبكر قد صار حقّاً من حقوق المسلمين، فلم يجز له أن يأخذه منهم.

فقال: وفداء أبي العاص قد صار حقّاً من حقوق المسلمين، وقد أخذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منهم.

فقلت: رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صاحب الشريعة، والحكمُ حكمُهُ، وليس أبوبكر كذلك.

فقال: ما قلتُ هلّا أخذه أبوبكر من المسلمين قهراً فدفعه إلى فاطمة عليها السلام وإنّما قلت: هلّا استنزلَ المسلمين عنه، واستوهبه منهم لها، كما استوهب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فداءَ أبي العاص؟ أتراه لوقال: هذه بنت نبيكم صلى الله عليه و آله و سلم قد حضرت تطلب هذه النخلات أفتطيبون عنها نفساً؟ أكانوا منعُوها ذلك؟!

فقلت له: قد قال قاضي القضاة أبوالحسن عبدالجبّار بن أحمد نحو ذلك.

قال: إنّهما لم يأتيا بحَسَنٍ في شرع التكريم، وإن كان ما أتياه حسناً في الدين!!(1)

ص:108


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 190/14-191، ولابن أبي الحديد كلام آخر يشبه هذا في إهدار دم من أسقط جنين زينب، فراجع.

أي أنّ ما فعلاه وإن كان يوافق موازين الدين - حسب تصوّر القاضي - ولكنّه لا يناسب شأن فاطمة وتكريمها لمقامها ولمكانتها من أبيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

هذا وقد أمر اللّه نبيّه الكريم بأن يعلن للأسرى بأنّ الباب مفتوح أمامهم لينضمّوا إلى صفوف المسلمين، فينعموا بالإسلام فيعيد اللّه عليهم أفضل ممّا أخذ منهم ويغفر لهم ذنوبهم، إذ يقول تعالى:

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (1).

وبذلك فتح الإسلام باب الأمل أمام الأُسارى، وكشف عن نزعته الإنسانية وأيضاً عن رغبته الصادقة في هداية البشرية، ونجاتها.

كما ضرب بذلك مثلاً في الحكمة وحسن السياسة لم يسبق له مثيل.

على أنّه هدّد الأسرى من ناحية أُخرى إذا أساءُوا، وعادوا بعد الخلاص من الأسر إلى التآمر ضد الإسلام.

إذ قال:

«وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (2).

وبذلك جمع بين الحزم والحكمة، واللين الحكيم والشدّة المعقولة.

القرآن يتحدّث عن معركة بدر

ولقد ذكَّرَ القرآن الكريم المسلمين، ولا يزال يذكِّرهم بالانتصار الكبير الّذي

ص:109


1- الأنفال: 70.
2- . الأنفال: 71.

تحقّق للمؤمنين في بدر بفضل ثبات المقاتلين ونصر اللّه وتأييده الغيبي إذ قال:

«إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ * وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (1).

وقال تعالى:

«قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (2).

وقال تعالى أيضاً:

«إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» (3).

وقوله تعالى:

«إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» (4).

وقال سبحانه أيضاً:

ص:110


1- . الأنفال: 42-44.
2- . آل عمران: 13.
3- . الأنفال: 9.
4- . الأنفال: 11-12.

«وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَ ما جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» (1).

وفي هذه الآيات تصريحات واضحة بما كان عليه المسلمون في معركة بدر من حيث قلّة العدّة والعدد، وبأبرز الإمدادات الغيبية الإلهية الّتي ساعدت المسلمين على الانتصار على أعدائهم المشركين، الذين كانوا يفوقونهم في العدة والعدد والسلاح والرجال مع التأكيد على أنّ ذلك الانتصار العظيم جاء نتيجة ثبات المسلمين واستقامتهم، وصبرهم وإخلاصهم.

وأبرز تلك الإمدادات الغيبية هي:

1. مع أنّ الأعداء كانوا متمركزين في العدوة العليا وهي أعلى الوادي، والمسلمين في أسفل الوادي، وكان ذلك من شأنه أن يعزّز موقع الكفّار لإمكان مراقبة المسلمين من مكان مرتفع، كما كان من شأنه أن يجعل هجوم المسلمين على الكفّار أمراً صعباً، ولكن كفّة الحرب رجحت مع ذلك لصالح المسلمين.

2. إنّهمْ لو كانوا على ميعاد مع العدو، ومع العلم التفصيلي بحجم إمكانيته البشرية والقتالية لامتنع عامّة المسلمين عن مقابلة المشركين، ولكن شاء اللّه أن لا يعرف المسلمون شيئاً مفصّلاً عن المشركين، مسبقاً، بل يواجه المسلمون الأمر الواقع، فيتحقّق ما أراد اللّه من الانتصار على قريش. وإلى هذا أشار سبحانه بقوله:

«وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ» .

ص:111


1- . آل عمران: 123-127.

3. تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين وتقليل عدد المشركين في أعين المسلمين في أول القتال، لكي يستقل الأعداء قوة المسلمين، ولكي لا يهاب المسلمون الأعداء ويستعظموا عددهم، وإليه يشير تعالى بقوله:

«وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ» .

4. تكبير عدد المسلمين في أعين الكفّار في أثناء القتال وإليه يشير تعالى بقوله: «يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ» .

5. الإمداد بالملائكة المردفين المسوّمين.

6. النعاس الّذي ألقاه اللّه على المسلمين فجدّد نشاطهم، وضاعف من قوتهم.

7. نزول المطر عليهم والّذي طهّرهم من الأقذار ومكّنهم من الاغتسال عمّا أصاب بعضهم من حدث، وثبّت الأرض الرمليّة تحت أقدامهم، وقد أشار سبحانه إلى كلّ ذلك في الآية 11 من سورة الأنفال.

8. تثبيت قلوب المؤمنين بواسطة الملائكة.

9. إلقاء الرعب في قلوب الكفّار. وإلى هذين النوعين من الإمداد الغيبي أشار بقوله: «فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» .

كما ويشير القرآن الكريم في هذا السياق إلى دور الشيطان في هزيمة الكفّار فهو الّذي يغري وهو الّذي يخذل عند اللقاء يقول سبحانه:

«وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا

ص:112

تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ وَ اللّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» (1).

كما أنّ القرآن يتحدّث أيضاً عن حالة المشركين عندما أتوا إلى بدر لمواجهة المسلمين وما كانت تنطوي عليه نفوسهم فيقول:

«وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ اللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» (2).

كما ويعزي هزيمتهم إلى سبب رئيسي وحقيقي وهو مشاققة اللّه ورسوله إذ يقول:

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (3).

ص:113


1- . الأنفال: 48.
2- . الأنفال: 47.
3- . الأنفال: 13.

31 زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه

اشارة

31 زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه(1)

إنّ الرغبة الجنسيّة حالة تظهر عند البلوغ لدى كلّ انسان، وربما تنحرف بالشاب وتهوي به في أحضان الفساد والسقوط الأخلاقي إذا لم تتوفّر له أجواء التربية الصحيحة ولم تتح له الفرصة المناسبة، والمسير الصحيح لتنفيذ تلك الرغبة، والاستجابة لها بصورة صحيحة.

وإنّ خير وسيلة للحفاظ على العفّة الفردية والحياء العام، وتجنيب الفرد والمجتمع مفاسد وأخطار الإنحراف الجنسيّ هو الزواج.

فإنّ الإسلام يحتمّ على الرجل والمرأة - تأكيداً لحكم الفطرة وتمشّياً مع ناموس الطبيعة البشرية - أن يتزوّجا طبقاً لضوابط خاصّة تضمن سلامة الزيجة ودوامها.

وقد جاء هذا التأكيد، والحديث في الكتاب العزيز، والسنّة الشريفة بمختلف الصور، وتحت مختلف العناوين.

ص:114


1- . كان زواج فاطمة بعد وقعة بدر، راجع: بحار الأنوار: 79/43 و 111.

فقد جاء في الكتاب العزيز:

«وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (1).

وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذا الصدد:

«تزوّجوا فإنّي مكاثرٌ بكمُ الأُممَ غداً في القيامة»(2).

وقال أيضاً:

«مَن أحب أن يلقى اللّه طاهراً مطهَّراً فلْيلقه بزوجة»(3).

مشاكل الزواج في العصر الحاضر

إنّ مشاكل الزواج في عصرنا الحاضر لا تنحصر - وللأسف - في مشكلة واحدة أو مشكلتين.

فالرجال والنساء اليوم يقدمون على الزواج - غالباً - في ظروف صعبة، وأوضاع رديئة، وتنتهي أكثر الزيجات بسبب تلك الظروف والأوضاع، وبسبب ما يلابسها من مستلزمات قاسية وثقيلة بالطلاق والافتراق بعد سلسلة من الخلافات والمنازعات.

فتلك هي صحف البلاد تحمل في أبوابها الاجتماعية كلّ يوم عشرات الأنباء والأخبار عن الجرائم الزوجية، وتعالج عشرات المشاكل في مجال العائلة.

ولكن أكثر هذه المشاكل والمصائب تدور حول قضية واحدة، وهي أنّ

ص:115


1- . النور: 32.
2- - وسائل الشيعة: 14، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث 2.
3- - وسائل الشيعة: 14، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث 15.

الفتيان والفتيات في مجتمعاتنا الحاضرة ليسوا بصدد تشكيل عائلة تضمن سعادتهم الواقعية.

فالبعض يهمّه من الزواج أن يصل عن طريقه إلى المناصب الراقية الحسّاسة .

والبعض الآخر يهمّه من الزواج الحصول على الثروة والمال.

وقلّما يفكر المقدمون على الزواج، وتأسيس العائلة في أُمور هامّة وجوهرية كالعفة والطهر، وإذا لوحظ هذا الجانب فإنّما يلاحظ بصورة هامشية، لا أساسية.

ويدلّ على ذلك أنّ الشباب يتنافسون غالباً على التزوّج بفتيات من العوائل المعروفة ذات المكانة والشهرة الاجتماعية والمالية، والحال أنّه يمكن أن تكون تلك الفتيات غير متّصفات بالأخلاق النبيلة، ولا يكنَّ من حيث الجانب المعنوي بالنوع الجيد، الجدير بالاهتمام، الصالح للاقتران به.

فما أكثر الفتيات الفاضلات، الطيّبات هنا وهناك في زوايا المجتمع اللائي لايهتم بهن الشباب، لفقرهنّ، وقلة ذات أيديهنّ، أو لعدم شهرة عوائلهن.

على أنّ الأسوأ من ذلك كلّه ما أصبح يكلِّفُهُ الزواج في عصرنا الحاضر من نفقات باهضة نتيجة تزايد التقاليد المبتدعة في مجال إقامة الأعراس وحفلات القران والزواج، الأمر الّذي أصبح يرهق كاهل الزوجين، ويتعب عائلتيهما، مثل مشكلة المهور الباهضة، وما شابه ذلك ممّا هو في تصاعد مستمر في بلادنا، الأمر الّذي دفع بالبعض إلى ترك الزواج، وإشباع غرائزهم الجنسيّة بالوسائل غير المشروعة، ومن ثم شيوع اللا أُبالية، والإباحية في المجتمعات.

رسول الإسلام يكافح هذه المشاكل عمليّاً

تلك طائفة من المشاكل الاجتماعية الّتي كانت ولا تزال موجودة في كلّ

ص:116

مجتمع بنسب خاصّة.

ولم تكن الفترة الّتي عاصَرَها رسولُ الإسلام بمستثناةٍ من هذا الأمر، فقد كانت هناك في المجتمع في عصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مشاكل مماثلة في الزواج.

فقد كان أشراف العرب لا يزوّجون بناتهم إلّالمن كان من قبيلة ذات مال وشوكة، ومكانة وقوّة، ويردّون كلّ خاطب لبناتهم يكون على غير هذه الصفة.

وقد كان الأشراف، يصرّون - تبعاً لتلك العادة - على أن يتزوّجوا بابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم السيدة فاطمة؛ لأنّهم كانوا يتصوّرون أنّ النبيّ لن يتشدّد في هذا الأمر، بل يكفيه أنّهم ذو ثروة ومكانة اجتماعية مرموقة.

وكانوا يتصوّرون أنّهم يمتلكون كلّ ما يهمّ الفتاة وأباها من الإمكانيات المادّية، كيف لا والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يتشدد في زواج ابنتيه الأُوليين: زينب ورقية.

ولكنّهم غفلوا عن أنّ هذه الفتاة (أي فاطمة الزهراء عليها السلام) تختلف عن أُختيها السابقتين.

إنّها - كما تدل عليه آية المباهلة(1) - ذات مقام رفيع، وشأن كبير.

لقد أخطأ خُطّاب فاطمة عليها السلام في هذا التصوّر، وما كانوا يعلمون أنّ زوج فاطمة وقرينها لا يمكن أنّ يكون إلّاكفؤها في التقوى والفضل، والإيمان والإخلاص، فإذا كانت فاطمة - بحكم آية التطهير - معصومة من الذنب وَجَبَ أن يكون زوجُها هوالآخر معصوماً، وإلّا لم يكن كفؤها المناسب.

وليس المال وليست الثروة ملاك هذا التكافؤ.

ص:117


1- . آل عمران: 61. في قضية المباهلة اصطحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً والحسن والحسين وفاطمة دون غيرها من النساء، وسيأتي تفصيل هذه القصّة.

لقد قال الإسلام: إذا خطبَ إليكُم كفو فزوّجوه.

ويفسر هذا التكافؤ بالمماثلة والتكافؤ في الإيمان والتقوى، والطهارة والعفاف، لا في المال والثروة(1).

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مأموراً من جانب اللّه تعالى أن يقول لكلّ من خطبَ إليه «فاطمة» من أُولئك الرجال: «أمرها بيد اللّه» وهو بهذه الإجابة يكشف القناع عن الحقيقة إلى درجة مّا.

ولقد أدرك أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ زواج «فاطمة» ليس أمراً سهلاً وبسيطاً، وأنّه ليس لمن كان من الرجال وإن بلغ من الثراء، والمكانة الاجتماعيّة أن يحظى بالزواج منها، فإنّ زوج «فاطمة» ليس إلّامن يشابهها من حيث الأخلاق والفضائل، والصدق والإيمان، والطهر، والإخلاص، بل ويلي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السجايا الكريمة والصفات الرفيعة، والخلق العظيم.

ولا تجتمع هذه الصفات والمواصفات إلّافي «علي» عليه السلام لا سواه.

وللتأكد من هذه الحقيقة اقترح بعض الصحابة على (عليّ) عليه السلام أن يخطب إلى النبيّ فاطمة صلوات اللّه عليهما(2).

وكان علي عليه السلام يريد ذلك في نفسه، ويرغب إليه من كلّ قلبه إلّاأنّه كان ينتظر الفرصة المناسبة ليقدم على هذا الأمر.

فأتى عليّ عليه السلام بنفسه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولمّا رآه رسول اللّه قال: ما جاء بك يا أبا الحسن، حاجتك؟

ص:118


1- . راجع: وسائل الشيعة: 14، الباب 25 و 28 من أبواب مقدّمات النكاح.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 93/43.

فمنع الخجل عليّاً من البوح بمطلبه وسكت، وأطرق برأسه إلى الأرض، حياء من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فأجاب عليٌّ عليه السلام بكلمات ضمّنها رغبته في الزواج من فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد كان هذا النمط من الخطبة علامة واضحة لما كان بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبين علي عليه السلام، من الاخوة والصفاء، ولما تحلّى به الجانبان من إخلاص وودّ. وما أروعها من ظاهرة. حقاً أنّ المبادئ والأنظمة التربوية لم تستطع أن تعلّم الشباب الذين يقدمون على الخطبة إلى أحد مثل هذه الحرية، المقرونة بالتقوى، والإيمان والإخلاص.

لقد وافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على طلب علي عليه السلام وقال:

«يا عليّ أنّه لقد ذكرها قبلك رجال فذكرتُ ذلك لها فرأيتُ الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتّى أخرجَ إليك».

ثم دخل صلى الله عليه و آله و سلم على فاطمة، فذكر لها الأمر، وأنّ علياً عليه السلام خطبها إليه قائلاً: «إنّ علي بن أبي طالب مَن قد عرفتِ قرابته، وفضله وإسلامه، وإنّي قد سألت ربّي أن يزوّجك خير خلقه، وأحبهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين؟».

فسكتت فاطمة سلام اللّه عليها، ولم ير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في وجهها كراهة، فقام وهو يقول:

«اللّهُ أكبر، سكوتُها إقرارها»(1).

ولكن عليّاً عليه السلام لم يكن يملك آنذاك إلّاسيفاً، ودرعاً فقط.

ص:119


1- . لاحظ: أمالي الطوسي: 40 برقم 13 (44)، المجلس الثاني؛ بحار الأنوار: 93/43، الحديث 4.

قال علي: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: قم فبع الدرع، فقمت فبعته وأخذت الثمن، ودخلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فسكبت الدراهم في حجره، فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته.

ثم قبض صلى الله عليه و آله و سلم قبضة (من الدراهم)، ودعا بلالاً فأعطاه فقال:

«ابتع لفاطمة طيباً».

ثم قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الدراهم بكلتا يديه فأعطاه أبا بكر وقال: ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت، وأردفه بعمار بن ياسر وبعدّة من أصحابه.

ففعلا ذلك واشتريا ما أمرهما به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فكان جهاز فاطمة كالتالي:

جهاز فاطمة

1. قميص بسبعة دراهم.

2. خِمار(1) بأربعة دراهم.

3. قطيفة سوداء خيبرية لاتكفي لتغطية كلّ البدن.

4. سرير مزمل بشريط (أي مصنوع من جريد النخل وأليافه).

5. فراشان من خيش(2) مصر، حشو أحدهما ليف، وحشو الآخر من صوف الغنم.

6. أربع مرافق(3) اثنان من الصوف واثنان من الليف.

ص:120


1- . الخمار: مقنعة.
2- . الخيش: نسيج خشن من الكتان.
3- . المرفقة: الوسادة.

7. ستر من صوف.

8. حصير هجري.(1)

9. رحى لليد.

10. مخضب(2) من نحاس.

11. سقاء من أُدم.

12. قعب للّبن.

13. شنّ (3) للماء.

14. مطهرة مزفّتة(4).

15. جرّة خضراء.

16. كيزان خزف.

فلمّا عرضوا المتاع على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جعل يقلّبه بيده ويقول: «بارك اللّه لأهل البيت»(5).

إنّ في مهر فاطمة أُموراً تدعو إلى التأمّل حقّاً، أبرزها مقدار ذلك المهر.

ص:121


1- . قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: 158/2، مادة «هجر»: هجر - محرّكة - بلد باليمن بينه وبين عثر يوم وليلة، والنسبة: هجري وهاجري، وقيل: اسم لجميع أرض البحرين، وقيل: قرية كانت قرب المدينة.
2- . المخضب: اناء للمسك والطيب.
3- . الشنّ: القربة.
4- . أي مطلية بالزفت.
5- . أمالي الطوسي: 40 برقم 14 (45)، المجلس الثاني؛ بحار الأنوار: 94/43. ولاحظ: كشف الغمة: 369/1.

فمهرها هو مهر السنّة وهو خمسمائة درهم(1).

إن هذه الزيجة - في الحقيقة - خير درس للآخرين، للفتيان والفتيات الذين يئنّون من ثقل المهر وبهاضته وربما يئنّون من قيود الزواج وشروطه.

إنّ البيئة الزوجية يجب أن تكون - أساساً - بيئة دفء وحنان، بيئة اخلاص ومودّة، بيئة سلام ووفاق، فهذا هو ما يسعد الحياة الزوجية ويوفّر للزوجين عيشاً هانئاً محبّباً.

أمّا المهور الثقيلة، والنفقات الباهضة والجهاز المُكلِف فلا تؤدّي إلّاإلى تعكير صفو الحياة الزوجية، والتقليل من بريق الرابطة العائلية، وبالتالي لا تضمن مستقبل الزواج ودوامه، والمحافظة عليه من الهزّات.

إنّ أولياء الفتيات - في عصرنا الحاضر - يعمدون بغية دعم مكانة فتياتهم وتقوية مركزهنّ وضمان مستقبلهنّ إلى فرض سلسلة طويلة وثقيلة من الشروط والقيود ومنها المهر الباهض على العريس حتّى لا يستطيع أن يقوم بطلاق زوجته تحت دوافع الهوى والشهوة، أو كلّما سوّلت له نفسه ذلك، على حين أنّ هذا الإجراء لا يضمن بقاء الرابطة الزوجية، ودوامها بل العلاج الحقيقي والناجح هو إصلاح الوضع الأخلاقي للشباب، ورفع مستواهم المعنوي. يجب أن تكون بيئتنا الثقافية والاجتماعية من الطهر والنقاوة بحيث لا يوجد في رحابها أمثال هذه النوازع الشّريرة عند شبابنا، وإلّا لبلغ الأمر إلى نقطة تستعد فيه الفتاة إلى بذل مهرها للنجاة بنفسها من البيت الزوجي.

ص:122


1- . لاحظ: وسائل الشيعة: 15، الباب 4 من أبواب المهور.
مراسم الزواج تقام ببساطة

ثم بعد أن عقد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام على فاطمة عليها السلام في رحاب مسجده على مرأى ومسمع من المسلمين وفي جو يسوده الفرح والابتهاج والسرور قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام: «هيّئ منزلاً حتّى تحوَّل فاطمة إليه» فأخذوا منزل أحد الصحابة بصورة مؤقّتة، وحوّلت فاطمة إلى علي عليه السلام في منزل ذلك الصحابي الجليل(1)، في زفاف جميل مبارك وقد صنع عليٌّ طعاماً من لحم وتمر وسمن وأطعم المسلمين جميعاً تقريباً، وساد الناس فرح عظيم لم يشهد له نظير.

عن ابن بابويه: أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة عليها السلام وأن يفرحن، ويرجزن ويكبرن ويحمدن ولا يقلن ما لا يرضي اللّه.

قال جابر: فأركبها على ناقته - وفي رواية على بغلته الشهباء - وأخذ سلمان زمامها والنبيّ وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم ونساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قدامها يرجزن، فأنشأت أُمّ سلمة تقول:

سرن بعون اللّه جاراتي واشكرنه في كلّ حالات

واذكرنَ ما أنعم رب العُلى من كشف مكروه وآفات

فقد هدانا بعد كفر وقد أنعشنا رب السماوات

وسرن مع خير نساء الورى تفدى بعمّات وخالات(2)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا دخلوا الدار أنفد إلى علي عليه السلام ثم دعا فاطمة عليها السلام

ص:123


1- . لاحظ: إعلام الورى: 161/1؛ بحار الأنوار: 113/19.
2- . بحار الأنوار: 115/43.

فأتت وهي تسحب أذيالها، وقد تصبّبت عرقاً حياءً من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فعثرت فقال لها رسول اللّه: «أقالك اللّه العثرة في الدنيا والآخرة». فلمّا وقفت بين يديه كشف الرداء عن وجهها حتى رآها علي عليه السلام، ثم أخذ يدها فوضعها في يد علي عليه السلام وقال:

«باركَ اللّهُ لك في ابنة رسول اللّه، يا علي نعم الزوجة فاطمة، ويا فاطمة نعم الزوج علي».(1)

ثم أخذ بيده إناء فيه ماء وصب منه على رأس فاطمة وبدنها ودعا لهما قائلاً:

«اللّهم اجمع شملهما، وألّف بين قلوبهما، واجعلهما وذريتهما من ورثةِ جنّةِ النعيمِ وارزقهما ذريةً طاهرةً طيبةً مباركةً، واجعل في ذريتهما البركة، واجعلهم أئمةً يهدون بأمرك إلى طاعتِك، ويأمرون بما يرضيك».

وروي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «اللّهم إنّهما أحبّ خلقك إليّ، فأحبهما وبارك في ذريتهما واجعل عليهما منك حافظاً، وإنّي أعيذهُما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم»(2).

وبذلك أبدى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من نفسه في تلك الليلة صفاء وإخلاصاً لم يعرف له نظير حتّى في مجتمعاتنا الحاضرة رغم ما حقّقته من تكامل ورشد.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عدد لفاطمة فضائل عليّ كما ذكر لعليّ فضائل فاطمة وإنّها «لولم يخلق عليّ ما كان لفاطمة كفؤ»(3). ثم ذكر لهما وظائفهما وواجباتهما

ص:124


1- . بحار الأنوار: 96/43.
2- . بحار الأنوار: 117/43.
3- . ينابيع المودّة للقندوزي: 67/2 برقم 56، وص 80 برقم 98، وص 286 برقم 819؛ بحارالأنوار: 77/40.

العائلية فأوكل إلى فاطمة ما هو في داخل البيت من شؤون وأوكل إلى عليّ ما هو من شؤون الخارج.

ولابدّ أن نذكر هنا قصّة هامّة أداء لحقّ فاطمة، وبياناً لمقامها.

يقول أنس بن مالك: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر فيقول:

«الصلاة يا أهل البيت، إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً»(1).

هذا وقد كانت هذه الزيجة أفضل زيجة في الإسلام وأكثرها بركة وخيراً، فقد عاش هذان القرينان الطاهران جنباً إلى جنب في وئام ووداد، في حياة زوجية طاهرة يسودها الاحترام المتقابل، والإخلاص الكامل من بدايتها إلى نهايتها.

وقد أنجبا أفضل الأولاد والبنات، أبرزهم: الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام سبطا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأثيران لديه، والمقرّبان إليه، وزينب بنت علي الّتي رافقت أخاها في وقعة كربلاء الدامية وكان لها مواقف عظيمة ومشرّفة في الرعاية للحقّ والعدل، ونصرة الإسلام، وغيرهم من الأولاد ذكوراً وإناثاً.

وقد بقي كلا الزوجين (علي وفاطمة) حتّى آخر اللحظات عارفين بمكانة الآخر، فكلاهما من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وكلاهما من القربى الذين أمر بمودّتهم، ولهذا لم يتزوّج علي عليه السلام على الزهراء امرأة أُخرى إلّابعد وفاتها، كما فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالنسبة إلى خديجة، وفاء لحقّها، واحتراماً لمقامها.

ص:125


1- . مسند أحمد: 259/3؛ المصنّف لابن أبي شيبة: 527/7 برقم 4؛ تفسير الطبري: 9/22 برقم 21729.
محاولات يائسة للنيل من علي وفاطمة عليهما السلام

لكن بعض الأيادي دسّت - مع الأسف - في التاريخ أباطيل للتقليل من شأن هذين الزوجين الطاهرين، والحطّ من مكانتهما، فنسبت إليهما التنازع، والتشاجر، أو نسبت إلى فاطمة شكاية عليّ عليه السلام إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأوردت في هذا المجال روايات مختلقة، لا أساس لها من الصحّة، تفندها أخلاق علي وفاطمة وتقواهما وزهدهما، وتكذّبُها ما جاء في شأنهما وجلالة قدرهما من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

وقد استند أعداء الإسلام التقليديون إلى أمثال هذه الروايات لمسخ صورة الإسلام الحنيف وتشويه سمعة رجاله العظماء ونسائه الخالدات الطيبات.

فهذا هو المستشرق النصراني الحاقد الأُستاذ إميل در منغم في كتابه المليء بالأباطيل: «حياة محمّد» ترجمة الأُستاذ محمّد عادل زعيتر بعد أن يلصق برسول الإسلام تهماً عجيبة ويصفه بالبدويّ الحمس، يقع في علي وفاطمة عليهما السلام!!

فتارة يقول: كانت فاطمة عابسة دون رقية جمالاً، ودون زينب ذكاءً، وإنّها لم تكن ترغب في عليّ لأنّها كانت تعدّ علياً دميماً محدوداً مع عظيم شجاعته!! وإنّ علياً كان غير بهيّ الوجه.. و... و.. مع أنّه كان تقياً شجاعاً صادقاً وفياً مخلصاً صالحاً مع توانٍ وتردد!!

وكان إذا عاد إلى منزله من العمل بشيء من القوت قال لزوجته فاطمة عابساً:

كلي واطعمي الأولاد!! وكان علي يحرد(1) بعد كلّ منافرة ويذهب لينام في المسجد، وكان حموه يربّته على كتفه ويعظه ويوفّق بينه وبين فاطمة إلى حين،

ص:126


1- . حرد يحرد حروداً: إذا ترك أهله وقومه وتحوّل عنهم. صحاح الجوهري: 464/2، مادة «حرد».

وممّا حدث أن رأى النبيّ ابنته في بيته ذات مرة وهي تبكي من لكم عليّ لها!!

ثم يقول: إنّ محمّداً - مع امتداحه قدمَ علي في الإسلام إرضاءً لابنته - كان قليل الالتفات إليه وكان صهرا النبيّ الأمويان: عثمان الكريم وأبو العاص أكثر مداراةً للنبيّ من عليّ، وكان عليٌ يألم من عدم عمل النبيّ على سعادة ابنته، ومن عدّ النبيّ له غير قوّامٍ بجليل الأعمال، فالنبيّ وإن كان يفوّض إليه ضرب الرقاب كان يتجنّب تسليم قيادة إليه!!(1)

إلى غير ذلك من الترّهات والسخافات الّتي ألصقها تارة برسول اللّه الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، وأُخرى بحبيبه وابن عمه ووصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

العلّامة الأميني يرد على افتراءات المستشرق النصراني الحاقد

إنّ أفضل إجابة عن هذه الافتعالات هو ما كتبه العلّامة الأميني حيث يقول:

كلّ ما في الكتاب من تلكم الأقوال المختلقة، والنسب المفتعلة إن هي إلّا كلم الطائش، تخالف التاريخ الصحيح، وتضادّ ما أصفقت عليه الأُمَّة الإسلاميَّة، وما أخبر به نبيّها الأقدس.

هل تناسب تقوّلاته في فاطمة مع قول أبيها صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة حوراء إنسيّة كلّما اشتقتُ إلى الجنَّة قبَّلتها؟!»(2).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ابنتي فاطمة حوراء آدميَّة؟!»(3).

ص:127


1- . هذه المقتطفات أُخذت من كتاب حياة محمّد: 197-199. ولاحظ الغدير: 16/3-17.
2- . تاريخ الخطيب البغدادي: 293/5؛ كشف الغمة: 87/2.
3- . الصواعق المحرقة: 160، الباب الحادي عشر؛ كنز العمال: 109/2 برقم 34226؛ ينابيع المودة: 121/2 برقم 354، وص 450 برقم 243.

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة هي الزهرة؟»(1).

أو قول أُمّ أنس بن مالك: كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر، أو الشمس كفّر غماماً، إذا خرج من السحاب، بيضاء مشربة حمرة، لها شعر أسود، من أشدِّ الناس برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شبهاً، واللّه كما قال الشاعر:

بيضاء تسحب من قيام شعرها وتغيب فيه وهو جثلٌ أسحمٌ (2)

فكأنَّها فيه نهارٌ مشرقٌ وكأنَّه ليلٌ عليها مظلم(3)

ولقبها الزهراء المتسالم عليه يكشف عن جليَّة الحال.

وهل يساعد تلك التحكّمات في ذكاء فاطمة وخلقها قول أُمّ المؤمنين خديجة (رضي اللّه عنها): كانت فاطمة تحدِّث في بطن أُمِّها، ولمّا ولدت فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدةً رافعةً إصبعها؟!(4). أو يلائمها قول عائشة: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول اللّه في قيامه وقعوده من فاطمة، وكانت إذا دخلت على رسول اللّه قام إليها فقبّلها ورحَّب بها، وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه؟!(5).

وفي لفظ البيهقي في السنن: ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من

ص:128


1- . نزهة المجالس لعبد الرحمن الصفوري الشافعي (المتوفّى 658 ه): 222/2؛ أمالي الطوسي: 517 برقم 38 (1131)، المجلس الثامن عشر.
2- . جثل الشعر: كثر والتف واسودّ فهو جثل، سحم فهو اسحم: اسود.
3- . مستدرك الحاكم: 161/3؛ مقتل الحسين: 70، ط الغري؛ تاريخ جرجان لحمزة بن يوسف السهمي (المتوفّى 427 ه): 171.
4- . ذخائر العقبى للطبري: 45؛ نزهة المجالس: 227/2؛ ينابيع المودّة للقندوزي: 135/2.
5- . سنن الترمذي: 361/5 برقم 3964، باب ما جاء في فضل فاطمة عليها السلام؛ مستدرك الحاكم: 272/4؛ مطالب السؤول لابن طلحة: 36؛ ذخائر العقبى: 40-41.

فاطمة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. الحديث.(1)

وهل توافق مخاريقه في الإمام عليّ صلوات اللّه عليه، وعدم بهاء وجهه، وعدّ فاطمة له دميماً وكونه عابساً مع ماجاء في جماله البهيِّ: إنّه كان حسن الوجه كأنَّه قمر ليلة البدر، وكأنَّ عنقه إبريق فضَّة(2) ضحوك السنِّ (3) فإن تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم؟!(4)

وأين هي من قول أبي الأسود الدؤلي من أبيات له؟!:

إذا استقبلتَ وجه أبي تراب رأيتَ البدر حار الناظرينا(5)

نعم:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله فالناس أعداءٌ له وخصومُ

كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغضاً: إنّه لدميمُ

أو يَخبرك ضميرك الحرّ في علي ما سلقه الرجل به من (التواني والتردُّد)؟!

وعليُّ ذلك المتقحم في الأهوال، والضارب في الأوساط والأعراض في المغازي والحروب؛ وهو الّذي كشف الكرب عن وجه رسول اللّه في كلّ نازلة وكارثة منذ صدع بالدين الحنيف، إلى أن بات على فراشه وفداه بنفسه، إلى أن سكن مقرَّه الأخير.

ص:129


1- . سنن البيهقي: 101/7؛ مستدرك الحاكم: 154/3؛ صحيح ابن حبّان: 403/15.
2- . كتاب صفّين: 233؛ الاستيعاب: 1123/3؛ الرياض النضرة: 107/3؛ كشف الغمة: 76/1؛ الفصول المهمة: 598/1؛ ذخائر العقبى: 57.
3- . تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 349/1؛ أُسد الغابة: 39/4؛ ينابيع المودّة: 146/3.
4- . حلية الأولياء: 84/1؛ تاريخ ابن عساكر: 401/24-402، المحاسن والمساوئ: 32/1؛ نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: 135؛ مطالب السؤول: 180.
5- . تذكرة السبط: ص 104؛ الوافي بالوفيات للصفدي: 182/21.

أليس عليٌّ هو ذلك المجاهد الوحيد الّذي نزل فيه قوله تعالى: «أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ» (1). وقوله تعالى: «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ» (2).(3)

فمتى خلا عليٌّ عن مقارعة الرجال والذبِّ عن قدس صاحب الرّسالة حتّى يصحّ أن يُعزى إليه توان أو تردّد في أمر من الأُمور؟! غير أنّ القول الباطل لا حدَّ له ولا أمد.

وهل يتصوَّر في أميرالمؤمنين تلك العشرة السيّئة مع حليلته الطاهرة؟! والنبيُّ يقول له: «أشبهت خَلقي وخُلقي وأنت من شجرتي الّتي أنا منها»(4).

وكيف يراه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أفضل أُمَّته وأعظمهم حلماً، وأحسنهم خلقاً، ويقول:

«عليٌّ خير أُمَّتي أعلمهم علماً وأفضلهم حلماً»؟!(5).

ويقول لفاطمة: «إنّي زوَّجتكِ أقدم أُمَّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً»؟!(6).

ويقول لها: «زوّجتكِ أقدمهم سلماً، وأحسنهم خُلقاً»؟!(7).

يقول هذه كلّها وعشرته تلك كانت بمرأى منه ومسمع؟! أفك الدجّالون، لقد

ص:130


1- . التوبة: 19.
2- . البقرة: 207.
3- . راجع: «الغدير»: 16/3-19.
4- . الغدير: 20/3 نقلاً عن تاريخ بغداد للخطيب: 171/11، برقم 5870.
5- . الغدير: 20/3.
6- . مسند أحمد: 26/5، الرياض النضرة: 160/3؛ ذخائر العقبى: 78؛ مجمع الزوائد: 114/9، وصحّحه ووثّق رجاله؛ كشف الغمة: 84/1 و 114 و 148؛ تاريخ مدينة دمشق: 126/42.
7- . أخرجه أبو الخير الحاكمي كما في الرياض النضرة: 144/3، وفيه: أقدمهم إسلاماً.

كان عليٌّ عليه السلام كما أخبر به النبيُّ الصادق الأمين.

وهل يقبل شعورك ما قذف به الرجل (فضَّ اللّه فاه) عليّاً بلكم فاطمة بضعة المصطفى؟! وعليٌّ هو ذاك المقتص أثر الرسول وملأ مسامعه قوله صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة:

«إنّ اللّه يغضب لغضبكِ، ويرضى لرضاكِ»(1).

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم وهو آخذ بيدها: «مَن عرف هذه فقد عرفها، ومَن لم يعرفها فهي بضعةٌ منّي، هي قلبي وروحي الّتي بين جنبيَّ، فمَن آذاها فقد آذاني»(2).

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة بضعةٌ منّي، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها»(3).

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة بضعةٌ مني، فمن أغضبها فقد أغضبني»(4).

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة بضعةٌ منّي، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها»(5).

وهل يقصر امتداح النبيّ عليّاً بقدم إسلامه؟! حتّى يتفلسف في سرِّه ويكون

ص:131


1- . مستدرك الحاكم: 154/3 و صحّحه؛ مجمع الزوائد: 203/9؛ ذخائر العقبى: 39؛ تذكرة السبط: 175، مقتل الخوارزمي: 52/1، كفاية الطالب: 219؛ كنز العمال: 674/13 برقم 37725، عن الحاكم وابن النجار؛ ميزان الاعتدال: 492/2 برقم 4560؛ الإصابة: 266/8؛ الصواعق المحرقة: 175؛ الإسعاف: 171 عن الطبراني؛ ينابيع المودة: 57/2 برقم 33، و ص 132 برقم 375، و ص 464 برقم 293.
2- . الفصول المهمة: 664/1؛ كشف الغمة: 94/2؛ نور الابصار: 45.
3- . صحيح مسلم: 141/7، باب فضائل فاطمة؛ سنن ابن ماجة: 644/1 برقم 1998.
4- . صحيح البخاري: 219/4، باب مناقب فاطمة عليها السلام؛ ينابيع المودة: 52/2.
5- . مستدرك الحاكم: 158/3؛ ينابيع المودّة: 98/2 برقم 244؛ الصواعق المحرقة: 188.

ذلك إرضاءً لابنته، على أنّ امتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان يقتصر صلى الله عليه و آله و سلم على قوله لفاطمة في ذلك وكان يتأتّى الغرض به، فلماذا كان يأخذ صلى الله عليه و آله و سلم بيد عليٍّ في الملأ الصحابي تارةً ويقول: «إنَّ هذا أوَّل مَن آمن بي، وهذا أوّل مَن يصافحني يوم القيامة؟» ولماذا كان يخاطب أصحابه أُخرى بقوله: «أوّلكم وارداً عليَّ الحوض أوّلكم إسلاماً عليّ بن أبي طالب»؟!

وكيف خفي هذا السرّ المختلق على الصحابة الحضور والتابعين لهم بإحسان فطفقوا يمدحونه عليه السلام بهذه الإثارة كما يروى عن: سلمان الفارسي، أنس بن مالك، زيد بن أرقم، عبداللّه بن عبّاس، عبداللّه بن حجل، هاشم بن عتبة، مالك الأشتر، عبداللّه بن هاشم، محمد بن أبي بكر، عمرو بن الحمق، أبوعمرة عديّ بن حاتم، أبي رافع، بريدة، جندب بن زهير، أُمّ الخير بنت الحريش.

وهل القول بقلّة إلتفات النبيّ إلى عليّ يساعده القرآن الناطق بأنَّه نفس النبيِّ الطاهر؟! أو جعل مودَّته أجر رسالته؟!

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم في حديث الطير المشويِّ الصحيح المرويّ في الصحاح والمسانيد: اللّهم أئتني بأحبِّ خلقك إليك ليأكل معي؟!(1)

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم لعائشة: «إنّ عليّاً أحبّ الرجال إليَّ، وأكرمهم عليّ، فاعرفي له حقّه وأكرمي مثواه؟!»(2).

ص:132


1- . لاحظ: السنن الكبرى للنسائي: 107/5 برقم 8398؛ سنن الترمذي: 300/5 برقم 3805؛ مستدرك الحاكم: 130/3 وصحّحه وقال: وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفساً ثم صحّت الرواية عن علي وأبي سعيد الخدري وسفينة؛ مجمع الزوائد: 126/9؛ الرياض النضرة: 114/3؛ مطالب السؤول: 89،...
2- . أخرجه الحافظ الخجندي كما في الرياض: 116/3، وذخائر العقبى: 62؛ أُسد الغابة: 548/5؛ ينابيع المودّة: 245/1 برقم 24.

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أحبّ الناس إليّ من الرجال عليٌّ؟!».

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ خير من أتركه بعدي؟!»(1).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «خير رجالكم عليُّ بن أبي طالب، وخير نسائكم فاطمة بنت محمّد»؟!(2).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ خير البشر فمن أبى فقد كفر»(3).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن لم يقل عليٌّ خير الناس فقد كفر؟!»(4).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: في حديث الراية المتّفق عليه: «لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّه اللّه ورسوله ويحبّ اللّه ورسوله»؟(5)

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ منّي بمنزلة الرأس (رأسي) من بدني أو جسدي»؟(6).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ منّي بمنزلتي من ربّي؟»(7).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ أحبّهم إليَّ وأحبّهم إلى اللّه»(8).

ص:133


1- . لاحظ: مجمع الزوائد: 113/9؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 228/13؛ كنز العمال: 610/11 برقم 32952؛ شواهد التنزيل للحسكاني: 98/1 برقم 115؛ كشف الغمة: 156/1 و 157.
2- . تاريخ بغداد للخطيب: 157/5 برقم 2595؛ تاريخ مدينة دمشق: 167/14؛ ينابيع المودّة: 275/2 برقم 788؛ مناقب ابن شهر آشوب: 268/2.
3- . تاريخ مدينة دمشق: 372/42 و 373؛ مناقب علي لابن مردويه الاصفهاني: 109 برقم 122؛ كشف الغمّة: 155/1؛ ينابيع المودة: 78/2 برقم 80 و 81 و ص 273 برقم 779 و 784.
4- . تاريخ الخطيب البغدادي: 409/3، عن ابن مسعود؛ كنزالعمال: 625/11 برقم 33046؛ تاريخ مدينة دمشق: 372/42.
5- . صحيح البخاري: 207/4، باب مناقب علي.
6- . الجامع الصغير للسيوطي: 177/2 برقم 5596؛ كنز العمال: 603/11 برقم 32914؛ فيض القدير للمناوي: 471/4؛ كشف الغمة: 300/1؛ ينابيع المودّة: 167/1 برقم 6 و ج 77/2 برقم 72.
7- . الرياض النضرة: 119/3؛ ذخائر العقبى: 64.
8- . تاريخ الخطيب البغدادي: 172/1.

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ: «أنا منك وأنت مني. أو: أنت منّي وأنا منك»؟(1).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ منّي وأنا منه(2)، وهو وليُّ كلّ مؤمن بعدي»؟(3).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم في حديث البعث بسورة البراءة المجمع على صحّته: «لا يذهب بها إلّارجلٌ منّي وأنا منه»(4).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لحمك لحمي ودمك دمي والحقُّ معك»؟(5).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ما من نبيّ إلّاوله نظير في أُمَّته وعليٌّ نظيري»؟(6).

أو ما صحَّحه الحاكم وأخرجه الطبراني عن أُمّ سلمة قالت: كان رسول اللّه

ص:134


1- . صحيح البخاري: 168/3، كتاب الصلح، باب كيف يكتب. و ج 207/4، باب مناقب علي، و ج 85/5، باب عمرة القضاء.
2- . مسند أحمد: 164/4 و 165؛ سنن ابن ماجة: 44/1 برقم 119؛ فضائل الصحابة للنسائي: 15.
3- . مسند أحمد: 438/4؛ مستدرك الحاكم: 134/3؛ مجمع الزوائد: 120/9؛ مسند أبي داود الطيالسي: 111 و 360؛ المصنّف لابن أبي شيبة: 504/7 برقم 58؛ السنن الكبرى للنسائي: 132/5 برقم 8473؛ خصائص النسائي: 98؛ مسند أبي يعلى الموصلي: 293/1؛ صحيح ابن حبّان: 374/15؛ الرياض النضرة: 129/3؛ تاريخ مدينة دمشق: 198/42 و 199؛ ميزان الاعتدال: 410/1؛ تاريخ الإسلام للذهبي: 631/3 و ج 71/11؛ كشف الغمة: 177/1 و 295؛ ينابيع المودّة: 171/1 برقم 16 و ص 172 برقم 20؛ دخائر العقبى: 68 و 87. وقد أفتى ابن تيمية بتضعيف هذا الحديث وتكذيبه في منهاج السنّة: 35/5-36 و ج 391/7 وللمؤلّف بحث مفصّل في الرد على ابن تيمية. راجع ابن تيمية فكراً ومنهجاً: 299-302.
4- . مسند أحمد: 331/1؛ مجمع الزوائد: 119/9؛ خصائص أمير المؤمنين عليه السلام للنسائي: 63؛ الرياض النضرة: 174/3؛ ينابيع المودّة: 111/1.
5- . الغدير: 23/3؛ إحقاق الحق: 356/22؛ توضيح الدلائل للشافعي الشيرازي: 176؛ آل محمد لحسام الدين المردي الحنفي: 370 نقلاً عن إحقاق الحق: 356/22-358.
6- . الرياض النضرة: 120/3؛ جواهر المطالب في مناقب الإمام علي: 61/1؛ ينابيع المودّة: 154/2 برقم 430.

إذا أغضب لم يجترئ أحدٌ أن يكلّمه غير عليّ؟(1).

أو قول عائشة: واللّه ما رأيت أحداً أحبَّ إلى رسول اللّه من عليّ ولا في الأرض امرأة كانت أحبُّ إليه من امرأته؟(2).

أو قول بريدة وأُبيّ: أحبُّ الناس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من النساء فاطمة، ومن الرجال عليٌّ؟!(3).

أو حديث جُميع بن عمير قال: دخلت مع عمَّتي على عائشة فسألت أيَّ الناس أحبّ إلى رسول اللّه؟! قالت: فاطمة. فقيل: مِن الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمت صوّاماً قوّاماً(4).

وكيف كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يُقدِّم الغير على عليّ في الإلتفات إليه؟! وهو أوَّل رجل إختاره اللّه بعده من أهل الأرض لمّا اطّلع عليهم كما أخبر به صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة بقوله: «إنّ اللّه اطَّلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيّاً، ثمّ اطَّلع الثانية فاختار بعلكِ فأوحى إليَّ فأنكحته واتّخذته وصيّاً»(5).

وبقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوكِ والآخر

ص:135


1- . مستدرك الحاكم: 130/3؛ أنساب الأشراف: 107/2.
2- . مستدرك الحاكم: 154/3 وصحّحه؛ مسند أبي يعلى الموصلي: 270/8؛ خصائص النسائي: 109، الرياض النضرة: 116/3.
3- . خصائص النسائي: 110؛ مستدرك الحاكم: 155/3، صحّحه هو والذهبي.
4- . سنن الترمذي: 362/5 برقم 3965؛ مستدرك الحاكم: 157/3؛ الرياض النضرة: 115/3؛ تاريخ مدينة دمشق: 263/42.
5- . أخرجه الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري: 171/4؛ كنز العمال: 604/11 برقم 32923؛ وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد: 165/9 عن علي الهلالي.

زوجكِ»(1).

وإنّي لا يسعني المجال لتحليل كلمة الرجل: وكان صهرا النبيّ الأمويّان...

إلخ، وحسبك في مداراة عثمان الكريم حديث أنس عن رسول اللّه لمّا شهد دفن رقيّة ابنته العزيزة وقعد على قبرها ودمعت عيناه فقال: أيّكم لما يُقارف الليلة أهله؟! فقال أبو طلحة: أنا فأمره أن ينزل في قبرها.

قال ابن بطّال: أراد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يحرم عثمان النزول في قبرها وقد كان أحقّ الناس بذلك لأنّه كان بعلها وفقد منها علقاً لا عوض منه، لأنّه حين قال عليه السلام أيّكم لم يُقارف الليلة أهله؟! سكت عثمان ولم يقل: أنا. لأنَّه قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه، ولم يشغله الهمُّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن المقارفة، فحرم بذلك ما كان حقّاً له وكان أولى به من أبي طلحة وغيره. وهذا بيّنٌ في معنى الحديث ولعلّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئاً، لأنّه فعل فعلاً حلالاً، غير أنَّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير صريح(2). وما عساني أن أقول في أبي العاص الّذي كان على شركه إلى عام الحديبيّة، وأُسر مع المشركين مرّتين، وفرّق الإسلام بينه وبين زوجته زينب بنت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ستَّ سنين، وهاجرت مسلمة وتركته لشركه، ولم ترد قطّ بعد إسلامه كلمة تُعرب عن صلته مع النبيّ ومداراته له فضلاً عن مقايسته بعليٍّ أبي ذُرِّيَّته وسيّد عترته.

وقد اتّهم الرجل نبيّ الإسلام بعدم العمل على سعادة ابنته الطاهرة المطهّرة

ص:136


1- . المعجم الكبير للطبراني: 77/11؛ كنز العمال: 108/13 برقم 36355؛ تاريخ بغداد: 418/4؛ تاريخ مدينة دمشق: 135/42.
2- . الروض الأنف: 127/3-128.

بنصَّ الكتاب العزيز، ويقذف عليّاً بالتألّم من ذلك، وكان صلى الله عليه و آله و سلم إذا أصبح أتى باب عليٍّ وفاطمة وهو يقول: «يرحمكم اللّه إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً». وكان لم يزل يقول: «فاطمة أحبّ الناس إليّ».

ويقول: «أحبّ الناس إليَّ من النساء فاطمة».

ويقول: «أحبُّ أهلي إليَّ فاطمة».

وكان عمر يقول لفاطمة: واللّه ما رأيت أحداً أحبَّ إلى رسول اللّه منكِ (1).

وما أقبح الرجل في تقوّله على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعدّه لعليٍّ غير قوّام بجليل الأعمال. وقد وازره وناصره وعاضده بتمام معنى الكلمة بكلِّ حول وطول من بدء دعوته إلى آخر نفس لفظه، فصار بذلك له نفساً وأخاً ووزيراً ووصيّاً وخليفةً ووارثاً ووليّاً بعده، وكان قائده الوحيد في حروبه ومغازيه، وهو ذلك الملقَّب بقائد الغُرّ المحجّلين وحياً من اللّه العزيز في ليلة أسرى بنبيّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى(2).(3)

العقّاد والنيل من فاطمة عليها السلام

ممّا يُعجب بل ويؤسف أن نجد العقاد كاتب النيل الكبير يذهب هذا المذهب، وينحو هذا المنحى ذاته من سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأُمّ الإمامين الهمامين الحسن والحسين عليهما السلام، فيسطر في كتابه «فاطمة

ص:137


1- . مستدرك الحاكم: 155/3 وصحّحه؛ كنز العمال: 674/13 برقم 37724.
2- . مستدرك الحاكم: 138/3 وصحّحه؛ الرياض النضرة: 137/3؛ كشف الغمة: 18/2؛ الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 573.
3- . لاحظ: الغدير: 19/3-25.

الزهراء والفاطميّون»(1) شيئاً من هذه العبارات والمقالات التافهة الّتي لا يليق بكاتب مثله عرف بالتحقيق والفهم، أن يدرجها في مؤلّفه.

ولا يجاب على ما كتبه العقّاد ومن حذا حذوه إلّابما مرّ في كلام العلّامة والمحقّق الخبير الأميني رحمه الله. ففيه كفاية لمن تحرّى الحقيقة عن أهل البيت عليهم السلام.

هذا وينبغي أن نذكّر القارئ الكريم بنفس ما كتبه العقّاد في كتابه وممّا يعتبر شهادة دامغة تفنّد ما بدر منه من قول غير لائق في شأن عليّ والزهراء، فهو يقول:

في كلّ دين صورة للأُنوثة الكاملة المقدّسة يتخشّع بتقديسها المؤمنون كأنّما هي آية اللّه فيما خلق من ذكر وأُنثى.

فإذا تقدّست في المسيحية مريم العذراء، ففي الإسلام لاجرم تتقدّس صورة فاطمة البتول.

ثم يقول: من الواضح البيّن أنّ الزهراء أخذت مكانها الرفيع بين أعلام النساء في التاريخ؛ لأنّها بنت نبي وزوجة إمام وأُمّ شهداء(2).

فإذا كانت هذه هي صورة الزهراء البتول، فكيف يصدّق العقل ما حاكته أيدي الدسّ في تاريخ هاتين القمّتين الطاهرتين من قمم الإسلام الشامخة؟!

ص:138


1- . راجع: فاطمة الزهراء والفاطميّون: 32 و 33.
2- . راجع: فاطمة الزهراء والفاطميّون: 51 و 52.

32 جرائم «بني قينقاع»

اشارة

كانت معركة «بدر» بمثابة طوفان شديد ضدّ الوثنية في قلب شبه الجزيرة العربية.

طوفان اقتلع بعض جذور الوثنية العريقة، فقد قُتِلَ طائفة من صناديد قريش، وأُسرت أُخرى وهرب الباقون بمنتهى الذل والصغار، وانتشر خبر هزيمة جيش قريش المتغطرس في جميع أنحاء وربوع الجزيرة العربية.

ولكن ساد بعد هذا الطوفان المرعب، شيء من الهدوء المقرون بالاضطراب والقلق، هدوء كان منشؤه التفكير في مستقبل شبه الجزيرة العام وما تخبّئه الأيام القادمة لسكانّها على أثر التحوّل الجديد.

وكانت مخاوف القبائل الوثنية، ويهود يثرب الأثرياء ويهود خيبر ووادي القرى تزداد يوماً بعد يوم من تقدّم الإسلام المطرّد، وتعاظم شوكته، واشتداد أمر حكومته الفتية، وكان جميع هؤلاء يجدون مستقبلهم مهدّداً بخطر جديّ، فإنّهم لم يتوقّعوا أن يكسب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المهاجر من مكّة كلّ هذه النجاحات الباهرة، وأن يبلغ من القوّة ذلك المبلغ، بحيث يقهر بقواه المحدودة قوّة قريش الكبرى

ص:139

ويكسر شوكتها العريقة!!

وكان يهود بني قينقاع الذين يقطنون داخل المدينة، ويمسكون بخيوط اقتصادها، أشدَّ خوفاً من غيرهم، وأكثر قلقاً على مستقبل أمرهم، لأنّهم كانوا يخالطون المسلمين مخالطة كاملة، وكان وضعهم يختلف عن وضع يهود خيبر ووادي القرى الذين كانوا يعيشون خارج المدينة بعيداً عن مركز قوة المسلمين ومنطقة حاكميتهم!!

من هنا بدأ يهود بني قينقاع قبل غيرهم من طوائف اليهود العائشة في تلك الديار بتدبير المؤامرات، وممارسة الأعمال الإيذائية ضدّ المسلمين والقيام بالحرب الباردة (الإعلامية) ضدّهم، وذلك بنشر الأكاذيب وبثّ المعلومات الكاذبة، وإطلاق الشعارات القبيحة، وإنشاد القصائد الّتي من شأنها الإساءة إلى المسلمين وتحقيرهم، وتخريب معنوياتهم.

وبهذا يكون اليهود قد بدأوا عمليّاً بنقض معاهدة التعايش السلمي الّتي ذكرناها سلفاً، والّتي عقدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معهم في إبّان قدومه المدينة.

ولم تكن هذه الحرب الباردة الشّريرة لتبرّر تصدّي القوى الإسلامية لها بالحرب الساخنة، واستعمال السلاح، لأنّ ما يمكن حلّه بسلاحِ المنطق لا يحبذ أن يعالَج بمنطق السلاح، وخاصّة أنّ الرد الساخن والمسلّح يؤدّي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المدينة، والحال أنّ المحافظة على الوحدة السياسية، واستتباب الأمن والاستقرار في المدينة كان ممّا يهمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم جدّاً وهو يواجه أعداءً أشدّاء من الخارج.

فلم يكن من مصلحة الإسلام والمسلمين تفجير الموقف في عاصمة الإسلام يومئذ.

ص:140

ولهذا - وبغية إتمام الحجّة على يهود بني قينقاع - وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم في سوقهم بعد أن جمعهم فيه ثم قال لهم:

«يا معشر يهود احذروا من اللّه مِثل ما نزلَ بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنّكم قد عرفتُم أنّي نبيٌ مرسَلٌ، تجدون ذلكَ في كتابكم وعهد اللّه إليكم».

وهنا نزل قول اللّه تعالى:

«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ * قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (1).

ولكن اليهود المغرورين المتكبّرين لم يشكروا نصيحة النبي هذه أو يسكتوا حسب، بل ردّوا عليه بعناد ولجاج وصلافة قائلين: يا محمّد إنّك ترى أنّا قومك! لا يغرنّك أنّك لقيتَ قوماً لا عِلمَ لهم بالحرب، فأصبتَ منهم فرصة، إِنّا واللّه لئن حاربناك لتعلمنَّ أنّا نحن الناس (أو إنّا واللّه أصحاب الحرب، ولئِن قاتلتنا لتعلمنَّ أنّك لم تقاتل مثلنا)!!(2).

فلم تترك كلمات يهود «بني قينقاع» الجوفاء، وتشدّقهم الفارغ بقوّتهم وقدرتهم على القتال والمواجهه أدنى أثر في نفوس المسلمين.

ولكن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد أتمّ عليهم الحجّة، فلم يعودوا معذورين حسب السياسة الإسلامية وقد أصبح ساعتئذ من اللازم الاحتكام إلى منطق السلاح بعد أن لم ينجع سلاح المنطق، ولم يقنع اليهود بضرورة تغيير مواقفهم، والتخلّي عن مؤامراتهم وخططهم الإيذائية ضد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين.

ص:141


1- . آل عمران: 12 و 13.
2- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 561/2؛ المغازي: 176/1.

أجل لابد من استخدام القوة مع هؤلاء اليهود الصلفين المتعنّتين وإلّا ازدادوا صلافة، وكثرت اعتداءاتهم.

ولهذا أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينتظر الفرصة المناسبة لتأديب تلك الجماعة المتعنّتة الوقحة.

لهيب الحرب يبدأ من شرارة

قد تؤدّي بعض الحوادث الصغيرة إلى سلسلة من التحوّلات والأحداث في المجتمعات الكبرى. يعني أن تتسبّب حادثة جزئية في انفجار الحوادث الكبرى، فيصفّي كلّ من طرفي النزاع حسابه مع الطرف الآخر، انطلاقاً من علل وأسباب أُخرى، وليست من تلك الحادثة الجزئية؟

فللمثال نشبت الحرب العالمية الأُولى - وهي إحدى أكبر الحوادث التاريخية في حياة البشر - من حادثة صغيرة تذرّعت بها الدول الكبرى، وتلك الحادثة الصغيرة الّتي أشعلت فتيل الحرب العالمية الأُولى هي اغتيال «الأرشيدوق فرانسيز فريديناند» ولي عهد النمسا في سراييفو.

فقد وقعت هذه الحادثة في 28 من شهر يونيو عام 1914 م وبعد شهر وعدّة أيام بدأت الحرب العالمية الأُولى بهجوم الألمان على بلجيكا، وأسفرت هذه الحرب المدمّرة الشاملة عن مقتل عشرة ملايين وجرح عشرين مليون من البشر(1).

ولقد انزعج المسلمون من صلافة يهود بني قينقاع، وردّهم الوقح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يخاطبهم بأدب وينصحهم، وكانوا يتوقّعون أن يقوم اليهود

ص:142


1- . الموسوعة العربية الميسّرة: ص 700.

بعمل عدائي ليثوروا ضدهم، ويؤدّبوهم.

وبينا هم على هذه الحال إذ تعرّضت امرأة من العرب لاعتداء من اليهود، فأشعل هذا الحادث الموقف.

وإليك مفصّل تلك الحادثة:

جاءت امرأة من العرب إلى سوق بني قينقاع فجلست عند صائغ تبيع حليّاً لها أو تشتري، وكانت تبالغ في ستر وجهها عن اليهود، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد رجلٌ من يهود بني قينقاع إليها وجلس من ورائها، وهي لا تشعر فعقد أسفل ثوبها إلى ظهرها، فلمّا قامت المرأة بدت عورتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين إلى ذلك الرجل اليهودي فقتله، فاجتمعت بنو قينقاع، وشدّوا على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهلُ المسلم القتيل المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون غضباً شديداً.

ولقد كان من الطبيعي أن يثب الرجل المسلم على ذلك اليهودي الوقح الشرير الّذي فعل بالمرأة العربية ذلك الصنع القبيح، فإنّ قضية «الأعراض» قضية حياتية وحسّاسة في أي مجتمع، فهي قضية شرف، وقد كان هذا الأمر يحظى في المجتمع العربيّ خاصّة بأهمّية كبرى، وخاصّة عند البدو الرحّل منهم، فكم من دماء جرت لعدوان على عرض ديس، أو تعرّض للتحرّش.

من هنا أزعج وضع تلك المرأة الغريبة وحالها المؤلم واضطرابها الرجل المسلم، وأشعل غيرته فوثب على اليهودي المعتدي وقتله.

وكان من الطبيعي أيضاً أن لا يمرّ هذا العمل دون رد من اليهود فيثب اليهود بأجمعهم على ذلك المسلم الغيور ويقتلوه، ويريقوا دمه بأجمعهم.

نحن هنا لا يهمّنا أن نعرف أنّ قتل ذلك الرجل اليهودي لازدرائه بامرأة كان

ص:143

أمراً صحيحاً منطقياً يتّفق مع الموازين أم لا ينطبق.

ولكنّه ما من شك في أن وثوب مئات من الرجال واجتماعهم على قتل رجل مسلم واحد، وإراقة دمه، عملٌ بالغ الشناعة والقبح.

من هنا تسبّب انتشارُ هذا الخبر (أي مقتل رجل مسلم واحد على أيدي مجموعة كبيرة من الرجال بصورة مفجعة) في إثارة المسلمين ونفاد صبرهم، ودفعهم إلى العزم على حسم الموقف حسماً كاملاً وبالتالي هدم قلعة الفساد على رؤوس أصحابها القتلة.

فأحس «بنو قينقاع» بخطر الموقف، وأدركوا أنّه لم يعد من الصالح أن يبقوا في أسواقهم، ويواصلوا البيع والشراء، وقد تلبّد الجوّ بالغيوم الداكنة على أثر العمل الفضيع والجناية الكبرى الّتي ارتكبوها.

من هنا تركوا أسواقهم بسرعة، وعادوا إلى قلاعهم المحصّنة، وتحصّنوا فيها، وكان ذلك منهم انسحاباً خانعاً بعد ذلك التشدّق الصلف!!

ولقد أخطاؤا هذه المرة أيضاً، إذ ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم، من انتقام اللّه.

ولو أنّهم اعتذروا لخطئهم، وأظهروا الندامة لكانوا يجلبون رضا المسلمين، ويحصلون على عفو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهم يعرفون خلقه العظيم؛ وصفحه الكريم.

إلّا أنّ تحصّنهم كان آية عنادهم، واعلانهم الحرب، ونصبهم العداء الصريح للإسلام والنبيّ والمسلمين.

فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمحاصرتهم، ومنع من دخول أيّ إمداد إليهم، كما منع من اتّصالهم بأي أحد خارج حصونهم.

فحصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة أشدّ الحصار، حتّى قذف اللّه في قلوبهم الرعب، وفقدوا القدرة على المقاومة، ورضوا بأن ينزلوا عند حكم

ص:144

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فيهم!!

وأراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يؤدّب تلك الجماعة الّتي كانت أوّل مَن نقض العهد ونبذ الميثاق تأديباً قاسياً، يكون عقاباً لهم وعبرة لغيرهم.

ولكن «عبداللّه بن أُبي بن سلول» الّذي كان من منافقي المدينة ويتظاهر بالإسلام، أصرّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يحسن معاملتهم، ولا يأخذهم بما فعلوا لحلف ومودّة كانت بينه وبين يهود من السابق، فانصرف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن ما كان يريد من تأديبهم الشديد، وعقوبتهم على كره منه(1)، ولكن أمر بأن يُجلوا من المدينة، ولا يبقوا فيها شريطة أن يتركوا أسلحتهم، وأموالهم، ودروعهم.

فنزلوا على حكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أحد المسلمين بقبض أموالهم وأسلحتهم، وكلّف «عبادة بن الصامت» بإجلائهم من حصونهم، فعجّل عبادة في ترحيلهم وإجلائهم.

فخرجوا من المدينة ولحقوا بمنطقة تُدعى «أذرعات» وهي بلد في أطراف الشام.

وبإجلاء «بني قينقاع» عادت الوحدة السياسية إلى المجتمع في المدينة.

ص:145


1- . هذا مع العلم أنّ القرآن الكريم ندّد بمثل هذه الوساطة التي قام بها ذلك الرجل المنافق رغم تخفيف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم معاقبة اليهود، ورسم للمسلمين منهجاً في التعامل مع اليهود والنصارى إذ قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ * وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ» (المائدة: 51-53).

وكانت الوحدة السياسية هذه المرة مقرونة بالوحدة الدينية، إذ كان المسلمون يشكّلون الأغلبية الساحقة في المدينة، فلم يكن لغيرهم فيها شأن يذكر(1).

تقارير جديدة تصل إلى المدينة

من المعلوم أنّ الاخبار تنتشر بين الناس بسرعة في المناطق الصغيرة، على العادة.

من هنا فإنّ أنباء أكثر المؤامرات والتحركات المعادية للإسلام الّتي كانت تقع في المناطق المختلفة من شبه الجزيرة كانت تصل بسرعة - وعبر المسافرين المحايدين أو الاصدقاء المترصّدين - إلى مركز القيادة الإسلامية في المدينة. هذا مضافاً إلى أنّ هذا النوع من المعلومات كان يحظى لدى رسول الإسلام بأهمية كبرى، فيرصد لها من يأتي بها أوّلاً بأوّل، ولهذا كانت أكثر التحرّكات والمؤامرات يقضى عليها في مهدها بفضل الردّ السريع والمناسب الّذي كانت القيادة الإسلامية تقوم به في ضوء المعلومات الواردة إليها، أو الّتي حصلت عليها.

فبمجرّد أن تتضمّن هذه المعلومات، إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خبراً مفاده أنّ إحدى القبائل تعدّ قوة، وتستعدّ للهجوم على المدينة، كان صلى الله عليه و آله و سلم يبادر إلى بعث سرية أو يقود هو بنفسه مجموعة مناسبة لمحاصرة تلك القبيلة، وإفشال مؤامرتها، وإبطال تدبيرها قبل أن تستطيع فعل شيء، وكان هذا هو أُسلوب المباغتة الّذي استطاع به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يقضي على كثير من التحرّكات المعادية في مهدها.

وإليك مختصراً عن بعض تلك الغزوات الّتي وقعت في السنة الثانية من

ص:146


1- . لاحظ: المغازي: 177/1؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: 28/2 و 29؛ سيرة ابن هشام: 561/2-563.

الهجرة:

1. غزوة قرقرة الكُدْر(1):

كانت المنطقة الّتي تتمركز فيها قبيلة «بني سلم» تدعى «الكُدْر».

وقد بلغ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّ القبيلة المذكورة تهيِّئ، وتعدّ العدّة للهجوم على مركز الإسلام وعاصمته (المدينة). فخرج رسول اللّه بنفسه من المدينة بعد أن استخلف عليها أحد أصحابه وأوكل إليه إدارة المدينة في غيابه، وكان الّذي استخلفه هذه المرّة «ابن أُمّ مكتوم»، وخرج على رأس قوةٍ عسكريةٍ إلى مركز تلك القبيلة، فلمّا سمعوا بمسير القوى الإسلامية إليهم تفرّقوا، وعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة من غير قتال.

ثم بعث سرية بقيادة فارس من فرسانه يُدعى «غالب بن عبداللّه» إلى نفس تلك المنطقة، فوقع بينه وبينهم قتال محدود، وعاد «غالب» إلى المدينة ظافراً بعد أن استشهد ثلاثة من رجاله.

2. غزوة السويق:

كان عرب الجاهلية إذا نذروا ينذرون نذوراً غريبة.

فقد نذر أبوسفيان بعد معركة بدر أن لا يقارب زوجته ما لم يثأر من المسلمين لقتلى بدر، فكان عليه أن يقوم بهجوم على المدينة، ويقاتل النبيّ وأصحابه ليفي بنذره!!

فخرج من مكّة في مائتي راكب فجاء بني النضير ليلاً، يطلب مشورة من أحبار اليهود.

ص:147


1- . قرقرة الكدر: ناحية بين المعدن وبين المدينة، (الطبقات الكبرى لابن سعد: 31/2).

فلمّا كان في وقت السحر خرج فمر بالعريض فوجد رجلاً من الأنصار مع أجيرِ له، فقتل الأنصاريّ، وقتل أجيره، وحرّق بيتاً وحرثاً لهم بإرشاد من كبير اليهود «سلام بن مشكم»، ورأى أن يمينه قد حلّت، ثم ذهب هارباً، وخاف ملاحقة المسلمين له.

فعرف به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فندب أصحابه فخرجوا في أثره، وجعل أبوسفيان وأصحابه يتخفّفون فيلقون أكياس السويق (وهو القمح المقلّى المطحون الملتوت بالسمن أو العسل)، وهي عامّة زادهم، فجعل المسلمون يمرّون بها فيأخذونها.

فسُمّيت تلك الغزوة بغزوة السويق لهذا الشأن.(1)

3. غزوة ذي أمرّ

بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ قبيلة غطفان تجمع أفرادها، وتتأهب للعدوان على المدينة المنورة، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على رأس أربعمائة وخمسين رجلاً.

فلمّا سمع العدو بمسير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خافوا خوفاً شديداً فهربوا إلى رؤوس الجبال، فراراً من النبيّ والمسلمين.

فخرج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إليهم يبحث عنهم فلم يلاق أحداً منهم، وقد غيّبوا سرحهم وذراريهم في ذرى الجبال خوفاً وفرقاً.

فنزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «ذا أمرّ»(2) و عسكر معسكره هناك، فأصابهم مطرٌ كثير، فذهب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لحاجته، فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، وقد جعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وادي «ذي أمرّ» بينه وبين أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف،

ص:148


1- . لاحظ: المغازي: 182/1؛ الطبقات الكبرى: 30/2.
2- . واد بطريق فيد إلى المدينة (وفاء الوفا: 249/2).

وألقاها على شجرة، ثم اضطجع تحتها، والأعراب ينظرون إلى كلّ ما يفعل.

فقالت الأعراب لدعثور وكان سيّدها وأشجعها: قد أمكنك محمّد، وقد انفرد من أصحابه، حيث إن غَوَّث بأصحابه لم يُغَث حتّى تقتله.

فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً ثم أقبل مشتملاً على السيف حتّى قام على رأس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالسيف مشهوراً، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مستلق على قفاه.

فقال بنبرة خشنة مهدّدة: يا محمّد من يمنعك منيّ اليوم؟ قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

اللّه.

فكان لهذه الكلمة أثر عجيب في نفس دعثور بحيث أُرعب، ووقع السيف من يده، فأخذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقام به على رأسه، فقال: ومن يمنعُك منّي اليوم.

فقال: لا أحد.

ثم قال: فأنا أشهد أن لا إله إلّااللّه، وأنّ محمّداً رسول اللّه، واللّه لا أكثر عليك جمعاً أبداً.

فأعطاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيفه ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقال:

أما واللّه لأنتَ خيرٌ منّي.

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنا أحقّ بذلك منك.

فأتى قومه، وقصَّ عليهم ما جرى له مع النبيّ، وأنّه أسلم، ودعا قومه إلى الإسلام.(1)

أجل يكتب المؤرّخون في هذا المقام أنّ الرجل أسلم من فوره، ويجب أن نعلم أنّه لم يسلم خوفاً وفرقاً وتحت بارقة السيف؛ لأنّه بقي ثابتاً ومستمراً في

ص:149


1- . لاحظ: المغازي: 194/1-196.

إسلامه بعد ذلك وأخذ يدعو قومه كما أسلفنا، وهذا يدلّ على أنّه أسلم عن طواعية ورغبة، وأنّ إسلامه كان لتنبّه فطرته، ويقظة وجدانه، فإنّ فشله غير المتوقع، ونجاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّتي تمّت بطريقة خارقة للعادة جعلته ينتبه إلى عالمٍ آخر، وعرف بأنّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ارتباطاً بعالم آخر، وأنّه مؤيّد بالتالي بقوةٍ عليا، وراء هذا العالم المادّي.

ولهذا السبب - وليس لسواه - أسلم، وقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إسلامه، وبعد أن مشى خطوات ردّ إلى النبيّ سيفه الّذي أعاده إليه النبيّ قبل ذلك واعتذر إليه.

وقال: أنت أولى بهذا السيف؛ لأنّك قائد هذه السرية المصلحة.

قريش تغيّر مسير تجارتها

تعرّضت سواحل البحر الأحمر للخطر من قبل عناصر الجيش الإسلامي وحلفائهم، ولم يعد من الممكن مواصلة التجارة وإرسال القوافل التجارية عبرها.

من هنا تشاورت قريش فيما بينها، ودرست أوضاعها في ظلّ هذه المستجدات، واتّفقت على أنّه لو تركت التجارة لهلكت رؤوس أموالها وفنيت، وكان عليها أن تسلّم للمسلمين.

وإن واصلت التجارة لم تحرز في هذا المجال نجاحاً مادامت الطريق غير آمنة، ومادام يمكن أن تتعرض أموالها للمصادرة على أيدي المسلمين كلّما عثروا عليها.

فاقترح أحدهم التجارة إلى الشام عن طريق العراق فاستحسنوا رأيه جميعاً، وتهيّأت القافلة للحركة في الخط الجديد، وتولّى أبو سفيان وصفوان بنفسيهما مهمة الإشراف على تلك القافلة وإدارتها، واستخدما رجلاً من بني بكر يُدعى

ص:150

«فرات بن حيّان» ليدلّهما على الطريق.

قال المقريزي في «إمتاع الأسماع»: سمع رجل من المدينة (وهو سليط بن النعمان) بخبر خروج صفوان بن أُميّة في عيره وما معهم من الأموال فخرج من ساعته وأخبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب فأصابوا العير، وأفلت أعيان القوم، فقدموا بالعير فخمّسها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فبلغ الخمس عشرين ألف درهم، وقسّم مابقي على أهل السريّة، وكان فيمن أُسِرَ فرات بن حيّان فأسلم(1).

ص:151


1- . إمتاع الأسماع: 129/1-130.

حوادث السنة الثالثة من الهجرة

33 الدفاع عن الحريّة

غزوة أحد أو الدفاع عن الحريّة عند جبل أُحُد

لم تكن السنة الهجرية الثالثة بأقلّ من السنة الثانية من حيث وقوع الحوادث والوقائع الملفتة للنظر فيها.

فإذا وقعت في السنة الثانية من الهجرة غزوة «بدر»، فقد وقعت في السنة الثالثة منها غزوة «أُحد» وهما من أعظم معارك الإسلام وغزواته.

على أنّ غزوة «أُحد» لم تكن الغزوة الوحيدة الّتي وقعت في السنة الثالثة، بل وقعت أيضاً غزواتٌ أُخرى(1) إلى جنب طائفة من السرايا، الّتي اخترنا منها سرية واحدة وغزوتين فقط.

1. سرية محمّد بن مسلمة لقد وَصَل نبأ انتصار المسلمين في معركة «بدر» عن طريق رجلين من المسلمين.

ص:152


1- . مثل غزوة بحران وغزوة حمراء الأسد.

ولم يكن الجيش الإسلامي الظافر قد وصل إلى المدينة بعد، قال «كعب بن الأشرف» - وكان رجلاً من طي، ثم أحد بني نبهان وكانت أُمّه من يهود «بني النضير» وكان شاعراً قوياً، وخطيباً بارعاً - وهو منزعج من الفتح الّذي أصابه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون في «بدر» فقال: واللّه لئِن كان محمّدٌ أصاب أشراف العرب وملوك الناس (ويعني سادة قريش وصناديدهم الذين قتلوا في بدر على أيدي المسلمين) لبطنُ الأرض خيرٌ من ظهرها!! وبدأ يبث الأكاذيب والشائعات في المدينة ومضى يشكّك في انتصارات المسلمين في بدر.

وقد كان يسيء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قصائده حتّى قبل معركة «بدر» ويحرّض الناس على المسلمين.

ثم إنّه لمّا تيقّن الخبر خرج حتّى قدم مكّة وجعل يحرّض قريشاً على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقد أنشد في هذا المجال أشعاراً يبكي فيها أصحاب القليب من قريش وقد ذكرتها المصادر التاريخية(1).

ثم رجع كعب هذا إلى المدينة فشبّب(2) بنساء المسلمين حتّى آذاهم!!

ولا شكّ أنّه بهذه المواقف المعادية كان من أظهر مصاديق المفسد في الأرض، الأمر الّذي آل إلى أن يقرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم التخلّص منه، وكفاية المسلمين شرّه، وقد أوكل هذه المهمة الصعبة إلى «محمد بن مسلمة».

وقد خطّط «ابن مسلمة» للتخلّص من «كعب» خطةً رائعةً، وألّف لتنفيذها فريقاً كان من بينهم «أبو نائلة» الأخ الرضاعي لكعب بن الأشرف، ليمكن من هذا الطريق التموية على كعب وتنفيذ الخطة المذكورة.

ص:153


1- . لاحظ: المغازي: 121/2-122؛ سيرة ابن هشام: 564/2-565.
2- . لاحظ: سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 566/2.

فخرج أبو نائلة إلى كعب وجلسا يتحادثان، ويتبادلان الشعر.

ثم إنّ أبا نائلة قال لكعب - بعد أن طلب منه أن يُخرج كلّ مَن كان هناك من ذويه وأهله -: ويحك يابن الأشرف إنّي قد جئتك لحاجة أُريد ذكرها لك فاكتم عنّي، وإنّي كرهت أن يسمع القوم كلامنا، فيظنون! قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل (يعني رسول اللّه) علينا بلاء من البلاء، وعادتنا به العرب، ورمتْنا عن قوسٍ واحدةٍ، وقطّعت عنّا السبل حتّى جهدت الأنفس، وضاع العيال، وأصبحنا، قد جهدنا وجهد عيالنا.

فقال كعب: أما واللّه لقد كنتُ أُخبرك يا ابن سلامة إنّ الأمر سيصير إلى ما أقول.

فقال أبو نائلة: إنّي قد أردت أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك، فقال: أترهنوني أبناءكم؟

فقال أبو نائلة: لقد أردت أن تفضحنا إنّ معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء.

فرضي كعب بن الأشرف بذلك.

وإنّما قال أبو نائلة هذا القول لابن الأشرف حتّى لا يستغرب إذا رأى السلاح بيد الرجال الذين سيأتون معه.

ثم خرج أبو نائلة من عند ابن الاشرف على ميعاد، فأتى أصحابه، فأخبرهم بما دار بينه وبين كعب، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، ثم أتوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عشاءً وأخبروه، فمشى معهم حتّى أتى البقيع، ثم وجّههم، ثم قال:

«انطلقوا على اسم اللّه، اللّهم أعِنهم».

ص:154

فَمضوا حتّى أتوا ابنَ الاشرف، فلمّا انتهوا إلى حصنِه هتف به أبو نائلة، وكان ابنُ الأشرف حديث عهدٍ بُعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنّك امرؤٌ محارب، وإنّ أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة؟

فقال ابن الأشرف: ميعادٌ، إنّه أبو نائلة.

ثم نزل إليهم فحيّاهم، ثم جَلَسوا فتحدّثوا ساعة حتّى اطمأنّ إليهم.

ثم قالوا له: هل لك يابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز (وهو موضع قرب المدينة) فنتحدّث به بقيّة ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم.

فخرجوا يتماشون حتّى ابتعدوا عن حصنه، وبينما هم كذلك إذ أدخلَ أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شمّ يده فقال: ويحك ما أطيبَ عطرك هذا يابن الأشرف، ثم مشى ساعة، ثم كرّر هذا العمل ثانية حتّى اطمأنّ، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه وقال: اضربوا عدوّ اللّه، فضربوه بسيوفهم، وطعنه أبو نائلة بخنجر في بطنه، وصاح صيحة ثم وقع على الأرض ولم تنفعه استغاثاته.

ثم عاد هذا الفريق الفدائي إلى المدينة من فورهم ولمّا بلغوا «بقيع الغَرقد» كبّروا، وقد قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تلك الليلة يصلّي، فلمّا سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تكبيرهم بالبقيع كبّر، وعرف أنّهم قد قتلوه.

وبهذا أعلنوا عن نجاح عمليّتهم الفدائية الجريئة الّتي أراحت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه من شرّ ذلك المفسد الخطير الّذي لم يفتأ عن إيذاء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وتناول أعراض المسلمين في أشعاره..(1).

ص:155


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 566/2-568؛ المغازي: 184/1-190.
إغتيال مفسد آخر

وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي يظاهر كعب بن الأشرف على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويقوم بنفس الدور الخبيث الّذي كان يقوم به ابن الأشرف من الإيذاء والإزعاج للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين. فقام فريق فدائي آخر من المسلمين باغتياله على غرار اغتيال صاحبه في عمليةٍ فدائيةٍ جسورةٍ على نحو ما رواه ابن الأثير في كتابه: الكامل في التاريخ بصورة مفصّلة(1).

وقد كانت هاتان العمليتان وأُمور أُخرى من أسباب اندلاع معركة «أُحد».

وقد حان الأوان الآن أن نستعرض تفاصيل هذه الواقعة الكبرى!

قريش تتكفّل نفقات الحرب

كانت بذور الرغبة في الانتقام والثأر من المسلمين قد بُذِرَت في مكّة من زمان وَقد ساعدت خطة المنع من البكاء والنياحة على القتلى على إذكاء روح الانتقام هذه لدى قريش.

كما أنّ تعذّر مرور قافلتها التجارية عبر طريق مكّة - المدينة - الشام، واضطرارها إلى سلوك طريق العراق للسفر إلى الشام زاد هو الآخر من سخطها وانزعاجها.

ولقد أجّج مقتل «كعب بن الأشرف» من أوار هذا الحقد، وأوقد لهيبه في النفوس.

من هنا اقترح «صفوان بن أُميّة» و «عكرمة بن أبي جهل» على أبي سفيان

ص:156


1- . الكامل في التاريخ: 146/2-147.

ومَن كانت له في قافلة قريش التجارية مشاركة، أن يدفع كلّ واحد منهم مبلغاً من المال لتسديد نفقات الحرب قائلين: يا معشر قريش إنّ محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا.

ولقد لقي هذا الاقتراح قبولاً من أبي سفيان وتقرّر الإعداد للحرب فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى هيّأ أبوسفيان ذلك.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع، كما ذكر كيف أنّ قريشاً لم تحصد من هذا الإنفاق إلّاالخيبة والخسران إذ قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» .(1)

وحيث إنّ زعماء قريش كانوا يعرفون بقوّة المسلمين وقد رأوا عن كثب استقامتهم وثباتهم في معركة «بدر» لهذا قرّروا أن يتألّف جيشهم هذه المرّة من صناديد أكثر القبائل العربية وشجعانها البارزين وأبطالها المعروفين.

فكلّف «عمرو بن العاص» وعدّة أشخاص آخرين بأن يؤلّبوا العرب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويجمعوا أبطالها وصناديدها، للمشاركة في الجيش الكثيف والمنظّم الّذي اعتزمت قريش على تسييره لقتال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين، وغزوهم، وبأنّ يخبروهم بأن قريشاً قد تكفّلت نفقات هذه المعركة.

وقد أثمرت نشاطات «عمرو» ورفاقه في هذا السبيل.

فقد استطاعوا بعد محاولات واسعةٍ أن يضمّوا إلى جيش قريش أبطالاً وصناديد من بني كنانة وتهامة، فخرجت قريش وهم أربعة آلاف بمن انضم إلى

ص:157


1- . الأنفال: 36، وراجع: السيرة النبوية لابن هشام: 581/2؛ مجمع البيان: 464/4.

صفوفهم من تلك القبائل(1).

وقد كان هذا هو عدد الرجال الذين شاركوا في هذه المعركة، ولو أضفنا إليهم عدد النساء اللواتي شاركن فيها لتجاوز العدد ما ذكرناه.

على أنّه لم يكن من عادة العرب أن يشركوا نساءهم في الغزو ويخرجوهن معهم إلى القتال، ولكن نساء مكّة الوثنيات شاركن مع رجالهنّ في هذه المعركة على خلاف عادة العرب، وكان الهدف من أخذهنّ هو أن يحرّضن الرجال على القتال والصمود، ويمنعن المقاتلين من الفرار، ويذكّرن بقتلى بدر، ويشعلن الحماس في النفوس بدقّ الدفوف، وإنشاد الأشعار المثيرة للهمم والداعية إلى الثأر؛ ولأنّ فرار الرجال كان يعني أن تقع النسوة في الأسر، وهو ما كان يأباه العربي آنذاك. فتكون الغيرة والحميّة على العرض سبباً للمقاومة والصمود.

كما أنّه اشترك في هذه المعركة طائفة من العبيد والرقيق طمعاً في العتق الّذي وعدوا به إن نصروا أسيادهم وقاتلوا بين أيديهم، وذلك مثل «وحشي» وكان غلاماً حبشياً لمطعم بن جبير يقذف بالحربة قذف الحبشة قلّما يخطئ بها، فقال له سيده: إنّ عليّاً قتل عمّي يوم بدر - يعني: طعيمة - فإن قتلت محمداً فأنت حرّ، وإن قتلت عمّ محمد فأنت حرّ.(2)

وعلى أيّة حال استطاعت قريشٌ أن تجهّز بعد جهد كبير جيشاً كبيراً قوياً يتألّف من سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف فارس، ومشاة كثيرين، وقد خرجوا بعدّة وسلاح كثير.

ص:158


1- . اختلف علماء التفسير والتاريخ كعلي بن إبراهيم والشيخ الطبرسي في إعلام الورى، وابن هشام والواقدي في عدد المشركين والكفّار في هذه المعركة، وما ذكرناه هو الأقرب إلى الحقيقة.
2- . بحار الأنوار: 97/20.
الاستخبارات ترفع تقريراً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

لمّا أجمعت قريش على المسير كتب العباس بن عبدالمطلب(1) كتاباً (يضمّ تقريراً مفصّلاً عن نوايا واستعدادات قريش)، وختمه واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم....

فقدم الغفاري فلم يجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمدينة ووجده بقباء فخرج حتى يجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على باب مسجد قباء يركب حماره فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أُبيّ بن كعب واستكتم أبيّاً ما فيه.(2)

روى العلّامة المجلسي عن الإمام أبي عبداللّه الصادق عليه السلام إنّه قال: كان ممّا منّ اللّه عزّوجلّ على رسوله صلى الله عليه و آله و سلم أنّه كان يقرأ ولا يكتب، فلمّا توجّه أبوسفيان إلى «أُحد» كتب العباس إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه ولم يخبر أصحابه، وأمرهم أن يدخلوا المدينة، فلمّا دخلوا المدينة أخبرهم(3).

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة

تحرَّك جيش قريش باتّجاه المدينة، وبعد قطع مسافة معيّنة وصلت طلائعه

ص:159


1- . وكان العباس كما أسلفنا ممّن أسلم وآمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مكّة ولكنّه ظلّ يكتم إيمانه ليتمكن من البقاء بين قريش ورصد تحرّكاتهم وإخبار النبي صلى الله عليه و آله و سلم بنواياهم. راجع السيرة الحلبية: 198/10.
2- . المغازي: 203/1-204. ويرى بعض المؤرّخين أنّ مبعوث العباس قدم بالرسالة المدينة وكان النبي ساعتها في المسجد فأعطى النبيّ الرسالة إلى أُبي بن كعب فقرأها عليه.
3- . بحار الأنوار: 111/20 برقم 36. والخبر عن البزنطي عن بعض أصحابه فهو مرسل، علاوة على أنّه خلاف المشهور بأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن يقرأ ولا يكتب.

إلى الأبواء، وهي المنطقة الّتي دفنت فيها والدة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم السيدة «آمنة بنت وهب» فقال فتية من قريش: إنّكم قد خرجتم بالضعن معكم ونحن نخاف على نسائنا، فتعالوا ننبش قبر أُمّ محمّد، فإنّ النساء عورة، فإن يصب من نسائكم أحداً قلتم هذه رمة أُمّك، فإن كان برّاً بأُمّه كما يزعم فلعمري ليفاديّنكم برمة أُمّه، وإن لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة أُمّه بمال كثير إن كان بها برّاً.

واستشار أبوسفيان أهل الرأي من قريش في ذلك فاستقبحوه وشجبوه بشدة وقالوا:

لا تذكر من هذا شيئاً فلو فعلنا (ذلك) نبشت بنوبكر وخزاعة (وهم أعداء قريش) موتانا(1).

وبعث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ليلة الخميس الخامس من شهر شوال، السنة الثالثة من الهجرة، «أنساً» و «مونساً» ابني «فضالة» للتجسّس على قريش خارج المدينة، وإخباره صلى الله عليه و آله و سلم بتحرّكاتهم، فأخبرا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، وأنّهم قد سرحوا إبلهم وخيولهم ترعى في مراعي المدينة.(2)

كما أخبر «الحُباب بن المنذر» هو الآخر باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، وأنّ طلائع ذلك الجيش قد استقرّت على مقربة من جبل أُحد، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد بعث الحباب سرّاً وقال له: لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلّا أن ترى قلّة.(3)

وبخبر الحُباب تأكّد ما أخبر به ابنا فضالة.

ص:160


1- . المغازي: 206/1.
2- . لاحظ: المغازي: 206/1-207.
3- . لاحظ: المغازي: 207/1-208.

وحيث إنّ المسلمين كانوا يخافون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من العدو، أن يهاجموه ليلاً، لذلك باتت وجوه الأوس والخزرج (الأنصار) ليلة الجمعة وعليهم السلاح في المسجد بباب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يحرسونه، وحرست المدينة تلك الليلة حتّى أصبحوا.

منطقة «أُحد»

كان الوادي الطويل الكبير الّذي يصل طريق الشام التجارية باليمن يُسمّى آنذاك ب «وادي القرى»، وكانت القبائل العربية من اليهود وغير اليهود تقطن في كلّ منطقة تتوفر فيها ظروف المعيشة ومستلزمات الحياة، ولهذا نشأت على طول هذا الخط «قرى» بسبب وجود مناطق خصبة فيه وقد سُوِّرَت بأسوار من الحجارة، وكانت يثرب مركز هذه القرى وأُمّها وهي الّتي سُمّيت في ما بعد بمدينة الرسول، ومن ثم «المدينة» تخفيفاً واختصاراً.

وكان على كلّ قادم من مكّة إلى المدينة، أن يدخل من جنوب يثرب وحيث إنّ أرض هذه المنطقة ذات طبيعة صخرية، لذلك يكون عبور الجيش من خلالها أمراً عسيراً وفي غاية الصعوبة.

من هنا تحاشت قريش - عندما وصل جيشها إلى مشارف المدينة - هذه المنطقة، ودخلت من شمال المدينة، واستقرت في وادي العقيق في سفوح جبل «أُحد»، وقد كانت هذه المنطقة لعدم وجود نخيل فيها، ولسهولة أرضها، أفضل مكان للعمليات العسكرية، وخير ميدان للقتال والحرب.

وقد كانت المدينة عرضة للخطر من هذه الناحية؛ لأنّه قلّما كان المرءُ يرى فيها موانع طبيعية.

ص:161

نزلت قوى المشركين عصر يوم الخميس في الخامس من شوال من السنة الثالثة من الهجرة عند جبل «أُحد».

وبقي النبي ذلك اليوم وليلته في المدينة، وفي يوم الجمعة أقدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على عقد شورى عسكرية، واستشار قادة جيشه وأهل الخبرة والرأي من أصحابه في كيفية مواجهة العدو، والتكتيك الّذي يجب أن يتّبعه المسلمون(1).

المشاورة في كيفية الدفاع

كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد أُمِرَ من جانب اللّه تعالى أن يشاور أصحابه في الأُمور العسكرية وما يشابهها ويشركهم في قراراته وخططه الّتي يتّخذها في المجالات المذكورة، ليعطي بذلك درساً كبيراً للمسلمين، ويبعث بين أصحابه وأتباعه روح الديمقراطية (الصحيحة) وتحرّي الحقّ، والموضوعية.

ولكن هل كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسه يستفيد من هذه المشاورة؟ وينتفع بآرائهم ونظرياتهم، ومقترحاتهم، أُمّ لا؟.

لقد أجاب علماء العقيدة وروّاد علم الكلام الإسلامي من مختلف الطوائف على هذا السؤال في مؤلّفاتهم ودراساتهم، وللقارئ الكريم، إذا أراد الوقوف على الجواب، أن يراجع تلكم المصنّفات.

لكن الّذي لا يمكن إنكاره في المقام هو: أنّ هذه المشاورات سيرة حيّة تركها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بعده، ولقد كانت هذه السيرة مؤثّرة جدّاً بحيث استخدم

ص:162


1- . لم تكن هذه هي المرّة الأُولى ولا الأخيرة الّتي شاور النبيّ فيها أصحابه، وقد ذكرنا عدّة موارد من هذا النوع من التشاور والهدف منه في كتابنا: مفاهيم القرآن (الجزء الثاني): معالم الحكومة الإسلامية.

الخلفاء والأُمراء من بعده أُسلوب التشاور والشورى، وكانوا يستفيدون على هذا الأساس من آراء الإمام علي عليه السلام ونظرياته السامية في الأُمور العسكرية، والمشكلات الاجتماعية الّتي كانت تطرأ على حياة المسلمين.(1)

المشاورات العسكرية

لما سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم باقتراب قريش إلى المدينة وقف في تلك الشورى الّتي كانت تضم جمعاً كبيراً من صناديد أصحابه، وقادة جيشه وجنوده وقال بصوتٍ عالٍ: «أشيروا عليّ».

وهو يطلب بذلك من أُولئك الجنود والقادة أن يُدلوا بآرائهم في كيفية مواجهة العدو، وطريقة الدفاع عن حوزة الإسلام وصرح التوحيد المهدّدة من قبل قريش والمتحالفين معهم من أحزاب الشرك، وأتباع الوثنية.

فقام «عبداللّه بن أُبي بن سلول» وكان من منافقي المدينة، وطرح فكرة التحصّن في داخل المدينة، والقتال فيها على غرار حرب الشوارع. وذلك بأن لايخرج المسلمون من المدينة، بل يبقوا داخلها، ويستخدموا أبراجها وسطوحها لمقاتلة العدوّ ودفعه، فترمي النساء العدوَّ بالأحجار من السطوح، ويقاتل الرجال أفراده في الشوارع والأزقة قائلاً: يا رسول اللّه كنّا نقاتل في الجاهلية فيها، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة...، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كلّ ناحية وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك (أي الطرقات).

ص:163


1- . راجع: نهج البلاغة: الخطبة 134.

يا رسول اللّه إنّ مدينتنا عذراء ما فُضّت علينا قط، وما خرجنا إلى عدوّ قط إلّا أصاب منّا، وما دخل علينا قط إلّاأصبناه فدعهم يا رسول اللّه. فإنّهم إن أقاموا أقاموا بشرّ محبس، وإن رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين لم ينالوا خيراً.

وكان هذا رأي الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من المهاجرين والأنصار، إلّاأنّ الفتيان من المسلمين وبخاصّة مَن لم يشهد منهم بدراً وكانوا يشكّلون الأغلبية شجبوا هذا الرأي بشدّة، ورفضوه بقوّة، وطلبوا من رسول اللّه الخروج إلى العدو، ورغبوا في الشهادة، وأحبّوا لقاء العدو.

وقالوا: إنّا نخشى يا رسول اللّه أن يظن عدوُّنا أنّا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنتَ يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفّرك اللّه عليهم، ونحن اليوم بشرٌ كثيرٌ، قد كنّا نتمنّى هذا اليوم وندعو اللّه به فقد ساقه اللّه إلينا في ساحتنا.

وقال «حمزة» بطل الإسلام العظيم: لا أطعم اليوم طعاماً حتّى أُجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة(1).

الاقتراع من أجل الشهادة!!

وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة - وهو شيخ يقظ البصيرة - وقال: يا رسول اللّه إنّ قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع، وتستجلب العرب في بواديها، ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاءُونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل، حتّى نزلوا بساحتنا

ص:164


1- . المغازي: 209/1-211. ومن المعلوم أنّ نظرية عبداللّه بن أُبي لم تخلو من الخطر، إذ لم يكن من البعيد أن يستفيد العدوّ بعد دخوله في المدينة من بيوت المنافقين. وأن يتعاون معهم يهود المدينة أيضاً فتكون حينئذٍ الضربة القاضية للإسلام والمسلمين.

فيحصرونا في بيوتنا، وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يُكلموا، فيجرّئهم ذلك علينا حتّى يشنّوا الغارات علينا، ويصيبوا أطرافنا، ويضعوا العيون والأرصاد علينا، مع ما قد صنعوا بحروثنا، ويجترئ علينا العرب حولنا، حتّى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم، فنذبهم عن جوارنا، وعسى اللّه أن يظفّرنا بهم، فتلك عادة اللّه عندنا، أو تكون الأُخرى: فهي الشهادة.

لقد أخطأتني وقعة بدر، وقد كنتُ عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت(1) ابني على الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنتُ حريصاً على الشهادة، وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، وهو يقول: ألحق بنا ترافقنا في الجنّة، فقد وجدتُ ما وعدني ربّي حقّاً.

وقد واللّه يا رسول اللّه أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني ورقّ عظمي، وأحببتُ لقاء ربّي فادْعُ اللّه يا رسول اللّه أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة!!!(2).

إنّ هذا الّذي ذكرناه ليس سوى نموذج واحد من مواقف كثيرة تجدها أيّها القارئ الكريم في صفحات التاريخ الإسلامي المشرقة، فهناك الكثير من هؤلاء الفدائيّين المخلصين الذين آلوا على أنفسهم أن يدافعوا عن حياض العقيدة وشرف الدين، ورُزقوا الشهادة في نهاية المطاف.

إنّ الآيديولوجية الّتي لا تعتمد على أُسس الإيمان باللّه واليوم الآخر قلّما تنتج جندياً فدائياً مخلصاً مثل خيثمة، ومَن شاكله.

ص:165


1- . أي أجريت القرعة بيني وبين ولدي.
2- . المغازي: 212/1-213.

إنّ روح الفداء والتفاني والإيثار بالنفس والتضحية بالغالي والرخيص، الّتي تدفع بالجندي إلى أن يطلب الشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحقّ، وإعزاز التوحيد بإصرار وشوق لا توجد إلّافي مدرسة الأنبياء والمرسلين، ولاتحصل إلّافي ضوء تربيتهم.

وأمّا في المجتمعات المادية كالمجتمعات الحاضرة الّتي تهتم أكبر اهتمام بتحسين أحوال العسكريين حيث إنّ الهدف من الحروب والمعارك لم يكن قط إلّا الحصول على وضع معيشيّ أفضل، فإنّه لايهم الجنود فيها إلّاالحفاظ على أرواحهم وحياتهم، فذلك هو أكبر هدف لديهم، ومن هنا تندر عندهم روح التفاني والتضحية.

وأمّا في مدرسة الأنبياء فإنّ المعارك والحروب لا يهدف منها إلّاابتغاء رضا اللّه سبحانه، فلو انحصر ذلك في الشهادة أقدم عليها الجندي المسلم من دون خوف أو وجل، وعرّض نفسه لجميع الأخطار من دون تلكّؤ أو إبطاء.

حصيلة الشورى

لقد أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برأي الأكثرية الّتي كانت ترجّح الخروج من المدينة لمقاتلة العدوّ، إذ لم يكن من الصالح - بعد ما اقترحه قادة جيشه البارزين مثل حمزة وسعد بن عبادة ونظرائهم، وأصرّوا عليه - أن يأخذ برأي عبداللّه بن أُبي بن سلول المنافق.

هذا مضافاً إلى أنّ حرب الشوارع والمدن غير المنظم في داخل سكك المدينة وأزقّتها الضيّقة، واشتراك النسوة في الأُمور الدفاعية، والجلوس في البيت، والسماح للعدو بأن يفعل ما يريد آية العجز، والوهن، وهو أمر لا يليق بالمسلمين، ولا يتلاءم مع الانتصار العظيم الّذي كسبوه في معركة «بدر»، وهزموا به عدوهم

ص:166

الغاشم القويّ.

إنّ محاصرة المدينة وسيطرة العدوّ على مداخلها وطرقاتها، وسكوت جنود الإسلام على ذلك من شأنه أن يقتل الروح القتالية، والفروسية في أبناء الإسلام المجاهدين.

ويمكن أن يكون «عبداللّه بن أُبي بن سلول» قد أضمر في نفسه نيّة سيّئة ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأنّه بهذا الاقتراح (أي البقاء في المدينة وعدم الخروج لمجابهة العدوّ، ومواجهته بشجاعة) كان يريد - في الحقيقة - أن يوجّه ضربة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم!!

النبيُّ يلبس لامة الحرب

بعد أن تعيّنت كيفية مواجهة العدو والدفاع، دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيته ولبس لامته، وقد لبس الدرع فأظهرها وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أُدم واعتم وتقلّد السيف، وخرج من بيته.

فأثار هذا المشهدُ المسلمين وهزّهم بشدّة وتصوّر بعضهم بأنّ إصرارهم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالخروج من المدينة لم يكن فيه للنبيّ رضا، وخشوا أنّهم قد استكرهوه على هذا الأمر، فندموا على ذلك، وقالوا معتذرين: يا رسول اللّه ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك (و: ما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى اللّه ثم إليك).

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:167

«ما يَنْبَغي لِنَبيٍّ إذا لَبِسَ لامَتَهُ أن يَضَعَها حَتّى يُقاتِلَ»(1).

النبيّ يخرجُ مِنَ المَدينة

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صلّى بالناس الجمعة وخرج على رأس ما يزيد على ألف مقاتل قاصداً أُحُد، وذلك بعد أن قال لهم:

«اُنْظُرُوا إلى ما أمَرْتُكُمْ بِهِ فاتّبعُوهُ إمضُوا عَلى اسم اللّه فلكُم النصرُ ما صَبَرتُمْ»(2).

وقد أجاز رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يومئذٍ لمن لم يبلغوا الحلم بأن يخرجوا معه كسمرة ورافع وكان رامياً جيداً، ورد أُسامة بن زيد وعبداللّه بن عمر بن الخطّاب(3).

ثم إنّ جماعة من اليهود كانوا متحالفين مع عبداللّه بن أُبي بن سلول قرّروا أن يشتركوا في هذه المعركة ويخرجوا مع المسلمين، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يسمح بذلك لأسباب خاصّة.

وسار النبيّ وأصحابُه حتّى إذا كانوا بمنطقةٍ بين المدينة وأُحُد تُسمّى «الشوط» انعزل عنه «عبداللّه بن أُبي بن سلول» وعاد بثلث الناس كلّهم من الأوس المتحالفين معه إلى المدينة بحجّة أنَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذ برأي الفتية والشباب، ورفض اقتراحه وهو البقاء في المدينة.

ومن هنا لم يشترك في هذه المعركة لا اليهودُ ولا حزبُ النفاق.

ص:168


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 584/3؛ المغازي: 214/1، الطبقات الكبرى: 38/2.
2- . المغازي: 214/1.
3- . لاحظ: المغازي: 216/1.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه كانوا يرغبون في أن يسلكوا أقرب الطرق إلى معسكرهم، من هنا اضطروا إلى أن يمروا عبر بستان لمنافق من منافقي المدينة يدعى «مربع بن قيظي» وكان ضريراً، فامتنع من ذلك، وأساء بالقول إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فابتدره أصحاب النبيّ ليقتلوه فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا تَقْتُلُوهُ، فَهذا الأعْمى أعمى القلب، أعمى البصر»(1).

جنديان فدائيان

استعرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جيشه في منطقة تُدعى بالشيخين(2)، وكانت الوجوه المشتاقة إلى الجهاد تلمع كما تلمع صفحات السيوف، وتعكس إصراراً كبيراً على قتال الكفّار ومجاهدة المشركين.

ولقد كان جيش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي خرج بهم لمجابهة قريش عند جبل أُحد يتألّف من مقاتلين يتفاوتون في الأعمار تفاوتاً كبيراً.

ففيهم الشيخ الكبير الطاعن في السن وفيهم الشاب الفدائيّ الّذي لم يتجاوز الخامسة عشرة.

ولقد كان الدافع الّذي يحرّك الجميع إلى ذلك هو عشق الكمال الّذي ما كان ليتوفّر إلّافي ظلّ الدفاع عن صرح التوحيد المقدّس، ليس إلّا.

ولإثبات هذه الحقيقة نشير هنا إلى قصّة شيخ كبير السن، وشاب لم يمض من عرسه إلّاليلة واحدة!!

ص:169


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 585/3؛ المغازي: 218/2.
2- . ولقد كان من عادة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأُسلوبه في جميع المعارك استعراض جيشه على الدوام، وعدّهم، وتسريح بعض العناصر الضعيفة أحياناً.

1. إنّ «عمرو بن الجموح» كان رجلاً شيخاً أعرج شديد العرج - وقد أُصيب في رجله في حادثة - وكان له بنونٌ أربعةٌ مثل الأُسود، يشهدون مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المشاهد، فلمّا كان يوم «أُحد» أراد أن يخرج مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقد أبت نفسه أن تفوته الشهادة، وأن يجلس في بيته ولا يشترك مع رسول اللّه في تلك المعركة، وإن اشترك بنوه الأربعة فيها.

فأراد أهله وبنوه حبسَهُ وقالوا له: إنَّ اللّه عزّوجل قد عذَرَك، ولم يقتنع بمقالتهم، وأتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: إنّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فواللّه إنّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أمّا أنتَ فَقَدْ عَذَرَك اللّهُ فَلا جهادَ عَلَيْكَ»(1).

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم لبنيه وقومه:

«ما عَلَيْكُمْ أن لا تَمْنَعُوه، لعلَّ اللّه يَرْزقَهُ الشهادَة».

فخلّوا عنه، وخرج وهو يقول: اللهمّ ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي.

وقد كان موقف هذا المجاهد الأعرج من مشاهد معركة «أُحد» العظيمة، ومن قصصها الرائعة، فقد كان يحمل - وهو على ما هو عليه من العرج - على الأعداء ويقول: «أنا واللّه مشتاقٌ إلى الجنّة» وابنه يعدو في أثره حتّى قُتِلا جميعاً(2).

2. «حنظلة» وهو شاب لم يكن قد جاوز الرابعة والعشرين من عمره آنذاك.

ص:170


1- . لقول اللّه تعالى: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» (الفتح: 17).
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 607/3؛ المغازي: 264/1-265.

وهو ابن «أبي عامر» عدوّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والّذي كان مصداقاً لقول اللّه تعالى:

«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» .(1)

فقد اشترك والده أبو عامر الفاسق في معركة «أُحد» إلى جانب قريش ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكان ممّن يكيدون للإسلام وممّن حرّض قريشاً ضدّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، واستمرّ في معاداة الإسلام حتّى النفس الأخير، ولم يألُ جهداً في هذا السبيل.

وقد كان أبو عامر هذا هو السبب الرئيسيّ وراء حادثة مسجد «ضرار» الّتي سيأتي تفصيلها في حوادث السنة التاسعة من الهجرة.

غير أن علاقة الأُبوّة والبنوّة وما يتبعها من أحاسيس لم تصرف حنظلة عن الاشتراك في حرب ضد أبيه، مادام أبوه على باطل وهو (أي حنظلة) على الحقّ، فيوم خرج النبيّ مع أصحابه إلى «أُحد» لمواجهة قريش كان حنظلة يريد البناء بزوجته ليلته، فقد تزوّج بابنة «عبداللّه بن أبي بن سلول» وكان عليه أن يقيم مراسيم الزفاف والعرس في الليلة الّتي خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى «أُحد» في صبيحتها المنصرمة.

ولكنّه عندما سمع مؤذن الجهاد، ودوّى نداؤه في أُذنه تحيّر في ما يجب أن يفعله، فلم يجد مناصاً من أن يستأذن من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يتوقّف في المدينة ليلة واحدة لإجراء مراسيم العرس ويقيم عند عروسته ثم يلتحق بالمعسكر الإسلامي صبيحة الغد من تلك الليلة.

وقد نزل في هذا الشأن - على رواية العلّامة المجلسي - قوله تعالى:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ

ص:171


1- . الأنعام: 95.

يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» .(1)

فأذن له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(2).

فبات حنظلة عند عروسته تلك الليلة ودخل بها، ولمّا أصبح خرج من فوره وتوجّه إلى «أُحد» وهو جنب.

ولكنّه حينما أراد أن يخرج من منزله بعثت امرأته إلى أربعة نفر من الأنصار، وأشهدت عليه أنّه قد واقعها.

فقيل لها: لِمَ فعلتِ ذلك؟

قالت: رأيت هذه الليلة في نومي كأنّ السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة، ثم انضمت، فعلمت أنّها الشهادة، فكرهت أن لا أُشهدَ عليه.

ولمّا حضر حنظلة القتال نظر إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكر، فحمل عليه، فضرب عرقوب فرسه، فاكتسعت الفرس وسقط أبوسفيان إلى الأرض، وصاح: يا معشر قريش أنا أبوسفيان، وهذا حنظلة يريد قتلي، وعدا أبو سفيان، وجرى حنظلة في طلبه، فعرض له رجلٌ من المشركين فطعنه، فمشى إلى ذلك المشرك فطعنه فضربه وقتله، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبداللّه بن حزام وجماعة من الأنصار، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«رَأيتُ المَلائكَة تغسِّل حنظلةَ بينَ السَماءِ والأَرْض بماء المزن في صحائفَ من ذهَب»(3).

ص:172


1- . النور: 62.
2- . بحار الأنوار: 57/20.
3- . لاحظ: أُسد الغابة: 59/2 و 60؛ بحار الأنوار: 57/20-58 و غيرهما.

فكان يُسمّى غسيل الملائكة أو حنظلة الغسيل.

وكانت الأوس تعدّ حنظلة من مفاخرها فكانت تقول: «ومنّا حنظلة غسيل الملائكة».

وكان أبوسفيان يقول: حنظلة بحنظلة، ويقصد بالأوّل حنظلة غسيل الملائكة وبالثاني ابنه حنظلة الّذي قتل يوم بدر(1).

إنّه حقّاً عجيب أمر هذين العروسين (الزوجين) فبينما كانا هما في أعلى درجات التفاني في سبيل الحقّ كان والداهما، من أعداء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخصومه الألدّاء.

فعبداللّه بن أُبي بن سلول (والد العروس) كان رأس المنافقين في المدينة، وكان أبو عامر الفاسق والد العرّيس الّذي كان يُسمّى في الجاهلية بالراهب معادياً أشد العداء لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد التحق بالمشركين في مكّة، كما حرّض «هرقل» لضرب الحكومة الإسلامية الفتية في المدينة، ثم اشترك في معركة أُحد ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقاتل المسلمين قتالاً شديداً(2).

العسكران يصطفّان

في صبيحة اليوم السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة اصطفّت قوى الإسلام أمام قوى الشرك المعتدية، وكان جيش التوحيد قد جعل ظهره إلى أُحد كمانِع طبيعيّ يحفظ الجيش من الخلف. وقد كان في جبل أُحد ثغرة كان من الممكن أن يتسلّل منها العدوّ ويباغت المسلمين من الخلف، ويوجّه إليهم ضربة

ص:173


1- . أُسد الغابة: 60/2.
2- . أُسد الغابة: 59/2.

قاضية.

ولهذا عمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى وضع جماعةٍ من الرماة عند تلك الثغرة، وأمّر عليهم «عبداللّه بن جبير» وقال:

«إنضَح الخيْلَ عنّا بالنبل، واحموا لنا ظُهورَنا، لا يأتونا من خلفِنا، والْزموا مكانكم لا تبرحوا منه، إن كانت لنا أو علينا، فلا تفارقوا مكانكم».

ولقد أثبتت حوادث «أُحد» الّتي وقعت في ما بعد أهمية هذه الثغرة عسكرياً، فقد كانت هزيمة المسلمين بعد انتصارهم في بداية المعركة نتيجة تجاهل الرماة لأمر النبيّ وإخلاء ذلك الموقع الاستراتيجي، الأمر الّذي سمح للعدوّ بأن يباغت المسلمين في حركة التفافية سريعة، ويحمل عليهم، ويوجه إليهم ضربة قوية!!

إنّ أمر النبيّ المؤكّد والمشدّد للرماة بأن لا يخلوا أماكنهم في الجبل حيث الثغرة المذكورة، يكشف عن معرفته الكاملة بقواعد القتال وقوانين الحرب، وبما يصطلح عليه اليوم بالتكتيك العسكري.

بيد أنّ نبوغ القائد العسكري لا يكفي وحده لإحراز الانتصار إذا كان الجنود يعانون من عدم الانضباط، وعدم التقيّد بأوامر القائد.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى الترتيبات الميدانية، الّتي قام بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند استقرار جنود الإسلام في أرض المعركة بأحد، وتعيينه لمكان كلّ قطعة من قطعات الجيش الإسلامي إذ قال:

«وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (1).

ص:174


1- . لاحظ: مجمع البيان: 495/4؛ تفسير الكشاف: 346/1-347. والآية 121 من سورة آل عمران.
رفع معنويات الجنود وتقوية عزائمهم

لم يكن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ليغفل في المعارك والحروب عن تقوية العنصر الروحي لدى الجنود، وما يصطلَح عليه الآن بالروح المعنوية، أو المعنويات العسكرية.

ففي هذه المرة أيضاً لمّا اصطفّ سبعمائة مقاتل مسلم أمام ثلاثة آلاف من المقاتلين المشركين المدجّجين بالسلاح، خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسلمين خطبة رفع بها من معنويات المسلمين، وذلك بعد أن نظم صفوفهم وسوّاها.

فلقد كتب «الواقدي» المؤرّخ الإسلامي الكبير في هذا الصدد ما يلي:

جعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الرماة خمسين رجلاً على «عَينين» عليهم «عبداللّه بن جبير»، وجعل «أُحُداً» خلف ظهره، واستقبل المدينة، ثم جعل صلى الله عليه و آله و سلم يمشي على رجليه يسوّي تلك الصفوف، ويبوّئ أصحابه مقاعد للقتال يقول تقدّم يا فلان، وتأخّر يا فلان، حتّى أنّه ليرى منكب الرجل خارجاً فيؤخّره، فهو يقوّمهم كأنّما يقوّم بهم القداح.

ثم قام صلى الله عليه و آله و سلم فخطب الناس فقال:

«يا أيّها الناسُ، أُوصيكم بما أوصانيَ اللّهُ في كتابه من العمل بطاعته، والتناهي عن محارِمه، ثم إنكم اليومَ بمنزل أجر وذُخرٍ. لمن ذكر الّذي عليه، ثم وطن نفسَهُ له عَلى الصبر واليقين والجدّ والنشاطِ فإنّ جهادَ العدوّ شديدٌ، شديدٌ كَربهٌ، قليلٌ مَن يصبر عليه، إلّامَن عَزَم اللّهُ رشدَه، فإنّ اللّه مَعَ من أطاعهُ، وإنَّ الشيطانَ مع مَن عصاهُ، فافْتتحُوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسُوا بذلكَ ما وَعَدَكُم اللّه، وعليكمْ بالذي أمركم بهِ، فَإنّي حَريصٌ عَلى رشدِكُمْ، فإنَ الاخْتِلافَ والتنازعَ والتثبيطَ مِنْ أمرِ العَجز والضعف مِمّا لا يحبُّ اللّهُ، ولا يعطي عليه النصرَ ولا الظفرَ....

ص:175

وإِنَّهُ قدْ نفث في رُوعي الروحُ الأمينُ أنّه لن تَموتَ نفسٌ حتّى تَسْتوفي أقصى رزقها، ولا ينْقص منه شيء وَ أن أبطأ عنها... والمؤمن مِن المؤمنين كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد والسلام عليكم»(1).

العدوّ ينظّم صفوفه

نظم أبوسفيان قائدُ المشركين صفوف جنوده وقسّمهم إلى ثلاثة أقسام:

الرماة وجعلهم في الوسط، والميمنة واستعمل عليهم خالد بن الوليد، والميسرة واستعمل عليهم عكرمة بن أبي جهل. وقدّم جماعة فيهم حملة الألوية والرايات.

ثم قال لأصحاب الرايات وكانوا جميعاً من بني عبدالدار: إنا إنّما أُتينا يوم بدر من اللواء، وإنّما يؤتى القوم من قِبَل لوائهم، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه، أو خلوا بيننا وبينه فإنّا قوم مستميتون موتورون، نطلب ثأراً حديث العهد.

فشقَّ هذا الكلام على «طلحة بن أبي طلحة» وكان شجاعاً، وهو أوّلُ مَن حمل راية لقريش، فاندفع من فوره إلى ساحة القتال، وطلب المبارزة، متحدياً بذلك أبا سفيان.(2)

الإثارة النفسيّة وإلهاب الحماس

قبل أن يبدأ القتال أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيفاً بيده وقال: - وهو يثير بذلك همم جنوده -.

«من يأخذ هذا السيفَ بحقّه»؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم حتّى قام إليه

ص:176


1- . المغازي: 221/1-223.
2- . لاحظ: المغازي: 220/1-221.

أبو دجانة الأنصاري، فقال: وما حقّه يا رسول اللّه؟

قال: «أن تضرب به العدوّ حتّى ينحني».

قال: أنا آخذه يا رسول اللّه بحقّه.

فأعطاه إيّاه، وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً، يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء فاعتصب بها عُلِمَ أنّه سيقاتل، فلمّا أخذ السيفَ من يد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخرج عصابته تلك فعصّب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصفّين. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّها لمشية يبغضها اللّه إلّافي هذا الموطن»(1).

حقّاً إنّ مثل هذه الإثارة النفسية، وهذا التحريك القويّ للهمم أمرٌ ضروريٌ لجيش يقاتل دفاعاً عن الحقّ والقِيم، ولا يدفعه إلى ذلك سوى العقيدة، وحب الكمال.

إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يهدف بعمله إثارة أبي دجانة وحده، بل كان صلى الله عليه و آله و سلم يهدف بذلك إثارة الآخرين، وإفهامهم بأنّ عليهم أن يبلغوا في الشجاعة والبطولة، والجرأة والإقدام هذا المبلغ.

يقول «الزبير بن العوّام» وهو كذلك رجلٌ شجاع: وَجدت في نفسي حين سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة وقلت: أنا ابن صفيّة عمّته، ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إيّاه قبله، فأعطاه إيّاه وتركني!

واللّه لأنظرنّ ما يصنع. فأتبعته فأخرج عصابة له حمراء، فعصّب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له إذا تعصّبَ بها.

ص:177


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 587/3.

فخرج وهو يقول:

أنا الّذي عاهَدَني خليلي ونحن بالسفحِ لدى النخيل

ألّا أقوم الدهر في الكيّول(1) أضْرِب بسيف اللّه والرَّسول

فجعل لا يلقى أحداً إلّاقتله، وكان في المشركين رجلٌ لا يدع لنا جريحاً إلّا ذفّف عليه، فجعل كلّ واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوتُ اللّه أن يجمع بينهما، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة، فاتّقاه بدرقته، فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة، فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس «هند بنت عتبة» ثم عدل السيف عنها، قال الزبير: فقلت: اللّه ورسوله أعلم.

ثم إنّ أبا دجانة أوضح عمله هذا فقال: رأيت إنساناً يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلمّا حملت عليه السيف وَلول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن أضرب به امرأة(2).

بداية القتال

بدأ القتال بما فَعَله أبو عامر الفاسق الّذي كان قد هرب من المدينة مباعداً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما أسلفنا، وكان من الأوس، وقد فرّ معه خمسة عشر رجلاً من الأوس بسبب معارضته للإسلام.

وقد تصوّر أبو عامر هذا أنّ الأوس إذا رأوا يوم أُحُد تركوا نصرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا التقى العسكران يومئذ نادى أبو عامر: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر.

ص:178


1- . الكيّول: آخر الصفوف في الحرب.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 588/3-589.

قالوا: فلا أنعم اللّه بك عيناً يا فاسق. فلمّا سمع ردّ الأوس قاتلهم قتالاً شديداً...(1).

ثم إنّ هناك مواقف وتضحيات عظيمة قام بها رجال معدودون في معركة أُحُد معروفة بين المؤرخين، أبرزها، وأجدرها بالإجلال تضحيات علي عليه السلام ومواقفه الكبرى في ذلك اليوم.

فهو صاحب اللواء والراية في هذه الموقعة الكبرى.

قال الشيخ المفيد في «الإرشاد»: تلت بدراً غزاةُ أُحد فكانت راية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيد أميرالمؤمنين عليه السلام فيها... فمن ذلك ما رواه يحيى بن عمارة قال:

حدّثني الحسن بن موسى بن رباح مولى الانصار قال: حدّثني أبو البختري القريشي، قال: كانت راية قريش ولواؤها جميعاً بيد قصي بن كلاب، ثم لم تزل الراية في يد ولد عبدالمطلب يحملها منهم من حضر الحرب حتّى بعث اللّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فصارت راية قريش وغيرها إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فأقرّها في بني هاشم، وأعطاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى علي بن أبي طالب عليه السلام في غزاة ودان(2)، وهي أوّل غزاة حمل فيها راية في الإسلام مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ثم لم تزل معه في المشاهد ببدر وهي البطشة الكبرى، وفي يوم أُحد وكان اللواء يومئذ في بني عبد الدار، فأعطاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مصعب بن عمير فاستشهد ووقع اللواء من يده فتشوفته القبائل، فأخذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدفعه إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجمع له يومئذ الراية واللواء(3).

ص:179


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 587/3.
2- . ودان: موضع بين مكة والمدينة سُمّيت الغزوة به.
3- . الارشاد: 78-79؛ بحار الأنوار: 80/20.

وقد ورد عن ابن عباس ما يؤيّد ذلك فقد روى أنّه قال: لعلي أربع خصال (ليس لأحد من العرب غيره) هو أوّل عربي وعجمي صلّى مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وهو الّذي كان لواؤه معه في كل زحف...(1).

كما عن قتادة: أنّ علي بن أبي طالب كان صاحب لواء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم بدر وفي كلّ مشهد(2). ثم إنّه كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري (وكان يُدعى كبش الكتيبة) فبرز ونادى: يا محمّد تزعمون أنّكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار، ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنّة، فمَن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليّ فبرز إليه عليّ عليه السلام وهو يقول:

يا طلح إن كنتم كما تقول لكم خيول ولنا نصول

فاثبت لننظر أيّنا المقتول وأيّنا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد الصؤول

بصارمٍ ليس به الفلول ينصره القاهر والرسول

ثم تصاولا بعض الوقت قُتل بعده طلحة بضربة علي عليه السلام القاضية.

فأخذ الراية أخوان آخران لطلحة فخرجا لقتال علي عليه السلام على التناوب فقتلا جميعاً على يديه عليه السلام.

هذا ويستفاد من كلام لعلي عليه السلام قاله في أيام الشورى الّتي انعقدت بعد موت الخليفة الثاني.

ص:180


1- . تاريخ مدينة دمشق: 72/42.
2- . تاريخ مدينة دمشق: 74/42.

فقد قال الإمام عليه السلام في مجلس ضم كبار الصحابة في تلك المناسبة:

«نشدتكم باللّه هل فيكم أحدٌ قتل من بني عبد الدار تسعة مبارزة غيري، كلُّهم يأخذ اللواء، ثم جاء صوأب الحبشي مولاهم وهو يقول لا أقتل بسادتي إلّا محمداً، قد أزبد شدقاه، واحمرّتا عيناه، فاْتّقيتموه، وحُدتم عنه، وخرجت إليه، فلمّا أقبل كأنّه قبّة مبنيّة فاختلفت أنا وهو ضربتين، فقطعته بنصفين وبقيت رجلاه وعجزه وفخذه قائمة على الأرض ينظر إليه المسلمون ويضحكون منه».

قالوا: اللهم لا(1).

أجل إنّ قريشاً كانت قد ادّخرت لحمل الراية تسعة رجال من شجعان بني عبد الدار وقد قتلوا جميعاً على يد الإمام علي عليه السلام على التوالي فبرز غلامهم وقتل هو أيضاً(2).

المقاتلون بدافع الشهوة!!

من الأبيات الّتي كانت تتغنّى بها «هند بنت عتبة» زوجة أبي سفيان ومن كان معها من النساء في تحريض رجال قريش وحثّهم على القتال وإراقة الدماء والمقاومة، ويضربن معها الدفوف والطبول، يتبيّن أنّ تلك الفئة لم تكن تقاتل من أجل القيم الرفيعة كالطهر والحرية، والخلق الإنساني، بل كانت تقاتل بدافع الشهوة الجنسية ومن أجل الوصول إلى المآرب الرخيصة.

فقد كانت الأغاني والأبيات الّتي تردّدها تلك النساء اللائي كنَّ يضربن بالدفوف خلف الرجال على نحو خاص هي:

ص:181


1- . الخصال: 560.
2- . وقد ذكر المجلسي قصّة مصرع هؤلاء في البحار: 50/20-51.

نحن بناتُ طارقْ نمشي على النمارق

إن تقبلوا نُعانِقْ أو تدبروا نفارقْ

ولا شكّ أنّ الفئة الّتي تقاتل من أجل الشهوات، ويكون دافعها إلى الحرب والقتال هو الجنس واللذة، وبالتالي لا تهدف سوى الوصول إلى المآرب الرخيصة فإنّ حالها تختلف إختلافاً بيِّناً وكبيراً عن حال الفئة الّتي تقاتل من أجل هدف مقدّس كإقرار الحرية، ورفع مستوى الفكر، وتحرير البشرية من براثن الجهل وأسر الخضوع للأوثان.

ولا شكّ أنّ لكلّ واحدة من تلك الدوافع آثارها المناسبة في روح المقاتل وسلوكه.

ولهذا لم يمض زمان طويل إلّاووضعت قريش أَسلحتها على الأرض وولّت هاربة من أرض المعركة بعد أن أُصيبت بإصابات قوية بفضل صمود وتضحيات رجال مؤمنين شجعان كعليّ وحمزة وأبي دجانة والزبير و... مخلِّفة وراءها غنائم وأموالاً كثيرة، وأحرز المسلمون بذلك انتصاراً عظيماً على عدوهم القوي في تجهيزاته، الكثير في أفراده(1).

الهزيمة بعد الانتصار

قد يتساءل سائل: لماذا انتصر المسلمون أوّلاً؟

لقد انتصروا لأنّهم كانوا يقاتلون، ولا يحدوهم في ذلك شيء حتّى لحظة الانتصار إلّاالرغبة في مرضاة اللّه، ونشر عقيدة التوحيد، وإزالة الموانع عن طريقها، فلم يكن لهم أي دافع ماديّ يشدّهم إلى نفسه.

ص:182


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 588/3؛ تاريخ الطبري: 194/2.

وقد يتساءل سائل: لماذا انهزموا أخيراً؟

لقد انهزموا لأنّ أهداف أكثر المسلمين ونواياهم قد تغيّرت بعد تحقيق الانتصار، فقد توجّهت أنظارهم إلى الغنائم الّتي تركتها قريش في أرض المعركة، وفرّوا منهزمين. لقد خولط إخلاص عدد كبير من المسلمين، ونسوا على أثره أوامر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وتعاليمه، فغفلوا عن ظروف الحرب.

وإليك فيما يأتي تفصيل الحادث:

لقد ذكرنا عند بيان الأوضاع الجغرافية لمنطقة أُحد أنّه كان في «جبل أُحد» شِعب «ثغرة» وقد كلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خمسين رجلاً من الرماة بمراقبة ذلك الشِّعب، وحماية ظهر الجيش الإسلامي، وأمّر عليهم «عبداللّه بن جبير»، وكان قد أمر قائدهم بأن ينضحوا الخيل ويدفعوها عن المسلمين بالنبل ويمنعوا عناصر العدوّ من التسلّل من خلالها ولا يغادروا ذلك المكان انتصر المسلمون أو انهزموا، غَلَبوا أو غُلِبُوا.

وفعل الرماة ذلك فقد كانوا في أثناء المعركة يحمون ظهور المسلمين، ويرشقون خيل المشركين بالنبل فتولّي هاربة، حتّى إذا ظفر النبيّ وأصحابُه، وانكشف المشركون منهزمين، لا يلوون على شيء وقد تركوا على أرض المعركة غنائم وأموالاً كثيرة، وقد تبعهم بعض رجال المسلمين ممّن بايع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على بذل النفس في سبيل اللّه ومضوا يضعون السلاح فيهم حتّى أجهضوهم عن العسكر، أمّا أكثر المسلمين فقد وقعوا ينتهبون العسكر ويجمعون الغنائم تاركين ملاحقة العدوّ وقد أغمدوا السيوف، ونزلوا عن الخيول ظنّاً بأنّ الأمر قد انتهى.

فلمّا رأى الرماة المسؤولون عن مراقبة الشِّعب ذلك قالوا لأنفسهم: وَ لِمَ نقيمُ هنا من غير شيء وقد هزَم اللّه العدوّ فلْنذهَبْ ونغنم مع إخواننا.

ص:183

فقال لهم أميرهم (عبداللّه بن جبير): ألم تعلموا أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لكم:

إحموا ظهورَنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنِمنا فلا تشركونا إحموا ظهورنا؟

ولكنّ أكثر الرماة خالفوا أمر قائدهم هذا وقالوا: لم يرد رسول اللّه هذا، وقد أذلّ اللّه المشركين وهزَمهم، فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم.(1)

ولهذا نزل أربعون رجلاً من الرماة من الجبل ودخلوا في عسكر المشركين ينتهبون مع غيرهم من المسلمين الأموال وقد تركوا موضعهم الاستراتيجي في الجبل، ولم يبق مع عبداللّه بن جبير إلّاعشرة رجال!!

وهنا استغل «خالد بن الوليد» الّذي كان مقاتلاً شجاعاً، قلّة الرماة في ثغرة الجبل، وكان قد حاول مراراً أن يتسلّل منها ولكنّه كان يقابلُ في كلّ مرة نبال الرماة، فحمل بمن معه من الرجال على الرماة في حملة التفافيّة، وبعد أن قاتل من بقي عند الثغرة وقتلهم بأجمعهم انحدر من الجبل وهاجم المسلمين الذين كانوا منشغلين بجمع الغنائم، وغافلين عمّا جرى فوق الجبل، ووقعوا في المسلمين ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، ورمياً بالنبال، ورضخاً بالحجار، وهم يصيحون تقويةً لجنود المشركين. فتفرّقت جموع المسلمين، وعادت فلولُ قريش تساعد خالداً وجماعته، وأحاطوا جميعاً بالمسلمين من الإمام والخلف، وجعل المسلمون يقاتلون حتّى قُتِل منهم سبعون رجلاً.

إنّ هذه النكسة تعود إلى مخالفة الرماة لأوامر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تحت تأثير المطامع المادية وتركهم ذلك المكان الاستراتيجي عسكرياً والّذي اهتم به القائد

ص:184


1- . المغازي: 229/1.

الأعلى صلى الله عليه و آله و سلم، وأكد بشدّة على المحافظة عليه، ودفع أيّ هجوم من قِبَلِ العدوّ عليه.

وبذلك فتحوا الطريق - من حيث لا يشعرون - للعدوّ بحيث هاجمتهم الخيل بقيادة خالد بن الوليد، فدخل إلى أرض المعركة من ظهر الجيش الإسلامي، ووجه إلى المسلمين تلك الضربة النكراء!!

ولقد ساعد خالداً في هذا «عكرمةُ بن أبي جهل» الّذي حمل هو الآخر بمن كان معه من الرجال على المسلمين، وساد على صفوف المسلمين في هذا الحال الهرج والمرج، وعمّت فوضى لا نظير لها ساحة المعركة، ولم ير المسلمون مناصاً من أن يدافعوا عن أنفسهم متفرّقين ولكن عِقد القيادة لمّا قد انفرط بسبب هذه المباغتة العسكرية لم يستطع المسلمون إحراز أي نجاح في الدفاع، بل تحمّلوا - كما أسلفنا - خسائر كبرى في الأرواح، وقُتِلَ عدد من المسلمين على أيدي إخوانهم من المسلمين خطأ ومن دون قصد.

ولقد صعّدت حملات خالد وعكرمة من معنويات المشركين، ونفخت فيهم روحاً جديدة فعادت قواتهم الهاربة المنهزمة قبل قليل، ودخلت ساحة المعركة ثانية، وساعدت جماعة منهم خالداً وعكرمة وحاصروا المسلمين من كلّ ناحية وقُتِلَ جمع كبير من المسلمين بسبب ذلك!!(1)

شائعة مقتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

وفي هذا الوقت حمل «الليثي»(2) وكان من صناديد قريش وأبطالها على مصعب بن عمير حامل لواء الإسلام في تلك المعركة وهو يظن أنّه رسول

ص:185


1- . لاحظ: المغازي: 232/1-233.
2- . هو عبداللّه بن قمئة الليثي.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتبودلت بينهما طعنات وضربات حتّى قُتل «مصعب» بضربة من الليثي، وكان المسلمون يومئذ ملثَّمون، ثم صاح: قتلت محمّداً، أو قال: ألا قد قُتِلَ محمد، ألا قد قُتِلَ محمد.(1) فانتشر هذا الخبر في جموع المسلمين كالنار في الهشيم وعلمت قريش بذلك فسرّوا بذلك سروراً عظيماً، وارتفعت الأصوات في ساحة القتال تنادي: ألا قد قُتِلَ محمّد، ألا قد قُتِلَ محمّد.

ولقد زاد هذا الخبر الكاذب من جرأة العدوّ فتحرّكت جحافله وأفراده نحو المسلمين يسعى كلّ واحد منهم أن يقتطع من جسم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عضواً، وبذلك ينال فخراً في أوساط المشركين!! وبقدر ما ترك هذا الخبر الكاذب من أثر إيجابي في نفوس المشركين، تركَ أثراً سيئاً جداً في نفوس المسلمين، وأضعف معنوياتهم بشدّة بحيث تخلّى عددٌ كبير من المسلمين عن القتال، ولجأوا إلى الجبل فراراً بأنفسهم، ولم يثبت إلّاعددٌ قليل لا يتجاوز أصابع اليد من الرجال.(2)

هل يمكن إنكار فرار بعض الصحابة من أرض المعركة؟

لا يمكن أبداً أن ينكر أحدٌ فرار أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّامن يعدّون بالأصابع في تلك المعركة، ولا يمنع كونهم صحابة، أو كونهم أصبحوا ذوي مكانَة أو مناصب في المجتمع الإسلامي في ما بعد، من القبول بهذه الحقيقة التاريخية المرّة.

ص:186


1- . لاحظ: سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 592/3.
2- . لاحظ: سيرة ابن هشام: 596/3-597.

فهذا هو ابن هشام المؤرّخ الإسلامي الكبير يكتب في هذا الصدد قائلاً:

انتهى أنس بن النضر عمُّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيداللّه في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم(1) فقال: ما يجلسكم؟ (أي ما يقعدكم عن القتال والمقاومة).

قالوا: قُتِلَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على مامات عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ثم عاد إلى المشركين فقاتلهم حتّى قُتِلَ.(2)

أو قال - حسب رواية كثير من المؤرّخين -: إن كان محمد قد قُتِلَ فإنّ ربَ محمَّد لم يُقتَل، فقاتِلُوا على ما قاتل عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومُوتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللّهم إنّي أعتذر إليك ممّا يقوله هؤلاء، وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء، ثم شدّ بسيفه على الكفّار فقاتل حتّى قُتِلَ.(3)

ويروي ابن هشام عن أنَس بن مالك (ابن أخ أنس بن النضر) لقد وجدنا بأنس ابن النضر يومئذ سبعين جراحة فما عرفه إلّاأُختُه عرفته ببنانه(4).

وكتب الواقدي في مغازيه يقول:

حدّثني ابن أبي سبرة عن أبي بكر بن عبداللّه بن أبي جهم، واسم أبي جهم عبيد قال: كان خالد بن الوليد يُحدّث وهو بالشام يقول: الحمدللّه الّذي هداني

ص:187


1- . اي استسلموا.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 600/3.
3- . تاريخ الطبري: 201/2.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 600/3، راجع تفسير المنار: 102/4.

للإسلام، لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب حين جالوا وانهزموا يوم أُحد وما معه أحد وإنّي لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري فنكبتُ عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له، فنظرتُ إليه موجِّهاً إلى الشعب(1).

وقد بلغ الانهزام والضعف النفسي ببعض الصحابة في هذه المعركة بحيث أخذ يفكّر في التبرّي من الإسلام لينجو بنفسه فقال: ليت لنا رسولاً إلى عبداللّه بن أُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان!!(2).

القرآن يكشف عن بعض الحقائق

إنّ الآيات القرآنية تمزق كلّ حجب الجهل والتعصّب الّتي أُسدلت على هذه المسألة، وتفيد بوضوح أنّ طائفة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم اعتقدوا بأنّ ما أخبر به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الظفر، والنصر لا أساس له من الصحّة، فإنّ اللّه تعالى يقول في هذا الصدد:

«وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ» .(3)

وفي إمكانك أيّها القارئ الكريم أن تحصل على الحقائق المكتومة في هذا المجال بالتمعن في آيات من سورة آل عمران(4).

فهذه الآيات تكشف بصورة كاملة عن عقيدة الشيعة حول أصحاب رسول

ص:188


1- . المغازي: 237/1.
2- . بحار الأنوار: 27/20؛ تاريخ الطبري: 201/2؛ البداية والنهاية: 26/4.
3- . آل عمران: 154.
4- . الآيات: 121-180.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فإنّ الشيعة تعتقد بأنّه لم يكن جميع صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أوفياء، لعقيدة التوحيد، متفانين في سبيله، بل كان منهم الضعيف في إيمانهم والمنافق، والمتردّد، ومع ذلك لم يكن المؤمنون الأتقياء والصالحون الأبرار قلّة أيضاً.

ومن العجيب والمؤسف أن يسعى بعض الكُتّاب من أهل السنّة اليوم إلى التغطية على كثيرٍ من المواقف والأعمال المشينة الّتي بدرت من بعض الصحابة كالذي مرّ عليك في معركة أُحد، ويحاول تجاوزها بنوع من التبرير البعيد عن روح الحقيقة كمحاولة للمحافظة على شأن جميع الصحابة، و مكانتهم على حين أن هذه التبريرات الفجّة، وهذا التعصّب اللامنطقي لا يمكنهما أن تمنع من رؤية الحقيقة كما هي.

فأي كاتب يستطيع إنكار مفاد هذه الآية الّتي تصرّح قائلة:

«إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» (1).

إنّ هذه الآية تقصدُ أُولئك الّذينَ رآهم أنس بن النضر، ومَن شابَهَهُم من الذين تركوا ساحة المعركة، ولجأوا إلى الجبل، وجلسوا يفكّرون في نجاة أنفسهم!!

والأوضح من الآية السابقة قولُ اللّه تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» (2).

إن اللّه تعالى يعاتب ويوبّخ الّذين تذرّعوا - لفرارهم من المعركة - بنبأ مقتل

ص:189


1- . آل عمران: 153.
2- . آل عمران: 155.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على يد العدوّ، وراحوا يفكّرون في الحصول على أمان من أبي سفيان بواسطة عبداللّه بن أُبي إذ يقول:

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ» .(1)

التجارب المرّة

إنّ في أحداثِ معركة «أُحد» ووقائعها تجارب مرّة وأُخرى حلوة، فهذه الحوادث والوقائع تثبت بجلاء صمود واستقامة جماعة، وضعف وهزيمة آخرين.

كما أنّه يستفاد من ملاحظة الحوادث التاريخية أنّه لا يمكن اعتبار جميع المسلمين الذين عاصروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتقياء عدولاً بحجّة أنّهم صحبوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّ الذين أخلَوا مراكزهم على الجبل، يوم أُحد وعَصَوا أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تلك اللحظات الخطيرة، وجَرُّوا بفعلهم على المسلمين تلك المحنة الكبرى، كانوا أيضاً ممّن صحبوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

يقول المؤرّخ الإسلامي الكبير الواقدي في هذا الصدد: «بايع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحد ثمانية على الموت: ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار:

علي وطلحة والزبير، وأبودجانة والحارث بن الصمّة وحباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحد.(2)

وكتب العلّامة ابن أبي الحديد المعتزلي أيضاً: حضرت عند محمد بن معد

ص:190


1- . آل عمران: 144.
2- . المغازي: 240/2.

العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية رحمه الله في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة 608 هجرية، وقارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي، فقرأ: حدّثنا الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن خالد بن رياح، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن محمد بن مسلمة يقول: سمعت أُذناي، وأبصرت عيناي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول يوم أُحد، وقد انكشف الناس إلى الجبل، وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه، سمعته يقول:

«إليَّ يا فلان، إليّ يا فلان أنا رسول اللّه».

فما عرّج عليه واحد منهما، ومضيا!! فأشار ابن معد إليّ أن إسمع.

فقلت: وما في هذا؟ قال: هذه كناية عنهما (أي اللّذين تسنّما مسند الخلافة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم).

فقلت: ويجوز أن لا يكون عنهما لعلّه عن غيرهما.

قال: ليس في الصحابة من يُحتشَم ويستحيا من ذكره بالفرار، وما شابهه من العيب، فيضطرّ القائلُ إلى الكناية إلّاهما.

قلت له: هذا وَهْمٌ.

فقال: دعنا من جَدَلك ومَنعكَ، ثم حَلَفَ أنّه ما عنى الواقديُ غيرهما، وأنّه لوكان غيرُهما لذكرهما صريحاً(1).

كما أنّ العلّامة ابن أبي الحديد ذكر في شرحه لنهج البلاغة أيضاً اتّفاقَ الرواة كافّة على أنّ عثمان لم يثبت في تلك اللحظات الحساسة يوم أُحُد(2).

وستقرأ في الصفحات القادمة ما قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن امرأةٍ مجاهدةٍ

ص:191


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 23/15-24.
2- . شرح نهج البلاغة: 20/15. ولاحظ: المغازي: 278/1 و 279.

متفانية في سبيل الرسالة الإسلامية تدعى «نسيبة المازنية» دافعت عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحُد.

فقد لمّح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في كلامه عنها وعن موقفها العظيم يومذاك، إلى ما يقلّل من شأن الذين فرّوا من المعركة.

نحن لا نريد هنا الإساءة إلى أيّ واحد من صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، بل غاية ما نتوخّاه هو الكشف عن الحقيقة، وإماطة اللثام عن الواقع، فبقدر ما نستنكر، ونقبّح فرار من فرّ، نكبر صمود من صمد وثبات من ثبت ممّن سنأتي على ذكرهم في الصفحات القادمة، وهذا هو ما تمليه علينا روح التحليل الصادق أو تقتضيه أمانة النقل، وما يُسمّى بالأمانة التاريخية على الأقل.

خمسة يتحالفون على قتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

في تلك اللحظات الّتي تشتت فيها جيش المسلمين، وانفرط عقده، وفي الوقت الّذي تركّزت فيه حملات المشركين من كلّ ناحية على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تعاهد خمسة أنفارٍ من صناديد قريش المعروفين أن يضعوا نهايةً لحياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ويقضوا عليها مهما كلّفهم من الثمن.

وهؤلاء هم:

1. عبداللّه بن شهاب الّذي جرح جبهة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

2. عتبة بن أبي وقّاص الّذي رمى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأربعة أحجار فكسر رُباعيته صلى الله عليه و آله و سلم، وأشظى باطنها، من الجهة اليمنى.

3. ابن قميئة الليثي الّذي رمى وجنتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجرحهما بحيث غاب حلق المغفر في وجنته صلى الله عليه و آله و سلم، فأخرجها أبو عبيدة الجراح بأسنانه فكسرت

ص:192

ثنيتاه العليا والسفلى.

4. عبد اللّه بن حميد الّذي قُتِلَ على يد بطل الإسلام أبي دجانة وهو يحمل على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

5. أُبي بن خلف وكان من الذين قُتلوا بيد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسه.(1)

فهو واجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عندما وصل صلى الله عليه و آله و سلم إلى الشِّعب، وقد عرفه بعض أصحابه وأحاطوا به، فجعل يصيح بأعلى صوته: يا محمّد لا نجوتُ إن نجوتَ، وحمل على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولمّا دنا تناولَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الحربة من «الحارث بن الصمّة»، ثم انتفض انتفاضةً شديدةً وطعن «أُبيّاً» بالحربة في عنقه، وهو على فرسه، فجعل أُبيُّ يخور كما يخور الثور!

ومع أنّ ما أصاب أُبيّاً من جراحة كان يبدو بسيطاً، إلّاأنّه تملّكه رعبٌ وخوفٌ شديدان، إذ لم ينفعه معهما تطمينات رفاقه، ولم يذهب عنه الروع بكلامهم، وكان يقول: واللات والعزى لو كان الّذي بي بأهل ذي المجاز(2) لماتوا أجمعون.

أليس قال: (أي النبيّ يومَ كان بمكة) أنا أقتلُكَ إن شاء اللّه، قتلني واللّه محمّدٌ!!

وقد فعلت الطعنة، وكذا خوفه فعلتهما فمات في منطقة تدعى سرف (وهو موضع على ستة أميال من مكة) فيما كانت قريش قافلةً من أُحد إلى مكة(3).

ص:193


1- . لاحظ: المغازي: 243/1.
2- . كان ذوالمجاز سوقاً من أسواق العرب وهو عن يمين الموقف بعرفة قريباً من كبكب (معجم ما استعجم على ما في حواشي المغازي: 508).
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 602/3-603؛ المغازي: 251/1.

حقاً إنّ هذا ينمُّ عن منتهى الدناءة والخسة في خُلُق قريش وموقفها، فمع أنّها كانت تعرف صدق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعترف به، وتنكرُ أن يكون قد صَدَرَ منه كِذبٌ في قول، أو خُلف في وعد، كانت تعاديه أشدّ العِداء، وتمدّ نحوه يَدَ العدوان، وتبغي مصرعه، وتسعى إلى إراقة دمه!!

كما أنّه من جهة أُخرى يدلّ على شجاعة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وبطولته ومقدرته الروحية الكبرى، من ناحية أُخرى، وثباته في عمله من ناحية ثالثة.

أجل لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يدافع عن رسالته السماوية، وعن حياض عقيدته التوحيدية العظمى، ويصمد لأعدائه صمودَ الجبال الرواسخ مع أنّه ربما دنا من الموت وكان منه قاب قوسين أو أدنى.

ومع أنّه كان صلى الله عليه و آله و سلم يرى أنّ كلّ همّ المشركين وكلّ حملاتهم موجّهة نحوه بشخصه، إلّاأنّه لم يشهد أحد منه أي قول أو فعل يشعر بتوجّسه واضطرابه، ولقد صرّح المؤرّخون بهذا الأمر فقد كتب المقريزي: ونادى المشركون بشعارهم [يا للعزى، يالهُبَل] فأوقعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً، ونالوا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما نالوا. ولم يَزِلّ [يتراجع] صلى الله عليه و آله و سلم شبراً واحداً بل وقف في وجه العدوّ، وأصحابه تثوب إليه مرّة منهم طائفة وتتفرّق عنه مرّة، وهو يرمي عن قوسه أو بحجر حتّى تحاجزوا(1).

نعم غاية ما سمع منه صلى الله عليه و آله و سلم هو ما قاله عندما كان يمسح الدم عن وجهه المبارك إذ قال:

«كيفَ يفلحُ قومٌ فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى اللّه؟!»(2).

