المدخل الى الشريعه الاسلاميه

اشارة

عنوان و نام پديدآور:المدخل الى الشريعه الاسلاميه / کاشف الغطاء، عباس

ناشر: مطبعة النجف

مکان نشر: نجف اشرف - عراق

سال نشر:1429 ق

زبان: عربی

صفحات: 138 ص

موضوع: احكام شريعت اسلامى

موضوع: فقه، اصول فقه

موضوع: تاريخ فقه ، اصطلاحات فقهى

ص :1

اشارة

المدخل الى الشريعه الاسلاميه

کاشف الغطاء، عباس

ص:2

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل الإسلام ناراً على علم و جعل شريعة محمد خاتمة شرائع البشر و صلواته و تسليماته على سيد سفرائه و خاتم رسله و أنبيائه, و على آله الطاهرين أئمة الحق و قرنائه.

فهذه محاضرات ألقيتها على طلبة كليتي الفقه و القانون في النجف الأشرف، و كان جلَّ اهتمامي منصباً في بيان عظمة الشريعة الإسلامية و خصائصها و مقاصدها و مصادر تشريعها و الأدوار التي مرّت بها، بعد ما حفظ الأنام الفرعيات و غفلوا عن الثوابت و الأساسيات و نشروا الخلافيات أكثر من المتفقات، و تعمقوا في الفرعيات فيما نسوا الركائز الأساسية للشريعة الإسلامية، فحري للطالب الجامعي و الطالب الحوزوي المبتدئ في مرحلة المقدمات أن يُحيطَ إحاطَةً كافِيَةً بالأسس العامة للشريعة الإسلامية متجرداً عن الجزئيات و الخلافيات التي قد تعقد فهم المبتدئين و قد تكون أحياناً سبباً للتعسير بل سبباً للتنفير.

و أوضحت أكثر مفردات الشريعة الإسلامية تداولاً و استعمالاً لأن أكثر المناظرات تتحول إلى مهاترات بسبب عدم وضوح تلك المصطلحات في أذهان المتحاورين، فيما أصبحت هذه المباحث ضرورة ملحة في هذه الأيام التي كثرت فيها الاطروحات و النظريات بسبب الغزو الفكري، و إلى افتقار المكتبة الإسلامية إلى دراسة المدخل إلى الشريعة الإسلامية من وجهة نظر فقهاء الإمامية.

فأرجو من إخواني الأساتذة الكرام نقد هذه المباحث و تصحيحها فهي خطوة أولى، و نأمل أن تكون هذه المحاولة فاتحة و حافزاً لغيرها من المحاولات الموسعة. و أسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحبه و يرضاه و هو ولي التوفيق.

النجف الأشرف عباس كاشف الغطاء

1425 ه - 2004 م

ص:3

تمهيد

التشريع و المجتمع:

التشريع مأخوذ من الشريعة. و يراد به سن الشرائع و الأحكام. كما أن شَرَع معناه أنشأ الشريعة و سنَّ قواعدها. و منه قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ، و قوله: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ .

و الشريعة هي جملة أحكام مجعولة، فإن كان مصدرها السماء بأن نزل بها الوحي سميت شريعة سماوية، و إن كانت من وضع البشر سميت شريعة وضعية.

و الشرائع أياً كانت نوعها سماوية أو وضعية لا توجد إلاَّ حيث يوجد المجتمع البشري، لأن المجتمع يعيش بروابط بين أفراده، و هذه الروابط تحتاج إلى قوانين تنظمها، فإذا لم يوجد المجتمع انعدمت الروابط، و إذا انعدمت الروابط لم تكن ثمة حاجة إلى القانون، و لذلك اتفق العلماء على أن تاريخ الشرائع مصاحب لتاريخ العمران في هذا الوجود، لأنه لا عمران إلاَّ باجتماع، و لا اجتماع إلاَّ باتفاق على طريقة توزيع العيش، و لا اتفاق إلاَّ بقواعد تحدد حقوق كل فرد و واجباته، و هذه القواعد لا تحقق الغرض المقصود منها إلاَّ إذا وجدت سلطة تقررها و تحافظ عليها.

حاجة الناس إلى التشريع:

الإنسان في حياته محتاج إلى التشريع، لأنه خلق و معه قوتان متنازعتان قوة الشهوة التي تدفعه إلى الشر، فيتجاوز حدوده بانتهاك الحرمات و الاعتداء على الغير، و قوة العقل التي تدعوه إلى الخير، فيسير في الطريق المستقيم معتدلاً في كل شيء، و العقل وحده لا يستطيع مقاومة الشهوة، لأن الدنيا مَلأى بالمغريات التي تثير في النفوس عوامل الشر، فيندفع الإنسان إلى تحقيق رغباته التي لا تقف عند حد، و التاريخ أصدق شاهد

ص:4

على ذلك، فكم من حوادث وقعت أثارتها شهوة جامحة عجز العقل عن كبحها أعقبتها شرور و آثام.

و من هنا كان لا بد للعقل من معين يسانده حتى تتغلب قوة الخير أو في الأقل تتعادل القوتان، و يصبح الإنسان - بحق - خليفة الله في أرضه يقيم حدوده و يرعى محارمه. و هذا المعين هي القوانين التي تميّز الخير من الشر، و يبين كل فرد ما له من حقوق و ما عليه من واجبات.

و القوانين الوضعية مهما ارتقت لا تحقق ذلك على أكمل وجه لأنها نتاج الفكر الإنساني، و قد عجز العقل البشري عن مقاومة الشر، و لا أدل على هذا من كثرة التعديل و التغيير فيها لتلافي عيوبها وسد الثغرات التي تتكاثر في بنائها كلما طال زمن تطبيقها. و يرجع ذلك إلى تفاوت العقول البشرية في إدراكها للأمور و اختلاف مقاييس الخير و الشر في نظرها، و قصر إدراكها لحقائق الأشياء الغامضة و عدم استطلاعها لكشف ما يجيء به المستقبل من أحداث، و عدم عصمتها من الاندفاع وراء الشهوات، و أخيراً خلوها من عنصري الدين و الأخلاق الذين يرجع إليهما الفضل في تهذيب النفوس، و بهما يعم تنظيم ظاهر الإنسان و باطنه.

و لهذا كله كان الإيمان بتلك القوانين الوضعية ضعيفاً، و الخضوع لها منشؤه الخوف من الوقوع تحت طائلة العقاب، فإذا أمن المرء جانبه لم يكن في نفسه أثر لهيبة و لا احترام، و لم يكن بد من الرجوع إلى القانون السماوي الذي يملك على الناس مشاعرهم باطنهم و ظاهرهم على حد سواء، حتى يقع الامتثال له عن رضا و رغبة لا عن خوف و رهبة، و لن يكون إلاَّ من صنع خالق البشر العليم بأسرار النفوس و خفاياها، و أسرار المستقبل و ما يجيء به من أحداث.

و الله سبحانه الذي خلق الإنسان و جعله خليفته في أرضه ليعمرها إلى حين يحاسبه على ما قدّمت يداه فيجازيه على ذلك إن خيراً فخير و إن شراً فشر. لا يترك هذا الإنسان من دون تشريع ينظم حياته و يقيم العدل بين أفراده، و كيف يتركه و هو الحكيم الخبير البرِّ الرحيم بعباده.

ص:5

يقول جلَّ شانهُ : إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ ، و قوله تعالى: وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً .

و المعنى: لا نعذّب أمة من الأمم إلاَّ بعد بعث الرسل إليهم و قيام الحجة عليهم.

نشوء الشرائع الوضعية:

إن الشرائع الوضعية أو القوانين في المجتمعات البشرية البدائية تتكون تدريجياً في صورة عادات و أعراف ثم ترتقي حياة الأمة و مداركها و معارفها و تصبح لها سلطة حاكمة و سيادة تلجأ إلى تقنين تلك العادات و الأعراف و تجعل منها نظاماً آمراً في أعمال الناس و معاملاتهم و علاقاتهم. فيحل القانون محل تلك العادات و ينسخ اعتبارها، فيلغي منها ما يرى غير صالح، و يثبت ما يرى صالحاً، و تصبح العبرة لنصوص القانون و روحه و مقاصده المقننة.

وجه الحاجة إلى تشريع إلهي:

إن الإنسان بوضعه الفردي أو وضعه الاجتماعي مفطور على حب الذات و الإيثار لها على الغير مهما بلغ من درجات الرقي و الكمال، و هذا الحب و إن جرَّ للإنسان الخير و جعله طالباً للسعادة و الهناء إلاَّ أنه لا يزال يدفعه للتغلب على الغير و السيطرة على مقدرات الحياة فتجد الفرد يسابق الآخر ليكسب المغنم لنفسه دون غيره، و تجد الأمة تطاول الأخرى لتفوز بالفائدة لذاتها دون من سواها، و ما الصراع القائم بين الأمم في هذا الزمن الذي كاد أن يضرم البشرية بنار يفنى فيها الصغير و الكبير و يلتهب بها اليابس و الأخضر إلاَّ نتيجة لحب الأمم لذاتها و لا تستطيع أشد القوانين المدنية الصارمة مهما صقلتها العقول أن تقف دون هذه النزعة النفسية التي تؤدي إلى أشد الويلات على البشرية ما لم يكن الرادع فطرياً مثلها يغزوها في وكرها و يقضي عليها في مستقرها و ليس هو إلاَّ العقيدة الدينية المتركزة في النفوس فإنها هي التي تصرعها في مغرسها و تغتالها في وكرها و معرّسها و تسيّرها نحو السعادة البشرية بأحسن طرقها. و إن كثيراً من الملحدين قد أدركوا هذه الحاجة إلى الوازع الديني و الرادع الإلهي، و لكن روحهم الإلحادية لا تتركهم يتدانون للحق فيعترفوا إن غير الدين لا يمكن أن يكون

ص:6

رادعاً تلك الغريزة الحيوانية و ليست الأحكام المدنية و القواعد الأخلاقية كافية لدوام نظام المجتمع و الحالة إن الإنسان مفطور على حب نفسه و استئثارها على غيره بفواتن الحياة و لذائذها و سواحرها و لا يتحاشى عن أضرار الناس متى ما رأى نفسه بعيدة عن مراقبة القانون ما لم يكن يشعر بمراقبة غيبية قدسية تطلع على مستسر سره و مكنونات نفسه أينما وجد و أينما حل، و هذا لا يتوافر لنا ما لم نحي بالإنسان الغريزة الاعتقادية و الإيمان بالمراقبة الإلهية و الخوف الشديد من تجاوزه على شريعته الدينية. و لعل خير شاهد و دليل على ذلك هو أنك لو فتحت دفاتر الجرائم في محاكم العدل في سائر الدول الكبيرة و الصغيرة لا تجد في المجرمين من المؤمنين واحداً من ألف، و هذا الاستقراء أدل دليل على محاربة العاطفة الدينية للإجرام و موجباته و أسبابه.

إن عدم إدراك الشعوب للقيم الروحية و عدم التفات حكومتها لمحاسن الثقافة الدينية جعلها بعيدة عن هذه الناحية فسنت قوانين صارمة و فتحت المدارس و الجامعات و لو أنفقت البعض من ذلك على إضافة الثقافة الدينية إلى الثقافة العلمية لكان خيراً لها و أحسن سبيلاً حيث بها تنتشل الإنسانية من غمرات الحروب و لهواتها و تبعدها عن مأساة الشرور و آلامها و تنصرف للصالح العام و النفع التام و تجعلهم إخواناً على سرر متقابلين قد تناسوا الفوارق بأنواعها. و لا أعني بالثقافة الدينية هو مجرد اللقلقة اللسانية و التقاليد المتبعة، و إنما أعني بها تركيز العقيدة الدينية في النفوس بحيث تلتهب بها العاطفة و تلتاط بالضمائر و الدخائل و يبذل فيها النفس و النفيس بعد الشعور بأنها التحفة الملكوتية التي ضمنت للعالم الإنساني سعادة الدارين و خير النشأتين.

و ربما يتخيل المتخيلون إن الدين يصطدم بالعلم الحاضر، و لكن الأمر بالعكس فإِن العلم قد أزال كثيراً من الحجب الكثيفة عن حقائق الدين، و إن على هذا الكلام أصحّ شاهد، هذه الأمة العربية كانت بلادها قاحلة و هي على شظف من العيش و انحطاط في درجات سلم العلوم و العرفان تتحكم في عراقها الفرس و في تخوم شامها الروم فارتقت بعد أن منَّ الله تعالى عليها بالإسلام أقصى ذُرى المجد و تحكمت في ممالك فارس و الروم.

ص:7

نظرة في الشرائع الإلهية:

توجد إلى جانب الشرائع الوضعية شرائع آلهية عن طريق الرسل الذين يحملون وحي الله تعالى إلى البشر هاديين و مصلحين مقومين لخط السير الإنساني المنحرف.

و هذه الشرائع الإلهية ثلاثة:

الأولى: الشريعة الموسوية: و هي تتضمن من الأحكام و القوانين الخاصة ما يتناسب مع الظرف الزماني و المكاني الذي كان فيه بنو إسرائيل، و تطرفت التوراة في الجسد و المادة على حساب الروح.

الثانية: الشريعة المسيحية: و هي لا تتضمن أحكاماً و قوانين، بل فيها دعم للفضيلة و تقويم للأخلاق و تصفية النفوس. و قد أفرطت في الروح و أهملت الجسد.

الثالثة: الشريعة الإسلامية: و هي تتضمن أحكاماً و قوانين شاملة و صالحة لجميع البيئات و الظروف، فهي تشمل على المبادئ الثابتة، و على الأحكام الاستثنائية لأحوال الضرورات و أحكام مربوطة بالأعراف و الظروف الخاصة، و يتغير الحكم و يتبدل بحسب تبدل تلك الأعراف و الظروف مع المحافظة على الفكرة الأساسية فيها و هي العدل و الإنصاف و الثوابت الإسلامية.

و جاءت الشريعة الإسلامية دعوتها للبشر كافة حينما وصل التطور و الاستعداد الفكري عند البشر إلى درجة كافية فكانت خاتمة الشرائع السماوية و فيها الأحكام و القواعد الثابتة، إضافة إلى أن باب الاجتهاد مفتوح مع إعطاء نصيبٍ كبيرٍ للعقل في التطبيق.

فالشرائع السماوية تبدو على نوعين هما الشرائع الاجتماعية و الشرائع

الفردية، و يقصد بالشريعة الاجتماعية الشريعة التي تحكم العقيدة و الأخلاق و العلاقات الاجتماعية كالشريعة الإسلامية و الشريعة اليهودية و يراد بالشريعة الفردية: الشريعة التي تحكم العقيدة و الأخلاق و لا تعني بتنظيم العلاقات الاجتماعية تنظيماً موضوعياً، و إنما ينظر إليها من زاوية الأخلاق فتحث على إقامتها على أسس من الصدق و الوفاء و حسن النية و من الأمثلة على الشريعة الفردية: المسيحية.

ص:8

و الحق إن نزول الشرائع السماوية فردية و اجتماعية يعزى إلى متطلبات الحياة و إرادة الله سبحانه عزَّ و جل. فإن المسيحية نزلت في وسط يسوده تحلل خلقي و تفكك اجتماعي إذا جاءت شريعة فردية، بينما الشريعة الموسوية و الإسلامية نَزَلتا في وسط يعوزه التشريع السليم لتنظيم العلاقات الاجتماعية و يشكو كذلك من انحطاط خلقي.

و تعتبر الشريعة الإسلامية أبرز الشرائع الاجتماعية من حيث السعة و النطاق

فهي تضم أحكاماً عقائدية و وجدانية أخلاقية، و أحكاماً عملية تنظم العلاقات بين البشر.

وجه الحاجة إلى التدين:

إن تركيز الدين ضرورة للمجموعة الإنسانية على حد ضرورة نشر المعارف فيها بل يزيد عليها بمراتب كثيرة بل أكثر لما في انتشار المادية و تفشي الإلحادية من خسارة الفرد و العائلة و المجتمع.

أما خسارة الفرد فلشعوره بأن حياته و ما يحيطها أمر محدود يفنى بفناء الدهر و ينقضي بانقضاء الزمن و هذا ما يجعله في حزن و كمد عند التفاته لذلك و في أسف و تألم عند إدراكه محدودية حياته بل تصبح نفسه ضعيفة أمام محن الأيام و طوارق الزمان، فلا يتحمل أبسط الحوادث المؤلمة و أقل الوقائع المزعجة بخلاف المؤمن بربه المتمسك بدينه فإنه تضعف في نظره الحوادث بمقدار قوة إيمانه و شدة عقيدته فمنآمن بالله لو فقد عزيزه كان كمن سافر عزيزه عنه و يلتقي به بعد حين و إذا حلَّ به البلاء آنس نفسه بما يناله في الآخرة من الجزاء و هوّن عليها الخطب يوم الحساب يوم الأجر و الثواب.

و أما خسارة العائلة فهو لا يأمن على عرضه و لا على نفسه و لا على ماله من أهل بيته عند فقدهم العقيدة الدينية فإن سلطان الشهوة لا يقهره شيء لا شرف النفس و لا حسن التربية إذ جد الجد و خلا له الوقت إلا تمركز العقيدة بالله و الحوادث التاريخية أدل دليل على ذلك فقد شهد الكثير منها إن البيت الذي يفقد الوعي الديني تتحكم اللذات الحيوانية بمقدّراته و تكون المادة العمياء هي المقياس الوحيد في حياته و إذ ذاك تنعدم الثقة حتى في أهم أركانه فلا أمان لصاحبه بزوجته و لا لزوجته الأمان به و لا ثقة له بذوي قرباه و لا

ص:9

لذوي قرباه الثقة به كما لا يطمئن على حياته فيما لو اقتضت الميول البيتية القضاء عليها، و لا يأخذه القرار على ماله و لا على ما في يده فيما لو أراد البيت غصبها من عنده أو سرقتها منه، و الشواهد التي سجلها التاريخ و دونتها المحاكم المدنية خير شاهد و عند ذلك ينهار البيت و يزول الحنان و التعاطف من بين يديه و يصبح صاحبه في شقاء مستمر و ذوي قرباه في خشية و خوف دائم و سرعان ما ينحل الإخاء و يذهب الولاء.

و أما خسارة المجتمع فهي لا تحتاج إلى بيان حيث تزول و تنعدم القيم الدينية وكل صفة إنسانية كمالية عن النفوس و تتحكم فيها الأهواء و الرغبات فلا صدق في اللهجة و لا أمانة في المعاملة و لا إخلاص في العمل و تصبح الأمة بين أمرين إما بهائم خرساء في قبضة سائقها و آلة صماء في يد عاملها و خشب مسندة بيد طاغيها لا تملك من أمرها شيء و إما تخبط في عشواء و تعيش في طخية عمياء تعصف في أجوائها مختلف الأهواء و تهب في أرجائها الفتن الخرساء. و إن فقدان الوعي الديني في عالمنا هذا أوجب أن نصبح في ظرف عصيب و وقت رهيب تقطع الإنسانية أصعب المراحل الخطرة في تاريخها الحديث فالصراع قائم بين الأمم و السلام قائم على ما تملكه الأمم من أسلحة دمار، و الحق تطغى عليه القوة و على الأماني المنايا و شبح

الموت و الفناء يرفرف على العالم كله و على السلام سلام.

التشريع الإلهي و التشريع الإنساني:

لقد كان من وضع الإنسان المحتم أن يقطع مفاوز الحياة مع أبناء نوعه سواء أقلنا إن ذلك يقتضيه بطبيعته و فطرته أم كان ذلك من جهة الحاجة في شئونه و معيشته، و هذا مما أوجب الحاجة إلى تشريع يحدد له الارتباط بالغير في المجتمع الذي يعيش فيه منعاً له من شذوذ التصرف و إطلاق العنان للشهوة و الأثرة و حب الذات و الإسفاف و الإسراف في تنفيذ الرغبات و للقضاء على العلل و مشكلات الاجتماع و للإرشاد للمصالح و المنافع، و لتنظيم الحياة لكسب السعادة فيها و لإقامة العدل و صيانة حقوق الناس الشخصية و النوعية و لحفظ الأمن العام و للسلوك بهم نحو مدارج السمو و الكمال و لاستلهام المثل العليا و الفوز بالنشأتين و السعادة في الدارين. و هذا التشريع و إن كانت العقول قد

ص:10

وضعته لأممها حسب معرفتها و علمها إلاَّ إنه لا شك أن التشريع الإلهي حيث يستند لأعظم عقلية غيبية تدرك مصير الأعمال و مصالح الأفعال و مفاسدها، و يستمد من أوسع علمية بمجاري الأمور و ما تؤول إليها بخيرها و شرها و محاسنها و مساويها و أبصر معرفة بحقائق الموجودات و دقائقها و أسرارها كان التشريع الصادر منها أسمى و أنفع من التشريع الصادر من العقلية البشرية المحدودة في معلوماتها و التي طالما وقعت في الهفوات و الأخطاء حتى فيما يخص نفسها. هذا مع أن النفس لشهواتها طغيان يوقعها في مهام الهلكات و ينزلها لأخس الدنيئات و لا يمكن أن يقف التشريع الإنساني دونه حيث ينعدم سلطانه عند الخلوة و الأمن من المراقبة بخلاف التشريع الإلهي فأنه لا ينعدم معه الرقيب فالله يعلم السر و أخفى.

أضف إلى ذلك ما في التشريع الإلهي من ربط العبد بمولاه و المخلوق بخالقه الموجب لشكره و شكره يوجب شمول رعايته و جميل لطفه و زيادة النعمة و توفر الإحسان و البركة، فالغاية من التشريع الإلهي و المنفعة المترتبة عليه هو سير الناس

نحو الحياة الموفرة بالسعادة في الدارين على الوجه الأكمل، و نيل الخير في النشأتين على النحو الأحسن ليكونوا خير أمة أخرجت للناس بتنظيم حياتهم و وفور السعادة لديهم.

إن الإسلام قد ربط السياسة بالدين و الحياة بالشريعة الإسلامية حيث قنن أحكام الحياة للفرد و للبيت و للمجتمع حتى مع الغير، و طلب من العلماء أن لا يكفوا على عظة ظالم و لا سغب مظلوم.

و يعتبر الإسلام آخر الشرائع الدينية و خاتمها جاء لعامة الناس في شرق الأرض و غربها لقوله تعالى من سورة سبأ: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ ، و لقوله تعالى في سورة الأعراف: قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً .

ص:11

مدى الاختلاف في الشرائع السماوية:

هذه الرسالات و إن اختلفت أزمانها لم تكن تختلف عن بعضها إلاَّ فيما يختلف باختلاف الأزمان و هي الأحكام العملية كما صرّح بذلك القرآن لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً . أما فيما لا يتغير بتغير الأزمان و الأمكنة كالعقائد فإنها اتفقت فيها كلها بقوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ .

لذلك كان الإيمان بالرسل السابقين و كتب الله التي أنزلها إليهم جزءاً من الإيمان في كل الشريعة، قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ .

الكتب السماوية يصدق بعضها بعضاً:

الرسالات السماوية كلها هدى و نور نزلت ليحكم بها عباد الله و هي تصدق بعضها بعضاً، بل أن منها ما كان يبشر بالرسول الذي يأتي بعدها.

فالقرآن يقول في شأن التوراة التي نزّلت على موسى (عليه السلام): إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ .

و يقول القرآن الكريم في شأن الإنجيل الذي نزّل على عيسى بن مريم (عليهما السلام): وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .

ص:12

و قال الله تعالى في رسالة محمد (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ .

تلك رسالات الله تكمل بناء الشرائع السماوية، و أن رسل الله كلهم على حق و هم جميعاً يتكون منهم بناء واحد أبدعه الله تعالى كما أخبر رسول الله: (مثلي و مثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها و أحسنها إلاَّ موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها و يتعجبون منها و يقولون: لو لا موضع تلك اللبنة، فكنت أنا موضع تلك اللبنة).

فكانت الشرائع كلها من وحي الله أنزلها على رسله في فترات مختلفة و ختمها بالشريعة الإسلامية التي رضيها لعباده وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ، و جعلها الدين الصحيح وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ .

الشرائع السماوية نزلت في البلاد العربية:

إن الشرائع السماوية الثلاثة التي يعتنقها أكثر العالم الإنساني كانت مهبطها هي البلاد العربية فاليهودية أوحي بها إلى نبينا موسى (عليه السلام) في صحراء سيناء، و النصرانية أوحي بها إلى نبينا عيسى (عليه السلام) في فلسطين، و الإسلام أوحي به على خاتم النبيين و المرسلين محمد (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) في مكة المكرمة.

ص:13

الفصل الأول: تعريف الشريعة الإسلامية

المبحث الأول: تعريف الشريعة

تعريف الشريعة لغة:

قال الراغب في المفردات: الشرع نهج الطريق الواضح, يقال: شرعت له طريقاً, و الشرع مصدر ثم جعل اسماً للطريق النهج, فقيل له شِرع و شَرع و شريعة, و استعير ذلك للطريقة الإلهية قال: شرعة و منهاجا إلى أن قال: قال بعضهم: سميت الشريعة شريعة تشبيهاً بشريعة الماء. و علّق على ذلك العلامة الطباطبائي في الميزان, بقوله: لعل الشريعة بالمعنى الثاني مأخوذ من المعنى الأول لوضوح طريق الماء عندهم بكثرة الورود و الصدور.

فالشريعة هي الطريقة المستقيمة. قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ، و تترادف كلمة (شَرْع) و (شرعة) و (شريعة) و الشارع اسم فاعل من الفعل شَرَعَ يَشْرَعُ بمعنى جعل أو أنشأ أو وضعَ أو سنَّ الأحكام لتنظيم حياة الناس.

تعريف الشريعة اصطلاحاً:

عبارة عن الأحكام و القوانين التي سنت للمصلحة سواء أ كانت للفرد أم المجتمع و سواء أ كانت متعلقة بالأفعال أم بالعقائد أو تهذيب النفس.

و هي قد تكون سماوية إذا كان المشرع لها هو الله تعالى كالشريعة الإسلامية.

و قد تكون مدنية إذا كان المشرع لها هو الإنسان كشريعة حمو رابي.

فإطلاق الشريعة على الأحكام باعتبار أنها الطريق المستقيم الذي يوصل من يسلكه لصالحه و سعادته، كما إن الشريعة السماوية تسمى بالدين باعتبار لزوم التدين بها من رب العالمين.

ص:14

إن الشريعة و المنهاج في لسان الشرع شيء واحد، قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً . و لكن يظهر من بعضهم أن الشريعة هي الأصول و القواعد الدينية، و المنهاج هو الذي يفصّل هذه القواعد.

الشريعة و الدين و الملة في القرآن الكريم:

في مصطلح القرآن الكريم: الدين و الشريعة و الملة بمعنى واحد مع فرق ان الدين أعم و الشريعة و الملة بمعنى واحد مع الفارق بينهما بالعناية, فالشريعة هي الطريقة الممهدة لأمة من الأمم أو لنبي من الأنبياء الذين بعثوا بها, كشريعة نوح و إبراهيم و شريعة موسى و شريعة عيسى و شريعة محمد (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم), و الدين هو السنة و الطريقة الإلهية العامة لجميع الأمم, فالشريعة تقبل النسخ دون الدين بمعناه الوسيع.

و الفرق الثاني إن الدين ينسب إلى الواحد و الجماعة كيفما كان لكن الشريعة لا تنسب إلى الواحد إلاّ إذا كان واضعها أو القائم بأمرها يقال: دين المسلمين و دين اليهود و شريعتهم, و يقال: دين الله و شريعته, و دين محمد و شريعته, و يقال دين زيد و لكن لا يقال شريعة زيد. و لعل ذلك لما في لفظ الشريعة من التلميح إلى المعنى الحدثي.

و أما الملة: فهي السنّة الحيويّة المسلوكة بين الناس, و عند ما يقال الملة الإسلامية فالمراد هو السبيل الذي مهّده الله تعالى لسلوك الناس إليه, و الملّة تطلق عليها لكونها مأخوذة عن الغير بالاتباع العملي. و من هنا فإنها لا تضاف إلى الله فيصح أن نقول دين الله أو شريعة الله و لا يقال ملة الله.

و تضاف إلى النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) من حيث انها شريعته و سنته أو إلى الأمة من جهة أنهم سائرون مستقون به قال تعالى: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * و قال تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ * وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ .

ص:15

تعريف الدين و الشريعة في الاصطلاح الفقهي:

الدين هو مجموعة المعارف الإلهية النظرية و المناهج الأخلاقية القِيمِيّة و الآداب العامة و الأحكام الشرعية العملية.

و من هنا صح أن نقسم التعاليم الدينية إلى ثلاثة أقسام:

1 - العقائد 2 - الأخلاق 3 - الأحكام

و الشريعة هي قسم من التعاليم الدينية لا كلها.

و يُقصد بالشريعة في اصطلاح الفقهاء: مجموعة الأحكام الشرعية التي سنّها الله تعالى لعباده و التي بُلّغت عن طريق الرسل و تحتوي من الأحكام ما يُنظم علاقة الإنسان بنفسه و علاقة الإنسان بربه ثم علاقته بأخيه الإنسان و بالجماعة التي يعيش فيها, فالشريعة نظام عام شامل يتناول كافة جوانب الحياة الإنسانية.

و الشريعة الإسلامية عبارة عن مجموعة من الأحكام و الأنظمة و القواعد الشرعية التي شرّعها الله عزّ و جل و ارتضاها لعباده, و التي بُلّغت بواسطة خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم).

الفرق بين التشريع و الشريعة:

إن التشريع: هو سن تلك الأحكام و القوانين و الأنظمة.

و الشريعة: هي القوانين و الأنظمة و الأحكام نفسها المقصودة. بقوله تعالى: عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ .

الفرق بين الشريعة الإسلامية و الدين و الفقه:

1 - الشريعة في اللغة: تطلق على الطريقة المستقيمة. و عند الفقهاء (الأحكام التي شرعها الله لعباده على لسان رسول من الرسل). و سميت الأحكام شريعة لاستقامتها و عدم انحرافها.

2 - الإسلامية نسبة إلى الإسلام، و الإسلام لغة مصدر أسلم و هو يستعمل في الاصطلاح الشرعي، بمعنى الخضوع و الانقياد لأمر الله و التسليم لقضائه و أحكامه و الرضى به.

ص:16

دعا الله إلى أمة مسلمة، و إن الأنبياء السابقين كانوا مسلمين ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً ، و الإسلام و الدين و الشريعة قد تكون مترادفة مثل قوله: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ .

3 - الدين في اللغة: يطلق على عدة معانٍ منها ما يتدين به الشخص من الإسلام، و الطاعة و الخضوع، و الجزاء، و المكافأة، و الحساب، و السلطان، و وردت لفظة الدين أكثر من (90) مرة في القرآن و هي تدل على علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الآخر.

و اصطلاحاً يريدون به هو خضوع العبد لربه الذي خلقه، كما يريدون به أحكاماً خاصة شرعها الله لعباده ليتعبدهم بها ثم يحاسبهم عليها في الآخرة.

4 - الفقه لغة: بكسر الأول و سكون الثاني هو الفهم و الفطنة، المُشارُ إلَيْهِما بقوله تعالى: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ، و في الإسلام فهم الأحكام الشرعية, و يُسْتَعْمَلُ لفظ الفقيه لمن كان شديد الفهم.

و اصطلاحاً: هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية.

و الفقه أخص من الشريعة لأنه قُسِّم إلى عبادات و معاملات، و ينظم علاقة الفرد بربه، و الفرد مع الفرد، و الفرد مع الجماعة، و الدولة مع غيرها في السلم و الحرب.

و كان يطلق الفقه الأكبر على علم العقائد و الفقه الأصغر على الفقه المصطلح، و قسم الفقهاء الأحكام الفقهية إلى قسمين رئيسين: عبادات، و معاملات، فما كان الغرض منه التقرب إلى الله و شكره و ابتغاء الثواب في الآخرة فهي العبادات كالصلاة و الحج و الصيام، و ما كان المقصود منه تحقيق مصلحة دنيوية أو تنظيم علاقة بين فردين أو جماعتين و ما شاكل ذلك فهو من القسم الثاني المعاملات كالبيع و الإجارة و الشركة و الكفالة و المزارعة و غيرها.

ص:17

و الشريعة و الدين و الملة بمعنى واحد، و هو ما شرّعه الله لعباده من أحكام، و لكن هذه الأحكام تسمى شريعة باعتبار وضعها و بيانها و استقامتها، و تسمى ديناً باعتبار الخضوع لها و عبادة الله بها، و تسمى ملة باعتبار إملائها على الناس.

أما الإسلام فمعناه الانقياد و الاستسلام لله تعالى ثم خصه بالدين الذي أرسل الله به نبيه محمداً (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم).

إن كلمة شرعْ و شريعة ترادف كلمة الفقه كانت تطلق على الأحكام الإسلامية بما تشمل أحكام العقيدة و أحكام النظام، أي أحكام السلوك النظري الفكري و أحكام السلوك العملي (البدني)، لذا كان يقيد الفقه بينهما بالفقه الأكبر للعقيدة و الفقه الأصغر لأحكام النظام.

و في القرن الثالث الهجري استأثر بأحكام النظام اسم الفقه، و سميت أحكام العقيدة بعلم الكلام و الإلهيات أو علم التوحيد.

و بقية الشريعة تطلق على النوعين أحكام العقيدة و أحكام النظام. ثم فرق الأصوليون بأن أحكام الشريعة لا تطلق إلاَّ ما كان دليله قطعي من أحكام النظام و العقيدة و لا بد أن تكون أحكامها قطعية، أما الأحكام الظنية التي هي موضع الخلاف فيطلق عليها الفقه.

الفرق بين التشريع و الاجتهاد و التفقه:

إن التشريع: هو سن الأحكام و القوانين و إيجادها.

و الاجتهاد: و هو استنباط الأحكام و القوانين من أدلتها و مصادرها.

و التفقّه: هو معرفة القوانين و الأحكام و الأنظمة من أدلتها. و عليه فليس الفقيه و المجتهد بمشرّع.

المقارنة بين الفقه و الشريعة:

1 - الشريعة هي الأحكام التي تتعلق بالأحكام الاعتقادية و الأخلاقية و بقصص الأمم الماضية مع الأحكام الفقهية بينما الفقه هو الأحكام التكليفية فقط فكل فقه شريعة و لا عكس.

ص:18

2 - الشريعة كاملة و التي هي عبارة عن القواعد و الأصول العامة تتناول أسس شئون الحياة كافة. أما الفقه فهو آراء الفقهاء تتطور و تتغير بحسب المكان و الزمان و بعبارة أخرى تتجدد آراء الفقهاء حسب الوقائع المستحدثة.

