تحفة البيان ، خطاب القرآن لاهل الايمان

اشارة

تحفة البيان ، خطاب القرآن لاهل الايمان

مؤلف: مؤيد، علي حيدر

محل نشر: ، بيروت

ناشر: دارالعلوم

تاریخ نشر: 1424 ق، 2004 م

نوبت چاپ: اول

تعداد صفحات: 689ص

زبان: عربي

موضوع:قرآن - پندها و اندرزها

موضوع :قرآن - اهل ایمان

ص: 1

اشارة

ص: 2

تحفة البيان ، خطاب القرآن لاهل الايمان

مؤلف: مؤيد، علي حيدر

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 5

ص: 6

الاهداء

إليك أيّها الأمير العظيم ..

إليك ياأمير النحل .. وياأبا تراب .. وياباب مدينة العلم ..

إليك ياسيّد الوصيّين وإمام المتّقين

إليك يامن ما نزلت آية تذكر المؤمنين إلّا وكنت أميرها وسيّدها ..

إليك ياداحي الباب ومفرّق الأحزاب ..

إليك ياأبا الحسن ياعلي بن أبي طالب يامفرّج الهمّ .. وكاشف الكرب ، وحبيب القلب ..

اُقدّم هذه البضاعة المزجاة

فأقبل منّي سيّدي هذا الجهد الضئيل السابح في بحر القرآن الكريم

فياكتاب اللَّه الناطق

أنطق ألسنتنا بالصدق ، وسدّد خطانا للحقّ

ويامدار الحقّ وياقائد الخلق إلى الحقّ .. ياأمير المؤمنين

سيّدي ياساقي الناس في يوم المحشر اقبل وتفضّل ..

المؤلّف

ص: 7

ص: 8

المقدّمة

اشارة

«الْحَمْدُ للَّهِِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً» .

«كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» .. «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» ..

الحمد للَّه حمداً كثيراً كما أمر ..

الحمد للَّه وكفى . والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّد المصطفى وعلى آله النجباء ، وعترته الشرفاء ، مهبط البركات ، ومنبع النور والخيرات .

من أوّلهم وأميرهم الإمام علي(عليه السلام) وزوجته الطاهرة البتول ، فاطمة الزهراء عليها السلام وإبنيهما الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ، والتسعة المعصومين من أبناء الإمام الحسين(عليه السلام) أئمّة المسلمين زين العابدين ، والباقر ، والصادق ، والكاظم ، والرضا ، والجواد ، والهادي ، والعسكري .. وخاتمهم مهديّ هذه الاُمّة عليهم السلام والتحيّة والإكرام - ..

وعجّل اللَّه تعالى فرج إمامنا إمام العصر والزمان الحجّة ابن الحسن (عليه السلام)وجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه ، والسائرين على نهجه القويم والمتمسّكين بإمامته وإمامة آبائه الطاهرين عليهم السلام .

ص: 9

والعن اللهمّ كلّ من آذى وظلم محمّداً وآله صلى الله عليه وآله من الأوّلين والآخرين من الآن إلى قيام يوم الدين إله الحقّ آمين ..

القرآن في لسان أهل البيت عليهم السلام

أمّا بعد .. فالقرآن الكريم : هو كتاب اللَّه المنزل على الرسول المبجّل محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه وآله .

فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((هو كلام اللَّه ، وقول اللَّه ، وكتاب اللَّه ، ووحي اللَّه وتنزيله ..))(1).

فهو النبأ العظيم ، قوله فصل وحكمه عدل يسير مع الاُمّة كمسير الشمس والقمر ، حيث إنّهما يأتيان للعالم كلّ يوم بالجديد والمفيد ..

وكذلك القرآن الكريم ، فهو لكلّ قوم .. بل لكلّ البشر . وفي كلّ عصر ومصر منذ أن نزل على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وإلى آخر لحظة من عمر الكون باقياً بقاء الحقّ والصدق والقسط والعدل .

وهو لكلّ الأقوام يكون غصناً طريّاً وفي كلّ الأوقات نوراً مضيئاً ، وفي كلّ العصور غوثاً نديّاً ، ولكلّ المؤمنين معاذاً وملاذاً أبديّاً ..

فعن الإمام الرضا(عليه السلام) قال : ((هو (القرآن) حبل اللَّه المتين وعروته الوثقى ، وطريقته المثلى ، المؤدّي إلى الجنّة والمنجي من النار ، لا يخلَقَ من الأزمنة ولا يغثّ على الألسنة لأنّه لا يجعل لزمان دون زمان ، بل جعل دليل البرهان ، وحجّة على كلّ

ص: 10


1- توحيد الصدوق : ص223 ح3 .

إنسان ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ..))(1).

وهو المعجزة الخالدة التي أيّد بها اللَّه سبحانه رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وكشف به عن رسالته الخاتمة التي تحدّت - وما زالت تتحدّى - جميع الناس على اختلاف مللهم ونحلهم على أن يأتوا بسورة من مثله ولو كانت سطراً واحداً كسورة الكوثر المباركة ..

فهو أحسن الحديث ، وأجمل القصص ، وأعظم الحكم لأرقى الاُمم ، ولكل من يريد أن ينتشل نفسه من ظلمات الجهل والفتن إلى نور العلم والأمن والاطمئنان ..

وإلى ذلك أشار الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله قائلاً : ((القرآن هدى من الضلالة ، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة ونور من الظلمة ، وضياء من الأحداث ، وعصمة من الهلكة ، ورشد من الغواية ، وبيان من الفتن ، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة ، وفيه كمال دينكم ، وما عدل أحد عن القرآن إلّا إلى النار ..))(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((أيّها الناس ، من استنصح اللَّه وفّق ، ومن اتّخذ قوله دليلاً هُدي للتي هي أقوم ..))(3).

أمّا الصدّيقة الزهراء عليها السلام فقد قالت عن القرآن : ((للَّه فيكم عهد قدّمه إليكم ، وبقيّة استخلفها عليكم ، كتاب اللَّه ، بيّنة بصائره ، منكشفة سرائره ، وبرهان متجلّية ظواهره ، مديم للبرية استماعه ، وقائد إلى الرضوان أتباعه ، ومؤدّ إلى النجاة أشياعه ..))(4).

ص: 11


1- عيون أخبار الرضا - عليه السلام - : ج2 ص130 ح9 .
2- الكافي : ج2 ص600 ح8 .
3- نهج البلاغة : خ147 في عظة الناس.
4- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص567 ح4940 .

القرآن دليل الخيرات

هذا وإنّ للقرآن الكريم فضلاً عظيماً لا يعلمه إلّا اللَّه ومن نزل عليهم عليهم السلام .

فعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((أيّها الناس إنّكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلّ جديد ، ويقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود ، فأعدّوا الجهاز لبُعد المجاز ..)) .

فقام المقداد بن الأسود فقال : يارسول اللَّه صلى الله عليه وآله وما دار الهدنة .. ؟

فقال صلى الله عليه وآله : ((دار بلاغ وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع ، وماحل مصدّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه قاده إلى النار ، وهو الدليل يدلّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل ، وبيان ، وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ..))(1).

أهل البيت وعلوم القرآن عليهم السلام

نعم إنّ لظهر القرآن بطناً ، ولبطنه بطن إلى سبع بطون وعلمها كلّه عند رسول اللَّه وآله الأطهار عليهم السلام الذين هم أهل القرآن وأهل الذكر كما ورد في الذكر الحكيم .. وقد تظافرت الأحاديث حول هذا عند العامّة والخاصّة لا سيّما عن العبادلة الثلاثة(2) الذين اعترفوا أنّ علم القرآن ظواهره وبواطنه عند أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وبالتبع والإرث الرسالي عند أبنائه الكرام كابراً عن كابر ولاحقاً عن

ص: 12


1- الكافي : ج2 ص599 - 598 ح2 .
2- العبادلة هم : عبداللَّه بن عمر، عبداللَّه بن عبّاس، عبداللَّه بن الزبير .

سابق ، لأنّهم حجج اللَّه في الأرض وأئمّة الدين وقادة المسلمين إلى ربّ العالمين في الدنيا والدين .

ففضل القرآن عظيم ، ونوره مبين وهو رحمة مهداة لجميع الناس لانتشالهم من الظلمات إلى النور ، ومن الجور والظلم إلى بحبوحة القسط والعدل ، فهو كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في النهج الشريف :

((أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه ، وشعاعاً لا يظلم ضوؤه ، وفرقاناً لا يخمد برهانه ، وتبياناً لا تهدم (تنهدم) أركانه ، وشفاءً لا تخشى أسقامه ، وعزّاً لا تهزم أنصاره ، وحقّاً لا تخذل أعوانه ، فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحقّ وغيطانه ، وبحر لا يترفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضلّ نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السائرون ، وآكام (إمام) لا يجوز عنها القاصدون جعله اللَّه ريّاً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء ، ومحاجّ لطرق الصلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونور ليس معه ظلمة ، وحبلاً وثيقاً عروته ، ومعقلاً منيعاً ذروته ، وعزّاً لمن تولّاه ، وسلماً لمن دخله ، وهدى لمن ائتمّ به ، وعذراً لمن انتحله ، وبرهاناً لمن تكلّم به ، وشاهداً لمن خاصم به ، وملجأً لمن حاجّ به ، وحاملاً لمن حمله ، ومطيّة لمن أعمله ، وآية لمن توسّم ، وجُنّة لمن استلأم ، وعلماً لمن وعى ، وحديثاً لمن روى ، وحكماً لمن قضى ..))(1).

فهذا الكتاب الكريم يحتاج إلى من يطبّقه ويوؤله ويفسّره للناس على أرض الحقيقة والواقع ، وهو ضرورة حضارية في كل عصر ومصر ، لأنّه شمس لا تغيب

ص: 13


1- نهج البلاغة : خ198 في القرآن الكريم .

- ولن تغيب بإذن اللَّه تعالى - فكلّما تقدّم العلم وتطوّرت الحياة على هذه الكرة الترابية سيجد الناس - خاصّة العلماء - ضرورة لوجود القرآن الكريم بين أيديهم ، لأنّ في القرآن آيات وآيات إلى الآن لم تفسّر بالوجه الأكثر شمولية ، بل اكتفى الأقدمون بإيراد بعض الأحاديث أو ببعض الآراء التي حسبوها أنّها تفسّر الآيات المباركة إلّا أنّنا اليوم نجد - مثلاً - أنّ العلم قد كشف لنا عن الكثير من النظريات العلمية في القرآن الكريم ..

فنظرية كروية الأرض قد نصّ عليها القرآن الكريم حيث قال سبحانه وتعالى : «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا(1)».

والدحيّة : هي البيضة ..

هذا فضلاً عن نظرية الظلمات والنور المتراكمة التي يلاحظها القارئ موزّعة في أكثر من مكان في القرآن لا سيّما سورة النور العظيمة .

وكذلك الحال بالنسبة إلى نظرية خلق السماوات والمجرّات وما شابه حيث قال تعالى : «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ(2)».

ناهيك عن نظرية غزو الفضاء والوصول إلى المريخ التي أشار القرآن إليها في قوله تعالى : «إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ(3)» علماً أنّ الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وصل إلى أرفع من المريخ واجتاز السماء السابعة حتى أصبح ك «قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ..(4)» وذلك في المعراج

ص: 14


1- سورة النازعات (79) : الآية 30 .
2- سورة الذاريات (51) : الآية 47 .
3- سورة الرحمن (55) : الآية 33 .
4- سورة النجم (53) : الآية 9 .

عندما : «دَنَا فَتَدَلَّى(1)».

وهكذا ، فالقرآن نبراس لكلّ الاُمم ولكلّ الشعوب الطامحة إلى العلم والحلم والأدب وكل أنواع الفضائل والعلوم الكونيّة والأخلاقية والتنظيميّة والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها من العلوم التي تجدها مختزنة بين الدفّتين ، وربّنا سبحانه يقول : «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ ..(2)»، أي أنّنا لم ندع شيئاً ممّا تحتاجونه - يابني البشر وربما الجنّ كذلك - إلّا وأوضحناه في القرآن الكريم ، فما عليكم إلّا التزام القرآن والسير على منهاجه والإصطباح بأنواره لتصبحوا أسعد وأفضل المخلوقات طرّاً .

العترة عليهم السلام صنو القرآن

ولا يخفى أنّ هذا الكتاب العظيم له أهل واُناس هم له عدل قد أوجب الباري عزّوجلّ مودّتهم والتمسّك بحبّهم وحبلهم والسير تحت قيادتهم الحكيمة ، حيث أمر الباري تعالى بذلك فقال : «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ..(3)».

وقد فسّر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله المراد من مودّته حيث قال : ((إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما))(4).

ص: 15


1- سورة النجم (53) : الآية 8 .
2- سورة الانعام (6) : الآية 38 .
3- سورة الشورى (42) : الآية 23 .
4- بحار الأنوار : ج37 ص180 ح66. وقد ذكر العامّة في كتبهم الحديث بكثرة ، فمّمن ذكره هم : مسند أحمد: ج5 ص182 - 181، صحيح مسلم: ج2 ص238 - 237، صحيح الترمذي: ج5 ص663 رقم3788، الطبقات الكبرى: ج1 ص194، المطالب العالية: ح1873، الخصائص الكبرى: ج2 ص266، فرائد السمطين: ج2 ص268، منتهى الأرب: ج1 ص143 مادّة )ثقل(، حلية الأولياء لأبي نعيم: ج1 ص355، المناقب للخوارزمي: ص93، تاريخ ابن عساكر: ج2 من ترجمة الإمام علي(عليه السلام) ، تاريخ ابن كثير: ج5 ص208، اُسد الغابة: ج3 ص147، مطالب السؤول: ص8 .

فإنّ مثل هذا الحديث المشهور الذي يسمّى بحديث ((الثقلين)) روته كتب العامّة والخاصّة ، وهو يؤكّد على وجود القرآن الناطق إلى جانب القرآن الصامت وكلاهما ضروريّان لأنّهما ((لن يفترقا)) وأي افتراق بينهما يعني ضياع الاُمّة ..

فالقرآن بدون أهل البيت عليهم السلام لا يمكن لأحد أن يبلغ علمه وحكمته وأحكامه مهما بلغ من العلم والذكاء ..

وكذا الحال بالنسبة لأهل البيت عليهم السلام فإذا لم تسمح لهم الاُمّة في تطبيق القرآن على أرض الواقع ، ولم تهتدِ بهداهم في الأحكام والتشريعات فإنّه لا فائدة مرجوّة في هذه الاُمّة ..

ولا شكّ ولا ريب أنّ في كلا الحالتين ضياع للاُمّة ، ولكن إذا اقترن القرآن الصامت بالقرآن الناطق وأخذت الاُمّة بحجزتهم وسارت على نهجهم وتمسّكت بحبلهم وعروتهم الوثقى فإنّها ستنموا وتزكوا ويبارك لها اللَّه في كلّ شي ء ..

فأهل البيت عليهم السلام لا يقاس بهم أحد في هذه الاُمّة أبداً لا من الماضين ولا القادمين إلى قيام يوم الدين ، وإلى ذلك يشير الإمام علي(عليه السلام) في إحدى خطبه حيث وصفهم بقوله :

((هم موضع سرّه - للرسول صلى الله عليه وآله - ولجأ أمره ، وعيبة علمه ، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره ، وأذهب ارتعاد فرائصه ..

ص: 16

لا يقاس بآل محمّد صلى الله عليه وآله من هذه الاُمّة أحد ، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً .. هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفي ء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص ، حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ..))(1).

وقال(عليه السلام) في موضع آخر : ((نحن شجرة النبوّة ، ومحطّ الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومعادن العلم ، وينابيع الحكم ، ناصرنا ومحبّنا ينتظر الرحمة ، وعدوّنا ومبغضنا ينتظر السطوة ..))(2).

نعم ، إنّ أهل البيت عليهم السلام هم الراسخون في العلم دون غيرهم ، ولذا قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا ، أن رفعنا اللَّه ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إنّ الأئمّة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ؛ لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم))(3).

وقال(عليه السلام) : ((هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم ، لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الإسلام ، وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحقّ إلى نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن مثبته ، عقلوا الدين عقل عناية ورعاية ، لا عقل سماع ورواية ، فإنّ رواة العلم كثير ، ورعاته قليل ..))(4).

ص: 17


1- نهج البلاغة : خ2 يصف فيها آل النبي عليهم السلام .
2- نهج البلاغة : خ109 في أهل البيت عليهم السلام .
3- نهج البلاغة: خ144 في أئمّة الدين عليهم السلام .
4- نهج البلاغة : خ239 يذكر فيها آل محمد عليهم السلام .

قراءة القرآن وحفظه

وبالرغم من ذلك كلّه إلّا أنّنا نجد أنّ الأئمّة الأطهار عليهم السلام قد حثّوا الاُمّة على ضرورة القراءة الواعية للقرآن ، وحفظه ودراسته ومحاولة تفسيره ولو بما يتيسّر بقدر المستطاع ، فقد قال الإمام علي(عليه السلام) : ((تعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث ، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور ، وأحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص ، وإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله ، بل الحجّة عليه أعظم ، والحسرة له ألزم ، وهو عند اللَّه ألوم ..))(1).

وقال الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) : ((آيات القرآن خزائن ، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها ..))(2).

وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((تدبّروا آيات القرآن واعتبروا به ، فإنّه أبلغ العبر ..))(3).

وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) في دعائه قبل قراءة القرآن : ((اللهمّ إنّي نشرت عهدك وكتابك ، اللهمّ فاجعل نظري فيه عبادة وقراءتي تفكّراً ، وفكري اعتباراً ، واجعلني ممّن أتّعظ ببيان مواعظك فيه ، وأجتنب معاصيك ، ولا تطبع عند قراءتي كتابك على قلبي ولا على سمعي ، ولا تجعل على بصري غشاوة ، ولا تجعل قراءتي قراءة لا تدبّر فيها ، بل اجعلني أتدبّر آياته وأحكامه ، آخذاً بشرائع دينك ، ولا تجعل نظري فيه غفلة ولا قراءتي هذرمة إنّك أنت الرؤوف الرحيم))(4).

ص: 18


1- نهج البلاغة : خ110 في أركان الإسلام .
2- الكافي : ج2 ص609 ح2 .
3- نهج البلاغة : ق1985 في التدبير في القرآن .
4- إقبال الأعمال : ص110 .

التدبّر ضرورة حيوية

ولا يخفى أنّ التدبّر في القرآن الكريم هو ضرورة دعت إليها الآيات المباركة في القرآن الكريم ذاته ، وقد وردت هذه المفردة في القرآن أربع مرّات وذلك بلفظتين هما ((يدبّروا)) و ((يتدبّرون)) ، والآيات هي :

1 - «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً(1)».

2 - «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(2)».

3 - «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الْأَوَّلِينَ(3)».

4 - «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(4)».

والتدبّر يعني التتبّع الدقيق المتواصل لآيات القرآن الكريم ، مع عقد العزم على تنفيذ الأوامر الإلهية بدقّة وهي فعل الواجبات ، وترك المحرّمات ، والتقرّب بالمستحبّات والمندوبات ، واجتناب مواطن التُّهم والشبهات .

ولسائل أن يسأل : لماذا يدعو اللَّه تعالى إلى التدبّر في القرآن الكريم ؟

والجواب عليه : أنّ التدبّر في القرآن الكريم ضرورة حياتية وحضارية ملحّة ، وذلك لعدّة أسباب نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر :

1 - إنّ التدبّر في القرآن ضرورة لفقه الدين الإسلامي ككل .

2 - إنّ التدبّر في القرآن واجب لفقه السنّة النبويّة المطهّرة .

ص: 19


1- سورة النساء (4) : الآية 82 .
2- سورة محمد (47) : الآية 24 .
3- سورة المؤمنون (23) : الآية 68 .
4- سورة ص (38) : الآية 29 .

3 - إنّ التدبّر ضروري لفهم الحياة ، فقد قال تعالى : «اسْتَجِيبُوا للَّهِِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ..(1)».

4 - إنّ التدبّر ضروري لبناء الشخصية الإسلامية والإنسانية المتكاملة .

5 - إنّ التدبّر ضروري لبناء المجتمع المثالي ، الذي ينعدم فيه التسلّط والقهر والظلم والاستغلال . وينتشر فيه العدل والحرّية والمساواة بكلّ معانيها ومبانيها .

وبالتالي فإنّ للتدبّر في كتاب اللَّه دوراً هاماً ، فعلينا جميعاً أن ندرس القرآن ونتدبّر آياته المباركة ، وندعوا الناس جميعاً لقراءته ودراسته بدقّة وإمعان ، على مختلف ألوانهم وأشكالهم ومختلف صنوفهم واختصاصاتهم .

فإنّ كلاً من الناس يأخذ بقدر ما يفيده ويسدّده ويرشده إلى خير وسيلة وطريق في الدارين ، ففي الدنيا يكون مسروراً سعيداً ، وفي الآخرة يكون في الجنّات ورضاً الرحمن .

المسلمون والقرآن

ومن هذا المنطلق أخذ المسلمون ومنذ بداية نزول القرآن يهتّمون بالقرآن سواء عبر القراءة أو الحفظ أو الدراسة أو التفسير أو غيرها .

وقد فهم العرب الأوائل القرآن الكريم لأنّه نزل بلغتهم وقد أخذ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله يوضّح بعض مبهماته اللغوية والفقهية وما شابه ذلك ، ومن جانب آخر أخذ الرسول صلى الله عليه وآله يعلّم الإمام عليّاً(عليه السلام) كلّ ما تحتاجه الاُمّة من العلوم كتفسير القرآن وتأويله ومحكمه ومتشابهه وظواهره وبواطنه ولم يدع شيئاً من كلّ ذلك إلّا

ص: 20


1- سورة الأنفال (8) : الآية 24 .

وعلمه إيّاه ..

فقد قال الإمام علي(عليه السلام) في هذا الصدد وهو يخاطب طلحة بن محمّد ((ياطلحة : إنّ كلّ آية أنزلها اللَّه تعالى على محمّد صلى الله عليه وآله عندي بإملاء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وخطّ يدي ، وتأويل كلّ آية أنزلها اللَّه تعالى على محمّد صلى الله عليه وآله وكلّ حلال أو حرام ، أو حدّ أو حكم ، أو شي ء تحتاج إليه الاُمّة إلى يوم القيامة ، فهو عندي مكتوب بإملاء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وخطّ يدي ، حتّى أرش الخدش ..))(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) : ((ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما اُنزل إلّا كذّاب ، وما جمعه وحفظه كما نزّله اللَّه تعالى إلّا علي بن أبي طالب (عليه السلام)والأئمّة من بعده عليهم السلام))(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) : ((ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ، ظاهره وباطنه ، غير الأوصياء ..))(3).

وقد كان الصحابة والتابعون ومن أتى بعدهم آنذاك يكتبون الأحاديث وأسباب النزول أوّلاً ثم التوضيحات اللازمة من فقه ولغة وعلوم وما شابه ذلك ، وقد قسّموا المفسّرين إلى طبقات ، إلّا أنّ تعقيدات الحياة من جهة وابتعاد الاُمّة عن زمان ومكان هبوط الوحي ونزول الرسالة من جهة ثانية ، وكثرة البلدان المفتوحة واختلاط الاُمم ودخولهم في دين اللَّه أفواجاً من كل الحضارات والأعراق والثقافات أدّى إلى ضعف الفهم للقرآن الكريم ، وقلّة الوعي للآيات حتى في هذه الأيّام - عصر

ص: 21


1- كتاب سليم بن قيس : ص658 - 657 .
2- الكافي : ج1 ص228 ح1 .
3- الكافي : ج1 ص228 ح2 .

الحضارة والثقافة - تجد أنّ ضعف فهم المسلمين واضحاً وجليّاً .

لذلك فقد كُتبت التفاسير بأنواعها المختلفة ، فكل راح يكتب من صنعته ، فالاُدباء اهتمّوا بآداب القرآن وأدبه ، والمؤرخّون اهتمّوا بقصص القرآن وأحداثه المثبتة ، والفقهاء أخذوا يدرسون آيات الأحكام والمواريث والديّات ، واللغويون راحوا يعربون القرآن ويبحثون عن النكات الإعرابية ، وهكذا ولكن يبقى القول إنّ القرآن يتعالى ويرتفع في كل يوم ، فمهما كثرت التفاسير والدراسات القرآنية - وربما تجاوزت الألف كما نقل لي أحدهم - إلّا أنّها تبقى قليلة ومتواضعة ..

بل إنّه لا يوجد لدينا تفسير جامع يتناول القرآن من جميع الوجوه الدينية والأخلاقية والأدبية والكونية والعلمية ، لأنّ ذلك يجلّ عن تناول إنسان بمفرده ولا حتّى اللجان والمؤسسات إذ إنّه لا يمكن للجرّة أن تسع المجرّة .. ولا يمكن للمحدود أن يستوعب الكامل والمطلق ، ولا للداني أن يصل إلى العالي مهما حاول السمو والارتفاع فحاله يكون كحال حبّة الرمل التي تخاطب الجبل الشاهق قائلة أنا أكبر منك ..

معنى التفسير

التفسير : هو إيضاح مراد اللَّه تعالى من كتابه العزيز ، ولا يجوز الاعتماد فيه على الظنون ، والاستحسان ، ولا على شي ء لم يثبت أنّه حجّة من طريق العقل ، أو من طريق الشرع .

إذن : على المفسّر أن يجري مع الآية حيث تجري ، ويكشف معناها حيث تشير ، ويوضّح دلالتها حيث تدلّ ، وعليه أن يكون حكيماً ، حين تشتمل الآية على

ص: 22

الحكمة ، وخلقياً حين ترشد الآية إلى الأخلاق ، وفقهيّاً حيث تتعرّض للفقه ، واجتماعيّاً حيث تبحث في الاجتماع ، وهكذا .

وعلى المفسّر : أن يوضّح الفنّ الذي يظهر في الآية ، والأدب الذي يتجلّى بلفظها موضّحاً أهمّ المعارف القرآنية التي يمكن استفادتها .

وهذا بالطبع يبدو متعذّراً علينا إلّا أنّنا وانطلاقاً من ضرورة دراسة القرآن وتوضيحه وتفسيره لهذه الأجيال والأجيال القادمة قمنا باختيار موارد النداء للمؤمنين وجمع كافّة الآيات التي تتعلّق بذلك والبالغ عددها 89 بحثاً قرآنياً ، ونستعين باللَّه تعالى على ذلك .

النداء وأنواعه

هو مخاطبة شخص بإحدى أدوات النداء المعروفة في لغة العرب .. ويختلف النداء باختلاف أدواته ، إلّا أنّ العرب كانت تحبّذ النداء بالكنى والصفات المحبّبة حتّى أنّهم كانوا يكنّون الأطفال منذ الصغر وربما هذا ما أكّده الدين الإسلامي عبر روايات أهل البيت عليهم السلام .

وهناك نوعان من النداء في القرآن الكريم - ضمن سياق نداء المجموع - فتارةً يكون النداء ب ((ياأيّها الناس ..)) واُخرى ب ((ياأيّها الذين آمنوا ..)) فلماذا ذلك ؟

الجواب عليه إنّ التدقيق في مواضع النداء العام ب ((ياأيّها الناس ..)) عادةً ما ينطلق من منطلق إرادة السماء في توجيه إنسانية الإنسان ، أو تذكيره بعنصره الإنساني فتتوجّه إلى جميع البشر في قضايا تكون مفيدة لهم جميعاً وتسترعي انتباههم بنفس الوقت .

ص: 23

مثل القضايا العلمية التي لا يشترط الإيمان في تنفيذها ، كالنفاذ من أقطار السماوات والأرض ، فيقول عزّ من قائل : «يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ..(1)».

أو كما ذكّر تعالى بمسألة الموت وما بعدها فقال : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ..(2)».

أو كما تطرّق إلى طبيعة العلاقة بين الشعوب ، فقال عزّوجلّ : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..(3)».

أو كما أشار إلى كيفية العلاقة بين الناس وخالقهم ، فقال : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ..(4)».

فهذه المواضيع شاملة لكلّ الناس فيتوجّه النداء إليهم جميعاً .. حيث يحرّك القرآن الكريم عبر هذه الخطابات الإنسان من موقع الإنسانية فيثير في نفسه المشاعر والأحاسيس التي تؤكّد على ارتباطه بالخالق أوّلاً وبالمبدأ والمعاد ثانياً .

أمّا مواضع النداء بالنداء الثاني ب ((ياأيّها الذين آمنوا ..)) فهو توجيه خاصّ لضرورة الالتزام بالأوامر الواردة بعد النداء وغالباً ما تكون أحكاماً إلزامية أو آداباً وأخلاقاً إسلامية ..

فالنداء عند ذلك يرمي إلى تذكيرهم بأنّهم مؤمنون وأنّ عليهم أن يتقيّدوا تماماً بالأوامر فيهرعون إلى تنفيذها بحذافيرها وبدقّة متناهية علماً أنّ الأوامر في مثل هذه الآيات تكون للجميع إلّا أنّ الالتزام بها يكون من خصائص المؤمنين فقط ، ولذلك

ص: 24


1- سورة الرحمن (55) : الآية 33 .
2- سورة الحجّ (22) : الآية 5 .
3- سورة الحجرات (49) : الآية 11 .
4- سورة النساء (4) : الآية 1 .

توجّه النداء لهم من هذه من جهة ..

ومن جهة اُخرى يستفاد من هذا النداء عظم المحبّة والتعظيم للمؤمنين والإقبال عليها برغبة وفرح وسرور كاملين .

إذن : علينا أن نفرّق بين الندائين بين ما يرتبط بالجانب الإنساني الذي يخاطب به جميع الناس ، وبين ما يرتبط بالجانب الإيماني الذي يخاطب به المؤمنون فقط .

ولا يخفى أنّ بحثنا - في هذا الكتاب - من النوع الثاني أي أنّه مختصّ ب ((ياأيّها الذين آمنوا ..)) فعلينا دائماً ملاحظة هذه النقطة الهامّة .

الإيمان والمؤمن

الإيمان : هو التصديق ..

والمؤمن : هو المصدّق باللَّه عزّوجلّ - وبما وعد به .

والمؤمن : هو اسم من أسماء اللَّه الحسنى ، ومنهم من قال : أنّ ((المؤمن)) في صفات اللَّه تعالى هو أن يصدّق ما وعد به عبده من الثواب ..

وقال آخرون : هو مؤمن لأوليائه ، يؤمنهم عذابه ولا يظلمهم ..(1).

وقد وردت كلمة ((الإيمان)) ومشتقّاتها بشكل كبير جدّاً في الكتاب الحكيم فلا تكاد تخلو منها سورة من سور القرآن المباركة ، وعلى سبيل المثال فقد ورد في القرآن لفظ :

((الإيمان)) 17 مرّة .

و ((مؤمن)) 15 مرّة .

ص: 25


1- معجم مقابيس اللغة : ج1 ص135 .

و ((مؤمنون)) 35 مرّة .

و ((مؤمنين)) 144 مرّة .

و ((آمنوا)) 258 مرّة .

و ((آمن)) 33 مرّة .

وقد وردت سورة كاملة باسم ((المؤمنون)) واُخرى باسم ((المؤمن)) .

ولا يخفى أنّ بحث الإيمان هو غاية في الطرافة واللطافة ، فهو ناعم رقيق لأنّه يمسّ شغاف القلوب ويتغلغل بين حنايا الروح وينطلق من الفؤاد ويستقرّ فيه ..

ولا ريب أنّ حقائق القرآن لا يعرفها إلّا أصحاب القلوب الصافية - كالرسل والأنبياء والأوصياء - عليهم صلوات ربّي جميعاً وعباد اللَّه الصالحين ، فعلينا أن نأخذ منهم معنى الإيمان ووصف المؤمن ..

ولا يختلف إثنان أنّ خير معين ، وأصفى قلب ، وأنقى لسان هو رسول الإنسانية محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه وآله ومن بعده الأئمّة الأطهار عليهم السلام ، فمنهم نأخذ عبق من أريج العترة الأحاديث النورانية الواردة في هذا المجال .

ففي رواية حمران بن أعين عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : سمعته يقول : ((الإيمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى اللَّه عزّوجلّ وصدّقه العمل بالطاعة للَّه والتسليم لأمره))(1).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال في حديث طويل : ((إنّ اللَّه فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها ، فليس من جوارحه جارحة إلّا وقد وكّلت من الإيمان بغير ما وكّلت به اُختها - إلى أن قال - : فأمّا ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلّا اللَّه وحده لا

ص: 26


1- الكافي : ج1 ص134 ح5 .

شريك له إلهاً واحداً لم يتّخذ صاحبةً ولا ولداً وأنّ محمّداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله والإقرار بما جاء من عند اللَّه من نبي أو كتاب))(1).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((الإيمان شجرة أصلها اليقين ، وفرعها التقى))(2).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) : ((الإيمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى اللَّه عزّوجلّ وصدّقه العمل بالطاعة للَّه والتسليم لأمره))(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) : ((لا يبلغ أحدكم الإيمان حتى يحبّ أبعد الخلق منه في اللَّه ، ويبغض أقرب الخلق منه في اللَّه ..))(4).

فالإيمان إذن ليس كلاماً وحسب ، بل هو روح في القلب يبعث الإنسان نحو التسليم للحقّ ، وهو وقر في النفس يتجلّى في العمل الصالح .. إنّه كلمة التقوى تتجلّى في التقيّد بحدود اللَّه سبحانه .. وإنّه الرسوخ في العلم عندما يتجلّى في التسليم النفسي للحقّ والإذعان به ..

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصف الإيمان :

((الإيمان على أربع دعائم .. على الصبر ، واليقين ، والعدل ، والجهاد . والصبر منها على أربع شعب : على الشوق ، والإشفاق ، والزهد ، والترقّب ، فمن اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار اجتنب المحرّمات ، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات .

واليقين منها على أربع شعب : على تبصرة الفطنة ، وتأوّل الحكمة ، وموعظة

ص: 27


1- وسائل الشيعة : ج15 ص164 ح20218 .
2- نهج البلاغة : ق1441 في حقيقة الإيمان .
3- الكافي : ج2 ص26 ح5 .
4- بحار الأنوار : ج75 ص252 .

العبرة ، وسنّة الأوّلين ، فمن تبصّر في الفطنة تبيّنت له الحكمة ، ومن تبيّنت له الحكمة عرف العبرة ، ومن عرف العبرة فكأنّما كان في الأوّلين .

والعدل منها على أربع شعب : على غائص الفهم ، وغور العلم ، وزهرة الحكم ، ورساخة الحلم ، فمن فهم علم غور العلم ، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم ، ومن حلم لم يفرّط في أمره وعاش في الناس حميداً .

والجهاد منها على أربع شعب : على الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين : فمن أمر بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين ، ومن نهى عن المنكر أرغم اُنوف الكافرين )المنافقين( ، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه ، ومن شنئ الفاسقين وغضب للَّه ، غضب اللَّه له وأرضاه يوم القيامة .

والكفر على أربعة دعائم : على التعمّق ، والتنازع ، والزيغ ، والشقاق ، فمن تعمّق لم ينب إلى الحقّ ، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحقّ ، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة ، وحسنت عنه السيّئة ، وسكر سكر الضلالة ، ومن شاقّ وعرت عليه طرقه ، وأعضل عليه أمره ، وضاق عليه مخرجه .

والشك على أربع شعب : على التماري والهول ، والتردّد ، والإستلام فمن جعل المراء ديدناً )ديناً( لم يصبح ليله ، ومن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه ومن تردّد في الريب وطئته سنابك الشياطين ، ومن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلك فيهما))(1).

فالإيمان إذن : هو عزمة إرادة ونور مركّز ، يوفّق اللَّه له عبداً صبر وأيقن وعدل وجاهد ، وكلّ ذلك لا يأتي إلّا بالسعي والعمل والتقوى في كل الحركات والسكنات طيلة عمر الإنسان المؤمن ..

ص: 28


1- نهج البلاغة : ق31 .

وكما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لدى وصفه للإيمان : ((سبيل أبلج المنهاج ، أنور السراج ، به يستدلّ على الصالحات ، وبالصالحات يستدلّ على الإيمان ، وبالإيمان يعمر العلم ، وبالعلم يرهب الموت ، وبالموت تختم الدنيا ، وبالدنيا تحرز الآخرة ، وبالقيامة تزلف الجنّة للمتّقين ، وتبرز الجحيم للغاوين ، وإنّ الخلق لا مقصّر لهم عن القيامة مرقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى))(1).

المؤمن كما وصفه أهل البيت عليهم السلام

فإذا كان هذا هو الإيمان فمن هو المؤمن .. ؟

الجواب : إنّ المؤمن هو من يتّصف بجميع صفات الإيمان ، ويتنوّر بأنواره الرحمانية وربما تحوّل المؤمن إلى كتلة نور تضي ء لأهل السماء كما تضي ء النجوم لأهل الأرض وهذا ما نصّ عليه الإمام الصادق(عليه السلام) لمّا سئل عن أهل السماء هل يرون أهل الأرض ؟

فقال(عليه السلام) : ((لا يرون إلّا المؤمنين .. لأنّ المؤمن من نور ، كنور الكواكب ....

قيل : فهم يرون أهل الأرض ؟ قال(عليه السلام) : لا ، يرون نوره حيثما توجّه))(2).

وفي حديث آخر قيل للإمام الصادق(عليه السلام) لِمَ سمّي المؤمن مؤمناً ؟

فقال(عليه السلام) : ((لأنّه اشتقّ للمؤمن إسماً من أسمائه - تعالى - فسمّاه مؤمناً ، وإنّما سمّي المؤمن لأنه يؤمن من عذاب اللَّه - تعالى - ويؤمن على اللَّه يوم القيامة فيجيز له ذلك .. ولو أكل أو شرب أو قام أو قعد ، أو نام أو نكح أو مرّ بموضع قذر ، حوّله اللَّه

ص: 29


1- نهج البلاغة : خ156 في وصفه للإيمان .
2- البحار ج64 ص63 ح6 .

من سبع أرضين طهراً ، لا يصل إليه من قذرها شي ء ..))(1).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ، ولكن أتاه عن ربّه وأخذ به .. إنّ المؤمن يرى يقينه في عمله ، والكافر يرى إنكاره في عمله ..))(2).

ونحن إذ نعبّر عن الإيمان بالنور ، لعدّة اُمور ، منها : إنّه مختلف من حيث القوّة والضعف ومن شخص إلى آخر ، فمن الأنوار ، ما يكون كالشمعة ومنها ما يكون كالشمس كما هو معروف وموصوف ..

قد أفلح المؤمنون

أمّا صفات المؤمنين فإنّنا نقتبسها من كتاب اللَّه - تعالى - فإنّه أجمل الحديث ، وأصدق القول ، فهو يقول في أوّل سورة المؤمنون المباركة :

«قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِاَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(3)».

ويقول تعالى في ختام سورة الفرقان المباركة : «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ

ص: 30


1- مستدرك الوسائل : ج2 ص612 ح2881 .
2- نهج البلاغة : الكلمات ق125 .
3- سورة المؤمنون (23) : الآية 11 - 1 .

عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً(1)«.

ثمّ إنّ للَّه سبحانه نورين : نور يتجلّى في كتابه ، ونور يفيضه على قلوب عباده الصالحين ، فالقرآن الكريم نور اللَّه المنبسط في الكلمات ، .. وقلب المؤمن يعمر بنور اليقين الذي يفيض مباشرة من عند اللَّه عليه .

وحين يلتقي النوران يتكامل العرفان وهناك يشهد المؤمن حقائق الحقّ ، كما لو أنّها لؤلؤة شفّافة فوق كفّه يقلّبها كيف يشاء .

فعندما ينظر المؤمن بنور اللَّه المكنون في آيات الذكر ، فإنّ حدود المعرفة تصبح مترامية وإنبعاثاً من نقطة مركزه هي معرفة اللَّه بالوحدانية وانتهاءً بكل ذرّة في هذا العالم الفسيح يتشكّل عرفان المؤمن شلّالاً متدفّقاً من نور العلم ..

ص: 31


1- سورة الفرقان (25) : الآية 75 - 63 .

المؤمن والبصائر الربّانية

ولكي يوفّر المؤمن في ذاته وسائل الاتّصال بضياء القرآن فإنّ عليه التذكّر بالبصائر التالية :

أوّلاً : أن يجشم نفسه عناءً ليرتقي إلى درجة الانتفاع بالقرآن لا أن يتمنّى هبوط كتاب اللَّه )حاشا للَّه( إلى مستواه . فإن لم تهتد بالقرآن فلا تفسّره حسب مستوى فهمك ، ولا تضعه في حدود معارفك ، ولا تقنط من فهمه وابق في توتّر الباحث وانتفاضة الطالب للحقّ حتّى يفتح اللَّه عليك نافذة من حقائق كتابه .

ثانياً : أن يطهّر قلبه من حجاب الخوف من معرفة الحقّ والتهرّب من مسؤولياته لأنّ القلب الخائف لا يستريح إلى الحقّ ، وإنّما المسلّم له أنّى كان هو الذي يفقهه ويبلغ نوره .

ثالثاً : التسليم للحقّ الذي يعتبره الإنسان سلّم إلى معرفة الحقّ الذي يجهله ولذلك فإنّ الاجتهاد في تنفيذ وصايا القرآن وسيلة لمعرفة المزيد من حقائقه .

رابعاً : أن يفرغ قلبه حين قراءة القرآن من أيّة فكرة أو وسوسة أن يوجّهه إلى نور الكتاب مباشرةً ، ومن يفعل ذلك فسوف يجد من فيضه موجات متلاحقة .

ومن هذا المنطلق جاءت محاولتنا هذه لفهم خطاب القرآن واستيحاء توجيهاته للذين آمنوا به والتزموا بنهجه وسلكوا طريقه الأقوم وقد كانت مجموعة من المحاضرات والمجالس أُلقيت على المنبر الحسيني الشريف ثمّ رأيت من المناسب أن أجمعها في كتاب لتكون لنا ذخراً وللمؤمنين هدياً ونوراً وقد سمّيته )تحفة البيان).

وقد سعيت لأن تكون فصول الكتاب ومضامينه مستندة إلى ما ورد عن أهل البيت عليهم السلام من معاني وتفسيرات لذا حاولت أن تكون الرواية طريقي إلى فهم المعنى وتفسير الآيات لا العكس .

ص: 32

وهنا أودّ أن ألفت نظر القاري الكريم إلى أنّ هناك بعض الأحاديث الشريفة التي تصرّح بنزول بعض الآيات الكريمة في شأن أهل البيت عليهم السلام ولكنّك حينما تراجع القرآن الكريم تجد أنّ هذه الآية مذكورة في سورة مكيّة مع العلم بأنّ الحديث يصرّح بأنّها نزلت في المدينة المنوّرة .

وقد اغتنم أعداء أهل البيت هذه النقطة لتكذيب هذا الحديث وردّه قائلين بأنّ هذه الآية مكيّة والقضيّة إنّما حدثت في المدينة ..

والسؤال الآن : ماذا يجب علينا في مثل هذه الحالة ؟

الجواب : أوّلاً : أنّ الكثير من السُّوَر فيها آيات مدنية أيضاً وإنّما أُخذ بالاعتبار الإطار العام الغالب للسورة .

ثانياً : أنّ تقسيم السور إلى مكيّة ومدنية لم يرد في نصّ شرعي ، وإنّما ذُكر اعتماداً على بعض الأقوال . وفي هذه الحالة فإذا تعارض الحديث الشريف مع تلك الأقوال أُخذ بالحديث الشريف بلا تردّد .

مثلاً : وردت أحاديث متعدّدة تصرّح بأنّ قوله تعالى : «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ» قد نزل بعد واقعة الغدير في المدينة المنوّرة بينما تذكر التفاسير أنّ السورة مكيّة .. ففي هذه الحالة يجب العمل بالوجه الأوّل وهو أنّ بعض السورة مدنيّة والغالب فيها مكيّة فأُخذت بالغالب . أو بالوجه الثاني وهو صَرف النظر عمّا هو المذكور والعمل على ما نصّ عليه الحديث الشريف .

والعجيب أنّ بعض المفسّرين من الشيعة غفلوا عن هذا المعنى ، فهُم في الوقت الذي يصرّحون بأنّ الآية نزلت في المدينة في شأن أهل البيت عليهم السلام تراهم يذكرون أنّ السورة مكيّة ولا يستثنون .

وبعد هذا نقول : إنّ القول الفصل في تحديد السُوَر - بين مكيّة ومدنية - يجب

ص: 33

أن يكون على ضوء أحاديث أهل البيت عليهم السلام لأنّهم عِدل القرآن وقد نزل القرآن في بيوتهم )وأهل البيت أدرى بما في البيت).

وليس بعيداً أن تكون هناك أيدي أُمويّة أو عبّاسيّة خفيّة وراء هذه الأُمور ، وقد لعبت دورها في هذا المجال لتضعيف الآيات النازلة في شأن أهل البيت عليهم السلام كما فعلت ذلك في الأحاديث الشريفة .

وفي ختام المطاف أسأل اللَّه تعالى أن يوفّقنا لنور الإيمان ، وللعمل بالأركان ، ولتلاوة القرآن وحفظه والتدبّر فيه .. وأتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل إلى أساتذتي الذين لهم عليَّ حقّ التعليم والتربية وحيث لا تفي كلماتي بأداء ما عليّ من الحقوق العظيمة أتضرّع إلى المولى القدير أن يجزيهم خير جزاء المحسنين كما وأتقدّم بشكري وامتناني إلى فضيلة أخينا الفاضل الشيخ جاسم الأديب حيث آزرني في إخراج هذا الكتاب وأسأل اللَّه سبحانه له مزيد التوفيق والتسديد .

وآخر دعوانا أنّ الحمد للَّه ربّ العالمين

الشيخ علي حيدر المؤيّد

1424

ص: 34

1- احذروا ألاعيب اليهود

اشارة

(1) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ»

(سورة البقرة : 104)

في رحاب المفردات

لا يخفى على المطّلع المحقّق أنّ للمفردات وقعاً خاصّاً في إيصال المطالب وتوضيح المعنى المراد إيجاده على مسرح الخارج ، فكلّما كانت مفردات الكلام متناسقة ومنظّمة فيما بينها كلّما كان المعنى المراد إيجاده أكثر وضوحاً وأرسخ ثبوتاً في الأذهان والنفوس .

فنحن اليوم على سبيل المثال بعد مضي مئات الأعوام من صدور بعض الكلمات لقدماء العرب تجدنا ندرك متانة هذه الكلمات ومدى بلاغتها وفصاحتها وهذا إنّما يدلّ على شدّة إنسجام المفردات ومدى تناسقها بحيث إنّ معناها المتوخّى بقي يواكب مسير الزمن ويراود أذهان الشعوب طيلة هذه الأعوام .

وهنا تتجلّى عظمة القرآن الكريم ... ذلك الكتاب البليغ الذي تحدّى فصحاء العرب واُدبائهم على ما كانوا عليه من الأدب الرفيع والفصاحة العجيبة فجعلهم يرضخون للأمر الواقع ويقرّون بالحقيقة المرّة وهي أنّ القرآن الحكيم ذهب ببلاغتهم وأدبهم أدراج الرياح .

ص: 35

ففي أكثر من مرّة يصرّح القرآن الحكيم بتحدّيه للمشركين وغيرهم على أن يأتوا بسورة مثله تفوق أو تماثل بلاغة القرآن وفصاحته ، ففي الآية المباركة : «وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ(1)» «قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ(2)» «قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ(3)» «قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً(4)».

حقّاً إنّ من معجزات القرآن المسلّمة عند الجميع هي بلاغته وفصاحته وأدبه الربّاني الذي جعل الاُدباء والبلغاء يتيهون في بحر عظمته اللّامتناهية ، فياترى من أين هذا الإعجاز ؟

الجواب على هذا السؤال ماثل في عدّة اُمور ولكن الجواب الذي يخدم البحث هنا هو أنّ المفردات المستخدمة في آيات القرآن تعجز البشرية عن الإتيان بمثلها أو حتّى التفكير بمفردات شبيهة لها .

فكلّ مفردة يستخدمها القرآن الحكيم لها امتدادات وآفاق بعيدة المدى لا يمكن للأشخاص العاديين أن يحيطوا بأبعادها المترامية .

من هذا المنطلق المهم فقد وجدنا من اللازم أن تكون لنا وقفات عابرة مع مفردات القرآن علّنا نوفّق لإيضاح بعض النكات الدقيقة المودعة في طيّات هذه المفردات القرآنية ، وأوّل مفردة تستوقفنا في هذه الآية الشريفة هي كلمة )راعنا( .

فراعنا من المراعاة وهو التفقّد للشي ء في نفسه أو في أحواله ، ونقيضه الإثقال ، فنحن نقول مثلاً رعى اللَّه فلاناً أي حفظه . وقد قال شيخ المفسّرين الطبرسي في

ص: 36


1- سورة البقرة (2) : الآية 23 .
2- سورة يونس (10) : الآية 38 .
3- سورة هود (11) : الآية 13 .
4- سورة الاسراء (17) : الآية 38 .

ذلك : المراعاة والمحافظة والمراقبة نظائر وعكسها الاغفال .

وهنا يحقّ للنفس الإنسانية أن تثير استفسارها عبر طرحها للسؤال التالي قائلة : لماذا هذا النهي الشديد اللهجة للمؤمنين في الآية .

إذن - وكما يبدو - هناك أسباب خفيّة وراء هذا النهي أشارت إليها كتب القدماء عبر الروايات الشريفة المنقولة عن أئمّة الهدى ومصابيح الدجى الذين نصّ رسول الإنسانية على اتّباعهم وجعلهم عدلاً للقرآن حيث قال : ((إنّي تارك فيكم الثقلين))(1).

فقد روي عن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) عن جدّه الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) أنّ )راعنا( من ألفاظ المسلمين الذين يخاطبون رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فيقولون راعنا : أي ارع أحوالنا واسمع منّا كما نسمع منك ..

وقيل إنّها )راعنا( كانت في لغة اليهود بمعنى )اسمع لا سمعت( ولمّا سمعت اليهود المسلمين يخاطبون الرسول صلى الله عليه وآله ويقولون له : راعنا قالوا : كنّا نشتم محمّداً سرّاً فتعالوا الآن نشتمه جهراً فكانوا يخاطبون الرسول صلى الله عليه وآله ويقولون : راعنا ويريدون شتمه ، ففطن لهم سعد بن معاذ ومنهم من قال سعد بن عبادة الأنصاري ، فقال : ياأعداء اللَّه ، عليكم لعنة اللَّه ، أراكم تريدون سبّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وتوهمونا أنّكم تجرون في مخاطبة ، واللَّه لا أسمعها من أحد منكم إلّا ضربت عنقه(2).

ومنهم من قال : أنّها مأخوذة من الرعونة .. أو من الرعية ، أي رعاية الغنم والإبل .. وربما هذه أو غيرها ؛ إلّا أنّ القاسم المشترك بين هذه المعاني ، أنّها كلمة بلغة العرب لا تتصرّف إلى ما يؤذي النبي صلى الله عليه وآله بل الذي حوّرها هم اليهود حيث اتّخذوها كوسيلة من أجل السباب والشتم والانتقاص من شخص الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أو

ص: 37


1- مسند أحمد : ج5 ص182 - 181 .
2- راجع تفسير كنز الدقائق : ج2 ص113 - 112 .

السخرية والاستهزاء به - والعياذ باللَّه - .

وليت شعري فإنّها ليست بأوّل فرية يفتريها اليهود على نبي الإسلام صلى الله عليه وآله ، فهم منذ أن صدع الرسول صلى الله عليه وآله بالدعوة والرسالة أخذوا ينتقصون منه ومن دعوته وحتى اليوم ، وليس هذا بعجيب على سيرتهم ، إذ أنّ هذا هو ديدنهم ودأبهم مع سائر أنبيائهم ..

وحتى لا يكون الكلام مجرد ادّعاءات خاوية عن الواقع إليك عزيزي القارئ الحادثة التالية :

فقد نقل الطبرسي في مجمع البيان عند تفسيره للآية الشريفة «وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ(1)» فقال : ذلك أنّ اليهود كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وآله فيقولون : السام عليك . والسام : الموت . وهم يوهمونه أنّهم يقولون : السلام عليك . وكان النبي صلى الله عليه وآله يردّ على من قال ذلك ، فيقول : وعليك . وقال الحسن : كان اليهودي يقول السأم عليك أي : إنّكم ستسأمون دينكم هذا وتملونه فتدعونه . ومنهم من قال السأم : هو الموت ، فهو سأم الحياة بذهابها(2).

ثانياً : انظرنا ، النظر هو الانتظار ، ويقال نظرت فلاناً : أي انتظرته .. ومنه قوله تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(3)» أي أنّها منتظرة للرحمة الربّانية ومتحيّنة للطف الإلهي الآخذ بهم إلى الجنّة .

إذن - وكما يستفاد من الآية - أنّها تحث المؤمنين أن يطلبوا من الرسول صلى الله عليه وآله الامهال والتوئدة في تبليغ الأحكام وذلك بلفظ )انظرنا( يارسول اللَّه وأمهلنا واصبر علينا ريثما نتعلّم منك الآيات والأحكام ولا تستعجلنا في ذلك لأنّ ذلك ربما يضيّع منّا

ص: 38


1- سورة المجادلة (58) : الآية 8 .
2- مجمع البيان : ج8 مج9 ص415 .
3- سورة القيامة (75) : الآية 22 .

الكثير منها .

هذا مع ملاحظة الأمر في الآية الشريفة حيث تقول )واسمعوا( فهذه الكلمة هي فعل أمر للمؤمنين يفيد التقيّد التامّ بهذا التوجيه الصارم ، والسؤال الذي يطرح هنا هو : أنّ الذي لا يسمع هذا الأمر الإلهي ما هو مصيره ؟ الجواب على ذلك من نصّ الآية الشريفة حيث قالت : «وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ» إذن ، فالذي لا يسمع ما تملي عليه آيات الذكر الحكيم يكون كالكافر الذي له عذاب أليم .

من جانب آخر إنّنا نجد في كلمة )اسمعوا( توجيهاً أخلاقياً رائعاً من قبل الباري تعالى .. لأنّ حسن الاستماع سجيّة أخلاقية طيّبة تعبّر عن أدب المستمع قبال المتكلّم وقد أشار أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى ذلك قائلاً : ((عوّد اُذنك حسن الاستماع ..))(1).

وقال(عليه السلام) : ((من أحسن الاستماع تعجّل الانتفاع ..))(2).

وهذا فضلاً عن القاعدة الأخلاقية القائلة : إنّ من يجيد الاستماع ، يجيد الحوار والالقاء دائماً وأبداً .

شأن النزول

اختلفت آراء المفسّرين العظام في شأن نزول هذه الآية المباركة ، فقد ذهب شيخ الإسلام الطبرسي إلى أنّ السبب الرئيسي لنزول الآية هو أنّ المسلمين كانوا يقولون : يارسول اللَّه ! راعنا ، أي استمع منّا ، فحرّفت اليهود هذه اللفظة ، فقالوا : يامحمّد ! راعنا ، وهم يلحدون إلى الرعونة ، ويريدون به النقيصة والوقيعة . ولمّا

ص: 39


1- نهج البلاغة : ق4211 في المفترقات .
2- نهج البلاغة : ق672 في الحواس الظاهرة .

عوتبوا قالوا : نقول كما يقول المسلمون ، فنهى اللَّه عن ذلك بقوله «لَا تَقُولُوا رَاعِنَا »»وَقُولُوا انظُرْنَا(1)«.

وقال عطا : )راعنا( هي كلمة كانت الأنصار تقولها في الجاهلية ، فنهوا عنها في الإسلام .

أمّا السدي فقد قال : كان ذلك )راعنا( كلام يهودي بعينه ، يقال له رفاعة بن زيد ، يريد بذلك الرعونة ، فنُهي المسلمون عن ذلك .

وقال قتادة : إنّها )راعنا( كلمة كانت تقولها اليهود على وجه الاستهزاء(2). ونحن حتّى نصل إلى المعنى الحقيقي والعلّة الرئيسية لنزول هذه الآية الشريفة لابدّ لنا من أن نولّي شطر وجوهنا نحو أبواب العلم والهداية الذين جعلهم رسول الإنسانية صلى الله عليه وآله عدلاً للقرآن حيث قال عنهم : ((إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللَّه ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، وهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض))(3).

فهذا الإمام الباقر(عليه السلام) راح يبدّد سحب الابهام حول شأن نزول الآية ببيانه العذب الناطق عن لسان السماء حيث قال(عليه السلام) ما مضمونه : إنّه كانت لليهود كلمة يتسابّون بها وهي عبرانية ألا وهي )راعنا( ، ولمّا سمعوا بقول المؤمنين لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله )راعنا( افترضوه وخاطبوه بها وهم يعنون بها تلك المسبّة ، فنُهي المؤمنون عنها واُمروا بما هو في معناها وهو انظرنا بمعنى انظر إلينا وانتظرنا من نظره إذا انتظره(4).

ص: 40


1- سورة البقرة (2) : الآية 104 .
2- مجمع البيان : ج1 مج1 ص336 - 335 .
3- مسند أحمد : ج5 ص182 - 181 .
4- تفسير كنز الدقائق : ج2 ص113 - 112 .

عبر من الآية

بعد هذا المشوار الشيّق الذي قضيناه في رحاب المفردات وشأن النزول يأتي سؤال لابدّ من طرحه والتأمّل في أبعاده العميقة ألا وهو : ما الذي نستفيده من الآية الكريمة في زماننا الراهن ؟

الجواب على هذا السؤال أنّ الآية غنيّة بالعبر والمواعظ ولكن لمن يجشم نفسه عناءً ويشحذ عقله من الرواسب الفكرية المقيّدة للعقل البشري ، فنحن إذا تخلّصنا من جميع القيود الفكرية وتأمّلنا في أبعاد هذه الآية نجدها حبلى بالدروس المفيدة التي منها :

(1) أنّ الكلام يجب أن يكون بحجم ومستوى المتلقّي لا المتكلّم وهذا ما يتجلّى في الحديث المشهور الوارد عن الرسول صلى الله عليه وآله وهو : ((اُمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس على قدر عقولهم))(1).

فالحديث الشريف يؤكّد لنا القضية الواردة في الآية ، وهي أنّ درجات الناس متفاوتة ولذلك كانوا يمهلون الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله لكي يستفيدوا جميعاً منه صلى الله عليه وآله فكانوا يطلبون منه الإعادة أكثر من مرّة ومن قبل أكثر من شخص .

بالطبع هذا الأمر غير مقتصر على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله بل حتّى مع سائر أهل البيت عليهم السلام الذين كانوا يرأفون بحال السائلين ويجيبونهم على قدر طاقتهم ، فعن الإمام العسكري(عليه السلام) إنّه قال : ((حضرت امرأة عند الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت : إنّ لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شي ء ، وقد بعثتني إليك أسألك ، فأجابتها فاطمة عليها السلام عن ذلك ، فثنّت فأجابتها ، ثمّ ثلّثت إلى أن عشّرت

ص: 41


1- الكافي : ج1 ص23 ح15 .

فأجابت ، ثمّ خجلت من الكثرة فقالت : لا أشقّ عليك ياابنة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فقالت فاطمة : هاتي وسلي عمّا بدا لك ، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه ؟ فقالت : لا ، فقالت : اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من مل ء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليّ))(1).

إذن إذا كان هذا حال الزهراء عليها السلام مع الجارية ، فالنبي صلى الله عليه وآله أولى وأجدر بذلك لأنّه رحمة للعالمين كافّة . فالرسول صلى الله عليه وآله كان يخاطب من حوله بهذا المستوى وهذه الكيفية من أجلهم لا من أجله ، ورحمة ورأفة بهم لأنه كان بالمؤمنين رؤوف رحيم .

(2) علينا أن نسدّ الأبواب كلّها في وجه الريح العاتية المؤذية ، ونفتحها على مصراعيها قبال نسيمات الصبا الصباحية العليلة .. لأنّ الاُولى تخرّب وتضرّ ، والثانية تشفي وتسرّ . فاللغة العربية من أجمل اللغات في العالم وأغناها في الجمل والمفردات المتقاربة المعاني ، فاستبدال كلمة مكان اُخرى ليس بالأمر الجديد عليها إلّا أنّ الكلمة - راعنا - كانت باباً يرد منه السباب والشتائم من المناوئين ، فإذا أصبحت هذه الكلمة كوسيلة ناجعة للمنافقين بحيث تكون لهم مغمزاً على أعظم شخصية في الوجود كشخصية النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ورسالة الإسلام الخالدة .. عند ذلك يكون علينا استبدالها جبّاً لكل المشاكل الناجمة عنها .. وكلّ ذلك حتى لا نتيح للمناوئين الفرصة في النيل منّا ومن رموزنا المقدّسة ، فالعدوّ يتحيّن الفرص السانحة والأوقات الملائمة لبثّ تلك السموم .. كما فعل )سعد بن معاذ( الذي انتبه إلى معنى هذه الكلمة عند اليهود فحذّر منهم وأنذرهم إن سمعها من أحدهم ، وبذلك قطع ألسنتهم الخبيثة . فحتّى لا تبقى هذه الكلمة مغمزاً أتى الأمر الإلهي باستبدالها بغيرها مثل قوله )انظرنا( التي تفيد نفس معناها المطلوب دون أي طعن أو غمز .

ص: 42


1- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : ص340 ح216 .

فعلينا - إذن - أن لا نفسح المجال في استغلال كلمة في غير مدلولها الذي نؤمن به ، سواء أكان المعنى المضاد مرتبطاً بها من خلال لغة اُخرى أو العرف والتقاليد أو غير ذلك ، فما أكثر الكلمات في عصرنا الراهن التي استوردت من الأعداء على عللها فقط لأنّ الآخرين استخدموها ولا ندري أنّ المعنى الذي نألفه ونؤمن به لهذه الكلمات يختلف تماماً عمّا يقصده الواصفون لها .

فمثلاً كلمة )الديمقراطية( و )الاشتراكية( و )الاُصولية( وغيرها كثير ، فهم يفهمون منها شيئاً ونحن نؤمن بشي ء وكلانا يستخدم نفس اللفظ والكلمة ، فنحن نعتقد بالانضباط التامّ بأوامر الباري وعبادته ، وهم يرون التحرّر الكامل من كلّ القيود والعهود الأخلاقية والدينية ... وهكذا .

فعلينا معرفة المعاني الحقيقية للكلام قبل أن نوجّهه وإذا رأينا الاختلاط في المعاني المبهمة لها ينبغي أن نوضّحها أو نستبدلها بغيرها حتى لا يساء فهمنا أو تتاح الفرصة لعدوّنا في الإساءة من خلالها إلى معتقداتنا . ولعلّ الحادثة التالية تؤكّد ذلك ، فعن الأصبغ بن نباتة قال : سأل ابن الكوّا أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال : ياأمير المؤمنين أخبرني عن قوس قزح ، قال : ((ثكلتك اُمّك يابن الكوّا لا تقل قوس قزح فإنّ قزح اسم الشيطان ولكن قل قوس اللَّه ، إذا بدت يبدو الخصب والريف))(1).

وعن هشام بن سالم عن سعد عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : كنّا عنده ثمانية رجال فذكرنا رمضان فقال : ((لا تقولوا هذا رمضان ، ولا ذهب رمضان ، ولا جاء رمضان ، فإنّ رمضان اسم من أسماء اللَّه لا يجي ء ولا يذهب ، وإنّما يجي ء ويذهب الزائل ولكن قولوا : شهر رمضان فالشهر المضاف إلى الاسم ، والاسم اسم اللَّه وهو

ص: 43


1- الاحتجاج : ج1 ص259 .

الشهر الذي اُنزل فيه القرآن))(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) لمّا سمع الخوارج يقولون )لا حكم إلّا للَّه( : كلمة حقّ يراد بها باطل ! نعم إنّه لا حكم إلّا للَّه ، ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة إلّا للَّه ، وإنّه لابدّ للناس من أمير برّاً أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن(2).

(3) إنّ الجزاء في الدار الآخرة هو من سنخ العمل وهذا بحث طويل وشاقّ سواء أكان على الأقوال أم على الأعمال ، وقد فصّل الحكماء والمتكلّمون ، علماً أنّ البحث فيها بهذه العجالة يحتاج إلى تفصيل ولا يمكننا استيعاب جوانبها ..

يبقى القول إنّ الهمز واللمز يربك المؤمنين ويؤذيهم في هذه الحياة الدنيا ويؤلمهم ، فلا شك أن يكون الجزاء العادل من أعدل الحاكمين مؤلماً للكافرين ، ولأنّه - ألم الكلمة - كما هو معروف نفسي أكثر من الحسّي ، فربما كان ألم الكافرين بهذا النوع من الآلام والتي تعدّ أصعب وأشنع من الآلام الحسّية . «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(3)» والحمد للَّه وحده .

ص: 44


1- الكافي : ج4 ص70 - 69 ح2 .
2- نهج البلاغة : خ40 في الخوارج لمّا سمع قولهم )لا حكم إلّا للَّه).
3- سورة الأنفال (8) : الآية 51 .

2- الصبر مفتاح النجاح

اشارة

(2) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ »(سورة البقرة : 153)

في رحاب المفردات

استعينوا : يقال فلانٌ عوني أي معيني ، وقد أعنته ، قال تعالى : «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ(1)» والتعاون التظاهر ، قال تعالى : «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ(2).

وقد ذكرت الاستعانة والعون في الروايات الشريفة ، ففي رسالة الإمام الصادق(عليه السلام) إلى النجاشي قال فيها : ((ومن أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر ، أعانه اللَّه على اجازة الصراط عند زلزلة الأقدام))(3).

وفي الحديث عن الإمام الرضا(عليه السلام) : ((عونك للضعيف من أفضل

ص: 45


1- سورة الكهف (18) : الآية 95 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 2) مفردات الراغب : ص366 .
3- وسائل الشيعة : ج17 ص210 ح22354 .

الصدقة))(1) وقال شيخ الإسلام الطبرسي في هذه الآية : وفي الآية دلالة على أنّ في الصلاة لطفاً للعبد ، لأنّه سبحانه أمر بالاستعانة بها ، ويؤيّده قوله سبحانه : «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ(2)».

الصبر : هو الإمساك في ضيق ، يقال صَبَرْت الدابة أي حبستها بلا علف . والصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع أو عمّا يقتضيان حبسها عنه(3).

شأن النزول

أخرج الحافظ جمال الدين محمّد بن يوسف )الحنفي( الزرندي في كتابه )نظم درر السمطين( عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ما أنزل اللَّه تعالى آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها))(4).

وعن سليمان الفرّا عن أبي الحسن(عليه السلام) في قول اللَّه : «اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ» قال الصبر الصوم إذا نزلت بالرجل الشدّة أو النازلة فليصم قال اللَّه : »اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ(5)« الصبر الصوم(6).

ص: 46


1- الكافي : ج5 ص55 ح2 .
2- سورة العنكبوت (29) : الآية 45 .
3- مفردات الراغب : ص281 .
4- نظم درر السمطين : ص89 .
5- سورة البقرة (2) : الآية 153 .
6- تفسير العياشي : ج1 ص25 ح41 .

عبر من الآية

كتاب اللَّه حكيم لأنّه كلام أحكم الحاكمين .. وهو كتاب اُحكمت آياته من لدن خبير عليم .. ومن حكمة الباري تعالى هذه الآيات التوجيهية العظيمة ، وبهذا النداء الباهر .

فالكون والخلق هم كتاب اللَّه التكويني ، ففي كل شي ء له فيه آية تدلّ على إنّه الواحد ، القادر ، القاهر ، المدبّر ، الخالق ، المبدع الذي ابتدع الكون ابتداعاً لا من سابق تجربة سبقته - حاشا للَّه - بل ابتدع الخلق بعلم وإدارة وحكمة ..

فكل شي ء في هذا الوجود خلق لحكمة ، وإلى هذا المعنى تشير الآية المباركة «إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(1)» وقد قال الطبرسي في تفسير هذه الآية : أي خلقنا كل شي ء خلقناه مقدّراً بمقدار توجبه الحكمة ، فلم نخلق جزافاً ، ولا تخبيتاً(2).

وأشار الإمام الصادق إلى هذا المعنى الدقيق لمّا سأله المنصور العبّاسي عن علّة خلق الذبابة ، فقال(عليه السلام) : ((ليذلّ به الجبابرة))(3) ، وهذا ما حصل بالفعل سابقاً مع نمرود الطاغية لمّا دخلت البعوضة في منخره وكانت لا تهدأ إلّا بعد أن ينهالوا عليه ضرباً فأذلّه اللَّه تعالى عبر هذه الحشرة الصغيرة(4).

وظيفة الإنسان تجاه الخالق تعالى

إذن إذا كان الكون قد خلق لحكمة متناهية فما هي الحكمة من خلقه ؟

ص: 47


1- سورة القمر (54) : الآية 49 .
2- مجمع البيان : ج27 مج9 ص324 .
3- بحار الأنوار : ج47 ص166 ح6 .
4- راجع قصص الأنبياء للجزائري : ص101 .

الجواب : إنّ الحكمة هي من أجل عباده المؤمنين وعلى رأسهم سيّد البشر قاطبة الهادي البشير محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه وآله ، وهذا ما يتجلّى في الحديث القدسي الناصّ على ذلك حيث جاء : ((لولاك لما خلقت الأفلاك))(1).

ولكن .. إذا كانت حكمة وجود هذا الكون الفسيح هي من أجل الإنسانية وعلى رأسها عباد اللَّه المؤمنون فما هي وظيفة المؤمنين أنفسهم إزاء خالقهم ؟

الجواب مودع في طيّات هذه الآية الشريفة ، فهي تدعوهم - المؤمنين - إلى الصبر ، فأي صبر دعت إليه الآية الكريمة ؟ وما هو الصبر ؟ وما هي علاقته بالصلاة ؟

الصبر - كما مضى - هو حبس النفس عمّا تدعو إليه من اُمور ، والإمام الباقر(عليه السلام) يوجّه شيعته قائلاً لفضيل : يافضيل بلّغ من لقيت من موالينا عنّا السلام وقل لهم : ((إنّي أقول لا اُغني عنكم من اللَّه شيئاً ، إلّا بورع فاحفظوا ألسنتكم ، وكفّوا أيديكم ، وعليكم بالصبر والصلاة إنّ اللَّه مع الصابرين))(2).

فمسألة الصبر هي مسألة مقدّمة على الصلاة كما جاء في الآية لأنّ الصلاة - وهي أهمّ العبادات وأوّلها - لا يمكن القيام بها ولا حفظها إلّا بالصبر ، لأنّها كبيرة إلّا على )الخاشعين( فعلى المؤمنين أن يستعينوا بالصبر أوّلاً لأداء الواجبات والانزجار عن المحرّمات ، وبالصلاة ثانياً من أجل الارتفاع والسموّ إلى ساحات القدس النورانية إذ أنّها الصلة الوثيقة بين العبد وربّه . من هنا فإنّ العديد من الآيات تقرن الصبر مع الصلاة ، فقد قال سبحانه : «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا

ص: 48


1- تأويل الآيات الظاهرة : ص430 .
2- مشكاة الأنوار : ص46 .

لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ(1)« وقال أيضاً : «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا(2)» وفي آية ثالثة : «وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ(3)».

مراتب الصبر

هذا وللصبر أشكال ودرجات أشار إليها أمير المؤمنين(عليه السلام) في الدعاء المعروف بدعاء كميل بن زياد النخعي الذي يقول فيه : ((فهبني ياإلهي وسيّدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك ، وهبني صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر على النظر إلى كرامتك)) فالصبر - وكما يستفاد من الدعاء - له مراتب ، فمنه صبر العوام ، ومنه للخواص .. وهناك صبر خواص الخواص ، ولعلّ أدنى مراتبه هو الصبر على النائبة والمصيبة التي تنزل بالإنسان فيلجأ إلى معالجتها عبر الصبر والتحمّل لها حتى تنقضي عنه .

ولا يخفى أنّ للصبر حكماً وعللاً كثيرة ، فمنها أنّه تكفير للذنوب ، أو رفع للدرجات ، فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((إنّ العبد ليكون له عند اللَّه الدرجة لا يبلغها بعمله فيبتليه اللَّه في جسده أو يصاب بماله أو يصاب في ولده فإن هو صبر بلّغه اللَّه إيّاها))(4).

وعن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) قال : ((جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وأغلق عليهم الباب وقال : ياأهلي وأهل اللَّه إنّ اللَّه )عزّوجلّ( يقرأ عليكم السلام وهذا جبرئيل معكم في

ص: 49


1- سورة البقرة (2) : الآية 45 .
2- سورة طه (20) : الآية 132 .
3- سورة الحج (22) : الآية 35 .
4- بحار الأنوار : ج68 ص94 ح50 .

البيت ويقول إنّ اللَّه يقول : إنّي قد جعلت عدوّكم لكم فتنة فما تقولون ؟ قالوا : نصبر يارسول اللَّه لأمر اللَّه وما نزل من قضائه حتى نقدم على اللَّه (عزّوجلّ) ونستكمل جزيل ثوابه فقد سمعناه يعد الصابرين الخير كلّه ، فبكى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حتى سمع نحيبه من خارج البيت فنزلت الآية «وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً(1)» أنّهم سيصبرون ، أي سيصبرون كما قالوا صلوات اللَّه عليهم))(2).

ومن المفسّرين من ذهب إلى أنّ الصبر في هذا المورد يعني الصوم .. ومنهم من قال : الجهاد .. إلّا أنّ الصبر يكون أوسع مفهوماً من كل ذلك ، لأنّ الصوم يحتاج إلى الصبر وكذلك الجهاد ولعلّ خير مصداق للإنسان الصابر المحتسب الذي نال بصبره جميع مراتب العلى بحيث بقيت الأجيال من بعد تتغنّى بصبره وتستلهم الدروس والمواعظ من ثباته وصبره هو سيّد الشهداء أبي عبداللَّه الحسين(عليه السلام) ، فهو في يوم عاشوراء رغم كلّ المصائب والرزايا التي رآها والتي لو نزلت واحدة منها على الطفل لجعلت رأسه شيباً إلّا أنّه صلوات اللَّه عليه بقي صابراً محتسباً حتى مضى إلى ربّه شهيداً عطشاناً مظلوماً .

هكذا تحلّ المشاكل

ولا يخفى أنّ مشاكل الدنيا والابتلاءات بالحقيقة والواقع هي كثيرة بل وكثيرة جدّاً ، ونحن حتى نواصل مسيرة الحياة الطويلة فلابدّ لنا من مواجهتها والبحث عن الحلول لها للخلاص منها ، ومن أجل ذلك فلابدّ من طريقين اثنين لا ثالث لهما وهما :

(1) المدد الداخلي : أي وازع من الذات الإنسانية ، وهو يمثّل الثبات والتماسك

ص: 50


1- سورة الفرقان (25) : الآية 20 .
2- بحار الأنوار : ج24 ص220 ح16 .

الداخلي وعدم الاضطراب والجزع عند أيّة مصيبة ، وهي حالة نفسية رفيعة المستوى تحتاج إلى ضبط الأعصاب لدى مواجهة المشاكل والمحن ، وهذه الحالة النفسية تكون بأرفع درجاتها عند العبد المؤمن ، لأنّ المؤمن كالجبل بل أقوى وأشدّ إذ أنّ الجبل يمكن أن تؤثّر فيه بفأسك أو آلتك أمّا المؤمن فلا يمكن التأثير عليه ، ولعلّ القصّة التالية هي خير شاهد على ذلك :

فقد روي إنّه كانت هناك امرأة تدعى اُمّ عقيل تقطن البادية فنزل عليها في أحد الأيّام ضيفان وكان ولدها عقيل مع الإبل ، فاُخبرت بأنّه ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر فهلك ، فقالت المرأة للناعي : انزل واقضِ ذمام القوم ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرّب إلى القوم الطعام فجعلوا يأكلون ويتعجّبون من صبرها ، قال الراوي : فلمّا فرغنا خرجت إلينا وقالت : ياقوم هل فيكم من يحسن من كتاب اللَّه شيئاً ؟ فقلت : نعم ، قالت : فاقرأ عليّ آيات أتعزّى بها عن ولدي ، فقرأت : «وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للَّهِِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ(1)» فقالت : السلام عليكم ، ثمّ صفّت قدميها وصلّت ركعات ثمّ قالت : اللهمّ إنّي فعلت ما أمرتني فأنجز لي ما وعدتني به ولو بقي أحد لأحد ، قال : فقلت في نفسي لبقي ابني لحاجتي إليه ، فقالت : لبقي محمّد صلى الله عليه وآله لاُمّته ، فخرجت(2).

أمّا أصحاب النفوس الضعيفة والإرادة الواهنة فإنّهم يسقطون في أوّل اختبار ويفشلون قبال أيّة عقبة تعترض طريقهم فيقفون حائرين جزعين لا حول لهم ولا قوّة إلّا ضرب الكفّين ببعضهما أو ضرب الجبين أو حتّى البكاء كالنساء الثكالى .

ص: 51


1- سورة البقرة (2) : الآية 157 - 155 .
2- بحار الأنوار : ج79 ص153 .

وعليه فالثبات من الإيمان ، والمؤمن هو الذي لا تزعزعه الهزاهز مهما عظمت أو كبرت ، ومن الامتحانات ونتائجها نعرف شخصيات العظماء بالخصوص ، والتاريخ القديم والحديث هو خير شاهد على ذلك إذ أنّ أعظم العظماء هم الأنبياء وآل الرسول الكرام وهم أكثر الناس بلاءً ومصيبة ، وكما في الحديث الشريف : إنّ أكثر الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الأوصياء ثمّ الأمثل فالأمثل(1).

(2) المدد الخارجي : وهذا المدد هو نفحات ولطائف الباري سبحانه وتعالى بحيث إنّه يؤيّد من يؤيّده إمّا عبر الإعجاز أو الإلهام أو غيرها من التسديدات والعنايات الإلهية التي عادة ما تشمل عباده اللَّه الصابرين .

ولعلّ أقرب وأجلّ طريقة للوصول إلى هذا المدد والتسديد هي الصلاة ، ففي الحديث الشريف عن فضيل عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : ((يافضيل بلّغ من لقيت من موالينا عنّا السلام وقل لهم : إنّي أقول : إنّي لا اُغني عنكم من اللَّه شيئاً إلّا بورع ، فاحفظوا ألسنتكم وكفّوا أيديكم وعليك بالصبر والصلاة إنّ اللَّه مع الصابرين))(2).

وكان الإمام علي(عليه السلام) إذا أهمّه شي ء فزع إلى الصلاة والدعاء(3).

الملفت للنظر في الآية المباركة - موضوع البحث - هي المعيّة في آخرها حيث قال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» فهذه المعيّة من أعلى الدرجات لدى المؤمنين ، فالإنسان البسيط إذا مشى مع مرجع من المراجع العظام أو إنّه وفق لزيارة أحد الأعلام تجده يشمخ بأنفه ويفخر على أقرانه بذلك ، فما بالك بمن يبشّره جبّار السموات والأرض قائلاً لهم : إنّ اللَّه معكم .

ص: 52


1- مستدرك البحار : ج2 ص439 ح2405 .
2- تفسير العياشي : ج1 ص68 ح123 .
3- راجع الكافي : ج3 ص480 ح1 .

3- الشكر طريق الكمال

اشارة

(3) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للَّهِِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ »(سورة البقرة : 172)

في رحاب المفردات

الشكر : تصوّر النعمة وإظهارها ، ويضادّه الكفر وهو نسيان النعمة وسترها(1) وجاءت لفظة الشكر في القرآن في آيات متعدّدة منها قوله تعالى : «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ(2)».

وقال أيضاً : «مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ(3)».

وقال أيضاً : «وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(4)».

وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول اللَّه تعالى : ((إنّي والانس والجنّ في نبأ عظيم ،

ص: 53


1- مفردات الراغب : ص272 .
2- سورة إبراهيم (14) : الآية 7 .
3- سورة النساء (4) : الآية 147 .
4- سورة الزمر (39) : الآية 7 .

أخلق ، ويُعبَد غيري ، وأرزق ويشكر غيري))(1).

شأن النزول

ورد عن الإمام العسكري(عليه السلام) : ((قال اللَّه عزّوجلّ : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا »- أي - بتوحيد اللَّه ونبوّة محمّد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وبإمامة علي وليّ اللَّه »كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للَّهِِ» على ما رزقكم منها بالمقام على ولاية محمّد وعلي ليقيكم اللَّه تعالى بذلك شرور الشياطين المتمرّدة على ربّها عزّوجلّ ، فإنّكم كلّما جدّدتم على أنفسكم ولاية محمّد وعلي عليهما السلام تجدّد مردة الشياطين لعائن اللَّه ، وأعاذكم اللَّه من نفخاتهم ونفثاتهم))(2).

عبر من الآية

أمر إلهي وخطاب حنون من الحنّان المنّان إلى عباده المؤمنين به والمخلصين العمل له بأن يأكلون من الطيّبات أينما وكيفما كانت ووجدت .. لأنّ الطيّبات للطيبين سواء أكانت من النساء أو سائر النعم الاُخرى .

وهذا التوجيه الربّاني فيه نكتة لطيفة وهي أنّ الطيّب لا يعطي إلّا طيّباً ولا يمكن أن نأخذ منه إلّا طيّباً كما في المسك والعطر وجامع الزهور والورود فلا يشتم منه

ص: 54


1- أنوار التنزيل : ج1 ص96 .
2- تفسير الإمام العسكري(عليه السلام) : ص584 ح348 .

سوى الاريج والعبق الطيّب وهذا ما يستفاد من الآية التالية : «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ(1)».

فالمؤمنون طيّبون وإذا أكلوا من الطيّبات فإنّهم يزدادون طيّباً أمّا إذا أكلوا من الخبيث فإنّ طيبتهم تذهب بالتدرّج وشيئاً فشيئاً يصبحون من الناس الخبيثين حتى يبلغ بهم الأمر أنّ الملائكة تلعنهم .

ففي الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((إذا وقعت اللقمة من الحرام في جوف العبد لعنه كلّ ملك في السموات وفي الأرض))(2).

لذلك فإنّ النداء الربّاني جاء ليأمر المؤمنين أن يأكلوا من الطيّبات فقط ، ولو أنّهم أطاعوا ما تملي عليهم هذه الآيات كما ينبغي لازدادوا طيّباً وشفّافية وروحانية ..

ومنهم من ذهب إلى أنّ الطيّبات مخلوقة بالذات للمؤمنين .. ولبقيّة الخلق بالتبعية لهم ، وهذا مذهب بعيد المدى ربما أوصلنا إلى الحديث القدسي المعروف حيث قال تعالى : ((لولاك لما خلقت الأفلاك))(3) وغيره من الأحاديث المشهورة في الكتب المعبّرة أنّ علّة خلق هذا الكون هو من أجل خاتم النبيين صلى الله عليه وآله والأئمّة الأطهار عليهم السلام.

ومقابل هذه الرؤية الإلهية الداعية إلى الاستمتاع بالطيّبات وترك الخبائث ، هناك نظرية اُخرى تخالفها تماماً ، إذ أنّ بعض الرهبان والقساوسة والمتصوّفين أخذوا

ص: 55


1- سورة الأعراف (7) : الآية 58 .
2- بحار الأنوار : ج63 ص314 ح6 .
3- تأويل الآيات : ص430 .

يدعون الناس إلى ترك الطيّبات والاجتناب عنها ويدّعون أنّ ذلك يوصل إلى حالات خاصّة مع اللَّه .

ولا يخفى أنّ هذه الشبهة ليست بجديدة على الساحة ، بل حتى في عهد الرسول الأعظم ذهب بعض الصحابة إلى اعتزال الطيب والنساء والطعام ، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فخرج وهو يجرّ ردائه ورقى المنبر وقال :

((ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم ، ولا يشمّون الطيب ، ولا يأتون النساء ، أما إنّي آكل اللحم وأشمّ الطيب وآتي النساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي))(1).

ونحن نقرأ في الآية الشريفة : «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ(2)».

إذن ، فالنعم كلّ النعم من الطيّبات حلال وهنيئة وهي للمؤمنين خالصة ، فالامتناع عن الطيّبات واللذائذ لا مبرّر له في هذه الحياة ، وإن كان له مبرّر أو محبوبية فالأنبياء والأوصياء هم أجدر به .. بل على العكس تماماً ، فإنّنا نجد أنّ نبي اللَّه سليمان(عليه السلام) كان ملك الأرض كلّها حيث سخّرت له الريح والجبال وكلّ شي ء ، ونبي اللَّه يوسف(عليه السلام) الصدّيق كان ملك مصر ، والإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)كان ولي عهد المأمون - ولا نقاش لنا هنا في الأسباب والنتائج - فكان يلبس ويأكل من اُبّهات الملوك ...

فالامتناع عن أكل الطيّبات ناتج عن سوء فهم وبعد في البصيرة ، فهذا الإمام

ص: 56


1- الكافي : ج5 ص496 ح5 .
2- سورة الأعراف (7) : الآية 32 .

الصادق(عليه السلام) وهو عميد المذهب الجعفري كان يقول : ((إنّ اللَّه يحبّ الجمال والتجمّل ، ويبغض البؤس والتبأّوس .. فإنّ اللَّه إذا أنعم على عبده بنعمة أحبّ أن يرى عليه أثرها ، ولمّا قيل له : كيف ذلك ؟ فقال(عليه السلام) : ينظّف ثوبه ويطيّب ريحه ويجصّص داره ، ويسكن أقنيته حتى إنّ السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق))(1).

وبعد أن تقرّر هذا فلا يختلف إثنان أنّ وظيفة العبد ازاء هذا المنعم الذي أحلّ له الطيّبات هو أن يشكره ، ففي الشكر تدوم النعم ولازمه أنّه بالكفر تزول النعم والعياذ باللَّه ، بل قد تتحوّل النعمة إلى نقمة في كثير من الأحيان .

فهذا سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله على منزلته الرفيعة عند اللَّه تعالى يقول عنه أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((ولقد قام صلى الله عليه وآله عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه ، يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك فقال تعالى : «طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2)» بل لتسعد به))(3).

وعن بكر بن عبداللَّه : أنّ عمر بن الخطاب دخل على النبي صلى الله عليه وآله وهو موقوذ(4) - أو قال : محموم - فقال له عمر : يارسول اللَّه ، ما أشدّ وعكك ! - أو حمّاك - ! فقال : ((ما منعني ذلك أن قرأت الليلة ثلاثين سورة فيهنّ السبع الطوال)) . فقال عمر : يارسول اللَّه ، غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ، وأنت تجهد هذا

ص: 57


1- وسائل الشيعة : ج5 ص7 ح5746 .
2- سورة طه (20) : الآية 2 - 1 .
3- مستدرك الوسائل : ج4 ص118 ح4278 .
4- الوقيذ والموقوذ : الشديد المرض الذي أشرف على الموت . لسان العرب مادّة وقذ ج3 ص519 .

الاجتهاد ؟! فقال : ((ياعمر ، أفلا أكون عبداً شكوراً))(1).

من مراتب الشكر

ولا يخفى أنّ للشكر مراحل ومراتب كثيرة أبرزها هو :

(1) الشكر بالقلب : وهو أن يقرّ العبد ويذعن للَّه سبحانه أنّه هو صاحب النعمة عليه وهو المستحقّ للشكر منه على كل نعمة يرزق بها .

وهذه المرحلة يختلف فيها المؤمنون حسب مستوى إيمانهم ومدى معرفتهم باللَّه ..

فعن الإمام الصادق(عليه السلام) عن أبيه عن جدّه عليهما السلام قال : ((دعا سلمان أبا ذرّ رحمة اللَّه عليهما إلى منزله ، فقدّم إليه رغيفين ، فأخذ أبو ذرّ الرغيفين وجعل يقلّبهما .

فقال له سلمان : ياأبا ذرّ ، لأيّ شي ء تقلّب هذين الرغيفين ؟

قال : خفت أن لا يكونا نضيجين .

فغضب سلمان من ذلك غضباً شديداً ، ثمّ قال : ما أجرأك حيث تقلّب هذين الرغيفين ! فواللَّه لقد عمل في هذا الخبز : الماء الذي تحت العرش وعملت فيه الملائكة حتى ألقوه إلى الريح ، وعملت فيه الريح حتى ألقته إلى السحاب ، وعمل فيه السحاب حتى أمطره إلى الأرض ، وعمل فيه الرعد والملائكة حتى وضعوه مواضعه ، وعملت فيه الأرض والخشب والحديد والبهائم والنار والحطب والملح ، وما لا اُحصيه أكثر ، فكيف لك أن تقوم بهذا الشكر ؟!

ص: 58


1- أمالي الطوسي : المجلس 14 ح51 .

فقال أبو ذرّ : إلى اللَّه أتوب ، وأستغفر اللَّه ممّا أحدثت ، وإليك أعتذر ممّا كرهت))(1).

أجل هكذا يبلغ الشكر القلبي عند البعض بحيث إنّهم يرون كل ما في الوجود هو لطف ونعمة ينبغي شكرها .

(2) الشكر باللسان : حيث يعبّر العبد من خلاله عمّا يجول في خلجات نفسه من أحاسيس تهتف بوجوب شكر المنعم والثناء عليه ازاء آلائه الوافرة ونعمه اللامتناهية .

فهذا الإمام زين العابدين(عليه السلام) يعلّمنا درساً عمليّاً في الشكر باللسان حيث يقول(عليه السلام) في مناجاة الشاكرين :

((إلهي تصاغر عند تعاظم آلائك شكري ، وتضاءل في جنب إكرامك إيّاي ثنائي ونشري ، جلّلتني نعمك من أنوار الإيمان حللاً ، وضربت عليَّ لطائف برّك من العزّ كللاً ، وقلّدتني مننك قلائد لا تحل ، وطوّقتني أطواقاً لا تفل فآلاؤك جمّة ضعف لساني عن إحصائها ، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها ، فضلاً عن استقصائها ، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شكر ، فكلّما قلت لك الحمد وجب عليَّ لذلك أن أقول لك الحمد ...))(2).

(3) الشكر بالعمل : وهو التزام الطاعات والواجبات وتعزيزها بالنوافل والمندوبات فضلاً عن الانتهاء عن المحرّمات والخبائث والوقوف عند الشبهات ومراعاة الحدود قدر الامكان .

ص: 59


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص52 ح203 .
2- راجع الصحيفة السجّادية في مناجاة الشاكرين .

فعن أبي عبداللَّه عن آبائه عليهم السلام قال : ((بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يسير مع بعض أصحابه في طرق المدينة إذ ثنى رجله عن دابته ثمّ خرّ ساجداً فأطال في سجوده ، ثم رفع رأسه فعاد ثم ركب .

فقال له أصحابه : يارسول اللَّه ، رأيناك ثنيت رجلك عن دابتك ثم سجدت فأطلت السجود ؟!

فقال : إنّ جبرئيل(عليه السلام) أتاني فأقرأني السلام من ربّي وبشّرني إنّه لن يخزيني في اُمّتي ، فلم يكن لي مال فأتصدّق به ، ولا مملوك فأعتقه ، فأحببت أن أشكر ربّي عزّوجلّ))(1).

ص: 60


1- أمالي الصدوق : المجلس 76 ح6 .

4- القصاص حياة الشعوب

اشارة

(4) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ »(سورة البقرة : 178)

في رحاب المفردات

كتب : الكتب ضمُّ أديم إلى أديم بالخياطة ، يقال كتبت السقّاء ، وكتبت البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة ، وفي التعارف ضُمَّ الحروف بعضها إلى بعض بالخطّ وقد يقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض باللفظ ، فالأصل في الكتابة النظم بالخط لكن يستعار كل واحد للآخر . ويعبّر عن الاثبات والتقدير والإيجاب والفرض والعزم بالكتابة ، ووجه ذلك أنّ الشي ء يراد ثمّ يقال ثمّ يكتب ، فالإرادة مبدأ والكتابة منتهى(1) ونحن نقرأ في آيات اُخر : «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ

ص: 61


1- مفردات الراغب : ص440 .

خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ(1)» وفي آية اُخرى : «قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ(2)» وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال : ((على كلّ جزء من أجزائك زكاة)) إلى أن قال(عليه السلام) وزكاة اليد البذل والعطاء والسخاء بما أنعم اللَّه عليك به وتحريكها بكتابة العلوم ومنافع ينتفع بها المسلمون))(3).

القصاص : هو تتبّع الدم بالقود ، قال تعالى : «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ »ويقال قصّ فلان فلاناً ، وضربه ضرباً فأقصّه أي أدناه من الموت(4).

بالحرّ : الحرّ خلاف العبد ، والحرّية ضربان : الأول من لم يجر عليه حكم الشي ء نحو ((الحرّ بالحرّ)) والثاني من لم تمتلكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية(5).

الأداء : دفع الحقّ دفعة وتوفيته كأداء الخراج والجزية وردّ الأمانة(6).

شأن النزول

أخرج حافظ المشرق محمّد بن إدريس الحنظل المعروف ب )ابن أبي حاتم( في كتاب الجرح والتعديل باسناده عن عكرمة ، عن عبداللَّه بن عباس قال : )ما نزلت آية فيها )ياأيّها الذين آمنوا( إلّا علي رأسها وأميرها وشريفها( ولقد عاتب اللَّه

ص: 62


1- سورة البقرة (2) : الآية 183 .
2- سورة آل عمران (3) : الآية 154 .
3- بحار الأنوار : ج92 ص34 .
4- مفردات الراغب: ص419 .
5- مفردات الراغب : ص110 .
6- مفردات الراغب : ص10 .

عزّوجلّ أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله في غير آية من القرآن ، وما ذكر عليّاً إلّا بخير(1).

وقيل إنّ هذه الآية نزلت في حيّين من العرب لأحدهما طَوْل على الآخر ، وكانوا يتزوّجون نساءهم بغير مهور ، وأقسموا لنقتلن بالعبد منّا الحرّ منهم ، وبالمرأة منّا الرجل منهم ، وبالرجل منّا الرجلين منهم ، وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح اُولئك حتّى جاء الإسلام ، فأنزل اللَّه هذه الآية(2).

عبر من الآية

تفتح الآية بندائها التعليمي للمؤمنين : بأنّه فرض عليكم القصاص في القتل وإزهاق الأرواح ، لأنّه إذا لم يقتل القاتل ربما يتجرّأ على الآخرين فيقتل كيف يشاء ومتى شاء ومن يشاء ؟ وهذا بدوره يؤدّي إلى الفساد والافساد في العباد والبلاد بلا أدنى شكّ .

والعرب قديماً قالوا ((القتل أنفى للقتل)) وهي حكمة جديرة بالاحترام والتقدير ، لأنّ أرواح البشر ليست تحت تصرف أحد بل هي ملك لخالقها ، فبأي حقّ تزهق أرواح الآخرين بلا مبرّر ؟! والتشريع الإسلامي كان جدّاً رائعاً وحكيماً في هذه المسألة ((القتل)) إذ أنّ الإنسان مقدّس عنده وله حرمة تفوق حرمة سائر المخلوقات الاُخرى كما في الحديث الشريف .

وفي عالم اليوم - عصر الحضارة العملاقة - كم هي النداءات والشعارات التي تستنكر مبدأ القصاص بالمثل حيث إنّهم يقولون : إنّنا فقدنا واحداً ، فلماذا نفقد

ص: 63


1- الجرح والتعديل : ج3 ص275 .
2- مجمع البيان : ج2 مج1 ص178 .

الآخر ؟

والجواب عليه أنّنا : نخسر الآخر لكي لا نخسر المجتمع .. بل نخسر عدداً من أمثال هؤلاء المجرمين من أجل أن نربح المجتمع كلّه ويسوده الأمن والاطمئنان ومراعاة الحقوق كاملة .

فالقصاص يجعل للمجتمع حصناً منيعاً ويحول دون تحقّق الجرائم في المجتمع ، أمّا إذا ما عطّل قانون القصاص فإنّ عمليات القتل وغيرها سوف تتفشّى في المجتمع إذ أنّ كلّ إنسان يحسب أنّ مناوئيه سيتعرّضون لقتله فيبادر هو إلى قتلهم قبلهم ، وهكذا تنتشر الجريمة وربما دون أي مبرّر .

فالقصاص مبدأ عادل كل العدل ولا جور فيه إطلاقاً ، بل الجور والظلم هو في تركه ، وهذا ما أكّدته الدراسات العالمية حول الجريمة - وخاصة القتل - الناصّة على أنّ الجرائم لا يخفضها سوى قتل الجناة .

وفي عصرنا الراهن نجد أنّ قوانين العالم أخذت تعود شيئاً فشيئاً إلى هذا القانون السماوي العادل والرادع ولكن مع فارق بسيط في أساليب الاعدام خاصّة في الدول المتحضّرة .

العفو بدل القصاص

في نفس الوقت الذي يدعو فيه القرآن الحكيم إلى تطبيق مبدأ القصاص ويؤكّد عليه بشدّة ، تجده إلى جانب ذلك يطرح مبدأ العفو والمسامحة ، واستبدال القتل بالديّة - وهي ثمن المقتول يسلّم إلى أهله وذويه - لأنّ الرحمة والتراحم من أهمّ مقوّمات المجتمع القوي المتماسك لذلك يطرحه القرآن في أحلك الظروف وأشدّ المواقف ليقوّي العزائم ويشدّ أواصر المجتمع بقوّة ، فعن أبي بصير قال : سألت أبا عبداللَّه - عليه

ص: 64

السلام - عن قول اللَّه عزّوجلّ : «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ(1)» قال(عليه السلام) : ((هو الرجل يقبل الدية فينبغي للطالب أن يرفق به ولا يعسّره ، وينبغي للمطلوب أن يؤدّي إليه بإحسان ولا يمطله إذا قدر))(2).

ونحن لو رجعنا إلى الآية المباركة وقرأناها نجد أنّها مثلما تدعوا إلى القوّة والحزم في القصاص كذلك هي تدعو إلى الرأفة والرحمة وهذا ما يستفاد من كلمة أخ ، فكم تحمل هذه الكلمة من معاني وآفاق جليلة ، فلعلّه لا يوجد كلمة في اللغة العربية تحمل ما تحمله هذه الكلمة ((الأخ)) من ناحية الرفق العاطفي واللين حيث إنّها تذكّر أولياء المقتول بأنّ هذا القاتل هو أخ لكم في الدين ونظير لكم في الخلق .

والغريب - ولا غرابة في القرآن - أنّ الآيات لم تقتصر بتعبير الأخ وإنّما أضافت عليها سمة أجمل وأكمل وهي قوله ((فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان)) . والسؤال الذي يطرح هنا هو كيف يكون ترك القتل إحساناً ؟ فترك القتل ربما يكون معروفاً ؟ ولكنّه ليس إحسان ؟! وترك القتل والدية قد يكون معروفاً ولكنه ليس إحسان ؟! وإنّما ترك القتل والدية والعفو مطلقاً هو المعروف والإحسان ، وهو من أعلى مراتب الصدّيقين والمقرّبين لدى الرحمان الرحيم .

سوادة يقتصّ من الرسول صلى الله عليه وآله

وفي مثل هذا الصدد تحضرني قصّة سوادة الذي ادّعى أنّ له على النبي صلى الله عليه وآله حقّاً فطالبه بالقصاص فلا بأس بذكرها : ففي التاريخ أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في أواخر حياته قال لبلال : يابلال هلمّ عليّ بالناس ، فاجتمع الناس فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله

ص: 65


1- سورة البقرة (2) : الآية 178 .
2- الكافي : ج7 ص358 ح2 .

متعصّباً بعمامته متوكّياً على قوسه حتى صعد المنبر ، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال : ((يامعشر أصحابي أيّ نبي كنت لكم ؟ ألم اُجاهد بين أظهركم ؟ ألم تكسر رباعيتي ؟ ألم يعفّر جبيني ؟ ألم تسل الدماء على حر وجهي حتى كنفت لحيتي ؟ ألم اُكابد الشدّة والجهد مع جهّال قومي ؟ ألم أربط حجر المجاعة على بطني ؟)) قالوا : بلى يارسول اللَّه لقد كنت للَّه صابراً وعن منكر بلاء اللَّه ناهياً . فجزاك اللَّه عنّا أفضل الجزاء . قال : ((وأنتم فجزاكم اللَّه ، ثمّ قال : إنّ ربّي عزّوجلّ حكم وأقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم ، فناشدتكم باللَّه أي رجل منكم كانت له قِبَل محمد مظلمة إلّا قام فليقتص منه فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء)) . فقام إليه رجل من أقصى القوم يقال له سوادة بن قيس ، فقال له : فداك أبي واُمّي يارسول اللَّه إنّك لمّا أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق ، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني ولا أدري عمداً أو خطأً . فقال صلى الله عليه وآله : ((معاذ اللَّه أن أكون تعمّدت ، ثمّ قال : يابلال قم إلى منزل فاطمة ، فأتني بالقضيب الممشوق)) ، فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة معاشر الناس من ذا الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة ، فهذا محمد صلى الله عليه وآله يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة . وطرق بلال الباب على فاطمة عليها السلام وهو يقول : يافاطمة قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق ، فأقبلت فاطمة عليها السلام وهي تقول : ((يابلال ما يصنع والدي بالقضيب ، وليس هذا يوم القضيب ؟)) فقال بلال : أما علمت والدك قد صعد المنبر وهو يودّع أهل الدين والدنيا . فصاحت فاطمة وقالت : ((واغمّاه لغمّك ياأبتاه ، من للفقراء والمساكين وابن السبيل ياحبيب القلوب ؟)) ثمّ ناولت بلال القضيب فخرج حتى ناوله رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ((أين الشيخ ؟)) فقال الشيخ : هاأنا يارسول اللَّه بأبي أنت واُمّي ، فقال

ص: 66

رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((تعال فاقتصّ منّي حتى ترضى)) ، فقال الشيخ : فاكشف لي عن بطنك يارسول اللَّه ، فكشف صلى الله عليه وآله عن بطنه ، فقال الشيخ : بأبي أنت واُمّي يارسول اللَّه أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك ؟ فأذن له ، فقال : أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللَّه من نار يوم النار ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ياسوادة بن قيس ! أتعفو أم تقتصّ ؟)) فقال : بل أعفو يارسول اللَّه ، فقال صلى الله عليه وآله : ((اللهمّ اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك محمّد صلى الله عليه وآله))(1).

بمثل هذا التعامل الرائع يريد ربّنا سبحانه منّا أن نتعامل فيما بيننا ، ولهذا فقد خصّص النداء في صدر الآية بالمؤمنين إذ أنّ غير المؤمن لا يختار العفو والإحسان إلى الغير . وبالجملة : فالقصاص حقّ لأولياء المقتول بلا شك وهو ليس حكماً لازماً أبداً إذ أنّ لهم خيارات اُخرى يختارون منها ما يريدون منها :

1 - العفو عن القاتل وأخذ الدية فقط وتسليمها إلى أولياء القتيل .

2 - المسامحة حتى في الديّة وإسقاط الحق تماماً عن القاتل بالإحسان والتفضّل عليه من أولياء القتيل .

القصاص والمجتمع

ولا يخفى أنّ مثل هذه الرحمة تكون محبّذة ومرغوبة بشرط أن يتحوّل الجاني بسببها إلى رجل صالح في المجتمع ، ويكون لبنة صالحة فيه ، أمّا إذا كانت الرحمة بالنسبة إليه ولأمثاله بمثابة اعطاء الضوء الأخضر لمواصلة جرائمه وتجاسراته على الغير فهنا تكون الصرامة والحدّة لازمة ومرغوبة إذ أنّ ترك القصاص في مثل هذه الحالات يؤدّي إلى فساد المجتمع وانتشار الفوضى فيه وهذا ما يستشعر من نهاية الآية

ص: 67


1- مناقب آل أبي طالب : ج1 ص234 .

المباركة حيث تقول : «ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(1)».

أي إنّ تلك الخيارات هي تخفيف من اللَّه وليس من عندكم ولا معرفة لكم لوجه الحكمة في ذلك وإنّما اللَّه سبحانه وتعالى - عالم بحقائق الاُمور وحكمة التشريع ذاك - وهو رحمة إلهية لكم ويجب أن تكون سبيل تراحم وتعاطف فيما بينكم أنتم بني البشر ولا سيّما المؤمنين .

وعلى كل ، فقد يتجرّأ القاتل أو ذوي المقتول على حدود اللَّه فيقتلون مرّة وإثنين وثلاث ولا يشملهم القصاص لعلّة ما ولكن يبقى القول إنّ هناك محكمة عادلة تنظر الإنسان وفي هذه المحكمة العادلة الصارمة لا يمكن الفرار أو التهاون في حقوق الغير لأنّ اللَّه تعالى آلى على نفسه أن يأخذ حقّ المظلوم من الظالم وينتقم له منه .

فالقصاص ضرورة حضارية وحياتية لحياة المجتمع كل المجتمع ، والعفو والإحسان روح وريحان المجتمع الإسلامي .

ص: 68


1- سورة البقرة (2) : الآية 178 .

5- الصوم رياضة المتّقين

اشارة

(5) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »(سورة البقرة : 183)

في رحاب المفردات

الصيام : الصوم هو الإمساك عن الفعل مطعماً كان أو كلاماً أو مشياً ، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير أو العلف صائم . والصوم في الشرع إمساك المكلّف بالنيّة من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن تناول الأطيبين والاستمناء والاستقاء وقوله : «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً» فقد قيل عني به الإمساك عن الكلام بدلالة قوله تعالى : »فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً(1).

وقد ذكر الصوم في آيات متعدّدة من القرآن منها : «فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ(2)». ومنها : «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ(3)

ص: 69


1- سورة مريم (19) : الآية 26) مفردات الراغب : ص298 .
2- »(( - سورة البقرة (2) : الآية 184 .
3- سورة البقرة (2) : الآية 185 .

ومنها : «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ(1)» ومنها : «فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ(2)» وفي الحديث الشريف عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) : ((من فطّر صائماً فله مثل أجره))(3).

شأن النزول

أخرج العلّامة الهندي )عبيداللَّه بسمل امرتسري( في كتابه في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، عن أحمد والطبراني وابن أبي حاتم وابن عبدالبرّ وابن حجر عن ابن عباس قال : ما اُنزل «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا علي أميرها وشريفها ولقد عاتب اللَّه أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وما ذكر عليّاً إلّا بخير((4).

عبر من الآية

في هذه الآية المباركة ينادي الخالق تعالى عباده المؤمنين قائلاً لهم وفارضاً عليهم حكماً عباديّاً جديداً ألا وهو الصوم .. تلك العبادة الخاصّة التي أتحف اللَّه بها المسلمين وفرضها عليهم .

وهذه الفريضة المقدّسة )الصوم( لم تختصّ بها هذه الاُمّة المسلمة فقط ، بل

ص: 70


1- سورة البقرة (2) : الآية 187 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 196 .
3- الكافي : ج4 ص68 ح1 .
4- المطالب : ص51 .

كانت مفروضة على اُمم الأنبياء السابقين من قبل ، وهذا ما يقرّره القرآن والحديث الشريف فضلاً عن الكتب السماوية السابقة ، ففي نفس هذه الآية المباركة جاء : «كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ(1)». وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال : ((جاء نفر من اليهود إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فسأله أعلمهم عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له : لأي شي ء فرض اللَّه الصوم على اُمّتك بالنهار ثلاثين يوماً وفرض على الاُمم أكثر من ذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله : إنّ آدم(عليه السلام) لمّا أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوماً ، ففرض اللَّه على ذرّيته ثلاثين يوماً الجوع والعطش ، والذي يأكلونه تفضّل من اللَّه تعالى عليهم ، وكذلك كان على آدم ، ففرض اللَّه تعالى ذلك على اُمّتي ، ثمّ تلا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هذه الآية : «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ(2)»، قال اليهودي صدقت يامحمّد))(3).

وفي التوراة : أنّ نبي اللَّه موسى(عليه السلام) أقام في الجبل 40 يوماً وليلة لا يأكل خبزاً ولا يشرب ماءً .. أليس هذا هو ضرب من الصيام ؟ واليهود عبر العصور وحتى اليوم - يصومون لدى التوبة كما أنّ الانجيل يقول : إنّ المسيح(عليه السلام) صام 40 يوماً .. وكذلك الحواريون صاموا بعد عيسى المسيح(عليه السلام).

والمسيحيّون اليوم يصومون بطريقتهم 40 يوماً ويحتفلون بعدها بالعيد الخاصّ بهم .

وهكذا فإنّ لكل قوم صياماً ، ولكل ملّة وأهل عقيدة أيّاماً يصومون فيها

ص: 71


1- سورة البقرة (2) : الآية 183 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 184 - 183 .
3- من لا يحضره الفقيه : ج2 ص73 ح1769 .

بطريقة معيّنة واُسلوب خاصّ ، فأصل الصوم يتّفق عليه الجميع أمّا الكيفية فهي تفرق من ملّة إلى اُخرى ومن أهل عقيدة إلى اُخرى .

فلسفة الصيام

ولعلّ العلّة في هذا التشريع السماوي الرائع وثباته على الاُمم هو أنّه يرتبط بقيمة ثابتة عظمى أقرّها القرآن الكريم وأشار إليها الاُصوليون حيث قالوا : ثبات القيمة يستلزم ثبات التشريع .

وهذا الارتباط يتجلّى في أروع مصاديقه وأرقى مستوياته الرفيعة في قيمة التقوى ، لذلك فإنّ اللَّه تعالى قال في آخر الآية المباركة «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». فالتقوى : تقوّم السلوك وتقوّي العزيمة للعمل الصالح ، وتربّي النفوس وتروّض المجتمع بحيث يكون مجتمعاً مثالياً ((متّقياً)) ، والسؤال الذي يطرح هنا هو : ما هي التقوى ؟ وماذا نعني بها ؟

بداية نقول التقوى هي أمر حياتي يمارسها البشر كل يوم في معيشتهم ، ففي كل يوم تجد أنّ الناس يتّقون بعض الاُمور ويتجنّبوها ، فهم مثلاً يتّقون المخاطر والأمراض والمفاسد والأضرار ... الخ .

والتقوى المذكورة في الآية تشارك هذا المعنى ولكن تفارقه في نوع المتّقى منه ، وهي الواجبات والمحرّمات والشبهات ، فالشارع المقدّس عبر الصيام وغيره من الواجبات يريد غرس بذرة التقوى في نفوس المسلمين ، وعبر ترك المنكرات والمحرّمات كالخمر وغيره يروم تنمية ملكة التقوى في النفوس ، ومن خلال اجتناب الشبهات يهدف إلى إيجاد الإنسان المتّقي غاية كل الرسالات السماوية .

ص: 72

فمن خلال الصوم يتمرّن الإنسان على محاربة شهواته برقابة ذاتية ، وبذلك تنمو عنده ملكة الإرادة إذ أنّ الإرادة كأي نعمة اُخرى عند الإنسان ، فهي تنمو وتتكامل كلّما انتفع بها الإنسان ومارسها عمليّاً في ميدان الحياة .

فالإنسان الصائم يمارس إرادته ضدّ شهواته وميولاته كلّما دعته الحاجة إلى المفطّرات فيرفض تلبية هذه الدعوة بقوّة إرادته ، فتقوية الإرادة يساعد الإنسان على تصفية الروح وبناء النفس وتربيتها على الكمالات الدينية . ونحن إذا لاحظنا الواقع الخارجي نجد أنّ كثيراً من الناس يحبّون أن يصبحوا صالحين ، مؤمنين ، ملتزمين وقد لا يصرّحون بذلك ، ولكن البعض منهم فقط يوفّق لذلك ، وهم ذوي الإرادات القويّة لا الأجسام المتينة ، فبالإرادة يصنع الإنسان المعجزات .

من هنا ، فإنّ الصوم يربّي إرادة الإنسان التي تأخذ بيده نحو تحصيل التقوى والحفاظ عليها ، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : كيف ينمي الصوم تقوى الإنسان ؟

الجواب على ذلك في أمرين أحدها سلبي والآخر إيجابي ، أمّا الأوّل فهو :

التجافي عن المحرّمات والشبهات : وهذا ما يتجلّى في قضية الصوم الداعية إلى ترك المحرّمات والاجتناب عن الشبهات بقدر الامكان ، فعبر الصوم يوفّق الإنسان إلى حبس نفسه عن مثل هذه الاُمور فينال رضى الخالق تعالى عنه ويسخط الشيطان اللعين ، ففي الحديث الشريف أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال لأصحابه : ((ألا اُخبركم بشي ء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب ؟ قالوا : بلى . قال : ((الصوم يُسوّد وَجهَه))(1).

ص: 73


1- الكافي : ج4 ص62 ح2 .

وعنه صلى الله عليه وآله قال : ((ما من صائم يحضر قوماً يطعمون إلّا سبحت أعضاؤه ، وكانت صلاة الملائكة عليه ، وكانت صلاتهم له استغفاراً))(1).

ثانياً : الإتيان بالواجبات : لا يخفى أنّ الصوم وحده لا يمثّل الإسلام ، وإنّما الأحكام هي حلقة متّصلة فيما بينها ، فلا يمكن للعبد أن يأتي بالصوم مثلاً ويغضّ الطرف عن سائر الواجبات كالصلاة والزكاة وغيرهما .. لذلك ، فإنّ الإنسان إذا توجّه نحو الصوم وحده دون سائر الواجبات فإنّه لا يحظى بملكة التقوى ، وإنّما إذا أكمل حلقة الواجبات التي منها الصوم فإنّه يوفّق للحوز على التقوى مراد عباد اللَّه الصالحين .

حِكَم اُخرى للصيام

هذا وللصوم حِكَم اُخرى في غاية الأهمية لا يمكن التغاضي عنها ، منها : مواساة الفقراء : فلمّا يمتنع الناس أجمعهم عن الطعام والشراب فإنّهم يدركون عظم ما يقاسي الفقراء والمعدومين من الطبقات الضعيفة في المجتمع ، ففي الحديث عن الإمام الرضا(عليه السلام) بعد أن سئل عن علّة الصيام فأجاب : ((لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلّوا على فقر الآخرة ، وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً لما أصابه من الجوع والعطش ، فيستوجب الثواب مع ما فيه من الانكسار عن الشهوات ، وليكون ذلك واعظاً لهم في العاجل ، ورائضاً لهم على أداء ما كلّفهم ودليلاً لهم في الآجل ، وليعرفوا شدّة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في

ص: 74


1- من لا يحضره الفقيه : ج2 ص87 ح1805 .

الدنيا ، فيؤدّوا إليهم ما افترض اللَّه تعالى لهم في أموالهم))(1).

وأشار الإمام الصادق(عليه السلام) إلى حكمة الصوم فقال : ((ليستوي به الفقير والغني ، وذلك لأنّ الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير ، لأنّ الغني كلّما أراد شيئاً قدر عليه فأراد اللَّه أن يسوّي بين خلقه وأن يذيق الغني مسّ الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع))(2).

فعلّة الصيام هي فردية كأي تشريع عبادي يهدف الوصول إلى ملكة التقوى في الفرد حيث «يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ(3)» و «اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(4) و «أُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ(5)».

الصيام والمجتمع

من جانب آخر فإنّ الصوم فريضة اجتماعية كبيرة تصهر المجتمع كلّه في بوتقة واحدة ، وتسوّي بين الناس جميعاً - لا سيّما في شهر رمضان العظيم - حيث إنّه لا فرق بين سيّد ومسود أو أمير ومأمور أو رئيس ومرؤوس ، فالكل في الصيام بدرجة واحدة وحالة واحدة إذ أنّ الجميع يمسك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من الخيط الأبيض حتى الخيط الأسود من الفجر .

كما أنّ هناك رواية تدلّ أنّ شهر رمضان بالحقيقة هو هدية سماوية من ربّ

ص: 75


1- وسائل الشيعة : ج10 ص7 ح12697 .
2- وسائل الشيعة : ج10 ص7 ح12697 .
3- »(( - سورة الزمر (39) : الآية 61 .
4- سورة آل عمران (3) : الآية 76 .
5- سورة الشعراء (26) : الآية 90 .