ص:194


1- . إمتاع الأسماع: 148/1.
2- . بحار الأنوار: 102/20.

إنّ هذه العبارة الخالدة تكشف عن عمق رحمة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعاطفته حتّى بالنسبة إلى أعدائه الألدّاء.

بينما تكشف كلمة قالها علي عليه السلام عن شجاعته صلى الله عليه و آله و سلم الفائقة إذ قال:

«كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ»(1).

من هنا فإنّ سلامة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في الحروب تعود في أكثر أسبابها إلى حسن دفاعه عن دينه، وعن نفسه، وإلى شجاعته في المعارك.

ولقد كانت ثمّة علل وأسباب صانت هي الأُخرى حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أن يلحقها خطر أو ضرر، ألا وهو تضحية وتفاني تلك القلّة القليلة من أصحابه الأوفياء الذين بذلوا غاية جهدهم للحفاظ على حياة رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم، وبذلك أبقوا على هذا المشعل الوقّاد، وهذا السراج المنير.

لقد قاتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحُد قتالاً شديداً، فرمى بالنبل حتّى فني نبله، وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره(2).

على أنّ الّذين دافعوا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد(3)، وحتّى هذه القلّة القليلة المدافعة فإنّ ثباتهم معه جميعاً غير مقطوع به من منظار علم التاريخ، ومن زاوية التحقيق التاريخي.

نعم ما هو متّفق عليه بين المؤرّخين، وأرباب السير هو ثبات أفراد قلائل نعمد هنا إلى ذكر أسمائهم ومواقفهم بشيء من التفصيل.

ص:195


1- . نهج البلاغة: 520، فصل في غريب كلامه برقم 9.
2- . الكامل في التاريخ: 157/2.
3- . لاحظ: شرح نهج البلاغة: 19/15-21.
الدفاع الموفق أو النصر المجدّد

لو أنّنا أسمينا هذه المرحلة من تاريخ الإسلام بمرحلة النصر المجدّد لما قلنا جزافاً، فإنّ المقصود من هذا الانتصار هو أنّ المسلمين استطاعوا - وخلافاً لتوقّعات العدو الحاقد - أن يصونوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من خطر الموت الّذي كاد أن يكون محقّقاً، وهذا هو انتصار مجدّد أصابه جند الإسلام.

أمّا إذا عزونا هذا الانتصار إلى جيش الإسلام برمّته فإنّ ذلك إنّما هو لأجل تعظيم مقام المجاهدين المسلمين، وإلّا فإنّ ثقل هذا الانتصار العظيم وقع على عاتقِ عدد محدودٍ جدّاً من رجال الإسلام الذين صانوا حياة الرسول الأكرم عن طريق المخاطرة بحياتهم، وتعريضها للخطر الجدّي.

وفي الحقيقة فإنّ بقاء الدولة الإسلامية وبقاء جذوة هذا الدين المبارك مشتعلةً إنّما هو نتيجة تضحيات تلكم القلّة القليلة المتفانية في سبيل اللّه ورسوله.

وإليك فيمايلي استعراضاً إجمالياً لتضحيات أُولئك الرجال المتفانين في سبيل العقيدة والدين:

1. إنّ أوّل وأبرز الرجال الصامدين الثابتين على طريق الجهاد والتضحية في هذه الواقعة هو شاب بطل لم يتجاوز ربيعه السادس والعشرين من عمره...، هو الّذي رافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من سني صغره وبدايات حياته وحتّى لحظة وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

إنّ بطل الإسلام الأكبر وإنّ ذلك الفدائي الواقعي هو الإمام «عليّ بن أبي طالب» عليه السلام الّذي تحفظ ذاكرة التاريخ الإسلامي عنه الكثير الكثير من مواقف التضيحة والفداء في سبيل نشر الإسلام والدفاع عن حوزة التوحيد، وإرساء

ص:196

دعائمه.

وفي الأساس أنّ هذا الانتصار المجدَّد - على غرار الانتصار الأوّل - إنّما جاء نتيجةً لبسالة وبطولة هذا المجاهد المتفاني في سبيل الإسلام؛ ذلك لأنّ السبب الجوهري في هزيمة قريش وفرارها في بداية المعركة كان هو سقوط لوائها بعد مقتل كلّ حَمَلَة اللواء على يد الإمام علي عليه السلام، وبالتالي نتيجة للرعب الّذي أُلقي في قلوبهم لمّا رأوا من تساقط صناديدهم الواحد تلو الآخر، الأمر الّذي سلبهم القدرة على المقاومة.

إنّ الكُتّاب المصريين المعاصرين الذين تناولوا حوادث التاريخ الإسلامي بالتحليل والدراسة، لم يعطوا علياً عليه السلام - وللأسف - حقّه في هذه الموقعة، أو على الأقل لم يذكروا ما اتفق عليه المؤرّخون، وتطابقت في إثباته التواريخ، بل جعلوا تضحيات الإمام عليّ عليه السلام ومواقفه الشجاعة والعملاقة في عداد مواقف الآخرين، وفي مستواها.

من هنا ينبغي أن نسلّط بعض الضوء على تضحيات ذلك الفدائيّ الواقعيّ، وذلك البطل الشجاع الّذي شهدت له ساحات الوغى مواقف لا نظير لها في العظمة، والسمو.

أ. يقول ابنُ الأثير في تاريخه(1): كان الّذي قتل أصحاب اللواء عليّ - قاله أبو رافع -، (قال:) فلمّا قتلهم أبصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جماعةً من المشركين فقال لعليّ:

إحمل عليهم، (فحمل عليهم) ففرّقهم، وقتل فيهم، ثم أبصر جماعة أُخرى فقال له:

احمل عليهم، فحمل عليهم وفرّقهم وقتل فيهم، فقال جبرئيل: يا رسول اللّه هذه المواساة، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّه منّي وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما قال:

ص:197


1- . الكامل في التاريخ: 154/2.

فسمعوا صوتاً: «لا سَيْفَ إلّاذوالفقار ولا فتى إلّاعلي»(1).

وقد شرح ابن أبي الحديد هذه القضية بتفصيل أكثر إذ كتب في شرحه لنهج البلاغة يقول: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا فرّ معظم أصحابه عنه يومَ أُحُد كثرت عليه كتائبُ المشركين، وقصدته كتيبة من بني كنانة، ثم من بني عبد مناة بن كنانة، فيها بنو سفيان بن عويف، وهم: خالد بن ثعلب وأبو الشعثاء بن سفيان وأبو الحمراء بن سفيان وغراب بن سفيان، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يا علي اكفني هذه الكتيبة، فحمل عليها وإنّها لتقارب خمسين فارساً وهو (أي علي عليه السلام) راجلٌ، فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرّق عنه، ثم تجتمع عليه هكذا مراراً حتّى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة منها ممّن لا تعرف أسماؤهم.

ثم نقل ما قاله جبرئيل، ثم كتب يقول: قلت وقد روى هذا الخبر جماعةٌ من المحدّثين وهو من الأخبار المشهورة ووقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد ابن إسحاق ورأيت بعضها خالياً عنه، وسألت شيخي عبدالوهاب بن سكينة عن هذا الخبر، فقال: خبرٌ صحيحٌ.

فقلت: فما بال الصحاح (أي مثل صحيح البخاري ومسلم وما شاكلهما) لم تشتمل عليه؟

قال: أوَ كلّ ما كان صحيحاً تشتمل عليه كتب الصحاح؟ كم قد أهمل جامعو الصحاح من الأخبار الصحيحة؟!(2).

ب. ولقد أشار الإمام علي عليه السلام نفسُه في كلام مفصّل له مع رأس اليهود إلى

ص:198


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 197/2؛ ميزان الاعتدال: 324/3؛ لسان الميزان: 406/4.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 250/14-251.

هذا الموقف إذ قال:

«ذَهَب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعسكرَ بأصحابه في سد أُحد وأقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجلٍ واحدٍ واستشهد من المسلمين من استشهد، وكان ممّن بقي من الهزيمة، وبقيت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة كلّ يقول: قتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقتل أصحابه، ثم ضرب اللّه عزّوجلّ وجوه المشركين، وقد جرحت بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نيفاً وسبعين جراحة، منها هذه، وهذه».

ثم إنّه عليه السلام ألقى رداءه، وأمرَّ يده على جراحاته، وقال:

«وكان منّي في ذلك ما على اللّه عزّوجلّ ثوابُه إن شاء اللّه»(1).

وقد بلغ عليٌ عليه السلام - حسب رواية علل الشرائع - من كثرة ضربه لطوائف المشركين الذين كانوا يحملون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحد، ان انكسر سيفُهُ، فجاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا رسول اللّه إنّ الرجل يقاتِل بسلاحه وقد انكسر سيفي، فأعطاه عليه السلام سيفَه ذا الفقار، فما زال يدفع به عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال جبرئيل في حقّه وفي سيفه ما مرّ(2).

وقد أشار ابن هشام في سيرته إلى العبارة الّتي نادى بها جبرئيل إذ قال:

وحدّثني بعض أهل العلم إنّ ابن أبي نجيح قال: نادى مناد يوم أُحد: لا سيفَ إلّا ذوالفقار ولا فتى إلّاعليٌّ (3).

ص:199


1- . الخصال: 368.
2- . علل الشرائع: 7/1؛ بحار الأنوار: 71/20.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 615/3.

كما عد ابن هشام في سيرته(1) القتلى من المشركين في أُحد (22) رجلاً، وقد ذكر أسماءهم واحداً واحداً وذكر قبائلهم، وغير ذلك من خصوصياتهم، وقد قُتلَ منهم (12) رجلاً بيد علي عليه السلام، وقتل البقية بأيدي المسلمين، ونحن نعرض هنا عن ذكر أسماء أُولئك المقتولين رعاية للاختصار. هذا ونحن نعترف بأنّنا لم نستطع بيان كلّ ما قام به علي عليه السلام من خدمات كبرى في هذه الصفحات القلائل على نحو ما جاء في كتب الفريقين السنّة والشيعة وبخاصّة في موسوعة بحار الأنوار.

إنّ ما نستفيده من مطالعة الروايات والأخبار الثابتة والمتعدّدة في هذا المجال هو أنّه لم يثبت أحد في معركة «أُحد» كما ثبت علي عليه السلام(2).

2. أبو دُجانة، وهو البطلُ المسلم الثاني بعد الإمام علي عليه السلام في الصمود، والتضحية، والبسالة والفداء دفاعاً عن حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد بلغ من حرصه على حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ودفاعه عنه أن جعل من نفسه ترساً يقي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من سيوف الكفّار ورماحهم، وسهامهم وأحجارهم، وقد وقعت سهام كثيرة في ظهره ولكنّه ظلّ مترساً بجسمه دون النبيّ، وبذلك حافظ على حياته الشريفة(3). وقد جاء أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال له يوم «أُحد» بعد أن فرّ وانهزم أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحاصره الكفّار من كلّ جانب: «يا أبا دجانة انصرف وأنتَ في حلٍّ من بيعتك، أمّا عليٌّ فهو أنا وأنا هو».

ص:200


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 639/3.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 84/20.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 600/3.

فتحول وجلس بين يدي النبي صلى الله عليه و آله و سلم وبكى وقال: لا واللّه، ورفع رأسه إلى السماء وقال:

لا واللّه، لاجعلت نفسي في حلٍّ من بيعتي إنّي بايعتك، فإلى مَن أنصرفُ يا رسول اللّه إلى زوجة تموتُ، أو ولد يموتُ، أو دارٍ تخربُ، و مالٍ يفنى، و أجل قد اقتربَ؟

فرقّ له النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فلم يزل يقاتلُ حتّى أثخنتهُ الجراحة وهو في وجه و «عليٌّ» في وجه، فلمّا سقط احتمله عليُّ عليه السلام فجاء به إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فوضعه عنده، فقال: يا رسول اللّه أوفيت ببيعتي؟ قال: نعم(1).

وقد ذُكر في كتب التاريخ أشخاصٌ آخرون كعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، وطلحة بن عبيداللّه، وغيرهم ممّن يبلغ - حسب بعض الكتب - 36 شخصاً ادّعى أنّهم ثبتوا ولم يفروا، إلّاأنّ ما هو مسلم به تاريخياً هو ثبات علي عليه السلام وأبي دجانة، وحمزة وامرأة تُدعى أُمّ عامر، وأمّا ثبات غير هؤلاء الأربعة فأمرٌ مظنونٌ، بل ومشكوكٌ في بعضهم.

3. حمزةُ بن عبدالمطلب، عمُّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكان من شجعان العرب ومن المعروفين ببطولاته في الإسلام، وهو الّذي أصرّ على أن يخرج المسلمون من المدينة ويقاتلوا قريشاً خارجها.

ولقد دأب حمزة على حماية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أذى المشركين والوثنيّين في اللحظات الخطيرة، والظروف القاسية من بدء الدعوة المحمدية بمكّة.

وقد ردّ على أبي جهل الّذي كان قد آذى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بشدّة، وضربه

ص:201


1- . بحار الأنوار: 107/20-108، عن روضة الكافي: 318/8-322.

ضربة شجّ بها رأسه في جمع من قادة قريش ولم يجرأ أحد على مقابلته.

لقد كان حمزة مسلماً مجاهداً وبطلاً فدائياً متفانياً في سبيل الإسلام، فهو الّذي قتل «شيبة» وشيبة من كبار صناديد قريش وأبطالها، في بدر كما قتل آخرين، ولم يهدف إلّانصرة الحقّ، والفضيلة، وإقرار الحرية في حياة الشعوب والأُمم.

ولقد كانت هندُ بنتُ عتبة زوجة أبي سفيان تحقد عليه أشدّ الحِقد، وقد عزمت على أن تنتقم من المسلمين لأبيها مهما كلّف الثمن.

فأمرت «وحشياً» وهو غلامٌ حبشي لجبير بن مطعم الّذي قُتل هو الآخر عمُّه في بدر بأن يحقّق غرضها، وأملها كيفما استطاع، وقالت له: لئن قتلتَ محمداً أو عليّاً أو حمزة لأُعطينّك رضاك.

فقال وحشي لها: أمّا محمد فلا أقدرُ عليه، وأمّا عليٌّ فرأيته رجلاً حذراً كثير الالتفات فلم أطمع فيه، فكمنت لحمزة فرأيته يهدّ الناس هدّاً....(1)

يقول وحشي: فلمّا التقى الناس (يوم أُحد) خرجت أنظر حمزة وأتبصّره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهدّ الناس بسيفه هدّاً ما يقوم له شيء،... وهززتُ حربتي - وكان ماهراً في رمي الحراب - حتّى إذا رضيتُ منها، دفعتها عليه، فوقعتْ في ثنته (وهي أسفل البطن) حتّى خرجَت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي، فغُلِبَ، وتركتُه وإيّاها حتّى مات، ثم أتيتُه فأخذت حربتي ثم رجعتُ إلى العسكر، فقعدتُ فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنّما قتلتُه لأُعتقَ.

فلمّا قدمتُ إلى مكّة أُعتقت، ثم أقمتُ حتّى إذا فتح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة

ص:202


1- . بحار الأنوار: 55/20. وفي رواية أُخرى: وأمّا حمزة فإنّي أطمع فيه، لأنّه إذا غضب لم يبصر بين يديه. لاحظ بحار الأنوار: 83/20.

هربت إلى الطائف فمكثتُ بها. فلمّا خرج وفدُ الطائف إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليُسلِمُوا تعيّت عليّ المذاهب، فقلتُ: ألحق بالشام أو باليمن، أو ببعض البلاد، فواللّه إنّي لفي ذلك من همّي إذ قال لي رجُلٌ: ويحَكَ إنّه واللّه ما يقتل أحداً من الناس دَخَلَ في دينه، وتشهَّد شهادته.

فلمّا قال لي ذلك، خرجتُ حتّى قدمتُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينةَ، فلم يَرُعْهُ إلّابي قائماً على رأسه أتشهّد بشهادة الحقّ، فلمّا رآني قال: أوحشي؟! قلت:

نعم يا رسول اللّه.

قال: اقعد فحدّثني كيفَ قتلت حمزةَ؟ فحدّثتُه...، فلمّا فرغتُ من حديثي قال: ويحك! غَيّب عنّي وجهَكَ فلا أرَيَنَّكَ.(1)

أجل هذه هي الروحُ النبويّة الكبرى، وتلك هي سعة الصدر الّتي وهبها اللّه تعالى لنبيه صلى الله عليه و آله و سلم قائد الإسلام الأعلى، ومعلم البشرية الأكبر، تراه عفا عن قاتل عمّه، مع أنّه كان في مقدوره أن يعدمه بمائة حجّة وحجة!!

يقول وحشي: فكنتُ أتنكَّبُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حيث كان لئلّا يراني، حتّى قبضه اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فلمّا خرج المسلمون إلى قتال مسيلمة الكذّاب صاحب اليمامة خرجتُ معهم، وأخذتُ حربتي الّتي قتلتُ بها حمزةَ، فلمّا التقى الناسُ رأيتُ مسيلمةَ الكذاب قائماً في يده السيفُ، وما أعرفُه، فتهيّأتُ له، وتهيّأ له رجل من الأنصار من الناحيةِ الأُخرى، كلانا يريدُه، فَهززتُ حربتي حتّى إذا رضيتُ منها دفعتها عليه، فوقعت فيه، وشدّ عليه الأنصاريُ فضربَهُ بالسيف.(2)

ص:203


1- . سيرة ابن هشام: 591/3-592.
2- . سيرة ابن هشام: 592/3.

هذا هو ما ادّعاه وحشي، بيد أنَّ هشاماً قال في سيرته: فبلغني أنّ وحشياً لم يزل يُحدّ في الخمر حتّى خُلِعَ من الديوان فكان عمر بن الخطاب يقول: قد علمتُ أنَّ اللّه تعالى لم يكن ليدعَ قاتل حمزة.(1)

4. أُمّ عمارة لا ريب أنّ الجهاد الابتدائي مرفوع عن المرأة ساقط عنها في نظر الإسلام، ولهذا عندما أوفدت نساءُ المدينة امرأة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لتتحدّث معه حولَ الحِرمان من هذه العبادة الكبرى، فجاءت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالت: يا رسول اللّه نحن نقوم بكلّ ما يحتاج إليه الرجال في حياتهم، ليجاهدوا ببال فارغ، فلِمَ حُرِمنا نحن من هذه الفضيلة؟!

فأجابها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً: «افهمي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أنّ حسن تبعّل المرأة لزوجها، وطلبها مرضاته، واتّباعه موافقته يعدل ذلك كلّه»(2)، وهو صلى الله عليه و آله و سلم يشير إلى أنّ لهذا المنع أسبابه الطبيعية والوظيفية في طبيعة المرأة وخلقتها، وليس هو بالتالي يعني حرمانها من شيء فإنّ قيامها على الوجه الصحيح بخدمة زوجها وتربية أولادها تعدل الجهاد في سبيل اللّه.

بيد أنّ بعض النسوة المجرّبات ربما كنّ يخرجن من المدينة لمساعدة جنود الإسلام كسقي العطاشى، وغسل ثياب المقاتلين، وتضميد الجرحى. وبذلك كنَّ يقدّمن خدمة مؤثّرة في نصرة المسلمين ودعمهم.

تقولُ أُمّ عمارة (نسيبة المازنية): خرجت أوّل النهار إلى «أُحد» وأنا أنظرُ ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو في الصحابة،

ص:204


1- . سيرة ابن هشام: 592/3.
2- . لاحظ: أُسد الغابة: 398/5-399 في ترجمة أسماء بنت يزيد الأنصارية..

والدولة والريح للمسلمين.

فلمّا انهزم المسلمون انحزتُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فجعلت أباشرُ القتال وأذبّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالسيف، وأرمي بالقوس حتّى خلصت اليّ الجراح.

(تقول راوية هذا الكلام أُمّ سعد بنت سعد بن الربيع) فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت: يا أُمّ عمارة من أصابك بهذا؟.

قالت: أقبل ابن قميئة وقد ولّى الناس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، يصيح: دلّوني على محمد، لا نجوتُ إن نجا. فاعترض له مصعبٌ بن عمير وناس معه، فكنت فيهم فضربني هذه الضربة، ولقد ضربتُه على ذلك ضربات، ولكنَّ عدوَّ اللّه كان عليه درعان.(1)

وقال عبد اللّه بن زيد المازني: جرحت جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجل كأنّه الرقل ولم يعرّج علي، ومضى عنّي، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أعصب جرحك، فتقبل أُمّي إليّ، ومعها عصائب في حقويها قد أعدّتها للجراح، فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه و آله و سلم واقف ينظر، ثم قالت: إنهض يا بني فضارب القوم، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:

«ومن يطيق ما تطيقين يا أُمّ عمارة».

قالت: وأقبل الرجل الذي ضربني، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: هذا ضارب ابنك، فاعترضت أُمّي له، فضربت ساقه، فبرك، فرأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم تبسّم حتّى بدت نواجذه، ثم قال: «استقدت يا أُمّ عمارة». ثمّ أقبلنا نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «الحمد للّه الذي ظفرك وأقرّ عينك من عدوك وأراك ثأرك

ص:205


1- . شرح نهج البلاغة: 265/14؛ المغازي: 269/1؛ بحار الأنوار: 133/20.

بعينك».(1)

وعندما نادى منادي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى حمراء الأسد، بعد معركة أُحُد، وطلب من الجرحى أن يخرجوا لملاحقة جيش المشركين، شدّت عليها ثيابها وقد كان بها جراح عديدة أعظمها الجرح الّذي على عاتقها فما استطاعت بسبب نزف الدم، فأرادت أن تخرج مع العسكر منعتها جراحها الباهضة من ذلك، فلمّا رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من غزوة حمراء الأسد ما وصل إلى بيته حتّى أرسل إليها عبدَاللّه بن كعب المازني يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها، فسُرّ النبيّ بذلك.(2)

ولقد أثار موقف هذه المرأة البطلة الثابتة على درب الإيمان سرور النبيّ وإعجابه فقال في حقّها مشيّداً بموقفها البطولي ومعرِّضاً بفرار مَن فرّ وهروب مَن هرب في معركة أُحد: «لمقامُ نسيبَة بنتِ كعب اليومَ خيرٌ من مقام فلان وفلان».

وقال ابنُ أبي الحديد معلّقاً على عبارة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لمقام نسبية اليومَ خيرٌ من مقام فلان وفلان» قلت: ليت الراوي لم يُكَنِّ هذا الكناية، وكان يذكر مَن هما بأسمائهما حتّى لا تترامى الظنون إلى أُمور مشتبهة، ومن أمانة المحدّث أن يذكر الحديث على وجهه ولا يكتم منه شيئاً، فما باله كتم اسمَ هذين الرجلين(3).

ولكنّنا نعتقد أنّ الرجلين هما من الشخصيات الّتي تسنّمت مراكز القيادة العليا بعد وفاة رسول اللّه عليه السلام، وقد أحجم الراوي عن التصريح باسميهما إمّا احتراماً أو تقيةً وخوفاً.

ص:206


1- . شرح نهج البلاغة: 267/14؛ المغازي: 270/1-271.
2- . المغازي: 270/1.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 266/14.

وكانت نسيبة قد طلبت من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحُد بعد أن أشاد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بصلابتها ومواقفها أن يدعو لها بمرافقته في الجنة فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم داعياً لها ولأهل بيتها:

اللّهم اجعَلْهُم رفقائي في الجنّة».(1)

بقية أحداث واقعة «أُحد»

لقد آلت تضحيات ثلّة قليلة ومعدودةٍ من رجال الإسلام المتفانين وبسالتهم إلى الإبقاء على حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحفظها من الخطر القطعي الحتمي.

ومن حسن الحظ أن أكثر أفراد العدوّ قد تصوّروا يومئذ أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد قُتِل، ومضوا يفتشون عن جسده بين القتلى، ودفعت الحملات الّتي كان يقوم بها أقليةٌ من المشركين على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد رُدّت على أعقابها بفضل ثبات علي عليه السلام وأبي دجانة وأنفارٍ آخرين (احتمالاً) وقد رأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّ من الصالح في تلك اللحظات أن لا ينتشر تكذيبُ شائعة مقتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لكي لا يصرّ العدوُ على البقاء في أرض المعركة مع ما كان عليه المسلمون من التشتّت والتفرّق، والمحنة، ومن هنا صعد هو وبعض أصحابه إلى الشعب في جبل أُحُد.

وفي خلال ذلك سقط رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حفيرة في الجبل حفرها أبو عمّار الفاسق للمسلمين، فأخذ علي عليه السلام بيد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأخرجه منها، وكان أوّل مَن عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من المسلمين - بعد الهزيمة، وقول الناس: قتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم -، «كعب بن مالك» وقال: عرفت عينيه صلى الله عليه و آله و سلم تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، أبشروا هذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأشار إليه

ص:207


1- . شرح نهج البلاغة: 269/14؛ المغازي: 273/1.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن أنصت.(1)

وذلك لأنّ انتشار خبر سلامة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان من شأنه أن يدفع المشركين - كما قلنا - إلى مواصلة حملاتهم على المسلمين، بهدف استئصال شأفتهم، ولهذا أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كعباً بالسكوت، فسكت كعب.

وأخيراً وصل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى فم الشِّعب، ولمّا عرف المسلمون بحياته صلى الله عليه و آله و سلم سرّوا بذلك وأخذوا يتجمّعون عنده، وهم يُظهرون الندامة من تركه بين الأعداء والفرار بأنفسهم إلى الجبل، وأخرج أبو عبيدة الجرّاح حلقتي المغفر من وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجاء علي عليه السلام بماء في درقته فغسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم به الدمَ عن وجهه وصبّ منه على رأسه وقال:

«اشْتدَّ غضَبُ اللّه على مَنْ دَمّى وجهَ نَبيّهِ».(2)

العدوُّ يحاول استغلال الفرصة

في الوقت الّذي واجه المسلمون فيه هزيمة كبرى انهارت بها الكثير من المعنويات، اغتنم العدوّ الفرصة للترويج عن معتقداته، فأطلق شعارات متعدّدة ضد عقيدة التوحيد، كان من شأنها أن تغري البسطاء، والضعفاء في الإيمان وتؤثّر فيهم، وتزلزلَ إيمانهم. فليست هناك حالة لبثّ العقائد وتسريبها إلى النفوس أفضل من حالة الانهزام والنكسة، والبلاء والمصيبة، ففي حالة كهذه يبلغ الضعفُ النفسيُ لدى المصاب والمنكوب حدّاً يفقد معه العقلُ سيطرته على الإنسان بحيث يفقد على أثر ذلك قدرة التمييز بين الحقّ والباطل، وفي هذه الصورة

ص:208


1- . سيرة ابن هشام: 601/3.
2- . لاحظ: سيرة ابن هشام: 602/3-603.

تصبح مسألة بثّ الدعايات السيّئة وزرعها في النفوس واستثمارها مسألة بسيطة، إذ يكون الإنسان في هذه الحالة أكثر تقبّلاً وأيسر قبولاً.

من هنا عمد أبو سفيان وعكرمة فرفعا أصناماً كبيرة على الأيدي بعد إلحاق الهزيمة بالمسلمين، وأظهروا الفرح والسرور وأخذوا ينادون بأعلى أصواتهم - مستغلين هذه الفرصة -: «اُعلُ هُبَل، اعلُ هُبَل»!!

ويعنون بذلك الشعار أنّ الانتصار الّذي أحرزه المشركون إنّما هو بفضل الصنم: هُبل، وبالتالي بفضل الوثنية الّتي يدين بها أهلُ مكّة. ولو كان ثمة إله سواه، وكانت عقيدة التوحيد على حقّ لانتصر المسلمون، ولما خلص إليهم من المحنة ما خلص، فأدرك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمقَ الخطر الّذي يكمن في الأُسلوب الّذي أخذ العدوّ يمارسه في مثل هذه اللحظة الحسّاسة، وما سيتركه ذلك من أثر سيِّئ في النفوس، وبخاصّة الضعيفة منها، ولهذا تناسى كلّ أوجاعه ومصاعبه وأمر عليّاً والمسلمين فوراً بأن يجيبوا منادي الشرك بشعارٍ مضادٍ قوي، فقال: قولوا:

«اللّهُ أعْلى و أَجَلّ، اللّهُ أَعْلى و أَجلّ».

أي إنَّ هذه الهزيمة ليست نابعة من عقيدة التوحيد، بل هي ناشئة من انحراف بعض الجنود عن أوامر القائد وتعليماته العسكرية الحكيمة.

بيد أنّ أبا سفيان لم يكف عن إطلاق شعاراته، والمضيّ في الدعاية لمعتقده الباطل فقال: نحن لنا العزّى ولا عُزى لكم!!

فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأن ينادي المسلمون بشعار مضاد لشعار أبي سفيان، مشابه له في الوزن والسجع فقال: قولوا:

«اللّه مولانا ولا مولى لكم».

أي إذا كنتم تعتمدون على صنم مصنوع من الحجر والخشب، فإنّنا نعتمد

ص:209

على اللّه الخالق، القادر والعليّ الأعلى.

فنادى منادي الشرك ثالثاً: يَومٌ بيومِ بدر. فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يجيبه المسلمون:

«لا سَواء قتلانا في الجنة، وقتلاكُم في النار».

فكان لشعارات المسلمين القوية الرادعة الّتي كان يردّدها المئات، أثرها العجيب في نفس رأس الشرك أبي سفيان الّذي بدأ هذه الحملة النفسية والحرب الباردة بغية تحطيم إيمان المسلمين، ورأى كيف ارتدّ كيده إلى نحره، ولهذا انزعج بشدة وقال: ألا إن موعدَكم بدر للعام القابل.

ثم انصرف إلى أصحابه، وغادروا جميعاً أرض المعركة راجعين إلى مكّة(1).

وكان على المسلمين الآن - وفيهم مئات الجرحى والمصابين وسبعون قتيلاً - أن يُصَلّوا الظهرَ والعصر فصلّى بهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جلوساً، وصلّوا معه جلوساً، لما أصابهم من الضعف، ثم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدفن الشهداء، ومواراتهم الثرى عند جبل أُحد.

نهاية المعركة

وَضَعت الحرب أوزارها، وتباعد الجانبان، وقد تحمّل المسلمون من الخسائر في الأرواح ثلاثة أضعاف ماتحمّله المشركون. وكان عليهم أن يبادروا إلى دفن الشهداء على النحو الّذي أمرهم به الدين.

ولكنّهم فُوجئوا بأمر فضيع، فقد اغتنمت نسوة من قريش وفي طليعتهنّ هند زوجة أبي سفيان فرصة انشغال المقاتلين المسلمين وارتكبن بحقّ الشهداء

ص:210


1- . لاحظ: المغازي: 297/1؛ سيرة ابن هشام: 609/3.

الأبرار، جناية فظيعة لم يعرف لها تاريخ البشرية مثيلاً، فهن لم يكتفين بالانتصار الظاهري بل عمدن إلى التمثيل بشهداء المسلمين، تمثيلاً مروعاً فخمشن وجوههم، وقطّعن الأُنوف، وجدعنَ الآذان، وسملنَ العيون، وقطعنَ أصابع الأيدي والأرجل، والمذاكير، وصنعن منها القلائد والأساور، نكايةً بالمسلمين، وإطفاءً للحقد الدفين، وبذلك ألحقنَ بهنّ وبأوليائهنّ عاراً لا ينسى.

فإنّ جميع الأُمم والشعوب متّفقة على أنّ الميّت الّذي لا يستطيع دفاعاً عن نفسه، ولا يتوقع منه ضررٌ يجب احترامه، وتحرم إهانته وإن كان عدواً. ولكنّ هنداً زوجة أبي سفيان ومَن كان برفقتها من نساء المشركين مثّلن بأجساد القتلى شرّ تمثيل، وصنعن ممّا قطّعن منها الأساور والقلائد، وبقرت «هند» بالذات صدر حمزة بطل الإسلام الفدائيّ، وأخرجت كبده، ولاكته بين أسنانها ولكنّها لفظته ولم تستطع أكله.(1)

وقد بلغ هذا العمل من القبح، والسوء أن تبرّأ منه أبو سفيان وقال: «في قتلاكم مُثلة لم آمر بها»(2).

وقد عرفت هندٌ بسبب فعلتها الشنيعة هذه بآكلة الأكباد، ودُعي أبناؤها في ما بعد ببني آكلة الأكباد.

ولمّا أبصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حمزة بن عبدالمطلب، ببطن الوادي وقد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه، حزن حزناً شديداً وغاضه تمثيلهم به فقال:

ص:211


1- . لاحظ: سيرة ابن هشام: 607/3؛ تاريخ الطبري: 204/2؛ الكامل في التاريخ: 159/2.
2- . السيرة الحلبية: 530/2.

«ما وَقَفتُ موقفاً قطّ أغيظ إليّ مِن هذا!».

ثم إنّ المؤرّخين يتّفقون على أنّ المسلمين تعاهدوا في ذلك الموقف (وربما نَسِبَ هذا إلى النبيّ نفسه) لئِن أظفرهمُ اللّه بالمشركين يوماً أن يمثّلوا بهم مُثلة لم يمثّلها أحدٌ من العرب أو يمثّلوا بدلَ الواحد ثلاثين.

ولم يمض زمان حتّى نزل جبرئيل بقوله تعالى:

«وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ» .(1)

ولقد كشف الإسلام مرة أُخرى ومن خلال هذه الآية - الّتي تتضمّن أصلاً إسلامياً في مجال القضاء مسلّماً به - عن وجهه الإنسانيّ العاطفيّ، وأظهر للجميع بأنّ الدين الإسلامي ليس شريعة انتقام، وثأر، فهو يعلّم أتباعه بأن لا يغفلوا في أشدّ اللحظات والحالات النفسية هياجاً وغضباً، عن قانون العدالة، والحق، وبهذا يكون الإسلام قد راعى مبادئ العدالة والإنصاف على الدوام، وصانها من الانهيار، والسقوط.

ولقد أقبلت صفيّة بنت عبد المطلب لتنظر إلى حمزة، وكان أخاها لأبيها وأُمّها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لابنها الزبير بن العوّام: إلقها فارجعها، لاترى ما بأخيها، فقال: لها يا أُمّه إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يأمرك أن ترجعي.

فقالت صفيّة: قد بلغني أن قد مثّل بأخي، وذلك في اللّه، فما أرضانا بما كان من ذلك! لاحتسبنَّ ولأصبرنَّ إن شاء اللّه.

فلمّا جاء الزبيرُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره بذلك، قال صلى الله عليه و آله و سلم: خلّ سبيلَها، فأتته، فنظرت إليه، فصلّت عليه، واسترجَعت، واستغفرت له، ثم أمر به رسول

ص:212


1- . النحل: 126.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدفن(1).

حقاً أن قوّة الإيمان أعظم القوى، فهي تحبس الانسانَ وتحفظه في أصعب الحالات، وتفيض على صاحبه حالة من السكينة والوقار.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صلّى على شهداء أُحد الأبرار، وأمر بدفنهم واحداً واحداً أو اثنين اثنين، وأمر بأن يُدفن «عمرو بن الجموح» و «عبداللّه بن عمرو» في قبر واحد.

قائلاً:

«إدفنُوا هذين المتحابّين في الدنيا في قَبرٍ واحد»(2).

آخر ما نطق به سعدُ بن الربيع

كان سعد بن الربيع من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأوفياء، وكان رجلاً مؤمناً مخلصاً، عظيم الوفاء والحبّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد أُصيب في «أُحد» اثنتا عشرة إصابة قاضية فسقط على الأرض.

فمرّ عليه رجلٌ يدعى مالك بن الدخشم فقال له: أما علمتَ أنّ محمّداً قد قُتِلَ؟ فقال سعد: أشهد أنّ محمّداً قد بلّغ رسالة ربّه، فقاتل أنت عن دينك فإنّ اللّه حيّ لا يموت(3).

ثم إنّه قد مرّ عليه رجل من الأنصار وهو في هذه الحال وبعد أن وَضعَت الحرب أوزارها فقال لسعد: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمرني أن أنظر أفي الإحياءِ أنتَ أُمّ

ص:213


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 612/3.
2- . المغازي: 266/1؛ بحار الأنوار: 131/20.
3- . شرح نهج البلاغة: 276/14؛ بحار الأنوار: 136/20.

في الأموات؟ فقال سعد: أنا في الأموات فأبلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منّي السلام، وقل له:

إنّ سعد بن الربيع يقول: جزاك اللّه خيراً عنّا ما جزى نبيّاً عن أُمّته، وأبلغ قومك عنّي السلام، وقل لهم: إنّ سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند اللّه، إن يخلص إلى نبيكم صلى الله عليه و آله و سلم ومنكم عين تطرف.

قال: فلم أبرح عنده حتى مات، ثم جئت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبرته فقال: «اللّهم ارض عن سعد بن الربيع».(1)

إنَّ حبَّ الإنسان لنفسه، أو ما يصطلح عليه العلماء بحبّ الذات من الغرائز القوية المتأصلة في كيان الإنسان بحيث لا يمكن لأي أحد أن يغفل عنها مهما كانت الظروف، وهي بالتالي من القوّة والهيمنة على وجود الإنسان بحيث يضحّي في سبيلها بكل شيء.

ولكن قوّة الإيمان وحبّ الإنسان للعقيدة، وتعشقه للمعنويات أقوى وأشدّ تأثيراً من ذلك، فهذا الجنديّ الشجاع لم يكن بينه - حسب ما تفيده النصوص التاريخية - وبين الموت في ذلك الوقت سوى لحظات، ومع ذلك نجده ينسى نفسه، ويفكّر في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كان يعتبره أقوى سبب لبقاء الدين، ودوام الشريعة، وهذا هو الهدف المقدّس الّذي قاتل من أجله سعد البطل، ولهذا لا يحمل ذلك الرجل الأنصاري سوى رسالة واحدة إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحثّهم فيها على السهر على حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والعمل معه على تحقيق أهدافه، في إرساء دعائم التوحيد.

ص:214


1- . شرح نهج البلاغة: 277/14؛ بحار الأنوار: 136/20.
النبيّ يعود إلى المدينة

كانت الشمس تميل نحو المغرب وكانت تستعد للملمة أشعتها الذهبية من صفحة الأرض، وكان السكون والصمت يخيّم على كلّ مكان من الأرض.

في مثل هذه اللحظات كان على المسلمين المقاتلين أن يعودوا بجرحاهم إلى منازلهم في المدينة ليستعيدوا قواهم، ويجدّدوا نشاطهم، ويضمّدوا جرحاهم.

ولهذا صدرت أوامر من جانب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالتوجّه نحو المدينة.

فلمّا كانوا بأصل الحرّة قال صلى الله عليه و آله و سلم: «اصطفوا فنثني على اللّه»، فاصطف الرجال صفين خلفهم النساء ثم دعا فقال:

«اللّهم لكَ الحمدُ كلّه، اللّهم لا قابضَ لما بَسطتَ، ولا باسطَ لما قبضتَ، ولا مانِعَ لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعتَ، ولا هادي لمن أضللتَ، ولا مضلّ لمن هديتَ، ولا مقرّبَ لما باعدتَ، ولا مباعِدَ لما قرّبتَ.

اللّهم إنّي أسألك من بركتك ورحمتك وفضلك وعافيتك.

اللّهم إنّي أسألك النعيمَ المقيمَ الّذي لا يحولُ ولا يزول.

اللّهم إنّي أسألكَ الأمنَ يوم الخوف والغنى يوم الفاقة.

عائذاً بك اللّهم من شرّ ما أعطيتنا وشرّ ما منعتَ منّا.

اللّهم توفَّنا مسلمين.

اللّهم حبّب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

اللّهم عذّب كَفَرة أهل الكتاب الذين يكذّبون رسولك، ويصدّون عن سبيلك.

ص:215

اللّهم أنزل عليهم رجسَكَ وعذابك إله الحقّ. آمين»(1).

وقد كان هذا العمل خطوةً مهمةً جداً من الناحية النفسية فقد أمدّ هذا الدعاء نفوسَ المسلمين المصابين بطاقة روحية ضخمة، ممّا كان من شأنه تخفيف وطأة الهزيمة وتقوية عزائم المسلمين، كما علّمهم أن يلجأوا إلى اللّه تعالى في كلّ حال.

فدخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومعه أصحابه - من الأنصار والمهاجرين الذين شاركوا في تلك المعركة - المدينة.

وكانت أكثر بيوت المدينة قد تحوّلت إلى مناحات ومآتم، يرتفع منها أصوات بكاء الأُمّهات والأزواج والبنات اللائي أصبن في رجالهنّ وأوليائهنّ، وآبائهنّ.

ومرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظفر، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فبكى، ثم قال:

«لكنَّ حمزةَ لابَواكيَ لهُ»(2).

فلمّا رجع سعد بن معاذ وأُسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهم بأن يتحزّمن، ثمّ يذهبن فيبكين على عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فلمّا سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكاءَهنّ على حمزة خرج عليهن وهنّ على باب مسجده يبكين عليه فقال:

«ارجعن يرحمكنّ اللّه، فقد آسيتنّ بأنفسكنّ».

وقيل لما سمع صلى الله عليه و آله و سلم بكاءهنّ قال:

ص:216


1- . إمتاع الأسماع: 175/1؛ المغازي: 314/1-315.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 613/3.

«رَحِمَ اللّه الأنصارَ، فإنَّ المواساةَ منهم ما علمت لقديمة.. مُروهُنَّ فَلينصرِفنَ»(1).

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة

إنّ للنسوة المؤمنات صفحات مشرقة، وعجيبة في تاريخ الإسلام، لأنّنا قلّما نجد لها نظيراً في عالم المرأة اليوم.

ومن تلك النسوة المؤمنات ذوات المواقف الرائعة والعجيبة في صدر الإسلام امرأة من بني دينار، أُصيب زوجُها وأخوها وأبوها مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأُحد.

فإنّها لما نعوا لها مصرعَ رجالها قالت: فما فعلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟

قالوا: خيراً يا أُمّ فلان، هو بحمد اللّهِ كما تحبّين.

قالت: أرونيه حتّى أنظر إليه؟

فأُشير لها إليه حتّى إذا رأته قالت: كلّ مصيبة بعدك جلل (أي صغيرة)(2).

ما أعظم تلك الاستقامة، وما أعظم ذلك الإيمان الّذي يجعل من الإنسان طوداً راسخاً ثابتاً في وجه العواصف والأعاصير.

نموذج آخرٌ من النسوة المجاهدات

لقد أشرنا في الصفحات الماضية بصورة إجمالية إلى قضية «عمرو بن الجموح» الّذي آلى على نفسه أن يشارك في الجهاد مع ما كان به من العرج

ص:217


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 613/3-614؛ ولاحظ إمتاع الأسماع: 175/1-176.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 614/3.

الموجب لسقوط الجهاد، كما عرفت.

فقد شارك هذا المسلم الصادقُ والمؤمن المجاهدُ في معركة أُحد، ومضى يقاتل في الصف الأوّل من المجاهدين، وشارك ابنه «خلّاد بن عمرو بن الجموح» و أخو زوجته «عبداللّه بن عمرو»(1) في هذا الجهاد المقدّس، واستشهدوا جميعاً في تلك المعركة أيضاً.

فخرجت «هند» زوجته وهي بنت عمرو بن حزام، عمة جابر بن عبداللّه الأنصاري إلى «أُحد» وحملت أجسادهم على بعير وتوجّهت بها نحو المدينة، بمنتهى الجلادة، ورباطة الجأش.

وعندما فشى في المدينة أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قُتِل بأُحد، خرجت النسوة، يتأكّدن من هذا النبأ، فالتقت هندٌ ببعض نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم - وهي عائدة من أُحد - فسألنها عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقالت: خيراً، أمّا رسول اللّه فصالحٌ، وكلُّ مصيبة بعده جلل، واتّخذ اللّهُ من المؤمنين شهداء، وقَرَأت قولَ اللّه تعالى:

«وَ رَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً...» !!

فسألوا: مَن هؤلاء؟

قالت: أخي، وابني خلّاد، وزوجي عمرو بن الجموح!!

فقلنَ لها: فأين تذهبين بهم؟

قالت: إلى المدينة اقبرهُم بها... ثم زجرت بعيرها تحثه على السير قائلة:

«حَل.. حَل» في نبرة صامدة.(2)

ص:218


1- . وهو عبداللّه بن عمرو بن حزام بن ثعلبة بن حزام الأنصاري.
2- . لاحظ: المغازي: 265/1؛ إمتاع الأسماع: 161/1.

ومرةً أُخرى يظهر في هذه الصفحة الناصعة من تاريخ الإسلام نموذجٌ حيٌّ آخر من مشاهد الثبات والصمود، والاستقامة، وتجاوز المصائب، وتحمّل الآلام والشدائد في سبيل الهدف المقدّس، وكلُّ ذلك من فِعل الإيمان، ونتائجه.

إنّ المذاهب المادية لاولن تستطيع تربية أمثال هذه النسوة والرجال المتفانين في سبيل العقيدة، بمثل هذا التفاني العظيم.

على أنّ هؤلاء لم يقاتلوا من أجل المآرب المادّية، وإنّما قاتلوا من أجل الهدف، وهو إعلاء كلمةِ الدين وإقامة صرح التوحيد، ومحو الوثنية والشرك.

هذا وفي بقية هذه القصّة ما هو أعجب من أوّلها، وهو أمر، لا يمكن أن يدرَك بالمقاييس المادّية، والأُسس الّتي ينطلق منها أصحاب الاتّجاه المادّي في تحليل القضايا التاريخية، وانما يهضمها - فقط - من يؤمن بعالم آخر وراءَ العالم المادّي الصِرف، ويصدّق بتأثيره في هذا العالم، وبالتالي لا يقبل بها إلّامن يصدّق بقضية الإعجاز والمعجزة، ويذعن لها ويعترف بصحّتها من غير تلكّؤ وإبطاء.

واليك هذه البقية:

لمّا زجرت هند بعيرها لتدخل به المدينة بَرَكَ البعير في مكانه.

فقالت النسوة الّتي كنَّ هناك: لعلّه بَرَكَ لما عليه.

فقالت هند: ما ذاكَ به، لربما حمل ما يحمل البعيران، ولكنّي أراه لغير ذلك.

فزجرته ثانية، فقام، فلمّا وجّهت به إلى المدينة بَركَ، فوجهته راجعة إلى أُحد فأسرع.

فرجعت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأخبرته بذلك، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فإنَّ الجَمَلَ مأمور. هل قال (يعني: عمرو بن الجموح) شيئاً؟

قالت: إنَّ عمراً لمّا وجّهه إلى أُحُد استقبل القبلةَ، وقال: اللّهم لا تردّني إلى

ص:219

أهلي خزياً، وارزُقني الشهادة!!

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «فلذلك الجملُ لا يمضي. إنَّ منكم يا معشر الأنصار من لوأقسم على اللّه لأبرَّهُ، منهم عمرو بن الجموح، يا هند ما زالتِ الملائكة مظلّلةً على أخيكِ مِن لدن قُتِلَ إلى الساعة ينظرون أين يُدفَن»، ثم مكث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى قبرهم، ثم قال: يا هند قد ترافقوا في الجنة جميعاً، عمرُو بن الجموح، وابنُك خلّاد، وأخوك عبداللّه».

قالت هند: يا رسول اللّه فادعُ لي عسى أن يجعلَني معهم(1).

ثمّ إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دخل بيته فلمّا أبصرت به بنتُه العزيزةُ «فاطمةُ» ورأت ما أصابه من الجراح ذرفت عيناها بالدموع، فأعطى رسول اللّه سيفه لابنته (الزهراء) حتّى تغسله.

وقال الإربلي المؤرّخ المعروف الّذي كان يعيش في القرن السابع الهجري:

كان عليّ يجيء بالماء في ترسه، وفاطمة تغسل الدم، وأخذ حصيراً فأحرقه وحشا به جرحه(2).

وفي «الإمتاع»: لمّا رأت فاطمة الدمَ لا يرقأ - وهي تغسله وعلي يصب الماء عليها بالمجنَّ - أخذت قطعة حصير فأحرقته حتّى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم، ويقال: داوته بصوفة محترقة(3).

ص:220


1- . إمتاع الأسماع: 161/1-162.
2- . كشف الغمة: 188/1-189.
3- . إمتاع الأسماع: 154/1.
لابدّ من ملاحقة العدو

لقد كانت الليلة الّتي استقرّ فيها المسلمون في منازلهم بالمدينة بعد يوم أُحد ليلة جدّاً خطيرةً وحسّاسةً.

فالمنافقون واليهودُ وأتباع عبداللّه بن أُبي قد سُرّوا لما أصاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه سروراً كبيراً، وأظهروا القول السيّئ وقالوا: ما أُصيب نبيٌ هكذا قط.

وكان أنين الجرحى والمكلومين وبكاء الموتورين في رجالهم ونياحهم يُسمع من أكثر بيوت المدينة.

والأخطر من كلّ هذا هو التخوّف من أن يقوم المنافقون واليهود بعملية خيانية ضد الإسلام والمسلمين في تلك الظروف.

أو أن يعرّضوا وضعَ العاصمة الإسلامية الثابت، والوحدة السياسية القائمة في المدينة للخطر بإيجاد الاختلاف والتشتّت على الأقل.

إنّ ضرر الاختلافات الداخليّة أشدُّ بكثير من حملات العدوّ الخارجي، وإنّ انهيار الوحدة والانسجام في الجبهة الداخلية أخطر بكثير من تعرّض البلاد لهجوم من الخارج.

من هنا كان يتعيّن على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يُرهب العدو الداخلي، ويفهمه بأنّ قوى التوحيد لم تفقد انسجامها وتماسكها، وأنّ أيّة خطوة أونشاط مُعاد يهدّد أساس الإسلام للخطر سيُسحَق بشدّة في اللحظة الأُولى.

ولهذا أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يخرج في نفس الليلة لملاحقة العدوّ (أي مشركي مكّة).

فكلّف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رجلاً بأن ينادي في كلّ مناطق المدينة:

ص:221

«ألا عِصابَةٌ تشدّدُ لأمر اللّه تَطْلُبُ عدوّها، فإنّها أنكأ للعدوّ وأبعد للسمع. ألا لا يخرجن أحدٌ إلّامَن حضر يومنا بالأمس».(1)

أو قال: «يا معشر المهاجرين والأنصار مَن كانت به جِراحة فليخرج، ومَن لم يكن به جراحة فليقم».(2)

وإنّما خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كما أسلفنا - لِيُرهب العدوّ، وليبلغهم أنّه خارج في طلبهم، فيظنّوا به قوّة، وأنّ الّذي أصابهم لم يوهنهم من عدوّهم(3).

على أنّ لهذا التقييد، ولهذا النهي عن خروج غير الجرحى، أو مَن لم يشترك في أُحدُ، عللاً أو حكماً لا تخفى على العارفين بالسياسة، والأسرار العسكرية.

ويمكن الإشارة إلى بعضها:

أوّلاً: أنّ هذا التحديد، وبالتالي الاقتصار على مَن شارك في معركة أُحُد هو نوع من التعريض بمَن امتنع عن المشاركة في تلك المعركة، وفي الحقيقة هو نوعٌ من تجريدهم من صلاحية المشاركة في الدفاع المقدّس.

ثانياً: أنّ هذا التحديد هو نوع من عقاب المشاركين في معركة أُحُد، لأنّهم بتجاهلهم لتعاليم القيادة، وانصرافهم بسرعة إلى المطامع المادّية، والغفلة عن ملاحقة العَدوّ في حينه تسبّبوا في توجيه تلكم الضربة النكراء إلى الإسلام، ولذلك يجب عليهم أنفسهم ملافاة تلك الخسارة، وترميم ذلك العطب، لكيلا يعودوا إلى مثل ذلك، ولا يتجاهلوا أوامر القيادة، ونحن نعلم أنّ الانضباطية والتقيّد الكامل بالأوامر هو أهم عنصر في نجاح الأُمور

ص:222


1- . مجمع البيان للطبرسي: 447/2.
2- . تفسير القميّ: 125/1؛ بحار الأنوار: 64/20.
3- . مجمع البيان للطبرسي: 447/2.

العسكرية(1).

إنّ رجلاً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بني الأشهل كان شهد أُحُداً مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال: شهدت أحد مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلمّا أذّن مؤذّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ واللّه مالنا من دابة نركبها، وما منّا إلّا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكنت أيسر جرحاً منه، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتّى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون(2).

حمراءُ الأسد

(3)

خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد (وهي من المدينة على ثمانية أميال) واستعمل على المدينة «ابن أُمّ مكتوم».

وقد مرّ به «معبد بن أبي معبد الخزاعي» - رئيس بني خزاعة - وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم يومذاك ذات علاقات طيّبة جدّاً مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين، وكانوا لا يخفون عن النبيّ شيئاً.

فتقدّم معبد رئيسهم وعزّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما أصابه، وهو يومئذ مشرك قائلاً: يا محمّد أما واللّه لقد عزّ علينا ما أصابك (في أصحابك)، ولوددنا أنّ اللّه عافاك فيهم.

ص:223


1- . كلا هذين الوجهين يستقيمان إذا قلنا بأنّ النبيّ خرج بكل مَن شارك في أُحُد لا أنّه اقتصر على الجرحى، كما تصرّح به بعض النصوص التاريخية.
2- . سيرة ابن هشام: 615/3-616؛ تاريخ الطبري: 212/2.
3- . لقد عدّ البعض خروج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى حمراء الأسد لملاحقة العدوّ غزوة مستقلّة، وذكرها البعض الآخر في ذيل معركة أُحد.

ثم خرج معبد ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحمراء الأسد، حتّى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه للكرّة عليهم، واستئصالهم، والقضاء عليهم.

فلمّا رأى أبوسفيان معبداً (وكان معبد قد استهدف من خروجه إلى أبي سفيان وجماعة المشركين القيام بخدمة لصالح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه) قال: ما وراءك يا معبد؟

فقال معبد: - وهو يريد إرعاب قريش وصرفهم عن الرجوع إلى المدينة - محمّدٌ قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أرَ مثله قط، يتحرّقون عليكم تحرّقاً، قد اجتمع معه مَن كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحَنَقِ عليكم شيء لم أرَ مثله قط!!

فقال أبو سفيان: - وقد أُرعب بشدة من هذا النبأ - ويحك ما تقول؟

قال معبد: واللّه ما أرى أن ترتحل حتّى ترى نواصيَ الخيل.

قال أبو سفيان: فواللّه لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصل بقيّتهم!

قال معبد: فإنّي أَنهاك عن ذلك.(1)

وقد تركت كلمات معبد، ووصفُه لقوّة المسلمين وعزمهم الشديد على توجيه ضربة إلى الكفّار أثرها في نفس أبي سفيان الّذي تملّكهُ خوفٌ شديدٌ، دعاهُ إلى الانصراف عن الرجوع إلى المدينة ثانيةً، و العزم على القفول إلى مكّة.

ومضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأصحابه حتّى عسكروا ليلاً بحمراء الأسد، فأمر بأن يوقد المسلمون النيران فأوقدوا خمسائة نار حتّى تُرى من المكان البعيد،

ص:224


1- . سيرة ابن هشام: 616/3؛ تاريخ الطبري: 212/2.

وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كلّ وجه، وتصوّر العدو أنّ النبيّ جاءهم في جيش عظيم، فتشاوروا حول الرجوع إلى المدينة فنهاهم صفوان عن ذلك، فانصرفوا(1).

لا يُخدَعُ مؤمن مرّتين

هذا هو معنى قول النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم:

«المؤمن لا يلدغ من جُحرٍ مَرّتين».

ولقد قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عندما أسّر المسلمون أبو عزّة الجمحي في طريق عودتهم من حمراء الأسد على نحو الصدفة، وأراد النبيّ ضرب عنقه فاستقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وطلب منه العفو وكان قد أسِر ببدر قبل ذلك، ثم مَنّ عليه النبيُّ وأطلق سراحه مشترطاً عليه أن يكفّ عن المؤامرة ضد النبيّ والمشاركة في قتاله، ولكنّه عاد إلى مكّة، وشارك في قتال النبي مرة أُخرى في أُحُد.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، لمّا طلب العفو ثانيةً:

«واللّهِ لا تمسح عارضَيكَ بمكّة بعدها وتقول: خَدَعتُ محمّداً مرّتين،...

وقيل: قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إِنّ المؤمن لا يُلدغ من جحرٍ مرّتين».

ثم أمر بضرب عنقه، وضرب عنقه(2).

ص:225


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 49/2؛ إمتاع الأسماع: 180/1.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 618/3. نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّنا قد ذكرنا في الهوامش مصادر أهم الحوادث في معركة أُحُد وفي إمكان القارئ الكريم لو أراد التوسّع أن يراجع المصادر التالية الّتي اعتمد عليها المؤلّف: وهي: الطبقات الكبرى لابن سعد: 36/2-49؛ المغازي: 199/1-340؛ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 14/14-218 و ج 5، ص 60،

وأخيراً انتهت معركة أُحُد وقد قدّم المسلمون فيها سبعين، أو أربعة وسبعين، أو واحداً وثمانين شهيداً على روايات مختلفة، بينما لم يتجاوز عدد قتلى قريش اثنين وعشرين.

وقد نشأت هذه النكسة المرّة بسبب تجاهل الرماة لتعليمات الرسول القائد على النحو الّذي قرأت.

وقد وقعت معركة أُحد يومَ السبت السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة، هذا مضافاً إلى غزوة حمراء الأسد الّتي استمرت إلى يوم الجمعة من ذلك الأُسبوع نفسه، فتكون قضايا ووقائع هذه الغزوة في الرابع عشر من شهر شوال من نفس السنة.

ميلاد الإمام الحسن السبط

هذا وقد ولد في هذه السنة (أي السنة الثالثة من الهجرة) سبط رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأكبر الإمام الحسن بن علي عليه السلام في منتصف شهر رمضان من تلك السنة، وأجرى له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مراسيمَ ولادة خاصّة ذكرها أصحاب الحديث وتجد تفصيلها في سيرة الأئمة من أهل البيت النبوي الطاهرين.

ص:226

حوادث السنة الرابعة من الهجرة

34 فاجعة فريق المبلّغين

اشارة

34 فاجعة فريق المبلّغين(1)

لقد ظهرت الآثار السياسية لنكسة المسلمين في معركة «أُحد» بصورة واضحة بعد الحرب.

فمع أنّ المسلمين أظهروا مقاومة رائعة أمام العدوّ المنتصر ومنعوا من رجعته إلى المدينة وتحقيق أهدافه الخطيرة في استئصال المسلمين إلّاأنّ التحرّكات الداخليّة والخارجية ضدّ الإسلام بهدف القضاء على هذا الدين، ورجاله قد تصاعد مدّها في أعقاب حادثة «أُحد». وقد تجرّأ منافقو المدينة، ويهودها والمشركون المتواجدون في شتّى النقاط البعيدة خارج المدينة على إثر ذلك، وبدأوا يحيكون المؤامرات ضدّ الإسلام والمسلمين ويجمعون الأسلحة والرجال لشنّ الحروب والغارات على المدينة.

وقد استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبمهارة كبيرة إطفاء كلّ تلك التحرّكات، كما

ص:227


1- . وقعت حادثة قتل المبلّغين في الشهر السادس.

واستطاع قمع تحرّكات القبائل القاطنة خارج المدينة الّتي كانت تنوي الهجوم على المدينة وذلك بإرسال السرايا والمجموعات القوية من المجاهدين.

وفي هذه الأثناء بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نبأ مفاده أنّ قبيلة بني أسد تنوي الهجومَ على المدينة واحتلالها، وقتل المسلمين، ونهب أموالهم، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من فوره جماعة من المقاتلين يبلغ عددهم (150) رجلاً بقيادة «أبي سلمة» إلى منطقة تجمّع المتآمرين.

ثم إنّه صلى الله عليه و آله و سلم أوصاهم بأن يخفوا مقصدهم الأصلي، ويسلكوا طريقاً آخر غير الطريق المتعارف، ويقيموا نهاراً ويسيروا ليلاً، ليعمّوا على القوم.

وقد فعل «أبو سلمة» وجماعته ما أوصاهم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فكانوا يسيرون الليل، ويكمنون النهار، حتّى وردوا المنطقة فأحاطوا ببني أسد في عماية الصبح، وقضوا على المؤامرة في مهدها، وعادوا غانمين موفورين إلى المدينة، وقد وقعت هذه الحادثة في شهر المحرّم على رأس خمسة وثلاثين شهراً من الهجرة(1).

خطّة ماكرة للفتك بالمبلّغين

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يُرسل السرايا والمجموعات العسكرية لإفشال جميع مؤامرات المتآمرين ضد الإسلام، كما أنّه كان يقوم إلى جانب ذلك ببعث المجموعات التبليغية إلى القبائل، والجماعات وبذلك يكسب قلوب المحايدين منهم نحو العقائد الإسلامية.

وكان المبلّغون والدعاة الذين كانوا من قرّاء القرآن الكريم، ومن الملمِّين

ص:228


1- . لاحظ: المغازي: 340/1، وإمتاع الأسماع: 181/1.

بالأحكام الإسلامية والتعاليم النبوية يبدون استعداداً عجيباً للقيام بهذه المهمّة الصعبة ولو كلَّفتهم حياتهم، فكانوا ينقلون تعاليم الإسلام إلى الناس في المناطق النائية، والأماكن البعيدة بأوضح بيان وأوضح أُسلوب.

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ببعثه للمجموعات العسكرية من جانب، وإرساله للفرق التبليغية من جانب آخر يقوم - في الحقيقة - بوظيفتين هامّتين من وظائف المنصب النبويّ.

فهو ببعثه للسرايا والمجموعات العسكرية كان يقصد في الحقيقة القضاء على محاولات التمرّد، والتآمر الّتي كانت في مرحلة التحقّق والتكوّن لكي يتسنّى للمجموعات التبليغية في ظل الأمن والحرية الدعوة إلى الإسلام، والقيام بوظيفتها الأساسية ألا وهي إرساء دعائم الحكومة الإسلامية في القلوب، وتنوير الأفكار، وإيقاظ العقول.

ولكن بعض القبائل المتوحّشة، والمنحطّة أخلاقياً وفكريّاً كانت تتحايل على المجموعات التبليغية الّتي كانت تمثّل القوى المعنوية للإسلام، والّتي لم يكن لها هدفٌ سوى نشر التوحيد، واقتلاع جذور الكفر والوثنية، وكانوا يقتلونهم بصورة فضيعة ومفجعة.

وفيما يلي نلفت نظر القارئ الكريم إلى قصّة مجموعة من الدعاة والمبلّغين الذين لقوا هذا المصير وكان عددهم يبلغ ستة أشخاص حسب رواية ابن هشام(1)، أو عشرة أشخاص حسب رواية ابن سعد(2).

ص:229


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 667/3، وقال في إمتاع الأسماع: 274/13: إنّهم سبعة أشخاص.
2- . الطبقات الكبرى: 55/2.
الغدر بالدعاة إلى الإسلام وقتلهم

لقد مشت جماعة من قبيلتي «عضل» و «القارة» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا - وهم يضمرون المكر -: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّ فينا إسلاماً فاشياً فابعث مَعَنا نفراً من أصحابك يقرِّئوننا القرآن، ويفقّهوننا في الإسلام.

فرأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ من واجبه الاستجابة لمطلب تلك الجماعة الّتي كانت تمثّل قبائل كبرى، وكما رأى المسلمون أيضاً أنّ من واجبهم أن يستفيدوا من هذه الفرصة مهما كلّف الثمن.

من هنا بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جماعة بقيادة «مرثد بن أبي مرثد الغَنَويّ» مع تلك الجماعة إلى القبائل المذكورة.

فخرج هؤلاء المبلغون ووفد القبيلتين من المدينة متوجّهين إلى حيث تتواجد «عضل» و «القارة»، ولمّا كانوا بماء يُسمّى: الرجيع تقطن عنده قبيلة تُدعى:

«هذيل» كشف مندوبو القبيلتين عن نواياهم الشرّيرة، واستصرخوا هذيلاً وكميناً من رجالهم، وكانوا مائة رام وبأيديهم السيوف فأحاطوا بالدعاة يريدون أسرهم ثم قتلهم وإبادتهم!!

فلم ير المبلّغون بدّاً - وهم محاطون بتلك الجماعات المسلّحة - من اللجوء إلى سيوفهم والدفاع عن أنفسهم.

ولكنّ العدوّ قال: ما نريد قتالكم، وما نريد إلّاأن نصيب منكم من أهل مكّة ثمناً، ولكم عهد اللّه وميثاقه لانقتلكم!!

فنظر الدعاة بعضهم إلى بعض، وقرّر أكثرهم المقاومة وعدم الرضوخ لهذا العرض الغادر، والخطّة الماكرة، وقال أحدهم: إنّي نذرت أن لا أقبل جوارَ

ص:230

مشرك(1) ثم جعلوا يقاتلون القوم قتال الرجال الأبطال، حتّى قتلوا إلّاثلاث هم:

«زيد بن دثنّة»، و «خبيب بن عديّ»، و «عبداللّه بن طارق البلويّ» فقد أغمد هؤلاء سيوفهم وسلّموا، فأُخِذوا ووثّقوا بأوتار قسيّهم، ولكن «عبداللّه» ندم على فعله، فنزع يده من رباطه ثم أخذ سيفه، وراح يقاتلهم حتى قتلوه رمياً بالحجارة، وقد انحازوا عنه وهو يشدّ فيهم وينفرجون عنه، ودفن في مر الظهران.

ثم أخذوا الأسيرين الآخرين «خبيب» و «زيد» وقدموا بهما مكّة فباعوهما لأهل مكة!!

فأمّا زيد بن الدثنَّة فقد اشتراه «صفوان بن أُمية» وقتله ثأراً لأبيه، ولقتله قصّة عجيبة سطّر فيها أروع آيات المقاومة والوفاء والإخلاص.

فقد اشتراه «صفوان بن أُمية» كما أسلفنا ليقتله بأبيه، وقد حبسه صفوان في الحديد، وكان يتهجّد بالليل ويصوم بالنهار، ولا يأكل شيئاً ممّا أُتي به من الذبائح، وهو في الأسر والحبس.

ثم إنّه أُخرِجَ إلى «التنعيم»(2) ليُصلَب على مرأى حشد كبير من الناس.

فرفعوا له جذعاً، فقال: دعوني أُصلّي ركعتين، فصلّى ركعتين، ثم حملوه على الخشبة ثم جعلوا يقولون له: يا زيد إرجع عن دينك المُحدَث، واتّبع ديننا، ونرسلك، فيقول: واللّه لا أُفارق ديني أبداً.

فقال له أبو سفيان فرعون مكّة وأشدّ المتآمرين على الإسلام ومدبّر أغلب الحروب ضد رسول اللّه، والمسلمين: أنشدك باللّه يا زيد أيسرّك أنّ محمّداً في أيدينا مكانَكَ وأنت في بيتك؟. فقال زيد بشجاعة ووفاء عظيمين: ما يسرّني أنّ

ص:231


1- . أو قالوا: واللّه لا نقبل من مشرك عهداً ولا عقداً أبداً (السيرة النبوية لابن هشام: 668/3).
2- . التنعيم ابتداء الحرم، ومنها يحرم المعتمرون للعمرة المفردة.

محمّداً أُشِيك بشوكة وإنّي في بيتي، وجالس في أهلي!!!

وقد كان لهذه الكلمة أثر الصاعقة في نفس طاغية مكّة أبي سفيان فقال: ما رأينا أصحاب رجلٍ قطّ أشدّ حبّاً من أصحاب محمّد بمحمّد!!

ولم تمض لحظات إلّاوصار «زيد» على خشبة الإعدام ورفرفت روحه إلى خالقها، ومضى ذلك المسلم الوفيّ، والمؤمن الشجاع شهيدَ الثبات في طريق العقيدة، والدفاع عن حياض الدين.

وأمّا «خُبيب» فقد حُبس مدّةً من الزمان حتّى قرّر رجال ندوة مكّة قتله، فخرجوا به إلى التنعيم ليصلبوه وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكّة، فقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتّى أركع ركعتين فافعلوا، فقالوا دونك فاركع.

فركع ركعتين أتمّهما وأحسنهما ثم أقبل على القوم وقال: أما واللّه لولا أن تظنّوا أنّي طوّلتُ جَزَعاً من القتل لاستكثرتُ من الصلاة!!

ثم رفعوه على خشبة ثم وجّهوه إلى المدينة، وأوثقوه رباطاً، ثم قالوا له:

إرجع عن الإسلام نخلّ سبيلك.

قال: لا واللّه ما أحَبُّ أنّي رجعتُ عن الإسلام وأنّ لي ما في الأرض جميعاً.

فقالوا: أما واللات والعزّى لئن لم تفعل لَنقتلنّك!

فقال: إنّ قتلي في اللّه لقليل، فلمّا أبى عليهم وقد جعلوا وجهه من حيث جاء (أي نحو المدينة)، قال: أمّا صرفكم وجهي عن القبلة، فإن اللّه يقول: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ» ثم قال: اللّهم إنّي لا أرى إلّاوجه عدوّ، اللّهم أنّه ليس هاهنا أحدٌ يبلّغ رسولَك السلامَ عنيّ فبلّغه أنتَ عنّي السلام.

ثم دعا على القوم وقال: اللّهم أحصهِم عَدَداً، واقتُلهُم بَدَداً، ولا تغادر منهم

ص:232

أحداً.

ثم دعوا أبناء من أبناء مَن قُتِلَ ببدر فوجدوهم أربعين غلاماً، فأعطوا كلّ غلامٍ رمحاً، ثمّ قالوا هذا الّذي قتل آباءكم، فطعنوه برماحهم طعناً خفيفاً فاضطرب على الخشبة فانقلب، فصار وجهه إلى الكعبة، فقال: الحمدللّه الّذي جعل وجهي نحو قبلته الّتي رضي لنفسه ولنبيّه وللمؤمنين!!

فأثارت روحانيّته الكبرى، وطمأنينته العظيمة غيض أحد المشركين الحاضرين، وهو «عقبة بن الحارث» وتملّكه غضب شديدٌ من إخلاصه للإسلام فأخذ حربته وطعن بها خبيباً طعنة قاضية، قتلته، وهو يوحّد اللّه ويشهد أن محمّداً رسول اللّه.

ويروي ابن هشام أنّ خبيباً أنشد قبل مقتله أبياتاً عظيمة نذكر هنا بعضها:

إلى اللّهِ أشْكُو غُرْبَتي ثمّ كُربَتي وما أرصدَ الأحزاب لي عند مَصْرعي

فذا العرش صبّرني عَلى ما يُرادُ بي فقد بضّعوا لحمي وقد يأسَ مَطْمَعي

وذلكَ في ذات الاله وأن يشأ يبارك على أوصالِ شلوٍ مُمزَّع

وقَد خيّروني الكفر والموتَ دونَه وقَد هَمَلَتْ عيناي من غير مجزع

وما بي حِذارُ الموت إنّي لميّت ولكن حِذاري جحم نار ملفَّع

ص:233

فواللّه ما أرجو إذا متّ مسلماً على أي جنب كان في اللّه مَصْرَعي

فلستُ بمُبدٍ للعدوّ تخشعاً ولا جزعاً إنّي إلى اللّهِ مرجعي

وقد أحزَنت هذه الحادثة الأليمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكذا جميع المسلمين.

وأنشد فيهم «حسانُ بن ثابت» أبياتاً ذكرها ابن هشام في سيرته، كما أنّه هجا هذيلاً في أبيات أُخرى لارتكابهم هذه الجريمة النكراء(1).

ولقد خشي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن تتكرّر مثل هذه الجريمة النكراء، وبذلك يواجه رجال التبليغ والدعوة الذين كان يعدهم بصعوبة بالغة مصاعب في سبيلهم، ويتعرّضوا لخسائر لا تجبر، وعمليات غدر واغتيال أُخرى.

وقد بقي جثمان هذا المسلم المجاهد على الخشبة مدة من الزمن، يحرسه جماعة من المشركين حتّى قام رجلان قويّان شجاعان من المسلمين بإنزاله من فوق الصليب ليلاً، ومن ثم دفنه بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(2).

جريمة بئر معونة

وفي شهر صفر من السنة الرابعة وقبل أن يصل نبأ مصرع الدعاة المذكورين واستشهادهم على أيدي المشركين في منطقة الرجيع إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، قدم أبو براء عامر بن مالك العامري ملاعب الأسنّة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة فعرض عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الإسلام ودعاه إليه، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام وقال: يا محمّد لو بعثتَ رجالاً من أصحابك إلى أهل «نجد» فدعوهم إلى أمرك، رجوتُ أن يستجيبوا لك.

ص:234


1- . لاحظ: المغازي: 354/1-362، السيرة النبوية لابن هشام: 667/3-673.
2- . سفينة البحار: 372/1.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّي أخشى عليهم أهل نجد.

قال أبو براء: أنا لهم جارٌ، فابْعَثْهُمْ فليَدعوا الناس إلى أمرك.

فبَعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة الملقّب ب: (المعنق ليموت)(1) في أربعين رجلاً من خيار المسلمين من أصحابه ممّن حفظوا القرآن وعرفوا أحكام الإسلام...»، فساروا حتّى نزلوا ببئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم، وهم يحملون من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كتاباً إلى عامر بن الطفيل أحد زعماء «نجد»، وكلّف أحد المسلمين بإيصال ذلك الكتاب إلى عامر، فلمّا أتاه لم ينظر في كتابه حتّى عدا على الرجل (حامل الكتاب) فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقداً وجواراً.

فاستصرخ عليهم قبائل بني سُليم فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتّى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتّى قتلوا عن آخرهم.(2) بعد أن أبدوا مقاومة كبرى، وبسالة عظيمة، ولم يكن يتوقّع منهم غير ذلك.

فإنّ مبعوثي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكونوا مجرّد رجال فكر وعلم فقط، بل كانوا رجال حروب، وأبطال معارك ولذا رفضوا الاستسلام للمعتدين، واعتبروا ذلك عاراً لا يليق بالمسلم الحرّ الأبيّ، فقاتلوهم حتّى استشهدوا جميعاً، إلّاكعب بن زيد، فإنّه جرح فعاد بجراحه إلى المدينة، وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما جرى

ص:235


1- . المعنق: بضم الميم وسكون العين المهملة وكسر النون وبالقاف: أي المتقدّم أو المسرع، وإنّمالقّب بذلك لتقدّمه أو لإسراعه إلى الشهادة. (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 68/6).
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 678/3-679.

لأصحابه على أيدي قبائل بني سليم المشركة الغَدَرة.

فحزن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون جميعاً لهاتين الحادثتين، المفجعتين أشد الحزن؛ بل ولم يجد على قتلى مثل ما وجد عليهم، وبقي رسول اللّه يذكر شهداء بئر معونة ردحاً من الزمان(1).

هذا ولقد كانت هاتان الحادثتان المؤسفتان المؤلمتان جميعاً من نتائج النكسة الّتي أصابت المسلمين في «أُحد» والّتي جرّأت القبائل خارج المدينة على قتل رجال المسلمين ودعاتهم غدراً ومكراً.

كيدُ المستشرقين وجفاؤهم

إنّ المستشرقين الذين دأبوا على نقد أبسط سوء يتعرّض له مشرك على أيدي المسلمين فينالون من الإسلام والمسلمين أشدّ نيل، ويصرّون على أن يؤكّدوا على أن الإسلام لم ينتشر إلّابالسيف والقهر، التزموا صمتاً عجيباً تجاه هاتين الحادثتين المؤلمتين المفجعتين، ولم ينبسُوا في هذا المقام ببنت شفة أبداً، وكأنّ شيئاً من هذا لم يقع، وكأنّ ما وقع لا يستحقّ اهتماماً وحديثاً.

ترى أيّ نظام من أنظمة العالم القديم والجديد يجيز أن يُقتَل الدعاة والمبشّرون ورجالُ العلم والفكر، والتعليم والتثقيف.

إذا كان الإسلام قد تقدّم بالسيف - كما يدّعي رجالُ الاستشراق - فلماذا تخاطر جماعات التبليغ والدعوة هذه بأنفسها وتزهق أرواحها في سبيل نشر الإسلام والدعوة السلمية الفكرية إليه.

إنَّ هاتين الحادثتين تنطويان على نقاط حيوية، وعبر مفيدة جداً، فإنّ قوة

ص:236


1- . لاحظ: المغازي: 346/1؛ إمتاع الأسماع: 181/1-183.

الإيمان لدى تلك الجماعات، وعمق تفانيها، وتضحيتها، وبسالتها تستحقّ إعجاب المسلمين، وإكبارهم. كما وتعتبر من أفضل الدروس وأبلغها لهم.

المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين

لقد أثارت حادثتا «الرجيع» و «بئر معونة» المفجعتان اللّتان جرّتا إلى مصرع مجموعة كبيرة من خيرة الدعاة والمبلّغين موجة من الحزن والأسى في المسلمين وتركت أثراً مؤلماً في أوساطهم.

وهنا يتساءل القارئ: لماذا أقدم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على إرسال المجموعة الثانية من المبلّغين إلى «نجد» مع أنّه حصل على تجربة مرّة؟! ألم يقل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين»؟!

إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح من خلال مراجعة النصوص التاريخية؛ لأنّ المجموعة الثانية قد بُعثت في جوارِ من أبي براء (عامر بن مالك بن جعفر) والّذي كان رئيساً لقبيلة بني عامر، ولم تفعل قبيلته ما خالف جوار رئيسهم ولم يشتركوا في تلك الجريمة، وقد بقي أبو براء نفسه في المدينة تأكيداً لجواره، ريثما يرجع فريق التبليغ إلى المدينة.

لقد كانت خطّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خطّة مدروسة وصحيحة؛ لأنّ جماعة المبلّغين الثانية لم تقتل على يد قبيلة أبي براء، ومع أنّ ابن أخيه عامر بن الطفيل قد استصرخ قبيلة أبي براء الّتي كانت قبيلته أيضاً، ضدّ جماعة المبلّغين إلّاأنّ قبيلة أبي براء أبت أن تنفر معه، ولم يستجب لندائه أحدٌ منهم بل قالوا: لن يُخفَرَ جوار أبي براء. ولمّا أيس منهم استصرخ قبيلةً أُخرى لا تمتُّ إلى قبيلة أبي براء بصلة، فأقدمت تلك القبائل على محاصرة الدعاة الأربعين ومقاتلتهم.

ص:237

ثم إنّ جماعة المبلّغين المذكورة كانت قد بعثت عند مغادرتها المدينة وتوجّهها إلى منطقة أبي براء رجلين من رجالها هما: «عمرو بن أُميّة» و «حارث بن الصمة»(1) ليرعيا إبل الجماعة ويحافظا عليها، وبينما كان الرجلان يقومان بواجبهما إذ أغار عليهما «عامر بن الطفيل». فقتل حارث بن الصمة، وأطلق سراح عمرو بن أُميّة.

فعاد عمرو إلى المدينة، في أثناء الطريق التقى رجلين من العامريين فرافقهما وأمهلهما حتّى إذا ناما وثب عليهما فقتلهما، وهو يرى بأنّه انتقم لزملائه من المسلمين من بني عامر، وقد أخطأ في تصوّره هذا لأنّ بني عامر لم تخفر جوار سيدها أبي براء ولم تنقض أمانه كما أسلفنا، ولم يشترك في جريمة قتل الدعاة الأربعين.

فلمّا قدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره الخبر، حزن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لذلك وقال لعمرو:

«بئس ما صنعت، قتلت رجلين كان لهما منّي أمان وجوار، لأدفعن ديتهما».(2)

ولكن الإجابة الأكثر وضوحاً على هذا الاعتراض (أو السؤال) هو ما يذكره ابن سعد صاحب الطبقات إذ يقول: وجاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خبر أهل بئر معونة، وجاءه تلك الليلة أيضاً مصاب خبيب بن عديّ ومرثد بن أُبي مرثد(3).

ص:238


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 679/3 و صاحب السيرة يرى أنّه المنذر بن محمد بن عقبة الجلاح.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 680/3.
3- . الطبقات الكبرى: 53/2.

35 غزوة «بني النضير»

اشارة

لقد فرح منافقو المدينة ويهودها بانتكاسة المسلمين في معركة «أُحد» كما فرحوا أيضاً بمصرع رجال التبليغ والدعوة، فرحاً بالغاً وباتوا يتحيّنون الفرصة لإثارة القلاقل والفتن في المدينة لإفهام القبائل خارجها بأنّه لا توجد أيّة وحدة سياسيّةٍ وانسجام اجتماعيّ في مركز الإسلام وعاصمة الحكومة الإسلامية، وأنّ في مقدور الأعداء الخارجيّين أن يُجهزوا على حكومة الإسلام الفتية، ويقضوا عليها بسهولة!!

ولكي يقفَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على نوايا ودخائل يهود بني النضير مشى في جماعة من أصحابه إلى حصنهم.

على أنّ الهدف الظاهري المعلَن عنه كان هو الاستعانة بهم في دية العامريّين اللذين قتلا خطأ على يد «عمرو بن أُميّة» كما أسلفنا، وذلك بموجب الاتفاقيّة المعقودة بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبين اليهود، وكذا بني عامر وغيرهم والقاضية بالتعاون معاً في تسديد الدية في مثل هذه الموارد.

فلمّا وصل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى حيث يسكن بنو النضير(1)، وكلّمهم في أن يعينوه في تلك الدية، رحبوا به ظاهراً، ووعدوا بأن يلبّوا مطلبه، ثم إنّهم خاطبوه

ص:239


1- . ذكر الواقدي في المغازي: 364/1 بأنّ النبيّ جاء بني النضير في ناديهم.

قائلين: نفعل يا أبا القاسم ما أحببتَ. ثم دعوه إلى أن يدخل في بيوتهم، ويقضي يومه فيها، قائلين: قد آن لك أن تزورنا، وأن تأتيَنا، إجلس حتّى نطعمك، فلم يقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بتلبية مطلبهم، بل جلس مستنداً إلى جدار بيت من بيوتهم وأخذ يكلّمهم.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أحسَّ بشرٍّ من ذلك الترحيب الحارّ الّذي قابلته به رجال بني النضير، والّذي رافق حركات مشبوهة منهم!!

هذا مضافاً إلى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم شاهدهم وقد خلا بعضهم إلى بعض يتناجون ويتهامسون، الأمر الّذي يدعو إلى الشكّ، ويورث سوء الظن!!

وقد كان سوء الظن هذا في محلّه، فقد قرّر سادة يهود - لمّا أتاهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في رهط قليل من أصحابه - أن يتخلّصوا منه باغتياله والغدر به على حين غفلة منه صلى الله عليه و آله و سلم، فانتدبوا أحدهم وهو «عمرو بن جحاش» لتنفيذ هذه الجريمة، وذلك بأن يعلو على البيت الّذي استند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى جداره فيُلقي عليه صخرة تقتله.

إلّا أنّ هذه المؤامرة انكشفت - ولحسن الحظ - قبل تنفيذها، إمّا من خلال حركات أُولئك اليهود الخبثاء، المشبوهة، أو بخبر أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من السماء، كما يروي ابنُ هشام والواقدي في مؤلّفيهما.

فنهض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سريعاً، كأنّه يريد حاجة، وتوجّه من توّه إلى المدينة دون أن يخبر أصحابه الذين أتوا معه، بقصده.

وبقي أصحابه هناك ينتظرون عودته من حاجته دون جدوى.

وندمت يهود على ما صنعت، واضطربت لذلك اضطراباً شديداً، وأصابتها حيرة شديدة فيما يجب أن تقوم به.

ص:240

فمن جهة خشيت أن يكون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد عَلِمَ بمؤامرتهم وتواطئهم، فيقدم على تأديبهم لنقضهم ميثاق التعايش السلميّ، ولتواطئهم القبيح، ومكرهم السيِّئ.

ومن ناحية أُخرى أخذت تفكّر في أن تنتقم من أصحابه الموجودين هنا إن هو فاتهم، ولكنّها خشيت أن يؤدّي ذلك إلى مزيد من تأزّم الموقف، وأن ينتقم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حينئذ منهم قطعاً ويقيناً.

وفيما هم في هذه الحالة من الاضطراب والتحيّر قرّر أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم العودة إلى المدينة بعد أن يئسوا من رجعته إليهم من حاجته، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبلوا حتّى انتهوا إليه صلى الله عليه و آله و سلم وعرفوا بمؤامرة اليهود، إذ قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهم لمّا قالوا: يا رسول اللّه قمت ولم نشعر:

«همّت اليهودُ بالغدر بي، فأخبرني اللّهُ بذلك فقمتُ»(1).

بماذا يجب أن تقابل هذه الجريمة؟

والآن ماذا يجب أن يقوم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تجاه هذه الزمرة الخائنة المتآمرة؟ تلك الزمرة الّتي تنعم بما وفّرتها لهم الحكومة الإسلامية من أمن وحرية، ويحافظ جنودُ الإسلام على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، كما يفعلون الفعل ذاته بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم وأعراضهم على حد سواء.

تلك الزمرة الّتي كانت ترى كلّ آثار النبوة ودلائلها في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأعماله، وأقواله تماماً على نحو ما قرأت عنه في كتبها وأسفارها، ولكنّها بدل أن

ص:241


1- . المغازي: 366/1؛ الطبقات الكبرى: 57/2.

تردّ الجميل بالجميل وتقابل الإحسانَ بالإحسان، وبدل أن تحسن ضيافته وقد نَزَل عليهم ضيفاً، تتآمر لقتله غيلة وغدراً دونما خجل ولا حياء!!

ما هو يا تُرى ما تقتضيه العدالة في هذا الصعيد وفي هذه الحال؟

وماذا يجب أن يفعل المرء حتّى يمنع من تكرار مثل هذه الحوادث، ويستأصل جذور مثل هذه الجرائم؟

إنّ الطريق المنطقي هو ما أختاره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفعله.

فقد أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بالتهيّؤ لحربهم، والسير إليهم، ثم دعا محمد بن مسلمة وأمره بأن يذهب إلى بني النضير، ويبلغ سادتهم، من قِبَلهِ رسالة.

فخرج محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي إلى بني النضير وقال لسادتهم:

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أرسلني إليكم يقول:

«قد نَقَضتُم العهدَ الّذي جَعلتُ لكم بما هَمَمتُمْ به من الغدر بي». وأخبرهم بما كانوا ارتأوا من الرأي وظهور عمرو بن جحاش على البيت يطرح الصخرة فأسكتوا فلم يقولوا حرفاً. ويقول:

«اُخرجُوا مِن بلدي فقد أجلّتكُم عشراً فمن رُئي بعدَ ذلك ضربتُ عنقه».(1)

فأحدثت هذه الرسالة الشديدة اللهجة والساخنة المضمون انكساراً عجيباً في يهود بني النضير، وأخذوا يتلاومون، وأخذ يحمّل كلّ واحد منهم الآخر مسؤولية هذه القضية.

فاقترح عليهم أحد سادتهم أن يعتنقوا الإسلام ويؤمنوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولكن عنادهم منعهم من القبول بهذا الاقتراح. وعمّتهم حالة يرثى لها من الحيرة،

ص:242


1- . المغازي: 366/1-367.

والانقطاع، فقالوا لمبعوث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: يا محمّد ما كنّا نرى أن يأتي بهذا رجلٌ من الأوس.

ويقصدون أنّه كان بيننا وبين الأوس حلفٌ فما بالك تريد حربنا الآن.

فقال محمد بن مسلمة: تغيّرت القلوب.

وقد كان هذا الإجراء متطابقاً مع ما جاء في ميثاق التعايش الّذي عقده رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع يهود يثرب إبّان دخوله المدينة، وقد وقّع عليه عن يهود بني النضير حيي بن أخطب، وقد نقلنا في ما سبق النصَّ الكامل لهذا الميثاق وها نحن ندرج هنا قسماً منه ليتّضح ما ذكرناه.

جاء في أحد بنود الميثاق (العهد):

«ألّا يعينوا (أي بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع) على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولا على أحد من أصحابه بلسانٍ و لايدٍ ولا بسلاحٍ ولا بكراعٍ في السرّ والعلانية لا بليلٍ ولا بنهارٍ، واللّه بذلك عليهم شهيدٌ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلٍّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم، ونسائهم، وأخذِ أموالهم»(1).

المستشرقون و دموع التماسيح

لقد أبدى المستشرقون حزنهم وأسفهم لما جرى في هذه القضية، وذرفوا دموع التماسيح، وأبدوا رقّة وشفقةً أكثر ممّا تبديه والدة تجاه وليدها، على اليهود الخونة الناقضين العهد، الناكثين للإيمان، واعتبروا الإجراء الّذي اتّخذه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بحقّهم بعيداً عن روح الإنصاف وسنن العدل!!

والحقّ أنّ هذه الاعتراضات والانتقادات لا تنبع من منطق السعي لمعرفة

ص:243


1- . بحار الأنوار: 111/19.

الحقيقة، لأنّنا عند مراجعتنا لنصّ الميثاق الّذي أدرجناه للقارئ الكريم نرى الحقيقة على غير ما يتصوّرون ويصوّرون، فإنّنا نعرف أنّ الجزاء الّذي جازى به رسول اللّه يهود بني النضير هو في الحقيقة أقلّ من الجزاء المنصوص عليه في ذلك الميثاق بدرجات.

إنّ هناك اليوم مئات الجرائم والمظالم الّتي يرتكبها أسياد هؤلاء المستشرقين في الشرق والغرب دون أن يعترض عليها أي واحد من هؤلاء المستشرقين (الرحماء)، أدعياء الدفاع عن حقوق الإنسان!!!

أمّا عندما يقوم رسول الإسلام بتنفيذ عقوبة - هي في الحقيقة - أقلّ بكثير من ما هو منصوص عليه في الميثاق بحقّ زمرة خائنة متآمرةٍ ناقضةٍ للعهد، تتعالى أصواتُ حفنة من الكتّاب المدفوعين بأغراض معينة ودوافع خاصّة، بالاعتراض والانتقاد.

دور حزب النفاق أيضاً

كان خطر المنافقين - وكما أسلفنا - أكبر من خطر اليهود لأنّ المنافق يطعن من الخلف وتحت غطاء من الصداقة، ويتستّر وراء قناع الصحبة والزمالة.

وقد كان رأس هذا الحزب هو «عبداللّه بن أُبي» و «مالك بن أُبي» و.. و..

ولمّا سمع هؤلاء المنافقون بما يلقاه بنو النضير من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أرسل عبد اللّه بن أُبي إليهم سويد وداعس فقالا: يقول عبد اللّه بن أُبي: لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب، يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم

ص:244

وتمدكم قريظة فإنّهم لن يخذلوكم، ويمدّكم حلفاؤكم من غطفان؟!(1)

ولقد جرّأت هذه الوعود بني النضير، فانصرفوا عن فكرة الرضوخ لمطلب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأغلقوا أبواب حصونهم، وأعدُّوا عدّة الحرب، وعزموا على أن يقاوموا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مهما كلّف الثمن، ولا يسمحوا للمسلمين بأن يسيطروا على بساتينهم وممتلكاتهم دون عوض.

فَنَصَحَهم أحدُ كبرائهم وهو «سلام بن مشكم» وشكّك في وعود عبداللّه بن أُبي، واعتبرها وعوداً جوفاء، وقال: ليس قول ابن أُبي بشيء، إنّما يريد ابن أُبي أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمّداً ثمّ يجلس في بيته ويتركك...

قال حيي: تأبى نفسي إلّاعدواة محمد وإلّا قتاله.

قال سلام: فهو واللّه جلاؤُنا من أرضنا، وذهاب أموالنا، وذهاب شرفنا، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا.

فأبى «حيي بن أخطب» إلّامحاربة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم (وحثّ الناس على المقاومة والصمود)، وأرسل أخاه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخبره: إنّا لا نبرح من دارنا وأموالنا فاصنع ما أنت صانع!!(2)

فعرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برسالة «عبداللّه بن أُبي» إلى بني النضير، ووعوده لهم، فاستخلف ابن أُمّ مكتوم على المدينة، وسار صلى الله عليه و آله و سلم في أصحابه مكبّراً لمحاصرة بني النضير فصلّى صلاة العصر بفضائهم واستقر في الطريق بين «بني النضير» وبين «بني قريظة» ليقطع بذلك سبيل الاتّصال بين هذين الفريقين، وحاصر

ص:245


1- . المغازي: 368/1.
2- . المغازي: 369/1-370.

بني النضير ست ليال - حسب رواية ابن هشام -(1) أو خمسة عشر يوماً حسب روايات آخرين، ولكن اليهود تحصّنوا منه في الحصون، وأظهروا المقاومة، والإصرار على الامتناع، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقطع النخيل المحيطة بتلك الحصون، وإلقاء النار لييأس اليهود من البقاء في تلك المنطقة مادامت بساتينهم أُعدمت، وأُفنيت.

فتعالت نداءاتُ اليهود تقول: يا محمّد، قد كنتَ تنهى عن الفساد، وتعيبه على من صنعَهُ، فما بالُ قطعِ النخل وتحريقها؟!

فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله:

«ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ» .(2)

هذا من جهة ومن جهة أُخرى خذلهم عبداللّه بن أُبيّ، فلم يأتوهم، كما اعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاح ولا رجال.

وقد ذكر القرآن الكريم هذا الخذلان إذ قال تعالى:

«أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ

ص:246


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 683/3. وهذا من التكتيكات العسكرية الّتي كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يستعملها ليقطع خطوط الارتباط بين الجماعات المتعاونة.
2- . الحشر: 5.

بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» .(1)

وقد كشفت الآيات الحاضرة - إلى جانب ما ذكر - عن نفسية اليهود الجبانة، والّتي انهارت أيضاً بسبب معنويات المسلمين القوية حتّى أنّهم رغم اجتماعهم وعددهم الكبير يخافون من مواجهة المسلمين فلا يقاتلونهم إلّامن وراء أسوار الحصون، وجدران القلاع القوية خائفين مذعورين، ومرعوبين، وهم إلى جانب كلّ ذلك يعانون من اضطراب وقلق وتفرّق كلمة في الواقع.

وأخيراً رضخ اليهودُ لمطلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وسألوه أن يجليهم، ويكفَّ عن دمائهم على أن يكون لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلّاالسلاح والدروع، فرضي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك.

فاحتملوا من أموالهم أكبر قدرٍ ممكنٍ، حتّى أنّ الرجل منهم يقلع باب بيته فيضعه على ظهر بعيره، ثم يخرب بيته بيديه!!

فخرج جماعة منهم إلى خيبر، وسارت جماعة أُخرى منهم إلى الشام.

وقد خرجت تلك الزمرة الذليلة الخاسئة وهم يضربون بالدفوف، ويزمّرون بالمزامير، وقد ألبسوا نساءهم الثياب الراقية، وحليّ الذهب، مظهرين بذلك تجلّداً ليغطوا على هزيمتهم، ويروا المسلمين أنّهم غير منزعجين من مغادرتهم تلك الديار!!(2)

مزارع بني النضير تقسَّم بين المهاجرين فقط

إنّ ما يغنمه جنود الإسلام دون قتال وهو ما يُسمّى بالفيء يعود أمره إلى

ص:247


1- . الحشر: 11-14.
2- . لاحظ: المغازي للواقدي: 374/1-375.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة، يضعه حيث يشاء ويصرفه فيما يرى من مصالح الإسلام لقوله تعالى:

«ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» .(1)

وقد رأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّ من الصالح أن يقسّم المزارع والممتلكات الّتي غنمها من بني النضير على المهاجرين دون الأنصار، لحرمانهم من ممتلكاتهم وثروتهم في مكّة بسبب الهجرة منها إلى المدينة، وكانوا في الحقيقة ضيوفاً على الأنصار طوال هذه المدة، وقد أيّد «سعد بن معاذ» و «سعد بن عبادة» هذا الرأي، ومن هنا قسَّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جميع تلك المزارع والممتلكات على المهاجرين خاصّة، ولم يحصل أحد من الأنصار منها على شيءٍ إلّارجلين كانا محتاجين هما:

«سهل بن حنيف»، و «أبو دجانة»، الأنصاريان، وحصل بذلك انفراج في أحوال المسلمين عامّة، وأعطى «سعد بن معاذ» سيف رجلٍ من زعماء بني النضير وكان سيفاً معروفاً.

يقول المقريزي:

فلمّا غنم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بني النضير بعث ثابت بن قيس بن شماس فدعا الأنصار كلّها - الأوس والخزرج - فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إيّاهم في منازلهم، وأثرتهم على أنفسهم ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«إن أحببتم قسّمتُ بينكم وبين المهاجرين ما أفاء اللّه عليّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم»؟

ص:248


1- . الحشر: 7.

فقال سعد بن عبادة وسعد بن مُعاذ: بل تقسّمه للمهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلّمنا يا رسول اللّه.

فقسّم رسول اللّه ما أفاء اللّه عليه، على المهاجرين دون الأنصار إلّارجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف بن واهب وأبو دجانة سمّاك بن خرشة(1).

وقد وقعت هذه الحادثة في شهر ربيع الأوّل في السنة الرابعة من الهجرة ونزلت سورة الحشر في هذا الشأن، والّتي جاء في مطلعها قوله تعالى:

«هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» .(2)

هذا ويعتقد أكثر المؤرّخين المسلمين أنّه لم يُسفَك في هذه الحادثة، أي دم، ولكن ذكر الشيخ المفيد في إرشاده أنّه وقع ليلة فتح حصون بني النضير قتالٌ محدودٌ قتل فيه عشرة من اليهود وكان ذلك هو السبب في فتح تلكم الحصون(3).

وقال المقريزي: وفُقِدَ عليٌّ رضى الله عنه في بعض الليالي، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: إنه في بعض شأنكم، فعن قليل جاء برأس «عزوك» وقد كمن له حتّى خرج في نفر من اليهود يطلب غرّة من المسلمين، وكان شجاعاً رامياً، فشدّ عليه علي رضى الله عنه، فقتله وفرّ اليهود(4).

ص:249


1- . إمتاع الأسماع: 191/1 و 192.
2- . الحشر: 2.
3- . لاحظ: الإرشاد: 92/1-93.
4- . إمتاع الأسماع: 189/1.

36 تحريم الخمر ذات الرقاع، بدر الصغرى

تحريم الخمر

كانت الخمور، وعلى العموم جميع المسكرات ولا تزال من أشدّ الأوبئة الاجتماعية الّتي تهدّد أمن وسلامة المجتمعات البشرية وتجرّ إليها أكبر الأخطار، ويكفي في خطورة هذا السمّ القاتل أنّه يعادي أكبر ما يميّز البشر عن ما سواه من الأحياء، ذلكم هو العقل، فإنّ الخمرة هي العدوّ الأوّل لهذه الموهبة الإلهية الّتي في سلامتها ضمان لسعادة الإنسان.

إنّ الفارق بين الإنسان وبين سائر الأحياء هو القوة العاقلة الّتي يمتلكها الإنسان دون غيره، وتكون المسكرات من أعدى أعداء هذه القوة، من هنا كان المنع من تعاطي الخمور والمسكرات من أبرز البرامج الّتي جاء بها الأنبياء، وكانت الخمور محرّمة في جميع الشرائع السماوية(1).

ص:250


1- . في عام 1339 ه، زار الدكتور آرشه تونك رئيس منظمة مكافحة الخمور إيران، وقد سرّ لمّا

ولقد كانت معاقرة الخمور من الآفات المتفشية والمتجذّرة في المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربيّة بحيث كانت معالجتها تحتاج إلى وقت طويل، وأُسلوب مدروس، ولم تكن الظروف والأحوال في ذلك العهد لتسمح بأن يعلن رسولُ الإسلام عن تحريم الخمر دفعةً واحدةً ومن دون أيّة مقدّمات، وممهّدات لذلك، بل كان يتحتّم عليه أن يعالج هذا الوباء الاجتماعيّ من خلال إعداد الناس لمرحلة التحريم النهائي والقطعي تماماً كما يفعل الطبيب بالنسبة إلى المرضى الذين طال بهم المرض، وتجذّر.

من هنا حرّمت الخمر في أربع مراحل تدريجية ضمن آيات أربع أظهرت الاستياء من الخمر لكن لا على نمطٍ واحدٍ، بل بدأت من مرحلةٍ مخفّفة حتّى انتهت إلى مرحلة الإعلان عن التحريم القطعي.

إنّ التمعّن في هذه الآيات يكشف لنا عن كيفيّة الأُسلوب النبويّ في التبليغ والإرشاد، والدعوة والهداية، وينبغي للخطباء، والكتاب أن يتبعوا هذا الأُسلوب المؤثّر والمفيد في معالجة الأدواء الاجتماعية المزمنة، ويكافحوها بهذا الشكل حتّى يحصلوا على أفضل النتائج.

ص:251

إنّ الشرط الأساسي لمكافحة ناجحة لأيّخلق وسلوك فاسد هو إيقاظ المجتمع وإيقافه أوّلاً على أضرار ذلك السلوك، ومفاسده، وتذكيره بآثاره السيّئة ليحصل لدى المجتمع - بذلك - الاستعداد الروحي بل والدافع الداخلي إلى خوض معركة أساسية وجذرية ضدّ ذلك السلوك الفاسد، والخلق الذميم، ويكون الناس هم الضمانة لإنجاح هذه المهمة. وذلك لأنّ ردّ المعتاد عن عادته كالمعجز كما في الحديث الشريف عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام(1).

كيف والعرب كانوا يعشقون الخمرة حتّى أنّ الرجل منهم ربما كان يوصي بأن يدفن إلى جنب كرمة لتسقى عظامه بالخمر.

يقول أحدهم:

إذا مِت فادفني إلى جنب كرمة تروّي عظامي بعد موتي عروقُها(2)

من هنا اعتبر القرآن الكريم اتّخاذ الخمر من التمور والأعناب - في مجتمع كان تعاطي الخمر جزءاً أساسياً من حياته - مخالفاً للرزق الحسن، وبذلك أيقظ العقول الغافية، إذ قال:

«وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً» .(3)

إنّ القرآن أعلن - في المرحلة الأُولى من مراحل النهي عن تعاطي الخمر - أنّ اتّخاذ المسكر من التمر والعنب لا يُعد من الارتزاق الحسن، بل الارتزاق الحسن هو تناول التمر والعنب على حالتهما الطبيعية.

إنّ هذه الآية: أعطت هزةً ذكيّةً للعقول، وهيّأت الطبائع المنحرّفة لمرحلة

ص:252


1- . لاحظ: تحف العقول: 489؛ بحار الأنوار: 374/75 برقم 30.
2- . تفسير الرازي: 107/6.
3- . النحل: 67.

أقوى في مسيرة تحريم الخمر، حتّى يتسنّى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يشدّد من نبرته، ويعلن عن طريق آية أُخرى أنّ النفع المادّي القليل، الّذي تعود به الخمر ويأتي به القمار، ليس بشيء بالقياس إلى أضرارهما الكبرى وأخطارهما العظيمة، وقد تمّ الكشف عن هذه الحقيقة في قوله تعالى:

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» .(1)

ولا ريب أنّ مجرّد المقارنة بين النفع والضرر، وكذا الوقوف على زيادة الضرر على النفع كافٍ لإيجاد النفور والاشمئزار لدى العقلاء، والواعين، من الخمر وما شاكلها، وشابهها.

إلّا أنّ جماهير الناس وعامّتهم لن يقلعوا عن هذه العادة الشريرة المتجذّرة ما لم يسمعوا نهياً صريحاً وقاطعاً عنها.

فها هو عبدالرحمن بن عوف رغم نزول هذه الآية قد استضاف جماعة من الصحابة وأحضر على المائدة خمراً، فأكلوا، وشربوا الخمر، ثم قاموا إلى الصلاة، فأخطأ أحدهم في القراءة وهو سكران خطأ غيَّر من مراد اللّه تعالى في ما قرأ من الآية، فقد تلا سورة «الكافرون»، وبدل أن يقول: «لا أعبُدُ ما تعبدون» قرأ: «أعْبُدُ ما تعبدون». فاضطربت تلك الجماعة لهذا الأمر، وخشيت أن تكون ارتكبت بذلك أمراً عظيماً!!

وقد هيّأ هذا الحادث الناس ليحرّم تعاطي الخمر في ظروف وحالات خاصّة على الأقل.

ص:253


1- . البقرة: 219.

من هنا جاء الإعلان عن حرمة تعاطي الخمر قبل الصلاة، وأعلن القرآن الكريم بصراحة أنّه لا يجوز لمسلم أن يصلّي في حالة السكر، وقد أعلن عن هذا التشريع الإلهيّ في قول اللّه تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» .(1)

ولقد بلغ من تأثير هذه الآية، وفاعليتها أن هجر جماعة من المسلمين تعاطي الخمر بالمرّة بحجّة أنّ ما يضرّ بالصلاة يجب أن يُطرَد من حياة المسلم نهائياً.

ولكن البعض بقي يتعاطاها حتّى أنّ رجلاً من الأنصار دعا جماعة إلى مائدة أحضر فيها الخمر - رغم نزول الآية الحاضرة - فلمّا شربوا وأسكروا حمل بعضهم على بعض، وجرح بعضهم بعضاً فشكوا أمرهم إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وكان الخليفة الثاني لم يزل يشرب الخمر إلى ذلك معتقداً عدم كفاية الآية الحاضرة في التحريم القطعيّ لها، ولهذا رفع يديه إلى السماء وقال: اللّهم بيّن لنا في الخمر بياناً شفاءً.(2)

ولا يخفى أنّ هذه الحوادث والوقائع المؤسفة قد هيّأت الارضية بشكل رائع لتقبّل مسألة تحريم الخمر تحريماً كاملاً وقاطعاً، من هنا نزل قولُه تعالى يعلن عن هذه الحرمة القطعية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .(3)

وقد دفع هذا البيان البليغ القاطعُ أن يقلع عن الخمر نهائياً من كان يشربها حتّى تلك الساعة بحجّة عدم وجود نهي صريح وقاطع عنها.

ص:254


1- . النساء: 43.
2- . لاحظ: سنن أبي داود: 182/2 برقم 3670؛ سنن الترمذي: 320/4 برقم 5042.
3- . المائدة: 90.

وقد جاء في كتب السنّة والشيعة أنّ الخليفة الثاني قال بعد سماع هذه الآية:

انتهَينا يا ربّ (1)!!

وقفة عند «البيان الشافي»

قلنا إنّ الخليفة الثاني لم يقتنع بعد سماع الآيات الثلاث بحرمة الخمر، بل بقي ينتظر بياناً شافياً يكشف عن التحريم القطعي، حتّى أقنعته الآية الرابعة بحرمة الخمور والمسكرات، وقد كان حكم اللّه تعالى في هذه الآية هو: أنّ الخمر «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ولكنّ المتغرّبين، وهواة المادّية الغربية في عصرنا لم تقنعهم كلّ هذه الآيات بحرمة الخمر، حتّى الآية الرابعة الصريحة في هذا الأمر، فيقولون لابدّ أن يُعلَنَ عن هذا التحريم بلفظة:

حرام أو حرّمت، والّا لم يمكن القطع بحرمة الخمر!!

إنّ هذه الزمرة التابعة لأهوائها، الأسيرة لشهواتها الحرام، لا تريد في الحقيقة إلّا أن تظل عاكفة على الخمر أبداً، ومن هنا تطرح مثل هذه المعاذير وتتوسّل بمثل هذه الحجج الجوفاء.

على أنّ القرآن الكريم قد استعمل لفظ الحرام بشكلٍ مّا في شأن الخمر إذ قال:

«وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» .(2)

وقد حرّم تعالى جميع أنواع الإثم في آية أُخرى إذ قال:

«قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ» .(3)

ص:255


1- . مستدرك الحاكم: 143/4؛ روح المعاني: 17/7.
2- . البقرة: 219.
3- . الأعراف: 33.

وبعبارة أُخرى: لقد بيّن اللّه تعالى في آية أُخرى الموضوع، وهو أنّ الخمر (الّتي تُسمّى إثماً أيضاً) قد حُرّمت.

فهل ينتظر هواة الغرب بعد هذا البيان الواضح والتحريم الصريح بياناً كافياً شافياً؟!

وفي الحقيقة نحن لا نحتاج إلى مثل هذا الاستدلال أبداً فالآيات الأربع المتقدمة الّتي وصفت الخمر بأنّها «رجس» وأنّها نظير «الميسر»، وأنّها «عمل شيطاني»، مناقض للفلاح، وسببٌ «للعداوة» و «البغضاء»، قد أعلنت عن حرمتها بصورة واضحة لا إبهام فيها، ولا غموض، وهي بالتالي أقوى بيان لمن تدبّر وأنصف، وتجرّد عن الأهواء والأغراض المريضة. وهنا لابدّ أن نذكّر بنقطةٍ هامّةٍ وهي أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم استطاع أن يطهّر في هدي هذه الآيات الأربع، بيئته ومجتمعهُ من أدران هذه العادة الشريرة، ويقوم المؤمنون أنفسهم بتنفيذ هذا الحكم من دون قهر أو إجبار، بينما لم يستطع العالمُ الغربي رغم كلّ ما يملك من الإمكانات الماديّة العريضة، وأجهزة الدعاية الواسعة أن يخطو خطوةً ناجحةً في هذا الطريق، فقد أخفقت كلّ خططه، أمامَ هذا السمّ القاتل، والفشل الّذي أصاب الولايات المتحدة في مكافحة المشروبات الروحية في أعوام 1933-1935 أمر معروف للجميع، وله قصّة عجيبة يمكن أن يقف عليها القارئ الكريم في مصادرها(1).

رواية مختلَقَة

ومن عجيب الأمر أن يروي بعض المفسّرين عند تفسير قوله تعالى: «لا

ص:256


1- . راجع: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 80 وغيره.

تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» (1) رواية جاء فيها أنّ إمام المتّقين علي بن أبي طالب عليه السلام كان ضمن جماعة شربوا الخمر ثم قاموا إلى الصلاة فقرأ إمامهم غلطاً: «أعبد ما تعبدون»!! فأنزل اللّه تعالى هذه الآية: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» .

نقول: إنّ من العجيب أن تنسب إلى الإمام علي عليه السلام مثل هذه النسبة وهو الطاهر المطهّر بحكم آية التطهير(2)، وهو الّذي نشأ وترعرع في أحضان سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كان يتجنّب الخمر، حتّى قبل نزول النهي الصريح عنها، هذا وعلي عليه السلام المعروف بحكمته وفهمه وعلمه عارف بما للمسكر من تبعات خطيرة.

نعم من العجيب أن نصدّق بأنّ علياً عليه السلام شرب الخمر، وهناك في الجاهلية (وقبل الإسلام) مَنْ حرّم الخمر على نفسه لكونها تذهب بالعقل، وتؤول بالمرء إلى ما لا يُحمَد.

ففي «السيرة الحلبية» كان عبداللّه بن جدعان من جملة من حرّمَ الخمر على نفسه في الجاهلية، أي بعد أن كان بها مغرماً، وسبب ذلك أنّه سكر ليلة فصار يمدّ يده على ضوء القمر ليمسكه، فضحك منه جلساؤه ثم أخبروه بذلك حين صحا، فحلف أن لا يشربها أبداً.

وكان عثمان بن مظعون ممّن حرّمَ الخمرَ على نفسه في الجاهلية أيضاً وقال:

لا أشرب شيئاً يذهِبُ عقلي، ويضحَكُ بي من هو أدنى منّي، ويحملُني على أن

ص:257


1- . النساء: 43.
2- . الأحزاب: 33، راجع تفاسير الفريقين ومجاميعهم الحديثية.

أُنكِحَ كريمتي مَن لا أُريد(1).

وورد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال: «أوحى اللّه تعالى إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّي أشكر لجعفر بن أبي طالب عليه السلام أربع خصال.

فدعاه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره فقال: لولا أنّ اللّه تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك:

ما شربتُ خمراً قط، لأنّي علمت أنّي إن شربتها زال عقلي.

وما كذبتُ قط، لأنّ الكذب ينقص المروّة.

وما زنيت قط، لأنّي خفت أنّي إذا عملتُ عُمِلَ بي.

وما عبدت صنماً قط، لأنّي علمت أنّه لا يضر ولا ينفع.

فضرب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يده على عاتقه وقال: حقّ على اللّه عزّ وجل أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة»(2).

نعم هذا هو موقف مَن هو أقلّ مرتبة ومنزلة من الإمام علي عليه السلام من الخمر، ولو في العهد الجاهلي، وقبل تحريمها في الإسلام.

لكن يد الوضع والدسّ أبت إلّاأن تختلق رواية في المقام، فقد جاءت في «جامع البيان» للطبري روايتان نذكرهما سنداً ومتناً ليقف القارئ على ما تعانيان من مآخذ:

1. حدّثنا محمد بن بشار قال: حدّثنا عبدالرحمن قال: حدّثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبدالرحمن، عن علي أنّه كان هو وعبدالرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلّى بهم عبدالرحمن فقرأ: يا أيّها الكافرون فخلط فيها

ص:258


1- . السيرة الحلبية: 211/1.
2- . من لا يحضره الفقيه: 397/4 برقم 5847.

فنزلت: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى» .(1)

2. حدثني المثنى قال حدّثنا الحجاج بن المنهال قال: حدّثنا حمّاد، عن عطاء ابن السائب، عن عبداللّه بن حبيب، أنّ عبدالرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً فدعا نفراً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأكلوا وشربوا حتّى ثملوا، فقدّموا عليّاً يصلّي بهم المغرب فقرأ: قل يا أيّها الكافرون أعبُد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين؛ فأنزل اللّه تبارك وتعالى هذه الآية: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» (2).

والروايتان - مضافاً إلى ما يرد عليهما من الإشكال - تعانيان من مؤاخذات متعدّدة أبرزها الإشكال في سندهما، فكلتا الروايتين تنتهي إلى عطاء بن السائب، وهو مطعون في وثاقته وديانته، وفي حفظه وحديثه، وإليك ما قال عنه أئمة علم الرجال:

قال عنه الذهبي: عطاء بن السائب أحد علماء التابعين، تغيّر بأخرة وساء حفظه.

وقال عنه أحمد: مَن سمع منه قديماً فهو صحيح، ومن سَمع منه حديثاً لم يكن بشيء.

وقال عنه يحيى بن معين: لا يحتجّ به.

وقال أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى: حديثه ضعيف.

وقال عنه أبو حاتم: محلّه الصدق قبل أن يخلّط.

وقال النسائي: ثقة في حديثه القديم لكنّه تغيّر.

ص:259


1- . جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري): 133/5.
2- . جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري): 134/5.

وقال ابن عليّة: قدم علينا عطاء بن السائب البصرة، فكنّا نسأله، فكان يتوهّم، فنقول له: مَن؟ فيقول: أشياخنا ميسرة، وزاذان، وفلان.

وقال الحميدي، حدّثنا سفيان، قال: كنتُ سمعتُ من عطاء بن السائب قديماً، ثم قدم علينا قِدمةً فسمعته يحدّثُ ببعض ما كنتُ سمعتُ، فخلّط فيه، فاتقيته واعتزلته.

وأضاف الذهبي: «ومن مناكير عطاء...»(1).

أجل هذا هو عطاء في منظار علماء الرجال، إنّه سيِّئ الحفظ، ضعيف مخلّط له مناكير، يتوهّم، تغيّر بآخرة، وقد ظهرت آثار الوهم وسوء الحفظ والتخليط هذا في روايتيه هاتين. فهو تارة يقول أنّ عليّاً عليه السلام كان مأموماً في هذه القصّة (كما في الرواية الأُولى) وتارة يقول كان عليه السلام إماماً للجماعة.

وهذه الرواية من مناكيره، وأوهامه بلا ريب، إذ كيف يصحّ أن يُنسب إلى رجلٍ لازم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الطيّبَ الطاهر منذ نعومة أظفاره، شرب الخمر، والائتمام برجل دونه في الفضل، أو إمامته للجماعة وتخليطه في قراءة سورة عظيمة من سور القرآن الكريم؟!

ولنستمع معاً إلى ما يقوله إمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام عن فترة صباه في كنف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه أفضل ردّ على هذه الرواية ونظائرها: قال عليه السلام:

«وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ. وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ (وليدٌ) يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ.

ص:260


1- . ميزان الاعتدال: 70/3-73.

وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ. وَلَقَدْ قَرَنَ اللّهُ بِهِ صلى الله عليه و آله و سلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ. وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُنِي بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ»(1).

هذا وأغلب الظن أنّ الذين اختلقوا هذه الرواية لما وجدوا أمثال هذه القبائح في حياة بعض الصحابة أرادوا أن يساووا بين الإمام علي عليه السلام وغيره، فاختلقوا هذه الفرية الوقحة.

وممّا يثير الاستغراب أن يقع بعض الكتّاب والمفكّرين المعاصرين في نفس ما وقع القدامى من الخطأ في هذا المجال، ويذكر هاتين الروايتين في تفسيره للقرآن الكريم، مع كلّ هذه المؤاخذات عليهما حتّى في صورة النقل، كما فعل سيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن»(2)، إذ ليس كلّ ما هو مذكور في كتب الأقدمين يصحّ نقله، ويجوز تكراره. وبخاصّة من دون تعليق وتكذيب!!

غزوةُ ذات الرقاع

قيل إنّما سُمّيت هذه الغزوة، وهذا الجهاد المقدس بالرقاع، لأنّ المسلمين مرّوا بجبل فيه بقعٌ حمرة وسواد وبياض كأنّها مرقّعة برقاع مختلفة.

وربما قيل: لأنّ أقدامهم نقبت فيها فكانوا يلفّون على أرجلهم الخرق، والرقاع فسُمِّيت هذه الغزوة بذات الرقاع(3).

ص:261


1- . نهج البلاغة: 300، الخطبة رقم 192.
2- . عند تفسير قوله تعالى: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى».
3- . بحار الأنوار: 177/20؛ إمتاع الأسماع: 196/1.

وعلى كلّ حال فإنّ هذه الغزوة لم تكن ابتدائية تماماً مثل بقية الغزوات، بل كانت لإطفاء شرارة كانت على شرف الاشتعال، والانفجار، وبالضبط جاءَت لتقضي على تحرّكات واستعدادات عدائية كان يقوم بها بنو محارب وبنو ثعلبة وكلاهما من قبائل غطفان.

وقد كان من دأب النبيّ وسياسته أن يَبُثَّ أشخاصاً أذكياء إلى المناطق المختلفة ليأتوا له بالأخبار عن كلّ ما يستجدّ على ساحة الجزيرة العربية، وفي أوساط القبائل.

فأتاه الخبر ذات مرّة أن القبيلتين المذكورتين تنويان جمع الأسلحة والرجال لاجتياح المدينة وغزوها، فسار إليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على رأس مجموعة من رجاله وأصحابه حتّى نزل نخلاً بنجد قريبة من مكان العدو(1).

فدفعت سوابق المسلمين الجهادية، وما سطّروه في المعارك والمواقف من قصص المقاومة والصمود والبسالة والاستقامة، وما حقّقوه من انتصارات ساحقة حيّرت سكّان الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها. لقد دفع كلّ هذا العدوّ إلى الانسحاب، واللجوء إلى رؤوس الجبال، وقد خافوا ألّا يبرح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى يستأصلهم.

وقد صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمسلمين في هذه الغزوة صلاة الخوف، الّتي بيّن اللّه تعالى كيفيتها في سورة النساء الآية 102.(2)

وأغلب الظن أنّ العدوّ كان في هذه الغزوة قوياً في تجهيزاته وقواه، وأنّ الأوضاع العسكرية قد وصلت إلى مرحلة خطيرة مما سبّب الخوف، ولكن

ص:262


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 197/1.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 693/3.

الانتصار كان في المآل من نصيب المسلمين.

مواقف خالدة في هذه الغزوة

يروي المؤرّخون والمفسّرون المسلمون كابن هشام(1) وأمين الإسلام الطبرسي(2) قصصاً عجيبة، وحوادث مثيرة للإعجاب وقعت في هذه الغزوة تكشف عن عمق مروءة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مع أعدائه، وقد نقلنا نظير هذا في غزوة ذي أمر(3)، من هنا نحجم عن ذكر ذلك في هذه الدراسة رعاية للاختصار، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى القصّة التالية الّتي تكشف عن صمود المسلمين وإخلاصهم لدينهم.

الحُرّاس الصامدون

مع أنّ جيش الإسلام قد عاد إلى المدينة من هذه الغزوة من دون قِتال ولكنّه أصاب مع ذلك بعض الغنائم، واستراح في شِعبٍ في أثناء الطريق، وبات ليلته هناك ثم كلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رجلين بحراسة الجيش ليلاً يدعيان: «عباد» و «عمار»، فقسم الرجلان الليل بينهما، فنام أحدهما وسهر الآخر يحرس الجيش، وكان الّذي سهر أوّل الليل هو «عباد».

ثم إنّ رجلاً من العدوّ خرج في أثر المسلمين، وكان يقصد أن يريق دماً أو يصيب شيئاً ويعود إلى محلّه.

وقام «عباد» يصلّي، وأقبل ذلك الرجل يطلب غِرّةً فلمّا رأى «عباد» سوادَه من

ص:263


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 693/3-695.
2- . مجمع البيان: 103/3.
3- . راجع: ص 148 من هذا الكتاب.

قريب قال ذلك الرجل في نفسه: يعلم اللّه أنّ هذا لطليعة القوم، وحرسهم ففوّق له سهماً ورماه به فأصاب عباداً ولكن عبّاداً نزع السهمَ ووضعه، وثبت قائماً يصلّي فرماه العدوّ بسهم آخر، فأصابه فانتزعه وثبت قائماً فرماه بثالثٍ فنزعه، فلمّا غلب عليه الدم ركع وسجد، ثم قالَ لصاحبه: اجلِس فقد أُصبتُ، فجلسَ عمّار، فلمّا رأى الأعرابي أنّ عمّاراً قد قام علم أنّهما قد علما به، فقالَ عمّار: أي أخي ما منعك أن توقظَني به في أوّلِ سهم رمى به؟!

قال: كنتُ في سورة أقرأُها وهي سورة الكهف، فكرهتُ أن أقطعَها حتّى أفرغ منها، ولولا أنّي خشيتُ أن أُضيّعَ ثغراً أمرني به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما انصرفت ولو أتى على نفسي(1).

وهكذا صمد هذا المسلم واستمر في صلاته غير مبال بما أصابته من السهام.

غزوة بدرٌ الصغرى

لمّا أراد أبوسفيان أن ينصرف يوم «أُحد» نادى: موعد بيننا وبينكم بدرُ الصفراء رأس الحول نلتقي فيه فنقتتل.(2)

ولهذا أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بأن يتهيّأوا للدفاع عن أنفسهم، وقد مرّ على وقعة «أُحد» عامٌ واحدٌ.

وكان أبو سفيان الّذي كان يرأس قريش آنذاك يواجه في ذلك الوقت مشاكل داخلية مختلفة، فكره الخروج إلى رسول اللّه في الموعد الّذي ضربه لمقاتلة المسلمين، واتّفق أن قدم مكّة في تلك الأيام «نعيم بن مسعود» الّذي كانت بينه

ص:264


1- . لاحظ: المغازي: 397/1.
2- . المغازي: 384/1.

وبين أبي سفيان علاقات صداقة خاصّة، فجاءه أبوسفيان وقال له: يا نعيم إِنّي وعدتُ محمّداً وأصحابه يومَ «أُحد» أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحَول، وقد جاء ذلك.

فقال نعيم: ما أقدمني إلّاما رأيتُ محمّداً وأصحابَه يصنعون من إعداد السلاح والكراع، وقد تجلّب إليه حلفاءُ الأوس من بلى وجهينة وغيرهم، فتركتُ المدينة أمس وهي كالرمّانة.(1)

فزاد ذلك من مخاوف أبي سفيان، وضاعف من كراهته للخروج إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. وتقرّر بالتالي أن يعود نعيم إلى المدينة ويحذّر المسلمين من الخروج للموعد، ويخذّلهم.

وعاد «نعيم» إلى المدينة، وراح يرعّب أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويخوّفهم من الخروج إلى أبي سفيان إلّاأن كلامَه لم يترك أي أثر في نفس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فخرج صلى الله عليه و آله و سلم في ألفٍ وخمسمائة مقاتل من أصحابه، وقد خرجوا ببضائع لهم، وتجارات حتّى انتهوا إلى «بدر» وقام السوق السنوي هناك فباعوا واشتروا في موسم بدر وربحوا كثيراً ثم تفرّق الناس، ولكن النبيّ وأصحابه بقوا هناك ثمانية أيام ينتظرون أبا سفيان وجيشه.

وقد كان هذا الإجراء إجراء عسكرياً حكيماً ورائعاً، إذ أظهر قوّة النبيّ وعزيمته وقوة أصحابه وعزيمتهم، ولهذا كان له أثرٌ قوي في نفوس الأعداء.

فلمّا بلغت أنباء خروج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه إلى بدر، لم ير حكّام مكّة المشركون بدّاً من الخروج إلى بدر حفاظاً على ماء الوجه، فخرج أبوسفيان والمشركون بتجهيزات كافية إلى مرّ الظهران، ولكنّهم عادوا من منتصف الطريق إلى

ص:265


1- . المغازي: 385/1.

مكّة بحجّة الغلاء والقحط، فاعترض صفوان بن أُميّة على أبي سفيان وقال: قد واللّه نهيتُك يومئذ أن تعد القومَ، وقد اجترأوا علينا، ورأوا أن قد أخلفناهم، وإنّما خلفنا الضعف عنهم(1).

ولادةُ السِبط الأصغر لرسول اللّه

وفي الثالث من شهر شعبان من هذه السنة (الرابعة من الهجرة) وُلِدَ السبط الثاني لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الإمام الحسين بن عليّ (2)، كما توفّيت «فاطمة بن أسد» والدة الإمام علي عليه السلام(3).

وفي هذا العام بالذات أمرَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زيد بن حارثة أن يتعلّم السريانية من اليهود(4).

ص:266


1- . لاحظ: المغازي: 385/1-390. وقد وقعت هذه الحادثة في الشهر الخامس والأربعين بعد الهجرة. وتُسمّى هذه الغزوة «بدر الموعد».
2- - تاريخ الخميس: 467/1.
3- . تاريخ الخميس: 467/1.
4- . إمتاع الأسماع: 196/1، تاريخ الخميس: 464/1.

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

37 من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

اشارة

تعتبر معركة «الأحزاب»، وقصّة بني قريظة، وزواج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بزينب بنت جحش(1) من أهمّ الحوادث التاريخية الّتي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة.

وأوّل هذه الحوادث - كما عليه المؤرّخون المسلمون - هو زواج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمرأة المذكورة.

وقد ذكر القرآن الكريم تفاصيل هذه القضية ضمن الآيات (4، 6، 36 إلى 40) من سورة «الأحزاب»، ولا يبقى - حينئذ - مجال لأكاذيب المستشرقين

ص:267


1- . يرى مؤلّف كتاب «تاريخ الخميس» أنّ هذه الحادثة وقعت في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة، ولكن هذا الرأي يبدو غير صحيح من وجهة نظر الحسابات الاجتماعية، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، كان منشغلاً بغزوة «الأحزاب»، و «بني قريظة» من 24 شهر شوال من السنة الخامسة إلى 19 من شهر ذي الحجّة من نفس السنة فيكون تحقّق مثل هذا الزواج في مثل هذه الظروف أمراً مستبعداً جدّاً، وإذا كان الزواج من زينب يُعدّ من حوادث السنة الخامسة لزم أن يكون قد تحقق قبل الحادثتين المذكورتين، ولهذا عمدنا إلى ذكر هذه الحادثة قبل تينيك الواقعتين.

ودسائسهم ومختلقاتهم الواهية.

ونحن هنا ندرُسُ هذه القضية على ضوء أصحّ المصادر التاريخية الإسلامية الّتي لم تطلها أيدي العبث والتحريف، والمسخ، والتشويه، ألا وهو القرآن الكريم، ثم بعد ذلك نتحدّث حول ما قاله المستشرقون ومَن لفّ لفّهم، ونحا منحاهم في التعامل مع تاريخ السيرة النبوية.

مَن هو زيد بن حارثة؟

كان زيد شاباً سرقه قُطّاع الطرق من الأعراب وهو صغير من قافلة، وباعوه عبداً في سوق عكاظ، وقد اشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، وقد أهدته خديجة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد زواجها منه.

ولقد دفعت سيرةُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الحسنة، وأخلاقه الفاضلة وسجاياه النبيلة زيداً هذا إلى أن يحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حباً شديداً، حتّى أنّه عندما جاء أبوه إلى مكّة يبحث عنه، وعلم بوجوده عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مشى إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وطلب منه أن يعتقه، ويعيده إليه ليعيده بدوره إلى أُمّه ويُلحقه بأقربائه، فأبى زيد إلّاالبقاء عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفضَّل ذلك على المضي مع أبيه، والعودة إلى وطنه، وعشيرته، وقد خيّره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المكث عنده أو الرحيل مع أبيه إلى وطنه.

على أنّ ذلك الانجذاب والحب كان متبادلاً بين زيد ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فكما أنّ زيداً كان يحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويحب أخلاقه وخصاله، كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحب زيداً كذلك لنباهته وأدبه حتّى أنّه أعتقه وتبنّاه، فكان الناس يدعونه زيد بن محمد بدل زيد بن حارثة، ولكي يتأكّد ذلك وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات

ص:268

يوم وقال لقريش: «يا من حَضَر إشهَدُوا أن زيداً هذا ابني»(1).

وقد بقي هذا الحبُ المتبادل بين زيد، وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن استشهد هذا المسلم الصادق والمؤمن المجاهد في معركة مؤتة، فحزن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمصرعه كما حزن لولد من أولاده.

زيدٌ يتزوّج بابنة عمّة النبيّ

لقد كان من أهداف رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم هو أن يخفّف من الفواصل بين طبقات المجتمع وفئاته، ويقارب بينها قدر الإمكان، ليعيش البشر جميعاً تحت لواء الإنسانية والتقوى إخوةً متحابّين لاتبعد بعضهم عن بعض مقاييس الثروة والنسب، بل يكون الملاك في التفاضل هو الأخلاق الفاضلة والسجايا الإنسانية.

من هنا كان يجب التعجيل في إزالة التقاليد العربية البالية الّتي كانت تقضي بأن لا يتزوّج بنات السادة والأشراف بأبناء الطبقات الضعيفة والفقيرة.

وأي وسيلة لضرب هذا التقليد القبيح الظالم وتحقيق المساواة الكاملة أفضل من أن يبدأ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تحطيم هذا التقليد بأقربائه وذويه ليقدّم بذلك درساً عملياً للأُمّة في هذا المجال، فقام بتزويج عتيقه «زيد بن حارثة» من شريفة من بني هاشم وهي ابنة عمّته زينب بنت جحش حفيدة عبدالمطلب، ليعلم الناس أنّه يجب عليهم الإقلاع عن تلك التقاليد الجاهلية الظالمة بسرعة، ويعرفوا أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو أوّل من نفّذَ في حقّ ذويه ما كان يردّده من قوله: «لافضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى» و «إنّ المؤمن كفؤ المؤمن».

ص:269


1- . لاحظ: أُسد الغابة: 235/2. وكذا الاستيعاب والإصابة مادة: زيد.

ولأجل تحطيم ذلك التقليد الجاهليّ الخاطئ ذهب رسول اللّه بنفسه إلى منزل زينب، وخطبها لزيد، فلم تبد زينب وأخوها رغبةً في هذا الأمر في الوهلة الأُولى؛ لأنّ الأفكار الجاهلية كانت لا تزال مترسّبة في قلوبهم، ومن ناحية أُخرى كان الرد على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أمراً صعباً، ولهذا تذرّعا بعبودية «زيد» السابقة وحاولا بذلك التخلّص من مطلب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فلم يلبثا حتى نزل قوله تعالى يشجب ردّ زينب وأخيها لطلب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

«وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً» .(1)

فتلاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليهم فوراً فدفع إيمان زينب وأخيها الصادق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأهدافه المقدّسة إلى أن تبادر زينب إلى الإعلان عن رضاها وقالت: رضيت يا رسول اللّه، وجعلت أمرها بيد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكذلك أخوها رضي بهذا الزواج، فتزوّجت ابنة شريف قوم «زينب» بعتيق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زيد، وبذلك طبّق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واحداً من أعظم مناهج الإسلام الحيّة، وآدابه الإنسانية الرفيعة، وحطّم عملياً واحدة من أقبح السنن الجاهلية، وأكثرها تخلّفاً وإجحافاً.(2)

زيد يطلّق زوجته

إلّا أنّ هذا الزواج لم يدم طويلاً، فقد آل إلى الطلاق، والافتراق ويعزي البعضُ ذلك إلى نفسيّة «زينب» وسلوكها الحاد حيث كانت ربما تذكر لزيد دنوّ

ص:270


1- . الأحزاب: 36.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 161/8.

حسبه، وعلوّ حسبها، ممّا يؤدّي إلى انزعاجه.

ولكن يحتمل أنّ السبب وراء هذا الطلاق كان هو زيد نفسه، فإنّ تاريخ حياته يشهد بأنّه كان يعاني من روح العزلة، وعدم الأُلفة، فقد اتّخذ أزواجاً متعدّدة وطلقهنّ (إلّا الاخيرة منهن حيث استشهد عنها وهي في حبالته) فتكون هذه الطلقات المتعدّدة دليلاً على عدم القدرة على الانسجام مع زوجاته، لحالة نفسيّة كان يعاني منها.

ويشهد بذلك أيضاً خطاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الحادّ، فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا عرف بأنّ زيداً يبغي طلاق زوجته زينب غضب وقال:

«أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللّهَ» .(1)

ولو كان الذنب كلّه ذنب زوجته زينب لما كان يُعَدُّ تطليقها عملاً مخالفاً للتقوى.

ومهما يكن فقد طلّق زيد زينباً وافترقا، ثم تزوّج بها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد ذلك.(2)

زواج النبيّ بمطلقة متبنّاه لإبطال سنة جاهلية أُخرى

ولكن قبل أن ندرس العلّة الأساسية لهذا الزواج لابد أن نلقي نظرة فاحصة إلى مسألة النسب الّذي يعدّ مقوماً مهماً من مقومات المجتمع السليم.

وبعبارة أُخرى وأكثر تحديداً لابد أن ندرس الفرق الجوهري بين الوالد الحقيقي، وبين المتبنّي.

وتوضيحاً لهذا الأمر نقول:

ص:271


1- . الأحزاب: 37.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 162/8.

كان يوجد في المجتمع العربي الجاهلي أبناءٌ لا يعرفُ لهم آباء، أو لهم آباء معروفون، وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبنّاه ويدعوه ابنه، ويُلحقُه بنسبه وتصير له حقوق البنوّة وملحقاتها.

ولمّا كان هذا شذوذاً عن الأساس الطبيعي للأُسرة أبطله الإسلام؛ وذلك لأنّ الوَلَد الحقيقي ينتمي إلى أبيه بجذور تكوينية، فالوالد هو - في الحقيقة - المنشأ المادّي لوجود ابنه، ويرث الولد من والده ووالدته الكثير من صفاتهما الجسمية والروحية، وبذلك يكون امتداداً طبيعياً لوالديه.

وعلى أساس هذه الوحدة الطبيعية، ووحدة الدّم يتوارث الآباء والأبناء، وتترتّب أحكامٌ خاصّة في مجال الزواج والطلاق، والتحليل والتحريم.

وبناءً على هذا فإنّ مثل هذا الموضوع الّذي ينشأ من جذور تكوينية واقعية، لا يُوجد أبداً باللفظ واللسان.

ولهذا قال اللّه سبحانه في الكتاب العزيز في معرض الردّ على مَن يتصوّر المتبنّى ولداً حقيقياً لمجرّد ادّعاء البنوّة:

«ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .(1)

فلا يكون الابن المتبنّى والولد الحقيقي على صعيد الموضوع سيّان أبداً،

ص:272


1- . الأحزاب: 4-5، راجع الميزان في تفسير القرآن: 290/16-291.

فكيف على صعيد الأحكام كالتوراث، والزواج والطلاق وما شابه ذلك؟

فإذا ورث الولد الحقيقي من أبيه أو بالعكس أو حُرّمت زوجة الولد الحقيقي على أبيه بعد طلاقها من زوجها لا يمكن أن نقول: إنّ الابن المتبنّى يشبهه ويشترك معه في هذه الأحكام أبداً.

ومن المسلّم به أنَّ مثل هذا التشريك في الحقوق والشؤون مضافاً إلى كونه لا يستند إلى أساس معقول وصحيح هو نوع من العبث بعامل النسب، وهو العنصر المهم في المجتمع السليم.

وعلى هذا الأساس إذا كان التبنّي بدافع العاطفة أمراً مستحسناً ومقبولاً، إلّا أنّه إذا كان بهدف إشراكه في سلسلة من الأحكام الاجتماعية الّتي هي من شؤون الولد الحقيقي وحقوقه يعدّ أمراً بعيداً وغريباً جدّاً عن المحاسبات العلمية، والأُسس الموضوعية.

ولقد كان المجتمع العربي - كما أسلفنا - يعدّ الابن بالتبنّي كالولد الحقيقي دون فرق، وقد كُلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من جانب اللّه تعالى بأن يقضي على هذا التقليد الجاهلي والسنّة الخاطئة بإجراءٍ عملي صارخ، وذلك بالتزوّج بزينب مطلَّقة متبنّاه «زيد»، ويمحي من حياة المجتمع العربي هذا التقليد القبيح بالعمل الّذي يفوق القول، ووضع القانون، في التأثير، والفاعلية. ولم يكن لهذه الزيجة غير هذا السبب.

لقد كان هذا التقليد أمراً مقدّساً في المجتمع العربي بشكلٍ كبير جدّاً بحيث لم يكن أحدٌ ليجرأ على نقضه ومخالفته والتزوّج بمطلّقة دعيّه(1) لقبحه في نظر العرب، لذلك دعا اللّه سبحانه نبيّه إلى القيام بهذا العمل الخطير، إذ قال:

ص:273


1- . الدعيّ هو الابن المتبنّى وجمعه أدعياء.

«وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النّاسَ وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً» .(1)

إنّ هذا الزواج مضافاً إلى كونه استهدِف منه تحطيم سنّة جاهليّة مقيتة (سنّة عدم الزواج بمطلّقة المتبنّى) وإعادة العلاقات العائلية إلى وضعها الصحيح، يعتبر من أقوى مظاهر المساواة في الإسلام، لأنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم تزوّج بمطلّقة عتيقه، وقد كان مثل هذا العمل مخالفاً لشؤون المجتمع يومذاك.

ولقد أثار هذا الإقدام الشجاع موجةً من الاعتراض والنقد من جانب المنافقين، وأصحاب العقول الضيّقة، فقد طُرِحَت هذه المسألة في الأوساط والنوادي وأخذوا يشنعون بها على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويقولون: لقد تزوّج محمّد بمطلّقة دعيّه.

فأنزل اللّه تعالى في الردّ على تلكم الأفكار والأقوال الباطلة قوله:

«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» .(2)

على أنّ القرآنَ لم يكتف بهذا البيان بل امتدحَ نبيَّه الّذي نفّذ حكم اللّه بشجاعة كاملة بقوله:

«ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً * اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ

ص:274


1- . الأحزاب: 37.
2- . الأحزاب: 40.

أَحَداً إِلاَّ اللّهَ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً» .(1)

وخلاصة المفاد لهاتين الآيتين هي: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كغيره من الأنبياء يُبلّغ رسالات اللّه ولا يخالف لومَ اللائِمين، وكيد المنافقين، وإرجاف المرجفين.

هذه هي فلسفة تزوّج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بزينب بنت جحش مطلّقة دعيّه ومتبنّاه وعتيقه زيد بن حارثة في ضوء القرآن الكريم.

المستشرقون وقضية زواج النبيّ بزينب

إنّ زواج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بزينب مطلّقة زيد بن حارثة - كما لاحظت - قضيةٌ بسيطةٌ خالية عن أي إبهام أو غموض.

ولكنَّ جماعةً من المستشرقين تذرّعوا بها لإغراء البسطاء ومن شاكلهم غير الملمّين بالتاريخ الإسلامي وأرادوا بذلك إضعاف إيمان الذين لا يعرفون السيرة النبويّة حقّ المعرفة، فإنّنا يجب أن ندرس ما قالوه في هذا المجال، ونكشف للقارئ الكريم عن مواطن الدسّ والتحريف فيه.

ولا يخفى أنّ الاستعمار البغيض لم يكتف للسيطرة على بلادنا باستخدام القوّة العسكرية، والسلاح الاقتصادي؛ بل ربما دخلها متستراً بقناع العلم والتحقيق، فقد سعى - ولم يزل - لفرض أسوأ هيمنةٍ فكريةٍ شاملةٍ وتبعيّة ثقافيّة مقيتة على شعوبنا وفق تخطيط دقيق ومدروس، وهذا هو ما يُسمّى بالاستعمار الفكري، والثقافي.

وفي الحقيقة فإنّ المستشرق هو طليعة ذلك الاستعمار، بل وجيشه المتقنّع بقناع العلم والمعرفة الّذي ينفذ إلى أعماق المجتمع، ويتسلل إلى أوساط المفكّرين

ص:275


1- . الأحزاب: 38-39.

والمثقفين وينفث سمومه القاتلة، ويخدّر العقول، ويمهّد النفوس للاستعمار السافر، والمكشوف.

ويمكن أن لا يرتضي كثير من الكتّاب وعشّاق القلم والثقافة في الغرب منطقنا هذا فيعمدوا إلى رمينا بالتحجّر، والعصبيّة والتخلّف ويتصوّروا بأنّنا نقول مانقوله بدافع العصبيّة القومية أو الدينية، ولكنَّ كتاباتِ المستشرقين وإخفاءَهم المتعمَّد والكثير للحقائق، وتحريفهم ودسّهم المكشوف في تاريخ الإسلام حيناً والخفيّ حيناً آخر يشهد بوضوح أنّ دافعهم في كثير ممّا كتبوا ليس حبَّ العلم وتحرّي المعرفة، فإنّ أكثر ما كتبوه ممزوجٌ بطائفةٍ من أفكارهم المعادية للإسلام، ولرسول اللّه والمسلمين.(1)

ويشهد على هذه النزعة - بجلاءٍ ووضوحٍ - موقِفُهُم من زواج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بزينب بنت جحش وما نسجوه من قضايا خياليّة حول هذه القضية، الّتي وقعت بهدف إبطال سنةٍ باطلةٍ، فأعطوها صبغة قصص الحب وأساطير الغرام على طريقة القصّاصين والروائيّين وديدنهم، وعمدوا إلى حكاية تاريخية مختلقة وضخّموها ونفخوا فيها ونسبوها إلى أطهر إنسان عرفه العالم البشري.

وعلى كلّ حال فإنّ أساس هذه الاُسطورة عباراتٌ نَقَلَها ابنُ الأثير(2) ومن قبله الطبري(3) وبعضُ المفسِّرين، وهي أنّه: خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يريد زيداً وعلى الباب سترٌ من شعر فرفعته الريح فرآها وهي حاسرة فأعجبته!!!

ولكن المستشرقين بدل أن يتحقّقوا من سند هذه الأقوال، لم يكتفوا بنص ما

ص:276


1- . للتأكّد الأكثر مِنْ هذا الأمر، راجع: كتاب «المستشرقون».
2- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 177/2.
3- . لاحظ: جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري): 18/22؛ إمتاع الأسماع: 209/10.

ذكره أُولئك المؤرّخون والمفسّرون، بل ألصقوا به الكثير الكثير حتّى تحوّلت تلك الجُمَل العابرة إلى قصّة تشبَهُ أقاصيص ألف ليلة وليلة.

إنّ من المؤكّد أنّ الذين يعرفون سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الطاهرة يدركون أنّ هذا التاريخ إنّما هو في أصله وفرعه من نسج الخيال، وصنع الأوهام، وإنّها تخالف ما في صفحات التاريخ النبويّ الوضّاءة النقيّة مخالفةً كاملةً، إلى درجة أنّ علماء معروفين كالفخر الرازي والآلوسي كذّبوا هذه القصّة بشكلها الّذي ذكرها ابن الأثير والطبري بصراحة كاملة وقالوا: إنّ هذه الرواية رواية باطلة زوّرها واختلقها أعداء الإسلام وراجت في كتب المؤلّفين المسلمين(1).

فكيف يمكن القول بأنّ هذه القصّة وبهذه الكيفية كانت ممّا يعتقد بصحّته ابن الأثير، والطبريّ في حين أنّ هناك العشرات ممّن نقلوا خلافها وبرّأوا ساحة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من هذه المساوئ.

وعلى أيّة حال فإنّنا نشير في الصفحات التالية إلى دلائل اختلاقِ هذا القسم من التاريخ، ونعتقد أنّ القضية في واقعها وحقيقتها واضحة جداً، وأغنى من أن ندافع عنها.

وإليك أدِلّتنا

أوّلاً: أنّ التاريخ المذكور يخالف المصدر الإسلامي الأصيل وهو (القرآن الكريم)؛ لأنّ القرآن بشهادة الآية (37) من سورة الأحزاب تصرّح بأنّ زواج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من زينب كان لأجل إبطال سنّة جاهلية باطلة، وهي السنَّة القاضية بأنّه لا يحقّ لأحد أن يتزوّج مطلّقة دعيّه، خاصّة وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فعل ذلك بأمر اللّه

ص:277


1- . لاحظ: تفسير الرازي: 212/25؛ روح المعاني: 24/22-25.

سبحانه وليس بدافع من الرغبة الشخصية، والحب الشخصي، ولم يكذّب ذلك أحدٌ في صدر الإسلام.

فإذا كان ما قاله القرآن الكريم مخالفاً للحقيقة لسارع اليهود والنصارى والمنافقون إلى نقده وتفنيده، ولأحدثوا ضجّة بسبب ذلك، في حين أنّ مثل هذا لم يُؤثَر من أعداء الإسلام الّذين كانوا يتحيّنون الفرص للإيقاع برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وتلويث سمعته.

ثانياً: أنّ «زينب بنت جحش» هي تلك المرأة الّتي اقترحت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الزواج بها قبلَ أن يتزوّج بها «زيد» ولكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصرّ على أن تتزوّج غلامَه المعتق زيداً رغم رغبتها في الزواج من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فلو كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحبّ الزواج بها - وهو يعرفها طبعاً - لما وجد مانعاً من ذلك عندما طلبت منه الزواج بها، فلماذا لم يتزوّج بها؟ ولِمَ رفض طلبها؟

أجل، إنّه لم يتزوّج بها ولم يُجب مطلبها، بل ألحّ عليها أن تتزوّج بشخص آخر رغم إنّه أحسَّ برغبةٍ شديدة لدى زينب في الزواج منه لا من غيره.

وبعد تكذيب هذا القِسم المحرّف من التاريخ الإسلامي لا يبقى مجال لتعليقات وأوهام جنود الاستعمار وطلائعه المغرضين.

إنّنا نبرّئ ساحة رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم من أمثال هذه الترّهات والنسَب الرخيصة، ونرى أنّ ساحته المقدّسة أجلّ من أن ننقل كلمات هذا الفريق من الكتّاب المغرضين الحاقدين في حقّ نبيٍّ بقي مكتفياً بزوجة تكبره بثمانية عشر عاماً، إلى أن بلغ سن الخمسين.

من هنا نعرض عن ذكر أقوالهم.

ولا بأس بأن نذكر هنا ما كتبه جماعة من المحقّقين المصريّين الذين أشرفوا

ص:278

على طباعة «الكامل في التاريخ» لابن الأثير تعليقاً على ما أدرجه في هذا المجال:

هذه رواية باطلة زوّرها الملاحدة، واختلقها أذهان أعداء الدين الإسلامي ليطعنوا في نبي الإسلام عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وهل يُعقل: أنّه لا يعرف ابنة عمّته الّتي كان ولي زواجها إلى مولاه زيد؟ وإنّما دسائس الزنادقة، ومبشّري المسيحية قد تغلغلت في نفوس العلماء من حيث لا يعلمون، فافتكروا في رواية الخبر، فاتّخذوه أساساً، وأعرضوا عن كتاب اللّه وعن قول اللّه تعالى من أنّ اللّه أعلمه بأنّها صارت زوجه قبل أن استشاره زيدٌ في طلاقها.