3 - الشريعة عامة بخلاف الفقه وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ و هذا العموم ملموس من واقع الشريعة و مقاصدها و نصوصها التي تخاطب البشرية كافة وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ .

4 - الشريعة الإسلامية ملزمة للبشرية كافة، فكل إنسان إذا توافرت فيه شروط التكليف ملزم بكل ما جاءت به من عقيدة و عبادة و خلق و سلوك، بخلاف الفقه الناتج من آراء المجتهدين فرأي أي مجتهد لا يلزم مجتهداً آخر بل يلزم مقلده.

5 - الشريعة شاملة لكل زمان و مكان بينما الرأي الفقهي قد يتغير بحسب المكان و الزمان لأنه اجتهاد المجتهد قد يعالج المجتمع في زمن أو مكان بعلاج يمكن أن لا يصلح لمشكلات زمان أو مكان آخر.

الفرق بين الشريعة و القانون:

1 - الشرع الإسلامي ينظم علاقة الإنسان بخالقه دون القانون.

2 - الشرع الإسلامي ينظم علاقة الإنسان بنفسه دون القانون.

3 - قواعد الشرع الإسلامي أخلاقية بخلاف القانون فهي تحاسب الإنسان على تخلفه عن معاونة الغير و عن سد حاجة الفقير، فاختلاف القانون الوضعي عن أحكام الشريعة الإسلامية بأن صفة القانون العلمانية بوجه عام و باستقلاله عن الدين و الأخلاق، و لكن رجال القانون بحثوا في المبادئ الدينية و الأخلاقية، و في تأثيرها في الأحكام القانونية و ذلك عن طريق نظرية القانون الطبيعي، و أما فقهاء الشريعة الإسلامية فقد درسوا أحكام المعاملات مع أحكام العبادات و الأخلاق في علم واحد، و بنوا الأحكام الأولى على الثانية، و انطلقوا بهذا النهج منذ البداية. فتوصلوا في بحوثهم إلى نظريات إنسانية واضحة تقارب من حيث النتيجة معظم النظريات العصرية.

ص:19

و لقد انتبه علماء القانون الحديث في الشرق و الغرب إلى مسألة تأثير الأدبيات في الأحكام القانونية. و نوّهوا بوجه خاص بما جاء في الشرع الإسلامي من هذا القبيل.

4 - الشرع الإسلامي إيجابي يأمر بالمعروف عن طريق الوعد بالثواب و سلبي ينهى عن المنكر عن طريق الوعيد بالعقاب بينما القانون سلبي فقط.

5 - الشريعة كاملة من قواعد و أصول عامة بينما القانون الوضعي لا يتسم بالشمول لأنه مهما قارب من الدقة و الشمول و الصياغة الفنية درجة الكمال فإن ظاهره القصور فيه أمر حتمي لقصور مدارك المشرّع الوضعي.

6 - إن الشريعة الإسلامية و الفقه الإسلامي بدأ بالوقائع الجزئية ليتعرف على أحكام كل مسألة من المسائل ثم عالج مجموعة من مجاميع المسائل تحت عقد من العقود أو باب من الأبواب ثم تدرج و وضع نظريات، بينما القانون الوضعي بحث في النظريات العامة و انتهى بالعقود و مسلكه خلاف مسلك الفقه الإسلامي.

7 - الشريعة الإسلامية دائرة التخيير الاجتماعي تُقسّم إلى مستحب و مكروه

و مباح, و إتيان المستحبات و اجتناب المكروهات يؤثر بشكل بارز في بناء شخصية الفرد و كيان المجتمع المادي و المعنوي بما يُسهل عليه تنظيم السلوك الاجتماعي مع أهداف المشرع الإسلامي, بينما في القانون الوضعي منطقة التخيير الاجتماعي منطقة واحدة هي منطقة عدم الاهتمام الاجتماعي من ناحية المشرّع.

8 - الشريعة الإسلامية توظف جميع قواعدها بجميع أبعادها الفردية و الاجتماعية لبناء المجتمع الإسلامي و العمران المادي و المعنوي فيما لا نجده في القانون الوضعي. فنظام العبادات ليس منفصلاً عن الحياة و إنه إلى جانب البعد الغيبي يعطي دافعاً روحياً لبناء صرح الحضارة الإسلامية الشامخة, و حيوية منقطعة النظير للإنسان المسلم الملتزم بقواعد الشريعة, فالصلاة مع إنها تنظم علاقة الإنسان بربه إلا إنها فيها منظور اجتماعي أيضاً, لذلك يُستحب إقامتها جماعة و تجب في كل أسبوع مرة جماعة.

9 - الشريعة الإسلامية تلحظ الدعائم الخُلقية و التربية في تشريعها لتنظيم السلوك الاجتماعي و إن تطبيقها ينفذ إلى عمق الوجدان البشري و تحول دون وقوع الجرائم و الله جلّ و علا يقول: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ و الصوم كُتِب من أجل

ص:20

التقوى, و القصاص فيه حياة لأولي الألباب, و عند ما يتكلم عن الزواج يبين أساس بناء البيت الإسلامي بقوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً , و عند ذكر الطلاق يقول عزّ و جل: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ .

غاية التشريع:

إن التشريع مهما كان نوعه إلهياً أو مدنياً يحتاج إلى الأحكام التي تكفل له القيام بأحكامه و تضمن له الإطاعة لقوانينه أما روادع و زواجر كبطلان العقود و الإيقاعات المخالفة للتشريع، و أما عقوبات و تأديبات كالحدود و التعزيرات و السجون و القصاص و الغرامات.

و يختص التشريع الإلهي بالعقوبات الأخروية مضافاً للعقوبات الدنيوية فيكون في النفوس أركز و باندفاع نحو العمل أزيد.

المبحث الثاني: تعريف الفقه

أولاً: تعريف الفقه لغة:

1 - صيغة لفظ الفقه:

(الفِقْه) بكسر الأول و سكون الثاني مصدر و فعله الماضي (فَقِه) بفتح الأول و كسر الثاني مُتَعَدٍّ لمفعول واحد يقال فَقِه زيدُ الشيء بفتح أوله و كسر ثانيه و مضارعهُ (يَفقَه) بفتح القاف فيكون من باب فَعِل يَفعَل مثل عَلِمَ يَعلَم.

2 - الفقيه بحسب الاشتقاق:

إن لفظ (الفقيه) صفة مشبهة أو من أمثلة المبالغة أو اسْمُ فاعِلٍ بمعنى فاعل كجليس و لذا لا يستوي فيه المذكر و المؤنث. وَ يُسْتَعْمَلُ لفظ الفقيه لمن كان شديد الفهم، و قد يُسْتَعمل بمعنى اسْمِ الفاعل مُجَرَّداً عن المبالغة.

ص:21

3 - المعنى اللغوي للفقه:

الفقه في اللغة: الفهم كما في كتب اللغة، ففي حديث سلمان المحمدي إنه نزل على النبطية بالعراق، فقال هل هنا مكان نظيف أصلي فيه، فقيل له طهّر قلبك وَ صَلِّ حيث شئت، فقال سلمان (فقهتُ ) أي فهمت. و روي (لعن الله النائحة و المستفقهة) و هي صاحبة النائحة في نَوْحِها. و أطلق عليها ذلك لأنها تتلقف نوح النائحة و تفهمه فتجيبها عنه. و اللغويون متفقون على هذا المعنى.

ثانياً: تعريف علم الفقه اصطلاحاً:

عرّف الفقهاء علم الفقه بأنه: (العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية).

شرح التعريف:

المراد بالعلم هو الاطلاع و المعرفة على وجه الجزم الثابت المطابق للواقع، و إما (الأحكام) جمع حكم فهو (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين).

و أما قيد (الشرعية) فهي نسبة للشرع. و الشريعة في اللغة هي الطريقة، و المراد (بالشرعية) في التعريف هو الشرع المحمدي و الدين الإسلامي الحنيف.

و أما قيد (الفرعية) نسبة إلى الفرع فهو ما أثنى على غيره في مقابل الأصل، و المراد بالأحكام الفرعية ليست الأصولية الاعتقادية.

و أما (الأدلة) جمع دليل فهو لغة المرشد و الهادي. و الأدلة المذكورة في تعريف علم الفقه هي الأدلة المستعملة في علم الفقه و هي الكتاب الكريم و السنة الشريفة و الإجماع و العقل.

و أما (التفصيلية) فهي منسوبة إلى التفصيل مصدر (فصّل) بمعنى بيّن ضد أجمل و التاء ألحقت به لكونه وصفاً للجمع و هو (الأدلة) فيكون المراد بها الأدلة المبينة للأحكام و الموضحة لها.

ص:22

ثالثاً: موضوع علم الفقه:

إن موضوع علم الفقه هو فعل المكلف من حيث الاقتضاء و التخيير. و المراد بالاقتضاء هو الوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة، و المراد بالتخيير هو الإباحة.

رابعاً: الغرض من علم الفقه:

ذكر الفقهاء أن الغرض من علم الفقه و تدوينه و تعليمه و تعلمه هو تحصيل السعادتين و الفوز بالدارين الدنيوية و الأخروية و ذلك من خلال امتثال أحكامه و العمل بها.

خامساً: مراتب الفقيه:

للفقيه من حيث نفوذ حكمه و رأيه مراتِبُ أرْبَعٌ , وكل مرتبة لاحقة منها تستلزم السابقة عليها و هي:

المرتبة الأولى: مرتبة الاجتهاد: و هي ملكة استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية، و بهذه المرتبة يترقى من حضيض التقليد إلى درجة الاجتهاد و يسمى بهذه المرتبة مجتهداً, و هو باعتبار الاجتهاد نافذ الرأي على نفسه مطلقاً و إن لم يكن عدلاً و وجد من هو أعلم منه و أعدل, و يشترط في المجتهد البلوغ و العقل و الإيمان و العدالة و الحرية و الرجولة و الحياة و الأعلمية و طهارة المولد.

المرتبة الثانية: مرتبة الفتيا: و هي أخبار الفقيه عن أحكام الله الشرعية بما يجده في أدلتها التفصيلية مثل قوله الصلاة واجبة و الغيبة حرام، و كتب الفقه مشحونة بالفتاوى و الأحكام, و يسمى من بهذه المرتبة المُفْتِي, و باعتبار هذه المرتبة فهو نافذ الرأي على نفسه و على مقلده و لا ينفذ على المجتهد الآخر.

المرتبة الثالثة: مرتبة القضاء: و هي إنشاء و إلزام بما تقتضيه الأسباب الشرعية مثل الإلزام بأداء الدين أو ثبوت الملك و نحو ذلك و يسمى من يقوم بهذه المهام قاضياً, و باعتبار كونه قاضياً فهو نافذ الرأي على نفسه و على مقلده و على المجتهد الآخر في المنازعات و الخصومات.

ص:23

المرتبة الرابعة: مرتبة الخلافة أو المرجعية أو الزعامة: و هي مرتبة تدبير شئون الرعية الدنيوية و الأخروية، و تفويض السياسة العامة لمن تبوئها و رعاية المصالح و دفع المفاسد و قمع الجناة و قتل الطغاة و حفظ الثغور و يسمى بهذه المرتبة الحاكم الشرعي أو الخليفة الشرعي أو المرجع الديني, و باعتبار كونه مرجعاً فهو نافذ الرأي في الخصومات و المنازعات و النفوس و الأعراض و الأموال بما فيه الصالح العام لتدبير شئون المسلمين فله الولاية العامة.

سادساً: الفرق بين المجتهد و المفتي و الفقيه و القاضي و المرجع الديني:

تُدُووِلَ بين الفقهاء استعمال لفظ المجتهد و الفقيه و المفتي و المرجع الديني و الزعيم الديني و الفرق بينها واضح، فان من تعلم علم الفقه باعتبار انه يعمل بالأدلة الظنية المعتبرة الدالة على الحكم الواقعي يسمى مجتهداً لأن الاجتهاد استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي الفرعي.

و باعتبار انه يعلم بالأحكام الشرعية الفرعية الظاهرية عن أدلتها التفصيلية يطلق عليه الفقيه، لأن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية. فيظهر من هذا عدم صحة إطلاق المجتهد بالقياس إلى الأحكام الظاهرية لأنه عالم بها على سبيل اليقين, و لا يصح إطلاق الفقيه عليه بالنسبة إلى الأحكام الواقعية لأن منسد باب العلم بها.

و باعتبار انه يفتي و يخبر عن حكم الواقعة يسمى مفتياً.

و باعتبار انه يرفع الخصومة بحكمه يسمى قاضياً و حاكماً.

و باعتبار انه يتولى شئون المسلمين في أمور الدنيا و الدين يسمى خليفة و مرجعاً دينياً و زعيماً روحياً.

ص:24

سابعاً: الفقه المقارن:

(هو العلم بالآراء المختلفة في حكم المسألة الشرعية و دليل كل رأي فيها و بيان ما هو الحق منها بالبرهان). و عند المتقدمين يعبرون عنه بعلم الخلاف أو الخلافيات، و قد يقتصر بيان الآراء المختلفة في الحكم الشرعي للمسألة الفقهية لفقهاء مذهب معين فقط كالمذهب الجعفري مثل كتاب مختلف الشيعة للعلامة الحلي (ت: 726 ه)، و قد يبين آراء الفقهاء المختلفة مع المذاهب الإسلامية مثل كتاب الخلاف للشيخ

الطوسي (ت: 460 ه).

و قد شاع في وقتنا المعاصر عنوان الفقه المقارن كذلك فيما لو قارنت المسألة الفقهية بالقانون المدني.

ثامناً: وجوب تعلم الفقه كفائياً:

يجب تعلم الفقه لقوله تعالى: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ و للأخبار الدالة على الوجوب قول النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (إن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال). و لبقاء التكليف في الفروع فلا بد من معرفتها للخروج عن عهدة التكليف أما بالتفقه أو التقليد أو الاحتياط فمن لم يكن مقلداً أو محتاطاً وجب عليه التفقه. و إن وجوب التفقه على سبيل التخيير كفائياً و ذلك للسيرة المتشرعة و لآية التفقه فإنها تقتضي وجوبه على بعض الأفراد دون بعض لأخذ الطائفة فيها، و للزوم العسر و الحرج إن لم يكن وجوبه كفائياً.

تاسعاً: تقسيم الفقه:

قسّم علماء الفقه مسائل الفقه إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: العبادات: و هي الصلاة و الصوم و الاعتكاف و الحج و الزكاة و الخمس و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و إنما قدّم الفقهاء العبادات لأنها الأهم في نظر الشرع، و حيث كانت الصلاة أفضلها قدم بحثها عن سائر العبادات، و حيث كانت الصلاة مشروطة بالطهارة قدموا الطهارة

ص:25

على الصلاة، و حيث كانت الطهارة المائية مقدمة على الطهارة الترابية قدموا بحث الطهارة المائية، و لما كانت الطهارة المائية تحصل بالماء المطلق قدموا البحث عنه.

القسم الثاني: المعاملات: و يسمى بالعقود و هي البيع و الإجارة و النكاح وكل ما يحتاج إلى إيجاب و قبول.

القسم الثالث: الإيقاعات: كالطلاق و العتق وكل ما يحتاج إلى إيجاب فقط.

القسم الرابع: الأحكام: و إنما خص الفقهاء هذا القسم باسم الأحكام مع إن جميع الأقسام هي أحكام شرعية لأنهم لم يجدوا له خصوصية يسمونه بها فسموه فيما بينهم الأحكام مثل أحكام الإرث و الديات و القصاص.

عاشراً: غاية علم الفقه:

إن الغاية الأساسية من علم الفقه هو إطاعة الله و الفرار من مخالفته في العمل عن اجتهاد لا عن تقليد بمراعاة مسائله، فالمقصود بالذات من تعلم علم الفقه و الاطلاع عليه هو نيل السعادة في الدارين و الفوز بالنشأتين الدنيوية و الأخروية من خلال امتثال الأحكام الشرعية و العمل بها، و يمكن أن يجعل له فوائد أخرى:

أولها: إن العلم المذكور مع الورع و التقوى موجب للتحلي بثوب الزعامة الإلهية و الرئاسة الدينية التي خصَّ الله بها أولياءه و أصفياءه و هي مما يبذل في تحصيلها النفس و النفيس.

ثانيها: الخروج من حضيض التقليد إلى ذروة الاجتهاد و المعرفة للأحكام عن دليل، قال تعالى: يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ فخص الله العلماء بالذكر مع اندراجهم في المؤمنين رفعاً لمنزلتهم.

ثالثها: تعليم المسترشدين بإيضاح الحجة لهم و إلزام المعاندين بإقامة الدليل عليهم.

ص:26

رابعها: حفظ الأحكام الشرعية الفرعية عن أن يزيلها مرور الأيام و يسدل عليها ثوب النسيان أو تلوثها شبه الجاهلين و تشكيكات المعاندين.

خامسها: وقوع الأعمال العبادية و المعاملية عن عقيدة لا عن تقليد.

سادسها: الإرشاد للمصالح الدينية و الدنيوية بالاطلاع على أسرار الشريعة الإسلامية.

الحادي عشر: الثابت و المتغير في الأحكام:

إن أحكام الإسلام تنقسم إلى ثابتة و متغيرة:

القسم الأول: الأحكام الثابتة: و هي ما تستند إلى طبيعة الإنسان و خصائصه التي تميزه عن سائر الموجودات و ترتبط بالمحافظة على المصالح الحياتية للإنسان ولها صفة ثابتة لأنها تنظم أسس حياة الإنسان في كل زمان و مكان, و هذه الأسس تتمثل بعبودية الإنسان و خضوعه لخالقه و باحتياج الإنسان دائماً إلى الغذاء و السكن و الزواج و الدفاع عن النفس و الحياة الاجتماعية, و سماها الإسلام الدين و الشريعة و أكد على إن سعادة الإنسان تتحقق في ظل هذه الأحكام فقال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ .

القسم الثاني: الأحكام المتغيرة: و هي المتغيرة بتغير مصالح الناس في الأزمنة و الأمكنة المختلفة و ترتبط بالجانب المؤقت الخاص للإنسان, و تختلف باختلاف طريقة الحياة, و تتغير بتغير المدنية و بتطور المظاهر الاجتماعية. فالإنسان الذي كان ينتقل من مكان لآخر بوسائل بدائية لم يكن ليحتاج إلى الطرق المنظمة المتشعبة في الأرض و لا إلى قوانين و أحكام الملاحة البحرية أو الجوية المنظمة المعقدة التي تحتاجها اليوم. و الإنسان الأولي كان يلبي احتياجاته الأساسية عن طريق مجموعة بسيطة من القوانين و الأحكام التي تنظم شئونه, أما اليوم فإن تطور المظاهر الاجتماعية و توسعها قد تطلب أحكام و قوانين مختلفة معقّدة. و القسم الثاني من الأحكام منوطة برأي الحاكم الشرعي الذي يشخص الاحتياجات في ضِمْنِ إطار المصلحة الزمنية و في ضوء الأحكام

ص:27

الثابتة للشريعة, قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ .

تقسيم أحكام الشريعة من وجهة القانونيين:

تحتوي الأحكام الشرعية جميع فروع القوانين الوضعية فتنقسم الأحكام الشرعي إلى الأقسام الثمانية الآتية:

1 - العبادات: و هي أحكام تنظم علاقة الفرد بربه من صوم و صلاة و حج و غيرها مما فيه تهذيب النفوس و صلاح الفرد، وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ، أَقِمِ الصَّلاةَ . و الأحكام العبادية بطبيعة موضوعها و مضمونها ثابتة خالدة لا تتغير و لا تتبدل فهي باقية كما قال الفقهاء: (ما دامت الأرض أرضاً و السماء سماء)، كما تعتبر مبادئ الأخلاق الأساسية مبادئ ثابتة عامة.

2 - أحكام الأسرة: و هي أحكام تنظم الحقوق و الوجبات الشخصية للإنسان من ولادته إلى وفاته من رضاع و حضانة و حجر و ولاية و زواج و طلاق و نفقة و وقف و وصية وكل ما يتعلق بشئون التركة إلى غير ذلك.

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ و أطلق الحقوقيين على هذه الأحكام بقانون الأحوال الشخصية.

3 - أحكام المعاملات المالية: و هي أحكام تنظم علاقات الأفراد الناشئة من المعاملات فيما بينهم من التصرفات كالبيع و الإجارة و الرهن و الوفاء بالعقود أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و أداء الأمانات و القرض يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ، و يطلق عليه القانونيون بالقانون المدني. و هي تنقسم إلى قسمين:

ص:28

3 - أحكام المعاملات المالية: و هي أحكام تنظم علاقات الأفراد الناشئة من المعاملات فيما بينهم من التصرفات كالبيع و الإجارة و الرهن و الوفاء بالعقود أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و أداء الأمانات و القرض يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ، و يطلق عليه القانونيون بالقانون المدني. و هي تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أحكام خاضعة لمبدأ التغير و تابعة لاجتهاد الفقيه و هي أحكام المعاملات الفرعية التي تختلف بحسب الأمصار و الأعصار و الأحوال.

القسم الثاني: أحكام المعاملات الكلية الثابتة الأبدية التي ارتكزت على العدل و الخير و من أمثلتها حرمة أكل المال بالباطل و الغش و الربا و التي تؤدي إلى فوات مقاصد الشريعة الضرورية.

4 - أحكام مالية الدولة: و هي أحكام تنظم موارد الدولة و مصارفها كما تنظم العلاقات المالية بين الأغنياء و الفقراء و بين الدولة و الأفراد فتبين مصارف و موارد خزينة الدولة من الخراج و الزكاة إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، و المعادن و الخمس وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ .

5 - الأحكام الدستورية: و هي أحكام تنظم العلاقات بين السلطة و الفرد و تحدد حقوق و واجبات كل منهما، كمبدإ الشورى كقوله تعالى: وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ، و طاعة أولي الأمر أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ، و التضامن والمسئولية وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى ، و الحكم بالعدل وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .

6 - الأحكام الدولية: و هي أحكام تنظم العلاقات الدولية بين الدولة الإسلامية و الدول الأُخر في حالتي السلم و الحرب كالدعوة إلى اعتناق الدين الإسلامي، و معاملة الأسرى، و عقد المعاهدات، و الصلح و الهدنة، و إقرار حقوق و واجبات أهل الذمة.

ص:

قال تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ، فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ .

7 - أحكام المرافعات: و هي أحكام تنظم الإجراءات القضائية من رفع الدعوى إلى صدور الحكم بشكل يحقق العدالة التامة، و يأخذ كل ذي حق حقه كالدعوى و الشهادة و اليمين و القضاء و وجوب القيام بالقسط و العدل. و قد تناولها القرآن الكريم ببيان إجمالي وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ .

و قد حرصت الشريعة الإسلامية على مبدأ استقلال القضاء عن سائر سلطات الدولة و ذلك من أجل تأمين ما يلزم لإحقاق الحق من نزاهة و تجرّد و جرأة.

8 - الجنايات و العقوبات: و هي أحكام تحدد الجرائم و العقوبات و تروم حفظ العقيدة و النفوس و الأموال و العقول و الأعراض.

و تعني الجنايات الأفعال التي تصدر من الإنسان فتلحق الأذى مادياً أو أدبياً بغيره أو بنفسه كالقتل و القذف و السرقة و الزنا و شرب الخمر و قطع الطريق.

و تعني العقوبات: القصاص و الحدود و التعزيرات.

و قد تناول القرآن الكريم هذه الأحكام ببيان إجمالي منها كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ، و قوله تعالى: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما .

الفرق بين الفتوى و الحكم و الرواية:

الفتوى: هي الكلام الذي يبين حكم الله تعالى في الواقعة من دون إلزام به.

و الحكم: هو الكلام الذي يبين حكم الله تعالى في الواقعة مع إلزام بالعمل به ممن له أهلية الإلزام، كما في القضاء بين الناس بالنسبة للقاضي.

ص:30

و الاجتهاد هو الطريقة لتحصيل الفتوى، و لا تصح الفتوى إلاَّ من المجتهد الجامع لشروط الاجتهاد، فيحرم الإفتاء بغير علم لقوله تعالى: وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ * و لإجماع المسلمين و الضرورة في الدين.

عدم إطلاق لفظ الفقيه على النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم):

لا يصح إطلاق لفظ الفقيه بالمعنى الاصطلاحي على النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) لأن علمه بالأحكام الشرعية الفرعية لم يستند إلى النظر و الاستدلال بل هو بالوحي المبين.

و أما الأئمة (عليهم السلام) فقد يطلق عليهم الفقهاء أو يسمى أحدهم بالفقيه بمعناه العرفي العام و هو مطلق معرفة الأحكام الشرعية سواء أ كانت عن دليل تفصيلي أم

عن غيره. و تسمية الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) بالفقيه بهذا المعنى عند الشيعة.

و أما أهل السنة فإِطلاقهم الفقهاء على الأئمة (عليهم السلام) بالمعنى الاصطلاحي.

المبحث الثالث: الدراسة في الحوزة العلمية

منهج الدراسة في النجف الأشرف:

للتدريس في النجف الأشرف نمط منفرد و طراز لا يشبهه نظام فيما وقفت عليه من مناهج التدريس و أنظمته في سائر أقطار العالم. و هو الذي أسميه (بالتدريس الفردي) فإن التلميذ الذي يتخصص لطلب العلوم الدينية يتدرج وحده في مراتبه العلمية و في دروسه و أساتذته من دون أن يندمج في صفوف أو يتحكم في إِرادته نظام.

نعم، جميع هؤلاء المشتغلين بتلك العلوم يتفقون على وضعية واحدة تركها لهم سلفهم هي قراءة كتب معينة مرتبة، و قد يظهر مؤلف لأحد علمائهم الذين نبغوا و برعوا فيتخذ له قرار أو درجة في سلسلة كتب التدريس كما حدث في بعض المؤلفات الأصولية و الفقهية. و ليس عندهم امتحان و لا شهادة و لا درجة مقرّرة.

و الطالب النابغ فيهم هو ذلك الذي يعترف له ذوو الفضل بالفضيلة بعد الاختبار بالمذاكرة و التدريس و التأليف. و إن لهذه الطريقة ميزة حسنة أن لا يجوز عليها التدليس،

ص:31

فلا يمكن أن تنال الدرجة الأخيرة فيها أعني الاجتهاد بغير الكفاية الحقيقية و الكفي الحقيقي هو المجتهد و غيره متشبّه. و الطالب المنخرط في الحوزة العلمية ينبغي له أن يتجلبب بجلباب الصبر و الورع و يتحمل مشقة الفقر.

و النجف الأشرف من جملة العواصم العلمية التي لها مرتبة عظيمة من الاشتهار في سائر الأقطار، و لكن هذه العاصمة الكبرى الدينية إذا دخلها المتجوّل الغريب لا يرى نصف العشر مما يسمع، و المدارس التي فيها مساكن للطلبة قد تنعقد بها بعض حلقات الدرس، و أغلبية حلقات الدروس الحوزوية تعقد في الجوامع

و المساجد، و قد تمر على هذا المتجوّل الأيام و الأسابيع و الأشهر و لا يرى أحداً من هؤلاء المنكمشين في كسر بيوتهم البارعين المتفننين الجهابذة القديرين في جملة المعارف و العلوم الإنسانية و الدينية و ذلك لمنهج التدريس عندهم فلا صفوف و لا مناهج و لا شيء مما تجري عليه المدارس في جملة بلاد العالم فيخرج و قد حسب أن الأمر بعضه أو كله مبالغة و خداع.

أما المجتهد فيها فبالإضافة إلى خصال الطالب يُشْتَرَطُ فيه أن يجمع خصال النيابة العامة و الخلافة الدينية و يشتري أخراه بدنياه و آجله بعاجله و لا ينال ذلك إلاَّ ذو حظ عظيم، وفقنا الله و إخواننا لما فيه رضاه.

منهج التعليم في النجف الأشرف:

اشارة

إن أبرز مظاهر منهج التعليم في النجف الأشرف بناء شخصية الطالب و تقوية قواه الفكرية و السماح له بالمناقشة في كل ما يدرسه و له حرية الكلام و الرأي مع مراعاة تربيته و تهذيبه بالمثل العليا و الأخلاق الإسلامية، و ذلك من خلال مروره بالمراحل الثَّلاث هي:

المرحلة الأولى: مرحلة المقدمات:

و يدرس الطالب فيها كُتُباً معينة مقدمة إلى العلوم الشرعية و تسمى هذه العلوم بالعلوم الآلية أي مقدمات و هي:

1 - علم النحو كتاب الآجُرُّومية و قطر الندى و شَرْحُ الألفية لابن الناظم و المغني لابن هِشام.

ص:32

2 - علم الصرف كتاب شذا العَرْف في فن الصرف للحملاوي.

3 - علم المنطق كتاب المنطق للشيخ محمد رضا المظفر و حاشية ملا عبد الله و الشمسية.

3 - علم المعاني و البيان كتاب مختصر المعاني و البيان و المطول.

المرحلة الثانية: مرحلة السطوح:

يتقيد الطالب و الأستاذ في هذه المرحلة بدراسة متون كتب معينة في الفقه و أصول الفقه تؤهله إلى الانخراط للمرحلة الثالثة و هي مرحلة البحث الخارج.

1 - علم الفقه كتاب التبصرة و الشرائع و اللمعة الدمشقية و المكاسب.

2 - علم أصول الفقه كتاب أصول الفقه للشيخ المظفر ثم الرسائل و الكفاية.

المرحلة الثالثة: مرحلة البحث الخارج:

يحضر الطالب في هذه المرحلة مشتركاً مع غيره محاضرات أعاظم الفقهاء و المجتهدين لبحثي علم الفقه و علم أصول الفقه من دون التقييد بكتاب معين، و إنما المجتهد يلقي الدرس بنحو المحاضرة و يشرح المسألة و يعرض لأقوال العلماء السابقين و المعاصرين مع عرض أدلتهم و مناقشها ثم يبين رأيه و دليله، و بعد ما يحس الطالب و يَأْنَسُ في نفسه بأنه قد حصل على ملكة الاجتهاد و الاستنباط يخرج من مرحلة التقليد إلى مرحلة الاجتهاد، و يشهد أساتذته المجتهدون لَهُ بالاجتهاد و يمنحونه إجازة الاجتهاد.

أنواع المصنفات الفقهية:

1 - ما جمعت فيه نصوص بألفاظها بحذف أسانيدها مرتبة على أبواب الفقه مثل كتاب المقنع و الهداية للشيخ الصدوق، و المقنعة للشيخ المفيد و النهاية للشيخ الطوسي، و كان بعض الفقهاء إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إليها.

2 - ما جمعت فيه نصوص من غير التزام بألفاظها مع إسقاط أسانيدها مرتبة على أبواب الفقه مثل المراسم لأبي يعلى و الوسيلة للشيخ الطوسي و الكافي لأبي الصَّلاحِ .

3 - ما جمعت فيه القواعد الشرعية كالقواعد و الفوائد للشهيد الأول و القواعد الستة عشرة لجدنا الشيخ جعفر كاشف الغطاء، و القواعد الفقهية عبارة عن الحكم الكلي

ص:33

الفقهي المندرجة تحته فروع مختلفة مثل (كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر) في باب الطهارة، و قاعدة (لا ضرر و لا ضرار) و (اليقين لا يزول بالشك).

4 - ما اشتملت على مسائل الخلاف بين الإمامية و أهل السنة و إقامة الحجة على المختار من الأقوال ككتاب الخلاف للشيخ الطوسي، و تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي. و قد شاع في زماننا هذا بالتعبير بعلم الفقه المقارن و يراد به هو العلم بالآراء المختلفة في حكم المسألة الشرعية و دليل كل رأي فيه و بيان الحق منها بالبرهان، و عند المتقدمين يعبرون عنه بعلم الخلاف أو الخلافيات.

5 - ما اشتملت على مسائل الخلاف بين علماء الإمامية ككتاب مختلف الشيعة للعلامة الحلي و مفتاح الكرامة شرح قواعد العلامة للسيد محمد جواد العاملي.

6 - ما يشرح فيه المسائل الفقهية و يذكر آراء الفقهاء مع أدلتهم ثم يبين ما يختاره و يذكر رأيه مع الدليل ككتاب المستند للنراقي.

7 - ما ألف في المسائل الفقهية التي انفردت الإمامية في حكمها عمّن غيرهم و تسمى بالانفرادات ككتاب الانتصار للسيد المرتضى و ككتاب الأعلام للمفيد فإنه ذكر فيه ما اتفقت علماء الإمامية عليه من الأحكام و خالفتهم فيه علماء أهل السنة.

8 - ما اشتملت على الشروح لِمُتُونِ كتب فقهية معينة أو التعليق عليها كشروح شرائع الإسلام للمحقق الحلي مثل جواهر الكلام لشرح شرائع الإسلام للشيخ محمد حسن النجفي. و التعاليق الكثيرة على العروة الوثقى للسيد كاظم اليزدي أو شروح المكاسب و التعاليق عليها. و هذا النوع قد كثر في الأزمنة المتأخرة.

9 - الرسائل العملية التي تجمع فتاوي المجتهد حسب أبواب الفقه لعمل المقلدين

له كالعروة الوثقى للسيد كاظم اليزدي، و سفينة النجاة للشيخ أحمد كاشف الغطاء، و منهاج الصالحين للسيد محسن الحكيم.

10 - ما يبحث فيه عن المسائل الفقهية و مقارنته بالقانون المدني فيها و مقدار مخالفته و موافقته لها، و من نافلة القول أنْ نَذْكُرَ البحث الخارج للمرجعية العليا في أغلب المسائل الفقهية تعرض رأي القانون المدني في المسألة و أصبح ديدناً في درسها الفقهي.

ص:34

11 - ما جمعت فيه الآيات القرآنية الدالة على الأحكام الشرعية الفرعية و الاستدلال بها و يسمى هذا القسم من الكتب بآيات الأحكام ككتاب قلائد الدرر.

12 - دوائر المعارف الفقهية و هي كتابة المسائل الفقهية على جميع المذاهب الإسلامية مرتبة على الحروف الهجائية على غرار مُعْجَماتِ اللغة العربية ليسهل الظفر بحكم المسألة الفقهية كموسوعة جمال عبد الناصر و الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف الكويتية.

أصناف الفقهاء:

الأول: الفقهاء الصحابيون: و هم من لقي رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و آمنوا به و لازموه حتى عرفوا بالفقهاء، و أما من عاصر رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و لم يلقه فلا يسمى صحابياً حتى لو كان فقيهاً و إنما يعتبر من التابعين.

الثاني: من يُسَمى بالفقهاء التابعين: و هم من لقى الصحابة و أخذ منهم و عصرهم متداخل في عصر الصحابة.

