فقه أهل البیت علیهم السلام بین السنة و الشیعة: دراسة موجزة للتعرف علی اهل البیت علیهم السلام و مصادر فتاواهم ...

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar

عنوان و نام پديدآور : فقه أهل البیت علیهم السلام بین السنة و الشیعة: دراسة موجزة للتعرف علی اهل البیت علیهم السلام و مصادر فتاواهم .../ تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر : قم: موسسه امام صادق(ع)، 1440ق.= 2019م.= 1398.

مشخصات ظاهری : 112ص.؛ 14/5×21س م.

شابک : 978-964-357-626-4

يادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه: ص. [105] - 108؛ همچنین به صورت زیرنویس.

عنوان دیگر : دراسة موجزة للتعرف علی اهل البیت علیهم السلام و مصادر فتاواهم ... .

موضوع : چهارده معصوم -- فضایل

موضوع : *Fourteen Innocents of Shiite -- Virtues

موضوع : فقه جعفری -- دفاعیه ها

موضوع : *Islamic law, Ja'fari -- Apologetic works

موضوع : حجیت (فقه)

موضوع : *Authoritativeness (Islamic law)

رده بندی کنگره : BP36

رده بندی دیویی : 297/95

شماره کتابشناسی ملی : 6063605

وضعيت ركورد : ركورد كامل

ص:1

اشارة

ص:2

فقه أهل البيت عليهم السلام بين السنّة والشيعة

ص:3

ص:4

فقه أهل البيت عليهم السلام

بين السنّة والشيعة

دراسة موجزة للتعرّف على أهل البيت عليهم السلام ومصادر فتاواهم

وحجّيتها على كافة المسلمين ورجوع كبار الفقهاء إليهم

ودراسة مصادر وخصائص المدرسة الفقهية للشيعة الإمامية

تأليف

الفقيه المحقّق

جعفر السبحاني

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:5

السبحاني التبريزي، جعفر، 1347 -

فقه أهل البيت عليهم السلام بين السنّة والشيعة / تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1398.

112 ص.

فهرست نويسى بر اساس اطلاعات فيپا. 4-626-357-964-978: ISBN

كتابنامه همچنين به صورت زيرنويس.

1. فقه أهل اليت عليهم السلام -- مدرسه فقهى اهل البيت. الف. مؤسسه امام صادق عليه السلام. ب. عنوان.

3 الف 2 س/ 103/3 / BP 297/159

1398

اسم الكتاب:... فقه أهل البيت عليهم السلام بين السنّة والشيعة

المؤلّف:... جعفر السبحاني

الموضوع:... مباحث حول فقه الإمامية

الطبعة:... الأُولى

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تاريخ الطبع:... 1398 ه. ش/ 1440 ه. ق/ 2019 م

الكمية:... 1000 نسخة

القطع:... رقعي

التنضيد والإخراج:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1033 تسلسل الطبعة الأُولى: 486

توزيع

مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

37745457؛ 09121519271

http://www.imamsadiq.org

http://www.Tohid.ir

ص:6

بسم الله الرحمن الرحيم

فقه أهل البيت عليهم السلام بين السنّة والشيعة

* فقه أهل البيت عليهم السلام بين السنّة والشيعة(1)

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله محمد المصطفى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الميامين وعباد اللّه الصالحين.

نتقدم بالشكر الوافر إلى كافة المشاركين في هذا المحفل العلمي الكريم، ونخصّ بالذكر الأخوة المشرفين، ومسؤولي جامعة قطر العامرة.

***

الموضوع الّذي نحن بصدد دراسته، يحتل أهمية بارزة على

ص:7


1- . ألقي موجز هذه الرسالة في الندوة الدوليّة حول فقه أهل البيت بين السنّة والشيعة في الدوحة، قطر عام 1429 ق، الموافق 1387 ش، وأعيد طبعه مع تنقيح بعض المواضع عام 1440 ق.

صعيد الوحدة الإسلامية المنشودة، وسنبحثه في فصلين بينهما ارتباط وثيق، وهما:

الأوّل: التعرف على أهل البيت وفقههم.

الثاني: التعرف على المدرسة الفقهية للشيعة الإمامية، المقتبسة من أهل البيت وفقههم، المصادر والخصائص، ودور العرف والعادة والسيرة وبناء العقلاء، ومقاصد الشريعة في مباحث الفقه الإمامي.

والحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم المقدسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:8

الفصل الأوّل: التعرّف على أهل البيت وفقههم

اشارة

التعرّف على أهل البيت وفقههم

وفيه محاور:

1. من هم أهل البيت؟

2. ما هو الدليل على حجّية فتاواهم على المسلمين كافة؟

3. مصادر فتاواهم

4. رجوع كبار الفقهاء إلى أئمة أهل البيت في أعصارهم

ص:9

ص:10

المحور الأوّل: مَن هم أهل البيت؟

اشارة

مَن هم أهل البيت؟

إنّ لفظة «أهل البيت» مركبة من كلمتين؛ «الأهل» و «البيت»، وكل منهما واضح المعنى، إنّما الكلام فيما إذا أضيف الأهل إلى البيت أو إلى الرجل فماذا يراد منها؟

هنا آراء ثلاثة في تفسير المراد من المركب.

1. أنّها تشمل كل من له صلة وطيدة مؤكدة (من نسب أو سبب أو غيرهما) بالبيت والرجل، من غير فرق بين الأزواج والأولاد.

ويستفاد هذا من كتب اللغة وموارد استعمالها في الكتاب والسنّة، وفي ما ورثناه من الأدب والشعر.

2. أنّها تختصّ بالزوجات.

3. أنّها تختصّ بالأولاد.

وكل من الرأيين الأخيرين شاذ، يخالف نصوص القرآن والسنة، فالقرآن الكريم استعمل الأهل في زوجة موسى، قال سبحانه:

«فَلَمّا

ص:11

قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً» (1).

واستعملها أيضاً في الأولاد، قال سبحانه حاكياً عن نوح عليه السلام:

«إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ» (2). ولا ينافيه قوله سبحانه:

«إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» (3) كما هو واضح لمن تدبر في خطاب نوح.

إلى غير ذلك من دلائل متوفرة في استعمال الأهل المضاف إلى البيت والرجل في كلا الموردين.

هذا فيما يتعلّق بتحديد المفهوم، وهنا بحث آخر، وهو أنّه هل أُريد من آية التطهير كل من انتمى إلى البيت من أزواج وأولاد، أو أنّ هناك قرائن خاصة على أنّ المقصود قسمٌ من المنتمين إليه؟ وليس الثاني أمراً غريباً لأنّ المفهوم العام قد يطلق ويراد به جميع المنتمين، وقد يطلق ويراد به بعضهم، ونحن نعتقد بالثاني، وأنّ المراد غير الأزواج. وتدل على ذلك القرائن الأربع:

الأُولى: إفراد البيت في مقابل البيوت

نرى أنّه سبحانه في سورة الأحزاب عندما يخاطب نساء النبي

ص:12


1- . القصص: 29.
2- . هود: 45.
3- . هود: 46.

يأتي بصيغة الجمع، ويقول: «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» (1).

و «وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ» (2).

وعندما يصل إلى آل النبي يأتي بصيغة المفرد ويقول:

«أَهْلَ الْبَيْتِ».

وهذا يدل على أنّ أهل البيوت بصيغة الجمع غير أهل البيت بصيغة المفرد.

فلو كان المراد من أهل البيت نساءه وأزواجه لما عدل عن صيغة الجمع الّتي أتى بها مرتين في آية بعد آية، إلى الإفراد.

الثانية: اللام في أهل البيت للعهد

إنّ اللام في قوله تعالى: «أَهْلَ الْبَيْتِ» لها احتمالات ثلاثة:

أ. أن تكون للجنس كما في قوله سبحانه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» (3).

وهذا الاحتمال منتفٍ قطعاً على وجه لا يحتاج إلى بيان.

ب. الاستغراق، وهذا الاحتمال كسابقه، إذ ليست الآية بصدد بيان جميع البيوت في العالم.

ص:13


1- . الأحزاب: 33.
2- . الأحزاب: 34.
3- . العصر: 2.

فتعين الثالث وهو أن تكون مشيرة إلى بيت واحد معهود بين المتكلم والمخاطب، ولذا يجب التعرف على ذلك البيت.

فهو في بادئ النظر يحتمل أحد بيوت ثلاثة:

1. أن يكون للنبي بيت خاصّ مستقلّ عن بيوت أزواجه.

2. أن تكون الآية مشيرة إلى بيت واحد من بيوت أزواجه.

3. ان تكون الآية مشيرة إلى بيت فاطمة الّتي هي من أهله وأولاده.

ولا سبيل للأوّل إذ لم يكن للنبي بيت مستقل، وإنّما كان بيته هو بيوت أزواجه.

كما أنّ الثاني كالأوّل لعدم تحقق العهدية في واحدمن هذه البيوت، لأنّ بيوت الأزواج كانت عند النبي على السواء. ولم يكن لواحد منها خصوصية تميّزه عن غيره حتّى تشير الآية إليه.

فتعيّن الاحتمال الثالث وهو بيت أولاده، وهو بيت فاطمة.

فقد كان لفاطمة بيت بجوار بيوت أزواجه تسكن فيه مع ولديها وزوجها.

الثالثة: الإرادة في الآية تكوينية

وهنا قرينة ثالثة تثبت انّ المراد غير نساءه وهو دراسة الإرادة الواردة في الآية، فهل هي إرادة تشريعية أو تكوينية؟

ص:14

أمّا الأُولى فيراد بها تعلّق إرادته سبحانه بتشريع حكم من الأحكام وبعث الناس إلى العمل به ومن المعلوم أنّه لا مجال لتعلّق الإرادة التشريعية المتعلقة بمجموعة خاصة، فإن إرادته سبحانه الدائرة على التطهير، إرادة عامة لا خاصة، يقول سبحانه: «وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ» (1).

أمّا الثانية فهي ما تكون الإرادة تكوينية التي لا تنفك عن المراد فإذا كانت الإرادة تكوينية وكان المراد من الرجس النقائص الدينية التي تجعل الإنسان موجوداً مكروهاً كالجسم الملوّث بالقذارة. فعند ذاك لا يمكن أن يُراد بأهل البيت عليهم السلام أزواج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لأن لحن القرآن فيهن غير لحن التحصين والتجليل، وعليك ملاحظة الآيات التالية، فإنّ الطابع الغالب عليها هو الإنذار والتحذير:

1. «إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها».

2. «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ».

3. «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ».

4. «وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى».

يضاف إلى ذلك ما ورد في سورة التحريم حول زوجتيه (عائشة وحفصة) من التهديد المخيف، أعني قوله سبحانه: «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ

ص:15


1- . الأنفال: 11.

فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» .(1)

كلّ ذلك يبين لنا مكانة أزواجه صلى الله عليه و آله و سلم أو أكثرها وأنهنّ لم يصلن إلى مرتبة جليلة تميّزهن عن سائر النساء؛ بل إنّ قوله تعالى: «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ» (2)، يدل على أنّه كانت في المجتمع آنذاك مَن هنّ أسمى منهن في درجات الإيمان، والطاعة للّه ولرسوله، وبما أنّهنّ كنّ ذوات صلة بالرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فاللّه سبحانه يهدّدهن بضعف العذاب عند المعصية، وضعف الأجر عند الطاعة.

الرابعة: المراد بيت النبوة

المراد من «البيت» هو «بيت النبوة» و «بيت الرسالة»، لا البيت المبنيّ من الأحجار والأخشاب، تشبيهاً للمعقول بالمحسوس.

وعندئذ لا يمكن أن يُعدّ من أهله، كل من انتمى إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق السبب والنسب فقط، بل اللازم عدُّ مَن انتمى إليه أيضاً - وراء أحد هذين الأمرين - بوشائج معنوية خاصة على وجه يصحّ عند ملاحظتها، عدُّهم أهلاً لذلك البيت. وتلك الوشائج عبارة عن

ص:16


1- . التحريم: 4.
2- . التحريم: 5.

النزاهة في الروح والفكر، والصلاح والتُّقى في مقام العمل، وعلى ضوء هذا لا يصح تفسير الآية بكل المنتسبين إليه صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق الأواصر المادية والروابط الظاهرية.

ولو أخذنا بهذا التفسير، فالقدر المتيقّن ممّن ينتمي إلى ذلك البيت الشامخ، هو علي وفاطمة وابناهما، الذين شهد التاريخ بسموّ منزلتهم وشموخ فكرهم ونزاهة آرائهم ونُشدانهم لرضا اللّه سبحانه في أقوالهم وأفعالهم، إلى غير ذلك من المناقب والفضائل الّتي اكتسبوها من النبي صلى الله عليه و آله و سلم فصاروا كمرايا له، يحكون صفاته وأخلاقه وسجاياه.

ونحن نكتفي في إيضاح الآية واختصاصها ببيت فاطمة وولديها وزوجها بهذه القرائن الأربع.

وأمّا مشكلة السياق - حيث إنّ هذه الآية جاءت في ثنايا خطابه سبحانه لنساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم - فسيوافيك الكلام فيه عن قريب.

أهل البيت عليهم السلام في لسان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم

ما توصّلنا إليه في كلامنا المتقدّم، هو من معطيات الآية الكريمة فقط، مع غضّ النظر عما ورد حولها من السنة الشريفة، ولكنّنا إذا فتحنا هذا الباب، فسنجد في هذا الصدد خمساً وثلاثين رواية تنتهي أسانيدها إلى أقطاب الحديث من الصحابة، وهم: أبو سعيد

ص:17

الخدري، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم، ترفع الخفاء عن وجه دلالة الآية.

توضيحه: انّ للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أساليب مختلفة في التعريف بأهل البيت، كما تكشف عن ذلك هذه الروايات.

فتارة يصرّح صلى الله عليه و آله و سلم بأسماء من نزلت الآية في حقهم حتّى يتعين المنزول.

وأُخرى يلجأ إلى أسلوب عمليّ للتعريف بهم، فيجلّلهم - مثلاً - وحدهم بكساء ويمنع غيرهم من الدخول فيه، ثم يشير بيده إلى السماء ويقول «اللهم انّ لكل نبي أهل بيت وهؤلاء أهل بيتي». ومن الواضح أنّه صلى الله عليه و آله و سلم يرمي من وراء ذلك، تأكيد اختصاص الآية بهؤلاء المجلّلين بالكساء.

وثمة أسلوب آخر، عرضته لنا الروايات، وهو أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يمر ببيت فاطمة عدة شهور كلما خرج إلى الصلاة ويقول: الصلاة أهل البيت، ويتلو الآية المباركة.

يقول الأُستاذ عبدالفتاح عبد المقصود، وهو يعلّق على فعل الرسول هذا: أرى أنّ النبيّ كان في مستهلّ كل يوم، يردّد ويكرّر ما يردّد ويكرّر، لكي يحفر في القلوب والأذهان أنّ آل بيته هؤلاء هم أعلى مقاماً، وآثر على اللّه ورسوله، وأحقّ بالمودة والرعاية والاتّباع

ص:18

من الخلق أجمعين.(1)

وإليك روايتين فقط ممّا ورد في هذا المجال من الروايات المتضافرة أو المتواترة التي يقف عليها المتبع في الصحاح والمسانيد:

1. روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: «خرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم غداة وعليه مِرط مُرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (2).

