ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرّحمن الرّحیم

فالصرف : علم بأصول تعرف بها صیغ الکلمات العربیه وأحوالها التی لیست بإعراب ولا بناء ، فهو علم یبحث عن الکلم من حیث ما یعرض له من تصریف وإعلال وإدغام وإبدال وبه نعرف ما یجب أن تکون علیه بنیه الکلمه قبل انتظامها فی الجمله.

وموضوعه الاسم المتمکن (أی المعرب) والفعل المتصرّف ، فلا یبحث عن الأسماء المبنیّه ، ولا عن الأفعال الجامده ، ولا عن الحروف.

وقد کان قدیما جزءا من علم النحو ، وکان یعرف النحو بأنه علم تعرف به أحوال الکلمات العربیه مفرده ومرکبه.

والصرف من أهمّ العلوم العربیه ؛ لأن علیه المعوّل فی ضبط صیغ الکلم ، ومعرفه تصغیرها والنسبه إلیها والعلم بالجموع القیاسیّه والسماعیه والشاّه ومعرفه ما یعتری الکلمات من إعلال أو إدغام أو إبدال ، وغیر ذلک من الأصول التی یجب علی کل أدیب وعالم أن یعرفها ، خشیه الوقوع فی أخطاء یقع فیها کثیر من المتأدبین ، الذین لا حظّ لهم من هذا العلم الجلیل النافع.

والإعراب (وهو ما یعرف الیوم بالنحو) : علم بأصول تعرف بها أحوال الکلمات العربیه من حیث الإعراب والبناء ، أی : من حیث ما یعرض لها فی حال ترکیبها ، فبه نعرف ما یجب علیه أن یکون آخر الکلمه من رفع ، أو نصب ، أو جرّ أو جزم ، أو لزوم حاله واحده ، بعد انتظامها فی الجمله ، ومعرفته ضروریه لکل من یزاول الکتابه والخطابه ومدارسه الآداب العربیه.

ص: 7

اللهُ الْحُسْنی) [النساء : 95] وقوله : (تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ) [البقره : 253] ، وقوله : (أَیًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنی) [الإسراء : 110].

وإمّا أن یکون عوضا من جمله وهو ما یلحق «إذ» عوضا من جمله تکون بعدها ، کقوله تعالی : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِینَئِذٍ تَنْظُرُونَ) [الواقعه : 83 - 84] أی : حین إذ بلغت الروح الحلقوم.

وإمّا أن یکون عوضا من حرف ، وهو ما یلحق الأسماء المنقوصه الممنوعه من الصّرف ، فی حالتی الرفع والجرّ ، عوضا من آخرها المحذوف کجوار وغواش وعواد واعیم (تصغیر أعمی) وراج (علم امرأه) ونحوها من کل منقوص ممنوع من الصرف ، فتنوینها لیس تنوین صرف کتنوین الأسماء المنصرفه ؛ لأنها ممنوعه منه ، وإنما هو عوض من الیاء المحذوفه ، والأصل «جواری وغواشی وعوادی وأعیمی وراجی».

أما فی حال النصب فترد الیاء وتنصب بلا تنوین ، نحو : «دفعت عنک وعوادی ، أکرمت أعیمی فقیرا ، علّمت الفتاه راجی».

والمسند : هو الفعل ، واسم الفعل ، وخبر المبتدأ ، وخبر الفعل الناقص ، وخبر الأحرف التی تعمل عمل (لیس) وخبر (إن) واخواتها.

وهو یکون فعلا ، مثل : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : 1] ، وصفه مشتقّه من الفعل ، مثل : «الحق أبلج» ، واسما جامدا یتضمن معنی الصفه المشتقه مثل : «الحق نور ، والقائم به أسد». والتأویل : (الحق مضیء کالنور ، والقائم به شجاع کالأسد).

الکلام : هو الجمله المفیده معنی تاما مکتفیا بنفسه ، مثل : «رأس الحکمه مخافه الله. فاز المتّقون. من صدق نجا».

(فإن لم تفد الجمله معنی تاما مکتفیا بنفسه فلا تسمی کلاما ، مثل : (إن تجتهد فی عملک) فهذه الجمله ناقصه الإفاده ؛ لأن جواب الشرط فیها غیر مذکور وغیر معلوم فلا تسمی کلاما ، فإن ذکرت الجواب فقلت : إن تجتهد فی عملک تنجح ، صار کلاما).

وما کان من العدد علی وزن (فاعل) مرکّبا من العشره - کالحادی عشر إلی التاسع عشر - فهو مبنیّ أیضا علی فتح الجزءین ، نحو : «جاء الرابع عشر. رأیت الرابعه عشره ، مررت بالخامس عشر». إلا ما کان جزؤه الأول منتهیا بیاء ، فیکون الجزء الأول منه مبنیا علی السکون ، نحو : «جاء الحادی عشر والثانی عشر ، ورأیت الحادی عشر والثانی عشر ، ومررت بالحادی عشر والثانی عشر».

وتتوقف معرفه ما تبنی علیه الأصماء والحروف علی السّماع والنقل الصحیحین ، فإنّ منها یبنی علی الضمّ ، ومنها ما یبنی علی الفتح ؛ ومنها ما یبنی علی الکسر ، ومنها ما یبنی علی السکون. ولکن لیس لمعرفه ذلک ضابط.

مثال ذلک «جانب الشرّ فتسلم. أعط ذا الحقّ حقّه. یحبّ الله المتقین. کان أبو عبیده عامر بن الجرّاح وخالد بن الولید قائدین عظیمین. أکرم الفتیات المجتهدات. (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : 92]».

وإن کان مثنی تبق ألفه علی حالها ، مثل : هذان کتابایّ. وأما یاؤه فتدغم فی یاء المتکلم ، مثل «علمت ولدیّ».

وإن کان جمع مذکر سالما ، تنقلب واوه یاء وتدغم فی یاء المتکلم ، مثل «معلمیّ یحبّون أدبی» وأما یاؤه فتدغم فی یاء المتکلم ایضا ، مثل : «أکرمت معلمیّ».

ویعرب المثنی وجمع المذکر السالم - المضافان إلی یاء المتکلم - بالحروف ، کما کانا یعربان قبل الإضافه إلیها ، کما رأیت.

وحکم الجمله أن تکون مبنیه ، فإن سلط علیها عامل کان محلها الرفع أو النصب أو الجر علی حسب العامل. وإلا کانت لا محل لها من الإعراب.

وأما الماضی المسبوق بأداه شرط جازمه ، فهو مجزوم بها محلا ، مثل «إن اجتهد علی أکرمه معلمه».

وإن اتصلت به إحدی نونی التوکید بنی علی الفتح ک (یجتهدنّ ویجتهدنّ) ، أو نون النسوه بنی علی السکون ک (الفتیات یجتهدن).

وإن کان أمرا ، فهو مبنیّ علی السکون أبدا ک (اکتب) ، إلا إن کان معتلّ الآخر ، فیبنی علی حذف آخره ک (اسع وادع وامش) ، أو کان متّصلا بألف الاثنین أو واو الجماعه أو یاء المخاطبه ، فیبنی علی حذف النون ک (اکتبا واکتبوا واکتبی) ، أو کان متصلا بإحدی نونی التوکید ، فیبنی علی الفتح ک (اکتبن واکتبنّ).

وإن حذف المستثنی منه من الکلام رفع فی مثل : «ما جاء إلّا سعید» لأنه مسند الیه ، ونصب فی مثل : «ما رأیت إلا سعیدا». لأنه فضله. وخفض فی مثل : «ما مررت إلا بسعید» ، لوقوعه بعد حرف الجر.

فإن أوّلت بمفرد مرفوع ، کان محلّها الرفع ، نحو : «خالد یعمل الخیر» ، فإن التأویل : «خالد عامل للخیر».

وإن أوّلت بمفرد منصوب ، کان محلّها النصب ، نحو : «کان خالد یعمل الخیر» ، فإنّ التأویل : «کان خالد عاملا للخیر».

وإن أوّلت بمفرد مجرور ، کانت فی محلّ جرّ ، نحو : «مررت برجل یعمل الخیر» ، فإن التأویل : «مررت برجل عامل للخیر».

وإن لم یصحّ تأویل الجمله بمفرد ، لأنها غیر واقعه موقعه ، لم یکن لها محلّ من الإعراب ، نحو : «جاء الذی کتب» ، إذ لا یصح أن تقول : «جاء الذی کاتب».

والجمل التی لها محلّ من الإعراب سبع

1 - الواقعه خبرا : ومحلّها من الإعراب الرفع ، إن کانت خبرا للمبتدأ ، أو الأحرف المشبهه بالفعل ، أو (لا) النافیه للجنس ، نحو : «العلم یرفع قدر صاحبه. إن الفضیله تحبّ. لا کسول سیرته ممدوحه». والنصب إن کانت خبرا عن الفعل الناقص ، کقوله تعالی : (وَأَنْفُسَهُمْ کانُوا یَظْلِمُونَ) [الأعراف : 177] ، وقوله : (فَذَبَحُوها وَما کادُوا یَفْعَلُونَ) [البقره : 71].

2 - الواقعه حالا : ومحلّها النصب ، نحو : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً یَبْکُونَ) [یوسف : 16].

3 - الواقعه مفعولا به : ومحلها النصب أیضا ، کقوله تعالی : (قالَ إِنِّی عَبْدُ اللهِ) [مریم : 30] ، ونحو : «أظنّ الأمه تجتمع بعد التفرّق».

4 - الواقعه مضافا إلیها : ومحلّها الجرّ ، کقوله تعالی : (هذا یَوْمُ یَنْفَعُ الصَّادِقِینَ صِدْقُهُمْ) [الأنعام : 119].

5 - الواقعه جوابا لشرط جازم : إن اقترنت بالفاء أو ب (إذا) الفجائیه. ومحلها الجزم ، کقوله تعالی : (وَمَنْ یُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الرعد : 33] ، وقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَیِّئَهٌ بِما قَدَّمَتْ أَیْدِیهِمْ إِذا هُمْ یَقْنَطُونَ) [الروم : 36].

ص: 25

6 - الواقعه صفه : ومحلّها بحسب الموصوف إمّا الرفع ، کقوله تعالی : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِینَهِ رَجُلٌ یَسْعی) [یس : 20]. وإمّا النصب ، نحو : «لا تحترم رجلا یخون بلاده». وإمّا الجرّ ، نحو : «سقیا لرجل یخدم أمته».

7 - التابعه لجمله لها محلّ من الإعراب : ومحلّها بحسب المتبوع. إمّا الرّفع ، نحو : «علیّ یقرأ ویکتب» ، وإمّا النصب ، نحو : «کانت الشمس تبدو وتخفی» ، وإمّا الجرّ ، نحو : «لا تعبأ برجل لا خیر فیه لنفسه وأمته ، لا خیر فیه لنفسه وأمته».

والثانی کقول الآخر :

وقد أدرکتنی ، والحوادث جمّه

أسنّه قوم لا ضعاف ، ولا عزل

والثالث کقول غیره :

وبدّلت ، والدّهر ذو تبدّل

هیفا دبورا بالصّبا ، والشّمأل

والرابع کقوله تعالی : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِی وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَهُ) [البقره : 24].

والخامس نحو : «سعیت ، وربّ الکعبه ، مجتهدا».

والسادس کقوله تعالی : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِیمٌ) [الواقعه : 76].

والسابع نحو : «اعتصم ، أصلحک الله ، بالفضیله».

والثامن کقول الشاعر :

لعمری ، وما عمری علیّ بهیّن

لقد نطقت بطلا علیّ الأقارع

5 - الواقعه صله للموصول الاسمیّ : کقوله تعالی : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَکَّی) [الأعلی : 14] ، أو الحرفیّ کقوله : (نَخْشی أَنْ تُصِیبَنا دائِرَهٌ) [المائده : 52].

والمراد بالموصول الحرفیّ : الحرف المصدریّ ، وهو یؤوّل وما بعده بمصدر وهو سته أحرف : «إن وأنّ وکی وما ولو وهمزه التسویه».

6 - التّفسیریه : کقوله تعالی : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَی الَّذِینَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ) [الأنبیاء : 3] وقوله : (هَلْ أَدُلُّکُمْ عَلی تِجارَهٍ تُنْجِیکُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِیمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [الصف : 10 - 11].

والتّفسیریّه ثلاثه أقسام : مجرّده من حرف التفسیر کما رأیت ، ومقرونه بأی ، نحو : «أشرت إلیه ، أی أذهب» ، ومقرونه بأن ، نحو : «کتبت إلیه أن وافنا» ، ومنه قوله تعالی : (فَأَوْحَیْنا إِلَیْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْکَ) [المؤمنون : 27].

7 - الواقعه جوابا للقسم : کقوله تعالی : (وَالْقُرْآنِ الْحَکِیمِ (2) إِنَّکَ لَمِنَ الْمُرْسَلِینَ) [یس : 2 - 3] ، وقوله : (وَتَاللهِ لَأَکِیدَنَّ أَصْنامَکُمْ) [الأنبیاء : 57].

ص: 27

8 - الواقعه جوابا لشرط غیر جازم : «کإذا ولو ولوا» ، کقوله تعالی : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَیْتَ النَّاسَ یَدْخُلُونَ فِی دِینِ اللهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّکَ ،) وقوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلی جَبَلٍ لَرَأَیْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْیَهِ اللهِ) [الحشر : 21] ، وقوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقره : 251].

9 - التابعه لجمله لا محلّ لها من الإعراب : نحو : «إذا نهضت الأمه ، بلغت من المجد الغایه ، وأدرکت من السّؤدد النهایه».

ص: 28

وقرأ الأدب علی عبد الرحیم بن العصار ، والفقه علی الشیخ أبی حکم إبراهیم بن دینار النهاوندی.

عوام الشریعه والآداب ، والحساب ، فی سائر البلاد ، وذکر لی : أنه أضر فی صباه بالجدری ، وذکر تصانیفه.

وقال غیره : کان أبو البقاء إذا أراد أن یصنف کتابا أحضرت له عده مصنفات فی ذلک الفن ، وقرئت علیه ، فإذا حصّله فی خاطره أملاه ، فکان بعض الفضلاء یقول : أبو البقاء تلمیذ تلامذته ، یعنی : هو تبع لهم فیما یلقونه علیه.

وقال المزانی : سمعت الشیخ أبا البقاء یقول : جاء إلیّ جماعه من الشافعیه فقالوا : انتقل إلی مذهبنا ونعطیک تدریس النحو واللغه بالنظامیه ، فأقسمت وقلت : لو أقمتمونی وصببتم علیّ الذهب حتی أتواری ، ما رجعت عن مذهبی.

وحکی ابن الصیرفی أیضا عن أبی البقاء : أنه کان یختار جواز أخذ بنی هاشم من الزکاه إذا منعوا حقهم من خمس الغنیمه.

وقال ابن الصیرفی أیضا : خرجت جواز دفع الرشوه إلی القاضی الظالم لدفع ظلمه علی محامل الخراج ، وذاکرت بذلک شیخی أبا البقاء ، فلم یصوبه ، قال : ثم رأیت ابن عقیل فی فنونه صرح بما خرجته.

قال : وسمعت شیخنا أبا البقاء یقول فیمن رأی رجلا نائما ، وقد دخل علیه وقت الصلاه : لا یوقظه ؛ لأنه غیر مخاطب ، قال : ویغلب علی ظنی أنه حکاه عن شیخه أبی حکیم.

قال : وقرأت بخط بعض أصحاب أبی الخطاب : أنه سأل أبا الخطاب عن هذه المسأله. فقال : نعم یوقظه.

قال : وحکی عن شیخنا أبی محمد بن قدامه المقدسی مثل ذلک.

قال : ورأیت فی فنون ابن عقیل هذه المسأله ، وقد جرت فیها مذاکرات بین ابن عقیل ورجل آخر معین ، واختلفا فی ذلک.

ومن کلامه فی حواشی المفصل : «أفعل» تستعمل علی وجهین :

أحدهما : یدل علی أن فضل المذکور زائد علی فضل من أضیف إلیه أفعل فهذا یستعمل علی ثلاثه أوجه ب «من» کقولک : زید أفضل من عمر ، وهذا لا یثنی ولا یجمع ولا یؤنث ، لعله لیس هذا موضعها ، وبالإضافه ، کقولک : زید أفضل القوم ، وهذا لا یضاف إلی مضاف إلی ضمیره ، فلا تقول : زید أفضل إخوته ، وبالألف واللام ، کقولک : زید الأفضل.

والوجه الثانی : أن لا یکون «أفعل» للزیاده ، بل لاشتهار المذکور بالفضل وتخصیصه من دونهم ، کقولک : زید أفضل القوم ، کما تقول : فاضل ، وعلی هذا یجوز أن یضاف إلی ضمیره ، کقولک : زید أفضل قومه ، وأحسن إخوته ، أی هو الفاضل من بینهم ، وهذا یثنی ویجمع ویؤنث ، ومنه الفرق بین قوله : من دخل داری فله درهم ، ومن دخل داری له درهم.

بإسقاط الفاء ، أی إنه مع إثباتها یکون ضامنا له الدرهم علی دخوله ، ومع سقوطها یحتمل أن یکون أخبر عنه بأنه یملک درهما ، لا أنه ضمن له شیئا ، وقال : الفرق بین «واو» مع «واو» العطف یتبین بقولک : «قم أنت وزید» إذا رفعت «زید» کنت آمرا لهما بالقیام ، لأن حکم

ص: 32

العطف أن یشرک بین المعطوف والمعطوف علیه فی العامل ، وإذا نصت کنت آمرا المخاطب أن یتابع زیدا فی القیام ، ولست آمرا زیدا بالقیام ، حتی لو لم یقم لم یلزم المخاطب القیام ، لأن هذا هو حکم «مع» لا.

ومن کلامه - ونقلته عن خط ابن الصیرفی - «لو» یقع فی الکلام علی ثلاثه أوجه :

أحدها : امتناع الشیء لامتناع غیره.

والثانی : أن یکون بمعنی (إن) الشرطیه ، کقوله تعالی : (وَلَأَمَهٌ مُؤْمِنَهٌ خَیْرٌ مِنْ مُشْرِکَهٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْکُمْ.) [البقره : 221].

والثالث : أن تکون بمعنی (أن) الناصبه للفعل المستقبل ، ولکنها لا تنصب ، وهو کثیر فی القرآن والشعر ، کقوله تعالی : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَیُدْهِنُونَ) [القلم : 9] ، (یَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ یَفْتَدِی) [المعراج : 11] ، ولا یجوز أن یکون للامتناع ، إذ لا جواب لها ، ولأن (ودّ) لا تعلق عن العمل ؛ إذ لیس من باب العلم والظن ولأن (أن) قد جاءت بعدها صریحه فی قوله تعالی :

(أَیَوَدُّ أَحَدُکُمْ أَنْ تَکُونَ لَهُ جَنَّهٌ) [البقره : 266] ، وإنما لم تنصب ، لأن «لو» قد تعددت معانیها ، فلم تختص ، وجرت مجری «حتی» فی الأفعال. والقسم الأول یرد فی اللغه علی خمسه أوجه :

أحدها : أن تدل علی کلام لا نفی فیه ، کقولک : لو قمت قمت ، ویفید ذلک امتناع قیامک لامتناع قیامه.

والثانی : أن تدخل علی نفیین ، فیصیر المعنی إلی إثباتهما ، کقولک : لو لم تزرنی لم أکرمک ، أی : أکرمتک لأنک زرتنی ، فانقلب النفی ههنا إثباتا ، لأن «لو» امتناع ، والامتناع نفی ، والنفی إذا دخل علی النفی صار إیجابا.

والثالث : أن یکون النفی فیما دخلت علیه دون جوابها ، کقولک : لو لم تشتمه لأکرمک ، فالشتم واقع ، والإکرام منتف ، والامتناع أزال النفی ، وبقی الإیجاب بحاله.

والرابع : عکس الثالث ، وهو قولک : لو أحسن إلیک لم تسیء إلیه ، والمعنی معلوم.

ص: 33

والخامس : آن تقع للمبالغه ، فلا تفید مفادها فی الوجوه الأول ، کقول عمر رضی الله عنه : «نعم العبد صهیب ، لو لم یخف الله لم یعصه» ، والمعنی : أنه لو لم یکن عنده خوف لما عصی ، فکیف یعصی وعنده خوف. ولو لم یرد المبالغه لکان معنی ذلک : أنه یعصی الله ، لأنه یخافه.

وقال أیضا : «لو» فی الموضع اللغوی تعلق فعلا بفعل ، والفعل الأول عله الثانی ، إلا أن یکون هنا قرینه صارفه تصرفها عن هذا الأصل. وهو أن یدل المعنی علی إراده المبالغه ، کقولک : لو أهین زید لأحسن إلی من یهینه ، والمعنی : أنه إذا أکرم کان أولی بالإحسان ، لا أنه إذا لم یهن لم یحسن.

ومن کلامه «بله» تستعمل علی ثلاثه أوجه :

أحدها : أن تکون بمعنی «غیر».

والثانی : أن تکون بمعنی «دع» فتکون مبنیه علی الفتح.

والثالث : أن تکون بمعنی «کیف» فإن دخلت «من» علیها کانت معربه ، وجرّت بمن.

وذکر أن أبا علی الفارسی حکی عن أبی زید القلب ، فیقال : «بهل» إلا أنها لا تستعمل مثل «بله» لأنها فرع.

وقال أبو البقاء : سألنی سائل عن قوله صلی الله علیه وسلم : «إنما یرحم الله من عباده الرحماء» ، فقال : أیجوز فی «الرحماء» الرفع والنصب؟ وذکر أن بعضهم زعم أن الرفع غیر جائز. فأجبت : بأن الوجهین جائزان.

أما النصب : فله وجهان :

أقواهما : أن تکون «ما» کافّه لإن عن العمل فلا یکون فی الرحماء ، علی هذا إلا النصب ، لأن «إن» إذا کفّت عن العمل وقعت بعدها الجمله ابتدائیه ، ولم یبق لها عمل ، فیتعین حینئذ نصب الرحماء ب «یرحم» إذ لم یبق لها تعلق بإن. ومثله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَهَ وَالدَّمَ) [البقره : 173] علی قراءه من نصب ، وفائده دخول «ما» علی هذا الوجه : إثبات المذکور ، ونفی ما عداه ، فتثبت الرحمه للرحماء دون غیرهم.

ص: 34

والوجه الثانی : أن تکون «ما» زائده ، و «إن» بمعنی «نعم» وزیاده «ما» کثیرا ، ووقوع «إن» بمعنی «نعم» کثیر. فمنه قوله تعالی : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : 63] ، فی أحد القولین. ومنه قول ابن الزبیر ، حین قال له رجل : لعن الله ناقه حملتنی إلیک ، فقال : «إنّ وراکبها» وهو کثیر فی الشعر.

فإن قیل : إنما یجیء ذلک بعد کلام تکون جوابا له ، ولم تسبق «ما» یجاب علیه : «نعم»؟

قیل : إن لم یسبق لفظا فهو سابق تقدیرا ، فکأن قائلا قال للنبی صلی الله علیه وسلم : «یرحم الله من عباده من یرحم الخلق ، وإن کان مقصرا فیما بینه وبین الله تعالی ، فقال : نعم». وهذا مما یجوز أن یسأل عنه.

وأما الرفع : فجائز جوازا حسنا. وفیه عده أوجه :

أحدها : أن تکون «ما» ، بمعنی الذی ، والعائد إلیها محذوف ، و «الرحماء» خبر «إن» ، والتقدیر : إن الفریق الذی یرحمه الله من عباده الرحماء.

فإن قیل : یلزم من ذلک أن تکون «ما» هنا لمن یعقل؟

ففیه جوابان : أحدهما : أن «ما» قد استعملت بمعنی «من» کقوله تعالی : (فَانْکِحُوا ما طابَ لَکُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنی وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَهً أَوْ ما مَلَکَتْ أَیْمانُکُمْ) [النساء : 3] ، وهو کثیر فی القرآن. ومنه : (وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) [الشمس : 5 - 6] ،. فی أصح القولین ، وحکی أبو زید عن العرب : سبحان ما سبحتنّ له.

وسبحان ما سخرکن لنا.

والثانی : أن «ما» تقع بمعنی «الذی» بلا خلاف ، و «الذی» تستعمل فیمن یعقل ، وفیمن لا یعقل. وإنما یعرف ذلک بما یتصل بها ، وکذلک فی «ما» لا سیما إذا اتصل بها ما یصیر وصفا ، وإنما تفترق «ما» والذی «فی» أن «الذی» یوصف بلفظها ، و «ما» لا یوصف بلفظها.

فإن قیل : کیف یصح هذا؟ والرحماء جمع ، صلی الله علیه وسلم «ما» بمعنی «الذی» مفرده ، والمفرد لا یخبر عنه بالجمع؟.

ص: 35

قیل : «ما» یجوز أن یخبر عنها بلفظ المفرد تاره ، وبلفظ الجمع أخری ، مثل للأمن «وکل» قال تعالی : (وَمِنْهُمْ مَنْ یَسْتَمِعُ إِلَیْکَ) [الأنعام : 25] ، وقال فی آیه أخری : (وَمِنْهُمْ مَنْ یَسْتَمِعُونَ إِلَیْکَ) [یونس : 42] وکذلک قوله تعالی : (بَلی مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلا هُمْ یَحْزَنُونَ) [البقره : 112] ، وقال فی«کل» (وَکُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِینَ) [النمل : 87] ، (وَکُلُّهُمْ آتِیهِ یَوْمَ الْقِیامَهِ فَرْداً) [مریم : 95] ، فالإفراد محمول علی لفظ «من» و «ما» و «کل» والجمع محمول علی معانیها.

وأما «الذی» فقد استعملت مفرده للجنس ، ورجع الضمیر تاره إلی لفظها مفردا ، وتاره إلی معناها مجموعا ، قال تعالی : (مَثَلُهُمْ کَمَثَلِ الَّذِی اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَکَهُمْ فِی ظُلُماتٍ لا یُبْصِرُونَ) [البقره : 17] ، فجاء بالضمیر مفردا ومجموعا ، وقال تعالی : (وَالَّذِی جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر : 33] ، فأعاد الضمیر بلفظ الجمع ، فکذلک فی قوله : «إنما یرحم الله من عباده الرحماء» ، ولک علی هذا الوجه أن تجعل «إن» العامله ، وأن تجعلها بمعنی «نعم» علی ما سبق.

الوجه الثانی من وجوه «ما» التی یجوز معها رفع «الرحماء» : أن تکون «ما» نکره موصوفه فی موضع : فریق أو قبیل ، و «یرحم» صفه لها ، و «الرحماء» الخبر ، والعائد من الصفه إلی الموصوف محذوف ، تقدیره : إن فریقا یرحمه الله : الرحماء.

فإن قیل : کیف یصح الابتداء بالنکره ، والإخبار بالمعرفه عنها؟

قیل : النکره هنا قد خصصت بالوصف ، والرحماء لا یقصد بهم قصد قوم بأعیانهم.

فکان فیه کذلک نوع إیهام. فلما قرنت النکره هنا بالصفه من المعرفه ، وقرنت المعرفه من النکره بما فیها من إبهام ، صح الإخبار بها عنها ، علی أن کثیرا من النکرات یجری مجری المعارف فی باب الأخبار إذا حصلت من ذلک فائحه ، والفائحه هنا حاصله.

الوجه الثالث : أن تکون «ما» مصدریه ، وفی تصحیح الإخبار عنها بالرحماء ثلاثه أوجه.

أحدها : أن یکون المصدر هنا بمعنی المفعول ، تقدیره : إن مرحوم الله من عباده الرحماء. ومنه (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : 13] ، أی مخلوقه. وقال أبو علی : لک أن تجعل «ما» من

ص: 36

قوله : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ) [البقره : 72] مصدریه ، أی کتمانکم ، وکتمانکم بمعنی مکتومکم ؛ لأن الکتمان لا یظهر ، وإنما یظهر المکتوم.

الوجه الثانی : أن المضاف إلی المصدر ، أو إلی الخبر محذوف تقدیره : إن ذوی رحمه الله من عباده الرحماء ، أی : المستحقون لها ، أو إن رحمه الله حق الرحماء. ومثل هذین الوجهین فی قوله تعالی : (وَلکِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) [البقره : 177] هل تقدیره : ولکن ذا البر من آمن؟ ولکن البر برّ من آمن.

الوجه الثالث : أن لا تقدر حذف مضاف ، غیر أنک تجعل «الرحماء» هم الرحمه علی المبالغه ، کما قالوا : رجل عدل ، ورجل زور ، ورجل علم ، وقوم صوم ، إذا کثر منهم ذلک. ومنه قول الخنساء :

ترتع ما رتعت ، حتی إذا

أذکرت ، فإنما هی إقبال وإدبار

فثبت بما ذکرناه وهو قول من زعم امتناع الرفع فی الرحماء. والله أعلم بالصواب.

11. الناهض فی علم الفرائض

12. بلغه الرائض فی علم الفرائض

13. کتاب آخر فی الفرائض للخلفاء

14. المنفح من الخطل فی علم الجدل

15. الاعتراض علی دلیل التلازم ودلیل التنافی

16. جزء الاستیعاب فی علم الحساب

17. اللباب فی البناء والإعراب شرح الإیضاح

18. شرح اللمع

19. شرح التلقین فی النحو

20. التلخیص فی النحو

21. الإشاره فی النحو

22. تعلیق علی مفصل الزمخشری

23. شرح الحماسه

24. غوامض الألفاظ اللغویه للمقامات الحریریه

25. شرح خطب ابن نباته

26. شرح بعض قصائد رؤبه

27. شرح لغه الفقه أملاه علی ابن النجار الحافظ

28. شرح دیوان المتنبی

29. أجوبه مسائل وردت من حلب

30. مسائل مفرده

31. المشرق المعلم فی ترتیب إصطلاح المنطق علی حروف المعجم

32. تلخیص أبیات شعر لأبی علی

33. تهذیب الإنسان بتقویم اللسان

34. الإعراب عن علل الإعراب.

ص: 38

الصوره

ص: 40

الصوره

ص: 41

الصوره

ص: 42

بسم الله الرّحمن الرّحیم

عونک اللهم

أحدها : أنه مشتق من (الکلم) وهو الجرح ، والجرح مؤثر فی نفس المجروح فیلزم أن یکون الکلام مؤثرا فی نفس السامع.

والثانی : أن الکلام یؤکد به (تکلمت) کقولک : تکلمت کلاما ، والمصدر المؤکد نائب عن الفعل والفاعل ، وکما أن الفعل والفاعل جمله مفیده کذلک ما ینوب عنه الکلام.

الثالث : أن الکلام ینوب عن التکلیم والتکلم ، وکلاهما مشدد العین ، والتشدید للتکثیر ، وأدنی درجاته أن یدل علی جمله تامه.

فصل : وإنما قال المحققون : إن الکلام اسم للمصدر ولیس بمصدر حقیقه ؛ لأن المصادر تبنی علی الأفعال المأخوذه منها ، والأفعال المأخوذه من هذا الأصل (کلمت) ومصدره (التکلیم) ، و (تکلمت) ومصدره (التکلم) ، و (کالمت) ومصدره (المکالمه) و (الکلام) ، والکلام لیس بواحد منها إلا أنه یعمل عمل المصدر ، کما عمل (العطاء) عمل (الإعطاء).

فصل : وأما القول فیقع علی المفید ؛ لأن معناه التحرک والتقلقل ، فکل ما یمذل به اللسان ویتحرک یسمی : (قولا) ، وهذا ما یترکب من : (ق ول) فی جمیع تصاریفها وتقلب حروفها نحو : القول والقلو والتوقل ، وغیر ذلک.

ص: 45

یسم عملا ؛ لأن الفعل من العمل وکان یقع علی کل حرکه وعزم ؛ ولهذا یقول من بنی حائطا : قد عملت ، وقد فعلت ، وإذا تکلم قال : قد فعلت ، ولا یقال : عملت.

وسمی القسم الثالث : (حرفا) (1) ؛ لأن حرف کل شیء طرفه ، والأدوات بهذه المنزله ؛ لأن معانیها فی غیرها فهی طرف لما معناها فیه.

فصل : وللاسم (2) حد عند المحققین ؛ لأنه لفظ یقع فیه اشتراک والقصد من الحد تمییز المحدود عما یشارکه.

فصل : ومن أقرب حد حد به : أنه کل لفظ دل علی معنی مفرد فی نفسه ، وقال قوم : هو کل لفظ دل علی معنی فی نفسه غیر مقترن بزمان محصل دلاله الوضع.

فصل : واشتقاقه عند البصریین من : (سما یسمو) إذا علا ، فالمحذوف منه (لامه) ؛ لأن المحذوف یرجع إلی موضع اللام فی جمیع تصاریفه نحو : سمیت وأسمیت ، وسمّی وسمیّ ،

ص: 47

وأسماء وأسام ، ولأن الهمزه فیه عوض من المحذوف ، وقد ألف من عاداتهم أن یعوضوا فی غیر موضع الحذف.

وقال الکوفیون : هو من السمه فالمحذوف (فاؤه) وهو خطأ فی الاشتقاق ، وفیه الخلاف وهو صحیح فی المعنی.

فصل : وإنما سمی هذا اللفظ : (اسما) من معنی العلو لوجهین :

أحدهما : أنه سما علی صاحبیه فی الإخبار کما تقدم.

والثانی : أنه ینوه بالمسمی ؛ لأن الشیء قبل التسمیه خفی عن الذهن فهو کالشیء المنخفض ؛ فإذا سمی ارتفع للأذهان کارتفاع المبصر للعین.

فصل : والألف واللام (1) من خصائص الأسماء ؛ لأنهما وضعا للتعریف والتخصیص بعد الشیاع ولا یصح هذا المعنی فی الفعل والحرف ، ألا تری أن قولک : (ضرب یضرب) یقعان علی کل نوع من أنواع الضرب ولا یصح تخصیصهما بضربه واحده ، کما یکون ذلک قولک : (الرجل) ؛ فإنه یصیر بهما واحدا بعینه.

فصل : وحروف الجر (2) تختص بالأسماء ؛ لأن الغرض منها إیصال الفعل القاصر عن الوصول إلی ما یقتضیه ، والفعل لا یقتضی إلا الاسم فصار الحرف وصله بین الفعل وما یتعدی إلیه.

فصل : وتنوین (3) الصرف ، والتنوین : الفارق بین المعرفه والنکره نحو : (صه) من خصائص الأسماء ؛ لأن ما دخلا له یختص بالأسماء وهو الصرف وتمییز المعرفه من النکره.

ص: 48

فصل : ومن خصائص الاسم کونه فاعلا أو مفعولا أو مضافا أو مثنی أو مجموعا أو مصغرا أو منادی ، وسنذکر عله تخصیص الاسم بکل واحد من ذلک فی بابه إن شاء الله.

فصل : وحد (1) الفعل ما أسند إلی غیره ولم یسند غیره إلیه ، وذکر الإسناد ههنا أولی من الإخبار ؛ لأن الإسناد أعم إذ کان یقع علی الاستفهام والأمر غیرهما ، ولیس الإخبار کذلک بل

ص: 49

هو مخصوص بما صح أن یقابل بالتصدیق والتکذیب ؛ فکل إخبار إسناد ، ولیس کل إسناد إخبارا.

ولا ینتقض هذا الحد بقولهم : (تسمع بالمعیدی خیر من أن تراه) ؛ لأن : (خیرا) هنا لیس بخبر عن (تسمع) بل عن المصدر الذی هو : (سماعک) وتقدیره : (أن تسمع) وحذف (أن) وهی مراد جائز کما قال : [الطویل]

ألا أیّهذا الزاجری أحضر الوغی (1)

أی : عن أن أحضر ، ودل علی حذفه قوله : (وأن أشهد اللذّات) ، وقیل : حده ما دل علی معنی فی نفسه مقترن بزمان محصل دلاله الوضع.

فصل : وإنما اختصت (قد) بالفعل ؛ لأنها وضعت لمعنی لا یصح إلا فیه وهو تقریب الماضی من الحال وتقلیل المستقبل کقولک : قد قام زید ، أی : عن قریب. وزید قد یعطی ، أی :

یقل ذلک منه ، فأما قوله تعالی : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَیَحْزُنُکَ الَّذِی یَقُولُونَ) [الأنعام : 33] فمعناه : قد علمنا.

ص: 50

فصل : وإنما اختصت (السین) بالفعل ؛ لأن معناها جواب (لن یفعل) ، وکذلک : (سوف) إلا أن (سوف) تدل علی بعد المستقبل من الحال ، و (السین) أقرب إلی ذلک منها ، ولما کانت (لن) لا معنی إلا فی المستقبل کان جوابها کذلک.

فصل : إنما دلت تاء التأنیث الساکنه علی الفعل ؛ لأن الغرض منها الدلاله علی تأنیث الفاعل فقط ، لا الدلاله علی تأنیث الفعل ؛ إذ الفعل لا یؤنث ولا تجد تاء تأنیث متحرکه متصله بآخر الفعل ، وإنما ذلک فی الأسماء مثل : (قائمه) والحروف مثل : (ربت) و (ثمت).

فصل : وإنما دل اتصال الضمیر المرفوع الموضع بالکلمه علی أنها فعل ؛ لأن الضمیر المتصل المرفوع لا یکون إلا فاعلا ، والفاعل لا یتصل بغیر الفعل.

فصل : وحد الحرف (1) ما دل علی معنی فی غیره فقط ، ولفظ : (دل) أولی من قولک : (جاء) ؛ لأن الحدود الحقیقیه داله علی ذات المحدود بها ، وقولنا : (ما جاء لمعنی) بیان العله التی لأجلها جاء وعله الشیء غیره ولا ینتقض ب (أین) و (کیف) لوجهین :

ص: 51

أحدهما : أنهما - مع دلالتهما علی معنی فی غیرهما - دالان علی معنی فی أنفسهما وهو المکان والحال ، وقد حصل الاحتراز عن ذلک بقولنا فقط.

والثانی : أن دلالتهما علی معنی فی غیرهما من جهه تضمنها معنی الحرف ، وذلک عارض فیهما.

فصل : ومن علامات الحرف : امتناعه من دخول علامات صاحبیه ؛ لأن معانیها لا تصح فیه.

فصل : ومن علاماته : أنه لا ینعقد منه ومن الاسم وحده ولا من الفعل وحده فائده ، وهو معنی قولهم : (الحرف ما لم یکن أحد جزئی الجمله) فأما حصول الفائده به وبالاسم فی النداء فلنیابته عن الفعل ؛ ولذلک دلائل تذکر فی باب النداء إن شاء الله.

ص: 52

والرابع : أنّه مأخوذ من قولهم : (امرأه عروب) ، أی : متحبّبه إلی زوجها بتحسّنها ، فالإعراب یجبّب الکلام إلی المستمع.

فصل : والإعراب معنی لا لفظ لأربعه أوجه :

أحدها : أنّ الإعراب هو الاختلاف علی ما سبق فی حدّه ، والاختلاف معنی لا لفظ.

والثانی : أنّه فاصل بین المعانی والفصل ، والتمییز معنی لا لفظ.

والثالث : أنّ الحرکات تضاف إلی الإعراب فیقال : حرکات الإعراب وضمّه إعراب والشیء لا یضاف إلی نفسه.

والرابع : أنّ الحرکه والحرف یکونان فی المبنیّ ، وقد تزول حرکه المعرب بالوقف مع الحکم بإعرابه ، وقد یکون السکون إعرابا ، وهذا کلّه دلیل علی أنّ الإعراب معنی.

فصل : والأصل (1) فی علامات الإعراب الحرکات دون الحروف لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ الإعراب دالّ علی معنی عارض فی الکلمه ، فکانت علامته حرکه عارضه فی الکلمه لما بینهما من التناسب.

والثانی : أنّ الحرکه أیسر من الحرف وهی کافیه فی الدلاله علی الإعراب ، وإذا حصل الغرض بالأخصر لم یصر إلی غیره.

والثالث : أنّ الحرف من جمله الصیغه الدالّه علی معنی الکلمه اللازم لها ، فلو جعل الحرف دلیلا علی الإعراب لأدّی ذلک إلی أن یدلّ الشیء الواحد علی معنیین ، وفی ذلک اشتراک ، والأصل أن یخصّ کلّ معنی بدلیل.

فصل : فأمّا الإعراب بالحروف فلتعذّر الإعراب بالحرکه ، وستری ذلک فی مواضعه إن شاء الله تعالی.

ص: 54

فصل : وإنّما کانت ألقاب الإعراب أربعه ضروره إذ لا خامس لها ، وذلک أنّ الأعراض إمّا حرکه وإمّا سکون ، والسکون نوع واحد والحرکات ثلاث ، فمن هنا انقسمت إلی هذه العدّه.

فصل : والإعراب دخل الأسماء لمسیس الحاجه إلی الفصل بین المعانی علی ما سبق.

وقال قطرب : دخل الکلام استحسانا ؛ لأن المتکلّم یصل بعض کلامه ببعض ، وفی تسکین أواخر الکلم فی الوصل کلفه فحرّک تسهیلا علی المتکلم ولو کان الإعراب لحاجه الفصل وللفرق لاستغنی عنه بتقدیم الفاعل علی المفعول ، ولکان الاتفاق فی الإعراب یوجب الاتفاق فی المعانی ، ولیس کذلک ألا تری أنّ قولک : (زید قائم) مثل قولک : (هل زید قائم) ، وقولک : (إنّ زیدا قائم) مثل قولک : (زید قائم) فی المعنی ، والجواب عمّا قاله من وجهین :

أحدهما : أن السکون أسهل علی المتکلّم من الحرکه.

والثانی : أنّ الغرض لو کان ما ذکر لکان المتکلّم بالخیار إن شاء حرّک بأی حرکه شاء ، وإنّ شاء سکّن ، وأما التقدیم فجوابه من وجهین :

أحدهما : أنّه لا یمکن فی کلّ مکان ألا تری أنّ التقدیم فی قولک : ما أحسن زیدا! غیر ممکن.

والثانی : أنّ فی لزوم التقدیم تضییقا علی المتکلّم مع حاجته إلی التسجیع وإقامه القافیه.

وأمّا اختلاف الإعراب مع اتّفاق المعنی وعکسه فشیء عارض جاز لضرب من التشبیه بالأصول فلا یناقض به.

فصل : واختلفوا هل الإعراب (1) سابق علی البناء أم العکس؟ فالمحقّقون علی أنّ الإعراب سابق ؛ لأن واضع اللغه حکیم ، یعلم أنّ الکلام عند الترکیب لا بدّ أن یعرض فیه لبس ، فحکمته تقتضی أن یضع الإعراب مقارنا للکلام.

ص: 55

وقال الآخرون : تکلّمت العرب بالکلام عاریا من الإعراب ، فلمّا عرض لهم اللبس أزالوه بالإعراب وهذا لا یلیق بحکمتهم.

فصل : واختلفوا فی حرکات الإعراب : هل هی أصل لحرکات البناء ، أم بالعکس ، أم کلّ واحد منهما فی موضعه أصل؟

فذهب قوم إلی الأوّل ، وعلته : أن حرکات الإعراب دوالّ علی معان حادثه بعلّه بخلاف حرکات البناء وما ثبت بعلّه أصل لغیره.

وذهب قوم إلی الثانی ، وعلّته : أن حرکه البناء لازمه وحرکه الإعراب منتقله ، واللازم أصل للمتزلزل إذ کان أقوی منه وهذا ضعیف ؛ لأن نقل حرکات الإعراب کان لمعنی ولزوم حرکه البناء لغیره معنی.

وذهب قوم إلی الثالث ؛ لأن العرب تکلّمت بالإعراب والبناء فی أول وضع الکلام ، وکلّ واحد منهما له علّه غیر علّه الآخر ، فلا معنی لبناء أحدهما علی الآخر.

فصل : وإنّما کان موضع حرکه الإعراب آخر الکلمه لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ الإعراب جیء به لمعنی طارئ علی الکلمه بعد تمام معناها وهو الفاعلیه والمفعولیّه ، فکان موضع الدالّ علیه بعد استیفاء الصیغه الدالّه علی المعنی اللازم لها ولیس

ص: 56

کذلک لام التعریف وألف التکسیر ویاء التصغیر ؛ لأن التعریف والتکسیر والتصغیر کالأوصاف اللازمه للکلمه بخلاف مدلول الإعراب.

والثانی : أنّ حرکه الإعراب تثبت وصلا وتحذف وقفا ، وإنّما یمکن هذا فی آخر الکلمه إذ هو الموقوف علیه.

والثالث : أنّ أوّل الکلمه لا یمکن إعرابه لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ من الإعراب السکون والابتداء بالساکن ممتنع.

والثانی : أنّ أوّل الکلمه متحرّک ضروره ، وحرکه الإعراب تحدث بعامل والحرف الواحد لا یحتمل حرکتین.

والثالث : أنّ تحرّک الأوّل بحرکه الإعراب فإمّا یفضی إلی اختلاط الأبنیه ، ولا یمکن أن یجعل الإعراب فی وسط الکلمه لأربعه أوجه :

أحدها : ما تقدّم من الوجه الأخیر فی منع تحریک الأول.

والثانی : أنّه یفضی إلی الجمع بین ساکنین فی بعض المواضع.

والثالث : أنه یفضی إلی توالی أربع متحرکات فی کلمه واحده ک (مدحرج) إذا تحرّکت الحاء إذ لیس معک ما یمکن تحریکه من الحشو غیره.

والرابع : أنّ حشو الکلمه قد یکون حروفا کثیره وتعیین واحد منها بحرکه الإعراب لا دلیل علیه.

فصل : وألقاب الإعراب (1) أربعه : رفع ونصب وجرّ وجزم ، وألقاب البناء : ضمّ وفتحّ وکسر ووقف ، وتسمیه کلّ واحد منها باسم الآخر تجوز ، وإنّما فرّقوا بینها فی التسمیه لافتراقها قی المعنی ، وذلک أنّ حرکه الإعراب تحدث عن عامل ، وحرکه البناء لا تحدث عن عامل ،

ص: 57

وإذا اختلفت المعانی اختلفت الأسماء الدالّه علیها ؛ لیکون کلّ اسم دالّا علی معنی من غیر اشتراک وهو أقرب إلی الأفهام.

فصل : وإنّما خصّوا الإعراب بالرفع (1) ؛ لأن الرفع ضمّه مخصومه والنصب فتحه مخصومه ، وکذلک الجرّ والجزم وحرکه البناء حرکه مطلقه ، والواحد المخصوص من الجنس لا یسمی باسم الجنس کالواحد من الآدمیین إذا أردت تعریفه علّقت علیه علما کزید وعمرو ، ولا تسمّیه رجلا لا اشتراک الجنس فی ذلک ، فضّمه الإعراب کالشخص المخصوص ، وضمه البناء کالواحد المطلق.

فصل : والحرکه مع الحرف لا بعده ولا قبله ، وقال قوم منهم ابن جنی : هی بعده والدلیل علی الأوّل من وجهین :

أحدهما : أن الحرف یوصف بالحرکه فکانت معه کالمدّ والجهر والشدّه ونحو ذلک ، وإنما کان کذلک لأن صفه الشیء کالعرض ، والصفه العرضیه لا تتقدّم الموصوف ولا تتأخر عنه إذ فی ذلک قیامها بنفسها.

والثانی : أنّ الحرکه لو لم تکن مع الحرف لم تقلب الألف إذا حرّکتها همزه ، ولم تخرج النون من طرف اللسان إذا حرکتها بل کنت تخرجها من الخیشوم ، وفی العدول عن ذلک دلیل علی أن الحرکه معها.

واحتجّ من قال هی بعد الحرف بوجهین :

أحدهما : أنّک لمّ لم تدغم الحرف المتحرّک فیما بعده نحو : (طلل) دلّ علی أنّ بینهما حاجزا ولیس إلا الحرکه.

والثانی : أنّک إذا أشبعت الحرکه نشأ منها حرف ، والحرف لا ینشأ منه حرف آخر فکذلک ما قاربه.

ص: 58

والجواب عن الأوّل : أنّ الإدغام امتنع لتحصنّ الأوّل بتحرّکه (1) ، لا لحاجز بینهما کما یتحصّن بحرکته عن القلب نحو : (عوض).

والجواب عن الثانی : من وجهین :

أحدهما : أنّ حدوث الحرف عن الحرکه کان لأنها تجانس الحرف الحادث فهی شرط لحدوثه ولیست بعضا له ؛ ولهذا إذا حذف الحرف بقیت الحرکه بحالها ، ولو کان الحادث تماما للحرکه لم تبق الحرکه ، ومن سمّی الحرکه بعض الحرف أو حرفا صغیرا فقد تجوّز ؛ ولهذا لا یصحّ النطق بالحرکه وحدها.

والثانی : لو قدّرنا أنّ الحرکه بعض الحرف الحادث لم یمتنع أن یقارن الحرف الأوّل ، کما أنّه ینطق بالحرف المشدّد حرفا واحدا وإن کانا حرفین فی التحقیق ، إلا أنّ الأوّل لمّا ضعف عن الثانی أمکن أن یصاحبه والحرکه أضعف من الحرف الساکن فلم یمتنع أن یصاحب الحرف.

فصل : ویتعلّق بهذا الاختلاف مسأله أخری ، وهی أنّ الحرف غیر مجتمع من الحرکات عند المحققین لوجهین :

أحدهما : أنّ الحرف أصله السکون ومحال اجتماع ساکن من حرکات.

والثانی : أنّ الحرف له مخرج مخصوص والحرکه لا تختصّ بمخرج ولا معنی لقول من قال : إنه یجتمع من حرکتین ؛ لأن الحرکه إذا أشبعت نشأ الحرف المجانس لها لوجهین :

أحدهما : ما سبق من أنّ الحرکه لیست بعض الحرف.

والثانی : أنّک إذا أشبعت الحرکه نشأ منها حرف تامّ وتبقی الحرکه قبله بکمالها ، فلو کان الحرف حرکتین لم تبق الحرکه قبل الحرف.

فصل : وقد سبق أنّ المعرب بحقّ الأصل الاسم المتمکّن ، فأمّا الفعل المضارع ففیه اختلاف یذکر فی باب الأفعال.

ص: 59

فصل : فیما یستحقّه الاسم وهو الرفع والنصب والجرّ ؛ لأنه یقع علی ثلاثه معان الفاعلیّه والمفعولیّه والإضافه فخصّ کل معنی منها بإعراب یدلّ علیه ، فأمّا ما یخصّص کلّ واحد منها بما خصّ به فیذکر فی بابه (1).

فصل : ولم یدخل الجزم الأسماء لستّه أوجه :

أحدها : أنّ الإعراب دخل الأسماء لمعنی علی ما سبق ، وقد وفت الحرکات بذلک المعنی وهو الفرق بین الفاعل والمفعول والمضاف إلیه ولیس ثمّ معنی رابع یدلّ علیه الجزم.

والثانی : أنّ الجزم لیس بأصل فی الإعراب ؛ لأنه سکون فی الأصل ، والسکون علامه المبنیّ أصلّ فی البناء بشهاده الحسّ والوجدان ، إلا أنّه جعل إعرابا فرعا فخصّ بما إعرابه فرع وهو الفعل.

والثالث : أنّ الجزم دخل عوضا من الجرّ فی الأسماء ، فلو دخل الأسماء لجمع لها بین العوض والمعّوض.

ص: 60

وذهب قوم إلی أنّ المضاف إلی یاء المتکلّم غیر مبنیّ ، إذ لا علّه فیه توجب البناء وغیر معرب إذ لا یمکن ظهور الإعراب فیه مع صحّه حرف إعرابه وسمّوه : (خصیّا) والذی ذهبوا إلیه فاسد ؛ لأنه معرب عند قوم مبنیّ عند آخرین ، وسنبین ذلک علی أنّ تسمیتهم إیّاه :

(خصیّا) خطأ ؛ لأن الخصیّ ذکر حقیقه وأحکام الذکور. ثابته له وکان الأشبه بما ذهبوا إلیه أن یسمّوه : (خنثی مشکلا).

والرابع : أنّ الجزم حذف ، وذلک تخفیف فیلیق بالفعل لثقله ، أما الاسم فخفیف فجزمه یحذف منه التنوین والحرکه ، وذلک إجحاف به.

والخامس : أنّ الجزم فی الأسماء یسقط التنوین ، وهو دلیل الصرف ، والحرکه التی هی دلیل المعنی ولیس کذلک جزم الأفعال.

والسادس : أنّ الجزم یحدث بعوامل لا یصحّ معناها فی الأسماء.

ص: 62

فصل : ولم تجرّ الأفعال لستّه أوجه :

أحدها : أنّ الجرّ فی الأسماء لیس بأصل ؛ إذ کان الأصل الرفع للفاعل وما حمل علیه ، والنصب للمفعول وما حمل علیه ، وأمّا الجرّ فبالحرف وما قام مقامه ، وموضع الجارّ والمجرور رفع ونصب ، فحمل الفعل علی الاسم فیما هو أصل فیه.

والثانی : أنّ الفعل محمول علی الاسم فی الإعراب ، فینبغی أن یحمل علیه فی أضعف أحواله وعامل الرفع فی الأسماء قویّ : وهو اللفظیّ ، وضعیف : وهو المعنویّ ، فحمل الفعل فی الرفع علی العامل الضعیف فارتفع الفعل لوقوعه موقع الاسم (1) ، وکذلک عامل النصب فی الأسماء قویّ وهو الفعل ، وضعیف وهو الحرف ، فحمل الفعل علیه فی العامل الضعیف فلم یفعل فی الفعل إلّا الحرف ، وأمّا الجرّ فلیس له إلا عامل واحد وهو الحرف ، وأمّا الإضافه فمقدّره بحرف الجرّ فلیس للجرّ إلا عامل واحد فلم یکن حمل الفعل علیه إذ یلزم مساواته له.

والوجه الثالث : أنّ إعراب الفعل فرع علی إعراب الاسم ، ولو أعرب بالجرّ ، وقد أعرب بالرفع والنصب لکان الفرع مساویا للأصل.

والرابع : أنّ الجزم دخل الأفعال وتعذّر دخوله علی الأسماء لما تقدّم ، فلو جرّت الأفعال لزادت علی الأسماء فی الإعراب.

الخامس : أنّ الجرّ یکون بالإضافه ، والإضافه توجب أن یکون المضاف إلیه داخلا فی المضاف معاقبا للتنوین ، ولیس من قوّه التنوین أن یقع موقعه الفعل والفاعل ، وفی امتناع الإضافه إلی الأفعال أوجه یطول ذکرها ، وسنذکرها فی باب الإضافه إن شاء الله.

والسادس : أنّ الجرّ یکون بعامل لا یصحّ معناه فی الفعل.

فصل : وألقاب البناء أربعه علی عدّه ألقاب الإعراب ، فالضمّ فی البناء کالرفع فی المعرب ، والفتح کالنّصب ، والکسر کالجرّ ، والوقف کالجزم ، فأمّا ما یبنی علی هذه الأشیاء من الکلام فسنذکره بعد الفراغ من المعرب إن شاء الله تعالی.

ص: 63

أحدهما : هو من صریف الناب والبکره والقلم ، وهو الصوت الذی یکون من هذه الأشیاء وعلی هذا یکون الصرف هو التنوین وحده ؛ لأنه صوت یلحق آخر الاسم.

والثانی : هو من صرفت الشیء ، وصرّفته إذا ردّدته وقلّبته فی الجهات ، وعلی هذا یکون الجرّ من الصرف إذ به یزید تقلیب الکلمه والأوّل هو الوجه.

فصل : واختلف النحویّون فی الصرف ، فمذهب المحقّقین أنّه التنوین وحده ، وقال آخرون : هو الجرّ مع التنوین ، والدلیل علی الأوّل من أربعه أوجه :

أحدها : أنّه مطابق لاشتقاق اسم الصرف علی ما تقدّم.

والثانی : أنّ الاسم الذی لا ینصرف یدخله الجرّ مع الألف واللام والإضافه مع وجود العلّه المانعه من الصرف.

الثالث : أنّ الشاعر إذا اضطر إلی تنوین المرفوع والمنصوب ، قیل : قد صرف للضروره ولا جرّ هناک.

والرابع : أنّه إذا اضطر إلی التنوین فی الجرّ جرّ ونوّن ، ولو کان الجرّ من الصرف لفتح ونوّن ؛ لأن ضرورته لا تدعو إلی الکسر.

واحتجّ الآخرون من وجهین : أحدهما : أنّ الصرف من التصریف وهو التقلیب والجرّ زیاده تغییر فی الاسم فکان من الصرف.

والثانی : أنّ التنوین منع منه هذا الاسم لشبهه بالفعل لکونه من خصائص الأسماء والجرّ بهذه الصفه فیکون من جمله الصرف.

ص: 65

والجواب عن الأوّل من وجهین :

أحدهما : أنّ ما ذکروه لو صحّ لم یکن التنوین من الصرف ؛ لأنه لیس من وجوه تقلیب الکلمه بل هو تابع لما هو تقلیب.

والثانی : أنّ الرفع والنصب تقلیب ، ولیس من الصرف ، وأما الثانی فلا یصحّ أیضا ؛ لأن الألف اللام وغیرها من خصائص الاسم لا تمّسی صرفا ، وکذلک الجرّ.

فصل : إنّما زادوا التنوین فی المنصرف دون غیره من الحروف ؛ لأن حروف المدّ تعدّدت زیادتها لما فیها من الثقل وما یلحقها من التغییر بحسب ما قبلها من الحرکات والنون أشبه بحروف المدّ لما فیها من الغنّه ویؤمن فیها ما خیف من حروف المدّ.