الثالث: من يُسَمى بالفقهاء الارأتيتيين: مفردة ارأتي نسبة إلى أرأيت: و هم الفقهاء الذين يبحثون في مسائل فرضية يستبعد حدوثها و يحكمون فيها بحسب رأيهم فيقولون (أرأيت لو كان الأمر كذا فما كان الحكم)، و قد كثر إطلاق هذا اللفظ على فقهاء العراق من أهل الرأي.

الرابع: من يُسَمى بالفقهاء الواقعيين: و هم الذين يقصرون الفتوى على المسائل الواقعية، و هي التي اشتملت على ذكرها الآيات القرآنية أو السنة الشريفة.

الخامس: من يُسَمى بالفقهاء المتقدمين: و هم الفقهاء الذين كانوا قبل

سقوط بغداد بيد المغول سنة (656 ه) أعني ما كانوا قبل منتصف القرن السابع.

السادس: من يُسَمى بالفقهاء المتأخرين: و هم الذين كانوا بعد سقوط بغداد سنة (656 ه) حتى اليوم.

السابع: من يُسَمى الفقهاء المعاصرين: و هم من أدرك المتكلم أو المؤلف زمانه فإنَّ ذلك المتكلم أو المؤلف يحق له أن يعبّر عن الفقيه الذي في زمانه بالمعاصر.

ص:35

الثامن: من يُسَمى بالفقهاء المطلقين: و الفقيه المطلق هو الذي له ملكة الاجتهاد في جميع مسائل الفقه.

التاسع: من يُسَمى بالفقهاء المتجزئين: و الفقيه المتجزئ هو الذي له ملكة الاجتهاد في بعض مسائل الفقه دون بعض و يقابله الفقيه غير المتجزئ و قد يعبر عنه بالمطلق كما تقدم.

العاشر: من يُسَمى بالفقهاء المُحَدِّثين و الأخباريين: و هم الذين يعتمدون على الأدلة النقلية دون الأدلة العقلية و لا يعتبرون علم الأصول و يقابلهم الفقهاء الأُصُولِيّونَ الذي يأخذون بعلم أصول الفقه.

الحادي عشر: من يُسَمى بالفقهاء السلفيين: و هم الفقهاء الذي دعوا إلى المذهب السلفي و الرجوع في معرفة الأحكام الشرعية إلى مصادرها الأصلية من الكتاب العزيز و السنة الشريفة و نحوها و حاربوا التقليد.

الثاني عشر: من يُسَمى بأصحاب الرأي: و هم أصحاب الرأي و الاستحسان و هم الذين يبحثون عن علل الأحكام الشرعية و مناطاتها و يحكمون على طبقها و لم يحجموا عن الفتوى برأيهم عند فقد النص الواضح، و كان أكثر فقهاء العراق منهم و يسمون بأهل مدرسة الرأي و يقابلهم أهل الظاهر و هم الفقهاء الذين لا يفتون بالرأي و كان أكثر أهل الحجاز منهم و يسمون بأهل مدرسة الحديث.

المتون الفقهية:

بدأت تأليف المتون الفقهية في عهد غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه) لعدم القدرة على الوصول إليه بغية تكوين وضع ديني عام للشيعة و ذلك لتحقق أمرين هما:

أولاً: تدوين أقوال الفقهاء: و هي تفصح عن اجتهاد الفقيه و عملية الاستنباط، و قد تكشف عن إجماع في المسألة.

ثانياً: عمل المقلدين وَفْقِ ما فيها من فتاوى.

ثم بدأت مرحلة أخرى من الكتابة بعد كتابة مسائل الاجتهاد الأساسية من كتب الحديث و علم الرجال و كتابة كتب الفتاوى بكتابة الفقه الاستدلالي و تقوم هذه الطريقة

ص:36

في الاستدلال على أساس من التوسل بالقواعد من لغوية و أصولية و فقهية و ما إليها في التوصل إلى النتائج الفقهية.

كما دونت كتب الفقه الإسلامي المقارن و هو عرض آراء فُقَهاءِ المذاهب الأُخر و كتب أصول الفقه لبيان القواعد العامة ليستعين بها الفقيه في عملية الاستنباط، ليستكمل بها كل الوسائل العملية المطلوبة في مجال الاجتهاد.

وجه ترتيب أبواب الفقه:

بدأ الفقهاء أولاً بتدوين العبادات في مصنفاتهم الفقهية لأنها من الأحكام الأخروية و هي أهم من الأحكام الدنيوية بدليل إن المقصود لله عزَّ و جل من الجن و الإنس العبادة له. ثم في العبادات قدموا الصلاة لأنها أفضلها و أكثر تكراراً من غيرها من العبادات، و قدموا الطهارة لكونها شرطاً فيها و الشرط مقدم على المشروط و لما كانت الطهارة المائية مقدمة على الطهارة الترابية قدموا البحث عن الطهارة المائية، و لما كانت الطهارة المائية تحصل بالماء المطلق قدموا البحث عنه، و قدم الفقهاء مبحث الوضوء في الطهارة لعموم البلوى به و تكرره في كل يوم بخلاف الغسل و التيمم و قدموا الغسل على التيمم لأن التيمم واقع ثانوي له فهو لا يكون إلاَّ بعد تعذّره أو تعذّر الوضوء، و قدموا ذلك كله على إزالة النجاسات لأنها تابعة للطهارة في الحكم الشرعي إذ إزالة النجاسة لا تجب إلاَّ إذا وجبت الطهارة عن الحدث، ثم أتوا بالزكاة بعد الصلاة لاقترانها بها في الكتاب الكريم في عدة مواطن و ذكروا الخمس بعد الزكاة لأنه حق مالي قد جعل في مقابلها لفقراء السادات و الإمام (عليه السلام)، ثم ذكروا الصوم بعد ذلك لأنه يتكرر كل سنة كالزكاة ثم الحج لأنه لا يتكرر وجوبه و إنما يجب في العمر مرة واحدة و أخّروا الجهاد لأن وجوبه غير منوط بالفرد بل هو مرتبط بالجماعة و ولي المسلمين، و على هذا فقس ما سواها.

ثم ثنوا بالمعاملات و العقود لتوقف نظام النوع الإنساني عليها و تدبير شئونه بها ثم ثلثوا بالإيقاعات لأنها بالنسبة للمعاملات و العقود كالفروع بالنسبة للأصول فإن الطلاق فرع النكاح و العتق فرع الملك الذي يرجع للابتياع و إذا حازت هذه الأقسام الثلاثة بالسبق بالوضع فلا بد من أن يؤخر القسم الرابع هو الأحكام، لأنها أما مرتبطة بالأموات

ص:37

كالفرائض و الموت مرتبة متأخرة عن الحياة طبعاً أو أحكام للجناة كالديات و القصاص و الحدود، و الجناية توجب تأخر المجني ضِعَة و منزلة أو إنها لازمة للعقود و الإيقاعات معاً كالقضاء و الشهادات و اللازم متأخر عن الملزوم طبعاً فأخروا ذلك وضعاً ليطابق الوضع الطبع.

و هناك سبب آخر في وجه ترتيب أبواب الفقه إلى أربعة أقسام أيضاً (العبادات, العقود, الإيقاعات, الأحكام) و ذكروا إن وجه الحصر في ذلك هو: أنَّ المبحوث عنه في الفقه إما أن يتعلق بالأمور الأخروية أي علاقة العبد بربه أو بالأمور الدنيوية, فإن كان الأول فهو عبادات, و أما الثاني فإما أن يحتاج إلى صيغة عقد أو لا يحتاج إلى صيغة عقد, فغير المحتاج إلى صيغة هو الأحكام كالقصاص و الديات و باقي العقوبات و الميراث و الأطعمة و الأشربة, و ما يحتاج إلى صيغة عقد فقد تكون هذه الصيغة من الطرفين أو من طرف واحد, فإن كانت من الطرفين تسمى العقود و يدخل فيها المعاملات كالبيع و الإجارة و عقد الزواج و إن كانت من طرف واحد سُميت الإيقاعات كالطلاق.

المسانيد و السنن و المصنفات:

المسانيد: و هي كتب فقهية تشتمل على قسم من أدلة الفقه و هي الأخبار.

و السنن و المصنفات: و هي ما كانت مرتبة على أبواب الفقه و يلحق ببعض الأبواب منها باب يسمى النوادر و هو الحديث النادر أي ليس له أخ و معارض و هو صحيح.

ص:38

الفصل الثاني: المذاهب الإسلامية

اشارة

قدمت بعض المذاهب الإسلامية على بعض في الترتيب من حيث الكتابة بسبب كثرة أتباعه وسعة دائرته و شهرته في العراق. و عليه فيكون أول المذاهب هو مذهب الإمامية من أنَّه حيث أكثرها انتشاراً مقارنة مع المذاهب الإسلامية الأخر في العراق.

أولاً: مذهب الإمامية

اشارة

سمي بهذا الاسم نسبة للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) باعتبار أنَّ هذا المذهب يتركز على القَوْلِ بإمامَتِهِ (عليه السلام) بعد رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) بلا فصل.

و يسمى أيضاً بمذهب أهل البيت لأن أهل البيت المقصودِين في آية التطهير إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً عند علماء التفسير هم النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السلام).

و أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) يتمسكون بهؤلاء الخمسة حيث يتبعون أقوالهم و أفعالهم و تقاريرهم.

و يسمى هذا المذهب أيضاً بمذهب التشيع لأن معتنقيه قد شايعوا علي و ذريته و تابعوهم و يسمون بالشيعة لأن الشيعة هم الفرقة الموالية لعلي (عليه السلام) و ذريته و مفردها شيعي.

و يسمى بمذهب الجعفرية نسبة إلى الإمام جعفر بن محمد المعروف بالصادق (عليه السلام) بسبب انتشار المذهب في عصره و ازدهاره و كثرة أتباعه و لأن الإمام الصادق (عليه السلام) كان في أواخر الدولة الأموية و أوائل الدولة العباسية الزمن الذي انتقلت به الخلافة من الأمويين إلى العباسيين مما أتاح للإمام الصادق (عليه السلام) بسط الأحكام الشرعية و نشر المعارف الإلهية و الأخلاق الإسلامية.

ص:39

و يسمى بالمذهب الاثني عشري و ذلك لذهاب أتباعه إلى أن الأئمة اثني عشر من قريش واحداً بعد واحد بعد رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم).

الكتب المعتمدة عند الإمامية:

اشارة

إن كتب أصول المذهب المعتبرة هي أربعمائة كتاب سميت في ألسنة الفقهاء بالأصول الأربعمائة إذ إن أصحاب هذه الأصول كانوا يكتبون كلما يسمعون من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بحسب الزمان لا بحسب أبواب الفقه. و قد كانت هي الأساس و المرجع لتدوين الكتب الأربعة المعتمدة عند الإمامية و التي كان تدوينها حسب أبواب الفقه.

أولاً: كتاب الكافي:

و هو للشيخ أبي جعفر محمد الكليني (ت: 329 ه) و هو يحتوي على أحاديث الأصول و الفروع.

ثانياً: كتاب من لا يحضره الفقيه:

و هو للفقيه الشيخ أبي جعفر محمد بن علي القمي المعروف بالصدوق (ت: 381 ه).

ثالثاً و رابعاً: كتاب التهذيب و كتاب الاستبصار:

و هما للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت: 460 ه).

و جميع هذه الكتب مطبوعة بطبعات متعددة ولها شروح مطبوعة.

وسائل الشيعة:

ثم جاء محمد بن الحسَن الحر العاملي (ت: 1104 ه) فجمع روايات هذه الكتب الأربعة مع زيادة من كتب أُخر كانت موضع اعتماده و رتبها حسب أبواب الفقه و سماه وسائل الشيعة لتحصيل مسائل الشريعة. ثم جاء الشيخ محمد حسين النوري (ت: 1320 ه) فاستدرك على كتاب الوسائل المذكور ما فات صاحبه و سماه مستدرك وسائل الشيعة.

ص:40

الفتوى عند الإمامية:

إن الفتوى بالحكم الشرعي قد تطور بيانها عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية فقد كان أصحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يفتون الناس بنقل نفس الحديث للمستفتي مثل زرارة بن أعين و يونس بن عبد الرحمن و محمد بن مسلم و أبي بصير. ثم تطورت الفتوى عندهم فأخذوا يفتون بنص الرواية من دون ذكر السند، و كان الاجتهاد ممنوعاً في زمن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فلا اجتهاد في مَعْرِض النّص.

و لما وقعت الغيبة الكبرى للإمام المهدي الحجة بن الحسن العسكري (عليهما السلام) سنة (329 ه) بوفاة السفير الرابع للإمام الحجة و هو علي بن محمد السمري، انحصرت معرفة الشيعة للحكم الشرعي في الحوادث و الوقائع بفتوى فقهائهم بأمر الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) لهم بذلك على يد السفير الرابع (فأما الحوادث الواقعةَ فارجِعُوا إلى رواة حديثنا فأنا حجة الله عليهم و هم حجج الله عليكم). فاحتاج الفقهاء إلى اعمال اجتهادهم في معرفة أحكام المسائل التي تعرض بردها لأصولها الموجودة في الكتاب العزيز و السنة الشريفة و ما تقتضيه القواعد الشرعية و الموازين العقلية و تشخيص ما قام إجماع الشيعة عليه إلى غير ذلك مما يقتضيه الاجتهاد و يتطلبه الاستنباط.

عقيدة الإمامية في علم أئمة أهل البيت عليهم السلام:

إن علم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالأحكام الشرعية ليس من طريق الاجتهاد كسائر المجتهدين و إنما هو من طريق إيداع النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) للأحكام عندهم و هم معصومون من الخطأ في بيان الأحكام.

و الدليل على ذلك انهم مع غزارة علمهم و كثرة بيانهم للعلوم و ضخامة ما أورثوه من الأحاديث و الأخبار لم تجد في كتب التراجم و التاريخ المعتبرة عند شرح و ترجمة حال أحدهم أن يذكر أنه تتلمذ على أحد من الفقهاء أو روى عن أحد من الرواة و هو أدل دليل على أن علمهم قد حصل لهم من رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم).

ص:41

الزعامة الدينية عند الإمامية:

إن الزعامة الدينية - المرجعية - عند الإمامية كانت لهم بعد الغيبة الصغرى، فإنها قبل ذلك لم تكن إلاَّ لإمام العصر أو السفراء بين الإمام و بين الخلق، و أول من تصدى للزعامة الدينية في عصر الغيبة الكبرى هو محمد بن احمد المعروف ابن جنيد الاسكافي (ت: 381 ه) صاحب كتاب تهذيب الشيعة ثم من بعده الشيخ محمد المفيد (ت: 413 ه) و كتابه المقنعة، و كان مداراً للدراسة بين الفقهاء و هو الذي علق عليه الشيخ الطوسي و سمى تعليقه عليه بالتهذيب. ثم من بعده علم الهدى المرتضى (ت: 436 ه) ثم من بعده الشيخ الطوسي (ت: 460 ه) و هكذا مرجع بعد مرجع و زعيم بعد زعيم.

طريقة الإمامية في معرفة أحكام الشريعة في عصر الغيبة الكبرى:

إن الإمامية الاثني عشرية عند عدم التمكن من الرجوع إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يرجعون في معرفة الحكم الشرعي للأدلة الأربعة و هي الكتاب العزيز و السنة الشريفة و الإجماع و العقل و هي تسمى بالأصول لأن الأصل ما ابتنى عليه غيره، و هذه الأربعة يبتني عليها معرفة الحكم الشرعي.

و الرجوع إلى هذه الأصول بالترتيب: فأولاً يرجعون إلى القرآن الكريم و عند عدم معرفة الحكم الشرعي منه يرجعون للسنة المروية عن الرسول الأعظم (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) أو عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بسند معتبر عندهم و رجوعهم للكتاب المجيد أو السنة الشريفة إنما هو بالعمل بنصوصها أو ظواهرها، و لا يأخذون بالروايات و الأحاديث لو خالفت الكتاب المجيد كما لا يأخذون بروايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لو خالفت سنة الرسول (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) الثابتة عندهم. و عند فقد ذلك كله يرجعون للعقل الحاكم بالبراءة أو الاحتياط أو التخيير أو الاستصحاب عند من اعتبرها من باب العقل و إلاَّ فمن اعتبرها من باب قيام الكتاب المجيد و السنة الشريفة عليها يكون رجوعه إليها من باب الرجوع للكتاب و السنة.

ص:42

و أما رجوعهم للإجماع فإن كان من باب الحدس لرأي المعصوم من الاتفاق فهو من باب الرجوع للعقل، و إن كان من باب إحراز دخول المعصوم في جملة المجمعين فهو من باب الرجوع للكتاب و السنة.

عدم عمل الإمامية بالقياس:

لا تعمل الإمامية الشيعة بالقياس، وَ لا تعتبره من الأدلة لأنهم يعتقدون أن الدين قد كمل أيام الرسول (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) إلاَّ إن قسم من أحكامه قد أودعه الرسول عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، اما لعدم الابتلاء بالوقائع المحكومة به في ذلك العصر أو لعدم المصلحة في إظهارها في ذلك الوقت.

و بلغ إنكار أئمة أهل البيت (عليهم السلام) العمل بالقياس و عدم الأخذ بالرأي أن يقول الإمام الصادق (عليه السلام) لأبان بن تغلب (ت: 141 ه): (السنة إذا قيست محق الدين).

ثانياً: مذهب الحنفية

و هم الذين يعملون بمذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي بن

ماه المتوفى سنة (150 ه)، و قد روى عنه تلاميذه، و لأبي حنيفة كتابٌ أسماه بالفقه الأكبر و هو رسالة صغيرة في العقائد.

و كان أكثر تلقيه لعلم الفقه من شيخه حماد بن سليمان (ت: 120 ه) و قد قضى اثنتًين و خمسين سنة من عمره في العصر الأموي و الباقي في العصر العباسي، و لما أسس المنصور بغداد كان أبو حنيفة من العلماء الذين استقدمهم إليها.

و قد تتلمذ على الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) و على أبيه الإمام محمد الباقر (عليه السلام) و على زيد بن علي أخي الباقر، و قد أكثر تلميذاهُ أبو يوسف و محمد بن الحسن الشيباني من الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في مسنديهما لأبي حنيفة.

ص:43

استنباط الأحكام عند أبي حنيفة:

أخذ أبو حنيفة بالكتاب المجيد عند استنباط الأحكام الشرعية فان لم يجد فيه أخذ بسنة الرسول (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) المتواترة أو ما اتفق علماء الأمصار على العمل بها أو ما رواها صحابي أمام جمع منهم و لم يخالف فيها أحد، فإذا لم يجد ذلك أخذ بإجماع الصحابة، فإذا لم يجد ذلك اجتهد و عمل بالقياس فإذا قبح القياس عمل بالاستحسان، و كان تشدده في عدم العمل بالسنة سبباً في كثرة أخذه بالقياس و الاستحسان و الاجتهاد و الرأي.

تلامذة أبي حنيفة الأربعة:

انتشر مذهب أبي حنيفة بواسطة تلاميذه الأربعة:

1 - الإمام أبو يوسف (ت: 182 ه) و قد قلده هارون الرشيد القضاء و له رسالة في الخراج كتبها للرشيد.

2 - الإمام زفر بن الهذيل الكوفي.

3 - الإمام محمد بن الحسن الشيباني و يرجع إليه الفضل في تدوين المذهب الحنفي.

4 - الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي.

و كان هؤلاء الأربعة نسبتهم لأبي حنيفة نسبة التلاميذ لأستاذهم لا نسبة المقلدين إلى مرجعهم لاستقلالهم بما به يفتون و قد يخالفونه في الفتوى.

ثالثاً: مذهب الشافعية

اشارة

و هم أتباع أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع و قد أنهى بعضهم نسبه للمُطَّلِب بن عبد مناف أخي هاشم جد النبي، و قيل أن جده شافِعاً كان مولى لأبي لهب بن عبد المطلب، ولد بغزة سنة (150 ه) و توفي في مصر سنة (204 ه).

بعد سنتين من ميلاده حملته أمه إلى موطن آبائه بمكة و تتلمذ هنالك ثم رحل إلى المدينة المنورة و تتلمذ على مالك صاحب الموطأ و على ابراهيم بن محمد بن يحيى المدني

ص:44

تلميذ الإمام الصادق (عليه السلام) و أكثر الشافعي من الرواية عنه. ثم ذهب إلى اليمن و قد بلغ سن الثلاثين للعمل، و اتهم هنالك بالتشيع فأمر هارون الرشيد بحمله إليه سنة 148 ه و جيء به للرشيد و هو بمدينة الرقة و بعد ذا أمر بإطلاق سراحه و اتصل بمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة ثم رجع إلى مكة المكرمة ثم عاد للعراق مرة ثانية زمن خلافة الأمين ثم عاد للحجاز ثم قدم العراق مرة ثالثة و منه سار إلى مصر و نزل الفسطاط و لم يزل بها حتى مات. و في مقدمة طبقات الشافعية أنه لما استشهد الإمام موسى بن جعفر الكاظم في بغداد خرج الشافعي من العراق إلى مصر.

طريقة الشافعي في استنباط الحكم الشرعي:

و طريقة الشافعي في الاستنباط أن يأخذ بظواهر القرآن إلاَّ إذا قام الدليل على عدم إرادة ظاهرها و بعده السنة الشريفة، و كان يعمل بخبر الواحد الثقة الضابط و لو لم يكن مشهوراً خلافاً لأبي حنيفة و لا موافقاً لعمل أهل المدينة خلافاً لمالك ثم بعد

ذلك يعمل بالإجماع و عدم الخلاف ثم بعد ذلك يعمل بالقياس إذا كانت علته منضبطة.

ورد أشد الرد على عمل الحنفية بالاستحسان و ألف فيه كتاباً سمّاه إبطال الاستحسان، ورد عمل المالكية بعمل أهل المدينة و أبطل العمل بالمصالح المرسلة، و أنكر الأخذ بقول الصحابي لأنه يحتمل أن يكون عن اجتهاد أخطأ فيه، و رفض الحديث المرسل إلاَّ مراسيل ابن المسيب لأنه يرى أن القوم متفقون على صحتها.

و من أهم كتبه التي وصلت إلينا هو كتاب الأم في الفقه الذي أملاه على الربيع المرادي و طريقته فيه أن يذكر المسألة و دليلها و يرد على خصمه فيها و الجزء السابع منه اشتمل على مواضيع مختلفة و رسائل متعددة..

أشهر تلاميذ الشافعي:

1 - أبو ثور إبراهيم و صار له مذهب يعرف مذهب الثوري و لم يقدر له البقاء.

2 - أحمد بن حنبل إمام الحنابلة.

3 - الحسن الزعفراني الذي يروي عنه البخاري.

ص:45

4 - يوسف بن يحيى المصري مات مسجوناً ببغداد في فتنة خلق القرآن سنة (231 ه).

رابعاً: مذهب الحنابلة

اشارة

و هم أتباع أحمد بن حنبل بن هلال الشيباني المروزي ولد ببغداد سنة (164 ه) و توفي ببغداد سنة (241 ه).

و أحمد بن حنبل هو الذي امتنع من القول بخلق القرآن على الرغم من إصرار المأمون على القولِ بخلقه و إجابة العلماء له و بقي مصراً.

طريقة أحمد بن حنبل في استنباط الأحكام الشرعية:

و طريقة أحمد بن حنبل في الاستنباط أن يأخذ بالنص كتاباً أو سنة حتى المرسل و الضعيف منها، و يقدم الكتاب العزيز على السنة الشريفة عند التعارض في الظاهر، ثم إن لم يجد النص أخذ بما يفتي به الصحابة و لم يختلفوا فيه. و عند اختلاف بين الصحابة في المسألة رجح قول من كان أقرب للكتاب أو السنة فإن لم يظهر له ما هو الأقرب حكى الخلاف. و ينقل عنه أنه يأخذ بالحديث المرسل و يقدمه على القياس و الرأي إذا لم يكن ما يعارضه شيء من الكتاب أو السنة أو قول صحابي أو الاتفاق على خلافه و إلاَّ استعمل القياس و الاستصحاب وسد الذرائع و المصالح المرسلة.

و كانت القاعدة عنده في العقود و الشرائط هو قاعدة الإباحة إلاَّ إذا قام الدليل على المنع.

مؤلفاته:

صنف أحمد بن حنبل المسند الذي يحتوي على نيف و أربعين ألف حديث و رتبه بحسب السند لا بحسب أبواب الفقه فجمع لكل راوي أحاديثه، و قد توفى قبل أن ينقحه و يهذبه، و قد رواه عنه ابنه عبد الله بعد أن نقحه و هذبه.

و له في الأصول كتاب طاعة الرسول و كتاب الناسخ و المنسوخ و كتاب العلل. و لم يكتب في الفقه إلاَّ ما أجاب به عن بعض المسائل و المنقول عنه أنه حرم على تلاميذه كتابة الفقه إلاَّ أنهم لم يستجيبوا له فقد كتب تلميذه عبد الملك بن مهران و غيره الفقه

ص:46

عنه و جمعوا فتاويه و أقواله الفقهية و جعلوها أساساً لمذهبه الذي نسبوه إليه. و قد قام ابن تيمية و ابن القيم بنشر هذا المذهب و حرضا الناس على تعليمه، و قد أخذت به الوهابية بعد ما اعتبرت ابن تيمية أساس مذهبها بدعوة محمد بن عبد الوهاب في بلاد نجد و الحجاز.

أشهر أصحاب أحمد:

و من أشهر أصحابه أحمد بن هاني الأثرم الذي روى عنه الفقه و الحديث و عبد

الملك الذي كتب الفقه عنه و ولداه صالح الذي ورث الفقه عن أبيه و ولى القضاء على خلاف سنة أبيه. و عبد الله ورث الحديث عن أبيه و روى مسند أبيه و اتهمه بعضهم بأنه قد أضاف لمسند أبيه بعض الأخبار الموضوعة.

خامساً: مذهب المالكية

اشارة

و هم أتباع مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي ولد بالمدينة سنة (93 ه) و أقام بها و لم يرحل عنها و مات بها سنة (179 ه). و شيخه في الفقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) و ربيعة الرأي التابعي، و سمع الحديث من نافع مولى ابن عُمَر و الزُّهري. و كان يجلس في مسجد رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) لتدريس الفقه، و من تلاميذه الشافعي و عبد الله بن وهب و محمد بن حسن الشيباني و أسد بن الفرات و كان لتلاميذه اجتهادات تخالف فتاويه إلاَّ انها لا تخرج عن دائرة قواعده.

طريقة استنباطه للأحكام الشرعية:

كان مالك يعتمد في فتاويه على الكتاب ثم السنة الشريفة ثم عمل أهل المدينة. و قد يرد الحديث إذا لم يعمل به أهل المدينة، ثم بقول الصحابي إذا لم يستند للرأي ثم القياس. و نسب إليه العمل بالمصالح المرسلة و الاستحسان و الاستصحاب و سد الذرائع و العرف و العادة.

ص:47

مصنفاته:

صنف الإمام مالك كتاب سماه المُوَطّأ و معناه الممهد، و يحكى عن ابن قهر أنه لم يسبق أحد مالكاً بهذا الاسم، و كان من ألف في زمانه يسمي كتابه بالجامع أو المصنف أو بالمؤلف. و رواه عنه الكثيرون ممن أخذوه عنه و كان في رواياتهم اختلاف من حيث الزيادة و النقصان إلاَّ إنه لم يصل إلينا إلاَّ اثنان، رواية يحيى الليثي التي شرحها الزرقاني و السيوطي و رواية محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة.

و حكي إن ما في الموطأ من الأحاديث سبعمائة حديث و يقال أن التي صحّت عند مالك منها نحو خمسمائة حديث و عادته في هذا الكتاب أن يذكر الأحاديث و يضم إليها جملة من فتاوي بعض الصحابة و التابعين و يضيف إليها أحيانا ما يؤدي إليه اجتهاده، و ينقل عن مالك أنه قال: (إنما أنا بشر أخطئ و أصيب فانظروا في رأيي كل ما وافق الكتاب و السنة فخذوا به و ما لم يوافقهما فاتركوه).

و أشهر الكتب في المذهب المالكي هو المدونة لتلميذه أسد بن فرات التي أخذها سحنون و رتبها و نشرها باسم المدونة الكبرى. و المعروف ان المالكية يتبعون مذهب الأشعري في عقائدهم كما إنهم يسمون بأصحاب الحديث.

ص:48

الفصل الثالث: تاريخ التشريع الإسلامي

المبحث الأول: أدوار التشريع الإسلامي

الدور الأول: عهد النبي محمد (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم)

اشارة

تمتد هذه المرحلة من بعثة النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) حيث نزول أول آيات القرآن الكريم بمكة المكرمة حتى وفاته في المدينة المنورة، و أن هذه المرحلة استغرقت مدة ثلاث و عشرين عاماً.

و في هذه المرحلة قام النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) بوظيفته تجاه التشريع الإسلامي خير قيام و أتمه، فلم يرحل عن هذه الدنيا إلاَّ بعد أن قام بدور وضع الأساس للتشريع الإسلامي، و ذلك من خلال:

1 - تبليغه القرآن للناس تبليغاً كاملاً.

2 - تدوين القرآن لئلا ينسى، فالثابت أن القرآن دوّن و جمع في عهد النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و بأمره و تحت إشرافه و وفق تعاليمه.

و في رواية معتبرة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) من حديث طويل له قال: (فما نزلت على رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) آية من القرآن إلاَّ أقرأنيها و أملاها عليَّ فكتبتها بخطي و علمني تأويلها و تفسيرها و ناسخها و منسوخها و محكمها

و متشابهها و خاصها و عامها و دعا الله أن يعطيني فهمها و حفظها، فما نسيت من كتاب الله و لا علماً أملاه عليَّ و كتبته منذ دعا لي بما دعا).

و إن أول من تصدى لجمع القرآن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) فقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال لما قبض رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (أقسمت أو حلفت أن لا أضع ردائي على ظهري حتى أجمع بين اللوحين فما وضعت ردائي حتى جمعت القرآن).

على أن القرآن الكريم نفسه يشير إلى أنه مكتوباً على عهد رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) كما في الآية التالية كَلاّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ

ص:49

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ، و يبلغ عدد الآيات القرآنية الكريمة المتعلقة بأحكام الفقه على ما هو المشهور خمسمائة آية.

و من الكتب التي ألفت في آيات الأحكام منها كنز العرفان في فقه القرآن للمقداد السيوري (ت: 826 ه)، و كتاب (زبدة البيان في تفسير أحكام القرآن) للمولى الأردبيلي (ت: 993 ه)، و كتاب (قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر) للشيخ الجزائري (ت: 1151 ه) و كتب آيات الأحكام تغطي جميع أو جُلَّ أبواب الفقه من الطهارة، الصلاة، الصوم، الزكاة، الخمس، الحج، الجهاد، المكاسب، البيع، الدين، الرهن، الضمان، الصلح، الوكالة، الوفاء بالعقد، الإجارة، الشركة، الإيداع، العارية، السبق و الرماية، الشفعة، اللقطة، الغصب، الإقرار، الوصية، الحجر، الوقف، السكنى، الصدقة، الهبة، النذر، العهد، اليمين، العتق، النكاح، الطلاق، الظهار، الإيلاء، اللعان، الارتداد، المطاعم و المشارب، المواريث، الحدود، الجنايات، القضاء، الشهادات.

فإن النصوص الشرعية من آيات و روايات جاءت في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وافية بتزويد الفقه الإسلامي بجميع ما يحتاج إليه الفقه في مجال استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، فقد ورد عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): (كل شيء في كتاب

الله و سنة نبيه).

3 - تبليغه السنة الشريفة: و هي المكملة للقرآن الكريم بما يحتاجه التشريع من قواعد الأحكام و موادها.

4 - كتاب علي و هو مما أملاه رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) على الإمام علي (عليه السلام) و كتبه الإمام بخطه الشريف. و قد ذكر رجوع الأئمة (عليهم السلام) من أبناء علي (عليه السلام) إليه و النقل عنه، و قال الإمام الصادق (عليه السلام): (أنه جمعه من الكتاب الذي هو إملاء رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و خطّ علي بن أبي طالب (عليهما السلام)).

5 - صحيفة علي أو الجامعة: و هي مدونة على جلد طوله سبعون ذراع، و حجمه ملفوفاً حجم فخذ الجمل العظيم، و الظاهر أن كتاب علي و صحيفة علي أو الجامعة

ص:50

مسميات أو عناوين لمعنون واحد. و هي أول كتاب جمع فيه العلم على عهد رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم)، و كانت عند الإمام أبي جعفر محمد الباقر و ابنه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) رآها عندهما ثقاة أصحابهما، و توارثهما الأئمة من بعدهما.

6 - منع أبو بكر و عمر بن الخطاب كتابة الحديث الشريف و إحراق ما كُتب و شياع الأخبار الناهية عن كتابة الحديث و ما كتب فيجب محوه فقد ورد في الصحاح: (لا تكتبوا عني سوى القرآن و من كتب فليمحه) هو بمثابة ترجمة ما في التلمود و الكتاب اليهودي و موافق لما كتبه عمر بن الخطاب إلى الأمصار: (من كان عنده شيء منها - أي من أحاديث رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) - فليمحه).

و لا يبعد أن يكون هذا من إيحاءات كعب الأحبار، و إن جُعل بعد ذلك بصورة حديث، إذ بعد إحراق عمر بن الخطاب للأحاديث التي جمعها من أيدي الصحابة على مدى شهر قال: (مشناة كمشناة أهل الكتاب) و هذا يدل على اطلاع كامل منه على مصطلح أهل الكتاب و اليهود.

7 - اجتهاد النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): وقع الخلاف في اجتهاد النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) فيما لا

نص فيه على قولين:

1 - عدم وقوع الاجتهاد منه، هذا ما ذهب إليه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و فقهاء الفقه الإمامي، لقوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ ، وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ، فمصدر التشريع عند النبي هو الوحي المنزّل عليه من قبل ربِّ العالمين سواء أ كان التشريع بآية قرآنية أم السنة النبوية.

2 - جواز وقوع الاجتهاد منه عقلاً و اختلفوا على أقوال:

أ - التوقف في المسألة بمعنى عدم إعطاء رأي فيها.

ب - وقوعه منه (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) بعد انتظاره الوحي.

ج - وقوعه منه مطلقاً.

ص:51

8 - اجتهاد الصحابة: الصحابي من لقي النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) مسلماً و مات على ذلك، و التابعي من لقي الصحابي مسلماً و مات على ذلك. و أما من أسلم في زمن النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و لم يلقه و لكنه لقي صحابياً فهو معدود من التابعين.