العالمين اختصّ بها الاُمّة المرحومة من بين الاُمم قاطبة ، ففي الحديث عن حفص بن غياث النخعي قال : سمعت أبا عبداللَّه(عليه السلام) يقول : ((إنّ شهر رمضان لم يفرض اللَّه صيامه على أحد من الاُمم قبلنا ، فقلت له : فقول اللَّه عزّوجلّ : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ(1)» قال : إنّما فرض اللَّه صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الاُمم ، ففضّل اللَّه به هذه الاُمّة ، وجعل صيامه فرضاً على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وعلى اُمّته))(2).

فالصيام هو هديّة مباركة لهذه الاُمّة ، وفيه ما لا يحصى من المنافع والحكم التي يقصر عقل الإنسان عن إدراكها أو حتّى تصوّرها ولذا فإنّ الباري تعالى يخاطب عباده المؤمنين بأنّ ((كتب عليكم الصيام)) وذلك لمنفعتهم وصلاحهم في الدارين .

ص: 76


1- سورة البقرة (2) : الآية 183 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج2 ص99 ح1844 .

6- الإسلام دين السلام

اشارة

(6) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ »(سورة البقرة : 208)

في رحاب المفردات

السلم : بكسر السين ، السلام والسلم والسَّلم هو الصلح ... وقيل السلم اسم بإزاء الحرب(1). ومنه قوله تعالى : «وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ(2)» أي مستسلماً له ، منقاداً لما يريد منه ، ونحن نقرأ في آيات اُخر : «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ(3)» وفي آية اُخرى : «فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ(4)».

كافّة : معناه جميعاً ، واشتقاقه في اللغة ممّا يكفّ الشي ء في آخره ، ومن ذلك قوله تعالى : «وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً(5)» قيل معناه كافّين لهم

ص: 77


1- مفردات الراغب : ص246 .
2- سورة الزمر (39) : الآية 29 .
3- سورة الأنفال (8) : الآية 61 .
4- سورة محمّد (47) : الآية 35 .
5- سورة التوبة (9) : الآية 36 .

كما يقاتلونكم كافين ، وقيل معناه جماعة كما يقاتلونكم جماعة ، وذلك أنّ الجماعة يقال لهم الكافّة(1).

شأن النزول

روى العلّامة البحراني عن الأصفهاني الأموي - في معنى هذه الآية - من عدّة طرق إلى علي(عليه السلام) )أنّه قال( : ((السلم ، ولايتنا أهل البيت))(2).

عبر من الآية

المجتمع الإسلامي هو مجتمع نقي عامل خالص لوجه اللَّه تعالى .. هكذا يريد اللَّه - سبحانه - لنا وللمجتمع المنشود وإن لم يتحقّق بعدُ في الواقع فوق هذه الأرض إلّا أنّ الوعد الإلهي يبشّر به في نهاية المطاف بدولة الإمام المهدي - عجّل اللَّه تعالى فرجه - وقيادته ففي الآية الشريفة «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ(3)» وفي آية اُخرى : «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً(4)».

والمجتمع هو مجموعة أفراد تربطهم روابط نسبية أو سببية أو مصالح نفسية ، يعملون وفق قانون ما وتحت رعاية وقيادة رجل ما يسهر على تحقيق العدالة بين المجتمع ، ومجتمع الإسلام هو مجتمع تقوى وعبادة لأنّ الأفراد يجب أن يتّقوا اللَّه

ص: 78


1- مفردات الراغب : ص450 .
2- غاية المرام : المقصد الثاني ب223 ص439 .
3- سورة الفتح (48) : الآية 28 .
4- سورة الإسراء (17) : الآية 81 .

ويعبدوه حقّ عبادته ، وبمثل هذا المجتمع يجب أن تنتفي جميع أنواع وأشكال الظلم والاستغلال .

أي ينبغي أن يسوده السلام ويرفل تحت ظلّه ، ولذلك اُطلق على الرسالة الخاتمة اسم الإسلام ، فقد قال تعالى : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ(1)» وفي آية اُخرى : «هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ(2)». وهذا الاسم الشريف يعني السلم ويرفع شعار السلام لكل من هم تحت رايته في المجتمع ولو كانوا مخالفين له ، أو غير مقرّين به وبرسوله المصطفى محمد صلى الله عليه وآله كأهل الكتاب وغيرهم من بني البشر .

فالنداء المبارك في الآية الشريفة للمؤمنين بأن يدخلوا في السلم كافّة أي ينصهروا ويتآلفوا ويتكاتفوا في مجتمعهم الذي يعيشون فيه ، فيبلوروا حقيقة المجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه كافّة المخلوقات بسلام وأمن حتى غير البشر فهم ينعمون بذلك .

وبعبارة اُخرى المجتمع الإسلامي كالجسد الإنساني بالاحساس والشعور فإذا ما وخز الجسد شوكة أو ابرة فإنّ سائر الأعضاء كلّها تنتبه وتستنفر فيعرف إنّ خللاً ما أصاب الجسد فيستعد للدفاع والمواجهة إذا لزمت الضرورة .

الشيطان عدوّ المجتمعات

والمجتمعات كافّة لها عدوّ أساسي وهو خفي غير واضح ألا وهو الشيطان ذلك المطرود من رحمة اللَّه الذي يسير من الأفراد مجرى الدم في عروقهم ويرافقهم مع الهواء في كلّ حركاتهم وسكناتهم ، وهو في المجتمع أخبث وأفتك إذ أنّ القابليات

ص: 79


1- سورة آل عمران (3) : الآية 19 .
2- سورة الحجّ (22) : الآية 78 .

تختلف والنفوس الضعيفة كثيرة وإذا ما جنّد بعض الأعوان فإنّه يؤجّج بؤرة الفساد في المجتمع .

وشيئاً فشيئاً يدبّ دبيباً بطيئاً ويمشي بالمجتمع والأفراد خطوة بعد اُخرى إلى أن يلقيه في الهاوية وما أدراك ما هي نار حامية .

فالشيطان عدو للإنسان بل للمجتمع الإنساني أجمع وعلينا جميعاً أن نتّخذه عدوّاً كما أشارت الآية المباركة حيث قالت : «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً(1)».

كيف نواجه الشيطان ؟

ولا يخفى أنّ مواجهة الشيطان تتطلّب الإيمان .. فالإيمان هو الركيزة القويّة ، والدعامة المتينة ، التي يمكن أن نبني عليها أو على أساسها الإنسان والمجتمع على حدّ سواء ، ولا شي ء غير هذه الدعامة تصلح لأن تكون قاعدة للسلام في المجتمع الإنساني .

فالركيزة الوحيدة التي أثبتت جدارتها في تشكيل مجتمع فاضل يسوده الودّ والسلام هي ركيزة الإيمان والتقوى وليس غيرها .. وقد جرّبت هذه الركيزة منذ 1400 عام تقريباً وطبّقت على مسرح الواقع فأثبتت كفاءتها وذلك عند بزوغ نجم الإسلام في المدينة المنوّرة وبداية تشكيل ذاك المجتمع القوي والفريد من نوعه في التاريخ ، فقد كان العرب في جاهليتهم كما تصفهم مولاتنا الزهراء عليها السلام في خطبتها الغرّاء : «وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ(2)» مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة

ص: 80


1- سورة فاطر (35) : الآية 6 .
2- سورة آل عمران (3) : الآية 103 .

العجلان ، وموطي الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون الورق ، أذلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم))(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) واصفاً حال العرب قبل البعثة في نهجه الرائع : ((إنّ اللَّه بعث محمّداً صلى الله عليه وآله نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل ، وأنتم معشر العرب .. على شرّ دين ، وفي شرّ دار منيخون بين حجارة خشن ، وحيّات صم ، تشربون الكدر وتأكلون الجشب وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة(2).

وقال(عليه السلام) في كلام آخر : ((وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، أرسله بالدين المشهور ، والعلم المأثور ، والكتاب المسطور ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، والأمر الصادع ، إزاحةً للشبهات ، واحتجاجاً بالبيّنات ، وتحذيراً بالآيات ، وتخويفاً بالمثلات ، والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين ، وتزعزعت سواري اليقين ، واختلف النَّجر وتشتّت الأمر ، وضاق المخرج ، وعمى المصدر))(3).

فهذا هو حال العرب قبل أن يمنّ اللَّه عليهم بالإسلام ويرحمهم برسوله الأكرم صلى الله عليه وآله إذ أنّه رحمة مهداة لهذه الاُمّة ولكلّ الاُمم قاطبة ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً(4)».

من جانب آخر فإنّ الذي يخرج الإنسان عن جادّة الصواب هو اتّباع خطوات الشيطان الضالّة ، إذ إنّه لمّا طرد من حظيرة القدس والرحمة راهن على البشرية وآلى على نفسه أن يخرج الإنسان من رحمة اللَّه وذلك عبر أساليب وطرق متعدّدة ومختلفة ،

ص: 81


1- الطرائف : ج1 ص264 ح368 .
2- نهج البلاغة : خ26 يصف فيها العرب قبل البعثة .
3- نهج البلاغة : خ2 يصف فيها حال الناس قبل البعثة .
4- سورة سبأ (34) : الآية 28 .

فقال : «فَبِعِزَّتِكَ لَأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(1)».

فتارةً يأتيهم عبر الاغواء والاغراء ، واُخرى عبر الفساد والفجور ، وثالثة عبر الكفر والطغيان ، وهكذا ، فهو لن يترك الإنسان وشأنه أبداً ..

وقبال هذا العدو اللدود ينبغي للإنسان أن يعدّ العدّة ويستعين باللَّه ليوفّق للخروج في آخر مطاف حياته سعيداً منتصراً على شيطانه ..

وهذا ما صنعه المسلمون في صدر الإسلام ، فإنّهم أخذوا يتفنّون في مواجهتهم ومقاومتهم لاغراءات الشيطان وأساليبه فسطّروا في صفحات التاريخ أعظم الصور الجميلة الدالّة على عظيم إيمانهم ومدى تفانيهم في ذات اللَّه .

ولعلّ خير شاهد على ذلك هو استقبال الأنصار لإخوانهم المهاجرين وإيثارهم لهم على أنفسهم حتّى بلغ الأمر بهم أنّ الرجل يطلّق إحدى زوجتيه كي يتزوّجها أخوه المهاجر ، وأنّه يقدّم أحد منازله لأخيه المهاجر ، بل إنّ بعضهم قاسمهم أمواله وشاركهم في أعماله ...

وهكذا فإنّ المجتمع الذي تجمعه ركيزة الإيمان والتقوى ، تجده في أحلك الظروف وأشدّها مترابطاً ينظر إلى القيم والمبادئ بعين الاعتبار ، فطوبى للمجتمعات المقدّسة التي تلمّها هكذا مبادئ.

ص: 82


1- سورة ص (38) : الآية 82 .

7- الإنفاق ضرورة حضارية

اشارة

(7) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ»

(سورة البقرة : 254)

في رحاب المفردات

بيع : البيع إعطاء المثمن وأخذ الثمن ، والشراء إعطاء الثمن وأخذ المثمن ، ويقال للبيع الشراء وللشراء بيع وذلك بحسب ما يتصوّر من الثمن والمثمن(1).

وقد ورد ذكر البيع والمبايعة في أكثر من آية في القرآن ، فقد قال تعالى : «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ(2)» وقال أيضاً : «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا(3)» وقال أيضاً : «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ(4)» وقال : «إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ

ص: 83


1- مفردات الراغب : ص65 .
2- سورة التوبة (9) : الآية 111 .
3- سورة البقرة (2) : الآية 275 .
4- سورة البقرة (2) : الآية 254 .

وَذَرُوا الْبَيْعَ(1)«.

خلّة : الخلّة المودّة وذلك لأنّها إمّا تتخلّل النفس فتؤثّر فيها تأثير السهم في الرمية ، وإمّا لفرط الحاجة إليها(2) ، ونحن نقرأ في القرآن الكريم : «الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(3)« وفي آية اُخرى : «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً(4) وفي آية ثالثة : »لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً(5)«.

شفاعة : الإنضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه وأكثر ما يستعمل في إنضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى ، ومنه الشفاعة يوم القيامة(6) ويقال : فلان يشفع لي بالعداوة ، أي يعين عليّ ويضادّني(7).

وقد جاء في الآية الكريمة : «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ(8)» وفي آية اُخرى : «وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ(9)».

ص: 84


1- سورة الجمعة (62) : الآية 9 .
2- مفردات الراغب : ص154 .
3- »(( - سورة الزخرف (43) : الآية 67 .
4- سورة النساء (4) : الآية 125 .
5- سورة الفرقان (25) : الآية 28 .
6- مفردات الراغب : ص270 .
7- كتاب العين مادّة شفع .
8- سورة البقرة (2) : الآية 255 .
9- سورة البقرة (2) : الآية 48 .

شأن النزول

روى الحافظ الحاكم الحسكاني )الحنفي( قال : حدّثنا أبو زكريا ابن إسحاق عن حذيفة قال : ((إنّ اُناساً تذاكروا فقالوا : ما نزلت آية في القرآن )فيها( «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا في أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله . فقال حذيفة : ما نزلت في القرآن «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا كان لعلي لبّها ولبابها))(1).

عبر من الآية

تتناول هذه الآية المباركة مسألة في غاية الأهمية والدقّة وهي: ضرورة الانفاق والبذل في الحياة وقبل الممات لأنه في الآخرة حساب فقط ولا مجال لأي عمل من الأعمال علماً أنّ الإنفاق يكون من أرزاق الرحمن وهباته وعطاياه وليس من ذاتياتنا فإنّ كل ما نملكه من قوى وطاقات وإمكانات وثروات سواء أكانت مخبوءة بالنفوس أم ظاهرة للعيان هي من رزق اللَّه تعالى وعطائه لنا . فاللَّه سبحانه هو مصدر الخير كلّه بل هو خير محض ولا يصدر عنه إلّا خيراً ، وإذا كان هناك شي ء اسمه شرّ فهو ليس منه تعالى ، بل إمّا أن يكون من النفس البشرية أو النفس الشيطانية وهذا ما تؤكّده الآيات والروايات . لذلك ولأنّه تعالى مصدر الخير فإنّه يدعو الإنسان إلى الخير وما هذه الآية الشريفة إلّا كشاهد صدق على ذلك ، ففي هذه الآية المباركة يوجّهنا المالك الحقيقي أن ننفق شيئاً ممّا نملك لا كل ما نملك ، وهذا ما نستفيده من كلمة (ممّا) المركّبة من كلمتي (مِن) و (ما) الموصولة ثمّ اُدغمت النون في الميم ، و (من) كما هو معروف في الأدب العربي تفيد التبعيض أي أنفقوا بعض ما رزقناكم فقط .

ص: 85


1- شواهد التنزيل : ج1 ص48 .

لماذا الإنفاق ؟

وما هذه الدعوة الإلهية إلّا لحكمة ربّانية عظيمة الشأن منه تعالى إذ أنّه يعلم بشحّ الإنسان وبخله على نفسه في كثير من الأحيان ، فكيف على الآخرين ، فطلب اللَّه سبحانه وأمر المؤمنين أن ينفقوا بعضاً من كل فقط وهو شي ء يسير إذا ما قورنت بكل النعم والرزق الإلهي للإنسان .

وقد قسّم الانفاق على نوعين ، فمنه الواجب ، والآخر مندوب مستحب ، أمّا الأوّل فهي النفقات الواجبة غرار الزكاة والخمس ، وزكاة الفطر وبعض الموارد الاُخرى التي حدّدها الشارع المقدّس وأوضحها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والأئمّة الأطهار عليهم السلام وتصدّى لبيانها في عصورنا المتأخّرة المراجع العظام في رسائلهم العملية وكتبهم الفقهية .

أمّا الثاني فهو ما ندب إليه الشارع وشوّق إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والأئمّة الأطهار عليهم السلام إذ لا غنى عن هذه الموارد لإنعاش المجتمع الإسلامي وتماسكه وتعاطفه وانعدام الفقر والحاجة فيه إلّا بها وبالنفقات الواجبة السابقة الذكر .

ولا يخفى أنّ النفقات غير محدّدة أو مقيّدة بضرب خاصّ مثل الصدقات أو الاعانة وسائر أعمال الخير بل تشمل كل النعم الإلهية والخيرات الربّانية التي يمكن للإنسان أن ينفق لتزكوا وتنمو ، فمثلاً زكاة العلم نشره وتعليم الجاهلين ، وصدقة الجاه إظهاره وحماية المستضعفين ، والجمال .. رحمة ذوي العاهات والدعاء لهم ، والصحّة .. العطف على أصحاب الأمراض المزمنة في المجتمع ، والقوّة .. معاونة الضعفاء والمسنّين والأطفال عند الحاجة له ، وهكذا ، فلكل ملكة في الإنسان انفاق وتصدّق .

وهذا إمامنا السجّاد(عليه السلام) كان يضرب فيه المثل الأعلى في العطاء والانفاق ، يقول الإمام الباقر عنه(عليه السلام) عنه : ((لمّا غسلناه نظر البعض إلى مواضع المساجد من

ص: 86

ركبتيه وظاهر قدميه كأنّها مبارك البعير)) ، وقد نظر البعض إلى عاتقه وفيه مثل ذلك فقالوا للإمام الباقر(عليه السلام) : يابن رسول اللَّه قد عرفنا إنّ هذا من إدمان السجود ، فما هذا الذي نرى على عاتقه ؟ قال : ((أما لولا أنّه مات ما حدّثتكم عنه ، كان لا يمرّ به يوم إلّا أشبع فيه مسكيناً فصاعداً ما أمكنه ، وإذا كان الليل نظر إلى ما فضل عن قوت عياله فجعله في جراب فإذا هدأ الناس وضعه على عاتقه وتخلّل المدينة وقصد قوماً لا يسألون الناس إلحافاً وفرّغه فيهم من حيث لا يعلمون من هو ولا يعلم بذلك أحد من أهله غيري فإنّي كنت اطّلعت على ذلك منه))(1).

نعم ، فهل إنّنا نقتدي بإمامنا السجّاد ونسير على خطاه المباركة فننفق ممّا أنعمه اللَّه علينا ، أم إنّنا نمسك أيدينا وننكر المعروف الإلهي ؟

الجواب : إنّ الغالب من الناس اليوم تنحّو عن هذه السنّة الإلهية واشتغلوا بأنفسهم وملذّاتها ونسوا أنّ هذه النعم والخيرات المغدقة عليهم سوف تزول في يوم ما وأنّهم سيسألون عنها من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها .

وقد بالغ البعض في تجافيهم مع خالقهم حيث آل به الأمر إلى عدم اعطاء الحقوق الواجبة من خمس وزكاة وغيرهما ..

ومن جرّاء هذه الحالة تراجع شعوبنا إلى الوراء وساد الفقر في المجتمع وكثر المحرومون في البلاد الإسلامية ممّا دفع بالكثير من المسلمين إلى القاء أنفسهم في أحضان الديانات الاُخرى أو الفساد والملاهي علّة يستدرّ منها رزقاً يسدّ به رمقه ويؤمّن منه معيشته .

الإنفاق وانقاذ المجتمعات

ونحن اليوم حتى ننقذ مجتمعاتنا الإسلامية من محيط الفقر والاحتياج فلابدّ لنا

ص: 87


1- بحار الأنوار : ج93 ص23 ح56 .

من :

(1) حثّ الناس على اعطاء النفقات الواجبة من خمس وزكاة وغيرهما وذلك يكون عبر ذكر الآثار والبركات الربّانية التي تشمل كل من يطهّر رزقه وخيراته من الحرام .

(2) تشويق التجّار والأغنياء على الانفاق ومساعدة الفقراء والمحتاجين في المجتمع إذ أنّ إعانة المؤمن أو المسلم لها آثار كثيرة على الإنسان في الدنيا قبل الآخرة .

(3) ذمّ البخل والبخلاء في أوساطنا الاجتماعية ، والتأكيد على عظمة الإنسان المنفق وجلالة قدره وعظم شأنه عند الباري تعالى .

(4) ذكر الروايات والمآثر الإسلامية المؤكّدة على الانفاق وتفقّد المحرومين والمحتاجين ممّن ليس لهم حظّ في متاع الدنيا ، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال : ((إنّ اللَّه سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء))(1) وقال اللَّه تعالى : ((المال مالي والفقراء عيالي والأغنياء وكلائي فمن بخل بمالي على عيالي أدخله النار ولا اُبالي))(2).

وعن أبي محمد الوابشي قال : ذُكر أصحابنا عند أبي عبداللَّه(عليه السلام) فقلت : ما أتغدّى إلّا ومعي منهم الاثنان والثلاثة وأقلّ وأكثر ، فقال أبو عبداللَّه(عليه السلام) : ((فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم)) . فقلت : جعلت فداك وكيف وأنا اُطعمهم طعامي واُنفق عليهم من مالي وأخدمهم عيالي ؟ فقال : ((إنّهم إذا دخلوا عليك دخلوا برزق من اللَّه عزّوجلّ كثير وإذا خرجوا خرجوا بالمغفرة لك))(3).

(5) ذكر أثر الانفاق ودوره في دفع البلاد وجلب الرزق للفرد والمجتمع ، فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وآله فقال : السام عليك ، فقال رسول

ص: 88


1- نهج البلاغة ق : 328 .
2- جامع الأخبار : ص80 .
3- الكافي : ج2 ص200 ح9 .

اللَّه صلى الله عليه وآله : عليك ، فقال أصحابه : إنّما سلّم عليك بالموت قال : الموت عليك ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : وكذلك رددت ، ثمّ قال النبي صلى الله عليه وآله : إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ثم لم يلبث ان انصرف فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ضعه فوضع الحطب فإذا بأسود في جوف الحطب عاضّ على عود ، فقال : يايهودي ما عملت اليوم ؟ قال : ما عملت عملاً إلّا حطبي هذا احتملته فجئت به وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : بها دفع اللَّه عنه ، وقال : إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان))(1).

وعن الوشاء عن أبي الحسن(عليه السلام) قال : سمعته يقول : ((كان رجل من بني اسرائيل ولم يكن له ولد فولد له غلام وقيل له : إنّه يموت ليلة عرسه فمكث الغلام فلمّا كان ليلة عرسه نظر إلى شيخ كبير ضعيف فرحمه الغلام فدعاه فأطعمه فقال له السائل : أحييتني أحياك اللَّه قال : فأتاه آت في النوم فقال له : سل إبنك ما صنع ، فسأله فخبّره بصنيعه ، قال : فأتاه الآتي مرّة اُخرى في النوم فقال له : إنّ اللَّه أحيا ابنك بما صنع بالشيخ))(2).

علّموا أبناءكم الإنفاق

ولم تقتصر دعوة الشارع المقدّس إلى الانفاق على الكبار فقط ، بل هناك بعض الروايات تدعوا إلى حثّ الصغار على الانفاق وتعليمهم منذ نعومة أظفارهم على مساعدة الآخرين والانفاق لهم ولو كان ذلك بالشي ء اليسير ، فعن عمر بن يزيد قال : أخبرت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) إنّي اُصبت بابنين وبقي لي بنيّ صغير فقال :

ص: 89


1- الكافي : ج4 ص5 ح3 .
2- الكافي : ج4 ص7 ح10 .

((تصدّق عنه ، ثمّ قال حين حضر قيامي : مر الصبيّ فليتصدّق بيده بالكسرة والقبضة والشي ء وإن قلّ فإنّ كل شي ء يراد به اللَّه وإن قلّ بعد أن تصدّق النيّة فيه عظيم إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه(1).

التشويق إلى الإنفاق

بل - وكما يستفاد من الروايات - إنّ الانفاق والسخاء هما صفتان محبّذتان إسلامياً ، فالشخص السخي والكريم محترم بنظر الإسلام خاصّة إذا كان سخائه مقرون بالإيمان ، فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وفد من اليمن وفيهم رجل كان أعظمهم كلاماً وأشدّهم استقصاء في محاجّة النبي صلى الله عليه وآله ، فغضب النبي صلى الله عليه وآله حتى التوى عرق الغضب بين عينيه وتربّد وجهه وأطرق إلى الأرض فأتاه جبرئيل(عليه السلام) فقال : ربّك يقرئك السلام ويقول لك : هذا رجل سخي يطعم الطعام فسكن عن النبي صلى الله عليه وآله الغضب ورفع رأسه وقال له : لولا أنّ جبرئيل أخبرني عن اللَّه عزّوجلّ أنّك سخي تطعم الطعام لشردت بك وجعلتك حديثاً لمن خلفك ، فقال له الرجل : وإنّ ربّك ليحبّ السخاء ؟ فقال : نعم فقال : إنّي أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وإنّك رسول اللَّه والذي بعثك بالحقّ لا رددت من مالي أحداً))(2).

ص: 90


1- سورة الزلزلة (99) : الآية 8 - 7) الكافي : ج4 ص4 ح10 .
2- الكافي : ج4 ص40 - 39 ح5 .

8- حقائق عن الصدقات المقبولة

اشارة

(8) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ »(سورة البقرة : 264)

في رحاب المفردات

المنّ : المنّة هي النعمة الثقيلة ويقال ذلك على وجهين : أحدهما : أن يكون ذلك بالفعل فيقال منّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة وعلى ذلك قوله : «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(1)«.

والثاني : أن يكون ذلك بالقول وذلك مستقبح فيما بين الناس إلّا عند كفران النعمة ، ولقبح ذلك قيل المنّة تهدم الصنيعة(2).

ص: 91


1- سورة آل عمران (3) : الآية 164 .
2- مفردات الراغب : ص494 .

الأذى : ما يصل إلى الحيوان من الضرر إمّا في نفسه أو جسمه أو تبعاته دنيوياً كان أو اُخروياً ، قال تعالى : «وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ(1).

رئاء : الرئاء والمراءاة يقال فعل ذلك رئاء الناس أي مراءاة وتشيّعاً(2) ، فنحن نقرأ في القرآن الكريم : «وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ(3)« وفي آية اُخرى : «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ(4)« وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((ثلاث علامات للمرائي : ينشط إذا رأى الناس ، ويكسل إذا كان وحده ، ويحبّ أن يحمد في جميع اُموره))(5).

صفوان : اسم للحجر الأملس ، وهو اسم واحد معناه جمع واحده صفوانه(6).

تراب : التراب هي الأرض نفسها ، فيقال ترب أي افتقر وكأنّه التصق بالتراب(7) ومنه قوله تعالى «مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ(8)«.

وابل : الوبل والوابل المطر الثقيل القطار وقد ذكرت كلمة الوابل والوبال في بعض الآيات حيث جاء : «كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ(9)«.

ص: 92


1- سورة التوبة (9) : الآية 61-مفردات الراغب : ص11 .
2- مفردات الراغب : ص188 .
3- سورة النساء (4) : الآية 38 .
4- سورة الأنفال (8) : الآية 47 .
5- الكافي : ج4 ص295 ح8 .
6- مجمع البحرين : مادّة صفو .
7- مفردات الراغب : ص70 .
8- سورة البلد (90) : الآية 16 .
9- (01) سورة البقرة (2) : الآية 265 .

وجاء أيضاً : «أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ(1)«. وفي آية اُخرى : «ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(2)«.

عبر من الآية

تتضمّن هذه الآية المباركة توجيه إلهي جميل ونداء عظيم يستشعر منه الرحمة بالمؤمنين من قبل سيّدهم ومولاهم ربّ العالمين .. فإنّه - تعالى يريد منهم الثبات على العمل من أجل تثبيت الأجر والثواب ولا يريد منهم إبطال الأعمال الصالحة باُمور تافهة من كلمة هنا أو موقف مخزٍ هناك ..

وهذا التوجيه الربّاني يستبطن التحذير كذلك لوجود لفظة )لا( الناهية والتي تفيد كما قال الاُصوليون حرمة المنّ والأذى لمن يتصدّق عليهم إذ أنّ ذلك يحرق العمل الصالح ويذهب بكرامة الأخ المؤمن ويؤذي كرامته وسمعته ، ولذلك فإنّ اللَّه تعالى ينهى عن المنّ والأذيّة .

فالإنفاق وكما هو معلوم سمة حسنة ، وخصلة مطلوبة ومرغوبة في الدين الإسلامي وذلك لأسباب كثيرة تطرّقنا إلى بعضها سابقاً وربما نذكر أسباباً اُخرى لاحقاً .

من شرائط الإنفاق

فالإنفاق بحدّ ذاته ليس أمراً مهمّاً بقدر ما يلاحظ فيه مسألتان أساسيتان

ص: 93


1- سورة المائدة (5) : الآية 95 .
2- سورة الحشر (59) : الآية 15 .

وهما :

1 - دوافع الإنفاق : الذي ينبغي أن يكون لوجه اللَّه تعالى . 2 - كيفية الإنفاق : المفترض أن لا يتبعه منّ ولا أذى للمعطى له ، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله قال : ((إذا كان يوم القيامة ، نادى منادٍ يسمع أهل الجمع : أين الذين كانوا يعبدون الناس ؟ قوموا خذوا اُجوركم ممّن عملتم له ، فإنّي لا أقبل عملاً خالطه شي ء من الدنيا وأهلها))(1). وروي عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((من أسدى إلى مؤمن معروفاً ، ثمّ آذاه بالكلام ، أو منّ عليه ، فقد أبطل اللَّه صدقته)) . ثمّ ضرب فيه مثلاً فقال : «كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ(2)« إلى قوله «الْكَافِرِينَ(3)«. وقال أبو عبداللَّه(عليه السلام) : ((ما من شي ء أحبّ إليّ من رجل سلف منّي إليه يدُ أتبعته اُختها ، وأحسنت بها له ، لأنّي رأيت منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل))(4).

وبالطبع فإنّ ابطال ثواب الصدقات له معنيان كذلك :

1 - الاحباط الإلهي : وهو إبطال أجر العمل بالمنّ والأذى لآخذها .

2 - الاحباط الاجتماعي : حيث إنّ المنّان يبتعد الناس عنه ، ولا أحد يحبّ أن يأخذ منه لأنّه سوف يفضحه بمنّه عليه ، وقوله له : أنا أعطيتك كذا .. أو بالأمس أعطيتك كذا .. أو هل نسيت معروفنا عليك ياناكر المعروف والجميل ؟ وما أشبه ذلك ، فتنقلب الصدقة من خير إلى منّ ورياء وهما أسفل الشرّ أبداً .

لذلك فقد جاءت الآية لتذكّر المؤمنين وتحذّرهم من مغبّة هذا العمل الشنيع ، أي يامن عقدتم الإيمان باللَّه لا تذهبوا أتعابكم أدراج الرياح بالمنّ والأذى . ولكي

ص: 94


1- مستدرك الوسائل : ج1 ص113 ح125 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 264 .
3- مجمع البيان : ج3 مج2 ص185 .
4- تفسير القمّي : ج1 ص91 .

يكون الخطاب أكثر وقعاً في النفوس فقد نظّرت الآيات من يتبع صدقاته بالمنّ والأذى بالصفوان أي الأرض الصلبة التي لا ينبت فيها الزرع إذ أنّ حبّات التراب المتراكمة فوق هذه الأرض الصلبة لا يمكن أن تحتضن البذرة وتحفظها حتى تنمو وتكبر وتصبح شجرة باسقة أصلها في الأرض وفرعها في السماء .

وما أعظمه من تنظير ، فالمنّان مهما تصدّق أو تزكّى فإنّه بمنّه وأذاه للناس يتلف كلّ ما فعله من عمل الخير فيبقى خاسراً في الدنيا : لأنّه غير قادر على إرجاع ما أنفقه فضلاً عن سخط الناس عليه لمنّه وأذاه . وفي الآخرة : فهو محروم من الثواب لأنّه أبطل عمله بمنّه وأذاه .

وأمّا المؤمنون فإنّ مثلهم كما قال تعالى : «كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ(1)« فكم الفرق شاسع بين الاثنين لمن تفكّر وتدبّر .

أهل البيت عليهم السلام والنهي عن المنّة

وأحاديث أهل البيت عليهم السلام كثيرة وصارمة في هذا الباب .. وسيرتهم الذاتية وحياتهم الشخصية فيها الكثير من القصص المؤكّدة على مثاليتهم في الحياة وتمثّلهم للرسالة بحذافيرها :

فمن هذه الأحاديث الداعية إلى التصدّق والإخلاص فيه ما يلي : عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في بعض خطبه : ((إنّ العبد إذا مات قالت الملائكة : ما قدّم ؟ وقال الناس : ما أخّر ؟ فقدّموا فضلاً يكن لكم ، ولا تؤخّروا كلّاً يكن عليكم ، فإنّ المحروم من حرم خير ماله ، والمغبوط من ثقل بالصدقات والخيرات موازينه ، وأحسن في

ص: 95


1- سورة البقرة (2) : الآية 265 .

الجنّة بها مهاده ، وطيّب مهاده ، وطيّب على الصراط بها مسلكه))(1).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، والصدقة خفياً تطفئ غضب الربّ ، وصلة الرحم زيادة في العمر ، وكلّ معروف صدقة))(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال : ((إنّ في الجنّة لشجرة يخرج من أعلاها الحلل ، ومن أسفلها خيل بَلق مسرّجة ملجمة ذوات أجنحة ، لا تروث ولا تبول ، فيركبها أولياء اللَّه فتطير بهم في الجنّة حيث شاءوا ، فيقول الذين أسفل منهم : ياربّنا ، ما بلغ بعبادك هذه الكرامة ؟ فيقول اللَّه جلّ جلاله : إنّهم كانوا يقومون الليل ولا ينامون ، ويصومون النهار ولا يأكلون ، ويجاهدون العدوّ ولا يجبنون ويتصدّقون ولا يبخلون))(3).

وهناك طائفة اُخرى تذمّ المنّان وتوضّح مصير أعماله وأتعابه ، منها :

ما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنّه قال : ((إنّ اللَّه كره لكم أيّتها الاُمّة أربعاً وعشرين خصلة ونهاكم عنها ... إلى قوله صلى الله عليه وآله : وكره المنّ في الصدقة))(4).

وعن النبي صلى الله عليه وآله قال : ((ثلاثة لا يكلّمهم اللَّه : المنّان الذي لا يعطي شيئاً إلّا بمنّة ، والمسبل أزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر))(5).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((إنّ اللَّه تعالى كره لي ست خصال وكرههنّ للأوصياء من ولدي وأتباعهم من بعدي : العبث في الصلاة ، والرفث في الصوم ، والمنّ بعد

ص: 96


1- أمالي الصدوق : المجلس 23 ح10 .
2- أمالي الطوسي : المجلس 27 ح6 .
3- أمالي الصدوق : المجلس 48 حديث 14 .
4- الخصال : ج2 ص520 ح9 .
5- الخصال : ج1 ص184 ح253 .

الصدقة))(1).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثمّ آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل اللَّه صدقته))(2).

وسيرة أهل البيت الأطهار عليهم السلام ، في اخفاء الصدقة أكبر من أن يحاط بها أو أن تذكّر بمثل هذا المقام .. إلّا أنّه لابدّ من التبرّك بذكر قصّة من قصص الإمام الصادق(عليه السلام) .

فعن المعلّى بن خنيس قال : خرج أبو عبداللَّه(عليه السلام) في ليلة قد رشّت وهو يريد ظلّة بني ساعدة ، فأتبعته فإذا هو قد سقط معه شي ء ، فقال بسم اللَّه اللهمّ ردّ علينا ، قال : فأتيته فسلّمت عليه ، قال : فقال معلّى ؟ قلت : نعم جعلت فداك ، فقال لي : التمس بيدك فما وجدت من شي ء فادفعه إليّ فإذا أنا بخبز منتشر كثير فجعلت أدفع إليه ما وجدت فإذا أنا بجراب أعجز عن حمله من خبز فقلت : جعلت فداك أحمله على رأسي فقال : لا أنا أولى به منك ولكن امض معي قال : فأتينا ظلّة بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام فجعل يدسُّ الرغيف والرغيفين حتى أتى على آخرهم ثم انصرفنا ، فقلت : جعلت فداك يعرف هؤلاء الحقّ فقال : لو عرفوه لواسيناهم بالدقّة - والدقّة هي الملح - إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يخلق شيئاً إلّا وله خازن يخزنه إلّا الصدقة فإنّ الربّ يليها بنفسه وكان أبي إذا تصدّق بشي ء وضعه في يد السائل ثمّ ارتدّه منه فقلّبه وشمّه ثمّ ردّه في يد السائل ، إنّ صدقة الليل تطفي غضب الرب وتمحو الذنب العظيم وتهوّن الحساب وصدقة النهار تثمر المال وتزيد في العمر ، إنّ عيسى بن مريم(عليه السلام) لمّا أن مرّ على شاطئ البحر رمى بقرص من قوته في الماء فقال له بعض الحواريين :

ص: 97


1- الخصال : ج1 ص327 ح19 .
2- نور الثقلين : ج1 ص264 ح1113 .

ياروح اللَّه وكلمته ، لِمَ فعلت هذا وإنّما هو من قوتك ؟ قال : فقال : فعلت هذا لدابة تأكله من دواب الماء وثوابه عند اللَّه عظيم(1).

وعلى أيّة حال فإنّ الصدقات تكون مهبط من مهابط الخيرات والبركات على المعطي والمعطى له ، وكلاهما يفرحان برزق اللَّه وعطائه دون خوف أو عجل ..

فالمعطي : حين يعطي في السرّ لا يمكن له أن يمنّ على من يعطيه خشية التكذيب ، وينتظر من اللَّه البركة والعوض المضاعف .

والمعطى له : حين يأخذ من شخص لا يعرفه وفي غلس الليل مثلاً فلا يكون له أي شخص يخجل منه بل يفتخر برزق ساقه اللَّه إليه على يد عبد من عباده الصالحين .. فيدعو اللَّه له بأن يعوّض عليه مضاعفاً وأن يرزقه رزقاً حلالاً طيّباً .

فالصدقة بالحقيقة بركة ، واللَّه يضاعف لمن يشاء .

ص: 98


1- الكافي : ج4 ص9 - 8 ح3 .

9- الإنفاق وبناء المجتمع

اشارة

(9) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ »(سورة البقرة : 267)

في رحاب المفردات

تيمّموا : التيمّم قوله تعالى : «تَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» أي اقصدوا الصعيد الطيّب ، يقال يممته إذا قصدته ، ثمّ كثر استعمالهم هذه اللفظة ، حتّى صار التيمّم مسح الجبهة واليدين بالتراب ، فالتيمّم في اللغة : القصد وفي الشرع : المسح المذكور لاستباحة ما هو مشروط به تقرّباً إلى اللَّه تعالى(1).

الخبيث : هو نعت كلّ شي ء فاسد ، خبيث الطعم ، وخبيث اللون ، وخبث الحديد وغيره : ممّا يذاب بالنار ، وهو ما يبقى من رداءته إذا أخلص جيّده(2).

ص: 99


1- مجمع البحرين : مادّة يمم .
2- كتاب العين: مادّة خبث .

تغمضوا : أغمض في السلعة : استحطّ من ثمنها لرداءتها ، وقد يكون التغميض غير نوم . ويقول الرجل لبيّعه : أغمض لي في البياعة أي زدني لمكان رداءته أو حُطّ لي من ثمنه(1).

شأن النزول

أخرج العلّامة الكشفي المير محمّد صالح الترمذي )الحنفي( في مناقبه عن حذيفة اليمان وابن عباس قالا : ((ما أنزل اللَّه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي أميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللَّه أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله في غير مكان وما ذكر عليّاً إلّا بخير))(2).

عبر من الآية

إنّ كثرة الحديث حول الإنفاق في القرآن الكريم تدلّ بوضوح على أهميّته في المجتمع البشري عامّة فضلاً عن الأفراد ...

فالاقتصاد هو أساس بناء المجتمع إذ أنّه عبر المال والثروة ينمو المجتمع ويزدهر ويتألّق ، وبفقدهما يتأخّر وينحسر ويتقهقر إلى الوراء .. فلا نماء ولا بناء ولا ازدهار إلّا بظلّ اقتصاد قوي قادر على الصمود أمام الهزّات الاقتصادية والهجمات الأجنبية ، وحماية مصالح ومعاش المواطنين جميعاً .

ص: 100


1- لسان العرب : مادّة غمض .
2- المناقب للكشفي : الباب الأول .

لنعد إلى وصايا القرآن

وحيث إنّ العالم اليوم أضحى كالبحر يأكل فيه القوي الضعيف بمختلف الوسائل كان حريّاً بالمسلمين والمؤمنين خاصّة أن يعودوا إلى كتاب اللَّه الكريم ويستمدّوا منه المنهجية الصالحة لخلاصهم من هذه المعضلة الكبيرة . فمن أجل إنقاذ المجتمع الإسلامي من الضياع على امتداد الزمان أخذت هذه الآية تدعو المؤمنين قائلة : «أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ(1)« فماذا يعني هذا الطيب ؟

الجواب عليه : ربما يفهم من الطيب هنا معنيان متكاملان هما :

(1) الطيّب : الطاهر .. طهارة مادّية محضة .. بأن يكون الشي ء )مستساغاً( ومرغوباً فيه .. ومحبّباً إلى النفس الإنسانية بذاته . ويقابل هذا الخبيث : وهو الذي يتنفّر ويشمئزّ منه الطبع الإنساني ..

وهذا مشمول بلا شك في الآية الشريفة إذ أنّها تدعو الإنسان لأن ينفق من الأشياء المرغوبة والمحبوبة لديه . لا المكروه التي يتقزّز منها هو أو عياله .

وهنا لا بأس بذكر القصّة التالية لندرك مدى التزام أئمّتنا عليهم السلام بإنفاق الطيّب ممّا يحبّون ، فعن هشام بن سالم ، قال : كان علي بن الحسين(عليه السلام) يعجبه العنب ، فكان ذات يوم صائماً ، فلمّا أفطر كان أوّل ما جاء العنب ، أتته اُمّ ولد له بعنقود فوضعته بين يديه ، فجاء السائل فدفع إليه فدسّت إليه - أعني إلى السائل - فاشترته منه ، ثمّ أتته فوضعته بين يديه فجاء سائل آخر فأعطاه ففعلت اُمّ الولد مثل ذلك ، حتى فعل ثلاث مرّات ، فلمّا كان في الرابع أكله(2).

ص: 101


1- سورة البقرة (2) : الآية 267 .
2- الكافي : ج6 ص350 ح3 .

هذا هو شأن أئمّتنا المعصومين ، فهم دائماً يؤثرون رضى اللَّه على أنفسهم ، ولكن ماذا عن المسلمين ؟ فهل إنّهم يقتدون بالأئمّة الأطهار عليهم السلام أم إنّهم يقدّمون الردي للغير ويحتفظون بالجيّد لأنفسهم ؟ كما يبدو أنّ أكثر الناس اختاروا الدرب الآخر ، فهم دائماً يقدّمون الرخيص الزهيد للغير ويحتفظون بالجيّد المرغوب لأنفسهم ، والواقع الخارجي خير دليل على ذلك .

وليس هذا الشي ء فقط في عصرنا الراهن وإنّما هو في كل عصر وزمان حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وآله كان بعض المسلمين الأوائل هكذا ، ففي الكافي عن أبي عبداللَّه (عليه السلام)في قوله عزّوجلّ : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ...(1)« قال : ((كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إذا أمر بالنخل أن يزكّى يجي ء قوم بألوان من التمر وهو من أردأ التمر يؤدّونه من زكاتهم تمر يقال له الجعرور والمعافارة ، قليلة اللحاء عظيمة النوى ، وكان بعضهم يجي ء بها عن التمر الجيّد فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((لا تخرصوا هاتين التمرتين ولا تجيئوا منهما بشي ء وفي ذلك نزل : «وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ(2)« والاغماض أن يأخذ هاتين التمرتين))(3).

(2) الطيّب : هو بمعنى الطهارة المعنوية .. والتي تعني سلامة المال من الحرام .. أي يكون حلالاً لا من حرام كأموال السحت والربا والزنا والسرقة والنهب وغير ذلك من الموارد المحرّمة . ويقابل الطيّب بهذا المعنى الخبيث أي الحرام أو ما فيه حرام كالموارد السابقة .

فالإنفاق من المؤمن ينبغي أن يكون من الطيّبات وبطيبة النفس ورضاً تامّ

ص: 102


1- سورة البقرة (2) : الآية 267 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 267 .
3- الكافي : ج4 ص48 ح9 .

وكامل وعن قناعة ويقين أنّ اللَّه - سبحانه - هو الرازق ويضاعف لمن يشاء ، فالحسنة بعشر أمثالها أو عشرات حتى ...

أجل فالمال الذي ينفق منه ينمو ويزداد ، وكما يقولون زكاة المال إنفاقه ..

بركات الإنفاق

وحيث بلغ بنا المقام إلى قضية البركة التي يفيضها اللَّه تعالى على المال الذي ينفق منه ، فلا بأس بذكر الحادثة التالية :

فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال : ((جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقد بلي ثوبه ، فحمل إليه إثنى عشر درهماً ، فقال : ياعلي ، خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه)) .

قال علي(عليه السلام) : ((فجئت إلى السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً وجئت به إلى رسول اللَّه ، فنظر إليه فقال : ياعلي ، قميص دونه يكفيني ، أترى صاحبه يُقيلنا ؟ قلت : لا أدري . فقال : انظر . فجئت إلى صاحبه فقلت : إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قد كره هذا ، يريد ثوباً دونه ، فأقلنا فيه ، فردّ عليَّ الدراهم ، وجئت بها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً ، فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي ، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ما شأنك ؟ قالت : يارسول اللَّه ، إنّ أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت ، فلا أجسر أن أرجع إليهم . فأعطاها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أربعة دراهم وقال : ارجعي إلى أهلك ، ومضى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إلى السوق ، فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ، ولبسه وحمد اللَّه ، وخرج فرأى رجلاً عرياناً يقول : من كساني كساه اللَّه من ثياب الجنّة ، فخلع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قميصه الذي اشتراه وكساه السائل ، ثم رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً

ص: 103

آخر ، فلبسه وحمد اللَّه . ورجع إلى منزله فإذا الجارية قاعدة على الطريق ، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ما لك لا تأتين أهلك ؟ قالت : يارسول اللَّه ، إنّي قد أبطأت عليهم وأخاف أن يضربوني . فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله مُرّي بين يدي ودلّيني على أهلك . فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حتى وقف على باب دارهم ، ثم قال : السلام عليكم ياأهل الدار . فلم يجيبوه ، فأعاد السلام فلم يجيبوه ، فأعاد السلام ، فقالوا : عليك السلام يارسول اللَّه ، ورحمة اللَّه وبركاته فقال لهم : ما لكم تركتم إجابتي في أوّل السلام والثاني ؟ قالوا : يارسول اللَّه ، سمعنا سلامك فأحببنا أن نستكثر منه . فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : إنّ هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها . فقالوا : يارسول اللَّه ، هي حرّة لممشاك . فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : الحمد للَّه ، ما رأيت اثنى عشر درهماً أعظم بركة من هذه ، كسا اللَّه بها عريانين ، وأعتق بها نسمة))(1).

نعم ، فمن خلال الانفاق الطيّب تحلّ مشاكل المجتمع وتيسّر اُمور العباد ويعمّ الخير في البلاد ، فطوبى للذين ينفقون من طيّبات أموالهم ويصلون بها مستضعفي المسلمين ممّن لا عائل لهم ولا معين .

ص: 104


1- الخصال : ج2 ص491 ح69 .

10- الربا وضياع الشعوب

اشارة

(10) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ »(سورة البقرة : 278)

في رحاب المفردات

ذروا : دعوا ، ففي الآية الشريفة : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ(1)« وقد وردت هذه المفردة في كلمات أمير المؤمنين وسيّد الموحّدين(عليه السلام) كثيراً ، فمنها قوله(عليه السلام) : ((ذر الطمع والشره وعليك بلزوم العفّة والورع))(2).

وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((ذر ما قلّ لما كثر وما ضاق لما اتّسع))(3). وقال(عليه السلام) : ((ذر الاسراف مقتصداً واذكر في اليوم غداً))(4). وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((ذر العجل فإنّ العجل في الاُمور لا يدرك مطلبه ولا يحمد أمره))(5).

ص: 105


1- سورة الجمعة (62) : الآية 9 .
2- نهج البلاغة : ق6691 في ذمّ الطمع .
3- نهج البلاغة : ق2601 في الترغيب إلى الآخرة .
4- نهج البلاغة : ق8124 في ذمّ الإسراف وآثاره .
5- نهج البلاغة : ق5791 في العجول لا إصابة له .

شأن النزول

روي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) : أنّ الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهلية ، وقد بقي له بقايا على ثقيف ، فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم ، فنزلت الآية . وقال السدي وعكرمة : نزلت في بقية من الربا كانت للعبّاس وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية ، يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ، ناس من ثقيف . فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا . فأنزل اللَّه هذه الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : ((على أنّ كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، وأوّل ربا أضعه ربا العبّاس ابن عبدالمطّلب ، وكل دم من دم الجاهلية موضوع ، وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلّب)) الذي كان مرضعاً في بني ليث فقتله هذيل ، وقال مقاتل : نزلت في أربعة اُخوة من ثقيف : مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة ، وهم بنو عمرو ابن عمير بن عوف الثقفي ، وكانوا يداينون بني المغيرة ، وكانوا يربون ، فلمّا ظهر النبي صلى الله عليه وآله على الطائف ، وصالح ثقيفاً ، أسلم هؤلاء الاُخوة الأربعة ، فطلبوا رباهم من بني المغيرة ، واختصموا إلى عتاب بن أسيد ، عامل رسول اللَّه على مكّة ، فكتب عتاب إلى النبي بالقصّة ، فأنزل اللَّه الآية(1).

عبر من الآية

أمر من اللَّه تعالى إلى عباده المؤمنين بترك الربا وفوائده فضلاً عن التأكيد على حقيقة الإيمان لدى الإنسان بداية ونهاية .

ص: 106


1- مجمع البيان : ج3 مج2 ص211 - 210 .

كما أنه تعالى استعمل الشرط في قوله ((إن كنتم مؤمنين)) في نهاية الآية المباركة مع أنّ النداء في بدايتها متوجّه إلى المؤمنين فقط ، فلماذا ؟

الجواب عليه : إنّ هذا غرار الإنسان لما ينهى ويزجر غيره فيقول له : اتّق اللَّه ولا تؤذ جارك .. أو اتّق اللَّه وبرّ والديك .. أي اجعل التقوى هي الدافعة للعمل المطلوب المأمور به ، والآية لما تقول : «اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا(1)« فمرادها أنّ التقوى هي التي يجب أن تزجركم وتجعلكم تتركون ما بقي من ربا الأموال السالفة ..

بين الربا والتجارة

الربا في الإسلام : هو بيع أحد المثلين بالآخر مع زيادة عينية أو حكمية ، أو اقتراض مشروط بالزيادة ، وله نوعان :

1 - ما يكون في البيع : ويثبت بشرطين ، الجنسية الواحدة والكيل .

2 - ما يكون في القرض : ويثبت مع اشتراط النفع .

ولا يخفى أنّ الربا هو عمل الكسالى والمتطفّلين على المجتمع ، إذ أنّ أرباب الربا ممّن يتعاملون بهذا الضرب من البيع غالباً ما يحوزون على الأموال الطائلة دون أن يجدّوا في كسبها أو تحصيلها وإنّما يتعاملون مع الآخرين ممّن باعوا حظّهم بالأدنى ويستدرّون منهم الفوائد الكبيرة دون أي مقابل .

من جانب آخر فإنّ التجارة والمرابحة هي عمل المجدّين والمثابرين في المجتمع ، لذلك فإنّ الإسلام العزيز أكّد على ترك الدعة والخمول والاتّكال على الآخرين ، ففي الحديث عن المعلّى بن خنيس ، عن أبيه قال : سأل أبو عبداللَّه(عليه السلام) عن رجل وأنا

ص: 107


1- سورة البقرة (2) : الآية 278 .

عنده فقيل له : أصابته الحاجة ، قال : ((فما يصنع اليوم ؟)) قيل : في البيت يعبد ربّه قال : ((فمن أين قوته ؟)) قيل : من عند بعض إخوانه فقال أبو عبداللَّه(عليه السلام) : ((واللَّه للّذي يقوته أشدّ عبادة منه))(1). وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال))(2). وقال أبو عبداللَّه(عليه السلام) لهشام الصيدلاني : ((ياهشام إن رأيت الصفّين قد التقيا فلا تدع طلب الرزق في ذلك اليوم))(3).

ولم يقتصر الشارع المقدّس على الحثّ نحو التكسّب وطلب الرزق الحلال فحسب ، وإنّما أخذ يربّي التجّار والكسبة على آداب الترزّق وطلب الحلال في المعيشة ، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) أنّه قال لبعض أصحابه : ((كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) عندكم بالكوفة يغتذي كل يوم من القصر ، فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرّة على عاتقه وكان لها طرفان وكانت تسمّى السبيبة . قال : فيقف على أهل كل سوق فينادي فيهم : يامعشر التجّار ، قدّموا الاستخارة وتبرّكوا بالسهولة ، واقتربوا من المبتاعين ، وتزيّنوا بالحلم ، وتناهوا عن اليمين ، وجانبوا الكذب ، وتجافوا عن الظلم ، وأنصفوا المظلومين ، ولا تقربوا الربا ، وأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين . قال : فيطوف في جميع الأسواق - أسواق الكوفة - ثم يرجع فيقعد للناس . قال : وكان إذا نظروا إليه قد أقبل إليهم وقال : ((يامعشر الناس)) أمسكوا أيديهم ، وأصغوا إليه بآذانهم ، ورمقوه بأعينهم حتى يفرغ(عليه السلام) من كلامه ، وإذا فرغ قالوا : السمع والطاعة ياأمير المؤمنين))(4).

ص: 108


1- الكافي : ج5 ص78 ح4 .
2- الكافي : ج5 ص78 ح6 .
3- الكافي : ج5 ص78 ح7 .
4- الكافي : ج5 ص151 ح3 .

وكما أنّ الإسلام العزيز حثّ ودعا بشدّة إلى الترزّق والاكتساب الحلال فإنّه بالمقابل حذّر بشدّة من الطرق غير الشرعية غرار الربا المحرّم وغيره .. ، فنحن نقرأ في القرآن الكريم : «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ(1)« وفي آية اُخرى : «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ(2)«. وفي آية اُخرى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً(3)« وفي آية أيضاً : «وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ(4)«.

حرمة الربا في الأخبار

أمّا ما ورد من الروايات في ذمّ الربا والتحذير منه ، فعن أبي جعفر(عليه السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((آكل الربا ومؤكّله وكاتبه وشاهده فيه سواء))(5). وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال : ((أخبث المكاسب الربا))(6).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((درهم ربا أعظم عند اللَّه من ثلاثين زنية كلّها بذات محرم مثل خالة وعمّة))(7). وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((آكل الربا يؤدّب بعد البيّنة ، فإن عاد اُدّب ، وإن عاد قتل))(8).

ص: 109


1- سورة البقرة (2) : الآية 276 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 275 .
3- سورة آل عمران (3) : الآية 130 .
4- سورة الروم (30) : الآية 39 .
5- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص274 ح3993 .
6- الكافي : ج5 ص147 ح12 .
7- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص274 ح3991 .
8- تهذيب الأحكام : ج10 ص98 ح37 .

وعلى كل فإنّ جميع هذه المآثر تؤكّد ما نصّت عليه الآية التي نحن في رحابها خاصّة أنّ الآية التي تلي ما نحن فيه مباشرة تنصّ وتقول : «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(1)« أي أنّ الذي لا يترك الربا ويتعامل به فإنّه سيحارب اللَّه ورسوله وأهل بيته ويناصبهم العداء - والعياذ باللَّه - ولا شك أنّ محارب هؤلاء خاسر كافر في الدنيا وهو في الآخرة يخلد في العذاب مهاناً .

وقد ذهب بعضهم إلى أنّ الآية تعني : أيقنوا أنّكم تستحقّون القتل في الدنيا ، والنار والعذاب في الآخرة ، لمخالفة أمر اللَّه ورسوله ..

إذ أنّ معنى الحرب : هي العداوة للَّه ولرسوله ..

فأكل الربا يعدّ من الكبائر العظام في التشريع الإسلامي ، وهو بؤرة فساد وإفساد في المجتمع الأكبر إذ إنّه لا ينشر سوى الدمار والضياع للشعوب .

من حِكَم حرمة الربا

ليس هناك شك أنّ حكمة تحريم الربا هي اُمور ترتبط بمصالح الأفراد ورعاية شؤون المجتمع الإسلامي الأكبر ، فعن هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبداللَّه (عليه السلام)عن علّة تحريم الربا ، قال : ((إنّه لو كان الربا حلالاً لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه فحرّم اللَّه الربا لنفر الناس عن الحرام إلى التجارات وإلى البيع والشراء فيفضل ذلك بينهم في القرض))(2).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((إنّما حرّم اللَّه عزّوجلّ الربا لئلّا يمتنع الناس من

ص: 110


1- سورة البقرة (2) : الآية 279 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص567 ح4937 .

اصطناع المعروف))(1).

وقال أبو جعفر(عليه السلام) : ((إنّما حرّم اللَّه الربا لئلّا يذهب المعروف))(2).

وعن محمّد بن سنان أنّ أبا الحسن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله عن علّة تحريم الربا : ((إنّما نهى اللَّه عزّوجلّ عنه لما فيه فساد الأموال لأنّ الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً ، فبيع الربا وشرائه وكس على كل حال ، على المشتري وعلى البائع ، فحظر اللَّه تبارك وتعالى على العباد الربا لعلّة فساد الأموال كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوّف عليه من إفساده حتى يؤنس منه رشداً ، فلهذه العلّة حرّم اللَّه الربا وبيع الدرهم بدرهمين يداً بيد ، وعلّة تحريم الربا بعد البيّنة لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرّم ، وهي كبيرة بعد البيان وتحريم اللَّه تعالى لها ولم يكن ذلك منه إلّا استخفافاً بالمحرّم للحرام والاستخفاف بذلك دخول في الكفر ، وعلّة تحريم الربا بالنسيئة لعلّة ذهاب المعروف وتلف الأموال ورغبة الناس في الربح وتركهم القرض وصنائع المعروف ولما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الأموال))(3).

فعلى الإنسان أن يترك التعامل الربوي كلّه ، وإن كان جاهلاً وذلك بعد معرفة حرمته فيردّ الأموال الربوية ويترك ماله فقط ، وأمّا عند الاختلاط فيأكل ما يرتاح له ويطمئن من حلّيته ، وهذا ما نستفيده من القصّة التالية :

عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((أتى رجل أبي فقال : إنّي ورثت مالاً وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربو وقد أعرف أنّ فيه رباً واستيقن ذلك وليس

ص: 111


1- تهذيب الأحكام : ج7 ص17 ح72 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص566 ح4936 .
3- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص566 ح4933 .

يطيب حلالي لحال علمي فيه وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا يحلّ أكله ، فقال أبو جعفر(عليه السلام) : إن كنت تعلم بأنّ فيه مالاً معروفاً رباً وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطاً فكله هنيئاً مريئاً فإنّ المال مالك واجتنب ما كان يصنع صاحبه))(1).

فالربا في الحقيقة والواقع من أخطر أمراض المجتمع وواجب العقلاء ، وأصحاب الدين والفكر والسلطة والنفوذ التعاون لمحاربته بشتّى الوسائل والطرق .

ص: 112


1- الكافي : ج5 ص145 ح5 .

11- من شرائط التداين

اشارة

(11) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلُْيمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ

ص: 113

عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ »(سورة البقرة : 282)

في رحاب المفردات

تداينتم : الدين .. يقال دنت الرجل أخذت منه ديناً وأدنته جعلته دائناً وذلك بأن تعطيه ديناً(1). ونحن نقرأ في القرآن العزيز : «فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلاُِمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ(2)«.

ليملل : الاملال إملال الكتاب ليكتب(3) ، ومنه قوله تعالى : «فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ(4)«.

يبخس : البخس هو الظلم ، تبخس أخاك حقّه فتنقصه ، كما ينقص الكيال

ص: 114


1- مفردات الراغب : ص177 .
2- سورة النساء (4) : الآية 11 .
3- كتاب العين : مادّة ملل .
4- سورة البقرة (2) : الآية 282 .

مكياله فينقصه(1) ففي الآية الشريفة : «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ(2)« أي : ناقص عن حقّه . وفي آية اُخرى : «وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ(3)«.

سفيهاً : السفه والسفاه والسفاهة : نقيض الحلم ، وسفه الرجل : صار سفيهاً(4).

تسأموا : السأم هو الملل . يقال سئم يسأم سأماً : إذا ملّ من الشي ء ، وضجر منه(5) ، ففي الآية الشريفة : «لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ(6)«. وفي آية اُخرى : «يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ(7)«.

أقسط : يقال أقسط يقسط ، فهو مقسط إذا عدل ، وقسط يقسط ، فهو قاسط إذا جار ، ويقال : أقسط وقسط إذا عدل(8). وقد وردت كلمة القسط في القرآن في موارد متعدّدة منها : «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ(9)«

ص: 115


1- كتاب العين : مادّة بخس .
2- سورة يوسف (12) : الآية 20 .
3- سورة الأعراف (7) : الآية 85 .
4- كتاب العين: مادّة سفه .
5- لسان العرب : مادّة سأم .
6- سورة فصلت (41) : الآية 49 .
7- سورة فصلت (41) : الآية 38 .
8- لسان العرب : مادّة قسط .
9- سورة النساء (4) : الآية 3 .

وفي آية اُخرى : «فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا(1)«. وفي آية اُخرى : «لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ(2)«.

شأن النزول

أخرج علّامة الشافعية محمّد بن أحمد بن عثمان )الذهبي( في ميزانه عن عكرمة عن ابن عباس قال سمعته يقول : ((ما نزلت آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللَّه عزّوجلّ أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله في غير آية من القرآن وما ذكر عليّاً إلّا بخير))(3).

عبر من الآية

آية عظيمة الشأن ، في البناء وفي المعنى على حدّ سواء .. فبناؤها أكبر بناء كلامي بين آيات القرآن المجيد ، لأنّها أكبر آية فيه ، وأمّا المعنى لأنّها ناظمة لمسألة - أو لمسائل - هي في غاية الدقّة بالنسبة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والمالية منها بالتحديد .

إذ أنّ الدين ليس مجرد عبادات ولا طقوس وأذكار ومساجد ، ولا مسبحة وذقن طويل وعمامة كبيرة ، ولا تصوّف وانزواء في الصوامع وجنبات المساجد

ص: 116


1- (01) سورة الحجرات (49) : الآية 9 .
2- سورة الممتحنة (60) : الآية 8 .
3- ميزان الاعتدال : ج3 ص311 .

المهجورة وما إلى ذلك من المغالطات والبدع التي لم ينزل اللَّه بها من سلطان .

والدين ليس مجرد علاقة روحية صرفة بين الخالق والمخلوق أو بين العبد وسيّده ومولاه بل هو مجموعة من القوانين الناظمة للكون والمجتمع والحياة كلّها ، سواء على مستوى الأفراد ، أو المجتمعات والدول والأديان أو حتى السموات والأرض .

فالاقتصاد والسياسة والطب وما شاكلها من مستلزمات الحياة القديمة منها والحديثة ينظّمها ويقودها الدين الحنيف لا كارل ماركس أو لينين ومن حذا حذوهم ممّن ادّعوا العلم وحاربوا الدين ونعتوه بالتخلّف تارةً والجمود والرجعية تارةً اُخرى ، فالإنسان - وكما أثبتت التجارب - عاجز عن تشريع أو تقنين نظام أو فكر أو منهاج ينظّم الكون الواسع ويشخّص وظائف المخلوقات ويحدّد للبشرية وظيفتها اللازمة ازاء كل الأشياء المحدقة بها .

وليس ذلك فحسب ، بل في كثير من الأحيان يعجز هذا الإنسان عن تشخيص مصلحته فيبقى فترة من الزمن حائراً يقلّب فكره ويراجع حساباته ومعادلاته دون أن يصل إلى شي ء مذكوراً ، وإنّما يتخبّط في متاهات طويلة لا أوّل ولا آخر .

لذلك - ومن باب التسليم والقناعة - ينبغي للإنسان أن يلوذ في شتّى اُمور حياته إلى كهفه الحصين وغياثه المتين ، صاحب الرأي الفريد وهو الشارع المقدّس : فاللَّه سبحانه وتعالى أعلم بمصالحنا منّا أنفسنا ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، وهو خير معين ومناصر لمن استنصره واستغاث به ، ولكن فقط ينبغي لهذا العبد أن يتوجّه ويستمدّ العون منه .

وهذه الآية من تلك الآيات العظيمة التي تنير للبشرية دربها في تعاملها اليومي

ص: 117

وتفتح لها آفاق وشرائط التعامل الاقتصادي المنشود المفترض إيجاد بين الأوساط الاجتماعية المسلمة .

ففي هذه الآية تطرح مسألة مهمّة في التعامل الاقتصادي ألا وهي مسألة الدين والتداين فما هو الدين ؟ وما هي إرشادات الآية الشريفة بالنسبة له ؟

بداية الدين يختلف عن القرض من حيث المعنى والشمول ..

فالقرض : هو أن تعطي لشخص ما مالاً إلى أجل محدّد ثمّ تسترجعه منه .

أمّا الدين : فهو كلّ ما بذمّتك للغير .. كأن تشتري داراً أو متاعاً ولا تدفع الثمن فأنت مدين بالثمن أو الباقي له في ذمّتك .. والدين يشمل القرض وليس العكس .

وهذه الآية تخاطب المؤمنين قائلة لهم : «إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ ... فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ(1)« ولقانونية المعاملة وحفظها قال تعالى : «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ(2)« والعلّة في هذه الدقّة في التعامل لأنّه تعليم كما قال تعالى : «وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ» حتى لا يطغوا بعضكم على بعض «وَاتَّقُوا اللَّهَ» حقّ تقاته وائتمروا بالأوامر الإلهية ولا يخشى أحدكم الآخر لأنّ «اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» .

دروس وعبر

ولا يخفى على المطّلع أنّ الآية الكريمة فيها مجال واسع للبحث والتدقيق ، ونحن هنا نمرّ على بعض العبر - حسب المقام - ونترك التوسّع إلى بحث آخر ، فمن أهمّ ما يستفاد من الآية الشريفة :

ص: 118


1- سورة البقرة (2) : الآية 282 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 282 .

(1) وجوب كتابة الدين مهما كان قليلاً أو كثيراً ، ولفظة فاكتبوه واضحة وصريحة إذ أنّها أمر تدلّ على الوجوب ، وفي الحديث أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كان يعدّد الذين لا يستجاب دعائهم فقال : ((من أدان رجلاً ديناً إلى أجل فلم يكتب عليه كتاباً ولم يشهد عليه شهوداً))(1).

(2) على الكاتب أن يكتب بالعدل والحق والقسط خاصّة إذا لم يكن أحدهما - الطرفين - يجيد القراءة والكتابة - كما كان المسلمون الأوائل في صدر الإسلام حيث كان الكثير منهم لا يجيد الكتابة ولا يحسن القراءة .

(3) إنّ صاحب الحق هو الذي يملي على الكاتب وهو المقترض لأنه هو الآخذ للمال وهو المطالب به فيما بعد ، وعليه أن يعترف بلسانه أنّه استدان هذا المبلغ من المال من ذاك الشخص ، فلا يبقى له أي مجال في الاحتيال أو الانكار أو عدم الوفاء للدين الذي عليه .

(4) الاشهاد على العقد والدين من أجل صحة المعاملة وإثبات الحدّ الشرعي إذا ما أنكر أحد الطرفين حقّ الطرف الآخر وأجحف به سواء أكان الاجحاف في المال أم الزمن المحدّد للدفع ، وبالطبع فإنّ الشهداء يجب أن يكونوا مرضيين من الطرفين المتعاقدين وعلى الشاهدين الاشهاد بالحقّ عند الضرورة أو لما يطلب منهم .

(5) يجب تقييد الشرط والدين بالزمن إلى أجله أي إلى وقت الدفع من قبل المدين إلى صاحب الدين .

(6) وفي نهاية المطاف تذكّر الآية المباركة المؤمنين بالتقوى وتأمرهم بذلك حيث قال تعالى : «وَاتَّقُوا اللَّهَ» وذلك لأنّ التقوى هي أساس الإيمان وهو أساس

ص: 119


1- وسائل الشيعة : ج7 ص128 - 127 ح8913 .

المجتمع .

عود على بدء

بعد كل هذه الفوائد العظيمة التي أشرنا إليها باختصار ، نقول إنّ النداء الربّاني في الآية الكريمة تعليمي وتوجيهي لحفظ الحقوق وبناء المجتمع المثالي .

أمّا إنّه تعليمي لأنّه يعلم الاُمّة اُصول المعاملة المالية والقروض وكيفية الكتابة والشهود على العقود وعدد الشهود وعلّة جعل الامرأتين محل الرجل الواحد .

وأمّا كونه توجيهياً ، فمن أجل صيانة المجتمع من الانحلال والاضمحلال بانتشار المعاملات غير الشرعية فيه واختلاط الحابل بالنابل ، وعدم التميّز بين صاحب الحق عن غيره فيقع المجتمع في متاهات لا أوّل لها ولا آخر وتضيع الحقوق بين الناس ، وتسود الأنانيات والمحسوبيات وما أشبه ذلك .

لذلك فقد أكّدت الروايات أيضاً على قضية المكاتبة في الدين ، فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((أربعة لا يستجاب لهم دعوة ، أحدهم رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة ، يقول اللَّه عزّوجلّ : ألم آمرك بالشهادة))(1).

وعنه(عليه السلام) كذلك : ((من ذهب حقّه على غير بيّنة لم يؤجر))(2).

وعلى الرغم أنّ الشارع يؤكّد على مسألة الكتابة في الدين حتى لا تضيع حقوق الناس ، فهو في نفس الوقت يدعو المستدين إلى الوفاء بالدين ، فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((أيّما مؤمن حبس مؤمناً عن ماله وهو محتاج إليه لم يذق واللَّه من

ص: 120


1- الكافي : ج5 ص298 ح2 .
2- الكافي : ج5 ص298 ح3 .

طعام الجنّة ولا يشرب من الرحيق المختوم))(1).

وروي ((أنّ من كان عليه دين ينوي قضاءه ينصب من اللَّه حافظان يعينانه على الأداء ، فإن قصرت نيّته نقصوا عنه من المعونة بمقدار ما يقصر من نيّته))(2).

من قصص التاريخ

إنّ التاريخ مليئ بقصص المؤمنين الذين آثروا الوفاء بأداء الدَين على اغتصاب حقوق الغير ، رغم أنّهم لم يتكاتبوا أصلاً .

فقد نقل إنّ ابن عمير كان رجلاً بزّازاً وكان له على رجل عشرة آلاف درهم فذهب ماله وافتقر فجاء الرجل فباع داراً له بعشرة آلاف درهم وحملها إليه فدقّ عليه الباب فخرج إليه محمد بن أبي عمير .

فقال له الرجل : هذا مالك الذي لك عليَّ فخذه .

فقال ابن أبي عمير : فمن أين لك هذا المال ورثته ؟

فقال : لا .

قال : وهب لك ؟

قال : لا .

ولكنّي بعت داري الفلاني لأقضي ديني .

فقال ابن أبي عمير : حدّثني ذريح المحاربي ، عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) إنّه قال :

((لا يخرج الرجل عن مسقط رأسه بالدين)) ، ارفعها فلا حاجة لي فيها ، واللَّه

ص: 121


1- وسائل الشيعة : ج16 ص289 ح21841 .
2- تهذيب الأحكام : ج6 ص185 ح9 .

إنّي محتاج في وقتي هذا إلى درهم ، وما يدخل ملكي منها درهم(1).

أجل ، كما ينبغي الالتزام بالآداب الإسلامية الواردة في الدَين غرار الكتابة وغيرها كذلك ينبغي للدائن والمستدين أن يراعيا حال بعضهما ويفيا بالدين ويجعلا الإيمان هو الرادع الوحيد عن أخذ مال الغير لا القوّة والأدلّة غرار الكتابة وغيرها .

ص: 122


1- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص190 ح3715 .

12- عواقب طاعة أهل الكتاب

اشارة

(12) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ »(سورة آل عمران : 100)

في رحاب المفردات

تطيعوا : الطوع هو الانقياد ويضادّه الكُره ، والطاعة أكثر ما تقال في الائتمار لما اُمر والارتسام فيما رسم ، قال تعالى : «وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ(1).

أهل : أهل الرجل من يجمعه وإيّاهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد ، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإيّاهم مسكن واحد ثمّ تجوّز به فقيل أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإيّاهم نسب(2).

وقد جاء ذكرهم في القرآن الكريم في آيات عديدة منها : «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ

ص: 123


1- سورة محمّد (47) : الآية 21) مفردات الراغب : ص318 .
2- مفردات الراغب : ص25 .

جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ(1)« ومنها : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ(2)«. ومنها : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ(3)«.

شأن النزول

قيل إنّها نزلت في الأوس والخزرج لمّا أغرى قوم من اليهود بينهم بذكر حروبهم في الجاهلية ، ليفتنوهم عن دينهم . وقيل نزل قوله : «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ» في مشركي العرب(4).

عبر من الآية

توجيه من اللَّه تعالى إلى عباده المؤمنين بأن ياعبادي المؤمنين .. يامن استقرّ الإيمان في قلوبكم وبين جنبات نفوسكم الطاهرة لا تغفلوا عن امتلاك الوعي الحقيقي لما يريده أعدائكم ومناوئيكم .

فلا تتوقّعوا من عدوّكم الإخلاص لكم إلّا ومن وراء ذلك مكيدة ومكر قد أعدّه لكم .

ص: 124


1- سورة المائدة (5) : الآية 15 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 59 .
3- سورة المائدة (5) : الآية 77 .
4- مجمع البيان : ج4 مج2 ص353 .

ولا تتوقّعوا من عدوّكم ابتسامة مخلصة إلّا ومن ورائها أحقاد وثارات دفينة قد دفنوها لكم . فلا تتوقّعوا منهم أن يودّوكم أبداً . بل توقّعوا منهم كل شي ء ، فهم ينتظرون لحظة الصفر التي تدقّ فيها أجراس الحرب ضدّكم فيشنّوا عليكم حروباً عشوائية لا أوّل لها ولا آخر .

وهذه الآية الشريفة جاءت لتحذّر المؤمنين من الغفلة والركون إلى أهل الكتاب الذين بقوا طوال الدعوة الإسلامية يؤجّجون نيران الفتن بين المسلمين علّهم يصلون إلى غايتهم العظمى وهي ارتداد الناس عن الإسلام وتفرّقهم عن شخصية الرسول صلى الله عليه وآله .

وهذا التحذير الربّاني في الآية الشريفة جاء من باب أشبه ما يكون بسدّ الذرائع ، وذلك لتفويت أيّة فرصة للأعداء وغيرهم سواء أكانوا من أهل الكتاب أم غيرهم إلّا أنّ مكائد أهل الكتاب آنذاك كانت الأخطر لأنّها كانت تأتي باسم الدين وباسم رسل اللَّه العظام كموسى الكليم(عليه السلام) ، وعيسى المسيح(عليه السلام) وذلك عبر أحاديث كانوا يروونها كذباً وزوراً على أنبيائهم ، أو باسم الكتب المنزلة من السماء .

من هذا المنطلق كان أهل الكتاب يستدرجون بعض البسطاء من المؤمنين فيسمعون كلامهم ويرتّبون عليه الأثر الأمر الذي يخلق في أوساط المسلمين مشاكلاً كثيرة .

وهذا الاستدراج الخطير قد يؤدّي بالمسلمين إلى الاقتتال أو إلى المهالك والتشتّت والانشغال بالمنازعات والمخاصمات الجماعية والفردية فتضعف قواهم ويتضعضع موقفهم العام فضلاً عن تزلزل إيمانهم وعقائدهم .

أجل ، فلمّا يغفل المؤمنون عن إيمانهم ويصغون إلى مناوئيهم فإنّهم يصلون إلى عواقب لا تحمد وهذا ما أكّدته الآية الشريفة ..

ص: 125

لذلك ومن باب التوعية جاءت هذه الآية لتوضّح معادلة مهمّة ألا وهي أنّ إطاعة فريق من أهل الكتاب يؤدّي بالنهاية إلى الارتداد ..

حقائق تقرّها الآية المباركة

ولكي تكون الصورة أكثر وضوحاً فلا بأس من الاشارة إلى اُمور وهي :

(1) أنّ الآية الشريفة تقول فريقاً وهذا يدلّ على أنّ المراد ليس كل أهل الكتاب ، ويؤيّد ذلك قوله تعالى : «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى(1)«.

(2) الآية ساكتة عن مقدار الاطاعة وهذا إنّما يدلّ انّه ولو كان الاطاعة لهم بالشي ء القليل فهذا يؤدّي إلى الارتداد إذ أنّ هذه الطائفة مهما قدّم لهم المسلمون من تنازلات فإنّهم لا يرضون عنهم ، وهذا ما تشير إليه الآية الشريفة حيث قالت : «وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ(2)«.

(3) أنّ الآية قرنت طاعة بعض أهل الكتاب بالارتداد إلى الكفر وهذا يؤكّد حقيقة مهمّة قد تكون غائبة عن أذهان الكثير وهي أنّ المسلم لا ينبغي له أن يجعل زمام اُموره بيد أعدائه ، فإنّهم بالتالي وفي يوم ما سيسحبون البساط من تحت أقدامه ولو بالتدرّج ويجرونه إلى كفرهم وإلحادهم .

والتاريخ الإسلامي حافل بالقصص والأحداث التي تدلّ على تآمر أهل الكتاب على المسلمين وعملهم المستمرّ واللّا منقطع من أجل صدّهم عن دينهم .

ص: 126


1- سورة المائدة (5) : الآية 82 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 120 .

ففي أكثر من مرّة تعرّض اليهود لإيذاء النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ، حتى بلغ بهم الأمر إلى نصب حيلة لاغتياله فأنجاه اللَّه تعالى من ذلك ، ففي التاريخ أنّهم أشاروا على امرأة يهودية أن تدسّ السمّ الفتّاك في كتف شاة وتقدّمه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وبالفعل فعلت اليهودية لكن أنطقت السماء ذلك الفخذ فقال للنبي لا تأكل منّي فإنّي مسموم .

وقد قال أبو جعفر(عليه السلام) : ((إنّ رسول اللَّه أتى باليهودية التي سمّت الشاة فقال لها : ما حملك على ما صنعت ؟ فقالت : قلت : إن كان نبيّاً لم يضرّه وإن كان ملكاً أرحت الناس منه ، قال : فعفا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله عنها))(1).

كما أنّ لليهود دوراً كبيراً في اذكاء نيران الحروب ازاء المسلمين ، فقد قال تعالى : «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ(2)« التي قال الطبرسي في تفسيرها : نزلت في إجلاء بني النضير من اليهود ، فمنهم من خرج إلى خيبر ، ومنهم من خرج إلى الشام . وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وآله لمّا دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، فقبل ذلك منهم ، فلمّا غزا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بدراً وظهر على المشركين قالوا : واللَّه إنّه للنبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا تردّ له راية ، فلمّا غزا صلى الله عليه وآله غزاة اُحد وهزم المسلمون ارتابوا ونقضوا العهد ، فركب كعب ابن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكّة فأتوا قريشاً وحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد صلى الله عليه وآله ، ثم دخل أبو سفيان في أربعين ، وكعب في أربعين من اليهود المسجد ، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة ، ثم رجع كعب بن الأشرف وأصحابه إلى المدينة ونزل جبرئيل وأخبر النبي صلى الله عليه وآله بما تعاقد

ص: 127


1- الكافي : ج2 ص108 ح9 .
2- سورة الحشر (59) : الآية 2 .

عليه كعب وأبو سفيان ، وأمره بقتل كعب بن الأشرف ، فقتله محمد بن مسلمة الأنصاري وكان أخاه من الرضاعة(1).

فتاريخ أهل الكتاب حافل بالمكائد والحقد ضدّ المسلمين ، فكيف يمكن لهم أن يطيعوهم أو يسمعوا منهم أو يتعاملون معهم ؟

ص: 128


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب : ج1 ص196 .

13- التقوى درع الوقاية

اشارة

(13) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»

(سورة آل عمران : 102)

في رحاب المفردات

اتّقوا : التقوى جعل النفس في وقاية ممّا يخاف(1). وقد ورد ذكر مشتقّات التقوى في آيات عديدة من القرآن منها : «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ(2)«. ومنها : «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(3)«. ومنها : «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً(4)« ومنها : «تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ(5)«.

ص: 129


1- مفردات الراغب : ص568 .
2- سورة الأعراف (7) : الآية 96 .
3- سورة النحل (16) : الآية 128 .
4- سورة الزمر (39) : الآية 73 .
5- سورة الرعد (13) : الآية 35 .

شأن النزول

قال مقاتل : افتخر رجلان من الأوس والخزرج : ثعلبة بن غنم من الأوس ، وأسعد بن زرارة من الخزرج ، فقال الأوسي : منّا خزيمة بن ثابت وذو الشهادتين ، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة ، ومنّا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين ، ومنّا سعد ابن معاذ الذي اهتزّ عرش الرحمن له ، ورضي اللَّه بحكمه في بني قريظة . وقال الخزرجي : منّا أربعة أحكموا القرآن : اُبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم ، فجرى الحديث بينهما ، فغضبا وتفاخرا وناديا ، فجاء الأوس إلى الأوسي ، والخزرج إلى الخزرجي ، ومعهم السلاح ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فركب حماراً وأتاهم . فأنزل اللَّه هذه الآيات فقرأها عليهم فاصطلحوا(1).

عبر من الآية

إنّ الأمر الموجود في الآية المباركة مركّب من أمرين أساسيين لمن يريد الجنّة ورضا الرحمن - جلّت قدرته - وهما :

1 - اتّقوا اللَّه حقّ تقاته .

2 - لا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون ..

وكلاهما متكاملان ولا ينفصلان وعاقبتهما الجنّة في الدار الآخرة ، فكيف نتّقي اللَّه ؟ ولماذا حقّ تقاته ؟ ولماذا هذا الحضّ والتأكيد على عدم الموت إلّا على دين

ص: 130


1- مجمع البيان : ج4 مج2 ص355 .

الإسلام الحنيف ؟

أسئلة تتبادر إلى الذهن اليقظ تجيب عليها هذه الآية الشريفة التي نحن بصددها .

إنّ التقوى ، والتقوّي ، والتوقّي - كما في اللغة - ثلاث كلمات ذات أصل واحد تقريباً وتشدّ بعضها بعضاً من جوانب عدّة لا سيّما الجانب المعنوي والعبادي .

فالتقوى : هي الانضباط السلوكي الواعي أمام اللَّه عزّوجلّ في هذه الحياة .

والتقوّي : عبر الارتباط باللَّه وتعميق الإيمان وترسيخ العقيدة في القلب فتقوى الروح ، أمّا التوقّي : فهو الخوف من اللَّه لأنّه جبّار السموات والأرض .. والخوف من عذابه الأليم في الدار الآخرة لأنّه عذاب ما لا تقوم له السموات والأرض ، فكيف نتحمّله نحن على ما نحن عليه من الضعف والفاقة .

التقوى في أخبار أهل البيت عليهم السلام

وقد ورد ذكر التقوى في أخبار أهل البيت عليهم السلام كثيراً فمنها : ما عن جعفر بن محمد(عليه السلام) قال : ((مرّ أمير المؤمنين(عليه السلام) بالمقبرة فسلّم ثم قال : السلام عليكم ياأهل المقبرة والتربة ، اعلموا أنّ المنازل قد سكنت ، وأنّ الأموال بعدكم قد قسّمت ، وأنّ الأزواج بعدكم قد نكحت ، فهذا خبر ما عندنا ، فما خبر ما عندكم ؟ فأجابه هاتف من المقابر يسمع صوته ولا يرى شخصه : عليك السلام ياأمير المؤمنين ورحمة اللَّه وبركاته ، أمّا خبر ما عندنا فقد وجدنا ما عملنا ، وربحنا ما قدّمنا ، وخسرنا ما خلّفنا . فالتفت إلى أصحابه فقال : أما سمعتم ؟ قالوا : نعم ياأمير المؤمنين . قال : فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى))(1).

ص: 131


1- نهج البلاغة : ق130 لمّا رجع من صفّين وأشرف على القبور .

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((من أحبّ أن يكون أكرم الناس فليتّق اللَّه ، ومن أحبّ أن يكون أتقى الناس فليتوكّل على اللَّه))(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال : ((من أخرجه اللَّه تعالى من ذلّ المعصية إلى عزّ التقوى أغناه اللَّه بلا مال ، وأعزّه بلا عشيرة ، وآنسه بلا بشر ، ومن خاف اللَّه عزّوجلّ أخاف اللَّه منه كل شي ء ، ومن لم يخف اللَّه عزّوجلّ أخافه اللَّه من كل شي ء))(2).

وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في وصاياه لجابر : ((واعلم ياجابر أنّ أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة ، تذكر فيعينونك وإن نسيت ذكروك ، قوّالون بأمر اللَّه قوّامون على أمر اللَّه ، قطعوا محبّتهم بمحبّة ربّهم ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم ونظروا إلى اللَّه عزّوجلّ وإلى محبّته بقلوبهم وعلموا أنّ ذلك هو المنظور إليه ، لعظيم شأنه ، فأنزل الدنيا كمنزل نزلته ثم ارتحلت عنه ، أو كمال وجدته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شي ء))(3).

وقد وصف أمير المؤمنين(عليه السلام) المتّقين فقال : ((فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل : منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللَّه عليهم ، ووقّفوا أسماعهم على العلم النافع لهم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء ، ولولا الأجل الذي كتب اللَّه عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقاً إلى الثواب ، وخوفاً من العقاب))(4).

إذن ، فالتقوى - حقّ التقوى - هي المسير الحثيث في خط العبودية الخالص

ص: 132


1- أمالي الصدوق : المجلس 50 ح11 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج4 ص410 ح5890 .
3- الكافي : ج2 ص133 ح16 .
4- نهج البلاغة : خ193 يصف فيها المتّقين .

للَّه ، بحيث يعيش المتّقي الحضور الدائم للَّه في الفكر والحركة والشعور فيصبح ينظر إلى الاُمور بمنظار إلهي تامّ ، ففي كل شي ء يرى اللَّه قبله وفيه وبعده .. وهذه مرتبة الأولياء من المتّقين الخلّص الذين إصطفاهم اللَّه لنفسه .

وحتّى يتّضح معنى التقوى بالدقّة فلنطرق باب سيّدنا ومولانا الإمام الصادق(عليه السلام) ونسأله عن التقوى ما هي ؟ ففي الحديث عنه(عليه السلام) لمّا سئل عن التقوى أجاب : ((أن لا يفقدك اللَّه حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك))(1).

من آيات التقوى

ولا يخفى أنّ هذه الآية المباركة لها آية اُخرى شبيهة لها وهي : «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ(2)« ، وقد قيل أنّ الثانية ناسخة للاُولى ، فعن شيخ الإسلام الطبرسي قال : وذكر في قوله ((حقّ تقاته)) وجوه ثالثها إنّه المجاهدة في اللَّه وأن لا تأخذه لومة لائم ، وأن يقام له بالقسط في الخوف والأمن ، ثم اختلف فيه أيضاً على قولين : أحدهما إنّه منسوخ بقوله «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام(3).

وبغضّ النظر عن مسألة النسخ بين الآيتين فإنّه يمكن القول : إنّ مورد الآيتين يفرق ويختلف ، فآية البحث واردة في سياق الحديث عن ردّ كيد الأعداء من أهل الكتاب والكفّار والمشركين ، وأنّ وجوب التقوى منهم إلزامي حتى لا يعود المؤمنون إلى كفرهم الأول فقال تعالى : «يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ(4)« وهذا لا يسمح به

ص: 133


1- وسائل الشيعة : ج15 ص239 ح20381 .
2- سورة التغابن (64) : الآية 16 .
3- مجمع البيان : ج4 مج2 ص356 .
4- سورة آل عمران (3) : الآية 100 .

الشارع المقدّس أبداً لأنّ الكفر بعد الإيمان من أكبر الكبائر ، ولذلك جاء الأمر هنا بهذه الشدّة والقطيعة . والآية الاُخرى واردة في سياق الحياة الاجتماعية والأولاد والأموال والفتن الاجتماعية وكل هذا يحتاج إلى تقوى تناسبها ولذا قيّدت بالاستطاعة إذ أنّ فيها مسائل لا يمكن السيطرة عليها لأنّها اُمور قلبية وعاطفية خارجة عن مقدرة الإنسان وسيطرته ، فأمر اللَّه سبحانه بالتقوى بقدر الاستطاعة(1).

وممّا يؤكّد اختلاف المورد هو نهاية الآيتين المباركتين إذ أنّ إحداهما تنتهي ب «وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(2)« أي لا تتركوا الإسلام وثابروا عليه ، حتى إذا ورد عليكم الموت فجأة صادفكم عليه .

عاقبة الكفر بعد الإيمان

لا يخفى أنّ النهي عن الترك بهذه الشدّة في الآية دليل واضح على عظمة الجريمة وهي ((الكفر بعد الإيمان)) حيث إنّ ذلك يستوجب أشدّ العذاب في يوم الحساب ، وأشنع وأبشع صور الموت في الحياة الدنيا .

وهذا ما يتجلّى واضحاً في حياة الكثير من الطغاة الذين عادةً ما يصرّحون أمام الملأ عن كفر بعد تسترّهم بالإيمان ظاهراً . فهذا يزيد بن معاوية الطاغية ماذا صنع بآل الرسول الكرام ؟

لقد قتل الإمام الحسين بن علي(عليه السلام) سيّد شباب أهل الجنّة هو وأبنائه البررة وأصحابه الكرام وتجاسر على حريم الرسول فأخذهنّ سبايا من بلد إلى بلد ومن

ص: 134


1- الآية الاُخرى هي : « إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِاَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ» .
2- سورة آل عمران (3) : الآية 102 .

حي إلى آخر يطاف بهنّ حواسر لا معيل لهنّ سوى العليل وتجاسر على ثنايا أبي عبداللَّه لمّا وضع الرأس الشريف بين يديه فأخذ يضربه بعودة له وهو يهزأ ويتغنّى بأشياخه الفسقة قائلاً :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثم قالوا يايزيد لا تشل

قد قتلنا القوم من ساداتهم

وعدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

في تلك الحالة وبينما كان ذلك الطاغية يعربد ويهزأ بأهل البيت عليهم السلام انبرت له عقيلة بني هاشم وربيبة الوحي وفلذة فاطمة وبضعة علي عليهم السلام وأهالت عليه من تلك الكلمات النارية التي دكّت عرشه دكّاً وأذلّته في عقر داره وجعلته يجرّ آهات الخزي والعار حيث قالت له عليها السلام : ((ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذّبوا بآيات اللَّه وكانوا بها يستهزؤون ..

أظننت يايزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض ، وآفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الاُسارى أنّ بنا على اللَّه هواناً ، وبك عليه كرامة .. وإنّ ذلك لعظيم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والاُمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، مهلاً مهلاً أنسيت قول اللَّه تعالى : «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِاَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(1)« إلى أن تقول عليها السلام : ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، وإنّي لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك ،

ص: 135


1- سورة آل عمران (3) : الآية 178 .

لكن العيون عبرى ، والصدور حرّى ، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب اللَّه النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفوها اُمّها الفراعل ، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك وما ربّك بظلّام للعبيد ، فإلى اللَّه المشتكى ، وعليه المعوّل ، فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك فواللَّه لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ، ولا ترحض عنك عارها ، وهل رأيك إلّا فند ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد ، يوم يناد المنادي ألا لعنة اللَّه على الظالمين))(1).

فعقيلة الوحي زينب عليها السلام أوضحت أجمل إيضاح وأفصحت أكمل إفصاح عن سوء عاقبة مثل هذا الطاغية اللعين ، فهو في الدنيا ملعون وفي الآخرة محروم مرجوم كالشيطان تماماً . فعلى الإنسان المؤمن الثبات على خطّ الدعوة الإسلامية المباركة قولاً وفعلاً ، اعتقاداً وعبادة ولا يعطي الشيطان فرصة في قيادته إلى جهنّم وبئس المصير وكما قال تعالى : «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً(2)« كما أنّ الكفّار والمشركون أعداء المؤمنين فينبغي الحذر منهم وعدم إطاعتهم حتّى يردّوا المؤمنين إلى الكفر والإلحاد بعد الإيمان والإقرار .

ص: 136


1- اللهوف : ص161 .
2- سورة فاطر (35) : الآية 6 .

14- من مساوئ بطانة الشعوب

اشارة

(14) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ »(سورة آل عمران : 118)

في رحاب المفردات

البطانة : تستعار البطانة لمن تختصّه بالإطّلاع على باطن أمرك وذلك استعارة من باطن الثوب(1)، ففي الآية الشريفة نقرأ : «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ(2)«. وفي آية اُخرى : «وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ(3)«.

يألونكم : ألوت في الأمر قصّرت فيه ... وألوت فلاناً أي أوليته تقصيراً نحو

ص: 137


1- مفردات الراغب : ص49 .
2- سورة الحديد (57) : الآية 3 .
3- سورة الأنعام (6) : الآية 120 .

كسبته أي أوليته كسباً ، وما ألوته جهداً أي ما أوليته تقصيراً بحسب الجهد ... وقوله «لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً» منه : أي لا يقصّرون في جلب الخبال(1).

الخبال : هو الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطراباً كالجنون والمرض المؤثّر في العقل والفكر . وقال اللَّه عزّوجلّ : «مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً(2).

عنتم : العنت إدخال المشقّة على إنسان . عَنتَ فلان ، أي : لقي مشقّة . وتعنّته تعنّتاً ، أي سألته عن شي ء أردت به اللّبس عليه والمشقّة(3).

وقد ورد ذكر هذه المفردة في القرآن كثيراً ومنه : «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ(4) وقوله : «لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ(5)«. وقوله : «ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ(6)«.

شأن النزول

قال ابن عبّاس : نزلت في رجال من المسلمين ، كانوا يواصلون رجالاً من اليهود ، لمّا كان بينهم من الصداقة والقرابة والجوار والحلف والرضاع .

ص: 138


1- مفردات الراغب : ص18 .
2- سورة التوبة (9) : الآية 47) مفردات الراغب : ص143 .
3- كتاب العين : مادّة عنت .
4- «(( - سورة البقرة (2) : الآية 220 .
5- سورة الحجرات (49) : الآية 7 .
6- سورة النساء (4) : الآية 25 .

وعن مجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادقون المنافقين(1).

عبر من الآية

تارةً اُخرى يحذّر القرآن الكريم المؤمنين في كل مكان وزمان . بأن لا تتّخذوا الأعداء من الكفّار واليهود وغيرهما بطانة وخواص بحيث تفضون إليهم بكل أسراركم فيعلمون منكم نقاط القوّة والضعف ، لا سيّما إذا كان العبد المؤمن في موقع من مواقع المسؤولية والقيادة في الدين أو الدنيا .

وهذا التحذير الإلهي جاء نتيجة العلم التامّ بمدى تأثير الخواص والمقرّبين على الرجل ، فإنّهم يعرفون كلّ أعماله - السلبيّة والإيجابية - ويطّلعون على خفايا اُموره كلّها ، فلذلك يشكّلون - بذاتهم نقطة ضعف كبيرة إذ أنّهم إن اُعطوا شكروا وأرادوا المزيد وإن حرموا كفروا وجحدوا فضله واحسانه لهم .

أهل البيت عليهم السلام يحذّرون من بطانة السوء

فقد وصفهم أمير المؤمنين(عليه السلام) في كتابه لمالك الأشتر حين ولّاه على ملك مصر وحذّره منهم فقال :

((ولتكن أحبّ الاُمور إليك أوسطها في الحقّ ، وأعمّها في العدل ، وأجمعها لرضى الرعية ، فإنّ سخط العامّة يجحف برضى الخاصّة ، وإنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضى العامّة .

ص: 139


1- مجمع البيان : ج4 مج2 ص372 .

وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء ، وأقلّ معونة له في البلاء ، وأكره للإنصاف ، وأسأل بالإلحاف ، وأقلّ شكراً عند الإعطاء ، وأبطأ عذراً عند المنع ، وأضعف صبراً عند مُلمّات الدهر من أهل الخاصّة . وإنّما عماد الدين ، وجماع المسلمين والعدّة للأعداء ، العامّة من الاُمّة ، فليكن صغوك لهم ، وميلك معهم))(1).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((واحذر صديقك ولا تأمن إلّا من خشي اللَّه))(2).

وعن معاوية بن وهب عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : سمعته يقول : كان أبي (عليه السلام)يقول :

((قم بالحقّ ولا تعرّض لما فاتك واعتزل ما لا يعنيك وتجنّب عدوّك واحذر صديقك من الأقوام إلّا الأمين والأمين من خشي اللَّه))(3).

فالعدوّ يكون بيّناً واضحاً معروف عنه أنّه عدوّ يكيد لنا ويدبّر المهالك لنقع في المشقّة والعناء ، وأمّا الصديق من بطانة السوء فالإنسان يكون في مأمن منه فتأتي الضربة منه أشد وأفتك ، وإلى هذا يشير الشاعر قائلاً :

احذر عدوّك مرّة

واحذر صديقك ألف مرّة

فلربما انقلب الصديق

فكان أعرف بالمضرّة(4)

وهذا التوجيه في الآية عام لكل بني البشر ، فهو لا يختصّ بإنسان دون آخر أو طائفة دون اُخرى إلّا أنّ فيه خصوصية للزعماء وقادة السلطات من السياسيين

ص: 140


1- نهج البلاغة : كتاب52 كتبه لمالك الأشتر لمّا ولّاه على مصر .
2- أعلام الدين : ص282 .
3- وسائل الشيعة : ج12 ص32 ح15564 .
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص39 .

وغيرهم لا سيّما الحكّام والملوك فيكون الخطر عليهم أكبر والحذر من بطانتهم ألزم .

فهذا معاوية بن أبي سفيان لمّا استتبّت له الاُمور وأصبح الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية اتّخذ الوضّاعين كبطانة وحاشية يخلقون له الأحاديث الموضوعة فيكذبون على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله دون أيّ تورّع أو خوف من اللَّه ، فما أن يتحرّك معاوية السوء حتى يسندوا في حقّه أحاديث مجعولة يؤيّدونه بها .

حتى بلغ به الأمر أن أبا هريرة قال في المسجد وهو غاصّ بالحضور بعد أن ألقى عمامته وجثى على ركبتيه : ياأهل العراق - أتزعمون أني اُكذّب على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فواللَّه إنّي سمعته يقول :

((لكل نبي حرماً وإنّ المدينة حرمي فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين)) ، قال وأشهد باللَّه أنّ علياً أحدث فيها(1)!

نعم هكذا هي البطانة ، فهي في بعض الأحيان تسخط الخالق برضا المخلوق وتشتري غضب اللَّه برضا العبد بل برضا الفسقة غرار معاوية بن أبي سفيان ونجله يزيد شارب الخمور ، الذي اتّخذ لنفسه بطانة فاسدة منها رجل رومي فاسق أشار عليه بتولية عبيداللَّه بن زياد على الكوفة وأمره بقتل الإمام الحسين(عليه السلام) وأبنائه الأخيار وأصحابه البررة .

فلمّا جاء به ليستشيره وكان قد طعن في السن فقال له :

أتريد رأي أباك معاوية لو كان حيّاً ..

فقال يزيد : نعم ..

فقال له : هل تنفّذه وتتقيّد به ؟ فقال : نعم ، بكل تأكيد .

ص: 141


1- راجع كتاب أبو هريرة للعلّامة شرف الدين : ص43 .

فقال له : ولّي ابن سميّة الكوفة والبصرة واكتب له كتاباً بالإسراع إلى الكوفة قبل أن يسبق إليها الحسين ابن علي(عليه السلام) وليخرج إلى قتاله ويأتيك به أسيراً . وبالفعل فهذا الذي حدث وحصل بعد ذلك ما حصل من واقعة الطف المفجعة(1).

فالكفّار والمشركين وأهل الكتاب لا يمكن للإنسان أن يتّخذهم بطانة ..

وليس فحسب ، بل حتى اتّخاذ مواعظهم وتدوينها دون الرجوع إليهم نهى عنه الشارع المقدّس .

فعن عبدالقاسم بن سلام رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله قال :

أتى ... رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال : إنّا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا ، فترى أن نكتب بعضها ؟

فقال : أمتهوّكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى ؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة ، ولو كان موسى حيّاً ما وسعه إلّا اتّباعي(2).

وقد فُسّر : متهوّكون : أي متحيّرون ، وكأنّ النبي صلى الله عليه وآله يقول : أمتحيّرون أنتم في الإسلام لا تعرفون دينكم حتى تأخذوه من اليهود والنصارى ؟ ومعناه أنّه كره أخذ العلم من أهل الكتاب ، وأمّا قوله : لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة .. فإنّه أراد الملّة الحنيفية ، فلذلك جاء التأنيث كقول اللَّه عزّوجلّ : «وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ(3)« إنّما هي الملّة الحنيفية .

وقد روى هذا الخبر ابن الأثير في النهاية ، ثم قال : التهوّك : كالتهوّر ، وهو

ص: 142


1- الإرشاد : ج2 ص40 .
2- راجع مسند أحمد بن حنبل : ج3 ص387 ط الرياض .
3- سورة البيّنة (98) : الآية 5 .

الوقوع في الأمر بغير رويّة ، والمتهوّك : الذي يقع في كل أمر ، وقيل هو المتحيّر(1).

وما الذي جرى على الدولة الإسلامية من تصدّع واهتزاز وتأخّر إلّا نتيجة استعانتهم واعتمادهم على مثل هؤلاء الأشرار الذين لا يريدون للمسلمين سوى الوبال والتعب .

فالأعداء دائماً يستثيرون النعرات الطائفية ، والمذهبية ، والعشائرية ، وغيرها من القضايا الحسّاسة في الاُمّة ويغذون طرفاً ضدّ الآخر إلى أن يتغلّب عليه فيغذون الطرف الضعيف حتى يعيد الكرّة على القوي فيضعّفه وهكذا .

ففي تفسير قوله تعالى : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ(2)« قيل إنّهم - اليهود - كانوا يغرون بين الأوس والخزرج يذكّرونهم الحروب التي كانت بينهم في الجاهلية حتّى تدخلهم الحميّة والعصبيّة فينسلخوا عن الدين(3).

خلاصة أعمال بطائن السوء

وفي النتيجة إنّ هذه الآية تخبر عن هذه البطائن السيّئة وتنبّه من أعمالها وهي :

(1) أنّهم يؤثّرون سلباً على نظرة الإنسان إلى الاُمور ، فيقرّبون له البعيد ويبعّدون القريب ويجعلون الضارّ نافعاً ، والنافع ضارّاً ، وهذا هو الفساد بعينه .

(2) يريدون من المسلمين أن يقعوا في العنت الشديد إذ أنّهم غالباً ما يفتعلون

ص: 143


1- النهاية : ج5 ص282 ، وقارن به لسان العرب : ج10 ص508 ، والصحاح : ج4 ص1617 ، وتاج العروس : ج7 ص197 ، ومجمع البحرين : ج5 ص299 ، وهذا الخبر أشاروا كلّهم إليه .
2- سورة آل عمران (99 : (3 .
3- بحار الأنوار : ج9 ص72 .

المشاكل والأزمات عبر تخطيطاتهم الشيطانية .

(3) إنّ بعض آثار ذلك العداء القابع في قلوبهم ربما تظهر في كلامهم وهذا خير دليل على شدّة العداء الذي لا يستطيع صاحبه إخفائه .

إذن على الاُمّة التعقّل عند التعامل مع هؤلاء الأعداء والحذر الشديد منهم ، وهم اليوم أخطر من العصور السابقة ودورهم أبشع إذ أنّهم يعملون كل ما بوسعهم لإفساد الشباب المسلم وجرّ المجتمعات قاطبة نحو المفاسد المختلفة لذا فينبغي الحذر منهم ومقاطعتهم تماماً كما أشارت الآية الكريمة .

ص: 144

15- حرمة أكل الربا

اشارة

(15) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»

(سورة آل عمران : الآية 130)

في رحاب المفرادت

الربا : الربا زيادة على رأس المال لكن خُصّ في الشرع بالزيادة على وجه دون وجه ، وباعتبار الزيادة قال تعالى : «وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ(1).

أضعافاً : الضعف من الألفاظ المتضايفة التي يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر كالنصف والزوج ، وهو تركّب قدرين متساويين ويختص بالعدد ، فإذا قيل أضعفت الشي ء وضعفته وضاعفته ضممت إليه مثله فصاعداً . قال بعضهم : ضاعفت أبلغ من ضعفت ، ولهذا قرأ أكثرهم : «يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ(2).

ص: 145


1- سورة الروم (30) : الآية 39) مفردات الراغب : ص192 .
2- سورة الأحزاب (33) : الآية 30) مفردات الراغب : ص305 .

عبر من الآية

مرّة اُخرى يعود الحديث عن الربا ، والتحذير من أكله أضعافاً مضاعفة .

وقد سبق التحذير من التعامل بالربا بإسهاب في سورة البقرة المباركة حيث وصف الباري تعالى آكل الربا بأنّه يفتح جبهة حرب مع )اللَّه ورسوله((1).

فالربا كلّه حرام بل يعدّ من الكبائر التي توجب فساد المجتمعات ، وإفساد الأفراد والعوائل فينتهي أصحاب رؤوس الأموال إلى الطغيان في الأرض من خلال نهب أقوات الفقراء ، بحيث تصبح اُمورهم بشكل دائم من سيي ء إلى أسوأ إذ أنّ الأموال الربوية تتضاعف على صاحبها إذا لم يستطع الإيفاء بالوقت المحدّد ، حتّى يبلغ به الحال إلى أنّه لا يستطيع إيفاء الفائدة فقط فضلاً عن رأس المال الحقيقي .

بطبيعة الحال فإنّ تخصيص قوله تعالى «أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً» بالتحريم لا يعني أنّ الربا غير المضاعف حلال ، بل إنّ الآية تدلّ على :

أوّلاً : إنّ الربا حرام قطعاً كما مرّ في سورة البقرة المباركة .

ثانياً : إثبات تحريم الربا المضاعف لا ينفي حرمة الأقل إذ القاعدة الاُصولية والمنطقية تقول : إنّ إثبات شي ء لشي ء لا ينفي ما عداه .

وعلى فرض أنّ الآية المباركة حرّمت ((الربا الفاحش)) فقط ، إلّا أنّها لم تنف حرمة الربا غير الفاحش أو الربا أصلاً غاية الأمر أنه مسكوت عنه فيها فلم تحرّمه ولم تحلّله .

وبذلك تجعلها ممكنة الدخول تحت عموم أو إطلاق الأدلّة الاُخرى ، كأن نرجع إلى قوله تعالى : «وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا(2)«.

ص: 146


1- سورة البقرة : 279 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 278 .

الحكمة في تحريم الربا

ربما يستفاد من الآية المباركة أنّها ليست في صدد بيان الحكم الشرعي بل إنّها واردة في مجال الحديث عن طبيعة الربا ، وأنّه يكون تصاعدياً ومضاعفاً بشكل مطّرد .

ولتوضيح ذلك نستعين بالمثال الآتي :

فلو أنّ أحدهم اقترض مبلغاً قدره (1000) دينار بفائدة ربوية (10%) فيصبح المبلغ بعد مدّة (1100) دينار وإذا أعسر المستدين ولم يستطع الإيفاء في الوقت المحدّد ، فإنّ الدائن يؤخّره إلى فترة اُخرى مع زيادة قدرها (10%) لا على (1000) دينار بل على (1100) .. وهكذا نجد أنّ الدَين يتراكم يوماً بعد يوم .

وفي كثير من الأحيان تنتهي مثل هذه العملية إلى نفاد أموال المديون تماماً فتصادر عقاراته أو أرضه أو حتّى منزله الذي يسكنه حيث يستولي عليه الربوي فيطرده منه دون رحمة أو إنسانية ، ممّا يسبّب المآسي والأزمات الاجتماعية الخطيرة ، كما هو معروف ومشاهد في المجتمعات الرأسمالية .

حرمة الربا في الأخبار الشريفة

كما أنّ الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام تدلّ على حرمة الربا - كيف كان ومهما كانت قيمته - وذلك لعاملين وهما :

1 - لئلّا يمتنع الناس من اصطناع المعروف .

2 - لكي لا يذهب الفضل بينهم بالإقراض والاستقراض والتعاون والشعور المتبادل فيما بينهم ، ولكي يحسّ الغني بألم الفقير فيساعده بأمواله ، ويحسّ الفقير بعطف وحبّ الغني فيزدادان لبعضهما قرباً وحبّاً .

ص: 147

وفي واقع الأمر إنّ الربا مهما بلغ فنهايته إلى المحق لأنّ اللَّه سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز : «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ(1)«.

وقد سئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن هذه الآية ، كيف ذلك وقد نرى أنّ من يأكل الربا يربو ماله ؟

فقال(عليه السلام) : ((أي محق ، أمحق من درهم ربا .. يمحق الدين وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر))(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال : ((لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في الربا خمسة آكله وموكّله ومشاهديه وكاتبه ...))(3).

وعن النبي صلى الله عليه وآله في وصيّته للإمام علي(عليه السلام) أنه قال : ((ياعلي ، الربا سبعون جزء فأيسرها مثل أن ينكح الرجل اُمّه في بيت اللَّه الحرام ، ياعلي ، درهم ربا أعظم عند اللَّه من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت اللَّه الحرام))(4).

فأي محقّ كهذا البعد والطرد من رحمة اللَّه والعياذ باللَّه ؟

الفرق بين الصدقات والربا

من جانب آخر فإنّ هناك فرقاً عظيماً بين الصدقات والربا في ميزان التعامل في الدنيا وميزان الأعمال في الدار الآخرة .. فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وآله أنّه قال : ((إنّ اللَّه تعالى يقبل الصدقات ، ولا يقبل منها إلّا الطيب ، ويربيها لصاحبها كما يربي

ص: 148


1- سورة البقرة (2) : الآية 276 .
2- وسائل الشيعة : ج18 ص119 ح23276 .
3- وسائل الشيعة : ج18 ص127 ح23298 .
4- وسائل الشيعة : ج18 ص122 - 121 ح23281 .

أحدكم مهره أو فصيله ، حتّى إنّ اللقمة لتصير مثل اُحد))(1).

والنكتة اللطيفة في المسألة أنّ المرابي إنّما يطلب بالدين زيادة المال .. ومانع الصدقة إنّما يمنعها لطلب زيادة المال ، فيبيّن اللَّه سبحانه أنّ الربا سبب النقصان دون النماء ، وأنّ الصدقة سبب النماء دون النقصان ، ولذا فقد قال تعالى «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ(2)«.

ومع الأسف الشديد فإنّ المسلمين اليوم أخذوا بالممحوق وتركوا المبارك .

وصدق رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حين قال : ((يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلّا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره))(3).

والتاريخ ملي ء بالعبر والقصص التي تخبر عن أحوال المرابين وكيف أنّ اللَّه سبحانه يمحق أموالهم في الدنيا ، ويمحقهم في الآخرة .

وقد قرأت قصّة في إحدى الكتب المخطوطة للإمام الشيرازي قدس سره تحت عنوان الإصلاح ، وهي تاريخية إلّا أنّها تحمل الكثير من العبر فهل من معتبر ؟

وهي أنّه ذهب جماعة إلى الحجّ واتّفق أن مات أحدهم قرب مكّة المكرّمة فغسّلوه وكفّنوه وصلّوا عليه وحفروا له قبراً بقدر نصف القامة وإذا به يمتلأ حيّات بمقدار نصف القامة فتعجّبوا أشدّ العجب لأنّ الأرض ليست أرض حيّات ، ثمّ من أين جاءت هذه الحيّات فجأة وحائط القبر لم يكن مثقوباً فحفروا بعد أذرع قبراً آخر ولمّا وصل إلى نصابه امتلأ حيّات فازداد تعجّبهم واضطرّوا إلى أن يحفروا قبراً ثالثاً في مكان بعيد عن القبرين وإذا بالقبر الثالث يمتلأ أيضاً حيّات .

ص: 149


1- مجمع البيان : ج3 مج2 ص208 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 276 .
3- مجمع البيان : ج3 مج2 ص209 .

فتركوا الجنازة بدون دفن وتركوا عليه من يحفظه من الهوام ونحوها وجاؤوا إلى مكّة المكرّمة وتفحّصوا عن ابن عبّاس تلميذ الإمام علي(عليه السلام) حيث كان ذلك الوقت هناك فسألوه عن الأمر وأبدوا استغرابهم .

فسألهم ابن عبّاس عن عمله ، قالوا : تاجر .

قال : فهل كان يأكل الحرام . قالوا : نعم إنّه كان يرابي ولا يلاحظ الحلال والحرام ، قال : اذهبوا وادفنوه في أحد تلك القبور ، فإنّ ما رأيتموه أمر برزخي قد .

فتحت له أعينكم للتنبيه على عاقبة المرابي فلو حفرتم له ألف قبر لكانت كلّها كذلك فجاءوا ودفنوه في إحدى تلك الحفر .

نستجير باللَّه من غضبه .

ص: 150

16- من عواقب طاعة الكافرين

اشارة

(16) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ »(سورة آل عمران : 149)

في رحاب المفردات

يردّوكم : أي يصرفوكم ، فالردّ هو صرف الشي ء ورجعه ، فيقال ردّه عن الأمر أي صرفه ، وفي الآية الشريفة أمر اللَّه لا مردّ له ، وكذلك : يوم لا مردّ له ، قال ثعلب : يعني يوم القيامة لأنه شي ء لا يرد(1).

فتنقلبوا : انقلب الشي ء : أي صُرِف عن وجه إلى وجه كقلب الثوب وقلب الإنسان أي صرفه عن طريقته(2) ، فيقال : قلبت الشي ء فانقلب أي انكبّ ، وقلبته بيدي تقليباً ، فنحن نقرأ في القرآن : «وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ(3)«. وفي آية اُخرى : «أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى

ص: 151


1- لسان العرب : مادّة ردّ .
2- مفردات الراغب : ص426 .
3- سورة الحج (22) : الآية 11 .

أَعْقَابِكُمْ(1)«. وفي آية ثالثة : «لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ(2)«.

خاسرين : الخسر والخسران انتقاص رأس المال وينسب ذلك إلى الإنسان فيقال خسر فلان ، وإلى الفعل فيقال خسرت تجارته .

ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجة كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر .

وفي المقتنيات النفيسة كالصحّة والسلامة والعقل والإيمان والثواب وهو الذي جعله اللَّه تعالى الخسران المبين(3).

ففي القرآن العزيز : «وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(4)«.

وفي آية اُخرى : «خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(5)«.

شأن النزول

قيل : نزلت في المنافقين ، إذ قالوا للمؤمنين يوم اُحد عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم ، وارجعوا إلى دينهم ، وقيل : هم اليهود والنصارى(6).

ص: 152


1- سورة الحجّ (22) : الآية 144 .
2- سورة يوسف (12) : الآية 62 .
3- مفردات الراغب : ص148 .
4- سورة العصر (103) : الآية 2 - 1 .
5- سورة الحجّ (22) : الآية 11 .
6- مجمع البيان : ج4 مج2 ص413 .

عبر من الآية

بين الفترة والاُخرى تذكّر آيات الذكر الحكيم المؤمنين بمسألة في غاية الأهمية ألا وهي الاطاعة للكافرين التي لا يجنى منها في الدنيا سوى الآهات والحسرات وفي الآخرة الويل والثبور .

هذا وقد جاء في كثير من آيات الذكر الحكيم النهي عن اتّباع الكافرين وغيرهم من الضالّين ، فمنها على سبيل المثال قوله تعالى :

«لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(1)«.

وقال تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(2)«.

وقال عزّ من قائل : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ(3)«.

فهذه الآيات المباركة تحرّم على المؤمنين تولّي الكافرين ، إذ أنّ بعضهم أولياء بعض ، كما أنّ المؤمنين كذلك بعضهم أولياء بعض .