فصل : والتنوین مصدر : (نوّنت) ، وحقیقته نون ساکنه تزاد فی آخر الاسم المعرب ویثبت فی الوصل دون الوقف ، وإنّما سمیّ تنوینا لوجهین :

أحدهما : أنّه حادث بفعل الناطق به ، ولیس من سنخ الکلمه.

والثانی : أنّهم فرّقوا بین النون الثابته وصلا ووقفا وبین هذه النون.

فصل : واختلفوا فی علّه زیاده التنوین (1) علی أربعه أقوال :

أحدها : أنّه زید علامه علی خفّه الاسم وتمکّنه فی باب الاسمّیه وهو قول سیبویه ، وذلک أنّ ما یشبه الفعل من الأسماء یثقل ولا یحتمل الزیاده ، وما یشبه الحرف یبنی وما عری من شبههما یأتی علی خفّته ، فالزیاده علیه تشعر بذلک إذ الثقیل لا یثقّل.

والقول الثانی : أنّه فرّق بین المنصرف وغیر المنصرف وهو قول الفرّاء وهذا یرجع إلی قول سیبویه إلا أنّ العباره مضطربه ؛ لأن معناها أنّ النون فرّق بها بین ما ینوّن وبین ما لا ینون وذا تعلیل الشیء بنفسه.

والقول الثالث : أنّ التنوین فرّق به بین الاسم والفعل ، وهذا فاسد لوجهین :

أحدهما : أنّ ما لا ینصرف اسم ومع هذا لا ینوّن.

ص: 66

والثانی : أنّ الفوراق بین الاسم والفعل کثیره کالألف واللام وحروف الجرّ والإضافه فلم یحتج إلی التنوین.

والقول الرابع : أنّه فرّق بین المفرد والمضاف ، وهذا أیضا فاسد من ثلاثه أوجه :

أحدها : أن غیر المنصرف یکون مفردا ولا ینوّن.

والثانی : أن المفرد مفارق للمضاف ؛ لأنه یصح السکوت علیه والمضاف إلیه کجزء من المضاف.

والثالث : أن ما فیه الألف واللام مفرد ولا ینون.

فصل : والمستحق للتنوین الاسم النکره المذکّر ؛ لأن الغرض من زیاده التنوین التنبیه علی خفه الاسم وأخفّ الاسم النکره ، المذکر فأما الاسم العلم مثل : (زید) والنکره المؤنثه مثل :

(شجره) فدخلها التنوین لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّهما أشبها الفعل من وجه واحد ، والاسم أصل للفعل ومشابهه الفرع للأصل من وجه واحد ضعیفه فلا تجذبه إلی حکمه بل غایه ما فیه أن یصیر الوجه الواحد من الشبه معارضا بأصل الاسم إلا أنّه لا یرجّح الفعل علیه حتّی یلحق الاسم به.

والثانی : أنّ تعریف العلم بالوضع فأمّا اللفظ فمثل لفظ النکره ؛ ولهذا یتنکر العلم کقولک : مررت بزید وزید آخر ، ولیس کذلک الألف واللام.

والثالث : أنّ العلم متوسّط بین ما أشبه الفعل من وجهین وبین ما لم یشبه البتّه وإلحاقه بما لم یشبه الفعل أولی ؛ لأنه أصل للأفعال وإلحاق الفروع بالأصول أولی.

فصل : وإنّما لم یجتمع التنوین والألف واللام لوجهین :

أحدهما : أنّ الاسم ثقل بالألف واللام فلم یحتمل زیاده أخری.

والثانی : أنّ الألف واللام یعرّف الاسم فیصیر متناولا لشی بعینه فیثقل بذلک بخلاف النکره فإنها أخف الأسماء.

ص: 67

فصل : ویتعلّق بهذا الکلام بیان خفّه النکره وثقل الفعل (1) أمّا النکره فإنها أخف إذا کان مدلولها معنی واحدا کقولک : (رجل) والسامع یدرک معنی هذا اللفظ بغیر فکره ، وأمّا (زید) ونحوه من الأعلام فیتناول واحدا معیّنا یقع فیه الأشتراک فیحتاج إلی فواصل تمیّزه.

فصل : وأمّا ثقل الفعل فظاهر ، وذلک أنّ لفظه یلزمه الفاعل والمفاعیل من الظرفین وغیرهما والمصدر والحال ، ویدلّ علی حدث وزمان ویتصرّف تصرّفا تختلف به المعانی بخلاف الاسم ؛ فإنّه لا یدلّ إلا علی معنی واحد.

فصل : وإنّما لم یجتمع التنوین والإضافه لوجهین :

أحدهما : أنّ التنوین فی الأصل دلیل التنکیر والإضافه تعرّف أو تخصّص فلم یجمع بینهما لتنافی معنییهما.

والثانی : أنّ التنوین جعل دلیلا علی انتهاء الاسم والمضاف إلیه من تمام المضاف ، فلو نوّن الأوّل لکان کإلحاق التنوین قبل منتهی الاسم وهذا معنی قولهم : التنوین یؤذن بالانفصال والإضافه تؤذن بالاتّصال فلم یجتمعا.

فصل : والکلام فی غیر المنصرف یستوفی بجمیع أحکامه فی باب ما لا ینصرف إن شاء الله.

ص: 68

فصل : وإذا کانت لام الکلمه واوا مثل : (غازی) فإنّها سکنت وانکسر ما قبلها فانقلبت یاء ؛ فإذا نصبت فقلت : (رأیت غازیا) لم تعد الواو لئلّا یختلف حکمها فی اسم واحد لأمر عارض وهذا أقرب من حملهم : (أعد ونعد وتعد) فی الحذف علی (یعد).

فصل : إذا کان المنقوص منصرفا حذفت یاؤه الساکنه وبقی التنوین ؛ لأنّهما ساکنان والجمیع بینهما متعذّر ، وتحریک الیاء لا یجوز لوجهین :

أحدهما : الثقل المهروب منه.

والثانی : أنّه تحریک أوّل الساکنین فی کلمه واحده ، وذلک لا یجوز لما نبیّنه فی باب المبنیّات وتحریک التنوین یثقله فیتعین الحذف ، وحذف الیاء أولی لثلاثه أوجه :

أحدهما : أنّ حذف أوّل الساکنین فی کلمه واحده هو القیاس ، نحو : لم یکن ، ولم یبع ، لا سیما ، والیاء من حروف العلّه والنون حرف صحیح.

والثانی : أنّ الیاء علی حذفها دلیل.

والثالث : أنّ التنوین دخل لمعنی فحذفه یخلّ له بخلاف الیاء.

فصل : وقد جاء فی ضروره الشعر ضمّ الیاء وکسرها فی الرفع والجرّ علی الأصل ، وقد سکنت الیاء أیضا فی الشعر من المنصوب ، قال أبو العبّاس : وهو من أحسن الضروره وإذ کان تحریکها ثقیلا بکلّ حال.

فصل : وأمّا المقصور (1) فکلّ اسم آخره ألف وهذا یدخل فیه المذکّر والمؤّنث نحو :

(القفا) و (العصا) و (ذکری) و (حبلی) وإن شئت قلت : کلّ اسم حرف إعرابه ألف ، ولا تحتاج أن تقول : ألف مفرده ؛ إذ قولک : (آخره ألف) یغنی عن ذلک (2).

ص: 70

فصل : والمقصور من قولک : قصرته ، أی حبسته ومنه : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِی الْخِیامِ) [الرحمن : 72] وامرأه قصیره ومقصوره ، أی : محبوسه فی خدرها ، ومنه قول کثیّر (1) : [الطویل]

وأنت الّتی حبّبت کلّ قصیره

إلیّ وما یدری بذاک القصائر

عنیت قصیرات الحجال ولم أرد

قصار الخطا شرّ النساء البحاتر

فصل : وفی معنی تسمیته : (مقصورا) أربعه أوجه :

أحدها : أنّ الإعراب قصر فیه (2) فیکون تقدیره المقصور فیه الإعراب ، ثم حذف وجعل اسما للاسم الذی هذه صفته.

والثانی : أنّه قصر عن الإعراب ، أی : حبس عن ظهور الإعراب فی لفظه.

ص: 71

والثالث : أنّ صوت الألف المفرده أقصر من صوتها إذا وقعت بعدها همزه ، فکان صوتها محبوسا عن صوت الألف التی بعدها همزه.

والرابع : أنّه نقیض الممدود.

فصل : وإنّما لم تظهر فی الألف الحرکه ؛ لأنها هوائیه تجری مع النّفس لا اعتماد لها فی الفم والحرکه تمنع الحرف من الجری وتقطعه عن استطاعته فلم تجتمعا ؛ ولهذا إذا حرّکت الألف انقلبت همزه.

فصل : وإذا نوّن المقصور حذفت ألفه لسکونها وسکون التنوین بعدها ، والعله فی ذلک کالعلّه فی حذف الیاء من المنقوص ، وقد تقدّم ذکره.

فصل : وألف التأنیث فی نحو : (حبلی وبشری) لا أصل لها فی الحرکه ولا یمکن تقدیر الحرکه علیها تقدیرا یمکن تحقیقه ؛ لأنها غیر منقلبه عن حرف یتحرّک ، ولکن لمّا وقعت خبرا جعلت إعراب إذ کانت فی موضع ألف : (عصا ورحی) ، وفی موضع الهمزه فی : (حمراء) والتاء فی : (شجره).

فصل : والممدود (1) متصرّف بوجوه الإعراب ؛ لأن حرف إعرابه همزه وهی حرف صحیح یثبت فی الجزم.

ص: 72

فصل : وإذا سکن ما قبل الیاء جرت بوجوه الإعراب لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ المنقوص منع من ضم الیاء وکسرها للثقل الحاصل بحرکتها وحرکه ما قبلها ، وقد زال ذلک.

والثانی : أنّک لو سکنت الیاء لجمعت بین ساکنین.

والثالث : أنّ ما قبل الیاء إذا سکّن أشبه الحرف الموقوف علیه فی سکونه فتکون الیاء کالحرف المبدوء به والابتداء بالساکن ممتنع (1).

فصل : والیاء المشدّده یاءان ؛ الأولی منها ساکنه فیصیر کظبی ولحی.

ص: 73

فصل : وهذه الأسماء معربه فی حال الإضافه ولها حروف إعراب ، واختلف الناس فی ذلک ، فذهب سیبویه إلی أنّ حروف العلّه فیها حروف إعراب والإعراب مقدّر فیها واختلف أصحابه فی الحرکات التی قبلها.

فقال الربعیّ : الأصل فی الرفع واو مضمومه لکن نقلت الضمّه إلی الحرف الذی قبلها ففی هذا نقل فقط ، وفی النصب تحرّکت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا ففیها قلب فقط ، وفی الجرّ تنقل کسره الواو إلی ما قبلها فقلبت لسکونها وکسر ما قبلها یاء ففیها هنا نقل وقلب وهذا ضعیف ؛ لأنه یؤدّی إلی أن تکون الحرکه المنقوله حرکه إعراب ، فیکون الإعراب فی وسط الکلمه ولا یصحّ تقدیر الإعراب فی حروف العلّه علی قوله ؛ لأن المنقول ملفوظ به فلا حاجه إلی تقدیر إعراب آخر.

وقال بعض أصحاب سیبویه : لم ینقل شیء بل حرکات ما قبلها حروف العلّه تابعه لها تنبیها علی أنّ هذه الأسماء قبل الإضافه إعرابها فی عیناتها وأن ردّ اللام عارض فی الإضافه.

والدلیل علی أنّ حروف العلّه هنا حروف الإعراب لا إعراب أربعه أوجه :

أحدها : أنّ الأصل فی کلّ معرب أن یکون له حرف إعراب وأن یعرب بالحرکه لا بالحرف ، وقد أمکن ذلک هنا إلا أنّ الحرکه امتنع ظهورها لثقلها علی حروف العلّه کما کان ذلک فی المنقوص والمقصور.

والثانی : أنّ هذه الأسماء معربه فی الإفراد علی ما ذکرنا فکانت فی الإضافه کذلک کغیرها من الأسماء.

ص: 75

والثالث : أنّ هذه الحروف لو کانت إعرابا لما اختلّت الکلمه بحذفها کما لا تختلّ الکلمه الصحیحه بحذف الإعراب.

والرابع : أنّ هذه الأسماء لو خرجت علی أصلها من قلبها ألفات لکانت حروف إعراب والحرکه مقدّره فیها فکذلک لمّا ردّت فی الإضافه.

فصل : وقال الأخفش هی زوائد دوالّ علی الإعراب کالحرکات وهذا لا یصحّ لوجهین :

أحدهما : أنّ الإعراب الذی یدلّ علیه لا یصحّ أن یکون فیها إذ کانت زوائد علی المعرب کزیاده الحرکه ، ولا یصحّ أن یکون فی غیرها لتراخیها عنه.

والوجه الثانی : أنّها لو کانت زوائد لکان : (فوک وذو مال) اسما معربا علی حرف واحد وذا لا نظیر له.

فصل : وقال الجرمی : انقلابها هو الإعراب ، وهو فاسد لثلاثه أوجه :

أحدها : أن الرفع لا انقلاب فیه مع أنه معرب.

والثانی : أنّ الانقلاب لو کان إعرابا لاکتفی بانقلاب واحد کما قال فی التثنیه.

والثالث : أنّ الانقلاب فی المقصور لیس بإعراب فکذلک ههنا.

فصل : قال المازنی : هذه الحروف ناشئه عن إشباع الحرکات والإعراب قبلها کما کانت فی الأفراد ، وهذا فاسد لثلاثه أوجه :

أحدها : أن الإشباع علی هذا من أحکام ضروره الشعر دون الاختیار.

والثانی : أن ما حدث للإشباع یسوغ حذفه ، وحذف هذه الحروف غیر جائز فی اللغه العالیه.

والثالث : أنّ یفضی إلی أن یکون : (فوک وذو مال) اسما معربا علی حرف واحد (1).

فصل : وقال الفراء : هی معربه من مکانین فالضمّه والواو إعراب فکذلک الآخران ، وهذا فاسد لثلاثه أوجه :

ص: 76

أحدها : أنّ الإعراب دخل الکلام لیفصل بین المعانی ، وذلک یحصل بإعراب واحد فلا حاجه إلی آخر.

والثانی : ما ذهب إلیه لا نظیر له ولا یصحّ قیاسه علی : (امرئ) و (ابن) ؛ لأن الحرکات هنا تابعه لحروف العلّه وهذا یثبت الحرکه فی الوقف مع أنّ الإعراب یحذف فی الوقف.

والثالث : أنّ (فوک) و (ذو مال) حرفان ویؤدی قوله إلی أن یکون الإعراب فی جمیع الکلمه.

وقال قطرب وأبو إسحق الزیادیّ : هذه الحروف إعراب کالحرکه ، وقد أفسدنا ذلک بما تقدّم.

وقال أبو علیّ وجماعه من أصحابه : هذه حروف إعراب دوالّ علی الإعراب فجمعوا بین قول الأخفش وقول سیبویه ، إلا أنّهم لم یقدّروا فیها إعرابا وهذا مذهب مستقیم کما فی التثنیه والجمع ، ومذهب سیبویه أقوی لخروجه علی القیاس وموافقته للأصول.

فصل : وإذا أضفت : (أبا وأخا وحما وهنا) إلی یاء المتکلّم کانت بیاء ساکنه مخفّفه ، وفی ذلک وجهان :

أحدهما : أنهم لم یعیدوا المحذوف هنا لئلّا یفضی إلی یاء مشدّده قبلها کسره مع کثره استعمال هذه الأسماء فحذفوها تخفیفا.

والثانی : أنّ المضاف هنا مبنی وهذه الحروف دوالّ علی الإعراب وقائمه مقامه فلم یجتمعا ، وأمّا (فی) فردّ فیه المحذوف لئلّا یبقی علی حرف واحد وکان یشبه حرف الجرّ.

فصل : وإنّما أعربت هذه الأسماء بالحروف ؛ لأنها مفرده تحتاج فی قیاس التثنیه والجمع إلیها إذ کانت التثنیه والجمع معربه بالحروف ضروره وهی فروع والأسماء المفرده أصول ، فجعلوا ضربا من المفردات معربا بالحروف لیؤنس ذلک بالتثنیه والجمع ، وإنّما اختاروا من المفردات هذه الأسماء ؛ لأنها تلزمها الإضافه فی المعنی إذ لا أب إلا وله ابن ، وکذلک باقیها ولزوم الإضافه لها یشبهها بالتثنیه إذ کان کلّ واحد منهما أکثر من اسم واحد.

ص: 77

فصل : وإنّما لم تثن الحروف لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّها نائبه عن الأفعال ، وإذا تعذّر ذلک فی الأصل ففی النائب أولی.

والثانی : أنّ الحرف جنس واحد کالفعل.

والثالث : أنّ معنی الحرف فی غیره ، فلو ثنّیت الحرف لأثبت له معنیین فیما معناه فیه ، وذلک ممتنع ؛ لأن معنی الحرف غیر متعدّد.

فصل : وکلّ ما تنکّرت معرفته أو تعرّفت نکرته صحّت تثنیته ؛ لأن أصل المثنیّ العطف ، وإذا استوی لفظ الاسمین وقع الاشتراک بینهما فصارا نکرتین.

ولهذا یدخل الألف واللام علی المثّنی ، وإن کان معرفه قبل ذلک نحو : (الزیدان) فأمّا : (اللذان) (1) فلیس بتثنیه صناعیّه ؛ لأنه لا یتمّ إلا بالصله والتثنیه الصناعیّه لا تکون إلا بعد تمام الاسم ، وإنما هی صیغه للدلاله علی التثنیه وکذلک : (هذان) ؛ لأن (هذا) یقرب من المضمر والمضمر لا یثنّی بل یصاغ منه لفظ یدلّ علی الاثنین ، ولیس (أنتما) تثنیه (أنت) فی اللفظ ومن هنا بقی علی تعریفه بعد التثنیه.

فصل : وإذا أردت تثنیه الجمل قلت : (هذان ذوا تأبّط شرا) أو اللذان یقال لکلّ واحد منهما تأبّط شرا لما تقدّم من استحاله تثنیه الجمله ، وکذلک الأصوات والعلم المضاف إلی اللقب نحو : (قیس قفّه) و (ثابت قطنه).

فصل : فی مجاز التثنیه من ذلک قولهم : (مات حتف أنفیه) أی : منخریه ، و (هو یؤامر نفسیه) أی : نفسه تأمره بأشیاء متضادّه کالبخل والجود ونحوهما فکأنّ له نفسین ومنه : (القمران) للشمس والقمر فسمّی الشمس قمرا عند التثنیه ؛ لأن القمر مذکّر ، ومنه : (العمران) فی أبی بکر وعمر فغلّب عمر ؛ لأنه اسم مشهور وأبو بکر کنیه والاسم أخفّ

ص: 79

و (الأذانان) للأذان والإقامه ، ومنه ذکر المثنی بلفظ الجمع کقولک : (ضربت رؤوسهما) ؛ لأن التثنیه فی الحقیقه جمع ، وقد أمن اللّبس ههنا إذ لیس للواحد إلا رأس واحد ویجوز : (رأساهما) علی القیاس.

فصل : وإنّما زادوا حروف المدّ (1) إذ کانت کالحرکات لخفّتها بسکونها وامتداد صوتها ، وأنّ الکلام لا یخلوا منها أو من أبعاضها ، وهی الحرکات وأنّهم لو زادوا غیرها لتوهّم أنّ الحرف الزائد من أصل الکلمه.

فصل : وإنما جعلت الواو للجمع لقوّتها وخروجها من عضوین وأنّها دلّت علی الجمع فی الإضمار نحو : (قاموا) ، وأنّ معناها فی العطف الجمع وخصّ بها الرفع ؛ لأنها من جنس الضّمه ، وأمّا (الیاء) فخصّ بها الجرّ ولأنّها من جنس الکسره ، وأمّا (الألف) فجعلت فی التثنیه لأربعه أوجه :

أحدها : أنّ الجمع خصّ بالواو والیاء لمعنی یقتضیه فلم یبق للألف غیر التثنیه.

والثانی : أنّ الألف أخف من أختیها ، والتثنیه أکثر من الجمع لدخولها فی کلّ اسم وجعل الأخفّ للأکثر هو الأصل.

ص: 80

والثالث : أنّ الألف أسبق من أختیها فی المخرج والتثنیه أسبق من الجمع فجعل الأسبق للأسبق.

والرابع : أن الألف جعلت ضمیرا لاثنین فی نحو : (قاما) فکذلک تکون فی الأسماء.

فإن قیل : لم لم تجعل الواو فی البنائین ویفتح ما قبلها فی أحدهما ، ویضمّ فی الآخر؟

قیل : لا یصحّ لوجهین :

أحدهما : أنّ فی الأسماء المجموعه ما قبله واو مفتوح وهو : (مصطفون) وبابه فکان یؤدی إلی اللبس.

والثانی : أنّ الواو تناسب الضمّه والفتحه تناسب الألف ، فجعل مع کلّ واحد منهما ما یناسبه (1).

فصل : وإنّما جعلت الألف فی الرفع لأربعه أوجه :

أحدها : أنّها لّما کانت أتمّ حروف المدّ مدّا کانت أصلا لأختیها ؛ ولهذا لم تقبل الحرکه والرفع هو الأصل فجعل الأصل للأصل.

والثانی : أنّ الرفع أسبق من أخویه والألف أسبق من أختیها فجعل الأسبق للأسبق.

والثالث : أن الألف فی الإضمار ضمیر مرفوع ، وذلک یناسب جعلها علامه رفع.

والرابع : انّه إنّما وجبت الواو لرفع الجمع والیاء لجرّ التثنیه والجمع وبقیت الألف فلم یجز أن تکون للنصب لوجهین :

أحدهما : أنّها لو کانت کذلک لحمل المرفوع علی غیره إذ لم تبق له علامه تخصّه.

والثانی : أنّ المنصوب قد قام الدلیل علی أنّه محمول علی غیره فلم یجعل أصلا.

فصل : وإنّما حمل المنصوب علی المجرور هنا (2) لثمانیه أوجه :

ص: 81

أحدها : أنّ الجرّ أصل ینفرد به الاسم والرفع یشترک فیه القبیلان فکان حمل النصب علی المختصّ أولی.

والثانی : أنّ الجرّ أقلّ فی الکلام من الرفع والحمل علی الأقلّ أخفّ.

والثالث : أنّ المنصوب والمجرور فضلتان فی الکلام وحمل الفضله علی الفضله أشبه.

والرابع : أنّهم سوّوا بین ضمیر المنصوب والمجرور نحو : (إنّک) و (بک) و (إنّه) و (له) فکان فی الظاهر کذلک.

الخامس : أنّ المجرور بحرف الجرّ حقّه النصب فی الأصل فکأنّه المنصوب.

السادس : أن المجرور لمّا حمل علی المنصوب فیما لا ینصرف عکس ذلک ههنا.

السابع : أنّ الجرّ بالیاء وهی أخفّ من الواو والحمل علی الأخفّ أولی.

والثامن : أنّ النصب من الحلق وهو أقرب إلی الیاء إذ کانت من وسط الفم.

فصل : وأنّما فتح ما قبل یاء التثنیه وکسر فی الجمع لأربعه أوجه :

أحدها : أنّ الفتحه أخف والتثنیه أکثر فجعل الأخف للأکثر تعدیلا.

الثانی : أنّ الألف لمّا اختصت بالتثنیه ولم یکن ما قبلها إلا مفتوحا حمل النصب والجرّ علیه طردا للباب ولم یمکن ذلک فی الجمع.

والثالث : أنّ نون التثنیه مکسوره لما نبینّه فکان فتح ما قبل الیاء تعدیلا.

الرابع : أن حرف التثنیه یدلّ علی معنی فی الکلمه ففتح ما قبله کحرف التأنیث.

فصل : والأسماء المثنّاه والمجموعه معربه (1) ، وحکی عن الزجّاج أنّها مبنیّه وکلامه فی المعانی یخالف هذا والدلیل علی أنّها معربه وجود حدّ المعرب ، وهو اختلاف آخرها لاختلاف

ص: 82

العامل وأنّها لم تشبه الحروف ولا یقال إنّها تضمنّت معنی واو العطف ؛ لأن تضمّن الإسم معنی الحرف لا یغیّر لفظه ک (أین) و (خمسه عشر) ولفظ التثنیه غیّر لفظ الواحد بحیث لا یصحّ إظهار الواو فیه.

فصل : وحروف المدّ ههنا حروف إعراب عند سیبویه ، واختلف أصحابه فقال بعضهم :

فیها إعراب مقدّر ، وقال آخرون : لیس فیها تقدیر إعراب.

وقال الأخفش والمازنیّ والمبردّ : لیست حروف إعراب بل دالّه علیه. وقال الجرمیّ : انقلابها هو الأعراب. وقال قطرب والفرّاء : هی نفس الإعراب.

والدلیل علی مذهب سیبویه من خمسه أوجه :

أحدها : أنّ حرف الإعراب ما إذا سقط یختلّ به معنی الکلمه وهذه الحروف کذلک ، ولو کانت إعرابا لم یختلّ معناها بسقوطه.

والثانی : أنّ هذه الحروف مزیده فی آخر الاسم فکانت حروف إعراب کتاء التأنیث وألفه وحرف النسب.

والثالث : أنّک لو سمّیت رجلا ب (مسلمان) ثم رخمتّه حذفت منه الألف والنون والنون لیست حرف إعراب عند الجمیع فکانت الألف کالثاء فی : (حارث).

والرابع : أنّ العرب قالوا : (مذروان) و (عقلته بثنایین) فصحّحوا الواو والیاء کما صحّحوهما قبل التأنیث نحو : (شقاوه) و (عبایه) ولو لا أنّها حروف إعراب لم تکن کذلک.

والخامس : أنّ هذه الأسماء معربه والأصل فی کلّ معرب أن یکون له حرف إعراب ؛ لأن الإعراب کالعرض المحتاج إلی محلّ والحرف محلّه.

وأمّا الأمثله الخمسه فتعذر أن یکون لها حرف إعراب لما نبنیّه فی باب الأفعال إن شاء الله تعالی.

وقد بیّنّا فی الأسماء الستّه بطلان مذهب الأخفش والجرمیّ والفرّاء وهو فی معنی التثنیه والجمع ، ونزیده ههنا أنّ الیاء ههنا لا تستحق الحرکه إذ لو کان کذلک لا نقلبت ألفا کما فی المقصور.

ص: 83

ویبطل مذهب الفرّاء أیضا : أنّ هذه الحروف تدلّ علی معان لا تدلّ علیها الحرکات من التثنیه والجمع ، وإنّما دلّت علی الإعراب تبعا لا أصلا.

فإن قیل : لو کانت حروف إعراب لم تقع تاء التأنیث قبلها فی نحو : (شجرتان)؟

قیل : لمّا کانت هذه الحروف دالّه علی الإعراب من وجه وحرف إعراب من وجه جاز وقوع تاء التأنیث قبلها من حیث هی دالّه علی الإعراب لا من حیث هی حروف إعراب ، وإنّما روعی ذلک ؛ لأن التأنیث معنی نحافظ علیه کما أنّ التثنیه کذلک.

فصل : واختلف النحویّون فی زیاده النون فی التثنیه والجمع لماذا زیدت فمذهب سیبویه وجمهور البصریّین أنّها عوض من الحرکه والتنوین (1).

ومن البصریّین من قال تکون عوضا منهما فی نحو : (رجلان) ومن الحرکه فی نحو :

(الرجلان) ومن التنوین فی نحو : (غلاما زید) ومنهم من قال : هی بدل من الحرکه فی کل موضع ، ومنهم من قال من التنوین فی کلّ موضع.

وقال الفرّاء : فرّق بها بین التثنیه وبین المنصوب المنوّن فی الوقف.

والدلاله علی الأوّل من وجهین :

أحدهما : أنّ الاسم مستحقّ الحرکه والتنوین ، وقد تعذّرا فی التثنیه والجمع والتعویض منهما ممکن والنون صالحه لذلک ورأینا العرب أثبتتها فیهما ففهم أنّهم قصدوا التعویض رعایه للأصل ، ومثل ذلک ثبوت النون فی الأمثله الخمسه عوضا من الضمّ.

ص: 84

والوجه الثانی : أنّ النون تثبت فی النکره المنصرفه وتسقط فی الإضافه کما یسقط التنوین فأمّا ثبوتها مع الألف واللام ففیه وجهان :

أحدهما : أنّ الاسم تثبت فیه النون قبل الألف واللام فلمّا دخلا لم یحذفاه لقوّته بحرکته بخلاف الإضافه.

والثانی : أنّهما هناک بدل من الحرکه وحدها وتعذّر أن یکون بدلا من التنوین ، وکلّ حرف دلّ علی شیئین وتعذر دلالته علی أحدهما وجب أن یبقی دالا علی الآخر وهذا کالفعل ، فإنّه یدّل علی حدث وزمان ثمّ إنّ (کان وأخواتها) أفعال خلعت دلالتها علی الحدث وبقیت دلالتها علی الزمان ، وکذلک العوض عن شئیین إذا تعذر قیامه عن أحدهما بقی عوضا عن الآخر.

أما سقوطها مع الإضافه فمن حیث هی بدل من التنوین ومن الحرکه ولم یعکس فتحذف مع الألف واللام وتثبت فی الإضافه لوجهین :

أحدهما : أنّ المضاف إلیه عوض من التنوین فی موضعه ؛ ولهذا کان من تمام المضاف وثبوت التنوین یؤدی إلی الجمع بین العوض والمعوض وإلی قطع الأوّل عن الثانی.

والوجه الثانی : أنّ النون لّما ثبتت مع الألف واللام بدلا من الحرکه وحدها أرادوا أن یبیّنوا أنّها بدل من التنوین أیضا فحذفوها مع الإضافه عوضا من حذفها مع الألف واللام.

وأمّا ثبوتها فی : (أحمدان) و (أحمران) ففیه وجهان :

أحدهما : ما تقدّم فی الألف واللام.

والثانی : أنّ الاسم مستحقّ للتنوین فی الأصل (1) ، وإنّما سقط لشبهه بالفعل وبالتثنیه بّعد من الفعل فعاد إلی حقّه.

ص: 85

وأمّا ثبوتها فی : (عصوان) و (فتیان) فلأنّ الحرکه ظهرت لمّا عاد الحرف إلی أصله ، وأمّا ثبوتها فی : (هذان) ففیه وجهان :

أحدهما : أنّها صیغه وضعت للتثنیه لا أنّها تثنیه (هذا) علی التحقیق ، وقد بیّنا علّته فی أوّل الباب وکذلک : (اللذان).

والثانی : أنّ (هذان) و (اللذان) (1) بنیا فی الإفراد لشبههما بالحرف وبالتثنیه زال ذلک إذ الحرف لا یثنی ، وإذا استحقّا أعربا استقّا الحرکه والتنوین.

وذهب قوم إلی أنّ النون فیهما عوض من الحرف المحذوف وهما الألف فی : (هذا) والیاء فی : (الذی).

فإن قیل : حرف المدّ عندکم عوض من الحرکه فکیف یعوّض منها النون أیضا؟

ففیه وجهان :

أحدها : أنّ حروف المدّ لیست عوضا من الحرکه بل دالّه علی الرفع الذی تدّل علیه الحرکه ، والنون عوض من لفظ الحرکه المستحقّه وبین لفظ الحرکه واستحقاقها فرق بیّن ألا تری أنکّ لو سمیت امرأه ب (قدم) لم تصرفها لتحرّک أوسطها ، ولو سمّیتها ب (دار) و (فیل) لصرفت بلا خلاف وإن کانت الحرکه مستحقّه لکنّها معدومه لفظا.

والثانی : أنّ حروف المدّ ضعفت نیابتها عن الحرکه إذ کانت حروف إعراب وأدلّه علی التثنیه والجمع ؛ فجبروا ضعف نیابتها عنها بأن جعلوها عوضا من الحرکه من وجه وعوضا من التنوین من وجه.

وأما مذهب الفرّاء فیبطل من أوجه :

ص: 86

أحدهما : أنّ الألف تثبت فی الرفع خاصّه والعامل یمیّز.

والثانی : أنّه لو کان کما قال لم تثبت النون بعد الیاء.

والثالث : أنّها تثبت فی الجمع ولا لبس هناک.

والرابع : أنّ الألف واللام تمنع من الألف فی نصب الواحد وتثبت فی التثنیه.

فصل : وإنّما کسرت النون فی التثنیه وفتحت فی الجمع لأربعه أوجه :

أحدها : أنّ تحریکها مضطر إلیه لئلّا یلتقی ساکنان ، والأصل فیها السکون والتثنیه قبل الجمع ، والأصل فی حرکه التقاء الساکنین الکسر ، فکانت التثنیه بها أولی وفتحت فی الجمع لتخالف التثنیه.

والثانی : أنّ ما قبل حرف المدّ فی التثنیه مفتوح فجعلوا ما بعده مکسورا تعدیلا وعکسوه فی الجمع.

والثالث : أنّ التثنیه تکون بالألف فی الرفع وهی أخفّ من الواو والیاء فجعلوا الکسر مع الأخفّ والفتح مع الأثقل.

والرابع : أنّهم لو فتحوا فی الموضعین لوقع اللبس فی بعض المواضع ، ألا تری أنّک تقول : مررت بالمصطفین فی الجمع بفتح ما قبل الیاء وما بعدها ، فلو فعلت ذلک فی التثنیه لالتبسا.

فصل : وقد شذّ فی التثنیه شیئان :

أحدهما : جعل المثنّی بالألف فی کلّ حال ، وهی لغه قلیله.

والثانی : فتح النون فیها وکسر النون فی الجمع وهو قلیل أیضا وبابه الشعر.

ص: 87

أحدها : أنّ السموات والأرض جمع فی المعنی فجاء بالحال علی ذلک.

والثانی : أنّ المراد : (أتینا ومن فیها طائعین) وغلّب المذکّر.

والثالث : أنّ المراد : (أهل السموات والأرض).

وأمّا : (العشرون) وإلی : (التسعین) (1) فجمع جمع السلامه لوقوعه علی من یعقل وما لا یعقل وغلّب فیه من یعقل ، ولیس بجمع (عشر) علی التحقیق ؛ لأن العشر من أظماء الإبل وهذا العدد لا یخصّ الأظماء ، وإنّما هو لفظ مرتجل للعدد.

ص: 89

وأمّا : (قله) و (بره) فجمعت جمع السلامه جبرا لها من الوهن الداخل علیها بحذف لاماتها ، وهذه علّه مجوّزه لا موجبه ، ألا تری أنّهم لم یقولوا فی (دم) : (دمون) وغیّروا بعضها نحو کسر السین من (سنین) تنبیها علی أنّ ذلک لیس بأصل فیها.

وأمّا : (أرضون) فجمعوها جمع السلامه جبرا لما دخلها من حذف تاء التأتیث الراجعه فی التصغیر وفتحوا الراء لوجهین :

أحدهما : التنبیه علی مخالفه الأصل.

والثانی : أنّها الفتحه التی تستحقّها فی جمعها الأصلی وهو : (أرضات) وهذه العلّه استحسانیّه لا موجبه فعند ذلک لا تنتقض : (بشمس) و (قدر) ونحوهما.

وأمّا : (علیّون) فقیل إنّه جمع : (علّی) وهو الملک ، وقیل : اسم مکان مرتجل کعشرین.

وأمّا : (قنّسرین) و (یبرین) فمن العرب من یجریه مجری عشرین ، ومنهم من یجعله بالیاء فی کلّ حال ویجعل النون حرف الإعراب.

وأمّا : (الذین) فصیغه مرتجله للجمع فی کلّ حال ، ومن العرب من یجعلها بالواو فی الرفع وبالیاء فی الجرّ والنصب وهی مرتجله أیضا مبنیّه.

وقد جاء فی الشعر کسر نون الجمع لالتقاء الساکنین کما جاء فتح نون التثنیه.

ص: 90

والثانی : أنّ التأنیث والجمع زیادتان ملتبستان متصلتان فکان الدالّ علیهما حرفین ملتبسین من غیر تفریع ، ألا تری أنّ علامه النسب حرفان وهو معنی واحد فکون العلامه هنا حرفین أولی.

فصل : وإنّما حمل المنصوب هنا علی المجرور لوجهین :

أحدهما : أنّه جمع تصحیح فحمل النصب فیه علی الجرّ کجمع المذکّر ؛ لأن المؤنّث فرع علی المذکّر والفروع تحمل علی الأصول ، فلو جعل النصب أصلا لکان الفرع أوسع من أصله وهذا استحسان من العرب لا أنّ النصب متعذّر.

والوجه الثانی : أنّ المؤنّث بالتاء فی الواحد تقلب تاؤه هاء فی الوقف ولا یمکن ذلک فی الجمع فکما غیّر فی الواحد غیّر فی الجمع فحمل النصب علی غیره إذ کان تغییرا والتغییر یؤنس بالتغییر.

فصل : وکسرته فی النصب إعراب ، وقال الأخفش : بناء ، وهذا ضعیف إذ لا علّه توجب البناء ، ولو صحّ ما قال لکان فتح المجرور فیما لا ینصرف والتثنیه والجمع فی النصب بناء.

فصل : والتنوین الداخل هذا الجمع لیس تنوین الصرف.

وقال الربعیّ : هو تنوین الصرف ، وما قاله ضعیف بدلیل ثبوته فیما لا ینصرف کقوله تعالی : (أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) [البقره : 198] وقولهم : (هذه عرفات مبارکا فیها) فنصب الحال عنها یدلّ علی أنّها معرفه وهی مؤنّثه ، وإنّما هذا التنوین نظیر النون فی : (مسلمون) إذ کان هذا الجمع فرعا علی ذلک الجمع.

وقیل : التنوین هنا عوض ممّا منع هذا الاسم من الفتحه فی النصب کما عوّضت النون من الحرکه فی التثنیه والجمع ، ولّما کان المعوّض منه حرکه واحده جعلت هذه النون کتنوین الصرف فی أنّها لا تثبت وقفا وخطّا ولا مع الألف واللام.

فصل : وإنّما حذفت التاء الأولی فی نحو : (مسلمات) لوجهین :

أحدهما : أن الغرض منها التأنیث ، وقد حصل بتاء الجمع.

والثانی : أنّ تاء التأنیث لم تقع حشوا ؛ ولهذا لم تثبت فی النسب فلا یقال : (بصرتیّ) ، وقیل : امتناعها فی النسب لئلّا یقال : (بصرتیه) فتجمتع علامتان.

ص: 92

وإنما کان حذف الأولی أولی لوجهین :

أحدهما : أنّ التثنیه تدلّ علی التأنیث والجمع مع الألف ، فلو حذفت لبطلت دلاله الجمع.

والثانی : أنّ الأولی حشو.

فصل : وإنّما لم تحذف ألف التأنیث فی الجمع کما حذفت التاء لوجهین :

أحدهما : أنّها لو حذفت لالتبس ذلک الجمع بجمع لیس فی واحده علامه أو بما علامته تاء.

والثانی : أنّ الألف لمّا أبدلت حرفا آخر لم تکن جمعا بین علامتین.

فصل : وإنّما قلبت : (یاء) لا واوا لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّها فی الواحد تمال إلی الیاء.

والثانی : أنّ الیاء أشبه بالألف منها بالواو لقربها منها وخفّتها وخفائها.

والثالث : أنّهم قد أثّنوا بالیاء نحو : (أنت تقومین) وبالکسره التی هی أخت الیاء نحو : (ضربت وأنت) (1).

ص: 93

فصل : وإنّما قلبت همزه التأنیث (واوا) ؛ لأنها تشبه الألف إذ هی من مخرجها وتخفّف إلیها وتصوّر فی الخطّ ألفا ، فلو بقیت لتوالی فی التقدیر ثلاث ألفات ، ولو حذفت لحذفت ألف أخری لالتقائهما.

فصل : وإنّما قلبت : (واوا) لا یاء لثلاثه أوجه :

أحدهما : أنّ الهمزه تشبه الواو فی النقل ومقابلتها فی مخرجها ؛ ولهذا أبدلت منها فی : (وقّتت) و (وجوه) فأبدلت الواو منها تعویضا.

والثانی : أنّها لو ابدلت یاء - والیاء أشبه بالألف - لم یحصل الغرض من إبدالها ؛ لأن الیاء کالألف.

والثالث : أنّهم فرّقوا بذلک بین جمع المقصور والممدود (1).

فصل : ولم تجمع الصفات بالألف والتاء نحو : (حمراء) و (صفراء) ؛ لأن هذا الجمع فرع علی جمع المذکّر ، ولمّا لم یقولوا : (أحمرون) ، (أصفرون) فی المذکّر لم یقولوا : (حمراوات).

والعلّه فی ذلک : أنّ الصفه مشتقه من الفعل ففیها ضرب من الثقل ؛ ولهذا کانت إحدی علل منع الصرف والجمع والتأنیث ثقیلان فتزداد ثقلا ، فأمّا قوله علیه الصلاه والسلام : «لیس فی الخضراوات زکاه» (2) فإنّه جعل کالاسم إذ کان صفه غالبه لا یذکر معها الموصوف : (کالأبطح) و (الأبرق).

ص: 94

فصل : إذا سمّیت مذکّرا بمؤنّث بالتاء نحو : (طلحه) جمعته بالألف والتاء ولا یجوز بالواو والنون ، وقال الکوفیّون : تسکن عینه وتحذف تاؤه ویجمع بالواو والنون فیقال فی (طلحه) : (طلحون) (1). وقال ابن کیسان کذلک إلا أنّه فتح العین.

والدلیل علی فساد مذهبهم : أنّ العرب جمعته بالألف والتاء فقالوا : طلحه الطّلحات ؛ لأن هذا الاسم مؤنث بالتاء وهی من خصائص التأنیث ، والواو من خصائص المذکّر فلم یجمع بینهما.

فأمّا المؤنّث بالألف والهمزه فیجمع بالواو والنون إذا سمّی به فیقال : (سکراوون) و (حمراوون) ؛ لأن الألف صیغت مع الکلمه من أوّل أمرها وثبتت فی التکسیر نحو : (سکاری) وقلبت فی الجمع نحو : (سعدیات) فصارت کالحرف الأصلیّ (2).

وأمّا التاء ففی حکم المنفصل ؛ ولهذا قالوا : تحذف فی هذا الجمع.

فإن قیل : المسمّی مذکّر وعلامه التأنیث تحذف ههنا فلم یبق مانع من هذا الجمع؟

قیل : العبره فی هذا الجمع باللفظ وهو مؤنث والتاء وإن حذفت فهی مقدّره ، ألا تری أنّک لو سمیت مؤنثا بمذکر لجاز ولم یستحل المعنی ، وکذا لو سمّیت مذکّرا بمؤنّث جاز ولم تقل هذا جمع بین الضدّین ، فعلم أنّ تذکیر المعنی لا یمنع من تأنیث اللفظ ، وأمّا تحریک العین فضعیف جدّا ؛ لأن ذلک من خصائص الجمع بالألف والتاء.

ص: 95

وإنّما وجب أن یکون اسما ؛ لأنه مخبر عنه ولا یصحّ الإخبار عن غیر الاسم ، وأمّا قولهم : (تسمع بالمعیدیّ خیر من أن تراه) فتقدیره : (أن تسمع) فلم یخبر عن الفعل إذن ، وإنّما شرط فیه التجرّد من العامل اللفظیّ ؛ لأن العامل اللفظیّ إذا تقدّم علیه عمل فیه ینسب إلیه أکان فاعلا أو ما أشبهه.

وأما قولهم : (بحسبک قول السوء) فالباء زائده ، وقد علمت فی لفظ الاسم والموضع مرفوع وشرط فیه الإسناد لتحصل الفائده.

وقد قال النحویّون : المبتدأ معتمد البیان ، والخبر معتمد الفائده ، ومن ههنا شرط فی المبتدأ أن یکون معرفه أو قریبا منها لیفید الإخبار عنه إذ الخبر عمّا لا یعرف غیر مفید ، وقد جاءت نکرات أفاد الإخبار عنها وسنراها إن شاء الله تعالی.

فصل : واختلفوا فی العامل فی المبتدأ علی خمسه أقوال :

أحدها : أنّه الابتداء وهو کون الاسم أوّلا مقتضیا ثانیا ، وهذا هو القول المحقّق وإلیه ذهب جمهور البصریین (1).

والقول الثانی : أنّ العامل فیه تجرّده عن العوامل اللفظیّه وإسناد الخبر إلیه روی عن المبرّد وغیره.

والثالث : أنّ العامل فیه ما فی النفس من معنی الإخبار روی عن الزجّاج.

ص: 97

والرابع : أنّ العامل فیه الخبر.

والخامس : أنّ العامل فیه العائد من الخبر.

والقولان الأخیران مذهب الکوفیّین ، والدلیل علی أنّ العامل فیه أوّلیتّه واقتضاؤه ثانیا من وجهین :

أحدهما : أنّ هذه الصفه مختّصه بالاسم والمختصّ من الألفاظ عامل فکذلک من المعانی.

والثانی : أنّ المبتدأ معمول ولا بدّ له من عامل ، ولا یجوز أن یعمل فی نفسه لامتناع کون المعمول عاملا فی نفسه کما یمتنع أن یکون الشیء علّه لنفسه ، ولا یجوز أن یکون تعرّیه من العوامل اللفظیّه عاملا ؛ لأن ذلک عدم العامل وعدم العامل لا یکون عاملا.

فإن قیل : العدم یکون أماره لا علّه؟

قیل : الأماره یستدلّ بها علی أنّ ثمّ عاملا غیرها ، وقد اتّفقوا علی أنّه لا عامل یستدلّ علیه بالعدم.

فإن قیل : التعرّی من العوامل لیس هو العامل بل صلاحیه الاسم للعوامل اللفظیّه هو العامل؟

قیل : هذا یرجع إلی المذهب الأوّل ولا یجوز أن یکون إسناد الخبر عاملا ؛ لأن الإسناد یکون بعد المبتدأ ومن شرط العامل أن یتقدّم علی المعمول لفظا أو تقدیرا.

ولا یجوز أن یکون العامل ما فی النفس من معنی الخبر لوجهین :

أحدهما : أنّ تصوّر معنی الابتداء سابق علی تصوّر معنی الخبر والسابق أولی أن یکون عاملا.

والثانی : أنّ رتبه الخبر بعد المبتدأ ورتبه العامل قبل المعمول فیتنافیان.

والثالث : أنّ الخبر قد یکون فعلا ، فلو عمل فی المبتدأ لکان فاعلا.

والرابع : أنّ الخبر یکون من الموصول والصله ، فلو عمل لعملت الصله فیما قبلها.

والخامس : أنّ الخبر کالصفه وکما لا تعمل الصفه فی الموصوف کذلک الخبر.

والسادس : أنّ (إنّ) و (کان) إذا دخلا علی المبتدأ أزالا الرفع والخبر لفظیّ ، والعامل اللفظیّ لا یبطل العامل اللفظیّ ، ولا یجوز أنّ یکون الضمیر العائد عاملا لوجهین :

ص: 98

أحدهما : أنّ المضمر فرع المظهر ؛ فإذا لم یعمل الأصل فالفرع أولی.

والثانی : أنّ الضمیر قد یکون فی الصله ، فلو عمل لعمل فیما قبل الموصول ، وإذا بطلت هذه الأقوال تعیّن القول الأوّل.

فصل : وأمّا عامل الخبر (1) ففیه خمسه أقوال :

1 - أحدهما : الابتداء وهو قول ابن السراج ؛ لأنه عمل فی المبتدأ فعمل فی الخبر ک (کان) و (ظننت) و (إنّ).

2 - والقول الثانی : أنّ المبتدأ هو العامل فی الخبر وهو قول أبی علیّ ، وهذا ضعیف لوجهین :

أ - أحدهما : أنّ المبتدأ کالخبر فی الجمود والجامد لا یعمل.

ب - والثانی : أنّ المبتدأ لو عمل فی الخبر لم یبطل بدخول العامل اللفظیّ ؛ لأنه لفظی أیضا ومن مذهبه أنّ العامل اللفظیّ لا یعمل فی المبتدأ والخبر.

3 - والقول الثالث : أنّ الابتداء والمبتدأ جمیعا یعملان فی الخبر ، وقد بیّنا أنّ المبتدأ لا یصلح للعمل فلا یصلح له مع غیره وأمّا العامل فی الشرط والجزاء فسنبینّه فی موضعه.

4 - والقول الرابع : أنّ العامل فی الخبر التعرّی من العوامل ، وقد أفسدناه.

5 - والقول الخامس : أنّ العامل هو المبتدأ وهو قولّ الفرّاء وسمّوهما المترافعین وشبّهوهما بأسماء الشرط ، وإنّما تعمل فی الفعل ویعمل الفعل فیها ، وهذا قول ضعیف لما بیّنا أن المبتدأ لا یصلح للعمل وتشبیهه بأسماء الشرط (2) لا یصحّ لخمسه أوجه :

ص: 99

أحدها : أنّهم بنوه علی أنّ الخبر عامل فی المبتدأ ، وقد أفسدناه.

والثانی : أنّ اسم الشرط لا یعمل بل العامل حرف الشرط مضمرا ولا یجوز إظهاره کما لا یجوز إظهار : (أن) مع (حتی).

والثالث : أنّ عمل اسم الشرط بالنیابه عن الحرف وعمله فی الفعل ضعیف هو الجزم بخلاف المبتدأ والخبر.

والرابع : أن عمل اسم الشرط فی الفعل من حیث ناب عن الحرف وعمل الفعل فیه من حیث هو اسم ، والأسماء معموله الأفعال فجهه العمل مختلفه بخلاف المبتدأ والخبر.

والخامس : أنّ عمل أحدهما فی الآخر مخالف لعمل الآخر فیه والعمل فی مسألتنا واحد فهو کالآخذ ما یعطی ، وذلک کالعبث هذا تعلیل جماعه من النحویّین وفیه نظر.

والصحیح : أن یقال العمل تأثیر والمؤثر أقوی من المؤثّر فیه فیفضی مذهبهم إلی أن یکون الشیء قویّا ضعیفا من وجه واحد إذ کان مؤثرا فیما أثّر فیه.

فصل : وإنّما عمل الابتداء الرفع لوجهین :

أحدهما : أنّه قوی بأوّلیته والرفع أقوی الحرکات فکان ملائما له.

والثانی : أنّ المبتدأ یشبه الفاعل فی أنّه لا یکون إلا اسما مخبرا عنه سابقا فی الوجود علی الخبر.

فصل : وإنّما کان المبتدأ معرفه فی الأمر العامّ ؛ لأن الفائده لا تحصل بالإخبار عمّا لا یعرف.

فأمّا إذا وصفت النکره فالإخبار عنها مفید لتخصّصها وأمّا قولهم : (سلام علیکم) (1) فالاسم واقع موقع الفعل أی : (سلّم الله علیکم) ، وأمّا إذا تقدّم الخبر وکان ظرفا فلتخصّص المبتدأ بالظرف المخصوص.

وأمّا قولهم : (ما أحد فی الدار) فجاز لما فی أحد من معنی الاستغراق.

ص: 100

وأمّا قولهم : (شرّ أهر ذا ناب ، ومأرب دعاک إلینا لا حفاوه) ففی معنی النفی ، أی : ما أهرّ ذا ناب إلا شرّ (1).

وأمّا قولهم : (أقائم زید) فجائز لاعتماد النکره علی الاستفهام ونیابتها عن الفعل.

وأما : (ما) فی التعجّب فلما فیها من الإبهام والعموم.

فصل : الاسم الواقع بعد : (لو لا) التی یمتنع بها الشیء لوجود غیره مبتدأ.

وقال الکوفیّون : هو فاعل فعل محذوف ، ومنهم من یرفعه بنفس (لو لا) ، وقالوا : (لا) فیه بمعنی (لم) ، والدلیل علی أنّه مبتدأ من وجهین :

أحدهمّا : أنّ (لو لا) هذه تقتضی اسمین (2) ، الثانی منهما خبر بدلیل جواز ظهوره فی اللفظ وإن لم یستعمل ، ولو کانت (لو لا) عامله أو العامل مقدّرا بعدها لم یصحّ ذلک.

والثانی : أنّ (لو لا) لا تختصّ بالأسماء بل تدخل علیها وعلی الأفعال.

ص: 101

بدلیل قول الهذلی (1) : [الطویل]

ألا زعمت أسماء أن لا أحبّها

فقلت بلی لو لا ینازعنی شغلی

وقال جریر (2) : [البسیط]

أنت المبارک والمیمون سیرته

لو لا تقوّم درء الناس لاختلفوا

وقال آخر : [البسیط]

قالت أمیمه لمّا جئت زائرها

هلّا رمیت ببعض الأسهم السود

لا درّ. درّک إنّی قد رمیتهم

لو لا حددت ولا عذری لمحدود

فإن قیل : لو کان ما بعدها مبتدأ لم تقع موقعه (أنّ) المفتوحه ، وقد وقعت کقوله تعالی : (فَلَوْ لا أَنَّهُ کانَ مِنَ الْمُسَبِّحِینَ) [الصافات : 143] ووقوع المفرد بعدها دلیل علی ارتفاعه بفعل محذوف أو بها؟

قیل : جوابه من ثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ (أنّ) المفتوحه تکون فی موضع المبتدأ فی کلّ موضع لا یصحّ فیه دخول (إنّ) المکسوره علیها لئلّا یتوالی حرفان بمعنی واحد ، وقد أمن هذا فی (لو لا).

والثانی : أنّ خبر المبتدأ ههنا لمّا لم یظهر بحال صار الکلام کالمفرد.

والثالث : أنّ الکلام لا یصحّ إلا بشیئین ؛ أحدهما : جعل (لا) بمعنی (لم) ، والثانی : تقدیر فعل رافع. والأوّل باطل لوجهین ؛ أحدهما : أنّ وضع (لا) موضع (لم) لا یصحّ ؛ لأن (لم) تختصّ بالأفعال المستقبله لفظا و (لا) تختصّ. والثانی : أنّ (لو لا) هنا تختصّ بالأسماء أو تکثر فیها و (لم) لا یقع بعدها الأسماء ، وأمّا تقدیر الفعل فلا یصحّ لوجهین ؛ أحدهما : أنّ الفعل لا

ص: 102

یحذف عن الفاعل إلا إذا کان هناک فعل یفسّر المحذوف ، ولیس ذلک ههنا. والثانی : أنّه لو کان الأمر علی ما قالوا لصحّ العطف علیه بإعاده (لا) کقولک : لو لا زید ولا عمرو ، کقولک : لو یقم زید ولا عمرو.

فصل : وإذا اعتمد اسم الفاعل علی الاستفهام أو حرف النفی أو کان صفه أو صله أو حالا أو خبرا أو مبتدأ بعد مبتدأ جاز رفعه بالابتداء وکان ما بعده فاعلا (1) ؛ لأن هذه الأشیاء تقوّی شبهه بالفعل وارتفع بالابتداء ؛ لأن شروط الابتداء موجوده فیه ولا یحتاج إلی خبر ؛ لأنه ناب الفعل الذی هو خبر.

فإن لم یعتمد علی شیء کان خبرا مقدّما فیه ضمیر ویثنّی ویجمع عند سیبویه ، وقال الأخفش : یکون مبتدأ کما لو اعتمد ویعمل فیما بعده وهذا ضعیف ؛ لأن اسم الفاعل فرع فی العمل علی الفعل فلم یعمل إلا بما یقوّیه.

ص: 103

فصل : وحقیقه الخبر ما صحّ أن یقال فی جوابه صدق أو کذب ، فأمّا الأمر والنهی فضعیف جعلهما خبرا للمبتدأ ؛ لأنّهما ضدّ الخبر فی المعنی وما جاء منه فهو متأوّل تقدیره زید أقول أضربه ، وحذف القول کثیر أو یکون التقدیر زید واجب علیک ضربه ثم قام الأمر مقام هذا القول کقوله تعالی : (قُلْ مَنْ کانَ فِی الضَّلالَهِ فَلْیَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مریم : 75] أی : فلیمدّنّ له.

فصل : والخبر المفرد هو المبتدأ فی المعنی إذ لو لا ذلک لم یکن بینهما علقه تربط أحدهما بالآخر ؛ ولهذا جاز أن یخلوا من ضمیر یعود علی المبتدأ کقولک : زید غلامک ، وإنّما وجب أن یکون فی الخبر المفرد المشتقّ ضمیرّ ؛ لأنه یعمل عمل الفعل کقولک : زید ضارب أبوه عمرا ، وإذا لم یکن ظاهرا کان مضمرا ؛ ولهذا قالوا : مررت بقاع عرفج کلّه خشن ، أی : کلّه. ومررت بقوم عرب أجمعون ، أی : تعرّبوا کلّهم أجمعون.

فصل : فإن لم یکن الخبر المفرد مشتقّا لم یکن فیه ضمیر ، وقال الرّمانی والکوفیون : فیه ضمیر. وما قالوا فاسد لثلاثه أوجه (1) :

أحدها : أنّ قولک : (هذا زید) مبتدأ وخبر ، فزید لا یصحّ تحمّله الضمیر کما لا یعمل فی الظاهر.

والثانی : أنّه لا یقع صفه فلم یکن فیه ضمیر.

والثالث : أنّه قد یخالف المبتدأ فی العدد کقولک : (زید العمران أخواه) والضمیر أبدا یکون علی وفق المظهر ، ولیس کذلک اسم الفاعل لما تقدّم.