و إن اجتهاد الصحابة في عهد رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) على نوعين:

أ - اجتهاد الرأي: هو أن يتعرف الصحابي المصلحة في الفعل أو المفسدة فيفتي وفق ما يرى، و مثاله حديث الرزية، و تجهيز جيش أُسامة و عدم اللحوق به، و هو اجتهاد بالرأي مقابل النص.

ب - اجتهاد النص: و هو أن يرجع الصحابي إلى النص الشرعي و يتفهم معناه و يفتي وفق ما يفهم، و مثاله صلاة العصر في بني قريظة، و ما روي من أن النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) قد أذن لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن أن يجتهد فيما إذا لم يجد نصاً من الكتاب أو السنة في الواقعة التي هي محل ابتلائه.

الخلاصة:

و نخلص من كل ما تقدم إلى النتائج التالية:

1 - عهد النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) كان مرحلة التأسيس للتشريع الإسلامي، ففيه تم تبليغ القرآن الكريم و هو المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي كما تمَّ فيه إعطاء السنة النبوية الشريفة و هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي.

2 - أن النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) لم يكن قد اجتهد في رأيه، و إنما كان يعتمد في إعطائه الحكم الشرعي على ما يوحى إليه من الله تعالى.

3 - في هذه المرحلة كان بدء نشأة الاجتهاد عند المسلمين، و كان على نوعين:

أولاً: اجتهاد النص، و قد اتفقت كلمة المسلمين على مشروعيته و شرعيته.

ثانياً: اجتهاد الرأي، و لم يتفق على مشروعيته بين المسلمين حيث نفاه أئمة أهل البيت و شيعتهم.

4 - في هذا العهد الشريف كان بدء التأليف في مجال التشريع، و تمثل هذا في كتاب علي (عليه السلام).

ص:52

5 - كان التشريع في مكة المكرمة متجهاً نحو تركيز العقيدة و إصلاح الفاسد منها و مكافحة الإلحاد و الشرك و إثبات الرسالة المحمدية.

6 - و كان التشريع في المدينة المنورة متجهاً إلى سن الأحكام الشرعية و القواعد الفقهية حتى كمل الدين و تمت رسالة سيد المرسلين و لم يترك حادثة صغيرة أو كبيرة إلاَّ و نجد حكمها بنصوصه أو آثاره أو في كلياته و أصوله، و ترك معرفة الوقائع المتجددة لفهم المتفقهين في قوانينه و هذا ما صير الدين الإسلامي يتماشى مع سائر العصور و صالحاً للبقاء في كل حال.

7 - كان تسمية القراء بالفقهاء في هذا الدور، أي الذين يقرءون القرآن الكريم باعتبار أن هذا يميزهم عن عامة الناس لأن الأمية كانت منتشرة.

8 - و مما يمتاز به هذا الدور أنه لم يكن فيه مجال للخلاف في الأحكام الشرعية لوجود الرسول (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) فيما بينهم و قوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) فصل الخطاب.

الدور الثاني: عهد الإمام علي عليه السلام

و هي المرحلة الثانية من المراحل التاريخية للتشريع الإسلامي، و تمتد هذه المرحلة من وفاة النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) إلى وفاة الإمام علي (عليه السلام) أي من سنة (11 ه) حتى سنة (40 ه).

و في هذا الدور ترسخ مفهوم اجتهاد النص و اجتهاد الرأي و اتضحت معالمهما أكثر، مما جعلهما يأخذان شكل المنهج العلمي في مجال التشريع الإسلامي.

أولاً: منهج النص:

و هو يمثل مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، و كان مقيداً بقيود الشريعة، مدفوعاً إلى اتباعها، و رفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب و الكيد و التدبير إذا لم يكن للشرع موافقاً. و كان يقف مع النصوص و لا يتعداها إلى الأقيسة، و كان الإمام علي (عليه السلام) يؤكد على منهج النص و يشجب منهج الرأي.

إن رجوع الشيعة للأئمة هو رجوع للسنة النبوية لقول الإمام الصادق (عليه السلام): (إن حديثي حديث أبي، و حديث أبي حديث جدي، و حديث جدي حديث الحسين، و حديث الحسين حديث الحسن، و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين، و حديث أمير

ص:53

المؤمنين حديث رسول الله، و حديث رسول الله قول الله) و المعروف بحديث سلسلة الذهب.

و إن فقهاء الشيعة عند ما تجيء الرواية عن الأئمة (عليهم السلام) إذ قال فيها الإمام (عليه السلام): (و أنا أصنع كذا) إنما يحملون ذلك على الاستحباب و الأولوية.

كما أن فقهاء الشيعة يعملون بالأخبار النبوية و إن كانت مروية من غير طرق أصحابهم إذا كان رواتها موثوقين أو حصل لهم الثقة بصدورها من النبي(صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و كتب الشيعة مشحونة بذلك.

إن تأكيد الإمام علي (عليه السلام) على منهج النص أدى إلى اتهامه من قبل أعدائه بأنه لا رأي له و كان متقيداً بالشريعة لا يرى خلافها، و غيره من الأمراء و الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه و يستوقفه سواء أ كان مطابقاً للشرع أم لم يكن. و هو القائل (عليه السلام): (لو لا الدين و التقى لكنت أدهى العرب).

و قال أبو عثمان الجاحظ: (رأيت بعض من يظن بنفسه العقل و التحصيل و الفهم و التمييز، و هو من العامة و يظن أنه من الخاصة، يزعم أن معاوية كان أبعد غوراً و أصح فكراً و أجود روية و أبعد غاية و أدق مسلكاً و ليس الأمر كذلك، و كان علي (عليه السلام) لا يستعمل في حربه إلاَّ ما وافق الكتاب و السنة و كان معاوية يستعمل خلاف الكتاب و السنة).

فالإمام علي (عليه السلام) كان يؤكد على منهج النص و يشجب منهج الرأي، و عمر كان يؤيد منهج الرأي و يكتب لقضاته و ولاته العمل به.

فكتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري: (الفهم، الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة، أعرِف الأشباه و الأمثال، و قس الأمور عند ذلك).

و من الوثائق التي تشير إلى تأكيد علي بن أبي طالب (عليهما السلام) على منهج النص: قوله (عليه السلام): (و أنزل عليكم الكتاب تبياناً لكل شيء و عمّرَ فيكم نبيه أزماناً، حتى أكمل له و لكم فيما أنزل من كتابه دينه الذي رضي لنفسه، و أنهى إليكم على لسانه محابّه من الأعمال و مكارهه، و نواهيه و أوامره، و ألقى إليكم المعذرة، و أتخذ عليكم الحجة، و قدم إليكم بالوعيد، و أنذركم بين يدي عذاب شديد).

ص:54

و مما يستوقف الفكر و يؤسفنا جداً أن يكون مثل الإمام علي (عليه السلام) الذي تربى في حجر النبوة و هو أكثر الصحابة مصاحبة للنبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و باب مدينة علمه و فقهه أن تكون رواياته و فقهه قليلة في كتب الروايات كالبخاري و مسلم بحيث لا

تتناسب مع المدة التي قضاها مع الرسول (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و بعده.

أولاً: منهج النص:

1 - مصادره: الكتاب و السنة الشريفة فقط.

2 - طريقته: إلى معرفة الحكم: الاجتهاد في فهم النص و داخل إطاره.

ثانياً: منهج الرأي:

1 - مصادره الكتاب و السنة الشريفة و الرأي.

2 - طريقته إلى معرفة الحكم الاجتهاد في فهم النص، الاجتهاد بالرأي خارج إطار النص فيما لا نص فيه، و كذلك فيما يوجد فيه نص إذا تطلبت المصلحة ذلك، و من أمثلة ذلك:

1 - زواج المتعة.

2 - النداء للصلاة (الصلاة خير من النوم).

3 - طلاق الثلاث.

4 - سهم المؤلفة قلوبهم.

5 - قسمة الفيء.

مميزات هذا الدور و نلخصه بما يلي:

1 - في هذا العهد ترسخ مفهوم اجتهاد النص و اجتهاد الرأي.

2 - بدء تكوّن مدرستي أهل البيت و الصحابة.

3 - التأكيد على الاستدلال بالنص من قبل مدرسة أهل البيت.

4 - التأكيد على استعمال المصطلحات الشرعية الواردة في القرآن الكريم.

5 - وضع مصطلحات شرعية مأخوذة من واقع النصوص الشرعية.

6 - التركيز من قبل مدرسة أهل البيت على بيان حكم التشريع.

7 - تصنيف رواة الحديث من الصحابة.

ص:55

8 - نشاط حركة التأليف الإسلامي في الحديث و الفقه.

9 - وضع الخطوط العامة لمنهج البحث الروائي.

الدور الثالث: عهد الأئمة الثلاثة (الإمام الحسن و الإمام الحسين و الإمام زين العابدين) (عليهم السلام)

اشارة

يمتد هذا العهد من استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) سنة (40 ه) حتى استشهاد الإمام زين العابدين سنة (95 ه).

ضعف في هذا الدور منهج النص نتيجة التضييق على أهل البيت (عليهم السلام) و الضغط على شيعتهم بالقتل و السجن و التعذيب، بينما تبنى الحكم الأموي منهج الرأي، و الذي أفادوا منه كثيراً في تبرير تصرفاتهم المخالفة للشرع من قبل فقهاء السلاطين بوضع الآراء الشخصية في ضوء اجتهاد الرأي لتصبغ تلكم التصرفات بالصبغة الشرعية، و من هذا كشاهد إعلان معاوية وجوب سب الإمام علي (عليه السلام) رسمياً.

في هذا العهد أو الدور بلغ الصراع بين المدرستين مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) مدرسة النص و مدرسة الرأي (مدرسة الصحابة) قمة العنف و ذلك في أيام الإمام الحسين (عليه السلام)، و كان هذا حول شرعية خلافة يزيد بن معاوية حيث صارت من أهم المسائل التي دار حولها النقاش في المدينة المنورة فمدرسة النص مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ترى أن شروط الإمامة لم تتوافر في يزيد و من أهم و أجلى هذه الشروط شرط العدالة الذي اشترط توافره فيمن يتولى إمرة المؤمنين بنص القرآن الكريم و هو قوله تعالى في قصة إمامة النبي إبراهيم (ع): إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً

قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ .

و لم يكن للإمام الحسن (عليه السلام) و الإمام الحسين (عليه السلام) حرية القول في ملك بني أمية العضوض فلذلك قلَّ ما روي عنهما في الفقه و أمور الدين.

و قد كان للإمام زين العابدين بعض السعة لنشر علومه من خلال شراء العبيد و تعليمهم ثم عتقهم و نشرهم في أمصار البلاد الإسلامية، و إن كان في دولة الملك العضوض ملك بني أمية ألد الأعداء لبني هاشم عامة و لآل علي خاصة.

ص:56

آثاره العلمية:

1 - الصحيفة السجادية: و هي زبور أهْلِ البيت (عليهم السلام)، و هي مجموع أدعية كانت رد فعل مضاد للاتجاه المادي الأموي.

2 - رسالة الحقوق: و تشتمل على خمسين حقاً، أولها حق الله و آخرها حق أهل الذمة لإثبات الحقوق التي ضَيَّعَها بنُو أمية.

مميزات هذا الدور:

1 - تشديد الخناق على مدرسة أهل البيت من قبل معاوية و يزيد و بني أمية لئلا تنشر شيئاً من فكرها.

2 - سلوك الإمام الحسين (عليه السلام) وسيلة التضحية لإيقاف الانحراف الواسع عن منهج النص، و للوقوف أمام الانحدار في تطبيق معطيات منهج الرأي على واقع المسلمين.

3 - توالي الثورات بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) حتى الإطاحة بعرش بني أمية.

4 - الانفراج القليل أمام مدرسة أهل البيت في أيام الإمام زين العابدين مما ساعده على العطاء على تمهيد الطريق للانفتاح في عطاء الإمام الباقر من بعده.

5 - فصل الدولة عن الدين، و أصبحت الخلافة أموية دنيوية ارثية لا إسلامية و لا شورية مما أدى إلى انفصال الفقهاء عن السلطة.

6 - إغراء بعض رواة الحديث بالكذب على الرسول (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) لتأييد مقامهم و تبرير أفعالهم و إضعاف مخاليفهم، و تفسير الآيات القرآنية بما تهوى الأنفس لدى فقهاء السلاطين.

7 - ظهور عدد كبير من الاتباع و تشخيصهم في الخارج مثل اتباع الإمام علي (عليه السلام) و أصحاب الجمل و المرجئة، و أهل النهروان و الخوارج و الكيسانية.

الدور الرابع: عهد الصادقين (عليهما السلام): (الإمام الباقر و الإمام الصادق)

اشارة

يمتد هذا العهد من استشهاد الإمام زين العابدين سنة (95 ه) حتى استشهاد الإمام الصادق سنة (148 ه).

ص:57

و يعتبر هذا الدور عهد الانفراج للنشاط الفكري لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بسبب ضعف الدولتين الأموية و العباسية حيث ضعف الأولى لأنها في هوة انحدارها و ضعف الدولة العباسية لأنها بعد لم تهدأ ثورتها و تستقر دولتها بسبب ما تعانيه من مطاردة ذيول الدولة المبادة.

فكانت فضلاء الشيعة و رواتهم في تلك السنين متجاهرين بولاء أهل البيت (عليهم السلام) معروفين بذلك بين الناس، و لم يكن للأئمة المعصومين (عليهم السلام) مزاحم لنشر الأحكام، فيحضر شيعتهم مجالسهم العامة، كما ساعد على انتشار علوم أهل البيت (عليهم السلام) هو ابتعادهم عن الطموح إلى تولي السلطة لعلمهم بأنها لا تصل إليهم.

و تمثل عطاء الإمامين الصادقين في المجالات الآتية:

1 - التعليم: فالإمامان قاما بدور التعليم في المسجد النبوي و بخاصة في أيام الحج، حيث كانوا الشيعة يدونون كل ما لديهم من أسئلة و يتقدمون بها إلى مقام الإمام (عليه السلام) عند تشرفهم بلقياه، و قد ساعد عاملين مساعدة فاعلة في تفرغ الإمامان إلى التعليم:

العامل الأول: غزو الحضارات الوافدة كاليونانية و الهندية و الفارسية و العبرية و السريانية بما تحمل من نظريات و فلسفات حول الكون و الحياة و الإنسان بما لا يلتقي مع وجهة النظر الإسلامية و لم يكن مؤهل لمهمة فلسفة إسلامية تستخلص من واقع النظرة الإسلامية سوى الإمام الصادق (عليه السلام) بما يمتلك من شخصية علمية بمستوى هذه المسئولية فيعتبر الإمام أول من أسس المدارس الفلسفية المشهورة في الإسلام.

و لم يقتصر عطاء الإمام الصادق (عليه السلام) على تأسيس مدرسة الفلسفة الإسلامية و بناء مدرسة الفقه الإسلامي، و إنما كان إلى جانب هذا أن أدخل العلوم الأخرى التي يحتاج إليها المجتمع الإسلامي كالطب و الكيمياء و الفيزياء و الفلك..

و قد كثر تلامذة الإمامين الصادقين الذين تخرجوا في مدرستهما سواء أ كان من مركزها الأصل (المدينة المنورة) أم من (الكوفة) عند ما كان الإمام الصادق (عليه السلام) يستدعى من قبل الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور.

ص:58

و إذا رجعنا إلى تاريخ الكوفة منذ عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) حتى عصر الغيبة تعتبر الكوفة موطن الشيعة الرئيسي و المركز العلمي لهم، و الأسر الكوفية العربية هي البيوتات الشيعية العلمية.

2 - التربية: عهد الإمامان إلى التركيز المكثف إلى تكوين شخصية الشيعي المثقف التي تتمتع ذهنيته العلمية بمجال التفكير و النظرة العلمية في مجال التحليل

فتخرج الفقهاء و القراء و الحكماء و العلماء.

و طرق الإمامين الصادقين (عليهما السلام) تتلخص بالتالي:

1 - التمرين و هو التدريب على خلق القدرة العلمية على الاستقراء و الاستنتاج:

أ - الفقه: التزويد بالقواعد العامة قوله (عليه السلام): (نلقي إليكم الأصول، و عليكم التفريع).

ب - الرواية: مثل (خذ بأشهرهما و أوثقهما) و غيرها من المرجحات في تعارض الأخبار.

ج - في أصول الفقه: مثل (لا تنقض اليقين بالشك)، إفادة قاعدة الاستصحاب.

2 - التأليف: في هذا الدور نشطت حركة التأليف لتشجيع الإمامين تلامذتهم على التأليف، قال الصادق: (اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا).

3 - التوثيق: و هو توثيق الراوي و توثيق الفقيه بالشهادة له بجواز الإفتاء، قول الإمام الباقر (عليه السلام) مثل لأبان بن تغلب: (اجلس في مسجد الكوفة و أفتِ الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك).

و في هذا الدور تشعبت مدرسة الصحابة - مدرسة الرأي - إلى مدرستين:

1 - مدرسة المدينة: لأن مركزها المدينة المنورة و هي مدرسة الحديث.

2 - مدرسة الكوفة: لأن مركزها الكوفة و هي تسمى بمدرسة الرأي، يمثلها أبو حنيفة، فلا تعتمد على الحديث في الفتوى ما لم يكن مروياً عن جماعة فضيقت العمل بالحديث، و توسع العمل بالقياس.

ص:59

3 - أما مدرسة الحديث: فقللت من القياس و بالغت أخرى حتى حرمته، نتيجة لتوسع مدرسة الرأي.

و أخذ الفقهاء يتفرقون في المدن فكان في مكة سفيان بن عُيَينة و في المدينة المنورة

مالك و ربيعة الرأي و في الكوفة سفيان الثوري و أبو محمد البجلي و أبو حنيفة، و في البصرة الحسن البصري، و في بغداد أحمد بن حنبل و داود الظاهري و الطبري و أبو ثور و ابن أبي عمير و هشام بن الحكم، و في دمشق الأوزاعي و في مصر الشافعي و الليث بن سعد.

و في هذا الدور شعر الفقهاء بتدوين السنة، و قد روى الرواة أن أول من دون العلم هو محمد بن مسلم الزهري (ت: 124 ه)، و لكن أقدم كتاب ألف في الأحاديث الفقهية رواه إبراهيم بن الزبرقان و نصر بن مزاحم عن الإمام زيد بن علي المستشهد سنة (121 ه).

أسباب اختلاف الفقهاء:

في هذا الدور كثرت المذاهب الإسلامية و تعددت الآراء في المسائل الشرعية، و ذلك للأسباب التالية:

1 - عدم الاهتمام بادئ ذي بدءٍ بتدوين السنة بل منعهم من كتابتها قد أدى إلى الدس و التحريف مما أوجب اختلاف الفقهاء في الاعتماد عليها.

2 - التفاوت في سعة الاطلاع.

3 - اختلاف الفهم لمعاني الآيات القرآنية و أحاديث الأحكام.

4 - اختلاف الفقهاء في حجية أدلة الأحكام كاختلافهم في حجية القياس و دليله.

5 - اختلاف مدارك الفقهاء لعلل الأحكام الموجبة لسريان الحكم.

6 - السياسة لها الأثر العظيم في اختلاف الفقهاء لأن بعض الفتاوى لا توافق أذواق بعض السلاطين.

7 - التعارض بين الأدلة الشرعية.

و قد قاومت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) مدرسة النص مدرسة الرأي و الاجتهاد بالرأي.

ص:60

و مميزات هذا الدور ما يلي:

1 - اعتبار هذا الدور دور الانفراج إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) و انتشار علومهم و آثارهم.

2 - ارتفاع و زيادة نسبة الرواة و الرواية ارتفاعاً ملحوظاً لم تشهده مدرسة أهل البيت في عهودها الثلاثة.

3 - توسع مدرسة أهل البيت في مواد التعليم حيث أضافت إلى العلوم الشرعية المعارف العقلية و العلوم الطبيعية و العلوم الإنسانية.

4 - ارتفاع و ازدياد نسبة التأليف و نسبة التوسع في نوعية محتويات المؤلفات.

5 - كثرة التلامذة و الوافدين من العلماء على الإمامين الصادقين (عليهما السلام) بما لم يتهيأ مثله للأئمة من آبائهما و أبنائهما.

6 - بروز حرية الرأي في الحوار و المناقشة و النقد و طرح الآراء حول و فيما كان يدور من قضايا و مسائل علمية في حلقات و لقاءات الدرس.

7 - تغيير أسلوب التعليم من الحفظ و الاستظهار إلى البحث و الاستقراء، و بان هذا بشكل واضح في حلقات التعليم.

8 - التأكيد على منهج النص و مقاومة منهج الرأي.

9 - مقاومة الأخذ بآثار الصحابة إذا تعارضت مع سيرة و سنة رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم).

10 - وضع الأساس لتقعيد القواعد الأصولية و الفقهية.

11 - انبثاق مدرسة الفقهاء الرواة.

12 - تأسيس المدرسة الفلسفية الإسلامية و المدرسة الكلامية.

13 - بروز مدينة الكوفة مجتمعاً لشيعة آل محمد و أسرهم الكبيرة.

14 - بروز مدينة الكوفة مركزاً علمياً لنشر و تعليم علوم آل محمد.

الدور الخامس: عهد الكاظمين (عليهما السلام): الإمام الكاظم و الإمام الرضا

اشارة

يمتد هذا العهد من سنة (148 ه) إلى سنة (203 ه)، أي من حين استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) إلى حين استشهاد حفيده الإمام الرضا (عليه السلام).

ص:61

في هذا الدور بدأت سمات مدرسة أهل البيت مرحلة التطبيق فبدأ يجمعون الأموال حقوقاً واجبة و تبرعات مستحبة و يرسلونها إلى إمامهم القائد أي إلى مقر قيادتهم مما أثار حفيظة العباسيين مما جعل الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) يسجن، مع ذلك استمرت المراسلة و المكاتبات مع شيعته، كما أُبعد الإمام الرضا من المدينة المنورة إلى خراسان، و هذا الدور اتسمت بالمناظرات بين أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و علماء الأديان و فقهاء الشريعة و المتكلمين الآخرين و بان فضيلة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، كما كثر في هذا الدور تلامذة الأئمة المعصومين و بروز فقهاء و رواة كبار و لهم مصنفات، و نشطت حركة التأليف لدواعي عدة منها الشرعية و الحضارية و الاجتماعية نتيجة الصراع الفكري.

و مميزات هذا الدور بما يلي:

1 - عودة الضغط في هذا العهد على أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و شيعتهم، و خاصة في أيام الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، و قد تذرع سلاطين الدنيا بالدين للقضاء على أهل الدين و يتخذونه وسيلة لتوطيد سلطانهم و رفع مقاصدهم، كما يشهد بذلك إسرافهم في قتل الصلحاء و سبي النساء و الولوغ بدماء الأبرياء و اتباع الشهوات فكان سفاحهم سفّاكاً للدماء و منصورهم نصيراً للباطل و رشيدهم مرشداً للضلال، و يدرك ذلك كل من ألقى السمع و تبصّر في التأريخ.

2 - ازدياد انتشار التشيع و ازدياد عدد الشيعة.

3 - ازدياد نشاط الشيعة العلمي و بشمولية لجميع الحقول المعرفية المعروفة آنذاك.

4 - استمرارية مدرسة الفقهاء الرواة مع ازدياد عدد أفرادها.

5 - وفرة التأليف في الفقه و الحديث.

6 - و كان الفقهاء يفتون في المسألة بلفظ الحديث بحذف إسناده، أما في عصرنا الحاضر فتذكر الفتوى بلفظ رأي المجتهد.

ص:62

الدور السادس: عهد الأئمة أبناء الرضا (عليهم السلام): (الإمام الجواد و الإمام الهادي و الإمام العسكري)

اشارة

امتد هذا العهد من سنة (203 ه) إلى سنة (260 ه) أي من حين استشهاد الإمام الرضا إلى حين استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام)، و هو حين مبتدأ الغيبة الصغرى، و وسم هذا العهد بعهد أبناء الرضا (عليهم السلام) لأن كل واحد من الأئمة الثلاثة المعصومين (عليهم السلام) الإمام محمد بن علي الجواد و الإمام علي بن محمد الهادي و الإمام الحسن بن علي العسكري كان يعرف في زمانه ب (ابن الرضا).

كان الإمام الجواد (عليه السلام) يمارس نشاطه العلمي تعليماً و إفتاءً و رعايةً لشئون الشيعة في المدينة المنورة تارة و في بغداد تارة أخرى، و لكن بين مد و جزر بسبب ما فرضته عليه السلطة العباسية من رقابة تشتد حيناً و تخف حيناً آخر.

و من خلال المقارنة لعدد رواة كل واحد منهم حسبما جاء من أعداد في رجال الطوسي يأتي عدد رواة الإمام الهادي الأكثر و من بعده الإمام الجواد فالإمام العسكري.

و قد تميّز هذا الدور بظاهرة المجالس و المناظرات، و ذلك لمحاولة الخلفاء العباسيين إلى تشويه سمعة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و المساءلة لهم لعلهم يثبتون نقصهم من الناحية العلمية فيصلون إلى هدفهم من إسقاط الأئمة من الاعتبار و الحط من منزلتهم العظمى في نفوس المسلمين، و نشطت هذه المجالس ظناً بالسلطة العباسية إن صغر أئمة أبناء الرضا (عليهم السلام) يفحمون عند ما يسألون، فقد قام بأعباء الإمامة الإمام الجواد (عليه السلام) و هو ابن ثماني سنوات، و تولاها الإمام الهادي و هو ابن ست عشرة سنة، و نهض بها الإمام العسكري و هو ابن ثلاث و عشرين سنة.

و قد نسب المؤرخون و المفهرسون مؤلفات إلى أئمة أبناء الرضا (عليهم السلام):

1 - رسالة الإمام الهادي (عليه السلام) في الرد على أهل الجبر و التفويض و إثبات العدل و المنزلة بين المنزلتين أوردها بتمامها الحسن بن شعبة في (تحف العقول).

2 - أجوبة الإمام الهادي (عليه السلام) عن مسائل القاضي يحيى بن أكثم أوردها ابن شعبة في (تحف العقول)، و المحدث المجلسي في (بحار الأنوار) كما مرَّ.

ص:63

3 - التفسير المعروف ب (تفسير الإمام الحسن العسكري).

و مميزات هذا الدور ما يلي:
اشارة

1 - اتسعت رقعة انتشار التشيع في هذا العهد، و كثر العلماء و الدعاة إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

2 - اكتمال معالم و أبعاد مدرسة الفقهاء الرواة في المنهج و المادة.

3 - بروز ظاهرة المناظرة و المساءلة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و كانت نتائج هذه المناظرات أن أعطت الكثير في مجال التشريع الإسلامي.

4 - ألّفت في هذا الدور كتب الصحاح و المسانيد الستة عند أهل السنة أصحاب مدرسة الرأي و هي صحيح البخاري لمحمد البخاري (ت: 256 ه) و صحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت: 261 ه)، و سنن السجستاني و هي لأبي داود سليمان

السجستاني (ت: 275 ه) و سنن الترمذي لمحمد السلمي الترمذي (ت: 297 ه)، و سنن ابن ماجه لمحمد القزويني المعروف بابن ماجه (ت: 263 ه) و سنن النَّسائي لأحمد بن شعيب النسائي (ت: 303 ه).

5 - ظهرت العلوم العقلية في هذا الدور الرابع اتسع أفقها و انتشرت كتبها، فإن الفلسفة اليونانية و غيرها قد دخلت البلاد الإسلامية بعد قرنين إلاَّ أنه قد أوضح المسلمون مسائلها و أضافوا إليها الشيء الكثير و أخرجوها بحلة جميلة بعد أن هذبوها و نقحوها و ناقشوا ما كان مخالفاً للعقيدة الدينية و الآيات القرآنية فظهرت خالصة من الآراء الإلحادية و الخرافات التقليدية، و أزالوا عنها الحجب و الغموض و فتحوا باب المناقشات و المباحث فيها و أعطوا للعقل حرية الفكر و أضافوا لها مباحث قيمة كمبحث النبوة و الإمامة و رتبوها ترتيباً حسناً حتى أصبحت العلوم العقلية غير العلوم العقلية اليونانية أو الفارسية أو الهندية، و كان أظهر طابع على العلوم العقلية الإسلامية هو قدرتها على الجمع بين الدين و الفلسفة و الحكمة و المعرفة.

ص:64

و نستنتج من تاريخ التشريع الإسلامي الإمامي ما يلي:

1 - إن النصوص الشرعية عند مدرسة أهل البيت كانت بالقدر الكافي و الوافي بتزويد الفقيه في مجال الاستنباط بالمادة العلمية لاستخلاص الأحكام الشرعية الفرعية منها.

2 - إن كثرة عدد الرواة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يعطينا مدى اهتمام مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بأمر التشريع الإسلامي، و قد صعد الرقم البياني أيام الإمام الصادق (عليه السلام) صعوداً كبيراً و ملحوظاً.

3 - إن كثرة الرواة قد حفز علماء من عهود الأئمة و بخاصة في القرن الثالث الهجري إلى التأليف في (الرجال) و سمي ب (علم الرجال).

4 - الكتب التي ألفت على أساس من طريقة المؤلف في رواية الأحاديث التي

ذكرها فيها إلى نوعين: أصول، و غير أصول:

1 - الأصول الأربعمائة: و هي التي دوّن فيها مؤلِفُوها الأحاديث التي سمعوها من الإمام مباشرة و رووها عنه بلا واسطة، و التي سمعوها من راوٍ يرويها - بدوره - عن الإمام مباشرة أي أن ما في هذه الأصول أحاديث لم ينقل من كتاب، و إنما اعتمد في طريقة تدوينه على السماع من الإمام أو ممن يروي عن الإمام مباشرة.

و من هنا عرّف الوحيد البهبهاني الأصل بقوله: (الأصل: هو الكتاب الذي جمع فيه مصنفه الأحاديث التي رواها عن المعصوم أو عن الراوي عنه).

و قد بلغت عدة الكتب الأصول أربعمائة كتاب لأربعمائة مؤلف، رواها أصحابها سماعاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) و عن ابنه الكاظم (عليه السلام) أو عن أحد أصحاب الإمام الصادق عنه. و كانت طريقة تدوينهم لهذه الأصول التي تدل على حرصهم على الضبط و الاهتمام الكبير بالمحافظة على أصالة النص من أن يعرضه شيء مما قد يخل به.

و قد كانت موضع الاعتبار و الأهمية و سميت في ألسنة الفقهاء بالأصول الأربعمائة و يوجد الكثير منها في مكاتب النجف الأشرف و تدوين أكثرها لم يكن مرتباً على أبواب الفقه إذ أن أربابها كانوا يكتبون كلما يسمعون من الأئمة بحسب الزمن لا بحسب أبواب الفقه.

ص:65

2 - كتب غير الأصول: و هي التي نقل إليها أو فيها مؤلِفُوها محتوياتها من الأحاديث عن كتاب مكتوب أي أنهم لم يعتمدوا السماع و إنما النقل عن المدوّن و المكتوب.

و عن هذه الكتب أصولاً و غيرها نقل أصحاب مجموعات الحديث الإمامية التي ألفت في أواخر عهد الغيبة الصغرى و أوائل عهد الغيبة الكبرى. فقد وفّرت مدرسة أهل البيت من قبل الأئمة (عليهم السلام) أنفسهم كل متطلبات و مستلزمات التشريع

الإسلامي لأتباعها من الشيعة خاصة و للمسلمين عامة و ذلك:

1 - وضع المنهج. 2 - توفير المادة. 3 - تكوين الرجال.

الدور السابع: عهد الغيبة الصغرى
اشارة

إن الإمام المهدي بن الحسن العسكري (عجل الله تعالى فرجه) قد استتر عن أنظار الناس لظروفه السياسية المذكورة تاريخياً، و أطلق الشيعة الإمامية على عدم حضور الإمام و مع عدم تمكّن الاتصال به فعنونوا تلكم الحقبة باسم (الغيبة) و قسموها من ناحية تأريخية إلى قسمين:

1 - الغيبة الصغرى: و تشمل حقبة تمكن من الاتصال بالإمام عن طريق وكلائه. و ابتدأت الغيبة الصغرى من سنة (260 ه) إلى سنة (329 ه) أي ابتدأت من حين وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلى حين وفاة آخر وكلاء الإمام المهدي و هو المعروف بالسمري.

2 - الغيبة الكبرى: و تشمل زمن عدم التمكن من الاتصال بالإمام.

السفراء الأربعة:

و كان الاتصال بالإمام المهدي في عهد الغيبة الصغرى في بغداد يتم عن طريق وكلائه الذين نصبهم لذلك، و الذين عرفوا بالسفراء لقيامهم بالسفارة بين الإمام و الشيعة و هم:

1 - أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري. و تم تعيينه سفيراً للإمام المهدي من قبل أبيه الإمام العسكري.

ص:66

2 - أبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري (ت: سنة 304 ه).

3 - أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي (ت: سنة 326 ه).

4 - أبو الحسن علي بن محمد السمري (ت: سنة 329 ه).

و كان السمري آخر السفراء و بوفاته انقطعت السفارة بين الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه).

و كانت وظيفة هؤلاء السفراء الأربعة تلقي الأسئلة من الشيعة مكتوبة و رفعها إلى مقام الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) و كان الإمام يوقع بالإجابة عن السؤال على الورقة المكتوب عليها السؤال، و من هنا سميت هذه الأجوبة ب (التوقيعات) و كانت الغيبة الصغرى تمهيداً للغيبة الكبرى كي يعتمد الشيعة من بعد السفراء على الاستقلال بأنفسهم و ذلك بالرجوع إلى العلماء في معرفة الحكم الشرعي الذي أطلق عليهم فيما بعد ب (نواب الإمام) و عبّر عن وظيفتهم الشرعية ب (النيابة العامة) و قد تمَّ هذا في التوقيع الشريف الصادر من الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) و الذي جاء فيه: (و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة الله عليهم).

و في عهد الغيبة الصغرى كان بدء تأليف مجموعات الحديث، حيث ألف الشيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني (ت: 329 ه) كتابه الموسوم بالكافي جمعه من الأصول، و استغرقت مدة تأليفه (20) سنة، و يشمل على (34) كتاب و (326) باب و عدد أحاديثه (16199) حديث، بعد ما كان من الصعوبة معرفة الحكم الشرعي للحادثة و الكتب الموجودة عندهم لم تكن سهلة المأخذ، فقد تقدّم أن نوعها غير مبوب مع ما فيها من الأحاديث غير المقبولة مع أن بعض الأخبار كانت محفوظة في الصدور يخشى ضياعها.