ص: 153


1- سورة آل عمران (3) : الآية 28 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 51 .
3- سورة الممتحنة (60) : الآية 1 .

التضادّ بين أهل الإيمان والكفر

إنّ التناقض والتنافر بين المؤمنين المعتقدين باللَّه تعالى والمشركين والكفّار هو تناقض أساسي وليس هامشياً أو سطحياً ، بل هو جوهري وأصيل إذ يستحيل اجتماع النقائض أو النقيض ، ففي الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) إنّه قال :

((من جالس لنا عائباً . أو مدح لنا قالياً أو واصل لنا قاطعاً ، أو قطع لنا واصلاً ، أو والى لنا عدوّاً ، أو عادى لنا ولياً ، فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم))(1).

وعن الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لرجل :

((إن لا تطع خالقك فلا تأكل رزقه ، وإن كنت واليت عدوّه فاخرج من ملكه ، وإن كنت غير قانع برضاه وقدره فاطلب ربّاً سواه))(2).

من قصص التاريخ

هناك واقعة مهمّة نقلها المفسّرون وهي أنّ شأن نزول الآية المباركة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» نزلت في حاطب بن أبي بلتعة .

وكان سبب ذلك أنّ حاطب بن أبي بلتعة قد أسلم وهاجر إلى المدينة وكان عياله بمكّة وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فصاروا إلى عيال حاطب ، وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألونه عن خبر محمد هل يريد أن يغزو

ص: 154


1- وسائل الشيعة : ج16 ص264 ح21523 .
2- توحيد الصدوق : ص372 ح13 .

مكّة ؟ فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك .

فكتب إليهم حاطب أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يريد ذلك ودفع الكتاب إلى امرأة تسمّى صفيّة ، فوضعته في قرونها(1) ومرّت .

فنزل جبرئيل على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأخبره بذلك ، فبعث رسول اللَّه أمير المؤمنين(عليه السلام) والزبير بن العوام في طلبها ، فلحقوها .

فقال لها أمير المؤمنين(عليه السلام) : أين الكتاب ؟

فقالت : ما معي شي ء .

ففتّشوها فلم يجدوا معها شيئاً ، فقال الزبير : ما نرى معها شيئاً ، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام) :

واللَّه ما كذبنا رسول اللَّه ولا كذب رسول اللَّه على جبرائيل ، ولا كذب جبرئيل على اللَّه جلّ ثناؤه ، واللَّه لتظهرنّ الكتاب أو لأردّن رأسك إلى رسول اللَّه .

فقالت : تنحّيا عنّي حتى اُخرجه ، فأخرجت الكتاب من قرونها .

فأخذه أمير المؤمنين(عليه السلام) وجاء به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ياحاطب ما هذا ؟

فقال حاطب : واللَّه يارسول اللَّه ما نافقت ولا غيّرت ولا بدّلت ، وإنّي أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وأنّك رسول اللَّه حقّاً . ولكن أهلي وعيالي كتبوا إليّ بحسن صنيع قريش إليهم فأحببت أن اُجازي قريشاً بحسن معاشهم فأنزل اللَّه عزّوجلّ على رسول اللَّه :

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ

ص: 155


1- القرن : الخصلة من الشعر : الذؤابة .

بِالْمَوَدَّةِ» إلى قوله «لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(1)«.

إذن فالآية الشريفة تدعو المؤمنين إلى عدم الميل واللجوء إلى أعداء اللَّه لأنّ ذلك في آخر المطاف يجرّ إلى الاعتقاد بهم وتقديم التنازلات الآنية لهم ، وإذا وقع الإنسان في خطّ التنازلات والمساومات فهو أمام خيارين اثنين :

1 - إمّا أن يقف عند هذا الحدّ )الحلول الجزئية( المهداة مع التنازلات وعندئذ لن يرضى الطرف الآخر وهم أعداء اللَّه ، وبذلك لن يتحقّق الهدف الذي استهدفه وسعى لأجله من كل أعماقه ، والباري تعالى خاطب رسوله الأمين فقال له : «لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ(2)«.

فالمسألة هي أخطر من حدّ ما أو منطقة ما ، بل التحوّل الكامل والتامّ إلى العقيدة المقابلة ، والملّة الثانية ، وأنت تعلم تمام العلم ببطلانها وكفر من هم عليها .

2 - وإمّا أنّ يستمر في تقديم التنازلات تلو التنازلات وهذا سيؤدّي إلى الانقلاب على الأعقاب ، أي العودة إلى نقطة الصفر ، أو الردّة بعد الإيمان ، أو الجاهلية بعد الإسلام ، أو التعرّب بعد الهجرة .. وكل هذه القضايا تعود بالإنسان القهقرى إلى أن يسقط في الهاوية .

واللَّه سبحانه وتعالى لا يريد لنا ذلك ، بل يريد لنا العود إلى المكان الذي خلقنا له من ساحة القدس وجنّة القرب منه تعالى .

فالنهاية الحتمية لطاعة الأعداء والكفّار ، هو التقهقر والعود إلى الوراء ، وهذا

ص: 156


1- تفسير القمّي : ج2 ص361 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 120 .

كلّه نتيجته الخزي والعار في الدنيا ، والويل والعذاب في الآخرة .

فواجب الإنسان - أي إنسان - أن يتجنّب السقوط في الهاوية ، وواجب المؤمنين تجنّب سماع ومرافقة وطاعة الكفّار لأنّهم لن يزيدونه غير تخسير .

هذا وقد أوضح اللَّه سبحانه وتعالى في كتابه المجيد كل ذلك في سورة من سور القرآن حيث قال :

«قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(1)«.

أعداؤنا الذين نواجههم

وعلى أيّة حال فينبغي أن نواجه الكفّار في جميع المواقع الفكرية والثقافية والحياتية والعملية ، لأنّ أعدائنا لا يودّوننا ، والأعداء أعداء وإن تزيّنوا بأي زي أو تلبّسوا بأي لباس كان ، والأعداء صنفان أحدهما جلي ظاهر ، والآخر خفي باطن ، والسماع إلى كليهما يدمّر الإنسان ويجعل نهاية أمره قسراً ، أمّا الأول : فهم الكفّار والمشركون واليهود والملحدون ومن لفّ لفّهم ، وهم نوعان كذلك محارب وغير محارب ، إلّا أنّهم جميعاً متّفقون على ضرورة القضاء على الدولة الإسلامية وقتل الروح الإيمانية في المجتمع المسلم .

من جانب آخر فإنّ هناك عدواً أشدّ خطورة من الكافرين ينبغي للمؤمنين أن يتّخذوه عدوّاً ألا وهي النفس وكما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((أعدى عدوّك نفسك التي

ص: 157


1- سورة الكافرون (109) : الآية 6 - 1 .

بين جنبيك))(1). ونحن نقرأ في مناجاة الشاكين : ((إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة وإلى الخطيئة مبادرة ، وبمعاصيك مولعة ، ولسخطك متعرّضة ، تسلك بي مسالك المهالك ، وتجعلني عندك أهون هالك ، كثيرة العلل طويلة الأمل ، إن مسّها الشرّ تجزع وإن مسّها الخير تمنع ، ميّالة إلى اللعب واللهو ، مملوءة بالغفلة والسهو ، تسرع بي إلى الحوبة وتسوّفني بالتوبة))(2).

رزقنا اللَّه جميعاً التوفيق للعمل على تزكية أنفسنا وتهذيبها على الوجه الأكمل كما دعا الإسلام الحنيف إلى ذلك .

ص: 158


1- عدّة الداعي : ص314 .
2- راجع مناجاة الشاكين في الصحيفة السجّادية .

17- التسليم بقضاء اللَّه عزّوجلّ

اشارة

(17) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»

(سورة آل عمران : 156)

في رحاب المفردات

ضربوا : الضرب إيقاع شي ء على شي ء ، ولتصوّر اختلاف الضرب خُولِفَ بين تفاسيرها كضرب الشي ء باليد والعصا والسيف ونحوها قال : «وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ(1).

غزّىً : هو جمع غازٍ ، نحو ضارب وضُرَّب ، وطالب وطلّب ، فالغزو هو السير

ص: 159


1- سورة الأنفال (8) : الآية 12) مفردات الراغب : ص303 .

إلى الحروب(1).

عبر من الآية

هناك سؤالان مهمّان ينبغي الالتفات إليهما وهما : ما الفرق بين الإيمان والكفر ؟ وما الفرق بين المؤمن والكافر ؟

الجواب عليه : أنّ الإيمان هو التصديق بالجنان والعمل بالأركان .. والكفر : هو الجحود والإنكار للحقّ والحقيقة .

والمؤمن : هو العامل المصدّق بما وراء الطبيعة وقد قال تعالى : «يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ(2)« أمّا الكافر فإنّه لا يقرّ إلّا بالذي أمام عينيه ((دائرة الشهود)) فلا يعتقد بما وراء المادّة من غيب ، فهو ناكر لوجود اللَّه أو غير مؤمن به ولا بالمعادلات الغيبية وغير ذلك .

والأحاديث الشريفة لما تتطرق إلى صفات المؤمنين توضّح أنّ من صفاتهم الأساسية هو الاعتقاد بالغيب والماورائيات ، فعن أبي بصير ، عن أبي عبداللَّه (عليه السلام)قال : ((استقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له : كيف أنت ياحارثة بن مالك ؟ فقال : يارسول اللَّه عزبت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي ] و [ قد وضع للحساب وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة وكأنّي أسمع عواء أهل النار في النار ، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : عبد نوّر اللَّه قلبه ، أبصرت فاثبت ، فقال : يارسول اللَّه اُدع اللَّه لي أن يرزقني الشهادة معك ، فقال : اللهمّ ارزق حارثة الشهادة ، فلم يلبث إلّا أيّاماً حتى

ص: 160


1- راجع لسان العرب : مادّة غزا .
2- سورة البقرة (2) : الآية 3 .

بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله سرية فبعثه فيها ، فقاتل فقتل تسعة أو ثمانية ثم قتل . وفي رواية القاسم بن بريد ، عن أبي بصير قال : استشهد مع جعفر بن أبي طالب بعد تسعة نفر وكان هو العاشر))(1).

وعن محمد بن مسلم ، عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : سألته عن الإيمان فقال : ((شهادة أن لا إله إلّا اللَّه ] وأنّ محمّداً رسول اللَّه [ والاقرار بما جاء من عند اللَّه وما استقرّ في القلوب من التصديق بذلك ، قال : قلت : الشهادة أليست عملاً ؟ قال : بلى ، قلت : العمل من الإيمان ؟ قال : نعم الإيمان لا يكون إلّا بعمل والعمل منه ولا يثبت الإيمان إلّا بالعمل))(2).

أجل ، فالمؤمن هو من يعتقد بالغيب ويوطّد نفسه عليه ، بخلاف الكافر ..

وسياق هذه الآية الشريفة جاء في سياق الآيات التي تتحدّث عن الجهاد الإسلامي المقدّس ، وقضية الهزيمة العظيمة في غزوة اُحد التي لها من الدروس ما لها بالنسبة للقادة والالتزام بأوامرهم وما إلى ذلك ..

الهزيمة وبداية التراجع

ومناسبة الحديث هنا - والنهي عن أن يكون المؤمن كالكافر الذي لا يعتقد إلّا بمعادلات الأسباب والمسبّبات أو العلل والمعلولات والمادّيات - هو أنّهم ((الكفّار)) قالوا إذا سافر أحدهم أو هاجر أو غرق أو تاجر وأصابه مكروه قالوا : لو لم يسافر لم يمت ، أو لم يصبه ذاك المكروه الذي أصابه .

وهذه النظرة جدّاً ساذجة وسطحية ، إذ أنّ الأعمار بيد اللَّه وهو الذي يقدّرها بتقديره ويدبّرها بتدبيره الحكيم ، وبيده فالحياة والموت بيده تعالى ليس غيره .

ص: 161


1- الكافي : ج2 ص53 ح2 .
2- الكافي : ج2 ح3 .

وقد ظهرت هذه الرؤية السلبية في أعقاب غزوة اُحد بين الطرفين ، ففي هذه الغزوة قتل من المؤمنين ، ومن الكافرين كذلك ، ولا سيّما الخسارة الفادحة التي لحقت بالمؤمنين والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الذي قتل عمّه البطل الصنديد ((حمزة بن عبدالمطلّب)) أسد اللَّه وأسد رسوله صلى الله عليه وآله وسيّد الشهداء الذي بكاه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والمؤمنون بحرقة إذ أنّه كان سيفاً بتّاراً على الأعداء ومحامياً أصيلاً عن حمى الإسلام . ومن جرّاء هذه الحالة راح المؤمنون والمنافقون معاً يبكون على القتلى ويقولون كقول الكافرين الذين لا يؤمنون بالقدر الإلهي ، والجنّة التي عرضها السماوات والأرض ، المعدّة من الباري تعالى للشهداء الأبرار .

وكأنّهم نسوا حالاتهم الإيمانية واعتقادهم بالقضاء والقدر وأنّ الإنسان لا يبقى ولا يخلد في هذه الحياة الفانية التي لا يبقى فيها إلّا وجهه تعالى .

أجل ، فلكل إنسان أجلٌ حتميٌّ ، وهو محدّد ومقدّر من القادر ، وإذا جاء فسوف يصيبه ولو كان في بروج مشيّدة كما قال : «يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ(1)«.

الملفت للانتباه أنّه قبل آية البحث بآيتين فقط جاء قوله : «هَلْ لَنَا مِنْ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ(2)« فالجهاد في سبيل اللَّه ، والحرب تحت راية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ليس هو سبب الموت كلّه إذ أنّ الموت لابدّ منه وهو حاصل لكل أحد دون استثناء ، إلّا أنّ الموت في ساحات القتال هو أشرف وأعظم وأنبل من أي موت آخر لأنه سيكون ((شهادة)) وليست قتلاً أو موتاً عادياً ، فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : قال

ص: 162


1- سورة النساء (4) : الآية 78 .
2- سورة آل عمران (3) : الآية 154 .

رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((فوق كل ذي برّ برّ حتى يقتل في سبيل اللَّه فإذا قتل في سبيل اللَّه فليس فوقه برّ))(1). وعن أبي حمزة قال : سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول : إنّ علي بن الحسين عليهما السلام كان يقول : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ما من قطرة أحبّ إلى اللَّه عزّوجلّ من قطرة دم في سبيل اللَّه))(2). وعن سعد بن سعد ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال : سألته عن قول أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليه : ((واللَّه لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش)) قال : ((في سبيل اللَّه))(3).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال : أتى رجل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال : إنّي راغب نشيط في الجهاد قال : ((فجاهد في سبيل اللَّه فإنّك إن تقتل كنت حيّاً عند اللَّه ترزق ، وإن متّ فقد وقع أجرك على اللَّه ، وإن رجعت خرجت من الذنوب إلى اللَّه ، هذا تفسير «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً(4)))»(5).

الشهادة ثمن الجنان

نعم ، إنّ للجنّة ثمناً ، وهو ليس درهماً ولا ديناراً ، بل هو نفوس طاهرة وقلوب سليمة وعقول جبّارة تعبد اللَّه ما استطاعت لذلك سبيلاً ..

وفي واقع الأمر هكذا جنّة تستحقّ بذل الغالي والثمين من أجلها إذ أنّها نعيم مؤبّد وموقع مقرّب من ساحة قدس اللَّه تعالى ، فحريّ بالمؤمنين أن يبذلوا مهجهم من أجلها ويرخصون أنفاسهم الطاهرة في سبيل تحصيلها .

ص: 163


1- الكافي : ج5 ص53 ح2 .
2- الكافي : ج5 ص53 ح3 .
3- الكافي : ج5 ص53 ح1 .
4- سورة آل عمران (3) : الآية 5
5- تفسير العياشي : ج1 ص206 .

فالقتال في سبيل اللَّه لا يقصّر الأعمال ولا يقصم الآجال .. بل يورد المؤمن على حياة اُخرى هي خير له إذ أنّ المؤمن يشتري نفسه برضا الخالق فتربح تجارته ويحظى بالجنّة .

أمّا المنافق أو الكافر وغيرهما فهم يبيعون أنفسهم للدينار والدرهم ، فيخسرونها لأنّهما باعا الجنّة بثمن بخس دراهم إذ أنّ الدرهم والدينار يبقون وحطام الدنيا يتركه الإنسان خلفه ويأخذه الورثة ولا يلحق صاحبهم إلّا تبعات تلك الأموال ونقماتها ، وهو في الآخرة من حطب جهنّم والعياذ باللَّه .

وهناك نكتة لطيفة في هذه الآية المباركة نشير إليها إشارة فقط لأنّ النبيه تكفيه الاشارة ألا وهي : قوله تعالى : «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» . تلك الحسرة والندامة هي نار تشتعل في قلوب الكفّار في الحياة الدنيا وهم أحياء فتأكلها كما تأكل النار الحطب وربما أشدّ من ذلك . فيعيشون بحسرة دائمة على القتلى أو على الدنيا وزبرجها ، وأسف شديد عليهما هذا لا انقضاء له إلّا بموت صاحبه .

والتاريخ يحدّثنا عن الكثير من الناس الذين ماتوا حسرةً وأسفاً سواء أكان على العزيز من الأولاد والأنفس ، أم على الغالي من المال والمتاع فيموتون كمداً وحنقاً من جرّاء ذلك . أمّا المؤمن فلا يتحسّر إلّا على شي ء واحد وهو على ما فرّط في جنب اللَّه في هذه الحياة الدنيا وإلى ذلك يشير قوله تعالى : «عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ(1)«.

ص: 164


1- سورة الزمر (39) : الآية 56 .

18- الثبات في سبيل اللَّه

اشارة

(18) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»

(سورة آل عمران : 200)

في رحاب المفردات

رابطوا : ربط الفرس أي شدّه بالمكان للحفظ ومنه رباط الجيش ، وسمّي المكان الذي يخصُّ بإقامة حفظته رباطاً(1).

تفلحون : الفلاح هو الظفر وإدراك البغية(2) ، وقد وردت هذه المفردة في القرآن كثيراً ، ففي سورة المؤمنون نحن نقرأ : «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(3)« وفي آية اُخرى : «فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى(4)«. وفي آية ثالثة : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(5)« وجاء أيضاً : «قَدْ

ص: 165


1- مفردات الراغب : ص190 .
2- مفردات الراغب : ص399 .
3- سورة المؤمنون (23) : الآية 2 - 1 .
4- سورة طه (20) : الآية 64 .
5- سورة الشمس (91) : الآية 6 .

أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(1)«.

شأن النزول

ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) في قوله لأبي يعقوب السرّاج : ((اصبروا)) على الأذى فينا ، قلت : ((وصابروا)) ؟ قال : على عدوّكم مع وليّكم ، قلت : ((ورابطوا)) قال : ((المقام مع إمامكم)) ، و ((اتّقوا اللَّه لعلّكم تفلحون)) قلت تنزيل ؟ قال : نعم(2).

عبر من الآية

هذه الآية الشريفة هي خاتمة سورة آل عمران المباركة المليئة بالحديث عن الكفّار والمشركين وأحوالهم وأعمالهم وصفاتهم ومكائدهم ضدّ المؤمنين خاصّة والمسلمين عامّة ، فتأتي وكأنّها مسك الختام - بل مسك الحقيقة - إلّا أنّها أعظم لأنّها تضمّ بين طيّاتها أعظم المسائل ومنها : مسألة الصبر التي أكّدت عليها آيات القرآن الكريم في موارد عديدة منها :

قوله تعالى : «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(3)«.

وقال تعالى : «وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ(4)«.

وقال تعالى مخاطباً عباده المؤمنين : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ

ص: 166


1- سورة الأعلى (87) : الآية 14 .
2- تفسير العياشي : ج1 ص162 ح182 .
3- سورة النحل (16) : الآية 96 .
4- سورة النحل (16) : الآية 126 .

وَالصَّلَاةِ(1)«.

وقال تعالى : «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا(2)«.

ولا يخفى أنّ للصبر مقامات ودرجات وهو على أنواع وأشكال متعدّدة إذ أنّ كل شي ء في هذه الحياة يحتاج إلى صبر وعمل ومواظبة ..

أهل البيت عليهم السلام والتأكيد على الصبر

وقد ورد ذكر الصبر ومدح الصابرين في روايات أهل البيت الأطهار عليهم السلام كثيراً في مواطن متعدّدة منها : ما عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((من يعرف البلاء يصبر عليه ومن لا يعرفه ينكره))(3). وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((إذا كان يوم القيامة جمع اللَّه الخلائق في صعيد واحد وينادي منادٍ من عند اللَّه ، يُسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم : يقول : أين أهل الصبر ؟ فيقوم عُنق من الناس ، فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم : ما كان صبركم هذا الذي صبرتم ؟ فيقولون : صبّرنا أنفسنا على طاعة اللَّه ، وصبّرناها على معصية اللَّه قال : فينادي منادٍ من عند اللَّه : صدق عبادي ، خلّو سبيلهم ليدخلوا الجنّة بغير حساب))(4).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((دخل أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليه المسجد ، فإذا هو برجل على باب المسجد ، كئيب حزين ، فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام) : ما لك ؟ قال : ياأمير المؤمنين اُصبت بأبي ] واُمّي [ وأخي وأخشى أن أكون قد وجلت ، فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام) : عليك بتقوى اللَّه والصبر تقدم عليه غداً ، والصبر في الاُمور

ص: 167


1- سورة البقرة (2) : الآية 153 .
2- سورة طه (20) : الآية 132 .
3- أمالي الصدوق : المجلس 74 ح1 .
4- وسائل الشيعة : ج15 ص236 ح20368 .

بمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد وإذا فارق الصبر الاُمور فسدت الاُمور))(1).

نعم ، فإنّ الصبر في الحياة هو أساس لكل نجاح وفلاح سواء أكان ذلك على المستوى الفردي أم الاجتماعي أم غيرهما .. فإذا صبر الإنسان حيناً من الزمن على بعض المفاجآت المزعجة ، ونوائب الدهر المؤذية ، وعلى مشاق العبادات والمناسك ، وحبس نفسه عن الملذّات النفسية المحرّمة إمتثالاً لأوامره تعالى فإنّه بلا شك وريب سيحظى بالسعادة في الدارين ، وكذلك الحال على الصعيد الاجتماعي ، فأي اُمّة في الوجود لا يمكنها أن تحقّق النجاح في أي مجال من مجالات الحياة - السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية - إلّا بالصبر المرير والنفس الطويل لدى معالجة الأزمات الناشبة .

لكي نعيد مجدنا الزاهر

والاُمّة الإسلامية اليوم حتى تعيد عزّتها المسلوبة لابدّ من الصبر وذلك لاُمور شتّى منها :

1 - تردّ كيد الأعداء الموجّه إليها من كل حدب وصوب .

2 - ردّ أذى المنافقين والمعاندين .

3 - تحرير أرضنا السليبة وطرد اليهود من أرضنا .

4 - من أجل بناء حضارتنا الحديثة واللحاق بالركب الحضاري . ومن أجل .. ومن أجل .. ألف قضية إذ أنّ كلّها تحتاج إلى الصبر والمصابرة .

ص: 168


1- الكافي : ج2 ص90 ح9 .

إنّها مقامات الصبر

من جانب آخر فإنّ للصبر مقامات ومنازل ذكرها أرباب العلم والمعرفة منها :

(1) الصبر في اللَّه : وهو الصبر على مجاهدة النفس ، وترك المألوف لدى الناس .. بل هو ترك النفس ولبعض ما تشتهيه في سبيل اللَّه ، فعن الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((الصبر صبران : صبر عند المصيبة حسن جميل وأحسن من ذلك الصبر عندما حرّم اللَّه عزّوجلّ عليك))(1).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((الصبر ثلاثة : صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية ، فمن صبر على المصيبة حتى يردّها بحسن عزائها كتب اللَّه له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض ومن صبر على الطاعة كتب اللَّه له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم(2) الأرض إلى العرش ومن صبر عن المعصية كتب اللَّه له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش))(3).

(2) الصبر مع اللَّه : وهو حفظ النفس من التلوّنات بالتجرّد من ملابس الأفعال والصفات ، وتجلّي القلب بتجلّيات الأسماء والصفات القدسيّة .

(3) الصبر عن اللَّه : وهو من درجات المحبّين والمشتاقين من أهل الشهود ، وهذا من أصعب المقامات كلّها ولا يصل إليه إلّا ذوي الهمم العالية والنفوس الصافية والقلوب السليمة تماماً من أي كدر ..

وهذه المراتب أشار إليها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في دعائه المعروف بدعاء كميل بن زياد حيث قال(عليه السلام) : ((فهبني ياإلهي وسيّدي ومولاي صبرت على

ص: 169


1- الكافي : ج2 ص90 ح11 .
2- في الصحاح ، التخم : منتهى كل قرية أو أرض والجمع تخوم كفلس وفلوس .
3- الكافي : ج2 ص91 ح15 .

عذابك فكيف أصبر على فراقك ، وهبني صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك))(1).

(4) الصبر باللَّه : وهو مقام الأنبياء والأوصياء والمعصومين إذ أنّه لأهل الاستقامة والتمكين ، ولا أظنّ أنّ هناك على هذه المرتبة خير ولا أحسن من صبر الإمام الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء ، إذ أنّ من صبره عجّت ملائكة السماء قاطبة .

فلمّا عزم(عليه السلام) الرحيل إلى الميدان شدّ على قلوب أهل بيته بالصبر والرضى بقضاء اللَّه وقدره وقال لهم : ((استعدّوا للبلاء ، واعلموا أنّ اللَّه تعالى حاميكم وحافظكم وسينجّيكم من شرّ الأعداء ، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير))(2).

ونحن نقرأ في زيارته(عليه السلام) : ((أشهد أنّك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وتلوت الكتاب حقّ تلاوته وجاهدت في اللَّه حقّ جهاده وصبرت على الأذى في جنبه حتى أتاك اليقين))(3).

الدعوة إلى المصابرة

من جانب آخر فإنّ الآية الكريمة نادت إلى المصابرة : وهي الدعوة إلى الصبر والتصبّر فيما بين المؤمنين خاصّة في ساحات الجهاد لأنّها بحاجة إلى المصابرة للمحافظة على الروح المعنوية والنضالية لدى المجاهدين ، ففي الآية الكريمة نحن نقرأ في صفات المؤمنين : «وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(4)«.

وقد ورد في الأحاديث الشريفة بأنّ المصابرة تكون في المحافظة على الفرائض

ص: 170


1- دعاء كميل - مفاتيح الجنان وغيره .
2- الدمعة الساكبة : ج4 ص346 .
3- كتاب المزار : ص106 باب القول عند معاينة الجدث .
4- سورة العصر (103) : الآية 3 .

واجتناب المحارم ، فعن الحسن بن خالد عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال : ((إذا كان يوم القيامة نادى مناد ، أين الصابرون ؟ فيقوم فئام من الناس ، ثم ينادي أين المتصبّرون ؟ فيقوم فئام من الناس ، قلت : جعلت فداك وما الصابرون ؟ فقال : على أداء الفرائض . والمتصبّرون على اجتناب المحارم))(1). وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) في قول اللَّه عزّوجلّ : «اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا(2)« قال : ((اصبروا على الفرائض))(3) وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال : ((اصبروا)) على المصائب .. ((وصابروا)) على الفرائض ورابطوا على الأئمّة عليهم السلام))(4).

المرابطة على خطّ أهل البيت عليهم السلام

المرابطة : هي الجلوس في الثغور وحفظها وسمّي رباطاً لربط الخيل فيها ، وسمّي المحل بذلك لعلاقة الحال بالمحل .. والثغر هو الموضوع الذي فيه العدو في أطراف البلاد ، لتعرف حركاته ، ويكون الجيش مستعدّاً لضربه إذا أراد الهجوم ، وأحياناً يتقدّم المرابطون إلى بلاد العدو لفتح أو الغاء الرعب أو سلب الغنيمة أو ما شابه ذلك ... وقد وردت الكثير من الروايات عن فضل الرباط والمرابطين وأنّ المراد الحقيقي من الآية وهو المرابطة على خطّ المعصومين عليهم السلام ، فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) في قول اللَّه تبارك وتعالى : ((اصبروا)) يقول : عن المعاصي ((وصابروا)) على الفرائض ((واتّقوا اللَّه)) يقول : اُؤمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، ثم قال : وأي منكر أنكر من ظلم الاُمّة لنا ، وقتلهم إيّانا ((ورابطوا)) يقول في سبيل اللَّه ونحن السبيل فيما بين اللَّه وخلقه ،

ص: 171


1- تفسير القمّي : ج1 ص22 .
2- سورة آل عمران (3) : الآية 200 .
3- الكافي : ج2 ص81 ح2 .
4- وسائل الشيعة : ج15 ص269 ح20446 .

ونحن الرباط الأدنى ، فمن جاهد عنّا فقد جاهد عن النبي صلى الله عليه وآله وما جاء به من عند اللَّه .. ((لعلّكم تفلحون)) يقول : لعلّ الجنّة توجب لكم إن فعلتم ذلك))(1).

وعنه(عليه السلام) في رواية اُخرى : ((اصبروا)) على الأذى فينا ، قلت : ((وصابروا)) قال : عدوّكم مع وليّكم ((ورابطوا)) قال : المقام مع إمامكم))(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال في قوله : ((اصبروا)) يعني بذلك عن المعاصي وصابروا يعني التقيّة ((ورابطوا)) يعني الأئمّة))(3).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) في قول اللَّه عزّوجلّ : «اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا(4) قال : ((اصبروا على الفرائض ((وصابروا)) على المصائب و ((رابطوا)) على الأئمة عليهم السلام))(5).

التقوى والمرابطة الحقيقيّة

ولا يخفى أنّ المراد بالتقوى التي في آخر الآية المباركة هو العمل الشامل لكل ما سبق ، لأنّ اللَّه سبحانه كما قال في كتابه : «يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ(6)« فإذا كان الإنسان خائفاً متّقياً للَّه تعالى - فإنه بلا شك - يستطيع الصبر في الطاعة والمعصية والمحنة والمصيبة بالتالي يستطيع الجهاد والمرابطة في سبيل اللَّه ، وإلّا فسوف ينهزم أمام نفسه أوّلاً وأمام الأئمّة ثانياً ، وأمام الضغوط ثالثاً .

ص: 172


1- تفسير العياشي : ج1 ص212 ح179 .
2- تفسير العياشي : ج1 ص213 ح182 .
3- تفسير العياشي : ج1 ص162 ح184 .
4- «(( - سورة آل عمران (3) : الآية 200 .
5- الكافي : ج2 ص81 ح3 .
6- سورة المائدة (5) : الآية 27 .

19- القرآن وحقوق المرأة

اشارة

(19) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً »(سورة النساء : 19)

في رحاب المفردات

تعضلوهنّ : يقال عضلته أي شددته بالعضل المتناول من الحيوان نحو عصبته وتجوّز به في كل منع شديد(1).

بفاحشة : ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال(2).

ص: 173


1- مفردات الراغب : ص350 .
2- مفردات الراغب : ص387 .

عاشروهنّ : عاشرته صرت له كعشرة في المصاهرة : وعاشروهنّ بالمعروف ، والعشِر المعاشر قريباً كان أو معارف(1).

شأن النزول

قيل إنّ أبا قيس بن الأسلت ، لمّا مات عن زوجته كبيشة بنت معن ، ألقى ابنه محصن بن أبي قيس ثوبه عليها ، فورث نكاحها ، ثم تركها ولم يقربها ، ولم ينفق عليها ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالت : يانبي اللَّه لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تُركت فأنكح ! فنزلت الآية وهذا عن مقاتل ، وهو المروي عن أبي جعفر(عليه السلام) . وقيل : كان أهل الجاهلية إذا مات الرجل ، جاء ابنه من غيرها ، أو وليّه ، فورث امرأته ، كما يرث ماله ، وألقى عليها ثوباً ، فإن شاء تزوّجها بالصداق الأول ، وإن شاء زوّجها غيره ، وأخذ صداقها ، فنهوا عن ذلك ، وهذا مروي عن حسن ، ومجاهد ، وروى ذلك أبو الجارود عن أبي جعفر(عليه السلام) .

وقيل نزلت في الرجل تكون تحته امرأة ، يكره صحبتها ، ولها عليه مهر ، فيطول عليها ، ويضارّها لتفتدي بالمهر ، فنهوا عن ذلك . وقيل : نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده ، لا حاجة له إليها ، وينتظر موتها حتى يرثها(2).

ص: 174


1- مفردات الراغب : ص347 .
2- مجمع البيان : ج4 مج3 ص47 - 46 .

عبر من الآية

إنّ سورة النساء المباركة هي سورة اجتماعية لما فيها من الآيات والأحكام التي تنظّم شؤون المجتمع لا سيّما الاُسرة والإرث وغيرهما .

وهذا النداء الرحماني الذي يخصّ به الباري تعالى عباده المؤمنين ، هو بالحقيقة حكم وقانون إسلامي رائع في المعنى وهذا واضح في قوله تعالى : ((لا يحلّ لكم)) أي إنّه حرام .

فالآية الشريفة جاءت لتخبر عن واقعية الاجحاف بحقّ المرأة بشكل عام عند عرب الجاهلية ، ومدى اهتمام الإسلام الحنيف بمثل هذه القضية المهمّة .

فمسألة هضم حقّ المرأة وظلمها هي مسألة سائدة في معظم دول العالم القديم والحديث حتى أنّه في القارة الأوربية التي تدّعي التحضّر في وقتنا الراهن ، توجد مواقف مخزية تدلّ على هضمهم لحقوق المرأة وتضييعهم لكرامتها .

والسؤال هنا كيف يكون ذلك ؟

الجواب إنّهم جعلوا المرأة كوسيلة إعلامية لترويج المفاسد المختلفة ، فالذي يريد ترويج بضاعة ما فهو لا يستخدم أو ليس له غنى عن المرأة ، واُنوثتها ونعومتها لترويج تلك البضائع .

وهكذا ، فقد هضموا حقوق المرأة وسلبوها أغلى ما تملك وهو عفّتها وحرموها من أجمل ما تحلم به ((بيتها)) وبخلوا عليها بأقدس شي ء لها وهي اُمومتها فجعلوها تتيه في دوّامات من الفساد التي لا أوّل لها ولا آخر ..

ص: 175

ماذا عن امتهان حقوق المرأة ؟

وعلى كل ، فالآية الشريفة تنهى المؤمنين عن بعض مصاديق الاجحاف بالمرأة وظلمها ومن هذه المسائل :

(1) إرث النساء كرهاً : حيث إنّ بعض الرجال يتزوّجون النساء الغنيّات لا لحاجة فيهنّ كزوجات بل لأجل ثروتهنّ وأموالهنّ ، فيحبسونهنّ عندهم حتّى يمتن فيرثون أموالهنّ ويتنعّمون بها .

وعلى هذا فإنّ المرأة تبقى محرومة بشكل كامل من أبسط حقوقها الزوجية ، فلا هي مطلّقة حتى تكون حرّة تتزوّج من تريد ولا هي ذات بعل تتمتّع ببعض حقوقها معه .

ولذلك فإنّ الإسلام يؤكّد بشدّة في مسألة الزواج على أن لا يبحث الإنسان عن المال بل عليه أن يفتّش عن ذات الدين فهي المِلاك .

وإلى ذلك يشير الإمام الصادق(عليه السلام) في حديثه فقال : ((إذا تزوّج الرجل المرأة لجمالها أو مالها وكّل إلى ذلك وإذاتزوّجها لدينها رزقه اللَّه الجمال والمال))(1).

وعنه(عليه السلام) كذلك قال : ((من تزوّج امرأة يريد مالها ألجأه اللَّه إلى ذلك المال))(2).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((إذا تزوّج الرجل المرأة لمالها وجمالها لم يرزق ذلك ، فإن تزوّجها لدينها رزقه اللَّه عزّوجلّ جمالها ومالها))(3).

ص: 176


1- تهذيب الأحكام : ج7 ص403 ح18 .
2- الكافي : ج5 ص324 ح4 .
3- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص392 ح4380 .

(2) الضغط على المرأة لتهب مهرها : وهذا هو الاعضال المنهي عنه في الآية حيث قال تعالى : «وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ(1)« وهذا غالباً ما يقع من الأزواج الذين يتزوّجون بنساء مهورهنّ عالٍ وغالٍ ، فإذا أراد أن يطلّقها فهو غير قادر على دفع المهر المتّفق عليه في العقد ، فيضغط عليها بالضرب أو الهجران أو التعذيب النفسي أو الجسدي حتى تطلب هي الطلاق وبالتالي تتنازل عن كل شي ء في سبيل الخلاص من هذا العذاب .

الملفت للانتباه أنّ الإسلام العزيز يرشد الناس قبل الوقوع في مثل هذه المشاكل التي لا أوّل لها ولا آخر أن يتّخذوا المهور القليلة في الزواج ، وهذا له آثار اجتماعية ووضعية عظيمة ، فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((أفضل نساء اُمّتي أصبحهنّ وجهاً وأقلّهنّ مهراً))(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال : ((جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالت : زوّجني ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : مَن لهذه ؟ فقام رجل فقال : أنا لها يارسول اللَّه زوّجنيها ، فقال : ما تعطيها ؟ فقال : ما لي شي ء ، فقال : لا قال : فأعادت ، فأعاد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الكلام فلم يقم أحد غير الرجل ثمّ أعاد ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في المرّة الثالثة : أتحسن من القرآن شيئاً ؟ قال : نعم ، فقال : قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن فعلّمها إيّاه))(3).

وعن الإمام علي(عليه السلام) قال : ((لا تغالوا في مهور النساء فتكون عداوة))(4).

ص: 177


1- سورة النساء (4) : الآية 19 .
2- الكافي : ج5 ص324 ح4 .
3- تهذيب الأحكام : ج7 ص354 ح8 .
4- مستدرك الوسائل : ج15 ص66 ح17553 .

وعن الإمام علي(عليه السلام) قال : ((إنّه أتى رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال : يارسول ، أردت أن أتزوّج هذه المرأة ، قال : وكم تصدقها ؟ قال : ما عندي شي ء فنظر إلى خاتم في يده ، فقال : هذا الخاتم لك ؟ قال : نعم . قال : فتزوّجها عليه))(1).

وبطبيعة الحال فإنّ الاعضال المنهي عنه في الآية لا يجوز إلّا في حالة واحدة وهي : «أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ(2)« ولعلّ الفاحشة في هذا المورد هي الزنى وليس غيره ، فالتي تزني وهي في بيت زوجها لا شي ء لها ولا حقوق بل يلحقها الحدّ الشرعي للمحصنة وهو الرجم بالحجارة ، فيكون الإعضال والطلاق وغيرهما أشبه بالعقوبة التأديبية لها ولغيرها من بني جنسها .

(3) المعاشرة بالمعروف : وهذا توجيه إلهي عظيم الشأن بالنسبة للحياة الزوجية كلّها إذ أنّ المعاشرة بالمعروف تؤدّي إلى ((المودّة والرحمة)) والعشرة السيّئة تؤدّي إلى النفور والكراهية بين الاثنين وعند ذلك لا يمكن استمرار الحياة الزوجية أبداً .

ولعلّ المراد بذلك هو الاتيان بما يلائم شأن الزوجة ويرضيها عبر قضاء حوائجها النفسية والجسدية ، وبذلك يكون ذلك مفتاح بركة وفاتحة خير عظيم ، عن بركة في الأموال ورزق في الأولاد إذ أنّهم - الأولاد - من أقوى الروابط ودواعي الاُلفة والاطمئنان بين الزوجين ، خاصّة إذا كبروا وكانوا صالحين ، فيكونوا نعم السلف للوالدين .

ص: 178


1- مستدرك الوسائل : ج15 ص60 ح17535 .
2- سورة النساء (4) : الآية 19 .

الاختلاف في الحياة الزوجية

يبقى القول إنّ الاختلاف بين الزوجين في بداية الحياة الزوجية هو بالحقيقة أمر طبيعي بين بني البشر إذ أنّ كل منهما له أخلاقه ومزاجه وتربيته الخاصّة ، فهم يحتاجون لبعض الوقت - قد يطول أو يقصر - من أجل الملائمة والتوافق التامّ بينهم .

وهذا يحتاج أن يتنازل كل منهما عن بعض حقوقه من أجل الطرف الآخر ، ويراعيه في البقية الباقية ، بحيث لا ينفر منه ولا يجرح شعوره جرّاء ذلك ، وفي مثل هذا المجال تأتي قصة خليل الرحمن(عليه السلام) اثر زواجه من كلا زوجتيه )سارة وهاجر( وكيف إنّه كان لا يرغب من الزواج بهاجر عليها السلام في بداية الأمر .

فقد نقل أصحاب التاريخ أنّ نبي اللَّه إبراهيم الخليل(عليه السلام) كان متزوّجاً من إبنة عمّه )سارة( وهي فائقة الجمال والبهاء والنعمة ، وكان يحبّها كثيراً ويعطف عليها ويكره إزعاجها ، وتشاء إرادة السماء أن لا يرزق منها بولد خصوصاً أنّ الزمن قد طال ونبي اللَّه إبراهيم(عليه السلام) بلغ من الكبر عتيّاً .

آنذاك أهدته سارة جارية كانت عندها تدعى ((هاجر)) وأمرته بالزواج منها ، فرفض في بداية الأمر إلّا أنّه تزوّجها بعد إلحاحها فكانت الزوجة الثانية له ، وأنجبت ((هاجر)) نبي اللَّه إسماعيل(عليه السلام) فكان الخير كل الخير في هذا الزواج المبارك إذ أنّ أعظم عظماء الإنسانية ، وسيّد ولد آدم(عليه السلام) ورسول الإسلام المبارك محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه وآله فضلاً عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام كانوا نتيجة ذلك الزواج الميمون .

فليست المسألة إذن بالكراهية والنفور ، بل كما قال تعالى : «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً(1)« وفي هذا حثّ للأزواج على

ص: 179


1- سورة النساء (4) : الآية 19 .

حسن الصبر فيما يكرهون من الزوجات ، وترغيبهم في امساكهنّ مع كراهية صحبتهنّ .

وعلى كل حال فإنّ الحياة الزوجية تحتاج إلى الكثير من الصبر والحلم والأخلاق الحسنة والمداراة المتبادلة بين الاثنين ، واللَّه الموفّق المستعان .

ص: 180

20- التجارة في الإسلام

اشارة

(20) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً »(سورة النساء : 29)

في رحاب المفردات

تجارة : التجارة التصرّف في رأس المال طلباً للربح يقال تجر يتّجر وتاجر وتجرُ كصاحب وصَحْب(1).

تراض : يقال رضي يرضى رِضاً فهو مرضيٌّ ومرضو . ورضا العبد عن اللَّه أن لا يكره ما يجري به قضاؤه ، ورضا اللَّه عن العبد هو أن يراه مؤتمراً لأمره ومنتهياً عن نهيه ، قال تعالى : «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ(2).

ص: 181


1- مفردات الراغب : ص69 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 119) مفردات الراغب : ص202 .

شأن النزول

عن زياد بن عيسى قال : سألت أبا عبداللَّه(عليه السلام) عن قوله : «لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ(1)« قال : كانت قريش تقامر الرجل في أهله وماله فنهاهم اللَّه عن ذلك(2).

وروى الحافظ الحسكاني )الحنفي( قال : أخبرونا عن القاضي أبي الحسن محمّد ابن عثمان النصيبي عن كامل ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس في قوله تعالى : «وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ» قال : لا تقتلوا أهل بيت نبيّكم ، إنّ اللَّه يقول : «تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ» وكان ((أبناءنا)) الحسن والحسين .

وكان ((نساءنا)) فاطمة .

((وأنفسنا)) النبي وعلي عليهما السلام(3).

عبر من الآية

ويعود الحديث في هذه الآية تارةً اُخرى عن الأموال إلّا أنّها في السياق الاجتماعي ، أي ضمن الآيات والأحكام والتوصيات الاجتماعية العامّة . لذلك جاءت بهذا التعميم حيث قال تعالى : «لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ(4)« فهو نهي عن أكل الأموال التي تأتي بطرق غير شرعية ، كالمعاملات غير المشروعة وما أشبه

ص: 182


1- سورة النساء (4) : الآية 29 .
2- تفسير العياشي : ج1 ص84 ح204 .
3- شواهد التنزيل : ج1 ص143 .
4- سورة النساء (4) : الآية 29 .

ذلك .

كما أنّ الآية شوّقت إلى التجارة بيعاً وشراءً بقراض فيما بينكم ، وفي الأخير نهت عن قتل النفس ، فاللَّه هو رحيم بكم ينقذكم ممّا أنتم فيه من ضنك وما أشبه ذلك .

فالآية المباركة تحدّثت عن الأموال بشكل عام وهي على ثلاثة أقسام أساسية ، حلال ، وحرام ، وحلال مختلط بحرام . والآية لما تدعوا إلى عدم أكل المال بالباطل هذا يعني أحد أمرين كما يذهب المفسّرون ، وهما :

(1) أنّ المال الذي يأتي من القمار والربا والظلم وما إلى ذلك من الطرق غير الشرعية .

(2) أكل المال دون استحقاق من الآكل للمال المأكول ، كأكل مال اليتيم وغيره ، فعن سلمة قال : قلت لأبي عبداللَّه(عليه السلام) : الرجل منّا يكون عنده الشي ء يتبلّغ به وعليه دَين أيطعمه عياله حتى يأتي اللَّه عزّوجلّ بيسره فيقضي دَينه ، أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان وشدّة المكاسب أو يقبل الصدقة ؟ قال : ((يقضي بما عنده دَينه ولا يأكل أموال الناس إلّا وعنده ما يؤدّي إليهم حقوقهم ، إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول : «لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ(1)« ولا يستقرض على ظهره إلّا وعنده وفاء ، ولو طاف على أبواب الناس فردّوه باللقمة واللقمتين والتمرة والتمرتين إلّا أن يكون له ولي يقضي دَينه من بعده ، ليس منّا من ميّت إلّا جعل اللَّه له وليّاً يقوم في عدته(2) ودَينه فيقضي عدته

ص: 183


1- سورة النساء (4) : الآية 29 .
2- العدة : الوعد .

ودَينه))(1).

ويقابل أكل الأموال بغير الحقّ أكلها بالحقّ وهي أكثر بكثير ، فالحلال عام والحرام خاصّ ، والحلال كثير والحرام قليل جدّاً ، وهذا ما أوضحته القواعد الفقهية المعروفة ومنها قاعدة الحلّية الناصّة على حلّية كل شي ء حتى نعلم حرمته .. فالتشريع الإسلامي والقوانين الإسلامية إلهية يشتم منها الرأفة والرحمة لأنّها من الرحمن الرحيم ، وقد أشار الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله إلى سماحة الشريعة فقال صلى الله عليه وآله لعثمان بن مظعون الذي كان يصوم النهار ويقوم الليل : ((ياعثمان ، لم يرسلني اللَّه تعالى بالرهبانية ، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة))(2) ، وقال صلى الله عليه وآله : ((يسّروا ولا تعسّروا ، ألفوا ولا تنفروا ..))(3) ، وقد قال تعالى في كتابه : «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً(4)«..

فالأكل للأموال بالحقّ يعني أكل المال الحلال بالطريقة الشرعية المقبولة كالتجارة والرهن والمضاربة وما أشبه ، وأكلها بالباطل يعني الأموال التي تأتي من الحرام أو الطرق غير الشرعية كالسرقة والنهب والغصب ، والمقامرة والربا والغشّ والاحتيال .. وما أشبه .

التجّار والتفقّه في الدين

وفي الحقيقة إنّ الكثير من المعاملات الرائجة في مجتمعاتنا اليوم تحتاج إلى إعادة نظر وتأمّل إذ أنّ الكثير منها يتمّ فيه أكل الأموال بالباطل ، والأحاديث الشريفة

ص: 184


1- تهذيب الأحكام : ج6 ص185 ح8 .
2- الكافي : ج5 ص494 ح1 .
3- عوالي اللآلي : ج1 ص381 ح5 .
4- سورة الشرح (94) : الآية 5 .

كثيراً ما تخصّ أداب الاكتساب والتجارة غرار التفقّه في الدين وغيره من أجل اجتناب أكل الأموال بالباطل بحيث يكون المتعامل عارفاً بوجوه الحقّ من الباطل ، فمن هذه الروايات :

ما عن الأصبغ بن نباتة أنّه قال : سمعت أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول على المنبر : ((يامعشر التجّار الفقه ثمّ المتجر ، الفقه ثمّ المتجر ، واللَّه للربا في هذه الاُمّة أخفى من دبيب النمل على الصفا ، شوبوا أيمانكم بالصدق ، التاجر والفاجر في النار إلّا من أخذ الحقّ وأعطى الحقّ))(1).

وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إنّه قال : ((من باع واشترى فليحفظ خمس خصال وإلّا فلا يشترين ولا يبيعنّ : الربا ، والحلف وكتمان العيب والحمد إذا باع والذمّ إذا اشترى))(2).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((جاءت زينب العطّارة الحولاء إلى نساء النبي صلى الله عليه وآله فجاء النبي صلى الله عليه وآله فإذا هي عندهم فقال النبي صلى الله عليه وآله : إذا أتيتنا طابت بيوتنا ، فقالت : بيوتك بريحك أطيب يارسول اللَّه فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((إذا بعت فأحسني ولا تغشّي فإنّه أتقى للَّه وأبقى للمال))(3).

وعن أبي اُمامة إنّه قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول : ((أربع من كنّ فيه فقد طاب مكسبه إذا اشترى لم يعب وإذا باع لم يحمد ولا يدلّس وفيما بين ذلك لا يحلف))(4).

فالواجب على الإنسان التفقّه في الدين وتعلّم الآداب في الاكتساب والتجارة

ص: 185


1- الكافي : ج5 ص150 ح1 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص194 ح3727 .
3- الكافي : ج5 ص151 ح5 .
4- الكافي : ج5 ص153 ح18 .

حتى لا يقع في أكل الأموال بالحرام ، فالذي يلاحظ الروايات الداعية إلى التكسّب والتجارة يجد أنّها كثيرة جداً فمنها : ما عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) أنّه قال : ((ترك التجارة ينقص العقل))(1). وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((التجارة تزيد في العقل))(2). وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((من طلب التجارة استغنى عن الناس ، قلت : وإن كان معيلاً ؟ قال : وإن كان معيلاً إنّ تسعة أعشار الرزق في التجارة))(3). وعن فضيل الأعور قال : شهدت معاذ بن كثير وقال لأبي عبداللَّه(عليه السلام) إنّي قد أيسرت فأدع التجارة ، فقال : ((إنّك إن فعلت قلّ عقلك - أو نحوه -))(4). وعن الفضيل بن يسار قال : قال أبو عبداللَّه(عليه السلام) : ((أي شي ء تعالج ؟ قلت : ما اُعالج اليوم شيئاً ، فقال : كذلك تذهب أموالكم واشتدّ عليه))(5).

فالتجارة تنمي العقل وتزيده ، وتحفظ المعاش وتحسنه ، وتكفّ بها النفس والعائلة عن الناس ، وفيها رضا اللَّه سبحانه إذا كانت طبق الضوابط الشرعية .

عواقب أكل المال بالباطل

أمّا التوجيه الربّاني الآخر وهو قوله تعالى : «وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ(6)« أي لا يقتل بعضكم بعضاً ، فإنّ القتل مهما وقع على العدو فإنّه بالتالي واقع على الجنس البشري ، والمناسبة بين القتل وأكل المال ربما كانت : أنّ اللَّه سبحانه حرّم انتهاك

ص: 186


1- تهذيب الأحكام : ج7 ص2 ح1 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص192 ح3717 .
3- تهذيب الأحكام : ج7 ص3 ح5 .
4- تهذيب الأحكام : ج7 ص2 ح2 .
5- الكافي : ج5 ص148 ح5 .
6- سورة النساء (4) : الآية 29 .

الأعراض وأكل الأموال وإراقة الدماء ، وحيث إنّ الآية أشارت إلى الأوّلين ، فجاءت وأشارت إلى الثالث .

وقد يكون لقوله ((لا تقتلوا أنفسكم)) معنى آخر وهو لا تخاطروا بأنفسكم بالقائها في التهلكة .

ففي الرواية عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) إنّه قال في معنى قوله : «وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ(1)« قال : ((عنى بذلك الرجل من المسلمين يشدّ على المشركين في منازلهم فيقتل ، فنهاهم اللَّه عن ذلك)) .

وفي تفسير علي بن إبراهيم : قوله : «وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ(2)« قال : كان الرجل إذا خرج مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في الغزو يحمل على العدو وحده من غير أن يأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فنهى اللَّه أن يقتل نفسه من غير أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله(3).

وفي تفسير العياشي : عن الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال : ((سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضّأ صاحبها ، وكيف يغتسل إذا أجنب ؟ قال : يجزئه المسح بالماء عليها في الجنابة والوضوء ، قلت : فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده فقرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : «وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً(4)«.

وقيل لا تقتلوا أنفسكم بأن تهلكوها بارتكاب الآثام ، والعدوان في أكل المال بالباطل ، وغيره من المعاصي التي تستحقّون بها العذاب(5).

ص: 187


1- سورة النساء (4) : الآية 29 .
2- سورة النساء (4) : الآية 29 .
3- تفسير القمّي : ج1 ص133 .
4- تفسير العياشي : ج1 ص236 ح102 .
5- مجمع البيان : ج5 مج3 ص69 .

وجميع هذه المعاني تحملها الآية الكريمة ، ولعلّها تشير إلى أثر من آثار عدم مراعاة الضوابط الشرعية في الحقوق المتبادلة ولا سيّما الاقتصادية منها ، حيث إنّها تؤدّي إلى انفجار المجتمع وتهالك الناس من أجل تحصيل لقمة العيش فيزداد الوضع الاقتصادي سوءً ، والوضع الاجتماعي تدهوراً ، وتتفكّك الروابط الاجتماعية الاُخرى وتهبط المجتمعات إلى مستوى الحضيض ..

عوامل الانحراف الاجتماعي

ولا يخفى أنّ هذه الاُمور تعود إلى :

(1) الفقر المدقع ، والعوز الشديد حيث إنّ الإنسان لا يجد ما يسدّ جوعه وعطشه فضلاً عن الاحتياجات الاُخرى الضرورية له .

ولذا ، فإنّ الروايات كثيراً ما تؤكّد على إعانة الفقراء وسدّ حوائجهم ، فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) أنّه قال : ((إنّ اللَّه عزّوجلّ يلتفت يوم القيامة إلى فقراء المؤمنين ، شبيهاً بالمتعذّر إليهم ، فيقول : وعزّتي وجلالي ما أفقرتكم في الدنيا من هوان بكم عليَّ ولترونّ ما أصنع بكم اليوم فمن زوّد أحداً منكم في دار الدنيا معروفاً فخذوا بيده فأدخلوه الجنّة ، قال : فيقول رجل منهم : ياربّ إنّ أهل الدنيا تنافسوا في دنياهم فنكحوا النساء ولبسوا الثياب الليّنة وأكلوا الطعام وسكنوا الدور وركبوا المشهور من الدواب فأعطني مثل ما أعطيتهم ، فيقول تبارك وتعالى : لك ولكل عبد منكم مثل ما أعطيت أهل الدنيا منذ كانت إلى ان انقضت الدنيا سبعون ضعفاً))(1).

وعن مبارك غلام شعيب قال : سمعت أبا الحسن موسى(عليه السلام) يقول : إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول : ((إنّي لم اُغني الغني لكرامة به عليَّ ولم اُفقر الفقير لهوان به عليَّ وهو

ص: 188


1- الكافي : ج2 ص264 - 263 ح15 .

ممّا ابتليت به الأغنياء بالفقراء ولولا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنّة))(1).

(2) كثرة المال .. وتوفّر كل شي ء والفراغ الروحي القاتل كما هو معروف ومشهور في البلاد الغنية بحيث أصبحت ظاهرة اجتماعية مخيفة فعلاً إذ أنّ نجوم الملاهي وغيرهم أخذوا يتهافتون على الانتحار بشتّى الطرق كل ذلك لأنّهم لم يعرفوا الهدف الحقيقي من الحياة .

وعلى خلافهم تماماً أصحاب الديانات والروحانيات من الذين يؤمنون باللَّه واليوم الآخر فتجدهم متفائلين دائماً ، فهم لا ييأسون من رحمة اللَّه ولا يقنطون منها أبداً ، فما بعد الضيق إلّا الفرج وما بعد العسر إلّا اليسر بإذن اللَّه .

فعن الحسين بن علوان قال : كنّا في مجلس نطلب فيه العلم وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار ، فقال لي بعض أصحابنا : من تؤمّل لما قد نزل بك ؟ فقلت : فلاناً ، فقال : إذاً واللَّه لا تسعف حاجتك ولا يبلغك أملك ولا تنجح طلبتك ، قلت : وما علّمك رحمك اللَّه ؟ قال : إنّ أبا عبداللَّه(عليه السلام) حدّثني أنّه قرأ في بعض الكتب أنّ اللَّه تبارك وتعالى يقول : ((وعزّتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لاُقطعنّ أمل كلّ مؤمّل ] من الناس [ غيري باليأس ولأكسونّه ثوب المذلّة عند الناس ولاُنحينّه من قربي ولاُبعدنّه من فضلي ، أيؤمّل غيري في الشدائد ؟! والشدائد بيدي ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري ؟! وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني فمن ذا الذي أمّلني لنوائبه فقطعته دونها ؟! ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه منّي ؟! جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي وملأت سماواتي ممّن لا يملّ من تسبيحي وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي ، فلم يثقوا بقولي ألم يعلم ] أنّ [ من طرقته نائبة من نوائبي إنّه لا يملك كشفها أحد غيري إلّا من

ص: 189


1- الكافي : ج2 ص265 ح2 .

بعد إذني ، فما لي أراه لاهياً عنّي أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته عنه فلم يسألني ردّه وسأل غيري؛ أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثمّ اُسأل فلا اُجيب سائلي ؟! أبخيل أنا يبخّلني عبدي أو ليس الجود والكرم لي ؟! أو ليس العفو والرحمة بيدي ؟! أو ليس أنا محل الآمال ؟! فمن يقطعها دوني ؟ أفلا يخشى المؤمّلون أن يؤمّلوا غيري ، فلو أنّ أهل سمواتي وأهل أرضي أمّلوا غيري جميعاً ثمّ أعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرّة وكيف ينقص ملك أنا قيّمه ، فيابؤساً للقانطين من رحمتي ويابؤساً لمن عصاني ولم يراقبني))(1).

ص: 190


1- الكافي : ج2 ص67 - 66 ح7 .

21- من شرائط الصلاة

اشارة

(21) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً »(سورة النساء : 43)

في رحاب المفردات

سكارى : السكر حالة تعرض بين المرء وعقله ، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب ، ومنه سكرة الموت قال تعالى : «وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ(1)«.

جنباً : المراد من الجنب الجنابة ، وذلك بإنزال الماء أو بالتقاء الختانين ... وسمّيت جنابة بذلك لكونها سبباً لتجنّب الصلاة في حكم الشرع(2).

ص: 191


1- مفردات الراغب : ص242 .
2- مفردات الراغب : ص98 .

صعيداً : الصعيد يقال لوجه الأرض ، وقال بعضهم يقال للغبار الذي يصعد من الصعود ، ولهذا لابدّ للمتيمّم أن يَعْلَق بيده غبار(1).

عبر من الآية

القرآن هو أعظم دستور في الوجود .

وهو أكمل قانون في الدنيا ، فهو ينظّم ويرشد الإنسان إلى ما فيه صلاح نفسه وأهله واُمّته ، ويعلّمه الآداب والأخلاق ، ويدلّه على الطهارات والمطهّرات وكيفية استعمالها .

وفي هذا النداء في الآية الشريفة نجد أنّ هناك نهياً وتحذيراً من اقتراب الصلاة على حالة السكر ، وعلّل ذلك المنع بقوله تعالى : «حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ...(2)«.

كما أنّ الآية المباركة تحتوي على أكثر من حكم شرعي هام وضروري في الحياة الاجتماعية عامّة ومجتمع المؤمنين خاصّة منها :

1 - لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى .

2 - ولا جنباً إلّا عابري سبيل .

3 - حتى تغتسلوا .

4 - فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيّباً ..

ولا يخفى أنّ المسألة الثانية تتفرّع إلى مسائل كثيرة تتعلّق بالمساجد

ص: 192


1- مفردات الراغب : ص288 .
2- سورة النساء (4) : الآية 43 .

وأحكامها .

وكذلك المسألة الثالثة فهي تتشعّب إلى الكثير من المسائل الشرعية كالأغسال الواجبة أو الوضوء وغير ذلك .. فيرجع فيها إلى الكتب الفقهية المختصة بذلك .

أمّا مدار البحث فهو حول القسم الأول من الآية المباركة الذي جاء في قوله تعالى : «لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى(1)«.

فهل معنى الآية أن لا مانع من السكر في غير أوقات الصلاة ؟

الجواب : لا .. إذ أنّ الشارع المقدّس حرّم السكر والمسكّرات كاملة حتّى أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله قال : ((ما أسكر كثيره فقليله حرام))(2)، إلّا أنّ الإسلام الحنيف له فلسفة خاصّة بالنسبة للأحكام ، فحينما تكون القضية مرتبطة ب )البعد العقائدي البحت( أو ما يسمّونه باُصول الدين فإنّه يكون حاسماً فيها منذ البدء ، ولا مجال لغير الحزم أبداً .

فمثلاً في قضية التوحيد .. فالذي ينكر الوحدانية يصنّف إمّا مع الملحدين أو الكفّار أو المشركين ، ولا مجال لتسميته بالإسلام مطلقاً علماً أنّ للإسلام رأياً حاسماً لكلّ هذه الفئات .

وكقضية النبوّة .. سواء أكانت العامّة كالإيمان بنبوّة الأنبياء كافّة أو الخاصّة كالإيمان بنبوّة النبي صلى الله عليه وآله فمن لم يؤمن بنبوّة أحدهم فكأنّما أنكر الجميع دون استثناء . وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة حيث قال تعالى : «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ

ص: 193


1- سورة النساء (4) : الآية 43 .
2- الكافي : ج6 ص408 ح4 .

رُسُلِهِ(1)«.

وكقضية الولاية .. التي تعدّ من لوازم النبوّة والرسالة ، فهي مسألة في غاية الأهمية عقلاً وشرعاً بالنسبة لحياة الاُمم والشعوب .

وكذلك الأمر بالنسبة للإيمان باليوم الآخر وعدل اللَّه في الحساب والعقاب يوم يقوم الناس لربّ العالمين .. ففي مثل هذه القضايا العقائدية الأمر محتوم تماماً .

أمّا عندما يتعلّق الأمر ببعض الأحكام الشرعية ، فربما نلاحظ التدرّج فيها ، وذلك إذا كان في الحسم والتحريم مباشرة مضرّة اجتماعية أو تنفير أو ما أشبه ذلك من الاحراجات .

التدرّج في النهي عن شرب الخمر

ومن جملة هذه القضايا التي راعى فيها الشارع المقدّس مسألة التدرّج عند تشريع الحكم الحاسم فيها هي مسألة شرب الخمر وموقف الإسلام من السكر بشكل عام ، فقد تدرّج الأمر من الأضعف إلى الأشد ثلاث أو أربع مرّات حتى حسمت القضية عبر التحريم القطعي .

وذلك لأنّ شرب الخمر في الجاهلية كان متداولاً بشكل كبير جدّاً ، فهو أشبه شي ء بالماء أو ربما كان أكثر خاصة في الشتاء ، إذ أنّهم قد يستغنوا عن الماء لبعض الوقت ولكن لا يمكن أن يستغنوا عن الخمر والنبيذ أبداً والتحريم المفاجئ والقطعي لمثل هؤلاء يجعلهم في حرج شديد وضيق كبير أثناء التقيّد وتنفيذ الأوامر الإلهية بذلك .

ص: 194


1- سورة البقرة (2) : الآية 285 .

فليس من المصلحة العامّة مثل هذا الحسم في مثل هذه القضية وهذه الحالة ، بل يراعى التدرّج والتحريم شيئاً فشيئاً إلى أن يعتادوا على المسألة فيسهل عليهم تحريمها .

نعم ، فقد تدرّجت مسألة تحريم الخمر على الشكل التالي :

1 - ففي بداية الدعوة الإسلامية المباركة سأل المسلمون رسول اللَّه صلى الله عليه وآله عن الخمر فنزل بها آية توضّح رأي الإسلام فيه حيث قال تعالى :

«يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا(1)«.

2 - بعد مدّة من الزمن ضيّق سبحانه الخناق على المسلمين في مسألة الخمر حيث أنزل هذه الآية المباركة - آية البحث - الذي يقول فيها سبحانه : «لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى(2)«.

ومع الالتفات أنّ الصلاة الواجبة خمس صلوات والوقت فيما بينها متقارب فضلاً عن الأدعية والنوافل الكثيرة المندوب إليها بين الصلوات خاصّة بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فقد كان الوقت يتضيّق عليهم بحيث لا يتاح لهم المجال لشرب الخمر والسكر فكانوا يتحرّجون من ذلك .

3 - وبعد أن أصبحت الاُمّة الإسلامية مستعدّة لاستقبال أمر التحريم القطعي أنزل ربّنا سبحانه وتعالى آيات التحريم فقال عزّوجلّ : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ

ص: 195


1- سورة البقرة (2) : الآية 219 .
2- سورة النساء (4) : الآية 43 .

تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ(1)«.

ولا يخفى أنّ التحريم واضحاً في هذا المورد المبارك من كتاب اللَّه تعالى ، فمن آمن باللَّه ورسوله واليوم الآخر انتهى ومن لم يؤمن بقي يشرب في الخلوات ، فالمنافقون مثلاً لم يتركوا الشراب حتى آخر لحظة من حياتهم حتى أنّ أحدهم عندما سئل وهو على فراش الموت ما هو أحبّ الشراب إليك قال : النبيذ .

الاشارة إلى مراحل التحريم

وقد تطرّق المفسّرون إلى هذه الآية المباركة وبيّنوا مراحل التحريم هذه ، فقد ذكر الزمخشري في كتابه )ربيع الأبرار( كيفية التحريم على النحو التالي حيث قال :

أنزل اللَّه تبارك وتعالى في الخمر ثلاثة آيات «يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ »فكان المسلمون بين شارب وتارك ، إلى أن شربها رجل ودخل في صلاته فهجر فنزل قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى» فشربها من شربها من المسلمين حتى شربها ... فأخذ لحى بعير )عظم( فشجّ به رأس عبدالرحمن ابن عوف ، ثمّ قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر :

وكأين بالكليب كليب بدر

من الفتيان والعرب الكرام

أبو عدنان ابن كبشة أن سنحيا

وكيف حياة أشلاء وهام

أيعجز أن يردّ الموت عنّي

وينشرني إذ بليت عظامي

ألا من مبلغ الرحمن عنّي

بأنّي تارك شهر الصيام

ص: 196


1- سورة المائدة (5) : الآية 91 - 90 .

فقل للَّه يمنعني شرابي

وقل للَّه يمنعني طعامي

فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فخرج مغضباً يجرّ رداءه فرفع شيئاً كان في يده ليضربه .

فقال : أعوذ باللَّه من غضب اللَّه ، وغضب رسوله .

فأنزل اللَّه سبحانه وتعالى : «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ» إلى قوله «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ(1)«.

فقال ... : انتهينا .. انتهينا(2).

ومنهم من ذهب بالتحريم إلى أبعد من ذلك حيث نزلت آية رابعة تحرّم الخمر تماماً وهي قوله سبحانه وتعالى : «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(3)«.

فقيل إنّ ((الإثم)) هو الخمر بعينه فحرّمه اللَّه سبحانه قطعيّاً ، والمعروف عند العرب أنّ الاثم اسم من أسماء الخمر وإلى ذلك يشير الأخفش في أبياته قائلاً :

شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

وقال آخر كذلك :

نهانا رسول اللَّه أن نقرب الخنا

وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا(4)

فالإثم هو الخمر ، وشرب الخمر محرّم يوجب الوزر والعقاب لمن يشربه بلا

ص: 197


1- سورة المائدة (5) : الآية 91 .
2- المستطرف : ص229 ، مسند أحمد بن حنبل : ج1 ص53 ، تاريخ المدينة المنوّرة لابن شبه: ج3 ص863 .
3- سورة الأعراف (7) : الآية 33 .
4- مجمع البيان : ج8 مج4 ص248 - 247 .

شك .

ما المراد بالسكر ؟

نقل أنّ المراد بالسكر في الآية هو ليس سكر الشراب والخمر بل هو سكر النوم .

وإلى ذلك تشير الرواية الواردة عن الإمام أبي جعفر(عليه السلام) حيث قال : ((لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً ، ولا متناعساً ولا متثاقلاً فإنّها عن خلل النفاق ، فإنّ اللَّه نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى يعني من النوم))(1).

وعن الحلبي عنه(عليه السلام) حين سأله عن قول اللَّه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى(2)« ((يعني سكر النوم ، يقول : وبكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم وسجودكم وتكبيركم ، وليس كما يصف كثير من الناس يزعمون أنّ المؤمن يسكر من الشراب ، والمؤمن لا يشرب سكراً ولا يسكر))(3) ، وفيما علّم أمير المؤمنين(عليه السلام) أصحابه فقال : ((السكر أربع سكرات : سكر الشراب ، وسكر المال ، وسكر النوم ، وسكر الملك))(4).

وفي مجمع البيان : وقوله : ((وأنتم سكارى)) اختلف فيه على قولين ، فعن ابن عباس ومجاهد وقتادة : أنّ المراد به سكر الشراب ثم نسخها تحريم الخمر . وروي ذلك عن موسى بن جعفر(عليه السلام) ، والثاني أنّ المراد بقوله و ((أنتم سكارى )) سكر

ص: 198


1- الكافي : ج3 ص299 ح1 .
2- سورة النساء (4) : الآية 43 .
3- تفسير العياشي : ج1 ص215 ح137 .
4- الخصال : ج2 ص636 .

النوم خاصّة عن الضحّاك وروي ذلك عن أبي جعفر(1)(عليه السلام).

النهي عن شرب الخمر

وقد ورد عن الشارع المقدّس الكثير من الروايات الناهية عن شرب الخمر والذامّة لمتناوليه ، فعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((جاءني جبرئيل ساعة لم يكن يأتيني فيها ، وفي يوم لم يكن يأتيني فيه ، فقلت له : ياجبرئيل ، لقد جئتني في ساعة ويوم لم تكن تأتيني فيهما ؟! لقد أرعبتني . قال : وما يروعك يامحمد ، وقد غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟! قال : ] قلت : [ بماذا بعثك ربّك ؟ قال : ينهاك ربّك عن عبادة الأوثان ، وشرب الخمور ، وملاحاة الرجال))(2).

وعن عبدالرحمن بن غنم - في حديث يذكر فيه قصة المعراج - قال : فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فدخل البيت المقدّس ، فجاء جبرئيل(عليه السلام) إلى الصخرة فرفعها ، فأخرج من تحتها ثلاثة أقداح : قدحاً من لبن ، وقدحاً من عسل ، وقدحاً من خمر ، فناوله قدح اللبن ، فشرب ، ثم ناولنه قدح العسل فشرب ، ثم ناوله قدح الخمر ، فقال : قد رويت ياجبرئيل . قال : أما إنّك لو شربته ضلّت اُمّتك وتفرّقت عنك(3).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله )في مناهيه( قال : ((ونهى عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر وفيه : ونهى عن بيع الخمر ، وأن تُشترى الخمر ، وأن تسقى الخمر ، وقال(عليه السلام) : لعن اللَّه الخمر ، وعاصرها ، وغارسها ،

ص: 199


1- مجمع البيان : ج5 مج3 ص29 .
2- أمالي المفيد : المجلس 23 ح21 .
3- أمالي الصدوق : مجلس 69 ح2 .

وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومشتريها ، وآكل ثمنها ، وحاملها ، والمحمولة إليه .

وقال : من شربها لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ، وإن مات وفي بطنه شي ء من ذلك كان حقّاً على اللَّه أن يسقيه من طينة خبال ، وهو صديد أهل النار وما يخرج من فروج الزناة فيجتمع ذلك في قدور جهنّم فيشربها أهل النار فيصهر به ما في بطونهم والجلود))(1).

ومهما يكن من أمر ، فالآية تلحظ النوعين من السكر لذلك فإنّ وظيفة المؤمن أن يجتنب عنهما تماماً لأنّ الصلاة عمود - أو عماد - الدين وعلى الإنسان مراعاة شرائطها حتى يتقبّلها اللَّه سبحانه بقبول حسن .

ص: 200


1- أمالي الصدوق : المجلس 66 ح1 .

22- إنّهم محمّد وآله عليهم السلام

اشارة

(22) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً »(سورة النساء : 59)

في رحاب المفردات

أطيعوا : الطوع الانقياد ويضادّه الكره قال : «اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً(1).

تنازعتم : نزع الشي ء جذبه من مقرّه كنزع القوس عن كبده ... والتنازع والمنازعة المجاذبة ويعبّر بهما عن المخاصمة والمجادلة(2).

ص: 201


1- سورة فصلت (41) : الآية 11) مفردات الراغب : ص318 .
2- مفردات الراغب : ص509 - 508 .

شأن النزول

روى الحسكاني باسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((شركائي الذين قرنهم اللَّه بنفسه وبي وأنزل فيهم : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ(1)« الآية ، فإن خفتم تنازعاً في أمر فارجعوه إلى اللَّه والرسول واُولي الأمر ، قلت : يانبي اللَّه من هم قال : أنت أوّلهم))(2).

وروى باسناده عن مجاهد في قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» يعني الذين صدقوا بالتوحيد ((أطيعوا اللَّه)) يعني في فرائضه ((وأطيعوا الرسول)) يعني في سننه ((واُولي الأمر منكم)) قال : ((نزلت في أمير المؤمنين حين خلّفه رسول اللَّه بالمدينة فقال : أتخلّفني على النساء والصبيان ؟ فقال : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى حين قال له : أخلفني في قومي وأصلح ؟ فقال اللَّه : ((واُولي الأمر منكم)) قال : علي بن أبي طالب ولّاه اللَّه الأمر بعد محمّد في حياته حين خلّفه رسول اللَّه بالمدينة ، فأمر اللَّه العباد بطاعته وترك خلافه))(3).

وعن أبي بصير ، عن أبي جعفر(عليه السلام) ، أنّه سأله عن قول اللَّه : «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ(4)« قال : ((نزلت في علي بن أبي طالب . قلت : إنّ الناس يقولون : فما منعه أن يسمّي علياً وأهل بيته في كتابه ؟ فقال أبو جعفر : قولوا لهم : إنّ اللَّه أنزل على رسوله الصلاة ولم يسمّ ثلاثاً ولا أربعاً حتى كان رسول اللَّه هو الذي يفسّر ] فسّر [ ذلك ، وأنزل الحجّ فلم ينزل طريق استرعاء حتى

ص: 202


1- سورة النساء (4) : الآية 59 .
2- شواهد التنزيل : ج1 ص148 رقم 202 و203 .
3- شواهد التنزيل : ج1 ص149 .
4- سورة النساء (4) : الآية 59 .

فسّر ذلك لهم رسول اللَّه وأنزل : «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ(1)« فنزلت في علي والحسن والحسين ، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : اُوصيكم بكتاب اللَّه وأهل بيتي إنّي سألت اللَّه أن لا يفرّق بينهما حتى يوردهما عليّ الحوض فأعطاني ذلك))(2).

عبر من الآية

القرآن الكريم كتاب هداية ونور ..

وهو كتاب أحكام وتشريع وقوانين سماوية من لدن حكيم وعليم ..

وبالإضافة إلى ذلك فهو كتاب تنظيم وإرشاد لمسيرة الاُمّة الإسلامية وما يخلّصها في دنياها وآخرتها .

ومثل هذا الكتاب العظيم لا يمكن أن يهمل مسألة في غاية الأهمية للاُمّة جمعاء ، ألا وهي مسألة القيادة والسيادة فيها ، فلمن تكون القيادة إذن ؟

من خلال هذه الآية المباركة تمّ تعيين وتحديد أصحاب الولاية في هذا الكون وفي هذا الخلق ألا وهم :

1 - اللَّه - جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه - وهو صاحب الولاية والهداية المطلقة .

2 - الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وهو صاحب الولاية بتولّي اللَّه سبحانه له بها .

3 - اُولي الأمر منكم .. وهم أصحاب القيادة والسيادة على الاُمّة بعد الرسول صلى الله عليه وآله بجعل من اللَّه وتخصيص من لدنه وتبليغ الرسول صلى الله عليه وآله وذلك من أجل

ص: 203


1- سورة النساء (4) : الآية 59 .
2- شواهد التنزيل : ج1 ص150 - 149 .

حفظ توازن الاُمّة خلال مسيرتها في مختلف المراحل الحياتية والمعاشية .

فاللَّه - سبحانه - والرسول صلى الله عليه وآله طاعتهم على المؤمنين لا حاجة فيها للنقاش والكلام إذ أنّها من المسلّمات ، فالذي يرفض الطاعة للَّه ورسوله فقد خرج من دائرة الإيمان والإسلام حتماً .

ولكن الحديث ومدار البحث هو في طاعة الطبقة الثالثة وهم ((اُولوا الأمر)) فهم القادة الحقيقيين للاُمّة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فياترى من هم ؟

وما هي منزلتهم هذه حتى تكون طاعتهم هي كطاعة اللَّه - كما أشارت الآية الكريمة : ((أطيعوا اللَّه .. والرسول .. واُولي الأمر منكم ..)) ؟ فهذا الترتيب وهذا التعقيب وهذا العطف المباشر يفيد أنّ طاعة الجميع واحدة ومن سنخ واحد ، فطاعة اُولي الأمر كما نصّ القرآن هي طاعة للَّه سبحانه ومقارنة لطاعة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الذي قال عنه سبحانه : «مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ(1)«.

ولو أردنا جمع الاثنين على سبيل التفسير الموضوعي للقرآن لجاز لنا أن نقول : من أطاع ((اُولي الأمر)) فقد أطاع اللَّه ..

مَن هم اُولوا الأمر ؟

إنّ السؤال المهم الذي يطرح في هذه الآية المباركة هو : من هم هؤلاء القادة الكرام الذين جعلت الآية لهم هذه المنزلة العظيمة عند اللَّه ؟

الجواب عليه : ذهب أهل التفسير وأرباب الكلام وأصحاب الفلسفة الإسلامية أنّ المراد بهم احتمالات ثلاث أساسية وهي :

الأوّل : أن يراد بهم ((اُولي الأمر)) كل حاكم عادلاً كان أو جائراً .. وبدون

ص: 204


1- سورة النساء (4) : الآية 80 .

أي قيد أو شرط .

وهذا أمر مناقض للدين ذاته .. ومخالف للعقل كذلك ..

فهو مناقض للدين لأنّه يأمر بالطاعات ويفرض الواجبات على الإنسان فهل يعفى الناس من هذه الواجبات بمجرد أمر الحاكم بذلك ؟ وهل يسقط عنهم التكليف بذلك ؟

ففي أمر الإسلام بالحجّ .. إذا أمر الحاكم الظالم الناس ألّا يحجّوا ، فهل يسقط عنهم هذا الواجب المقدّس ؟ علماً أنّ معظم الحكومات على مرّ التاريخ تعمل ذلك ، فلمن الطاعة ؟

وإذا أمر الإسلام بالصلاة وقال : إنّها عمود الدين ، وهي صلة بين العبد وربّه .. وغير ذلك ، فإذا منع الحكّام الناس عن أدائها بحجج واهية ، وادّعاءات كاذبة ، فماذا يعملون ؟

وكذا الحال بالنسبة إلى الصوم في شهر رمضان المبارك ، والجهاد المقدّس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من القضايا العبادية في الدين الإسلامي الحنيف ، فماذا نعمل ؟

فهل نحجّ امتثالاً لقوله تعالى «وَللَّهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ(1)«.

ونصلّي استجابة لقوله تعالى «إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً(2)«.

ونصوم شهر رمضان المبارك لقوله تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى

ص: 205


1- سورة آل عمران (3) : الآية 97 .
2- سورة النساء (4) : الآية 103 .

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ(1)«.

أو لا نحجّ ، ولا نصلّي ، ولا نصوم امتثالاً لأوامر «أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ(2)« من الحكّام ؟!

فليت شعري هل يوجد تناقض كهذا التناقض ، أم أنّ هذا لا يقع في الدين أبداً ؟

إذ أنّه مخالف للعقل السليم ، والفطرة النقيّة كذلك ، فلا يعقل أصلاً أن نأمر بإطاعة حكّام وملوك جبابرة ، واُمراء ظالمين كحكّام بني اُميّة وبني العباس وغيرهم ممّن تسلّطوا على مقدّرات هذه الاُمّة قديماً وحديثاً .

فهل يمكن أن يأمرنا اللَّه الحكيم في كتابه الكريم أن نطيع معاوية ويزيد ومروان ابن الحكم الطلقاء أو اُمرائهم كالحجّاج ومسرف بن عقبة وعبيداللَّه بن زياد وغيرهم من الحكّام والاُمراء ؟

فهذا خلاف للحكمة ، ولا يقرّه عقل ولا يقبله أبداً ، إذ أنّ الحكيم لا يأمر إلّا بالإصلاح والصلاح وينهى عن الفساد والافساد في البلاد والعباد ، وولاية الظالمين تؤدّي إلى الدمار والخراب في الدنيا والدين .

فكيف يأمر اللَّه سبحانه بإطاعة أوامر مثل معاوية بن أبي سفيان الطاغية الذي سنّ سنّة لعن أهل البيت عليهم السلام لمدّة تزيد عن ستّين عاماً ؟

وكيف لنا أن نطيع أوامر مثل يزيد الفاسق الفاجر شارب الخمر وقاتل النفس المحترمة والمعلن بفسقه وكفره بقتل سيّد شباب أهل الجنّة وأبنائه وأصحابه الكرام البررة الذين قضوا نحبهم بسيوف بني اُميّة البغاة فصاروا إلى ربّهم شهداء سعداء ؟

ص: 206


1- سورة البقرة (2) : الآية 183 .
2- سورة النساء (4) : الآية 59 .

أو كيف يمكن أن نسمح بإطاعة شخص كمسرف بن عقبة الذي حرق الكعبة المشرّفة وأباح المدينة المنوّرة لمدّة ثلاثة أيّام في وقعة الحرّة الشهيرة ، أو كالحجّاج الذي فعل أفعالاً جعلت رأس الطفل شيباً وسوّدت صفحات التاريخ المشرقة .

وكيف .. وكيف .. وألف كيف وكيف ؟ فهذا حقيقة يناقض العقل والدين وتعاليم ربّ العالمين ، وحاشا للَّه أن يأمر عباده المؤمنين بطاعة أمثال اُولئك الطغاة الجبّارين .

الثاني : ربما يقال أنها واردة بمعنى ((كل حاكم)) ولكن بشرط كونه في إطار ((الدين)) والشريعة الإسلامية ، أي أن يكون عادلاً وأميناً وصادقاً ومؤمناً .. وإلى غير ذلك من الأوصاف المطلوبة .

فالطاعة مشروطة بشروط لا مطلقة .

وهذا - بحدّ ذاته - خلاف ظاهر الآية الكريمة نفسها .. إذ أنّها قرنت طاعة اُولي الأمر بطاعة اللَّه والرسول صلى الله عليه وآله ، وليست طاعة اللَّه مشروطة ، ولا طاعة الرسول صلى الله عليه وآله مشروطة ، وليس هناك في الآية أي تقييد أو شرط ..

فالآية مطلقة ، ولا يمكن لنا تقييدها أبداً لكي لا نقع في إشكال نحن في غنى عنه .

ولاية أهل البيت عليهم السلام

الاحتمال الثالث : هو أن يكون هناك أفراد مخصّصون ، واُناس معيّنون يكون اتّباعهم واجب ، والمسير بنهجهم لازم ، لأنّهم مع الحقّ والحقّ معهم حيثما كانوا .. عصمهم اللَّه عن الخطأ والسهو والنسيان ، وليس هناك أحد تنطبق عليه هذه الصفات النورانية والقدسية إلّا أهل البيت الأطهار عليهم السلام .

ص: 207

فهم بالذات المعيّنون من اللَّه في الكثير من آيات الذكر الحكيم التي يتلوها المسلمون آناء الليل وأطراف النهار ، فمنها ما جاء في سورة الأحزاب حيث قال تعالى : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(1)« فقد روى الطبري باسناده عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله نزلت هذه الآية في خمسة : ((فيّ ، وفي علي رضى الله عنه وحسن رضى الله عنه وحسين رضى الله عنه وفاطمة - رضي اللَّه عنها -))(2).

وروى الحسكاني باسناده عن صفية بنت شيبة قالت : قالت عائشة : خرج النبي صلى الله عليه وآله غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله معه ، ثم جاء الحسين فأدخله معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه ، ثم جاء علي فأدخله معه ، ثم قال : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(3).

وفي سورة النور حيث قال تعالى : «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ(4)« روى الحاكم الحسكاني باسناده عن أبي برزة قال : ((قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ» وقال : هي بيوت النبي صلى الله عليه وآله قيل : يارسول اللَّه أبيت علي وفاطمة منها ؟ قال : من أفضلها))(5).

ص: 208


1- سورة الأحزاب (33) : الآية 33 .
2- جامع البيان » الطبري « : ج22 ص6 .
3- سورة الأحزاب (33) : الآية 33) شواهد التنزيل : ج2 ص36 رقم 680 ، لمزيد من الإطّلاع على هذا المطلب راجع كل من: مفتاح النجاة : ص22 ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير : ج3 ص485 ، فرائد السمطين : ج1 ص367 رقم 296 ، الصواعق المحرقة : ص86 - 85 ، أنساب الأشراف : ج2 ص104 رقم38 ، الدرّ المنثور : ج5 ص198 ، تاريخ دمشق ترجمة الإمام علي(عليه السلام) : ج1 ص250 رقم 320 .
4- سورة النور (24) : الآية 36 .
5- شواهد التنزيل : ج1 ص410 .

وفي سورة الدهر حيث قال تعالى : «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ» روى ابن المغازلي عن طاووس : أنّها نزلت في علي بن أبي طالب وذلك أنّهم صاموا وفاطمة وخادمتهم ، فلمّا كان عند الإفطار ، وكانت عندهم ثلاثة أرغفة قال : فجلسوا ليأكلوا فأتاهم سائل فقال : أطعموني فإنّي مسكين فقام علي(عليه السلام) فأعطاه رغيفه ، ثمّ جاء سائل فقال : أطعموا اليتيم فأعطته فاطمة الرغيف ، ثمّ جاء سائل فقال : أطعموا الأسير فقامت الخادمة فأعطته الرغيف وباتوا ليلتهم طاوين فشكر اللَّه لهم فأنزل فيهم هذه الآيات(1).

وفي سورة الفاتحة حيث قال تعالى : «اهْدِنَا الصِّرَطَ الْمُسْتَقِيمَ(2)« روى الحسكاني باسناده عن ابن عباس قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لعلي بن أبي طالب : أنت الطريق الواضح ، وأنت الصراط المستقيم ، وأنت يعسوب المؤمنين(3).

وروى باسناده عن ابن عباس في قول اللَّه تعالى : «اهْدِنَا الصِّرَطَ الْمُسْتَقِيمَ(4)« قال : يقول : قولوا معاشر العباد : اهدنا إلى حبّ النبي وأهل بيته(5).

وهم .. وهم .. في كتاب اللَّه ، حتى أنّه روي أنّ فيهم ولهم ثلث القرآن الحكيم أو أكثر .

فهم عليهم السلام عدل القرآن بحديث الثقلين المشهور عن جدّهم الرسول صلى الله عليه وآله الذي قال : ((إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً : كتاب اللَّه ، وعترتي أهل بيتي .. وقد أنبأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا بعدي أبداً حتى يردا

ص: 209


1- مناقب علي بن أبي طالب : ص272 رقم302 .
2- سورة الحمد (1) : الآية 6 .
3- شواهد التنزيل : ج1 ص58 .
4- سورة الحمد (1) : الآية 6 .
5- شواهد التنزيل : ج1 ص58 .

عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما))(1).

وقال صلى الله عليه وآله : ((علي مع الحقّ ، والحقّ مع علي))(2).

وقال صلى الله عليه وآله : ((علي مع القرآن ، والقرآن مع علي))(3).

وقال صلى الله عليه وآله : ((عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب))(4).

وقال صلى الله عليه وآله : ((علي منّي وأنا منه ، وهو ولي كل مؤمن بعدي))(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد))(6).

وقال(عليه السلام) : ((أنا كتاب اللَّه الناطق ، واُفسّره - للقرآن - ولا يفسّرني)) .

وغير ذلك من الروايات التي تدلّ على أنّهم عليهم السلام أولياء الأمر وهم باب اللَّه الذي منه يؤتى ويرتجى .

ص: 210


1- راجع صحيح مسلم : ج2 ص237 .
2- تاريخ بغداد : ج14 ص321 ، تاريخ ابن عساكر : ج3 ص120 .
3- المستدرك : ج3 ص124 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص173 .
4- المناقب : ص243 ، ينابيع المودّة : ص180 .
5- مناقب المغازلي : ص230 ، ينابيع القندوزي : ص180 .
6- عيون أخبار الرضا : ج2 ص66 ح297 .

23- وصايا إلى المجاهدين

اشارة

(23) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً »(سورة النساء : 71)

في رحاب المفردات

حذركم : الحذر احتراز عن مخيف ، يقال حذر حذراً وحذرته ، قال تعالى : «وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ(1).

ثبات : الثبات ضدّ الزوال يقال ثبت يثبت ثباتاً قال اللَّه تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا(2).

ص: 211


1- سورة آل عمران (3) : الآية 38) مفردات الراغب : ص109 .
2- سورة الأنفال (8) : الآية 45) مفردات الراغب : ص74 .

شأن النزول

روى الحافظ أخطب خطباء خوارزم موفّق بن أحمد فقيه الحنفية قال : أخبرنا الشيخ الزاهد الحافظ زين الأئمّة أبو الحسن علي بن أحمد العاصمي الخوارزمي عن علي بن نديمة عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ما أنزل اللَّه عزّوجلّ في القرآن آية يقول فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا كان علي بن أبي طالب شريفها وأميرها))(1).

عبر من الآية

نداء توجيهي خاصّ بالمؤمنين .

ولكن يمكن أن يستفيد منه كل الناس ، فكل من أراد العمل الجهادي في هذه الحياة عليه بالتزام جانب الحذر الشديد على نفسه من العدو ومن نفسه على دينه .

لأنّ الجهاد كما بيّنه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله جهادان أكبر وأصغر ، ففي الحديث عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) أنّ النبي صلى الله عليه وآله بعث بسرّية فلمّا رجعوا قال : ((مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر ، قيل : يارسول اللَّه وما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهاد النفس))(2).

وعن الفضيل بن عيّاض قال : سألت أبا عبداللَّه(عليه السلام) عن الجهاد سنّة أم فريضة ؟ فقال : ((الجهاد على أربعة أوجه فجهادان فرض وجهاد سنّة لا يقام إلّا مع

ص: 212


1- المناقب للخوارزمي : ص198 .
2- الكافي : ج5 ص12 ح3 .

الفرض ، فأمّا أحد الفرضين فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي اللَّه عزّوجلّ وهو أعظم الجهاد))(1).

ولا يخفى أنّ هذه الآية المباركة مختصة بالجهاد الأصغر المتمثّلة في محاربة العدو ، والكفاح في الحياة فيتوجّه الباري سبحانه بهذا النداء الرحماني لتعليم وتطمين المؤمنين بحروبهم مع أعدائهم .

فإذا كان الحذر واجباً عند التعامل مع العدو ، فهو أوجب في حال الحرب ، ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق(عليه السلام) : ((تعلّموا من الغراب ثلاث خصال : استتاره بالسِّفاد ، وبكوره في طلب الرزق وحذره))(2).

وقد كان الحذر الشديد في ساحات القتال من أهم الصفات المهمّة التي اتّصف بها أمير المؤمنين(عليه السلام) وهذا ما جعل وحشي في غزوة اُحد يعتذر عن قتله لمّا طلبت منه هند ، فعندما ذهبت قوّات قريش إلى أرض المعركة في اُحد ، جمعت هند زوجة أبي سفيان خدمها وبعض الموالي من السودان وراحت تختبر قدرتهم على التصويب ، فرأت البراعة في وحشي فعرضت عليه أن يقتل أحد ثلاثة ومنّته باُمنيات عزيزة كالحرّية والمال وغير ذلك ، وهؤلاء الثلاثة هم :

- الرسول الأعظم محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه وآله .

- الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) .

- حمزة بن عبدالمطلّب(عليه السلام) .

فقال لها وحشي عند ذلك - وكان ماهراً في تسديد الرماح - أمّا الرسول محمّد صلى الله عليه وآله فلا أستطيع قتله لأنّ أصحابه يحدقون به من كل حدب وصوب ، وأمّا علي

ص: 213


1- تهذيب الأحكام : ج6 ص124 ح1 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج1 ص482 ح1394 .

ابن أبي طالب(عليه السلام) فهو شديد الحذر في الحرب ، وأمّا حمزة فهذا سهل .

إذن فالذي منع وحشيّاً من الاقتراب من الإمام علي(عليه السلام) هو شدّة حذره في الحرب .

فينبغي للمؤمن الحذر من أن يخدع - فإنّ المغبون لا محمود ولا مأجور - أي أنه لا محمود في الدنيا عند نفسه وعند الناس ، ولا مأجور في الآخرة من اللَّه تعالى .

الحذر مفهوم عام

بالطبع فإنّ الحذر مفهوم عام يشمل كل أنواع التحفّظ والحذر والمراقبة ، فهو لا يقتصر على الوسائل المادية فقط ، بل يتعدّاها ليشمل المعنوية كذلك ، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة : «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ(1)« فالإعداد عام وشامل لمثل هذه الحالة .

ولا يخفى أنّ الحذر يتطلّب التطوير الدائم للقدرات والامكانيات المادية والمعنوية ، وهذا هامّ جدّاً في وقتنا الراهن إذ أنّ الكل يسعى إلى تطوير نفسه واعداد شعبه بحيث يتفوّقون على الآخرين .

وبالفعل ، فقد تطور الآخرون وحقّقوا الانجازات العلمية العجيبة وهم في استمرار على هذا الخطّ ، فأين نحن من كل ذلك ؟ وأين المفكّرون والعلماء والحكّام وحذرهم واحتياطاتهم لأنفسهم وبلادهم ؟

فأين الإعداد والقوّة والعلم والتكنولوجيا والردع وردّ الاعتداء وغيرها ؟

فالنفرة والفزع إلى العدو واجب علينا جميعاً - كاُمّة ودول وحكومات وأحزاب وهيئات وحتى الأفراد - فهذا ما أمرت به الآية الكريمة «فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ

ص: 214


1- سورة الأنفال (8) : الآية 60 .

انفِرُوا جَمِيعاً(1)«.

أي انفروا إلى الغزو أو الجهاد إمّا جماعات وهيئات وأحزاب ، أو انفروا جميعاً كدولة واحدة واُمّة واحدة بحيث تكونوا كالجسد الواحد الذي إذا داهمه أي خطر فهو يهب بكل قواه من أجل الدفاع عن كيانه وأفراده ومقدّارته .

فالجهود الفردية جيّدة ، ولكن الجماعية أفضل وأحسن إذ أنّ تجميع الطاقات يؤدّي إلى قوّة الانتاج وجودته ، ويجعله قادراً على الصمود أمام ضربات الأعداء ، وأمّا جهود الدول فهي أفضل الجميع لأنه عندما تتحدّث دولة بقوّة وجيش وسلاح وعتاد ويتعاطف معها رأي الاُمّة الإسلامية فلا شك أنها ستمتلك قوّة دفع ، وقوّة موقف خالد عبر التاريخ .

حاجة الاُمّة إلى جمع الشتات

وفي عصرنا الراهن ما أحوج المسلمين إلى الحذر على كل المستويات ، خاصّة في مواجهتهم لأعتى أعدائهم وهم اليهود ومن لفّ لفّهم الصهاينة الذين وحّدوا أنفسهم من بعد الشتات ، وجمعوا أموالهم وطاقاتهم بعد التفرقة ، فاحتلّوا أرض فلسطين المقدّسة ، ودنّسوا ترابها وقدسها المبارك وما حوله .

كل هذا لأنّهم غزونا حتى في مضاجعنا ، وأسرّة نومنا بأفكارهم ومبادئهم فملؤا بيوتنا بآدابهم وأخلاقهم وسلوكياتهم غير المتّزنة وغير المسؤولة .

فعلى الاُمّة الإسلامية جمعاء الانتباه والحذر إلى هذا الغزو المنظّم والقوي للاُمّة كلّها ، من قبل هؤلاء الأعداء الأقوياء ، ليس بقوّتهم الذاتية ، بل بضعفنا وتشتّتنا وتفرّقنا طرائف قدداً ، ونحن نمتلك كل أسباب القوّة والمنعة .

ص: 215


1- سورة النساء (4) : الآية 71 .

إذ أنّ القوّة أحياناً تكون ذاتية ، فإذا كان الطرف قويّاً فإنّ الأعداء يهابونه ويحسبون له ألف حساب .. وأحياناً تكون القوّة ناتجة من ضعف الطرف المقابل وهذا واقعنا نحن .

المسلمون بين اليوم والبارحة

ولعمري ، فإنّ واقعنا اليوم أصبح كواقع أهل الكوفة لما كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يدعوهم إلى الجهاد فيتوانون فخطب فيهم قائلاً : ((والجهاد هو لباس التقوى ودرع اللَّه الحصينة وجنّته الوثيقة ، فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللَّه ثوب الذلّ وشمله البلاء وفارق الرضا وديث بالصغار والقماءة ، وضرب على قلبه بالإسهاب واُديل الحقّ منه بتضيّع الجهاد وسِيْمَ الخسف ومنع النصف ، ألا وإنّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسرّاً وإعلاناً وقلت لكم : اغزوهم قبل أن يغزوكم فواللَّه ما غزي قوم قطّ في عقر دارهم إلّا ذلّوا ، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنّت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان))(1).

وفي حديث آخر عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ؛ فقيل له : ويكون ذلك يارسول اللَّه ؟ فقال نعم وشرّ من ذلك كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ، فقيل له : يارسول اللَّه ويكون ذلك ؟ قال : نعم ، وشرّ من ذلك ؟ كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً))(2).

ص: 216


1- نهج البلاغة : خ27 في فضل الجهاد .
2- الكافي : ج5 ص59 ح14 .

24- آداب الجهاد في القرآن الكريم

اشارة

(24) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً »(سورة النساء : 94)

في رحاب المفردات

عَرَضَ : العرض ما لا يكون له ثبات ومنه استعار المتكلّمون العرض لما لا ثبات له إلّا بالجواهر كاللون والطعم ، وقيل الدنيا عرض حاضر تنبيهاً أن لا ثبات لها ، قال تعالى : «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ(1)« وقال : «يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى(2)«. وإن يأتيهم عرض مثله(3).

ص: 217


1- سورة الأنفال (8) : الآية 67 .
2- سورة الأعراف (7) : الآية 169 .
3- مفردات الراغب : ص343 - 342 .

مغانم : الغَنَم معروف قال : «وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا(1)«. والغُنْمُ إصابته والظفر به ثمّ استعمل في كل مظفور به من جهة العِدَى وغيرهم ، قال : «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ(2).

شأن النزول

قيل : نزلت في اُسامة بن زيد وأصحابه ، بعثهم النبي في سرية ، فلقوا رجلاً قد انحاز بغنم إلى جبل ، وكان قد أسلم ، فقال لهم : السلام عليكم ، لا إله إلّا اللَّه ، محمد رسول اللَّه ، فبدر إليه اُسامة فقتله ، واستاقوا غنمه نقله السدي . وروي عن ابن عباس ، وقتادة أنه لمّا نزلت الآية ، حلف اُسامة أن لا يقتل رجلاً ، قال لا إله إلّا اللَّه . وبهذا اعتذر إلى علي لمّا تخلّف عنه ، وإن كان عذره غير مقبول ، لأنّه قد دلّ الدليل على وجوب طاعة الإمام في محاربة من حاربه من البغاة ، لا سيّما وقد سمع النبي يقول : حربك ياعلي حربي ، وسلمك سلمي . وقيل نزلت في ملحم بن جثامة الليثي ، وكان بعثه النبي صلى الله عليه وآله في سرية ، فلقيه عامر بن الأضبط الأشجعي ، فحيّاه بتحية الإسلام ، وكان بينهما إحْنَة ، فرماه بسهم فقتله ، فلمّا جاء إلى النبي ، جلس بين يديه ، وسأله أن يستغفر له ، فقال صلى الله عليه وآله : لا غفر اللَّه لك ! فانصرف باكياً ، فما مضت عليه سبعة أيام ، حتى هلك ، فدفن فلفظته الأرض ، فقال صلى الله عليه وآله لمّا اُخبر به : إنّ الأرض تقبل من هو شرّ من ملحم صاحبكم ، ولكن اللَّه أراد أن يعظم من حرمتكم . ثم

ص: 218


1- سورة الأنعام (6) : الآية 146 .
2- سورة الأنفال (8) : الآية 41) مفردات الراغب : ص378 .

طرحوه بين صدفي جبل ، وألقوا عليه الحجارة . فنزلت الآية(1).

عبر من الآية

لا شكّ أنّ اللَّه - سبحانه وتعالى - هو خالق الخلق وباسط الرزق ، وأنّ متاع الحياة الدنيا هو متاع الغرور ، وأنّ كل شي ء زائل وهالك إلّا وجهه الكريم .

أمّا النعيم الكبير ، والمغانم الكثيرة فهي عند اللَّه - سبحانه - في جنانه الخالدة والمخلّدة أبداً في جوار قدسه .

وقد جاءت هذه الآية الكريمة لتحذّر المؤمنين - لأنّهم هم الملتزمون بالأوامر الإلهية والنواهي والزواجر كذلك - كي يحذروا عند خروجهم إلى الجهاد في سبيل اللَّه ويضربون في الأرض ليبلّغوا الدعوة إلى كل أحد يلاقونه ((بالحكمة والموعظة الحسنة)) بلا سيف وإراقة الدماء البريئة .

وعليهم أن يتبيّنوا ويتأنّوا بالقتل خاصّة ، فربما قتلوا إنساناً مسلماً لا يحق لهم قتله ، وفي هذه الآية المباركة دعوتين كريمتين هما :

1 - مراعاة الدماء والتحفّظ على إراقتها إلّا باستحقاقها .

2 - التفقّه في الدين : حيث تدعو الآية إلى التبيّن ومعرفة الشروط والدواعي التي يستحق عليها مستحق القتل وهذا تفقّه في الدين .

فانطلاقة المسلمين من الجزيرة العربية بداية وفي الدنيا كلّها فيما بعد هي انطلاقة أشبه ما تكون برحلة تدعو إلى اللَّه وعبادته وتحرير الإنسان من العبودية والرق وتدفع الظلم والاستغلال وإلى هذا المعنى تشير الآية قائلة : «وَيَضَعُ عَنْهُمْ

ص: 219


1- مجمع البيان : ج5 مج3 ص94 .

إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ(1)«.

فهم ليسوا ((غاصبين)) ولا ((طامعين)) ولا ((طامحين)) لاستغلال الشعوب ونهب خيراتهم ، وهم ليسوا ذوي أهداف مادية بالمعنى المتداول والمعروف لهذه الكلمات ..

وإنّما هم ((دعاة)) إلى الخير والنور والهداية ، ومهمّتهم الأصلية تنحصر في ((الدعوة إلى اللَّه)) لا السيطرة ، والغلبة والفتح من أجل الفتح والحصول على الغنائم والمغانم المادية ، كما كان يفعل الاُمويون ، والعباسيون الجبابرة ..

فهذا هارون العبّاسي الطاغية كان يخاطب سحابة كانت تمرّ من فوقه قائلاً : إذهبي واهطلي أينما شئت فسوف يأتيني خراجك ..

فالمهم عنده الخراج ، والمال ليتنعّم بها وتتنعّم جواريه اللواتي بلغ عددهنّ الآلاف المؤلّفة .

فالدعوة إلى اللَّه هي الأصل في كل الأعمال الإسلامية أينما وكيفما كانت .

ولذلك كان عليهم أن يستقبلوا كل من يظهر الإسلام أو يبدأ بالسلام )تحية الإسلام( ويدعوه إلى اللَّه بالكلمة الحكيمة الليّنة ، وأن يعظوه بالحسنى ويوضّحون له محاسن الإسلام الحنيف ، ويروه أخلاقه الحميدة .

نعم ، عليهم أن يفعلوا ذلك ويقبلوه حتى لو كان هناك احتمال أن يكون إسلامه ظاهرياً ولقلقة لسان فقط ، وذلك من أجل الحفاظ على نفسه أو عرضه أو ماله أو مصالحه الشخصية لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللَّه ، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلى يوم يلقون ربّهم فيحاسبهم))(2). وعن المفضّل قال : سمعت أبا عبداللَّه(عليه السلام) يقول : ((الإسلام يحقن به

ص: 220


1- سورة الأعراف (7) : الآية 157 .
2- مستدرك الوسائل : ج18 ص206 ح22503 .

الدم ، وتؤدّى به الأمانة وتستحلّ به الفروج ؛ والثواب على الإيمان))(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال : سمعته يقول : ((«قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا(2)« فمن زعم أنّهم آمنوا فقد كذب ومن زعم أنّهم لم يسلموا فقد كذب))(3).

فلم يؤمر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بأن يعامل الناس على باطنهم - وهو عالماً بها بعلم اللَّه له كالمنافقين - بل هو مأمور أن يعمل على الظواهر لأنّ حساب الباطن على من يعلم السرّ وأخفى .

الملفت للانتباه أنّ ذلك كان يسبّب للمؤمنين الحرمان من بعض الغنائم والفوائد المادية ، إلّا أنّها مهما كانت ((عرض الحياة الدنيا)) أي الغنيمة والمال ، ومتاع الحياة الدنيا الذي لا بقاء له ، بل هو إلى الزوال أقرب .

بل وكما يقول اللَّه تعالى في كتابه : «فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ(4)« وكقوله تعالى : «إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا(5)« والآيات كثيرة جدّاً في هذا المجال .

الاستفادة من الآية الكريمة

إنّ السؤال الذي يطرح هنا هو : ماذا نستفيد من هذه الآية المباركة ؟

الجواب عليه عدّة اُمور منها :

1 - قد يكون إسلام مدّعي الإسلام إسلاماً واقعياً وحقيقياً .. وباعتبارنا لا نعلم الغيب أو الباطن للإنسان فعلينا القبول منهم ، وكما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ((هلّا

ص: 221


1- الكافي : ج2 ص24 ح3 .
2- سورة الحجرات (49) : الآية 14 .
3- وسائل الشيعة : ج20 ص556 ح26337 .
4- سورة النساء (4) : الآية 94 .
5- سورة إبراهيم (14) : الآية 34 .

شققت قلبه)) وعلى فرض أنّك شققت قلبه فلن ترى شيئاً بل المعنى هلّا عرفت واطّلعت على خفايا نفسه فعلمت بها .

فكما كنتم أنتم في بداية الدعوة الإسلامية ((كذلك كنتم من قبل)) فهل المسلمون جميعاً في بداية الدعوة أسلموا رغبة بالدين الجديد ، ومعرفة بالإسلام الأصيل ؟ بل كان الكثير منهم التحقوا بالإسلام إمّا خوفاً أو رهباً أو طمعاً ورغباً ، فلم يكن الإيمان قد تمكّن من قلوبهم بل كان إسلامهم لقلقة لسان ، كما كان المنافقون الذين فضحتهم سورة التوبة المباركة ووصفتهم سورة المنافقين .

إذن علينا بالظواهر ، وعلم الباطن عند علّام الغيوب .

2 - إنّ مسألة نقل الكافر من مرحلة )العداء الظاهر( إلى مرحلة )العداء الباطن( تخفيف من ضررهم على الإسلام فكما يقولون واحد معك بالظاهر أفضل من أن يكون ضدّك بالظاهر والباطن معاً ..

هذا مع فرض أنّ إسلامه كان نفاقاً ، فهذا مطلوب بحدّ ذاته ، لأنّه يعدّ بمثابة تسجيل نقطة لصالح المسلمين .

3 - بعد أن يصبح هذا الإنسان في صفوف المسلمين ربما يقتنع ويؤمن حقيقة - على أثر مخالطة إيّاهم ومعاشرته لهم وسماعه لآيات القرآن الكريم - فيسلم ويحسن إسلامه كحال الكثير من المسلمين في بداية انطلاقته المباركة .

4 - هذا الذي أسلم بظاهره قد يكون أولاده وأحفاده في غاية الالتزام والإيمان بحيث إنّهم يولدون في بيئة مسلمة ويتربّون تربية إسلامية نقيّة إلى حدّ ما . فالكسب يكون للأجيال والأعقاب من الآباء .

وهذا بحدّ ذاته سبباً من أسباب قبول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله للمنافقين في بداية الدعوة وبعد اشتدادها ورسوخها في أرض المدينة المنوّرة .

ص: 222

25- الدعوة إلى القسط

اشارة

(25) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للَّهِِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً»

(سورة النساء : 135)

في رحاب المفردات

القسط : هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة والاقساط هو أن يعطي قسط غيره ... قال تعالى : «وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(1).

تلووا : يقال لويت الحبل ألويه ... ولويت الدين ليّاً ولياناً ، أي : مطلته(2).

ص: 223


1- سورة الحجرات (49) : الآية 9) مفردات الراغب : ص418 .
2- كتاب العين : مادّة لوي .

قوّامين : القيام على أضرب : قيام بالشخص إمّا بتسخير أو اختيار ، وقيام للشي ء وهو المراعاة للشي ء والحفظ له ... ومن المراعاة للشي ء قوله : «كُونُوا قَوَّامِينَ للَّهِِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ(1).

شأن النزول

أخرج الحافظ جمال الدين محمّد بن يوسف )الحنفي( الزرندي في كتابه )نظم درر السمطين( عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ما أنزل اللَّه آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها))(2).

عبر من الآية

على الرغم أنّ ظاهر النداء في الآية الكريمة مختصّ بالمؤمنين إلّا أنّه يتعدّى إلى جميع البشر ولكن وكما هي العادة فإنّ المؤمنين هم الذين يطبّقونه ويلتزمون به كاملاً .

ففي هذه الآية المباركة توجيه إلهي وأمر ربّاني لعباده بأن يكونوا ((قوّامين بالقسط)) وكذلك هم ((شهداء اللَّه)) وليس لأحد آخر أبداً .

لأنه من طبائع الإنسان ((المحاباة)) و ((التحيّز)) إلى الأقرب منه ، وإنّ أكبر من يتحيّز إليه هي نفسه و ((ذاته)) حيث إنّها هي الأهم عنده دائماً .

ص: 224


1- سورة النساء (4) : الآية 135) مفردات الراغب : ص432 - 431 .
2- نظم درر السمطين : ص89 .

فهو يحاول دائماً جذب كل خير إليها ، ودفع كل شرّ عنها ، ثم يحابي كل من يمتّ إلى نفسه ((الذات)) بصلة من الصلات الوثيقة منها خاصة ، فهو يحابي والديه وأبنائه ومن ثم إخوته والأقربين والأصدقاء وما إلى ذلك .

وكل ذلك منطلق من ((محورية الذات)) أي ((الأنا الذاتي أو الشخصي)) وهذه ((الأنا)) هي التي أخرجت إبليس من جنّة القرب ورضا الربّ إلى جحيم اللعنة والعذاب ، إذ أنه هو الذي أوّل من قال : «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(1)«.

الأنانية تحرم إبليس رحمة اللَّه

فلمّا خلق الباري تعالى آدم(عليه السلام) وفضّله على الخلق ، وأسجد له الملائكة ومن معهم من الجنّ ، قاس - إبليس - عنصره الناري بعنصر آدم الترابي وظنّ بنفسه خيراً فرفض أمر ربّه الذي كرّمه وخلقه بيديه ، ففي الحديث عن أبي زهير شبيب ابن أنس عن بعض أصحابه عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : قال أبو عبداللَّه(عليه السلام) لأبي حنيفة : ((ياأبا حنيفة إذا ورد عليك شي ء في كتاب اللَّه ولم تأت به الآثار والسنّة كيف تصنع ؟ قال : أصلحك اللَّه أقيس وأعمل فيه برأيي ، قال : ياأبا حنيفة إنّ أوّل من قاس إبليس الملعون قاس على ربّنا تبارك وتعالى فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)) فسكت أبو حنيفة))(2).

فالأنا والأنانية هي حالة مزرية بالنسبة للإنسان ، وربما أطلق عليها علم

ص: 225


1- سورة الأعراف (12 : (7 .
2- وسائل الشيعة : ج27 ص47 ح33177 .

النفس الحديث ووصفها - بحالة مرضية - توجب العلاج لصاحبها ، لأنه بحاجة للرأفة والرحمة والعطف ممّا هو فيه .

وقد يظن الإنسان أنّه شي ء عظيم فيصاب بجنون العظمة - كالكثير من الطغاة والجبّارين من بني البشر أمثال فرعون ونمرود وقارون وغيرهم - ممّن حجبوا عن أنفسهم أيّة رؤية سوى النظر إلى أنفسهم التي كانوا يرونها فوق الجميع حتى قال بعضهم : «أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى» .

والجدير بالذكر أنّ كل إنسان يبطن ما أظهره فرعون ، كما في الرواية ، أي الأنا الذاتية كامنة في أعماق كل إنسان ، فهي موجودة في حنايا وجوانح الجميع إلّا أنّ الظروف الاجتماعية والموضوعية التي يعيش فيها إمّا أن تكبتها وتجعلها تضمحل شيئاً فشيئاً إلى أن تتلاشى ، أو أنّها تنمو وتكبر إلى أن تتعملق في داخل الإنسان ، فيظن بنفسه الظنون .

وهو بالحقيقة لا يعدو أن يكون إنساناً بسيطاً ، ذليلاً حقيراً ، مسكيناً مستكيناً ، لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً ، وكما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((مسكين ابن آدم))(1).

رسالات السماء تحارب الأنانية

والديانات السماوية كلّها ، جاءت لتحارب مثل هذا التوجّه الخاطى ء ، وهذا الفهم الشيطاني للنفس والذات البشرية .

فالإسلام لم يجعل )الذات( هي المحور ، بل جعل الحقّ هو المحور في كل شي ء ،

ص: 226


1- نهج البلاغة ق : 419 .

فعلى الإنسان أن يجعل الحقّ هو المحور في حياته ، ولو أدّى ذلك إلى ضرب مصالحه الشخصية في هذه الدنيا ، إذ أنّ مدار الحقّ والباطل يتعلّق ليس في الدنيا فحسب بل إنّ حساب الآخرة - ثواباً وعقاباً - يتعلّق بهذا الأمر .

وحيث إنّ المؤمن همّه وهمّته مركّزة باتّجاه الآخرة لا الدنيا ، وعينه ترنو إلى الجنان الخالدة لا النعيم واللذائذ الزائلة ، وإلى الحور والقصور في الجنان ، لا إلى لذّة عابرة أو شهوة مقضية أو ما أشبه ذلك من اُمور الدنيا الفانية أخذت الآية الشريفة تأمره بأن يكون ليس فقط ((قائماً)) بل ((قوّاماً)) بالقسط والعدل ، أي أن يكون دائم القيام بالعدل .. وبعبارة اُخرى لتكن عادتكم القيام بالعدل في القول والفعل وفي كل شي ء .

فعلى الإنسان أن يقول ويعمل بالعدل ، في كل زمان ومكان ، وفي كل قضية أو مسألة ولو كان ذلك ضدّ نفسه وشهواته أو أقربائه وأصدقائه .