ولا یقال قولک : زید أخوک فی معنی مناسبک ؛ لأنه لو کان کذلک لعمل فی الاسم الظاهر ولوقع وصفا ، وإنّما هذا فی المعنی صحیح ، والضمیر یعتمد الفعل أو ما کان مشتقا منه ، ألا تری أنّ قولک : مروری بزید حسن وهو بعمرو قبیح ، وضربی زیدا حسن وهو عمرا قبیح ،

ص: 104

جائز أن تعمل المصدر ولا تعمل ضمیره ؛ لأن ضمیر المصدر لیس فیه ضمیر لفظ الفعل وإن کان معناهما واحدا.

فصل : اسم الفاعل إذا جری علی غیر من هو لزم إبراز ضمیر فاعله کقولک : زید عمرو ضاربه هو وقال الکوفیّون لا یلزم.

والدلیل علی لزومه من وجهین :

أحدهما : أنّ إبرازه یزیل اللبس فی کثیر من المواضع کهذه المسأله فیجب أن یلزم فی الجمیع لیطّرد الباب کما فی باب : (یعد) بل هذا ألزم.

والثانی : أن اسم الفاعل فرع علی الفعل فی تحمّل الضمیر ؛ ولهذا لا یجعل اسم الفاعل مع ضمیره جمله بخلاف الفعل ولا یبرز ضمیر التثنیه والجمع فی اسم الفاعل کما یبرز فی الفعل وهذا مقتصر علی الفعل ؛ فإذا انضمّ إلی ذلک جریانه علی غیر من هو له وجب إبراز الضمیر لیظهر أثر قصوره وفرعیّته ، ولیس کذلک الفعل فإنّ الضمیر المتّصل لفظا قد یفصل ویزیل اللبس کقولک : (زید أنا ضربت) ولا یظهر ذلک فی اسم الفاعل کقولک : (زید أنا ضارب) وإن جاء شیء من هذا لم یبرز فیه الضمیر فی الشعر فضروره أو یکون هناک حذف جارّ ومجرور.

فصل : والجمله (1) هی الکلام الذی تحصل منه فائده تامّه ، واشتقاقها من أجملت الشیء إذا جمعته ، وکلّ محتمل للتفصیل جمله والمبتدأ والخبر والفعل والفاعل بهذه الصفه إلا أنّه قد یعرض فی الجمله یحوجها إلی ما قبلها ، وإنّما أخبرنا بالجمله مکان المفرد لثلاثه أشیاء :

أحدها : الحاجه إلی توسیع العباره فی النظم والنثر.

ص: 105

والثانی : أنّ ذلک قد یزیل اللبس فی بعض المواضع کقولک : (زید قام أبوه) لو قلت : (قام أبو زید) لجاز أن یظن أنّ هذه کنیه له لا أنّ له ولدا ؛ فإذا قدمت بطل کونه کنیه.

والثالث : أنّ فی ذکر الشیء مظهرا ومضمرا تفخیما.

وإنّما وجب أن یکون فی الجمله ضمیر المبتدأ ؛ لأن الخبر فیهما علی التحقیق هو المتبدأ الأخیر والأول أجنبیّ منه ، والضمیر یربط الجمله بالأوّل حتّی یصیر له بها تعلّق ، وإنّما یسوغ حذف هذا الضمیر فی موضع یعلم أنّه مراد من غیر لبس کقولهم : السمن منوان بدرهم وکقوله تعالی : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِکَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشوری : 43] أی : إنّ ذلک منه ، ولهذه العلّه جاز حذف الخبر تاره والمبتدأ أخری وحذف الجمله بأسرها.

فصل : والظرف الواقع خبرا مقدّر بالجمله عند جمهور البصریین وقال بعضهم : هو مقدّر بالمفرد (1).

والدلیل علی أنّه مقدّر بالجمله من وجهین :

أحدهما : أنّه کالجمله فی الصله کقولک : (الذی خلفک زید) فکذلک فی الخبر.

والثانی : أنّ الظرف معمول لغیره.

والأصل فی العمل للأفعال والأسماء نائبه عنها وجعل العمل هنا للفعل أولی ، وإذا أنیب الظرف مناب الفعل دلّ علیه واحتجّ الآخرون من وجهین :

أحدهما : أنّ الأصل فی الخبر أن یکون مفردا وحمل الفروع علی الأصول أولی.

ص: 106

والثانی : أنّ الظرف إذا تقدّم علی المبتدأ لم یبطل الابتداء ، ولو کان مقدّرا بالفعل لأبطله.

والجواب : أنّ الأصل فی الخبر لا یمکن تقدیره ههنا لما بیّنا من أنّ المفرد هو المبتدأ فی المعنی والظرف لیس هو المبتدأ ، فعند ذلک نجعل العامل فی الظرف ما هو الأصل فی العمل لئلّا تقع المخالفه من وجهین ، وأمّا إذا تقدم الظرف ولم یعتمد فلا یبطل الابتداء به ؛ لأنه لیس بفعل علی التحقیق بل هو نائب عنه ویصحّ ان یقدّر بعده المبتدأ بخلاف الفعل.

فصل : وإنّما لم یجز الإخبار بالزمان عن الجثّه لعدم الفائده إذ کانت الجثّه غیر مختصّه بزمان دون زمان ألا تری أنّ قولک : (زید غدا) إذا أردت مستقرّ ، غدا لا یفید إذ هو مستقرّ فی کلّ زمان وعلم السامع بذلک ثابت.

فلو قلت : یقدّر الخبر بما هو یختصّ به نحو قولک : حی أو غنی أو قادم؟

قیل : إنّما یضمر ما علیه دلیل ، ولا دلیل علی واحد من هذه بخلاف قولک : (زید خلفک والرحیل غدا) فإنّ المحذوف منه الاستقرار والکون والحصول المطلق والظرف یدلّ علیه قطعا.

فأمّا قولهم : (اللیله الهلال) (1) فیروی بالرفع علی تقدیر : اللیله لیله الهلال. وبالنصب علی تقدیر : اللیله طلوع الهلال. أو علی أن تجعل الهلال بمعنی الاستهلال وهو من إقامه الجثه مقام المصدر ، وإنّما یکون فیما ینتظر ویجوز أن یکون ویجوز إلا یکون ، فلو قلت فی انتهاء الشهر : (اللیله القمر) لم یجز ، وقد یجوز أن تقول : (زید غدا) إذا کان غائبا وخاطبت من ینتظر قدومه.

فصل : ولا یجوز إظهار العامل فی الظرف إذا کان خبرا ؛ لأن ذکر الظرف نائب عنه فلم یجمع بینهما للعلم به ، فأمّا قوله تعالی : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) [النمل : 40] فمستقرّ فیه بمعنی الساکن بعد الحرکه لا الاستقرار الذی هو مطلق الکون.

ص: 107

فصل : یجوز تقدیم الخبر (1) علی المبتدأ مفردا کان أو جمله ، ومنعه الکوفّیّون والدلیل علی جوازه السماع والقیاس ، أمّا السماع فقول الشاعر (2) : [الوافر]

فتی ما ابن الأغرّ إذا شتونا

وحبّ الزاد فی شهری قماح

وقولهم : تمیمیّ أنا ومشنوء من یشنؤک.

وأمّا القیاس فمن وجهین :

أحدهما : أن الخبر یشبه الفعل ، والفعل یتقدم ویتأخر.

والثانی : أنّ الخبر یشبه المفعول ؛ لأنه قد یصیر مفعولا فی قولک : ظننت زیدا قائما ، والمفعول یجوز تقدیمه ، وکذلک خبر (کان) یتقدّم علی اسمها ، وخبر (إنّ) یتقدّم علی اسمها إذا کان ظرفا فکذلک ههنا ، واحتجّ الآخرون بأنّ تقدیم الخبر إضمار قبل الذکر وهذا غیر مانع من التقدیم ؛ لأنه مؤخر تقدیرا فهو کقولهم : (فی بیته یؤتی الحکم) وکقولک : (ضرب غلامه زید) إذا جعلته مفعولا ؛ لأن النیّه به التأخیر (3).

فصل : إذا تقدم الظرف علی الاسم واعتمد علی أحد سبعه أشیاء : مبتدأ علی أن یکون هو خبرا أو صفه أو صله أو حال أو کان معه استفهام أو حرف نفی أو کان عاملا فی (أنّ والفعل) کقوله تعالی : (وَمِنْ آیاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم : 25] جاز أن یعمل فیما بعده عمل الفعل فی الفاعل لقوّته بما اعتمد علیه وجاز أن یکون خبرا مقدّما.

ص: 108

فإنّ لم یعتمد علی شیء لم یعمل عند سیبویه وعمل عند الأخفش والکوفیین ، والمبرّد والدلیل علی أنّه لا یعمل من أربعه أوجه :

أحدهما : أنّ العامل یتخّطّی الظرف فیعمل فیما کان مبتدأ کقولک : إنّ خلفک زیدا ، ولو کان عاملا لم یبطله عامل خلف.

والثانی : أنّک تضمر المبتدأ فی الظرف وهو مقدّم کقولک : فی داره زید ، ولو کان عاملا لکان واقعا فی رتبته ولزم فیه الإضمار قبل الذکر لفظا وتقدیرا (1).

والثالث : أنّ معمول الخبر یجوز أن یتقدّم علی المبتدأ کقول الشمّاخ (2) : [الوافر]

کلا یومی طواله وصل أروی

ظنون آن مطّرح الظنون

و (کلا) منصوب الخبر وهو ظنون والمعمول تابع العامل ، والتابع لا یقع موقعا لا یقع فیه المتبوع.

والرابع : أنّ الظرف وحرف الجرّ غیر مشتقّین ولا معتمدین فلم یعملا کقولک : هذا زید ، فإن قالوا : الظریف نائب عن الفعل فیعمل عمله. فقد أجبنا عنه فی المسأله السابقه.

فصل : فإن کان الخبر استفهاما لزم تقدیمه ؛ لأن الاستفهام له صدر الکلام إذ کان معناه فیما بعده ، ولو قدّمت المستفهم عنه علی الاستفهام لعکست المعنی ، فأمّا قولهم : (صنعت ماذا) ف (ما) غیر معموله ل (صنعت) هذه ، والتقدیر : (أصنعت) ثم حذفت همزه الاستفهام ثم أتیت ب (ما) دالّه علیها و (ما) منصوبه بفعل آخر استغنی عنه بالمذکور.

ص: 109

فصل : وإنّما لزم تقدیم الخبر (1) إذا کان ظرفا أو حرف جرّ علی النکره کقولک : له مال ؛ لأنه لو أخرّ لجاز أن یعتقد صفه وأنّ الخبر منتظر وبالتقدیم ثمّ یزول هذا الظنّ.

ومثل هذه المسأله : أکثر شربی السویق ملتوتا ، وأخطب ما یکون الأمیر قائما. فأمّا قولهم : أخطب ما یکون الأمیر یوم الجمعه. فیروی بالنصب علی تقدیر : أخطب أکوان الأمیر یوم الجمعه. ف (یوما) ههنا خبر ، وفی الکلام مجاز وهو جعل الکون خاطبا ، ویروی بالرفع علی تقدیر : أخطب أیام کون الأمیر ، ففیه علی هذا حذف ومجاز.

ومن ذلک : کلّ رجل وضیعته. فالخبر فیه محذوف ، أی : مقرونان ، أغنی عن الخبر کون الواو بمعنی (مع) والضیعه ههنا الحرفه.

وأمّا قولهم : أنت أعلم وربّک. فتقدیره : ربّک مکافئک أو مجازیک.

فصل : وأمّا قولهم : أمّا زید فمنطلق. ف (زید) مبتدأ و (منطلق) خبره ، وإنّما دخلت الفاء لما فی (أمّا) من معنی الشرط ، فکان موضعها المبتدأ لکونها تکون فی أوّل لجمله المجازی بها لکنّهم أخرّوها إلی الخبر لئلا تلی الفاء ما فی تقدیر حرف الشرط ، وجعلوا المبتدأ کالعوض من فعل الشرط ولا تدخل الفاء علی الخبر فی غیر ذلک إلا فی خبر (الذی) إذا وصل بفعل أو ظرف فیه ما یؤذن بأنّ ما فی الخبر مستحقّ الصله.

وکذلک صفه النکره کقولهم : کلّ رجل یأتینی فله درهم ، فإن أدخلت علی (الذی) (إنّ) جاز أن تدخل الفاء فی الخبر.

وقال الأخفش : لا یجوز ، ووجه جوازه أنّ (إنّ) لا تغیّر معنی الکلام بل تؤکّد الخبر بخلاف أخواتها ، فإنّها تغیّر معنی الکلام ، والأخفش یحکم بزیاده الفاء إذا وجدها فی شیء من ذلک.

ص: 111

والثانی : أنّهم جعلوا النون فی الأمثله الخمسه علامه رفع الفعل مع حیلوله الفاعل بینهما ، ولو لا أنّه کجزء من الفعل لم یکن کذلک.

والثالث : أنّهم لم یعطفوا علی الضمیر المتّصل المرفوع من غیر توکید لجریانه مجری الحرف من الفعل واختلاطه به.

والرابع : أنّهم وصلوا تاء التأنیث بالفعل دلاله علی تأنیث الفاعل فکان کالجزء منه.

الخامس : أنّهم قالوا : (ألقیا) و (قفا) مکان : (ألق ألق) ولو لا أنّ ضمیر الفاعل کجزء من الفعل لما أنیب منابه.

السادس : أنّهم نسبوا إلی (کنت) : (کنتی) ولو لا جعلهم التاء کجزء من الفعل لم یبق مع النسب.

السابع : أنّهم ألغوا : (ظننت) إذا توسّطت أو تأخّرت ولا وجه لذلک إلا جعل الفاعل کجزء من الفعل الذی لا فاعل له ومثل ذلک لا یعمل.

الثامن : امتناعهم من تقدیم الفاعل علی الفعل کامتناعهم من تقدیم بعض حروفه (1).

والتاسع : أنّهم جعلوا : (حبّذا) بمنزله جزء واحد لا یفید مع أنّه فعل وفاعل.

والعاشر : أنّ من النحویّین من جعل : (حبّذا) فی موضع رفع بالابتداء وأخبر عنه والجمله لا یصحّ فیها ذلک إلا إذا سمّی بها.

والحادی عشر : أنّهم جعلوا : (ذا) فی : (حبذّا) بلفظ واحد فی التثنیه والجمع والتأنیث کما یفعل ذلک فی الحرف الواحد.

والثانی عشر : أنّهم قالوا فی تصغیر (حبّذا) : (ما أحیبذه!) فصغروا الفعل وحذفوا منه إحدی البائین ومن الاسم الألف ، والعرب تقول : لا تحبّذه علیه فاشتقّ منهما.

ص: 113

فصل : والعامل فی الفاعل الفعل المسند إلیه وهذا أسدّ من قولهم : العامل إسناد الفعل إلیه ؛ لأن الإسناد معنی والعامل هنا لفظیّ ، والذی ذکرته هو الذی أرادوه ؛ لأن الفعل لا یعمل إلا إذا کان له نسبه إلی الاسم فلمّا کان من شروط عمل الفعل الإسناد والنسبه تجوّزوا بما قالوا : والحقیقه ما قلت.

وقال خلف الکوفیّ : العامل فی الفاعل الفاعلیّه ، والدلیل علی فساد قوله من أربعه أوجه :

أحدها : أنّ (إنّ) عامله بنفسها وهی نائبه عن الفعل فعمل الفعل بنفسه أولی.

والثانی : أنّ الفعل لفظ مختصّ بالاسم والاختصاص مؤثّر فی المعنی فوجب أن یؤثّر فی اللفظ کعوامل الفعل.

والثالث : أنّ الموجب لمعنی الفاعلیه هو الفعل فکان هو الموجب للعمل فی اللفظ.

والرابع : أنّ الاسم قد یکون فی اللفظ فاعلا ، وفی المعنی مفعولا به کقولک : مات زید ، ومفعولا فی اللفظ وهو فی المعنی فاعل کقولک : تصبّب زید عرقا ، ولو کان العامل هو المعنی لانعکست هذه المسائل.

فصل : وإنّما أعرب الفاعل بالرفع (1) لأربعه أوجه :

أحدها : أنّ الغرض الفرق بین الفاعل والمفعول ، فبأیّ شیء حصل جاز.

والثانی : أنّ الفاعل أقلّ من المفعول والضمّ أثقل من الفتح ، فجعل الأثقل للأقلّ والأخف للأکثر تعدیلا.

والثالث : أنّ الفاعل أقوی من المفعول إذا کان لازما لا یسوغ حذفه ، والضّمه أقوی الحرکات فجعل له ما یناسبه.

ص: 114

والرابع : أنّ الفاعل قبل المفعول لفظا ومعنی ؛ لأن الفعل یصدر منه قبل وصوله إلی المفعول فجعل له أوّل الحرکات وهو الضّمّه.

فصل : وإنّما لم یجز أن تکون الجمله فاعلا لثلاثه أوجه (1) :

أحدها : أنّ الفاعل کجزء من الفعل ولا یمکن جعل الجمله کالجزء لاستقلالها.

والثانی : أنّ الفاعل قد یکون مضمرا ومعرفه بالألف واللام وإضمار الجمله لا یصحّ والألف واللام لا تدخل علیها.

والثالث : أنّ الجمله قد عمل بعضها فی بعض ، فلا یصحّ أن یعمل فیها الفعل لا فی جملتها ولا فی أبعاضها إذ لا یمکن تقدیرها بالمفرد هنا.

فصل : والأصل تقدیم الفاعل علی المفعول ؛ لأنه لازم فی الجمله جار مجری جزء من الفعل ، والمفعول قد یستغنی عنه ، والفاعل یصدر منه الفعل ثمّ یفضی إلی المفعول به بعد ذلک ، إلا أنّ تقدیم المفعول جائز لقوّه الفعل بتصرفّه ، والحاجه إلی اتساع الألفاظ ، فإن خیفّ اللبس لم یجز التقدیم مثل أن یکون الفاعل والمفعول لا یتبیّن فیهما إعراب ، فإن وصف أحدهما أو عطف علیه ما یفصل بینهما جاز التقدیم.

ص: 115

فصل : وأولی الفعلین بالعمل الأخیر منهما ، وقال الکوفیّون : الأوّل أولی واتّفقوا علی أنّ کلا الأمرین جائز إذا صحّ المعنی ، وأنّه لا یخیّر فی إعمال أیّهما شاء إذا لم یصحّ المعنی ، وإذا تقدّم الفعل الذی یحتاج إلی فاعل أضمر فیه کقولک : ضربونی وضربت الزیدین. وقال الکسائیّ : لا یضمر.

والدلیل علی أنّ إعمال الثانی أولی : السماع والقیاس ، فمن السماع قوله تعالی : (یَسْتَفْتُونَکَ قُلِ اللهُ یُفْتِیکُمْ فِی الْکَلالَهِ) [النساء : 176] ، ولو أعمل الأول لقال : (فیها) وقوله تعالی : (آتُونِی أُفْرِغْ عَلَیْهِ قِطْراً) [الکهف : 96] ولم یقل : (أفرغه) وقوله تعالی : (هاؤُمُ اقْرَؤُا کِتابِیَهْ) [الحاقه : 19] ولم یقل : (اقرؤوه) ومما جاء فی الشعر قول الفرزدق (1) : [الطویل]

ولکنّ عدلا لو سببت وسبّنی

بنو عبد شمس من مناف وهاشم

ولم یقل : سبّونی ، وهو کثیر فی الشعر.

وأمّا القیاس : فهو أنّ الثانی أقرب إلی الاسم وإعماله فیه لا یغیر معنی فکان أولی کقولهم : خشّنت بصدره وصدر زید بحرّ المعطو ، ف وکذا قولهم : مررت ومرّ بی زید أکثر من قولهم : مر بی ومررت بزید والعلّه فیه من وجهین :

أحدهما : أنّ العامل فی الشیء کالعلّه العقلیه وتلک لا یفصل بینها وبین معمولها.

والثانی : أنّ الفصل بین العامل والمعمول بالأجنبیّ لا یجوز کقولهم : کانت زیدا الحّمی تأخذ ، والمعطوف هنا کالأجنبی فأحسن أحواله أن یضعف عمل الأوّل ، ویدلّ علی ذلک أنّ الفعل إذا تأخر عن المفعول جاز دخول اللام علیه کقولک : لزید ضربت ، ومنه قوله تعالی : (لِرَبِّهِمْ یَرْهَبُونَ) [الأعراف : 154] ولا یجوز ذلک مع تقدیم الفعل ، وکذلک أیضا إذا جاوز

ص: 116

الفعل الفاعل المؤسنث الحقیقی لزمت فیه التاء وإن فصل بینهما لم یلزم کلّ ذلک اهتمام بالأقرب ، وکان أبو علیّ یتمثّل عند ذلک بقول الهذلی (1) : [الطویل]

... وإنّما

نوکّل بالأدنی وإن جلّ ما یمضی

واحتجّ الآخرون بأبیات عمل فیها الأوّل ، ولیس فیها حجّه علی الأولی بل الجواز ، فأمّا قول أمرئ القیس (2) : [الطویل]

فلو أنّ ما أسعی لأدنی معیشه

کفانی ولم أطلب قلیل من المال

فإنّما أعمل الأوّل فیه ؛ لأن المعنی علیه ، أی : لو کنت أسعی لأمر حقیر کفانی القلیل ، ولو نصب علی هذا لتناقض المعنی.

فإن قالوا : الأوّل أهّم للبدء به؟

قلنا : لو اشتدّ الاهتمام به لّجعل معموله إلی جانبه علی الاهتمام بالأقرب أشدّ علی ما بیّنا.

ص: 117

أحدهما : أنّهم غیّروا منه موضعا آخر بغیر الضمّ.

والثانی : أنّ المحذوف قد أقیم المفعول مقامه.

فصل : وإنّما أقیم المفعول مقام الفاعل لیکون الفعل حدیثا عنه ؛ إذ الفعل خبر ولا بدّ له من مخبر عنه ، ولمّا أقیم مقامه فی الإسناد إلیه رفع کما رفع الرافع له الفعل المسند إلیه.

فصل : وإنّما لم یجز بناء الفعل اللازم لما یسمّ فاعله ؛ لأنه یبقی خبرا بغیر مخبر عنه کقولک : جلس ، وقد ذهب قوم إلی جوازه علی أن یکون المصدر المحذوف مضمرا فیه وساغ حذفه بدلاله الفعل علیه وهذا ضعیف جدّا ؛ لأن المصدر المحذوف لا یفید إسناد الفعل إلیه إذا کان الفعل یغنی عنه ، ولا یصحّ تقدیر مصدر موصوف ولا دالّ علی عدد إذ لیس فی الفعل دلاله علی الصفه والعدد.

فصل : وإذا کان فی الکلام مفعول به صحیح جعل القائم مقام الفاعل دون الظرف وحرف الجرّ لأربعه أوجه (1) :

ص: 119

أحدها : أنّ الفعل یصل إلیه بنفسه کما یصل إلی الفاعل بخلاف الظرف.

والثانی : أنّ المفعول به شریک الفاعل ؛ لأن الفاعل یوجد الفعل والمفعول به یحفظه.

والثالث : أنّ المفعول فی المعنی قد جعل فاعلا فی اللفظ کقولک : مات زید ، وطلعت الشمس ، وهما فی المعنی مفعول بهما بخلاف الظرف.

والرابع : أنّ من الأفعال ما لم یسمّ فاعله بحال نحو : عنیت بحاجتک ، وبابه ولم یسند إلا إلی مفعول به صحیح فدلّ علی أنّه أشبه بالفاعل.

وقال الکوفیّون : یجوز إقامه الظرف مقام الفاعل وإن کان معه مفعول صحیح ؛ لأنه یصیر مفعولا به علی السعه وهذا ضعیف لما ذکرنا.

فصل : وأمّا إقامه المصدر مقام الفاعل مع المفعول به فللبصریّون فیه مذهبان :

أحدهما : لا یجوز ؛ لأن المصدر یصل إلیه فی المعنی فهو غیر لازم بخلاف المفعول به. والآخر یجوز ؛ لأن الفعل یصل إلیه بنفسه واحتجّوا علی ذلک بقرأءه أبی جعفر المدنیّ : (لِیَجْزِیَ قَوْماً) [الجاثیه : 14] أی : لیجزی الجزاء قوما ، وبقراءه عاصم : (وَکَذلِکَ نُنْجِی الْمُؤْمِنِینَ) [الأنبیاء : 88] أی : نجی النجاء ، وبقول جریر :

فلو ولدت فقیره جرو کلب

لسبّ بذلک الکلب الکلابا

وهذا ضعیف لما ذکرنا ، والقراءتان ضعیفتان علی أنّ قراءه عاصم فیها وجه آخر یخرجها من هذا الباب ، وهو یکون أن الأصل : (ننجی) ثمّ أبدل النون الثانیه جیما وأدغمها ، وأمّا قراءه أبی جعفر فعلی تقدیر : (لنجزی الخیر قوما) فالخیر مفعول به وهذا الفعل یتعّدیّ إلی مفعولین وأضمر الأوّل لدلاله الثانی علیه ، وأمّا البیت فقد حمل علی ما قالوا وحمل علی وجه آخر ، وهو أن یکون التقدیر : فلو ولدت قفیره الکلاب یاجرو کلب لسبّ ، أی : جنس الکلاب.

فصل : وإنّما جاز إقامه حرف الجرّ والظرف والمصدر - أیّها شئت - مقام الفاعل لتساویها فی ضعفها عن المفعول به ، وإنّما یقام الظرف مقام الفاعل إذا جعل مفعولا علی السعه ؛ لأنه إذ کان ظرفا کان حرف الجرّ مقدّرا معه وهو : (فی) ، و (فی) یقع فیها الفعل لا بها ولأنّ الفعل

ص: 120

یصل إلی الفاعل بغیر واسطه فلم یشبهه الظرف ، ولأنّ المفعول به یصحّ أسناد الفعل إلیه ، وإذا قدّر مع الظرف : (فی) لم یصحّ إسناد الفعل إلیه.

فإن قلت : فکیف یصحّ إقامه (الباء) مقام الفاعل؟

قیل : إن (الباء) لم یؤت بها إلّا لتقوّی الفعل ، و (فی) هی الدالّه علی الظرفیّه وإقامتها مقام الفاعل تسلبها هذا المعنی ولا یقام المصدر مقام الفاعل إلا إذا وصف أو دلّ علی المره أو المرّات ؛ لأنه حینئذ یفید ما لا یدلّ الفعل علیه.

فصل : ولا یجوز إقامه الحال مقام الفاعل لأربعه أوجه :

أحدها : أنّ الفاعل یکون مظهرا ومضمرا ومعرفه ونکره والحال لا تکون إلا نکره.

والثانی : أنّ الحال تقدّر ب (فی) ولا یصحّ تقدیر إسقاطها.

والثالث : أنّ الحال کالخبر علی ما نبیّنه فی بابه وخبر المبتدأ لا یصحّ قیامه مقام الفاعل ؛ لأنه مسند إلی غیره.

والرابع : أنّ الحال کالصفه فی المعنی ؛ لأنها هی صاحب الحال ، وإنّما یقام مقام الفاعل غیره.

فصل : وإنّما لم یقم الممیز مقام الفاعل لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّه لا یکون إلا نکره.

والثانی : أنّ حرف الجرّ معه مراد.

والثالث : أنّه لو أسقط الممیّز لم یبق علیه دلیل ؛ ولهذا الوجه لن یجعل المستثنی مقام الفاعل.

فصل : وأمّا المفعول له فلا یقام مقام الفاعل لوجهین :

أحدهما : أنّ اللام مراده.

والثانی : أنّه غرض الفاعل ، فلو أقیم مقامه لبطل هذا المعنی.

فصل : وإنّما لم یقم خبر کان مقام اسمها لوجهین :

أحدهما : أنّه هو الاسم فی المعنی.

والثانی : أنّ الخبر مسند إلی غیره فلا یسند إلیه.

ص: 121

وأبو علیّ یشیر إلیه فی کتبه کثیرا ، ویقوّی ذلک أنّها لا تدلّ علی زمان وأنّها تنفی کما تنفی (ما) ، وأنّهم شبّهوها ب (ما) فی إبطال عملها بدخول (إلا) علی الخبر فی قولهم : لیس إلا الطیب المسک بالرفع فیهما.

ومن قال : هی فعل لفظیّ ، فقد احتجّ بما ذکرنا وسلبت التصرّف لشبهها بها ، ویدلّ علی أنّها فعل جواز تقدیم خبرها علی اسمها عند الجمیع وتقدیمه علیها عند کثیر منهم بخلاف (ما).

فصل : وإنّما کانت (کان) أمّ هذه الأفعال لخمسه أوجه :

أحدها : سعه أقسامها.

والثانی : أنّ (کان) التامّه داله علی الکون وکلّ شیء داخل تحت الکون.

والثالث : أنّ (کان) دالّه علی مطلق الزمان الماضی ، و (یکون) دالّه علی مطلق الزمان المستقبل بخلاف غیرها ، فإنّها تدل علی زمان مخصوص کالصباح والمساء.

والرابع : أنّها أکثر فی کلامهم ؛ ولهذا حذفوا منها النون إذا کانت ناقصه فی قولهم : لم یک.

والخامس : أنّ بقیّه أخواتها تصلح أن تقع أخبارا لها کقولک : کان زید أصبح منطلقا ولا یحسن أصبح زید کان منطلقا.

ص: 123

فصل : وإنّما اقتضت الناقصه اسمین ؛ لأنها دخلت علی المبتدأ والخبر للدلاله علی زمن الخبر وإنّما عملت ؛ لأنها أفعال متصرّفه مؤثره فی معنی الجمله فأشبهت (ظننت) ، وإنّما رفعت ونصبت ؛ لأنها تفتقر إلی اسم تسند إلیه کسائر الأفعال فما تسند إلیه مشبّه بالفاعل الحقیقی.

وأمّا الخبر فمنصوب ب (کان) عند البصریّین ، وقال الکوفیّون : ینتصب علی القطع یعنون الحال ، والدلیل علی انتصابه ب (کان) أنّه اسم بعد الفعل والفاعل ، ولیس بتابع له فأشبه المفعول به ولا یصحّ جعله حالا ؛ لأن الحال لا یکون معرفه ولا مضمرا ولیصحّ حذفه ، ولیس کذلک خبر کان ؛ لأنه مقصود الجمله ألا تری أنّه لو قال : کان زید قائما ، فقال قائل : لا. کان النفی عائدا إلی القیام لا إلی کان.

فصل : وإنّما لم یکن منصوبها مفعولا به علی التحقیق ؛ لأن المفعول به یسوغ حذفه ولا یلزم أن تکون عدّته علی عدّه الفاعل ولا أن یکون المفعول به هو الفاعل وخبر کان یلزم فیه ذلک.

فصل : وإنّما جاز تقدیم أخبارها علی أسمائها لتصرّفها ، فأمّا تقدیم خبر (ما زال وأخواتها) علیها فمنعه البصریّون والفرّاء ؛ لأن (ما) أمّ حروف النفی وما فی صله النفی لا یتقدّم علیه ؛ لأن النفی له صدر الکلام إذ کان یحدث فیما بعده معنی لا یفهم بالتقدیم فیشبه حروف الجزاء والاستفهام والنداء.

فأمّا : (لا یزال) و (لن یزال) و (لم یزل) (1) فیجوز تقدیم الخبر علیها ؛ لأنها فروع علی (ما) إذ کانت تردّ إلیها وتستعمل فی مواضع لا یصحّ فیها (ما) ؛ ولهذا عملت فی الأفعال للزومها

ص: 124

إیاها فمفعول فعلها یتقدّم علیها کما یتقدّم علی نفس الفعل العرّی عن حرف النفی بخلاف (ما).

وقال ابن کیسان وبقیّه الکوفیّین : یجوز تقدیم الخبر علیها ؛ لأن (ما والفعل) صارا فی معنی الإثبات وهذا ضعیف ؛ لأن لفظ النفی باق والاعتبار به لا بالمعنی ألا تری أنّ قولک :

(لا تفعل) یسمّی : (نهیا) ، ولو جعلت مکانه : (اترک الفعل) کان المعنی واحدا ویسمی الثانی :

(أمرا).

وأمّا خبر (ما دام) (1) فلا یتقدّم علیها عند الجمیع ؛ لأنها مصدریّه ومعمول المصدر لا یتقدّم علیه ، وکذلک (ما کان) ؛ لأن الکلام نفی لفظا ومعنی.

ص: 125

فأمّا : (لیس) فاتّفقوا علی جواز تقدیم خبرها علی اسمها ، وأمّا تقدیمه علیها فیجوز عند الکوفیّین وبعض البصریّین.

وحجّه من منع : أنّ (لیس) فعل لفظی جامد قویّ الشبه بالحرف فلم یقو قوّه أخواته وجاز تقدیم الخبر فیه علی الاسم إذ کان فعلا فی الجمله فحاله متوسّطه بین (کان) وبین (ما).

واحتجّ من أجاز تقدیم خبر (لیس) بقوله : (أَلا یَوْمَ یَأْتِیهِمْ لَیْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : 8] فنصب (یوم) بالخبر ولا یقع المعمول إلا حیث یقع العامل ، ولأنّ (لیس) فعل یتقدّم خبره علی اسمه فکذلک یتقدّم علیه ک (کان) ، وقد أجیب عن الآیه من وجهین :

أحدهما : أنّه منصوب بفعل آخر یفسّره الخبر.

والثانی : أنّ الظروف تعمل فیها روائح الفعل.

فصل : وإنّما لم یجز الفصل بین (کان) وغیرها من العوامل بما لم تعمل فیه ؛ لأنه أجنبیّ غیر مسند للکلام والعامل یطلب معموله فالفصل بینهما یقطعه عنه ، فإن جعلت فی (کان) ضمیر الشأن جاز تقدیم معمول الخبر لاتّصال (کان) بأحد معمولیها وکون الفاصل کالجزء من جنسهما.

فصل : وإنّما کان الأحسن فی خبر (کان) إذا وقع ضمیرا أن یکون منفصلا ؛ لأنه فی الأصل خبر المبتدأ والخبر لا یکون متّصّلا ، وإنّما ساغ فی (کان) أن یکون متّصّلا ؛ لأنه مشبّه بالمفعول فعلی هذا : (کنت إیّاه) أحسن من : (کنته).

فصل : وإنّما لم یجز دخول (إلّا) فی خبر (ما زال) وأخواتها ؛ لأن معناها الإثبات فیصیر ک (کان) فأمّا قول ذی الرّمه (1) : [الطویل]

ص: 126

حراجیج ما تنفکّ إلّا مناخه

علی الخسف أو نرمی بها بلدا قفرا

فیروی بالرفع علی أنّه خبر مبتدأ محذوف وموضع الجمله حال وبالنصب علی الحال وتکون : (تنفکّ) تامّه و (علی الخسف) حال أخری ویجوز أن تکون الناقصه وتکون : (علی الخسف) الخبر أی ما تنفکّ علی الخسف إلا إذا أنیخت وعلیه المعنی.

فصل : لا یجوز أن تبنی (کان) لما لم یسمّ فاعله لما ذکر فی الباب الذی قبله ، وقال الفرّاء : یجوز وهو فاسد لما تقدّم.

فصل : ولا تؤکّد (کان) بالمصدر ؛ لأن المصدر دالّ علی الحدث والناقصه لا تدلّ علیه ، وأجازه قوم علی أن یکون المصدر لفظیّا کالفعل المؤکّد ، وقولهم : یعجبنی کون زید قائما فهو مصدر التامّه و (قائما) منصوب علی الحال.

فصل : وحرف الجرّ الداخل علی الخبر لا یعلّق بهذه الأفعال ؛ لأنه زائد وإنّما یتعلّق الحرف بالفعل الذی یعدّیه.

فصل : ولا تدخل (لام کی) علی خبر کان ؛ لأنها تدلّ علی المفعول له وهذا یجوز والخبر لا یجوز حذفه ولأنّ خبر کان یعلّل بغیره لا بنفسه ، وأمّا قوله تعالی : (ما کانَ اللهُ لِیَذَرَ الْمُؤْمِنِینَ) [آل عمران : 179] فالخبر فیه محذوف تقدیره : ما کان الله مریدا ، ونحوه ، وقال الکوفیّون : هو الخبر ، وسنشبع القول فیه إن شاء الله تعالی فی باب الأفعال.

فصل : وإنّما ساغ أن تزاد (کان) ؛ لأنها أشبهت الحروف فی أنّ معناها فی غیرها ، ول (کان) الزائده فاعل مضمر فیها تقدیره کان الکون علی قول أبی سعید السیرافی ، ولا فاعل لها عند أبی علیّ ، ومعنی زیادتها عند السیرافی فی إلغاء عملها لا أنّها تخلو من فاعل ، وإنّما لم یظهر ضمیر

ص: 127

فاعلها ؛ لأن الضمیر یرجع إلی مذکور فیلزم أن یکون لها اسم ، وإذا کان لها اسم کان لها خبر ؛ ولهذا تبیّن فساد قول من قال فی قول الفرزدق (1) : [الوافر]

وجیران لنا کانوا کرام

إنّ (کان) زائده والصحیح أنّ خبرها (لنا) و (کرام) صفه لجیران ، وإنّما لم تقع الزائده فی أوّل الکلام ؛ لأن الزائده فرع ومؤکّد وتقدّمه یخلّ بهذا المعنی.

فصل : وإنّما أکّد خبر : (لیس) بالباء لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ الکلام إذا زید فیه قوی ؛ ولهذا زیدت (من) فی قولک : ما جاءنی من أحد.

والثانی : أنّها بإزاء (اللام) فی خبر (إنّ).

والثالث : أنّ دخول حرف الجرّ یؤذن بتعلّق الکلمه بما قبلها من فعل أو ما قام مقامه ، ولو حذفه لکان مرفوعا أو منصوبا وکلاهما قد یحذف عامله ویبقی هو بخلاف حرف الجرّ.

فصل : وإنّما اختیرت (الباء) دون غیرها لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ أصلها الإلصاق ، والإلصاق یوجب شدّه اتصال أحد الشیئین بالآخر.

والثانی : أنّها من حروف الشفتین فهی أقوی من اللام وغیرها من حروف الجرّ.

والثالث : أنّ حروف الجرّ کلّها توجب مع تعدیتها الفعل معنی کالتبعیض والملک والتشبیه وغیر ذلک والباء لا توجب أکثر من تعدیه الفعل ؛ ولذلک استعملت فی القسم وهو باب التوکید.

ص: 128

فصل : وإنّما بطل عملها بتقدیم الخبر ؛ لأن التقدیم تصرّف ولا تصرّف ل (ما) ولأنّ التقدیم فرع عمل و (ما) فرع فلا یجمع بین فرعین ، فأمّا قول الفرزدق (1) : [البسیط]

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قریش وإذ ما مثلهم بشر

بنصب مثل ، ففیه أربعه أوجه :

أحدها : أنّه غلط من الفرزدق ؛ لأن لغته تمیمیّه وهم لا ینصوبه بحال لکّنه ظنّ أنّ أهل الحجاز ینصبون خبرها مؤخرّا ومقدّما.

والثانی : أنّها لغه ضعیفه.

والثالث : أنّه حال تقدیره : (إذ ما فی الدنیا بشر مثلهم) فلمّا قدّم صفه النکره نصبها وهذا ضعیف ؛ لأن العامل فی الحال إذا کان معنی لا یحذف ویبقی عمله إلا أنّه سوّغه شبه : (مثل) بالظرف.

والرابع : أنّه ظرف تقدیره : (وإذ ما مکانهم بشر) أی : فی مثل حالهم إلّا أنّه سوّغه شبه مثل بالظرف.

فصل : ویبطل عملها بتقدیم معمول الخبر (2) کقولک : ما طعامک زید آکل ؛ لأن معمول الخبر لا یقع إلا حیث یقع العامل فتقدیمه کتقدیم العامل ، ولو تقدّم العامل لکان مرفوعا

ص: 130

فکذلک إذا تقدّم معموله وکلّ موضع لا ینتصب فیه خبر (ما) لا تدخل علیه الباء کما لا یدخل علی خبر المبتدأ ، فإن قلت : (طعامک ما زید آکلا) لم یجز نصبت الخبر أو رفعته ؛ لأن (ما) لها صدر الکلام وأجاز ذلک الکوفیّون وقاسوه علی : (لا) و (لم) و (لن) ، وقد بیّنا فیما تقدّم أنّ (ما) أصل حروف النفی فلا یسوّی بینهما.

فصل : فإن قلت : (ما إن زید قائم) بطل عملها لوجهین :

أحدهما : أنّ (ما) کفّت (إنّ) عن العمل فتکفّها عن عملها اقتصاصا.

والثانی : أنّ (ما) للنفی و (إن) تکون للنفی ، والنفی إذا دخل علی النفی صار إثباتا فکذلک لفظ النفی وإن لم ترد به النفی.

فصل : ومن العرب من یعمل (لا) عمل (ما) لاشتراکهما فی المعنی ، ومنه قول الشاعر (1) : [مجزوء الکامل]

من صدّ عن نیرانها

فأنا ابن قیس لا براح

أی : لا لی براح کقولک : مالی ، وقال العجّاج (2) : [من الرجز]

ص: 131

تالله لو لا أن تحشّ الطبّح

بی الجحیم حین لا مستصرخ

ومنهم من یعملها مع الحین خاصّه کقوله تعالی : (وَلاتَ حِینَ مَناصٍ) [ص : 3] تقدیره ، ولیس الحین حین مستضرح.

وقال الأخفش : هو منصوب بفعل محذوف ، أی : ولات أری حین مناص. وقال قوم : هو مبنیّ مع (لا). ومن العرب من یرفع الحین هنا ویحذف الخبر.

فأمّا : (التاء) فقال قوم هی متصله ب (لا) دخلت لتأنیث الکلمه کما دخلت فی (ربّ) و (ثمّ) وعلی هذا یوقف علیها بالتاء ؛ لأنها أشبهت التاء اللاحقه بالفعل فی دلالتها علی التأنیث فی غیر لفظها وفتحت لیفرقّ بین الحرف والفعل ، ولو قیل : حرّکت لالتقاء الساکنین کان وجها ، وقال الکسائیّ : یوقف علیها بالهاء لتحرّکها ، ومنهم من قال : هی متصّله بحین کما قالوا : (تلان).

ص: 132

وأمّا ما حکی أنّهم قالوا : (نعیم) فشادّ والیاء فیها ناشئه عن إشباع الکسره ، وأمّا دخول اللام علیها فی نحو قوله تعالی : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِینَ) [النحل : 30] فهو جواب قسم کما قال : [البسیط]

إذن لقام بنصری (1) ...

وکقول الآخر : [الطویل]

... (2) لناموا فما إن من حدیث ولا صال

وأمّا دخول : (یا) علیها فی نحو قولهم : (یا نعم المولی) فالمنادی محذوف ، أی : یا الله أنت نعم المولی کما قالوا : (یالعنه الله) وکقراءه من قرأ : ألا یا اسجدوا وکقوله : (یا لَیْتَ قَوْمِی یَعْلَمُونَ) [یس : 26] ، وأمّا عدم تصرّفها فلم نذکره بعد.

فصل : والأصل فی : (نعم) نعم الرجل إذا أصاب نعمه ، و (بئس) إذا أصاب بؤسا مکسور العین وفیها أربع لغات هذه أحداها ، وقد جاءت فی شعر طرفه : [الرمل]

ص: 134

... (1) نعم الساعون فی الأمر المبرّ

وثانیهما : کسر النون وإسکان العین والوجه فیه أنّهم نقلوا کسره العین إلی الفاء.

وثالثها : کسرها علی الاتباع.

ورابعها : فتح النون علی الأصل وإسکان العین علی التخفیف وهذا مستمرّ فی کلّ فعل أو اسم مکسور العین إذا کانت عینه حرفا حلقیا.

فصل : وإنّما کان هذا الفعل ماضیا غیر متصرّف لوجهین :

أحدهما : أنّه لمّا أخرج إلی معنی أشبه الحرف فی دلالته علی المعنی فجمد کما جمد الحرف.

والثانی : أنّه موضوع للمبالغه فی المدح والذمّ ، وإنّما یصدر ذلک ممّن علم أن ثمّ صفات توجب ذلک فهو ممدحه أو مذّمه بما فیه لا بما ینتظره.

فصل : وإنّما کان فاعل : (نعم) و (بئس) جنسا معرّفا باللام لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ (نعم) لّما کانت للمدح العامّ جعل فاعلها مطابقا لمعناها.

والثانی : أنّ الجنس یذکر تنبیها علی أن المخصوص بالمدح أفضل جنسه.

والثالث : أنّ الجنس ذکر للإعلام بأنّ کلّ فضیله وکلّ رذیله افترقت فی جمیع الجنس مجتمعه فی المخصوص بالمدح والذمّ.

فإن قیل : لو کان جنسا لما ثنّی ولا جمع؟

قیل : إنّما ثنّی وجمع علی معنی : إنّ زیدا یفضل هذا الجنس إذا میّزوا رجلین رجلین أو رجالا رجالا.

وقیل : إنّما ثنّی وجمع لیکون علی وفاق المخصوص بالمدح والذمّ فی التثنیه ، وإنّما کان المضاف إلی الجنس کالجنس ؛ لأن المضاف یکتسی تعریف المضاف إلیه ، وإنّما جاز إضماره لما فیه

ص: 135

من الاختصار مع فهم المعنی ولم یظهر فیه ضمیر التثنیه والجمع استغناء بصیغه الاسم الممّیز للضمیر ؛ إذ هو فی المعنی وجاز الإضمار قبل الذکر لوجهین :

أحدهما : أنّه إضمار علی شریطه التفسیر.

والثانی : أنّ المظهر لیس یراد به واحد بعینه ففیه نوع إبهام والمضمر قبل الذکر کذلک وهذا مثل قولهم : (ربّه رجلا) والاختیار أن یجمع بین الفاعل والتمییز ؛ لأنّ التمییز ههنا مفسّر للمضمر ولا مضمر وإن جاء منه شیء فی الشعر فشاذّ یذکر علی وجه التوکید ، وجعله أبو العبّاس قیاسا.

فصل : وأمّا المخصوص بالمدح والذمّ ففی رفعه وجهان :

أحدهما : هو خبر مبتدؤه محذوف.

والثانی : هو مبتدأ والجمله قبله خبره ولم یحتج لی ضمیر ؛ لأن الجنس مشتمل علیه فیجری مجری الضمیر کما قالوا : [الطویل]

وأمّا القتال لا قتال لدیکم (1) ...

[البیت الآخر : الطویل]

وأمّا الصدور لا صدور لجعفر (2) ...

ص: 136

فصل : وقد حذف فاعل : (نعم) من اللفظ تاره والمخصوص أخری ، وقد حذفا جمیعا فی نحو قوله تعالی : (بِئْسَ لِلظَّالِمِینَ بَدَلاً) [الکهف : 50] والتقدیر : بئس البدل إبلیس وذریّته وجاز ذلک لتقدّم ذکره ومن حذف المخصوص قوله تعالی : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا) [الجمعه : 5].

ف- (الذین) صفه للقوم ، والتقدیر : بئس مثل القوم هذا المثل ، ویجوز أن یکون الذین فی موضع رفع ، أی : بئس مثل القوم ، أی : مثل الذین فحذف المضاف وأقام المضاف إلیه مقامه ، وأمّا قوله تعالی : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) [الأعراف : 177] ف (ساء) بمنزله (بئس). والتقدیر : ساء المثل مثلا مثل القوم فعمل فیه ما ذکرناه ، وساء بمنزله بئس فی جمیع الأحکام.

فصل : إذا کان الفاعل مؤنّثا هنا کان ثبوت التاء کغیره من الأفعال ویجوز حذفها ؛ لأنّ الفاعل جنس ، والجنس مذکّر ، فغلّب المعنی کما قالوا : ما قام إلا هند ، أی : ما قام أحد إلّا هند.

ص: 137

یا حبّذا القمراء (1) ...

وکقولهم : (ما أحیبذه) فصغروه تصغیر المفرد ، وبأنّه لم یثنّ ولم یجمع ولم یؤنّث وبأنّه لا یحذف ویضمر فی الفعل کما فعل فی (نعم) ، وهذه الأوجه لا یعتمد علیها ؛ لأن المنادی محذوف تقدیره : (یا قوم) کما قالوا : (ألا یا اسلمی ...) فأدخلوها علی الفعل ، وأمّا المنع من تنثیته وجمعه فلما یذکر من بعد ، وأمّا قولهم : ما أحبیذه! فمن الشذوذ الذی لا یستدلّ به علی أصل.

الثالث : أنّ جعل الترکیب کالفعل وارتفع زید به.

فصل : وإنّما لم یثنّ ولم یجمع کما فعل فی فاعل (نعم) لترکیبه عند من یری الترکیب ومن لم یره ففیه وجهان :

أحدهما : أنّ (ذا) لمّا کان عباره عن المذکور أو المقرّب من القلب کان جنسا ولفظ الجنس مفرد لم یغیّره عن ذلک.

والثانی : أنّ المفرد هو الأصل ویبقی هنا علی لفظه ؛ لأنه صار کالمثل والأمثال لا تغیّر عن أوّلیتها ، ولم یضمر فاعل (حبّ) لئلّا یبطل معنی الإشاره.

فصل : والنکره تنصب بعده علی التمییز وجاز الجمع بینهما ؛ لأنها لیست من لفظ الفاعل بخلاف باب (نعم) والاسم المخصوص بالتقریب مرفوع وفیه أربعه أوجه :

الأوّل : هو خبر ابتداء بمحذوف.

والثانی : هو مبتدأ و (حبذا) خبره ولمّا کانت (ذا) تشبه الضمیر کانت کالعائد علی المبتدأ ، ولا یجوز علی هذا الوجه زید حبّذا کما جاز فی (نعم) لجریان (حبّذا) مجری المثل وحروف المعانی.

والثالث : أنّه تبیین للفاعل.

والرابع : أنّه بدل لازم ومن جعل (حبّذا) مرکّبا کان (زید) خبره أو فاعله.

ص: 139

أحدهما : أنّها أشبهت الحروف إذ کان لها معنی فی غیرها وهو الدلاله علی قرب الفعل الواقع بعدها ، وحکم الفعل أن یدلّ علی معنی فینفسه وشبهها بالحرف یوجب جمودها کما أنّ الحرف جامد.

والثانی : أنّها تشبه (لعلّ) فی الطمع والإشفاق فتلزم صیغه واحده ک (لعلّ).

فصل : إذا وقع الفعل الذی دلّت علیه (عسی) بعد الاسم کان موضعه نصبا کقولک : عسی زید أن یقوم. وقال الکوفیّون : موضعه رفع علی أنّه بدل ممّا قبله.

والدلیل علی القول الأوّل من وجهین :

أحدهما : أن (زیدا) هنا فاعل (عسی) ومعناها قارب زید فیقتضی مفعولا وهو قولک : (أن یقوم).

والثانی : أنّ (عسی) دلّت علی معنی فی قولک : (أن یقوم) کما دلّت (کان) علی معنی فی الخبر فوجب أن یکون منصوبا کخبر (کان) یشهد له قول الشاعر (1) : [الرجز]

أکثرت فی العذل ملحّا دائما

لا تلحنی إنّی عسیت صائما

ومنه المثل : (عسی الغویر أبؤسا) ولا یصحّ أن یقدّر ب (أن یکون أبوسا) لما فیه من حذف الموصول وإبقاء صلته ولا یصحّ جعله بدلا لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ البدل لا یلزم ذکره وهذا یلزم ذکره.

والثانی : أنّه فی معنی المفعول والخبر الذی دلّت علیه (عسی) ، ولیس هذا حکم البدل.

والثالث : أنّه قد جاء الفعل الذی دلّت علیه (عسی) وإبدال الفعل من الاسم لا یصحّ.

فصل : وإنّما کان خبر عسی فعلا مستقبلا ؛ لأنها تدل علی المقاربه ، والمقاربه فی الماضی محال ؛ لأنه قد وجد ولم یکن اسما إذ لا دلاله للاسم علی الاستقبال ، وإنّما لزمت فیه (أن)

ص: 141

لتمحّضه علی الاستقبال ، ولم یکن : (السین) و (سوف) ؛ لأنّهما یدلّان علی نفس زمان الفعل والغرض هنا تقریبه فإن جاء شیء من ذلک فهو شاذّ.

فصل : وإذا وقع : (أن والفعل) قبل الاسم فموضعه رفع علی أنّه فاعل (عسی) ویکون معناها : (قرب) ولا تقتضی مفعولا أو یکون هذا الفاعل لم تضمنّه من الحدث مغنیا عن الخبر.

فصل : وأمّا (کاد) ففعل متصرّف یدلّ علی شدّه مقاربه الفعل ومن ههنا لم یدخل خبرها :

(أن) لیکون لفظه کلفظ فعل الحال ، فإن جاءت فیه (أن) فهو شاذّ محمول علی (عسی) کما حملت عسی علی (کاد) فإن تقدّم الفعل کقوله تعالی : (مِنْ بَعْدِ ما کادَ یَزِیغُ قُلُوبُ فَرِیقٍ مِنْهُمْ) [التوبه : 117] کان فیها أربعه أوجه :

أحدها : أن یکون فیها ضمیر الشأن والجمله بعدها مفسّره.

والثانی : أن تکون : (تزیغ) حالا مغنیه عن الخبر.

والثالث : أن تکون : (تزیغ) فی نیّه التأخیر.

والرابع : أن یکون فاعل : (کاد) ضمیرا القبیل ، أی : کاد القبیل وأضمر لیقوم ما یدلّ علیه وهذا قول أبی الحسن.

فصل : إذا کانت : (کاد) مثبته فی اللفظ فالفعل غیر واقع فی الحقیقه کقولک : کاد زید یقوم ، أی : قارب ذاک ولم یقم ، وإن کانت منفیه فهو واقع فی الحقیقه کقولک : لم یکد یقوم ؛ لأن المعنی قارب ترک القیام.

فأمّا قوله تعالی : (لَمْ یَکَدْ یَراها) [النور : 40] فقد اضطربت فیه الأقوال ، فقال بعضهم : التقدیر لم یرها ولم یکد وهذا خطأ ؛ لأن قوله : (لَمْ یَکَدْ) إن کانت علی بابها نقض الثانی الأوّل ؛ لأنه نفی الرؤیه ثمّ أثبتها ، وإن لم تکن علی بابها فلا حاجه إلی تقدیر الفعل الأوّل. وقال الآخرون : إنّه رآها بعد الیأس من ذلک وهذا أشبه بالمعنی واللفظ.

ص: 142

والثانی : أنّ تقدیر الخبر هنا لا فائده فیه ؛ إذ تقدیره الذی أحسن زیدا شیء وهذا لا یستفید منه السامع فائده ، وإنّما جاز الابتداء بهذه النکره ؛ لأن الغرض منه التعجّب لا الإخبار المحض ، وإنّما عدل عن (شیء) إلی (ما) ؛ لأن (ما) أشدّ إبهاما إذ کانت لا تثنّی ولا تجمع ولا تقع للتحقیر ، ولأنّها یؤکّد بها إبهام (شیء) فیقال : ما أخذت منه شیئا ما ، فإنّها تثنّی وتجمع وتذکر للتحقیر کقولک : عندی شییء أی حقیر.

ولم یستعملوا فی التعجب : (من) بمن یعقل ولا : (أیّا) ؛ لأنها کشی فیما ذکرنا.

فصل : فأمّا صیغه : (أفعل) فی التعجّب ففعل لثلاثه أوجه :

أحدها : إلحاق نون الوقایه بها فی قولک : ما أحسننی! فهو کقولک : أکرمنی ، ولیس الأسماء کذلک ولا عبره بما جاز فی الشعر من ذلک قوله : [البسیط]

... ولیس حاملنی إلا ابن حمّال

لشذوذه والاضطرار إلیه.

والثانی : أنّ (أفعل) هذه تنصب المتعّجب منه علی أنّه مفعول به ، ولا تجوز إضافته إلیه علی الفتح أبدا ، ولو کان اسما لأعرب.

وقال بعض الکوفییّن : هو اسم ؛ لأنه یصغر ولا تلحقه الضمائر ولا تاء التأنیث وتصحّ فیه الواو والیاء کقولک : ما أخوفنی وما أسیرنی! ، ولیس کذلک الفعل.

والجواب : أنّ التصغیر جاز فی هذا الفعل لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّه نائب عن تصغیر المصدر کما أنّ الإضافه إلی الفعل فی اللفظ وهی فی التقدیر إلی مصدره.

والثانی : أنّ هذا الفعل أشبه الاسم فی جموده.

والثالث : أنّ لفظه : (أفعل) هنا مثل لفظه : (هو أفعل منک) وللشبه اللفظی أثّرکما فی باب مالا ینصرف.

وأمّا خلوّه عن الضمیر فإنّما کان کذلک ؛ لأن فیه ضمیر : (ما) وهی مفرده بکلّ حال ، وکذلک امتناع تاء التأنیث ؛ لأن : (ما) مذکّر ، وأمّا الواو والیاء فلا حجّه فیها فإنّ من الأفعال

ص: 144

ما هو کذلک کقوله تعالی : (اسْتَحْوَذَ عَلَیْهِمُ الشَّیْطانُ) [المجادله : 19] ولأنّ هذا الفعل أشبه الاسم وأشبه لفظه : (أفعل منک) فأجری علیه فی الصحّه حکمها.

فصل : ولا یکون التعجّب إلا من وصف موجود فی حال التعجّب منه ؛ ولذلک کانت الصیغه الدالّه علیه صیغه الماضی ؛ لأن فعل الحال لا یتکامل حتّی ینتهی والمستقبل معدوم فأمّا قولهم : ما أطول ما یخرج هذا الغلام!! فجاز ؛ لأن أمارات طوله فی المستقبل موجوده فی الحال.