الكافي و الجامع الصحيح:

إن موقف علماء الإمامية من مرويات الكليني في الكافي موقف علمي فرضته قواعد و أصول علمي الرجال و الحديث فقد يؤدي إلى الاتفاق أو الاختلاف بينما رفض علماء السنة أن تخضع مرويات البخاري في الجامع الصحيح لقواعد نقد الرواية و أصول تقويم

ص:67

الرواية و القول بعصمته كعصمة القرآن الكريم فلا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، فردوا كل نقد يوجه و حرموا النظر فيه و الاستماع إليه.

الدور الثامن: الغيبة الكبرى

ابتدأت الغيبة الكبرى بوفاة آخر سفراء الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) و هو الشيخ علي بن محمد السمري (ت: سنة 329 ه) و بإعلان ذلك من قبل الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) بعد أن أناط مسئولية رعاية شئون الشيعة فكراً و عملاً و بخاصة في مجال معرفة الحكم الشرعي بفقهاء مذهب أهل البيت (عليهم السلام). و بدأت خطوات عملية عند الإمامية و هي:

1 - إتمام حلقات الحديث الفقهي تأليفاً.

2 - مواصلة التأليف في رواة الحديث و طبقاتهم.

3 - وضع الفهارس لمؤلفات الشيعة إحصاءً و بياناً.

4 - كتابة المتون الفقهية.

5 - تأليف الكتب الفقهية الاستدلالية.

6 - استخلاص القواعد الأصولية من معطيات النقل و مدركات العقل.

7 - بلورة خطط و مناهج البحث في العلوم الشرعية المذكورة من حديث و رجال وفقه و أصول.

8 - استقراء مصادر الأحكام الشرعية و الوظائف الشرعية و العقلية.

9 - تكوين المراكز العلمية للدراسة و البحث.

10 - تطوير دائرة المرجعية الدينية.

المبحث الثاني: المراكز العلمية في عهد الغيبة

اشارة

عمل الشيعة في هذا العهد على فتح المراكز العلمية لتهيئة المراجع العلمية من كتب و رسائل و وثائق، و توفير أدوات البحث من حال و مكان و مستلزمات الكتابة و إعداد الأجواء المناسبة للدراسة و التأكيد منها:

ص:68

1 - مكتبة سابور:

أسسها أبو نصر سابور بن أردشير (ت: 416 ه) و هو وزير لبهاء الدولة البويهي، و اشتملت خزانة هذه المكتبة أكثر من عشرة آلاف مجلّد من أصناف العلوم، و كانت مأوى للعلماء و الباحثين يترددون إليها للدرس و المباحثة و المناظرة و التأليف. لم تعمَّر هذه المكتبة أكثر من سبعين سنة ثم احترقت عند ما احترقت بغداد.

2 - خزانة الشريف المرتضى:

كانت تحتوي على ثمانين ألف مجلد، و كانت من أهم الدور العلمية التي يرتادها العلماء و الأدباء. و قد كان الشريف المرتضى ينفق عليها بكل غالٍ و نفيس.

3 - دار العلم للشريف الرضي:

و تحتوي على خزانة كتب و هي في مصاف الخزائن الكبرى ببغداد.

4 - دار العياشي بسمرقند:

و هو أبو النضر محمد بن مسعود العياشي السلمي السمرقندي (ت: 320 ه)، و اشتهرت مكتبته في نواحي خراسان و هي تزيد على مائتي ألف كتاب أشهرها تفسير العياشي.

المرجعية:
اشارة

المرجعية العامة للفقيه هي التولي لشئون الأمة الإسلامية بأجمعها و بيده الإدارة لتدبير أحوالها و أوضاعها و يسمى المتقمّص بها المرجع بفتح الميم و كسر الجيم و المرجع و المقلَّد مصطلحان متأخران أُخذا من التوقيع الشريف الآمر بالرجوع إلى الفقهاء في الحوادث الواقعة و الأمر بتقليد الفقهاء. و تثبت المرجعية للفقيه المجتهد العادل العارف بمجاري الأمور و يكون التقليد العام له و الأحكام الشرعية التي تخص الأمة الإسلامية مثل الجهاد و العلاقات الدولية و سياسة البلاد و تسير أمور العباد و نحو ذلك، و لا يجوز لكل فقيه و مجتهد أن يتقمصها بل لا بد لها من شروط تتوفر فيه إضافة لشروط المجتهد منها الأعلم بالأحكام الشرعية و البصير بمجاري الأمور و العارف بتدبير الوقائع و المحافظ على بيضة الإسلام و المدافع عن المسلمين في سائر الحوادث و المخالف لهواه الموقع للمهالك و المقبل على آخرته، فأصبح من المهم جداً أن تتفحص تفحص النقيد

ص:69

الصريف للرجال لمن يدعي هذا المنصب العظيم فإضافة إلى الشروط المذكورة آنفاً أن يعرف نسبه و بيئته و حسن سلوكه في ماضيه و حاضره فكم و كم من دخل في سلك العلماء و هو ليس منهم استعان بالمال و حرم الحلال و أحل الحرام في سبيل أن يصبح علماً من الأعلام و مرجعاً للعوام. و قد أدرك الاستعمار خطر هذا المنصب الديني و المقام الروحاني فأخذ يعمل لأن يجعل له نصيباً منه أو يشوه صورته.

نشأت المرجعية الدينية عند الإمامية لتقوم بدور النيابة العامة عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، و الظاهر إن الزعامة الدينية للشيعة كانت بعد الغيبة الصغرى فإنها قبل ذلك لم تكن إلا لإمام العصر أو السفراء الذين بينه و بين الخلق.

و تمثّلت في الفقيه الزعيم و ابتدأت بالشيخ المفيد فتلميذه السيد المرتضى من بعدها فالشيخ الطوسي.

أولاً: مركز بغداد:

ترتبط الدراسات الدينية ارتباطاً وثيقاً من حيث المكان عند الشيعة بمحل مرجعهم الديني، و قد استقطبت بغداد بسبب وجود المرجعية الدينية للإمامية فيها العلماء و الطلاب من مختلف الأمصار و الأقطار الإسلامية من الكوفة و البصرة و قم و الري و نيسابور و خراسان و ما وراء النهر و الشام و مصر. و بانتهاء حكم بني بويه في بغداد على أيدي بني سلجوق انتقلت المرجعية إلى النجف الأشرف.

و كانت مهام المرجع العلمية و الإدارية تتمثل بما يلي:

1 - إدارة شئون التعليم الديني في مركزه الرئيسي و في المراكز الفرعية في الأمصار الإسلامية الأُخر.

2 - إلقاء المحاضرات و التدريس و عقد المجالس و المناظرات بنفسه بالتعليم العالي (البحث الخارج).

3 - تشييد المدارس لسكن و دراسة الطلاب، و إنشاء المكتبات و إعداد دور العلم.

4 - إجراء الرواتب و المساعدات المالية لمعيشة الأساتذة و الطلبة.

5 - تعيين الوكلاء و القضاة في الأمصار الإسلامية لمقلديه.

6 - الفتيا و الرد على الأسئلة و الاستفسارات.

ص:70

ثانياً: مركز النجف الأشرف:

بعد وفاة الشريف المرتضى و الاضطرابات التي حدثت في بغداد من خلال التنكيل و التقتيل بالشيعة من قبل السلاجقة انتقل الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف و حلَّ أرضها و التفَّ حوله من فيها من الفقهاء و الطلاب و وفد إليها آخرون، و اختار النجف الأشرف تيمّناً بمجاورة مرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) و تبركاً بروح روحانيته. و راحَ يُعد تلامذته إعداداً تربوياً حتى بلغ

من تخرج من منبره الشريف أكثر من ثلاثمائة مجتهد، و عند ما توفي الشيخ الطوسي (ت: 460 ه) تولى المرجعية ولده أبو علي الحسن بن محمد الطوسي (ت: 515 ه)، و لعمق تقديس الشيخ الطوسي من قبل تلامذته سمي عصره بعصر المقلدة نظراً لالتزامهم بآراء أستاذهم و عدم الجرأة على مخالفته الذي امتد مائة سنة، حتى جاء ابن إدريس الذي كان سكناه في الحلة الفيحاء فكسر هذا الجمود و خالف الشيخ الطوسي و أعاد الاجتهاد.

ثالثاً: مركز حلب:

و في هذه الفترة الزمنية نشأ مركز للدراسة الدينية في حلب أنشأه الشيخ حمزة بن عبد العزيز الديلمي المعروف بسلار، حينما أرسله السيد المرتضى لنشر مذهب أهل البيت إلى حلب، ثم تنامت هذه المدرسة علماً و فقهاً على يد السيد ابن زهرة و بيتوته و أسرته التي خرجت أجلاء العلماء و أكابر الفقهاء حتى عرف بيت زهرة نقباء حلب و ديارهم أشهر من كل مشهور.

رابعاً: مركز الحلة:

اشتهرت الحلة في القرن السادس الهجري كمركز علمي كبير من مراكز الحركات العلمية الإمامية على يد الشيخ محمد بن إدريس العِجْلي الحِلّي، لما يمتلكه الشيخ ابن إدريس من شخصية علمية شجاعة، فاستطاع أن يستقطب العلماء و الطلاب من الأقطار الإسلامية إلى الحلة و تسليط الأضواء عليها في وقت ضعفت الحركة العلمية في النجف الأشرف بعد الشيخ الطوسي لما أصابها من ركود في الذهنية الفقهية.

و قد ساهمت في النهضة الفكرية العلمية في الحلة كل الأسر الحلية كآل نما و آل طاووس و الهذليين و الأسديين و غيرهم، و أثرى العلماء الحليون الساحة العلمية بما

ص:71

تحتاجه من الكتب و المراجع في الفقه الإمامي الفتوائي و الفقه الإمامي الاستدلالي و الفقه الخلافي و الفقه المقارن و علم أصول الفقه و علم الحديث و علم الرجال.

و استجابة لمقتضيات هذه المرحلة نوَّعَ و قسَمَ السيد جمال الدين أحمد بن طاووس الأخبار إلى أربعة أنواع و إن لفظ المجتهد عند الشيعة لم يطلق على الفقيه إلى زمان العلامة الحلي (ت: 726 ه) و لذا كانت كتب تراجمهم خالية عن هذا اللقب ككتاب الفهرست للشيخ الطوسي و الكشي و النجاشي و إنما يصفون الشخص في مقام المدح بالفقيه و العالِم و المحدّث و الراوية.

خامساً: مركز الشام:

امتد وجود الدراسة إلى طرابلس و دمشق و جبل عامل لأنها بلدان كانت تقطنها الشيعة الإمامية في القرنين الثالث و الرابع الهجريين حتى القرن السابع الهجري. و قد عيّن الشيخ الطوسي ابن البرّاج قاضياً في طرابلس و لقّب بالقاضي. و أبرز و أشهر العلماء الذين تعهدوا الوجود العلمي الإمامي في بلاد الشام و حوّلوه إلى مركز علمي كبير الشهيدان محمد بن مكي وزين الدين بن علي لما أضافاه إلى المكتبة الفقهية الإمامية من مؤلفات قيمة متناً و استدلالاً مثل الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية الكتاب الفقهي الشهير الذي هو من تأليفهما لا يزال إلى اليوم مقرراً دراسياً في الحوزات العلمية الإمامية. و في عهدهما ألّف ما يعرف بالقواعد الفقهية و تخريج الفروع عليها و كذلك بما يعرف علم الدراية.

سادساً: مركز النجف الأشرف ثانياً:

ازدهرت النجف الأشرف ثانية بعد هبوط الشيخ المحقق الكركي إليها و تسلمه زمام المرجعية و هو نور الدين أبو الحسن علي بن الحسين بن عبد العالي العاملي الكركي (ت: 940 ه) و كان أكثر العلماء شهرة بعد المحقق الكركي في هذا القرن العاشر الهجري المقدّس الأردبيلي الشيخ أحمد بن محمد (ت: 993 ه).

ظهور الحركة الأخبارية:
اشارة

و قد ظهرت الحركة الأخبارية معارضة و مناهضة للمنهج الأصولي في القرن الحادي عشر الهجري، و كان رائدها المحدّث الرجالي محمد بن علي الاستربادي (ت: 1028 ه)

ص:72

ثم تلميذه محمد أمين الاسترابادي (ت: 1033 ه) صاحب كتاب (الفوائد المدنية)، و كان مِن خَصائص المنهج الأخباري:

1 - إلغاء الاجتهاد و التقليد لأن الأحاديث المروية عن الأئمة (عليهم السلام) كان كلها أو جلها أجوبة لأسئلة رفعت إليهم من أصحابهم و شيعتهم و فهمها السائلون مباشرة من غير أن يحتاجوا في فهمها إلى الاستعانة بالأصول.

2 - إلغاء اعتبار الإجماع و العقل مصدرين للفقه.

3 - الاقتصار على الكتاب العزيز و السنة الشريفة للفقه و لأن ظواهر القرآن الكريم لا تعرف إلاَّ عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم الذين خوطبوا به فهم يعرفون لحن الخطاب للقرآن الكريم.

4 - اعتبار الأحاديث الموجودة في الكتب الأربعة صحيحة قطعية الصدور عن المعصومين لتواتر بعضها و لأن البعض الآخر أخبار أحاد اقترنت بما يفيد العلم بصدورها من المعصومين.

5 - عدم الحاجة إلى علم الدراية، و تقسيمات الحديث الموجودة فيه و ذلك لصحة جميع مرويات الكتب الأربعة.

6 - عدم الحاجة إلى علم الرجال و ذلك للوثوق بصدور جميع مرويات الكتب الأربعة.

7 - و ما يحتاج إليه من أصول الفقه يجب أن يؤخذ من روايات أهل البيت (عليهم السلام) لا من دليل العقل لبطلان حجية العقل.

سابعاً: مركز كربلاء:

في كربلاء كانت هنالك مدرستان المدرسة الأصولية مرجعها الوحيد البهبهاني و المدرسة الأخبارية مرجعُها الشيخ يوسف البحراني. و قد احتدم الصراع الفكري بين الأخباريين و الأصوليين، و كانت ردود فعل قوية من قبل الوحيد البهبهاني قائد

المدرسة الأصولية لثورة الميرزا الاسترابادي الذي هاجم المدرسة الأصولية.

و كان للمحدث البحراني دور مهم في محاولة توازن القوى، و ذلك باستِنْكارِه التطرّف الذي كان من المحدث الاسترابادي.

ص:73

و الوحيد البهبهاني الذي قاد المعركة في ميدان الصراع الفكري بين الأخبارية و الأصولية في مركز كربلاء العلمي هو محمد باقر بن محمد أكمل البهبهاني الحائري الملقب بالوحيد البهبهاني (ت: 1208 ه).

و الذي يظهر مما ذكره مؤرخو هذا الصراع الفكري أن الوحيد البهبهاني ألقى بكل ثقله في المعركة و صمم بكل عزيمة و إصرار على كسب الجولة حتى يقال: إنه ارتقى منبر درس الشيخ يوسف البحراني و باحث تلامذته مدة ثلاثة أيام، فعدل ثلثا التلاميذ إلى مذهب الأصوليين. و انتهت هذه المعركة الفكرية في كربلاء بفضل موقف الشيخ البحراني المعتدل، لتنتقل إلى النجف الأشرف بين زميلي الدرس الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء و الميرزا محمد الأخباري الذي مثّلَ المرحلة الثالثة و الأخيرة للأخبارية.

ثامناً: مركز النجف الأشرف ثالثاً:

انتقلت المرجعية بعد وفاة الوحيد البهبهاني سنة (1208 ه) من كربلاء إلى النجف الأشرف و كان المرجع الديني الأعلى للإمامية هو السيد محمد مهدي بحر العلوم بعد هجرته من كربلاء إلى النجف الأشرف، و قد عدّت أيامه من أسخى الأيام عطاءً و أوفرها نتاجاً، و قد تميّز درسه الفقهي باستعراض آراء المذاهب الأربعة و بتعيين مواقيت الإحرام و تحديد مشاعر الحرام.

و من بعد وفاة السيد بحر العلوم تولى جدنا المرجعية الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء، و كانت مرجعيته تتمتع بالشمول وسعت التقليد و الفتيا و رعاية شئون المسلمين الاجتماعية و السياسة فقد حصل على تقدير و رجاء كبيرين من قبل حكّام العراق آنذاك من سلاطين آل عثمان، و أذن للشاه فتح علي حاكم إيران أن يتصرف في القضايا السياسية العامة التي هي من أعمال الرئاسة الإسلامية العليا نيابة عنه، و قد ضمن الإجازة المشار إليها في كتابه (كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء). وقاد حركة الدفاع ضد غزو أهل نجد الأعراب للنجف الأشرف، فجعل من داره مقر تدريب عسكري للمجاهدين من العلماء و الطلبة الدينيين و غيرهم و جلب الأسلحة

ص:74

و المعدات المختلفة، و عين بنفسه مواقع القتال، و قام بجميع ما تطلبه موقف الدفاع لصدهم حتى ردهم.

و شارك في إخماد (فتنة الزكرت و الشمرت) و هي حرب عشائرية داخلية قامت بين طائفتي الزكرت و الشمرت. و قد عرف الشيخ الأكبر الشيخ جعفر بأصالة فقاهته و عمقها و بإحاطته الواسعة بالفروع الفقهية حتى عَدَّ كتابه (كشف الغطاء) من المدونات الفقهية التي أسهمت في تجديد الفقه و تطويره.

و في أيام مرجعيته عادت الحركة الأخبارية إلى الظهور على ساحة المعركة الفكرية بقيادة الميرزا محمد بن عبد النبي النيسابوري المعروف بالأخباري (ت: 1232 ه) الذي استطاع أن يجعل مملكة إيران أخبارية، و لكن نجح الشيخ جعفر بعد وصوله إلى إيران في محاربته و إرجاع مملكة إيران إلى المدرسة الأصولية بعد ما هرب الميرزا محمد الاخباري إلى الكاظمية التي قتل فيها مع ابنه الأكبر و هكذا خمدت الحركة الأخبارية و لم يعد وجود دارسي للفكر الأخباري و استمرت المدرسة الأصولية.

و ما زالت النجف الأشرف إلى يومنا هذا غنية بالعلوم الدينية و المعارف الإلهية خرجت رجالاً و أقطاباً من الفقهاء من مختلف الأقطار الإسلامية، و قد توافرت فيها الدراسة الحرة للعلوم الإسلامية ما لم تتوفر لغيرها من المعاهد و المدارس، و أوفدت الكثير من خريجيها لكثير من الأقطار لتعليم الفقه و الدعوة للإسلام، نسأل الله بجاه من لذنا بجواره مولانا أمير المؤمنين أن تبقى النجف الأشرف مركزاً من مراكز الحوزة العلمية ما بقي الدهر.

إن وجود مركز الدراسة الدينية الشيعية في بلد لا يعني عَدَمَها في باقي بلدانهم المهمة الأُخر، فلا يمكن أن نتجاهل عظمة الدراسة الدينية في قم و خراسان و طهران و أصفهان و غيرها من بلدان إيران من قديم الدهر حتى اليوم في زمن الجمهورية الاسلامية، كما لا يمكن أن ننكر وجود الدراسة في كربلاء و الكاظمية و غيْرِهِما من بلدان العراق أو المناطق الشيعية في الممالك الإسلامية كسورية و لبنان و البحرين و السعودية و باكستان و غيرها.

ص:75

مخطط للمراكز الرئيسة لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام): المدينة المنورة

ص:76

الفصل الرابع: الحكم و أقسامه و عناصره

المبحث الأول: الحكم و أقسامه

المطلب الأول: تعريف الحكم:

الحكم: هو ما ثبت من خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين من اقتضاء أو تخيير أو وضع لا الخطاب نفسه، أو هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان.

و معنى الخطاب: هو الكلام الذي قصد به مواجهة الغير سواء أقصد إفهامه أم لا.

و معنى الاقتضاء: الطلب للفعل أو الترك كالوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة.

و معنى التخيير: هو جعل الفعل باختيار الإنسان إن شاء أتى به و إن شاء تركه.

المطلب الثاني: أنواع الحكم:

اشارة

ينوع الحكم إلى نوعين هما الحكم الواقعي و الحكم الظاهري:

1 - الحكم الواقعي:

و هو الحكم المجعول للشيء بواقعه. و ينوع إلى نوعين:

أ - الواقعي الأولي: و هو الحكم المجعول للشيء بواقعه الأولي دون ملاحظة ما يطرأ للشيء من عوارض مثل إباحة شرب الماء.

ب - الواقعي الثانوي: و هو الحكم المجعول للشيء بملاحظة ما يطرأ له من عوارض تقتضي تغيير حكمه الأولي مثل وجوب شرب الماء إذا توقف إنقاذ الحياة عليه فإنَّ عروض توقف إنقاذ الحياة على شرب الماء اقتضى تغيير حكمه الأولي (و هو الإباحة) إلى حكمه الثانوي (و هو الوجوب) و هذا التقسيم للحكم من حيث كونه حكماً أصلياً أو غير أصلي, و يسمى كذلك العزيمة و الرخصة. فحكم العزيمة (هو ما شرّعه الله تعالى من الأحكام ابتداء لجميع المكلفين في جميع الأحوال) كالعبادات و القصاص في قتل العمد.

ص:77

و أما حكم الرخصة (هو ما شرّعه الله تعالى من الأحكام تخفيفاً على المكلف في بعض الأحوال مع بقاء الحكم الأصلي).

2 - الحكم الظاهري:

و هو الحكم المجعول للشيء عند الجهل بحكمه الواقعي مثل الحكم بطهارة الثوب إذا لم يعلم نجاسته، و الحكم بإعادة الصلاة عند الشك بين الركعتين الأوليتين.

المطلب الثالث: أقسام الحكم:

اشارة

للحكم عدة تقسيمات منها:

1 - تقسيم الحكم إلى شرعي و عقلي:

فالحكم إذا كان الحاكم به هو الشرع فيسمى شرعي، و إن كان الحاكم به العقل فيسمى عقلي، وكل منهما مستقل، و غير مستقل، فإذا توقف حكم الشرع على حكم العقل سمي غير مستقل، و إن لم يتوقف فهو مستقل.

و هكذا حكم العقل إن توقف على حكم الشرع فهو غير المستقل كحكم العقل بوجوب المقدمة المتوقفة على حكم الشرع بوجوب ذيها، و إن لم يتوقف كحكمه بوجوب رد الوديعة سمي مستقلاً.

ص:78

أولاً: الحكم العقلي:
اشارة

2 - تقسيم الحكم العقلي إلى تكليفي و وضعي:

الحكم سواء أ كان شرعياً أم عقلياً ينقسم إلى تكليفي و إلى وضعي:

1 - الحكم التكليفي العقلي:

هو ما كان الحكم من العقل متعلقاً بأفعال المكلفين بنحو الاقتضاء أو التخيير.

و هو ينقسم إلى الأقسام الخمسة:

1 - الوجوب العقلي: و هو ما حسن فعله عند العقل و قبح تركه كرد الوديعة.

2 - الحرام العقلي: هو ما حسن تركه عند العقل و قبح فعله كظلم اليتيم.

3 - المندوب العقلي: هو ما حسن فعله عند العقل و لم يقبح تركه كإكرام الضيف.

4 - المكروه العقلي: هو ما حسن تركه عند العقل و لم يقبح فعله، كالضحك عالياً.

5 - المباح العقلي: الذي لم يحسن و لم يقبح كل من فعله و تركه. هو حكم العقل باعتبار أنه لا يتضمن الاقتضاء و لا التخيير.

2 - الحكم الوضعي العقلي:

هو حكم العقل بغير ذلك كحكمه بشرطية القدرة للتكليف و لصحة العمل و العلم بالتكليف لأن العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان.

ص:79

ثانياً: الحكم الشرعي:
اشارة

يقسم الحكم الشرعي إلى:

1 - الحكم التكليفي الشرعي: هو ما كان الحكم فيه من الشرع متعلقاً بأفعال المكلفين بنحو الاقتضاء أو التخيير، و هو ينقسم إلى الأقسام الخمسة من: الوجوب، و التحريم، و الندب، و الكراهة، و الإباحة.

2 - و الحكم الوضعي الشرعي: و هو حكمه بغير ذلك كحكمه بجزئية الركوع للصلاة و نحو ذلك. و هو الاعتبار الشرعي الذي لا يتضمن الاقتضاء و التخيير، كاعتبار الشيء سبباً لقطع اليد بقوله تعالى: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ، و اعتبار الاستطاعة شَرْطاً لوجوب الحج، و اعتبار القتل مانعاً من الإرث.

أولاً: الحكم التكليفي الشرعي:
تعريف الحكم التكليفي:

التكليف لغة: مشتق من الكلفة، و يطلق مجازاً على الأفعال الصادرة عن المكلف.

و التكليف اصطلاحاً: هو الحمل على فعل أو ترك ما فيه مشقة من واجب الطاعة ابتداء.

فقوله (الحمل) يراد به البعث.

ص:80

و قوله (على فعل فيه مشقة) إن جميع الأفعال و التروك الجميع فيها مشقة إذا روعي تحقيق الإخلاص الواجب في جميع الطاعات فإن تحققه في غاية الصعوبة لكونها أفعالاً ملائمة للطبع.

و قوله (من واجب الطاعة) تحقيق لمعنى التكليف، إذ حمل من لا يجب إطاعته غير معتبر فلا يكون تكليفياً.

و قوله (ابتداء) ليخرج من وجب طاعته لا كذلك، كطاعة النبي و الإمام و الوالد و السيد و الزوج لا يسمى تكليفياً و إن وجب طاعتهم إذ وجوبها ليس على سبيل الابتداء لتفرعها و تبعيتها لطاعة الحق عزَّ و جل إذ لو لا إيجابه إياها لما تحقق الوجوب فيها.

الأحكام التي تشملها الشريعة الإسلامية/ تقسيم الحكم عند الفقهاء

ص:81

و تنقسم الأحكام الشرعية إلى خمسة:

1 - الوجوب 2 - الندب 3 - الإباحة 4 - الحرمة 5 - الكراهة

و هنالك تقسيمات جزئية أو تفصيلية للأحكام حسب الأبواب الفقهية ذكرها الفقهاء في الدورات الفقهية.

أقسام الحكم التكليفي:

و قسّم الأصوليون الحكم التكليفي إلى الأحكام الخمسة الوجوب و الندب و الحرمة و الكراهة و الإباحة.

أولاً: الوجوب:

الوجوب لغة: بمعنى الثبوت، و منه قوله (عليه السلام): (وجبت له الجنة) أي ثبتت. و السقوط و منه قوله تعالى: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت.

و اصطلاحاً: هو طلب الفعل مع المنع من الترك، فهو مرتبة من الطلب شديدة لا يرضى الآمر معها بالترك. و ينقسم إلى وجوب قطعي و هو ما ثبت بدليل قطعي السند و الدلالة و هو قد يكون ضروري الدين كوجوب الصلاة و يكون إنكاره بلا عذر من الكفر، و قد يكون ضروري المذهب مثل وجوب طواف النساء في الحج.

أما الوجوب العملي أو الظني: فَهُوَ ما ثبت وجوبه بدليل ظني الدلالة أو السند أو كليهما.

أقسام الوجوب:

و قد قسم الأصوليون الوجوب إلى تقسيمات كثيرة منها:

القسم الأول: الوجوب التخييري و الوجوب التعييني:

الوجوب التخييري: هو ما كان المطلوب فيه أكثر من فعل واحد على سبيل منع الخلو، كوجوب خصال الكفارة.

و الوجوب التعييني: و هو ما كان المطلوب فيه أمر واحد مثل وجوب الصلاة.

القسم الثاني: الوجوب العيني و الوجوب الكفائي:

الوجوب الكفائي: هو الذي إن قام به البعض سقط عن الباقين كالصلاة على الميت.

ص:82

و الوجوب العيني: هو ما يطلب إتيانه من كل مكلف كوجوب الفرائض اليومية.

القسم الثالث: الوجوب المضيق و الوجوب الموسع:

الوجوب المضيق: و هو ما كان وقت الواجب بمقدار فعله كالصوم في شهر رمضان.

الوجوب الموسع: هو ما كان وقت الواجب أوسع زماناً من فعله كالصلاة اليومية.

القسم الرابع: الوجوب التعبدي و الوجوب التوصلي:

الوجوب التعبدي: هو الوجوب الذي يطلب امتثاله مشروطاً بالتقرب به إلى الله تعالى، أو هو ما أنيط العقاب فيه بترك الإطاعة، أو بما لا يسقط أمره إلاَّ بقصد التقرب كالصوم و الصلاة و سائر العبادات.

الوجوب التوصلي: هو الوجوب الذي لا يناط به العقاب بتركه و إن أنيط الثواب بفعله و لا يحتاج إلى نية التقرب كتطهير الثوب للصلاة.

القسم الخامس: الوجوب المطلق و الوجوب المشروط:

الوجوب المطلق: هو ما لا يتوقف وجوبه على شيء، كوجوب طاعة المولى.

الوجوب المشروط: هو ما يتوقف وجوبه على شيء، كالصلاة بشرط الطهارة، و الحج بشرط الاستطاعة، و الزكاة بشرط النصاب.

القسم السادس: الوجوب النفسي و الوجوب الغيري:

الوجوب النفسي: هو ما لم يكن الباعث على وجوبه و الداعي له توصل المكلف بسببه إلى تحصيل واجب آخر كالصوم.

الوجوب الغيري: هو ما كان الباعث على وجوبه و الداعي له توصل المكلف بسببه إلى تحصيل واجب آخر كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

ثانياً: الندب:

الندب لغة: هو الدعاء إلى أمر مهم.

اصطلاحاً: هو طلب الفعل مع عدم المنع من الترك لا إلى بدل. و يرادفه عند الفقهاء الاستحباب و النافلة و النفل و التطوع، و قد يطلق كذلك على السنة، و لا يرد بالواجب الكفائي أو التخييري.

ص:83

ثالثاً: الحرام:

و الحرمة لغة: هي المنع و المعصية.

و اصطلاحاً: طلب الترك مع المنع من الفعل. و يرادفها عند الفقهاء الخطر و الحظر، و يطلق المحرم على المزجور عنه و المعصية و الذنب و المنهي عنه و القبيح و المتوعد عليه.

رابعاً: الكراهة:

الكراهة لغة: ضد الحب، و الشدة في الحرب يقال للحرب الكريهة.

و اصطلاحاً: طلب الترك مع جواز الفعل، و قد تطلق الكراهة على ما يعم الحرمة فيقال كراهة تحريم و كراهة تنزيه، و قد تطلق الكراهة بمعنى ترك الأولى و الأقل ثواباً، و بهذا يندفع الإشكال المعروف في العبادات المكروهة و حاصله إن من العبادة ما هي مكروهة كالصلاة في الحمام.

خامساً: الإباحة:

الإباحة لغة: هي الإعلان و الإظهار و الإذن، و منه أباح فلان سره، و يقال أبحتُ له الدار أي أذنتُ له بها.

و اصطلاحاً: هو جواز الفعل و الترك على حد سواء، و يستعمل بمعناها الجواز و الحل و الإطلاق، فيقال هذا الشيء مطلق و حلال و جائز، و قد تستعمل الإباحة بمعنى أعم و هو ما ليس بمحرم.

ثانياً: الحكم الوضعي الشرعي:
اشارة

الحكم الوضعي: هو الاعتبار الشرعي الذي لا يتضمن الاقتضاء و التخيير كاعتبار الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً لشيءٍ آخر.

أولاً: السببية:

السبب في اللغة: هو ما يمكن التوصل به إلى مقصود.

و اصطلاحاً: و هو جعل وصف ظاهر منضبط مناطاً لوجود حكم الشارع مثل وجوب الجلد على الزاني.

ص:84

و تنقسم السببية إلى قسمين: وقتية و معنوية، و الوقتية كزوال الشمس في وجوب الصلاة، و المعنوية كالإسكار للتحريم، و كأسباب الملك و الضمان و العقوبات.

ثانياً: الشرطية:

الحكم على الوصف بكونه شرطاً للحكم، و مثاله شرط التسليم في صحة البيع و هو إباحة الانتفاع، و شرط الطهارة لصحة وجوب الصلاة.

و الفرق بين الشرط و العلة:

إن الشرط هو ما يكون وجود الغير أو تأثيره متوقفاً فيه من غير أن يكون له مدخل في التأثير، فيخرج العلة و جزءها. و لا يلزم من وجوده وجود المشروط بل يلزم من عدمه عدم المشروط.

ثالثاً: المانعية:

هو الحكم على الوصف بكونه مانعاً، و هو منقسم إلى أمرين:

الأمر الأول: مانع السبب و هو كل وصف مخل وجوده بحكمة السبب كالدين في باب الزكاة مع ملك النصاب.

الأمر الثاني: مانع للحكم و هو كل وصف وجودي ظاهر منضبط يقتضي نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب كالأبوة في القصاص مع قتل العمد و العدوان، و اعتبار القتل مانعاً من الإرث لقوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (لا يرث القاتل شيئاً).

الدليل على حصر الأحكام بهذه الخمسة:

إن الحكم إذا تعلق بالفعل إما أن يكون طلباً للفعل أو لا، و على الأول أما أن يكون مع المنع عن الترك فهو الوجوب أو لا، فهو الندب، و على الثاني أما أن يكون طلباً للترك أو لا، و على الثاني فهو الإباحة، و على الأول أما أن يكون مع المانع من الفعل فهو الحرمة أو لا فهو الكراهة.

ص:85

المبحث الثاني: عناصر الحكم الشرعي

أولاً: الحاكم:

اتفق علماء الإسلام على أن الله عزَّ و جل هو الحاكم و المشرع للأحكام الشرعية و هو يثيب و يعاقب عليها، و بعث الرسل و أنزل الكتب لتعريفها للعباد قال الله سبحانه و تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ و ما من تصرف من تصرفات الإنسان إلا و له حكم خاص به حُدّد من الله فلكل واقعة حكم، و لكن وقع النزاع بينهم في أنه هل للعقل أن يعرف الحكم الإلهي الشرعي بنفسه بحيث يثاب عليه أو يعاقب من قبل الله تعالى من غير تبليغ الرسل و الكتاب المنزّل ؟.