والعجيب أنّ ابن الأثير مع جلالة قدره ينقل هذه الرواية المزيَّفة الّتي هي طعن صريح في رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقد قلّد في روايته هذه ابن جريرٍ قبلَهُ، وكلاهما وقع في هوّة الضلالة من حيث لا يشعر، ولو عُرضت كلُّ رواية على كتاب اللّه تعالى لما أقدم أحدٌ على مثل هذا الإفك العظيم!!

إنّ زينباً هي التي وهبت نفسها لرسول اللّه فزوّجها من مولاه، ثم تزوّجها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً» ، فإذن كان الزواجُ لأجل التشريع، وكان عمليّاً، لشدّة نفرة أهل الجاهلية من هذا الزواج من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّهم يعدّون المتبنّى ولداً صريحاً أو في مرتبته.

قال الفخر الرازي: وفيه إشارة إلى أنّ التزويج من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن لقضاء شهوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بل لبيان الشريعة بفعله، انتهى.

ونحن نعتب عليه أيضاً إذ جعله إشارة ولم يجعله صريحاً وبما أنّ روح التقليد الأعمى قد اشتدّ بين المسلمين منذ زمن بعيد، فالحكاية الّتي أوردها المؤلّف نقلها كثير من المفسّرين غير مفكّرين بما فيها من طعن في الدين، لإفادتها

ص:279

أنّ الشريعة الإسلامية عبارة عن اتّباع أهواء أو تنفيذ شهوات تنزّهت عن ذلك كله، ويرحم اللّه السيّد الآلوسي حيث قال في تفسيره: وحاصل العتاب: لِمَ قلتَ «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» ، وقد أعلمتك أنّها ستكونُ من أزواجك وهو مطابق للتلاوة، لأن اللّه أعلم أنّه مبدئ ما أخفاه عليه الصلاة والسلام ولم يظهر غير تزويجها منه فقال: «زَوَّجْناكَها» فلو كان الضمير محبتها وإرادة طلاقها، ونحو ذلك لأظهره جلّ وعلا، وللقصّاص في هذه القصّة كلامٌ لا ينبغي أن يُجعل في حيّز القبول، انتهى.

ثم أورد الروايات المزيّفة الّتي تشبه ما أورده المؤلّف (أي ابن الأثير) محذّراً الناس منها ومن أمثالها الّتي لا تروّج إلّاعلى الحمقى والمغفلين. انتهى.(1)

توضيح عبارتين

هذا واستكمالاً للبحث، وإتماماً للفائدة ندرج نصّ الآية الّتي نزلت في هذا المجال، والّتي تسبّبت جملتان منها في إثارة الشكوك لدى بعض الجاهلين بحقائق السيرة النبويّة الزكيّة، ونعطي بعض التوضيحات اللازمة حولهما، واليك نص الآية أوّلاً: «وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللّهَ» .

وفيما يلي الجملتان اللتان تحتاجان إلى التوضيح:

«وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ» .

فماذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يُخْفي في نَفْسِهِ وقد أظهرهُ اللّهُ وأبداه بعد كلّ تلك النصيحة الّتي نصحَ بها صلى الله عليه و آله و سلم زيداً؟

ص:280


1- . راجع هامش الكامل في التاريخ: 121/2، طبعة القاهرة إدارة الطباعة المنيرية عام 1349 ه.

ربما يتصوَّر أحدٌ أنّ الأمرَ الّذي كان يخفيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو رغبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تطليق زيد زوجته زينب، أي أنّه وإن كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينهى زيداً في الظاهر عن تطليق زينب، إلّاأنّه كان في سرّه يرضى بذلك؛ بل يرغب فيه ليتسنّى له بعد ذلك أن يتزوّجها هو.

ولا شكّ أنّ هذا الاحتمال غير صحيح مطلقاً؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا كان يبطن مثلَ هذا الأمر، فلماذا لم يبد اللّه سبحانَه نيّته هذه بآيات أُخرى، في حين أنّه سبحانه وَعَد في هذه الجملة بأن يظهرَ ما كان يخفيه رسولُ اللّه في نفسه إذ قال تعالى: «اَللّهُ مُبْدِيهِ» ؟!

ولهذا قال المفسّرون: إنّ المقصود ممّا كانَ يخفيه هو الوحيُ الإلهيُّ الّذي أنزلهُ اللّهُ عليه، وتوضيح ذلك هو: أنّ اللّه تعالى أوحى إليه بأنّ زيداً سيطلّق زوجته رغم نصيحة النبيّ، وأنّه صلى الله عليه و آله و سلم سيتزوّج بها من بعده لإبطال سنّةٍ جاهليةٍ مقيتةٍ (وهي حرمة الزواج بمطلّقة الدعيّ).

ومن هنا كانَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين نصيحته لزيد ونهيه عن تطليق زينب زوجته مُلتفتاً ومنتبهاً إلى هذا الوحي الإلهيّ أيضاً، ولكنّه أخفى هذا الوحيَ عن زيد وغيره، ولكنّ اللّه تعالى أخبر النبيَّ في نفس تلك الجملة بأنّه تعالى سيبدي للناس ما يخفيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قلبه، وأنّ الأمر لن يبقى خافياً على أحد بإخفائه صلى الله عليه و آله و سلم له.

ويشهد بهذا المعنى أنّ القرآن الكريم أظهر الأمر في ذيل نفس هذه الآية إذ قال:

«فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي

ص:281

أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً» .(1)

فمن هذا التعقيب يستفاد أنّ ما كان يُخفيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو الوحيُ الإلهيُ، بأنّه عليه أن يتزوّج بزوجة دعيّه بعد طلاقها لإبطال سنّة جاهليّة خاطئة.

وأمّا الجملة الثانية الّتي هي بحاجة إلى التوضيح فهي قوله تعالى: «وَ تَخْشَى النّاسَ وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» . غير أنّ هذا القسم من الآية هي الجملة الثانية الأقل أيّهاماً وغموضاً من الجملة السابقه بدرجات؛ لأنّ تجاهل سنّة عريقة متجذّرة في بيئة منحرفة (وهي الزواج بمطلّقة الدعيّ) يقترن - بطبيعة الحال وحتماً - بحرج نفسيّ يزول ويرتفع لدى الأنبياء بتوجّههم إلى الأمر الإلهي. وإذا كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعاني من حرج نفسيٍّ شديد من هذه القضيّة فإنّما هو لأجل أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يتصوّر أنّ جماعة العرب الذين لم يكن عهدهم بالإسلام طويلاً، لم يمرّ على انقطاعهم عن عاداتهم وتقاليدهم الجاهلية سوى زمن قصير سيقولون: إنّ النبي ارتكب عملاً سيّئاً، والحال أنّ الأمر ليس كما يعتقدون.

قال العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد: قوله: «لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً» تعليل للتزويج وبيان مصلحة للحكم. وقوله: «وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً» مشيرٌ إلى تحقّق الوقوع وتأكيد للحكم.

ومن ذلك يظهر أن الّذي كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يخفيه في نفسه هو ما فرض اللّه له أن يتزوّجها لا هواها، وحبّه الشديد لها وهي بعدُ مزوَّجة كما ذكره جمع من المفسّرين، واعتذروا عنه بأنّها حالة جبليّة لا يكاد يسلم منها البشر، فإنّ فيه أوّلاً:

منع أن يكون بحيث لا يقوى عليه التربية الإلهية. وثانياً: أنّه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه وإخفائه في نفسه فلا مجوّز في الإسلام لذكر حلائل الناس والتشبّب

ص:282


1- . الأحزاب: 37.

بهن(1).

ولما كانت المسألة مسألة وضع قانون جديد لهذا مضى القرآن الكريم يؤكّدها ويزيل عنصر الغرابة عنها فقال تعالى:

«ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً * اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً * ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً * يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً * وَ داعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً * وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً» .(2)

ففي هذه الآيات إشارة إلى:

1. أنّ ما قام به النبي من التزوّج بزينب كان بأمر اللّه، وكان على سبيل سنّ قانون وتشريع سنّة ولكن بصورة عملية، وإنّ ذلك القانون علم اللّه ضرورته وقدره وزمانه ومكانه.

2. أنّ زيداً ليس ابن محمّد صلى الله عليه و آله و سلم إنّما هو متبنّاه ودعيّه، بل هو ابن والده حارثة واقعاً وحقيقة، وليس ذلك إلّاتقريراً وتأكيداً للحقيقة الّتي سبقت الإشارة إليها في قوله تعالى: «وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» .

ص:283


1- . الميزان في تفسير القرآن: 323/16.
2- . الأحزاب: 38-48.

3. أنّ ما قام به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من التزوّج بمطلّقة متبنّاه هو جزء من تشريعه الّذي يشرّعه بأمر اللّه وإذنه تعالى لتسير عليه البشرية، وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض، لا أنّه أمر واقع بدافع شخصي.

4. إنّ اللّه هو الّذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية وما يصلحها، وهو الّذي فرض على النبيّ ما فرض ليحلّ للناس أزواج أدعيائهم إذا ما قضوا منهن وطراً وانتهت حاجتهم منهن وأطلقوا سراحهن. قضى اللّه هذا وفق علمه بكلّ شيء، ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع. 5. أنّ ما سنّه اللّه للمسلمين وما اختارهُ تعالى للأُمّة الإسلامية في مجال العلاقات العائلية يريد بها الخير والخروج من الظلمات إلى النور، فعليهم أن يذكروه ويشكروه أبداً ودائماً، فإنّه سيكون لهم - لو أطاعوه وسبّحوه وذكروه - شأنٌ في الملأ الأعلى فهو يصلّي عليهم وملائكته، ويذكرهم هناك، بالخير، وإنّما يفعل كلّ هذا من منطلق الرحمة والعناية بهم.

6. أنّ وظيفة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في المسلمين هي (الشهادة) عليهم، فليحسنوا العمل، وهي (التبشير) لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران، و (الإنذار) للغافلين المسيئين بما ينتظرهم من عذاب ونكال، و (الدعوة إلى اللّه) لا إلى دنيا أو مجد أو عزة قومية أو عصبيّة جاهلية، وذلك بإذن اللّه فما هو بمبتدع، ولا بقائل من عنده شيئاً.

7. أنّ على النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يبشّر المؤمنين المطيعين لأوامر اللّه بأنّ لهم فضلاً كبيراً، ولا يطيع الكافرين، والمنافقين، وألّا يحفل بأذاهم له وللمؤمنين، وأن يتوكّل على اللّه وحده وهو بنصره كفيل، وهو يوحي بأنّ المنافقين أرجفوا بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم في هذه القضية، إرجافاً عظيماً.

ص:284

وكلّ هذه الأُمور توحي بأنّ تغيير تلك السنّة الجاهلية (عدم الزواج بمطلّقة المتبنّى) كانت عملية صعبة فاحتاجت إلى كلّ هذا التعقيب، وبالتالي تثبيت اللّه للنفوس فيه، كي تتلقّى ذلك الأمر بالرضى والقبول والتسليم، وهذا هو الحال عند سنّ القوانين المهمّة والخطيرة.

ص:285

38 غزوة الأحزاب

اشارة

38 غزوة الأحزاب(1)

لقد قاد رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة الخامسة مجموعة من الغزوات، كما وبعث سلسلة من السرايا لإفشال المؤامرات الّتي كانت في طور الانعقاد أو التكوين أو الّتي كانت محتملة من جانب العدو.

واليك فيما يأتي بعض غزوات السنة الخامسة:

1. غَزوة دُومة الجندل

(2)

بلغ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ بدومة الجندل جمعاً كثيراً وأنّهم يظلمون من مرّ بهم من المسافرين والتجّار، وأنّهم يريدون أن يدنوا من المدينة، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار أخذاً بعنصر الاستتار والسِّرّية على عادته.

ص:286


1- . ذكر ابن هشام في سيرته: 699/3 أنّ هذه الغزوة وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، وحيث إنّ غزوة الأحزاب انتهت في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة، وطالت محاصرة المدينة شهراً واحداً لذلك يجب أن نقول إنّ هذه المعركة بدأت منذ الرابع والعشرين من شهر شوال تقريباً.
2- . المغازي: 402/1؛ السيرة النبوية لابن هشام: 699/3. ودومة الجندل منطقة بين دمشق والمدينة (الطبقات الكبرى: 44/2).

ولمّا دنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من دومة الجندل وعرفت به تلك الجماعة تفرّقوا من فورهم فلم يجد صلى الله عليه و آله و سلم بها أحداً، فأقام بها أيّاماً وبثّ السرايا والدوريّات وفرّقها حتّى غابوا عنه يوماً ثم رجعوا إليه ولم يصادفوا من تلك الجماعة أحداً.

ثم إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عاد إلى المدينة في العشرين من شهر ربيع الثاني، من دون أن يقاتل(1).

***

2. غزوة الخندق (الأحزاب)
اشارة

أجلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يهود بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة كما قلنا بسبب نقضهم للميثاق، وسيطر على قسم من أموالهم وممتلكاتهم، واضطرّت بنو النضير إلى أن تذهب إلى «خيبر» وتسكن هناك، أو تسير إلى الشام.

وقد كان إجراء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هذا متطابقاً مع ما جاء في الميثاق المعقود بينه وبين يهود يثرب.

وقد دفع هذا الإجراء بسادة بني النضير وزعمائهم إلى التآمر ضدّ الإسلام، فقدموا مكّة، وحرّضوا قريشاً على حرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وإليك مفصّل هذه الغزوة:

عَبّأ المشركون العربُ، واليهودُ قواهم في هذه المعركة ضدّ الإسلام.

فقد شكّلوا اتّحاداً عسكريّاً قوياً وحاصرّوا المدينة مدّة شهر واحد، وبما أنّ أحزاباً مختلفة اشتركت في هذه المعركة سُمّيت هذه المعركة بمعركة الأحزاب، وربما سُمّيت بمعركة «الخندق»؛ لأنّ المسلمين حفروا حول المدينة خندقاً عظيماً،

ص:287


1- . لاحظ: المغازي: 402/1؛ إمتاع الأسماع: 201/1-202.

دفاعاً عنها، ومنعاً للكفّار عن اجتياحها.

ولقد كان زعماء بني النضير وبني وائل - كما أسلفنا - هم المحرّكون الأصليّون لهذه الحرب، والمشعلون الرئيسيون لفتيلها.

فإنّ الضربة القوية الّتي تلقّاها يهود بني النضير من المسلمين، والّتي اضطرّوا على أثرها إلى مغادرة المدينة، فسكن بعضهم خيبر، دفعهم إلى أن يخطّطوا بصورة جهنّمية ودقيقة لاستئصال شأفة الإسلام والقضاء عليه. وإنّها لخُطّة عجيبة حقّاً، فقد جعلوا المسلمين يواجهون طوائف متعدّدة وأحزاباً مختلفة لم يعرف لها تاريخ العرب مثيلاً!!

كما أنّ في هذه الخطّة كان اليهود هم أنفسهم المموّلون الأساسيّون لطوائف العرب العديدة، فقد أمدّوهم بأموال كثيرة، وهيّأوا كلّ ما يحتاجون إليه من حاجات ومعدّات!!

وكانت الخطة كالتالي: قدم جماعة من سادة بني النضير مثل «سلام بن أبي الحقيق» و «حيي بن أخطب» في نفر من بني النضير على قريش مكّة، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا: نحن معكم حتى نستأصل محمداً. قال أبو سفيان:

هذا الذي أقدمكم ونزعكم؟ قال: نعم جئنا لنحالفكم على عداوة محمَّد وقتاله.(1)

وقال حيي بن أخطب: إنّ محمَّداً قد وتركم ووترنا وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا، وأجلى بني عمّنا بني قينقاع، فسيروا في الأرض، وأجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتّى نسير إليهم، فإنّه قد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة، وبينهم وبين محمّد عهد وميثاق، وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين

ص:288


1- . المغازي: 441/1-442.

محمّد ويكونون معَنا عليهم، فتأتونه أنتم من فوق وهم من أسفل.(1)

فأثّرت كلماتُ اليهود وما قاله «حييُ بن أخطب» في نفوس المشركين الحانقين على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأصحابه، واستحسنوا خطّتهم، وأبدوا استعدادهم للخروج إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقتاله. ولكنّهم قبل أن يوافقوا اليهود على ذلك الرأي سألوهم قائلين: يا معشر اليهود إنّكم أهلُ الكتاب الأوّل، والعلم، أخبرونا عمّا أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمّد، أفديننا خير أُمّ دين محمَّد؟

ويجب أن نرى الآن بما أجابت هذه الطائفة (الّتي كانت ولا تزال تعدّ نفسها حاملة لواء التوحيد، الوحيدة في العالم) أُولئك المشركين الجهلة الذين وصفوا اليهود بالعلم والمعرفة، وطلبوا منهم حلّ مشكلتهم؟! أجل لقد قال اليهود بوقاحة كبيرة: بل دينكم خيرٌ من دينه، وأنتم أولى بالحقّ، إنّكم لتعظّمون هذا البيت، وتقومون على السقاية، وتنحرون البُدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم أولى بالحقّ منه!!!(2).

ولقد أضافت اليهود بهذه الإجابة الوقحة وصمة عار أُخرى إلى سجلّهم الأسود، وزادوا تاريخهم المشؤوم سواداً، وسوءاً.

ولقد كانت هذه الغلطة فضيعة، وقبيحة إلى درجة أنّ الكتّاب اليهود تأسّفوا لوقوعها، في ما بعد.

فهذا هو الدكتور إسرائيل ولفنسون يكتب في كتابه: (تاريخ اليهود في بلاد العرب) حول هذا الموقف المشين جداً قائلاً: «كان من واجب هؤلاء ألّا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وألّا يصرّحوا أمام زعماء قريش بأنّ عبادة الأصنام

ص:289


1- . بحار الأنوار: 217/20.
2- . لاحظ: السيرة الحلبية: 629/2.

أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدّى بهم الأمر إلى عدم اجابة مطالبهم، لأنّ بني إسرائيل الذين كانوا لمدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم... كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكلّ عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلاً عن أنّهم بالتجائهم إلى عبدة الأوثان إنّما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة»(1).

وفي الحقيقة أنّ هذا المنطق هو الّذي يتوسَّل به الساسة المادّيّون اليوم لإنجاح مقاصدهم، وتحقيق مآربهم. فهم يعتقدون - بكلّ جدّ - أنّ عليهم - لتحقيق أهدافهم - التوسّل بكلّ وسيلة ممكنة، مشروعة كانت أو غير مشروعة، وهذه هي مقولة «الغاية تبرر الوسيلة» الّتي طرحها ميكافيلي، وبالتالي فإنّ «الأخلاق» في منظور هذه الجماعة هو ما يخدم مصالحهم ويحقّق أغراضهم ليس إلّا.

إنّ القرآن الكريم يتحدّث عن هذه الواقعة المرّة فيقول:

«أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» .(2)

ولقد ترك كلام أدعياء العلم والدين هؤلاء، أثراً عجيباً في نفوس المشركين وعبدة الأوثان، فأظهروا موافقتهم على خطّة اليهود الجهنّمية وهو تأليف جيش من قبائل متعدّدة لمقاتلة المسلمين وحدّدوا معهم موعداً للتوجّه إلى المدينة، لتحقيق ذلك الغرض المشؤوم.

فخرج مثيرو الفتنة ومشعلو الحرب (اليهود) من مكّة بقلوب مملوءة سروراً،

ص:290


1- . حياة محمّد: 329؛ التفسير الوسيط للسيد طنطاوي: 182/3.
2- . النساء: 51-52.

وغبطة، وساروا إلى نجد، ليتّصلوا بقبيلة غطفان - وكانت من أعدى أعداء الإسلام - فاستجلبوا موافقة قبائل غطفان: بني فزار، وبني مرّة، وبني اشجع، شريطة أن يعطونهم تمر خيبر، لمدة سنة، بعد الانتصار على المسلمين، ولكن تحرّكات قريش في مجال ضمّ القبائل إلى ذلك الجيش لم تنته إلى هذا الحدّ، فقد راسلت قريشٌ حُلفاءها من بني سليم، وراسلت غطفان حلفاءها من بني أسد، ودعوهم إلى المشاركة في هذه الحرب، فاستجابت لهم تلك القبائل، وتحرّكت جميع هذه الفئات والأحزاب في جيش كبير هائل قدمت عناصره من مختلف نقاط الجزيرة، نحو المدينة في يوم معيّن وهي تبغي اجتياح مركز الإسلام واستئصال شأفته!!(1)

استخبارات المسلمين ترفع تقريراً للقيادة

منذ أن سكن رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة كان يبعث بجواسيسه وعيونه النشطين الأذكياء إلى مختلف مناطق الجزيرة، لتقصّي الأخبار ومراقبة الأوضاع، وإخبار النبي صلى الله عليه و آله و سلم بكلّ ما يحصلون عليه في هذا المجال أوّلاً بأوّل.

فقدم أحدهم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بخروج تلك القوة الكبيرة ومسيرها إلى المدينة، وبهدفها، وتاريخ خروجها، ووصولها إلى مشارف يثرب.

فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصحابه فوراً وأخبرهم خبر عدوّهم، وشاورهم في الأمر، ليستفيدوا من تجارب «أُحد»، فاقترح جماعة منهم أُسلوب التحصّن، والقيام بالدفاع من داخل القلاع والحصون، ولكن هذا العمل لم يكن كافياً لأن جيش العدوّ كان كثيفاً وكبيراً جدّاً وكان من المحتمل بقوَّة أن تقوم عناصره الكثيرة، الكبيرة في عددها بهدم الحصون والقلاع، والقضاء على المسلمين، فلابد إذن من

ص:291


1- . لاحظ: المغازي: 442/2-443.

اتّخاذ وسيلة تمنع العدوّ من الاقتراب إلى المدينة أصلاً.

فقال سلمان الفارسي الّذي كان عارفاً بفنون القتال عند الفرس معرفة كاملة:

يا رسول اللّه إنّا إذ كُنّا بأرض فارس، وتخوّفْنا الخيل، خَنْدَقْنا علينا، فهَلْ لك يا رسول اللّه أَنْ نخندقَ؟(1)

وفي رواية أُخرى أنّه قال: يا رسول اللّه نَحفر خندقاً يكون بيننا وبينهم حجاباً، فيمكنك منعهم في المطاولة، فلا يمكنهم أن يأتونا من كلّ وجه، فإنّا كنّا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة، (أي محدودة).(2)

فأعجب رأي سلمان المسلمين جميعاً، وكان لهذا التكتيك أثرٌ جوهري وبارز جدّاً في حفظ الإسلام وصيانة المسلمين.

ومن الجدير بالذكر أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خرج بنفسه يدرس المنطقة ميدانياً ولكي يحدّد المنطقة الّتي يمكن أن ينفذ من خلالها العدو فقرّر أن يحفروا الخندق من ناحية «أُحد» إلى «راتج» وكان سائر المدينة مشبك بالبنيان والنخيل لا يتمكّن العدو منها، وعلّم الموضع الّذي يجب أن يحفر بخط خطّه على الأَرض.

ولكي يتمّ هذا الأمر بنظام وسرعة جعل على كلّ عشرين خطوة، وثلاثين خطوة جماعة من المهاجرين والأنصار يحفرونه، فحملت المساحي والمعاول، وبدأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، وعلي عليه السلام ينقل التراب من الحفرة حتّى عرق رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعيي(3) وهو يقول:

ص:292


1- . المغازي: 445/1، تاريخ الطبري: 234/2.
2- . بحار الأنوار: 218/20.
3- . وجاء في تاريخ الخميس: 489/1 أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان ينقل التراب حتّى اغبرَّ بطنه.

«لا عَيشَ إلّاعيش الآخرة، اللَّهم اغفر للأنصار والمهاجرة».(1)

وقد كشف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعمله هذا عن جانب من نهج الإسلام وأُسلوبه، وفي ذلك تنشيط الأُمّة وتقوية لعزائمهم في مجال القيادة وأخلاق القائد، وأفهم المجتمع الإسلامي أنّ على القائد الإسلاميّ، وعلى إمام الأُمّة أن يشارك الناس في آلامهم كما يشاركهم في آمالهم ويسعى أبداً إلى التخفيف عن كاهلهم بمشاركته العملية في الأعمال، ولهذا لمّا نظر الناس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحفر نشطوا واجتهدوا في الحفر، ونقلوا التراب، ولمّا كان اليوم الثاني بكّروا في العمل، وكان ذلك النشاط العظيم عاملاً في أن يندفع يهود بني قريظة أيضاً إلى مساعدتهم فأعاروهم المساحي والفؤوس والأوعية الكبيرة لنقل التراب(2).

وكان المسلمون يومئذ يعانون من نقص وضيق شديدين في المواد الغذائية، ومع ذلك كان أصحاب المكنة والثراء من المسلمين يمدُّونهم بالطعام وغيره(3).

وربّما عرضت للمسلمين وهم يحفرون في الخندق صخرة عظيمة عجزوا عن كسرها وإزالتها، فأخبروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك فأخذ معولاً فكسرها وأزالها.

أمّا طول الخندق فكان بالنظر إلى عدد العاملين في حفرها - وقد كان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف حسب المشهور، وكان كلّ عشرة يحفرون (40) ذراعاً - هو (12000) ذراع أي ما يقارب خمس كيلومترات ونصف الكيلومتر، وأمّا

ص:293


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 268/2.
2- . السيرة الحلبية: 311/1.
3- . السيرة الحلبية: 312/1.

العرض فكان بحيث لا يقدر الفرسان الماهرون من عبوره بالقفز بأفراسهم، فيكون عرضه بطبيعة الحال ما يقارب خمسة أمتار وعمقه خمسة أمتار أيضاً.

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان

عندما قسَّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المهاجرين والأنصار جماعات جماعات، وأوكل إلى كلّ جماعة حفر موضع من الخندق، تنافس الناس يومئذ في سلمان الفارسي وأراد كلٌّ أن يضمّه إلى صفّه، فقال المهاجرون: سلمان منّا، وقالت الأنصار: سلمان منّا ونحن أحقّ به!!

فبلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قولهم فقال قولته الخالدة في شأن سلمان يومذاك:

«سلمانُ منّا أهل البيت»(1).

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقي إلى جانب الخندق ستة ليال بأيّامها حتّى فرغ المسلمون من عمل الخندق، غير أنّ المنافقين تخاذلوا في هذه القضيّة وكانوا يتذرّعون بأعذار مختلفة ليتملّصوا من العمل في الخندق، وربما كانوا يَذهبون إلى منازلهم من دون أن يستأذنوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

أمّا المؤمنون الصادقون فكانوا يعملون باستمرار، وإذا ما احتاجوا إلى الذهاب إلى منازلهم أحياناً، أو جدَّ لهم عذرٌ استأذنوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأذن لهم ثم عادوا إلى الخندق فوَر أن يرتفع عذرهم، وقد ذكر القرآن الكريم هذه القضية في سورة النور، إذ يقول تعالى:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا

ص:294


1- . المغازي: 446/1؛ الكامل في التاريخ: 179/2.

اِسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .(1)

مقاتلو العرب واليهود يحاصرون المدينة

وتتابعت أرتال الجيش المشرك على منطقة «أُحد» وعلى مقربة من الخندق الّذي كان قد تمّ إنجازه قبل ستة أيام وقد كان الكفّار ومَن لفّ لفَّهم يتوقّعون أن يلتقوا جنود الإسلام عند جبل «أُحد»، ولكنّهم لم يلقوا أحداً منهم هناك فتقدّموا نحو المدينة حتّى وصلوا إلى الخندق، فلما نظروا إلى الخندق الّذي كان أشبه بحصن منيع يحفظ المدينة من الخطر، فوجئوا به وقالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك إنّ هذا من تدبير الفارسي الّذي معه.

العدد الدقيق لقوّات الطرفين

كان جيش العرب لا يتجاوز في عدده عشرة آلاف، وقد استقروا خلف الخندق وسيوفهم تلمع وهي تخطف بلمعانها الأبصار!

وكان عدد المشاركين في هذا الجيش من قريش وحدها - على رواية المقريزي في الإمتاع - (4 آلاف) مقاتل، معهم (300) فرس و (1500) بعير.

وقد التحق بهم بنوسليم - وهم من حلفاء قريش - في (700) رجل في مرّ الظهران، وكان من قبيلة بني فزارة (1000) مقاتل، ومن قبائل أُخرى، مثل اشجع

ص:295


1- . النور: 62-63.

وبني مرّة كلّ واحد منهما (400) مقاتل، والباقي وهم ما يقارب (3500) مقاتل من بقية القبائل، وعلى هذا الأساس لم يكن المجموع ليتجاوز عشرة آلاف، وقد استقرّوا جميعاً في مكان واحد.

وأمّا عدد المسلمين فكان لا يتجاوز ثلاثة آلاف، وقد نزلوا في سفح جبل سلع وهو موضع مرتفع، مشرف على الخندق وخارجه، إشرافاً كاملاً بحيث يمكن معه مراقبة جميع تحرّكات العدوّ ونشاطاته منه.

وقد وكّل النبي صلى الله عليه و آله و سلم جماعة من أصحابه بحفظ الممرّات ونقاط العبور على الخندق ومراقبة تحرّكات العدوّ، ورصد عناصره. وبذلك كان المسلمون يملكون متراساً قوياً طبيعياً، وغير طبيعي، إذ أنّ سائر المدينة كان مشبكاً بالبنيان، والنخيل كما أسلفنا.

لقد حاصر الكفّار «المدينة» ما يقرب من شهر واحد، ومكثوا خلف الخندق متحيّرين، ولم يستطع أن يعبر منهم الخندق إلّاأفراد معدودون، فمَن كان يفكّر في العبور رماه المسلمون بالحجارة، فولّى هارباً!!

وللمسلمين في هذه الفترة قصص جميلة ومواقف رائعة مع عناصر الجيش العربي المعتدي ذكرتها صحائف التاريخ الإسلامي في مواضعها(1).

خطر البرد، وتناقص الغذاء والعلف

صادفت غزوة الخندق فصل الشتاء وكانت المدينة قد أُصيبت في تلك السنة بقلّة الغيث، ولذلك كانت تعاني من نقص في الطعام.

كما أنّ طعام المشركين لم يكن هو الآخر يكفي لمدة طويلة، ولم يكن أحد

ص:296


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 702/3-704.

منهم يتصوّر أنّ عليه أن يمكث خلفَ الخندق مدة شهر واحد، بل كان المشركون - جميعاً - يرون - بادئ الأمر - أنّهم سيقضون بهجوم واحد واسع، على جنود الإسلام ويجتاحون المدينة، ويستأصلون المسلمين!!

ولقد أدرك مثيرو هذه الحرب العدوانية (اليهود) هذه المشكلة بعد أيام، فقد عرفوا بأن مضيّ الزمان سيقلّل من مقدرة سادة الجيش العربي وقادته على مقاومة القرّ، وقلّة العلف وتناقص الطعام، ومن هنا فكّروا في الاستعانة بيهود بني قريظة داخل المدينة، ليشعلوا فتيل الحرب من داخل المدينة، وبذلك يمهِّدوا السبيل لجيش العرب لِغزو المدينة، واجتياحها من الخارج!!

حيي بن أخطب يدخل حصن بني قريظة

كان بنو قريظة الطائفة اليهودية الوحيدة الّتي بقيت في المدينة تعايش المسلمين في سلام وأمن، وكانوا يحترمون الميثاق الّذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم، احتراماً كاملاً.

فرأى «حُييُّ بن أخطب» أنّ طريق الانتصار يتوقّف على الاستعانة بمَن في داخل المدينة لصالح المعتدين العرب، وذلك بأن يدعو يهود بني قريظة إلى نقض العهد الّذي عاهدوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم به، ليشعل بذلك حرباً بين المسلمين ويهود بني قريظة ويشغل المسلمين بفتنة داخلية، وبذلك يمهّد لانتصار المشركين الذين يحاصرون المسلمين خلف الخندق.

وانطلاقاً من هذه الفكرة أتى «حُييُّ» إلى حصن بني قريظة ودقّ عليهم الباب وعرّف نفسه، فأمر رئيس بني قريظة «كعب بن الأسد» بأن لا يفتحوا له الباب ولكنّه أصرّ، وقال: ما يمنعك من فتح الباب إلّاجشيشتك (أي خبزك) الّذي في التنور تخاف أن أُشاركك فيها فافتح فإنَّك آمِنٌ من ذلك. فأثارت تلك الكلمات الجارحة

ص:297

حميّة كعب فأمر بأن يفتحوا له باب الحصن، ففتحوا له، فدخل مثير الحرب المشؤوم «حييّ» وقال لكعب: يا كعب لقد جئتك بعزّ الدهر، هذه قريش في قادتها وسادتها مع حلفائهم من كنانة، وهذه فزارة مع قادتها وسادتها، وهذه سليم وغيرهم، ولا يفلت محمَّد وأصحابُه من هذا الجمع أبداً وقد تعاقدوا وتعاهدوا ألّا يرجعوا حتّى يستأصلوا محمَّداً ومن معه، فانقض العهد بينك وبين محمَّد، ولا تردَّ رأيي.

فأجابه كعب قائلاً: لقد جئتني - واللّه - بذلّ الدهر، وبسحاب يبرق ويرعد وليس فيه شيء، وأنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري ومالي معي، والصبيان والنساء، إنّي لم أرَ مِن محمَّد إلّاصدقاً ووفاء فارجع عنّي، فإنّه لا حاجة لي فيما جئتني به.

ولكن حيّي بن أخطب لم يزل يراوض كعباً ويخاتله ويلحّ عليه كما يفعل صاحب الجمل الجامح الّذي يستصعب عليه، حتّى أقنعه بنقض عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهيّأه لذلك، فقال: أنا أخشى أن لا يقتل محمَّد وتنصرفَ قريشٌ إلى بلادها، فماذا نفعلُ حينذاك؟ فوعده حيي أن يدخل معه حصنهُ ليصيبه ما أصابه إن لم يُقتل محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم.

فقال كعب: دَعني أُشاور رؤساء اليهود، فدعا رؤساء اليهود وشيوخهم، وخبرهم الخبر، وحيي حاضرٌ، وقال لهم كعبٌ: ما ترون؟ فقالوا: أنت سيدنا، والمطاع فينا، وصاحب عهدنا وعقدنا، فإن نقضت نقضنا معك وإن أقمت أقمنا معك، وإن خرجت خرجنا معك.

فقال «الزبير بن باطا» وكان شيخاً كبيراً مجرّباً قد ذهب بصره: قد قرأت في التوراة الّتي أنزلها اللّه في سفرنا يبعث نبيّاً في آخر الزمان، يكون مخرجُه بمكّة،

ص:298

ومهاجرُه في هذه البحيرة... يبلغ سلطانه منقطع الخفِّ والحافر، فإن كان هذا (أي محمَّد) هو فلا يهولنّه هؤلاء ولا جمعهم، ولو ناوى على هذه الجبال الرواسي لغلبها.

فقال أخطب من فوره: ليس هذا ذاك، ذلك النبيُ من بني إسرائيل، وهذا من العرب من ولد إسماعيل، ولايكونوا بنو إسرائيل أتباعاً لولد إسماعيل أبداً، لأنّ اللّه فضّلهم على الناس جميعاً وجعل فيهم النبوة والملك، وليس مع محمَّد آية، وإنّما جمعهم جمعاً وسحرهم!!

ولم يزل يقنّع بهم، ويقلِّبهم عن رأيهم، ويلحُّ عليهم حتّى أجابوه، ورضوا بأن ينقضوا العهد الّذي بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقال: أخرجوا الكتاب الّذي بينكم وبين محمَّد، فأخرجوه، فأخذه و مزقه، وقال: قد وقع الأمر، فتجهَّزوا وتهيّأوا للقتال، وبذلك جعلهم أمام الأمر الواقع الّذي ظنوا أنّه لا مفرَّ منه!!(1)

النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد

بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق جواسيسه الأذكياء نقضُ بني قريظة للعهد، في مثل ذلك الظرف الحسّاس، فغمّه غمّاً شديداً. فأمر مِن فوره «سعد بن معاذ» و «سعد بن عبادة» - وكانا من خيرة رجاله الشجعان ومن قادة جيشه الممتازين، كما أنّهما كانا رئيسي الأوس والخزرج - بأن يحصلا له على معلومات دقيقة عن هذا الحادث، وأسبابه وملابساته، وأنّه إذا كان هناك خيانة ونقض للعهد فعلاً أن يخبّراه وحده فقط ولا يخبّرا أحداً به ويقولا: عضل والقارة، لكيلا يفتَّ ذلك أعضادَ

ص:299


1- . لاحظ: المغازي: 456/1؛ سيرة ابن هشام: 705/3-706؛ بحار الأنوار: 221/20-223.

المسلمين ولا يضعف من معنوياتهم، وأمّا إذا لم تكن هناك خيانة، فيكذّبا الأمر بصراحة.

فذهب الرجلان، واقتربا إلى حِصن بني قريظة، فأشرف عليهما كعبٌ من داخل الحصن، فشتم سعداً وشتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وبذلك أظهر نقضه للعهد والميثاق فأجابه سعد - بإلهام غيبي -: إنّما أنت ثعلب في جحر، لتولَّيَنَّ قريشٌ، وليحاصرنَّك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولَيُنزلنك على الصغر والقمأ (أي الذلّ) وليضربنَّ عنقك.

ثم رجعا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالا له: عضل والقارة. فكبّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال برفيع صوته: «أبشروا يا معشر المسلمين بنصر اللّه وعونه»(1).

وهذه العبارات تكشف عن مبلغ شجاعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعمق سياسته، فقد قالها لكي لا تضعف معنوية المسلمين، ولا يتملّكهم الخوف إذا سمعوا بنقض بني قريظة للعهد، وهم في تلك الظروف الحرجة الشديدة أحوج ما يكونون إلى المعنويات العالية، والإحساس بروح النصر.

تجاوزات بني قريظة الأوّلية

كانت الخطّة المبدئية لبني قريظة تقضي بأن يبدأوا عملهم الخياني بالإغارة على المدينة، وإرعاب النساء و الأطفال الموجودين في البيوت و المنازل، وقد نفذت مراحل من هذه الخطّة تدريجاً!!

فقد أخذ بعض صناديد بني قريظة يحومون حول بيوت المسلمين الّتي فيها أطفالهم ونساؤهم بصورة مشبوهة!!

ص:300


1- . لاحظ: المغازي: 459/1؛ بحار الأنوار: 223/20.

كانت «صفية بنت عبدالمطلب» عمّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في فارع، حصن حسان بن ثابت قالت: وكان حسان بن ثابت معنا فيه، مع النساء والصبيان، فمرّ بنا رجل من يهود. فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول صلى الله عليه و آله و سلم، وليس بيننا وبينهم أحدٌ يدفع عنّا، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون في نحور عدوّهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت، فقلت: يا حسّان: إنّ هذا اليهوديّ كماترى يُطيف بالحصن، وإنّي واللّه ما آمنه أن يدلّ على عورتنا مَن وراءه مِن يهود، وقد شُغل عنّا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأصحابه، فأنزل إليه فاقتله، قال: يغفراللّه لك يا بنة عبدالمطلب واللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فلمّا قال لي ذلك، ولم أر عنده شيئاً، احتجزت(1) (أي شددت وسطي) ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتّى قتلته، فلمّا فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسّان أنزل إليه فاسلبه فإنّه لم يمنعني من سلبه، إلّاأنّه رجلٌ، فقال حسّان:

مالي بسلبه حاجة يابنة عبدالمطلب!!(2).

ولمّا بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق عيونه على اليهود أنّهم نقضوا ما بينه وبينهم من العهد وأنّهم طلبوا من قريش ألف رجل ومن غطفان ألف رجل ليغيروا على المدينة عبر حصن اليهود، وكان ذلك في ما كان المسلمون منشغلين بحراسة الخندق، فعظم بهذا الخبر البلاء وصار الخوف على الذراري أشد من الخوف على أهل الخندق، بعث النبي صلى الله عليه و آله و سلم مسلمة بن أسلم وزيد بن حارثة في خمسمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير تحفظاً على الجواري، من بني قريظة(3).

ص:301


1- . وفي رواية: اعتجرت.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 711/3.
3- . لاحظ: المغازي: 460/1.
الإيمانُ في مواجهة الكفر

لقد خاض المشركون حروباً عديدة ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل معركة الأحزاب، ولكن العدوّ في جميع تلك المعارك والحروب كان من طائفة أو قبيلة واحدة، ولم يكن من عموم الجزيرة العربية، ومن عموم القبائل، أي الإسلام لم يواجه في تلك الحروب والوقائع عدواناً شاملاً من سكان الجزيرة.

وحيث إنّ أعداء الإسلام رغم الجهود الكبيرة لم ينجحوا في القضاء على الحكومة الإسلامية الفتيّة، قرّروا هذه المرّة أن يستأصلوا الإسلام عن طريق اتّحاد عسكري عريض، يضم كلّ قبائل الجزيرة العربية المشركة، ويرموا المسلمين بآخر سهم في جعبتهم، من هنا عمدوا إلى تعبئة أكبر قدر من المقاتلين، واستصرخوا أكبر قدر من القبائل وتحرّكوا في جمع لم يعرف له تاريخ العرب والجزيرة من نظير نحو المدينة لتحقيق ذلك الهدف المشؤوم. ولولا تدبير المسلمين للدفاع عن المدينة لحقق العدوّ الحاقد أهدافه.

ولهذا جلب أعداء الإسلام معهم أكبر صنديد من صناديد العرب، وأشهر بطل من أبطالهم ورأسوه عليهم، وهو عمرو بن عبد ود العامري ليشدُّوا به أزرهم، ويحقّقوا بسببه ما كانوا يأملونه من الظفر.

وعلى هذا الأساس كانت معركةُ الأحزاب مواجهة كاملة بين كلّ الكفر وكلِّ الإيمان، وخاصّة عندما تبارز بطل الإسلام وبطل الكفر وتواجها في ساحة القتال.

ولقد كان الخندق الّذي احتفره المسلمون سلفاً من عوامل إخفاق المشركين، وكان العدوُّ يحاول أن يعبر هذا الخندق فتطيف فرسانهم به ليل نهار ولكن دون جدوى، لأنّهم كانوا يواجهون في كلّ مرة سهام الحرس الّذين وكلهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحراسة الخندق، ورصد محاولات العدو لاجتيازه وإفشالها فوراً،

ص:302

وأيضاً بفضل تدابير النبي القائد نفسه.

ثمّ إنّ طائفة من الأنصار خرجوا ليدفنوا ميّتاً منهم بالمدينة فصادفوا عشرين بعيراً لقريش محمّلة شعيراً وتمراً وتبناً حملها ذلك حيي بن أخطب شداداً لقريش فأتوا بها إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فتوسّع بها أهل الخندق(1).

وذات يوم من أيام الانتظار وراء الخندق كتب أبوسفيان إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كتاباً يقول فيه: فإنّي أحلف باللّات والعزّى لقد سرت إليك في جمعنا وإنّا نريد ألّا نعود إليك أبداً حتّى نستأصلك فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري مَن علّمك هذا؟ فان نرجع عنكم فلكم مِنّا يومٌ كيوم أُحد تُبقَر فيه النساء(2).

فكتب إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «من محمَّد رسول اللّه إلى أبي سفيان بن حرب... أمّا بعد فقديماً غرّك باللّه الغرور، أمّا ما ذكرت أنّك سرت إلينا في جمعكم، وإنّك لا تريد أن تعود حتّى تستأصلَنا فذلك أمرُ اللّه يحولُ بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللّات و العزّى. وأمّا قولك: مَن علّمك الذي صنعنا من الخندق فإنّ اللّه ألهمني ذلك لما أراد من غيظك به وغيظ أصحابك، وليأتينَّ عليك يومٌ تدافعني بالراح، ولياتينّ عليك يوم أكسرُ فيه اللّات والعزّى وأساف، ونائلة، وهبل حتّى أُذكّرك ذلك»(3).

ولقد وقعت إجابة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم - الّتي كانت تنبئ عن قوة إرادته وشدّة عزيمته، وتصميمه القاطع - موقع السهم في قلب زعيم المشركين، وحيث

ص:303


1- . السيرة الحلبية: 647/2.
2- . المغازي: 492/1.
3- . المغازي: 492/1-493؛ إمتاع الأسماع: 242/1 و 243.

إنّ قريشاً كانت تعتقد بصدق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّها أُصيبت بهذا الرد الحاسم في عزيمتها ونفسيتها، ولكنّها مع ذلك لم تكفَّ عن مواصلة عدوانها.

وذات ليلة عزم «خالد بن الوليد» على أن يعبر بجماعته الخندق ولكنّه اضطرّ إلى التراجع عندما واجه مقاومة شجاعة من مائتين من المسلمين بإمرة «أُسيد بن حضير» وقد كلّفهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالقيام على شفير الخندق، ودفع المشركين ومنعهم من العبور!!

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن ليغفل عن تقوية عزائم المقاتلين المسلمين ورفع معنوياتهم، ولهذا كان يهيّئهم بخطبه الحماسية، وكلماته المشجّعة، الحاثّة على الجهاد والاستقامة والدفاع عن حياض العقيدة والإيمان، والذود عن صرح الحرية، والعدل.

فقد وقف ذات يوم خطيباً في اجتماع كبير من المسلمين وقال - بعد أن حَمِد اللّه وأثنى عليه -.

«أيّها النّاسُ إذا لَقْيتُمُ الْعدُوَّ فاْصبِرُوا وَاْعَلمُوا أَنَّ الجَنَّة تَحْتَ ظِلال السيوف»(1).

أبطالٌ من العرب يَعبُرونَ الخندق

لبس خمسةٌ من شجعان المشركين هم: «عمرو بن عبد ود العامري»، «عكرمة ابن أبي جهل»، «هبيرة بن وهب»، «نوفل بن عبداللّه»، و «ضرار بن الخطاب» لامة الحرب، ووقفوا أمام بني كنانة في غرور عجيب، وقالوا: تهيّأوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون مَن الفرسان اليوم؟

ص:304


1- . السيرة الحلبية: 648/2.

ثم ضربوا خيولهم فعبرت بهم الخندق من مكان ضيق قد أغفله المسلمون، ولكنّهم بادروا إلى محاصرة تلك الثغرة ومنع غيرهم من العبور.

وكان الموضع الّذي وقف فيه أُولئك الشجعان الخمسة الّذين عبروا الخندق للمبارزة يقع بين الخندق وجبل سلع حيث تمركز جنود الإسلام(1).

ثم أخذوا يدعون المسلمين إلى البراز، في كبرياء وغرور كبيرين، وهم يقطعون ذلك الموضع جيئة وذهاباً بخيولهم!!

بيد أنّ أشجع أُولئك الخمسة وأجرأهم وأعرفهم بفنون القتال وهو: «عمرو بن عبد ود العامري» تقدّم، وأخذ يرتجز داعياً المسلمين إلى النزال والبراز قائلاً:

ولَقَدْ بُحِحْتُ من النداء بجمعكم هَلْ مِنْ مُبارزْ

وَوَقفْتُ إذ جَبنَ المُشَجَّعُ مَوقفَ القرن المناجِزْ

وكذلك إنّي لم أزلْ متسرّعاً قبل الهزاهز

إن والشجاعة في الفتى والجود من خيْرُ الغرائز(2)

فأحدثت نداءات عمرو الرهيبة حالة من الرعب، والوجل الشديدين في معسكر المسلمين، وسكت الجميع، ولم ينبسوا ببنت شفة رهبة وخوفاً منه.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أيكمْ يبرز إلى عمرو أضمنُ له الجنة»؟

وقد قالها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثلاث مرات، وفي كلّ مرة يقوم عليّ عليه السلام ويقول:

أنا له يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، والقوم ناكسوا رؤوسهم(3) أو كأنَّ المسلمين يومئذ على

ص:305


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 239/2؛ الطبقات الكبرى: 28/2.
2- . تاريخ مدينة دمشق: 79/42.
3- . تاريخ الخميس: 486/1.

رؤوسهم الطير، لمكان عمرو وشجاعته، كما يقول الواقدي(1).

ولابدّ أن تحلَّ هذه المشكلة بيد علي عليه السلام فارس ميادين الحرب المقدام، وكان كذلك، فلمّا أبدى عليٌّ عليه السلام استعداده الكامل لمقاتلة عمرو أعطاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيفه وعمّمه بيده، ووجّهه صوب عمرو وقد دعا له قائلاً: اللّهم أعِنهُ عَليه.

وقال أيضاً: «اللَّهم إنَّكَ أخذتَ مِنِّي عُبيدة بنَ الحارث يَومَ بَدر، وَ حَمزة بن عبدالمطلب يومَ أُحُد، وهذا أخي عليّ بن أبي طالب، ربِّ لا تَذَرني فرداً وأنت خيرُ الوارثين»(2).

فبرز عليّ عليه السلام إلى عمرو يهرول في مشيته، مبادراً إليه دون إبطاء، وهنا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلمته الخالدة في تلك المواجهة:

«بَرزَ الإيمان كلُّه إلى الشرك كلِّه»(3) وارتجز عليه السلام قائلاً:

لا تعجلنَّ فقد أتاك مجيبُ صوتكَ غير عاجزْ

ذُو نيّة وَبصيرة والصدقُ مُنجي كلّ فائز

إني لأرجو أن أُقيمَ عليكَ نائحة الجنائزْ

مِنْ ضَرْبَةٍ نَجلاء يَبقى ذكرُها عِندَ الهَزاهِزْ

وقد كان عليٌّ عليه السلام مسربلاً بالحديد لا يرى منه إلّاعيناه من تحت المغفر، فأراد عمرو أن يعرف مَن برز إليه فقال: من أنت؟

ص:306


1- . المغازي: 470/1.
2- . كنز الفوائد: 137؛ بحار الأنوار: 215/20 ح 1.
3- . تاريخ الخميس: 486/1 و 487؛ بحار الأنوار: 215/20.

قال: أنا عليُّ بن أبي طالب.

فقال عمرو: إنّي أكره أن أُريق دمك، واللّه إنّ أباك كان لي صديقاً ونديماً، ما أمِنَ ابن عمك حين بعثك إليَّ أن اختطِفَكَ برمحي هذا فأتركك شائلاً بين السماء والأَرض لاحيُّ ولا ميت.

فقال عليٌّ عليه السلام: لكنّني ما أكرهُ واللّه أن أهريق دمَك، وقدعلم ابنُ عمي أنّك إن قتلتني دخلتُ الجنة، وأنت في النّار، وإن قتلتك فأنتَ في النّار وأنا في الجنة.

فضحك عمرو وقال مستهزئاً: كلتاهما لك يا عليّ، تلك إذاً قسمةٌ ضِيزى.

(أيْ ناقصّة جائرة).

يقول ابن أبي الحديد: كان شيخنا أبو الخير يقول إذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع: واللّه ما أمره (أي ما أمر عمرو بن عبد ودّ علياً عليه السلام) بالرجوع إبقاءً عليه، بل خوفاً منه، فقد عرف قتلاه ببدر وأُحُد، وعلم أنّه إن ناهضهُ قتله، فاستحيا أن يُظهرَ الفشل، فأظهر الإبقاء والإرعاء، وإنّه لكاذب فيهما(1).

ثم إنّ عليّاً عليه السلام ذكّر عمراً بعهد قطعه على نفسه فقال له:

يا عمرو إنّي سمعت منك وأنت متعلّق بأستار الكعبة تقول: لا يعرض عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلّاأجبتُه إلى واحدة منها، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة.

قال عمرو: هات يا عليّ.

قال: تشهد أن لا اله الّا اللّه، وأنَّ محمَّداً رسول اللّه.

فقال عمرو: نحِّ عني هذا.

ص:307


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 64/19.

قال علي عليه السلام: فالثانية أن ترجع وترد هذا الجيش عن رسول اللّه، فإن يك محمَّدٌ صادقاً فأنتم أعلى به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره.

فقال عمرو في غرور عجيب: اذاً تتحدّث نساء قريش بذلك، وينشد الشعراء فيَّ أشعارها أنّي جبنت، ورجعت على عقبي من الحرب، وخذلتُ قوماً رأسوني عليهم.

فقال له علي عليه السلام: فالثالثة أن تنزل إليّ فإنّك راكبٌ وأنا راجلٌ، حتّى أُنابذَك.

فقال عمرو: هذه خصلة ما ظننت أنّ أحداً من العرب يسومني عليها، ثم وثب عن فرسه وعرقبه.(1)

تصاول البطلين

وهنا بدأ تصاولٌ شديدٌ بين البطلين، وارتفعت بينهما عجاجة حجبت الرؤية، وإنّما كان الناس يسمعون فقط صوت إصطكاك السيوف والدروع الحديدية وغيرها، وبعد فترة من التصاول بين ذينك البطلين العملاقين ضرب «عمرو» «أميرالمؤمنين علياً» عليه السلام بالسيف على رأسه، فاتّقاه علي عليه السلام بالدرقة فقطعها، وشجّت الضربة رأسه ففاجأه عليٌّ عليه السلام بضربة قوية على ساقيه فقطعهما، جميعاً، ثم انكشفت العجاجة فنظر المسلمون فإذا عليٌّ عليه السلام على صدر عدوّ اللّه يريد أن يذبحه. وارتفع صوت علي بالتكبير من بين العجاجة يعلن عن انتصاره، ومقتل عمرو.

فألقى هلاك فارس العرب الأكبر «عمرو بن عبد ود» رعباً عجيباً في نفوس بقية الأبطال والشجعان الذين عبروا معه الخندق، فهربوا راجعين إلى معسكرهم،

ص:308


1- . بحار الأنوار: 227/20. ولاحظ: المغازي: 470/2-471.

إلّا «نوفل» الّذي سقط فرسه في الخندق، وهوى هو إلى الأرض بشدة، فرماه حرس الخندق بالحجارة فقال: قتلةً أجمل من هذه، ينزلُ إليّ بعضكم أقاتله، فنزل إليه عليٌّ عليه السلام فضربه حتّى قتله في الخندق(1).

فهيمن الخوفُ والرعب على كلّ أرجاء المعسكر العربي المشرك، وبهت أبوسفيان أكثر من غيره.

ثم إنّه كان يتصوّر أنّ المسلمين سيمثّلون بجسد «نوفل» انتقاماً لحمزة الذي مُثِّل به في أُحد، فبعث إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مَن يشتري جثته بعشرة آلاف فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

«هو لكم، لا نأكلُ ثمن الموتى»(2).

قيمة هذه الضربة

لقد قتل عليٌّ عليه السلام - حسب الظاهر - رجلاً شجاعاً لا أكثر، بيد أنّه بضربته لعمرو وبقتله إيّاه أحيا - في الحقيقة - كلّ مَن أرعبته نداءات عمرو المهدّدة، من المسلمين، وألقى رعباً كبيراً في نفوس جيش قوامه (10/000) رجل تعاهدوا وتعاقدوا على محو الإسلام واستئصال الحكومة الإسلامية الفتية. ولو أنّ الانتصار كان يحالف عمراً لعرفنا حينئذ قيمة هذه التضحية الكبرى الّتي قام بها عليُّ عليه السلام.

وعندما عاد عليٌّ عليه السلام ظافراً منتصراً قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«ضربةُ عليّ يومَ الخندق أفضلُ مِن أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة».(3) وفي

ص:309


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 205/20؛ تاريخ الطبري: 240/2.
2- . بحار الأنوار: 205/20؛ البداية والنهاية: 122/4.
3- . ينابيع المودّة: 412/1.

رواية أُخرى قال صلى الله عليه و آله و سلم: «لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة».(1)

وقيل أنّه قال:

«لو وُزنَ اليومَ عملُك بعمل جميع أُمّة محمّد لرجح عملك على عملهم، وذاك إنّه لم يبق بيت مِن المشركين إلّاوقد دخله ذلٌ بقتل عمرو، ولم يبق بيتٌ من المسلمين إلّاوقد دخله عزّ بقتل عمرو»(2).

وبذلك كشف عن أهمية الضربة الّتي أوقعها علي عليه السلام بعمرو في تلك الواقعة.

لماذا التنكّر لهذا الموقف؟

ويحقّ لنا هنا أن نستغرب تنكّر بعض المؤرّخين أو تجاهلهم لهذا الموقف العظيم الّذي أدى إلى هزيمة المشركين، والأحزاب في معركة الخندق هزيمة نكراء، كلّ واحد بشكل من الأشكال وصورة من الصور: فهذا ابن هشام رغم إسهابه في بعض الأُمور التاريخية ممّا لا قيمة له بعد أن يذكر مقتل «عمرو» على يد بطل الإسلام الخالد عليّ عليه السلام من دون أن يذكر ما قاله النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند مطالبة عمرو بالمُنازل والمبارز، ذكر أبياتاً قالها عليّ عليه السلام في المقام ثم يشكّك في نسبتها إليه عليه السلام(3).

وهكذا ابن الأثير رغم اهتمامه بالدقائق التاريخية ووصفه لكتابه بالكامل، نجده يحاول التقليل من أهمية هذا الموقف بصورة أُخرى، وهو أن عليّاً خرج

ص:310


1- . مستدرك الحاكم: 32/3.
2- . كنز الفوائد: 137؛ شواهد التنزيل: 12/2؛ ينابيع المودة: 284/1 برقم 7؛ بحار الأنوار: 216/20.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 709/3.

ضمن مجموعة لمقاتلة عمرو وليس وحده.

ولكنّ المعلِّقين على الطبعة المنيرية للكامل والّتي أشرف عليها فضيلة الأُستاذ عبدالوهاب النجّار لم يرق لهم هذا الصنيع، وأبت عليهم ضمائرهم الحرّة أن يتركوا الرواية على حالها فقالوا في الهامش: وروى السهيلي عن ابن إسحاق أنّ عمراً دعا المسلمين للمبارزة، وعرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأمر ثلاث مرّات، ولا يقوم إلّاعليٌّكرم اللّه وجهه، وفي الثالثة قال له: إنّه عمرو قال: وإن كان عمراً، فنزل إليه وقتله وكبّر فكبّر المسلمون فرحاً بقتله(1).

وهذا ابن تيمية يحاول التنقيص من هذه الفضيلة ولكن بالضرب على وتر آخر حيث قال: إنّ قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في شأن عليّ عليه السلام لما قتل عمراً: «قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين» من الأحاديث الموضوعة الّتي لم ترد في شيء من الكتب الّتي يعتمد عليها بسند ضعيف، وكيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين... ثم قال: بل إنّ عمرو بن عبد ود لم يعرف له ذكرٌ إلّافي هذه الغزوة.

فهو يحاول التقليل من شأن عمرو، والإيحاء بأنّه لم يكن شيئاً، فلا يكون لقتله أهمية.

ولكن صاحب السيرة الحلبية الّذي ينقل كلّ هذه العبارات عن ابن تيمية يردّ عليه قائلاً: ويرد قوله: «إنّ عمرو بن عبد ود هذا لم يعرف له ذكرٌ إلّافي هذه الغزوة» قول الأصل: وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتّى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أُحُد فلمّا كان يوم الخندق خرج مُعلِماً، أي جعل له علامة يعرف بها ليرى مكانه.

ص:311


1- . الكامل في التاريخ: 124/2، الطبعة المنيرية، إشراف الأُستاذ عبد الوهاب النجّار.

ويرده أيضاً ما تقدّم من أنّه نذر أن لا يُمسَّ رأسه دهناً حتّى يقتل محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم.

واستدلاله بقوله: وكيف يكون إلى آخره، فيه نظر؛ لأنّ قتل هذا كان فيه نصرة للدين وخذلان الكافرين(1).

وما قاله صاحب السيرة الحلبية عن مشاركة عمرو في معركة بدر يوافق ما جاء في الكامل لابن الأثير الجزء 2 الصفحة 124 ويوافق أيضاً ما جاء في السيرة النبوّية الجزء 3 الصفحة 709.

مروءة عليّ عليه السلام وشهامته

ولقد أحجم عليّ عليه السلام عن سلب «عمرو بن عبد ود» درعه، وكان درعاً غالية الثمن ليس للعرب، درعٌ خيرٌ منها، وقد فعل ذلك مروءة، وترفّعاً، فاعترض عليه بعضٌ، حتّى أنّ عمر بن الخطاب قال له: هلا سلبته درعه فإنّه ليس في العرب درع خير منها(2). ولما عرفت أُختُ عمرو بمقتله سألت عمّن قتله؟ فأخبروها بأنّ علياً عليه السلام هو الّذي قتله، فقالت لم يَعْدُ موته إلّاعلى يد كفؤ كريم، لارقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قتلَ الأبطال، وبارز الأقران، وكانت منيتُه على يد كفؤ كريم من قومه ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر.

ثم أنشأت تقول:

لو كانَ قاتِلُ عمرو غير قاتِلِه بكيته ما أقام الروح في جسدي

ص:312


1- . السيرة الحلبية: 643/2. ولاحظ أيضاً رد الأمين على ابن تيمية في أعيان الشيعة: 264/1.
2- . السيرة الحلبية: 643/2.

لكنَّ قاتله مَن لا يُعابُ بِه وكانَ يُدعى قديماً بيضة البلد(1)

وقد ذكر علي عليه السلام صنيعه هذا في أبيات أنشأها يوم الخندق إذ قال:

أَعَليَّ تقتحمُ الفوارسُ هكذا؟ عَنّي وَ عنها خبّروا أصحابي

أَردَيْتُ عمراً إذ طغى بمهنَّدٍ صافي الحديد مجرَّب قضاب

فصددتُ حين تركتُه متجدّلاً كالجذع بين دكادك وروابي

وعففتُ عن أثوابه وَ لَو أنَّني كنتُ المقطَّر بَزّني أثوابي(2)

والآن حان أن نرى إلى أيّ مصير آل أمر معسكر المشركين بعد مقتل فارس العرب وشجاعها البارز.

جيش العرب يتفرّق في موقفه

لم يكن دافع جيش العرب ومَن عاوَنهم ومالأهم من اليهود إلى محاربة الإسلام واحداً، فاليهود كانوا يخشون من اتّساع رقعة الحكومة الإسلامية الفتيّة، المتزايد، وأمّا دافع قريش فكان هو العداء القديم للإسلام والمسلمين. وأمّا قبائل «غطفان» و «فزارة» وغيرها من القبائل فلم يحرّكها إلّاالطمع في محاصيل «خيبر» الّتي وعدهم بها اليهود.

فعلى هذا الأساس لم يكن محرّك «الأحزاب» المشاركة في جيش الشرك أمراً واحداً، فقد كان محرّك الطوائف الأخيرة أمراً مادياً، ولو أنّ هذا الهدف تحقّق عن طريق المسلمين لعادت هذه القبائل إلى أوطانها مسرورة راضية، وخاصّة أنّ البرد، وقلّة الطعام، والعلف، طوال مدّة المحاصرة قد أوجدت في نفوسهم كللاً

ص:313


1- . مستدرك الحاكم: 33/3.
2- . بحار الأنوار: 257/20؛ المستدرك على الصحيحين: 32/3 باختلاف يسير.

ومللاً، من جهة، وعرَّضت أنعامهم لخطر الهلاك والفناء من ناحية أُخرى.

من هنا كلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جماعة بأن يتّصلوا بهذه القبائل (الأخيرة) ويذكروا لهم بأنَّ المسلمين مستعدّون لإعطائهم ثلث تمر المدينة إن هم تركوا قريشاً وعادوا إلى ديارهم، فأعدّوا عهداً وجاءُوا به إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليمضيه، ولكنّه شاور فيه سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة قبل أن يمضيه، فقالا له: يا رسول اللّه، أمراً تحبّه فنصنعه، أم شيئاً أمرك اللّه به، لابدّ لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: «بل شيء أصنعه لكم، واللّه ما أصنع ذلك إلّالأنّني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما» فقال له سعد بن معاذ: يا رسول اللّه قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّه وعبادة الأوثان، لا نعبد اللّه ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلّاقرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا اللّه بالإسلام وهدانا له وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! واللّه ما لنا بهذا من حاجة، واللّه لا نعطيهم إلّاالسيف حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فأنت وذاك.

فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا.(1)

وبهذا كشف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن صفحة أُخرى من سياسته الحكيمة، فقد كان إقدامه على ثني القبائل المتحالفة مع قريش في جيش الأحزاب بإعطاء بعض التنازلات المادية (لا المعنوية) وتحييدها خطوة سياسية وعسكرية صحيحة، ورائعة، وكانت مشورته مع أصحابه من الأنصار (خاصّة) عملاً حكيماً أيضاً؛ لأنّه استثار بذلك هممهم، وشدّ على عزائمهم، فوعدوا بالصمود والمقاومة في ذلك

ص:314


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 707/3-708.

الظرف العصيب وعدم تقديم أيّة تنازلات، ولهذا انصرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمّا أراد أوّلاً، فكان مجموع هذه الخطوات عملاً حكيماً جداً، يكشف عن حنكة سياسية عظيمة، ودراية عسكرية عميقة.

العوامل الّتي فرّقت كلمة «الأحزاب»

هناك عوامل عديدة تسبّبت في تفرّق الجيش العربي الّذي زحف إلى المدينة لاجتياحها، وانقسام الأحزاب على أنفسهم، وإليك أبرزها:

1. إنّ أوّل عامل من تلك العوامل هو تكلّم مبعوثي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع سادة غطفان وفزارة، لأنّ هذه المعاهدة وإن لم توقّع إلّاأنّها لم تُنقضْ، فتسبَّب ذلك في أن يختلفوا مع قريش في الرأي، أي اجتياح المدينة وبأي شكل من الأشكال وأن لا يقدموا على أي إجراء عسكريّ مع غيرهم انتظاراً للتوقيع على تلك المعاهدة، ولهذا كلّما طلبت القيادة القرشية منهم الهجوم الشامل اعتذروا ببعض الأعذار تملّصاً من ذلك الطلب.

2. مصرع «عمرو بن عبد ود» فارس العرب الأكبر الّذي كان الأغلبية في ذلك الجيش يعلّقون عليه آمالهم في الانتصار على المسلمين. فلمّا قتل تملّك الجميع رعبٌ غريبٌ وانهارت آمالهم، وبخاصّة عندما هرب زملاؤه الشجعان من وجه عليّ عليه السلام خوفاً، ورهبة.

3. ما لعبه «نُعيم بن مسعود» الّذي أسلم حديثاً، من دور في إلقاء روح الشك والفرقة بين يهود بني قريظة وجيش «الأحزاب»، فقد قام بهذا الدور بشكل رائع، تماماً كما يفعله الجواسيس المنظّمون في عصرنا الحاضر، بل كان ما فعله أفضل وأكبر تأثيراً وعطاء.

ص:315

فقد أتى «نُعيم» هذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا رسول اللّه؛ إنّي قد أسلمتُ، وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «إنما أنت فينا رجلٌ واحدٌ، فخذّل عنّا إن استطعت (أي أُدخُل بين القوم حتّى يخذّل بعضهم بعضاً)، فإنّ الحرب خدعة».

فخرج نعيم بن مسعود حتّى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهليّة، فقال: يا بني قريظة قد عرفتم وُدّي، وخاصّة ما بيني وبينكم.

قالوا: صدقتَ، لست عندنا بمتَّهم.

فقال لهم: إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البَلدُ بلدُكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإنّ قريشاً وغطفان قد جاءُوا لحرب محمَّد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدُهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نُهزَة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلُّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به، إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رهناً من أشرافِهم يكونون بأيديكم ثقة لكم، على أن تقاتلوا معهم محمَّداً حتّى تناجزوه.

فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتّى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودّي لكم، وفراقي محمّداً، وإنّه قد بلغني أمرٌ قد رأيت عليَّ حقّاً أن أبلّغكموه، نصحاً لكم فاكتموا عني. فقالوا: نفعل.

قال: تعلموا أنَّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمَّد، وقد أرسلوا إليه إنّا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك

ص:316

على مَن بقي منهم حتّى نستأصلَهم؟ فأرسلَ إليهم: أن نعم، فإن بعثت إليكم يهودُ يلتمسون منكم رهناً من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.

ثم خرج حتّى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان، إنّكم أصلي وعشيرتي، وأحبُّ الناس إليّ، ولا أراكم تتّهموني، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتّهم، قال فاكتموا عنّي، قالوا: نفعل فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم.(1)

وهكذا أدّى «نعيم» وظيفته بأحسن صورة ثم دخل سرّاً في جيش المسلمين، وأشاع بين المسلمين أنَّ بني قريظة تنوي أخذ رجال من المشركين لتسليمهم إلى النبيّ والمسلمين.

وقد كان يقصدُ من إشاعة هذا النبأ أن يبلغ مسامع رؤساء العرب وقادتهم.

مبعوثو قريش يمشون إلى بني قريظة

ولمّا كانت ليلة السبت قرّر أبوسفيان أن يحسم الموقف بأيّ شكل من الأشكال، فأرسل إلى بني قريظة جماعة من سادة قريش وغطفان فقالوا لهم: إنّا لسنا بدار مقام قد هلك الخفُ والحافر، فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمَّداً، ونفرغ ممّا بيننا وبينه.

فأرسلوا (بنو قريظة) إليهم: إنّ اليوم يوم السبت، وهو يومٌ لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضُنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمَّداً حتّى تعطونا رُهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتّى نناجز محمَّداً، فإنّنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتدّ عليكم القتالُ أن تتشمّروا

ص:317


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 712/3-713.

إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه.

فلمّا رجعت إليهم الرسلُ بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: واللّه إن الَّذي حدَّثكم نعيم بن مسعود لحقّ.

فأرسلوا إلى بني قريظة من يقول لهم: إنّا واللّه لا ندفع إليكم رجلاً واحداً، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.

فقالت بنو قريظة - حين انتهت الرسُلُ إليهم بهذا -: إنّ الّذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلّاأن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلّوا بيننا وبين الرجل في بلدكم(1).

وهكذا انسحبت بنو قريظة من الأحزاب وأوقع اللّه التخاذل بينهم وتفرّقوا، وتمزق شملهم، وكان ذلك من عوامل فشل الأحزاب، وتقهقرهم ورجوعهم خائبين.

آخر العوامل لهزيمة الكفّار

لقد انضمت العوامل المذكورة إلى عامل مهم آخر يمكن تسميته - في الحقيقة - بالإمداد الغيبيّ أدّت إلى هزيمة الكفّار وتفرّق جماعة الأحزاب، وتشتّت جماعتهم، وذلك العامل هو أنّ اللّه بعث عليهم فجأة الريح والعاصفة، واشتد البرد، وكان اشتداد الريح كبيراً بحيث أكفأ قدورَهُم، واقتلع خيامهم ومضاربهم، وأطفأ أضواءهم، وأوجد حريقاً في الصحراء.

وهنا أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حذيفة أن يعبر الخندق، ويأتيه بخبر عن أحوال المشركين ومن مالأهم من الأحزاب.

ص:318


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 713/3؛ تاريخ الطبري: 242/2-243.

يقول حذيفة: فذهبتُ فدخلتُ في القوم والريح وجنود اللّه تفعل بهم، ما تفعل، لا تقرُّ لهم قدراً، ولا ناراً ولا بناءً،... ثمّ قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنّكم واللّه ما أصبَحتم بدار مقام، لقد هلك الكُراعُ والخفُّ، وأخلفَتنا بنوقريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح ما ترون، ما تطمئنُّ لنا قدر، ولا تقوم لنا نارٌ، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنّي مرتحل.

ثم قام إلى جمله - وهو معقول - فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فواللّه ما أطلق عقاله إلّاوهو قائم... وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.(1)

ولم يسفر الصبح إلّاوأسرعت قريشٌ وغطفانٌ عائدين إلى بلادهم يجرّون أذيال الخيبة، ولم يبق منهم أحدٌ هناك.

وهكذا انتهت معركة الأحزاب في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة.

القرآن الكريم و معركة الأحزاب

ولقد أشار القرآن الكريم إلى أبرز النقاط في معركة الأحزاب (الخندق) ضمن سبع عشرة آية وها نحن ندرجها برمّتها ونشير باختصار إلى ما تضمّنته من حقائق، قال تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا

ص:319


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 714/3-715؛ تاريخ الطبري: 244/2.

هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً * وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً * وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِراراً * وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاّ يَسِيراً * وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُلاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً * يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاّ قَلِيلاً * لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً * وَ لَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَ رَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» .(1)

ص:320


1- . الأحزاب: 9-25.

ويمكن تقسيم هذه الآيات إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: وهي الآيات الّتي ترسم الوضع العام للمسلمين عندما أتتهم عساكر الأحزاب.

القسم الثاني: وهي الآيات الّتي تتعرّض لذكر موقف المنافقين وضعّاف الإيمان.

القسم الثالث: وهي الآيات الّتي تتعرّض لذكر موقف المؤمنين الصادقين.

وإليك بياناً لمفاد هذه الآيات على وجه الاختصار.

1. تبدأ هذه المجموعة من الآيات بتذكير المؤمنين - في الآية الأُولى - بنعمة اللّه عليهم أن ردّ عنهم الجيش الّذي قصد استئصالهم لولا عناية اللّه ومدده العظيم، وفي هذا إشعار قوي بأنّ اللّه هو الّذي يحمي القائمين على دعوته ومنهجه من عدوان الكافرين والمتآمرين.

2. ثم تشرح الآية الثانية الحالة العسكرية الخطيرة الّتي كان يواجهها المسلمون، فهم محاصرون من قبل الأعداء والمتواطئين معهم من كلّ جهة محاصرة ألقت الرعب في قلوب الكثيرين من أهل المدينة فزاغت الأبصار هولاً، وبلغت القلوب الحناجر خوفاً، وظنّ البعض أنّ ما أعطاهم اللّه ورسوله من الوعد بالتأييد والنصرة لم يكن صحيحاً.

3. ثم تحدّثت الآية الثالثة عن الابتلاء والاختبار الّذي أفرزه هذا الوضع الخطير، فقد ابتلي المسلمون في هذه الواقعة، وتملّكهم خوفٌ شديدٌ.

4. ولكنّ المنافقين، والذين في قلوبهم مرض كانوا أشدّ هولاً وخوفاً حتّى أنّ ذلك الكرب والهول أخرج خبيئة نفوسهم، فشكّكوا في وعود اللّه الصادقة، وقالوا: ما وعدنا اللّه إلّاغروراً، فهو خدعنا إذ وعدنا بالغلبة على أعدائنا.

ص:321

5. ولم يكتف المنافقون بإشاعة هذه التشكيكات بين المسلمين بل دعوا أهل المدينة إلى الانسحاب من الميدان إلى داخل المدينة، وبالتالي حرّضوهم على ترك الصفوف. واحتجّوا لذلك بالخوف على النساء والصبيان من كيد الأعداء قائلين: «بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» وهم لا يريدون إلّاالفرار جبناً وخوفاً.

6. ثم تكشف الآيتان السادسة والسابعة عن حقيقة ما في نفوس أُولئك المنافقين، فهم لا يريدون الانسحاب إلى داخل المدينة للمحافظة على الذراري والصبيان، إنّما هو نقض العهد، وخلف الوعد، وفقدان الإيمان القلبي، فهم إذا دخل عليهم العدوّ المدينة وطلبوا منهم الرجوع عن الإسلام لرجعوا إلى الكفر دون تأخير. ولكن اللّه سيسألهم عن العهد الّذي أعطوه من قبل بأن يثبتوا أمام العدو، «وَ كانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُلاً» .

7. ثم إنّ اللّه تعالى يوبّخهم - في الآيات اللاحقة - على موقفهم المتخاذل هذا، ويقول لهم: بأنّ الفرار والانسحاب لن ينجيهم من الموت إن كان مقدّراً عليهم، وحتّى لو عاشوا أيّاماً فلن يعيشوها في خير وأمان.

كما ويقول لهم: بأنّ اللّه لا يخفى عليه ما يقومون به من تخذيل وعرقلة لمسيرة الإسلام الصاعدة، ولا تخفى عليه سبحانه مواقفهم في أوقات المحنة، من كف الأيدي عن مساعدة المؤمنين، أو سلقهم بألسنتهم وتحميلهم عوامل المحنة والشدّة، حتّى بعد الانتصار.

وهنا يبدو و يبرز دور المنافقين، وتظهر حالاتهم العجيبة في الحرب والسلم.

فهم يخافون خوفاً شديداً، وهم يظنّون باللّه ظنّ السوء، وهم يشيعون الخوف وروح الهزيمة في الناس، وهم ينسحبون ويدعون إلى الانسحاب من الصفوف وهم مستعدون في كلّ وقت للارتداد والرجوع عن الإسلام إلى الكفر،

ص:322

وهم بالتالي أشحّة بخلاء، في نفوسهم كزازة على المسلمين، كزازة بالجهد، وكزازة بالمال، وكزازة بالعواطف والمشاعر على السواء.

8. إنّهم لكونهم لم تخالط قلوبهم بشاشة الإيمان ولم يهتدوا بنوره يفقدون الشجاعة والقوة حتّى بعد ذهاب عوامل الخوف والهول.

فهم ما يزالون يرتعشون، ويتخاذلون، ويأبون أن يصدقوا أنّ الأحزاب قد ذهبت وولّت مهزومة. ويودّون لو أنّ الأحزاب دخلت المدينة أن لا يكونوا فيها مبالغة في النجاة من الأهوال!!

9. ولكن في مقابلة هذا الفريق المتخاذل الجبان يرسم القرآن الكريم في الآيات 21 إلى 25 صورة المؤمنين الصادقين وفي مقدّمتهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم القدوة الحسنة لجميع المسلمين في جميع الحالات والظروف.

فإنّ هذه الجماعة المؤمنة الصادقة لمّا رأت الأحزاب قالت: هذا ما وعدنا اللّه ورسوله، هذا الهول لابدّ أن يجيء فيه النصر فهو وعد اللّه الصادق المحقّق.

فصمدوا وصدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، فجزاهم اللّه بصدقهم «وَ رَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» خلافاً لما ظنّه المنافقون، وتوهموه.

وقد كانت هذه الواقعة في منظور القرآن الكريم امتحاناً عظيماً، واختباراً دقيقاً للنفوس والقلوب وهو امتحان لابدّ منه حتّى يتميّز الصادق عن المنافق، والموفون بعهدهم والناقضون له.

كما أنّ هذه الواقعة و ما جاء حولها من الآيات كشفت عن أنّ وعود اللّه صادقة ومحقّقة إذا توفّرت شرائطها، ومقدّماتها، ومنها استخدام الوسائل الطبيعية المناسبة، والاتّكال على اللّه واستمداد العون منه.

ص:323

وفي هذه الآيات إشارة إلى دور ما يُسمّى الآن بالطابور الخامس وإلى خطورة الشائعات السيّئة في المجتمع، وبخاصّة في ظروف الحرب.

كما أنّ فيها إشارة إلى كيفية مواجهة هذه الشائعات والتعامل مع فعّاليات هذا الفريق الخطر.

ولقد لاحظنا خلال ما مضى من السيرة كيف أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يبطل بتكتيكاته العسكرية مفعول تلك النشاطات التخريبية والمضرّة.

فقد كان يعتمد أُسلوب الدعاء، والذكر، والتشجيع، والتكبير، وإرسال الدوريات العسكرية، والعمل المباشر، والمشاركة الفعلية في عمليات الدفاع والحراسة، وما شاكل ذلك ممّا ذكرناه، وممّا لم تسع هذه الدراسة لذكره.

ص:324

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

39 سقوط آخر أَوكار الفساد والمؤامرة

اشارة

أقدم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة الأُولى من هجرته إلى المدينة، على تنظيم وعقد ميثاق تعايش بين سكان المدينة وما حولها، بغية إنهاء جميع أشكال الاختلاف، والتنازع، والصراع الداخليّ.

وقد تعهَّد الأوسيّون والخزرجيُّون عامّة، واليهود من تينك القبيلتين أن يدافعوا عن المدينة وما حولها، وقد مرّ النصُّ الكامل لهذا الميثاق على القارئ الكريم فيما سبق(1).

هذا من ناحية.

ومن ناحية أُخرى عقد رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بينه وبين يهود المدينة ميثاقاً آخر ينصُّ على أنّ مختلف الطوائف اليهودية تتعهّد بأن لا تلحق أيَّ ضرر وأذى برسول اللّه وأصحابه، ولا تمدَّ أعداءهم بالخيل والسلاح، وأنّها لو فعلت شيئاً من ذلك يكون لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الحقُّ في أن يقتلهم، ويسبي نساءهم وأبناءهم.

ص:325


1- . راجع صفحة 27 من هذا الجزء.

إلّا أنَّ جميع الطوائف اليهودية الثلاث نقضت الميثاق المذكور بشتّى العناوين والصور، وتجاهلت بنوده، وموادّه!

فقد قتل «بنو قينقاع» مُسلماً، وخطّطت «بنوالنضير» لاغتيال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ، وأجبرهم على الجلاء من المدينة وأخرجهم من البيئة الإسلامية.

وتعاونت «بنو قريظة» مع جيش المشركين لضرب المسلمين، وطعنهم من الخلف، والآن يجب أن نرى كيف يوبّخ رسولُ اللّه بني قريظة على نقضهم للميثاق .

قوات الإسلام تحاصر بني قريظة

لم يكن الصبح قد أسفر بعد عندما غادرت آخر مجموعة من جنود «الأحزاب» أرض المدينة قافلة إلى بلادها مرعوبة فزعة للغاية.

كما أنّ آثار التعب والإرهاق لم تكن قد فارقت بعد ملامح المسلمين، ومع ذلك فقد أمر اللّه نبيه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يعالج قضيّة «بني قريظة» بصورة نهائية، فَأذَّن مؤذَّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصلّى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالمسلمين صلاة الظهر، ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الناس:

مَن كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّينّ العصر إلّاببني قريظة!

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قدّم «عليَّ بن أبي طالب» برايته، وخرج معه جنودُ الإسلام الشجعان، فحاصروا حصون «بني قريظة»، فأخبرهم ديرانيهم بنشاط المسلمين، فبادروا إلى إغلاق أبواب الحصون، والتحصّن في داخلها، ونشبت الحرب بين بني قريظة والمسلمين من اللحظات الأُولى، فقد أخذ اليهود يشتمون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا فيه مقالة قبيحة، فرجع علي عليه السلام بالمسلمين فالتقى رسول

ص:326

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الطريق وقد كره أن يسمع النبي صلى الله عليه و آله و سلم أذاهم وشتمهم، وحاول أن يثني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الاقتراب إلى حصن بني قريظة قائلاً: لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث.

فلمّا عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سبب ذلك قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلمّا دنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من حصونهم قال لهم:

«يا إخوان القردة هل أخزاكم اللّهُ وأنزل بكم نقمته»؟

وقد كانت ردةُ فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الشديدة غير متوقعة لليهود، ومن هنا قالوا: يا أبا القاسم ما كنتَ جهولاً... وهم يريدون بذلك إطفاء مشاعره الملتهبة ضدّهم(1).

فأثارت كلمتهم هذه عاطفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحيث رجع من غير اختيار، وسقط رداؤه من كتفه.

اليهودُ يتشاورون حول الموقف

تشاور يهود بني قريظة وهم معتصمون بحصونهم في الموقف، وقد شارك فيه «حُيي بن أخطب» مثير معركة الأحزاب، فإنّه لم يذهب إلى خيبر بعد أن وضعت الحرب - في معركة الأحزاب - أوزارها وولّى العرب المشركون، بل دخل في حصون بني قريظة.

هذا وقد طرح زعيمُ بني قريظة ثلاثة اقتراحات وطلب من الجميع أن يتّفقوا على واحدة منها لمعالجة الموقف:

1. أن يؤمنوا برسول اللّه، ويصدّقونه لأنّه قد تبيّن لهم أنّه نبي مرسل، وأنّه

ص:327


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 716/3؛ تاريخ الطبري: 245/2؛ إمتاع الأسماع: 376/8.

الّذي يجدونه في كتابهم، وبذلك يأمنون على دمائهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم.

2. أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يخرجوا إلى محمَّد وأصحابه يقاتلونهم، فإذا هلكوا، هلكوا ولم يتركوا وراءهم نسلاً يُخشى عليه، وإن انتصروا تزوّجوا من جديد، ووجدوا أبناء.

3. أنّ الليلة هي ليلة السبت، وأنّه عسى أن يكون محمَّد وأصحابه قد امنوهم فيها، لعلمهم بأنّ اليهود لا يقاتلون في السبت، فلينزلوا من الحصون لعلّهم يصيبون من محمَّد وأصحابه على حين غفلة.

ولكنّ المشاورين رفضوا جميع هذه الطروحات وقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره، وقالوا: إن نقتل أبناءنا ونساءنا فما خير العيش بعدهم، وقالوا: لا نقاتلُ ليلة السبت، محمَّداً وأصحابه نفسد سبتنا علينا، ونحدث فيه ما لم يُحدث من كان قبلنا إلّامن قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ(1).

إنّ هذا الحوار يساعدنا على فهم نفسية تلك الجماعة (نعني اليهود)، وخصالهم وأخلاقهم الفاسدة.

فإنّ رفض الاقتراح يكشف عن أنّهم كانوا جماعة معاندة، لجوجة، لأنّهم إذا كانوا حقّاً يعرفون صدق نبوّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كما قال زعيمهم - لم يكن لوقوفهم سبب إلّاالعناد والعتوّ، واللجاج.

وأما الاقتراح الثاني وما دار حوله من كلام فيشهد - بجلاء - على أن تلك الطائفة كانت جماعة قاسية، لا تعرف للرحمة والحنان معنى، لأنّ قتل الأطفال والنساء الأبرياء لا يمكن من دون قسوة شديدة.

ص:328


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 717/3.

هذا مضافاً إلى أنّ المشاورين آنذاك رفضوا هذا المقترح لا بدافع الرحمة والشفقة على الأطفال والنساء، بل لأنّ الحياة لا تعود لذيذة بعد فقدهم، هذا هو ما قالوه.

وأمّا الاقتراح الثالث فيكشف عن أنّهم لم يكونوا يعرفون جيداً مدى علم رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بفنون القتال والدفاع، وكانوا يتصوّرون أنّ القائد الأعلى للإسلام لا يراعي قواعد الحذر والاحتياط ليلة السبت ويومه، وخاصّة في مواجهة أعداء خونة، أخوان غدر و مكر، أمثال اليهود الناقضين للعهود، الناكثين للمواثيق.

إنّ دراسة وتقييم معركة «الأحزاب» تثبت ندرة وجود الأذكياء والفطنين بين هذه الجماعة، وإلّا لكانوا يتمكّنون من حفظ كيانهم حتّى من الناحية السياسية في تلك الظروف من دون أن ينحازوا إلى أيّ واحد من طرفي الصراع (الإسلام والشرك).

أي أنّه كان من الممكن أن يتّخذوا جانب الحياد الكامل، ويبقوا متفرّجين لما يدور بين محمَّد، وجيش المشركين، وبهذا يبقوا محافظين على كيانهم ووجودهم، انتصر من انتصر وغلب من غلب.

ولكنّهم خُدعوا بتسويلات «حيي بن أخطب» ووسوساته وانحازوا إلى جيش العرب المشركين فتورّطوا في مثل تلك الورطة، وهي أن يتخلّوا - في النهاية - عن مساعدة قريش بعد شهر كامل من التعاون معهم، والرضوخ لخطّة «نعيم بن مسعود»، وإخبار قريش بأنّهم لن يتعاونوا معهم ضدّ رسول الإسلام ما لم تسلّم قريش بعض شخصياتها إليهم، لغرض الاحتفاظ بهم في حصونهم كوثيقة!!

لقد غاب عن تلك الزمرة المعاندة اللجوجة أنهم قد تعاونوا ضدّ رسول

ص:329

الإسلام في بداية الأَمر، فإذا قطعوا علاقاتهم مع قريش، وترك جيش المشركين ساحة المعركة إذا أحس بالعجز عن تحقيق أي انتصار، وعاد إلى بلاده، فإنّ بني قريظة بأجمعهم سيكونون حينئذٍ في قبضة المسلمين.

فلو كانوا يملكون شيئاً من الرؤية السياسية الصحيحة لكان عليهم أن يعلنوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - فور قطع العلاقات مع قريش - عن ندامتهم على نقض الميثاق الّذي عقدوه من قبل مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويعتذروا إليه ممّا بدر منهم لينجوا من الخطر - في صورة انتصار المسلمين على الكفّار - ولكنّ الشقاء أصابهم عندما قطعوا العلاقات مع جيش قريش، ولم يلتحقوا بالمسلمين، ولم يعتذروا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

على أنّه لم يكن في مقدور النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يترك بني قريظة - بعد هزيمة جيش العرب - على حالهم، ويغض النظر عن موقفهم إذ لم يكن من المستبعد، أن يفكّر العرب في مناسبة أُخرى في تسيير جيش ضخم ومنظّم آخر لاجتياح المدينة، ويتمكّنوا بمساعدة بني قريظة من استئصال الإسلام.

فكان يهود بني قريظة يُعتبرون - في الحقيقة - العدوّ الداخلي الّذي يهدّد كيان الإسلام من الداخل، وعلى هذا كان من الواجب معالجة الأمر مع بني قريظة، وحلّ هذه المسألة الخطيرة بالنسبة إلى المسلمين من الأساس.

خيانةُ أبي لبابة

لقد طلب يهودُ بني قريظة بعد محاصرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يبعث إليهم «أبا لبابة» الأوسي ليتشاوروا معه في الموقف، وقد كان أبو لبابة حليفاً لليهود قبل دخول الإسلام إلى المدينة، فأرسله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليهم، فلمّا رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على

ص:330

حكم محمَّد؟

قال: نعم - وأشار بيده إلى حلقه - إنّه الذبح؛ يريد أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم سوف يقتلهم ولم يحقن دماءهم، لو سلّموا.

لقد كان أبولبابة يعلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لن يوافق على بقاء هذه الزمرة الشريرة الخائنة الخطرة على دين التوحيد، إلّاأنّ أبا لبابة قد خان بفعله هذا المسلمين، ومصالح الإسلام العليا، وأفشى سرّاً كان عليه أن يكتمه قبل وقوعه، ولهذا ندم على فعله ندماً شديداً، وقال: فواللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أنّي قد خنت اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم، ثمّ انطلق على وجهه، ولم يأت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وربط نفسه في المسجد بعمود من أعمدته، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتّى يتوب اللّه عليّ ممّا صنعت!!

ويقول المفسّرون: فنزل في خيانة أبي لبابة قول اللّه تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .(1)

فلمّا بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خبر أبي لبابة، وكان قد استبطأه قال: «أما إنّه لوجاءني لاستغفرت له، فأمّا إذ قد فعلَ ما فعلَ فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتّى يتوب اللّه عليه».(2)

وبقي أبو لبابة مرتبطاً بالاسطوانة، وكانت زوجته تأتيه في مواعيد الصلاة، وتحلّ رباطه، فيصلّي ثم تعيد الرباط.(3)

فلمّا كان السحرُ من اليوم السابع نزلت توبة أبي لبابة بواسطة ملك الوحي

ص:331


1- . الأنفال: 27.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 718/3.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 719/3.

على رسول اللّه وهو في بيت أُمّ سلمة، والآية الّتي نزلت في توبته هي قوله تعالى:

«وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .(1)

فقالت أُمّ سلمة: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من السحر وهو يضحك فقلت:

ممّ تضحك يا رسول اللّه أضحك اللّه سنّك؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: «لقد تيب على أبي لبابة» قلت: أفلا أُبشره يا رسول اللّه؟ قال: بلى إن شئت.

فقامت إليه وهو مرتبط بالجذع في المسجد وقالت له: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللّه عليك.

فثار الناس ليطلقوه فقال: لا واللّه حتّى يكون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو الّذي يطلقني بيده.

فلمّا مرّ عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه(2).

ولا شكّ أنّ زلّة أبي لبابة كانت بسبب عواطفه تجاه يهود بني قريظة، فقد سلبه بكاء نسائهم وصبيانهم واستغاثتهم العاطفية القدرة على ضبط النفس، فكشف سرّاً من أسرار المسلمين كان عليه أن يكتمه، ولكنّ قوة الايمان باللّه والخشية من عذابه أكبر وأعلى من كلّ شيء إلى درجة أنّها دفعت بأبي لبابة إلى أن يندم على فعله ذلك الندم العجيب، ويعمد - لجبران تلك الخيانة - إلى ما فعل من الإنابة، والاستغفار، الأمر الّذي تكون نتيجته أن لا تراود مثل هذه الفكرة نفسه مرّة أُخرى قط.

ص:332


1- . التوبة: 102.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 718/3-719.
إلى أيّ مدى ذهب الطابورُ الخامس في مشاغبته؟

خرج «شأسُ بن قيس» اليهودي من الحصن ليتحادث مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نيابة عن بني قريظة، فطلب من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يسمح ليهود بني قريظة بأن يحملوا معهم أموالهم ويخرجوا من المدينة كما فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع بني النضير، فأبى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «لا، إلّاأن تنزلوا على حكمي».

فقال شأس: لك الاموالُ والسلاح وتحقن دماءنا، فأبى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ورفض هذا الاقتراح أيضاً.(1)

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه وهو: لماذا رفض رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم مقترحات مندوب بني قريظة؟!

إنّ السبب واضح، فإنّه لم يكن من المستبعد أن تقدم هذه الزمرة - بعد خروجها من قبضة المسلمين - على تحريك العرب المشركين الوثنيّين ضدّ الإسلام والمسلمين على نحو ما فعلت بنو النضير، وتعرّض المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية الفتية لأخطار كبرى جدّاً، وتسبّب في سفك دماء كثيرة.

ولهذا لم يوافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على اقتراحات مندوب بني قريظة، وعاد شأس إلى الحصن، وأخبر قومه بمقالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ورفضه لمقترحاته.

فقرّر بنو قريظة التسليم للمسلمين من دون أي قيد أو شرط.

أو الرضا بما يحكم به سعد بن معاذ الأوسي - وكان حليفاً لهم - في حقّهم.

ولهذا عمدوا إلى فتح باب الحصن، ودخل علي عليه السلام على رأس كتيبة خاصّة من المسلمين الحصن، وجرّدوا بني قريظة من السلاح، وحبسوهم في منازل «بني

ص:333


1- . لاحظ: المغازي: 501/1.

النجار» ليتقرّر مصيرهم فيما بعد.

وحيث إنّ يهود بني قينقاع قد أُسروا على أيدي جنود الإسلام ثم عفي عنهم بوساطة من الخزرج وبخاصة «عبداللّه بن أُبي»، وانصرف النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن إهراق دمهم فيما مضى، لذا ضغط الأوسيّون المتحالفون مع بني قريظة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصرّوا عليه إصراراً شديداً بأن يعفو عن بني قريظة الذين كانوا متحالفين مع الأوس من قبل أن يقدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة، وذلك منافسة للخزرج، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قاوم هذا الطلب، وقال لهم:

«ألا ترضَون يا معشرَ الأوس أن يحكم فيهم رجلٌ منكم»؟

قالوا: بلى.

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فذاك إلى «سعد بن معاذ» فهو يحكم فيهم.

والطريف أنّ اليهود قد قبلوا هم أيضاً بما يحكم به سعد بن معاذ فقد بعث بنو قريظة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كما يروي ابن هشام(1) والشيخ المفيد(2) -: يا محمَّد ننزل على حكم سعد بن معاذ.

وكان سعدٌ آنذاك يتداوى فى خيمة لامرأة تدعى «رفيدة» من سهم أصابه في معركة الخندق، وكانت رفيدة تداوي الجرحى في سبيل اللّه، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعود سعداً بين الحين والآخر، فلمّا حكّمه في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطّئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً جميلاً، ثم أقبلوا معه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا طلع سعد على رسول اللّه والناس حوله صلى الله عليه و آله و سلم جلوس، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قوموا إلى سيّدكم».

ص:334


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 721/3.
2- . الإرشاد: 111/1. وأيضاً راجع: زاد المعاد: 73/2؛ إمتاع الأسماع: 377/8.

فقام الناس على أرجلهم صفين احتراماً لسعد، وحيّاه كلّ واحد منهم، حتّى انتهى إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقد طلب منه رجالُ قومه مراراً أن يحسن الحكم في حُلفائهم: يهود بني قريظة، ويخلّصهم من خطر الموت والقتل قائلين: يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما ولّاك ذلك لتحسن فيهم.

ولكن سعداً حكم في ذلك المجلس - رغم كلّ ذلك الإلحاح، والضغط - بأن يُقتل رجال اليهود، وتقسَّم أموالهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم(1).

تقييم ما استند إليه سعد في حكمه

ليس من شكّ في أنّه إذا غلبت عواطف القاضي وأحاسيسه على عقله، تعرّض جهاز القضاء للفوضى والاختلال، وانتهى إلى تمزّق المجتمع وسقوطه، وانهيار كلّ شيء، لارتباط كلّ شيء بالعدالة وارتباط العدالة بالقضاء والمؤسسة القضائية.

إنّ العواطف تشبه إلى حد بعيد الشهوة الكاذبة الّتي تزيّن في نظر صاحبها كلّ مضر مهلك في حين إذا غلبت هذه العواطف والمشاعر العقل سحقت مصالح الفرد والمجتمع، أو أضرت به أشدَّ وأبلغ أضرار.

إنّ عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره، ومنظر صبيان ونساء بني قريظة المحزن، وأوضاع رجالهم الّتي كانت تثير الإشفاق وهم في الحبس، وملاحظة الرأي العام في قبيلة الأوسيّين الذين كانوا يلحّون على سعد أن يُحسِن الحكم والرأي في بني قريظة، كلّ هذه الاعتبارات كان من شأنها أن تجعل القاضي فريسة العاطفة، فيصدر حكمه على أساس من تقديم مصالح أقلية خائنة مشاغبة

ص:335


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 720/3-721؛ المغازي: 510/2، زاد المعاد: 73/2 و 74.

على مصالح الأكثرية (أي عامّة المسلمين) ويبرّئ بني قريظة الجناة الخونة، أو يخفف من عقوبتهم أكبر قدر ممكن، على الأقل أو يسلّم لإحدى المقترحات السابقة.

إلّا أنّ منطق العقل، وحرية القاضي واستقلاله في الحكم والقضاء ومراعاة المصالح العامّة كلّ ذلك قاد سعداً إلى ناحية أُخرى، فحكم بأن يقتل رجال تلك الزمرة المتآمرة الخائنة، وتصادر أموالهم، وتسبى نساؤهم وأطفالهم.

وقد استند ذلك الحاكم في حكمه هذا إلى الأُمور التالية:

1. أنّ يهود بني قريظة قد تعهّدوا للنبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل مدّة بأنّهم لو تآمروا ضدّ الإسلام والمسلمين وناصروا أعداء التوحيد، وأثاروا الفتن والقلاقل، وألّبوا على المسلمين، كان للمسلمين الحقّ في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم(1).

وقد رأى بأنّه لو حكم بمعاقبة اليهود حسب هذا الميثاق لم يصدر حكماً مخالفاً للعدالة، ولم يرتكب ظلماً.

2. إنّ هذه الزمرة الناقضة للميثاق أخلّت بأمن المدينة في ظلّ حرب القوى المشركة، فترة من الزمن، وهاجمت منازل المسلمين، ولولا مراقبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للاوضاع وحراسة من عيّنهم من جنود الإسلام للحفاظ على أمن المدينة، لفعلت تلك الزمرة الأفاعيل ولارتكبت أسوأ الفضائع والفجائع، ولو أُتيح لهم أن يسيطروا على المدينة لقتلوا رجال المسلمين وصادروا أموالهم، وسبوا نساءهم وأطفالهم.

ومن هنا رأى سعد بن معاذ في نفسه بأنّه لو قضى فيهم بمثل هذا القضاء لما

ص:336


1- . ولقد مرّ عليك نص هذا الميثاق الّذي وقّع عليه كعب بن الاسد رئيس بني قريظة.

خالف الحقّ.

3. من المحتمل جدّاً أنّ سعد بن معاذ رئيس الأوس الحلفاء ليهود بني قريظة، والذين كانت بينهم علاقات ودّ ومحبَّة كان مطّلعاً على قوانين اليهود، الجزائية في هذا المجال، فإنّ التوراة تنصُ بما يلي: «حين تقربُ من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكلُّ الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك. وإن لم تُسالِمك بل عملت معك حرباً فحاصرها. وإذا دفعها الربُّ إلهُك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف. وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كلّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك...»(1).

ولعلّ سعداً فكّر في نفسه بأن القاضي المرضيّ والمقبول لدى الجانبين لو عاقب المعتدين حسب شريعتهم ما فعل إلّاما يقتضيه العدل والانصاف.

4. والّذي نتصوّره هو أنّ أكبر أسباب هذا الحكم هو أنّ «سعد بن معاذ» رأى بأُمّ عينيه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عفا عن بني قينقاع المعتدين بناء على طلب من الخزرجيّين، واكتفى - من عقابهم - بإخراجهم من المدينة، وإجلائهم عنها ولكنّ تلك الزمرة الّتي شملها عفو النبيّ لم تكن تغادر أراضي الإسلام حتّى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضدّ الإسلام، فذهب كعب بن الأشرف إلى مكّة، وأخذ يتباكى - دجلاً وخداعاً - على قتلى بدر، ويذرف عليهم دموع التماسيح، ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد رسول الإسلام وأصحابه حتّى عزمت قريش على تسيير جيشها نحو المدينة، وكانت واقعة، «أُحد» الّتي استشهد فيها اثنان وسبعون من خيرة أبناء الإسلام، ورجاله.

ص:337


1- . التوراة: سفر التثنية، الإصحاح العشرون: 10-14.

وهكذا فعلت بنو النضير المتآمرون الخونة، الذين عفا عنهم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واكتفى من عقابهم بمجرّد إجلائهم عن المدينة، ولكنّهم قابلوا هذا الموقف الإنساني، بتأليب القبائل العربية المشركة ضدّ الإسلام والمسلمين، وكوّنوا اتّحاداً عسكريّاً بينها، وألّفوا منها جيشاً قوياً ساروا به إلى عاصمة الإسلام (المدينة)، فكانت وقعة (الأحزاب) الّتي لولا حنكة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وخطّة حفر الخندق، لقضي على الإسلام بسببها منذ الأيام الأُولى، ولما بقي من ذلك الدين خبر ولا أثر ولقتل آلاف الناس.

لقد لاحظ (سعد بن معاذ) كلّ هذه الاعتبارات، فلم تسمح له التجارب الماضية بأن يستسلم لعواطفه، ويضحّي بمصالح الآلاف في سبيل الحفاظ على مصالح أقلّية، لأنّه كان من المسلّم به أنّ هذا الفريق سيقوم في المستقبل بايجاد تحالف عسكري أوسع، وسيثير ويؤلّب قوى العرب ضد الإسلام ويعرّض مركز الإسلام، ومحوره الأساسي للخطر من خلال تدبير مؤامرات أُخرى.

وعلى هذا الأساس رأى بأنّ وجود هذه الزمرة يضرّ المجتمع الإسلامي مائة بالمائة وأيقين بأنّ هذه الزمرة لو أُتيح لها أن تخرج من قبضة المسلمين لما فتأت لحظة عن المؤامرة ولواجه المسلمون بسببها أخطاراً كبرى.

ومن المحقّق أنّه إذا لم تكن في المقام هذه الجهات والاعتبارات لكان إرضاء الرغبة العامّة في الإبقاء على بني قريظة أو التخفيف في عقابهم أمراً في غاية الأهمية بالنسبة إلى سعد بن معاذ، فإن رئيس أي قوم، أو جماعة أحوج ما يكون إلى تأييد قومه و جماعته وكسب رضاهم ودعمهم، ولا ريب أنّ عدم الاستجابة لمطلبهم، وتجاهل توصياتهم يوجّه أكبر ضربة لسيد القوم ورئيسهم، ولكنّ سعداً (رئيس الأوس) أدرك أنّ جميع هذه التوصيات والوساطات تخالف مصالح الآلاف

ص:338

من المسلمين، من هنا آثر عدم الحياد عن حكم العقل، والمنطق، على رضا قومه عنه.

هذا وإن الَّذي يشهد بدقّة نظر سعد، وصواب رأيه، وصحّة تشخيصه وتقديره للأمر، أنّه عندما أُتي بحيي بن أخطب ليضرب عنقه فوقعت عينه على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنّه مَن يخذل اللّه يُخذل (أي لولا خذلان اللّه لليهود لاستمرّوا في معاداة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتدبير المؤامرات ضده).

ثم أقبل على الناس فقال: يا أيّها الناس إنّه لا بأس بأمر اللّه وقدره وملحمةٌ كتبها اللّه على بني إسرائيل. ثمّ جلس فضربت عنقه.(1)

ثم إنّه قُتِل في هذه الواقعة من النساء امرأة واحدة؛ لأنّها ألقت برحّى من فوق الحصن فقتلت به أحد المسلمين، فقتلت قصاصاً.(2)

وكان بين المحكوم عليهم بالقتل رجلٌ اسمه «الزبير بن باطا» شفع له رجل من المسلمين يدعى ثابت بن قيس، فلم يُقتل، وأُخلي سبيل زوجته وأولاده، وأُعيدت إليه أمواله(3)، وأسلم أربعةٌ من بني قريظة، وقسّمت غنائم العدوّ بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها، وإخراج ما يرتبط بالأُمور الإدارية الإسلامية العامّة.

وقد أُعطي للفارس سهمان، وللراجل سهمٌ واحدٌ، وسلّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أموال «الخُمس» إلى زيد بن حارثة ليذهب بها إلى نجد ويشتري بها السلاح،

ص:339


1- . تاريخ الطبري: 250/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 722/3؛ إمتاع الأسماع: 377/8.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 722/3.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 722/3-723.

والخيل، وغيرها من أدوات الحرب(1).

وهكذا انتهت مشكلة بني قريظة في التاسع عشر من شهر ذي الحجّة من السنة الخامسة للهجرة، وقد نزلت في شأن هذه الواقعة الآيات 26 و 27 من سورة الأحزاب إذ يقول سبحانه:

«وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً» .

وقد استشهد «سعد بن معاذ» الّذي سبق أن جرح في معركة الخندق بعد حادثة بني قريظة هذه(2).

ص:340


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 724/3-725.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 730/3.

حوادث السنة السادسة من الهجرة

40 أعداء الإسلام تحت المراقبة المشدّدة

اشارة

40 أعداء الإسلام تحت المراقبة المشدّدة(1)

لم تنقض السنة الهجرية الخامسة إلّاوقد انتهت فتنة «الأحزاب» و «بني قريظة»، وقضي عليهما بالكامل، وأصبحت المدينة وضواحيها برمّتها في قبضة المسلمين وتحت سيطرتهم، وازدادت قواعد الحكومة الإسلامية الفتية رسوخاً وثباتاً، وساد هدوء نسبي في المنطقة الّتي تخضع للحكومة الإسلاميّة، غير أنّ هذا الهدوء كان هدوءاً مؤقتاً، وكان على قائد المسلمين الأعلى أن يراقب أحوال العدو وأوضاعه، وتحرّكاته ليقضي في المهد على كلّ مؤامرة ضدّ الإسلام بما أُوتي من قوى وإمكانيات.

ولقد سَمَح الهدوء الّذي ساد المنطقة للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأن يقمع بعض مشعلي

ص:341


1- . يستفاد من السيرة النبوية لابن هشام: 291/3 ط 1355 ه، أن خطة اغتيال «سلّام» كانت قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة، ولكن بالنظر إلى أنّ قضية بني قريظة حدثت في التاسع عشر من شهر ذي الحجّة يستبعد هذا الرأي.

فتنة «الأحزاب» الذين هربوا من قبضة المسلمين بعد رحيل «الأحزاب».

فلقد قُتِل «حيي بن أخطب» الّذي كان من مشعلي معركة الأحزاب، في غزوة بني قريظة، ولكن رفيقه «سلّام بن أبي الحقيق» كان لا يزال يعيش في خيبر، ولا شكّ في أنّ هذا العنصر الخطر لم يكن ليفتأ لحظة واحدة عن إثارة وتأليب «الأحزاب» مرّة أُخرى ضدّ الإسلام، وخاصّة أنّ العرب الوثنيّين كانوا مستعدّين لشن حرب على الإسلام وكان من المحتمل إذا توفّرت هناك جهة تتكفّل نفقات الحرب، أن تتكرّر قضية الأحزاب مرة أُخرى.

على أساس هذه المحاسبات كلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1) مجموعة من شجعان الخزرج وفوارسهم بأن يصفّوا هذا العنصر الخطر، الجريء والحاقد، بشرط أن لا يتعرّضوا لأحد من أبنائه وزوجاته.

فخرجوا حتّى إذا قدموا خيبر، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلاً، فلم يدعوا بيتاً في الدار إلّاأغلقوه على أهله حتّى لا يحسّ بهم أحد إذا صاح واستغاث بأحد، ثم تسلّلوا إلى غرفته وكانت في الطابق الأعلى، فطرقوا باب حجرته، فخرجت إليهم امرأته فقالت: مَن أنتم؟ قالوا: ناسٌ من العرب نلتمس الميرة، ففتحت الباب وسمحت لهم بالدخول عليه من دون التحقّق من أمرهم، فدخلوا في غرفته وابتدروه وهو على فراشه بأسيافهم بعد أن أغلقوا باب الغرفة على أنفسهم، وقضوا على ذلك المفسد الشرير الّذي طالما أزعج المسلمين بفتنه ومؤامراته، ثم خرجوا،

ص:342


1- . إنّ السبب أو الحكمة في تكليف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الخزرج بهذه المهمة هو أنّ الأوس قاموابعملية مشابهة في حقّ «كعب بن الأشرف» اليهودي الخطر، فأراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إقامة توازن في كسب المفاخر بين تينك القبيلتين، ولذلك أوكل مهمة تصفية هذا اليهودي المفسد إلى رجال الخزرج.

وانحدروا من الدرج واختبأوا في ممّر مائي من خارج الحصن إلى داخله، فصاحت زوجته، واستغاثت بالجيران، فأوقد اليهود النيران، واشتدوا في طلب تلك الجماعة الفدائية المسلمة، ولكن من دون جدوى، وعندما يئسوا من القبض عليهم رجعوا إلى صاحبهم المقتول، وقد بلغ من جرأة المسلمين أن بعثوا أحدهم ليدخل بين اليهود في خيبر ويأتي لهم بخبر ابن أبي الحقيق، لأنّهم كانوا يظنّون بأنّه لا يزال على قيد الحياة.

فدخل ذلك الرجل بين اليهود فوجدهم وامرأته حول ابن أبي الحقيق، وفي يدها المصباح تنظر في وجهه، وتحدّثهم، وتقصُّ عليهم ما جرى، ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه ثم قالت: فاظ (أي مات) واله يهود.

فعاد إلى رفاقه وأخبرهم بنجاح عمليّتهم وهلاك عدوّ اللّه: «سلّام بن أبي الحقيق» على أيديهم، فخرجوا في تلك الليلة من مخبأهم وعادوا إلى المدينة وأخبروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما جرى.(1).

أهل الرأي من قريش يهاجرون إلى الحبشة

توجه جماعة من أهل الرأي في قريش الذين أخافهم تقدّم الإسلام وانتشارُه المطّرد بشدّة، إلى البلاط الحبشي ليقطنوا ويقيموا في الحبشة فقد قالوا: الرأي أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر «محمّد» على قومنا كنّا عند النجاشي، فإنّا أن نكون تحت يديه أحبُ إلينا من أن نكون تحت يدي محمَّد، وإن ظهر قومنا فنحن مَن قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلّاخير.

وخرجت هذه الجماعة وفيهم «عمرو بن العاص» بهدايا كثيرة من الحجاز

ص:343


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 747/3-748.

قاصدة أرض الحبشة، وبلاط النجاشيّ بالذات.

وصادف دخولُهم على «النجاشي» ورود «عمرو بن أُميّة الضمري» مبعوث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحامل كتابه إلى النجاشي يوصيه فيه بجعفر بن أبي طالب، والمهاجرين الآخرين من رفقائه.

فقال «عمرو بن العاص»: هذا عمرو بن أُمية الضمري لو قد دخلتُ على «النجاشيّ» وسألته إيّاه فأعطانيه، فضربت عنقه.

قال عمرو بن العاص: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال:...

أهديت إليَّ من بلادك شيئاً؟

قال ابن العاص: نعم أيّها الملك، قد أهديت إليك أُدما كثيراً، قال: ثمّ قرّبته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيّها الملك إنّي قد رأيت رجلاً خرج من عندك (ويقصد مبعوث رسول اللّه) وهو رسولُ رجل عدوّ لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنّه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.

فغضب النجاشيّ لمقالة ابن العاص غضباً شديداً فصفعه صفعة كادت أن تكسرَ أنفه، ثم قال: أتسألني أن أُعطيك رسول رجلٍ يأتيه الناموس الأكبر الّذي كان يأتي موسى لتقتله؟! قلت: أيّها الملك أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتّبعه فإنّه واللّه لعلى الحقّ، وليظهرنَّ على مَن خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟

قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام ثم خرجتُ إلى أصحابي، وقد حال رأيي عمّا كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي(1).

ص:344


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 748/3 و 749.
الوقاية من تكرار التجارب المرّة

تركت حادثة «الرجيع» المرّة الّتي قتل فيها جماعة من قبائل «عضل» و «القارة» من بني لحيان ثلة من دعاة الإسلام غدراً ومن دون رحمة، بل وسلّمت رجلين منهم بقيا على قيد الحياة إلى قريش فصلبَتهما قريشٌ صبراً إنتقاماً من رسول اللّه والمسلمين.

لقد تركت هذه الفاجعة المأساوية المؤلمة ألماً شديداً في نفوس المسلمين، وأحدثت جرحاً عميقاً في ضمائرهم وأدّت إلى توقّف حركة الإرشاد والتبليغ والدعوة.

ولكن في الظروف المستجدة الّتي استطاع الإسلامُ أن يزيل - بعد الأحزاب وبني قريظة - كلّ العراقيل والعقبات عن سبيل المسلمين، رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الضروري تأديب بني لحيان لتعتبر بقية القبائل، فلا يؤذوا بعد ذلك فرق الدعوة وبعثات التبليغ الإسلامي.

فاستخلف مكانه لإدارة شؤون المدينة «ابن أُمّ مكتوم» في الشهر الخامس من السنة الهجرية السادسة ولم يُظهر لأحد ما يقصده، بل خرج يظهر أنّه يريد الشام ليصيب «بني لحيان» على غفلة منهم، فلمّا وصل إلى طريق مكّة عرّج حتّى نزل بمنطقة تُدعى «غراب» وهي منازل بني لحيان، وقد كان بنو لحيان قد عرفوا بمسير النبي إليهم فحذروه، وتمنّعوا في رؤوس الجبال.

وكان غزو المسلمين هذا، وجبن العدو قد تركا أثراً نفسياً قوياً، فأحدث رعباً في قلوب أعداء الإسلام.

واستكمالاً لهذا الهَدف العسكريّ الهامّ عَمدَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى القيام بسلسلة من المناورات العسكرية، واستعراض القوة القتالية في جنوده ليرهب

ص:345

أعداء اللّه القريب منهم والبعيد ولتسمَع بهم قريش خاصّة فيذعرهم، فنزل في مائتي راكب من أصحابه حتّى نزل عسفان على مقربة من مكّة وقد قال من قبل:

«لوهبطنا عسفان لرأى أهلُ مكّة أنّا قد جئنا مكّة». فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان ثمّ بعث فارسين من أصحابه حتّى بلغا كراع الغميم (وهو موضعٌ بناحية الحجاز بين مكّة والمدينة وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال).

ثمّ كرّ وراح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قافلاً.(1)

فكان جابر بن عبداللّه الأنصاري يقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول حين وجه راجعاً من هذه الغزوة:

«... أعوذ باللّه مِن وَعثاء السَفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال»(2).

غزوةُ ذي قَرد

لَم يُقم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة بعد عودته من الغزوة السابقة إلّاليالي قلائل حتّى أغار «عيينة بن حصن الفزاري» بمساعدة بني غطفان، على إبل لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت ترعى في منطقة تُدعى الغابة (وهي موضعٌ قرب المدينة من ناحية الشام) كانت مرعى أهل المدينة، وكان فيها آنذاك رجلٌ من بني غفار، وامرأة مسلمة له، فقتلوا الرجل، وأخذوا معهم المرأة والإبل. وكان أوّل مَن أخبر الناس بذلك رجلٌ يُدعى سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي وكان قد غدا يريد الغابة متوشحاً سيفه وقوسه ونبله، يريد الصيد، حتّى إذا

ص:346


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 751/3.
2- . تاريخ الطبري: 254/2-255؛ المغازي: 537/1؛ إمتاع الأسماع: 379/8.

علا «ثنية الوداع» نظر إلى بعض خيول المغيرين، فصعد على تلّة سلع وصرخ مستغيثاً ومستنجداً: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم (المغيرين) فجعل يردّهم بالنبل، ولكن المعتدين لاذوا بالفرار.

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أوّل مَن سمع صراخ ابن الأكوع واستغاثاته، فصرخ صلى الله عليه و آله و سلم هو مستغيثاً: الفزع، الفزع. فأسرع جماعة من الفرسان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا اجتمعوا عنده أمّر عليهم «سعد بن زيد الأشهليّ» وقال له:

«أُخرج في طلب القوم، حتّى ألحقكَ في الناس».

فخرج الفرسان المسلمون في طلب القوم، وخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ورائهم، حتّى أدركوا القوم في ذي قرد، فوقع بين المسلمين، وبين المغيرين قتال قليلٌ قتلَ فيه من المسلمين رجلان، ومن المعتدين ثلاثة، واستنقذت المرأة، وبعض الإبل المسروقة، ولكن العدوّ لجأ إلى غطفان، فأقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك المنطقة يوماً وليلة، تخويفاً للعدوّ، ولم يَرَ من الصالح ملاحقة العدوّ رغم إصرار بعض المسلمين على ملاحقتهم، واستنقاذ بقية السرح (الإبل).

ثم رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قافلاً حتّى قدم المدينة(1)، وكانت هذه الغزوة في الثالث من ربيع الأوّل من السنة السادسة من الهجرة(2).

النذر غير المشروع

وأقبلت المرأة الغفارية المسلمة الّتي استنقُذت من أيدي المغيرين على ناقة من إبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى قدمت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبرته بما جرى ثم

ص:347


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 255/2، المغازي: 537/1 و 549.
2- . إمتاع الأسماع: 380/8.

قالت: يا رسول اللّه إنّي قد نذرتُ للّه أن أنحرها إن نجّاني اللّه عليها فآكلُ كَبدَها وسنامها.

فتبسّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال:

«بئس ما جَزيتيها أن حمَلَك اللّه عليها ونجّاك بها ثم تنحريها، إنّه لا نَذر في معصية اللّه، ولا فيما لا تَملِكين إنّما هيَ ناقةٌ مِن إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة اللّه»(1).

وبذلك بَيّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حكماً في مجال النَذر، وهو أن النذر لا يصحّ في مال الغير، فلا نذر إلّافي ملك.

والقصّة إلى جانب ذلك تكشف عن الخلق العظيم الّذي كان يتحلّى به قائد الإسلام الأعلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولطفه بأصحابه واتباعه، حيث جابه المرأة المذكورة برفق ولطف، وبصّرها بما لها وما عليها في منتهى التواضع والشفقة.

ص:348


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 755/3؛ المغازي: 548/1؛ الطبقات الكبرى: 133/2؛ إمتاع الأسماع: 264/1، قال صاحب الإمتاع: و كانت الناقة هي القصواء، والقصواء اسم ناقة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

41 تمرّد بني المُصطَلِق

اشارة

لقد بلغَت قوةُ المسلمين العسكرية في السنة الهجرية السادسة حدّاً ملفتاً للنظر، بحيث تمكّن جماعة خاصّة منهم أن يتردّدوا على المناطق القريبة من مكّة بمنتهى الحرية، ومن دون خوف، بيد أنّ هذه القوة العسكرية لم تكن كافية للسيطرة على المناطق الّتي كان تتواجد فيها القبائل المشركة، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم.

وإذا كان المشركون لا ينتزعون المسلمين حريتهم، وكانوا يسمحون لأن تجري النشاطات التبليغية من دون منع أو معارضة لما كان رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم يقدم على شراء الأسلحة، وبعث السرايا، والمجموعات العسكرية، ولكن حيث إنّ نشاطات المسلمين التبليغية، ومجموعات الإرشاد والدعوة كانت تتعرّض باستمرار للمضايقة، والأذى؛ بل والاغتيال من قِبَل العدو، لذلك كان رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم مضطرّاً بحكم العقل والفطرة أن يقوّي من قدرات الإسلام الدفاعية.

لقد كانت العلل والأسباب الواقعيّة لأكثر الحروب الّتي وقعت إلى السنة الهجرية السادسة؛ بل حتّى آخر لحظة من حياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم تتلخّص في

ص:349

إحدى الأُمور التالية:

1. الردّ على اعتداءات المشركين الغادرة، مثل معركة «بدر» و «أُحد» و «الخندق».

2. تأديب وعقاب الظالمين الذين قتلوا رجالاً أبرياء من المسلمين، أو قتلوا جماعات الدعوة والتبليغ في البراري والقفار النائية، أو عرّضوا كيان الإسلام للخطر بنقضهم عهودهم، وتتمثّل هذه الحروب في الغزوات الثلاثة ضدّ الطوائف اليهودية الثلاث (بني قينقاع، بني النضير، بني قريظة) وبني لحيان.

3. إفشال وإحباط المؤامرات، أو محاولات التمرّدُ الّتي كانت على شرف الانعقاد في القبائل الّتي كانت تنوي بجمع الرجال والأسلحة غزو المدينة، واكتساح عاصمة الإسلام واستئصال المسلمين، وكانت أكثر الحروب الصغيرة والمناوشات العابرة ناشئة من هذا العامل الأخير.

غزوة بني المُصطلِق

كان بنو المصطلق من قبائل «خزاعة» المتحالفة مع قريش.

وقد بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ الحارث بن أبي ضرار زعيمها يعدّ العدّة، ويجمع الرجال المقاتلين لمحاصرة المدينة وغزوها، فقرّر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يقضي على هذه المؤامرة في مهدها كما كان يفعل دائماً.

ولهذا أرسل أحد أصحابه وهو: «بريدة» إلى أرض بني المصطلق ليأتي بأخبارهم، فذهب بريدة، ودخل فيهم وتحادث - في هيئة متنكّرة - مع رئيسهم وعرف بنيّته، ثم عاد إلى المدينة وأخبر رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بما رآه وسمعه، وأنّ بني المصطلق عازمون على المسير إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمحاصرة المدينة.

ص:350

فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جمع من أصحابه حتّى لقيهم عند ماء يُدعى «المُريسيع»، ونشبت الحرب بينهم وبين المسلمين، ولكن صمود المسلمين وبسالتهم الّتي كانت قد أرعبت قلوب قبائل العرب تسبّب في أن لا يطول القتال بين المسلمين وبين «بني المصطلق» فتفرّق جيش العدو بعد أن قتل منهم عشرة رجال، كما وقتل رجل مسلم خطأ، فأصاب المسلمون غنائم كثيرة وسبوا جماعة كبيرة من نساء بني المصطلق(1).

هذا وإنّ النقاط والدروس المفيدة في هذه الواقعة تتمثّل في السياسة الحكيمة الّتي مارسها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حوادث هذه الغزوة، ممّا سنذكر بعضها عمّا قريب.

أوّل خلاف بين المهاجرين والأنصار

وقد شبّ في هذه المنطقة ولأوّل مرّة خلافٌ بين المهاجرين والأنصار، كاد أن يأتي بنتائج مروّعة أبسطها أن توجّه ضربة قوية إلى الاتّحاد الحاصل بين المسلمين نتيجة هوى البعض وهوسهم لولا تدبير النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وحكمته الرشيدة الّتي أنهت كلّ شيء، وأبقت على روح التآخي بين المسلمين.

وتعودُ جذور هذه الحادثة إلى تزاحم رجلين من المسلمين على البئر بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

فقد ازدحم «جهجاه بن مسعود» وهو من المهاجرين و «سنان بن وبر الجهني» وهو من الأنصار على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني - مستغيثاً بقبيلته على عادة الجاهليّين -: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، وكاد أن

ص:351


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 758/3، تاريخ الطبري: 260/2، إمتاع الأسماع: 369/8.

يتقاتل المسلمون من الفريقين فيما بينهم في هذه الحادثة، وفي هذا المكان البعيد عن عاصمة الإسلام ومركزه، ويتعرّض بذلك كيانهم للسقوط والانهيار، لأنّهم تواعدوا على القتال، كلّ فريق انتصاراً لصريخه.

فلمّا عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك قال:

«دَعُوها فإنها منتنة».(1)

أي أنّ هذا النوع من الاستغاثة ولمثل هذا الدافع ما هو إلّامن دعوى الجاهلية، وقد جعل اللّه المؤمنين إخوة وحزباً واحداً، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين، وإلّا كانت جاهلية، لاقيمة لها في الإسلام.

وبذلك قضى النبي الحكيم على الفتنة في مهدها، وجنّب المسلمين أخطارها.

منافق حاول إشعال الموقف

أجل لقد استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذا الاستنكار الشديد أن يطفئ نار الاختلاف والتنازع فيكفّ الفريقان (القبيلتان) عن استئناف التنازع والتقاتل.

إلّا أنّ «عبدَ اللّه بن أُبي» رئيس حزب المنافقين بالمدينة، والّذي كان يكنُّ حقداً كبيراً على الإسلام وقد شارك في تلك الغزوة طمعاً في الغنيمة، أظهر - في هذه الحادثة - حقده، وضغينته على الإسلام، وقال لرهط من أهل المدينة كانوا عنده آنذاك: أوقد فعلوها، قد نافرونا (أي المهاجرين) وكاثرونا في بلادنا، واللّه ما أعدّنا وجلابيب قريش إلّاكما قال الأوّل: سمّن كلبَك يأكلك، أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُ منها الأذل (ويقصد بالأذلّ المهاجرين)!!!

ص:352


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 65/6، كتاب التفسير، سورة المنافقين؛ صحيح مسلم: 19/8، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً.

ثمّ أقبل على مَن حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم.(1)

فتركت كلمات «ابن أُبي» أمام تلك الجماعة الّتي كانت لا تزال تعاني من بقايا عصبية جاهلية، أثرها في نفوسهم، وكادت توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة الإسلاميّة، والإخوة الإيمانية الّتي كانت تشدّ المسلمين - أنصاراً ومهاجرين - بعضهم ببعض كالبنيان المرصوص.

ومن حسن الحظ أنّ فتى غيوراً من فتيان المسلمين هو زيد بن الأرقم لمّا سمع بهذه الكلمات المثيرة للشغب والفتنة ردّ على «ابن أُبي» بكلمات قوية شجاعة إذ قال: أنت واللّه الذليلُ القليلُ المبغَضُ في قومك، ومحمَّد في عزّ من الرحمن، ومودّة من المسلمين، واللّه لا أُحبُّك بعد هذا أبداً.(2)

ثم نهض ومشى إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره الخبر، فردّه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثلاث مرات حفظاً للظاهر، قائلاً: لعلّك وهمت يا غلام؟ قال: لا واللّه ما وهمت، فقال: فلعلك غضبت عليه؟ قال: لا واللّه ما غضبت عليه، قال: فلعلّه سفّه عليك؟ قال: لا واللّه.(3)

إنّ زيداً كان يؤكّد على صحّة ما أخبر به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من مقالة المنافق الخبيث «عبداللّه بن أُبي»، وتحريكه للناس ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وهنا طلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يُقتَلَ «ابن أُبي» قائلاً: مر

ص:353


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 758/3؛ تاريخ الطبري: 261/2.
2- . بحار الأنوار: 282/20.
3- . بحار الأنوار: 286/20.

به عبّادَ بن بشر فليقتله(1).

ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أجاب عمر بقوله:

«فكيف يا عُمَر إذا تحدّثَ الناسُ أنّ محمَّداً يقتُل أصحابه، لا»(2).

ولقد مشى «عبداللّه بن أُبي» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين بلغه أنّ «زيد بن الأرقم» قد بلَّغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما سمع منه، فحلف باللّه: ما قُلتُ ما قال، وقال بعض مَن حضر من أهل الرأي من أصحابه دفاعاً عن ابن أُبي: يا رسول اللّه عسى أن يكون الغلامُ قد أُوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.

ولكن الأمر لم ينته إلى هذا، فقد كان هذا نوعاً من الهدوء المؤقّت تماماً كالهدوء الّذي يسبق العاصفة، الّذي لا يمكن الاطمئنان إليه.

فقد كان يتوجّب على قائد المسلمين الأعلى أن يقوم فوراً بما يؤدّي إلى أن ينسى الطرفان هذه القصّة نهائياً، ولهذا أمر بالرحيل في ساعة من النهار لم يكن صلى الله عليه و آله و سلم يرتحل فيها عادة.(3)

فجاءه «أُسيد بن حضير»، وقال: يا نبي اللّه، واللّه لقد رحت في ساعة منكرة

ص:354


1- . تثبت دراسة حياة الخليفة الثاني أنّه لم يبد في أيّة معركة من معارك الإسلام قوة وبسالة، بل كان في صفّ المتقاعدين دائماً. ولكن كلّما أسّر المسلمون أحداً كان هو أوّل مَن يقترح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقتله ونذكر للمثال ما يلي: أ. هذا المورد الّذي طلب فيه من رسول اللّه أن يُقَتَلَ ابن أُبي. ب. طلبه من النبي بأن يُقتَل حاطب بن أبي بلتعة الّذي تجسّس لصالح المشركين من أهل مكّة في فتح مكّة. ج. طلبه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقتل أبي سفيان الّذي جاء به العباس عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى خيمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبيل فتح مكّة، وغير ذلك من الموارد الّتي سبقت أو الّتي تأتي.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 759/3؛ إمتاع الأسماع: 208/1.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 759/3.

ما كنت تروح في مثلها؟

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أو ما بلغك ما قال صاحبُكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول اللّه؟ قال: «عبد اللّه بن أُبي». قال: وما قال؟ قال: «زعم أنّه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزُّ منها الأذل»؟

فقال أُسيد: فأنت يا رسول اللّه واللّه تخرجهُ منها إن شئت، هو واللّه الذليلُ، وأنت العزيز، ثمّ قال: إرفق به يا رسول اللّه، فَواللّه لقد جاء اللّه بكَ وأنّ قومه لينظِمُون لَهُ الخِرَز ليتوِّجوهُ، فإنّه ليرى أنّك قد استلبته مُلكاً.

ثم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالرحيل فارتحلَ الناسُ، وسار بهمُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يومَهُم ذاك حتّى أمسى، وليلتهم تلك حتّى أصبحَ، من دون أن يسمحَ لهم بالنزول والاستراحة، إلّاللصلاة، وسار بهم في اليوم هكذا حتّى آذتهم الشمسُ وسُلبوا القدرة على مواصلة السير فأذن لهم بالاستراحة، فنزل الناس، ولم يلبثُوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً من شدة التعب، وقد نسوا كلّ شيء من تلك الذكريات المرّة، وكان هذا هو ما يريده النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد سار بهم ليل نهار من دون توقّف ليشغِلَهم عن الحديث الّذي كان من «عبداللّه بن أُبي» المنافق المفتِّن(1).

صراعٌ بين الإيمان والعاطفة

كان عبداللّه بن «عبداللّه بن أُبي» من فتيان الإسلام الشجعان، ومن فرسانه البواسل، وكان - كما تقتضيه تعاليم الإسلام - يبرّ بأبيه المنافق أكثر من غيره، ولكنّه

ص:355


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 759/3-760، تاريخ الطبري: 261/2 و 262، مجمع البيان: 21/10-22.

عندما عرف بما تفوّه به أبوه في شأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وظنّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيقتل أباه، جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا رسول اللّه إنّه بلغني أنّك تريد قتل «عبداللّه بن أُبي»، فيما بلغك عنه، فإن كنت لابدّ فاعلاً فمرني به فأنا أحمل اليك رأسه، فواللّه لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري، فيقتله فلا تدعني نفسي أنظرُ إلى قاتل عبداللّه بن أُبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل (رجلاً) مؤمناً بكافر فأدخلَ النار!!(1)

إنّ حديث هذا الفتى يعكس - في الحقيقة - أعظم تجلّيات الإيمان وآثاره في النفس، والروح الإنسانية.

لماذا لم يطلب من النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يعفو عن أبيه؟! لأنّه كان يعلم أنّ ما يفعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما هو بأمر اللّه تعالى، ولكنّ ابنَ عبداللّه كان يرى نفسه في صراع روحيّ حادّ.

فمن جانب كانت تدعوه عواطف البنوّة والأخلاق العربيّة أن ينتقم ممّن يقتل أباه، ويسفك بالتالي دم مسلم.

ومن جانب آخر توجب عوامل أُخرى مثل ضرورة استتباب الأمن والطمأنينة في البيئة الإسلامية أن يُقتَلَ رأسُ المنافقين «ابن أُبي»، إنّه صورة من صورة الصراع بين مقتضى الايمان، ومقتضى العاطفة.

ولقد اختار عبداللّه بن عبداللّه بن أُبي طريقاً ثالثاً في هذا الصراع، يضمن مصالح الإسلام من جهة، ويحافظ على مشاعره من أن تُجرَح على أيدي الآخرين من جهة أُخرى، وذلك بأن يكون هو الّذي ينفّذ حكم الإعدام في أبيه المنافق المشاغب.

ص:356


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 760/3.

وهذا العمل وإن كان شاقّاً مؤلماً إلّاأنّ قوة الإيمان باللّه والتسليم لأمره سبحانه كانت تفيض عليه قدراً كبيراً من الطمأنينة والسكون.

ولكنّ النبيّ الرحيم صلى الله عليه و آله و سلم ردّ على سؤال واقتراح عبداللّه بن عبداللّه بن أُبي قائلاً:

«بل نترفّق به ونحسن صحبتَهُ ما بقي معنا»!!!

وهذا الكلام الّذي يكشف عن سمو أخلاق النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومبلغ رحمته، أدهش المسلمين جميعاً فتوجّهوا باللوم والعتاب الحادّ إلى المنافق «عبداللّه بن أُبي»، ولحقه بسبب ذلك ذلٌ شديدٌ بين الناس ما وراءه ذلٌ، وهوانٌ ما وراءه هوانٌ، واحتقره الناس حتّى أنّه لم يعد أحدٌ يعبأ به، ويقيم له وزناً.

لقد عَلَّم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين في هذه الحوادث دُرُوساً مفيدة جدّاً، وأظهر جانباً من سياسة الإسلام الحكيمة، والرشيدة.

فقد تحطم «عبداللّه بن أُبي» رئيس المنافقين بعد هذه الحادثة، ولم يعد له أي دور، بل عاش بقية حياته مهاناً محتقراً بين الناس بعد أن رأى الناس إيذاءه المستمر لرسول اللّه، وعفو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عنه، وإغضاءه عن مساوئه.

وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعمر بن الخطاب ذات يوم حين بلغه احتقار الناس لابن أُبي ذلك الاحتقار، وسقوط محلّه في القلوب:

«كَيفَ ترى يا عُمَر، أما واللّه لَو قتلتُه يوم قلت لي: اقْتُلْه، لأُرعدت له أُنفٌ، لو أمرتُها اليوم بقتله لقتلتهُ».

فقال عمر: قد واللّه علمتُ لأمرُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعظم بركة من أمري(1).

ص:357


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 760/3-761، وفي السيرة الحلبية: 603/2: لأُرعدت له أنوف.
الزَواجُ المبارك

كانت «جويرية» بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق من جملة السبايا الّتي وقعت في أيدي المسلمين في غزوة بني المصطلق، فأقبل أبوها الحارث بفداء ابنته إلى المدينة فلمّا كان في وادي العقيق نظر إلى الإبل الّتي جاء بها لفداء ابنته فرغبَ في بعيرين منها، فغيَّبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا محمّد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «فأينَ البعيران اللّذان غيبّتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا»؟!

فلمّا سمع الحارث بهذا الخبر الغيبي على لسان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم آمنَ هو وولداه به، وأسلم أُناس آخرون من قومه كانوا معه، وأرسل إلى البعيرين فجاء بهما، فدفع الإبل إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودُفعَت إليه ابنته «جويرية» فأسلمت هي أيضاً وحسن إسلامها.

ثم خطبها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أبيها، فزوّجه إيّاها، وأصدقها أربعمائة درهم.(1)

فلمّا بلغ الناس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تزوّج جويرية بنت الحارث وكان بأيديهم بعض الأسرى من بني المصطلق قالوا: أصهارُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأطلقوا ما كان بأيديهم من أُولئك الأسرى وكانوا مائة عائلة، فما عُلِمَ امرأة اعظم بركة على قومها منها، فقد اعتق بتزويجه إيّاها مائة من بني المصطلق.

ص:358


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 762/3-763؛ إمتاع الأسماع: 315/13.

وهكذا أُطلِق جميعُ أسرى بني المصطلق الذين كانوا بأيدي المسلمين رجالاً ونساء بفضل ذلك الزواج المبارك، أو قل بفضل هذه السياسة الاجتماعية الحكيمة، وعادوا إلى قبيلتهم(1).

الفاسق يفتضح

كان إسلام بني المصطلق إسلاماً نابعاً من قناعة ورغبة؛ لأنّهم لم يجدوا من المسلمين خلال مدّة الأسر إلّاحسن المعاملة والإحسان والعفو حتّى أنّه تمّ إطلاق جميع الأسرى ببعض الذرائع وعادوا إلى قبيلتهم وأهليهم.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أرسل إليهم «وليد بن عقبة بن أبي معيط» لجباية زكاتهم، فلمّا سمعوا بقدومه خرجوا إليه راكبين ليكرموه وليؤدّوا إليه ما عليهم من الزكاة، فلمّا سمع بهم هابهم، فرجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره بأنّ القوم قد همّوا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى همّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يغزوهم، فبينما هم على ذلك قدم وفدهم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا: يا رسول اللّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعاً؛ فبلغَنا أنّه زعم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّا خرَجنا إليه لنقتلهُ، وواللّه ماجئنا لذلك. فنزلت في هذا الشأن الآية السادسة من سورة الحجرات تؤيّد مقالة بني المصطلق وتصف الوليد بالفسق، إذ يقول تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» .(2)

ص:359


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 762/3؛ إمتاع الأسماع: 314/13-315.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 763/3.

42 قصّة الإفك

اشارة

بقي رئيس حزب النفاق عبداللّه بن أُبي يواصل تجارته بالجواري، والإماء ويضعهن تحت تصرّف الرجال للزنا بهن، ليجني من هذا الطريق أرباحاً طائلة.

حتّى بعد دخول الإسلام في المدينة.

فعندما نزلت آيات تحريم الزنا كان ذلك الفاسق يمارس حرفته القذرة، حتّى أنّ إماءه ضقن بهذا العمل الفاجر ذرعاً، فشكينَ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالت إحداهن: إنّ سيّدي يكرهني على البغاء.

فنزلَ قوله تعالى في شجب هذا العمل الدنيء:

«وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» (1).(2)

ولقد أراد رجل يعبث بعفاف النساء كهذا، أن يسيء إلى امرأة ذات مكانة وشخصية في المجتمع الاسلامي(3)، ويتهمها بالزنا نكاية بالمؤمنين، والمؤمنات،

ص:360


1- . النور: 33.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 246/7، تفسير الدر المنثور: 46/5.
3- . اخترنا هذا التعبير لورود نوعين من شأن النزول في المقام بحيث لم يتأكّد للمؤلّف مَن هي

وبغياً وحسداً.

حقّاً إنّ معاداة النفاق للإيمان من أشدّ أنواع المعاداة، فإنّ العدوّ المشرك والكافر يعمد دائماً إلى إشفاء غيظه وإطفاء غضبه وحنقه باستخدام عدائه في جميع الموارد والأوقات.

ولكنّ المنافق الّذي يتظاهر بالإيمان، ويتستّر بالإسلام حيث إنّه لا يمكنه التظاهر بعدائه، فإنّ عداءه الباطني يتراكم ويتصاعد حتّى يصل أحياناً إلى حدّ الإنفجار، لهذا ينطلق المنافق في كيل التهم من دون حساب أو ميزان تماماً كما يفعل المجانين.

ونرى مثل هذه الحالة في عبداللّه بن أُبي.

ولقد ظهرت ذلّةُ «عبداللّه بن أُبي» رئيس حزب النفاق في واقعة بني المصطلق، وقد منعه ابنه من دخول المدينة، ولم يسمح له بدخولها إلّابوساطة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وهكذا آل مصير رجل كان يحلم بالملوكية والسلطان إلى أن يمنعه أخصّ أقربائه عن الدخول إلى مسقط رأسه، فيما كان يطلب هو من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يكفّ عنه ولده.

إنّ من الطبيعي أن يعمد رجلٌ مثل هذا إلى فعل كلّ ما يشفي غليله ويذهب غيظه، ومن ذلك ترويج الشائعات الكاذبة انتقاماً من المجتمع الإسلامي.

فعندما يعجز العدوّ عن المواجهة المباشرة يعمد إلى حبك الشائعات،

ص:361

وترويجها وإشاعتها ليستطيع من خلال ذلك، توجيه ضربة نفسيّة إلى المجتمع، وكذا بلبلة الرأي العام، وإشغاله بالتوافه وصرفه عن القضايا المهمة والمصيرية.

إنّ سلاح الشائعات من الأسلحة المدمّرة الّتي يمكن أن تستخدم في تشويه سمعة الأفراد الصالحين، وإبعاد الناس عنهم.

المنافقون يتّهمون شخصاً نقيّ الجيب

يستفاد من الآيات النازلة في قضيّة «الإفك» أنّ المنافقين اتّهموا شخصاً بريئاً بتهمة الزنا، تحقيقاً لمآربهم الدنيئة، وإضراراً بالمجتمع الإسلاميّ، وقد ردّهم القرآن وشجب عملهم بشدّة قلّ نظيرها، وأبطل خطّتهم.

فمَن هو - يا ترى - ذلك البريء؟ إنّ في ذلك خلافاً بين المفسّرين، فالأكثرون على أنّها «عائشة» زوجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويرى الآخرون أنّها «مارية» القبطية أُمّ إبراهيم وزوجة رسول اللّه أيضاً، ولقد ذكروا أسباباً مختلفة لنزول هذه الآيات لا تخلو عن إشكال. وها نحن ندرس القول الّذي يذهب إلى أنّ المراد في هذه الآيات هو: «عائشة»، وتوضيح ما يصحّ وما لا يصح في هذا المجال:

دراسة القول الأوّل

يرى المحدّثون والمفسّرون من أهل السنّة أنّ نزول آيات «الإفك» يرتبط بعائشة، ويذكرون في هذا المجال رواية مفصّلة لا يتلاءم بعضها مع عصمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومن هنا لا يمكن القبول بهذا القول على إطلاقه.

وها نحن نذكر ما يتلاءم من هذه القصّة مع عصمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم نستعرض آيات الإفك، ثم نشير إلى القسم الّذي يخالف عصمته صلى الله عليه و آله و سلم في هذا القول.

ص:362

إنّ إسناد هذه الرواية تنتهي برمّتها إلى «عائشة»(1) نفسها، فهي تقول: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتّهنّ خرج سهمها خرج بها معه، فلمّا كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم...، فلمّا فرغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من سفره ذلك وجّه قافلاً، حتّى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلاً، فبات به بعض الليل، ثم أذّن في الناس بالرحيل، فارتحل الناسُ وخرجتُ لبعض حاجتي، وفي عنقي عقد لي، فيه جزع ظفار (أي خرز يمني)، فلمّا فرغت انسلّ من عنقي ولا أدري، فلمّا رجعت إلى الرَّحل ذهبت التمسُه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت إلى مكاني الّذي ذهبتُ إليه، فالتمستُه حتّى وجدته، وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحّلون لي البعير، وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج، وهم يظنون أنّي فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه، فشدّوه على البعير ولم يشكُّوا أنّي فيه، ثم أخذوا رأس البعير، فانطلقوا به، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب، قد انطلق الناس .

قالت: فتلفّفت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو قد افتقدتُ لرجع إليّ. قالت: فواللّه إنّي لمضطجعة إذ مرّ بي صفوان بن المعطل السلمي (وهو من فرسان الإسلام) وقد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتّى وقف عليّ، وقد كان يراني قبل أن يُضرب علينا الحجاب، فلمّا رآني قال: إنا للّه وإنا إليه راجعون ظعينة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأنا متلفّفة في ثيابي. قال: ما خلّفكِ يرحمك اللّه. قالت: فما كلّمتُه، ثم قرّب البعير فقال:

إركبي، واستأخرَ عنّي فركبتُ، وأخذ برأس البعير، فانطلق سريعاً يطلبُ الناس،

ص:363


1- . راجع: تفسير الدر المنثور: 24/5-34.

فواللّه ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتّى أصبحت، ونزل الناسُ فلمّا اطمأنوا طلَع الرجلُ يقودني، فقال أهل الإفك ما قالوا؛ فارتعج العسكر (أي شكوا فيّ) وواللّه ما أعلم بشيء من ذلك.(1) حتّى نزلت آيات «الإفك» تبرّئني ممّا اتّهمني به المنافقون .

هذا القسم من شأن النزول الّذي لخّصناه لك من قصّة مفصّلة يمكن تطبيقها مع آيات «الإفك»، وليس فيه ما ينافي عصمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

واليك الآيات الّتي نَزلَتْ في هذا المجال:

«إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ * لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ * وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيمٌ * وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» .(2)

أبرز النقاط في آيات «الإفك»

يستفاد من القرائن أنّ هذه التهمة كانت نابعة أساساً من المنافقين، أي أنّه من

ص:364


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 764/3-765. ولاحظ: صحيح البخاري: 55/5-57، حديث الإفك؛ وج 5/6-7، تفسير سورة النور.
2- . النور: 11-16.

كيدهم، وإليك هذه القرائن:

1. يقال: أنّ المراد من قوله سبحانه: «وَ الَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ» هو «عبداللّه بن أُبي» رئيس المنافقين، وكبيرهم.

2. لقد عبّر تعالى في الآية الحادية عشرة عن الذين اتّهموا المرأة بلفظ:

«عصبة» وهذه العبارة تستعمل في الجماعة المنظّمة، الّتي يربطها هدفٌ واحدٌ وتحدوها غايةٌ واحدةٌ، وتفيد أنّهم كانوا متعاونين ومتعاضدين في المؤامرة، ولم يكن مثل هذه الجماعة بين المسلمين إلّاالمنافقون.

3. أنّ «عبداللّه بن أُبي» بسبب منعه من الدخول إلى المدينة، بقي عند مدخل المدينة، وعندما شاهَد عائشة وهي راكبة بعير صفوان استغل الفرصة للإيقاع برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إشفاءً لغيظه، فبادر إلى استعمال سلاح التُّهمة والبهتان، وقال:

إنّ زوجة النبي صلى الله عليه و آله و سلم باتت مع أجنبي في تلك الليلة وواللّه ما نجا منهما مِن الإثم أحدٌ.

4. إنّه تعالى يقول في نفس الآية (أي الحادية عشرة): «لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» .

والآن يجب أن نرى كيف لا يكون اتّهام مؤمن طاهر الجيب، شرّاً للمؤمنين؛ بل يكون خيراً لهم؟

إنّ سبب ذلك هو أنّ هذه القصّة كشفت القناع عن نوايا المنافقين ومقاصدهم الشرّيرة وافتضحوا برمّتهم، هذا مضافاً إلى أنّ المسلمين أخذوا من هذه القضية دُرُوساً مفيدة، مذكورة في محلّها.