فصل : الأصل فی فعل التعجّب أن یکون من أفعال الغرائز ؛ لأنها هی التی تخفی ؛ فإذا زادت تعّجب منها لخفاء سببها ، وأمّا قولهم : ما أضرب زیدا لعمرو فإنّما تعجّب منه لتکرّره وخفاء سبب ذلک حتّی صار کالغریزیّ.

فصل : ولا یبنی فعل التعجب إلّا من الثلاثیّ (1) ؛ لأن الغرض منه أن یصیر ما کان فاعلا مفعولا کقولک : حسن زید وتبنی منه أحسن زیدا کقولک : فرح زید وأفرحت زیدا ؛ ولهذا ینتقل عن اللزوم إلی التعدّی ، ولا یعدّی بالهمزه إلا الثلاثی ، فأمّا الرباعیّ یعدّی بها فلا

ص: 145

تقول فی : (دحرج) : (أدحرجته) والعلّه فی ذلک : أنّ الهمزه لمّا أحدثت معنی التعدّی صارت کحرف من الفعل أصلیّ ، ولیس فی الأفعال ما هو علی خمسه أحرف أصول لما فی ذلک من الثقل وکثره أمثله الفعل ؛ ولهذا لم یکن فی الرباعی حرف إلحاق وکان فی الثلاثیّ مثل : (جلبب) فأمّا قولهم : ما أعطاه للمال وأولاه للخیر وأفقره إلی کذا!! وما أشبه فإنّه علی أربعه أحرف غیر همزه التعدیّ إلا أنّ حرفا منها زائد کالهمزه فی : (أعطی وأولی) فحذفوها فبقی : (عطی) و (ولی) ولهما معنی ، فلمّا أرادوا التعجّبّ حذفوا الهمزه التی کانت قبل ذلک وجعلوا همزه التعجّب عوضا عنها ، وأمّا (أفقر) فلا یستعمل منه : (فقر) ولکن : (افتقر) إلا أنّ الأصل یستعمل ؛ لأنه قد جاء الفاعل منه : (فقیر) فهو مثل : (ظرف) وظریف) فلّمّا تعجبوا منه أخرجوه علی الأصل.

وإنّما لم یتعجّب من الألوان ؛ لأن الأصل فیها أن تکون علی أکثر من ثلاثه أحرف نحو : (أبیضّ) و (أحمرّ) ومثل ذلک لا یعدّی بالهمزه.

وقال الکوفیّون : یجوز فی البیاض والسواد لأنهما أصلا الألوان ، وقد جاء فی الشعر : (أبیضهم) و (أبیض من کذا) و (أسود من کذا) وهذا مذهب ضعیف لما تقدّم ، وجعل البیاض والسواد أصلین دعوی لا دلیل علیها ، ولو صحتّ لم یستقم قولهم فیها وما جاء فی الشعر فهو إمّا شاذّ أو یکون : (منه) التی بعده صفه له أو یکون : (أفعل) لا یراد به المبالغه.

فصل : ولا یبنی فعل التعجبّ من العیوب الظاهره کالحول والعور لوجهین :

أحدهما : أن فعل هذه العیوب فی الأصل زائد علی ثلاثه أحرف نحو : (أحولّ) و (أعورّ) فلا یصحّ زیاده همزه التعجّبّ علیه ، وما جاء منه علی ثلاثه أحرف فمعدول به عن أصله ؛ ولهذا یصحّ فیه الواو نحو : (حول) تنبیها علی أنّه فی حکم : (أحولّ) وما جاء منه ثلاثیا لا غیر نحو : (عمی) فمحمول علی الباقی.

والوجه الثانی : أنّ العیوب الظاهره کالخلق الثابته کالید والرجل وکما لا یبنی من هذه الأعضاء فعل التعجّب کذلک العیوب الظاهره.

أمّا العیوب الباطنه کعمی القلب والحماقه فیبنی منها فعل التعجّب نحو : ما أعمی قلبه! وما أحمره! ترید البلاده ، وکذلک : ما أسوده! ترید السیاده.

ص: 146

فصل : ولا یجوز العطف علی فاعل فعل التعجبّ لاستحاله المعنی ولا البدل منه ؛ لأن ذلک یوضحّه ومبناه علی الإبهام ، ولا یجوز أن یکون المفعول هنا نکره غیر موصوفه کقولک : ما أحسن زیدا! لأنه غیر مفید ولا یجوز الفصل بین فعل التعجّب ومفعوله إلا بالطرف ؛ لأنه بجموده أشبه : (إنّ).

فصل : وأمّا (أفعل به) فی التعجّب فلفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر کقوله تعالی : (فَلْیَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مریم : 75] معناه : فلیمدّنّ له الرحمن.

وحکی عن الزّجاج أنّه أمر حقیقه ، والتقدیر : أحسن یا حسن بزید ، أی : دم أیذم به وهذا ضعیف لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ الأمر طلب إیقاع الفعل والتعجّب لا یکون إلا من أمر قد وجد.

والثانی : أنّه یصحّ أن یقال فی جواب هذا الکلام : صدقت أو کذبت ، ولیس کذلک حقیقه الأمر.

والثالث : أنّ لفظه واحد یکون فی التثنیه والجمع والمذکّر والمونّث کقولک : یا زیدان أحسن بعمرو! وکذلک بقیه الأمثله.

وعلی هذا الخلاف تترتّب مسأله ، وهی أنّ موضع الجار والمجرور رفع بأنه فاعل والتقدیر : أحسن زید ، أی : صار ذا حسنّ ، ومثله : (کَفی بِاللهِ شَهِیداً) [الرعد : 43] إلا أن الباء لا یجوز حذفها فی التعجّب لئلّا یبطل معنی التعجّب ویجوز حذفها فی : (کَفی بِاللهِ شَهِیداً) وعلی قول الزّجاج : (بزید) فی موضع نصب.

فصل : وتزاد (کان) فی التعجّب نحو : ما کان أحسن زیدا! ولا فاعل لها عند أبی علیّ ، وإنّما دخلت تدلّ علی المضیّ. وقال السیرافی : فاعلها مصدرها. وقال الزجّاجی : فاعلها ضمیر (ما) ، وهذا ضعیف لوجهین :

أحدهما : أنها لو کانت کذلک لکانت هی خبر (ما) لا یکون هنا إلا (أفعل).

والثانی : أنّها إن کانت التامّه لم تستقم لفساد المعنی ، وإن کانت الناقصه لم تستقم أیضا ؛ لأن خبرها إذا کان فعلا ماضیا قدّرت معه (قد) ، وتقدیر (قد) هنا فاسد ؛ لأنه یصیر محض خبر.

ص: 147

فصل : والأصل فی : (کأنّ زیدا الأسد) أنّ زیدا کالأسد ثمّ قدّموا (الکاف) فأدخلوها علی (أنّ) لیبتدئوا بالمشبه ، وهو أولی من أن یبتدئوا بما لفظه لفظ التحقیق ثم یعود التشبیه إلیه بعد ذلک ، ولمّا کانت کاف الجرّ تفتح لها (أنّ) کما تفتح بعد غیرها من حروف الجرّ فتحت ههنا وإن کانت قد رکّبت معها وجعلتا کحرف واحد تنبیها علی الأصل الذی ذکرت ، إلا أنّها تفارق الکاف الجارّه فی شیئین :

أحدهما : أنّها غیر معلّقه بفعل فلا موضع لها ولما بعدها إذن.

والثانی : أنّ ما بعد الکاف لیس بمجرور الموضع کما یکون بعد اللام فی قولک ؛ لأن زیدا منطلق ولأنّها لمّا رکّبت وصار المهّم معنی التشبیه فی الخبر صارت قائمه بنفسها.

فصل : و (لکنّ) مفرده. وقال الکوفیّون : هی مرکّبه من : (لا) و (إن) و (الکاف) زائده و (الهمزه) محذوفه وهذا ضعیف جدّا ؛ لأن الترکیب خلاف الأصل ثمّ هو فی الحروف أبعد ثمّ إنّ فیه أمرین آخرین یزیدانه بعدا وهما زیاده الکاف فی وسط الکلمه ، وحذف الهمزه فی مثل هذا یحتاج إلی دلیل قطعیّ (1).

فإن قالوا : معنی النفی والتأکید باق لأنّک إذا قلت : قام زید لکنّ جعفرا منطلق حصل معنی التأکید والنفی؟

ص: 149

قیل : هذا خطأ ؛ لأن (لا) النافیه لا یبطل نفیها بدخول (إنّ) علی ما بعدها کقولک : قام زید لا إن جعفرا قائم فهو کقولک : لا جعفر قائم فی المعنی ، و (لکنّ) تثبت ما بعدها لا تنفیه فلم یصحّ ما قالوا.

فصل : واللام الأولی فی (لعلّ) أصل فی أقوی القولین ؛ لأن الزیاده تصرّف والحروف بعیده منه ولأنّ الحرف وضع اختصارا والزیاده علیه تنافی ذلک.

وأمّا مجیئها بغیر لام فلغه فیها أو حذف حرف أصلیّ ، والحذف من جنس الاختصار فهو أولی من الزیاده.

وفی : (لعلّ) لغات وهی : لعلّ وعلّ وعنّ ولعنّ ورعنّ ولغنّ ، والمشهور الأولیان وأکثر العرب تنصب بها ومنهم من جرّ بها وهو قلیل.

فصل : وإنّما عملت هذه الحروف لاختصاصها بضرب من الکلام واختصاص الشیء بالشیء دلیل علی قوّه تأثیره فیه ؛ فإذا أثرّ فی المعنی أثر فی اللفظ لیکون اللفظ علی حسب المعنی.

فأما : (لام التعریف) فلا تعمل مع اختصاصها ؛ لأنها صارت کجزء من الاسم ؛ لأنها تعیّن المسّمی کما تعینه الأوصاف ؛ ولهذا یجوز أن یتوالی بیتان آخر أحدهما معرفه وآخر الآخر اسم مثل الأوّل نکره ولا یعدّ إیطاء.

وأمّا : (السین) و (سوف) فلم یعملا ؛ لأنّهما کجزء من الفعل إذ کان الفعل دالّا علی الزمان وهما تخصّصانه حتّی یدلّ علی ما وضع له ، وهما مع الفعل بمنزله فعل موضوع دالّ علی الزمان المستقبل من غیر اشتراک.

وأمّا : (قد) فتدخل علی الماضی والمستقبل ثمّ إنّها تقرّب الماضی من الحال ، وهذا تأثیر فی زمان الفعل فصارت کالسین والأفعال إنّما عملت لاختصاصها وهذه الحروف مشّبه بها.

فصل : وإنّما عملت الرفع والنصب ؛ لأنها شابهت الأفعال فی اختصاصها بالأسماء فی دخولها علی الضمائر نحو : (إنّک) و (إنّه) ، وفی أنّ معاینها معانی الأفعال من التوکید والتشبیه وغیر ذلک ، وفی أنّها علی ثلاثه أحرف مفتوحه الآخر ومن حیث رفع الفعل ونصب فیما یقتضیه فکذلک هذه الحروف.

ص: 150

فصل : وقدّم منصوبها علی مرفوعها لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ هذه الأحرف فروع فی العمل علی الفعل ، والفروع تضعف عن الأصول فیجب أن تشبه بالأصول فی أضعف أحوالها وأضعف أحوال الفعل أن یتقدّم منصوبه علی مرفوعه تقدّما کقولک : صرف زیدا غلامه.

والثانی : أنّ عمل الفعل فی منصوبه أضعف من عمله فی مرفوعه ؛ لأنه فی الرتبه متراخ عنه فلمّا کان المنصوب أضعف والمرفوع أقوی جعل الأضعف یلی : (إنّ) لیقوی بتقدمّه فیعمل فیه العامل الضعیف وأخّر لأنه المرفوع ؛ لأن بقوتّه یستغنی عن قوه ملاصقه العامل.

والثالث : أنّ المرفوع لو تقدّم لجاز إضماره ، والحرف لا یتصّل به ضمیر المرفوع کالتاء والواو) فی : (قمت) و (قاموا) بخلاف ما إذا تأخر.

فصل : ولا یجوز تقدیم المرفوع هنا لثلاثه أوجه (1) :

أحدها : ما تقدّم من تعذّر الإضمار.

والثانی : أنّ تقدیم المرفوع لو جاز لکان أولی کما فی الفعل ، وقد بینّا أنّ تقدیم المنصوب هو الوجه.

والثالث : أنّ التقدیم والتأخیر تصرّف ولا تصرّف لهذه الحروف.

فصل : وإنّما جاز تقدیم الظرف وحرف الجرّ إذا کان خبرا لثلاثه أوجه :

ص: 151

أحدها : أنّ (إنّ) غیر عامله فیه ؛ إذ لیس هو خبرا لها فی الحقیقه ، وإنّما الخبر ما تعلّق به الظرف من معنی الاستقرار ، وإنّما یمنتع تقدیم خبرها الذی یعمل فیه.

والثانی : أنّ الظرف لا یصحّ إضماره وهو أحد ما یمنع التقدیم ، وقد أمن.

والثالث : أنّ الظرف متعلّق بالخبر لاشتماله علیه فهو کاللازم للجمله فساغ تقدیمه لذلک ؛ ولهذا ساغ الفصل بالظرف بین : (إنّ) واسمها به أیضا فی قولک : إنّ خلفه زیدا قائم وجاز الفصل به بین المضاف والمضاف إلیه فی الشعر.

فصل : وخبر : (إنّ) وأخواتها مرفوع بها ، وقال الکوفیّون : هو مرفوع بما کان یرتفع به قبل دخولها والدلیل علی أنّه مرفوع بها من وجهین :

أحدهما : أنّ هذه الحروف تعمل فی الاسم الأوّل لاقتضائها إیّاه فتعمل فی الخبر کذلک أیضا ، ألا تری أنّ الفعل یعمل فی الفاعل والمفعول لاقتضائه إیّاهما و (ظننت) وأخواتها تعمل فی المفعولین ، وقد کانا قبل ذلک مرفوعین لاقتضائه إیاهما.

والثانی : أنّ خبر : (إنّ) مرفوع ولا بدّ له من رافع ولا یجوز أن یرتفع بغیر (إنّ) إذ لا عامل سواها ، والذی کان قبل دخول (إنّ) هو المبتدأ ، وقد بطل ابتداؤه ؛ ولهذا لا یعمل الخبر هنا فی الاسم لعمل (إنّ) فیه فلذلک لا یعمل المبتدأ هنا فی الخبر.

واحتجّ الآخرون بقول الشاعر : [الرجز]

لا تترکنی فیهم شطیرا

إنّی إذن أهلک أو أطیرا

فنصب : (أهلک) ب (إذن) ولم یجعله خبر (إنّ).

واحتجّوا أیضا بقول العرب : إنّ بک تکفّل زید فجعل الفعل فی اسمها ، ولو کانت هی الفاعله فی الخبر لم تکن کذلک ، والعلّه فیه : أنّ هذه الحروف فروع فی العمل فلم تقو علی العمل فی الاسمین.

والجواب : أمّا البیت فمن الشذوذ وتأویله أنّه حذف الخبر لدلاله الباقی علیه ، تقدیره : إنی أذلّ فأمّا المسأله المذکوره فلا حجّه فیها ؛ لأن اسم (إنّ) محذوف وهو ضمیر الشأن فتقدیره إنّه بک تکفّل زید. وأمّا ضعف هذه الحروف فقد ظهر فی عدم تصرّفها ، وذلک کاف.

فصل : وإنّما بطل ذلک ؛ لأنها هیّأتها لدخولها علی الأفعال کقولک : إنّما قام زید.

ص: 152

فصل : وإذا عطفت علی اسم (إنّ) قبل الخبر لم یجز فیه إلا النصب ، وبه قال الفرّاء فیما یظهر فیه الإعراب ، وأجاز الرفع فیما لم یظهر فیه الإعراب ، ویجوز إنّ زیدا وأنت قائمان واختار الکسائیّ الرفع فیهما والرفع فاسد ؛ لأن الخبر إذا ثنّی کان خبرا عن الاسمین وکان العمل فیه عملا واحدا ، وقد وتقدّم عاملان أحدهما : (إنّ) والآخر المبتدأ المعطوف والعمل الواحد لا یوجبه عاملان.

واحتجّ الآخرون بقوله تعالی : (وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصاری) [المائده : 69] فرفع قبل الخبر ، ویقول العرب : إنّ زیدا وعمرو ذاهبان حکاه سیبویه ، وبأنّ المعطوف علی اسم : (لا) یجوز فیه الرفع فکذلک اسم : (إنّ).

والجواب عن الآیه من وجهین :

أحدهما : أنّه معطوف علی الضمیر فی : (آمَنُوا) وقام الفصل بینهما مقام التوکید.

والثانی : أنّ خبر الصابئین محذوف والنیّه به التأخیر تقدیره إن الذین آمنوا إلی قوله : (وَلا هُمْ یَحْزَنُونَ) والصابئون کذلک لا ویجوز أن یکون : (فَلا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ) خبر الصابئین وخبر إنّ محذوف لدلاله هذا الخبر علیه کما قال الشاعر (1) : [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما

عندک راض والرأی مختلف

أی : نحن بما عندنا راضون ؛ ولذلک تجیز فی الکلام إنّ زیدا وعمرو قائم علی الوجهین ، وأمّا قول البرجمی (2) : [الطویل]

ص: 153

فمن یک أمسی بالمدینه رحله

فإنّی وقیّار بها لغریب

ف- (غریب) خبر (إنّ) لا غیر ؛ لأن اللام تکون فی خبر : (إنّ) لا فی خبر المبتدأ ، وأمّا (قیّار) فیجوز أن یکون مبتدأ و (بها) خبره والجمله حال ویجوز أن یکون خبره محذوفا دلّ علیه المذکور.

وأمّا الحکایه عن العرب فقد قال سبیویه ذلک من قائله علی جهه الغلط کما فعلوا فی خبر : (لیس) فجّروا لأنهم توهّموا الباء فی قول الشاعر (1) : [الطویل]

مشائیم لیسوا مصلحین عشیره

ولا ناعب إلا ببین غرابها

وإنّما غلطوا فی ذلک ؛ لأنه موضع تکثر فیه الباء کذلک فی الحکایه.

وأمّا العطف علی اسم : (لا) فالرفع لا یجوز ومن أجازه قال : (لا) وإسمها رکّبا وجعلا کاسم واحد موضعه رفع ، ومنهم من قال : (لا) لا تعمل فی الخبر ؛ لأنها فرع فلم یلزم فیها ما لزم فی : (إنّ).

فصل : واتّفقوا علی جواز نصب المعطوف علی اسم إنّ بعد الخبر علی اللفظ ورفعه من ثلاثه أوجه :

أحدها : أن یکون علی معنی الابتداء ومعنی ذلک أنّک لو لم تأت ب (إنّ) لکان الاسم مرفوعا بالابتداء فجاء المعطوف علی ذلک التقدیر ولم ینقص رفعه معنی ، ومن قال : هو معطوف علی موضع (إنّ) أو علی موضع اسم (إنّ) فهذا المعنی یرید لا (إنّ).

الثانی : أن یکون مبتدأ والخبر علی الوجهین محذوف دلّ علیه المذکور.

والثالث : أن یکون معطوفا علی الضمیر فی الخبر فیکون علی هذا فاعلا والأجود علی هذا توکیده هذا کلّه فی : (إنّ).

وأمّا : (لکنّ) فلا یجوز العطف فیها علی معنی الابتداء عند أکثر المحقّقین ، وأمّا (أنّ) المفتوحه وما عملت فیه فلا تقع مبتدأ بل معموله لعامل لفظیّ قبلها ویجوز الرفع علی

ص: 154

الوجهین الآخرین وکذلک : (کأنّ ولیت ولعلّ ولکنّ) ؛ لأن هذه الحروف غیّرت معنی الابتداء.

فصل : وإنّما أکّد خبر (إنّ) باللام ؛ لأنها موضوعه لتأکید المبتدأ فلمّا أرید زیاده التوکید جمع بینها وبین (إنّ).

فصل : وموضعها الأصلیّ قبل (إنّ) لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّه وجب لها الصدر قبل (إنّ) فکذلک بعد دخول (إنّ) ؛ ولهذا السبب سمّیت : (لام الابتداء).

والثانی : أن اللام تعلّق : (علمت) عن العمل ، فلو کانت (إنّ) قبلها لمنعتها عن العمل.

والثالث : أنّ (إن) عامله وهی عامل ضعیف فکان وقوع معمولها یلیها أولی.

فصل : وإنّما أخّرت (اللام) إلی الخبر لئلّا یتوالی حرفا معنی کما لا یتوالی حرفا نفی أو استفهام ، وکانت (اللام) أولی بالتأخیر من (إنّ) لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ (اللام) غیر عامله و (إنّ) عامله وتأخیر غیر العامل أولی.

والثانی : أنّ (اللام) تؤثّر فی المعنی فقط و (إنّ) تؤثّر فی اللفظ والمعنی فکان إقرارها ملاصقه اللفظ ملاصقه للفظ الذی تعمل فیه أولی.

والثالث : أنّ (إنّ) لو أخّرت إلی الخبر فنصبته وارتفع ما قبلها تغیّر حکمها وإن بقی ما قبلها منصوبا وما بعدها مرفوعا لزم منه تقدیم معمولها علیها.

فصل : وإنّما لم تدخل اللام فی خبر : (کأنّ ولیت ولعلّ) لزوال معنی الابتداء والتحقیق والتوکید إنّما یراد به تحقیق المحقّق الثابت.

فصل : وأجاز الکوفیّون دخول (اللام) فی خبر (لکنّ) ؛ لأنها مرکّبه من : (لا) و (إنّ) زیدت علیهما الکاف ، وقد جاء ذلک فی الشعر : [الطویل](1)

... ولکننّی من حبّها لعمید

ص: 155

ولأنّ (لکنّ) لا تغیّر معنی الابتداء وهذا عندنا لا یجوز لوجهین :

أحدها : أنّه لم یأت منه شیء فی القرآن ، وفی اختیار کلامهم وإن جاء فی شعر فهو شاذّ سوّغته الضروره.

والثانی : أنّ (اللام) لو جازت مع (لکنّ) لتقدّمت علیها ؛ لأن موضعها صدر الجمله ، وإنّما أخّرت فی (إنّ) لئلّا یتوالی حرفا تأکید و (لکنّ) لیست للتوکید بل للاستدراک ، وبهذا تبیّن أنّ معنی الابتداء لا یبقی معها بالکلّیّه ؛ لأن الابتداء لا استدراک فیه.

فصل : والأصل فی (إنّی) : (إنّنی) وفی (کأنّی) : (کأنّنی) فیؤتی بنون الوقایه (1) لئلّا ینکسر آخر الحرف ، وإنّما جاز حذفها تخفیفا لکثره الاستعمال وکثره النونات والمحذوف النون الثانیه لوجهین :

أحدهما : أنّها حذفت قبل دخولها علی الضمیر فقالوا (إن) وهی المخّففه فکذلک بعد دخولها علی الضمیر.

والثانی : أنّ النون الأولی لا یجوز حذفها لأنّک تحتاج إلی تسکین الثانیه ؛ لیصحّ إدغامها فیصیر معک حذف وتسکین وإدغام ولأنّ الثقل لا یقع إلا بالمکرّر لا بالأوّل.

فصل : فإن فصلت بین الخبریّه وممیّزها نصبت لئلّا یقع الفصل بین المضاف والمضاف إلیه ومنهم مّن یجرّه ولا یعتدّ بالفصل.

فصل : وقد ترفع النکره بعد : (کم) فی الاستفهام ویکون الممیز محذوفا ویقدّر ما یحتمله الکلام کقولک : کم رجل جاءک ، أی : کم مرّه أو یوما ورجل مبتدأ وما بعده الخبر ، وإذا رفعت لم یتعدّد الرجل بل تتعدّد فعلاته.

فصل : ویجوز أن یرجع الضمیر إلی لفظ : (کم) فیکون مفردا وإلی معناها فیکون جمعا ، ومنه قوله تعالی : (وَکَمْ مِنْ مَلَکٍ فِی السَّماواتِ لا تُغْنِی شَفاعَتُهُمْ) [النجم : 26].

ص: 156

وحذف الثالثه ضعیف ؛ لأنها دخلت لمعنی یختلّ بالحذف ، وقد ذهب قوم إلی أنّ المحذوفه هی الأولی وذهب آخرون إلی أنّ المحذوفه فی الثالثه والصحیح ما ذکرنا فأمّا قولک : (إنّا) فالمحذوفه هی الثانیه عند الجمیع.

فصل : وأکثر ما جاء : (لعلّی) (1) بغیر نون ؛ لأن اللام تشبه النون فلمّا ثقل اجتماع النونات ثقل دخول النون علی اللام المشدّده ، وقد جاء : (لعلّنی) فی الشعر ، وأمّا (لیتی) فضعیف فی القیاس قلیل فی الاستعمال ؛ لأن النون إذا لم تثبت توالت أشیاء مستثقله وهی الیاء وکسره التاء والیاء بعدها.

فصل : ویکون ضمیر الشأن والقصّه اسم (إنّ) کما کان اسم (کان) إلا أنّ (کان) یستتر فیها الضمیر إذ کانت فعلا و (إنّ) لا یستتر فیها ؛ لأنها حرف وإن جاءت الجمله بعدها کقولک : إنّ زید قائم کان ضمیر القصّه محذوفا للعلم به.

وقال الکسائیّ : تکون ملغاه عن العمل وهذا ضعیف لقوّه شبه (إنّ) بالفعل فإنّ جعلت بمعنی (نعم) جاز ذلک ، فأمّا قول الشاعر (2) : [الطویل]

فلیت کفافا کان خیرک کلّه

وشرّک عنّی ما ارتوی الماء مرتوی

ص: 157

فصل : وممّا ألحق بکم : (کأیّن) فی الکثیر وفیها لغات وکلام لا یحتمله هذا المختصر إلا أنّها لا تضاف ولا بدّ من : (من) بعدها.

وممّا ألحق بکم : (کذا) کقولک : له عندی کذا درهما وکذا کذا درهما وکذا وکذا درهما ، وقد فرّع الفقهاء علی هذا مسائل فی الإقرار تحتاج إلی نظر.

ففیه أوجه :

أحدها : أنّ ضمیر الشأن محذوف وهو اسم : (لیت) وخبرها الجمله التی بعدها و (کفافا) خبر (کان) ، (خیرک) اسمها ولم یثن الخبر ؛ لأنه کالمصدر.

والثانی : أنّ (کفافا) اسم : (لیت) وکان وما عملت فیه خبرها وخبر (کان) محذوف.

والثالث : أنّ (کان) زائده ویروی : (شرّک) بالنصب علی أنّه معطوف علی اسم : (لیت) ، وأمّا قوله : (ما ارتوی الماء) فالصحیح فی الماء النصب و (مرتوی) فاعل وتروی بالرفع علی معنی ما أروی الماء مرتویا وسکن الیاء فی موضع النصب ثمّ حذف التنوین ، وقیل : جعل الماء مرتویا علی المبالغه وکلّ ذلک ضعیف وقیل : (مرتوی) رفع خبر : (شرّک).

فصل : ویجوز أن تعمل : (أن) المخففه من الثقیله عملها قبل التخفیف ، وقد جاء ذلک فی الشعر کما قال الشاعر : [الطویل]

فلو أنّک فی یوم الرخاء سألتنی

فراقک لم أبخل وأنت صدیق (1)

ص: 158

وقرأ بعض القرّاء : (وإن کلا لما لیوفیّنهم ربّک أعمالهم) بتخفیف النون ونصب : (کلّ) ولا یجوز أن یکون بمعنی : (ما) وأن ینصب : (کلا) بفعل مقدّر لأنّک إن قدّرته من جنس المذکور بعدها فسد المعنی ؛ لأنه یصیر : (ما یوفّی کلّا أعمالهم) وإن قدرته من غیر جنسه لم یکن لتقدیر القسم هنا موضع ؛ لأن أحسن ما یقدّر به : (ما نهمل کلّا) علی أنّ (لمّا) لا تکون بمعنی : (إلا) فی غیر القسم.

وإن کانت المخفّفه من الثقیله وأضمرت عاملا غیر : (ما) لم یصحّ لوجهین :

أحدهما : أنّ (أنّ) قد توهنت بالحذف فلا توهّن بحذف الفعل أیضا.

والثانی : أنّ المخففّه إذا ولیها الفعل وحذف اسمها لا یخلو من عوض والعوض هو : (قد والسین وسوف ولم ولا ولیس).

ویدلّ علی جوازه ایضا أنّ المثقّله مشتبهّه بالفعل ، وقد عمل الفعل بعد تخفیفه بالحذف کقولک : لم یک ولا أدر ولم أبل وقال الکوفیّون لا یجوز أن تعمل بعد التخفیف لضعفها ، وقد دللنا علی الجواز ویکفی فی ضعفها جواز إبطال عملها لا وجوبه فأمّا قول الشاعر (1) : [الطویل]

فیوما توافینا بوجه مقسّم

کأنّ ظبیه تعطو إلی وارف السلم

فیروی بالرفع مع الإلغاء ، والتقدیر : کأنّها ظبیه ، وبالنصب علی الإعمال والخبر محذوف ، أی : کأن ظبیه هذه المرأه وبالجرّ علی زیاده (أن) والجرّ بکاف التشبیه.

ص: 159

أحدها : أنّها تفید فی الجمله معنی واحدا هو التوکید فهی ک (لام الابتداء) و (الباء) الداخله فی خبر (لیس) و (نون تأکید الفعل) والمفتوحه تفید التوکید وتعلّق ما بعدها بما قبلها.

والثانی : أنّ (إنّ) المکسوره أشبه بالفعل لذا کانت عامله غیر معمول فیها کما هو أصل الفعل والمفتوحه عامله ومعمول فیها فهی کالمرکّب والمکسوره کالمفرد والمفرد أصل للمرکّب.

والثالث : أنّ المکسوره لیست کبعض الاسم هی مستقلّه بنفسها والمفتوحه کبعض الاسم إذ کانت هی وما عملت فیه تقدیر اسم واحد.

وقد قال قوم : المفتوحه أصل للمکسوره. وقال آخرون : کلّ واحده منهما أصل بنفسها والصحیح ما بدأنا به.

فصل : وإنّما خصّت المصدریّه بالفتح لأنّهم لّما آثروا الفرق عدلوا إلی أخفّ الحرکات وهی الفتحه ، إن شئت قلت : لّما کانت المصدریّه کبعض الاسم طال الکلام بها فخصّت بأخف الحرکات ، وإن شئت قلت : لمّا کانت مصدرّیه حملوها علی (أن) الناصبه للفعل فی الفتح کما حملوا الناصبه للفعل فی العمل علی الناصبه للاسم.

ص: 161

فصل : وکلّ موضع وقعت فیه (إنّ) وحسن أن یقع فی موقعها فعل وفاعل أو مبتدأ وخبر کانت مکسوره ، وکلّ موضع لم یحسن فی موضعها إلا الفعل وحده أو الاسم وحده فهی مفتوحه وعلی هذا تبنی مسائل الفرق بین : (إنّ) و (أنّ) فمن ذلک کسرها بعد القول ؛ لأن القول تحکی بعده الجمله من الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر ومن ذلک کسرها إذا وقعت صله (للذی) ، وإذا وقعت فی جواب القسم ، وإذا وقعت اللام فی خبرها.

وقد تقع فی موضع یحتمل الأمرین کقولک : لقیت زیدا ؛ فإذا إنّه عبد بالکسر علی معنی ؛ فإذا هو عبد وبالفتح علی معنی ؛ فإذا العبودیّه أی : فاجأتنی ذلّته ، ونحو ذلک.

ص: 162

الدار ، بالرفع والتنوین تناول رجلا واحدا حتّی لو کان هناک رجلان أو أکثر لم یکن الاستفهام متناولا لهما ؛ فإذا أدخلت (من) تناول الجنس کلّه ، وکذلک إذا قلت : ما جاءنی من رجل ، لم یجز أن یکون جاءک واحد أو أکثر ، وإن حذفت (من) جاز أن یکن جاءک رجلان أو أکثر ، وإذا أثبت ذلک صار الاسم متضّمنا معنی (من) المفیده معنی الجنس (1).

والوجه الثانی : أن لا لما لم تعمل إلا إذا لاصقت الاسم ، وکانت (من) بینهما مراده صارتا کالاسم المرکب فی باب العدد کخمسه عشر والمرکب یبنی لتضمنه معنی الحرف.

والثالث : أنّ (لا) فی هذا الباب خالفت بقیّه حروف النفی من وجهین :

أحدهما : أنّها جواب لما لیس بإیجاب بل لما هو استفهام وبقیه حروف النفی یجاب بها عن الواجب.

والثانی : أنّها مختصّه بالنکره العامّه التی هی جنس ، ولیس شیء من حروف النفی مختصّا بضرب من الأسماء.

واحتجّ من قال الاسم هنا معرب بأربعه أوجه :

أحدها : أنّ الاسم المعطوف علیه معرب کقولک : لا رجل وغلاما عندک والواو نائبه عن (لا).

والثانی : أنّ خبرها معربّ وعملها فی الاسمین واحد.

والثالث : أنّ (لا) عامله ، فلو حصل البناء هنا لحصل بعامل والبناء لا یحصل بعامل ؛ لأن العامل غیر المعمول والبناء شبه الترکیب وجزء المرکّب شیء واحد.

ص: 164

والرابع : أنّ الاسم لو کان مبنیّا لبنی علی حرکه غیر الفتح ؛ لأن (لا) تعمل النصب ؛ فإذا عرض البناء وجب أن تکون حرکته غیر حرکه الإعراب کما فی : (قبل وبعد).

والجواب : أنّ المعطوف علیه بنی لتضمّنه معنی الحرف ، وإنّما یکون ذلک مع (لا) نفسها والواو لا تنوب عن (لا) فی هذا المعنی بل تنوب عنها فی العطف فقط ؛ ولهذا یسوغ إظهار (لا) مع (الواو).

قیل : أثر ضعفها قد ظهر فی شیء غیر التنوین ، فمن ذلک أنّه لا یفصل بینها وبین اسمها بالخبر ولا بغیره ولأنّ التنوین لا یحدث بالعامل حتی یحذف إذا ضعف العامل ، وإنّما هو تابع لحرکه الإعراب.

فإن قیل : إنما حذف التنوین ؛ لأن هذا الباب خالف بقیه العوامل فی اختصاصه ببعض الأسماء وعلی وجه مخصوص فخولف به أیضا فی التنوین؟ قیل : قد أجبنا عن هذا.

فصل : واتّفقوا علی أنّ النکره المضافه کقولک : لا غلام رجل عندنا ، وفی المشابه للمضاف کقولک : لا خیرا من زید عندنا معرب ، وإنّما خالف هذا الاسم النکره المفرده لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ المضاف والمضاف إلیه کالشیء الواحد وهما فی اللفظ اسمان ، فلو بنیت الاسم الأوّل مع (لا) لکان لعلّه الترکیب فتصیر ثلاثه أشیاء کالشیء واحد.

والثانی : أنّ المضاف إلیه واقع موقع التنوین ، وکما أنّ التنوین لا یکون بعد حرکه البناء کذلک المضاف إلیه.

والثالث : أنّ المضاف عامل فی المضاف إلیه ، وقد ألف من کلّ مبنیّ إذا أضیف إلی مفرد أعرب فأمّأ (لدن) فبنیت مع الإضافه لإیغاها فی شبه الحرف بخلاف باب (لا).

فصل : والمشابه للمضاف من أجل طوله ما کان عاملا فیما بعده وکان ما بعده من تمام معناه کقولک : لا ضاربا زیدا ولا حسنا وجهه قائم ولا خیرا من زید لنا ووجه مشابهته للمضاف من وجهین :

أحدهما : أنّه عامل فیما بعده کما یعمل المضاف فیه المضاف إلیه.

ص: 165

والثانی : أنّ ما بعده مفتقر إلیه کافتقار المضاف إلیه إلی المضاف ، وعلی هذا إذا قلت لا مرورا بزید وعلقّت الباء بالمصدر نصبت ونوّنت ؛ لأنه عامل فیما بعده والخبر محذوف ، وإن جعلت : (بزید) الخبر لم تنوّن المصدر ؛ لأنه غیر عامل ههنا ، وکذلک لا آمر بالمعروف یوم الجمعه إن أعملت آمرا نوّنته وإن لم تعمله لم تنوّنه ولا یکون : (یوم الجمعه) خبرا ؛ لأن ظرف الزمان لا یخبر به عن الجثث والنفی علی هذا التقدیر خاصّ ببعض الآمرین وإن جعلت الباء الخبر کان النفی عامّا.

فصل : وموضع : (لا) واسمها رفع بالابتداء لوجهین :

أحدهما : أنّهما فی حکم المرکّب علی ما تقدم ، والمرکّب یجری مجری المفرد فی موضع الإعراب.

والثانی : أنّ الکلام قبل دخول : (لا) جمله خبریّه کقولک : عندنا رجل ؛ فإذا أدخلت : (لا) بقیت الخبریه علی ما کانت إلا أنّ الخبر منفیّ وکان مثبتا وهذا مثل : (ما) فی قولک : ما عندنا رجل إلا أنّک لّما أدخلت : (لا) أولیتها الاسم ؛ ولهذا إذا قدّمت الخبر أو فصلت بینهما رجع إلی الابتداء والخبر لفظا مثل قوله تعالی : (لا فِیها غَوْلٌ) [الصافات : 47] ، ولیس ک (أنّ ولیت ولعلّ) ؛ لأنها تغیر معنی الابتداء (1).

ص: 166

فصل : واختلفوا فی خبر (لا) ، فقال سیبویه : هو مرفوع بالابتداء کما یرتفع قبل دخول :

(لا) وحجّته شیئان.

أحدهما : أنّه لمّا کان موضع (لا) واسمها رفعا کان الخبر مرفوعا علی ذلک التقدیر.

والثانی : أنّ (لا) ضعیفه جدا فلم تعمل فی الاسمین بخلاف : (کان) و (إنّ).

وقال الأخفش : هو مرفوع ب (لا) ؛ لأنها اقتضت اسمین وعملت فی أحدهما فتعمل فی الآخر ک (إنّ) وعلی هذا تترتّب مسأله هی قول الشاعر (1) : [الوافر]

فلا لغو ولا تأثیم فیها ...

علی قول سیبویه : (فیها) خبر عن الاسمین ، وعلی قول أبی الحسن هو خبر عن أحدهما وخبر الآخر محذوف.

ص: 167

فصل : إذا وصفت اسم (لا) قبل الخبر ففیه ثلاثه أوجه :

1 - أحدها : النصب بالتنوین حملا علی موضع اسم (لا) کما حملت صفه المنادی المبنیّ علی موضعه فنصبت ولم تبن الصفه کما لم تبن صفه المنادی.

2 - والثانی : الرفع والتنوین حملا علی موضع (لا) واسمها إذ موضعها رفع علی ما تقدّم.

3 - والثالث : الفتح بغیر تنوین ، وفی ذلک وجهان :

أ - أحدهما : أنّها فتحه بناء وأنّما فعلوا ذلک ؛ لأن الصفه والموصوف کالشیء الواحد ؛ ولهذا قد لزمت فی بعض المواضع کما تلزم الصله نحو قولهم : یا أیّها الرجل ، وکقولهم : مررت بخلف الأحمر ، ولو لا ذکر : (الأحمر) لم تعلم أنّ المراد : (خلف) المعروف بالعلم أو غیره ولّما جرتا مجری الشیء الواحد بنوهما قبل دخول (لا) کما بنی : (خمسه عشر) وکما بنوا : (ابن أمّ) و (زید بن عمرو) فیمن فتح الدال ثّم أدخلوا علیه حرف النداء دخلت : (لا) علی اسم مرکّب مبنیّ ولا یجوز أن تکون : (لا) دخلت علیهما وهما معربان فبنیتا معها ؛ لأن ذلک یوجب جعل ثلاثه أشیاء کشیء واحد ولا نظیر له.

ب - والوجه الثانی : أن تجعل فتحه الصفه فتحه إعراب وحذفت التنوین لیشاکل لفظ الصفه لفظ الموصوف کما أنّهم جعلوا : (کلا) و (کلتا) بلفظ التثنیه إذا أضیفت إلی المضمر ؛ لأنّها فی ذلک الموضع تتبع ما قبلها من المثنّی وهذا علی مذهب من جعل اسم : (لا) معربا أظهر.

فصل : فإن جاءت الصفه بعد الخبر جاز فیها الرفع والنصب بالتنوین علی ما تقدّم ولم یجز البناء للفصل بینهما بالخبر.

فصل : إذا عطفت علی اسم (لا) ولم تکرّر کان لک فی المعطوف الرفع علی موضع (لا) واسمها کما ذکرنا فی الصفه والنصب بالتنوین قیاسا علی الصفه أیضا.

ولا یجوز بناؤه ؛ لأن لفظ : (لا) غیر موجود معه ولا یجوز بناؤه بسبب (لا) المتقدّمه ؛ لأن ذلک یفضی إلی جعل أربعه أشیاء کشیء واحد.

ص: 168

فصل : فإن عطفت علیه معرفه لم یحز فیها النصب ؛ لأن (لا) لا تعمل فی المعارف بل ترفعه علی الموضع کقولک : لا غلام لک والعبّاس ، وکذلک إن ذکرت (لا) فقلت : (ولا العبّاس) ورفعه علی الموضع.

فصل : ؛ فإذا کرّرت (لا) مع المعطوف جاز فیها عدّه أوجه (1) :

ص: 169

1 - أحدها : أن تبنی الاسمین علی أن تجعل (لا) الثانیه غیر مزیده کالأولی والواو عاطفه جمله علی جمله.

2 - والثانی : أن تبنی الأوّل علی أصل الباب تنصب الثانی وتنّونه ، وتجعل (لا) زائده کما زیدت فی قولک : (ما لی دینار ولا درهم) فإنّها مزیده لتوکید النفی.

3 - والثالث : أن تبنی الأوّل علی الأصل وترفع الثانی علی ثلاثه أوجه :

أ - أحدها : أن تجعل (لا) زائده وتحمل المعطوف علی الموضع

ب - والثانی : أن تجعل (لا) عامله عمل (لیس) فیکون اسمها مرفوعا وخبرها منصوبا ، وقد أجازوا ذلک إذا کان الاسم نکره کما قال : [مجزوء الکامل]

من صدّ عن نیرانها

فأنا ابن قیس لا براح

أی : لیس لنا براح. وقال العجّاج : [الرجز]

تالله لو لا أن تحشّ الطبّح

بی الجحیم حین لا مستصرخ

وحمل (لا) علی (لیس) قویّ فی القیاس ؛ لأنها نافیه مثلها ، وإذا جاز قیاسها علی (إنّ) فی العمل - مع أنّها نقیضتها - فحملها علی نظیرتها أولی.

ج - والثالث : أن تلغی (لا) ویکون ما بعدها مبتدأ وخبرا علی ما یوجبه القیاس فیها.

ح - والوجه الرابع : أن ترفع الاسمین وتجعل (لا) الأولی علی ما ذکرناه فی رفع الثانیه من حملها علی : (لیس) وإلغائها.

خ - والخامس : أن ترفع الأولی علی ما ذکرنا وتبنی علی أصل الباب (1).

ص: 170

فصل : فإن کان اسم (لا) مثنّی أو مجموعا کان بالیاء والنون ، أمّا : (الیاء) فإنّها تدلّ علی النصب فی المعرب فجعلت ههنا دلاله علی موضع المنصوب وعلی لفظ الفتح الذی فی اسم (لا) کما قالوا فی المنادی : یا زیدان أقبلا ، واختلفوا هل هذا اسم معرب أو مبنیّ علی ما کان علیه فی الإفراد.

فقال الخلیل وسیبویه : هو علی ما کان علیه ؛ لأن العلّه الموجبه للبناء قائمه ولا مانع منه والمثّنی یکون مبنیا کما فی باب النداء ، و (النون) لیست بدلا من الحرکه والتنوین فی کلّ موضع علی ما یبیّن فی باب التثنیه.

وقال أبو العبّاس هما معربان لوجهین :

أحدهما : أنّه لیس شیء من المرکّبات ثنّیّ فیه الاسم الثانی وجمع.

والثانی : أنّ المثنّی فی حکم المعطوف والعطف یمنع من البناء والذی ذکره غیر لازم فإنّ المرکّب إذا سمّی به صحّت تثنیه الاسم الثانی وجمعه کما لو سمّیت رجلا ب (حضرموت) ، فإنّک تقول فی التثنیه والجمع : جاءنی حضرموتان وحضرموتون ، وأمّا جعل التثنیه کالمعطوف فذاک فی المعنی لا فی اللفظ.

فصل : وإذا دخلت (لا) علی المعرفه لم تعمل فیها ولزم تکریرها کقولک : لا زید فی الدار ولا عمرو ، وإنّما لم تعمل هنا لبطلان شبهها ب (إنّ) ، وإنّما لزم التکریر ؛ لأنه جواب من قال : أزید فی الدار أم عمرو؟ فلو قلت : لا. مقتصرا علیها لم یطابق الجواب السؤال ، وکذا لو قلت : لا زید. لم یستوف جواب السؤال.

فأمّا قولهم : لا نولک أن تفعل فجاز من غیر تکریر حملا علی المعنی ، والمعنی لا ینبغی لک.

فصل : فأمّا قولهم : (لا أبا لک) فالعرب یستعملونها علی ثلاثه أوجه :

1 - الوجه الأول : (لا أب لک) بحذف الألف وهو الأصل ؛ لأن (لا) لا تعمل فی المعرفه و (اللام) تقطع الاسم عن الإضافه فیبقی نکره و (أب) و (أخ) وبابهما تحذف لاماتها فی الإفراد.

2 - والوجه الثانی : (لا أبا لک) بإثبات الألف ، وفی ذلک ثلاثه أوجه :

ص: 171

أ - أحدها : أنّه جاء علی لغه من قال : (لا أبا) فی کلّ حال کالمقصور

ب - والثانی : أنّ الألف نشأت عن إشباع فتحه الباء

ج - والثالث : أنّ (اللام) فی حکم الزائده من وجه فکأنّ (الأب) مضاف إلی الکاف ولام هذا الاسم ترجع فی الإضافه وهی أصل من وجه ، وذلک أنّ (لا) لا تعمل فی المعارف ، وقد عملت ههنا فوجب أن تکون اللام مبطله للإضافه وهذا کما قالوا : [البسیط]

... (1) یا بؤس للجهل

[وقالوا أیضا من البسیط :]

یا بؤس للحرب (2) ...

ص: 172

ولا یجوز ذلک فی غیر اللام ؛ لأنها القاطعه للإضافه فی هذا المعنی.

3 - واللغه الثالثه : (لا أبالک) بحذف اللام وهی أشدّها وأبعدها عن القیاس والوجه فیها أنّه حذف : (اللام) وهو یریدها فهی فی حکم الملفوظ به کما فی قولهم : [الطویل]

... ولا ناعب إلا ببین غرائبها

وکما قیل لرؤبه : کیف أصبحت؟ فقال : خیر إن شاء الله ، أراد بخیر ومثل ذلک قولهم : (لا یدی لک بفلان) و (هذا قمیص لا کمّی له) فحذف النون ههنا وإثبات الیاء علی الوجه. المقدّم.

فإن فصلت بین اللام وبین الاسم الأوّل ثبتت النون ؛ لأن ذلک یمنع من الإضافه ، وأمّا (لک) فی قولک : (لا أبا لک) ففیها ثلاثه أوجه :

أحدها : أن تجعلها الخبر.

والثانی : أن تجعلها صفه للاسم فی موضع نصب أو رفع وتتعلق بمحذوف.

والثالث : أن تجعلها للتبیین والتقدیر ، أعنی لک والقول المحقّق فی : (لا أبا لک) أنّ اللام فی حکم الزائده من وجه والاسم مضاف إلی (الکاف) ولم یعرّف ؛ لأن المعنی لا مثل أبیک کما قالوا : [الرجز]

لا هیثم اللیله للمطیّ

فصل : فإن أدخلت همزه الاستفهام علی (لا) لم تغیر حکم (1) (لا) فی جمیع ما ذکرنا ، إلا أنّ سیبویه یختار فی الخبر النّصب فیقول : ألا رجل أفضل منک وإن قلت : ألا رجلا ، فعلی

ص: 173

معنی التمنّی ، أی : لا أجد ، وإن قلت : ألا رجل یکرمنا ، فهو علی ما کان علیه قبل الهمزه فی اللفظ.

واختلفوا فی موضع الاسم فسیبویه یری أنّه منصوب بما فی (ألا) من معنی التمنّی ولم یغیّر اللفظ کما أن قولک : رحمه الله لفظه علی شیء ومعناه علی شیء آخر ، فعلی هذا القول لا یجوز رفع الصفه کقولک : ألا ماء باردا أشربه ، وقال أبو العباس : موضعه علی ما کان علیه قبل الهمزه ورفع صفته جائز.

فصل : وأما (ألا) التی للتخضیض فکلمه واحده وما بعدها منصوب بفعل مضمر ، ویأتی ذکر ذلک فی المنصوبات إن شاء الله.

ص: 174

فصل : فإن استثیت بعد : (لا) رفعت المستثنی کقولک : لا إله إلا الله ؛ لأنه بدل من الموضع ، وقد بطل عمل : (لا) بالإثبات والتقدیر لا إله فی الوجود إلا الله أی الله وحده الإله.

فصل : وأمّا قولهم : جئت بلا شیء وغضبت من لا شیء ف (لا) فیه حرف عند البصریّین ولم تمنع تعدّی العامل إلی ما بعدها ؛ لأنها زیاده فی اللفظ دون المعنی ، وقال بعضهم : هی اسم بمعنی : (غیر) وتجرّ بالإضافه ، وأمّا قول الشاعر : [الطویل]

أبی جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتی لا یمنع الجود قاتله

فیروی : (البخل) بالجرّ علی أنّه جعل (لا) اسما وأضافها إلی کلمه البخل وبالنصب بدلا من (لا) وبالرفع علی إضمار (هو).

فصل : وأمّا قولهم : (لا خیر بخیر بعده النار ولا شرّ بشرّ بعده الجنّه) ففیه قولان :

أحدهما : أنّ قوله : (بخیر) خبر (لا) و (بعده) صفه الخبر والباء بمعنی (فی).

والثانی : أنّ (بعده) صفه اسم (لا) و (بخیر) خبره مقدّم والباء زائده ، والتقدیر : لا خیر بعده النار خیر.

ص: 175

فصل : وحکم المفعول الثانی حکم الخبر فی کونه مفردا وجمله وظرفا ، وفی لزوم العائد علی المفعول الأوّل من المفعول الثانی علی حسب ذلک فی الخبر ؛ لأنه خبر فی الأصل.

فصل : وإذا تقدّمت هذه الأفعال نصبت المفعولین لفظا أو تقدیرا فاللفظ کقولک : ظننت زیدا قائما ، والتقدیر فی ثلاثه مواضع :

أحدها : أن یکون المبتدأ والخبر مفسّرا لضمیر الشأن کقولک : ظننته زید منطلق ، ظننت أی : الشأن والأمر فالجمله بعده فی موضع نصب لوقوعها موقع المفعول الثانی کما کان ذلک خبر فی خبر (کان).

والثانی : أن یکون المفعول الأوّل استفهاما کقوله تعالی : (لِنَعْلَمَ أَیُّ الْحِزْبَیْنِ أَحْصی) [الکهف : 12] فالجمله فی موضع نصب ولم یعمل الظن فی لفظ الاستقهام ؛ لأن الاستفهام له صدر الکلام.

ص: 177

والثالث : أن تدخل لام الابتداء علی المفعول الأوّل کقوله : علمت لزید منطلق ولا یجوز هنا غیر الرفع ؛ لأن الفعل وإن کان مقدّما عاملا ، ولکنه ضعیف إذ کان من أفعال القلب ، والغرض منه : ثبوت الشک أو العلم فی الخبر ، ومن ههنا أشبهت هذه الأفعال الحروف ؛ لأنها أفادت معنی فی غیرها واللام وإن لم تکن عامله ولکنها قویت بشیئین :

أحدهما : لزوم تصدرها کما لزم تصدّر الاستفهام والنفی.

والثانی : أنّها مختصّه بالمبتدأ ومحقّقه له ، وإذا کانت اللام أقوی من هذا الفعل فی باب الابتداء ، وکانت الجمله التی دخلت علیها هذه الأفعال مبتدأ وخبرا فی الأصل لزم أن یمنع من عمل ما قبلها فیما بعدها لفظا ؛ ولهذا کسرت (إنّ) لوقوع اللام فی الخبر وهذا مع أنّها لم تتصدّر.

فصل : وإذا توّسطت بین المفعولین جاز الإعمال والإلغاء وإنّما کان کذلک ؛ لأنها ضعیفه لما ذکرنا من قبل ، وقد ازدادت ضعفا بالتأخیر ، ألا تری أنّ الفعل الذی لا یلغی إذا تأخر حسن دخول اللام علی مفعوله کقولک : (لزید ضربت) ولا یحسن : (ضربت لزید) فقد ازراد ضعفها بالتأخیر ، وبدئ باسم یصلح أن یکون مبتدأ إذ لا عامل لفظیّ قبله وبعده ، وما یصلح أن یکون خبرا عنه غیر (ظننت) ، والغرض حاصل من الرفع کما یحصل من النصب فجاز إلغاء الظنّ کما أنّ القسم یلغی إذا توسّط أو تأخر ، وهذه الأفعال تشبه القسم فی جواز تلقّیها بالجمله ، وذلک مع : (اللام) و (ما) نحو : علمت لزید منطلق ، وکقوله تعالی : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِیصٍ) [فصلت : 48] وأمّا إعمالها فلأنّها فعل متصرّف فعملت مؤخره کما تعمل مقدمه (1).

ص: 178

فصل : واختلفوا فی الإعمال والإلغاء هنا هل هما سواء أم لا؟ فقال قوم : هما سواء لتعارض الدلیلین اللذین ذکرناهما ، وقال آخرون : الإعمال أرجح ؛ لأن الفعل أقوی من الابتداء.

وأمّا إذا تأخّرت عن المفعولین فالإلغاء أقوی عند الجمیع ؛ لأن المبتدأ قد ولیه الخبر وازداد الفعل ضعفا بالتأخیر بخلاف ما إذا توسّط ؛ لأن نسبته إلی الرتبه الأولی کنسبه إلی الرتبه الثالثه ، وإذا تأخّر صار بینه وبین الرتبه الأولی مرتبه وسطی.

فصل : وتنفرد هذه الأفعال عن بقیه الأفعال بخمسه أشیاء :

أحدها : إضمار الشأن فیها کما أضمر فی (کان).

والثانی : تعلیقها عن العمل فی المواضع الثلاثه التی ذکرت.

ص: 179

والثالث : جواز إلغائها إذا توسطت أو تأخرت ، ولیس کذلک : (أعطیت) وبابه فإنّک لو قلت : زید أعطیت درهم لم یجز.

والرابع : أنّه لا یجوز الاقتصار علی أحد مفعولیها ، وقد ذکرت علّته.

والخامس : جواز اتّصال ضمیر الفاعل والمفعول بها وهما لشیء واحد کقولک : ظننتنی قائما ، ویذکر فی موضعه.

فصل : وقد تکون (ظننت) بمعنی الیقین کقوله تعالی : (الَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقره : 46] ، وقد تکون بمعنی : (اتّهمت) فتتعدّی إلی واحد ؛ لأن التهمه لنفس زید لا لصفته ، وقد تکون علمت بمعنی : (عرفت) فتتعدّی إلی واحد کقوله تعالی : (وَآخَرِینَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ) [الأنفال : 60]؛ لأن المعرفه والجهاله تتعلّق بعین زید لا بصفته وتکون : (رأیت) من رؤیه البصر فتتعدی إلی واحد فإن جاء منصوب معها فهو حال (1).

وأمّا (حسبت) : (خلت) (2) فبمعنی التوهّم لا غیر ، وأمّا (زعمت) فهو عباره عن القول المقرون بالاعتقاد ، وقد تکون حقّا ، وقد تکون باطلا ، وأمّا (وجدت) فتکون بمعنی : (علمت) کقولک : وجدت الله عالما. وتکون بمعنی : (صادفت) فتتعدّی إلی واحد وتکون لازمه کقولک : وجدت علیه. أی : غضبت وحزنت.

فصل : وقد شبّه ب (ظننت) : (قلت) وللعرب فیه ثلاثه مذاهب :

أحدها : أن یعمل القول عمل الظنّ مع الاستفهام والخطاب والاستقبال کقولک : أتقول زیدا قائما ؛ لأن الغالب أنّ المستفهم شاکّ وأنّه یستفهم من بحضرته لیخبره ، ومنهم من یعملها فی الخطاب خبرا کان الکلام أو استفهاما ، ومنهم من یعملها عمل الظنّ بکلّ حال.

ص: 180

وإذا اتّصل ب (ظننت) ضمیر منصوب فإن کانت مقدمه جاز أن تکون الهاء ضمیر الشأن ویکون ما بعدها جمله ، وأن یکون ضمیر المصدر أو ضمیر زمان أو مکان مفعولا به علی السعه فینتصب المفعولان بعدها.