الشهادة والقيام بالقسط

من هذا المنطلق أخذت الآية المباركة تؤكّد على مسألة ((الشهادة)) التي هي لون من ألوان القيام بالقسط وتؤدّي إلى الحكم بالعدل كذلك ، فإذا استقامت الشهادة استقام الحكم وهذا هو ((العدل)) بعينه .

فعلى الإنسان أن يشهد بالحق لوجه الحق تعالى ((شهداء للَّه)) ، أي كما أنّك شاهد ولكن في نفس الوقت أنت مشهود عليك من ربّك حيث تكون تحت أنظاره ورحمته ، فأنت حين تشهد بالحق - أي المطابق للواقع والحقيقة - تكون شهادتك للَّه تعالى ، وهو يشهد لك بقولك الحقّ فيثيبك عليه وتسجّله الملائكة الكرام في سجل

ص: 227

حسناتك .

من عوامل الانحراف البشري

وهكذا فإنّ الآية المباركة أخذت تتنقّل شيئاً فشيئاً موضّحة بعض أسباب الانحراف عن الحق سواءً كان في القول أو العمل ، وهي ثلاثة أسباب في هذا المورد منها :

1 - التحيّز لصالح الأغنياء ، طمعاً في ثروتهم ((أي المصالح المادية )) فالمال يعمي ، ويغري اللبيب ويدفعه إلى عدم القيام بالقسط عن طريق الرشوة ، أو الهدايا وما أشبه ذلك ، وهذه من آفات العصور كلّها فأصحاب الأموال يشترون الضمائر ، ويربحون القضايا بالرشوة والأموال دون وجه حق يذكر ، بل وفي معظم الحالات يكونون على الباطل تماماً . ولذا فإنّ الإسلام حارب الرشوة بشدّة ، فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((الرشا في الحكم هو الكفر باللَّه))(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال : ((لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له ، ورجلاً خان أخاه في امرأته ، ورجلاً احتاج الناس إليه لتفقّهه ، فسألهم الرشوة))(2).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((وأمّا الرشا في الحكم ، فهو كفر باللَّه))(3).

2 - العطف على الفقراء ، ومراعاة للفقر والبؤس ، وهذه حالة من حالات

ص: 228


1- الكافي : ج7 ص409 ح2 .
2- وسائل الشيعة : ج27 ص223 ح33644 .
3- وسائل الشيعة : ج17 ص92 ح22058 .

العطف والعواطف الجيّاشة في الإنسان ، وربما تدفعه لأن يخون الشهادة أو لا يقول الحق لأنه يرى في المشهود عليه الفقر والعوز ، فعطفاً عليه - يشهد بخلاف الحق والواقع ، وهذا من الحالات النادرة في أيّامنا الحاضرة - إلّا أنّها قد تحدث مع الحكّام والقضاة حيث يجيئون بالحكم - في مثل هذه الحالات - لصالح الفقراء عن الأغنياء بحجّة العطف عليهم .

بالطبع إنّ مثل هؤلاء تشملهم العقوبة المعدّة لكل من يشهد الزور ، فعن الإمام علي(عليه السلام) قال : ((قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في حديث : ياعلي : إنّ ملك الموت إذا نزل لقبض روح الفاجر ، نزل معه بسفود(1) من نار ، فينزع روحه فتصيح جهنّم ، فاستوى علي(عليه السلام) جالساً فقال : يارسول اللَّه ، فهل يصيب ذلك أحداً من اُمّتك ؟ فقال صلى الله عليه وآله : نعم ، حاكم جائر ، وآكل مال اليتيم ، وشاهد الزور))(2).

3 - اتّباع الهوى النفسي ، وهي حالة عامّة عند معظم البشر فتصبح القضية قضية مزاج ليس إلّا ، فإن راقه أن يشهد بالحق شهد وإلّا فلا .. وإن راقه فلان يشهد له وإن كان معه الباطل ضدّ الحق الحقيقي المأخوذ من الطرف المقابل وهكذا .

فعلى الإنسان أن يتبع الحق في كل قضاياه ، لا الهوى والعواطف والمصالح الشخصية أو القرابة والصداقة وما شابه ذلك .

فالأهواء والمصالح ربما تجعل الإنسان يعدل ويجور عن الحق ، أو تجعله يلوي : أي يدفع أو يميل أو يماطل في أداء الشهادة ، التفافاً على الحق ونصرة للباطل .. وربما

ص: 229


1- السّفُّود والسُّفُّود ، بالتشديد : حديدة ذات شُعب معقَّفَة معروف يشوى به اللحم ، وجمعه سفافيد . لسان العرب مادّة سفد .
2- مستدرك الوسائل: ج17 ص414 ح21705 .

تجعله - الأهواء - يعرض تماماً عن الشهادة ، بأن يكتمها ولا يبدي بها بحجّة من الحجج كالنسيان أو عدم التواجد أو ما إلى ذلك من الاُمور المعروفة ، والتبريرات والتزويرات المشهورة .

فتبديل الشهادة ، أو الإعراض عنها ، أو قلبها رأساً على عقب هي نتيجة حتمية لتحكّم الهوى الشخصي في حركة الإنسان ومسيرته الحياتية في المجتمع .

وربّنا سبحانه رفض كل هذه التبريرات ، وحرّمها وأمر الناس - والمؤمنين بالذات - بأن يقوموا بالقسط ويجعلوا الشهادة للَّه ، وأن يلتزموا بالحق وليس بأي شي ء آخر .

الدعوة إلى شهادة الحقّ

وقد أكّدت الروايات بشدّة على الشهادة وعدم كتمانها ، ولو كانت لأقرب المقرّبين ، فعن علي بن سويد السائبي عن أبي الحسن(عليه السلام) قال : كتب في رسالته إليّ وسألته عن الشهادة لهم ، ((فأقم ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم ، فإن خفت على أخيك ضيماً فلا))(1).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) : ((إنّ للمؤمن على المؤمن سبع حقوق فأوجبها أن يقول الرجل حقّاً وإن كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحقّ))(2).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((ثلاثة هم أقرب الخلق إلى اللَّه تعالى يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب : رجل لم تدعه قدرته في حال غضبه إلى أن يحيف على من

ص: 230


1- تهذيب الأحكام : ج6 ص276 ح162 .
2- تفسير القمّي : ج1 ص156 .

تحت يديه ، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعرة ، ورجل قال الحق فيما له وعليه))(1).

شهادة ذو الشهادتين

وفي مثل هذا الصدد تتجلّى عظمة ذو الشهادتين الذي أعطى البشرية جمعاء درساً بالغاً في الأهمية حيث لقّن المسلمين على مرّ العصور كيف يحترمون النبي صلى الله عليه وآله ويصدّقونه في شتّى اُمور حياتهم ولو لم يطّلعوا عليها بحواسهم التي غالباً ما تخطأ ، فعن معاوية بن وهب قال : كان البلاط حيث يصلّى على الجنائز سوقاً على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يسمّى البطحاء يباع فيها الحليب والسمن والأقط وإنّ أعرابياً أتى بفرس له فأوثقه فاشتراه منه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ثم دخل ليأتيه بالثمن فقام ناس من المنافقين فقالوا : بكم بعت فرسك ؟ قال : بكذا وكذا قالوا : بئس ما بعت ، فرسك خير من ذلك وإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله خرج إليه بالثمن وافياً طيّباً ، فقال الأعرابي : ما بعتك واللَّه ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : سبحان اللَّه بلى واللَّه لقد بعتني وارتفعت فقال الناس : رسول اللَّه يقاول الأعرابي فاجتمع ناس كثير فقال أبو عبداللَّه(عليه السلام) : ومع النبي أصحابه إذ أقبل خزيمة بن ثابت الأنصاري ففرّج الناس بيده حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال : أشهد يارسول اللَّه لقد اشتريته منه فقال الأعرابي ، أتشهد ولم تحضرنا ؟ وقال له النبي صلى الله عليه وآله أشهدتنا ؟ فقال له : لا يارسول اللَّه ولكنّي علمت أنّك قد اشتريت أفاُصدّقك بما جئت به من عند اللَّه ولا اُصدّقك على هذا الأعرابي الخبيث

ص: 231


1- الكافي : ج2 ص145 ح5 .

قال : فعجب له رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقال : ياخزيمة شهادتك شهادة رجلين(1).

ولذلك نجد أنّ مسك الختام في الآية المباركة هي من هذا القبيل حيث يقول سبحانه : «فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(2)«.

فإنّ الخبير والعالم بالقضايا والخفايا لا تخفى عليه مثل هذه الأعمال الباطلة من العباد فتسجّلها الملائكة الكرام ، ويحاسبهم عليها الملك العلّام في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، بل النفع والفائدة في أن نأتي اللَّه بقلب سليم من الضغائن والأحقاد وبأعمال صالحة حقّة خالية من الباطل نهائياً .

ص: 232


1- الكافي : ج7 ص401 - 400 ح1 .
2- سورة النساء (4) : الآية 135 .

26- الإيمان بين الحقيقة والخيال

اشارة

(26) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً »(سورة النساء : 136)

في رحاب المفردات

يكفر : الكفر هو نقيض الإيمان ، ففي الآية الكريمة جاء : «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى(1)« ويقال لأهل دار الحرب : قد كفروا أي عصوا وامتنعوا . وكفر النعمة هو نقيض الشكر .

والكفر : هو جحود النعمة ، وهو ضدّ الشكر ، وقوله تعالى : «إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ(2)« أي جاحدون(3).

الضلال العدول عن الطريق المستقيم ويضادّه الهداية .. ويقال الضلال لكل

ص: 233


1- سورة البقرة (2) : الآية 256 .
2- سورة القصص (28) : الآية 48 .
3- لسان العرب : مادّة كفر .

عدول عن المنهج عمداً كان أو سهواً ، يسيراً كان أو كثيراً ، فإنّ الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعبٌ جدّاً(1).

وقد ذكرت لفظة الضلال في القرآن كثيراً ، ففي فاتحة الكتاب نحن نقرأ «وَلَا الضَّالِّينَ(2)« وكذلك جاء في القرآن : «إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ(3)« وفي آية اُخرى : «مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ(4)« وفي آية : «قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ(5)«.

عبر من الآية

إنّه أمر عظيم وتوجيه كريم من ربّ حكيم .

يخاطب به المؤمنين : بأن آمنوا .. فكيف ذلك ؟

ذكر المفسّرون ثلاثة وجوه لهذا الأمر المبارك ، فهي تدور بين ثلاث فئات من الناس كما ذكر وهم :

1 - ياأيّها الذين آمنوا في الظاهر بالإقرار باللَّه ورسوله ، آمنوا بالباطن ، ليوافق باطنكم ظاهركم ، فيكون الخطاب للمنافقين الذين كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون(6).

فالخطاب موجّه إلى كل من أظهر لا إله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ومن

ص: 234


1- مفردات الراغب : ص306 .
2- سورة الحمد (1) : الآية 7 .
3- سورة النحل (16) : الآية 37 .
4- سورة الأعراف (7) : الآية 186 .
5- سورة الرعد (13) : الآية 27 .
6- مجمع البيان : ج5 مج3 ص214 .

المعلوم أنّ كثيراً منهم كانوا مؤمنين لفظاً فقط ((آمنوا)) ظاهرياً لا يتجاوز اللسان .

2 - أن يكون الخطاب للمؤمنين على الحقيقة ، ظاهراً وباطناً ، فيكون المعنى ، أثبتوا على هذا الإيمان في المستقبل ، وداوموا عليه ، ولا تنتقلوا عنه .

3 - إنّ الخطاب خاصّ لأهل الكتاب ، اُمروا أن يؤمنوا بالنبي والكتاب الذي اُنزل عليه ، كما آمنوا معهم في الكتب .

وهذا ما روي عن عبداللَّه بن عباس أنه قال : إنّ الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب : عبداللَّه بن سلام ، وأسد وأسيد ابني كعب ، وثعلبة بن قيس ، وابن اُخت عبداللَّه بن سلام ، ويامين بن يامين ، وهؤلاء من كبار أهل الكتاب ، قالوا : نؤمن بك وبكتابك ، وبموسى وبالتوراة وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتاب ، وبمن سواهم من الرسل .

فقيل لهم : بل آمنوا باللَّه ورسوله .. الآية(1).

والجمع بين التفاسير الثلاثة عندي له وجه وجيه ومقبول ، إذ ما هو المانع في أن تكون الآية موجّهة إلى هؤلاء الفئات جميعاً - المؤمنين والمنافقين وبعض علماء أهل الكتاب - بل وغيرهم ، فالآية تخاطب كل إنسان يتمسّك بدين ويعتقد بعقيدة سماوية لكي يصحّح عقيدته ، ويرسخ إيمانه ويكمله ولا يتركه ناقصاً .

لأنّ الإسلام الحنيف لا يرضى بالتبعيض بالنسبة إلى الإيمان كأن نؤمن ببعض العقائد ونكفر بالبعض الآخر ، أو أن نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر بالبعض الآخر ، أو نتّخذ رسالة وننكر بقية الرسالات ونكفر ببقية الرسل العظام .

فالإيمان هو أن نؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله ، ولا نفرّق بين أحد منهم أبداً . وإلى ذلك تشير الآية الكريمة قائلة : «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا

ص: 235


1- مجمع البيان : ج5 مج3 ص260 .

سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(1)«.

الإيمان ضرورة حياتية

إذن فالإيمان بجميع الأنبياء والرسل والرسالات هو ضرورة حضارية ، لفهم حقيقة الدين والرسالة في الحياة عامّة ، وذلك لأسباب منها :

1 - الإيمان بجميع الرسالات يكشف عن واقعية الإنسان وعقلانيته .. فهو ليس إنساناً متعصّباً لفئة أو طائفة .. ولا متحيّزاً إلى جماعة ضدّ اُخرى .. بل هو تابع للحقّ معترفاً به ، وحيث إنّ كل الأنبياء كانوا حقّاً ، وأثبتوا نبوّتهم بالمعاجز ، فلابدّ من الإيمان بهم جميعاً ، والتصديق بما جاءوا به من عند ربّهم .

وأمّا خلاف ذلك .. فمثله كمثل الطالب الذي يدرس في المدارس من الابتدائية إلى المتوسطة وإلى الثانوية .. وعندما يصل إلى الجامعة يلعن وينكر المراحل السابقة من - ابتدائية ومتوسطة وإعدادية وثانوية - فمثل هذا غير منطقي وغير معقول مطلقاً .

وكذا الحال بالنسبة لجميع الرسالات الإلهية التي كان لها دور عظيم في تكامل الإنسان ووصوله إلى الرسالة الخاتمة ((الإسلام الحنيف)) فيجب الإيمان بها والتسليم لتعاليمها السمحة .

ومنهم من شبّه تكامل الرسالات ، بتنامي الأطفال منذ الولادة وحتى البلوغ والرشد ، فالإنسان يولد وينمو شيئاً فشيئاً إلى أن يزحف ويحبو ، ومن ثم يقف ويجلس ، وبعد ذلك يمشي ببطئ ، ثم يركض ، ثم يتكلّم ويأكل ويشرب ويتعرّف على الناس من حوله وهكذا إلى أن يدخل إلى المدرسة حيث يتعلّم الرياضيات والكتابة والقراءة والإملاء .. وما أشبه إلى أن يميّز بين الخير والشرّ ، وبين الحق والباطل

ص: 236


1- سورة البقرة (2) : الآية 285 .

فيكلّف بالتكاليف الشرعية كلّها.

فالرسالات مثل هذا الطفل حيث تنامت وتكاملت ، وكل مرحلة هي أرفع من التي تسبقها بدرجات من الوعي والنضوج بالنسبة للإنسان ، إلى أن مثلت رسالة الإسلام الحنيفة قمّة النضوج الإنساني بالنسبة لبني البشر ، فجاء بها خير خلق اللَّه ، وخاتم رسل اللَّه محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه وآله من عند اللَّه ، ونزل عليه معجزة الدهر الخالدة كتاب اللَّه الصامت القرآن الكريم .

وكتاب اللَّه الناطق وهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام الإثني عشر لا سيّما خاتمهم الحجّة ابن الحسن مهدي هذه الاُمّة )عجّل اللَّه تعالى فرجه( ومخرج الإنسانية من الظلمات إلى النور ، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً - بإذن اللَّه تعالى - . وقد أشارت الرواية إلى هذا الامتداد الإلهي حيث قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((أنا سيّد النبيين ، ووصيي سيّد الوصيين ، وأوصيائي سادة الأوصياء ، إنّ آدم سأل اللَّه عزّوجلّ أن يجعل له وصيّاً صالحاً ، فأوحى اللَّه عزّوجلّ إليه : إنّي أكرمت الأنبياء بالنبوّة ثم اخترت خلقي وجعلت خيارهم الأوصياء ثم أوحى اللَّه عزّوجلّ إليه : ياآدم أوص إلى شيث ، فأوصى آدم إلى شيث ، وهو هبة اللَّه ابن آدم ، وأوصى شيث إلى ابنه شبّان ، وهو ابن نزلة الحوراء التي أنزلها اللَّه على آدم من الجنّة فزوّجها ابنه شيثاً ، وأوصى شبّان إلى محلث ... إلى أن يقول صلى الله عليه وآله : وأوصى منذر إلى سليمة ، وأوصى سليمة إلى بردة ، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ودفعها إليّ بردة ، وأنا أدفعها إليك ياعلي ، وأنت تدفعها إلى وصيّك ، ويدفعها وصيّك إلى أوصيائك من ولدك واحد بعد واحد حتى يدفع إلى خير أهل الأرض بعدك ولتكفرنّ بك الاُمّة ، ولتختلفنّ عليك اختلافاً شديداً ، الثابت عليك كالمقيم معي والشاذّ عنك في النار ، والنار مثوى للكافرين))(1).

ص: 237


1- أمالي الصدوق : المجلس 36 ح3 .

2 - الإيمان بالأنبياء السابقين ، وبجميع الرسالات السماوية ، تقرّب أصحاب الديانات وتلطف الجو فيما بينهم ، وتنسف الحواجز والسدود النفسية المعيقة في أن يتقبّل كل منهم الآخر فيكون عامل جذب إلى بعضهم البعض وإلى الإيمان الراسخ كذلك .

ولعلّ خير شاهد على ذلك هي الآية الشريفة من آخر سورة البقرة حيث قال تعالى : «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ(1)«.

فالمسلمون يقدّسون جميع الأنبياء ولا يفرّقون بينهم ، وإنّما يعتمدون بهم وبقداستهم المطلقة ..

الاعتقاد بنبوّة الرسول صلى الله عليه وآله

نعم ، إنّ المسلمين يعتقدون أنّ الرسول صلى الله عليه وآله هو خاتم الأنبياء ورسالته هي ناسخة للرسالات السابقة فلا يحق لأحد من أهل الديانات الاُخرى بعد بزوغ فجر الإسلام أن يبقى على عقيدته ، ففي الآية الشريفة «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ(2)« بل نفس الكتب السماوية السابقة نصّت على الرسول صلى الله عليه وآله ، ففي الحديث عن جابر بن عبداللَّه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((أنا أشبه الناس بآدم ، وإبراهيم أشبه الناس بي خلقة وخُلقه ، وسمّاني اللَّه عزّوجلّ من فوق عرشه عشرة أسماء ، وبيّن اللَّه وصفي وبشّر بي على لسان كل رسول بعثه إلى قومه ، وسمّاني ونشر في التوراة اسمي ، وبثّ ذكري في أهل التوراة والانجيل ، وعلّمني كتابه ورفعني في سمائه ، وشقّ لي اسماً من أسمائه فسمّاني محمّداً وهو محمود ، وأخرجني في خير قرن من اُمّتي ،

ص: 238


1- سورة البقرة (2) : الآية 285 .
2- سورة آل عمران (3) : الآية 85 .

وجعل اسمي في التوراة أحيد ] وهو من التوحيد [ فبالتوحيد حرّم أجساد اُمّتي على النار ، وسمّاني في الانجيل أحمد فأنا محمود في أهل السماء وجعل اُمّتي الحامدين ، وجعل اسمي في الزبور ماح محى اللَّه عزّوجلّ بي من الأرض عبادة الأوثان ... وسمّاني العاقب أنا عقب النبيين ليس بعدي رسول ، وجعلني رسول الرحمة ورسول التوبة ورسول الملاحم والمقفّى قفّيت النبيين جماعة ، وأنا القيّم الكامل الجامع ومنّ عليَّ ربّي وقال : يامحمّد صلّى اللَّه عليك قد اُرسلت كلّ رسول إلى اُمّته بلسانها وأرسلتك إلى كل أحمر وأسود من خلقي))(1).

3 - وقد يراد من الآية مسألة استصحاب الشرائع السابقة ، والاستفادة منها ، وتصحيح مساراتها وتحليل بعض المحرّمات عليهم وتحريم بعض المحلّلات لهم ، وذلك لمصلحة للإنسانية في ذلك كلّه - على القول بذلك الاستصحاب - .

ومع ذلك إلّا أنّ الدين الإسلامي هو أكمل شريعة عرفت ، أو عرفها التاريخ الإنساني على امتداده الطويل ، والقانون الإسلامي مستوعب لكل قضايا ومشاكل البشر بمختلف ألوانهم وأشكالهم ولغاتهم على هذه الكرة الترابية .

وهو قادر على أن يعطي لكل مسألة حكماً شرعيّاً متطابقاً مع الكتاب أو السنّة ، ومستنبطاً منهما من قبل المراجع الكرام والعلماء الأعلام - رحم اللَّه الماضين منهم وحفظ الباقين إله الحقّ آمين - .

مسك الختام

في هذه الآية المباركة هو بيان وتوضيح أنّ من لم يؤمن - باللَّه وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر - فلم يؤمن بشي ء أبداً ، لأنّ الجميع مرتبطون بالإيمان باللَّه ، ومن لم يؤمن بأحد من هذه - المداليل والحقائق الغيبية - فهو ضالّ .

ص: 239


1- الخصال : ج2 ص425 ح1 .

والضلال : هو الإبعاد عن الحق .

وليس ذلك فقط .. بل ضلّ ضلالاً بعيداً : أي بَعُد قصد السبيل ذهاباً بعيداً .

والضلال البعيد : هو ما لا ائتلاف له .

إذن ، فمن كفر بمحمّد صلى الله عليه وآله وجحد نبوّته ، فكأنّه جحد جميع ذلك ، لأنه لا يصح إيمان أحد من الخلق بشي ء ممّا أمر اللَّه به إلّا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وبما أنزل اللَّه عليه - القرآن - .

وفي هذا تهديد لأهل الكتاب - إن كانوا المخاطبين بها - وإعلام لهم أنّ إقرارهم باللَّه ، ووحدانيته ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، لا ينفعهم مع جحد نبوّة محمد صلى الله عليه وآله ويكون وجوده والإيمان ، وعدمه سواء عندهم .

فالإيمان يجب أن يكون متكاملاً ، وإلّا فلا .

ولا يخفى أنّ أهمّ حلقات الإيمان المفترض على البشرية قاطبة الإيمان بها والتسليم إليها هي مسألة الإمامة التي لا يكفي فيها التبعيض والاعتقاد بجزء منها دون البقية ، فالمؤمن الواقعي - كما نصّت الروايات - هو من يؤمن بإمامة الأئمّة الإثنا عشر معاً وإلّا فهو ليس مؤمناً واقعاً وإلى ذلك يشير الحديث الوارد عن رسول اللَّه لأمير المؤمنين(عليه السلام) حيث قال : ((ياعلي أنت والأئمّة من ولدك بعدي حجج اللَّه على خلقه ، وأعلامه في بريّته ، فمن أنكر واحداً منهم فقد أنكرني ، ومن عصى واحداً منهم فقد عصاني ، ومن جفى واحداً منهم فقد جفاني ، ومن وصلكم فقد وصلني ومن أطاعكم فقد أطاعني ، ومن والاكم فقد والاني ، ومن عاداكم فقد عاداني لأنّكم منّي ، خلقتم من طينتي ، وأنا منكم))(1).

ص: 240


1- بحار الأنوار : ج23 ص97 ح4 .

27- القرآن وتولّي الكافرين

اشارة

(27) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للَّهِِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً»

(سورة النساء : 144)

في رحاب المفردات

سلطاناً : السلاطة التمكّن من القهر ، يقال سلّطته فتسلّط ... ومنه سُمّي السلطان ... وسمّي الحجّة سلطاناً وذلك لما يلحق من الهجوم على القلوب لكن أكثر تسلّطه على أهل العلم والحكمة من المؤمنين(1).

وجاءت هذه المفردة في القرآن كثيراً . ففي الآية الشريفة : «إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(2)« وفي آية اُخرى : «تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(3)« وفي آية اُخرى : «وَمَا كَانَ

ص: 241


1- مفردات الراغب : ص244 .
2- سورة يونس (10) : الآية 68 .
3- سورة ابراهيم (14) : الآية 10 .

لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ(1)« «لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ(2) «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(3)«.

عبر من الآية

إنّ مثل هذا الخطاب الرحماني جاء ليدعو المؤمنين بأن لا يتّخذوا الكافرين أولياء ، لأنّهم سيصبحون في عداد المنافقين ، الذين هم في الدرك الأسفل من النار ، والعياذ باللَّه .

وفي هذا الدرس الأخير في اُخريات هذه السورة المباركة ((النساء)) يأتي هذا التحذير الشديد للمؤمنين من هذه الأفعال ، فضلاً عن الآيات والتحذيرات التي مرّت في السورة السابقة )آل عمران( الخاصة بالتعامل مع أهل الكتاب والكافرين ، والتي أوضحت عقاب من يتولّاهم أو يتّخذهم وليجة من دون المؤمنين .

وهذه المشكلة هي إحدى المشكلات الخطيرة التي ابتليت بها الاُمّة الإسلامية منذ بداية نشأتها وانطلاقتها المظفّرة ، في مكّة المكرّمة أوّلاً وتبلورها في المدينة المنوّرة ثانياً على شكل حكم أو نظام حكم قائم بحدّ ذاته سواء أكان على نطاق القادة أم القوانين أم حتّى الاُمّة .

وهذه المشكلة المستعصية ليست مشكلة الاُمّة الإسلامية فقط بل هي مشكلة كل اُمّة بل كل حاكم وحكم جديدين عبر التاريخ ، إذ أنّ النفعيين وأصحاب المصالح

ص: 242


1- «(( - سورة إبراهيم (14) : الآية 11 .
2- سورة الكهف (18) : الآية 15 .
3- سورة النمل (27) : الآية 21 .

يميلون مع كل ريح ويتزلّفون إلى كل قادم ويصفّقون له .

فمشكلة النفاق والمنافقين ، والاعتماد على الكفّار ، والركون إليهم ، والتعاون معهم ، واتّخاذهم أولياء وأحباب وأصدقاء من دون المؤمنين له تأثير سلبي على مسيرة الاُمّة دائماً وأبداً .

فإن كانت الاُمّة قويّة ، والقائد حكيم .. اختبأ المنافقون ، ودفنوا رؤوسهم انتظاراً للفرصة السانحة لهم للإيذاء - كالحيّة الرقطاء تماماً - فإذا ضعفت الاُمّة ، أو انتقل القائد أو توفّي تراهم من كل حدب ينسلون وكأنّهم رؤوس الشياطين ، يضجّون ويعجّون وعلى اللَّه يفترون .

الأئمّة عليهم السلام يحذّرون من المنافقين

من هنا فإنّ الأئمّة الأطهار عليهم السلام على طوال التاريخ كانوا يحذّرون المؤمنين من عدوّهم الخفي وهم المنافقين .

فمن خطبة لأمير المؤمنين(عليه السلام) يصف فيها المنافقين قال : ((اُوصيكم عباد اللَّه بتقوى اللَّه واُحذّركم أهل النفاق فإنّهم الضالّون المضلّون والزالّون المزلّون يتلونون ألواناً ويفتنون افتتاناً ويعمدونكم بكل عماد ويرصدونكم بكلّ مرصاد ، قلوبهم دويّة وصفاحهم نقيّة .. إلى قوله(عليه السلام) : قد أعدّوا لكل حقّ باطلاً ولكل قائم مائلاً ولكل حي قاتلاً ولكل باب مفتاحاً ولكلّ ليل مصباحاً .. إلى قوله(عليه السلام) : فهم لُمّة الشيطان وحُمة النيران اُولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون))(1).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) في حديث طويل قال فيه : ((واعلموا أنّ المنكرين هم

ص: 243


1- نهج البلاغة : خ194 يصف فيها المنافقين .

المكذّبون ، وأنّ المكذّبين هم المنافقون ، وأنّ اللَّه قال للمنافقين وقوله الحق : «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً(1)))»(2).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((من لقى المؤمنين بوجه ، وغابهم بوجهه أتى يوم القيامة وله لسانان من نار))(3). وعن الإمام علي(عليه السلام) قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((يجي ء يوم القيامة ذو الوجهين دالعاً لسانه في قفاه وآخر من قدّامه يلتهبان ناراً حتى يلهبا جسده ، ثم يقال له : هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين وذا لسانين يُعرف بذلك يوم القيامة))(4).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال : ((بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين ، يطري أخاه في اللَّه شاهداً ، ويأكله غائباً ، إن اُعطي حسده ، وإن ابتلي خذله))(5).

وجاء في كتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر : ((ولقد قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : إنّي لا أخاف على اُمّتي مؤمناً ولا مشركاً ؛ أمّا المؤمن فيمنعه اللَّه بإيمانه ، وأمّا المشرك فيقمعه اللَّه بشركه . ولكنّي أخاف عليكم كل منافق الجنان ، عالم اللسان ، يقول ما تعرفون ، ويفعل ما تنكرون))(6).

ص: 244


1- سورة النساء (4) : الآية 145
2- الكافي : ج8 ص11 ح1 .
3- الخصال : ج1 ص38 ح19 .
4- الخصال : ج1 ص38 ح16 .
5- الكافي : ج2 ص343 ح2 .
6- نهج البلاغة : كتاب 27 إلى محمّد بن أبي بكر حين ولّاه مصر .

أسباب موالاة الكافرين

إذن إنّ هذه الآية المباركة جاءت لتحذّر من اتّخاذ الكافرين أولياء وتنهى عن ذلك بشدّة إذ قال سبحانه : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ(1)«.

فلماذا يتّخذ البعض الكافر وليّاً له وصديقاً حميماً ؟

هناك احتمالات عدّة :

1 - إمّا الخوف منهم ، فيتزلّف إليهم ويتقرّب منهم ويخدمهم ليأمن شرّهم .

2 - أو العاطفة تشدّه ، كحال المؤمنين في بداية الدعوة حيث كان لهم آباء وأخوة وأقارب وعشيرة ، ولكل هؤلاء تأثير على عواطفه وإحساساته الاجتماعية فيتقرّب إليهم .

3 - أو الطمع والجشع والرغبة في الحصول على بعض الفتات من موائد اُولئك الكفّار ، أو الحصول على بعض الأموال ، إذ أنّ الكثيرين يسقطون أمام بريق الدنيا فيبيعون أنفسهم وأهليهم واُمّتهم بثمن بخس ، وشواهد هذا كثيرة .

فالكفّار كانوا - ولا زالوا - من أصحاب الثروات إذ أنّ منهم من يمتلكون )المال( و )القدرة( و )النفوذ( و )الخبرة( و )العلم( و )السلاح).. وما إلى ذلك من العناصر البرّاقة في العيون ، والمخيفة للقلوب الضعيفة .

وبما أنّ الإنسان بطبعه يميل إلى )القوّة( فتراه يصادق ويجانب )مراكز القوى).

فيركن إليها ، ويطمئن لها حيث تمدّه ببعض عناصر القوّة أو هكذا يشعر على الأقل ..

ص: 245


1- سورة النساء : 144 .

شواهد من التاريخ

وقد سجّل التاريخ الكثير من الشواهد الدالّة على أنّ المتزلّقين عادةً ما يخدمون أصحاب الضلال في تسلّطهم على العباد ، ففي أحوال معاوية بن أبي سفيان ينقل أنّه كان يعتمد في كثير من شؤونه على الروم وخاصة عندما كان يحارب مولانا أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) حيث كان له مستشار خاص منهم اسمه )سرجون( وكان يستشيره في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الاُمّة ، ويأخذ بمشورته طبعاً .

وكانت زوجته )ميسون( من النصارى ولم يعلم أنّها أسلمت أصلاً ، ولا داعي لأن تسلم ، فلربما الأمير تنصّر من أجلها .

كما أنّ ولده يزيد قال عنه الإمام الحسين(عليه السلام) : ((يزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ومثلي لا يبايع بمثله ولكن نصبح وتصبحون))(1).

كما أنّ ((سرجون)) وزير أبيه هو الذي أشار عليه بقتل سيد شباب أهل الجنّة وأبنائه واخوته وأصحابه الكرام في أرض كربلاء وعلى بطاح العراق الجريح(2).

وقد أشار عليه بحرق الكعبة وتدميرها وقتل عبداللَّه بن الزبير .

وأشار عليه بتدمير المدينة المنوّرة واستباحتها ثلاثة أيام ، وقتل البدريين كلهم ، وبالتالي أخذ البيعة من أهلها على أنّهم عبيد له - والعياذ باللَّه - .

وصدقت تلك المرأة الجريئة حيث إنّها لمّا دخلت على معاوية راحت تقرأ

ص: 246


1- اللهوف : ص22 .
2- راجع الإرشاد : ج2 ص43 - 42 .

سورة النصر المباركة قائلة : بسم اللَّه الرحمن الرحيم «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ )يخرجون( فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً» .

فاستوقفها معاوية قائلاً : ويلك لم تنزل هكذا ..

فقالت له : كيف نزلت إذن ؟

فقال : يدخلون في دين اللَّه أفواجاً .

فقالت له : هذا في زمن الرسول صلى الله عليه وآله ، أمّا الآن وفي زمانك فإنّهم يخرجون من دين اللَّه .. اتّق اللَّه يامعاوية في عباده وبلاده .

ومن أمثال هؤلاء الذين يخرجون الناس من دين اللَّه أفواجاً كان الحجّاج بن يوسف الثقفي الذي كان يبحث عن رجل صالح يتقرّب إلى اللَّه بدمه ، فقتل الذي قتل إلى أن باء بإثم العبد الصالح سعيد بن جبير - رحمة اللَّه عليه - .

وأمثال هؤلاء كثير في تاريخ الحكّام السابقين للاُمّة الإسلامية .

وصدق الشاعر حيث قال :

قضاة زماننا أضحوا لصوصاً

عموماً في البريّة لا قصوصا

تصوّر أنّهم لو صافحونا

لاسلّوا من خواتمنا الفصوصا

فكيف إذن نصادقهم ، أو نهادنهم ، أو نتولّاهم ونحبّهم ؟

هؤلاء لا يمكن أبداً ، ولا يصح عند العقلاء ، وأصحاب الغيرة والحميّة من المؤمنين الذين يلتزمون بأوامر اللَّه - عزّوجلّ - أن يتّخذونهم أولياء من دون اللَّه والمؤمنين .

ومهما يكن فلا يجب علينا أن نجعل للَّه علينا حجّة واضحة ليعذّبنا من أجلها .

فالحجّة البالغة للَّه - تعالى - يوم الحساب وليس لأحد حجّة عليه أبداً ، ولكن

ص: 247

من يتولّى الكافرين ، ويفضّلهم على المؤمنين في تعاملهم ، فسوف يعطي المبرّر الواضح لكي يعذّبه اللَّه .

وعذابه يكون من جنس ونوع عذاب المنافقين - والعياذ باللَّه - الذين هم في الدرك الأسفل من النار .

نستجير باللَّه من غضبه ، ونلوذ برضاه ورضا رسوله صلى الله عليه وآله ورضا إخوتنا المؤمنين .

ص: 248

28- الوفاء بالعقود

اشارة

(28) - «ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ »(سورة المائدة : 1)

في رحاب المفردات

أوفوا : وفي بعهده يفي وفاءً وأوفى إذا تمّم العهد ولم ينقض حفظه ، قال تعالى : «وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ(1).

بالعقود : العقد هو الجَمْعُ بين أطراف الشي ء ويستعمل ذلك في الأجسام الصُلبة كعقد الحبل وعقد البناء ثمّ يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع والعهد وغيرهما فيقال عاقدته وعقدته وتعاقدنا وعقدت يمينه ، قال تعالى : «عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ(2).

بهيمة : البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البرّ والبحر . وقال الزجاج : كل

ص: 249


1- سورة البقرة (2) : الآية 40) مفردات الراغب : ص565 .
2- سورة النساء (4) : الآية 33) مفردات الراغب : ص353 .

حي لا يميز فهو بهيمة ، وإنّما سمّيت بهيمة ، لأنّها أبهمت عن أن تميّز(1).

حُرُم : الحُرُم الحرام الممنوع منه إمّا بتسخير إلهي وإمّا بمنع قهري وإمّا بمنع من جهة العقل أو من جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره ... ومنه قوله رجل حرام وحلال ومحُلٌ ومحرم(2).

شأن النزول

أخرج العلّامة الهندي عبيداللَّه بسمل امرتسري في كتابه الكبير )أرجح المطالب في عدّ مناقب أسد اللَّه الغالب علي بن أبي طالب( عن ابن عباس قال : ((ما أنزل اللَّه «ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي أميرها وشريفها ولقد عاتب اللَّه أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وما ذكر عليّاً إلّا بخير))(3).

عبر من الآية

على الرغم أنّ مثل هذا النداء ربما يكون شاملاً لجميع الناس إلّا أنّ المؤمنين هم المستفيدون منه في الدنيا والآخرة ، لذلك كان هذا التخصيص لهم بالنداء الربّاني بأن ((أوفوا بالعقود)) فياترى ما هي العقود التي أمرنا اللَّه - سبحانه - بأن نفي بها ؟

الجواب عليه : العقود هي كل التزام وميثاق بين جانبين .. والجمع الوارد محلّى

ص: 250


1- لسان العرب : مادّة بهم .
2- مفردات الراغب : ص114 - 113 .
3- أرجح المطالب : ص51 .

ب ((ال)) فيفيد )العموم( لأنه غير مخصص أو مقيّد بشي ء - كما يقول الاُصوليون - وبإطلاق هذا الجمع نجد أنه يشمل :

1 - العقد بين الخالق والمخلوق .. أي بين العبد وربّه ، فقد قال تعالى في الآية الكريمة : «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ(1)« وقال عزّ من قائل : «أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(2)« وقال : «إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى(3)« و «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي(4)« ففي هذه الآيات الكريمة الواضحة وضوح الشمس تطرح مسألة العقد المبرم بين الخالق والمخلوق ..

حيث تكفّل الخالق بإيجاد الرزق والقدرة والموت والحياة ، وتكفّل المخلوق بالعبادة فقط وهذا عقد من العقود وعهد من أكرم العهود .

2 - المعاهدات الدولية )هي عقود بين الدول تتّفق عليها الدول ضمن شرائط خاصّة .

3 - عقود الناس بعضهم مع بعض . كعقد الزواج الذي لا يحلّ إلّا بالطلاق والتفريق ، وعقد البيع ، وعقد الإيجار وما إلى ذلك من المعاملات المتداولة .

علماً أنّ المراجع الكرام وأهل العلم والافتاء ، والفقه والأحكام استفادوا من إطلاق هذه الآية المباركة وعمومها قاعدة فقهية كلّية وهي : أنّ جميع العقود الجديدة ممضاة شرعاً )إلّا ما حرّمه الشارع( كعقد التأمين وما شابه ذلك في أيّامنا هذه .

ص: 251


1- سورة يس (36) : الآية 60 .
2- سورة الأنبياء (21) : الآية 92 .
3- سورة الأعراف (7) : الآية 172 .
4- سورة الذاريات (51) : الآية 56 .

حضارية الطرح القرآني

وفي الحقيقة إنّ هذه الآية المباركة وأمثالها في القرآن الكريم هي من الآيات الحضارية جدّاً ، إذ أنّها تشمل وتستوعب الآلاف من المعاملات المتشابكة مالياً ، وتعطي الحكم الشرعي الصحيح لها ، فتراها متجدّدة مع الزمن .

وهذه السمة الأساسية لكتاب اللَّه - القرآن الكريم - حيث إنّه لا تخلقه الأزمان ، بل تجده يتجدّد مع كل شمس وكل قوم ، فيعطيهم ما يحتاجون إليه في مشاكلهم العالقة حلولاً جذرية صحيحة مئة في المئة ، وإلى هذا المعنى يشير أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة له في نهج البلاغة قائلاً : ((ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه ، وشعاعاً لا يظلم ضوؤه ، وفرقاناً لا يخمد برهانه ، وتبياناً لا تهدم أركانه ، وشفاءً لا تخشى أسقامه ، وعزّاً لا تهزم أنصاره .. إلى أن يقول جعله اللَّه ريّاً لعطش العلماء ، وربيعاً لقلوب الفقهاء ، ومحاجّ لطرق الصلحاء ، ودواءً ليس بعده داء))(1).

كما أنّ الآية تشير إلى جانب حاضري مهم جدّاً في الحياة الاجتماعية وهو ((الابقاء بالعقود ، والعهود)) ، لأنه إذا لم يكن هناك وفاء بالعقود ، فلا شكّ أنّ كل شي ء يختل في المعاملات - سواء أكان على مستوى الدول أم المجتمعات أم الأفراد - إذ أنّه لا يعود أحد يطمئن إلى الآخر .

فتقف المبادلات التجارية ، وينهار الاقتصاد ، وتتعطّل المعامل والمصانع والأسواق ، وغيرها .. إذا انعدمت الثقة .

فلا حضارة لمجتمع الحرامية والسرّاق ، ولا تقدّم لمجتمع يسوده النهب

ص: 252


1- نهج البلاغة : خطبة 198 في القرآن الكريم .

والاستيلاء على الأموال والأرزاق بالقوّة ، ولا بناء إذا لم يطمئن العامل والبناء أنّهما سوف يتقاضيان أجراً مقابل جهودهما وعرقهما وتعبهما .. وكذا الحال على الصعيد الاجتماعي ، فالاُسرة لا تستقيم ، إذا لم يف كل من الرجل والمرأة بعقد النكاح ، وضروراته ومبرّراته والتزاماته المعروفة .

فضلاً عن بقية النواحي الحياتية الاُخرى ، فالوفاء فيها ألزم ؟

ماذا عن العقود العبادية ؟

أمّا عن العقود العبادية بين العبد وربّه فهي تسمّى ((عقيدة)) لأنّها تعقد في القلب ولا تنفك إلّا بالموت ، فتأخذ بصاحبها إمّا إلى الجنان ورضا الرحمن إذا كان موفياً بعقوده ، وعهوده مع ربّه ورسوله ، أو تلقي به في حفرة من حفر النيران إذا خان العهود ونقض العقد مع اللَّه ورسوله وأهل البيت عليهم السلام .

فالعقد مع اللَّه أن يوحّده الإنسان ولا يشرك به أحداً ، وأن يعبده حقّ العبادة .

والعقد مع الرسول صلى الله عليه وآله هو إطاعته فيما أمر وسنّ من سنن ، من الأحكام الشرعية المشتملة على الحلال والحرام لأنّ ((حلال محمّد صلى الله عليه وآله حلال أبداً إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة))(1). ولا يخفى أنّ أهمّ شي ء ينبغي الوفاء به مع اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله هو الالتزام بما نصّ عليه القرآن الكريم وأكّد عليه رسوله العظيم وهي مسألة الإمامة والسير على نهج أهل البيت عليهم السلام .

ففي الحديث عن أبي جعفر(عليه السلام) في قوله تعالى : «وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً(2)« قال : ((يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير

ص: 253


1- الكافي : ج1 ص58 ح19 .
2- سورة الجنّ (72) : الآية 16 .

المؤمنين والأوصياء من ولده عليهم السلام وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماءً غدقاً ، يقول : لاشربنا قلوبهم الإيمان ، والطريقة هي الإيمان بولاية علي والأوصياء))(1).

وعن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبداللَّه(عليه السلام) عن قول اللَّه عزّوجلّ : «الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا »فقال أبو عبداللَّه(عليه السلام) : ((استقاموا على الأئمّة واحد بعد واحد «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(2).

والعقود بين الخلق هي ما تحدّثنا عليه آنفاً بشي ء من الإجمال .

التعبّد بأحكام اللَّه تعالى

وبعد ذلك تنتقل الآية المباركة إلى الحديث عن بعض القضايا التعبّدية مثل :

1 - حلّية بهائم الأنعام المستفاد من قوله : «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ(3)« أي أنّ اللَّه - سبحانه - أحلّ لكم ذبح وأكل لحوم بعض البهائم المعروفة ((كالغنم ، والبقر ، والإبل)) وهي نعم إلهية تفضّل عليكم بها من أجل استخدامها في الأعمال المجهدة والتقوّت بها عند الجوع وألمه .

فهذه الرخصة هي من أعظم النعم الإلهية على الخلق فعلاً ، ولولا ذلك لكانت المعيشة البشرية في ضنك شديد ، إذ أنّ القيمة الغذائية للحوم عالية جدّاً ، وربما لا

ص: 254


1- الكافي : ج1 ص220 ح1 .
2- سورة فصّلت (41) : الآية 30) الكافي : ج1 ص220 ح2 .
3- سورة المائدة (5) : الآية 1 .

يستغني الجسم عن بعضها .

2 - بعد إحلال بهيمة الأنعام جاء استثناء لبعض الحيوانات حيث قال تعالى : «إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ(1)« أي نصّ القرآن الكريم على تحريمه كالقردة والخنازير والسبع والكلاب والجوارح .. وغيرها ، فهذه كلّها محرّمة قطعاً .

وكذلك هناك بعض المحرّمات في الذبيحة نفسها أشار إليها القرآن في قوله سبحانه : «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ» وكذلك المنخنقة والنطيحة والمتردّية ، وسائر المحرّمات السبعة في الذبائح الموضّحة في كتب الفقه ، فعن عذافر قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام) لِمَ حرّم اللَّه الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر ؟

فقال : ((إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يحرّم ذلك على عباده ، وأحلّ لهم ما سوى ذلك ، من رغبة فبما أحلّ لهم ، ولا زهد فيما حرّم عليهم ، ولكنّه عزّوجلّ خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحلّه لهم وأباحه ، وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه ، ثمّ أحلّه للمضطر في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به ، فأحلّه له بقدر البُلغة لا غير ذلك . ثم قال(عليه السلام) : أمّا الميتة ، فإنه لم ينل أحد منها إلّا ضعف بدنه ، واُوهنت قوّته ، وانقطع نسله ، ولا يموت آكل الميتة إلّا فجأة .

وأمّا الدم ، فإنّه يورث أكله الماء الأصفر ، ويورث الكَلَب(2) وقساوة القلب ، وقلّة الرأفة والرحمة ، ثم لا يؤمن على حميمه ، ولا يؤمن على من صحبه . وأمّا لحم الخنزير ، فإنّ اللَّه تبارك وتعالى مَسَخَ قوماً في صور شتّى مثل الخنزير والقرد والدبّ ، ثم نهى عن أكل مثله ، لكيلا ينتفع بها ولا يستخفّ بعقوبتها . وأمّا الخمر ، فإنّه حرّمها

ص: 255


1- سورة المائدة (5) : الآية 1 .
2- الكَلَب : مرض شبيه بالجنون .

لفعلها وفسادها))(1).

ومن جانب آخر فإنّ هناك بعض الموارد التي تحرم فيها الصيد والذبح أشار إليها قوله تعالى : «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ(2)« أي عندما تكونوا في الإحرام فلا يجوز لكم الصيد أو الذبح أو أي شي ء آخر من هذا القبيل .

وهناك موارد كثيرة جدّاً ومتشعّبة جدّاً في هذا المجال والقصة المشهورة عن الإمام محمد الجواد(عليه السلام) في مجلس المأمون خير شاهد على ذلك وهي :

لمّا أراد المأمون أن يزوّج الإمام الجواد(عليه السلام) ابنته اُمّ الفضل ، استنكر العبّاسيون منه ذلك أشدّ الاستنكار ، واعترضوا عليه اعتراضاً شديداً ، خوفاً من انتقال الخلافة إلى بني فاطمة عليهم السلام .

فاجتمعوا إليه وناشدوه في أن يصرف النظر عن هذا الأمر ، فأصرّ المأمون على ذلك فقالوا له : إنّ هذا الفتى )حيث كان الإمام في ريعان الفتوة والشباب( وإن راقك منه هدية ، فإنّه صبي لا معرفة له ولا فقه ، فأمهله ليتأدّب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك .

فقال لهم : ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم ، إنّ أهل هذا البيت علمهم من اللَّه تعالى لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يثبت لكم به ذلك .

فقالوا : رضينا بذلك ، فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شي ء من فقه الشريعة ، فإن أصاب لم يكن لنا اعتراض ، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه ، أما إنّ عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب منه .. فرضي المأمون

ص: 256


1- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص346 - 345 ح4215 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 1 .

بذلك .

فاجتمع رأيهم على يحيى بن أكثم قاضي قضاة الديار الإسلامية في ذاك العهد ، على أن يسأل الإمام الجواد(عليه السلام) عن المسائل الغامضة في الفقه الإسلامي ، وبالفعل لمّا حان الموعد واجتمع الناس ، وجاء الإمام الجواد(عليه السلام) وحضر ابن أكثم ، وجلس يحيى بين يديه والمأمون بجانب الإمام(عليه السلام) يهيمن على المجلس ، التفت ابن أكثم إلى المأمون وقال :

يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة ؟ فقال المأمون : استأذنه في ذلك .. فأقبل عليه يحيى قائلاً : جعلت فداك ، تأذن لي في المسألة ؟

فقال أبو جعفر(عليه السلام) : سَلْ ما شئت .

قال يحيى : ما تقول - جعلت فداك - في محرم قتل صيداً ؟

فقال الإمام أبو جعفر(عليه السلام) : قتله في حل أو حرم ؟

عالماً كان المحرم أو جاهلاً ؟ - قتله عمداً أو خطأً - حرّاً كان المحرم أم عبداً ؟

صغيراً كان أو كبيراً ؟

مبتدأً بالقتل أو معيداً ؟

من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها ؟

من صغار الصيد أم من كبارها ؟

مصرّاً على ما فعل أو نادماً ؟

في الليل كان قتل الصيد أو في النهار ؟

محرماً كان بالعمرة إذ قتله ، أم بالحجّ كان محرماً ؟

فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ، ولجّ حتى عرف الحاضرون أمره .

ص: 257

فقال المأمون : الحمد للَّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي . ثم توجّه إلى أهل بيته فقال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟

ثمّ أقبل على أبي جعفر(عليه السلام) وقال له : أتخطب ياأبا جعفر ؟ فقال : نعم ، فقال له المأمون : اخطب لنفسك قد رضيت لنفسي وأنا مزوّجك ((اُمّ الفضل)) إبنتي .

فقام الإمام الجواد(عليه السلام) وخطب من المأمون ابنته فزوّجه إيّاها بقصّة مشهورة في كتب التاريخ(1).

ص: 258


1- الإرشاد : ج2 ص284 - 283 .

29- إحياء الشعائر الإسلامية

اشارة

(29) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»

(سورة المائدة : 2)

في رحاب المفردات

شعائر : مشاعر الحجّ معالمه الظاهرة للحواس والواحد مشعر ويقال شعائر

ص: 259

الحجّ والواحد شعيرة ، قال تعالى : «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ(1).

آمّين : الأم القصد المستقيم وهو التوجّه نحو مقصود وعلى ذلك «آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ(2).

يجرمنّكم : أجرم صار ذا جرم نحو أثمر وأتمر وألبن ، واستعير ذلك لكل اكتساب مكروه ولا يكاد يقال في عامّة كلامهم للكيّس المحمود ومصدره جرم(3).

الشنآن : هو شنئته تقذّرته بغضاً له . ومنه اشتقّ أَزد شنوءة وقوله : ((شنآ قوم)) أي بغضهم وقُرئ شنآنُ فمن خفّف أراد بغيض قوم ومن ثقّل جعله مصدراً ومنه «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ(4).

شأن النزول

قال الإمام الباقر(عليه السلام) : نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له : الحطم . وقال السدي : أقبل الحطم بن هندي البكري ، حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وحده ، وخلّف خيله خارج المدينة .

فقال : إلى ما تدعو ؟

ص: 260


1- سورة الحجّ (22) : الآية 269) مفردات الراغب : ص269 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 2) مفردات الراغب : ص20 .
3- مفردات الراغب : ص89 .
4- سورة الكوثر (108) : الآية 3) مفردات الراغب : ص274 .

وقد كان النبي صلى الله عليه وآله قال لأصحابه : يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة يتكلّم بلسان شيطان .

فأجابه النبي صلى الله عليه وآله فقال : انظرني لعلّي أسلم ، ولي من اُشاوره .

فخرج من عنده فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بعقب غادر .

فمرّ بسرح من سروح المدينة ، فساقه وانطلق به ، وهو يرتجز ويقول :

قد لفّها الليل بسوّاق حُطم

ليس براعي إبلٍ ولا غنم

ثمّ أقبل من عام قابل حاجّاً ، قد قلّد هدياً ، فأراد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الآية «وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ(1)«.

عبر من الآية

اللَّه .. اللَّه .. ما أجمل هذا النداء ، وأعظم هذا الكتاب المبين .

ففي كل آية من آياته المباركة تفتح للإنسان أبواب واسعة من المحال أن يجدها في أي كتاب آخر ...

نعم ، فليس القرآن كتاب قصص وحكايات كما يذهب البعض ، ولا هو كتاب ألغاز وطلاسم كما يتخيّل الكثير ممّن لا علم لهم ...

وليس هو كتاب فقه وأحكام وحسب ، بل هو كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ ، والهادي الذي لا يضلّ ،

ص: 261


1- مجمع البيان : ج6 مج3 ص264 .

والمحدّث الذي لا يكذب . وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة في هدى ، أو نقصان من عمى . واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن فاقةٍ ، ولا لأحد قبل القرآن من غنى ، فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء : وهو الكفر والنفاق ، والغي والضلال ، فسألوا اللَّه به ، وتوجّهوا إليه بحبّه ، ولا تسألوا به خلقه ، إنّه ما توجّه العباد إلى اللَّه تعالى بمثله . واعلموا أنّه شافع مشفّع ، وقائل )ماحل( مصدّق ، وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه ، ومن مَحَلَ به القرآن يوم القيامة صُدّق عليه ، فإنّه ينادي منادٍ يوم القيامة : ((ألا إنّ كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله ، غير حَرَثة القرآن)) فكونوا من حرثته وأتباعه ، واستدلّوه على ربّكم ، واستنصحوه على أنفسكم ، واتّهموا عليه آراءكم ، واستغشوا فيه أهواءكم))(1).

أحيوا شعائر اللَّه تعالى

ومن الشواهد التي تدلّ على عظمة القرآن هي هذه الآية المليئة بالدروس والعبر ... فمن الدروس المفيدة التي يمكن استفادتها من هذه الآية الكريمة هو : أنّ الاُمور المرتبطة به تعالى أو كل ما يدلّ ويشير إلى اللَّه سبحانه ينبغي احيائه والاهتمام به بشكل بالغ خاصّة الإعلام التي تكون ظاهرة وصريحة في دلالتها على عظمة دين الإسلام الحنيف .

فقد ذكر الشيخ الطبرسي ثمانية معانٍ للشعائر إلّا أنّ المستفاد من جميعها هو أنّ الشعائر : هي الأمر المرتبط بشي ء كأنّه من علائمه ومزاياه .. فشعائر الحجّ هي الاُمور

ص: 262


1- نهج البلاغة: خ176 في فضل القرآن.

المربوطة به .. وشعائر اللَّه هي الاُمور المرتبطة باللَّه ولعلّ اشتقاقها من الشعر ، بمعنى الشعور كأنّه يشعر بالشي ء ، أو من الشعر بمعنى ما ينبت من الإنسان .

كأنّ الشعيرة تلازم الشي ء ، تلازم الشعر أو تلازم الشعار - الذي هو الثوب الذي على الجسد مقابل الدثار الذي هو الثوب الفوقاني - لبدن الإنسان .

وحيث إنّ الشعائر في الآية مطلقة ، فهي تشمل كل شي ء كان أو أصبح من الاُمور المرتبطة باللَّه ، ممّا لم ينه عنه .. فمعالم الحجّ من الشعائر ، كما أنّ تشييد القباب على أضرحة الأئمّة الطاهرين عليهم السلام يعدّ من الشعائر .

والمراد من عدم إحلال الشعائر ، هو خرق حرمات اللَّه .

حفظ الشعائر الحسينية

ولا يخفى أنّ الشعائر الحسينية هي من أعظم الشعائر المرشدة إلى اللَّه والحافظة لدينه القويم ، فبناء الحسينيات ، وإقامة مجالس العزاء ، واللطم والضرب على الرؤوس والصدور .. وما شابه من الاُمور والقضايا التي تذكّر الخلق بيوم استشهاد سيد شباب أهل الجنّة مع ثلّة من أقربائه وأصحابه البررة الكرام هي من أقدس وأعظم أنواع تعظيم شعائر اللَّه ، فلولا صمود الحسين وشهادته المأساوية لم يبق من الإسلام إلّا إسمه .

لذلك - ومن هذا الباب - فإنّ أهل البيت عليهم السلام كثيراً ما كانوا يؤكّدون على إحياء ذكر الحسين(عليه السلام) وذلك بشتّى الطرق والوسائل ، فهذا الإمام الرضا(عليه السلام) يدعو ابن شبيب إلى ذكر الإمام الحسين وإحياء شعائره قائلاً : ((يابن شبيب إن بكيت على الحسين(عليه السلام) حتى تصير دموعك على خديك غفر اللَّه لك كل ذنب أذنبته ، صغيراً

ص: 263

كان أو كبيراً ، قليلاً أو كثيراً . يابن شبيب ، إن سرّك أن تسكن الغُرف المبنيّة في الجنّة مع النبي وآله صلوات اللَّه عليهم ، فالعن قتلة الحسين(عليه السلام) . يابن شبيب ، إن سرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين(عليه السلام) فقل متى ما ذكرته : ياليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً . يابن شبيب ، إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجنان فاحزن لحزننا ، وافرح لفرحنا ، وعليك بولايتنا ، فلو أنّ رجلاً تولّى حجراً لحشره اللَّه معه يوم القيامة))(1).

وعن أبي عُمارة المنشد ، عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : قال لي : ((ياأبا عمارة أنشدني في الحسين بن علي(عليه السلام) . قال : فأنشدته ، فبكى ثم أنشدته فبكى ، قال : فواللَّه ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار . قال : فقال لي : ياأبا عمار ، من أنشد في الحسين بن علي(عليه السلام) فأبكى خمسين فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرين فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين فبكى فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنّة))(2).

لذا فمن المفترض على المسلمين قاطبة أن يحيوا شعائر الحسين(عليه السلام) بشتّى الطرق ولا يتوانوا عنها لحظة إذ أنّ في ذلك ضياع عقيدتهم الإسلامية .

ص: 264


1- أمالي الصدوق : المجلس 27 ح5 .
2- عيون أخبار الرضا : ج1 ص300 - 299 ح58 .

شمولية موضوع الشعائر

إنّ الشعائر موضوع ، وحيث إنّ الشارع المقدّس لم يحدّده تحديداً معيّناً ، أو يقيّده بإطار محدّد ، فيقتضي ذلك أن نرجع فيه إلى العرف ، أي أنّه كلّما صدق عليه )شعائر اللَّه( عرفاً فهو داخل في هذا الموضوع حتماً .

وهذا يعني أنّ كل موضوع لم يتدخّل فيه الشارع بالزيادة والنقصان ، ولم يحدّده أو يقيّده ، فهو متروك إلى العرف مثل ((الماء مطهّر)) فما معنى الماء ؟ وهل المياه الكبريتية ماء مطهّر ؟ ففي أشباه ذلك يرجع فيها إلى العرف العام .

وعليه فإنّ مناسك الحجّ تعتبر من شعائر اللَّه تعالى .. وكذلك الحسينيات والمساجد والقباب والأضرحة المبنية على قبور الأئمّة المعصومين عليهم السلام بلا فرق بين قديمها وحديثها ، كما أنّ تعظيم أضرحة أولياء اللَّه وأئمّة المسلمين واجبة كذلك فإنّ إعادة بناء ما هدم منها خلال الأعوام السابقة لا سيّما في البقيع الفرقد الذي يعدّ روضة من رياض الجنّة ، حيث إنّ فيها قبوراً لرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللَّه وإقامة الصلاة .

الملفت للانتباه أنّ الآية المباركة - في الأخير تدعو المؤمنين إلى مسألة في غاية الأهمية وهو - قوله تعالى : «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ(1)«.

أي لا يحملنكم بغض القوم الكافرين أو المشركين أو الأعداء كافّة ، وكراهيتهم وحقدهم ، على أن يجعلوكم تنتهكوا شعائر اللَّه ، وتعتدوا على حدوده التي حدّدها لكم فتنقلبوا خاسرين .

ومع الأسف الشديد فإنّنا اليوم جعلنا شنآن الأقوام كلّها والأعداء من أكبر

ص: 265


1- سورة المائدة (5) : الآية 2 .

الأسباب لضرب الشعائر الإلهية فراح البعض يحطّمونها شعيرة تلو شعيرة حسب الطلب والعياذ باللَّه .

ومن جانب آخر أخذت الآية المباركة في نهايتها تؤكّد على التعاون على الخيرات )البرّ والتقوى( وعدم التعاون على الإثم والعدوان لأنّ بالاُولى حياة المجتمع وسعادة الإنسان وفي الثانية فسادهما معاً .

ص: 266

30- الإسلام والطهارة

اشارة

(30) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »(سورة المائدة : 6)

في رحاب المفردات

جنباً : الجنب قال الراغب في مفرداته «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا(1)« أي إن

ص: 267


1- سورة المائدة (5) : الآية 6 .

أصابتكم الجنابة وذلك بإنزال الماء أو بالتقاء الختانين . وقد جَنُب وأجنب واجتنب وتجنّب وسمّيت الجنابة بذلك لكونها سبباً لتجنّب الصلاة في حكم الشرعي(1).

شأن النزول

أخرج العلّامة الحنفي الشيخ محمّد الصبّان في إسعاف الراغبين عن الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ما أنزل اللَّه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي أميرها وشريفها ولقد عاتب اللَّه أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله في غير مكان وما ذكر علياً إلّا بخير(2).

عبر من الآية

تتضمّن هذه الآية أمراً عبادياً بحتاً ، وهو مقدّمة الصلاة . علماً أنّ توجّه النداء إلى المؤمنين بالخصوص إنّما هو لفائدة خاصّة بهم حيث إنّ الفائدة لهم ، فإنّ الوضوء هو من الاُمور المهمّة التي كثر الجدال حولها ، واختلفت طوائف الاُمّة بها بين غاسل وماسح .

لذلك كان على المؤمنين أن يتّخذوا ما جاء في كتاب اللَّه ، ولا يؤّلونه أو يجتهدون عليه ، أو يفضلون عليه سنّة أحد ، لأنّ المشرّع هو اللَّه وليس فلاناً ولا فلاناً من الناس ، فالعبادة للَّه وكما يريد - تعالى - لا كما يريد الشخص ذاته أو الخليفة

ص: 268


1- مفردات الراغب : ص98 .
2- إسعاف الراغبين )بهامش نور الأبصار( : ص161 .

الكذائي .

لا أبداً فالمؤمنون ، يؤمنون باللَّه ، ويخصّونه بالطاعة ولا يشركون بعبادة ربّهم أحداً .

أمّا غيرهم من الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كلّ ناعق فتأخذهم الأسماء وتبهرهم الألقاب ، ويخدعهم أصحاب العمائم واللحى الطويلة ، فيديرونهم كيفما يشاؤون دون أي تعقّل وتفكير ، فهم ليسوا بحاجة لذلك ما دام لديهم من يفكّر عنهم ، ويعطيهم الآراء - فاسدة أم صالحة - فأعطوا إلى عقولهم وقلوبهم وضمائرهم إجازة طويلة ربما استغرقت عمر الإنسان كلّه حتى حين تأتيه سكرة الموت .

آنذاك وبعد فوات الأوان تجده يتضرّع قائلاً : ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت .

ولكن هيهات فقد بعدت الشقة ،

الملفت للانتباه أنّه مع وضوح الآية المباركة وصراحتها ولكن للأسف الشديد فإنّ الكثيرين من هذه الاُمّة تغافلوا عنها وأخذوا يهاجمون سائر المذاهب الاُخرى دون أن يتأمّلوا في مواردها المهمّة .

فموارد الآية أربعة أعضاء هي :

1 - اثنين مغسولين - الوجه واليدين إلى المرافق - .

2 - واثنين ممسوحين - الرأس والرجلين إلى الكعبين - .

فياترى من أين جاءت بقية الاجتهادات ؟ فإن كانت من المندوبات والمستحبات ، نقول نعم ولكن بشرط أن نفعل الواجب أوّلاً ونتقيّد به ، وفيما بعد نجتهد ما نشاء ، لا أن نجتهد على كتاب اللَّه الكريم .

وإن كانت من الواجبات - كما يتوهم الكثير من الطوائف الإسلامية - فالعمل

ص: 269

باطل بلا أدنى شك في ذلك لأنه : لا اجتهاد في مورد النص . وهنا النص قرآني فلا مجال للتأويل أبداً .

ومما يضحك الثكلى فعلاً في هذا المجال ، هو أنّك لا تقرأ هذه الآية المباركة على أحد من العوام إلّا ويقول لك : إنّ عبارة ((وأرجلكم)) معطوفة على ((أيديكم إلى المرافق)) والمعطوف على المغسول مغسول مثله .

يقول لك ذلك : وهو لا يعلم من اللغة العربية شيئاً ، ولا يميّز الفاعل من المفعول ، ولا الاسم من الفعل ، ولا كليهما من الحرف ، وما معنى العطف وما هي حروف العطف ، ومتى يعطف البعيد على القريب ؟

فهو لا يعرف شيئاً ، وربما لا يعرف حتى القراءة والكتابة ، فمن أين حفظ هذا العطف لست أدري ؟

ومع هذا العطف الواضح إلّا أنّ البعض عندما تناقشه في ذلك تجده يأوّل ذلك ويجادل ويناقش في أوضح الواضحات .

حوار حول الحقيقة

ففي أحد الأيّام كنت أتحدّث عن هذه الآية المباركة ، فقال لي أحدهم ، ياأخي إنّ الآية فيها حرف عطف .

فقلت له : أي عطف ؟ وأي نوع من العطف ؟

فقال : الواو حرف عطف تعطف الأرجل على اليدين ؟

فقلت : لماذا لا تعطفها على الرأس ، فالعطف على الأقرب أوجب ، والواو تفيد الترتيب إلى حدّ ما .. أليس كذلك ؟

فقال : أنا لا أعرف .

ص: 270

فقلت : هل تجيد القراءة ؟ فقال : لا كثيراً .

فقلت : هل تعرف شيئاً من قواعد اللغة العربية ؟ فقال : ولا شي ء أبداً .

فقلت له : يارجل .. لا تعرف شيئاً في اللغة العربية ، وتميّز بين عطف وعطف ، وتأتي لتتحدّث عن اللغة العربية وتفسّر القرآن على هواك .

فقال : ياأخي أنا لا أعرف شيئاً ولكن هكذا علّمنا الشيخ .

فقلت له : لم يستطع الشيخ أن يعلّمكم الصحيح فأفسد عليكم دينكم . ولكن ياأخي إنّ اللَّه سبحانه لم ينزل كتابه ويجعل فيه ألغازاً ونكات إعرابية - وفي مثل هذا الموضع بالذات حيث يضيع الاُمّة في أهم مسألة وهي الوضوء المقدّسة للصلاة الواجبة - لا تضيع الاُمّة .

فهل إنّه تعالى بحاجة إلى أن يفعل ذلك والحال أنّ الدين دين يسر ، والقرآن كتاب سهل يفهمه كل أحد إذا أخذه بسهولة وعذوبة كما يأخذ ماء الغدير ، أو يشتمّ عبق النسيم ؟

فاللَّه سبحانه لو أراد الغسل للرجلين لقدّمه وقال «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» فهل هذا السياق خاطئ أو ينقصه شي ء من الدقّة والبلاغة ؟

أم إنّه سهل التناول ولا يحتاج إلى شرح من أحد ؟

وتابعت قائلاً : ياأخي إنّ اللَّه كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً ، فأوضح تمام الوضوح أنّ أعضاء الوضوء أربعة - إثنين مغسولين ، وإثنين ممسوحين - وبيّن في سياق الآية الكريمة عند الحديث على التيمّم أنّ المغسولين مسحهما والممسوحين عفاهما .

لأنّ الأخف بدرجة استعمل هاهنا ، فالأخف من الغسل هو المسح ، والأخف

ص: 271

من المسح الترك والإعفاء وانتهت القضية ، فلست بحاجة إلى أن توقع نفسك في مطبّات ومتاهات لا تستطيع الخروج منها واللَّه سبحانه يقول في الآية المباركة نفسها : «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ(1)«.

وأنت بكلامك هذا تقع في حرج عظيم ، أليس كذلك ؟

فقال : واللَّه صحيح ياأخي .. ولكن لماذا قال لنا الشيخ هكذا ؟

فقلت : ياأخي لأنّ الشيخ يأبى أن يقول الحقيقة - إذا كان يعرفها - لأنّها تمسّ أحد رؤوس الصحابة الأجلّاء عنده ، ويعتقد إذا مسّ هذا الصحابي فلربما خرج من الدين الإسلامي نهائياً .

أمّا إذا غيّر واجباً إلهيّاً ، أو مقدّمة لواجب عظيم كالصلاة ، ويجعل الناس في متاهات طويلة لا أوّل لها ولا آخر فهذا غير مهمّ .

فقال : ومن هذا الصحابي الذي ذكرت وما علاقته ؟

فقلت : هو عثمان بن عفان لأنّه هو أوّل من غيّر الوضوء من المسح إلى الغسل ، وذلك بعد ستّة أعوام من خلافته .

تحريف وضوء النبي صلى الله عليه وآله

أمّا كيف حصل ذلك التحريف فقد كان كالتالي :

1 - لا شكّ أنّ وضوء النبي صلى الله عليه وآله يوافق كتاب اللَّه - سبحانه - بالحرف دون زيادة أو نقصان وكذلك بالنسبة لوضوء أهل البيت عليهم السلام وهو الذي جاء على لسان سيدنا علي بن أبي طالب(عليه السلام) .

فقد نقل الشيخ نجم الدين العسكري حديثاً أخرجه أحمد في مسنده عن أبي

ص: 272


1- سورة المائدة (5) : الآية 6 .

مطر قال :

بينما نحن جلوس مع أمير المؤمنين علي في المسجد ، على باب الرحمة ، جاء رجل فقال : أرني وضوء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله - وكان الوقت عند الزوال - فدعا قنبراً فقال : ائتني بكوز من الماء ...

فغسل كفّيه ووجهه ، وغسل ذراعيه ، ومسح رأسه واحدة ، ورجليه إلى الكعبين .. ثمّ قال : أين السائل عن وضوء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كذا كان وضوء نبي اللَّه(1).

وعن حمّاد بن عثمان قال : كنت قاعداً عند أبي عبداللَّه(عليه السلام) فدعا بماء .. فملأ به كفّه فعمّ به وجهه .. ثم ملأ كفّه فعمّ به يده اليمنى .. ثم ملأ كفّه فعمّ به يده اليسرى .. ثم مسح على رأسه ورجليه ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث حدثاً يعني به التعدّي في الوضوء(2).

نعم ، فقد كان الوضوء على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بهذه الكيفية بل وحتّى في عهد الخليفة الأول والثاني وخلال ستّ سنوات من خلافة عثمان بن عفان الذي غيّر الكثير من سياسات وسنن الشيخين في النصف الثاني من إمارته وحتّى ثار الناس ضدّه وهذا ما يمكن الإطّلاع عليه من خلال كتاب أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : إلى بعضهم البعض ، حيث قالوا :

((أن أقدموا ، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد ، كثر الناس على عثمان ، ونالوا منه أقبح ما ينال من أحد ، وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يرون ويسمعون وليس فيهم أحد ينهى ولا يذبّ))(3).

ص: 273


1- مسند أحمد : ج1 ص158 - 108 .
2- الكافي : ج3 ص27 ح8 .
3- تاريخ الطبري : ج4 ص336 .

وعلى أيّة حال فإنّ أخبار المسح صدرت حتّى من الخليفة عثمان الذي ابتدع سنّة الغسل خلال السنوات الست الأوائل من خلافته . أمّا أخبار الغسل فإنّها صدرت في الأعوام الست الأخيرة التي رماه الأصحاب فيها بالإحداث والإبداع(1).

فعن ابن دارة قال : دخلت عليه - يعني عثمان - منزله فسمعني وأنا أتمضمض ، فقال : يامحمّد .. قلت : لبّيك .

قال : ألا اُحدّثك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله . قلت : بلى .

قال : رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله اُتي بماء وهو عند المقاعد ، فمضمض ثلاثاً ، ونثر ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً ، وذراعيه ثلاث ثلاثاً ، ومسح رأسه ثلاثاً ، وغسل قدميه ثلاثاً ثلاثاً .. ثم قال : هكذا وضوء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أحببت أن أريكموه(2).

وعن حمران قال : دعا عثمان بماء فتوضّأ . ثم ضحك .

فقال : ألا تسألوني ممّن أضحك ؟

فقالوا : ياأمير المؤمنين ، ما أضحكك ؟

قال : رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله توضّأ كما توضّأت ، فمضمض ، واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثاً ، ويديه ثلاثاً ، ومسح برأسه ، وطهّر قدميه(3).

وهناك أكثر من حديث عن عثمان بهذا الخصوص وكلّها تؤكّد على غسل القدمين ثلاثاً - خلافاً لكتاب اللَّه وسنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسيرة الشيخين .

الملفت للانتباه أنّ البعض أخذ يوجّه هذا الغسل قائلاً : لكي تطهر الأعضاء المغسولة وقد غاب عنه أنّ من شرائط الوضوء طهارتها قبل الشروع .

ص: 274


1- وضوء النبي : ص69 .
2- سنن الدارقطني : ج1 ص91 ح300 .
3- كنز العمال : ج9 ص436 .

أمّا الإحتجاج بأنّ الصحابة لهم منزلتهم الخاصّة فيرد عليه بأنّ حديث المسح أشار إليه القرآن الكريم ، وصرّح به كل من رسوله ، وأمير المؤمنين(عليه السلام) ، وكبار الصحابة والتابعين وحديث الغسل إنفرد به كل من عثمان بن عفان ، وعبداللَّه بن عمر ابن العاص ، وعبداللَّه بن زيد بن عاصم ، والرُبيع بنت معوّذ .

وبالنتيجة فإنّ كل الدلائل والمؤشّرات في نزاع الوضوء تقودنا إلى أنّ المخالفين لاجتهاد عثمان هم من أعظم الصحابة وفقهاء الإسلام ، وليس فيهم من هو أقل من الخليفة الثالث من حيث الفقه والعلم ، والحرص على تقويم المجتمع والمحافظة على معالم الدين الإسلامي من أيدي التحريف والتخليط واللبس .. كما أنّهم ليسوا من عامّة الناس المكثرين من الأغلاط ، وغير المتفقّهين في الدين ، وهم ليسوا من متأخّري الإسلام من الصحابة الذين لم يعيشوا طويلاً مع النبي صلى الله عليه وآله بل العكس هو الصحيح .

إذ أنّهم على قدر من الجلالة والعظمة ، يجلّون معها عن أن يحتاجوا إلى من يقومهم ويشرف على ما رأوه ورووه عن النبي صلى الله عليه وآله(1).

بحث في مفردات الآية

وهناك نقطة اُخرى توهّمها المخالفون لسنّة أهل البيت عليهم السلام وسيرة شيعتهم المباركة ، حيث إنّهم يرون الغسل )إلى( المرافق ، ونحن الشيعة نغسل ((من)) المرافق إلى الأصابع ، فظنّوا أنّنا نخالف القرآن الحكيم .

وللجواب عليه نقول : إنّ حرف الجرّ ((إلى)) يأتي على وجهين :

1 - أن تكون لبيان حدّ الغسل : أي بين اُسلوب الغسل وشروعه ونهايته ..

ص: 275


1- لمزيد من الإطّلاع راجع كتاب وضوء النبي - صلّى اللَّه عليه وآله - للشهرستاني : ص47 .

كأن يقول : سر إلى البصرة .

أي أنّ مدينة البصرة يجب أن تكون منتهى مسيرك .

2 - وقد تكون لبيان )حدّ المغسول).

أي تبيّن المنطقة التي يجب أن تغسل )والآية أتت بهذا المورد).

فعندما نقول : اغسل يديك ، قد يتوهم الإنسان أنّ المراد بذلك )إلى الزند( أو اليد كلّها حتى .

فتقول الآية : لا .. بل حدّ المغسول هو المرفق فقط .

ولبيان القضية نمثّل بمثال من أرض الواقع ، فلو قلت للدهّان أو الصبّاغ : ادهن الغرفة إلى متر .. فهل معنى ذلك أن يبدأ من الأسفل إلى الأعلى ؟

أو أنّ مرادك إنّ هذه المنطقة يجب أن تدهن أمّا ما فوقها فلا يدهن .. أليس كذلك ؟

أمّا كيفية الشروع بالدهان والصبغ فلم نتطرق إليها في أثناء الكلام أبداً .

وكذلك إذا قالت السيّدة للخادمة : اغسلي رجل الطفلة إلى ركبتها .. فهل يستفاد من هذا الكلام أن تضع الطفلة تحت الماء وتغسل قدميها وتصعد إلى الركبة ؟

فهذا لا يمكن وغير منطقي أبداً .

والآية المباركة كذلك ، فهي لا تذهب إلى حيث أرادوا في اجتهاداتهم - المخالفة لها - بل هي كما بيّنها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وآله الأطهار عليهم السلام .

فلا يعلم تأويل وتفسير القرآن إلّا عدله فأين تذهبون ؟

ص: 276

31- العدل في الشهادة

اشارة

(31) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للَّهِِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ »(سورة المائدة : 8)

في رحاب المفردات

قوّامين : القيام على أضرب : قيام بالشخص إمّا بتسخير أو اختيار ، وقيام للشي ء والحفظ له ، وقيام هو على العزم على الشي ء .. ومن المراعاة للشي ء قوله : «كُونُوا قَوَّامِينَ للَّهِِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ(1).

شهداء : الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إمّا بالبصر أو بالبصيرة وقد يقال للحضور مفرداً ... والشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر(2).

اتّقوا : الوقاية حفظ الشي ء ممّا يؤذيه ويضرّه ، يقال وقيت الشي ء أقيه وقاية

ص: 277


1- سورة المائدة (5) : الآية 8) مفردات الراغب : ص432 - 431 .
2- مفردات الراغب : ص275 - 274 .

ووقاءً ... والتقوى جعل النفس في وقاية ممّا يخاف ، هذا تحقيقه ، ثمّ يسمّى الخوف تارة تقوى ، والتقوى خوفاً حسب تسمية مقتضى الشي ء بمقتضيه والمقتضي بمقتضاه ، وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عمّا يؤثم(1).

شأن النزول

روى الحافظ الأصفهاني أبو نعيم في حليته عن ابن عباس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه قال : ((ما أنزل اللَّه آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها))(2).

عبر من الآية

عندما يتأمّل الإنسان في عظمة هذه الآية الكريمة ويتمعّن في دقائقها يجد أنّها مليئة بالدروس والعبر المفيدة التي تفيد الإنسان لآخرته ودنياه . فمن أهمّ هذه الدروس المهمّة التي يمكن استفادتها من هذه الآية المباركة هو :

أ( - أنّ كل أوقات الإنسان يجب أن تكون مستثمرة بشكل جيّد ، فالقيام والقعود ، والعمل والراحة ، والحركة والنشاط يجب أن يكون لأجل اللَّه وفي سبيله تعالى لا لأي شي ء آخر أبداً ، لا الهوى والمزاج والشهوة ..

فكل عمل يقوم به العبد المؤمن ، ينبغي أنّ يكون هدفه فيه هو الامتثال لأمر

ص: 278


1- مفردات الراغب : ص568 .
2- حلية الأولياء : ج1 ص64 .

اللَّه تعالى ونهيه ، بحيث يتقرّب بالطاعات ويبتعد عن المحرّمات ويحتاط في الشبهات ، ويتلذّذ بالخيرات ، ويكون دأبه الحثيث باتّجاه رضا الخالق تعالى .

ولذا فإنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) وصف حالات مثل هؤلاء الناس فقال : ((فهم والجنّة كمن رآها فهم فيها منّعمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون ، قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة . صبروا أيّاماً قليلة أعقبتهم راحة طويلة تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم ، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وأسّرتهم ففدوا أنفسهم منها))(1).

فعلى الإنسان المؤمن أن يستشعر الوجود الإلهي ، والمراقبة الإلهية له في كل سكناته وحركاته وحتى همساته وخلجات صدره ، وليكن همّه في أن يرضي ربّه ولا يأبه فيمن سواه من الخلق .. وإلى ذلك يشير الإمام الصادق (عليه السلام) في وصيته لإسحاق ابن عمّار فقال : ((ياإسحاق خف اللَّه كأنّك تراه وإن كنت لا تراه فإنّه يراك ، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت ، وإن كنت تعلم أنّه يراك ثمّ برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك))(2).

وقد أشار الإمام الحسين(عليه السلام) إلى هذا المطلب في دعائه العظيم الذي قرأه يوم عرفة فقال : ((متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك عميت عين لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً))(3).

ص: 279


1- نهج البلاغة : خ193 يصف فيها المتّقين .
2- الكافي : ج2 ص67 ح2 .
3- الإقبال : ص349 .

ب( - الشهادة بالقسط :

والعدل : هو إعطاء كل ذي حق حقّه ، وهو من صفات اللَّه سبحانه وتعالى ومن أسمائه النورانية الشريفة إذ أنه لا يظلم أحداً حتى أنّ هناك أحاديث كثيرة جدّاً في هذا الباب وبعضها يؤكّد على أنّ العدل هو من العلل الغائية للوجود الإنساني .

فضمن أسئلة توجّه إلى المعصوم(عليه السلام) لماذا خلق اللَّه الخلق ؟ فقال(عليه السلام) : ليعرف قدره .

ولماذا أماتهم ؟ فقال(عليه السلام) : لتعرف قدرته .

ولما ينشرهم ؟ فقال(عليه السلام) : ليعرف عدله .

إذ أنّه لا يعرف العدل إلّا بالتساوي بين العمل والجزاء ، فالذي يعطي أجراً بمقدار العمل المعطى فهذا عادلاً والذي يحيف يكون ظالماً والذي يتفضّل زيادة يكون محسناً .

والأمر كالميزان تماماً .. فالذي يعطيك عند الشراء حتى يتساوى كفّي الميزان يكون قد أعطاك حقّك تماماً .. والذي ينقصه يكون قد سرقك ، وأمّا الذي يزيد عليه يكون قد تفضّل وأحسن إليك .

وقد عبّر اللَّه سبحانه وتعالى عن يوم القيامة بأنّه : «نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ(1)«.

والعدل في مدرسة أهل البيت عليهم السلام يعدّ أصلاً من اُصول الدين الإسلامي الحنيف ، وهذا يعني أنّ من لم يعتقد به يخرج من دائرة الإسلام .

وفي هذه الآية الكريمة خصّ سبحانه ذكر العدل لدى الشهادة فقط - مع أنّ العدالة مطلوبة في كل شي ء - لأنّ مراعاة العدالة بالشهادة على الخصوص مشكلة

ص: 280


1- سورة الأنبياء (21) : الآية 47 .

اجتماعية ودينية ، وذلك لأنّ هناك العديد من العوامل الضاغطة على الإنسان في هذا المجال الحسّاس .

فإنّ مثل المصالح الشخصية والميل إلى الأقارب والأصدقاء ، والنفرة الشديدة من الأعداء فضلاً عن الشهوات والمصالح المادّية كلّها تحدو الإنسان إلى شهادة الزور .

ج( - إنّ الآية المباركة تعطينا درساً رائعاً في اُسلوب التعامل الاجتماعي ، والمعالجة الصالحة لمثل هذه القضية فتقول «لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(1)«.

أي عليك أن لا تأخذك العداوات والحقد والبغضاء على أن لا تعدل بالشهادة فتشهد مع الظالم ضدّ المظلوم ، ويكون دافعك في ذلك توجيه ضربة - حسب ظنّك - إلى عدوّك عن طريق غيرك من خلال شهادتك .

فالتشفّي ذاك الدافع القوي ، الذي يدفع بالإنسان الضعيف إلى أن يستغلّ مسألة وقوع العدو في مشكلة .. وهذا هو المنهي عنه في الشريعة الإسلامية .

المتّقون وشهادة الحقّ

وفي الختام راحت تؤكّد الآية المباركة على التقوى وأنّ العدل في الشهادة للتقوى حيث إنّ الإنسان المتّقي عادةً ما لا تخدعه الشهوات والميولات ولا تحرّكه الضغائن والأحقاد إلى الإجحاف والجور على العدو وذلك من خلال شهادة الزور وما شابه ، بل إنّ المتّقي يقرّ بالحقّ ولو كان على نفسه ، ففي الحديث الشريف عن علي ابن سويد قال : قلت لأبي الحسن الماضي(عليه السلام) : يشهدني هؤلاء على اخواني ؟ قال :

ص: 281


1- سورة المائدة (5) : الآية 8 .

((نعم أقم الشهادة لهم ، وإن خفت على أخيك ضرراً))(1).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) في قوله تعالى : «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا(2) قال : لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى الشهادة ليشهد عليها أن يقول : لا أشهد لكم عليها))(3).

وعن محمد بن الفضيل ، عن أبي الحسن(عليه السلام) في قوله اللَّه عزّوجلّ : «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا(4)« فقال : ((إذا دعاك الرجل لتشهد له على دَين أو حقّ لم ينبغ لك أن تقاعس عنه))(5).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) في قوله تعالى : «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا(6) قال : من كان في عنقه شهادة فلا يأب إذا دعي لإقامتها ، وليقمها ، ولينصح فيها ، ولا تأخذه فيها لومة لائم ، وليأمر بالمعروف ، ولينه عن المنكر(7).

ص: 282


1- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص71 ح3359 .
2- «(( - سورة البقرة (2) : الآية 282 .
3- تهذيب الأحكام : ج6 ص275 ح751 .
4- سورة البقرة (2) : الآية 282 .
5- تهذيب الأحكام : ج6 ص276 ح754 .
6- «(( - سورة البقرة (2) : الآية 282 .
7- وسائل الشيعة : ج27 ص314 ح33821 .

32- حفظ حياة القائد

اشارة

(32) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ »(سورة المائدة : 11)

في رحاب المفردات

همّ : الهمُّ ما هممت به في نفسك ... قال تعالى : «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا(1) وأهمّني كذا أي حملني على أن أهمّ به(2).

يبسطوا : بسط الشي ء نشره وتوسّعه ، فتارةً يتصوّر منه الأمران وتارة يتصوّر منه أحدهما ويقال بسط الثوب نشره ، ومنه البساط وذلك اسم لكل مبسوط(3).

فكفّ : كففته أصبته بالكفّ ودفعته بها . وتُعورف الكفُّ بالدفع على أي وجه كان بالكفّ كان أو غيرها حتّى قيل رجل مكفوف لمن قبض بصره(4).

ص: 283


1- «(( - سورة يوسف (12) : الآية 24 .
2- مفردات الراغب : ص543 .
3- مفردات الراغب : ص43 .
4- مفردات الراغب : ص450 .

شأن النزول

أخرج العلّامة الهندي عبيداللَّه بسمل امرتسري في كتابه الكبير )أرجح المطالب في عدّ مناقب أسد اللَّه الغالب علي بن أبي طالب( عن ابن عباس قال : ((ما أنزل اللَّه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي أميرها وشريفها ولقد عاتب اللَّه أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وما ذكر علياً إلّا بخير))(1).

عبر من الآية

نداء خاصّ بالمؤمنين حين كانوا في بداية دعوتهم إلى اللَّه تعالى في المدينة المنوّرة بأنّ نعم اللَّه سبحانه لا تعدّ ولا تحصى ، ولا يعلم حجمها إلّا خالقها ، وهو سبحانه يقول : «إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا(2)«.

ومن أعظم تلك النعم هما نعمة الأمن والاطمئنان بالنسبة للأفراد ، والهدوء والاستقرار بالنسبة إلى المجتمعات ، فالذين لا ينعمون بالأمن والاستقرار تراهم في ضيق من العيش فلا يقرّ لهم قرار ، ولا يهنؤون برغد أو نوم أبداً .

وكل النعم هي فضل وتفضّل من اللَّه - سبحانه - ولكن لابدّ من أسباب ومسبّبات لبعضها البعض وقد تتدخّل المعجزة الإلهية كإنزال ((المائدة)) إلى سيدنا عيسى المسيح(عليه السلام) ، أو الموائد إلى اُمّه الصدّيقة الطاهرة ((مريم العذراء عليها السلام)) حيث كانت تتعبّد في المحراب .. وهكذا .

ص: 284


1- أرجح المطالب : ص51 .
2- سورة النحل (16) : الآية 18 .

ومن أهمّ النعم على المؤمنين هو حفظ السماء لرسول الإنسانية من جميع المخطّطات الشيطانية الرامية إلى الفضاء على حياته المباركة .

نعم ، فإنّ محاولات الاغتيال التي تعرّض لها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أكثر من أن تحصى ، سواء في مكّة المكرّمة ، أو المدينة المنوّرة ، من قبل اليهود ، أو المشركين أو الأعراب أو أجلاف مكّة وغيرهم .

فكم حاول المشركون اغتيال الرسول صلى الله عليه وآله ولكن اللَّه - سبحانه - جعل كيدهم في نحرهم في كل مرّة ، حيث كان ينقلب السحر على الساحر ، ويفوز رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بفضيلة جديدة ومعجزة مبيّنة ليزداد نجمه تألّقاً ، وينتشر عنه عبق النبوّة بالمعجزات .

وقد تتساءل عزيزي القارئ قائلاً : لماذا إذن يمنّ اللَّه - سبحانه - على المؤمنين بأن أنقذ رسوله الكريم صلى الله عليه وآله ؟ ولماذا جعلها نعمة ؟

الجواب : لأنّ القائد ضرورة تاريخية وحتمية ملحّة .

والاُمّة بدون قائد لا قيمة لها مهما بلغت من علوّ الشأن ، وسموّ الرفعة ، وتراكم الثروة ، وكثرة العدد .. فكلّ هذا دون القائد يكون كغثاء السيل الذي لا يمكث حتّى يذهب جفاء .

فحفظ حياة القائد ، هو حفظ لحياة الاُمّة الإسلامية كلّها .

وحيث إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كان المحور الذي يدور حوله المسلمون ، وهو صلى الله عليه وآله قطب الرحى في حياتهم العامّة والخاصّة - وهو بالحقيقة قطب دائرة الوجود كلّها - كان ضرورياً لهم حفظه لأنّه بالنسبة لهم كالهواء الذي يتنفّسونه أو كالماء الذي يشربونه ، إذ أنّه ليس لهم خلاص إلّا به .

ونحن لو لاحظنا الظروف والأوضاع التي كانت سائدة في بداية الدعوة الإسلامية ، لوجدنا أنّ استمرار هذا الدين ، وبقائه هو من أكبر المعجزات الإلهية

ص: 285

للبشرية جمعاء ، إذ أنّ ذلك ما كان يتم إلّا بلطف وعناية ربّانية محضة .

فالمسلمون آنذاك كانوا أقلّية صغيرة جدّاً لا يتجاوز عددهم عن عدد الأصابع ، والمنطقة التي يعيشون فيها كانت فاقدة لأبسط مقوّمات الحضارة - المادية والمعنوية - فضلاً عن ذلك فإنّهم كانوا محاطين بسيل من الأعداء الألدّاء والأشدّاء في آنٍ معاً .

فالفرس ومن تابعهم من الشرق .. والروم ومن ناصرهم من الشمال .. والمشركون يحدقون بهم ويعيشون بينهم .. كذلك اليهود ومكرهم وخبثهم ودهائهم وأموالهم الطائلة ومكائدهم المتتالية .. هذا بالاضافة إلى جيش المنافقين الذين كانوا يعيشون معهم ويدّعون أنّهم منهم وما إلى ذلك .

من جانب آخر فإنّ هؤلاء الأعداء كانوا مجهزين بالكثير من مقوّمات الحضارة والقوّة المادية والبشرية ، فضلاً عن الخبرات العسكرية والسياسية والاقتصادية ، والأسلحة المتطورة ، والامبراطوريات القائمة والحكومات القوية .

فالفرس في ذاك العصر كانوا أصحاب حضارة عظيمة وقوية .

والروم كذلك كانوا يمتلكون امبراطورية قوية وشديدة وكانت تقف موقف الندّ من الفرس .

بل حتى مشركي العرب ، وقبائل الجزيرة كانت لهم ارتباطاتهم وأحلافهم التي تجعل منهم قوّة لا يستهان بها أبداً ، ولولا ذلك لغزيت بلادهم واحتلّت من قبل الأقوياء - الفرس أو الروم - .

أمّا المسلمون - في ذاك المحيط - فهم لا يملكون أي شي ء من حطام الدنيا .

وهنا تتجلّى إرادة يد اللَّه وقدرته ، حيث كفّ هذه الأيدي القوية ، وهدم تلك الامبراطوريات الجبّارة ، وصدّهم جميعاً عن المسلمين وعن نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وجعل

ص: 286

هذا الدين يستمرّ وسط كل هذه التحدّيات ورغم كل هذه العقبات الكأداء .

بل قويت دولة المسلمين عليهم وحطّمتهم وجعلتهم يرضخون إلى الحقّ ، ويلتحق السعيد من أبنائهم بالدين الإسلامي الجديد .. وما القصة المروية في كتب السيرة العطرة لرسول اللَّه محمّد صلى الله عليه وآله لمّا كانوا يحفرون الخندق حول المدينة المنوّرة قبل غزوة الخندق إلّا كشاهد صدق على ذلك .

وذلك بأن كشفوا عن صخرة عظيمة وقوية ولم يستطيعوا تحطيمها ، فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله المعول وراح يضرب الصخرة .

فضرب أوّل ضربة فقدحت الصخرة ناراً فقال صلى الله عليه وآله : اللَّه اكبر . لقد رأيت قصور الحيرة ومدائن كسرى .

وفي الثانية قال : اللَّه اكبر . لقد رأيت قصور الحمر من أرض الروم .

وفي الثالثة قال : اللَّه اكبر لقد أضاءت لي قصور صنعاء(1).

وهذا الذي كان بالفعل - وكانت معجزة لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله - إذ أنّ الجيوش الإسلامية فتحت تلك البقاع المذكورة وأكثر منها بكثير بفضل اللَّه ومنّته .

الملفت للانتباه أنّ القرآن الكريم يعبّر عن ذلك ب ((النعمة)) ، وهي من أكبر النعم قاطبة .. إذ أنّه أيّة نعمة هي أعظم من نعمة الإيمان والهداية ؟

وإذا كانت النعم المادية نعماً - مع محدوديّتها - فكيف بهذه النعم المعنوية التي تضمن للإنسان سعادة الدنيا والآخرة .

إذ أنّ نعمة الإيمان ، إذا عاضدتها الأعمال الصالحة ، والتوفيقات الإلهية ، وعزّزها التوكّل على اللَّه في كل الاتجاهات ، فتكون النعمة الإلهية من أعظم الأعمال

ص: 287


1- بحار الأنوار : ج17 ص170 ، مع اختلاف في بعض العبارات .

الحافظة للإنسان من المعاصي والمحرّمات .

وكل ذلك يتم بالتوكّل على اللَّه - لأنّه تعالى ينجّي من اتّقاه - والتوكّل هي صفة ملازمة للمؤمنين دائماً وأبداً .

ولذا فإنّ اللَّه تعالى يقول : «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(1)«.

ص: 288


1- سورة المائدة (5) : الآية 11 .

33- مشروعية التوسّل في القرآن

اشارة

(33) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »(سورة المائدة : 35)

في رحاب المفردات

اتّقوا : الوقاية حفظ الشي ء ممّا يؤذيه ويضرّه ، يقال وقيت الشي ء أقيه وقاية ووقاءً ، قال : «وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(1).

الوسيلة : الوسيلة التوصّل إلى الشي ء برغبة وهي أخصّ من الوصيلة لتضمّنها لمعنى الرغبة(2).

ص: 289


1- سورة الدخان (44) : الآية 56) مفردات الراغب : ص568 .
2- مفردات الراغب : ص561 - 560 .

شأن النزول

روى الحافظ الحاكم الحسكاني )الحنفي( قال : أخبرنا أبو بكر الحارثي عن العوام ، عن مجاهد قال : ((كل شي ء في القرآن «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فإنّ لعلي سبقه وفضله))(1).

عبر من الآية

إحدى الأسئلة المهمّة التي كانت وما زالت محطّ أنظار الكثير من المسلمين هو : ما هو المراد من الوسيلة في قوله تعالى : «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» .

والجواب عليه إنّ الوسيلة هي الوصلة والقربى ، وجمعها الوسائل ، قال اللَّه تعالى : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ(2)«.

وقال الجوهري : الوسيلة ما يتقرّب به إلى الغير(3).

وربما كانت الوسيلة بمعنى الطريقة المقرّبة للمؤمنين إلى غايتهم العظمى وهي الاتّصال بذات اللَّه تعالى ، فياترى ما هي الطريقة إليه عزّوجلّ ؟

ومن هم - بلغة أدق - الطريق إلى اللَّه ؟ وما علاقتهم بالتقوى .. والجهاد في سبيله .. والفلاح ؟

مقدّمة نقول إنّ التوسّل : هو غير الوسيلة .. بل هو مصداق من مصاديقها

ص: 290


1- شواهد التنزيل : ج1 ص54 .
2- سورة الإسراء (17) : الآية 57 .
3- لسان العرب : مادّة وسل .

ومشتقّاتها .

لأنّ التوسّل : هو ضرب من الدعاء الملحّ على اللَّه في أن يقرب الداعي إليه ، وقد يقدّم بين يدي دعائه وسيلة من الوسائل المرضية لديه سبحانه .

وفي التوسّل : وقع خلاف عظيم بين فصائل ومذاهب الدين الإسلامي الحنيف لا سيّما في الفترة الأخيرة من هذا القرن ، وذلك بعد بزوغ بعض الفرق المكفّرة للمسلمين التي جعلت التوسّل ضرباً من الشرك - بل هو الشرك بعينه - بدل أن يجعلوه ضرباً من الدعاء .

وقد اختلقوا أحاديث ما سبقهم إليها أحد وتأوّلوا آيات ما أنزل اللَّه بها من سلطان ولم يسمع بها النبي صلى الله عليه وآله ، ولم تخطر على بال حتى كعب الأحبار ومن لفّ لفّه ، من اليهود والمنافقين الأوّلين في زمن الدعوة المباركة .

فرأوا أنّ التوسّل بالصالحين هو نوع من أنواع الشرك .. وحتى الأنبياء والأولياء فليس لهم أي حرمة عندهم .

معنى الشرك الحقيقي

في واقع الأمر إنّ الشرك باللَّه هو أن نجعل معه غيره .. أي أن يكون في )عرض( اللَّه تعالى .

ولتقريب الفكرة نمثّل بمثال - ولا نقاش في الأمثال طبعاً - وهو إذا كان لبلدة ما أميرين مستقلّين منفصلين ، كل منهما مستقل في أمره ونهيه )فهذه مشاركة حقيقية بالحكم).

أمّا لو اتّخذت البلدة .. )أميراً( واتّخذوا له )وليّاً للعهد( وكان ولي العهد خاضعاً

ص: 291

تمام الخضوع للأمير وليس له أي استقلالية بإصدار الأوامر في البلد دون إذنه .. بل هو يعيّن وينصب ، ويصبح مع الأمير كظلّه في كل شي ء ، فهل هذا يعدّ إشراكاً لولي العهد مع الأمير ؟

قطعاً لا .. لأنّ الأمير أمير ، وذاك صار بأمر من الأمير ولي عهد ومتى يريد عزله كان له ذلك وبجرّة قلم - كما يقولون - وكما هو معروف ، فولي العهد - في هذه الحالة - يعتبر )امتداداً( للأمير ومعاوناً ويداً .. لا )ندّاً( معادياً له .

أمّا الشرك والشريك : فهو اتّخاذ )الندّ).. لا اعتبار )الامتداد( للشي ء .

وفي هذه الآية المباركة نجد قوله تعالى «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ(1)«.

فهذه الوسيلة المبتغاة ليست مستقلّة في الفاعلية والتأثير ، بل هي وسيلة وطريقة إلى اللَّه تعالى يسلكها ويستقيم عليها من يريد الوصل إلى ساحة قربه عزّوجلّ فلا شرك في القضية إطلاقاً .

وهذا أشبه ما يكون بأن يسألك أحد أين الطريق إلى مكّة .. فتقول له : اتّبع هذا الطريق في الخريطة مستخدماً السيارة حتى توصلك إلى مكّة المكرّمة .

وما نحن فيه كذلك .. فالمؤمنون يريدون الوصول إلى اللَّه .. فعليهم استعمال خريطة التقوى وما تحتويه من الطاعات التزاماً والمعاصي اجتناباً .. وبالطبع هذا كلّه لا يفيد إلّا إذا عرف الإنسان )الوسيلة الموصلة( أي )الطرق الموصلة إلى اللَّه).

فعندما تعرف الطريق ، وتجاهد ، وتتّقي ، فلا شك أنّك ستصل إلى الجنّة وهذا هو الفلاح الذي ليس بعده فلاح .. لأنه كما قال تعالى : «مَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ

ص: 292


1- سورة المائدة (5) : الآية 35 .

الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ(1)«.

والسؤال المهم الذي يطرح هنا هو : مَن هم الوسيلة إلى اللَّه ؟

الجواب : إنّ القرآن الكريم يحدّثنا أنّ الأنبياء عليهم السلام هم من أهم الوسائل إلى اللَّه تعالى ، وما الحديث عن قصّة يوسف(عليه السلام) وإخوته وأبيه ألا من أوضح الواضحات في الباب ، إذ أنّ إخوة يوسف(عليه السلام) بعد أن عرفوا أخوهم يوسف عادوا إلى أبيهم تائبين طالبين المغفرة فقالوا له :

«يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا(2)« ولم يستنكر ذلك منهم نبي اللَّه يعقوب ويقول لهم : اصمتوا هذا شرك ، بل قال لهم : «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي(3)«.

ونبي اللَّه موسى الكليم(عليه السلام) كان يستعين بالعصا هو وقومه كذلك .

وأمّا نبي اللَّه عيسى(عليه السلام) فقد كانوا يستشفون بالتمسّح بمهده الشريف .

كما أنّ رسولنا الأعظم محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه وآله هو من أعظم الوسائل والطرق إلى اللَّه سبحانه وتعالى إذ قال سبحانه : «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً(4)«.

وقال سبحانه : «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(5)«.

فرسول اللَّه صلى الله عليه وآله هو رحمة مهداة إلى الكون كلّه ، وإلى الخلق كلّهم ، وإلى بني

ص: 293


1- سورة آل عمران (3) : الآية 185 .
2- (2( (عليه السلام(() - سورة يوسف (12) : الآية 97 .
3- سورة يوسف (12) : الآية 98 .
4- سورة النساء (4) : الآية 64 .
5- سورة الأنفال (8) : الآية 33 .

البشر من العقلاء خاصّة ، فهو السبيل الأقوم والطريق الأسلم للوصول إلى اللَّه تعالى .

حديث الوسيلة

وقد روى السيّد البحراني في البرهان في هذا المضمار حديث أسماه حديث الوسيلة وهو مروي عن أبي سعيد الخدري حيث قال :

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إذا سألتم اللَّه فأسألوا لي الوسيلة .

فسألنا النبي صلى الله عليه وآله عن الوسيلة .

فقال : هي درجتي في الجنّة .

وهي ألف مرقاة ، ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس الجواد شهراً وهي ما بين المرقاة جوهر إلى مرقاة زبرجد إلى مرقاة ياقوت إلى مرقاة ذهب إلى مرقاة فضّة فيؤتى بها يوم القيامة حتى تنصب مع درجة النبيين فهي في درج النبيين كالقمر بين الكواكب فلا يبقى يومئذ نبي ولا صدّيق ولا شهيد إلّا قال : طوبى لهذين العبدين ما أكرمهما على اللَّه .

فيأتي النداء من قبل اللَّه - جلّ جلاله - يسمع النبيّون والصدّيقون والشهداء والمؤمنون ، هذا حبيبي محمّد صلى الله عليه وآله ووليي علي(عليه السلام) طوبى لمن أحبّه وويل لمن أبغضه وكذّب عليه .

فلا يبقى يومئذ أحد أحبّك ياعلي إلّا استروح إلى هذا الكلام وأبيض وجهه وفرح قلبه .. ولا يبقى أحد ممّن عاداك أو نصب لك حرباً أو جحد لك حقّاً إلّا اسودّ وجهه واضطربت قدماه .

ص: 294

فبينما أنا كذلك إذا ملكان قد أقبلا إليّ أحدهما رضوان خازن الجنّة ، وأمّا الآخر فمالك خازن النار فيدنو رضوان فيقول : السلام عليك ياأحمد .

فأقول : السلام عليك ياأيّها الملك ، من أنت فما أحسن وجهك وطيب ريحك ؟ فيقول : أنا رضوان خازن الجنّة وهذه مفاتيح الجنّة بعث بها إليك ربّ العزّة ، فخذها ياأحمد .

فأقول : قد قبلت ذلك من ربّي فله الحمد على ما فضّلني به ، ادفعها إلى أخي علي بن أبي طالب(عليه السلام) ثم يرجع رضوان ، فيدنو مالك فيقول : السلام عليك ياأحمد فأقول : السلام عليك أيّها الملك فما أقبح وجهك وأنكر رؤيتك فمن أنت ؟

فيقول : أنا مالك خازن النار وهذه مقاليد النار بعث بها إليك ربّ العزّة فخذها ياأحمد .

فأقول : قد قبلت ذلك من ربّي فله الحمد على ما فضّلني به ادفعها إلى أخي علي بن أبي طالب(عليه السلام) ثم يرجع مالك ويقبل علي ومعه مفاتيح الجنّة ومقاليد النار حتى يقف على عجز جهنّم وقد تطاير شررها ، وعلا زفيرها واشتدّ حرّها وعلي(عليه السلام) أخذ بزمامها فتقول له جهنّم : جزني ياعلي فقد أطفأ نورك لهبي .

فيقول لها علي(عليه السلام) : قرّي ياجهنّم خذي هذا واتركي هذا ، خذي هذا عدوّي واتركي هذا وليي .. فلجهنّم يومئذ أشدّ مطاوعة لعلي فيما يأمرها به من جميع الخلائق))(1).

فهذه هي الوسيلة الحقّة لا كما يظن الجاهلون ، أو الذين هم بربّهم يعدلون ، حيث يقولون : أنّ التوسّل بالوسيلة ، والتقرّب برسول اللَّه صلى الله عليه وآله وبأهل البيت

ص: 295


1- البرهان : ج1 ص470 - 469 .

الأطهار عليهم السلام وبالأولياء والصالحين هو ضرب من الشرك والعياذ باللَّه .

فلابدّ من أجل الوصول إلى اللَّه من وسيلة وطريقة وأمير المؤمنين الإمام علي ابن أبي طالب(عليه السلام) الذي قال في قوله تعالى : «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» ((أنا وسيلته))(1).

ص: 296


1- راجع مناقب آل أبي طالب : ج4 ص431 ، تفسير البرهان : ج1 ص469 .

34- ماذا عن موالاة أهل الكتاب

اشارة

(34) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ »(سورة المائدة : 51)

في رحاب المفردات

تتّخذوا : الأخذ حوز الشي ء وتحصيله .. والاتّخاذ افتعال منه ويُعدّى إلى مفعولين ، ويجري مجرى الجعل نحو قوله : «لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ(1).

أولياء : الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما ، والولي والمولى يستعملان في ذلك كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالي(2).

ص: 297


1- سورة المائدة (5) : الآية 51) مفردات الراغب : ص9 - 8 .
2- مفردات الراغب : ص570 .

شأن النزول

يروي الزهري : أنّه لما إنهزم أهل بدر ، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود : آمنوا قبل أن يصيبكم اللَّه بيوم مثل يوم بدر .

فقال مالك بن ضيف : أغرّكم أن أصبتم رهطاً من قريش ، لا علم لهم بالقتال ، أمّا لو أمرتنا العزيمة أن نستجمع عليكم ، لم يكن لكم يدان بقتالنا !

فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال : يارسول اللَّه! إنّ لي أولياء من اليهود كثيراً عددهم ، قوية أنفسهم ، شديدة شوكتهم ، وإنّي أبرأ إلى اللَّه ورسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلّا اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله .

فقال عبداللَّه بن اُبي : لكنّي لا أبرأ من ولاية اليهود ، لأنّي أخاف الدوائر ، ولابدّ لي منهم .

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ياأبا الحباب! ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة ابن الصامت ، فهو لك دونه .

قال : إذن أقبل .. فأنزل اللَّه الآية .

وهناك قول آخر وهو : لمّا كانت وقعت اُحد ، اشتدّت على طائفة من الناس ، فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي ، وآخذ منه أماناً .

وقال آخر : أنا ألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام ، فآخذ منه أماناً .

فنزلت الآية المباركة(1).

ص: 298


1- مجمع البيان : ج6 مج3 ص355 - 354 .

عبر من الآية

بين الحين والآخر كانت آيات الذكر الحكيم تذكّر المؤمنين وتحذّرهم من مسائل منهاّ : مسألة تولّي المشركين والكفّار أو أهل الكتاب وبالخصوص اليهود والنصارى ، فقد تكرّر مثل هذا التحذير في العديد من المواضع الهامّة ، وقد تناولنا الموضوع أكثر من بحث إلّا أنّ الحديث يطول ، ومكائد الأعداء لها قصص طويلة تستغرق عمر الرسالة كلّها ، وربما تسبقها كذلك .

فالمؤمنون بنصّ القرآن بعضهم أولياء بعض ، كما أنّ الكافرين بعضهم أولياء بعض ، ولا يمكن أن تختلط الاُمور بين الطائفتين إلّا بخسارة أحدهما أمام الآخر .. ولكي لا يخسر المؤمنون دينهم بدنيا اُولئك فقد نهاهم الشارع المقدّس عن تولّي ومصادقة اليهود والنصارى .

وذلك لأنّ طريق الفساد والضلال سهل وسلسل والشيطان ينتظر ويتربّص الفرص لاستغلال أيّة زلّة أو سقطة للمؤمن حتى يستجرّه إليه ويجنّده ضمن جنوده الذين يعملون ليل نهار من أجل تحقيق مخطّطاته العدوانية ضدّ الإنسانية ، ولا يخفى أنّ من أهم حبائله هو الإغراء بالنساء أو الأموال وغيرهما من سائر اُمور الدنيا المتوفّرة وبشكل سهل عند اُولئك الأعداء .

ومن المعروف عن اليهود بالذات أنّهم كانوا - وما زالوا - يستخدمون نساؤهم وأموالهم كأحد أهم وسائل الإغراء لإيقاع المؤمنين في الفساد والفاحشة ، أو السحت والحرام وكلاهما مخرجة له عن الإيمان .

لذلك فقد جاء النهي الإلهي للمسلمين عامّة - وللمؤمنين خاصّة - من أن يتولّوهم من دون المؤمنين ، حتّى أنزل اللَّه هذه الآية تنهى عن ذلك بهذه الشدّة بأن

ص: 299

جعلت ((من يتولّى منكم ، فإنّه منهم)) أي يقال له : يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك .

ولا يخفى أنّ من يفعل ذلك فهو ظالم لربّه ولدينه ولرسوله ولنفسه وقد قال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(1)«.

فالذي يلجأ من المسلمين إلى اليهود تارةً وإلى النصارى تارةً اُخرى عند مواجهة الأزمات أو لدى بعض المنغّصات في سبيل الدعوة إلى اللَّه ، فهو ليس من اللَّه في شي ء ، لأنه لو آمن قلبه وأيقن بأنّ النصر عند اللَّه وأنّه تعالى ولي الذين آمنوا ، لالتجأ إليه لا إلى عدوّه فيلتمس منه الأمان وما أشبه ذلك .

شواهد من التاريخ الإسلامي

هناك العديد من الشواهد التاريخية التي يستفاد منها ضعف إيمان الذين يوالون أهل الكتاب ، ففي التاريخ أنّ الذين خالفوا رسول اللَّه في معركة اُحد ، وبعد أن وقعت الهزيمة النكراء بدل أن يستميتوا دون رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هربوا كلٌّ باتجاه ، وراحوا يتأسّفون وكل يبحث عن صديق من أجل أن يأخذ له الأمان من علوج قريش كأبي سفيان ومن لفّ لفّه .

ومنهم من ذهب بها عريضاً ، ومنهم من بقي يركض مدّة ثلاثة أيّام متواصلة إلى أن وصل إلى مشارف الشام .. ومنهم من كان ركضه شديداً بحيث إنّ أكعابه كانت تضرب بظهره ..

فأين الشجاعة يامؤمنون ؟

فمهما كانت قوّة الأعداء ، فأنتم أقوى بإيمانكم ويقينكم ، واللَّه هو القوي وذو

ص: 300


1- سورة المائدة (5) : الآية 51 .

القوّة المتين ، فلا تغترّوا ببعض المظاهر الخارجية البرّاقة ، وتأخذكم كثرة الكلام وجعجعة السياسيين والمهرّجين ومسوّقي الإعلان ، ولا حتى أقوال المسؤولين ، فكلّها غثاء كغثاء السيل . ومع الأسف الشديد أنّ هؤلاء المساكين يغفلون أنّ اليهود وغيرهم عندما يفتحون لنا ذراعيهم عند الأزمات فإنّهم في نفس الوقت يحملون بها خناجراً ليطعنوهم بها عندما يقعون في أحضانهم .

الحذر من أعداء اللَّه عزّوجلّ

إذن علينا الانتباه إلى أي دعوة ليّنة من عدوّنا ، أو أيّة بادرة يظهر فيها حسن نيّته فيها فإنّ وراء ذلك أهداف عظيمة ، فمن الممكن جدّاً أن يتّخذ العدو موقفاً دبلوماسياً لصالحنا - ظاهراً - ولكن يجب أن نيقن أنّ محرّكهم لذلك هو مصالحهم الخاصّة .. مضافاً إلى أنّ أحقادهم التاريخية سوف تجعلهم يغدرون بنا - وهذا ديدنهم - في الوقت الحاسم فيكون )ولات حيث مناص).

فقد روى المؤرّخون أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله رفض نصرة (300) نفر من يهود المدينة في معركة اُحد وأرجعهم من وسط الطريق ، لأنه بإرجاعهم تأكّد من خذلانهم أثناء المعركة حيث يكون جيش الإسلام بأحوج ما يكون لهم ، فتراهم يتركون أرض المعركة ويولّوا هاربين ، فيؤثّر ذلك على مجريات المعركة ، وعلى الروح المعنوية للمقاتلين .

فأرجعهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كسباً للوقت ، وللمعركة معاً .

كما أنّ مكائد اليهود في المدينة المنوّرة مشهورة في كتب التاريخ ، فمن بني النضير ، إلى بني القينقاع ، ومن خيبر إلى فدك وما حولها من الحصون اليهودية ، التي كانت تغلق على كفر وحقد ونفاق ، ولا تفتح إلّا مكيدة أو بليّة أو فساد .

ص: 301

والدروس من التاريخ الماضي منه والحاضر كثيرة جدّاً فهم يريدون منّا أن نكون لهم كما يريدون لا كما نريد ولا كما يريد اللَّه سبحانه .

ولذلك فعلينا الحذر الشديد من التعامل مع العدوّ لا سيّما - اليهود والنصارى - وأن نتّقي اللَّه في كل ذلك لئلا تصيبنا اللعنة من اللَّه ورسوله والمؤمنين .. نعوذ باللَّه وبه نستجير .