ص:365

الزيادات في هذه القصّة
اشارة

هذا القدر من القصّة يمكن تطبيقه مع القرآن الكريم، ولا يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولكنّ البخاري روى بين ثنايا هذه القصّة أُموراً - نقلها عنه الآخرون في الأغلب - تعاني من إشكالين أساسيين هما:

1. منافاتها لمقام النبوّة والعصمة

فقد روى البخاري عن عائشة نفسها قولها:

فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أنّي لا أعرف من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكي، إنّما يدخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيسلّم ثم يقول: كيف تيكم، ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر... فأخبرتني (أُمّ مسطح) بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي، قالت:

فما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي قالت: وأنا حينئذٍ أُريد أن استيقن الخبر من قبلهما، فإذن لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فجئت أبوي، فقلت لأُمّي: يا أمتاه ما يتحدّث الناس؟ قالت: يا بنيّة هونّي عليك فواللّه لقلّما كانت امرأة قط وظيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلّاكثرن عليها.... ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شاور «أُسامة بن زيد» في الأمر، فأثنى عليَّ خيراً وقال: يا رسول اللّه أهلَك وما نعلم إلّاخيراً.

وشاور عليّاً فقال: يا رسول اللّه لم يضيّق اللّه عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية ستُصَدّقك (إي جارية عائشة) فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بريرة فقال: أي

ص:366

بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحقّ إن رأيت عليها أمر أغمضه عليها...(1)

إنّ هذا القسم من الرواية يتنافى بقوة مع عصمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّه يكشف عن أنّ النبي وقع فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أنّه غيّر سلوكه مع عائشة، وشاور أصحابه فيها!!

إنّ مثل هذا الموقف مع شخص بريء لا يوجدُ على تهمته أي دليل، ليس فقط يتنافى مع مقام العصمة النبوية، بل يتنافى حتّى مع مقام مؤمن عادي؛ لأنّه بين المؤمنين ليس من الجائز أبداً أن تغيَّر الشائعات سلوك مسلم عاديٍّ تجاه شخص منهم، وحتّى لو تركت تلك الشائعات تأثيراً في نفس المسلم، فليس من الجائز أن تُحدث مثل ذلك التغيير والانقلاب في نظرته وسلوكه.

إنّ القرآن الكريم يوبّخ في الآية 12 و 16 من سورة النور أُولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات وظنّوا الظنّ السوء إذ يقول تعالى:

«لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ» ؟

«وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» ؟!(2).

فإذا صحَّ هذا القِسمُ من الرواية المذكورة في شأن النزول لزم أن نقول: إنّ

ص:367


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 6/6-7، تفسير سورة النور، و ج 56/5-57، حديث الإفك، السيرة النبوية لابن هشام: 766/3.
2- . أي لماذا - عندما سمعتم بهذا الافتراء - لم تظنّوا بأنفسكم خيراً؟! وقلتم: هذا إفك، ولماذا - عندما سمعتم بهذا الكلام - لم تقولوا هذا بهتان لا يجوز ان نتكلم به؟!

هذا العتاب الشديد وهذا التوبيخ الصارخ كان يعمُّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً، والحال أنّ مقام النبوة الّذي يلازم العصمة لا يسمح لنا بأن نقول بأنّ هذا الخطاب والتوبيخ موجَّهين إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

من هنا لا مناص من رفض كلّ هذه الرواية المذكورة في شأن النزول الّذي يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أو القبول بالقسم الّذي لا يتنافى منها مع عصمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ورفض ما يتنافى معها.

2. سعدُ بن معاذ توفّي قبل حادثة «الإفك»

ويروي البخاري في صحيحه في ذيل شأن النزول عن عائشة نفسها: بعد أن سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بريرة عن أمري، فقالت فيّ خيراً، وصعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المنبر فحمدَ اللّه وأثنى عليه وقال: يا معشر المسلمين مَن يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي واللّه ما علمت على أهلي إلّاخيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّاخيراً، وما يدخل على أهلي إلّامعي.

فقام «سعدُ بن معاذ» وقال: يا رسول اللّه أنا أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.

فقام «سعد بن عبادة» وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبتَ لعمراللّه، لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل(1).

ص:368


1- . كان «سعد بن معاذ» رئيس الأوس و «سعد بن عبادة» رئيس الخزرج، وكانت بين هاتين القبيلتين منافسة قديمة، وكان «عبداللّه بن أُبي» خزرجياً، فاعتبر «سعد بن عبادة» كلام «سعد بن معاذ» تعريضاً بالخزرج وحطّاً من شأنهم.

فقام أُسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة:

كذبت لعمر اللّه لنقتلنَّه، فإنّك منافقٌ تجادلُ عن المنافقين.

فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.(1)

هذا القسم من القصّة المذكورة في رواية البخاري غير صحيح، ولا يتلاءم مع التاريخ الثابت الصحيح لأنّ «سعد بن معاذ» كان قد مات بعد إصدار حكمه في بني قريظة متأثراً بجرح أصابه في معركة «الأحزاب»، وقد وقعت حادثة «الإفك» بعد واقعة بني قريظة، وقد صرّح البخاري نفسه بهذا في صحيحه (ج 5 ص 51) في باب «معركة الأحزاب وبني قريظة»، فكيف يمكن والحال هذه أن يحضر مجلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويجادل «سعد بن عبادة» في قصّة الإفك الّتي وقعت بعد واقعة بني قريظة بعدّة شهور؟!(2)

لقد ذهب المؤرّخون إلى أنّ معركة الخندق ثم واقعة بني قريظة وقعتا في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، فتكون النتيجة أنّ قضية بني قريظة انتهت في التاسع عشر من شهر ذي الحجّة، وقد توفّي سعد بن معاذ في أعقاب هذه الحادثة مباشرة لمّا انفجر به جرحه(3) في حين وقعت غزوة بني المصطلق في

ص:369


1- . صحيح البخاري: 58/5، حديث الإفك؛ وج 7/6، تفسير سورة النور.
2- . والجدير بالذكر أنّ ابن هشام لم يذكر في سيرته «سعد بن معاذ»، ولكنّه روى جدال أُسيد مع سعد بن عبادة، راجع: السيرة النبوية لابن هشام: 767/3، وهكذا فعل ابن الاثير في الكامل في التاريخ: 197/2، ولكنّ صاحب المغازي ذكر القصّة كاملة، وأتى باسم سعد بن معاذ راجع المغازي: 431/1.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 730/3.

شهر شوال من السنة السادسة(1).

أجل إنّ ما هو مهمٌّ في المقام هو أن نعرف أنَّ حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس، ويبلبلها ببهت امرأة صالحة ذات مكانة في المجتمع الإسلامي يومذاك.

وقد فُسّر قوله: «وَ الَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ» : أي الّذي تحمّل القسط الأكبر من هذه العملية الخبيثة هو عبداللّه بن أُبي، فهو الّذي قاد هذه العملية الرخيصة والخطرة كما صرّحت بذلك عائشة نفسُها أيضاً.

الرواية الأُخرى في سبب النزول

وتقول هذه الرواية: إنّ الآيات الحاضرة نزلت في «مارية القبطيّة» زوجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ووالدة إبراهيم.

فإنّ هذه الرواية تقول: لمّا مات إبراهيم بن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حزن عليه حزناً شديداً، فقالت عائشة: ما الّذي يُحزنك عليه؟ ما هو إلّاابن جريح، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً صلوات اللّه عليه وأمره بقتله، فذهب عليٌّ صلوات اللّه عليه ومعه السيف، وكان جريح القبطي في حائط (أي بستان)، فضرب «عليٌ» باب البستان، فأقبل جريح ليفتح له الباب، فلمّا رأى عليّاً صلوات اللّه عليه، عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعاً ولم يفتح باب البستان، فوثب علي عليه السلام على الحائط ونزل إلى البستان، وأتبعه، وولّى جريح مدبراً، فلمّا خشي أن يرهقهُ (أي يدركه) صعد على نخلة وصعد «عليٌ» في أثره، فلمّا دنا منه رمى جريح بنفسه من فوق النخلة،

ص:370


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 757/3. ولعلّه فطن ابن هشام لهذه الناحية فترك ذكر سعد بن معاذ، بينما غفل عنها البخاري في صحيحه، راجع شروح البخاري منها: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر: 471/8 و 472 للوقوف على اضطراب الشرّاح في معالجة هذا التناقض.

فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء، فانصرف عليٌّ عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال له: يا رسول اللّه إذا بعثتني في الأمر أكونُ فيه كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبّت؟

قال: لا؛ بل تثبت.

قال: والّذي بعثك بالحقّ ما له ما للرجال ولا ما للنساء.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: الحمدللّه الّذي صرَف عنّا السُّوء أهل البيت.(1)

وهذه الرواية الّتي نقلها «المحدّث البحراني» في «تفسير البرهان»، و «الحويزي» في تفسير «نور الثقلين» ضعيفة وغير مستقيمة من حيث المفاد، وهو ضعف ظاهر لا يحتاج إلى البيان.

ومن هنا لا يمكن القبول بها في شأن نزول هذه الآيات.

فالمهم هو وقوع أصل هذه الحادثة، كان مَن كان المتَّهم فيها.

ص:371


1- . البرهان في تفسير القرآن: 53/4 برقم 7573؛ نور الثقلين: 581/3-582.

43 رحلةٌ سياسيّةٌ دينيّةٌ

اشارة

كانت السنة الهجرية السادسة بكلّ حوادثها المرّة والحلوة تقترب من نهايتها عندما رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المنام أنّه دخل البيت (الكعبة) وحلق رأسه، وأخذ مفتاح البيت، وعرّف مع المعرّفين، فقصّ صلى الله عليه و آله و سلم هذه الرؤيا على أصحابه وتفاءل بها خيراً(1).

ولم يلبث أن أمر أصحابه بالتهيّؤ للعمرة، ودعا القبائل المجاورة الّتي كانت لا تزال على شركها وكفرها إلى مرافقة المسلمين في هذه السفرة، ولهذا شاع في جميع أنحاء الجزيرة العربية أنّ المسلمين سيتّجهون في شهر ذي القعدة صوب مكّة يريدون العمرة.

ولقد كانت هذه السفرة الروحانية تنطوي - مضافاً إلى العطاء الروحي والمعنوي - على مصالح إجتماعية وأهداف سياسية، فقد عزّزت مكانة المسلمين في شبه الجزيرة العربية، وتسبّبت في انتشار دين التوحيد في أوساط المجتمع العربي آنذاك، وذلك:

ص:372


1- . المغازي: 572/1؛ إمتاع الأسماع: 274/1.

أوّلاً: لأنّ القبائل العربية المشركة كانت تتصوّر أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يخالف كلّ عقائد العرب، وتقاليدهم الشعبية، والدينية حتّى فريضة الحج، والعمرة الّتي كانت تعدّ من ذكريات الاسلاف ومواريثهم.

من هنا كانوا يخافون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويتوجّسون خيفة من دينه، وعقيدته، ولكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم استطاع في هذه المناسبة باشتراكه، واشتراك أصحابه في مراسيم العمرة أن يخفّف هذا الخوف لدى القبائل المشركة إلى حدٍّ كبير، وأن يوضح بعَمله أنَّ رسولَ الإسلام لا يعارضُ زيارة بيت اللّه الحرام، والفريضة المذكورة الّتي تعد من طقوسهم الدينية، وتقاليدهم المذهبية، بل يعتبرها فريضة مقدّسة، فهو مثل والد العرب الأكبر «إسماعيل بن إبراهيم الخليل» عليهما السلام يعمل على المحافظة على هذه التقاليد الدينية، وبهذا استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يستقطب قلوب من كان يتوهّم أنّ رسالة «محمَّد» ودعوته، ودينه يعارض جميع شؤونهم وتقاليدهم وأعرافهم الدينية، والشعبية، ويخالفها مخالفة مطلقة، ويقلّل من خوفهم، واستيحاشهم.

ثانياً: إذا استطاع المسلمون أن يحرزوا في هذا السبيل نجاحاً، ويؤدّوا مناسك العمرة في المسجد الحرام بحرية، أمام أعين الآلاف من المشركين، فإنّ عملهم هذا بنفسه سيكون تبليغاً ناجحاً للإسلام، لأنّ أخبار المسلمين ستنتشر بواسطة المشركين الذين قدموا مكّة من جميع المناطق لأداء مناسك العمرة، فسيحملون أنباء ما رأوه وشاهدوه من أفعال المسلمين الرشيدة، وأخلاقهم الفاضلة، إلى أوطانهم لدى عودتهم من مكّة إلى بلادهم، وبهذا ينتشر نداء الإسلام في تلكم المناطق الّتي لم يستطع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يبعث إليها الدعاة والمبلغين حتّى ذلك الحين، ويترك هذا الأمر أثره المطلوب.

ص:373

ثالثاً: أنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكّر الناس في المدينة بحرمة الأشهر الحرم ثم أمر المسلمين بأن لا يحملوا معهم من الأسلحة شيئاً إلّاالسيف الّذي يحمله كلّ مسافر معه.

ولقد جلب هذا الأمر عواطف كثير من الغرباء عن الإسلام نحو هذا الدين، وغيّر من نظرتهم السلبية تجاه دعوة الإسلام، لأنّهم شاهدوا بأُمّ أعينهم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحرّم القتال في هذه الأشهر، ويدافع بنفسه عن هذه السنّة الدينية القديمة ويدعو إلى رعايتها خلافاً لكلّ الدعايات الّتي كانت تبثّها قريش عن أنّ الإسلام لا يحترم هذه الأشهر، ويجيز الاقتتال وسفك الدماء فيها.

لقد فكّر القائد الإسلامي مع نفسه بأنّه لو أصاب المسلمون في هذا السبيل أيّ نجاح، فإنهم يكونون قد حقّقوا أملاً قديماً من آمالهم الّتي طالما تشوّقوا إلى تحقيقها.

كما أنّه سوف يستطيع المهاجرون الّذين طال بعدهم عن وطنهم، وأهليهم، أن يزوروا ذويهم وأقرباءهم. هذا إذا سمحت قريش لهم بدخول مكّة.

وأمّا إذا منعتهم قريش عن الدُّخول في الحرم فإنّ مكانة قريش ستتعرّض - حينئذ - لخطر السقوط في العالم العربي، وسيلومهم العرب على ذلك، لأنّ جميع ممثلي القبائل العربية المحايدة سترى كيف عاملت قريشٌ جماعة مسالمة أرادت دخول مكّة لأداء مراسيم العمرة، وزيارة الكعبة المعظمة، ولا تحمل معها أيَّ سلاح إلّاما يحمله المسافر في سفره عادة، في حين يرتبط المسجد الحرام بالعرب كافّة، وإنّما تقوم قريش بمجرّد سدانته، وإدارة شؤونه.

وهنا تتجلّى حقّانية المسلمين بشكل واضح، ويتّضح عدوان قريش، وينكشف للجميع بطلان مواقفها، فلا تستطيع قريش بعد ذلك أن تواصل تأليبها

ص:374

للقبائل العربية ضدّ الإسلام، وعقد تحالفات عسكرية واتّحاد عسكري مع قواها لمحاربة المسلمين لأنّها قد منعت الزوّار المسلمين أمام أعين الآلاف من الحجيج والزائرين من حقّهم المشروع.

لقد لاحظ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّ هذه الجوانب وغيرها فأمر المسلمين بالتوجّه نحو مكّة، وأحرم ألف وأربعمائة(1)، أو الف وستمائة(2)، أو ألف وثمانمائة(3) في «ذي الحليفة» و قلّد سبعين بدنة (بعيراً) وبهذا أعلن عن هدفه من تلك الرحلة.

ولقد أرسل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عيناً له ليخبره عن قريش إذا وجدهم في أثناء الطريق.

ولمّا كان رسول اللّه بعسفان (وهي منطقة بين الجحفة ومكة) أتاه رجلٌ خزاعيّ كان يتقصّى الأخبار لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا رسول اللّه هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون اللّه أن لاتدخلها عليهم أبداً، وهذا «خالد بن الوليد» في خيلهم (وكانوا مائتين) قد قدّموها إلى كراع الغميم. (وهي موضع بين مكّة والمدينة أمام عُسفان بثمانية أميال).

فلمّا سمع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعزم قريش على منعه ومنع أصحابه من العمرة قال:

«يا ويحَ قريش، لقد أكَلتهُم الحربُ، ماذا عليهم لوخلّوا بيني وبين سائر

ص:375


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 774/3.
2- . مجمع البيان: 288/2.
3- . روضة الكافي: 322/8.

العرب، فإن هم أصابوني كان الّذي أرادوا، وإن أظهرني اللّه عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظُنُّ قريش، فواللّه لا أزال أُجاهد على الّذي بعثني اللّه به حتّى يظهره اللّه، أو تنفردُ هذه السالفة(1) (أي أُقتل أو أموت).

ثم قال: مَن رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ قال رجل من أسلم: أنا يا رسول اللّه، فسلك بهم طريقاً وعراً أجرل(2) بين شعاب، فلمّا خرجوا منه، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي....

وخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلأت(3) الناقة، قال: ما خلأت وما هولها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة.(4)

ثم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الناس أن ينزلوا في ذلك المكان فنزلوا.

ولمّا علمت طليعة قريش بمسير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، لحقت به، حتّى اقتربت منه وحاصرت موكبه ورجاله فكان على النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد أن يواصل سيره باتّجاه مكّة أن يخترق صفوف رجال قريش، فيسفك دماءهم ويعبر على أجسادهم، وحينئذ كان الجميع يرى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يهدف العمرة والزيارة بل يريد الحرب والقتال، فكان مثل هذا العمل يسيء إلى سمعة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويضر بهدفه

ص:376


1- . السالفة: صفحة العنق، وكنى بهذه الجملة عن الموت لأنّها لا تنفرد عمّا يليها الّا بالموت.
2- . أجرل - بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الراء -: أي كثير الحجارة. والجرل: الحجارة. سبيل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 83/5، لسان العرب: 107/11، مادة «جرل».
3- . خلأت الناقة: أي بركت ولم تبرح من مكانها.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 775/3. وقد أشار بهذا الكلام إلى واقعة الفيل.

السلميّ.

ثم إنّ قتل هؤلاء النفر من طليعة قريش لا يزيل جميع الموانع من طريقه، لأنّ قريشاً كانت تبعث بإمدادات مستمرة، ولم يكن لينته إلى هذا الحدّ.

هذا مضافاً إلى أنّ المسلمين ما كانوا يحملون معهم - حينذاك - إلّاما يحمله المسافر العاديّ من السلاح، ومع هذه الحال لم يكن القتال أمراً صحيحاً، وحكيماً، بل كان يجب أن تحلَّ المشكلة عن طريق التفاوض.

ولهذا عندما نزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك المنطقة قال:

«لا تَدْعُوني قريشٌ اليوم إلى خُطّة يَسألونَنِي فيها صلةُ الرحم إلّاأعطيتُهُمْ إيّاها»(1).

ولقد بلغ كلامُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذا مسامع الناس، وكان من الطبيعي أن يسمَعَ به العدُو أيضاً، ولهذا بعثوا برجال من شخصيّاتهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليتعرّفوا على هدفه الأصلي من هذا السفر.

مندوبُو قريش عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم

بعثت قريش بعدّة مندوبين إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليتعرّفوا على مقصده وهدفه من هذا السفر.

وكان أوّل أُولئك المبعوثون هو: «بديل بن ورقاء الخزاعي» الّذي أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في رجال من خزاعة فكلّموه - نيابة عن قريش - وسألوه: ما الّذي جاء به؟ فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّا لَمْ نجئ لِقتال أحدٍ، ولكنّا جئنا معتمرين».

فرجعوا إلى قريش وأخبروهم بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يأت لِقتال وإنّما جاء

ص:377


1- . تاريخ الطبري: 273/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 775/3-776.

معتمراً زائراً لبيت اللّه، ولكنّ قريشاً لم يصدّقوهم وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالاً فواللّه لا يدخُلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدّثُ بذلك عنّا العربُ.

ثم بعثوا «مكرز بن حفص» فسمع من النبي صلى الله عليه و آله و سلم ما سمعه سابقه، فعاد وصدّق ما أخبر بديل قريشاً به، ولكنّ قريشاً لم تصدّق مكرزاً أيضاً كما لم تصدّق سابقه.

فبعثت في المرة الثالثة الحليس بن علقمة(1) وكبير رماة العرب، لحسم الموقف، فلمّا رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مقبلاً قال:

«إنّ هذا من قوم يتألَّهُون (أي يعظّمون أمر اللّه) فابعثوا الهديَ في وجهه حتّى يراهُ».

فلمّا رأى الحليس، الهديَ يسيل عليه من غير عُرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محلّه، رجعَ إلى قريش، ولم يصل إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إعظاماً لما رأى، فقال لهم: يا معشر قريش واللّه ما على هذا حالفْناكُمْ، ولا على هذا عاقَدْناكم، أيُصدّ عن بيت اللّه من جاء معظّماً له؟! والّذي نفسُ الحليس بيده لتخلّنَّ بين محمَّد وما جاء له، أو لأنفِّرنَّ بالأحابيش نفرة رجل واحد.(2)

وهكذا امتنع الحليس من مواجهة رسول اللّه بالقوّة واستخدام العنف معه لصدّه، وقد لاحظ بأُمّ عينيه أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين لا يريدون إلّاالعمرة والزيارة لا القتال والحرب، بل عاد يهدّد قريشاً إذا هي أرادت صدّه عن ذلك.

فشقّ هذا الكلام وهذا التهديد على قريش وخافوا من مخالفته، فقالوا: مَهْ، كفَّ عنا يا حُلَيْس حتّى نأخذ لأنفسَنا ما نرضى به.

ص:378


1- . لقد جاء الحليس إلى النبي بعد عروة الثقفي حسب رواية الطبري في تاريخه: 276/2.
2- . تاريخ الطبري: 276/2.

ثمّ بعثوا أخيراً «عروة بن مسعود الثقفي» وكان رجلاً لبيباً تطمئن قريشٌ إلى درايته وحكمته، وكان لا يحبُّ أن يمثّل قريشاً في هذه المفاوضات لما رآه مِن معاملتهم مع المبعوثين السابقين، ولكنّ قريشاً تعهدت له بأن تقبل بما يقول، وأعلنت له عن ثقتها الكاملة به، وبما سيخبر به، وبأنّه غير متّهم عندهم.

فخرج من عندهم حتّى أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فجلس بين يديه ثم قال: يا محمَّد جمعتَ أوْشابَ الناس (أي أخلاطهم) ثم جئتَ بهم إلى أهلك وقبيلتك، إنّها قريشٌ قد خرجت معها العُوذُ المطافيلُ، وقد لبسوا جلود النمُور، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وأيمُ اللّه لَكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً، (أو قال: أن يَفرُّوا عنك ويدعوك).

وعندما بلغ ابن مسعود في كلامه إلى هذا قال له أبوبكر وكان جالساً خلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنحنُ ننكشفُ عنه؟

لقد كان «عروة» كأيّ دبلوماسيّ ماكر، يحاول إضعاف معنويات أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكلامه، وروغانه.

وأخيراً انتهت المباحثات دون جدوى. وهنا جعل «عروة» يتناول لحية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ازدراء به صلى الله عليه و آله و سلم، والمغيرة بن شعبة - وكان واقفاً على رأس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - يقرعُ يَدَه إذا تناول لحية النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويقول: اكفُف يَدكَ عن وَجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن لا تصِلَ إليك.

فسأل عروة: من هذا يا محمَّد؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة (ويبدو أنّ جميع من كان حول النبي آنذاك أو بعضهم كانوا مقنّعين رعاية للظروف الأمنية).

فغضب عروة وقال: «أي غُدَر، وهل غَسلْتُ سوأتك إلّابالأمس» وكان

ص:379

المغيرة قد قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك من ثقيف فودى عروة المقتولين وأصلح الأمر.

فقطع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الكلام على عروة وقال له مثل ما قال لبُديل ورفيقيه، وأنّه لم يأت يريدُ حرباً، بل جاء يريد العمرة، ولأجل أن يُري عروة مكانته بين أصحابه وأتباعه، قام صلى الله عليه و آله و سلم وتوضّأ أمامه، فرأى عروة بأُمّ عينيه كيف أنّه لا يتوضّأ إلّا وتسابق أصحابُه على التقاط القطرات المتناثرة من وضوئه، فرجع إلى قريش وقال لهم: يا معشر قريش إنّي قد جئت كسرى في مُلكه، وقيصر في مُلكه، والنجاشيَّ في مُلكه، وإنّي واللّه ما رأيتُ مَلِكاً في قوم قطّ مَثلَ محمَّد في أصحابه، ولقد رأيتُ قوماً لا يُسْلِمُونَهُ لشيء قط، فَروا رأيَكُمْ (1).

رسول اللّه يبعث مندوباً إلى قريش

لم تثمر الاتّصالات الّتي جرت بين مبعوثي قريش، وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فكان من الطبيعي أن يتصوّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنَّ مبعوثي قريش لم يستطيعوا نقل هدفه إلى قريش، وإسماعهم الحقيقة، وأنّ اتّهامهم لهم بالجبن والكذب منعهم من قبول ما قد أخبروا به، ولهذا قرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يبعث هو مندوباً عنه إلى رؤوس الشرك ليوضّح لهم هدف رسول الإسلام من هذا السفر، وأنّه ليس إلّازيارة بيت اللّه وأداء مناسك العمرة لا غير.

فاختار رجلاً لبيباً حازماً من بني خزاعة يدعى «خراش بن أُميّة» فبعثه إلى قريش بمكّة وحمله على بعير يقال له «الثعلب». ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له من الزيارة والعمرة، فدخل مكّة، وبلّغ سادة قريش رسالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولكنّ قريشاً -

ص:380


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 778/3-779؛ المغازي: 598/2؛ إمتاع الأسماع: 287/1.

خلافاً لكلّ الأعراف الدولية والاجتماعية قديماً وحديثاً، والقاضية بحصانة السفراء وضرورة احترام كلّ ما يمتّ إليهم بصلة من ممتلكاتهم - عمدت إلى جمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي امتطاه سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة فعقروه عدواناً، وكادوا أن يقتلوا سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم نفسه، ولكن وساطة جماعة من قادة العرب أدّت إلى أن تخلّي قريش سبيله حتّى أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

إنّ هذا العمل الدنيء أثبت - بوضوح - أن قريشاً لم تكن تريد السلام بل كانت دائماً في صدد إشعال فتيل الحرب.

ولم تلبث قريش أن كلَّفت خمسين رجلاً من فتيانها بالطواف بعسكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بُغية أخذ شيء من أمواله، أو أسر بعض أصحابه لو أتيح لهم ذلك، إرعاباً للمسلمين وتخويفاً لهم. ولكن هذه الخطّة فشلت فشلاً ذريعاً، فإنّ هؤلاء لم يصيبوا شيئاً بل أسرهم المسلمون جميعاً، وأتي بهم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم مع أنّهم كانوا قد رَموا عسكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالحجارة والنبل.

وبهذا أثبت رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم مرّة أُخرى، أنّه يحب السلام ويسعى إليه، وأنّه جاء معتمراً لا معتدياً ولا محارباً(2).

النبيُ يبعث سفيراً آخر إلى قريش

رغم كلّ هذه الأُمور ورغم كلّ التصلّب والتعصّب الّذي أبدته القيادةُ القرشيةُ المشركةُ ضدّ الإسلام والمسلمين وضدّ محاولات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم السلميّة لم ييأس رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من تحقيق السلام فقد كان يريد - واقعاً - أن يعالج المشكلة

ص:381


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 779/3.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 278/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 779/3.

عن طريق المفاوضات، ومن طريق تغيير التصوّرات الّتي كان يحملها أشراف قريش وسادتها المتعنّتون المتصلّبون عن رسول اللّه و دعوته.

ومن هنا كان يجب هذه المرّة أن يختار صلى الله عليه و آله و سلم رجلاً لم تخض يده في دماء قريش، ولهذا لم يصلح «علي بن أبي طالب» ولا «الزبير» ولا غيرهم من فرسان الإسلام وشجعانه الذين جالدوا صناديد قريش في ميادين القتال وأردوا فريقاً منهم صرعى، لمثل هذه السفارة، وهذه المهمة.

ولهذا تقرر - بعد التأمّل - انتداب «عمر بن الخطاب» لهذه المهمة، أي الذهاب إلى مكّة، والتحدّث إلى سادة قريش، ورؤسائها، لأنّه لم يكن قد أراق من المشركين حتّى ذلك اليوم ولا قطرة دم، ولكن «عمر» اعتذر عن تحمّل هذه المسؤولية، والقيام بهذه المهمة المحفوفة بالمخاطر قائلاً: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؛ إنّي أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكّة من بني عديّ بن كعب (وهم عشيرته) أحد يمنعني،... ولكنّي أدُلّك على رجل أعزّ بها منّي، «عثمان بن عفان». (لكونه أموياً بينه وبين أبي سفيان زعيم قريش قرابة)(1).

فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «عثمان بن عفان» فبعثه إلى «أبي سفيان» وأشراف قريش، يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وأنّه إنّما جاء زائراً لهذا البيت ومعظِّماً لحرمته.

فخرج عثمان إلى مكّة، فلقيه «أبان بن سعيد بن العاص» حين دخل مكّة، أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه، ثم أجاره حتّى بلّغ رسالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فانطلق «عثمان» حتّى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطُف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:382


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 780/3.

واحتبسته قريش عندها، (ولعلّهم فعلوا ذلك ريثما يتوصلوا إلى حلّ ثم يطلقوه ليبلّغ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رأيهم).(1)

بيعةُ الرضوان

إلّا أنّ إبطاء مبعوث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن العودة من مكّة أوجد قلقاً شديداً في نفوس المسلمين، خاصّة وأنّه شاع أنّ عثمان قد قتل، فثارت ثائرة المسلمين، واستعدّوا للانتقام من قريش، وعمد النبي صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً إلى مخاطبتهم قائلاً:

«لا نبرح حتّى نناجِزَ القوم».

وذلك تقوية لإرادة المسلمين، وتحريكاً لمشاعرهم الطاهرة.

وفي هذه اللحظات الخطيرة، وفي ما كان الخطر على الأبواب، وبينما لم يكن المسلمون متهيّئين للقتال قرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يجدّد بيعته مع المسلمين.

فجلس رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تحت شجرة، وأخذ أصحابُه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحداً واحداً، ويحلفون له أن لا يتخلّوا عنه أبداً، وأن يدافعُوا عن حياض الإسلام حتّى النفس الأخير، وقد سمّيت هذه البيعة ببيعة «الرضوان» الّتي جاء ذكرها في قوله تعالى:

«لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» .(2)

فَاتّضحَ موقفُ المسلمين بعد هذه البيعة، فإمّا أن تسمح لهم قريش بدخول مكّة لزيارة بيت اللّه المعظّم، وإمّا أن تتصلّب في موقفها الرافض فيكون بينهم القتال

ص:383


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 780/3.
2- . الفتح: 18.

والحرب(1).

وبينما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الحال إذ طلع عليهم «عثمان بن عفان»، وكان ذلك بنفسه طليعة سلام كان يريده رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فأخبر عثمان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ الّذي يمنع قريشاً من السماح لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدخول مكّة هو اليمين الّتي ألزموا بها أنفسهم أن لا يدعوه يدخل مكّة هذا العام، وأنهم سيبعثون إليه من يتفاوض معه بهذا الشأن.

سهيلُ بن عمرو يفاوضُ رسولَ اللّه

بعثت قريش - في المرّة الخامسة - «سهيلَ بن عمرو» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد كلّفته بانهاء المشكلة ضمنَ شروط خاصّة سنقرؤها في ما يأتي.

فأقبل «سهيل بن عمرو» على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولمّا رآه النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: قد أراد القومُ الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

فلمّا انتهى «سهيل» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تكلّم في المسألة كما يتكلّم أي دبلوماسيّ بارع، فقال وهو يحاول إثارة عواطف النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأحاسيسه:

يا أبا القاسم إن مكّة حرمُنا وعِزُّنا، وقد تسامعت العربُ بك إنّك قد غزوتنا ومتى ما تدخلُ علينا مكّة عنوة تطمعُ فينا فنُتخَطّف، وإنا نذكِّرك الرحم، فإنّ مكّة بيضتك الّتي تفلَّقت عَن رأسك.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «فما تريد»؟

ص:384


1- . ولقد كان لهذه البيعة في نفسها أثرٌ سياسي مهم في نفس العدو، يقول الواقدي: فلمّا نظرت قريش إلى ما رأت من سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب اشتدّ رعبُهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية (المغازي: 1/604). وراجع: إمتاع الأسماع: 290/1 أيضاً.

قال: أُريد أن أكتب بيني وبينك هُدنة على أن أُخلّيها لك في قابل(1)فتدخلها، ولا تدخلها بخوف ولا فزع، ولا سلاح إلّاسلاح الراكب، السيف في القراب.(2)

فقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعقد مثل هذا الصلح.

وهكذا أدّت مفاوضات «سهيل» مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى عقد صلح شامل وواسع بين قريش وبين المسلمين.

ولقد تشدّد «سهيل» في شروط هذا الصلح كثيراً، حتّى كاد أن ينتهي هذا التشدُّد إلى قطع المفاوضات أحياناً، ولكن حيث إنّ الطرفين كانا يرغبان في الصلح والموادعة، لهذا كانا يستأنفان التحاور والتفاوض مرة أُخرى، بعد كلّ أزمة تطرأ على المباحثات.

وأخيراً انتهت مفاوضات الجانبين - رغم كلّ ما أبداه مندوب قريش من التصلّب - إلى عقد وثيقة موادعة وهدنة نُظّمت في نسختين ووقع عليها الجانبان.

ويروي كافّة المؤرّخين وأرباب السيَر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دعا عليّاً عليه السلام، وأمره أن يكتب تلك الوثيقة قائلاً له: اكتب «بسم اللّه الرحمن الرحيم» فكتب «عليّ» ذلك، فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن أكتب: باسمك اللَّهم!!

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: اكتب: باسمك اللَّهم وامحُ ما كتبتَ. ففعل «عليٌّ» ذلك.

ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: اكتب «هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه سهيل بن عمرو».

ص:385


1- . أي افرغ لك مكّة في العام القادم لتدخلها.
2- . بحار الأنوار: 361/20-362.

فقال سهيل: لو أجبتُك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوّة، فامحُ هذا الاسمَ واكتب: محمَّد بن عبداللّه (أو قال: لو شهدتُ أنّك رسولُ اللّه لم أُقاتلك، ولكن اكتب اسمَك واسم ابيك).

ولم يرض بعض مَن حضر من المسلمين في هذه النقطة بأن يرضخ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمطالب «سهيل» إلى هذه الدرجة، ولكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - الّذي كان يلاحظ مصالح عُليا غفل عنها ذلك البعض كما سنذكرها فيما بعد - رضي بمطلب «سهيل»، وقال لعليّ عليه السلام: امحها يا عليّ.

فقال عليُّ عليه السلام بأدب بالغ: يا رسول اللّه إن يَديَّ لا تنطلِقُ لمحو اسمك من النبوّة.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فضع يدِي عليها، فمحا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيده كلمة:

«رسول اللّه» نزولاً عند رغبة «سهيل» مفاوض قريش(1).

إنّ التسامح الّذي أَبداه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تنظيم وثيقة الصلح هذه لا يعرف له نظير في تاريخ العالم كلّه، لأنّه أظهر بجلاء أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يقع فريسة بيد الأهواء والأغراض الشخصية والعواطف والأحاسيس العابرة، وكان يعلم أنّ الحقائق لا تتبدَّل ولا تتغيّر بالكتابة والمحو، من هنا تسامحَ مع مفاوض قريش «سهيل» الّذي تصلَّب في مطاليبه غير المشروعة كثيراً، حفاظاً على أصل الصلح.

ص:386


1- . الإرشاد: 120/1-121؛ إعلام الورى: 371/1-372؛ بحار الأنوار: 361/20-362 وقد أخطأ الطبري في تاريخه: 282/2 في هذا المقام إذ قال في إحدى رواياته لهذه الحادثة: قال لعلي عليه السلام: امحُ «رسولَ اللّه»، قال: لا واللّه لا أمحاك أبداً، فأخذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وليس يحسن يكتب فكتب مكان «رسول اللّه»: محمَّد. وهكذا نسب الكتابة إلى شخص رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ونحن نعلم أنّه أُمّيّ، لا يحسن الكتابة، وقد حقّقنا هذه المسألة في كتابنا مفاهيم القرآن: 319/3-374.

وحرصاً على السلام.

التاريخ يعيد نفسه

ولقد ابتُليَ عليٌّ عليه السلام، تلميذ النبيّ الأوّل بمثل هذه التجربة المرّة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فيومَ امتنع عليٌّ عليه السلام عن محو كلمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن اسم النبيّ قال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«يا عَليّ إنَّك أبيتَ أن تمحوَ اسمِي من النبوّة، فوَالَّذي بعثني بالحقّ نبيّاً لتجيبنَّ أبناءهم إلى مِثلِها وأنتَ مَضيضٌ مضطهَدٌ»(1).

ولقد بقيت هذه القضية في ذاكرة عليّ عليه السلام، حتّى إذا كان يوم «صفين» وخدع بعض أصحاب الإمام عليّ عليه السلام بالأُسلوب الماكر الّذي اتبعه جيش الشّام الّذي قاتل عليّاً عليه السلام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ومساعدة عمرو بن العاص، وأجبروا الإمام عليه السلام على عقد الصلح مع معاوية فشكّل الجانبان لجنة لتنظيم وثيقة ذلك الصلح، كُلِّفَ «عبيداللّه بن رافع» كاتب الإمام، من جانب الإمام عليّ عليه السلام بأن يكتب وثيقة الصلح، فكتب:

«هذا ما تقاضى عليه أميرُالمؤمنين عليٌّ» قال عمرو بن العاص ممثل معاوية في تلك المفاوضات: لو علمنا أنّك أميرُالمؤمنين لم ننازعك!!

وهكذا طالب عمرو بن العاص بحذف عبارة أميرالمؤمنين.

وطال الكلام والتشاجر في هذا الموضوع، ولم يكن الإمام عليٌّ يريد أن يعطي حجّة للبسطاء من أصحابه، ولهذا لم يرضخ لهذا المطلب، ولكنّه بعد إلحاح

ص:387


1- . بحار الأنوار: 353/20.

من أحد قادة جيشه سمح بأن يُمحى لقب «أميرالمؤمنين» من اسمه ثم قال: «اللّه أكبر سُنةٌ بسنّة».

وهو بذلك يشير إلى حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم له يوم الحديبية(1).

نَصُّ صُلح الحديبية

وأخيراً عُقِدَت اتّفاقية صُلح وهُدنة بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقريش تضمّنت المواد والشروط التالية:

1. تعهّد المسلمون، وقريش بترك الحرب عشر سنين يأمنُ فيهن الناسُ، ويكف بعضهم عن بعض.

2. مَن أتى محمَّداً من قريش بغير إذن وليّه رَدّهُ عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمَّدٍ لم يردّوه عليه.

3. مَن أَحبّ أن يدخل في عقد محمَّد وعهده (أي يتحالف معه) دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

4. أنّ محمَّداً يرجع بأصحابه إلى المدينة عامَهُ هذا ولا يدخل مكّة، وإنّما يدخل مكّة في العام القابل في أصحابه فيقيم فيها ثلاثة أيام، لا يدخل فيها بسلاح إلّا سلاح المسافر، السيوف في القُرب.

5. أن لا يُستكرَه أحدٌ على ترك دينه ويعبُد المسلمون اللّه بمكّة علانية وبحرية، وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكّة، وأن لا يؤذى أحد ولا يعيَّر(2).

ص:388


1- . الكامل في التاريخ: 320/3، راجع المصدر لتقف على القصّة بكاملها ولتقف على مادار بين الإمام وابن العاص.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 352/20.

6. لا إسلال (سِرقَة) ولا إغلال (خيانة) بل يحترم الطرفان أموالَ الطرف الآخر، فلا يخونه ولا يسرق منه(1).

7. أن لا تعين قريش على محمَّد وأصحابه أحداً بنفس ولا سلاح(2).

هذا هو نصُ وثيقة «صلح الحديبية»، وقد جمعنا بنوده من المصادر المتنوّعة(3) الّتي أشرنا إلى بعضها في الهامش، وقد كتبت هذه الوثيقة في نسختين، ثم وقع عليها جماعة من شخصيات قريش، والمسلمين وشهدوا عليها وأُعطيت نسخة إلى «سهيل بن عمرو» ممثّل قريش، وتُركَت نسخة عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

نشيد الحرية

لقد كان كلّ عاقل لبيب يحسن تقدير الأُمور يسمع نشيد الحريّة من ثنايا هذا الصلح التاريخيّ، ومع أنّ كلّ بنود هذه المعاهدة جديرة بالاهتمام والإكبار، إلّاأنّ النقطة الّتي تستحقّ الاهتمام والتقدير أكثر من سواها هي المادّة الثانية في هذا الصلح، وهي المادّة الّتي أزعجت بعض الصحابة يوم انعقاد تلك المعاهدة.

فقد انزَعج صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم من هذا التمييز الصارخ، وقالوا حول قرار القيادة الحكيمة المتمثّلة في قائد محنّك كرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما كان ينبغي أن لا يقولوه، في حين تعتبر هذه المادة من أعظم بنود الوثيقة إذ تعكس نظرة رسول

ص:389


1- . مجمع البيان: 197/9-198. أو: «مَن قدم مكّة من أصحاب محمَّد حاجّاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل اللّه فهو آمن على دمه وماله، ومَن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو الشام فهو آمن على دمه وماله».
2- . بحار الأنوار: 352/20.
3- . لاحظ: المغازي: 611/1-612؛ تاريخ الطبري: 281/2؛ إمتاع الأسماع: 295/1؛ السيرة النبوية لابن هشام: 782/3؛ السيرة الحلبية: 708/2-709.

الإسلام وتفكيره حول كيفيّة تبليغ الإسلام وإشاعته ونشره، فإنّه يظهر منها - وبجلاء - مدى احترام رسول الإسلام لمبدأ الحرية.

ولقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في معرض الإجابة على مَن اعترض من صحابته على البند القاضي بتسليم كلّ مسلم فرّ من قريش إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين إلى قريش، دون العكس قائلاً:

«مَن جاءهُم مِنّا فأبعَدَهُ اللّه وَمَن جاءنا مِنهُم رَددناه إليهم، فلو علمَ اللّه الإسلامَ مِن قَلبه جَعلَ له مخرجاً».(1)

وأراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ الّذي يهرب من جماعة المسلمين ويلجأ إلى المشركين فلا قيمة لإيمانه وإسلامه، إذ أنّ ذلك يدلُّ على أنّه لم يؤمن بهذا الدين حقّ الإيمان فلا داعي لأن يعاد إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ لا إكراه في الدين، وأما من هرب من المشركين إلى المسلمين فلو علمَ اللّه منه الصدق لنجّاه حتماً.

ولقد كانت نظرية النبي صلى الله عليه و آله و سلم ورأيه متطابقاً كلّ التطابق مع موازين العقل والمنطق السليم، وقد تجلّت صوابيته وحقّانيته مع مضيّ الزمن في ما بعد، لأنّه لم يمض زمن طويل إلّاوقريش - وبعد سلسلة من الحوادث المؤسفة - طلبت بنفسها إلغاء هذه المادّة كما سيأتي بيانه في ما بعد.

إنّ هذه المادة تعدّ ردّاً قاطعاً على تقوّلات وتخرّصات المستشرقين المغرضين الذين يصرّون على القول بأنّ الإسلام انتشر بالسيف.

إنّهم حيث لا يتحمّلون رؤية هذا الامتياز العظيم الّذي كسبه الإسلام الحنيف، حيث انتشر في مدّة قصيرة جداً في شتّى نقاط العالم وبقاعه، حتّى كاد أن

ص:390


1- . بحار الأنوار: 334/20؛ مجمع البيان: 198/9.

يَعمَّ المعمورة كلّها، ولهذا اضطروا إلى إعزاء انتشار الإسلام إلى عامل استخدام القوة، وقالوا: إنّ الإسلام انتشر بالقوة، ليشوّهوا بذلك ملامح الإسلام ويخفوا الحقيقة خلف غطاء من الأراجيف، في حين أنّ هذا الميثاق الّذي عقد في الجزيرة العربية أمام أعين المئات من المسلمين وغير المسلمين، يعكس بجلاء روح الإسلام وحقيقة تعاليمه السامية، ومع هذا يكون من مجانبة الواقع القول بأنّ الإسلام انتشر بقوة السيف، لا بالدعوة الحرّة، والتبليغ والارشاد.

هذا ولقد تحالفت قبيلة خزاعة مع المسلمين في ضوء المادة الثالثة من الميثاق، بينما تحالفت قبيلة بني كنانة - وكانوا أعداء تقليديّين لخزاعة - مع قريش.

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح

كانت مقدّمات الميثاق المذكور، وبنوده توحي بصورة جليّة وكاملة بأنّ أكثرها قد فرضت فرضاً على المسلمين، فلو أنّ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم قبل بإمحاء كلمة «رسول اللّه» من اسمه، وبدأ الميثاق بعبارة «باسمك اللَّهم» على عادة الجاهلين بدل البسملة الكاملة، فإنّ غايته من ذلك كانت هي الحفاظ على الصلح، وإقرار الأمن في الجزيرة العربية.

ولو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رضي بأن يسلّم المسلمين الهاربين من قبضة المشركين إلى جماعة المسلمين، ويعيدهم إلى القيادة الوثنية في مكّة فإنّ بعض ذلك كان بسبب تصلّب سهيل ممثّل قريش وتعنّته، ولو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ماكان يرضخ لهذا الشرط (استجابة لرغبة الرأي العام الإسلامي الّذي كان مخالفاً لمثل هذا الشرط ومعارضاً لإعادة المسلمين الهاربين من مكّة إلى قريش، وحفاظاً على حقوق أُولئك الأشخاص الهاربين) لتعطّلت عملية السلام، ولما تحقّق الصلح،

ص:391

ولفاتت المسلمين هذه النعمة الكبرى الّتي انطوت على آثار عظيمة في المستقبل كما أثبتت الوقائع في ما بعد.

من هنا قاوم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّ الضغوط من جهة، وتحمّل عملية فرض هذا الشرط من جهة أُخرى، ليصل إلى المقصد الأعلى والهدف الأكبر الّذي تتضاءل تجاهه هذه المتاعب.

ولو كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يراعي الرأي العام ويلاحظ حقوق هذه الجماعة، لكان «سهيل» يتسبّب - بسبب تصلّبه الأرعن - في اشعال نائرة الحرب، والقصّة التالية تشهد بما نقول:

حينما انتهت مفاوضات السلام، وبينما كان الإمام علي عليه السلام يكتب وثيقة الموادعة والصلح دخل أبو جندل بن سهيل في مجلس النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو يرسف في قيوده.

فتعجّب الجميع من حضوره هناك، إذ كان محبوساً في سجن أبيه سهيل (المفاوض) مدّة طويلة.

ولم يكن لأبي جندل من ذنب إلّاأنّه اختار التوحيد عقيدة، والإسلام ديناً، ورفض الوثنية والشرك وكان يحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حباً شديداً فحبسه أبوه.

وكان أبو جندل قد بلغه أمرُ المفاوضات هذه، فهرب من محبسه وانفلت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سالكاً إليه طرقاً وعرة في الشعاب، والوديان.

فلمّا رأى «سهيل» ابنه أبا جندل وقد هرب من سجنه، ولجأ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بتلابيبه ثم قال: هذا يا محمَّد أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه.

ص:392

ولا شكّ أنّ كلام «سهيل» كان باطلاً، ولامبرّر لطلبه، لأنّ الميثاق لم تتمّ كتابته على الورق، ولم يوقع عليه الطرفان، ولم ينته - بالتالي - من مراحله النهائية والأخيرة بعد، فكيف يمكن الاستناد إليه، ولهذا أجابه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً:

«إنا لم نرضَ (نقض) بالكتاب بعد»(1).

فقال سهيل: إذاً واللّه لا أُصالحك على شيء أبداً، حتّى ترده اليّ، ولم يزل يصرّ على كلامه ورفضه هذا حتّى انزعج اثنان ممّن رافقه من شخصيات قريش، هما: مكرز وحويطب، من تصلّب سهيل وتشدّده.

ثم قاما وأخذا أبا جندل من أبيه وأدخلاه خيمة وقالا: نحن نجيره.

ولقد فعلا ذلك حتّى يُنهيا ذلك التنازع، والجدال، ولكن إصرار سهيل على موقفه، أبطل تدبيرهما إذ قال: يا محمَّد لقد لجّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا(2).

فاضطُرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن يقوم بآخر سعي في طريق الحفاظ على الهدنة والصلح الّذي كان له أثر عظيم في انتشار الإسلام، ولهذا رضي بردّ أبي جندل إلى والده، لإعادته إلى مكّة، ثم قال لذلك المسلم الأسير تطييباً لخاطره:

«يا أبا جَندَل، إصبر واحتسب، فإنّ اللّه جاعلٌ لك ولمَن معك مِن المستضعفين فَرجاً ومَخرجاً، إنّا قد عقدنا بَيننا وبينَ القوم صُلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهدَ اللّه، وإنا لا نغدِرُ بهم».

وانتهت جلسة المفاوضات، وتمَّ التوقيع على نسختي الميثاق، وعاد سهيلٌ ورفاقه إلى مكّة، ومعهم «أبو جندل» ابن سهيل في جوار مكرز وحويطب، ونحر

ص:393


1- . بحار الأنوار: 334/20.
2- . السيرة الحلبية: 710/2. لجّت: وجبت وتمت.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما كان معه من الهدي(1) في نفس ذلك المكان وحلق فنحر جماعة من المسلمين وحلقوا(2).

تقييم عاجل لصلح الحديبية

بعد أن فَرغَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من عقد صلح الحديبية بينه وبين رؤوس الشرك، وبعد أن توقّف في أرض الحديبية مدة 19 يوماً عاد هو وأصحابه إلى المدينة، وعاد المشركون إلى مكّة.

هذا وقد نشبت مشاجرات ومشادّات كلامية حين تنظيم ذلك الميثاق وكتابته، بين أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فمنهم من كان يعتبر ذلك الصلح في صالح الإسلام، وقليل منهم كان يعدّه مضرّاً بمصلحة الإسلام والمسلمين.

ولقد انقضى الآن أكثر من أربعة عشر قرناً على عقد ذلك الصلح التاريخي العظيم فلندرس معاً تلك المعاهدة بموضوعية وتجرّد، ونستعرض طرفاً من تلك الاعتراضات والمجادلات لنقف على معطيات تلك العملية، ونتائجها.

إنّ الّذي نراه هو: أنّ هذا الصلح كان في صالح الإسلام مائة بالمائة، وأنّه هو الّذي جعل أمر انتصار الإسلام قطعيّاً، لا شك فيه، وإليك أدلّة هذا الرأي:

1. أن حملات قريش المتتابعة على المسلمين، والتحريكات الداخلية والخارجية الّتي أشرنا إليها في حوادث «أُحد» و «الأحزاب» على نحو الاختصار، لم تترك للنبي صلى الله عليه و آله و سلم فرصة لنشر الإسلام بين القبائل، وفي المناطق المختلفة خارج

ص:394


1- . أي الإبل الّتي ساقها معه.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 281/2، بحار الأنوار: 353/20؛ السيرة النبوية لابن هشام: 783/3؛ إمتاع الأسماع: 11/9-12.

شبه الجزيرة العربية.

من هنا كان صلى الله عليه و آله و سلم يصرف أكثر أوقاته الثمينة في الدفاع والعمل على إفشال المؤامرات الخطرة الّتي كان العدوّ الداخلي والخارجيّ يحيكها باستمرار.

ولكنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم فرغ باله بعد عقد صلح الحديبية مع قريش من ناحية الجنوب، فتهيّأت الأرضية لانتشار الإسلام في المناطق الأُخرى.

وقد ظهر أثر هذا الهدوء والاستقرار بعد سنتين من عقد تلك المعاهدة، فقد كان مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الحديبية ألف و أربعمائة، ولكنّه عندما توجّه إلى مكّة لفتحها بعد عامين خرج معه عشرة آلاف، وكان هذا التفاوت من نتائج صلح الحديبية مباشرة، لأنّ بعض الناس كانوا يخشون قريشاً فلا يلتحقون بالمسلمين لذلك السبب، ولكن بعد أن اعترفت قريش بالكيان الإسلامي بصورة رسمية، وأُعطيت للقبائل الحرية الكاملة للانضمام إلى المسلمين زال الخوف المذكور عن كثير من القبائل، فاستطاع المسلمون أن يستغلوا تلك الفرصة ويقوموا بنشاط تبليغي ودعوة واسعة إلى الإسلام.

2. أن النتيجة الثانية الّتي حصَل عليها المسلمون من هذه المعاهدة هي زوال الستار الحديدي الّذي كان قد ضربه المشركون بين الناس وبين الإسلام، فقد سمح ذلك الصلح بالسفر إلى المدينة فكان الناس في سفرهم إلى المدينة يحتكون بالمسلمين ويلتقون بهم، فيتعرّفون على تعاليم الإسلام السامية.

ولقد أثار نَظمُ المسلمين، وإخلاصُهم، وطاعة المؤمنين الكاملة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إعجاب المشركين كما أثارت نظافة المسلمين، في أوقات الصلاة خاصّة، وصفوفهم المتلاحمة أثناء هذه العبادة المباركة، وخُطبُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الرائعة، وآيات القرآن الكريم البليغة، والسهلة في نفس الوقت، رغبة قوية في نفوس الكفّار

ص:395

في الالتحاق بالإسلام.

هذا مضافاً إلى أنّ المسلمين استطاعوا بعد عقد ذلك الميثاق السفر إلى مكّة وشتّى نقاط الجزيرة بحجج مختلفة، والاتّصال بذويهم وأقاربهم، والتحدّث معهم في أمر الإسلام وتعاليمه المقدّسة المحبّبة، وقوانينه وآدابه الرائعة، وما جاء به من حلال و حرام.

وقد تسبّبت كلّ هذه الأُمور في أن يلتحق كثير من رؤوس الشرك والكفر كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص بالمسلمين، ويعتنقوا ذلك الدين قبل فتح مكّة، وأن تساعد هذه المعرفةُ بحقائق الإسلام والاطّلاع على مزاياه وفضائله على تسهيل عملية فتح مكّة، وانهيار صرح الوثنية فيها من دون أيّة مقاومة من أهل مكّة، بحيث سيطر المسلمون عليها بسهولة وأقبلت أفواج الناس تدخل في دين اللّه راغبة، كما ستعرف تفاصيل ذلك في حوادث السنة الثامنة.

إنّ هذا الانتصار العظيم كان نتيجة الاتّصالات الّتي أجراها المسلمون مع ذويهم وأصدقائهم في مكّة خلال تردّدهم المتكرّر بعد زوال الخوف والحصول على الحرية في الدعوة بفضل صلح الحديبية.

3. أنّ الاتصال برؤوس الشرك أثناء عقد اتّفاقية السلام مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الحديبية، ساعد على إزالة كثير من العقد النفسية الّتي كانوا يعانون منها تجاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّ أخلاق النبي الرفيعة، وحلمه وصبره أمام تعنّت قادة المشركين وتصلّبهم وعتوهم، وسعيه الحثيث وحرصه الصادق على تحقيق السلام، أثبت لهم بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معدنٌ نفيس من معادن الخلق الانساني الكريم.

فبالرغم من أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قد أُصيب على أيدي قريش بخسائر فادحة، وناله

ص:396

منهم أذى كثير، إلّاأنّ فؤاده كان طافحاً بمشاعر اللطف، والحب والحنان على الناس.

لقد رأت قريش بأُمّ عينيها كيف أنّه صلى الله عليه و آله و سلم خالف في عقد ميثاق الصلح آراء جماعة من أصحابه، المعارضة لبعض بنود الاتّفاقية رغبة منه في تحقيق السلام، وكيف آثر الحفاظ على حرمة المسجد الحرام، على هواه، ورغبته الشخصية.

إنّ هذا النوع من السلوك أبطل مفعول جميع الدعايات السيّئة الّتي كانت تُرَوّجُ ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومواقفه وخُلقه، وأفكاره وأثبتت للجميع أنّه حقاً رجلُ سلام، وداعية خير للبشرية، وأنّه حتّى لوسيطر على مقاليد الجزيرة العربية، لما عامَل أعداءهُ إلّابالحسنى واللطف، لأنّه لم يكن مشكوكاً فيه بأنّه لو كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخوض حرباً ضد قريش في ذلك اليوم لغلبها وهزمها شر هزيمة كما يصرح بذلك القرآن الكريم أيضاً إذ يقول:

«وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً» .(1)

ومع ذلك أبدى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تسامحاً كبيراً، وأعلن عن عطفه، وحنانه للمجتمع العربيّ، وبذلك أبطل كلّ الدعايات الّتي كانت تُروّجُ ضدّه، وضدّ دعوته العظيمة المباركة.

من هنا نهتدي إلى مغزى ما قاله الإمام الصادق جعفر بن محمَّد عليهما السلام عن أهمية هذا الصلح حيث قال:

«وما كان قضية أعظم بركة منها».(2)

إنّ الحوادث اللاحقة أثبتت أنّ اعتراض عدد ضئيل من صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم

ص:397


1- . الفتح: 22.
2- . بحار الأنوار: 368/20.

وفي مقدّمتهم عمر بن الخطاب على هذا الصلح كان باطلاً ولا مبرر له.

وقد أدرج أرباب السير والتاريخ جميع هذه الاعتراضات، كما تنقل ردّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عليها، ويمكن للوقوف عليها مراجعة «السيرة النبوية» لابن هشام، و «إمتاع الأسماع» وغيرهما(1) أنّ قيمة هذه المعاهدة تتجلّى من أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يصل إلى المدينة حتّى نزلت سورة الفتح الّتي وعدَت المسلمين وبشّرتهم بالانتصار ويمكن اعتبار هذا العمل مقدّمة لفتح مكّة كما يقول تعالى: «إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» .(2)

قريش تصرُّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة

لم يمض زمان طويل حتّى أجبرت الحوادثُ المُرّة قريشاً على أن تبعث إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من يطلب منه إلغاء المادة الثانية من معاهدة صلح الحديبية، وهي المادة الّتي أغضبت بعض صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأثارت سخطهم، وقبل بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تحت إصرار من «سهيل» ممثّل قريش في مفاوضات الحديبية.

تلك المادة الّتي تقول: على الحكومة الإسلامية أن تعيد كلّ مسلم هارب من مكّة إلى حكومة مكّة، ولكن لا يجب على قريش أن تعيد كلّ هارب من المسلمين إلى مكّة، إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وقد أثارت هذه المادة - المجحفة في الظاهر - سخط البعض واعتراضهم، ولكنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال لأبي جندل في وقته:

ص:398


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 781/3؛ إمتاع الأسماع: 291/1؛ المغازي: 606/1؛ تاريخ الطبري: 280/2.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 263/20 نقلاً عن إعلام الورى، وزاد المعاد في هدى خير العباد: 126/2.

«فإنَّ اللّه جاعلٌ لك وَ لِمَن معَك مِنَ المستضعفين فَرجاً وَ مَخرجاً».

ثم إنّ مسلماً آخر يدعى «أبوبصير» كان قد حبسه المشركون ردحاً طويلاً من الزمن استطاع أن يفرّ من محبسه ويصل إلى المدينة، وقد وصلها سعياً على قدميه، فكتب شخصيتان من شخصيات قريش هما: «أزهر» و «الأخنس» كتاباً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يطلبان منه إعادة أبي بصير إلى قريش ويذكّرانه بالمعاهدة وأرسلاه مع رجل من بني عامر يرافقه غلامُه، فدفع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «أبا بصير» إلى الرجلين عملاً بالمعاهدة قائلاً:

«يّا أبابصير إنّا قَد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمتَ (أي مِن العهد) ولا يَصلح لنا في ديننا الغدرُ، وإنّ اللّه جاعلٌ لكَ وَ لِمَن معَكَ مِنَ المسلمين فَرَجاً وَ مخرجاً»(1).

فقال أبوبصير: يا رسول اللّه تردَّني إلى المشركين؟!

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثانية:

«إنطلِق يا أبا بصير، فإنّ اللّه سيَجعَل لَكَ مخرجاً».

ثم دفعه إلى العامريّ وصاحبه فخرج معهما باتّجاه مكّة.

فلمّا كانوا بذي الحليفة (وهي قرية تبعد عن المدينة بستة أميال يحجّ منها بعض أهل المدينة) صلّى أبوبصير ركعتين صلاة المسافر ثم مالَ إلى أصل جدار فاتّكأ عليه، ووضع زاده الّذي كان يحمله وجعل يتغدّى وقال لصاحبيه في لهجة الصّديق: ادنُوا فكُلا؟ فأكَلا معه ثم آنسَهُم ثم قالَ للعامري: يا أبا جابر أصارم سيفك هذا؟ قال: نعم. قال: ناولنيه انظُر إليه إن شئت؟ فناولهُ العامري سيفهُ وكان أقرب إلى

ص:399


1- . المغازي: 625/1.

السيف مِن أبي بصير، فجَّردَ أبُوبصير السيفَ وقتلَ به العامريّ في اللحظة، فهربَ الغلامُ يعدُو نحوَ المدينة خوفاً، وسبق أبا بصير إلى المدينة، وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما جرى لسيّده العامريّ، فبينا رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جالسٌ في أصحابه والغلام عنده يقصّ عليه ما جرى إذ طلع أبوبصير، فدخل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد وقال: وَفَت ذِمّتُك، وأدّى اللّه عنكَ، وقد أسلَمتني بيد العدوّ، وقد امتنعتُ بديني من أن أُفتَن.

ثم إنّ أبا بصير بعد أن قال هذا الكلام خرج من عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وغادَر المدينة، ونزل ناحية على ساحل البحر، على طريق قافلة قريش إلى الشام، تُسمّى «العيص».

وعرف المسلمون الذين حُبسوا بمكة بهذا التطّور، ففرّ منهم سبعون رجلاً، وانضمُّوا إلى أبي بصير وكانوا ممّن نالهم على يد قريش أشدُّ العذاب والعنت، فلا حياة ولا حرية لهم.

من هنا قرّروا أن يتعرّضوا لقافلة قريش التجارية ويغيروا عليها، أو يقتلوا كلّ مَن وقعت يدُهم عليه من قريش.

وقد لعبت هذه الجماعة دورها بصورة رائعة جداً بحيث أقلقت بال قريش، وسلبت منها الرقاد إلى درجة أنّهم كتبوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يطلبون منه إلغاء هذه المادة (أي المادة الثانية)، بموافقة الطرفين وقد أعلنوا موافقتهم على إلغائها، وإعادة أبي بصير وجماعته إلى المدينة والكف عن التعرّض لتجارة قريش.

فوافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على إلغاء تلك المادة، وطلب من المسلمين في منطقة «العيص» القدوم إلى المدينة.

وبهذا توفّرت فرصةٌ طيبةٌ لجميع المسلمين، كما عرفت قريش أنّها لا

ص:400

تستطيع سجن المؤمن، وحبسه في القيد، وأنّ تقييده وحبسه أخطر بكثير من إطلاق سراحه، لأنه سيفرُّ ذات يوم وهو يحملُ روح الانتقام على سجّانه.(1)

النساءُ المسلمات لا يُسلَّمن إلى قريش

بعد أن تمّ الاتّفاق والتوقيع على معاهدة صلح الحديبية هاجرت «أُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط» في تلك المدّة، فخرج أخواها «عمارة» و «الوليد» ابنا عقبة حتّى قدما على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يسألانه أن يردّ أُختهما عليهما بالعهد الّذي بينه وبين قريش في الحديبية، فلم يفعل ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال لهما:

«إن اللّه نَقضَ العَهدَ في النساء»(2).

وقد نزل قولهُ تعالى يوضح حكم هذا الأمر:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» .(3)

كانت هذه قصّة «الحديبية»، وقد استطاع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ظلّ الهُدُوء والأمن اللّذين تحقّقا بسبب معاهدة الحديبية أن يراسل قادة العالم وزعماءه، وأن يبلّغ نبأ دعوته إلى مسامع شعوبهم، وستقف على مفصل هذا القسم من تاريخ الإسلام المشرق في الفصل القادم.

ص:401


1- . لاحظ: المغازي: 625/1-629.
2- . المغازي: 631/1.
3- . الممتحنة: 10.

حوادث السنة السابعة من الهجرة

44 النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعلن عن رسالته العالمية

اشارة

لقد أراحت معاهدةُ الحديبية بالَ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم من ناحية الجنوب (أي مكة)، وقد آمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولبّى دعوته في ظلّ الهدوء والأمن والاستقرار الحاصل بسبب هذا الصلح جماعة من زعماء العرب ورجالها البارزين.

واغتنم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذه الفرصة ففتح على ملوك العالم وزعماء القبائل، ورجال الدين المسيحي يومذاك باب المراسلة، فكاتبهم ووجّه إليهم رسائل كثيرة عبر رسله وسفرائه، وقد عرض فيها عليهم رسالته ودعوته الّتي كانت يومذاك لا تخرج عن صورة العقيدة البسيطة وكان في مقدورها أن تضم تحت لواء التوحيد، وفي إطار التعاليم الأخلاقية والإنسانية كلّ البشرية.

وقد كانت هذه هي الخطوة الأُولى الّتي خطاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد 19 عاماً من الصراع مع قريش العاتية.

ولو أنّ الأعداء الداخليّين لم يشغلوه بالصراعات والحروب لاستطاع رسول الإسلام أن يقوم بتوجيه دعوته إلى شعوب العالم آنذاك قبل هذا الوقت، ولكن

ص:402

الحملات الظالمة والمضايقات الشديدة الّتي قام بها العربُ الوثنيون الجهلة طوال ما يقرب من عقدين من عمر الرسالة أجبرت رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم على أن يصرف قسماً عظيماً من أوقاته الغالية في ترتيب شؤون الدفاع عن حياض الإسلام وكيان المسلمين.

إنّ الرسائل الّتي وجّهها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الأُمراء والسلاطين، وإلى رؤساء القبائل، والشخصيات الدينية والسياسية البارزة داخل الجزيرة العربية وخارجها لدعوتهم إلى الإسلام تكشف عن طريقته في الدعوة والتبليغ، والإرشاد والهداية.

وبين أيدينا الآن نصوص 185(1) رسالة وكتاب من مكاتيب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورسائله الّتي دعا فيها من أرسلها إليهم، إلى الإسلام، أو كتبه الّتي تشكّل معاهداته ومواثيقه صلى الله عليه و آله و سلم الّتي أعطاها أو عقدها مع الأطراف المختلفة وقد جمعها، وضبطها أرباب السير وكتّاب التاريخ وهي تكشف برمّتها عن أنّ أُسلوب الإسلام في الدعوة والتبليغ يعتمد على المنطق والبرهان، لا على السيف والقهر، وعلى الإقناع لا الإكراه.

فيوم اطمأنّ بالُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأمن جانب قريش وحلفائها، وجّه نداءه الالهي إلى مسامع البشرية في العالم وذلك عن طريق إرسال الرسائل، أو بعث

ص:403


1- . لقد اجتهد علماء الإسلام في جمع وإحصاء رسائل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وكتبه قدرَ المستطاع، وإنّ أكملَ المصادر الحاضرة من حيث الاستقصاء وسعة التتبّع كتابان يتّسمان بأهمية كبرى في هذا المجال وهما: أ. الوثائق السياسية تأليف البروفيسور محمَّد حميد اللّه حيدرآبادي، الأُستاذ بجامعة باريس. ب. مكاتيب الرسول تأليف العلّامة المحقّق الشيخ علي الأحمدي. والكتاب الأخير يمتاز بتحقيقات وتحليلات أدبية، وتاريخية وسياسية إسلامية في غاية الأهمية.

المبلّغين والدعاة إلى شتّى أنحاء العالم.

إنّ نُصوص هذه الرسائل، والإشارات الموجودة في خلالها، ونصائحه الّتي كان يوجّهها صلى الله عليه و آله و سلم إلى الناس، والتسامح الّذي كان يبديه من نفسه خلال عقد الاتّفاقيات وإبرام المعاهدات مع الأجانب، تشكّلُ برمّتها شواهد قاطعة، ودامغة ضدّ نظرية المستشرقين الذين أرادوا مسخَ وجه الإسلام المشرق، بكيل الاتّهامات الباطلة له، والزعم بأنّ تقدّم الإسلام وانتشاره كان بفعل القهر، وبقوة السيف، وتحت عامل الفرض والإجبار وإنّنا لنأمل أن نوفّق ذات يوم لدراسة وتقييم تلك الرسائل والكتب واستجلاء هذه النقاط المذكورة واستخراج خطوط السياسة النبوية ومعالم الدعوة المحمدية، من ثنايا تلكم الرسائل والكتب التاريخية الخالدة لنستطيع من خلال هذا العمل بيان أُسلوب الإسلام في نشر دينه في شتّى نقاط العالم.

الرسالةُ المحمَّدية كانت عالمية

ينظر بعض الجهلة إلى مسألة عالمية الرسالة المحمَّدية بنظر الشكّ والترديد، وهم يتبعون في مثل هذه النظرة الجاهلة ما يروّجه بعض الكتاب العملاء، وفي مقدّمة هؤلاء المغرضين مستشرقٌ معاد للإسلام هو «السير ويليم موير» الّذي يقول:

إنّ موضوع عالمية الرسالة المحمَّدية قد ظهر وتبلور في ما بعد، وأنّ محمَّداً اقتصر في دعوته من بدء رسالته إلى لحظة وفاته على العرب، ولم يكن «محمَّد» يعرف أي مكان غير الجزيرة العربية.

ولقد اتّبع هذا المستشرق نهج أسلافه الإنجليز، وحاول التعتيم على الحقيقة في مقابلة الآيات الكثيرة الّتي تشهد - بجلاء - بأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يدعو البشر عامّة إلى التوحيد والاعتقاد برسالته وقال: إنّ محمَّداً كان يقتصر في دعوته على

ص:404

العرب خاصّة.(1)

ونحن هنا ندرج بعض الآيات الّتي تشهد بأنّ رسالة الإسلام وأنّ الدعوة المحمَّدية كانت منذ بداية ظهورها دعوة عالمية، ويمكن مراجعة كتب التفسير والعقائد للوقوف على المزيد من التوضيح في هذا المجال.

آيات تدلّ على عالمية الرسالة المحمَّدية

1. «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً» .(2)

2. «وَ ما هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» .(3)

3. «لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا» .(4)

4. «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» .(5)

والآن نسأل هذا الكاتب الإنجليزي: كيفَ تقول - مع هذه الدعوة العالمية -

ص:405


1- . هاهنا مسألتان يجب التمييز بينهما: أ. عالميّة الرسالة المحمَّدية. ب. خاتمية الرسالة المحمّدية. وفي الأُولى تعالج مسألة عالميّة رسالة النبيّ محمّد وعدم عالميتها، وأنّه صلى الله عليه و آله و سلم هل كان مبعوثاً لخصوص سكان الجزيرة العربية أم لعموم البشر، وللنّاس كافّة؛ في حين أنّ المحور في المسألة الثانية هو أنّه صلى الله عليه و آله و سلم هل هو آخر نبي أو لا؟ على أنّه يمكن أن يقول البعض: إنّ دينه كان عالمياً إلّاأنّ نبوّته لم تكن خاتمة النبوات؛ بل سيأتي بعده نبي آخر وشريعة اخرى. من هنا لابدّ من البحث في النبوة الخاصّة حول كلا المسألتين بصورة مستقلة، وقد بحثنا المسألتين في الجزء الثالث من مفاهيم القرآن بصورة موسّعة.
2- . سبأ: 28.
3- . القلم: 52.
4- . يس: 70.
5- . التوبة: 33.

أنّ موضوع عالمية الرسالة الإسلامية قد ظهر وتبلور فيما بعد.

فهَل مع وجود هذه الآيات ونظائرها ومع وجود سفراء رسول اللّه ومبعوثيه إلى المناطق النائية، والبلاد البعيدة، وإلى نصوص الرسائل الّتي بقيت مسجّلة في صفحات التاريخ عن رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وخاصّة مابقي منها محفوظاً بعينه إلى الآن في المتاحف العالمية الكبرى يبقى مجال لأن يشكّ أحدٌ في عالمية رسالته؟

والعجيب أنّ الكاتب المذكور يكتب بكلّ وقاحة قائلاً: إنّ محمَّداً لم يكن يعرف غير الحجاز، في حين أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سافر يوم كان في ربيعه السادس عشر مع عمّه أبي طالب إلى الشام، كما سافر إلى الشام في تجارة خديجة في سنّ الخامسة والعشرين، مع قافلة قريش التجارية.

حقّاً إنّ من العجب العجاب أنّنا كلّما قرأنا في التاريخ أنّ شاباً يونانياً (هو الاسكندر المقدوني) كان يريد أن يسيطر على العالم، أو نسمع أنّ (نابليون بونابرت) كان يفكّر في أن يكون امبراطور العالم الوحيد، لم يبعثنا كلُّ ذلك على الاستغراب والدهشة، ولكن كلما يسمع فريق من المستشرقين بأنّ قائد المسلمين الأعلى وجّه دعوة الإسلام - وبأمر اللّه - إلى زعماء عصره العالميّين الذين كان بينهم وبين قومه علاقات تجارية عريقة، أنكروا ذلك وبوقاحة، واعتبروه أمراً محالاً.

رُسُل الإسلام إلى المناطق النائية

طرح رسول الإسلام قضية دعوة الملوك والأُمراء إلى الإسلام على شورى كبيرة من أصحابه كغيرها من المسائل المهمة فقال:

«أيّها الناس إنّ اللّه قد بعثني رحمة وكافَّة فلا تختلفوا عليَّ كما اختلف

ص:406

الحواريون على عيسى بن مريم».

فقال أصحابه: وكيف اختلف الحواريّون يا رسول اللّه؟ قال:

«دعاهم إلى الّذي دعوتكم إليه، فأمّا مَن بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم، وأمّا مَن بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل».(1)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اختار ستة أشخاص من خيرة أصحابه وكتب معهم كتباً إلى الملوك تضمّنت دعوته العالمية، وبعثهم إلى مختلف نقاط الأَرض.

وهكذا توجّه سفراء الهداية ورسل الدعوة المحمَّدية في يوم واحد إلى إيران، والروم، والحبشة، ومصر، واليمامة، والبحرين، والحيرة، و (الأردن) وسوف نقرأ معاً مفصّل ما احتوته رسائله صلى الله عليه و آله و سلم(2).

وعندما فرغ من كتابة الرسائل المذكورة قال بعض ذوي الاطّلاع والعلم بأحوال بلاطات الملوك آنذاك لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يا رسول اللّه: إنّ الملوك لا يقرأون كتاباً إلّامختوماً، فاتّخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يومئذ خاتماً من فضة، فصّه منه، نقشه ثلاثة أسطر: محمَّد رسول اللّه، في الأعلى لفظة الجلالة وتليه كلمة رسول ثم يليه اسمه الشريف، وختم به الكتب.

ولم يكتف بهذا بل ختم تلك الرسائل بالشمع أو الطين إمعاناً في السرية، والحفاظ عليها من التزوير(3).

ص:407


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1025/4.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1025/4-1026؛ الطبقات الكبرى: 258/1؛ السيرة الحلبية: 283/3؛ بحار الأنوار: 382/20.
3- . لاحظ: السيرة الحلبية: 281/3.
أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية

كانت الامبراطوريتان (الرومية والفارسية) تقتسمان آنذاك قيادة العالم، وكانت الحروب قائمة بين ذينك المعسكرين على قدم وساق، ومنذ زمن بعيد.

فلقد بدأ الصراع على النفوذ بين إيران والروم منذ عهد الهخامنشيين، واستمرّ حتّى عصر الساسانيّين ملوك ايران.

فكان الشرق تحت النفوذ الإيراني، كما كانت العراق واليمن وشيء من آسيا الصغرى تعدّ من توابع الامبراطورية الإيرانية ومستعمراتها.

وأمّا الامبراطورية الرومية فقد كانت منقسمة يومذاك إلى معسكرين شرقي وغربي، لأنّ «تئودوز الكبير» امبراطور الروم قسّم بلاده في سنة (395) ميلادية بين ولديه، ومن هنا ظهرت الروم الشرقية والروم الغربية.

وقد انقرضت الروم الغربية على أيدي متوحّشي وبرابرة شمال أُوربا، ولكن الروم الشرقية الّتي كان مركزها يومذاك «القسطنطينية» وكانت تسيطر على الشام ومصر، فكانت تسيطر أبان ظهور الإسلام على قدر كبير من مقاليد السياسة العالمية إلى أن فتحت القسطنطينية عام (1453 م) على يد السلطان محمَّد الثاني «محمّد الفاتح»، وبذلك غربت شمس دولة الروم الشرقية، واضمحلّت نهائياً. وقد كانت أرضُ الحجاز محاصرة بين هذين القطبين ومحاطة بهاتين القوّتين العظيمتين، ولكن حيث إنّ أراضي الحجاز لم تكن أراض خصبة، وكان أهلها في الأغلب من الرحَّل المتفرّقين في البراري والقفار، لذلك لم تُبد كلتا الامبراطوريتين رغبتهما في الاستيلاء على تلك الأَراضي، فقد كان الفساد والظلم، والحروب الّتي اتّسمت بها طبيعة وحياة تينك الدولتين تمنعهما من الاطّلاع على أي تغيير اجتماعي أو تحوّل سياسي يقع في هذه المنطقة من العالم.

ص:408

فهم لم يكونوا يتصوّرون قط أن يتمكّن شعبٌ - كان بعيداً عن روح الحضارة والمدنية - من وضع نهاية لإمبراطوريّتهم، بفضل ما أُتوا من إيمان، وإنارة النقاط - الّتي كانت ترزح في ظلام جور السلطات الرومية وظلمها - بنور الإسلام المشرق، ولو كانوا يعرفون شيئاً عن هذه النهضة المشرقة وهذا الانفجار المعنوي العظيم في بدء حدوثه لقضوا عليه في أوّل الأمر، ولم يتركوه يمتد إلى ملكهم، ويقلبُ كلّ شيء رأساً على عقب.

رسولُ النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الروم

كان قيصر الرُّوم قد عاهَدَ اللّه إذا غلب الفرس أن يسير إلى بيت المقدس من عاصمته: «القسطنطينية» مشياً على قدميه للزيارة، شكراً للّه، وقد وفى بنذره هذا بعد انتصاره على إيران.

فكُلِّفَ «دحية الكلبي» بإيصال كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى قيصر، وكان دحية قد سافر مراراً إلى الشام، وكان عارفاً بمناطقها وعاداتها معرفة كاملة، وكان إلى ذلك جميل الصورة حسن السيرة، ولهذا كان جديراً بتحمّل هذه المسؤولية الخطيرة لائقاً لها.

وقد توجَّه إلى «القسطنطينية» رأساً بعد أن كلّفه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإيصال كتابه إلى قيصر، ولكنّه ما أن وصل إلى بصرى (من مدن الشام) إلّاوبلغه أنّ قيصراً قد فارقها قاصداً بيت المقدس ولهذا بادر إلى الاتّصال بحاكم بصرى(1): «الحارث بن أبي شمر» وأخبره بالمهمّة الخطيرة الّتي جاء من أجلها.

ص:409


1- . كانت بصرى مركز محافظة حوران الّتي كانت تعدُّ من مستعمرات قيصر. وكان الحارث بن أبي شمر - بصورة عامّة - وجميع ملوك بني غسان، من ولاة قيصر على تلك المناطق.

يقول مؤلّفُ الطبقات الكبرى: بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتاباً، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بُصرى ليدفعه إلى قيصر، (ولعلّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يعرف بمغادرة قيصر لعاصمة ملكه، أو لعلّ ذلك الأمر كان مراعاة لإمكانيات دحية المحدودة، وكون السفر إلى القسطنطينية كان يتطلّب جهداً كبيراً أو لا يخلومن محاذير).

فدفعه عظيم بصرى إليه وهو يومئذٍ بحمص.(1) ولمّا انتهى دحية إلى الحارث بن أبي شمر (عظيم بصرى) أرسل معه عدي بن حاتم ليوصله إلى قيصر فذهب به، فقال قومه لدحية: إذا رأيت الملك فاسجد له، ثم لا ترفع رأسك حتّى يأذن لك.

قال دحية: لا أفعل هذا أبداً، ولا أسجد لغير اللّه! (أي إنّني قد جئت لتحطيم هذه السنن الجاهلية المقيتة فكيف أخضع لها، إنّما جئتكم من قبل نبي لأُبلّغ ملككم بأنّ عهد عبادة البشر قد انقضى وانتهى، وأنّه لا يحقّ السجود إلّاللّه وحده، فكيف يمكنني ذلك وأنا أحمل هذه الرسالة التوحيدية إليكم؟!). قالوا:

إذن لا يؤخذ كتابك، فقال له رجل منهم: أنا أدلّك على أمر يؤخذ فيه كتابك، ولا تسجد له، فقال دحية: وما هو؟ فقال: إنّ له على كل عتبة منبراً يجلس عليه فضع صحيفتك تجاه المنبر فإنّ أحداً لا يحرّكها حتّى يأخذها هو، ثم يدعو صاحبها، ففعل.(2) فلمّا أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب فدعا الترجمان الّذي يقرأ بالعربية فإذا فيه:

ص:410


1- . الطبقات الكبرى: 259/1.
2- . السيرة الحلبية: 284/3.

«بسم اللّه الرحمن الرحيم. مِن محمَّد بن عَبداللّه إلى هرقل عظيم الرّوم سلامٌ على مَن اتّبع الهدى.

أمّا بعدُ فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلَم، وأسلم يؤتكَ اللّه أجرَك مرَّتين. وإن تولّيت فعليك إثمُ الأريسيّين(1)، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألّا نعبُد إلّااللّه ولا نشرك به شيئاً وَلا يَتّخذَ بعضُنا بَعضاً أرباباً مِن دون اللّه، فإن تَوَلَّوا فَقُولوا اشهَدوا بأنّا مُسلِمُونَ. محمَّد رسولُ اللّه».(2)

قيصر يحقّق حولَ النبي صلى الله عليه و آله و سلم

احتمل حاكم الروم اللبيب أن يكون كاتب هذه الرسالة هو: «أحمد الموعود» الّذي بشّر به الإنجيلُ والتوراة، ولهذا قرّر أن يحقّق حول شخصيّته، ويتعرّف على خصوصيات حياته، الدقيقة.

فبعث أحداً إلى الشام فوراً ليأتي له بقريب لمحمَّد، أو من يعرف شيئاً عنه.

حتّى يسأله عن شخصية رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم فاتّفق أن كان أبوسفيان بن حرب يومذاك بالشام للتجارة في ركب من قريش، فأخذهم صاحب شرطة «قيصر» إلى بيت المقدس، فأدخلهم على «قيصر» في مجلسه وحوله عظماء الروم.

فقال قيصر: أيّكم أقرب نسباً بهذا الرجل الّذي يزعم أنّه نبي؟

ص:411


1- . بين العلماء في تفسير هذه اللفظة خلاف، فيقول ابن الأثير: قيل هُم الخدم والخول، وقال بعض: هم الأكّارون (أي الفلاحون) لأنّ أكثر الناس يومذاك كانوا من الفلاحين، وهم أطوع الناس للحاكم. ويؤيّد الرأي الأخير أنّه جاء في بعض النسخ (الكامل: 213/2) كلمة الأكّارين بدل الأريسيين، والأكّار هو المزارع، واحتمل البعض أن يكون الأريسيون طائفة كانت تعيش في الروم.
2- . تاريخ الإسلام للذهبي: 505/2؛ البداية والنهاية: 302/4.

فقال أبوسفيان: أنا أقربهم نسباً.

فقال قيصر: أدنوه منّي، وقرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إنّي سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كذّبني فكذّبوه.(1)

ثم طرح قيصر على أبي سفيان الأسئلة التالية:

قال أبو سفيان: ثمّ كان أوّل ما سألني عنه أنّه قال:

1. كيف نسبه فيكم؟

قلت: هو فينا ذو نسب.

2. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله قط؟

قلت: لا.

3. قال: فهل كان في آبائه من مَلِك؟

قلت: لا.

4. قال: فأشرافُ الناس اتّبعوه أُمّ ضعفاؤهم؟

قلت: بل ضعفاؤهم.

5. قال: أيزيدون أُمّ ينقصون؟

قلت: بل يزيدون.

6. قال: فهل يرتدّ منهم أحد سُخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟

قلت: لا.

7. قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

ص:412


1- . بحار الأنوار: 385/20؛ البداية والنهاية: 301/4.

قلت: لا.

8. قال: فهل يغدر؟

قلت: لا.

9. قال: فهل قاتلتموه؟

قلت: نعم.

10. قال: فكيف كان قتالُكم إيّاه؟

قلت: الحربُ بيننا وبينه سجال، ينالُ منّا وننالُ منه.

11. قال: ماذا يأمركم؟

قلت: يقول: اعبدوا اللّه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمُرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة....

فقال قيصر للترجمان قل لأبي سفيان ومن معه:... فإن كان ما تقول حقّاً فسيملكُ موضعَ قدميّ هاتين فهذه صفة نبيّ، وقد كنت أعلم أنّه خارج لم أكن أظنّ أنّه منكم، فلو أنّي أعلمُ أنّي أخلصُ إليه لتجشمتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ قدميه!!(1)

فاعترض ابن أخي قيصر على كتاب رسول اللّه وأظهر الغيظ الشديد وقال لعمّه: قد ابتدأ بنفسه وسمّاك صاحب الروم ألق به، يعني الكتاب.

فقال قيصر: واللّه إنّك لضعيف الرأي. أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، وهو أحقُّ أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم، واللّه

ص:413


1- . بحار الأنوار: 384/20-386؛ البداية والنهاية: 301/4-302.

مالكي، مالكه.(1)

قال أبوسفيان: فلمّا قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصواتُ وأُخرجنا، فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمرَ أمرُ ابن أبي كبشة، أنّه يخافه ملك بني الأصفر.(2)

وروي أيضاً أنّ أباسفيان قال: لمّا سألني قيصر عن رسول اللّه جعلتُ أُزهّدُ له شأنه، وأُصغّر له أمره وأقول له: أيّها الملك، ما يهمّك من أمره، إنّ شأنه دون ما يبلغك، وجعل قيصر لا يلتفت إلى ذلك، ثم قال: أنبئني عمّا أسألك من شأنه(3).

أثر رسالة النبي إلى قيصر

لم يكتف قيصر بالمعلومات الّتي حصّلها من أبي سفيان حول رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بل كتب إلى أحد علماء الروم وأساقفتهم يسألهم عن هذا الأمر.

فأجابه ذلك الأُسقف: هذا النبيُ الّذي كنّا ننتظره، بشّرنا به عيسى بن مريم.

فعمد قيصر إلى خطّة ليجسّ بها نبض قومه، ويختبرهم ويعرف ما إذا كانوا يرضون بإسلامه أو لا؟ فجمع عظماءهم في صومعة له بحمص فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم وتتّبعون ما قال عيسى ابن مريم؟

فقالت الروم: وما ذاك أيّها الملك؟

قال: تتّبعون هذا النبي العربي.

ص:414


1- . السيرة الحلبية: 288/3-289.
2- . بحار الأنوار: 386/20؛ البداية والنهاية: 302/4.
3- . تاريخ الطبري: 290/2.

فثاروا في وجهه، ورفعوا الصليب، فلمّا رأى منهم ذلك يئس من إسلامهم وخافهم على نفسه وملكه، فسكّنهم، ثم قال: إنّما قلتُ لكم ما قلتُ اختبركم لأنظر كيف صلابتكم في دينكم، فقد رأيتُ منكم الّذي أحبّ. فسكنوا ورضوا عنه. ثم أمر بإكرام دحية، وكتب جواباً على رسالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأرسله مع دحية وأرسل بهدية إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم(1).

سَفير النبيّ في البلاط الإيراني

يوم توجّه سفير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكتابه إلى البلاط الإيراني كان الملك الّذي يحكم هذه الأرض الواسعة هو «خسرو پرويز» ثاني ملك بعد أنوشيروان، الّذي جلس على العرش الملكي الإيراني مدة 32 عاماً قبل الهجرة النبوية المباركة.

وقد واجهت حكومة هذا الملك خلال مدة سلطانه أنواعاً عديدة من الحوادث المرّة والحلوة، وكانت مكانة ايران في عهده تعاني من الاضطراب، وعدم الاستقرار بشكل ملحوظ.

وقد امتدّ النفوذ الإيرانيُ ذات يوم حتّى شملَ آسيا الصغرى، وامتدّ إلى مشارف القسطنطينية، وأتى بصليب عيسى الّذي كان أقدس شيء عند النصارى إلى طيسفون (المدائن)، فطلب سلطان الروم الصلح وبعث سفيراً من قبله إلى البلاط الإيراني لعقد معاهدة الصلح.

بيد أنّ سوء تدبير الملوك في تلك الدولة العظمى، وانغماسهم في اللّذة والمجون أكثر من المتعارف، تسبب في أن تصبح إيران على حافة السقوط والانهيار في أواخر العهد الساساني، فقد خرجت المستعمرات من تحت النفوذ

ص:415


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 259/1؛ الكامل في التاريخ: 211/2؛ بحار الأنوار: 379/20.

الإيراني الواحدة تلو الأُخرى، واجتاح العدوُ الروميُّ الأراضي الإيرانية إلى الأعماق، ووصل الأمر بخسرو پرويز امبراطور ايران إلى أن يهرب من وجه الروم الغزاة، وقد أثار هذا الهروب الخانع وهذه الهزيمة المنكرة سخط الشعب يومذاك، فقُتِلَ بيد ابنه «شيرويه».

ويُعزي محلّلو التاريخ القديم تخلّف إيران وضياع قوتها إلى غرور قادتها وحكامها وميلهم إلى البذخ والترف، وهناء العيش ورغد الحياة، والزينة واللّذة. ولو كان ذلك الملك يتلقّى رسالة السلام الّتي عرضها الإسلام بالصورة اللائقة لبقيت عظمة إيران على حالها في ظلّ هذا السلام دون أن يصيبها ما أصابها.

ولو أنّ رسالة رسول الإسلام لم تترك أثراً حسناً في نفس «خسرو پرويز» يومذاك، فإنّ ذلك لم يكن لتقصير أو عيب في تلك الرسالة أو في سلوك حاملها إلى البلاط الإيراني، بل كان لنفسيّة ذلك الحاكم المغرور، المنحرّفة، وأنانيته الطاغية، الّتي لم تسمح له بالتفكير بعض اللحظات في كتاب رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم كما فعل «قيصر»، أو غيره. بل لم يمهل المترجم حتّى ينتهي من قراءة كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ، إنّما صاح به في تلك الأثناء، وأخذ منه رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومزّقها بوقاحة بالغة، وأُسلوب بالغ في الجفاف، وسوء الادب.

وإليك تفصيل الحادث:

في مطلع السنة الهجرية السابعة بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أحد فرسانه الشجعان وهو «عبداللّه بن حذافة السهمي»، إلى إيران وكتب معه كتاباً إلى «خسرو پرويز» ملك إيران يومذاك يدعوه فيه إلى الإسلام وأمره أن يدفع الكتاب إلى كسرى نفسه وإليك نصّ هذه الرسالة:

«بسم اللّه الرحمن الرّحيم من محمَّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس.

ص:416

سلامٌ على من اتّبع الهُدى وآمن باللّه ورسوله، واشهدُ أن لااله الّا اللّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله. أدعوك بدعاية اللّه، فإنّي أنا رسول اللّه إلى الناس كافّة لأُنذرَ مَن كانَ حيّاً، ويحقَّ القولُ على الكافرين أسلِمْ تسلَمْ، فإن أبيتَ فعليك إثمُ المجوس».

إنّ كسرى لمّا أُعلم بكتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأذن بحامل الكتاب أن يدخل عليه، فلمّا وصل أمر كسرى أن يقبض منه الكتاب، فقال (عبداللّه بن حذافة): لا حتّى أدفعه اليك كما أمرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال كسرى: أدنه، فدنا فناولته الكتاب، فدعا مَن يقرؤه، فقرأ، فإذا فيه: من محمَّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس فأغضبه حين بدأ رسولُ اللّه بنفسه، وصاح، ومزّق الكتاب، قبل أن يعلم ما فيه وأمر بإخراج حامل ذلك الكتاب، فلمّا رأى ذلك قعد على راحلته وسار، فلمّا ذهب عن كسرى سورة غضبه بعث فطلب حامل الكتاب فلم يجده، فلمّا وصل إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره الخبر، قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: مزّق كسرى ملكه(1).

نظرية اليعقوبي

ويختلف ابن واضح الأخباري المعروف باليعقوبي في تاريخه - مع عامّة المؤرّخين -: قرأ كتاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم كتب كتاباً إليه جعله بين سرقتي حرير وجعل فيهما مسكاً، فلمّا دفعه الرسول إلى النبي فتحه فأخذ قبضة من المسك فشمّه، وناوله أصحابهُ، وقال: لا حاجة لنا في هذا الحرير، ليس من لباسنا، وقال: لتدخلنَّ في أمري أولآتينّك بنفسي ومن معي، وأمر اللّه أسرع من ذلك.(2)

ص:417


1- . السيرة الحلبية: 291/3.
2- . تاريخ اليعقوبي: 77/2، دار صادر، بيروت.

ولكن هذا رأي ينفرد به اليعقوبي ولا يوافقه عليه أحدٌ من أرباب السيَر إلّا أحمد بن حنبل الّذي يقول: أهدى كسرى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقبل منه(1).

أوامر «خسرو» إلى واليه على اليمن

تقع أرض اليمن الخصبة في جنوب مكّة، وكان ملوكها وحكّامها ولاة منصوبين من قبَل البلاط الإيراني بأجمعهم، وكان الّذي يحكم اليمن يوم مراسلة النبي لقادة العالم وملوكه رجلٌ يُدعى «باذان» فكتب طاغية إيران المغرور «خسرو» بعد أن مزّق رسالة النبيّ إلى عامله باليمن (باذان):

بلغني أنّ في أرضك رجلاً يتنبّأ فاستتبه، فإن تاب وإلّا فابعث به إليّ.

فبعث «باذان» رجلين من فرسانه يُدعى أحدهما: «فيروز» والآخر «خرخسره» وكتب معهما كتاباً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يأمره فيه أن ينصرف معهما إلى كسرى، أو أن يجبراه على الرجوع إلى دين آبائه وان أبى قتلوه وأرسلوا برأسه إلى الملك، حسب رواية ابن حجر في الإصابة.

إنّ رسالة كسرى إلى «باذان» تكشف عن جهل هذا الحاكم، وعدم معرفته بما كان يجري في بلاده ومستعمراته، فقد بلغ من جهله أنّه لم يكن يعلم أنّ هذا الرجل الّذي يدّعي النبوة(2) قد مضى على ادّعائه النبوة أكثر من 19 عاماً.

ثم إنّ الّذي ادّعى النبوة في منطقة نائية، وانتشر دينه، وأصبح من القوة والشوكة بحيث يجرأ على مراسلة الامبراطور، ودعوته إلى دينه لا يمكن أخذه وإحضاره إلى اليمن بواسطة رجلين. وأنّ الأمر - بالتالي - لن يتم بمثل هذه السهولة،

ص:418


1- . مسند احمد بن حنبل: 96/1.
2- . حسب تعبير كسرى.

والبساطة، الّتي تصوّرها.

وعلى كلّ حال لما قدم مبعوثا «باذان» المدينة ودخلا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قدّما رسالة «باذان» إليه صلى الله عليه و آله و سلم وقالا: لقد بعثنا «باذان» إليك لتنطلق معنا، فإن فعلت كتبَ فيك إلى مَلِك الملوك بكتاب ينفعك، ويكفّ عنك به، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.

وكانا قد دخلا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد حلقا لحاهما وأطلقا شواربهما، فاستمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى كلامهما، وقبل أن يجيب على مطلبهما دعاهما إلى الإسلام وقد كره النظر إليهم ا لما كانا عليه من الهيئة فقال لهما: من أمركما بهذا؟! قالا: أمرنا بهذا ربُّنا (يعنيان كسرى). فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لكِنّ رَبِّي أمرَني بإعفاء لِحيَتي وقصّ شاربي»(1).

فأرعبتهما، هيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجلال محضره، بحيث أخذا يرتجفان عندما عرض رسول اللّه الإسلام عليهما.

ثم قال لهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«إرجعا حَتّى تأتِياني غداً».

وفي هذه الأثناء أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الخبر من السماء أن اللّه عزّوجلّ قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا وكذا، لكذا وكذا من الليل.

فلمّا حضر الرجلان (مبعوثا باذان) عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من غد قال لهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«إنّ رَبِّي قد قَتل رَبَّكُما ليلةَ كذاوكذا مِن شهر كذاوكذا. بعد ما مضي من الليل

ص:419


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 296/2؛ بحار الأنوار: 390/20.

كذاوكذا سلّط عليه شيرويه فقتله».

وكانت الليلة الّتي ذكرها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هي ليلة الثلاثاء العاشر من شهر جمادى الأُولى سنة سبع من الهجرة.

فاستغرب الرجلان لخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالا: هل تدري ما تقول؟ إنّا قد نقمنا منكَ ما هو أيسر من هذا. فنكتب بها عنك ونخبر الملك (أي باذان).

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«نعم أخبراهُ ذلك عَنِّي وقولا لَهُ: إن دِيني وسُلطاني سَيبلغُ ما بلغ مَلكُ كسرى، وينتهي إلى منتهى الخُفّ والحافر، وقولا له: إن أسلَمتَ أعطيتُكَ ما تحتَ يديك، ومَلكّتك على قومك».

ثم أعطى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لخرخسرة منطقة (أي حزاماً) فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك، فخرجا من عنده حتّى قدما على باذان باليمن وأخبراه الخبر.

فقال باذان: واللّه ما هذا بكلام ملك وإنّي لأرى الرجل نبياً كما يقول، ولننظر ما قد قال، فلئن كان ما قد قال حقاً فإنّه لا ريب نبيٌ مرسلٌ، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.

فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتابُ شيرويه: أمّا بعد فإنّي قد قتلتُ كسرى، ولم أقتله إلّاغضباً لفارس، لما كان استحلّ من قتل أشرافهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن قبلك، وانظر الرجل الّذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تهجهُ حتّى يأتيك أمري فيه.

وقد تسبّب كتاب «شيرويه» هذا في أن يعتنق «باذان» الإسلام هو وجميع رجال دولته وكانوا من الفرس، وكتب إلى رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم يخبره بإسلامه

ص:420

وإسلام أعضاء حكومته(1).

سفيرُ النبيّ في أرض مصر

تُعتبر «مصر» مهد الحضارات والمدنيات العريقة، ومركز سلطان الفراعنة، وموضع سيادة الأقباط.

ويوم أشرقت شمس الإسلام على أرض الحجاز كانت «مصر» قد فقدت استقلالها، وقوّتها، وكان المقوقس قد فُوض إليه حكم «مصر» من قِبَل قيصر الروم لقاء 19 مليون دينار يدفعها إلى قيصر.

وكان «حاطب بن أبي بلتعة» - وكان فارساً بارعاً وله قصّة في تاريخ الإسلام سيأتي ذكرها في حوادث السنة الثامنة - أحد الستة الذين كلِّفوا بإبلاغ كتب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الملوك والرؤساء يومذاك وقد أمره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإيصال كتابه إلى المقوقس حاكم «مصر».

وإليك نصَ كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المقوقس:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم مِن محمَّد بن عَبداللّه إلى المقوقس عظيم القبط، سلامٌ على مَن اتّبَعَ الهُدى.

أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، وأسلم يؤتك اللّه أجرك مرَّتين، فإن تولّيتَ فإنّما عليكَ إثمُ القِبط - أي الذين هم رعاياك - «يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ» (2).(3) وختم

ص:421


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 296/2-297؛ بحار الأنوار: 390/20-391.
2- . آل عمران: 64.
3- . السيرة الحلبية: 295/3-296؛ أعيان الشيعة: 244/1.

الكتاب. وجاء به حاطب حتى دخل على المقوقس بالاسكندرية، أي بعد أن ذهب إلى مصر فلم يجده فذهب إلى الإسكندرية فأُخبر أنّه في مجلس مشرف على البحر، فركب حاطب سفينة وحاذى مجلسه، وأشار بالكتاب إليه، فلمّا رآه أمر بإحضاره بين يديه، فلمّا جيء به نظر إلى الكتاب وفضّه وقرأه وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيّاً أن يدعو على مَن خالفه (أي من قومه) وأخرجوه من بلده إلى غيرها أن يسلّط عليهم.

فقال حاطب (وكان حكيماً فهيماً): ألست تشهدُ أنّ عيسى ابن مريم رسول اللّه؟ فماله حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم اللّه تعالى حتّى رفعه اللّه إليه؟

(فأعجب المقوقس - الّذي لم يكن يتوقّع أن يجابه بهذا المنطق القوي المفحم - برد حاطب) وقال: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم.

ثمّ قال له حاطب: إنّه كان قبلك رجل يزعم أنّه الربُ الأعلى (يعني فرعون) «فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى» (1)، فانتقم به، ثمّ انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرُك بك، إنّ هذا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم دعا الناس فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام إلّاكبشارة عيسى بمحمَّد صلى الله عليه و آله و سلم، وما دعاؤنا إيّاك إلى القرآن إلّاكدعائك أهلَ التوراة إلى الإنجيل، وكلُّ نبي أدرك قوماً فهم أُمَّتُه، فالحقُّ عليهم أن يطيعوهُ، فأنت ممّن أدرك هذا النبيّ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح عليه السلام ولكنّا نأمرك به.(2)

وهو يقصد بكلامه الأخير أن الإسلام هو الصورة الأكمل لدين المسيح.

ص:422


1- . النازعات: 25.
2- . السيرة الحلبية: 295/3-296. ولاحظ: أعيان الشيعة: 244/1.

انتهى الحوار بين حاطب سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمقوقس حاكم مصر، إلّاأنّ المقوقس لم يعطه جواباً قاطعاً في ذلك المجلس، وقال: سأنظر، وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وجعله في حقّ عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية له. فكان على حاطب أن يلبث في مصر مدة حتّى يتلقّى جواب كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1).

ثم طلب المقوقس حاطباً ذات يوم وانفرد به في قصره، وقال: أسألك عن ثلاث؟ فقال: لا تسألني عن شيء إلّاصدقتك. قال: إلى مَ يدعو محمد؟ فقال له حاطب: إلى أن نعبد اللّه وحده، ويأمر بالصلاة، خمس صلوات في اليوم والليلة، ويأمر بصيام رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدمّ....

فقال له المقوقس: صفه لي.

قال حاطب: فوصفتُ فَأَوجزتُ.

فقال المقوقس: قد بقيت أشياء لم تذكرها...، وكنتُ أعلمُ أن نبيّاً قد بقي، ولكنّني كنتُ أظنُ أنّ مخرجَهُ بالشام فهناك كانت تخرجُ الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب، في أرض جهد وبؤس، والقبط لا تطاوعني في اتّباعه، وسيظهر على البلاد، وينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه، حتّى يظهروا على ما هاهنا.

(ثم طلب المقوقس من حاطب أن يكتم أمر هذا الحوار الّذي دار بينه وبين حاطب عن قومه قائلاً:) وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفاً واحداً، ولا أحب أن يعلم بمحادثتي (أو بمحاورتي) إيّاك(2).

ص:423


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 296/3.
2- . الإصابة: 296/6.

ثم إنّه أكرم حاطباً مدة اقامته بمصر إكراماً بالغاً، وأحسن قراه، وضيافته.

المقوقس يكتب كتاباً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

ثم إنّ حاكم «مصر» المقوقس دعا كاتبه العربيّ، وأمره أن يكتب كتاباً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذا نصه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم. لمحمَّد بن عبداللّه من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أمّا بعد فقد قرأتُ كتابَك، وفهمتُ ما ذكرتَ فيه، وما تدعو إليه، وقد علمتُ أنّ نبياً قد بقي، وقد كنتُ أظنُ أنّه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك، وبعثتُ لك بجاريتين لهما مكانٌ في القبط عظيمٌ، وبثياب، وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك(1).

إنّ الاحترام الّذي أبداه «المقوقس» في رسالته المذكورة، وتقديم اسم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على اسمه وكذا هداياه الّتي بعثها إلى رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم و تكريم سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم كلّها تحكي عن أنّ المقوقس قبل دعوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في سرّه ولكن حبّه في البقاء في السلطة منعه من التظاهر بإيمانه وإسلامه، ومن الإنقياد العمليّ والعلني للإسلام.

خرج «حاطب» من مصر بصحبة جماعة من الحرس وهو يحمل الهدايا الّتي بعثها المقوقس ولمّا وصل إلى الشام أذن للحرس بالانصراف ثم واصل هو سفره ضمن قافلة إلى المدينة، ولمّا قدم المدينة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سلّم إليه كتاب المقوقس وهداياه قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:424


1- . السيرة الحلبية: 296/3-297.

«ضَنّ الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه»(1).

المغيرة بن شعبة في البلاط المصري

توجّه المغيرة بن شعبة الّذي كان معروفاً بحكمه وعقله ودهائه، والّذي أصبح في ما بعد من رجال السياسة العرب ودهاتها المعروفين.

توجّه في جمع من قبيلة ثقيف إلى البلاط المصري، فسألهم كبير المصريين (المقوقس):

كيف خلصتم إليَّ، ومحمَّد وأصحابه بيني وبينكم؟

قالوا: لصقنا بالبحر.

قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟

قالوا: ما تبعه منّا رجلٌ واحد.

قال: فكيف صنع قومُه؟

قالوا: تبعه أحداثُهم، وقد لاقاه من خالفه في مواطن كثيرة.

قال: فإلى ماذا يدعو؟

قالوا: إلى أن نعبداللّه وحده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا، ويدعو إلى الصلاة، والزكاة، ويأمر بصلة الرحم، ووفاء العهد، وتحريم الزنا، والربا، والخمر.

فقاطعهم المقوقس قائلاً: هذا نبي مرسَلٌ إلى الناس كافّة، ولو أصاب القبط، والروم لاتّبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى، وهذا الّذي تصفون منه بُعث به الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتّى لا ينازعه أحد، ويظهر دينه إلى منتهى الخفّ

ص:425


1- . الطبقات الكبرى: 261/1؛ السيرة الحلبية: 299/3.

والحافر.

فاستاء رجال ثقيف من هذا الكلام وقالوا بكلّ صلافة ووقاحة: لو دخل الناسُ كلّهم معه ما دخلنا معه.

فأخفض المقوقس رأسه وقال: أنتم في اللعب(1). بيد أنّ هذه الرواية لا توافق بقية المصادر التاريخية؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كاتب ملوك العالم وقادته في السنة السابعة من الهجرة، على حين كان المغيرة في معركة الخندق قد آمن، وكان في الحديبية في صفوف المسلمين، حتّى أنّه كان بينه وبين مندوب قريش المفاوض عروة بن مسعود الثقفي مشاجرة مرّ ذكرها عند استعراض قصّة الصلح.

وعلى فرض صحّة هذه الرواية لابد من القول بأنّ المغيرة لم يكن في وفد ثقيف.

وفي الختام ينبغي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الواقدي نقل نصّ رسالة النبي إلى عظيم القبط بصورة أُخرى. ولكن أُسلوب الرسالة وعباراتها تدلّ على أنّ هذه الصورة لا أساس لها من الصحّة، لأنّها تتضمّن تهديداً من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعظيم القبط بالحرب والغزو إذ جاء فيها: «وأمرني (أي اللّه) بالإعذار والإنذار، ومقاتلة الكفّار حتّى يدينوا بديني»(2).

وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا غير صحيح؛ لأنّ امكانيات المسلمين في ذلك اليوم لم تكن لتسمح لهم بمقاتلة المكّيّين فكيف يغزو «مصر» وهي منطقة نائية جداً.

هذا مضافاً إلى أنّ صدور مثل هذا الكلام عن النبي في أوّل دعوة له إلى

ص:426


1- . الإصابة: 298/6؛ إمتاع الأسماع: 362/3-363.
2- . فتوح الشام: 39/2.

الإسلام لا يتلاءم ونفسية وخُلق ذلك الرجل العظيم الّذي كان يقدّر الظروف آنذاك أفضل من غيره.

***

سفير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الذكريات «الحبشة»

تقع «الحبشة» في آخر أفريقيا الشرقية وتبلغ مساحتها 1800 كيلومتر مربع، وعاصمتها اليوم: أديس أبابا.

ولقد تعرّف الشرقيّون على هذه الأرض قبل ظهور الإسلام بقرن، وذلك على أثر هجوم الجيش الإيراني الّذي تمّ في عهد حكومة الملك الفارسي «انوشيروان»، وبلغ هذا التعرّف والتردّد ذروته في هجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة (الهجرة الأُولى والهجرة الثانية).

ويوم قرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يبعث ستة من خيرة رجاله الشجعان إلى نقاط مختلفة، ونائية من العالم لإبلاغ نداء رسالته العالميّة كلّف: «عمرو بن أُمية الضمري» بأن يأخذ كتابه إلى الحبشة، ويسلِّمهُ إلى النجاشيّ ملكِها العادل الطيّب.

على أنّ الكتاب الّذي ستقرأ نصّه قريباً ليس هو الكتاب الوحيد الّذي بعثه رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم إلى النجاشي، بل سبق أن كتب صلى الله عليه و آله و سلم إليه قبل هذا يوصيه بالمهاجرين المسلمين، ويطلب منه فيه أن يلطف بهم، ويرعاهم، ولا يزال نصّ هذين الكتابين موجوداً في المصادر التاريخية الإسلامية.

وربما حصل اشتباه بين هذين الكتابين (الرسالة الّتي بعثها النبي لإبلاغ دعوته العالمية، والرسالة الّتي أوصى فيها النجاشي بالمهاجرين) فخلط بعض

ص:427

المؤرّخين بين عبارتيهما.(1)

ويوم قدم سفيرُ النبي بكتاب الدعوة إلى الإسلام، الحبشة على النجاشي كان بعض المهاجرين المسلمين لا يزالون في أرض الحبشة، يعيشون في كنف النجاشي وحمايته، بينما عاد بعضهم من قبل إلى المدينة، وهم يحملون أجمل الذكريات والخواطر عن عَدل حاكمها الطيّب «النجاشي»، ولطفه، وحسن وفادته.

من هنا كانت أرض الحبشة في نظر المسلمين تُعتبر أرض الذكريات الجميلة والخواطر الحلوة، وكانوا يمدحون حاكمها ويصفونه بالعدل والاستقامة.

ولو أنّنا لاحظنا في كتاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إليه نوعاً من اللطف، واللين في القول فإنّ ذلك مردّه إلى معرفة رسول اللّه بنفسية النجاشي وخلقه وحسن موقفه.

فإنّك لا تجد لتهديدات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في كتبه ورسائله الأُخرى إلى الملوك والزعماء بالعقاب الإلهي إن رفضوا القبول بدعوته، وحمّلهم مسؤولية شعوبهم في عبارات صريحة وقاطعة، أيَّ أثر في هذا الكتاب.

فقد كتب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى النجاشي مايلي:

«بسم الله الرحمن الرحيم. مِن مُحَمَّد رَسُول اللّه إلى النجاشي ملك الحبشة.

سلامٌ عليكَ، فإنّي أحمد إليك اللّه الّذي لا إله إلّاهو الملك القدّوس السلامُ المؤمنُ المهيمنُ، وأشهدُ أنّ عيسى بن مريم روحُ اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة الحصينة فحملت بعيسى، حَملَتهُ من رُوحه، ونفخِه، كما خَلقَ آدمَ بيده، وإنّي أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتّبعني وتوقن بالذي جاءني، فإنّي رسول اللّه، وإنّي أدعوك وجنودك إلى اللّه عزّ وجلّ وقد بلّغتُ

ص:428


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 294/2، البداية والنهاية: 104/3، إعلام الورى: 118/1.

ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتّبع الهدى»(1).

لقد بدأ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كتابه بالتسليم على حاكم الحبشة وأرسل إليه بتحياته الشخصية، ولكنّه لم يفعل هذا في كتاب غيره، فلم يرسل بتحيّاته الشخصية إلى «كسرى» و «قيصر» و «المقوقس» حكّام إيران والروم ومصر، بل بدأ كتبه إليهم بالسلام العام حيث قال: «السلامُ على مَن اتّبع الهدى».

ولكنّه صلى الله عليه و آله و سلم سلّم في كتابه هذا، على النجاشي نفسه، وقال: «سلام عليك»، وبهذا خصّه دون غيره من الزعماء والملوك باحترام وتكريم خاصّين.

وقد أشار صلى الله عليه و آله و سلم في هذا الكتاب إلى جملة من صفات اللّه البارزة الّتي تدلّ جميعُها على تنزهه سبحانه، وعظمته وجلاله.

ثم أشار إلى مسألة أُلوهية المسيح (الّتي هي من ولائد التفكير الكنسي المنحطّ) وردّ على ذلك باستدلال قويٍّ خاصّ مستلهَم من القرآن الكريم، حيث قايس ولادة المسيح عليه السلام بخلقة آدم، وأثبت أنّ ولادة شخص من دون أب لو كان دليلاً على أُلوهيّته، أو كونه ابناً للّه، لصحّ ذلك في حقّ آدم، الّذي خلق من غير أب ولا أُمّ، ولكن لا يرى أحدٌ فيه مثلَ هذا الرأي.

ثم ختم صلى الله عليه و آله و سلم كتابه هذا بإخراج دعوته في لباس النصح والموعظة، تجنّباً من إظهار نفسه بمظهر الآمر.

محاورة بين سفير النبيّ وحاكم الحبشة

لمّا مثلُ سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمام النجاشيّ، قال للنجاشي:

يا أصحمة إنَّ عليَّ القولُ، وعليك الاستماعُ، إنَّك كأنّك في الرقّة علينا منا،

ص:429


1- . السيرة الحلبية: 293/3.

وكأنّا في الثقة بك منك، لأنّا لم نظن بك خيراً قط إلّانِلناهُ، ولم نحفظك على شرّ قطّ إلّاأمنّاه، وقد أخذنا الحجّة عليك من قبل آدم، والإنجيلُ بيننا وبينك شاهدٌ لا يُرَدّ، وقاض لا يجور، وفي ذلك موقع الخير، وإصابة الفضل، وإلّا فأنت في هذا النبي الأُمّي كاليهود في عيسى ابن مريم، وقد فرّق النبي صلى الله عليه و آله و سلم رُسُلَه إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنَك على ما خافهم عليه لخير سالف، وأجر ينتظر.

فقال النجاشي: أشهد باللّه أنّه للنبيُ الّذي ينتظره أهل الكتاب، وإنّ بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وإنّه ليس الخبر كالعيان، ولكنَّ أعواني من الحبشة قليل، فانظرني حتّى أُكثّر الأعوان، وأُليّن القلوب(1).

رسالة النجاشي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ثم كتب كتاباً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هذا نصّه:

«بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم؛ إلى محمَّد رسول اللّه مِنَ النجاشي الأصحم ابن أبجر، سلامٌ عليك يا نبي اللّه ورحمة اللّه وبركاته، من اللّه الّذي لا إله إلّاهو، الّذي هداني إلى الإسلام. أمّا بعد، فقد بَلغني كتابُك يا رسول اللّه فيما ذكرت مِن أمر عيسى، فوربّ السماء والأَرض إنّ عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقاً(2) إنّه كما قلت وقد عرفنا ما بعثتَ به إلينا، وقد قرينا ابنَ عمّك وأصحابه، فأشهدُ أنّك رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صادقاً مصدّقاً وقد بايعتُك وبايعتُ ابن عمك وأسلمتُ على يدَيْه للّه ربِّ العالمين،

ص:430


1- . السيرة الحلبية: 294/3.
2- . الثفروق: الأقماع الّتي تلزق بالبسر والتمر، وقيل: هو علاقة ما بين النواة والقمع، وقيل: هوغلاف ما بين النواة والقمع. لسان العرب: 34/10، مادة «تفرق».

وقد بعثتُ إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر، فإنّي لا أملك إلّانفسي، وإن شئت أن آتيك فعلتُ يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّي أشهدُ أنّ ما تقولُ حقّ والسلام عليك يا رسول اللّه(1).

ثم إنَ النجاشي بعث بهدايا خاصّة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكتب إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد ذلك كتابين آخرين أيضاً، وكان في كلّ مرة يحترم كتابَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويقبّله ويضعُه على عينيه.

تقييم سريع لمراسلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم قادة العالم

ربما تصوّر بعض العارفين بأحوال الساسة في ذلك اليوم أنّ دعوة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لحكّام وشعوب العالم يومذاك كان أمراً خارج المألوف وعملاً غير متعارف، ولكنّ مضيّ الزمان أثبت أنّ ذلك العمل كان من وظائف النبيّ ومهامّه الأساسية.

أوّلاً: أنّ إرسال ستة سفراء في يوم واحد إلى أنحاء العالم، محمَّلين برسائل قوية مبرهنة أغلق كل باب للشكّ في وجه المخالفين في المستقبل، فلا مجال لأن يشك أحدٌ هذا اليوم وهو يرى هذا العمل العظيم في عالميّة الرساله المحمَّدية، فمضافاً إلى الآيات الواردة في هذا الصعيد يعدّ إرسال السفراء بنفسه دليلاً قاطعاً وكبيراً على عالمية الرسالة الإسلامية.

ثانياً: لقد تأثّر جميع الزعماء والمُلوك والقادة الذين راسلهم النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم - ما عدا «خسرو پرويز» ملك إيران الّذي كان طاغية مستبدّاً متكبّراً - برسائله صلى الله عليه و آله و سلم ودعوته، وأكرموا سفراءه.

ص:431


1- . تاريخ الطبري: 294/2؛ ولاحظ: بحار الأنوار: 392/20.

كما أنّ قضية ظهور النبيّ العربي قد أصبح حديث الأوساط والمحافل الدينية بسبب هذا العمل.

لقد أيقظت هذه الرسائل والكتب بمحتوياتها ومضامينها القوية المبرهنة العقول الغافية، وهزّت الغافلين بشدّة، وأثارت مشاعر الشعوب العالميّة المتحضّرة، ودفعتهم إلى البحث والتحقيق حول من بشّرت به التوراة والإنجيل، كما تسبّب في أن يجري العلماء والأساقفة والقساوسة غير المغرضين إتّصالات بمن ينتسب إلى هذا الدين، ويقيموا ارتباطاً مع هذه العقيدة بشكل وآخر.

ومن هنا ولأجل هذا تسابقت أفواج وفرق كبيرة من رجال الدين من الشرائع الدينية المختلفة الّتي كانت سائدة آنذاك في الأيام الأخيرة لحياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وبعدها إلى القدوم على المدينة لدراسة أوضاع الدين الجديد، والتعرّف على ماهيته ومنطقه.

ولقد شرحنا في الفصول الماضية وبشكل مفصَّل نوعَ ومدى التأثير الّذي تركته رسائل النبي وسفراؤه في نفوس حكّام الرّوم ومصر والحبشة، وها نحن نواصل بيان بقية التأثيرات الّتي تركتها مراسلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم لحاكم الحبشة العادل، وملكها البار: أصحمة النجاشي.

فقد عمد النجاشيّ بعد تقديم الهدايا إلى سفير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، إلى إرسال ثلاثين رجلاً من القساوسة والأساقفة الأحباش إلى أرض المدينة للتحقيق في أمر الإسلام، ونبوة محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم وليروا عن كثب حياته الزاهدة البسيطة، ولا يتصوّروا أنّه يعيش كما كان يعيش الملوك والجبابرة في ذلك العصر.

ولمّا قدم مبعوثو النجاشي المدينة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سألوه عن نظريته حول السيّد المسيح عليه السلام فبيّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عقيدته حول ذلك النبيّ العظيم

ص:432

بقراءة الآية التالية:

«إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ» .(1)

وقد كان لهذه الآيات أثرٌ عجيبٌ في نفوس أُولئك القساوسة والأساقفة حتّى أنّهم بكوا عند سماعها من دون اختيار.

وبعد التحقيق الدقيق في دعوة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عاد هذا الفريق من علماء الدين المسيحي إلى الحبشة، وأخبروا النجاشيّ بما سمعوه وشاهدوه، فبكى هو أيضاً لما سمع من أُولئك الرجال(2).

وقد نقل ابن الأثير في «الكامل» و «أُسد الغابة» قصّة هذا الوفد بصورة أُخرى إذ كتب بعد ذكر ما مرّ من رسالة النجاشي بإضافة قوله: «وبعثت إليك بابني أرمى بن الأصحم»... فخرج ابن النجاشي في ستين نفساً من الحبشة (قاصدين المدينة) في سفينة في البحر، فلمّا توسطوا البحر غرقوا كلّهم.

ولكن وصول الرسالة الّتي أشار إليها ابن الأثير إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم

ص:433


1- . المائدة: 110.
2- . لاحظ: إعلام الورى: 119/1.

شاهد على أنّه لم تحدث مثل هذه الحادثة لمبعوثي النجاشي(1).

كتاب رسول اللّه إلى أمير الغساسنة (بالشام)

الغساسنة فرع من قبيلة «الأزد» القحطانيّين الذين سكنوا «اليمن» مدة طويلة، وكانت أراضيهم تسقى من سدّ مأرب، فلمّا انهدم ذلك السدّ اضطروا إلى الرحيل عن «اليمن» ونزلوا بالشام. فسيطروا على جزء من أراضيها وحكموا فيها، وانتهى بهم الأمر إلى تشكيل دولة الغساسنة. الّتي كانت تحكم تلك الديار تحت نفوذ قياصرة الروم وسيادتهم، فلمّا جاء الإسلام أزال نظامهم، وانتهت حكومتهم، بعد أن حكم منهم، اثنان وثلاثون ملكاً في مناطق «الجولان»، و «اليرموك»، و «دمشق»(2).

وقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «شجاع بن وهب» - وهو أحد السفراء الستة الذين بعثهم صلى الله عليه و آله و سلم لإبلاغ الرسالة الإسلامية إلى العالم - إلى أرض الغساسنة، وقد حمّله كتاباً إلى ملكها يومذاك «الحارث بن أبي شمّر الغساني»، فخرج «شجاع» بكتاب النبي إلى الشام لتسليمه إلى ملك الغساسنة فانتهى إليه وهو بغوطة دمشق وهو مشغول بإعداد المقدّمات لاستقبال «قيصر» الّذي كان في طريقه إلى زيارة بيت المقدس وفاء للنذر الّذي نذره للانتصار على إيران كما مر.

ولهذا لم يستطع «شجاع» من الوصول إلى الأمير الغساني إلّابعد انتظار دام ثلاثة أيام، فاستغلّ «شجاع» هذه الفرصة وصادق فيها حاجب الأمير الغساني فكان يحدّثه عن صفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخلاقه وما يدعو إليه من العقيدة الطاهرة،

ص:434


1- . أُسد الغابة: 62/1؛ الكامل في التاريخ: 213/2.
2- . راجع: معجم البلدان، ومروج الذهب، وغيرهما.

فأثّرت كلمات «شجاع» تأثيراً عجيباً في نفس ذلك الحاجب الّذي كان روميّا حتّى أنّه رقّ وغلبه البكاء وقال: إنّي قد قرأت الإنجيل وأجد صفة هذا النبي بعينه، وأنا أُؤمن به وأُصدّقه، وأخاف من «الحارث» أن يقتلني إذا عرف بإسلامي، وكان يكرم سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويحسن ضيافته طوال تلك المدة، ويقول إنّ «الحارث» يخاف «قيصر» أيضاً.

ثم لمّا خرج «الحارث» ذات يوم وجلس على عرشه أذنَ لسفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالدخول عليه، فلمّا مثل بين يديه دفع إليه كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقرأه وكان نصّه كالتالي:

«بسم اللّه الرحمن الرَّحيم مِن محمَّد رَسُول اللّه إلى الحارث بن أبي شمر، سلامٌ على من اتّبع الهُدى، وآمَن به وصدّق، وإنّي أدعوك أن تؤمن باللّه وحدَهُ لا شريكَ له يبقى مُلكُكَ».

فانزعج الحارث ممّا قرأ في آخر الكتاب ورمى به جانباً، وقال: مَن يَنتزع منّي مُلكي؟ أنا سائر إليه، ولو كان باليَمَن جِئته، عليّ بالناس.

وبهذا أمر بإعداد العسكر حالاً ليستعرض قوته العسكرية أمام سفير النبي إرعاباً وتخويفاً له. ولأجل أن يظهر نفسه بمظهر المدافع عن مُلك قيصر بادرَ إلى كتابة رسالة إلى «قيصر» يخبره فيها بما عزم عليه من غزو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم!!

واتّفق أن وصلت رسالة الأمير الغسّاني إلى «قيصر» في الوقت الّذي كان فيه «دحية الكلبي» سفيرُ النبي إلى الروم في مجلس قيصر، وكان «قيصر» يحاوره، ويسأله عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعن صفته ودينه، فانزعج «قيصر» من مبادرة الحاكم الغساني العجولة وكتب إليه يمنعه عن السير إلى رسول الإسلام طالباً منه أن يلتقي به في مدينة «ايليا».

ص:435

فغيّر موقف «قيصر» الإيجابي هذا موقف عميله: الحاكم الغسّاني السلبي تبعاً للمثل القائل «الناسُ على دين ملوكهم» فبادر من فوره إلى إكرام سفير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومنحه هدايا ثمينة، ووجَّهه نحو المدينة معززاً مكرّماً وقال له: «إقرأ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منّي السلام».

ولكن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يرض بهذا الموقف الدبلوماسي الّذي لم يكن ينمُّ عن واقع صادق فقال: بادَ ملكُهُ. أي سيزول ملكه عمّا قريب. فمات «الحارث» في السنة الهجرية الثامنة أي بعد عام واحد من هذه القضية(1).

سادس السفراء في أرض اليمن

سادس سفراء النبي هو المبعوث إلى أرض اليمامة (وهي من نجد)، وهو سليط بن عمرو.

فقد خرج سليط هذا بكتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى «هوذة بن علي» الحنفي ملك اليمامة يدعوه إلى الإسلام ولمّا قدم عليه سلّم الكتاب إليه وفيه.

«بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم. مِن محمَّد رسول اللّه إلى هَوذَة بن عَلي. سلامٌ على مَن اتَّبع الهُدى وَ اعلَم أنّ ديني سيظهَر إلى منتهى الخفِّ والحافِر (أي يعمُّ الشرق والغربَ) فأسلِم تَسلم وَأجعَلُ لكَ ما تحتَ يَديك».(2)

وحيث إنّ ملك اليمامة (هوذة) كان نصرانياً لذلك بعث إليه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سليطاً وكان ممّن عاش مدة من الزمن في أرض الحبشة عندما هاجر إليها فريقٌ من المسلمين فراراً من اضطهاد وفتنة قريش لهم، وعرف بتقاليد النصارى

ص:436


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 261/1؛ تاريخ الطبري: 293/2؛ السيرة الحلبية: 304/3-305.
2- . السيرة الحلبية: 303/3.

ومنطقهم، وكانت تعاليم الإسلام وكذا اختلاطه بمختلف الفئات في رحلاته وأسفاره قد صنعت منه رجلاً شجاعاً قوياً وذكياً، وقد استطاع بما أُوتي من قوة المنطق، والشجاعة أن يقنع بكلامه وحديثه ملك اليمامة عندما قال له: يا هوذة إنّه سوّدتك(1) أعظم حائلة (أي بالية) وأرواح في النار، وإنّما السيّد من متَّع بالإيمان ثم تزوّد بالتقوى. وإنّ قوماً سعدوا برأيك فلا تشقين به، وأنا آمركَ بخير مأمور به، وأنهاك عن شيء منهيٍّ عنه. آمرك بعبادة اللّه، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإنّ في عبادة اللّه الجنة، وفي عبادة الشيطان النار، فإن قبلتَ نلت ما رجوتُ وأمِنتُ ما خفتُ، وإن أبيتَ فبيننا وبينك كشف الغطاء وهول المطّلع.(2)

كانت ملامح ملك اليمامة المتغيّرة المتأثّرة توحي بحسن تأثير كلمات سليط سفير النبيّ في نفس ذلك الملك، ولهذا طلب من سليط أن يمهلهُ مدة حتّى يفكّر في أمر النبي ودعوته، وكان من الملوك العقلاء.

ويذكر أنّ هوذة كان عنده عظيم من عظماء النصارى حين قال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم ما قال فقال له: لم لا تجيبه.

قال هوذة: أنا أملِكُ قومي، ولئن اتّبعته لا أملك.

قال: بلى واللّه لئن اتّبعتَهُ لَيُملكنّك، وإنّ الخير لك في اتّباعه، وإنّه النبيّ العربي الّذي بشّر به عيسى بن مريم عليه السلام. وإنّه لمكتوب عندنا في الإنجيل: محمّد رسول اللّه.(3)

فتركت نصيحة الأُسقف وكلماته أثراً عميقاً وقوياً في نفس ملك اليمامة

ص:437


1- . يقصد إنّه سوده كسرى وهو في النار.
2- . السيرة الحلبية: 304/3.
3- . السيرة الحلبية: 304/3.

«هوذة» فاستدعى سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم وكتب إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم كتاباً هذا نصه: «ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني فاجعل إليّ بعض الأمر اتّبعكَ (أي أنّه كان يطلب أن يجعله النبيُ خليفة له من بعده). وأجاز سليطاً بجائزة وكساه أثواباً من نسج هجر.(1)

ولم يكتف «هوذة» بهذا بل بعث وفداً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بزعامة «مجاعة بن مرارة» ليبلّغ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رسالته ويقول له: ان جعَلَ الأمر له من بعده أسلمَ وسار إليه ونصَره، وإلّا قصدَ حربَه.

فلمّا قدم الرسول على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بما جرى وقرأ الكتاب على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لا ولا كرامة، لو سألني سيابة من الأرض ما فعلتُ اللّهم اكفنيه»(2).

رسائل أُخرى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

هذا وإنّ الرسائل والكتب الّتي بعثها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لغير من ذكرناه من القادة والزعماء والشخصيات الدينية والسياسية أكثر ممّا أدرجناه هنا، وقد استطاع العلماء المحقّقون أن يجمعوا ويثبتوا في كتب خاصّة نصّ 29 رسالة من رسائل الدعوة إلى الإسلام الّتي بعثها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تركنا إدراجها هنا رعاية للاختصار.(3)

ص:438


1- . السيرة الحلبية: 303/3.
2- . السيرة الحلبية: 303/3-304؛ الكامل في التاريخ: 215/2؛ الطبقات الكبرى: 262/1. و سيابة من الأرض أي قطعة من الأرض.
3- . راجع: مكاتيب الرسول للعلّامة الأحمدي، وغيره من المؤلّفات في هذا المجال.

45 قلعة خيبر أو بُؤرة الخطر

اشارة

يوم طلع نجمُ الإسلام في أَرض المدينة حقدت اليهود على رسول اللّه والمسلمين، أكثر من قريش، وعملت بمختلف الطرق والحيل من أجل القضاء على الإسلام والإيقاع برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه.

ولقد ابتلي يهود المدينة وما حولها بمصير سيّئ نتيجة أعمالهم وتصرّفاتهم السيّئة، فقُتِل فريق منهم، وأُجلي آخرون مثل قبيلة بني قينقاع وبني النضير من أَرض المدينة فسكنوا «خيبر» و «وادي القرى» أو نزلوا باذرعات الشام.

وكانت خيبر منطقة واسعة وخصبة تقع على بُعد اثنين وثلاثين فرسخاً من المدينة وكان قد سكنها اليهود قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وبنوا فيها سبع قلاع وحصون قوية لتحصنهم وتحفظهم.

وحيث إنّ التربة والمناخ في تلك المنطقة كانت قد جعلت منها مكاناً جيداً وصالحاً للزراعة جداً، لذلك كان سكانها اليهود قد حصلوا على مهارة كبرى في أُمور الزراعة وجمع الثروات، وتهيئة وسائل الدفاع والقتال، وإعداد السلاح

ص:439

والقوة.

وكان عدد نفوسها يقارب عشرين ألف نسمة بينهم عدد كبير من المقاتلين الشجعان(1).

إنّ أكبر ذنب اقترفه يهود «خيبر» هو أنّهم شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الإسلامية والقضاء عليها، واستطاع جيش الأحزاب المشرك بمساعدة يهود «خيبر» أن يتحرّكوا في يوم واحد من مختلف مناطق الجزيرة العربية لاجتياح المدينة واستئصال المسلمين في أكبر تحالف واتّحاد عسكري من نوعه في ذلك العصر، كما سبق وأن عرفت في قصّة «معركة الأحزاب». ولكن هذا الجيش المعتدي الظالم تفرّق بفعل تدابير رسول الإسلام الحكيمة وأصحابه بعد شهر من الانتظار خلف الخندق، وتقهقر وعادت أحزابه ومن جملتهم يهود خيبر متشتّتة متفرّقة إلى أوطانها تجرّ أذيال الخيبة والخسران، واستعادت عاصمة الإسلام استقرارها وأمنها.

إنّ خيانة، وخباثة ولؤم يهود خيبر حملت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أن يقضي على بؤرة المؤامرة ومركز الفساد والخطر هذا، وأن يجرّد سكانها جميعاً من السلاح، لأنه كان يخشى أن يعود هذا الشعب المعاند الخبيث - ببذل الأموال الطائلة - إلى تأليب العرب الوثنيّين مرّة أُخرى ضد المسلمين ويعيدوا قصّة الأحزاب مرة أُخرى. وخاصّة أنّ تعصّب اليهود لدينهم ومعتقدهم كان أشدّ من تعصّب قريش للوثنية، ولهذا التعصّب كان يسلم ألفُ مشرك وثنيّ ولا يدع يهوديٌ واحدٌ دينهُ، ومعتقده!!

ثم إنّ عاملاً آخر حمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على تحطيم قدرة الخيبريّين

ص:440


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 726/2.

وشوكتهم، وانتزاع السلاح منهم ورصد تحرّكاتهم بواسطة فرسانه ورجاله، أنّه راسل الملوك والسلاطين، ودعاهم جميعاً وبشكل قوي إلى الإسلام، فلم يكن من المستبعد أن يستغل «كسرى» و «قيصر» يهود خيبر فيتعاونوا جميعاً للقضاء على الإسلام والنهضة الإسلامية في مهدها، أو تحرك اليهود ذينك الملكين ضدّ الإسلام كما حرّكت من قبل المشركين ضدّ هذا الدين، وتسبّبت في وقوع مشاكل.

خاصة أنّ الشعب اليهودي كان ضليعاً في الحروب الّتي دارت بين الروم والفرس في تلك العصور، وكان اليهود يتعاونون مع أحد الطرفين.

من هنا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ من الحكمة بل ومن الضرورة بمكان أن يطفئ شرارة الخطر هذه إلى الأبد.

وكانت هذه الفرصة أفضل الفرص لهذا العمل؛ لأنّ بال النبيّ كان قد فرغ من ناحية الجنوب (أي قريش) بعد صلح الحديبية، وكان يعلم أنّه لو أقدم على عمل ضد اليهود لم تمتد يد من جانب قريش لمساعدتهم، ولكي يمنع من وصول أيّة مساعدات وإمدادات لهم من ناحية قبائل الشمال مثل «غطفان» الذين كانوا أصدقاء ليهود خيبر والمتعاونين معهم في معركة «الأحزاب» نفذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خطّة سيأتي تفصيلها مستقبلاً.

لهذه الأسباب والعوامل والاعتبارات أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بالتهيّؤ لغزو خيبر آخر مركز من مراكز اليهود في الجزيرة العربية. وقال: «لا تخرجوا معي إلّا راغبين في الجهاد فأمّا الغنيمة فلا».(1)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم استخلف على المدينة «نميلة بن عبداللّه الليثي»،

ص:441


1- . المغازي: 634/2؛ إمتاع الأسماع: 306/1؛ السيرة الحلبية: 726/2.

ودفع راية بيضاء إلى «عليّ بن أبي طالب» عليه السلام وأمر بالتوجّه إلى خيبر، ولكي تسرع الإبل في سيرها أذن لعامر بن الأكوع أن يحدو بالإبل لأنّ الإبل تُستَحثُ بالحداء، فأخذ يرتجز قائلاً:

واللّه لولا اللّه ما اهتَدَينا ولا تصَدّقنا ولا صَلَّينا

إنّا إذا قومٌ بَغُوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا

فَأَنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا(1)

وقد عكست هذه الأبيات الجميلة جانباً من هدف هذه الغزوة، فهي تفيد أنّ اليهود ظلمونا، وأشعلوا نيران الفتنة وقد خرجنا لإطفائها، وتحملنا في سبيل ذلك عناء هذا السفر.

ولقد سُرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمضامين هذه الأبيات فدعا لابن الأكوع، وقال:

«يرحمك اللّه» وقد استشهد ابن الأكوع هذا في هذه الغزوة.

هذا وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يراعي مبدأ الاستتار في جميع تحرّكاته العسكرية، فقد كان يحب أن لا يعرف العدوُّ بمسيره ومقصده حتّى يفاجئ العدو ويباغته، ويحاصره قبل أن يستطيع فعل شيء، هذا مُضافاً إلى ناحية أُخرى وهي أن يظن حلفاء العدوّ الّذي يقصده بأنّه يقصدهم ويسير إليهم، فيغلقوا على أنفسهم أبواب منازلهم ولا ينضم بعضهم إلى بعض.

وربما تصوّر البعض في هذه الغزوة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقصد منطقة الشمال (شمال المدينة) لتأديب قبائل غطفان وفزارة الذين تعاونوا مع اليهود في معركة الأحزاب، لما وجدوه متوجّهاً نحو الشمال.

ص:442


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 791/3-792.

ولكنّه عندما وصل إلى منطقة «الرجيع» عرج بجيشه صوب «خيبر» وبهذا قطع الطريق على أيّة إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر، بقطع خطّ الارتباط بين قبائل غطفان وفزارة ويهود خيبر، فمع أنّ حصار خيبر طال مدة شهر واحد تقريباً لم تستطع القبائل المذكورة أن تمدّ حلفاءها اليهود بأي شيء(1).

ولقد خرج مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى خيبر ما يقرب من ألف وستمائة مقاتل، بينهم مائتا فارس(2).

وعندما أشرف رسول ا للّه صلى الله عليه و آله و سلم على خيبر قرأ الدعاء التالي الّذي يكشف عن نيته الحسنة:

اللهمّ ربِّ السماوات وما أضللنَ

وربَّ الأرضين وما أقللنَ

وربَّ الشياطين وما أضللنَ

وربَّ الرياح وما أذرينَ

فإنّا نسألك خيرهذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها ونعوذ بك من شرّها

ص:443


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 793/3.
2- . الأمالي للطوسي: 164، يذهب ابن هشام في سيرته: 791/3 إلى أنّ خروج النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى خيبر كان في المحرّم، بينما ذهب ابن سعد في الطبقات الكبرى: 77/2 إلى أنّه كان في جمادى الثانية من السنة السابعة، وحيث إنّ إرسال الرسل إلى الملوك والأُمراء تمّ في شهر محرم من هذه السنة ذاتها لذلك يكون الرأي الثاني أقرب إلى الصحّة، وخاصّة أنّ مهاجري الحبشة التحقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خيبر بعد وصول رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى النجاشي بوساطة «عمرو بن أُمية الضمري» لأنّ ذهاب رسول النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى الحبشة وعودته مع المهاجرين إلى المدينة ثم خيبر بحاجة إلى زمان، وحيث إنّ توجّه الرسل والسفراء كان في شهر محرم، لذلك يجب أن يكون قتال الخيبريين في الأشهر التالية.

وشرّ أهلها وشرّ ما فيها».(1)

إنّ هذا الدعاء وما رافقه من حالة التضرّع، وذلك أمام أعين ألف وستمائة من الجنود الشجعان الّذين كان كلُّ واحد منهم شعلة متّقدة من الشوق إلى القتال في سبيل اللّه يكشف عن أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن يهدف من مسيره إلى هذه الأرض الاستعمار أو الانتقام بل جاء من أجل أن يقضي على بؤرة الخطر الّتي كان من المحتمل أن تتحوّل في كلّ لحظة إلى قاعدة انطلاق للمشركين الوثنيّين، حتّى لا تُهدَّد النهضة الإسلامية من هذه الناحية فيما بعد.

وسترى أنت أيّها القارئ الكريم كيف أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد فتح القلاع والحصون اليهودية، وانتزاع السلاح من سكانها المتآمرين المشاغبين فوّض إليهم أراضيهم، واكتفى منهم بأخذ الجزية في مقابل المحافظة على أموالهم وأنفسهم، وبعد أن ربطهم بمعاهدة قوية ملزمة.

إحتلالُ النقاط والطرق الحسّاسة ليلاً

كان لكلّ حصن من حصون خيبر السبعة اسم خاص يعرف به، فهي عبارة عن: «ناعم» و «القموص» و «الكتيبة» و «النطاة»، و «شقّ» و «سطح»، و «سلالم»، وربما سمّي بعض هذه الحصون باسم زعيم الحصن وسيّده، مثل «حصن مرحب».

كما أنّهم كانوا قد بنوا عند كلّ حصن من تلك الحصون برجاً للمراقبة، ولرصد كلّ التحرّكات خارج الحصن، ولأجل أن ينقل الحراس والمراقبون المستقرون في هذه الأبراج الأخبار إلى داخل الحصن.

وقد كانت تلك البروج والحصون قد شيِّدت بحيث يسيطرُ سكانُها على

ص:444


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 792/3؛ الكامل في التاريخ: 217/2؛ السيرة الحلبية: 729/2.

خارج الحصن سيطرة كاملة وكانوا يستطيعون - عن طريق المجانيق(1) وغيرها من آلات الرمي - إبعاد أي عدو، وإفشال أيّة محاولة للاقتراب إلى الحصن، وذلك برميه بالأحجار وما شابهها.

وقد كان بين سكان هذه الحصون البالغ عددهم عشرين ألفاً، ألفان من الفرسان الشجعان والصناديد الأبطال الذين توفّر لهم كلّ ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب، والذين أُعدّت لهم في المخازن كلّ ما يحتاجون إليه من الأسلحة والعتاد.

وكانت هذه الحصون من الإحكام والقوّة بحيث كان من المستحيل إحداث أيّة ثغرة في حيطانها أيضاً، ومن أراد الاقتراب إليها رمي بالأحجار فجرح بها أو قتل، فكانت تعدُّ هذه الحصون - في الحقيقة - متاريس قوية لمقاتلي اليهود.

لقد واجه المسلمون في هذه الغزوة مثل هذا العدوّ المسلح، الممتنع بمثل هذه المتاريس القوية، فكان لابدّ لفتح هذه القلاع من استخدام تكتيك عسكري دقيق.

ولهذا فإنّ أوّل عمل قام به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه في هذا السبيل هو احتلال كلّ النقاط والطرق الحسّاسة ليلاً.

وقد تمّ هذا العمل بسرية وسرعة بالغة جداً بحيث لم يعرف به حتّى مراقبو الأبراج اليقظون أيضاً.

ولمّا كان صبيحة تلك الليلة خرج عُمّال خيبر غادين إلى مزارعهم وبساتينهم وهم يحملون مساحيهم ومكاتلهم(2) وإذا بهم يفاجَأون بجنود الإسلام الأبطال

ص:445


1- . وهي أجهزة حديدية بدائية تقذف الحجر أو الحديد.
2- . المكاتل جمع مكتل. والمِكتَل كمِنبَر: زنبيل يحمل فيه التمر أو العنب إلى الجَرين، وقيل: هوشبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعاً. تاج العروس: 647/15، مادة «كتل».

وقد احتلّوا بقوة الإيمان جميع النقاط الحسّاسة وسدّوا جميع الطرق عليهم بحيث لو تقدّموا شبراً لقبضَ عليهم، فأفزعهم ذلك وخافوا خوفاً شديداً، فأدبروا هراباً وهم يقولون: محمَّد واللّه محمد والخميس معه، يعنون الجيش. وبادروا فوراً إلى إغلاق أبواب الحصون وإحكامها، وعقدوا شورى عسكرية في داخل حصنهم المركزي.

وعندما رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مساحي اليهود ومكاتلهم وغيرها من أدوات الهدم قال متفائلاً:

«اللّه أكبر خربت خيبرُ أنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المُنذرين».(1)

وكانت نتيجة الشورى العسكرية اليهودية في هذه الغزوة هي أن يجعلوا الأطفال والنساء في أحد الحصون، ويجعلوا الذخيرة من الطعام في حصن آخر، ويستقر المقاتلون الشجعان على الأبراج ويدافعوا عن كلّ قلعة وحصن بالأحجار، ويخرج الأبطال الصناديد من كلّ حصن ويقاتلوا المسلمين خارجه.

كانت هذه هي خطة اليهود لمواجهة جنود الإسلام وقد أصرّوا على تنفيذها حتّى آخر لحظة من القتال، ولهذا استطاعوا أن يقاوموا الجيش الإسلامي مدّة شهر واحد تقريباً بحيث كانت محاولة فتح كلّ حصن من تلك الحصون تستغرق عشرة أيام دون نتيجة.

متاريس اليهود تتهاوى

كانت هناك نقطة لا تحظى بأهمية تُذكر من الناحية العسكرية وكان مقاتلو

ص:446


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 217/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 793/3.

اليهود يسيطرون عليها سيطرة كاملة، ولم يكن فيها أي مانع من استهداف مواقع المسلمين ورميها من جانب العدو.

ولهذا جاء أحد المقاتلين المسلمين إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو «محمَّد بن مسلمة» وقال له:

يا رسول اللّه صلى اللّه عليك إنّك نزلت منزلك هذا فإن كان عن أمر (إلهي) أُمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأي تكلّمنا؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: بل هو الرأي.

فقال: يا رسول اللّه دنوت من الحصن، وإنّ أهل النطاة مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط نبلهم، فتحوّل يا رسول اللّه إلى موضع بريء من النخل والبناء حتّى لا ينالنا نبلهم.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يراعي واحداً من مبادئ الإسلام العظيمة (الشورى) واحترام الآخرين: «بل هو الرأيُ، انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم، بريئاً من الوباء نأمن فيه بياتهم»، فطاف محمَّد حتّى انتهى إلى الرجيع (وهو واد بقرب خيبر) ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ليلاً فقال: وجدت لك منزلاً، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فحولت خيمة القيادة عند المساء إلى ذلك المكان الأكثر أماناً من بيات اليهود وغدرهم فكان النبي يغدو كلّ يوم فيقاتل أهل النطاة يومه إلى الليل ثم إذا أمسى رجع إلى الرجيع حيث غرفة القيادة، وكان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام(1).

على أنّه لا يمكن البتّ في تفاصيل واقعة خيبر ولكن المستفاد من المصادر التاريخية هو أنّ جنود الإسلام حاصروا القلاع والحصون حصناً تلو حصن، وحاولوا قطع ارتباط الحصن المحاصر ببقية الحصون ثم فتحه، ثم محاصرة

ص:447


1- . لاحظ: المغازي: 643/2-644؛ إمتاع الأسماع: 231/9.

حصن آخر.

ولقد تمّ فتح هذه الحصون ببطء لأنّها كانت مرتبطة مع بعضها بممرّات سرّيّة، أو كان المقاتلون يدافعون عنها دفاعاً مستميتاً، ولكن الحصون التي كان الرعب والخوف يسيطر على مقاتليها وحرّاسها، أو الّتي ينقطع ارتباطها بالخارج بصورة كاملة كان يتم السيطرة عليها بسهولة، وتسفكُ فيها دماء أقلّ، ويتقدم العمل فيها بسرعة أكبر.