وإن کانت متوسّطه جاز ذلک أیضا إلا ضمیر الشأن ؛ لأنه لا یفسّر إلا بجمله بعده ، فإن قلت : زید ظننته قائما ، فإن رفعت الاسمین علی أن الهاء ضمیر زید لم یجز ؛ لأنّک قد أعملت الفعل فی مفعول فلا بدّ من آخر ، وإن جعلتها ضمیر المصدر کان الوجه نصبهما لأنّک قد أکّدت الظنّ ، فإن أتیت بلفظ المصدر کان التأکید أشدّ وإلغائها بعید مع التوکید ، فإن قلت : ظننت ذلک ، جاز أن یکون کنایه عن المصدر وأن یکون کنایه عن الجمله.

فصل : ولا یجوز الاقتصار علی أحد المفعولین هنا لما تقدّم ، ویترتب علیه مسألتان :

إحداهما : إذا وقعت (أنّ) وما عملت فیه بعد هذه الأفعال فعند سیبویه قد سدّت الجمله مسدّ المفعولین ، ولیس فی الکلام حذف ؛ لأن الجمله مشتمله علی الجزأین لفظا ومعنی.

وقال الأخفش : المفعول الثانی محذوف ؛ لأن (أنّ) مصدرّیه ، فتکون هی وما عملت فیه فی تقدیر المصدر المفرد کقولک : علمت أنّ زیدا قائم ، أی : علمت قیام زید کائنا ، وهذا مستغنی عن تقدیره لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّه لا فائده فیه.

والثانی : أنّ ما تعلّق به العلم والظنّ مصّرح به وهو القیام.

والثالث : أنّ (أنّ) للتوکید مع بقاء الجمله علی رمّتها فهی ک (لام الابتداء) وکما لا یحتاج هناک إلی تقدیر مفعول کذلک ههنا.

المسأله الثانیه : قولک : ظنّ زید قائما أبوه. ف (زید) فاعل و (قائما) مفعول و (أبوه) فاعل القیام ، وهذا لا یجوز عندنا إذ لیس فی الکلام سوی مفعول واحد ، وأجازه الکوفیّون واحتجّوا بقول الشاعر (1) : [الطویل]

أظنّ ابن طرثوث عتیبه ذاهب

بعادیتی تکذابه وجعائله

وهذا شاذّ لا یعرّج علیه.

ص: 181

فصل : فأمّا : (نبّأت) و (أنبأت) ففعلان متعدّیان إلی شیء واحد وإلی ثان بحرف الجرّ کقولک : نبّأت زیدا عن حال عمرو أو بحال عمرو ، وقد یحذف حرف الجرّ کقوله تعالی : (مَنْ أَنْبَأَکَ هذا) [التحریم : 3] أی : عن هذا ، وقد ذهب قوم إلی أنّه یتعدّی بنفسه واستدلّ بهذه الآیه ، ولیس فیه دلیل ؛ لأنه قد استعمل فی مواضع أخر بحرف الجرّ أکثر من استعماله بغیر حرف الجرّ ، فالحکم بزیاده الحروف فی تلک المواضع لا یجوز فأمّا حرف الجرّ فأسوغ من الحکم بزیادته ؛ ولهذا کان أکثر کقولک : [البسیط]

أمرتک الخیر (1) ...

فأما قوله تعالی : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِکُمْ) [التوبه : 94] ف (من) عند سیبویه غیر زائده علی ما أصلّنا ، وقال الأخفش : هی زائده والمفعول الثالث محذوف تقدیره : قد نبّأنا الله أخبارکم مشروحه ، وهذا ضعیف لثلاثه أوجه :

أحدها : الحکم بزیاده الحرف من غیر ضروره إلی ذلک.

والثانی : زیاده (من) فی الواجب وهو بعید.

والثالث : حذف المفعول الثالث ، وهو کحذف المفعول الثانی فی باب (ظننت) وهو غیر جائز.

ص: 183

فصل : والفرق بین : (نبّات وأنبأت) وبین : (أعلمت) أنّ (أعلمت) استعملت بغیر همزه التعدّی ثمّ عدّیت و (نّبأت وأنبأت) وضعتا علی التعدّی ولم یستعمل منهما : (نبأ الرجل) و (خبرت وأخبرت وحدّثت) مثل : (نبّأت) ، وإنّما ساغ التعدّی إلی ثلاثه لشبهها ب (أعلمت) لأنّک إذا أخبرت إنسانا بأمر فقد أعلمته به.

فصل : واختلفوا فی جواز تعدیه : (ظننت) وأخواتها غیر : (علمت ورأیت) فمذهب سیبویه ، والجمهور : أنّه لا یجوز إلا فی : (علمت ورأیت) ؛ لأن تعدّی الفعل بالهمزه من باب وضع اللغه ألا تری أنّ قولک : کّلمت زیدا لا تجوز تعدیته بالهمزه ، فلا تقول : أکلمت زیدا عمرا ، بمعنی مکّنته من تکلیمه ولم یرد السماع إلا ب (أعلمت وأریت) وأجاز الأخفش ذلک فی جمیع باب (ظننت) قیاسا علی : (أعلمت ورأیت) وهو بعید لم قدّمنا.

فصل : لا خلاف فی جواز الاقتصار علی فاعل هذه الأفعال ، واختلفوا فی جواز الاقتصار علی المفعول الأول فذهب الأکثرون إلی جوازه کقولک : أعلمت زیدا ومنع منه قوم ، والدلیل علی جوازه أمران :

أحدهما : أنّه فاعل فی المعنی والفاعل یجوز الاقتصار علیه فی باب (ظننت) فکذلک ههنا.

والثانی : أنّ (زیدا) هنا مفعول الإعلام ، ولیس بمبتدأ فی الأصل بخلاف المفعول الأوّل فی : (ظننت) فإنّه مبتدأ فی الأصل غیر مفعول به.

فصل : والمفعول الثالث فی هذا الباب هو المفعول الثانی فی باب (ظننت) فلا یجوز علی هذا أن تقول : أعلمت زیدا عمرا بشرا فکلّ منهم غیر الآخر إلا علی تأویل ، وهو أن یکون المعنی أعلمت زیدا عمرا مثل بشر أو خیّلت له أنّ أحدهما هو الآخر أو یکون عمرو وبشر اسمین لرجل واحد.

فصل : ولا یجوز إلغاء هذه الأفعال بتعلیقها عن العمل ولا بتوسّطها وتأخّرها ؛ لأن المفعول الأوّل فیها فاعل فی المعنی ، ولیس بمبتدأ فی الأصل فعلی هذا لا تقول : أعملت لزید عمرو ذاهب ، لأنّک إن جعلت : (ذاهبا) ل (عمرو) لم یعد علی زید ضمیر ، وکذلک إن جعلته لزید ثمّ إنّ المفعولین الآخرین غیر المفعول الأول فلا یصحّ أنّ یجعل کباب (ظننت) ؛ لأن الثانی هو الأوّل.

ص: 184

أحدهما : أنّ الاشتقاق یوجد من جهه المعانی والتصریف لا من باب العامل والمعمول.

والثانی : أنّ الحرف یعمل فی الاسم ، ولیس الحرف مشتّقا من الاسم ، وکذلک الفعل یعمل فی الأعلام والأجناس التی لیست مصادر ، ولا یقال : هی مشتقّه منه.

فصل : وإنّما سمّی المصدر مفعولا مطلقا لوجهین :

أحدهما : أنّه المفعول علی التحقیق ألا تری أنّ قولک : (ضربت) أی : أوجدت الضرب بخلاف قولک : ضربت زیدا ، فإنک لم توجد زیدا ، وإنّما أوجدت به فعلا.

والثانی : أنّ لفظ المصدر مجرّد عن حرف جرّ فلا یقال : (به) ولا (فیه) ولا (له) ولا (معه) ، وإنّما کان کذلک ؛ لأنه لو قیل لک : - وقد ضربت مثلا - ما فعلت؟ قلت : الضرب ، وإذا قیل لک : بمن أوقعت الضرب؟ قلت : بزید. فقیّدته بالباء ، ولو قیل : فی أیّ زمان؟ أو فی أیّ مکان؟ لقلت : فی یوم کذا ، وفی مکان کذا ، ولو قیل : لأیّ غرض؟ لقیل : لکذا وکذا ، فقد رأیت کیف تقیّدت هذه المفاعیل بالحروف ما عدا المصدر.

فصل : والمصدر یذکر لأحد أربعه أشیاء :

أحدها : توکید الفعل کقولک : ضربت ، ف (ضربا) نائب عن قولک : (ضربت) مّره أخری ؛ لأن التوکید یکون بتنکیر اللفظ ، وإنّما عدلوا إلی المصدر کراهیه إعاده اللفظ بعینه ؛ لأن الفعل الثانی جمله والمصدر لیس بجمله فکان أخصر وأبعد من التنکیر.

والثانی : أن یذکر لبیان النوع کقولک : ضربت ضربا شدیدا ، ذکرت : (ضربا) لتصفه بالشدّه التی یدلّ علیها الفعل.

والثالث : أن یذکر لتبیین العدد ویحتاج فی ذلک إلی زیاده علی المصدر وتلک الزیاده : (تاء التأنیث) نحو قولک : ضربت ضربه ، فإنّ التاء تدلّ علی المره ، وهنا یثنّی ویجمع نحو : ضربتین وضربات ؛ لأن لفظ الفعل لا یدلّ علی العدد فذکر المصدر لتحصیل هذه الزیاده.

والرابع : أن یذکر المصدر لینوب عن الحال کقولک : قتلته صبرا ، أی : مصبورا أو محبوسا ویذکر فی باب الحال بالباء.

فصل : وتقوم الآله مقام المصدر کقولک : ضربته سوطا ، ف (سوط) هنا اسم للضربه بالسوط ، وإنّما جاز ذلک لم بین الفعل والآله من الملابسه وحصل من هذا شیئان الاختصار

ص: 186

والتنبیه علی أنّ الفعل کان بالآله المخصوصه ، ولو لا ذلک لقلت : ضربته ضربه بسوط ، ولیس السوط ههنا منصوبا علی تقدیر حذف حرف الجرّ لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ حذف الحرف لیس بقیاس.

والثانی : أن فی قولک : (سوطا) دلاله علی المرّه الواحده ، ألا تری أنّک تقول : ضربته أسواطا ، ولو کانت الباء مراده لم تدلّ علی ذلک.

والثالث : أنّک تقول : ضربته مائه سوط ، ولا ترید مائه ضربه بسوط ؛ إذ لو أردت ذلک لکان المعنی : أنّ جمیع الضربات بآله واحده ، ولیس المعنی علیه ، بل یقول : ضربته مائه سوط ، وإن کانت کلّ ضربه بآله غیر الآله الأخری.

فصل : والعدد المضاف إلی المصدر ینتصب نصب المصدر کقولک : ضربته ثلاث ضربات ، لما بین العدد والمعدود من الملابسه والاتّصال ، وکذلک صفه المصدر إذا أضیفت إلیه کقولک : سرت أشدّ السیر ؛ لأن الصفه هی الموصوف فی المعنی وإنما قدّمت لتدلّ علی المبالغه.

فصل : ولا یثنّی المصدر ولا یجمع ما دام جنسا لدلالته علی جمیع أنواع الحدث ، وإنّما یثنّی ویجمع ما لا یدلّ واحده إلا علی مقدار واحد ، فإن اختلفت أنواعه ثنی وجمع ؛ لأن کلّ نوع منها متّمیّز عن الآخر بصفه تخصّه فیصیر بمنزله أسماء الأعلام ، وکذلک إن زید فیه : (تاء التأنیث) کالضربه ؛ فإنه یدلّ علی الواحد لا غیر ؛ فإذا وجدت فیه أعداد احتیج إلی ما یدلّ علیها (1).

ص: 187

فصل : وأمّا قولهم : (قعد القرفصاء) و (اشتمل الصماء) فاختلفوا فی الاسم المنصوب هنا علی ثلاثه أقوال :

أحدها : أنّه منصوب بالفعل الذی قبله ؛ لأن (القرفصاء) نوع من القعود و (الصمّاء) نوع من الاشتمال ؛ فإذا عمل (قعد) فی القعود الجامع لأنواعه کان عاملا فی نوع منه لدخوله تحت الجنس هذا قول سبیویه.

ومن البصریّین من قال : هو صفه لمصدر محذوف تقدیره : (القعده القرفصاء) فعلی هذا فی الکلام حذف ولکنّ العامل فی الصفه العامل فی الموصوف غیر أنّه بواسطه.

ومن النحویّین من قال : ینتصب بفعل محذوف دلّ علیه (قعد) تقدیره تقرفص القرفصاء ، وفی ذلک تعسّف مستغنی عنه ؛ لأن (تقرفص) لو استعمل لکان بمعنی (قعد) ؛ فإذا وجدت لفظه : (قعد) کانت أولی بالعمل إذ هی أصل (تقرفص).

فصل : ومن ذلک : (أبغضه کراهیه) و (أعجبنی حبّا شدیدا) فالاسم هنا یتنصب بالفعل الذی قبله ؛ لأنه یقرب من معناه.

ص: 188

ومنه متعدّ إلی مفعولین ثانیهما غیر الأوّل نحو : أعطیت زیدا درهما ؛ لأن الإعطاء یقتضی آخذا ومأخوذا ، ویجوز تقدیم أحدهما علی الآخر إلا أن یؤدّی إلی اللبس کقولک : أعطیت زیدا عمرا فکل واحد منهما یصلح أن یکون آخذا وأن یکون مأخوذا ؛ فإذا لم یبن أحدهما من الآخر إلا بتقدیم الآخذ لزم تقدیمه کما یلزم فی الاسمین المقصورین أن یتقدّم الفاعل.

فصل : وقد یکون الفعل متعدّیا إلی مفعول واحد بنفسه وإلی آخر بحرف الجرّ ثمّ یحذف الحرف فیتعدی إلیه الفعل بنفسه کقوله تعالی : (وَاخْتارَ مُوسی قَوْمَهُ سَبْعِینَ رَجُلاً) [الأعراف : 155] والتقدیر من قومه.

فإن قیل : لم لا یکون الثانی بدلا من الأوّل؟

قیل : لأن الاختیار یقتضی أن یکون المختار بعضا من کلّ ؛ لأن ما هو واحد فی نفسه لا یصحّ اختیاره ، وإذا لم یکن بدّ من مختار منه لم یصحّ البدل ومن ذلک قولهم : [البسیط]

أمرتک الخیر ...

أی : بالخیر ، وأمّا قوله تعالی : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : 94] ففیه وجهان :

أحدهما : أنّ (ما) مصدریّه أی بالأمر وهو المأمور به.

والثانی : هی بمعنی : (الذی) فتقدیره بالذی تؤمر بالصدع به ، ثم حذفت (الباء) ووصل الضمیر ، فصار (بصدعه) ثمّ حذف (الصدع) ، فصار : (تؤمر به) ثم حذفت الباء والهاء دفعه واحده فی قول سیبویه ، وعلی قول الأخفش حذف : (الباء) فصار : (تؤمره) ثمّ حذفت الهاء.

فصل : فیما یعدّی الفعل وهی خمسه الهمزه کقولک : فرح زید وأفرخته وتشدید العین کقولک : فرّحته ومعناها واحد والباء کقولک : فرحت به ، ومعناه غیر معنی الأولیّن والتمثیل المطابق للأوّلین ذهبت بزید ، أی : أذهبته کقوله تعالی : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) [البقره : 20] وسین استفعل وزائدها وهما الهمزه والتاء کقوله : خرج الشیء واستخرجته ، وألف المفاعله نحو : جلس زید وجالسته ، وقربت من البلد وقاربته.

ص: 190

والثانی : أنّ هذه الأمکنه لّما أرید بها المبالغه ولم یقصد بها أمکنه معیّنه محدوده صارت کالأمکنه المبهمه.

مسأله : تقول : (دخلت البیت بغیر فی) واختلف النحویّون فیه فقال سیبویه : هو لازم ، وإنّما حذفت (فی) تخفیفا لکثره الاستعمال. وقال الجرمیّ : هو متعدّ مثل : (بنیت) و (عمرت) ونحو ذلک.

أحدها : أنّه لو کان متعدّیا هنا لکان متعدیا فی کلّ موضع صحّ معناه فیه ، ولیس الأمر علی ذلک ألا تری أنّک تقول : دخلت فی هذا الأمر ، ولو قلت : دخلت الأمر ، لم یستقم مع أنّ معناه لابست الأمر وولیته.

والوجه الثانی : أنّک تقول دخلنا فی شهر کذا و (فی) هنا غیر زائده لأنّهم لم یستعملوه بغیر : (فی) ولأنّ الأصل إلا یزاد حرف الجرّ.

والثالث : أنّ مصدر دخلت : (الدخول) وکلّ مصدر کان علی : (فعول) ففعله لازم کالجلوس والقعود.

والرابع : أنّ نظیره : (غرت وغصت وغبت) وکلّها لازم ونقیضه : (خرجت) وهو لازم أیضا ، وذلک یؤنس بکون : (دخلت) لازما.

فصل : یجوز أن یجعل ظرف الزمان والمکان مفعولا به علی السّعه وتظهر فائدته فی موضعین :

أحدهما : أن تضیف إلیه کقولهم : [الرجز]

یا سارق اللیله أهل الدار

کما تقول : (یا سارق ثوب زید) ولا یجوز أن یکون هنا ظرفا ؛ لأن (فی) مع الظرف مقدّره وتقدیر (فی) یمنع الإضافه.

والثانی : أنّک إذا أخبرت عنه - وهو مفعول به - لم تأت بحرف الجرّ مع ضمیره کقولک : یوم الجمعه سرته ، فإن جعلته ظرفا قلت : سرت فیه.

ص: 192

وإنّما جاز حذف (فی) مع الظرف دون ضمیره ؛ لأن لفظ الظرف یدلّ علی الحرف إذ کان صریحا فی الظرف ، والضمیر لا یختصّ بالظرف بل یصلح له ولغیره ، وأمّا قول الشاعر : [الکامل]

فلأبغینّکم قنا وعوارضا

ولأقبلنّ الخیل لابه ضرغد

ف (قنا) و (عوارض) و (لابه ضرغد) أمکنه معیّنه وعدّی الفعل إلیها بنفسه کما عدّی (دخلت) بنفسه ، وقیل : جعلها مفعولا بها علی السعه.

ص: 193

إلا أنّ حرف الجرّ عمل والواو لا تعمل فکان وصول الفعل إلی الاسم بعد الواو کعمل الفعل فی موضع الجارّ والمجرور.

فصل : وإنّما حذفت (مع) اختصارا وتوسّعا ، وإنّما أقیمت مقامها دون غیرها لتقارب معناهما ؛ لأن (مع) للمصاحبه و (الواو) للجمع والاجتماع مصاحبه.

فصل : والفرق بین الرفع والنصب هنا أنّک إذا رفعت کان الاسم الثانی کالأوّل فی نسبه الفعل إلیه ، وإذا نصبت کان الفعل للأوّل ولکن تبعا للثانی مثاله : (اذهب أنت وزیدا) إذا رفعت کنت آمرا لهما بالذهاب ، وإن نصبت کنت آمرا للمخاطب دون زید حتّی لو لم یذهب زید لم یلزم المخاطب الذهاب ، وإنّما یلزمه متابعه زید فی الذهاب.

وتقول : کنت أنا وزید أخوین إذا رفعت ثنّیت الخبر ، وإذا نصبت لم تجز المسأله لأنّک لو صرّحت ب (مع) لم تجز التثنیه کقولک : کنت مع زید أخوین.

فصل : ولا یجوز تقدیم المفعول معه علی العامل فیه ولا علی الفاعل کقولک : والخشبه استوی الماء واستوی والخشبه الماء ، وإنّ الواو ولإنّ کانت بمعنی (مع) فمعنی العطف لا یفارقها ، فلو قدّمت لتقدّم المعطوف علی المعطوف علیه ، وذلک غیر جائز فی الاختیار.

فصل : وإذا لم یکن فی الکلام فعل لم یجز النصب فیما بعد الواو بمعنی (مع) ؛ لأن الواو مقویّه للفعل حتّی یصل إلی الاسم فیعمل فیه ؛ فإذا لم یکن فعل لم یکن عامل یقوّی.

وقد أجازوا النصب فی موضعین :

أحدهما قولهم : (ما أنت وزیدا).

والثانی : (کنت أنت وزیدا) فالرفع والنصب فیهما جائزان فالرفع علی تقدیر : (وما زید) فإنّما تقول ذلک فی المنع من التّعرض به والنصب علی تقدیر : ما تکون أنت وزیدا؟ وکیف تکون أنت وزیدا؟ فأضمروا (کان) لکثره دورها فی الکلام ؛ ولذلک أضمروها فی مواضع منها إن خیرا فخیر.

فصل : وأکثر البصریین یذهب إلی أنّ هذا الباب مقیس لصحّه المعنی فیه وتصوّر عامل النصب وامتنع قوم منهم من القیاس علی المسموع منه ؛ لأن إقامه الحرف مقام الاسم مع اختلاف معناهما وعملهما غیر مقیس فیقتصر فیه علی السماع.

ص: 196

والتحقیق : أنّ هذا نائب عن الحال ، ولیس بها ، بل التقدیر أرسلها معترکه ثم جعل الفعل موضع اسم الفاعل لمشابهته إیاه فصار : (تعترک) ثمّ جعل المصدر موضع الفعل لدلالته علیه ویدلّ علی ذلک أنّ الحال وصف وصیغ الأوصاف غیر صیغ المصادر.

ومن ذلک رجع عوده علی بدئه ففی هذه المسأله الرفع والنصب ، ففی الرفع وجهان :

أحدهما : هو فاعل (رجع).

والثانی : هو مبتدأ و (علی بدئه) الخبر.

وأمّا النصب ففیه قولان :

أحدهما : هو مفعول به ، أی : ردّ عوده وأعاده کقوله تعالی : (فَإِنْ رَجَعَکَ اللهُ) [التوبه : 83].

والثانی : هو حال ، والتقدیر : رجع عائدا ثمّ یعود ، ثمّ عوده کما تقدّم ومثل ذلک : (افعله جهدک) أی : مجتهدا ، ثمّ یجتهد قثّم ثمّ جهدک.

ومن ذلک : (کلّمته فاه إلی فیّ) تقدیره : مکافحا أو مشافها ثمّ حذف هذا وجعل : (فاه إلی فیّ) نائبا عنه ویجوز : (فوه إلی فیّ) والجمله علی هذا حال.

ومن ذلک مجیء صاحب الحال نکره کما جاء فی الحدیث : «فجاء رسول الله علی فرس سابقا» فی قول من جعله حالا من الفرس ، فإن کانت الروایه هکذا أمکن أن یکون (سابقا) حالا من الفاعل ، وإن کانت الروایه لا یمکن فیها ذلک حمل علی مجیء الحال من النکره ، والفرق بینها وبین الصفه أنّک لو قلت : علی فرس سابق ، فجررت جاز أن یکون معروفا بالسبق ، ولا یکون سابقا فی تلک الحال وإن نصبت لزم أن یکون سبق فی تلک الحال.

ومن ذلک وقوع الجامد حالا کقولک : بیّنت له حسابه بابا بابا ، والتقدیر : بیّنته مفصلا.

ومن ذلک الحال المؤکده کقوله تعالی : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) [البقره : 91] وقول الشاعر (1) : [البسیط]

أنا ابن داره معروفا بها نسبی

فهل بداره یا للنّاس من عار

ص: 198

وإنّما کانت هذه الحال مؤکّده ؛ لأن الحق لا یکون إلا مصدّقا للحق ، وإنّما جیء بها لشدّه توکید الحقّ بالتصریح المغنی عن الاستنباط والعامل فی هذه الحال ما فی الجمله من معنی الفعل ، تقدیره وهو الثابت مصدّقا وصاحب الحال الضمیر فی ثابت.

فصل : والعامل فی الحال ضربان : فعل ومعنی فعل ، فالفعل مثل : أقبل وجاء ونحوهما ، فهذا یجوز فیه تقدیم الحال علی صاحبها وعلی العامل فیه ؛ لأن العامل قویّ متصرّف والحال کالمفعول.

وقال الفرّاء : لا یجوز تقدیمها لما یلزم من تقدیم الضمیر علی ما یرجع إلیه وهذا لیس بشیء ؛ لأن النیّه به التأخیر فیصیر کقولهم : فی أکفانه لفّ المیت ، ومنه قوله تعالی : (فَأَوْجَسَ فِی نَفْسِهِ خِیفَهً مُوسی) [طه : 67].

وأمّا العامل المعنویّ فکأسماء الإشاره کقولک : هذا زید قائما ، وإنّما عمل لأن معناه أنبّه ، وأشیر إلیه فی حال قیامه ولا یتقدم الحال علی هذا العامل ؛ لأنه غیر متصرف والتقدیم تصرّف فلا یستفاد بغیر متصرّف (1).

وأما تقدیمها علی صاحب الحال فجائز کقولک : هذا قائما زید ؛ لأنها بعد العامل.

فإن قیل : هلّا عملت أسماء الإشاره فی المفعول به؟

قیل : المفعول به غیر الفاعل ، فلو عملت فیه أسماء الإشاره بمعناها لعملت فیه جمیع الحروف نحو : (ما) و (همزه الاستفهام) ومعلوم أنّها لا تعمل فیه.

والعلّه فی ذلک : أنّ معنی الحرف فی الاسم ، فلو عمل فیه بمعناه لصار العامل فی الاسم المعنی القائم به ولأنّ الحروف نابت عن الجمل ، فلو عملت کانت کالجمل.

فأمّا عمل المعنی فی الحال فلأنّها تشبه الظرف إذ کانت تقدّر ب (فی) إلا أنّ الظرف قد یتقدم علی العامل المعنویّ بخلاف الحال والفرق بینهما من وجهین :

أحدهما : أنّ الحال تشبه المفعول به إذ کانت ظرفا علی الحقیقه.

ص: 199

والثانی : أنّها تشبه الصفه والعامل فی الصفه هو العامل فی الموصوف والموصوف إمّا فاعل وإمّا مفعول به.

فصل : فأمّا تقدیم الحال علی العامل (1) إذا کان ظرفا فقد أجازه أبو الحسن بشرط تقدّم المبتدأ علیها کقولک : زید قائما فی الدار. وتقدم الظرف علیهما کقولک : فی الدار قائما زید. ولا یجوز عند الجمیع : قائما زید فی الدار ، ولا قائما فی الدار زید ، واحتجّ بشیئین :

أحدهما : أنّ تقدیم أحد الجزئین کتقدیمهما لتوقّف المعنی علیهما.

والثانی : أنّ الظرف متعلّق بالفعل فکأنّ الفعل ملفوظ به.

والجواب : أنّ الظرف علی کلّ حال غیر عامل بلفظه فصار کأسماء الإشاره ، وتقدّم أحد الجزئین لا یخرجه عن أن یکون معنویّا ، وأن التقدیم تصرّف والظروف لا تصرّف لها ثم هو باطل بقولک : زید قائما. هذا إذا جعلت (زیدا) مبتدأ و (هذا) خبره ، وأمّا تعلّقه بالفعل فلا یوجب جواز التقدیم ؛ لأن العمل للظرف لا لذلک الفعل ، وربما قیل : إنّ عمل الظرف أضعف من عمل معنی الإشاره ؛ لأن الفعل یصحّ إظهاره مع الظرف فتبیّن أنّ العمل للفعل ، وأمّا معنی الإشاره فلا یجتمع مع اسم الإشاره ، فصار اسم الإشاره بمنزله نفس العامل.

ص: 200

فصل : ولا یجوز تقدیم حال المجرور علیه ؛ لأن العامل فی الحال هو العامل فی صاحب الحال ، والعامل فی صاحبها هو الحرف المعلّق بالفعل فصار کالشیء الواحد فتقدیمها علی الجارّ یفصل بین الفعل والحرف ؛ ولأنّ حرف الجرّ لا تصرّف له وهو العامل فی صاحب الحال ، ولیس له معنی یعمل به فامتنع قولک : (مررت قائما بزید) و (قائما مررت بزید) والقیام لزید (1).

وقال بعض النحویّین یجوز تقدیمها علیه واحتجّ بقوله تعالی : (وَما أَرْسَلْناکَ إِلَّا کَافَّهً لِلنَّاسِ) [سبأ : 28] وبقول الشاعر : [الطویل]

فإن تک أذواد أصبن ونسوه

فلن یذهبوا فرعا بقتل حبال

أی : بقتل حبال. (فزعا) أی هدرا. والجواب : أمّا (کافّه) فحال من الکاف لا من الناس والهاء فیها للمبالغه ، والتقدیر : ما أرسلناک إلّا کافّه للناس کفرهم ، وأمّا (فرغا) فحال من الفاعل ، أی : فلن یذهبوا ذوی فرغ.

فصل : العامل الواحد یعمل فی أکثر من حال کقولک : جاء زید راکبا ضاحکا ؛ لأن الحال کالظرف والعامل قد یعمل فی ظرفین من المکان والزمان والمعنی لا یتناقض ، وقال البصرییّن : لا یعمل إلا فی واحده ؛ لأنها مشبّهه بالمفعول والفعل لا یعمل فی مفعولین فصاعدا علی هذا الحدّ ، فإن وقع ذلک جعلت الحال الثانیه بدلا من الأولی أو حالا من المضمر فیها.

ص: 201

فصل : الفعل الماضی لا یکون حالا إلا ب (قد) مظهره أو مضمره کقولک : جاء زید رکب ؛ لأن الحال إمّا مقارنه أو منتظره والماضی منقطع عن زمن العامل ، ولیس بهیئه فی ذلک الزمان و (قد) تقربه من الحال ، وقال الکوفیّون : یجوز ذلک ؛ لأن أکثر ما فیه أنّها غیر موجوده فی زمان الفعل ، وذلک لا یمنع لا تمنع الحال المقدّره.

والجواب : أنّ الفرق بینهما أنّ الحال والاستقبال متقاربان ؛ لأن المنتظر یصیر إلی الحال ؛ ولذلک احتملها الفعل المضارع والماضی منقطع بالکلّیه ، فأمّا قوله تعالی : (أَوْ جاؤُکُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : 90] فقیل : التقدیر : (قوما حصرت) فالفعل صفه لا حال ، وقیل : هو دعاء مستأنف ، وقیل : لفظه ماض والمعنی علی المضارعه ، أی : جاؤوکم تحصر صدورهم ؛ لأن الحصر کان موجودا وقت مجیئهم فحقه أنّ یعبّر عنه بفعل الحال ، وقیل : التقدیر : (قد حصرت) (1).

ص: 202

فصل : والأحوال أربعه منتقله مقارنه کقولک : جاء زید راکبا ؛ لأن الرکوب قارن المجیء ، ولیس بلازم لمجیئه إذ من الجائز أن یجیء ماشیا ومقارنه غیر منتقله وهی المؤکده کقوله تعالی : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) [البقره : 91] فالتصدیق للحق مقارن للحقّ وغیر منتقل عنه ، والعامل فی هذه الحال معنی الجمله کأنه قال وهو الثابت مصدّقا وحال منتقله غیر مقارنه بل منتظره کقولک : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا فالصید غیر مقارن لمرورک بل مقدّر ؛ لأنه کان متهیئا لذلک فعبر عن المال بالحال ، ومنه قوله تعالی : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [یوسف : 100] وحال موطّئه للحال الحقیقیه کقولک : مررت بزید صالحا ف (رجلا) موّطئ للحال ، ومنه قوله تعالی : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِی هذَا الْقُرْآنِ) ثّم قال : (قُرْآناً عَرَبِیًّا) [الزمر : 27 - 28].

ص: 203

فصل : وأمّا (أحد عشر) إلی : (تسعه عشر) فإنّه یشبه (عشرین) فی أنّه عدد مبهم وأنّ إضافته ممتنعه ؛ لأن الاسم الثانی صار ک (النون) فی (عشرون) إذ کان تماما له ، ولأنّ المرکب أصله التنوین کقولک : خمسه وعشره ، وبعد الترکیب لم یبطل (1) معنی التنوین مع وجود التنوین أو النون یلزم نصب الممیز فکذلک مع ما یقوم مقامه.

فصل : وکذلک کلّ منّون یفتقر إلی ممّیز کقولک : (هذا راقود خلا) ؛ لأن التنوین یمنع الإضافه فإن أضفت فقلت : (رطل ذهب) احتمل أن یکون بمعنی (اللام) وبمعنی (من) ، وإذا نصبت لم تکن إلا بمعنی (من) ؛ لأنها الموضوعه للتبیین ، وکذلک النون فی : (منوان وقفیزان).

فصل : فأمّا المضاف کقولک : لله درّه شجاعا ، وعلی التمره مثلها زبدا ، وما فی السماء قدر راحه سحابا ، فکل هذا ینتصب فیه الممیّز بما قبله لشبهه بالمنوّن المبهم ؛ لأن مثل التمره قد یکون زبدا أو غیره ، والمضاف إلیه یمنع إضافه مثل إلی الزبد وهو مقدار کما أنّ (عشرین) مقدار ، وقیل : التقدیر علی التمره زبد مثلها ، فلما أخرته انتصب لأنّک جعلته فضله کما فی قولک : طبت به نفسا.

فصل : ومن ذلک : هو أحسن الناس وجها ، فأمّا : هو أحسن منک وجها ، ف (منک) جری مجری المضاف إلیه ؛ لأنه مبین له وتتّمه ومعمول له.

ص: 205

فصل : وإذا قلت : (زید أفره عبد) فجررت کان زید عبدا ؛ لأن أفعل لا تضاف إلا إلی ما هی بعضه ، والأصل : (زید أفره العبید) فاختصر وأن نصبت فقلت : (أفره عبدا لم یکن زید عبدا بل کان العبید له) والوصف فی المعنی لعبیده ، أی : عبیده أفره العبید ، کما تقول : هو أکثر مالا وأقل شرّا.

فصل : ومن التمییز : (طبت به نفسا) ، ف (نفسا) منصوب بالفعل ، وأصله : طابت نفسی به ، ثمّ أردت المبالغه فنسبت الطیب إلیک فجعلت ما کان مضافا إلیه فاعلا (1).

فحدث من أجل ذلک إبهام فأمکن أن یکون طبت به نسبا وعرضا وثوبا وذکرا ؛ فإذا قلت : (نفسا) بیّنت الطیب إلی أیّ شیء هو منسوب فی الحقیقه ، وانتصاب (نفس) علی تشبیه اللازم بالمتعدی ؛ لأن (طبت) لا تتعدّی.

فصل : ولا یجوز تقدیم المنصوب هنا علی الفعل ، وقال المازنیّ والمبرّد والکوفّیون : هو جائز ، کقولک : نفسا طبت به.

وحجّه الأوّلین : أنّ المنصوب هنا فاعل فی المعنی ، وإنما حول عن ذلک ونسب الفعل إلی المضاف إلیه مبالغه ، ثّم میّز بذکر ما هو فاعل فی الأصل ، فلو قدم لصار کتقدیم الفاعل علی

ص: 206

الفعل ، وذلک باطل کذلک ههنا ویدلّ علیه أنّه ممیز فلم یتقدم علی العامل فیه کالممیز فی : (نعم) وفی : (الأعداد) واحتجّ الآخرون بقول الشاعر (1) : [الطویل]

أتهجر لیلی للفراق حبیبها

وما کان نفسا بالفراق تطیب

وقالوا : لأن العامل فی هذا المنصوب فعل متصرف فجاز تقدیمه علیه کالحال.

والجواب عن البیت من ثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ الروایه : (وما کان نفسی) فهو اسم کان.

والثانی : أنّ نصبه علی أنّه خبر کان أی ما کان حبیبها نفسا ، أی : إنسانا یطیب بالفراق.

والثالث : أنّه من ضروره الشعر فلا یحتج به علی الإعراب فی الاختیار ، وأمّا القیاس علی الحال ففاسد ؛ لأن الحال فضله مخصه والممیز هنا فی حکم اللازم وهو الفاعل فافترقا ، فأمّا تقدیم الممیّز علی الفاعل نحو : (ما طاب نفسا زید) فجائز لتقدم الفعل علیه.

ص: 207

والخامس : أنا إذا قدرنا : (أستثنی) صار الکلام جملتین ، وتقدیره بالجمله الواحده أولی.

وأما مذهب الفراء فیبطل من ثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ دعوی الترکیب فیها خلاف الأصل فلا یصار إلیه إلا بدلیل ظاهر ولا دلیل بحال.

والثانی : أنّه لو سلم ذلک لم یلزم بقاء حکم واحد من المفردین کما فی : (لو لا) وکأنّ وغیرهما ؛ لأن الترکیب یحدث معنی لم یکن وبحدوثه یبطل العمل.

والثالث : أنّ النصب ب (إنّ) فاسد ؛ لأنها إذا نصبت افتقرت إلی خبر ولا خبر و (لا) لا تعمل الرفع ، ولو عملت لافتقرت إلی خبر أیضا.

فصل : والبدل فی النفی بعد تمام الکلام أولی لأمرین :

أحدهما : أن العمل فیهما واحد وهو أولی من اختلاف العمل.

والثانی : أنّک إذا جعلته بدلا کان لازما فی الجمله کما أن المستثنی منه کذلک ، وهو أولی من جعله فضله إذ کان الاستثناء لازما فی المعنی المطلوب فیکون اللفظ کذلک.

فصل : وإنما لم یجز البدل فی الموجب لفساد معناه ، وذلک أنّ (إلّا) یخالف ما بعدها ما قبلها ، وإذا قلت : (قام القوم إلا زید) کان کقولک : (قام إلّا زید) ف (زید) إن جعلته فی المعنی قائما لم یکن ل (إلا) معنی وإن نفیت عنه القیام احتجت إلی تقدیر فاعل ولا یصح ؛ لأنه یصیر قام کلّ واحد وهذا محال.

فصل : ولا یجوز عند جمهور النحویین أن یکون المستثنی أکثر الجمله مثله علیّ عشره إلا سته أوجه :

أحدها : أنّ الاستثناء فی الأصل دخل الکلام للاختصار أو للجهل بالعدد کقولک : (قام القوم إلا) فاستثناء : (زید) کان للجهل بعدد من قام منهم أو للإطاله بتعدیدهم ولا شبه أنّ قوله علیّ أربعه أحضر من قوله عشره إلا ستّه.

فإن قلت : فعشره إلا أربعه جائز معنی مع أنّ (ستّه) أخضر؟

قیل : جاز للمعنی الآخر وهو الجهل ؛ فإنّه قد یعرف العدد القلیل ولا یعرف الکثیر ، وإذا الکثیر عرف القلیل هذا هو الأصل.

ص: 209

والوجه الثانی : أنّ التعبیر عن الأکثر جائز فدخل الاستثناء لیرفع الاحتمال وتعیینه للأکثر وهو عکس التوکید ؛ لأنه یعینه للکل ویمنع من حمله علی الأکثر کقولهم : قام القوم کلهم.

فصل : وإنما یختار النصب دون البدل فی غیر الجنس ؛ لأن البدل فی حکم المبدل منه فیما ینسب إلیه ، وفی أنه یسقط الأول ویقوم الثانی مقامه ، فعند ذلک یصیر أصلا فی الجمله وکونه من غیر الجنس لا یلزم ذکره ؛ لأن اللفظ الأول لا یشتمل علیه حتی یخرج بالاستثناء فیتمحض فضله فی المعنی فیجعل صفه فی اللفظ وهو کقولک : (ما بالدار أحد إلا وتدا) ومن اختار البدل راعی اللفظ ، وفائده استثناء غیر الجنس ثلاثه أشیاء : الإعلام بعموم الأول ، وأن الثانی من آثار الأول ، وإثبات ما کان یحتمل نفیه.

فصل : ومما قام مقام إلا من الأفعال : (لیس) و (لا یکون) و (عدا) وما بعدهن منصوب ، وإنما دخلت هذه الأفعال فی الاستثناء لما فیها من معنی النفی ، وما بعد : (لیس) و (لا یکون) خبر لهما کقولک : (قام القوم لیس زیدا) أی : لیس بعضهم زیدا ، والضمیر ههنا یوجد علی کل حال ؛ لأنه ضمیر : (بعض) و (لا یکون) اسمها مظهرا هنا للاختصار و (لا یکون) ک (إلا) فی أنه لیس بعدها سوی المنصوب ؛ ولذلک لا یجوز العطف علی المنصوب بها فلا تقول : جاء القوم لیس زیدا ولا عمرا.

وأمّا : (ما عدا) و (ما خلا) فأفعال کلها ؛ لأنها صلات ل (ما) ولا تکون الحروف صله ، والفاعل فیها مضمر ، وموضع ما وصلتها حال کقولک : (قام القوم ما عدا زیدا) أی : عدوّ زید ، والمصدر هنا حال ، أی : متجاوزین زیدا.

فصل : وإنّما تعین النصب فی المستثنی إذا تقدّم ولم یجز البدل ؛ لأن البدل تابع للمبدل منه کالصفه والتوکید ، وکما لا یجوز تقدیمهما لئلّا یصیرا فی موضع المتبوع کذلک هنا فیجب أن یخرج مخرج الفضلات لیکون فی لفظه دلاله علی أنّه لیس بأصل.

فصل : وإنّما أعربت (غیر) إعراب الاسم الواقع بعد (إلا) ؛ لأنها اسم تلزمه الإضافه فمن حیث کانت اسما یجب أن تعرب ومن حیث أضیفت یحب أن یکون إعرابها إعراب الاسم المستثنی ؛ لأنها اسم فی حیّز المستثنی ولم یحتّج إلی حرف مقّو لإبهامها وشبهها بالظرف فیصل الفعل إلیها بنفسه.

ص: 210

فصل : وأمّا : (سوی) فهی ظرف فی الأصل ، ولا تستعمل فی الاستثناء إلا منصوبه إذا وقعت بعد تمام الکلام لیتوفّر علیها حکم الظروف ، وقد جاءت غیر ظرف قلیلا.

فصل : وأمّا (حاشا) فمذهب أکثر البصریین أنّها حرف جرّ ، وقد جاء ذلک فی الشعر.

وقال المبّرد والکوفیّون هی فعل لأشیاء أحدها : تصرّفها نحو : (أحاشی ومحاشی) وأصلها من حاشیه الشیء ، أی : طرفه ، فقولک : (قام القوم حاشا زیدا) أی : صار فی حاشیه وناحیه عنهم والحروف لا تتّصرف.

والثانی : أنّ الحذف یدخلها ، قالوا : حاش لله ، وحش لله.

والثالث : أنّ حرف الجرّ یتعلّق بها کقولک : (حاشا لله) ، وذلک من خصائص الأفعال.

والجواب : أمّا التصّرف فلیس علی ما ذکر ، فأمّا : (حاشا) فمشتق من لفظ الحرف کما قالوا : (سألته حاجه فلو لا) أی قال : لو لا کذا لفعلت کذا ، وقالوا : (هلّل) أی قال : لا اله الا الله. و (بسمل) أی قال : بسم الله ، وهو کثیر.

فأمّا الحذف فقد دخل الحروف قالوا فی ربّ : (ربّ) ، وفی سوف : (سو) ، وفی لعلّ : (علّ) فی أحد المذهبین ، وأمّا اللام فی : (لله) فزائده ولا تعلق بشیء ، ویدلک علیه قولک : جاء القوم حاشا زید ، بغیر لام ولم یقل : إن اللام محذوفه.

فصل : وأمّا (خلا) فقد جرّ بها قوم ونصب بها آخرون وجعلوها فعلا من : (خلا یخلو) ، وأمّا (عدا) فمثل خلا ، وأمّا (ما خلا) و (ما عدا) ففعلان لما تقدّم فی موضعه ، وأجاز أبو علیّ فی کتاب الشعر أن تکون (ما) فی (ما عدا) زائده فتجرّ ما بعدها ، وتابعه الربعی علی ذلک.

فصل : ولا یجوز تقدیم المستثنی علی جمیع الجمله کقولک : إلا زیدا ضرب القوم ؛ لأن إلا بمنزله : (واو مع) لما ذکرناه هناک وهی تشبه (لا) العاطفه کقولک : قام القوم لا زید ، وهذان لا یتقدّمان علی العامل ، فکذا قولک : (إلا) فإن وقعت بین أجزاء الجمله جاز کقولک : [الطویل]

ألا کلّ شیء ما خلا الله باطل (1)

ص: 211

وکقولک : أین إلا زیدا قومک ، وعلی هذا تقول : ما ضرب إلا زیدا قومک. قال أصحابنا : إن استثنیته من (قومک) جاز. ومن أصحابنا من لم یجزه ، والفرق أنّ الفاعل أصل فی الجمله.

فصل : ولا یعمل ما بعد (إلا) فیما قبلها کقولک : قومک زیدا إلا ضاربون ؛ لأن تقدیم الاسم الواقع بعد (إلا) علیها غیر جائز فکذلک معموله لما تقرّر أنّ المعمول لا یقع إلا حیث یقع العامل إذ کان تابعا له وفرعا علیه ، فإن جاء فی الشعر أضمر له فعل من جنس المذکور.

فصل : ویجوز أن تقع (إلا) صفه بمعنی (غیر) فیجری ما بعدها علی ما قبلها کقولک : له عندی مائه إلا درهم ، فترفع کما ترفع (غیرا) هنا إذا جعلتها وصفا فیلزمک المائه بکمالها ، وإن نصبت : (درهما) لزمک تسعه وتسعون علی أصل الباب ، وکذا إذا قلت : (غیر درهم) فنصبت (غیرا).

فصل : إذا وقع استثناء بعد استثناء کان الاخیر مستثنی من الذی قبله فما یبقی منه هو المستثنی من الذی قبل قبله فعلی هذا إذا قال له : (علیّ عشره إلا تسعه) ثّم علی ذلک نقص واحدا إلی أنّ قال : (إلا واحدا) لزمه خمسه دراهم ولک فی تحقیق ذلک طریقان :

أحدهما : أن تأتی إلی آخر العدد فتسقطه من الذی قبله علی ما بیّنا فیسقط ههنا من اثنین فیبقی واحد فتسقطه من ثلاثه فیبقی اثنان فتسقطهما من الأربعه فیبقی اثنان فتسقطهما من الخمسه ، فیبقی ثمّ علی ذلک إلی العشره فیبقی خمسه.

ص: 212

والطریق الثانی : أن تجمع العشره والثمانیه والسته والأربعه والاثنین وتسقط ما بین کلّ استثنائین ثمّ تجمع ذلک فیکون ثلاثین وتجمع ما أسقطت فیکون خمسه وعشرین فتسقطها من الثلاثین فیبقی خمسه وهذا یخرج علی قول من أجاز استثناء الأکثر ومن لم یجزه ففیه وجهان :

أحدهما : أنّ جمع الاستثناء باطل ؛ لأن الأوّل بطل ؛ لأنه أکثر فیبطل ما یتفرع علیه.

والثانی : أنّه یبطل الأکثر إلی أن یصل إلی النصف فیصّح ثّم ینظر فی الباقی علی هذا السیاق.

ص: 213

ومعظم النحویّین یقول : حملت علی نقیضتها وهی : (ربّ) والحقّ ما خبرتک به ، وهو معنی کلامهم لأنّهم لا یعنون أنّ حکم الشیئین واحد لعلّه تضادّهما بل بین الضدّین معنی یشترکان فیه.

فصل : وبنیت علی السکون ؛ لأنه الأصل ولم یوجد مانع من خروجه علی ذلک.

فصل : وإنّما افتقرت (کم) إلی (مبیّن) ؛ لأنها اسم لعدد مبهم فیذکر بعدها ما یدلّ علی الجنس المراد بها.

فصل : وإنّما میّزت الاستفهامیه بالمنصوب ؛ لأنها جعلت بمنزله عدد متوسّط وهو من أحد عشر إلی تسعه وتسعین ؛ لأن المستفهم جاهل بالمقدار فجعلت للوسط بین القلیل والکثیر.

فصل : والحکمه فی وضعها الاختصار والعموم الذی لا یستفاد بصریح العدد ، ألا تری أنّک إذا قلت : (أعشرون رجلا جاءک؟) لم یلزمه أن یجیبک بکمیّه بل یقول : (لا) أو : (نعم) ، وإذا قال : (لا) لم یحصل لک منه غرض السؤال مع الإطاله ، وإذا قلت : (کم رجلا جاءک؟) استغنیت عن لفظ الهمزه والعدد وألزمت الجواب بالکمیّه.

فإن قیل : لو کانت : (کم) هنا للوسط من العدد لم جاز أن یبدل منها القلیل ولا الکثیر ، وقد جاز أن تقول : (کم رجلا جاءک؟ أخمسه أم أکثر؟ أو مائه أو أکثر؟).

قیل : الجیّد فی مثل هذا أن یبدل منها العدد الوسط لما ذکرنا ، وإنّما جاز خلافه ؛ لأن (کم) مبهمه فی نفسها تحتمل القلیل والکثیر والوسط ؛ ولهذا یصحّ الجواب بکّل منها ، وإنّما جعلت بمنزله الوسط فی نصب الممیّز فقط.

فصل : وأمّا (کم) الخبریّه (1) فتجرّ ما بعدها ؛ لأنها اسم بیّن بعدد مجرور فکان هو الجار ک (مائه رجل) ونحوه.

ص: 215

وذهب بعضهم إلی أنّه مجرور ب (من) محذوفه لأنّک تظهرها کقولک : کم من جبل ونحوه ، وکم من عبد ولّما عرف موضعها بقی عملها بعد حذفها کما فی ربّ مع الواو والمذهب الأوّل أقوی ؛ لأن حرف الجرّ ضعیف فلا یبقی عمله بعد حذفه ؛ ولهذا کّل موضع حذفت فیه حرف الجرّ نصبته إلا فی مواضع دعت الضروره إلی تقدیر عمل الحرف المحذوف ولا ضروره ههنا ؛ لأن : (کم) اسم والإضافه من أحکام الأسماء.

فإن قلت : لو کان مضافا لأعرب ک (قبل) و (بعد)؟

قیل : هذا غیر لازم ، فإنّ (لدن) مبنیه مع الإضافه.

فصل : ولا تمیز الاستفهامیّه إلا بالمفرد ؛ لأنها کالعدد الذی نابت عنه ، وأمّا الخبریّه فالجیّد فیها کذلک ؛ لأنها ک (مائه وألف) ویجوز أن تبیّن بالجمع حملا علی العشره وما دونها.

ص: 216

فصل : ومن العرب من ینصب ما بعد الخبریه کما ینصب بعد مائه إذا نوّن کقول الشاعر (1) : [الوافر]

إذا عاش الفتی مائتین عاما

فقد ذهب اللذاذه والفناء

ومنهم من یجرّ بالاستفهامیّه حملا علی الخبریّه.

ص: 217

معنی الحرف. وإنّما حرّک الاسمان ؛ لأن لهما أصلا فی الإعراب والبناء حادث وکانت الفتحه أولی لوجهین :

أحدهما : أنّ الاسم طال.

والثانی : أنّ الاسم الثانی بمنزله : (تاء التأنیث) إذ کان مزیدا علی الأوّل لمعنی ویفارقه فی بعض المواضع وتاء التأنیث تفتح ما قبلها فکذلک هذا.

فصل : فأمّا : (اثنا عشر) فالاسم الأوّل معرب لأوجه :

أحدها : أنّهم أرادوا الدلاله علی أنّ الأصل فی هذه الأعداد الإعراب کما صححّوا الواو فی : (قود) و (استحوذ).

والثانی : أنّ علامه الإعراب هی حرف التثنیه ، فلو أبطلت لبطل دلیل التثنیه.

والثالث : أنّ ما عداه من المرکّب جری مجری الاسم الواحد وإعراب الاسم الواحد لا یکون فی وسطه.

وأمّا : (اثنان) فبغیر تاء فی المذکّر وبتاء فی المؤنّث کما کان قبل الترکیب ویجوز فی المؤنّث حذف الهمزه وإثباتها.

فصل : وأما : (عشر) ههنا فبنیت لوقوعها موقع النون المحذوفه من : (اثنی) لا علی جهه الإضافه فبنیت کما أنّ النون مبنیّه ویدلّ علی أنّه غیر مضاف أنّ الحکم المنسوب إلی المضاف غیر منسوب إلی المضاف إلیه کقولک : (قبضت درهم زید) والحکم هنا منسوب إلی الاثنین والعشره کقولک : قبضت اثنی عشر درهما.

فصل : وإنّما ثبتت (التاء) من : (ثلاثه عشر) إلی : (تسعه عشر) ؛ لأنها کذلک فی مرتبه الآحاد وحذفت من (عشر) لئلّا تجتمع علامتا تأنیث وعکس ذلک فی المؤنّث حملا علی (ثلاث نسوه) وثبتت التاء فی (عشره) لئلّا یخلو الاسم من علامه التأنیث ، وقیل : ثبتت فیه التاء لیوافق الاسم الممیّز بعده إذ کان للمجاوره أثر فی الموافقه.

ص: 219

فصل : أمّا : (أحد عشر) (1) فی المذکّر فلا علامه للتأنیث فیه ؛ لأن (أحدا) قبل الترکیب لا علامه فیه فبقی علی ذلک ، وأمّا (عشر) فبغیر تاء کما ذکرنا فی (ثلاثه عشر) ، وأمّا فی المؤنّث فثبتت العلامتان ؛ لأن (إحدی) قبل الترکیب تلحقها علامه التأنیث کقولک : (واحده) و (إحداهما) فبقیت علیها فی الترکیب ، وأمّا (عشره) فالتاء لما ذکرنا فی (ثلاث عشره) ولهذه العلّه قلت فی المؤنّث (اثنتا عشره) بالعلامتین.

فصل : وأمّا (عشرون) فاسم موضوع لعشرتین ، ولیس بجمع تصحیح علی التحقیق ؛ لأن أقلّ هذا الجمع ثلاثه ، فلو کان (عشرون) جمع تصحیح لکان أقلّ ما یقع علیه ثلاث عشرات.

وحکی عن الخلیل أنّه جمع (عشر) من أظماء الإبل ، وذلک أن العشر منها ثمانیه ؛ لأنها ترد الماء یوما وتترکه ثمانیه وترده الیوم العاشر فلا یحتسب بیومی الورود فتکون العشرون عشرین ونصفا فجمع علی التکمیل ، وفی هذا القول بعد.

وأمّا کسر العین من (عشرین) فقیل : کان الأصل أن یقال : (عشرتان) وهم اثنتان من هذه المرتبه فکسر کما کسر أوّل اثنین.

وقیل : العشره تؤنّث وجمعها لا یؤنّث فکسر أوّله فی الجمع عوضا من التأنیث إذ کان یؤنّث بالیاء نحو تضربین والکسره من جنس الیاء.

وأمّا علی قول الخلیل فالکسره فیه کسره الواحد.

فصل : وأمّا (ثلاثون) إلی : (تسعین) فأسماء مشتقّه من ألفاظ مرتبه الآحاد ولیس (ثلاثون) جمع (ثلاث) إذ لو کان کذلک لکان أقلّ ما یقع علیه ثلاثون (تسعه) ؛ لأنها ثلاث ثلاثات.

ص: 220

فصل : وأمّا (المائه) وما تکرّر منها فتضاف ؛ لأنها عدد مفرد فأضیف إلی ممّیزه کالعشره وما دونها ، وإنّما کان الممیّز مفردا ؛ لأن المائه أقرب إلی ما تمّم بالمفرد وهو تسعون فقد جمعت شبه الآحاد والعشرات.

فصل : وکان القیاس أن یقال : (ثلاث مئات أو مئین) وکذا إلی تسعمائه کما تقول : (ثلاث نسوه) إلا أنّهم أضافوها إلی الواحد حیث طال الکلام بإلاضافه إلی (المائه) وإضافه المائه للدرهم ونحوه ولأنّ الممیّز مفرد ، فلو جمعوا : (مائه) وهی عدد لأضافوا جمع العدد إلی الممیّز المفرد ، ولیس له أصل ؛ لأن مرتبه الآحاد تضاف إلی الجمع.

فصل : فأمّا : (الألف) فکالمائه ؛ لأنها تلیها ، وإنّما قالوا ثلاثه آلاف درهم فأضافوا إلی الجمع ؛ لأن مرتبه الآلاف کمرتبه الآحاد إذ لم تکن مرتبه رابعه ؛ ولذلک یبقی لفظ العشره والمائه فیها بخلاف المراتب الأول فإنّ کلا منها إذا جاوز التسعه تجدّد له اسم لم یکن.

فصل : إذا أردت تعریف العدد المضاف أدخلت أداه التعریف علی الاسم الثانی : فتعرّف به الأوّل نحو : ثلاثه الرجال ومائه الدرهم کقولک : غلام الرجل ، ولا یجوز : (الخمسه دراهم) ؛ لأن الإضافه للتخصیص وتخصیص الأوّل باللام یغیه عن ذلک.

فأمّا ما لم یضف منه فأداه التعریف فی الأوّل نحو : الخمسه عشر درهما. إذ لا تخصیص هنا بغیر اللام ، وقد جاء شیء علی خلاف ما ذکرناه وهو شاذّ عن القیاس والاستعمال فلا یقاس علیه.

ص: 221

أحدها : أنّ معناه معنی الفعل بل أقوی من حیث أنّ لفظ الفعل عباره عن الفعل الحقیقیّ کقولک : (ضرب) و (یا) هی العمل نفسه وتعبّر عنه ب (نادی).

والثانی : أنّها أمیلت ، ولیس ذاک إلا لشبهها بالفعل.

والثالث : أنّه یعلّق بها حرف الجرّ فی قولک : یا لزید وحرف الجرّ لا یتعلّق إلا بالفعل أو ما عمل عمله.

وأمّا عملها فی الخبر ففیه اختلاف سنذکره علی أنّ عملها فیه لا یوجب بناءه ؛ لأن علّه البناء وجدت فی الاسم دون الخبر ویدلّ علیه أنّ البناء لأجل الترکیب ، ونحن نجعل الاسمین المرکّبین بمنزله اسم واحد وهو مع هذا مخالف للقیاس فکیف نجعل ثلاثه أشیاء بمنزله شیء واحد.