ص:86

فالمعتزلة و العدلية ذهبوا إلى إمكان ذلك، فقالوا: إنه يمكن للعقل أن يستقل بإدراك حكم الله في الواقعة بحيث لله أن يثيب على فعلها أو يعاقب على تركها من دون تبليغ منه برسله أو كتبه كحرمة الظلم و وجوب رد الوديعة و حرمة قتل النفس المحرمة و نحو ذلك. نعم، إذا عجز العقل عن الإدراك كشف له الشارع حكمه في الواقعة بأمره أو نهيه كما في الصلاة و أكل الربا و مصدر حكم العقل عندهم هو حكم العقل بالتحسين و التقبيح لما في الفعل من مصلحة و مفسدة و منفعة و مضرة، و إن الله يحكم حسب حكم العقل لأن الله لا يريد إلاَّ مصلحة العباد و سعادتهم.

و ذهب الأشاعرة إلى أن العقل لا يستطيع معرفة حكم الله تعالى إلاَّ بالرسل المرسلة و الكتب المنزلة، و إن الحاكم بالتحسين و التقبيح هو الله لا العقل فما أمر الله تعالى به فهو حسن و ما نهى عنه فهو قبيح فلا تكليف إلاَّ من الشرع.

و أما الشروط التي ترجع إلى الحاكم فهي:

أولاً: علمه بصفات الفعل الذي يكلف بفعله أو تركه من كونه حسناً أو قبيحاً لئلا يكلّف بما هو خلاف مصلحة المأمور به فيأمر بالقبح و ينهى عن الحسن.

ثانياً: علمه بقدر ما يستحقه العبد على المكلف به من الثواب و العقاب، و إلاَّ لم يؤمن أن يوصل إليه بعض ثواب أو أكثر من عقابه فلا يحسن التكليف و ربما يحصل الظلم.

ثالثاً: كونه غير فاعل للقبيح لئلا يكلف بما لا يطاق و لئلا يخل بالوعد بالثواب و الوعيد بالعقاب.

رابعاً: قدرته على إيصال المستحق و إلاَّ لزم الظلم.

ثانياً: المحكوم عليه (المكلَّف):

المحكوم عليه هو من ثَبُتَ الحكم الشرعي في حقه، أي المكلف و هو البالغ العاقل لأنه ببلوغه هذه المرتبة قد وضع الشارع التكاليف عليه و ألزمه بما فيه الكلفة من واجبات و محرمات.

و يعتبر البلوغ و العقل شرطا تكليفاً، أي لتوجه الخطاب للمكلف، بينما القدرة و العلم هما شرطا امتثال، فإن الإنسان بمجرد أن يكون بالغاً عاقلاً و لو لم يكن قادراً

ص:87

يتحقق في حقه التكليف و لو ببعض الأصول الاعتقادية بعقله و إدراكه فيكون متصفاً بثبوت الكلفة عليه، و يتحقق ثبوت جنس التكليف في حقه فيكون مكلفاً لأنه بمجرد ذلك يتمكن من امتثالها.

أما شروط المحكوم عليه و المكلَّف (بالفتح) فهي:

1 - قدرته على الفعل المطلوب منه.

2 - علمه بالفعل المطلوب منه بحيث يمكن تمييزه و معرفته و تشخيصه عما عداه.

3 - العقل.

4 - الاختيار.

5 - عدم الغفلة، و لا يلزم في مقام الامتثال استمرار الالتفات إلى التكليف حتى في العبادات.

6 - البلوغ.

ثالثاً: المحكوم به:

المحكوم به: هو الفعل الذي تعلّق الحكم به اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً. و قد يسمى موضوع الحكم و متعلق الحكم و المحكوم فيه.

و المحكوم به قد يكون مقدوراً بالذات كفعل الصلاة، و قد يكون مقدوراً بالواسطة كالطهارة فإنها مقدورة بالوضوء أو الغسل أو التيمم. و قد يكون غير مقدور أصلاً كدلوك الشمس فإنه قد حكم الشارع بكونه سبباً لوجوب الصلاة، فإن بعض الأحكام الوضعية تكون غير مقدور عليها.

نعم، جميع الأحكام التكليفية يجب أن يكون المحكوم به مقدوراً إمّا بالذات أو بالواسطة.

و قد قسّم الفقهاء (المحكوم به) إلى ما هو حقوق لله خالصة له، و إلى ما هو حقوق للناس خالصة لهم، و إلى ما هو مشتركة بين حقوق الله و حقوق الناس.

و أما شروط المحكوم به و المكلف به فهي:

1 - إمكان الفعل المطلوب.

ص:88

2 - ما يستحق به الثواب كالواجب و المندوب و ترك المكروه، أو مما يستحق به العقاب، فلا بد من ثبوت صفة في العمل المطلوب زائدة على حسنه و إلاَّ كان مباحاً و الإباحة ألحقت بالتكاليف من باب التغليب.

المبحث الثالث: الشروط العامة للتكاليف

الشرط الأول: العقل:

و هو القوة التي يدير بها الإنسان أموره و يدبر بها شئونه على الوجه الصحيح و يميز بها الحسن عن القبح، فلو كان مجنوناً لم يتعلق به التكليف لأن التكليف خطاب، و خطاب من لا عقل له قبيح، روي في الحديث الشريف: (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم أو في بعض النسخ حتى يبلغ - و عن النائم حتى يستيقظ و عن المجنون حتى يفيق).

و في صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: اقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: و عزتي و جلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك و لا أكملتك إلاَّ فيمن أحب، أما إني إياك آمر و إياك أنهي و إياك أعاقب و إياك أنيب).

الشرط الثاني: القدرة:

و هي القوة على الفعل و الترك بحيث إن شاء فعل و إن شاء ترك، و يقابلهما العجز. و دليل اشتراطها قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ، بقبح التكليف بغير المقدور.

الشرط الثالث: البلوغ:

اشارة

إن التكاليف غير الإلزامية كالاستحباب و الكراهة لا يشترط فيها البلوغ و إنما هو شرط لخصوص الوجوب و الحرمة. و أما حديث (رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم) فإن الظاهر هو رفع الأحكام الإلزامية دون غيرها لأن الحديث في مورد الامتنان و لا منّة في رفع الأحكام غير الإلزامية، كما عدم اشتراط البلوغ في الأحكام الوضعية، فإن الطهارة و المواريث و الضمان و الديات و الغصب تثبت للصبي كالبالغ، فقوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) و (من حاز شيئاً مباحاً فقد ملكه) أو (من

ص:89

أتلف مالاً ضمنه) و نحو ذلك فهي عامة للصبي كالبالغ. أما الأحكام التكليفية فهي للبالغ فقط.

ماهية البلوغ و علاماته:

البلوغ عبارة عن مرتبة و قوة باطنية و استعداد معنوي في الإنسان ينتقل به من مرحلة الطفولة إلى حد الكمال و الرجولة، و يبلغ الذكر في قابليته على الوطء بشهوة، و تبلغ الأنثى في قابليتها على الموطوئية بشهوة و حيث كان البلوغ أمراً باطنياً جعل الشارع علامات ظاهرية:

1 - الاحتلام: قال الله تعالى: وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا .

2 - نباتُ الشعر الخشن على العانة: التي هي عبارة عمّا حول الذكر و الفرج مما يعلم به البلوغ، و لا عبرة بالشعر الضعيف الذي قد يوجد على العانة في حال الصغر المسمى بالزغب.

3 - السن: و هو بمضي خمس عشرة سنة قمرية للذكر و بمضي تسع سنين للأنثى.

4 - الحيض: و هو الدم النازل بعد تسع سنين.

5 - الحمل.

الشرط الرابع: العلم:

إن التكليف مشروط بفهم المكلّف و علمه بما كلّف به لحديث الرفع (رفع عن أمتي ما لا يعلمون)، أما تكليف ما لا يعلم و لا يفهم فهو تكليف بما لا يطاق، و لقبح العقاب بلا بيان، و لو لم يكن العلم شرطاً للتكليف لكلفة البهائم، و روي (ما حجب الله علمه عن العباد هو موضوع عنهم).

الشرط الخامس: عدم ما يفقد به الإنسان شعوره:

كالإغماء و النوم و السكر فإنه حال وجودها لا يصح التكليف لعدم قدرته على العمل فتكليفه تكليف بما لا يطاق و للروايات بعدم وجوب قضاء ما فات للمغمى عليه، فإن كل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر. نعم، لو كان الإغماء بتعمد وجب عليه القضاء.

ص:90

الشرط السادس: وجود المكلف:

وجود المكلّف لاستحالة تكليف المعدوم، فإذا كان تكليف الجمادات و النباتات و الحيوانات قبيحاً كان تكليف المعدوم قبيحاً بطريق أولى.

و ذهبت الأشاعرة إلى القول بجواز تكليف المعدوم بل أنه لا تكليف شرعاً عندهم إلاَّ للمعدوم لقدم التكليف عندهم بقدم ما به التكليف و هو الكلام النفسي.

الشرط السابع: الإسلام و الإيمان:

اشترط بعض الفقهاء في التكاليف الإسلام فقط و الآخر اشترط الإيمان، و لكن المشهور عند الإمامية عدم اشتراطهما لأن الكفّار مكلفون و مخاطبون بالفروع و الأصول.

نعم اشتراط الإسلام و الإيمان في صحة قبول العبادات فيما عدا الصدقة و الوقف و العتق لأن الكافر لا تتحقق منه نية القربة و العبادة لا تصح إلاَّ بنية القربة.

الشرط الثامن: أن يكون المكلّف به محل ابتلاء:

أشهر شرائط التكليف أربعة: البلوغ و العقل و القدرة و العلم، و من الفقهاء من فرّق بين شرط في أصل التكليف و فعليته. و من الشروط الفعلية كونه محل للابتلاء، و المراد به كونه محلاً للابتلاء أنه لو صار المكلف بصدد فعله أو تركه احتاج إلى داعٍ يدعوه إلى ذلك، فلو كان المورد مما لا يحتاج إلى ذلك فهو مما لا ابتلاء به، و لا يتحقق لهذا العنوان مورد إلاَّ في صورة الترك، فيختص هذا الشرط بالنواهي، لأن الآمر إذا تعلّق بشيء كان هو بنفسه سبباً لكون فعل ذلك الشيء محلاً للابتلاء،

و الذي يعرض الابتلاء مما يكون يحسن عقلاً و عرفاً معه نسبة الترك فلا يعد القول (تركت الصعود إلى السماء) ترك لمحل الابتلاء، أو لا يكون ابتلاء بالنسبة إليه كترك تزويج بنت السلطان و هو من أذناب الرعية، كما أنه لا يكلف الشخص بترك الزنا و هو في بادية لا أنس فيها و لا جان، فإن التكليف بذلك غير مُنَجَّزٍ عليه.

ص:91

الشرط التاسع: عدم الحرج:

يشترط في الحكم الشرعي عدم الضيق و الحرج لقوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ و قوله تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ . و ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون)، و قوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (بعثت بالحنفية السهلة السمحاء).

إن أدلة الحرج تقدم على أدلة الأحكام التكليفية و الأحكام الوضعية فلو كان الحكم بالنجاسة موجباً للعسر في حق العباد كانت قاعدة العسر نافية له، و كذا إذا فرض حرج في تحصيل مقدار النفقة الواجبة لم تجب.

الشرط العاشر: الاختيار و عدم الإكراه و الاضطرار:

إن الفرق بين الفعل الاختياري و الفعل المكره عليه أنَّ الأول كانت الإرادة حرة مستقلة غير مسببة عن إرادة غيره بتوعيد بالضرر و تخويفه و ترهيبه.

و أما الإكراه فإن الإرادة غير حرة و منبعثة عن إرادة غيره، و أما الاضطرار و الإلجاء فهو عبارة عن سلب الإرادة و الاختيار و يكون وجود الفعل ليس بيده و لا تحت تصرفه أصلاً بل يكون الفاعل بمنزلة الآلة الصماء بيد عاملها.

ص:92

الفصل الخامس: مصادر الشريعة الإسلامية

اشارة

تنقسم مصادر الشريعة الإسلامية إلى قسمين:

القسم الأول: الأدلة الاجتهادية:

اشارة

و هي الكتاب العزيز و السنة النبوية و الإجماع و العقل.

أولاً: الكتاب العزيز

اشارة

هو القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على نبينا محمد (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و اعتبره قرآناً.

شرح التعريف: قيّد التعريف بعبارة (و اعتبره قرآناً) لإخراج الحديث القدسي فإنه و إن نسب إلى الله إلاَّ أنه لا يعتبر قرآناً، و لإخراج السنة الشريفة فإن أحاديث الرسول (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و إن كانت من الله تعالى لتصريح القرآن بذلك في قوله تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى إلاَّ أنها ليست بقرآن. و بقيد (اعتبره قرآناً) لإخراج تفسير القرآن و ترجمته فانهما لا تعتبران قرآناً لعدم توافرهما على الألفاظ و الأسلوب الذين نزل بهما القرآن.

و على هذا لا يعد الاستدلال بتفسير القرآن و ترجمته استدلالاً بالقرآن، و القرآن المتناول بيننا لم ينقص منه شيء لثبوت ذلك بقوله تعالى: نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ و نقله بالتواتر، و لا خلاف بين المسلمين في حجيته.

و القرآن الكريم هو المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي، و الدستور من ربِّ العالمين أنزله على الرسول الأمين لفترة 23 سنة، و قد اشتمل على أغلب القواعد الفقهية، و روعي فيه بيان الأحكام الشرعية ممزوجة بالوعظ و الإرشاد و الوعد الوعيد، و قصص الأنبياء الصالحين و ما ناله الكفار المخالفين من العذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة لتقوية الضمير في الطاعة و البعد عن المعصية.

ص:93

و القرآن قطعي الصدور لتواتر نقله عند المسلمين من حين نزوله حتى الوقت الحاضر، و إما من حيث الدلالة فقد يكون قطعياً إذا كان اللفظ لا يحتمل فيه إلاَّ معنى واحد كنصوصه، و قد تكون دلالته ظنية إذا كان اللفظ يحتمل أكثر من معنى واحد كظواهره.

و لقد كانت الآيات المكية تبعث نحو تكوين العقيدة و الأخلاق الكريمة، و لهذا تجد فيها القصر و الإيجاز ليسهل على القارئ و المستمع وعيها و تفهمها، بخلاف الآيات المدنية فإنها كانت تبعث نحو تفهم الأحكام الشرعية، فيها الطول لاحتياج شرح الحكم و بيان حدوده إلى البسط و التوضيح، و قد ذكروا أن مجموع آيات الأحكام (500) آية و إن الباقي منها تتعلق بالعقائد الدينية و الأخلاق الحميدة و القصص التي فيها الموعظة الحسنة و الأمثال المتنوعة التي ترشدنا لما فيه الخير و الصلاح و السعادة و الفلاح، و تنقسم آياته إلى قسمين:

القسم الأول: آيات مُحكمة، و تنقسم إلى نص و ظاهر، و هي الحجة فيه.

و القسم الثاني: آيات متشابهة، و تنقسم إلى مجمل و مؤول.

و المراد بالنص: هو ما دلَّ على المراد من غير احتمال، و يقابله المجمل.

و المجمل: ما لا يعرف معناه

و الظاهر: هو ما دلَّ على أحد محتملاته دلالة راجحة، و يقابله المؤول.

و المؤول: هو الذي أراد به المتكلم خلاف ظاهره.

و اتفق الفقهاء في عدم جواز الأخذ بالمتشابه و المجمل و المؤول من دون الرجوعإلى أهل الذكر.

و أما النص و الظاهر فالمحكي عن المجتهدين الأصوليين كافة جواز الأخذ بهما ما عدا الأخباريين، حيث منعوا من التمسك بالكتاب مطلقاً إلاَّ ما روي تفسيره عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام).

ص:94

أدلة المانعين (الأخباريين):

1 - بما ورد من الروايات في المنع و النهي عن تفسير القرآن بالرأي، مثل الحديث النبوي: (من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)، و في الحديث القدسي: (ما آمن بي من فسر كلامي برأيه).

و الجواب: إن أخبار المنع من تفسير القرآن بغير نص و أثر فيجب حملها على المتشابهات منه دون المحكمات، أما منع دلالتها على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة فليس المراد منها ذلك.

2 - ذكرت الروايات في معرفة الآيات بسؤال أهل الذكر (عليهم السلام).

و الجواب: إن الأخبار الدالة على تخصيص أهل الذكر (عليهم السلام) بعلمه دون غيرهم فإنها أيضاً محمولة على المتشابهات منه، و على علم مجموع آياته.

3 - طرد التقيد و التخصيص و التجوز في أكثر القرآن و ظواهره فأوجب فيه الإجمال.

و الجواب: إن هذا واقع في القرآن و لكن يوجب الفحص دون سقوط حجيته و ظاهره. نعم، انعقد الإجماع إن جلَّ آيات الأصول و الفروع مما تعلق الحكم فيها بأمور مجملة لا يمكن العمل بها إلاَّ بعد أخذ تفصيلها من الأخبار و هذه إن تمَّت فهي بالعبادات.

ص:95

و أما المعاملات فالإطلاقات الواردة في الآيات مما يتمسك بها مثل قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، و تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ، و ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ و غيرها.

أدلة المجيزين (الأصوليين):
أولاً: الاستدلال بالآيات القرآنية:

أ - قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ ، حيث ذمَّ الله تعالى على اتباع المتشابه دون المحكم.

ب - قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ، حيث ذمَّ على ترك تدبره، و لا ريب أن المراد بذلك الحث على العمل بمقتضاه إذ التدبر إنما يكون مطلوباً من أجل العمل بغايته.

ج - قوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ حيث مَنَّ عليهم لكونه بلسانهم و لا يكون ذلك منَّةً عليهم إلاَّ لاستفادتهم به و هي العمل به.

د - قوله تعالى: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ .

ثانياً: الأخبار (الروايات) الشريفة:

1 - الأخبار التي أمرت بالرجوع إلى الكتاب الكريم و الأخذ بالقرآن على إطلاقها، و قد خرج منها المتشابه بالإجماع فبقيت الآيات المحكمة.

2 - استدلالات الأئمة (عليهم السلام) على خصومهم و في بيان الأحكام بالآيات

القرآنية، عند ما سُئل الإمام عن انقطاع ظفر السائل و وضع المرارة عليه كيفية الوضوء، قال (عليه السلام): (تعرف هذا و أشباهه من كتاب الله، قال تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ امسح عليه).

ص:96

3 - و تقرير الأئمة (عليهم السلام) لأصحابهم بالاستدلال بالقرآن الكريم، و السيرة المستمرة بين المسلمين على التمسك به من زمن الرسول (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) إلى زمن الصحابة و التابعين و السلف الصالحين و ثقاة رواة المعصومين بلا رادع من أحد منهم.

4 - ما ورد عن الصديقة الطاهرة في خطبتها قولها (عليها السلام): (لله عهد قدمه إليكم و بقية استخلفه عليكم كتاب الله بينة بصائره و آي منكشفة سرائره و برهان متجليّة ظواهره).

5 - ما روي من خبر: (إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا)، فإن ظهوره في جواز التمسك بكل منهما مستقلاً عن الآخر بما لا ينكره إلاَّ مكابر.

6 - ما روي في الأخبار العلاجية عند التعارض بين الأخبار، قوله (عليه السلام): (أعرضوه على كتاب الله فما خالف كتاب الله فهو زخرف).

7 - و قوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (إذا التبست عليكم الفتن كالليل المظلم فعليكم بالقرآن)، و قوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (القرآن هدى من الضلالة).

ثالثاً: العقل:

إن المحكم إما نص و هو لا يحتمل الخلاف، و إما ظاهر، و الحكيم في مقام البيان و التفهيم لا يتكلم بما يريد خلاف ظاهره و إلاَّ يلزم الإغراء بالجهل.

نعم، لا يجوز التمسك بالمتشابه منه و هو الذي ليس بنص و لا له ظاهر من دون دليل و لا شاهد على المراد منه بل مجرد رأي و استحسان ما أنزل الله به من سلطان.

ثانياً: السنة الشريفة

تعريف السنة:

السنة لغة: هي الطريقة، و عند علماء الحديث و أهل السير و التاريخ هو كل ما يتعلق بالرسول الأعظم (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) من سيرة و خلق و أخبار و أقوال و أفعال سواء أثبتت حكماً شرعياً أم لا.

و السنة عند الفقهاء: هو العمل الواقع من المعصوم (عليه السلام) و لم يكن فرضاً واجباً.

ص:97

و عند علماء أصول الفقه: هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره.

فالسنة تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: تسمى بالسنة القولية: سواء أ كانت لفظاً أو كتابة أم إشارة كالأحاديث التي تلفّظ بها الرسول (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) مثل قوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (الأعمال بالنيات)، و (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام).

النوع الثاني: تسمى بالسنة الفعلية: و هي الأفعال التي صدرت من المعصوم يقصد بها بيان التشريع كصلاته و وضوئه، أو تركه باعتبار أن الترك يُأوّل إلى الكف و هو فعل، فإن تركه للأذان و الإقامة في النوافل دليل على عدم وجوبهما في النوافل، و أما الأفعال التي تكون من خصائص المعصوم كالزواج بأكثر من أربعة فلا يعتبر سنة لنا.

النوع الثالث: تسمى بالسنة التقريرية: و هي تقرير المعصوم لما يصدر عن غيره بسكوت أو موافقة أو استحسان مع تمكنه من الردع سواء أ كان في حضور المعصوم أم في غيبته و علم به و لم يردع عنه.

حجية السنة:

لا أشكال في حجية السنة لأنها صادرة عن المعصوم عن الخطأ، و قد قام الإجماع و ضرورة الدين على حجيتها، و وجوب العمل بمؤداها, و لا خلاف بين علماء المسلمين قاطبة بأن السنة الشريفة تُعتبر المصدر الثاني بعد القرآن الكريم لقوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فإذا كانت السنة بياناً فهي تالية لما جاءت بياناً له و هو القرآن.

مصاديق السنة:

يرى فقهاء أهل السنة أن المعصوم هو خصوص النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و الشيعة الإمامية يرون أن النبي و الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) من بعده و سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) كلهم معصومون من الخطأ و الغلط في بيان الأحكام الشرعية.

ص:98

الفرق بين السنة و الحديث و الخبر:

قد تطلق السنة على قول المعصوم أو فعله أو تقريره أو الحاكي عن تلك الأمور، فيكون معناها أعم من المعنى الأول.

و الحديث لغة الخبر و هما مترادفان فإن كليهما في اللغة بمعنى الإعلام.

و الحديث اصطلاحاً: ما يحكي السنة من قول المعصوم أو فعله أو تركه أو تقريره، و النسبة بين السنة و الحديث عموم من وجه يجتمعان فيما لو نقل النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) قول نفسه بأن قال قلت: (لا ضرر و لا ضرار) أو نقل إمام معصوم قول إمام معصوم آخر أو فعله أو تقريره، فإنه من حيث أنه قوله (عليه السلام) يكون سنة و من حيث أنه حاكي عن النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) أو عن إمام آخر معصوم يكون حديثاً.

و أما مادة الافتراق كقول الصحابي إن المعصوم فعل كذا فإنه حديث ناقل للسنة، كما أن نفس قول المعصوم أو فعله سنة و ليس بحديث.

و أما الحديث القدسي (عبارة عن مواعظ يحكيها الرسول (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) عن ربه مثل قوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) الصوم لي و أنا أجزي به) و الفرق بينه و بين القرآن الكريم ان القرآن هو المنزَل للتحدي و الإعجاز بخلاف الحديث القدسي.

و أما الأثر هو أعم من الخبر و الحديث فيقال لكلٍ منهما أثر.

و إذا أطلق الأصوليين لفظ متن الحديث فمرادهم خصوص اللفظ الحاكي للسنة، و إذا أطلقوا لفظ سند الحديث فمرادهم طريق متن الحديث أي جملة رواته، و إذا أطلقوا لفظ الإسناد فمرادهم رفع الحديث لقائله.

شرائط العمل بالسنة:

1 - أن تكون جهة صدورها هو بيان الحكم الواقعي لا جهة أخرى كالتقية، و مع الشك فالأصل لبيان الواقع و هذا الأصل عليه بناء العقلاء في محاوراتهم.

2 - أن نعمل بها بعد الفحص عن عدم المعارض و عدم المخصص و المقيد لها، و عدم وجود قرينة حالية أو مقالية.

علاقة السنة بالقرآن:

تقسم الأحاديث الشريفة على أساس علاقتها بالقرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام هي:

ص:99

1 - القسم الأول السنة المؤكدة تأتي موافقة للكتاب و من هذا القبيل قوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) فإنه يوافق قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ .

2 - القسم الثاني السنة المبينة و هي الموضحة لما أجمله القرآن الكريم مثل مخصصة للعام أو مقيدة للمطلق مثل الأحاديث الواردة في بيان عدد ركعات الصلاة و مقدار الزكاة في المال و غيرها.

3 - القسم الثلث السنة المؤسسة فهي تدل على حكم قد سكت عنه القرآن

الكريم مثل قوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

أقسام الخبر:

إن الخبر الحاكي للسنة إن كان رواته متصلين واحداً عن واحد بأسمائهم سماه الفقهاء بالحديث المسند أو المتصل السند، و إن كان رواته منقطعين بمعنى أنه في سلسلة لم يذكر أو عبر عنه بلفظ مبهم كأن يقول عن رجل أو عن بعض أصحابنا سماه الفقهاء بالخبر المرسل أو المنقطع.

الخبر المسند:

و ينقسم إلى ثلاثة أنواع:

1 - المتواتر: و هو ما رواه جماعة كثيرة يمنع بحسب العادة تواطئهم على الكذب من زمن المعصوم (عليه السلام) حتى وصل إلينا، و يعتبر ذلك في جميع الطبقات و لو تعددت و هو على قسمين:

القسم الأول: التواتر اللفظي: و هو ما يفيد القطع بصدور هذا اللفظ من المعصوم (عليه السلام), و مثاله قوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (من كذّب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) أو كقوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) (إنما الأعمال بالنيات).

القسم الثاني: التواتر المعنوي: و هو ما يفيد القطع بصدور مضمونه كشجاعة علي (عليه السلام)، و المتواتر حجة بقسميه لإفادته القطع و اليقين.

ص:100

2 - الخبر المشهور: و يسمى المستفيض و هو ما رواه جماعة عن المعصوم ما يفوقون الثلاثة مع عدم بلوغهم حد التواتر، و الأغلب على حجيته حتى أنهم يخصصون عموم القرآن به و يقيدونه.

3 - خبر الواحد أو الآحاد: و هو من لم تبلغ رواته حد التواتر و لو في طبقة من طبقاته، و كثير من الفقهاء جعل الخبر الواحد و الخبر المستفيض أو المشهور قسماً واحداً، و يجعل الخبر المشهور من الخبر الواحد فيكون تقسيم الخبر المسند إلى خبر

متواتر و خبر آحاد.

تقسيم الأصوليين الخبر الواحد إلى أربعة أقسام:

1 - الصحيح: و هو ما كان مسنداً تتصل رواته بالمعصوم و كلهم عدول.

2 - الحسن: و هو ما كان رواته ممدوحين بمدح لم يبلغ التصريح بالعدالة كلهم أو كانوا عدول، و لكن فيهم واحد ممدوح لم يصرّح بعدالته.

3 - الموثوق: و هو ما كان رواته مأمونين من الكذب بأجمعهم أو واحد منهم و كان الباقون عدولاً.

4 - الضعيف: هو ما لم يحرز كون رواته ممن لا يكذبون، و يدخل فيه المرسل.

حجية الأخبار:

لا ريب في حجية الخبر المتواتر و الخبر المفيد للقطع و لو بمعونة القرائن الخارجية، و إنما وقع الكلام بالخبر الآحاد و إمكان التعبد به شرعاً، فتارة يكون من باب حجية مطلق الظن في الأحكام الشرعية لدليل الانسداد فلا يكون خبر الواحد على هذا حجة بنفسه بل من باب إفادته الظن، و تارة يكون حجة من باب التعبدية حتى لو كان مطلق الظن ليس بحجة.

و من الفقهاء من أنكر حجية الخبر الواحد و نسب هذا القول إلى بَعضِ فقهاء الشيعة كالمرتضى و ابن زهرة و ابن البراج و ابن إدريس و الطبرسي، و عن الوافية أنه لم يجد القول بالحجية صريحاً ممن تقدم على العلامة الحلي.

ص:101

و الأخباريون عوّلوا على ما في الكتب الأربعة و هي الكافي، و من لا يحضره الفقيه، و الاستبصار، و التهذيب.

و اختلف الأخباريون بينهم إلى أقوال:

1 - منهم من قال بحجية أخبار الكتب الأربعة و إن لم تفد القطع بالصدور فهي تفيد قطعية الاعتبار.

2 - منهم من استثنى ما كان منها مخالف للمشهور فهو غير معتبر كما هو المحكي عن النراقي.

3 - منهم من قال إن حجية أخبار الكتب الأربعة خصوصاً التي عمل بها الأصحاب، و ينسب هذا القول إلى المحقق الحلي.

4 - و منهم من قال: بأن الحجة هو خصوص من كان رواته عدولاً أو ثقاة.

ص:102

حجية خبر الواحد عن أهل السنة:

اشترط الحنفية في حجية الخبر الواحد أن يكون موافقاً للقياس و أن لا يكون في الوقائع التي تعم بها البلوى و لا فيما يتكرر وقوعه لأنه لو كان فيها لاشتهر أو تواتر، و المالكي اشترط في حجيته أن يكون موافقاً لما عليه أهل المدينة المنورة.

و اشترط الشافعي أن يكون رواته ثقاة معروفين بالصدق عاقلين لما يحدثون به و الخبر متصل السند.

صفات الراوي:

1 - العقل فلا تقبل رواية المجنون.

2 - البلوغ عند الأداء لا التحمل.

3 - الإسلام حال الرواية لا التحمل.

4 - الضبط بأن لا يكون النسيان و السهو و الغفلة تغلب عليه بحيث تكون أكثر من ذكره أو مساوية له.

5 - العدالة بمعنى الوثاقة بأن يكون الراوي متحرّزاً عن الكذب.

علم الدراية:

و هو علم يُبحث فيه عن سند الحديث و متنه و كيفية تحمله و آداب نقله

علم الرجال (علم الجرح و التعديل):

هو العلم الذي يبحث فيه عن أحوال رواة الحديث و أوصافهم التي لها دخل في جواز قبول قولهم و عدمه.

و يحتاج إلى هذا العلم لاستنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التي عمدتها الأحاديث المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) حيث لا بد من النظر في أحوال رجال سند الحديث، و يطمئن بأنهم ممن يصح التعويل عليهم، لكثرة الأحاديث الموضوعة.

ص:103

و أول من صنّف في علم الرجال هو عبد الله بن جبلة بن أبحر البجلي (ت: 219 ه)، و أقدم كتاب للشيعة في علم الرجال هو لأحمد بن محمد بن خالد البرقي (ت: 274 ه) و لأهل السنة طبقات ابن سعد (ت: 230 ه).

و الكتب المعتمدة عند الإمامية في علم الرجال هي:

1 - رجال الكشي و اسمه (معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين) ألفه الشيخ أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي (ت: 340 ه).

2 - الفهرست ألّفه الشيخ الطوسي.

3 - رجال الطوسي المسمى (الأبواب) لأنه رتبه على أبواب، باب للرواة من الصحابة و باب للرواة عن كل إمام من الأئمة (عليهم السلام)، و آخر باب منه عقده لمن لم يروِ عنهم (عليهم السلام).

4 - رجال النجاشي لأبي العباس أحمد بن علي النجاشي (ت: 450 ه) و قد جعل للأسماء أبواباً على الحروف الهجائية و اسمه (فهرس أسماء مصنفي الشيعة).

و كانت هذه الكتب الرجالية الأربعة هي الأصول.

الفرق بين علم الرجال و علم الدراية:

إن علم الرجال يبحث عن سند الحديث و علم الدراية يبحث عن متن الحديث و سنده.

ثالثاً: الإجماع

تعريف الإجماع:

الإجماع لغة: هو ضم المتفرّق و اجتماعه و هو يقابل الاختلاف و التفريق.

الإجماع اصطلاحاً:

أولاً: عند أهل السنة: (هو اتفاق أهل الحل و العقد من أمة محمد

(صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) على أمر من الأمور الدينية)، و قيدوه بالدينية لإخراج الاتفاق في الأمور الغير شرعية كالعقليات و العرفيات. و عند مالك إجماع أهل المدينة، و عند داود الظاهري إجماع الصحابة فقط.

ص:104

ثانياً: الإجماع عند الإمامية هو: اتفاق جماعة من العلماء الكاشف عن رأي المعصوم سواء أ كان العلم من جهة اشتمال المجمعين عليه من دون تشخيصه، أم من جهة الحدس لأن العادة قاضية بأن أصحاب الشخص إذا اتفقوا على شيء فهو لا بد من أن يكون قائلاً به، أو من جهة قاعدة اللطف فإنها تقتضي ردع الله الأمة لو اتفقت على الباطل، فإن من أعظم الألطاف من الله الواجبة إظهار كلمة الحق على لسان داعٍ يدعو لها لأنه إذ ذاك ينكشف به الواقع.

و أما إذا لم يكشف الإجماع عن رأي المعصوم فلا دليل على حجيته، فلو وجد مع الإجماع آية أو رواية احتمل أن فتوى المجمعين كانت مستندة له فيسقط الإجماع عن الحجية عند الإمامية لأنه حينئذٍ لم يكشف عن رأي المعصوم.

حجية الإجماع:

إن قوام الإجماع هو أن يكشف عن رأي المعصوم، فمتى ما كان المعصوم أحد المجمعين على الحكم كان هذا الاتفاق اجماعاً شرعياً، و متى لم يعلم بذلك لا يعد هذا النوع من الاتفاق اجماعاً شرعياً، و على هذا فعلاقة الإجماع بالسنة الشريفة باعتباره كاشف عن رأي المعصوم يكون موصلاً إلى السنة إلاَّ أن الفرق بين السنة الشريفة و الإجماع بأن السنة الشريفة طريق لفظي و الإجماع طريق غير لفظي.

حصول الإجماع:

إن لحصول الإجماع طرقاً ثلاثة:

الطريق الأول: المنسوب للمتقدمين من علماء السنة و الشيعة من أن الإجماع اتفاق الكل، و عند الشيعة دخول المعصوم فيه شرطٌ فهو يخبر عن المعصوم في نقل السنة، و إن العلم بهذا الإجماع لا يحصل إلاَّ بأمور:

أحدها: الحدس، بأن يطلع على جملة من فتاوى العلماء المتبحرين فيحدس من ذلك موافقة الباقين لهم لاعتقاده بعدم معقولية المخالفة لهم كما يقال علماء النحو مجمعون على أن الفاعل مرفوع مع عدم الاطلاع إلاَّ على بعض فحول علمائهم.