2. أخرج الترمذي في سننه عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و آله و سلم «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (3) في بيت أُم سلمة فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء، وعليٌّ خلف ظهره فجللهم بكساء ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً».

ص:19


1- . في نور محمد، فاطمة الزهراء: 2/145.
2- . صحيح مسلم: ص 1207، الحديث 2424، باب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم، دار ابن حزم، بيروت - 1423 ه.
3- . الأحزاب: 33.

قالت أُم سلمة: وأنا معهم يا نبي اللّه، قال: «أنت على مكانك وأنت على خير».(1)

مشكلة السياق

قد سبق أنّه ربما يستدل على اختصاص الآية بنساء النبيّ، بسياق الآيات فانّ آية التطهير وردت في ثنايا هذه الآيات.

آية التطهير آية مستقلة

أقول: قد تكرر هذا الإشكال في الندوة من غير واحد من الحضار، غير أنّ مفتاح المشكلة أمر غفل عنه أكثرهم، وهو أنّ الأحاديث الشريفة المروية في هذا المجال قد نصّت على أنّ قوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ» آية برأسها، وهذا يعني أنّها غير متصلة بتلك الآيات النازلة في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم غير أنّ النبي أمر بوضعها في ذلك المحل.(2) والذي يشهد على ذلك لسان كثير من الروايات سواء أفسّر بالخمسة الطاهرين أم بزوجات النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

هذا هو الطبري يقول: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» فهم أهل بيت طهرهم اللّه من السوء وخصّهم برحمة منه.

ص:20


1- . سنن الترمذي: 5/350 برقم 3205، تفسير سورة الأحزاب.
2- . ذكر المفسرون أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا. لاحظ: الاتقان في علوم القرآن: 170/1.

ويروي عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: نزلت هذه الآية في خمسة كما روى عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذات غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله معه ثم قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ».

وروى أيضاً عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة فيقول: السلام عليكم أهل البيت إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، أضف إلى ذلك انّ عكرمة كان يمشي في الأسواق ويقول: أنّه مستعد للمباهلة في مورد نزول الآية، أي أنّ خصوص قوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ» هو موضوع المباهلة.(1)

والقارئ الكريم إذا قرأ تفسير الطبري حول الآية يجد بوضوح أنّ قوله: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ» آية مستقلة من غير فرق بين نزولها في الخمسة الطاهرة أو في غيرهم فعلى هذا يسقط الاستدلال بالسياق، لأنّه لم تكن جزءاً من الآية الواردة فيها عند نزولها وإنّما نزلت مستقلة، ووضعت بأمر النبي في محلّها لعلاقة واضحة بين مضمون الآية وما تقدمها من الروايات.

وهنا وجه آخر وهو أنّ من دأب البلغاء التكلّم في موضوع

ص:21


1- . لاحظ: تفسير الطبري: 10/12-14؛ ولاحظ: الكشف والبيان (تفسير الثعلبي): 35/8.

وقبل إنهاء الكلام فيه، الانتقال إلى موضوع آخر، ثمّ العودة إلى الموضوع الأوّل، كلّ ذلك لعلاقة بين الموضوعين وله نظائر في القرآن الكريم:

الأوّل: قال تعالى: «وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (1)، ففي هذه الآية يتكلم عن حكم النساء المطلقات وقبل إنهاء الكلام ينتقل إلى حكم الصلوات ويقول:

«حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ».

ثم يعود إلى الموضوع الأوّل ويقول: «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» .(2)

ترى أنّ القرآن البليغ أمر بحفظ الصلوات في أثناء كلامه في النساء من المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن.

ص:22


1- . البقرة: 237.
2- . البقرة: 240-241.

الثاني: قال تعالى: «فَلَمّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» .(1)

ترى أنّ العزيز يخاطب زوجته ويقول: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» ثم ينتقل إلى يوسف ويقول له: «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا».

ثم يعود إلى زوجته ويقول لها: «وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ».

الثالث: قال تعالى: «إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ * وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ». (2)

ترى أنّ قوله سبحانه: «وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ» وقع في أثناء كلام الملكة، وهو ليس من كلامها.

الرابع: قال تعالى: «وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (3) واستمر الكلام حول إبراهيم إلى الآية السابعة عشرة. ثم انقطع الكلام عنه وبدأ سبحانه يسلّي النبي مقروناً بذكر المعاد ويقول: «وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ» إلى الآية الثالثة والعشرين، ثم عاد الكلام إلى بيان مصير إبراهيم عليه السلام فقال:

ص:23


1- . يوسف: 28-29.
2- . النمل: 34-35.
3- . العنكبوت: 16.

«فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ». (1)

فظهر من كلّ ذلك أنّ الانتقال من موضوع إلى موضوع آخر قبل انهاء الكلام في الموضوع الأوّل من شؤون البلغاء وعلى رأسهم كلام اللّه المجيد، ابلغ الكلام وأفصحه. كلّ ذلك لا باقتضاب بل لمناسبة بين الموضوعين.

وعلى هذا فلا مانع من الانتقال إلى بيان طهارة أهل البيت عليهم السلام من الرجس ثم العودة إلى الموضوع المتقدم أعني ما يتعلّق بأحكام نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

فإن قلت: ما هي العلاقة بين الموضوعين، حيث جاء ذكر أهل البيت وطهارتهم عن الرجس في أثناء الكلام في نساء النبي.

قلت: يمكن تقريب ذلك بوجهين:

1. تعريف نسائه بصفوةٍ بلغوا في الورع والتقوى، الذروة العليا، وفي الطهارة عن الرذائل والمساوئ، القمة. وبذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة وقدوة في مجال العمل، فيلزم عليهنّ أن يقتدينّ بهم ويستضيئنّ بضوئهم.

2. التنبيه على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة صفوةٍ طاهرة من الرجس ومطهّرة من الدنس، ولهن معهم لحمة القرابة ووصلة الحسب، واللازم عليهن الحفاظ على شؤون هذه القرابة بالابتعاد

ص:24


1- . العنكبوت: 24.

عن المعاصي والمساوئ، والتحلّي بما يرضيه سبحانه، ولأجل ذلك يقول سبحانه: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» ، وما هذا إلّا لقرابتهنّ منه صلى الله عليه و آله و سلم وصلتهنّ بأهل بيته. وهي لا تنفكّ عن المسؤولية الخاصّة، فالانتساب للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ولبيته الرفيع، سبب المسؤولية ومنشؤها، وفي ضوء هذين الوجهين صحّ أن يطرح طهارة أهل البيت في أثناء المحاورة مع نساء النبيّ والكلام حول شؤونهنّ.

وبما ذكرنا يسقط الإحتجاج بوحدة السياق حيث إنّه دليل بلا دليل.

إلى هنا يتمّ الكلام في الصغرى أي من هم أهل البيت، وحان الوقت للتعرف على حجية فتاواهم. وهو المحور الثاني في هذا الفصل.

ص:25

المحور الثاني : حجّية فتاواهم

على المسلمين كافّة هذا هو المحور الثاني في مقالنا، وهو بيت القصيد، أعني: إقامة الدليل على حجّية فقه أهل البيت عليهم السلام وفتاواهم على عامة المسلمين.

إنّ المسلمين وان اختلفوا بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في صيغة الخلافة وانها هل هي منصب تنصيصي أو منصب انتخابي ولكل من الطائفتين رأي ونظر ودليل، ونحن لا نحوم حول هذا الموضوع، ولكن الّذي أحبُّ أن أُنوّه عليه، هو أنّه على الرغم من الخلاف المذكور، فإنّهم متفقون - استناداً إلى الحديث المتضافر، بل المتواتر أعني: حديث الثقلين - على أنّ أهل البيت هم المرجع الفكري والعلمي والشرعي لهم.

ص:26

ولا محيص للمسلم من الرجوع إليهم وأخذ دينه وشريعته عنهم، استجابة لوصيّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم الّذي جعلهم المفزع بعده، مبيّناً أنّ الكتاب والعترة توأمان لا يفترقان، وهنا نشير إلى بعض ألفاظ حديث الثقلين كما وردت في الصحاح والمسانيد، ولا يمكننا في هذه العجالة حتّى الإشارة إلى أسماء من روى هذا الحديث عبر القرون.

أخرج مسلم في صحيحه: عن زيد بن أرقم، قال: قام رسول اللّه يوماً فينا خطيباً - إلى أن قال: - وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللّه، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللّه، واستمسكوا به. فحثّ على كتاب اللّه ورغّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي.(1)

أخرج الترمذي عن جابر بن عبداللّه قال: «رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول:

يا أيها الناس إنّي تركت فيكم من [ما] إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي»(2).

وأخرج الترمذي أيضاً عن زيد بن أرقم أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّي تركت ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ

ص:27


1- . صحيح مسلم: كتاب المناقب رقم 6119.
2- . سنن الترمذي: كتاب المناقب برقم 3811.

الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(1).

وروى أحمد في مسنده أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض (أو: ما بين السماء إلى الأرض)، وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»(2).

وأخرج أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّي أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين:

كتاب اللّه عزوجل، وعترتي؛ كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(3).

وروى الحاكم في مستدركه على الصحيحين عن زيد بن أرقم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وأهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».(4)

وأخرج الحاكم في المستدرك من حديث زيد بن أرقم أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال في منصرفه من حجة الوداع ونزوله غدير خم: «كأنّي دعيت

ص:28


1- . سنن الترمذي: كتاب المناقب برقم 3813.
2- . مسند أحمد: 3/182، 189.
3- . مسند أحمد: 3/17 و 26.
4- . المستدرك للحاكم: 3/148.

فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه وعترتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».(1)

يستفاد من حديث الثقلين أُمور مهمة، لو عُنَيت بها الأُمّة لاجتمعت على مائدة أهل البيت، واستطابت ألوانها، وهي:

1. إنّ اقتران العترة الطاهرة بالقرآن الكريم فيه إشارة إلى أنّ عندهم علم القرآن، علماً لائقاً بشأنه.

2. إنّ التمسّك بالكتاب والعترة يعصم من الضلالة ولا يغني أحدهما عن الآخر.

3. يحرم التقدّم على العترة كما يحرم الابتعاد عنهم.

4. إنّ العترة لا تفارق الكتاب، وانّهما مستمرّان إلى يوم القيامة.

قال ابن حجر بعد نقل حديث الثقلين: وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض. ثم قال: أحق من يُتمسّك منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، لما قدمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطه.(2)

ص:29


1- . المستدرك: 3/109.
2- . الصواعق المحرقة: 2/437.

إنّ الإمعان في حديث الثقلين يثبت بوضوح حجية فتاواهم وآرائهم وأقوالهم، وأن من أخذ بها فقد أخذ من معين صافٍ، كيف لا وأهل البيت - كما يفيد الحديث - قرناء القرآن وأعداله، لا يختلفان ولا يفترقان، فكما يُعصَم من تمسك بالقرآن من الغيّ والضلال، فكذلك يعصم منهما من تمسك بأهل البيت، وكما أنّ القرآن هو (الناصحُ الّذي لا يغُشّ، والهادي الّذي لا يُضلّ، والمحدِّث الّذي لا يكذب)(1)، فإنّ أهل البيت أيضاً (هم أزمّة الحقّ، وأعلام الدين، وألسنة الصدق)(2). ولا نريد أن نتكلم في دلالة حديث الثقلين، ولنكتفِ بما قلناه.

واذا كانت هذه مكانة أهل البيت ومنزلتهم في حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فما هو مصدر علومهم وفتاواهم في الأحكام الشرعية.

هذا ما سنبحثه الآن، وهو المحور الثالث للفصل الأوّل.

ص:30


1- . من كلمات الإمام علي عليه السلام. نهج البلاغة، الخطبة: 176.
2- . نهج البلاغة، الخطبة: 87.

المحور الثالث: مصادر فتاواهم

اشارة

مصادر فتاواهم

إنّ لعلوم أهل البيت عليهم السلام مصادر نشير إلى أبرزها:

1. استنطاق كتاب اللّه العزيز

لقد آتى اللّه سبحانه أئمة أهل البيت فهماً خاصاً لكتاب اللّه العزيز يستنبطون منه أحكاماً شرعية قلّما يتفق لغيرهم مثله، ونذكر في المقام نموذجين حتّى تُعرف بهما نظائرهما:

1. في عهد الخلافة، أُتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فأُمر بها أن تُرجم فقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه ليس ذلك عليها. قال اللّه تبارك وتعالى: «وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» (1). «وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ» (2)، فالرضاعة أربعة وعشرون شهراً

ص:31


1- . الأحقاف: 15.
2- . البقرة: 233.

والحمل ستة أشهر(1).

نرى هنا أنّ الإمام علي عليه السلام قد استنطق كتاب اللّه في مدة أقل الحمل واستخرجها من ضم آية إلى آية أُخرى، وهذا هو المعروف في ألسن الأُصوليين بدلالة الإشارة.

روى المحدث الطائر الصيت ابن شهرآشوب المازندراني في كتابه «المناقب»: قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يُضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكّل إلى الإمام علي الهادي عليه السلام(2) يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب: يُضرب حتى يموت، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلة، فكتب عليه السلام:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ» (3).

فأمر به المتوكل فضرب حتى مات.(4)

إنّ الإمام الهادي عليه السلام ببيانه هذا قد شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط

ص:32


1- . سنن البيهقي: 7/443؛ والدر المنثور: 1/688. وغيرهما.
2- . الإمام العاشر وهو علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق عليهم السلام.
3- . غافر: 84-85.
4- . مناقب آل أبي طالب: 4/405.

الأحكام من الذكر الحكيم، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه الّتي تبلغ قرابة ثلاثمائة آية، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصّاً لدلالته، لا يلتفت إليه إلّامن نزل القرآن في بيته.

2. سنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

إنّ المصدر الثاني لفقه أهل البيت هو سنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّتي وصلتهم عن طريقين رئيسين هما:

أ. السماع عنه صلى الله عليه و آله و سلم

يروي أئمة أهل البيت كثيراً من سنة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق السماع كابراً عن كابر، فمثلاً يروي الإمام الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين إلى أن ينتهي السند إلى النبي الأكرم.

وهذا النوع من الرواية هو المعين الصافي الّذي لم يكدّره الشك والترديد في الصحة والضبط.

قال الشيخ أبو نُعيم الأصبهاني بعد أن روى حديث (سلسلة الذهب) الّذي رواه الإمام عليّ الرضا عن آبائه: هذا حديث ثابت مشهور بهذا الإسناد من رواية الطاهرين عن آبائهم الطيبّين، وكان بعض سلفنا من المحدّثين إذا روى هذا الإسناد، قال: لو قرئ هذا

ص:33

الإسناد على مجنون لأفاق.(1)

وقصة هذا الحديث، هو أنّ الرضا عليه السلام لمّا وافى نيسابور، وأراد أن يخرج منها إلى المأمون العباسي، ازدحم عليه أصحاب الحديث (وفي طليعتهم إسحاق بن راهويه، ومحمد بن رافع القشيري، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وأحمد بن حرب، وغيرهم)، وطلبوا منه أن يُملي عليهم حديثاً، فقال عليه السلام: حدثني أبي موسى بن جعفر، حدثني أبي جعفر بن محمد، حدثني أبي محمد بن علي، حدثني أبي علي بن الحسين بن علي، حدثني أبي علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنهم، حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن جبريل عليه السلام، قال:

قال اللّه عزوجلّ:

«إنّي أنا اللّه لا إله إلّاأنا فأعبدوني، من جاءني منكم بشهادة أن لا إله إلّااللّه بالإخلاص، دخل في حصني، ومن دخل في حصني أمن من عذابي».(2)

ب. كتاب علي عليه السلام

لقد كان لعلي عليه السلام كتاب خاص بإملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد حفظته العترة الطاهرة، وصدرت عنه في مواضع كثيرة ونُقلت

ص:34


1- . حليلة الأولياء: 3/192 برقم 241.
2- . نفس المصدر. وانظر: المنتظم (لابن الجوزي): 10/120، الترجمة 1114.