ص: 302

35- رجال يحبّهم اللَّه

اشارة

(35) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ »(سورة المائدة : 54)

في رحاب المفردات

أذلّة : الذلّ ما كان عن قهر ، يقال ذلّ يذلّ ذُلّاً ، والذلّ ما كان بعد تصعّب ، وشماس من غير قهر ، يقال ذلّ يذُلّ ذلّاً . وقوله تعالى : «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ(1)« أي كُنْ كالمقهور لهما . وقُري ((جناح الذِّلِّ)) أي لن وانقد لهما(2).

أعزّة : العزّة حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب من قولهم أرض عَزازٌ أي

ص: 303


1- سورة الإسراء (17) : الآية 24 .
2- مفردات الراغب : ص183 .

صلبة ، قال : «أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِِ جَمِيعاً(1).

شأن النزول

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : في قوله : «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ »قال : ((علي وشيعته))(2).

وقال الثعلبي في تفسير قوله : «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ(3) الآية . قال : نزلت في علي(4)(عليه السلام).

عبر من الآية

إنّ الذي يتمعّن في القرآن الكريم ويتدبّر في آياته المباركة يجده يوضّح الحقائق الكونية ويستجلي الكثير من خصائصها العامّة لكي لا تكون مبهمة على بني البشر ، فيحتجّون ببعض الحجج أو يتذرّعون ببعض الذرائع التي لا طائل منها .

ص: 304


1- سورة النساء (4) : الآية 139) مفردات الراغب : ص344 .
2- تفسير فرات الكوفي : ص123 ح123 .
3- «(( - سورة المائدة (5) : الآية 54 .
4- العمدة ، ابن البطريق : ص158 ، وراجع كل من : مناقب الخوارزمي : ص16 ح23 ، ذخائر العقبى : في مناقب ذوي القربى : ص67 ، نظم درر السمطين : ص97 ، مجمع الزوائد : ج9 ص105 ، أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب : ص5 ، الخصائص : ص4 ، كفاية الطالب للشنقيطي : ص28 ، الصواعق المحرقة : ص73 ، تذكرة الخواص : ص30 ، منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد : ج5 ص32 ، اُسد الغابة : ج1 ص803 .

وسورة المائدة المباركة - التي نسبح في أنوارها ، ونحيا في أفيائها الوارفة الظلال ، وننهل من معينها الرقراق العذب أحلى وأطيب شرب - هي من أواخر السور التي نزلت في كتاب اللَّه على رسوله الكريم محمّد صلى الله عليه وآله في المدينة المنوّرة . وهي غنيّة بالحديث ، بل إنّها سورة الولاية - بالحقيقة - حيث نزلت فيها مسألة الولاية لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فبلّغ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ذلك للاُمّة جمعاء في الحادثة المشهورة بين المسلمين قاطبة ، وممّا قال صلى الله عليه وآله يوم ذاك بعد أن أخذ بيد الإمام علي(عليه السلام) ورفعها حتّى بان بياض إبطيهما فقال : ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيثما دار)) .

والتفت إلى المسلمين قائلاً .. أأقررتم )أو أشهدتهم( قالوا : بلى .. فقال صلى الله عليه وآله : ((اللهمّ فاشهد ، وليبلّغ الحاضر منكم الغائب)) .

وقد نصب خيمة وأمر كل من حضر آنذاك أن يسلّم على الإمام علي (عليه السلام)بإمرة المؤمنين(1).

ص: 305


1- نقل العلّامة الأميني رحمه الله في كتابه القيّم الغدير حديث الغدير وقال أنّه ورد في كل من : تاريخ بغداد : ج8 ص290 ، تهذيب التهذيب : ج7 ص327 ، مناقب الخوارزمي : ص130 ، أسنى المطالب : ص3 ، الدرّ المنثور للسيوطي : ج2 ص259 ، تاريخ الخلفاء : ص114 ، كنز العمّال : ج6 ص154 ، الاستيعاب : ج2 ص473 ، البداية والنهاية : ج5 ص214 ، نزل الأبرار : ص20 ، اُسد الغابة : ج3 ص307 ، الإصابة : ج3 ص408 ، ينابيع المودّة : ص40 ، سنن ابن ماجه : ج1 ص29 - 28 ، خصائص النسائي : ص16 ، تفسير الطبري : ج3 ص428 ، الرياض النضرة : ج2 ص169 ، الفصول المهمّة : ص25 ، تفسير الفخر : ج3 ص636 ، تفسير النيسابوري : ج6 ص194 ، الجامع الصغير : ج2 ص555 ، مشكاة المصابيح : ص557 ، تفسير روح المعاني : ج2 ص350 ، مستدرك الحاكم : ج3 ص110 ، العمدة لابن بطريق : ص53 ، مجمع الزوائد : ج9 ص106 وغير هؤلاء ممّن ذكرهم العلّامة أنّهم نقلوا حديث الغدير .

الإشارة إلى ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)

وفي هذا النداء المحبّب القوي في منطقه ولهجته هناك شبه تنبيه إلى مسألة في غاية الأهمية ألا وهي مسألة الولاية واختصاصها بالإمام علي بالذات حيث تطرّقت الآية التي تليها مباشرة إلى ذلك فقال عزّ من قائل :

«إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ(1)«.

فقد اتّفقت الاُمّة كلّها أنّ سبب نزول هذه الآية المباركة هو تصدّق أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) بخاتمه وهو راكع إلى اللَّه في المسجد النبوي الشريف .. وليس أحد غيره أبداً(2).

فآية البحث كانت أشبه بجرس قوي لتنبيه الاُمّة إلى ولاية الإمام علي (عليه السلام)ولذلك نجد أنّها ابتدأت بلهجة شديدة حيث قال تعالى : «مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ(3)«.

وبالرغم أنّ النداء للمؤمنين .. إلّا أنّ الخطاب يناديهم بأن يرتدّ عن دينه الحنيف .

فكيف يمكن أن يرتدّ المؤمن المخلص عن دينه ؟

الجواب عليه : لعلّ القضية هنا شبيهة بمسألة الأمر الربّاني للملائكة بالسجود

ص: 306


1- سورة المائدة (5) : الآية 56 - 55 .
2- وللإطّلاع على ذلك راجع كل من : تفسير الطبري ، جامع البيان : ج6 ص289 ، المناقب: ص311 رقم 354 ، شواهد التنزيل : ج1 ص164 و168 رقم 221 و227 ، فرائد السمطين : ب39 ص194 ح153 ، الدرّ المنثور للسيوطي : ج2 ص293 ، نظم درر السمطين للزرندي : ص86 ، التفسير الكبير : ج12 ص26 .
3- سورة المائدة (5) : الآية 54 .

لآدم(عليه السلام) حيث كان الملائكة يتصوّرون أنّ إبليس منهم فانكشف لهم بمخالفته أنّه من الجنّ .

وكذلك ما نحن فيه ، فالآية تنادي المؤمنين حسب الظاهر .. لأنّ الضمائر والقلوب لا يعلم ما بها إلّا خالقها جلّت قدرته ، فكان المسلمون يتعاملون مع بعضهم البعض على أنّهم مؤمنين ، ولذلك جاء حرف الجرّ )من( الذي يفيد التبعيض .. أي إذا ارتدّ بعضاً منكم .. أو البعض .. فإنّ ذلك لن يضرّ اللَّه شيئاً .

لأنه تعالى سوف يستبدلهم باُناس أصحاب مواصفات خاصّة )يحبّهم ويحبّونه( أولاً وقبل كلّ شي ء لأنّ مسألة الحب هي من أعظم المسائل في الحياة .

نعم ، فإنّ الذي يترك دينه وملّته ، لن يضرّ الملّة والدين أبداً ، لأنّ اللَّه لا يخلي دينه من أعوان وأنصار يعتنقونه ويخضعون للَّه تعالى به .

فمسيرة الحقّ ليست مسيرة )شخصية ذاتية( أي أنّها لا تتوقف على شخص أو أشخاص بعينهم ، بحيث إنّ هذا الشخص - أو الأشخاص - إذا ارتدّوا عن الدين ، فسوف ينتهي الدين وكلّ شي ء يتعلّق به .

بل إنّ المسيرة مسيرة )نوعيّة( فهي متقوّية بالنوع - نوع الأشخاص أو الشخصيات المؤمنة والملتزمة بها - وإذا تبدّلت الأفراد أو تغيّرت الأشخاص .

صفات أنصار الدين

وعلى كلٍّ .. فإذا ارتدّ شخص أو بعض الأشخاص ممّن كانوا يعيشون مع المؤمنين أو يدّعون الإيمان .. فإنّ ذلك لن يضرّ بمسيرة الحقّ الإلهي إذ أنّ الدين منصور ومظفّر دائماً وأبداً ، والأشخاص الذين سيأتي بهم اللَّه سبحانه لنصرة دينه لهم مميزات وخواص في القمّة ، فمنها هو :

1 - ((يحبّهم ويحبّونه)) :

أي أنّه ذو صلة بهم فيرحمهم .. وهم على صلة به فيطيعوه ويعبدوه .. ولا

ص: 307

يشركون بعبادته أحداً ، وفي الشعر المنسوب إلى الإمام الصادق(عليه السلام) إشارة إلى ذلك حيث قال(عليه السلام) :

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمرك في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقاً لأطعته

إنّ المحبّ لمن أحبّ مطيع(1)

وبالطبع ينبغي أن يكون الحبّ نابعاً عن معرفة .. بل لا يمكن أن يوجد حب حقيقي بلا معرفة حقّة ، فكلّما كانت المعرفة أكثر كان الحبّ أشدّ ، فإذا توجّه الإنسان إلى عظمة اللَّه تعالى وتأمّل في عظيم ألطافه ونعمه الوافرة عليه ، فلا شك ولا ريب فإنّ حبّه له سيكون أشدّ وكما قال تعالى : «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للَّهِِ(2)«.

لأنّهم أكثر معرفة ، فيكونوا أشدّ حبّاً له جلّت قدرته .

من جانب آخر إذا عرف الإنسان عظمة أحد الأنبياء العظام عليهم السلام أو أحد الأولياء الكرام عليهم السلام أو أحد العبّاد الصالحين فإنّه بلا شك سوف يحبّه ويعظم مسيرته ويجعل منه ومن حياته وكلماته منهاجاً لحياته كلّها .

فما من أحد قرأ عن رسول الإنسانية محمّد صلى الله عليه وآله إلّا وانبهر بشخصيته الفذّة وقد عبّر الكثير منهم عن إعجابه ذاك كمايكل هارث في كتابه المائة الأوائل من العظماء حيث وضع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أوّل شخصية في العالم .

إذن فالحبّ لا يكون جزافاً أو عبطاً بل له منشأ .

فحبّ اللَّه - سبحانه - لعباده المؤمنين لعلمه بهم أكثر من علمهم بأنفسهم .. فهو عالم بحبّهم وإخلاصهم وتقواهم وعملهم لما يرضيه .

فيحبّهم لما يعلمه من صدقهم ، ويغفر لهم خطاياهم ، ويتفضّل عليهم بما لم يخطر على بال أحدهم .

ص: 308


1- وسائل الشيعة : ج15 ص308 ح20596 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 165 .

2 - ((أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين)) :

وفي آية اُخرى «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ(1)« أي أنّهم سهلين ليّنين ، خاضعين متواضعين فيما بينهم ، وفي علاقاتهم الاجتماعية جدّاً متسامحين .

أمّا مع الكفّار فهم غلاظ أشداء عليهم ، لا يرحموهم أبداً .

وقد قال ابن عباس : ((تراحم للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيّده .. وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته))(2).

وقد أوصى الأئمّة الأطهار عليهم السلام المؤمنين بالتراحم والتوادّ ، فعن شعيب العقرقوفي قال : سمعت أبا عبداللَّه(عليه السلام) يقول لأصحابه : ((اتّقوا اللَّه وكونوا إخوة بررة ، متحابين في اللَّه ، متواصلين ، متراحمين))(3).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : (( تواصلوا وتبادروا وتراحموا وكونوا إخوة بررة كما أمركم اللَّه عزّوجلّ))(4).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((يحقّ على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض حتّى تكونوا كما أمركم اللَّه عزّوجلّ «رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» متراحمين))(5).

3 - ((يجاهدون في سبيل اللَّه)) :

فقد قال أمير المؤمنين في خطبة له حول الجهاد :

((فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللَّه لخاصّة أوليائه ، وهو لباس

ص: 309


1- سورة الفتح (48) : الآية 29 .
2- مجمع البيان : ج6 مج3 ص357 .
3- الكافي : ج2 ص175 ح1 .
4- الكافي : ج2 ص175 ح2 .
5- الكافي : ج2 ص175 ح4 .

التقوى ودرع اللَّه الحصينة وجنّته الوثيقة))(1). وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبته الشهيرة في نهج البلاغة : ((والجهاد عزّ الإسلام السامي ، ودرعه الواقي))(2).

وكما في الحديث الشريف أنّ الجهاد في سبيل اللَّه على نوعين حدّدهما رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال صلى الله عليه وآله : ((أهلاً بقوم قضوا الجهاد الأصغر ، وبقي عليهم الجهاد الأكبر)) .

فقالوا : يارسول اللَّه صلى الله عليه وآله وما الجهاد الأكبر ؟

فقال صلى الله عليه وآله : ((جهاد النفس))(3).

فمن غلب نفسه ، فقد انتصر على أعتى أعدائه في الحياة وإلّا فإنّ الشهوات تجرفه إلى الهلاك المحتوم .

4 - لا يخافون لومة لائم .

فإنّ الكثير من الناس ليس عندهم الشجاعة النفسية لتحطيم السنن والعادات والتقاليد الخاطئة في المجتمع ..

بل إنّ الكثير منهم يسقطون في هذه النقطة حيث يخافون الناس ويهابونهم ، ولذا تجدهم يخوضون معهم بالذي هم فيه وإلى ذلك يشير تعالى في قوله : «وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(4)« وفي آية اُخرى قال تعالى : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ(5)«.

فكلّ هذه المقولات فيها مغالطة يجب أن تصحّح باتّجاه الحقّ والعدل إذ أنّ كلام الناس لا ينفد .. ورضاهم غاية لا تدرك .

ص: 310


1- نهج البلاغة : خ27 يستنهض فيها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار .
2- نهج البلاغة : خ27 يستنهض فيها الناس .
3- الكافي : ج5 ص12 ح3 .
4- سورة المدثر (74) : الآية 45 .
5- سورة التوبة (9) : الآية 65 .

36- موالاة أعداء اللَّه

اشارة

(36) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ »(سورة المائدة : 57)

في رحاب المفردات

هزواً : الهُزْء مزح في خفية وقد يقال لما هو كالمزح ، فممّا قصد به المزح قوله : «اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً(1).

لعباً : لَعِبَ فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً يلعب لعباً قال : «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ(2).

ص: 311


1- سورة المائدة (5) : الآية 58) كتاب العين .
2- سورة العنكبوت (29) : الآية 64) مفردات الراغب : الآية 471 .

شأن النزول

ذكر أصحاب التفاسير في أسباب نزول هذه الآية المباركة : أنّ رفاعة بن زيد ابن تابوت وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام ، ثمّ نافقا وكان رجال من المسلمين يوادّونهما(1).

عبر من الآية

تارةً اُخرى يعود القرآن بنا إلى مسألة تولّي الكافرين والولاية للمشركين وأهل الكتاب من يهود ونصارى وغيرهم . ولا يخفى أنّ النهي عن تولّي هؤلاء يعني الاستقلالية في الحياة أوّلاً ، والإحتراز من كيدهم من جهة ثانية .

ففي هذه الآية الشريفة يحذّرنا القرآن الكريم من صنف آخر وينهانا من أن نتّخذهم أولياء ألا وهم «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً(2)« سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من المنافقين أم حتّى من غيرهم ، فإنّ كل من يتّخذ الإسلام ويقابله بالسخرية والاستهزاء - والعياذ باللَّه - فعلى المؤمنين أن يجتنبوه بل ويحاربوه إن استطاعوا ذلك .

ولعلّ البعض يتساءل قائلاً : إذن من يبقى لنا كي نتولّاه ؟ فقد نهتنا الآيات عن تولّي الكثير من الناس ؟ وإذا لاحظنا الحالة الاجتماعية التي فطر عليها الإنسان فإنّ الاجتناب عن كل هؤلاء يصبح صعب جدّاً ، فماذا نصنع ؟ وما هو الحلّ ؟

ص: 312


1- مجمع البيان : ج6 مج3 ص365 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 57 .

للجواب عليه نقول إنّ هناك ضوابط مهمّة بنى الإسلام الحنيف مسألة التولّي عليها ألا وهي مسألة الانتماء الديني والارتباط العقائدي المفترض أن يكون هو المحور الذي يدور حوله المؤمنون وينجذب من خلاله بعضهم إلى الآخر ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(1)« فأيّة رابطة أقوى من هذه ؟

ففي الدين يوجد الترابط القوي ، وفيه حياة الإنسان - كنوع - وسعادته في الدنيا والآخرة على حدّ سواء ، فكيف يمكن للمؤمنين أن يتّخذوا هؤلاء )اليهود والنصارى والكفّار والأعداء( أولياء والحال أنّهم «اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً(2)«. حيث أظهروا الإسلام باللسان - نفاقاً وخوفاً ورياءاً - وأبطنوا الكفر والإلحاد ؟

أو أنّهم اتّخذوكم بالسخرية والهزو واللعب ، فتراهم حيث يقوم المؤمنون إلى الصلاة يتغامزون ويتضاحكون ، وإذا حلّ شهر رمضان المبارك تراهم يتفاخرون بالمعصية ويضحكون على من هم صائمون ، وإذا جاء ذكر الحجّ تراهم يسخرون من اُولئك العباد الذين يتعنّون ويذهبون ليلبّوا دعوة إبراهيم الخليل(عليه السلام) وأمر اللَّه وفرضه .

فيضحكون منهم قائلين : ما أقلّ عقولكم لو صرفتم هذه المصاريف في تحسين أوضاعكم وأوضاع عيالكم ألم يكن أجدر من أن تذهبوا لتعطوها من أجل أعمال لا تغني ولا تشبع من جوع ؟

ص: 313


1- سورة الحجرات (49) : الآية 10 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 57 .

ابن العوجاء يسخر بالحجّاج

الملفت للانتباه أنّ أمثال هؤلاء كثيرون ، فمنذ عهد الإمام الصادق(عليه السلام) كان ابن أبي العوجاء يضحك ويسخر من الحجّاج ، ففي الحديث أنّ أبا العوجاء أتى الإمام الصادق(عليه السلام) فجلس إليه في جماعة من نظرائه ثمّ قال له : ياأبا عبداللَّه إنّ المجالس أمانات ولابدّ لكل من كان به سعال أن يسعل فتأذن لي في الكلام ؟ فقال الإمام الصادق(عليه السلام) : تكلّم بما شئت ، فقال ابن أبي العوجاء : إلى كم تدوسون هذا البيدر وتلوذون بهذا الحجر وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر وتهرلون حوله هرولة البعير إذا نفر من فكّر في هذا أو قدّر علم أنّ هذا فعل أسّسه غير حكيم ولا ذي نظر ، فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك اُسّه ونظامه .

فقال الصادق(عليه السلام) : ((إنّ من أضلّه اللَّه وأعمى قلبه استوخم الحقّ فلم يستعذ به وصار الشيطان وليّه يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره وهذا بيت استعبد اللَّه به خلقه ليختبر طاعتهم في اتّباعه فحثّهم على تعظيمه وزيارته وقد جعله محلّ الأنبياء وقبلة للمصلّين له ، فهو شعبة من رضوانه وطريق تؤدّي إلى غفرانه منصوب على استواء الكمال ومجتمع العظمة والجلال خلقه اللَّه قبل دحو الأرض بألفي عام وأحقّ من اُطيع فيما أمر وانتهى عمّا نهى عنه وزجر اللَّه المنشى ء للأرواح والصور))(1).

فعلى المؤمنين أن يحترسوا ويحرصوا دائماً على عدم الاختلاط حتّى بالكفّار والمشركين من أجل قطع دابر الذين كفروا .. والذين هم بربّهم يعدلون .. إذ أنّه لا يمكن أن تركن إلى إنسان يسخر من مقدّساتك ويضحك منك إذا ما قمت إلى أداء واجباتك الدينية ، لأنّ ذلك يكون توجيه ضربة قويّة للاُسس الاعتقادية الراسخة في

ص: 314


1- بحار الأنوار : ج96 ص29 ح1 .

قلب الإنسان المؤمن .. وهذا ما لا يسمح به لأحد أبداً حتّى لو أدّى ذلك إلى الجهاد حتّى القتل في سبيل اللَّه .

مراعاة ضوابط الإيمان في الصداقة

ومن المسلّمات عند الجميع أنّه لا شي ء يعمّر القلوب بالسعادة والهناء ، ويضاعف من أفراحها - إن كانت مسرورة - ويبدّد من أحزانها ، إن كانت بائسة يائسة .. مثل الصداقة والأصدقاء .

ولا شي ء أجمل وأثمن من الصداقة ، لأنّها أعظم نعم الحياة عند من يفهم الحياة .

ولا شي ء أقوى وأمتن من الصداقة ، لأنّها أرواح متآلفة متكاتفة بالذات .

ولا شي ء يغني عن الأصدقاء أبداً حتّى الجاه والمال ، وحتّى النساء والعيال ، بل وحتّى الصحّة والأمان .

ولا شي ء يوازي الصداقة ، لأنّها حبّ وولاء ، وتضامن واصطفاء ، وصدق وصفاء ، وتفاعل الروح مع الروح ، وانجذاب القلب للقلب ، واستجابة العقل للعقل .

ومن عاش بدون أصدقاء فقد عاش في مغارة موحشة مظلمة ، وإن كان في جنّة تجري من تحتها الأنهار ، ومن عاش بهم فهو في نعيم اللَّه والإنسانية ، وإن كان في قفر مخيف ، لا سبيل فيه ولا دليل .

فالإنسان بمعناه الإنساني ، وإن كثر ماله ، وامتدّ جاهه يظلّ يحسّ ويشعر أنّ في حياته فراغاً ونقصاً إذا فقد الأصفياء والأوفياء . لأنّهم يمنحون الحياة البهجة والمسرّة .

ص: 315

ولكن كل ذلك يجب أن يكون بين المؤمنين باللَّه - عزّوجلّ - ولا يتحقّق كل ذلك إلّا بالإخلاص والوفاء بين الإخوة والأصدقاء لأنّ الوفاء من رؤوس الفضائل الإنسانية .

أمّا أن نحبّ ونوالي ونخلص لأعدائنا من الكفّار والمشركين وأهل الكتاب فهذا لا يمكن أبداً ، لأنّه لا وفاء لهم ولا عدد ولا ذمّة . فالنهي الإلهي عن مثل هذه العلاقات غير السويّة ، يؤكّد على تلك العلاقات السويّة والصالحة بين المؤمنين .

وكما قال سبحانه وتعالى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(1)«.

ص: 316


1- سورة الحجرات (49) : الآية 10 .

37- الرهبانية في نظر الإسلام

اشارة

(37) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ »(سورة المائدة : 87)

في رحاب المفردات

طيّبات : يقال : طاب الشي ء يطيب طيباً فهو طيب ، وأصل الطيب ما تستلذّه الحواس وما تستلذّه النفس ، والطعام الطيّب في الشرع ما كان متناولاً من حيث ما يجوز بقدر ما يجوز ، ومن المكان الذي يجوز فإنه متى كان كذلك كان طيّباً(1).

تعتدوا : العدوُ هو التجاوز ومنافاة الالتئام . فتارةً يعتبر بالقلب فيقال له العداوة والمعاداة ، وتارةً بالمشي فيقال له العدو ، وتارةً في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له العُدوان والعدو ومن المعاداة يقال رجل عدوّ وقوم عدوُّ ، وقد قال اللَّه تعالى : «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ(2).

ص: 317


1- مفردات الراغب : ص321 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 36) مفردات الراغب : ص338 .

شأن النزول

قد ذكر أصحاب التفاسير بعض القصص في سبب نزول هذه الآية منها :

أنّ رسول اللَّه جلس صلى الله عليه وآله يوماً فذكّر الناس ، ووصف القيامة ، فرقّ الناس وبكوا ، واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي .. واتّفقوا على أن يصوموا النهار ، ويقوموا الليل ، ولا يناموا على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم ، ولا الودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويلبسوا المسوح ، ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ، وهمّ بعضهم أن يجبّ نفسه .

فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فأتى دار عثمان ، فلم يصادفه ، فقال لامرأته اُمّ حكيم بنت أبي اُميّة واسمها حولاء وكانت عطّارة : أحقّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟

فكرهت أن تكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت : يارسول اللَّه إن كان أخبرك عثمان ، فقد صدقك .. فانصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فما دخل عثمان ، أخبرته بذلك ، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هو وأصحابه فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ألم اُنبئكم أنّكم اتّفقتم على كذا وكذا)) ؟

فقالوا : بلا يارسول اللَّه ، وما أردنا إلّا الخير .

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : إنّي لم اُؤمر بذلك . ثم قال صلى الله عليه وآله : ((إنّ لأنفسكم عليكم حقّاً ، فصوموا وافطروا ، وقوموا وناموا ، فإنّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، ومن يرغب عن سنّتي فليس منّي)) .

ثمّ جمع الناس وخطبهم قائلاً : ((ما بال أقوام حرّموا النساء ، والطعام ، والطيب ، والنوم ، وشهوات الدنيا ؟ أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً ، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم ، ولا النساء ، ولا اتّخاذ الصوامع ، وإنّ سياحة اُمّتي الصوم ، ورهبانتيهم الجهاد .

ص: 318

اعبدوا اللَّه ، ولا تشركوا به شيئاً ، وحجّوا واعتمروا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا شهر رمضان ، واستقيموا يستقم لكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد : شدّدا على أنفسهم ، فشدّد اللَّه عليهم ، فاُولئك بقاياهم في الديارات والصوامع))(1).

عبر من الآية

من أهمّ الاُمور المهمّة التي أكّد عليها الإسلام الحنيف وأوصى بها المسلمين قاطبة فضلاً عن عباده المؤمنين هو أن لا يحمّلوا أنفسهم فوق طاقتها ، وأن لا يتركوا حلائل الدنيا من أجل الآخرة .

فهذه مشقّة ما بعدها مشقّة ، ومحاربة للنفس ما بعدها محاربة . وهذا بحدّ ذاته ليس مطلوباً في هذه الدنيا على الأقل ، فالطيّبات واللذائذ مخلوقة خصّيصاً للمؤمنين من العباد ، وبقيّة المخلوقات يأكلون منها بالتبع لهم - كما قال بعض العلماء - .

الملفت للانتباه أنّ الآية المباركة تشير أنّ مثل هذه الأعمال )اعتداء( حيث قال تعالى : «لَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(2)« لأنّ نفس ليست ملكه ، وجسمه ليس له ، بل هما للَّه وهبهما إليه ليفعل الطاعات ويجتنب المعاصي ويأكل الطيّبات ويجتنب الخبائث والمحرّمات .

فكما أنّ اللَّه يحب أن يؤخذ بعزائمه كذلك فهو يحبّ أن يؤخذ برخصه ، ولا يحبّ الشرّ والاعتداء في رخصه ، بحيث يؤدّي إلى الانتقال إلى ما هو حرام ومحظور

ص: 319


1- مجمع البيان : ج7 مج3 ص405 - 404 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 87 .

بأصل الشريعة أو بحيث يؤدّي إلى صيرورة المباح حراماً بغرض التجاوز عن حدّ الترخيص بالإكثار فيه ، كما لا يحبّ الامتناع التامّ عن رخصه .

فمعنى الآية - بالإجمال - ياأيّها الذين آمنوا لا تمتنعوا من الرخص ولا تحرّموا )بقسم أو شبهة ، ولا بكسل ونحوه( على أنفسكم ما تستلذّه المدارك والحواس لأنّ اللَّه يحبّ أن يرى عبده مستلذّاً بما أباحه له مثلما يحبّ أن يراه مستلذّاً بعبادته ، ومناجاته فلا تمتنعوا بالإكتفاء بمستلذّات المرتبة الدانية عن مستلذّات المرتبة العالية .

فمشكلة )الرهبنة والرهبان( هي مشكلة قديمة ولا زالت إلى اليوم مستعصية عن الحل عند الأديان الاُخرى . وهي تقابل إلى حدّ كبير )التصوّف( في الدين الإسلامي الحنيف ، الذي هو ليس من الدين في شي ء بل هو بدعة ابتدعها بعض المرضى النفسانيين - كما يتصوّر بعض علماء الغرب - والتصوّف طريقة عبادية لا أكثر ولا أقل .

وكلاهما )الرهبنة والتصوّف( يعنيان - فيما يبدو - الإنعزال التامّ في الدنيا والناس ، وترك لذائذها وطيّباتها ، والتفرّغ لشؤون الآخرة وتزكية النفس التي حملوها .

المسيحية والرهبانية

إنّ الرهبان اليوم والقساوسة هم رجال وعلماء الدين المسيحي )النصارى( وقد أصبحت الرهبنة شعاراً لرجالات الدين عندهم ، مدّعين أنّهم أخذوا ذلك من السيّد المسيح(عليه السلام) الذي كان من أقرب عباد اللَّه وأعبد خلقه في عصره وزمانه .

وبكلمة : إنّ السيّد المسيح(عليه السلام) لم يترهبن ، ولكن الرهبان التزقوا به ، وترهبنوا باسمه الشريف . ورسالة السيّد المسيح(عليه السلام) كلّها كانت تصحيحية ولم تكن

ص: 320

تأسيسية ، بل صحّحت رسالة كليم اللَّه موسى(عليه السلام) وعندما جاء الدين الخاتم ، وبعث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بدين الإسلام ، أراد اللَّه سبحانه للحياة أن تتعادل وأن يوجد فيها التوازن بين الروح والجسد ، فنهى عن الرهبنة وكلّ ما يشاكلها من طقوس وأعمال ، ودعا إلى عبادة اللَّه - سبحانه - والاستفادة من كلّ طيّبات الحياة الدنيا ، ولذائذها ، في سبيل تزكية النفس الإنسانية ، فقد قال تعالى : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(1)«.

إذن إنّ الشرط الوحيد لكل ذلك - بنظر الإسلام الحنيف - هو مراعاة مسألة )التقوى( في الحياة كلّها - في المأكل والمشرب والملبس والمنكح - فإن كانت كلّها من الحلال فهي مباحة ومطلوبة ولا يلام الإنسان في الاستفادة منها بل قد يكون مثاب عليها إذا جعل الاستفادة في سبيل التقوّي على طاعة اللَّه تعالى .

وأمّا الحرام منها فهو المحظور عنه الذي يعاقب فاعلها على ارتكابها .

الاستفادة من الطيّبات

كما أنّ في هاتين الآيتين - آية البحث والتي تليها - دلالة واضحة على كراهة الانعزال ، والتفرّد ، والتوحّش ، والخروج عمّا عليه جمهور الناس في التناسل ، وطلب الولد ، وعمارة الأرض .

ففي الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان يأكل الدجاج ، والفالوذج ، وكان يعجبه الحلواء مع العسل(2). وقال صلى الله عليه وآله : ((إنّ المؤمن حلو يحبّ الحلاوة))(3).

ص: 321


1- سورة الشمس (91) : الآية 10 - 9 .
2- وسائل الشيعة : ج25 ص47 ح31132 .
3- وسائل الشيعة : ج25 ص275 ح31898 .

وقال صلى الله عليه وآله : ((إنّ في بطن المؤمن زاوية لا يملؤها إلّا الحلوة))(1).

وروي أنّ الحسن كان يأكل الفالوذج )نوع من الحلوى( فدخل عليه فرقد السبخي فقال : يافرقد ! ما تقول في هذا ؟

فقال فرقد : لا آكله ، ولا اُحبّ أكله .

فأقبل الحسن على غيره كالمتعجّب ، وقال : لعاب النحل )العسل( ولباب البرّ )الطحين( ، مع سمين البقر ، هل يعيبه مسلم ؟(2).

والأحاديث كثيرة في هذا الباب تطلب في موسوعات الفقه .

ص: 322


1- بحار الأنوار : ج62 ص113 .
2- مجمع البيان : ج7 مج3 ص406 - 405 .

38- تحريم الخمر في الإسلام

اشارة

(38) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»

(سورة المائدة : 90)

في رحاب المفردات

الخمر : أصل الخمر ستر الشي ء ويقال لما يُسْتَر به خمار لكن الخِمار صار في التعارف إسماً لما تغطّي به المرأة رأسها ، وجمعه خُمُرٌ ... والخمر سمّيت لكونها خامرةً لمقرّ العقل ، وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر . وعند بعضهم اسم للمتّخذ من العنب والتمر(1).

الأنصاب : النصيب الحجارة تنصب على الشي ء ، وجمعه نصائب ونُصُب ، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها ، قال : «كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ(2).

ص: 323


1- مفردات الراغب : ص160 .
2- سورة المعارج (70) : الآية 43) مفردات الراغب : ص515 .

رجس : الرجس الشي ء القذر ، يقال رجلٌ رجس ورجال أرجاس . قال تعالى : «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ(1).

شأن النزول

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : إنّ ... شرب قبل تحرّم الخمر فسكر فجعل يقول الشعر ويبكي على قتلى المشركين من أهل بدر .

فسمع النبي صلى الله عليه وآله فقال : ((اللهمّ أمسك على لسانه)) فأمسك على لسانه فلم يتكلّم حتّى ذهب عنه السكر ، فأنزل اللَّه تحريمها بعد ذلك .

وإنّما كانت الخمر يوم حرّمت بالمدينة فضيخ البسر والتمر(2) فلمّا نزل تحريمها خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقعد في المسجد ثمّ دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فكفأها كلّها وقال :

هذه كلّها خمر وقد حرّمها اللَّه ، فكان أكثر شي ء كفئ في ذلك يومئذ من الأشربة الفضيخ ، ولا أعلم اُكفئ يومئذ من خمر العنب شي ء إلّا إناءً واحداً كان فيه زبيب وتمر جميعاً ، فأمّا عصير العنب فلم يكن يومئذ بالمدينة شي ء حرّم اللَّه الخمر قليلها وكثيرها ، وبيعها وشراءها والانتفاع بها))(3).

ص: 324


1- سورة المائدة (5) : الآية 90) مفردات الراغب : ص193 .
2- الفضيخ : الشراب المتّخذ من التمر وغيره .
3- تفسير القمّي : ج1 ص187 .

عبر من الآية

عندما أشرقت شمس الإسلام فوق سماء الجزيرة العربية حدث في تاريخ البشرية انقلاب هام حيث إنّ النفوس تغيّرت وتوجّه الناس نحو الآخرة وراحوا يتسابقون نحو الفضائل حتّى بلغوا أعلى المراتب وأصبحوا خير الاُمم بشهادة الباري تعالى حيث قال في كتابه : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ(1)«.

نعم ، فقد غيّر الإسلام ذلك المجتمع الجاهلي وحوّله إلى خير اُمّة وذلك عبر تأكيده المستمر على اجتناب الرذائل ودعوته الحثيثة إلى تحصيل الفضائل . ومن ضمن الاُمور التي أكّد الإسلام على اجتنابها وشدّد في عقوبته عليها هو شرب الخمر والتردّد على مجالس اللهو والفسوق التي كانت رائجة في أوساط المجتمع الجاهلي .

وبالفعل ، فقد اهتدى الناس إلى الحقّ وتخلّوا عن عاداتهم السيّئة أمثال شرب الخمر وعبادة الأوثان واللعب بالميسر لذلك فقد حالفهم النصر في كل اُمورهم وعاشوا سعداء في حياتهم .

ولكن وللأسف الشديد شيئاً فشيئاً أخذ المسلمون يتراجعون القهقرى وإذا بهم يعودون إلى سوابقهم ، حيث أضحت الخمور والملاهي رائجة في بلادهم دون أن ينبسوا ببنت كلمة . وإذا عدنا إلى واقعنا المعاصر .. وفي بعض المجتمعات الإسلامية لوجدنا أنّ هذه الاُمور - الخمر والقمار والفساد - أصبحت متجذّرة في المجتمع ومختلطة بعروق الإنسان بشكل عجيب .

ومع الأسف الشديد بالرغم من تعدّد الآيات المباركة الناهية عن شرب الخمور فضلاً عن مذمّة أهل البيت عليهم السلام لشارب الخمر وتوضيحهم لمساوئه إلّا أنّ بعض المسلمين لا يعبأ بذلك ويغضّ الطرف عن جميع هذه المناهي ، فعن رسول اللَّه

ص: 325


1- سورة آل عمران (3) : الآية 110 .

قال صلى الله عليه وآله إنّه قال : ((شارب الخمر لا تصدّقوه إذا حدّث ، ولا تزوّجوه إذا خطب ، ولا تعودوه إذا مرض ، ولا تحضروه إذا مات ، ولا تأمنوه على أمانة))(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((شارب الخمر إن مرض فلا تعودوه وإن مات فلا تشهدوه وإن شهد فلا تزكّوه وإن خطب إليكم فلا تزوّجوه فإنّ من زوّج إبنته شارب الخمر فكأنّما قادها إلى الزنا ومن زوّج إبنته مخالفاً على دينه فقد قطع رحمها ومن ائتمن شارب الخمر لم يكن له على اللَّه تبارك وتعالى ضمان))(2).

وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((فرض اللَّه ترك شرب الخمر تحصيناً للعقل))(3).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) : ((أفاعيل الخمر تعلو على كل ذنب ، كما تعلو شجرها على كل الشجر))(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((إنّ اللَّه جعل للشرّ أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب وشرّ من الشراب الكذب))(5).

وقد أشارت بعض الأحاديث إلى الحكمة وراء تحريم شرب الخمر ، فعن المفضّل بن عمر الجعفي قال : قلت لأبي عبداللَّه(عليه السلام) : لِمَ حرّم اللَّه الخمر ؟ قال(عليه السلام) : ((حرّم اللَّه الخمر لفعلها وفسادها : لأنّ مدمن الخمر تورثه الارتعاش ، وتذهب بنوره ، وتهدم مروّته ، وتحمله على أن يجسر على ارتكاب المحارم ، وسفك الدماء ، وركوب الزنا ، ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه ، وهو لا يعقل ذلك ، ولا زيد شاربها إلّا كل شرّ))(6).

ص: 326


1- الكافي : ج6 ص396 ح4 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج4 ص58 ح5091 .
3- نهج البلاغة : ق252 .
4- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص571 ح4952 .
5- الكافي : ج2 ص339 - 338 ح3 .
6- وسائل الشيعة : ج25 ص306 - 305 ح31970 .

وعن الإمام الرضا(عليه السلام) قال : ((حرّم اللَّه الخمر لما فيها من الفساد ، ومن تغيير عقول شاربيها ، وحملها إيّاهم على إنكار اللَّه عزّوجلّ ، والفرية عليه وعلى رسله ، ومساير ما يكون منهم من الفساد والقتل))(1).

وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((ترك شرب الخمر تحصيناً للعقل))(2).

اجتناب مجالس شرب الخمر

من جانب آخر فقد بالغ المعصومون عليهم السلام في نواهيهم عن اقتراب الخمر حتّى شملت تحريم المشاركة فيها ، فعن رسول اللَّه قال صلى الله عليه وآله : ((ملعون ملعون من جلس طائعاً على مائدة يشرب عليها الخمر))(3). وقال صلى الله عليه وآله : ((من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر))(4). وقال صلى الله عليه وآله : »لا تجلسوا على مائدة يشرب عليها الخمر ، فإنّ العبد لا يدري متى يؤخذ))(5). وقال صلى الله عليه وآله : ((لعن اللَّه الخمر ، وعاصرها ، غارسها ، وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومشتريها ، وآكل ثمنها ، وحاملها والمحمولة إليه))(6). ولا يخفى أنّ آية البحث كما أنّها تنصّ على حرمة شرب الخمر كذلك فهي تؤكّد على اُمور اُخرى منها :

1 - أنّ تحريم الخمر تحريماً قطعياً كما يقول المفسّرون وأصحاب الفقه الكرام .

2 - تحريم القمار لما له من مفاسد إجتماعية .

3 - وتحريم عبادة الأصنام ، بل ورفضها رفضاً قاطعاً ، لأنّها رجس من

ص: 327


1- وسائل الشيعة : ج25 ص329 ح32040 .
2- نهج البلاغة : ق252 .
3- الكافي : ج6 ص268 ح1 .
4- تهذيب الأحكام : ج9 ص97 ح156 .
5- وسائل الشيعة : ج25 ص28 ح31077 .
6- من لا يحضره الفقيه : ج4 ص8 ح4968 .

ناحية ، ومن عمل الشيطان من ناحية ثانية ، وشرك بعبادة اللَّه - والعياذ باللَّه - من ناحية ثالثة .

4 - تحريم الأزلام وهي أقداح الخشب الذي كانوا يقترعون بها في الجاهلية .

فكل هذه الاُمور محرّمة لأنها من عمل الشيطان ، وليس للَّه فيها نصيب أبداً .

مع التفاسير الواهية

ولا يخفى أنّ الأمر بالاجتناب يعني التحريم لا كما ذهب البعض حيث جاءوا بتفسيرات واهية ليس لها دليل من شرع أو عقل أو كتاب مبين . حيث قالوا :

إنّ المراد من اجتنبوه : أي أمر بجعله بجانبك دائماً وأبداً ((أي تأبطه)) فلا تشربوا أو لا تقتربوا أو فاجتنبوه .. كلّها تفيد التحريم كقوله تعالى : «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(1)«.

فالآية إجتماعية بحتة والأضرار الاجتماعية توضّحها الآية التي تليها ومنها :

1 - أضرار إجتماعية أشار إليها قوله تعالى : «يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ(2)«.

2 - أضرار دينية أشار إليها قوله : «يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ(3)« ووعوده كالسراب تماماً . وعلى كل فإنّ عنصر الإيمان هو الذي جعل المدينة المنوّرة ، يسيل فيها الخمر في كل جانب وذلك حين نزول هذه الآية لكثرة ما اُريق منه يومذاك كما يذكر أصحاب التواريخ .

ص: 328


1- سورة الأنعام (6) : الآية 152 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 91 .
3- سورة النساء (4) : الآية 120 .

39- الحجّ والابتلاءات الصعبة

اشارة

(39) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ »(سورة المائدة : 94)

في رحاب المفردات

يخافه : هو توقّع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة ، كما أنّ الرجاء والطمع توقّع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة ، ويضادّ الخوف : الأمن ويستعمل ذلك في الاُمور الدنيوية والاُخروية(1).

الغيب : مصدر ، فيقال مثلاً غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن الأعين ، واستعمل في كل غائب عن الحاسّة وعمّا يغيب عن علم الإنسان ، والغيب في قوله «يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ(2)« ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول وإنما يقع بخبر الأنبياء عليهم السلام(3).

ص: 329


1- مفردات الراغب : ص161 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 3 .
3- مفردات الراغب : ص381 .

عذاب : هو الإيجاع الشديد ، وقد عذّبه تعذيباً أي أكثر حبسه في العذاب ، قال تعالى : «لَاُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً(1).

شأن النزول

روى علّامة الحنفية محمّد بن يوسف الزرندي في نظم درر السمطين عن مجاهد قال : ((ما كان في القرآن «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فإنّ لعلي سابقة ذلك لأنّه سبقهم إلى الإسلام))(2).

عبر من الآية

إنّ كل من يتلو هذه الآية المباركة تجول في خلده التساؤلات التالية وهي : لماذا خصّصت الآية المباركة النداء بالمؤمنين ؟ وما هو علاقة الابتلاء بالصيد ؟ ولماذا يكون هذا الابتلاء أيّام الحجّ فحسب وليس في غيرها ؟ حتّى نجيب على هذه التساؤلات نقول : إنّ من خلال هذا الدرس المبارك في هذه الآية الكريمة ينبّه اللَّه سبحانه وتعالى المؤمنين إلى مسألة هامّة تعتبر بمثابة البلاء لهم أيّام الحج ألا وهي مسألة ((الصيد)) في حالة الإحرام .

ففي هذه العبادة ((الحجّ)) توجد جملة من العبادات التي اُريد منها فصل

ص: 330


1- سورة النمل (27) : الآية 21) مفردات الراغب : ص339 .
2- نظم درر السمطين : ص89 .

الإنسان عن إطار ((المادّة)) ولهذا فقد حرّمت الكثير من الاُمور المادّية على الإنسان إذ أنّ بين البعد المادّي والمعنوي كما يقولون كالمشرق والمغرب ، فكلّما اقترب الإنسان من أحدهما ابتعد عن الآخر .

وكلّما توغّل في ((المادّة)) بما هي مادّة كلّما إبتعد عن المعنويات .. والعكس كذلك صحيح إلى حدّ ما .

ولذا فقد حرّم في الحجّ حتى النظر في المرآة .. لأنه يرتبط بالزينة والتجمّل .

وكذلك حرّمت النساء .

والجدال بالباطل .

امتحان تحريم الصيد

ومن جملة هذه المحرّمات التي حرّمها الشارع المقدّس في الحجّ هو تحريم الصيد - كما في الآية - المباركة وذلك لأنّه يرتبط بأمرين إثنين من اُمور الدنيا :

1 - إنّه يعتبر حالة من حالات اللهو والعبث أكثر منه إلى الجدّ والعمل .

2 - وهو مقدّمة للأكل اللذيذ وكلا الأمرين كما هو واضح من الاُمور المادّية الدنيوية ، والحال أنّ الحجّ يريد من الإنسان أن يرتفع إلى الروحانيات والمعنويات باعتبار أنّ الحجّ ((قيامة صغرى)) كما قيل .

وعلى كل .. فقد جاء هذا التحريم الإلهي اختباراً في اختبار ((أي مضاعفاً)) حيث إنّ التحريم هو بحدّ ذاته اختبار .. ثمّ هو مع وفرة الصيد وكونه في متناول اليد اختبار آخر .

ففي التاريخ أنّ المسلمين في عام صلح الحديبية وبعد نزول هذه وقعوا في شراك هذا الابتلاء وإلى ذلك تشير الأحاديث الشريفة ، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال في

ص: 331

قول اللَّه عزّوجلّ : «لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ» : ((حشرت لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله في عمرة الحديبية الوحوش حتّى نالتها أيديهم ورماحهم))(1).

وفي حديث آخر عنه(عليه السلام) قال : ((حشر عليهم الصيد في كل مكان حتّى دنا منهم ليبلوهم اللَّه به))(2).

وهناك عدّة أحاديث في هذا الباب تعطي نفس الفائدة ، فقد قال علي بن إبراهيم صاحب تفسير القمّي المشهور : إنّ الآية نزلت في غزاة الحديبية قد جمع اللَّه عليهم الصيد فدخلوا بين رحالهم ليبلوهم اللَّه به ((أي يختبرهم))(3).

فالامتحان الإلهي صعب - وربما مستصعب - والأقلّاء هم من يجتازون الامتحان بنجاح وخاصّة في مثل هذه المواقع الحرجة والحسّاسة ، فأن تصطاد طير فهذا بحاجة إلى عناء وتعب جدّاً قاسي ، ولكن أن تكون جائعاً .. ويأتي الطائر إلى رحلك أو يقف على كتفك أو أفراخه بين قدميك ولا تمدّ إليه يدك أو توجّه إليه سهمك فهذا أمر لا شك أصعب ، وامتحان ما بعده امتحان .

فالأمر يحتاج إلى تقوى ، وهي كما نصّ الحديث الشريف عن الإمام الصادق(عليه السلام) حيث قال لإسحاق بن عمّار : ((خف اللَّه كأنّك تراه ، وإن لم تكن تراه فإنّه يراك))(4).

فالخوف من اللَّه - بالغيب - هو قمّة التقوى والإيمان .

والخوف : هو عبارة عن تألّم القلب واحتراقه بسبب توقّع مكروه في

ص: 332


1- الكافي : ج4 ص396 ح1 .
2- تهذيب الأحكام : ج5 ص301 ح20 .
3- تفسير القمّي : ج1 ص182 .
4- وسائل الشيعة : ج15 ص220 ح20324 .

الاستقبال ، وبحسب تظافر أسباب المكروه تكون قوّة الخوف وشدّة تألّم القلب ، وبحسب ضعف الأسباب بضعف الخوف .

وبالتأكيد أنّ الخوف من اللَّه يكون بمعرفة اللَّه ومعرفة صفاته .. تارةً يكون بكثرة الخيانة من العبد بمقارنة المعاصي .. وتارةً يكون بهما جميعاً ، وبحسب معرفته بجلال اللَّه وتعاليه واستغنائه وبعيوب نفسه تكون قوّة خوفه ..

فأخوف الناس لربّه أعرفهم به ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله : ((ياأيّها الناس اسمعوا ما آمركم به وأطيعوه فإنّي اُخوّفكم عقاب اللَّه))(1).

وفي الحديث : ((أعلمكم باللَّه أخوفكم للَّه))(2).

وقال سبحانه وتعالى : «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(3)«.

من مقامات الخوف

إنّ الخوف من اللَّه عزّوجلّ على مقامين :

1 - الخوف من عذابه : وهو خوف عموم الخلق ، وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنّة والنار وكونهما دافعين إلى الطاعة والمعصية .. وضعفه بسبب الغفلة وضعف الإيمان .

2 - الخوف من اللَّه .. أي أن يخاف العبد من الربّ ، ويرجو القرب منه وهو خوف العلماء ، وأرباب القلوب والعارفين من صفاته - تعالى - وهذا ما يستفاد من قوله تعالى : «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(4)« وقوله تعالى : «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

ص: 333


1- بحار الأنوار : ج38 ص112 ح51 .
2- بحار الأنوار : ج67 ص344 .
3- سورة فاطر (35) : الآية 28 .
4- سورة فاطر (35) : الآية 28 .

وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ(1)«.

وقد أشار الأئمّة أهل البيت عليهم السلام إلى أهمية مخافة اللَّه وخشيته في أحاديثهم الشريفة ، فقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((رأس الحكمة مخافة اللَّه))(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((من عرف اللَّه خاف اللَّه .. ومن خاف اللَّه سخت نفسه عن الدنيا))(3).

وعنه(عليه السلام) قال : ((إنّ من العبادة شدّة الخوف من اللَّه))(4).

وعنه(عليه السلام) قال : ((المؤمن بين مخافتين .. ذنب قد مضى لا يدري ما صنع اللَّه فيه .. وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك .. فهو لا يصبح إلّا خائفاً ، ولا يصلحه إلّا الخوف))(5).

وعنه(عليه السلام) قال : ((لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً .. ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو))(6).

وعنه(عليه السلام) قال : ((من خاف اللَّه ، أخاف اللَّه منه كل شي ء .. ومن لم يخف اللَّه أخافه اللَّه من كل شي ء))(7).

وعنه(عليه السلام) قال لإسحاق بن عمّار : ((ياإسحاق : خف اللَّه كأنّك تراه ، وإن كنت لا تراه فإنه يراك .. وإن كنت تدري أنه لا يراك فقد كفرت ، وإن كنت تعلم أنه

ص: 334


1- سورة البيّنة (98) : الآية 8 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج4 ص376 ح5766 .
3- الكافي : ج2 ص68 ح4 .
4- وسائل الشيعة : ج15 ص220 ح20326 .
5- الكافي : ج2 ص71 ح12 .
6- وسائل الشيعة : ج15 ص217 ح20315 .
7- من لا يحضره الفقيه ج4 ص410 ح5890 .

يراك ، ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين إليك))(1).

فخوف اللَّه سبحانه وتعالى في الغيب لا ينتج إلّا من نفس صافية ، وقلب معلّق بحبّ اللَّه وروح تعشق جنّة الرضا فتخاف من نار القلى والهجر والطرد من ساحة القدس بجوار ربّ العالمين .

هكذا يصنع الخوف بأهله

فقد روى الصدوق رحمه الله في أماليه : أنّ رجلاً من الأنصار قال : بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وآله مستظل بظلّ شجرة في يوم شديد الحرّ ، إذ جاء رجل فنزع ثيابه ثم جعل يتمرّغ في الرمضاء .. يكوي ظهره مرّة ، وبطنه مرّة ، وجبهته مرّة ، ويقول : يانفس ذوقي ، فما عند اللَّه أعظم ممّا صنعت بك .

ورسول اللَّه صلى الله عليه وآله ينظر إلى ما يصنع ، ثم إنّ الرجل لبس ثيابه ثم أقبل .. فأومى إليه النبي صلى الله عليه وآله بيده ودعاه ، فقال له : ((ياعبداللَّه لقد رأيتك صنعت شيئاً ما رأيت أحداً من الناس صنعه فما حملك على ما صنعت ؟)) .

فقال الرجل : حملني على ذلك مخافة اللَّه .. فقلت لنفسي : يانفس ذوقي ، فما عند اللَّه أعظم مما صنعت بك .

فقال النبي صلى الله عليه وآله : ((لقد خفت ربّك حقّ مخافته .. وإنّ ربّك ليباهي بك أهل السماء)) .

ثم قال صلى الله عليه وآله لأصحابه : ((يامعشر لما حضر ادنوا من صاحبكم حتى يدعو لكم .. فدنوا منه ، فدعا لهم وقال : اللهم اجمع أمرنا على الهدى ، واجعل التقوى زادنا ،

ص: 335


1- وسائل الشيعة : ج15 ص220 ح20324 .

والجنّة مآبنا))(1).

نعم ، فكم نحن بحاجة لمثل هذا الخوف - لا سيّما اُولئك الشباب - الذين عادةً ما يكونوا عرضة لحملات الاغواء والانحراف التي يشنّها أعداء الدين وأتباعه .

وعلى أيّة حال ، فالاعتداء على حرمات اللَّه - سواء في الحجّ أو غيره - هو انتهاك للحدود التي حدّدها اللَّه سبحانه وتعالى لعباده ، وعلى العبد أن يخاف سخط وغضب سيّده ومولاه .

ص: 336


1- أمالي الصدوق : ص340 المجلس 54 ح26 .

40- الحجّ والفوائد المشهودة

اشارة

(40) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ »(سورة المائدة : 95)

في رحاب المفردات

يذوق : الذوق هو وجود الطعم بالفم وأصله فيما يقلّ تناوله دون ما يكثر ، فإنّ ما يكثر منه يقال له الأكل واختير في القرآن لفظ الذوق في العذاب لأنّ ذلك وإن كان في التعارف للقليل فهو مستصلح للكثير فخصّه بالذكر ليعمّ الأمرين ، وكثر استعماله في العذاب نحو قوله : «لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ(1)«. قوله : «وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ

ص: 337


1- سورة النساء (4) : الآية 56 .

النَّارِ(1).

وبال : الوبل والوابل هو المطر الثقيل القطار ، ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذي يخاف ضرره وبال كقوله تعالى : «فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ(2).

ينتقم : النقمة هي العقوبة ، وقد قال اللَّه تعالى : «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ(3)« وقال : «فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا(4)« وقال : «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(5).

شأن النزول

أخرج العلّامة )الشافعي( محمّد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الدمشقي المعروف ب )الذهبي( بسنده عن علي بن بذيمة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ((ما نزلت آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللَّه عزّوجلّ أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله في غير آية من القرآن وما ذكر علياً إلّا بخير))(6).

ص: 338


1- سورة السجدة (32) : الآية 20) مفردات الراغب : ص .
2- سورة التغابن (64) : الآية 5) مفردات الراغب : ص547 .
3- سورة الأعراف (7) : الآية 136 .
4- سورة الروم (30) : الآية 47 .
5- سورة الزخرف (43) : الآية 25) مفردات الراغب : ص526 .
6- ميزان الاعتدال : ج3 ص311 .

عبر من الآية

ونبقى في أجواء الحجّ النورانية المباركة .

حيث إنّ اللَّه سبحانه وتعالى حرّم صيد البرّ على الاُمّة المحمّدية ، وابتلاهم بالوحوش والطيور المأكولة وغير المأكولة إذ أنّها نزلت فيما بينهم وفرخت فكانوا يمكن لهم أن ينالوها بكل سهولة سواء أكان بالأيدي أم بالرماح كما في الآية السابقة ليعلم من يخافه بالغيب .

وهذا الابتلاء أشبه ما يكون بابتلاء قوم نبي اللَّه موسى(عليه السلام) حيث ابتلاهم ربّهم بتحريم صيد البحر في السبت ، إلّا أنّ اُمّة محمّد صلى الله عليه وآله ابتلاهم بتحريم صيد البرّ في الحجّ ، والصيد يطلق على كل وحش برّي سواء أُكل لحمه أو لم يؤكل ، ففي الشعر المنسوب لأمير المؤمنين(عليه السلام) قوله :

صيد الملوك أرانب وثعالب

فإذا ركبت فصيدي الأبطال

وقد ذهب غيرنا إلى غير ذلك فقيّد الصيد بمأكول اللحم فقط .

ولعلّ الحكمة من بعض المحظورات على المحرم هو أنّ الإنسان يعيش أيّامه كلّها بطابعها المادّي .

فالأكل والشرب واللباس والتجارة والمال والخسارة والربح وغير ذلك كلّها من اُمور الحياة المادّية لذلك فلابدّ للإنسان من فترة يتطهّر فيها عن حطام الدنيا ويتفرّغ فيها لآخرته .

ولابدّ لطهارته الجسدية من التجرّد من زينة الدنيا وعوالقها كافّة .

وحتّى تحصل طهارته الروحية فلابدّ له من التوجّه إلى اللَّه بقلب سليم وينقطع عن الاُمور المادّية ، حتّى تعود إلى روحه إلى نضارتها وصفاؤها وطهارتها ، لأنّه كلّما تجرّد الإنسان وابتعد عن المادّيات ، سمى واقترب وارتفع في سماء المعنويات .

ص: 339

ولذا حرّم الشارع المقدّس على المحرم كل أنواع الزينة والتطيّب .

فحرّم عليه مثلاً (التختّم للزينة).

وحرّم (النظر في المرآة) كذلك .

وحرّم )النساء( وحرّم عليهن كل أنواع الزينة كذلك .

حرمة الصيد في الحجّ

ومن جملة المحرّمات المهمّة في الحجّ هو )الصيد البرّي( ولعلّه لأنّه أقرب إلى اللهو والعبث والركض وراء المادّة والابتعاد عن روحانية الإحرام والحجّ .

ولم يكتف الإسلام بذلك )التحريم( بل وضع لمرتكب الجريمة عقوبة مالية هي )الكفّارات( وهي بحدّ ذاتها رادع لمن لا يردعه التحريم بشكل كافي أو مطلق .

فالحاج الذي يفكّر أنه لو اصطاد أي نوع من الصيد - أنه يرتكب محرّماً من جهة - وعليه دفع كفّارة لذلك من ماله الخاصّ بمثل ذاك الصيد الذي أصاب فإنّه بشكل طبيعي سوف يحذر ويتجنّب مثل هذه الاُمور .

فصيد بقر الوحش مثلاً كفّارته من البقر الأهلي وفي قتل الظبي شاة وفي الثعلب والأرنب شاة . وهكذا مثلاً بمثل حتّى أنه إن لم يستطع المحرم الصائد تقيّم قيمة الصيد ويشتري بقيمته طعاماً يوزّعه على الفقراء والمساكين والمحتاجين .

هذا وللمسألة تفرّعات كثيرة جدّاً ومتشعّبة ... تطرّقنا إليها في سؤال القاضي يحيى بن أكثم من الإمام الجواد(عليه السلام) عند المأمون العبّاسي ووجوه بني العبّاس إمتحاناً للإمام لمعرفة مبلغ علمه وهو فتى .

فسأله ما رأيك في محرم قتل صيداً ؟

ففرّع الإمام الجواد(عليه السلام) المسألة إلى 40 - مسألة وعندما انقطع يحيى بن أكثم

ص: 340

طلب المأمون منه الجواب فأجاب بدقّة متناهية عن كلّ ذلك(1).

الحجّ والانقطاع عن المادّيات

وعلى كل فينبغي للإنسان في حالة الإحرام الابتعاد عن كل شي ء يصرفه عن أداء وظيفته وتكليفه الشرعي في الحج ، وتحصيل المعطيات المترتّبة على مسائل الحجّ ، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال : ((إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك للَّه تعالى من شغل كل شاغل ، وحجاب كل حاجب ، وفوّض اُمورك كلّها إلى خالقك وتوكّل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك ، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره ، وودّع الدنيا والراحة والخلق ، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين .

ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوّتك وشبابك ومالك ، مخافة أن يصير ذلك عدوّاً ووبالاً فإنّ من ادّعى رضاء اللَّه ، واعتمد على ما سواه صيّره عليه وبالاً وعدوّاً ليعلم أنه ليس له قوة وحيلة ، ولا لأحد إلّا بعصمة اللَّه وتوفيقه ، فاستعد استعداد من لا يرجو الرجوع .

وأحسن الصحبة وراع أوقات فرائض اللَّه وسنن نبيّه صلى الله عليه وآله وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاوة وإيثار الزاد على دوام الأوقات .

ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك ، والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع .. وأحرم من كلّ شي ء يمنعك عن ذكر اللَّه ويحجبك عن طاعته ، ولبّي بمعنى إجابة صادقة صافية خالصة زاكية للَّه - تعالى - في دعوتك متمسّكاً بالعروة الوثقى .

وهرول هروباً من هواك ، وتبرّأ من حولك وقوّتك ، واخرج من غفلتك وزلّاتك ، بخروجك إلى منى ولا تتمنّى ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه .

ص: 341


1- راجع الإرشاد : ج2 ص283 .

واعترف بالخطايا بعرفات وجدّد عهد عند اللَّه تعالى بوحدانيته ، وتقرّب إليه واتّقه بمزدلفه ، واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك على الجبل ، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة ، وارم الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الحجرات ، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك ، وادخل في أمان اللَّه وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم ، ودخول البيت متحقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلال سلطانه .

واستلم الحجر رضاً بقسمته ، وخضوعاً لقوّته ، وودّع ما سواه بطواف الوداع ، واصف روحك وسرّك للقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا ، وكن بمرأى من اللَّه نقيّاً أوصافك عند المروة ، واستقم على شرط حجّتك هذه .. ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربّك وأوجبته له إلى يوم القيامة .

واعلم بأنّ اللَّه - تعالى - لم يفرض الحجّ ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى : «وَللَّهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً(1)«.

ولا شرّع نبيّه صلى الله عليه وآله سنّة في خلال المناسك على ترتيب ما شرّعه إلّا للإستعانة والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة . وفضل بيان السباقة من الدخول في الجنّة أهلها ، ودخول النار أهلها . بمشاهدة مناسك الحج من أوّلها إلى آخرها لاُولي الألباب واُولي النهى))(2).

ما أكثر الضجيج

وفي واقع الأمر أنّ الحجّ قيامة صغرى بكل ما تعنيه الكلمة من معنى .. وعلى

ص: 342


1- سورة آل عمران (3) : الآية 97 .
2- مستدرك الوسائل : ج10 ص172 ح11771 .

الحاجّ أن يدرك ذلك ويتذكّر مواقف يوم القيامة وإذا لم يفعل ذلك كان لاهياً واللاهي لا حجّ له .. لذلك فإنّ الكثير ممّن يذهبون إلى الحج لا يطلق عليهم حجاج إلّا بالظاهر .

أمّا بالحقيقة والواقع فهم سوّاح لا أكثر ولا أقل .. فما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج .. وقد أشار الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) إلى ذلك حيث قال : ((واللَّه ما حجّ إلّا أنا وناقتي وعلي بن يقطين)) رغم أنّ علي بن يقطين لم يذهب إلى الحج في عامها بل سهّل اُمور الحجّ إلى الكثير من إخوانه المؤمنين .

فالحجّ طاعة مميّزة ، وعبادة شاقّة متعبة ، وفرض سامي رفيع المستوى ، وواجب على كل من استطاع إليه سبيلاً ، والمستطيع الذي يسوّف أو يموت دون أن يحجّ فعقابه كبير وشنيع والعياذ باللَّه .

فقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((من مات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً))(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((من مات ولم يحج حجّة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه .. فليمت يهودياً أو نصرانياً))(2).

وقد ورد عن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) أنّه : لمّا أحرم واستوت به راحلته اصفرّ لونه وانتفض ووقع عليه الرعدة ، ولم يستطع أن يلبّي .

فقيل له لِمَ لا تلبّي يابن رسول اللَّه ؟ فقال(عليه السلام) : ((أخشى أن يقول لي لا لبّيك ولا سعديك ..)) فلمّا لبّى(عليه السلام) غشي عليه وسقط عن راحلته فلم يزل يعتريه ذلك

ص: 343


1- وسائل الشيعة : ج11 ص33 - 32 ح14166 .
2- الكافي : ج4 ص268 ح1 .

حتى قضى حجّه(1).

فإذا كان هذا حال الإمام زين العابدين ، وسيّد الساجدين فما بال بقية الخلق والبشر من العالمين ، فهو(عليه السلام) الذي وصفه الفرزدق بأجمل وصف عبر قصيدته ((الميمية)) الرائعة التي قال فيها :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن خير عباد اللَّه كلّهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجدّه أنبياء اللَّه قد ختموا

إلى أن يقول :

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياءاً ويغضى من مهابته

فلا يكلّم إلّا حين يبتسم

ما قال لا قطّ إلّا في تشهّده

لولا التشهّد كانت لاؤه نعم(2)

إذن ، فعلى من يريد الذهاب إلى الحج أن يطهّر نفسه وقلبه ويعرف ربّه ونبيّه ويستمسك بالعروة الوثقى ثم يذهب إلى الحجّ بقيادة واعية ، فمن ليس له قائد تاه وضاع .. ومن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية .

اللهم ارزقنا حجّ بيتك الحرام في عامنا هذا وفي كلّ عام ما أبقيتنا في يسر منك وعافية .

ص: 344


1- عوالي اللآلي : ج4 ص37 ح121 .
2- مناقب آل أبي طالب : ج4 ص169 .

41- اُمور لا يسأل عنها

اشارة

(41) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ »(سورة المائدة : 101)

في رحاب المفردات

تبد : بدا الشي ء بدواً وبداءً أي ظهر ظهوراً بيّناً ، قال اللَّه تعالى : «وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ(1).

تسؤكم : السوء كل ما يغمّ الإنسان من الاُمور الدنيوية والاُخروية ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجية من فوات مال وجاه وفقد حميم . وعبّر عن كل ما يقبح بالسوأى ، ولذلك قوبل بالحسنى ، قال تعالى : «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّواى(2)« كما قال : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى(3).

ص: 345


1- سورة الزمر (39) : الآية 47) مفردات الراغب : ص27 .
2- سورة الروم (30) : الآية 10 .
3- سورة يونس (10) : الآية 26) مفردات الراغب : ص252 .

شأن النزول

ذكر أصحاب التفاسير والسيرة عند تطرّقهم إلى سبب نزول هذه الآية عدّة اُمور منها :

إنّ قوماً كانوا يسألون رسول اللَّه صلى الله عليه وآله استهزاءً مرّة ، وامتحاناً مرّة ، فيقول له بعضهم : من أبي ؟ ويقول الآخر : أين أبي ؟ ويقول الآخر : إذا ضلّت ناقته أين ناقتي ؟

وقيل إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله خطب الناس فقال : ((إنّ اللَّه كتب عليكم الحجّ .. فقام عكاشة بن محصن - وقيل : سراقة بن مالك - فقال : أفي كل عام يارسول اللَّه ؟

فأعرض صلى الله عليه وآله عنه حتى عاد مرّتين أو ثلاثاً - فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم ، واللَّه لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشي ء فآتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه))(1).

عبر من الآية

إنّ من دواعي التسبيح والتهليل والتكبير هو التفكّر في صنائع اللَّه - عزّوجلّ - .

ولا يخفى أنّ من أعجب عجائب الصنعة الإلهية هو الإنسان نفسه - جسداً ونفساً وروحاً - فهو أعجب من كل المخلوقات العجيبة التي خلقها اللَّه تعالى ، وصدق

ص: 346


1- مجمع البيان : ج7 مج3 ص429 - 428 .

عزّ من قائل حيث قال : «وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(1)«.

فبناء الجسم الإنساني كما يصرّح بعض الأخصائيين أعقد من بناء الكون كلّه ، فالمخّ وتلافيفه ومراكزه الحسّاسة .. والعين وباصرتها ودقّة صنعها .. والمعدة وأعمالها .. هي كما يقول أحد العلماء يحتاج إلى مصنع كيماوي بمساحة باريس حتى يقوم بعمل المعدة فقط .. هذا فضلاً عن بقية أعضاء البدن البشري .

أمّا النفس فهذا الذي ما عرفوه ولا أظنّهم سيعرفونه .

وأمّا الروح فهذه النفخة الإلهية التي لن يعرفوها أبداً .. رغم وصولهم إلى المريخ علواً ، وإلى النبتون دنوّاً وانخفاضاً وصفراً ، واستنساخ الحيوانات والآدميين ورغم ما بين كل ذلك من علوم رائعة . فلم يستطيعوا - ولن يستطيعوا - معرفة ماهية الروح الإنسانية .

ومن عجائب الجسم الآدمي اللسان تلك القطعة اللحمية الليّنة الناعمة فإنه من نعم اللَّه العظيمة ، ولطائف صنعته الغريبة ، فهو صغير الحجم عظيم الطاعة والجرم .. إذ لا يتبيّن الإيمان والكفر إلّا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والطغيان ..

من جانب آخر فإنّ للسان ميدان رحب ليس له مرد ، ولا لمجاله منتهى ولا حدّ .. فله في الخير مجال رحب ، وله في الشرّ مجرى سحب ، فمن أطلق للسانه العنان سلك به الشيطان في كل ميدان ، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار .

وفي واقع الأمر إنّ الإنسان لن ينجو من شرّ اللسان إلّا إذا قيّده بلجام الشرع .. فلا يطلق إلّا فيما ينفع في الدنيا والآخرة ، علماً أنّ إلجام اللسان عمل في غاية الثقل والعسر لأنه من أعصى الأعضاء على الإنسان حيث إنّه لا تعب في تحريكه ، ولا مؤونة في إطلاقه .

ص: 347


1- سورة الذاريات (51) : الآية 21 .

احفظوا ألسنتكم

من هنا فإنّ الذي يلاحظ أخبار أهل البيت ويدقّق في أبعادها العميقة يجدها أنّها كثيراً ما تؤكّد على مسألة حفظ اللسان وصيانته من الآفات الكثيرة التي عادةً ما يبتلى بها عامّة الناس ، فعن رسول أنّه صلى الله عليه وآله قال : ((من صمت نجا))(1).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((إمسك لسانك فإنها صدقة تصدّق بها على نفسك .. لا يعرف عبد حقيقة الإيمان حتّى يحفظ لسانه))(2).

ومرّ أمير المؤمنين(عليه السلام) برجل يتكلّم بفضول الكلام فوقف(عليه السلام) وقال : ((ياهذا : فإنّك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك .. فتكلّم بما يعنيك ، ودع ما لا يعنيك))(3).

وقال الإمام السجّاد(عليه السلام) : ((إنّ لسان ابن آدم يشرف على جميع جوارحه كل صباح فيقول : كيف أصبحتم ؟ فيقولون : بخير إن تركتنا .. ويقولون : اللَّه .. اللَّه فينا ويناشدونه ويقولون : إنما نثاب ونعاقب بك))(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((إنّ النوم راحة للجسد .. والنطق راحة للروح .. والسكوت راحة للعقل))(5).

وقد قال لقمان الحكيم لولده : ((يابني .. إن كنت زعمت أنّ الكلام من فضّة فإنّ السكوت من ذهب))(6).

إذن - وكما يستفاد من الأخبار - فالكلام مذموم إلّا في مواضع بيّنها الإمام

ص: 348


1- وسائل الشيعة : ج12 ص251 ح16228 .
2- الكافي : ج2 ص114 ح7 .
3- من لا يحضره الفقيه : ج4 ص396 ح5841 .
4- الكافي : ج2 ص115 ح12 .
5- من لا يحضره الفقيه : ج4 ص402 ح5865 .
6- الكافي : ج2 ص114 ح6 .

السجّاد(عليه السلام) عندما سئل عن الكلام والسكوت أيّها أفضل ؟

فقال : ((لكل واحد منهما آفات ، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت)) .

قيل : وكيف ذلك يابن رسول اللَّه ؟

قال(عليه السلام) : ((لأنّ اللَّه - عزّوجلّ - ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت ، إنّما بعثهم بالكلام ، ولا استحقّت الجنّة بالسكوت ، ولا استوجبت ولاية اللَّه بالسكوت ، ولا توقية النار بالسكوت ، ولا يجنّب شرط اللَّه بالسكوت إنما ذلك كلّه بالكلام .. ما كنت لأعدل القمر بالشمس ، إنّك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت))(1).

من آفات اللسان

ولا يخفى أنّ آفات اللسان كثيرة منها : الغيبة والنميمة ، والكذب ، والفحش ، والمراء ، والخصومة ، والفضول بالباطل ، والتحريف والزيادة والنقصان ، وإيذاء الخلق ، وهتك العورة ، وإفشاء السرّ ، والسخرية ، والاستهزاء .. وما إلى ذلك من الآفات المذمومة التي لا ينجو منها الإنسان إلّا إذا استحضر اللَّه في كلماته دائماً ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(2)«.

وفي هذه الآية المباركة نجد أنّها تشير إلى آفة من آفات الإنسان أداتها وسلاحها اللسان ألا وهي الإلحاح بالسؤال والبحث عن الخفايا والخبايا في الأحكام والتشريعات .

وهذا ما لم يتطرّق إليه الشارع المقدّس حيث إنه سكت عن بني البشر في كثير

ص: 349


1- وسائل الشيعة : ج12 ص188 ح16045 .
2- سورة ق (50) : الآية 18 .

من القضايا والأحكام لأنه - تعالى - عالماً بهم وبما يمكن أن يحتملون فإنّ أكثرهم ضعاف ، خائري القوى فاتري العزائم مشتّتي الإرادة ، فسكوت اللَّه سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله عن أمثال هذه القضايا هو من باب الرحمة لهذه الاُمّة وبالأجيال التي جاءت بعدهم ..

فهناك ملاك راعاه الشارع في كثير من الأحكام وهو ملاك )التسهيل( حيث قال تعالى : «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً(1)« فكل عسر في الشريعة لابدّ أن يكون معه يسر فلا عسر ولا حرج ولا ضيق على المكلّفين في الشريعة الإسلامية . حتّى أنّ الصلاة - وهي عمود أو عماد الدين - عند العسر أو الإعسار تتبدّل حالتها - من القيام إلى القعود وربما إلى الاستلقاء بل حتى إلى الإيماء بالعينين - كما أنّ الصوم يسقط عن المريض والمسافر والنفساء ، والحجّ الذي هو فرض واجب مشروط بالاستطاعة . كما أنّ الطهارة - كالغسل والوضوء - تسقط في حال العسر والحرج وتستبدل بالتيمّم بالصعيد الطيّب .

مساوء التشدّد في السؤال

من المسلّمات لدى جميع المسلمين أنّ هناك أحكاماً معيّنة قد سكت عنها الشارع المقدّس - لا نسياناً ولا إهمالاً - بل للتسهيل على الاُمّة .. فينبغي عدم السؤال عنها وتتبّع دقائقها ، لأنّه لو كان هناك لجاجة وعناد فلربما يشدّد الحكم على الاُمّة كلّها بسبب سؤال واحد فقط ..

ففي سورة البقرة المباركة يحدّثنا الباري تعالى عن امتحان بني إسرائيل بالبقرة التي اُمروا بذبحها ، فلو أنّهم منذ البداية جاءوا بأيّة بقرة وذبحوها لقضي الأمر وانتهى .. ولكن كلّما جاء أمر سألوا عن تفاصيله فشدّدوا على أنفسهم فشدّد اللَّه الحكم

ص: 350


1- سورة الشرح (94) : الآية 6 - 5 .

عليهم .. حتّى جاءتهم أوصاف بقرة في قوله تعالى : «صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(1)« فاشتروها بثمن غالٍ جدّاً وذبحوها «ومَا كَادُوا يَفْعَلُونَ(2)«.

فلماذا هذا اللجاج واللحاح في السؤال ؟

وصدق رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في حديثه السابق حيث قال : ((فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه))(3) فمن منّا يستطيع في الحال الحاضر أن يحجّ في كل عام ؟ فهذا لا يمكن حصوله حتّى لسكّان البلاد المقدّسة نفسها ... إذن الرحمة رحمة ربّانية لهذه الاُمّة المرحومة . من جانب آخر فإنّ النهي جاء في الآية لكي لا تنكشف السرائر وتفتضح الضمائر الأمر الذي يسوء الإنسان ، غرار ذاك الشخص الذي سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله عن والده فنسبه إلى والده الحقيقي فافتضحت اُمّه وأباه ..

وذاك الذي سأله صلى الله عليه وآله عن مكان أبيه فقال له : هو في النار وبئس القرار ..

أو ذاك الذي سأل مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) - وهو سعد بن أبي وقاص - كم شعرة في لحيتي ورأسي(4).

فقال له(عليه السلام) : عددها وأنّ تحت كل شعرة شيطان يلعنه .

فإنّ مثل هذه القضايا مخفية في علم اللَّه ، فلماذا يفتضح الإنسان أمر نفسه ؟

ففي الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال : ((إنّ اللَّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ لكم حدوداً ، فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء ، فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها))(5).

ص: 351


1- سورة البقرة (2) : الآية 69 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 71 .
3- بحار الأنوار : ج22 ص31 .
4- بحار الأنوار : ج42 ص146 ح6 .
5- نهج البلاغة : ق105 .

وقال الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) : ((ليس عليكم المسألة))(1).

وقال(عليه السلام) : ((إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم إنّ الدين أوسع من ذلك))(2).

ولذا فالفحص والسؤال عن واقع الأشياء كالطهارة والنجاسة ، والحلّية والحرمة وعدم الاكتفاء بالظاهر موجب لتشديد الحكم على المكلّف وبهذا مشقّة من نفسه عليها إذ لو ترك لترك .

التشدّد في صالح مَن ؟

من جانب آخر فإنّ التشديد ليس بصالح العبد ، لأنّه كثيراً ما لا يطيقه فيصبح منكراً للقضية من أصلها ، فعلى العبد أن لا يضيّق واسعاً على نفسه خاصّة ، فالقواعد الفقهية تقول : كل شي ء طاهر حتى تعلم أنّه قذر(3) وكل شي ء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه(4) وغيرها ..

وخلاصة القول إنّ الإفراط في جانب يؤدّي إلى تفريط في جانب آخر .. فعندما سأل بنو إسرائيل نبيّهم القتال فأشفق عليهم ، ألحّوا عليه بذلك .. وعندما كتب عليهم القتال أوّل ما رفضوا القائد المحدّد ..

وبعد ذلك قالوا له : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ..

نستجير باللَّه .. فالأمر بيد الرحمن ، ومن رحمته أعطى هذه الرخص ، فعلينا أن نأخذ بالواجبات فعلاً والمحرّمات تركاً وندع الباقي لربّ العالمين فهو أرحم الراحمين .

ص: 352


1- من لا يحضره الفقيه : ج1 ص258 ح791 .
2- تهذيب الأحكام : ج2 ص368 ح61 .
3- مستدرك الوسائل : ج2 ص583 ح27494 .
4- الكافي ج5 ص313 ح40 .

42- بناء النفس في الإسلام

اشارة

(42) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ »(سورة المائدة : 105)

في رحاب المفردات

اهتديتم : الهداية دلالة بلطف ومنه الهديّة وهوادي الوحش أي متقدماتها الهادية لغيرها وخصّ ما كان دلالة بهديت وما كان إعطاءً بأهديت نحو أهديت الهدية وهديت إلى البيت(1).

فينبئكم : النبأ خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنّ ، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمّن هذه الأشياء الثلاثة ، وحقّ الخبر الذي يقال فيه نبأ أن يتعرّى عن الكذب كالتواتر وخبر اللَّه تعالى وخبر النبي صلى الله عليه وآله ، قال اللَّه تعالى : «يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ(2).

ص: 353


1- مفردات الراغب : ص536 .
2- سورة القيامة (75) : الآية 13) مفردات الراغب : ص501 - 500 .

شأن النزول

قيل : نزلت الآية لمّا كان المؤمنون يتحسّرون على الكفرة ويتمنّون إيمانهم .

وقيل : كان الرجل إذا أسلم ، قالوا له : سفّهت آباءك ] أو لاموه [ فنزلت(1).

عبر من الآية

تنبيه وتوجيه ربّاني رائع يتوجّه به الحقّ سبحانه إلى خصوص عباده المؤمنين ..

فالجنّة - كما يقول أحد العلماء - مشروع خاصّ .. ورحلة ذاتية نابعة من أعماق الإنسان المؤمن الذي يجذّر الإيمان في قلبه ، فيتوجّه إلى محبوبه كلّياً ، ويمتثل أوامره ونواهيه .

فاليوم عمل ونِعَم .. وغداً جنان عدن مفتّحة الأبواب ، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، وفيها ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر قطّ ..

فالتوجيه الربّاني ينطلق من )عليكم أنفسكم ..( أي إلزموا أمر أنفسكم ، فإنّما ألزمكم اللَّه أمرها .. أو احفظوها من ملامسة المعاصي ، والإصرار على الذنوب .. أي أطيعوا أمري واحفظوا وصيتي لكم في أنفسكم .. فأنت أنت ولا أحد سواك ..

ولكن قد يسأل هنا عن النفس ، فما هي النفس الإنسانية ؟

الجواب : هي الجوهر اللطيف الملكوتي الذي يستخدم هذا البدن الجسماني في حاجاته مسخّراً له تسخير المولى لخدمه .. وهي ذات الإنسان وحقيقته العالمة

ص: 354


1- تفسير كنز الدقائق : ج4 ص250 .

بالمعلومات ، ولذلك فإنّ اللَّه تعالى يدعو الناس إلى التفكّر في أنفسهم فقال عزّ من قائل : «وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(1)«.

وقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : ((من عرف نفسه فقد عرف ربّه))(2).

وقال صلى الله عليه وآله : ((أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه))(3).

وقد يسمّى هذا الجوهر الملكوتي بالروح : لتوقّف حياة البدن عليه .. وبالقلب : لتقلّبه في الخواطر .. وبالعقل : لاكتسابه العلوم واتّصافه بالمدركات ، وقد تستعمل هذه الألفاظ الأربعة في معانٍ اُخرى تعرف بالقرائن ..

حالات النفس الإنسانية

ثمّ إنّ النفس الإنسانية توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها .. وهي :

1 - المطمئنة وهي التي زال عنها الاضطراب بسبب امتثالها للأوامر وتجنّبها للنواهي .. وهي المناداة بقوله تعالى : «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي(4)«.

2 - اللوامة : وهي النفس التي لم يتم سكونها .. ولكنّها صارت مدافعة للشهوة والغضب ومعترضة عليها ، وتلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاه أو اقترافه للذنوب والخطايا وإليها يشير الباري تعالى في قوله : «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا

ص: 355


1- سورة الذاريات (51) : الآية 21 .
2- بحار الأنوار : ج2 ص32 ح32 .
3- جامع الأخبار : ص4 .
4- سورة الفجر (89) : الآية 30 - 27 .

أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(1)«.

3 - الأمّارة : وهي التي تركت الاعتراض ، وأطاعة مقتضى الشهوات ودواعي الشيطان - كما اعترفت زليخا بعد أن حصحص الحقّ ، وبانت براءة نبي اللَّه يوسف(عليه السلام) فقالت : «وَمَا أُبَرِّءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي(2)«.

فإنّ مثل الجوهرة التي يمتلكها الإنسان إن راعاها وحفظها وصانها من هجمات الشيطان وجنوده ، ساقته إلى الجنان ورضا الرحمن .

أمّا إنّ تركها نهباً للشياطين يدوسونها تارةً ويطؤونها اُخرى فلا شك فإنّها ستأخذ بيده إلى دركة من دركات النيران - والعياذ باللَّه - وقد قال سبحانه وتعالى : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(3)«.

وكما في الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ياأبا ذرّ إذا أراد اللَّه عزّوجلّ بعبد خيراً فقّهه في الدين وزهّده في الدنيا وبصّره بعيوب نفسه))(4) فمن كملت له بصيرته لم تخف عليه عيوبه ، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوب أنفسهم .. بحيث يرى أحدهم القذى في عين أخيه ، ولا يرى الجذع في عينه ..

فمن أراد أن يقف على عيب نفسه فليطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديّناً فينصبه رقيباً على نفسه ، ليراقب أحواله وأفعاله ، فما يكرهه من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبّهه عليها ، أو يستفيد معرفة عيوب نفسه من لسان عدوّه ، فإنّ عين السخط تبدي المساوي .

ص: 356


1- سورة القيامة (89) : الآية 2 - 1 .
2- سورة يوسف (12) : الآية 53 .
3- سورة الشمس (91) : الآية 10 - 9 .
4- مستدرك الوسائل : ج12 ص42 ح13464 .

ولعل انتفاع الإنسان بعدو شاحن يذكر عيوبه ، أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه .. إلّا أنّ الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد ، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه ، فإنّ مساويه لابدّ أن تنتشر على ألسنتهم ، أو يخالط الناس فكل ما يراه مذموماً فيما بين الخلق فيطالب نفسه بتركه ، وما يراه محموداً يحمل نفسه عليه فإنّ المؤمن مرآة المؤمن فيرى في عيوب غيره عيوب نفسه ..

ولا يخفى أنّ الطباع متقاربة في اتّباع الهوى ، فما يتّصف به واحد من الأقران لا ينفك القرين الآخر عن مثله أو عن أعظم منه فيتفقّد نفسه ويطهّرها عن كل ما يذمّه من غيره ، وناهيك بهذا تأديباً ، فلو ترك الناس كلّهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدّب .. هذا وقد قيل لعيسى المسيح(عليه السلام) من أدّبك ؟ ما أدّبني أحد رأيت قبح الجهل فجانبته(1).

إلّا أنّ نبيّنا المصطفى صلى الله عليه وآله قال : ((أدّبني ربّي فأحسن تأديبي))(2) وقال اللَّه سبحانه في حقّه صلى الله عليه وآله : «إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(3)«.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((رحم اللَّه من أهدى إليّ عيوبي))(4) - وحاشاه من العيوب - فهو المعصوم في أعلى درجات العصمة الربّانية إلّا أنّ هذه الحكمة النورانية درساً أخلاقياً بليغاً لنا نحن بني البشر عامّة والمؤمنين خاصّة .

فعلى المؤمن أن يعرف نفسه ، ويراقب أعماله كلّها فإن كانت بما يرضي اللَّه فهو السعيد بلا شك أمّا أن يقول : نحن من الناس .. أو الحشر مع الناس عيد أو غير ذلك

ص: 357


1- بحار الأنوار : ج14 ص326 ح45 .
2- بحار الأنوار : ج68 ص382 .
3- سورة القلم (68) : الآية 4 .
4- الكافي : ج2 ص639 ح5 .

من الأقوال فهي باطلة أبداً ..

نقد نظرية الحشد

أمّا نظرية علماء الاجتماع المسمّاة ب )نظرية الحشد( والتي تعني أن يكون الإنسان بطبعه منشدّاً إلى التجمّع والاجتماع فتراه يتأثّر به ويميل إلى السير مع التيّار العام .

فهذه النظرية صحيحة في نظر الدين الإسلامي الحنيف إذا كان الناس قد اجتمعوا على الهدى والخير .. أمّا لو اجتمعوا على الضلال والشر فعلى الإنسان أن لا يكون مع أهل الباطل وكما قال تعالى : «لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ(1)« أي لا يوقعكم في الضلال والضرر بمشاركتكم مع الضالّين ، بل الزموا خطّ الهداية والصلاح ما استطعتم ..

وقد أخبر القرآن الكريم عن أسباب الخلود في سقر فقال تعالى : «مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(2)« بالنسبة للكافرين فكان ما أجابوا به هو قولهم : «وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(3)« أي نخوض في الأحاديث الباطلة كالغيبة والنميمة وما أشبه ذلك ..

فعلى الإنسان أن يكون حكيماً عالماً بنفسه عارفاً بما يرفعها فيعمل بمقتضاه ، وبما يشقيها فيعمل لتجنّبه قدر الإمكان ، وقد صدق اللَّه تعالى حيث قال في كتابه الحكيم : «بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(4)«.

وقد جاء في وصية الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) لتلميذه المخلص هشام بن الحكم : ياهشام : ((لو كان في يدك جوزة وقال الناس : في يدك لؤلؤة ما كان ينفعك ،

ص: 358


1- سورة المائدة (5) : الآية 105 .
2- سورة المدثر (74) : الآية 42 .
3- سورة المدثر (74) : الآية 45 .
4- سورة القيامة (75) : الآية 15 - 14 .

وأنت تعلم أنّها جوزة .. ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس : إنّها جوزة ما ضرّك وأنت تعلم أنّها لؤلؤة))(1).

وفي الحديث عن الإمام علي(عليه السلام) : ((لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله))(2).

وقال(عليه السلام) : ((إنّ قول الحقّ لم يدع لي صديقاً))(3).

لأنّ الحقّ أحقّ أن يتّبع كما في القرآن الكريم «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(4)«.

وقد قال شيخ الإسلام الطبرسي في تفسير قوله تعالى : «يَا وَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً(5)«.

وقيل : هو عام في كل ظالم نادم يوم القيامة ، وكل خليل يخالّه غير في ذات اللَّه . ثمّ يقول : وإن قلنا : المراد بالظلم هنا جنس الظلمة ، فالمراد به كل خليل يضلُّ عن الدين . ولو قال : لما اتّخذ فرعون وهامان وإبليس وجميع المضلّين لطال ، فقال : فلاناً ، حتّى يتناول كل خليل مضلّ عن الدين(6).

وقصّة العبد الصالح )سعيد بن جبير( مع الطاغية السفّاح )الحجّاج بن يوسف

ص: 359


1- بحار الأنوار : ج1 ص136 .
2- نهج البلاغة : خ319 في كلام يعظ بسلوك الطريق .
3- كمال الصديق : ج2 ص574 .
4- سورة يونس (10) : الآية 35 .
5- سورة الفرقان (25) : الآية 29 - 28 .
6- مجمع البيان : ج19 مج7 ص293 - 292 .

الثقفي( خير شاهد على ذلك حيث إنّ الحجّاج قال له أخيراً : كيف تريد أن أقتلك ؟

فقال سعيد : بل أنت إختر فلا تقتلني قتلة إلّا قتلتك مثلها أبداً ..

وقد كان من أسباب هلاك ذاك الطاغية - وقيل إنّه جُنّ - بعد قتله سعيد بن جبير الذي ذهب إلى ربّه مضرّجاً بدمه شهيداً وشاهداً على ظلم بني اُميّة وأذنابهم ..

فمرجع الناس جميعاً إلى اللَّه وهناك يخسر المبطلون ، وعلى الإنسان أن يكون كما قال الإمام الصادق(عليه السلام) لرجل من أصحابه : ((لا تكون امعة تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس))(1).

وكما ورد عن الإمام السجّاد(عليه السلام) قوله : ((إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته ، فرويداً لا يغرنّكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيّته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدين فخّاً لها .. وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرنّكم .. فإنّ شهوات الخلق مختلفة ..

ولكن الرجل كل الرجل ، نعم الرجل ، هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر اللَّه وقواه مبذولة في رضا اللَّه يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ الباطل .. ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرائها يؤدّيه إلى دوام النعيم .. فذلكم الرجل .. نعم الرجل فيه تمسّكوا ، وبسنّته اقتدوا))(2).

اللهم وفّقنا إلى عزّ الطاعة ، واجتناب ذلّ المعصية إنّك سميع قريب مجيب .

ص: 360


1- بحار الأنوار : ج2 ص82 ح4 .
2- وسائل الشيعة : ج8 ص317 ح10777 .

43- حقوق تحفظها الوصيّة

اشارة

(43) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الْآثِمِينَ »(سورة المائدة : 106)

في رحاب المفردات

ارتبتم : يقال رابني كذا وأرابني ، فالريب أن تتوهّم بالشي ء أمراً ما فينكشف عمّا تتوهّمه ، وقد قال اللَّه تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ(1)

ص: 361


1- سورة الحجّ (22) : الآية 5 .

«. وقال : «إِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا(1).

نكتم : الكتمان هو ستر الحديث ، يقال كتمته كتماً وكتماناً ، وقد قال اللَّه تعالى : «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ(2).

الآثمين : الإثم والأثام اسم للأفعال المبطِنَةِ عن الثواب ، وجمعه آثام ، ولتضمنه لمعنى البطء قال الشاعر :

جماليّةٌ تغتلي بالسرّ وادف

إذا كذب الآثمات الهجيرا

وقوله تعالى : «فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ(3)« أي في تناولهما إبطاء عن الخيرات(4).

شأن النزول

ذكر المفسّرون أنّ شأن نزول هذه الآية المباركة هو : أنّ ثلاثة نفر خرجوا من المدينة تجاراً إلى الشام ، وهم تميم بن أوس الداري ، وأخوه عدي - وهما نصرانيان - وابن أب مارية - مولى عمرو بن العاص السهمي - وكان مسلماً .. حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، مرض ابن أبي مارية ، فكتب وصيّته بيده ، ودسّها في متاعه ، وأوصى إليهما ، ودفع المال إليهما .

ص: 362


1- سورة البقرة (2) : الآية 23) مفردات الراغب : ص213 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 140) مفردات الراغب : ص442 .
3- سورة البقرة (2) : الآية 219 .
4- مفردات الراغب : ص5 .

وقال : أبلغا هذا أهلي ، فلمّا مات ، فتحا المتاع ، وأخذا ما أعجبهما منه ، ثم رجعا بالمال إلى الورثة ، فلمّا فتّش القوم المال ، فقدوا بعض ما كان قد خرج به صاحبهم ، فنظروا إلى الوصية ، فوجدوا المال فيها تاماً ، فكلّموا تميماً وصاحبه .

فقالا : لا علم لنا به ، وما دفعه إلينا أبلغناه ، كما هو ؟

فرفعوا أمرهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فنزلت الآية مشيرة إلى شأنهم(1).

عبر من الآية

تتناول هذه الآية المباركة مسألة في غاية الأهمية طالما أكّد عليها الشارع المقدّس واعتنى بها الأئمّة الأطهار عليهم السلام ألا وهي ((الوصية)) والشهادة عليها ممّن حضر المجلس ذاك .

فما أضعف الإنسان وما أضعف إيمانه وأقلّ يقينه وأندر خوفه من اللَّه ؟

فهو ما دام بصحته وعافيته نادراً ما يلتفت إلى اللَّه ويتذكّره ويخافه . بل هو أخوف ما يخاف الموت ليس لتفكيره في الآخرة .. بل لأنه سينقطع عن نعم الدنيا الذي أفنى عمره كلّه في سبيل جمعها والحصول عليها . ومن جانب آخر هناك نداء خفي في باطن ضمير الإنسان يحذّره ويخوّفه من الموت لشدّة الخطايا والذنوب التي ارتكبها في أيّام عمره .

فكثير من الناس الملتزمين إنما يلتزمون بالحقوق خوفاً من كلام الناس ، لا خوفاً من اللَّه - والعياذ باللَّه - ولذا تراهم إذا اُتيحت لهم الفرصة يتواثبون على الحرام

ص: 363


1- مجمع البيان : ج7 مج3 ص439 - 438 وقد ذكرت القضية في تفسير نور الثقلين : ج2 ص303 - 302 مفصّلاً .

دون أيّة مبالاة أو تورّع أو وجل من أن يأتي الأجل .

وتظهر هذه الحالات في قضية ((الموت)) فما أكثر الأبناء الذين يستولون على ثروات الآباء من خلال تلاعبهم بالوصايا الشرعية التي يتركها المورّثون . ومنهم من يخبّأ الوصية ولا يعرضها على أحد حتّى لا يفتضح أمره أمام إخوته وأقاربه والمجتمع كلّه فيدسّها في مكان ما كي لا يراها أحد .

فما أكثر الذين يستولون على حقوق الأيتام ؟ لا سيّما الصغار منهم والبنات على وجه العموم - فالمرأة اليوم شبه محرومة من الميراث - إذ أنّ الميّت لا يستطيع الدفاع ، بل وضع ثقته بأحد أبنائه وبقيّة الناس الآخرين لا يعلمون شيئاً عن ذلك أو لا يقدرون على أي شي ء من ذلك .

من هنا أكّدت الآية المباركة على قضية الاشهاد حين الوصية حتّى لا تحصل مثل هذه الاُمور التي لا يحمد عقباها . وقد أشارت الآية المباركة إلى كيفية الاشهاد فقال عزّ من قائل : ((تحبسونهما من بعد الصلاة .. فيقسمان باللَّه ..)) أي يجب إيقافهما إلى ما بعد الصلاة المفروضة - ظهراً أو عصراً - وذلك لأنّ اجتماع المسلمين في هاتين الصلاتين كان أكثر ممّا يجعل إشهاده الحضور أوفر وأوضح وأبلغ ، إذ أنّ الكذب في اجتماع الناس يكون أصعب من أن يكون الشخص الشاهد نفسه أو مع ذوي المال فقط .

وعليهما - الشاهدان - أن يقسما يميناً معظّماً ((باللَّه)) على أن لا يشهدا إلّا بالحقّ .

وأن ((لا نشتري به ثمناً قليلاً)) أي لا نشتري بتحريف الشهادة ثمناً ، فحتى لو كان موضوع الشهادة يتعلّق بذوي قرابتنا - الشهادات - فإننا لن نكتم الشهادة لأنّ شهادتنا للَّه وليس لأي شي ء آخر وقد أقسمنا باللَّه على ذلك ومن يحنث بيمينه أو

ص: 364

يقسم يميناً كذباً وزوراً وبهتاناً فإنه لا شك ((لمن الآثمين)) أي مرتكبي الذنب العظيم .

وفي الآيتين التاليتين لهذه الآية المباركة زيادة توضيح لهذه المسألة وتعليم لهم على كيفية إثبات الحق وكشف الكذب وشهادة الزور إن كان هناك ريبة من قبل المدّعين على الشاهدين أو خالجهم الشك بأنّهما كاذبان ، فعليهما إذن الإثبات بشاهدين عادلين يشهدان ضدّ شهادة الشاهدين السابقين ويحلفان كذلك باللَّه أنّ شهادتهما أحقّ من شهادة اُولئك .

إذن من خلال هذه الآية المباركة يرشد القرآن المسلمين إلى ضرورة الوصية قبل الموت ، والشهادة بعد الموت ، حيث ينبغي أن يُشهد الشخص إذا دنت منه المنيّة ، شخصين عادلين ، وينقل إليهما مسؤولية الوصية والشهادة عليها بعد الموت ، وإذا كانا موضع تهمة فعليهما أن يحلفا باللَّه بعد أداء الفريضة قسماً بأنّهما لا يكذبان في الشهادة .

وإذا تبيّن كذبهما فلا يمكن الحكم بكذبهما إلّا إذا حلف إثنان من المعارضين المدّعين عليهما الإثم .. يحلفان على التهمة الموجّهة للشاهدين ، كما يحلفان على أنّهما ليسا بظالمين في توجيه التهمة إلى هذين الشخصين .

حتّى نصل إلى الحقيقة

فهذا العمل هو أفضل طريقة لصدق الشهادة وعدم ردّ الإيمان .. وعلى الإنسان إذا أراد أن يصل إلى الحقيقة - وبالذات على القاضي - إذا أراد أن يتوصّل إلى الحقّ فعليه اتّباع ومراعاة أمرين إثنين :

أ - تقوى اللَّه واتّباع أوامره كافّة .

ب - أن يسمع كل الآراء ويحكم بحسب البيّنات لديه .

ص: 365

من جانب آخر فإنّ الحكم الشرعي يثبت بأحد أمرين وهما :

1 - العلم البعيد عن تقليد الآباء ، أو تقليد المجتمع ، أو استعجال الأحكام الشرعية ، وهذا ما أوضحته آيات سابقة في سورة ((المائدة)) وغيرها .

2 - بالشهادة : وهي تختص بالعدول من المؤمنين )للإطمئنان( والعادل : هو الرجل المستقيم الذي ينفّذ تعاليم ربّه ، فهذه الآية المباركة هي من الآيات الواردة من أجل حفظ الإسلام الحنيف على الحقوق الشرعية للناس حتّى لا تضيع ، إذ أنّ ضياع الحقوق يؤدّي إلى فساد المجتمع كلّه .

فالوصية مؤكّد عليها بشدّة على الميّت ، والشهادة واجبة على الحي .

فعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((من لم يحسن وصيّته عند الموت كان ذلك نقصاً في مروّته))(1).

وعن النبي صلى الله عليه وآله قال : ((من مات على وصية حسنة مات شهيداً)) ، وقال صلى الله عليه وآله : ((من لم يحسن الوصية عند موته كان ذلك نقصاناً في عقله ومروءته))(2).

وصيّة الرسول صلى الله عليه وآله الخالدة

ومن هذا البحث يمكن أن نطرح سؤالاً مهما يتعلّق بمصير الاُمّة الإسلامية وهو :

هل أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أوصى على رسالته أم لا ؟

وهل أوصى على دنياه وما يملك من حطامها ؟

وماذا ترك لورثته بعد التحاقه إلى الرفيق الأعلى ؟

ص: 366


1- مستدرك الوسائل : ج14 ص92 ح16170 .
2- مستدرك الوسائل : ج14 ص92 ح16171 .

فكل هذه الأسئلة وتشعّباتها قد ترد إلى الذهن ولكن جوابها قد يكون من أصعب ما يكون لدى بعض الناس من هذه الاُمّة ، حيث إنهم يدّعون أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لم يوصِ قطّ لا في دين ولا في دنيا .

ومنهم من قال أوصى بالذي أوصاه به اللَّه - في اليتامى ، والفقراء ، والأطفال والنساء - وبعض العبادات لا سيّما - الصلاة والصيام - .

ومنهم من قال عنه صلى الله عليه وآله : أنه يهجر . أو إنه قد غلب عليه الوجع وحسبنا كتاب اللَّه . أو إنّ النبي أو نبيّكم - يهجر - .

فياويح أنفسهم ، فلماذا لم يقرّوا على ... بالهجر عندما طُعن قبل مماته فقبلوا وصيّته ونفّذت بحذافيرها - حتى لو أدّت إلى قتل إثنين أو ثلاثة من كبار الصحابة - بينما تركت وصية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ؟

وليتهم اقتصروا على ذلك وإنّما خالفوا نصّ وصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله المؤكّدة على قداسة إبنته الصدّيقة فاطمة عليها السلام فعمدوا إلى نحلتها واغتصبوها بذريعة حديث مجعول كذّبته الصدّيقة الزهراء من خلال آيات القرآن حيث قالت عليها السلام : ((أفي كتاب اللَّه يابن أبي قحافة ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فريّاً ، أفعلى عمد تركتم كتاب اللَّه ، ونبذتموه وراء ظهوركم ، إذ يقول : «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ(1)« وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكرياعليهما السلام : إذ قال : «رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ(2)« وقال : «وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ(3)« وقال : «يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ(4)« وقال : «إِنْ

ص: 367


1- سورة النمل (27) : الآية 16 .
2- سورة مريم (19) : الآية 5 و6 .
3- سورة الأنفال (8) : الآية 75 .
4- سورة النساء (4) : الآية 11 .

تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ(1)« ، وزعمتم ألّا حِظوة لي ، ولا إرث من أبي لا رحم بيننا))(2)!

فقصّة الوصية والوصايا هي قصّة الإسلام الحقيقي - وإسلام المنافقين - فالذي التزم بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وحفظ القرآن والثقلان كما أوصى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بحديث الثقلين المشهور بين عامة الجمهور حيث قال صلى الله عليه وآله : ((إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما))(3).

يكون قد حفظ الوصية وامتثل هذا النداء القرآني العظيم ، ولكن هل حفظت الاُمّة الوصية المحمّدية فيهم عليهم السلام ؟ لا أعتقد ذلك إذ أنّ الاُمّة جهلتهم ولم تعد تعرفهم بالأسماء حتى .. فلا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العلي العظيم .

ص: 368


1- سورة البقرة (2) : الآية 180 .
2- الاحتجاج : ج1 ص102 .
3- صحيح الترمذي : ج5 ص663 ح3788 .

44- الثبات في ساحات الجهاد

اشارة

(44) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ »(سورة الأنفال : 15)

في رحاب المفردات

لقيتم : اللقاء مقابلة الشي ء ومصادفته معاً ، وقد يعبّر به عن كل واحد منهما ، يقال لقيه يلقاه لقاءَ ولُقيّا ولُقيةً ، ويقال ذلك في الإدراك بالحسّ وبالبصر وبالبصيرة ، قال : «لَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ(1).

زحفاً : أصل الزحف انبعاث مع جرِّ الرجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي وكالبعير إذا أعيا فجَّر فَرْسنه ، وكالعكسر إذا كثر فيعثر انبعاثه(2).

تولّوهم : الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما . ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد(3).

ص: 369


1- سورة آل عمران (3) : الآية 143) مفردات الراغب : ص473 .
2- مفردات الراغب : ص216 .
3- مفردات الراغب : ص570 .

عبر من الآية

القرآن الكريم هو كتاب علم ونظم وحكمة . وفي آياته كل ما يخلّص البشر من الشرّ ويقرّبهم إلى الخير والنور ، وفي كتاب اللَّه آية عظيمة جدّاً - وكلّه عظيم - لأنها تتحدّث عن القرآن ذاته إذ يقول جلّ وعلا : «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ(1) أي أنّ القرآن لم يهمل شي ء إلّا وأعطى له حكماً شرعياً ، أو علماً مفيداً ، أو نوراً مبيناً . وميزة سورة الأنفال المباركة أنها مفعمة بالحديث عن الجهاد والمجاهدين وأحكام الجهاد في سبيل اللَّه إذ أنّ الأنفال لغة : جمع نفل ، والنفل زيادة على الشي ء . والنافلة : صلاة التطوّع دون وجوب(2).

والأنفال : هي الغنائم الناتجة عن الحرب أو بعدها .

وأوّل درس في هذه السورة الخاصّة بالمؤمنين ، هو التوجيه الربّاني الوارد في الآية المباركة وأمر المؤمنين لئلّا يفرّوا من الزحف ، بل عليهم الثبات والدفاع عن دينهم ونبيّهم وأنفسهم . فساعة المواجهة ، هي ساعة الحقيقة . وفيها تتجلّى جواهر الرجال وتتبيّن حقائق نفسيّاتهم ، فالإيمان والشجاعة ، والكرامة ، والاستعداد للتضحية ، وغيرها من صفات الفروسية لا تظهر إلّا في ساحة الوغى ، عند المواجهة الفعلية . ولذلك فإنّ الحديث عن هذه الصفات شي ء ، وممارستها لدى المواجهة شي ء آخر . ومن هنا فإنّ الكثيرين يخيفهم منظر الدماء ، وسقوط الشهداء ، فتنتابهم حالة الذعر ، والخوف من الموت ، فإذا اُضيف إلى ذلك ضعف الإيمان ، والتمسّك بالدعة ، والراحة ، وحبّ الدنيا ، والجبن ، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى اختيار الفرار والزحف ، بدل الإنطلاق في المواجهة . فكلّما كان الإنسان ضعيف الإيمان ، كان أكثر ميلاً للفرار ، وهذا الذي يعبّر عنه بالروح المعنوية ، التي تعتبر أعظم عامل من العوامل المؤدّية إلى

ص: 370


1- «(( - سورة الأنعام (6) : الآية 38 .
2- مجمع البيان : ج9 مج4 ص423 .

تحقيق النجاح ، فالمعارك إنما تكسب أوّلاً في قلوب الرجال ، ثم يعلن عنها في ساحة المواجهة . وكلّما كان الإنسان أصلب إيماناً وأقوى جناناً ، كان أكثر صموداً في القتال .

فالجهاد معاناة قاسية لا يتحمّلها إلّا أصحاب العزائم الكبيرة . ونظراً إلى ما يتركه ((الفرار)) من الزحف من آثار مدمّرة على بقية المجاهدين ، فقد حرّمه اللَّه تعالى ، وأوعد عليه عذاب النار .

حرمة الفرار من الجهاد

هناك العديد من الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام التي يستفاد منها حرمة الفرار من مجابهة العدو في ساحات الجهاد ، فقد أشار الإمام الرضا(عليه السلام) إلى حكمة حرمة الفرار من ساحات الجهاد فقال في كتاب له : ((حرّم اللَّه الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين ، والاستخفاف بالرسل والأئمّة العادلة ، وترك نصرتهم على الأعداء والعقوبة لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية ، وإظهار العدل ، وترك الجور وإماتة الفساد ، لما في ذلك من جرأة العدوّ على المسلمين ، وما يكون في ذلك من السبي والقتل وإبطال دين اللَّه عزّوجلّ وغيره من الفساد))(1).

وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((وليعلم المنهزم أنه مسخط ربّه ، وموبق نفسه ، إنّ في الفرار موجدة اللَّه ، والذلّ اللازم والعار الباقي ، وفساد العيش عليه ، وإنّ الفار لغير مزيد في عمره ، ولا محجوز بينه وبين يومه ، ولا يرضي ربّه ، ولموت الرجل محقّاً قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبّس بها ، والإقرار عليها))(2).

فالفرار من الزحف ، موجب للذلّ والهوان في الدنيا والآخرة حتى أنه يلحق العار في الأعقاب من الأولاد والأحفاد ، فتبقى العائلة توصم بوصمة عار على طول

ص: 371


1- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص369 ح1748 .
2- الكافي : ج5 ص41 ح4 .

المدى .

الملفت للانتباه أنّ القادة على مرّ الزمان كانوا يعانون من أمثال هؤلاء الضعفاء ، لا سيّما إذا كان القائد في غاية النبل والفضل والإقدام والشجاعة كأمير المؤمنين(عليه السلام) الذي كان يقول :

((لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنهم))(1).

فكم عانى أمير المؤمنين(عليه السلام) من جنوده وقوّاته أثناء حروبه الثلاثة - الناكثين في الجمل ، والفاسقين في صفّين ، والمارقين في النهروان - وأشدّها ألماً كان لدى تخاذلهم عنه في حرب صفّين . وقد تجلّى هذا التخاذل في موقفين وهما :

1 - متابعة الحرب قبل التحكيم وبعد رفع المصاحف .

2 - مسألة التحكيم واختيارهم لأبي موسى الأشعري ولم يتركوا أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يختار الأشتر النخعي .

فالقائد يجب أن يطاع ، لا أن يطيع لأنّ القائد هو نصف المعركة إذا ما كان كلّها إن كان بمستوى الأمير(عليه السلام)، ولذلك كان(عليه السلام) يقول لهم :

((واللَّه لكأنّي بكم - فيما أخالكم أن لو حمس الوغى وحمي الضراب . قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها .

وإنّني على بيّنة من ربّي ، ومنهاج من نبيي ، وإنّي لعلى الطريق الواضح . ألقطه لقطاً))(2).

فالأساس هو أن تكون على بيّنة من ربّك ، وسائراً على نهج رسولك وقائدك حتى آخر الطريق في مسألة الجهاد المقدّس .

فالجهاد إذن ليس ((نزهة)) ، وإنما هو أمر شاقّ ومكلف ، فربما أدّى الثبات في

ص: 372


1- من كتاب له إلى عثمان بن حنيف : 45 .
2- نهج البلاغة : خ97 في أصحابه وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .

ساحة الحرب والجهاد إلى موت الإنسان ، أو أنّه يؤدّي به إلى فقد بعض أعضائه وجوارحه وجميعها شاقّة على الإنسان . ولذا فإنّ القرآن الكريم يفتتح الخطاب ب «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فيذكّرهم بإيمانهم باللَّه ووحدانيته أي يذكّرهم بالمبادئ التي قامت عليها الدعوة والرسالة كلّها التي آمنوا بها وحاربوا دونها ونصروها فنصرهم اللَّه تعالى ببركة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله .

رفع معنويات المؤمنين

من جانب آخر يستفاد من هذا النداء الجميل مسألة الرفع للحالة المعنوية للمقاتل ، وكم لهذه الحالة من تأثير في مجريات المعركة فنداء ((اللَّه أكبر)) الذي اتّخذه المسلمون في بداية الدعوة هو من أقوى الشعارات والنداءات تأثيراً في النفوس .

فقد كان للمؤمنين علامة للنصر وكانوا يشعرون بهذا النداء وكأنّ الأرض تتزلزل تحت أقدام الأعداء ، وتخرّ له الجبال هدّاً . لقد كان هذا الشعار كالصاعقة على الأعداء ، فيوقع بينهم الانهزام فكانوا يرتجفون أمامه وتخور قواهم وربما ولّوا مدبرين . إذن فالحالة المعنوية لدى المقاتل لها أثرها المهم في الحرب ، وحالة المؤمنين هي بحجم ثقتهم باللَّه وإيمانهم بعدالة وأحقّية رسالتهم وقائدهم .

وقد دوّن التاريخ العديد من مواقف الأبطال الذين دفعوا أرواحهم كهدية إلى السماء وذلك من خلال اقتحامهم غمار المعارك حيث تطاحن السيوف وتعانق الرماح .

شواهد من التاريخ

يضم التاريخ الإسلامي بين طيّاته للعديد من الشواهد التاريخية التي تدلّ على عظمة إيمان المسلمين في صدر الإسلام ومدى رفعة معنوياتهم .

ففي أحوال عمّار بن ياسر ذلك الصحابي الجليل المعروف نقلوا أنّه قاتل في صفّين - بليلة الهرير الشهيرة - قتالاً شديداً فطلب ماءً فجاءوا له بكوب من اللبن فاستبشر خيراً وقال : اليوم ألقى النبي محمد وصحبه .

ص: 373

فسأله أحدهم من منّا على الحقّ ياأبا اليقظان والجميع يشهد أن لا إله إلّا اللَّه ؟

فقال : واللَّه لو قاتلونا ووصلوا بنا على سعفات هجر ، لما تزعزع يقيني أنّنا على حق وهم على باطل(1). أجل هكذا يكون الإيمان الصحيح والجهاد الواعي في سبيل اللَّه .

فالفرار والزحف من ساحات القتال هو من الكبائر ، ولا ينهزم إلّا من كان إيمانه مستوراً وعرضياً لا مستقراً وراسخاً ، ففاقدي الإيمان ، وضَعَفَة اليقين كانوا ينهزمون في حروب الرسول صلى الله عليه وآله والتاريخ حدّثنا عن الكثيرين منهم .

فالشجاعة لا تعرف إلّا في ساحات الوغى والقتال ، والجبان يعرف هناك وبالمقابل فإنّ الشجعان يخوضون غمار الموت طالبين الشهادة .

ففي غزوة اُحد لمّا هربوا جميعاً إلّا بعض المؤمنين ولم يتجاوزوا عدد أصابع اليدين ، فمنهم من ذهب بها عريضاً . ومنهم من ركض إلى أطراف الشام ومنهم غير ذلك . بينما بقي أمير المؤمنين(عليه السلام) حول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يذود عنه ويفديه بروحه وبكل ما يملك من شجاعة حتّى باهى به اللَّه سبحانه ملائكة السماء وكان جبرئيل الأمين ينادي بين السماء والأرض :

لا فتى إلّا علي

ولا سيف إلّا ذو الفقار

وكذا الحال في غزوة الخندق بل كان الأمر أوضح وذلك لمّا كان الرسول صلى الله عليه وآله ينادي بالجمع : من يبرز إلى عمرو وأنا أضمن له على اللَّه الجنّة ثلاث مرّات .. فلم يبادر إلّا الإمام علي(عليه السلام) لأنه موقن بالجنّة يقينه بالحياة وهو القائل : ((لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً))(2).

ص: 374


1- كشف الغمّة في معرفة الأئمّة : ج1 ص259 .
2- بحار الأنوار : ج20 ص215 ح2 .

45- طاعة الرسول صلى الله عليه وآله ونجاة الاُمّة

اشارة

(45) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ »(سورة الأنفال : 20)

في رحاب المفردات

أطيعوا : الطوع هو الانقياد ويضادّه الكره ، قال تعالى : «اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً(1)« والطاعة مثله لكن أكثر ما تقال في الائتمار لما اُمر والارتسام فيما رسم ، وقد قال تعالى في ذلك : «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ(2).