وأمّا البناء ففیر حادث ب (لا) من حیث هی عامله بل حادث بالترکیب وتضّمنه معنی الحرف کما أنّ (یا) فی النداء تعمل النصب فی المعرب ؛ فإذا دخلت علی المفرد بنی لا بها بل بشیء آخر ، وأمّا جعل حرکه المبنیّ هنا الفتح ففیه أوجه :

أحدها : أنّ الفتح اختیر لطول الاسم بالترکیب کما اختیر فی خمسه عشر.

والثانی : أنّ النفی هنا لمّا خرج عن نظائره خرج البناء عن نظائره.

والثالث : أنّهم لو بنوه علی الکسر لکانت مثل الحرکه التی یستحقّها هذا الاسم فی الأصل إذ أصله لا من رجل ، ولو بنی علی الضمّ لکانت حرکته فی حال عمومه کالحرکه فی حال خصوصه ففرّقوا بینهما وعدلوا إلی الفتح.

ویدلّ علی فساد مذهب من قال هو معرب : أنّه لو کان کذلک لنون کما ینوّن اسم إنّ.

فإن قیل : إنّما لم ینّون ؛ لأن (لا) ضعفت إذ کانت فرع فرع فرع ، وذلک أنّ (کان) فرع فی العمل علی الأفعال الحقیقّه و (إنّ) فرع علی (کان) ، و (لا) فرع علی (إنّ) ، فلمّا ضعف خولف باسمها بقیّه المعربات.

فصل : وإنّما بنی المفرد العلم فی النداء والنکره المقصوده لوجهین :

ص: 223

أحدهما : أنّه صار مع حرف النداء کالأصوات نحو : (حوب) و (هید) و (هلا) زجر الإبل و (عدس) فی زجر البغال ؛ لأن الغرض من الجمیع التنبیه ، ولیس بمخبر عنه ولا متصل بمخبر عنه ؛ ولذلک بنیت حروف التهجّی.

والثانی : أنّه أشبه المضمر فی أنّه مخاطب غیر مضاف والأصل فی کلّ مخاطب أنّ یذکر بضمیر الخطاب کقولک : أنت یا أنت ، وقد جاء ذلک فی النداء قال (1) : [الرجز]

یا أبحر بن أبحر یا أنتا

أنت الّذی طلّقت عام جعتا

والواقع موقع المبنیّ یبنی (2).

ص: 224

فصل : وإنّما بنی علی حرکه ؛ لأن بناءه عارض فحرّک لینفصل عمّا بناؤه لازم وحرّک بالضمّ لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّه قوی بذلک زیاده فی التنبیه علی تمکّنه.

والثانی : أنّ المنادی یکسر إذا أضیف إلی الیاء ویفتح إذا أضیف إلی غیرها فضمّ فی الإفراد لتکمل له الحرکات کما فعلوا ذلک فی قبل وبعد.

والثالث : أنّهم لو فتحوه أو کسروه لالتبس بالمضاف فصاروا إلی ما لا لبس فیه.

فصل : وإنّما أعرب المضاف والمشابه له والنکره غیر المقصوده علی الأصل ولم یوجد المانع من ذلک ، فإنّ المانع فی المفرد شبهه بالمضمر والمضاف لا یشبه المضمر لأمرین :

أحدهما : أنّ المضمر لا یضاف.

والثانی : أنّ تعریف المضاف بالإضافه وتعریف المضمر هنا بالخطاب ، وکذلک المشابه للمضاف طال طولا فارق به المضمر أو عمل فیما بعده والمضمر لا یعمل وکذا النکره الشائعه لا تقع موقع المضمر فهذا لبیان عدم الموجب للبناء.

ویمکن أن یقال : علّه البناء موجوده وهی ما تقدّم ولکن تعذّر البناء فی المضاف إلی یاء المتکلم بتلک العلّه ؛ لأنه بنی لعلّه أخری والمضاف إلی غیره صار کالمنوّن ؛ لأنه المضاف إلیه

ص: 225

یحلّ محلّ التنوین والتنوین لا یکون بعد حرکه البناء ولأنّه لو بنی الأوّل لم یکن عاملا فی الثانی ، ولو بنیا لفسد الأمرین.

أحدهما : أنّ النداء دخل علی الأوّل دون الثانی.

والثانی : أنّهما کانا یکونان کالمرکّب.

فصل : وإنّما جاز فی صفه المبنی المفرد هنا النصب علی الموضع ؛ لأن موضع الموصوف نصب ویجوز رفعها حملا علی لفظ الموصوف وجاز ذلک فی المنادی دون غیره من المبنیّات ؛ لأن حرکه البناء فیه تشبه حرکه المعرب ؛ لأنه مطرد مع (یا) لا یکون مع غیرها کما لا تحذف حرکه الإعراب إلا بعامل ؛ ولذلک جاز حمل وصف (لا) علی الموضع تاره وعلی اللفظ أخری بخلاف : (أمس) و (هؤلاء) فإنّهما مبنیّان علی کلّ حال لا عند شیء یشبه العامل.

فصل : فأمّا الصفه المضافه فلیس فیها غیر النصب ؛ لأن الصفه لا تزید علی الموصوف والموصوف المضاف ینصب البتّه فالصفه أولی.

فصل : والمعطوف الذی فیه الألف واللام وهو جنس کالصفه فی الوجهین کقوله تعالی : (یا جِبالُ أَوِّبِی مَعَهُ وَالطَّیْرَ) [سبأ : 10] ؛ لأن : (یا) لا تلیه فصار کالصفه.

فأمّا الألف واللام فی القیاس ونحوه فکذلک ، وقال المبرّد : الرفع فیه أحسن ؛ لأنه علم والألف واللام فیه زائد أو فی حکم الزائد.

فصل : فإن کان المعطوف لیس فیه لام التعریف فله حکم نفسه فتقدّر معه (یا) کقولک : یا زید وعمرو ، ویا زید وعبد الله ، لأنّک تقدر أن تقول : ویا عمرو ، وأجاز قوم النصب فیه بکلّ حال حملا علی الموضع.

فصل : والتوکید کالوصف فیجوز فی المفرد الرفع والنصب کقولک : یا تمیم أجمعون وأجمعین ، فإن کان مضافا نصبت البته کالصفه کقولک : یا تمیم کلّکم فتنصب ویجوز ب (الکاف) ؛ لأنه مخاطب وب (الهاء) ؛ لأن الاسم الظاهر غائب فیعود الضمیر إلیه بلفظ الغیبه.

فصل : ولا تدخل (یاء) علی الألف واللام لأمرین (1) :

ص: 226

[أحدهما] : أنّ (الألف واللام) للتعریف و (یا) مع القصد إلی المنادی تخصّصه وتعنیّه ولا یجتمع أداتا تعریف.

والوجه الثانی : أنّ (اللام) لتعریف المعهود والمنادی مخاطب فهما مختلفان فی المعنی ، وقد جاء ذلک فی ضروره الشعر قال : [الرجز]

فیا الغلامان اللذان فرّا

أیّاکما أن تکسبانا شرّا

وأمّا قول الآخر :

أحبّک یا التّی تیّمت قلبی

وأنت بخیله بالودّ عنّی

فقیل هو من هذا الباب ، وقیل : الألف واللام فیه زائدتان وتعریف الموصول بالصله.

وأمّا اسم الله تعالی فتدخل علیه لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ الألف واللام فیه لغیر التعریف ؛ لأنه سبحانه واحد لا یتعدّد فیحتاج إلی التعیین ودخول (یا) علیه للخطاب.

والثانی : أن الألف واللام عوض من همزه (إله) ، وذلک أنّ الأصل فیه (الإله) فحذفت الهمزه حذفا عند قوم ، وعند آخرین ألقیت حرکتها علی (اللام) ثمّ أدغمت إحداهما فی الأخری فنابت اللام عن الهمزه فأجتمعت مع (یا) من هذا.

الوجه والثالث : أنّه کثر استعمالهم هذه الکلمه فخفّ علیهم إدخال (یا) علیها.

ص: 227

وقد اختص هذا الاسم بأشیاء لا تجوز فی غیره منها (یا) ومنها تفخیم (لامه) إلا إذا انکسر ما قبلها ومنها قطع همزته فی النداء ، وفی القسم إذا قلت : (أفألله) ومنها اختصاصه ب (تاء القسم) ومنها لحوق (المیم) فی آخره.

فصل : وأمّا قولهم : یا أیّها الرجل ف (أیّ) مفرد منادی مبنیّ ، وفی (ها) وجهان :

أحدهما : أنّهم أتوا بها عوضا من المضاف إلیه ؛ لأن حقّ (أی) أن تضاف.

والثانی : أنها دخلت للتنبیه لتکون ملاصقه للرجل حیث امتناع دخول (یا) علیه.

وأمّا الرجل فصفه لأیّ علی اللفظ ؛ لأنه المنادی فی المعنی ؛ ولذلک لا یسوغ الاقتصار علی (أیّها).

وإنّما أتی ب (أیّ) هنا توصّلا إلی نداء ما فیه الألف واللام ومن هنا لم یجز نصبه عند الجمهور وأجازه المازنیّ کسائر الصفات ، وإنّما اختاروا (أیّا) هنا ؛ لأنها اسم معرب فیه إبهام یصلح لکل شیء.

فصل : فإن وصفت الرجل هنا رفعت الصفه وإن کانت مضافه ؛ لأن الموصوف معرب ، وإذا حملت تلک الصفه علی موضع (أیّ) جاز النصب والرفع فی المفرد ولم یکن فی المضاف إلی النصب.

فصل : والمیم الزائده فی قولک : (اللهم) (1) عوض من (یا) وقال الکوفیّون : أصله : (یا الله أمّنا بخیر) وهو غلط لوجهین :

أحدهما : أنّه لو کان کذلک لکثر الجمع بینهما ولمّا لم یأت ذلک إلا فی الضروره علم أنّه عوض فلم یجمع بینه وبین المعوض.

ص: 228

والثانی : أنّه یصحّ أن یقع بعد هذا الاسم : (أمّنا بخیر) وما أشبهه کقولک : اللهم أغفر لی وأن یقع بعده ضدّ هذا المعنی کقولک : اللهم العن فلانا ، وما أشبهه.

فصل : العلم إذا نودی بقی علی تعریفه ومنهم من قال ینکّر ثّم یتعرّف بالقصد والإشاره وحجّه الأوّل من وجهین :

أحدهما : أنّک تنادی من لا یشارکه غیره فی اسمه کقولک : (یا الله) و (یا فرزدق) ، ولو تنکّر لصار له نظائر فیتعیّن بالقصد.

والثانی : أنّ (یا) تدخل علی النکره غیر المقصوده نحو : (یا رجلا) ، ولو کانت (یا) تحدث التعریف لحدث بها هنا ، وکذلک المضاف نحو یا عبد الله وتعریفه بالإضافه لا بالقصد.

واحتجّ الآخرون بأنّ (یا) تحدث التعریف فی النکره المقصوده فکذلک فی العلم تحدثه بالخطاب ولن یصحّ ذلک إلا بنزع التعریف الأوّل ؛ ولذلک لم تدخل علی الألف واللام.

فصل : إذا کان المنادی علما أو کنیه ووصف ب (ابن) مضاف إلی علم أو نکره جاز فیه الضمّ علی الأصل والفتح اتباعا لفتحه نون ابن ولا یکون ذلک فی غیر هذا الموضع ؛ لأن العلم والکنیه یکثر استعمالهما مع الوصف ب (ابن) للحاجه إلی التعریف بالنسب فیصیر الموصوف والصفه کشیء واحد فیفتحان کالمرکّب.

فصل : وتدخل (لام الاستغاثه) علی المنادی إعلاما بالاستغاثه إذ لیس کلّ منادی مستغاثا به وتتعلّق بحرف النداء وتفتح کما تفتح مع ضمیر المخاطب.

فأمّا : (لام المستغاث له) فتکسر ؛ لأنه غیر واقع موقع الضمیر.

وأمّا المعطوف علی المستغاث به فتکسر لامه ؛ لأن واو العطف تغنی عن الفرق بفتح اللام فتکسر کما تکسر مع کلّ ظاهر.

فصل : ویحذف حرف النداء من کلّ منادی إلا النکره والمبهم أمّا النکره فإنّها لا تتعرّف هنا إلا ب (یا) الدالّه علی القصد والإشاره ؛ فإذا لم تکن بقی علی تنکیره ؛ ولذلک إذا أرادوا تعریفه باللام جاؤوا ب (یا أیّها) ، فلو حذفوا للحق الإجحاف.

وأمّا المبهم فلشدّه إبهامه یحتاج إلی مخصص ، فلو حذف المخصّص لبقی علی إبهامه ؛ ولذلک جاز أن یکون المبهم وصفا ل (أیّ) فی النداء کما کان اسم الجنس.

ص: 229

فصل : إذا نادیت المضاف إلی نفسک وکان الأوّل صحیحا فلک فیه أوجه :

أحدها : حذف الیاء نحو : یا غلام ؛ لأن الکسره تدلّ علیها فی الإثبات.

والثانی : إثباتها ساکنه علی الأصل.

والثالث : فتحها ؛ لأن حقّ یاء الضمیر الفتح کالکاف.

والرابع : إبدال الفتحه کسره والیاء الفا لیمتدّ الصوت زیاده مدّ.

والخامس : حذفها وضمّ المیم وترید فی هذا الوجه ما أردت فی الإضافه (1).

ص: 230

فإن کان بین الیاء والاسم المنادی اسم آخر لم تحذف نحو : یا غلام أخی ویا ابن صاحبی ؛ لأن الوسط لیس بمنادی ، وقد جاء الحذف فی : یا ابن عمی ، ویا ابن أمّی ، ویا ابن صاحبی ، وفیه أیضا الوجوه التی ذکرت فی غلام إلا أنّ منهم من یحذف الیاء ویفتح المیم فیقول : (یا ابن أمّ) وفیه وجهان :

أحدهما : أنّه رکّب الاسمین کخمسه عشر.

والثانی : أنّه أراد (ابن أمّا) فحذف الألف لطول الکلام اجتزاء بالفتحه ، وإنّما أختصّ هذان الاسمان بهذا الحکم فی النداء لکثره استعمالهما.

ص: 231

ووجه المذهب الأوّل من وجهین :

أحدهما : أنّ الصفه غیر مندوبه ولا لازمه للمندوب فلم تلحقها علامه الندبه بخلاف المضاف إلیه ؛ لأنه من تتمّه المضاف.

والثانی : أنّ الصفه اسم معرب مفرد فلا تلحقها علامه الندبه کالنکره وعلّه ذلک إلا یصیر مبنیّا.

واحتجّ الآخرون من وجهین :

أحدهما : ما سمع من عربیّ فصیح ضاع منه قدحان من خشب فندبهما وا جمجمتیّ الشامیّتیناه.

والثانی : أنّ الصفه فی بعض المواضع تلزم کصفه (أیّ) فی باب النداء وصفه : (من) و (ما) النکرتین فجری مجری المضاف إلیه ولأنّها توضحّ کما یوضحّ.

ص: 233

أحدهما : أنّه معروف بنفسه لا بالإضافه ، وذلک بنی کما بنی ضمیر الخطاب.

والثانی : أنّه لو حذف من المعرب لسقط منه الإعراب وحرفه ، وذلک إجحاف والمبنیّ لا یسقط منه إلا حرف لا إعراب فیه.

مسأله : لا یجوز ترخیم المضاف إلیه ، وقال الکوفّیون : یجوز. وحجّه الأوّلین : أنّ المضاف معرب غیر منادی فلم یرخمّ فی الاختیار کما لو لم یکن قبله منادی.

واحتجّ الآخرون بما جاء فی الشعر من ذلک نحو : [الطویل]

... (1) یا آل عکرم

[وقول الآخر : من الطویل]

أبا عرو (2) ...

یرید : یا عکرمه ، ویا عروه ، ولأنّ المضاف إلیه تتمّه للمنادی فصار کأنّه آخره.

والجواب : أمّا الشعر فلا حجّه فیه ؛ لأنه ممّار رخّم فی غیر النداء للضروره ، وأمّا المضاف إلیه فهو معرب غیر منادی کما سبق.

فصل : ولا یجوز ترخیم الثلاثی غیر المؤنثّ ، وقال الکوفّیون : یجوز إذا کان الأوسط متحرّکا نحو : (عمر).

ص: 235

حجّه الأوّلین : أنّ الثلاثیّ أقلّ الأصول فحذفه إجحاف ولم یرد به سماع یسوغّ الأخذ به واحتجّ الآخرون بأنّ فی الأسماء المعربه ما هو علی حرفین نحو : (ید) و (دم) و (غد).

والجواب : أنّ تلک الأسماء محذوفه اللامات اعتباطا فلا یقاس علیها ؛ ولذلک قلّت جدا.

فإن قیل : رخّموا (ثبه)؟

قیل : إنّ تاء التأنیث کاسم رکّب مع اسم بدلیل أنّ ما قبلها لا یکون إلا مفتوحا فتحذف کما یحذف الثانی من المرکّب ، فکأنّ الترخیم لم یحذف من الاسم شیئا.

مسأله : إذا رخّمت الرباعیّ لم تحذف منه سوی حرف واحد. وقال الفرّاء : إن کان الثالث ساکنا حذفته مع الأخیر نحو : (سبطر) تقول : (یا سب) واحتجّ لذلک بأنّه إذا بقی الساکن أشبه الأدوات ، وهذا فاسد لوجهین :

أحدهما : أنّ بناء المتحرّک یلحقه بالأدوات ولم یمتنع.

والثانی : أنّ الاسم بعد ترخیمه قد بقی علی زنه لا نظیر لها فی الأسماء کحذف الثاء من : (حارث) فإنّه جاء علی : (فاع) ولا نظیر له ، فعلم أنّ الحذف هنا والبناء عارضان لا یعتدّ بما یخرج عن النظائر لأجلهما ویؤکّد ذلک أنّ ما قبل آخره مکسور یحذف وتبقی الکسره وهی تشبه ما یکسر لالتقاء الساکنین وهو مع ذلک جائز.

فصل : ولا ترخمّ النکره ؛ لأنها فی الأصل وصف ل (أیّ) فلم یجتمع علیها حذف الموصوف وحذف آخرها وما جاء فی الشعر نحو : (یا صاح) شاذّ لا یقاس علیه.

فصل : ولا یرخّم المبهم وإن زاد علی ثلاثه أحرف لأوجه :

أحدها : أنّه ضعف بالإبهام فلا یضعف بالحذف.

والثانی : أنّ إبهامه یقرّبه من النکره ، والنکره لا ترخّم.

والثالث : أنّه فی الأصل وصف ل (أیّ) فلم یجمع بین حذفین.

والرابع : أنّه وصف ل (أیّ) والأوصاف لا ترّخم مع الموصوفات فکذلک ما هو فی تقدیرها.

فصل : ولا یحذف من الاسم الّذی فیه تاء التأنیث شیء غیرها وإنّ کان ما قبلها زائدا ؛ لأنها بمنزله اسم ضمّ إلی اسم علی ما ذکرنا من قبل.

ص: 236

فصل : إذا نادیت الصفه التی فیها تاء التأنیث لم تحذفها نحو : (یا فاسقه) لئلّا یلتبس بالمذکّر فإن کانت علما جاز.

فصل : إذا رخّمت (طیلسانا) حذفت الألف والنون ؛ لأنّهما زائدتان وضممت السین وإن شئت فتحتها هذا إذا فتحت اللام فإن کسرتها لم یجز ترخیمه عند المبرّد ، قال : لأنه علی وزن لا نظیر له وهو : (فیعل). وأجازه السیرافی وغیره وقالوا : لأنه قد یبقی بعد الترخیم بناء لا نظیر له فی غیره نحو : یا حار ، وقد بیّنا ذلک قبل.

فصل : فإن سمّیت ب (حبلوی) أو (حبلیان) لم یجز أن ترخّمه علی قول من قال : یا حار بالضمّ ؛ لأن الواو والیاء هنا ینقلبان ألفین فیصیر (فعلی) وألف فعلی لا تکون منقلبه أبدا لکنّها للتأنیث ، وأجازه السیرافیّ وعلّل بنحو ما تقدّم.

فصل : وللعرب فی الباقی بعد الترخیم مذهبان :

أحدهما : ترکه علی ما کان علیه وهو الأجود ؛ لأن بقاءه علی ذلک ینبّه علی الأصل.

والثانی : أن یضم علی کلّ حال ویجعل کأنّه اسم قائم برأسه.

وفائده اختلاف المذهبین أنّک إذا رخّمت علی المذهب الأوّل ترکت الحرف الباقی علی حاله ولم تغیّره علی ما یوجب قیاس التصریف ، وإذا رخّمته علی المذهب الثانی غیّرته علی ما یوجبه قیاس التصریف وإذّ عرفت هذا الأصل استغنیت عن الإطاله بالمسائل.

ص: 237

أحدها : ابتداء غایه المکان کقولک : سرت من البصره ، فالبصره مبتدأ السیر ، وقال ابن السرّاج : تکون (من) لابتداء غایه الفعل من الفاعل کما ذکرناه ولابتداء غایه الفعل من المفعول کقولک : نظرت من الدار إلی الهلال من خلل السحاب ف (من الدار) مکان الفاعل و (من خلل السحاب) مکان المفعول وقال غیره.

(من خلل السحاب) حال من الهلال ویمکن أن یکون : (من الدار) حالا من الناظر.

والثانی : التبعیض وعلامته أن یصلح مکانها : (بعض) کقولک : أخذت من المال ، وقال المبرّد : هی لابتداء المکان أیضا والتبعیض مستفاد بقرینه ، فإنّ قلت : أخذت من زید مالا جاز أنّ تعلّق (من) بأخذت وأنّ تجعلها حالا من المال ، أی : مالا من زید ، فلما قدّمت صفه النکره صارت حالا.

ص: 239

والثالث : أنّ تکون بمعنی البدل کقوله تعالی : (أَرَضِیتُمْ بِالْحَیاهِ الدُّنْیا مِنَ الْآخِرَهِ) [التوبه : 38] أی : بدلا من الآخره وموضعها حال ، ومنه قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْکُمْ مَلائِکَهً) أی : بدلا منکم.

والرابع : أن تکون لبیان الجنس کقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : 30] وهذه أشبه بالتی هی للابتداء ، فأمّا قولک : زید أفضل من عمرو ف (من) فیه لابتداء الغایه والمعنی ابتداء معرفه فضل زید من معرفه فضل عمرو ، أی : لمّا قیس فضله بفضل عمرو بانت زیادته علیه.

والخامس : أن تکون زائده ، وذلک فی غیر الواجب نحو : ما جاءنی من أحد و (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) [مریم : 98] ، وإنّما زیدت هنا للتوکید فقط ؛ لأن أحدا من أسماء العموم.

فأمّا قولک : ما جاءنی من رجل ف (من) زائده من وجه لأنّک لو حذفتها لاستقام الکلام وغیر زائده من وجه ؛ لأنها تفید استغراق الجنس ، ألا تری أنّک لو حذفتها لنفیت رجلا واحدا کقولک : ما جاءنی رجل بل رجلان ، وإذا أثبتّها دللت بذلک علی أنّه لم یأتک رجل ولا أکثر.

مسأله : لا تجوز زیاده : (من) فی الواجب وأجازها الأخفش ، ودلیلنا أنّ (من) حرف والأصل فی الحروف أنّها وضعت للمعانی اختصارا من التصریح بالاسم أو الفعل الدالّ علی ذلک المعنی کالهمزه ؛ فإنّها تدلّ علی استفهام ؛ فإذا قلت : أزید عندک؟ أغنت الهمزه عن : (أستفهم) وأخذت من المال أی بعضه وما قصد به الاختصار لا ینبغی أن یجیء زائدا ؛ لأن ذلک عکس الغرض ، وإنّما جاز فی مواضع لمعنی من تأکید ونحوه ولا یصحّ ذلک المعنی هنا ألا تری أنّک لو قلت : (ضربت من رجل) لم تکن مفیدا ب (من) شیئا بخلاف قولک : ما ضربت من رجل.

واحتجّ الآخرون بقوله تعالی : (وَیُکَفِّرُ عَنْکُمْ مِنْ سَیِّئاتِکُمْ) [البقره : 271] و (یَغْفِرْ لَکُمْ مِنْ ذُنُوبِکُمْ) [نوح : 4] والمراد الجمیع.

والجواب : أنّ (من) هنا للتبعیض ، أی : بعض سیئاتکم ؛ لأن إخفاء الصدقّه لا یمحّص کل السیئات ، وأمّا (من ذنوبکم) فالتبعیض أیضا ؛ لأن الکافر إذا أسلم قد یبقی علیه ذنب وهو مظالم العباد الدنیویّه أو تکون : (من) هنا لبیان الجنس.

ص: 240

فصل : و (إلی) (1) لانتهاء الغایه وهی مقابله ل (من).

وقال قوم : تکون (إلی) بمعنی (مع) کقوله تعالی : (وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ) [النساء : 2] و (مَنْ أَنْصارِی إِلَی اللهِ) [الصف : 14] (وَیَزِدْکُمْ قُوَّهً إِلی قُوَّتِکُمْ) [هود : 52] (وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ) [المائده : 6] وهذا کلّه لا حجّه فیه بل هی للانتهاء والمعنی لا تضیفوا أموالهم إلی أموالکم وکنّی عنه بالأکل کما قال : (لا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ) [النساء : 29] أی : لا تأخذوا. و (مَنْ أَنْصارِی) أی : من ینصرنی إلی أن أتّم أمر الله أو موضعها حال ، أی : من أنصاری مضافا إلی الله ومثله : (إِلی قُوَّتِکُمْ.)

ص: 241

وأمّا قوله : (إِلَی الْمَرافِقِ) ففیه وجهان :

أحدهما : أنّها علی بابها وذاک أنّ المرفق هو الموضع الذی یتّکئ الإنسان علیه من رأس العضد ، وذلک هو المفصل وفویقه فیدخل فیه مفصل الذراع ولا یجب فی الغسل أکثر منه.

والثانی : أنّ (إلی) تدلّ علی وجوب الغسل إلی المرفق ولا تنفی وجوب غسل المرفق ؛ لأن الحدّ لا یدخل فی المحدود ولا ینفیه التحدید کقولک : سرت إلی الکوفه فهذا لا یوجب دخول الکوفه ولا ینفیه ، وکذلک المرفق إلا أنّ وجوب غسله ثبت بالسّنه.

فصل : ومعنی (عن) المجاوزه والتعدّی ، وقولک : أخذت العلم عن فلان مجاز ؛ لأن علمه لم ینتقل عنه ووجه المجاز أنک لمّا تلقّیته منه صار کالمنتقل إلیک عن محلّه.

فصل : وقد یکون : (عن) اسما یدخل علیه حرف الجرّ فیکون بمعنی جانب وناحیه قال الشاعر (1) : [الکامل]

ولقد أرانی للرّماح دریئه

من عن یمینی مرّه وأمامی

وهی إذا کانت اسما مبنیّه لشبهها بالحرف فی نقصانها لأنّک لا تقول : جلست عن ، کما تقول : جلست ناحیه وجانبا.

فصل : وأما : (فی) فحقیقتها الظرفیّه کقولک : المال فی الکیس ، وقد یتجوّز بها فی غیرها کقولک : فلان ینظر فی العلم ؛ لأن العلم لیس بظرف علی الحقیقه ولکن لمّا قیّد نظره به وقصره علیه صار العلم کالوعاء الجامع لما فیه.

ص: 242

وقد تکون بمعنی السبب کقوله وآله وسلّم : «فی النّفس المؤمنه مائه من الإبل» (1) أی : تجب بقتلها الإبل ، ووجه المجاز أنّ السبب یتضمّن الحکم ، والحکم یلازمه فصار للحکم کالظرف الحافظ لما فیه.

فصل : وأمّا (علی) (2) وتکون حرف جرّ وحقیقتها للدلاله علی الاستعلاء کقولک : زید علی الفرس فتکون مجازا فیما ما یغلب الإنسان کقولک : (علیه کآبه) أی : تغلبه وتظهر علیه وعلیه دین ، أی : لزمه الانقیاد بسببه کانقیاد المرکوب لراکبه وهو معنی قول الفقهاء : (علی) للإیجاب.

ص: 243

فصل : وقد تکون اسما بمعنی فوق مبنیّا وتقلب ألفها یاء مع الضمیر کقول الشاعر (1) : [الطویل]

غدت من علیه بعدما تمّ ظمؤها

تصلّ وعن قیض بزیزاء مجهل

یعنی : قطاه فارقت بیضها بعدما تمّ عطشها ، وإنّما بینت لنقصانها کما ذکرنا فی (عن) وقلبت ألفها یاء حملا علی حالها وهی حرف وألفها من واو ؛ لأنها من علا یعلو.

فصل : وأمّا (لام الجرّ) فمعناه الاختصاص وهذا یدخل فیه الملک وغیره ؛ لأن کلّ ملک اختصاص وما کلّ اختصاص ملکا ، وقولک : السرج للدّابه للاختصاص ولام التعلیل کقولک : جئت لإکرامک للاختصاص أیضا لا للملک.

فصل : وتکسر هذه اللام مع المظهر غیر المنادی وتفتح مع المضمر غیر الیاء ، وإنّما حرّکت وأصلها السکون ؛ لأنها مبتدأ بها ، وفی کسرها وجهان :

أحدهما : الفرق بیننها وبین لام الابتداء فإنّها فی بعض المواضع تلتبس بها فجعل فی نفسها ما یمنع من وقوع اللبس وأمن اللبس فی المضمر فردّت إلی الأصل وکسرت مع الیاء اتباعا ، وإنّما أمن اللبس مع المضمر ؛ لأن الضمیر الواقع بعد لام الابتداء منفصل وبعد لام الجرّ متصّل واللفظان مختلفان.

والوجه الثانی : أنّ اللام تعمل الجرّ فجعلت حرکتها من نفس عملها ومع المضمر لا عمل لها فی اللفظ فخرجت علی الأصل ، ولأنّ الضمائر تردّ الأشیاء إلی أصولها.

فصل : وأمّأ (الباء) (2) فللإلصاق فی الأصل وتستعمل فی غیره علی التشبیه بالإلصاق کقولک : مررت بزید ، أی : حاذیته والتصقت به. وتقول : أخذ بذنبه ، أی : ذنبه سبب لذلک

ص: 244

ص: 245

والسبب یلازمه حکمه غالبا ، والملازمه تقرب من الإلصاق وتکون للبدل کقولک : بعته بکذا فهی للمقابله کما أنّ السببیه للمقابله وتکون زائده وسنذکر أقسامها فی الحروف.

فصل : و (الکاف) للتشبیه تکون فی موضع حرفا لا غیر یجوز أن تقع صله کقولک : الذی کزید عمرو ، ولو کانت هنا اسما لما تمّت الصله بها وتکون فی موضع اسما لا غیر مثل أن تکون فاعله کقول الشاعر (1) : [البسیط]

أتنتهون ولا ینهی ذوی شطط

کالطعن یذهب فیه الزیت والفتل

والفاعل لا یکون إلا اسما مفردا ، وإذا دخل علیها حرف الجرّ کانت اسما کقوله : [الرجز]

یضحکن عن کالبرد المنهمّ

وتکون فی موضع محتمله لهما کقولک : زید کعمرو ، ومررت برجل کالأسد ، وجاء زید کالأسد ، وتکون زائده ویذکر فی موضعه.

فصل : فإن قیل : لم فتحت (الکاف) وکسرت (اللام والباء)؟

قیل : الأصل فی الحروف الأحادیّه الفتح ؛ لأنها یبتدأ بها والابتداء بالساکن الذی هو الأصل الأوّل محال فحرّکت والضروره تندفع بأخفّ الحرکات إلا أنّ (الباء واللام) کسر تا لما ذکرنا قبل ، فأمّا : (الکاف) فتکون حرفا وتکون اسما فبعدت من اللام والباء فردّت إلی ألاصل ، وقیل : إنّ الکاف من أعلی الحلق ففیها نوع من استعلاء فکسرها مستثقل ، وقیل : هی قریبه من مخرج الیاء فیثقل کسرها کما یثقل کسر الیاء.

ص: 246

فصل : وأمّا (واو القسم وتاؤه) ففرعان علی الباء فردّا إلی الفتح الذی هو الأصل.

فصل : وإنّما لم تدخل (الکاف) فی الاختیار علی مضمر لتردّدها بین الاسم والحرف ، وذلک اشتراک فیها والاشتراک فرع والضمائر تردّ الأشیاء إلا أصولها ولا أصل لها ، ولهذه العلّه لم تدخل حتّی علی المضمر ، وقیل : لمّا لم تکسر (الکاف) لم تدخل علی المضمر ؛ لأن من المضمرات ما یوجب کسر ما قبله وهو یاء المتکلّم فألحق باقیها به بخلاف اللام والباء فأمّا الواو والتاء فیذکران فی القسم.

فصل : وأمّا : (ربّ) فحرف عند البصریّین واسم عند الکوفیّین.

وحجّه الأوّلین من أوجه :

أحدها : أنّ معناها فی غیرها فکانت حرفا کسائر أخواتها.

والثانی : أنّ ما بعدها مجرور أبدا ولا معنی للإضافه فیها فتعیّن أن تکون حرف جر.

والثالث : أنّها تتعلّق أبدا بفعل وهذا حکم حرف الجرّ.

وحجّه الآخرین من أوجه :

أحدها : أنّه أخبر عنها فقالوا : [الکامل]

... (1)وربّ قتل عار

فرفع : (عار) یدلّ أنّه خبر عنها.

والثانی : أنّها لو کانت حرف جرّ لظهر الفعل الذی تعدّیه ولا یظهر أبدا.

ص: 247

والثالث : أنّها نقیضّه : (کم) وکم اسم فما یقابله اسم یدلّ علیه أنّها جاءت للتکثیر ک (کم).

والجواب : أمّا الإخبار عن (ربّ) فغیر مستقیم ؛ لأن (ربّ) لیس لها معنی فی نفسها حتّی یصحّ نسبه الخبر إلیها ؛ ولذلک تکون الصفه تابعه للمجرور ب (ربّ) فی التذکیر والتأنیث والإفراد والجمع و (ربّ) متّحده المعنی فعلم أنّ الخبر لیس عن : (ربّ) (1) فأمّا قوله : ربّ قتل عار فشاذّ ، والوجه فیه : أنّه خبر مبتدأ محذوف ، أی : (هو عار) والجمله صفه لقتل ، وأمّا الفعل الذی تتعلّق به (ربّ) فیجوز إضهاره غیر أنّهم اکتفوا بالصفه عنه فی کثیر من المواضع لظهور معناه ، وأمّا حملها علی (کم) فلا یصحّ لوجهین :

أحدهما : أن الاسمیّه لا تثبت فی معنی بالإلحاق فی المعنی ألا تری أنّ معنی (من) التبغیض ولا یقال هی اسم ؛ لأنها التبعیض ، وکذلک معنی (ما) النفی وهی حرف وهو اسم فعلم أنّ الاسمّیه تعرف من أمر آخر.

ص: 248

والثانی : أنّ (کم) اسم لعدد ؛ ولذلک یخبر عنها وتدخل علیها حروف الجرّ ، ولو جعل مکانها عهدد کثیر أغنی عنها کقولک مائه رجل أو ألف رجل وربّ للتقلیل والتقلیل کالنفی ؛ ولذلک استعملوا (أقلّ) بمعنی النفی کقولهم : أقلّ رجل یقول ذاک إلا زید ، أی : ما رجل.

فصل : وتضمر (ربّ) بعد الواو والجرّ بها ، وقال المبرّد والکوفیّون : الجرّ بالواو.

وحجّه الأوّلین : أنّ الواو فی الأصل للعطف ، والعطف یکون للأسماء والأفعال والحروف فهی غیر مختصه وما لا یختصّ لا یعمل إلا أن ینوب عن مختّص لا یظهر معه البته ک (واو القسم) فإنّها تدخل علی (الباء) وهما للقسم ، ومن هنا لم تعمل حروف العطف ؛ لأن العامل یظهر معها فکذلک : (واو ربّ) هی للعطف وتدخل علی (ربّ) کما تدخل علیها :

(الفاء) و (بل) ، وقد أضمرت بعد : (الفاء) و (بل) ولم یقل أحدّ إنّهما تجرّان فکذلک الواو فمن (الفاء) قول الشاعر : [الوافر]

فإمّا تعرضنّ أمیم عنّی

وتنزعک الوشاه أولو النّیاط

فحور قد لهوت بهنّ عین

نواعم فی البرود ، وفی الرّیاط

ومن بل قول الراجز : [الرجز]

بل بلد ملء الفجاج قتمه

لا یشتری کتانه وجهرمه

فإن قیل : الواو قد تأتی فی أوّل الکلام ، ولیس هناک معطوف علیه؟

قیل : إن لم یکن المعطوف علیه فی اللفظ فهو مقدّر وهذه وهذه طریقه للعرب فی أشعارهم وفیما ذکرناه جواب عمّا یتعلقون به.

فصل : وإنّما وجب ل (ربّ) صدر الکلام ؛ لأنها تشبه حروف النفی إذ کانت للتقلیل والقلیل فی حکم المنفیّ ، وإنّما اختصّت بالنکره ؛ لأن القلیل یتصوّر فیها دون المعرفه ، وإنّما لم تدخل علی مضمر ؛ لأن الضمائر معارف ، وأمّا قولهم : (ربّه رجلا) فشاذّ مع أنّ هذا الضمیر نکره ؛ لأنه لم یتقدم قبله ظاهر یرجع إلیه بل وجب تفسیره بالنکره بعده ولم یستعمل إلا مذکرا مفردا.

فصل : وتکفّ (ربّ) ب (ما) فتدخل علی الفعل الماضی خاصّه ؛ لأنه تحقّق فأمّا قوله تعالی : (رُبَما یَوَدُّ الَّذِینَ کَفَرُوا) [الحجر : 2] ففیه وجهان :

ص: 249

أحدهما : أنّ (ما) نکره موصوفه ، أی ربّ شیء یودّه.

والثانی : هی کافّه ووقع المستقبل هنا ؛ لأنه مقطوع بوقوعه إذا خبرا من الله تعالی فجری مجری الماضی فی تحقّقه ، وقیل : هو علی حکایه الحال.

فصل : وقد حکی تخفیف الباء من (رب) وتحریکها بالفتح وحکی فتح رائها وحکی زیاده تاء التأنیث علیها فقیل : (ربت) فمنهم من یقف علیها (تاء) لیفرّق بین الحرف والاسم ومنهم من یقلبها (هاء) لتحرّکها کالتاء فی الاسم.

ودخول التاء لا یدلّ علی أنّها اسم ؛ لأنها قد دخلت علی (ثمّ) وهی حرف بلا خلاف وکذا حذف إحدی اللامین لا یدل علی انها اسم من حیث أنّ الحذف تصرّف والحروف تبعد عن التّصرّف ؛ لأن الحذف قد جاء فی الحروف کقولهم : (سو أفعل) فی سوف ، وفی ربّ أحسن من أجل التضعیف.

فصل : فأمّا : (حاشا) و (خلا) فیذکران فی الاستثناء ، وأمّا (حتّی) فلها باب وکذلک : (مذ) و (منذ).

ص: 250

علی تقدیر کونها مفرده فنفی دعوی الترکیب تحکّم لا یعلم إلا بالخبر الصادق ثمّ دعوی الترکیب تفسد من جهه أخری ، وتلک الجهه هی ما یلزم من کثره التغییر والحذف والشذوذ فالتغییر ضمّ المیم والحذف إسقاط النون والواو من (ذو) والألف من إذ ، وإسقاط أحد جزئی الصله أو حذف الفعل الرافع علی جهه اللزوم ، وذلک کلّه یخالف الأصول.

فصل : وتدخل (منذ) علی الزمن الحاضر فتجرّه کقولک : أنت عندنا منذ الیوم وتقدّر ب (فی) وتکون حرف جرّ فتتعلّق بالفعل الذی قبلها المظهر أو المقدّر ویکون الکلام جمله واحده.

فأمّا دخولها علی الماضی لابتداء الغایه أو تقدیر المدّه فقلیل فی الاستعمال ولکن هو جائز فی القیاس.

وأمّا : (مذ) فتدخل علی الماضی لابتداء مدّه الزمان أو بیان جمله المدّه فیرتفع ما بعدها وتدخل علی الحاضر فتجرّه ؛ لأنها اسم فکان حکمها أوسع من حکم الحرف وجرّها الجمیع جائز مثل : (منذ) ؛ لأنها تکون حرفا أیضا.

فصل : وإذا کانت للابتداء کان معرفه کقولک : ما رأیته مذ یوم الجمعه ؛ لأنه جواب متی ، وإذا کانت لتقدیر المدّه کان ما بعدها عددا نکره کقولک : ما رأیته منذ یومان.

فإن قیل : فما الفرق بینهما فی المعنی؟

قیل له : التی للابتداء لا یمتنع معها أن تقع الرؤیه فی بعض الیوم المذکور ؛ لأن اللزوم أن تکون الرؤیه قد انقطعت فیه واستمرّ الانقطاع إلی حین الإخبار به ، والتی تقدّر بعدها المدّه لا یجوز أن تکون الرؤیه وجدت فی بعضها ؛ لأن العدد جواب (کم) فکأنّک قلت : (کم زمن انقطاع الرؤیه) فقال : یومان.

فإن قیل : ما الفرق بین رفع ما بعده وجرّه؟ قیل : من وجهین :

أحدهما : أنّک إذا رفعت کان الکلام جملتین عند الأکثرین ، وإذا جررت کانت واحده کما فی حروف الجرّ.

والثانی : أنّک إذا رفعت جاز أن تقع الرؤیه فی بعض ذلک الزمان ، وإذا جررت لم یجز.

فصل : واختلفوا فی طریق الرفع ، فقال الکوفّیون فیه قولین :

ص: 252

أحدهما : هو خبر مبتدأ محذوف.

والثانی : هو فاعل فعل محذوف ، وقد ذکرناهما فی أوّل الباب.

وللبصریّین مذهبان :

أحدهما : أنّ (مذ) مبتدأ وما بعده الخبر ، والتقدیر : أوّل ذلک یوم الجمعه وأمد ذلک یومان وهو قول الأکثرین.

والثانی : أنّ (مذ) خبر مقدّم ، والتقدیر : بینی وبین انقطاع الرؤیه یومان ، وهو قول أبی القاسم الزجّاجی وهو بعید ؛ لأن (أنّ) تقع بعد (مذ) کقولک : ما رأیته مذ أنّ الله خلقنی ، و (أنّ) لا تکون مبتدأ.

فصل : ولیس ل (مذ) وما بعدها موضع عند الجمهور بل هو جواب کلام مقدّر ؛ لأنه إذا قال : ما رأیته ، فکأنّک قلت : ما أمد ذلک ، أو ما أوّل ذلک ، فقلت : مذ کذا ، وقال أبو سعید السیرافیّ : موضعه حال ، أی : ما رأیته متقدّما أو مقدّرا.

فصل : وإنّما بنیت (مذ) وهما اسمان لوجهین :

أحدهما : تضمّنهما معنی الحرف ، أی : ما رأیته من هذا الأمد إلی هذا الأمد.

والثانی : أنّهما ناقصتان فأشبهتا (کم) فی الخبر.

ص: 253

فصل : وقد قال بعضهم : إنّ (من) الجارّه تستعمل فی القسم مع : (ربی) ومع : (الله) وقال آخرون : هی محذوفه من (أیمن) وسیأتی القول فیها.

فصل : وقد عوّض من حرف القسم ثلاثه أشیاء : همزه الاستفهام کقولک : الله. والهاء کقولک : إیها الله ولاها الله ف (إی) بمعنی : (نعم) وقطع الهمزه کقولک : أفألله وهذا کلّه یختص باسم الله والجرّ باق.

وقد اختص اسم الله بأشیاء منها هذا ومنها : (تاء) القسم ومنها زیاده المیم فی النداء ومنها قطع همزته فیه أیضا ومنها تفخیم لامه.

فصل : فإنّ حذفت حروف القسم وعوّضته نصبت بالفعل المقدّر وهو کقولهم : (أمرتک الخیر) والجرّ جائز فی اسم الله تعالی خاصّه لکثره استعماله فی القسم. وقال الکوفیّون : یجوز ذلک فی کلّ مقسم به ، واحتجّوا لذلک بأشیاء کلّها شاذّ قلیل فی الاستعمال لا یقاس علیه ؛ لأن حرف الجرّ کجزء من المجرور وکجزء من الفعل من وجه آخر فحذفه کحذف جزء منهما إذا بقی عمله فأمّا إذا لم یبق فالعمل للفعل ؛ ولهذا لم یکن الضمیر المجرور إلا متصلا ولأنّ عمل حرف الجرّ قلیل ضعیف علی حسب ضعفه وإبقاء العمل مع حذف العامل أثر قوّته وتصرّفه.

فصل : وقد حذف القسم وأقیمت الجمله من المبتدأ والخبر والفعل والفاعل مقامه فالأولی کقولک : لعمرک لأقومنّ ف (عمرک) مبتدأ والخبر محذوف ، أی : لعمرک قسمی ، وحذف لطول الکلام وأنّه معلوم ، وعین (عمرک) مفتوحه فی القسم لا غیر ، ویجوز ضمّها فی غیره واختاروا الفتحه لکثرته ولطول الکلام فإن حذفت اللام نصبت (عمرک) علی فعل محذوف ونصبت اسم الله ، وفیه وجهان :

أحدهما : أنّ التقدیر : أسألک بتعمیرک الله ، أی : باعتقادک بقاء الله ، ف (تعمیرک) مفعول ثان و (الله) منصوب بالمصدر.

والثانی : أن یکونا مفعولین أی : أسأل الله تعمیرک.

وأمّا الجمله الفعلیه فکقولک : یمین الله ، فإن نصبت کان التقدیر : ألزمک والتزم یمین الله ، وإن رفعت کان التقدیر : یمین الله لازمه لی أو لک.

ص: 255

فصل : وجواب القسم إن کان إیجابا لزمته اللام والنون فی المستقبل کقولک : والله لأذهبنّ ، وإنّما لزمها لدلالتها علی التوکید وحاجه القسم إلیه وربّما جاء فی الشعر حذف اللام.

وقد یکون الجواب مبتدأ وخبرا کقولک : والله لزید منطلق وو الله إنّ زیدا لمنطلق ، وإن کان الجواب ماضیا قلت : والله لقد قام زید ، فتؤکد باللام وإن کان الجواب نفیا قلت : والله ما قام وو الله لا یقوم ، ویجوز حذف (لا) فی المستقبل لأمن اللبس بالإثبات ؛ لأنه فی الإثبات تلزمه والنون.

فإن قیل : لم أکّد الإثبات دون النفی؟

قیل : لأن فی الإثبات التزام إحداث الفعل أو ما یقوم مقامه ، وفی ذلک کلفه فاحتیج فیه إلی زیاده توکید تحمل علی الانتقال عن الأصل وتحمل المشقّه بخلاف النفی فإنّه بقاء علی العدم.

فصل : وإذا قلت : لزید منطلق من غیر یمین فی اللفظ فلیست لام القسم بل لام الابتداء.

وقال الکوفیّون : هی لام القسم ، قالوا : والدلیل علیه أنّها تدخل علی الفضلات کقولک : لطعامک زید آکل ، ولیس الطعام بمبتدأ.

وحجه البصریّین : أنّ اللام إذا دخلت علی مفعول (ظننت) ارتفع بالابتداء ولم یمکن تقدیر القسم فیه ؛ لأن (ظننت) لا تلغی بالقسم فعلم أنّ تعلیق (ظننت) لتحقّق الابتداء کما تعلّق بالاستفهام کقولهم : علمت أیّهم أخوک ، وأمّا قولهم : طعامک زید آکل فإنّما جاز ؛ لأنها فی حیّز الخبر إذ کانت معموله له مقدّمه علیه فکأنّها داخله علی المبتدأ.

فصل : وممّا یستعمل فی القسم : (أیمن الله) وهی مفرده عند البصریّین واشتقاقها من الیمن ، أی : البرکه أو القوّه (1).

وقال الکوفیّون : هی جمع یمین ، واحتجّ الأوّلون بشیئین :

أحدهما : کسر همزتها فإنّها لغه مسموعه وهمزه الجمع لا تکسر.

ص: 256

والثانی : أنّها همزه وصل بدلیل قول الشاعر : [الطویل]

فقال فریق القوم لمّا نشدتهم

نعم وفریق لا یمن الله ما ندری

وهمزه الجمع لیست همزه وصل.

واحتجّ الآخرون من وجهین :

أحدهما : أنّه جمع یمین کقول الشاعر (1) : [الرجز]

تبری له من أیمن وأشمل

فقابلها بالأشمل ، وفی جمعها فی القسم زیاده توکید.

والثانی : أنّ همزتها مفتوحه وهمزه الوصل لا تفتح مع غیر لام التعریف.

والجواب : أمّا الأوّل فلا حجّه فیه لأنّنا لا ننکر أنّ الیمین یجمع علی (أیمن) فی غیر القسم ، وأمّا ما ذکروه فلا تعرّض له بالقسم ، وأمّا فتح همزتها فلغه فیها وللعرب فیها لغات فتح الهمزه وکسرها مع النون وفتحها وکسرها مع حذف النون کقولک : (ایم الله) والخامسه : (آم الله) بکسرها وفتحها مع حذف الیاء والنون و (من الله) بضمّ المیم وکسرها و (م الله) بالضم والکسر.

وقال سبیویه : إنّ (من) هنا حرف جرّ ولیست الباقیه من (ایمن) ولو جعلت هذه الحروف والتصرّفات فی هذه الکلمه دلیلا علی أنّها لیست جمعا کان متمسّکا صحیحا.

ص: 257

فصل : ومعنی : (حتّی) اللازم لها الغایه فی التعظیم والتحقیر.

فأما عملها فلیس بأصل بل محمول علی غیرها ؛ لأنها لمّا دخلت علی الجمله تاره وبمعنی : (إلی) أخری وبمعنی : (الواو) ثالثه وبمعنی : (کی) رابعه لم یکن لها اختصاص تعمل بسببه ؛ لأن هذه المعانی تکون فی الأسماء والأفعال.

فصل : وإنّما عملت عمل (إلی) ؛ لأن إلی لانتهاء الغایه و (حتّی) تشارکها فی ذلک فعملت عملها فی الموضع الذی یصحّ دخول (إلی) فیه.

فصل : وتفارق (حتّی) (إلی) فی أشیاء :

أحدها : أنّ ما بعد (حتّی) یدخل فی حکم ما قبلها کقولک : قام القوم حتّی زید. ف (زید) هنا دخل فی القیام ولا یلزم ذلک فی قولک : قام القوم إلی زید.

والثانی : أنّ ما قبل (حتّی) یجب أن یکون جمعا کقولک : قام القوم حتّی زید ، ولو قلت : قام عمرو حتّی زید لم یجز ، وعلّه ذلک : أنّ (حتّی) تدلّ علی بلوغ العمل غایته ولفظ الواحد لا یتناول أکثر منه بحیث یجوز تخصیصه ببعضه بخلاف لفظ الجمع ؛ فإنّه جاز أن یضاف الفعل إلی القوم ولا یراد دخول (زید) فیهم لعظمه أو حقارته ؛ فإذا جئت ب (حتّی) أزلّت هذا الجواز ، وتنزّلت (حتّی) منزله التوکید المانع من التخصیص.

والثالث : أنّ (إلی) تدخل علی المضمر و (حتّی) لا تدخل علیه ، وعلّه ذلک : أنّه لمّا لزم أنّ یکون قبلها جمع وما بعدها واحد منه لم یتقدّم علی (حتّی) اللفظ الظاهر لیعود الضمیر إلیه ، فلما أضمر لم یکن له ظاهر یعود علیه ضمیر کقولک : قام القوم حتی زید. ف (زید) لم یتقدّم له ذکر یعود علیه ضمیر.

فصل : وإنما جاز أن تقع (حتّی) بمعنی (الواو) ؛ لأن (الواو) للجمع و (حتّی) للغایه والشمول والمعنیّان متقاربان.

فصل : وتفترقان فی أشیاء :

أحدها : أن ما قبلها یجب أن یکون جمعا لما تقدّم.

والثانی : أن یکون ما بعدها من جنس ما قبلها ، فلو قلت : جاء الناس حتّی الحمیر لم یجز لمّا ذکرنا من إفاده معنی الغایه والتوکید.

ص: 259

والثالث : أنّ الواو تضمر بعدها (ربّ) ولا تضمر بعد (حتّی).

مسأله : تقول مررت بهم حتّی زید ، إن جعلتها بمعنی (إلی) لم تحتج إلی إعاده الباء ، وإن جعلتها کالواو أعدت الباء کما تعیدها مع الواو.

مسأله : تقول : أکلت السمکه حتّی رأسها أکلته ، فلک فیه الرفع بالابتداء وما بعده خبر والنصب علی وجهین :

أحدهما : أن تنصبه بمعنی الواو فیکون (أکلته) توکیدا.

والثانی : أن تنصبه بفعل محذوف دلّ علیه ما بعده ، أی : حتّی أکلت رأسها ف (حتّی) علی هذا داخله علی الجمله تقدیرا ، والجر بمعنی (إلی) وأکلته توکید لا غیر ومثل ذلک قول الشاعر :

ألقی الصحیفه کی یخفّف

رحله والزاد حتی نعلّه ألقاها

یروی (نعله) بالأوجه الثلاثه.

فإن لم تقل : (أکلته) جاز الجرّ بمعنی : (إلی) والنصب بمعنی : (الواو) والرفع علی الإبتداء والخبر محذوف ، ومنع الزجاجیّ الرفع فی کتاب «الجمل» وهو إمّا سهو وإمّا إن یرید أنّ الرفع بمعنی الواو لا یجوز ، فأمّا علی تقدیر الابتداء وحذف الخبر لدلاله الکلام علیه فلا مانع منه.

مسأله : تقولک اجلس حتّی إذا جاء زید أعطیتک. ف (حتّی) هنا غیر عامله ؛ لأن (إذا) یعمل فیها جوابها النصب علی الظرف ، فتغلوا : (حتّی) لدخولها علی الجمله تقدیرا وتصیر کالفاء فی ربط ما بعدها بما قبلها فی المعنی.

ص: 260

قیل : من التی بمعنی اللام ؛ لأن العلامات التی ذکرناها فی اللام توجد فیها دون الأخری.

فإن قیل : ف (کلّ القوم) من أیّهما؟

قیل : من اللام لمّا تقدّم ، ألا تری أنّ (کلّا) عباره عن مجموع أجزاء الشیء المضاف إلیه والمجزّأ غیر الأجزاء ؛ ولذلک لا تقول : القوم کلّ ، ولا الکلّ قوم.

فصل : والإضافه المحضه تعرّف إذا کان الثانی معرفه کقولک : غلام زید ، وصاحب الرجل فیتعدّی التعریف من الثانی إلی الأوّل لتخصّصه به.

وأمّا غیر المحضه فهی علی ضربین :

1 - أحدهما : لا یحصل منها تعریف ، وذلک فی ثلاثه مواضع :

أ - أحدها : إضافه (مثل) ونظائره کقولک : زید مثل عمرو ؛ لأن (مثلا) یقدّر فیها التنوین إذ کانت المماثله بین الشیئین لا تقع من وجه مخصوص ، وکذلک (غیر) ؛ لأن المثلین من وجه غیران من وجه آخر ، وکذلک الغیران مثلان من وجه آخر فإن وقعا بین متماثلین من کلّ وجه أو متغایرین من کلّ وجه تعرّفا کقولک : الحرکه غیر السکون.

ب - والثانی : أسماء الفاعلین والمفعولین العامله عمل الفعل ؛ لأن التنوین فیها مقدّر مراد وحذف تخفیفا وانجرّ الثانی لوجود لفظ الإضافه کقولک : زید ضارب عمرو غدا.

ج - والثالث : الصفه المشبهه (1) باسم الفاعل نحو : حسن الوجه ؛ لأن التنوین فیها مراد أیضا ، والتقدیر : مررت برجل حسن وجهه.

2 - والضرب الثانی : یحصل فیه التعریف ، وذلک فی موضعین ؛ أحدهما : إضافه (أفعل) کقولک : زید أفضل القوم. ف (أفضل) معرفه عند الأکثرین ، و (أفعل) هذه تستعمل علی ثلاثه أوجه :

ص: 262

أ - أحدها : ب (من) کقولک : زید أفضل من عمرو ، وهذه نکره.

ب - والثانی : الألف واللام کقولک : زید الأفضل.

ج - والثالث : الإضافه.

فصل : و (أفعل) هذه تضاف إلی ما هی بعض له ؛ ولذلک لا تقول : زید أشدّ الحجاره ، ولا أفضل الحمیر ؛ لأنه لیس منهما ، ومن ههنا إذا قلت : زید أفره عبد ، فجررت کان زیدا عبدا ، والتقدیر : زیدا أفره العبید ، وإنّ قلت : زید أفره عبدا ، فنصبت لم یکن زید عبدا ، والمعنی : عبیده أفره من عبید غیره.

ومن المسأله المشهوره : (أفضل إخوته) لا یجوز ؛ لأن إضافه أفضل إلیهم توجب أنّ یکون واحدا منهم وإضافتهم إلیه تدلّ علی أنّه غیرهم ؛ لأن الشیء لا یضاف إلی نفسه فیتنافیان ؛ ولذلک لو قیل : (من إخوته) لم تعدّه منهم ، ولو قیل : (زید أفضل الإخوه) جاز ؛ لأنه واحد منهم ؛ ولذلک تعدّه منهم.