نصوصه في موضوعات شتى، وقد بث الحر العاملي في موسوعته الحديثية (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة) أحاديث ذلك الكتاب حسب الأبواب الفقهية المختلفة من الطهارة إلى الديات.

وإليك كلام الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في حق هذا الكتاب، قال: «إنّ العلم فينا ونحن أهله وهو عندنا مجموع كُلّه بحذافيره، ومنه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلّاوهو عندنا مكتوب بإملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخط علي عليه السلام بيده»(1).

ولأئمة أهل البيت عليهم السلام كلمات ضافية حول هذا الكتاب لا يسع المجال لذكرها.

3. العلم الموهوب

ربّما تشمل عناية اللّه سبحانه بعض عباده الصالحين فيجعلهم علماء فهماء من عنده، من دون أن يدرسوا على يد أحد، وهذا ليس بأمر غريب وله نظائر:

1. انّه سبحانه يصف مصاحب موسى عليه السلام بقوله: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً» (2) فقد ذكر

ص:35


1- . بحار الأنوار: 89/47.
2- . الكهف: 65.

سبحانه في حقه أمرين:

أ. «آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا».

ب. «عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً» .

فنالته رحمة اللّه وعنايته فصار عالماً بتعليم منه سبحانه، من دون أن يكون نبياً بل كان إنساناً مثالياً وولياً من أولياء اللّه سبحانه بلغ من العلم والمعرفة مكانة دعت موسى - وهو نبي مرسل - إلى أن يطلب العلم منه حيث خاطبه بقوله: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً» (1).

2. أنّه سبحانه أعطى لجليس سليمان عليه السلام علماً من الكتاب أقدره ذلك العلم على خرق العادة، كما وصفه سبحانه بقوله: «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي» (2)، وهذا الجليس لم يكن نبياً ولكن كان عنده علم من الكتاب. وهو لم يَنلْه بالطرق العادية الّتي يتدرج عليها الصبيان والشباب في المدارس والجامعات، بل كان علماً إلهياً أفيض لصفاء قلبه وروحه.

ما ذكرناه نماذج لمن شملتهم العناية الإلهية فصاروا علماء فقهاء حكماء من عند اللّه تبارك وتعالى.

ص:36


1- . الكهف: 66.
2- . النمل: 40.

فلنعطف نظرنا إلى الأئمة الاثني عشر فبما أنهم قد انيطت بهم عزة الدين كما في حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إذ قال: «لا يزال الإسلام عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة» وهو ما رواه مسلم في صحيحه(1).

كما أُنيطت بهم الهداية كما في حديث الثقلين حيث قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي» فأئمة أهل البيت ليس بأقل شأناً ومكانة من مصاحب موسى أو جليس سليمان، فأي وازع من أن يحيطوا بسنن النبي وعلوم الشريعة بعلم موهوب من دون أن يكونوا أنبياء بل أنهم عيبة علم الرسول ورواة سننه بواسطة هذا المنهج.

وربّما يعبر عن أسباب العلم الموهوب بكون الرجل محدَّثاً - بفتح الدال - وقد استفاضت الروايات بوجود رجال محدَّثين في الأُمّة الإسلامية يُلهَمون ويُلقى في روعهم شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو أن تُنكت لهم في قلوبهم حقائق تخفى على غيرهم.

وقد حفلت المصادر الحديثية بالعديد من الروايات المؤيدة لهذه الحقيقة(2).

ص:37


1- . صحيح مسلم، كتاب الأمارة، برقم 4601-4603.
2- . انظر: صحيح البخاري: 4/200، باب مناقب المهاجرين وفضلهم؛ وإرشاد الساري للقسطلاني: 6/99؛ وج 5/431؛ وشرح صحيح مسلم للنووي: 15/166.

هذا والتاريخ أصدق شاهد على علومهم في مجالي العقيدة والشريعة فقد رجعت إليهم الأُمّة، وعلى رأسهم الفقهاء في القرون الثلاثة، وأشادوا بعلوّ كعبهم في العلم والفقه، من غير فرق بين الأئمة الأربعة وغيرهم.

ص:38

المحور الرابع: رجوع كبار الفقهاء إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام

كان أئمة أهل البيت عليهم السلام في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم منائر العلم يستضيء بأنوار علومهم، كل من أراد الفقه والفقاهة.

فقد ذكر ابن أبي الحديد أنّ علياً عليه السلام هو أساس الفقه الإسلامي، الّذي حمل لواءه أئمة المذاهب، ثم بيّن ذلك بقوله: أمّا أصحاب أبي حنيفة كمحمد بن الحسن، وأبي يوسف، فقد أخذوا عن أبي حنيفة، وقد قرأ الشافعي على محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، فيرجع الشافعي بهذه الواسطة إلى أبي حنيفة، وقرأ أحمد بن حنبل على الشافعي، فيرجع في فقهه إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة تتلمذ على الإمام جعفر بن محمد، وجعفر بن محمد ينتهي في علمه وفقهه إلى جدّه علي بن أبي طالب. وأمّا مالك، فقد قرأ على ربيعة الرأي، وربيعة أخذ عن عكرمة، وعكرمة أخذ عن عبداللّه بن

ص:39

العباس، وعبداللّه مصدره الإمام علي بن أبي طالب.(1)

وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري، وهو يتحدث عن أبي حنيفة:

كان وارث علوم أصحاب ابن مسعود، وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما، الذين كانت الكوفة امتلأت بهم.(2)

وقال الكوثري أيضاً: عُني ابن مسعود بتفقيه أهل الكوفة، حتّى امتلأت الكوفة بالفقهاء، ولما انتقل علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه إلى الكوفة سُرّ من كثرة فقهائها جداً... ووالى باب مدينة العلم تفقيههم، إلى أن أصبحت الكوفة لا مثيل لها في أمصار المسلمين في كثرة فقهائها ومحدثيها. وأضاف: فكبار أصحاب عليّ، وابن مسعود رضي اللّه عنهما بها لو دوّنت تراجمهم في كتاب خاص لأتى كتاباً ضخماً. ثم قال: وقد جمع شتات علوم هؤلاء إبراهيم بن يزيد النخعيّ.(3)

أقول: وعن إبراهيم النخعي، أخذ حمّاد بن أبي سليمان (المتوفّى 120 ه) الفقه، وعن حمّاد أخذ أبو حنيفة.

أمّا مالك بن أنس، فقد أخذ عن جعفر الصادق، وروى عنه في

ص:40


1- . انظر: شرح نهج البلاغة: 1/21-30.
2- . مقالات الكوثري: 209 (حول فكرة التقريب بين المذاهب).
3- . مقالات الكوثري: 220-121 (اللامذهبية قنطرة اللادينية).

«الموطّأ» في أربعة عشر موضعاً.(1)

ولأجل بيان مكانة أئمة أهل البيت في دنيا العلم والفقه، نورد هنا كلمات بعض الأعلام في حق عدد منهم عليهم السلام، فالبحث لا يتسع لأكثر من ذلك.

قال ابن سعد في ترجمة محمد الباقر عليه السلام: كان عالماً عابداً ثقة، وروى عنه الأئمة أبو حنيفة وغيره.(2)

وقال أبو حنيفة عقب إجابة جعفر الصادق عليه السلام عن أربعين مسألة هيّأها له بطلب من المنصور العباسي: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد.(3)

وقال فخر الدين الرازي عند تفسير سورة الكوثر: فانظر إلى أهل البيت كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية(4) وأمثالهم(5).

وقال الشيخ محمد أبو زهرة عند ذكر جعفر الصادق: لا نستطيع في هذه العجالة أن نخوض في فقه الإمام جعفر، فإن أُستاذ مالك وأبي حنيفة وسفيان بن عُيَينة، لا يمكن أن يُدرس فقهه في مثل هذه

ص:41


1- . تهذيب الكمال: 27/94، الترجمة: 5728.
2- . الطبقات الكبرى: 5/320.
3- . سير أعلام النبلاء: 6/257.
4- . النفس الزكية، ليس من أئمة أهل البيت عند الإمامية.
5- . التفسير الكبير: 32/124.

الإلمامة.(1)

وقال الدكتور مصطفى الشِّيبي، وهو يتحدث عن عليّ بن موسى الرضا: كان الرضا من قوة الشخصية، وسموّ المكانة، أن التفّ حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية.(2)

ص:42


1- . تاريخ المذاهب الإسلامية: 639.
2- . الصلة بين التصوّف والتشيع: 214.

الفصل الثاني المدرسة الفقهية للشيعة الإمامية المصادر والخصائص

اشارة

وفيه محاور:

1. مصادر الفقه عند الشيعة الإمامية

2. خصائص فقه الإمامية ومميزاته

3. العرف والعادة والسيرة وبناء العقلاء.

4. دور مقاصد الشريعة وأهدافها في الفقه الإمامي

ص:43

يُعدّ فقه الإمامية مرآة تعكس فقه أهل البيت وآراءهم، فهو حصيلة جهود ضخمة لفطاحل علمائهم، الذين مارسوا الاجتهاد في نطاق ما روي عن أهل البيت، وهنا لابدّ من دراسة الموضوع ضمن المحورين التاليين:

الأوّل: المصادر الّتي يصدر عنها الإمامية في فقههم.

الثاني: خصائص فقههم ومميزاته.

ص:44

المحور الأوّل: مصادر الفقه عند الشيعة الإمامية

اشارة

مصادر الفقه عند الشيعة الإمامية

اتفقت الشيعة الإمامية على أنّ منابع الفقه ومصادره لا تتجاوز الأربعة:

1. كتاب اللّه الكريم.

2. السنة المطهرة.

3. الإجماع.

4. العقل.

قال الفقيه الكبير محمد بن إدريس الحلّي (543-598 ه) في ديباجة كتابه «السرائر»: فإن الحق لا يعدو أربع طرق؛ إمّا كتاب اللّه سبحانه، أو سنة رسوله المتواترة المتفق عليها، أو الإجماع، أو دليل العقل، فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين الباحثين عن مآخذ الشريعة التمسك بدليل العقل.(1)

ص:45


1- . السرائر: 1/43.

وقد ذكرنا كلام هذا الفقيه، ليعلم أنّ حصر المنابع الفقهية بهذه الأُمور الأربعة ليس شيئاً جديداً بين فقهاء الإمامية وإنّما هو أمر كان عليه فقهاؤهم منذ قرون عديدة.

المصدر الأوّل: القرآن الكريم

أمّا كتاب اللّه العزيز فلا يُعدل عنه إلى غيره مطلقاً، وله مكانة عظيمة عندهم حتّى أنّ قسماً من المحقّقين لا يجوِّزون تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، وإنّما يجوِّزون تخصيص الكتاب العزيز بالمتواتر أو المتضافر.

وقد اتفقت كلمة محقّقي الإمامية - عبر تاريخهم الطويل - على أن كتاب اللّه الموجود عند عامة المسلمين هو نفسه الّذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين لم تتطرق إليه زيادة ولا نقص، وأنّ ما ما ورد من الروايات حول ذلك فهي إمّا مؤولة أو مطروحة. ومن قال بالتحريف فهو قول شاذ لا يعتد به ولا يؤخذ الجمع بقول واحد منهم.

المصدر الثاني: السنّة الشريفة

وأمّا السنة الشريفة فقد خصّ اللّه تعالى بها المسلمين دون سائر الأُمم، وقد اهتم المسلمون بنقل ما أُثر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من قول وفعل وتقرير.

ص:46

وقد أكد أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنّ السنة الشريفة هي المصدر الرئيسي بعد الكتاب، وأنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد بيّنه سبحانه في الذكر الحكيم وورد في سنة نبيّه.

قال الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّاأنزله في كتابه وبيّنه لرسوله، وجعل لكل شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحد حدّاً»(1).

وقال الإمام الصادق عليه السلام: «ما من شيء إلّاوفيه كتاب أو سنّة»(2).

روى أبو حمزة الثُّماليّ عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خطبته في حجة الوداع: «أيها الناس اتقوا اللّه ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلّاوقد نهيتكم عنه وأمرتكم به».(3)

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، الّتي تؤكد على الاهتمام بالسنة والركون إليها.

المصدر الثالث: الإجماع

عدّ الأُصوليون من فقهاء السنّة الإجماع من مصادر الفقه، بمعنى

ص:47


1- . أُصول الكافي للكليني: 1/59، باب الرد إلى الكتاب والسنة، الحديث 2.
2- . أُصول الكافي: 59/1، الحديث 4.
3- . بحار الأنوار: 2/171، الحديث رقم 11.

أن اتفاق الأئمة في عصر على حكم شرعي - إذا كان مستنداً إلى دليل ما حتّى ولو كان دليلاً ظنيّاً - يجعله حكماً شرعياً قطعياً إلهياً، وإنْ لم ينزل به الوحي، فلذلك وصف الإجماع بأنّه من مصادر الفقه.

وأمّا الإجماع في مدرسة أهل البيت، فهو بما هو هو ليس من مصادر التشريع، وإنّما يكشف عن وجود الدليل عن المجمعين، فالاتفاق مهما كان واسعاً لا يؤثر في جعل حكم ظنيٍ حكماً شرعياً قطعياً إلهياً، وإنّما المؤثر في ذلك المجال نزول الوحي به، فلو نزل به الوحي يكون المجمع عليه حكماً شرعياً، ولو لم ينزل به الوحي فالإجماع لايضفي عليه الصفة الشرعية، فغاية ما يمكن أن يقوم به الإجماع، هو الكشف عن وجود الدليل في المسألة وإن لم يصل إلينا، إذ من البعيد اتفاق أُمّةٍ كبيرة على الحكم إذا لم يكن في متناولهم دليل شرعي.

المصدر الرابع: العقل

لقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام على حجية العقل، قال الإمام الصادق عليه السلام: «حجة اللّه على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين اللّه العقل»(1).

وقال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام (المتوفى 183 ه) مخاطباً

ص:48


1- . الكافي: 1/25، كتاب العقل والجهل، الحديث 22.

هشام بن الحكم: «يا هشام إن للّه على الناس حجتين، حجة ظاهرية وحجة باطنية، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأمّا الباطنة فالعقول».(1)

نعم إنّ العقل كالإجماع ليس من مصادر التشريع بل هو من كواشفه، بمعنى أنّه يكشف عن حكم اللّه سبحانه بالطريق الّذي سنذكره، كما يكشف الإجماع عن وجود دليل لفظي صادر عن صاحب الشريعة.

ثم إن استكشاف العقل عن حكم اللّه سبحانه يعتمد على أصلين قطعيين هما:

1. التحسين والتقبيح العقليّان.

2. الملازمات العقلية.

أمّا الأوّل: فإن للعقل قابلية على معرفة حسن الأفعال وقبحها، إذ هو بنفسه يدرك حسن الإحسان وحسن مجازاة الإحسان بمثله، وحسن العمل بالميثاق، وهكذا.