ثانيها: الحس بالاستقراء لجميع الفقهاء ضرورة عدم حصول العلم بالكل.

ص:105

الطريق الثاني: هو اتفاق جميع العلماء غير المعصوم منهم على حكم مع فقد الكتاب العزيز و السنة الشريفة عليه فيفارق الطريق الأول بخروج المعصوم بأن قول المعصوم على المسلك الأول مدلول تضمني دون هذا المسلك.

إن حجية الإجماع من جهة كشفه عن رأي المعصوم اللطف، فإن العلماء إذا اتفقوا على حكم و لم يدل على خلافه آية محكمة أو سنة قاطعة و لم نعلم بمخالفة المعصوم منهم وجب القطع بكونهم على الحق و إلاَّ لوجب على المعصوم ردعهم إذ لو لا الردع لزم بقاؤهم على الضلالة و هذا منافي لقاعدة اللطف.

و هذا الإجماع لا يتم إلاَّ عند الإمامية الذين يقولون بأنه في كل عصر إلى يوم القيامة يوجد إمام إما ظاهراً أو مستوراً، لهذا الإجماع حجيته لوجوه:

الأول: قاعدة اللطف.

الثاني: إن سكوت الإمام مع وجوده يكون تقريراً لهم، و توضيح ذلك أنهم لما أجمعوا على مسألة ما فلا بد من اطلاع المعصوم على إجماعهم لأنه المتولي لشئونهم مع ذلك سكت و لم يمنعهم فيكون سكوته تقريراً لهم على ما أجمعوا عليه.

الثالث: للخبر المروي: (إن المجمع عليه لا ريب فيه).

الرابع: ما دلَّ من الأخبار من أن الأرض لا تخلو من حجة ينتفع به إن زاد المؤمنون شيئاً ردهم.

مورد الإجماع:

يقتصر مورد الإجماع على الحكم الشرعي، و عليه فالاتفاق المنعقد على غير الحكم الشرعي ليس إجماعاً عندهم و إن شاع عليه إطلاق الإجماع. نعم، هو حجة من كل أهل علم في مسائل ذلك العلم لأن أهل الفن لهم الخبرة بفنّهم و الرجوع إليهم من باب الرجوع لأهل الخبرة.

أقسام الإجماع:
اشارة

إن الإجماع باعتبار القول و عدمه ينقسم إلى قسمين:

أولهما: الإجماع القولي: و هو صدور الفتوى من جميع الفقهاء بالمسألة.

ص:106

ثانيهما: الإجماع العملي: و هو اتفاق الفقهاء على القيام بالعمل بهذا النحو كحجهم و صومهم بهذه الكيفية و يشمل السيرة.

1 - الإجماع المحصل و الإجماع المنقول:

و ينقسم الإجماع باعتبار تحصيله و نقله إلى قسمين:

الإجماع المحصل: و هو ما حصّله المدعي بنفسه و ذلك بأن يطلع على فتاوى المجتهدين واحداً واحداً و يجدها متفقة.

الإجماع المنقول: و هو ما نقله الغير مستدلاً به على مدعاه.

2 - الإجماع القولي و الإجماع السكوتي:

الإجماع القولي: هو عبارة عن تصريح العلماء بحكم واحد متفقين عليه.

الإجماع السكوتي: هو عبارة عن حكم بعض المجتهدين بشيء اطّلع عليه الباقون فسكتوا و هو ليس بحجة عند الإمامية كما عرفت أن الإجماع المعتبر هو الاتفاق الكاشف عن رأي المعصوم، و من الظاهر أن السكوت أعم من الاتفاق لاحتمال أن السكوت كان لأجل التوقف أو لمهلة النظر أو لتجديده أو من أجل التقية في الإنكار.

3 - الإجماع اللفظي و الإجماع اللبي:

الإجماع اللفظي: هو اتفاق المجتهدين في الفتوى لفظاً و معنى كما لو أفتوا باستحباب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) و تجري في الإجماع اللفظي القواعد اللفظية من العموم و الإطلاق و التقييد و الانصراف و عدمه.

الإجماع اللبي: هو اتفاق المجتهدين في الفتوى على مضمون الجامع بين الألفاظ فليس يجري فيه القواعد اللفظية و يؤخذ بالقدر المتيقن كما في تحديد الحائر الحسيني و الصلاة فيه تخييراً.

ص:107

رابعاً: العقل

تعريف العقل:

العقل: هو القوة المدبرة و المديرة للبدن و المسيرة له في تصرفاته الاختيارية في صالحه، و ليس مراد الأصوليين من العقل هو القوة الكاملة الموجودة في الأنبياء و الأوصياء، و لا الناقصة الموجودة في الهمج الرعاع، و إنما مرادهم بها الموجودة في أواسط الناس الخالية من الشوائب و الأوهام.

تعريف دليل العقل عند الأصوليين: هو كل حكم عقلي ينتهي إلى القطع بالحكم، و العقل له دلالة على الحكم الشرعي كما أن للكتاب العزيز و السنة الشريفة و الإجماع.

تقسيم دليل العقل:
اشارة

دليل العقل ينقسم إلى قسمين بالنسبة إلى مقدماته:

أولاً: المستقلات العقلية:

فيما إذا كانت المقدمات عقلية جميعها و لا يتوقف استنتاجه للحكم الشرعي

على خطاب شرعي فيسمى بالدليل العقلي المستقل و مثاله وجوب رد الوديعة شرعاً من حكم العقل بحسن ردها بحيث لا يرضَ بعدم ردها مع مقدمة كلما حكم به العقل حكم به الشرع، فإن العقل يستنتج من هاتين المقدمتين العقليتين وجوب رد الوديعة واقعاً أي شرعاً.

و أمثلة أُخر:

مقدمة وجدانية: إن شرب الدخان لم يقم دليل على حرمته شرعاً.

مقدمة عقلية: قبح العقاب بلا بيان.

النتيجة: قبح العقاب على شرب الدخان أو شرب الدخان جائز.

ثانياً: المستقلات غير العقلية:

هو فيما كانت أحد مقدماته غير عقلية و يسمى بالدليل العقلي غير المستقل، كحكمه بوجوب هذه المقدمة شرعاً، فإن الدليل العقلي عليه متوقف على خطاب

ص:108

شرعي بذي المقدمة شرعاً و على مقدمة عقلية و هي استلزام وجوب المقدمة شرعاً لوجوب ذيها شرعاً، كالحج واجب شرعاً، السفر إلى بيت الله الحرام واجب عقلاً، فالسفر إلى بيت الله الحرام واجب شرعاً لأنه لا يتم الواجب إلاَّ به.

حجية دليل العقل:

إن حجية العقل في واقعها من الأمور البديهية التي لا تفتقر إلى برهان لأن العقل هو الدليل الأساسي للعقيدة الإسلامية التي منها ينبثق التشريع الإسلامي، فمن اعتباره دليلاً أساسياً للعقيدة تستطيع أن تدرك بسهولة و بداهة حجية اعتباره دليلاً للتشريع، و ذلك لأن العقيدة أهم من التشريع لأنها أصل الدين.

ذهب المعتزلة إلى أن العقل إذا دلَّ على شيء فهو حجة و باعتبار حصول القطع منه يؤول عند مخالفته للكتاب أو الإجماع أو غير ذلك من الأدلة المعتبرة سواء أ كان في أصول الدين أم فروعه.

و خالف الأشاعرة فذهبوا إلى أن العقل لا دخل له في أصول الدين و لا فروعه و إنما عليه الانقياد و الإذعان للنصوص الدينية و العمل على طبقها.

و الشيخ الأنصاري لم يعد العقل من أدلة أو مصادر الحكم الشرعي و لم يذكر الدليل العقلي في عداد الأدلة على الأحكام الشرعية، و إنما ذكر القطع بالحكم الشرعي فجعله الميزان هو القطع من الدليل العقلي، فالدليل العقلي إن أفاد القطع بالحكم الشرعي كرد الوديعة يعمل به و إلاَّ فلا.

كما أن الظن بالحكم الشرعي الحاصل من الدليل إن ثبت حجيته من الشرع يعمل به و إلاَّ فلا كاعتبار حجية الخبر الواحد التي تفيد الظن.

و إن القطع لا ريب في وجوب متابعته و لزوم العمل به و الجري على طبقه لانكشاف الواقع به لدى القاطع انكشافاً تاماً.

و الدليل العقلي الذي يوجب القطع بالأحكام الشرعية هو دليل الحسن و القبح العقليين و هو مبني على دعامتين:

ص:109

الدعامة الأولى: التحسين و التقبيح العقليّان:
اشارة

إن الأفعال عند العقل مختلفة في نفسها مع قطع النظر عن الشرع، فبعضها ما يمدح فاعله كرد الوديعة الموجب للفرح و السرور، و بعضها ما يذم فاعلها لخصوصية في ذاتها أو صفة حقيقية متصفة بها أو جهة اعتبارية فالضرب الموروث للحزن و الغم و الألم يذم فاعله.

فالأفعال عند الإمامية و المعتزلة و بعض الأشاعرة توصف بالحسن و القبح.

أما جمهور الأشاعرة خالف ذلك فقالوا بأن أفعال الله لا تتصف بالحسن أو القبح، فلو أثاب العاصي و عاقب المطيع لم يأتِ بقبيح لأنه تصرف منه تعالى في ملكه فما يفعله في محله.

و أما أفعال العباد فعند الأشاعرة بناء على عدم صدورها منهم بالاختيار و إنما كان صدورها منهم بالجبر و الاضطرار، و إن العمل إنما يكون حسناً لو أمر به الشارع و قبيحاً لو نهى عنه الشارع، و أنه قبل الشرع أفعال العباد ليست بحسنة و لا قبيحة و إن الشارع هو المثبت لها.

و على من يقول بالحسن و القبح العقليين فإن العقل قد يحكم في بعض الأفعال بمدح فاعلها فتكون واجبة عقلاً أو بمرجوحية تركها فتكون مستحبة عقلاً و بعضها يحكم بذم فاعلها و منعه من الفعل فتكون محرمة عقلاً أو بمرجوحية الفعل فتكون مكروهة عقلاً، و بعض الأفعال يحكم العقل بعدم الذم و عدم المدح فتكون مباحة عقلاً.

أدلة على القائلين بالتحسين و التقبيح العقليين:

أولاً: بالضرورة أو البداهة فإن العقلاء لا يرتابون في حسن الإحسان و قبح الظلم و العدوان.

ثانياً: لو كان الحسن و القبح شرعيين فقط لأمكن إفحام الأنبياء بعدم النظر في معجزاتهم لأن العقل يحكم بالنظر في ذلك خوفاً من استحقاق العقاب، كما يمكن تجويز ظهور المعجزة على يد الكاذب لعدم ثبوت القبح.

ثالثاً: لو لم يكن حكم العقل بالحسن و القبح للزم ارتفاع الوثوق بالمعاد و بوعد الله و وعيده، جوّز العقل صدوره من الله تعالى.

ص:110

رابعاً: جملة الآيات القرآنية و الأخبار النبوية كالآيات الدالة على إرجاعهم لعقولهم و أفكارهم و ليس إثبات هذه الدعامة يحتاج إلى مزيد من البيان.

و قد رتبوا على القول بالتحسين و التقبيح العقليين أموراً:

لقد رتب العلماء على القول بالتحسين و التقبيح العقليين أموراً:

1 - مسألة التكليف بالمحال، فمن قال بأنهما عقليان منع التكليف بالمحال و من لم يقل جوّز ذلك.

2 - وجوب الأصلح على الله تعالى فمن قال بالتحسين و التقبيح العقليان قالوا بوجوب الأصلح و فرعوا بوجوب اللطف على الله تعالى، و فرعوا على ذلك حسن التكليف و وجوب صدوره من الله تعالى، و وجوب بعث الرسل و إنزال الكتب و نصب الإمام و غير ذلك من الألطاف الإلهية مما يوجب القرب للطاعة و البعد عن المعصية.

3 - وجوب شكر المنعم فأثبته العدلية لحسنه العقلي و أنكره الأشاعرة.

الدعامة الثانية: الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع

هي الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع التي يرتكز عليها الدليل العقلي على الحكم الشرعي و هي ترجع إلى قضية كلية كلما حكم به العقل حكم به الشرع.

خامساً: مصادر أخرى للتشريع

1 - القياس:

هو إلحاق واقعة لا دليل معتبر على حكمها بواقعة أخرى قام الدليل المعتبر على حكمها بتسرية حكمها لها لمشاركتهما في العلة التي شرع لها الحكم قياساً للوقائع بأشباهها.

و تسمى الواقعة المقيس عليها بالأصل و الواقعة المقيسة بالفرع، و القياس لا يفيد إلاّ الظن بالحكم و منع داود الظاهري من الأخذ به و الحنفية يأخذون به و يقدمونه على الخبر الواحد غير مشهور.

إما الإمامية فالقياس الذي عندهم حجة هو قياس منصوص العلة، أمّا القياس المستنبط العلة فلا يعتبرونه حجة و دليلاً على الحكم الشرعي.

ص:111

2 - الاستحسان:

هو الأخذ بما هو أوفق للناس أو بطلب السهولة في الأحكام فيما يبتلي به الأنام مثل التطبيع مع العدوان أو الأخذ بالسماحة و ابتغاء ما فيه الرحمة، و لا ريب في بطلان الاستحسان فقد ورد (من استحسن فقد شرع).

3 - المصالح المرسلة أو الاستصلاح:

و هي ما استفاده العقل من مقاصد الشريعة و أهدافها و مصب عموماتها و ما ترمي إليه من قواعدها و هي حفظ الدين و النفس و العقل و النسل و المال في واقعة لم يقم على حكمها دليل، فإنه يستفاد من ذلك حكم الشارع بمقتضى تلك المصلحة، مثل إيذاء المتهم من أجل الاعتراف وصوم شهرين متتابعين كفّارة لإفطار الأمير أو الرئيس في يوم من شهر رمضان متعمداً تعييناً و ليس تخييراً، و منع الإمامية العمل به معللين بأن فتح هذا الباب معرض لاستغلال أهل الأهواء و ذوي النفوذ و السلطان.

4 - سد الذرائع و فتحها:

هي الطرق و الوسائل التي تفضي إلى الحكم الشرعي و توصل له و لو بنحو الأغلب، فمثلاً سب الأصنام ذريعة و وسيلة قد تفضي لسب الله تعالى، فهنا يحرم سب الأصنام لأنه ذريعة لسب الله تعالى، و ينسب لحجيتها لمالك بن أنس و أحمد بن حنبل و منع باقي الفقهاء من حجيتها.

القسم الثاني: الأدلة الفقهاتية:

اشارة

و هي الاستصحاب و البراءة، و الاحتياط و التخيير و الرجوع إليها عند اليأس من الحصول على الحكم الشرعي من الأدلة الاجتهادية، فالأدلة الفقهاتية هي يأتي العمل بها بعد الأدلة الاجتهادية، و الأدلة الفقهاتية لم تبيّن حكماً شرعياً و إنما هي وظيفة شرعية للمكلف من حيث العمل عند فقدان الدليل الاجتهادي.

أولاً: الاستصحاب

اشارة

هو حكم الشارع ببقاء المتيقن في ظرف الشك من حيث الجري العملي.

فالمكلّف إذا كان على حالة معينة متيقناً منها ثم شك في ارتفاعها فإن الشارع المقدّس يحكم بإلغاء الشك و عدم ترتيب أي أثر فيه و القيام بترتيب آثار اليقين السابق في

ص:112

مجال العمل و الامتثال، فمثاله لو كان متيقناً بالطهارة ثم شك في حدوث حدث رافع للطهارة يبني على الطهارة و يلغي الشك.

أدلة حجية الاستصحاب:

1 - سيرة العقلاء.

2 - الأحاديث الشريفة، روي عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (إذا شككت فابنِ على اليقين، قلت هذا أصل ؟ قال (عليه السلام): نعم).

ثانياً: البراءة

تقسم البراءة إلى قسمين، هما:

1 - البراءة الشرعية: هي الوظيفة الشرعية النافية للحكم الشرعي عند الشك فيه و القيام من تحصيله. و دليل حجيتها قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها بنفي التكليف بالحكم غير الواصل إلى المكلّف. و قوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (رفع عن أمتي ما لا يعلمون).

2 - البراءة العقلية: و هي الوظيفة المؤمنة من قبل العقل عند عجز المكلّف عن بلوغ حكم الشارع و وظيفته. و دليلها القاعدة العقلية (قبح العقاب بلا بيان) مثل عدم حرمة التدخين.

ثالثاً: الاحتياط

و ينقسم إلى قسمين:

1 - الاحتياط الشرعي: هو حكم الشارع بلزوم الإتيان بجميع محتملات التكاليف أو اجتنابها عند الشك بها و العجز عن تحصيل واقعها مع إمكان الإتيان بها جميعاً أو اجتنابها, و مثاله الصلاة إلى أربع جهات لمن لا يعرف اتجاه القبلة و ترك الوضوء بالماء المشتبه بالنجاسة.

ص:113

2 - الاحتياط العقلي: هو حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف و دليله القاعدة العقلية المعروفة (اشتغال الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني), و مثاله الدَّين المردد بين ذمتي زيد و خالد.

رابعاً: التخيير

و ينقسم إلى قسمين:

1 - التخيير الشرعي: هو جعل الشارع وظيفة اختيار إحدى الإمارتين للمكلّف عند تعارضهما و عدم إمكان الجمع بينهما أو ترجيح أحدهما على الأخرى.

2 - التخيير العقلي: هو الوظيفة العقلية التي يصدر عنها المكلف عند دوران الأمر بين المحذورين مثل الوجوب و الحرمة. و عدم تمكّنه حتى من المخالفة القطعية.

ص:114

الفصل السادس: مبادئ الشريعة الإسلامية و مقاصدها

خصائص الشريعة الإسلامية:

1 - جاءت الشريعة الإسلامية بالتشريع التام الكامل الذي لا يأتيه الباطل بين يديه و لا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي نظم جميع العلاقات، نظم علاقة الإنسان بربه (العبادات) و علاقة الإنسان بنفسه و أهله، و علاقة الإنسان بالإنسان فرداً كان أو جماعة، و علاقة مادية أو اجتماعية، كما نظم علاقة المواطن بالدولة و الدولة بالمواطنين في جميع أنواع العلاقات، كما نظم علاقة الدول بعضها ببعض في السلم و الحرب و علاقة الدول برعايا الدول الأُخر في الحالين أيضاً. كما نظم علاقة الإنسان بالكائنات الأُخر التي تعيش مع الإنسان، أو التي تعيش معها و عليها من حيوان و نبات و جماد ما في السماء و ما في الأرض و ما بينهما، فالشريعة الإسلامية جاءت بنهج اجتماعي و حياتي كامل. فهي عقيدة و سلوك و نظام..

إذن ليس الشريعة الإسلامية عقيدة دينية فحسب، بل هي أيضاً في آن واحد سلوك أخلاقي و نظام تشريعي قانوني.

2 - جاءت الشريعة الإسلامية للناس كافة إلى أن يرث الله الأرض و من عليها وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ ، قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً . و هذا التشريع خاتماً للشرائع و مصدقاً لما سبقه.

3 - جاءت الشريعة الإسلامية موحدة تحقق للبشرية فوائد جمة، و ذلك بتوحيد معايير الخير و الشر في ربوع العالم فالحق حق هنا و هناك و بالأمس و اليوم و غداً، في

مشارق الأرض و مغاربها و شمالها و جنوبها، و الباطل كذلك و ينتج عن هذا التوحيد تقارب المجتمع الإنساني كله في أفكاره و تصرفاته و في عاداته و تقاليده. و هذه هي أول لبنة من لبنات الوحدة الكبرى التي ينشدها الإسلام، و يرسي دعائمها بتشريعه الخالد المستقر البعيد عن نزعات الهوى حيث تهيأت للإنسان المؤمن وحدة في التشريع، فلهذا

ص:115

أحدث الإسلام ثورة اجتماعية تامة في حياة العرب، و في حياة سائر الشعوب التي تأثرت في تعاليمه و حضارته، فجعلت من دويلات قبائل العرب دولة حقيقية موحّدة قوية مبنية على فكرة دينية دنيوية شاملة و مبادئ ديمقراطية و عدالة اجتماعية بدلاً من فكرة العصبية القبلية الضيقة المشحونة بالتعصب الذميم و بالتنافر و البغضاء، و أبدلت بعاداتهم الوثنية و الجاهلية شرائع و أحكام مرتكزة على الإيمان الصحيح و العمل الصالح و الحق و النظام و المصلحة العامة.

4 - يترتب على وحدة التشريع انتشار الطمأنينة، و تنمية المحبة بين الناس جميعاً و تدفق الإخاء تحت ظلال المحبة الكبرى محبة الله، فالشريعة الإسلامية تتصف بالبساطة و الوضوح و سهولة الفهم و القناعة، و لا تنطوي على عقائد غامضة و لا ألغاز سرية، و لا تعقيدات لاهوتية، بل هي دين الفطرة.

5 - إن الشريعة الإسلامية ترتب الثواب الأخروي لكل عمل من أعمال التي يؤديها الإنسان سواء أ كان ذلك في دائرة العبادات أم المعاملات أم الأحكام الشاملة لكل أبواب الفقه بل ترتب الثواب حتى على نية المرء. بينما القوانين الوضعية ترتبط المسئولية فيها بالقيام بالفعل و تنتهي عند تنفيذ الحكم، مما يترك المجال واسعاً للمحتالين و المغامرين لنيل أغراضهم و التملص من الأحكام بغفلة من القانون.

مميزات الشريعة الإسلامية:

امتازت الشريعة الإسلامية بأمور يعرفها كل من قارن بين الشرائع الدينية و البارز منها:

1 - هو تكفلها لسائر الأحكام التي تخص حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية الدينية و الدنيوية، فلا تجد واقعة من الوقائع تخص الإنسان نفسه أو مع غيره أو المجتمع نفسه أو مع غيره إلاَّ و يظهر حكمها من نص أو ظاهر أو قاعدة أو أصل و هذه الميزة تفقدها سائر الشرائع السماوية و النظم الحزبية و القوانين الدولية.

2 - تساير الزمن مهما تقلبت الأحوال و تعالج شئون الحياة في العالم مهما اختلفت الأوساط فكانت النتيجة الحتمية إن صارت خاتمة الشرائع الإلهية و الأديان السماوية.

ص:116

و المتتبع للشريعة الإسلامية يجد أنها وضعت لمصالح العباد جميعاً في كل الأوقات و في جميع الأماكن في الدنيا و هذا يتجلى واضحاً في تحقيق العدالة بين الناس جميعاً, فالغني و الفقير و القوي و الضعيف و الأبيض و الأسود الكل أمام الحق سواء و لا فضل لأحد منهم على الآخر إلاّ بالتقوى. قال الله تعالى في محكم كتابه: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ و قوله تعالى: وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .

3 - قلة التكاليف و عدم حرجيتها, فقد امتازت الشريعة الإسلامية بالتيسير على العباد برفع كل ما يترتب على شرعية إيقاع الناس في عسر و مشقة, جاء في الحديث الشريف (جئتكم بالشريعة السَّمْحةِ ) و قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها و قوله: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ و قوله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (بعثت بالحنفية السمحاء).

4 - جاءت أحكامها تباعاً و تدريجاً فقد سلك التشريع الإسلامي في نزوله مسلكاً يتمشى مع طبيعة الإنسان فكما ان الإنسان يخلق طوراً بعد طور نزل التشريع الإسلامي متدرجاً تنزل آياته و تعاليمه تباعاً و تتوالى أحكامه و تكاليفه شيئاً فشيئاً. بتنسيق دقيق يتمشى مع نمو الروح الإسلامية و تكامل العقل الإنساني و لذلك بدأ التشريع بنزول الاعتقادات ثم بنزول الأحكام العملية, و ما ذلك إلاّ لأن الاعتقاد يسبق العمل, فكل عمل من الأعمال الاختيارية لا بد و ان يسبقه فكر و تدبر, و اعتقاد

بلزوم مباشرة هذا العمل و بهذا المنطق الطبيعي سبقت الأحكام الاعتقادية و الأخلاقية الأحكام العملية. كما إن الأحكام العملية نزلت شيئاً فشيئاً حكماً أثر حكم كتحريم الخمر و تحريم الربا حتى كملت قواعدها و أصولها و تمت أحكامها و أسسها في غدير خم في حجة الوداع عندها نزلت الآية الكريمة: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً .

5 - حثت على العمل لكسب المغنم في هذه الحياة و تحصيل المعرفة بأسرار هذه الكائنات و وعدت الصالحين بالميراث.

ص:117

6 - حررت العقل البشري من الأساطير و الخرافات و وجهته نحو المنطق الحر و الدليل و البرهان في العقيدة و الإيمان، و لم تأخذ بالجريمة و الجريرة بمجرد التفكير فيها، و إنما تأخذ بها بعد ارتكابها فلم تأخذ بالتفكير بالزنا و إنما تعاقب على ارتكابه كما ينسب ذلك لبعض الشرائع.

أحكام الشريعة الإسلامية:

الشريعة الإسلامية مجموعة أحكام نزّل بها الوحي على محمد بن عبد الله (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم)، و تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 - ما يتعلق بالعقائد الأساسية كالأحكام المتعلقة بذات الله و صفاته، و بالإيمان به و برسله و كتبه و اليوم الآخر و ما فيه من حساب و جزاء، و قد تكفل بهذا النوع علم الكلام.

2 - ما يتعلق بتهذيب النفوس و إصلاحها. كالأحكام المبينة للفضائل التي يجب أن يتحلى بها الإنسان كالصدق و الأمانة و الوفاء بالعهد و الشجاعة و الإيثار و التواضع و الإحسان و العفو و الصفح، و الأحكام المبينة للرذائل التي يتحتم على المرء أن يتخلّى عنها كالكذب و الخيانة و خلف الوعد و الجبن و الأنانية و التكبر و الإساءة إلى الغير و الانتقام و ما إلى ذلك مما تكفل ببيانه علم الأخلاق.

3 - ما يتعلق ببيان أعمال الناس و تنظيم علاقاتهم بخالقهم كأحكام الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج، و تنظيم علاقات بعضهم ببعض كأحكام البيوع و الهبة و الإجارة و الرهن و الزواج و غيرها. و قد انفرد بهذا النوع علم خاص يسمى علم الفقه.

إتمام الشريعة الإسلامية:

تذهب الشيعة إلى أنَّ القرآن و السنة النبوية و المأثورة من العترة الطاهرة الزكية قد أظهرت الأحكام الشرعية لكل حادثة من الحوادث النازلة و الوقائع المستجدة إلى يوم القيامة إما بالنص عليها بالخصوص أو بنحو العموم شأن الأنظمة و القوانين الدولية فإنها تشرع أحكام الحوادث النازلة و الوقائع المتجددة بموادها الكلية و أصولها العامة و مبادئها الشاملة، تاركة فهم الجزئيات و استنباط التفاصيل و ما تهدف إليه من حقائق و مقاصد لأهل البصيرة و حسن السليقة و معتمدة على استخراج أحكام الوقائع من

ص:118

نصوصها و ظواهرها و مفهومها و سياق بيانها و لوازمها على أهل المعرفة و التفكير المستنير. فكذلك هو الاجتهاد عند الشيعة.

كما قام الإجماع عند المسلمين إن كل واقعة أو حادثة على مختلف أنواعها و أزمانها و ظروفها لا تخلو عن الحكم الشرعي.

وجوب تشريع الأحكام و وجه حسنه:

ذهبت الإمامية و المعتزلة إلى وجوب التكليف على الله تعالى عقلاً. و المراد بالوجوب على الله تعالى في هذا المقام و غيره كما يقال اللطف واجب عليه تعالى هو كون الفعل موافقاً للحكمة أي أن حكمته تعالى تقتضي ذلك الفعل لا أن غيره أوجبه عليه تعالى كما توهمه بعضهم و شنع على القائلين بالوجوب.

و أما الأشاعرة فقد نفوا ذلك و زعموا أن التكليف و التشريع للأحكام ليس بواجب بل هو تفضل منه تعالى إن شاء فعله، و إن شاء لم يفعل.

و الحق هو الأول لأن جعل التكليف على نوع الإنسان إنما هو لإصلاح المعاش و تنظيم الحياة، فهو أمر حسن يحكم بوجوبه العقل على من بيده ملكوت الإنسان و له عليه سلطان. و عليه سيرة العقلاء من قديم الزمان فلا تجد حكومة إلاَّ و قد سنت قوانين لإصلاح أمور أتباعها و تنظيم حياة رعاياها، و ذلك لجلب السعادة إليهم و دفع الشقاء عنهم في أدوار حياتهم الفردية و الاجتماعية و في أطوار نشأتهم الأولية و الآخريّة. فإنه تعالى لو تركهم سدى لأحاطت بهم المهالك، و لضاقت بهم المسالك لقصور عقل الإنسان عن إدراك ما ينفعه و ما يضره، و لغلبة الشهوة فيه على سلطان العقل، و حبه للسطوة و السيطرة على أفراد النوع، و التنازع على وسائل العيش. و هو أعز مخلوق لدى الله و أشرف موجود عنده. فلا يعقل أنه يهمل أمره و لا يصلح شأنه و هو الرب الرحيم الرءوف بمخلوقاته المدير لمصنوعاته، فأرسل الرسل مبلغين و منذرين بقوانين و أحكام ترشدهم لصالحهم الخاص و العام، و تنظم لهم أمور الحياة في السراء و الضراء، و توصلهم إلى الكمال و تجنبهم عن الضلال و تربطهم بخالق الكون و مدبره، فكلفهم بالمعرفة بأصول الدين ليطلعوا على عظيم شأنه و كمال قدرته على خلقه. و يطاع في أمره و نهيه، و كلفهم بالعبادات في عدة من الأوقات و في كثير من المناسبات ليخرجهم من

ص:119

مقام الحيوانية إلى مقام الإنسانية، و من ظلمات النفس إلى نورها و روحانيتها، و يقوي فيهم الشعور الديني حتى تلتهب النفس بالعاطفة الدينية، و يصبح الشعور الديني فيها وازعاً نفسياً يسوقها الإتيان ما يريده تعالى منها، و رادعاً قلبياً عن فعل ما يبغضه عزَّ اسمه منها، و كلفهم بما يصلح شئون حياتهم في جميع أدوارها و أطوارها لئلا يترك الناس سدى، و يسودهم الهرج و المرج، فقنن لهم قوانين الاختصاص في الأموال، و سنَّ لهم قسمة المواريث و موجبات الإنفاق و توزيع الغنائم و الصدقات. و ألزمهم بالعقود لئلا تختلف النيات و تجهل أو تتجاهل المقاصد في المعاملات و الإيقاعات و ندبهم لما فيه صلاحهم و نجاحهم، و جعل القصاص و الحدود و التعزيرات و الضمانات حفظاً للنفوس و الأموال، و خوفاً من المروق عن طاعة الرحمن، و وعدهم بالثواب على حسب مقادير الإطاعة، و أوعدهم بالعقاب على حسب

مقادير المعصية، و بالغ في الإنذارات، و أكثر من التحذيرات و الترغيبات و الترهيبات حرصاً منه تعالى عليهم أن لا يقصروا في ذلك فتفوت عليهم المصالح و يقعوا في المفاسد فيبوءوا بالخسران المبين و الضرر العظيم. و قد وقع التنبيه من أئمتنا (عليهم السلام) على محاسن التكليف في مواضع كثيرة منها ما في الاحتجاج أنه أتصل بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) قوماً من أصحابه خاضوا في التعديل و التجريح فخرج حتى صعد المنبر، فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: (أيها الناس إن الله تبارك و تعالى لما خلق الخلق أراد أن يكون على آداب رفيعة و أخلاق شريفة فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلاَّ بأن يعرفهم مالهم و ما عليهم، و التعريف لا يكون إلاَّ بأمر و نهي، و الأمر و النهي لا يجتمعان إلاَّ بالوعد و الوعيد، و الوعد لا يكون إلاَّ بالترغيب، و الوعيد لا يكون إلاَّ بالترهيب، و الترغيب لا يكون إلاَّ بما تشتهيه أنفسهم و تلذه أعينهم، و الترهيب لا يكون إلاَّ بضد ذلك، ثم خلقهم في داره و أراهم طرفاً من اللذات ليستدلوا به على ما ورائهم من اللذات الخاصة التي لا يشوبها ألم ألا و هي الجنة، و أراهم طرفاً من الآلام ليستدلوا به على ما ورائهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذة ألا و هي

ص:120

النار، من أجل ذلك يرون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنها، و سرورها ممزوجاً بكدرها و غمومها). و أمثال تلك الأحاديث الشريفة كثيرة.

و الحاصل إن الغاية و المصلحة في تكليف العباد هو التعريض للثواب و حفظ نظام العالم. و هذا غرض صحيح فيكون التكليف حسناً بل واجباً لأن الترك للإحسان بالنسبة إلى من يستحقه مع عدم المانع قبيح، بل لو لا صدور التكليف و التشريع للأحكام لكان الله تعالى فاعلاً للقبيح لأنه بتركه للتشريع يكون مغرياً للعبد بالقبيح و الإغراء بالقبيح قبيح. و معلوم لا يصدر من الله تعالى القبيح لعدله و حكمته فوجب صدور التشريع منه.

أهداف الشريعة الإسلامية:

الشريعة الإسلامية هي مجموعة الأوامر و الأحكام الاعتقادية و العملية التي يوجب الإسلام تطبيقها لتحقيق أهدافه الإسلامية في المجتمع.

1 - تحرير العقل البشري من رق التقليد و الخرافات و ذلك من خلال العقيدة الصادقة الحقة من الإيمان بالله، و توحيد معايير الخير و الشر في ربوع العالم، و توجيه العقل نحو الدليل و البرهان.

2 - إصلاح الفرد نفسياً و خلقياً و توجيه نحو الخير و الإحسان لكي لا تطغى شهواته و مطامعه على عقله من خلال العبادة المشروعة التي تذكره بخالقه و بعقيدة الثواب و العقاب في الآخرة، لكي يكون المؤمن في مراقبة دائمة لأعماله، حريصاً على عدم التقصير في واجباته.

3 - إصلاح المجتمع بصورة يسود فيه الأمن و العدل و صيانة الحريات و الكرامة الإنسانية، و نشر الطمأنينة و المحبة في ربوع العالم.

و من الأهداف الثلاثة في الإسلام يتحدد معنى الشريعة و تقوم على ثلاث دعائم و هي: 1 - عقيدة عقلية 2 - عبادة روحية 3 - نظام قانوني قضائي

لهذا يقال إن الإسلام دين و دولة.