فصل : وأمّا الضرب الثانی : فهو إضافه الشیء إلی ما یصحّ أن یکون صفه له ک (صلاه الأولی ، ومسجد الجامع ، وجانب الغربیّ) فیجعلونه علی غیر محض ؛ لأن الأصل أن تقول : (الصلاه الأوّلین والمسجد الجامع) ولکن لمّا أضیف تؤول علی حذف موصوف تقدیره : (صلاه الساعه الأوّلی ، ومسجد المکان الجامع) ومن هذا الوجه لم یکن محضا إلا أن التعریف یحصل به.

مسأله : لا تجوز إضافه الشیء إلی نفسه ، وإن اختلف اللفظان وأجاز الکوفیّون ذلک إذا اختلف اللفظان.

وحجّه الأوّلین : أن الغرض بالإضافه التخصیص والشیء لا یخصص نفسه ، ولو کان کذلک لکان کلّ شیء مخصّصا ، واحتجّ الآخرون بإضافه الشیء إلی صفته کنحو ما ذکرنا ومنه : (دار الآخره) و (حبل الورید) و (حبّ الحصید) والثانی هو الأوّل.

والجواب : أنّ جمیع ما ذکروه متأوّل علی غیر ظاهره ، وذلک أنّ التقدیر دار الساعه الآخره ، وقد سماها الله تعالی : (ساعه) فی نحو قوله : (وَیَوْمَ تَقُومُ السَّاعَهُ) [الروم : 12] ، وأمّا (حبل الورید) فعلی ذلک أیضا ، والتقدیر : حبل الشراب الورید والدم الورید ، أی الوارد فیه ،

ص: 263

وفعیل بمعنی فاعل کثیر ، وأمّا (حبّ الحصید) قتقدیره : حبّ الزرع الحصید ؛ لأن الذی یحصد هو الزرع لا الحبّ.

مسأله : تجوز إضافه الزمان إلی الفعل کقوله تعالی : (هذا یَوْمُ یَنْفَعُ الصَّادِقِینَ صِدْقُهُمْ) [المائده : 119] ولا تجوز إضافه غیر الزمان إلیه ؛ لأن بین الزمان والفعل مناسبه إذ کان الفعل یدلّ علی الزمان فکأنّک أضفت زمانا عامّا إلی خاص فتخصص (1) ؛ لأن الفعل یدلّ علی زمان ماض أو مستقبل والذی یضاف إلیه لم یکن ماضیا بلفظه ولا مستقبلا کالیوم والساعه.

فأمّا : (أمس) و (غد) فلا یضاف إلی الفعل ؛ لأنه مخصوص کتخصیص زمن الفعل وإن شئت قلت : الفعل هنا فی تقدیر المصدر فلذلک أضیف إلیه إلا أنّ المصدر لا یدلّ علی الحدث والفعل یدلّ علیه.

ص: 264

احتّج الآخرون بإنّ ذلک قد جاء فی الشعر فمن ذلک قول : [الرجز]

أرمی علیها وهی فرع أجمع

وهی ثلاث أذرع وأصبع

وقال الآخر : [الرجز]

إذا القعود کرّ فیها حفدا

یوما جدیدا کلّه مطرّدا

وقال آخر : [الرجز]

قد صرّت البکره یوما أجمعا

والجواب عن هذه الأبیات من وجهین :

أحدهما : أنّ التوکید فیها للمعرفه لا للنکره فقوله أجمع توکید ل (هی) ولکنّه اضطر ففصل بالخبر بین المؤکد والمؤکد کما فی الصفه ، وقیل : فی (فرع) ضمیرّ والتوکید له وهذا بعید ، وأمّا قوله : (جدیدا کلّه) فهو مرفوع علی أنّه تأکید للضمیر فی (جدید).

والوجه الثانی : أنّ هذه الأبیات شاذهّ فیها اضطرار فلا تجعل أصلا.

فصل : وإنما لم ینصرف (جمع) ؛ لأن فیه العدل والتعریف فالعدل عن (جمع) ؛ لأن واحده : (أجمع) و (جمعاء) فینبغی أن یکون علی (جمع) مثل : (حمر) ، ولکنّه فتحت میمّه وصیر ک (عمر). وقال أبو علیّ : هو معدول عن (جماعی) مثل صحراء وصحاری ، ولو کان عن جمع مثل : حمر لما جاز فیه أجمعون ، ولکان یؤکد به المذکر والمؤنّث کما یوصف بحمر المذکر والمؤنّث.

وأمّا التعریف فبوضعه توکیدا للمعرفه صار کالأعلام ، ولیس فیه أداه للتعریف ، وأمّا (جمعاء) فلألفی التأنیث.

فصل : وأمّا (أکتع) و (أبصع) وما تصرّف منهما فلا تستعمل فی التوکید إلا تبعا ل (أجمع) فإنّ جاء شیء علی غیر ذلک فی الشعر فضروره (1).

ص: 266

مسأله : وأمّا (کلا وکلتا) فاسمان مفردان مقصوران ، وقال الکوفیّون : هما مثنّیان لفظا ومعنی.

وحجّه الأوّلین من وجوه :

أحدها : أنّهما بالألف فی الأحوال الثلاث إذا إضیفا إلی الظاهر ، ولیس المثنی کذلک.

والثانی : أنّه لا ینطق بالواحد منهما فلا یقال فی الواحد : (کل) بخلاف المثنی.

والثالث : أنّهما یضافان إلی المثنّی ، ولو کانا مثنّیین للزم أن یضاف الشیء إلی نفسه وهو باطل ، ألا تری أنّک لا تقول : مررت بهما أثنیهما ، کما لا تقول : مررت به واحده.

فإن قیل : فکیف یقال : (مررت بهم خمستهم) فیضاف الجمع إلی الجمع؟

قیل : إنّما أجازوا ذلک ؛ لأن ضمیر الجمع یحتمل العدد القلیل والکثیر فلا یلزمه من إضافه الخمسه ونحوها إضافه الشیء إلی نفسه.

والرابع : أنّ الضمیر یرجع إلیه بلفظ الإفراد کقوله تعالی : (کِلْتَا الْجَنَّتَیْنِ آتَتْ أُکُلَها) [الکهف : 33] ، ولو کان مثنّی فی اللفظ لم یجز ذلک کما لا یجوز الرجلان قام.

واحتّج الآخرون بالسماع والقیاس ، أمّا السماع فقول الشاعر : [الرجز]

فی کلتا رجلیها سلامی واحده

کلتاهما مقرونه بزائده

وأما القیاس فمن وجهین :

أحدهما : أنّ الضمیر یعود إلیه بلفظ التثنیه فی بعض المواضع کقول الشاعر : [البسیط]

کلاهما حین جدّ الجری بینهما

قد أقلعا وکلا أنفیهما رابی

والثانی : أنّهما فی الجرّ والنصب بالیاء ، وفی الرفع بالألف إذا أضیفا إلی مضمر.

والجواب : أنّ الشعر لا یعرف قائله علی أنّه محمول علی الضروره ، وقد جاز حذف شطر الکلمه فی الضروره کقول لبید : [الکامل]

ص: 267

درس المنا بمتالع فأبان (1) ...

أراد (المنازل). وقال العجّاج :

قواطنا مکّه من ورق الحمی (2)

أراد (الحمام) وهذا لا یقاس علیه ولا یثبت به أصل.

وأمّا عود الضمیر المثّنی إلیه فعلی المعنی والإفراد علی اللفظ وهذا مثل : (کلّ) و (من) فإنّ الضمیر یعود إلی لفظهما تاره کقوله تعالی : (وَکُلُّهُمْ آتِیهِ یَوْمَ الْقِیامَهِ فَرْداً) [مریم : 95] و (بَلی مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [البقره : 112] وتاره یجمع حملا علی المعنی کقوله تعالی : (وَکُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِینَ) [النمل : 87] و (وَمِنَ الشَّیاطِینِ مَنْ یَغُوصُونَ لَهُ) [الأنبیاء : 82] (وَمِنْهُمْ مَنْ یَسْتَمِعُونَ إِلَیْکَ) [یونس : 42].

وأمّا جعلها بالیاء فی الجر والنصب فلم یکن لما قالوا إذ لو کان کذلک لاستمرّ مع المضمّر والمظهر کما فی کلّ مثنّی ، وإنّما قلبت الألف یاء مع المضمر لوجهین :

أحدهما : أنّ (کلا وکلتا) یشبهان : (علی وإلی ولدی) فی أنّها لا تستعمل واحده بل لا بد من دخولها علی الاسم وأنّ آخره ألف کآخر هما وکما تجعل الألف فی (علی) یاء مع المضمر کذلک : (کلا) واختص ذلک بالنصب والجر ، کما أن (علی) یکون موضعها نصبا بحقّ الأصل.

والثانی : أنّ (کلا) أذا أضیفت إلی المضمر لم تکن إلا تابعه للمثنّی فجعل لفظها کلفظ ما تتبعه استحسانا.

فصل : وألفا (کلا وکلتا) من واو عند قوم ، ویاء عند آخرین. وتا : (کلتا) بدلّ من أحد الحرفین ، وألفها للتأنیث ، ونذکر ذلک فی التصریف أن شاء الله.

فصل : وأقوی ألفاظ التوکید فی الجمع : (کلّهم) ؛ لأنها قد تکون أصلا یلیه العامل کقولک : جاءنی کل القوم وتکون مبتدأ کقوله تعالی : (کُلُّ نَفْسٍ ذائِقَهُ الْمَوْتِ)

ص: 268

[العنکبوت : 57] ، ومنه قوله تعالی : (إِنَّ الْأَمْرَ کُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : 154] فیمن رفع ومن نصب جعله توکیدا.

وأمّا : (أجمع) وما تصرّف منها فلا تکون إلا تابعه ؛ فإذا اجتمعت : (کلّ) و (أجمع) فی التوکید قدّمت : (کلّ) علیها لشبهها بالمتبوع.

فصل : ولا یعطف بعض ألفاظ التوکید علی بعض ؛ لأن معنی الجمیع واحد بخلاف الصفه فإنّ الصفه تدلّ علی معنی زائد علی الموصوف.

فصل : وإذا جمعت بین لفظی توکید کان الثانی مفیدا زیاده التوکید فقط کقوله تعالی : (فَسَجَدَ الْمَلائِکَهُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر : 30] وقال الزجاج : الفائده فی (أجمعون) بعد (کلّ) الدلاله علی أنّ سجود الملائکه وقع فی حال واحده ، وفی هذا نظر.

ص: 269

یصحبه ضمیر الموصوف لیصیر من سببه به کقولک : مررت برجل قائم زید عنده ، فلو لا الهاء لکان الکلام أجنبیا من الاوّل ولم یکن صفه له.

فصل : وإنّما کانت الصفه کالموصوف فی التعریف والتنکیر والإفراد والتثنیه والجمع والتذکیر والتأنیث والإعراب ؛ لأن الصفه هی الموصوف فی المعنی ، ومحال أن یکون الشیء الواحد معرفه ونکره ومفردا وأکثر فی حال واحده.

فصل : فأمّا قولهم : ثوب أسمال وبرمه أعشار ، فإنّما جاز لمّا کان الثوب یجمع رقاعا ، وکأن کل ناحیه منه سمل والبرمه مجتمعه من أکسار فصار التقدیر : ذات أکسار.

فصل : والعامل فی الصفه هو العامل فی الموصوف ؛ لأنها هی هو فی المعنی ؛ ولذلک جاز أن یحذف الموصوف ویولی العامل الصفه فتقول : (مررت بالظریف) ولا تکرر العامل معها فلا تقول : مررت بزید بالظریف.

وقال الأخفش : العامل فیها معنویّ وهو کونها تابعه ، وهذا إن به أنّها تابعه للموصوف فی الحقیقه فذلک لا یقتضی العمل ، وإن أراد أنّها تابعه له فی الإعراب فلیس ذلک بیانا للعامل وهو مذهب الجمیع ، وإنّما الخلاف فی العامل فی هذا التابع ما هو ؛ لأن التبعیه معنی واحد والشیء الواحد لا یعمل أعمالا مختلفه فی معمول واحد.

فصل : وإذا اختلف العامل فی الأسماء لم تنعت بنعت واحد کقولک : جاء زید ورأیت عمرا الظریفین ، فلا یجوز نصب الصفه ولا رفعها ؛ لأنها لفظ واحد مثنی ، فلو رفعت أو نصبت لتبعت أحد الاسمین وعمل فیها عامله ، فینقطع تبعا للآخر والتثنیه تأبی ذلک ؛ لأنها تدل علی أنّ الصفه تابعه لهما.

فصل : فإن کان الإعراب واحدا والعامل مختلف فالحکم کذلک ؛ لأن العاملین لا یعملان عملا واحدا فی معمول واحد کان العاملان بمعنی واحد کقولک : ذهب زید وانطلق عمرو ، فالحکم کذلک عند بعض البصریّین ؛ لأن العامل لفظ ، وقد خالف لفظ الثانی لفظ الأوّل ، والمعنی لا یعمل هنا حتی یؤثّر اتّفاقهما فی المعنی.

ص: 271

فصل : إذا تکّررت النعوت جاز حمل الجمیع علی الموصوف وهو الظاهر ، وجاز نصبها بإضمار أعنی ورفعها علی إضمار (هو) ، ودل هذا الإضمار علی زیاده المدح والذّم ؛ لأنه یصیر بذلک جمله مستقله.

فصل : ویجوز عطف بعض الصفات علی بعض تنبیها علی زیاده المدح والذم کقولک : مررت بزید الکریم والعاقل ، ف (الواو) تدلّ علی أنّه المعروف بذلک.

وکقول الآخر (1) : [الکامل]

وکأنّ فی العینین حبّ قرنفل

أو سنبلا کحلت به فانهلّت

وأمّا المسأله فالمانع ثمّ الإضمار وهو عارض.

فصل : وتبدل المعرفه من المعرفه ومن النکره ، والنکره من المعرفه ، إلا أنّک إذا أبدلت النکره من المعرفه فلا بدّ من صفه النکره کقوله تعالی : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِیَهِ (15) ناصِیَهٍ کاذِبَهٍ) [العلق : 15 - 16] ؛ لأن المعرفه أبین من النکره ؛ فإذا لم تصف النکره انتقض غرض البدل ، وإذا وصفتها حصل بالصفه بیان لم یکن بالمعرفه.

فصل : وکلّ الأسماء یصلح أنّ یبدل منها إلا ضمیر المتکلم والمخاطب ؛ لأنّهما فی غایه الوضوح کقولک : مررت بی بزید وبک عمرو ، وأجازه قوم والذی جاء منه فی بدل الاشتمال والبعض ، فالاشتمال کقول الشاعر (2) : [الوافر]

ذرینی إنّ أمرک لن یطاعا

وما ألفیتنی حلمی مضاعا

ف (حلمی) بدل من : (الیاء) ومن البعض قول : [الرجز]

أوعدنی بالسجن والأداهم

رجلی ورجلی شثنه المناسم

ف (رجلی) بدل من الیاء.

فصل : ولا یحتاج فی بدل الکل إلی ضمیر یعود علی الأوّل ؛ لأن الثانی هو الأوّل ، ویحتاج إلیه فی بدل البعض والاشتمال ؛ لأن الثانی مخالف للأوّل ، فیرتبط به بضمیره کالجمله فی خبر المبتدأ ویجوز حذفه إذا کان معلوما کقوله تعالی : (وَلِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً) [آل عمران : 97] أی منهم.

ص: 274

فصل : وشرط بدل الاشتمال أن یکون الأوّل مشتملا علی الثانی ، والثانی قائم به کقولک : یعجبنی زید عقله ، وعرفت أخاک خبره ، وحقّه التقدیم أی : یعجبنی عقل زید ، ولکن لمّا کان یکتسب من عقله وصف الحسن والإعجاب جاز أن یؤخر ویجعل بدلا منه ؛ فإن لم یکن کذلک لم یجز کقولک : یعجبنی زید أبوه ؛ لأن (زیدا) لا یشتمل علی الأب بل کلّ واحد منهما منفصل عن الآخر ویتضح بقولک : (مات زید أخوه) فإنه لیس من الاشتمال بل من الغلط.

فصل : وحقّ بدل الغلط أن یستعمل ب (بل) ؛ لأنها موضوعه للإضراب عن الأوّل ولکن جاز حذفها لوضوح معناها.

فصل : والعامل فی البدل غیر العامل فی المبدل منه ، وذلک العامل هو تقدیر الإعاده ، أی : إعاده العامل الأوّل فقولک : مررت بزید أخیک ، تقدیره : بزید بأخیک ، وقال قوم : العامل فیه عامل الأوّل.

وحجّه الأوّلین من وجهین :

أحدهما : أنّ العامل قد ظهر فی کثیر من الکلام فمن ذلک قوله تعالی : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِینَ اسْتَکْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف : 75] فأعاد (اللام) مع البدل وقال تعالی : (کِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَیْکَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَی النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلی صِراطِ الْعَزِیزِ) [إبراهیم : 1] فأبدل الصراط من النور وأعاد (إلی) وقال تعالی : (وَلا تَکُونُوا مِنَ الْمُشْرِکِینَ (31) مِنَ الَّذِینَ فَرَّقُوا دِینَهُمْ) [الروم : 31 - 32] فأعاد (من) وهو کثیر فی القرآن والشعر.

والوجه الثانی : أنّ البدل کالمبدل منه فی جمیع أحکامه بحیث لو ابتدئ به لم یقدّر هناک محذوف بخلاف الصفه وما أجری مجراها ، وفلمّا لم یکن تبعا فی الحقیقه لم یکن تبعا فی العمل فلذلک قدّر له عامل أغنی عن تقدّم ذکره.

واحتّج الآخرون بأنّه لو کان له عامل یخصّه للزم إظهاره إذ لیس هناک شیء ینوب عنه.

والجواب : أنّ تقدم العامل وکون الثانی هو الأوّل أغنی عن لزوم تکرّر العامل ، ولیس کذلک الصفه ألا تری أنّ المعطوف لمّا کان غیر الأوّل احتاج إلی ما ینوب عن العامل فجیء بالحروف.

ص: 275

فمن الأول قولک : المال بین زید وعمرو ، ولو قلت : (فعمرو) لم بجز ؛ لأن (بینا) یقتضی أکثر من واحد ، ومن ذلک سواء زید وعمرو سیّان زید وعمرو ، و (الفاء) هنا لا تجوز لأنّ التساوی لا یکون فی الواحد ، ومن ذلک اختصم زید وعمرو ، والفاء لا تصلح هنا ومن ذلک أنّ العطف بالواو نظیر التثنیه ، والتثنیه لا تفید سوی الاجتماع.

ومن الثانی : أنّ (الواو) لا تستعمل فی جواب الشرط لما کان مرتّبا علی الشرط والفاء تستعمل فیه ، وأمّا الآخرون فتمسکّوا بشبه لا دلاله فیها علی الترتیب من جهه الواو فأضربنا عن ذکرها لوضوح الجواب عنها.

فصل (1) : (الواو) تقع علی وجوه :

أحدها : العطف المطلق.

والثانی : (واو الحال) کقوله تعالی : (وَطائِفَهٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) [آل عمران : 154].

والثالث : أن تکون بمعنی (مع).

والرابع : أن تکون للقسم.

والخامس : أن تضمر بعدها (رب).

والسادس : أن تکون بمعنی (الباء) کقولک : بعت الشاء شاه ودرهم ، أی : بدرهم.

فصل : ولا تزاد (الواو) عند أکثر البصریّین لوجهین :

أحدهما : أنّ الحروف وضعت للاقتصار أو عوضا عن ذکر الجمل : (کالهمزه) فإنها بدل عن (استفهم) أو (أسأل) و (ما) بدل عن (أنفی) فزیادتها تنقض هذا الغرض.

والثانی : أنّ الحروف وضعت للمعانی فذکرها دون معناها یوجب اللبس وخلوّها عن المعنی وهو خلاف الأصل.

ص: 277

واحّتج الآخرون بقوله تعالی : (حَتَّی إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : 73] ف (الواو) زائده والفعل جواب : (إذا) ؛ ولذلک لم تکن فی الموضع الأول وقال الشاعر (1) : [الکامل]

حتی إذا قملت بطونکم

ورأیتم أبناءکم شبّوا

وقلبتم ظهر المجنّ لنا

إنّ اللئیم العاجز الخبّ

والجواب : أن جواب (إذا) فی هذه المواضع محذوف ، فالتقدیر فی الآیه حتّی إذا جاؤوها وفتحت أبوابها عرفوا صحّه وما وعدوا وعاینوه ، وقد دلّ علیه قوله تعالی : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر : 74] والتقدیر فی البیت حتی إذا فعلتم هذه الأشیاء عرف غدرکم وفجورکم ولؤمکم.

وحذف الجواب کثیر فی القرآن والشعر فمنه قوله تعالی : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَیْکُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَکِیمٌ) [النور : 10] ، وفی هذه السوره : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَیْکُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ) [النور : 20] والتقدیر لهلکتم وقوله تعالی : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) [الرعد : 31] أی : لکان هذا القرآن ، وحذف الجواب أبلغ فی هذا المعنی من ذکره ولأنّ الموعودّ أو المتوعد إذا لم یذکر له جواب ذهب وهمه إلی أبلغ غایات الثواب والعقاب فیکون أبلغ فی الطاعه والانزجار.

فصل : ومعنی الفاء ربط ما بعدها فی بما قبلها فالعاطفه تربط بین المعطوف والمعطوف علیه فیما نسب إلی الأوّل إلا أنّها تدل علی أنّ الثانی بعد الأوّل بلا مهله ، وإذا وقعت جوابا علّقت ما بعدها بما فی قبلها ، ومن هنا قال الفقهاء : تدلّ (الفاء) علی أنّ ما قبلها سببّ لما بعدها ومعتبر فیه.

ص: 278

فصل : ولا تکون (الفاء) زائده لما ذکرنا فی (الواو) ، وقال الأخفش : قد زیدت فی مواضع منها قوله تعالی : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِی تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِیکُمْ) [الجمعه : 8] ؛ لأن الفاء (1) تکون فی خبر الذی غیر زائده والخبر هنا للموت ، ولیس فیه معنی الشرط ، ومنه قول الشاعر (2) : [الکامل]

لا تجزعی أن منفسا أهلکته

وإذا هلکت فعند ذلک فاجزعی

فالفاء الأولی زاائده ، وقیل : الثانیه.

فصل : و (ثّم) (3) کالفاء فی التشریک والتریب إلا أنّها تدلّ علی المهله إذ کانت أکثر حروفا من الفاء ، وقد جاءت لترتیب الأخبار لا لترتیب المخبر عنه کقوله تعالی : (فَإِلَیْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِیدٌ عَلی ما یَفْعَلُونَ) [یونس : 46] وقال : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَیْهِ) [هود : 3] وتقول : زید عالم کریم ثّم هو شجاع.

فصل : وأمّا (أو) فتشرک فی الإعراب ولها معان :

أحدها : الشکّ فی الخبر کقولک : قام زید أو عمرو ، والمعنی أحدهما ؛ ولذلک تقول : فقال کذا أو کذا ، ولا تقول فقالهما.

والثانی : أن تکون لتفصیل ما أبهم کقوله تعالی : (وَقالُوا لَنْ یَدْخُلَ الْجَنَّهَ إِلَّا مَنْ کانَ هُوداً أَوْ نَصاری) [البقره : 111] أی : قالت الیهود لن یدخل الجنّه من إلا من کان هودا وقالت

ص: 279

النصاری : لن یدخل الجنه إلا من کان نصاری ، وکذلک قوله تعالی : (کُونُوا هُوداً أَوْ نَصاری) [البقره : 135] ، ومنه قول القائل : کنت بالبصره آکل السمک أو التمر أو اللحم ، أی : فی أزمنه متفرقه ولم یرد الشک.

والثالث : أن تکون للتخییر کقوله : (فَکَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَهِ مَساکِینَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِیکُمْ أَوْ کِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِیرُ رَقَبَهٍ) [المائده : 89] فلإن اتّصل بالأمر لم یجمع بینهما کقولک : خذ درهما أو دینارا ، فإن وجدت قرینه تدل علی الإباحه جاز الجمع بینهما کقولک : جالس الفقهاء أو الزّهاد لمن یجالس الأشرار.

فصل : وإن اتّصلت بالنهی وجب اجتناب الأمرین عند محققّی النحوییّن کقوله تعالی : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ کَفُوراً) [الإنسان : 24] أی : لا تطع أحدهما ، فلو جمع بینهما لفعل المنهیّ عنه مرّتین ؛ لأن کلّ واحد منهما أحدهما.

فصل : وقد تکون (أو) (1) للتقریب کقولک : ما أدری أأذنّ أو أو أقام ، أی لسرعته. وإنّ کان یعلم أنّه أذّن ومن ذلک قوله تعالی : (وَما أَمْرُ السَّاعَهِ إِلَّا کَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : 77].

ص: 280

فصل : ولا تکون (أو) بمعنی : (الواو) ولا بمعنی : (بل) عند البصرّیین وأجازه الکوفّیون.

وحجّه الأوّلین : أنّ الأصل استعمال کل حرف فیما وضع له لئلّا یفضی إلی اللبس وإسقاط فائده الوضع.

واحتّج الآخرون : بأنّ ذلک قد جاء فی القرآن والشعر فمن ذلک قوله تعالی : (وَأَرْسَلْناهُ إِلی مِائَهِ أَلْفٍ أَوْ یَزِیدُونَ) [الصافات : 147] أی : ویزیدون ، وقال تعالی : (حَرَّمْنا عَلَیْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوایا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) [الأنعام : 146] وهی بمعنی الواو ، و (الحوایا) عطفت علی الشحوم أو الظهور وقال الشاعر (1) : [الطویل]

بدت مثل قرن الشمس فی رونق الضحی

وصورتها أو أنت فی العین أملح

أی : بل أنت.

والجواب : أنّ (أو) فی الآیه الأولی لشکّ الرأی ، أی : لو رأیتهم لقلت هم مائه ألف أو یزیدون ، وقیل : هی للتخییر ، وقیل : للتقریب ، وقیل : للتفصیل ، أی : بعض الناس یجزرهم کذا وبعضهم کذا ، وأمّا الآیه الثانیه ف (أو) تنبّه علی تحریم هذه الأشیاء وإنّ اختلفت مواضعها أو علی حلّ المستثنی وإن اختلفت مواضعه ، وهذا کما ذکرنا فی دلاله (أو) علی تفریق الأشیاء علی الأزمنه ، وأمّا البیت فالمحفوظ فیه : (أم أنت) ، ولو قدّر صحّه ما رووا فهی علی الشکّ أی صورتها أو أنت أملح من غیرکما ؛ ولهذا کقولهم : الحسن والحسین أفضل أم ابن الحنفیه.

فصل : و (إمّأ) ک (أو) فی الشک والتخییر والإباحه ، إلا أنّها أثبت منها فی الشکّ لأنّک تبتدیء بها شاکّا و (أو) یاتی الشکّ بها بعد لفظ الیقین.

فصل : وقد زعم قوم أنّها مرکّبه من (إن) الشرطیه و (ما) النافیه ؛ لأن المعنی فی قولک : قام إمّا زید وإما عمرو ، وإن لم یکن قام زید فقد قام عمرو وهذا تعسّف لا حاجه إلیه ؛ لأن وضعها مفرده أقرب من دعوی الترکیب ، ولیست (إمّا) من حروف العطف أمّا الأولی فلیس قبلها ما یعطف علیه ، وأمّا الثانیه فیلزمها الواو وهی العاطفه.

ص: 281

فصل : وأمّا (لا) فتثبت الفعل للأوّل دون الثانی ، ولا یحسن إظهار العامل بعدها لئلّا یلتبس بالدعاء ، ألا تری أنّک لو قلت : قام زید لا قام عمرو ، لأشبه الدعاء علیه.

فصل : وإذا عطفت بالواو وزدت معها : (لا) أفادت المنع من الجمیع کقولک : والله لا کلّمت زیدا ولا عمرا ، ولو حذفتها جاز أن تکّلم أحدهما ؛ لأن الواو للجمع وإعاده (لا) کإعاده الفعل فیصیر الکلام بها جملتین.

فصل : وأمّا (بل) فتشرک بها فی الإعراب وتضرب بها عن الأوّل نفیا کان أو إثباتا کقولک : ما قام زید بل عمرو وقام زید بل عمرو ، ومن هنا استعملت فی الغلط ، وقد جاءت للخروج من قصّه إلی قصه کقوله تعالی : (أَتَأْتُونَ الذُّکْرانَ مِنَ الْعالَمِینَ) ثمّ قال : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) [الشعراء : 165 - 166] ، وقیل : ههنا لا تدلّ علی أنّ الأوّل لم یکن بل دلّت علی الانتقال من حدیث إلی حدیث آخر ، وهذا کما یذکر الشاعر معانی ثمّ یقول : فعد عن ذلک ، أو : فدع ذا.

فصل : وأمّا : (لکن) فللاستدراک مشدّده کانت أو مخففه ولیست للغلط إلا أنّها فی العطف مخفّفه البتّه وما بعدها مخالف لما قبلها ؛ لأن ذلک هو معنی الاستدراک ؛ ولهذا کان الاستثناء المنقطع مقدرا ب (لکن) ، وإذا کانت معها (الواو) فالعطف بها لا ب (لکن) فالاستدراک لازم والعطف عارض فیها.

فصل : ولا یعطف بها إلا بعد النفی وذهب الکوفّیون إلی العطف بها بعد الإثبات.

وحجّه الأوّلین : أنّ الاستدراک لازم لها والاستدراک لا یکون إلا المختلفین ؛ فإذا کان الأوّل نفیا کان الثانی إثباتا فیصح أن یقدر العامل بعدها کقولک : ما قام زید لکن عمرو ، أی : لکن قام عمرو ولا یصح ذلک بعد الإثبات کقولک : قام زید لکن عمرو ، لأنک إن قدرت لکن قام عمرو ، ولم یکن الثانی مخالفا للأوّل وإن قدرت لکن ما قام عمرو لم یصح لأنّک قدرت مع العامل ما لیس بعامل ، وحرف العطف إنّما ینوب عن العامل فقط ویدل علی ذلک أنّک لو قلت : قام زید لکن عمرو لم یقم ، کان جائزا فظهور النفی والفعل بعد الاسم دلیل علی أنّه لم یکن مقدرا بعد لکن.

ص: 282

واحتّج الآخرون بأن (لکن) ک (بل) فی المعنی فکانت مثلها فی العطف وهذا باطل لوجهین :

أحدهما : ما ذکرنا من اختلافهما فی المعنی.

والثانی : أنّهما لو استویا فی العطف لأدّی إلی الاشتراک ، والأصل أن ینفرد کل حرف بحکم ، وقد ذکرنا ما یبین به الفرق بین الحرفین فی الفصل قبله.

فصل : وأمّا (أم) (1) فیعطف بها متصله ومنقطعه فالمتّصله هی المعادله لحرف الاستفهام. ویقدّر الکلام فیها ب (أیّهما) کقولک : أزید عندک أم عمرو ، أی : أیّهما عندک ، فإن کان بعد (أم) جمله تامه مخالفه للأولی کانت منقطعه کقولک : أزید عندک أم عمرو فی الدار ؛ لأن (أیّا) لا تقع ههنا ، وسببه أنّ (أیهما) اسم مفرد فالخبر عنه واحد ؛ فإذا اختلف الخبران لم یستند إلی أیّهما.

فصل : فإن کان مکان الهمزه (هل) کانت (أم) منقطعه کقولک : هل زید عندک أم عمرو ؛ لأن (هل) لا تستعمل فی الإثبات توبیخا بخلاف الهمزه ، ألا تری إلی قول الراجز (2) : [الرجز]

أطربا وأنت قنّسری

ولو قلت : هل تطرب وأنت شیخ؟! علی التوبیخ لم یجز ، وکذلک لا تستعمل.

(هل) فی التسویه ، والهمزه تستعمل فیها ، فلما کانت الهمزه أوسع تصرفا خصّت (أم) بمعادلتها.

فصل : وقد تأتی (أم) بمعنی : (بل والهمزه) ، وذلک بعد الخبر والاستفهام ، فمن الخبر : إنها لإبل أم شاء ، وذلک أنّه رأی شیئا من بعید فظنه إبلا ثم بان خلاف ذلک ، فاستفهم بعد

ص: 283

فرجع عن الأوّل ف (أم) جمعت الإضراب والاستفهام وتقول فی الاستفهام : هل زید عندک؟ أم عمرو فی الدار؟ فهما سؤالان والمتصّله سؤال واحد.

فصل : والفرق بین (أم) المتّصله و (أو) أنّ (أو) لأحد الشیئین و (أم) سؤال عن المشکوک فی عینه ، فمثاله أن تقول : أزید عندک أو عمرو؟ شاکّ فی أصل وجود أحدهما عنده ؛ فإذا قال : نعم ، أثبتّ وجود أحدهما مبهما ؛ فإذا أردت التعیین قلت : أزید عندک أم عمرو؟ فالجواب أن تقول : زید أو عمرو ، ولا تقول : (نعم) ولا : (لا) ، ولو قال فی جواب (أو) : (لا) أو : (نعم) جاز.

فصل : وأمّا (حتّی) (1) فقد تکون بمعنی (الواو) بشروط قد ذکرت فی بابها.

فصل : وحروف العطف غیر عامله ؛ لأنها لو عملت لعملت عملا واحدا ، والواقع بعدها أعمال مختلفه ، ولأنّها غیر مختّصه بالأسماء ولا بالأفعال فعلم أنّها نائبه عن ذکر العامل لا نائبه عنه فی العمل.

فصل : ولا یعطف علی الضمیر المرفوع المتصل حتّی یؤکد ، وقال الکوفّیون : یجوز من غیر توکید.

حجّه الأوّلین : أنّ الضمیر إن کان مستترا لم یعطف علیه ؛ لأن العطف من أحکام الألفاظ لا المعانی ، وإن کان ملفوظا به فهو فی حکم جزء من الفعل بدلیل أنّ الفعل یسکن له وأدله أخری قد ذکرناها فی باب الفاعل فالعطف علیه کالعطف علی بعض الکلمه فإذا أکّد قوی.

واحتج الآخرون بقوله تعالی : (ما أَشْرَکْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : 148] وبقول الشاعر (2) : [الخفیف]

ص: 284

قلت إذ أقبلت وزهر تهادی

کنعاج الملا تعسّفن رملا

وبأنّ العطف کالتوکید والبدل.

والجواب : أمّا الآیه فإنّ (لا) سد فیها مسدّ التوکید ، وأمّا البیت فقیل : (الواو) واو الحال و (زهر) مبتدأ ، وقیل : هو شاذّ لا یقاس ، وأمّا التوکید والبدل فهما المضمر فی المعنی بخلاف المعطوف.

فصل : ولا یعطف علی المضمر المجرور إلا بإعاده الجارّ ، وأجازه الکوفّیون من غیر إعاده ، وحجّه الأوّلین من ثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ الضمیر المجرور مع الجارّ کشیء واحد ؛ ولذلک لم یکن إلا متصّلا فالعطف علیه کالعطف علی بعض الکلمه.

والثانی : أنّ المعطوف لو کان مضمرا لم یکن بدّ من إعاده الجرّ ، فکذلک إذا کان معطوفا علیه.

والثالث : أنّ الضمیر کالتنوین مع الإضافه وأنّه علی حرف واحد کما لا یعطف علی التنوین کذلک الضمیر.

واحتّج الآخرون بقوله تعالی : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِی تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : 1] علی قراءه الجرّ وبأبیات أنشدوها أمّا الآیه فقراءه الجرّ فیها ضعیفه والقارئ بها کوفیّ تنبیها علی أصولهم ، وقیل : هی واو القسم وجواب القسم ما بعدها ، وقیل : أراد إعاده (الباء) فحذفها ، وأمّا الأبیات فمنها ما لا یثبت فی الروایه ، وما یثبت منها فهو شاذّ وبعضها یمکن إعاده الجارّ معه وله نظیر نذکره من بعد.

ص: 285

مسأله : ولا یجوز العطف علی عاملین ، وأجازه الأخفش وصورته : ما زید بذاهب ولا قائم عمرو ، ف (قائم) معطوف علی المجرور ، و (عمرو) معطوف علی المرفوع ، ولا یجیزه الأخفش إلا إذا ولی المجرور المجرور وتأخر المرفوع کقولک : زید فی الدار والسوق وعمرو.

وحجّه الأولین من وجهین :

أحدهما : أنّ حرف العطف نائب عن العامل ، ولیس من قوته أن ینوب عن اثنین فلذلک لا یصحّ إظهارهما بعده.

والثانی : أنه لو جاز العطف علی عاملین لجاز علی أکثر ولجاز أن یتقدم المرفوع علی المجرور کقولک : زید فی الدار وعمرو السوق أنّه واحتج الآخرون بقوله تعالی : (وَاخْتِلافِ اللَّیْلِ وَالنَّهارِ) إلی قوله : (آیاتٌ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ) [الجاثیه : 5] ف (اختلاف) بالجرّ معطوف علی : (خَلَقَکُمْ) و (آیات) الثالثه معطوفه علی (آیات) الأولی المنصوبه ب (إنّ) وبقول الشاعر (1) : [المتقارب]

هوّن علیک فإنّ الأمور

بکفّ الإله مقادیرها

فلیس بآتیک منهیّها

ولا قاصر عنک مأمورها

ف (قاصر) معطوف علی (آتیک) ، و (مأمورها) علی (منهیّهّها).

وقال آخر : [المتقارب]

أکلّ امریء تحسبین امرءا

ونار توقّد فی الحرب نارا

والجواب : أمّا الآیه فلا حجّه فیها ؛ لأن الآیات ذکرت توکیدا رفعت أو نصبت لتقدّم ذکرها ، وأمّا البیت فیروی بالرفع علی أنّه خبر مقدّم وبالنصب عطفا علی موضع خبر لیس وبالجرّ علی غیر ما احتّج به ، وبیانه أنّ (مأمورها) مرفوع ب (قاصر) ؛ لأنه من سبب اسم : (لیس) فلا یکون عطفا علی عاملین.

فإن قیل : من شروط ذلک أن یکون الضمیر هو اسم لیس لیکون من سببه ، والضمیر فی (مأمورها) للأمور لا للمنهی؟

ص: 286

قلنا : بل هی للمنهی ؛ لأن المنهی أمر من جمله الأمور وأنّث الضمیر ؛ لأن المنهیّ مضاف إلی مؤنّث فجوز تأنیث ضمیره کما قالوا : ذهبت بعض أصابعه ، وکما قال تعالی : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : 160] والتقدیر : ولا یقصر عنک مأمور المنهیّات والإضافه للتمییز ؛ لأن فی المنهیات مأمورا علی هذا المعنی حمله سیبویه ، وأمّا البیت الآخر فالتقدیر فیه : (وکلّ نار) فحذفه لتقدّم ذکره.

ص: 287

فصل : اسم الفاعل (1) المعمل عمل الفعل تجوز إضافته فیجرّ ما بعده ، والتنوین فیه مراد ، وحذف تخفیفا فإنّ ثنّی أو جمع حذف منه النون وأضیف لا غیر إنّ لم یکن فیه ألف ولام ، وإن نونت نصبت به لا غیر ، وکذا إذا أثبت النون فإن کان فیه ألف ولام وهو مفرد لم تضفه إلا لمّا فیها ألف واللام علی ما نبیّنه ، وإن کان مثنّی أو مجموعا جاز أن تحذف النون وتضیف کقولک : هذان الضاربا زید ، ویجوز أن تنصب ویکون حذف النون تخفیفا لطوله بالألف واللام فان أثبتّ النون لم تکن فیه الإضافه.

فصل : وقد حمل قولهم : هذا الضارب الرجل علی الحسن الوجه فی الجمع بین الألف واللام والإضافه ؛ لأن الإضافه لم تعرف فیهما والجیّد النصب ؛ لأن الألف واللام تمنع الإضافه.

ص: 289

فإن قلت : هذا الضارب زیدا لم تجز الإضافه ؛ لأن القیاس ترک الإضافه فی الجمیع إلا أنّها جازت إذا کان فی الثانی ألف ولام حملا علی باب الحسن الوجه فیجری غیره علی القیاس.

فصل : وإنّما یعمل اسم الفاعل وما حمل علیه عمل الفعل إذا اعتمد علی شیء قبله مثل أن یکون خبرا أو حالا أو صفه أو صله أو کان معه حرف النفی أو الاستفهام ؛ لأنه ضعیف فی العمل لکونه فرعا فقوی بالإعتماد ، وقال الأخفش وطائفه معه : یعمل وإن لم یعتمد لقوّه شبهه بالفعل.

فصل : ویعمل فعّال وفعول ومفعال عمل اسم الفاعل ؛ لأن ما فیها من المبالغه وزیاده الحرف جبر لما دخلها من النقص عن اسم الفاعل فی جریانه علی الفعل ومن الکوفیّین من منع إعمال ذلک وهو مذهب مخالف لنصوص العرب فقد قال الشاعر (1) : [الطویل]

ضروب بنصل السیف سوق سمانها

إذا عدموا زادا فإنّک عاقر

وقال آخر : [الطویل]

فیال رزام رشّحوا بی مقدّما

إلی الموت خوّاضا إلیه الکتائبا

فصل : فأمّا (فعل وفعیل) فیعملان عند سیبویه للمعنی الذی ذکرنا ، وقال الشاعر :

[الکامل]

حذر أمورا لا تضیر وآمن

ما لیس ینجیه من الأقدار

فصل : و (فعل وفواعل) جمعا یعملان عمل المفرد لما بینهما من المشابهه ، قال طرفه : [الرمل]

ثمّ زادوا أنّهم فی قومهم

غفر ذنبهم غیر فجر

والعرب تقول : (هؤلاء حواجّ بیت الله) بالنصب علی الإعمال وبالجرّ علی الإضافه.

ص: 290

أمن دمنتین عّرس الرکب فیهما

بحقل الرّخامی قد عفا طللاهما

أقامت علی ربعیهما جارتا صفا

کمیتا الأعالی جونتا مصطلاهما

ف (جونتا) صفه ل (جارتا) والضمیر المثّنی لهما.

ومن حجه من خالفه : أنّ ذلک یفضی إلی إضافه الشیء إلی نفسه ، وتأوّلوا البیت علی أنّ الضمیر للأعالی وهو خلاف الظاهر ، فإنّ حمل التثنیه علی الجمع لیس بقیاس ، ولیست الإضافه هنا من إضافه الشیء إلی نفسه ؛ لأن (الحسن) للوجه و (الهاء) لیست للوجه ، وإنّما حصّلت التعریف کما تحصله الألف واللام.

والوجه الرابع : (مررت برجل حسن الوجه) بالإضافه.

والخامس : (الوجه) بالنصب علی التشبیه بالمفعول أو التمییز.

والسادس : (الوجه) بالرفع وفیه ثلاث مذاهب :

أ - أحدها : أنّه فاعل والعائد محذوف تقدیره : مررت برجل حسن الوجه منه فحذف للعلم به کما قال تعالی : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَی النَّفْسَ عَنِ الْهَوی (40) فَإِنَّ الْجَنَّهَ هِیَ الْمَأْوی) [النازعات : 41] أی : هی المأوی له ومثله حذف العائد فی الصله وأشباهها.

ب - والثانی : أنّ فی (حسن) ضمیر فاعل ، و (الوجه) بدل منه ، وجاز ذلک لما کان الوجه جزءا من الرجل ، والرجل مشتمل علیه ولا حذف علی هذا الوجه.

ت - والثالث : أنّ الألف واللام بدل من الهاء ، وهو قول الفرّاء ، وهو فی غایه الضعف لوجهین :

أحدهما : أنّ البدل ما کان فی معنی الأصل ، والهاء تعرّف بالإضافه والألف واللام تعرّف بالعهد وهما مختلفان.

والثانی : أنّهما لو کانا بدلا من الهاء هنا لکانا کذلک فی غیره ، ولیس کذلک ألا تری أنّک لو قلت : زید الغلام حسن ، وأنت ترید غلامه لم یجز.

ص: 292

ومن المفعول قول الآخر (1) :

ودعوا نزال فکنت أوّل نازل

وعلام أرکبه إذا لم أنزل

ومنها أنّ الألف واللام دخلتا علی بعضها کقولهم : النجاء بمعنی أنج.

فصل : وفائده وضع هذه الأشیاء من وجهین :

أحدهما : أنّه أبلغ فی المعنی من الألفاظ التی نابت عنها.

والثانی : الاختصار ، فإنّه لا یظهر فیها علم التثنیه والجمع والتأنیث إذ کانت اسما والامر یظهر فیه ذلک.

فصل : ومعظم هذه الأسماء تنوب عن الأمر للمخاطب ، وإنّما کان ذلک لوجهین ؛ أحدهما : أنّ المخاطب یتنبّه للمراد منه بالإشاره وما هو أخفی منها ؛ فإذا لم یکن اللفظ صریحا فی الدلاله علی المعنی کهذه الأسماء خص بها المخاطب لیقوی بالمواجهه.

والوجه السابع : أنّ یکون فی الصفه الألف واللام کقولک : مررت بالرجل الحسن ، فإن کان (الوجه) بعدها فیه الألف واللام ففیه الرفع والنصب والجرّ علی ما تقدّم ، وإن کان (وجهه) بالهاء ففیه الرفع والنصب علی ما تقدّم ، وأمّا الجرّ فممتنع ؛ لأن الإضافه مع الألف واللام فی الأوّل لا تکون إلا إذا کان فی المضاف إلیه الألف واللام لما بینهما من المشابهه وهنا التعریفان مختلفان ، وقد وقع فی هذا الوجه خمسه أوجه جائزه وواحد ممتنع ، فإمّا أن یکون الوجه نکره والصفه نکره فالأوجه الثلاثه جائزه ؛ لأنه قد علم أنّه لا یرید إلا وجه الممرور به وإن کان فی الصفه الألف واللام فالرفع والنصب جائزان والجرّ ممتنع لما تقدم ، فإذن جمله الوجوه الجائزه سته عشر واثنان ممتنعان.

فصل : وأمّأ (أفعل منک) بعد اسم الفاعل فإنّه لا یثنّی ولا یجمع ولا یؤنّث ، فعند ذلک تقول : (مررت برجل أفضل منه أبوه) فترفع علی أنّه خبر متقدّم ، ومثله : (مررت برجل خیر منه أبوه وشرّ منه غلامه) ؛ لأن أصل خیر وشرّ : (أخیر وأشرر) ومن العرب من یعمل أفعل ؛ لأنه وصف مشتقّ.

ص: 293

فصل : فأمّا ما عمله فی المضمر فجائز ؛ لأن مضمره لیس بلفظ بل هو النیّه فإمّا یقع موقع المضمر فقولهم : ما رأیت رجلا أحسن فی عینیه الکحل منه فی عین زید ، فالکحل مرفوع ب (أحسن) وجاز ذلک لما کان المعنی أحسن هو ؛ لأن الذی یحسن بالکحل الرجل لا الکحل ، ومنه الحدیث المرفوع : «ما من أیّام أحبّ إلی الله فیها الصوم من عشر ذی الحجّه» (1).

فصل : وإذا صغّر المصدر لم یعمل لوجهین :

أحدهما : أنّ التصغیر کالوصف.

والثانی : أنّه یبعد من شبه الفعل ؛ إذ الأفعال لا تصغّر ولا عبره بتصغیر فعل التعجب لما نذکره هناک.

فصل : فإن وصف المصدر قبل المعمول لم یعمل ؛ لأن الوصف یبعده من الفعل ؛ لأن الفعل لا یوصف ، ولأنّ الوصف یفصل بین الموصول وصلته والمصدر موصول ومعموله من صلته.

فصل : وأقوی المصادر عملا المنوّن ؛ لأنه أشبه بالفعل إذ کان نکره وإن الفعل لا یضاف ثّم یلیه المضاف ؛ لأن الإضافه فی حکم الأسماء ، وقد لا تعرفّ إذا حذف.

ص: 294

عرّفت کان التعریف ساریا من الثانی إلی الأوّل بعد أن مضی لفظه علی لفظ النکره بخلاف الألف واللام ، ثم ما فیه الألف واللام وعمله ضعیف ؛ لأن الألف واللام أداه زائده فی أوّله تنقله من التنکیر إلی التعریف فی أوّل أحواله ومع ذلک فعمله جائز ؛ لأن الشبه فیه باق وهو قلیل فی الاستعمال ، ولم یأت فی القرآن منه معمل فی غیر الظرف فیما علمنا وإن جاء معملا فی الظرف کقوله تعالی : (لا یُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) [النساء : 148] فأمّا قول الشاعر : [المتقارب]

ضعیف النکایه أعداءه

یخال الفرار یراخی الأجل

فتقدیره : (ضعیف النکایه فی أعدائه) فلمّا حذف حرف الجر وصل المصدر ، وقیل : لا یحتاج إلی حرف یعدّیه فأمّا قول الشاعر (1) : [الطویل]

لقد علمت أولی المغیره أنّنی

کررت فلم أنکل عن الضّرب مسمعا

ف (مسمعا) منصوب ب (الضرب) ، وقیل : منصوب ب (کررت) وحرف الجرّ محذوف والأوّل أقوی ؛ لأن المصدر أقرب إلیه وهو معتد بنفسه ، ویروی : (لحقت) وهو الناصب فی أقوی الوجهین ؛ لأن الفعل وإن تقدّم فهو أقوی من المصدر ولا سیما مع الألف واللام.

فصل : ولا یتقدّم معمول المصدر علیه ولا یفصل بینهما بخبر ولا صفه ولا أجنبی بحال ؛ لأنه موصول.

ص: 296

فصل : والمصدر لا یتحمل الضمیر لأنه اسم جامد فهو ک (زید والغلام) ، وإنّما یحذف الفاعل معه حذفا کقوله تعالی : (أَوْ إِطْعامٌ فِی یَوْمٍ ذِی مَسْغَبَهٍ (14) یَتِیماً) [البلد : 14 - 15] ف (إطعام) خبر مبتدأ محذوف ، والفاعل محذوف ، أی إطعام هو ، وهو المذکور فی قوله تعالی : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِی أَحْسَنِ تَقْوِیمٍ) [التین : 4] وأجاز قوم أن یتحمّل الضمیر کما تحمله الصفه المشبّهه وکالظرف ؛ لأنه یعمل فی الظاهر فیعمل فی المضمر وهذا ضعیف ؛ لأن تلک الأشیاء یوصف بها وتکون أحوالا فجرت مجری الفعل.

فصل : والمصدر یضاف إلی الفاعل ؛ لأنه غیره بخلاف اسم الفاعل ؛ لأنه هو الفاعل فی المعنی ویضاف إلی المفعول ؛ لأنه کالفاعل فی تحقّق الفعل به ، ویجوز أن یقدّر المصدر بفعل لم یسّم فاعله کقولک : عجبت من ضرب زید ، أی : من أن یضرب.

فصل : وإذا عطفت علی المضاف إلی المصدر جاز أن تجرّ المعطوف حملا علی اللفظ وأنّ تنصبه أو ترفعه حملا علی الموضع ، وکذلک الوصف.

ص: 297

وإنّما ساغ ذلک لتقدم الخطاب ، وقد حکی عن بعض العرب أنّه قال : علیه رجلا لیسی یرید لیطلب رجلا غیری ، والأصل : لیس إیّای فحصل فی الحکایه شذوذ من وجهین ، وحکی عن بعضهم أنّه قیل له : إلیک ، فقال : إلیّ أی ، قیل له : تنحّ ، فقال : اتنحی وهذا خبر.

فصل : وهذه الأسماء فی لزومها وتعدیها علی حسب ما نابت عنه ف (صه) و (مه) و (واها) لازمه ؛ لأن (صه) ناب عن اسکت. (ومه) عن (اکفف). و (واها) عن (اتعجب).

ومنها ما یتعدی بحرف الجر کقولک : (علیک بالرفق) کأنک قلت : تخلّق به.

ومنها ما یتعدی بنفسه کقولک : (تراک زیدا ومناعه) أی : اترکه وأمنعه.

فصل : وأمّا ما جاء منها خبرا فهو : (شتان) وهو اسم ل (افترق) ولا یکون فاعله إلا اثنین کقولک : شتّان زید وعمرو ، أی : افترقا حملا علی أصله ، وقد تزاد معه : (ما) کما قال الشاعر (1) : [السریع]

شتّان ما یومی علی کورها

ویوم حیّان أخی جابر

فأمّا قول العامّه : شتان بین فلان وفلان فخطأ لعدم الفاعلین ، والحکم بزیاده (بین) هنا خطأ ؛ لأنها لم تزد فی شیء من الکلام أصلا ، وإنّما تکرّر فی بعض المواضع توکیدا ، ولأنّها لو کانت زائده هنا لم یبق لشتان فاعل إذ کان ما بعدها مجرورا لا فی موضع المرفوع ، إذ کانت (بین) لم تزد للتوکید کما فی قولک : ما جاءنی من رجل ، فأمّا (شتّان ما بین زید وعمرو) فأجازه الأصمعی ومنعه غیره.

فصل : وأمّا (هیهات) فبمعنی : (بعد) ومنه :

هیهات منزلنا بنعف سویقه

أی : بعد فأمّا قوله تعالی : (هَیْهاتَ هَیْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) [المؤمنون : 36] فقیل : اللام زائده ، و (ما) الفاعل ، وقیل : لیست زائده والفاعل مضمر ، والتقدیر : بعد التصدیق لما توعدون.

فصل : وأمّا (روید) فتستعمل مصدرا کقولک : (روید زید) أی : إمهال زید ، ومنه قوله :

(فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : 4] وتکون صفه کقولک : ضعه وضعا رویدا ، وهی معربه فیهما

ص: 299

وتکون اسما للفعل کقولک : روید زیدا أی أمهل زیدا ، وهی ههنا مبنیّه ، وهی تصغیر إرواد علی حذف الزوائد ؛ لأن الفعل منه : أرود إروادا.

فصل : وأمّا (بله) فیکون مصدرا بمعنی غیر فیجرّ ما بعده ویکون اسما ل (دع) فینصب ما بعده (1).

فصل : وأمّا ألفاظ الإغراء (2) فالمتّفق علیه منها عندک ودونک ووراءک ومن حروف الجرّ علیک وإلیک ، فعند الأکثرین أنّه یقتصر علی المسموع منها ؛ لأن القیاس فی ذلک ابتداء وضع لغه وقاس علیها قوم فأمّا عندک زیدا فمعناه خذه فی أیّ نواحیک کان ودونک خذه من قرب وعلیک بمعنی الزمه وإلیک تنحّ.

فصل : ومعنی الإغراء الإلصاق والحثّ حذرا من الفوات ، وأمّا التحذیر فیشبه الإغراء ولیس به ؛ لأن قولک : الأسد الأسد یدلّ علی شدّه طلبک فراره من الأسد ، وقولک : علیک زیدا یدلّ علی شدّه طلبک أخذ زید ففی هذا التحذیر من فواته وفی الأوّل التحذیر من قربانه.

ص: 300

فصل : والکاف المتّصله ب (رویدک) المبنیّه حرف للخطاب لا اسم والدلیل علی ذلک أنّها لو کانت اسما لکانت إمّا مرفوعه أو منصوبه أو مجروره فالرفع ممتنع لوجهین :

أحدهما : أنّ الکاف لیست من الضمائر المرفوعه.

والثانی : أنّه لا رافع للکاف هنا ؛ لأن المرفوع هنا ضمیر لا یظهر.

والنصب باطل ؛ لأن هذا الاسم یتعدی إلی مفعول واحد وهو زید والکاف للمخاطب فلیس زیدا بل غیره.

والجر باطل أیضا ؛ لأن الجرّ یکون بالحرف ولیست روید حرفا أو بالإضافه وهذه الأسماء لا تضاف ولأنّها تثبت مع الألف واللام فی النجاءک.

فأمّا الکاف فی عندک وغیرها من الظروف وعلیک وغیرها من الحروف فذکر الجماعه کالسیرافیّ وعبد القاهر وغیرهما أنّها اسم فی موضع جرّ ؛ لأن هذه أسماء لا تستعمل إلّا مضافه وکذلک حرف الجرّ لا یدخل إلّا علی اسم فلذلک قضی بکون الکاف اسما.

وقال ابن بابشاذ فی شرح الجمل : هی حرف للخطاب کالکاف فی رویدک.

فصل : وأسماء فعل الأمر لا یتقدّم معمولها علیها عند البصریّین لقصورها عن الفعل ، وأنّها غیر مشتقّه منه وأجازه الکوفیّون واحتجّوا بقوله تعالی : (کِتابَ اللهِ عَلَیْکُمْ) [النساء : 24] وبقول : [الرجز]

یا أیّها الماتح دلوی دونکا

إنی رأیت الناس یحمدونکا

والجواب عن الآیه من وجهین :

أحدهما : أنّ کتابا منصوب علی المصدر وحرمت یدلّ علی تقدیر کتبت ذلک علیکم کتابا وعلیکم المذکوره فی الآیه تتعلّق بالفعل المقدّر.

والثانی : أنّه منصوب بفعل محذوف تقدیره : الزموا کتاب الله ، وعلیکم متعلّق ب (کتاب) أو حال منه.

وأمّا البیت ف (دلوی) مرفوع بالابتداء وما بعده الخبر نبّهه بذلک علی الاهتمام به ویجوز أن یکون منصوبا علی تقدیر خذ وفسّره دونک.