كما يدرك من صميم ذاته قبح الظلم وقبح مجازاة الإحسان بالإساءة، وقبح نقض الميثاق، إلى غير ذلك من الأفعال الّتي يدرك العقل الحصيف المنقطع عن كل شيء حسنها أو قبحها.

والذكر الحكيم يشهد على وجود تلك القابلية الإنسان حيث

ص:49


1- . الكافي: 1/16، كتاب العقل والجهل، الحديث 12.

يخاطبه بما تقتضي به فطرته ويقول: «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (1)، ويقول سبحانه: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» (2).

ويقول تعالى: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ» (3).

وهذه الآيات تتخذ من وجدان الإنسان شاهداً على عدم التسوية، وتدل بالتالي على أنّ الإنسان قادر بفطرته الإلهية على درك حسن الأفعال وقبحها، ولماكانت التسوية بين الطائفتين قبيحة عند العقل، ذَكر سبحانه أنّ ساحته أيضاً منزّهةً عنها.

فالقول بالتحسين والتقبيح العقليين - مع أنّه أساس في باب المعارف والعقائد أيضاً وهو خارج عن موضوع بحثنا - أساس لاستنباط فروع فقهية في حقول خاصّة، أوضحها أصل البراءة من التكليف، وعدم وجوب الاحتياط عند الشك في التكليف لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، فإذا لم يجد المستنبط دليلاً شرعياً على الحكم الشرعي، فالعقل يستقل بالبراءة من التكليف من غير فرق

ص:50


1- . القلم: 35-36.
2- . الجاثية: 21.
3- . ص: 28.

بين كون المحتمل وجوباً أو تحريماً، ومن حسن الحظ أنّ الشرع أيضاً عزّزه، قال سبحانه: «وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً» (1)، وبَعث الرسول كناية عن بيان الحكم.

كما أنّ العقل يستقل بحسن الاحتياط ووجوبه فيما إذا عُلم التكليف وجُهل المكلف به وتردد بين أمرين، فالعقل يحكم بالاحتياط لأنّ الاشتغال اليقيني بالحكم يقتضي البراءة اليقينية، إما بإتيان الأمرين كما إذا علم الوجوب وتردد المكلف به بين أمرين أو أكثر، أو ترك الأمرين كما إذا علمت الحرمة ولم يعلم المكلف به معيّناً، إلى غير ذلك من الآثار الشرعية للقول بالحسن والقبح العقليين.

إزاحة شبهة

ربّما يتُصوَّر أنّ القول بالتحسين والتقبيح العقليين يلازم التحكم على اللّه سبحانه، وأنّه يجب عليه أن يفعل كذا لحسنه أو أن لا يفعل كذا لقبحه، ومن المعلوم أنّ التحكم من العبد الذليل بالنسبة إلى المولى العزيز أمر قبيح جدّاً.

ولكن المستشكل لم يفرق بين الإيجاب المولوي والإيجاب الاستكشافي، والباطل هوالأوّل فإنّه سبحانه مولى الجميع والناس

ص:51


1- . الإسراء: 15.

عباد له، وليس لأحد أن يحكم عليه سبحانه بشيء إذ هو مختار على الإطلاق، وأمّا الإيجاب الاستكشافي فهو بمعنى أنّ العقل يستكشف من خلال صفاته سبحانه - ككونه حكيماً عادلاً قديراً - أنّه لا يعذّب البريء، فالقول بأنّه يجب على اللّه سبحانه بمعنى الملازمة بين حكمته وعدله وعدم تعذيب البريء، وليس استكشاف العقل في المقام بأقلّ من استكشاف الأحكام الكونية، حيث يحكم بأنّ زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، فزوايا المثلث في الخارج موصوفة بهذا المقدار، ولكن العقل يستكشف ذلك.

وللقول بالتحسين والتقبيح العقليين آثار كثيرة في الفقه الإمامي نذكر منها ما يلي:

1. الإتيان بالمأمور به مجز عن الإعادة والقضاء، لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال.

2. مرجّحات باب التزاحم الّتي تُبنى على تقديم الأهم على المهم، والحاكم بالتقديم هو العقل لقبح العكس.

هذا كله حول الأمر الأوّل.

وأما الثاني: أعني باب الملازمات فنقول:

إنّ باب الملازمات هو المجال الثاني لحكم العقل، فإذا أدرك العقل الملازمة بين الوجوبين أو الحرمتين وورد أحد الوجوبين في الشرع دون الآخر، يحكم العقل بالوجوب الثاني بناء على وجود

ص:52

الملازمة بين الحكمين، فاستكشاف الحكم الشرعي رهن ثبوت الملازمة بين الحكمين، وإليك نماذج من هذا:

1. الملازمة بين الوجوبين، كوجوب الشيء ووجوب مقدّمته.

2. الملازمة بين الحرمتين، كحرمة الشيء وحرمة مقدّمته.

3. الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه، كوجوب المضيّق وحرمة الموسّع عند التزاحم.

4. الملازمة بين النهي عن العبادة وفسادها.

5. الملازمة بين النهي عن المعاملة وفسادها في موارد خاصّة.

6. الملازمة بين وجود الحكم لدى وجود الشرط والوصف و...

والانتفاء لدى الانتفاء.

إلى غير ذلك ممّا يدخل في أبواب الملازمة الموصوفة عندهم بالملازمات غير المستقلة، فإنّ الحكم المستكشف في هذه الموارد عن طريق الملازمة، حكم شرعي، نظير:

1. وجوب مقدّمة الواجب.

2. حرمة مقدّمة الحرام.

3. حرمة الضدّ الموسّع المزاحم للمضيّق، كالصلاة عند الابتلاء بإزالة النجاسة عن المسجد، أو أداء الدين الحالّ.

4. فساد العبادة المنهي عنها، كالصوم في السفر.

5. فساد المعاملات المنهي عنها كبيع الخمر.

ص:53

إلى غير ذلك من الموارد الّتي توصف بغير المستقلات العقلية، وفي الفقه الشيعي وعلم الأُصول دور كبير لباب الملازمات، فمن مثبت ونافٍ ومفصِّل، ونحن من القسم الثالث.

ص:54

المحور الثاني: خصائص فقه الإمامية ومميزاته

اشارة

خصائص فقه الإمامية ومميزاته

إنّ لكل مدرسة فقهية خصائص ومميزات تفترق بها عن سائر المدارس، ومدرسة أهل البيت الفقهية مع أنّها تشارك بقية المدارس في كثير من الأُمور بحيث لايجد الفقيه مسألة من المسائل الخلافية عندهم إلّاووافقهم فيها أحد المذاهب الفقهية السائدة أو البائدة.

ونحن إذا راجعنا كتاب الخلاف للشيخ الطوسي، نجد أنّ ما من مسألة تضاربت فيها الآراء والأفكار إلّاوللشيعة فيها قول ورأي يوافقهم فيه - كما قلنا - أحد المذاهب.

ولأجل ذلك نشير إلى خصائص المدرسة الفقهية للشيعة الإمامية:

ص:55

الأُولى: إحراز العدالة في عامة سند الرواية

قد عرفت أنّ السنة الشريفة هي المصدر الثاني للتشريع، والشيعة يعملون بكل ما روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم سواء أوصل إليهم عن طريق أئمة أهل البيت أو عن طريق آخر، بشرط إحراز العدالة أو الوثاقة في عامة رجال السند، ولايعتقدون بالعدالة الجماعية في طائفة من الطوائف.

الثانية: تقييد العمل بالقياس

اشارة

إنّ كثرة الروايات الفقهية المروية عن أهل البيت عليهم السلام أغنت فقهاء الشيعة عن اللجوء إلى القياس فضلاً عن الاستحسان، فالمرجع عندهم هو المصادر الأربعة، وأمّا القياس فيعملون به في إطار خاص وهو:

أ. فيما لو كان منصوص العلّة في نفس الدليل، فيُعمل به في كل مورد عمّهُ التعليل.

وفي الحقيقة ليس هذا عملاً بالقياس بل عملاً بنفس الدليل، أعني: العلة الّتي تعمّم الحكم وتخصّصه.

ب. قياس الأولوية، وربّما يسمى بتنبيه الخطاب ومفهوم الموافقة، وهو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق أولى،

ص:56

كقوله سبحانه: «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ» (1) فإذا حرم التأفيف، حرم الشتم والضرب بطريق أولى.

ج. تنقيح المناط، وهو فيما لو اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف وخصوصيات لا يراها العرف دخيلة في الموضوع، كما إذا قال في السؤال: «رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع» فالعرف يتلقى تلك القيود مثالاً لا قيداً في الحكم، فيعمّ الرجل والأُنثى، ومن شكّ في المسجد والبيت.

ومن هذا القبيل قصة الأعرابي، الّذي قال: هلكت يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال له: ما أهلكك؟ قال: واقعت امرأتي في نهار رمضان.

قال: اعتق.(2) فالعرف يساعد على إلغاء القيدين وهما:

أ. كونه أعرابياً.

ب. مواقعة الأهل.

فيعم البدوي والقروي، ومواقعة الأهل وغيرها، فيكون هو حكم من أفطر بالوقاع في صوم رمضان.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه في مورد صلاة الجمعة: «فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ» (3)، ومن المعلوم أن ذكر البيع من باب

ص:57


1- . الإسراء: 23.
2- . صحيح مسلم: كتاب الصيام، برقم 2484، ملخّصاً.
3- . الجمعة: 9.

المثال، فلا فرق بين البيع والإجارة والرهن، بل كل فعل يشغل الإنسان عن أداء الصلاة، ولهذا النوع أمثلة كثيرة في الفقه.

تخريج المناط

إذا قضى الشارع بحكم في محل من دون أن ينصّ على مناطه، ولم يكن العرف مساعداً لكون القيد الوارد فيه من باب المثال، كما إذا حرمت المعاوضة في الحنطة إلّامثلاً بمثل، فهل يصح تعميم الحكم إلى سائر الحبوب بتخريج المناط؟

وهذا هو ما يميّز الفقه الإمامي عن غيره، فهم يقولون بأنّ التشابه في الموضوع لا يكون سبباً لإسراء الحكم، فإن تخريج المناط في الموارد الّتي يعمل بها بالقياس تخريجات ظنية، ولعل المناط الّذي استخرجه الفقيه غير المناط عند الشرع، فما لم يكن المناط المستخرج، مناطاً قطعيّاً، لا يسوغ العمل به، وللتفصيل في هذا الموضوع مكان آخر.

الثالثة: انفتاح باب الاجتهاد

إنّ الفقه الإمامي يتبنى فتح باب الاجتهاد بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا، فإن الاجتهاد رمز بقاء الشريعة وسرّ خاتمية الدين الإسلامي، فالأُمّة الإسلامية كانت تواجه بعد رحيل قائدها حوادث مستجدة لابدّ من الإجابة عنها ولم يكن لهم بد من

ص:58

استنطاق الكتاب والسنة مع سائر الأدلّة في الحصول على الجواب عنها، وهذا الداعي كان سائداً ومستمراً إلى يومنا هذا، وقد حثّ الصادقان عليهما السلام أصحابهما على الاجتهاد قائلين: «علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع».(1)

وفي ظل هذه الميزة كان الفقه الإمامي متطوراً نامياً في كل عصر وزمان، وقد نتج عن ذلك تأليف موسوعات فقهية ضخمة على مر العصور.

الرابعة: لكل واقعة حكم

إنّ للّه سبحانه في كل واقعة حكماً شرعياً واحداً، وقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: أيّها الناس اتقوا اللّه ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلّاوقد نهيتكم عنه أو أمرتكم به.(2)

وعلى ضوء هذا فليس هناك واقعة لم يكتب حكمها حتّى يترك حكمها إلى أصحاب الاجتهاد والآراء، غير أن الحكم الواقعي تارة يكون واضحاً، وأُخرى يحتاج إلى بذل جهود ليصل إليه المستنبط.

الخامسة: التصويب والتخطئة

من مميزات الفقه الإمامي هو أنّ الحق في الشريعة أمر واحد

ص:59


1- . بحار الأنوار: 2/62؛ وسائل الشيعة: 27/63، طبعة آل البيت.
2- . بحار الأنوار: 2/171، برقم 12.

وما سواه خطأ محض، من غير فرق بين الأحكام والموضوعات، وذلك لما مرّ من أنّ للّه سبحانه في كل واقعة من الوقائع حكماً شرعياً واحداً، فإن وافقه المجتهد في استنباطه، فقد أصاب وإن خالفه، فقد أخطأ، وليس هناك واقعة واحدة لم يكن لها حكم في الشريعة، ويُترك حكمها إلى الفقهاء حتّى يكون الجميع مصيبين.

السادسة: تقسيم الأحكام الشرعية إلى واقعية وظاهرية

من خصائص هذه المدرسة تقسيم الأحكام الشرعية إلى حكم واقعي، وحكم ظاهري، وهذا بحسب لسان الدليل.

فإن كان ملاك حجية شيء كونه طريقاً إلى الواقع ومرشداً إليه، كما هو الحال في الوارد في الكتاب والسنة، مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «التراب أحد الطهورين»، أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»، فالحكم المستفاد منها حكم واقعي.

وأمّا الدليل المأخوذ في لسانه الشك، كما إذا ورد في السنّة: إذا شككت فاعمل بهذا الدليل، فيكون الحكم المستفاد منه حكماً ظاهرياً كما هو الحال في الأُصول العملية الأربعة: أصل البراءة، والاحتياط، والتخيير، والاستصحاب، فالشك مأخوذ في لسان الدليل كقوله: «لا تنقض اليقين بالشك» وهو مع الاحتفاظ بالشك يأمر بالعمل على وفق الحالة السابقة.

ومنه يظهر تأخّر مرتبة الأحكام الظاهرية عن الأحكام الواقعية،

ص:60

فالعبرة بالثانية بعد عدم الدليل على الأُولى، ويعبّر عمّا يدلّ على الحكم الواقعي بالدليل الاجتهادي، ويعبّر عمّا يدلّ على الحكم الظاهري بالدليل الفقاهي، ويترتّب على ذلك عدم حجية الأُصول العملية مع وجود الأدلّة الاجتهادية.

السابعة: تقسيم الموضوعات إلى أولية وثانوية

اشارة

إنّ العناوين المتعلّقة بالأحكام تنقسم إلى عنوان أوّلي، وعنوان ثانوي، فالعنوان المأخوذ في الموضوع مع قطع النظر عن العوارض والطوارئ يسمّى عنواناً أوّلياً، كلحم الميتة بالنسبة إلى حكمه أي الحرمة.

ولكن هذا الموضوع إذا طرأ عليه عنوان آخر في مرحلة ثانية كالإضطرار لأجل المجاعة، يقال له عنوان ثانوي، ربّما يصير مغيّراً لحكم العنوان الأوّلي مؤقّتاً، فلحم الميتة بما هو هو حرام، وبالنظر إلى العنوان الثانوي - أعني: الاضطرار - فهو حلال إلى حدّ معيّن.

إنّ في الحياة المعاصرة مشاكل بيئية واجتماعية تحيط بالإنسان وتجعل الحياة مرة في مذاقه، ولكن اللّه سبحانه أعطى لحكام الشرع صلاحية حلّ هذه المشاكل عن طريق أحد العناوين الثانوية، وبذلك ضمن للشريعة الإسلامية الخاتمية والاستمرار حتّى قيام الساعة.