وإنّ أوّل حصن فُتح على أيدي المسلمين بعد جهد كبير - كما يذهب إليه جمع من المؤرّخين - هو حصن «ناعم». ولقد استشهد في فتح هذا الحصن أحد المقاتلين المسلمين البارزين، يدعى «محمود بن مسلمة» الانصاري، وجرح خمسون رجلاً من مقاتلي الإسلام، فقد استشهد الفارسُ المذكور بعد أن رماه اليهود بصخرة كبيرة من فوق الحصن فقُتل من فوره، وقيل: إنّه توفي بعد ثلاثة أيام - حسب رواية ابن الأثير في أُسد الغابة(1) - ونقل الجرحى الخمسون إلى منطقة أُخرى من المعسكر خصّصت لغرض التضميد،(2) كما أنّه سمح لبعض نساء بني غفار بأن يأتين إلى «خيبر» لمساعدة المسلمين وتضميد الجرحى وتقديم غير ذلك من الخدمات الّتي يليق بهن في المعسكر، وقد أظهرت تلك النسوة من أنفسهن تفانياً، وتضحية عجيبة(3).

ولقد رأت الشورى العسكرية الإسلامية أن يعمد المقاتلون المسلمون - بعد فتح حِصن «ناعم» - إلى فتح حصن «القموص» الّذي كان يرأسه أبناء «أبي

ص:448


1- . أُسد الغابة: 334/4.
2- . لاحظ: المغازي: 646/2.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 804/3.

الحقيق»، ولقد فُتح هذا الحصن بفضل تفاني جنود الإسلام وأُسرت منه «صفية بنت حيي بن أخطب» الّتي صارت فيما بعد من زوجات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد قوّى هذان الانتصاران العظيمان معنوية الجنود المسلمين وألقى رعباً شديداً في نفوس اليهود، ولكنّ المسلمين وقعوا في مخمصة شديدة بسبب قلّة المواد الغذائية بحيث اضطروا إلى أن يأكلوا من بعض الأنعام المكروهة اللحم، وقد كان هناك بين حصون اليهود حصن مملوء طعاماً إلّاأنّ المسلمين لم يظفروا به حتّى ذلك الحين.

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة

في مثل هذه الحالة الّتي كان قد استولى فيها جوعٌ شديدٌ على المسلمين، اضطروا معه إلى تناول لحوم ما كره أكلُه من الأنعام، أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم راع أجيرٌ لليهود وهو يسار الحبشي - عبد أسود لعامر اليهودي - في غنم مولاه فلمّا رأى أهل خيبر يتحصّنون ويقاتلون سألهم فقالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنّه نبي. قال: فوقعت تلك الكلمة في نفسه فأقبل بغنمه يسوقها إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا محمد ما تقول؟ ما تدعو إليه؟ قال: أدعوا إلى الإسلام فاشهد أن لا إله إلّااللّه وأنّي رسول اللّه.

قال: فما لي؟ قال: الجنّة إن ثبتّ على ذلك. قال: فأسلم. وقال: إنّ غنمي هذه وديعة.

فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

«أخرجها مِنَ العسكر ثم صِح بها وارمها بحصيات فإنّ اللّه عزّوجلّ سيؤدّي عنك أمانتَك».(1)

ففعل الراعي ما أمره به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخرجت الغنم إلى صاحبها حتّى

ص:449


1- . المغازي: 649/2.

دخلت الحصنَ كأنّ سائقاً يسوقها، وقد قاتل ذلك الرجل إلى جانب المسلمين حتّى استشهد(1).

أجل لم يكتسب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لقب «الأمين» من قومه في فترة شبابه فقط بل كان أميناً في جميع الحالات والظروف وهو القائل:

«ما من شيء كان في الجاهلية إلّاهو تحت قدمي، إلّاالأمانة فإنّها مؤدّاة إلى البر والفاجر»(2)، وقد بقي تردّد القطعان حرّاً طوال مدة الحصار ولم يفكّر ولا واحدٌ من المسلمين بأخذ غنم منها؛ لأنّهم تعلّموا الأمانة والتقوى والصدق والورع من معلّمهم الأكبر «محمَّد» الصادق الأمين صلى الله عليه و آله و سلم.

نعم غلب الجوع الشديد على العسكر ذات يوم حتّى كادوا أن يهلكوا فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن تؤخذ شاتان من غنم اليهود اضطراراً، واطلق البقية لتدخل الحصن بأمان، ولولا ذلك الاضطرار الّذي يباح معه المحذور بقدره لما سمح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك، ولمّا رأى جوع أصحابه وتضوّرهم من شدة السغب دعا قائلاً:

«اللَّهم إنَّك قد عرفت حالَهم وأن ليست بهم قوّة، وأن ليس بيدي شيء أُعطهم إيّاه، فافتح عليهم أعظم حُصونها عنهم غناء، وأكثرها طعاماً»(3).

ولم يكن يأذن لأحد من المسلمين بأن يأخذ شيئاً من أموال الناس أبداً.

في ضوء كلّ هذا تتّضح دسائس جماعة من المستشرقين في تاريخنا المعاصر فهم يصرُّون على القول بأنّ غزوات الإسلام ومعاركه كانت للإغارة

ص:450


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 806/3؛ السيرة الحلبية: 740/2.
2- . مجمع البيان: 327/2، عند تفسير قول اللّه تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ...».
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 795/3.

وجمع الغنائم ومصادرة الأموال والسيطرة عليها، وأنّ جنوده لم يكونوا يتقيّدون خلال تلك المعارك بمبادئ العدالة والأمانة، وذلك كيد منهم للإسلام، ومحاولة بغيضة للحطّ من قيمة الأهداف الإسلامية العليا، وتشويهها.

ولكن النموذج المذكور هنا، وأمثاله ممّا يعدُّ بالعشرات في صفحات التاريخ الإسلامي تشهد بكذبهم فإنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يأذن وهو في أشدّ الظروف وأصعبها وجنوده الأوفياء قد غلبهم الجوع ودنوا من الهلاك، بأن يخون راع في أغنام كان يرعاها ليهودي، بل أمره بردّها إلى صاحبها وهو في قتال مع اليهود على حين كان يمكنه مصادرتها جملة واحدة.

فتح الحصون الواحد تلو الآخر

بعد فتح القلاع المذكورة حمل جنود الإسلام على حصن الوطيح، وسلالم، ولكنّهم واجهوا مقاومة عنيفة من اليهود الذين كانوا يدافعون عنها خارجها، من هنا لم يستطع جنود الإسلام الأبطال رغم كلّ التضحيات الّتي ذكرها كاتب السيرة المعروف ابن هشام - في موضع خاص من سيرته - أن يحرزوا انتصاراً بل ظلّوا يجالدون مقاتلي اليهود أكثر من عشرة أيام، ولكنّهم كانوا يعودون في كلّ يوم إلى مقرّهم من دون نتيجة.

وذات يوم بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أبا بكر وأعطاه رايته البيضاء على رأس جماعة من المقاتلين المسلمين لفتح بعض حصون خيبر، ولكنّه رجع ولم يكن فتح، وكلّ من الأمير والجنود يلقي باللوم على الآخر، ويتّهمه بالجبن والفرار.

فبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في يوم آخر «عمر بن الخطاب» على رأس جماعة أُخرى فكان كرفيقه إذ رجع ولم يحقّق فتحاً، بل عاد فزعاً مرعوباً وهو يصف شجاعة مرحب وقوّته البالغة، فأغضب هذا العمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفرسان

ص:451

الإسلام الأبطال وقادة الجيش الاسلامي، فجمع رسول اللّه صناديد جيشه وقال:

«لأُعطِينَّ الرايةَ غداً رَجلاً يُحبُّ اللّهُ وَ رَسُولَه ويحبُّه اللّهُ ورسولُه يفتحُ عَلى يَدَيه لَيس بفرّار» أو: «كرّار غير فرّار» حسب نقل الحلبي(1).

وقد أثارت هذه الجملة الخالدة الحاكية عن فضيلة وشجاعة وتفوّق ذلك الفارس الّذي قدّر أن يكون الفتح على يديه وتميّزه المعنوي على غيره، موجة من الفرح الممزوج بالاضطراب بين أفراد الجيش وقادته الشجعان.

فقد بات كلّ واحد منهم يتمنّى أن يكون هو صاحب هذا النوط الخالد والعظيم، وأن تصيب القرعة اسمه.

ولمّا بلغ عليّاً عليه السلام مقالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذه وهو في خيمته قال: «اللّهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت»(2).

غطّى ظلامُ الليل كلّ مكان، وذهب جنود الإسلام إلى أماكن نومهم، وبينما بقي الحرّاس يتحارسون طوال الليل، ويرصدون أوضاع العدوّ الغادر وتحرّكاته.

وعند الصباح ومع طلوع الشمس الّتي شقّت بأشعتها رداء الظلام، وأضاءت

ص:452


1- . لاحظ: مجمع البيان: 201/9؛ السيرة الحلبية: 736/2-737، السيرة النبوية لابن هشام: 797/3؛ إمتاع الأسماع: 309/1؛ بحار الأنوار: 9/39. ولقد انزعج المؤرّخ الإسلامي المعروف ابن أبي الحديد من فرار هاتين الشخصيتين فقال في ضمن ما يعزى إليه من القصيدة العلوية: وما أنْسَ لا أنْسَ اللَّذين تَقدَّما وَفرَّهُما والفرُّ قَد علِما حُوبُ وللراية العظمى وقد ذهبا بها ملابس ذلّ فوقها وجلابيب يشلُّهما من آل موسى شمردَلٌ طويل نجاد السيف أجيد يعبوبُ (الروضة المختارة (شرح القصائد العلويات السبع) لابن أبي الحديد المعتزلي: 92، مؤسسة الأعلمي، بيروت).
2- . السيرة الحلبية: 545/2.

السهل والجبل، تجمع قادة الجيش الإسلامي وصناديده وأبطاله وغيرهم من الرجال وفيهم الأميران المنهزمان بالأمس حول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهم يريدون بشوق بالغ أن يعرفوا من سيعطيه الراية اليوم، وقد (تطاول لها أبوبكر وعمر)(1).

ولم يطل هذا الانتظار، فقد كسر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جدار الصمت هذا عندما قال: «أين علي»؟!

فقيل: يا رسول اللّه هو رمد، معصوب العينين.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«هاتوه»(2).

إنّ هذه العبارة تكشف عن أنّ ما أصاب علياً عليه السلام من الرمد كان من الشدّة بحيث سلبه القدرة على المشي، وعاقه عن الحركة.

فأمرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يده الشريفة على عيني علي عليه السلام ودعا له بخير، فعوفي من ساعته، واستعادت عيناه عليه السلام سلامتها أفضل ممّا كانت بحيث لم يرمد عليه السلام حتّى آخر حياته بفضل تلك المسحة النبوية المباركة.

ثم دفع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اللواء إلى عليّ عليه السلام ودعا له بالنصر، كما أنّه أمره بأن يبعث إلى اليهود قبل قتالهم من يدعو رؤساء الحصون إلى الإسلام، فإن أبوا اعتناق الإسلام أخبرهم بوظائفهم في ظلّ الحكومة الإسلامية وأنّ عليهم أن يسلّموا أسلحتهم إلى الحكومة الإسلامية، ويعيشوا بحرية وأمان تحت ظلّ هذه الحكومة شريطة أن يدفعوا الجزية(3).

ص:453


1- . هذه هي عبارة الطبري: 300/2، كنز العمال: 463/10.
2- . بحار الأنوار: 28/21-29؛ تاريخ الخميس: 49/2.
3- . لاحظ: صحيح مسلم: 122/7، باب فضائل علي عليه السلام؛ صحيح البخاري: 77/5، باب غزوة خيبر.

وإذا رفضوا ذاك وهذا قاتلهم، ثم قال لعلي الّذي أوكل إليه قيادة تلك المجموعة:

«لئن يَهديَ اللّهُ بِكَ رَجُلاً واحِداً خَيرٌ لك مِنَ أن يكُونَ لكَ حُمرُ النعمَ»(1).

أجل إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يفكِّر في هداية الناس حتّى في أشدّ لحظات الحرب، وهذا يفيد بأنّ جميع حروب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت لهداية الناس لا غير.

الانتصار الكبير في خيبر

عندما كُلِّفَ عليٌّ عليه السلام من جانب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بفتح قلعتي سلالم والوطيح (وهما الحصنان اللّذان عجز عن فتحهما الأميران السابقان ووجها بفرارهما ضربة لا تجبر إلى سمعة الجيش الإسلامي)، ارتدى درعاً قوياً وحمل معه سيفه الخاص ذو الفقار وراح يهرول بشجاعة منقطعة النظير نحو القلعتين المذكورتين، والجندُ خلفَه، حتّى ركز الراية الّتي أعطاها له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على الأَرض تحت الحصن. ولمّا رأى اليهود أنّه دنا من الحصن خرج إليه كبار صناديدهم.

وكان أوّل من خرج إليه أخو مرحب ويُدعى «الحارث» فتقدّم إلى عليّ وصوته يدوي في ساحة القتال بحيث تأخّر مَن كان خلف عليّ من شدة الفزع(2).

ولكن لم يمض زمان حتّى سقط الحارث على الأرض جثّة هامدة بضربة قاضية من علي عليه السلام.

ص:454


1- . السيرة الحلبية: 736/2.
2- . إمتاع الأسماع: 310/1. قال: فانكشف المسلمون وثبت عليٌ.

فغضب مرحب بطل خيبر المعروف لمقتل أخيه الحارث وخرج من الحصن وهو غارق في السلاح، فقد لبس درعاً يمانياً، ووضع على رأسه خوذة منحوتة من حجارة خاصّة، وتقدّم إلى عليّ عليه السلام كالفحل الصؤول يرتجز ويقول:

قَد عَلِمَت خيبرُ أنّي مرحبُ شاكي السلاح بطلٌ مجرّبُ

أطعن أحياناً وحيناً أضربُ إذا الليوث أقبلت تلهب(1)

فأجابه عليٌ عليه السلام مرتجزاً وقد أظهر للعدو شخصيته العسكرية في رجزه:

أنا الَّذي سَمَّتنِي أُمّي حَيدرَة ضرغامُ آجام وليَثٌ قَسورَة

عَبل الذِراعين شديد القصرة كليث غاباتْ كريهُ المنظرة(2)

وبعد أن انتهى الطرفان من إنشاد رجزهما تبادلا الضربات بالسيوف والرماح، فألقت قعقعة السيوف وصوت الرماح رعباً عجيباً في قلوب المشاهدين، وفجأة هبط سيف بطل الإسلام القاطع على المفرق من رأس «مرحب» بطل اليهود قدّت خوذته نصفين ونزلت على رأسه وشقته نصفين إلى أسنانه!!

ولقد كانت هذه الضربة من القوّة بحيث أفزعت أكثر مَن خرج مع «مرحب» من أبطال اليهود وصناديدهم ففرّوا من فورهم، ولجأوا إلى الحصن، وبقي جماعة فقاتلوا عليّاً منازلة فقاتلهم حتّى قتلهم جميعاً، ثم لاحق الفارين منهم حتّى باب الحصن، فضربه عند الحصن رجل من اليهود فطاح ترسُه من يده فتناول عليه السلام باباً كان على الحصن وانتزعه من مكانه، فترّس به عن نفسه فلم يزل ذلك البابُ في يده وهو يقاتل حتّى فتح اللّه على يديه ثم ألقاه من يده حين فرغ، وقد حاول ثمانية من أبطال الإسلام ومنهم أبو رافع مولى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن

ص:455


1- . يروي ابن هشام في سيرته أشعار مرحب بصورة أُخرى. لاحظ: ج 796/3.
2- . بحار الأنوار: 18/21؛ أعيان الشيعة: 551/1؛ ينابيع المودة: 155/1.

يقلبوا ذلك الباب أو يحرّكوه من مكانه فلم يقدروا على ذلك(1).

وهكذا فتحت القلعة الّتي عجز عن فتحها المسلمون عشرة أيام، في مدة قصيرة على يد بطل الإسلام الأوّل «علي بن أبي طالب» عليه السلام.

ويقول اليعقوبي في تاريخه:... واقتلع (علي عليه السلام) باب الحصن، وكان من حجارة طوله أربعة أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع(2).

ويقول الشيخ المفيد في إرشاده بسند خاصّ عن أميرالمؤمنين قصّة قلعه ذلك الباب: «لمّا عالجتُ باب خيبر جعلته مجنّاً لي وقاتلت القوم، فلمّا أخزاهمُ اللّه وضعتُ الباب على حصنهم طريقاً، ثم رميتُ به في خندقهم، فقال له رجل: لقد حملت منه ثقلاً! فقال عليه السلام: «ما كان إلّامثل جُنّتي الّتي في يدي في غير ذلك المقام»(3).

وقد نقل المؤرّخون قضايا عجيبة حول قلع باب خيبر هذا وخصوصياته ومواصفاته، وعن بطولات علي عليه السلام في فتح هذا الحصن، وجميعها لا تتماشى ولا تتساير مع القدرة البشرية المتعارفة، ولا يمكن أن تصدر منها.

ويقول الإمام علي عليه السلام نفسه في هذا الصدد ما يرفع كلّ شك وإبهام قد يعترض المرء في هذا المجال:

«ما قَلعْتُها بِقوّة بَشريّة، ولكنْ قَلعتها بقوة إلهية، ونفس بلقاء ربِّها مطمئنّة رضيّة»(4).

ص:456


1- . لاحظ: مجمع البيان: 201/9-202؛ الطبقات الكبرى: 111/2؛ تاريخ الطبري: 300/2-301؛ الكامل في التاريخ: 219/2-.220
2- . تاريخ اليعقوبي: 56/2، دار صادر، بيروت.
3- . الإرشاد: 128/1.
4- . بحار الأنوار: 40/21.
تحريف الحقائق

لو أنّنا أردنا أن نلتزم بحدود الحقّ والإنصاف لوجب أن نقول: إنّ «ابن هشام» في سيرته و «الطبري» في تاريخه ذكرا قصّة مبارزة عليّ عليه السلام في يوم خيبر بصورة مفصّلة، نقلا تفاصيلها بصورة دقيقة، ولكنّهما ذكرا في نهاية بحثهما التاريخي قصّة خيالية لا أساس لها وهي أنّ مرحباً قُتِل على يدي «محمّد بن مسلَمة» وقالوا: ويرى البعض أنّ مرحباً اليهودي قتله محمَّد بن مسلمة انتقاماً لأخيه الّذي قتل عند فتح حصن «ناعم» على أيدي اليهود، فقد كلّفه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقتال مرحب فبرز إليه فقتله.(1)

إنّ هذا الاحتمال من الوَهن والبطلان بحيث لا يقاوم التاريخ الإسلامي المسلّم والمتواتر، هذا مضافاً إلى أنّ هذه الأُسطورة التاريخية تعاني من إشكالات، ومؤاخذات نذكرها للقارئ الكريم:

1. أنّ محمَّد بن مسلمة لم يكن بذلك الرجل الشجاع، والبطل الصنديد الّذي تؤهّله شجاعته لأن يكن فاتح خيبر وقاتل بطلها الأكبر، فإنّ التاريخ لا يذكر عنه نموذجاً بارزاً من بطولته وشجاعته، إنّما كلّف في السنة الثالثة من جانب النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقط بأن يغتال «كعب بن الأشرف» الّذي حرّك المشركين وألّبهم ضد الإسلام والمسلمين بعد معركة بدر الكبرى، وقد بقي ثلاثة أيام بلياليها لا يطعم شيئاً خوفاً، فأنكر عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خوفه و سأله عن سبب ذلك فقال: يا رسول اللّه قلت لك قولاً لا أدري هل أفينّ به أم لا؟ فلمّا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منه ذلك أرسل معه أربعة رجال آخرين ليعينوه في هذه المهمّة، ويتخلّصوا من «كعب» الّذي كان

ص:457


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 299/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 797/3.

يريد إعادة القتال بين المسلمين والمشركين.

فخرجوا إليه في منتصف الليل وقتلوا عدوّ اللّه كعباً وفق خطّة خاصّة ولكن «محمّد بن مسلمة» جَرَحَ أحد رفاقه من شدة الخوف والوحشة الّتي أصابته(1)، ولا شكّ أنّ صاحب مثل هذه النفسية لا يمكنه أن يبارز صناديد «خيبر» المعروفين وينازلهم.

2. أنّ فاتح «خيبر» لم يقاتل مرحباً ويقتله وحده، بل قاتل بعد مصرع مرحب من كانوا قد جاءُوا معه إلى ساحة القتال من شجعان اليهود فلاحق الفارّين، ونازل الذين بقوا ولم يفرّوا.

وإليك أسماء مَن بقوا في ساحة القتال وقاتلوا علياً عليه السلام بعد قتله مرحباً:

1. داود بن قابوس.

2. ربيع ابن أبي الحقيق.

3. أبو البائت.

4. مرّة بن مروان.

5. ياسر الخيبري.

6. ضحيج الخيبري.

وكلّ هؤلاء كانوا من صناديد اليهود وأبطالهم، وكانوا يقاتلون خارج حصن خيبر ويمنعون من أية محاولة لفتح قلاع اليهود في هذه الوقعة.

إنّ هؤلاء الستة قتلوا على يد علي بن أبي طالب عليه السلام وهم يرتجزون في

ص:458


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 567/2.

ساحة القتال ويطلبون المبارز والمناجز(1).

فمَن يكون والحال هذه فاتح «خيبر» وقاتل مرحب؟

إذا كان «محمَّد بن مسلمة» فإنّه لا يمكن أن يعود بعد قتل مرحب إلى معسكر المسلمين ويتجاهل أُولئك الأبطال خلف مرحب بل لابد أن يقاتلهم، في حين اتّفقت كلّ السير والتواريخ على أنّ هؤلاء قتلوا جميعاً على يد علي بن أبي طالب عليه السلام.

3. أنّ هذه الأُسطورة التاريخية تتنافى مع الحديث المنقول عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال في حقّ علي عليه السلام: «يفتح اللّه على يديه» مع العلم بأنّ المانع الأكبر من فتح خيبر كان هو مرحب الّذي أجبرت شجاعته الأميرين السابقين على الفرار، فإذا كان قاتل مرحب هو «محمَّد بن مسلمة» لزم أن يقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جملته هذه في حقّ «محمّد بن مسلمة» لا في حقّ «علي» عليه السلام الّذي أعطاه الراية بعد أن قال تلك الجملة: «يفتح اللّه على يديه».

يقول الحلبي كاتب السيرة المعروف: قيل: القاتل له (أي لمرحب) عليّ (كرّم اللّه وجهه) وبه جزم مسلم رحمه الله في صحيحه. قال بعضهم: والأخبار متواترة به، وقال ابن الأثير: الصحيح الّذي عليه أهل السير والحديث أنّ عليّاً قاتله (كرم اللّه وجهه)...(2).

ولقد وقع الطبري في تاريخه، وابن هشام في سيرته في شيء من الاضطراب والفوضى وكتبا قصّة هزيمة ورجوع الرجلين اللّذين كُلّفا قبل علي عليه السلام بفتح قلاع اليهود بصورة لا تتّفق مع مفهوم الجملة الّتي قالها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في

ص:459


1- . ناسخ التواريخ: 282/2-286.
2- . السيرة الحلبية: 738/2. وراجع: زاد المعاد: 134/2 و 135.

حقّ علي عليه السلام.

فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حقّه: «ليس بفرّار»(1) يعني أنّ الّذي سوف يعطيه الراية لا يفرّ أبداً، ومفهوم هذه الجملة هو أنّ عليّاً عليه السلام لا يفرّ و لا يجبن أمام العدوّ كما فرّ القائدان السابقان، وهذا يعني أنّ القائدين السابقين فرّا أمام العدوّ، وأخليا الساحة، في حين أنّ الكاتبين المذكورين لا يذكران مسألة فرار القائدين المذكورين، وإنّما يكتبان رجوعهما كما لو أنّهما قد أدّيا وظيفتهما القتالية والعسكرية على الوجه الكامل، ولكنّهما لم يوفقا للفتح(2).

ثلاث نقاط مشرقة في حياة علي عليه السلام

ونختم هذا البحث بذكر ثلاث فضائل لفاتح خيبر ذكرها أحد خصومه لها ارتباط بموقفه عليه السلام في خيبر:

أمر معاوية سعد بن أبي وقاص يوماً سبّه فامتنع، فقال: ما منعك أن تسبَّ أبا التراب؟

فقال: أمّا ما ذكرتُ ثلاثاً قالهنَّ له رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلن أسبَّه لأن تكون لي واحدة منهنَّ أحبُّ إليَّ من حُمرِ النعم.

ثم أخذ سعد في عدّ تلك المناقب فقال:

1. سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه(3) فقال له عليٌ: يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء والصبيان؟

ص:460


1- . المغازي: 653/2.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 797/3.
3- . وهي إشارة إلى واقعة تبوك.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلّاأنّه لا نبوّة بعدي».

2. وسمعته يقول يوم خيبر:

«لأُعطين الراية رجلاً يحبُّ اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله». قال: فتطاولنا لها فقال: «أُدعوا لي علياً». فأُتي به أرمد فبصق في عينه، ودفع الراية إليه ففتح اللّه عليه(1).

3. ولما نزلت هذه الآية: «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ...» (2) دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال:

«اللهم هؤلاء أهلي»(3)(4).

عوامل الانتصار
اشارة

فتحت حصون «خيبر»، واستسلم اليهودُ للمسلمين بشروط خاصّة، ولكن يجب أن نرى ماهي العوامل الّتي أدّت إلى هذا الانتصار، فهذه هي في الحقيقة النقاط الهامّة في هذا القسم.

إنّ انتصار المسلمين الساحق في هذه الغزوة يعودُ إلى عوامل يمكن الإشارة إليها على نحو الإجمال ثم شرحها بالتفصيل في ما بعد.

ص:461


1- . وهي إشارة إلى واقعة خيبر.
2- . آل عمران: 61.
3- . وهي إشارة إلى قصّة مباهلة النبي نصارى نجران.
4- . صحيح مسلم: 121/7، باب من فضائل علي عليه السلام.

1، التخطيط العسكري والتكتيك الحربي الدقيق.

2. تحصيل المعلومات ومعرفة أسرار العدو الداخلية.

3. تفاني الإمام علي بن أبي طالب، وبطولته النادرة. وهنا نحن ندرس هذه الأُمور الثلاثة على وجه التفصيل:

1. التخطيط والتكتيك العسكري الدقيق

لقد هبط الجيش الإسلامي في منطقة قطع بها المسلمون ارتباط اليهود بأصدقائهم القدامى (قبائل غطفان).

وقد كان بين قبائل غطفان فرسان كثيرون، ولو استطاعوا أن يعينوا اليهود في هذه الموقعة لما أمكن فتح حصون خيبر.

فإنّ «غطفان» لمّا سمعت بمسير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى خيبر خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، ولكنّهم ما أن سمعوا الشائعة الّتي مفادها أنّ أصحاب محمَّد قد قصدوهم من طريق آخر ظنّوا أنّهم سيهاجمون أموالهم وأهليهم فرجعوا من منتصف الطريق على أعقابهم، وأقاموا في أهليهم وأموالهم وخلّوا بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبين «خيبر».

يقول المؤرّخون: إنّ هذه الشائعة كانت نتيجة نداء غيبيّ سمعه رجالُ غطفان فظنّوا أنّ المسلمين داهموا أهليهم(1)، ولكنّه ليس من المستبعد أن تكون هذه الشائعة من فعل المسلمين المتسترين من قبائل غطفان، والذين أُمروا بأن يتظاهروا بالكفر، ويبقوا في قبائلهم حتّى يعينوا إخوانهم المسلمين في اللحظات المناسبة.

ص:462


1- . لاحظ: المغازي: 651/2-653.

فخطّطوا لهذه الموقعة بمهارة كبيرة وكانوا في ذلك ناجحين جدّاً إلى درجة أنّه تسبب في أن تعدل إمدادات غطفان العسكرية لليهود من مواصلة مسيرها إلى «خيبر»، والعودة إلى أهليهم وترك اليهود وشأنهم.

وقد سبق لهذا نظيرٌ في معركة «الأحزاب» - كما مرّ عليك - يوم امتنعت قبائل غطفان عن نصرة اليهود بسبب شائعة بثّها بينهم رجلٌ من المسلمين من بني غطفان يُدعى «نعيم بن مسعود»، وتفرّق على أثره جماعة الأحزاب، وانفرط عقدهم.

2. تحصيلُ المعلومات حول العدوّ

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما أسلفنا مراراً يُولي تحصيل المعلومات ومعرفة أسرار العدو، أهميّة كبيرة.

ولهذا بعث قبل محاصرة «خيبر» طليعة من المسلمين وأمّر عليهم «عبّاد بن بشر» ووجّههم إلى «خيبر»، فالتقوا بيهودي قرب حصون «خيبر»، و بعد التحقيق معه تبيّن أنّه عينٌ لليهود يتجسّس لهمُ الأخبار، فهدّدوه بالقتل، فقال: أفتؤمنني على أن أُصدقَك؟ فأمّنه عبّاد.

فقال اليهوديُ: القومُ مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود... فأتى به عبّاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره الخبر.(1)

ثم قال: خرجتُ من حصن «النطاة» من عند قوم ليس لهم نظامٌ تركتهم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فأين يذهبون؟ قال: إلى أذلّ ممّا كانوا فيه، إلى «الشق» وقد رُعبوا منّك حتّى أنَّ أفئدتهم لتخفق، وهذا

ص:463


1- . المغازي: 640/2-641.

حصن اليهود فيه السلاح والطعام والودك، وفيه آلة حصونهم التي كانوا يقاتلون بها بعضهم بعضاً، قد غيبوا ذلك في بيت من حصونهم تحت الأرض. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: وما هو؟ قال: منجنيق مفكّكة ودبابتان وسلاحٌ من دروع وبيضٌ وسيوف، فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إن شاء اللّه، قال اليهودي: إن شاء اللّه أوقفُك عليه فإنّه لا يعرفه أحد من اليهود غيري... ثمّ انصب المنجنيق على حصن الشق وتدخل الرجال تحت الدّبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من يومك(1).

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم وإن لم يستخدم هذه الأدوات التخريبية إلّاأن المعلومات الّتي وقف عليها من ذلك اليهودي الأسير كانت مهمة؛ لأنّها أوضحت نقطة الهجوم غداً، وعرف النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم أن التغلّب على حصن «النطاة» لايحتاج إلى قوة كبيرة، وأنّه لابدّ من رعاية المزيد من الحيطة والحذر عند فتح حصن «الشق».

نموذجٌ آخر: عند فتح إحدى القلاع أتى يهوديٌ إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد ثلاثة أيام مضت على محاصرتها وقال - ولعلّه لتخليص نفسه - إنّك لو أقمت شهراً ما بالوا، لهم دبول (جدولٌ) تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربونَ بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، وإن قطعت مشربهم عليهم ضجّهم.(2)

وفي رواية أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يوافق على قطع الماء عن العدو.

وفي أُخرى؛ قطع عليهم مشاربهم موقتاً فلم يطيقوا المقام على العطش(3).

ص:464


1- . المغازي: 647/2-648؛ إمتاع الأسماع: 232/9.
2- . المغازي: 666/2-667.
3- . ناسخ التواريخ: 299/2.
3. تفاني امير المؤمنين عليه السلام

ولقد ذكرنا تفاني علي بن أبي طالب، وبطولته في هذه الموقعة بصورة مجملة، وها نحن ننقل عبارة قالها هو عليه السلام عن هذه المسألة:

وَرَدنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح، وهم في أمنع دار وأكثر عدد، كلّ ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحدٌ إلّاقتلوه حتّى احمرّت الحدق، و دعيت إلى النزال، وأهمّت كلّ امرئ نفسه، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكلٌّ يقول: يا أبا الحسن انهض.

فأنهضني رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى دارهم فلم يبرز إليَّ منهم أحدٌ إلّاقتلتُه، ولا يثبتُ لي فارس إلّاطحنتُه، ثم شددتُ عليهم شدّة الليث على فريسته حتّى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدّداً عليهم فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتّى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتلُ من يظهر فيها من رجالها، وأسبي من أجدُ من نسائها حتّى افتتحتها وحدي، ولم يكن لي فيها معاونٌ إلّااللّه وحده(1).

الرحمة في ساحة القتال

عندما افتتح حصن «القموص» سُبيت «صفيّة بنت حيي بن أخطب» وابنة عمّها، فمرّ بهما «بلال» على القتلى فصاحت ابنة عمّها صياحاً شديداً جزعة ممّا رأت، فكره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما صنع بلال وقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«أذَهَبَت مِنّكَ الرحمة؟ تمرّ بجارية حديثة السنّ على القتلى؟»

ص:465


1- . الخصال: 369، باب السبعة.

فقال بلال: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما ظننتُ أنّك تكره ذلك، وأحببت أن ترى مصارع قومها(1).

ولم يكتف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذا القدر من تطييب خاطر «صفيّة» بل احترمها، وعيّن لها مكاناً خاصاً للاستراحة في المعسكر، واختارها زوجة لنفسه، وبهذا الطريق أزال آثار ذلك الصنيع السيّئ الّذي قام به بلال.

لقد تركت أخلاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعامله الإنساني الرفيع مع «صفية» أثراً حسناً في نفسها، فقد صارت في ما بعد من أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم الوفيّات المخلصات، وقد حزنت عند وفاته، وبكت له أكثر من بقية أزواجه(2).

مصرع كنانة بن الربيع

منذ أن أُجلي «بنو النضير» عن المدينة وسكنوا «خيبر» أحدثوا صُندوقاً لجمع الأموال لإدارة شؤونهم العامّة، ولسد نفقات الحروب، ولإعطاء دية كلّ مَن كان يُقتَل من بني النضير.

فبلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ هذا الكنز وهذه الأموال قد أُودعت عند «كنانة بن الربيع» زوج «صفية»، فلمّا افتتح صلى الله عليه و آله و سلم خيبر طلب ابن الربيع وسأله عن كنز اليهود، فأنكر ذلك فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحبسه، ثم عرف بعد التحقيق من اليهود، بمكان ذلك الكنز، وقد كان بخربة، إذ قال له يهودي: إنّي رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كلّ غداة، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك، أأقتلك؟ قال: نعم، فأمر رسول اللّه بالخربة فحفرت فاُخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي فأبى

ص:466


1- . المغازي: 673/2؛ إمتاع الأسماع: 316/1.
2- . لاحظ: سير أعلام النبلاء: 231/2 برقم 26؛ الإصابة: 210/8 برقم 11407.

أن يؤديه...، ثمّ دفعه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى محمَّد بن مسلمة فضرب عنقه قصاصاً لأخيه الّذي قُتل في وقعة خيبر «محمود بن مسلمَة» والّذي قتله اليهود بإلقاء رحى من حجر من فوق حصونهم على رأسه.(1) وإنّما قتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كنانة بضرب عنقه، لتواطؤه ضدّ الإسلام، وكتمانه مثل هذا الأمر، وتأديباً لغيره من اليهود حتّى يتورّعوا عن حبك المؤامرات ضد رسول الإسلام وضدّ أصحابه، وضدّ الحكومة الإسلامية، وكان «كنانة» آخر مَن قُتل من يهود خيبر.

تقسيم غنائم الحرب

بعد افتتاح حصون «خيبر»، وتجريد العدو من كلّ أسلحته، وجمع الغنائم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن تجمع الغنائم كلّها في مكان واحد، ثم أمر صلى الله عليه و آله و سلم رجلاً بأن ينادي في الناس:

«ردُّوا الخيط والمخيط، فإنّ الغُلولَ عارٌ وشنارٌ ونارٌ يوم القيامة»(2).

ولقد شدّد قادة الإسلام وأئمته الحقيقيّون على أهميّة الأمانة تشديداً بالغاً حتّى أنّهم اعتبروا ردَّ الأمانة - مهما صغرت ودقّت - من علائم الإيمان، والخيانة وعدم ردّها من علائم النفاق.

من هنا عندما عثر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في رحل مُسلم من المقاتلين شيئاً من أموال الغنيمة لم يردَّها إلى بيت المال، لم يصلّ على جنازة ذلك الرجل عندما استشهد، وإليك تفصيل هذه الحادثة.

لمّا انصرف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه من خيبر ومع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غلام

ص:467


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 799/3-800؛ بحار الأنوار: 33/21.
2- . مجمع البيان: 433/2؛ المغازي: 681/2، وفيه: «أدوا» بدل «ردّوا».

له، يقوم له بشؤونه، وفيما كان ذلك يضع رَحلَ النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذ أتاه سهمٌ لا يُعلمُ راميه فأصابه فقتله، فقال المسلمون: هنيئاً له الجنة.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«والَّذي نَفسُ محمَّد بيده إنَّ شملته(1) الآن لتحترق عليه في النار، كان قد غلَّها من فيء المسلمين يوم خيبر»!!

فسمع رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذا الكلام فأتاه وقال: يا رسول اللّه، أصبت شراكين لنعلين لي فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «يُقدُّ لك مثلهما من النار»(2).

وهذه القصّة تفضح أيضاً دسائس بعض المستشرقين، لأنّهم كانوا يصفون حروب الإسلام ومعاركه العادلة بأنّها كانت من أجل الإغارة على أموال الناس ومصادرتها كما يفعل قُطّاع الطرق، متجاهلين عمداً وكيداً الأهداف الإنسانية والإلهية العليا لهذه المعارك والغزوات، والحال أنّ مثل هذ الانضباطية والنظم والورع ممّا لا يمكن تصوّره في قوم همّهم الإغارة والنهب والسلب.

إنّ قائد شعب أو قوم هذا هو همّهم وهذه هي همّتهم لا يمكن أبداً أن يعتبر ردّ الأمانة من واجبات الدين ومن علائم الإيمان، كما لا يمكنه أن يربّي أتباعه وأصحابه بمثل هذه التربية الرفيعة، بحيث يجعله يجتنب عن سرقة صغيرة جداً مثل غلّ شراكي نعلين لاقيمة لهما.

قافلة من أرض الذكريات

قبل أن يتوجّه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمسلمين إلى «خيبر» بعث «عمرو بن أُمية»

ص:468


1- . الشملة كساء غليظ يُلتَحفُ به.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 802/3؛ تاريخ الطبري: 304/2؛ الكامل في التاريخ: 222/2.

إلى البلاط الحبشي لغرض إيصال رسالته إلى ملك الحبشة النجاشيّ، وليطلب منه أن يهيّئ المقدّمات اللازمة لترحيل المسلمين المهاجرين من الحبشة إلى المدينة.

فهيّأ النجاشي سفينتين لأُولئك المهاجرين بعد أن جهّزهم بجهاز حسن وأمر لهم بكسوة، فسارت بهم حتّى وصلت إلى السواحل القريبة من المدينة.

ولمّا علم المسلمون بمسير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى «خيبر» توجّهوا من فورهم إلى «خيبر» فقدموا مع «جعفر بن أبي طالب» على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم «خيبر» بعد أن افتتحت جميع حصون اليهود وقلاعهم.

فلمّا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جعفراً مشى في استقباله (12) خطوة ثم قبَّل ما بين عينيه والتزمهُ وقال:

«ما أدري بأيّهما أنا أسرُّ بفتح خيبر أُمّ بقدوم جعفر؟».(1)

وفي رواية أُخرى قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا أدري بأيّهما أنا أشدُّ سروراً، بقدومك يا جعفر أُمّ بفتح اللّه على أخيك خيبر».(2)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لجعفر:

«يا جعفر ألا أمنحك؟ ألا أُعطيك، ألا أحبوك؟».

فظنّ الناس أنّه يعطيه ذهباً أو فضة، فتشوّف - أي فتطلّع - الناس لذلك.

فقال له:

إنّي أُعطيك شيئاً إن أنت صنعته في كلّ يوم كان خيراً لك من الدنيا وما فيها».

ص:469


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 802/3.
2- . الخصال: 484؛ بحار الأنوار: 24/21 برقم 19.

ثم علّمه صلى الله عليه و آله و سلم الصلاة المعروفة بصلاة جعفر الطيار(1).

حجم الخسائر وعدد القتلى

لم يتجاوز عدد قتلى المسلمين في هذه الغزوة 20 شخصاً ولكن قتل من اليهود أكثر من هذا بكثير، وقد سجل التاريخ أسماء 93 رجلاً منهم(2).

العفو بعد الانتصار

المؤمنون باللّه وأصحاب المروءات من البشر يعاملون العدو المنهزم المقهور عند الغلبة عليه والظفر به باللطف والحب، ويعفون عنه ويتناسون روح الانتقام، أجل إنّهم يشملون العدو منذ استسلامه بعطفهم وحنانهم وتلك هي حقيقة أثبتتها وقائع التاريخ الحية.

وكذلك فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عندما تغلّب على يهود خيبر فقد عاملهم بعد الانتصار معاملة حسنة، وشملهم بعفوه، ولطفه رغم كلّ ما ارتكبوه في حقّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ظلم وجناية وتأليب للعرب الوثنيّين ضدّ الإسلام وإشعال حروب كادت أن تودي بالحكومة الإسلامية وتستأصل المسلمين، وتقضي على جهود رسول الإسلام.

فقد قبل بطلب اليهود بأن يسكّنهم في خيبر كما كانوا، وأن يترك أراضيهم وبساتينهم بأيديهم، على أن يكون له نصف محاصيلها سنوياً.

بل إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم - كما يروي ابن هشام - هو الّذي اقترح هذا الأمر على

ص:470


1- . فروع الكافي: 465/3، الحديث 1، باب صلاة التسبيح؛ بحار الأنوار: 24/21.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 32/21.

اليهود، وترك لهم حرية التصرف في مزارعهم وأراضيهم ليغرسوا أو يزرعوا ما يريدون من الشجر(1).

لقد كان في مقدور النبي صلى الله عليه و آله و سلم، كأيّ فاتح آخر، أن يريق دمهم جميعاً، أو أن يجليهم برمّتهم من أراضيهم، أو يجبرهم على اعتناق الإسلام، ولكنّه - خلافاً لتصوّر زمرة مغرضة من المستشرقين، وطلائع الاستعمار الثقافي الذين يتصوّرون ويزعمون بأنّ الإسلام دين القهر والقوة، وأنّ المسلمين أجبروا الأُمم والأقوام المغلوبة على ترك عقائدها، واعتناق الإسلام - لم يفعل مثل هذا العمل قط، بل تركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم، والبقاء على ما كانوا يعتقدونه من أُصول دينهم وفروعه.

ولم يحارب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه يهود «خيبر» إلّالأنّ «خيبر» قد تحوّلت إلى بؤرة خطرة للمؤامرة، والكيد بالإسلام والمسلمين، فقد كانوا يمدّون المشركين بكلّ ما يريدون للقضاء على الحكومة الإسلامية الحديثة التأسيس، ولهذا اضطرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مقاتلتهم، وتجريدهم من أسلحتهم، حتّى يعيشوا تحت ظلّ الحكومة الإسلامية بمنتهى الحرية، ويشتغلوا بمشاغلهم في الزراعة، ويقيموا شعائرهم الدينية من دون أن يجدوا فرصة للمشاغبة والتآمر ضدّ رسالة التوحيد الكبرى، إذ كانوا يسبّبون مشاكل كبيرة للمسلمين - في غير هذه الصورة - ويمنعون من تقدّم الإسلام وانتشاره.

وأمّا الجزية(2) فقد كانت لقاء دفاع الحكومة الإسلامية عنهم، وحمايتهم من

ص:471


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 816/3.
2- . الجزية ما يؤخذ من أهل الذمّة.

الأعداء، وتوفير الأمن لهم، إذ كانت حماية أموالهم وأنفسهم من وظائف المسلمين.

ثم إنّ المحاسبة الدقيقة تقودنا إلى أنّ ما كان يدفعه المسلمون إلى الحكومة الإسلاميّة من الضرائب كان أكثر بكثير ممّا كان يدفعه اليهود، والنصارى إلى الحكومة الإسلامية بعنوان الجزية.

فقد كان يتوجّب على كلّ مسلم أن يدفع إلى الحكومة الإسلامية الخمس والزكاة وربما توجّب عليه أن يدفع شيئاً من أصل ماله لسدّ نفقات واحتياجات الحكومة الإسلامية، بينما كان اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون في ظلّ الحكومة الإسلامية في أمن وأمان ويتمتّعون بجميع الامتيازات والحقوق الاجتماعية والفردية يدفعون إلى الحكومة الإسلامية الجزية بدل ما كان يدفعه المسلمون، فالجزية شيء والأتاوة شيء آخر، على خلاف ما يروّجه بعض الكتّاب المغرضين.

ولقد كان عامل الجباية الّذي كان يزور خيبر بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لتقدير حجم المحاصيل فيها، ثم تنصيفها رجلاً عادلاً ورعاً إلى درجة أنّ اليهود أنفسهم أُعجبوا بعدله، واعترفوا بإنصافه، هو «عبداللّه بن رواحة» الّذي استشهد فيما بعد، في موقعة «مؤتة».

فقد كان «ابن رواحة» يخمّن نصيب المسلمين من محاصيل خيبر، وربما تصوّر اليهود أنّه أخطأ في التخمين والخرص، وخمّن أكثر ممّا هو الحقّ فقالوا له:

تعدّيت علينا!

فكان عبدُاللّه يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا.

فتقول اليهود - معجبة بهذا الإنصاف العظيم والعدل الكبير الّذي كان يتحلّى

ص:472

به مخرّص الحكومة الإسلامية -: بهذا قامت السماوات والأرض(1).

ولقد حصل المسلمون أثناء جمع غنائم «خيبر» على قطعة من التوراة، فطلبت اليهود من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يعيدها إليهم، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مسؤول بيت المال بإعادتها إليهم(2).

وهذا يكشف عن إحترام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للشرائع الأُخرى.

سلوك اليهود المتعجرف

في قبال كلّ هذه الألطاف لم تكف اليهود عن خيانتها وكيدها، بل ظلّت تخطّط - في الخفاء - للإيقاع برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، وإلحاق الأذى بهم.

ولنقف فيما يأتي على نموذجين من هذا الأمر:

1. لمّا اطمأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم (قرّرت جماعة من اليهود في الخفاء أن تقضي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدس سمّ إليه). فأهدت له «زينب بنت الحارث» زوجة «سلام بن مشكم اليهودي» شاة مصليّة، وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السمّ، ثم سمّت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلمّا وضعتها بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، تناول الذراع، فلاك منها مضغة، فلم يسغها، ومعه «بشر بن البراء بن معرور» قد أخذ منها كما أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأمّا بشر فأساغها، وأمّا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلفظها، ثمّ قال: إنّ هذا العظم ليخبرني أنّه مسموم، ثمّ دعا بها، فاعترفت. فقال لها: ما حملك على ذلك؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلتُ: إن كانَ ملكاً استرحت منه، وإن

ص:473


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 814/3.
2- . لاحظ: المغازي: 680/2؛ إمتاع الأسماع: 318/1.

كان نبيّاً فسيُخبر.

فتجاوز عنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومات بشر من أكلته التي أكل.(1)

لاشكّ لو أنّ مثل هذه الحادثة حدثت لغير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من القادة والزعماء لصبغوا الأرض بدماء مَن ظنّوا أنّه قصد قتلهم، أو ملأوا السجون بهم وحبسوهم، أعواماً مديدة أو أخضعوهم لأشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي كما يحدِّثنا بذلك التاريخ القديم والحديث.

إنّ هذه المؤامرة الدنيئة الّتي قامت بها امرأة من اليهود جعلت الكثير من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يسيئون الظن بصفية اليهودية الّتي أصبحت في عداد أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد باتوا يتصوّرون أنّها ربما أقدمت في ليلة من الليالي على اغتيال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولهذا عندما أعرس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بها بخيبر أو في أثناء الطريق بات «أبو أيّوب الأنصاري» خالد بن زيد أخو بني النجار متوشحاً سيفه، يحرس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويطيف بالقبة حتّى أصبح رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا رأى مكانه قال: مالكَ يا أبا أيوب؟

قال: يا رسول اللّه خِفتُ عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها

ص:474


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 801/3؛ ولاحظ: المغازي: 677/2 و 678؛ وإمتاع الأسماع: 349/13. هذا والمعروف أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال في مرضه الّذي مات فيه: إن هذا لأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة الّتي أكلتُ بخيبر. سيرة ابن هشام: 801/3؛ إمتاع الأسماع: 437/14. فإنّ النبيَّ، وان كان لفظ المضغة إلّاأنّ بقايا السمّ اختلط ببزاقه الشريف، وأثّر في جسمه المبارك حتّى أودى بحياته المقدّسة بعد حين.

وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتُها عليك. فشكرهُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ودعا له بخير(1).

2. والنموذج الثاني من جفاء اليهود، وكيدهم حتّى بعد عفو النبي عنهم، ولطفه بهم أنّ «عبداللّه بن سهيل» الّذي كُلِّف من جانب النبي صلى الله عليه و آله و سلم في إحدى السنين بخرص محاصيل خيبر وتقديرها وحمل نصيب المسلمين منها إلى المدينة قتلته جماعة مجهولة من اليهود أثناء قيامه بواجبه في خيبر وقد كسروا عنقه وألقوه في بئر، ثم قدموا (جماعة من زعماء اليهود المدينة ودخلوا) على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فذكروا له شأنه، فتقدّم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخوه «عبدالرحمن» ومعه إبنا عمّه حويصة ومحيصة ابنا مسعود، وكان عبدالرحمن من أحدثهم سناً وكان صاحب الدّم، وكان ذا قدم في القوم، فلمّا تكلّم قبل ابني عمّه، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: الكُبْر الكُبْر (أي قدّموا الأكبر للكلام إرشاداً إلى الأدب في تقديم الأسنّ وهو خلق يدعو إليه الإسلام). فسكت فتكلّم حويصة ومحيصة، ثم تكلّم هو بعد، فذكروا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قتل صاحبهم وطلبوا القصاص فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أتسمُّون قاتلكم، ثم تحلفون عليه خمسين يميناً فنسلّمه إليكم؟».

قالوا: يا رسول اللّه ما كنّا لنحلف على ما لا نعلم.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أفيَحلفونَ (أي يحلف اليهود) باللّه خمسين يميناً ما قتلوهُ، ولا يعلمون له قاتلاً، ثم يبرأون من دمه؟»

قالوا: يا رسول اللّه ما كنّا لنقبل أيمان اليهود، ما فيهم من الكفر أعظمُ من أن يحلفوا على إثم.

ص:475


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 802/3؛ السيرة الحلبية: 749/2.

فكتب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى يهود خيبر حين كلّمته الأنصار: إنّه قد وُجدَ قتيل بين أبياتكم فدوه (أي أعطوا ديته).

فكتبوا إليه يحلفون باللّه ما قتلوه، ولا يعلمون له قاتلاً.

فوداه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من عنده مائة ناقة(1). وهكذا أثبت النبي صلى الله عليه و آله و سلم لليهود مرة أُخرى بأنّه ليس داعية حرب ولا طالب قتال وسفك دماء، ولو كان كغيره من الزعماء والسياسيين لاتّخذ من قصّة مقتل «عبد اللّه» ذريعة للقضاء على حياة تلك الزمرة المعتدية، المشاغبة المخلَّة بالأَمن(2).

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما يصرّح بذلك القرآن الكريم ويصفه: نبيُ الرحمة، فهو لا يحتكم إلى السيف ما لم يبلغ الأمر مداه.

حيلة مُجازة

كان في خيبر تاجر يُدعى الحجّاج بن علاط السلمي له تجارة مع أهل مكّة، وكان ممّن حضر يوم خيبر، وشاهد لطف النبي ورحمته فأسلم طائعاً راغباً.

ولمّا فرغ المسلمون من أمر «خيبر» أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا رسول اللّه

ص:476


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 815/3-816.
2- . لم تنحصر تعديات اليهود وتجاوزاتهم على ما ذكرناه فلطالما خطّطوا ودبّروا الحيل لإلحاق الأذى والضرر بالمسلمين، ومن جملة ذلك حادث «عبد اللّه بن عمر» الّذي ذهب إلى خيبر في عهد الخليفة الثاني لعقد اتفاقية مع أهلها فاعتدوا عليه بالضرب، فلمّا عرف بذلك عمر رأى أن يجليهم من خيبر لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان» فقال لصحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم: مَن كان له مال بخيبر فليلحق به فإنّي مخرج يهود، ثم أجلاهم من خيبر جزاء كيدهم وتآمرهم المستمر. (لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 816/3-817).

إنّ لي بمكة مالاً عند صاحبتي أُمّ شيبة بنت أبي طلحة - وكانت عنده، له منها معرض ابن الحجاج - ومال متفرّق في تجّار مكّة فأذن لي يا رسول اللّه، فأذن له رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك ليستنقذ أمواله من المشركين وغيرهم في مكّة.

فقدم مكّة، فرآه رجالُ قريش اجتمعوا حوله وأخذوا يسألونه عن أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يكونوا علموا بإسلامه فأجابهم قائلاً: لقد هُزم (محمَّد بخيبر) هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، (وقُتِلَ أصحابُه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط)، وأُسر محمَّد أسراً، وقالت اليهود: لا نقتله حتّى نبعث إلى أهل مكة فيقتلوه بين أظهرهم انتقاماً بمن كان أصاب من رجالهم.

ففرح سادة قريش لهذا الخبر الكاذب فرحاً شديداً، ثم قال الحجّاج لهم:

أعينوني على جمع مالي بمكّة وعلى غرمائي، فإنّي أُريد أن أقدم خيبر، فأُصيب من محمَّد وأصحابه قبل أن يسبقني التجّار إلى ما هنالك. فجمعوا له ماله كأسرع ما يكون.

فلمّا سمع «العباس بن عبدالمطلب» هذا الخبر جاء إلى الحجّاج وقال: يا حجاج ما هذا الخبر الّذي جئت به؟ فأشار الحجّاج إلى العباس بأنّه سيخبره بحقيقة الأمر، ثم التقى العباس خفية وأخبره بأنّه ماكر أهل مكّة، وأنّ النبي ظفر بيهود خيبر، وطلب من العباس قائلاً: احفظ عليّ حديثي يا أبا الفضل، فإنّي أخشى الطلب ثلاثاً، ثم قل ما شئت، قال: أفعل.

فلمّا فرغ من جمع ماله كلّه غادر مكّة بسرعة فائقة. فلمّا مضى على ذلك ثلاثة أيام واطمأنّ العباسُ من نجاة الحجّاج لبس حلّة جميلة، وتعطّر وأخذ عصاه، ثم خرج حتّى أتى الكعبة فطاف بها، فتعجبّت قريشٌ لذلك، وظنّت أنّه فعل ذلك تجلّداً، فقالت للعباس: يا أبا الفضل هذا واللّه التجلّد لحرّ المصيبة، قال: كلا، واللّه

ص:477

الّذي حلفتم به، لقد افتَتح «محمَّد» خيبر، وترك عروساً على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها، فأصبحت له ولأصحابه.

فقالوا: مَن جاءك بهذا الخبر؟

فقال: الّذي جاءكم بما جاءكم به (ويعني الحجّاج الّذي احتال عليهم). ولقد دخل عليكم مُسلماً، فأخذ ماله، وانطلق ليلحق بمحمَّد وأصحابه، فيكون معه.

فغضبت قريش لهذه المكيدة وانزعجت انزعاجاً شديداً، ولكن بعد فوات الأوان، ولم يلبثوا أن جاءهم خبر انتصارات المسلمين الساحقة على أعدائهم(1).

ص:478


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 34/21؛ والسيرة النبوية لابن هشام: 806/3-808.

46 قصّة فَدَك

اشارة

كانت «فَدك» منطقة خصبة، كثيرة الخير، قرب خيبر، وهي تبعد عن المدينة بما يقرب من (140) كيلومتراً، وكانت تعتبر بعد حصون خيبر النقطة الهامة الّتي يعتمد عليها يهود الحجاز(1).

وقد ملأت القيادة الإسلامية - بعد أن هُزم اليهود في خيبر ووادي القرى وتيماء - الفراغ الّذي حصل في شمال المدينة، بالقوة العسكرية الإسلامية.

ولأجل أن تنهي الوجود السياسي اليهودي في هذه المنطقة الّتي كانت بمثابة منبع خطر، وبؤرة شغب ضدَّ الإسلام، بعثت القيادة الإسلامية سفيراً إلى سادة فدك وزعمائها، لمعرفة موقفهم فآثر «يوشع بن نون» الّذي كان يرأس سكان تلك المنطقة، الصلح والسلام على الحرب والقتال، وتعهّد بأن يسلّم كلّ سنة نصف محاصيل فدك إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(2).

وأن يعيش هو وقومه من الآن تحت راية الحكومة الإسلامية، ولا يشاغب

ص:479


1- . راجع كتاب «مراصد الاطّلاع»: 3/1020، مادة «فدك»؛ معجم البلدان للحموي: 238/4، مادة «فدك».
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 813/3؛ إمتاع الأسماع: 325/1؛ فتوح البلدان: 33/1.

ولا يتآمر ضدّ المسلمين، على أن تتعهّد الحكومة الإسلامية - في مقابل هذا المبلغ - بتوفير الأمن في المنطقة.

حكم الأراضي المفتوحة بلا قتال

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الأراضي الّتي يسيطر عليها المسلمون بالحرب والقتال تعود ملكيتها إلى عامّة المسلمين وتكون إدارتها بيد القائد الأعلى للأُمّة.

أمّا الأراضي الّتي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولم يسيطر عليها المسلمون بالقتال فتكون لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والإمام من بعده خالصة، فهو يتصرّف فيها كما يشاء ويرى، فله أن يهبها، وله أن يؤجّرها، ومن جملة ما له أن يفعل فيها هو أن يهبها لأقربائه فيسدوا بها حاجتهم، ويديروا بها معيشتهم(1).

وعلى هذا الأساس وهب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدكاً لابنته الطاهرة فاطمة الزهراء، وقد أُريد من أيّهاب هذه الأرض لها - كما تشهد بذلك القرائن - أمران:

1. أنّ قيادة الأُمّة كانت بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما صرّح النبي بذلك مراراً، ل:

«علي بن أبي طالب»، ومثل هذه المسؤولية الثقيلة تحتاج ولا شكّ إلى ميزانية كبيرة، فكان لعليّ عليه السلام أن يصرف من أموال فدك وعائداتها إذا صارت تحت تصرّفه أكبر قدر ممكن ليحفظ به ذلك المنصب، ويستطيع القيام بمتطلّباته.

وكأنّ جهاز الخلافة - بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - أدرك هذه الحقيقة، ولهذا عمد منذ الأيام الأُولى لوفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى انتزاع فدك من أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:480


1- . وقد طرحت هذه المسألة في الآية 6 و 7 من سورة الحشر وعولجت في الكتب الفقهية في باب الجهاد تحت عنوان «الفيء» و «الأنفال».

2. لقد كان من الواجب أن تعيش ذرية النبي صلى الله عليه و آله و سلم الّتي كان يتمثّل مصداقها الكامل في وحيدة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة الزهراء، وابنيها الحسن والحسين عليهما السلام بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بصورة تليق بمقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وشرفه، ومكانته السامية. ولهذا الهدف وهب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدكاً لابنته فاطمة الزهراء عليها السلام.

يقول المفسّرون والمحدّثون الشيعة وبعض علماء السنّة إنّه لمّا نزل قوله تعالى:

«وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ» .(1)

دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ابنته فاطمة وفوّض إليها فدكاً(2)، وقد روى هذا الأمر أبو سعيد الخدري وهو من كبار صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ويعترف جميع المفسّرين، سنّة وشيعة، بأنّ هذه الآية نزلت في حقّ أقرباء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وابنته الزهراء أظهر وأقوى مصاديق «ذي القربى»، حتّى أنّه كان علي بن الحسين السجّاد في الشام بعد واقعة كربلاء، وسأله بعض الشاميّين عن نسبه، فتلا عليه السلام الآية المذكورة للتعريف بنفسه، وحيث إنّ مفاد الآية والمراد بها كان معلوماً عند المسلمين كافّة قال الشامي متعجّباً: وإنّكم للقرابة الّذي أمر اللّه أن يؤتى حقّه(3).

وخلاصة القول: إنّ ثمة اتّفاقاً بين علماء السنّة والشيعة في أنّ هذه الآية قد نزلت في شأن الزهراء وابنيها، نعم هناك خلاف في أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهب -

ص:481


1- . الإسراء: 26.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 243/6، مؤسسة الأعلمي، بيروت؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 268/16؛ الدر المنثور: 177/4.
3- . الدّر المنثور: 176/4.

ساعة نزول هذه الآية - فدكاً لابنته فاطمة، أم لا؟ ولقد اتّفق علماء الشيعة على الشقّ الأوّل، وذهبوا إلى أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهب فدكاً عند نزول الآية لفاطمة ووافقهم على ذلك جمعٌ من علماء السنّة.

وقد أراد المأمون العباسي (لسبب ما) إعادة فدك إلى بني الزهراء فكتب إلى المحدّث المعروف «عبداللّه بن موسى» وطلب منه أن يرشده في هذا الأمر، فكتب إليه عبداللّه بن موسى الحديث المذكور الّذي يوضح شأن نزول هذه الآية، فأعاد المأمون فدكاً إلى أبناء الزهراء وذريتها(1)، فكتب الخليفة العباسي إلى واليه على المدينة يومذاك بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهب فدكاً لابنته فاطمة الزهراء وهذا أمرٌ مسلّم، ولا خلاف فيه حيث كانت قضية فدك وخطبة الزهراء عليها السلام ممّا يتوارثه العلويون وأحفاد فاطمة عليها السلام.

وقد جَلس المأمون ذات يوم على كرسي خاص للاستماع إلى مظالم الناس وشكاياتهم، فكانت أوّل ما أُعطي له، رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنّه يدافع عن الزهراء، فقرأ المأمون الرسالة وبكى مدة، ثم قال: مَن هو المحامي عن الزهراء؟ فقام شيخٌ كبيرٌ، وقال: أنا هو ذا، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء إلى مجلس حوار ومناظرة بين المأمون وبين ذلك الشيخ، وأخيراً وجد المأمون نفسه مغلوباً محجوجاً، فأمر رئيس ديوانه بأن يكتب كتاب ردّ فدك إلى أبناء الزهراء، فكتب ذلك الكتاب، ووشّحه المأمون بتوقيعه، وفي هذه المناسبة قام دعبل الّذي حضر ذلك المجلس وأنشأ شعراً هذا مطلعه:

أصبح وجهُ الزمان قد ضحكا بردّ مأمون هاشم فدكاً(2)

ص:482


1- . لاحظ: مجمع البيان: 243/6 عند تفسير قوله تعالى: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» الإسراء: 27؛ فتوح البلدان: 37/1.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 217/16.

وليس الشيعة بحاجة - في إثبات أنّ فدكاً كان ملكاً طلقاً وخالصاً للزهراء فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - إلى الدلائل المذكورة، لأنّ الصدِّيق الأكبر أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قد صرَّح بمالكيته بفدك في إحدى رسائله إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف إذ قال:

«بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ، مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللّهُ»(1).

قصّة فدك بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

لقد حُرمت ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم العزيزة فاطمة من ملكها الخالص (فدك) بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لأغراض سياسية خاصّة، وأخرجوا عمّالها من تلك الأرض، فعمدت إلى إثبات حقّها واسترداد ملكها من جهاز الخلافة عن طريق القانون.

ففي الدرجة الأُولى كانت قرية فدك في يدها، واليدُ دليل الملك، ولكن جهاز الخلافة طلب منها مع ذلك دليلاً على كون فدك ملكها، خلافاً لكلّ الموازين القضائية الإسلامية.

إذ لا يُطلبُ من أيّ واحد له يد على شيء (أي يكون ذلك الشيء تحت تصرّفه) أن يقيم دليلاً على ملكّيته لذلك الشيء، ولكنّ جهاز الخلافة لم يُعر ليد الزهراء على «فدك» أهمية، بل طالبها بأن تأتي بشاهد على ملكيّتها.

ولهذا اضطرّت فاطمة الزهراء عليها السلام إلى أن تأتي للشهادة على ذلك بشخصيّة ذات مكانة هامّة كعليّ عليه السلام وامرأة تدعى أُمّ أيمن الّتي شهد لها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأنّها

ص:483


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 45.

من نساء الجنّة(1).

وبعتيق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «رباح» حسب رواية البلاذري(2)، ولكن جهاز الخلافة لم يعر اهتماماً لشهادة هؤلاء الشهود، وحرم ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ملكها الّذي وهبه إيّاها والدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد كانت «الزهراء» و «علي» وابناهما الحسن والحسين عليهم السلام مطهّرين من كلّ رجس كما صرّح بذلك قوله تعالى:

«إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .(3)

ولو أنّ هذه الآية شملت نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم لكانت فاطمة الزهراء من أوضح مصاديقها قطعاً ويقيناً، ولكن الخلافة تجاهلت - مع الأسف - حتّى هذا الدليل، واعتبر الخليفة ادّعاءها ادّعاءً غير مشروع.

وفي المقابل يرى علماء الشيعة أنّ الخليفة الأوّل أذعن في نهاية الأمر لصحّة رأي الزهراء وصحّة ادّعائها وشرعيّته، وكتب كتاباً يصرّح بأنّ فدكاً ملك خالصٌ للزهراء وأعطاها ذلك الكتاب، ولكن رفيق الخليفة وصاحبه لمّا صادف الزهراء في أثناء الطريق وعرف بأنّها حصلت على اعتراف صريح من الخليفة بملكيّتها لفدك أخذ منها ذلك الكتاب وأتى به إلى الخليفة الأوّل وقال معترضاً على شهادة علي عليه السلام وأُمّ أيمن لها: إنّ عليّاً يجرُّ إلى نفسه وأُمّ أيمن امرأة.

ثم عمد إلى الكتاب فمحاه وخرقه(4).

ص:484


1- . لاحظ: الاصابة: 359/8 برقم 11902؛ الطبقات الكبرى: 224/8.
2- . لاحظ: فتوح البلدان: 35/1 برقم 114.
3- . الأحزاب: 33، راجع كتاب: آية التطهير في أحاديث الفريقين: ج 1 و 2.
4- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 374/16.

هذا ويروي الحلبي في سيرته هذه الحادثة بصورة أُخرى إذ يكتب قائلاً: إنّ أبا بكر كتب لفاطمة بفدك، ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها، فقال: ممّاذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كماترى؟! ثم أخذ عمر الكتاب فشقّه(1).

وما ذكره ابن أبي الحديد عن أحد متكلمي الشيعة قال: قلتُ لمتكلّم من متكلّمي الإماميّة يُعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل: وهل كانت فدك إلّانخلاً يسيراً وعقاراً ليس بذلك الخطير! فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت جليلة جدّاً، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، وما قصد أبوبكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلّاألّا يتقوّى عليٌّ بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا اتّبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي وسائر بني هاشم وبني المطّلب حقّهم في الخمس، فإنّ الفقير الّذي لا مال له تضعف همّته ويتصاغر عند نفسه، ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب المُلك والرئاسة(2).

ويكتب هذا الكاتب في موضع آخر من كتابه أيضاً: سألت علي بن الفارقيّ مدرّس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت:

فِلمَ لمْ يدفعْ إليها أبوبكر فدكاً وهي عنده صادقة؟ فتبسّم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحُرمته وقلّة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرّد دعواها لجاءت إليه غداً، وادّعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء، لأنّه يكون قد سجّل على نفسه على أنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود. وهذا كلام صحيح، وإن كان

ص:485


1- . السيرة الحلبية: 391/3.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 236/16-237.

أخرجه مخرج الدُّعابة والهزل(1).

لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأوّل، وبعد أن قضى علي عليه السلام وتسلّم معاوية زمام الأمر، وزّع فدكاً بين ثلاثة هم: (مروان بن الحكم، وعمرو بن عثمان، وابنه يزيد).

ولمّا ولي الأمر «مروان» سيطر على فدك بصورة كاملة، ووهبها لابنه عبدالعزيز، وأعطاها عبدالعزيز لولده «عمر بن عبدالعزيز»(2).

وحيث إنّه كان حاكماً معتدل السيرة بين خلفاء بني أُمّية لهذا فإنّ أوّل بدعة أزاحها كان هو اعادة فدك إلى بني فاطمة، ثم انتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من أيدي بني هاشم، وكانت بأيديهم حتّى يوم انقرضت فيه حكومة الأُمويّين.

وقد اضطرب أمر فدك اضطراباً عجيباً أيام الخلافة العباسية، فلمّا ولي أبو العباس السفّاح ردّها على عبداللّه بن الحسن بن الحسن، ثم قبضها أبوجعفر من بني الحسن، ثم ردّها محمَّد المهدي ابنه، على وُلد فاطمة عليها السلام، ثم قبضها موسى الهادي بن المهدي وهارون أخوه، لأسباب سياسية خاصّة، حتّى وصل الدور إلى المأمون فردّها على الفاطميّين أصحابها الشرعيّين ضمن تشريفات خاصّة وبصورة رسمية.

ثم اضطرب أمر فدك من بعده أيضاً فربما سُلِبَت من أصحابها وربما رُدَّت إليهم. وهكذا تراوحت بين السلب والرد.

ولقد استغِلّت فدك في عهد الأُمويّين والعباسيّين في أغراض سياسية بحتة قبل أن تستغَلّ في أغراض اقتصادية.

ص:486


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 284/16.
2- . لاحظ: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 278/16.

فلقد كان الخلفاء في صدر الإسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية، مضافاً إلى أنّهم انتزعوها من يد عليّ لغرض سياسي، ولكن في العصور المتأخّرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء وزادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك، ولهذا فإنّ عمر بن عبدالعزيز لمّا أعاد فدكاً إلى بني فاطمة احتجّ عليه بنو أُميّة واعترضوا قائلين: هجَّنت فعل الشيخين،... فإن أبيت إلّاهذا فأمسك الأصل وأقسم الغلَّة(1).

فدك في محكمة التاريخ

إنّ دراسة وتقييم ملَفّ «فدك» تثبت بوضوح أنّ منع ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من حقّها المشروع كان عملاً سياسياً بحتاً، أي أنّه ما كان يستند إلى أي مبرر شرعي مطلقاً، وإنّ المسألة كانت أوضح من أن تخفى على خليفة العصر.

وقد أوضحت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام هذه الحقيقة في خطابها الساخن البليغ إذ قالت:

هذا كتابُ اللّه حكماً عَدلاً وناطقاً فصلاً يقول: «يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» (2)، «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» (3) وبيّن عزّوجلّ في ما وزّع من الأقساط وشرع من الفرائض والميراث»(4).

إنّ البحث حول دلالة الآيتين على وراثة أبناء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عنه، والحديث الّذي رواه الخليفة وحده يوجب إطالة الكلام، وفي إمكان من يحبّ التوسّع أن

ص:487


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 278/16.
2- . مريم: 6.
3- . النمل: 16.
4- . الاحتجاج للطبرسي: 144/1.

يراجع كتب التفسير المفصّلة.

السيطرة على وادي القُرى

إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يضع نهاية لنشاط القوى المضادّة للإسلام في هذه المنطقة (خيبر) فقط، بل رأى أن يتوجّه إلى وادي القرى الّذي كان يشكّل مركزاً آخر من مراكز اليهود. فحاصر بنفسه حصونهم عدّة أيام، حتّى فتحها، ثم عقد بعد الفتح معاهدة مع أهلها على غرار معاهدة «خيبر».

وبهذا طهرت أرضُ الحجاز من فتنة اليهود الأوغاد، وقد جُرِّدوا من أسلحتهم ووضعوا تحت حماية المسلمين ومراقبتهم الدقيقة(1).

ص:488


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 150/2.

47 عمرة القضاء

اشارة

47 عمرة القضاء(1)

كان يحقّ للمسلمين بعد التوقيع على معاهدة صلح الحديبية أن يدخلوا بعد عام واحد من تاريخ يوم التوقيع، مكّة، ثم يغادروها بعد ثلاثة أيام يقيمون فيها شعائر العمرة، وكان عليهم بموجب الاتّفاق أن لا يحملوا معهم إلّاسلاح الراكب:

السيف في القرب، ليس غير.

والآن مضى عام واحد على يوم التوقيع على المعاهدة المذكورة، وآن الأوان ليستفيد المسلمون من هذه المادة في تلك الاتّفاقية، وأن يتوجّه المسلمون المهاجرون الذين مضى عليهم سبعة أعوام ابتعدوا فيها عن بيوتهم ووطنهم ومسقط رؤوسهم، ورجّحوا الحياة في الغربة، وتحمل متاعبها على العيش في الوطن للمحافظة على عقيدة التوحيد.

ص:489


1- . العمرة أعمال خاصّة ومناسك معيّنة يمكن للمرء الإتيان بها طوال أشهر السنة على العكس من أعمال الحج الّتي يجب أداؤها فقط في شهر ذي الحجّة، وقد توجّه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة في يوم الاثنين السادس من شهر ذي القعدة من السنة الهجرية السابعة. وسمّيت هذه العمرة عمرة القضاء لأنّها كانت بدلاً عن العمرة الّتي منع النبيّ والمسلمون عنها في عام الحديبية.

يتوجّه مثل هؤلاء مرّة أُخرى إلى زيارة بيت اللّه الحرام ولقاء الأحباب والأقرباء وتفقّد المنازل والبيوت الّتي ولدوا فيها وترعرعوا في رحابها.

ولهذا عندما أعلن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يستعد من حُرمَ من العمرة في العام الماضي للعمرة، دبّ شوق عجيب في نفوس المسلمين، واغرورقت عيونهم بدموع الفرح، فخرج مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ألفا شخص بدل ألف وثلاثمائة وهم عدد الذين خرجوا معه في السنة الماضية.

وكان بين الخارجين مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جمع كبير من شخصيات المهاجرين والأنصار البارزة الذين كانوا يلازمون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طول سيره ملازمة الظل لصاحب الظل.

وساق رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه العمرة ستين بدنة وقد قلّدها(1)، وأحرم من مسجد المدينة واتبعه الآخرون، وخرج ألفان وهم يلبّون مرتدين أثواب الاحرام يقصدون مكّة.

ولقد كان هذا الموكب العظيم من الجلال والمغزى المعنوي بحيث لفت نظر الكثير من المشركين إلى حقيقة الإسلام ومعنويته الرائعة.

ولو قلنا: إنّ هذا السفر كان - في حقيقته - سفراً تبليغياً، وإنّ المشتركين فيه كانوا - في حقيقة الأمر - طلائع التبليغ والدعوة لما قلنا جزافاً، فان آثار هذا السفر المعنوي ظهرت للتو، فقد انبهر بمنظر سلوكهم وعبادتهم ونظامهم ألدُّ أعداء الإسلام أمثال «خالد بن الوليد» بطل معركة أُحد وعمرو بن العاص داهية العرب فرغبوا في الإسلام، وأسلموا بعد قليل.

ص:490


1- . البَدنة الناقة تنحر بمكة والجمع بُدْن، وتقليد البدنة أن يجعل في عنقها نعلاً فيُعلَم أنّها هديٌ.

وحيث إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن آمناً من غدر قريش فقد كان يحتمل أن يباغتوه ويباغتوا أصحابه في أرض مكّة، ويسفكوا دماء جماعة منهم وهم لا يحملون معهم إلّاسلاح الراكب، إذ لم يكن مسموحاً للمسلمين - حسب المعاهدة - أن يأخذوا معهم سلاحاً غير ذلك.

من هنا عمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تحسّباً لأي طارئ إلى تكليف مائتي رجل من المسلمين بالتسلّح الكامل، وأمّر عليهم «محمَّد بن مسلمة» وحملهم على مائة فرس سريع، وأمرهم بالتوجّه صوب مكّة أمام القافلة الكبرى، والاستقرار في منطقة «مرّ الظهران» قرب الحرم، ينتظرون ورود رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومَن معه.

فعرف عيون قريش الذين كانوا يراقبون تحرّكات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقضية الفرسان المسلّحين المائتين، واستقرارهم في وادي «مرّ الظهران»، وأخبروا سادة قريش بالأمر.

فبعثت قريش «مكرز بن حفص» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليكلّموه في هذا الإجراء فأتى مكرز إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وسلّمه اعتراض قريش قائلاً: يا محمد واللّه ما عرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم على قومك وقد شرطت ألّا تدخل إلّابسلاح المسافر السيوف في القرب.

فأجابه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا نَدْخلُها إلّاكذلك».

وقد أفهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكرزاً بهذه العبارة بأنّ قريش لو استغلّت عدم حمل النبي وأصحابه للسلاح الثقيل فباغتتهم أدركتهم هذه القوة الاحتياطية المسلّحةُ القوية المستقرّة على مقربة من الحرم، ومدّوهم بالسلاح والعتاد.

ص:491

فعاد «مكرز» وأخبر قريشاً بما سمع من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأدركت قريش حنكة رسول الإسلام وبُعد نظره، وحسن تقديره للأُمور، ففتحت أبواب مكّة في وجه المسلمين، وخرج رؤوس المشركين وأهلوهم ومن تبعهم إلى رؤوس الجبال، وخلّوا مكّة، وقالوا: لا ننظر إلى محمَّد ولا إلى أصحابه، ولكنّهم كانوا يراقبون المشهد من بعيد!!(1).

النبي يدخل مكّة

دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو على راحلته القصواء وأصحابه متوشّحو السيوف محدقون به يلبّون وهم ألفان، فدوّى صوتهم الموحَّد بالتلبية في أرجاء مكّة، وكانت نغمة هذه التلبية الكبرى من الجلال والجمال بحيث بهرت كلّ سكّان مكّة، وسحرت قلوبهم وعطفها نحو المسلمين، وفي نفس الوقت أرعب اتّحاد المسلمين، ونظامهم، والتفافهم حول النبي قلوب المشركين، ولم يقطع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تلبيته حتّى استلم الركن.

فلمّا انتهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى البيت وهو على راحلته وابن رواحة آخذ بزمامها وقد صف له المسلمون حين دنا من الركن حتّى انتهى إليه استلم الركن بمحجنه...(2) أنشد عبداللّه بن رواحة يقول:

خَلُّوا بَني الكفّار عَن سبِيله إنّي شهدتُ أنّه رسولُه

حقّاً وكلُ الخير في سبيله نحن قتلناكم على تأويله

كما ضَربناكم على تنزيله ضرباً يُزيل الهام عن مقيله

ص:492


1- . لاحظ: المغازي: 734/2؛ إمتاع الأسماع: 331/1.
2- . المحجن: عصا معقفة الرأس كالصولجان. النهاية لابن الأثير: 347/1، مادة «حجن».

ويذهلُ الخليل عن خليله(1)

وطاف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالبيت المعظم على راحلته، وهنا أمر صلى الله عليه و آله و سلم ابن رواحة ان يردّد هذا الدعاء بلحن ونغم خاص؛ وأن يتبعه المسلمون:

«لا إله إلّااللّه وحدَه وَحدَه، صدَق وعدَه، ونصرَ عبدَه، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده».

كانت مكّة بجميع مشاعرها في ذلك اليوم تحت تصرّف المسلمين، المسجد، الكعبة، الصفا، المروة، وغيرها. وقد كانت هذه الشعارات التوحيدية الساخنة في مكان كان طوال سنين مديدة مركزاً للوثنية، والشرك توجّه ضربات روحية قوية إلى نفسيّة سادة المشركين، وأتباعهم، ممّا كان يُوحي بغلبة «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم على كلّ أرجاء الجزيرة العربية حتماً ويقيناً.

ولمّا قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نُسكه دخل البيت فلم يزل فيه حتّى حان الظهر، فصعد بلال الّذي طالما عُذِّب في هذا البلد بسبب إسلامه فوق ظهر الكعبة بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأذّن لصلاة الظهر.

ولقد كان لهذا المنظر مردود عجيب في نفوس المشركين، فبلال واقفٌ في نقطة طالما عُدّت فيها الشهادة بالتوحيد وبرسالة محمَّد، ذنباً لا يُغتفر، وجريمة لا ينجو صاحبها من العذاب، يردّد ويردّد معه المسلمون ما يردّد من فصول الأذان فصلاً فصلاً في خشوع وروحانية بالغة.

لقد أزعج أذان بلال المشركين وأعداء التوحيد، حتى قال «صفوان بن أُميّة»:

الحمدُ للّه الّذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا، وقال خالد بن أُسيد: الحمدُ للّه الّذي

ص:493


1- . المغازي: 736/2؛ زاد المعاد: 152/2.

أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حين يقوم بلال ابن أُم بلال ينهق فوق الكعبة!!

وأمّا «سهيل بن عمرو» ورجال معه فحين سمعوا ذلك غطّوا وجوههم.(1)

إنّهم لم ينزعجوا من صوت «بلال» بل أحرجتهم مضامين فصول الأذان الّتي كانت ضدَّ ما يحملونه من المعتقدات الباطلة الموروثة، وجعلتهم يعانون بسبب ذلك من عذاب روحي شديد.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين أراد السعي بين الصفا والمروة سمع بأنّ قريشاً تحدّثت بينها أنّ محمَّداً وأصحابه في عسرة وجهد وشدّة، وأنّ الذين هاجروا معه إلى المدينة مرضى، وأنّهم صفّوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فهرول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هرولة في المكان المعلّم الآن في المسعى، وتبعه المسلمون وقد قال لهم قبل ذلك: «رحم اللّه امرَأً أراهم اليوم من نفسه قوّة»(2).

وذلك ليبطل ما أشاعته قريش حول المسلمين المهاجرين من الضعف والهزال بسبب ظروف المهجر. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أمرين:

أوّلاً: جواز القيام بالأعمال السياسية في موسم الحج.

ثانياً: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان حذراً جدّاً فكان يبطل كلّ خطط العدو أوّلاً بأوّل.

يقول صاحب زاد المعاد: أمر النبيّ بذلك ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم (أي يبطل كيدهم) بكلّ ما استطاع(3).

ص:494


1- . المغازي: 738/2؛ إمتاع الأسماع: 333/1؛ السيرة الحلبية: 784/2.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 309/2؛ زاد المعاد: 152/2.
3- . زاد المعاد: 152/2. ولنا رسالة في هذا المجال تحت عنوان: «الحجّ: موسم عبادي وملتقى

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن فرغ من السعي نحر البدن، ثم قصّر من شعره، ثم خرج من إحرامه، وتبعه المسلمون في كلّ ما فعل.

ثم أمر صلى الله عليه و آله و سلم مائتين من أصحابه بعد أن طافوا بالبيت وانتهوا من مناسك العمرة أن يذهبوا إلى أصحابه بمرّ الظهران فيقيموا على السلاح فيأتي الآخرون فيقضوا مناسكهم، ففعلوا.

انتهت أعمال العمرة ونسكها، وذهب المهاجرون إلى منازلهم الّتي هجروها قبل سبعة أعوام، ليجدّدوا اللقاء بذويهم وأقربائهم بعد طول فراق، واستضافوا جماعة من الأنصار في بيوتهم وفاء لجميلهم وتقديراً لخدماتهم حين قدموا عليهم المدينة بعد الهجرة، فأسكنوهم وأكرموهم في منازلهم وخدموهم سنيناً عديدة.

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يغادر مكّة

تركت أحوالُ المسلمين وأوضاع الإسلام وجلال الموكب النبوي وعظمته أثراً بليغاً وعجيباً في نفوس سكان مكّة المشركين، فقد تعرّفوا على نفسية المسلمين النبيلة الطيبة في هذه الزيارة أكثر من أي وقت مضى، وكاد ذلك أن «يفعل» فعلته، ويحدث انقلاباً روحياً في تلك البيئة.

ولمّا رأى زعماء المشركين أن توقّف النبي وأصحابه في مكّة سيؤثر في عقائد أهل مكّة ويضعف تمسّكهم بوثنيّتهم، ويوجد علاقات المحبّة بينهم وبين المسلمين، لهذا بعثوا أحدهم وهو حويطب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - بعد انقضاء

ص:495

المدّة المقرّرة للإقامة في مكّة في المعاهدة - ليطْلب منه مغادرة مكّة قائلاً: إنّه قد انقضى أجلك فاخرج عنا.

فانزعج بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم من مقالة مبعوث قريش هذا، ولكنّ النبي لم يكن بالذي يخالف ما تعهّد به، ولهذا أمر بأن ينادى في المسلمين بالرحيل، فترك هو والمسلمون مكّة فوراً.

ولقد تأثرت «ميمونة» أُختُ أُمّ الفضل زوجة العباس، بما شهدت من مشاعر المسلمين وروحانيتهم فأرسلت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق عمّه العباس أنّها ترغب في الزواج برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فوافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1) وتزوّجها، وبهذا قوّى علاقاته مع قريش.

إنّ رغبة فتاة في الزواج بمَن يكبرها بسنين عديدة لدليلٌ واضح على مدى التأثير الروحي والمعنوي الّذي تركه النبي والمسلمون في النفوس حتّى أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لمّا طلب من مبعوث قريش بأن يمهلوه بعض الوقت ليعرس بين أظهرهم، ويصنع لهم طعاماً يحضروه، أبوا إمهاله خوفاً من تعاظم تأثيره في النفوس، وقالوا له: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنّا(2).

فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يخرج المسلمون من مكّة في منتصف النهار ولم يبق بمكّة إلى وقت الظهر، وخلّف أبا رافع ليحمل إليه زوجته «ميمونة» حين يمسي، فأقام أبو رافع حتّى أمسى، فخرج بميمونة ومن معها فلقوا عناء من سفهاء المشركين، ولاموا «ميمونة» على فعلها، ولكن كلامهم لم يؤثر قط في نفسها، فقد رغبت في الزواج برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدافع الرغبة في خلقِه وسموّ أخلاقه.

ص:496


1- . حياة محمد: 401.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 829/3؛ تاريخ الخميس: 62/2-65.

وهكذا تحقّقت رؤيا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الصادقة الّتي رآها قبل سنة واحدة بأنّه دخل البيت، وحلق رأسه، ونزلت بعد هذه الوقائع الآية 27 من سورة الفتح تتحدّث عن تحقّق هذا الوعد حيث أخبرت ضمناً عن فتح قريب، - هو فتح مكّة - الّذي تحقّق في السنة الثامنة من الهجرة إذ يقول سبحانه:

«لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» .(1)

ص:497


1- . الفتح: 27.

احداث السنة الثامنة من الهجرة

48 معركة مؤتة

اشارة

انقضت السنة الهجرية السابعة، واستطاع المسلمون بفضل معاهدة صلح الحديبية أن يزوروا معاً بيت اللّه المعظم ويعتمروا في أمان، ويردّدوا في مركز حكومة الوثنيّين شعارات قوية لصالح عقيدتهم التوحيدية إلى درجة أنّهم استطاعوا أن يستميلوا نحو الإسلام قلوب جماعة من سراة قريش وزعماء المشركين أمثال: «خالد بن الوليد»، «وعمرو بن العاص»(1) و «عثمان بن طلحة»، فلم يلبثوا أن جاءُوا طائعين راغبين إلى المدينة، واعتنقوا الإسلام وقطعوا علاقاتهم بحكومة مكّة الوثنية المشركة الّتي لم يبق منها إلّاجسم من دون روح، وهيكل من دون حياة(2).

وذكر بعض المؤرّخين إسلام خالد أو ابن العاص في السنة الخامسة من الهجرة.(3)

ص:498


1- . لقد ذكر الواقدي في مغازيه: 743/2 علّة إسلام عمرو بصورة أُخرى.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى لابن سعد: 252/4-261.
3- . لاحظ: الإصابة: 215/2 برقم 2206؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 67/12.

ولكن هذا غير صحيح قطعاً لأنّ «خالداً» كان يقود في الحديبية مائتين من فرسان قريش، ونحن نعلم أنّ إسلام هذين الرجلين تمّ في وقت واحد.

كان ثمةُ أمنٍ نسبيٍّ يسود أكثر مناطق الحجاز في أوائل السنة الثامنة، وكان نداء الإسلام قد وصل إلى أكثر النقاط ولم يبق من نفوذ اليهود شيء، ولم تعد قريشٌ تهدّد المسلمين من ناحية الجنوب، ولهذا فكّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أن يركّز دعوته على سُكان المناطق الحدودية للشام، ويستميل إلى الإسلام قلوب أُولئك الأقوام الّتي كانت في تلك الأيام تعاني من ظلم السلطات الروميّة.

ولهذا الغرض وجّه «حارث بن عمير الأزدي» مع كتاب إلى «الحارث بن أبي شمر الغسّاني» ملك «بُصرى» الّذي كان حاكم الشامات المطلق يومذاك، وكان يحكم من جانب قيصر.

فلمّا نزل مبعوث النبي مؤتة، عرف به شرحبيل وكان حاكم المناطق الحدودية، فقبض عليه، وحقّق معه، فاعترف له بأنّه يحمل كتاباً من جانب رسول الإسلام إلى حاكم الشامات المطلق (الحارث الغسّاني)، فأمر بأن يُوثق وقدّمه وضرب عنقه صبراً مخالفاً بذلك كلّ الأعراف العالمية القاضية باحترام السفراء وحصانتهم.

فعرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك وغضب لمقتل رسوله بشدّة وندب الناس فأخبرهم بمقتل سفيره ومن قتله، ودعا المقاتلين المسلمين إلى الخروج للاقتصاص من قاتل «الحارث».(1)

ص:499


1- . لاحظ: المغازي: 755/2-756.
حادثة أفجع من السابقة

واتّفق أن وقعت في نفس الأيام حادثة أُخرى أفجع من الأُولى، أكّدت عزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على تأديب سكان المناطق الحدودية الشامية الذين سلبوا دعاة الإسلام حرية العمل والدعوة، وقتلوا دون رحمة، وغدراً سفير النبي، و جماعة الدعوة والتبليغ، وإليك مفصّل الحادثة الثانية:

بعث رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كعب بن عمير الغفاري في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان من الهجرة في خمسة عشر رجلاً إلى منطقة «ذات أطلاح» من أرض الشام، خلف وادي القرى لدعوة الناس إلى الإسلام، فخرجوا حتّى انتهوا إلى تلك المنطقة فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل، فلمّا رأى أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذلك قاتلوهم أشدّ القتال، حتّى قتلوا (مؤثرين عزّ الشهادة على ذلّ الأسر) وأفلت منهم رجلٌ جريح في القتلى، فلمّا جنّ عليه الليل تحامل حتّى أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره الخبر، فشقّ ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

فتسبّب العدوانُ على دعاة الإسلام وقتلهم في أن يصدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمراً بالخروج إلى الجهاد في شهر جمادى، ووجّه جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لتأديب المتمرّدين، و مزاحمي دعاة الإسلام.

فتجمع ثلاثة آلاف بعد الأذان بالجهاد في معسكر خارج المدينة يُدعى «الجرف» فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه إلى ذلك المعسكر، وخطب في المقاتلين خطاباً، هذا نصّه:

ص:500


1- . المغازي: 752/2-753.

«اغزوا بسم اللّه فقاتلوا عدوّ اللّه وعدوّكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين الناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلُنَّ امرأة، ولا صغيراً ولا مرضعاً، ولا كبيراً فانياً، لا تغرقنَّ نخلاً، ولا تقطعنَّ شجراً، ولا تهدموا بيتاً»(1).

ثم قال: جعفر بن أبي طالب أميرُ الناس، فإن قُتِلَ فزيدُ بن حارثة، فإن أُصيب زيد فعبداللّه بن رواحة، فإن أُصيب عبداللّه بن رواحة فليرتضي المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم.

ثم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المقاتلين بالتحرّك نحو الهدف، وخرج فشيّعهم مع جماعة من اصحابه حتّى «ثنية الوداع» وهناك ودّعهم وكان المسلمون المشيّعون يقولون: دفع اللّه عنكم وردكم صالحين غانمين.

فأجابهم عبد اللّه بن رواحة قائلاً:

لكنّني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حرّان مجهزة بحربة تنفذُ الأحشاء والكبدا

حتّى يقال إذا مرّوا على جدثي أرشده اللّه من غاز وقد رشدا(2)

وأنت أيّها القارئ الكريم يمكنك أن تعرف من خلال هذه الأبيات عمق إيمان هذا الفارس القائد وحبه للشهادة في سبيل اللّه.

ثم إنّ الناس رأوا عبداللّه بن رواحة لمّا ودّع مَن ودّع بكى، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما واللّه مابي حبُّ الدنيا، ولا صبابةٌ بكم، ولكنّي سمعت

ص:501


1- . المغازي: 2/758.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 830/3؛ الطبقات الكبرى: 128/2.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقرأ آية من كتاب اللّه عزّوجلّ يذكر فيها النار:

«وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» .(1)

فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود(2).

خلافٌ حول مَن هو الأمير الأوّل؟

لقد كتب بعض المؤرّخين: إنّ الأمير الأوّل كان هو زيد بن حارثة ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالتبنّي، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبداللّه بن رواحة، ولكن محقّقي الشيعة يرون عكس هذا فهم يعتبرون جعفر بن أبي طالب قائد الجيش وزيداً وعبداللّه معاونين أو خليفتين له على الترتيب، فيجب أن نرى أي الرأي يوافق الحقيقة.

لتحصيل الحقيقة في هذا المجال هناك طريقان:

1. أنّ زيد بن حارثة لم يكن يعادل من ناحية التقوى والعلم والمكانة الاجتماعية جعفر بن أبي طالب (جعفر الطيّار).

يقول ابن الأثير عنه: جعفر بن أبي طالب كان أشبه الناس برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خَلقاً وخُلقاً، أسلم بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. روي أنّ أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعليّاً رضى الله عنه يصلّيان وعليٌّ عن يمينه، فقال لجعفر: صِلْ جناح ابن عمك وصلِّ عن يساره(3).

وجعفر رأس المهاجرين إلى الحبشة الذين هاجروا اليها حفاظاً على دينهم وعقيدتهم من الفتنة، وهو الّذي استمال قلب النجاشي بما تكلّم به عنده من الحجّة،

ص:502


1- . مريم: 71.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 830/3.
3- . أُسد الغابة: 287/1.

وقرأ عليه آيات من القرآن عن المسيح عليه السلام وأُمه مريم، وأثبت كذب مبعوثي قريش لاستعادتهم إلى أرض الحجاز، و هو الّذي وُفّقَ لأن يخطب ودَّ النجاشي ويكسب حمايته للمهاجرين الملاحقين إلى درجة أنّه طرد مندوبي قريش(1).

إنّ جعفراً هو الشخصية البارزة الّتي لمّا رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم خيبر وقد عاد من الحبشة مشى إليه (12) خطوة وعانقه وضمّه وقبّل مابين عينيه وبكى من فرط الشوق إليه وقال في حقّه:

«ما أدري بأيّ الأمرين أنا أسرّ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر».(2)

إنّه هو ذلك الرجل العظيم الّذي كان يذكره عليٌّ عليه السلام بعد استشهاده ويثني على شجاعته وبسالته، فعندما سمع عليّ عليه السلام بمبايعة عمرو بن العاص لمعاوية، وتقرّر أن يوكل معاوية حكومة مصر إلى عمرو إذا غلبا عليّاً، غضب عليّ عليه السلام من هذا الأمر وتذكر شجاعة عمّه حمزة وأخيه جعفر وقال:

لو أنّ عندي يابن حرب جعفرا أو حمزة القرم الهمام الأزهرا

رأت قريشٌ نجمَ ليل ظُهُرا(3)

فهل مع هذه المواصفات والجهات الّتي نقلنا قسماً منها هنا فقط يجيز العقل أن يفوّض رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قيادة القوات إلى زيد ويجعل جعفر معاونه أو خليفته الأوّل.

2. أنّ الأشعار الّتي أنشدها شعراء الإسلام الأفذاذ في رثاء هؤلاء القادة بعد استشهادهم حاكية عن أنّ القائد الأعلى في هذه المعركة الكبرى (مؤتة) كان

ص:503


1- . لاحظ: أُسد الغابة: 286/1، ترجمة جعفر بن أبي طالب، وغيره من المصادر في هذا المجال.
2- . المعارف لابن قتيبة الدينوري: 205؛ أُسد الغابة: 287/1؛ بحار الأنوار: 294/38.
3- . وقعة صفين: 44.

«جعفر» وكان أمر المعاونة والخلافة يرتبط بالرجلين الآخرين، فهذا «حسّان» شاعر عصر الرسالة أنشد شعراً بعد أن بلغهُ استشهاد أُولئك القادة بصورته المفجعة قال فيه:

فلا يبعدنَ اللّه قتلى تتابعوا بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيدٌ وعبداللّه حين تتابعوا جميعاً وأسباب المنية تخطر(1)

فكلمة تتابعوا تشهد بجلاء على أنّ مقتل هؤلاء القادة الذين ذكرهم تمّ على النحو الّذي جاء ذكرهم، يعني أنّ جعفراً كان أوّل الشهداء ثم تلاه في قيادة الجيش الإسلامي ثم الشهادة زيدٌ، ثم ابن رواحة.

وإنّ أوضح الأدلّة على ذلك قصيدة «كعب بن مالك» في رثاء شهداء مؤتة، التي يصرّح فيها بأنّ جعفراً كان هو القائد الأوّل، وقد كان صاحب هذه الأبيات ممّن شاهد تفويض أمر القيادة العليا للجيش من جانب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى جعفر.

يقول كعب في قصيدته:

إذ يهتدون بجعفر ولوائه قُدّام أوّلهم فنعم الأوّلُ (2)

إنّ هذه القصائد الرثائية الّتي أُنشدت في أعقاب استشهاد أُولئك القادة، وسلمت من يد التحريف، أقوى شاهد على أنّ ما كتبه مؤرّخو السنّة حول هذا المطلب يخالف الحقيقة، وأنّ الرواة اختلقوا هذا الترتيب لدوافع وأغراض سياسية لا مجال لذكرها، وبيانها هنا، وقد تبعهم في ذلك كُتّاب السيرة وأدرجوه في كتبهم من دون تمحيص وتحقيق.

ص:504


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 837/3.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 838/3.

والعجب أنّ ابن هشام الّذي نقل كلّ هذه الأبيات والقصائد قال: إن جعفراً كان المعاون الأوّل لزيد بن حارثة، وليس القائد الأعلى للجيش(1)، وهو كماترى تناقض مكشوف!!

جيشا الإسلام والروم يتواجهان

كانت «الروم» قد أُصيبت يومذاك - نتيجة الحروب العديدة والطويلة مع منافستها إيران - بالفوضى، والهرج والمرج الشديدين.

فمع أنّ قادة الروم كانوا سكارى من نشوة الانتصار على ايران إلّاأنّهم قد بلغهم شيء كثير عن شجاعة المسلمين وبسالتهم النابعة من إيمانهم والّتي كسبوا عن طريقها أمجاداً عظيمة، وكانوا يراقبون على الدوام تحرّك جنود الإسلام ونشاطاتهم العسكرية.

ولهذا لمّا بلغ هرقل قيصر الروم بموعد توجّه جنود الإسلام إلى ناحية الشام لتأديب عميله شرحبيل الغسّاني، أرسل جيشاً عظيماً وقوياً لمواجهة جنود الإسلام البالغ عددُهم ثلاثة آلاف.

وقد أعدّ «شرحبيل» حاكم أرض الشام وحده مائة ألف فارس من مختلف القبائل القاطنة في الأراضي الشامية ووجهه إلى حدود الشام لإيقاف تقدّم الجيش الإسلامي، وقد أعدّ قيصر قبل ذلك مائة ألف جندي رومي فنزل في منطقة تدعى «مآب» من مدن البلقاء، واستقرّ هناك كقوة احتياطيّة تتدخّل عند اللزوم(2).

ولقد كان تجميع هذا القدر الهائل من الجنود والمقاتلين لمواجهة جيش

ص:505


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 829/3.
2- . لاحظ: المغازي: 760/2، السيرة النبوية لابن هشام: 831/3.

يقلّ عدداً بكثير عن هذا القدر نابعاً من الأنباء الّتي بلغت قادة الروم والشام عن فتوحات المسلمين وانتصاراتهم الساحقة وعن الوقوف على شجاعتهم وبسالتهم الّتي ذاع صيتُها، وإلّا فإنّ عشر هذا العدد، (أي عشرون ألف) يكفي لمواجهة ثلاثة آلاف مقاتل مهما كانت شجاعة هؤلاء.

كما أنّه عند المقارنة بين العسكرين كان الجيش الإسلامي أضعف من جيش الروم بكثير، سواء من ناحية العتاد، أو من ناحية المعرفة بفنون القتال وتكتيكاته العسكرية، لأنّ القادة العسكريّين الروم كانوا قد كسبوا خبرة حربية واسعة نتيجة المشاركة في الحروب العديدة والطويلة الّتي دارت بين الروم وبين إيران، وعرفوا بالتالي مفاتيح الانتصار، بينما كانت معلومات الجيش الإسلامي الناشئ معلومات بدائية وبسيطة في هذا المجال.

هذا مضافاً إلى عدم وجود التكافؤ بين الجيش الإسلامي والجيش الروماني في نوعية المعدّات الحربية والأجهزة القتالية ووسائل النقل وماشابه ذلك.

وفوق هذا وذاك فإنّ القوّة الإسلامية كانت تحارب في أرض غريبة عليها، وتقوم بدور المهاجم، بينما كان الرومان يقاتلون في بلادهم دفاعاً وهم يتمتعون بجميع مستلزمات القتال ومتطلّبات الحرب.

وفي مثل هذه الحالة يجب أن تكون القوة المهاجمة قوية جداً، بحيث يمكنها تلافي سلبيات الظروف غير المساعدة.

ومع هذا فإنّنا سنرى عمّا قريب كيف أنّ قادة الجيش الإسلامي قاوموا وآثروا الصمود والقتال على الهروب والفرار مع أنّهم كانوا يرون الموت على بعد أقدام معدودة منهم، وبهذا أضافوا إلى أمجادهم أمجاداً أُخرى، وسطّروا أسطراً أُخرى في سجّل بطولاتهم.

ص:506

منذ أن ورد المسلمون المناطق الحدودية للشام عرفوا باستعدادات العدوّ العريضة، وحجم قدراته العسكرية الواسع فشكّلوا من فورهم شورى عسكرية فقال البعض: نكتب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فنخبره الخبر، فإمّا يردّنا وإمّا يزيدنا رجالاً. فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم ابن رواحة فشجّعهم ثم قال: «واللّه ما كنّا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، إلّابهذا الدين الّذي أكرمنا اللّه به، انطلقوا، واللّه لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلّافرَسانُ، ويوم أُحد فرسٌ واحد، وإنّما هي إحدى الحسنيين: إما ظهورٌعليهم، فذلك ما وعدنا اللّه ووعدنا نبينا، وليس لوعده خُلف؛ وإمّا الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان».(1)

فقوّت هذه الخطبة الحماسية الصادقة معنويات المقاتلين المسلمين وبثّت فيهم روح البسالة والمقاومة.

ثم تواجه الجيشان في منطقة تُدعى «مشارف» ولكن جنود الإسلام تأخّروا وانسحبوا قليلاً لبعض العلل، ونزلوا في مؤتة. فقسّم جعفر بن أبي طالب قائد الجيش، جنود الإسلام إلى أقسام: مختلفة، وأمَّرَ على كلّ قسم أميراً، ثم بدأت المبارزة الفردية على نحو ما كان متعارفاً في حروب العرب، فكان على جعفر أن يأخذ اللواء بيده ويوجّه صفوف المقاتلين المسلمين، ويقاتل في نفس الوقت.

ثم إنّنا نكتشف مدى الشجاعة الروحية وثبات الإرادة لتحقيق الهدف من خلال الرجز الّذي أنشده «جعفر» خلال القتال فقد أخذ يرتجز ويقول:

يا حبّذا الجنة واقترابُها طيبة وبارداً شرابُها

ص:507


1- . المغازي: 760/2.

والروم رومٌ دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابُها

عليَّ إذ لاقيتُها ضِرابُها(1)

ولقد قاتل قائد الجيش الأعلى (جعفر) قتالاً عظيماً، فلمّا حاصره الأعداء في ساحة القتال وأيقن بالشهادة وثب إلى الأرض ثمّ عقر فرسه في الحال لكي لا ينتفع به العدوُّ وأخذ يقاتل، وهو آخذ باللواء بيمينه، فقطعت يمينهُ فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضُديه حتّى لا يسقط لواء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على الأَرض حتّى قتل وقد وُجِدَ به ثمانون جراحة أو تزيد!!(2).

فلمّا قتِل «جعفر» أخذ الراية «زيدُ بن حارثة» معاونه الأوّل فقاتل ببسالة عظيمة حتّى قتل برماح القوم.

فأخذ الراية «عبداللّه بن رواحة» معاونه الثاني، ثم تقدّم بها وهو على فرسه، فجعل يقاتل ويرتجز، فأحسّ بالجوع أثناء القتال، وألحّ عليه، فأتاه رجل بعرق من لحم ليزيل به جوعه ويشدُّ به صُلبَه، فلم يأكل منه شيئاً حتّى سمع صوت هجوم العدوّ، فألقى الطعام من يده، ثم أخذ سيفه فتقدّم فقاتل حتّى قُتِل.

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة

وهنا بدأت حيرة المقاتلين المسلمين، فقد قُتِلَ القائد الأعلى للجيش ومعاوناه وعلى الترتيب الّذي ذكر.

ولكن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان قد تحسّب لهذه الحالة، وترك أمر اختيار القائد في

ص:508


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 833/3.
2- . لاحظ: المغازي: 761/2-762، وقد أثابه اللّه بذلك جناحين في الجنّة يطير بهما، وسُمّي في ما بعد بجعفر الطيار، راجع السيرة النبوية لابن هشام: 833/3.

مثل هذا الوضع إلى الجنود أنفسهم، فأخذ الراية «ثابت بن أرقم أخو بني العجلان» وقال: يامعشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطُلِحَ على «خالد بن الوليد»(1) الّذي كان حديث عهد بالإسلام آنذاك.

ولقد كانت الساعة الّتي أُنيط فيها القيادة إلى خالد ساعة خطيرة وحسّاسة جدّاً، حيث قد تغلّب الخوف والرعب على المسلمين كافّة.

فعمد القائد الجديد إلى استخدام تكتيك عسكري لم يعرف له مثيل، فقد أمر بالعسكر إذا جنّ الليل أن يحدث بعض التغييرات في صفوفه من دون ضجيج فتنتقل الميسرة إلى الميمنة، والميمنة إلى الميسرة، وتتأخّر المقدّمة إلى مكان القلب، ويتقدّم القلب إلى موضع المقدّمة. ففعل المسلمون ذلك، واستمرّت هذه التغييرات حتّى طلوع الفجر.

كما أنّه أمر جماعة من المسلمين المقاتلين أن يخرجوا من الجيش ليلاً، ويذهبوا إلى مكان بعيد فإذا أسفر الصبح التحقوا بالمسلمين سريعاً وهم يكبّرون حتّى يظن العدوّ وصول إمدادات عسكرية بشرية جديدة إلى المقاتلين المسلمين، وقد تسبّب هذا التكتيك بنفسه في أن يحجم الجيش الكافر عن مهاجمة المسلمين واستئصالهم، بعد أن قتل خيرة قادتهم.

فلمّا كان الصبح ورأى العدو وجوهاً جديدة، كما رأوا إمداد المسلمين بمجموعة عسكرية جديدة قالوا: قَد جاءهم مدد. فرعبوا وانهزموا فقاتلهم المسلمون، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقُتِل في هذه الأثناء أحدُ الجنود المسلمين.

ثم ساد الموقف صمتٌ رهيبٌ، فاستفاد من هذا الصمت والأمن الّذي كان

ص:509


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 834/3.

يخيم على الجيش فرجعوا من حيث أتوا.

إنّ أكبر انتصار للمسلمين هو أنّ قوة قليلة محدودة واجهت جيشاً عظيماً منظماً ثلاثة أيام، وبالتالي نجوا بأنفسهم، وكان تدبير القائد الجديد تدبيراً حكيماً خلّص المسلمين من موت محتم، فعادوا سالمين إلى المدينة، وكان هذا ممّا يشكَرون عليه، ويستحقون والثناء(1).

الجنود يعودون إلى المدينة

وقبل أن يقدم جنود الإسلام من «مؤتة» المدينة كانت قد وصلت إلى المسلمين أنباء انسحابهم وأنباء سيّئة عن وضع الجيش، من هنا ذهب المسلمون الى منطقة الجرف لاستقبالهم.

ومع أنّ عمل القائد الجديد كان تكتيكاً حكيماً، إلّاان مثل هذا الصنيع حيث إنّه كان يتنافى مع ما حقّقه المسلمون من أمجاد مشرقة وينافي مشاعرهم وبسالتهم الذاتية والأصيلة لذلك استقبلوهم بشعارات نابية وانتقادات جارحة، وألقوا بالتراب والحجارة في وجوه المقاتلين العائدين، وقالوا: يا فُرّار، أفررتم في سبيل اللّه؟(2)

وقد كانت ردة فعل بعض المسلمين قويّة جداً إلى درجة أنّه اضطر بعض الشخصيات الّتي شاركت في تلك المعركة إلى أن يقعد في بيته، ولا يظهر في الملأ، فكان الناس - إذا خرجوا - يشيرون إليهم بالأصابع ويقولون: ألا تقدّمت مع أصحابك؟(3).

ص:510


1- . لاحظ: المغازي: 763/2-764.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 836/3.
3- . لاحظ: المغازي: 765/2، إمتاع الأسماع: 341/1.

ولقد كانت ردّة فعل المسلمين تجاه عملية انسحاب جنود الإسلام الذكية، كاشفة عن روح الشهامة والجهاد الّتي أوجدها الإيمان باللّه والإيمان بيوم القيامة في نفوسهم بحيث صاروا يعدّون القتل والشهادة في سبيل اللّه، أفضل من الانسحاب والتأخّر.

أُسطورة بدل التاريخ الصحيح

حيث إنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد اشتهر بين المسلمين بأسد اللّه، لذلك أراد البعض أن ينحتوا تجاه هذا القائد قائداً آخر، ويمنحونه لقب سيف اللّه، ولم يكن ذلك إلّاخالد بن الوليد من هنا قالوا: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لقّب خالد بن الوليد بعد رجوعه من معركة «مؤتة» بسيف اللّه(1). ولو أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منح مثل هذا اللقب لخالد في مناسبة أُخرى لما كان للبحث والنقاش مجال.

ولكنّ الأوضاع بعد معركة «مؤتة» ما كانت توجب بل ولا تسمح بأن يعطيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مثل هذا اللقب، فهل مَن يرأس فريقاً يُسمّيه المسلمون الفُرّار، ويحثون في وجوههم التراب يحسن أن يُعطى في مثل هذه المناسبة لقب سيف اللّه؟ أجل؛ لو أنّ خالداً كان مظهراً لسيف اللّه في غزوات ومعارك أُخرى أمكن القبول بذلك، أمّا في هذه المعركة فلم يكن مظهراً لسيف اللّه، ولم يصدر منه بعد تقليده إمارة الجيش إلّاتكتيك عسكري حكيم، ولما وصف هو ومن معه بالفراريين، خاصّة أنّ ابن سعد يكتب قائلاً: فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، وانكشف الناسُ، فكانت الهزيمةُ فتبعهم المشركون فُقتِلَ من قُتِلَ من

ص:511


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 218/4؛ باب مناقب خالد، و ج 87/5، باب غزوة مؤتة؛ السيرة الحلبية: 789/2.

المسلمين(1).

إنّ مختلقي هذه الأُسطورة أضافوا لتأكيد مطلبهم هذه الجملة أيضاً: قال خالد: لقد اندقّ يومئذ (أي يوم مؤتة) في يدي سبعة أسياف فما ثبت بيدي إلّا صفيحة يمانية(2).

إنّ مختلق هذه الكذبة غفل تماماً عن أنّ خالداً وجنوده لو كانوا أبدوا في هذه المعركة مثل هذه البسالة، ولو أنجزوا في هذه الحرب مثل هذا العمل العظيم فلماذا سمّاهم أهلُ المدينة بالفرّار؟! ولماذا حثوا التراب في وجوههم؟! ولماذا وقع الناس في خالد بعينه؟!(3) إذ كان من اللازم في هذه الصورة أن يزرعوا طريقهم بالورود، ويقربوا بين أيديهم القرابين إبتهاجاً بعودتهم الضافرة، وإعجاباً بعملهم الجبار!!

النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر

لقد بكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على مقتل ابن عمه «جعفر» بشدّة، ولكي تعرف زوجته أسماء بنت عميس بمصرع زوجها دخل عليها، فقال لأسماء: إيتيني ببني جعفر.

فجاءت بهم إليه فضمّهم وشمّهم، ثم ذرفت عيناه ثم بكى، فعرفت أسماء بمصرع زوجها فصاحت وبكتْ ثم خرج رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أهله وقال:

«لا تغفلُوا آلَ جَعْفَر مِنْ أَن تَصْنَعوا لَهُمْ طَعاماً، فإنَّهُمْ قَد شُغِلوا بأمر صاحبهم» وكان كلّما تذكّر جعفراً وزيد بن حارثة بكى (4).

ص:512


1- . الطبقات الكبرى: 129/2، إمتاع الأسماع: 341/1.
2- . أُسد الغابة: 94/2.
3- . لاحظ: السيرة الحلبية: 793/2 وغيره.
4- . بحار الأنوار: 54/21؛ المغازي: 766/2، السيرة الحلبية: 790/2، إمتاع الأسماع: 365/13.

49 غَزوةُ ذات السَلاسِل

اشارة

منذُ أن هاجرَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة، وأصبحت «المدينة» مركز الإسلام وقاعدته، وموضع تمركز المسلمين وعاصمتهم، ظلّ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يراقب أوضاع أعداء الإسلام، ويرصد تحرّكاتهم، ومؤامراتهم، وكان يولي مسألة تحصيل المعلومات المفصَّلة عن المتآمرين من المشركين وغيرهم إهتماماً كبيراً، ويعمد دائماً إلى اختيار أفضل العناصر لإرسالهم - بمختلف الحجج - إلى نواحي مكّة، وبثّهم في القبائل المشركة المختلفة لتجسّس أخبارهم، والتعرّف على نواياهم، وتدابيرهم.

ولقد استطاع النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم بفضل الاطّلاع المبكِّر والدقيق على المؤامرات الّتي كانت تحاك ضدَّه أن يُفشِّل الكثير من خططهم.

فقد كان صلى الله عليه و آله و سلم يباغت العدوّ، ويحاصره قبل أن يتحرّك من مكانه، عن طريق المجموعات العسكرية الّتي كان يقودها بنفسه، أو الّتي كان يؤمِّر عليها أحد أركان جيشه ويوجّهها صوب مكان تجمع العدو، فيفرّقون جمعهم، ويشتّتون شملهم، ويقضون على المؤامرة في مهدها، وبهذا كان الكيان الإسلامي في أمن من خطر الأعداء، وكان هذا العمل وهذا التدبير يجنّبُ الطرفين المزيد من إراقة الدماء

ص:513

وإزهاق الأرواح.

إنَّ الاطّلاع المبكِّر على أسرار العدوّ العسكرية، ومعرفة حجم طاقاته، ومبلغ استعداداته، واكتشاف خططه، وتكتيكاته يُعدّ من العوامل الجوهرية، والمؤثّرة في الظفر والانتصار.

فلِلدّول الكبرى اليوم أجهزةٌ طويلةٌ وعريضةٌ، وتشكيلاتٌ واسعةٌ، ومعقَّدةٌ لإعداد وتخريج الجواسيس البارعين، وإرسالهم إلى النقاط والمراكز المطلوب اكتشاف أسرارها، والتعرّف على أوضاعها وخصوصياتها، وترصد هذه الدول ميزانيات ضخمة لهذا الغرض(1).

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أوّل مَن ابتكر في تاريخ الإسلام هذا العمل في صورته المنظَّمة، وتبعه في ذلك الخلفاء الذين جاءُوا من بعده، وبخاصّة الإمام أميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب الّذي كان يستعين بجواسيس وعيون كثيرين في مجالات مختلفة، عسكرية، وإدارية.

فكان عليه السلام إذا نصبَ والياً على بلد، جعل عليه عيناً يراقب أعماله وتصرّفاته، ويخبر الإمام بها أوّلاً بأوّل، فكان الإمام يكتب إلى ذلك الوالي، ويوبّخه على تصرّفاته وانحرافاته إن بلغَهُ شيءٌ من ذلك(2).

ولقد كلّفَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة الثانية ثمانية رجال من المهاجرين، بالتوجّه تحت إمرة «عبداللّه بن جحش» إلى موضع معيّن، والنزول فيه، للتعرّف

ص:514


1- . راجع: كتاب: المخابرات والعالم وغيره.
2- . راجع: نهج البلاغه قسم الرسائل والكتب، رقم 33 و 45 وكتاب الغارات. هذا وقد بحثنا موضوع الاستخبارات والتجسّس في النظام الإسلامي بصورة مسهبة في موسوعتنا: مفاهيم القرآن: 540/2-558. ويبحث هذا الجزء عن: معالم الحكومة وأركانها وبرامجها، فراجع.

على نشاطات قريش، ومؤامراتهم.

وقد كان عدم مفاجأة قريش للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في معركة «أُحد» وخروجه المبكِّر من المدينة بقواه، وجنوده، والنزول في منطقة مناسبة عسكرياً خارجها، وحفره المبكِّر أيضاً للخندق المعروف في شمال المدينة، والّذي منع العدو (جيش الاحزاب) من اقتحام المدينة المنوَّرة، كلّ ذلك كان نابعاً من معرفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسبقة والدقيقة بأسرار العدوّ، ونواياه، وحجم قواته، وبالأَرض، وذلك عن طريق عيونه وجواسيسه الأذكياء اللبقين، اليقظين الذين كانوا يرصُدون - بدقّة وباستمرار - أوضاع العدوّ، وتحرّكاته، وينقلون معلوماتهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وبذلك كانوا يقومون بواجبهم الديني في مجال الحفاظ على عقيدة التوحيد، وصيانتها من خطر السقوط.

إنّ هذا التدبير الذكيّ، والطريقة الحكيمة الّتي ابتكرها وأخذ بها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تُعتبر أكبر درس للمسلمين اليومَ، ودائماً.

ولهذا يتوجبُ على قادة المسلمين المخلصين أن يعرفوا بكلّ ما يُحاك - في بلاد الإسلام أو في غيرها من بلاد العالم - من مؤامرات ضدّ المسلمين، وما يدبَّر من خُطَط لتقويض دعائم الإسلام ويبادروا إلى إطفاء شرارات الفتن في مهدها، وقبل اشتعالها، وأن يسلكوا نفس المسلك الّذي سلكه رسولُ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم ليحصلوا على ذات النتيجة، ولا شكّ أنّ مثل هذا العمل لا يتيسَّر من دون أجهزة مناسبة، ومن دون تشكيلات خاصّة.

ولقد استطاع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة: «ذات السلاسِل» الّذي هو موضوع بحثنا الآن، أن يطفئ نار الفتنة عن طريق استخدام المعلومات الدقيقة الّتي حصل عليها عن العدوّ.

ص:515

ولو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أغلق على نفسه هذا الباب لتحمَّل خسائر لا تُجبَر، ولتعرّضت الكثير من جهوده المباركة في سبيل نشر الدعوة الإسلامية لخطر الفشل والإخفاق.

تفاصيل هذه الغزوة

لقد أبلغ العيون وعناصر المخابرات الإسلامية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ آلافاً من الناس قد تحالفوا وتعاقدوا في ما بينهم في منطقة تُدعى ب: «وادي اليابس» على التوجّه إلى المدينة المنوَّرة للقضاء على الإسلام بكلّ ما لديهم من قوة، فإمّا أن يُقتَلوا في هذا السبيل، أو يقتلوا «محمّداً» أو فارسه البطل الفاتح «علي بن أبي طالب»!!

ويقول علي بن إبراهيم في تفسيره: «نزل جبرئيل على محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بقصّتهم، وما تعاقدوا عليه وتواثقوا»(1).

غير أنَّ شيخَ الشيعة ومحقّقهم الكبير المرحوم «الشيخ المفيد» (المتوفّى عام 413 ه) ذكر: بأنّ أَعرابياً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وأخبره باجتماع قوم من العرب بوادي الرمل(2) للتآمر عليه، وعلى الإسلام، (وأضاف) بأنّهم يعملون على أن يبيّتوه بالمدينة(3).

ورأى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يُطلِعَ المسلمين على هذا الأمر، فأمر مؤذنه بأن ينادي: الصلاة جامعة، وهي جملة كان يراد منها اجتماع الناس للصلاة واستماع أمر

ص:516


1- . تفسير القمّي: 434/2، تفسير سورة العاديات.
2- . يحتمل أن يكون وادي الرمل هو وادي اليابس نفسه. وذلك للمناسبة بين الوصفين.
3- . الإرشاد للمفيد: 114/1.

مهمّ وذي بال.

فعلا مؤذّن النبي صلى الله عليه و آله و سلم مكاناً مرتفعاً ونادى: الصلاة جامعة، فسارع المسلمون إلى الاجتماع في مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم رقى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم المنبر وقال في ما قال:

«أيّها الناس، إنَّ هذا عَدوَّ اللّه وعدوّكم قد عمل على أن يبيِّتكم فمَنْ لهمْ؟».(1)

فانتدب جماعة أنفسهم لهذا الأمر، وأمّر عليهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أبابكر، فتوجّه أبوبكر بتلك المجموعة إلى قبيلة «بني سليم»، ولمّا سار بهم مسافة واجه أرضاً خشنة وكانت قبيلة «بني سليم» تسكن في شعب واسع، فلمّا أراد المقاتلون المسلمون أن ينحدروا إلى الشعب عارضهم بنوسليم وقاوموهم، فلم ير قائد المجموعة بُدّاً من الانسحاب بمجموعته والرجوع بهم من حيث أتى!!

يقول علي بن إبراهيم في تفسيره: قالوا (أي بني سليم لأبي بكر): ما أقدمك علينا؟

قال: أمرَني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن أعرض عليكم الإسلام فإن تدخُلوا فيما دخل فيه المسلمون لكمْ مالهمْ، وعليكمْ ما عليهمْ، وإلّا فالحربُ بيننا وبينكم.(2)

فهدّده زعماء تُلك القبيلة - وهم يباهون بكثرة رجالهم ومقاتليهم - بقتله وقتل مَن معه، فأُرعبَ لتهديدهم وعاد بجماعته إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رغم أنّ أفراده كانوا يصرّون على مقاتلة بني سليم تنفيذاً لأوامر النبي صلى الله عليه و آله و سلم!!

ولقد أزعجتْ عودةُ الجيش الإسلامي بهذه الصورة المهينة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،

ص:517


1- . بحار الأنوار: 77/21.
2- . تفسير القمي: 435/2.

فأمر عمر بن الخطاب أن يتولّى قيادة تلك المجموعة ويتوجّه بها إلى «وادي اليابس»، ففعل عمر ذلك.

ولكنّ العدوَّ كان قد ازداد - هذه المرة - يقظة وتحسّباً فكمن عناصره عند فم الوادي، واختبأوا وراء الأحجار والأشجار بحيث يرون المسلمين، ولا يراهم من المسلمين أحدٌ.

ولهذا خرجوا على المسلمين بغتةً عندما حلّ الجيش الإسلامي بذلك الوادي، وقابلوهم ببسالة وشجاعة، فأمر قائد المجموعة الإسلامية أفراده بالانسحاب، وعاد بهم إلى المدينة مهزوماً مذعوراً كسابقه، فلقي من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما لقيه صاحبه من قبل من الاستياء، والكراهية. وهنا قال عمرو بن العاص - وكان من دهاة العرب وساسته الماكرين، وقد كان يومئذ قريب عهد بالاسلام -: إبْعثني يا رسول اللّه إليهم، فإنّ الحرب خدعة، فلعلّي أخدعُهم!

فأنفذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع جماعة ووصّاه فلمّا صار إلى الوادي خرج إليه بنو سليم فهزموه، وقتلوا من أصحابه جماعة!(1)

الإمام عليٌّ ينتدَب لقيادة العملية

هذه الهزائم المتلاحقة أزعجت المسلمين وأحزنتهم بشدّة، فعمد رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى تنظيم مجموعة جديدة واختار لقيادتها «عليَّ بن أبي طالب»، وأعطاه راية.

وطلب عليٌّ عليه السلام من زوجته «فاطمة» بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن تأتي له

ص:518


1- . بحار الأنوار: 78/21.

بالعصابة الّتي كان يشدّها على جبينه في اللحظات الصعبة، فتعصَّب بها، فحزنت «فاطمة» لمنظر زوجها وهو يتوجّه بمثل هذه الصورة إلى «وادي اليابس» للقيام بأمر خطير، وبكت إشفاقاً عليه، فسلّاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهدّأها، ومسح الدموع عن عينيها(1).

ثم إنّه صلى الله عليه و آله و سلم شيّع عليّاً حتّى بلغ معه مسجد الأحزاب، وعليّ راكب على فرسٍ أبلقٍ، وقد لبس بردين يمانيّين، وحمل رمحاً هندياً بيده.

ثم توجّه علي عليه السلام بأفراده نحو الهدف، إلّاأنّه سلك طريقاً غير الطريق المعروفة ليعمّي على العدوّ، حتّى أنّ الذين خرجوا معه تصوّروا أنّه يقصد العراق، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في علي عليه السلام حينما وجّهه لهذه المهمّة:

«أرسلتُه كراراً غير فرّار».(2)

إنّ تخصيص «عليّ» عليه السلام بهذه الجملة يكشف عن أنّ القادة الذين سبقوه في هذه الحادثة لم ينسحبوا فقط، بل كان انسحابهم مقروناً بالهزيمة القبيحة.

***

عوامل انتصار الإمام عليّ في هذه الموقعة

هذا ويمكن أن نلخّص عوامل انتصار الإمام عليّ عليه السلام في هذه الموقعة في ثلاثة أُمور أساسية هي:

1. أنّه عليه السلام أخفى مسيره ووجهته على العدوّ، فلم يشعر العدوّ بوجهته ومقصده، لأنّه غيّر مسيره حتّى لا يعرف العدو به بواسطة الأعراب من سكان

ص:519


1- . بحار الأنوار: 81/21؛ الإرشاد: 115/1.
2- . إرشاد المفيد: 163/1؛ بحار الأنوار: 78/21.

البادية.

2. أنّه عليه السلام اتّبع مَبدأً هامّاً من مبادئ العمل العسكري، واستخدم تكتيكاً مهمّاً من التكتيكات الحربية وهو: مبدأ الكتمان والتستّر، فقد كان عليه السلام يسير بأفراده ليلاً، ويكمن نهاراً، يستريح خلاله.

وهكذا حتّى دنا من أرض العدوّ، وقبل أن يصل فم الوادي أمر جنوده بالنزول والاستراحة لاستعادة نشاطهم من جهة، ولكي لا يحسّ العدوُ بمجيئهم من جهة أُخرى.

ولهذا السبب الأخير نفسه أمر عليه السلام جنوده بأن يكمُّوا أفواه خيولهم حتّى لا يشعر العدوُّ بوجودهم بصهيلها.

وعند الفجر صلّى «عليٌّ» عليه السلام بجنوده صلاة الصبح، ثم صعد بهم الجبَلَ حتّى وصل إلى القمّة، ثم انحدر بهم - بسرعة فائقة - إلى الوادي حيث يسكن «بنو سليم» فأحاطُوا بهم وهم نيام، فلم يستيقظوا إلّاوقد حاصرهم المسلمون، فأسَرُوا منهم فريقاً، وفرَّ آخرون.

3. شجاعة «عليّ» عليه السلام وبسالته النادرة فهو الّذي قتل الشجعان الأربعة المعروفين في تلك الموقعة فأُرعب العدو إرعاباً شديداً فقد معه القدرة على المقاومة في وجه عليّ عليه السلام، ففرّ تاركاً وراءه شيئاً كثيراً من الغنائم. ولقد عاد بطلُ الإسلام الضافر إلى المدينة بفتح لا سابق له، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جماعة من أصحابه لاستقباله، واستقبال مَن معه من جنود الإسلام.

وما أن وقعت عينا القائد الفاتح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى ترجّل من فرسه فوراً، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يربت على كتفه:

«إركبْ فإنَّ اللّه ورسوله عنك راضيان».

ص:520

وفي هذه اللحظة بالذات اغرورقت عينا «عليّ» عليه السلام بالدموع استبشاراً فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شأن «عليّ» عليه السلام قولته المعروفة:

«يا عليّ لَولا أَنّي أُشفقُ أن تقولَ فيك طوائف مِنْ أُمّتي ما قالت النصارى في المسيح لقلتُ فيك اليوم مقالاً لا تمرُّ بملأ من الناس إلّاأخذوا التراب من تحت قدميك»(1).

ولقد بلغت تضحية «عليّ» عليه السلام وبسالته، وشجاعته في هذه الواقعة من الأهمية بحيث نزلت فيها سورة كاملة هي سورة العاديات الّتي يقول سبحانه فيها:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِياتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً».(2)

إنّ القَسم بخيول الغزاة المغيرين صبحاً، والمشعلين بحوافرها شرارات الفتح والانتصار، إنَّ هذا القسم الحماسيّ الجميل لهو تكريمٌ رائعٌ لبطولات جنود الإسلام في هذه العملية الضافرة، وإكبارٌ بروحهم القتالية العالية.

إعتراض وجواب

هذا ولقد اعترض بعض الملحدين ذات مرّة على هذا النوع من الأيمان والأقسام في القرآن الكريم وقال ساخراً: وماذا يعني القَسم بالخيول الضابحة، العادية، والشرارات المنقدحة من حوافرها؟!

ولقد غاب عن هذا الملحد أن القَسم بخيول الغزاة المجاهدين أو القسم بالشرارات المنقدحة من حوافرها بسبب احتكاكها بالصخور في أرض المعركة

ص:521


1- . الارشاد: 165/1.
2- . لاحظ: تفسير السورة في: تفسير فرات: 591-603؛ مجمع البيان: 253/10.

إنّما هو إشعارٌ بأهمية الجهاد ضدّ الظالمين أعداء البشرية.

إنّ مثل هؤلاء الجنود البواسل ليسوا وحدهم الذين يحظون - في نظر الإسلام - بمنزلة رفيعة ومكانة عالية، بل خيولُهم الّتي تحملهم في هذا الجهاد المقدَّس، وكذا الشرارات الّتي تنقدح من حوافرها تحظى بالقداسة والأهمية أيضاً.

وأية قيمة - ترى - أعلى من محاربة الظالمين الجائرين، وإنقاذ البشرية من براثن ظلمهم وجورهم، ومن حيفهم وعسفهم؟؟

إنّ مثل هؤلاء وما يمكّنهم من أهدافهم من الأدوات، والوسائل مقدَّسون جميعاً، لأنّهم يحرّرون - بجهادهم - الإنسانَ من قيود الطغاة، الظالمين، ويمهّدون لحاكمية اللّه في الأَرض، وأي هدف أعلى وأعظم قدسية من هذا الهدف؟

ولقد دعا القرآن الكريمُ المؤمنين - من خلال تقديس خيول المجاهدين وضبحها وعدوها وشرارات حوافرها - إلى العناية بالجهاد دائماً، وإلى تجميع قواهم، والاستعداد لكسر القيود الّتي ترزح على أيدي البشرية وأرجلها وعقولها، وإلى تحطيم القلاع الّتي ضربها الطغاة على الشعوب المغلوب على أمرها. أجل؛ إنّ فِرَقَ التحرير والجهاد الإسلامية لا تستحقّ وحدها التقديس والاكبار بل تستحقّ خيولها ومراكبها، وشرارات حوافرها التقديس كذلك.

ولقد استبدلت تلك الخيول هذا اليوم بالدبّابات والطائرات فهي مقدّسة أيضاً، كما كانت خيول الغزاة والمجاهدين في عصر الرسالة، كما وأنّ أزيز محرّكاتها، هو الآخر يحظى بالتقديس كما كانت أنفاسُ الخيول تحظى بالتقديس في عصر الرسالة؛ لأنّها تحقّق ذات الهدف، ونفس الغاية المقدّسة وهي: تحرير الإنسان من براثن الظلم والطغيان.

هذا هو ملخّص غزوة «ذات السلاسل» الّتي سَجَّلها وضبَطها مفسّرو الشيعة،

ص:522

ومؤرِّخوهم، ورَوَوها بأسناد صحيحة.

غير أنّ مؤرّخي أهل السنّة - كالطبري -(1) رووا هذه الواقعة بنحو آخر يختلف عمّا ذكرناه هنا، اختلافاً شاسعاً.

ولا يبعد أن يكون «ذات السلاسل» اسماً لغزوتين نقلَ كلّ واحد من الفريقين: «السنّة والشيعة» واحدة منها، وأعرض عن ذكر الأُخرى لأسباب خاصّة.

ص:523


1- . المغازي: 769/2-774؛ تاريخ الطبري: 315/2، السيرة الحلبية: 198/3 و 199.

50 فَتحُ مَكَّة

اشارة

قصّة «فتح مكّة» من قضايا التاريخ الإسلامي الجديرة بالمطالعة والتأمّل، لما تنطوي عليه هذه الحادثة من دروس وعبر، ولكونها تعكس - بصدق وجلاء - أهداف رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم المقدّسة، كما تكشفُ عن أخلاقه العالية، وسيرته الحسنة، وأُسلوبه الإنساني مع الصديق، والعدوّ.

ففي هذا الفصل من التاريخ يتجلّى ما كان يتحلّى به خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم من صدق ووفاء، كما يتبيّن صدقُ أصحابه، ووفاؤُهم، واحترامُهم لكلّ ماتعهّدوا، والتزموا به للخصم في معاهدة «صلح الحديبية»، بينما يتّضح من جانب آخر نفاقُ المشركين من قريش، وخيانتهم في تنفيذ بنود اتفاقية الصلح، وبالتالي نقضهُم للعهد، وبالتالي عدم احترامهم لأيّشيء من الالتزامات!!

إنّ دراسة هذا الفصل تثبتُ لنا حنكة النبي، وحُسن تدبيره، وسياسته الحكيمة في فتح أصعب وآخر قلعة من قلاع العدوّ الكافر، المتصلّب في شركه، وكفره، والمتمادي في عناده وتعسّفه، وكأنّ هذا الرجل الإلهيّ قد أمضى شطراً من حياته في إحدى المعاهد العسكرية العليا، فهو يخطّط أفضل من أي قائد محنَّك قدير، للفتح، ويكون تخطيطه من الدقّة والمتانة، والعمق والحكمة، بحيث يصيب

ص:524

المسلمون فتحاً عظيماً بأقلّ قدر من المتاعب والمشاكل.

وبالتالي يتجلّى في هذا القسم من التاريخ الإسلامي الوجهُ الإنسانيّ الرحيم الّذي كان يتّسمُ به رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كان يحرصُ على دماء أعداء الرسالة الألدّاء، وأموالهم، ويسعى إلى حفظها وصيانتها، كما لو كانوا أصدقاءً لا أعداء.

فهو يعفو بمروءة كبيرة، وبُعد مدى واسع، ورؤية مستقبليّة عميقة عن قريش، ويغفر لهم جرائمهم وأذاهم ويُصدر عفواً عامّاً لم يعرف له تاريخ الفاتحين نظيراً في أسبابه، وعلله، وفي ظروفه وملابساته.

وإليك تفاصيل هذه الحادثة الكبرى من بدايتها إلى نهايتها.

تفاصيلُ فتح مكَّة

لقد قرأنا في ما مضى أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عقدَ في السنة السادسة معاهدة صُلح مع قريش، نصّت المادةُ الثالثة منها على: أنَّ لِكلّ من قريش والمسلمين أن يتحالفوا مع من شاءُوا من القبائل. فتحالفتْ «خُزاعة» مع المسلمين، وتعهّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لخزاعة في هذا التحالف بأن يدافع عن أرضهم وأموالهم وأنفسهم كلّما تعرّضوا لخطر، وطلبوا ذلك.

وتحالفت قبيلة «بني كنانة» - وكانوا من أعداء خزاعة التقليديين - مع قريش.

ولقد تمّ كلُّ هذا في ضوء عقد معاهدة صلح مدّتُها عشرُ سنوات تعهّد فيها الطرفان بالحفاظ على الأمن الاجتماعي، والسلام الشامل في كافّة أرجاء الجزيرة العربية.

ولقد تعهّد الطرفان - في هذه المعاهدة - بأن لا يقوم أيُّ واحد منهما بعمليات عسكرية وتحرّكات عدائية، لاضدّ الآخر، ولا ضدّ حليف الطرف الآخر،

ص:525

كما لا يحرّك حليفه ضد حليف الطرف الآخر.

ولقد انقضَتْ سنتان من تاريخ التوقيع على هذه المعاهدة، وعاش الجانبان في هذه الفترة في سلام ورفاه، وأمن واستقرار إلى درجة أنَّ المسلمين، استطاعوا بعد مضيّ سنة واحدة من التوقيع على تلك المعاهدة، أن يزوروا - بكامل حرّيتهم - بيت اللّه الحرام، في مكّة المكرّمة، ويؤدّوا مناسك العمرة أمام عُيون الآلاف من أعدائهم الوثنيّين، وهي العمرة الّتي سُميَت بعدئذ بعمرة القضاء كما عرفت.

***

ولقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شهر جمادى الأُولى من السنة الثامنة للهجرة كتيبة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة ثلاثة فرسان من أركان جيشه، إلى تخوم الشام وحدودها، لمعاقبة وتأديب المتمرّدين والجناة من ولاة الروم وعُمّالهم فيها، وبالضبط أُولئك الذين قتلوا دعاة الإسلام - الذين ابتعثهم صلى الله عليه و آله و سلم للدعوة والتبليغ - من دون ذنب أو جرم.

والجيشُ الإسلامي وإن استطاع أن ينجو بنفسه من هذه المعركة، ويخرج منها بسلام، من دون أن تكلِّفه تلك المواجهةُ خسائر كبرى في الأرواح سوى ثلاثة هم قادة الجيش - على ما مرّ في قصّة غزوة مؤتة - إلّاأنّه ما عاد بانتصار باهر كان يأمله جنودُ الإسلام المجاهدون، بل كانت العملية في هذا المعركة أشبه ما تكون بعملية الكرّ والفرّ.

وقد أوجب انتشار هذا النبأ جرأة سادة قريش وسراتها، فقد تصوّروا أنّ المسلمين تضاءلت فيهم (أو انعدمت) روحُ الفروسية والإقدام، وروح الشجاعة والبسالة.

من هنا قرّرت قريش أن تخلّ بالأمن والهدوء اللّذين استتبّا بعد اتّفاقية

ص:526

الحديبية، فبادرت - أوّلاً - إلى توزيع الأسلحة على قبيلة «بني بكر» من كنانة، وإلى تحريضهم على أن يبيّتوا «خزاعة» المتحالفين مع المسلمين، فيغيروا عليهم ليلاً، ويقتلوا فريقاً، ويأسروا آخرين!!

بل لم تكتف قريشٌ بهذا، إنّما اشترك جماعة من رجالها في هذا العمل الغادر بصورة مباشرة، وبذلك نقضوا عهدهم الّذي أعطوه في الحديبية، وأخلّوا عملياً بالأمن والسلام، وأحلُّوا الفوضى والقتال، مكان الاستقرار والهدوء اللَّذين سادا الجزيرة خلال عامين في أعقاب عقد معاهدة الحديبية! أجل، لقد حملت «بنوبكر» ومَن ساعدهم من رجال قريش بتحريك من زعامة مكّة على «خزاعة» ليلاً، وكان بعضهم نياماً، والبعض الآخر يتهجّد ويعبد اللّه ليلاً، فقتلوا من خزاعة جماعة، وأسروا آخرين، وغادر - منهم - فريقٌ منازلهم تحت جنح الظلام، ولجأوا إلى مكّة الّتي كانت للعرب يومئذ منطقة أمن لا يجيزون الاعتداء فيها على لاجئ إليها، ودخل الذين لجأوا إلى الحرم دار «بُديل بن ورقاء»(1) وشكوا إليه ما حلَّ بهم على أيدي رجال قريش، وحلفائهم من بني كنانة ليلاً، من قتل وأسر وتشريد!!

كما وَعَدَ المظلومون من خزاعة إبلاغ مظلمتهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأرسلوا رئيسهم: «عمرو بن سالم» فقدم المدينة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فوقف عليه وهو صلى الله عليه و آله و سلم جالسٌ في المسجد بين ظهرانيي الناس، وأخبره بما لحق بحلفائه من خزاعة على أيدي بني بكر من كنانة بتحريك وتحريض من قريش، وأنشد أبياتاً يستغيث فيها برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ قال:

ص:527


1- . كان بُديل من شخصيات «خزاعة» من ذوي السن والشرف فيهم، وكان يعيش في مكّة، وكان له من العمر آنذاك 97 عاماً (أمالي الطوسي: 239).

يا ربّ إنّي ناشدٌ محمَّداً حِلف أبينا وأبيه الاتلدا

فاْنُصْر هَداكَ اللّه نصراً أعتدا واْدعُ عبادَ اللّه يأتوا مَددا

فيهم رسولُ اللّه قد تجردا إنْ سيم خَسفاً وجهُهُ تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا

وَنَقَضُوا ميثاقَك المؤكَّدا وجعلوا لي في كداء رصدا

هم بيّتونا بالوتير هُجّدا وقتلونا ركّعاً وسُجّداً

وقد كان «ابن سالم» يعيد البيت الأخير ويكرّرُه إثارة لمشاعر المسلمين، ويكرّر عبارة: قُتِلْنا وقد أسلْمنا.

فانزعج رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من قريش لغدرها ونقضها للعهد، ووعد «خزاعة» بالنصرة، وقال:

«نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم».(1)

وقد أفاض هذا الوعد القاطع والقويُ حالة من الطمأنينة على قلب مبعوث خزاعة: «عمرو بن سالم» إذ قد تيقّن أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سينتقم لخزاعة ممّن غَدَروها بها وبيّتوها، وفتكوا بأبنائها، وبخاصة من قريش الّتي حرّضت بني بكر على خزاعة، وأشعلت شرارة هذه الفتنة، وبالتالي كانت السبب الحقيقي وراء هذه الجريمة النكراء، ولكن ابن سالم ما كان يظن أنّ هذه المسألة ستنتهي بفتح مكّة، وتقويض دعائم الحكومة الوثنية الجاهلية، والقضاء عليها إلى الأبد!!

ولم يلبث أن قدم المدينة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «بُديل بن ورقاء» في جماعة من «خزاعة»، وأخبروه بما فعلته قريش وبنوبكر من قتل فتيان خزاعة، ثم عادوا

ص:528


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 854/4-855.

قافلين إلى مكّة.(1)

قريشُ تتوجّس خيفة من ردّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

ندمت قريش بشدّة على ما صنعتْ من تأليب بني بكر على خزاعة ومساعدتهم العملية في العدوان على الأخيرة، وأدركت للتوّ، بأنَّ هذا الّذي صنعتهُ هو نقضٌ للعهد الّذي بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لن يدعَ هذه الجريمة النكراء تمرُّ دون ردّ قاطع وحاسم، ولهذا بادرت إلى إيفاد زعيمها «أبي سفيان بن حرب بن أُمية» إلى المدينة المنورة لتطييب خاطر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وتسكين غضبه وتأكيد إحترام قريش لمعاهدة الصلح.

فتوجّه أبو سفيان إلى المدينة، والتقى في «عسفان» بديل بن ورقاء الخزاعيّ وهو عائدٌ من المدينة، فسأله: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنّه قد أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال: تسيّرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي.

قال: أو ما جئت محمداً؟

قال: لا. فلمّا راح بديل إلى مكّة، قال أبو سفيان: لئن كان جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففتّه، فرأى فيه النوى، فقال:

أحلف باللّه لقد جاء بديل محمّداً.(2)

ثمّ خرج أبوسفيان حتى قدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، المدينة فدخل على ابنته «أُمّ حبيبة» زوجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص:529


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 855/4.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 855/4.

طوته (أُمّ حبيبة) عنه، فقال: يا بنيّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عنّي؟!

قالت: بل هو فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأنت رجلٌ مشركٌ نجسٌ، ولم أُحبُّ أن تجلس على فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

وفي «إمتاع الأسماع»: ثم قام أبو سفيان فدخل على ابنته أُمّ حبيبة، فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طوته دونه وقالت: أنت امرُؤٌ نجس مشركٌ!

فقال: يا بنية! لقد أصابك بعدي شرٌّ.

قالت: هداني اللّه للإسلام، وأنت يا أبتي سيد قريش وكبيرُها، كيف يسقطُ عنك دخولُك للإسلام وأنت تعبد حجراً لا يسمعُ ولا يبصرُ!! قال: يا عجباه! وهذا منك أيضاً! أَأَتركُ ما كان يعبد آبائي، واتّبعُ دين محمّد؟!(2)

أجل هذا هو منطق ابنة رجل حاك مؤامرات عديدة وقاد جيوشاً ضد الإسلام طيلة عشرين عاماً تقريباً، وكانت تربطه بأُمّ حبيبة رابطة الأُبوّة والبنوة الوثيقة، ولكن حيث إنّ تلك المرأة ترعرعت في مهد الإسلام، ونشأت في مدرسة التوحيد، حصلت لها مشاعر دينية قوية جداً حتّى أنّها رجّحت المشاعر الدينية على المشاعر العاطفية الشخصية، مقاومة في هذا السبيل رغباتها الذاتية، وميولها الشخصية.

لقد أنزعج أبوسفيان من سلوك ابنته الّتي كان يتصوّر أنّها ملجأه وملاذُه الوحيد في المدينة، فخرج من منزلها فوراً، حتّى أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فكلّمه حول

ص:530


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 855/4-856.
2- . إمتاع الأسماع: 349/1.

تجديد العهد، واستمراره، فلم يردّ عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كناية عن عدم اعتنائه به.

فذهب إلى بعض أصحابه صلى الله عليه و آله و سلم يطلب منهم أن يشفعوا له عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأن يُقنعوه بتجديد ميثاق الصلح، ولكن دون جدوى.

وأخيراً دخل على «علي بن أبي طالب» وعنده فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وعندها الحسن غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي، أنّك أمسُّ القوم بي رَحماً، وإنّي جئتُ في حاجة فلا أرجعَنَّ كما جئتُ خائباً، فاشفعْ لي إلى رسول اللّه.

فقال عليّ عليه السلام: ويحكَ يا أبا سفيان، واللّه لقد عزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أمر ما نستطيع أن نكلّمَه فيه.

فالتفت إلى فاطمة - وهو يحاول إثارتها عاطفيّاً - فقال: يا بنت محمَّد هل لك أن تأمري بُنَيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟

(ولمّا كانت فاطمة عليها السلام تعرف بنوايا أبي سفيان الشريرة لذلك) قالت: واللّه ما بلغ بُني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقال أبو سفيان: يا أبا الحسن إنّي أرى الأُمور قد اشتدت عليَّ، فانصحني.

قال عليٌ عليه السلام: واللّه ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكنّك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس (أي تعطي الأمان للمسلمين) ثم إلحق بأرضك.

فقال أبوسفيان: أوَترى ذلك مُغنياً عنّي شيئاً؟ قال: لا واللّه، ما أظنُّه، ولكنّي لا أجد لك غير ذلك.

فقام أبوسفيان في المسجد - وكان يثق بصدق عليّ في نصيحته - فقال: أيّها الناس؛ إنّي قد أجرتُ بين الناس.(1)

ص:531


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 856/4.

ثم ركب بعيره، وانْطلق راجعاً إلى مكّة، وأخبر سادة قريش بما صنع، وذكر نصيحة «عليّ» إيّاه، فقال: إنّ عليّاً نصحني أن أُجير الناس، فناديت بالجوار. قالوا:

فهل أجاز ذلك محمَّد؟

قال: لا.