ص: 301

فصل : وکذلک الأمر والنهی کقولک : زیدا أضربه وعمرا لا تشتمه ؛ لأنّهما غیر خبر والمبتدأ یخبر عنه بما یحتمل الصدق والکذب إلّا أن یعرض الاستفهام ، وإذا نصبت کان التقدیر : اضرب زیدا ، وعلیه المعنی (1).

فصل : وأمّا النفی فإن کان بما قدّمته کقولک : ما ضربت زیدا أو ما زیدا ضربت أو ضربته ، ولا تقول : زیدا ما ضربته ، وإن کانت لا أو لم لم یلزم التقدیم تقول زیدا لا اضربه ولم أضربه والفرق بینهما من وجهین :

أحدهما : أنّ ما أمّ باب النفی فأقرّت فی موضعها.

والثانی : أنّ ما غیر عامله فی الفعل ولم عامله ولا قد تعمل فیه فی النهی فکان جعلها إلی جنب ما تعمل فیه أولی تقول لا زیدا ضربته فتقدّمها وتضمر الفعل لاقتضائه إیّاه.

فصل : وإن الشرطیه کذلک تقول إن زیدا تکرمه أکرمه ؛ لأن الشرط لا معنی له إلّا فی الفعل.

فصل : وکذلک العرض کقولک : ألا زیدا تکرمه لتقاضیه الفعل.

فصل : فأمّا العطف فإذا کان المعطوف علیه اسما قد عمل فیه الفعل فالجیّد نصب المعطوف بفعل محذوف لتتشاکل الجملتان کقولک : قام زید وعمرا کلّمته ولقیت بشرا وخالدا مررت به والرفع فیه جائز.

فصل : وکلّ جمله جعلتها مفسّره للمحذوف فلا موضع لها من الإعراب ؛ لأن المفسّر المحذوف لا موضع له ، وإن استأنفت کان لها موضع.

ص: 305

والمحدث أخصّ من الموجود لخروج القدیم سبحانه منه وعلی هذا المراتب إلی أن یصل إلی المشار إلیه والعلم المختصّ فإنّه أعرف المعارف فإنّه لا یتناول إلا واحدا.

فصل : والمعرفه (1) ما خصّ الواحد بعینه إمّا شخصا من جنس کزید وعمرو.

وإمّا جنسا کأسامه للأسد وابن قتره لضرب من الحیّات وابن أوی ؛ فإنّ هذه الأشیاء أعلام ینتصب عنها الحال.

فصل : والأداه التی تعرف بها النکره من المعرفه ربّ والألف واللام فما حسن دخولها علیه فهو نکره أمّا ربّ فسبب دلالتها علی ما ذکرناه فیها فی حروف الجرّ فأمّا قولهم : ربّه رجلا فالضمیر هنا فی حکم النکره إذا لم یتقدّمه ظاهر یعود علیه وإنّما یفسّر بما بعده ولو لا السماع لما قبل ؛ ولذلک لا یثنّی هذا الضمیر ولا یجمع ولا یؤنّث ، وأمّا اللام فسیأتی ذکرها (2).

ص: 307

فصل : والمعارف خمس الضمائر والأعلام وأسماء الإشاره وما فیه اللام والمضاف إلی واحد من هذه إضافه محضه.

وأمّا الضمیر (1) فبمعنی المضمر کقتیل بمعنی مقتول وأصل الإضمار الستر ومنه قول الأعشی : [المتقارب]

أیا أبتی لا ترم عندنا

فإنّا بخیر إذا لم ترم

ترانا إذا أضمرتک البلاد

نجفی وتقطع منّا الرّحم

فصل : وحدّ المضمر هو الاسم الذی یعود إلی ظاهر قبله لفظا أو تقدیرا والاشتقاق موجود فیه وهو الاستتار ؛ لأن الضمیر لا یدلّ علی المسمّی بنفسه وهو فی نفسه محتمل فالراجع إلیه الضمیر لا یبین من نفس الضمیر بل هو مستور فیه.

فصل : وإنّما جیء بالضمائر للاختصار وإزاله اللبس ، وذلک أنّک لو أعدت لفظ الظاهر لم یعلم أنّ الثانی هو الأوّل ، وفیه أیضا إطاله کقولک : جاءنی زید فقلت له ، ولو قلت : فقلت لزید. لم یعلم أنّ زیدا الثانی هو الأوّل.

فصل : وإنّما کان فی الضمائر المرفوعه والمنصوبه متّصل ومنفصل ؛ لأن المرفوع والمنصوب الظاهرین یتقدّمان علی العامل فیهما ویتأخّران فضمیراهما کذلک فإذا تقدّما انفصلا لحاجتهما إلی القیام بأنفسهما ، وإذا تأخّرا انفصلا لاعتمادهما علی العامل ، وأمّا المجرور فلا یکون إلّا متّصلا لامتناع تقدّمه علی الجارّ.

ص: 308

فصل : وضمیر المتکلّم المنفصل المرفوع أنا والألف بعد النون زائده فی الوقف لبیان الحرکه فی النون ؛ ولذلک تحذف فی الوصل ، وقد جاءت فی الشعر مع الوصل علی إجراء الوصل مجری الوقف وقرأ به نافع فی بعض المواضع ، ومنهم من یبدل من الألف هاء فی الوقف.

فصل : وأمّا نحن فللمخبر عن نفسه وعن غیره ذکرا أو أنثی ویکون فی التثنیه والجمع ، فإن قیل لم لم تفرّق فی ضمیر المتکلّم بین الذکر والأنثی ، قیل : لأن سماع النطق منه یمیزه لمشاهدته وأما جعل نحن فی الجمع والتثنیه بلفظ واحد فلأنّ التثنیه جمع فی المعنی والمتکلّم قد سوّی فیه بین التذکیر والتأنیث وهما صفتان للذات فجاز أن یسوّی فیما یدلّ علی صفتین فی الکمّیّه فإنّ التثنیه والجمع صفتان فی الکمّیّه إحداهما أکثر من الأخری.

فصل : وإنّما حرّکت النون لئلّا یلتقی ساکنان وضمّت النون لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ الصیغه للجمع والواو تدلّ علی الجمع نحو قاموا والزیدون والضمّه من جنسها.

والثانی : أنّ الجمع أقوی من الواحد فحرّک بأقوی الحرکات وهی الضمّه وهذا الضمیر مرفوع الموضع فحرّک بحرکه المرفوع.

فصل : والاسم فی أنت (1) الهمزه والنون وهو أن الذی للمتکلّم وزیدت علیه التاء للخطاب وهی حرف معنی وکان حقّه السکون ولکنّ حرکته من أجل الساکن قبلها وفتحت ؛ لأن الفتحه أخفّ کما فتحت واو العطف ولام الابتداء ونحوهما فإن خاطبت المؤنّث کسرتها للفرق وکانت الکسره أولی لوجهین :

أحدهما : أنّها أخفّ من الضمّه.

والثانی : هی أشبه ب (الیاء) التی هی علامه التأنیث فی تفعلین.

ص: 309

فصل : فإذا جاوزت الواحد جئت ب (المیم) بعد التاء لتدلّ علی مجاوزه الواحد وکانت المیم أولی بالزیاده لشبهها ب (الواو) التی هی حرف مدّ فإن أردت الاثنین زدت علیها ألفا ؛ لأنها تشبه الألف فی قاما وإن أردت جمع المذکر زدت علیها واوا هذا هو الأصل لثلاثه أوجه :

أحدها : أنّها علامه الجمع فی الفعل.

والثانی : أنّ المؤنّث یزاد علیه فی الجمع حرفان نحو أنتن والمذکّر أولی والنون تشبه الواو والمیم لما فیها من الغنّه.

والثالث : أنّک تظهر الواو بعد المیم مع الضمیر نحو : أعطیتکموه والضمائر تردّ الأصول ، وأمّا من حذف من العرب فللتّخفیف وأمن اللبس.

فصل : واستوی المذکّر والمؤنّث فی أنتما کما یستویان فی المظهر نحو : الزیدان والهندان ؛ لأن العدّه متّحده والکلمه لا تحتمل علامتین لمعنیین.

فصل : هو بکماله اسم ؛ لأنه ضمیر منفصل فلم یکن علی حرف واحد ولا یقال الواو زائده ؛ لأن الضمیر موضع تخفیف فلا تلیق به زیاده الواو مع ثقلها وحرّکت تقویه للکلمه ولم تضمّ إتباعا لئلا تجتمع الضمّتان والواو وفتحت إذ کانت أخفّ وربّما جاء فی الشعر سکونها وحذفها اضطرارا.

فصل : وتقول فی التثنیه هما وفی الجمع همو وهم علی ما تقدّم والصحیح أنّهما صیغتان مرتجلتان للمعنیین ، وقیل : الأصل هو حذفت الواو لما زیدت علیه المیم تخفیفا.

فصل : والیاء فی هی أصل ک «الواو» فی هو والتثنیه هما والجمع هنّ علی ما تقدّم وربّما جاء فی الشعر هی بسکون الیاء فإن دخلت الفاء والواو واللام علی هی جاز أن تبقی الهاء علی حرکتها وأن تسکن ؛ لأنها أشبهت عضدا وفخدا فخذا.

فصل : والضمیر المنصوب إیّای (1) وإنّما یقع فی ثلاثه مواضع وهی إذا تأخّر عنها الفعل أو إذا عطفت أو إذا وقعت بعد إلا.

ص: 310

فصل : واختلفوا فیها علی أربعه مذاهب ؛ فمذهب سیبویه أنّ إیّا اسم مضمر والیاء والکاف وغیرهما حروف معان والدلیل علی ذلک أنّ حدّ الاسم المضمر موجود فی إیّا ؛ ولذلک لا یتنکّر بحال والیاء والکاف لو کانا اسمین لکانا فی موضع رفع أو نصب ولا عامل لهما هنا أو فی موضع جرّ بالإضافه والاسم المضمر لا یضاف فصارت الکاف هنا کالکاف فی ذاک وأولئک.

وقال الخلیل : کلاهما مضمر إلا أنّ الأوّل أشبه المظهر لکثره حروفه.

وحکی عن بعض العرب أنّه قال : إذا بلغ الرجل الستین ، فإیّاه وإیّا الشوابّ وهذا ضعیف لما تقدّم والحکایه شاذّه لا تقوّی الاحتجاج بها.

وقال الفرّاء : الکاف هو الضمیر وإیّا أتی بها لیعتمد الضمیر علیها إذ الحرف الواحد لا یقوم بنفسه وهذا ضعیف أیضا ؛ لأن إیّا علی أربعه أحرف وتلک عدّه الأسماء المتوسّطه بین الخماسیّه والثلاثیّه فهی أقوی من الأصل الثلاثیّ فیبعد أن یؤتی بها لتقویه ما هو حرف واحد ولا نظیر له.

وقال آخرون : الجمیع اسم واحد وهو بعید أیضا إذ لیس فی الأسماء ما یتغیّر الحرف منه لتغیّر المعانی أمّا الحروف الزائده علی الاسم والفعل فتختلف لاختلاف المعانی.

فصل : والاسم فی رأیته الهاء والواو عند سیبویه ولکنّ حذفت فی الوقف ، وإذا وصلت ب (المیم) نحو : رأیتهم تخفیفا ودلیله أنّ هذا الضمیر هو الضمیر المنفصل فی قولک : هو وقال الزجاج : الاسم هو الهاء وحدها ، واتّفقوا علی أنّ الهاء والألف فی رأیتهما الاسم.

فصل : والتاء فی قمت ضمیر الفاعل وحرّکت لأمرین :

أحدهما : أنّ ضمیر الفاعل من حیث هو فاعل یلزم ذکره فحرّک تنبیها علی قوّته ؛ ولذلک سکّن له آخر الفعل.

والثانی : أنّه لو سکّن لالتبس بتاء التأنیث وإنّما حرّک بالضمّ للمتکلّم ؛ لأن المتکلّم أقوی من المخاطب وفتح فی المخاطب للفرق بینهما وجعلت الکسره للمؤنّث إذ کانت من جنس الیاء.

ص: 311

فصل : وأمّا الکاف فلا تکون مع الفعل ضمیر ، فاعل فلذلک لم تضمّ وفتحت فی المخاطب وکسرت فی المخاطبه.

فصل : والمیم بعد الکاف مثلها بعد التاء فی أنتما وأنتم وهی مضمومه مع المیم بکلّ حال کالتاء سواء وعلّه ذلک من وجهین :

أحدهما : أنّ المیم تشبه الواو فتحرّک بما هو مجانس للواو ویقوّی ذلک أنّ قبلها ضمّه التاء التی هی ضمیر غیر أنّ هذا لا یصلح للدلاله ابتداء ، ألا تری أنّ الکاف قد ضمّت بعد الساکن نحو : أراکم وأعطیکم وضربتکم ، ولکن یصلح للترجیح.

والوجه الثانی : أنّها لو فتحت لالتبس فی التثنیه کقولک : رأیتکما وکذلک أنتما لو فتحت التاء لاشتبهت بانتماء ولأنّ التاء هنا فی مجاوره الواحد فضمّت کنون نحن ومن العرب من یکسر الکاف قبل میم الجمع إذا کانت قبلها کسره کقولک : عجبت من حلمکم شبها بالهاء.

فصل : ویاء المتکلّم بعد الفعل والحرف هی الاسم والنون قبلها حرف أتی به لیقی ما قبلها من الکسر نحو : کلّمنی ومنّی ، وذلک أنّ الیاء معتدّه بکسرتین فیجعل ما قبلها تبعا لها للتجانس فالاسم یصحّ کسر آخره ولا یصحّ ذلک فی الفعل ؛ لأنه لمّا نبا عن قبول الکسره الإعرابیّه الواجبه بعامل فأن ینبو عن التابعه أولی (1).

وأمّا الحرف فلا حظّ له من الحرکه وتسمّی نون الوقایه والکوفیّون یسمّونها عمادا.

فصل : وإنّما لا یؤتی بالضمیر المنفصل مع القدره علی المتّصل ؛ لأن علّه الإتیان بالضمیر الاختصار والمتّصل أخصر وجاء فی الشعر للضروره.

فصل : والاسم العلم هو الموضوع علی المسمّی تمییزا له لا لدلالته علیه اشتقاقا ؛ ولذلک یجوز أن یسمّی الأبیض حقیقه أسود ویسمّی الإنسان زیدا لا لزیادته ، وعبّاسا لا لعبوسه بل

ص: 312

للتمییز کما ذکرنا ، وإنّما یثبت أنّه علم یعرف به بعد المسمّی غیره بالتسمیه وحکم الکنی والألقاب حکم الأعلام فی المقصود بها.

فصل : والفرق بین العلم والکنیه واللقب أنّ العلم هو الذی یعرّف المسمّی وضعا مبتدأ حتّی یصیر کعلم الثوب.

والکنیه من کنیت عن الشیء إذا عبّرت عن اسمه باسم آخر فالعلم سابق علی الکنیه ، وقد توضع الکنیه موضع العلم.

وأمّا اللقب فأن یحدث للمسمّی قصّه فیلقّب بما تضمّنته القصّه ک أنف الناقه وعائد الکلب فأنف الناقه رجل تصدّق بأنف ناقه فعیّب به وعائد الکلب لقب لقّب به شاعر (1) قال : [الکامل]

ما لی مرضت فلم یعدنی عائد

منکم ویمرض کلبکم فأعود

فصل : واسم الإشاره للمذکّر ذا وقال الکوفیّون الاسم الذال وحدها والألف زائده للتکثیر.

وحجّه الأوّلین من وجهین :

أحدهما : أنّ اسم الإشاره منفصل فی حکم الظاهر ولیس فی الأسماء الظاهره القائمه بنفسها ما هو. علی حرف واحد ولا القیاس یقتضیه ؛ لأن القیاس یقتضی أن یبدأ بحرف ویوقف علی آخر ومن الناس من جعل ذا اسما ظاهرا ؛ لأنه یوصف ویوصف به.

والثانی : أنّهم قالوا فی تصغیره ذیّا فأعادوه إلی أصله إذ هذا شأن التصغیر وسیتّضح لک فی بابه.

فإن قیل : فقد یزاد فی المصغّر ما لیس منه کما لو سمّیت ب (هل) ، وقد ثمّ صغرته فإنّک تزید علیه حرفا آخر؟

قیل : دعت الحاجه بعد التسمیه إلی تکمیله فی التصغیر ولم یقم الدلیل هنا علی زیاده الألف قبل التصغیر لیقال الزیاده مختصّه بالتصغیر.

واحتجّ الآخرون بأنّ تثنیه ذا ذان والألف والنون للتثنیه فلم یبق سوی الذال.

ص: 313

والجواب عنه من ثلاثه أوجه :

أحدها : أنّ ذان لیس بتثنیه ذا بل صیغه موضوعه للتثنیه بدلیل أنّه لا یتنکّر کما یتنکّر زید إذا ثنّی فعلم أنّه بمنزله أنتما فی أنّه غیر مثنّی.

والثانی : یقدّر أنّه مثنی ولکنّ الألف سقطت لالتقاء الساکنین ولم تقلب لإیغالها فی البناء.

والثالث : أنّه قد عوّض من الذاهب بتشدید النون فکأنّه لم یذهب.

فصل : الأصل فی ذا ذیّ العین واللام یاءان إلّا أن الثانیه قد حذفت لیصیر الاسم مبهما وأبدلت الأولی ألفا لئلّا تشبه کی.

وقال بعض البصریّین : أصل الألف واو متحرّکه ؛ لأن باب طویت وشویت أکثر من باب حییت ثمّ حذفت اللام وانقلبت الواو ألفا.

فصل : وحکم تا فی المؤنّث حکم ذا فی المذکّر إلأّ أنّ المؤنّث یقال فیه تا وتی وذی وذه فتبدل الهاء من الیاء فأمّا أولاء فجمع المذکّر والمؤنّث من غیر لفظه وفیه المدّ والقصر والکاف حرف للخطاب بلا خلاف.

فصل : وأمّا اللام فی ذلک ففی زیادتها وجهان :

أحدهما : هی لبعد المشار إلیه.

والثانی : هی عوض من ها التی للتنبیه ؛ ولذلک تقول هذاک ولا تقول هذلک لئلّا تجمع بین العوض والمعوّض وحرّکت لئلّا یلتقی ساکنان وکسرت لأمرین :

أحدهما : أنّه الأصل فی التقاء الساکنین.

والثانی : للفرق بینها وبین لام الملک.

فصل : فأمّا اللام فی تلک فبقیت علی سکونها ؛ لأن الیاء قبلها حذفت لئلّا تقع الیاء بین کسرتین إذا الجمع یدعو إلی کسر اللام وکسره التاء تدلّ علی الیاء المحذوفه.

فصل : إنّما بنی اسم الإشاره ؛ لأن الإشاره معنی والموضوع لإفاده المعانی الحروف ولم یضعوا للإشاره حرفا فینبغی أن یعتقد أنّهم ضمّنوه إیّاه طردا لأصولهم ودلّ علی ذلک بناؤهم إیّاه ولا بدّ للبناء من سبب.

فصل : هو وهی الاسم بکمالها وقال الکوفیّون الهاء هی الاسم وما بعدها مزید للتکثیر.

ص: 314

وحجّه الأوّلین أنّه ضمیر منفصل قائم بنفسه فلم یکن علی حرف واحدک أنا ونحن ، وذلک أنّ قیامه بنفسه یدلّ علی قوّته والحرف الواحد ضعیف.

واحتجّ الآخرون من وجهین :

أحدهما : أنّ الواو والیاء تحذفان فی التثنیه والجمع نحوهما وهنّ وهم وفی الواحد المتّصل نحو رأیته ولو کانا منه لما حذفا.

والثانی : أنّهما قد حذفا فی الشعر کقول الشاعر (1) : [الطویل]

فبیناه یشری رحله قال قائل

لمن جمل رخو الملاط نجیب

وقال آخر : [الرجز]

دار لسعدی إذه من هواکا

وضروره الشعر تردّ إلی الأصل.

والجواب : أمّا التثنیه والجمع فصیغ مرتجله لما ذکرناه فی هذین.

والثانی : أنّهم حذفوا الواو والیاء فرارا من الثقل وذاک أنّ الهاء مضمومه والمیم تشبه الواو فلو أثبتوا الواو متحرّکه ثقل اللفظ أو ظنّ أنّها کلمتان ولو سکّنوها لجمعوا بین ساکنین فکان الوجه حذفها ، وأمّا حذفها فی المتّصل ففرارا من الثقل ، وأمّا حذفها فی الشعر فلا حجّه فیه للاضطرار إلیه ، وقد حذفوا ما لا یشکّ أنّه أصل کقوله [من الکامل] : (درس المنا) ، أی : المنازل ، [ومن الرجز] : (ورق الحمی) ، أی : الحمام.

فصل : اللام وحدها للتعریف وقال الخلیل الألف واللام للتعریف بمنزله هل وبل.

وحجّه الأوّلین من وجهین :

أحدهما : أنّ التعریف الحاصل فی الاسم یجعله غیر النکره ؛ ولذلک إذا جاء آخر بیت نکره وآخر بعده معرفه لم یکن إیطاءک رجل والرجل کما لو کان الثانی : علی غیر لفظ الأوّل بالکلّیّه

ص: 315

ولا یتحقّق ذلک إلّا بامتزاج الأداه بالاسم کبعض حروفه وهذا فی الحرف الواحد یتحقّق والدلیل علی أنّهم قصدوا ذلک أنّهم سکنوا اللام إذ کان امتزاج الساکنین أشدّ.

والثانی : أنّ الألف قبل اللام همزه وصل تسقط بغیرها ، وإذا تحرّکت اللام سقطت فی لغه جیده کقولهم : تجمرن لحمر ولو کانت من الأصل لم تسقط کهل ، وقد.

والثالث : أنّ التعریف ضدّ التنکیر ودلیل التنکیر حرف واحد هو التنوین فینبغی أن یکون دلیل مقابله واحدا.

واحتجّ الآخرون من وجهین :

أحدهما : أنّ الهمزه قبل اللام مفتوحه ولو کان همزه وصل لضمّت أو کسرت ، وإذا لم تکن وصلا کانت أصلا.

والثانی : أنّ الشاعر إذا اضطر إلی جعل اللام آخر بیت جاء فی أوّل الآخر بالألف واللام کقول الراجز : [الرجز]

دع ذا وعجّل ذا وألحقنا بذل

بالشحم إنّا قد مللناه بجل

وقال آخر (1) : [الرمل]

مثل سحق البرد عفّی بعدک ال

قطر مغناه وتأویب الشمال

فجعله بالألف واللام نصف البیت أو آخره دلیل علی أنّهما جمیعا کلمه.

والجواب : أمّا فتح الهمزه فلکثره وقوعها فی الکلام ، وقد فتحت همزه ایمن وهی وصل ولم یخرجها ذلک عن زیادتها ، وأمّا قطعها فی الشعر فلا یدلّ علی ما ذکر لأنّا تقول : إنّ الهمزه سقطت والباقی اللام وحدها وإنّما أعاد الألف مع اللام لیصحّ سکون اللام.

فصل : واللام علی وجوه :

ص: 316

أحدها : استغراق الجنس کقولک : الرجل أفضل من المرأه أی جمیع هذا الجنس خیر من جمیع الجنس الآخر ولیس آحاده خیرا من آحاده.

والثانی : أن تکون لتعریف الواحد من الجنس من حیث هو جنس کقولک : الدینار خیر من الدرهم أی أیّ دینار کان فهو خیر من أیّ درهم کان.

والثالث : أن تکون للمعهود بین المتکلّم والمخاطب کقولک : لمن تخاطبه جاء الرجل الذی عهدناه.

والرابع : أن تکون لتعریف الحاضر کقولک : هذا الرجل فأمّا قوله تعالی : (فَعَصی فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : 16] فمن المعهود السابق لتقدّم ذکر الرسول نکره فعاد إلیه.

والخامس : أن تکون بمعنی الذی نحو الضارب والقائم.

والسادس : أن تکون زائده کالداخله علی الذی وسنبیّن ذلک فی الموصولات وحکی عن بعض العرب قبضت الخمسه العشر الدرهم ولا یقاس علیه.

وقال الکوفیّون الألف واللام تکون بدلا من هاء الضمیر کقولک : مررت بالرجل الحسن الوجه إذا رفعت ولیس بشیء إذ لو کان کذلک لجاز أن تقول مررت بزید فکلّمنی الغلام أی غلامه ولیس بجائز ولأنّ الهاء اسم مضمر یعرّف بما قبله بالإضافه والألف واللام حرف یعرّف بوجه آخر فهما مختلفان من هذین الوجهین :

مسأله : أعرف المعارف المضمر عند سیبویه ومن تابعه.

وقال ابن السّراج : أسماء الإشاره أعرف منه ومن العلم.

وقال الکوفیّون : العلم أعرف منهما.

وحجّه الأوّلین : أنّ المضمر لا اشتراک فیه لتعینه بما یعود إلیه ؛ ولذلک لا یوصف ویوصف به بخلاف العلم ؛ فإنه فیه اشتراک ویمیز بالوصف والمبهم یوصف ویوصف به ویقع اسم الإشاره علی کل حاضر ویقع فیه اشتراک حتی لو کان بحضرتک جماعه فقلت هذا من غیر إقبال واحد لم یعلم المراد إلا بانضمام الإقبال إلیه.

واحتج ابن السراج بأن اسم الإشاره یعرف بالعین والقلب فهو أقوی وهذا ضعیف ؛ لأن ذلک راجع إلی تعرفه عند المتکلم فأما السامع فلا یعلم ما فی قلب الناطق ب (هذا) وإنما یعرف

ص: 317

المشار إلیه بالإقبال علیه وهو شیء غیر الاسم ویدل علیه أن اسم الإشاره یصفر ویثنی ویجمع ولا یفتقر إلی تقدم ذکر فهو فی ذلک کالمظهر المحض.

واحتج الآخرون بأن العلم لا اشتراک فیه وضعا وإنّما تقع الشرکه فیه اتّفاقا والضمیر یصلح لکلّ مذکور ، وقد یکون المذکور قبله نکره فیصیر هو نکره أیضا ؛ ولذلک دخلت علیه ربّ فی قولهم : ربّه رجلا.

والجواب : أمّا العلم فیعرف بالوضع ویفتقر تعریفه إلی إعلام المسمّی به غیره بأنی سمیت هذا الشیء کذا ثمّ تقع فیه الشرکه ، وقد زیدت فیه الألف واللام نحو قول الشاعر : [الرجز]

باعد أمّ العمرو من أسیرها

حرّاس أبواب علی قصورها

یروی بالعین والغین وکلّ ذلک لا یوجد فی المضمر ثمّ إنّ العلم یتنکّر کقولک : مررت بزید وزید آخر وفی التثنیه والجمع والإضافه والضمیر لا یتنکّر فأمّا عوده إلی نکره فلا ینکّره ؛ لأنه یقطع علی من عنی بالضمیر فهو متعیّن.

فأمّا ربّه رجلا فشاذّ ، وقد جعلت النکره بعده مفسّره له بمنزله تقدّمها علیه.

فصل : وتقول : کنت أظنّ أنّ العقرب أشدّ لسعه من الزنبور فإذا هو هی. وقال الکوفیّون : فإذا هو إیّاها.

وحجّه الأوّلین : أنّ هو مبتدأ والخبر لا یخلو إمّا أن یکون إذا التی للمفاجأه ؛ لأنها مکان فیلزم أن یکون الضمیر الثانی حالا ، وإمّا أن یکون الخبر الضمیر الثانی وإیّا من ضمائر المنصوب لا المرفوع فإذا بطل القسمان تعیّن أن تکون هی خبر المبتدأ.

واحتجّ الآخرون من وجهین :

أحدهما : أنّ جماعه من العرب شهدوا عند یحیی بن خالد حین اجتمع سیبویه والکسائی وأصحابه بقول الکوفیّیون.

والثانی : أنّ التی للمفاجأه یجوز أن یرتفع ما بعدها بأنّه مبتدأ وخبر وأن ینتصب علی إضمار أجد وعلی ذلک جاءت الحکایه.

وقال ثعلب : هو عماد أی وجدته إیّاها.

والجواب عن الحکایه من وجهین :

أحدهما : أنّ الذین اجتمعوا بباب یحیی بن خالد من العرب بذل لهم أصحاب الکسائیّ والفرّاء مالا علی أن یقولوا بما یوافق قولهم ، ولم یشعر بذلک الکسائیّ والفرّاء.

والثانی : أنّ ذلک من شذوذ اللغه کما شذّ فتح لام الجرّ والجرّ ب (لعلّ) ، والجزم ب (لن) وغیر ذلک ، وأمّا النّصب بعد إذا فلا یکون إلّا علی الحال وإیّا لا یکون حالا ولا یصحّ النصب ب (یجد) ؛ لأنها تفتقر إلی مفعولین ولیسا فی الکلام علی أن تقدیر ذلک لا دلیل علیه ولا یصحّ جعل هو فصلا ؛ لأن الفصل یکون بین اسمین ولیسا هنا.

ص: 319

فصل : والتعریف مسبوق بالتنکیر إذ هو الأصل یدلّ علی ذلک أشیاء.

أحدها : أنّ النکره أعمّ والعامّ قبل الخاصّ ؛ لأن الخاصّ یتمیّز عن العامّ بأوصاف زائده علی الحقیقه المشترکه والزیاده فرع.

والثانی : أنّ جمیع الحوادث یقع علیها اسم شیء فإذا أردت اسم بعضها خصصته بالوصف أو ما قام مقامه والموصوف سابق علی الوصف.

والثالث : أنّ التعریف یفتقر إلی علامه لفظیّه أو وضعیّه والنکره لا تحتاج إلی علامه.

فصل : وأمّا التأنیث فمسبوق بالتذکیر وفرع علیه لوجهین :

أحدهما : أنّ کلّ عین أو معنی فهو شیء ومعلوم ومذکور وهذه الأسماء مذکّره فإذا علم أنّ مسمّیاتها مؤنّثه وضع لها اسم دالّ علی التأنیث.

والثانی : أنّ التذکیر لا علامه له والتأنیث له علامه ، وذلک یدلّ أنّه فرع علی التذکیر.

فصل : والعدل هو أن یقام بناء مقام بناء آخر من لفظه فالمعدول عنه أصل للمعدول.

فصل : وأمّا الألف والنون الزائدتان فتشبهان الألف فی حمراء من أوجه :

أحدها : أنّهما زیدا معا کما أنّ ألفی التأنیث کذلک.

والثانی : أنّ بناء الألف والنون فی التذکیر مخالف لبنائه فی التأنیث کمخالفه بناء مذکّر حمراء لبناء مؤنّثها فالمؤنّث من فعلان فعلی.

والثالث : أنّ تاء التأنیث لا تدخل علی فعلان فعلی کما لا تدخل علی حمراء.

والرابع : أنّهما جاءا بعد سلامه البناء کما جاء ألفا التأنیث بعد سلامته.

والخامس : أنّهما اشترکا فی ألف المدّ قبل الطرف الزائد.

فصل : فأمّا عثمان وعریان إذا سمّی فیمتنع صرفهما للزیاده والتعریف وینصرفان فی النکره بخلاف عطشان وسکران فإنّه لا ینصرف فی النکره أیضا لوجهین :

أحدهما : أنّ الألف والنون کألفی التأنیث فیما ذکرنا.

والثانی : أنّه وصف قد اجتمع فیه سببان.

فصل : فأمّا الجمع ففرع مسبوق بالواحد فإذا صار إلی أمثال مفاعل ومفاعیل لم ینصرف معرفه ولا نکره وإنّما کان کذلک ؛ لأن جمعه هذا الجمع قائم مقام جمعین.

ص: 321

أحدهما : مطلق الجمع. والثانی : فیه وجهان :

أحدهما : أنّه لا یمکن جمعه مرّه أخری فکأنّه جمع مرّتین وصار مطلق الجمع بمنزله أسطار جمع سطر وأساطیر جمع ثان لا یجمع مرّه أخری فهو نظیر مساجد ودنانیر فی أنّها لا تجمع.

والثانی : أنّه جمع لا نظیر له فی الآحاد وعدم النظیر یؤکّد فیه الجمع حتی یجعله بمنزله ما جمع مرّتین ولیس کذلک رجال وکتب ؛ لأن لهما نظیرا فی الآحاد وهو کتاب وطنب ، وقد نقض هذا ب (أکلب) وأجمال فإنّهما لا نظیر لهما فی الآحاد وهما مصروفان.

وقد أجبت عنه بأنّ الفرق بین أکلب وأجمال وبین الآحاد حرکه فقط ، وذلک أنّ أکلبا مضموم اللام وفی الآحاد کثیر علی أفعل نحو أحمر وأفکل ولیس بینهما إلّا اختلاف حرکه وکذلک أجمال مثل إجمال إلّا فی الفتحه والکسره ، وذلک اختلاف یسیر بخلاف هذا الجمع فإنّه یخالف الواحد فی الحروف والحرکات.

فإن قیل : فما الحکم فی سراویل وشراحیل وحضاجر؟

قیل : أمّا سراویل فقیل هو أعجمیّ مفرد فینصرف فی النکره ولا ینقض ما أصّلنا ؛ لأن المراد ما لا نظیر له فی الآحاد العربیّه ، وقیل : هو جمع سرواله فعلی هذا لا ینصرف معرفه ولا نکره.

وأمّا شراحیل فجمع یسمی به الواحد.

وأما حضاجر فواحدتها حضجر ، قال الشاعر :

حضجر کأمّ التوأمین توکّأت

علی مرفقیها مستهلّه عاشر

وسمّی الواحد بالجمع.

فصل : وأمّا العجمه ففرع علی العربیه ؛ لأنها طارئه عندهم بأوضاعهم.

فصل : وأمّا الترکیب ففرع علی الإفراد ؛ لأنه ضمّ مفرد إلی مفرد علی قصد جعلهما اسما لشیء واحد ، وإذا تقررت الفرعیّه للاسم من هذه الوجوه ظهرت مشابهته للفعل من جهه الفرعیّه.

ویترتّب علی هذه الأصول مسائل.

ص: 322

وحجّه الأوّلین السماع والقیاس فالسماع قول الشاعر (1) : [المنسرح]

لم تتلفّع بفضل مئزرها

دعد ولم تغذ دعد فی العلب

فصرف الأوّل ، وأمّا القیاس فهو أنّه أخفّ الأسماء إذ کان أقلّ الأصول عددا وحرکه فعادلت خفّته أحد السببین.

واحتجّ الآخرون بوجود السببین ولا عبره بالخفّه ؛ لأن موانع الصرف أشباه معنویّه فلا معارضه بینها وبین اللفظ.

مسأله : فإن سمّیت مؤنّثا. بمذکّر ساکن الأوسط نحو عمرو لم تصرفه ؛ لأنه نقل الأصل إلی الفرع فازداد الثقل بذلک فعادلت الخفّه أحد الفروع فبقی فرعان.

مسأله : فإن تحرّک الأوسط لم تصرفه معرفه ک سقر ؛ لأن حرکه الأوسط کالحرف الرابع لأمرین :

أحدهما : أنّ الحرکه زائده علی أقلّ الأصول فصار الاسم بها کالرباعیّ.

والثانی : أنّها فی النسب کالحرف الخامس : ألا تری أنّک لو نسبت إلی جمزی لقلت جمزیّ فحذفت الألف کما تحذفها فی الخماسیّ نحو المرتمی ولو کان الأوسط ساکنا لجاز إثبات الألف وحذفها کالنسب إلی حبلی یجوز حبلیّ وحبلویّ.

مسأله : فإن سمّیت المذکّر بمؤنّث ثلاثیّ نحو هند وقدم صرفته معرفه ونکره لأنّک نقلت فرعا إلی أصل أزال معنی الفرع وهو التأنیث فخفّ لذلک.

مسأله : فإن کان المؤنّث أربعه أحرف فصاعدا وسمّیت به مذکّرا أو مؤنّثا لم تصرفه معرفه ؛ لأن الحرف الرابع کتاء التأنیث بدلیل أنّه یمنع من زیاده التاء فی التصغیر کقولک : فی

ص: 324

عقرب عقیرب وفی زینب زیینب ولو کان ثلاثه أحرف مثل قدر وأذن لأتیت بالتاء فقلت : قدیره وأذینه فدلّ أنّ المانع الحرف الرابع فأشبه تاء التأنیث وإنّما یعرف تأنیث الأسماء بالسماع فإذا کان الاسم لم یوضع إلّا للمؤنّث جری مجری علامه التأنیث فی لفظه.

مسأله : علامه التأنیث فی الأسماء التاء والألف فإذا کان أحدهما فیه ، قلت : هو مؤنّث سواء سمّی به المذکّر أو المؤنّث ف (التاء) أحد وصفی العلّه المانعه فإذا انضمّ إلیها التعریف امتنع الصرف ، وأمّا الألف فإذا لم یکن قبلها ألف سکنت نحو : حبلی ، وإن وقعت بعد ألف المدّ نحو : حمراء حرّکت فانقلبت همزه وإنّما حرّکت لئلّا یجتمع ساکنان وحذف إحداهما لا یجوز لأنّک إن حذفت الأولی بطل المدّ ، وإن حذفت الثانیه بطلت علامه التأنیث وإن حرّکت الأولی بطل المدّ أیضا فتعیّن تحریک الثانیه.

مسأله : ألف التأنیث علّه مستقلّه تمنع الصرف بخلاف التاء وإنّما کان کذلک ؛ لأن مطلق التأنیث فرع ولزومه کتأنیث آخر والألف بهذه المنزله ؛ لأنها صیغت مع الکلمه من أوّل أمرها وتبقی معها فی الجمع نحو : حبلی وحبالی ولیست فارقه بین مذکّر ومؤنّث بخلاف التاء فإنّها تدخل علی لفظ المذکّر فتنقله إلی المؤنّث ولا تلزم.

مسأله : فأمّا عریان فینصرف فی النکره إذ لیس فیه سوی الوصف والألف والنون لا یشبهان ألفی التأنیث ؛ لأن التاء تدخل علیه فتقول عریانه ، وأمّا سرحان فلیس بوصف وتقول فی جمعه سراحین فتقلب الألف یاء بخلاف ما قبل ألف التأنیث.

مسأله : إذا سمّیت ب (أحمر) وبابه زال معنی الصفه ؛ ولذلک یسمّی من لیس أحمر أحمر ، وقیل : التسمیه لا توقعه إلّا علی من له من الحمره صفه له ویمتنع صرفه بعد التسمیه للتعریف ووزن الفعل إجماعا فإن نکّرته لم تصرفه عند سیبویه وتصرفه عند الأخفش.

حجّه الأوّلین : أنّه صفه فی الأصل مستعار فی التسمیه فإذا نکّر أجری علیه حکم أصله فی الوصف والتنکیر ألا تری أنّ أربعا منصرف مع اجتماع الوصف والوزن کقوله تعالی : (وَمِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلی أَرْبَعٍ) [النور : 45] ما کان ذلک إلّا نظرا إلی الصفه وهو العدد وأنّ التاء تدخل علیه نحو أربعه وأنّ نقله لم یخرجه عن حکمه کذلک أحمر.

ص: 325

واحتجّ الآخرون بأنّ معنی الوصف غیر باق بعد التنکیر فلیس فیه سوی الوزن ، وقد ذکرنا ما یصلح جوابا له.

مسأله : فإن سمّیت مؤنّثا ب (حائض وفاضل) لم تصرفه للتعریف والتأنیث فإن نکّرته صرفته اتّفاقا ؛ لأنه لم یبق فیه سوی التأنیث والوصف بفاعل غیر مختصّ بالأوصاف فإنّ فاعلا یوجد فی الأسماء نحو کاهل.

مسأله : إذا کان الوصف تاء التأنیث نحو ضاربه انصرف فی النکره مع اجتماع الوصف والتأنیث ؛ لأن تاء التأنیث هنا لا یعتدّ بها ؛ لأنها دخلت لمجرّد الفرق.

مسأله : المعدول عن المعرفه نحو عمر وزفر لا ینصرف معرفه للعدل والتعریف فإن قیل :

ما فائده عدله قیل شیئان :

أحدهما : توکید المعنی المشتقّ منه فی المسمّی کالعماره والزّفر.

والثانی : الإعلام بأنّ عامرا لا یراد به الوصف بل التسمیه.

فإن قیل : علی کم وجها فعل؟ قیل : علی أربعه أوجه :

أحدهما : المعرفه وهو لا تدخله الألف واللام نحو جشم وقثم.

والثانی : الجنس نحو جرذ ونغر هذا ینصرف بکلّ حال ؛ لأنه غیر معدول.

والثالث : الجمع نحو غرف ورطب.

والرابع : الوصف نحو حطم فأمّا فسق وخبث فیستعمل فی النداء للمذکّر خاصّه وهو مبنیّ فإن سمّیت صرفته ؛ لأنه لم یعدل إلّا فی النداء.

مسأله : وأمّا ما عدل من الصفات فیجیء علی فعال نحو ثلاث ورباع وعلی مفغل نحو مثنی وموحد وهو غیر مصروف علی کلّ حال لاجتماع الوصف والعدل.

وقال بعضهم : هو معدول فی اللفظ والمعنی فاللفظ معدول عن لفظ اثنین وثلاثه ، وأمّا فی المعنی فإنّ مثنی یعبّر به عن جماعه جاؤوا اثنین اثنین وثلاث عن ثلاثه ثلاثه بخلاف اثنین فإنّه لا یدلّ علی أکثر من أحدین وثلاثه لا یدلّ إلّا علی ثلاثه آحاد.

مسأله : فأمّا أخر جمع آخر وأخری فلا ینصرف للعدل والوصف وفی معنی عدله أوجه :

ص: 326

أحدها : أنّ أخر هنا للمفاضله فأصله أن یقال آخر من کذا أی أشدّ تأخّرا منه ثمّ عدل عن من واستعمل استعمال الأسماء والصفات التی لغیر المفاضله نحو أبیض وأسود.

والثانی : أنّ القیاس استعماله بالألف واللام ک الفضلی والوسطی والفضل والوسط فعدل عن الألف واللام.

مسأله : لا فرق فی الجمع الذی لا نظیر له بین أن یکون بعد ألفه حرف مشدّد أو حرفان منفصلان ؛ لأن المشدّد حرفان فی الحقیقه فأمّا ما بعد ألفه ثلاثه أحرف فشرطه أن یکون الأوسط ساکنا نحو قنادیل فإن کان متحرّکا ک صیاقله انصرف ؛ لأن له نظیرا فی الآحاد نحو : طواعیه ورفاهیه ورجل عباقیه ، وکذلک إن کان آخره یاء النسبه نحو مدائنیّ ، لأنها تشبه تاء التأنیث لما نبیّنه فی النسب.

مسأله : فإن کان بعد الألف حرفان الثانی : یاء نحو جوار فهو منوّن فی الرفع والجرّ غیر منوّن فی النصب واختلفوا فی هذا التنوین فقال بعضهم هو تنوین الصرف ؛ لأن الیاء حذفت تخفیفا فبقیت جوار مثل دجاج فانصرف وقال آخرون هو عوض من الیاء ولیس بمنصرف وقال آخرون هو عوض من حرکه الیاء المستحقّه فلمّا اجتمع التنوین والیاء حذفت لالتقاء الساکنین فأمّا فی النصب فلا ینصرف لکمال البناء.

مسأله : فأمّا الترامی والتعامی فینصرف بکلّ حال ؛ لأن وزنه تفاعل کتقاتل وتضارب ولکن کسرت عینه لتسلم الیاء.

مسأله : لا تمنع العجمه من الصرف إلا مع التعریف ولو اجتمع فی الاسم أکثر من علّتین ، وذلک نحو أذربیجان فإنّ فیها خمسّ علل التعریف والعجمه والتأنیث والترکیب والألف والنون الزائدتان فإن نکّرته صرفته ، وعلّه ذلک أنّ التعریف علّه قویّه کثیره الدور فی الکلام حتی إنّها فی الشعر قد أقیمت مقام علّتین ولیس ذلک لغیره.

مسأله : وقد یکون اللفظ محتملا للصرف وترکه لاختلاف أصله ، وذلک ک حسّان إن أخذته من الحسّ لم تصرفه للتعریف والزیاده ، وإن أخذته من الحسن صرفته ؛ لأن النون أصل وکذلک یعقوب إن کان أعجمیّا لم تصرفه ، وإن أردت اسم ذکر القبج صرفته إذ لیس فیه سوی التعریف وهکذا إسحاق إن جعلته أعجمیّا لم تصرفه ، وإن جعلته مصدرا فی الأصل

ص: 327

صرفته فأمّا إبلیس فلا ینصرف للعجمه والتعریف وقال قوم : هو من الإبلاس ولیس کذلک ؛ لأنه لو کان منه لانصرف إذ لیس فیه سوی التعریف.

مسأله : فأمّا یربوع ونظائره فینصرف إذ لیس فی الأفعال یفعول.

مسأله : فأمّا مرّان وهی الرماح فإذا سمّی به انصرف ؛ لأنه من المرانه للینها بالتدریب ، وأمّا رمّان إذا سمّی به فلا ینصرف عند سیبویه ؛ لأنه من الرمّ وهو الجمع والإصلاح وقال الأخفش النون أصل ؛ لأنه کثیر فی أسماء النبات فعّال نحو قلّام وثفّاء.

فأمّا أباتر فینصرف بکلّ حال ؛ لأنه کثیر الأسماء مثاله نحو دلامص وعکامس وعلابط.

مسأله : یجوز فی حضرموت ونحوه ثلاثه أوجه :

أحدها : بناء الاسم الأوّل وإعراب الثانی : إلّا أنّه لا ینصرف فی المعرفه للتعریف والترکیب وبنی الأوّل لشبه الثانی : بتاء التأنیث إذ کان مزیدا علی الاسم وفتح للطول کما فتح ما قبل تاء التأنیث.

والوجه الثانی : أن تضیف الأوّل إلی الثانی فتعربهما إلا أن کرب لا ینصرف ؛ لأنه مؤنّث معرفه ، ومنهم من یصرفه فیجعله مذکّرا ، وأمّا یاء معدی فساکنه بکلّ حال ؛ لأن الکلمتین صارتا کالواحده فلو حرّکت لتوالت الحرکات وثقلت خصوصا فی الیاء بعد الکسره.

والوجه الثالث : أن تبنیهما لتضمّنهما معنی حرف العطف ک (خمسه عشر).

مسأله : فأمّا سیبویه ونفطویه وعمرویه فمبنیّه ولکن تنوّن فی النکره کما تنوّن الأصوات وأسماء الفعل ویذکر ذلک فی المبنیّات إن شاء الله تعالی.

مسأله : أسماء البلدان منها ما ذکّرته العرب فصرفته نحو واسط ودابق ومنها ما أنّثته نحو مصر ودمشق ومنها ما جوّزت فیه الأمرین.

مسأله : فأمّا أسماء القبائل فما کان موضوعا علی القبیله کان مؤنّثا نحو حمیر وما کان اسما للحیّ أو أبی القبیله کان مذکّرا نحو تمیم ، وقد جاء الوجهان فی ثمود.

مسأله : حکم ما لا ینصرف ألّا یجرّ ولا ینوّن لما ذکرنا فی صدر الکتاب من أنّ الصرف هو التنوین فأمّا الجرّ فلیس من الصرف علی الصحیح وإنّما سقط تبعا لسقوط التنوین إذ کانا جمیعا

ص: 328

لا یدخلان الفعل فما یشبهه کذلک ؛ ولذلک إذا اضطر الشاعر إلی تنوین المجرور کسره ؛ لأن سقوط الکسر کان تبعا لسقوط التنوین فإذا انتفی الأصل انتفی التبع.

فإن قیل : للأفعال أحکام وخصائص فلم لم یثبت للاسم المشبه للفعل غیر منع الجرّ والتنوین وهلّا امتنع الألف واللام أو کونه فاعلا أو نحو ذلک؟

قیل : هذه الخصائص لها معنی فی الأسماء فلو منعها الاسم لبطل ذلک المعنی بخلاف الجرّ والتنوین فإنّ منع الاسم منهما لا یبطل معنی فیه.

مسأله : إذا أضیف ما لا ینصرف أو دخلته الألف واللام کسر فی موضع الجرّ وفی ذلک وجهان :

أحدهما : أنّ کسره الجرّ سقطت تبعا لسقوط التنوین بسبب المشابهه وسقوطه بالألف واللام والإضافه بسبب آخر فلا یسقط الجرّ تبعا له ؛ ولذلک قال النحویّون فأمن فیه التنوین أی أنّ سقوط التنوین بسبب المشابهه کان استحسانا لا ضروره ؛ ولذلک یجوز للشاعر اتّباعه فأمّا سقوط الألف واللام والإضافه فکالضروره ؛ ولذلک لا یسوغ للشاعر الجمع بینهما.

والوجه الثانی : أنّه بالألف واللام والإضافه یبعد من شبه الفعل الحاصل بالفرعیه فیعود إلی حقّه من الجرّ.

فإن قیل : فحرف الجرّ من خصائص الاسم وکذلک الفاعلیّه والمفعولیّه ولا تردّه هذه الأشیاء إلی الصرف؟

قیل : أمّا حرف الجرّ فلا یحدث فی الاسم معنی ینافیه فیه الفعل فإنّ الاسم یبقی معناه مع حرف الجرّ بحاله بخلاف الألف واللام والإضافه فإنّهما تحدثان فیه التخصیص الذی ینبو عنه الفعل ، وأمّا کونه فاعلا أو مفعولا فهو أمر یرجع إلی ما یحدثه العامل.

مسأله : الاسم بعد دخول الألف واللام والإضافه غیر منصرف لما تقدّم أنّ مانع الصرف قائم وأنّ الجرّ سقط لزوال ما سقط تبعا له وقال قوم هو منصرف وبنوه علی أصلین.

أحدهما : أنّ الجرّ من الصرف.

والثانی : أنّه بدخول الألف واللام والإضافه ضعف شبه الاسم بالفعل علی ما تقدّم.

مسأله : یجوز للشاعر أن یصرف مالا ینصرف للضروره علی الإطلاق.

ص: 329

وقال الکوفیّون : لیس له ذلک فی أفعل منک.

وحجّه الأوّلین : أنّه اسم معرب نکره فجاز للشاعر صرفه کبقیّه الأسماء التی لا تنصرف.

واحتجّ الآخرون بأنّ منک تجری مجری الألف واللام والإضافه ؛ ولذلک ینوبان عن من فکما لا تنوّن مع الألف واللام والإضافه لا تنون مع من.

والجواب : أنّ ذلک لا یصحّ ؛ لأن من ، وإن خصّصت ولکن بعض التخصیص والاسم بعد ذلک نکره بخلاف الألف واللام والإضافه.

مسأله : یجوز للشاعر ترک صرف ما ینصرف للضروره ومنعه المبرّد.

واحتجّ الأوّلون بقول العبّاس بن مرداس (1) : [المتقارب]

وما کان حصن ولا حابس

یفوقان مرداس فی مجمع

وبأنّ التنوین زائد دالّ علی خفّه الاسم وبالتعریف یحدث له نوع ثقل فلذلک جاز له إجراء السبب مجری السببین ویدلّ علیه أنّ الشاعر یجری الوصل مجری الوقف حتّی إنّه یصل الاسم المؤنّث بالهاء کما یقف علیه فلأن یجوز له حذف التنوین وإبقاء الحرکه أولی والمبرّد یروی البیت :

یفوقان شیخی فی مجمع

وما رواه سیبویه ثابت فی الروایه فلا طریق إلی إنکاره.

ص: 330

فصل : واختلفوا أیّ أقسام الفعل أصل لغیره ، فقال الأکثرون : هو فعل الحال ؛ لأن الأصل فی الفعل أن یکون خبرا ، والأصل فی الخبر أن یکون صدقا.

وفعل الحال یمکن الإشاره إلیه فتحقّق وجوده فیصدق الخبر عنه ، وقال قوم : الأصل هو المستقبل ؛ لأنه یخبر عنه عن المعدوم ثم یخرج الفعل إلی الوجود فیخبر عنه بعد وجوده.

وقال الآخرون : هو الماضی ؛ لأنه لا زیاده فیه ولأنّه کمل وجوده فاستحقّ أن یسمّی أصلا.

فصل : الأصل فی الفعل البناء ؛ لأن الإعراب دخل للفعل بین الفاعل والمفعول ولیس فی الفعل فاعل ولا مفعول فصار کالحرف.

فصل : والأصل أن یبنی علی السکون ؛ لأن البناء ضدّ الإعراب علی ما ذکر فی صدر الکتاب إلا أنّ الفعل الماضی حرّک لشبهه بالمضارع إذ کان یقع موقعه فی نحو قوله : (وَیَوْمَ یُنْفَخُ فِی الصُّورِ فَفَزِعَ) [النمل : 87] أی : فیفزع.

وفی الشّرط والجزاء : إذا ذهبت ذهبت.

وفی الحال کقولک : مررت بزید قد کتب کقولک : یکتب والشّبه یقتضی إثبات حکم من أحکام المشابه للمشابه والحرکه من أحکام المضارع إلّا أنّ حرکه المضارع إعراب وحرکه الماضی بناء وعلّه ذلک أنّ إعراب المضارع فرع علی الاسم والماضی فرع علی المضارع والفروع تنقص عن الأصول فکیف بفرع الفرع.

فصل : وإنّما جعلت حرکته فتحه لأمرین :

أحدهما : أنّ أمثله الفعل الماضی کثیره فاختیر له أخفّ الحرکات تعدیلا.

والثانی : أنّ الغرض تمییز هذا المبنیّ علی المبنیّ علی السکون والتمییز یحصل بالفتحه وهی أخفّ فلا یصار إلی الثقیل.

وقیل : لو کسر لبنی علی کسره لازمه والفعل لم یدخله الجرّ مع أنه عارض ولم یضمّ ؛ لأن من العرب من

یحذف واو الجمع ویجعل الضمه دلیلا علیها نحو ضرب فی ضربوا وهذا وجه ضعیف.

ص: 332

مسأله : فعل الأمر (1) الذی لیس فیه حرف مضارعه مبنیّ علی السکون وقال الکوفیّون هو معرب بالجزم واحتجّ الأوّلون من وجهین :

أحدهما : أنّ الأصل فی الفعل البناء وإنّما أعرب لمشابهته الإسم والمشابهه تتحقّق بحرف المضارعه فقط فإذا فقد فقدت فیخرج علی الأصل.

والثانی : أن نزال وبابه مبنیّ لقیامه مقام الأمر فلو کان معربا لم یبن ما قام مقامه.

واحتجّ الآخرون من وجهین :

أحدهما : أنّ الأصل فی قم لتقم فحذف تخفیفا ، وقد جاء ذلک فی المضارع الصریح قال الشاعر (2) : [الطویل]

علی مثل أصحاب البعوضه فاخمشی

لک الویل حرّ الوجه أو یبک من بکی

وقال آخر (3) : [الوافر]

محمّد تفد نفسک کلّ نفس

إذا ما خفت من شیء تبالا

أی لتفد وقرئ : (فبذلک فلتفرحوا) علی الخطاب ، أی : فافرحوا.

والوجه الثانی : أنّ حروف العلّه تسقط من هذا الفعل نحو اغز واسع وارم کما تسقط بالجازم.

والجواب عن الأول من وجهین :

ص: 333

أحدهما : أنّ قم واذهب أصل بنفسه ولیس الأصل فیه ما ذکروا ؛ لأنه لو کان کذلک للزم منه حذف العامل وحرف المضارعه وتغییر الضیغه وکلّ ذلک مخالف للأصل ولا سماع یدلّ علیه.

والثانی : یقدّر أنّ الأصل ما ذکروا ولکن بهذا الحذف زال شبه الفعل بالاسم فعاد إلی البناء.

والثالث : أنّ الجزم یحتاج إلی جازم وتقدیر الجازم ممتنع لوجهین :

أحدهما : أنّه لا یصحّ ظهوره مع هذه الصیغه فلا تقول لاذهب والمقدّر کالمنطوق به.

والثانی : الجازم أضعف من الجارّ والجارّ لا یبقی عمله بعد حذفه فالجازم أولی.

فأمّا البیت فهو خبر ولیس بأمر وحذف الیاء ضروره ولو قدّر أنه حذف اللام فلا یصح مثله فی مسألتنا لوجهین :

أحدهما : أنّ حرف المضارعه باق هناک ولیس بموجود هنا فلا یلزم من حذف شیء واحد حذف شیئین ولا یلزم من حذف ما علیه دلیل وهو حرف المضارعه حذف ما لا دلیل علیه.

والثانی : أنّ ذلک شاذّ سوّغته الضروره.

وأمّا الوجه الثانی فلیس بشیء ؛ لأن البناء یذهب الحرکه فیذهب الحرف القائم مقامها وحروف العلّه قامت مقام الحرکه علی ما نبیّنه.

مسأله : الفعل المضارع أعرب لشبهه بالاسم من أوجه :

أحدها : أنّه یکون شائعا فتخصص بالحرف کقولک : زید یصلّی فیحتمل أن یکون فی الصلاه وأن یکون لم یشرع فیها ، وإذا قلت : سیصلی اختص کما أنّ رجلا یحتمل غیر واحد ثم یختصّ بواحد بالألف واللام.

والثانی : أنّ اللام تدخل علیه فی خبر إنّ کقوله تعالی : (وَإِنَّ رَبَّکَ لَیَحْکُمُ) [النحل : 124] ولا تدخل علی الأمر والماضی وحقّها أن تدخل علی الاسم ؛ لأنها لام الابتداء زحلقت إلی الخبر فلو لا قوه الشّبه لم تدخل علی هذا الفعل.