ولأجل ذلك نشير إلى العناوين الثانوية الّتي لها دور في تعديل الأحكام الشرعية المتعلّقة بالعناوين الأولية:

ص:61

1. الضرورة والاضطرار

إذا اقتضت الضرورة واضطر الإنسان إلى استعمال محرم، يكون للعنوان الثانوي حكومة على العنوان الأوّلي، وقد أُشير إلى ذلك بقوله تعالى: «وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» (1) ومورد الآية وإن كان هو اللحوم ولكن العرف يساعد على إلغاء الخصوصية، فيشمل المأكولات والمشروبات جميعاً، وبالتالي يكون للعنوان الثاني حكومة على الحكم الوارد بالعنوان الأوّلي.

روى سماعة عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «... وليس شيء ممّا حرّم اللّه إلّاوقد أحلّه لمن اضطرّ إليه».(2)

وأمّا ما هو الاضطرار وما حدّه، فالبحث فيه موكول إلى محله.

2. الضَّرر والضِّرار

إنّ الضرر والضرار من العناوين الثانوية الّتي تتغير بها أحكام العناوين الأوّلية، مثلاً أنّه لا شك في وجوب الوضوء بالماء، كتاباً وسنة، لكن إذا طرأ هناك طارئ وصار استعمال الماء مضراً بالمتوضئ يجب عليه العدول إلى البدل، وهذه قاعدة تامّة باسم عنوان الضرر والضرار، وللقاعدة جذور في الكتاب

ص:62


1- . الأنعام: 119.
2- . الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 7.

العزيز والسنة النبوية، قال تعالى: «لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» (1).

وأمّا السنة فقد تضافر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم انّه قال: «لا ضرر ولا ضرار».

3. العسر والحرج

إنّ عنوان العسر والحرج من العناوين الثانوية الطارئة على العناوين الأوّلية - أيضاً - مثلاً إذا فرضنا أن الاغتسال بالماء البارد أو الخروج من المنزل للاغتسال صار أمراً حرجياً وإن لم يكن ضررياً، فيقدم حكم العنوان الثانوي على العنوان الأوّلي، أخذاً بقوله تعالى:

«وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (2).

4. قاعدة الأهم والمهم عند التزاحم

إذا توقّف إنقاذ الغريق على اجتياز الأرض المغصوبة، يُقدَّم وجوب إنقاذ الغريق على حرمة التصرف بالمغصوب، أخذاً بالأهم عند التزاحم بالمهم.

ونظيره حفظ النفس في المجاعة بالتصرف في طعام الغير، فلا

ص:63


1- . البقرة: 232.
2- . الحج: 78.

مانع من أكل مال الغير لحفظ النفس مع الضمان، وكم من فروع في الفقه تترتب على هذه القاعدة.

5. صلاحيات الفقيه الجامع للشرائط

إنّ للفقيه المجتهد الجامع للشرائط صلاحيات في تدبير المجتمع وإدارته في فقه أهل البيت، عن طريق تنفيذ أحكام الشرع وتطبيقها وحل المعضلات والمشاكل، وحفظ المصالح العامة تحت ضوء الضوابط الشرعية المقررة، فليس ولاية الفقيه بمعنى الاستبداد بالحكم كيفما أراد، بل المراد بها إجراء الأحكام الشرعية حسب ما أمر به الشارع المقدس مع تقديم الأصلح على غيره.

فالفقيه في مقام إجراء الأحكام الشرعية ينفذ أحكامه في ظل العناوين الثانوية، وبذلك يصبح المجتمع مجتمعاً إلهياً صالحاً.

ولنمثل لذلك ببعض الأمثلة:

1. انّه سبحانه فرض الجهاد على كافة المسلمين، ولكن إذا اقتضت المصلحة فرض الجندية على الشباب (سنة أو سنتين) للتدريب والدفاع عن حدود بلاد المسلمين وصارت المصلحة العامة في ذلك، فينفذ هذا الأمر بحكم الفقيه تقديماً للأصلح على الصالح، ويكون الوجوب حكماً ولائياً، لا حكماً شرعياً أوّلياً، ويكون الحكم هذا باقياً ما بقي ملاكه.

ص:64

2. لو اقتضت المصلحة العامة فتح شوارع، ولكن بعد هدم بيوت الناس ولا يوجد بديل عن ذلك فيسوغ تخريب البيوت مع التعويض تحقيقاً لمصالح المجتمع في ظل تشخيص الفقيه.

3. لو اقتضت المصلحة قطع العلاقات مع أحد الدول أو وصلها وتقويتها، فيجب على الحكومة القطع أو الوصل تنفيذاً لحكم الفقيه النابع من أحد العناوين الثانوية.

وقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام حول ولاية الفقيه بالمعنى الّذي عرفت، ولايسع المقام للتعرض لها.

كما أنّ هناك عناوين ثانوية أُخرى كالنذر والعهد والقسم وأمر الوالد ونهيه، وهي ممّا له دور في تغيير أحكام العناوين الأوّلية.

وبذلك يعلم أنّ الفقيه الشيعي استغنى عن بعض القواعد المعروفة كفتح الذرائع وسدها والمصالح المرسلة، لأنّ في تحكيم العناوين الثانوية على العناوين الأوّلية غنى عن إعمال هذه القواعد.

***

بقي الكلام في محورين آخرين لهما دور واسع في مباحث الفقه الإمامي إلّاوهما:

العرف والعادة والسيرة وبناء العقلاء.

دور مقاصد الشريعة وأهدافها في الفقه الإمامي.

وإليك الكلام فيهما موجزاً.

ص:65

المحور الثالث: دور العرف والعادة والسيرة وبناء العقلاء

اشارة

دور العرف والعادة والسيرة وبناء العقلاء

أربعة أسماء تدور على ألسن الفقهاء، وهي: العرف، و السيرة، و العادة، و بناء العقلاء، والجميع يهدف إلى معنى واحد، يستخدمها القضاة في فصل الخصومات، كما يعتمد عليها الفقهاء في بعض الموارد الّتي ستمر عليك، والهدف من عقد هذا البحث تبيين مكانة العرف وأنّه هل هو من منابع الاستنباط حتّى يستنبط الفقيه منه حكماً شرعياً أو لا؟ وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم تمهيداً، له دخل في إيضاح المقام:

1. تعريفه: العرف عبارة عن كلّ ما اعتاده الناس وساروا عليه من فعل أو قول.

والفرق بينه وبين الإجماع هو أنّ متعلّق الثاني عبارة عن المسائل الولائية كالخلافة أو الفقهية، بخلاف العرف فالمتعلّق فيه عبارة عمّا تعارف بين الناس، وإن لم تكن له صلة بإحدى المسألتين؛

ص:66

أضف إلى ذلك: أنّه يشترط في الإجماع الاتّفاق، بخلاف العرف فأنّه يكفي فيه الأكثرية الساحقة.

2. انقسام العرف إلى عامّ وخاصّ: ينقسم العرف إلى عرف عام يشترك فيه أغلب الناس أو جميعهم على اختلاف بيئاتهم وظروفهم، كرجوع الجاهل إلى العالم؛ و عرف خاصّ يختصّ ببيئة خاصّة ويسمّى بالرسوم المحلية، وينقسم أيضاً إلى عرف عملي كبيع المعاطاة في أغلب البيوع، وقولي كلفظ الولد حيث إنّه في عرف العرب هو الولد الذكر ولا يشمل الأُنثى، فلو وقف رجل ضيعة للولد تختص بالذكر، خلافاً لمصطلح القرآن حيث يُطلقه على الصنفين، قال سبحانه: «يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» (1).

3. تقسيم العرف إلى صحيح وفاسد: إذا لم يكن العرف منافياً للكتاب والسنّة فهو صحيح، كتعجيل بعض المهر وتأجيل البعض الآخر، وإذا كان مخالفاً لهما كالعقود الربويّة واختلاط النساء بالرجال في مجالس اللهو فهو عرف فاسد.

وعلى كلّ تقدير فسواء أكان العرف حجّة أو لا، فالمطلوب من العرف حجّيته في مورد لم يكن هناك حكم شرعي، وإلّا فلا يحتجّ به على حكم.

ص:67


1- . النساء: 11.

والغاية من الدراسة في المقام تحليل كونه ظناً خاصّاً يستنبط منه الحكم الشرعي في منطقة الفراغ أو لا.

فإليك بيان الموارد الّتي يمكن أن يكون العرف مرجعاً فيها ولا تتجاوز عن ستة:

1. الرجوع إلى العرف في معاني الألفاظ

لا شك أنّ أهل اللغة هم المرجع في بيان مفاهيم الألفاظ ومعانيها، ولا يختصّ ذلك بلغة دون لغة. وقد تحمّل أصحاب المعاجم عبء العيش بين أهل اللغة في البوادي والحواضر، فدوّنوا ما سمعوه منهم في معاجمهم، كالخليل بن أحمد صاحب كتاب «العين» (المتوفّى 170 ه)، والجوهري صاحب كتاب «صحاح اللغة» (المتوفّى 399 ه) وغيرهما من أصحاب المعاجم.

وقد مرّ أنّ التبادر عند أهل اللسان حجّة على كونه هو الموضوع له.

2. الرجوع إلى العرف في تحديد المعاني

ربّما يكون المعنى واضحاً، ولكن الحدود غير معلومة فيرجع إلى العرف في تحديدها، وهذا كمفاهيم البيع والعقد والإجارة وغيرها حيث يشك في جزئية شيء أو شرطيته لها، كما إذا شك في شرطية العربية في الإيجاب والقبول أو تقديم الإيجاب، أو التنجيز

ص:68

في صدق هذه المفاهيم، فإذا رجعنا إلى العرف وثبت أنّ صدق هذه المفاهيم غير مشروط بهذه القيود والشروط يُحكم بصحّة البيع بغير العربية والعقد المتأخّر إيجابه، أو كون إيجابه معلّقاً، وهذه هي سيرة الفقهاء حيث يتمسّكون بإطلاق قوله: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ» (1)، وعموم قوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (2) عند الشك في الجزئية والشرطية، فإذا كان صدق هذه المفاهيم غير مقيّد بهذه الشروط عند العرف فيؤخذ بإطلاقها ويحكم بصحّة البيع فيها، وما هذا إلّالأنّ الموضوع في الآيات الكريمة هو البيع والعقد العرفيان - لا الشرعيان - غاية الأمر أنّ المعنى العرفي مرآة وطريق إلى المعنى الشرعي، إلّا إذا قام الدليل على الخلاف، كما في بيع الخمر والخنزير أو بيع الغرر، ولولا كون الموضوع ما يصدق عليه البيع أو العقد عرفاً لكان التمسّك بالآيات عند الشك في الشرطية والجزئية، تمسّكاً بالعام في الشبهات المصداقية، وما ذكرناه هو توضيح ما أفاده الشيخ في آخر تعريف البيع. نظير ما لو افترضنا الإجمال في مفهوم الغبن أو العيب في المبيع فالمرجع هو العرف؛ ونظيره الغناء فكلّ ما سُمّي غناءً فهو حرام، سواء اشتمل على الترجيع أو الطرب أو لا.

ص:69


1- . البقرة: 275.
2- . المائدة: 1.

3. الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق

ربّما يكون المفهوم وحدوده معلوماً لكن يشك الإنسان في كون شيء مصداقاً للمفهوم المعلوم أو لا، كالمعدن فإنّ له أقساماً بعضها قطعي وبعضها مشكوك الدخول فيه كالطين الأحمر.

وكالحرز حيث اتّفق الفقهاء على أنّ الإنسان البالغ العاقل والمختار إذا سرق من حرز ربع دينار فصاعداً أو ما قيمته كذلك، تقطع يده، إنّما الكلام في بعض مصاديق الحرز، فلا شكّ أنّ الصندوق حرز الدراهم والثياب، والاصطبل حرز الدابة، لكن ربّما يشك في صدقه في غير هذين الموردين، كما إذا جعل الدراهم والثياب في غرفة مقفلة فهل يصدق عليه الحرز أو لا؟ فالمرجع في ذلك هو العرف، وهو لا يرى فرقاً بينهما في الصدق.

نعم المرجع هو العرف الدقيق لا العرف المتسامح، فلو باع مائة كيلو حنطة فسلم 99,500 كيلوغراماً فالعرف المتسامح يراه مائة كيلو بخلاف العرف الدقيق، ومنه يعلم حكم الكر والفرسخ وعامّة المقادير والأوزان فلا يتسامح فيها حتّى بمقدار طفيف، لأنّ المفروض أنّ الشارع حدّدها والعرف الدقيق حدّدها أيضاً بحدّ خاص، فإذا فقد الحدّ لا يصدق المحدود.

ص:70

4. كشف الملازمة بين حكمين شرعيّين

إذا كان بين الحكم الشرعي المنطوق، والحكم الشرعي الآخر غير المنطوق، ملازمة عادية بحيث ينتقل العرف من الحكم الأوّل إلى الحكم الثاني وإن لم يكن الثاني ملفوظاً، فهذه الملازمة حجّة لدى الفقيه وتعدّ من المداليل، وهذا كما في الموارد التالية:

1. إذا قال الشارع يطهر بدن الميت بعد إجراء الأغسال الثلاثة، ولكن سكت عن طهارة يد الغاسل والخشب الّذي أُجري عليه الغسل وسائر الأدوات، لكن العرف يرى ملازمةً بين طهارة الميت وطهارة الأُمور الماضية، إذ كيف يمكن أن يكون بدن الميت طاهراً ويد الغاسل نجسة.

2. إذا دلّ الدليل على طهارة الخمر إذا انقلب إلى الخل وسكت عن طهارة الإناء، فالعرف يرى بين الطهارتين ملازمة.

3. إذا دلّ الدليل الشرعي على طهارة العصير العنبي بعد التثليث وسكت عن طهارة الإناء والأدوات الّتي استخدمها الطباخ، فالعرف يرى الملازمة بين الطهارتين. وهذا ما يُعبّر عنه في الفقه بالتبعيّة.

5. استخدام الأعراف في كشف مقاصد المتكلّم

إنّ لكلّ قوم وبلد أعرافاً خاصّة يتعاملون في إطارها ويتّفقون على ضوئها في كافّة العقود والإيقاعات، فهذه الأعراف تشكّل قرينة

ص:71

حالية لحلّكثير من الإجماعات المتوهّمة في أقوالهم وأفعالهم، ولنقدّم نماذج منها:

1. إذا باع دابة ثمّ اختلفا في مفهومه، فالمرجع ليس هو اللغة، بل ما هو المتبادر في عرف المتعاقدين وهو الفرس.

2. إذا باع اللحم ثمّ اختلفا في مفهومه، فالمرجع هو المتبادر في عرف المتبايعين، وهو اللحم الأحمر دون اللحم الأبيض كلحم السمك.

3. إذا وصّى بشيء لولده، فالمرجع في تفسير الولد هو العرف، ولا يطلق فيه إلّاعلى الذكر لا الأُنثى خلافاً للفقه والكتاب العزيز، قال سبحانه: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ». (1)

4. إذا اختلفت البلدان في بيع شيء بالكيل أو الوزن أو بالعد، فالمتبع هو العرف الرائج في بلد البيع.