تولّوا : لفظ تولّى إذا عُدّي بعن لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الاعراض وترك قربه ، فمن الأول قوله : «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ(3)« ومن الثاني : «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(4).

ص: 375


1- سورة فصلت (41) : الآية 11 .
2- سورة النساء (4) : الآية 59) مفردات الراغب : ص318 .
3- سورة المائدة (5) : الآية 51 .
4- سورة آل عمران (3) : الآية 63) مفردات الراغب : ص571 - 570 .

شأن النزول

روى المفسّر المحدّث جلال الدين بن أبي بكر السيوطي )الشافعي( في تفسيره عن مجاهد عن ابن عباس قال : ((ما أنزل اللَّه آية فيها : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها))(1).

عبر من الآية

سؤال في غاية الأهمية ينبغي الالتفات إليه والتأمّل في أبعاده المترامية الأبعاد ألا وهو : هل الأمر بالطاعة هو أمر واجب كبقية الواجبات المعروفة ؟ وبعبارة اُخرى هل هو أمر مستقل مولوي في عرض سائر الأوامر الإلهية الاُخرى ؟

الجواب : بالتأكيد كلّا .

فالأوامر المعروفة في الشريعة الإسلامية هي من قبيل : 1 - صلّوا . 2- صوموا. 3 - حجّوا . 4 - زكّوا . 5 - خمّسوا . 6 - والوا . 7 - تبرّوا . 8 - جاهدوا . أمّا الأمر بالإطاعة هو أمر من نوع آخر ، فهو أمر إرشادي )أي للإرشاد( إلى بقية الأوامر كلّها .

فأطيعوا .. هو إشارة إلى ضرورة الإمتثال إلى (700) أمر تقريباً .. أي كل أوامره تعالى ، تقيّدوا بها ولا تهملوها أو تهملوا أي واحد منها أبداً .

ولهذا يقول أهل العلم : إنّ أوامر الطاعة )إرشادية( لا )مولوية).

ومن هنا يظهر صعوبتها وتعقيدها ، لأنها ليس أمراً واحداً حتى يسهل امتثالها بل هي (700) أمر معاً .

ص: 376


1- الدرّ المنثور : ج1 ص104 .

فأطيعوا : أي صلّوا .

وأطيعوا : أي صوموا .

وأطيعوا : أي جاهدوا .. الخ .

وحيث إنّ الطاعة المطلقة صعبة جدّاً ، لذا كثرت الأوامر في القرآن بها ، فوردت مادّة )أطيعوا( أي الأمر بالطاعة - 19 - مرّة في القرآن الكريم وكلّها - على الاطلاق - تؤكّد طاعة اللَّه مطلقاً . أو الطاعة للَّه وللرسول صلى الله عليه وآله معاً . أو للَّه وللرسول ولاُولي الأمر . فكل هذه الأوامر هي أوامر إرشادية عامّة ومطلقة لا تقيّد ، بل التقييد يكون في الأوامر العبادية كما هو واضح .

فطاعة اللَّه : هي الالتزام الدقيق بتنفيذ الأوامر الإلهية بحذافيرها أي عملاً للواجبات ، وتركاً للمحرّمات .

وطاعة الرسول صلى الله عليه وآله : هي الإستنان بسنّته النورانية ، والتخلّق بأخلاقه الرحمانية ، والسير بسيرته الذاتية من خلال الاقتداء به صلى الله عليه وآله حيث قال تعالى : «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ(1)«.

وطاعة اُولي الأمر : هي طاعة القيادة الرسالية ، والقادة المعينين من اللَّه - عزّوجلّ - لتأويل القرآن الكريم وتطبيق أحكامه على أرض الحقيقة والواقع ، دون مواربة أو خوف من أحد على الاطلاق لأنه لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم .

النهي عن ترك موالاة الرسول صلى الله عليه وآله

والتولّي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله على ما يبدو له وجهان :

أ - إذا كان استمرار الحديث عن الجهاد واعتبار الآية امتداداً للآيات السابقة

ص: 377


1- سورة الأحزاب (33) : الآية 21 .

التي تحدثت عن غزوة بدر الكبرى فالنهي يكون ((ولا تولّوا عنه)) أي لا تهربوا من ساحة المواجهة ، وتتركوا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في ساحات الوغى وحيداً فريداً مع بعض أهل بيته الكرام والخواص من الأصحاب كما فعلوا فيما بعد في اُحد وحنين وغيرها .

وهذا الموقف يذكّرنا بموقف بني إسرائيل حين قالوا لنبيّهم : «اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(1)« وفي الآية : «لَا تَوَلَّوْا عَنْهُ(2)« أي لا تمنعوه نصركم وحربكم أبداً .

ب - إذا كان الحديث أعم من ذلك ، فالنهي هنا هو يكون على الشكل التالي : «وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ(3)« أي لا تعرضوا عنه بوجوهكم إذا ما أراد أن يبلغكم بعض الأحكام ، أو بعض الأوامر الجديدة .

أو لا تولّوا عنه وهو يدعوكم إلى الطاعات وينهاكم عن المحرّمات . وهذا ما تشير إليه آيات سورة الجمعة المباركة حيث أخبرت عنهم أنهم : «إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً(4)« حيث كانوا يتركون رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قائماً يصلّي أو يخطب بهم وينفضّوا إلى التجارة وما أشبه ، وهذا من أصدق مصاديق التولّي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .

فوائد طاعة الرسول صلى الله عليه وآله

والقرآن الكريم يشير إلى الفائدة الكبرى والحجّة في قوله تعالى : «وَأَنْتُمْ

ص: 378


1- سورة المائدة (5) : الآية 24 .
2- سورة الأنفال (8) : الآية 20 .
3- سورة الأنفال (8) : الآية 20 .
4- سورة الجمعة (62) : الآية 11 .

تَسْمَعُونَ(1)« إذ أنّه في هذا التوجيه كذلك وجهان هما :

1 - أنّ المقصود بذلك : هو الأمر بالطاعة مع إعطاء الدليل والحجة ، فلا تولّوا عنه و : «أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ(2)« منه مباشرة الأوامر والنواهي ، فلا مجال لكم للتأويل والتعليل ، أو التسويف وتأخير العمل ، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وآله بينكم يوضّح الأحكام فالزموا التعلّم منه واعملوا بما تعلّمتم منه لتكونوا بذلك مؤمنين لأنّ الإيمان قول وعمل .

والتعلّم هو ضرورة حضارية وواجب ديني كذلك لأنه اللَّه سبحانه أعطى العقول وأمر بتثمينها وتزكيتها بالعلم ، ففي الحديث الشريف عن أبي عبداللَّه (عليه السلام)قال : ((أنه يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد))(3).

ب - أنّ المقصود من ذلك : «أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ(4)« أي أنتم تسمعون الحجّة الموجبة لطاعة اللَّه ، ورسوله بالآيات والمعجزات التي يجريها ربّ العالمين على يدي رسوله الكريم صلى الله عليه وآله ، فهي من أهم الدواعي للإطمئنان واليقين على صدق الرسالة وأحقّية الدين المنزل على رسول اللَّه محمد صلى الله عليه وآله دون غيره من العالمين .

وفي كلا الحالين يعتبر استخدام ((السمع)) ، وهو طريق لتلقّي الأوامر من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله مباشرة ، وهو طريق من طرق إثبات وحصول العلم ، والمقصود بقوله : «وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ» هو العلم دون أي شي ء آخر .

ص: 379


1- سورة الأنفال (8) : الآية 20 .
2- سورة الأنفال (8) : الآية 20 .
3- الكافي : ج1 ص47 ح1 .
4- سورة الأنفال (8) : الآية 20 .

الالتفاف حول أهل البيت عليهم السلام

وبالجملة .. فإنّ هذه الآية المباركة هي توجيهاً إلهياً للمؤمنين خاصة للتمحور والالتفاف حول القيادة الصحيحة في هذه الحياة - كما يبدو لي - من خلال تأمّل دقيق فيها .

فالقيادة متسلسلة ، فهي للَّه بالإطلاق وبالذات ، وللرسول الذي قيادته من اللَّه تعالى ثانياً وبالعرض ولذلك طاعة الرسول هي طاعة للَّه بعينها ، بل إنه سبحانه لا يريد طاعة له إلّا عن طريق رسول يبعثه من عنده ليخلّص البشر من عذاب الدنيا والآخرة .

وطاعة الإمام ((ولي الأمر)) كذلك هي طاعة للَّه ولرسول اللَّه صلى الله عليه وآله بل إنّ الطاعة الحقيقية للاُمّة هي للإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله وبهذا يكون انتمائها ، لأنّ النبي يؤيّد من اللَّه ويسدّد بالمعجزات والآيات الواضحات ليقهر الطغات ويربّي الاُمّة المؤمنة به وبرسالته ، أمّا الإمام(عليه السلام) فهو معيّن من اللَّه - تعالى - قد فرضت على الاُمّة طاعته فإنّ اطاعته وسارت تحت ظل قيادته الحكيمة نجحت في الدنيا والآخرة ، وإن أبت ذلك هلكت في الدارين .

ميزان قبول الأعمال

وقد ورد في الأحاديث الشريفة بأنّ اللَّه آلى على نفسه أن يدخل النار من أطاعه وعصى الأئمّة عليهم السلام ، فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((واللَّه لو أنّ إبليس سجد للَّه عزّ ذكره بعد المعصية والتكبّر عُمّر الدنيا ما نفعه ذلك ، ولا قبله اللَّه عزّوجلّ ، ما لم يسجد لآدم كما أمره اللَّه عزّوجلّ أن يسجد له ، وكذلك هذه الاُمّة العاصية المفتونة بعد نبيّها صلى الله عليه وآله ، وبعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيّهم صلى الله عليه وآله لهم ، فلن يقبل اللَّه لهم عملاً ، ولن يرفع لهم حسنة ، حتّى يأتوا اللَّه من حيث أمرهم ، ويتولّوا الإمام الذي اُمروا

ص: 380

بولايته ، ويدخلوا من الباب الذي فتحه اللَّه ورسوله لهم))(1).

وعن أبي حمزة الثمالي ، قال : قال لنا علي بن الحسين(عليه السلام) : ((أي البقاع أفضل ؟ فقلنا : اللَّه ورسوله وابن رسوله أعلم ، فقال لنا : أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ، ولو أنّ رجلاً عمّر ما عمّر نوح في قومه ، ألف سنة إلّا خمسين عاماً ، يصوم النهار ، ويقوم الليل في ذلك المكان ، ثمّ لقى اللَّه بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً))(2).

إذن فالقائد هو محور دوران الوجود ، وكما جاء في الحديث الشريف ((علي مع الحق والحقّ مع علي))(3) و ((علي مع القرآن والقرآن مع علي))(4) وكلاهما ((يدوران معه حيثما دار)) فمحورية - الحق والقرآن والحياة - هو الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بعد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله .

وذلك لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هو محور دائرة الوجود في أثناء وجوده ، وله الدور البارز في تكوين وإنشاء الاُمّة الإسلامية في هذا الوجود ، وهذا ما يتجلّى في ما قاله جعفر بن أبي طالب )الطيّار(عليه السلام(( لملك الحبشة عندما كان قائد المهاجرين إلى هناك وسعى بهم إلى الملك عمرو بن العاص وبعض أعوانه .

ص: 381


1- الكافي : ج8 ص226 ح399 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج2 ص159 ح17 .
3- تاريخ مدينة دمشق : ج3 ص120 رقم1162 وقد ذكر معنى هذا الحديث كل من : المستدرك على الصحيحين : ج3 ص124 ، المناقب : الفصل الثامن ص56 ، فرائد السمطين : ج1 ص176 ، منتخب الكنز بهامش مسند أحمد : ج5 ص62 ، سنن الترمذي : ج5 ص297 رقم 3798 ، أسنى المطالب ب18 ص112 رقم 2 ، تحفة المحبّين بمناقب الخلفاء الراشدين : ص202 ، مجمع الزوائد : ج9 ص134 ، مفتاح النجاة : ص98 .
4- المستدرك على الصحيحين : ج3 ص124 ، وللمزيد من الاطّلاع راجع كل من : نور الأبصار للشبلنجي : ص93 ، كنز العمّال : ج11 ص603 ط حلب ، تحفة المحبّين بمناقب الخلفاء الراشدين : ص253 ، مجمع الزوائد : ج9 ص134 ، الصواعق المحرقة : ص74 ، ينابيع المودّة : ب4 ص40 .

فأحضره الملك العاقل النجاشي وسأل جعفر : ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا في ديني )حيث كان نصرانياً( ، ولا دين أحد من هذه الملل ؟

فقال له جعفر الطيّار(عليه السلام) : ((أيّها الملك ، كنّا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسي ء الجوار ، ويأكل القوي منّا الضعيف .

فكنّا على ذلك حتى بعث اللَّه عزّوجلّ إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه فدعانا إلى اللَّه ، لنوحّده ونعبده ، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان .

أمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، حسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد اللَّه وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدّقناه وآمنا به ، واتّبعناه على ما جاء به من اللَّه فعبدنا اللَّه وحده ، ولم نشرك به شيئاً ، وحرّمنا ما حرّم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا .

فعدا علينا قومناً فعذّبونا ، عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللَّه تعالى ، ونستحلّ ما كنّا نستحل من الخبائث ، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك))(1).

نعم ، هكذا يكون القائد ، وبمثل هذا المستوى يجب أن تكون الاُمّة في طاعتها له ، وإحساسها بأهميته وقيمة رسالته السماوية التي حملها وتحمّل ثقلها وتبعات تبليغها لهم جميعاً .

ص: 382


1- شرح نهج البلاغة : ج6 ص309 .

46- أجيبوا داعي اللَّه تعالى

اشارة

(46) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للَّهِِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ»

(سورة الأنفال : 24)

في رحاب المفردات

استجيبوا : الاستجابة قيل هي الإجابة وحقيقتها هي التحرّي للجواب والتهيّؤ له ، لكن عُبّر به عن الاجابة لقلّة انفكاكها منها ، قال اللَّه تعالى : «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ(1)« وقال : «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي(2).

يحول : أصل الحول تغيّر الشي ء وانفصاله عن غيره وباعتبار التغيّر قيل حال الشي ء يحول حُؤُولاً واستحال تهيّأ لأن يحول ، وباعتبار الانفصال قيل حال بيني وبينك كذا ، وقيل على ذلك : «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ(3).

ص: 383


1- سورة غافر (40) : الآية 60 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 186) مفردات الراغب : ص100 .
3- سورة سبأ (34) : الآية 54) مفردات الراغب : ص136 .

تحشرون : الحشر هو إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها ، ولا يقال الحشر إلّا في الجماعة كما قال اللَّه تعالى : «وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(1)« وقال : «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(2).

شأن النزول

روى الحافظ الحاكم الحسكاني )الحنفي( قال : أخبرني أبو بكر الحافظ عن مجاهد قال : ((ما كان في القرآن «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فإنّ لعلي سابقة ذلك وفضيلته))(3).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) إنّه قال في قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للَّهِِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ(4)« قال : إلى ولاية علي بن أبي طالب))(5).

عبر من الآية

القرآن الكريم هو كتاب الحكمة في هذه الحياة .

فهو كتاب حياة ، للأحياء لكي يسعدهم ، وللأموات من الأحياء لكي يحييهم ،

ص: 384


1- سورة الشعراء (26) : الآية 36 .
2- سورة التكوير (81) : الآية 5) مفردات الراغب : ص118 .
3- شواهد التنزيل : ج1 ص54 .
4- سورة الأنفال (8) : الآية 24 .
5- الكافي : ج8 ص231 ح349 .

وللأحياء بعد الموت لكي يهديهم ويرشدهم إلى الجنّة الوارفة الظلال .

هذا الكتاب العظيم في كل ما فيه ينادي المؤمنين إلى الاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله لأنّ بالاستجابة يحيى الإنسان حقيقة .

فهذه الآية في الحقيقة هي من أعظم التوجيهات القرآنية للبشرية كلّها ، فهي تنبّه البشرية قاطبة بأن لا حياة إلّا في ظلّ رسالة سماوية ، وقيادة رسول أمين صلى الله عليه وآله يقود الحياة إلى البركة والسعادة والسرور والطمأنينة والأمن والنور .

وربما تسأل - عزيزي القارئ - وتقول : ما هي فلسفة الحياة عندكم إذن ؟

نقول : إنّه الإيمان ، فهو العنصر المحرّك للإنسان والمجتمع على حدّ سواء إذ أنه يعطي :

1 - الوعي : سواء أكان الرسالي أم العقائدي أم غيرهما .

2 - الحركة : إذ أنّ كل حركة متوافقة مع الشريعة والدين هي جهاد في سبيل اللَّه .

فلمّا يرتفع الإنسان عن المادّيات التي تخلده إلى الأرض .. . ويرتفع بروحه إلى آفاق رحمانية رحبة ، فإنه سوف يتخلّص من اُطر المادّة ولغتها وكل مظاهرها ، بالتالي سيعيش الإيمان حقيقة وسلوكاً ، والإسلام الحنيف يؤكّد على هذا النوع من الإيمان لا الإيمان النظري المجرّد من العمل .

وقد سئل أمير المؤمنين(عليه السلام) ذات مرّة عن الإيمان فقال :

((الإيمان على أربع دعائم : على الصبر ، واليقين ، والعدل والجهاد :

والصبر منها على أربع شعب : على الشوق ، والإشفاق ، والزهد ، والترقّب ، فمن اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات ، ومن اشفق من النار اجتنب المحرّمات ، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات .

واليقين منها على أربع شعب : على تبصرة الفطنة ، وتأوّل الحكمة ، وموعظة

ص: 385

العبرة ، وسنّة الأوّلين ، فمن تبصّر في الفطنة تبيّنت له الحكمة ، ومن تبيّنت له الحكمة عرف العبرة ، ومن عرف العبرة فكأنّما كان في الأوّلين .

والعدل منها على أربع شعب : على غائص الفهم ، وغور العلم ، وزهرة الحكم ، ورساخة الحكم ، فمن فهم علم غور العلم ، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم ، ومن حلم لم يفرّط في أمره وعاش في الناس حميداً .

والجهاد منها على أربع شعب : على الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والصدق في المواطن ، وشنآن الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين ، ومن نهى عن المنكر أرغم اُنوف الكافرين ومن صدق في المواطن قضى ما عليه ، ومن شنأ الفاسقين وغضب للَّه ، غضب اللَّه له وأرضاه يوم القيامة))(1).

فمن خلال هذا التعريف الدقيق من قبل أمير المؤمنين(عليه السلام) يتجلّى لنا كالشمس في رائعة النهار أنّ الإيمان قرين للعمل ، والعمل ضروري لترسيخ الإيمان في قلوب المؤمنين وإلّا لما وجدت هذه الاُمّة الإسلامية التي أوجدها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام عليهم السلام وأصحابه الأوائل من أماجد العرب وسادتهم .

لمحات عن العهد الجاهلي

إنّ العرب في العهد الجاهلي خاصة ، وشبه الجزيرة العربية عامة كانوا في غاية السوء سواء في البعد المعنوي أم المادّي حتى إنّ الصدّيقة الزهراء وصفت حالتهم آنذاك قائلة عليها السلام : ((فكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون الورق ، أذلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم))(2). فدعوة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هي

ص: 386


1- نهج البلاغة : ق31 .
2- الاحتجاج : ج1 ص10 .

دعوة للحياة السعيدة الهانئة ، بوعي تامّ ، وحركة دائبة نحو التقدّم المطّرد إلى الأمام في الحياة ، والسمو والعلو في الساحات المقدّسة للَّه عزّوجلّ .

آثار إجابة دعوة الرسول صلى الله عليه وآله

إنّ مثل المجتمع الجاهلي الذي انعدم فيه الكتّاب والكاتبين ، بحيث أصبحوا أندر من الكبريت الأحمر ، والذي لم يكن لأهله همّ سوى الشعر والتبارز فيه حتى أنهم جعلوا لذلك سوقاً خاصاً )عكاظ( وكان الفائز منهم يذهبون بقصيدته ويعلّقونها على جدار الكعبة ، علماً إنّها لم يكن فيها إلّا الغزل والنسيب والفخر وما شابه ذلك ، جاء الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وبعث فيما بين أهله الوعي الحضاري ، وبثّ بين صفوفهم العلم وجعل منهم العلماء والحكماء إذ أنّ أوّل آية نزلت صدع بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله هي : «اقْرَأْ بِسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(1)«.

وبالفعل ، فقد بقي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يؤكّد بأحاديثه وأقواله الشريفة على العلم والعمل ، فعن جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهما السلام قال : ((رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال : يارسول اللَّه ما حقّ العلم ؟ قال : الإنصات له ، قال : ثمّ مه ؟ قال : الاستماع له ، قال : ثمّ مه ؟ قال : الحفظ له ، قال : ثمّ مه ؟ قال : ثمّ العمل به ، قال : ثمّ مه ؟ قال : نشره))(2).

وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((أربع تلزم كل ذي حجى من اُمّتي ، قيل : وما هنّ يارسول اللَّه ؟ فقال : استماع العلم ، وحفظه ، والعمل به ونشره))(3)

ص: 387


1- سورة العلق (96) : الآية 5 - 1 .
2- بحار الأنوار : ج2 ص28 ح8 .
3- بحار الأنوار : ج2 ص24 ح79 .

وعن النبي صلى الله عليه وآله قال : ((من الصدقة أن يتعلّم الرجل ويعلّمه الناس))(1).

وعن النبي صلى الله عليه وآله قال : ((إنّ العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلّا ارتحل عنه))(2).

وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((العلم وديعة اللَّه في أرضه ، والعلماء اُمناؤه عليه ، فمن عمل بعلمه أدّى أمانته ، ومن لم يعمل بعلمه كتب في ديوان الخائنين))(3).

نعم ، بهذه الكيفية بعث الرسول صلى الله عليه وآله في المسلمين روح التعلّم وبنى لهم وبهم حضارة إنسانية يملؤها الإيمان ، ويعلوها الإحسان ، بدستورها القرآن الحكيم ، فأصبحوا قادة الدنيا لقرون طويلة لأنّهم استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله واتّبعوا أوامره لما يحيهم وهو تحصيل العلم والسير على نهج الإيمان .

وقد لاحظ الكاتب المسيحي كل ذلك حين دراسته لتاريخ التمدّن الإسلامي وهو جرجي زيدان الذي قال في كتابه : أنّ سبب تقدّم المسلمين عاملين هما :

1 - إندفاعهم إلى التحيّة .

2 - المواساة .

وبالفعل فإنّ لهذين العاملين أعظم الأثر في بناء الدولة الإسلامية . يبقى القول إنّ التعمّق في الآية المباركة أكثر من ذلك ربما يجعلنا نكتب كتاباً كاملاً عن ذلك إلّا أنّ الاختصار منهجنا في هذا البحث القرآني ، وأكتفي بهذه الإشارات اللامعة لإنارة أفكار الناشئة لكثير ممّا توحي إليه الآية الشريفة .

ص: 388


1- بحار الأنوار : ج2 ص24 ح79 .
2- بحار الأنوار : ج2 ص33 ح29 .
3- بحار الأنوار : ج2 ص36 ح40 .

47- مآسي خيانة الاُمّة

اشارة

(47) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»

(سورة الأنفال : 27)

في رحاب المفردات

تخونوا : الخيانة والنفاق واحد إلّا أنّ الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة ، والنفاق يقال اعتباراً بالدين ، ثم يتداخلان ، فالخيانة مخالفة الحقّ بنقض العهد في السرّ . ونقيض الخيانة : الأمانة ، يقال خنت فلاناً وخنتُ أمانة فلان وعلى ذلك قوله : «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا(1).

أماناتكم : الأمانة والأمان في الأصل مصادر ويجعل الأمان تارةً إسماً للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن ، وتارةً إسماً لما يؤمن عليه الإنسان نحو قوله : «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ(2).

ص: 389


1- سورة التحريم (66) : الآية 10) مفردات الراغب : ص162 .
2- سورة الأحزاب (33) : الآية 72) مفردات الراغب : ص21 .

شأن النزول

ذكر أصحاب التفاسير والسيرة النبوية الشريفة عن جابر بن عبداللَّه أنّه قال : إنّ أبا سفيان خرج مع ثلّة ، فأتى جبرائيل(عليه السلام) النبي صلى الله عليه وآله فقال : إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فاخرجوا إليه واكتموا . قال : فكتب إليه رجل من المنافقين : إنّ محمداً صلى الله عليه وآله يريدكم فخذوا حذركم ، فأنزل اللَّه الآية .

وقيل إنّها نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر الأنصاري . وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حاصر يهود بني قريظة ، إحدى وعشرين ليلة ، فسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير ، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا في أرض الشام . فأبى أن يعطيهم ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ . فقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة ، وكان مناصراً لهم لأنّ عياله وماله وولده كانت عنده ، فبعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فأتاهم . قالوا : ما ترى ياأبا لبابة أننزل على حكم سعد ابن معاذ ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه : أي أنه الذبح فلا تفعلوا .

فأتاه جبرائيل(عليه السلام) فأخبره بذلك ، قال أبو لبابة : فواللَّه ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أنّي قد خنت اللَّه ورسوله ، فنزلت الآية فيه .

فلمّا نزلت الآية شدّ نفسه على سارية من سواري المسجد ، وقال : واللَّه لا أذوق طعاماً ، ولا شراباً ، حتى أموت ، أو يتوب اللَّه عليّ . فمكث سبعة أيّام لا يذوق طعاماً ولا شراباً ، حتى خرّ مغشيّاً عليه ، ثم تاب اللَّه عليه فقيل له : ياأبا لبابة قد تيب عليك ، فقال : لا واللَّه لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هو الذي يحلّني .

فجاء صلى الله عليه وآله فحلّه بيده ثم قال أبو لبابة : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قوم قويم التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي . فقال صلى الله عليه وآله : يجزئك الثلث أن تصدّق به ، وهذا مروي عن أئمّتنا الكرام عليهم السلام الباقر(عليه السلام) والصادق(1)(عليه السلام).

ص: 390


1- مجمع البيان : ج9 مج4 ص554 .

عبر من الآية

نداء عجيب وتقريع غريب من الباري تعالى إلى عباده المؤمنين بأن لا تخونوا اللَّه ورسوله ... حقّاً إنّ هذه الآية تثير الاستغراب في أعماق النفس ، فما هذا التناقض بين الإيمان وبين الخيانة ؟ وهل أنّ المؤمنين يخونون اللَّه ورسوله ؟

وفي الجواب عليه نقول : إنّ لخيانة اللَّه سبحانه أشكال عديدة ، فمنها :

أ - عدم الطاعة والانقياد لأوامره تعالى .

ب - عدم القيام بالواجبات الشرعية والفرائض اليومية .

ج - اقتراف المحرّمات أو المحظورات دون تورّع أو دون خوف أو وجل .

فهذه المخالفات كلّها تشكّل خيانة للَّه سبحانه وتعالى الذي خلق الخلق ليعبدون ، وأخذ عليهم العهد والميثاق في عالم الذرّ على الطاعة والانقياد له ولمن يرسله إليهم فقال عزّ من قائل : «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى(1)«.

الاُمّة تخون الرسول صلى الله عليه وآله في أهل بيته عليهم السلام ؟

أمّا الخيانات العظيمة التي خانت الاُمّة فيها الرسول صلى الله عليه وآله فهي :

1 - إضاعة حقّه علهيم وإضاعة سنّته المطهّرة ، حيث إنّ الاُمّة راحت تعبّ من كل ماء وتأخذ من كل راوٍ ، حتّى أنّهم عدّلوا الصحابة كلّهم وقالوا : إنّ الصحابي هو كل من رأى أو سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ولو مرّة واحدة ولو كان طفلاً لا يعي ولا يميّز .

فأكبر خيانة لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن تعجّ كتب الحديث لدينا حالياً بآلاف المؤلّفة من أحاديث أبو هريرة الدوسي وهو أكبر من دسّ في صدر الإسلام بشهادة الخليفة الثاني حيث إنه أمر بجلده ، وفي نفس الوقت الذي نجد فيه الاُمّة تأخذ أحاديثها من

ص: 391


1- سورة الأعراف (7) : الآية 172 .

كل راوٍ فهي تترك أحاديث الصفوة من الصحابة أمثال - أبو ذرّ الغفاري - الذي ما أقلّت الغبراء وأظلّت الخضراء أصدق من ذي لهجة منه ، أو سلمان المحمّدي ، أو المقداد ابن الأسود .

إنّ اُمّة تترك مثل هؤلاء فضلاً عن أهل البيت عليهم السلام وتأخذ من كعب الأحبار وعبداللَّه بن منبه ، وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وغيرهم فهذه أكبر خيانة للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله .

2 - ترك وإضاعة حقّ أهل البيت الأطهار عليهم السلام : الذين كانوا عنده صلى الله عليه وآله - وعند اللَّه - عدل للقرآن الكريم وأمر باتّباعهم بأحاديث تنوء عن العدّ والحصر عند جميع فرق المسلمين وحديث الثقلين من أوضحها حيث قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما))(1).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((إنّ مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك))(2).

ص: 392


1- بحار الأنوار : ج37 ص180 ح66 .
2- بحار الأنوار : ج29 ص341 . وقد روى كبار علماء العامّة هذا الحديث ومنهم : أحمد بن حنبل في مسند : ج3 ص14 ، الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء : ج4 ص306 ، ابن عبدالبرّ في الاستيعاب ، الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد : ج12 ص91 ، الشافعي في مطالب السؤول : ص20 ، ابن الأثير في النهاية : مادّة )زخ( ، ابن الجوزي في تذكرة خواص الاُمّة : ص323 ، ابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة : ص8 ، السبلنجي في نصور الأبصار : ص105 ، الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب : في آية المودّة ، السيوطي في الدرّ المنثور : في تفسير »وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ« ، الحاكم في المستدرك : ج3 ص150 ، القندوزي في ينابيع المودّة : الباب الرابع والسادس والخمسون ، ابن حجر في الصواعق المحرقة : ص234 ، الكنجي الشافعي في كفاية الطالب : باب 100 .

3 - عدم دفع أجر الرسالة الخاتمة : فقد قال اللَّه تعالى مشيراً إلى ذلك : «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى(1)«.

وفضلاً عن عدم حفظ الاُمّة المودّة لقربى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فلم يمض على انتقاله إلى الرفيق الأعلى سوى أيام حتّى وثبوا إلى وريثته الوحيدة وصادروا جميع الأملاك المنقولة وغير المنقولة لها ، وكذّبوها - والعياذ باللَّه - بل وهجموا على منزلها وأرادوا إحراقها هي وأبنائها وبعلها ومن في الدار ولم يكتفوا بذلك بل عصروها خلف الباب فكسروا ضلعها ، وأسقطوا جنينها ، وضربوها بدرّتهم حتى كان في عضدها كالدملج ، ولطموا وجهها الشريف حتى تناثر قرطها ، وفعلوا ، وفعلوا حتى استشهدت عليها السلام - وهي واجدة عليهم ، تدعو اللَّه عليهم في كل صلاة كانت تصلّيها .

ولم تكتف الاُمّة بذلك بل لاحقت ذرّيتها وراحت تقتلهم تحت كل حجر ومدر وما كربلاء إلّا واحدة من تلك المذابح الرهيبة والعجيبة في دنيا الإنسانية .

4 - خيانة الرسول : حيث إنّهم خانوا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في حياته ، وبعد انتقاله إلى ربّه ، بإفشاء بعض أسراره إلى عدوّه من الكفّار والمشركين - كما في قصّة النزول - وغيرها في كثير من المواقف المخزية لهم حتى أنّ بعضهم راح يسبّه ويقول عنه : إنه شجرة نبتت في كبا )أي في مزبلة ومكبّ الأوساخ( - نعوذ باللَّه من الزيغ - .

ومسألة الخيانة هي متشعّبة وتشمل حتى القضايا الشخصية والخاصّة بالمؤمنين إذ أنّ لكل واحد منهم أسراراً ولكل مجلس أسرار وخيانة ذلك يعتبر من خيانة الاُمّة لبعضها البعض إذ ورد في الحديث الشريف : ((المجالس بالأمانة))(2)، وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((المجالس بالأمانة وليس لأحد أن يحدّث بحديث يكتمه

ص: 393


1- سورة الشورى (42) : الآية 23 .
2- الكافي : ج2 ص660 ح1 .

صاحبه إلّا بإذنه إلّا أن يكون ثقة أو ذكراً له بخير))(1).

وجاء أيضاً : ((المؤمن أخ المؤمن لا يخونه ولا يخذله))(2).

وغيرها من الأحاديث الشريفة التي تؤكّد على ضرورة حفظ الأسرار وأنّ إفشاء الأسرار هي مفسدة من القائل إذ أنّ نقاط الضعف تبرز بذلك .

أسباب الخيانة

أمّا أسباب خيانة الاُمّة فهي كثيرة جدّاً منها :

1 - حقارة النفس : أي تكون طينته ملوّنة أو حليبه بخس كما يقال بالأمثال .

2 - الطمع وحبّ المال : لأنّ بريق الذهب ، وحبّ المال قلّما تجد من يستطيع أن يقاومها ، فالمال من أصعب الامتحانات على الاطلاق .

3 - الروابط والقرابات : مثل )الأولاد والأقارب( وهذه كذلك لا تقل عن الأموال ولذلك قرنهما اللَّه سبحانه )الأموال والأولاد( وقال أنّهما )فتنة).

4 - حبّ السلطة : التي جعلت الكثير من الناس يقترف أشدّ المنكرات .

فعلى الإنسان أن يكون حذراً لكي لا يغريه المال ويأخذه بريقه إلى الإفراط بحبّه فيجعله صنماً يعبده ولا يكون له همّاً إلّا جمعه وتراكمه ، وكذلك الأولاد والأقارب فالحبّ المفرط لهم يجعل الإنسان لا يرد لهم طلباً ولو كان فيه غضب للَّه أو غضب الناس كل الناس ، وأكبر مثالاً على ذلك الخليفة الثالث حيث أفرط كثيراً بحبّ بني اُمية ، فكانوا سبب قتله وهم أول من خذله عند حاجته إليهم والقصّة مشهورة في كتب التاريخ .

ص: 394


1- الكافي : ج2 ص660 ح3 .
2- مستدرك الوسائل : ج9 ص49 ح10168 .

48- من آثار التقوى

اشارة

(48) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ »(سورة الأنفال : 29)

في رحاب المفردات

فرقاناً : الفرقان أبلغ من الفرق لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل وقوله تعالى : «يَوْمَ الْفُرْقَانِ(1)« أي اليوم الذي يفرّق فيه بين الحقّ والباطل ، والحجّة والشبهة ، وقوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً(2)« أي نوراً وتوفيقاً على قلوبكم يفرّق به بين الحقّ والباطل ، فكان الفرقان هاهنا كالسكينة والروح(3).

سيئاتكم : السيّئة هي الفعلة القبيحة وهي ضدّ الحسنة ، قال تعالى : «بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً(4)«.

ص: 395


1- سورة الأنفال (8) : الآية 41 .
2- سورة الأنفال (8) : الآية 29 .
3- مفردات الراغب : ص392 .
4- سورة البقرة (2) : الآية 81 .

وقال : «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ(1).

شأن النزول

روى العلّامة السيّد هاشم البحراني عن تفسير )مجاهد( فقال : ((ما في القرآن «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا ولعلي سابقة ذلك ، لأنه سابقهم إلى الإسلام ، فسمّاه اللَّه تعالى في تسعة وثمانين موضعاً أمير المؤمنين))(2).

عبر من الآية

تتناول هذه الآية المباركة مسألة حياتية ألا وهي آثار التقوى على الإنسان المتّقي ، فياترى ما هي التقوى ؟ وماذا يقصد الباري تعالى بقوله : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً» ؟

هذا ما نأخذه من إمام المتّقين ، الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) حيث قال : ((فإنّ تقوى اللَّه مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كل ملكة ، ونجاة من كل هلكة ، بها ينجح الطالب ، وينجو الهارب ، وتنال الرغائب))(3).

كما أنه(عليه السلام) وصف المتّقين وصفاً لم يصفه أحد قطّ قبله ولا بعده وذلك حين سأله همام أن يصف له المتّقين فرفض(عليه السلام) ، وبعد إلحاح شديد استجاب الأمير (عليه السلام)

ص: 396


1- سورة المؤمنون (23) : الآية 96) مفردات الراغب : ص252 .
2- غاية المرام : ص441 .
3- نهج البلاغة : خ230 في مقاصد اُخرى .

وخطب قائلاً :

((.. فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل ، منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، مشيهم التواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللَّه عليهم ، ووقّفوا أسماعهم على العلم النافع لهم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء ، كالتي نزلت في الرخاء ، ولولا الأجل الذي كتب اللَّه عليهم ، لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقاً إلى الثواب ، وخوفاً من العقاب .

عظم الخالق في أنفسهم ، فصغر ما دونه في أعينهم ، فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون .

قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، صبروا أيّاماً قصيرة ، أعقبتهم راحة طويلة ، تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم .

أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وأسرتهم فغدوا أنفسهم منها))(1).

إذن فالتقوى : هي الإلتزام بالسير في جادّة الشرع الحنيف على المحجّة البيضاء ، وعدم الانحراف عنها .

معرفة حقائق الاُمور

وفي واقع الأمر إنّ للتقوى آثاراً عدّة منها :

أنّ اللَّه - تعالى - يجعل للإنسان ملكة باطنية ، ونوراً يميّز به كلاً من : الحقّ والباطل ، الخير والشرّ والضلال والهوى ، وبذلك يتفادى السقوط في مهاوي الخطيئة والمعصية ، فهو كالنور الظاهري الذي يكشف الطريق المادّي .

ص: 397


1- نهج البلاغة : خ193 يصف فيها المتّقين .

فإذا كان الإنسان متّقياً لم تستطع الشهوات ولا الإغراءات أن تؤثّر على عقله السليم فيستطيع أن يعرف الحقّ ويرى الاُمور بوضوح لا لبس فيه .

فاللَّه سبحانه وتعالى يمنح الإنسان نوراً باطنياً يستطيع به التمييز بين الحقّ والباطل ، وإلى ذلك يشير الإمام الكاظم(عليه السلام) في حديثه لسليمان الجعفري قائلاً : ((ياسليمان اتّق فراسة المؤمن ، فإنّه ينظر بنور اللَّه)) ، فسكت حتّى أصبت خلوة ، فقلت : جعلت فداك سمعتك تقول : اتّق فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه ؟ قال : ((نعم ياسليمان إنّ اللَّه خلق المؤمن من نوره ، وصبغهم في رحمته وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية ، والمؤمن أخ المؤمن لأبيه واُمّه ، وأبوه النور واُمّه الرحمة وإنّما ينظر بذلك النور الذي خلق منه))(1) .

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((إيّاكم وفراسة المؤمن ، فإنّه ينظر بنور اللَّه تعالى))(2).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((المؤمن ينظر بنور اللَّه))(3).

فتقوى اللَّه : هي سبيل النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة .

تحصيل الفرقان العظيم

كما أنّ من الآثار المهمّة للتقوى هو أنّ اللَّه تعالى يجعل للإنسان المتّقي فرقاناً .

وقد اختلف المفسّرون في المعنى المراد من الفرقان إلّا أنّ أحد الأقوال فيها هو أن يجعل - اللَّه - لكم عزّاً في الدنيا ، وثواباً في الآخرة(4).

والروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام تؤكّد هذا المطلب ، فعن

ص: 398


1- بحار الأنوار : ج64 ص73 ح1 .
2- بحار الأنوار : ج6 ص75 ح8 .
3- بحار الأنوار : ج64 ص75 ح9 .
4- مجمع البيان : ج9 مج4 ص456 .

رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((خصلة من لزمها أطاعته الدنيا والآخرة وربح الفوز بالجنّة ، قيل : وما هي يارسول اللَّه ؟ قال : التقوى من أراد أن يكون أعزّ الناس فليتقّ اللَّه عزّوجلّ ، ثمّ تلا : «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ(1).

وعن يعقوب بن شعيب قال : سمعت أبا عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((ما نقل اللَّه عزّوجلّ عبداً من ذلّ المعاصي إلى عزّ التقوى إلّا أغناه من غير مال ، وأعزّه من غير عشيرة ، وآنسه من غير بشر))(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال : ((من أخرجه اللَّه من ذلّ المعصية إلى عزّ التقوى أغناه اللَّه بلا مال ، وأعزّه بلا عشيرة ، وآنسه بلا بشر ، ومن خاف اللَّه عزّوجلّ أخاف اللَّه منه كل شي ء ، ومن لم يخف اللَّه عزّوجلّ أخافه اللَّه من كل شي ء))(3).

كما أنّ من القضايا التي يمكن استفادتها في هذه الآية المباركة هي :

تكفير السيّئات ، حيث إنّ اللَّه سبحانه وتعالى يسترها على العبد ، بأن يخفيها على الملكين الكاتبين .

وكذلك غفران الذنوب ، بإزالتها حيث إنّه سبحانه يأمر الملائكة الكرام بشطبها ومحوها من لوح سيّئاته تماماً .

ولا يخفى أنّ الستر هو غير الإزالة إذ أنّ الستر هو وضع شي ء كغطاء فتستر ما وراءها أمّا الإزالة فهي نزع الشي ء تماماً وإزالته من مكانه .

ص: 399


1- سورة الطلاق (65) : الآية 4 - 3) بحار الأنوار : ج67 ص285 ح8 .
2- بحار الأنوار : ج67 ص282 ح1 .
3- بحار الأنوار : ج67 ص289 ح22 .

وهنا تتجلّى عظمة الخالق ومدى رحمته الواسعة حيث إنّه تعالى يمحو السيّئات عن عباده ويخفيها حتّى على ملائكته المقرّبين وكل ذلك بالتفضّل والإحسان الإلهي لعبيده «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» إذ أنّ كل ما في الدنيا من نعم هي هبة وعطيّة من اللَّه الكريم .

وأمّا جنّات الآخرة ونعيمها المقيم ، وظلّها الممدود ، وماؤها المسكوب ، وفاكهتها اللذيذة ، وحياتها الأبدية الخالدة ، وحورها وقصورها فكلّها بالتفضّل الإلهي على عباده المؤمنين .

فكل من يدخل الجنّة يدخلها بالتفضّل ، وكل من يدخل النار يدخلها بالاستحقاق .

اللهمّ تفضّل علينا بالجنّة ، وجنّبنا نار الجحيم إله الحقّ آمين .

ص: 400

49- الثبات في سبيل اللَّه عزّوجلّ

اشارة

(49) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»

(سورة الأنفال : 45)

في رحاب المفردات

فاثبتوا : الثبات ضدّ الزوال يقال ثبت يثبت ثباتاً ، ورجل ثبت وثبيت في الحرب وأثبت السهم ، ويقال ذلك للموجود بالبصر أو البصيرة ، فيقال فلان ثابت عندي(1).

اذكروا : الذكر تارةً يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلّا أنّ الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره ، وتارة يقال لحضور الشي ء القلب أو القول ، ولذلك قيل الذكر ذكران : ذكر بالقلب وذكر باللسان(2).

ص: 401


1- مفردات الراغب : ص74 .
2- مفردات الراغب : ص181 .

شأن النزول

أخرج الحافظ )الحنفي( خطيب خوارزم موفّق بن أحمد قال : أخبرنا الشيخ الزاهد الحافظ زين الأئمّة أبو الحسن علي بن أحمد العاصمي الخوارزمي عن علي بن ترفة عن عكرمة عن ابن عباس قال : ((ما أنزل اللَّه - عزّوجلّ - في القرآن آية يقول فيها : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا كان علي بن أبي طالب شريفها وأميرها))(1).

عبر من الآية

ويعود الحديث من جديد حول الثبات والاستقامة في ساحات القتال حيث تعانق الأسنّة وتطاحن الرماح . نعم ، فقد جاء هذا النداء الإلهي مشيراً إلى عوامل الثبات عند مواجهة الأعداء .

فالصراع في الحياة حقيقة قائمة ، وقد جرت سنّة اللَّه على أن تكون الدنيا لكل الكائنات مسرح مجابهة ومنافسة وصراع .

فالبذرة تصارع التراب حتى تخرج إلى النور وتتحوّل إلى نبتة ، والحيوانات تصارع عوامل الموت حتى تبقى حيّة ، والليل والنهار يتصارعان فتارةً يغلب النهار الليل ، واُخرى يغلب الليل النهار .

والإنسان كذلك ، فهو يواجه عوامل المرض ، والضعف ، وأسباب الموت ومشاكل الحياة منذ أن تطأ قدماه الأرض ، حتى يموت ويقبر في جوفها .

ولولا هذا الصراع ، لم يخترع الإنسان الزراعة ، ولا الصناعة ، ولا كان التطوّر

ص: 402


1- المناقب للخوارزمي : ص198 .

والنجاح أبداً .

نبذة عن الصراع البشري

وبعد الحديث عن الصراع مع مشاكل الحياة ننتقل إلى الصراع بين بني الإنسان ، الذي لا مجال لإنكاره ، بل إنّ تصوّر إنتهائه من على سطح الأرض هو تصوّر ساذج ، وحلم عقيم ، فمنذ أن وجد الناس فوق هذه البسيطة وقع بينهم خلاف في الرأي ، واختلاف في العقيدة ، ومن ثم صراع ثمّ حرب .

وهذا هو الواقع المستمر إلى الآن ، في كل مكان وعبر كل الأزمان ، وسيستمر على هذه الحال إلى يوم يبعثون ، لأنّ طبيعة الإنسان لن تتغيّر في هذه الدنيا .

فالصراع الذي في داخل النفس البشرية ، هو ذاته يطلّ على الحياة ، ويتحوّل إلى صراع الجماعات ، وتنافس المجتمعات ، وحروب الشعوب .

وفي الحياة - دائماً وأبداً - هناك حقّ وباطل ، خير وشرّ ، صلاح وفساد ، ولكل أهل وأتباع .

وكما أنّ الحقّ لا يجتمع مع الباطل ، والخير لا يتوافق مع الشرّ ، والصلاح لا ينسجم مع الفساد ، كذلك أهل كل منهم ، ومن هنا فإنّ الذي يخوض في الصراع بينهما هم رجال - أو فراد وجماعات - .

ص: 403

ولذلك كان صراع الحق والباطل بين أهل كل منهما ، باعتبار )أهل الحق( و )أهل الباطل( وهذا الصراع قد يطول وقد يقصر ، وربما استعلى فيه صوت الباطل ظاهراً ، وغلب فيه الظلم ، أو ساد الفساد على الصلاح ، وانتصر الشرّ على الخير ، ولكن حتماً لن يتحوّل الحق إلى باطل ، ولن ينقلب الخير شرّاً ، ولن يصبح الصلاح فساداً .

ولذلك قيل : إنّ للباطل جولة ، فإذا ما جاءت جولة الباطل فما على )أهل الحق( إلّا بالثبات عند المواجهة ، لأنّ )الثبات( هو من أهم العوامل والاُمور التي توجب النصر على العدو .

فلولا ثبات رسول اللَّه صلى الله عليه وآله على حقّه ، ويقينه بنصر ربّه - جلّ وعلا - فإنه ما كان ليستطيع المتابعة في تبليغ الرسالة الإسلامية .

وقد قال صلى الله عليه وآله مقولته الشهيرة لعمّه أبو طالب(عليه السلام) عندما أرسلته قريش إلى ابن أخيه لكي يعطوه ما يريد - حسب ما يظنّون - من مال ، أو جاه ، أو نساء ، أو سيادة ، أو غير ذلك من اُمور الدنيا الدنيّة .

فقال صلى الله عليه وآله : ((واللَّه ياعم ، لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتّى أنفذه أو اُقتل دونه)) ثم استعبر فبكى ثمّ قام يولي ، فقال أبو طالب(عليه السلام) امض لأمرك فواللَّه لا أخذلك أبداً . وفي رواية أنّه قال صلى الله عليه وآله : إنّ اللَّه تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنفية وخرج من عنده مغضباً فدعاه أبو طالب وطيّب قلبه ووعده بالنصر ثمّ أنشأ يقول :

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وأبشر بذاك وقرّ منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي

ولقد دعوت وكنت ثمّ أمينا

ولقد علمت بأنّ دين محمّد

من خير أديان البرية دينا(1)

وقد ثبت أبو طالب(عليه السلام) في مواجهة قريش كلّها حتى آخر لحظة من عمره الشريف دفاعاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ودين الإسلام الحنيف .

وبثباته(عليه السلام) ثبت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله خلال (13) عام في تبليغ الرسالة وما هاجر

ص: 404


1- بحار الأنوار : ج35 ص87 ح31 .

إلّا بعد أن توفّي حاميه البطل أبو طالب(عليه السلام) فهاجر صلى الله عليه وآله إلى المدينة المنوّرة وبنى دولة فيها وأسّس البنيان لحضارة الإنسان .

ولولا صمود وثبات المهاجرين والأنصار في وجه - المشركين واليهود والنصارى وذؤبان العرب - وغيرهم من الامبراطوريات المحيطة الطامعة بهم لما قام للإسلام عود ولما انتصب له بناء .

فالثبات لدى المواجهة هو أوّل خطوة في طريق النصر ، وكما يقولون في العلم العسكري الحديث : ثبات الدفاع وصدّ أوّل هجمة يعدّ الخطوة الاُولى لتدمير العدو وسحقه ودحره بالهجوم المعاكس .

الطريق إلى الثبات

إنّ الثبات عملية صعبة للغاية ، وهو يحتاج إلى تضحيات جسيمة ، وإرادة قوية أقوى من الفولاذ ، ومعنويات عالية ، لذلك أكّد الباري تعالى عليه في أكثر من مرّة في القرآن الكريم وتطرّق إلى أسبابه التي منها :

1 - ذكر اللَّه ، وذكر اللَّه قد يكون باللفظ )كالتهليل والتكبير والحوقلة وغير ذلك( وهذا مهم جدّاً بلا شك ، ولكن يبقى الأهم منه وهو )الذكر القلبي( أي أن يرى المجاهد اللَّه سبحانه حاضراً أمامه في كل عمل يقوم به ، وهو - سبحانه - ناظر إليه ، لأنه أقرب إليه من حبل الوريد .

وقد ورد في الأثر عن أهل البيت عليهم السلام الكثير من الأحاديث التي تؤكّد على أهمية ذكر اللَّه في السرّ والعلن منها :

قال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((ما من شي ء إلّا وله حد ينتهي إليه إلّا الذكر فليس له حد ينتهي إليه ، فرض اللَّه الفرائض من أدّاهنّ فهو حدّهن ، إلّا الذكر فإنّ اللَّه

ص: 405

عزّوجلّ لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه ثم تلا هذه الآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(1)»(2).

وبحث الذكر سوف نتناوله بالتفصيل عند ورود الآية المذكورة أعلاه - بإذن اللَّه - .

فوائد الذكر

لا يخفى على المطّلع الموالي أنّ للذكر فوائد جمّة منها :

أ - الآثار الغيبية له ، بحيث إنه يسبّب الإمداد الإلهي للذاكرين .

ب - الروح المعنوية : إذ أنّ الإنسان إذا رأى أنه متصل بأعظم قوة في الكون ، وأنها تمدّه بما يريد ، فيتولّد عنده قدرة عالية وهائلة وخارقة للمألوف من المعنويات ... ومن الواضح لدى الجميع أنّ المعنويات الرفيعة هي من اُولى عوامل النصر والنجاح في ميادين الصراع كافّة ، فقد قال تعالى مشيراً إلى تلك الروح : «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ(3)«.

ولذا نجد التاريخ يشهد - قديمه وحديثه - بحوادث هائلة ومواقف مشرقة لشهدائنا في ساحات الصراع مع الأعداء .

فذاك الصحابي يريد أن يعرج إلى السماء ويطأ الجنّة بعرجته .

وذاك ليس عنده وقت للاغتسال فيستشهد وتغسّله الملائكة .

وذاك يرمي الثمرات من يده ويقول لو أكلتها لتأخّرت عن الجنّة فالرواح إلى

ص: 406


1- سورة الأحزاب (33) : الآية 41-42
2- الكافي : ج2 ص498 .
3- سورة البقرة (2) : الآية 249 .

الجنّة خير وأبقى .

وهكذا والأمثال كثيرة وأصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) كلّهم أمثلة لذلك ، فالحرّ الرياحي يريد أن يكون الشهيد الأول لأنه المواجه الأول .

وعابس بن شبيب يطارد أهل الكوفة حاسراً ويقول : حبّ الحسين أجنّني .

ومسلم بن عوسجة يقول : أنحن نخلّيك هكذا تتصرّف ؟ لا واللَّه لا يراني اللَّه وأنا أفعل ذلك أبداً ، حتى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضرب فيهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن لي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولم اُفارقك حتى أموت بين يديك(1).

وسعيد بن عبداللَّه الحنفي يقول : واللَّه لو علمت أنّي اُقتل ثم أحيا ثم اُحرق حيّاً ، يفعل بي ذلك سبعين مرّة لما فارقتك أبداً حتى ألقى حمامي من دونك(2).

وزهير بن القين البجلي المبجّل يقول : )واللَّه يابن رسول اللَّه وددت أنّي قتلت فيك ثم نشرت حتى اُقتل فيك ألف مرّة ، وأنّ اللَّه قد دفع القتل عنك وعن هؤلاء الفتية(3) هذا فضلاً عن سائر الأصحاب الذين قالوا للإمام الحسين(عليه السلام) : أنفسنا لك الفداء ، ونفديك بأيدينا ، ووجوهنا وصدورها ، فإذا نحن قتلنا بين يديك نكون قد وفّينا وقضينا ما عليها((4).

فالثبات على الحقّ ، وفي مواجهة العدو يعطي أفضل النتائج والعبر ، وخذ قصّة أي واحد من شهداء كربلاء فستجدها دليل على ما ذهبنا إليه .

ص: 407


1- اللهوف : ص92 - 91 .
2- اللهوف : ص93 .
3- اللهوف : ص93 .
4- اللهوف : ص93 .

فقصصهم قصص الحقّ في مواجهة الباطل .

قصص الفداء المقدّس ، للشخص المقدّس .

قصص الدم الطاهر ، للسبط الطاهر المطهّر .

قصص التضحية بالغالي من أجل من هو أغلى من كل شي ء .

قصص العطاء بدون حدود ولا حساب ، لوجه اللَّه - سبحانه - ليكونوا يوم الورود ممّن يرد بلا حساب ، فيدخلون الجنّة التي عرفها المولى لهم وحسن الثواب .

ص: 408

50- موالاة أعداء اللَّه تعالى

اشارة

(50) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ »(سورة التوبة : 23)

في رحاب المفردات

أولياء : الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما ، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد ، والولاية هي النصرة ، والولاية تولّي الأمر ، وقيل الولاية والوَلاية نحو الدلّالة ، وحقيقته تولّي الأمر(1).

استحبّوا : المحبّة إرادة ما تراه أو تظنّه خيراً وهي على أوجه : محبّة اللذّة كمحبّة الرجل المرأة ، ومحبّة للنفع كمحبّة شي ء ينتفع به ، ومحبّة للفضل كمحبّة أهل العلم بعضهم لبعض لأجل العلم(2).

ص: 409


1- مفردات الراغب : 571 - 570 .
2- مفردات الراغب : ص104 - 103 .

شأن النزول

إنّ أسباب نزول هذه الآية المباركة كما يرويها أصحاب التفاسير ، عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام أنّها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وملخّصها هو :

لمّا أراد الرسول صلى الله عليه وآله أن يفتح مكّة المكرّمة ، أمر أصحابه بكتمان الأمر حتّى يفاجئ المسلمون الكفّار ولا تراق الدماء ، فكتب حاطب إلى أهل مكّة يخبرهم بخبر الرسول صلى الله عليه وآله وأطلع اللَّه رسوله بالخبر .

فوبّخ ثم عفا عنه ، وأرجع الرسول الذي كان بيده الكتاب ، فكان الفتح كما أراد الرسول صلى الله عليه وآله من السرّية وعدم وصول الخبر إلى أهل مكّة .

وقد اعتذر حاطب قائلاً : أنّ له أهلاً في مكّة ، فخاف أن تكون الدائرة على المسلمين ، فيكون له يد على الكفّار ، ويسلم أهله من عقابهم وعذابهم(1).

عبر من الآية

نداء وتحذير إلهي لأمر هو في غاية الصعوبة .

وذلك لفرط حسّاسيته ودقّته في حياة الناس كافّة إذ أنّ العلاقات النسبية هي إحدى الأشياء المؤثّرة جدّاً في حياة الإنسان .

ففي فطرة الإنسان الإنشداد والإنجذاب إلى أبيه واُمّه وإخوته ، وفيما بعد إلى أبنائه وزوجته ، وهذا يمتدّ إلى كل من تربطه به رابطة قرابة أو ما يسمّى بالنسب .

فهل في كل ذلك إشكال شرعي أو أخلاقي أو غير ذلك ؟

ص: 410


1- مجمع البيان : ج1 مج5 ص30 - 29 .

الجواب : لا أبداً ، بل الأمر في حدّ ذاته مرغوب ، إذ أنه أمر فطري أودعه اللَّه - تعالى - في كيان الإنسان وربما يكون خارجاً عن السيطرة الإنسانية .

ولكن تبقى المسألة نسبية بالنسبة لذات الشخص وعليه أن يجعل مسألة الإيمان فوق كل اعتبار آخر ، إذ أنّ المؤمن يحبّ دينه وربّه أكثر من أي حبّ آخر من تلك الاعتبارات ((فالمؤمن أشدّ حبّاً)) .

إذن ، فعند تعارض ((الإيمان)) مع ((العلاقات النسبية)) أيّهما يقدم ؟

أيّهما يتولّاه الإنسان ويتمسّك به من أعماقه ، فيختاره ، ويرجّحه ، ويتعلّق به ؟

فهاهنا تظهر المعادن ويعرف المؤمن من غيره ، وذلك بظهور حقيقة الإيمان باللَّه والتمسّك بحبله المتين وصراطه المستقيم ، ولا يقدّم على هذا شي ء أبداً إن قطّع أو اُحرق أو اُغرق .

وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام) مشيراً إلى ذلك : ((ولقد كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمالنا ، وما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً ، ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم ، وجدّاً في جهاد العدو))(1).

نعم فلولا ذلك ما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ للإيمان عود .

وورد عن ابن عباس قوله : لمّا أمر اللَّه تعالى المؤمنين بالهجرة ، وأرادوا الهجرة ، فمنهم من تعلّقت به زوجته ، ومنهم من تعلّق به أبواه وأولاده فكانوا يمنعونهم من الهجرة ، فيتركون الهجرة لأجلهم ، فبيّن سبحانه أنّ أمر الدين مقدّم على النسب ، وإذا وجب قطع قرابة الأبوين فالأجنبي أولى «إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ(2)

ص: 411


1- نهج البلاغة : خ56 يصف فيها أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .
2- «(( - سورة التوبة (9) : الآية 23 .

أي : إن اختاروا الكفر ، وآثروه على الإيمان(1).

فالمسألة ليست مسألة قرابة ونسب - أب واُم أو أخ واُخت - بل هي مسألة إيمان وكفر ، وكما جاء في الحديث الشريف ((المؤمن أخ المؤمن))(2)، وقال تعالى : «وإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(3)«، وفي الحديث : ((ربّ أخ لم تلده اُمّك))(4) ، إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي تؤكّد على عمق الرابطة الدينية والإيمانية ، وهشاشة بقية الروابط بالطرف المقابل لها .

فالحبّ والبغض ، والتولي والتبرّي ، والتواصي وكل ذلك يجب أن يكون في اللَّه ولوجه اللَّه وكما قال تعالى : «لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً» بل كل ما نريده هو رضا اللَّه سبحانه وتعالى .

وأمّا بخصوص العلاقة مع الآباء )الوالدين( فيجب أن تكون بالمعروف والإحسان وذلك لقوله تعالى : «وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً(5)« ولكن إيّاك أن تتخلّى عن دينك وإيمانك بربّك من أجل أحد .

عبر من قصص الأنبياء عليهم السلام

إنّ التاريخ ملي ء بالقصص والعبر في هذا السياق وفي هذا المجال بالذات ، ولكن يبقى القول إنّ أجملها هي قصص القرآن الكريم ، وقصص الأنبياء العظام عليهم السلام فما منهم أحد إلّا وابتلي بأحد أقربائه المقرّبين ليحاربه ويناصب له العداء جهاراً ونهاراً .

ص: 412


1- مجمع البيان : ج10 مج5 ص30 .
2- الكافي : ج2 ص166 ح3 .
3- سورة الحجرات (49) : الآية 10 .
4- غرر الحكم : 9752 .
5- سورة لقمان (31) : الآية 15 .

وأجمل قصّة منها وألطفها هي قصّة سيّدنا إبراهيم خليل الرحمن(عليه السلام) الذي ابتلي بعمّه آزر حيث كان يربّيه فأطلق عليه القرآن الكريم اسم ((أبيه)) فكان من أشدّ المعادين له ولدينه الحنيف .

فكان إبراهيم(عليه السلام) يدعوه إلى التوحيد ، وهو يدعوه إلى الشرك .

وكان إبراهيم(عليه السلام) يدعو له بالهداية ، بينما كان آزر يدعو عليه ويشتمه ويدسّ له الدسائس ، حتّى أنّ إبراهيم(عليه السلام) في نهاية المطاف قال له : «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي(1)«.

وكذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ذاك العظيم الذي لم ولن ينجب التاريخ مثلاً له فقد ابتلي بعمّه أبي لهب وزوجته حمّالة الحطب ، الذي كان يسير خلفه ويقف حيث يقف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وينتظره إلى أن يحدّث الناس فيقول لهم : ((هذا كذّاب)) وأنا عمّه وأعلم الناس به فلا تصدّقوه - والعياذ باللَّه - وفي أثناء الطريق كان يضرب عقب الرسول صلى الله عليه وآله بالحجارة حتى أدماه .

فأنزل اللَّه - سبحانه - فيه : «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(2)«.

العقيدة والولاء الخالص

إذن ، فالولاء في المجتمع المسلم يجب أن يكون للعقيدة قبل أي شي ء آخر ، وحتى الولاء العائلي الذي يحبّه الإسلام الحنيف - لأنه يعتبر الاُسرة هي الوحدة

ص: 413


1- سورة مريم (19) : الآية 47 .
2- سورة المسد (111) : الآية 5 - 1 .

الاجتماعية الضرورية والأساسية للمجتمع الصالح - فيجب أن يكون الولاء لها في إطار الولاء الإيماني لا منافساً أو مناقضاً له .

وقد كان هذا الانتماء الرسالي الخالص سبباً من أسباب انتصار الرسالة في صدرها الأول ، كما عرفنا ذلك من قول أمير المؤمنين(عليه السلام) السابق .

كما أنّ الإمام الباقر(عليه السلام) عبّر عن هذا الإخلاص الرسالي بقوله : ((لا تتخذوا من دون اللَّه وليجة فلا تكونوا مؤمنين ، فإنّ كل سبب ونسب وقرابة ووليجة بدعة وشبهة منقطع إلّا ما أثبته القرآن))(1).

أي أنّ كل ولاء يجب أن يكون في إطار قيم الإسلام وأخلاقياته ، وإلّا فالانتماء إلى الإسلام يكون ضعيفاً أو مرفوضاً .

وقد فصّلت الآية التالية لآية البحث أنواع العلائق الاجتماعية حيث قال تعالى : «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(2)«.

فالأمر إذن ليس بالقرابات مهما كانت قوّية وقريبة بل القضية قضية دين وإيمان باللَّه ورسله وكتبه والتسليم لمناهج السماء وتعليمات الأنبياء عليهم السلام في كل ما تريد أن تفعل .

فهمّ المؤمن رضا اللَّه وإن أسخط جميع الخلق فهو لا يبالي .

ص: 414


1- الكافي : ج1 ص59 ح22 .
2- سورة التوبة (9) : الآية 24 .

51- مباحث حول نجاسة المشركين

اشارة

(51) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ »(سورة التوبة : 28)

في رحاب المفردات

نجس : النجاسة هي القذارة وذلك ضربان : ضرب يدرك بالحاسة وضرب يدرك بالبصيرة ، والثاني وصَفَ اللَّه تعالى به المشركين فقال : «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ(1)«. ومنه تنجيس العرب وهو شي ء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبي ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان(2).

عيلة : هي الفقر ، يقال عال الرجل إذا افتقر بعيلُ عيلةً فهو عائل ، وقوله : «وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى(3)« أي أزال عنك فقر النفس وجعل لك الغنى الأكبر وهو المعنيّ بقوله صلى الله عليه وآله : ((الغنى غنى النفس)) . وقيل : ووجدك فقيراً إلى رحمة اللَّه وعفوه

ص: 415


1- سورة التوبة (9) : الآية 28 .
2- مفردات الراغب : ص504 .
3- سورة الضحى (93) : الآية 8 .

فأغناك بمغفرته لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر(1).

شأن النزول

أخرج الشيخ المحمودي في تعليقاته على شواهد التنزيل للحافظ )الحنفي( الحاكم الحسكاني عن )القطيعي( بسنده المذكور في كتاب الفضائل عن عكرمة ، وعن ابن عباس قال سمعته يقول : ((ليس من آية في القرآن «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللَّه أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله في القرآن وما ذكر علياً إلّا بخير))(2).

عبر من الآية

تتناول هذه الآية الكريمة مسألة هي محل ابتلاء الكثير من الناس ألا وهي مسألة نجاسة المشركين وما يتعلّق بها من اُمور كمنعهم من دخول المساجد وغيرها من الأحكام الشرعية التي يتناولها الفقهاء في استدلالاتهم في الفقه . وقبل أن نخوض غمار البحث لا بأس من طرح بعض التساؤلات التي تأخذ بيدنا إلى صلب البحث وهي : كيف يكون الإنسان نجساً ؟ وما هو النجس ؟ وكيف نفهم معنى النجاسة ؟

الجواب : إنّ النجس في اللغة هو كل مستقذر(3).

وفي الشريعة هي القذارة التي توجب الغسل للشي ء الذي تباشره الرطوبة ،

ص: 416


1- مفردات الراغب : ص367 .
2- التعليق على شواهد التنزيل : ج1 ص19 .
3- راجع لسان العرب : مادّة نجس .

وهذه النجاسة قد تكون لاُمور خارجية كالبول والغائط ، وقد تكون لاُمور معنوية كالكفر . فإنّ الكافر وإن كان نظيف الجسم إلّا أنّ معتقده أوجب الحكم بنجاسته ، وذلك خير وقاية للمسلمين من أن يتلوّثوا بعقيدته ، فإنّهم إذا عرفوه نجساً - حتى أنه يجب الاجتناب منه في المأكل والمشرب والملبس ، وأنه مهما باشر شيئاً برطوبة تنجّس فوراً منه - اجتنبوا عنه فلا يعدي إليهم ما انطوى عليه من العقيدة الباطلة .

وبالمقابل فإنّ الكافر إذا عرف أنه يعدّ عند المسلمين نجساً ، لابدّ وأن يسأل عن السبب ، فعلّه يتمكّن من إزالة هذه الوصمة ، ولدى التحقيق في ذلك تظهر له خرافة معتقده وربما يسبّب أن يتركها ويعتقد بالعقيدة الإسلامية الصحيحة .

اعتراض واهٍ

وقد اعترض البعض ممّن لاحظ لهم من العلم وقالوا : كيف يحكم بنجاسة إنسان ، ولزوم الاجتناب عنه لمجرد انحراف عقيدته ، بل هذا منافٍ لحرّية الآراء ؟ والجواب عليه : أنه كيف يحكم بالاجتناب عن إنسان لمجرد أنه مصاب بالجذام أو أي مرض من الأمراض المعدية الخطيرة لمجرد انحراف مزاج وصحة ، وهذا مناف لكرامة الإنسان ، فإذا كان الخوف على الجسم يبيح الاجتناب فالخوف على الروح أولى بالإباحة . ولزيادة التوضيح نقول : إنّ النجاسة ربما تكون من إحدى منطلقين .

1 - النجس بالذات : وهو أن تكون هناك خباثة قابعة في ذات الشي ء وداخلة في تركيبه ((كالدم والخمر)) فمثل هذه الأشياء تكون هي عين النجاسة وتنجّس غيرها كذلك إذا ما لامسته .

2 - النجس بالغير : أي أن تكون هنالك عوامل خارجية تسبّب الحكم بالنجاسة . وقد تسأل عن نجاسة الكافر من أيّهما ؟

والجواب عليه إنّ الكافر - ياأخي - تجتمع فيه الجهتان معاً :

أ - فهو ملوّث بالنجاسات التي لا يعتقد بقذارتها ونجاستها كالخمر والخنزير

ص: 417

وما شابه ذلك لأنه عادةً لا يحتاط لها بل يأكلها ويشربها وكأنّها الغذاء المحبّب لجسده .

ب - هو ملوّث بقذارات معنوية ، حيث إنّه يعتقد بالمعتقدات الباطلة من كفر وإلحاد أو إشراك أو ما شابه ذلك - والعياذ باللَّه - . ولابدّ لمثل هذا الإنسان أن يطوّق من حوله بنطاق من ((الضغط الاجتماعي)) حتى لا يتأثّر به الآخرون كالمرضى بأمراض معدية وفتّاكة تماماً ، فكيف أنّهم يعزلون ويوضعون في مصحّات خاصّة وفي غرف خاصّة ولا يدعون أحداً يقترب منهم ، ومن يريد الاقتراب منهم أو زيارتهم يعطوه مصول وأدوية وقائية مضادّة . وكذلك في المجتمع فاللصّ ، يعاقب ويشهّر به ، ويعزل ولا يفسح له المجال كي لا يفسد بعض الشباب الساذجين . فكما أنّ الأب يحذّر أبناءه من مخالطة الفاسدين ، لكي لا يفسدوا له أولاده الصالحين ، كذلك حاله بالنسبة للكافر ، فعندما يكون هناك ((تطبيع)) تذوب الحواجز النفسية ويصبح الإنسان في معرض الإنزلاق إلى أحضان اُولئك الأنجاس الأرجاس . أمّا لو وضع هنالك حاجز نفسي كبير يحول بين ذلك الإنزلاق فيكون عند ذلك حاجزاً خارجياً كذلك - داخلي نفسي وخارجي حياتي - . ولعلّ هذا هو الحكمة من حكم تنجيس الكافر ، والحكم عليه - بالتالي - بحرمة دخوله إلى المسجد الحرام ، كما حصل في السنة التاسعة للهجرة المباركة حيث أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) ونادى في الحج وقال : ((لا يحجّن بعد هذا العام مشرك))(1).

الاختلاف في نجاسة الكافر

وقد اختلف في نجاسة الكافر ، فقال قوم من الفقهاء : إنّ الكافر نجس العين - وظاهر الآية يدلّ على ذلك - بينما ذهب بعضهم إلى نجاستهم بالعرض . ولا يخفى أنّ

ص: 418


1- بحار الأنوار : ج21 ص271 .

البحث في نجاسة المشركين أعم منهم ومن أهل الذمّة الذين انحرفوا عن العقيدة الصحيحة ، فالروايات تؤكّد على نجاستهم ، ففي الحديث أنّه سئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن ثياب المشركين أيصلّى فيها ؟ قال : لا(1).

وعن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى(عليه السلام) قال : سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة ، وأرقد معه على فراش واحد ، واُصافحه ؟ قال : لا(2).

وعن هارون بن خارجة قال : قلت لأبي عبداللَّه(عليه السلام) : إنّي اُخالط المجوس فآكل من طعامهم ؟ قال : لا(3).

وقال الإمام الصادق في جوابه على سؤال زرارة عن حكم آنية المجوس : ((إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء))(4).

وعن خالد القلانسي قال : قلت لأبي عبداللَّه(عليه السلام) : ألقى الذمّي فيصافحني ، قال : ((امسحها بالتراب وبالحائط)) . قلت : فالناصب ؟ قال : ((اغسلها))(5).

آثار مقاطعة الكافرين

وأمّا كمال الآية وتمامها فهو لا يقلّ روعة عن بدايتها ، إذ أنّ التوجيه الإلهي يذكّر المؤمنين قائلاً : «وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً(6)« أي فقراً ، «فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ(7)« لأنّ الأرزاق مقدّرة من الرزّاق وليس من أحد غيره ، وصدق الشاعر

ص: 419


1- دعائم الإسلام : ج1 ص177 .
2- الكافي : ج6 ص264 ح7 .
3- الكافي : ج6 ص264 ح8 .
4- المحاسن : ص584 ح73 .
5- الكافي : ج1 ص475 ح10 .
6- سورة التوبة (9) : الآية 28 .
7- سورة التوبة (9) : الآية 28 .

حيث قال :

أنا الرزّاق اطلبني تجدني

وإن تطلب سواي لن تجدني

فالرزق على خالق الخلق ، وليس على الكفّار أو المشركين ، الذين تخافون إن منعتموهم من دخول مكّة فإنّكم ستفتقرون ، وتجوعون وتعرون وغير ذلك من الظنون الباطلة التي ليس لها على أرض الواقع حقيقة مطلقاً .

وبالفعل فقد أغنى اللَّه المسلمين من جهات عدّة منذ القديم ((يوم وضع إبراهيم الخليل(عليه السلام) من ذريته بوادٍ غير ذي زرع ، فجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، ورزقهم من الخيرات والبركات)) بفضل دعاء شيخ الأنبياء إبراهيم(عليه السلام) .

فرغّب الناس من أهل الآفاق في حمل المسيرة إليهم ، رحمة منه ، ونعمة على المسلمين ، وذلك عندما أسلم أهل نجد وصنعاء ومن اليمن ، وحملوا الطعام إلى مكة على ظهور الإبل والدواب وكفاهم اللَّه ما كانوا يتخوّفون(1). وأغنى اللَّه المسلمين بالجزية التي تؤخذ من أهل الكتاب ، وبغنائم الحرب والغزوات التي كان يغزوها جيش المسلمين . وكذلك الأمطار والنبات وصوف المرعى فتحسّنت أحوال المدينة التي كانت يثرب إلى طيبة حيث طيّب اللَّه هواؤها وماؤها وبارك فيها بدعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لأنّها كانت العاصمة السياسية للدولة الإسلامية - بلغة اليوم - .

خلاصة القول عندما يأمر اللَّه سبحانه عباده المؤمنين بأمر فعليهم أن يلتزموا به وينفذونه بحذافيره وليكونوا على يقين تامّ بأنّ النتائج سوف تكون لمصالحهم العامّة والخاصّة ، سواء أكان ذلك على مستوى الاُمّة أم الأفراد .

فالتوفيق بيد اللَّه ، وعلى اللَّه فليتوكّل المتوكّلون .

ص: 420


1- مجمع البيان : ج10 مج5 ص39 .

52- انحرافات زعماء أهل الكتاب

اشارة

(52) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ »(سورة التوبة : 34)

في رحاب المفردات

الأحبار : الحَبْر أي العالم وجمعه أحبار لما يبقى من أثر علومهم في قلوب الناس ومن آثار أفعالهم الحسنة المقتدى بها ، قال تعالى : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ(1).

يكنزون : الكنز هو جعل المال بعضه على بعض وحفظه وأصله من كنزت ، فيقال كنزت التمر في الوعاء ، وقوله : «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ(2)« أي

ص: 421


1- سورة التوبة (9) : الآية 31) مفردات الراغب : ص104 .
2- سورة التوبة (9) : الآية 34 .

يدّخرونها(1).

شأن النزول

روى العلّامة )الشافعي( محمد بن يوسف بن محمد )الكنجي( في كتابه )كفاية الطالب في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب( بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ما في القرآن آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها))(2).

عبر من الآية

قد لا نبالغ إذا ذهبنا بالقول إنّ مثل الآية الكريمة تكشف عن أهم خصال زعماء أهل الكتاب ومقدّسيهم ممّن يحولون عادة عن إقبال عوام أهل الكتاب إلى الدين الإسلامي الحنيف .

فمن أبرز صفاتهم الأساسية وكما نصّت الآية المباركة هو :

1 - أنّهم كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل .

2 - يصدّون عن الإسلام رسالة السماء الخاتمة .

3 - يكنزون الذهب والفضة ويحتجزونها لديهم ولا ينتفعون بها ولا ينفعون

ص: 422


1- مفردات الراغب : ص460 .
2- كفاية الطالب : ص54 .

كذلك ، إذ أنّهم هم أصحاب الحقوق المالية الشرعية - كما يظنّون - فكيف يؤدّون حقوق ما لديهم من أموال مكدّسة ؟

فالناس البسطاء والسذّج من أهل الكتاب لم يتّبعوا الرسالة الإسلامية لأسباب عقائدية حيث إنّهم يظنّون أنّهم على حق ، وربما كانوا معذورين في ذلك ، فهم لو عرفوا الحق لاتّبعوه إذ أنّ الإسلام دين اللَّه كما هي المسيحية واليهودية ، الصحيحتان فتتغيّر عليهم بعض الطقوس والصلوات والصيام وما إلى ذلك .

فالجهل من أشدّ الموانع التي جعلت النصارى لا يدخلون في الدين الجديد الذي جاء به رسول اللَّه محمد صلى الله عليه وآله وممّا زاد جهلهم هو صدّ الرهبان والأحبار لهم عن اتّباع تلك الرسالة السماوية الحقّة ، فلماذا صدّوهم ياترى ؟

ولماذا حارب الأحبار والرهبان مدّ الرسالة الجديدة ومنعوا انتشارها بينهم ؟

مع العلم بأنّهم أعلم الناس - في ذلك الحين - بحقيقتها وأحقّيتها ، وصدق صاحبها الصادق الأمين محمد بن عبداللَّه صلى الله عليه وآله حيث إنّهم قرأوه في كتبهم القديمة والرهبان هم أوائل من عرفوا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ومنهم بحيرا الراهب وغيره ، وقصصهم مشهورة في كتب التاريخ والسيرة المعطّرة له صلى الله عليه وآله(1).

وبالرغم من ذلك كلّه فقد حاربوا الرسالة والرسول صلى الله عليه وآله وذلك لأسباب ودوافع كثيرة تعود كلّها إلى المصالح الذاتية والمنافع الشخصية ، فظنّوا أنّهم لو آمنوا بهذه الرسالة المباركة لذهبت هيبتهم من القلوب ، وتضرّرت جيوبهم من جرّاء ذلك .

ص: 423


1- راجع بحار الأنوار : ج15 ص369 ح19 ، وايمان أبي طالب : ص285 ، والخرائج : ج1 ص23 .

دوافع محاربة الرسول صلى الله عليه وآله

إنّ الآية المباركة تشير إلى بعض الجوانب أو الدوافع التي جعلت الرهبان والأحبار يحاربون دعوة الرسول صلى الله عليه وآله مع علمهم بأحقّيتها . ويمكن أن نطلق على هذه الدوافع ب ((الدوافع الاقتصادية)) ، إن صحّ التعبير - حيث إنّ ذاك الموقع الذي كانوا يحتّلونه كان يدرّ عليهم امتيازات مادّية كثيرة ، فيجنون الأموال الطائلة ويصبحون من طبقة الأثرياء في أي مجتمع كانوا فيه وهذا يؤمّن لهم معيشة مرموقة دائماً .

هذا فضلاً عن الامتيازات المعنوية من احترام وتقدير الناس كاحتلال صدر المجلس أينما حلّ وأعلى مركب إذا ركب وغير ذلك .

فكفرهم وإنكارهم وصدّهم عن سبيل اللَّه ، كان الضمانة الوحيدة - في نظرهم - للحفاظ على هذه الامتيازات وتعزيزها ربما لأنّهم سيصبحون أبطالاً إذا ما حاربوا في سبيل عقائدهم ودينهم - كما ظهر الكثير منهم بهذه الحلّة - بينما الإيمان باللَّه وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وآله كان يعني - في تصوّرهم الساذج - فقدان كل هذه الامتيازات الرفيعة المادّية منها والمعنوية .

وقبل أن نلاحظ نظرة الإسلام لا بأس من معرفة ما يلي :

1 - الأحبار : أنّ العلماء الكبار والمتبحّرين في العلوم الدينية عندهم يطلق عليهم هذا الاسم المقدّس ، فالبابا اليوم في الفاتكان يسمّون ((بالحبر الأعظم)) .

2 - الرهبان : وهم الزهّاد والعبّاد الذين ينذرون أنفسهم للدين أو للَّه كما يقولون فيحرّمون على أنفسهم لذائذ الدنيا كلّها .

ص: 424

رهبانية الإسلام الحنيف

ولا يخفى أنّ الإسلام الحنيف ذمّ الرهبانية بشدّة ، فقد قال تعالى : «وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ» وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((لا رهبانية في الإسلام تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الاُمم))(1).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ليس في اُمّتي رهبانية ولا سياحة ولا زمٌّ يعني السكوت))(2).

وعن عثمان بن مظعون قال : قلت لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله : إنّ نفسي تحدّثني بالسياحة وأن ألحق بالجبال ، قال : ((ياعثمان لا تفعل فإنّ سياحة اُمّتي الغزو والجهاد))(3).

وعن الإمام علي(عليه السلام) قال : جاء عثمان بن مظعون إلى رسول اللَّه - صلّى اللَّه عليه وآله - فقال : يارسول اللَّه قد غلبني حديث النفس ولم اُحدث شيئاً حتّى استأمرتك ، قال : ((بم حدّثتك نفسك ياعثمان ؟)) قال : هممت أن أسيح في الأرض قال : ((فلا تسح فيها فإنّ سياحة اُمّتي المساجد)) إلى أن قال : وهممت أن أجُبَّ نفسي قال : ((ياعثمان! ليس منّا من فعل ذلك بنفسه ولا بأحد إنّ وجاء اُمّتي الصيام))(4).

وبهذا الاعتبار تذكر الآية المباركة هؤلاء )الرهبانيين( وتبيّن لهم أنّ كل ما في الدنيا هو متاع زائل وعند اللَّه تنال الرغائب ، فأموال الدنيا سوف تبقى فيها وأمّا تبعات هذه الأموال سوف تحاسبون عليها في يوم القيامة ، فهي إذن وبالاً عليهم على

ص: 425


1- مستدرك الوسائل : ج14 ص155 ح16356 .
2- وسائل الشيعة : ج10 ص524 ح14026 .
3- تهذيب الأحكام : ج6 ص122 ح5 .
4- مستدرك الوسائل : ج7 ص507 ح8763 .

المدى البعيد سواء أكان في القبر أم في عالم البرزخ أم يوم يؤخذ بالنواصي والأقدام حيث قال تعالى : «فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِاَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ(1)«.

وعلى الرغم أنّ التذكير ينفع وخاصّة لأمثال اُولئك ، إلّا إنه لم ينفع معهم في شي ء وإنّما قالوا : نحن أبناء الدنيا وما علينا إلّا الاستزادة من كلّ ما نستطيع فأخذوا يأكلون أموال الناس بالباطل أكلاً لمّاً ، وخلّفوا وراءهم الآخرة وملذّاتها .

وجوه أكل المال بالباطل

ولا يخفى أنّ أكل الأموال بالباطل له وجوه عدّة فمنها :

1 - ما يكون عبر الرشاوي للحصول على أحكام باطلة ، أو لشهادة زور أو ما أشبه ذلك .

2 - ما يحصل عبر الاحتيال على الفقراء بأخذ الصدقات والزكاة ما ينتهي إلى جيوبهم ليتنعّمون بها بدل أن يعطوهم إيّاها .

3 - عبر التلاعب بالدين باسم السيّد المسيح حيث مرّت مدّة من الزمن أخذ رجال الدين يصدرون فيها صكوك الغفران ، فالذي يكون معه صك يدخل إلى الجنّة بدون استئذان ، وراح الشعب يبيع نفسه من أجل صك من هذا النوع .

وهكذا فهم يأكلون الأموال ، والطعام ، ويأخذون الضرائب على كل شي ء ، على الولادة ، وحتى الوفاة وفي كل عيد أو مناسبة لهم أجر ورزق مخصّص دون غيرهم من الناس فراحوا يجمعون تلك الأموال ويكنزونها في التراب أو الجدران أو

ص: 426


1- سورة التوبة (9) : الآية 35 .

ما أشبه ذلك .

وكما نقل عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أنه لمّا نزلت هذه الآية المباركة قال : تبّاً للذهب ، ((تبّاً للفضّة)) - يكرّرها ثلاث مرّات - فشقّ ذلك على أصحابه فسأله أحدهم فقال : يارسول اللَّه صلى الله عليه وآله أي المال نأخذ ؟

فقال صلى الله عليه وآله : ((لساناً ذاكراً ، وقلباً شاكراً ، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه))(1).

وكان فيما ناجى اللَّه به نبيّه موسى قائلاً : ((ولا تغبط أحداً بكثرة المال فإنّ مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق))(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال : ((تكلّم النار يوم القيامة ثلاثة : أميراً وقارئاً وذا ثروة من المال ، فتقول للأمير : يامن وهب اللَّه له سلطاناً فلم يعدل فتزدرده كما يزدرد الطير حبّ السمسم ، وتقول للقارئ : يامن تزيّن للناس وبارز اللَّه بالمعاصي فتزدرده وتقول للغني : يامن وهب اللَّه له دنياً كثيرة واسعة فيضاً وسأله الحقير اليسير قرضاً فأبى إلّا بخلاً فتزدرده))(3).

فاللَّه ، اللَّه يسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله عن المال ، فيجاوب بهذا الجواب الجميل إذ أنّ المال متروك للورثة والورثة يتركونه لمن بعدهم ويبقى في دار الدنيا ، أمّا ما ذكره رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فهو الوحيد الذي يبقى مع الإنسان حتى يورده إمّا النعيم الدائم ، أو الجحيم الدائم .

ص: 427


1- عوالي اللآلي : ج2 ص67 ح175 .
2- الكافي : ج2 ص135 ح21 .
3- مستدرك الوسائل : ج4 ص251 ح4624 .

فاللسان الذاكر .

والقلب الشاكر .

والزوجة المؤمنة ، كلّها أموال مكنوزة في القلوب ولا مكان لها في البنوك ، فتكون معيناً على الدين ، وطريقاً مستقيماً إلى جنان النعيم في ظلّ مليك مقتدر ، رزقنا اللَّه وإيّاكم تلك الجنان ومتّعنا برضى الرحمن بمحمد وآله الطاهرين صلى الله عليه وآله .

ص: 428

53- مشكلة التثاقل عن الجهاد

اشارة

(53) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ»

(سورة التوبة : 38)

في رحاب المفردات

انفروا : النفر هو الانزعاج عن الشي ء وإلى الشي ء كالفزع إلى الشي ء وعن الشي ء ، يقال نَفَرَ عن الشي ء نفوراً ، وقد قال تعالى : «مَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً(1)« ، والاستنفار هو حثّ القوم على النفر إلى الحرب(2).

إثّاقلتم : الثقل والخفّة متقابلان فكلّ ما يترجّح على ما يوزن به أو يقدّر به يقال هو ثقيل وأصله في الأجسام ثم يقال في المعاني نحو : أثقله الغُرْم والوزر قال

ص: 429


1- سورة الإسراء (17) : الآية 41 .
2- مفردات الراغب : ص522 .

تعالى : «أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ(1).

متاع : هو انتفاع ممتد الوقت ، يقال : متّعه اللَّه بكذا ، وأمتعه وتمتّع به ، قال تعالى : «وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(2)«. وكل موضع ذكر فيه تمتّعوا في الدنيا فعلى طريق التهديد وذلك لما فيه من معنى التوسّع ، واستمتع أي طلب التمتّع(3).

شأن النزول

ينقل أنّه لمّا رجع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من )الطائف( أمر بالإعداد لغزوة الروم ، وذلك في زمان إدراك الثمار .

فأحبّوا المقام في المسكن والمال وشقّ عليهم الخروج إلى القتال ، وكان من عادته صلى الله عليه وآله قلّما خرج في غزوة إلّا كنّى عنها وورّى بغيرها إلّا ((غزوة تبوك)) لبعد شقّتها ، وكثرة العدو ، ليتأهّب الناس ، فأخبرهم بالذي يريد ، فلمّا علم اللَّه سبحانه تثاقل الناس ، أنزل الآية(4).

ص: 430


1- سورة الطور (52) : الآية 40) مفردات الراغب : ص76 .
2- سورة يونس (10) : الآية 98 .
3- مفردات الراغب : ص481 .
4- مجمع البيان : ج10 مج5 ص55 .

عبر من الآية

على خلاف سائر النداءات القرآنية التي يستشمّ منها رائحة الرأفة والرفق للمؤمنين جاءت هذه الآية المباركة لتوبيخهم وتدعوهم إلى عدم التثاقل عن الجهاد في سبيل اللَّه .

وبالرغم أنّ الاستفهام في الآية المباركة استنكاري وشديد اللهجة على المؤمنين بالخصوص ، إلّا أنه في ذات الوقت يشمل جميع المسلمين ، إذ أنّ المؤمن كالمسلم من حيث إنّه يرضى برضا اللَّه ورسوله ، ويأتمر بالأوامر الإلهية دون قيد أو شرط .

وكما يستفاد من شأن نزول الآية أنّ الرسول صلى الله عليه وآله لمّا دعا المسلمين إلى الجهاد في تبوك تثاقل المسلمون عن تلبية دعوته وذلك لأنّ هذه الغزوة لم تكن كسائر الغزوات التي خاضها المسلمون ، وذلك لعدّة أسباب منها :

1 - شدّة العدو : فهذه المرّة المواجهة ليست مع قريش المفكّكة والمنهزمة نفسيّاً لأنه ما من بيت إلّا وكان منه واحد أو أكثر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وليست مع اليهود الذين بأسهم بينهم شديد وقلوبهم شتّى ، ولا حتى مع عشيرة أو قبيلة واحدة ، بل المواجهة مع دولة منظّمة وامبراطورية قوية - بل من أقوى الامبراطوريات في ذاك الزمان - ألا وهي الروم وبقيادة عظيمها هرقل الشهير ، كما أنّها انضمّت إليها عدد من القبائل العربية .

وأجواء الحادثة تؤكّد النوايا الهجومية للروم على بلاد الإسلام الفتي .

2 - المسافة من المدينة ، إلى أرض الروم بعيدة جدّاً وتحتاج إلى طاقات إضافية ، وتكاليف إضافية ، واستعدادات تختلف عن بقية الغزوات .

3 - الوقت غير مناسب للمسير والحركة إذ أنّها وقعت في شدّة الصيف القائظ ، وهذا الجو يعتبر معيقاً بالنسبة لحركة الجيوش القديمة ، بل وحتى للتعسكر

ص: 431

وإنشاء التجمعات اللازمة لذلك إذ أنّ الجيش بحاجة إلى خيم وأماكن ليتفيّأ بها .

4 - أنّ الوقت غير مناسب لترك المدينة المنوّرة لأنّها كانت في تلك الفترة تعجّ وتضجّ بالحركة والنشاط التجاري والزراعي إذ أنّ الثمار قد نضجت وحان قطافها ، وإذا ذهب الرجال والعبيد والخدم إلى الحرب فإنّها سوف تذهب هباءً منثوراً بلا فائدة منها ، وهذا بدوره يؤثّر سلباً على الروح المعنوية للجيش ، وعلى الحالة الاقتصادية للدولة الإسلامية ، وعلى التأمين المادّي والغذائي للمعركة .

5 - كما هو معلوم أنّ هذه المعركة - وكل معركة - لابدّ فيها من مخاطر كثيرة ، فقد يقتل الإنسان فترمّل زوجته وتيتم أطفاله ، وقد يسمح الإنسان المؤمن لنفسه بالموت والشهادة في سبيل اللَّه ، ولكن تفكيره وقلقه على زوجته وأولاده يثبطه عن ذلك .

ففراق الأحبّة ، وحبّ الدنيا والحياة فيها ، وغير ذلك ، أو ربما يصاب الإنسان المقاتل بعاهة دائمة كقطع اليد ، أو الرجل أو العمى ، أو غير ذلك من القضايا والأحداث التي يمكن أن تقع مع أي مقاتل كان .

فكل هذه الأسباب مجتمعة جعلت الكثير من المسلمين يتثاقلون ويخلّدون إلى الأرض ، بدلاً من الخفّة والإسراع في تنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وآله الذي يعلم مصالحهم أكثر منهم ويقدّر الظروف والاُمور بتقدير حكيم بلا أدنى شك .

فلماذا إذن الخلود إلى الأرض ، بدل الوثوب إلى قمم المجد بالجهاد ؟

القرآن يذكّر بدار الخلود

ومن هنا نجد أنّ القرآن الكريم يذكّرهم بالحياة الأبدية ، هناك في جنان الخلد والنعيم الدائم ، فالإنسان تارةً يكون قصير النظر ، لا ينظر إلّا إلى الأشياء المحيطة من

ص: 432

حوله فقط ، وربما لا يتجاوز نظره أرنبة أنفه كما يقال .

وتارةً اُخرى يكون بعيد النظر ، ينظر إلى القريب والبعيد ، فالمؤمن كما في الحديث : ((ينظر بنور اللَّه))(1) وقد وصف أحدهم الإمام علي(عليه السلام) عند معاوية فقال : ((أنّه بعيد المدى))(2) .

وعلى الإنسان المؤمن أن يجعل في نفسه ميزاناً عادلاً ، فيلاحظ القريب ، ويرمي بطرفه إلى البعيد ، ويجري موازنة بين القريب والبعيد .

وعليه أن يختار الأفضل ، والأكمل ، والأبقى ، والأنقى ، دائماً وأبداً ولا يتعلّق بالاُمور البسيطة الزائلة .

الحرّ الرياحي يتخلّى عن الدنيا

وفي هذا المجال يتجلّى دور الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تخلّى عن الدنيا الفانية ونظر إلى الآخرة الباقية حيث انضمّ إلى عسكر الإمام الحسين(عليه السلام) .

يقول الراوي : ثمّ صاح - الإمام الحسين(عليه السلام) - أما من مغيث يغيثنا لوجه اللَّه ؟! أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول اللَّه ؟ قال : فإذا الحرّ بن يزيد قد أقبل إلى عمر بن سعد ، فقال : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟ قال : إي واللَّه قتالاً أيسره أن تطير الرؤوس وتطيح الأيدي ، قال : فمضى الحرّ ووقف موقفاً من أصحابه وأخذه مثل الأفكل ، فقال له المهاجر بن أوس : واللَّه إنّ أمرك لمريب ولو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك ؟ فقال : واللَّه إنّي اُخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، فواللَّه لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت واُحرقت ثمّ ضرب فرسه قاصداً

ص: 433


1- الكافي : ج1 ص218 ح3 .
2- بحار الأنوار : ج33 ص250 .

إلى الحسين(1)(عليه السلام).

وبالمقابل يأتي موقف عمر بن سعد الذي قال : ((ما عاقل باع الوجود بدين)) فخسر الدنيا وذهبها بعارها وفي الآخرة جهنّم وبئس المصير .

فهل مثل هذه الحياة التعيسة تفضّل على حياة أبدية ، فيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين وفيها ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ؟

ففي عالم الآخرة لا تعب ولا نصب ، ولا مرض ولا بلاء ، ولا موت ولا شقاء ، بل هي دار ((الحيوان)) أي الحياة التي لا موت فيها ، فهي خالدة مخلّدة إلى ما شاء اللَّه .

فعلى الإنسان الاستجابة إلى نداء الرسول صلى الله عليه وآله وتلبية دعوته بالجهاد ضدّ أي عدو وفي أي ظرف من الظروف ومهما بلغت من العنف والقساوة ، فاللَّه أعلم وأحكم الحاكمين فكيف يأمر بدون وجه حكمة في ذلك ؟

ص: 434


1- اللهوف : ص201 - 301 .

54- كونوا مع أهل البيت عليهم السلام

اشارة

(54) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ »(سورة التوبة : 119)

في رحاب المفردات

اتّقوا : الوقاية هي حفظ الشي ء ممّا يؤذيه ويضرّه ، يقال وقيت الشي ء أقيه وقاية ووقاءً ، والتقوى هي جعل النفس في وقايةٍ ممّا يخاف(1).

الصادقين : الصادق هو القائل بالحق ، العامل به ، لأنه صفة مدح ، ولا يطلق إلّا على من يستحقّ المدح على صدقه(2).

شأن النزول

أخرج عالم الشوافع السيد الشبلنجي في نور الأبصار ، عن ابن عباس قال : ((ليس آية من كتاب اللَّه تعالى )فيها( : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي أوّلها ،

ص: 435


1- مفردات الراغب : ص568 .
2- مجمع البيان : ج11 مج5 ص139 .

أميرها وشريفها))(1). وعن ابن عبّاس في قوله : «اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ] قال [ نزلت في علي بن أبي طالب خاصّة(2).

عبر من الآية

نداء جميل ، وأمر جليل .

وهو أمر بالتزام خطّ ونهج أهل البيت الأطهار عليهم السلام ((بالمعيّة)) بنوعيها ، إذ أنّها على نوعين إثنين وهما :

1 - معيّة محدودة : وذلك بأن تكون مع ((إنسان)) في بعض الحالات الخاصّة ، أو بعض المراحل المحدّدة كأن يكون الإنسان مع غيره في مواضع الحقّ والصواب أمّا إذا انحرف إلى الباطل فيتركه وشأنه . فهذه المعيّة إنما تكون في غير المعصوم ، وهي معيّة مقيّدة وليست مطلقة .

فمثلاً : ليست معيّتنا مع مراجع التقليد وعلماء الدين الكبار ، معيّة مطلقة ، بل معيّة محدودة ، فإذا انحرف مرجع التقليد تركناه وقلّدنا غيره من العلماء الذين يمتلكون مقوّمات التقليد المعروفة كما حدث في قضية ((الشلمغاني)) وغير من العلماء المنحرفين .

2 - معيّة مطلقة : أي أنّنا نلتزم المعيّة في كل الحالات والظروف ، والأحيان والأزمان وهذا لا يكون إلّا في زمن المعصوم وللمعصوم(عليه السلام) بالذات ، حيث إنّه دائماً على الحق ومع الحق ، فيجب على الإنسان أن يكون معه دائماً ، ليكون مع الحقّ .

ورسول اللَّه صلى الله عليه وآله حدّد وعيّن صاحب الحق ، ومع من يكون الحق أينما وجد ،

ص: 436


1- «(( - نور الأبصار : ص78 .
2- شواهد التنزيل : ج1 ص303 ح351 .

وكيفما توجّه على رؤوس الأشهاد وذلك بأحاديث مشهورة ، ومتواترة ، ومجمع عليها من الجميع . فقد قال صلى الله عليه وآله : ((علي مع الحق والحق مع علي))(1).

وقال صلى الله عليه وآله : ((علي مع القرآن والقرآن مع علي ، يدور معه كيفما دار))(2).

وقال صلى الله عليه وآله : ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهمّ وال من والاه وعادي من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه كيفما دار))(3).

وللفخر الرازي صاحب التفسير الكبير له كلمة لطيفة في هذا المجال حيث قال : ((ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب(عليه السلام) فقد اهتدى والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله : ((اللهمّ أدر الحق مع علي حيث دار))(4).

وقد صرّح كثير من أعلام السنّة أنّ المقصود من ((الصادقين)) في الآية الكريمة هم محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وعلي المرتضى(عليه السلام) وممّن صرّح بذلك هو :

الثعلبي في تفسيره ، وجلال الدين السيوطي في الدرّ المنثور ، والحافظ أبو نعيم في ((ما نزل من القرآن في علي(عليه السلام(() ، والخطيب الخوارزمي في )المناقب( ، والحافظ سليمان القندوزي الحنفي في )ينابيع المودّة( الباب 39 ، وشيخ الإسلام الحمويني في )فرائد السمطين( ومحمد بن يوسف الكنجي الشافعي في )كفاية الطالب( الباب 62 عن تاريخ ابن عساكر الدمشقي .

فهؤلاء كلّهم )وغيرهم كذلك( اتّفقوا على أنّ المقصود من الصادقين : هم النبي الكريم صلى الله عليه وآله والإمام علي(عليه السلام) .

ص: 437


1- راجع كل من : المستدرك على الصحيحين : ج3 ص124 ، المناقب للخوارزمي : الفصل الثامن ص56 ، فرائد السمطين : ج1 ص176 ، منتخب الكنز بهامش مسند أحمد : ج5 ص62 ، والترمذي في السنن : ج5 ص297 رقم 3798 ، تاريخ دمشق ترجمة الإمام علي - عليه السلام - : ج3 ص120 رقم 1162 .
2- فرائد السمطين : ج1 ص177 رقم 139 .
3- راجع أسنى المطالب : الباب العاشر ص65 ح24 .
4- التفسير الكبير : ج1 ص205 .

وقال بعضهم بأنّ المقصود من الصادقين في الآية الشريفة هم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والأئمّة من أهل بيته وعترته(1).

ومنهم من قال بقول أئمّتنا الكرام عليهم السلام من أنّ المقصود بالصادقين هو علي (عليه السلام)وشيعته وأبنائه وأشياعهم في كل عصر ومصر .

وقد روى سليم بحديث المناشدة قول أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((فأنشدتكم اللَّه ، أتعلمون أنّ اللَّه أنزل «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(2)«(( فقال سلمان : يارسول اللَّه أعامّة هي أم خاصّة ؟

قال صلى الله عليه وآله : ((أمّا المأمورون فعامّة المؤمنين أمروا بذلك ، وأمّا الصادقون : فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة ، قالوا : اللهمّ نعم))(3).

وابن شهر آشوب يحدّث عن ابن عمر أنه قال : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» أمر اللَّه سبحانه الصحابة أن يخافوا اللَّه ثم قال : «وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(4) يعني مع محمد وأهل بيته عليهم السلام(5).

فهذه المعيّة المطلقة ليست لأحد إلّا للأئمّة من أهل البيت المعصومين عليهم السلام إذ ليس هناك معصوم يمكن افتراضه غيرهم على الإطلاق .

زيادة إيضاح

ومن أجل زيادة الإيضاح للبحث نقول إنّ الصدق هو أشرف الصفات المرضية ، وقد ورد الكثير من الآيات والأحاديث بمدحه وعظيم فائدته في الحياة

ص: 438


1- راجع ينابيع المودّة : الباب التاسع والثلاثون ص119 .
2- سورة التوبة (9) : الآية 119 .
3- كتاب سليم بن قيس : ص647 .
4- «(( - سورة التوبة (9) : الآية 119 .
5- مناقب آل أبي طالب : ج3 ص92 .

الدنيا والآخرة ، فعن الإمام علي(عليه السلام) قال : ((الصدق سيف اللَّه في أرضه وسمائه أينما هوى يقدّ(1) فإذا أردت أن تعلم أصادق أنت أم كاذب فانظر في قصد معناك ، وغور دعواك ، وعيّرها بقسطاس من اللَّه - عزّوجلّ - كأنّك في القيامة قال اللَّه عزّوجلّ : «الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ(2)«. فإذا اعتدل معناك بدعواك ثبت لك الصدق ، وأدنى حدّ الصدق أن لا يخالف اللسان القلب ولا القلب اللسان))(3).

وعنه(عليه السلام) قال : ((إنّ العبد ليصدق حتى يكتب عند اللَّه من الصادقين ، ويكذب حتى يكتب عند اللَّه من الكاذبين ، فإذا صدق قال اللَّه تعالى صدق وبرّ .

وإذا كذب قال اللَّه تعالى : كذب وفجر)) .

وفي رواية ((ليصدق حتى يكتبه اللَّه صدّيقاً))(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لبعض أصحابه : ((انظر ما بلغ علي(عليه السلام) عند رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فإلزم ، فإنّ علياً إنما بلغ عند رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بصدق الحديث وأداء الأمانة))(5).

أقسام الصدق

وقد نقل بأنّ للصدق ستّة أنواع هي :

1 - الصدق في القول : وهي الإخبار عن الأشياء على ما هي عليه حقيقة .

2 - الصدق في النيّة والإرادة : ويرجع ذلك إلى الإخلاص ، وتمحيص النيّة وتخليصها للَّه .

ص: 439


1- أي يقطع .
2- سورة الأعراف (7) : الآية 8 .
3- بحار الأنوار : ج68 ص10 .
4- الكافي : ج2 ص105 ح9 .
5- الكافي : ج2 ص104 ح5 .

3 - الصدق في العزم : أي الجزم على عمل الخير مباشرةً ودون تأخير .

4 - الصدق في الوفاء : حيث إنّ النفس تسخو بالعزم ولكن قد تتراجع عند أوّل صعوبة يواجهها الإنسان ، لذلك كان عليه الإصرار على تنفيذ ما عزم عليه .

5 - الصدق في الأعمال : أي تطابق الباطن والظاهر ، واستواء السريرة والعلانية ، أو كون الباطن خير من الظاهر .

6 - الصدق في مقامات الدين : من الصبر ، والشكر ، والتوكّل ، والحبّ ، والخوف ، والرجاء والزهد ، والتعظيم ، والرضاء والتسليم ، وهذا أعلى درجات الصدق وأعزّها على الإطلاق . علماً أنّ هذه الدرجات لا نهاية لها . فقد يكون العبد صادقاً في بعض الاُمور دون بعض ، فإن كان صادقاً في الجميع فهو الصدّيق حقّاً ومن كانت عادته الصدق فهو الصادق أو الصدوق . ولذلك نجد أنّ أحد أهمّ أوصاف أمير المؤمنين الإمام(عليه السلام) هو الصدّيق الأكبر ، والفاروق الأعظم . والأمر الإلهي في هذه الآية المباركة واضح بوجوب التزام طريق الحقّ الإمامي ونهج الصدق العلوي الشريف وهي كآية الولاية ، أو آية الإنذار أو حديث المنزلة وغيرها من الآيات الكريمة أو الأحاديث الشريفة . إذن : فليس هناك من أُمرنا بالكون معه أو متابعته ، إلّا أهل البيت عليهم السلام ... هؤلاء المعصومون ولا أحد غيرهم ، حيث إنّهم دائماً مع الحق ، ومع القرآن متلازمان ولا ينفصلان . ولذا قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : بحديث الثقلين المشهور والمتواتر لدى الجميع أنّهما ((لن يفترقا)) و ((لن)) تفيد التأبيد في الماضي والحاضر والمستقبل البعيد كذلك . أي أنه لا يعقل أن يكون القرآن في جانب ، وأهل البيت في جانب آخر . فالصادقون في كل العصور هم الأئمّة عليهم السلام ومن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، فلا يمكن أن يخلو عصر أو زمان من إمام حق معصوم ظاهراً كان أو مستوراً كعصرنا الحاضر . فواجب المؤمنين الالتزام بأئمّتهم دائماً وأبداً في كل العصور والأزمان دون غيرهم .

ص: 440

55- الجهاد والبأس الشديد

اشارة

(55) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ »(سورة التوبة : 123)

في رحاب المفردات

يلونكم : أي القريبين منكم فيقال : داره وَلْي داري أي قريبة منها(1).

غلظة : الغلظة ضدّ الرأفة ، ويقال غلظة وَغُلظة وأصله أن يستعمل في الأجسام لكن قد يستعار للمعاني كالكبير والكثير ، قال اللَّه تعالى : «وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» أي خشونة(2).

ص: 441


1- لسان العرب : مادّة ولي .
2- مفردات الراغب : ص376 .

شأن النزول

أخرج الفقير العيني في مناقبه بعدّة أسناد قال : قال ابن عباس : ((ما أنزل اللَّه : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي أميرها وشريفها))(1).

عبر من الآية

تارةً اُخرى يعود بنا الحديث عن الجهاد المقدّس في الإسلام ، حيث إنّ الآية المباركة جاءت لتضع للمسلمين الخطّة الحربية لمقاتلة الكفّار ، وتعلّمهم كيفية التعامل مع الأعداء جميعاً ؟

فالأعداء كثيرون ومتعدّدون وهم موجودون في كل اتّجاه ومن كل قوم وملّة ، فهؤلاء جميعاً متّحدون في المصداق ((بالعداء لنا)) ولكن منهم من هو قريب وخطير ، ومنهم من هو بعيد آلاف الأميال - وللبعد والقرب فوائد كبيرة في الحروب القديمة أمّا في الحروب الحديثة فبسبب التطور الهائل للسلاح وآلة الحرب - فقد اُلغيت خصوصية القرب والبعد في الحروب .

فالعدو هو كل من يتربّص بنا الدوائر ، ويريد الوقيعة بنا والشرّ لنا ولكن من هو في جوارنا أو داخل دولتنا فهو الأخطر دوماً لأنّه يكون كالسوس الذي ينخر في الداخل أنفقاً فيهشم البناء ويجعله يندكّ في الأرض دكّاً .

ولذلك كان خطر المنافقين كبير جدّاً على الاُمّة الإسلامية ودولتها الفتية ففضحهم القرآن الكريم وحذّر منهم . واللطيف في الأمر أنّ هذه السورة المباركة

ص: 442


1- المناقب للعيني : ص48 .

((سورة التوبة)) هي ((الفاضحة)) للمنافقين لأنّها كشفت جميع أوراقهم للاُمّة ، إلّا أنّ الاُمّة ومع الأسف أحبّت العماية على الهدى فأوّلت الآيات المنزلة بحقّ المنافقين وجعلتها بحقّ المشركين والكافرين حتى بلغ الأمر أنّنا جعلنا كل من رأى أو سمع أو حتى رآه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله صحابياً جليلاً وصادقاً أميناً ومأموناً على الدين والدنيا فما مضى من عمر الرسالة سنوات حتى كان قادتها من الطلقاء الذين فعلوا ما فعلوا بقادة المسلمين الواقعيين .

والسؤال الذي يطرح هنا هو : إذا كان الأعداء متعدّدين هل من الصحيح مقاتلتهم جميعاً ؟

الجواب : إنّ العقل والمنطق يقولان عادةً لا وألف لا .

إذن يجب أن نقاتل من ((يلونكم)) أي يقربونكم أو هم بعدكم مباشرةً ، فالشي ء يلي الشي ء ، أي يتبعه مباشرةً ، وهذا هو القرب الجغرافي - طبعاً - وذلك لأنّهم هم الأخطر دائماً .

فهذا الحكم دائم وقائم إلى الآن ، لأنه لا ينبغي لأهل كل بلد أن يخرجوا إلى قتال الأبعد ، ويدعوا الأقرب والأدنى منهم ، لأنّ ذلك يؤدّي إلى الضرر ، وربما يمنعهم عن المضي في وجهتهم ، إلّا أن يكون بينهم وبين الأقرب موادعة - كمعاهدة أو صلح ، أو عهد - .

فلا بأس حينئذ بمجاوزة الأقرب إلى الأبعد - على ما يراه المتولّي لاُمور المسلمين - بل حتى في الحروب الحديثة وآلياته المتطورة والبعيدة المدى في العمق والجبهة يؤكّد الخبراء العسكريون أنه إذا أردت أن تحتلّ موقعاً فعليك أن تطهّر الأرض التي مررت بها أوّلاً كي لا يفاجئك العدو من الخلف ، وتجارب الحروب الحديثة تشهد على صدق النظرية .

ص: 443

فعلينا مراعاة الضرورة والضرر من العدو الذي نريد أن نحاربه في بداية الأمر .

وقد يتبادر إلى الذهن السؤال التالي وهو : هل القرب الجغرافي له موضوعية أو طريقية للتعامل مع العدو ؟

ففي الظاهر على ما يبدو : أنّ له طريقية .

فإذا كان العدو الأبعد أخطر ، فعلينا قتال الأبعد لأنّه الأخطر علينا ، وخاصّة في هذه الأيّام عصر التطور التكنلوجي والتقدّم العسكري العجيب الذي يغزو العالم الأكبر .

التقوى عند قتال الأعداء

من جانب آخر - وكما تشير الآية - أنّ على المقاتل المسلم أن يلتزم بالتقوى في الحروب إذ أنّه عادةً ما تشهد الحروب الفتك والقتل والتدمير فضلاً عن الانتهاكات سواء بحقّ أو بغيره ، فالمحاربون لا يتركون - عادةً - التعدّي والظلم والتجاوز في كل اتّجاه ، وذلك لأنّ الحرب - بطبيعتها - تثير مشاعر الهمجية والوحشية في الإنسان ، ولا تجعله يفكّر إلّا في حماية نفسه وتدمير عدوّه المقاتل له .

ولذا تذكّر الآية المباركة المقاتلين ((بالتقوى)) وتأمرهم بالشجاعة وشدّة البأس ، والصبر الشديد على القتال ، ليحسّ العدو بالشدّة ، والصرامة والقوّة والعنفوان منكم فإنّ هذا يعزّز الروح المعنوية لدى المسلمين ويدور الروح المعنوية للطرف المقابل .

وتعليمات الإمام علي(عليه السلام) القتالية لولده محمد بن الحنفية في معركة الجمل مشهورة حيث قال له(عليه السلام) :

ص: 444

((تزول الجبال ولا تزل ! عضّ على ناجزك ، أعر اللَّه جمجمتك ، تد في الأرض قدمك ، إرم ببصرك أقصى القوم ، وغضّ ببصرك ، واعلم أنّ النصر من عند اللَّه سبحانه))(1).

أجل ، بهذه الكيفية يجب أن يقاتل الرجل المؤمن والمدافع عن دينه وإمامه .

إلّا أنّ التقوى ضرورية في كل المواقع والمواقف لأنّها أساس البناء الديني الذي هو من اُسس بناء الكون فإنّ الإسلام جاء محرّراً لا خاتماً ومستعمراً ، فليس للجيوش الإسلامية أن تفعل ما تشاء إذا غلبت )بل هناك تعليمات وحدود يجب التقيّد بهذا لا سيّما الأخلاقية منها).

ولهذا زجر الرسول صلى الله عليه وآله بلال الحبشي بعد فتح خيبر ، حيث أنّه مرّ بصفيّة بنت حُيَي على مصارع قتلاها فجزعت حتّى كادت روحها تخرج من بدنها .

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لبلال زاجراً : ((أنزعت منك الرحمة يابلال))(2)؟

الوصايا الخالدة

إذن ، فالإسلام بري ء من كل الأعمال الشنيعة المخالفة لرحمة الدين وخير شاهد على ذلك هي الوصايا المهمّة التي أكّد عليها أهل البيت عليهم السلام قبل خوض الحروب ومنها ما عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : قال رسول اللَّه - صلّى اللَّه عليه وآله - : ((إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثمّ يقول : سيروا بسم اللَّه وباللَّه وفي سبيل اللَّه وعلى ملّة رسول اللَّه لا تُغلّوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطرّوا إليها ، وأيّما رجل من أدنى المسلمين

ص: 445


1- نهج البلاغة : خ11 لمّا أعطى محمّد بن الحنفية الراية يوم الجمل .
2- إعلام الورى : ج1 ص100 .

أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جارٍ حتّى يسمع كلام اللَّه ، فإن تبعكم فأخوكم في الدين ، وإن أبى فأبلغوه مأمنه واستعينوا باللَّه عليه))(1).

وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إذا بعث سرية دعا أميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه ثمّ قال : ((سيروا بسم اللَّه وباللَّه وفي سبيل اللَّه وعلى ملّة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثّلوا ولا تقطعوا شجرة إلّا أن تضطرّوا إليها ولا تقتلوا شيخاً ولا صبيّاً ولا امرأة ، فأيّما رجل من أدنى المسلمين وأفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار له حتّى يسمع كلام اللَّه فإن تبعكم فأخوكم في دينكم وإن أبى فاستعينوا باللَّه عليه وأبلغوه مأمنه))(2).

وغير ذلك من الوصايا التي تدلّ على تأكيد الإسلام بأن يتمتع المجاهدون بأرفع الأخلاقيات الإسلامية ، ولهم في رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وبأمير المؤمنين(عليه السلام) قدوة حسنة . والحمد للَّه .

ص: 446


1- الكافي : ج5 ص27 ح1 .
2- تهذيب الأحكام : ج6 ص140 ح3 .

56- الصلاة معراج المؤمنين

اشارة

(56) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »(سورة الحج : 77)

في رحاب المفردات

اركعوا : الركوع الانحناء فتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي وتارة في التواضع والتذلّل إمّا في العبادة وإمّا في غيرها نحو «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا(1).