قالوا: ويلكَ واللّه إن زاد الرجلُ (ويقصدون عليّاً) على أن لعبَ بك، فما يغني عنك ما قلت. لأنّ النبي لم يجز أمانه، وما لا يجيزه الطرفان لا قيمة له في ميزان العهود. ثم إنّ سادة قريش عقدوا مجلساً من فورهم للتشاور في ما يطفئ غضب المسلمين، ويثني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن عزمه(1).

جاسوسٌ يُكتَشف!

إنّ تاريخ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم يكشف عن أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يسعى دائماً إلى أن يُقنِع العدوّ بالحقّ، ويجعله يستسلم لمنطق الدين، ولم يكن يهدف قط الانتقام من العدوّ وإبادته.

ففي الكثير من الغزوات والمعارك الّتي شارك فيها صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه أو السرايا الّتي بعثها كان الهدف الأساسي هو القضاء على مؤامرة العدو، وإفشالها، وتشتيت شمله، وتفريق اجتماعه قبل أن يقوم بعمل يضرّ بالإسلام والمسلمين، فقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يعرف جيداً أنّه لو أُزيلت الموانع ورُفعت عن طريق الدعوة الإسلامية لترك منطقُ الدين الحنيف أثره في المجتمع الحرّ، وكان يعلم بأنّ الذين يعقدون

ص:532


1- . لاحظ: المغازي: 780/2-794؛ السيرة النبوية لابن هشام: 854/4-857؛ بحار الأنوار: 102/21.

الاجتماعات، ويقيمون التحالفات العسكرية ليحولوا دون تقدّم الإسلام وانتشاره، لو جُرِّدوا من أسلحتهم، وأُنهيت حالة الحرب بينهم وبين الإسلام وتركوا فكرة التغلّب على الإسلام عن طريق القوة العسكرية، وسمعوا منطق الإسلام في جوّ بعيد عن صخب القتال، لانجذبوا إلى عقيدة التوحيد بدافع الفطرة وهدايتها، ولاستجابوا لنداء الضمير، وصاروا من أنصار الإسلام ومؤيّديه المخلصين الأوفياء.

ولهذا السبب كانت الجماعات والأقوام الّتي يتغلّب عليهم جنود الإسلام ثم يتسنّى لهم مناخ التفكير الحرّ في العقيدة والتعاليم الإسلامية السامية في جوّ بعيد عن الضوضاء والصخب، تنجذب إلى الإسلام وترغب فيه، وتعتنق بل تشمّر عن ساعد الجدّ لنشر العقيدة الإسلامية التوحيدية.

وقد تجلَّت هذه الحقيقة في موضوعنا الراهن وهو فتح مكّة بصورة أكمل وأقوى، فقد كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يدرك جيّداً لو أنّه فُتِحَت مكّة، وجُرّد العدوُّ من السلاح ووُفّرت أجواءٌ حرّة آمنة بعيدة عن الكبت والاضطهاد فإنّه لم يلبث أن يصبح هذا الفريق المعادي والمناهض للإسلام بشدّة، من أنصار هذا الدين، ومن المجاهدين الصادقين، الساعين في نشره.

ولهذا يجبُ التغلّب على هذا العدوّ، وكسر شوكته، ولكن يجب عدم إفنائه وإبادته، بل ينبغي تجنب إراقة الدماء، وإزهاق الأرواح ما أمكن.

ولأجل الوصول إلى هذه الغاية المقدّسة (الغلبة على العدوّ من دون إراقة الدماء) استخدم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أُسلوب مباغتة العدوّ.

فقَبْل أن يفكّر العدوّ في الدفاع عن نفسه، ويجمع قواه، ويستعدَّ للمواجهة، كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يحاصر العدوّ في أرضه، ويجرّده من سلاحه، ويجهض محاولته،

ص:533

ومؤامرته.

على أنَّ مبدأ «مباغتة العدو» إنّما يمكن الاستفادة منه إذا بقيت جميع الأسرار العسكرية للجانب المباغت طي الكتمان، وتمّت الترتيبات اللازمة في سرية كاملة، بحيث لم يعرف بها العدوُّ، بل لا يعرف العدو أساساً هل ينوي النبي صلى الله عليه و آله و سلم الهجوم عليه، أو لا، وعلى فرض أنّه ينوي ذلك لا يخبر أحداً شيئاً عن موعد تحرك الجيش الإسلامي، ووجهته، إذ في غير هذه الصورة لا يمكن الاستفادة من مبدأ «مباغتة العدو». ولقد أعلن رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن التعبئة العامّة لفتح مكّة، وتحطيم أقوى قلعة من قلاع الوثنية وإزالة حكومة قريش الظالمة الّتي كانت تمثّل أقوى مانع في طريق تقدّم الدعوة الإسلامية وانتشارها وتوسّعها، وقد طلب من اللّه سبحانه في دعائه أن يعمّي على عيون قريش وجواسيسهم فلا يعرفوا شيئاً عن حركة المسلمين ومقصدهم إذ قال: «اللَّهم خُذ العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها»(1).

أو قال: «اللَّهم خُذْ عَلى قريش أبصارهم، فلا يَروني إلّابغتة، ولا يسمَعون بي إلّا فجأة».(2)

فاجتمع في مطلع شهر رمضان ناسٌ كثيرون من مختلف المناطق خارج المدينة، وداخلها.

ويذكر المؤرّخون جدولاً تفصيلياً بالطوائف والقبائل الّتي شاركت في هذا الفتح العظيم، وإليك ما ذكروه:

ص:534


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 857/4.
2- . المغازي: 796/2.

المهاجرون: سبعمائة مع ثلاثمائة من الخيل.

الأنصار: أربعة آلاف مع خمسمائة من الخيل، وألوية كثيرة.

قبيلة مزينة: ألف مع مائة فرس، ومائة درع، وثلاثة ألوية.

قبيلة جهينة: ثمانمائة مع خمسين فرساً، وأربعة ألوية.

قبيلة بني كعب: خمسمائة مع ثلاثة ألوية.

وكانت بقية الجيش من قبائل غفار، وأشجع، وبني سليم(1).

ويقول ابن هشام: كان جميع مَن شهد فتح مكّة من المسلمين عشرة آلاف:

من بني سليم سبعمائة، ويقول بعضهم: ألف، ومن بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثمائة شخص، وسائرهم من قريش، والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم، وقيس وأسد(2).

ولتحقيق مبدأ المباغتة والكتمان وضِعَت جميع الطرق المؤدّية إلى مكّة تحت المراقبة الشديدة من قِبَل عناصر الحكومة الإسلامية، كما روقب بشدّة تردّد المارة والمسافرين بواسطة الحرس(3).

وبينما كان جيش الإسلام يتهيّأ للتحرّك باتجاه مكّة، نزل جبرئيل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بأنَّ أحدَ البسطاء من المسلمين أقدم على إرسال كتاب إلى قريش، يخبرهم فيه بتوجّه النبي وأصحابه إلى مكّة، وأنّه أعطى ذلك الكتاب إلى امرأة تُدعى «سارة» - وكانت مغنّية من مغنيّات مكّة - لتوصله إلى مكّة لقاء مال تقبضه.

ص:535


1- . المغازي: 800/2؛ شرح نهج البلاغة: 259/17.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 877/4.
3- . لاحظ: بحار الأنوار: 130/21، إمتاع الأسماع: 352/1.

ولقد كانت «سارة» - كما أسلفنا - مغنّية بمكّة، تغنّي لأهل مكّة، وربما شاركت في مجالس العزاء في قريش أيضاً، وقد تعطّل عملُها بعد معركة «بدر»، ومقتل جماعة من رجال قريش، ودخول الحزن في كلّ بيوت مكّة، فلم تعدْ تستطيع أن تغنّي وتطرب، من ناحية، ومن ناحية أُخرى كان أبوسفيان قد أمر الناس بأن لا يبكوا، ولا يقيموا المآتم والمناحات على قتلى بدر حتّى لا يذهب غيضهم على «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه الذين قَتلوا رجالاً من قريش في بدر.

من هنا تركت «سارة» مكّة بعد عامين وقدمت المدينة، وعندما عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمجيئها إلى المدينة سألها: هل أسلمت؟ فقالت: لا، فقال لها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ولِمَ أتيت إلى المدينة؟ فقالت: إنّي مولاتكم، وقد أصابني جهدٌ، وأتيتكم أتعرّضُ لمعروفكم(1). فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فكُسيَت وَ حُمِلَت وَ جُهّزَت.

ومع أنّ هذه المرأة قد شملها الإسلام بلطفه ورحمته ولكنّها خانت النبي والمسلمين عندما تطوّعت للقيام بعملية جاسوسية ضد الإسلام والمسلمين بأخذ كتاب «حاطب بن أبي بلتعة» وإخفائه في شعر رأسها لتبلغه إلى قريش لقاء عشرة دراهم، مفشية بذلك سِرّاً للمسلمين، تضيع - على أثره - جهود النبي صلى الله عليه و آله و سلم وتفشل خطّته!!

ولمّا عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذا الأمر إثر خبر من السماء بعث ثلاث رجال من فرسانه الأشاوس، هم: عليّ والمقداد والزبير، ليدركوا المرأة الخائنة، على طريق مكّة ويأخذوا منها ذلك الكتاب الّذي يحذّر قريشاً ممّا أجمع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليه.

ص:536


1- . بحار الأنوار: 136/21.

فخرج الرجال الثلاثة في طلبها مجدّين حتّى أدركوها في منطقة تدعى «روضة خاخ»(1) فاستنزلوها، وفتّشوا عن الكتاب في رحلها فلم يجدوا شيئاً، فسألوها عنه فأنكرت، فقال لها عليٌ عليه السلام.

«إني أحْلِفُ باللّه ما كذِبَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولا كُذِبنا، ولتُخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك»(2).

ولمّا رأت تلك المرأة هذا الجِدّ من علي عليه السلام وكانت تعرف أنّ عليّاً لا يتركها حتّى ينفّذ أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قالت: إعرضْ، فأعرضَ عليٌّ، فحلّتْ ضفائر شعرها فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه، فأتى به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فانزعج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لفعل «حاطب» وكان من المسلمين السابقين، فدعاه من فوره وقال له عاتباً ومستفهماً: يا حاطب ما حملك على هذا؟

فحلف حاطب باللّه وبرسوله أنّه لم يقصد شرّاً، وقال: يا رسول اللّه، أما واللّه إني لمؤمنٌ باللّه ورسوله، ما غيَّرتُ ولا بَدّلتُ، ولكنّي كنت امرءاً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولدٌ وأهلٌ، فصانعتهم عليهم!!

ويستفاد من اعتذار حاطب هذا أنّ أسياد قريش كانوا يضغطون على مَن تخلّف في مكّة من أقارب المهاجرين وعوائلهم، ويؤذونهم، ولا يتركون أذاهم إلّا إذا حصلوا منهم على أسرار المسلمين بالمدينة.

وهذا الاعتذار وإن كان غير وجيه؛ لأنّ ذلك لا يبرّر إفشاء أسرار المسلمين لأعدائهم الحاقدين، غير أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عفا عنه، وخلّى سبيله لمصالح معيّنة

ص:537


1- . وقال ابن هشام في سيرته: فأدركوها بالخليقة (لاحظ: ج 4/858).
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 858/4، وذكر ابن هشام شخصين فقط هما: الإمام علي والزبير.

منها: سابقة «حاطب» في الإسلام(1).

ولكي لا يتكرّر مثل هذا العمل الخطر والأثيم أنزل اللّه سبحانه قرآناً بهذا الشأن في عدّة آيات إذ يقول: بسم الله الرحمن الرحيم

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلاّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * عَسَى اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللّهُ قَدِيرٌ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ

ص:538


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 376/13 وغيره.

وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ» .(1)

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يتحرّك باتجاه مكّة

أخذاً بمبدأ «المباغتة» كتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم موعد الحركة، ووجهتها، فلم يكن أحدٌ يعرف أين يريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على وجه التحديد(2).

وفي اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة أصدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أوامره بالخروج، وكان قد أصدر أوامره للمسلمين كافّة من قبل بالاستعداد والتهيّؤ للخروج.

ثم إنّه استخلف على المدينة رجلاً من بني غفار يُدعى «أبارهم» ثم استعرض جيشه خارج المدينة على عادته.

ثم لمّا كان صلى الله عليه و آله و سلم بمكان يُدعى «الكديد» طلب شيئاً من الماء أمام المسلمين، وأفطر به في تلك الساعة من النهار، وأمر الجند بأن يفطروا اقتداء به أيضاً.

فأفطر أكثر المسلمين، وأمسك البعض ولم يفطر ظنّاً بأنّ الجهاد في حالة الصوم أفضل، وأكبر أجراً، ولم يعرف هؤلاء السذّج غير المفطرين، بأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم الّذي أمر بالإفطار في شهر رمضان في تلك الحال، هونفسه الّذي أمر بالصوم أيضاً.

فإذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائد حقّ ودليل سعادة فإنّه - في كلتا الحالتين - يريد

ص:539


1- . الممتحنة: 1-9، راجع السيرة النبوية لابن هشام: 858/4-859؛ مجمع البيان: 446/9.
2- . المغازي: 802/2، إمتاع الأسماع: 352/1، قال: وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الناس بالجهاز وطوى عنهم الوجه الّذي يريد،.. فظانّ يظنُّ أنه يريد الشام، وظان يظنُّ ثقيفاً، وظان يظن هوازن.

سعادة الناس، وينشد خيرهم، فلا معنى إذن لأن يطاع في أمره، ولا يطاع في نهيه.

ولهذا غضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لامتناع ثلّة من المسلمين عن الإفطار كما أمر وقال عنهم: «أُولئك العصاة»!!(1).

وأمرهم بأن يفطروا قائلاً: «إنّكم مُصبحو عدوّكم، والفطرُ أقوى لكم».

إنّ مِثل هذا التقدّم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتجاهل أمره ما هو في الحقيقة إلّا نوع من الانحراف عن الحقّ، وهو يكشف عن ضعف في إيمان الجماعة العاصية، المتمرّدة عن أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ولهذا نزل فيه قرآنٌ يلومهم، ويوبِّخهمْ على عصيانهم إذ قال سبحانه:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .(2)

هذا وقد كان «العباسُ بن عبدالمطلب» من المسلمين الذين بَقَوا، في مكّة بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليتجسّس له الأخبار، ويطلعَه على نوايا قريش، وخططهم أوّلاً بأوّل.

وقد تظاهر العباسُ - بعد فتح خيبر - بإسلامه، ولكنّه بقي محافظاً على علاقاته بسادة قريش وزعمائها، فقرّر أخيراً أن يكون آخر من يهاجر من بيوت المسلمين، فغادر مكّة متوجّهاً إلى المدينة، وصادف خروجُه مسير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة، فالتقى ببعض الطريق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد كان بقاء العباس بن عبدالمطلب في مكّة بعد هجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص:540


1- . المغازي: 802/2؛ إمتاع الأسماع: 355/1؛ السيرة الحلبية: 15/3.
2- . الحجرات: 1.

مفيداً للجانبين: (قريش والمسلمين) فلو لم يكن العباس، ونشاطاته السياسية الذكيّة، لما تيسّر فتح مكّة من دون مقاومة قريش، ومن دون إراقة دماء وإزهاق نفوس.

من هنا لا يبعد أن يكون خروج العباس من مكّة في تلك اللحظات والظروف الخطيرة قد كان هو الآخر بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لكي يستطيع القيام بدوره الإصلاحي، الّذي سنأتي على ذكره قريباً.

العفو عند المقدرة

لقد كانت سوابق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المشرّفة، وأخلاقه الحميدة، وصدقه وأمانته، طوال حياته من الأُمور الواضحة المعلومة عند أقربائه، وأبناء عشيرته.

فقد كان الجميع يعلم بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يرتكب طيلة حياته الشريفة إثماً، ولم يفكّر في ذنب، ولم ينو الاعتداء على أحد، ولم يقُلْ بلسانه سوءاً ولا قبيحاً، ولا خان في أمانة، ولا أفشى سرّاً ولا تخلّف عن فضيلة.

ولهذا استجاب لدعوته - في الأيّام الأُولى من دعوته العامّة - الأكثرية الساحقة من قبيلته (بني هاشم)، والتفُّوا حولَه، وتحمّلوا الدفاع عنه، ودعم مواقفه.

ولقد أشار أحد المستشرقين المنصفين إلى هذه الحقيقة، واعتبرها دليلاً على طهارة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصدقه ونزاهته، فهو يقول: مهما كان المرء متكتّماً متستراً على أعماله وأفكاره، فإنّه لا يستطيع بحال أن يخفي تفاصيل حياته عن ذويه وأقربائه، ولو كان لمحمد حالات نفسية أو أفعال سيّئة لما خفيت على أقربائه، ولما

ص:541

كانوا ينقادون إليه بمثل هذه السرعة(1).

نعم يُستثنى من بني هاشم عدّة أشخاص أحجموا عن الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والاستجابة لدعوته، ويمكن الإشارة - في هذا المجال - بعد أبي لهب المعروف بل والمصرّح بعداوته في القرآن، إلى «أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب» و «عبداللّه بن أبي أُميّة بن المغيرة» اللّذين خاصما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعارضا دعوته بشدّة، ولم يكتفيا بعدم الإيمان برسالته، بل منعا من انتشار الحقّ، وآذيا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أشدّ الأذى وألّبا عليه أكثر من أيّ شخص آخر.

ولقد كان أبوسفيان هذا ابنَ عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أخاه من الرضاعة، وكان يألف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة، ولكنّه اختلف مع النبي بعد ابتعاثه بالرسالة، وبنى على مخالفته ومعاداته(2).

وأمّا عبداللّه بن أبي أُميّة فهو أخو أُمّ سلمة ابنة عاتكة عمّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وابنة عبدالمطلب.

ولقد حدا انتشار الإسلام في كلّ أنحاء الجزيرة العربية بهذين الرجلين إلى أن يخرجا من مكّة ويلتحقا بالمسلمين.

فقد خرجا قُبيل الفتح من مكّة، فلقيا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه في أثناء الطريق، وعلى وجه التحديد في نقطة تُدعى بثنيّة العقاب، والنبي قاصد مكّة، فاستأذنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليدخلا عليه، وأصرّا على ذلك، فأبى النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم أن يأذن لهما.

وقد وسّطا أُمّ سلمة، وطلبا منها بلهجة عاطفية أن تشفع لهما عند رسول

ص:542


1- . راجع كتاب: «الأبطال»: ل: توماس كارليل الانجليزي، وقد ترجمه إلى العربية محمد أفندي السباعي المصري.
2- . لاحظ: المغازي: 806/2 و 807.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى يرضى عنهما، فكلّمته، فيهما، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أبى وقال:

«لا حاجَة لي بهما، أمّا ابن عميّ فهتَك عِرضي، وأمّا ابنُ عمّتي وصهري فهُو الّذي قال بمكّة ما قال»(1).

ولمّا كان «عليّ» عليه السلام أعرف الناس بنفسيّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخلاقه، وبطريقة استعطافه، فقد كلّمه أبوسفيان في الأمر، فعلّمه علي بن أبي طالب عليه السلام أن يأتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من قِبَل وجهه فيقول:

«قالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنّا لَخاطِئِينَ» .(2)

فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيجيبه بما قاله يوسف لإخوته إذ قال لهم:

«قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ» .(3)

لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يرضى بأن يتفوّق عليه أحدٌ في حسن القول.

ففعل أبوسفيان هذا ما أشار عليه الإمام علي عليه السلام ودخل من الطريق الّذي بيّنه له، فعفا عنه رسولُ اللّه كما فعل يوسف بإخوته، فأنشد أبوسفيان قصيدة أراد بها أن يُكفِّر عمّا سبق منه، قال فيها:

لعمركَ إنّي يومَ أحمل راية لِتَغْلِبَ خيلُ اللّات خيلَ محمَّد

فكالمُدلج الحيران أظلم ليلُه فهذا أواني حين أُهدى فأَهتدي(4)

ويكتب الواقدي في مغازيه قائلاً: قال أبوسفيان ومعه ابنه، لمّا أعرض رسول

ص:543


1- . فهو ممّن اقترح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمكّة أُموراً غير معقولة، وقد جاء ذكر هذه المقترحات في الآيات: 90-93 من سورة الإسراء. راجع: مجمع البيان: 439/6؛ وأُسد الغابة: 213/5 و 214.
2- . يوسف: 91.
3- . يوسف: 92.
4- . الإصابة: 152/7؛ أُسد الغابة: 214/5؛ السيرة النبوية لابن هشام: 860/4.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنه وأبى أن يأذن له: واللّه لَيقبلُنّي، أو لأخذتُ بيد ابني هذا فلأذهبنَّ في الأرض حتّى أهلك عطَشاً وجوعاً وأنت أحلمُ وأكرم الناس مع رحمي بك(1).

وقد سبق أن قالت أُمّ سلمة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد كلّمته في أبي سفيان: بأبي أنت وَ أُمّي يا رسول اللّه ألَمْ تقلْ: إنَّ الإسلام يجبُّ ما كان قبله؟ فقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إسلامه(2).

تكتيكٌ رائع لجيش الإسلام

تقع «مُرّ الظهران» على بُعد عدّة كيلومترات من مكّة المكرمة، وقد قاد رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جيشه العظيم (وقوامه عشرة آلاف) حتّى مشارف مكّة بمهارة بالغة.

ومع أنَّ عيون قريش وجواسيسها كانت تتجسَّسُ الأخبار وكان هناك من يعمل لصالح قريش، ولكنّهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يعرفوا شيئاً عن نوايا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهدفه.

ولمّا وَصل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مشارف مكّة، عمد - لإرعاب أهل مكّة حتّى يتركوا مقاومة المسلمين عند دخول مكّة وفتحها، ويتسنّى لهم تحطيمُ صرح الوثنية من دون إراقة الدماء - إلى إصدار أمر لجنوده بإشعال النيران فوق الجبال والتلال، وللمزيد من تخويف سكان مكّة والإظهار بمظهر القوة أمر بأن يُشعِلَ كلُّ واحدٍ من الجنود النار وحده، في شريط طويل على الأَرض.

كانت قريش وحلفاؤها يغطّون في نوم عميق آنذاك من جهة، بينما كانت النيران من جهة أُخرى قد غطَّت كلّ المرتفعات المشرفة على مكّة، فلم تستيقظ إلّا

ص:544


1- . المغازي: 811/2.
2- . بحار الأنوار: 114/21 و 115.

على منظر أرعب قلوبهم، ولفت أنظارهم.

وفي هذه الأثناء كان بعض سادة قريش ك: «أبي سفيان بن حرب» و «حكيم بن حزام» وغيرهما قد خرجا من مكّة يتجسَّسون الأخبار.

ففكَّر «العباس بن عبدالمطلب» الّذي لازم رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من منطقة الجحفة، فكّر في نفسه بأنّه إذا ما اتّفق أن واجه جنودُ الإسلام مقاومة من قريش عند دخول مكّة لأدّى ذلك إلى أن يُقتَل جمعٌ كبيرٌ من قريش، ولهذا فإنّ من الأفضل أن يقوم بدور عمليٍّ لصالح الطرفين، ويقنع قريشاً بالتسليم، وعدم المقاومة.

فركب بغلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم البيضاء وتوَجّه صوب مكّة ليخبر قريشاً بمحاصرة مكّة من قِبَل جنود الإسلام، ويخبرهم بكثرة عددهم، وبمبلغ شجاعتهم وإصرارهم على تحقيق أهداف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويقنعهم بأنّه لا مناص من التسليم للأمر الواقع.

فبينما هو كذلك إذ سمع صوت أبي سفيان وبُديل بن ورقاء يتحادثان في جوف الليل فيقول أبو سفيان: ما رأيتُ كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً، فيقول بديل:

هذه واللّه خزاعة حمشتها الحرب.

فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلُّ وأقلُّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

فصاح العباسُ بأبي سفيان وقال: يا أبا حنظلة. فعرف صوتي فقال (أبو سفيان): أبوالفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك فداك أبي وأُمّي؟

فقال العباس: ويحك يا أبا سفيان هذا رسولُ اللّه في الناس، واصباح قريش واللّه.

فارتعد أبوسفيان لما سمعه من العباس حول عظمة القوة الإسلامية، فقال وهو يرتجفُ، وتصطكُّ أسنانه من الفزع، فما الحيلة فداك أبي وأُمّي؟!

ص:545

فقال العباس:... إركبْ في عَجُز هذه البغلة حتّى آتي بك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فاستأمنْهُ لك.

فركب أبوسفيان خلف العباس، ورجع صاحباه (حكيم وبديل) إلى مكّة.(1)

ولقد كان مسعى العباس - كماترى - في مصلحة الإسلام كلّه، فقد أرعب شيطان قريش، وزعيمها وعقلها المدبّر أبا سفيان، وكان موفقاً في هذه الخطوة جداً بحيث لم يعد يفكّر أبو سفيان إلّافي التسليم، وإلقاء السلاح والكفّ عن المقاومة، بل ومَنَعَه العباسُ من العودة إلى مكّة، في نفس الليلة (ليلة فتح مكّة) وأخذه معه إلى معسكر المسلمين بُغية تقييده، ومنعه من العودة إلى مكّة، إذ كان من المحتمل جداً أن يقع فريسة أفكار المتطرّفين في الزعامة المكّية فيدبّرون معاً خطة لمواجهة جيوش الإسلام فيقع - حينئذ - ما لا يُحمد عقباه، من سفك الدماء، وذهاب الأنفس والأرواح.

العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم

دخل العباسُ - وهو على بغلة بيضاء وقد أردف خلفه أباسفيان - في معسكر المسلمين، وهو يقصد خيمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من خلال نيران المسلمين الّتي أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بإشعالها، وكان كلّما مرَّ بنار من نيرانهم قالوا: عمُّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلا يمنعون من مروره، حتّى إذا لقيا عمر بن الخطاب في الأثناء ورأى عمر أبا سفيان خلف العباس على عجز البغلة همَّ بقتله في المكان، ولكن عمّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أجار أبا سفيان في الحال، ومنع بذلك عمر من إلحاق الأذى به، وهو في جواره.

وأخيراً وصل العباسُ برفقة أبي سفيان إلى خيمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فترجّلاً،

ص:546


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 861/4؛ السيرة الحلبية: 16/3.

فاستأذن العباسُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للدخول مع أبي سفيان عليه فأَذن لهما، فوقعت مشادةٌ كلاميةٌ شديدةٌ بين العباس وعمر بين يدى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حول أبي سفيان، وكان عمر يقول: أبوسفيان عدوُّ اللّه فلابد أن يُقتَل، ولكن العباس كان يقول:

يا رسول اللّه إنّي قد أجرته، فقطع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دابر هذه المناقشة عندما قال:

«إذهبْ به يا عَبّاس إلى رَحلك، فاذا أصبحتَ فَأْتِني به».

فذهب العباسُ بأبي سفيان إلى رحله، فبات عنده ليلتَه كما أمر، فلمّا أصبح غدا به إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

أبوسفيان بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

لمّا مثل أبوسفيان عند الصباح بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خيمته قال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«ويحَك يا أبا سفيان؛ ألم يأن لكَ أن تعلم أنّه لا اله إلّااللّه؟».

قال أبوسفيان: بأبي أنت وأُمّي ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلَك، واللّه لقد ظننتُ أن لو كان مع اللّه آله غيره، لقد أغنى عنّي شيئاً بعد.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أنْ تعلمَ أنّي رسول اللّه»؟

قال: بأبي أنت وأُمّي ماأحلمك، وأكرمك، وأوصلك، أما هذه واللّه فإنَّ في النفس منها حتّى الآن شيئاً!!

ص:547


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 862/4؛ السيرة الحلبية: 17/3.

فقال له العباس: ويحك، أسلِمْ واشهْد أن لا إله الّا اللّه، وأنّ محمَّداً رسولُ اللّه قَبلَ أنْ تُضرَبَ عنقُك.

فشهد أبوسفيان شهادة الحقّ، فأسلَم.(1)

إنّ إسلام أبي سفيان الّذي حصل في جوٍّ من الرعب والتهديد وإن لم يكن بالإسلام الّذي كان يريده رسولُ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم ويطلبُه دينُه الحنيفُ، ولكنَّ مصالح معيَّنة كانت توجب أن يدخل أبو سفيان في عداد المسلمين كيفما كان ليرتفع بذلك أكبر سدّ، وينزاح أكبر مانع من طريق الدعوة الإسلامية، لأنَّ رجالاً مثل «أبي سفيان» و «أبي جهل» و «عكرمة» و «صفوان بن أُميّة» وغيرهم، كانوا قد أوجدوا جوّاً من الرعب والخوف في مكّة استمرَّ أعواماً عديدة، فلم يكن يجرؤ أحدٌ من المكّيين في مثل هذا الجوّ المشحون بالخوف أن يفكّر في الإسلام، أو يظهر رغبته في اعتناقه، والانضواء تحت لوائه.

فإذا لم يكن إسلام أبي سفيان الظاهريّ والسطحيّ مفيداً من حيث الواقع، ولكنّه كان مفيداً جداً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وللّذين كانوا تحت سيطرة أبي سفيان ونفوذ زعامته من جماهير مكّة، وبالتالي لِمن كانت له علاقات قُربى معه.

ومع ذلك لم يسمحْ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإخلاء سبيل أبي سفيان؛ لأنّه لم يكن آمناً - وحتّى مع إظهاره الإسلام - من جانبه قبل أن يتمَّ فتح مكّة، ولهذا أمر صلى الله عليه و آله و سلم عمَّه العباس بأن يحبسه بمضيق الوادي عند ممرّ الجنود ليُبصر عظمة القوات الإسلامية وكثافتها قائلاً:

«يا عبّاس احبسه بمضيق الوادي عند خَطم الجبَل (أي انفه) حتّى تمرَّ به

ص:548


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 862/4؛ السيرة الحلبية: 18/3.

جنودُ اللّه فَيراها».(1)

ثم إنّ العباس. قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول اللّه إنَّ أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً.

واستجاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهذا الطلب، ومع أنّ أبا سفيان كان قد عادى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وألّب ضدَّه طيلة عشرين عاماً، وأثار في وجه دعوته الحروب والفتن الكثيرة، ووجّه بذلك ضربات كثيرة إلى الإسلام والمسلمين، فمنحه - رغم ذلك ولمصالح خاصّة - مقاماً، وقال كلمته التاريخية في حقّه... تلك الكلمةُ الّتي تكشف عن عظمة أخلاق رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وسمو روحه، وعمق حكمته إذ قال:

«مَنْ دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمِن.

و مَنْ أغْلقَ عليه بابَه فهوَ آمِن.

ومَنْ دخل المسجد فهو آمن.

ومَنْ طرَحَ السلاح فهو آمن»(2).

***

مكّة تستسلم من دون إراقة دماء

تقدَّم جيشُ التوحيد العظيم نحو مكّة، حتّى أصبح على مقربة منها.

ص:549


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 863/4؛ البداية والنهاية: 332/4.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 864/4. ولاحظ الخبر عن فتح مكة في: مجمع البيان: 468/10-473؛ المغازي: 816/2-818، شرح نهج البلاغة الحديدي: 268/17؛ تاريخ الطبري 323/2؛ الكامل في التاريخ: 239/2؛ إمتاع الأسماع: 354/1.

وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عازماً على أن يفتح مكّة من دون إراقة دماء، وإزهاق أرواح، وأن يسلّم العدوّ من دون أيّة شروط.

وكان من العوامل الّتي ساعَدتْ على تحقيق هذه الغاية - مضافاً إلى عامل التكتم والتستُّر ومبدأ المباغتة - أنّ العباس عمّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم توجّه إلى مكّة كداعية صلح ووسيط سلام بن قريش والنبي صلى الله عليه و آله و سلم، فكان أن أتى بأبي سفيان إلى معسكر الإسلام كما أسلفنا، وبذلك توصّل إلى تحييد أبي سفيان، ولم يكن في مقدور سادة قريش أن يتّخذوا قراراً حاسماً من دون أبي سفيان.

وعندما خضع أبو سفيان أمام عظمة رسول الإسلام الفريدة وأظهر الإسلام رأى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يستفيد منه لإرعاب المشركين أكثر قدر ممكن، فأمر العباس بأن يحبسه عند مضيق الجبل ليرى بأُمّ عينيه حشود المجاهدين من المسلمين - كما أسلفنا - في وضح النهار مع كامل عدّتهم وأسلحتهم، ونظامهم وقوتهم، فيخبر قريشاً بذلك، فيزيدهم خوفاً ورهبة، فينصرفُوا عن فكرة مقاومة الجيش الإسلامي عند دخوله إلى مكّة.

وفعل العباس ما أمره الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم فحبس أبا سفيان حيث أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

فمرّت القبائل مع راياتها أمام أبي سفيان، وكانت بعض قطعات الجيش الإسلامي على النحو التالي:

1. كتيبةٌ قوامُها ألفُ مقاتل من بني سليم بقيادة خالد بن الوليد، وفيها لواءان، أحدُهما مع «عباس بن مرداس»، والآخر مع «المقداد».

2. فوجان قوامُهما خمسمائة مقاتل بقيادة «الزبير بن العوام» الّذي كان يحمل معه لواءً أسود، وكان أكثر أفراد هذا الفوج من المهاجرين.

ص:550

3. فوجٌ قوامُه ثلاثمائة مقاتل من بني غفار بقيادة «أبي ذر الغفاري» وكان لواؤُه معه.

4. فوجٌ قوامه أربعمائة مقاتل من بني سليم بقيادة «يزيد بن الخصيب» ومعه لواؤه.

5. فوجان قوامُهما خمسمائة مقاتل من بني كعب بقيادة «بشر بن سفيان» ورايته معه.

6. كتيبةٌ قوامُها ألف مقاتل من بني مزينة، فيها ثلاثة أُلوية، لواء مع النعمان بن مقرن، ولواء مع بلال بن الحارث، ولواء مع عبداللّه بن عمر.

7. كتيبةٌ قوامُها ثمانمائة مقاتل من جهينة، فيها أربعة ألوية، لواء مع «معبد بن خالد» و «سويد بن صخرة» و «رافع بن مكيث» و «عبداللّه بن بدر».

8. فوجان قوامُهما مائتا مقاتل من بني كنانة، وبني ليث وضمرة، بقيادة «أبي واقد الليثي»، وكان لواؤهما معه.

9. فوج قوامه ثلاثمائة مقاتل من بني أشجع، وفيها لواءان أحدهما بيد «معقل بن سنان» والآخر مع «نعيم بن مسعود»(1).

وعندما كانت هذه القبائل والقطعات تمرّ، سألَ أبوسفيان العباس عن اسمها، وخصوصياتها، فكان العباس يوضح له كلّ ذلك.

والّذي كان يزيد هذا الجيش المنظم جلالاً وعظمة أنّ قادة هذه الأفواج والكتائب كانوا إذا مروّا على العباس وأبي سفيان كبّروا ثلاثاً بأعلى أصواتهم

ص:551


1- . لقد سجّل المؤرّخ الإسلامي الشهير «الواقدي» عدد أفراد هذه القطعات في تاريخه «المغازي»: 800/2 و 801 و 819 بشكل دقيق، وقد نقلها عنه ابن أبي الحديد في ج 270/17 و 271.

وبشكل منظّم، وكبّر من ورائهم جنودهم بصوت واحد ومنظم أيضاً كأكبر شعار إسلامي.

ولقد كان لهذه التكبيرات الهادرة الّتي كانت تدوّي في وديان مكّة، وتردّدها الجبال والوديان، أكبر الأثر في نفوس الأصدقاء والأعداء، فكانت تزيد بهيبتها وجلالها من محبّة الأصدقاء للنظام الإسلامي العظيم، بينما ترهب أعداء اللّه، وتغرقهم في خوف ورعب شديدين.

هذا وكان أبو سفيان ينتظر بفارغ الصبر عبور الكتيبة الّتي فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولهذا كان يسأل العباس كلّما مرّت قطعةٌ من قطعات الجيش الإسلامي:

أفيها محمَّد؟ أو ما مضى بعدُ محمَّد؟!

فيقول العباسُ: لم يمض بعدُ، لو رأيت الكتيبة الّتي فيها محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم رأيت الحديد و الخيل والرجال وما ليس لأحد به طاقةٌ.

وبينما هما كذلك إذ طلعت كتيبةٌ عظيمةٌ قوامُها خمسةُ آلاف مقاتل، فيها ألفا دارع فقط، فيها الرايات والألوية الكثيرة، فيها المهاجرون والأنصار، مع كلّ بطن وقبيلة من قبائل الأنصار راية ولواء، وكانت تُسمّى كتيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الخضراء؛ لأنّ أفرادها كانوا في الحديد لا يُرى منهم إلا الحدُق، وقد ركبوا الخيول العربية الأصيلة، والحُمُر من الإبل، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في وسطها راكبٌ على ناقته القصواء، وقد أحدق به كبارُ الشخصيات من المهاجرين والأنصار، والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يحدّثهم.

فارعبتْ عظمةُ هذه الكتيبة أبا سفيان، بشدة، حتّى أنّه قال للعباس من دون اختيار: ما لأحَدٍ بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة يا أبا الفضل! واللّه يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيكَ الغداة عظيماً.

ص:552

فقال له العباس - بنبرة موبّخة -: ويحك يا أبا سفيان ليس بملك إنّها النبوّة.(1) فليست هذه العظمة والجلال من أثر المُلك المادّي الدنيوي إنّما هو فعلُ الرسالة الإلهية، إنّه جلال النبوة، وإنّه بالتالي من فضل اللّه عزّوجلّ الّذي أدخلَ الاسلامَ في قلوب هذه الجماهير المؤمنة، وهذه الجموع المجاهدة في سبيل اللّه.

أبو سفيان يرجع إلى مكّة

إلى هنا قام العباس بدوره على أفضل صورة، فقد أرعبَ أبو سفيان من قوة الإسلام العسكرية الكبرى، ولهذا رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يخلّى سبيله ليذهب إلى مكّة قبل دخول جنود الإسلام فيها، فيخبر أهلها بعظمة وقوة الجيش الإسلامي القادم إليهم، ويحذّرهم من مغبة المقاومة والمواجهة، ويدلّهم على طريق الخلاص والنجاة، وهو التسليم للأمر الواقع، وإلقاء السلاح، والاستسلام من دون قتال ومقاومة، ومن دون قيد وشرط، لأنّ بمجرّد تخويف أهل مكّة من دون إرشادهم إلى طريق الخلاص ما كان ليحقّق هدف النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، وهو الفتح من دون دماء.

فدخل أبو سفيان مكّة، وقد بات الناسُ ليلتهم في رعب شديد، وترقّب رهيب حتّى أصبحوا، ولم يكن بإمكانهم أن يقرّروا شيئاً من دونه، فلمّا رأوه قادماً أحاطوا به، فأخذ يشير إلى ناحية المدينة، وقد اصفرَّ وجهه، وانهارت قواه وصرخ بأعلى صوته، يا معشر قريش، هذا محمَّد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، أو قال: هذا محمَّد في عشرة آلاف فمَن دخل دار أبي سفيان فهو آمِن. ومَن ألقى السلاح فهو آمِن، ومَن دخل المسجد فهو آمِن، ومَن أغلق بابه فهو آمِن.

ص:553


1- . لاحظ: المغازي: 822/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 863/4.

على أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكتف بهذا بل أضاف إلى الأماكن الثلاثة الّتي أعلنها للجوء الناس إليها حتّى يأمنوا من القتل، موضعاً آخر، حيث عقد لأبي رويحة «عبداللّه بن عبد الرحمن الخثعمي» لواء وأمره أن ينادي:

«من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن»(1).

وقد تسبّب أبو سفيان بندائه في إضعاف المعنويات عند أهل مكّة بشدة حتّى أنّهم انصرفوا عن فكرة المقاومة، لو كانت، وأثمرت جهود العباس ومساعيه في الليلة الفائتة، وأصبح فتحُ مكّة من دون مقاومة في نظر أهل الرأي وعند مَن ينظر إلى واقع الأُمور، أمراً مسلّماً وقطعياً.

ففزع الناس، وتفرّقوا، ولجأ بعضهم إلى دُورهم، والبعض الآخر إلى المسجد، وأسدى أعدى أعداء الرسالة، ونعني أبا سفيان، ونتيجة لتدبير رسول اللّه الحكيم، أكبر خدمة لجنود الإسلام حيث مهَّد لهم - بما أوجده في نفوس المكيّين وقلوبهم من هزيمة نفسية - طريق الفتح العظيم بسلام، ومن دون مشاكل تُذكر، اللَّهم إلّا «هند» زوجة أبي سفيان الّتي كانت تحرّض الناس على المقاومة، وراحت تشتم زوجها وتسبُّه بأقذع الشتائم والسباب، وتتهمه بالجبن والذلّ.(2)

بيد أنَّ الأمر كان قد قُدرِ، ولم تعد تنفع أيّة محاولة معاكسة، ولم تكن تلك الكلمات والأعمال المعارضة سوى هباء في شبك!

ونظير هذا الّذي فعلته هند، ما فعله وقام به بعض الزعماء المتطرّفين مثل «صفوان بن أُميّة» و «عكرمة بن أبي جهل» و «سهيل بن عمرو» ممثّل قريش في صلح الحديبية، الذين تحالفوا فيما بينهم على أن يعملوا على منع قوات الإسلام من

ص:554


1- . إمتاع الأسماع: 387/1.
2- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 383/1؛ السيرة النبوية لابن هشام: 864/4.

دخول مكّة، وانخدع بهم فريق من البسطاء والمغفّلين، فشهروا السلاح في وجه أوّل قطعة من قطعات الجيش الإسلامي، وسدّوا بذلك الطريق عليها في محاولة يائسة لتحقيق مآربهم.(1)

القواتُ الإسلامية تدخل مكّة

وقبل أن تدخل قوات الإسلام مكّة كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد دعا جميع قادة وأمراء جيشه وقال لهم بأنّه يريد أن يفتح مكّة من دون إراقة أيّة دماء، ولهذا أمرهم أن لا يقاتلوا إلّامن قاتلهم، إلّاأنّه أمر بقتل عشرة وإن وُجدوا تحت أستار الكعبة وهم: «عكرمة بن أبي جهل» و «هبار بن الأسود» و «عبداللّه بن أبي سرح» و «مقيس بن حبابة الكندي» و «الحويرث بن نقيذ» و «عبداللّه بن خطل» و «صفوان بن أُمية» و «وحشي بن حرب» قاتل حمزة. و «عبداللّه بن الزبعرى» و «حارث بن طلالة» وأربع نسوة، وكان كلّ واحد من هؤلاء قد قتل أحداً أو ارتكب جناية أو شارك في مؤامرة أو حرب ضدّ الإسلام والمسلمين.(2)

وقد بلّغ الأُمراء والقادة هذا الأمر إلى جنودهم كافّة، ومع أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعرف مسبَّقاً بمعنويات المكّيّين المنهارة، وعدم قدرتهم على المقاومة، إلّاأنّه مع ذلك لم يترك جانب الاحتياط والحذر الّذي يفرضه العملُ العسكري، عند دخول مكّة، حيث رسم لدخولها خطة دقيقة.

ص:555


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 385/1؛ السيرة النبوية لابن هشام: 865/4-866.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 867/4-868؛ تاريخ الخميس: 90/2-94، وقد ذكر صاحب تاريخ الخميس تفاصيل ما ارتكبته هذه الجماعة المهدورة دماؤها وما آل إليه أمرهم بعد فتح مكّة.

قد وصل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بجيشه كلّه إلى «ذي طوى» (وهو موضع مرتفع كانت تُرى منه بيوت مكّة و منازلها) وهو في كتيبة قوامها خمسة آلاف، فلمّا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منازل مكّة اغرورقت عيناه بدموع الشوق والحنين، فانحنى تواضعاً للّه تعالى وشكراً، حتّى رأى ما رأى من فتح اللّه وكثرة المسلمين، حتّى مسّت لحيته الشريفة واسطة الرحل أو يقرب منه.

ومراعاة لجانب الحذر والاحتياط فرّق صلى الله عليه و آله و سلم جنوده فأمر البعض بأن يدخلوا مكّة من أسفلها، وأمر البعض بأن يدخلوها من أعلاها، ولم يكتف بهذا بل أمر وحدات من الجيش بأن تدخل من جميع المداخل والطرق المؤدّية إلى داخل مكّة.

فدخلت جميع وحدات الجيش الإسلامي وقطعاته وكتائبه وفرقه مكّة من دون قتال ومن دون أن تلقى من أهلها مقاومة، فقد كانت جميع الأبواب مفتحة في وجوههم إلّاالمدخل الّذي دخل منه «خالد بن الوليد» بفرقته، فقد عمد جماعة من المكّيّين بتحريض من «عكرمة» و «صفوان» و «سهيل» على شهر أسلحتهم في وجوه المسلمين، ورموهم بالنبل لمنعهم من دخول مكّة، ووقع قتال بين الجانبين، ولكن محرّضي هذه الجماعة اختفوا بعد شيء من القتال والمقاومة، وفرّ الآخرون بعد أن قتل منهم المسلمون اثنى عشر أو ثلاثة عشر شخصاً.(1)

ومرّة أُخرى قام أبوسفيان و من حيث لا يشعر بعمل آخر لصالح الإسلام في هذه الحادثة، فإنّه كان لا يزال مرعوباً ممّا رأى من كثرة الحشود العسكرية الإسلامية

ص:556


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 865/4-866. وحسب المغازي: 825/2-826 قُتِلَ ثمان وعشرون رجلاً.

وقوتها وكان يعلم أنّ المقاومة لا تجدي نفعاً ولا تجرُّ على أهل مكّة إلّاالضرر، ولهذا نادى بأعلى صوته - حقناً للدماء -: يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم؟ من دخَل داره فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن....(1)

فكان لنداء أبي سفيان هذا أثره في نفوس الناس فجعلوا يقتحمون الدور، ويغلقون عليهم، ويطرحون السلاح في الطرقات حتّى يأخذها المسلمون، بينما لجأ بعضهم إلى المسجد.

ولمّا ظهر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على «ثنية أذاخر» نظر إلى لمعان السيوف وهي تصعد وتهبط فقال: «ما هذه البارقة؟ ألم أنه عن القتال»؟

فقيل: يا رسول اللّه، خالد بن الوليد قوتل، ولو لم يُقاتل ما قاتلَ. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قضى اللّه خيراً».(2)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دخل مكّة من ناحية أذاخر، وهي أعلى نقطة في مكّة في موكب عظيم جليل، فضربت له قبة من أُدم بالحجون (عند قبر عمّه العظيم أبي طالب) ليستريح فيها، وقد أصرّوا عليه صلى الله عليه و آله و سلم بأنْ ينزل في بعض بيوت مكّة فأبى صلى الله عليه و آله و سلم(3).

كسرُ الأصنام وغسل الكعبة

لقد استسلمت مكّة الّتي كانت مركزاً رئيسياً للشرك والوثنية طوال أعوام عديدة ومديدة، أمام قوات التوحيد الضافرة، وسيطر جنودُ الإسلام على جميع

ص:557


1- . المغازي: 826/2.
2- . المغازي: 826/2.
3- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 388/1.

نقاط تلك المدينة المقدّسة.

ولقد استراح رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الخيمة الّتي ضربوها له في الحجون بعض الوقت.

ثم إنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن اطمأنَّ واغتسل ركب راحلته «القصواء» وتوجّه إلى المسجد الحرام لزيارة بيت اللّه المعظم والطواف به، بينما كان يحمل معه السلاح، والمغفر على رأسه، وتحيط به هالة من العظمة والجلال، ويحدق به المهاجرون والأنصار، وقد صفَّ له الناس من المسلمين والمشركين، بعضٌ يغمره الفرح والسرور، وآخرون يكادون ينفجرون من الغيظ.

ولمّا انتهى صلى الله عليه و آله و سلم إلى الكعبة فرآها ومعه المسلمون تقدّم على راحلته، ولم يترجّل منها لأسباب خاصّة فاستلم الركن بمحجنه بدل استلامه بيده، وكبّر فكبّر المسلمون لتكبيره، ورَجَّعوا التكبير حتّى ارتجّت مكّة لتكبيرهم ودوّى صوتهم في الجبال والوهاد، وسمعهم المشركون الذين كانوا قد تفرّقوا فوق الجبال ينظرون إلى ذلك المشهد وقد بلغ من هياج المسلمين، وهم يطوفون بالبيت من شدّة سرورهم حداً كاد أن يمنع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الطواف بالبيت بفكر هادئ، فأشار إليهم صلى الله عليه و آله و سلم أن اسكتوا، فسكت الجميع بأمره، وساد الصمت كلّ أرجاء المسجد الحرام، فطاف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالبيت على راحلته، وقد أخذ بزمامها «محمّد بن مسلَمة» وفيما احتبست الأصواتُ في الصدور، واتجهت الأبصار إليه صلى الله عليه و آله و سلم فوقعت عيناه الشريفتان - في الشوط الأوّل من طوافه - على الأصنام الكبرى «هبل» و «إساف» و «نائلة» منصوبة فوق الكعبة، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّما مرّ بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول: «جاء الحقُ وزهقَ الباطلُ إنّ الباطلَ كانَ زهُوقا» فيقع الصنم

ص:558

لوجهه.(1)

وأمر صلى الله عليه و آله و سلم بهُبل أكبر أصنام المشركين فحطم وكسر في مرأى من المشركين، ولقد كان هذا الصنم الكبير يهيمن على عقول الجاهليين في الجزيرة العربية، ويسيطر على أفكارهم أعواماً عديدة.

ولمّا كسر المسلمون ذلك الصنم قال الزبير لأبي سفيان وكان ينظر إلى ذلك المشهد: يا أبا سفيان قد كُسِر هُبَل، أما إنّك قد كنت منه يوم «أُحد» في غرور، حين تزعم أنّه قد أنعمَ.

فقال أبو سفيان: دعْ هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمَّد غيرُه لكان غير ما كان.(2)

ولمّا انتهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من طوافه بالبيت انصرف فجلس ناحية من المسجد، والناس حوله، ثم أرسل بلالاً إلى «عثمان بن طلحة» يأتيه بمفتاح الكعبة، وكان عثمان يومذاك سادن الكعبة، وقد كانت السدانة تُتوراث جيلاً بعد جليل.

فجاء بلال إلى عثمان فقال: إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة، فاستجاب عثمان، إلّاأنّ أُمّه منعته عن ذلك، وكان المفتاح يومئذ عندها وقالت له: أُعيذك باللّه أن تكون الّذي تذهب مأثرةُ قومه على يديه.

فقال لها عثمانُ: فواللّه لتدفعنَّه إليَّ، أو ليأتينّك غيري فيأخذ منك، فسلَّمتْه إيّاه.(3)

ص:559


1- . المغازي: 832/2.
2- . المغازي: 832/2.
3- . المغازي: 833/2.

ففتح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم به باب الكعبة ودخل البيت، ودخل من بعده صلى الله عليه و آله و سلم أُسامة بن زيد وبلالُ وعثمانُ بن طلحة، ثم أمر النبيُّ بإغلاق باب الكعبة، ووقف خالد بن الوليد على الباب يذبُّ الناس عن الباب.

وكانت جدرانُ الكعبة من الداخل مغطّاة بصور الأنبياء والملائكة وغيرهم، فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بمحوها جميعاً، وغسلها بماء زمزم.

عليٌّ عليه السلام على كَتِف النبي صلى الله عليه و آله و سلم

روى المحدِّثون والمؤرّخون عن علي عليه السلام قال: انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه و آله و سلم حتى أتينا الكعبة فقال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: اجلس، وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به فرأى منّى ضعفاً، فنزل وجلس لي نبي اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال:

«إصعدْ على مِنكبي». قال: فصعدت على منكبيه، قال: فنهض بي، قال: فإنّه يخيل إلي أنّي لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: اقذف به، فقذفت به فتكسّر كما تتكسّر القوارير....

وقد أنشد شاعر الحلّة الشهير بابن العرندس، وهو من شعراء القرن التاسع الهجريّ قصيدة ذكر فيها هذه الفضيلة بقوله:

وَ صُعودُ غارب أحمد فضلٌ لهُ دون القرابة والصحابة أفضلا(1)

ص:560


1- . مسند أحمد بن حنبل: 84/1 باسناد صحيح؛ السيرة الحلبية: 29/3؛ تاريخ الخميس: 86/2 و 87؛ مستدرك الحاكم: 367/2 و ج 5/3؛ مجمع الزوائد: 23/6. وراجع بقيه المصادر في موسوعة الغدير: 10/7-13.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر بأن يُفتح باب الكعبة فوقف على الباب، وأخذ بعضادتي الباب فأشرف على الناس بطلعته المنيرة ومحياه الجميل وقال:

«الحمدللّه الَّذي صدَق وعْدَهُ وَ نصَرَ عَبْدَهُ وَ هَزَمَ الأحزاب وَحْدَهُ».(1)

ولقد كان اللّه سبحانه قد وعد نبيّه الكريم في آية من آيات الكتاب العزيز بأن يعيده إلى مسقط رأسه إذ قال:

«إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .(2)

وقد أخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بحمده هذا عن تحقّق وعد اللّه له، وبرهَن مرة أُخرى على صدقه، وصحّة دعواه.

وفي ما كان الصمتُ يخيّم على أرجاء المسجد الحرام، وفي ما كانت الأنفاسُ محتبسة في الصدور، وتجول في رؤوس الحاضرين وأنفسهم أفكارٌ مختلفة، وخواطرُ شتى، ويتذكر أهل مكّة المشركون ما ألحقوه برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأتباعه من الأذى والعذاب الشديد، فتذهب بهم تصوّراتهم مذاهب شتى!!

إنّ الّذين سبق لهم أن أشعلوا حروباً كثيرة ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقتلوا خيرة شبابه وأصحابه، بل وتمادوا في غيّهم وعدوانهم حتّى أنّهم تآمروا لاغتياله بالهجوم عليه في منزله ليلاً، وأرادوا تقطيعه بالسيوف إربا إرباً، هاهمُ الآن يرون أنفسهم أسرى في قبضته، وهو صلى الله عليه و آله و سلم قادر على أن ينتقم منهم كيفما شاء!!

إنّ من الطبيعي أن يتحدّث أهل مكّة في أنفسهم وهم يتذكّرون معاداتهم

ص:561


1- . المغازي: 835/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 870/4.
2- . القصص: 85.

الشديدة والطويلة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجرائمهم الكبرى بحقّه، وبحقّ دعوته ويقول بعضهم: إنّه سيقتلنا حتماً، أو يقتل فريقاً منّا، ويحبس آخرين، ويسبي ذريتنا ونساءنا، جزاءَ ما فعلنا.

وبينما كانوا - في تلك اللحظات - فريسة هذه الأفكار والتصوّرات الشيطانية، كسر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جدار الصمت الرهيب الّذي يخيّم على أرجاء المسجد الحرام وقال سائلاً:

«ماذا تقولونُ... وماذا تظنون؟!».

فقال أهل مكة: نقول خيراً، ونظن خيراً، أخٌ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم (وقد سمع هذه العبارات العاطفية):

«فإنّي أقولُ لكُمْ كما قال أخي يوسف: «قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ» (1).

وكان أهلُ مكّة قد أطمأنُّوا، إلى عفو النبي وصفحه قبل ذلك نوعاً مّا عندما رأوا ردّ فعله الشديد على أحد قادة جيشه عندما أخذ ينادي حين دخول مجموعته العسكرية مكّة من إحدى مداخلها:

اليومَ يومُ المَلحمة اليومَ تُسبى الحُرمَة

فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهذا الشعار وقال رداً عليه:

«اليوم يوم المرحمة»(2)

كما أنّه أمر - لغرض تأديب مَن أطلق هذا الشعار - بأخذ اللواء منه، وأعطاه

ص:562


1- . المغازي: 835/2؛ بحار الأنوار: 107/21 و 132، والآية هي 92 من سورة يوسف.
2- . المغازي: 821/2 و 822.

إلى شخص آخر، وقيل إنّه صلى الله عليه و آله و سلم عزله عن قيادة المجموعة، وأمّر ابنه مكانه، وكان هذا الأمير هو سَعد بن عبادة رئيس الخزرج.

وقد دفع هذا النوع من اللُطف والموقف الإيجابي الّذي لاحظه أهل مكّة المشركون أن يأمل الناس المغلوبون في العفو العامّ إلى درجة كبيرة، خاصّة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد أمّن من دخل المسجد الحرام أو بيت أبي سفيان، أو ألقى السلاح، أو أغلق على نفسه باب منزله.

كلُّ هذه الأُمور كانت قد فَتحت على أهل مكّة بصيصاً من الأمل في العفو الشامل.

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يعلنُ عن العفو العام

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعلنَ عن العفو العام عن جميع أهل مكّة بقوله:

«ألا لبئسَ جيرانُ النبيّ كنتُمْ، لقد كذّبتُمْ، وطردتمْ، وأخرجتُمْ، وَ آذيتمْ، ثم ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلونني إذهبُوا فأنتمُ الطُلقاء»(1).

بلالُ يرفع الأذان على سطح الكعبة

ثم حان وقتُ صلاة الظهر، فعلا مؤذّن الإسلام «بلال» الحبشي سطح الكعبة المعظمة، ورفع في الحاضرين وبصوت عالٍ نداء التوحيد والرسالة (الأذان)، فكان كلُّ واحد من المشركين يقول كلاماً، غضباً وحنقاً على بلال. فمنهم من قال: الحمدُ للّه الّذي أكرم أبي فلم يسمعْ هذا اليوم...

ص:563


1- . بحار الأنوار: 106/21؛ مجمع البيان: 472/10؛ إعلام الورى: 226/1. ولاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 870/4.

وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقولُ شيئاً، لو قلتُ شيئاً لأخبرتْهُ هذه الحصباء!!(1).

إن هذا العجوز الخرف المعاند الّذي لم يشرق في قلبه نورُ الإسلام حتّى آخر لحظة من حياته، خلط بين مسألة الإطلاع على الغيب، وتلقّي الحقائق عن طريق الوحي، وبين مسألة التجسس الّذي يعتمده جبابرة العالم وطغاته.

إنّ مسألة اطّلاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على قضايا الغيب أمرٌ يحصل بطرق غير عادية ولا متعارفة، في حين تحصل معرفة جبابرة العالم بمجريات الأُمور في بلادهم عن طريق استخدام عناصر بشرية، أو من يسمّون برجال المخابرات والأمن. وعلى كلّ حال فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صلّى بالمسلمين صلاة الظهر ثم دعا «عثمانَ بن طلحة» وردَّ إليه مفتاح الكعبة، وقال له:

«هاكَ مفتاحُك يا عثمان، اليومُ يومُ بر ووفاء»(2).

ورُوي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«خُذُوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم أحدٌ إلّاظالم»(3).

ولم يكنْ غير هذا بمتوقع من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فإنّ النبي الّذي بعثهُ اللّه سبحانه إلى الناس ليدعوهم إلى أداء الأمانة - فيما يدعوهم إليه - وليبلّغهم قوله تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» من المسلَّم أن يكون أوّل من يلتزم بهذا التعليم الإلهي، فيعيد مثل تلك الأمانة

ص:564


1- . المغازي: 846/2؛ إمتاع الأسماع: 396/1.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 870/4.
3- . المغازي: 838/2، الطبقات الكبرى لابن سعد: 137/2.

الكبرى إلى صاحبها.

إنه لم يكن بالذي يهضمُ حقوقَ الناس ويدوسُها، في ظلّ ما أُوتي من قوة، ويقول للناس بكلّ صراحة: «خُذوها يا بني أبي طلحة، تالدة خالدةً، لا ينزعها منكم أحدٌ إلّاظالم».

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ألغى جميع مناصب الكعبة الّتي كانت في الجاهلية إلّا ما كان نافعاً للناس كالسدانة والحجابة (وهي القيام بشؤون أستار الكعبة) وسقاية الحجيج(1).

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يتحدّث إلى أقاربه

ولكي يعرف أقرباء النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّ وشيجة القربى الّتي تربطهم برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لاترفع عن كاهلهم أيّة مسؤولية من المسؤوليات، بل تزيد من مسؤوليتهم، ألقى فيهم خطاباً خاصّاً بيّن فيه أنّ رابطة القربى مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم لا تبرّر لأحد من أقربائه بأن يتجاهل قوانين الحكومة الإسلامية، ويتّخذ من انتسابه إلى زعيم هذه الحكومة ذريعة وغطاء لارتكاب ما لا يحلُّ للآخرين كما هو الحال في أنظمة الحكم البشرية.

ولقد شجب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خطابه هذا الّذي خطبه في اجتماع ضمّ رجال بني هاشم وبني عبدالمطلب، كلّ تمييز، وتفضيل غير صحيح، ودعا إلى لزوم العدل ومراعاة المساواة، بين جميع الطبقات إذ قال:

«يا بني هاشم، يا بني عبدالمطلب، إنّي رسولُ اللّه اليكُمْ، وإنّي شفيقٌ عليكم، لا تقولوا: إنّ محمَّداً منّا، فواللّه ما أوليائي منكُمْ ولا مِن غيركم إلّاالمتقون، فلا

ص:565


1- . بحار الأنوار: 132/21.

أعرفكم تأتوني يومَ القيامة تحملُون الدُنيا على رقابكم ويأتي الناسُ يحملون الآخرة.

ألا وإنّي قد أعذرت فيما بيني وبينكم، وفيما بين اللّه عزّوجلّ وبينكم وإنّ لي عَملي ولكم عملكم»(1).

خطابُ النبي التاريخي في المسجد الحرام
اشارة

كان الاجتماع الّذي شهده المسجد الحرام يوم فتح مكّة اجتماعاً عظيماً جداً.

المسلمون والمشركون، والصديق والعدو حضروا بأجمعهم في ذلك الاجتماع، وكانت تجللُ هالةٌ من عظمة الإسلام وعظمة نبيّه الكريم صلى الله عليه و آله و سلم رحاب ذلك المكان المبارك، وكان الصمت والهدوء، وحالة من الانتظار والترقّب، تخيّم على أجواء مكّة.

لقد آن الأوان - الآن - لأن يكشف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للناس عن الملامح الحقيقية لدعوته المباركة ويوقف ذلك الحشد الهائل المتعطّش على معالم رسالته العظمى، ومبادئ دينه الحنيف، وبالتالي أن يكملَ حديثه الّذي بدأه قبل عشرين عاماً ولكنّه لم يُوفق لإتمامه بسبب مضايقات المشركين، ومعارضتهم، وبسبب ما أوجدوه من عقبات وعراقيل في طريقه.

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ابن تلك المنطقة، وتلك البيئة، ولهذا كان عارفاً - تمام المعرفة - بأمراض المجتمع العربي، وأدوائه، وعلاج تلك الأدواء ودوائها.

لقد كان يعرف صلى الله عليه و آله و سلم علل انحطاط المجتمع المكيّ وأسباب تخلّفه عن ركب الحضارة والمدنية، وعن اللحاق بقافلة التكامل البشري الصاعد. من هنا رأى أن

ص:566


1- . بحار الأنوار: 111/21.

يضع يده على مواضع الداء في ذلك المجتمع المريض، وأن يعالج أمراض البيئة العربية بشكل كامل، وكأي طبيب حاذق، وحكيم ماهر.

ونحن هنا ندرج أبرز المقاطع في الخطاب التاريخي الّذي ألقاه سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم على الحشود الكبيرة المتجمعة في ذلك اليوم عند بيت اللّه المعظم.

تلك المقاطع الّتي يعالج كلّ واحد منها مرضاً اجتماعياً خاصّاً من أمراض المجتمع في ذلك العصر وحتّى في عصرنا الحاضر.

1. التفاخر بالنسَب

كان التفاخر بالنسب والقبيلة والعشيرة من الأمراض المستحكمة المتجذّرة في البيئة العربية الجاهلية، وكان من أكبر أمجاد المرء أن ينتسب إلى قبيلة معروفة، ويتفرّع نسبه عن عشيرة بارزة كقريش مثلاً.

ولقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خطابه المذكور لإبطال هذه السنّة الجاهلية المقيتة:

«أيّها الناسُ إنَّ اللّه قد أذهبَ عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها.

ألا إنكُمْ من آدم، وآدم من طين.

ألا إنَّ خير عباد اللّه عبدٌ إتّقاه».

لقد عمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خطابه - لإفهام العالم البشري بأنّ ملاك الشخصية والتفوّق إنّما هو (التقوى) والورع فقط - إلى تصنيف الناس إلى صنفين لا ثالث لهما، وأعطى الفضيلة والمنزلة لأهل التقوى والورع خاصّة.

وبهذا التصنيف الواقعي في ملاكاته أبطل جميع المعايير الخيالية والملاكات

ص:567

والمقاييس المصطنعة إذ قال:

«إنّما الناسُ رجلان:

مؤمنٌ تقيٌ كريمٌ على اللّه.

وفاجرٌ شَقيٌّ هَينٌ على اللّه».

2. التفاضل بالقومية العربية

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعلم جيداً أنّ هذه الجماعة من البشر تعتبر (العربية) والانتساب إلى العرق العربي من المفاخر الكبرى، وكانت النخوة العربية قد ترسّخت في قلوب تلك الجماعة وعروقها كداء دفين ومرض مزمن، فقال في خطابه لمعالجة هذا الداء الخبيث وتحطيم هذا الصرح الموهوم:

«إنّ العربية ليست بأب والد، ولكنّها لسان ناطق، فمن قَصُر به عمله لم يبلغه حسبُه». وهل نجد كلاماً أعمق مغزى، وأوضح مراداً، وأقوى وقعاً في النفوس من هذا الكلام؟!

3. لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض

لقد قال داعية الحرية الحقيقية، ورائد حقوق الإنسان الواقعي بهدف تقوية ودعم مبدأ المساواة بين الأفراد والجماعات البشرية:

«إنَّ الناس من آدم إلى يومنا هذا مِثلُ أسنان المشط، لا فضلَ للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلّابالتقوى».

وقد ألغى رسولُ الإنسانية الأعظم بهذا البيان الصريح كلّ أنواع التمييز

ص:568

الظالمة، وكل ألوان التشدّد مع الآخرين، وفعل وبيّن في ذلك العصر ما لم يفعله ولم يبيّنه ميثاق حقوق الإنسان مع كلّ هذه الضجّة الإعلامية الّتي نشهدها في عالمنا الحاضر.

4. الحروب الطويلة والأحقاد القديمة

لقد نشأت الأقوام العربية - نتيجة اشتغالها المستمر بالحروب الداخلية المتلاحقة والطويلة - على الحقد والضغينة.

فقد كانت نيرانُ الحروب مشتعلة في المجتمعات العربية على قدم وساق ومن دون انقطاع.

ولقد واجه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد سيطرته الكاملة على الجزيرة العربية هذه المشكلة.

فقد كان يتوجّب عليه - بغية إقرار الأمن والهدوء والحفاظ عليهما في البيئة الإسلامية - أن يبادر إلى وضع نهاية لهذه المعضلة، وأن يعالج هذا الداء المزمن، فلم يجد دواء لهذا الداء إلّاأن يطلب من الناس كافّة أن يتنازلوا عمّا لهم من دماء في أعناق الآخرين سُفِكت في العهد الجاهلي، وأن تعتبر جميع ملفات العهد القديم باطلة، ومنتهية، ليمكن عن هذا الطريق الحيلولة دون إراقة الدماء الّتي تُعرّض المجتمع الإسلامي الناشئ للخطر، وحتّى ينتزع من أذهانهم ونفوسهم فكرة الإغارة والقتل العشوائي الّذي كان يُتمّ بحجّة القصاص في حين كان من الممكن أن يتمّ بشكل القصاص الحقيقي العادل، فقال صلى الله عليه و آله و سلم للوصول إلى مثل هذه الغاية السامية:

«ألا إنّ كلّ مال ومأثرة ودم في الجاهلية تحت قدميَّ هاتين».

ص:569

5. الأُخوّة الإسلامية

ولقد ارتبط قسمٌ من خطاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك الحشد العظيم بمسألة اتّحاد المسلمين ووحدة كلمتهم، وحقّ المسلم على أخيه المسلم.

وقد كان مقصودُهُ صلى الله عليه و آله و سلم من بيان هذه الحقوق المتبادلة بين المسلمين الّتي تعتبر من مميزات الدين الإسلامي الحنيف، هو أن يرغّب غير المسلمين في الإسلام إذا هم سمعوا ورأوا مثل هذه الحقوق، ومثل هذه العلاقات المتينة بين المسلمين.

فقد قال في هذا الصعيد:

«المُسلِمُ أخو المُسلم، والمسلمون إخْوَةٌ، وهم يدٌ واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يسعى بذّمتهم أدناهم»(1).

معاقبة المجرمين

ليس من شك في أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان مظهراً كاملاً للإنسانية والرحمة ومثلاً أعلى في العفو والصفح، فهو رغم مشاعر بعض المتطرّفين الملتهبة، أصدر عفوه العام عن أهل مكّة كافّة.

بيد أنّه كان هناك بين المكّيين عدّة أشخاص تجاوزوا الحدّ في معاداتهم للنبي ومعارضتهم للرسول، وارتكبوا في هذا السبيل جرائم لا تغتفر، فلم يكن من الصالح - مع كلّ ما تسبّبوه من فجائع وفضائع - أن يعيشوا بين المسلمين في أمان

ص:570


1- . لقد نقلنا هذه المختارات من: روضة الكافي: 246/8، السيرة النبوية لابن هشام: 870/4؛ المغازي: 836/2، بحار الأنوار: 105/21 و 138 و ج 348/22؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 281/17.

وراحة، إذ كان من الممكن أن يسيئوا استخدام العفو النبويّ فيعودوا إلى مشاغبتهم، وتآمرهم ضدّ الإسلام مرّة أُخرى ويتسبّبوا في ظهور مشاكل أمنية جديدة لا يُعرف مداها، وتبعاتها.

وقد قُتِلَ بعض هؤلاء المجرمين على أيدي المسلمين في الطرقات، ولجأ اثنان منهم إلى بيت «أُمّ هاني» بنت أبي طالب أُخت الإمام علي عليه السلام، فلاحقهما «عليٌ» وهو غارقٌ في الحديد لا يُعرف، فدخلَ بيت أُمّ هاني يطلبهما(1) فواجهت أُمّ هاني فارساً لا يُعرف فقالت: أنا امرأة مسلمة وقد أجرتُ هذين، وجوار المسلمة محترم.

وفي أكثر المصادر أنّها قالت: يا عبداللّه أنا أُمّ هاني ابنة عم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأُختُ علي بن أبي طالب، انصرفْ عن داري.

وهنا عمَد الإمام علي عليه السلام إلى الكشف عن هويته لتعرفه، فنزع المغفر عن رأسه، واسفر عن وجهه.

فما أن وقعت عينا أُمّ هاني على أخيها «علي» بعد فراق طال سنيناً عديدة ومديدة إلا وانحدرت منهما دموع الشوق والفرحة، واعتنقت أخاها، ثم توجّها معاً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليعطي رأيه في أمانها، وجوارها، فأمضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جوار تلك المرأة المسلمة، وأمانها قائلاً:

«قد أجرْنا من أجرتِ وأمَّنّا من أمَّنتِ فلا يقتلهما»(2).

ص:571


1- . يقول ابن هشام إن الرجلين هما: «الحارث بن هشام» و «زهير بن أبي أُميّة بن المغيرة» (السيرة النبوية لابن هشام: 869/4).
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 869/4؛ الطبقات الكبرى: 144/2 و 145.

وقد كان عبداللّه بن سرح الّذي أسلم ثم ارتدّ عن الإسلام أحد العشرة الذين أمر النبي بقتلهم، ولكنّه نجا من القتل بشفاعة عثمان له.

قصّة عكرمة وصفوان
اشارة

ولقد فرّ «عكرمة بن أبي جهل» أحد كبار مثيري الحروب ومشعلي الفتن ضد الإسلام والمسلمين، إلى اليمن، إلّاأنّه نجا من القتل هو الآخر بشفاعة زوجته، في قصّة مفصّلة.

وأمّا «صفوان بن أُميّة» فإنّه مضافاً إلى جرائمه الفادحة، كان قد قتل مسلماً انتقاماً لأبيه «أُميّة بن خلف» الّذي قُتِلَ على أيدي المسلمين في بدر، وذلك عندما صلبَهُ أمام حشد كبير من أهل مكّة في وضح النهار، ولهذا أهدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دمَه، فعزم أن يخرج من الحجاز عن طريق البحر فراراً من القتل، وبخاصّة عندما علم بأنّه من جملة العشرة الذين أمر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقتلهم وأهدَرَ دمهم.

فطلب «عمير بن وهب» من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يعفو عنه، فقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شفاعته، وأعطاه عمامَتهُ ليدخلَ بها مكّة كعلامة أمان من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويصطحب معه إلى مكّة «صفوان بن أُميّة»، فذهب عُميرٌ إلى جَدّة، وأخبر صفوان بذلك، وقدم به مكّة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا وقعت عينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على كبير المجرمين - بل أكبرهم يومئذ - قال له ردّاً عليه - لمّا سأله قائلاً: إنّ هذا (عمير) يزعم أنّك قد أمنتني؟ -:

«صدق».

ثم دعاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الإسلام فقال: فاجعلني بالخيار شهرين، فقال

ص:572

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أنت بالخيار فيه أربعة أشهر»(1).

وبهذا أمهله رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أربعة أشهر كفرصة يفكّر فيها في الإسلام، ودعوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

إنّ دراسة إجمالية وسريعة لهذا الموقف تكشف القناع عن حقيقة مسلّمة في الإسلام وفي تاريخه العظيم يحاول المستشرقون المغرضون إنكارها وإخفاءها، وهو أنّ رؤوس الشرك كانوا أحراراً في اختيار العقيدة الإسلامية واعتناقها.

فهم اختاروها واعتنقوها بمحض إرادتهم من دون إكراه أو إجبار، ولا إرعاب أو تخويف؛ بل كانت القيادة الإسلامية تسعى دائماً إلى أن يتمّ اعتناق عقيدة التوحيد عن طريق التدبّر والتفكير الصحيح، لا عن طريق الإرعاب والتخويف.

هذا هو أبرز حوادث فتح مكّة وأكثرها عبرة، وبقي أن نتعرّض لذكر حادثتين جديرتين بالاطّلاع والتأمّل استكمالاً لهذه الدراسة.

وتانك الحادثتان هما:

1. مبايعة النبي نساء مكّة

بعد بيعة «العقبة» كانت هذه هي المرّة الأُولى الّتي أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم البيعة من النساء بشكل ظاهريّ ورسميَّ، ولقد بايعنَهُ على الأُمور التالية:

1. أن لا يُشركنَ باللّه شيئاً.

ص:573


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 875/4؛ المغازي: 854/2.

2. ولا يسرقن.

3. ولا يزنين.

4. ولا يقتلن أولادهنّ.

5. ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنَّ.

6. ولا يعصينك في معروف.

ولقد تمّت هذه البيعة بالكيفية التالية وهي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر بقدح من ماء ثم ألقى في الماء شيئاً من الطيب والعطر ثم أدخل يده فيه وتلا الآية(1) الّتي وردت فيها الأُمور المذكورة، ثم نهض من مكانه وقال صلى الله عليه و آله و سلم للنساء:

«مَنْ أرادتْ أن تبايع فلتُدخلْ يدها في القدح فإنّي لا أُصافحُ النساء»(2).

وكانت العلّة في أخذ مثل هذه البيعة - الخاصّة في موادها وبنودها - من نساء مكّة هي وجود عدد كبير من النسوة الفاسدات بينهن، فلو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يُقدِمْ على أخذ مثل هذه البيعة منهن لكان من المحتمل أن تستأنف تلك النسوة الفاسدات عمَلهنَّ القبيح حتّى في السرّ.

وكانت «هند» زوجة أبي سفيان بن حرب، وأُم معاوية ذات السوابق السوداء والفاضحة من بين تلك النسوة.

وقد كانت هذه المرأة لفضاضة في طبعها وخشونة في سلوكها، تهيمن على عقلية زوجها أبي سفيان، ولطالما فرضت عليه آراءها، حتّى أنّها يوم قرّر أبوسفيان الاستسلام للأمر الواقع، ورغّب أهل مكّة في السلام حرّضت الناس على القتال

ص:574


1- . الممتحنة: 12.
2- . بحار الأنوار: 113/21.

وسفك الدماء ومواجهة جنود الإسلام.

إنّ تحريضات هذه المرأة بالذات هي الّتي أشعلت نيران الحرب في «أُحد»، تلك النيران الّتي كلَّفت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سبعين شهيداً كان أبرزهم «حمزة» الّذي بقرت تلك المرأةُ الفاسدة الفاجرة الحاقدة وبمنتهى القسوة والفضاضة بطنه، وشقّت صدره، واستخرجت كبده، ولاكته بأسنانها.

لم يكن لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدٌّ من أخذ هذا النوع من البيعة من هذه المرأة وأمثالها في مرأى ومسمع من الناس.

وقد تلا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما نزل من قوله تعالى من شروط البيعة عليهن، فلمّا بلغ إلى قوله: «ولا تسرقن» نهضت هند - وكانت آنذاك متنقّبة متنكّرة - وقالت:

إنّ أبا سفيان رجلٌ ممسكٌ وإنّي أصبت من ماله هنات، فلا أدري أيحل لي أم لا؟

فقال أبوسفيان: ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لكِ حلال.

فضحك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعرفها فقال لها: «وإنّك لهند بنت عتبة»؟!

قالت: نعم، فاعفُ عمّا سلَف يا نبي اللّه عفا اللّه عنك!

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ولا تزنين».

فقالت هند: أو تزني الحرة؟!

لقد كان هذا الدفاع يعدُّ - من منظار علم النفس - نوعاً من كشف القناع عمّا في السريرة والإفصاح عمّا في الضمير. وحيث إنّ هنداً كانت تعرف أنّها كانت فيما مضى تفعلُ مثل هذا، وكانت واثقة من أنّ الناس عند سماع هذه العبارة سيلتفتون بأنظارهم إليها لذلك سارعت فوراً - وبهدف صرف الأنظار عن نفسها - إلى القول:

وهل تزني إلّاالأمة دون الحرّة.

ص:575

ومن الصدف أنّه كان من الرجال في ذلك المجلس بعض من سَبقت له معها علاقات غير مشروعة في العهد الجاهلي فتعجّب من إنكارها، فضحك حتّى استغرق في الضحك، وتسبّب دفاع هند عن نفسها في المزيد من افتضاحها(1).

2. هدمُ بيوت الأصنام بمكّة وما حولها

كانت في مكّة وضواحيها بيوتٌ عديدةٌ وكثيرةٌ للأصنام الّتي كانت تقدُّسها، وتحترمُها القبائلُ المختلفةُ القاطنة في تلك المناطق، وحتّى يقضي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على جُذُور الوثنية في أرض مكّة قام بإرسال فرق عسكرية متعدّدة إلى تلكم المناطق لهدم تلك المعابد، والبيوت، وإزالة الأصنام والأوثان.

كما أنّه صلى الله عليه و آله و سلم أعلن في مكّة نفسها أنّ مَن كان في بيته صنمٌ فليكسره، وفي هذا السياق أرسل «عمرو بن العاص» لتحطيم صنم «سواع» و «سعد بن زيد» لهدم صنم «مناة».

وتوجّه «خالد بن الوليد» على رأس فرقة عسكرية إلى «تهامة» لدعوة بني «جذيمة بن عامر» إلى الإسلام وهدم صنم «عزى»، وقد نهاهُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين كلَّفه بهذه المهمة عن القتال وإراقة الدماء وبعث معه «عبدالرحمن بن عوف» ليعينه على ذلك.

وكانت قبيلةُ بني جذيمة قد قتلت عمّ خالد بن الوليد(2) ووالد عبدالرحمن

ص:576


1- . لاحظ: مجمع البيان: 457/9.
2- . هو الفاكه بن المغيرة بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم، راجع للوقوف على أصل هذه الواقعة: السيرة النبوية لابن هشام: 884/4، تاريخ اليعقوبي: 61/2.

لدى رجوعهما من اليمن في أيام الجاهلية وصادرت أموالهما، ولهذا كان «خالد» يحقد عليهم.

فلما التقى «خالد» بني جذيمة في أرضهم، وجدهم قد أخذوا السلاح، وتهيّأوا لقتاله فأمّنهم وقال لهم: ضَعُوا السلاح فإنّ الناس قد أسلموا.

فرأى زعماءُ القوم أن يضع الناسُ السلاح، ويسلّموا لجنود الإسلام ولكن رجلاً من القوم يقال له: جحدم أدرك بفطنته سوء نية خالد، فقال لزعماء القبيلة:

ويلكم يا بني جذيمة! إنّه خالد واللّه! ما بعد وضع السلاح إلّاالأسئار، وما بعد الأسئار إلّاضرب الأعناق، واللّه لا أضع سلاحي أبداً، فأخذه رجال من قومه فقالوا:

يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا؟ إنّ الناس قد أسلموا ووضعوا السلاح، ووضعت الحرب، وأمن الناس، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد.

فلمّا وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك، فكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم، فلمّا انتهى الخبر إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللّهم إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد.(1)

ونتيجة لهذه الجريمة النكراء فقد غضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على خالد غضباً شديداً، ودعا عليّاً من فوره، وأعطاه مبلغاً كبيراً من المال وأمره بالتوجّه إلى بني جُذيمة، وأن يدفع دية من قَتلَ أو جرح خالد من رجالهم، وثمن كلّ ما خسروه أو فقدوه من أموالهم بدقّة وعناية كاملتين.

فخرج عليٌّ حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فودى لهم

ص:577


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 882/4-883.

الدماء وما أُصيب لهم من الأموال حتى إنّه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلّاوداه، وبقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي عليه السلام حين فرغ منهم: هل بقي لكم من دم أو مال لم يودَ لكم؟

فقالوا: لا.

فقال عليه السلام: فإنّي أعطيكم هذه البقية من المال احتياطاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ممّا يُعلم ولا تعلمون.

ففعل ثم رجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره الخبر، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «أصبت وأحسنت».

ثم قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتّى أنّه ليُرى ما تحت منكبيه يقول:

«اللَّهم إنّي أبرأ ممّا صنَع خالد بن الوليد».

قالها ثلاث مرات(1).

لقد تلافى علي عليه السلام جميع الخسائر المادية والروحية الّتي لحقت ببني جذيمة، وقد أعطى شيئاً من ذلك المال لمن ارتاع، وفزع من صنع خالد و جنوده، وطيّب خواطرهم وقال: وهذه لروعة القلوب.

وعندما عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بصنيع عليّ عليه السلام وإجراءاته العادلة والإنسانية مع بني جذيمة المنكوبين قال في حقّه:

«واللّه ما يسرُّني يا عليُّ أنَّ لي بما صنعت حُمُر النِعَم»(2).

ص:578


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 883/4-884. ولاحظ: الكامل لابن الاثير: 255/2-256؛ إمتاع الأسماع: 6/2-7.
2- . الخصال: 562.

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام في آخره: «... أرضيْتَني رضي اللّه عنك، يا عليُّ أنت هادي أُمّتي، ألا إنّ السعيدَ كلّ السعيد من أحبَّك وأخذ بطريقتك، ألا إن الشقيَّ كلّ الشقيّ مَن خالفكَ ورغبَ عن طريقتك إلى يوم القيامة»(1).

جرائم أُخرى لخالد

لم تقتصر جرائم خالد الّتي ارتكبها طيلة حياته الإسلامية في ظاهرها على ما ذُكر؛ بل لقد ارتكب جريمة أُخرى في أيام حكومة «أبي بكر» أكبر وأفضع ممّا مرت، وإليك خلاصة هذه الواقعة:

رفضت بعض القبائل بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، الاعتراف بخلافة أبي بكر، وامتنعت عن أداء الزكاة إليه، فبعث أبوبكر فرقاً عسكرية مختلفة لقمع هذه القبائل المعترضة.

وقد بعث خالد بن الوليد على رأس فرقة عسكرية إلى قبيلة «مالك بن نويرة» لمقاتلتها بحجّة الارتداد، وما كان «مالك» وجميع أفراد قبيلته مستعدّين للقتال، وكانوا يقولون: نحن مسلمون، فلا معنى لمقاتلتنا.

فمكر بهم خالد على نحو مكره ببني جذيمة في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأمّنهم، وطلب منهم إلقاء اسلحتهم، فلمّا وضعوا أسلحتهم، أمر بحبسهم، ثم قتلهم وقتل زعيمهم المسلم الصالح «مالك بن نويرة» واعتدى على زوجته في نفس الليلة(2).

ص:579


1- . أمالي الطوسي: 498 برقم 1093، المجلس 17؛ بحار الأنوار: 143/21، الحديث 6.
2- . لاحظ: أُسد الغابة: 295/4، تاريخ ابن عساكر: 256/16-258؛ البداية والنهاية: 354/6؛ تاريخ الخميس: 233/1.

فهل يصحُ أن يوصفَ هذا الرجل - على هذه السوابق السوداء، ومع هذا الملفّ المخزي - بسيف اللّه، وأن يُعدَّ من أُمراء الإسلام المجاهدين الصالحين؟!!(1).

ص:580


1- . لقد وَرَد ذِكر هذه الحادثة في كتب التاريخ في حوادث السنة الأُولى من حكومة «أبي بكر» بصورة مفصّلة وقد ذكرناها ملخّصة. وللوقوف على تحليل هذه القضية المؤسفة راجع كتاب: النص و الاجتهاد: 108-138، تحقيق أبو مجتبى، قم، ط 1-1404 ه.

51 معركة حنين

اشارة

كانت طريقةُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند فتح أيّة منطقة من المناطق هي أن يقوم بنفسه بإدارة شؤونها السياسية والدينية مادام هو فيها، فإذا أراد أن يغادرها عيّن أفراداً صالحين للقيام بتلك الأُمور، وشغل تلك المناصب؛ لأنّ الناس في تلك المناطق كانوا قد اعتادوا على النظام السابق، ولم يكن لهم معرفة بالنظام الجديد، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ الإسلام دينٌ متكامل، ونظامٌ سياسي، اجتماعي، أخلاقي، معنوي يستمد قوانينهُ من منبع الوحي الطاهر، ويحتاج إيقاف الناس على تلكم القوانين والتعاليم، وتطبيقها العملي إلى أفراد صالحين متمرّسين ومدرَّبين على التثقيف والتطبيق الصحيحين، ليمكنهم إيقاف الناس في تلك المناطق على مبادئ الإسلام وأُصوله الصحيحة، وتنفيذ البرنامج السماوي الإسلامي في حياتهم على النحو الصحيح.

وقد فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذا عند فتح مكّة، فإنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن قرّر مغادرة مكّة والمسير إلى قبيلتي «هوازن» و «ثقيف» عيَّن «معاذ بن جبل» ليعلِّمَ الناس القرآن، وأحكام الإسلام، و «عتابَ بن أُسيد» الّذي كان رجلاً مؤهَّلاً، لإدارة الأُمور، والصلاة بالناس جماعة، ثم غادر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة بأصحابه بعد أن مكث فيها

ص:581

خمسة عشر يوماً متوجّهاً إلى أرض هوازن(1).

جيشٌ قليل النظير

كان الجيش الّذي سار به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى هوازن يبلغ (12) ألفاً من الجنود المسلّحين: عشرة آلاف هم الذين صحبوه من المدينة، وشاركوا في فتح مكّة، وألفان من رجال وشباب قريش الذين أسلموا بعد الفتح، وقد أوكل النبي صلى الله عليه و آله و سلم قيادتهم إلى أبي سفيان(2).

ولقد كان مثل هذا الجيش العظيم والجمع الكبير قليل النظير، ونادر المثيل في تلك العصور، وقد صارت هذه الكثرة ذاتها سبباً في هزيمته في مبدأ الأمر، فقد أعجب أفراد هذا الجيش بكثرتهم - على خلاف ما مضى - فتجاهلوا التكتيكات العسكرية الدقيقة، وغفلوا عن خطط العدو ونواياهُ فكان ذلك داعياً إلى هزيمتهم!!

فقد قال أبوبكر لمّا رأى كثرة المسلمين: لو لَقِينا بني شيبان ما بالَينا، ولا يغلبنا اليومَ أحدٌ من قِلّة(3).

ولكنّه لم يكن يعرف أنّ الانتصار ليس هو بكثرة الأفراد وضخامة الجيش، بل أنّ هذا العامل غير مهمّ بالقياس إلى بقية العوامل.

ولقد أشار القرآن الكريمُ إلى هذه الحقيقة إذ قال تعالى:

«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ

ص:582


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 137/2، والمغازي: 889/2.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 139/2، المغازي: 889/2.
3- . المغازي: 889/2.

عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» .(1)

الحصول على المعلومات العسكرية

بعد فتح مكّة دبّت حركةٌ خاصّة في قبائل هوازن وثقيف، وجرت اتّصالات مكثّفة بينها، وكان حلقة الاتّصال، والمدبّر الحقيقي لهذه التحرّكات، شابٌ عُرف بالفروسية والشجاعة يُدعى «مالك بن عوف النصري».

وقد تقرّر بعد سلسلة من الاتصالات والمداولات بين زعماء هوازن وثقيف أن تبادر القبيلتان المذكورتان إلى توجيه ضربة قوية إلى جيش الإسلام عبر خدعة عسكرية، قبل أن يغزوها جنود الإسلام في عقر دورها.

فقد اختارت لقيادة هذه المهمة شاباً متهوّراً في العقد الثالث من عمره هو «مالك بن عوف النصري» الّذي أشرنا إليه عمّا قريب، واشترك في هذه الغزوة جميع قبائل هوازن وثقيف بصورة موحّدة.

فكان من تدبير هذا القائد أن اقترح على جيشه أن يجعلوا النساء والأطفال والأموال وراء ظهورهم، وعندما سألوه عن علّة ذلك الإجراء قال: أردتُ أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وماله وولده ونساءه حتّى يقاتل عنهم(2).

فقبل المشتركون في تلك العملية بأمر قائدهم هذا بالإجماع، وجعلوا أموالهم وأهليهم خلفهم.

وقد خالف شيخٌ مجربٌ حنَّكته الحروب منهم يُدعى «دريد بن الصمّة» هذه الخطّة عندما سمع رغاء البعير، وثغاء الشاة، وخوار البقر، وبكاء الصغير، وجادل فيها مالكاً، واعتبرها خطّة فاشلة من الناحية العسكرية وقال للناس: يا معشر

ص:583


1- . التوبة: 25.
2- . المغازي: 887/2-888.

هوازن واللّه ما هذا لكم برأي، هذا فاضحُكُم في عورتكم، وممكِّنٌ منكم عدوّكم.(1)

ولكن مالكاً لم يعر كلام هذا الشيخ ونصيحته اهتماماً وقال - وهو يتّهمه بالجهل بفنون القتال الحديثة -: أنّك قد كبرت وكبر علمك، وحدث بعدك من هو أبصرُ بالحرب منك.

ولقد أثبت المستقبلُ صحّة ما قاله ذلك الشيخ المحنَّك فإنّ إشراك النساء والأطفال والأنعام في الحرب، وإخراجهم إلى ساحة القتال أحدث لمقاتلي ثقيف وهوازن مشاكل كثيرة، فيما بعد.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا سمع بتحرّكات هاتين القبيلتين بعث «عبداللّه بن حدرد الأسلمي»، وأمره أن يدخل في هوازن وثقيف فيقيم فيهم حتّى يعرف بنواياهم وخططهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق الرجل إليهم ثم عاد إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأَخبارهم.

وكان «مالك بن عوف» قائد هوازن وثقيف قد بعث بدوره ثلاثة جواسيس ليتجسّسوا له على المسلمين، ويأتوه بأخبارهم، فعادوا بأجمعهم فزعين ممّا شاهدوه من قوة المسلمين وكثرتهم.

فقرر قائدُ العدوّ أن يُجبر ضعف جنوده وقلّتهم باستخدام الخدع العسكرية، والتوسّل بأُسلوب المباغتة ليفرّق - بهجوم مفاجئ - صفوف المسلمين، ويهدم نظامهم وانسجامهم، ويصيبهم بالهرج والمرج، والفوضى والحيرة ليختلّ باختلال الجيش أمر القيادة، فلا تتمكّن من ضبط الأُمور، وتحقيق انتصار على المسلمين.

ص:584


1- . المغازي: 888/2.

ولتحقيق هذا الهدف هبط «مالك بن عوف» بجيشه في واد ينحدر إلى منطقة «حنين»، وأمر بأن يختفي الجنود والمقاتلون خلف الصخور والأحجار، وفي شغاف الجبال، وكلّ ما ارتفع من ذلك الوادي ونشز، حتّى إذا انحدر جنود الإسلام في هذا الوادي في غفلة من هذا التدبير خرج رجالُ هوازن وثقيف من مكامنهم، وكمائنهم، ورموا المسلمين الغافلين عن خطّة العدو، بالحجارة والنبل، ثم يخرج إليهم فريق في أسفل الوادي ويضربونهم بالسيوف!!

تجهيزات المسلمين

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عارفاً بقوة العدوّ وعناده فدعا «صفوان بن أُميّة» قبل مغادرة مكّة، واستعار منه مائة درع بأداتها كاملة عارية مضمونة، ولبس رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسُه درعين كما لبسَ المغفر والبيضة، وركب بغلته البيضاء وسار خلف جيشه وسار حتّى دَنوا جميعاً من الوادي فاستراحوا ليلتهم عند فم الوادي، ومع غلس الصبح انحدرت كتيبة «بني سليم» بقيادة «خالد بن الوليد» في وادي «حنين»، وبينما دخل أكثر جنود الإسلام ذلك الوادي حمل عليهم رجالُ هوازن من كمائنهم في مضيق الوادي وشعابه حملة رجل واحد، وأخذوا يرشقونهم بالأحجار والنبال، فألقت أصواتُ الأحجار والنبال فزعاً شديداً في قلوب المسلمين الذين مُطروا بالسهام والنبال والأحجار من جانب، بينما احتوشهم فريقٌ آخر من هوازن بسيوفهم ووقعوا فيهم ضرباً وقتلاً.

أجل لقد فعلت مكيدة هوازن فعلتها في قلوب المسلمين، فقد أوحشتها، وأصابت المسلمين بالفوضى، وخلخلت صفوفهم فلاذوا بالفرار من دون اختيار، وقد أخلّوا هم بنظامهم أكثر ممّا فعله العدوُّ بهم.

ففرح المنافقون في جيش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهذا الحادث، وسرّوا به سروراً

ص:585

عظيماً حتّى قال أبوسفيان شامتاً: لا تنتهي هزيمتُهم دون البحر، وقال آخر: ألا بطَلَ السحرُ اليوم، وقال ثالثٌ: لا يجتبرها محمَّد وأصحابه، وعزم رابعٌ على اغتيال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك الوضع المضطرب وإطفاء شعلة رسالته المقدّسة(1).

صمود النبي ومَن ثَبتَ من أصحابه

لقد أزعج فرارُ المسلمين الّذي كان نابعاً - في الدرجة الأُولى - من الفزع والفوضى الّتي أصابتهم، رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأدرك صلى الله عليه و آله و سلم بأنّه لو تأخّر لحظة واحدة عن فعل ما يجب أن يفعله لتغيَّر وجهُ التاريخ ولتبدّل مسار البشرية، ولحطّم جيش الشرك جيش التوحيد.

من هنا صاح بأعلى صوته وهو على بغلته:

«يا أنصار اللّه وأنصار رسوله أنا عَبدُ اللّه ورسولُه».

قال هذا واندفع ببغلته إلى ساحة القتال في المكان الّذي جعله «مالك» وجنودُه مسرحاً لمهاجمة المسلمين ومباغتتهم وقتالهم، ومشى معه مَن لازمه في تلك اللحظات وثبتوا معه كعلي بن أبي طالب عليه السلام والعباس بن عبدالمطلب، والفضل بن العباس، وأبي سفيان بن الحارث - الّذين لم يغفلوا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منذ بدء القتال لحظة واحدة -، وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمَّه العباس الّذي كان صاحب صوت عظيم أن ينادي في المسلمين الّذين كانوا يواصلون فرارهم، ولا يلوون على شيء:

«يا معشَر الأنصار، يا أصحاب السَّمُرة»(2).

ص:586


1- . المغازي: 909/2-911؛ السيرة النبوية لابن هشام: 894/4-895؛ إمتاع الأسماع: 17/2.
2- . تاريخ الطبري: 348/2. ولقد ذكر صاحب المغازي في: ج 902/2 جانباً من بطولات علي عليه السلام وتضحياته في هذه الموقعة.

ويقصد من السمرة الشجرة الّتي كانت عندها بيعة الرضوان، فكان هذا النداء تذكيراً بتلك البيعة الّتي تعهدوا فيها لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن ينصروه حتّى الموت.

فبلغت صرخاتُ العباس مسامع المسلمين فثارت حميتُهم، وأخذوا يثوبون إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهم يقولون: لبيك لبيك.

لقد أوجبتْ نداءاتُ العباس المتلاحقة الّتي كانت تخبر وتنبئ في الحقيقة عن سلامة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن تعود الجماعات الهاربة من ساحة القتال إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهي نادمة على فرارها ندماً شديداً، ونظّموا صفوفهم أمام العدو من جديد أفضل ممّا مضى، ثم حملوا حملة رجل واحد على العدوّ الغادر بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لغسل ما لحق بهم من عار الفرار، واستطاعوا في أقصر مدة من الوقت أن يجبروا العدوّ على الانسحاب والفرار، والرسول القائد صلى الله عليه و آله و سلم يقول تشجيعاً لهم، وتقوية لمعنوياتهم:

«أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبدالمطلب».

وقد تسبَّب استخدام هذا التدبير العسكري الحكيم في إرعاب رجال هوازن ومن ساعدهم من ثقيف المقاتلين، بشدّة بحيث انهزموا أمام هجوم المسلمين هذا هزيمة قبيحة ومنكرة، تاركين وراءهم أموالهم ونساءهم وصبيانهم الذين أتوا بهم إلى ساحة المعركة، وجعلوهم خلف ظهورهم بناء على أوامر قائدهم مالك - كما أسلفنا - وفروا بعد أن قُتِلَ منهم جماعة إلى منطقة أوطاس ونخلة، وقلاع الطائف.

ص:587

غنائمُ الحرب

لقد بلغت خسائرُ المسلمين من الارواح في هذه المعركة ثمانية أشخاص في مقابل أسر ستة آلاف نفر من العدو.

كما وأنّ المسلمين غنموا في هذه الواقعة أربعة وعشرين ألف بعير، وأربعين ألف رأس غنم، وأربعة آلاف أُوقية(1) من الفضة.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر بأن يؤخذ الأسرى والغنائم إلى منطقة تُدعى الجعرانة (وهي ماء بين الطائف ومكّة) وكلّف أشخاصاً معيّنين بحراستها وحفظها وجعل الأسرى في بيوت خاصّة، كما أمر بأن تُحفظ الغنائم من دون أن يتصرّف فيها أحدٌ في ذلك المكان، ريثما يرى فيها رأيه، بعد أن يلاحق فلول العدو الّذي فرّ إلى أوطاس ونخلة والطائف(2).

لقطتان من الخلق النبوي العظيم

وينبغي أن نشير هنا إلى قصّتين تدلّان على سمو الأخلاق النبوية، وعمق الرحمة الإسلامية:

1. بعد أن أعاد النبيُ المسلمين الهاربين إلى ساحة المعركة فكرّوا على هوازن وهزموهم هزيمة نكراء، قالت أُمّ سُليم بنت ملحان للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول اللّه! ما رأيت هؤلاء الّذين أسلموا وفرّوا عنك وخذلوك!! لا تعفُ عنهمْ إذا أمكنك

ص:588


1- . الرطل 2564 غراماً، والأُوقية 1/12 من الرطل فعلى هذا تكون الأُوقية 213 غراماً، وأربعة آلاف أُوقية تساوي 852 كيلو غراماً.
2- . كتب ابن هشام في سيرته أنّ عدد القتلى في هذه المعركة كان أربعة أشخاص، ولكن معركة واسعة مثل هذه يتوقع أن يكون قتلاها أكثر من هذا العدد.

اللّه منهم، تقتلهم كما تقتُل هؤلاء المشركين!

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: يا أُمّ سُليم! قد كفى اللّه، عافية اللّه أوسعُ (1).

وهكذا نجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعفو عن أصحابه الهاربين الذين خذلوه في تلك الموقعة.

2. حنق المسلمون على المشركين في وقعة حنين فقتلوهم حتّى أخذوا في قتل الذُرية، فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: ما بالُ أقوام ذهب بهم القتلُ حتّى بلغ الذُرية! ألا لا تُقتلُ الذُرية.

فقال أُسيد بن الحضير: يا رسول اللّه أليس إنّما هم أولاد المشركين!

فقال: أو ليس خيارُكم أولادُ المشركين؟! كلّ نسمة تولَدُ على الفطرة حتّى يعرب عنها لسانُها، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها(2).

ص:589


1- . إمتاع الأسماع: 15/2.
2- . إمتاع الأسماع: 15/2-16.

52 غزوة الطائف

اشارة

«الطائف» من مصايف الحجاز ومِنَ المناطق الخصبة، الكثيرة الزرع فيها، وتقع الطائف في الجنوب الشرقي من مكّة على بعد (12) فرسخاً منها، وقد كانت ولا تزال بسبب مناخها اللطيف، وبساتينها المثمرة، ونخيلها الكثير مقصداً بل مركزاً وموطناً لطلّاب اللّذة والراحة من أهل الحجاز.

وقد كانت قبيلة ثقيف الّتي كانت تُعدُّ من القبائل العربية القوية الكثيرة العدد تسكن في هذا البلد.

وكانت أعراب ثقيف من الذين شاركوا في معركة «حنين» ضدّ الإسلام والمسلمين، ثم لجأوا بعد الهزيمة المنكرة الّتي لحقت بهم على أيدي جنود الإسلام الضافرين إلى بلدهم الّذي كان لهم فيه آنذاك حصن قويّ ومنيع.

ولتكميل الانتصار الإسلامي أمر الرسولُ القائدُ صلى الله عليه و آله و سلم بملاحقة الهاربين المنهزمين في معركة حنين.

من هنا كلّف صلى الله عليه و آله و سلم أبا عامر الأشعري وأبا موسى الأشعري وفريقاً من جنود الإسلام بملاحقة من لجأ منهم إلى «أوطاس» فقُتِل القائدُ الأوّل في هذه الواقعة،

ص:590

واستطاع الثاني أن يحرز انتصاراً كبيراً على العدو ويفرّق جمعه(1).

وأمّا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نفسه فقد توجّه بالبقية من جيشه الى الطائف(2)، ومرّ في طريقه على حصن «مالك بن عوف النصري» مثير فتنة «حنين» ورأس المؤامرة، فهدمه وسوّاه بالأَرض.

على أنّ تهديم حصن «مالك» لم يكن بدافع انتقاميّ، بل كان لأجل أن لا يترك وراءه نقطة اعتماد وملجأ للعدوّ.

تحرّكت أعمدة الجيش الإسلامي الواحدة تلو الأُخرى، واستقرّت حول مدينة الطائف.

كان حصن الطائف حصناً منيعاً، مرتفع الجدران، قوي البنيان، فيه أبراجٌ للمراقبة مسيطرةٌ على خارج الحصن سيطرة كاملة.

ومنذ أن استقرّ الجيش الإسلامي خارج الطائف بدأ حصارَه لها، غير أنّ الحصار لم يتكاملْ بعدُ حتّى عمَدَ العدو إلى رمي المسلمين للحيلولة دون تقدّمهم نحو المواقع المرسومة لهم، فقُتِل بهذا جماعة من المسلمين في بداية هذه الواقعة.

فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الجيش بالانسحاب والتراجع التكتيكي إلى نقطة بعيدة عن مرمى العدوّ، والتمركز فيها ريثما تصدر الأوامر الجديدة.

وهنا اقترح «سلمانُ الفارسي» الّذي سبق له أن اقترح حفر الخندق في معركة الأحزاب، وكان ذا خبرة بفنون القتال، اقترح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يرمي

ص:591


1- . المغازي: 915/2 و 916.
2- . بحار الأنوار: 163/21.

الحصن بالمنجنيق(1)، وهذا الجهاز الّذي كان يُستخدم في حروب تلك الأعصر يؤدي نفس دور الدبابة في الحروب الراهنة.

فقام أُمراءُ الجيش الإسلامي بنصب المنجنيق بإرشاد وتوجيه من سلمان، وأخذوا يرمون الحصن المذكور وأبراجه الشاهقة بالحجارة طوال عشرين يوماً متوالية.

ولكن العدوَّ لم يسكتْ تجاه هذه العمليات القوية الّتي بدأها المسلمون، فزاد من رميه واستمر في ذلك، فوقعت بين المسلمين بعضُ الإصابات نتيجة ذلك(2).

والآن يجب أن نرى كيف حصل المسلمون على جهاز المنجنيق، هذا؟

يرى البعض أنّ سلماناً هو الّذي صنع هذا الجهاز وعلّم المسلمين كيفية استخدامه في هذه الغزوة(3).

ويرى آخرون أنّ المسلمين حصلوا على هذا الجهاز وغنموه من اليهود في خيبر عند فتح قلاعهم وحصونهم واصطحبوه معهم إلى الطائف واستخدموه في غزوها.

ولا يبعد أنّ الصحابي الجليل سلمان الفارسي قد ادخل بعض التحسينات على ذلك المنجنيق الّذي جلبه المسلمون من خيبر، وعلّم المسلمين كيفية نصبه واستخدامه في القتال، فإنّه يستفاد من التاريخ أنّ المنجنيق لم يكن منحصراً في المنجنيق الّذي حُصِل عليه من يهود خيبر، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعث الطفيل بن عمرو

ص:592


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 21/2.
2- . الطبقات الكبرى: 158/2.
3- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 21/2 و 23 و ج 266/9.

الدوسي لتحطيم أصنام لقبيلة «دوس» في وقت متزامن مع خروجه إلى معركة حنين ثم الطائف فعاد الطفيل فاتحاً مع من خرجوا تحت إمرته من جنود الإسلام الأربعمائة، وكانوا برمّتهم من أبناء قبيلته، فقد قدم الطائف على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع آلة منجنيق واحدة وعربتين حربيتين خاصتين، وقد استخُدمت هذه الآليات في غزوة الطائف.

شدخُ جدار الحصن بالمنجنيق

كان لابدّ لإخضاع العدو ودفعه إلى الاستسلام من القيام بحملات واسعة ومن مختلف الأطراف والنواحي، ولهذا تقرّر أن يقوم جنود الإسلام، مضافاً إلى رمي الحصن بالمنجنيق، بإيجاد ثغرة في الجدار فواجهوا مشكلة كبرى، لأنّ السهام والأحجار، والنيران كانت تنصبُّ على رؤوس المقاتلين المسلمين كالمطر، ولم يكن في مقدور أحد منهم الاقتراب والدنوّ من جدار الحصن، فكان أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو استخدام الدبابة الّتي كانت في جيوش العالم الكبرى في تلك العصور في صورتها البدائية.

وكانت الدبابة آنذاك تُصنَعُ من الخشب وتُغطى بجلود البقر، ويدخل تحتها جماعةٌ من الجنود الأقوياء ثم تتحرّك نحو الحصن حتّى تدنو إليه، ويقوم الجنودُ بعملية إيجاد ثغرة أو نقَب في جدار الحصن، فاستخدم نفرٌ من جنود الإسلام الشجعان الأشداء هذا الجهاز بالطريقة المذكورة، بيد أنّ العدو قد حال دون هذا العمل إذ ألقى على الدبابة سكك الحديد المحماة بالنار فأخرب سقفها، واضطرَّ أفرادها إلى الخروج منها، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت منهم رجلاً واحداً ولم يؤثر، ولم ينجح هذه التكتيك القتالي، ولم يتحقّق أيُ نجاح في هذا المجال، فاْنصرف

ص:593

المسلمون عن استخدامه(1).

ضغوطٌ اقتصادية ونفسية

إنّ تحقيق الانتصار لا ينحصر في مجرّد استخدام الطرق والتكتيكات العسكرية، بل للقائد الحكيم أن يستخدم - لإضعاف قوة العدو وكسر صموده - الضربات والضغوط الاقتصادية ويجبره على الاستسلام.

وقد تكون الضربةُ النفسية والاقتصادية أقوى مفعولاً بدرجات أي إنّ أثرها يفوق بمراتب عديدة أثر الضربة العسكرية، والإضرار البدني الّذي يلحق بجنود العدو وأفراده.

ولقد كانت أرض الطائف أرض زراعة، ونخيل وأعناب، وكانت معروفة في الحجاز بخصبها، وكثرة محاصيلها وخيراتها، لأنّ أهلها كانوا يجهدون كثيراً في تنمية نخيلهم وأعنابهم ورعايتها، ويُولُون الحفاظ عليها اهتماماً كبيراً، ويعطون هذا الأمر القسط الأكبر من جهودهم.

فأعلن رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لتهديد المتمردين اللاجئين إلى الحصن، والمعتصمين به، بأنّه سيعمد إلى قطع أعناب ثقيف، وإفناء مزارعها إذا واصل المعتصمون بالحصن مقاومتهم ولم يسلّموا للمسلمين.

فلم يكترث العدوُ بهذا التهديد؛ لأنّه لم يك يتصوّر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - وهو النبي الّذي عُرف برحمته ورأفته - يستخدم مثل هذه الطريقة.

وفجأة وجدت «ثقيف» أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصدر أوامره بقطع الأعناب، وإتلاف المزارع وتحريقها، فوقع المسلمون فيها يقطعون ويحرقون.

ص:594


1- . لاحظ: المغازي: 928/2.

فعجّت «ثقيفٌ» لذلك وضجّت، واستغاثت برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأقسمت عليه بالرحم والقرابة أن يكفَّ عن ذلك، فتركها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم احتراماً لوشيجة القربى الّتي كانت بينه وبين «ثقيف».(1)

إنّ المعتصمين بحصن الطائف وإن كانوا من مثيري معركة حنين والطائف، وتلك الغزوتان اللّتان كلّفتا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الكثير من الخسائر والمتاعب غير أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قَبِل مع ذلك التماس العدو وطلبه هذا، فأبدى ولمرّة ثانية وجه الإسلام الرحيم وكشف عن إنسانيته في التعامل مع العدوّ اللدُود في ميدان القتال، وأمر أصحابه بالكفّ عن قطع الأعناب وتحريقها.

ثم إنّ مع ما نعرفه ونعهدهُ من أخلاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأساليبه الإنسانية في مجال التعامل مع العدوّ، يمكننا أن ندرك بسرعة أنّ الامر بقطع الأعناب وتحريق المزارع كان مجرّد تهديد ومحاولة ضغط على العدو بحيث إذا لم تنجح هذه الطريقة معه لكفَّ عنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتماً.

***

آخر محاولة لفتح حصن الطائف

كانت قبيلة «ثقيف» جماعة ثريّة، وذات مال كثير، وعبيدٍ وإماءٍ كثيرين، ولكي يحصل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على معلومات دقيقة عن الأوضاع في داخل الحصن، ويعرف بالتالي حجم إمكانات العدو ومدى استعداداته من جهة، ويوجد الاختلاف في صفوفه من جهة أُخرى، أمر أن يعلن عن القرار التالي: و ينادى: أيُ عبد نزَل من الحصن وخرَج إلينا فهو حرٌّ.

ص:595


1- . لاحظ المغازي: 928/2.

ونَفعَتْ هذه الطريقة إلى حدّ مّا، فقد خرج من الحصن بطريقة ماهرة حوالي بضعة عشر رجلاً من عبيد ثقيف ورقيقهم، والتحقوا بصفوف المسلمين فعرف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من خلال التحقيق معهم أنّ المعتصمين بالحصن لا ينوون الاستسلام، وأنّهم مستعدون للمقاومة حتّى لوطال الحصار عاماً واحداً، فإنّهم قد أَعدُّوا لمثل هذا الحصار الطويل الطعام الكافي، ولن يقعوا في أزمة بسبب طول الحصار.

جيشُ الإسلام يعود إلى المدينة

استخدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الغزوة جميع الأساليب والتكتيكات العسكرية المادية والنفسيّة ضدّ العدوّ، وقد أثبتت التجربةُ أنّ فتح الحصن يحتاج إلى مزيد من الصبر و العمل، على حين لم تكن ظروفُ الجيش الإسلامي وإمكاناته - يومذاك - لتسمح بذلك القدر من الصبر والترقّب، والانتظار والتوقّف، أكثر ممّا توقّف ومكث في تلك المنطقة وذلك:

أولاً: لأنّه قُتِلَ في أثناء هذه المحاصرة (12) مسلماً سبعة منهم من قريش، وأربعة من الأنصار، ورجل واحد من قبيلة أُخرى.

هذا مضافاً إلى مَن استشهد من المسلمين في وادي «حنين» إثر هجوم العدوّ الغادر، وانفراط صفوف الجيش الإسلامي، والذين لم يذكر التاريخُ - مع الأسف - أسماءهم، وخصوصياتهم، ولهذا كان قد دبَّ نوعٌ من التعب في نفوس جنود الإسلام لم يكن من الصالح تجاهلُه.

وثانياً: أنّ شهر شوال قد انتهى، وبدأ شهر ذي القعدة الّذي كان معدوداً عند العرب من الأشهر الحرُم، وقد أيّد الإسلام فيما بعد هذه السُّنّة، وأكّد حرمة الأشهر الحُرم.

ص:596

من هنا كان من الضروري - حفاظاً على هذه السُّنّة -(1) إنهاء الحصار في أقرب وقت لكي لاتتّهمُ عربُ ثقيف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمخالفة السُّنّة الصالحة وخرقها.

أضفْ إلى ذلك دُنوَّ حلول موسم الحج، مع العلم بأنّ إدارة ذلك الموسم ومناسكه كانت في ذلك العام للمسلمين، بعد أن كانت - قبل ذلك - تُدار بواسطة المشركين وبرعايتهم.

ولا شكّ أنّ موسم الحج الّذي كان سبباً لحصول اجتماع بشريّ عظيم من سكان الجزيرة العربية كان يوفّر أكبر وأفضل فرصة لتبليغ الإسلام وبيان حقيقة التوحيد، وكان على النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يستغلَ هذه الفرصة العظيمة الّتي أُتيحت له لأوّل مرة، في مجال الدعوة، ويستفيد منها أكبر قدر ممكن ويولي اهتمامه لقضايا أُخرى أكثر أهميّة وخطورة من فتح حصن واقع في منطقة نائية.

مع أخذ هذه الظروف بنظر الاعتبار ترك الرسول القائد صلى الله عليه و آله و سلم حصار الطائف وعاد بجيشه إلى الجعرّانة الّتي جعلها محلّاً لحفظ أسرى حنين وغنائمها.

حوادث ما بعد الحرب

انتهت حوادثُ معركة «حنين» و «الطائف» وعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من دون تحقيق نتيجة قطعية إلى «الجعرّانة» لتقسيم غنائم معركة «حنين».

ص:597


1- . ويدلُّ على هذا الأمر أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تَرك مكّة متوجّهاً إلى الطائف في الخامس من شهرشوال واستغرقت مدةُ الحصار عشرين يوماً، وصرفت بقيّة الأيام (وهي خمسة) في المسير إلى حنين، وفي المعركة. وقولنا بأنّ الحصار طال عشرين يوماً يستند إلى رواية نقلها ابن هشام، إلّاأنّ ابن سعد ذكر مدة الحصار أربعين يوماً (الطبقات الكبرى: 158/2).

والغنائم الّتي حصل عليها المسلمون في معركة «حنين» كانت من أكبر الغنائم الّتي غنموها طوال المعارك الإسلامية كلّها، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم قدم «الجعرّانة» كان هناك ستة آلاف أسير، و (24) ألف من الإبل وأكثر من (40) ألف رأس غنم و (852) كيلو غراماً من الفضة يحافظ عليها في مركز الغنائم(1)، وكان من الممكن أن تسدّد القيادة من هذه الغنائم قسماً كبيراً من ميزانية الجيش الإسلامي.

لقد مكث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في «الجعرّانة» ثلاثة عشر يوماً، وفي هذه المدّة قسَّم تلك الغنائم بطريقة خاصّة ملفتة للنظر وجديرة بالتأمّل والدراسة.

فقد خلّى سبيل بعض الأسرى، وتركهم لذويهم، وخطَّط لإخضاع (أو بالأحرى إسلام) مالك بن عوف النصري مثير معركة حنين والطائف الهارب، كما أظهر تقديره وشكره لمواقف الأشخاص في هاتين الغزوتين وخدماتهم، وجذب بسياسته الحكيمة أعداء الإسلام ورغّبتهم في عقيدة التوحيد الشريفة، وأنهى نقاشاً حدث بينه وبين جماعة الأنصار حول طريقة تقسيم الغنائم بخطبة جميلة.

وإليك تفصيل الكلام في المواضيع المذكورة:

1. لقد دأب رسولُ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم على احترام حقوق الأفراد، وتثمين جهودهم مهما ضؤلت ودقّت، وعلى أن لا يبخس أحداً عمله، فإذا أحسن إليه أحدٌ قابل إحسانه بما يزيد عليه أضعافاً مضاعفة. وكان ذلك من أبرز صفاته وأخلاقه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد رضعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وترعرع في قبيلة بني سعد الّتي هي من قبائل هوازن، وقد أرضعته امرأةٌ من هذه القبيلة تُدعى «حليمة السعدية»، وقد بقي في تلك القبيلة خمسة أعوام.

ص:598


1- . الطبقات الكبرى: 152/2.

وقد شاركت قبيلة بني سعد في معركة حنين ضدَّ الإسلام فسُبيت بعض نسائهم وأطفالهم على أيدي المسلمين، كما وقعت بعضُ أموالهم بأيديهم أيضاً، وقد ندمت على فعلها ندماً شديداً.

وقد كانوا يعلمون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نشأ وترعرع فيهم، ورضع بلبن نسائهم هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى كانوا يعرفون أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ملء قلبه الرحمة والمروءة ومعرفة الجميل، فإذا سنَح لهم أنْ يذكِّروه بذلك لأطلق أسراهم حتماً.

فقدمَ وفد هوازن وكان في الوفد عمّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الرضاعة قال يومئذٍ: يا رسولَ اللّه إنّما في هذه الحظائر من كان يكفُلك من عماتِكَ وخالاتك، وحواضنك، وقد حضنّاك في حجورنا وأرضعناك بثدينا، ولقد رأيتُك مرضعاً فما رأيتُ مرضعاً خيراً منك، ورأيتُك فطيماً فما رأيتُ فطيماً خيراً منك، ثمّ رأيتك شاباً فما رأيت شاباً خيراً منكِ، وقد تكاملَتْ فيك خلال الخير، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتُك فاْمننْ علينا مَنَّ اللّه عليك.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: قد استأنيت بكم حتى ظننت أنّكم لا تقدمون وقد قسم السبي وجرت فيهم السهمان. وقدم عليه أربعة عشر رجلاً من هوازن مسلمين وجاءُوا بإسلام من وراءهم من قومهم، فكان رأس القوم والمتكلّم أبو صرد زهير بن صرد فقال: يا رسول اللّه... إنّما في هذه الحظائر عماتُك وخالاتُك وحواضنُك اللّاتي كنَّ يكفُلنَكَ، ولو أنّما مَلحْنا للحارث بن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثمّ نزلا منّا بمثل الّذي نزلت به رجونا عطفَهما وعائدتهما علينا وأنت خير المكفولين.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهم:

ص:599

«إنّ أحسَنَ الحديث أصدقُه، وعندي مَن ترون من المسلمين، فأبناؤُكم ونساؤُكم أحبُّ إليكُم أَمُ أموالكم»؟

قالوا: يا رسول اللّه خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا وما كُنّا نعدلُ بالأحْساب شيئاً، فرُدَّ علينا أبناءنَا ونساءنا.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«أمّا ما لي ولبني عبدالمطلب فهو لَكُمْ وأسأل لكم الناس، وإذا صلّيتُ الظهرَ بالناس فقولوا: إنّا لنستشفعُ برسول اللّه إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول اللّه فإنّي سأقول لكمْ: ما كانَ لي ولبني عبدالمطَّلب فهوَ لكمْ وسأطلبُ لكم إلى الناس». فلمّا صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الظهرَ بالناس قاموا فتكلّموا بالذي أمرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا: إنا نستشفع برسول اللّه إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول اللّه.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمّا ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم.

فقال المهاجرون: فما كانَ لنا فهو لرسول اللّه.

وقال الانصارُ: ما كانَ لنا فهو لرسول اللّه.(1)

وهكذا وهب الأنصارُ والمهاجرون نصيبَهم من الأسرى تبعاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يتأخّر عن ذلك إلّاقليلون مثل «الأقرع بن حابس» و «عيينة بن حصن» فقد امتنعا عن أن يهبا نصيبهما، ويطلقا سراح ما عندهم من السبايا، فقام رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: إنّ هؤلاء القوم جاءُوا مسلمين وقد استأنيتُ بهم، فخيّرتُهم

ص:600


1- . المغازي: 949/2-951.

بين النساء والأبناء، والأموال، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء، فمَن كان عندَهُ منهنَّ شيء فطابت نفسه أن يردَّه فليرسلْ، ومن أبى منكم وتمسّك بحقه فليردَّ عليهم، وليكن فرضاً علينا ست فرائض (أي سوف أعطيه بدل الواحد ستاً) من أول ما يفيء اللّه به علينا(1).

فكان لعمل النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذا أثرٌ عظيم في نفوس المسلمين حيث خلّوا سبيل جميع مَن كان في أيديهم من الأسرى والسبايا إلّاامرأة عجوزاً امتنع «عيينة» من ردّها إلى ذويها.

وهكذا أثمر عمل صالحٌ غُرست شَتلته - قبل ستين عاماً - في أرض قبيلة بني سعد على يدي حليمة السعدية، فأتت أُكلَها بعد مدة طويلة وأُطلق بفضل ذلك العمل الصالح سراح الأسرى والسبايا من هوازن(2).

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يلتقي الشيماء أُخته من الرضاعة

ثمّ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دعا أُخته من الرضاعة «الشيماء»(3) وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ودمعت عيناه، وسألها عن أُمّه وأبيه (من الرضاعة)، فأخبرته بموتهما... وخيّرها صلى الله عليه و آله و سلم: «إن أحببت فأقيمي عندي محبَّبة مكرَّمة، وإن أحببت أن أُمتِّعك وترجعي إلى قومك».

فقالت: بل تُمتّعني وتردّني إلى قومي، فمتَّعها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وردَّها إلى

ص:601


1- . المغازي: 952/2.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 153/2 و 154، السيرة النبوية لابن هشام: 925/4، والحادثة التاريخية هذه جسَّدت مضمون قول اللّه تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (النحل: 97).
3- . هي الشيماء بنت الحارث بن عبدالعزى بن رفاعة. الإصابة: 205/8 برقم 11390.

قومها، وأعطاها غلاماً يقال له مكحول وجارية، وقيل: بل أعطاها (رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم) ثلاثة أعبُد وجارية ونعماً وشاء.(1)

وقد قوّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإخلائه سبيل جميع أسرى هوازن وسباياها من رغبة هوازن في الإسلام، فأسلموا من قلوبهم، وهكذا فقدت «الطائف» آخر حليف من حلفائها.

2. اسلام مالك بن عوف

في هذه الأثناء اغتنم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الفرصة ليعالجَ مشكلته مع «مالك بن عوف النصري» مثير حرب حنين، عن طريق وفد بني سعد وذلك بترغيبه في الإسلام وعزله عن حليفه: «ثقيف».

ولهذا سألهم عن مالك بن عوف ما فعَل؟ فقالوا: يا رسولَ اللّه هو بالطائف مع ثقيف.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أخبروا مالكاً أنّه إنْ أتاني مُسلِماً ردَدتُ عليه أهلَه ومالَهُ وأعطيتُهُ مائة مِنَ الإبل».(2)

فبلّغَ وفدُ هوازن مالكاً كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأمانَهُ المشروط، فقرَّر مالكٌ الّذي كان يرى بأُمّ عينيه تعاظم أمر الإسلام واشتداد أزره كما رأى رحمة النبي ولطفه، أن يخرج من الطائف، ويلتحق بالمسلمين، ولكنّه كان يخشى أن تعرف «ثقيف» بنيّته فتحبسه في الحصن، ولهذا عمَد إلى خطّة خاصّة للفرار، فقد أمر

ص:602


1- . السيرة الحلبية: 93/3؛ الإصابة: 205/8.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 927/4.

براحلته فهُيِّئت له، وأمر بفرسٍ له فأتي به إلى الطائف، فخرج ليلاً، فجلس على فرسه، فركَّضهُ حتّى أتى راحلتَه حيث أمر بها أن تُحبس فركبها، فلحق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأدركُه بالجعرانة أو بمكّة، فردّ عليه (النبي صلى الله عليه و آله و سلم) أهلَه وماله، وأعطاه مائة من الإبل كما وَعدَ من قبل، وأسلم فحسُن إسلامه، ثم استعمله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على مَن أسلم من قومه وقبائل «ثمالة» و «سلمة» و «فهم».

وقد أنشد «مالك بن عوف» أبياتاً عندما أسلم يصف فيها أخلاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الكريمة، ويمدحه أجمل مديح إذ يقول:

ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله في الناس كلّهمُ بمثل محمَّد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتُدي ومتى تَشأْ يخبْرك عمّا في غد

وإذا الكتيبة عرَّدتْ أنيابُها بالسمهريّ وضرب كلّ مهنَّد

فكأنَّه ليثٌ على أشباله وسط الهباءة خادرٌ في مرصد

وصار يقاتل بتلك القبائل ثقيفاً لا يخرج لهم سرحٌ إلّاأغار عليه، حتّى ضيّق عليهم لما حصل عليه من مكانة وعزّة في الإسلام، وبعد أن أدرك قُبح موقف «ثقيف»(1).

3. تقسيم الغنائم

كان أصحابُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يلحّون عليه أن يسرع في تقسيم غنائم الحرب، ولكي يدلّل النبيُّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم على حياده الكامل في تقسيم الغنائم قام إلى بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال:

«أيّها الناس واللّه مالي من فيئكم ولا هذه الوبْرة إلّاالخُمس، والخُمس مردودٌ

ص:603


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 927/4-928. وعرّدت أي عوّجت.

عليكم، فأدّوا الخياط والمخيط فإن الغُلولَ (أي الخيانة في بيت المال) يكونُ على أهْله عاراً، وناراً، وشناراً يومَ القيامة».(1)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قسَّم أموال بيت المال بين المسلمين، وأمّا الخُمس الّذي هو حقُّه الخاصّ به فقد وزَّعه بين أشراف قريش الحديثي العهد بالاسلام يتألَّفهم، ويتألفُ بهم قومهُمْ، فأعطى من هذا المال ل: أبي سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، والعلاء بن جارية، وصفوان بن أُميّة، وغيرهم ممّن كانوا يعادونه إلى الأمس القريب من رؤوس الشرك ورموز الكفر، لكلِّ واحد منهم مائة بعير(2). وقد كان لهذا العطاء السخيّ أثره الطيب والبالغ في نفوس تلك الجماعة الّتي شملها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برحمته، ولطفه، وعنايته، وكرمه، واشتدت رغبتهم في الإسلام.

وهذا الفريق هم من يُصطلح عليهم في الفقه الإسلامي بالمؤلّفة قلوبُهم، وهم يشكّلون إحدى مصارف الزكاة بنصّ القرآن الكريم.

ويقول ابن سعد في «الطبقات الكبرى» بعد أن ذكر قصّة هذا التقسيم الخاص للغنائم: وأعطى ذلك كلّه من الخمس وهو أثبت الأقاويل عندنا(3).

ولقد شقّ هذا النوع من الأُسلوب في تقسيم الغنائم وهذا النمط من البذل الّذي مارسه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، على بعض المسلمين، وبخاصّة الأنصار وقد جهلوا

ص:604


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 929/4.
2- . راجع المحبّر: 473، المغازي: 944/2-948، السيرة النبوية لابن هشام: 929/4-932.
3- . الطبقات الكبرى: 153/3.

بالمصالح الّتي كان يراعيها، والأهداف العليا الّتي كان يتوخّاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من هذا النوع من البذل والعطاء (وهو تخصيص حديثي العهد بالاسلام بأكثر الغنائم).

لقد كانوا يتصوّرون أنّ التعصّب القبلي هو الّذي دفع بالرسول القائد صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن يقسّم خمس الغنيمة بين أبناء قبيلته حتّى أنّ أحدهم (وهو ذو الخويصرة التميمي) قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكل وقاحة: يا محمَّد قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم، لم أركَ عدلت!!

فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من كلامه هذا وقال:

«وَيحَكَ إذا لَمْ يكُنْ العَدلُ عِندي فِعندَ مَنْ يكونُ»؟!

فقال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه ألا أقتله؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا، دعْهُ فإنَّه سيَكُونُ له شيعةٌ يتعمّقون في الدين (أي يتتبّعون أقصاه) حتّى يخرجوا منه كما يخرج السهمُ من الرميّة»(1).

وقد كان هذا الرجلُ - كما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - زعيم فرقة الخوارج في عهد حكومة الإمام علّي عليه السلام، فهو الّذي قاد تلك الفرقة الخطرة، غير أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يقدم على عقوبته على ما بدَر منه فيما بعد؛ لأنّ القصاص أو العقاب قبل الجناية يخالف قواعد الإسلام.

ولقد رفع «سعد بن عبادة» شكوى الأنصار حول كيفية تقسيم الخمس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم لسعد: إجمَعْ مَن كان هاهنا من الأنصار في هذه

ص:605


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 933/4؛ السيرة الحلبية: 88/3، وفي المغازي: 948/2: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال فيه: «دعه إنّ له أصحاباً يحقِّر أحدُكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية... يخرجون على فرقة من المسلمين». وراجع إمتاع الأسماع: 30/2، وجاء في السيرة الحلبية: أنّه أصل الخوارج.

الحظيرة.

فجمع سعدٌ الأنصار في تلك الحظيرة، فلمّا اجتمعوا دخل عليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعليه جلالُ النبوة، وهيبة الرسالة، فحمد اللّه وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال:

«يا مَعشَر الأنصار ما مَقالةٌ بلغتني عنكم، وجدَةٌ وجدتموها في أنفسكم؟ ألمْ آتكمْ ضُلّالاً فهداكُمْ اللّه، وعالة فأغناكم اللّه، وأعداءً فألّف بَين قُلُوبكُمْ»؟

قالوا: بلى اللّه ورسولُه أمَنُّ وأفضلُ!

قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار»؟

قالوا: وماذا نجيبك يا رسول اللّه ولرسول اللّه المَنُّ والفضلُ؟

قال: «أما واللّه لو شِئْتُمْ قلتم فَصدَقْتُمْ أتيتَنا مكذَّباً فَصدّقناك، ومخذولاً فنصَرْناكَ، وطريداً فآويناكَ، وعائلاً فآسيناك!(1) وَجَدْتُمْ في أنفسِكُمْ يا معشرَ الأَنصار في شَيء مِنَ الدُّنيا تألّفتُ به قوماً ليسلَمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إلى إسلامِكُمْ، أفلا ترضونَ يا معشر الأَنصار أنْ يَذهبَ الناسُ بالشاة والبعير، وترجعُوا برسول اللّه إلى رحالِكُمْ؟

والّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيدهِ لَوْلا الهجرة لكنتُ امرَأً منَ الأَنصار، وَلو سَلكَ الناسُ شِعباً وسلكَتِ الأَنْصارُ شِعباً لَسلكْتُ شِعبَ الأَنصار».

ثم ترحَّم على الأَنصار وعلى أبنائهم وعلى أبناء أبنائهم فقال:

«اللّهمُ اْرحَم الأَنْصار وأبناء الأَنصار وَأبْناء أبناء الأَنصار».

ص:606


1- . إنّ هذا يفيد أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ما كان ينسى فضل أحد عليه وإن كان هو صلى الله عليه و آله و سلم صاحب الفضل الأكبر على الناس أجمعين.

وقد كانت كلماتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هذه من القوّة والعاطفيّة بحيث أثارت مشاعر الأَنصار، فبكوا بعد سماعها بكاء شديداً حتّى اخضلّت لحاهُمْ وابتلَّتْ بالدُّموع وقالوا: رَضينا برسول اللّه قسماً وحَظّاً!!!

ثم انصرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتفرّقوا(1).

إنّ هذه القصّة تكشف عن عمق حكمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعن حنكته السياسيّة البالغة، وكيف أنّه كان يعالج المشاكل بأساليب مناسبة وبروح الصدق واللطف.

رسول اللّه يعتمر

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خرج من الجعرّانة معتمراً، بعد أن قسّم الغنائم، فلمّا فرغ من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة، فقدم المدينة في أواخر شهر ذي القعدة، أو أوائل شهر ذي الحجّة.(2)

ص:607


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 935/4؛ المغازي: 957/2-958.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 936/4.

53 لاميّة كعب بن زهير المعروفة

اشارة

«بانت سعاد...»

فرغَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في منتصف شهر ذي القعدة، من السنة الثامنة للهجرة من قسمة غنائم حنين في الجعرّانة، وكان موسم الحج على الأبواب، وكانت هذه السنة هي السنة الأُولى الّتي كان يتوجّب على الحجيج العرب، مسلمين ومشركين، أن يقوموا بمناسك الحج تحت رعاية الحكومة الإسلامية

وكان اشتراك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الشعائر يزيد الحج عظمة وجلالاً، وكان من الممكن - وبفضل قيادته الحكيمة - أن تتم في ذلك الحشد الهائل والاجتماع العظيم دعوةٌ صحيحةٌ وقويةٌ وواسعةٌ إلى الإسلام، بينما كانت ثمّة مسؤوليات في المدينة تنتظر عودة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقد مضى على مفارقته المدينة ما يقرب من ثلاثة أشهر، وكانت الأعمال الّتي يجب أن يقوم بها هو بنفسه قد تعطَّلت طوال هذه المدة.

وبعد دراسة هذه المسألة من جوانبها المختلفة رأى الرسول القائد صلى الله عليه و آله و سلم أن يكتفي بعُمرة، يغادر بعدها مكّة ليصل إلى المدينة في أقرب وقت ممكن.

ولكنّه صلى الله عليه و آله و سلم رأى أنّه لابدَّ أن يعيّن شخصاً صالحاً لإدارة الأُمور السياسية والدينية في المنطقة الحديثة العهد بالفتح الإسلامي (نعني مكّة) حتّى لا تحدث في

ص:608

غيابه أزمةٌ فيها، وحتّى تجري الأُمور على النسق الصحيح والمطلوب.

من هنا استخلف النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم «عتَّاب بن أسيد» على مكّة، وكان عتاب شاباً لبيباً يتّسم بالصبر والجلد، وكان له من العمر إذ ذاك عشرون سنة، وقد قرّر له النبيُّ راتباً قدره درهمٌ واحدٌ كلّ يوم.

وبهذا العمل (أي تعيين شاب حديث العهد بالإسلام والإيمان في مقتبل العمر، ولكن كفوء، لتسيير الأُمور في مكّة، وتفضيله على كثير من الشيوخ وكبار السنّ) حطّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سدّاً خيالياً، ومفهوماً باطلاً في مجال التوظيف والتأمير.

فإنّ جماعة من الناس لمّا أمّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «عتَّاباً» على أهل مكّة قالوا:

إنّ محمَّداً لا يزالُ يستخفُّ بنا حتّى ولّى علينا غلاماً حدث السنّ ابن ثمانية عشر سنة، ونحن مشايخُ ذوو الأسنان، فأجابَهمْ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقوله في كتاب كتبه لعتّاب:

«لا يحتجُّ مُحْتَجٌّ مِنْكُمْ في مخالَفتِه بِصغَر سنِّه، فليسَ اْلأكبرُ هُوَ الأَفضَلُ، بَل الأَفضلُ هَوَ الأكبرُ، وَهُوَ الأكبرُ في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعاداة أعدائنا، فلذلك جَعلناهُ الأَمير عليكمْ والرئيسَ عليكم، فمَن أطاعَه فمرحباً به ومن خالفَهُ فلا يُبعِدُ اللّهُ غيره»(1).

وبهذا أثبت صلى الله عليه و آله و سلم عملياً أنّ حيازة المناصب الاجتماعية إنّما تدور فقط حول معيار الأهلية والجدارة، والكفاءة، وأَنَّ صِغر السنّ لا يمنع من ذلك إذا كان صاحبُه يتمتع بكفاءة عالية.

ص:609


1- . بحار الأنوار: 123/21.

ثم إنّ «عَتّاباً» قام فخطب في الناس فقال: أيّها الناسُ أجاع اللّه كبِدَ مَن جاع على درهم، فقد رزقني رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم درهماً كلّ يوم، فليست بي حاجةٌ إلى أحد(1).

وأحسن رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الاختيار أيضاً عندما عيّن «معاذ بن جبل» ليعلّمَ الناس القرآن ويفقّههم في الدين، فقد كان معاذ ممّن عرف بالفقه، والمعرفة بأحكام القرآن بين أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا بعثه للقضاء، إلى اليمن سأله صلى الله عليه و آله و سلم: بمَ تَقضي إن عَرضَ قضاءٌ؟ فقال: أقضي بما في كتاب اللّه.

قال: فإنْ لم يكنْ في كتابِ اللّه؟

قال: أقضي بما قضى بهِ الرسولُ.

قال: فإنْ لم يكنْ فيما قضى به الرسولُ؟

قال: أجتَهِدُ رأيي ولا آلو.

فضرب النبي صلى الله عليه و آله و سلم صدره، وقال:

«الحمدُ اللّه الَّذي وفّقَ رسول رسول اللّه لما يرضي رسول اللّه»(2).

قصّة كعب بن زهير بن أبي سلمى

كان «زهير بن أبي سلمى» من شعراء العرب البارعين في العهد الجاهلي، فهو صاحب إحدى المعلّقات السبع الّتي بقيت منصوبة في الكعبة المعظّمة حتّى

ص:610


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 936/4. ويكتب الجزري في أُسد الغابة: (ج 3 ص 358) كان عتاب رجلاً خبيراً صالحاً فاضلاً.
2- . الطبقات الكبرى: 347/2 و 348.

قُبيل نزول القرآن الكريم، وكانت تفتخر بها العربُ، وتبدأ معلَّقتُه تلك بقوله:

أَمِنْ أُمّ أوفى دِمنةٌ لم تكَلّمِ بِحَومانةِ الدَرّاج فالمتثلّم

وقد توفي «زهير» قبل عصر الرسالة، وخلّف ولدين هما: «بجير»، و «كَعْب» وكان الأوّلُ ممّن آمنَ برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ونَصَره، وأحبَّه، بينما عادى الثاني (كعب) رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بشدَّة، وحيث إنّه كان ذا قريحة شعرية موروثة قوية، لهذا كان يهجو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قصائده وأشعاره ويؤلّب الناس ضدَّ الإسلام.

ولمّا قدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة كان «بجير» قد شارك مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم في فتح مكّة، وحصار الطائف، وقد شاهد عن كثب كيف هدّدَ النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم بالقتل بعض الشعراء الذين كانوا يهجون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويؤلّبون الناس ضدَّ الإسلام، وأهدر دماءهم.

فكتبَ بهذا إلى أخيه (كعب) ونصحه في آخر كتابه قائلاً: إن كانَتْ لكَ في نفسك حاجة فَطِر إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه لا يقتل أحداً جاءه تائباً.(1)

فاطمأنَّ كعبُ بكلام أخيه، وتوجّه من فوره إلى المدينة فدخل المسجد ورسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتهيّأ لصلاة الصبح، فصلّى مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لأوّل مرّة ثم جلس إليه، ووضع يده في يده، وكان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يعرفه، فقال: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنَّ كعب بن زهير قد جاء ليستأمِنَ مِنَكَ تائباً مُسِلماً فهل أنت قابلٌ منه إن أنا جئتك به؟

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: نعم.

ص:611


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 937/4.

قال: أنا يا رسول اللّه كعبُ بن زهير(1).

ثم أخرج كعبٌ قصيدته اللّامية العصماء الّتي مدح فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والّتي كان قد أنشأها من قبل، وأنشدَها بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد ليتلافى بها ما سبق أَن بدَرَ منه من هجاء وطعن في سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم(2).

وهذه القصيدة الرائعة هي من أفضل قصائد كعب وقد اعتنى المسلمون بحفظها ونشرها منذ أن أنشدها الشاعرُ المذكور بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد، وقد شرحها علماءُ الإسلام كثيراً، وعدد أبيات هذه اللامية (أي الّتي تنتهي قوافيها باللام المضمومة) 58 بيتاً ومطلعها:

بانَتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ متيَّمٌ إثرَها لم يُفْدَ مكبولُ

لقد بدأ كعب قصيدَته هذه - على عادة شعراء العهد الجاهلي (الذين كانوا يبدأون قصائدهم بمخاطبة محبوبتهم أو مخاطبة الأطلال) - بذكر سعاد زوجته وابنة عمه، ولقد خصّها بالذكر لطول غيبته عنها، لهروبه من النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيقول:

فارقَتْني سعادٌ فراقاً بعيداً فقلبي اليوم أسقَمه الحبُّ، وأضناه، فهو ذليلٌ لغيبتها لم يخلص من الأسر والقيد.

ثم يمضي في هذا النمط من الكلام حتّى يصل إلى أن يعتذر من صنيعه السيئ فقال:

نُبِّئتُ أنَّ رسولَ اللّه أوعدَني والعَفوُ عند رَسول اللّه مأمولُ

ص:612


1- . روي أنّه وثب على كعب - في تلك الحال - رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسولَ اللّه دعني وعدوَّ اللّه أن أضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: دعهُ عنكَ فإنّهُ قد جاء تائباً نازعاً (عما كان عليه). لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 938/4-939.
2- . السيرة الحلبية: 239/3.

مهلاً هَداك الّذي أعطاك نافِ - لَة القرآن فيها مواعيظٌ وتَفصيلُ

لا تأخُذَنّي بأقوال الوُشاة وَلمْ أُذْنبْ ولو كَثُرتْ فيَّ الأَقاويلُ

إلى أن قال:

إنّ الرسولَ لنورٌ يُستَضاء بُه مُهنَّدٌ من سيوف اللّه مَسلولُ (1)(2)

حُزنٌ قارَن فَرحاً

في أواخر السنة الثامنة للهجرة فقَد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كُبرى بناته: «زينب»، وقد تزوَّجت زينب قبل البعثة بابن خالتها أبي العاص، وآمنت بأبيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد البعثة من دون تأخير، ولكنَّ زوجها ظلّ على شركه، وشارك في «بدر» ضدّ الإسلام والمسلمين، وأُسِرَ في تلك المعركة فخلّى رسولُ اللّه سبيله، شريطة أن يبعث بابنته «زينب» إلى المدينة.

وفعل ابنُ العاص ذلك فجهَّزَ زوجتَه «زينب» وبعثها برفقة أخيه إلى المدينة، غير أنّ سادة قريش عرفوا بذلك، فكلَّفوا مَن يُعيدُها إلى مكّة، فلحق بها هبّار بن الأسود فروّعها وطعن هودجَها برمحه ففزعت زينب ابنةُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأسقطَتْ حملها من شدّة الفزع، ولكنّها لم تنصرفْ عن الذهاب إلى المدينة، فقد واصلتْ سيرها حتّى قدمَت المدينة وهي عليلةٌ، وقضت بقيّة عمرها مريضة حتّى

ص:613


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 939/4-941.
2- . يقال: إن كعباً عندما فرغ من إنشاء قصيدته كساه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بُردة كانت عليه، فلمّا كان زمن معاوية أرسل إلى كعب أن بعنا بُردة رسول اللّه، فقال: ما كنتُ لأُوثر بثوب رسول اللّه أحداً، فلمّا مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم، وهي البردة الّتي كان يلبسها الخلفاء الأُمويون والعباسيون (راجع: الكامل في التاريخ: 276/2).

توفِّيَت في أواخر السنة الثامنة من الهجرة.(1)

ولكنَّ هذا الحزنَ قارنَهُ فرحٌ وسرورٌ فقد رُزقَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أواخر نفس ذلك العام ولداً أسماه «ابراهيم» من زوجته «ماريّة القبطية» (وهي الجارية الّتي أهداها المقوقس حاكمُ مِصر إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم).

والجدير بالذكر أنّه عندما بشّرت سلمى (المولِّدَة) رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك، أعطاها هدية ثمينة، وعقَّ له في اليوم السابع من ولادته، وحلق شعرَهُ، وتصدّق بوزن شَعره، فضة في سبيل اللّه(2).

ص:614


1- . لاحظ: الاستيعاب: 1854/4 برقم 3360؛ البداية والنهاية: 399/3؛ أعيان الشيعة: 41/7.
2- . تاريخ الخميس: 131/2.

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

54 عليُّ بن أبي طالب في أرض طيّ

عام الوفود

انقضت السنة الهجرية الثامنة بكلّ حوادثها المُرّة والحُلوة، فقد سقطت أكبر قاعدة من قواعد الوثنية والشرك في أيدي المسلمين، وعادَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة ظافراً منتصراً على أعداء الإسلام انتصاراً كاملاً، وقد هيمنَت ظلالُ القوة العسكرية الإسلامية على أكثر أنحاء الجزيرة العربية ونقاطها.

كما أخذت القبائل العربية المتمرّدة الّتي لم تكن تتصوّر إلى ذلك اليوم أن تتحقّق مثل هذه الانتصارات لدين التوحيد، أخذت تفكّر شيئاً فشيئاً في التقرّب إلى المسلمين وقبول معتقداتهم، واعتناق دينهم.

من هنا كانت وفودُ القبائل العربية المختلفة، وأحياناً مجموعة من أفراد قبيلة ما بقيادة رئيسها تقدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعلن عن إسلامها، وقبولها للرسالة المحمدية.

وقد ازداد قدومُ وفود القبائل هذه على عاصمة الإسلام (المدينة المنورة)

ص:615

في هذا العام حتّى سمّي بعام الوفود(1).

وعندما قدم وفدٌ من قبيلة «طيّ» وفيهم سيدهم «زيدُ الخيل» على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتحادث مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم أعجب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعقل زيد وحكمته ووقاره فقال عنه:

«ما ذُكِرَ لي رَجُلٌ من العَرب بفَضْلٍ ثم جاءني إلّارأيتُه دونَ ما يُقال فيه، إلّا زيد الخيل، فإنّه لم يبلغْ كلّ ما كان فيه».

ثم سَمّاه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زيد الخير(2).

إنّ دراسة قصّة الوفود، والإمعان والتدبّر في ما دار بينهم وبين رسول الإسلام

ص:616


1- . لقد سجّل المؤرّخ المعروف محمَّد بن سعد - في كتابه - خصوصيات وأسماء هذه الوفود وتفاصيل القسم الأكبر ممّا دار بينها وبين النبي صلى الله عليه و آله و سلم وما خصّهم به رسولُ الإسلام من اللطف لا يسع المجال لذكره هنا، وقد ذكر أسماء ثلاثة وسبعين وفداً من تلك الوفود الّتي وفدت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طوال السنة التاسعة من الهجرة أو ما قبلها بقليل (الطبقات الكبرى: 291/1-359).
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 999/4. هذا وينبغي الإشارة هنا وبالمناسبة إلى أنّه كان من سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يغيّر الأسماء القبيحة الّتي اعتاد الجاهليّون على تسمية أبنائهم بها أيثاراً للاسم الحسن، ولأنّ الاسم يورث الاحساس بالشخصية لدى صاحبه على العكس من الاسم القبيح، وقد ثبت هذا نفسياً، بل ربما غيّر الاسماء الّتي قد يشعر معها الإنسان بالعظمة، والفخر والزهو منعاً من أن تحدث لأصحابها مثل ذلك. فعن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان (قرب الأسناد: 93 برقم 310) ولهذا غيّر أسماء كثيرة لرجال ونساء فغيّر اسم ابنة لعمر كانت يقال لها عاصية فسمّاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جميلة (صحيح مسلم: 173/6، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن) وقد روي أنّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّ أوّل ما ينحل أحدُكُمْ ولَدَهُ الاسمَ الحسن» (بحار الأنوار: 122/23).