قال المحقّق الأردبيلي: كلّما لم يثبت فيه الكيل ولا الوزن ولا عدمهما في عهده صلى الله عليه و آله و سلم فحكمه حكم البلدان، فإن اتّفق البلدان فالحكم واضح، وإن اختلفت ففي بلد الكيل أو الوزن يكون ربوياً تحرم الزيادة وفي غيره لا يكون ربوياً فيجوز التفاضل، والظاهر أنّ الحكم للبلد لا لأهله وإن كان في بلد غيره.(2)

ص:72


1- . النساء: 11.
2- . مجمع الفائدة والبرهان: 477/8، كتاب المتاجر، مبحث الربا.

5. إذا اختلف الزوجان في أداء المهر، فالمرجع هو العرف الخاص، فلو جرت العادة على تقديم المهر أو جزء منه قبل الزفاف ولكن ادّعت الزوجة أنّها لم تأخذه، وادّعى الزوج أنّه دفعه إليها، فللحاكم أن يحكم على وفق العرف الدارج في البلد.

وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام فيما إذا ماتت الزوجة واختلف الزوج مع ورثة الزوجة كالأب والأُم في متاع البيت، فادّعى الزوج أنّه له وقالت الورثة إنّه للزوجة، فجعل الإمام المتاع لها وقال للسائل: «أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟» فقلت:

شاهدين، فقال: «لو سألت من بين لابتيها - يعني الجبلين ونحن يومئذٍ بمكة - لأخبروك انّ الجهاز والمتاع يهدى علانية، من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به وهذا المدّعي، فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة».(1)

6. إذا اختلف البائع والمشتري في دخول توابع المبيع في البيع فيما إذا لم يصرّحا به، كما إذا اختلفا في دخول اللجام والسرج في المبيع، فإذا جرى العرف على دخولهما في المبيع وإن لم يذكر يكون قرينة على أنّ المبيع هو المتبوع والتابع، ولذلك قالوا: إنّ ما يتعارفه الناس في قول أو فعل عليه يسير نظام حياتهم وحاجاتهم، فإذا قالوا أو كتبوا فإنّما يعنون المعنى المتعارف لهم، وإذا عملوا فإنّما

ص:73


1- . الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 1.

يعملون على وفق ما يتعارفونه واعتادوه، وإذا سكتوا عن التصريح بشيء فهو اكتفاء بما يقتضي به عرفهم، ولهذا قال الفقهاء: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

6. كون العرف منبعاً لاستنباط الحكم الشرعي

ما سبق من الموارد الخمسة يحتجّ بالعرف في تشخيص الصغرى ويتبعه الحكم الشرعي إلى الكبرى ولم يختلف فيها اثنان، إنّما المهم كونه من منابع الاستنباط أي يُكتشف به الحكم الشرعي كالإجماع وغيره؛ وهذا هو الّذي يصرّ عليه أهل السنّة فيعدّونه من منابع الاستنباط. غير أنّ الحق كون العرف كاشفاً عن الحكم الشرعي دون أن يكون من منابع الاستنباط، وقد تقدّم مثل ذلك في الإجماع وأنّه ليس من منابع الاستنباط بل كاشفاً عن السنّة، فهكذا العرف أو سيرة العقلاء يكشف عن الحكم الشرعي بشرطين:

1. اتّصال السيرة إلى أعصارهم وكونها بمرأى ومسمع منهم.

2. عدم ردعهم عنها بقول وفعل.

فنحن نوافق أهل السنّة في أصل الاحتجاج بالعرف والسيرة لكن نخالفهم في أنّ مرجع العرف عندنا إلى السنّة حيث يكشف عنها دون أن يكون دليلاًمستقلاً، ولذلك أفتى الفقهاء بالجواز في الموارد التالية لوجود السيرة المتصلة بعصر المعصومين من دون

ص:74

ردع:

1. العقود المعاطاتية في البيع والإجارة والرهن وغيرها، فهي حجّة على مَن يشترط العقد اللفظي في صحّة المعاملات المزبورة.

2. وقف الأشجار والأبنية منفكّة عن وقف العقار، فالسيرة حجّة عند الشكّ في صحّة هذا النوع من الوقوف.

3. دخول الحمّام من دون تقدير مدّة المكث فيه ومقدار المياه الّتي يصرفها.

4. استقلال الحافلة بأُجرة معيّنة من دون أن يعيّن حدّ المسافة.

5. بيع الصبي وشراؤه في المحقّرات، دون الجلائل. مع أنّ الثالث والرابع غرريّان، والخامس، ينافيه ظاهراً، قول علي عليه السلام: «عمد الصبي خطأ».(1) أو قول الإمام الصادق عليه السلام: «عمد الصبي وخطأُه واحد». (2)

وبما ذكرنا يعلم أنّ السير الحادثة بين المسلمين - بعد رحيل الرسول - لا يصحّ الاحتجاج بها وإن راجت بينهم كالأمثلة التالية:

1. عقد التأمين وهو عقد رائج بين العقلاء عليه يدور رحى الحياة في العصر الحاضر فموافقة العرف لا يكون دليلاً على كونه مشروعاً بل هو بحاجة إلى دليل آخر عليه.

ص:75


1- و 2. الوسائل: 19، الباب 11 من أبواب العاقلة، الحديث 3، 2، بناء على عدم اختصاص الحديثين، بباب الديات.

2. عقد حقّ الامتياز قد شاع بين الناس شراء الامتياز الكهرباء والهاتف والماء وغير ذلك ممّا يعدّ من متطلّبات الحياة العصرية فدفع خصوص المال بغية شرائها وراء ما يدفع في مقابل الانتفاع بها، وحيث إنّ هذه السيرة حدثت ولم تكن في عصر المعصومين فلا يعد موافقة العرف له دليلاً على جوازه.

3. بيع السرقفلية قد شاع بين الناس أنّ المستأجر إذا استأجر مكاناً وسكن فيه فيصبح له حق الأولوية وربما يأخذ شيئاً باسم السرقفلية حين التخلية.

4. عقود الشركات التجارية الرائجة في عصرنا ولكلّ منها تعريف يخصّها ولم يكن له أثر في عصر الوحي، فتصويب كلّ هذه العقود بحاجة ماسّة إلى دليل آخر وراء العرف، فإن دلّ عليه دليل شرعي يؤخذ به وإلّا فلا تصحّ بالعرف.

ص:76

المحور الرابع: دور مقاصد الشريعة وأهدافها في الفقه الإمامي

اشارة

دور مقاصد الشريعة وأهدافها في الفقه الإمامي

قبل الخوض في البحث نقدّم أُموراً:

1. أفعاله سبحانه تكويناً وتشريعاً معلّلة بالغايات

إنّ الرأي السائد لدى الأشاعرة، هو أنّ أفعال اللّه سبحانه لا تكون معلّلة بالأغراض والمقاصد، مستدلّين بأنّه لو كان فعله خاضعاً للغرض لكان ناقصاً في ذاته، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلّاما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الكمال.(1)

ولكنّهم خلطوا بين الغرض العائد إلى الفاعل، والغرض المترتّب على الفعل، - وإن كان المستفيد غيره سبحانه - فالاستكمال

ص:77


1- . المواقف: 231.

لازم الصورة الأُولى دون الثانية، والقائل بكون أفعاله معلّلة بالأغراض والدواعي، يعني بها الصورة الثانية دون الأُولى، وتبعية الفعل للغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنياً في ذاته وصفاته وأفعاله، ولكنّها بالمعنى الثاني توجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً، وكونه سبحانه عابثاً ولاغياً، فالجمع بين كونه غنياً غير محتاج إلى شيء، وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللغو، يتحقّق باشتمال أفعاله على حِكَم ومصالح ترجع إلى العباد لا إلى وجوده وذاته، كما لا يخفى.

إنّ القرآن الكريم يُجلّ اللّه سبحانه عن أن تكون أفعاله الكونية عبثاً بلا غرض، وسُدىً بلا غاية، لأنّ العبث يضادّ كونه حكيماً يضع الأشياء مواضعها.

قال سبحانه:

1. «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (1).

2. «وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ». (2)

3. «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ» (3).

ص:78


1- . المؤمنون: 115.
2- . الدخان: 38.
3- . ص: 27.

4. «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ». (1) إلى غير ذلك من الآيات التي تَنفي العبث عن فعله سبحانه، وتصرّح باقترانه بالحكمة والغرض، ومع هذه التصريحات القاطعة للعذر، كيف يتفلسف الأشعري بما ذكره من الدليل العقلي وينفي كلّ غرض وغاية عن فعله، ويعرّف فعله سبحانه على خلاف الحكمة، مع أنّ من صفاته كونه حكيماً؟!

وكما أنّ أفعاله الكونية مقرونة بالغرض، فكذا تشريعاته في عامّة المجالات تابعة لأغراض تحقّق مصالح للناس عاجلاً وآجلاً.

وسيوافيك نصوص الذكر الحكيم وما رُوي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في هذا الصدد.

2. الشيعة الإمامية ومقاصد الشريعة

إنّ الشيعة الإمامية عن بكرة أبيهم أكّدوا على أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمقاصد والأغراض، فلا واجب إلّالمصلحة في فعله، ولا حرام إلّالمفسدة في اقترافه، وقد تحقّق عندهم إنّ للتشريع الإسلامي نظاماً لا تعتريه الفوضى. وهذا الأصل وإن خالف فيه بعض الأُمّة (الأشاعرة)، غير أنّ نظرهم محجوج بكتاب اللّه وسنّة نبيّه ونصوص خلفائه. وإليك البيان:

ص:79


1- . الذاريات: 56.

المراد من الأغراض والدواعي، ما يترتّب على تشريع الحكم من مصالح اجتماعية أو فردية، أو دفع مفاسد كذلك، مثلاً «أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ» لما في إباحته من منافع، «وَ حَرَّمَ الرِّبا» لما في تحريمه من درء مفاسد لا تخفى.

ومن قرأ القرآن بإمعان ودقّة، وتدبّر في آيات التشريع والأحكام، يقف بوضوح على أنّه سبحانه تارة يصرّح بعلل التشريع ودوافعه، وأُخرى يشير إليها بأروع الإشارات، ونحن نذكر من كلّ قسم شيئاً.

3. التصريح بالعلل

قد وردت في الذكر الحكيم آيات تتضمّن تشريع الأحكام مقرونة بذكر عللها والمصالح التي تترتّب عليها، أو المفاسد التي تُدرأ بها، نظير:

1. «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ». (1)

فالآيتان تشتملان على علل تشريع حرمة الخمر والميسر وما

ص:80


1- . المائدة: 90-91.

عطف عليهما من الأنصاب والأزلام، إمّا بالإشارة إليها كقوله:

«رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» و «رجاء الفلاح» وإمّا بالتصريح بها كما في الآية الثانية بأنّ مزاولتهما تورث العداء والبغضاء وتصد عن ذكر اللّه.

2. «ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ». (1)

جعل الفيء للّه وللرسول ولمن عطف عليهما، لئلّا يتم تداول الثروة دائماً بين الأغنياء.

3. «وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ...». (2)

فقد نهى سبحانه عن سبّ آلهة المشركين، لأنّه ينتهي إلى سبّ اللّه سبحانه.

4. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ

ص:81


1- . الحشر: 7.
2- . الأنعام: 108.

اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (1)

أمر تبارك وتعالى بغسل الوجوه والأيدي ومسح الرؤوس والأرجل لمن كان واجداً للماء، كما أمر لفاقده بالتيمّم بمسح الوجوه والأيدي بما يعلق بها من الغبار، ثمّ علّل سبحانه الأمر بالطهارة الأعم من المائية والترابية بأنّه لغاية تطهيركم لا لإيجاد الحرج عليكم.

5. «وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». (2)

أمر سبحانه بالقصاص وقتل النفس بالنفس لما فيه حياة للمجتمع.

6. أنّه سبحانه بعد ما قصّ نبأ ابني آدم وأنّ أحد الأخوين قتل الآخر قال: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً». (3)

فجعل وقوع تلك الحادثة الفجيعة سبباً لكتابته سبحانه على بني إسرائيل: أنّه من قتل نفساً - بغير حقّ - فكأنّما قتل الناس جميعاً، فالحكم المكتوب على بني إسرائيل نابع عن قصّة نبأ ابني آدم.

ص:82


1- . المائدة: 6.
2- . البقرة: 179.
3- . المائدة: 32.

7. «فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً». (1)

كان الحكم السائد في الجاهلية تحريم تزوّج الرجال بأزواج أدعيائهم، وحينما طلّق زيدٌ (الذي تبنّاه رسول اللّه في الجاهلية) امرأته زينب بنت عمة النبي صلى الله عليه و آله، أمر سبحانه نبيّه الكريم أن يتزوجها بهدف إماتة تلك السنّة الجاهلية، وبذلك جسّد صلى الله عليه و آله قوله سبحانه:

«لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ».

8. «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ». (2)

فقد علّل سبحانه الإذن بقتال الظالمين بقوله «بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» فالآية صريحة في أنّ المظلوم مأذون في قتال الظالم مادام كونه مظلوماً والآخر ظالماً.

9. «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» (3)، فلكونها ناهية عنهما صارت سبباً للأمر بإقامتها.

ص:83


1- . الأحزاب: 37.
2- . الحج: 39-40.
3- . العنكبوت: 45.

10. «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» .(1)

وقد أمر سبحانه بلزوم التأهّب واتّخاذ العدّة للقتال، وذلك لغاية إرهاب عدو اللّه وعدو المسلمين من غير فرق بين معلوم العداء وغيره.

هذه نماذج من آيات التشريع التي صرّح الذكر الحكيم بعللها، وإليك نماذج من القسم الآخر.

4. الإلماع إلى علل التشريع دون التصريح

هناك آيات في الذكر الحكيم تشير إلى علل الأحكام لا بصورة واضحة، بل بالكناية والإشارة يقف عليها مَن تدبّر الذكر الحكيم، وإليك نماذج من هذا القسم:

1. «وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (2)، فالآية مشتملة على التعليل الصريح مثل قوله: «جَزاءً بِما كَسَبا» وقوله: «نَكالاً مِنَ اللّهِ» ، وعلى الإشارة إليه حيث علّق لزوم القطع على عنواني السارق والسارقة مشيراً إلى أنّ

ص:84


1- . الأنفال: 60.
2- . المائدة: 38.

علّة القطع هو السرقة، وقد اشتهر قولهم: «تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلّية».

2. «اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». (1)

فالآية مشتملة على الإشارة بالتعليل وهو تعليق الحكم على عنوان الزانية والزاني.

3. «فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً». (2)

ذكر سبحانه في هذه الآية صلاة الخوف وبيّن كيفيتها، ولمّا كان هناك سؤال وهو أنّه سبحانه إذا كان بصدد التخفيف عن العباد، فلماذا لم يأمر بتأخير الصلاة حتى يستقر المسافر في بلده؟ فأجاب سبحانه عن ذلك بقوله: «إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً» ، أي أنّ الصلاة قد شرّعت مؤقتةً بأوقات لابدّ من أدائها فيها بقدر الإمكان.

4. «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ

ص:85


1- . النور: 2.
2- . النساء: 103.

وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً». (1)

ففي الآية إلماع إلى علّة تحريم الطيبات على اليهود وهو ظلمهم وصدّهم عن سبيل اللّه.

5. «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ». (2)

فقد أشار سبحانه إلى علّة تشريع الحكم وإيجاب غضّ البصر وحفظ الفروج بقوله: «ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ».

6. «وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ». (3)

فقد علّل سبحانه لزوم السؤال من وراء الحجاب بأنّه مورث لطهارة قلوب السائل والمسؤول.

7. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ». (4)

ص:86


1- . النساء: 160.
2- . النور: 30.
3- . الأحزاب: 53.
4- . النور: 27-28.

ترى أنّه سبحانه يشير إلى علّة التشريع في الآية بقوله: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» ، وفي الآية الثانية: «هُوَ أَزْكى لَكُمْ».

8. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (1)، فالغاية من كتابة الصيام على عامّة الأُمم والمسلمين، هو رجاء الاتّقاء عن المعاصي ولك أن تجعل بعض ما ذكر من قبيل التصريح لا الإلماع والإشارة.

5. الاستدلال بالروايات

1. قال الإمام علي عليه السلام: «فَرَضَ اللّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ، وَالزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ، وَالصِّيَامَ ابْتِلَاءً لِإِخْلَاصِ الْخَلْقِ، وَالْحَجَّ تَقْرِبَةً لِلدِّينِ، وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلْإِسْلَامِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَوَامِّ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ رَدْعاً لِلسُّفَهَاءِ، وَصِلَةَ الرَّحِمِ مَنَْماةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ إِعْظَاماً لِلْمَحَارِمِ، وَتَرْكَ شُرْبِ الْخَمْرِ تَحْصِيناً لِلْعَقْلِ، وَمُجَانَبَةَ السَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّةِ، وَتَرْكَ الزِّنَى تَحْصِيناً لِلنَّسَبِ، وَتَرْكَ اللِّوَاطِ تَكْثِيراً لِلنَّسْلِ، وَالشَّهَادَاتِ اسْتِظْهَاراً عَلَى الُْمجَاحَدَاتِ، وَتَرْكَ الْكَذِبِ تَشْرِيفاً لِلصِّدْقِ، وَالسَّلَامَ (والاسلام) أَمَاناً مِنَ الَْمخَاوِفِ، وَالأَْمَانَةَ (الامامة) نِظَاماً لِلْأُمَّةِ،

ص:87


1- . البقرة: 183.

وَالطَّاعَةَ تَعْظِيماً لِلْإِمَامَةِ».(1)

2. وقال علي عليه السلام: «قال اللّه عزّ وجلّ من فوق عرشه: يا عبادي أطيعوني فيما أمرتكم، ولا تُعلّموني بما يصلحكم، فإنّي أعلم به ولا أبخل عليكم بصالحكم».(2)

3. وقال أيضاً، حول فريضة الصلاة والزكاة: «وَعَنْ ذلِكَ مَا حَرَسَ اللّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ، وَتَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ، وَتَخْفِيضاً (تخضيعاً) لِقُلُوبِهِمْ، وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ، وَلِمَا فِي ذلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً».(3)

4. قالت فاطمة الزهراء عليها السلام سيدة النساء في خطبتها المعروفة بعد رحيل أبيها: «للّه فيكم عهد قدّمه إليكم، وبقيّة استخلفها عليكم، كتاب اللّه الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللّامع، بيّنة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبط به أشياعه، قائد إلى الرضوان أتباعه، مؤدّ إلى النجاة استماعه، به تنال حجج اللّه

ص:88


1- . نهج البلاغة، قسم الحكم: 252.
2- . عدة الداعي: 31.
3- . نهج البلاغة، الخطبة: 192، تصحيح صبحي الصالح.

المنوّرة، وعزائمه المفسّرة، ومحارمه المحذرة، وبيّناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة.

فجعل اللّه الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحجّ تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام [وذلّاً لأهل الكفر والنفاق]، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبرّ الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللّعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفّة، وحرّم اللّه الشرك إخلاصاً له بالربوبية فاتّقوا اللّه حقّ تقاته، ولا تموتنّ إلّاوأنتم مسلمون، وأطيعوا اللّه فيما أمركم به و [ما] نهاكم عنه، فإنّه إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء.(1)

5. وهذا باقر الأُمّة وإمامها يقول: «إنّ مدمن الخمر كعابد وثن، ويورثه الارتعاش، ويهدم مروته ويحمله على التجسّر على المحارم

ص:89


1- . الاحتجاج: 258/1-259.

من سفك الدماء وركوب الزنا».(1)

6. روى جميل بن دراج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه سأله عن شيء من الحلال والحرام؟ فقال: «إنّه لم يجعل شيء إلّالشيء».(2)

قال العلّامة المجلسي معلّقاً على الحديث: أي لم يشرّع اللّه تعالى حكماً من الأحكام إلّالحكمة من الحكم، ولم يحلّل الحلال إلّا لحسنه، ولم يحرّم الحرام إلّالقبحه، لا كما تقوله الأشاعرة من نفي الغرض وإنكار الحسن والقبح العقليّين؛ ويمكن أن يعمّ بحيث يشمل الخلق والتقدير أيضاً، فإنّه تعالى لم يخلق شيئاً أيضاً إلّا لحكمة كاملة وعلّة باعثة.

7. عن هشام بن الحكم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن علّة الصيام؟ قال: «العلّة في الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك أنّ الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، لأنّ الغني كلّما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد اللّه عزّ وجلّ أن يسوّي بين خلقه وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم ليحسن على الضعيف ويطعم الجائع».(3)

8. روى محمد بن سنان قال: سمعت علي بن موسى بن

ص:90


1- . بحار الأنوار: 164/65، الحديث 2.
2- . بحار الأنوار: 110/6.
3- . فضائل الأشهر الثلاثة: 102.

جعفر عليهم السلام يقول: «حرّم اللّه الخمر لما فيها من الفساد ومن تغييرها عقول شاربيها، وحملها إيّاهم على إنكار اللّه عزّ وجلّ، والفرية عليه وعلى رسله، وسائر ما يكون منهم من الفساد والقتل، والقذف، والزنا، وقلّة الاحتجاز من شيء من الحرام، فبذلك قضينا على كلّ مسكر من الأشربة أنّه حرام محرّم، لأنّه يأتي من عاقبتها ما يأتي من عاقبة الخمر؛ فليجتنب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ويتولّانا وينتحل مودّتنا كلّ شراب مسكر فإنّه لا عصمة بيننا وبين شاربيها».(1)

9. وقد قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليه السلام: «إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلّالما فيه المنفعة والصلاح، ولم يحرّم إلّا ما فيه الضرر والتلف والفساد».(2)

10. وقال عليه السلام في الدم: «إنّه يسيء الخلق، ويورث القسوة للقلب، وقلّة الرأفة والرحمة، ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده».(3)

11. وقال الرضا عليه السلام: «إنّا وجدنا كلّ ما أحلّ اللّه تبارك وتعالى ففيه صلاح العباد وبقاؤهم، ولهم إليه الحاجة التي لا يستغنون عنها؛ ووجدنا المحرم من الأشياء، لا حاجة للعباد إليه، ووجدناه مفسداً

ص:91


1- . بحار الأنوار: 107/6.
2- . مستدرك الوسائل: 71/3.
3- . الاختصاص: 103؛ لاحظ البحار: 164/64، قسم الهامش.

داعياً إلى الفناء والهلاك».(1)

12. وقال الرضا عليه السلام: «إنّما أُمروا بالصلاة، لأنّ في الصلاة الإقرار بالربوبية، وهو صلاح عام، لأنّ فيه خلع الأنداد والقيام بين يدي الجبار».(2)

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمّة الدين.

***

ص:92


1- . معادن الحكمة: 151/2.
2- . وسائل الشيعة: 3، الباب 1 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 9.

المحور الخامس: ثمرة التعرّف على المقاصد

اشارة

ثمرة التعرّف على المقاصد

تظهر ثمرة التعرّف على مقاصد الشرع وأغراضه في مقامين:

1. تقديم أحد المتزاحمين على الآخر، كتقديم حفظ الدين على حفظ النفس، وهكذا، كما سيوافيك بيانه.

2. كون التعرّف على المقاصد، من مصادر التشريع بحيث يستكشف الحكم الشرعي من العلم بالغرض. وإليك دراسة مقامين:

المقام الأوّل: تقديم أحد المتزاحمين على الآخر لأجل التعرّف على المقاصد

اشارة

إذا كان هناك تعارض بين حفظ الحكم الضروري والحكم الحاجي فلا شكّ في تقديم الأوّل على الثاني.

كما إذا كان هناك تزاحم بين الحكم الحاجي والحكم التحسيني يقدّم الأوّل على الثاني وهكذا. ومثله ما إذا وقع التزاحم بين الأُمور

ص:93

الضرورية الخمسة وهي: 1. الدين، 2. النفس، 3. العقل، 4. النسل أو العرض، 5. المال. فيقدّم حفظ الأوّل على الثاني وهكذا في سائر الموارد، وإليك الأمثلة:

التزاحم بين الضروريات
اشارة

قد عرفت أنّ الدين هو الضروري الأوّل الّذي تليه النفس، فإذا دار الأمر بين الأمرين فحفظ الدين هو الأهمّ، ولذلك وجب الجهاد بالنفس حفظاً للدين وإن كان فيه تضحية بالنفس.

كما أنّه إذا دار الأمر بين حفظ النفس والعقل، فحظ النفس أهمّ من حفظ العقل، فلو أُصيب بمرض لا يعالج إلّابشرب الخمر، يجب عليه شربه حفظاً للنفس وإن كان فيه إزالة للعقل بشكل مؤقّت.

ولو دار الأمر بين الاعتداء على العرض وقتل النفس فيجوز له الاعتداء لحفظ النفس، كما أنّه لو دار الأمر بين حفظ العرض والاعتداء على مال الغير يجب الثاني حفظاً للعرض.

نعم ما ذكرناه هو الضابطة الغالبة، ولكن ربما ينعكس الحكم، فلو أكره عالم مُطاع على شرب الخمر على رؤوس الأشهاد وهُدّد بالقتل على تركه فلا يجوز له شربه، لأنّ في ذلك زعزعة لإيمان الناس وهدماً لعقيدتهم.

ص:94

وبذلك يعلم أنّه إذا كان هناك تزاحم بين الضروري والحاجيات يقدّم الأوّل على الثاني، فلو كان في إتيان الواجبات كلفة ومشقّة فيقدّم الأوّل وتتحمّل المشقّة، وإلّا لزم ترك الفرائض والنوافل بحجّة أنّ فيها مشقّة ومن المعلوم أنّ عدم الحرج من الحاجيات ولا يتحمّل إلّا إذا دار الأمر بينه وبين الامتثال لأحكام الدين.

ثمّ إنّه إذا دار الأمر بين الحاجي والأمر التحسيني فيقدّم الأوّل، ولذلك اغتفرت الجهالة في المزارعة والمساقاة لحاجة الناس إليهما وإن كان فيها ترك التحسينات. هذه هي النتائج المترتّبة على التعرّف لمقاصد الشريعة وقد عرفت أنّها ثمرات غالبية، وربما يطرأ على المورد عنوان آخر يوجب قلب الحكم.

***

ما ذكرناه هو خلاصة ما عليه فقهاء السنّة في هذه الأيام. وأمّا ما عليه علماء الأُصول من أصحابنا فإنّهم تطرقوا إلى هذا الموضوع من جانب آخر، وذلك بفتح باب باسم التعارض والتزاحم وبيان الفرق بينهما، قائلين بأنّ التعارض إن كان في مقام الإنشاء فهو يرجع إلى باب التعادل والترجيح، وإن كان هناك توافق في مقام الإنشاء وتناف في مقام الامتثال، فهذا ما يبحث عنه في موضع آخر باسم باب التزاحم، وعندئذٍ تُكتشف أهمية أحد الحكمين وتقدمه على الحكم الآخر عن طريق

ص:95

أوصاف الحكمين، وسنذكر هنا نماذج من ذلك.

1. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل

إذا كان هناك واجبان لأحدهما بدل شرعاً، دون الآخر، فالعقل يحكم بتقديم الثاني على الأوّل، جمعاً بين الامتثالين، كالتزاحم الموجود بين رعاية الوقت وتحصيل الطهارة الحدثية بالماء، فبما أنّ الوقت فاقد للبدل، بخلاف الطهارة الحدثية، فتُقدّم مصلحة الوقت على مصلحة الطهارة الحدثية بالماء، فيتيمّم بدلاً عن الطهارة المائية ويصلّي في الوقت.

2. تقديم المضيّق على الموسّع

إذا كان هناك تزاحم بين المضيّق الذي لا يرضى المولى بتأخيره، والموسّع الذي لا يفوت بالاشتغال بالواجب المضيّق، إلّا فضيلة الوقت، فالعقل يحكم بتقديم الأوّل على الثاني، ولذلك يجب امتثال إزالة النجاسة أوّلاً ثمّ القيام بالصلاة.

3. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً

إذا كان أحد الواجبين متقدّماً في مقام الامتثال على الآخر زماناً، كما إذا وجب صوم يوم الخميس والجمعة، ولا يقدر إلّا على صيام يوم واحد، أو إذا وجبت عليه صلاتان ولا يتمكّن إلّا

ص:96

من الإتيان بواحدة منهما قائماً، أو وجبت صلاة واحدة ولا يتمكّن إلّا من القيام بركعة واحدة، ففي جميع هذه الصور يستقلُّ العقل بتقديم ما يجب امتثاله سابقاً على الآخر، حتى يكون في ترك الواجب في الزمان الثاني معذوراً، إلّاإذا كان الواجب المتأخّر أهمّ في نظر المولى فيجب صرف القدرة في الثاني، وهو خارج عن الفرض.

وبعبارة أُخرى: لو صام يوم الخميس، أو صلّى الظهر قائماً، فقد ترك صوم يوم الجمعة والقيام في صلاة العصر عن عذر وحجّة بخلاف ما لو أفطر يوم الخميس وصلّى الظهر جالساً فقد ترك الواجب بلا عذر.

4. تقديم الواجب المطلق على المشروط

إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور مرقد الإمام الحسين عليه السلام في كلّ يوم عرفة، ثمّ حصلت له الاستطاعة فيقدّم الحج على زيارة الحسين عليه السلام، لأنّه إذا قال القائل: للّه عليَّ أن أزور الإمام الحسين عليه السلام في كلّ يوم عرفة، إمّا أن لا يكون له إطلاق بالنسبة إلى عام حصول الاستطاعة للحج، أو يكون.

فعلى الأوّل - عدم الإطلاق لدليل النذر - يكون الحجّ مقدّماً، إذ لا يكون عندئذٍ إلّاواجب واحد.

ص:97

وعلى الثاني، بما أنّ الإطلاق مستلزم لترك الواجب - أعني:

الحجّ - يكون إطلاق النذر - لا نفسه - باطلاً، نظير ما إذا نذر شخص أن يقرأ القرآن من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإنّه في حدّ نفسه راجح، لكنّه بما أنّه مستلزم لتفويت الواجب - وهي صلاة الصبح - فلا ينعقد، وهذا هو المراد من قولنا تقديم الوجب المطلق (الحج) على الواجب المشروط (زيارة الحسين) حيث إنّها مشروطة بعدم كونها مفوّتة للواجب.

وبذلك يعلم، أنّ علاج المتزاحمين مبني على التعرّف على الأهم والمهمّ، كما في هذه الوجوه الستة، وهذا مسلك سلكه أصحابنا الأُصوليّون وراء التعرّف على مقاصد الشريعة.