اسجدوا : سجد أي وضع جبهته بالأرض(2).

ص: 447


1- سورة الحج (22) : الآية 77) مفردات الراغب : ص208 .
2- لسان العرب : مادّة سجد .

شأن النزول

أخرج ابن أبي حاتم محمد بن إدريس الحنظلي المعروف ب )حافظ المشرق( في كتابه )الجرح والتعديل( ، بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : ((ما نزلت آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللَّه عزّوجلّ أصحاب محمد صلى الله عليه وآله في غير آية من القرآن وما ذكر علياً إلّا بخير))(1).

عبر من الآية

اللَّه ، اللَّه حقيقة تبارك الخلّاق العظيم ، الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للناس بشيراً ونذيراً وأرسله رحمة للعالمين ليخرجهم من الظلمات إلى النور .

إنّ مثل هذا النداء الجميل ، وهذه البلاغة الفائقة في هذه الآية المباركة ، يجعلان المؤمن ينتشي طرباً وشوقاً إلى الجنّة ، فهذا السبك الجميل ، وهذا القول الجليل رغم وجازته إلّا أنه جمع الخير كلّه والفلاح كلّه في الدنيا والآخرة .

وخصّ به المؤمنين لأمرين إثنين على ما يبدو .

1 - لأنّ المؤمن هو من يفعل هذه الأفعال - الركوع ، والسجود ، والعبادة ، وفعل الخير - دون غيره من بني البشر فهذه كلّها مجتمعة لا يفعلها إلّا المؤمنون فقط .

2 - أنّ الفلاح في الدار الآخرة للمؤمنين كذلك دون غيرهم ، وقد ختمت الآية ب ((لعل)) من أجل بقاء الرجاء واستمراره لأنّ المؤمن بين الأمل والرجاء في كل

ص: 448


1- الجرح والتعديل : ج3 ص275 .

أوقاته .

وقد ذكرت الآية في صدرها ((الركوع)) و ((السجود)) والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى عبارة ((الصلاة)) وذلك من باب ذكر الجزء وإرادة الكل ((أي الصلاة كلّها)) .

وإنما تم التركيز عليهما لأنّهما ركنان أساسيّان من أركان الصلاة السبعة ، ومن خلالهما يتجلّى الخضوع والخشوع العبادي بأبلغ وأبهى صورة لا سيّما في ((السجود)) الذي هو الخضوع الذي ما بعده خضوع ، ولذا ذكر الفقهاء : أنه لا يجوز السجود لغير اللَّه تعالى ، لأنه غاية الخضوع ، ولا يستحقّها إلّا من هو في غاية العظمة وهو اللَّه تعالى .

وهنا قد يتساءل البعض قائلاً : ماذا تقولون في سجود الملائكة لآدم ؟

فيجاب عليه بأنّ سجود الملائكة لآدم(عليه السلام) إنّما هو امتثالٌ لأمر اللَّه بذلك ، أي أنه سجود للَّه بكل ما تعنيه الكلمة ، ولذلك عندما رفض إبليس اللعين السجود قال له سبحانه : لماذا لم تسجد إذ أمرتك .

السجود والقرب إلى اللَّه تعالى

ولا يخفى أنّ العبد أقرب ما يكون من ربّه ومولاه حيث يكون في حالة السجود ، وأبعد ما يكون عنه حين يستنكف عن السجود ويتنفّر منه ليكون كالشيطان الرجيم .

فالسجود للَّه يرغم أنف الشيطان ، وعدم السجود يسرّه ويرغم أنف الإنسان ويجعله من المطرودين من ساحة القدس لدى ربّ العالمين .

وذكر الصلاة - التي هي أقرب القربات وأحلى العبادات وأقصر الطرق إلى

ص: 449

اللَّه - له خصوصية نابعة من ذاتها ، إذ أنها هي معراج كل مؤمن وقربان كل تقي ، وهي الصلة بين العبد وربّه ، وهي عمود - أو عماد - الدين من أقامها أقام الدين ومن هدمها هدم الدين ، وهي أول ما ينظر إليها الباري تعالى في سجل الإنسان يوم القيامة فإن قبلت حوسب وإن ردّت ردّ صاحبها إلى جهنّم وبئس المصير .

فالصلاة : هي وصية الأنبياء والأوصياء ، وخصوصية الأتقياء ، وفيها يرفع الإنسان إلى الدرجات العلى وبتضييعها يتقلّب في الدركات .

فآخر وصية لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله كانت اللَّه ، اللَّه في الصلاة ، ولأنّها كانت قرّة عين له صلى الله عليه وآله حيث قال ((وقرّة عيني الصلاة))(1) فكانت الصلاة راحة لنفسه النورانية حيث كان يقول لبلال : ((أرحنا بها يابلال))(2)، أي أذّن كي نقف بين يدي اللَّه عزّوجلّ فنرتاح ونطمئن .

وصايا العترة عليهم السلام بالصلاة

وقد أكّد أهل البيت عليهم السلام على الصلاة بشدّة في أحاديثهم الشريفة ، فعن عقيل الخزاعي : أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) كان إذا حضر الحرب يوصي المسلمين بكلمات فيقول : ((تعاهدوا الصلاة وحافظوا عليها واستكثروا منها وتقرّبوا بها فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً))(3).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((لا ينال شفاعتي من استخفّ بصلاته ، لا يرد عليّ

ص: 450


1- الكافي : ج5 ص320 ح7 .
2- بحار الأنوار : ج79 ص193 .
3- الكافي : ج5 ص36 ح1 .

الحوض ، لا واللَّه))(1).

وعن أبي بصير قال : دخلت على اُمّ حميدة اُعزّيها بأبي عبداللَّه(عليه السلام) ، فبكت وبكيت لبكائها ، ثمّ قالت : ياأبا محمد ، لو رأيت أبا عبداللَّه(عليه السلام) عند الموت لرأيت عجباً ، فتح عينيه ثمّ قال : ((اجمعوا كلّ من بيني وبينه قرابة)) ، قالت : فما تركنا أحداً إلّا جمعناه ، فنظر إليهم ثمّ قال : ((إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة))(2).

وأمّا العبادة : فهي الخضوع والتذلّل للَّه جلّ جلاله - والصلاة جزء أساسي لا يتجزّأ منها - ولكن ذكر العبادة بهذا اللفظ يفيد الإطلاق حيث تشمل جميع أنواع العبادات - من صوم وصلاة ، وحج وزكاة ، وخمس وجهاد ، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، والتولّي لأولياء اللَّه والتبرّي من أعدائهم وبقيّة العبادات الاُخرى - .

فعلى الإنسان أن لا يتحرّك إلّا بما يرضي اللَّه سبحانه ، فلا يخضع أو يتذلّل إلّا لخالقه ورازقه - تعالى - أي عليه ألّا يعبد إلّا اللَّه تعالى ، فهو لما يقول في صلاته ((إيّاك نعبد)) أي إنّنا نعبدك في طول حياتنا وعرضها ولا أحد سواك .

وعلى كل فإنّ مفهوم العبادة ينافيه الخضوع لغير اللَّه ، سواء أكان ذلك الشيطان أم الإنسان أم غير ذلك حتى الأهواء النفسية والأموال الدنيوية والمناصب فإنّ كلّ طاعة لأمر من هذه الاُمور هي عبادة لغير اللَّه منهيّاً عنها وصاحبها مشرك بنوع أو أنواع من الشرك واللَّه سبحانه يقول : «لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ(3)«.

ص: 451


1- وسائل الشيعة : ج4 ص26 ح4422 .
2- وسائل الشيعة : ج4 ص27 - 26 ح4423 .
3- سورة النساء (4) : الآية 48 .

القرآن ينهى عن الشرك

وقد نهى اللَّه تعالى في كثير من الآيات القرآنية المباركة عن عبادة غير اللَّه تعالى ومنها :

قوله عزّوجلّ : «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ(1)«.

والأحاديث المروية بالنهي عن عبادة المخلوقين دون الخالق كثيرة ، سواء أكانت عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أم عن أهل بيته الأطهار عليهم السلام فمنها على سبيل المثال والتبرّك :

ما عن الإمام الصادق(عليه السلام) : ((ليس العبادة هي السجود ولا الركوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، فمن أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده))(2).

وعنه(عليه السلام) قال : ((من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق عن اللَّه فقد عبد اللَّه ، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس))(3).

وعن(عليه السلام) قال : ((من أطاع رجلاً في معصية فقد عبده))(4).

التربية الإلهية

الملفت للانتباه أنّ الآية ختمت بقوله تعالى «رَبَّكُمْ» ، أي أنه هو الذي ربّاكم وأنشأكم وخلقكم ، وهو الذي يرزقكم من حيث لا تعلمون .

ولهذه التربية نوعان رئيسيان هما :

ص: 452


1- سورة يس (36) : الآية 60 .
2- تفسير القمّي : ج2 ص53 .
3- الكافي : ج6 ص431 ح24 .
4- الكافي : ج2 ص398 ح8 .

1 - تربية تكوينية : وذلك بالرعاية الشاملة لكل ما في الكون ، وآيات القرآن تشهد بذلك ، فقد قال تعالى : «مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا(1)«.

وقال عزّوجلّ : «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى(2)«. وقال : «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(3)«.

وغيرها من الآيات الكونية التي تحدّث عنها القرآن الكريم بكثرة بين دفّتيه .

2 - تربية تشريعية : وذلك بسنّ القوانين المنظّمة للحياة ، وبعث وإرسال الأنبياء والرسل الكرام وتنزيل الكتب السماوية وكل ذلك لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وإرشادهم إلى ما يصلح دنياهم وآخرتهم .

وأخيراً توجّه الآية وتأمر ((بفعل الخير)) وهو حسب إصطلاح العلماء )مطلق( فيشمل كل أنواع الخير في هذا الوجود ، فعلى الإنسان أن يعمل الخير مطلقاً ولوجه اللَّه جلّت قدرته ، سواء أكان ذلك صغيراً أم كبيراً ، ومع من هم أهلاً للخير أو حتى غير ذلك ، فعلى الإنسان أن يكون هو من أهل الخير .

فإذا فعل الإنسان هذه الاُمور .

1 - الخضوع والخشوع للَّه في الصلاة .

2 - الخضوع العبادي المطلق للَّه .

ص: 453


1- سورة هود (11) : الآية 56 .
2- سورة الأعلى (87) : الآية 4 - 2 .
3- سورة الأنعام (6) : الآية 59 .

3 - فعل الخير لوجه اللَّه .

فعندها يرجى - في دائرة الرجاء لأنّ الجنّة بالتفضّل لا بالاستحقاق - له الفوز الفلاح ، في الدنيا والآخر على حدّ سواء ، وذلك لأنّ حذف المتعلّق يفيد العموم ، ومن زحزح عن النار واُدخل الجنّة فقد فاز ، اللهمّ اجعلنا من الفائزين إله الحقّ آمين .

ص: 454

57- اتّقوا حبائل الشيطان

اشارة

(57) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(سورة النور : 21)

في رحاب المفردات

الفحشاء : الفحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال ، وقد قال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ(1)« وقال : «وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(2).

المنكر : هو كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقّف في استقباحه

ص: 455


1- سورة الأعراف (7) : الآية 28 .
2- سورة النحل (16) : الآية 90) مفردات الراغب : ص387 .

واستحسانه العقول فتحكم بقبحه الشريعة وإلى ذلك قصد بقوله : «الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ(1).

زكا : أصل الزكاة النمو الحاصل عن بركة اللَّه تعالى ويعتبر ذلك بالاُمور الدنيوية والاُخروية .

والتزكية تارةً تنسب إلى العبد لكونه مكتسباً لذلك نحو قوله : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(2)«.

وتارةً ينسب إلى اللَّه تعالى لكونه فاعلاً لذلك في الحقيقة نحو قوله تعالى : «بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ(3)«.

وتارةً إلى النبي صلى الله عليه وآله لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم نحو : «تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا(4).

عبر من الآية

عندما نلاحظ الآيات المباركة المحذّرة من اتّباع خطوات الشيطان نجد أنّها عادةً ما تذكر الأسباب والعلل من هذه التحذيرات .

ص: 456


1- سورة التوبة (9) : الآية 112) مفردات الراغب : ص527 - 526 .
2- سورة الشمس (91) : الآية 9 .
3- سورة النساء (4) : الآية 49 .
4- سورة التوبة (9) : الآية 103) مفردات الراغب : ص219 - 218 .

وكذا الحال في ما نحن فيه ، فالنداء جاء ليدعو المؤمنين إلى اجتناب خطوات الشيطان ليدركوا أنّ الشيطان يسير في أجسامهم كمسرى الدم في العروق ، وأنه يوسوس لهم ويلقي في أمانيهم إذا تمنّوا ، ويزيّن لهم أعمال الباطل ، ويكرّه إليهم أعمال الخير ويصعّبها عليهم ، ولا يتركهم حتى في نومهم حيث انه يريهم الأحلام ويشاركهم في المنام ، وألف قضية وقضية تجد أنّ للشيطان فيها دخلاً وفساداً .

ففي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله قال : ((إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاريه بالجوع))(1).

والسؤال الذي يطرح هنا هو : كيف يغري الشيطان الإنسان ويغويه ؟

فهل يأمره مباشرة وبدفعة واحدة بقتل بري ء مثلاً ؟ ولو فعل الشيطان ذلك هل يستجيب له الإنسان ؟

على الأرجح والغالب ، كلّا ، لأنّه لا مبرّر ولا مسوّغ لهذه الجريمة النكراء ، وفطرة الإنسان النقيّة ترفض وتستقبح الأعمال الشرّيرة كالقتل والسرقة والنهب ، وما إلى ذلك .

ولكن الشيطان يعرف الإنسان أكثر من نفسه ، ويعلم نقاط الضعف فيه ونقاط القوّة كذلك ، فيتجنّب نقاط القوّة ويستغلّ نقاط الضعف ويبدأ بالاستدراج خطوة بعد اُخرى بهدوء وخبث شديدين .

فهو عندما يرى ضعفاً في الإنسان فإنه يغريه ويبدأ يزيّن له العمل الحرام شيئاً فشيئاً ويصوّر له أنه ليس بحرام ، أو يقول له : من يراك الآن ؟ أو افعل هذه مرّة وتب بعدها ، أو أنّ كلّ الناس تفعل ذلك الشي ء ، ففلان وفلانة وغيرهم فعلوا ذلك ، وهل

ص: 457


1- مستدرك الوسائل : ج16 ص220 ح19650 .

إذا فعلتها أنت ستخرب الدنيا ؟ وغير ذلك من المبرّرات الشيطانية .

وهكذا يستمر الشيطان بملاحقة الإنسان حتى ينحرف إلى الحرام خطوة فيسهّلها عليه ويشجّعه على الخطوة الثانية والثالثة إلى أن يصبح مطيّة له يركبه أينما ذهب ، ويستمر معه حتى يصبح شيطاناً ، فشياطين الإنس كشياطين الجنّ بل أخبث وألعن .

فاتّباع الشيطان أخطر ما يكون في الخطوة الاُولى التي تبدأ بفعل بسيط من الحرام ويزداد خطوة فخطوة حتى يصل إلى مستوى عالي من الإجرام ، أو يصبح طاغية من الطغاة كمعاوية بن أبي سفيان أو ولده يزيد أو عامله الحجّاج بن يوسف أو أبو العباس السفاح وغيرهم من مجرمي الإنسانية ، الذين لا تروق لهم الحياة إلّا إذا رأوا الدماء البريئة تراق ، والنفوس الآدمية تقتل ، والأعراض الطاهرة تنتهك .

فتراهم يشمئزّون من يوم لا يرتكبون فيه جريمة إنسانية عظمى ، فالتاريخ يحدّثنا عن طاغية العراق القديم )الحجّاج بن يوسف الثقفي( أنه كان يجلس متضجّراً ويلتفت إلى من هم حوله من الزبانية قائلاً : ألا تعرفون أحداً من أصحاب )أبو تراب(عليه السلام(( أتقرّب إلى اللَّه بدمه(1)؟

وهناك العديد من الشواهد التاريخية التي تدلّ على أنّ الإنسان إذا اتّبع الشيطان في الخطوة الاُولى فإنه يصل إلى هذا المستوى المنحطّ من الفساد .

من أين يبدأ الاستدراج ؟

إذن إنّ مسألة الاستدراج تنطلق من كسر الحاجز النفسيْ باتّجاه الحرام ،

ص: 458


1- الإرشاد : ج1 ص328 .

وعندما ينكسر هذا الحاجز يبدأ الإنسان تدريجياً بالغوص والخوض في بحر الظلمات من المحرّمات ، كالزاني الذي يكون يتحرّج من النظر إلى النساء فعندما يزني مرّة يتبعها مرّات إلى أن يصبح فاسقاً .

فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله :

((بينما موسى(عليه السلام) جالساً إذ أقبل إبليس وعليه برنس(1) ذو ألوان ، فلمّا دنا من موسى(عليه السلام) خلع البرنس وقام إلى موسى فسلّم عليه .

فقال له موسى(عليه السلام) : من أنت ؟

فقال : أنا إبليس .

قال : أنت فلا قرّب اللَّه دارك .

قال : إنّي جئت لاُسلّم عليك لمكانك من اللَّه .

قال : فقال له موسى(عليه السلام) : فما هذا البرنس ؟

قال : به أختطف قلوب بني آدم .

فقال موسى : فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ؟

قال : إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه))(2).

فالشيطان ينهى عن الصلاة ، لأنّها تنهى عن اتّباع الشيطان وعبادته ، ولذلك نجد أنّ العداء على أشدّه بين الشيطان والصلاة ، إذ أنها تحتوي على الركوع والسجود باعتبارها غاية الخضوع والخشوع للَّه تعالى .

ص: 459


1- البرنس : كل ثوب رأسه منه ملتزق به ، دُرَّاعةً كان أو ممط أو جبّة . وقال الجوهر : البرنس قلنسوة طويلة ، وكان النسّاك يلبسونها في صدر الإسلام . )لسان العرب مادّة : برنس).
2- الكافي : ج2 ص314 ح8 .

وإبليس اللعين طرد من الجوار المقدّس ، وجنّة القرب الإلهية لأنه رفض السجود لآدم الذي أمر اللَّه به ، وأراد أن يفديها بسجدة مدّتها أربعة آلاف سنة فلم تقبل منه وقال له المولى عزّوجلّ :

((اُريد أن اُعبد كما اُريد لا كما تريد أنت))(1).

ولذلك جاء في الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام أنه إذا أردت أن ترغم الشيطان فاسجد للَّه تعالى .

ففي الحديث عن معاوية بن عمّار قال : سمعت أبا عبداللَّه(عليه السلام) وهو يقول : ((إنّ العبد إذا أطال السجود حيث لا يراه أحد قال الشيطان : ياويلاه أطاعوا وعصيت وسجدوا وأبيت))(2).

وعن أبي اُسامة قال : سمعت أبا عبداللَّه(عليه السلام) يقول : ((كونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً وعليكم بطول الركوع والسجود فإنّ أحدكم أطال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال : ياويله أطاع وعصيت وسجد وأبيت))(3).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((أحبّ الأعمال إلى اللَّه الصلاة وهي آخر وصايا الأنبياء عليهم السلام فما أحسن من الرجل أن يغتسل أو يتوضّأ فيسبغ الوضوء ثمّ يتنحّى حيث لا يراه أنيس فيشرف اللَّه عزّوجلّ عليه وهو راكع أو ساجد ، إنّ العبد إذا سجد فأطال السجود نادى إبليس : ياويلاه أطاعوه وعصيت وسجدوا وأبيت))(4).

ص: 460


1- راجع تفسير القمّي : ج1 ص36 .
2- وسائل الشيعة : ج6 ص380 ح8236 .
3- الكافي : ج2 ص77 ح9 .
4- من لا يحضره الفقيه : ج1 ص210 ح638 .

دور العبادات في تزكية النفس

ثم بعد ذلك تشير الآية المباركة إلى مسألة ((التزكية)) أي أنّ قضية ((الطهر والنقاء)) ليست مرتبطة بالإنسان مباشرة بل هي بفضل وكرم ورحمة من اللَّه - سبحانه - .

فاللَّه سبحانه أعطى الإنسان جميع مقوّمات الطاعة والعبادة والتزكية وأمره بها ، وكذلك أعطاه القوّة والإرادة ونهاه عن المعصية واتّباع الشيطان وقال له : إنّه لكم عدو فاتّخذوه عدواً .

فجعلنا - جميعاً - على الفطرة النقيّة الصافية .

وأعطانا الفعل وهو النور الربّاني الهادي للخير والصلاح .

وهو الذي منحنا الإرادة وأرسل إلينا الأنبياء والرسل ، وأنزل الشرائع والقوانين ، وسهّل سبل الطاعات وأمرنا باتّباع الأنبياء والأوصياء ليقودونا إلى الجنّة .

ولكن الشيطان راح يقعد لنا في الطرق كافّة ويأتينا من كل اتّجاه وناحية ((من فوقنا وتحتنا وعن أيماننا وشمائلنا)) من أجل إعاقة الإنسان من طاعة اللَّه ورسله ، وطاعته هو وجنده من الأبالسة .

ليصبح الإنسان عبداً للشيطان ، لا عبداً للرحمن - والعياذ باللَّه - .

من جانب آخر فإنّ الإنسان إذا نجا من قبضة الشيطان ، ولم يستمع إلى اغوائه واغرائه ، فذلك فضل من اللَّه وتوفيق منه اللَّه تعالى . ولذا ورد في الحديث القدسي قوله تعالى : ((يابن آدم أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي))(1)

ص: 461


1- الكافي : ج1 ص157 ح2 .

فالجنان والخيرات تفضّل على كل إنسان حتى على الأنبياء عليهم السلام .

وأمّا كلمة ((من يشاء)) فهي إشارة إلى الجانب التكويني من الفضل الإلهي ، حيث أعطانا اللَّه سبحانه والعقل والإرادة ، ولكن هذا لا يعني الجبر - حاشا للَّه - فهي - إذن - ليست ((علّة تامّة)) كما يقول الفلاسفة .

بل هي بمعنى ((الاقتضاء)) كما فصّله علماء الكلام في كتبهم الكلامية .

ص: 462

58- مقتطفات من الآداب الإسلامية

اشارة

(58) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»

(سورة النور : 27)

في رحاب المفردات

بيوتكم : بات أي أقام بالليل كما يقال ظلّ بالنهار ثم قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن أخصّ والأبيات بالشعر . قال اللَّه عزّوجلّ : «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا(1).

تستأذنوا : الإذن في الشي ء إعلامٌ بإجازته والرخصة فيه نحو قوله : «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ(2)« أي بإرادته وأمره(3).

ص: 463


1- سورة النمل (27) : الآية 52) مفردات الراغب : ص64 .
2- سورة النساء (4) : الآية 64 .
3- مفردات الراغب : ص10 .

شأن النزول

أخرج العلّامة الحنفي الشيخ محمد الصبّان في إسعاف الراغبين عن الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ((ما أنزل اللَّه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي أميرها وشريفها ولقد عاتب اللَّه أصحاب محمد صلى الله عليه وآله في غير مكان وما ذكر علياً إلّا بخير))(1).

عبر من الآية

من رحمة اللَّه سبحانه لبني البشر هو إرساله الأنبياء والرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور .

ومن حكمة القرآن هذه الآيات المنظّمة لحركة الإنسان والموجّهة لها لأن لا تتّجه إلى الشيطان فتقفوا أثره وتضيع في متاهات الضلال .

ومن عظمة الإسلام هذه التعاليم الإنسانية الرائعة التي تعلّم الإنسان كيف يعيش في المجتمع وفي الاُسرة ، وتعلمه حتى كيف يدخل إلى المنزل وكيف ينام ويعاشر وما إلى ذلك من تعاليم لو أخذ بها الإنسان لعاش في الدنيا سعيداً .

ومن هذه الآيات المباركة - آية البحث - وهي في سياق سورة النور العظيمة التي يمكن أن يطلق عليها اسم سورة الاُسرة والمجتمع لأنها في معظم آياتها تتحدّث عنهما سواء أكان في جانب التربوي أو التعليم أم غيرهما من الاُمور الهامّة .

ص: 464


1- إسعاف الراغبين )بهامش نور الأبصار( : ص161 .

وعلى كل فإنّ للإنسان حياتين :

1 - حياة عامّة مع المجتمع ككل .

2 - حياة خاصّة في البيت مع الأهل .

ويختلف نمط سلوك الإنسان في هاتين الحياتين ، ففي الحياة العامّة هناك آداب اجتماعية معيّنة لابدّ من مراعاتها ليكون الإنسان حميد السيرة بين الناس .

فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال : ((أربع من أخلاق الأنبياء عليهم السلام : التطيّب والتنظيف بالموسى وحلق الجسد بالنورة وكثرة الطروقة))(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((ليتزيّن أحدكم يوم الجمعة يغتسل ويتطيّب ويسرّح لحيته ويلبس أنظف ثيابه))(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((ليتزيّن أحدكم لأخيه المسلم كما يتزيّن للغريب الذي يحبّ أن يراه في أحسن الهيئة))(3).

وينقل عن الإمام الحسن(عليه السلام) الذي كان أعظم خلق اللَّه في الخلق والخُلُق أنه اغتسل وخرج من داره في حلّة فاخرة ، وبزّة طاهرة ، ومحاسن سافرة ووجهه يطفح حسناً ، وشكله قد كمل صورة ومعنى .

والإقبال يلوح من أعماقه ، ونضرة النعيم تعرف في أطرافه .

ثم ركب بغلة فارهة غير قطوف(4)، وسار مكتنفاً بحاشيته .

ص: 465


1- من لا يحضره الفقيه : ج1 ص131 ح341 .
2- الكافي : ج3 ص17 ح1 .
3- الكافي : ج6 ص439 ح10 .
4- القطوف من الدواب : البطي ء ومعنى العبارة أنّه(عليه السلام) كان راكباً دابة غير بطيئة راجع لسان العرب : مادّة قطف .

فعرض شخص له قوم من محاويج اليهود ، وهو في هدم مرقّعة قد أنهكته العلّة وارتكبته الذلّة ، وأهلكته القلّة ، وجلده يستر عظامه ، وضعفه يقيه أقدامه ، فاستوقف الإمام الحسن(عليه السلام) وقال : يابن رسول اللَّه أنصفي !

فقال : ((من أي شي ء ؟!)) .

قال : جدّك يقول : ((الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر)) وأنت مؤمن وأنا كافر فما أرى الدنيا إلّا جنّة لك تتنعّم بها وتستلذّ فيها وما أراها إلّا سجناً لي قد أهلكني ضرّها وأتلفني فقرها .

فأجابه الإمام(عليه السلام) : ((لو نظرت إلى ما أعدّ اللَّه لي وللمؤمنين في الآخرة مما لا عين رأت ولا اُذن سمعت لعلمت أنّي قبل انتقالي إليه في هذه الدنيا في سجن ضنك ولو نظرت إلى ما أعدّ اللَّه لك ولكل كافر في الدار الآخرة من سعير نار الجحيم ونكال العذاب المقيم ، لرأيت أنّك قبل مصيرك إليه الآن في جنّة واسعة ونعمة جامعة))(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) : ((إنّ اللَّه يحبّ الجمال التجمّل ويكره البؤس التباؤس فإنّ اللَّه عزّوجلّ إذا أنعم على أحد نعمة أحبّ أن يرى عليه أثرها)) قيل : وكيف ؟

قال(عليه السلام) : ((ينظّف ثوبه ويطيّب ريحه ، ويحسن )أو يجصص( داره ويكنس أقنيته حتى أنّ السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق))(2).

ص: 466


1- بحار الأنوار : ج43 ص346 .
2- وسائل الشيعة : ج5 ص7 ح5746 .

الخلود إلى الراحة

وبما أنّ لباس الزينة الذي يلبسه الإنسان للمجتمع والناس يمكن له أن يستمر في لبسه دائماً ليلاً ونهاراً ...

فمن الطبيعي أنّ الإنسان كغيره من المخلوقات يحتاج إلى وقت للراحة والهدوء .

وهذا ما نسمّيه بالحياة الخاصة : حيث يمارس الإنسان حياته كما يريد بحرية كاملة لا يقيّدها إلّا الشرع الحنيف ، فيلبس ما يريد أو يتعرّى من ملابسه ، ويجلس كما يجب أو يستلقي على الأرض بأريحية وهدوء .

وحيث إنّ البيوت والمنازل ذات حرمة كبيرة ، فقد حرّم الدخول إلى اليها إلّا بعد الحصول على الإذن المشروع بالدخول وإلّا فليرجع من حيث أتى .

فعن أبي أيّوب الأنصاري ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، قال : سألته عن قوله تعالى : «حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا(1)« ما أراد اللَّه تعالى بالاستيناس ؟ فقال صلى الله عليه وآله : ((إذا جاء الرجل إلى باب الدار يسبّح ويهلّل ، حتّى يعلم أهل الدار أنّه يريد الدخول فيها))(2).

إذن - وكما نصّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله - إنّ من آداب الدخول إلى المنازل الاستئناس : أي إعطاء الصوت الخفيف من ذكر لفظ الجلالة كأن يقول ((يااللَّه ، يااللَّه)) أو أي كلمة من تحميد أو شهادة أو تمجيد أو غير ذلك كأن يتنحنح أو يصدر صوتاً خفيفاً يشعر أهل المنزل بقدومه بلطف ومحبّة وهدوء .

ص: 467


1- سورة النور : 24 .
2- تفسير أبو الفتوح الرازي : ج4 ص29 .

إفشاء السلام

كما أنّ من الآداب الإسلامية التي أكّد عليها الشارع المقدّس هو السلام إذ أنّ السلام هو تحيّة الإسلام الحنيف وهو تحيّة أهل الجنّة كما ورد في الحديث الشريف ، وهو :

1 - تحيّة طيّبة تشعر الطرف الآخر بالمحبّة والأمان .

2 - وهو دعاء ، بأن نطلب من اللَّه ((السلامة)) للشخص الذي نسلّم عليه .

ولا يخفى أنّ السلامة لها معنى عام يشمل الكثير من القضايا ، كالسلامة من الأمراض العاهات والمشاكل المستعصية ، والسلامة من كل سوء يخاف منه الإنسان أو يُخاف منه عليه .

ففي هذه الآية المباركة حديث تنظيمي رائع لحفظ حرمة المنازل والبيوت حتى لا تصبح كالطريق العام أو الشارع يدخله ويخرج منه من يريد ومتى كيف يريد ؟

فقد روي أنّ رجلاً اطّلع في حجرة من حجر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ومعه مدرى(1) يحكّ به رأسه : لو أعلم أنّك تنظر لطعنت به في عينيك ، إنّما الاستئذان من النظر(2).

وروي أنّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله : أأستأذن على اُمّي ؟

قال صلى الله عليه وآله : ((نعم)) .

قال الرجل : ليس لها خادم غيري ، أفأستأذن عليها كلّما دخلت ؟

قال صلى الله عليه وآله : ((أتحبّ أن تراها عريانة ؟)) .

ص: 468


1- المدرى : المشط .
2- مجمع البيان : ج18 مج7 ص237 .

قال الرجل : لا .

قال صلى الله عليه وآله : ((فاستأذن عليها إذن))(1).

ويروى أنّ رجلاً استأذن على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال : ألج ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وآله لجارية إسمها روضة : ((هذا الرجل لا يعرف الاستئذان إذهبي وعلّميه حتّى يدخل)) فجاءت إليه وقالت : ياهذا إذا أردت الاستئذان فقل أوّلاً : السلام عليكم ، أدخل ، فسمع وعلم ، فقال : ((فادخل))(2).

وروى جابر بن عبداللَّه الأنصاري قائلاً : خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يريد بيت فاطمة عليها السلام وأنا معه ، فلمّا انتهينا إلى الباب وضع يده فدفعه ثم قال : ((السلام عليكم)) .

فقالت فاطمة عليها السلام : ((عليك السلام يارسول اللَّه)) .

قال صلى الله عليه وآله : ((أأدخل ؟)) .

فقالت عليها السلام : ((أدخل يارسول اللَّه)) .

قال صلى الله عليه وآله : ((أأدخل ومن معي ؟)) .

قالت عليها السلام : ((يارسول اللَّه ليس عليّ قناع)) .

فقال صلى الله عليه وآله : ((يافاطمة خذي فضل ملحفتك فقنّعي به رأسك)) .

ففعلت ثم قال صلى الله عليه وآله : ((السلام عليكم)) .

قالت عليها السلام : ((وعليك السلام يارسول اللَّه)) .

قال صلى الله عليه وآله : ((أدخل ؟)) .

ص: 469


1- مستدرك الوسائل : ج14 ص282 ح16724 .
2- مستدرك الوسائل : ج8 ص377 ح9724 .

قالت عليها السلام : ((نعم يارسول اللَّه)) .

قال صلى الله عليه وآله : ((أنا ومن معي ؟)) .

قالت عليها السلام : ((ومن معك))(1).

فبهذه الدقّة والتودّد أدّبنا الإسلام فوجب علينا أن نتأدّب بآدابه الرائعة .

ص: 470


1- الكافي : ج5 ص528 ح5 .

59- الاُسرة والآداب الإسلامية

اشارة

(59) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ »(سورة النور : 58)

في رحاب المفردات

الحلم : المراد بالحلم في الآية الشريفة أي زمان البلوغ وسمّي بالحلم لكون صاحبه جدير بالحلم(1).

عورات : العورة هي سوأة الإنسان وذلك كناية وأصلها من العار وذلك لما

ص: 471


1- مفردات الراغب : ص129 .

يلحق في ظهوره من العار أي المذمّة ، ولذلك سمّي النساء عورة ، ومن ذلك العوراءُ للكلمة القبيحة(1).

جناح : سمّي الإثم المائل بالإنسان عن الحقّ جناحاً ، ثم سمّي كل إثم جناحاً نحو قوله تعالى : «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ(2).

شأن النزول

أخرج الشيخ المحمودي في تعليقاته على شواهد التنزيل للحافظ )الحنفي( الحاكم الحسكاني عن )القطيعي( في كتاب الفضائل عن عكرمة أعن ابن عباس قال سمعته يقول : ((ليس من آية في القرآن «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللَّه أصحاب محمد صلى الله عليه وآله في القرآن وما ذكر علياً إلّا بخير))(3).

عبر من الآية

في ضمن آيات التنظيم الاُسري والأخلاقي والتربوي أتت هذه الآيةالمباركة لتنظيم الحياة الخاصة للمؤمنين . فقد تبدو هذه القضايا جزئية وهامشية لدى البعض ،

ص: 472


1- مفردات الراغب : ص365 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 235) مفردات الراغب : ص98 .
3- التعليق على شواهد التنزيل : ج1 ص19 .

ولكنّها - في الواقع - هامّة جدّاً وضرورية ، لأنها ترسم حدود الاُسرة ، والتي من بينها تنظيم التزاور بحيث تستطيع الاُسرة أن تبقى آمنة في مأواها ، بعيدة عن العيون القريبة ، فمثلاً ينبغي للمملوك والأطفال أن لا يدخلوا الغرف ، إلّا بعد الاستئذان ، وذلك في أوقات الاستراحة كالليل والظهيرة ومن قبل صلاة الفجر .

وكذلك ينهى الأطفال الذين لم يبلغون الحلم أن يسترسلوا على عاداتهم في دخول البيوت بلا استئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة ، وذلك للمحافظة على العفّة الاجتماعية .

فكثير ما يظنّ البعض أنّ )الطفل( لا يفهم شيئاً ، خصوصاً في الاُمور الجنسية ، وهذا تصور خاطئ جدّاً ، وقد كشفت الأبحاث الكثيرة لعلماء النفس خطئه .

فقد ذكروا أنّ الطفل أذكى ممّا نتصوّر ، وأنه - وحتى الطفل في المهد - يفهم كثيراً جدّاً وأنه يميّز حتّى بين اللهجات المختلفة ، ويعرف اُمّه بالشكل بل حتّى بالرائحة .

وذلك يؤيّد قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : ((إيّاكم وأن يجامع الرجل امرأته والصبي في المهد ينظر إليهما))(1).

فعلى الآباء والاُمّهات الحذر كل الحذر ، في التعامل ضمن الاُسرة لا سيّما في القضايا والحياة الجنسية لأنّ ذلك يخلّف آثار ضارّة جدّاً على نفسية الطفل .

وعليهما أن لا يقومان بأي عمل مثير أو ملفت للانتباه أمام الطفل ، لأنه ربما دفع الولد إلى تقليد والديه في ذلك ممّا يؤدّي إلى الانحراف والفساد .

أو ربما يؤدّي إلى إصابة الطفل بالعقد النفسية طوال حياته إذ أنّ الطفل

ص: 473


1- مستدرك الوسائل : ج14 ص228 ح16568 .

حسّاس جدّاً لأي حركة أو منظر ملفت فينطبع في خياله ولا يكاد يفارقه أبداً .

الاستئذان في الأوقات الخاصّة

من هذا المنطلق المهم أكّدت الآية الكريمة على آداب الدخول إلى الغرف الخاصة للوالدين )غرف النوم( وحظرت الدخول إليها إلّا بعد الاستئذان من الوالدين وذلك ل :

1 - الأطفال الكبار والصغار .

2 - العبيد والمماليك .

وذلك في ثلاث أوقات أساسية وخاصة للراحة هي :

1 - قبل صلاة الفجر حيث يكون الإنسان نائماً .

2 - وقيلولة الظهر حيث إنها فرصة للراحة وضرورية لكل إنسان لا سيّما في فصل الصيف .

3 - وبعد صلاة العشاء حيث يأوي الرجل وزوجته إلى الفراش من أجل النوم .

وهذه الأوقات بالخصوص لأنها أوقات الراحة التي يتواجد الناس في بيوتهم ، بعد أن يكونوا قد حضروا صلاة الجماعة في المساجد ، أو قاموا بأعمالهم المختلفة ونشاطاتهم المتنوّعة لكسب الرزق ، وتحقيق المعاش .

وكم يرتاح الإنسان نفسياً وجسدياً حين يطمئن بأن لا أحد يدخل عليه إذا وضع عن نفسه الكلفة وأراد أن يتمتّع بمتعة خطرت له .

ص: 474

القرآن والتنظيم الاُسري

لا يخفى أنّ الاُسرة الفاضلة هي الاُسرة القائمة على أساس التعاون البنّاء ، ولا يأتي ذلك إلّا عن طريق الطاعة السليمة للقيم الحقّة ، بحيث لا تكون هذه الطاعة خالية من قانون يحدّدها .

بل يجب أن تصبّ في قنوات قانونية ، فلا يكتفي الإنسان المنظّم بالطاعة لقيادته أو ولي أمره أو ربّ اُسرته ، بل عليه أن يلتزم أيضاً بحدود القوانين الاجتماعية المفروضة .

وقد لا تبدو هذه القوانين ذات أهمية ، ولكنّها حينما تطبّق في الحياة الاجتماعية تصبح ذات نفع عظيم جدّاً ، فمثلاً حينما يلزم الإسلام المسلم الوفاء بالعهد والالتزام بالوعد ، أتدري كم ينظّم هذا الأمر حياة المجتمع ؟ أو كم يحافظ على الوقت الذي يذهب هدراً ؟ وإلى أي حدّ يحافظ على علاقات الناس متينة وطيّبة ؟

فإنّ المحافظة على الوقت يعتبر من أهم القضايا الحياتية التي يجب أن نلحظها وننظّمها لأنّ الوقت كما في الخبر : ((كالسيف إن لم تقطعه قطعك))(1).

ومن الملاحظ أنّ مسألة تنظيم الوقت في هذه الآية المباركة واضح جدّاً ، فهي تفصل بين أوقات الراحة عن أوقات العمل ، كي يكون هناك وقت للراحة ، كما أنّ هناك وقتاً للسعي والكدح في سبيل ابتغاء فضل اللَّه .

فإنّ الذي يجد وقتاً كافياً للراحة ، يتسنّى له الجدّ والعمل وحتى الإبداع عند العمل ، إذ أنّ أوقات الراحة تجعل الإنسان منطلقاً للتحرّك نحو العمل من جديد ، وبروح نشطة ومندفعة .

ص: 475


1- منية المريد : ص230 .

وهذا القانون الذي أشارت إليه الآية الكريمة يوفّر على الإنسان مزيداً من الوقت وينظّمه ، وهذا يعني مزيداً من التقدّم الحضاري ، لأنّ الاُمّة التي لا تعرف قيمة الوقت هي اُمّة لا تعرف طرق التقدّم والحضارة .

ونلاحظ في الآية الكريمة أنّ الخطاب يتعلّق بالعبيد والأطفال فقط ، الأمر الذي يثير السؤال التالي في الأذهان وهو : هل الطفل مكلّف ؟

وللجواب نقول : إنّه هنا وجهان للمسألة وهما :

1 - قد يكون هذا تغليباً حيث إنّ العبيد عادة ما يكونوا مكلّفين ، وهم مقيّدون في دخولهم وخروجهم ، ولكن الأطفال يملكون الحرّية بالحركة في المنزل - بالغالب - أمّا الكبار منهم فهم يتحرّجون من الدخول إلى مخادع أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة ، والطفل فلا يتحرّج من ذلك .

2 - ربما يكون الخطاب موجّهاً للأطفال ، ولكن واقعه موجّهاً إلى الآباء والاُمّهات ، أي أنّ على الآباء والاُمّهات أن يربّوا أبنائهم على هذه الأخلاقيات بأن لا يدخلوا عليهم في هذه الأوقات ، وذلك باُسلوب إيّاك أعني واسمعي ياجارة .

وأخيرا ..

إنّ الحكمة من هذا التشريع الهام : هي إبعاد الأطفال عن بعض المظاهر غير المناسبة المحتشمة في أماكن الخلوة حيث تثيرهم وتزرع في نفوسهم حبّ الزنا - والعياذ باللَّه - أو عداوة أحد الوالدين ، ممّا يتسبّب في العقد الجنسية ، وما يتبعها من نتائج خطيرة .

ولقد حذّرت النصوص الشرعية من ذلك واعتبرته نوعاً من التشجيع على الزنا ، إذ أنّ الحياء يسقط عند الأطفال ، وتصبح المعاشرة الجنسية عملاً عادياً

ص: 476

عندهم يمارسونها عند أول بوادر الحاجة الفيزيولوجية إليها .

ولذا ورد في الحديث المأثور عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أنه قال : ((إيّاكم وأن يجامع الرجل امرأته والصبي في المهد ينظر إليهما))(1).

وعلى كل فعفّة الوالدين ضرورية لحفظ الاُسرة وعفّتها ونقاوتها بشكل عام ، ولذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال : ((إنّ اللَّه يحبّ عبده المؤمن الفقير المتعفّف أبا العيال))(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال : ((دليل غيرة الرجل عفّته))(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) قال : ((ما عبد اللَّه بشي ء أفضل من عفّة بطن وفرج))(4).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((النزاهة آية العفّة))(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((ما المجاهد الشهيد في سبيل اللَّه بأعظم أجراً ممّن قدر فعفّ ، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة))(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((العفاف يصون النفس وينزّهها عن الدنايا))(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((عفّوا عن نساء الناس تعفّ نساؤكم))(8).

ص: 477


1- مستدرك الوسائل : ج14 ص228 ح16568 .
2- مجموعة ورّام : ج1 ص7 .
3- غرر الحكم : في العفّة 5408 .
4- وسائل الشيعة : ج15 ص249 ح20413 .
5- غرر الحكم : في النزاهة ومدحها 7343 .
6- نهج البلاغة : ق474 .
7- غرر الحكم : في العفّة 5420 .
8- من لا يحضره الفقيه : ج4 ص20 ح4985 .

فالعفّة من الخصال الحميدة التي تحفظ النفس والأهل وتحصّن المجتمع الإسلامي من الإنحراف والإنزلاق في مهاوي الرذيلة والعياذ باللَّه .

وحيث إنّ اللَّه - سبحانه - ((عليم)) بما يصلحنا ويصلح مجتمعاتنا فقد أمرنا بالعفّة وننظّم معيشتنا على هذه الاُسس القويمة التي تقود المجتمعات إلى العفاف والسداد إثر التزامنا بها وتقيّدنا بشرائطها المهمّة .

ص: 478

60- نعمة النصر الإلهي

اشارة

(60) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً »(سورة الأحزاب : 9)

في رحاب المفردات

نعمة : النعمة الحالة الحسنة وبناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة والركبة ، والنعمة التنعّم وبناؤها بناء المرّة من الفعل كالضربة والشتمة ، والنعمة للجنس تقال للقليل والكثير ، قال «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا(1).(2).

جنود : يقال للعسكر الجُند اعتباراً بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة التي فيها حجارة ثمّ يقال لكل مجتمع جند نحو الأرواح جنود مجنّدة قال تعالى : «وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ(3).(4).

شأن النزول

روى العلّامة البحراني عن أبي نعيم الأصفهاني )فيما نزل من القرآن في علي( بالإسناد عن سفيان الثوري ، عن رجل ، عن مرّة ، عن عبداللَّه قال : وقال جماعة من المفسّرين في قوله تعالى : «اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ» ((إنّها نزلت في علي يوم الأحزاب))(5).

عبر من الآية

تذكّر الآية المباركة المؤمنين بنعمة إلهية كبرى وهي النصر .

وبالتدقيق نجد أنّ الخطاب هنا لا يختصّ بالمؤمنين في صدر الإسلام الأول فقط ، بل إنّما يمتدّ الخطاب طيلة وجود الدين الإسلامي كلّه ، لأنّ المؤامرة لم تكن تستهدف المؤمنين في صدر الإسلام وحدهم كأشخاص - وإن كانوا مستهدفين - بل كانت تستهدف الإسلام وتهدّد ((الوجود الإسلامي)) ككل ، وإلى النهاية .

ولولا عناية اللَّه ونعمة النصر ، لمحي هذا الدين عن خارطة العالم ، ولما بقي إلّا في بطون الكتب وربما يمحوه كذلك ، ولما كان أحد منّا اليوم مسلماً أبداً .

ص: 479


1- سورة إبراهيم (14) : الآية 34
2- مفردات الراغب : ص520 .
3- سورة الصافات (37) : الآية 137
4- مفردات الراغب : ص98 .
5- غاية المرام : ص420 .

فالخطاب عام والنعمة شاملة ، والنصر للدين وللمنتسبين له جميعاً فما أولاها بالشكر للَّه تعالى صاحب النعم الدائمة على العباد .

والعناية الإلهية لم تختص بهذه القضية ، بل رافقت هذا الدين منذ بدايته وفي أيّامه الاُولى وحتى اليوم وإلى آخر أيّام الدنيا بإذن اللَّه تعالى .

وفي عصرنا الراهن نلاحظ عظمة المؤامرات التي يتعرّض لها الدين الإسلامي الحنيف ، فمن الشرق الملحد إلى الغرب المشرك ، وإلى المنافقين والدجّالين وأصحاب المصالح من سياسيين وغيرهم .

فقد اكتسحت - قديماً وحديثاً - العالم الإسلامي موجات هائلة من الهمج الرعاع التتار والمغول والقرامطة والصليبيين وجمعيهم يريدون محو هذا الدين من خارطة الوجود ، ويأبى اللَّه لهم ذلك ، ويخزيهم ويركسهم على أنفسهم .

فلولا الألطاف الإلهية ، والتعهّد الربّاني بحفظ هذا الدين لم يبق اسم له ولا رسم .

وهذه الآية المباركة تذكّرنا بنقطة فاصلة بالنسبة للرسالة الخاتمة ، وبمعركة هامّة جدّاً شارك فيها الريح والملائكة والرمل والحصى مع أمير المؤمنين(عليه السلام) قاتل شجاع العرب الذي كان يعدّ بألف فارس ، وبقتله انتصر الإسلام وهزم الكفر والشرك والنفاق .

تلك الغزوة هي غزوة عُرف لها إسمين إثنين هما :

1 - ((الأحزاب)) وهذا ما أطلقه الباري سبحانه وتعالى - كما في الآية - على هذه الغزوة لتحزّب قريش مع يهود بني النضير ، وغطفان وفزارة ومرّة وأشجع من القبائل العربية بقيادة أبو سفيان ، وقد كانوا بآلاف معزّزين بالمؤن تخلفهم النساء

ص: 480

يضربن الطبول ويهلهلن ويشجّعن الفرسان وأوّلهم هند آكلة الأكباد .

2 - ((الخندق)) حيث إنّ أهل السير والتواريخ سمّوها بغزوة ((الخندق)) وذلك بسبب حفر المسلمين خندقاً ليحول بين المشركين ودخولهم المدينة كما أشار سلمان المحمّدي وأقرّه النبي صلى الله عليه وآله على ذلك فحفروا الخندق بزمن قياسي لا يزيد عن الأربعين يوماً ، وكان قد شكّل مفاجأة هائلة لجيش الشرك فعسكر على الطرف المقابل أيّاماً وليالي .

الملفت للانتباه أنّ كلمة ((جنود)) الواردة في الآية ، جاءت نكرة وهذا يدلّ على كثرة الجيش الذي جاء به أبو سفيان ، حيث إنّ التنكير يفيد أحياناً معنى التحقير ، وأحياناً على التكثير والتعظيم والتهويل .

قصّة الواقعة

فقد نقل أرباب التفاسير والمؤرخين أنّ غزوة الأحزاب وقعت كالتالي :

لمّا فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من الخندق ، أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف والغابة )شمال المدينة( في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة ، وأهل تهامة وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتّى نزلوا إلى جانب جبل اُحد .

ص: 481

وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع(1) في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هناك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام(2).

ص: 482


1- جبل بقرب المدينة .
2- الأبنية المرتفعة كالحصون حفاظاً عليهم .

وخرج عدوّ اللَّه )حي بن أخطب النضيري( حتى أتى )كعب بن أسد القرظي( صاحب بني قريظة ((وكلاهما من يهود المدينة)) وكان - القرظي - قد وادع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله على قومه ، وعاهده على ذلك .

فلمّا سمع كعب صوت بن أخطب ، أغلق دونه الحصن ، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له ، فناداه : ياكعب افتح لي .

فقال : ويحك ياحي ، إنّك رجل مشؤوم ، إنّي قد عاهدت محمّداً صلى الله عليه وآله ولست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلّا وفاء وصدقاً .

فقال : ويلك افتح لي اُكلّمك ، فقال : ما أنا بفاعل .

فقال : إن أغلقت دوني إلّا على حشيشة تكره أن آكل منها معك ، فاحفظ الرجل(1).

ففتح له فقال : ويحك ياكعب جئتك بعزّ الدهر ، وببحر طام(2)، جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، وبغطفان على سادتها وقادتها ، واعدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً صلى الله عليه وآله ومن معه .

فقال كعب : جئتني - واللَّه - بذلّ الدهر ، بجهام(3) قد هراق ماؤه ، ويرعد ويبرق وليس فيه شي ء ، فدعني ومحمداً صلى الله عليه وآله وما أنا عليه ، فلم أر من محمد صلى الله عليه وآله إلّا صدقاً ووفاء .

فلم يزل حي بكعب حتى سمح وقد أن أعطاه عهداً وميثاقاً : لئن رجعت

ص: 483


1- أي غضب .
2- كثير الماء .
3- سحابة .

قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً صلى الله عليه وآله أن أدخل معك حصنك ، حتى يصيبني ما أصابك .

فنقض كعب عهده ، وبرئ ممّا كان عليه فيما بينه وبين رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .

وبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فأبشر خيراً واستبشر بذلك ، إلّا أنه عظم البلاد على المسلمين ، واشتدّ الخوف وبلغت القلوب الحناجر وأتاهم عدوّهم من فوقهم ، ومن أسفل منهم ، حتى ظنّ المسلمون كل ظنّ ، وظهر النفاق من بعض المنافقين .

فأقام رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .

وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة ، لم يكن بينهم قتال إلّا رمي بالنبل ، إلّا أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ ، أخو بني عامر بن لؤي ، وعكرمة ابن أبي جهل ، وضرار بن الخطّاب ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبداللَّه ، قد تلبّسوا القتال ، وخرجوا على خيولهم حتى مرّوا بمنازل بني كنانة فقالوا : تهيّأوا للحرب يابني كنانة ، فستعلمون اليوم من الفرسان .

ثم أقبلوا تعنق(1) بهم خيولهم ، حتى وقفوا على الخندق ، فقالوا : واللَّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ثمّ تيمّموا مكاناً ضيقاً من الخندق ، فضربوا خيولهم ، فاقتحموا فجالت بهم السبخة بين الخندق وسلع ، وخرج الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في نفر من المسلمين ، حتى أخذ عليهم الثغرة التي منها اقتحموا ، وأقبلت الفرسان نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود فارس قريش ، وكان قد قاتل يوم بدر حتى ارتثّ وأثخنته الجراح ، ولم يشهد أحداً .

فلمّا كان يوم الخندق خرج معلّماً ليرى مشهده ، وكان يعدّ بألف فارس ،

ص: 484


1- من العنق : وهو ضرب من السير .

وكان يسمّى فارس يليل وسمّي بذلك لأنه أقبل في ركب من قريش حتى إذا كانوا بيليل ، وهو وادٍ قريب من بدر ، عرضت لهم بنو بكر في عدد فقال لأصحابه : إمضوا فمضوا .

فقام في وجوه بني بكر ، حتى منعهم من أن يصلوا إليه ، فعرف بذلك .

وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد ، وكان أوّل من ظفره عمرو وأصحابه ، فقيل في ذلك :

عمرو بن عبد ودّ كان أوّل فارس

جزع المذاد وكان فارس يليل

وذكر ابن إسحاق : أنّ عمرو بن عبد ودّ ، كان ينادي : من يبارز ؟ فقام الإمام علي(عليه السلام) وهو مقنّع بالحديد ، فقال :

أنا له يانبي اللَّه .

فقال صلى الله عليه وآله : إنه عمرو ، اجلس .

ونادى عمرو : ألا رجل ! وهو يؤنّبهم ويقول : أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها ؟

فقام الإمام علي(عليه السلام) فقال : أنا له يارسول اللَّه .

ثم نادى الثالثة فقال :

ولقد بححت من النداء

بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجّع

موقف البطل المناجز

إنّ السماحة والشجا

عة في الفتى خير الغرائز

فقام الإمام علي(عليه السلام) فقال : يارسول أنا .

فقال له رسول اللَّه : إنّه عمر فقال : وإن كان عمراً .

ص: 485

فاستأذن رسول اللَّه فأذن له صلى الله عليه وآله .

وبرواية عن حذيفة قال : فألبسه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله درعه )ذات الفضول( ، وأعطاه سيفه )ذا الفقار( ، وعمّمه بعمامته )السحاب( ، وجعل على رأسه تسعة أكوار ، ثم قال له : تقدّم ، فقال لمّا ولّى : ((اللهمّ احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوق رأسه ، ومن تحت قدميه)) .

قال ابن إسحاق : فمشى إليه وهو يقول :

لا تعجلّن فقد أتا

ك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة

والصدق منجي كل فائز

إنّي لأرجو أن أقد

م عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى

ذكرها عند الهزاهز

قال له عمرو : من أنت ؟

قال : أنا علي .

قال : ابن عبد مناف ؟

قال : أنا علي بن أبي طالب بن عبدالمطّلب بن هاشم بن عبد مناف .

فقال : غيرك ابن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك ، فإنّي أكره أن اُهرق دمك .

فقال الإمام علي(عليه السلام) : لكنّي واللَّه لا أكره أن اُهرق دمك .

فغضب ونزل ، وسلّ سيفه كأنه شعلة نار ، ثم أقبل نحو الإمام علي مغضباً فاستقبله الإمام علي بدرقته ، فضربه عمرو بالدرقة فقدّها ، وأثبت فيها السيف ، وأصاب رأسه ، فشجّه ، وضربه الإمام علي على حبل العاتق ، فسقط .

ص: 486

فجلس أمير المؤمنين(عليه السلام) على صدره فبصق اللعين في وجهه الشريف فقام عنه ومشى بضع خطوات وعاد إليه فاحتزّ رأسه وأقبل باتّجاه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فرحاً مستبشراً فقال صلى الله عليه وآله له :

أبشر ياعلي فلو وزن اليوم عملك بعمل اُمّة محمد لرجّح عملك على عملهم .

وبرواية اُخرى إنّه قال صلى الله عليه وآله : ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين إلى يوم القيامة .

وقال أمير المؤمنين فيما بعد شعراً يصف حال عمرو :

نصر الحجارة من سفاهة رأيه

ونصرت ربّ محمد بصواب

فضربته وتركته متجدّلاً

كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو أنّني

كنت المقطّر بزني أثوابي(1)

من دلائل الآية

وبعد أن استعرضنا هذه الواقعة التاريخية المهمّة نخلص منها بما يلي :

1 - مدى تفاني أمير المؤمنين(عليه السلام) في ذات اللَّه تعالى .

2 - ثقته التامّة بنصرة الدين وعدم مبالاته بأشياع الضلالة مهما كانت شوكتهم قوية .

3 - شدّة ثباته(عليه السلام) واستقامته في إعلاء كلمة الحقّ .

4 - مبادرته(عليه السلام) إلى ردع المخاطر المحيقة بالدين الإسلامي الحنيف .

5 - انفراده(عليه السلام) في مثل هذه الفضيلة وعدم أهلّية غيره من المسلمين لمثلها .

ص: 487


1- مجمع البيان : ج21 مج8 ص133 - 129 .

6 - نصرة الدين الإسلامي عادة ما تكون على يديه(عليه السلام) .

7 - إنّ غضبه(عليه السلام) لا يكون إلّا للَّه ومن أجل تحصيل رضاه تعالى .

8 - بانتصار أمير المؤمنين(عليه السلام) على ابن ودّ العامري اُضيف إلى ديوان فضائله(عليه السلام) فضيلة مهمّة بقي الإمام(عليه السلام) يفتخر بها طيلة حياته ويشهد على ذلك أبياته المنسوبة إليه .

وغير ذلك من الفوائد المهمّة التي تدلّ على عظمة مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)الذي صرع يوم الخندق زعيم الإلحاد وأعلى راية الإسلام خفّاقة على مرّ التاريخ .

ص: 488

61- أهميّة الذكر الكثير

اشارة

(61) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً »(سورة الأحزاب : 41)

في رحاب المفردات

اذكروا : الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلّا أنّ الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره ، وتارة يقال لحضور الشي ء القلب أو القول ، ولذلك قيل الذكر ذكران : ذكر بالقلب وذكر باللسان(1).

كثيراً : الكثرة والقلّة يستعملان في الكمية المنفصلة كالأعداد ، قال : «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً(2)« وقال : «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(3)« وقال : «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ(4).

ص: 489


1- مفردات الراغب : ص181 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 64 .
3- سورة المؤمنون (23) : الآية 70 .
4- سورة الأنبياء (21) : الآية 24) مفردات الراغب : ص443 .

شأن النزول

أخرج الحافظ جمال الدين محمد بن يوسف )الحنفي( الزرندي في كتابه )نظم درر السمطين( عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ما أنزل اللَّه تعالى آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها))(1).

عبر من الآية

في خضم متاهات الحياة الكثيرة ، ومع تزاحم مشاغل الدنيا جاءت هذه الآية المباركة لتحثّ المؤمنين إلى ذكر اللَّه كثيراً . ولكن ، كيف يكون ذلك وقد آلى الشيطان اللعين على نفسه ، وحلف أيماناً معظّمة بعزّة اللَّه أن يغوي الإنسان حيث قال : «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الُْمخْلَصِينَ(2)« لذلك فإنه راهن وأصرّ واستكبر على إغواء وإضلال بني آدم أجمعين إلّا المعصومين لأنّهم هم ((المخلصين)) والشيطان ليس له عليهم من سبيل .

فالشيطان عبر الإغواء والإغراء يضلّل العباد ويخرجهم عن طريق الحقّ وجادّة الصواب والمحجّة البيضاء التي أرادها اللَّه سبحانه طريقاً مستقيماً وواضحاً لهم حيث قال عزّ من قائل : «أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ(3)«.

فهو عدو حاقد ، وعلينا أن نتّخذه عدواً لأنه يحاول أن يجرّنا جميعاً إليه وإلى

ص: 490


1- نظم درر السمطين : ص89 .
2- سورة ص (38) : الآية 83 - 82 .
3- سورة الأنعام (6) : الآية 153 .

نهجه الباطل ومآله المخزي في الجحيم ودركاتها المتنوّعة - والعياذ باللَّه - .

والسؤال الذي يطرح هنا هو ما الطريق إلى مقاومة الشيطان ؟

وكيف لنا أن ننجو من أحابيله وأعماله اللعينة ؟

الآية الشريفة تقول لنا : انّ من بين الأسلحة القوية لذلك ((ذكر اللَّه كثيراً)) لأنّ الذكر يجعل الإنسان دائماً في الحضرة القدسية ، فيبتعد عنه الشيطان بمقدار قربه من اللَّه تعالى .

فكلّما اقترب الإنسان من اللَّه من خلال الذكر ابتعد عنه الشيطان ، وكلّما ابتعد اقترب منه حتى يلاصقه ومن ثم يصاحبه ويبقى يغويه ويغريه حتى يعتليه ويجعله حصاناً له منفّذاً لرغباته طائعاً لأوامره .

الذكر حصن المؤمنين المنيع

على خلاف الإنسان الغافل يكون الإنسان المؤمن والتقي ، فهو لا يسمح للشيطان أن يركبه أو أن يقترب منه ، وإنّما يكون كما وصفه تعالى بقوله : «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(1)«.

فياترى ماذا يتذكّر المؤمنون ؟

الجواب يتذكّرون مكائد الشيطان فيستعيذون منها ، ويذكرون اللَّه فيستجيرون به لكي يجيرهم ويعيذهم من كل سوء أو بلية .

فإذا عرضت امرأة نفسها على الإنسان وهي محرّمة عليه ، عليه أن يتذكّر اللَّه سبحانه كما تذكّر يوسف الصدّيق(عليه السلام) حيث تهيّأت زليخا واستعدّت ولمّا دخل

ص: 491


1- سورة الأعراف (7) : الآية 201 .

وأغلقت الباب فقالت له : «هَيْتَ لَكَ(1)«.

قال(عليه السلام) : «مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ(2)«.

أي إنّ تذكر اللَّه يردع المؤمن من الوقوع في الحرام ، وتذكر اليوم الآخر يلجمه تماماً لأنه يقرّ ويعترف بأنّ الناقد بصير والحاكم عادل والمآل إمّا جنّة الخلد أو نار الخلد أبداً .

فالإنسان المؤمن يتورّع عن فعل الحرام - كيف ومتى وحيث كان - وذلك بمجرد أن يتذكّر فضل اللَّه وعدله ودقّته في حسابه .

ولذا فالآية تأمر بذكر اللَّه كثيراً .

حكمة التأكيد على الذكر

وهنا ربما يقول البعض لماذا هذا التأكيد الكثير في الآية على الذكر ؟ الجواب لأنّ أحابيل الشيطان موزّعة في كل اتّجاه وفي كل مكان ، وتعرّض الإنسان لها كثير جدّاً وبأشكال وألوان مختلفة .

ففي البيت مثلاً يتعرّض الإنسان لسوء الخُلُق فيؤذي زوجته وأولاده ومن هم تحت رعايته أو يكون تحت رعايتهم كالوالدين .

وفي السوق يواجه الغشّ ، والربا ، والاحتكار ، والسباب والشتائم والكلام البذي ء .

وفي الجامعة يواجه الأجانب ، والتعامل معهم ، وكذلك في الشارع ، والسيارة والقطار والطيارة ، فالمناظر المبتذلة والنساء الكاسيات العاريات ، والتلفاز والكمبيوتر

ص: 492


1- سورة يوسف (12) : الآية 23 .
2- سورة يوسف (12) : الآية 24 .

وألف شي ء وشي ء نراه أمامنا هذا إذا لم نصطدم به .

فأصبح دور الشيطان في هذا العصر العصيب دوراً جدّاً واضحاً وهو أقرب إلى التوجّه والمراقبة حيث إنّ شياطين الإنس تقمصّت جميع الأدوار الشيطانية وراحت تبتكر من الأساليب والأعمال التي لم تخطر على ذهن الشيطان اللعين .

ففي كل ركن من الأركان ، وفي كل اتّجاه ، ومع كل خطوة نجد أنّ الشيطان يخرج رأسه ، وينجم قرنه في كل مجتمع ، وكل ذلك يحتاج إلى ذكر اللَّه .

فنحن نحتاج أن نتذكّر اللَّه - سبحانه - في وقبل وبعد ومع كل خطوة نخطوها .

أهمية الذكر القلبي

واعلم - عزيزي القارئ - أنّ للذكر نوعين أساسيّين :

1 - ذكر لفظي باللسان .

2 - ذكر قلبي في الجنان .

وكلاهما مهم ، إلّا أنّ الأهم هو الذكر القلبي ، وهذا يتجلّى في التوجّه المطلق إلى اللَّه عزّوجلّ والانقطاع التامّ عمّا سواه .

أمّا الذكر اللفظي فأهميته تكون إذا كان طريقاً إلى الأهم وهو الذكر القلبي أي أنّ لقلقة اللفظ وتكراره يجب أن تقودنا إلى ترسيخ المعنى في الذهن فيزهر معناه في القلب ويعيش الإنسان في كل لحظة مع اللَّه عزّوجلّ .

ففي الحديث أنّ الإمام الصادق(عليه السلام) قال : ((ما ابتلي مؤمن بشي ء أشدّ عليه من ثلاث خصال يحرمها .

قيل : وما هي ؟

قال(عليه السلام) : المواساة في ذات يده ، والإنصاف من نفسه ، وذكر اللَّه كثيراً .

ص: 493

أما إنّي لا أقول : سبحان اللَّه ، والحمد للَّه ، ولا إله إلّا اللَّه ، واللَّه أكبر ، وإن كان هذا من ذاك ولكن ذكر اللَّه عندما أحلّ له ، وذكر اللَّه عندما حرّم عليه))(1).

فالإنسان لا يدري ، فمكائد الشيطان واحدة منها تسبّب دماره ؟ أوليس إبليس ذاته بدأ الكفر بفكرة جالت في خاطره حينما قال : لو أنصفني اللَّه لكنت أنا شيخ الملائكة وسيّدهم ، فأظهر اللَّه كبره عندما امتحنه بالسجود لآدم(عليه السلام) ؟

من هنا على الإنسان أن يغتنم الفرص ويجهد في استثمار أوقاته وصرفها في ذكر اللَّه عزّوجلّ ، فقد أشار أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى أهمية المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل فوات الأوان وضياع الفرص فقال(عليه السلام) : ((فاتّقوا اللَّه عباد اللَّه ، وبادروا آجالكم بأعمالكم ، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم ، وترحّلوا فقد جُدّ بكم ، واستعدّوا للموت فقد أظلّكم ، وكونوا قوماً صِيْحَ بهم فانتبهوا ، وعلموا أنّ الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا ، فإنّ اللَّه سبحانه لم يخلقكم عبثاً ، ولم يترككم سدى ، وما بين أحدكم وبين الجنّة أو النار إلّا الموت أن ينزل به))(2).

حقيقة الذكر

وقد اختلفت الأقوال في المعنى المراد من الذكر إلى أكثر من معنى ، فمّما قيل في ذلك هو : ما عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال : ((من عجز عن الليل أن يكابده ، وجَبُنَ عن العدو أن يجاهده ، وبخل بالمال أن ينفقه ، فليكثر من ذكر اللَّه عزّوجلّ ، وذكر اللَّه : أي أن لا ينساه أبداً)) .

وقيل : إنّ ذكره بصفاته العلى ، وأسمائه الحسنى ، وتنزيهه عمّا لا يليق به .

ص: 494


1- الكافي : ج2 ص145 ح8 .
2- نهج البلاغة : خ64 في المبادرة إلى صالح الأعمال .

وقيل : ان يقول : سبحانه اللَّه ، والحمد للَّه ، ولا إله إلّا اللَّه ، واللَّه أكبر ، على كل حال .

وقد قال الأئمّة الأطهار عليهم السلام : أنّ من قال هذه الكلمات ثلاثين مرّة فقد ذكر اللَّه كثيراً .

وقالوا عليهم السلام : إنّ تسبيحات سيّدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام هي الذكر الكثير .

وعن ابن عباس قال : إنّ جبرائيل(عليه السلام) أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال : يامحمد ، قل :

((سبحان اللَّه ، والحمد للَّه ، ولا إله إلّا اللَّه ، واللَّه أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه ، عدد ما علم ، وزنة ما علم ، وملى ء ما علم)) .

فإنّ من قالها كتب اللَّه له ستّ خصال :

((كتب من الذاكرين اللَّه كثيراً .

وكان أفضل من ذكره بالليل والنهار .

وكان له غرساً في الجنّة .

وتحاتت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة .

وينظر اللَّه إليه .

ومن نظر اللَّه إليه لم يعذّبه))(1).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : قال اللَّه سبحانه : ((إذا علمت أنّ الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلت شهوته إلى مسألتي ومناجاتي ، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حِلْتُ بينه وبين أن يسهو اُولئك أوليائي حقّاً))(2).

وقيل للنبي صلى الله عليه وآله : مَن أكرم الخلق على اللَّه ؟ فقال صلى الله عليه وآله : ((أكثرهم ذكراً للَّه ،

ص: 495


1- مجمع البيان : ج22 مج8 ص167 - 166 .
2- البحار : ج93 ص162 .

وأعلمهم بطاعته))(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((ما من شي ء إلّا وله حد ينتهي إليه إلّا الذكر فليس له حدّ ينتهي إليه ، فرض اللَّه عزّوجلّ الفرائض فمن أدّاهنّ فهو حدّهن : وشهر رمضان فمن صامه فهو حدّه والحجّ فمن حجّ فهو حدّه ، إلّا الذكر ، فإنّ اللَّه عزّوجلّ لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه ، ثمّ تلا هذه الآية : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(2).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((من أكثر ذكر اللَّه عزّوجلّ أحبّه اللَّه ، ومن ذكر اللَّه كثيراً كتبت له براءتان : براءة من النار وبراءة من النفاق))(3).

وعن ابن فضّال رفعه قال : قال اللَّه عزّوجلّ لعيسى(عليه السلام) : ((ياعيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي واذكرني في ملئك أذكرك في خير من ملأ الآدميين ، ياعيسى ألن قلبك وأكثر ذكري في الخلوات واعلم أنّ سروري أن تُبصبص إليّ وكن في ذلك حيَّاً ولا تكن ميّتاً))(4).

ص: 496


1- وسائل الشيعة : ج7 ص156 ح8993 .
2- سورة الأحزاب (33) : الآية 42 - 41) الكافي : ج2 ص498 ح1 .
3- الكافي : ج2 ص500 ح3 .
4- الكافي : ج2 ص502 ح3 .

62- الطلاق حياة جديدة

اشارة

(62) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً »(سورة الأحزاب : 49)

في رحاب المفردات

نكحتم : أصل النكاح للعقد ، ثم استعير للجماع ، قال تعالى : «وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى(1)« وقال : «فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ(2).

طلقتموهن : أصل الطلاق التخلية من الوثاق ، يقال أطلقت البعير من عقاله ، ومنه استعير طلّقت المرأة نحو خلّيتها فهي طالق أي مخلاة من حبالة النكاح .

قال تعالى : «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ(3).

ص: 497


1- سورة النور (24) : الآية 32 .
2- سورة النساء (4) : الآية 25) مفردات الراغب : ص526 .
3- سورة الطلاق (65) : الآية 1) مفردات الراغب : ص316 .

عدة : عدة المرأة هي الأيام التي بانقضائها يحل لها التزويج ، قال تعالى : «فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا(1).

فمتّعوهنّ : المتاع والمتعة ما يعطى المطلّقة لتنتفع به مدّة عدّتها .

قال تعالى : «وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ(2).

سرّحوهنّ : مستعار تسريح الإبل كالطلاق في كونه مستعاراً من إطلاق الإبل(3).

شأن النزول

أخرج العلّامة الهندي عبيداللَّه بسمل امر تسري في كتابه الكبير )أرجح المطالب في عدّ مناقب أسد اللَّه الغالب علي بن أبي طالب( عن ابن عباس قال : ((ما أنزل اللَّه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي أميرها وشريفها ولقد عاتب اللَّه أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وما ذكر علياً إلّا بخير))(4).

ص: 498


1- سورة الأحزاب (33) : الآية 49) مفردات الراغب : ص336 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 236) المفردات : ص481 .
3- المفردات : ص235 .
4- أرجح المطالب : ص51 .

عبر من الآية

إنّ سورة الأحزاب المباركة أكثرت الحديث حول النساء وعن أحوالهنّ وأحكامهنّ لا سيّما فيما يتعلّق بالمعاشرة والطلاق وما شابه ذلك .

وهذه الآية المباركة جاءت لتوضيح بعض الأحكام المتعلّقة بالطلاق .

فالطلاق هو فسخ وإبطال لعقد الزواج المبرم بين الزوجين والمتضمّن قبول كل منهما الآخر مقابل المهر الذي يدفعه الرجل والطاعة التي تقدّمها المرأة ، وكل ذلك ضمن الحدود الشرعية التي حدّدها الشارع المقدّس .

والطلاق - في الحقيقة - هو رحمة ربّانية مهداة للبشرية كلّها .

وقد تسألني عزيزي القاري قائلاً :

كيف يكون الطلاق الذي هو أبغض الحلال رحمة ربّانية ؟ بل إنّ الواقع خلاف ذلك ، فهو كارثة إنسانية بكل ما فيها لا سيّما إذا كان بين الأبوين أولاد .

فنقول إلى من يذهب لذلك لا ياأخي ، بل الطلاق هو الحل الوحيد إذا لم يوجد هناك حلّ للحياة بين الزوجين ، لذلك ورد في الحديث أنه : ((أبغض الحلال إلى اللَّه))(1).

وكما يقال : إنّ آخر الدواء الكي ، أو القطع والبتر .

فإذا لم يكن هناك حيلة لاستمرار الحياة الزوجية فالعقل والشرع يحكمان بأن يذهب كل منهما في حال سبيله ويغني اللَّه كلّاً منهما من فضله وكرمه ، فلعلّ كلّاً منهما يجد إنساناً آخر يسعده ويرتاح معه ، فلماذا نضيّق واسعاً جعله اللَّه لنا فيه فسحة ؟

ص: 499


1- راجع كل من : الكافي : ج5 ص328 ح1 ، وسائل الشيعة : ج20 ص16 ح24907 ، مستدرك الوسائل : ج15 ص279 ح18233 .

وفي الواقع لا يوجد قانون أو تشريع هو أجمل وأحكم وأعدل من التشريع الإسلامي ، إذ أنّك تشعر فيه بالرحمة والدقّة والمراعاة لاُمور الإنسان ومشاعره وأحاسيسه ، وهذا ما لا يوجد في أي قانون من قوانين العالم أجمع .

مقتطفات من أحكام الطلاق

وقد تضمّنت هذه الآية المباركة بعض الأحكام المتعلّقة بمسألة الطلاق وهي :

1 - الطلاق الذي يكون بعد الدخول بالمرأة ، أو قبل الدخول بها .

فإذا كان بعد الدخول فعليها العدّة المقرّرة في الشرع وهي ثلاثة قروء ((حيضات)) أو ثلاثة أشهر كما فصّلها الفقهاء في الرسائل العملية والكتب الفقهية .

ولعلّ الحكمة في ذلك هو : احتمال كون المرأة حاملاً من الزوج المطلّق ، فعليها أن تنتظر حتى يتبيّن إن كان هناك حملاً حقيقة أم لا .

أمّا المرأة غير المدخول بها فإنّ هذا الاحتمال غير وارد مطلقاً لذلك لا عدّة عليها إذا طلّقها زوجها قبل أن يدخل بها .

وقد تكون الحكمة هو إعطاء فرصة لكل من الطرفين في العودة إلى الآخر خلال فترة العدّة .

فلربما كان أحدهما أو كلاهما في حالة نفسية غير مناسبة ، أو حالة عصبية أو انزعاج شديد فيطلّقها ، ولكن بمرور الزمن تهدأ الأعصاب ، وتخمد ثورة الإنسان وغضبه فيراجع حساباته ، فلربما يرجع إلى أهله وزوجته ، فتتيح فترة العدّة هذا الأمر ، وخاصّة إذا ما بقيت المرأة عنده ولم يخرجها من بيتها في تلك الفترة وهذا من حقّه طبعاً .

ص: 500

ولا يخفى أنّ هذه الحكمة منتفية - عادةً - في الطلاق قبل الدخول ، إذ أنّ الطلاق قبل الدخول يدلّ على أنّ هذين الزوجين لا يمكن أن يتعايشا مع بعضهما ، حيث انفصلا بهذه السرعة ، وقبل أي شي ء .

إذن : فلا عدّة ولا داعي أصلاً لها .

كما أنه يمكن أن يكون هناك حكماً اُخرى وراء مسألة العدّة ، كأن يشعر كل منهما بحاجته إلى الآخر إذا ما انقطعا - عن المعاشرة لفترة من الزمن - فربما يقدّم أحدهما التنازلات عن حقوقه من أجل الآخر فيعودون إلى سابق عهدهما .

وبالإجمال إذا عقد المؤمن على امرأة ، ثم طلّقها من قبل أن يمسّها ، فلا تجب عليها العدّة بل يجوز لها أن تتزوّج بعد الطلاق مباشرة ، وإذا كان فرض لها مهراً محدّداً وجب عليه دفع النصف لها .

أي عندما يكون المهر محدّداً فإن لها عليه أن يمتّعها بأن يدفع لها شيئاً من المتاع ذهباً أو مالاً أو لباساً ممّا يجبر كسر خاطرها عند قريناتها أو بنات جيلها .

وكل ذلك يكون دون نزاع أو جدال أو اتّهامات يلقيها كل طرف على الآخر ، وتبريراً للفرقة ، أو تشفّياً من صاحبه .

وهذا الأمر ينبغي أن ينسحب على جميع العقود الاجتماعية والمعاملات العامة مالية وغيرها .

2 - التمتيع : بإعطاء )المتعة( وهي من المتاع وذلك مراعاة لنفسية المرأة المطلّقة لأنّ مسألة الطلاق هي ما يشبه العُقدة لدى النساء تطاردهن كالأشباح المخيفة .

كما أنّ العادات والتقاليد الاجتماعية عند المجتمعات عادةً ما تنبذ المطلّقة وتنظر إليها على أنّها ناشز حتى لو لم يتم الدخول بها .

ص: 501

ناهيك أنّ الألسن تحوطها وتلوكها من كل جانب وتؤلّف القصص حولها وربما أخرجوها من عرضها ودينها كذباً وزوراً وبهتاناً - والعياذ باللَّه - .

لذلك ينبغي للمجتمع المؤمن أن ينظر إلى مسألة الطلاق بمزيد من الرحمة والعطف والحنان بالمطلّقة لا العكس .

فما من امرأة على وجه الأرض ترغب بالطلاق من زوجها إذا كانت حقوقها محفوظة وكرامتها مصانة .

ومن هذا المنطلق على الرجل الذي يريد أن يطلّق زوجته قبل أن يمسّها أن يعطيها بعض المتاع لتستأنس به ويكون لها ما يشبه الذكرى أو البلسم الشافي لأحاسيسها وعواطفها الرقيقة .

فعن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يطلّق امرأته ؟ قال : ((يمتّعها قبل أن يطلّق ، قال اللَّه تعالى : «وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ(1).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) ، في الرجل يطلّق امرأته قبل أن يدخل بها ، قال : ((عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئاً ، وإن لم يكن فرض لها شيئاً فليمتّعها على نحو ما يمتّع به مثلها من النساء))(2).

وكما هو واضح هنا أنّ المتعة والامتاع ليس المقصود بها ((متعة النساء)) الواردة في سورة النساء بقوله تعالى «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ(3)«.

ص: 502


1- سورة البقرة (2) : الآية 236) تهذيب الأحكام : ج7 ص376 ح1523 .
2- الكافي : ج6 ص105 ح2 .
3- سورة النساء (4) : الآية 24 .

أي المتعة التي تسمّى ((الزواج المؤقت)) ذاك التشريع الذي يمثّل ضرورة حضارية في كل العصور لا سيّما عصرنا الحاضر الذي يعجّ بكل أنواع الفتن والمفاسد بل هي منحة يمنحها الزوج للزوجة عند الانفصال .

الطلاق بالمعروف

وأخيراً فإنّ الطلاق والفراق يجب أن يكون بالمحبّة لأنّ المطلّقة اُخت في الدين ونظيرة في الخلق فلا يجب إيذاءها بأي شكل من الأشكال كأن يكيل إليها السباب أو الشتم أو الضرب أو الغيبة والنميمة أو التطاول على عرضها بسوء والعياذ باللَّه .

فكل ذلك نهت عنه الآية المباركة بقولها ((وسرّحوهن سراحاً جميلاً)) أي اتركوهنّ يذهبن إلى بيوت أهلهن بالشي ء الجميل الحسن .

فقد فسّر الإمام الباقر(عليه السلام) هذه الآية فقال : ((متّعوهن)) أي جمّلوهنّ(1) بما قدرتم عليه من معروف فإنّهنّ يرجعن بكآبة ووحشة وهمِّ عظيم وشماتة من أعدائهنّ ، فإنّ اللَّه عزّوجلّ كريم يستحيي ويحبّ أهل الحياء ، إنّ أكرمكم أشدّكم إكراماً لحلائلهم))(2).

ومع الأسف الشديد لمّا يصل الأمر إلى الطلاق تجد أنّ العديد من القصص والروايات المطوّلة التي يبدأ يؤلّفها كل من الزوجين على الآخر .

فالمرأة تخرج الرجل من رجولته ودينه ، وهو كذلك لا يترك علّة أو نقيصة إلّا ويضعها فيها .

ص: 503


1- أي افعلوا معهنّ بالجميل .
2- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص506 ح4777 .

فكل يفضح الآخر وينشرون غسيلهم لتراه العيون وتسمعه الآذان وكلّها - الاتّهامات - في الأغلب تكون باطلة ، وكل ذلك من أفعال وأعمال الجهل والجهلاء دون شك .

ص: 504

63- من آداب التعامل مع النبي صلى الله عليه وآله

اشارة

(63) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلُْتمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً»

(سورة الأحزاب : 53)

في رحاب المفردات

يؤذن : الإذن في الشي ء إعلام بإجازته والرخصة فيه نحو قوله : «مَا أَرْسَلْنَا

ص: 505

مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ(1).

مستأنسين : الاُنس خلاف النفور ، والإنسي منسوب إلى الإنس ، يقال ذلك لمن كثر اُنسه ولكل ما يؤنس به(2).

فيستحي : الحياء هو انقباض النفس عن القبائح وتركه لذلك يقال حيّي فهو حيُّ ، واستحيا فهو مستحي ، قال اللَّه تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا(3).

حجاب : الحَجْبُ والحجاب هو المنع من الوصول ، يقال : حجبه حَجْباً وحِجاباً ، قال اللَّه تعالى : «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ(4).

شأن النزول

نزلت آية الحجاب عندما )تزوّج( رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بزينب بنت جحش ، وأولم عليها .

قال أنس : أولم عليها بتمر وسويق ، وذبح شاة ، وبعثت إليه اُمّي اُمّ سليم

ص: 506


1- سورة النساء (4) : الآية 64) مفردات الراغب : ص10 .
2- مفردات الراغب : ص24 .
3- سورة البقرة (2) : الآية 26) مفردات الراغب : ص140 .
4- سورة الشورى (42) : الآية 51) مفردات الراغب : ص107 - 106 .

بحيس(1) في تور(2) من حجارة ، فأمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن أدعو أصحابه إلى الطعام ، فدعوتهم ، فجعل القوم يجيئون ويأكلون ، ويخرجون ، ثم يجي ء القوم فيأكلون ويخرجون .

قلت : يانبي اللَّه! قد دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه ؟

فقال : ارفعوا طعامكم ، فرفعوا طعامهم ، وخرج القوم ، وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت ، فأطالوا المكث .

فقام صلى الله عليه وآله وقمت معه ، لكي يخرجوا ، فمشى حتى بلغ حجرة عائشة ، ثم ظنّ أنّهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه ، فإذا هم جلوس مكانهم ، فنزلت الآية .

كما أنّ عبداللَّه بن عباس يحدّث قائلاً : كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يريد أن يخلوا له المنزل ، لأنه كان حديث عهد بعرس ، وكان محبّاً لزينب ، وكان يكره أذى المؤمنين(3).

عبر من الآية

لم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله مجرد مبعوث من السماء أرسله اللَّه إلى الناس ليخرجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام العزيز بل كان كذلك قائداً وزعيماً للعالمين ، وكما هو معلوم عند الجميع أنّ التعامل مع القائد له آداب خاصة ينبغي الالتزام بها ، من هنا فإنّ هذه الآية الكريمة جاءت لتعليم المؤمنين الآداب الخاصة في التعامل مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله .

ص: 507


1- تمر يخلط بسمن ويعجن جيّداً .
2- إناء صغير .
3- مجمع البيان : ج22 مج8 ص174 - 173 .

فكما أنّ المعاشرة العادية - بين البشر - لها آداب وأخلاقيات ، ذكرها الفقهاء والمحدّثون في كتبهم ومساندهم ، فإنّ لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله آداباً خاصة عند التعامل معه .

فقد ورد في التاريخ أنّ الكثير ممّن كانوا حول الرسول صلى الله عليه وآله كانوا جفاة غلاظاً يؤذونه صلى الله عليه وآله بقصد أو دونه بالحديث والكلام حيث كانوا يقاطعونه أو يرفعون أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وآله .

بل كانوا يرفضون أوامره ويجعلونه يكرّرها كثيراً ، ولا يقبلوا الأحكام التي يأتي بها لأنّها تخالف هواهم ، فهذا يشكّك به وبرسالته ، وذاك يجرّه من ثيابه وهو يصلّي والآخر يدعوه إلى الطعام فيجلس عنده طيلة النهار مستأنساً بالحديث ، وما شابه ذلك كثير .

ورسول اللَّه صلى الله عليه وآله كما ورد في الحديث كان حيياً فكان يستحي أن يوجّه إليهم أي كلمة تجرح شعورهم أو تمسّ أخلاقياتهم ، إلّا أنّ اللَّه سبحانه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور علم أنّه صلى الله عليه وآله كان يضيق باُولئك ذرعاً ، فكانت الآيات تتنزّل عليه صلى الله عليه وآله لتؤدّبهم وتعلّمهم كيف يتعاملون معه صلى الله عليه وآله .

وكيف يجلسون عنده ، وكيف يكلّمونه وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله : «لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ(1)«.

بل تطرّقت الآيات إلى كيفية زيارة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ومناجاته فقال عزّ من قائل : «قَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً(2)«.

كيف نتعامل مع القادة ؟

وفي هذه الآية المباركة يعطي الباري سبحانه دروساً أخلاقية وآداباً يجب على

ص: 508


1- سورة الحجرات (49) : الآية 2 .
2- سورة المجادلة (58) : الآية 12 .

المسلمين - والمؤمنين بالخصوص - اتّباعها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أو الإمام(عليه السلام) أو حتّى المرجع والقائد الديني .

فالنبي صلى الله عليه وآله يجب أن يتعامل معه ضمن آداب خاصّة ، فمن هذه الآداب التي ذكرتها الآية المباركة هو :

1 - دخول المنزل : إنّ للمنازل حرمات ، ولدخولها شروطاً وآداباً ، فمثلاً ينبغي أن لا يدخل الإنسان إلّا بعد الاستئذان والحصول على الإذن ، والسلام والتحية حتى أنّ الرسول صلى الله عليه وآله لم يكن ليدخل بيت من بيوته أو بيت إبنته الزهراء عليها السلام إلّا بعد الاستئذان - كما مرّ سابقاً - . وكذلك من آداب المنزل أنّ الإنسان لو دعي إلى وليمة فيجب أن يأتي في الوقت المحدّد لا أن يأتي قبل فيجلس وينتظر فيطول بقاءه عندهم أو أن يأخذ بالحديث فيما بعد الغداء . فكل ذلك يرهق أصحاب المنزل ويحرجهم وما جعل اللَّه علينا في الدين من حرج ، فكيف نحرج بعضنا بعضاً أو نحرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كما فعل بعضهم ؟

2 - إذا أكلتم الطعام فاخرجوا وتفرّقوا .

إنّ هذا أدب صغير وبسيط ولكنّه - لو دقّقنا فيه - عظيماً جدّاً لأنه ضروري لأهل المنزل ، حيث إنّ البيوت في تلك الأيّام لم تكن على ما نحن عليه الآن من السعة والفسحة بل كانت ضيّقة وفي معظم الأحيان كانت غرفة واحدة لها بعض اللواحق فقط .

3 - على الضيف أن يراعي حرمة البيت الذي يحلّ فيه ، فلو اضطرّته الحاجة للتعامل مع أهله من النساء يجب أن يتعامل معهنّ بأدب ، وبمقدار حاجته ، ومن وراء حجاب ، فبعد نزول هذه الآية صار حراماً على المؤمنين التحدّث مع نساء الرسول إلّا بهذه الكيفية .

والحكمة من هذا التشريع هي الوقاية من الذنب ، والتي لا تتم إلّا بطهارة القلب وهذه الطهارة لا تتأتّى إلّا بابتعاد الإنسان عن أسباب المعصية ، والتي من بينها

ص: 509

حديث المرأة مع الرجل وبالذات إذا لم يكن هناك حجاب بين الطرفين ، لأنّ كل من الرجل والمرأة يميل أحدهما للآخر بالغريزة ، ولعلّ الحديث بينهما بغير الصورة التي تهدي لها الآية ، ينتهي إلى المعصية ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وآله كان يدرك هذه الحقيقة تماماً ، ولذلك لم يكن يتقبّل مثل هذه الحالة )لغيرته وحشمته( بل كانت تلحق به الأذى النفسي . ولكي يقطع اللَّه - سبحانه - الطريق على القلوب المريضة ، وينهي هذه المشكلة التي تؤذي رسوله الكريم صلى الله عليه وآله حرّم الزواج من نسائه مطلقاً فقال عزّوجلّ : «وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ(1)«.

فعن علي بن إبراهيم قال : لمّا أنزل اللَّه : «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ(2)« وحرّم اللَّه نساء النبي على المسلمين ، غضب طلحة فقال : يحرّم محمّد علينا نساءه ، ويتزوّج هو نساءنا ؟ لئن أمات اللَّه عزّوجلّ محمداً لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض هو بين خلاخيل نسائنا ، فأنزل اللَّه عزّوجلّ : «وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ(3).

وربما كان هدف هؤلاء المنافقين هو إيذاء الرسول إلّا أنهم يخفون هذه النوايا ببعض التبريرات كقولهم : لماذا يتزوّج هو نسائنا ؟ ولا يصح لنا زواج نسائه ، فهدّدهم اللَّه من طرف خفي إذ قال : «إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً(4)«.

فهذه الآداب هي بعض من الدروس الإلهية لهذه الاُمّة المرحومة ، لكي تحفظ كرامتها بحفظ مكانة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .

ص: 510


1- سورة الأحزاب (33) : الآية 6 .
2- سورة الأحزاب (33) : الآية 6 .
3- سورة الأحزاب (33) : الآية 53) نور الثقلين : ج6 ص74 ح205 .
4- سورة الأحزاب (33) : الآية 53 .

64- القول الجلي في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله

اشارة

(64) - «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً »(سورة الأحزاب : 56)

في رحاب المفردات

يصلّون : الصلاة ، قال كثير من أهل اللغة : هي الدعاء والتبريك والتمجيد ، يقال صلّيت عليه أي دعوت له وزكّيت ، قال تعالى : «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ(1).

النبي : النبوّة سفارة بين اللَّه وبين ذوي العقول من عباده لإزاحة علّتهم في أمر معادهم ومعاشهم .

والنبي : سمّي نبياً لكونه منبّئاً بما تسكن إليه العقول الذكية(2).

سلّموا : هو الدعاء له والثناء عليه ، فقد قال تعالى في بعض الأنبياء : «سَلَامٌ

ص: 511


1- سورة التوبة (9) : الآية 103) مفردات الراغب : ص293 - 292 .
2- مفردات الراغب : ص501 .

عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ(1)«.

وقال : «سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ(2)« وقال : «سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ(3) كل هذا تنبيه من اللَّه تعالى إنه جعلهم بحيث يثني عليهم ويدعى لهم(4).

شأن النزول

روى البخاري في )صحيحه( أنه لمّا نزلت هذه الآية قيل لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله يارسول اللَّه أمّا السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة عليك ؟ قال صلى الله عليه وآله : قولوا : ((اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمّد))(5).

عبر من الآية

بيان رائع ، ونداء محبّب ، وأمر جامع اجتمعوا في هذه الآية المباركة .

أمّا البيان : فهو أنّ اللَّه وملائكته يصلّون على النبي صلى الله عليه وآله فما كنه هذه الصلاة القدسية المقدّسة وكيفيّتها ، من صاحب القداسة المطلقة على ذاك النبي العظيم صاحب القداسة الإنسانية الكاملة من بني البشر ؟

الجواب إنّ النداء خاص بالمؤمنين بأن ((ياأيّها الذين آمنوا)) وصدّقوا وأيقنوا

ص: 512


1- سورة الصافات (37) : الآية 79 .
2- «(( - سورة الصافات (37) : الآية 12 .
3- سورة الصافات (37) : الآية 109 .
4- مفردات الراغب : ص246 .
5- صحيح البخاري : ج3 كتاب تفسير القرآن باب إنّ النبي وملائكته يصلّون على النبي .

والتزموا بالتوحيد وشهدوا للَّه بالوحدانية ، للرسول بالرسالة ، وأقاموا الواجبات واجتنبوا المحرّمات ، وتسابقوا في الخيرات وعمل الصالحات .

أمّا الأمر : فهو بأن ((صلّوا عليه وسلّموا تسليماً)) فكيف نصلّي على النبي صلى الله عليه وآله ؟ وكيف نسلّم تسليماً ؟ وهذه ميزة رائعة ، وتفضّل إلهي فريد إنفرد به رسول الإنسانية محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه وآله دون غيره من بني البشر ، فالنبي صلى الله عليه وآله وإن كان في الظاهر والمظاهر بشراً ، لكنّه ليس بشراً عادياً كبقية الناس العاديين .

بل هو بشر مرتبط بالوحي الإلهي ، وهذا الوحي ، أو ذاك الإيحاء لا يكون إلّا لمن هو في قمّة الإنسانية بين بني آدم ، أي أنه مسدّد ومؤيّد وموجّه من اللَّه تعالى بتلك الواسطة التي يقال عنها ((الوحي)) .

فقد قال تعالى : «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ(1)«.

فالذي يفكّر أو ينظر إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله على أنه بشر عادي - كما كان عرب الجاهلية في بداية الدعوة الإسلامية - أو أنه مثلنا ولا يتميّز عنّا بشي ء من الخصوصيات ، فهذا من أكبر الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها الإنسان .

فلذلك تجد أنّ اُولئك الأعراب كانوا يؤذونه صلى الله عليه وآله كثيراً ويضايقونه كثيراً ، فيأتي إليه بعضهم وينادونه من بعيد فتراهم يجعجعون قبل أن يصلوا إلى منزله : فينادونه من وراء الحجرات .

وذاك يأتي ليسأل عن بعض الاُمور فيجيبه الرسول صلى الله عليه وآله حسب عقله وفهمه ، فيبدأ يناقشه ويريد أن يعرف العلل والأسباب للأحكام والآيات وما شابه : فيرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله . وأحدهم يأتي إليه وهو واقف يصلّي على الجنازة فيشدّه من ردائه حتى تحمرّ رقبته صلى الله عليه وآله وهو يقول : ألم ينهك اللَّه عن الإقامة على

ص: 513


1- سورة فصلت (41) : الآية 6 .

جنائزهم أو الصلاة عليهم وكأنّه هو الذي يسدّده الوحي وليس رسول اللَّه صلى الله عليه وآله(1).

وآخر يقول : يحرّم علينا محمد نساءه ، ويتزوّج هو نساؤنا ؟ لئن أمات اللَّه - عزّوجلّ - محمداً صلى الله عليه وآله لنركضنّ بين خلاخيل نسائه ، كما ركض هو بين خلاخيل نسائنا ، اُنظر إلى هذا الكلام ما أجفاه وأغلظه .

فاللَّه سبحانه يقول : أزواجه اُمّهاتهم ، وهذا يريد أن يركض بين خلاخيلهنّ ، فهل لإنسان عاقل أن يفعل ذلك باُمّه والعياذ باللَّه ؟ ولكن لا حول لا قوّة إلّا باللَّه العلي العظيم .

فهل يمكن لإنسان فيه ذرّة من الاحترام والتقدير لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول عنه : إنّه نبتة نبتت في كباه(2)؟ وهل يمكن أن تصل الجلافة والفظاظة إلى هذا المستوى ؟ لكنّها الجاهلية الجهلاء ، فعلت بهم ما تشاء .

الصلوات وتعظيم الرسول صلى الله عليه وآله

كثيرة هي الآيات التي تحضّ المسلمين على تعظيم شأن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : - وهو عظيم الشأن بلا شك عند اللَّه وعند العبيد كلّهم - فهاهم علماء الغرب في هذه الأيام يعترفون بتفوّقه صلى الله عليه وآله على الخلق طرّاً في الكثير من الدراسات والكتب الحديثة سواء في الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد أو الأخلاق والآداب وما شابه ذلك .

ففي جميع المجالات يكون الأول هو رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كما نصّ مايكل هارث في ((المائة الأوائل)) وويزديورات في ((قصّة الحضارة)) وغيرهم كثير ، ومع الأسف الشديد اُولئك الذين عاشوا معه لم يعرفوا له قيمة ولم يقدّروا له قدراً وصدق اللَّه

ص: 514


1- راجع كنز العمّال : ج2 ص419 - 418 ط بيروت .
2- مزبلة .

- جلّت قدرته - حيث قال : «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ(1)«.

فرسول اللَّه صلى الله عليه وآله قمّة البشر أهلّته تلك المرتبة بحيث يصلّي عليه اللَّه - سبحانه - وملائكته أجمعين .

فكيف يصلّي اللَّه وملائكته على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ؟

فهل هي صلاة الجنازة عند وفاته صلى الله عليه وآله كما يذهب إلى ذلك بعضهم ؟

أم هي صلاة عادية بإمام وصفوف كصلاة الجماعة تماماً ؟ كما يفهم بعض البسطاء السذّج ، أم أنّ لها معناً آخراً ، واُسلوباً آخراً ، وكيفية اُخرى ؟

الجواب إنّ الصلاة بالنسبة لنا فهي صلة بين العبد وربّه ، أي أنّ العبد الذي يريد أن يتّصل بساحة القدس الإلهية يقوم فيصلّي للَّه بخشوع وخضوع كاملين ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وآله كان من أكثر خلق اللَّه صلاة - بهذا المعنى - حيث كان يقوم ثلثي الليل تقريباً ويقرأ القرآن ويتهجّد ما شاء اللَّه حتى أنّ اللَّه - سبحانه - أنزل عليه سورة بكاملها يخفّف عنه بعض من ذلك الشي ء ، فقال عزّ من قائل : «طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2)«.

فالصلاة على هذا الحبيب لا تكون بركوع وسجود بل تكون بلطف ورحمة وفيوضات نورانية تتنزّل من اللَّه على ذاك العبد وعلى قلبه بالذات ، فيتحوّل بكلّه إلى نور متلألئ يضي ء لأهل السماء كالشمس في الوجود الأرضي .

ص: 515


1- سورة الأنعام (6) : الآية 91 .
2- سورة طه (20) : الآية 2 - 1 .

فالصلاة من اللَّه تعالى ((الرحمة)) ومن الملائكة ((الاستغفار)) ومن المؤمنين ((الدعاء)) وهذا ما يستفاد من كلام الإمام الصادق(عليه السلام) حيث قال : ((إنّ الصلاة من اللَّه رحمة ، ومن الملائكة تزكية ، ومن الناس دعاء))(1).

فالصلاة هي : الترؤّف والتعطّف والمزيد من العناية والتوجّه .

لأنه بالنسبة إلى اللَّه ، تأخذ الكلمات غاياتها وتترك مبادئها ، فحينما تقول : بأنّ اللَّه يحبّ ، ويبغض ، وينتقم ، فليس المعنى أن تطرأ عليه هذه الحالات - سبحانه وتعالى - فيتغيّر فيه شيئاً كما تغيّر في نفوسنا وأجسامنا ، إنّما تصدق على اللَّه الغايات منها ، فعطفه على الإنسان هو هدايته له ، وإنعامه عليه ، وصلاته على نبيّه أنه يستجيب الدعاء في حقّه وبسببه . وصلاة الملائكة على الرسول صلى الله عليه وآله تعني الدعاء له عند ربّهم ، وتأييد وتابعية كذلك ، وأمّا صلاة المؤمنين التي أوجبها الربّ علينا في صلواتنا ، وندب إليها في كل وقت ، وبالذات عند ذكره صلى الله عليه وآله فهي تعني الدعاء له ، والتقرّب إلى مقامه الكريم )من أجل القربى إلى اللَّه).

فوائد الصلوات

ولا يخفى أنّ الصلوات التي يصلّيها المصلّي لها فوائد جليلة وعظيمة جدّاً ومنها :

1 - تعظيم الرسول صلى الله عليه وآله وتقديره بالشكل الذي يليق ، وبذلك يتمّ تعزيز الروابط والحبّ بين المصلّي والرسول صلى الله عليه وآله لأنه من دون ذاك الحب لا يمكن أن يتقرّب المسلم إلى ربّه ، وكلمات الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وآله عليهم السلام تسبّب المزيد من التقرّب إلى اللَّه ولكن عبّر الرسول صلى الله عليه وآله .

2 - أنّ ذلك حقّ علينا تجاه الرسول صلى الله عليه وآله وواجب ، لأنه هو الذي أجهد نفسه القدسية من أجل البشرية ، وتحمّل الأذى في سبيل هدايتها حتى قال صلى الله عليه وآله : ((ما اُوذي نبي مثل ما اُوذيت))(2).

فلا أقل من أن نشكره على ما قدّم لنا وللإنسانية من خير ونور وهداية ، بأن

ص: 516


1- وسائل الشيعة : ج7 ص196 ح9100 .
2- مناقب آل أبي طالب : ج3 ص247 .

نرفع له أصواتنا بالصلاة والدعاء له ولآله الأطهار عليهم السلام .

3 - أنّ الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله تعود بأكبر النفع على المصلّي ذاته لأنّه دعاء ، وكما جاء في حديث الإمام الصادق(عليه السلام) : ((دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب لا يحجبه عن اللَّه حجاب ويقول له : ولك مثله))(1).

فعندما ندعوا ونصلّي على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله فإنّ اللَّه سبحانه يستجيب لنا ويصلّي علينا كذلك لأنه قال : «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً(2)«.

فصلاتنا على الرسول صلى الله عليه وآله تعود لنا بالفائدة والخير والبركة ورفع الدرجات ، والأحاديث كثيرة في هذا الباب ، فمنها ما جاء عنه صلى الله عليه وآله قال : ((من صلّى عليّ ، صلّى اللَّه عليه وملائكته ومن شاء فليقل ، ومن شاء فليكثر))(3).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((إذا ذكر النبي صلى الله عليه وآله فأكثروا الصلاة عليه ، فإنّه من صلّى على النبي صلاة واحدة صلّى اللَّه عليه ألف صلاة في ألف صفّ من الملائكة ، ولم يبق شي ء ممّا خلقه اللَّه إلّا صلّى على العبد لصلاة اللَّه عليه وصلاة ملائكته ، فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور ، قد برئ اللَّه منه ورسوله وأهل بيته))(4).

وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((الصلاة عليّ وعلى أهل بيتي تذهب بالنفاق))(5).

وعن أبي بصير ، عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((إذا ذكر النبي صلى الله عليه وآله فأكثروا الصلاة عليه فإنّه من صلّى على النبي صلى الله عليه وآله صلاة واحدة صلّى اللَّه عليه ألف صلاة في ألف صفٍّ من الملائكة ، ولم يبق شي ء ممّا خلقه اللَّه إلّا صلّى على العبد لصلاة اللَّه عليه

ص: 517


1- وسائل الشيعة : ج7 ص112 ح8883 .
2- سورة الأحزاب (33) : الآية 43 .
3- الكافي : ج2 ص492 ح7 .
4- الكافي : ج2 ص357 ح6 .
5- الكافي : ج2 ص357 ح8 .

وصلاة ملائكته ، فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور قد برئ اللَّه منه ورسوله وأهل بيته))(1).

وعن إسحاق بن فروخ مولى آل طلحة قال : قال أبو عبداللَّه(عليه السلام) : ((ياإسحاق بن فروخ ، من صلّى على محمد وآل محمّد عشراً صلّى اللَّه عليه وملائكته مائة مرّة ومن صلّى على محمّد وآل محمّد مائة مرّة صلّى اللَّه عليه وملائكته ألفاً أما تسمع قول اللَّه عزّوجلّ : «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً(2).

الصلوات واستجابة الدعوات

وكذلك فإنّ الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله هي وسيلة لاستجابة الدعاء بحدّ ذاته هذا وقد ورد في الكثير من الأحاديث ما يحضّ على بدء كل عمل ودعاء بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله .

فقال صلى الله عليه وآله : ((صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم ، وزكاة لأعمالكم))(3).

وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((لا يزال الدعاء محجوباً حتّى يصلّى على محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله))(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((من كانت له إلى اللَّه - عزّوجلّ - حاجة فليبدأ بالصلاة على محمد وآله ، ثم يسأل حاجته ، ثم يختم بالصلاة على محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله ، فإنّ اللَّه أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط إذ كانت الصلاة على

ص: 518


1- الكافي : ج2 ص942 ح6 .
2- سورة الأحزاب (33) : الآية 43- الكافي : ج2 ص294 - 293 ح14 .
3- وسائل الشيعة : ج7 ص96 ح8837 .
4- الكافي : ج2 ص491 ح1 .

محمد صلى الله عليه وآله لا تحجب عنه))(1).

وقد ورد في حديث شريف عن الرسول صلى الله عليه وآله أنه قال : ((البخيل حقّاً البخيل ، من إذا ذكرت عنده لم يصلّ عليّ)) .

أمّا قوله تسليماً للأوامر والنواهي عملاً وتركاً أي «لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً(2)« فعليهم الإنقياد التامّ للأوامر التي جاء بها ، وبذل الجهد في الطاعات .

عود على بدء

وبعد هذا العرض السريع والشامل نعود إلى سؤالنا وهو : كيف نصلّي على النبي ونسلّم إليه تسليماً ؟

هذا ما علّمناه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وآل بيته الأطهار عليهم السلام في أحاديث كثيرة وطويلة منها :

ما عن الثمالي عن كعب بن عجرة أنه قال : لمّا نزلت هذه الآية قلنا : يارسول اللَّه هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟

قال صلى الله عليه وآله : ((قولوا : اللهم صلّ على محمد وآل محمد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمد وآل محمد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد))(3).

وقال عبداللَّه بن مسعود القارئ المشهور : إذا صلّيتم على النبي صلى الله عليه وآله فأحسنوا الصلاة عليه ، فإنّكم لا تدرون لعلّ ذلك يعرض عليه ، قالوا : فعلّمنا .

ص: 519


1- الكافي : ج2 ص494 ح16 .
2- سورة النساء (4) : الآية 65 .
3- مجمع البيان : ج22 مج8 ص179 .

قال : قولوا : ((اللهمّ اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيّد المرسلين ، وإمام المتّقين ، وخاتم النبيين ، محمد عبدك ورسولك ، إمام الدين ، وقائد الخير ، ورسول الرحمة . اللهمّ ابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأوّلون والآخرون ، اللهم صلّ على محمد وآل محمد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد))(1).

لا تصلّوا عليّ صلاة بتراء

وقبل أن نودّع الحديث - ونحن بشغف له ولأمثاله - نقول : بأنّ هناك صلاة يتداولها الناس بكثرة وهي منهي عنها ، وللأسف نجدها منتشرة كالعادة بين الكثير من المسلمين وهي :

((الصلاة البتراء)) .

أي الصلاة على النبي فقط وعدم إلحاق الآل الكرام عليهم السلام به ، وقد وردت أحاديث كثيرة تنهى عن هذه الصلاة ، فقد قال صلى الله عليه وآله : ((لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء)) . فقيل له : وما الصلاة البتراء يارسول اللَّه ؟

قال صلى الله عليه وآله : ((أن تقولوا : اللهمّ صلّ على محمد وتصمتوا ، بل قولوا : اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد))(2). وأحاديث هذا الباب كثيرة ، والغريب العجيب أنّ صحيح مسلم يذكر رواية النهي عن الصلاة البتراء ويجعل باباً للصلاة على النبي ويقول : باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله . ونحن نسأله ألم تكن صلاتك هذه بتراء ياشيخنا ؟

ص: 520


1- بحار الأنوار : ج17 ص19 .
2- راجع كل من : صحيح البخاري : ج4 ص142 رقم 337 ، صحيح مسلم : ج1 ص255 رقم 405 و406 ، سنن الترمذي : ج5 ص359 رقم 3234 ، سنن ابن ماجه : ج1 ص488 رقم 904 و906 ، سنن النسائي : ج3 ص45 ، سنن أبي داود : ج1 ص256 - 255 .

65- صور من أذيّة الرسول صلى الله عليه وآله

اشارة

(65) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً »(سورة الأحزاب : 69)

في رحاب المفردات

آذوا : الأذى هو ما يصل إلى الشي ء من الضرر إمّا في نفسه أو جسمه أو تبعاته دنيوياً كان أو اُخروياً ، قال اللَّه تعالى : «وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ(1).

فبرّأه : أصل البُراء والتبرّي هو التفصّي ممّا يكره مجاورته ، ولذلك يقال : أبرأته من كذا ، ورجل بري ء وقوم بُراء وبريئون ، قال عزّوجلّ : «بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ(2).

وجيهاً : يقال فلان وجيه أي ذو جاه ، قال اللَّه تعالى : «وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا

ص: 521


1- سورة التوبة (9) : الآية 61) مفردات الراغب : ص11 .
2- سورة التوبة (9) : الآية 1) مفردات الراغب : ص38 .

وَالْآخِرَةِ(1).

شأن النزول

عن محمد بن مروان رفعه إليهم قال : ((ياأيّها الذين آمنوا لا تؤذوا رسول اللَّه في علي والأئمّة صلوات اللَّه عليهم كما آذوا موسى فبرّأه اللَّه ممّا قالوا))(2).

عبر من الآية

لقد اُوذي النبي صلى الله عليه وآله حتى قال : ((ما اُوذي نبي مثل ما اُوذيت))(3).

وحقّ النبي أن يعظّم ويبجّل لا أن يؤذى ، وهذا حق كل نبي فما بال أنبياء ورسل اُولي العزم الخمسة الكرام عليهم السلام الذين اُوذوا أكثر من غيرهم ؟!

والسؤال الذي يطرح هنا هو : كيف وبماذا اُوذي الأنبياء ؟

الجواب : إنّ المصلحين الذين يحملون رسالة تغييرية - لا سيّما الإلهي منها لأنها تستعصي على الإنحراف - أصحابها يتعرّضون عادةً للأذى الشديد وذلك من جهات عدّة وبأشكال متعدّدة ، ومن مختلف طبقات الناس .

وحتّى يتّضح المطلب لا بأس من التطرّق إلى الجهات التي آذت الرسول

ص: 522


1- سورة آل عمران (3) : الآية 45) مفردات الراغب : ص551 .
2- تفسير القمّي : ج2 ص197 .
3- مناقب آل أبي طالب : ج3 ص247 .

الأعظم صلى الله عليه وآله وكيف أنّها بقيت تحاربه وتجيّش ضدّه الجيوش ليل نهار ، فمن هذه الفئات التي حاربته صلى الله عليه وآله هم :

1 - الكافرون ((الجاحدون والمشركون)) .

وهؤلاء : هم الذين رفضوا الرسالة الجديدة ، ورفضوا الإيمان بتعاليمها ، والتسليم لتوجيهات الرسول القائد - عليه الصلاة والسلام - وراحوا يحاربونها محاربة الندّ للندّ ، والعدو للعدو ، إذ أنّهم يرون فيها تهديداً لمصالحهم وخطراً عليها ، خاصة ذوي النفوذ والسلطة .

من جانب آخر فهم رأوا في العقيدة الجديدة خطراً داهماً يريد أن ينسف عقائدهم وموروثاتهم الدينية فضلاً عن عاداتهم وتقاليدهم التي أخذوها أباً عن جدّ ، بل إنّ في هذه الرسالة تغيير صبغة المجتمع كلّه إلى ما يطابق ويوافق التعاليم المنزلة فيها ، كتحريم الكثير من المأكولات والمشروبات ، وفرض الكثير من العبادات والطاعات كالصلاة والصيام والزكاة والجهاد .

مضايقات أصحاب الرسالة

من جرّاء هذه القضايا الخطيرة وغيرها ، وقف المشركون في وجه الرسالة الإسلامية بكل عناد وأخذوا يحاربون رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بأشدّ العناد ، فاتّهموه بالكثير من التهم الباطلة فقالوا عنه : مارق أو صابئ .

وقالوا عنه : ساحر ، ومجنون ، أو أنّه ((معلّم مجنون)) .

وعذّبوا أصحابه الأوائل من المؤمنين به وبرسالته أشدّ تعذيب حتى أنه قتل بعضهم تحت السياط ، كياسر وزوجته سميّة ((أبوي عمّار)) اللذين قتلا تحت التعذيب

ص: 523

وهما يقولان : أحد أحد لا إله إلّا اللَّه ، محمّد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقتلهما أبو جهل .

ناهيك عن بلال الحبشي ، وصهيب الرومي ، وسلمان الفارسي ، وعمّار بن ياسر ، وجندب بن جنادة )أبو ذرّ الغفاري( وبقية الأصحاب الكرام الذي لاقوا أشدّ العذاب والحال إنهم يقولون ربّنا اللَّه ورسولنا محمد صلى الله عليه وآله .

وقد بقي المشركون يؤذون الرسول صلى الله عليه وآله حتى اضطروه للالتجاء إلى شعب أبي طالب(عليه السلام) ذاك البطل الذي ما بخل على الرسالة ولم يعزّ على الرسول بشي ء أبداً ، بل جعل كل ما لديه تحت خدمة الإسلام ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله فهو من الذين ((آووا ونصروا)) أو من أوائلهم .

وقد آذوه فيه - أبو طالب - إذ أنّهم إلى الآن يروون أحاديث عنه صلى الله عليه وآله في أنه لم يستطع أن يشفع له بل إنّ اللَّه يضعه في ضحضاح من جهنّم ، أو أنه في جهنّم خالداً ، لأنّه مات كافراً أو مشركاً - والعياذ باللَّه - والحال أنّه كان من كبار المؤمنين حقّاً(1).

وقد مكث الرسول صلى الله عليه وآله في الشعب ثلاثة سنين تقريباً ، وبعد العودة إلى مكّة خسر في عام واحد زوجته المواسية اُمّ المؤمنين الاُولى خديجة بنت خويلد ، وعمّه أبو طالب - ناصره وحاميه - فأطلق الرسول صلى الله عليه وآله على ذلك العام بعام الحزن حيث قلّ النصير ، وطمع العدو الحقير .

فأمره اللَّه - سبحانه - بالهجرة إلى مدينة - يثرب - وما أن استقرّ بها حتى راحوا يشنّون الحروب والغارات ضدّه واحدة تلو الاُخرى ، ولا هدف لهم فيها إلّا استئصال الإسلام من الأرض ، وقتل الرسول محمد صلى الله عليه وآله فأخزاهم اللَّه في ((بدر ،

ص: 524


1- راجع بحار الأنوار : ج35 ص110 ح41 ، وإيمان أبي طالب : ص77 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج14 ص68 ، كنز الفوائد : ج1 ص183 .

واُحد ، والأحزاب)) .