يفيد بوضوح وجلاء أنّ الإسلام انتشر في شبه الجزيرة العربية عن طريق الدعوة والتبليغ.

على أنّ طواغيت ذلك العصر أمثال أبي سفيان وأبي جهل كانوا يحاولون الحيلولة دون انتشار هذا الدين، فكانت لأجل ذلك حروب النبي صلى الله عليه و آله و سلم فمضافاً إلى أنّ أكثرها كان لإفشال تلك المؤامرات، كان الهدَفُ منها هو قمع أُولئك الطواغيت الذين كانوا يَصدُّون عن سبيل اللّه ويمنعون من دخول مجموعات الدعوة والتبليغ الإسلامية إلى مناطق الحجاز ونجد وغيرها.

إنَّ من البديهيّ أن لا يتيسَّر انتشار أيّ دين، وتطبيق أي برنامج إصلاحي من دون تحطيم الطواغيت، وإزالة الأشواك من طريقه.

ومن هنا نرى أنَّ جميع الأنبياء والرسُل - وليس رسول اللّه فقط - كانوا يجتهدون قبل أي شيء في تحطيم الطواغيت وإزالة السدود والموانع، من طريق الدعوة.

ويتحدّث القرآنُ الكريم في سورة خاصّة عن قدوم هذه الوفود على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وما حقّقه الإسلام من فتح وانتصار ساحق إذ يقول:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ * وَ رَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْواجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً».(1)

وبالرغم مِن هذا الإقبال المتزايد على الإسلام لدى القبائل وقدوم الوفود المتلاحق على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقد قام في السنة التاسعة من الهجرة ببعث عدّة سرايا، ووقعت غزوة واحدةٌ، وكانت السرايا هذه لأجل إفشال المؤامرات الّتي

ص:617


1- . النصر: 1-3.

كانت تحاك ضدّ الإسلام والمسلمين، وكانت في الأغلب لهدم الأصنام الكبيرة الّتي كانت لا تزال القبائلُ العربيةُ المشركةُ تقدّسها وتعبدها، ومن جملة هذه السرايا سرية علي بن أبي طالب عليه السلام الّتي وُجِّهت إلى أرض «طيّ» بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومن بين ما وقع في السنة التاسعة يمكن الإشارة إلى غزوة «تبوك».

ففي هذه الغزوة غادر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة متوجّهاً إلى أرض تبوك، ولكنّه لم يلق فيها أحداً، فعاد مِن غير قتال، إلّاأنّه مَهَّدَ الطريق لفتح البلاد الحدُودية لمن يأتي في المستقبل.

هدم بيوت الأصنام

لقد كانت الوظيفة الأساسية الأُولى من وظائف النبي صلى الله عليه و آله و سلم هي: نشر عقيدة التوحيد، واجتثاث جذور كلّ نوع من أنواع الشرك، وقد كان صلى الله عليه و آله و سلم يسلُك - لتحقيق هذه الغاية، ولإرشاد الضالّين والوثنيّين - طريق المنطق والاستدلال، قبل أي شيء فكان يلفت أنظارهم بالأدلّة الواضحة والبراهين الساطعة إلى بطلان الشرك والوثنية، فإذا لم يُجد معهم المنطقُ المبرهَنُ، والإرشادُ المستدَلُّ، ولَجّوا في كفرهم وشركهم سمحَ لنفسه بأن يتوسَّل بالقوة، ويداوي أُولئك المرضى روحاً وفكراً والذين يمتنعون عن استعمال الدواء وبمحض اختيارهم، بالمعالجة الجبرية.

فإنّه إذا شاع داء «الكوليرا» في بلد من البلدان مثلاً، وامتنع فريقٌ من الناس عن قبول تلقيحهم بالمصل اللازم لمكافحة ذلك المرض، فإنّ المسؤول في ذلك البلد يرى لنفسه الحقّ في أن يجبر تلك الجماعة الضيّقة التفكير الّتي تعرّضُ سلامة نفسها وسلامة غيرها للخطر من حيث لا تشعر على الرضوخ لعملية التلقيح المذكورة.

ص:618

لقد أدرك رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ضوء تعاليم الوحي أنَّ الوثنية أشبه شيء بجرثومة «الكوليرا» تهدم فضائل الإنسان، وشرفه، وتقضي على مكارم الأخلاق، وتحطّ من مكانة الإنسان الرفيعة، وتجعله كائناً حقيراً أمام الطين والحجر والموجودات المنحطّة.

وعلى هذا الأساس أُمر من جانب اللّه تعالى بأن يجتَثَّ جذورَ الشرك من كيان ذلك المجتمع الموبوء، ويزيل كلّ مظاهر الوثنية، وكلّ أنواعها وأشكالها، وإذا ما قاومت جماعةٌ هذا العمل، وعارضَتْ هذا الإجراء حطّم مقاومته بالقوة العسكرية، والقبضة الحديدية.

إنَّ التفوّق العسكري أعطى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فرصة بَعْث الفِرَق العسكرية لتحطيم وهدم كلّ بيوت الأصنام، وأنْ لا يبقوا في منطقة الحجاز صنماً إلّاهَدَّموه.

عليٌ في أرض طيّ

ولقد كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعرفُ من قَبل، أن في قبيلة طيّ صنماً كبيراً يُقدَّس إلى الآن ومن هنا بَعث صلى الله عليه و آله و سلم بطل جيشه الشجاع علي بن أبي طالب عليه السلام على رأس مائة وخمسين فارساً إلى أرض طيّ، وأمره بأن يحطّم صنم طيّ، ويهدم بيته.

وقد أدرك قائد هذه السرية أنّ القبيلة المذكورة ستقاومُ جنود الإسلام، وأنَّ الأمر لن يتمَّ من دون قتال، ولهذا حمل بأفراده على موضع ذلك الصنم، عند الفجر والناس نيام، فاستطاع أن يأسر جماعة من تلك القبيلة ممّن قاوم، وأن يعود بهم وبالغنائم إلى المدينة، وقد فرّ «عديّ بن حاتم الطائي» الّذي انضمّ فيما بعد إلى صفوف المسلمين، المجاهدين في سبيل اللّه، وكان يرأس تلك القبيلة، حين سمع بتوجّه علي عليه السلام نحوها.

ص:619

ولنستمع إلى عديّ الطائي نفسه وهو يقصُّ علينا قصّة هروبه.

قصة إسلام عدي بن حاتم الطائي

يقول عديّ: ما من رجل كان أشدّ كراهية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين سمع به، منّي.

أمّا أنا فكنتُ امرأً شريفاً، وكنتُ نصرانياً، وكنتُ أسيرُ في قومي بالمرباع (أي آخذ الربع من الغنائم لأنّي سيّدهم) فكنتُ في نفسي على دين، وكنتُ ملكاً في قومي لما كان يُصنَع بي. فلمّا سمعتُ برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربيّ، وكان راعياً لإبلي: لا أباً لك أعددْ لي من إبلي أجمالاً ذُلُلاً سماناً، فاحتبسها قريباً منّي، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذنّي؛ ففعل.

ثم إنّه أتاني ذات غداة، فقال: يا عديّ ما كنت صانعاً إذا غشيَتْك خيلُ محمَّد، فأصنَعْهُ الآن، فإنّي قد رأيتُ رايات، فسألتُ عنها، فقالوا: هذه جيوش محمَّد.

قال: فقلت: فقرّبْ إليَّ أجمالي فقرَّبها، فاحتملتُ بأهلي ووُلدي، ثم قلتُ:

ألحَقُ بأهل ديني من النصارى بالشام فسلكتُ الجوشية(1) وخلّفت بنتاً لحاتم في الحاضر، فلمّا (وصلت) الشام أقمت بها. وتخالفني خيلٌ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فتصيب (أُختي) ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في سبايا من طيّ، وقد بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هروبي إلى الشام.

فَجُعِلَت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا يُحبَسن فيه، فمرَّ بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقامت إليه أُختي وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هلَك الوالدُ، وغابَ الوافدُ، فاْمنُنْ عليَّ مَنَّ اللّهُ عليك.

ص:620


1- . الجوشية: جبل للضباب قرب ضرية، من أرض نجد.

قال: ومَن وافدُك؟

فقالت: عديُّ بن حاتم.

قال: الفارُّ من اللّه ورسوله؟

ثم مضى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتركني حتّى إذا كان من الغَدِ مرّ بي، فقلت له مثلَ ذلك، وقال لي مثلَ ما قالَ بالأمس. حتّى إذا كان من الغد مرّ بي وقد يئستُ منه، فاشار إليّ رجلٌ من خلفهِ أن قُومي فكلّميه، فقامتْ إليه، وقالت: يا رسول اللّه هلك الوالدُ، وغابَ الوافدُ، فامنُن عليَّ منَّ اللّه عليك.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قَدْ فَعلتُ فلا تعجَلي بخروج حتّى تجدي مِنْ قومكِ من يكونُ لك ثقة حَتى يُبلغك إلى بلادك ثم آذنيني».

تقول أُختي: فسألت عن الرجل الّذي أشار إليّ أن أُكلمه فقيل: علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه.

وأقمت حتّى قدم ركبٌ من بلّي أو قضاعة قالت: وأنّما أُريد أن آتي أخي بالشام. قالت: فجئتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقلتُ: يا رسول اللّه قد قدم رهطٌ مِن قومي لي فيهم ثقةٌ وبلاغٌ.

قالت: فكساني رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحَملني، وأعطاني نفقة، فخرجتُ معهمْ حتّى قدمت الشامَ.

قال عَديّ: فواللّه إني لقاعدٌ في أهلي إذ نظرتُ إلى ظعينة (وهي المرأة في هودجها) تصوّبُ إليّ تؤمُنا قال: فقلتُ ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي، فلمّا وقفَتْ عليّ انسحلت (أخذتْ في اللوم) تقول: القاطع الظالم، احتملتَ بأهلك وولدك، وتركت بقيّة والدك عورتك.

فقلتُ: أي أُخيّهْ، لا تقولي إلّاخيراً، فواللّه مالي من عُذر، لقد صنعتُ ما

ص:621

ذكرتِ، ثم نَزلَتْ فأقامت عندي فقلتُ لها، وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟

قالت: أرى واللّه أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجُل نبيّاً فللسابق إليه فضلُه، وإن يكن مَلِكاً فلن تذل في عِز اليمن، وأنت أنت. فقلت: واللّه إنّ هذا الرأي.

قال عديّ: فخرجتُ حتّى أقدمُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة فدخلتُ عليه، وهو في مسجده، فسلّمتُ عليه، فقال: مَنِ الرجلُ؟ فقلت: عديُّ بن حاتم، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فانطلَقَ بي إلى بيته، فواللّه إنّه لعامدٌ بي إليه، إذْ لقيَتْه امرأةٌ ضعيفة كبيرة فاستوقفَتْهُ، فوقف لها طويلاً تكلّمُه في حاجتها. فقلتُ في نفسي: واللّه ما هذا بملك.

ثم مضى بي رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أُدم محشوّة ليفاً فقذفها إليّ، فقال: إجلسْ على هذه، فقلت: بل أنت فاجلسْ عليها، فقال: بل أنتَ، فجلستُ عليها، وجلس رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالأرض (وهو عظيم الحجاز) فقلتُ في نفسي: واللّه ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عديّ بن حاتم، ألم تكُ ركوسيّاً (وهو دين بين دين النصارى والصابئين)؟

قلت: بلى.

قال: أوَلَمْ تكنْ تسيرُ في قومك بالمرباع؟

قلتُ: بلى.

قال: فإنّ ذلكَ لم يَحُلْ لك في دينك.

قلت: أجل واللّه، وعرفتُ أنّه نبيٌ مُرسَل، يَعلمُ ما يُجهَل، ثم قال: لعلّك يا عديّ إنّما يمنعُك من الدخول في هذا الدين ماترى من حاجتهم، فواللّه ليوشِكَنَّ المالُ أن يفيض فيهم حتّى لا يوجد من يأخذُهُ، ولعلَّك إنّما يمنعُك من دخول فيه

ص:622

ماترى من كثرة عدُوهم وقلّة عددهم، فواللّه ليوشكَنَّ أن تسمعَ بالمرأة تخرجُ من القادسية على بعيرها حتّى تزور هذا البيت، لا تخاف، ولعلَّك إنّما يمنعك من دخول فيه أنّك ترى أنَّ المُلك والسلطان في غيرهم، وأيم اللّه ليوشكِن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتِحَتْ عليهم.

قال عديّ: فأسلمتُ.

وكان عديّ يقولُ: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة واللّه لتكوننَّ، قد رأيتُ القصور البيض من أرض بابل قد فُتِحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتّى تحجَّ هذا البيت، وأيمُ اللّه لتكونن الثالثة، ليفيضنّ المالُ حتّى لا يوجدَ من يأخذه(1).

ولقد نقل العلامةُ الطبرسي في تفسير قوله تعالى: «اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» (2) اللقاء الّذي تمّ بين عديّ ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويقول: قال عديّ انتهيتُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية: «اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ...» حتّى فرغ منها، فقلت له: إنّا لَسْنا نعبدُهم، فقال: أليس يحرّمونَ ما أحلَّ اللّه فتحرّمونَه، ويُحلّون ما حرّمَ اللّه فتستحلُّونه، فقلتُ:

بلى، قالَ: فَتِلكَ عبادتُهم(3).

ص:623


1- . المغازي: 988/2 و 989؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1000/4-1002؛ الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الامامية: 352-354؛ السيرة الحلبية: 257/3-259.
2- . التوبة: 31.
3- . مجمع البيان: 43/5-44.

54 غَزْوَةُ تَبُوك

اشارة

تبوك هي قلعةٌ قويّة، رفيعة الجدران مقامة عند عين ماء على الشريط الحدودي السوري في طريق «حجر» و «الشام».

وكانت سوريةُ آنذاك من مستعمرات إمبراطورية الروم الشرقية، الّتي كانت عاصمتُها القسطنطينية.

وكان جميعُ سكان المناطق الحدودية للشام نصارى على دين المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وكان أكثر زعمائها ولاة منصوبين من قِبَل حاكم الشام الّذي كان يمثّلُ هو بدوره إمبراطور الروم، ويمتثل أوامره.

ولقد كان لانتشار الإسلام السريع في شبه الجزيرة العربية وفتوحات المسلمين المشرقة في الحجاز صداه في خارج الحجاز ينعكسُ بالوسائل الموجودة في ذلك اليوم، وكان ذلك يُرعبُ الأعداء، ويدفعُهم إلى التفكير في حيلة.

ولقد دفعَ سقوطُ حكومة «مكّة» الوثنية، واعتناقُ زعماء الحجاز الكبار للدين الإسلامي، وبطولات جنود الإسلام الباهرة وبسالتهم وتفانيهم الفريد في طريق عقيدتهم، بامبراطور الرّوم إلى أن يحشّد جموعاً كبيرة، ويتهيّأ لمهاجمة المسلمين

ص:624

وغزوهم بغتة، لأنّه كان يرى تزلزل سلطانه مع انتشار الإسلام المطّرد، وكانت مخاوفه تزدادُ يوماً بعد يوم وهو يرى تعاظم القوة الإسلامية العسكرية، وانتشار نفوذه السياسيّ.

كانت الرومُ - آنذاك - المنافسة الوحيدة، والقوية لإيران، وكانت تملك أعظم قوة عسكرية، وكانتْ مغترَّة أشدّ الغرور بنفسها، لما أصابتْهُ من فتوحات وانتصارات في معاركها الكبرى مع إيران، وما ألحقتْهُ من هزائم نكراء بإيران في تلك العصور.

وقد كان جيش الروم يتألّفُ من أربعين ألف فارس وراجل، وكان مجهّزاً بأحدث أسلحة وتجهيزات ذلك العصر، وقد استقرَّ هذا الجيش على الشريط الحدوديّ لأرض الشام، والتحقت به قبائل عديدةٌ تسكن الحدود مثل قبيلة:

«لخم»، «عاملة»، «غسان»، و «جذام»، وتقدمت طلائع ذلك الجيش حتّى منطقة «البلقاء».

ولقد بلغ نبأ استقرار فريق من جنود الروم على الشريط الحدودي للشام إلى مسامع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق القوافل التجارية الّتي تعملُ على طريق الحجاز - الشام، فلم يرَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بُدّاً من أن يردَّ على هؤلاء المعتدين، بجيش عظيم، ويحافظ بذلك على الدين الَّذي قام بفضل الدماء الزكية الّتي أُريقتْ من أصحابه، وبفضل تضحياته هو صلى الله عليه و آله و سلم وهو الآن على أبواب أن يعمَّ العالم نورُه وهُداه، من ضربات العدوّ المفاجئة.

ولقد بلغ هذا الخبرُ المقلق أهل المدينة، وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم، والناس في زمان عسرة، وشدة من الحرّ، وجَدْب من البلاد، وقد طابت الثمار، والناسُ يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرَهُون الشخوص

ص:625

على الحال الّذي هم عليه.

ولكن الدوافع المعنوية، وروح الحفاظ على الأهداف المقدّسة، والجهاد في سبيل اللّه مقدّمٌ عند عباد اللّه المؤمنين الصالحين على كلّ تلك الأُمور.

تعبئةُ المقاتلين وتهيئة نفقات الحرب

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعرفُ على نحو الإجمال مدى وحجم استعدادات العدوّ، وطاقاته، وقدرته على القتال.

من هنا كان مطمئناً إلى أنّ الانتصار في هذه المعركة بحاجة - مضافاً إلى الخلْفية المعنوية القوية وهي الإيمان باللّه والقتال ابتغاء مرضاته - إلى قوة عسكرية كبيرة جداً ولهذا بعث رجالاً إلى مكّة، ونواحي المدينة يدعون المسلمين إلى المشاركة في الجهاد في سبيل اللّه، ويحثُّون أهل الغنى والثروة، على تهيئة نفقات الجهاد في سبيل اللّه من الزكاة.

وأخيراً أعلن ثلاثون ألفاً من المسلمين استعدادهم للمشاركة في هذه الغزوة واجتمعوا في معسكر عند «ثنية الوداع» وتهيَّأَ قدرٌ كبيرٌ من نفقات القتال عن طريق الزكاة، وكان الجيش الإسلامي يتألف من عشرة آلاف فارس، وعشرين ألف راجل.

وقد أمر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن تتّخذَ كلُّ قبيلة راية لنفسها.

المتخلِّفُون عن القتال

كانت غزوةُ «تبوك» خير محَكّ لمعرفة المجاهدين الصادقين وتمييزهم عن غير الصادقين من أدعياء الإيمان والمنافقين؛ لأنّ التعبئة العامّة لهذه الغزوَة أُعلِنت في وقت كان الناسُ يستعدُّون فيه للحصاد من جهة، وكان الحرّ على أشدّه من ناحية

ص:626

أُخرى، فكشف تخلّفُ البعض - بالأعذار والحجج المختلفة - القناع عن وجههم الحقيقي، ونزلت آياتٌ في ذمّهم جميعها في سورة براءة.

لقد تخلّف البعضُ عن المشاركة في هذه الغزوة للأسباب والعلل التالية:

1. عندما قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للجدّ بن قيس بن صخر الأنصاري - وكان من الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة -:

«أبا وَهَبْ هَلْ لكَ العامَ تخرجُ مَعنا»؟

فقال: أو تأذنُ لي، ولا تفتِنّي(1) فواللّه لقد عرف قومي ما أحدٌ أشدّ عَجباً بالنساء مني، وإنّي لأخشى إنْ رأيتُ نساء بني الأصفر (الروم) لا أصبرُ عليهنَّ.(2)

فأعرضَ عنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن سمع منه ذلك العذر الصبياني، وقد نزل فيه قول اللّه تعالى:

«وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» .(3)

2. المنافقون: إن جماعة ممّن تظاهروا بالإسلام والإيمان وهم منه خلوٌ، أخذوا يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة تبوك، وربما تحجَّجوا بشدّة الحرّ فقالوا: يغزُو محمَّدٌ بني الأصفر مع جَهْدِ الحال والحرّ، والبلد البعيد، إلى ما لا قِبَل له به، يحسب محمَّدٌ أنّ قتال بني الأصفر اللعب، ونافق بمن معه ممّن هو على مثل رأيه، ثم قال: واللّه لكأنّي أنظر إلى أصحابه غداً مقرّنين في الحبال.(4) فنزل فيهم قول اللّه تعالى:

ص:627


1- . أي أخشى الافتتانُ ببنات الروم فلا تفتنيّ بهنَّ يا رسول اللّه.
2- . إمتاع الأسماع: 48/2؛ المغازي: 992/2.
3- . التوبة: 49.
4- . إمتاع الأسماع: 51/2؛ المغازي: 995/2.

«وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .(1)

اكتشافُ شَبكّةٍ جاسُوسيَّة في المدينة

كانَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما أسلَفْنا يولي مسألة تحصيل المعلومات عن العدو وتحركاته اهتماماً كبيراً، وكان أكثر انتصاراته تَعُودُ إلى حُسْن استخدامه لهذه الوسيلة، وبالتالي لمعرفته الدقيقة بتحرّكات العدو ونشاطاتهِ، وعلى هذا الأساس كان يقضي على الكثير من المؤامرات في مهدها.

ولقد بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ عدداً من المنافقين يجتمعونَ في بيت «سويلم» اليهودي،... يثبطون الناس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة تبوك، فبعث إليهم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «طلحة بن عبيد اللّه» في نفر من أصحابه وأمره أن يُحرِّق عليهم بيت «سويلم». ففعل طلحة.

فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا، فقال الضحّاك في ذلك:

كادَتْ وبَيتِ اللّه نارُ محمَّد يشيطُ بها الضحّاك وابنُ أبيرق

وظَلْتُ وقد طبَّقتُ كِبسَ سوَيلم أنوءُ على رجلي كسيراً ومرفَقي

سلام عَليكُمْ لا أعودُ لِمثلِها أخافُ وَمَنْ تشملْ به النارُ يحرقُ (2)

3. البكّاؤون: لقد أتى رجالٌ من المسلمين رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانوا يرغبون في الخروج مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى هذه الغزوة، وطلبوا منه ما يحملهم عليه من دابّة

ص:628


1- . التوبة: 81-82.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 944/4.

فقد كانوا أهل حاجة فقراء، فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا أجدُ ما أحمِلُكُمْ عليه».

فتولَوْا وأعيُنُهم تفيضُ من الدمع حزناً، ألّا يجدوا ما ينفقون.(1)

فإذا كان بين أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رجالٌ نافقوا، وتركوا الخروج مع رسول اللّه متعلّلين، بالأعذار السخيفة، فقد كان إلى جانب ذلك أيضاً من كان يبكي بكاء مُرّاً لعدم تمكّنه من المشاركة في الجهاد المقدّس، حتّى عُرفوا في التاريخ الإسلامي بالبكّائين، ونزل فيهم قرآنٌ إذ يقول تعالى:

«وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» .(2)

4. المتخلفون: ولقد أبطأَ بعض أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن الخروج، وتخلَّفوا لا عَنْ شكّ وارتياب، أو رغبة عن الجهاد في سبيل اللّه، وقد كانوا أهل صِدق لا يُتَّهمون في إسلامهم، إنّما تخلَّفوا حتّى يلتحقوا بركب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن يَفرغوا من الحصاد والقطاف وهم (المخلَّفون) الثلاثة حسب تعبير القرآن الكريم الذين فاتتهم غزوةُ تبوك، فوبَّخهمُ اللّه تعالى وعاقبهم على تخلّفِهم ليكونَ في ذلك عبرة لمن سواهم، كما ستعرف تفصيل ذلك عمّا قريب.

5. المجاهدون الصادقون: الذين لَبّوا نداء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتهيّأوا من فورهمْ للخروج معه في شوق بالغ، ورغبة عظيمة في الجهاد.

ص:629


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 945/4.
2- . التوبة: 92.
عدمُ مشاركة «عليّ» عليه السلام في غزوة تَبُوك

لقد كان من أبرز فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه شارك في جميع المعارك، ولازم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جميع غزواته - وكان هو حاملُ لوائه في تلك المعارك والغزوات - ما عدا تبوك حيث بقي في المدينة بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يشاركْ في هذا الجهاد المقدس؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يدرك جيّداً أنّ بعض المنافقين والمتربّصين، والمتحيّنين الفرصَ من رجال قريش سيستغِلّون فرصةَ غيبة النبي القائد عن المدينة (مركز الدولة الإسلامية) فيثيرون فيها فتنة، ويجهزون على الحكومة الإسلامية الفتية بانقلاب أو ما شابه ذلك، وأنّ مثل هذه الفرصة إنّما تسنح لهم إذا قصد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكاناً نائياً، وانقطع ارتباطه بعاصمة الإسلام (المدينة)!! ولقد كانت «تبوك» أبعد نقطة خرج إليها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جميع غزواته، فكان يحدس - بقوة - أن تقوم القوى المضادّة للإسلام بقلب الأوضاع في غيابه، ويجمعوا من يروا رأيهمْ ويذهبُ مذهبَهم من شتى أنحاء الحجاز، ويتّحدوا لضرب الدولة الإسلامية والقضاء عليها من الداخل.

ولهذا - رغم أنّه استخلف «محمَّد بن مَسْلَمة» على المدينة - قال للامام «علي ابن أبي طالب»:

«إنّ المدينة لا تصلح إلّابي أو بك، فأنتَ خليفَتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي».(1)

ولقد أزعج بقاءُ عليّ عليه السلام في المدينة، المنافقين الذين كانوا يتربَّصون

ص:630


1- . إرشاد المفيد: 156/1؛ بحار الأنوار: 208/21.

بالإسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرصة، ويفكّرون في انقلاب في غيبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّهم كانوا يعرفون أنهم لن يعودُوا يستطيعون مع وجود عليّ عليه السلام في المدينة، ومراقبته الدقيقة لتحرّكاتهم ونشاطاتهمْ فعل أي شيء ممّا كانوا ينوون القيام به، ولهذا أرجفوا به، وبثّوا شائعات خبيثة حوله، بغية إجباره على مغادرة المدينة فقالوا:

ما خلّف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عَليّاً إلّااستثقالاً له، وتخفّفاً منه، أو: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دعاهُ إلى الخروج لتبوك، ولكن عليّاً امتنعَ من الخروج بحجّة الحرّ الشديد، وبُعد الطريق وإيثاراً للدعة والراحة والرفاهية!!

ولإبطال هذه الشائعة الخبيثة، وتكذيب هذا الكلام، أخذ علي عليه السلام سلاحه، وخرج حتّى أتى رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو نازلٌ بالجرف (وهو موضعٌ على ثلاثة أميال من المدينة) فقال:

«يا نبيَ اللّه، زَعَمَ المنافقون أنَّكَ إنّما خَلَّفْتَنِي أنَّكَ استثْقَلتَنِيْ وَتَخفَّفْتَ منّي».

فقالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حينئذٍ كلمته التاريخية الخالدة الّتي تعتبر من أبرز الأدلّة وأقواها وأوضحها على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام وخلافته بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بلا فصل:

«كَذِبُوا، وَلكنِّني خلَّفتُك لما تَركتُ ورائي، فاْرجعْ فاْخلُفْنِي في أهْلِيْ وَأهْلِكَ، أفَلا تَرْضى يا عَليّ أنْ تَكُونَ مِنّي بِمنزلةِ هارونَ مِنْ مُوسى إلّاأنّه لا نبيَّ بعدي»(1).

فرجع علي عليه السلام إلى المدينة المنورة، ومضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على سفره(2).

ص:631


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 129/5، باب غزوة تبوك؛ صحيح مسلم: 120/7، باب فضائل علي عليه السلام.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 947/4؛ السيرة الحلبية: 104/3؛ الطبقات الكبرى: 23/3 و 24؛ إمتاع
جيش الإسلام يتحرّك نحو تبوك

لقد دأب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - إذ خرج لتأديب قوم يكيدون بالاسلام، ويمنعون من تقدّمه وانتشاره، أو يقصدون الهجوم على المدينة واجتياحها، أو إيجاد فتن فيها - على أن لا يبوح بمقصده ووجهته لجنوده وأُمراء جيشه، وأن يسير بالجيش في طريق آخر غير الوجه الّذي ينويه باطناً، حتّى لا يعرف به العدو فيتهيّأ لمواجهته، وبذلك يتسنّى له صلى الله عليه و آله و سلم أن يباغت العدوَّ، ويحقّق الانتصار الساحق عليه(1).

غير أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عدَل عن هذه السيرة في قضية غزو الروميّين الذين اجتمعوا في حدود الشام وهم يتأهَّبون للهجوم على عاصمة الإسلام.

فقد بَيّن للناس - منذ أعلن التعبئة العامّة - الوجهة الّتي يقصُدُها، وكان السرُّ في ذلك هو أنْ يعرف المجاهدون أهميّة هذا السفَر وصعوبتَهُ، وأن يحملوا الزاد الكافي والعدّة اللازمة.

هذا مضافاً إلى أنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان مضطرّاً - لتقوية الجيش الإسلامي إلى أنْ يستعينَ بقبائل «تميم» و «غطفان» و «طيّ» الّتي كانت تسكن في مناطق بعيدة عن المدينة. وقد عَمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهذا الغرض إلى مراسلة زعماء تلك القبائل وساداتها، كما كتب إلى «عتَاب بن أُسيد» أمير مكّة الشاب دعا فيه رجال تلك

ص:632


1- . المغازي: 990/2.

القبائل، وفتيان مكّة إلى المشاركة في هذا الجهاد المقدس(1).

ومثل هذا النوع من الدعوة الصريحة العامّة لا ينسجم مع الكتمان والسريّة، لأنّه كان لابدَّ أن يخبر صلى الله عليه و آله و سلم رؤساء القبائل في هذا الموضوع، ويذكر لهم أهميّته، ليحملُوا معهم الزاد والعدة اللازمة الكافية.

النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يَستعرضُ جيشَهُ

ولمّا حانَ موعد تحرّك الجيش استعرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جيشَه في معسكر المدينة العظيم، المؤلَّف من المؤمنين الفدائيّين الغيارى على الإسلام، والذين فضّلوا المشقّة والموت في سبيل الهدف على الاستراحة في الظلال، والتجارة، وكسب المال واكتناز الثروة، وخرجوا يستقبلون الموت في سبيل الدين بقلوب تفيض إيماناً ويقيناً.

لقد كان هذا المشهد مشهداً جميلاً ورائعاً جداً، وكان له أثرٌ قويٌ في نفوس المتفرّجين.

وفي هذه المناسبة ألقى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خطبة مهمّة، لتقوية معنويات المجاهدين، قد شرح فيها هدفه من هذه التعبئة العامّة الواسعة.

فبعد أن حمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله قال:

«أيّها الناس! أمّا بعدُ، فإنّ أصدقَ الحديث كتابُ اللّه وأوثق العُرى كَلِمة التقوى، وَخير المِللَ ملةُ إبراهيم عليه السلام، وخير السنن سننُ محمَّد، وأشرف الحديث ذكرُ اللّه، وأحسنَ القصَص هذا القُرآن، وخير الأُمور عواقبها، وَشرّ الأُمور محدَثاتُها، وأحسن الهدى هَديُ الأنبياء، وأشْرفَ القَتْل قتل الشهداء».

ص:633


1- . بحار الأنوار: 244/21.

إلى آخر الخطبة الّتي وردتْ بكاملها في المصادر التاريخية والّتي أدرج فيها مجموعة كبرى وهامّة من التعاليم الإسلامية الهامّة فرغبَ الناسُ في الجهاد لما سَمِعوا هذا مِن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1) ثم أصدر رسولُ اللّه أوامره للجنود بالتوجّه إلى ثغور الشام من الطريق الّذي عيّنه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قصّة مالك بن قيس

إنّ مالك بن قيس «أباخيثمة» رجع بعد أن سارَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أيّاماً إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشّت كل واحدة منهما عريشها، وبرّدت له فيه ماء، وهيّأت له فيه طعاماً فلمّا دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له، فقال: رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الضح والريح والحرّ، وأبو خيثمة في ظلّ بارد، وطعام مُهيّأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ ما هذا بالنصف.

ثم قال: واللّه لا أدخلُ عريش واحدة منكُما حتّى ألحق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فهيّئا لي زاداً، ففعلتا ثم قدَّم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة «عميرُ بن وهيب الجمحي» يطلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(2).

لقد كان هذا الرجل ممّن لم يُوفَّق - في بداية الأمر - لمرافقة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلّاأنّه التحق بركبه المقدّس ونال السعادة العظمى بحسن اختياره الّذي يستحق

ص:634


1- . المغازي: 1016/2؛ إمتاع الأسماع: 59/2؛ بحار الأنوار: 210/21-212.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 947/4. وقد ذكر الواقدي في المغازي: 998/2 هذه القصّة باختلاف يسير ونسبها إلى عبد اللّه بن خيثمة.

الإكبار والتقدير، ولم يكن مثل أُولئك الذين طلبتهم السعادة ولكنّهم رفضوها، وابتعدوا عنها، وآثروا البقاء في ضلالهم وشقائهم.

فهذا «عبد اللّه بن أُبي» رئيس المنافقين وكبيرهم الّذي عزم على أن يشارك مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الغزوة أقام خيمته في معسكر المسلمين، ولكنّه لخبث سريرته، وعدائه الشديد للإسلام ونبيّه الكريم صلى الله عليه و آله و سلم بدّل رأيه ساعة رحيل الجيش الاسلامي، وعاد إلى المدينة مع أصحابه ليقوم بالشغب، وحيث إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان على عِلم بنفاقه، وخُبث سريرته وكان يدرك جيداً أنّ مشاركة هذا العنصر المنافق وجماعته في ذلك الجهاد لن تعود على المسلمين بفائدة، لذلك لم يهتم صلى الله عليه و آله و سلم بانفصاله عن الجيش الإسلامي ورجوعه إلى المدينة.

مصاعبُ الطريق

لقد واجه جيش الإسلام في أثناء الطريق متاعب ومشاقّاً كثيرة، ولهذا سُمّي هذا الجيش بجيش «العُسرة» ولكن إيمانهم العميق باللّه، وحبّهم الشديد للهدف المقدّس سهَّل لهم تلك المصاعب، وهوّن عليهم تلك المشاق، الّتي استقبلوها بصدور رحبة.

لمّا مرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالحجر (أرض ثمود) سجى ثوبه على وجهه واستحثّ راحلته ثم قال:

«لا تَدْخُلُوا بُيوتَ الَّذين ظَلَمُوا إلّاوَأنْتُمْ باكونَ خوفاً أنْ يُصِيبكُمْ مثلَ ما أصابَهُمْ».(1)

وهو بذلك يحثُ أصحابه على التدبّر في أحوال مَن مضى مِن الأقوام

ص:635


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 949/4.

والشعوب، والتفكّر في مصائرهم وما آلوا عليه بسبب عُتوّهم وعنادهم، وتمرّدهم على الحقّ، فإنّ ظلال الموت الّتي كانت تخيّم على تلك الربوع والأطلال الصامتة خيرُ عبرة للأجيال والأقوام الأُخرى.

ثم نهى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الناس عن أن يشربوا من مائها شيئاً، وأن لا يتوضّأوا به للصلاة، وأن لا يحاسَ به حيس، ولا يطبَخَ به طعامٌ، وأن العجينَ الّذي عُجِنَ به، أو الحيس الّذي فُعِلَ به يعلفونه الإبل، وأن الطبيخ الّذي طُبِخَ به يُلقى، ولا يأكُلُوا منه شيئاً(1)، ففعل الناس ما أمرَهُمْ به رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ثم إنّ الناس ارتحلوا من تلك المنطقة حتّى إذا مضى من الليل بعضُه وصلوا إلى البئر الّتي كانت تشرب منها ناقةُ النبي صالح عليه السلام، فنزلُوا عليها بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

تعليماتٌ احتياطيّة

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعرفُ بالرياح الشديدة والسامّة والعواصف القوية الّتي كانت تهبُّ في تلك الأَرض بين الحين والآخر، وتبلغ من الشدة والقوة بحيث ربما تحمل البعير بصاحبه، وتلقيه في واد آخر. ولهذا أصدر صلى الله عليه و آله و سلم إلى أصحابه تعليمات احتياطية مشدَّدة فأمرهم بأن يعقلوا إبلهم ولا يخرج أحدٌ منهم في تلك الليلة وحده، بل يخرج من خبائه مع صاحبه.

وقد أثبتت التجاربُ والأحداثُ فيما بعد أنّ التعليمات الاحتياطية النبوية المذكورة كانت مفيدة جداً، لأنّ شخصين من بني ساعدة من الَّذين كانوا في ركب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تجاهَلا هذه التعليمات فخرجا منفردين من خبائهما ليلاً،

ص:636


1- . السيرة الحلبية: 106/3؛ السيرة النبوية لابن هشام: 948/4.

فاختنق أحدهما لشدة الرياح، بينما احتملت الريحُ الرجل الآخر، وضربت به الجبَل، ولما علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك انزعجَ بشدّة وقال:

«ألمْ أنهكُمْ أنْ لا يَخرجَ أحدٌ منكم إلّاوَمعهُ صاحبَه»(1).

هذا وقد استعمل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على حرس العسكر «عباد بن بشر» فكانَ يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم أصبح الناس ولا ماء معهم، وحصل لهم بسبب العطش ما كاد يقطَعُ رقابهم، حتّى حملَ ذلك بعضهم على نحر إبلهم ليشقُّوا أكراشها، ويشربُوا ماءها، بينما صبر آخرون، وانتظروا حصول الماء على ظمأ شديد، وقلوب ملتهبة عطشاً.

ولقد أعإنّ اللّه تعالى الّذي كان قد وَعَد نبيّه الكريم بالنصر أصحابه المسلمين الأوفياء، مرّة أُخرى إذ أرسل سحابة فمطرت حتّى ارتوى الناسُ، واحتملوا ما يحتاجون إليه.

علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمغيّبات

لاشكّ في أنّ في مقدور رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يَطْلعَ على الغيب ممّا يخفى على الناس، ويخبر به كما يصرّح القرآنُ الكريم بذلك، إلّاأنَّ هذا العلم لا ريب محدودٌ، ويحتاجُ إلى تعليم اللّه سبحانه. يقول تعالى:

«عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» (2).

من هنا يمكن أن تخفى على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بعض الأحايين، أبسط الأُمور، كأن يفقد مفتاحاً، أو يضيّع مالاً ولا يعرف بمكانه ومصيره، بينما

ص:637


1- . السيرة الحلبية: 106/3؛ السيرة النبوية لابن هشام: 948/4.
2- . الجن: 26 و 27.

يقدر صلى الله عليه و آله و سلم أن يعلم بأخفى الأُمور الغيبية وأشدّها غموضاً فيثير حيرة الناس ودهشتهم وعجبهم.

والسبب في كلّ ذلك هو ما ذكرناه، فإنّ مشيئة اللّه سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشيء من عالم الغيب ويخبر به علمَ وأخبر، وإلّا كان صلى الله عليه و آله و سلم كغيره من أفراد البشر العاديّين.

وفي ضوء هذا البيان لابد أن ننظر إلى القصّة التالية:

لمّا كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، فقام أحد المنافقين، وقال: أليس محمَّد يزعم أنّه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟!

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يكشفُ النقاب ببيانه الرائع:

«إنّ رجُلاً قال: هذا محمَّدٌ يخبرُكُمْ أنّه نبيٌّ، ويزعَمُ أنّه يخبركمْ بأمر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ وإنّي واللّه ما أعلمُ إلّاما علّمني اللّه، وقد دلّني اللّه عليها، وهي في هذا الوادي، في شِعب كذا وكذا، وقد حبَستْها شجرةٌ بزمامها، فانْطلِقُوا حتّى تأتوني بها».

فذهبوا فجاءوا بها(1).

إخباره بمغيَّب آخر

لقد تخلّف أبو ذر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ أبطأ به بعيره، فانتظرهُ المسلمون ريثما يقوم بعيرهُ، ولكن دون جدوى فترك أبوذر البعير، وأخذ متاعه فحملَهُ على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ماشياً، ونزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بعض

ص:638


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 950/4؛ المغازي: 1010/2.

منازله ونزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت، وفجأة لاح من بعيد رجلٌ، فلمّا نظر إليه ناظرٌ من المسلمين قال: يا رسول اللّه هو واللّه أبوذر، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«رَحمَ اللّهُ أبا ذر يَمشي وحدَه وَيموتُ وحدَه وَيُبْعَثُ وحدَه»(1).

وقد كشف المستقبل عن صحّة هذه النبوءة، فقد توفّي أبوذر في صحراء «الربذة»، وعنده امرأته وغلامه بعيداً عن الناس في حالة مأساوية(2).

لقد تحقّقت نبوءة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في معركة تبوك بعد ثلاثة وعشرين عاماً، فقد نُفِيَ هذا الصحابي المجاهدُ الصادق إلى الشام ثم إلى الربذة، لا لشيء إلّالأنّه جهر بالحقّ، وطالب بالعدل، وفقد قواه وطاقاته البدنية شيئاً فشيئاً حتّى غدا طريح الفراش، في تلك المنطقة الوعرة.

وفيما كان يمضي الدقائق الأخيرة من حياته الحافلة بالأحداث والتطوّرات، وامرأته جالسةٌ عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب وقد عرق جبينه، وهي تمسح بيدها العرق وتبكي قال لها: ما يُبكيك؟

فقالت: أبْكي أنّه لايَد لي بتغييبك (أي ليس لي من يعينني على دفنِكَ) ولَيسَ عندي ثوبٌ يسعُك كَفناً!

فارتسمت على شفتَيْ أبي ذر ابتسامةٌ مُرّة وقال: لا تبكي عليَّ، فإنّي سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول: ليموتُنَّ رجلٌ منكم بفلاة من الأَرض تشهدهُ عِصابةٌ من المؤمنين (ثم قال:) فكلُّ مَن كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، فلم يبق منهم غيري، وقد أصبحت بالفلاة

ص:639


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 951/4.
2- . لاحظ: المغازي: 1000/2-1001.

أموت فراقبي الطريق، فإنّك سوف ترين ما أقولُ لك، فإنّي واللّه ما كَذِبتُ ولا كُذِبتُ.

قال هذا وفاضت روحه المباركة(1).

***

ولقد صَدَق أبوذر، فقد كانت ثمّة قافلة من المسلمين تضم شخصيات كبرى مثل «عبد اللّه بن مسعود» و «حجر بن عدي» و «مالك الاشتر» تتقدّم نحو تلك المنطقة.

رأى «عبد اللّه» مِن بعيد مشهداً عجيباً... مشهدَ جسد بلا روح على قارعة الطريق، وعند ذلك الجسد امرأة وصبيّ وهما يبكيان.

فعطف «عبد اللّه» زمام راحلته نحو ذينك الشخصين وتبعه من معه في القافلة أيضاً، وما أن وقعت عينا عبد اللّه على ذلك الجسد حتّى عرف صاحبه، فهذا هو رفيقه وأخوه في الإسلام أبو ذر!!

فاغرورقتْ عيناهُ بالدموع، ووقف عند جثمان أبي ذر، وتذكَّر نبوءة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة تبوك وقال: «رحم اللّه أبا ذر يمشي وحدَه، ويموتُ وحدَه، ويبعث وحده».

ثم صلّى ابن مسعود على أبي ذر، ثم واراهُ الثرى، وبعد أن فرغ من دفنه، وقف مالك الأشتر عند قبره وقال:

اللَّهمّ إنَّ هذا صاحبُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عَبَدك في العابدين، وجاهَدَ فيك المشركين، لم يغيّر ولم يبدّلْ لكنَّه رأى غريباً منكراً فغيّره بلسانه وقلبه، حتّى جُفيَ

ص:640


1- . أُسد الغابة: 302/1، الطبقات الكبرى: 232/4-233.

ونُفيَ وحُرم واحتقر ثم مات وحيداً غريباً(1).

وقد أشار السبكي في أبيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية:

وعاش أبوذر كما قلتَ وحدَه ومات وحيداً في بلاد بعيدة(2)

***

جيش الإسلام في أرض تبوك

حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك، ولكن دون أن يرى أثراً لجيش الروم، وكأنّ جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الإسلام وبشهامتهم وتضحيتهم النادرة الّتي شهدوا نموذجاً منها عن كثب في معركة «مؤتة» رأوا من الصالح أن ينسحبوا إلى داخل بلادهم ولا يواجهوا المسلمين، ويتظاهروا بأنّه لم تراودهُم فكرة الهجوم على المسلمين قط، وأنّ هذا النبأ لم يكنْ إلّاشائعة لا أكثر، فيثبتوا مِن هذا الطريق حيادَهم بالنسبة للحوادث والوقائع الّتي تحدث في الجزيرة العربية(3).

ص:641


1- . ذكر المؤرّخون قصّة وفاة أبي ذر ودفنه بصور مختلفة، فيستفاد من بعض المصادر التاريخية أنّ أباذر كان على قيد الحياة عندما قدمت القافلة المذكورة وتحدث مع رجالها، ولكن بعض المصادر الأُخرى تنص على أنّه مات قبل قدوم تلك القافلة إلى تلك المنطقة، كما أنّه صرح البعضُ أنّ زوجة أبي ذر وابنه حَملا جثمانه إلى قارعة الطريق، بينما قال آخرون أنّ زوجته وابنه جلسا على قارعة الطريق ودلّا القافلة على محل جثمانه الطاهر، راجع للوقوف على ذلك: الطبقات الكبرى: 232/4-235، والدرجات الرفيعة: ص 53.
2- . السيرة الحلبية: 109/3.
3- . ذكر الواقدي في المغازي: 2/1015-1016: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أقام بتبوك عشرين ليلة، وذكر أنّ النبي بعد أن صلّى الفجر ذات يوم جمَع الناسَ، فخطَبَ فيهمْ خطبة بليغة ضمَّنها مواعظَ وتعاليمَ عظيمة كثيرة، ثم أدرجَ نصَ الخطبة.

في هذه اللحظة جمع رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم قادة جيشه الكبار، وتبعاً للأصل الإسلامي: «وشاورْهُمْ في الأمر» تحادثَ معهم حولَ التقدُّم في أرض العدوّ أو الرجوع إلى المدينة وشاورهم في ذلك.

فكانت نتيجة التشاور هي أنَّ على الجيش الإسلامي الّذي تحمَّلَ مشاق كثيرة في هذه السَّفرة، أن يعود إلى المدينة، ليستعيد نشاطَه، وقواه، هذا مُضافاً إلى أنّ المسلمين حقّقوا هدفهم السامي من هذه السفرة وهو تفريق جيش الروم وتبديد اجتماعهم بعد إلقاء الرعب الشديد في قلوبهم، وقد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدّة مديدة بحيث يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين، وهذا القدر من النتيجة الّتي من شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحاً من الزمن تكفي للمسلمين فعلاً حتّى يقضي اللّه ما يقضي في المستقبل.

ولقد أضاف كبار المشيرين - حفاظاً على مكانة الرسول القائد، وإشعاراً بأنّ رأيهم هذا قابل للأخذ والرد - قائلين: إن كنتَ أُمِرت بالسَّيْر فسِرْ(1).

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لو أُمرتُ بالسير لم اْستشَرْتُكُمْ فِيهِ».(2)

وهكذا احترم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم آراء مشاوريه ورضى بالعودة إلى المدينة.

وحيث كان هناك حكامٌ وولاةٌ يعيثون في المناطق الحدودية السورية والحجازية فساداً ولهم نفوذ كبيرٌ في قبائلهم ومناطقهم، وكانوا جميعاً نصارى، ولهذا كانَ من المحتمل بقوة أن يستغل الروم قواهم ضد الإسلام ويحملوا

ص:642


1- . المغازي: 1019/2.
2- . السيرة الحلبية: 119/3.

بمساعدتهم على الحجاز.

ولهذا كان يتعيّن أن يعقد معهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معاهدة عدم اعتداء، ليأمن جانبهم ويحصل على أمن أوسع، فأجرى صلى الله عليه و آله و سلم اتصالات مباشرة مع أُولئك الحُكّام والولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك وعقد معهم معاهدات عدم تعرّض واعتداء بشروط خاصّة، كما أرسل مجموعات إلى النقاط النائية عن تبوك ليحقّق بذلك مزيداً من الأمن للمسلمين.

لقد اتصلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شخصياً بزعماء «أيلة» و «أذرح» و «الجرباء»، وتمَّ عقدُ معاهدة عدم تعرّض واعتداء بين الجانبين. و «أيلة» مدينةٌ ساحليةٌ تقعُ على ساحل البحر الأحمر، ولا تبعدُ عن الشام كثيراً، وكان زعيم تلك المنطقة هو «يوحنا بن رُؤبة»، فهو يومَ أُتي به إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعليه صليب من ذهب على عادة النصارى، قدّم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فرساً أبيض، وأعلن عن طاعته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فاحترمه النبي وأكرمهُ، وصالحه، وكساه بُرداً يمانيّاً.

وقد قبلَ «يوحنا» هذا، أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها ثلاثمائة دينار سنوياً، وعلى أن يُحسنَ إلى مَنْ يمرُّ على أيلة من المسلمين؛ وكتب لهُ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كتابَ أمان وقَّعهُ الطرفان، وإليك نص الكتاب المذكور:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا أمنةٌ من اللّه ومحمَّد النبيّ ليوحنا بن رؤبة وأهل أيلة، سُفُنِهمْ وسيارتهم في البرّ والبحر، لهم ذمّةُ اللّه وذمّةُ محمَّد النبي ومَن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمَن أحدث منهم حدثاً، فإنّه لا يحولُ مالُه دون نفسه، وأنّه طَيّبٌ لمن أخذه من الناس، وأنّه لا يحلُّ أن يُمنَعُوا ماء يردونه، ولا طريقاً يُريدونه، من بَرٍّ أو بَحر».

ص:643

هذا الكتاب يكشفُ عن قاعدة مهمّة في السياسة الإسلامية وهي أنّ أيّ شعب أراد أن يسالِم المسلمين، وفَّر الإسلام له كلَّ أمن وسلام(1).

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صالَحَ بقية الحكّام الحدوديّين مثل سادة أقوام «أذرح» و «جرباء» الّتي كانت تتمتّع بأهمية استراتيجية، وبذلك ضمنَ أمن المنطقة الإسلامية من ناحية الشمال.

بعث خالد إلى دَومة الجندل

على طريق تبوك كانت تقعُ منطقةٌ عامرةٌ خضراء ذات أشجار وزروع ومياه جارية تضمُ حصناً منيعاً، وتبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخاً، تُسمّى «دومة الجندل»(2) وكان يحكمها يومذاك رجلٌ مسيحيٌ يُدعى «أكيدر بن عبد الملك».

وحيث إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يخشى هجوماً آخر من الروم، والاستعانة بحاكم دومة الجندل المسيحي وبهذا يعرِّضون أمن الحجاز للخطر، لذلك رأى صلى الله عليه و آله و سلم أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن، فبعث مجموعة من المقاتلين بقيادة خالد بن الوليد إلى المنطقة المذكورة لتطويعها وتطويع حاكمها.

فتوجّه خالد مع فرسانه إلى دومة الجندل حتّى اقتربوا إلى حصنها، وكمنوا قريباً منه.

وفي تلك الليلة خرج «أكيدر» وأخوه «حسان» من الحصن ومعه نفر من أهل بيته للصيد، فلمّا ابتعدوا عن الحصن حاصرتهم خيلُ خالد وأسروا «أكيدر» بعد

ص:644


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 952/4؛ إمتاع الأسماع: 66/2؛ بحار الأنوار: 160/21.
2- . يقول الواقدي في المغازي: 1025/2: تقع دومة الجندل على عشرة أميال من المدينة.

قليل من القتال والمواجهة، وقُتل أخوه «حسان» ولجأ البقية إلى الحصن، واعتصموا به، فصالح خالد «أكيدر» على أن يطلب له ولقومه الأمان من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لقاء أن يفتح أبواب الحصن في وجوه المسلمين ويلقي أهلُها الأسلحة.

فأمر أكيدر الّذي كان يثق بصدق المسلمين واحترامهم لوعودهم وعُهودهم، أمر قومه أن يفتحوا أبواب الحصن ويسلّموا للمسلمين، ويلقوا أسلحتهم ويتركوا القتال، وكانت الأسلحة تبلغ أربعمائة درع، وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف، ثم توجّه خالد بأكيدر وقومه وما حصل عليه من الغنائم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فخلب منظرُ الديباج المخوّص بالذهب عيون جماعة من طُلاب الدنيا. فأخذوا يتلمّسونه بأيديهم ويتعجَّبون منه، فقالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو لا يكترث بتلك الثياب:

«فَوَ الَّذي نفسي بيده لَمناديلُ الجنة أحسنُ مِنْ هذا».

لقد حضر «أكيدر» عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وامتنع عن قبول الإسلام، إلّاأنّه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين، وصالحه النبي صلى الله عليه و آله و سلم على ذلك وكتب له كتاباً، ثم أهدى له صلى الله عليه و آله و سلم هدية واستعمل على حرسه «عبّاد بن بشر» ليوصلَه إلى دومة الجندل سالماً(1).

تقييم إجماليٌ لغزوة تبوك

إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وإن لم يلقَ في هذا السَّفَر الشاق كيداً ولم يواجه العدوّ، ولم يقاتل إلّاأنَّ هذه السَفرة عادتْ عليه بسلسلة من الفوائد المعنوية

ص:645


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 166/2؛ المغازي: 1025/2-1028؛ السيرة النبوية لابن هشام: 952/4؛ بحار الأنوار: 246/21.

والروحية هي:

أوّلاً: صعود مكانة وسمعة الجيش الإسلاميّ، فقد زاد من عظمته وقوته في قلوب سكان الحجاز، وحُكّام المناطق الحدودية السورية، وعرف الصديقُ والعدوُّ أنّ المقدرة العسكريّة الإسلاميّة بلغت من القوة والعظمة بحيث أصبح في مقدورها أن تواجه أكبر القوى العالمية وتقارعها، وتلقي الرعب والخوف في قلوبها.

إنّ انتشار هذا الموضوع بين القبائل العربية الّتي عُجنَت جبلَّتها بروح التمرّد والطغيان، أوجب أن تتخلّى عن فكرة الطغيان والمعارضة، والتآمر ضدَّ الإسلام ردحاً من الزمن، وأن لا تفكِّر في هذه الأُمور.

ولهذا السبب أخذت وفودُ القبائل الّتي لم تخضع للإسلام حتّى ذلك اليوم، تفد تباعاً على رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بعد رجوعه من تبوك إلى المدينة، وتظهر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طاعتها وخضوعها حتّى سُمّي ذلك العامُ بعام الوفود، لضخامة عدد تلك الوفود والبعثات الّتي قدمت المدينة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ثانياً: ضمن المسلمون عن طريق عقد المعاهدات المختلفة المتعدّدة مع حكّام المناطق الحدودية الحجازية والسورية أمن هذه المنطقة، واطمأنّوا بسببها إلى أنّهم سوف لن يتعاونوا مع جيش الروم، ولن يدخلوا مع تلك الدولة في مؤامرة ضدّ الإسلام والمسلمين.

ثالثاً: مهّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذا السفر الشاق الطريق لفتح الشام، فقد عرف قادة جيشه طرق هذه المنطقة ومشاكلها، وعلّمهم كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى في ذلك العصر، من هنا كانت الشام وسورية هي أوّل منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:646

رابعاً: تميّز المؤمن عن المنافق في هذه التعبئة العامّة، وحصلت عملية تصفية وفرز كبيرة وعميقة في جماعة المسلمين.

المنافقون يخطّطُون لاغتيال النبي صلى الله عليه و آله و سلم

أقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بضع عشرة يوماً في تبوك(1) وبعد أن بعث خالداً إلى «دومة الجندل» توجّه بالمسلمين إلى المدينة. ولدى العودة تآمر (12) منافقاً - ثمانية منهم من قريش والباقي من أهل المدينة - لاغتيال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أثناء الطريق وقبل أن يصلَ إلى المدينة، وذلك بتنفير ناقة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في عقبة بين المدينة والشام ليطرحوه في واد كان هناك. وعندما وصل الجيشُ الإسلامي إلى بداية تلك المنطقة (العقبة) قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للناس:

«من شاء مِنكُمْ أنْ يأخذَ بطنَ الوادي فَإنَّه أوسعُ لَكُمْ».(2)

فأخذَ الناس بطن الوادي، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذَ طريق العقبة فيما يسوق «حذيفة بن اليمان» ناقة النبي، ويقودُها «عمّار بن ياسر» فبينما هم يسيرون إذ التفت رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى خَلْفِه، فرأى في ضوء ليلة مقمرة فرساناً متلثّمين لحقوا به من ورائه لينفّروا به ناقته، وهم يتخافتون، فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلاً: إضرب وجوه رواحِلهم.

فأرعبهم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بصياحه بهم إرعاباً شديداً، وعرفوا بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علمَ بمكرهم ومؤامرتهم، فأسرعوا تاركين العقبة حتّى خالطوا الناس.

يقولُ حذيفة: فعرفتُهُمْ برواحلهم وذكرتهم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقلتُ: يا

ص:647


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 953/4، وذهب ابن سعد في الطبقات: 168/2 أنّه مكث بتبوك عشرين يوماً.
2- . بحار الأنوار: 247/21؛ الدر المنثور: 259/3.

رسول اللّه ألا تبعث إليهم لتقتُلَهم؟ فأجابَهُ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في لحن ملؤه الحنان والعاطفة:

«إنّ اللّه أَمرني أن أُعرض عنهم، وأكرهُ أن يقول الناسُ إنّه دَعا أُناساً مِن قومِه وأَصحابه إلى دينهِ فاستجابوا له فقاتل بِهِمْ حَتى ظَهَرَ عَلى عدوِّه ثمَّ أقبلَ عليهِمْ فَقتَلَهُمْ، وَلكِنْ دَعْهُمْ يا حذيفة فإنّ اللّه لَهُمْ بِالمرصاد».(1)

وقد أنزل اللّه سبحانه إثر هذه الحادثة الآية 65 من سورة التوبة الّتي قال تعالى فيها: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ» .(2)

النيّة تقومُ مقام العمل

ليس ثمة مشهد أعظمَ جلالاً من مشهد جيش فاتح يعودُ إلى أحضان الوطن، كما ليس هناك أمرٌ ألذَّ وأهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدو، الّتي تحفظ أمجاده، وتضمن بقاء كيانه، وسلامته، وقد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الإسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخل الجيشُ الإسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوَى المسافة بين «تبوك» و «المدينة»، وكانت تغمر جنودَ الإسلام فرحةٌ كبيرة، وتظهرُ على كلماتهم وأعمالهم أماراتُ الاعتزاز بما أحرزوه مِن غلبة على العدوّ، ومن أَداء لحقّ الجندية، وكان السببُ واضحاً لأنَّهمْ أرعَبوا دولة قويّة سبق لها أن هزمت الامبراطورية الإيرانية، فهم أخافوا الروم الّتي انسحبت من تبوك قبل وصول

ص:648


1- . الدرجات الرفيعة: 298-299؛ إرشاد القلوب: 331/2؛ بحار الأنوار: 99/28. ولاحظ: المغازي: 1042/2-1045؛ إمتاع الأسماع: 74/2-75.
2- . راجع: مجمع البيان: 46/3.

المسلمين إليها، وهم طَوّعوا حكّامَ وزعماء المدن والمناطق الحدودية السورية والحجازية، وأخضعوهم للدولة الإسلامية

لا شكّ أنَّ الغلبة على العدوّ فخرٌ عظيم أصاب هذا الجيش، وكان طبيعياً أن يفتخر أفرادُ هذا الجيش ويتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر، ولكنْ حيث إنّ مثل هذا النمط من التفكير وهذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجِدَ غروراً لدَى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا فيها لعذر وقلوبهم مع جنود الإسلام، ويشاركونهم بأفئدتهم في أفراحهم وأتراحهم، لهذا التفَتَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهُمْ على مشارف المدينة وقد توقَّفُوا خارج المدينة بعض الوقت، فقال لهم:

«إنَّ بالمدينة أقْواماً ما سِرتُم مَسِيراً ولا قَطعْتُمْ وادياً إلّاكانُوا مَعكُم».

قالوا يا رسولَ اللّه: وهم بالمدينة؟

قال: «نعم وهم بالمدينة، حَبَسَهُمُ العُذرُ»(1).

أجل إنّهم كانوا يتشوَّقون إلى الجهاد، هذا الواجب الإسلامي الكبير، ولكن العذر منعهمْ من الاشتراك فيه.

إنّ النبيَ الأكرم بهذه العبارة المقتضبة أشار - في الحقيقة - إلى واحد من البرامج الإسلامية التربوية، وذكّر بأنّ النيّة الطيّبة والفكر الصالح يقومُ مقام العمل الصالح الطيّب، وأن الذين يُحرَمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الإمكانيات، يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في ثواب العمل الصالح إذا نَووْا ذلك، واشتاقُوا إليه قَلْبياً.

ص:649


1- . السيرة الحلبية: 122/3؛ إمتاع الأسماع: 394/8.

إذا كان الإسلام يهتمُّ بإصلاح الظاهر، فإنّه يهتمُّ أكثر بإصلاح القلب والفكر، بإصلاح الباطن والسريرة، لأنّ إصلاح العقيدة وطريقة التفكير هو منبع جميع الإصلاحات، وأعمالنا كلُّها وليدة أفكارنا ونوايانا.

إذا خفّف النبيُ الأكرم بقوله هذا من غُلَواء المجاهدين وغرورهم، وحفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوانٌ، إلّاأنّه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلّفين من دون عذر ويلقِّنهمْ دَرساً لن ينسَوْه، وللنموذج ننقل هنا قصّة ثلاثة من المتخلَّفين.

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ

يوم أُعلِنَ في المدينة عن التعبئة العامّة تخلّف ثلاثةٌ من المسلمين في المدينة هم: «هلال بن أُميّة» و «كعب بن مالك» و «مرارة بن الربيع» فقد حضر هؤلاء عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لدى خروجه إلى تبوك واعتذروا إليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد، فاعتذر أحدُهم، بأنّ الوقت هو وقتُ إدراك الثمر، وأنّهم سيلتحقون بجيش الإسلام إذا فرغوا من الحصاد والقطاف.

إنّ هؤلاء وأمثالهم ممّن يريدون الدين والدينار، وتهمُّهم مصالحهم المادّية الشخصية والاستقلال السياسي معاً، يعانون من نظرة ضيّقة وقصيرة تعادل اللذائذ الماديّة العابرة بالحياة الإنسانية الشريفة، الّتي تتحقّق تحت لواء الاستقلال الفكريّ والسياسيّ والثقافي، بل ربما رجَّحوا الأُولى على الثانية.

ولهذا كان على النبي صلى الله عليه و آله و سلم - بعد العودة - أن يؤدّب مثل هذه العناصر حتّى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.

إنّهم لم يتخلَّفوا عن هذا الجهاد فحسب، بل لم يعملوا بالعهد الّذي أعطوه

ص:650

لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً، فإنّهم انشغَلوا بالتجارة، وجمع المال حتّى فُوجئوا بعودة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المُظفَّرة إلى المدينة، فبادروا عند ذلك - لتلافي ما بَدَر منهم من تخلُّف - إلى الحضور عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للتسليم عليه وتقديم التهاني إليه كما فعَل الآخرُون.

إلّا أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعرض بوجهه عنهم ولم يكترثْ بهم، وعندما بدأ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح والابتهاج كان أوّل ما قاله هو:

«لا تُكلمنَّ أحداً مِن هؤلاء الثلاثة».

ومع أنّ عدد المتخلّفين كان يقارب التسعين شخصاً، إلّاأنّ أكثرهُمْ حيث كانوا من المنافقين، ولم يكنْ يتوقّع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدُوّ، لهذا تركَّز ثقلُ هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهُم سبقَ منه أنْ اشترك في غزوة بدر مثل «مرارة» و «هلال»، وكانت لهم شخصية ومكانة بين المسلمين!!

ولقد تركت سياسة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الحكيمة - الّتي كانت جزءاً لا ينفك من دينه - أثراً عجيباً، فقد تعطَّلت التجارة والأخذ والعطاء مع المتخلّفين، وكسُدَتْ بضائعُهم، ولم يشترها أحدٌ، وقطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم وعلاقتهم مع المخلّفين المذكورين إتّباعاً لأوامر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وتركوا حتّى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلّفين فعلتها، وضغطت عليهم نفسياً بشدّة، حتّى ضاقت عليهم الأَرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم.

ص:651

«حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» .(1)

ولكنّ هؤلاء الثلاثة المعروفين بفراسة كاملة أدركوا أنّ العيش في البيئة الإسلامية لا يمكن إلّابالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين، وأنّه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الأكثرية القاطعة، وبخاصّة إذا كانت الأقلّية تتألّف من جماعة مشاغبة ومغرضة.

هذه المحاسبات من جانب، والانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعتْ بهؤلاء المخلّفين إلى العودة إلى حظيرة الإيمان الواقعي، وأن يظهروا ندَمهم على فِعلهمُ القبيح بالتوبة إلى اللّه، والإنابة إليه، وقبل اللّه تعالى توبتهم، وأخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادرَ النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم من فوره إلى الإعلان عن عفوه ورفع المقاطعة عنهم(2).

قصّة مسجد ضرار

كانت «المدينة» و «نجران» تُعتَبران بالنسبة إلى أَهل الكتاب منطقتين واسعتين ومركزيتين في شبه الجزيرة العربية، فقد كانوا يتمركزون في هاتين المنطقتين أكثر من أي مكان آخر، ولهذا اعتنق فريقٌ من عرب الأوس والخزرج الدين المسيحي واليهودي.

ويبدو أنّ «أبا عامر» والد «حنظلة غسيل الملائكة» المستشهد في غزوة أُحد،

ص:652


1- . التوبة: 118، وتذكر التفاسير كيفية توبتهم وأنابتهم على وجه التفصيل، فليراجعها من يريد.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 957/4؛ إمتاع الأسماع: 79/2؛ تاريخ الطبري: 374/2. وهذا النوع من المحاربة الّتي سلكها النبي مع المخلّفين علّم المسلمين درساً كبيراً ومفيداً في مقابل الأقلّيات الصغيرة، وهو لا يحتاج إلّاإلى الإخلاص والاتّحاد والعزم. هذا ويذكر الواقدي في المغازي: (1049/2-1056) قصّة هؤلاء المخلّفين بصورة أكثر تفصيلاً ممّا ذكرناه هنا.

كان قد رغب في الدين المسيحي في العهد الجاهلي، فاْنسلك في صفوف الرُّهبان، فلمّا ظهر نجم الإسلام من أُفق المدينة بعد هجرة النبي اليها، واحتوى الدين الجديد الأديان الأُخرى انزعج «أبو عامر» من هذه الظاهرة بشدّة، فشرع بصدق في التعاون مع منافقي الأوس والخزرج. وقد عَرفَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخططهم التخريبية، وأراد اعتقاله، فخرج «أبو عامر» من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى الطائف، وهرب من الطائف بعد سقوطها إلى الشام، وأخذ يقود من هناك شبكة تجسُّسيّة لحزب المنافقين.

وقد كتب إلى المنافقين في المدينة في إحدى رسائله أن استعدّوا وابنوا مسجداً في قباء في مقابل مسجد المسلمين وصلّوا فيه في أوقات الصلاة ليمكنكم - تحت غطاء أداء الفرائض - التحدّث حول الأُمور المتعلّقة بالإسلام والمسلمين، وكيفية تنفيذ المؤامرات الحزبية ضدهم.

لقد كان «ابوعامر» على غرار أعداء الإسلام في العصر الحاضر يرى أنّ أفضل وسيلة لهدم واستئصال الدين في بلد يسوده الدين هو الاستفادة من نفس سلاح الدين، ومن المعلوم أنّه يمكن توجيه الضربة إلى الدين باسم الدين أكثر من أيّ عامل أو وسيلة أُخرى.

لقد كان «أبوعامر» يعلم أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لا يسمح لحزب المنافقين بإقامة مركز لهم مطلقاً إلّاإذا كان لذلك صبغةٌ دينيةٌ، وكان تحت عنوان مسجد.

عندما كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتجهّز إلى «تبوك» أتاه جماعة من المنافقين وطلبوا منه أن يسمح لهم ببناء مسجد في محلّتهم بقباء بحجّة أنّ ذوي العلّة والحاجة لا يمكنهم أن يقطعوا المسافة بين قباء ومسجد النبي للصلاة معه صلى الله عليه و آله و سلم في الليلة المطيرة والليلة الشاتية، فأوكل النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر النظر في طلبهم إلى ما بعد

ص:653

العودة من تبوك(1).

غير أنّ حزب النفاق بادروا إلى اختيار نقطة من الأَرض في قباء، وأسرعوا في إقامة مركز لهم تحت غطاء المسجد، ولمّا عاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه أن يصلّي فيه ركعتين ليُسبغوا بذلك الشرعيّة على مركزهم، وفي هذه الأثناء نزل جبرئيل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بحقيقة هذا الأمر، وسمّاه في آيات نزَلَ بها على النبي بمسجد ضرار، ووصفه بأنّه مركز بُني لإيجاد الفُرقة بين المسلمين، والتآمر عليهم إذ يقول تعالى:

«وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» .(2)

فأمر النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم فوراً بإحراق ذلك المسجد وتسويته بالأَرض فحرّق وهُدِّمَ وَسُوِّيَ بالأَرض وتحوَّل مكانُه إلى مزبلة فيما بعد(3).

إنّ تحريق وهدم مسجد ضرار كانت ضربة قاضية لحزب النِّفاق، فمنذ ذلك الوقت تلاشت وشائج وروابط ذلك الحزب الخبيث، وهلك حاميهم الوحيد عبد اللّه بن أُبي بعد شهرين من غزوة تبوك.

ولقد كانت غزوة تبوك آخر الغزوات الإسلامية الّتي شارك فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ لم يشارك صلى الله عليه و آله و سلم بعدها في أي قتال.

ص:654


1- . لاحظ: المغازي: 1046/2.
2- . التوبة: 107 و 108.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 956/4-957؛ بحار الأنوار: 253/20.

56 وَفد ثقيف في المدينة

اشارة

انتهت غزوة تبوك بكلّ مشاكلها، ومتاعبها الكثيرة وعاد جنودُ الإسلام المجاهدون إلى المدينة بأبدان متعبة من وعثاء السفر، وبُعد الطريق، ولم يلق جنود الإسلام كيداً ولم تحصل بينهم وبين الجيش الرومي أيّة مواجهة، كما ولم يواجهوا عدواً طوال ذلك الطريق، ولم يغنموا غنيمة. من هنا اعتبر بعض السذَّج من المسلمين تسيير هذا الجيش الضخم عملاً لغواً وعبثاً، وذلك لأنّهم لم يعرفوا بالآثار والنتائج غير المرئية لهذه الحركة العسكرية الواسعة، ولم يمض وقتٌ كبيرٌ إلّا واتّضحت نتائجها، فقد أسلمت على أثر هذه المناورة العسكرية العظمى أشدّ القبائل عداء وعناداً للإسلام، وخضعت لسلطان المسلمين، بإيفاد مندوبيها ووفودها إلى المدينة، وإظهار الطاعة والإسلام عن طريقها، كما أنّها عمدت الى فتح أبواب حصونها الحصينة في وجه المسلمين ليحطّموا أصنامها وأوثانها، وينصبوا على حطامها ألوية التوحيد.

إنّ الجماعات السطحية التفكير القصيرة النظر تهتم - عادة - بالنتائج المرئية الحاضرة، فمثلاً إذا واجه جنودُ الإسلام خلال الرحلة عدوّاً، وقاتلوه وقضوا عليه، وغنموا غنائم من أمواله قالت هذه الجماعة: لقد حقّقت هذه العملية العسكرية

ص:655

نتائج باهرة!!

ولكن أصحاب الرؤية العميقة والنظرة البعيدة يحلّلون الأُمور على غير هذا النمط، فهم يمتدحون أي عمل يخدم الهدف والنتيجة النهائية ويعتبرونه نجاحاً باهراً.

ومن حسن الاتّفاق أنّ غزوة تبوك خدمت هدف النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو اجتذابُ الأقوام العربية إلى الإسلام - خدمة كبرى - لأنه قد شاع في جميع انحاء الجزيرة العربية أنّ الروميّين (الذين غَلبوا الإيرانيين الذين طالما سادوا نصف المعمورة في ذلك الوقت، وحكموا حتّى اليمن وماحولها في آخر حُروبهم، واستعادوا منهم صليبهم وأعادوه إلى بيت المقدس) أُرعبوا بالقوة الإسلامية الكبرى، وانصرفوا عن مقابلة جنود الإسلام.

لقد دفَع هذا النبأ أشدَّ القبائل عناداً، والّتي كانت حتّى يوم أمس غير مستعدة للتعايش مع الإسلام والخضوع له، دفعها إلى أن تغيّر من مواقفها المتعنّتة المتصلّبة، وتفكِّر في التعاون والتعايش مع المسلمين، ولكي تسلَم من عدوان القوى الكبرى في ذلك اليوم (إيران والروم) انضوت تحت لواء الإسلام وأعلنت عن إنتمائها إليه.

وإليك فيما يلي نموذج من هذه التطوّرات الّتي حدثت في مواقف تلك القبائل العربية المعادية للإسلام.

وقوع الفرقة والاختلاف في قبيلة ثقيف

كانت قبيلة ثقيف معروفة بطغيانها وعنادها العجيب بين القبائل العربية، ولقد قاوموا حصار الجيش الإسلامي لهم مدّة شهر واحد معتصمين بحصونهم في الطائف ولم يسلّموا(1).

ص:656


1- . لاحظ: المغازي: 922/2-938.

هذا وكان «عروة بن مسعود الثقفي» وهو أحد سادة ثقيف قد علم بانتصار المسلمين الكبير في أرض تبوك، فقدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يدخل المدينة، وأسلم على يديه واستأذنه في أن يذهب إلى الطائف، ليدعو قبيلته إلى دين التوحيد فحذّره رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من مخاطر هذا العمل؛ لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعرف أنَّ فيهم نخوة الامتناع الّذي كان منهم.

وقال له: إنّهم قاتلوك.

فقال عروة: يا رسول اللّه أنا أَحبُّ إليهم من أبكارهم، (أو من أبصارهم)، وكان فيهم كذلك محبَّباً مُطاعاً.

ولقد كان قومُ عروة وسائر قادة ثقيف لم يدركوا بعدُ ما أدركه عروة من عظمة الإسلام، وكان فيهم نخوةٌ وكِبرٌ يمنعانهم من الخضوع للحق.

ولهذا قرّرت أن ترشق بالنبال والسهام أوّل داعية أتاها ليدعوها إلى الإسلام... وهكذا رشقوا بالنبال «عروة» في الوقت الّذي كان يدعوهم إلى الإسلام، فقال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: كرامةٌ أكرمني اللّه بها، وشهادة ساقها اللّه إليَّ (1).

وَفْدُ ثَقِيف

ندم رجالُ ثقيف - بعد مقتل عروة - على فعلهم هذا بشدّة وعرفوا بأنّ الحياة لم تعُدْ ممكنة ومُيسَّرة لهم في قلب الحجاز الذي رُفعَت على جميع مناطقه ألوية التوحيد، وخاصّة بَعد أن أصبحت جميع المراعي والطرق التجارية تحتَ رحمة المسلمين، فقرّروا في ندوة مشاورة عقدت لدراسة مشكلاتهم أن يبعثوا مندوباً من قِبَلهم إلى المدينة ليتفاوض مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويعلن له عن استعداد قومه لاعتناق

ص:657


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 964/4-965.

دين التوحيد ضمنَ شروط معيَّنة، واتفقُوا على إيفاد «عبدياليل» إلى المدينة وإبلاغ رسالتهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولكن «عبدياليل» رفض القيام بهذه المهمّة وقال:

لستُ فاعلاً ذلك حتّى تُرسلوا مَعي رجالاً، لأنّه كان لايثق بثبات رأيهم، وكان يخشى أن يصنَعوا به ما صنَعوا بعروة بن مسعود. فاتّفقوا أن يبعثوا معه خمسة رجال من ثقيف ليقوموا جميعاً بالقدوم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والتفاوض معه.

توجّه هذا الوفدُ السداسيّ إلى المدينة، ونَزلوا بعد طيّ مسافة خارج المدينة عند قناة فألفوا عندها «المغيرة بن شعبة الثقفي» يرعى خيولاً لأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فلمّا رأى المغيرة زعماء قبيلته وعرف هدفهم وثب يشتد إلى المدينة ليبشّر رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن ترك الخيول عند الثقفيّين، وليخبره بقرار قبيلة ثقيف الّتي طال عنادها، فلقيه أبوبكر قبل أن يدخل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره المغيرة عن ركب ثقيف، فرجاه أبوبكر أن يسمح له بتبشير النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يحدّثه المغيرة بالأمر، ففعل المغيرة فدخل أبو بكر على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره بقدومهم عليه وأنّهم جاءُوا ليعتنقوا الإسلام بشروط، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإكرامهم، وضربَ لهم قبة في ناحية مسجده، وكلّف «خالد بن سعيد» بالقيام بشؤون ضيافتهم.

ثم حضر وفدُ ثقيف عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومع أنّ المغيرة كان قد علَّمهم كيف يُحيّون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّهم حيّوه بتحية الجاهلية تكبّراً منهم وغروراً، ثم أخبروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برأي ثقيف وأضافوا أنّهم مستعدون لاعتناق الإسلام ضمن شروط خاصّة، سوفَ يُعرضونها عليه في جلسة تالية.

واستمرت مفاوضات وفد ثقيف مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عدة أَيّام، وكان «خالد

ص:658

بن سعيد» هو الّذي ينتقل بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه المفاوضات.

شروط وَفد ثقيف

قَبِل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كثيراً من شروط ثقيف حتّى أنّه ضمن لأهل الطائف - ضمن ذلك العهد - أمن منطقة الطائف وما يرتبط بالطائفيّين من أراض، ولكن بعض شروطهم كانت غير صحيحة، ووقحة إلى درجة أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم غضب بسببها، ولا بأس أن نتعرض لذكر بعض هذه الشروط:

قال وفد ثقيف: إنّ قبيلة ثقيف مستعدة لأن تعتنق الإسلام شريطة أن يترك بيت أصنامهم على حاله، وأن يعبُدوا «اللّات» وهو صنم القبيلة الأكبر مدة ثلاث سنين، فأبى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فلمّا رأوا غضب النبي وإباءَه أخذوا يتنازلون عن المدة الّتي ذكروها سنة سنة، وهو يأبي عليهم حتّى سألوا شهراً واحداً، فأبى عليهم أن يدعها ولا يوماً.

ولقد كان مثل هذا الطلب من النبي صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كان نَشْرُ التوحيد، وهَدْم بيوت الأصنام، وتحطيم الأوثان يشكّل هدفه الأساسي، كان طلباً مخجلاً جدّاً، ولقد كان مثل هذا الطلب يكشف عن أنّهم كانوا يريدون إسلاماً لا يضرّ بمصالحهم الماديّة وميولهم الباطنية، أمّا إذا كان غير هذا فلن يقبلوه ولن يرضوا به.

ولهذا عندما عرف وَفدُ ثقيف بقبح مطلبهم هذا، بادَروا إلى التعلّل والاعتذار بأنّهم إنّما أرادوا بذلك إرضاء نسائهم وذراريهم وسفهاء قبيلتهم، حيث إنّهم يكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتّى يدخلهم الإسلام، فإذا أبى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليهم ذلك فليبعث معهم شخصاً من غير قبيلتهم ليهدمَها، فوافق النبي صلى الله عليه و آله و سلم على هذا الشرط، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يريد محو وإزالة جميع

ص:659

المعبودات الباطلة عن الحياة البشرية، سواء أتمّ هذا على أيدي الطائفيّين أُمّ على أيدي غيرهم.

والشرط الآخر هو أن يعفيهم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الصلاة. فلقد كانوا يتصوَّرون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يمكنُه التصرّف في الأحكام الإلهية كما يفعل قادة أهل الكتاب، حسب زعمهم، حيث كانوا يكلِّفون جماعة بهذه الأحكام، بينما يُعفون جماعة أُخرى منها، وذلك غفلة منهم عن أنّه صلى الله عليه و آله و سلم يتبع الوحي الإلهيّ، ولا يمكنه التغيير فيه قيد شعرة.

إنّ هذا الشرط كان يكشف عن أنّه لم يكن قد ترَسَّخت في أفئدتهم روح التسليم المطلق بَعدُ، وأنّ اعتناقهم للإسلام كان نتيجة ظروف ساقتهم إلى إسلام ظاهريّ سطحيّ، وإلّا فلا داعي ولا مبرّر للإيمان ببعض ما جاء في الإسلام دون بعض، فيقبلوا شيئاً ويرفضوا شيئاً آخر.

إنّ الإسلام، والإيمان باللّه إن هو إلّانوعٌ من التسليم الباطني الروحيّ، والخضوع القلبي الّذي يقبل المرءُ في ظلّه جميعَ التعاليم والدساتير الإلهية عن طواعية ورغبة، وفي مثل هذه الحالة لا غير لاتجد فكرة التبعيض في التعاليم الإلهية طريقاً إلى روح إنسان ومخيّلتهِ.

ولأجل هذا قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جوابهم:

«لاخَير في دِين لا صَلاة فيه»(1).

إن المسلم الّذي لا يسجد ولا يركع للّه تعالى في اليوم والليلة ولا مرّة واحدة، ولا يذكر ربَّه، لا يكون مُسلماً بالمعنى الصحيح.

ص:660


1- . المغازي: 968/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 967/4؛ السيرة الحلبية: 243/3.

هذا وعندما اتّفق الطرفان على شروطهما نظمت معاهدة تشمل المواد والشروط المتَّفق عليها، وقَّع عليها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وحينئذ أذِنَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لوفد ثقيف بالعودة إلى قومهم، واختار منهم أحدثهم سنّاً وهو «عثمان بن أبي العاص» الّذي كان أحرصهم على التفقّه في الإسلام، وتعلَّم القرآن خلال وجوده بالمدينة فأمَّره عليهم، وجعله نائباً عنه في قبيلة ثقيف وأوصاه - فيما أوصاه - بأن يصلّي بالناس جماعة مراعياً أضعفهم، قائلاً له:

«يا عُثمان تجاوز(1) في الصَلاة وأقدر الناس بأضعفِهم، فإنَّ فيهمُ الكبير والصغير والضعيفَ وذا الحاجة».

ثم كلَّف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «أبا سفيان بن حرب»، و «المغيرة بن شعبة» بالتوجّه إلى الطائف مع وفد ثقيف لهَدم الأصنام فيها، أجَلْ إنّ أبا سفيان الّذي كان وحتّى يوم أمس من حَفظَة الأصنام وهو الّذي أراق في سبيلها أنهراً مِنَ الدّماء، يمشي الآن إلى الطائف وهو يحمل فأسه ومعوله لتحطيم الأصنام فيها، ويحوّلها إلى تلٍّ من الحطب، ويبيع ما يتعلّق بها من ذهب وفضّة وحليّ ليقضي بأموالها ديون «عروة» و «الأسود» حسب أوامر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(2).

ص:661


1- . تجاوَزْ: أي خفف الصلاة وأسْرِعْ بها.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 965/4-967؛ السيرة الحلبية: 243/3-244. ولقد وردت قصّة وفد ثقيف في كتاب «أُسد الغابة»: 216/1 وج 3 ص 406 أيضاً.

57 إعْلان البراءة من المشركين في منى

اشارة

في أواخر السنة التاسعة من الهجرة نزل أمين الوحي جبرئيلُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعدّة آيات من سورة التوبة (سورة براءة)، وكلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يبعث بها رجلاً إلى مكّة ليتلوها مع عهد ذي أربعة بنود في موسم الحج.

ولقد رُفعَ الأمان في هذه الآيات عن المشركين، وأُلغيت جميعُ العهود (إلّا العهود والمواثيق الّتي التزم بها أصحابها ولم ينقضوها)، وأُبلغَ إلى رؤوس الشرك وأتباعهم أن عليهم أن يوضحوا مواقفهم من الحكومة الإسلامية الّتي تقوم على أساس التوحيد، وذلك خلال أربعة أشهر، وإذا لم يتركوا الشرك والوثنية خلال هذه الأشهر الاربعة نُزعت منهم الحصانة، ورفع عنهم الأَمان.

عندما ينتهي المستشرقون إلى هذه القصّة وهذا الفصل من التاريخ الإسلامي يصوّبون رماح حملاتهم إلى الإسلام ويعتبرون هذا الموقف الحاسم والحكيم مخالفاً لمبدأ الحريّة الإعتقادية، ولكنّهم إذا طالعوا صفحات التاريخ الإسلامي من دون أيّ تعصب وانحياز، ودَرَسوا الدوافع الحقيقية وراء هذا الإجراء، والّتي ذُكرت

ص:662

في هذه السورة، وفي النصوص التاريخية لسلموا من كثير من هذه الأخطاء، ولصَدّقوا واعترفوا بأنّ هذا العمل لا ينافي حرية العقيدة الّتي يحترمها عقلاءُ العالم، أبداً، وإليك فيما يأتي الدوافع وراء صدور هذا العهد (البراءة).

1. كان التقليد السائد عند العرب في العهد الجاهلي هو أنّ على زائر الكعبة أن يعطي الثوب الّذي يدخل به إلى مكّة المكرّمة لفقير ويطوف بثوب آخر، وإذا لم يكن له ثوبٌ آخر، فإنّ عليه أن يستعير ثوباً ويطوف به حتّى لا يضطرَّ إلى الطواف عرياناً، وإن لم يمكنه أن يستعير ثوباً طاف بالبيت المعظّم عارياً، بادي السوأة.

وقد دخلت امرأة ذاتُ جمال كبير، ذات يوم المسجد الحرام، وحيث إنّها لم تكُ تملكُ ثوباً آخر، لذلك اضطرّت تبعاً لذلك التقليد الجاهليّ الخرافي أن تطوف عارية بالبيت المعظَّم، ومِنَ الواضح أنّ مِثل هذا الطواف الفاضح، أي الطواف بالجسد العاري، في أقدس بقعة من بقاع العالم على مرأى من جموع الطائفين بالبيت، ينطوي على نتائج سيئّة بالغة السوء.

2. لقد نزلت الآيات الأُولى من سورة التوبة بعد أن انقضت عشرون سنة على بعثة النبي الكريم صلى الله عليه و آله و سلم، وفي هذه المدة كان منطق الإسلام القوي حول المنع من الوثنية والشرك قد بَلغ مسامع جميع المشركين في شبه الجزيرة العربية، فإذا كانت جماعةٌ قليلةٌ منهم لايزالون يُصرّون على الشرك والوثنية، لم يكن ذلك إلّا عن عصبية وعناد.

من هنا كان الوقت قد حانَ لأن يستخدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم آخر علاج لإصلاح ذلك المجتمع المنحرف، وأن يستعين بمنطق القُوّة لضرب كلّ مظاهر الوثنيّة، وأن يعتبرها نوعاً من العدوان على الحقُوق الإلهية والإنسانية، وبهذه الطريقة يقضي على منبع ومنشأ مئآت العادات السيّئة في المجتمع.

ص:663

ولكن المستشرقين الذين اعتبروا هذا العمل مخالفاً لمبدأ حرية الاعتقاد - الّذي هو أساس الدين الإسلامي وقاعدة المدنية الراهنة - قد غفلوا عن هذه النقطة، لأنّ مبدأ حرية العقيدة محترم مادام لا يضرُّ بسلامة الفرد والمجتمع، إذ في غير هذه الصورة يجب مخالفتها حتماً بحكم العقل وسيرة جميع المفكّرين.

فإذا كان في أُوربا اليوم مثلاً جماعة من الشباب المنحرفين ينادون بحرية العري انطلاقاً من أفكار منحرفة فاسدة، وقاموا - على أساس أنّ إخفاء بعض الأقسام من الجسد يثير الفضول ويوجب تحريك الغريزة ويسبب فساد الأخلاق - بتشكيل نوادي العري السرية، فهل يسمح الفكر الإنساني الرشيد لمثل هذه الجماعة بأن تفعل ما تريد تحت قناع حرية العقيدة، ويقول: إنّ الاعتقاد أمرٌ محترم؟! أو أنّ العقل يقضي بأن نحارب مثل هذه الفكرة الحمقاء حفاظاً على سعادة تلك الجماعة نفسها، وسعادة المجتمع وهذا الموقف ممّا لا يتّخذه الإسلام فحسب، بل هو موقف جميع العقلاء في العالم من جميع الاتّجاهات والحركات الهدّامة الّتي تهدّد مصالح المجتمع بالخطر، فهم يحاربونها بلا هوادة، وهذه الحرب في الحقيقة هي محاربة المعتقدات الحمقاء لدى الجماعات المنحطّة.

إنّ الوثنية ليست سوى حفنة من الأوهام والخرافات الّتي تستتبع مئات العادات الدنيئة، وقد بذل رسولُ الإسلام جهوداً كبرى وكافية في سبيل هدايتهم، وبعد أن انقضى أكثر من عشرين عاماً من دعوته كان الوقتُ قد حان لاستئصال جذور الفساد باستخدام القوة العسكرية كآخر وسيلة.

3. ومن جانب آخر فإنّ الحج هو أكبر العبادات والشعائر الإسلامية، ولم تكن الصراعات والمواجهات الّتي وقعتْ بين الإسلام ورؤوس الشرك لتسمح

ص:664

حتّى يوم نزول هذه السورة بأن يعلّم الرسولُ الكريمُ المسلمين مناسك الحج على الوجه الصحيح وبعيداً عن أيّ نوع من أنواع الشوائب والزوائد.

من هنا كان يتوجّب أن يقوم النبيُّ الكريمُ بنفسه بالمشاركة في هذا المؤتمر الإسلامي العظيم، ويعلّم المسلمين هذه العبادة الكبرى بصورة عمليّة، ولكن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إنّما كان يمكنه المشاركة في هذه المراسم والمناسك إذا خلت منطقة الحرم الإلهي ونواحيها من كافّة المشركين الذين أعطوا مقام العبودية والعبادة للأصنام الخشبية، والحجرية، ويطهّرها من كلّ معالم الشرك والوثنية، ويصبح الحرم الإلهي خالصاً للموحّدين والعباد الواقعيّين.

4. إنّ جهاد النبي لم يكُ له أيُّ ارتباط بحرية العقيدة، فالعقيدة ليست شيئاً يمكن أن يُفرَض على أحد، ويوجد أو يمحى بالقهر. إنّ روح الإنسان ونفسه هو مركز الاعتقاد ومقرّه، وظرفه ومكانه، وهو لا يخضع لأي قهر أو تسخير، وإنّ ظهور العقائد في منطقة الضمير يتوقّف على سلسلة من المقدّمات والأوليّات الّتي توجب حصول العقيدة، وظهور العقيدة وحصولها من دون تلك المقدّمات أمر محال.

وعلى هذا الأساس فإنّ مسألة الاعتقاد لا تخضع للقهر، ولا تقبل الفرض، بل كان نضالُ النبي ينحصر في النضال ضدَّ مظاهر هذه العقيدة وهي عبادة الأوثان.

من هنا هَدَم كلّ بيوت الأصنام، وحطَّم الأوثان، بينما ترك الانقلاب في العقائد والضمائر لعامل الزمن الّذي كان مروره يستتبع - لا محالة - مثل هذا التطوّر والتحوّل والانقلاب.

إنّ العوامل الأربعة المذكورة دفعت برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن يستدعي أبابكر ثم يعلّمه الآيات الأُولى من سورة التوبة ويأمره بأن يذهب برفقة أربعين رجلاً من

ص:665

المسلمين(1) إلى مكّة، ويتلو هذه الآيات الّتي تتضمّن البراءة من المشركين في يوم الأضحى على مسامع الناس.

فتهيّأ أبوبكر للقيام بأداء هذه المهمّة، وتوجّه نحو مكّة، إلّاأنّه لم يلبث أن نزل أمين الوحي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برسالة من اللّه سبحانه وهي:

«إنّه لا يُؤَدِّي عَنْكَ إلّاأَنْتَ أو رَجُلٌ مِنْكَ».

ولهذا استدعى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً وأخبره بالخبر ثم قال له: إركبْ ناقتي العضباء والحقْ أبابكر فخذ براءة من يده، وامض بها إلى مكّة وانبذ بها عهد المشركين إليهم، أي إقرأ على الناس الوافدين إلى منى من شتّى أنحاء الجزيرة العربية براءة بما فيها النقاط الأربعة التالية:

1. أن لا يدخُلَ المسجدَ مشركٌ.

2. أن لا يطوفَ بالبيت عُريانٌ.

3. أن لا يحجّ بعد العام مشركٌ.

4. أنّ مَنْ كانَ لُهَ عندَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عهدٌ فهو لَهُ إلى مدّته، أيْ إنّه محترمٌ ميثاقهُ ومالُه ونفسُه إلى يوم انقضاء العهد، ومَنْ لم يكن له عهد ومدّة من المشركين فإلى أربعة أشهر، فإن أخذناهُ بعد أربعة أشهر قتلناهُ، وذلك بدءاً من هذا اليوم (العاشر من شهر ذي الحجّة).

إي إنَّ على هذا الفريق من المشركين أن يحدّدوا موقفهم من الحكومة الإسلامية، فإمّا أن ينضووا إلى صفوف الموحّدين، وينبذوا وراء ظهورهم كلّ مظاهر الشرك ويحطموها، وإمّا أن يستعدوا للقتال مع المسلمين(2).

ص:666


1- . وقد ذكر الواقدي أنهم كانوا ثلاثمائة (المغازي: 1077/2).
2- . لاحظ: السيرة الحلبية: 232/3؛ بحار الأنوار: 273/21-275.

فخرج عليٌ عليه السلام على ناقة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم العضباء مع جماعة منهم «جابرُ بن عبد اللّه الأنصاري» حتّى أدرك أبابكر في الجحفة فأبلغه أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فدفع أبو بكر آيات البراءة إلى علي عليه السلام.

ويروي محدِّثو الشيعة وجماعة من محدّثي السنّة أنّ الإمام علي بن أبي طالب قال لأبي بكر: أمرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن أُخيِّرك بين أن تسير معي أو ترجعَ إليه، فرجّح أبو بكر العودة إلى المدينة على المسير مع علي عليه السلام إلى مكّة فقال: بل أرجعْ إليه، وعاد إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا دخل عليه قال: يا رسول اللّه إنّك أهّلتني لأمر طالت الأعناقُ إليَّ فيه، فلمّا توجّهت له رددْتني عنه، مالي أَنزل فيَّ قرآنٌ؟!

فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لا ولكنَّ الأمين جبرئيل هبط إليّ عن اللّه عزّوجلّ بأنّه لا يؤدّي عنك إلّاأنت أو رجلٌ منكَ، وعليٌ مِنّي، ولا يؤدّي عنّي إلّاعليّ»(1).

إلّا أن بعض روايات أهل السنّة تفيدُ أنّ أبا بكر أُنيط إليه إمارة الحجيج في ذلك العام، بينما كُلّف عليٌّ عليه السلام وحده بمهمة قراءة آيات البراءة والنقاط الأربعة المذكورة على الناس يوم الحج الأكبر بمنى(2).

دخل أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام مكّة وفي اليوم العاشر من شهر ذي الحجّة، صعد على جمرة العقبة وقرأ على الناس الآيات الثلاث عشرة من صدر سورة التوبة (براءة) وأذان رسول اللّه المتضمّن للنقاط الأربعة، رافعاً صوته به، بحيث يسمعه جميع مَن حضر، وذلك بمنتهى الشجاعة والجرأة، وأخبر المشركين الذين لاعهد ولا مدّة لهم مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر

ص:667


1- . إرشاد المفيد: 65/1-66.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 970/4. وراجع للوقوف على المصادر العديدة لهذه القضية الغدير: 338/6-350.

ابتداء من يوم قراءة ذلك الإعلان، فإذا انقضت هذه المدة قُتِلُوا إذا وُجدوا على الشرك، فعليهم أن يبادروا خلال هذا الأجل المضروب إلى تطهير بيئتهم من كلّ أنواع الوثنية وإلّا سُلِبَت عنهم الحصانة، ورفع عنهم الأمان.

لقد كان أثرُ هذه الآيات وهذا الأذان النبويّ هو أنّه لم يمض على قراءتهما أربعة اشهر إلّاوأقبلَ المشركون على اعتناق عقيدة التوحيد أفواجاً افواجاً، وهكذا استُئصِلت جذور الوثنية في شبه الجزيرة العربية في أواسط السنة العاشرة من الهجرة.

تعصّبٌ بغيضٌ في تحليل هذا الحدث

لاريب أنّ عزل أبي بكر عن مقام إبلاغ آيات البراءة، وتنصيب علي بن أبي طالب مكانه لأداء تلك المهمة بأمر اللّه تعالى يُعدُّ من أبرز فضائل علي ومناقبه المسلّمة الّتي لا تقبل الانكار والشك، ولكن جماعة من الكتّاب المتعصّبين وقعوا في الخطأ والانحراف رغم ذلك، عند تحليل ودراسة هذه الحادثة.

فهذا «الآلوسي البغدادي» يكتب في تفسيره عند دراسة وتحليل هذه الحادثة: النكتة في نصب الأمير كرّم اللّه تعالى وجهه مبلِّغاً نقضَ العهد في ذلك المحفَل وهي أنّ الصِّديق رضي اللّه تعالى عنه لمّا كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال كما يرشد إليه ما تقدّم في حديث الإسراء،... ولمّا كان علي كرّم اللّه تعالى وجهه الّذي هو أسد اللّه مظهر جلاله، فوّض إليه نقض عهد الكافرين الّذي هو من آثار الجلال وصفات القهر(1).

إنّ هذا التفسير النابع من منبع التعصُّب لا ينسجم مع كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؛

ص:668


1- . روح المعاني: 45/10، تفسير سورة التوبة.

لأنّه قال عند الإجابة لأبي بكر إنّ هذه الآي لا يؤدِّيها إلّاأنا أو رجلٌ منّي، أيْ لا يصلُحُ لأدائها غير هذين الرجلين، وليس في هذا الكلام أي إشارة إلى الرأفة والشجاعة.

هذا مضافاً إلى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المظهر الكامل للرحمة والرأفة وبناء على ما قاله الآلوسي يجب أن لا يُكلّف حتّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بابلاغ هذه الآيات، على حين أنّ الوحيَ قال: هذه الآيات لا يؤدّيها إلّاأنت أو رجلٌ مِنكَ.

ولقد برّر جماعة أُخرى هذا المطلب بنحو آخر فقالوا: لقد كان التقليد المتَّبَع عند العرب في نقض العهود مهما كانت هو أن يقدّم نفسُ الموقِّع على العَهْد أو أحد أنسبائه على نبذ العهد ونقضه، إذ في غير هذه الصورة كان المتعارف عندهم أن يبقى العهد على حالِه، وحيث إنّ علّي بن أبي طالب كان من أقرباء النبي لهذا كُلِّف بإبلاغ هذه الآيات الّتي تضمّنت نبذ العهد.

ولكن هذا التفسير والتوجيه غير مقنع، لأنّه كان ثمّة بين أقرباء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من هو أقرب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مثل عمّه العباس، فلماذا لم يكلَّف بإبلاغ آيات البراءة، ونبذ العهد إلى المشركين؟

ثم لماذا لم يتبع النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذه العادة من أوّل الأمر وهو العارف بتقاليد مجتمعه؟

إذا أردنا أن نقضي في هذه القضية التاريخية بالقضاء المحايد المنصف وجب أن نقول: إنّ علّة هذا العزل، والنصب لم تكن لا لدافع الرغبة في المقام، والطموح إلى السلطة، ولا لوشيجة القربى مع علي عليه السلام، بل كان الغرض من هذا التغيير هوالكشف عملياً عن أهليّة أمير المؤمنين علي عليه السلام وصلاحيّته للقيام بالمهامّ المتعلِّقة بالحكومة الإسلامية وليعلَمَ الناس أنّه عديلُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الجوانب

ص:669

الروحية، وفي مجال الأهليّة، والصلاحية.

وإنّه إذا ما غابت شمسُ الرسالة بعد حين وجب أن تُسَلَّم مقاليدُ الحكم، وأزمّة التصرُّف في المسائل والأُمور المتعلِّقة بشؤون الخلافة إلى عليّ عليه السلام إذ لا يصلح لهذا العمل الخطير سواه، وإنّه يجب أن لا يقع المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الإشكال والتشتّت، والاختلاف والحيرة في هذا الأمر، لأنّهم قد رأوا بأُمّ أعينهم كيف نُصب «عليٌ» من جانب النبي بأمر اللّه تعالى لنبذ العهود مع المشركين، الّذي هو من صلاحيات واختيارات، الحاكم الإسلامي وشؤونه.

ص:670

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

58 في رثاء الولد العزيز

اشارة

«يا إبراهيم إنّا لَنْ نُغِنيَ عَنْكَ شَيئاً» ثم ذرفت عيناه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «إنّا بِكَ يا إبراهيم لمحزُونُون، تبكي العين ويحزن القلب وَلا نَقُولُ ما يُسْخِطُ الربَّ».

وفي لفظ: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وَلَوْلا أنّه وَعْدٌ صادِقٌ وَمَوعُودٌ جامِعٌ فإنّ الآخِرَ منّا يَتبعُ الأولَ، لَوَجَدْنا عَليْكَ يا إبراهيم وَجْداً شَدِيداً ما وَجَدْناهُ».

وفي لفظ: «ولولا أنّه أمر حقّ ووعد صدق، وأنّها سبيل مأتية لحزنّا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون».

وفي لفظ: «وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».(1)

هذه العبارات قالها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في رثاء ولدهِ العزيز «إبراهيم» في اللحظات الّتي كان يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة في حجر أبيه الرحيم، وبينما كان الوالد العظيم واضعاً شفتيه على خدّ ابنه، ويودّعه بروح ملؤها المشاعرُ

ص:671


1- . السيرة الحلبية: 394/3. ولاحظ: الاستيعاب: 57/1، أُسد الغابة: 39/1.

والعواطفُ، من جانب، وراضية بالتقدير الإلهي من جانب آخر.

إنَّ حبَّ الأولاد والأبناء من أرفع وأظهر تجلّيات الروح الإنسانية، كما أنّه خير دليل على سلامة الروح ولطفاتها.

لقد كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول دائماً: «أكرمُوا أوْلادَكُمْ»(1) وذهب إلى أبعد من ذلك إلى درجة أنّه اعتبر مودَّة الأبناء والعطف عليهم من مكارم أخلاقه ومحاسن سجاياه(2).

ففي السنين والأعوام الماضية واجه النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم مصيبة افتقاد ثلاثة من أولاده هم: «القاسِم، والطاهر، والطيب»(3) وثلاث من بناته وهن: «زينب» و «رقية» و «أُمّ كلثوم» ولقد حزن لفقدهم حزناً شديداً وكانت «فاطمة» هي البنت الوحيدة الّتي بقيت له من زوجته الكريمة خديجة.

لقد بعثَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة السادسة من الهجرة سفراء إلى البلاد المختلفة خارج الجزيرة العربية وكان من جملة الكتب الّتي أرسلها إلى الأُمراء والملوك هي رسالته إلى حاكم مصر يدعوه فيها إلى الإسلام، وإلى عقيدة التوحيد، وهذا الحاكم وإن لم يلبّ نداء النبيّ في الظاهر، ولم يقبل دعوته إلّاأنّه أجاب على كتاب النبي بإجابة حسنة مضافاً إلى أنّه أرسلَ إليه صلى الله عليه و آله و سلم هدايا منها جارية تدعى «مارية».

ولقد نالت هذه الجارية فيما بعد شرف تزوّج النبي الكريم بها وولدت له ابناً

ص:672


1- . بحار الأنوار: 95/104، عن مكارم الاخلاق.
2- . لاحظ: المحجّة البيضاء: 366/3.
3- . بحار الأنوار: 166/22، ولكن بعض علماء الشيعة قالوا: أولاده الذكور من خديجة اثنان فقطراجع بحار الأنوار: 151/22.

سمّاه «إبراهيم» أحبَّه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حبّاً شديداً.

ولقد خفّفت ولادة إبراهيم الكثير من الأحزان الّتي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعاني منها بسبب افتقاده لأولاده الستة، واشعَلَتْ في نفس النبي صلى الله عليه و آله و سلم بصيصاً من الأمل، ولكن هذا البصيص من الأمل سرعان ما غاب بعد ثمانية عشر شهراً، وانطفأ.

لقد خرج رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بيته ذات يوم لعمل، وعندما عرف بتدهور خطير في صحّة ولده الحبيب الوحيد «إبراهيم» عاد من فوره إلى منزله، وأخذ ابنه من حضن أُمّه، وفيما كانت تعلو ملامحه علامات الغم والاضطراب نطق بهذه العبارات.

إنّ حزن النبي صلى الله عليه و آله و سلم وبكاءه في موت ابنه «إبراهيم» دليل حيُّ على عاطفته الإنسانية الّتي استمرت حتّى بعد وفاة ذلك الولد الحبيب، وإنّ إظهار تلك العواطف والإعراب عن الحزن والأسى كان يكشف عن روح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم العاطفية الّتي كانت تبرز من دون اختيار، فيما دلَّ تجنّب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم التكلّم بما يسخط اللّه في هذه المصيبة المؤلمة على إيمانه ورضاه بالتقدير الإلهيّ الّذي لا مفرَّ لأحد منه.

اعتراض غير وجيه

استغرب عبد الرحمن بن عوف الأَنصاري من بكاء النبيّ على ولده «إبراهيم»، فاعترض على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أو لم تكن نهيتَ عن البكاء، وأنت تبكي؟(1)

إنّ هذا المعترض لم يكن جاهلاً بمبادئ الإسلام وقواعده الرفيعة فحسب؛ بل كان غافلاً حتّى عن العواطف والمشاعر الإنسانية الخاصّة الّتي أودعتْها يد

ص:673


1- . السيرة الحلبية: 395/3.

الخالق في ضميره أيضاً.

إنّ جميع الغرائز الإنسانية خُلِقَتْ في الكيان البشري لأهداف خاصّة ويجب أن يتجلّى كلّ واحد منها في وقته المناسب وموقعه اللازم، فالشخصُ الّذي لا يحزن لفقد أحبّائه وأعزّائه ولا يغتم لفراقهم، ولا تدمع عيناه لذلك، وبالتالي إذا لم يُظِهر من نفسه أيّة ردة فعل عند فراقهم، لم يكن سوى قطعة من الصخر، ولا يستحق اسم الإنسانية

ولكن ثمّة نقطة مهمّة وجديرة بالانتباه، وهي أنَّ هذا الاعتراض وإن كان اعتراضاً غير موجَّه، إلّاأنّه يكشف عن وُجود حرية كاملة، وديمقراطية حقيقية في المجتمع الإسلامي الحديث التأسيس إلى درجة أنَّ شخصاً عاديّاً من الناس تجرّأ على أن ينتقد عمل قائده بمطلق الحريّة ومن دون خوف أو وجَل، وسمع الجواب.

ومن هنا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا، إنّما هذا رَحْمة، ومَن لا يرحم لا يُرحَم»(1).

أو قال:

«لا، ولكنْ نَهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة وخَمش وجوه وشَقِّ جيوب ورنة شيطان...»(2).

ولقد كلّفَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام(3) بتجهيز

ص:674


1- . بحار الأنوار: 151/22.
2- . السيرة الحلبية: 395/3. ولاحظ: مستدرك الحاكم: 40/4.
3- . بحار الأنوار: 156/22، وروي في السيرة الحلبية: 395/3، أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّف الفضل بن العباس (ابن عم النبي) بتجهيز إبراهيم.

«إبراهيم» وتغسيله وتكفينه وتحنيطه، ثم إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم شيّعه مع جماعة من أصحابه، ومضى حتّى انتهى به إلى قبره في البقيع.

ثم إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم رأى في قبر «إبراهيم» خللاً فسوّاه بيده ثم قال:

«إذا عَمِل أحدُكُمْ عَملاً فَليُتْقِنْ»(1).

مكافحة الخرافات

عندما مات إبراهيم ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم انكسفت الشمسُ فتصوّرَ البعضُ ممّن جهل سننَ الطبيعة وقوانينَ العالم الطبيعيّ أنّ الشمس انكسفَتْ لموت إبراهيم.

ولا شكّ أنّ مثل هذا التصوّر الباطل وإن كان قضية خيالية ووهماً سخيفاً إلّا أنّه كان من شأنه أن ينفع النبي، ويعزّز مكانته في المجتمع الّذي طالما آمن بالخرافة وعشقها.

ولو أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قائداً عادياً ومادياً لكان من الجائز أن يؤيّد صحّة هذا التصوّر ليكتسب من وراء ذلك عظمة وقوة.

ولكن النبي صلى الله عليه و آله و سلم على عكس هذا التوقّع رقى المنبر، وأطْلَعَ الناسَ على حقيقة الأمر وقال:

«أيّها الناس إنّ كسوف الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه، يجريان بأمره، مطيعان له لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته»(2).

ص:675


1- . الكافي: 263/3 ح 45؛ بحار الأنوار: 264/22.
2- . المحاسن: 313/2؛ السيرة الحلبية: 396/3. ولاحظ: صحيح البخاري: 24/2، كتاب الكسوف، وصحيح مسلم: 35/3، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف.

إنّ النبي الكريم صلى الله عليه و آله و سلم على عكس ما يفعله النفعيون الوصوليون الذين لا يكتفون بتفسير الحقائق وتجييرها لمصالحهم، واستخدامها لمآربهم، بل طالما يحاولون استغلال جهل الناس ونزوعهم إلى الخرافات لصالحهم.

إنَّ رسول الإسلام على عكس هذه الجماعة لم يكتم الحقيقة، ولم يستفد من جهل الناس وغفلتهم لصالح نفسه.

ولو أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يُسبغ في ذلك اليوم لباس الصحّة على مثل هذه الفكرة الباطلة وهذا التصوّر الخيالي لم يمكنه أن يطرح نفسَه قائداً خالداً للبشرية ورسولاً مختاراً من جانب خالق الطبيعة، والمؤسّس الحقيقي لقوانين العالم الماديّ، في العالم الراهن الّذي كشف فيه القناع عن أسرار الطبيعة، واتّضحت فيه قوانين العالم المادّي ونواميسه، وعلل الكسوف والخسوف وغيرهما من الظواهر الطبيعية.

إنّ دعوة النبي الأكرم لم تكنْ مختصّة بجماعة العرب كما أنّها لا تخضعُ لحدود زمانية أو مكانية، فلو أنّه كان نبي الأقوام والأجيال الغابرة، فهو كذلك نبيُّ عصر الفضاء، وقائد عصر اكتشاف أسرار الطبيعة ورموزها.

إنّ أحاديث هذا النبي العظيم، وكلماته من القوة، والمتانة ومن الصحّة، والاتّصاف بالواقعية، بحيث لم يتطرّق إليها أيُّ إشكال حتّى مع التطوّرات العلمية الأخيرة الّتي قلبت كثيراً من معارف البشر القديمة رأساً على عقب.

ص:676

59 وفد نجران في المدينة

اشارة

تقع «نجران» بِقُراها السبعين التابعة لها، في نقطة من نقاط الحجاز واليمن الحدودية، وكانت هذه المنطقة في مطلع ظهور الإسلام المنطقة الوحيدة الّتي غادر أهلُها الوثنية لأسباب معيّنة واعتنقوا المسيحية(1) من بين مناطق الحجاز.

وقد كتب رسولُ الإسلام كتاباً إلى أسقف نجران(2) «أبوحارثة» يدعو أهلها فيه إلى الإسلام يوم كتب كتباً إلى ملوك العالم ورؤسائه.

وإليك مضمون هذا الكتاب:

«بِسْم إله إبراهيم وإسحاق وَيَعقوب من مُحَّمد النبي رسول اللّه إلى أسْقُف نَجْران وأهل نَجْران إن أسْلَمْتُمْ فإنّي أحْمَدُ إليكُم اللّه إله إبْراهيم وَإسحاق ويعقوب، أمّا بعد فإني أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد، وأدعُوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام».(3)

ص:677


1- . ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان: 266/5-277 علل اعتناقهم للمسيحية.
2- . الأسقُف معرب كلمة يونانية هي ايسكوپ وتعني الرقيب والمناظر، وهو اليوم منصب أعلى من منصب القسّيس.
3- . بحار الأنوار: 285/21؛ إمتاع الأسماع: 67/14؛ البداية والنهاية: 64/5.

وأضافت بعض المصادر التاريخية الشيعية أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كتب في ذلك الكتاب الآية المرتبطة بأهل الكتاب(1) والّتي تدعوهم إلى عبادة اللّه الواحد القهّار.

قدم سفير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نجران وسلّم كتابه المبارك إلى أسقف نجران، فقرأ ذلك الكتاب بعناية ودقّة متناهية، ثم شكّل جماعة للمشاورة وتداول الأمر واتّخاذ القرار، مكوَّنة من الشخصيات البارزة الدينية وغير الدينية، وكان أحدُ أعضاء هذه المجموعة «شرحبيل» الّذي عُرف بعقله ونُبله، وتدبيره وحكمته، فقال في معرض الإجابة عن استشارة الأسقف إيّاه: قد علمتُ ما وَعَد اللّه إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوّة، فما يؤمِنُك أن يكون هذا الرجلُ، ليس لي في النبوة رأي، لو كان أمرٌ من أُمور الدنيا أشرتُ عليك فيه وجَهدتُ لك.

فقرّر المتشاورون أن يبعثوا وفداً إلى المدينة للتباحث مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ودراسة دلائل نبوّته، فاختير لهذه المهمّة ستون شخصاً من أعلم أهل نجران وأعقلهم، وكان على رأسهم ثلاثة أشخاص من أساقفتهم هم:

1. «أبو حارثة بن علقمة» أُسقف نجران الأعظم والممثّل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز.

2. «عبد المسيح» رئيس وفد نجران المعروف بعقله ودهائه، وتدبيره.

3. «الأيهم» وكان من ذوي السن ومن الشخصيات المحترمة عند أهل نجران.(2)

ص:678


1- . المرادُ من تلك الآية هو قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» (آل عمران: 64). الإقبال: 311/2.
2- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 65/14.

قدمَ هذا الوفد المسيحيُ المدينة ودخلُوا المسجد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهم يلبسون أزياءهم الكنسيَّة ويرتدون الديباج والحرير، ويلبسون خواتيم الذهب ويحملون الصلبان في أعناقهم، فأزعج منظرُهم هذا وخاصة في المسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فشعروا بانزعاج النبي ولكنّهم لم يعرفوا سبب ذلك، فسألوا «عثمان بن عفان» و «عبد الرحمن بن عوف» وكانت بينهم صداقة قديمة، فقال الرجلان لعلي بن أبي طالب: ماترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

قال: أرى أن يَضَعوا حُللَهم هذه وخواتيمهم ثم يعودون إليه.

ففعلوا ذلك ثم دخلوا على النبي صلى الله عليه و آله و سلم فسلّموا عليه فرد عليهم السَّلام، واحترمهم، وقبلَ بعض هداياهم الّتي أهدوها إليه صلى الله عليه و آله و سلم، ثم إنّ الوفد قبْل أن يبدأوا مفاوضاتهم مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم قالوا: إن وقت صلاتهم قد حان واستأذنوه في أدائها، فأراد الناسُ منعهم ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أذن لهم وقال للمسلمين: «دعوهم» فاستقبلوا المشرق، فصلّوا صلاتهم(1).

وبذلك أعطى النبي صلى الله عليه و آله و سلم درساً في التسامح الديني يدفع افتراءات أعداء الإسلام على هذا الدين.

مفاوضاتُ وَفد نجران مع النبي

لقد نَقَل طائفة من كتّاب السيرة، والمحدّثين الإسلاميين نصَّ الحوار الّذي دار بين وفد نجران المسيحي ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولكن المرحوم السيد ابن طاووس نقل نصّ هذا الحوار وقضية المباهلة بنحو أدقّ وأكثر تفصيلاً ممّا ذكره الآخرون من المحدّثين والمؤرّخين.

ص:679


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 65/14؛ تاريخ الإسلام للذهبي: 695/2.

فقد ذكر جميع خصوصيات المباهلة من البداية إلى النهاية نقلاً عن كتاب «المباهلة» لمحمد بن المطلب الشيباني(1). وكتاب «عمل ذي الحجّة» للحسن بن إسماعيل(2)، غير أنّ نقل جميع تفاصيل هذه الواقعة التاريخية الكبرى الّتي قصّر حتّى في الإشارة اليها إشارة عابرة بعض أصحاب السيرَ، أمرٌ خارجٌ عن نطاق هذا الكتاب، ولهذا فإنّنا نكتفي بنقل جانب من هذا الحوار الّذي نقله ورواه الحلبي في سيرته(3).

عرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على وفد نجران وتلا عليهم القرآن، فامتنعوا وقالوا:

قد كنّا مُسلمين قبلك.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: كَذِبتُمْ، يمنعكم من الإسلام ثلاثٌ: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمُكُمْ أنّ للّه ولداً. أي لأنّ أحدهم قال له صلى الله عليه و آله و سلم: المسيح ابن اللّه لأنّه لا أبَ له.

وقال له آخر: المسيح هو اللّه لأنّه أحيا الموتى، وأخبر عن الغيوب، وأبرأ من الأدواء كلِّها، وخلَق من الطين طيراً.

فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو عبد اللّه وكلِمته ألقاها إلى مريم.

فغضبوا وقالوا: إنّما يرضينا أن تقول إنّه إله... فنزل الوحي بقوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» (4)، وقوله تعالى:

ص:680


1- . هو محمَّد بن عبد اللّه بن محمَّد بن عبيد اللّه بن البهلول بن همام بن المطلب المولود عام 297 ه والمتوفّى عام 387 ه.
2- . من أراد الوقوف على خصوصيات هذه الواقعة التاريخية فليراجع كتاب «الإقبال» للمرحوم السيد ابن طاووس: 310/2-349.
3- . لاحظ: السيرة الحلبية: 235/3-236.
4- . المائدة: 17 و 72.

«إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» (1).

فقال وفد نجران: إنّا لا نزدادُ منكَ في أمر صاحبنا إلّاتبايُناً، وهذا الأمر الّذي لا نقرّه لك، فهلمَّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحقّ فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين(2).

فأنزلَ اللّهُ عزّوجلّ آية المباهلة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» (3).

فدعاهُمْ إلى المباهلة، فقبلوا، واتّفق الطرفان على أن يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.

خروجُ النبي صلى الله عليه و آله و سلم للمباهلة

تُعتبر قصّة مباهلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع وَفد نجران من حوادث التاريخ الإسلامي المثيرة والجميلة، وهي وإن قصّر بعض المفسّرين والمؤرّخين في رواية تفاصيلها، وتحليلها، إلّاأَنَّ ثلّة كبيرة، مِن العلماء كالزمخشري في الكشّاف(4)، والفخر الرازي في تفسيره(5)، وابن الأثير في الكامل(6) أعطوا حقّ الكلام في هذا المجال، وها نحن ننقل هنا ملخّص ما كتبَه الزمخشريُ في هذا

ص:681


1- . آل عمران: 59.
2- . بحار الأنوار: 320/21، ولكن آية المباهلة، وكما يستفاد من السيرة الحلبية (: 236/3) تفيد أن النبيَّ هو الّذي اقترح المباهلة ابتداء كما تفيدُ عبارة: «تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا...».
3- . آل عمران: 61.
4- . تفسير الكشّاف: 434/1.
5- . تفسير الرازي: 85/8-86.
6- . الكامل في التاريخ: 293/2.

المجال:

حان وقت المباهلة... وكان النبي صلى الله عليه و آله و سلم ووفد نجران قد اتّفقا على أن يُجريا المباهلة خارج المدينة، في الصحراء... فاختار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من المسلمين ومن عشيرته وأهله أربعة أشخاص فقط وقد اشترك هؤلاء في هذه المباهلة دون غيرهم، وهؤلاء الأربعة لم يكونوا سوى: علي بن أبي طالب عليه السلام، وفاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والحسن، والحسين؛ لأنّه لم يكنْ بين المسلمين من هُوَ أطهر من هؤلاء نفوساً، ولا أقوى وأعمق إيماناً.

طوى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسافة بين منزله، وبين المنطقة الّتي تقرر التباهلُ فيها في هيئة خاصّة مثيرة، فقد غدا محتضناً الحسين(1) آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفَه وعليٌ خلفَها، وهو يقول: إذا دعوتُ فأمِّنوا.

كان زعماء وفد نجران ورؤساؤهم قد قال بعضهم لبعض - قبل أن يغدو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المباهلة -: انظروا محمَّداً في غد، فإن غدا بولده وأهله فاحذَروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه ليس على شيء. وهم يقصدون أنّ النبي إذا جاء إلى ساحة المباهلة محفوفاً بأُبّهة مادية، وقوة ظاهرية، تحفُ به قادة جيشه وجنوده فذلك دليلٌ على عدم صدقه، وإذا أتى بوُلده وأبنائه بعيداً عن أيّة مظاهر مادية وتوجّه إلى اللّه بهم وتضرّع إلى جنابه كما يفعل الأنبياء، دلّ ذلك على صدقه؛ لأنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته، وأفلاذ كبده، وأحبِّ الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه.

ص:682


1- . جاء في بعض الروايات أنّ النبي غدا آخذاً بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وبين يديه عليّ (بحار الأنوار: 338/21).

وفيما كان رجال الوفد يتحادثون في هذه الأُمور إذ طلع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والأغصانُ الأربعة من شجرته المباركة بوجوه روحانية نيّرة، فأخذ ينظر بعضهم إلى بعض بتعجّب ودهشة، كيف خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بابنته الوحيدة، وأفلاذ كبده وكبدها المعصومين للمباهلة، فأدركوا أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم واثق من نفسه ودعوته وثوقاً عميقاً، إذ أنّ المتردّد غير الواثق بدعوته لا يخاطر بأحبّائه وأعزّته ويعرّضهم للبلاء السماوي.

ولهذا قال أُسقف نجران: يا معشر النصارى إنّي لأرى وُجُوهاً لوشاء اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأَرض نصراني إلى يوم القيامة(1).

إنصراف وَفْد نجران عن المباهلة

لمّا رأى وفد نجران هذا الأمر (وهو خروج النبي بأحبَّتهِ وأعزّته) وسمعوا ما قاله أُسقفُ نجران تشاوروا فيما بينهم ثم اتّفقوا على عدم مباهلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، معلنين عن استعدادهم لدفع الجزية للنبي كلّ سنة، لتقوم الحكومة الإسلامية في المقابل بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم، فقبل النبي صلى الله عليه و آله و سلم بذلك، وتقرَّر أن يتمتّع نصارى نجران بسلسلة من الحقوق في ظلّ الحكومة الإسلامية لقاء مبالغ ضئيلة

ص:683


1- . يروي العالم الشيعي الكبير السيد ابن طاووس في كتاب «الاقبال»: 345/2: أقبلَ الناسُ من أهل المدينة من المهاجرين والأنصار، وغيرهم من الناس في قبائلهم وشعارهم من راياتهم وألويتهم وأحسن شارتهم وهيئتهم... ولبث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجرته حتّى متع (ارتفع) النهار ثم خرج آخذاً بيد علي والحسن والحسين أمامه، وفاطمة عليها السلام من خلفهم فأقبل بهم حتّى أتى الشجرتين فوقف من بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة الّتي خرج بها من حجرته، ثم أرسل إلى وفد نجران ليباهلهم.

يدفعونها سنوياً، ثم قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«أما والَّذي نَفْسي بيده لقد تَدلّى العذابُ على أهل نجران، ولو لاعَنُوني لَمُسِخُوا قردة وخنازير، ولأضرم الواديُ عليهم ناراً، ولاستأصل اللّه تعالى نجران وأهله».

عن عائشة: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خرج (أي يوم المباهلة) وعليه مرط(1)مرجَّل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فادخله، ثم فاطمة، ثم عليُّ، ثم قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (2).(3)

ثم يقول الزمخشري في نهاية هذا الكلام: وفيه دليل لاشيء أقوى منه على فَضْل أصحاب الكساء عليهم السلام، وفيه برهانٌ على صحّة نبوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّه لم يرو أحدٌ من موافق ولا مخالف أنّهم أجابوا إلى ذلك.(4)

صورةُ العهد النبويّ لأهْل نجران

سأل وفد نجران النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يكتب مقدار الجزية الّتي اتّفق عليه دفعها من قِبَل أهالي نجران إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم في كتاب، وأن يضمن النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم أمن نجران في ذلك الكتاب، فكتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بأمر النبي كتاباً هذا نصّه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما كتبَ النبيُ محمَّدٌ رسولُ اللّه لنجران إذا كان لهُ عليهم حِكْمَةٌ في كلّ ثَمرة، وكلّ صفراء، وبيضاء، وسوداء، ورقيق وأفضل عليهم

ص:684


1- . كساء.
2- . الأحزاب: 33.
3- . مستدرك الحاكم: 147/3؛ المصنّف لابن أبي شيبة: 501/7.
4- . تفسير الكشّاف: 434/1.

وترك ذلك كلّه على: ألفي حلّة من حلل الأواقي في كلّ رجب ألف حلّة، وفي كلّ صفر ألف حلّة، لكلّ حلّة أُوقية من الفضة، فما زادت على الخراج أو نقصت على حلل الأواقي فبالحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عروض أخذ منهم بالحساب، وعلى نجران مؤنة رسلي ومتعتهم ما بين عشرين فدونه ولا يحسبن رسلي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، إذا كان كيد ومعرة وما هلك ممّا أعاروا رسلي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضامن على رسلي حتى يؤدّوه إليهم، ولنجران وحاشيتها جواراللّه وذمّة محمد النبي على أنفسهم وملّتهم، وأراضيهم، وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم، وأن لا يغيروا ممّا كانوا عليه، ولا يغير حقّ من حقوقهم، ولا ملّتهم، ولا يغيّر أُسف عن أُسقفيته، ولا راهب من رهبانيّته، ولا واقها من وقيهاه، وكلّ ما تحت أيديهم من قليل أو كثير وليس عليهم دينه، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أراضيهم جيش، ومن سأل فيهم حقّاً فبينهم النصف غير ظالمين، ولا مظلومين بنجران، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمّتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار اللّه وذمّة محمد النبي صلى الله عليه و آله و سلم أبداً حتى يأتي اللّه بأمره، وما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم.(1)

أكبر فضيلة

تعتبر واقعة المباهلة وما نزلَ فيها من القرآن، أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة على مرّ التاريخ، لأنّ ألفاظ الآية النازلة في المباهلة ومفرداتها تكشف عن مكانة

ص:685


1- . إمتاع الأسماع: 70/14؛ دلائل النبوّة للبيهقي: 389/5؛ فتوح البلدان: 77/1. ولاحظ: مكاتيب الرسول: 152/3.

ومقام مَن باهل بهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والذين يتّخذهم الشيعة قادة لهم.

فهذه الآية اعتبرت الحسن والحسين أبناء لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفاطمة الزهراء المرأة الوحيدة الّتي ترتبط برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويصدق عليها عنوان «نسائنا». وقد عبّر عن علي عليه السلام بأنفسنا فكان علي عليه السلام تلك الشخصية العظيمة بحكم هذه الآية بمنزلة نفس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ترى أية فضيلة أعظم وأسمى من أن ترتفع مكانة المرء من الناحية المعنوية ارتفاعاً وتسمو سمواً عظيماً حتّى أنّه يوصف صاحبها بأنّه بمنزلة نفس النبي(1).

أليست هذه الآية شاهد صدق على أفضلية أمير المؤمنين علي عليه السلام على جميع المسلمين.

لقد ذكر الفخر الرازي الّذي عرف الجميع أُسلوبَه في الأبحاث الكلاميّة ومواقفه من القضايا المرتبطة بالإمامة، ذكر استدلال الشيعة بهذه الآية ثم أورد على هذا الاستدلال اعتراضاً قليل الأهمية ممّا لا يخفى جوابه على أرباب العلم وأهل المعرفة.

هذا ويستفاد من الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنَّ المباهلة لا تختصّ بالنبيّ الأكرم، بل يجوز أن يتباهل كلُّ مُسْلم في القضايا الدينية مع مَنْ يخالفه ويجادلُه فيها، وقد جاءت طريقة المباهلة والدعاء المخصوص بها في كتب الحديث، وللوقوف على هذا الأمر يراجع كتاب «نور الثقلين»(2).

ص:686


1- . وقد استند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى هذه الآية في قوله: «عليٌ مني كنفسي».
2- . نور الثقلين: 351/1-352؛ وراجع أيضاً الكافي ج 513/2، كتاب الدعاء، باب المباهلة. وقد أشار العلّامة الطباطبائي في إحدى رسائله إلى هذا الموضوع أيضاً، ويعتبره من معاجز الإسلام الخالدة.

60 تاريخ المباهلة عاماً وشهراً ويوماً

اشارة

إنّ حادثة المباهلة من قضايا التاريخ الإسلامي المعروفة المتواترة الّتي جاء ذكرها في كتب التفسير، والتاريخ والحديث بصورة مبسوطة ومفصَّلة لمناسبة وأُخرى، وتتلخّصُ هذه القصّة فيما يلي:

لقد كتبَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - يوم راسَلَ ملوك العالم وأُمراءه يدعوهم إلى الإسلام - كتب كتاباً إلى أُسقف نجران «أبو حارثة» دعا فيه أهل نجران إلى الإسلام، ولما تسلّم أبو حارثة كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شاور جماعة من أصحابه، فأشاروا عليه بأن يَبْعثوا وفداً يمثّلون أهل نجران إلى المدينة، ليتفاوضوا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن قُرب.

وفعلاً قدم الوفد المذكور المدينة، والتقى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبعد مداولات ومفاوضات كثيرة اقترح النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم على ذلك الوفد المباهلة بأمر اللّه سبحانه، بأن يخرج الجميع (الطرفان) إلى الصحراء، ويدعُو كلُّ واحد من الجانبين على الآخر، فرضوا باقتراح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولكنّهم أحجموا عن المباهلة لما شاهدوا ما عليه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من حالة معنوية، وروحانية عظيمة، حيث إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اصطحب معه إلى المباهلة أربعة أنفار من أفضل أحبته وأعزّته،

ص:687

وتقرّر أن ينضوي نصارى نجران تحت مظلّة الحكومة الإسلامية وهم على دينهم شريطة أن يدفعوا جزية (وهي مبلغ ضئيل).

هذه هي خلاصة قضية المباهلة الّتي لا يستطيع إنكارها وإخفاءها أي مفسِّر أو مؤرّخ على النحو الّذي ذكر، والآن يجب أن نرى متى وفي أي يوم وشهر وعام وقعتْ هذه الحادثةُ الإسلامية الكبرى؟

عام المباهلة حسب المشهور

ذكر مؤلّف كتاب «مكاتيب الرسول» أنّه لاخلاف عند المؤرّخين في أنّ وفودهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكتاب الصُّلح لهم كان سنة عشر من الهجرة، فتكون سنة المباهلة نفس هذه السنة أيضاً؛ لأنّ كتاب الصلح هذا إنّما كتب عندما أحجم الوفد النجراني النصراني من مباهلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

وقد أدرج نصّ كتاب الصلح من مصادر عديدة.(2)

الشهر واليوم الّذي وقعت فيه المباهلة

إنّ المشهور بين العلماء هو أنّ المباهلة وقعت في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجّة، وذهب المرحوم الشيخ الطوسي إلى أنّها وقعت في اليوم الرابع والعشرين من ذلك الشهر، وروى في كتابه دعاء خاصاً في هذه المناسبة(3).

وأمّا المرحوم السيّد ابن طاووس فقد نقل حول يوم المباهلة أقوالاً ثلاثة،

ص:688


1- . لاحظ: مكاتيب الرسول: 496/2.
2- . لاحظ: مكاتيب الرسول: 152/3-171.
3- . مصباح المتهجد: 759.

وذكر بأنّ أصحّ تلك الأقوال والروايات هو القائل بأنّ يوم المباهلة هو الرابع والعشرون من شهر ذي الحجّة، وقد ذهب البعض إلى أنّه اليومُ الواحد والعشرون، بينما ذهب آخرون إلى أنّه اليوم السابع والعشرون(1).

ثم إنّه رحمه الله روى في آخر كتابه(2) قصّة المباهلة بصورة مفصّلة لم ترد في أي كتاب أو مؤلَّف آخر، ونوّه بأنّ محتويات هذا الباب اقتبست من الكتابين التاليين:

1. كتاب المباهلة تأليف أبي المفضل محمَّد بن عبد المطلب الشيباني(3).

2. كتاب عمل ذي الحجّة تصنيف الحسن بن إسماعيل بن أشناس(4).

إلى هنا اتّضح أنّ يوم المباهلة على المشهور هو اليوم الرابع والعشرون أو الحادي والعشرون أو الخامس والعشرون أو السابع والعشرون من شهر ذي الحجّة.

وأمّا رأينا حول التاريخ الدقيق لهذه الواقعة من حيث العام والسنة، فهو:

إنّ خلاصة القول هي أنَّ هذه الأقوال والآراء حول عام ويوم المباهلة لا

ص:689


1- . الإقبال: 354/2.
2- . الإقبال: 310/2.
3- . لم ينقل المرحوم السيد نسبه بصورة صحيحة، فقد ذكر النجاشي نسبه على النحو التالي: محمَّد بن عبد اللّه بن محمَّد بن عبيد اللّه بن البهلول بن همام بن المطلب وعلى هذا الأساس يكون جده المطلب وليس عبد المطلب، كما أنّه يكون المطلب جده الخامس. وتنبغي الإشارة هنا إلى أنّ لمحمَّد بن عبد اللّه - حسب ما يرى النجاشي - فترتين من الحياة، كان في إحداهما موثوقاً به، وفي الأُخرى غير موثوق به، ولهذا يقول: اجتنب الرواية عنه إلّاعندما يروي الثقات عنه أيام استقامته وصلاحه (راجع: رجال النجاشي: 396 برقم 1059).
4- . جاء ذكره في اسناد الصحيفة السجادية وهو من مشايخ الطائفة الإمامية وقد توفّي عام 460 ه وقد نقل أحاديث المباهلة (راجع الذَّريعة: 344/15).

توافق النقول التاريخية الأُخرى الّتي يتّسم بعضُها بطابع القطعية إلى حدّ بعيد، وإليك أدلّتنا على ذلك فيما يلي:

رأينا حول عام المباهلة

1. لقد جاء في ختام الكتاب الّذي بعثه النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى أُسقف نجران عبارة:

«وإنْ أبيتم فالجزية»، وقد جاءتْ لفظةُ الجزية في القرآن الكريم في سورة التوبة والظاهر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم استخدم هذه الجملة واللفظة في الكتاب المذكور اتباعاً للآية المذكورة، وقد نزلت سورة التوبة قبيل غزوة تبوك بقليل، وقد وقعت هذه الغزوة بعد شهر رجب من السنة التاسعة.

وبناء على هذا يبعد أن يكون رسول اللّه قد كتب لأهل نجران كتاباً، بعثوا بجوابه إليه صلى الله عليه و آله و سلم بعد عام ونصف العام على يد وفدِهم.

إنّ هذه الواقعة التاريخية تحكي عن أنّ هذه الحادثة قد وقعَتْ في السنة العاشرة من الهجرة.

2. اتفق كتّاب السيرة على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث عليّاً عليه السلام إلى اليمن للقضاء وتعليم الأحكام الدينية، وقد مكث عليٌ عليه السلام هناك ردحاً من الزمان لأداء مهامّه المخوّلة إليه، وعندما علم بتوجّه النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة للحج، خرج هو أيضاً إلى مكّة على رأس جماعة من أهل اليمن، فلقي النبيّ بمكّة، وقدَّم إليه ألف حلّة من البز كان قد أخذها من أهل نجران من باب الجزية الّتي فرضت وكتبت عليهم في معاهدة الصلح(1).

إن هذه القضية التاريخية تفيد أنّ واقعة المباهلة وكتابة العهد لا ترتبط بالسنة

ص:690


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1021/4؛ بحار الأنوار: 115/41.

العاشرة من الهجرة، وذلك لأنّ أهل نجران تعهدوا في وثيقة الصلح أن يدفعوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في كلّ سنة ألفي حلّة (مخيَّطة وغير مخيّطة)، ألف حلّة منها في شهر رجب، وألف حلّة أُخرى في شهر صفر(1).

فاذا سلّمنا بأنّ وثيقة الصلح كتبت في شهر ذي الحجّة وجب أن نقول إنّ المقصود منه هو شهر ذي الحجّة من الأعوام السابقة على السنة العاشرة.

لأنّه كيف يمكن أن نقول بأنّ كتابة وثيقة الصلح، وتنفيذها بواسطة الإمام علي عليه السلام قد تمّا معاً في السنة العاشرة.

وإذا ارتضينا القول المشهور حول اليوم والعام الّذي كتبت فيهما وثيقة الصلح، أمكن في هذه الصورة أن يكون عقدُ الصلح قد تمّ في السنة العاشرة، ولكن يجب أن نُرجع تاريخ كتابته إلى ما قبل شهر رجب؛ لأنّ الفرض هو أنّ الإمام علياً عليه السلام قد استلم أوّل قسط من الجزية المقرّرة في شهر رجب في السنة العاشرة.

والخلاصة: أنّه مع ملاحظة هذه القضية التاريخية (وهي أنّ الإمام علياً استلم القسط الأوّل من الجزية من أهل نجران في شهر رجب وسلمه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مكّة في شهر ذي الحجّة) وجب أن نختار أحد القولين التاليين:

ألف: إذا سلّمنا بأن يوم وشهر تنظيم وثيقة الصلح هو شهر ذي الحجّة، وجب أن نقول إنّ المقصود منه هو أشهر ما قبل السنة العاشرة.

ب: إذا تردّدنا في يوم وشهر كتابة الصلح على نحو التردّد في تحديد عامِه، أمكن في هذه الصورة أن نقول بأنّ يوم المباهلة وكذا يوم تنظيم وثيقة الصلح يرتبطان بأشهر ما قبل شهر رجب من السنة العاشرة للهجرة.

***

ص:691


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 348/1.
زمن المباهلة يوماً وشهراً

إلى هنا اتّضح أنّه من غير الممكن أن يكون عام المباهلة هو السنة العاشرة من الهجرة حتماً، إلّافي صورة واحدة وهي أن نغيّر رأينا في اليوم والشهر اللّذين تمّت فيهما كتابة وثيقة الصلح.

وقد حان الحين الآن لأن نحدّد تاريخ المباهلة من حيث اليوم والشهر في ضوء الأحداث والوقائع التاريخية، فنقول: إنّ الشهر واليوم اللَّذين وقعت فيهما قضية المباهلة هما - حسب ما هو مشهور بين العلماء كما أسلفنا - شهر ذي الحجّة واليوم الرابع والعشرون أو الخامس والعشرون وعلى قول: الحادي والعشرون، أو السابع والعشرون من ذلك الشهر.

والآن يجب أن نرى هل تنطبقُ هذه الأقوال على غيرها من الحوادث التاريخية القطعية أم لا؟

إنّ الدراسة التالية تثبتُ لنا أنّ قضية المباهلة من غير الممكن أن تكون قد وقعت في شهر ذي الحجّة من السنة العاشرة مطلقاً، لأنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد توجَّه إلى مكّة المكرّمة لتعليم مناسك الحج في السنة العاشرة من الهجرة، وفي اليوم الثامن عشر من هذا الشهر (وهو يوم الغدير) نصب في منطقة غدير خم الّتي تبعد عن الجحفة بميلين(1)، علياً خليفة على المسلمين من بعده.

ص:692


1- . «الجحفة» - على وزن طُعمة - تقع على بعد ثلاثة منازل من مكّة وسبعة منازل من المدينة، وتبعد عن البحر الأحمر بستة أميال تقريباً وتقرب من رابغ الّتي تقع الآن على الطريق بين مكّة والمدينة. راجع كتاب التحرير للنووي والتهذيب له أيضاً. هذا ويقول ياقوت الحموي في «مراصد الاطّلاع» ص 109: إنّ الجحفة تقع على بعد أربعة أميال من مكّة وهي ميقات أهل

ولم تكن حادثة الغدير بالحادثة الّتي تنتهي ذيولُها في يوم واحد ليتابع النبي سفرَه إلى المدينة فوراً؛ لأنّ النبي - بشهادة التاريخ - أمر بعد نصب علّي عليه السلام للخلافة أن يجلس عليٌ في خيمة، وأن يدخل عليه المسلمون الحاضرون ثلاثة ثلاثة، ويهنّئونه بالخلافة والإمرة، وقد استمر هذا العمل حتّى الليلة التاسعة عشرة من شهر ذي الحجّة، وقد هَنّأت «أُمهاتُ المؤمنين» عليّاً عليه السلام في نهاية مراسيم التهنئة(1).

من هنا لا يمكن القول بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غادر أرض غدير خم في اليوم التاسع عشر، خاصّة أنّ تلك المنطقة كانت المحلّ الّذي تتشعّب فيه طرق المدنيّين والمصريّين والعراقيّين، وبناء على هذا لابدَّ أنّ الجماعات المختلفة الأوطان الّتي كانت تريد التوجّه إلى أوطانها قد ودَّعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولا شكّ أنّ عملية التوديع هذه قد أوجبت مكث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الغدير مدة أطول.

وحتّى لو فرضنا - افتراضاً - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم توجّه نحو المدينة في اليوم

ص:693


1- . للتعرّف على تفصيل مراسيم التهنئة، لاحظ: موسوعة الغدير: 270/1-283.

التاسع عشر، فهل يمكن أن نقول - في ضوء المحاسبات الّتي نملكها من التاريخ حول مقدار طيّ هذه المسافة - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قدم المدينةَ في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين، وأخذ بمقدّمات قضية المباهلة ثم كتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل نجران؟، كلّا حتماً، لأنّ المسافة بين مكّة والجحفة كما ذكرنا في الهامش المتقدّم هي ثلث المسافة بين مكّة والمدينة.

ويجب أن نرى الآن كم كان يستغرقُ من الزمن مجموع سفر القوافل - آنذاك - من مكّة إلى المدينة المنوّرة؟

لا توجد هنا أيّة وثيقة توضح ذلك إلّاحديث سفر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم نفسه الّذي وضعه التاريخ تحت تصرّفنا، فإنّ التاريخ يقول: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قطع هذه المسافة عند هجرته من مكّة إلى المدينة في مدة تسعة أيام(1).

كما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قطع هذه المسافة في مدة أحد عشر يوماً(2).

وسبب التفاوت بين هاتين الرحلتين هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قطع المسافة المذكورة في الرحلة الأُولى برفقة شخصين، بينما قطع تلك المسافة في الرحلة الثانية بصحبة جيش قوامُه عشرة آلاف رجل، ومن الطبيعي أن تتمّ الحركة في الرحلة الثانية بصورة أكثر بُطئاً.

ولنفترض أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غادر أرض «غدير خم» في اليوم التاسع عشر، فإنّنا إذا اتّخذنا تسعة أيّام مقياساً لتقييمنا وجب أن نقول: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لابدّ أنّه

ص:694


1- . غادر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة مهاجراً إلى المدينة في الليلة الرابعة من شهر ربيع الأوّل، ووصل إلى محلّة «قبا» حوالي الظهر في اليوم الثاني عشر من نفس ذلك الشهر، وتدلّ القرائنُ على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قطع هذه المسافة بسرعة بسبب ملاحقة قريش له، (الطبقات الكبرى: 135/1).
2- . بحار الأنوار: 19/22.

قطع المسافة بين الجحفة والمدينة في ستة أيام؛ لأنّ المسافة بينهما هي ثلثا مجموع المسافة بين مكّة والمدينة، وبالتالي دخل المدينة في اليوم الرابع والعشرين.

وإذا اعتبرنا الثاني (أي أحد عشر يوماً) أنّه هو المقياس وجب أن يقطع تلك المسافة (أي بين الجحفة والمدينة) في سبعة أيّام ونصف اليوم، فيكون) - حسب القاعدة - قد قدم المدينة في اليوم السادس والعشرين، حوالي الظهر منه.

فهل يمكن القول - في ضوء هذه المحاسبة - بأنّ قضية المباهلة وقعت في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين أو السابع والعشرين؟!

إنّ بطلان هذا القول، وخلوّه عن الصحّة يتّضح أكثر إذا عرفنا بأنّ وفد نجران قبلوا بالتباهل بعد سلسلة من المفاوضات والمداولات، وقد انصرفوا عن التباهل في المآل ووقَّعوا على وثيقة صلح بينهم وبين النبي صلى الله عليه و آله و سلم، تحت شروط خاصّة.

فإنّ أعضاء الوفد المذكور دخلوا المدينة وهم يرتدون ثياباً راقية من الديباج والحرير، وفي أيديهم خواتيم من ذهب، وعلى صدورهم صلبان من ذهب، وتوجّهوا فور قدومهم - وعلى هذه الهيئة - إلى مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولكن النبي واجههم بالكراهة بسبب الهيئة الّتي دخلوا بها عليه.

فانتهى هذا اللقاء من دون عمل شيءٍ وتفرّق أعضاء الوفد، وهم في حيرة من موقف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فالتقى الوفد علياً عليه السلام وسألوه عن سبب استياء النبي وإعراضه عنهم، فأخبرهم الإمام عليٌ عليه السلام بأنّ عليهم أن ينزعوا تلك الثياب والحليّ عنهم، ويدخلوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بثياب عادية حتّى يرتاح إليهم النبيُّ ويستقبلهم بوجه منبسط.

فعاد أعضاء الوفد ودخلوا على النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثانية، ولكن بثياب عادية خالية

ص:695

عن الزينة والحليّ، فاستقبلهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ببشاشة خاصّة، ورحّب بهم ترحيباً كبيراً، ثم سألوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يؤدّوا صلاتهم في المسجد، فأذن لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك، ثم دخلوا مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم في مناظرات ومناقشات مفصّلة، ذكرها أكثر المفسّرين والمؤرّخين ومنهم ابن هشام في سيرته(1)، اتّفقوا على أن يحسموا الأمر بالمباهلة، وحُدِّدَ يوم المباهلة.

ولمّا كان ذلك خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك اليوم مع ابنته الزهراء وصهره عليّ بن أبي طالب، وسبطيه الحسن والحسين، إلى الصحراء للمباهلة مع وفد نجران.

ولكن وفد نجران بعد أن رأوا النبي ومن معه وماهم عليه من البساطة والجلال، انصرفوا عن الدخول في المباهلة ورضخوا طائعين لدفع جزية سنوية إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فهل هذه الوقائع الّتي استغرقت - كما يقول بعض المؤرّخين - أربعة مجالس يمكن أن تكون قد تمّت في يوم واحد؟!

إنّ المحاسبات تقضي وتفيد بأنّ مراسيم المباهلة، وكتابة وثيقة الصلح من غير الممكن أن تكون قد وقعت في اليوم الواحد والعشرين أو الرابع والعشرين، أو الخامس والعشرين أو السابع والعشرين من شهر ذي الحجّة من السنة العاشرة للهجرة.

هذا مضافاً إلى أنّ «نجران» مدينة حدودية بين الحجاز واليمن، ولابد أنّ تردّد القبائل كان من شأنه أن ينقل إلى مسامع النجرانيّين أنباء وجود رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مكّة لأداء مناسك الحج، ولهذا فإنّ من المستبعد أن يكون وفد نصارى

ص:696


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 412/2؛ مجمع البيان: 309/2-310.

نجران قد أقدم على التوجّه إلى المدينة للحضور عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل التأكُّد الكامل من عودته إلى المدينة والاستقرار الكامل فيها.

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟

هنا يمكن أن يقال بأنّ قضية المباهلة وقعت في شهر ذي الحجّة من السنة التاسعة، وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض المؤرخين أيضاً(1).