التزاحم بين الضررين

التزاحم بين الضررين من أوضح مصاديق باب التزاحم فللعقل في تقديم أحد الضررين على الآخر دور واضح، وبما أنّ المقام لا يتّسع لذكر صورها مع أدلّتها، فلنذكر رؤوس المسائل ونترك التفصيل إلى محلّه:

1. إضرار الغير لدفع الضرر عن النفس، كما إذا كان الضرر متوجّهاً إليه، فهل يجوز دفع الضرر عن نفسه، بتوجيهه إلى الغير؟

ص:98

2. إذا كان الضرر متوجّهاً إلى الغير، فهل يجب دفع الضرر عن الغير بتحمّله عنه؟

هذا كلّه إذا كان هناك ضرر واحد ودار الأمر بين توجيهه إلى النفس أو الغير.

3. أمّا إذا كان هنا ضرران، كما إذا أدخلت الدابة التي ترعى في الصحراء رأسها في قدر الشخص الآخر، ودار الأمر بين ذبحه وكسر القدر، ولهذا النوع صور مذكورة في محلّها.

4. إذا استلزم تصرّف المالك تضرّر الجار.

إلى غير ذلك من الصور التي لا تحلّ عقدتها إلّابتمييز الأهمّ من المهمّ، وله طرق مذكورة في كتاب «قاعدة لا ضرر».(1)

وعلى كلّ تقدير فكلا الفريقين في خدمة مقاصد الشارع وأغراضه وتقديم الأهم على المهم، غير أنّ علماء أهل السنّة وردوا من خلال تقسيم الأحكام إلى ضروريات وحاجيات وتحسينات، فقدموا الضروريات على الحاجيات، والحاجيات على التحسينات.

وأمّا الأُصوليون من أصحابنا فقد استكشفوا من أحوال الحكمين وأوصافهما ما هو الأهمّ منهما، ونشير إلى الأوصاف بذكر العنوان في الأمثلة.

ص:99


1- . انظر كتاب «نيل الوطر من قاعدة لا ضرر»: (ص 115-135).

المقام الثاني: استكشاف الحكم من التعرّف على مقاصد الشريعة

هذه هي الثمرة الثانية للبحث عن مقاصد الشريعة، وهي المزلقة الكبرى للفقيه، لأنّ ما دلّ من الآيات والروايات ومعاقد الإجماعات، على كون الشيء هو مقصد الشارع وغرضه على قسمين:

الأوّل: أن يكون الغاية المصطادة من المصادر علّة للحكم وسبباً تامّاً، فلا شكّ أنّه يمكن استكشاف الحكم المعلوم من العلم بالمقاصد، وذلك كثبوت الخيار في موارد ليس لها دليل شرعي خاصّ، لأنّا نعلم أنّ دفع الضرر في المعاملات هو المقصد الأسنى للشارع، فلو اشتمل العقد على الغبن، أو كان المبيع معيباً ولم يكن هناك دليل على الخيار، يمكننا استكشاف الخيار عن طريق التعرّف على مقاصد الشريعة، ولذلك قال الفقهاء بالخيار وإن لم يكن هناك دليل خاص.

الثاني: أن يكون حكمة للحكم بمعنى اشتماله عليها في أغلب الموارد، دون جميعها، وذلك كالإنجاب وتكثير النسل في النكاح فإنّه حكمة وليس بعلّة، ولذلك يصحّ النكاح في الموارد التالية:

1. زواج العقيم بالمرأة الولود.

2. زواج المرأة العقيم بالرجل المنجب.

ص:100

3. نكاح اليائسة.

4. نكاح الصغيرة.

5. نكاح الشاب من الشابة مع العزم على عدم الإنجاب إلى آخر العمر.

وبذلك يعلم ضعف ما ذكره الدكتور الدريني حول بطلان المتعة قال: شرع النكاح في الإسلام لمقاصد أساسية قد نصّ عليها القرآن الكريم صراحة ترجع كلّها إلى تكوين الأُسرة الفاضلة التي تشكّل النواة الأُولى للمجتمع الإسلامي بخصائصه الذاتية من العفّة والطهر والولاية والنصرة والتكافل الاجتماعي، ثمّ يقول: إنّ اللّه إذ يربط الزواج بغريزة الجنس لم يكن ليقصد مجرّد قضاء الشهوة، بل قصد أن يكون على النحو الذي يحقّق ذلك المقصد بخصائصه من تكوين الأُسرة التي شرع أحكامها التفصيلية في القرآن الكريم.

وعلى هذا فإنّ الاستمتاع مجرّداً عن الإنجاب وبناء الأُسرة يحبط مقصد الشارع من أصل تشريع النكاح.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ الأُستاذ خلط بين العلّة في التشريع ومناطه وبين حكمته، فإنّ العلّة عبارة عمّا يدور الحكم مدارها، بحيث

ص:101


1- . لاحظ كتابه: «الأصل في الأشياء الحلية... ولكن المتعة حرام»، قسم المقدّمة.

يحدث الحكم بوجودها ويرتفع بارتفاعها، وهذا بخلاف الحكمة، فربما يكون الحكم أوسع منها، وإليك توضيح الأمرين:

إذا قال الشارع: اجتنب المسكر، فالسكر علّة وجوب الاجتناب بحجّة تعليق الحكم على ذلك العنوان، فمادام المائع مسكراً له حكمه فإذا انقلب إلى الخلّ يرتفع.

وأمّا إذا قال: «وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ...». (1)

فالتربّص - لأجل تبيّن وضع الرحم، وهل هي تحمل ولداً أو لا؟ - حكمة الحكم لا علّته، ولأجل ذلك نرى أنّ الحكم أوسع منه بشهادة أنّه يجب التربّص على مَن نعلم بعدم وجود حمل في رحمها.

وحصيلة الكلام: إنّ دراسة مقاصد الشريعة - التي غابت في حقب من الزمان، ثمّ عادت إلى الساحة في القرن الرابع عشر وقام المحقّقون حولها بالتأليف والدراسة - أمرٌ مفيد في التعرّف على الأهمّ والمهمّ، حيث إنّ التعرّف على الأغراض والغايات يوجب المعرفة بما هو الأهمّ عند الشارع وغيره.

ص:102


1- . البقرة: 228.

وأمّا التعرّف عليها لتكون ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي فهو رهن الحكم بأنّ ما استكشفناه من التدبّر في الآيات والروايات ومعاقد الإجماعات أنّها علّة تامّة للتشريع بحيث لا ينفك عن المعلول، وأنّى لنا تحصيل ذلك اليقين، مع كثرة وجود الحكم عند ذكر الغايات والأغراض؟!

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

ص:103

ص:104

فهرس المصادر

1. نتبرك بذكر القرآن الكريم.

2. الاحتجاج: أحمد بن علي الطبرسي (المتوفّى حدود 620 ه)، دار النعمان، النجف الأشرف، 1386 ه.

3. الاختصاص: الشيخ المفيد (المتوفّى 413 ه)، دار المفيد، بيروت، 1414 ه.

4. إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: أحمد بن محمد القسطلاني (المتوفّى 923 ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

5. بحار الأنوار: محمد باقر المجلسي (المتوفّى 1110 ه)، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1403 ه.

6. تاريخ المذاهب الإسلامية: محمد أبو زهرة (المتوفّى 1396 ه)، دار الفكر العربي، بيروت.

7. تفسير الثعلبي (الكشف والبيان): أحمد بن محمد بن إبراهيم (المتوفّى 427 ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1422 ه.

8. تفسير الرازي (مفاتيح الغيب، التفسير الكبير): محمد بن عمر الخطيب الرازي (المتوفّى 606 ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

ص:105

9. تفسير الطبري (جامع البيان): محمد بن جرير الطبري (المتوفّى 310 ه)، دار الفكر، بيروت، 1415 ه.

10. تهذيب الكمال في أسماء الرجال: جمال الدين المزّي (654-742 ه) مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406 ه.

11. حلية الأولياء: أحمد بن عبداللّه المعروف بأبي نعيم الاصفهاني (المتوفّى 430 ه) دار الكتاب العربي، بيروت - 1378 ه.

12. الدر المنثور: جلال الدين السيوطي (849-911 ه)، طبعة دار الفكر، بيروت، 1403 ه.

13. السرائر: ابن إدريس الحلي (المتوفّى 598 ه)، طبعة جماعة المدرسين، قم المقدسة، 1410 ه.

14. سنن البيهقي (السنن الكبرى): أحمد بن الحسين البيهقي (المتوفّى 458 ه)، طبعة دار المعرفة، بيروت، 1406 ه.

15. سنن الترمذي: محمد بن عيسى (209-279 ه)، طبعة دار الفكر، بيروت، 1403 ه.

16. سير أعلام النبلاء: الذهبي محمد بن أحمد (المتوفّى 748 ه)، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409 ه.

17. شرح صحيح مسلم للنووي: أبوزكريا يحيى بن شرف (631-676 ه)، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، 1407 ه.

18. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي (المتوفّى 655 ه)، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1378 ه.

ص:106

19. صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل (المتوفّى 256 ه) مكتبة عبد الحميد، مصر، 1314 ه.

20. صحيح مسلم: أحمد بن الحجاج القشيري (المتوفّى 261 ه)، مؤسسة عز الدين، بيروت، 1407 ه، ودار ابن حزم، بيروت، 1423 ه.

21. الصلة بين التصوّف والتشيّع: كامل مصطفى الشيبي، طبعة دار المعارف، مصر، الطبعة 2-1969 م.

22. الصواعق المحرقة: أحمد بن حجر الهيتمي (899-974 ه)، مكتبة القاهرة، مصر، 1385 ه.

23. الطبقات الكبرى: محمد بن سعد (المتوفّى 230 ه)، دار صادر، بيروت، 1380 ه.

24. عدّة الداعي ونجاح الساعي: ابن فهد الحلّي (المتوفّى 841 ه)، طبعة دار المرتضى، بيروت، 1407 ه.

25. فضائل الأشهر الثلاثة: الشيخ الصدوق (المتوفّى 381 ه)، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1396 ه.

26. في نور محمد فاطمة الزهراء عليها السلام: عبد الفتاح عبد المقصود، طبعة دار الزهراء عليها السلام، بيروت، 1412 ه.

27. الكافي: محمد بن يعقوب الكليني (المتوفّى 329 ه) دار الكتب الإسلامية، طهران، 1397 ه.

28. مجمع الفائدة والبرهان: المولى أحمد المقدّس الأردبيلي (المتوفّى 993 ه) طبعة جماعة المدرسين، قم المقدّسة، 1419 ه.

ص:107

29. المستدرك على الصحيحين: الحاكم النيسابوري محمد بن عبداللّه (المتوفّى 405 ه)، دار المعرفة، بيروت.

30. مسند أحمد بن حنبل: (المتوفّى 241 ه)، دار صادر، بيروت.

31. معادن الحكمة في مكاتيب الأئمّة عليهم السلام: علم الهدى محمد بن المحسن الكاشاني (1039-1115 ه)، طبعة جماعة المدرسين، قم المقدسة، 1407 ه.

32. مقالات الكوثري: محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري (1296 - 1371 ه)، نشر المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، 1414 ه.

33. مناقب آل أبي طالب: ابن شهرآشوب محمد بن علي السروي المازندراني (488-588 ه)، المطبعة العلمية، قم.

34. المنتظم: ابن الجوزي عبدالرحمن بن علي البغدادي (508-597 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412 ه.

35. المواقف في علم الكلام: القاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (المتوفّى 756 ه)، طبعة دار الجيل، بيروت، 1417 ه.

36. نهج البلاغة: جمع الشريف الرضي محمد بن الحسن (359-406 ه)، تحقيق صبحي الصالح، بيروت، 1387 ه.

37. نيل الوطر من قاعدة لا ضرر: جعفر السبحاني، تقرير: سعيد السبحاني، طبعة مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، قم المقدّسة، 1420 ه.

38. وسائل الشيعة: الحر العاملي محمد بن الحسن (1033-1104 ه) دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1403 ه.

ص:108

فهرس المحتويات

المقدّمة... 7

الفصل الأوّل

التعرّف على أهل البيت وفقههم

المحور الأوّل: مَن هم أهل البيت؟... 11

الأُولى: إفراد البيت في مقابل البيوت... 12

الثانية: اللام في أهل البيت للعهد... 13

الثالثة: الإرادة في الآية تكوينية... 14

الرابعة: المراد بيت النبوة... 16

أهل البيت عليهم السلام في لسان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم... 17

مشكلة السياق... 20

آية التطهير آية مستقلة... 20

المحور الثاني: حجية فتاواهم على المسلمين كافة... 26

ص:109

المحور الثالث: مصادر فتاواهم... 31

1. استنطاق كتاب اللّه العزيز... 31

2. سنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 33

أ. السماع عنه صلى الله عليه و آله و سلم... 33

ب. كتاب علي عليه السلام... 34

3. العلم الموهوب... 35

المحور الرابع: رجوع كبار الفقهاء إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام... 39

الفصل الثاني

المدرسة الفقهيّة للشيعة الإمامية، المصادر والخصائص

المحور الأوّل: مصادر الفقه عند الشيعة الإمامية... 45

المصدر الأوّل: القرآن الكريم... 46

المصدر الثاني: السنّة الشريفة... 46

المصدر الثالث: الإجماع... 47

المصدر الرابع: العقل... 48

إزاحة شبهة... 51

المحور الثاني: خصائص فقه الإمامية ومميزاته... 55

الأُولى: إحراز العدالة في عامة سند الرواية... 56

الثانية: تقييد العمل بالقياس... 56

تخريج المناط... 58

ص:110

الثالثة: انفتاح باب الاجتهاد... 58

الرابعة: لكل واقعة حكم... 59

الخامسة: التصويب والتخطئة... 59

السادسة: تقسيم الأحكام الشرعية إلى واقعية وظاهرية... 60

السابعة: تقسيم الموضوعات إلى أولية وثانوية... 61

1. الضرورة والاضطرار... 62

2. الضَّرر والضِّرار... 62

3. العسر والحرج... 63

4. قاعدة الأهم والمهم عند التزاحم... 63

5. صلاحيات الفقيه الجامع للشرائط... 64

المحور الثالث: دور العرف والعادة والسيرة وبناء العقلاء... 66

1. الرجوع إلى العرف في معاني الألفاظ... 68

2. الرجوع إلى العرف في تحديد المعاني... 68

3. الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق... 70

4. كشف الملازمة بين حكمين شرعيّين... 71

5. استخدام الأعراف في كشف مقاصد المتكلّم... 71

6. كون العرف منبعاً لاستنباط الحكم الشرعي... 74

المحور الرابع: دور مقاصد الشريعة وأهدافها في الفقه الإمامي... 77

1. أفعاله سبحانه تكويناً وتشريعاً معلّلة بالغايات... 77

ص:111

2. الشيعة الإمامية ومقاصد الشريعة... 79

3. التصريح بالعلل... 80

4. الإلماع إلى علل التشريع دون التصريح... 84

5. الاستدلال بالروايات... 87

ثمرة التعرّف على المقاصد... 93

المقام الأوّل: تقديم أحد المتزاحمين على الآخر لأجل التعرّف على المقاصد... 93

التزاحم بين الضروريات... 94

1. تقديم ما لا بدل له على ما لهُ بدل... 96

2. تقديم المضيّق على الموسّع... 96

3. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً... 96

4. تقديم الواجب المطلق على المشروط... 97

التزاحم بين الضررين... 98

المقام الثاني: استكشاف الحكم من التعرّف على مقاصد الشريعة... 100

فهرس المصادر... 105

فهرس المحتويات... 109

ص:112

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.