ص:121

و يجب التفريق بين النظام و التطبيق، إذ لا ينكر أنه في الواقع العملي و التاريخي كثيراً ما يساء فهم الحقيقة الإسلامية في بعض هذه النواحي الثلاث، أو يساء تطبيقها فتظهر الصورة مشوهة.

كما إنَّ التشريع مرَّ بأطوار متعاقبة، و يتميز كل دور عن الآخر نتيجة الأحداث متعددة متجددة متغايرة، و التشريع لا بد من أن يواجه هذه الأحداث بوضع الأحكام الملائمة.

نصوص الكتاب و السنة متناهية -> الحوادث متجددة -> الاجتهاد

خصائص الشريعة الإسلامية:

اشارة

للشريعة الإسلامية خصائص تميزها عن غيرها و هي:

1 - الشريعة من عند الله.

2 - الجزاء في الشريعة دنيوي و أخروي.

3 - عموم الشريعة و بقاؤها.

4 - شمول الشريعة.

و سنتكلم عن كل خصوصية من الخصوصيات المذكورة آنفاً:

1 - الشريعة من عند الله:

إن مصدر الشريعة الإسلامية هو الله تعالى، و هي وحيه إلى رسوله محمد (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) باللفظ و المعنى، و كون هذا اللفظ معجزاً و متواتراً نقله و هو القرآن أو باللفظ و المعنى إلاَّ أنه غير معجز فهو الحديث القدسي أو بالمعنى دون اللفظ و هو السنة الشريفة، و هي تختلف عن جميع الشرائع الوضعية لأن مصدرها البشر، و يترتب على هذه الخصلة جملة نتائج منها:

1 - إن مبادئ الشريعة و أحكامها خالية من الجور و النقص و الهوى لأنها من صنع الله و الله له الكمال المطلق الذي هو لوازم ذاته، بخلاف القوانين الوضعية التي لا تنفك عن النقص و الجور و الهوى لأنها صادرة من الإنسان و الإنسان لا يخلو من هذه النقائص.

ص:122

2 - جاءت الشريعة الإسلامية بمبدإ المساواة بين الناس بغض النظر عن اختلافهم في اللون أو الجنس أو اللغة، و جعلت أساس التفاضل بينهم العمل الصالح و مقدار ما يقدمه الفرد من الخير. قال تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ ، و قال الرسول الأعظم (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم): (فلا فضل لعربي على أعجمي إلاَّ بالتقوى)، فالجميع أمام أحكام الشريعة الإسلامية متساوون.

3 - هيبة و احترام نفوس المؤمنين لأحكام الشريعة الإسلامية حكاماً كانوا أو محكومين لأنها صادرة من عند الله تعالى فلها صفة دينية فتؤمن بها النفوس و لا يقسر عليها الإنسان قسراً بخلاف القوانين الوضعية فليس لها سلطان على النفوس، فترى إن النفوس تجرأ على مخالفة القانون الوضعي كلما استطاعت الإفلات من رقابة القانون و سلطة القضاء، (كمسألة الخمر).

2 - الجزاء في الشريعة دنيوي و أخروي:

أولاً: إن الشريعة الإسلامية تتفق مع القوانين الوضعية في أن قواعدها و أحكامها تقترن بجزاء يوقع على المخالف، و لكنها تختلف معها في أن الجزاء فيها أُخروي و دنيوي. بل أن الأصل في أجزيتها هو الجزاء الأُخروي. و إنما ترتب الجزاء الدنيوي لمقتضيات الحياة و ضرورة استقرار المجتمع.

ثانياً: الجزاء الدنيوي منه ما كان جنائياً و منه ما يكون مدنياً كما هو الحال في القوانين الوضعية و إن كان نطاقه أوسع من نطاق الجزاء في القانون الوضعي نظراً إلى شمول الشريعة الإسلامية لجميع شئون الأفراد و منها الدنيوية و الأخلاقية خلافاً للقانون الوضعي.

ثالثاً: الجزاء الأُخروي يترتب على كل مخالفة لأحكام الشريعة، سواء أ كانت من أعمال القلوب أم من أعمال الجوارح ما لم تقترن مخالفته بتوبة نصوح و تحلل من حق الغير. و هذا ما تشير إليه النصوص الكثيرة منها: وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ .

ص:123

رابعاً: إن المسلم يخضع لأحكام الشريعة خضوعاً اختيارياً في السر و العلن خوفاً من عقاب الملك الجبار، و حتى لو استطاع أن يفلت من عقاب الدنيا، فتنزجر النفوس عن مخالفة الشريعة الإسلامية أما بدافع الاحترام أو استشعار للحياء من الله تعالى، أو بدافع الخوف من العقاب الآجل الذي ينتظر المخالفين يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ، قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .

لذا فإن الإيمان أساس الشريعة الإسلامية، و هو الوازع الداخلي المتين الذي يوقظ الضمير ليراقبه و يحاسبه على أعماله و هو الضمانة لاحترام أحكام الشريعة و تنفيذها، فلا يمكن أن يعوّل على سلطة القانون فقط و الدليل ما نراه في العصر الحاضر من أثر ضعف الإيمان و من شدة صرامة القانون و إمكانات تنفيذه و شدة المراقبة على المتعدي و المخالف له و مع هذا فإن الانحلال الخلقي قد تفش و تفاقم المشكلات الاجتماعية و ازدياد الجرائم و أعمال العنف و الإدمان على المخدرات و المسكرات و الانغماس في الفجور و الملذات و الانهيار في الإباحية الجنسية و قلة الحياء، و تفشي الكسل و القذارة و الشغب و الفوضى و تفكيك الروابط التقليدية الانضباطية في المجتمع و المدرسة و العائلة جميعاً و ما شاكل ذلك.

3 - عموم الشريعة و بقاؤها:

أولاً: الشريعة الإسلامية عامة لجميع البشر في كل مكان و زمان، فلم تكن ضيقة المرمى أو تكن قومية اللون و لا محصورة بالعرب أو بشعب مختار بل هي رسالة شاملة و دعوة عالمية موجهة إلى جميع الناس في جميع الأقطار و الأمصار و لذا خاطب القرآن الكريم النبي (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) بقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ، وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً .

ثانياً: إن الشريعة الإسلامية لا تنسخ و لا تبدل لأنها خاتمة الشرائع، و يستلزم أن تكون أحكامها و قواعدها على نحو تحقق مصالح الناس في كل عصر و مكان و تفي

ص:124

بحاجاتهم. قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ و الرحمة تتضمن رعاية مصالح العباد و درء المفاسد عنهم.

ثالثاً: تشريع الرخص عند وجود مشقة في تطبيق الأحكام من ذلك إباحة النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها حفاظاً لبقاء النفس. و إباحة أكل المحرم عند الضرورة كأكل الميتة و إباحة الفطر في شهر رمضان للمسافر و المريض و نحو ذلك.

و لا شك إن دفع المشقة ضرب من ضروب رعاية المصلحة و درء المفسدة و كذاالتدرج في التشريع.

رابعاً: إن المتتبع لأحكام الشريعة يجد بالاستقراء أن المقصد العام للشريعة الإسلامية هو تحقيق مصالح الناس بجلب النفع لهم و دفع الضرر عنهم، و إن مصالح العباد تحقق بتحقيق الأمور الضرورية لهم و ضمان الأمور الحاجية و توافر الأمور التحسينية أي الكماليات:

فالأولى الضرورية: هي التي لا قيام لحياة الناس من دونها و إذا غابت حل الفساد و عمّت الفوضى و اختل نظام الحياة. و تسمى بمقاصد الشريعة و هي حفظ الدين و النفس و العقل و العرض و المال، و بعضهم يجعل مع العرض النسل.

و قد بنيت عليها مسائل العبادات و العقوبات و المعاملات الضرورية جميعاً و ترمي إلى قيام مصالح الدين و الدنيا الأساسية.

أما الدين و هو مجموعة العقائد و العبادات و القوانين التي شرعها الله تعالى، و أوجب المحافظة عليه بالجهاد، و فرض العقوبة على كل من يصد الناس عن دينه أو من يرتد عن دينه أو من يبتدع و يحدث في الدين ما ليس منه.

أما النفس فقد شرع لإيجادها الزواج للتوالد، و شرع لحفظها و بقائها ما يقيم الحياة من مأكل و مشرب و مسكن و ملبس و أباح الطيبات و أحل المعاملات. و شرع لمنع الاعتداء عليها القصاص و الدية و الكفارة و حرم الإلقاء بها إلى التهلكة، كما أوجب دفع الضرر عنها.

ص:125

و شرّع الله تعالى لإيجاد النسل النكاح لبقاء النوع و أباح في الزواج كل ما به حفظه، كما شرع لحفظ النسل تحريم الزنا و الحد على الزاني و الزانية و تحريم الإجهاض إلاَّ عند الضرورة.

و أما حفظ العقل فيتم عن طريق ما أوجبه الله لكفالة سلامته و زيادة قدرته و عن طريق ما حرّمه مما يفسده و يضعف قوته، فأجزل الثواب للمعلم. و حرّم تناول

الخمر وكل مسكر و مخدر و أوجب العقوبة على من يقدم على إذهاب عقله.

و أما المال فقد شرّع الله لإيجاده و كسبه السعي للرزق و إباحة المعاملات و المبادلات و التجارة و المضاربة، و شرع لمنع الاعتداء عليه و صيانته تحريم السرقة و حد السارق و السارقة و تحريم الغش و الخيانة و الربا و أكل أموال الناس بالباطل و تحريم إتلاف مال الغير و فرض ضمان المتلفات و مراعاة المماثلة في الضمان و غيرها من الأحكام.

و الثانية الحاجيات: و هي التي يحتاج إليها الناس ليعيشوا بيسر وسعة و إذا فاتتهم لم يختل نظام الحياة و لكن يصيب الناس ضيق و حرج عند المشقة كالإفطار للمريض، و في المعاملات بيع السلم، و شرّع الطلاق للخلاص من حياة زوجية لم تعد تطاق، و في العقوبات شرّعت الدية (الضمان المالي) في القتل الخطأ على أقارب القاتل الذكور تخفيفاً عن المخطئ.

و الثالثة التحسينيات: فهي ترجع إلى محاسن العادات و مكارم الأخلاق، و إذا غابت لا يختل نظام الحياة و لا يصيب الناس حرج و لكن تخرج حياتهم عن النهج الأقوم و ما تستدعيه الفطرة السليمة و العادات الكريمة و لبيان التحسينات فقد شرعت الطهارة للبدن و الثوب، و ستر العورة و النهي عن بيع الإنسان أخيه الإنسان، و النهي عن قتل الأطفال و النساء في الحروب و قلع الأشجار و الدعوة إلى الضيافة و الشجاعة و الكرم و آداب الطعام و الشراب و حسن الجوار.

و إذا اجتمعت المصالح الضرورية و الحاجية و الكمالية و لم يكن الجمع بينها كلها، قدمت الأولى على الثانية، و الثانية على الثالثة، ثم في الطبقة ذاتها كما في اجتماع المصالح الضرورية المتعددة قدم حفظ الدين باعتباره الأصلح و الأفضل على جميع المصالح الدنيوية. أما بين المصالح الدنيوية فيقدم حفظ النفس على حفظ المال و هكذا.

ص:126

و كذلك إذا تعارضت المصالح من النوع الواحد من الفئة ذاتها و تعذر الجمع

بينها قدم الدفع عن النفس على الدفع عن العضو، و قدم حفظ الإنسان على حفظ الحيوان، و قدمت صيانة المال الخطر على المال الوضيع و هكذا تطبق قاعدة تقديم الأفضل فالأفضل و الأصلح فالأصلح من المصالح المتزاحمة.

و إذا تعارضت المفاسد و المصالح رجح أعظمها فإن كان الأعظم مفسدة شرّع الحكم لدفعها و إن كان الأعظم مصلحة شرع الحكم لجلبها مثاله قتل القاتل مفسدة لأن فيه تفويت حياته و لكنها جازت لأن فيها تحقيق مصلحة أعظم و هي حفظ حياة الناس على العموم و الدفاع عن البلاد يعرض النفوس للقتل و هذه مفسدة، و لكن ترك الأعداء يدخلون البلاد و يستعمرونها مفسدة أعظم فشرّع الجهاد.

مقاصد الأحكام القانونية:

كانت مقاصد القانون الوضعي بين أركان ثلاثة أساسية و هي: العدل، و الأمن أو النظام العام، و التقدم الاجتماعي، و قام حول هذه المقاصد جدال و مناظرات و نظريات بين علماء القانون، فمنهم من أعطى الأولوية للأمن العام و كان ذلك مذهب الشكليين، و منهم من أكّد العدل و هو مذهب المثاليين، و منهم أخيراً مَنْ أصرَّ على ركن التقدّم الاجتماعي و الرخاء و الازدهار، و هو مذهب الاجتماعيين الواقعيين.

و الحقيقة إنها جميعاً تتركز على العدل، فالعدل يرمي إلى حماية الفرد في المجتمع، بإعطاء كل ذي حقٍّ حقه و يمنع الاعتداء عليه من الغير.

و أما الأمن العام و النظام فهو من ضرورات الحياة الاجتماعية و من ضمانات حماية الحقوق الفردية. فينبغي له أن يبنى بدوره على العدل و إلاَّ انقلب إلى تعسف و ظلم و دكتاتورية. و كذلك التقدّم الاجتماعي فإنه لا يتحقق إلاَّ عند توافر العدل الصحيح الذي يحمي النفوس و الأعراض و الأموال، و الذي يؤمن الأمل و الطمأنينة الاقتصادية و ينشط المبادرة الشخصية و من ثم الجد في العمل و النتاج.

خامساً: طبيعة أحكام الشريعة جعلها عامة و باقية و هي نوعان:

النوع الأول: أحكام تفصيلية: و هذه إما تتعلق بالعقيدة أو بالعبادات أو بالأخلاق أو ببعض المسائل الخاصة بعلاقات الأفراد فيما بينهم:

ص:127

أ - فأحكام العقيدة: كالإيمان بالله و اليوم الآخر و نحو ذلك لا يتصور مجيء عصر يستغني فيه البشر عنها لأنها تبين حقائق ثابتة، و أحكام العبادة تنظم علاقة الفرد بربه على شكل معين و هذا التنظيم يحتاج إليه الإنسان في كل زمان، فإنه لا إشكال بأن العبادة لها فائدة دنيوية تظهر في صلاح النفس و ما ينتج من صلاح المجتمع. فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر.

ب - و الأخلاق: فالشريعة أكدت على جانب الأخلاق لإرساء قواعد المجتمع على أسس قويمة.

ج - الأحكام الفقهية التفصيلية: و هي الأحكام المتعلقة ببعض علاقات الأفراد فيما بينهم فهي غير قابلة للتغير و التبديل لأن تشريعها بني على أساس أن الحاجة إليها تبقى قائمة في كل زمان و لكل جماعة مثل حق الحضانة و كيفية الزواج و تنظيم الميراث و تحريم الربا، و العقوبات في الشريعة الإسلامية من حدود.

النوع الثاني: أحكام على شكل قواعد و مبادئ عامة: و هي أحكام توسع على حاجات الناس و لا تضيق بها. و يمكن أن نذكر أمثلة منها:

1 - جاءت الشريعة الإسلامية بمبدإ الشورى في الحكم بعد انتهاء عصر النص في الخلافة، قال تعالى: وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ، و قوله تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ، و مبدأ الشورى أسمى نظام للحكم يمكن أن يصل إليه النوع البشري بعد نضوج العقل البشري في الفكر السياسي.

2 - مبدأ المساواة و هو مبدأ عظيم صالح لكل زمان و مكان.

3 - مبدأ العدالة، الشريعة تأمر بتحقيق العدالة في الأرض و الحكم بالعدل حتى

مع الأقربين و الأبعدين و الأصدقاء و الأعداء وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فهو

مبدأ صالح لكل زمان و مكان.

4 - قاعدة (لا ضرر و لا ضرار) و هو رفع الضرر في الشريعة الإسلامية فلا يجوز لأحد إيقاع الضرر بنفسه أو بغيره. كما أنه لا يجوز مقابلة الضرر بضرر آخر لأنه عبث و فساد.

ص:128

5 - مسئولية المرء الفردية بحيث يسأل وحده عن أعماله و لا يسأل عن أعمال غيره مبدئياً، قال تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * و خاصة في العقوبات.

6 - لا يؤاخذ الإنسان بالقصد الباطني غير مقرون بالعمل، فالهاجس و الخاطر في المعاصي و المنكرات لا يعاقب عليها الإنسان فلا يوجبان المسئولية، و كذلك النيّة السيئة و اما النيّة الحسنة و هي ترجيح قصد الفعل على تركه فإنه إن همَّ بالحسنة كتبت له و إن همَّ بالسيئة لم تكتب عليه سيئة و هذا من باب التسامح لتشجيع الناس على العمل الصالح و الكف عن المنكرات.

و أما العزم هو الجزم بالقصد و الثبات عليه ففي القول المشهور يؤخذ المرء به ديانة و إن لم يقترن بالعمل لقوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ ، و الحاصل إن الله يعاقب والمسئولية توجب عند العمل فقط.

سادساً: مصادر الأحكام الشرعية التي تتصف بالمرونة، فالكتاب و السنة الشريفة المصدران الأصليان للشريعة جاءت أحكامها على نحو ملائم لكل زمان و مكان، كما أن دليل الإجماع و العقل كلها مصادر مرنة دلت عليها الشريعة. و هذا مما يجعل الشريعة لها الصلاحية للعموم و البقاء.

4 - شمول الشريعة:

إن الشريعة الإسلامية نظام شامل لجميع شئون الحياة فهي ترسم للإنسان سبيل الإيمان و تبين أصول العقيدة و تنظم صلته بربه، و تأمره بتزكية نفسه، و تحكم علاقاته مع غيره، فلا يخرج من حكم الشريعة شيء.

1 - روى أبو بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه تحدث عن الشريعة الإسلامية و استيعابها, و إحاطة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بكل تفاصيلها. فقال: (فيها كل حلال و حرام, وكل شيءٍ يحتاج الناس إليه, حتى الأرش في الخدش و ضرب بيده إلى أبي بصير, فقال: أ تأذن لي يا أبا محمد؟ فقال له أبو بصير: جعلت فداك, إنما أنا لك فاصنع

ص:129

ما شئت فغمزه الإمام بيده و قال: حتى أرش هذا). مستدرك الوسائل 388/18 /الحديث 14.

2 - و في نهج البلاغة: أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) قال يصف الرسول (صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم) و القرآن الكريم (أرسله على حين فترة من الرسل, و طول هجعة من الأمم, و انتقاصٍ من المبرم, فجاءهم بتصديق الذي بين يديه, و النور المقتدى به, ذلك القرآن فاستنطقوه, و لن ينطق, و لكن أخبركم عنه: ألا إن فيه ما يأتي, و الحديث عن الماضي, و دواء دائكم, و نظم بينكم) نهج البلاغة /الخطبة 158.

3 - و عن الإمام الصادق (عليه السلام) في نص آخر أنه قال: (فيها كل ما يحتاج الناس إليه, و ليس من قضية إلا و هي فيها, حتى أرش الخدش) الكافي 241/1 / الحديث 5.

إن هذه النصوص تؤكد بوضوح استيعاب الشريعة لمختلف مجالات الحياة.

و يمكن تقسيم أحكام الشريعة إلى ثلاث مجموعات:

الأولى: الأحكام المتعلقة بالعقيدة كالإيمان بالله و اليوم الآخر و هذه الأحكام الاعتقادية محل دراستها علم الكلام.

الثانية: الأحكام المتعلقة بالأخلاق كوجوب الصدق و الأمانة و الوفاء بالعهد و حرمة الكذب و الخيانة و نقض العهد، و هذه هي الأحكام الأخلاقية و محل دراستها علم الأخلاق.

الثالثة: الأحكام المتعلقة بأقوال و أفعال الإنسان في علاقاته مع غيره و هذه هي الأحكام العملية و سميت بالفقه و محل دراستها علم الفقه.

و تنقسم الأحكام العملية بالنسبة إلى ما تتعلق به إلى قسمين:

القسم الأول: العبادات كالصوم و الصلاة و المقصود بها تنظيم علاقة الفرد بربه.

القسم الثاني: المعاملات و هي التي يقصد بها تنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم، و هذه تشمل جميع روابط القانون العام و الخاص في الاصطلاح الحديث. و هي تنقسم إلى ما يأتي:

أ - الأحكام المتعلقة بالأسرة من نكاح و طلاق و نفقة و نسب و تسمى بقانون الأسرة أو الأحوال الشخصية.

ص:130

ب - الأحكام المتعلقة بعلاقات الأفراد المالية و معاملاتهم كالبيع و الإجارة و الرهن و الكفالة و نحو ذلك و هي ما يسمى حالياً بقانون المعاملات أو بالقانون المدني، و من هذه الأحكام ما يتعلق بالشركات و التسليف و الأمور التجارية الأُخر التي ينظمها في الوقت الحاضر القانون التجاري.

ج - الأحكام المتعلقة بالقضاء و الدعوى و الشهادة و اليمين و هي تدخل فيما يسمى اليوم بقانون المرافعات.

د - الأحكام المتعلقة بمعاملة الأجانب غير المسلمين في الدولة الإسلامية أو مع الرعايا الأجانب و تسمى بالقانون الدولي الخاص.

شبهات عصرية للشريعة الإسلامية:

هنالك من يدعي عدم قابلية التطبيق للشريعة الإسلامية في العصر الحاضر، لأن هنالك مشكلات زمنية تعترض سبيل هذا التطبيق و لا تتسع الشريعة لحلها في نظرهم و هي:

1 - مشكلة الصفة الدينية و الأحكام الثابتة التي لا تقبل التطور. و هذا وَهم منشؤه عدم معرفة بأحكام الشريعة الإسلامية، فإن الصفة الفقهية لا تنافي كونها

متطورة و كفيلة بوفاء الحاجات العصرية وحل المشكلات.

2 - بعض العقوبات المحددة شرعاً كعقوبة الزنا بالجلد و السارق بالقطع. و الجواب إن هذه الحدود مشروطة بشرائط يجعل في تطبيقها نادرة التطبيق، على إن إقامة حد يمنع آلاف الآخرين من ارتكاب هذه الجريمة التي توجب الحد، و من المعلوم إن هذه الحدود تقام عند ما يكون المجتمع إسلامياً و تعليمه و تربيته إسلامية.

3 - نظام الفائدة في المعاملات التجارية و الأعمال المصرفية و تحرير الربا. و الجواب بأنَّ هنالك أنظمة و شركات في الشريعة الإسلامية كالمضاربة فيها الربح المشروع بدلاً من الربا و الفائدة.

4 - الأوضاع القانونية و النظم الاقتصادية كعقد التأمين لم يكن موجوداً في الفقه الإسلامي. و الجواب على ذلك إن المبادئ الحقوقية في الفقه الإسلامي ذات سعة و مرونة للاستيعاب و باب الاجتهاد مفتوح.

ص:131

المستقبل للشريعة الإسلامية:

و ذلك للأسباب التالية:

1 - تطبيق الشريعة الإسلامية يعتبر في نظر المسلمين من الدين و جزء من عقيدتهم.

2 - الشريعة الإسلامية هي القانون الصحيح لهذه الأمة لأنه يمثل مصالحها و أفكارها في الحياة و مستقر تقاليدها و مثلها العليا.

3 - الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان و مكان.

4 - النهضة الفقهية لدراسة الشريعة و بيان مبادئها و قواعدها و أحكامها.

ص:132

المصادر

1 - القرآن الكريم.

2 - الاجتهاد أصوله و أحكامه/ محمد بحر العلوم/ دار الزهراء/ الطبعة الأولى/ 1397 ه - 1977 م.

3 - الأحكام/ الشيخ علي كاشف الغطاء/ مؤسسة كاشف الغطاء العامة/ النجف الأشرف/ 2004 ه.

4 - أحياء علوم الدين/ أبو حامد الغزالي/ القاهرة/ 1933 م.

5 - أدوار علم الفقه و أطواره/ الشيخ علي كاشف الغطاء/ دار الزهراء/ بيروت/ ط 1399/1 ه - 1979 م.

6 - أسباب اختلاف الفقهاء/ الدكتور مصطفى ابراهيم الزلمي/ مطبعة شفيق/ بغداد/ ط 1406/2 ه - 1986 م.

7 - أسباب اختلاف الفقهاء/ الشيخ علي الخفيف/ مطبعة الرسالة/ مصر.

8 - الاستبصار/الشيخ الطوسي/ تحقيق: السيد حسن الخرسان/ ط 3 / بيروت.

9 - الإسلام عقيدة و شريعة/ الشيخ محمود شلتوت/ مطابع دار القلم/ القاهرة.

10 - الإسلام و متطلبات التغيير الاجتماعي/ العلامة الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي/ تقريب محمد علي آذرشب/ الطبعة الأولى/ إيران/ الطبعة الثالثة/ 1401 ه.

11 - الاسلام و مشكلاتنا المعاصرة/ الدكتور محمد يوسف موسى/ الثقافة الشعبية/ مصر.

12 - الأصول العامة للفقه المقارن/ العلامة السيد محمد تقي الحكيم/ دار الأندلس/ بيروت/ ط 1963/1 م.

13 - أصول الفقه/ السيد عبد العظيم البكاء/ السنة الأولى/ مكتبة الرواد/ جامعة المستنصرية/ ملزمة تدريس للسنة الأولى في كلية الفقه في النجف الأشرف.

14 - الإمام الصادق و المذاهب الأربعة/ الشيخ أسد حيدر/ ط 1390/2 ه - 1969 م.

15 - باب مدينة علم الفقه/الشيخ علي كاشف الغطاء/ دار الزهراء/ بيروت/ ط 1405/1 ه - 1985 م.

ص:133

16 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق/ ابن نجيم/ القاهرة/ 1334 ه.

17 - بداية المجتهد و نهاية المقتصد/ ابن رشد الحفيد/ القاهرة.

18 - البيان في تفسير القرآن/ السيد أبو القاسم الخوئي.

19 - تاريخ الإسلام/ الدكتور حسن ابراهيم حسن/ مكتبة النهضة العربية/ القاهرة/ 1979 م.

20 - تاريخ التراث العربي/ الدكتور فؤاد سزكين/ ترجمة: محمود فهمي حجازي/ 1403 ه - 1983 م.

21 - تاريخ التشريع الإسلامي/ العلامة السيد محمد تقي الحكيم/ معهد الدراسات العربية و الإسلامية/ لندن.

22 - تاريخ التشريع الإسلامي/ الشيخ محمد الخضري/ دار القلم/ بيروت/ 1983 م.

23 - تاريخ التشريع الإسلامي/ الدكتور عبد الهادي الفضلي/ دار الكتاب الإسلامي/ ط 1424/2 ه - 2003 م.

24 - تاريخ الفقه الإسلامي/ الدكتور عمر سليمان الأشقر/ ط 1402/1 ه - 1982 م.

25 - التشريع و الفقه في الإسلام تاريخاً منهجاً/ الشيخ مناع القطان/ مؤسسة الرسالة/ بيروت/ 1409 ه - 1989 م.

26 - الحاكمية في الإسلام/ سماحة آية الله السيد محمد مهدي الموسوي الخلخالي/ الطبعة الأولى/ قم/ 1425 ه.

27 - الحدائق الناضرة/ الشيخ يوسف البحراني/ تحقيق: الشيخ محمد تقي الايرواني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت/ ط 1981/7 م.

28 - حقوق الإنسان/ الدكتور محمد عبد العزيز أبو سخيلة/ 1985 م.

29 - الحق و الذمة/ الشيخ علي الخفيف/ ط 1 / القاهرة.

30 - حلب و التشيّع/ الشيخ إبراهيم نصر الله/ مؤسسة الوفاء/ بيروت/ ط 1403/1 ه - 1983 م.

31 - الخلاصة في علم الدراية/ الشيخ حسن كريم الربيعي/ استنساخ/ النجف الأشرف/ 2005 م.

ص:134

32 - الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية/ الدكتور صبحي محمصاني/ دار العلم للملايين/ بيروت.

33 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة/ الشيخ آقابزرك الطهراني/ دار الأضواء/ بيروت/ ط 1403/3 ه - 1983 م.

34 - رجال الطوسي/ تحقيق: السيد محمد صادق بحر العلوم/ المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف/ ط 1381/1 ه - 1988 م.

35 - رجال النجاشي/ تحقيق: محمد جواد النائيني/ دار الأضواء/ بيروت/

1408 ه - 1988 م.

36 - شرائع الإسلام/ المحقق الحلي/ تحقيق: الشيخ عبد الحسين البقال/ دار الأضواء/ بيروت/ ط 1403/2 ه - 1983 م.

37 - الشرح الكبير/ ابن قدامة المقدسي (شمس الدين) / ط 2 / القاهرة.

38 - شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد/ تحقيق: محمد أبو الفضل/ مصر/ ط 1965/2 م.

39 - صحيح البخاري/ المطبعة المنيرية/ 1348 ه.

40 - صحيح مسلم/ دار الآفاق الجديدة/ بيروت.

41 - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية/ ابن قيم الجوزية/ القاهرة/ 1317 ه.

42 - الغيب و الشهادة/ الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء/ دار العلم/ بيروت/ ط 2002/1 ه.

42 - الفروق/ شهاب الدين القرافي/ القاهرة/ 1933 م.

44 - فلسفة التشريع الإسلامي/ صبحي محمصاني/ بيروت/ ط 1961/3 م.

45 - الفهرست/ الشيخ الطوسي/ تحقيق و تقديم: السيد محمد صادق بحر العلوم/ ط 1403/3 ه - 1986 م.

46 - الفوائد المدنية/ الشيخ محمد أمين الاسترابادي/ دار النشر لأهل البيت/ 1405 ه.

47 - قواعد الحديث/ السيد محي الدين الغريفي/ دار الأضواء/ بيروت/ ط 1406/2 ه - 1986 م.

ص:135

48 - القواعد في الفقه الإسلامي/ابن الحنبلي/القاهرة/ 1933 م.

49 - القواعد و الفوائد/ الشهيد الأول/ تحقيق: الدكتور عبد الهادي الحكيم/ جمعية منتدى النشر/ النجف الأشرف/ 1980 م.

50 - الكافي/ ثقة الإسلام الكليني/ تحقيق الشيخ علي أكبر الغفاري/ دار الأضواء/ بيروت/ 1405 ه - 1985 م.

51 - كشف الظنون/ حاجي خليفة/ دار الفكر/ بيروت/ 1402 ه - 1982 م.

52 - ماضي النجف و حاضرها/ الشيخ جعفر محبوبة/ دار الأضواء/ بيروت/ ط 1404/2 ه - 1984 م.

53 - مختلف الشيعة/ العلامة الحلي/ طبعة حجرية/ ايران.

54 - المدخل للتشريع الإسلامي/ الدكتور محمد فاروق النبهان/ ط 1977/1 م.

55 - المدخل لدراسة الشريعة الاسلامية/ الدكتور عبد الكريم زيدان/ دار عمر بن الخطاب/ الاسكندرية.

56 - المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية/ الدكتور عبد الباقي البكري و الدكتور مصطفى الزلمي/ وزارة التعليم العالي و البحث العلمي/ جامعة بغداد/ كلية القانون.

57 - المدخل للفقه الإسلامي/ الدكتور محمد سلام مدكور/ مطبعة الرسالة/ مصر.

58 - المدخل للفقه الإسلامي/ الدكتور حسن علي الشاذلي/ دار الطباعة الحديثة.

59 - المدخل الفقهي العام/ الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء/ دار الفكر/ بيروت.

60 - المدخل في الفقه الإسلامي/ الدكتور الشيخ محمد مصطفى الشبلي/ دار

الجامعية/ ط 1985/10 م.

61 - مستدرك الوسائل/المحدث النوري/ طبعة حجرية/ ايران.

62 - مصادر التشريع الإسلامي/ عبد الوهاب خلاف/ مطابع دار الكتاب العربي/ مصر.

63 - مصادر الحكم الشرعي و القانون المدني/ الشيخ علي كاشف الغطاء/ مطبعة الآداب/ النجف الأشرف/ ط 1408/1 ه - 1988 م.

ص:136

64 - المعالم الجديدة/ الشهيد السيد محمد باقر الصدر/ التعارف/ بيروت/ ط 1401/3 ه - 1981 م.

65 - معالم المدرستين/ السيد مرتضى العسكري/ مؤسسة النعمان/ بيروت/ 1410 ه - 1990 م.

66 - معجم ألفاظ القرآن الكريم/ مجمع اللغة العربية بالقاهرة/ القاهرة/ دار الشروق.

67 - معجم رجال الحديث/ السيد أبو القاسم الخوئي/ مركز نشر آثار الشيعة/ ط 1410/4 ه.

68 - المغني/ ابن قدامة (موفق الدين) / القاهرة/ ط 2.

69 - مفتاح الكرامة/ السيد محمد جواد العاملي/ طبعة الرضوية/ مصر/ 1324 ه.

70 - مقارنات بين الشريعة الإسلامية و القوانين الوضعية/ منصور علي علي/ بيروت/ 1970 م.

71 - مناهج الشريعة الإسلامية/ الشيخ أحمد محي الدين العجوز/ مكتبة المعارف/ بيروت/ ط 1389/1 ه - 1969 م.

72 - من لا يحضره الفقيه/ الشيخ الصدوق/ تحقيق: السيد حسن الخرسان/ دار الأضواء/ بيروت/ ط 1405/6 ه - 1985 م.

73 - الموافقات في أصول الشريعة/ أبو إسحاق الشاطبي/ المطبعة الرحمانية/ القاهرة.

74 - مواهب الجليل شرح سيدي الخليل/ أبو عبد الله محمد الخطاب/ القاهرة/ 1328 ه.

75 - النور الساطع في الفقه النافع/ الشيخ علي كاشف الغطاء/مطبعة الآداب/ النجف الأشرف/ ط 1961/1 م.

76 - وسائل الشيعة/ الحر العاملي/ تحقيق: الشيخ عبد الرحيم الرباني/ دار إحياء التراث/ بيروت/ ط 1403/5 ه - 1983 م.

ص:137

77 - الوسيلة/ ابن حمزة/ تحقيق: السيد عبد العظيم البكاء/ جمعية منتدى النشر/ النجف الأشرف/ 1399 ه - 1979 م.

78 - مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام) / مجلة فقهية تخصصية فصلية/ مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي/ العدد الثلاثون/ السنة الثامنة/ 1424 ه - 2003 م/ الجمهورية الإسلامية الإيرانية/ قم.

ص:138

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.