ولكن المحاسبات التاريخية تثبت أيضاً بطلان هذا الرأي، وذلك لأنّ الإمام عليّاً عليه السلام الّذي كان من الشاهدين لقضية المباهلة، كما أنّه هو الّذي كتب وثيقة الصلح بيده الشريفة، كان قد كلِّف في التاسع من شهر ذي الحجّة من هذه السنة (التاسعة) من قِبَل النبي صلى الله عليه و آله و سلم بمهمة إبلاغ آيات البراءة إلى المشركين في يوم الحج الأكبر بمنى، وفي الحقيقة كانت السنة الثانية الّتي كانت قد أنيطت إمارة الحج وإدارة أمر الحجيج إلى المسلمين، وكان قد اختير أمير المؤمنين أميراً على الحج فيها.

ونحن نعلم أنّ مناسك الحج تنتهي في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجّة، ولاشكّ أنّ شخصية بارزة ومسؤولة كالإمام علي عليه السلام الّذي كان يرأس الحج

ص:697


1- . جاء ذكر هذا عند تفسير سورة التوبة. نقل صاحب الغدير: في ج 6 ص 318-321 هذا الرأي من اثنين وسبعين شخصاً من علماء السنّة، وكأنّ قضية المباهلة بين النبي ووفد نجران وقعت في آخر هذه السنة (التاسعة)، لأنّه ورد أنّ هذا الأمر قد تمّ في شهر ذي الحجّة بعد فتح مكّة، ولابد أنّ المراد بذي الحجّة ليس هو ذو الحجّة من عام حجّة الوداع وهي السنة العاشرة الّتي وقعت فيها قضية الغدير، فإذن هو ذو الحجّة من السنة السابقة على عام الغدير واستغرقت أربعة مجالس (بتلخيص).

في ذلك العام، من غير الممكن أن يكون قد غادر مكّة في اليوم الثالث عشر ويتوجّه إلى المدينة وهو الّذي كانت له أقرباء وأنسباء كثيرون في مكّة، هذا مضافاً إلى أنّ حركة الحجيج لم تكن في تلك العصور حركة انفرادية حتّى يستطيع كلُّ واحد منهم أن يقطع الفيافي القفراء والصحاري القاحلة الموحشة بمفرده، فكان على مَن يريدون الحج أن يتوجَّهوا بصورة جماعية إلى مكّة أو يغادروها إلى بلادهم.

ولهذا فإنّ عليّاً عليه السلام مهما أسرع وجدّ في السير قافلاً إلى المدينة، وقطع المسافة بين مكّة والمدينة بسرعة فائقة، فإنّه من غير الممكن أن يكون قدم المدينة قبل اليوم الرابع والعشرين، ولهذا كيف يمكن أن يقوم بارشاد وفد نجران ودلالتهم على ما يجب أن يفعلوه حتّى يستقبلهم النبي ببشاشة ويرحّب بهم، ويشهد المباهلة مع المتباهلين؟!

إنّ الشواهد والأدلّة التاريخية تشهد بأنّ النظرية المشهورة حول زمن المباهلة (يوماً وشهراً وعاماً) لا تحظى بالاعتبار الكافي، ولابدَّ - لمعرفة زمن هذه الحادثة الّتي هي من مسلّمات القرآن والتفسير والحديث - من مزيد التحقيق، ومزيد الدراسة، والتقصّي.

وهنا يبقى سؤالٌ لابدَّ من الإجابة عنه وهو: كيف اختار المشهورون من العلماء مثل هذه النظرية حول يوم المباهلة وشهرها وعامها؟

والجواب هو: أنّ المرحوم الشيخ الطوسي اختار هذا القول استناداً إلى رواية مسندة نقلها في كتابه، ولكن في سند الحديث المذكور رجالاً غير ثقات في نظر علماء الرجال، نظراء:

1. محمَّد بن أحمد بن مخزوم - أُستاذ التلعكبري في الحديث - فهو ممّن لم

ص:698

يوثَّق(1).

2. الحسن بن علي العدويّ وقد ضعّفه العلّامة(2).

3. محمَّد بن صدقة العنبري وقد وصفه الشيخ الطوسي بالغلوّ(3).

وقد ذكر المرحوم السيد ابن طاووس في كتاب «الاقبال» أُموراً تتعلّق بالمباهلة نقلاً عن كتاب أبي المفضل، وقد ذكرنا في الهامش (ص 689) أنّ أبا المفضل له فترتان في حياته، فهو موثق في حال وغير موثق في حال آخر، ولا يُدرى في أي حال من الحالين كتب أبو المفضل قضايا المباهلة، وأخذها عنه العلماء.

كما أنّ السيّد استند في كتابه المذكور على حديث مرفوع (وهو ما فيه نقص في رجال سنده)، وذكر في ضوئه أنّ يوم المباهلة هو اليوم الرابع والعشرون، في حين لا تقوم مثل هذه الرواية بإثبات المدّعى.

ص:699


1- . وإن حاول المامقاني توثيقه في تنقيح المقال: 74/3 برقم 10349 حيث قال: وظاهره كونه إمامياً وكونه شيخ إجازة بدرجة في الحسان.
2- . رجال العلّامة: 215 برقم 16، الباب الأوّل من الفصل السادس، القسم الثاني.
3- . رجال الشيخ الطوسي: 343 برقم 5107.

61 1. تقييم البراءة من المشركين 2. وفود القبائل في المدينة

اشارة

تركت البراءة القوية الّتي أعلنها أمير المؤمنين علي عليه السلام في موسم الحج في السنة التاسعة بمنى بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والّتي أعلن فيها بصراحة وبصورة رسمية:

إنّ اللّه ورسوله بريئان من المشركين والوثنيّين، وأنّ على المشركين أن يضعوا حدّاً لشركهم خلال أربعة أشهر فإمّا أن يسلّموا ويكفّوا عن عبادة الأصنام ويهجروها، وإمّا أن يستعدوا لمواجهة شاملة.

لقد ترك إعلان هذه البراءة الصريحة أثره العميق والسريع، فقد ارتبكت القبائلُ العربية القاطنة في شتّى أنحاء الجزيرة العربية الّتي كانت بسبب عنادها ولجاجتها ترفض الخضوع لمنطق القرآن والاستجابة لنداء التوحيد وتصرّ على المضيّ في عاداتها الشنيعة، والعكوف على الاوهام والخرافات وعبادة الأصنام والأوثان.

لقد ارتبكت هذه القبائل، على أثر تلك البراءة الصريحة القوية، فعمدت إلى إيفاد وفود ومندوبين من جانبها إلى المدينة عاصمة الإسلام، وقد دار بين كلّ واحد

ص:700

من هذه الوفود وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حوار خاص.

وقد ذكر ابن سعد في «الطبقات الكبرى»(1) مواصفات وخصوصيات اثنين وسبعين وفداً من تلك الوفود.

إنّ توافد هذه البعثات والوفود العجيب وخاصّة في أعقاب إعلان البراءة يكشف عن أنّ مشركي العرب فقدوا في السنة العاشرة من الهجرة كلّ حصن يمنعهم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإلّا لكانوا يلجأون إليه، ويتظاهرون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولم تنته المدة المضروبةُ (أربعة أشهر) بعد إلّاودخلت كلّ مناطق الحجاز وكلّ أقوامها تحت راية التوحيد، ولم يبق في الحجاز بيت تعبد فيه الأصنام والأوثان ظاهراً حتّى أن فريقاً من سكان اليمن والبحرين واليمامة انتبهوا إلى الإسلام فأقبلوا عليه واعتنقوه.

محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه و آله و سلم

عُرفت قادةُ بني عامر من بين القبائل العربية - يومئذ - بالشرّ والطغيان، وقد اعتزم ثلاثة اشخاص منهم، هم: «عامر» و «أربد» و «جبار» على أن يدخلوا المدينة على رأس وفد من بني عامر، ويتظاهروا بالتفاوض مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ثم يغدروا به في المجلس ويغتالوه.

وكانت الخطّة تقضي: بأن يتحدّث «عامرٌ» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويفاوضه، وفيما هويفعل ذلك يبادر «أربد» إلى ضرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بسيفه.

ولم يخبر بقية أعضاء الوفد بنوايا هؤلاء الثلاثة وخطّتهم، ولهذا أعلنوا

ص:701


1- . الطبقات الكبرى: 291/2-330.

لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن رغبتهم الصادقة في الإسلام، ووفائهم لشخص النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولكنّ «عامراً» أحجم عن أي نوع من أنواع التظاهر بالإسلام في ذلك المجلس، وكان يصرّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يخلو به في مكان آخر ليتحدّث معه على انفراد تمهيداً لتنفيذ الخطّة المشؤومة، وهو ينظر إلى «أربد» وينتظر منه ما كان أمره به واتّفقا عليه، ولكن لا يزداد نظراً إلى «أربد» إلّاويزداد «أربد» حيرة ودهشة، هذا ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول لعامر كلّما قال: خالِّني: لا واللّه حتّى تؤمن باللّه وحده لا شريك له.

فلمّا أيس «عامر» من «أربد»، وكأنّ «أربداً» كلّما عزم أن يجرد سيفه ويهجم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هاب النبي، ومنعته عظمته ومهابته، فانصرف عن نيّته، قال عامر وهو يترك مجلس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: أما واللّه لأملأنّها عليك خيلاً ورجالاً، وهو بذلك يكشف عن عناده وعتوه.

فقابله رسول اللّه بحلم كبير، ولم يرد على كلامه وتهديده وإنّما اكتفى بأن دعا عليه وعلى صاحبه بعد أن غادرا مجلس النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد استجاب اللّه لدعاء نبيه سريعاً، فقد خرج هو وصاحبه راجعين إلى بلادهم حتّى إذا كانا في أثناء الطريق بعث اللّه الطاعون في عنق «عامر» فقتله ذلك المرض الوبيء في بيت امرأة من بني سلول في صورة فضيعة، وحالة سيئة.

وأمّا «أربد» فأرسل اللّه عليه وعلى جمله صاعقة وهو في الصحراء فأحرقتهما، وقد تسبّبت هاتان الحادثتان الفضيعتان اللّتان أصابتا عدوَّين لدُودين من أعداء النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أن يزداد تعلّقُ بني عامر برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويتضاعف حبهم له صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

ص:702


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 991/4-992؛ السيرة الحلبية: 245/3.
أمير المؤمنين في ربوع اليمن

لقد مكّن إقبال أهل الحجاز على الإسلام وأمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم جانب القبائل العربية، مكّن النبي من العمل على مدّ شعاع الإسلام إلى البلاد المتاخمة للحجاز.

فكان أوّل ما فعل صلى الله عليه و آله و سلم في هذا الصعيد هو بعث أحد أصحابه العلماء وهو «معاذ بن جبل» إلى اليمن ليبلِّغَ إلى أهلها نداء التوحيد ويشرح لهم معالم الإسلام وتعاليمه المقدّسة، وقد أوصاه بوصايا كثيرة ومفصّلة منها قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«يَسِّرْ ولا تُعَسِّر، وَبَشِّرْ وَلا تُنَفّر، وَإنَّكَ ستقدِمُ عَلى قَومٍ مِن أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة: فقل شهادة أنْ لا اله الّا اللّه وحده لا شريك له».(1)

ويبدو أنّ معاذاً رغم أنّه كان ملمّاً بالكتاب العزيز والسنّة النبوية وتعاليمها وأحكامها، إلّاأنّه لمّا سألته أمرأة عن حقّ الزوج على الزوجة لم يملك لها جواباً مقنعاً، ولهذا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يوجّه إلى اليمن تلميذه المتميّز «علي بن أبي طالب» عليه السلام حتّى يتمكّن في ضوء دعوته الدائبة، وأحاديثه المبرهنة، وما يمتلك من شجاعة أدبية نادرة، وقوّة عقلية متميّزة من نشر الإسلام العظيم في تلك الربوع.

هذا مضافاً إلى أنّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم كان قد بعث «خالد بن الوليد» إلى اليمن من قبل ليزيل المشكلات الّتي كانت تعرقل تقدّم الإسلام في تلك الديار، ولكنّه لم يُوفَّق في مدة بقائه لعمل شيء في هذا المجال(2).

ص:703


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1010/4.
2- . لاحظ: صحيح البخاري: 110/5، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن؛ البداية والنهاية: 120/5.

فاستدعى النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم علياً عليه السلام وأخبره بأنّه يريد أن يذهب إلى اليمن ليدعو أهلها إلى الإسلام، وليخمّس ركازهم، ويعلّمهم الأحكام، ويبيّن لهم الحلال والحرام، وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم، فقال عليٌّ عليه السلام بتواضع بالغ:

«يا رَسولَ اللّه تبعثني وأنا شابٌّ أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء؟» أي ما فعلتهُ قبل هذا.

فضرب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيده في صدر عليّ عليه السلام وقال:

«اللَّهمَ أهدِ قَلبَه وثَبِّتْ لسانَه».(1)

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«يا علّي لا تقاتِلَنَّ أحداً حتّى تدعوه، وأيمُ اللّه لئن يَهديَ اللّهُ على يَديكَ رَجُلاً خيرٌ لكَ ممّا طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي».(2)

ثم أوصاه صلى الله عليه و آله و سلم بوصايا أربع هامّة إذ قال:

يا علي أُوصيك:

1. بالدُّعاء فإنّ معه الإجابة.

2. وبالشكر فإنَّ معه المزيد.

3. وإيّاك أن تخفِرَ عهداً أو تعين عليه.

4. وأنهاك عن المَكر، فإنّه لا يحيقُ المكر السيّئ إلّابأهله، وأنهاك عن البغي،

ص:704


1- . الطبقات الكبرى: 337/2؛ إمتاع الأسماع: 294/11؛ بحار الأنوار: 360/21.
2- . الكافي: 28/5 ح 4؛ بحار الأنوار: 361/21 ح 3.

فإنّه من بُغي عليه لينصرنّه اللّه».(1)

ولقد بقي علي عليه السلام يقومُ بالقضاء طيلة أيّام إقامته في اليمن بصورة عجيبة محيّرة، وقد دُونت أكثر أقضيته في كتب التاريخ والحديث.

هذا ويروي «البراء بن عازب» وكان من الذين صحبوا علياً عليه السلام في سفره هذا إلى اليمن أنّه لمّا انتهى عليٌّ عليه السلام ومن معه إلى أوائل أهل اليمن، وبلغ القوم الخبر، فخرجوا إليه، صفَّ عليٌّ عليه السلام الجنود الذين كانوا قد استقرّوا هناك من قبل بقيادة خالد بن الوليد، ثم صلّى بهم صلاة الفجر، ثم دعا قبيلة همدان كلّها، وكانت أكبر القبائل اليمنية، ليقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فحمد اللّه، وأثنى عليه، ثم قرأ على القوم كتابَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأسلَمتْ همدانُ كلُّها في يوم واحد متأثّرة بجلال المشهد، وحلاوة البيان، وعظمة المنطق النبوي؛ فكتبَ أمير المؤمنين عليه السلام بذلك إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا قرأ كتابه استبشر وابتهج وخرَّ ساجداً شكراً للّه تعالى، ثم رفع رأسه وجلس وقال:

«السلام على هَمْدان» يقوله ثلاثاً.

ثم تتابع - على أثر إسلام همدان - أهلُ اليمن على الإسلام(2).

ص:705


1- . أمالي الطوسي: 597 برقم 1239؛ بحار الأنوار: 361/21 ح 4.
2- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 300/2، بحار الأنوار: 360/21-363.

62 حجّة الوداع

اشارة

تُعتبر مراسيم الحج ومناسكه من أعظم العبادات الإسلامية الجماعية التي يؤدّيها المسلمون، جلالاً وأُبّهة؛ وذلك لأنّ أداء مراسيم الحج ومناسكه في كلّ سنة مرة واحدة، يُمثِّلُ بالنسبة للأُمّة الإسلامية أكبر مظاهر الاتّحاد، والوحدة ودليلاً كاملاً على الترفّع عن المناصب والدرجات وتكونُ نموذجاً بارزاً للمساواة بين جميع أبناء البشر، وسبيلاً إلى تقوية أواصر الأُخوة المتينة بين المسلمين، فإذا كان المسلمون لا ينتفعون بهذه المائدة الكبرى الّتي منحها ربُّهم لهم، وإذا كانُوا لا يستفيدون من هذا المؤتمر الإسلامي السنوي العظيم (الّذي يمكنه بِحقٍّ أن يجيبَ ويعالج الكثير من مشكلاتنا الاجتماعية، ويكون نقطة تحوّل عميق في حياتنا) استفادة كاملة لائقة، فإنَّ ذلك ليس - وبدون ريب أو شك - ناشئاً من قصور في القانون الإسلامي، بل هو دليلٌ على قصور قادة المسلمين وتقصير حُكّامهم الذين لا يُولون هذه المراسم وهذا الموسم العظيم اهتماماً مناسباً، ولا يفكّرون في استغلاله على الوجه المطلوب.

فمنذ أن فرغ إبراهيم الخليل عليه السلام من إقامة صرح الكعبة المعظَّمة ودعا الموحِّدين إلى زيارتها، والحج إليها لم تزلْ هذه البنية الشريفة كعبة القلوب،

ص:706

ومطاف الشعوب والأقوام والجماعات الموحّدة الّتي تأتي إليها كلّ عام من شتّى نقاط العالم، ومن مختلف أنحاء الجزيرة العربية، ويؤدُّون عندها المناسك الّتي علّمها إيّاهم النبيُّ العظيمُ إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا السَّلام.

ولكن تقادُم العهد، وانقطاع شعب الحجاز عن قيادة الأنبياء، وأنانية قريش، وسيادة الوثنية على عقول العرب أوجب أن تتعرّض مراسم الحج ومناسكه - من حيث الزمان والمكان - لعملية تحريف وتغيير، وأن تفقد صبغتها الحقيقية ووجهها الواقعيّ.

لهذه الجهات أُمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة العاشرة من الهجرة، ومن قِبَل اللّه سبحانه أن يشارك في مراسم الحج شخصياً، ويقوم بتعليم مناسك الحج للناس، ويوقفَهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عملياً، كما يقوم بإزالة كلّ ما عَلِق بها من زوائد طيلة السنوات الغابرة، ويعيّنُ حدود «عرفات» و «منى» ويوم الإفاضة منها، ولهذا فإنّ السفر كان سفراً ذا طابع تعليمي، قبل أن يكون ذا طابع سياسيّ واجتماعي.

أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الشهر الحادي عشر من العام العاشر للهجرة (أي شهر ذي القعدة) بأن ينادى في المدينة وبين القبائل بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقصد مكّة للحج هذا العام، فأحدث هذا الإعلان شوقاً وابتهاجاً عظيمَيْن في نفوس جمع كبير من المسلمين، فتهيّأ عددٌ هائلٌ منهم لمرافقة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وضربت مضارب وخيم كثيرة خارج المدينة المنورة بانتظار حركة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وتوجَّهه إلى مكّة(1).

وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ذي القعدة خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من

ص:707


1- . لاحظ: المغازي: 1088/2؛ السيرة الحلبية: 307/3.

المدينة متوجّهاً إلى مكّة، وقد استخلف مكانه في المدينة أبا دجانة الأنصاري، وقد ساق معه ما يزيد عن ستين بدنة.

وعندما بلغ الموكب النبويُ العظيمُ إلى «ذي الحليفة» (وهي نقطة فيها مسجد الشجرة أيضاً) أحرم بلبس قطعتين عاديتين من القماش الأبيض من مسجد الشجرة، ودخل الحرم، ولبّى عند الإحرام قائلاً:

«لَبَّيْكَ اللَّهمَ لَبَّيْك، لَبّيْكَ لا شَريْكَ لَكَ لَبّيْك، إنَّ الحَمد والنعمة لك والملكَ، لَبَّيْكَ لا شركَ لَكَ لَبَّيْكَ».

وهو بذلك يلبّي نداء إبراهيم، كما أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يكرّر هذه التلبية كلّما شاهد راكباً، أو علا مرتفعاً من الأَرض، أو هبط وادياً.

ولمّا شارف مكّة قطع التلبية المذكورة.

وفي اليوم الرابع من شهر ذي الحجّة، دخل صلى الله عليه و آله و سلم مكّة المكرمة وتوجّه نحو المسجد الحرام رأساً، ثم دخله من باب بني شيبة وهو يحمد اللّه ويثني عليه ويصلّي على إبراهيم عليه السلام.

ثم بدأ من الحجَر الأسود فاستلمه(1) أوّلاً، ثم طاف سبعة أشواط حول الكعبة المعظّمة، ثم صلّى ركعتين خلف مقام ابراهيم، وعندما فرغ من صلاته سعى

ص:708


1- . المراد من الاستلام هو مسح الحجر الأسود باليدين قبل الشروع بالطواف، وفلسفة هذا العمل هي أنّ هذا الحجر كان يقف عليه إبراهيم لدى بناء جدران الكعبة وإقامتها ورفعها، واستلامُه نوعٌ من تجديد الميثاق مع الخليل عليه السلام والعمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل إبراهيم. ولقد اعتمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الفترة المدنية مرتين: إحداهما في السنة السابعة والأُخرى في السنة الثامنة بعد فتح مكّة، وكانت هذه ثالث عمرة يقوم بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع الحج (الطبقات الكبرى: 174/2).

بين الصفا والمروة(1) ثم التفت إلى حجاج بيت اللّه الحرام وقال:

«مَنْ لَمْ يَسُقْ منكُمْ هَدياً فَلْيُحلَّ وليَجْعَلها عُمرة (أي فليقصِّر، أي يأخذ من شعره وظفره فيحلّ له ما حرم عليه بالإحرام) ومَن ساق منكُمْ هَدياً فَليُقِمْ على إحرامه».

وقد كرهَ البعضُ هذا واعتذَروا بأنّه يعزُّ عليهم (أو لا يلذُّ لهم) أن يخرجوا من الإحرام فيحلّ لهم ما يحرم على المحرم فيلبسوا الثياب ويقربوا النساء ويتدهّنوا ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على إحرامه أشعث أغبر.

وربّما قالوا: لا يصحَّ هذا، كيف تقطر رؤوسنا من الغسل(2) ونحنُ زوّار بيت اللّه؟

فالتفت النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى عُمر وكان ممّن بقي على إحرامه وقال له: مالي أراك يا عمر مُحرماً؟ أسقتَ هدياً؟

قال عُمر: لم أسُقْ.

فقال النبيُ: فَلِم لا تُحِلّ وقد أمرتُ مَن لَم يَسُقْ بالإحْلال؟

قال عمر: واللّه يا رسول اللّه لا أحلَلْتُ وانت محرمٌ.(3)

فغضب النبيُ لموقف الناس المتلكّئ هذا وقال:

«لو كنتُ استقبلتُ من أمري ما استَدْبَرتُ لَفعلْتُ كما أمرتُكم».

ص:709


1- . الصفا والمروة جبلان على مقربة من المسجد الحرام، والسعي هو المشي بينهما ابتداء من الصفا وانتهاء بالمروة.
2- . هذه العبارة كناية عن مقاربة الأزواج وغسل الجنابة؛ لأنّ مقاربتهن هي إحدى محرّمات الإحرام وترتفع هذه الحرمة بالتقصير وهو أخذ شيء من شعر الرأس أو اللحية أو تقليم الظفر.
3- . لاحظ: إرشاد المفيد: 173/1-174؛ بحار الأنوار: 385/21-386.

وهو صلى الله عليه و آله و سلم يعني: أنّني لو كنتُ أعلم بالمستقبل، ولو عرفت بموقف الناس المتردّد وخلافهم هذا من قَبْل لما سقتُ الهدي، ولفعلتُ ما فعلتموه من عدم سوق الهدي، ولكن ماذا عساي أن أفعل الآن وقد سقتُ الهدي، ولا يمكنني الإحلالُ من الإحرام، فيجبُ عليَّ أن أبقى على إحرامي «حتّى يبلغ الهدْيُ مَحِلَّه» أي أنحرُ هديي بمنى كما أمر اللّه سبحانه، وأمّا أنتم فمَنْ لِم يَسُق الهديَ منكم فإنَّ عليه أن يُحلَّ إحرامه، واحسبوها عمرة، ثم أحرموا للحج مرة أُخرى(1).

الإمام علي عليه السلام يعود من اليمن

لمّا علم علي عليه السلام بتوجّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة للمشاركة في مراسم الحج، خرج هو وجنوده وقد ساق معه (34) هدياً للمشاركة في الحج، واصطحب حُلَلا من بزّ اليمن وحريرها قد أخذها من أهل نجران، وهي الجزية الّتي تقرَّر دفعُها إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد تعجّل عليٌّ عليه السلام إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واستخلف على جنده الذين خرجوا معه إلى الحج رجلاً من أصحابه لقيادتهم حتّى مكّة، فالتحق برسول اللّه ولقيه على مشارف مكّة، فسرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم به، وبما أحرزَه من نجاحات في مهمّته الّتي بعثه بها إلى أرض اليمن، وقد أخبر بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم على وجه التفصيل.

فلمّا فرغ من الخبر عن سفره قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: انطلِقْ فطفْ بالبيت، وحِلَّ كما حلَّ أصحابك.

ص:710


1- . وهذه القصّة توقفنا على تعنّت فريق من الصحابة وتمرّدهم على تعليمات النبي وأوامره الأكيدة، وهم يعلمون أنّه لا ينطق عن الهوى إن هو إلّاوحيٌ يوحى، وثمة شواهد وموارد أُخرى كثيرة على الموضوع، وقد جمعها المغفور له العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي في كتابٍ أسماه «النص والاجتهاد».

فقال علي عليه السلام: يا رسول اللّه إنّي أهللتُ كما أهللت.

فقال: ارجع فاحلل كما حلّ أصحابك.

فقال علي عليه السلام: يا رسول اللّه إني قلتُ حين أحرمتُ: اللَّهمَ إني اهلُّ بما أهلَّ به نبيُّك وعبدُك ورسولُك محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم.

قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: فهل مَعَكَ من هدي؟

قال علي: لا.

فأشركه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هديه، وثبت على إحرامه مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى فَرغا عن الحج ونحر رَسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الهديَ عنهما.(1)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر علياً عليه السلام بأن يرجع إلى جنوده الذين فارقهم، ويصطحبهم إلى مكّة، فلمّا رجع علي عليه السلام إليهم وجد أن الرجل الّذي استخلفه على أُولئك الجنود قد عمد فكسا كلّ رجل من القوم حلّة من البزّ الّذي كان قد أخذه عليٌ من أهل نجران ليسلّمها إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فانزعج من هذا التصرّف غير المشروع وقال له: ويلك ما هذا؟

قال: كسوتُ القوم ليتجملّوا به إذا قدموا في الناس بمكّة، فقال علي عليه السلام:

ويلك! أنزع قبل أن تنتهي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فانتزع ذلك الرجل الحلل من الجنود، وردّها إلى مكانها مع الأشياء الأُخرى من جزية أهل نجران.

فانزعج جماعةٌ من أُولئك الجنود ممّن يزعجهم العدل والنظام دائماً، ويريدون أن تسير الأُمور وفق أهوائهم ومشتهياتهم وإن خالفت سنن

ص:711


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1021/4؛ السيرة الحلبية: 318/3. إنّ هذا يدلّ على أنّ النية الإجمالية كافية، ولا يلزم وقوف الناوي على تفاصيل العمل وجزئياته.

الحقّ ومبادئ العدالة، وأبدوا شكواهم من ما صنع بهم من استرداد الحُلل والثياب.

ولمّا قدموا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمكّة اشتكوا عليّاً عليه السلام فقام رسول اللّه خطيباً في الناس وقال:

«أيّها الناس، لا تشكوا عليّاً، فواللّه إنّه لأخشن في ذات اللّه (أو في سبيل اللّه) مِنْ أن يشكى»(1).

شروع مراسِمُ الحج

انتهتْ أعمالُ العمرة، وكان النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يكره أن ينزل ويمكثَ في دار أحد في المدة الّتي بين العمرة والحج، ولهذا أمر بأن تُضرب له خيمة خارج مكّة.

لقد حلَّ اليوم الثامن من شهر ذي الحجّة، فخرجَ زوّار بيت اللّه الحرام في ذلك اليوم من مكّة إلى أرض عرفات ليقفوا في اليوم التاسع وهو يوم عرفة من ظهر ذلك اليوم وحتّى الغروب منه.

وقد قصَدَ النبي عرفات أيضاً في اليوم الثامن من شهر ذي الحجّة (الّذي يُدعى يوم التروية أيضاً) من طريق منى، وتوقّف في «منى» إلى طلوع الشمس من اليوم التاسع ثم ركب بعيره، وتوجّه نحو عرفات، ونزل في خيمة كانت قد ضربت له في مكان يُدعى «نمرة».

وقد ألقى في ذلك الاجتماع الهائل خطاباً تاريخياً هامّاً وهو على ناقته.

ص:712


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1022/4. وفي بحار الأنوار: 385/21: أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم منادياً أن ينادي في الناس: «ارفعوا ألسنتكم عن عليٍّ فإنّه خشنٌ في ذات اللّه غير مداهن في دينه».
خطابُ النبيّ التاريخي في حجّة الوداع

... في ذلك اليوم الّذي كانت عرفات تشهد فيه اجتماعاً عظيماً وحَشْداً بشرياً هائلاً، لم يشهد مثله شَعْبُ الحجاز من قبل حتّى ذلك اليوم، كان نداءُ التوحيد وشعار الإسلام يدوّي في ربوع تلك المنطقة الّتي كانت فيما مضى من الزمان موطن المشركين ومسكن الوثنيّين، ولكنّها قد تحوّلت الآن إلى قاعدة الموحِّدين، وملتقى عباد اللّه المؤمنين.

في هذه المنطقة بالذات (أي أرض عرفات) نزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصلّى الظهر والعصر وهو يؤُمُ مائة ألف، ثم خطب فيهم خطابَهُ التاريخيّ وهو راكب على راحلته، وكان أحد أصحابه - وكان رفيع الصوت قويه - وقيل: هو ربيعة بن أُميّة بن خلف(1)، قال: يقول له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

«قُلْ يا أيّها الناسُ إنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: هَل تدرون أيّ شهر هذا»؟

فيقولون: الشهرُ الحرام. فيقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم لربيعة:

«قُلْ لَهُمْ: إنّ اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكمْ إلى أن تَلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا».

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم لربيعة:

«قل: يا أيّها الناسُ إنّ رسول اللّه يقول: هلْ تدرون أيّ بَلد هذا؟».

فأجابوا جميعاً: البلدُ الحرام. فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لربيعة:

«قل لَهُمْ: إنّ اللّه قد حَرَّم عليكُمْ دماءكم وأموالكمْ إلى أن تَلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا».

ص:713


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1023/4.

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم لربيعة:

«قُلْ: يا أيّها الناس إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: هل تَدرُون أي يوم هذا؟».

فأجابوا بأجمعهم: يوم الحج الاكبر.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لربيعة:

«قُل لَهُمْ: إنّ اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربَّكم كحرمة يومكم هذا».(1)

وفي رواية أُخرى:... فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس اسمعوا قولي، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً.

أيّها الناس إنّ دماءكم وأموالكم(2) عليكم حرام إلى أن تَلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا.

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«وَإنّكُمْ ستَلْقونَ ربَّكُمْ فيسالُكم عَن أعمالكمْ، وَقَد بلّغتُ، فَمَن كانت عندَهُ أمانة فليؤدِّها إلى من ائتمنَهُ عليها.

وَإنَّ كلّ رباً موضوعٌ ولكن لكم رؤوسُ أموالكم لا تَظلِمُونَ ولا تُظلَمون.

قضى اللّه أنّه لا ربا، وإنَّ ربا العباس بن عبد المطلب موضوعٌ كلُّه، وإنّ كلّ دم كان في الجاهلية موضوع، وإنّ أوّل دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - وكان مسترضعاً فى بني ليث، فقتلته هذيل - فهو أوّل ما أبدا به من دماء الجاهلية.

ص:714


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1023/4-1024.
2- . في الخصال: 487/2 بزيادة: وأعراضكم.

أمّا بعد أيّها الناس فإنّ الشيطان قد يئس مِن أنْ يُعبَد بأرضكم هذه أبداً، ولكنّه إن يُطَع فيما سوى ذلك فقد رضيَ به ممّا تحقرون من أعمالِكُمْ (أو رضي منكُمْ بمحقَّرات الأعمال)، فاحذرُوه على دينكم.

أيّها الناس إنَ النسيء(1) زيادةٌ في الكفر، يُضلّ به الذين كَفَروا يُحلّونه عاماً ويحرِّمُونَهُ عاماً ليواطِئُوا عِدَّة ما حرّم اللّه، فَيحلّوا ما حرّم اللّه ويُحرّموا ما أحلَّ اللّه، وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأَرض، وإنّ عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرُمٌ، ثلاثةٌ متوالية: (ذو القِعدة، وذو الحجّة، وشهر المحرم) ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان.

أمّا بعد أيّها الناس إنّ لكم على نسائكم حَقّاً، ولهنّ عليكم حقّاً:

لكم عليهن أنْ لا يوطئن فُرشَكُمْ أحداً تكرهونه (أيْ لا يضيِّفن في بيوتكم مَن تكرهونه).

وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلنَ فإنّ اللّه قد أذن لكم أن تهجُروهنَّ في المضاجع، وتضربُوهُنَّ ضرباً غير مبرَّح، فإن انتهين فلَهُنَّ رزقُهُنَّ وكسوتُهنَ بالمعروف، واستَوصُوا بالنساء خيراً، فإنَّهنَ عندكم عَوان لا يملكن لأنفسهنَّ شيئاً، وإنّكم إنّما أخذتُمُوهُنَّ بأمانة اللّه، واستحللتم فروجَهُنَّ بكلمات اللّه، فاعقلوا أيّها الناسُ قولي فإنّي قد بلّغتُ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتُمْ به فلنْ تَضِلُّوا أبداً أمراً بَيّناً: كتاب اللّه وسنّة نبيّهِ (2).

ص:715


1- . شرحنا النسيء في ص 57 من الجزء الأوّل من هذا الكتاب فراجع.
2- . لقد أوصى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأُمّة في هذه الخطبة التاريخية بالكتاب والسنّة، ولكنّه أوصى في خطبة الغدير وفي أُخريات حياته بالكتاب والعترة، وحيث إنّ هذين الحديثين وردا في واقعتين فلا تنافي بينهما، لأنّه يصحّ أن يجعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم السنّة عدلاً للكتاب في واقعة،

أيّها الناس اسمَعوا قولي واعقلوه، تَعلَّمُنّ أنّ كلّ مسلم أخٌ للمسلم، وأنَّ المسلمين إخوة، فلا يحلُّ لامرئ من أخيه إلّاما أعطاهُ عن طِيب نفس منهُ، فلا تظلِمُنَّ أنفسكُمْ، اللّهمّ هل بلّغت؟ فذكر لي أنّ الناس قالوا اللّهمّ نعم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: اللّهمّ اشهد.(1)

***

ولقد مكث رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في عرفات حتّى غروب اليوم التاسع، وعندما اختفى قرصُ الشمس عن الأُفق، واظلمَّ الفضاء بعض الشيء ركبَ ناقته، وأفاضَ إلى المزدلفة، وأمضى فيها شطراً من الليل ولم يزلْ واقفاً من الفجر إلى طلوع الشمس في المشعر، ثم توجَّه في اليوم العاشر إلى «منى» وأدّى مناسكها من رمي الجمار والذبح والتقصير، ثم توجَّه نحو مكّة لأداء بقية مناسك الحج.

وهكذا علّم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الناسَ مناسك الحج بصورة عملية، وحدّد أو أكّد على مشاعره بصورة دقيقة.

ويُطلَقُ على هذه الحجّة التاريخية في كتب التاريخ والحديث «حجّة الوداع» تارة، و «حجّة البلاغ» أُخرى، و «حجّة الإسلام» ثالثة، وإنّما يُطلق كلُّ عنوان من هذه

ص:716


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1022/4-1023. ولاحظ: الخصال: 487؛ وبحار الأنوار: 381/21 باختلاف.

العناوين على هذه الحجّة لمناسبة لا تخفى على القارئ البصير(1).

هذا ونلفتُ نظر القُرّاء الكرام في خاتمة هذا الفصل إلى أنّ المشهور بين المحدّثين هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ألقى هذا الخطاب التاريخي الخالد في يوم عرفة ولكن يذهبُ بعض المؤرّخين إلى أنّ هذه الخطبة أُلقيت في اليوم العاشر من شهر ذي الحجّة، ويرى آخرون أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خطب خطباً عديدة في هذه الحجّة مستغلّاً كلّ فرصة سانحة لإبلاغ مبادئ رسالته الإلهية.(2)

هذا وقد وقعت في أثناء هذه الرحلة المقدّسة قضايا ووقائع لطيفة وجديرة بالدرس والتأمّل والتملّي، وقد تركنا ذكرها هنا رعاية للاختصار(3).

ص:717


1- . راجع: السيرة النبوية لابن هشام: 1025/4؛ إمتاع الأسماع: 102/2. هذا ولعلَ الوجه في تسمية هذه الحجّة بالوداع؛ لأنّها آخر حجّة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، وبالبلاغ هو نزول قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» في أعقابها وبالتمام والكمال هو نزول قوله تعالى: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي».
2- . راجع: المغازي: 1111/2، إمتاع الأسماع: 118/2، بحار الأنوار: 113/37.
3- . راجع: بحار الأنوار: 378/21-413، إمتاع الأسماع: 102/2-121.

63 إكمال الدين الإسلامي بتعيين الخليفة

اشارة

الخلافةُ حسب عقيدة علماء الشيعة الإمامية منصبٌ إلهيّ يعطى من قبل اللّه تعالى لأفضل أفراد الأُمّة، وأصلحهم، وأعلمهم، والفرق الواضح بين الإمام والنبيّ هو: أنّ النبي مؤسّسُ قواعد الشريعة، وهو الّذي يوحى إليه وينزلُ عليه الكتابُ من السماء، والإمام وإن كان لا يتمتّع بأي واحد من هذه الشؤون إلّاأنّه مضافاً إلى شؤون الحكومة والقيادة هو المبيّن لما جاء به رسول اللّه من الدين ممّا لم يوفق - بسبب الظروف المعاكسة أو عدم الفرص المناسبة - لبيانه أو إظهاره، وترك مهمة بيانه على عاتق أوصيائه وخلفائه.

وعلى هذا الأساس فإنّ الخليفة - من وجهة نظر عقيدة الشيعة الإمامية - ليس مجرّد حاكم زمنيّ للمسلمين وليس المطبق لقوانين الشريعة المقدّسة والحافظ للحقوق الاجتماعية، والحارس لثغور المسلمين وحدود بلادهم المدافع عنها، فحسب، بل هو علاوة على كلّ ذلك الموضح لما خفي من مَعالم الدين، والمكمِّل المبيِّن لذلك الجانب من أحكام الشريعة وقوانينها الّذي لم يُبيَّن من قبَل مؤسّس الشريعة لبعض الأسباب.

أمّا الخلافة في عقيدة أهل السنّة فهي منصبٌ عاديّ وليس الهدف منها إلّا

ص:718

حفظ الكيان الظاهري والشؤون المادية للأُمّة الإسلامية، والخليفة لا ينصَبُ إلّا باختيار الناس وانتخابهم أحداً لشَغل منصب الحكم والقضاء وإدارة الأُمور السياسية والاقتصادية وماشابهها، وذكر تفصيل ما بيّنه صاحبُ الشريعة من الأحكام على نحو الإجمال.

وأمّا بيانُ ما لم يوفق النبيُ لبيانه لأسباب خاصّة فهو يرتبط بعلماء الإسلام وفقهاء المسلمين فهم يعالجون ما يستجدُّ للناس من مشكلات فقهية ودينية من هذا النوع عن طريق الاجتهاد، والرأي.

وعلى أساس هذا الاختلاف في الموقف من قضية الخلافة وحقيقتها والنظرة إليها انشطرت الأُمّةُ الإسلاميةُ إلى طائفتين واتجاهين لا يزالان باقيين إلى هذا اليوم.

وبناء على النظرية الأُولى يكون الإمام مشاركاً للنبيّ في بعض شؤونه، فيُشتَرطُ في الإمام أيضاً ما يُشترط في النبي. وإليك الشرائط المعتبرة في النبي، الّتي تشترط في الإمام أيضاً:

1. يجب أن يكون النبيُّ معصوماً، يعني أن لا يحوم حول الإثم والمعصية طول حياته أبداً، ولا يزلَّ أو يخطأ في بيان أحكام الدين وحقائقه، وعند الإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم الدينية، ويُشترط في الإمام ذلك أيضاً، والدليلُ في الموردين واحد.

2. يجب أن يكون النبيُّ أعلم الناس بالشريعة، ويجب أن لا يخفى عليه شيء من مسائل الشريعة مُطلقاً؛ وهكذا يجب أن يكون الإمام أعلم الناس بأحكام الدين ومسائله لكونه مكمّلاً أو مبيّناً لما لم يبيّن من مسائل الشريعة في زمن النبيّ.

ص:719

3. إن النبوة منصبٌ تعييني وليس منصباً انتخابياً، بمعنى أنَّ النبيَ لا يكونُ نبيّاً إلّا إذا عيَّنهُ اللّه وابتعثه، ونُصِب في مقام النبوّة من جانبه سبحانه؛ لأنّه تعالى دون سواه يميّز المعصوم عن غير المعصوم، وهو سبحانه دون غيره يعلم مَن بلَغ درجة العصمة عن الخطأ والمعصية في ظل العناية الربانية الغيبية الخاصّة، بحيث يعرف كلّ تفاصيل الدين وجزئياته.

إنّ هذه الشرائط الثلاثة كما هي معتبرة في النبي، كذلك هي معتبرة ومشترطة في خليفته والقائم مقامه.

ولكن بناء على النظرية الثانية لا يشترط أيُّ شيء من هذه الشروط المعتبرة في النبيّ، في الخليفة فلاتجب العصمة، ولا العدالة، ولا يجبُ العلم والإحاطة بالشريعة، ولا يشترط فيه التعيين من جانب اللّه، والارتباط بعالم الغيب، بل يكفي في استحقاق الخلافة أن يكون الشخصُ قادراً في ظلّ ذكائه، ومشورة المسلمين على حفظ الكيان الإسلاميّ، وقادراً على إقرار الأمن في البلاد بتطبيق قوانين الشريعة الجزائية، كما ويتمكّن من توسيع رقعة الأَرض الإسلامية في ظل الدعوة إلى الجهاد.

وعلينا الآن أن نعالج هذه المسألة (أي هل الخلافة والامامة منصبٌ تنصيصي أو انتخابي؟ وهل على النبي أن يعيّن بنفسه مَن يخلفه، أو يوكل الأمر إلى الأُمّة لتختار من تريد؟) وندرسها في ضوء المحاسبات الاجتماعية ليلمس القارئ بوضوح أنَّ الأحوال والظروف الاجتماعية كانت توجبُ أن يقوم النبي صلى الله عليه و آله و سلم بتعيين خليفته في حياته، ويحلّ بذلك مشكلة الخلافة من بعده، ولا يوكل الأمر إلى الأُمّة.

واليك توضيح هذا القسم وبيانه:

ص:720

اقتضاءُ المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة
اشارة

لاشكّ في أنّ الدين الإسلامي دينٌ عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادةُ الأُمّة الاسلامية من شؤون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم مادام على قيد الحياة، وكان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الأُمّة وأكملهم.

إنّ في هذه المسألة - وهي أنّ منصب القيادة بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنّه منصب انتخابي؟ - اتّجاهين:

فالشيعة يَرون أنّ مقام القيادة منصبٌ تنصيصيٌ ولابد أن يتعيَّن خليفة النبي من جانب اللّه سبحانه.

بينما يرى أهل السنّة أنّ هذا المنصب منصبٌ انتخابي جمهوري، أي أنّ على الأُمّة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.

إنّ لكلّ من الاتّجاهين المذكورين دلائل ذكرها أصحابُهما في الكتب العقائدية، إلّاأنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة، فإنّ هذه الدراسة كفيلةٌ بإثبات صحّة هذا الاتّجاه أو ذاك.

إنّ تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الإسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبيّ كان لابدّ أن يعيَّن من جانب اللّه تعالى، ولا يترك الأمر من دون مثل هذا التعيين الإلهي، فإنّ المجتمع الإسلامي كان مهدداً على الدوام من جانب الخطر الثلاثي (الروم - إيران - المنافقون) بشنّ الهجوم الكاسح، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أنّ مصالح الأُمّة كانت توجبُ أن توحّدَ صفوف المسلمين في مواجهة

ص:721

الخطر الخارجي وذلك بتعيين قائد سياسيّ من بعده، وبذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدوّ في جسم الأُمّة الإسلامية والسيطرة عليها، وعلى مقدّراتها.

وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب:

لقد كانت الامبراطورية الروميّة أحد أضلاع المثلث الخطر الّذي يحيط بالكيان الإسلامي ويتهدّده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغلُ بالَ النبي القائد على الدوام حتّى إنّ التفكير في أمر الروم لم يغادرْ ذهنه وفكره حتّى لحظة الوفاة، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أوّل مواجهة عسكرية بين المسلمين، والجيش المسيحيّ الرومي وقعت في السنة الهجرية الثامنة في أرض فلسطين وقد آلتْ هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم: «جعفر الطيار»، و «زيد بن حارثة»، و «عبد اللّه بن رواحة».

ولقد تسبّب انسحاب الجيش الإسلامي بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة العاشرة للهجرة على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليتصدى بنفسه إلى أيّة مواجهة عسكرية يقوم بها العدو، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة والمضنية أن يستعيد هيبته الغابرة ويجدّد سلطته السياسية.

غير أنَّ هذا الانتصار المحدود لم يُقنِعْ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأعدّ قُبَيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين وأمَّر عليهم «أُسامة بن زيد»، وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود

ص:722

الشام، والحضور في تلك الجبهة.

أمّا الضلعُ الثاني من المثلّث الخطير الّذي كان يتهدّد الكيان الإسلامي فكان الامبراطورية الإيرانية (الفارسية) وقد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومعاداتها لدعوته أن أقدم امبراطور إيران: «خسرو پرويز» على تمزيق رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وتوجيه الإهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه والكتابة إلى واليه وعميله باليمن بأن يوجّه إلى المدينة مَن يقبض على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أو يقتله إن امتنع!!

و «خسرو» هذا وإن قُتِلَ في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلّاأنّ موضوع استقلال اليمن - الّتي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الإيرانية ردحاً طويلاً من الزمان - لم يغبْ عن نظر ملوك إيران آنذاك، وكان غرور أُولئك الملوك وتجبّرهم، وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة (القوة الإسلامية) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الّذي كان يعمل بين صفوف المسلمين - في صورة الطابور الخامس - على تقويض دعائم الكيان الإسلامي من الداخل إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول اللّه، في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.

فقد كان بعضُ عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه: إنّ الحركة الإسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورحيله وبذلك يستريح الجميع(1).

ولقد قام أبوسفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الأُمّة الإسلامية من الداخل، وذلك عندما أتى عليّاً عليه السلام وعرض

ص:723


1- . قال سبحانه: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» الطور: 30.

عليه أن يبايعه في مقابل من عيّنه رجالُ السقيفة، ليستطيع بذلك تشطير الأُمّة الإسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين فيتمكّن من التصيّد في الماء العكر.

ولكن الإمام علياً عليه السلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة، فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة:

«واللّه إنّك ما أردت بهذا إلّاالفتنة، وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام شراً...

لاحاجة لنا في نصيحتك»!!(1).

ولقد بلغ دورُ المنافقين التخريبي من الشدّة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سُور عديدة هي آل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والعنكبوت، والأحزاب، ومحمَّد، والفتح، والمجادلة، والحديد، والمنافقين، والحشر.

فهل مع وجود هؤلاء الأعداء الخطرين والأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه يصحُّ أن يترك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أُمّته الحديثة العهد بالإسلام، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسياً؟

إنّ المحاسبات الاجتماعية تقول: إنّه كان يتوجّب أن يمنع رسول الإسلام بتعيين قائد للأُمّة، من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده، وأن يضمن استمرار وبقاء الوحدة الإسلامية بإيجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حول تلك الأُمّة.

إنّ تحصين الأُمّة، وصيانتها من الحوادث المشؤومة، والحيلولة دون حدوث ظاهرة مطالبة كلّ فريق الزعامة لنفسه دون غيره، وبالتالي التنازع على مسألة

ص:724


1- . الكامل في التاريخ: 326/2؛ تاريخ الطبري: 449/2.

الخلافة والزعامة لم يكن ليتحقّق إلّابتعيين قائد للأُمّة، وعدم ترك الأُمور للقدر.

إنّ المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحّة نظرية «التنصيص على القائد بعد رسول اللّه»، ولعلَّ لهذه الجهة، ولجهات أُخرى طرح رسول الإسلام مسألة الخلافة في الأيام الأُولى من ميلاد الرسالة الإسلامية وظلَّ يواصل طرحها والتذكير بها طول حياته حتى الساعات الأخيرة منها حيث عيَّن خليفتَه ونصَّ عليه بالنص القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته، وفي نهايتها أيضاً.

واليك بيان كلا هذين المقامين:

1. النبوّة والإمامة توأمان

بغضّ النظر عن الأدلّة العقلية على صحّة المحاسبة الاجتماعية الّتي تثبت حقّانية الرأي الأوّل بصورة قطعية، هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحّة الموقف والرأي الذي ذهب إليه علماء الشيعة، وتصدّقه، فقد نصّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مراراً وتكراراً، وأخرج موضوع الإمامة من مجال الانتخاب الشعبي، والرأي العام.

فهو لم يعيّن (ولم ينصّ على) خليفته ووصيّه من بعده في أُخريات حياته فحسب، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيّه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعدُ سوى بضع عشرات من الأشخاص، وذلك يوم أُمر من جانب اللّه العلي القدير أن ينذر عشيرته الأقربين من العذاب الإلهي الأليم، وأن يدعوهم إلى عقيدة التوحيد قبل أن يصدع برسالته للجميع ويبدأ دعوته العامّة للناس كافّة.

فجمع أربعين رجلاً من زعماء بني هاشم وبني المطلب ثم وقف فيهم خطيباً فقال:

ص:725

«أيّكم يؤازرُني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم».

فأحجم القوم، وقام علي عليه السلام وأعلن مؤازرته وتأييده له، فأخذ رسول اللّه برقبته والتفت إلى الحاضرين وقال:

«إنَّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم»(1).

وقد عُرِفَ هذا الحديث عند المفسّرين والمحدّثين ب: «حديث يوم الدار» و «حديث بدء الدعوة».

على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته، إنّما صرّح في مناسبات شتّى، في السفر والحضر، بخلافة علي عليه السلام من بعده ولكن لايبلغ شيء من ذلك في الاهمية والظهور والصراحة والحسم مابلغه حديث الغدير.

2. قصّة الغدير

لمّا انتهت مراسيم الحج، وتعلّم المسلمون مناسكه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الرحيل عن مكّة، والعودة إلى المدينة، فأصدر أمراً بذلك.

ولمّا بلغ موكبُ الحجيج العظيم إلى منطقة «رابغ»(2) التي تبعد عن «الجحفة»(3) بثلاثة أميال (أي ما يعادل 4/83 كيلومتراً) نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمنطقة تُدعى «غدير خم» وخاطبه بالآية التالية: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ

ص:726


1- . تاريخ الطبري: 63/2؛ الكامل في التاريخ: 62/2-63.
2- . رابغ تقع الآن على الطريق بين مكّة والمدينة.
3- . من مواقيت الإحرام وتنشعب منها طرق المدنيّين والمصريّين والعراقيّين.

اَلنّاسِ» (1).

إنّ لسان الآية وظاهرها يكشف عن أنّ اللّه تعالى ألقى على عاتق النبي صلى الله عليه و آله و سلم مسؤولية القيام بمهمة خطيرة، وأي أمر أكثر خطورة من أن ينصّب علياً عليه السلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد.

من هنا أصدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمرهُ بالتوقّف، فتوقفتْ طلائعُ ذلك الموكب العظيم، والتحق بهم من تأخَّر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة، وكان الجوُ حاراً إلى درجة كبيرة جداً، وكان الشخص يضعُ قسماً من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه، وصُنِعَ للنبي صلى الله عليه و آله و سلم مظلّةٌ وكانت عبارة عن عباءة ألُقيت على أغصان شجرة (سمُرة)، وصلّى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالحاضرين الظهر جماعة، وفيما كان الناسُ قد أحاطوا به صعدَ صلى الله عليه و آله و سلم على منبر أُعِدَّ من أحداج الإبل وأقتابها، وخطب في الناس رافعاً صوته وهو يقول: «الحمدُللّه وَنَسْتعينُهُ وَ نُؤْمن به وَنَتوكَّلُ عَلَيهِ وَنَعُوذُ بهِ مِن شُرُور أنفُسنا وَ مِنْ سيئاتِ أعمالِنا، الذي لا هاديَ لِمَنْ ضَلَّ وَ لا مُضِلَّ لِمَنْ هَدى، وَ أَشهَدُ أَنْ لا إله إلّا هو وأنّ محمَّداً عبده ورسوله.

أمّا بَعْد، أيّها الناس قَد نَبَّأَني اللطيفُ الخبيرُ أنّه لم يعمَّر نبيٌ إلّامثلَ نصف الذي قبْلَهُ، وإنّي أُوشك أن أُدعى فأُجيبُ، وأنّي مسؤول وأنتمْ مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟

قالوا: نشهَدُ أنَّك قد بَلّغتَ ونصحت وجهَدت فجزاك اللّه خيراً، قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«ألستُمْ تشهدون أن لا إله إلّااللّه وأنّ مُحمَّداً عبدُه وَ رَسُولُهُ، وَ أَنَّ جنَّته حقّ،

ص:727


1- . المائدة: 67.

وَ أَنَّ الساعة آتيةٌ لاريب فيها، وَ إنّ اللّه يبعث مَنْ في القبور»؟

قالوا: بلى نشهدُ بذلك.

قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«اللَّهمَّ اشْهّدْ».

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«إنَّي تاركٌ فيكمُ الثِقلين ما إن تمسَكْتُمْ بِهما لَنْ تَضِلّوا أبداً».

فنادى مناد: بأبي أنت وأُمّي يارسول اللّه، وما الثقلان؟

فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«كِتابُ اللّه سَبَبٌ طرفٌ بيد اللّه وَطرفٌ بأيديكم فتمسكُوا به، والآخرُ عترتي؛ وإنَ اللطيف الخبيرَ نبّأني أنَّهما لَن يفترقا حتى يَردا عَليَّ الحوضَ، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا».

وهنا أخذ بيد «علي» عليه السلام ورفعها حتى رؤي بياضُ آباطهما وعرفه الناس أجمعون ثم قال:

«أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟».

قالوا: اللّه ورسوله أعلم.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«إنّ اللّه مولايَ وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهمْ، فمَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه(1)، اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه، وانصرْ مَن نصره، واخذل

ص:728


1- . لقد كرّر النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذه العبارة ثلاث مرات دفعاً لأي التباس أو اشتباه.

مَن خذله، وأحب مَن أحبه وأبغض مَن أبغضه، وأدر الحقّ معه حيث دار»(1).

واقعة الغدير خالدة إلى الأبد

لقد تعلّقت المشيئةُ الربانية بأن تبقى واقعة الغدير التاريخية في جميع القرون والعصور كتاريخ حيّ يجتذب القلوب والأفئدة، ويكتب عنه الكتّاب الإسلاميون في كلّ عصر وزمان ويتحدّثون حوله في مؤلّفاتهم المتنوّعة في مجال التفسير والتاريخ والحديث والعقائد، كما يتحدّث حوله الخطباء في مجالس الوعظ ومن فوق صهوات المنابر، ويعتبرونها من فضائل الإمام «علي» الذي لا يتطرّق اليها أي شكّ أو ريب.

ولم يقتصرْ هذا على الكتّاب والخطباء بل استلهم الشعراء من هذه الواقعة الكبرى التي فجرت بالتفكير حول هذه الحادثة، وبالإخلاص لصاحب الولاية ينابيع التعبير في وجودهم فأنشأوا أروع القصائد، وجادت قرائحهم بأنواع مختلفة من القصيد الجميل، وخلّفوا لِمن بعدهم وبلغات مختلفة آثاراً أدبية ولائية خالدة.

ولهذا قلّما نجدُ حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامّة وفي التاريخ الإسلامي والأُمّة الإسلامية خاصّة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير، وقلّما استقطبت

ص:729


1- . ورد حديث الغدير في كتب أهل السنّة وصحاحهم بأسانيد معتبرة وطرق متعدّدة وألفاظ مختلفة ومضمون واحد: لاحظ مسند أحمد: 281/4 و 372 و ج 366/5 و 370؛ سنن ابن ماجة: 45/1 برقم 121؛ سنن الترمذي: 297/5 برقم 3797؛ مستدرك الحاكم: 109/3-110 و ص 533؛ مجمع الزوائد: 103/9-109، باب قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» وغيرها كثير. وراجع للوقوف الكامل على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلّامة الأميني.

اهتمام الفئات المختلفة من المحدّثين والمفسّرين والكلاميّين والفلاسفة، والشعراء والأُدباء، والكتّاب والخطباء، وأرباب السير والمؤرّخين كما استقطبت هذه الحادثة، وقلّما اعتنوا بشيء مثلما اعتنوا بها.

إنّ من أسباب خلود هذه الواقعة الكبرى و دوام هذا الحديث هو: نزول آيتين من آيات القرآن الكريم فيها(1)، فما دام القرآن الكريم باقياً مستمراً يتلى آناء الليل وأطراف النهار تبقى هذه الحادثة في الأذهان والنفوس ولا يُمحى ذكرها من العقول والقلوب.

وحيث إنّ المجتمع الإسلامي في العصور الغابرة وكذا الطائفة الشيعية كانوا يعتبرون هذا اليوم عيداً كبيراً من الأعياد الدينية، وكانوا يقيمون فيها مايقيمونه من المراسيم في الأعياد الإسلامية، لهذا فإنّ هذه الحادثة التاريخية (حادثة الغدير) قد اتّخذت طابع الأبديّة والخلود الذي لا يُمحى ذكرها من الأذهان والخواطر.

هذا ويُستفاد من مراجعة التاريخ بوضوح أنّ اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجّة الحرام كان معروفاً بين المسلمين بيوم عيد الغدير وكانت هذه التسمية تُحظى بشهرة كبيرة إلى درجة أنّ ابن خلّكان يقول حول «المستعلي بن المستنصر»: وبويع في يوم غدير خمّ، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجّة سنة 487(2).

وقال في ترجمة المستنصر باللّه العبيدي: وتوفّي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، قلت: وهذه هي ليلة عيد

ص:730


1- . المائدة: 3 و 67.
2- . وفيات الأعيان: 180/1.

الغدير، أعني: ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجّة، وهو غدير خم(1).

وقد عدّه أبو ريحان البيروني في كتابه «الآثار الباقية» ممّا استعمله أهل الإسلام من الأعياد(2).

وليس ابن خلّكان وأبو ريحان البيروني، هما الوحيدان اللّذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد، بل هذا الثعالبيّ قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين(3).

إنّ عهد هذا العيد الإسلامي وجذوره ترجع إلى نفس يوم «الغدير»؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر المهاجرين والأنصار، بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على «عليّ» عليه السلام وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن أرقم: كان أوّل مَن صافق النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعلياً: أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وباقي المهاجرين والانصار وباقي الناس(4).

الدلائل الأُخرى على أبديّة الغدير

ويكفي في أهميّة هذا الحدث التاريخي أنّ هذه الواقعة التاريخية رواها مائة وعشرة صحابيّ، على أن هذه العبارة لاتعني أنّ رواية هذه الواقعة اقتصرت على هؤلاء المائة والعشرة من ذلك الحشد الهائل، بل يعني أنّ هؤلاء جاء ذكرهم في كتب أهل السنّة ومصنّفاتهم.

صحيح أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ألقى خطابه المذكور الذي تضمّن نصب عليّ عليه السلام

ص:731


1- . وفيات الأعيان: 230/5.
2- . الآثار الباقية في القرون الخالية: 334، نقلاً عن الغدير: 267/1.
3- . ثمار القلوب: 511، ط القاهرة، نقلاً عن الغدير: 268/1.
4- . راجع مصدره في الغدير: 270/1 (حديث التهنئة).

للخلافة في مائة ألف أو يزيدون من الناس، ولكنّ كثيراً منهم كانوا قد أتوا من مناطق نائية من الحجاز، ولهذا لم يُروَ عنهم هذا الحديث، كما أنّ كثيراً من الذين حضروا ذلك المشهد التاريخي العظيم رووا ونقلوا للآخرين هذا الحديث ولكنّ التاريخ لم يوفق لذكر أسمائهم، أو إذا تمّ ذلك لكن لم يصلْ إلينا.

ثم إنّه روى هذا الحديث في القرن الثاني الإسلامي وهو عصر التابعين تسعة وثمانون تابعياً.

وقد بلغ عددُ من روى حديث «الغدير» في القرون اللاحقة في كتابه من علماء أهل السنّة وفضلائهم ثلاثمائة وستون شخصاً، وصحَّحهُ جمعٌ كبيرٌ منهم واعترفوا بتواتره.

ففي القرن الثالث رواه اثنان وتسعون عالماً.

وفي القرن الرابع رواه أربعة وأربعون.

وفي القرن الخامس رواه أربعة وعشرون.

وفي القرن السادس رواه عشرون.

وفي القرن السابع رواه واحدٌ وعشرون.

وفي القرن الثامن رواه ثمانية عشر.

وفي القرن التاسع رواه ستةُ عشر.

وفي القرن العاشر رواه أربعةُ عشر.

وفي القرن الحادي عشر رواه اثنا عشر.

وفي القرن الثاني عشر رواه ثلاثةُ عشر.

وفي القرن الثالث عشر رواه اثنا عشر.

وفي القرن الرابع عشر رواه عشرون عالماً.

ص:732

ولم يكتف البعض بنقل ورواية هذا الحديث في كتبهم ومؤلَّفاتهم بل ألّفوا حوله رسائل أو كتباً مستقلة.

وقد ألّف المؤرّخ الإسلامي الكبير «الطبري» كتاباً في هذا المجال أسماه «الولاية في طرق حديث الغدير» روى فيه هذا الحديث عن النبي بخمس وسبعين سنداً.

ولقد روى «ابن عقدة» في رسالة «الولاية» هذا الحديث بمائة وخمسين سنداً.

وروى أبوبكر محمَّد بن عمر البغدادي المعروف بالجمعاني هذا الحديث بخمس وعشرين سنداً.

كما روى من علماء الحديث هذه الواقعة نظراء:

أحمد بن حنبل الشيباني ب: 40 سنداً.

ابن حجر العسقلاني ب: 25 سنداً.

الجزري الشافعي ب: 80 سنداً.

أبو سعيد السجستاني ب: 120 سنداً.

الأمير محمَّد اليمني ب: 40 سنداً.

النسائي ب: 250 سنداً.

أبو العلاء الهمداني ب: 100 سند.

أبو العرفان الحبّان ب: 30 سنداً.

وبلغ عددُ من ألّف رسالة خاصّة أو كتاباً مستقلّاً حول هذه الواقعة وخصوصياتها وتفاصيلها 26 شخصاً، ولعلَّ هناك غيرُهم ممّن ألّف كتاباً أو رسالة مستقلّة حولَ هذا الحدث التاريخي الهامّ لم يذكر التاريخُ أسماءهم، أو ضاعت

ص:733

مؤلّفاتُهم بسبب الحوادث والمصائب التي طرأت على الأُمّة الإسلامية وضيَّعت الكثير من تراثها الفكريّ خلال عمليات الإغارة والنهب أو الهدم والإحراق (ولقد اقتبسنا كلّ هذه الإحصاءات من كتاب الغدير).(1)

ولقد كتب علماء الشيعة كتباً قيّمة حول هذه الواقعة أجمعُها وأشملُها كتابُ «الغدير» بقلم العلّامة الجليل والكاتب الإسلامي القدير المرحوم آية اللّه الشيخ الأميني رضى الله عنه والذي يقع في أحد عشر مجلداً في مايقرب من ستة آلاف صفحة، وقد استفدنا كثيراً من تلك الموسوعة في تنظيم الفصل الحاضر.

ثم إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يلبث أن نزل عليه قوله تعالى بعد نصبه عليّاً لإمرة المسلمين في تلك الواقعة:

«اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» .(2)

فكبَّر النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم بصوت عال ثم أضاف قائلاً:

«الحمد للّه على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربِّ برسالتي، وولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي».

ثم نزل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ذلك المنبر المصنوع من أحداج الإبل وأمر أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام أن يجلس في خيمة وأمر كافّة الناس وكلَّ من حضر المشهد من أُمّته، ومنهم الشيخان ومشيخة قريش ووجوه الأنصار، كما أمر أُمّهات المؤمنين بالدخول على أمير المؤمنين عليه السلام وتهنئته على تنصيبه لمنصب الإمامة والخلافة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:734


1- . راجع: الغدير: 14/1-159.
2- . المائدة: 3.

ففعل الناسُ ذلك وانكبوا على «علي» عليه السلام بأيديهم وكان أوّل من صافق وهنأ عليّاً أبوبكر وعمر واصفين إيّاه بالولاية.

وهنا قام «حسان بن ثابت الأنصاري» شاعر الإسلام واستأذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أن ينشد شعراً بهذه المناسبة، فأذِنَ له رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً: قل على بركة اللّه.

فقام حَسانُ وقال:

يُناديهمُ يومَ الغديرِ نبيّهُمْ بخُمٍّ وَ أَسمِعْ بالنبيِّ منادياً

وقد جاءهُ جبريلُ عن أمر ربِّه بأنّكَ معصومٌ فَلا تكُ وانيا

وَبَلّغهُمُ ماَ أَنزَلَ اللّه ربُّهُمْ إليك ولا تخش هناك الأعاديا

فقامَ به إذ ذاك رافعَ كفّهِ بكف عليٍّ معلنَ الصوت عالياً

فقالَ فمن مولاكُمُ ووليُّكُمْ فقالوا ولم يُبدُوا هناك تعاميا

إلهكَ مَولانا وأنتَ وليّنا ولن تجدنْ فينا لَك اليوم عاصيا

فقالَ له: قمْ يا عليُّ فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنتُ مولاهُ فهذا وليّه فكونوا له أنصار صدق مُواليا

هناكَ دعا اللّهمَ وال وليّه وكُنْ للذي عادى عَلياً معادياً

فياربِّ انصرْ ناصريه لنَصرهم إمام هُدى كالبدر يَجْلُو الدياجيا(1)

ولقد كان هذا الحديث على مدى التاريخ الإسلامي أكبر دليل على أفضلية علي عليه السلام على جميع صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم كافّة، حتى أنّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام احتجّ به مراراً فقد احتجّ به في مجلس الشورى الذي عقد لتعيين الخليفة عقيب وفاة الخليفة

ص:735


1- . لاحظ: الغدير: 39/2 (غديرية حسّان بن ثابت).

الثاني، وفي أيام خلافة عثمان، وفي أيام خلافته عليه السلام أيضاً، كما أنّ شخصيات كثيرة من وجوه المسلمين احتجّوا به على منكري حقّ عليّ وأفضليته وكان ذلك دأبهم دائماً وأبداً.

ص:736

64 1. المتنبّئون كَذباً

اشارة

64 1. المتنبّئون كَذباً(1)2. التفكير في أمر الروم

بعد الانتهاء من مراسم تعيين الخليفة في «غدير خم» انفصلتْ جُموعُ الحجيج المشاركة في مراسم «حجّة الوداع» من الوافدين من الشام ومصر، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الجحفة والذين شاركوا في هذه المراسم من «حضرموت» و «اليمن» انفصلوا عنه في هذه النقطة أو في نقطة سابقة وقفلوا راجعين إلى أوطانهم.

ولكنَّ العشرة آلاف الذين خَرجوا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عادوا مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة، ووَصلوها قبل أن تأتي السنة العاشرة من الهجرة على نهايتها.

كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون فرحين جداً لانتشار الإسلام في شتّى نقاط

ص:737


1- . كانت مراسلة مسيلمة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم في نهايات السنة الهجرية العاشرة، وكذا ادّعاء الأسود العنسي للنبوّة، وقد دمجنا ذكرهما في حوادث الفصل الرابع والستين تقليلاً لفصول هذا الكتاب.

الجزيرة العربية، ولانتهاء عهد الحاكمية الوثنيّة والشرك في كلّ مناطق الحجاز، وبالتالي لزوال جميع الموانع والعراقيل التي كانت تحول دون نفوذ الإسلام وانضواء الناس تحت لوائه المبارك.

لم يكن شهر ذي الحجّة من السنة العاشرة قد انتهى بعدُ يوم قدم نفران من «اليمامة» المدينة، وسلّما كتاباً من مسيلمة الذي عُرفَ فيما بعد ب «مسيلمة الكذّاب» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ففتح أحد كتّاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم الرسالة وقرأها عليه، فكان مضمونها أنّ شخصاً باليمامة يُدعى «مسيلمة» يدَّعي النبوّة ويشرك نفسه مع رسول الإسلام في أمر الرسالة، ويريد من خلال كتابه أن يُبلغ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بذلك ويعرّفه بنبوّته.

وقد أثبتت كتب السير والتواريخ الإسلامية نصَّ الكتاب المذكور. ويوحي أُسلوب الرسالة المذكورة بأنّ صاحبها أراد تقليد الأُسلوب القرآني في البيان والتعبير، ولكن محاولته باءت بالفشل، فلم يستطع تقليده، وأتى بعبارات خاوية خالية من الروح، يفوقها الكلامُ العادي في القوة بدرجات.

فلقد كتب «مسيلمة» في كتابه هذا:(1).

أمّا بعد، فإنّي قد أُشركتُ في الأمر معَك، وإنّ لنا نصف الأَرض، ولقريش نصف الأرض، ولكنّ قريشاً قوم يعتدون.

قال نعيم بن مسعود الأشجعي: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول لهما حين قرأ كتابه: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، فقال: «أما واللّه لَولا أنّ الرُّسُل لاتُقْتَل لضربتُ أعناقكما».

ص:738


1- . ومن شدّة جهله أنّه لم يبدأ كتابه باِسم اللّه، بل ولم يفعل مافعله حتى المشركون في العهد الجاهلي.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أملى على كاتبه كتاباً إلى مسيلمة قصير المحتوى، مفحم المفاد. واليك نصّ رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«بِسْم اللّه الرحمن الرحيم.

مِن محمَّد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب السلام على مَن اتبعَ الهُدى.

أمّا بعد فإنَّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين»(1).

لمحة عابرة عن هوية مسيلمة

كان مسيلمة من الأشخاص الذين وفَدوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة في السنة العاشرة من الهجرة وأسلم في مَن أسلم، ولكنّه بعد أن عاد إلى موطنه ادّعى النبوّة، وأجابه طائفة من السذّج والبسطاء، وربما من المتعصّبين من قومه.

ولم يكن نجاح دعوته الباطلة في «اليمامة» دليلاً على شخصيته الواقعية، بل التفّ حوله فريق ممّن تبعه تعصّباً وحميّة مع أنّهم علموا بكذبه، وزيف دعوته، إذ كانوا يقولون: «كَذّاب ربيعة أحبُ إلينا من صادق مضَر» وقد قال هذه العبارة أحدُ أتباعه لمّا سأل مسيلمة ذات مرة: مَن يأتيك؟ قال: رحمان، قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنّك كذابٌ وأنّ محمَّداً صادقٌ، ولكن كذّاب ربيعة أحبُّ إلينا من صادق مضَر(2).

إن من المسلَّم أنّ الرجل قد ادّعى النبوّة، وتبعه على ذلك فريق من قومه،

ص:739


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1019/4؛ إمتاع الأسماع: 229/14-230. وتكفي مقارنةُ بسيطة بين نصّ الكتابين في معرفة حقيقة الشخصين.
2- . تاريخ الطبري: 508/2؛ إمتاع الأسماع: 529/14. ويقصد بالأوّل مسيلمة، وبالثاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولكنّه لم يثبت قط أنّه تصدّى لمعارضة القرآن، وما أُثر عنه - في النصوص التاريخية - من عبارات وجُمَل في معارضة القرآن، لايمكن أن تكون من كلام رجل فصيح كمسيلمة؛ لأنّ عباراته العادية وأحاديثه الأُخرى في غاية البلاغة والإتقان، فكيف تصدر منه هذه العبارات الضعيفة؟!

ولهذا يمكن القول بأنّ ما نقل عنه - على غرار ما نُقِل عن معاصره «الأسود بن كعب العنسي» الذي ادّعى النبوّة معه في اليمن - إنّما هي أُمورٌ نُسِبت إليه، وأُلصِقت به إلصاقاً لأسباب خاصّة؛ لأنّ عظمة القرآن وبلاغته الفائقة في حدٍّ لايجرُؤ معها أحدٌ على التفكير في معارضة القرآن ومقابلته، ويعلم كلُّ عربيٍّ بحكم فطرته الإلهية أنَّ هذا الأُسلوب الجذّاب وأنّ عظمة المعاني القرآنية وسموّها تجعل القرآن الكريم فوق حدود الطاقة البشرية، فكيف يحاول أحد معارضته ومقابلته؟!

ثم إنّ مواجهة المرتدّين من العرب كان أوّل ما قام به الخلفاء بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولهذا حُوصرت منطقة «مسيلمة» من قبل جنود الإسلام، وضيّق عليه الحصار شيئاً فشيئاً، حتى إذا اتّضحت هزيمة ذلك الكذّاب، قال له بعض أتباعه السذَّج: أين ما كنت تعدُنا (من النصر الإلهي)؟ فقال مسيلمة: أمّا الدين فلا، قاتلوا عن أحسابكم.

ولكنّ الدفاع عن الأحساب والكرامة لم يُفد مسيلمة ولا أتباعه شيئاً، فقد قُتِلَ هو وفريق منهم في بستان على أيدي المسلمين، وانتهت بذلك خرافة نبوته المدّعاة(1).

إنّ هذه العبارة القصيرة تكشف عن أنّه كان رجلاً فصيحاً وناطقاً بليغاً، كما

ص:740


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 514/2-516.

أنّها تفيد أنّه لم يكن صاحب تلك العبارات الباردة الخاوية التي نُسِبت إليه - في التاريخ والسيرة - في معارضة القرآن الكريم.

التفكير في أمر الرُّوم

مع أنّ ظهور مثل هؤلاء المتنبّئين الكذبة في شتّى مناطق الحجاز كان خطراً على وحدة أهلها الدينية، فإنّ التفكير في أمر الروم - الذين كانت الشامات وفلسطين من مستعمراتهم آنذاك - كان يستأثر باهتمام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أكثر من غيره؛ لأنّه كان يعلم بأنّ القادة اللائقين في اليمامة واليمن قادرين على مواجهة المتنبّئين، ولهذا قضي على «الأسود العنسي» وهو رجلٌ آخر ادّعى النبوة كذباً في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وذلك بعد يوم من وفاة النبيّ، على يد والي اليمن.

لقد كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم متيقّناً وواثقاً من أنّ الدولة الرومية التي تلاحظ اتّساع رقعة النفوذ الإسلامي الصاعد، والّتي رأت كيف أنّ رسول الإسلام استطاع أن يقتلع جذور اليهودية من الحجاز، وفرض الجزية على فريق النصارى يدفعونها للحكومة الإسلامية، غاضبة لذلك أشدّ الغضب.

لقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم منذ أمد بعيد يعتبر خطر الروم خطراً جديّاً لايمكن التغاضي عنه واحتقاره، ولهذا السبب نفسه وجّه في السنة الثامنة من الهجرة جيشاً كبيراً قوامُه ثلاثة آلاف بقيادة «جعفر بن أبي طالب» و «زيد بن حارث» و «عبد اللّه بن رواحة» إلى تخوم الشام حيث يسيطر الروم، وقد استشهد في هذه المعركة القادة الثلاثة، وقفل الجيش الإسلامي راجعاً إلى المدينة من دون انتصارات بتدبير من خالد بن الوليد.

وفي السنة التاسعة عندما بلغه نبأ استعداد الروم لمهاجمة الحجاز - وهو آنذاك في المدينة - خرج صلى الله عليه و آله و سلم بشخصه على رأس جيش قوامُه ثلاثون ألفاً إلى

ص:741

تبوك، وعاد من دون مواجهة إلى المدينة.

ولهذا كان هذا الخطر جدّياً في نظر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ومن هنا فإنه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا عاد من «حجّة الوداع» إلى المدينة هيّأ جيشاً من المهاجرين والأنصار أشرك فيه أشخاصاً معروفين بارزين مثل أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص... وأمر بأن يشارك فيه كلّ مَن هاجر إلى المدينة خاصّة(1).

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولأجل تحريك مشاعر المجاهدين، عقد بيده(2)لواء لأسامة بن زيد الذي أمَّره على ذلك الجيش. وقال له:

«سِر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليّتك هذا الجيش، فأغر صباحاً على أهل أُبْنَى»(3).

فأعطى «اُسامةُ» اللواء إلى «بريدة» وعسكر بالجرف(4) ليلتحق به جنودُ الإسلام أفواجاً أفواجاً، وليتحرّك الجميع في وقت واحد.

لقد اختار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لقيادة هذا الجيش شاباً في مقتبل العمر، وأمّره على طائفة كبيرة من شيوخ الأنصار والمهاجرين، ولقد أرادَ صلى الله عليه و آله و سلم من فعله هذا

ص:742


1- . السيرة الحلبية: 227/3؛ النصُّ والاجتهاد: 30-32.
2- . يذهب كتّاب السُنّة إلى أنّ النبي عقد اللواء المذكور في 26 صفر، وحيث إنّ وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم حسب روايتهم كانت في 12 ربيع الأوّل، لهذا فإنّ من الممكن أن تقع الحوادث التي سيأتي ذكرها مستقبلاً تدريجاً في مدة 16 يوماً، ولكن حيث إنّ الشيعة يرون تبعاً لما رواه عترة النبي أنّ وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانت في 28 صفر لهذا يجب أن يكون عقدُ اللواء قدتمَّ قبل 26 صفر بمدة ليمكن وقوع كلّ هذه الحوادث الكثيرة في هذه المدة.
3- . «أُبْنى» من مناطق البلقاء وتقع في الأراضي السورية وقرب مؤتة بين «عسقلان» و «الرملة».
4- . الجرف: منطقة واسعة على بعد ثلاثة أميال (4/83 كيلومتراً)، وهي مدينة من جانب الشام.

أمرين:

أوّلاً: أن يجبُر - من خلال ذلك - ما لحق من المصيبة بأُسامة بسبب مقتل والده «زيد بن حارث» الذي استشهد في معركة مؤتة مع الروم، وليرفع من شخصيته.

ثانياً: أراد أن يؤكّد قانونه في مجال التوظيف وتوزيع المناصب والمسؤوليات ويجعل ذلك على أساس الكفاءة والشخصية القيادية، أنّ المناصب والمسؤوليات الاجتماعية لاتحتاج إلى غير الكفاءات والمؤهِّلات، ولا ترتبط بحال بالعمر والسن. لقد فعل النبي ذلك حتى يهيِّئ الشباب الذين يتمتّعون بالمؤهِّلات الكافية لتسلّم المسؤوليات الاجتماعية الثقيلة ويعلموا أن المناصب والمهامّ - في النظام الإسلامي - ترتبط ارتباطاً مباشراً بالكفاءة والمؤهّلات القيادية، لا العمر والسنّ.

ثم إنّ الإسلام الواقعي هو الانضباطية الشديدة والانقياد الكامل تجاه التعاليم الإلهية السامية، والمُسْلم الحقيقي هو من ينقاد لتعاليم اللّه تعالى وأوامره وتعاليمه ويقبل بها من كلّ قلبه كجندي في ساحة القتال، سواء أكانت له فيها نفع أم لا، وسواء أكانت تضرُّ به أم لا، وسواء أكانت مطابقة لأهوائه ومطامحه أم لا.

ولقد بيّن الإمام عليٌّ عليه السلام حقيقة الإسلام في عبارة موجزة ولكن بليغة ومعبّرة إذ قال: «الإسلامُ هو التسْليم»(1).

إنّ الذين يؤمنون ببعض تعاليم الإسلام دون بعض، كلّما واجهوا ما لايوافق أهواءهم الباطنية منها، اعترضوا عليه وحاولوا التملّص من المشاركة في تنفيذه بشتّى المعاذير والحجج.

ص:743


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 125.

لاشكّ أنّ هذا الفريق يفتقر إلى روح الانضباطية، والتسليم الواقعيّ، والانقياد الكامل الّذي يمثّل روح الإسلام وأساسه.

لقد كان تأمير قائد شاب يُدعى «أُسامة بن زيد» الّذي لم يكن يتجاوز يومذاك العشرين عاماً(1) شاهد صدق على ما نقول؛ لأنَّ تأميره على لفيف من الصحابة يكبرون عنه في العمر أضعافاً، شقَّ على البعض، لأنّهم اعترضوا على الإجراء، وطعنوا في أُسامة، وأطلقوا عبارات تكشف جميعها عن افتقارهم لروح الانقياد والطاعة والتسليم الذي يجب أن يتحلّى بها الجندي المسلم تجاه قائد الإسلام الأعلى (النبيّ)، وأوامره وتعييناته.

ولقد كان محور كلامهم هو أنّ النبي أمَّر شاباً صغير السنّ على شيوخ من الصحابة(2).

وقد غفلوا عن المصالح والأهداف التي توخّاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من هذا الإجراء، وكانوا يقدّرون كلّ عمل بعقولهم الضيّقة المحدودة، ويقيسونه بمقاييسهم الشخصية.

فرغم أنّهم لمسوا من قريب كيف أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يحرص على تعبئة هذا الجيش وبعثه، ولكن عناصر مشبوهة أخّرت حركة الجيش المذكور من معسكر «الجرف» وتوجهه إلى النقطة المطلوبة، وكانت تسعى لعرقلة هذه المهمة.

وبعد يوم من عقد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اللواء لأُسامة، مرض صلى الله عليه و آله و سلم بشدّة وأصابه

ص:744


1- . ذهب البعض إلى أنّه كان في السابعة عشر من عمره، وذهب آخرون إلى أنّه كان في الثامنة عشر من عمره. المهم أنّهم اتّفقوا على أنّه لم يتجاوز العشرين سنة. لاحظ: السيرة الحلبية: 227/3.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 190/2.

صداعٌ شديدٌ تركه طريح الفراش، واستمر هذا المرض عدّة أيام حتى قضى (صلوات اللّه عليه).

وقد علم رَسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مرضه أنّ هناك مَن تخلّف عن جيش أُسامة، وأنّ هناك مَن يعرقل توجّهه نحو المنطقة الّتي عيّنها، وأنّ هناك بالتالي مَن يطعن في أُسامة، فغضب صلى الله عليه و آله و سلم لذلك غضباً شديداً، وخرج وهُو يلتحف قطيفة، وقد عصّب جبهته بعصابة إلى مسجده ليتحدّث إلى المسلمين من قريب، ويحذّرهم من مغبّة هذا التخلّف، فصعد المنبر على ما هو عليه من حُمى شديدة وبعد أن حمدَ اللّه وأثنى عليه قال:

«أمّا بعدُ أيّها الناس فَما مَقالةٌ بلغَتْني عن بَعضِكم في تأميرى أُسامة، ولئن طعَنْتُمْ في إمارتي أُسامة لقَدْ طعَنتم في إمارتي أباه من قَبْلهِ، وأَيمُ اللّه إن كان للإمارة لخليقاً، وإنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لِمن أحبّ الناس إليَّ، وإنهّما لَمخيلان(1) لكلّ خير، واستوصُوا به خيراً فإنّه من خياركمْ».

ثم نزل صلى الله عليه و آله و سلم ودخل بيته... (واشتدت به الحمى)، فجعل يقول لمن يعوده من أصحابه:

«أنفذوا بَعَثَ أُسامة»(2).

ولقد بلغ من إصرار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على بعث جيش أُسامة أنّه كان يقول وهو في فراش المرض:

«جَهّزوا جيش أُسامة، لعَن اللّه مَن تخلّف عنه»(3).

ص:745


1- . فلان مخيّل للخير: أي خليق له. صحاح الجوهري: 1692، مادة «خيل».
2- . الطبقات الكبرى: 190/2.
3- . الملل والنحل للشهرستاني: 13/1، المقدّمة الرابعة.

وقد تسبّبت هذه التأكيدات في أن يحضر جماعة من المهاجرين والأنصار عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للتوديع والخروج عن المدينة تلقائياً والالتحاق بجيش أُسامة في معسكره بالجرف.

وفيما كان أُسامة يتهيّأ للتوجّه بجيشه إلى حيث أمره الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم بلغ بعض الصحابة الحاضرين في الجيش أنباء عن تدهور صحّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم فتسببت في عُدولهم عن الحركة حتى كان يوم الاثنين، فحضر أُسامة عند رسول صلى الله عليه و آله و سلم ليودّعه، فرأى آثار التحسّن بادية على ملامح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حاثّاً إيّاه على المبادرة والمسارعة في الخروج:

«أُغدُ على بركة اللّه»(1).

فعاد أُسامة إلى المعسكر وأمر بالتحرّك فوراً، ولكنّ الجيش لم يكن قد غادر «الجرف» بعد، حتى جاء نبأ من المدينة بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحتضر، فعمد مَن كانوا يبحثون عن حجّة للتخلّف عن جيش أُسامة، والذين حاولوا خلال ستة عشر يوماً أن يعرقلوا توجّهه بشتّى المعاذير والحجج إلى التوسّل هذه المرة بقضية احتضار النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعادوا إلى المدينة فوراً، وعاد الجيش برمّته هو الآخر إلى المدينة متجاهلين - جميعاً - أوامر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالخروج.

ولم يتحقّق أحد آمال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في أيام حياته بسبب اللا انضباطية التي أبداها فريق من شيوخ القوم وأعيان الجيش.

الأعذارُ غير المقبولة

إنّ خطأً كبيراً كهذا ارتكبه بعض مَن تسلّم أُمور الخلافة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص:746


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 190/2.

وسمّوا أنفسهم خلفاء النبي لايمكن أن يبرَّر أبداً.

ولقد أراد بعض علماء السنّة أن يبرّروا هذا التخلّف بطرق ووجوه مختلفة إلّا أنّهم عجزوا - رغم ذلك - أن يُخرِجوا عذراً مقبولاً ودليلاً مرضياً لأُولئك المتخلّفين عن جيش أُسامة.

وللاطّلاع على ما نُحِت لذلك من أعذار سقيمة راجع «المراجعات»(1)، و «النص والاجتهاد»(2).

الاستغفار لأهل البقيع

كتب فريقٌ من أصحاب السيرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خرج في الليلة الّتي توفّي في صبيحتها مع أبي مويهبة خادمه إلى البقيع مع ما كان عليه من شدّة الحمّى والوجع ليستَغفر لأهل البقيع(3).

ولكنّ المؤرخين الشيعة يرون أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم يوم أحسّ بالوجع أخذ بيد «عليّ» عليه السلام وخرج معه إلى البقيع وخرج خلفه جماعة فقال لمن خرج معه:

«إنّني قد أُمِرتُ أن استغفر لأهل البقيع».

فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم فقال:

«السلامُ عليكم أهل القبور، ليَهْنئكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح الناسُ فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضاً، يتبع آخرها أوّلها».

ثم استغفر ودعا لأهل البقيع طويلاً وأقبل على أمير المؤمنين عليّ عليه السلام فقال:

ص:747


1- . المراجعات: 365 و 370، المراجعة 90 و 91.
2- . النص والاجتهاد: 36-37.
3- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 204/2.

«إنّ جبرئيل كان يعرضُ عليَّ القرآن سنة مرّة، وقد عرضَهُ عليّ العام مرّتين ولا أراه إلّا لحضور أجلي».

ثم قال: يا عليّ إنّي خُيّرت بين خزائن الدُنيا والخلود فيها أو الجنة فاخترتُ لقاء ربِّي والجنّة».(1)

إنَّ الذين ينظرون إلى الكون من المنظار المادّي البحت ويحصرون كلّ الوجود في إطار المادة وآثارها، فالوجود عندهم يساوق المادة قد يتردَّدون في قبول هذا الأمر، ويقولون: كيف يمكن مخاطبة الأرواح؟! وكيف يمكن الاتّصال بهم؟!

كيف يمكن أن يعرف المرء بموته وأجله؟!

ولكنّ الذين كسروا جدار المادّية هذا واعتقدوا بوجود الروح المجرّدة عن البدن المادّي العنصري لاينكرون مسألة الارتباط والاتّصال بالأرواح(2)، ويعتبرونه أمراً ممكناً وواقعياً.

ثم إنّ النبيّ الذي يتحلّى بالعصمة في مجال ارتباطه بعالم الوحي والعوالم المجرّدة من المادة، يمكنه - على وجه القطع واليقين - أن يخبر عن حلول أجله بأمر اللّه وإذنه وإخباره إيّاه.

ص:748


1- . لاحظ: إرشاد المفيد: 181/1؛ بحار الأنوار: 466/22؛ الطبقات الكبرى: 204/2.
2- . طبعاً نحن لانعرف بكلّ ما يدّعيه أدعياء الاتّصال بالأرواح، فإنّ لذلك طريقه الصحيح، وأُسلوبه المشروع.

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة

65 الكتابُ الذي لم يُكتب

اشارة

تُعدُّ الأيّام الأخيرة من حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أكثر فترات التاريخ الإسلامي أهميّة وحسّاسية ودقّة.

لقد مرّ الإسلام والمسلمون في تلك الأيام بساعات مؤلمة، وحرجة.

إنّ مخالفة بعض الصحابة الصريحة لأوامر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وتخلّفهم عن جيش أُسامة، كلُّ ذلك كان يكشف عن نشاطات سرّية تنبئ عن عزمهم المؤكَّد على الاستيلاء على زمام الحكومة والإمارة والقيادة السياسية في المجتمع الإسلامي بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وإزاحة الخليفة الّذي نصبه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الغدير للإمارة عن مسند الحكم.

ولقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم نفسه عارفاً بنواياهم على نحو الإجمال، ولهذا كان يصرّ على خروج جميع أعيان الصحابة في جيش أُسامة ومغادرة المدينة فوراً لمقاتلة الروم، لكي يعطل بذلك خطّتهم.

ولكن دهاة السياسة اعتذروا عن الخروج مع أُسامة بحجج ومعاذير معيّنة،

ص:749

لكي يستطيعوا تنفيذ خططهم بل وعرقلوا مسير الجيش المذكور حتى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فعادوا إلى المدينة - بعد توقّف دام 16 يوماً - على أثر تدهور صحّة النبي واحتضاره، فلم يتحقّق ما كان يريده رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من تفريغ المدينة منهم، فلا يكون أحدٌ منهم فيها يوم وفاته ليستطيع خليفته المنصوب للإمارة يوم غدير خم (نعني الإمام علياً) تسلّم زمان الحكم دون منازع ومزاحم من المعارضين السياسيّين.

إنّهم لم يكتفوا فقط بالعودة إلى المدينة بل حاولوا أن يحولوا دون أي عمل من شأنه أن يؤدّي إلى دعم وتثبيت منصب الإمام علي وخلافته لرسول اللّه بلافصل، فحاولوا منع النبي صلى الله عليه و آله و سلم وصرفه عن البحث في هذه المسألة بشتّى الوسائل، والسبل.

فعمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الذي عرف بنشاط بعض زوجاته من بنات بعض أُولئك الصحابة، المشين، عمد إلى الخروج إلى المسجد مع ما كان عليه من الحمّى والوجع، ووقف إلى جانب المنبر وقال للناس بصوت عالٍ سُمِع خارج المسجد:

«أيّها الناسُ سُعّرت النار، وأقْبَلت الفتَن كقِطَع الليل المظلم، وإنّي واللّه ما تمسَّكون عليّ بشيء، إنّي لم أُحلّ إلّاما أحلّ القرآن، ولم أُحرّم إلّاما حرّم القرآن»(1).

إنّ هذه العبارة تكشف عن القلَق الشديد الّذي كان يحمله النبي صلى الله عليه و آله و سلم على مستقبل الإسلام بعد وفاته، فما هو المقصود - ياتُرى - من النار التي سعرت؟

ص:750


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1068/4؛ الطبقات الكبرى: 215/2 و 216؛ السيرة الحلبية: 467/3.

أليس هي فتنة الاختلاف والافتراق التي كانت تنتظر المسلمين، والتي اشتعلت بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعالى لهيبها، ولايزال ذلك اللهيب مشتعلاً، وتلك النار مستعرة؟!

إيتوني بقلم وقرطاس

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعرف بما يجري من نشاطات خارج منزله للسيطرة على الحكم، ولهذا قرّر - بغرض الحيلولة دون انحراف مسألة الخلافة من محورها الأصلي والحيلولة دون ظهور الاختلاف والافتراق - أن يدعم مكانة عليّ ويعزز امارته وخلافته وخلافة أهل بيته، وذلك بأن يثبّت الأمر في وثيقة حيّة وخالدة تضمن بقاء الخلافة في خطّها الصحيح.

فقد روى البخاري في صحيحه باسناده عن ابن عباس قال: لما اشتدّ بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وجعه قال:

«ائتوني بكتاب اكتُبُ (1) لكم كتاباً لاتضلّوا بعده».

قال عمر: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم غلبه الوجعُ، وعندنا كتابُ اللّه حسبنا.

فناقش الحاضرون رأي الخليفة، فخالفه قومٌ وقالوا: هاتوا الدواة والصحيفة ليكتب النبي مايريد، وناصر آخرون عمرَ وحالوا دون الإتيان بماطلبه النبي، ووقع تنازع بينهم وكثر اللغط، فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بشدة لتنازعهم ولما وجّه إليه من كلمة مهينة، وقال:

«قُومُوا عني ولاينبغي عندي التنازعُ»

ص:751


1- . طبعاً لم يكن الهدف من «اكتب» أن يكتب النبي بيده ذلك الكتاب فالنبي لم يكتب شيئاً في حياته أبداً كما هو مبحوث في أبحاث أُمّية النبي، بل المقصود هو الإملاء على كتّابه.

فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزيئة كلّ الرزيئة ما حال بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبين كتابه.(1)

إنّ هذه الواقعة التاريخية قد نقلها فريق كبير من محدّثي الشيعة والسنّة ومؤرّخيهم، وتعتبر روايتها - حسب قواعد فنّ الدراية والحديث - من الروايات المعتبرة الصحيحة، غاية مافي الأمر أنّ أغلب محدّثي أهل السنّة نقلوا كلام «عمر» بالمعنى لاباللفظ، ولم يورد نص الكلمات الجارحة النابية التي نطق بها في ذلك المجلس المقدّس.

ولا يخفى أنّ الإحجام عن نقل نصّ عبارته ليس لأجل أنّ العبارات التي تفوّه بها تعدّ إهانة لمقام النبوة، بل أنّ هذا التصرّف لأجل الحفاظ على مقام الخليفة ومكانته حتى لايسيء الآخرون النظرة إليه إذا عرفوا بما قاله في حقّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

من هنا عندما بلغ أبوبكر الجوهري مؤلّف كتاب «السقيفة» في كتابه إلى هذا الموضع من القضية قال عند نقل كلام عمر هكذا: وقال عمر كلمة معناها أنّ الوجَع قد غلب على رسول اللّه(2).

ولكن بعضاً آخر عندما يريد نقل ماقاله الخليفة لايصرّح باسمه حفظاً لمقامه

ص:752


1- . صحيح البخاري: 37/1، باب كتابة العلم، و ج 137/5، باب مرض النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و ج 9/7، باب قول المريض قوموا عني؛ صحيح مسلم: 76/5، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به؛ مسند أحمد: 222/1 و 336 و 355؛ صحيح ابن حبان: 562/14؛ الطبقات الكبرى: 242/2 و 244؛ الملل والنحل للشهرستاني: 22/1؛ إمتاع الأسماع: 132/2؛ السيرة الحلبية: 456/3.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 51/6.

فيقول: فقالوا: إنّ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يهجر.(1) وفي رواية أُخرى: فقالوا: ما شأنه أهجر؟!(2)

إنّ من المسلّم أنّ مثل هذه العبارة الجارحة النابية لو صدرت عن أي شخصية مهما كان مقامها لعُدَّت ذنباً لا يُغتفر؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بنصّ القرآن مصونٌ من أي نوع من أنواع الخطأ والاشتباه والهذيان فهو لاينطق إلّابالوحي.

إنّ اختلاف الصحابة لدى رسول اللّه الطاهر المعصوم صلى الله عليه و آله و سلم وفي محضره كان عملاً سيئاً، ومشيناً إلى درجة أنّ إحدى أزواجه صلى الله عليه و آله و سلم اعترضتْ على هذه المخالفة وقالت من وراء حجاب: ألا تسمعون النبي صلى الله عليه و آله و سلم يعهدُ اليكم؟ إِئتوا رسول صلى الله عليه و آله و سلم بحاجته.

فقال عمر: اسكتن فإنكنّ صواحبه إذا مرض عصرتُنَّ أعيُنكنَّ، وإذا صحّ أخذتُنَّ بعنُقه(3).

إنّ بعض المتعصّبين وإن التمسوا لمخالفة الخليفة لطلب النبي أعذاراً(4) في الظاهر إلّاأنّهم خطّأوا كلامه الذي قال فيه «حسبنا كتاب اللّه»، واعتبروه كلاماً غير صحيح، وصرّحوا جميعاً بأنّ الركن الأساسي للإسلام هو السنّة النبوية، ولا يمكن

ص:753


1- . صحيح مسلم: 76/5، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به؛ مسند أحمد: 355/1؛ الكامل في التاريخ: 320/2.
2- . لاحظ: صحيح البخاري: 137/5، باب مرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؛ صحيح مسلم: 75/5، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به؛ مسند أحمد 222/1.
3- . كنز العمال: 243/7 برقم 18771؛ الطبقات الكبرى: 244/2. وفي الطبقات: أنّ النبي قال (في الرد على عمر) هنَّ خيرٌ منكم.
4- . رد العلّامة المجاهد السيد شرف الدين في كتاب المراجعات المراجعة 86 جميع هذه الأعذاربصورة رائعة.

أن يغني كتابُ اللّه الأُمّة الإسلامية عن أحاديث رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وأقواله.

ولكن الأعجب من كلّ ذلك أنّ الدكتور «هيكل» مؤلّف كتاب «حياة محمَّد»(1) ضمن دفاعه عن الخليفة كتب يقول: ما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنّهم أضاعُوا شيئاً كثيراً بأن لم يسارعوا إلى كتابة ما أراد النبيّ إملاءه. أمّا عمر فظلّ ورأيُه أن قال اللّه في كتابه الكريم: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ» (2).

فلو أنّه لاحظ ما قبل هذه الجملة القرآنية وما بعدها لما فسّرها بمثل هذا التفسير، ولما أيّد الخليفة في مقابل نصّ النبيّ المعصوم المطاع، لأنّ المقصود من الكتاب في الآية هو الكتاب التكويني، وصفحات الوجود، فإنّ لكل نوع من الانواع في عالم الوجود صفحة من كتاب الصنع، وتشكّل كلّ الصفحات غير المعدودة كتاب الخليفة والوجود واليك نص الآية:

«وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» (3).

وحيث إنّ ما قبل الجملة التي استُدلّ بها، يرتبط بخلقة الدواب والطيور، ويرتبط ما بعدها بموضوع الحشر في يوم القيامة، يمكن القول بصورة قاطعة بأنّ المراد من الكتاب في الجملة المستدلّ بها والذي لم يفرَّط فيه من شيء هو الكتاب التكويني، وصفحة الخلق.

ثم إنّنا لو قبلنا بأنّ المقصود من الكتاب هو القرآن الكريم فإنّ من المسلّم أنّ فهم هذا الكتاب - وبحكم تصريحه - يحتاج إلى بيان النبي وهدايته كما يقول:

ص:754


1- . حياة محمَّد: 501.
2- . الأنعام: 38.
3- . الأنعام: 38.

«وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (1).

تأمّل في هذه الآية فإنّها لا تقول «لتقرأ» بل تقول بصراحة: «لتبيّن».

وعلى هذا الأساس إذا كان كتاب اللّه كافياً لم نحتج إلى توضيح النبي وبيانه احتياجاً شديداً(2).

ولو كان حقّاً أنّ الأُمّة الإسلامية لاتحتاج إلى النبي فلماذا كان حبر الأُمّة وعالمها الكبير ابن عباس يقول: يومُ الخميس وما يوم الخميس!! ثمّ جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خدّيه كأنّها نظام اللؤلؤ وقال: قال رسول اللّه: إئتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً، فقالوا: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يهجر.(3)

فمع هذا الحزن الذي كان يبديه ابن عباس، مضافاً إلى الإصرار الذي أظهره رسولُ اللّه، كيف يمكن القول بأنّ القرآن يغني الأُمّة الإسلامية من هذه الوصية (أو الكتاب) الذي كان النبيّ يريد كتابته.

والآن إذا كان النبي لم يوفق لكتابة الكتاب وإملائه فهل يمكن أن نَحدس - في ضوء القرائن القطعية - ماذا كان ينوي النبيّ كتابته في هذه الرسالة؟

ماذا كان الهدف من الكتاب؟

إنّ الطريقة الجديدة والقويمة في تفسير القرآن الكريم التي أصبحت اليوم موضع عناية المحقّقين والعلماء في هذا العصر هو رفع إبهام الآية

ص:755


1- . النحل: 44.
2- . أنّ بيان مدى حاجة القرآن إلى بيان النبي خارج عن نطاق هذا الكتاب، فاطلبه في محلّه.
3- . صحيح مسلم: 76/5، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به؛ مسند أحمد: 355/1.

وإجمالها في موضوع معيّن بواسطة آية أُخرى تتحدّث عن الموضوع ذاته ولكنّها أوضح من الأُولى دلالة ومفاداً، وبعبارة أُخرى: الاستعانة في تفسير آية بآية أُخرى.

إنّ هذه الطريقة لاتختصُّ بتفسير آيات القرآن بل تنسحب على الأحاديث والروايات الإسلامية أيضاً إذ يمكن رفع الإجمال عن حديث بحديث مشابه، لأنّ القادة الكبار يتحدّثون في موضوع مهمّ وخطير بصورة مؤكّدة ومكرّرة لاتتشابه ولاتتّحد في دلالتها، فقد تكون دلالتها على الآية واضحة، وقد يكون بيان المقصود فيها بالإشارة والكناية حسب المقتضيات.

قلنا: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم طلب من أصحابه وهو في فراش المرض دواة وصحيفة يملي عليهم شيئاً لايضلّون بعده أبداً، ثمّ تسبّب التنازع الذي حدث بين الحاضرين في أن ينصرف من كتابة ما أراد.

يمكن أن يسأل سائل: ما هو الشيء الذي كان يريدُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كتابته في ذلك الكتاب؟

إنّ الاجابة عن هذا السؤال واضحة؛ لأنّه مع أخذ الأصل الذي ذكرناه في مطلع البحث بنظر الاعتبار يجب القول بأنّ هدف النبي لم يكن إلّاتعزيز الوصيّة ودعم خلافة الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وإمرته والتأكيد على لزوم اتّباع أهل بيته الذي صرّح به النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الغدير وغيره.

وهذا المطلب يستفاد من حديث الثقلين المتّفق عليه بين محدّثي السنّة والشيعة، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال في شأن الكتاب الذي نوى كتابته: إنّه يبتغي كتابة شيء لايضلّون بعده أبداً. وقد جاءت هذه العبارة بعينها في حديث الثقلين إذ يقول

ص:756

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معتبراً عدم الضلال بعده معلولاً لاتّباع الكتاب والعترة إذ قال:

«يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضِلّوا: كتابَ اللّه، وعترتي أهلَ بيتي»(1).

ألا يمكن بعد ملاحظة هذين الحديثين والتشابه الموجود بينهما الحدسُ - بصورة قطعية - بأنّ ما كان يهدفه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من طلب الدواة والصحيفة هو مفاد كتابة حديث الثقلين، أو ما هو أعلى ممّا يفيده حديث الثقلين، وهو تعزيز ودعم ولاية الإمام علي عليه السلام وخليفته مباشرة وبلا فصل وهو الذي عيّنه للإمارة والخلافة في الثامن عشر من شهر ذي الحجّة عند مفترق طرق الحجاج المدنيّين والعراقيّين والمصريّين والحجازيّين، وأعلن عن ذلك بصورة شفاهية.

هذا مضافاً إلى أنّ مخالفة مَن شكّل شورى الخلافة في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورشح رفيقه القديم للخلافة بصورة خاصّة بعد رحيل رسول اللّه إلى ربّه، وحصل هو بدوره على أُجرته عند موت الأوّل بصورة نقديّة وعيّنه للخلافة خلافاً لجميع القواعد والأُصول، خير شاهدٍ على أنّ القرائن الّتي كانت في مجلس النبي وكلامه كانت تكشف عن أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يريد أن يملي على كاتبه أمراً يتعلّق بخلافة المسلمين والإمارة والقيادة الّتي أثبتها لعلي وأهل بيته الطاهرين في احاديثه وخطبه.

ولهذا خالف القوم الحضور هذا المطلب بشدّة وحالوا دون الإتيان بالقلم والقرطاس بوقاحة، وخالفوا كتابة شيء، وإلّا فلماذا أصرّوا على المخالفة...

وارتكبوا ما ارتكبوا.

ص:757


1- . سنن الترمذي: 328/5 ح 3874؛ جامع الأُصول: 187/1. وراجع: المراجعات: المراجعة: 8.
لماذا لم يصرُّ النبي على كتابة الكتاب؟

كان في إمكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رغم معاكسات جماعة من أصحابه أن يطلب كاتبه ويكتب الكتاب الذي كان يريد، فلماذا لم يتصرّف هكذا، ولم يستغل مكانته القويّة؛ بل امتنع عن ذلك؟

إنّ الاجابة عن هذا السؤال واضحة: فلو أنّ النبي كان يصرّ على كتابة الكتاب لأصرّوا في الإساءة إلى النبي الذي قالوا عنه أنّه غلبه الوجع أو هجر، ولعمد أنصارهم إلى إشاعة وبثّ هذا الأمر الرخيص، وصنعوا لإثباته الأفاعيل، فكانت تتّسع رقعة الإساءة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الحالة وتستمرّ، فتفقد الرسالة أثرها المنشود.

من هنا عندما قال البعض للنبي - تلافياً لما لحق به من الأذى -: ألا نأتيك بدواة وكتف يا رسول اللّه؟ فقال:

«أبعد الذي قلتم؟ لا ولكنّي أُوصيكم بأهل بيتي خيراً»(1).

تلافي الأمر وتداركه

إنّ مخالفة بعض الصحابة الصريحة وإن صرفت النبي عن الكتابة إلّاأنّه بلّغ مقصوده من طريق آخر، فهو - بشهادة التاريخ - بينما كان يعاني من المرض، والوجع الشديدين، خرج إلى المسجد وهو متوكئ على «عليّ بن أبي طالب» و «ميمونة» مولاته فجلس على المنبر ثم قال:

«يا أيّها الناسُ إنّي تاركٌ فيكم الثقلين».

ص:758


1- . بحار الأنوار: 469/22، نقلاً عن إرشاد المفيد: 184/1.

وسكت، فقام رجل فقال: يارسول اللّه ما هذان الثقلان؟ فغضب حتى احمرّ وجهُه ثم سكن، وقال:

«ماذكرتهما إلّاوأنا أُريد أن أُخبرَكم بهما ولكنْ رَبوتُ فلم استطعْ، سببٌ طرفه بيداللّه، وطرفٌ بأيديكم، تعملون فيه كذا وكذا، ألا وهو القرآن، والثقل الأصغر أهل بيتي».

ثم قال:

«و أيمُ اللّه إنّي لأقولُ لكم هذا ورجالٌ في أصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم».

ثم قال:

«و اللّه لايحبُّهم عبدٌ إلّاأعطاهُ اللّه نوراً يومَ القيامة حتى يرد عليَّ الحوض، ولايبغضهُمْ عبدٌ إلّااحتجب اللّه عنه يوم القيامة»(1).

هذا وقد روى ابن حجر العسقلاني تدارك مافات بصورة أُخرى، ولا تنافي بين الصورتين، إذ يمكن وقوع كليهما.

إنّه يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لأصحابه وقد امتلأت بهم الحجرة وهو في مرضه الذي قبض فيه:

«أيّها الناس يوشَك أن أقبض قبضاً سريعاً، فُينطلَق بي، وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلّفٌ فيكم كتاب اللّه ربي عزّوجلّ، وعترتي أهل بيتي».

ثم أخذ بيد علي عليه السلام فرفعها فقال:

ص:759


1- . بحار الأنوار: 476/22، نقلاً عن مجالس المفيد: 135 برقم 3، المجلس 16.

«هذا عليٌّ مع القرآن والقرآن مع علي، لايفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألهُما ماذا خلّفت فيهما»(1).

فمع أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكر حديث الثقلين(2) قبل مرضه في مواضع متعدّدة وبألفاظ مختلفة، ولفتَ نظر الناس إلى أهميّة هذين الثقلين، ولكنّه لفت الأنظار مرّة أُخرى وهو في فراش المرض أمام جمع من أصحابه الذين حالوا دون كتابة ما أراد إلى عدم افتراق القرآن والعترة، يمكن الحدسُ بأنّ الهدف من التكرار هو تدارك مافات من كتابة الكتاب الذي لم يُوفق لكتابته.

تقسيم الدنانير

دأبَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مجال بيت المال أن يوزع أمواله في أقرب فرصة سانحة بين الفقراء والمحتاجين.

وعندما كان في فراش المرض تذكّر أنّ هناك دنانير عند إحدى زوجاته فطلبها فوراً، فأحضرتها عنده فأخذها صلى الله عليه و آله و سلم بيده وقال:

«ماظنُّ محمَّد باللّه لولقي اللّه وهذه عنده؟ أنفقيها».(3)

وفي رواية: أمر علياً عليه السلام فتصدّق بها(4).

ص:760


1- . الصواعق المحرقة: 126، الباب 9 منِ الفصل الثاني؛ كشف الغمة: 35/2.
2- . حديث الثقلين من الروايات المتفق عليها بين الشيعة والسنة وقد نقل عن الصحابة بأكثر من 60 طريقاً كما يقول ابن حجر العسقلاني في الصواعق ص 136، وقد خصص المرحوم مير حامد حسين الهندي قسماً من موسوعته «العبقات» بذكر اسناد حديث الثقلين ودلالته. وقد طبعت في ستة أجزاء مؤخّراً.
3- . مسند أحمد: 182/6؛ الطبقات الكبرى: 238/2؛ إمتاع الأسماع: 292/2.
4- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 239/2.
غضب النبي من الدواء الذي سقي

لمّا كانت أسماء بنت عميس وهي من قريبات «ميمونة» زوجة النبي صلى الله عليه و آله و سلم والّتي أقامت أيام الهجرة زمناً في الحبشة تعلّمت من أهلها صنع عقار مركّب من النباتات والأعشاب المختلفة، فلمّا اشتكى وأُغمي عليه تصوّرت أنّ الذي دهاه هو داء: «ذات الجنب»، وكانوا في الحبشة يداوون هذا المرض بذلك العقار، فعمدت إلى معالجته بذلك الدواء، بصبّ شيء منه في فم النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولمّا أفاق وعرف بما صنعوا غضب وقال:

«كم ترون أنّ اللّه كان يسلّط عليّ ذات الجنب ما كان اللّه ليجعل لها علي سلطاناً...»(1).

وداع النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع أصحابه

خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أيام مرضه إلى مسجده مراراً يصلّي بالناس، ويذكّرهم أُموراً.

وذات يوم من أيام مرضه أُخرج إلى مسجده معصوب الرأس متّكئاً على «علي» عليه السلام بيمنى يديه وعلى «الفضل» باليد الأُخرى، فصعد المنبر فحمداللّه وأثنى عليه، ثم قال:

«أمّا بَعدُ: أيُّها الناس إنّه قد حان مني خُفوقٌ من بين أظهركم، فمَن كانت له عندي عدة فليأتني أعطه إيّاها، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به».

فقام إليه رجل فقال: يارسول اللّه إنّ لي عندك عدة، إنّي تزوجتُ فوعدتني

ص:761


1- . الطبقات الكبرى: 235/2.

(أن تعطيني) ثلاثة أواق.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «انحلها إيّاه يا فضل» ثم نزل.(1)

فلمّا كان يوم الجمعة - ثلاثة أيام قبل وفاته - صعد المنبر فخطب وقال فيما قال:

«أيُّ رجل منكم كانت له قِبَل محمَّدٍ مظلمة إلّاقام فليقتص منه، فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء».

فقام إليه رجلٌ من أقصى القوم يقال له سوادة بن قيس فقال له: فداك أبي وأُمّي يا رسول اللّه، إنّك لمّا أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري عمداً أو خطأً. فقال: معاذ اللّه أن أكون تعمّدت. ثمّ قال صلى الله عليه و آله و سلم يا بلال: قم إلى منزل فاطمة فائْتني بالقضيب الممشوق....

إنّ طلب النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذا بأن يقتص منه من له ذلك لم يكن مجرّد مجاملة أخلاقية، بل كان صلى الله عليه و آله و سلم يريد أن ينبّه الناس إلى أهمية مثل هذه الحقوق جداً.(2)

ولمّا أُتي بالقضيب إلى رسول اللّه قال صلى الله عليه و آله و سلم: أين الشيخ؟ قال سوادة: ها أناذا يارسول اللّه بأبي أنت وأُمّي، فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«تعال فاقتصَّ مِنّي حتى ترضى».

فقال سوادة: فاكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه....

ص:762


1- . إعلام الورى: 264/1؛ شرح نهج البلاغة: 183/10؛ بحار الأنوار: 467/22.
2- . هذا مضافاً إلى أنّ ضرب بطن سوادة بالقضيب من قِبَل النبي لم يكن عمداً، ولهذا لم يكن له الحق إلّافي أخذ الدية دون القصاص، مع ذلك أراد النبي أن يلبّي طلبه لمّا قال أُريد أن اقتص.

ثم إنّه وسط دهشة الصحابة وحزنهم وغمّهم وبكائهم تقدّم سوادة إلى النبي وقال: أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه، وقبّلَ بطن النبي وصدره الشريف.... فدعا له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال:

«اللَّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمَّد»(1).

ص:763


1- . أمالي الصدوق: 734، المجلس السادس والسبعون.

66 اللحظاتُ الأخيرة

اشارة

كان القلق والاضطراب يلفُّ المدينة المنورة بأسرها، فصحابة النبي يحيطون ببيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعيون باكية وقلوب حزينة ليطّلعوا على صحّته، وكانت تخرج من منزله بين الحين والآخر أخبار عن اشتداد مرضه، وتفاقم وجعه، لتقضي على كلّ أمل بتحسّن حالته، وتجعل الناس على يقين بأنّه لم يبقَ من حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلّاسويعات قلائل، وأنّه سرعان ما تنطفئ الشعلة المقدّسة، التي أنارت العالم بضيائها.

كان فريق من الصحابة يودّون أن يزوروا نبيّهم وقائدهم من قريب ولكن تدهور صحته ماكان ليسمح بذلك، فلم يكن من الممكن أن يتردّد على غرفته إلّا أهل بيته خاصة. ولقد كانت ابنته الكريمة ووديعته الوحيدة فاطمة الزهراء عليها السلام جالسة عند فراش أبيها، تنظر إلى وجهه المشرق، كانت ترى كيف أنّ عرق الموت يتحدر على جبينه وخده مثل حبات اللؤلؤ، فراحت تردّد أبياتا من الشعر وقلبها يعتصره الحزنُ، ويملأ عيونها دموع الأسى والحزن ويكاد تخنقها الغصّة:

وَ أبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه ثمالَ اليتامى عصمةٌ للأرامل

ص:764

وفي هذه اللحظات بالذات فتح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عينيه وقال لابنته الزهراء بصوت خافت:

يا بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لاتقوليه ولكن قولي:

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ» (1).(2)

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يتحدّث مع ابنته الزهراء

لقد كشفت التجربة عن أنّ عواطف الشخصيات الكبرى تجاه أبنائهم تتضاءل أثر تراكم النشاطات وتزايد الاهتمامات والهموم، لأنّ الأهداف الكبرى، والاهتمامات العالية تشغل بالهم وفكرهم إلى درجة لاتترك لهم مجالاً لمشاعرهم العاطفية بالظهور والتجلّي، بيد أنّه يُستثنى الشخصيات الروحانية والمعنوية الكبرى من هذه القاعدة، فهم مع ما يشغل بالهم من الأهداف الكبرى، والاهتمامات العالية، والشواغل اليومية الكثيرة يمتلكون روحاً كبرى ونفسية طيبة سامية فلا يمنعهم عملٌ عن آخر، ولا يشغلهم شُغلٌ عن آخر، فلا مكان للضمور العاطفي والإنساني عندهم في حياتهم الاجتماعية والعائلية.

إنّ محبة النبي صلى الله عليه و آله و سلم لابنته الوحيدة فاطمة كانت من أبرز التجلّيات العاطفية الإنسانية في شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ولهذا لم يُعهَد أن يسافر رسولُ اللّه من دون أن يودّع ابنته، كما لم يُعهَد أن يرجع إلى المدينة من دون أن يزور ابنته قبل أي أحد، كما كان يحترمها عند زوجاته احتراماً لائقاً بها ويقول لأتباعه:

ص:765


1- . ال عمران: 144.
2- . إرشاد المفيد: 187/1؛ بحار الأنوار: 470/22.

«فاطمةُ بَضعةٌ منّي فمن أغضَبها أغضبني»(1).

كما أنّ رؤية فاطمة كانت تذكّره بأشد نساء العالمين طهراً ووفاء، وعطفاً ولطفاً، (خديجة) التي تحمّلت في سبيل أهداف زوجها المقدّس متاعب كبيرة، وبذلت ثروتها كلّها في سبيل تلك الأهداف بإخلاص ورغبة.

كانت فاطمة الزهراء عليها السلام تلازم فراش والدها النبي صلى الله عليه و آله و سلم طوال أيّام مرضه، ولا تفارقه لحظة واحدة، وفجأة أشار النبيّ إلى ابنته يطلب منها أن تقرب رأسها إلى فمه ليحدّثها، فانحنت فاطمة حتى صار رأسها قريباً من فمه الشريف ثم راح النبي صلى الله عليه و آله و سلم يحادثها بصوت ضئيل ولم يعرف مَن كان هناك ماذا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لابنته الطاهرة في تلك النجوى؟ وإنّما شاهدوا الزهراء تبكي بشدّة لمّا انتهى والدها من حديثه وسالت دموعها بغزارة، ولكنّهم شاهدوا أنّ النبي أشار إليها مرة أُخرى وحدّثها بشيء فسرّت فاطمة وتهلّلت أسارير وجهها، وتبسّمت مستبشرة.

فأثارت هاتان الحالتان المتضادتان المتزامنتان الحضور وبعثتهم على التعجّب والدهشة، فلمّا سألوها عن سرّ ذلك الحزن، وهذه الفرحة، وطلبوا منها أن تذكر لهم علّة هاتين الحالتين المتضادتين قالت:

«ما كنت لأُفشي سرَّه».

ثم بعد أن قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كشفت الزهراء عليها السلام عن الحقيقة بناء على إصرار عائشة وقالت: أخبرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه يُقبَض في وجعه هذا، فبكيتُ،

ص:766


1- . صحيح البخاري: 210/4، باب مناقب قرابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومنقبة فاطمة عليها السلام؛ و ص 219، باب مناقب فاطمة عليها السلام.

ثم أخبرني أنّي أوّل أهله لحاقاً به فضحكتُ (1).

مسواكُ النبي قبيل وفاته

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يستاك كلّ ليلة قبلَ النوم كما كان يستاك بعد أن يستيقظ من نومه، وكان مسواكُ النبي من شجرة الأراك التي تنفع جدّاً في تقوية اللثة، وإزالة الأوساخ وبقايا الطعام عن الأسنان.

وذات يوم دخل أخو عائشة عبد الرحمن على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليعوده وبيده سواكٌ أخضر، فنظر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليه - وهو في يده - نظراً عرف أنّه يريده فقال عبد الرحمن: يارسول اللّه تريد أن أعطيك هذا السواك؟ فقال: نعم، فقدّمه إلى النبي فوراً، فأخذه صلى الله عليه و آله و سلم واستنّ به كأشدّ ما رأيته يستن بسواك قط، ثم وضعه(2).

وصايا النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبيل رحيله

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خلال فترة مرضه ووجعه يولي إعطاء التعاليم والتذكير بما فيه هداية الناس اهتماماً بالغاً، فقد كان يوصي بالصلاة ورعاية الرقيق في الأيام الأخيرة من حياته الشريفة ويقول:

«الصَلاة الصلاة وما ملكَتْ أيمانُكم...».

وفي رواية أُخرى قال صلى الله عليه و آله و سلم: «اللّه اللّه فيما ملكت أيمانكم، ألبسوا ظهورَهُمْ،

ص:767


1- . الطبقات الكبرى: 247/2؛ الكامل في التاريخ: 323/2؛ إمتاع الأسماع: 422/14.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 234/2، السيرة النبوية لابن هشام: 1069/4.

وأشبعوا بطونَهم، وألينوا لهم القَوْلَ»(1).

وقد سأل كعب الأحبار عمر بن الخطاب بعد وفاة رسول اللّه وفي إيام خلافة الأخير: ما كان آخر ماتكلّم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ فقال عمر: سَلْ عليّاً. قال: أين هو؟ قال: هو هنا، فسأله.

فقال علي عليه السلام:

«أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال: الصلاة الصلاة.

فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء، وبه أُمروا، وعليه يبعثون(2).

وقد فتح النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم عينيه في آخر لحظة من حياته الشريفة وقال:

«أدعوا لي أخي».

فعرف الجميع بأنّه يريد علياً عليه السلام فدعَوا له علياً فقال:

«أُدنُ منّي».

فدنا منه عليُّ عليه السلام فاستند إليه فلم يزل مستنداً إليه يكلّمه(3).

فلم يلبث أن بدت عليه صلى الله عليه و آله و سلم علامات الاحتضار.

سأل رجلٌ ابن عباس: أرأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم توفّي ورأسه في حجر أحد؟ قال: توفّي وهو لمستند إلى صدر علي.

فقال السائل: قلتُ: فإنّ عروة حدّثني عن عائشة أنّها قالت: تُوفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين سَحْري ونَحْري.

ص:768


1- . الطبقات الكبرى: 254/2.
2- . الطبقات الكبرى: 262/2-263.
3- . الطبقات الكبرى: 263/2.

فقال ابن عباس: أتعقلُ؟! واللّه لتُوفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأنّه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الذي غسّله، وأخي الفضل بن عباس(1).

وقد صرّح بذلك أمير المؤمنين علي عليه السلام في إحدى خطبه حيث قال:

«وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي. وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي. وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ صلى الله عليه و آله و سلم وَالْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي»(2).

وينقل بعض المحدّثين أنّ آخر جملة قالها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في آخر لحظة من حياته الشريفة هي جملة: «بل الرفيق الأعلى»(3)، وكأنَّ ملك الموت خيّره عند قبض روحه الشريفة في أن يصحَ من مرضه ويبقى أو يلبّي دعوة ربّه، ويلتحق بالرفيق الأعلى، فعبّر بجملته هذه عن رغبته في اللحاق بربه، ليعيش مع الذين أشار إليهم قولُه سبحانه:

«فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» (4).

قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذا ولفظ أنفاسه الشريفة(5).

يوم الوفاة

في منتصف يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر صفر(6) عرجت روحُ

ص:769


1- . الطبقات الكبرى: 263/2.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 197.
3- . لاحظ: تاريخ الطبري: 441/2؛ الكامل في التاريخ: 321/2 و 322؛ إمتاع الإسماع: 500/14 و 50.9
4- . النساء: 69.
5- . لاحظ: إعلام الورى: 269/1؛ الطبقات الكبرى: 230/2.
6- . وهو ما اتّفق عليه محدثّو الشيعة ومؤرّخوهم، ونقل في السيرة النبوية لابن هشام: 1069/4 بصورة: قيل.

النبي الأكرم المقدّسة إلى بارئها، وإلى جنان الخلد، فسُجّيَ ببُرد يماني، ووضع في حجرته بعض الوقت، وارتفعت صرخات العيال، وعلا بكاء الأقارب، فعرف من كان خارج المنزل أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد قضى، فلم يلبث أن انتشر نبأُ وفاته في كلّ أنحاء المدينة التي تحوّلت بسرعة إلى مناحة كبرى، ومأتم عظيم.

فصاح الخليفة الثاني خارج البيت ولأسباب خاصّة أنّ النبيّ لم يَمُتْ إنّما عُرج بروحه كما عُرج بروح موسى، وأنّه لايموت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم! وأصرّ على هذا الموقف وهدَّد كلّ من يخالف ذلك، وكاد أن يوافق عليه فريقٌ من الناس لولا أن أبا بكر تلا عليه قول اللّه سبحانه:

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» .(1)

حتى فرغ من الآية، فسحَب عمر موقفه، مستغرباً من وجود مثل هذه الآية قائلاً: هذا في كتاب اللّه؟(2)

ثم قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بتغسيل جسد النبي الطاهر وكفّنه، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان قد قال: «يغسّلني أقرب الناس إليّ» ولم يكن ذلك سوى علي عليه السلام.

ولمّا فرغ «عليٌّ» من تغسيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم كشف الإزار عن وجهه صلى الله عليه و آله و سلم وقال والدموع تنهمر من عينيه الشريفتين:

«بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللّهِ! لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ. خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ،

ص:770


1- . آل عمران: 144.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 267/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1069/4-1070.

وَعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً. وَلَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ، وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً، وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً، وَقَلَّا لَكَ! وَلكِنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ، وَلَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ!»(1).

ثم إنّ الإمام أمير المؤمنين «علي بن أبي طالب» عليه السلام كان أوّل مَن صلّى على جثمان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم صلّى عليه المسلمون جماعة جماعة، ثم تقرر دفنُه صلى الله عليه و آله و سلم في حجرته المباركة.

فقام أبو عبيدة الجراح وزيد بن سهل بحفر قبر له صلى الله عليه و آله و سلم وإعداده ثم دُفِنَ صلى الله عليه و آله و سلم في تلك الحفرة على يد أمير المؤمنين علي عليه السلام يساعده في ذلك الفضل والعباس.(2)

وهكذا غربت شمس أعظم شخصية غيّرت مسار التاريخ البشري بتضحياته الكبرى وجهوده المضنية، وأعظم رسول إلهي فتح أمام الإنسانية صفحات جديدة ومشرقة من الحضارة والمدنية.

ولكن ظهرت على الساحة برحيله مشكلات عديدة كان لها أثرٌ في استمرار رسالته، ومواصلة أهدافه التي من أهمها مسألة الخلافة وموضوع القيادة في المجتمع الإسلامي، وقد بدت بعضُ بوادر الاختلاف في الأوساط الإسلامية حتى قبل رحيله.

غير أنّ هذا القسم وإن كان قسماً مهمّاً وخطيراً من تاريخ الإسلام، إلّاأنّه خارجٌ عن إطار بحثنا هذا (وهو دراسة وتحليل الشخصية المحمدية وحياة النبي

ص:771


1- . نهج البلاغة: الخطبة 235.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1076/4 وما بعدها.

الرسالية والسياسية والعسكرية).

من هنا فإنّنا نختم حديثنا هذا بالشكر للّه تعالى على هذه النعمة الكبرى، والحمدللّه رب العالمين(1).

جعفر السبحاني

شعبان المعظم 1390 ه

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

ص:772


1- . تمّ تدوين هذه المحاضرات وتوثيقها وتحقيقها في شهر شعبان المعظم عام 1409 هجرية في مدينة قم والحمد للّه رب العالمين. جعفر الهادي

فهرس المحتويات

الموضوع الصفحة

مقدّمة المؤلّف: مُميّزات النهضة الإلهية وخصائصها... 7

خصيصة «الخلود» والعمق في شخصية رسول الإسلام... 7

المصادر الأُولى والأصيلة للكتابة عن سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 10

حوادث السنةِ الأُولى من الهجرة... 14

27

أوَّل عمل إيجابي للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة

عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم... 14

مع عمّار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ... 17

ضئرٌ أرأف من والدة!!... 22

التآخي أعظم معطيات الإيمان... 24

منقبتان عظيمتان... 25

منقبةٌ أُخرى لعليّ عليه السلام... 26

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب... 27

أعظم معاهدة تاريخية... 29

ممارسات اليهود الإجهاضية... 35

ص:773

الموضوع... الصفحة

إسلام عبداللّه بن سلّام... 36

خطةٌ يهودية أُخرى للقضاءِ على الحكومة الإسلامية... 37

حوادث السنة الثانية من الهجرة... 41

28

مناوراتٌ عسكرية

واستعراضاتٌ حربية

تهديد خطوط قريش التجارية... 42

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يلاحق قريشاً بنفسه... 45

ما هو الهدف من المناورات العسكرية؟... 50

نظرية المستشرقين... 51

29

تحويل القبلة

من بيت المقدس إلى الكعبة... 56

كرامةٌ علمية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 61

30

معركة بدر الكبرى

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يتوجّه إلى منطقة ذَفران... 64

المشكلة الّتي كانت تواجهها قريش... 67

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعقد شورى عسكرية... 69

إخفاء الحقائق وكتمانها... 70

قرار الشورى الحاسِم أو رأي زعيم الأنصار... 72

جمع المعلومات حول العدوّ... 73

ص:774

الموضوع... الصفحة

كيف هربَ أبو سفيان؟... 76

علم المسلمين بإفلات قافلة قريش... 77

إختلاف قريش في القتال... 77

«العريش» أو غرفة القيادة... 80

نظرة إلى مسألة «العريش»... 80

تحرّك قريش باتّجاه بدر... 83

قريش تتشاور في القتال... 83

اختلاف قادة قريش في أمر القتال... 84

ما هو الأمر الّذي حتّم القتال؟... 87

المبارزات الفردية أوّلاً... 87

أيّ القولين هو الأصحّ؟... 89

الهجومُ العامُّ... 90

رعاية الحقوق... 92

مصرع أُميّة بن خلف... 92

خسائر بدر في الأرواح والأموال... 93

«ما أنتم بأسمع منهم»... 94

الشعر يخلّد هذه القصة... 95

بعد معركة بدر... 97

قتل أسيرين في أثناء الطريق... 99

بشائر النبيّ إلى المدينة... 101

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم... 101

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر... 102

ص:775

الموضوع... الصفحة

المنع من النَوح والبكاء في مكة... 103

رسول الإسلام ومكافحة الأُميّة... 104

ما ورد في السيرة حول مصير الأسرى... 105

كلام لابن أبي الحديد في المقام... 107

القرآن يتحدّث عن معركة بدر... 109

31

زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه

مشاكل الزواج في العصر الحاضر... 115

رسول الإسلام يكافح هذه المشاكل عمليّاً... 116

جهاز فاطمة... 120

مراسم الزواج تقام ببساطة... 123

محاولات يائسة للنيل من علي وفاطمة عليهما السلام... 126

العلّامة الأميني يرد على افتراءات المستشرق النصراني الحاقد... 127

العقّاد والنيل من فاطمة عليها السلام... 137

32

جرائم «بني قينقاع»

لهيب الحرب يبدأ من شرارة... 142

تقارير جديدة تصل إلى المدينة... 146

قريش تغيّر مسير تجارتها... 150

حوادث السنة الثالثة من الهجرة... 152

ص:776

الموضوع... الصفحة

33

الدفاع عن الحريّة

غزوة أحد أو الدفاع عن الحريّة عند جبل أُحُد... 152

إغتيال مفسد آخر... 156

قريش تتكفّل نفقات الحرب... 156

الاستخبارات ترفع تقريراً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 159

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة... 159

منطقة «أُحد»... 161

المشاورة في كيفية الدفاع... 162

المشاورات العسكرية... 163

الاقتراع من أجل الشهادة!!... 164

حصيلة الشورى... 166

النبيُّ يلبس لامة الحرب... 167

النبيّ يخرجُ مِنَ المَدينة... 168

جنديان فدائيان... 169

العسكران يصطفّان... 173

رفع معنويات الجنود وتقوية عزائمهم... 175

العدوّ ينظّم صفوفه... 176

الإثارة النفسيّة وإلهاب الحماس... 176

بداية القتال... 178

المقاتلون بدافع الشهوة!!... 181

الهزيمة بعد الانتصار... 182

ص:777

الموضوع... الصفحة

شائعة مقتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 185

هل يمكن إنكار فرار بعض الصحابة من أرض المعركة؟... 186

القرآن يكشف عن بعض الحقائق... 188

التجارب المرّة... 190

خمسة يتحالفون على قتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 192

الدفاع الموفق أو النصر المجدّد... 196

بقية أحداث واقعة «أُحد»... 207

العدوُّ يحاول استغلال الفرصة... 208

نهاية المعركة... 210

آخر ما نطق به سعدُ بن الربيع... 213

النبيّ يعود إلى المدينة... 214

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة... 217

نموذج آخرٌ من النسوة المجاهدات... 217

لابدّ من ملاحقة العدو... 220

حمراءُ الأسد... 223

لا يُخدَعُ مؤمن مرّتين... 225

ميلاد الإمام الحسن السبط... 226

حوادث السنة الرابعة من الهجرة... 227

34

فاجعة فريق المبلّغين

خطّة ماكرة للفتك بالمبلّغين... 228

الغدر بالدعاة إلى الإسلام وقتلهم... 230

ص:778

الموضوع... الصفحة

جريمة بئر معونة... 234

كيدُ المستشرقين وجفاؤهم... 236

المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين... 237

35

غزوة «بني النضير»

بماذا يجب أن تقابل هذه الجريمة؟... 241

المستشرقون و دموع التماسيح... 243

دور حزب النفاق أيضاً... 244

مزارع بني النضير تقسَّم بين المهاجرين فقط... 247

36

تحريم الخمر، ذات الرقاع، بدر الصغرى

تحريم الخمر... 250

وقفة عند «البيان الشافي»... 255

رواية مختلَقَة... 256

غزوةُ ذات الرقاع... 261

مواقف خالدة في هذه الغزوة... 263

الحُرّاس الصامدون... 263

غزوة بدرٌ الصغرى... 264

ولادةُ السِبط الأصغر لرسول اللّه... 266

حوادث السنة الخامسة من الهجرة... 267

ص:779

الموضوع... الصفحة

37

من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

مَن هو زيد بن حارثة؟... 268

زيدٌ يتزوّج بابنة عمّة النبيّ... 269

زيد يطلّق زوجته... 270

زواج النبيّ بمطلقة متبنّاه لإبطال سنة جاهلية أُخرى... 271

المستشرقون وقضية زواج النبيّ بزينب... 275

توضيح عبارتين... 280

38

غزوة الأحزاب

1. غَزوة دُومة الجندل... 286

2. غزوة الخندق (الأحزاب)... 287

استخبارات المسلمين ترفع تقريراً للقيادة... 291

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان... 294

مقاتلو العرب واليهود يحاصرون المدينة... 295

العدد الدقيق لقوّات الطرفين... 295

خطر البرد، وتناقص الغذاء والعلف... 296

حيي بن أخطب يدخل حصن بني قريظة... 297

النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد... 299

تجاوزات بني قريظة الأوّلية... 300

الإيمانُ في مواجهة الكفر... 302

أبطالٌ من العرب يَعبُرونَ الخندق... 304

تصاول البطلين... 308

ص:780

الموضوع... الصفحة

قيمة هذه الضربة... 309

لماذا التنكّر لهذا الموقف؟... 310

مروءة عليّ عليه السلام وشهامته... 312

جيش العرب يتفرّق في موقفه... 313

العوامل الّتي فرّقت كلمة «الأحزاب»... 315

مبعوثو قريش يمشون إلى بني قريظة... 317

آخر العوامل لهزيمة الكفّار... 318

القرآن الكريم و معركة الأحزاب... 319

حوادث السنة الخامسة من الهجرة... 325

39

سقوط آخر أَوكار الفساد والمؤامرة

قوات الإسلام تحاصر بني قريظة... 326

اليهودُ يتشاورون حول الموقف... 327

خيانةُ أبي لبابة... 330

إلى أيّ مدى ذهب الطابورُ الخامس في مشاغبته؟... 333

تقييم ما استند إليه سعد في حكمه... 335

حوادث السنة السادسة من الهجرة... 341

40

أعداء الإسلام تحت المراقبة المشدّدة

أهل الرأي من قريش يهاجرون إلى الحبشة... 343

الوقاية من تكرار التجارب المرّة... 345

غزوةُ ذي قَرد... 346

ص:781

الموضوع... الصفحة

النذر غير المشروع... 347

41

تمرّد بني المُصطَلِق

غزوة بني المُصطلِق... 350

أوّل خلاف بين المهاجرين والأنصار... 351

منافق حاول إشعال الموقف... 352

صراعٌ بين الإيمان والعاطفة... 355

الزَواجُ المبارك... 358

الفاسق يفتضح... 359

42

قصّة الإفك

المنافقون يتّهمون شخصاً نقيّ الجيب... 362

أبرز النقاط في آيات «الإفك»... 364

الزيادات في هذه القصّة... 366

1. منافاتها لمقام النبوّة والعصمة... 366

2. سعدُ بن معاذ توفّي قبل حادثة «الإفك»... 368

الرواية الأُخرى في سبب النزول... 370

43

رحلةٌ سياسيّةٌ دينيّةٌ

مندوبُو قريش عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 377

رسول اللّه يبعث مندوباً إلى قريش... 380

النبيُ يبعث سفيراً آخر إلى قريش... 381

بيعةُ الرضوان... 383

ص:782

الموضوع... الصفحة

سهيلُ بن عمرو يفاوضُ رسولَ اللّه... 384

التاريخ يعيد نفسه... 387

نَصُّ صُلح الحديبية... 388

نشيد الحرية... 389

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح... 391

تقييم عاجل لصلح الحديبية... 394

قريش تصرُّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة... 398

النساءُ المسلمات لا يُسلَّمن إلى قريش... 401

حوادث السنة السابعة من الهجرة... 402

44

النبيّ يعلن عن رسالته العالمية

الرسالةُ المحمَّدية كانت عالمية... 404

آيات تدلّ على عالمية الرسالة المحمَّدية... 405

رُسُل الإسلام إلى المناطق النائية... 406

أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية... 408

رسولُ النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الروم... 409

قيصر يحقّق حولَ النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 411

أثر رسالة النبي إلى قيصر... 414

سَفير النبيّ في البلاط الإيراني... 415

نظرية اليعقوبي... 417

أوامر «خسرو» إلى واليه على اليمن... 418

سفيرُ النبيّ في أرض مصر... 421

المقوقس يكتب كتاباً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 424

ص:783

الموضوع... الصفحة

المغيرة بن شعبة في البلاط المصري... 425

سفير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الذكريات «الحبشة»... 427

محاورة بين سفير النبيّ وحاكم الحبشة... 429

رسالة النجاشي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 430

تقييم سريع لمراسلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم قادة العالم... 431

كتاب رسول اللّه إلى أمير الغساسنة (بالشام)... 434

سادس السفراء في أرض اليمن... 436

رسائل أُخرى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 438

45

قلعة خيبر أو بُؤرة الخطر

إحتلالُ النقاط والطرق الحسّاسة ليلاً... 444

متاريس اليهود تتهاوى... 446

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة... 449

فتح الحصون الواحد تلو الآخر... 451

الانتصار الكبير في خيبر... 454

تحريف الحقائق... 457

ثلاث نقاط مشرقة في حياة علي عليه السلام... 460

عوامل الانتصار... 461

1. التخطيط والتكتيك العسكري الدقيق... 462

2. تحصيلُ المعلومات حول العدوّ... 463

3. تفاني امير المؤمنين عليه السلام... 465

الرحمة في ساحة القتال... 465

مصرع كنانة بن الربيع... 466

ص:784

الموضوع... الصفحة

تقسيم غنائم الحرب... 467

قافلة من أرض الذكريات... 468

حجم الخسائر وعدد القتلى... 470

العفو بعد الانتصار... 470

سلوك اليهود المتعجرف... 473

حيلة مُجازة... 476

46

قصّة فَدَك

حكم الأراضي المفتوحة بلا قتال... 480

قصّة فدك بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 483

فدك في محكمة التاريخ... 487

السيطرة على وادي القُرى... 488

47

عمرة القضاء

النبي يدخل مكّة... 492

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يغادر مكّة... 495

أحداث السنة الثامنة من الهجرة... 498

48

معركة مؤتة

حادثة أفجع من السابقة... 500

خلافٌ حول مَن هو الأمير الأوّل؟... 502

جيشا الإسلام والروم يتواجهان... 505

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة... 508

ص:785

الموضوع... الصفحة

الجنود يعودون إلى المدينة... 510

أُسطورة بدل التاريخ الصحيح... 511

النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر... 512

49

غَزوةُ ذات السَلاسِل

تفاصيل هذه الغزوة... 516

الإمام عليٌّ ينتدَب لقيادة العملية... 518

عوامل انتصار الإمام عليّ في هذه الموقعة... 519

إعتراض وجواب... 521

50

فَتحُ مَكَّة

تفاصيلُ فتح مكَّة... 525

قريشُ تتوجّس خيفة من ردّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 529

جاسوسٌ يُكتَشف!... 532

النبي يتحرّك باتجاه مكّة... 539

العفو عند المقدرة... 541

تكتيكٌ رائع لجيش الإسلام... 544

العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 546

أبوسفيان بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 547

مكّة تستسلم من دون إراقة دماء... 549

أبو سفيان يرجع إلى مكّة... 553

القواتُ الإسلامية تدخل مكّة... 555

ص:786

الموضوع... الصفحة

كسرُ الأصنام وغسل الكعبة... 557

عليٌّ عليه السلام على كَتِف النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 560

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يعلنُ عن العفو العام... 563

بلالُ يرفع الأذان على سطح الكعبة... 563

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يتحدّث إلى أقاربه... 565

خطابُ النبي التاريخي في المسجد الحرام... 566

1. التفاخر بالنسَب... 567

2. التفاضل بالقومية العربية... 568

3. لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض... 568

4. الحروب الطويلة والأحقاد القديمة... 569

5. الأُخوّة الإسلامية... 570

معاقبة المجرمين... 570

قصّة عكرمة وصفوان... 572

مبايعة النبي نساء مكّة... 573

هدمُ بيوت الأصنام بمكّة وما حولها... 576

جرائم أُخرى لخالد... 579

51

معركة حنين

جيشٌ قليل النظير... 582

الحصول على المعلومات العسكرية... 583

تجهيزات المسلمين... 585

صمود النبي ومَن ثَبتَ من أصحابه... 586

غنائمُ الحرب... 588

ص:787

الموضوع... الصفحة

لقطتان من الخلق النبوي العظيم... 588

52

غزوة الطائف

شدخُ جدار الحصن بالمنجنيق... 593

ضغوطٌ اقتصادية ونفسية... 594

آخر محاولة لفتح حصن الطائف... 595

جيشُ الإسلام يعود إلى المدينة... 596

حوادث ما بعد الحرب... 597

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يلتقي الشيماء أُخته من الرضاعة... 601

اسلام مالك بن عوف... 602

تقسيم الغنائم... 603

رسول اللّه يعتمر... 607

53

لاميّة كعب بن زهير المعروفة «بانت سعاد...»

قصّة كعب بن زهير بن أبي سلمى... 610

حُزنٌ قارَن فَرحاً... 613

حوادث السنة التاسعة من الهجرة... 615

54

عليُّ بن أبي طالب في أرض طيّ

عام الوفود... 615

هدم بيوت الأصنام... 618

عليٌ في أرض طيّ... 619

قصة إسلام عدي بن حاتم الطائي... 620

ص:788

الموضوع... الصفحة

55

غَزْوَةُ تَبُوك

تعبئةُ المقاتلين وتهيئة نفقات الحرب... 626

المتخلِّفُون عن القتال... 626

اكتشافُ شَبكّةٍ جاسُوسيَّة في المدينة... 628

عدمُ مشاركة «عليّ» عليه السلام في غزوة تَبُوك... 630

جيش الإسلام يتحرّك نحو تبوك... 632

النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يَستعرضُ جيشَهُ... 633

قصّة مالك بن قيس... 634

مصاعبُ الطريق... 635

تعليماتٌ احتياطيّة... 636

علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمغيّبات... 637

إخباره بمغيَّب آخر... 638

جيش الإسلام في أرض تبوك... 641

بعث خالد إلى دَومة الجندل... 644

تقييم إجماليٌ لغزوة تبوك... 645

المنافقون يخطّطُون لاغتيال النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 647

النيّة تقومُ مقام العمل... 648

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ... 650

قصّة مسجد ضرار... 652

56

وَفد ثقيف في المدينة

وقوع الفرقة والاختلاف في قبيلة ثقيف... 656

ص:789

الموضوع... الصفحة

وَفْدُ ثَقِيف... 657

شروط وَفد ثقيف... 659

57

إعْلان البراءة من المشركين في منى

تعصّبٌ بغيضٌ في تحليل هذا الحدث... 668

حوادث السنة العاشرة من الهجرة... 671

58

في رثاء الولد العزيز

اعتراض غير وجيه... 673

مكافحة الخرافات... 675

59

وفد نجران في المدينة

مفاوضاتُ وَفد نجران مع النبي... 679

خروجُ النبي صلى الله عليه و آله و سلم للمباهلة... 681

إنصراف وَفْد نجران عن المباهلة... 683

صورةُ العهد النبويّ لأهْل نجران... 684

أكبر فضيلة... 685

60

تاريخ المباهلة عاماً وشهراً ويوماً

عام المباهلة حسب المشهور... 688

الشهر واليوم الّذي وقعت فيه المباهلة... 688

رأينا حول عام المباهلة... 690

زمن المباهلة يوماً وشهراً... 692

ص:790

الموضوع... الصفحة

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟... 697

61

1. تقييم البراءة من المشركين

2. وفود القبائل في المدينة

محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 701

أمير المؤمنين في ربوع اليمن... 703

62

حجّة الوداع

الإمام علي عليه السلام يعود من اليمن... 710

شروع مراسِمُ الحج... 712

خطابُ النبيّ التاريخي في حجّة الوداع... 713

63

إكمال الدين الإسلامي بتعيين الخليفة

اقتضاءُ المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة... 721

1. النبوّة والإمامة توأمان... 725

2. قصّة الغدير... 726

واقعة الغدير خالدة إلى الأبد... 729

الدلائل الأُخرى على أبديّة الغدير... 731

64

1. المتنبّئون كَذباً

2. التفكير في أمر الروم

لمحة عابرة عن هوية مسيلمة... 739

ص:791

الموضوع... الصفحة

التفكير في أمر الرُّوم... 741

الأعذارُ غير المقبولة... 746

الاستغفار لأهل البقيع... 747

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة... 749

65

الكتابُ الذي لم يُكتب

إيتوني بقلم وقرطاس... 751

ماذا كان الهدف من الكتاب؟... 755

لماذا لم يصرُّ النبي على كتابة الكتاب؟... 758

تلافي الأمر وتداركه... 758

تقسيم الدنانير... 760

غضب النبي من الدواء الذي سقي... 761

وداع النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع أصحابه... 761

66

اللحظاتُ الأخيرة

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يتحدّث مع ابنته الزهراء... 765

العاطفية بالظهور والتجلّي، بيد أنّه يُستثنى الشخصيات الروحانية

والمعنوية... 765

مسواكُ النبي قبيل وفاته... 767

وصايا النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبيل رحيله... 767

يوم الوفاة... 769

فهرس المحتويات... 773

ص:792

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.