بل نصره اللَّه في جميعها وتوّج نصره له بالحديبية ، وفتح مكّة في نهاية المطاف وأسرهم جميعاً في ساحة الكعبة المشرّفة بعد أن كسّر الأصنام كلّها وقال لهم : ماذا ترون أنّي فاعل بكم ؟

فقالوا : أخ كريم وابن أخ كريم .

فقال صلى الله عليه وآله : اذهبوا فأنتم الطلقاء(1).

2 - المنافقون : وهؤلاء أشدّ خطراً - على أي حركة - من غيرهم ، وذلك لأنهم يندسّون مع أعضاء وعناصر الحركة الرسالية ، ويتقصّون الأخبار ، ويتتبّعون القيادات ، ويختلسون الكلمات ويرسلون كل ذلك إلى الأعداء .

فالمنافق : هو الذي أسلم في الظاهر إلّا أنّه في المضمون والجوهر كافر ، فهو يقرّ بالشهادة لقلقه إلّا أنّ قلبه ملي ء بالحقد والحسد والخصومة ، وهو ينتظر أي فرصة سانحة لكي يوقع بأعضاء الحركة ، حيث يتخلّى عنها في أحلك الظروف عندما تكون في أشدّ الحاجة إليه وإلى أمثاله .

ولذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) : لقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول : ((إنّي لا أخاف على اُمّتي مؤمناً ولا مشركاً ، أمّا المؤمن فيمنعه اللَّه بإيمانه وأمّا المشرك فيخزيه اللَّه بشركه ولكنّي أخاف عليكم كل منافق عالم اللسان يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون))(2).

وقد حدث ذلك فعلاً حيث إنّ المنافقين فرّوا عن الرسول صلى الله عليه وآله يوم غزوة اُحد ،

ص: 525


1- بحار الأنوار : ج21 ص132 .
2- سفينة البحار : ج8 ص308 .

وتخاذلوا كذلك يوم الأحزاب حيث قال تعالى : «وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ(1)« ، وفي حنين وخيبر ، وفي الكثير من المواقع هربوا وتركوا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وحيداً مع بعض أهل بيته الكرام ، وأصحابه المخلصين .

فلم يبق معه صلى الله عليه وآله في غزوة حنين إلّا تسعة من الهاشميين وأيمن ابن اُمّ أيمن فقط لا غير كما يذكر ذلك التاريخ(2).

القرآن يفضح المنافقين

وقد فضح القرآن الكريم المنافقين في سورة المنافقون والتوبة كذلك فضلاً عن سائر الآيات والأحاديث النبوية الشريفة ، وما قصّة مسجد ضرار الذي ذكرها القرآن الكريم إلّا واحدة من عشرات القصص .

فلمّا بنى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله مسجد قباء خرج جماعة من المنافقين وبنوا مسجداً يضاهئون به مسجد قباء ، وكان الحامل لهم على بنائه أن يجعلوا أبا عامر الراهب إماماً فيه ، وكان أبو عامر الراهب هذا قد خرج من المدينة محارباً للَّه ورسوله .

وقبل أن يخرج قال لقومه : ابنوا مسجدكم واستعدّوا بما استطعتم من قوّة وسلاح ، فإنّي ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم لاُخرج به محمداً وأصحابه من المدينة فلمّا فرغوا من بناء المسجد ذهبوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وهو يتهجّز لغزوة تبوك فقالوا يارسول اللَّه إنّنا بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة الشاتية المطيرة ، وواللَّه ما أردنا ببنائه إلّا الحسنى وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه وتدعو لنا

ص: 526


1- سورة الأحزاب (33) : الآية 10 .
2- بحار الأنوار : ج21 ص156 - 155 ح6 .

فيه بالبركة ، وكانوا يقصدون من صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن يحتجّوا عليه بتقريره إيّاه لهم .

فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : إنّي على جناح سفر ولو قدمنا إن شاء اللَّه لأتيناكم فاُصلّي لكم فيه .

فلمّا رجع من غزوة تبوك نزل بذي أوان - بلد على ساعة من المدينة - فأتاه خبر المسجد وأنزل اللَّه فيه «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(1)«.

فأمر الرسول صلى الله عليه وآله بعض أصحابه وقال لهم : ((انطلقوا إلى المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا ، وكان ذلك قبل مقدمه المدينة))(2).

فخطر المنافق كبير وخطير جدّاً على الرسالة والرسول صلى الله عليه وآله لذلك حذّر منهم القرآن الكريم والرسول العظيم صلى الله عليه وآله لأنهم أساس الفساد في المجتمع دائماً وأبداً .

فالمنافق لا تهمّه الرسالة في شي ء ، بل همّه منحصر في مصالحه الشخصية ، فهو كالعقرب التي لا تستطيع أن تسير إلّا إذا كانت شوكتها أمامها تضرب بها الأخضر واليابس دون وعي أو إدراك .

فلربما كان الكثير من المنافقين كذلك ، أي أنهم يؤذون رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقط وليقال بأنّ فلان عارض أو ناقش رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .

ومنهم من كان يعمل لمصلحة خارجية وجهات معادية كما هو واضح في قصة

ص: 527


1- سورة التوبة (9) : الآية 107 .
2- عوالي اللآلي : ج2 ص32 ح81 .

مسجد ضرار ، أي يكون ((جاسوساً)) بين صفوف المسلمين ينقل الأخبار والمواقف إلى العدو ، ويبثّ الشائعات ليثبط عزائم جيش المسلمين ، وبالتالي تختل الجبهة الداخلية ، ويضعف تماسك الاُمّة كلّها .

3 - المؤمنون : أو المسلمون :

وهؤلاء رغم أنّهم مسلمون إلّا أنّ حداثة الإيمان في قلوبهم ، وعدم نفوذه واستقراره في قلوبهم جعلهم يؤذون رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بقصد أو دونه ، بل عن عدم رويّة ، وهي اُمور نابعة من تربيتهم السيّئة ، وأخلاقهم الرديئة ، وطباعهم الفظّة الغليظة .

فمثلاً كان البعض منهم ينادونه من وراء الحجرات ، ومنهم من قالوا عنه أنه ((جاسوس)) أو اُولئك الذين اتّهموا إحدى نسائه بالفاحشة - والعياذ باللَّه - بقصّة الإفك المشهورة والمذكورة في سورة النور المباركة ، فبرّأه اللَّه منها تماماً وأظهر كذب القائلين(1).

كما أنّهم اعترضوا عليه حتى في زواجه من زينب بنت جحش وقد زوّجه اللَّه تعالى بها بقوله : «فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا(2)«.

إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله في أهل بيته عليهم السلام

ولم يقتصر اُولئك على أذيّة الرسول صلى الله عليه وآله في حياته بالكثير من المواقف وإنّما أخذوا يؤذونه بعد انتقاله من خلال أذيّة ذريته الطاهرة ، لا سيّما فاطمة الزهراء عليها السلام

ص: 528


1- للإطّلاع على قضية الإفك راجع تفسير القمّي : ج2 ص99 تحت عنوان »الإفك على مارية«.
2- سورة الأحزاب (33) : الآية 39 .

سيّدة نساء العالمين وزوجها أمير المؤمنين(عليه السلام) وإبناهما الحسن والحسين عليهما السلام سيّدا شباب أهل الجنّة وسبطا نبيّها إذ أنّهم عليهم السلام قتلوا جميعاً على أيادي هذه الاُمّة .

هذا فضلاً عن بقية الذرية الطاهرة التي شتّت ومزّقت ووزّعت تحت كل شجر ومدر على وجه الأرض والمزارات في العالم اليوم تشهد على ذلك ، فلا تكاد ترى أو تسمع ببقعة من الأرض إلّا وفيها مزاراً معروفاً أو مجهولاً لأهل البيت عليهم السلام .

بين الاُمّة الإسلامية وبني اسرائيل

خلاصة القول : إنّ الآية المباركة تنهى المؤمنين عن أذيّة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كما آذى بنو إسرائيل نبيّهم موسى بن عمران الكليم(عليه السلام) حيث قالوا فيه : أنه قتل هارون أخاه ، وقالوا : إنه ليس له ما للرجال ، وأرسلوا إليه بمومس لكي تقذف موسى نبي اللَّه موسى(عليه السلام) إلّا أنّني أشعر - وأكاد أجزم - أنّ أكبر أذيّة لنبي اللَّه موسى(عليه السلام) كانت في عبادة العجل وتركهم لهارون وحيداً .

فهم الذين لمّا اجتاز بهم البحر وجدوا اُناساً يعبدون الأصنام قالوا : اجعل لنا إلهاً كآلهتهم ، فهذا هو من أصعب الأذية لموسى وهارون عليهما السلام .

وكذلك فعلت هذه الاُمّة بهارونها الذي قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في حقّه : ((ياعلي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي))(1).

وقد قيل عن لسان الزهراء عليها السلام :

ص: 529


1- راجع كل من : تاريخ دمشق ج1 ص334 رقم 403 ، مجمع الزوائد : ج9 ص110 ، أسنى المطالب : الباب السادس : ص29 رقم 23 ، مطالب السؤول : ص43 ، كفاية الطالب : ص11 ، منتخب كنز العمّال هامش مسند أحمد : ج5 ص31 .

أبتاه هذا السامري وعجله

تبعا ومال الناس عن هارون

فأكبر أذى يلحق صاحب الرسالة عندما يرى رسالته تترك ويلتفّ عليها ويطرد عن قيادتها وصيّه عليه أفضل الصلاة والسلام .

ص: 530

66- الالتزام بالقول السديد

اشارة

(66) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً »(سورة الأحزاب : 70)

في رحاب المفردات

اتّقوا : التقوى جعل النفس في وقاية ممّا يخاف ، هذا تحقيقه ، ثمّ يسمّى الخوف تارة تقوى ... وصار التقوى في تعاريف الشرع حفظ النفس عمّا يؤثم ، وذلك بترك المحظور(1).

سديداً : السداد والسَّدد الاستقامة(2).

شأن النزول

أخرج علّامة الشافعية محمد بن أحمد بن عثمان )الذهبي( في ميزانه عن عكرمة عن ابن عباس قال سمعته يقول : ((ما نزلت آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللَّه عزّوجلّ أصحاب محمد صلى الله عليه وآله في غير آية

ص: 531


1- مفردات الراغب : ص568 .
2- مفردات الراغب : ص233 .

من القرآن وما ذكر علياً إلّا بخير))(1).

عبر من الآية

مقدّمة لابدّ من معرفة القول السديد : فهو كما قال شيخ المفسّرين الطبرسي : الذي يكون صواباً بريئاً من الفساد ، خالصاً من شائبة الكذب واللغو ، موافق للظاهر والباطن(2).

أي إنّه القول الصادق الموافق للحقّ والواقع ، فلا يكون فيه كذب أو لغو أو إيذاء أو فساد أو ما أشبه ذلك من آفات اللسان المعروفة عند العلماء .

وهذه الآية الكريمة تلقي الضوء على مشكلة اجتماعية عظيمة وهي مشكلة ((الذين يلقون الكلام على عواهنه)) دون أي تفكّر أو تدبّر ، ولا يتّقون اللَّه - تعالى - في ذلك أبداً ، ممّا يسبّب الكثير من الإشكالات الاجتماعية ، وتأجيج الخابئ منها بالذات ، وتسعير المشتعل .

فكم من الفتن الاجتماعية تولّدت على أثر كلمة ، بل ربما تولّدت الحروب ولأنّ الشائعات الباطلة قد تتلاقفها الألسن )وتنقلها بسرعة( ولذلك فقد دعا اللَّه المؤمنين إلى الكلمة الصالحة ، وإلى تحمّل مسؤولية الكلام ، ولا يتم ذلك إلّا بالتفكّر الجيّد والاستقراء المنطقي ، وقبل ذلك كلّه بتقوى اللَّه ، لأنّ التقوى تصنع في النفس نوعاً من الرقابة الذاتية والمحاسبة ، فالمتّقي يخشى من اتّهام الآخرين ، ومن المشي بالغيبة والنميمة والبهتان ، وما شابه ذلك من الاُمور .

ص: 532


1- ميزان الاعتدال : ج3 ص311 .
2- مجمع البيان : ج22 مج8 ص185 .

وبطبيعة الحال إنّ القول لا يكون سديداً حتى يكون سليماً صادقاً ، وفي وقته المناسب ، ولا يكون كذلك إلّا بالتفكير والنظر إلى الواقع والمستقبل ، ولعلّ الذي يميّز المؤمن عن المنافق أنّ المؤمن يتحمّل مسؤولية كلامه ، فهو يفكّر كثيراً قبل الكلام ، بينما المنافق يبادر بالحديث دون رويّة فيبتلى بالكلام وكما عن أمير المؤمنين : ((إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه ، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه))(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في أبيات نسبت إليه :

فزن الكلام إذا نطقت ولا تكن

ثرثارة فيما تقول وتكتب

وقد أحصى بعض العلماء الأعلام في كتبهم أكثر من )ثلاثين( آفة من آفات اللسان .

وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) نصيحته إلى عبّاد بن كثير البصري الصوفي فقال فيها : ((ويحك ياعبّاد ، غرّك أن عفّ بطنك وفرجك ؟ إنّ اللَّه - عزّوجلّ يقول في كتابه : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(2). اعلم أنّه لا يقبل اللَّه عزّوجلّ منك شيئاً حتّى تقول قولاً عدلاً .

وقد ورد في بعض التفاسير أنّ ((قولاً سديداً)) هي الشهادة ((أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وأنّ محمداً رسول اللَّه صلى الله عليه وآله)) دون غيرها لأنّها من أسْدَدْ الكلام مطلقاً .

فعلى الإنسان المؤمن أن يتّقي اللَّه سبحانه وتعالى في كل حركاته وخلجاته ، لا سيّما في لسانه ، وقلبه ، واللسان أوّلاً لأنّه مفتاح هامّ وأساسي من مفاتيح القلب .

ص: 533


1- نهج البلاغة : خ176 في نصائح للناس .
2- سورة الأحزاب (33) : الآية 70) الكافي : ج8 ص92 ح81 .

أهل البيت عليهم السلام والدعوة إلى حفظ اللسان

وقد أكّد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله والأئمّة الأطهار عليهم السلام بشدّة على حفظ اللسان إلّا في طاعة اللَّه ولزوم الصمت في قبال المحرّمات .

فعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((من صمت نجا))(1).

وقال صلى الله عليه وآله : ((أمسك لسانك فإنّها صدقة تصدّق بها على نفسك)) ، ثمّ قال صلى الله عليه وآله : ((ولا يعرف عبد حقيقة الإيمان حتى يحرس لسانه))(2).

ومرّ أمير المؤمنين(عليه السلام) برجل يتكلّم بفضول الكلام فوقف(عليه السلام) وقال : ((ياهذا فإنّك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك ، فتكلّم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك))(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((المرء مخبوء تحت لسانه))(4).

وعن أبي علي الجوّاني قال : شهدت أبا عبداللَّه(عليه السلام) يقول لمولى له يقال له سالم ووضع يده على شفتيه وقال : ((ياسالم احفظ لسانك تسلم ولا تحمل الناس على رقابنا))(5).

وعن قيس أبي إسماعيل قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال : يارسول اللَّه أوصني ، فقال : ((احفظ لسانك)) ، قال : يارسول اللَّه أوصني ، قال : ((احفظ لسانك)) ، قال : يارسول اللَّه أوصني ، قال : ((احفظ لسانك ، ويحك وهل يكبّ

ص: 534


1- وسائل الشيعة : ج12 ص251 ح16228 .
2- الكافي : ج2 ص114 ح7 .
3- من لا يحضره الفقيه : ج4 ص396 ح5841 .
4- نهج البلاغة : ق148 .
5- الكافي : ج2 ص113 ح3 .

الناس على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم))(1).

ولا يخفى فإنّ آفات اللسان كثيرة منها : الخطأ والكذب ، والغيبة غير المأذون فيهما ، والنميمة ، والفحش ، والمراء ، والفضول ، والخوض في الباطل ، والتحريف ، والزيادة ، والنقصان ، وإيذاء الخلق ، وهتك العورة ، وإفشاء السرّ ، والسخرية والاستهزاء ، وغير ذلك .

من هنا فقد عظم فضل الصمت مع ما فيه من جمع الهمّ ، ودوام الوقار والفراغ في الفكر والذكاء والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة لأنّ اللَّه تعالى قال : «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(2)«.

عاقبة التزام القول السديد

أمّا نتائج الالتزام بالقول السديد المعزّز بتقوى اللَّه تعالى فهي ؟

1 - إصلاح الأعمال : وهي تفضّل ورحمة من اللَّه بأن يتلطّف على العبد بألطاف خاصة فتستقيم أعماله وتصطلح شؤونه كلّها ، لأنّ بداية كل )ملكة( في الإنسان هي )الحركة( والعمل .

فالإنسان يولد بلا ملكات ، أو أنّها تكون ضعيفة ومختفية وغير ظاهرة للعيان أبداً ، وكلّما مارس الإنسان الأعمال قويت تلك الملكات ، أو ضعفت ، فالإنسان كلّما تعوّد وأعطى الفقراء كلّما قويت لديه ملكة )الكرم والجود ( وكذلك )العطف والحنان( .

والعكس كذلك صحيح ، فكلّما منع ضعفت فيه تلك الملكة الخيّرة .

ص: 535


1- الكافي : ج2 ص115 ح14 .
2- سورة ق (50) : الآية 18 .

وبعبارة اُخرى كلّما واظب الإنسان على أفعاله )الخيّرة( وأقواله )السديدة الصحيحة( حصلت فيه ملكات الخير ، وأفضلهنّ ملكة التقوى ، فتستقيم أعماله ، وتصلح حياته ويسدّده مولاه - سبحانه - إلى ما فيه خيره وصلاحه في الدنيا والآخرة ويجنّبه المفاسد كلّها .

2 - غفران الذنوب ، هذا في الدار الآخرة حيث إنّ اللَّه سبحانه يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء ويرحم من يشاء فقد قال تعالى : «إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ(1)« فعلى الإنسان المؤمن أن يكثر من الحسنات وإلّا فإنّ السيّئات تتراكم بلا انتباه فتكون كالجبل على عاتق صاحبها .

وقد نفهم كذلك من )إصلاح الأعمال( أنّ المراد ترميمها يوم القيامة بحيث إذا كانت هناك صلاة ناقصة ، أو خلل في صوم ، أو تراكم زكاة ، أو إهمال في خمس ، أو خوف وتهرّب من الجهاد أو غير ذلك فيجبرها اللَّه سبحانه وتعالى لنا ، فتكتب لنا لا علينا .

وقد ورد عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام العديد من الروايات الناصّة على هذا وذلك عند تجسيد الأعمال في الدار الآخرة .

إذن إنّ تفضّل اللَّه سبحانه وتعالى علينا إذا ما اتّقينا وقلنا قولاً سديداً ، فإنّه يصلح لنا أعمالنا ويغفر لنا ذنوبنا وهو الغفور الرحيم .

ص: 536


1- سورة هود (11) : الآية 114 .

67- اُسس النصر المبين

اشارة

(67) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ »(سورة محمّد : 7)

في رحاب المفردات

تنصروا : النصر والنصرة هي العون ، قال تعالى : «إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ(1)« ، ونصرة اللَّه للعبد ظاهرة ، ونصرة العبد للَّه هو نصرته لعباده والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده واعتناق أحكامه واجتناب نهيه(2).

يثبّت : الثبات ضدّ الزوال يقال ثبت يثبت ثباتاً ، قال اللَّه تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا(3).

ص: 537


1- سورة آل عمران (3) : الآية 160 .
2- مفردات الراغب : ص516 .
3- سورة الأنفال (8) : الآية 45) مفردات الراغب : ص74 .

شأن النزول

روى الحافظ الأصبهاني أبو نعيم في حليته عن ابن عباس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه قال : ((ما أنزل اللَّه آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها))(1).

عبر من الآية

العديد من الناس عندما يقرأون آيات القرآن الكريم يراودهم السؤال التالي وهو : لماذا يؤكّد القرآن الكريم على مسألة الجهاد ؟

الجواب : كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : لأنّ ((الجهاد باب من أبواب الجنّة ، افتتحه اللَّه لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التقوى ودرع اللَّه الحصينة ، فمن تركه رغبة عنه ، ألبسه اللَّه الذلّ))(2).

ولأنّ الجهاد عزّ الإسلام وسنامه .

والجهاد لغة : هو بذل الجهد أو أقصى ما يمكن من الجهد من أجل القضية المجاهد من أجلها ، وله عندنا في الإسلام معنيان وهما :

1 - الجهاد الأكبر : والذي يعني جهاد النفس لتزكيتها .

2 - الجهاد الأصغر : وهو جهاد العدو في ساحات القتال ، وفي ميادين النضال الحياتية كافّة .

ص: 538


1- حلية الأولياء : ج1 ص64 .
2- نهج البلاغة : خ27 في فضل الجهاد .

وكلا المعنيين وردا في الحديث الشريف ، فقد نقل أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله استقبل قوماً من أصحابه وهم قادمون من غزوة غزوها فقال لهم : ((مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر)) .

فقالوا : وما الجهاد الأكبر يارسول اللَّه ؟

فقال صلى الله عليه وآله : ((هو جهاد النفس))(1).

فالجهاد والقتال في الإسلام حالة استثنائية تفرضها الظروف الخارجية عليه ، وإلّا فإنه - الإسلام - يدعو إلى المحبّة والسلام في جميع اُمور الحياة ومع كلّ الملل والطوائف ، أمّا إذا تعرّضت بيضة الإسلام للخطر أو تعرّضت الاُمّة الإسلامية إلى هجوم معادي ، فهل يبقون ساكتين ساكنين ؟ وإن بقوا كذلك هل يمكن أن تبقى اُمّة من الاُمم هكذا دون دفاع عن ذاتها ومصالحها وشعبها وقيمها ؟

بالتأكيد لا يمكن ذلك ، فعلى الإنسان كحالة طبيعية أن يردّ الاعتداء ، ولذلك خلق اللَّه له القوّة وأعطاه العقل والتفكير لكي يصنع السلاح ليدافع عن نفسه به ، فالشرّ يجب أن يقابل بشرّ مثله لكي يردّه إلى الصواب ، والمعادلة الفيزيائية تقول : إنّ أي فعل هو بحاجة إلى ردّ فعل مساوي ومعاكس له ليستطيع الصمود .

وقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((رُدّوا الحجر حيث جاء فإنّ الشرّ لا يدفعه إلّا الشرّ))(2).

فجهادنا لردّ الاعتداء علينا ، أو لإبلاغ الناس والاُمم عن أفكارنا وعقائدنا وديننا الحنيف علّنا نخرجهم من الظلمات إلى النور ، فمن قبلنا فأهلاً وسهلاً .. . له ما

ص: 539


1- الكافي : ج5 ص9 ح3 .
2- نهج البلاغة : ق314 .

لنا وعليه ما علينا ، ومن صدّ منّا فالقتال بيننا وبينه وعلهيم من ثم دفع الجزية عن يد وهم صاغرون وليعبدوا ما شاؤوا من عبادات أتاح الإسلام لهم التعبّد بها .

ولذلك فآية البحث تقول : «إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ(1)« وربما يتسائل البعض هنا قائلاً : كيف يمكن أن ننصر اللَّه ؟

الجواب : من الواضح أنّ اللَّه - سبحانه - ليس عاجزاً بل هو «ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(2)« الذي لا يقوم أمامه شي ء على الإطلاق حيث إنّ القدرة الإلهية والقوّة الربّانية قدرة مطلقة )لا متناهية( فكيف ننصر اللَّه - إذن - ونحن الضعفاء جدّاً ؟

إنّ نصر اللَّه تعالى تكون بنصر دينه ، ونصرة نبيّه ورسوله ، والانتصار إلى الرسالة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وآله من عنده ، وهي عائدة بالفائدة لنا جميعاً )كآدميين( لأنّ اللَّه هو الغني الحميد عن الخلق جميعاً وعباداتهم وأرزاقهم وكلّ أحوالهم ، ولكن عندما يلتزموا بمناهج ووسائل السماء فإنّهم يعيشون بسعادة لا توصف وبأناة لا تصدق وباطمئنان وأمن كاملين .

وهذا التعبير هو تعبير عظيم يتضمّن الكثير من المعاني ، وهو يدلّ على عظمة الجهاد في سبيل اللَّه تعالى ، وهذا نظير قوله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ(3)« فهل أنّ اللَّه سبحانه بحاجة إلى المال ؟ أم أنّ الفقراء والمحتاجين واليتامى والمساكين من بني البشر هم المحتاجون له ؟

فنصرنا للَّه : هو بالعبادة الكاملة له ، والطاعة التامّة لرسوله ووليّه ، والالتزام

ص: 540


1- سورة محمّد (47) : الآية 7 .
2- سورة الذاريات (51) : الآية 58 .
3- سورة البقرة (2) : الآية 245 .

الكلّي بمناهجه الحياتية .

وقد أشار أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى ذلك فقال : ((وخذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم ولا تبخلوا بها عنها ، فقد قال اللَّه سبحانه : «إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» فلِمَ يستنصركم من ذلّ وله جنود السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ، وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملاً وبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران اللَّه في داره))(1).

أمّا كيفية نصر اللَّه لنا فهو على غرار قوله تعالى في الآية المباركة حيث قال عزّوجلّ : «يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(2)« وكقوله تعالى : «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ(3)«.

وقوله تعالى : «اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ(4)«.

وقوله تعالى : «أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ(5)«.

إذن إنّ اللَّه وعدنا بأن ينصرنا اللَّه ويثبّت أقدامنا ؟ وهو لا يخلف الميعاد .

طرق النصر الإلهي

أمّا كيفية نصرة اللَّه تعالى لنا فقد قيل إنّها تتحقّق في وجهين إثنين وهما :

1 - عبر المعادلات الغيبية : حيث إنّ أزمّة الكون كلّها بيد اللَّه سبحانه ، وكما

ص: 541


1- نهج البلاغة : خ183 في قدرة اللَّه وفضل القرآن .
2- سورة محمّد (47) : الآية 7 .
3- سورة إبراهيم (14) : الآية 7 .
4- سورة البقرة (2) : الآية 152 .
5- سورة البقرة (2) : الآية 40 .

قال تعالى : «وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ(1)« وما نراه من )عالم الشهود( لا يمثّل كل شي ء في )الوجود( بل هو جزء بسيط فقط من )الوجود( الكلّي .

والجزء الغائب هو الجزء الأعظم ويمثّله )عالم الغيب( فينصر اللَّه عباده المؤمنين بمعادلات غيبية لا يمكن للإنسان العادي استيعابها في معظم الأحيان .

كما نصر اللَّه رسوله والمؤمنين في غزوة )بدر الكبرى( حيث أمدّهم بالملائكة حين كانوا )أذلّة( فأعزّهم اللَّه ونصرهم رغم كلّ المعادلات الظاهرية التي كانت ضدّهم .

وفي غزوة اُحد كذلك نصرهم اللَّه تعالى على عدوّهم عندما كانوا ملتزمين بأوامر وقرارات القائد الأعلى ولكن عندما تخاذلوا وبهرهم بريق الغنائم وتركوا أماكنهم خسروا وفرّوا وقتل الكثير منهم ، ورغم ذلك فقد نصر اللَّه سبحانه رسوله وأركس عدوّه .

وفي غزوة الأحزاب التي اشترك فيها الريح والحصى والرمال بتوجيه وتدبير من الملائكة الكرام عليهم السلام حتى نصرهم اللَّه تعالى ، وعندما اجتاز عمرو بن عبد ودّ الخندق ، أيّد اللَّه رسوله صلى الله عليه وآله بأمير المؤمنين(عليه السلام) فقتله شرّ قتلة وهرب الباقون ورجعوا من حيث أتوا .

2 - عبر المعادلات الطبيعية : حيث إنّ الإيمان باللَّه تعالى ورسله وكتبه واليوم الآخر يمنح قلب المؤمن قوّة عالية ، وإرادة وتصميماً نافذاً ، فترتفع معنويات الإنسان المقاتل ، وتتماسك أعصابه فيقوى عند المواجهة .

ومن الواضح أنّ الإنسان الذي يعلم أنّ اللَّه معه ، أو أنّ مصيره سيكون إلى

ص: 542


1- سورة الزمر (39) : الآية 67 .

الجنّة إذا قتل ، وأنه بين إحدى الحسنيين ((إمّا النصر وإمّا الشهادة)) فإنّه يكون أقوى جناناً من الإنسان الذي يرى نفسه وحيداً في الميدان ، فإن مات فهو الفناء ، فتذهب لذائذ الدنيا ومتّعها وإن جرح تشوّه وأصبح سبّة وإن قطع منه عضو يصبح منبوذاً في مجتمعه ، وهكذا فيعيش المقاتل القلق على نفسه ، ولا يحسب أي حساب آخر .

أمّا المؤمنون فإنّهم ((يرجون من اللَّه ما لا يرجوه)) الآخرون فيزدادوا قوّة على قوّتهم ، وثباتاً على موقفهم ، فكان الواحد منهم يغلب مئتين من الأعداء أو أكثر .

ولعلّ خير مصداق لهؤلاء المؤمنين الواثقين باللَّه وبقضائه هم أنصار الإمام الحسين(عليه السلام) الذين خلعوا الدروع وألقوها جانباً وراح كلّ واحد منهم يكرّ على ثلاثين ألف اجتمعوا لقتالهم فيطارد المئات فتفرّ من أمامه كفرار المعزى .

فهذا عابس بن شبيب راح يلقي درعه وعتاده وسط الميدان ولمّا قيل له : أجننت ياعابس ؟ قال : نعم ، حبّ الحسين أجنّني .

أجل ، هكذا تفعل العقيدة بأصحابها فتجعل قلوبهم والهة ، وأفئدتهم عاشقة بحبّ اللَّه ومن يوصلهم إلى اللَّه فتهون عليهم نفوسهم .

فالثبات على الموقف ، وتثبيت الأقدام على الأرض ، كل ذلك ضروري للمقاتل عند المواجهة ... فيبدو وكأنّه واقف على أرض صلبة وعزيمة لا تلين ، ففي الآية الشريفة جاء : «وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(1)«.

فما النصر إلّا من عند اللَّه ، سواء أكان بمعادلات الغيب أم قضايا الشهود

ص: 543


1- سورة البقرة (2) : الآية 250 .

والحضور ، فمجرى الاُمور هو بيد اللَّه - تعالى - وهو يأتي بالنصر حيث يوشك أن ييأس المؤمنون وإلى ذلك يشير قوله تعالى : «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(1)«.

فعلى الإنسان المؤمن أن يكون بهذا المستوى من الثبات واليقين حتى ينزّل اللَّه تعالى نصره على عباده المؤمنين .

ص: 544


1- سورة البقرة (2) : الآية 214 .

68- ولو أنّهم أطاعوا الرسول صلى الله عليه وآله

اشارة

(68) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ »(سورة محمد : 33)

في رحاب المفردات

أطيعوا : الطوع الانقياد ويُضادّه الكره .. والطاعة مثله لكن أكثر ما تقال في الائتمار لما اُمر والارتسام فيما رسم(1).

الرسول : أصل الرِّسْلِ الانبعاث على التؤدة ويقال ناقة رَسْلَةٌ سهلة السير وإبل مراسيل منبعثة انبعاثاً سهلاً ، ومنه الرسول المنبعث وتصوّر منه تارة الرِّفق فقيل على رسلك إذا أمرته بالرفق ، وتارة الانبعاث فاشتقّ منه الرسول(2).

ص: 545


1- مفردات الراغب : ص318 .
2- مفردات الراغب : ص201 - 200 .

شأن النزول

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((من قال سبحان اللَّه غرس له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال : الحمد للَّه غرس اللَّه له بها شجرة في الجنّة ومن قال : لا إله إلّا اللَّه غرس اللَّه له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال : اللَّه أكبر غرس اللَّه له بها شجرة في الجنّة)) فقال رجل من قريش : يارسول اللَّه إنّ شجرنا في الجنّة لكثير ؟ قال : ((نعم ، ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقونها ، وذلك أنّ اللَّه عزّوجلّ يقول : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ»))(1).

عبر من الآية

كثيرة هي الآيات القرآنية التي تقرن طاعة اللَّه تعالى وعصيانه بمسألة طاعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وهذه الآية المباركة من هذا القبيل حيث إنّها جاءت بهذا الأمر الإرشادي الناصّ على أنّ طاعة اللَّه تعالى لا يمكن إحرازها إلّا مع طاعة الرسول صلى الله عليه وآله .

والأمر الارشادي - كما يقول الاُصوليون - يعني : أنّ العقل يأمر بالمادّة وهي ((الطاعة)) والشارع يؤكّد ذلك . وبعبارة اُخرى : أنّ المصلحة مترتّبة على المادّة ، وأمّا الهيئة فهي تأكيد لما في ((المادّة)) من ((الملاك)) ، ولا يترتّب على نفس الهيئة شي ء

ص: 546


1- نور الثقلين : ج7 ص47 ح85 .

آخر وراء المادّة .

فطاعة الرسول صلى الله عليه وآله هي طاعة للَّه ((بالإمتداد والتبعية والعطف)) فهي إذن نفس تلك الطاعة التي عبّر عنها القرآن فقال عزّ من قائل : «مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ(1)«.

وقال تعالى : «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ(2)«.

والطاعة لغةً تعني : الإنقياد الواعي والتامّ للأوامر الإلهية الواردة في الكتاب الكريم ، أو عن طريق الرسول العظيم صلى الله عليه وآله أو الولي المعيّن من اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله .

فالآية المباركة تدعو إلى طاعة الرسول التي هي ميزان قبول الأعمال ورفضها ، فقد جاء في الحديث أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : حدّثني جبرائيل عن ربّ العزّة جلّ جلاله أنه قال :

((من علم أنه لا إله إلّا أنا وحدي ، وأنّ محمّداً عبدي ورسولي ، وأنّ علي بن أبي طالب خليفتي ، وأنّ الأئمّة من ولده حججي أدخلته الجنّة برحمتي ، ونجّيته من النار بعفوي ، وأبحت له جواري وأوجبت له كرامتي ، وأتممت عليه نعمتي ، وجعلته من خاصّتي وخالصتي ، إن ناداني لبّيته ، وإن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وإن سكت ابتدأته ، وإن أساء رحمته ، وإن فرّ منّي دعوته ، وإن رجع إليّ قبلته ، وإن قرع بابي فتحته .

ومن لم يشهد أن لا إله إلّا أنا وحدي ، ولم يشهد أنّ محمّداً عبدي ورسولي ، أو شهد بذلك ولم يشهد أنّ علي بن أبي طالب خليفتي ، أو شهد بذلك ولم يشهد أنّ الأئمّة

ص: 547


1- سورة النساء (4) : الآية 80 .
2- سورة النساء (4) : الآية 59 .

من ولده حججي ، فقد جحد نعمتي ، وصغّر عظمتي ، وكفر بآياتي وكتبي .

إن قصدني حجبته ، وإن سألني حرمته ، وإن ناداني لم أسمع نداءه ، وإن دعاني لم أسمع دعاءه ، وإن رجاني خيّبته ، وذلك جزاؤه منّي ، وما أنا بظلّام للعبيد))(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) : قال اللَّه تبارك وتعالى : ((لاُعذّبن كل رعيّة في الإسلام بولاية كل إمام جائر دانت ليس من اللَّه ، وإن كانت الرعيّة في أعمالها برّة تقية ، ولأعفونّ عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام عادل من اللَّه وإن كانت الرعية في أنفسها ظالمة مسيئة))(2).

وعن أبي يعفور قال : قال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((لا دين لمن دان بولاية إمام جائر ليس من اللَّه ، ولا عتب على من دان بولاية إمام عدل من اللَّه)) .

قال : قلت : لا دين لاُولئك ، ولا عتب على هؤلاء ؟

فقال : ((نعم ، لا دين لاُولئك ولا عتب على هؤلاء ، ثم قال(عليه السلام) : أما تسمع لقوله تعالى : «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» .

يخرجهم من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كل إمام عادل من اللَّه وقال : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ(3)«.

قال : قلت : أليس اللَّه عنى بها الكفّار حين قال : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» ؟

فقال(عليه السلام) : ((وأي نور للكافر وهو كافر ، فأخرج منه إلى الظلمات ؟ إنّما عنى

ص: 548


1- بحار الأنوار : ج27 ص119 - 118 ح99 .
2- الكافي : ج1 ص376 ح4 .
3- سورة البقرة (2) : الآية 257 .

اللَّه بهذا أنّهم كانوا على نور الإسلام فلمّا أن تولّوا كل إمام جائر ليس من اللَّه ، خرجوا بولايتهم إيّاهم من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر ، فأوجب لهم النار مع الكفّار .

فقال : اُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون))(1).

فالطاعة إذن يجب أن تكون للرسول صلى الله عليه وآله أو من عيّنهم الرسول صلى الله عليه وآله من بعده كقادة لهذه الاُمّة .

حبط الأعمال في مخالفة الأئمّة عليهم السلام

ولا يخفى أنّ الاستكبار على هولاء القادة الكرام وتولّي غيرهم يحبط العمل ويبطله بلا شكّ ، لأنّه بلا دليل والسائر بلا دليل لا يزيده كلّما ابتعد في مسيره عن هدفه إلّا بعداً .

وبطلان الأعمال فيها وجهان :

1 - الإبطال : بعصيان اللَّه والرسول صلى الله عليه وآله وهذا يسمّى ب ((الحبط)) والمراد من الحبط هو سقوط ثواب العمل الصالح بالمعصية المتأخّرة ، كما أنّ المراد من ((التكفير)) هو سقوط الذنوب المتقدّمة بالطاعة المتأخّرة .

وبعبارة اُخرى : إنّ الإحباط في عرف المتكلّمين عبارة عن إبطال الحسنة بعدم ترتيب ما يتوقّع منها عليها ، والتكفير هو إسقاط السيّئة بعدم جريان مقتضاها عليها ، فهو في المعصية نقيض الإحباط في الطاعة .

وهذه المسألة من المسائل الكلامية التي كثر الحديث حولها بين المتكلّمين من كافّة الفئات الإسلامية ، فالأشاعرة والإمامية ذهبوا إلى أنه لا تحابط بين الطاعات

ص: 549


1- الكافي : ج1 ص375 ح1 .

والمعاصي ، أمّا ((المعتزلة)) فقد ذهبوا إلى تحابط الأعمال ، ولكل قوم أدلّة ولكل منهم رأيه الخاص به ، ولذلك نجد أنّ الاتّجاه الواحد مختلف بمعنى الإحباط الوارد في الآيات والروايات الواردة في الكتاب الكريم - كآية البحث - أو السنّة المطهّرة .

من أسباب حبط الأعمال

وقد قيل إنّ أسباب حبط الأعمال كما في كتاب اللَّه إلى إثني عشر سبباً وهي :

1 - الإرتداد بعد الإسلام )الآية 217 من سورة البقرة).

2 - الشرك المقرون بالعمل )الآية 17 من سورة التوبة).

3 - كراهية ما أنزل اللَّه )الآية 9  8 من سورة محمّد صلى الله عليه وآله).

4 - الكفر .

5 - الصدّ عن سبيل اللَّه .

6 - مجادلة الرسول ومشاقّته )الآية 32 من سورة محمد صلى الله عليه وآله).

7 - قتل الأنبياء .

8 - قتل الآمرين بالقسط من الناس )الآية 22  21 من سورة آل عمران).

9 - إساءة الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله )الآية 2 سورة الحجرات).

10 - الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة )الآية 16  15 سورة هود).

11 - إنكار الآخرة )الآية 147 سورة الأعراف).

12 - النفاق )الآية 19  18 سورة الأحزاب).

كما أنه يحتمل أن يراد به العموم ، أي لا ترفعوا يدكم عن العمل العبادي ، كإبطالكم الصلاة مثلاً ، أو الرجوع عن الطريق وأنت ذاهب إلى الجهاد ، أو تنوي

ص: 550

الصيام فتفطر .

أو حتّى أنّك تعمل عملاً خيرياً فترفع يدك عنه وتتركه دون أن تتمّه ، فمن عمل خيراً عليه أن يتمّه حتى النهاية .

صور من التاريخ

هناك الكثير من الناس - قديماً وحديثاً - أحبطوا أعمالهم والأمثال التاريخية تشهد على ذلك .

فحسّان بن ثابت شاعر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الذي رافق النبي صلى الله عليه وآله ردحاً كبيراً من الزمن ومدح وذمّ كما يريد منه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إلّا أنه في النهاية أحبط عمله في الحياة الدنيا وكان يحذّره رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من ذلك قائلاً : ((ياحسّان لا تزال مؤيّداً بروح القدس ما نافحت عنّا بلسانك))(1).

كما أنّ الزبير بن العوّام ابن عمّة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله والذي كان أحد صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ومن الذين وقفوا مع الإمام علي(عليه السلام) في أيّام محنته الاُولى بعد )رزية يوم الخميس).

تجده قد رفض البيعة لأبي بكر وأعلن الحرب على أعداء الإمام(عليه السلام) وبقي على هذا الحال حتّى تولّى الإمام علي(عليه السلام) الخلافة فكان أوّل من بايعه راضياً طائعاً .

ولم تمض على بيعته أيّام حتى نكث وقاد معركة الجمل الشهيرة ، التي انتهت بقتله حيث احتزّ ابن جرموز الخارجي رأسه .

ص: 551


1- بحار الأنوار : ج37 ص150 .

وقد قال الإمام علي(عليه السلام) عنه : ((ما زال الزبير رجلاً منّا أهل البيت حتّى نشأ إبنه المشؤوم عبداللَّه))(1).

فقتل غيلة وهو عاص للَّه ولرسوله بعصيانه لإمامه مولاه أمير المؤمنين(عليه السلام) .

وهكذا فإنّ تقديم طاعة الرسول صلى الله عليه وآله ومعصيته هي من أشدّ موارد إحباط الأعمال في الدنيا والآخرة .

ص: 552


1- نهج البلاغة : ق453 .

69- آداب التعامل مع الرسول صلى الله عليه وآله

اشارة

(69) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(سورة الحجرات : 1)

في رحاب المفردات

يدي : اليد الجارحة ، أصله يديٌ لقولهم في جمعه أيد ويديّ ... وشبّه الدهر فجعل له يد في قولهم يد الدهر ويد المسند وكذلك الريح في قول الشاعر : بيد الشمال زمامها لما له من القوّة ، ومنه قيل أنا يدك ويقال وضع يده في كذا إذا شرع فيه(1).

عليم : أمّا قوله : «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(2)« فعليم يصحّ أن يكون إشارة إلى الإنسان الذي فوق آخر ويكون تخصيص لفظ عليم الذي هو للمبالغة تنبيهاً أنه بالاضافة إلى الأول عليم وإن لم يكن بالإضافة إلى من فوقه كذلك ، ويجوز أن يكون قوله عليم عبارة عن اللَّه تعالى وإن جاء لفظه منكراً إذا كان الموصوف في الحقيقة

ص: 553


1- مفردات الراغب : ص575 .
2- سورة يوسف (12) : الآية 76 .

بالعليم هو تبارك وتعالى(1).

شأن النزول

يقول أرباب التفاسير إنّ شأن نزول هذه الآية المباركة هو : أنّ وفداً من تميم ، وهم عطارد بن حاجب بن زرارة ، في أشراف من بني تميم ، ومنهم الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم ، وقيس بن عاصم ، في وفد عظيم . فلمّا دخلوا المسجد ، نادوا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من وراء الحجرات ، أن اخرج إلينا يامحمد . فآذى ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فخرج إليهم . فقالوا : جئناك لنفاخرك ، فائذن لشاعرنا وخطيبنا .

فقال : قد أذنت . فقام عطارد بن حاجب ، وقال : الحمد للَّه الذي جعلنا ملوكاً ، الذي له الفضل علينا ، والذي وهب علينا أموالاً عظاماً ، نفعل بها المعروف ، وجعلنا أعزّ أهل المشرق ، وأكثر عدداً وعدّة ، فمن مثلنا في الناس . فمن فاخرنا فليعد مثل ما عددنا ، ولو شئنا لأكثرنا من الكلام ، ولكنّا نستحي من الإكثار ، ثم جلس .

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لثابت بن قيس بن شمّاس : قم فأجبه .

فقام فقال : الحمد للَّه الذي في السماوات والأرض خلقه ، قضى فيهنّ أمره ، ووسع كرسيه علمه ، ولم يكن شي ء قطّ إلّا من فضله ، ثمّ كان من فضله أن جعلنا ملوكاً ، واصطفى من خير خلقه رسولاً ، أكرمهم نسباً ، وأصدقهم حديثاً ، وأفضلهم حسباً ، فأنزل اللَّه عليه كتاباً ، وائتمنه على خلقه ، فكان خيرة اللَّه على العالمين ، ثم

ص: 554


1- مفردات الراغب : ص356 .

دعا الناس إلى الإيمان باللَّه ، فآمن به المهاجرون من قومه ، وذوي رحمه ، أكرم الناس أحساباً ، وأحسنهم وجوهاً ، فكان أوّل الخلق إجابة واستجابة للَّه حين دعاه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله نحن ، فنحن أنصار رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وردؤه ، نقاتل الناس حتّى يؤمنوا ، فمن آمن باللَّه ورسوله منع ماله ودمه ، ومن نكث جاهدناه في اللَّه أبداً ، وكان قتله علينا يسيراً ، أقول هذا ، وأستغفر اللَّه للمؤمنين والمؤمنات ، والسلام عليكم .

ثم قام الزبرقان بن بدر ينشد : وأجابه حسّان بن ثابت . فلمّا فرغ حسّان من قوله ، قال الأقرع : إنّ هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا ، وشاعره أشعر من شاعرنا ، وأصواتهم أعلى من أصواتنا . فلمّا فرغوا أجازهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فأحسن جوائزهم ، وأسلموا(1).

عبر من الآية

إنّ القرآن الكريم كتاب تأديب وتعليم ، كما هو كتاب تشريع وتقنين .

وسورة الحجرات المباركة هي من السور التأديبية التعليمية للمسلمين عامّة إذ أنّها تعلّمهم كيفية التعامل مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وتذكّرهم ببعض الأحداث الناشزة من قبل بعض الصحابة ، وتنهاهم عن الإتيان بما يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وترشدهم إلى كيفية واُصول التعامل معه صلى الله عليه وآله .

وبالتالي تعطي قوانين الأدب والأخلاق للمجتمع من أجل التعامل مع القادة والمصلحين بشكل عام ، لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هو أعظم قائد أنجبته الحياة كلّها .

ص: 555


1- مجمع البيان : ج26 مج9 ص216 - 215 .

وصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وآله إنسان وبشر كما قال تعالى : «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ(1)« إلّا أنّه ليس بشراً عادياً بل يوحى إليه فيتميّز على سائر البشر بالوحي الإلهي والتسديد الربّاني والقرب والحبّ من ربّ العالمين .

فهو صفوة الصفوة في هذا الوجود ، وهو العلّة الغائية للوجود - كما يقول الفلاسفة وأرباب الكلام - وإلى هذا يشير الحديث المعروف : ((لولاك لما خلقت الأفلاك))(2).

فكل ما في الوجود من أجله صلى الله عليه وآله وجد ، وهو الواسطة بين الخالق والخلق ، والوسيلة المثلى لبني البشر من أجل السمو والارتفاع في أرقى مدارج الكمال لدى ربّ العالمين .

فلولا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لكانت البشرية كلّها تسبح في متاهات الضلال ، وتعوم في بحور من الظلمات والظلام الدامس كما وصفها تعالى فقال : «وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(3)«.

لذلك فإنه لا يمكن التعامل مع هذا العظيم كما نتعامل مع بعضنا البعض ، بل يجب أن تكون له آداباً خاصّة وأخلاقيات عالية للتعامل مع شخصه الشريف ، فلا يمكن التعامل معه كإنسان عادي أو حتّى قائد عادي ، فهو فوق ذلك بكثير .

ص: 556


1- سورة الكهف (18) : الآية 110 .
2- تأويل الآيات : ص430 .
3- سورة آل عمران (3) : الآية 164 .

ولا تتقدّموا بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله

ومن الآداب التي ذكرتها هذه الآية المباركة هي مسألة بسيطة في المظهر عظيمة في اللُبّ والجوهر ، وهي مسألة التقدّم على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .

ويدخل ضمنها التقدّم في المشي أو الدخول أو الكلام والحديث وما شابه ذلك . ولا يخفى أنّ معنى التقدّم بين اليدين يعني الأمام ، لأنّ ما بين يدي الإنسان أمامه ، ومعناه : لا تقطعوا أمراً دون اللَّه ورسوله ولا تعجلوا به .

أو لا تعجلوا وتقدّموا لأعمال الطاعة قبل الوقت الذي أمر اللَّه ورسوله به .

أو لا تمكّنوا أحداً من أن يمشي أمام رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بل يجب أن يكون الجميع تبعاً له ، كما أن يؤخّروا الأقوال والأفعال عن قوله وفعله صلى الله عليه وآله .

وفي واقع الأمر إنّ المعنى شامل وجامع لكل ذلك ، لأنّ أي عمل أو قول يجب أن يتّبع ويلحق فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام وكما جاء في الحديث : ((لا تقدّموهم ولا تخلفوا عنهم ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم))(1).

من جانب آخر الآية الكريمة تذكر التقوى لأنّها تستوعب كافّة شؤون الحياة ، فما من شي ء إلّا وللَّه فيه حكم لا يجوز تجاوزه ، والمتّقون يبحثون عن حكم اللَّه أوّلاً وقبل أن يبادروا في العمل في أي حقل من الحقول .

ولذلك يجب التفقّه في الدين ، وتعلّم أحكامه تمهيداً للعمل بها ، ففي تفسير قوله تعالى : «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ(2)«.

قال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((إنّ اللَّه - تعالى - يقول للعبد يوم القيامة : عبدي

ص: 557


1- بحار الأنوار : ج31 ص422 .
2- سورة الأنعام (6) : الآية 149 .

أكنت عالماً ؟

فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت .

وإن قال : كنت جاهلاً ، قال له : أفلا تعلّمت حتى تعمل .

فيخصم بتلك الحجّة البالغة))(1).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((لا يسع الناس حتّى يسألوا أو يتفقّهوا))(2).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((اُفٍ لكل مسلم لا يجعل في كل جمعة يوماً يتفقّه فيه أمر دينه ، ويسأل عن دينه))(3).

وقال النبي صلى الله عليه وآله : ((العلم مخزون عند أهله وقد اُمرتم بطلبه منهم))(4).

وإذا لم يجد المؤمن في الفقه حكم الحوادث المستجدّة أو المتطوّرة والطارئة عليه أن يراجع الفقهاء الذين يستنبطون ذلك الحكم من القواعد العامّة الموجودة في الشريعة .

إذ أنّه ما من حادثة إلّا وللدين فيها حكم مفصّل حتى في أرش الخدش .

وإلى ذلك تشير الآية الشريفة قائلة : «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ(5)«.

وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((أيّها الناس اتّقوا اللَّه ما من شي ء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به))(6).

ص: 558


1- بحار الأنوار : ج1 ص177 ح58 .
2- بحار الأنوار : ج1 ص176 ح42 .
3- بحار الأنوار : ج1 ص176 ح44 .
4- بحار الأنوار : ج1 ص177 ح52 .
5- سورة الأنعام (6) : الآية 37 .
6- الكافي : ج2 ص74 ح2 .

وسواء أكان الحكم الإلهي وارداً في خصوص المورد ، أم في الأصل العام الذي يشمله ، فإنّه بالتالي حدّ لا يمكننا تجاوزه ، ولا يجوز لنا أن نزعم أنّ اللَّه فوّض أمره إلينا .

وحتّى الأئمّة المعصومين عليهم السلام لابدّ لهم أن يفتوا ويحكموا وفق كتاب اللَّه وسنّة نبيّه ، وقد أكّدوا ذلك في أحاديثهم لنفي مزاعم بعض القائلين بالتفويض ، ففي الحديث أنّ رجلاً سأل الإمام الصادق(عليه السلام) فأجابه فيها .

فقال الرجل : إن كان كذا وكذا ما كان القول فيها ؟ فقال له(عليه السلام) : مهما أجبتك فيه بشي ء فهو عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لسنا نقول برأينا من شي ء))(1).

وروى سماعة عن الإمام أبي الحسن(عليه السلام) أنه قال : ((كل شي ء تقول به في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه أو تقولون برأيكم ؟

قال(عليه السلام) : ((بل كل شي ء نقوله به في كتاب اللَّه وسنّته))(2).

فلكي لا نتقدّم على الرسول صلى الله عليه وآله ولا يسوقنا الهوى والجهل ، لابدّ من التفقّه في الدين ومعرفة اُصول الحكم فيه ، والإنطلاق منها لمعرفة حكم الحياة وتفاصيل سلوكنا فيها .

وبذلك نتّقي اللَّه في أنفسنا ولا نتقدّم بشي ء على اللَّه ورسوله ووليّه أبداً .

لماذا الأمر بعدم التقديم ؟

ولسائل أن يسأل هنا فيقول : لماذا تدعو الآية الكريمة إلى عدم التقديم بين

ص: 559


1- الكافي : ج2 ص74 ح2 .
2- بصائر الدرجات : ص301 .

يدي الرسول صلى الله عليه وآله ؟

الجواب : إنّ طبيعة الإنسان عادةً ما تجعله يحكم على الاُمور وفقاً لمرتكزاته النفسية ومنظومته الفكرية والثقافية ، ولذلك ينبغي للمؤمن أن ينتظر أمر اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله في كل قضية عالقة حتى يحفظ عمله من الإحباط .

أمّا أن يتّخذ القرارات الارتجالية والمخالفة لأمر اللَّه ورسوله ، أو أن يتقدّم على قائده بالحديث أو بالكلام والمشي ، فهذا غير لائق بالقائد العادي ، فكيف بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله إذ أنه لو كان الإيمان قويّاً وراسخاً عند الإنسان لما شك وما تقدّم على رسوله أبداً .

ولذا يؤكّد قوله تعالى «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ(1)« أي أنه تنتفي صفة الإيمان عن الإنسان الذي لا يجعل كلام وأحكام ومواقف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هي الحكم العدل والقول الفصل في كل شي ء لديه في هذه الحياة الدنيا .

ولذلك تذكّر الآية المباركة في نهايتها بعنصر التقوى الضروري جدّاً ، للفوز في الدنيا والفلاح في الآخرة ، لأنّ الجنّة لا يدخلها إلّا المتّقين من عباد اللَّه المخلصين .

وتؤكّد بأنّ اللَّه ((سميع)) للأقوال ((عليم)) بالأفعال والأعمال فيجازي المحسن بإحسان والمسي ء بعذاب أليم .

ص: 560


1- سورة النساء (4) : الآية 65 .

70- آداب التحدّث مع الرسول صلى الله عليه وآله

اشارة

(70) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ »(سورة الحجرات : 2)

في رحاب المفردات

تجهروا : جهر يقال لظهور الشي ء بإفراط حاسّة البصر أو حاسّة السمع ، أمّا السمع ، فمنه قوله تعالى : «سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ(1).

تحبط : حبط الأعمال على أضرب : أحدها أن تكون الأعمال دنيوية فلا تغني في القيامة غناءاً ، والثاني أن تكون أعمالاً اُخروية لكن لم يقصد بها صاحبها وجه اللَّه تعالى ، والثالث أن تكون أعمالاً صالحة ولكن بإزائها سيّئات توفّى عليها(2).

ص: 561


1- سورة الرعد (13) : الآية 10) مفردات الراغب : ص99 .
2- مفردات الراغب : ص105 .

تشعرون : شعرت أصبت الشَعْرَ ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علماً في الدقّة كإصابة الشَّعْر ، وسُمّي الشاعر شاعراً لفطنته ودقّة معرفته(1).

شأن النزول

في تفسير علي بن إبراهيم القمّي جاء : ياأيّها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي اللَّه ورسوله واتّقوا اللَّه إنّ اللَّه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» نزلت في وفد من بنيى تميم ، كانوا إذا قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقفوا على باب حجرته فنادوا : يامحمد اخرج إلينا . وكانوا إذا خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله تقدّموه في المشي ، وكانوا إذا كلّموه رفعوا أصواتهم فوق صوته ، ويقولون : يامحمد يامحمد ما تقول في كذا كما يكلّمون بعضهم بعضاً ، فأنزل اللَّه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» الآية(2).

عبر من الآية

هذا درس أخلاقي آخر ، خاصّ بالتعامل مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وذلك عبر مسألتين أساسيتين وهما :

1 - عدم رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وآله أي : على من يريد أن يخاطب رسول

ص: 562


1- مفردات الراغب : ص268 .
2- تفسير القمّي : ج2 ص318 .

اللَّه صلى الله عليه وآله منكم - أيّها المؤمنون - أن تكون وتيرة صوته أخفض وأقل من نبرة صوت الرسول صلى الله عليه وآله أو مساوياً لها على الأقل ، وأن لا يكون أعلى مطلقاً .

وهذا راجع إلى أدب المحادثة والخطاب مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إذ أنّ رفع الصوت في المجلس يشير إلى أنّك إمّا أن لا تراعي من في المجلس أو أنّك مستهتر به .

وهذا أدب على الإنسان أن يتأدّب به مع أبويه ومعلّمه وكل أصحاب الفضل عليه سواء أكان ذلك في البيت أم خارجه ، ولذا فمن باب أولى أن يتأدّب الإنسان أمام رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بهذا الأدب البسيط .

2 - عدم الجهر بالقول :

وهذا الأمر كذلك مرتبط بأدب الحديث مع الرسول صلى الله عليه وآله ومعناه : أن غضّوا أصواتكم عند مخاطبتكم إيّاه ، وفي مجلسه ، فإنه ليس مثلكم ، إذ يجب عليكم تعظيمه وتوقيره على كل وجه .

وعليكم أن لا تقولوا : يامحمّد كما يخاطب بعضكم بعضاً ، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل وقولوا : يارسول اللَّه صلى الله عليه وآله(1).

ولا يخفى أنّ عدم مراعاة هذين الأدبين يسبّب ((إحباط العمل)) أي إبطاله ، وذهاب ما فيه من خير أو ما له من ثواب ، والإنسان غير ملتفت إلى ذلك .

والسؤال هنا هو : ما السبب في ذلك ولماذا تحبط الأعمال ؟

الجواب : لأنّ الأمر في عدم مراعاة الأدب مع الرسول صلى الله عليه وآله لا يخلو من حالتين :

1 - إمّا أن يكون ذلك نابعاً من عدم الاعتقاد بالنبي صلى الله عليه وآله ورفع الصوت ،

ص: 563


1- مجمع البيان : ج26 مج9 ص217 .

والجهر به كان بقصد الإساءة إليه - والعياذ باللَّه - وهذا كفر بحدّ ذاته .

والكفر - بلا شك - محبط للأعمال مهما كانت خيّرة .

2 - أن يكون نابعاً من المسامحة ، والمساهلة ، فلا مانع كذلك أن تسبّب بعض الأعمال كهذه إحباط العمل - كما ثبت في علم الكلام - .

وهذا الأمر ربما نجد له نظيراً في الاُمور التكوينية ((أو الكونية العادية )) ففي الطب مثلاً ثبت في الدراسات الطبية الحديثة أنّ بعض الأطعمة تزيل وتبطل أثر الدواء ، ولذلك ترى الطبيب أوّل ما يصف لك الحمية الطعامية ، ومن بعدها يصف لك العلاج الدوائي .

وكما جاء في الحديث الشريف ((الحمية رأس الدواء))(1).

فإذا لم يحتم المريض فإنّ ذلك يبطل مفعول الدواء تماماً ، والالتزام بها يعدّ نصف الشفاء ويساعد في تسريع عملية العلاج كما هو معروف حالياً .

فلا مانع - إذن - من أن يكون ذلك في )إطار التشريع أيضاً( كإطار )التكوين( فيثبت أنّ بعض الأعمال البسيطة إذ لم نلتزم بها فإنّ العمل لا شك يحبط .

والمشكلة أو النكتة اللطيفة التي تشير إليها الآية المباركة ماثلة في قوله تعالى : «وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(2)« أي دون أن تحسّوا بذلك .

وأنتم لا تعلمون أنّكم اُحبطت أعمالكم بجهر الصوت أو رفعه فوق صوته صلى الله عليه وآله وترك تعظيم الرسول صلى الله عليه وآله وعدم مراعاة الأدب في مخاطبته والتحدّث معه وإليه .

ولذلك : لمّا نزلت هذه الآية قال ثابت بن مرّة : أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق

ص: 564


1- مستدرك الوسائل : ج16 ص452 ح20523 .
2- سورة الزمر (39) : الآية 55 .

صوت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأجهر له بالقول ، حبط عملي أنا من أهل النار .

وكان ثابت رفيع الصوت ، فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال : هو من أهل الجنّة(1).

وقال بعض العلماء في معنى ((أن تحبط أعمالكم)) أنه ينحبط ثواب ذلك العمل .

لأنّهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وتوقيره لأستحقّوا الثواب ، فلمّا فعلوا على خلاف ذلك الوجه استحقّوا العقاب ، وفاتهم ذلك الثواب ، فإنحبط عملهم(2).

من آثار الاستخفاف بالرسول صلى الله عليه وآله

وقد يتبادر إلى الذهن سؤال يقول : لماذا يسبّب الاستخفاف بالقيادة الشرعية حبطاً للعمل لا سيّما قيادة الرسول صلى الله عليه وآله أو الإمام(عليه السلام) ؟

الجواب : لعلّ ذلك يتلخّص في أمرين :

1 - أنّ أغلب الفرائض تروّض النفس وتطهّرها من الكبر ، فإذا طغت النفس وتكبّرت على القيادة الشرعية ، فإنّها تتكبّر عن بقية الفرائض كذلك ، وعند ذلك يكون الهدف من الفرائض لم يتحقّق ، فتحبط الصلاة لأنّها تكرّس الذاتية بدل الخشوع والخضوع للَّه .

والزكاة تزيد الهوّة والطبقية بدل إلغاءهما .

والحجّ الذي يورث صاحبه التعالي والتفاخر ، عوضاً عن الوقار والتواضع .

ص: 565


1- مجمع البيان : ج26 مج9 ص217 .
2- مجمع البيان : ج26 مج9 ص218 .

والصيام الذي يورث التقوى في القلب ، ينقلب إلى عادة يقوم بها الإنسان ، فلولا خشية الناس لم يصم أبداً .

إذن ، فجميع العبادات معرّضة إلى الإحباط في حال استكبار النفس وتعاليها عن القيادة الشرعية المتمثّلة بالرسول صلى الله عليه وآله أو الإمام(عليه السلام) أو من ينوب عنه من العلماء الأعلام .

2 - وهو ناتج من الأول لأنّ الولاية هي عماد من أعمدة الدين الإسلامي ، فإذا سقط هذا العماد فإنّ بناء الدين لا شك يتضعضع ، وباعتبار الدين هو نظام اجتماعي متكامل يتمحور ويدور حول القيادة الشرعية ، فإنّ فقد المحور معناه إنه يدور على غير هدى ولا كتاب منير ، أي أنّ الاُمّة سوف تتشتّت وتضلّ طريقها المرسوم لها من اللَّه .

وفي ذلك هو الإحباط ، وأوّل إحباط يصيب العمل لأنه يكون بلا دليل ولا مرشد وهاوي فيكون هباءاً منثوراً .

وفي الحقيقة إنّ أعظم الأمراض خطراً هو المرض الذي لا يحسّ به المبتلى ، لأنّه لا يبادر لمعالجته حتّى يستفحل فيصعب معالجته ، وكذا هو الحال بالنسبة إلى الذنوب ، فأخطرها هو الذنب الذي لا يشعر به المتورّط فيه ، لأنّه يسير به في طريق جهنّم ، وهو يزعم أنه من أهل الجنّة .

ومخالفة الرسول صلى الله عليه وآله والقيادة الشرعية من هذه الذنوب ، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في كتابه الحكيم فقال : «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(1)«.

ص: 566


1- سورة الكهف (18) : الآية 104 .

فلماذا لا يشعر الإنسان بخطورة ذنب مخالفة القيادة الشرعية أو الاستخفاف بها حتّى ؟

إنّ ذلك نابع من النفس التي تسوّل لصاحبها وتصوّر له بعض الذنوب بصورة تجعلها حسنات ، فهي كمرض النوم الذي يجعل ضحيته تخلد إلى النوم حتّى الموت ، وكلّما اقترب الشخص إلى نهايته كلّما أوغل في اللّاوعي أكثر .

الاُمّة تخالف القيادات الإسلامية

ولعلّ أبسط دليل على تزيين الشيطان اللعين للناس مخالفة القيادة الشرعية : هو ما قرأناه في التاريخ عن أحوال الصحابة وكثرة مخالفتهم للرسول القائد صلى الله عليه وآله بل اعتراضاتهم المتكرّرة على أقواله وأفعاله - كما حدّثتنا الآية ذاتها - .

ومن بعده المخالفات المتكرّرة للقادة الحقيقيين للاُمّة الإسلامية ابتداءً من الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وحتّى آخر الأئمّة الكرام عليهم السلام فلا تكاد تقرأ عن حياة إمام من الأئمّة حتى تتعجّب من قلّة أصحابه المخلصين ، وتتعجّب من كثرة المخالفين والشانئين .

وعند مراجعتنا لأنفسنا في الوقت الحاضر نعرف حال الماضي - فالشي ء بالشي ء يذكر - والناس هم نفس الناس والزمان هو نفس الزمان ، وما أشبه اليوم بالبارحة .

فهم اليوم يتولّون عن القيادة الشرعية دون أدنى إحساس بالذنب ، بل ترى الكثير منهم يزعم أن لا علاقة له بالمراجع ، ولا علاقة للدين بشؤون الحياة الفعلية ، لأنّ وظيفة الدين لا تخرج عن إطار العبادات من صوم وصلوات وما شابه أمّا الطب

ص: 567

والهندسة والقضاء وغير ذلك من علوم الحياة فلا ربط للدين بها أصلاً .

فالدين صار غريباً وغير لائق لهذا العصر ، لذلك تجد هكذا أشخاص عادةً ما يستهزؤون بالدين .

وهنا نعود ونقول : أليس هذا محبطاً للعمل ؟

بلى واللَّه ، بل هو محبط للعمل والعزيمة والإيمان والعقيدة معاً ، اجرنا يامجير بمحمد وآله عليهم أفضل الصلاة والسلام .

ص: 568

71- كيف نتعامل مع الأخبار ؟

اشارة

(71) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ »(سورة الحجرات : 6)

في رحاب المفردات

فاسق : يقال فسق فلان أي خرج عن حَجْر الشرع وذلك من قولهم فسق الرطب إذا خرج عن قشره وهو أعمّ من الكفر . والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير لكن تعورف فيما كان كثيراً(1).

نبأ : النبأ هو خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنّ ، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتّى يتضمّن هذه الأشياء الثلاثة - الخبر والفائدة والعظمة(2).

نادمين : الندم والندامة هو التحسّر من تغيّر رأي في أمر فائت ، قال اللَّه تعالى : «فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ(3).

ص: 569


1- مفردات الراغب : ص394 .
2- مفردات الراغب : ص500 .
3- سورة المائدة (5) : الآية 31) مفردات الراغب : ص506 .

شأن النزول

ذكرت كتب التفسير قصّة طريفة في أسباب نزول هذه الآية وهي : أنّها نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط عندما بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في صدقات بني المصطلق ، فخرجوا يتلقّونه فرحاً به ، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية ، فظنّ أنّهم همّوا بقتله ، فرجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقال : إنّهم منعوا صدقاتهم ، وكان الأمر بخلافه ، فغضب النبي صلى الله عليه وآله وهمّ أن يغزوهم ، فنزلت الآية .

وقيل : إنّها نزلت فيمن قال للنبي صلى الله عليه وآله : إنّ مارية اُمّ إبراهيم يأتيها ابن عمّ لها قبطي فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله علياً(عليه السلام) وقال : ياأخي ! خذ هذا السيف فإن وجدته عندها فاقتله .

فقال : يارسول اللَّه ! أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكّة المحماة أمضي لما أمرتني ، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ فقال صلى الله عليه وآله : بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب . قال علي(عليه السلام) : فأقبلت متوشّماً بالسيف ، فوجدته عندها ، فاخترطت السيف ، فلمّا عرف أنّي اُريده أتى نخلة فرقى إليها ، ثمّ رمى بنفسه على قفاه ، وشغر برجليه ، فإذا أنه أجب أمسح ، ما له ممّا للرجال قليل ، ولا كثير ، فرجعت فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله .

فقال : الحمد للَّه الذي يصرف عنّا السوء أهل البيت(1).

ص: 570


1- مجمع البيان : ج26 مج9 ص220 .

عبر من الآية

من خلال هذه الآية المباركة تتجلّى منهجية الإسلام العزيز في التعامل مع الأخبار والأنباء التي يبلّغها الآخرون ، ففي القديم الغابر كانت وسائل نقل الأخبار هي الكتابة أو السمع والمشافهة ، أو الرؤية المباشرة ، وجميعها كان يشوبها الكذب ، وذلك بميل الإنسان إلى تضخيم الاُمور أكثر ممّا هي عليه في الحقيقة والواقع .

بل في بعض الأحيان تتدخّل مسألة المصالح الشخصية والعداواة القبلية والأطماع وما شابه في مسألة نقل الأخبار وتحويرها على الواقع الذي كانت عليه .

والسؤال الذي يطرح هنا هو : من الفاسق ؟ قيل في الجواب عليه : إنه الخارج عن طاعة اللَّه إلى معصيته .

أو إنّه التارك لواجب عبادي ، أو الفاعل لأمر محرّم شرعاً ، كما هو معروف في كتب اللغة والتفسير والفقه .

فعلى الإنسان أن لا يأخذ الأخبار ويصدّقها من أي مصدر صدرت ، أو من أي وكالة أنتجت بل عليه التبيّن ، والبحث عن مدى صدق وواقعية هذا الخبر ومطابقته للحقيقة ومدى نسبة الصدق به لأنه قد تكون الأخبار بجملتها لا صحّة لها ، بل هي مجرد إشاعة أو دعاية أو فخّ إعلامي - كما يقال - يبثّ بين صفوف شعب ما ليرى المسؤول عنه مدى استجابة ذاك الشعب أو تفاعله مع مثل تلك الأخبار الكاذبة ، وربما كان من ورائه هدف خبيث يعمل للوصول إليه ، وهذا كثير جدّاً وواضح جدّاً في أيّامنا هذه .

تزييف الأخبار في التاريخ

أمّا التاريخ القديم - لا سيّما في صدر الرسالة الأوّل - فإنه شهد أفراد كثر عرفوا

ص: 571

بالكذب والدجل والتدليس ، بحيث أصبح تخصّص الوحيد في تحريف الأحاديث والأخبار الكاذبة .

والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله حذّر كثيراً منهم في أكثر من حديث وفي أكثر من مناسبة حيث قال صلى الله عليه وآله : ((ستكثر من بعدي الكذّابة ، ومن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار)) .

وقال صلى الله عليه وآله : ((وستكثر من بعدي القالة ، فما أتاكم عنّي فأعرضوه على كتاب اللَّه فإن وافق فهو عنّي وإن عارض فاضربوا به عرض الحائط)) .

وبالفعل ، فهذا أبو هريرة الدوسي راح يصنع لكل ما أراد معاوية أو بني اُمّية حديثاً على المقاس أو حسب الطلب تماماً(1).

فقد روى أبو هريرة أنّ آية تحريم الخمر نزلت في الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأنه(عليه السلام) قال : شربنا وسكرنا - نستجير باللَّه .

وبنفس الوقت أنّ الآية التي قالت : «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ(2)« أنّها نزلت في عبدالرحمن بن ملجم المرادي - شقيق عاقر ناقة صالح(عليه السلام) الذي اغتال الإمام علي(عليه السلام) وهو في المحراب يصلّي أي أنه اشترى نفسه بقتل الإمام علي وأنّ ثوابه الجنّة(3).

وللأسف الشديد إنّ كتب الصحاح - لا سيّما الشيخين - لم يتّفقا في فضائل فاطمة الزهراء عليها السلام سيّدة النساء ، إلّا على حديث واحد وهو أنّ الإمام علي (عليه السلام)أراد الزواج من إبنة أبو جهل كضرّة لفاطمة عليها السلام وأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله غضب وخطب

ص: 572


1- راجع كتاب أبو هريرة : لشرف الدين وأبو رية .
2- سورة البقرة (2) : الآية 207 .
3- راجع شرح نهج البلاغة : ج4 ص73 ط دار إحياء الكتب العربية .

قائلاً :

لا تجتمع بنت عدوّ اللَّه مع بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في بيت واحد أبداً ، فإن أراد أن يفعل فعليه أن يطلّق إبنتي(1).

فما أعظمها من فرية على اللَّه ورسوله ؟!

كما أنّهم جاءوا بمثل عبداللَّه بن مروان وكعب الأحبار وقرّبوهم فأخذوا يدسّون إسرائيلياتهم بين الأحاديث على أنّها من أقوال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقد اُلّفت كتب كثيرة حول هذا الموضوع .

فالكذب والدجل وإفتاء الأحاديث على لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أكثر من أن يذكر في مثل هذه الصفحات وما على المتتبّع إلّا العودة إلى الكتب المختصّة في هذا المجال .

وقد ورد أنّ أحدهم دخل عند أحد الخلفاء وكان يلعب بالطيور حيث كان محبّاً لها ، فقام ذاك الوضّاع وروى حديثاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقال : عن النبي صلى الله عليه وآله قال : لا سبق إلّا في خفّ أو حافر ، أو جناح .

أي أنّه أضاف )الجناح( من عنده ، فصار الحديث موضوعاً ولا شأن لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله إلّا ببعضه فقط .

ص: 573


1- راجع كل من : صحيح البخاري - بشرح ابن حجر : ج6 ص162 - 161 ، ج9 ص270 - 268 ، ج8 ص152 ، صحيح مسلم بشرح النووي ، هامش إرشاد الساري : ج9 ص335 - 333 ، صحيح الترمذي : ج5 ص699 - 698 ، سنن ابن ماجه : ج1 ص644 ، الصحيح من سيرة المصطفى : ج1 ص324 - 323 ، المستدرك على الصحيحين : ج3 ص158 ، مسند أحمد : ج4 ص328 - 326 ، فضائل الصحابة : ج2 ص754 ، مجمع الزوائد : ج9 ص203 ، المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية : ج4 ص67 ، كنز العمّال : ج13 ص677 وغير ذلك ومع الأسف الشديد أنّ مصنّفات العامّة تروي هذا الحديث الذي يقدح في أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء عليهما السلام بل في قداسة نفس رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .

واللطيف أنه عندما خرج من عند الخليفة قال : إشهدوا إنّ قفاه قفا كذّاب ، كذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله(1).

من هنا فإنّ الشارع المقدّس يأمرنا بالحذر الشديد ، فعلينا ملاحظة )مصدر( الخبر فإن لم تتوفّر فيه شروط العدالة الشرعية كالوثاقة وما شابه ، فيجب علينا أن لا نرتّب الأثر على الخبر والتثبّت من صدقه وكذبه أوّلاً وقبل كل شي ء .

وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : للإمام الحسن(عليه السلام) : ((وإيّاك ومصادقة الكذّاب فإنه كالسراب : يقرّب عليك البعيد ، ويبعّد عليك القريب))(2).

فالذي يعتمد على مثل هؤلاء المنافقين في الأخبار فإنه بلا شك سيقع في الظلم الشديد حيث إنه يظلم نفسه أوّلاً وبالذات ، ويظلم اُناساً آخرين ثانياً وبالتبع ، وكل ذلك بجهل وجهالة ، فيندم في الأخير على ترتيبه للأثر على أخبار هؤلاء ولكن ولات حين مندم فأين نحن ياأخوة وكيف يجب أن نتعامل مع الأخبار ؟ تجيبنا الآية المباركة ب ((تبيّنوا)) .

ص: 574


1- راجع مستدرك الوسائل : ج14 ص83 ح16155 .
2- نهج البلاغة : ق38 .

72- من أجل مجتمع إسلامي فاضل

اشارة

(72) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ »(سورة الحجرات : 11)

في رحاب المفردات

يسخر : يقال سخرت منه واستسخرته للهزء منه ، قال تعالى : «إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ(1).

تلمزوا : اللمز هو الاغتياب وتتبّع المعاب ، يقال لَمَزَهَ يَلْمَزهُ وَيلْمُزُهُ ، قال تعالى : «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ(2).

ص: 575


1- سورة هود (11) : الآية 38) مفردات الراغب : ص232 .
2- سورة التوبة (9) : الآية 58) مفردات الراغب : ص474 .

تنابزوا : النبز التلقيب(1).

شأن النزول

روى بعض المفسّرين أنّ شأن نزول هذه الآية المباركة هو : أنّ الرجل كان يعيّر بأصله بعد إسلامه ، فيقال له : يايهودي ، يانصراني .

وقال البعض : إنّ الرجل كان له الإسمان والثلاثة فيدعى ببعضها فيكره ذلك(2).

وقال علي بن إبراهيم القمّي : نزلت - الآية - في صفية بنت حيى بن أخطب وكانت زوجة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وذلك أنّ عائشة وحفصة كانتا تؤذيانها وتشتمانها وتقولان لها : يابنت اليهودية ، فشكت ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فقال لها : ألا تجيبنهما ، فقالت : بماذا يارسول اللَّه ؟ قال : قولي أبي هارون نبي وعمّي موسى كليم اللَّه وزوجي محمّد رسول اللَّه ، فما تنكران منّي ؟ فقالت لهما ، فقالتا : هذا علّمك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فأنزل اللَّه في ذلك : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ(3).

ص: 576


1- مفردات الراغب : ص502 .
2- تفسير القرطبي : ج16 ص328 .
3- سورة الحجرات (49) : الآية 11) تفسير القمّي : ج2 ص318 .

عبر من الآية

كما أنّ بعض آيات القرآن الكريم تؤكّد على بناء الذات والسعي الحثيث من أجل تهذيبها وتزكيتها من الصفات السيّئة كذلك توجد في القرآن الكريم آيات اُخر تدعوا إلى بناء المجتمع الإسلامي الفاضل والعمل على صيانته من شتّى الآفات والخصال السلبية . وهذه الآية الكريمة من سورة الحجرات تتناول موضوع بناء المجتمع الإسلامي بناءً أخلاقياً رصيناً ، ولكن بشرط أن يلتزم بالتعليمات والتوجيهات الربّانية التي نصّت عليها الآية المباركة .

فقد تبدو بعض هذه الاُمور التي نهت عنها الآية عادية بالنسبة للكثير منّا ، بل ومعظمها مألوفة لدينا كثيراً ، إذ أنه لا يوجد مجتمع إلّا وفيه مثل هذه القضايا من ((غمز ولمز وتنابز بالألقاب)) ، إلّا أنّه وبالتدقيق فيها نجد أنّها ربما كانت ((شرارات)) توقد عداوات اجتماعية ، وتسبّب مشاحنات ومطاحنات قد تدوم على مرّ الأجيال .

وتاريخنا القديم يشهد على مثل ذلك كثيراً ، وما حرب )البسوس( وحرب )داحس والغبراء( وغيرها من الحروب التي دامت بعضها حوالي نصف قرن تقريباً ، وكانت بدايتها كلمة أو موقف بسيط أو ربما نظرة إلى امرأة أو بيت شعر من شاعر ، أو غير ذلك من الأسباب التافهة إلّا كشاهد بسيط على ذلك .

عوامل انحراف المجتمعات

وأمّا النقاط الأساسية التي تحذّر منها الآية من أجل حفظ المجتمع الإسلامي من الضياع فهي :

1 - السخرية : وهي من الأمراض الاجتماعية الشائعة في المجتمع كلّه ، حيث إنّ كثيراً من الناس يعانون من عاهات خلقية )كالأعرج ، والأبرص ، والأصلع( ، أو

ص: 577

يعانون من سوء سمعة الآباء أو الاُمّهات )كأب مجرم أو اُمّ ناشزة ، أو اُخت خارجة( ، أو يكون عملهم عملاً وضيعاً في المجتمع )كعامل النظافة ، أو عمّال الكنائف).

وازاء مثل هؤلاء الناس ينبغي أن يلتزم المجتمع بالأدب في التعامل معهم ففي تفسير قوله تعالى : «لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ» قال الطبرسي رحمه الله : نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس ، وكان في اُذنه وقر ، وكان إذا دخل المسجد تفسّحوا له حتّى يقعد عند النبي ، فيسمع ما يقول . فدخل يوماً والناس قد فرغوا من الصلاة ، وأخذوا مكانهم ، فجعل يتخطّى رقاب الناس ، ويقول : تفسّحوا تفسّحوا حتّى انتهى إلى رجل ، فقال له : أصبت مجلساً فاجلس . فجلس . فجلس خلفه مغضباً . فلمّا انجلت الظلمة قال : مَن هذا ؟ قال الرجل : أنا فلان . فقال ثابت : ابن فلانة ، ذكر اُمّاً له كان يعيّر بها في الجاهلية . فنكّس الرجل رأسه حياءً ، فنزلت الآية(1).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((لا تستخفّ بأخيك المؤمن ، فيرحمه اللَّه عزّوجلّ عند استخفافك ، ويغيّر ما بك))(2).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((لا تستخفّوا بفقراء شيعة علي(عليه السلام) ، فإنّ الرجل منهم يشفع في مثل ربيعة ومضر))(3).

فالسخرية إذن هي مثار للفتن في المجتمع ، وربما تكون السبب بالإحساس ب ((عقدة النقص)) في هؤلاء الأفراد ، وقد يتحوّلون إلى أفراد معقّدين ، يدمّرون المجتمع انتقاماً لعقدهم الدفينة تلك .

فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : لعبداللَّه بن جندب : ((ولا تسخر بمن هو دونك ولا

ص: 578


1- مجمع البيان : ج26 مج9 ص224 .
2- مستدرك الوسائل : ج9 ص106 - 105 ح10361 .
3- مستدرك الوسائل : ج9 ص106 ح10362 .

تنازع الأمر أهله))(1).

من هنا فإنّ الشارع المقدّس شدّد في عقوبته ، ففي خبر المعراج أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((ثم مضيت فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل تقرض اللحم من جنوبهم وتلقى في أفواههم ، فقلت : مَن هؤلاء ياجبرئيل ؟ فقال : هؤلاء الهمّازون اللمّازون))(2).

2 - ولا تلمزوا أنفسكم .

اللمز : هو الاغتياب وتتبّع المعاب ، يقال لمزه يَلْمِزَهُ ويَلْمُزُهُ ، قال تعالى : «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ(3).

و ((أنفسكم)) الواردة في الآية المباركة ذات دلالة رائعة ، إلى أنّ المؤمنين إخوة ، فكيف يعيب الأخ أخاه بالإشارة أو الغمز أو اللسان وما شابه ذلك ؟ ألا يعلم أنّه بمثل هذا العمل يسخر ويلمز نفسه دون أن يدري ؟

إنّ اللمز - كما السخرية - هو خطوة في طريق إفساد العلاقات الاجتماعية ، وجرثومة الصراعات الخطيرة ، فلابدّ لنا من الوقوف دونها بحزم وشدّة حتى لا تتطوّر .

3 - التنابز بالألقاب .

التنابز : هو أن يجعل كل واحد من الناس لقباً سيّئاً للآخر ، أي أن يلقّب بعضنا بعضاً بالألقاب البغيضة ، وهذا مذموم في الشريعة الإسلامية وقد أكّد الأئمّة الأطهار عليهم السلام على أن ينادي الأخ أخاه المؤمن بأحب الأسماء إليه .

ص: 579


1- مستدرك الوسائل : ج9 ص79 ح10263 .
2- بحار الأنوار : ج18 ص323 .
3- سورة التوبة (9) : الآية 58) مفردات الراغب : ص474 .

فعن معمّر بن خيثم قال : قال لي أبو جعفر(عليه السلام) : ((ما تكنّى ؟ قال : ما اكتنيت بعد وما لي من ولد ولا امرأة ولا جارية ، قال : ((فما يمنعك من ذلك ؟)) قال : قلت : حديث بلغنا عن علي(عليه السلام) قال : ((من اكتنى وليس له أهل فهو أبو جعر ، فقال أبو جعفر(عليه السلام) : ((شوهٌ ليس هذا من حديث علي(عليه السلام) ، إنّا لنكنّي أولادنا في صغرهم مخافة النبز أن يلحق بهم))(1).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((من السنّة والبرّ أن يكنّى الرجل باسم إبنه))(2).

ولا يخفى أنّ الألقاب تختلف باختلاف المجتمعات عموماً ، فإنّ كل لقب لا يرضى به صاحبه يجب أن نمتنع عن النداء به .

التأكيد على عدم التنابز

والسؤال الذي يطرح هو : لماذا تؤكّد الآية على عدم التنابز بالألقاب ؟

الجواب : لأنه كما قال تعالى : «بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ(3)« أي بئس الشي ء للرجل أن تسمّيه باسم الفسوق أو الكفر بعد الإيمان كأن تناديه ((يانصراني ، يايهودي ، يامجوسي)) إلى غير ذلك .

أي أنه : بئس الاسم الدالّ على الفسق أو الفسوق تنادي به أخوك المؤمن ، وأنت تعلم أنه مؤمن باللَّه ورسوله تمام الإيمان ، وذلك لأنه ((من حقّ المؤمن على المؤمن أن يسمّيه بأحب أسمائه إليه))(4).

من جانب آخر إنّ من يعيّر الآخرين وينابزهم بالألقاب عليه أن يتوب إلى

ص: 580


1- وسائل الشيعة : ج21 ص397 ح27397 .
2- وسائل الشيعة : ج21 ص ح27398 .
3- سورة الحجرات (49) : الآية 11 .
4- تفسير القرطبي : ج16 ص330 .

اللَّه تعالى ويلزم التقوى التي قال تعالى عنها : «وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(1)« إذ أنّ من يقترف مثل هذه الأعمال إنّما يظلم ثلاثة أطراف وهي :

1 - نفسه : وهو أشدّ أنواع الظلم لأنه سيؤدّي بها إلى النار وغضب الجبّار .

2 - الآخرين : وذلك بالسخرية أو الهمز أو اللمز فنظلمهم حيث نعيبهم في المجتمع .

3 - المجتمع : لأنه سوف تشيع فيه أنواع الحزازات والمشاجرات فتضعف فيه الروابط الإنسانية والأخلاقية بين أفراده ، ممّا يؤذن له بالفناء والإبادة والإنهيار عن بكرة أبيه .

وذلك لأنّ بداية فساد العلاقة بين الإنسان ونظيره ، تضاؤل قيمة الإنسان كإنسان في عينه ((أي غياب : نظير لك في الخلق)) وآنئذ لا يحترم الناس بعضهم ، ويبحث كل عن منقصة في صاحبه ليسخر منه بها ، ويدّعي لنفسه مكرمة يفتخر بها .

بينما لو أنصفنا أنفسنا لعرفنا أنّ سرّ احترامنا لأنفسنا هو أنّنا بشر ، نملك العقل والإرادة ، ونتحسّس بالألم واللذّة ، ونتحلّى بالحبّ والعواطف الخيّرة .

فلماذا اُطالب الناس باحترامي وتقديري ، ولا يجد أحد منهم حرمة عندي ؟!

فإنّهم كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر لمّا ولّاه على مصر : ((صنفان : إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق))(2).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((من أذاع فاحشة كان كمبتديها ، ومن عيّر مؤمناً بشي ء لا يموت حتى يركبه))(3).

ص: 581


1- سورة الحجرات (49) : الآية 11 .
2- نهج البلاغة : كتاب 53 لمّا ولّي مالك الأشتر ملك مصر .
3- الكافي : ج2 ص356 ح2 .

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) : ((إنّ أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يواخي الرجل على الدين ، فيحصي عليه عثراته وزلّاته ليعنّفه بها يوماً ما))(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) : ((إنّ للَّه تبارك وتعالى على عبده المؤمن أربعين جنّة ، فمن أذنب ذنباً كبيراً رفع عنه جنّة ، فإذا عاب أخاه المؤمن بشي ء يعلمه منه انكشفت تلك الجنن عنه ، فيبقى مهتوك الستر فيفتضح في السماء على ألسنة الملائكة ، وفي الأرض على ألسنة الناس .

ولا يرتكب ذنباً إلّا ذكروه ، ويقول الملائكة الموكّلون به : ياربّنا ، قد بقي عبدك مهتك الستر ، وقد أمرتنا بحفظه ، فيقول عزّوجلّ : ملائكتي ، لو أردت بهذا العبد خيراً ما فضحته ، فارفعوا أجنحتكم عنه فوعزّتي لا يؤول بعدها إلى خير أبداً))(2).

اللَّه أكبر ، ما أعظم حرمة المؤمن عند اللَّه ، وبالفعل فهي أعظم من حرمة الكعبة .

ص: 582


1- مشكاة الأنوار : ص105 .
2- مستدرك الوسائل : ج11 ص329 - 328 ح13172 .

73- لكي لا ينحرف المجتمع

اشارة

(73) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ »(سورة الحجرات : 12)

في رحاب المفردات

إثم : الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب ، وجمعه آثام ، وقوله تعالى : «فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ(1)« أي في تناولها إبطاء عن الخيرات(2).

تجسّسوا : جسَّ الخبر وتجسّسه : بحث عنه وفحص . قال اللحياني : تجسّست فلاناً ومن فلان بحثت عنه كتحسّست(3).

يغتب : الغيبة هي أن يذكر الإنسان غيره بما فيه من عيب من غير أن اُحوج

ص: 583


1- سورة البقرة (2) : الآية 219 .
2- مفردات الراغب : ص5 .
3- لسان العرب : مادّة جسّ .

إلى ذكره(1).

شأن النزول

روي أنّ الخليفة الأول والثاني بعثا سلمان إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ليأتي لهما بطعام ، فبعثه إلى اُسامة بن زيد وكان خازن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله على رحله ، فقال : ما عندي شي ء .

فعاد إليهما ، فقالا : بخل اُسامة ، ولو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثمّ انطلقا إلى رسول اللَّه ، فقال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ؟ قالا : يارسول اللَّه صلى الله عليه وآله ما تناولنا اليوم لحماً . قال : ظللتم تأكلون سلمان واُسامة . فنزلت(2).

عبر من الآية

من ضمن الآيات القرآنية التربوية المؤكّدة على تهذيب المجتمع الإسلامي الفاضل هي هذه الآية المباركة ، فقد تتابعت الأوامر والنواهي الربّانية للاُمّة حتّى تثبت لهم أنّهم ((إخوة)) كما نصّت الآية المباركة حيث قال تعالى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(3)« فالعمل الجيّد يجب أن ينطلق بشكل متكامل في الظاهر والباطن .

ص: 584


1- مفردات الراغب : ص381 .
2- كنز الدقائق : ج12 ص347 .
3- سورة الحجرات (49) : الآية 10 .

فكما أنّ الباطن أساس ، كذلك الظاهر أساس ، وإن كان المعوّل عليه هو الباطن إلّا أنه لا غنى في نفس الوقت عن الظاهر .

وهذه الآيات تلتفت إلى الظاهر والباطن بالنسبة للفرد والمجتمع معاً بحيث إنّنا إذا أردنا بناء مجتمع إسلامي فاضل فلابدّ لنا من ملاحظة هذه الأوامر الربّانية ومنها :

1 - اجتناب الظن حيث قال تعالى : «اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ(1)«.

وفي الواقع : إنّ معظم الظنون تكون على خلاف الواقع والحقيقة بل هي من الخيال والشعور الباطني للإنسان وخاصّة في أوقات المحن والبلاء فيجب أن نتجنّب الكثير منها لأنّها من وسوسة الشيطان اللعين وتسويلاته .

وقد نهى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله والأئمّة الأطهار عليهم السلام عن ظنّ السوء في أحاديثهم فعن عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((إيّاكم والظن فإنّ الظن أكذب الكذب))(2).

وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((اطلب لأخيك عذراً فإن لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً))(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((اطرحوا سوء الظن بينكم فإنّ اللَّه عزّوجلّ نهى عن ذلك))(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال : ((ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك منه ما يغلبك ، ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءً وأنت تجد لها في الخير محملاً))(5).

ص: 585


1- سورة الحجرات (49) : الآية 12 .
2- بحار الأنوار : ج72 ص195 .
3- بحار الأنوار : ج72 ص195 ح4 .
4- بحار الأنوار : ج72 ص195 ح4 .
5- بحار الأنوار : ج72 ص196 ح11 .

2 - تتبّع عثرات الناس ، والبحث عمّا يكتمون في منازلهم ، الذي نهى عنه الشارع المقدّس بشدّة وحذّر من تبعاته الخطيرة على المجتمع الإسلامي .

فقد نُقل أنّ الخليفة الثاني هو أوّل من عمل بالتجسّس على الناس في الليل والقصّة التالية هي خير شاهد على ذلك :

فعن أبي قلّابة قال : إنّ ... حُدّث أنّ أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته ، هو وأصحابه . فانطلق ... حتى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلّا رجل ، فقال أبو محجن : ياأمير المؤمنين ! إنّ هذا لا يحلّ لك وقد نهاك اللَّه عن التجسّس .

فقال الخليفة : ما يقول هذا ؟ قال زيد بن ثابت ، وعبداللَّه بن الأرقم : صدق ياأمير المؤمنين . قال : فخرج الخليفة ، وتركه . وخرج الخليفة الثاني أيضاً ، ومعه عبدالرحمن بن عوف ، يعسّان . فتبيّنت لهما نار ، فأتيا واستأذنا . ففتح الباب فدخلا ، فإذا رجل وامرأة تغنّي ، وعلى يد الرجل قدح . فقال الخليفة : من هذه منك ؟ قال : امرأتي . قال : وما في هذا القدح ؟ قال : ماء . فقال للمرأة : ما الذي تغنّين ؟ قالت : أقول :

تطاول هذا الليل ، وأسودّ جانبه

وأرقني ألّا حبيب اُلاعبه

فواللَّه لولا خشية اللَّه ، والتقى

لزعزع من هذا السرير جوانبه

ولكن عقلي ، والحياء ، يكفني

وأكرم بعلي أن تناول مراكبه

ثم قال الرجل : ما بهذا اُمرنا ياأمير المؤمنين . قال اللَّه تعالى : «وَلَا تَجَسَّسُوا(1)«.

فقال الخليفة : صدقت وانصرف(2).

ص: 586


1- سورة الحجرات (49) : الآية 12 .
2- مجمع البيان : ج26 مج9 ص225 .

وما أكثر ما روي عن الخليفة الثاني التجسّس على رعيته في الليالي المظلمة(1).

3 - الغيبة المحرّمة :

والغيبة : هي ذكر العيب في ظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة منه ، أو هي تناول الأخ المؤمن بشي ء ما أو بخصلة أو خلق فيه وهو غير موجود في المجلس الذي يذكر فيه .

ولا يخفى على أحد أنّ الغيبة عمل بشع جدّاً في المجتمع وهي متفشّية جدّاً في مجتمعاتنا الحاضرة للأسف الشديد بحيث إنه قلّما يوجد مجتمع يخلو منها .

لذلك شبّهت الآية الكريمة الغيبة بأكل اللحم الميّت حيث قال تعالى : «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً(2)« فكم هي عظيمة هذه الآية المباركة حيث عبّرت عن الغيبة ب ((أكل لحم الإنسان)) وهو من المحرّمات ، ناهيك إذا كان ميّتاً ((فالحرمة)) تكون أشدّ ، وخاصة إذا كان هذا التجاسر بحقّ الأخ الذي تعتبر هتك حرمته من أكبر المحرّمات فيصير ((حراماً مشدّداً ومغلّظاً)) كما يقال .

وقد شبّهت الآية الكريمة المغتاب ب ((الميّت)) لأنه غائب ولا يشعر بما يفعلون به كالميّت تماماً ، فكما أنّ الذي يقطع قطعة من لحم أخيه ويبدأ يلوكها في فمه ويمضغها ليأكلها يعدّ قبيحاً ، كذلك الذي يقطع قطعة من شرفه وعرضه وأخلاقه .

ولذا ورد في الحديث عن رسول اللَّه : ((إذا ذكرت الرجل بما فيه ممّا يكرهه اللَّه

ص: 587


1- راجع الكامل في التاريخ : ج3 ص57 ط بيروت ، والعقد الفريد : ج1 ص341 ط مصر عام 1321ه ، وحياة الصحابة للكاندهلوي : ج2 ص406 ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج1 ص61 ، والمستطرف : ج2 ص94 ، وقصص العرب : ج3 ص18 .
2- سورة الحجرات (49) : الآية 12 .

فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته))(1).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((إيّاكم والغيبة ، فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا)) ، ثم أردف قائلاً : ((إنّ الرجل يزني ثم يتوب فيتوب اللَّه عليه ، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه))(2).

وقال : ((إيّاكم والغيبة فإنّها إدام كلاب أهل النار))(3).

وقد ورد في دعاء يوم الاثنين للإمام علي بن الحسين(عليه السلام) حيث قال : ((أو غيبة اغتبته بها أو تحامل عليه بميل أو هوى ، أو أنفة ، أو حميّة ، أو رياء أو عصبية ، غائباً كان أو شاهداً وحيّاً كان أو ميّتاً ، فقصرت يدي وضاق وسعي عن ردّها إليه والتحلّل منه))(4).

إذن فمن اللازم على الإنسان أن يلتزم بالتقوى لأنّها الجذر العميق لجميع الأخلاقيات الفاضلة سواء أكان على مستوى المجتمع أم الأفراد فإنّه توّاب يقبل التوبة وهو ((رحيم )) بالمؤمنين والتائبين فيدخلهم في رحمته ويدخلهم إلى جنّته . رزقنا اللَّه جميعاً إيّاها .

ص: 588


1- أمالي الطوسي : ص537 المجلس 19 ح1 .
2- مستدرك الوسائل : ج9 ص120 - 119 ح10409 .
3- وسائل الشيعة : ج12 ص283 ح16315 .
4- المصباح الكفعمي : ص113 .

74- شرائط الوصول إلى التقوى

اشارة

(74) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(سورة الحديد : 28)

في رحاب المفردات

كفلين : الكِفْل هو الكفيل ، وقوله «يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ(1)« أي كفيلين من نعمته في الدنيا والآخرة وهما المرغوب إلى اللَّه تعالى فيهما بقوله «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً(2)« وقيل لم يعن بقوله كفلين أي نعمتين إثنين ، بل أراد النعمة المتوالية المتكفّلة بكفايته(3).

ص: 589


1- سورة الحديد (57) : الآية 28 .
2- سورة البقرة (2) : الآية 201 .
3- مفردات الراغب : ص454 .

شأن النزول

عن سماعة بن مهران عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) في قول اللَّه عزّوجلّ : «يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ» قال : ((الحسن والحسين)) «وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً» قال : ((إمام تأتمّون به))(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير الآية قال : ((الكفلين الحسن والحسين والنور علي))(2).

عبر من الآية

لا يخفى أنّ للإيمان مراتب ودرجات مختلفة باختلاف الاعتقادات والسرائر الخفيّة التي لا يطّلع عليها إلّا علّام الغيوب ومن أذن له تعالى من الأئمّة الأطهارعليهم السلام وبعض الخاصّة من أوليائه الأبرار . ففي الحديث الشريف عن عبدالعزيز القراطيسي قال : قال لي أبو عبداللَّه(عليه السلام) : ((ياعبدالعزيز إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السُلَّم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شي ء حتّى ينتهي إلى العاشرة فلا تسقط من هو دونك فيسقط من هو فوقك وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره فإنّ من كسر مؤمناً فعليه جبره))(3).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((الإيمان عشر درجات ، فالمقداد في الثامنة وأبو

ص: 590


1- الكافي : ج1 ص430 ح86 .
2- مناقب آل أبي طالب : ج3 ص380 .
3- وسائل الشيعة : ج16 ص162 ح21244 .

ذرّ في التاسعة وسلمان في العاشرة))(1).

فعلى الإنسان المؤمن أن لا ينخدع بالظواهر وإنّما يشغل نفسه في إصلاح باطنه الذي أكّدت الشريعة الإسلامية عليه أكثر من مرّة .

ومن أهمّ الاُمور النفسانية الباطنية التي سلّطت عليها الشريعة الأضواء هي ما يسمّى ((بالتقوى)) فلكي يتّقي الإنسان عليه أن ينمّي معرفته باللَّه تعالى وهذا لا يتأتّى إلّا بالعبادة والمجاهدة للوصول إلى المراقي السامية في سلّم الإيمان الحقيقي ، ولذلك تأمر الآية عباد اللَّه المؤمنين بأن :

1 - اتقوا : والخطاب هنا على وزن ((اتّق اللَّه يارجل)) وافعل كذا ، أو لا تفعل كذا ، أي اجعل فعلك نابعاً من التقوى للَّه ، أو تركك نابعاً من تقوى اللَّه التي تصدّ عن فعل المحرّمات كلّها .

فقد قال اللَّه عزّوجلّ : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ(2)« أي اجعلوا ا يمانكم نابعاً من تقوى اللَّه بكل معنى الكلمة .

2 - آمنوا برسوله : أي أنّ الإيمان الحقيقي بالرسول صلى الله عليه وآله ويجب أن يكون صادقاً خالصاً لا يشوبه شبهة ولا نفاق ولا غير ذلك من القضايا الاُخرى .

فالإيمان بالرسول هو محك الإيمان والتقوى معاً ، وإلّا فما هي قيمة إيمان لا يتحوّل في واقع الإنسان إلى ولاء ديني ؟ وما قيمة الإيمان الذي لا يصنع مجتمعاً صالحاً ، يعمّر الأرض ، وينصر الضعفاء ، ويقاوم الطغاة والمحتلين والمجرمين ؟

عاقبة التقوى

وقد أشارت الآية الكريمة إلى عاقبة هذا الإيمان والتقوى . وهي :

ص: 591


1- بحار الأنوار : ج22 ص341 ح52 .
2- سورة الحديد (57) : الآية 28 .

1 - يؤتكم حصّتين من الرحمة .

ففي الحياة الدنيا السعادة والسرور والبهجة بالإيمان الحقيقي النابع من القلب السليم .

وفي الآخرة : ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .

وممّا يؤسف له حقّاً إنّ كثيراً من الناس يظنّ أنّ الإيمان الحقيقي يعني : الفقر والفاقة ، وخراب الحياة الدنيا لعمران الحياة الآخرة ، وهذا بحدّ ذاته تفكير سقيم ، وظنّ باطل ، لأنّ الدين ليس في موقع ((الضدّ)) للدنيا ، بل هو يريد للإنسان أن يضمّ الدنيا إلى الآخرة لكي يعيش كما أمر اللَّه ورسوله . فإذا اجتمعت الدنيا والدين في رجل فهذا أمر حسن وفي غاية الطرافة والجمال ، من جانب آخر فإنّ اجتماع الكفر والفقر يعتبر أقبح وأبشع شي ء في هذه الحياة الدنيا .

فالعلاقة بين الدنيا والآخرة بنظر الإسلام ليست علاقة ((التناقض)) بل هي علاقة ((التكامل)) وضمّ إحداهما إلى الاُخرى من أجل استقامة الحياة الدنيا والفوز بالجنّة في الحياة الآخرة ونعيم الأبد عند مليك مقتدر .

فعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((ليس منّا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه))(1).

وعن العالم(عليه السلام) أنّه قال : ((اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً))(2).

وعن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((نعم العون الدنيا على الآخرة))(3).

وهكذا فإنّ الدنيا بما فيها من نعم وأفراح ، لا تعدّ شيئاً بالنسبة إلى نعم الآخرة

ص: 592


1- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص156 ح3568 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص156 ح3569 .
3- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص156 ح3567 .

التي عبّرت عنها الرواية بأن لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا حتى خطر على قلب بشر .

2 - يجعل لكم نوراً : فياترى ما هو هذا النور الذي عبّرت عنه بعض الآيات ب : «يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ(1)«. وقوله تعالى : «قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ(2)«.

الجواب على هذا السؤال بأنّ النور معنى عام يشمل كل خير ، فالإيمان نور ، ولذلك ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وآله : ((توقّوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه))(3).

والعلم نور .. كما أنّ النور هو الإمام(عليه السلام) في كل عصر ومصر بدلائل كثيرة ، والأحاديث الشريفة الواردة عن أئمّتنا الكرام عليهم السلام تؤكّد أنّ ((نوراً تمشون به)) يعني إماماً(4) تأتمّون به(5).

وهنا قد يسأل سائل فيقول : ما هي أهمية هذا النور بالنسبة للمؤمنين بحيث إنّ الآية تجعله كجزاء اُمّتنا يمنّ به الباري على المؤمنين ؟

الجواب عليه : المتتبّع للأحاديث والآيات القرآنية يعرف مدى ضرورة القائد بالنسبة لأيّة اُمّة على وجه الأرض والآية الكريمة تصرّح بذلك حيث قال تعالى : «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ(6)«.

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة

ص: 593


1- سورة الحديد (57) : الآية 12 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 15 .
3- الكافي : ج1 ص218 ح3 .
4- راجع الكافي : ج1 ص194 وص430 ، بحار الأنوار : ج9 ص242 ، تأويل الآيات : ص642 ، تفسير فرات الكوفي : ص468 ، تفسير القمّي : ج2 ص352 ، شواهد التنزيل : ج2 ص308 ، المناقب : ج3 ص380 .
5- نور الثقلين : ج5 ص252 .
6- سورة الإسراء (17) : الآية 171 .

جاهلية))(1)، وفي حديث آخر : ((مات يهودياً أو نصرانياً))(2) وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا المجال .

وقد يقول البعض هنا : ما هو حاجتنا لمثل هذا القائد مع وجود كتاب اللَّه الذي نرجع إليه عند كل معضلة ؟ فإنّه يقال لهم ما أحوجنا إلى القيادة الربّانية )التي تؤوّل وتفسّر لنا الوحي( لأنّها الأقرب إلى حقائقه ، فهي المرآة الصافية التي تعكس حقائق القرآن بصدق وأمانة ووعي ، فليس المهم أن يتحرّك الإنسان أو يمشي ، بل المهم أن تكون حركته في الطريق المستقيم نحو الأهداف التي خلق من أجلها .

وهذا لا يتأتّى إلّا بالنور ، الذي يجعله اللَّه في قلب من يشاء حيث قال : «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ(3)«.

والجعل إمّا يكون مباشراً عبر الوحي ، وإمّا غير مباشر عبر المقاييس والموازين التي يشخّص بها القائد للناس ((وهو الإمام(عليه السلام(() .

فما أحوجنا اليوم إلى هذا النور ، ونحن نعيش في عالم كثرت فيه البدع والمذاهب الضالّة ، ووسائل الإعلام ، وتنوّع الثقافات الضالّة .

فالإمام نور ووجوده ضرورة عقلية ونقلية وحضارية كذلك .

الملفت للانتباه أنّ الآية الكريمة ختمت بقوله تعالى «يَغْفِرْ لَكُمْ» إذ أنّ غفران الذنوب يكون عبر الإيمان باللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله والتسليم إلى القيادة الربّانية الحقّة ، لأنّ اللَّه ((غفور)) للعاصين ((رحيم)) بالمؤمنين .

اللهمّ ارحمنا برحمتك ياأرحم الراحمين .

ص: 594


1- وسائل الشيعة : ج16 ص246 ح21475 .
2- المحاسن : ج1 ص92 ح45 .
3- سورة النور (24) : الآية 35 .

75- قبسات عن النجوى المحرّمة

اشارة

(75) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ »(سورة المجادلة : 9)

في رحاب المفردات

تناجيتم : ناجيته أي ساررته ، وأصله أن تخلو به في نجوة من الأرض وقيل أصله من النجاة وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصه أو أن تنجو بسرِّك من أن يطلِع عليك ، وتناجى القوم ، قال : «إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً(1).

الإثم : الإثم والآثام اسم للأفعال المبطّئة عن الثواب ، وجمعه آثام ، ولتضمّنه لمعنى البطئ قال الشاعر :

جماليّة تغتلي بالرَّوادف

إذا كذب الآثمات الهجيرا

ص: 595


1- سورة المجادلة (58) : الآية 12) مفردات الراغب : ص505 - 504 .

وقوله تعالى : «فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ(1)« أي في تناولهما إبطاء عن الخيرات(2).

شأن النزول

نقل أنّ سبب نزول الآية الكريمة هو أنّ اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم - دون المؤمنين - وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ، ولما رأى المؤمنون نجواهم يقولون : ما نراهم إلّا وقد بلغهم عن أقاربنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل ، أو مصيبة ، أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ، ويحزنهم .

فلمّا طال ذلك شكوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم ، فنزلت الآية(3).

عبر من الآية

قبل أن نخوض غمار البحث حول مسألة التناجي لا بأس أن تكون لنا وقفات عابرة نوضّح من خلالها أقسام النجوى ، وما هو الإثم والبرّ والتقوى التي أكّدت عليها الآية الكريمة ؟

مقدّمة نقول أنّ للنجوى أنواعاً تختلف من ناحية الحكم الشرعي ، وذلك طبقاً

ص: 596


1- سورة البقرة (2) : الآية 219 .
2- مفردات الراغب : ص5 .
3- مجمع البيان : ج28 مج9 ص414 - 413 .

لاختلاف )محتوى النجوى( و )ظروف النجوى( كذلك .

فالنجوى قد يكون محتواها :

1 - الظلم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وآله والعياذ باللَّه .

2 - البرّ والتقوى .

3 - أو تحتوي على أمر عادي من الاُمور الحياتية اليومية .

وتبعاً لذلك تنقسم النجوى إلى أنواع الأحكام الخمسة المعروفة في الفقه .

فتنقسم إلى )واجب( و )مندوب( و )مباح( و )مكروه( و )حرام( حسب ما ذكره الفقهاء والعلماء في كتبهم الكثيرة .

أمّا )الإثم( فهو فعل الحرام كما كان يفعل اليهود والنصارى والمنافقون في مجتمع المدينة ، فكانوا لا يتوانون عن بثّ الذعر والفوضى بين صفوف المسلمين بأقوالهم وأفعالهم الخبيثة .

و )البرّ( هو أي عمل أو فعل للخير ، كالإنفاق وشبهه .

و )التقوى( هي التزام الطاعات واجتناب المعاصي على كل حال .

وقد يكون الفرق بين )الإثم( و )العدوان( هو أنّ الأول ذنب ذو بُعد فردي وخاص ، كشرب الخمر مثلاً .

أمّا الثاني ذنب له بُعد اجتماعي عام ، كالظلم والفساد وأكل حقوق الآخرين بالباطل ، أو السعي لتفتيت وحدة الصفّ وهدم البنيان الإسلامي الرصين .

فالبرّ هو الحق والإحسان وسائر المضامين الخيّرة المرضية عند اللَّه ، وهي التي تقرّب إليه ، وهو نقيض )الإثم( وقد قال تعالى : «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا

ص: 597

تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ(1)«.

كما أنّ العدوان صورة للتعدّي على حدود اللَّه في العلاقة مع المجتمع ، والتقوى هي الداعي الأكبر للالتزام بأحكامه وشرائعه وحدوده .

وتأتي أهمية التناجي بين المؤمنين على الصعيد الاجتماعي ، كوسيلة فضلى إلى النقد البنّاء بالنصيحة ، قال الإمام العسكري(عليه السلام) : ((من وَعَظ أخاه سرّاً فقد زانه ، ومن وعّظه علانية فقد شانه))(2).

فالنجوى المحرّمة هي النجوى السيّئة ، لأنّ الشيطان هو من يقف وراءها ، ويغذّيها بسمومه ولذا فإنّ بيان أهدافها الخبيثة ، والتوكّل على اللَّه ، تعد ضرورة من أجل مقاومتها والعمل لإبطال مفعولها السلبي والمدمّر في النفوس وفي واقع المجتمع .

ولذلك تبرّر الآية المذكورة هذا النهي قائلة : إنّما النجوى من الشيطان .

فهو العدو الأول والأخطر للإنسان المؤمن ، وإنما يتناجى المنافقون مع بعضهم بتلك المضامين السيّئة )الظلم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وآله( لأنّ الشيطان كان يأمرهم بذلك ، ولذلك فإنّ كلّ نجوى سلبية فهي بدافع شيطاني )كالهوى ، والطمع ، والمصالح الماديّة ، وحبّ التفريق بين المؤمنين).

الأصل في النجوى

وقد يستشعر من الآية أنها تدل على أنّ الأصل في النجوى الكراهية ، لأنّها مظنّة الغيبة والتهمة ، ومركز المؤامرة ، ضدّ المجتمع والنظام ، ولأنّ الشيطان يكون عند

ص: 598


1- سورة المائدة (5) : الآية 2 .
2- بحار الأنوار : ج71 ص166 ح29 .

النجوى أقوى منه في أي حال آخر ، لذلك يحسن تجنّبها قدر الإمكان إلّا عند الحاجة إليها .

فعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج إثنان دون صاحبهما ، فإنّ ذلك يحزنه))(1).

ومن هذا المنطلق جاء في آخر الآية المباركة التذكير )بالحشر( أي يوم القيامة حيث قال تعالى : «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(2)«.

أي خافوه وتوقّوا غضبه وسخطه وناره التي وقودها الناس والحجارة ، تلك النار الذي سجّرها جبّارها لغضبه - نستجير باللَّه من غضبه - فتذكير المؤمنين بيوم الحساب هو ضمانة قويّة للورع والتقوى ، ودافع حقيقي لفعل الخيرات وعمل الصالحات .

أي أنّها ضمانة حقيقية لتطبيق جميع قوانين الإسلام الحنيف في الحياة .

وهذا التذكير ضروري جدّاً للإنسان ، لأنّ من طبيعته النجوى وخاصة إذا كان الاجتماع كبيراً ، وهذه طبيعة ثابتة في النفوس ، لا يمكن أن يرتدع الإنسان عنها إلّا بالتقوى والورع والخوف من اللَّه سبحانه وتعالى .

فالتذكير )بالحشر( ضروري لأنّ الإحساس بشهادة اللَّه وحضوره مع المتناجين ، هو الضمان الوحيد لنبذ وساوس الشيطان من جلسات المؤمنين الخاصّة ، خاصّة أنّ أكثر الروادع التي تمنع السقوط في وادي الغيبة والنميمة والتهمة والتعصّب لجماعة ضدّ جماعة اُخرى تتلاشى في جلسات الخلسة والخلوة حيث يحسّ الإنسان

ص: 599


1- مجمع البيان : ج28 مج9 ص416 - 415 .
2- سورة المجادلة (58) : الآية 9 .

برفع الكلفة والتحرّر من ضغط المجتمع ، ولكن أليس اللَّه ينظر إليهم ويسمع تحاورهم ؟

ألا يؤمنون أنه - تعالى - سيحاسبهم على الملأ غداً يوم الحشر والنشر ؟

أفلا يتّقون اللَّه في كل ذلك ؟

ص: 600

76- أخلاقيات دعا إليها القرآن

اشارة

(76) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الَْمجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ »(سورة المجادلة : 11)

في رحاب المفردات

التفسّح : قوله تعالى : «تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ» أي توسّعوا فيها ، يقال فسحت له في المجلس فسحاً من باب نفع : فرجت له عن مكان يسعه(1).

انشزوا : قوله تعالى : «وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا» أي انهضوا وارتفعوا عن مجلس النبي(عليه السلام) إلى الصلاة والجهاد وأعمال البرّ ، وقرئ بضمّ الشين وكسرها(2).

ص: 601


1- مجمع البحرين : مادّة فسح .
2- مجمع البحرين : مادّة نشز .

شأن النزول

قيل إنّ المسلمين الأوائل كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في الصفّة )خلف جدار المسجد( ، وفي المكان ضيق ، وذلك في يوم الجمعة ، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء اُناس من أهل بدر ، وفيهم ثابت بن قيس بن شمّاس وقد سبقوا في المجلس ، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وآله فقالوا : السلام عليك أيّها النبي ، ورحمة اللَّه وبركاته ، فردّ عليهم النبي صلى الله عليه وآله . ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك ، فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم ، فلم يفسحوا لهم . فشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه وآله فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يافلان ، قم يافلان ، بقدر النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر . فشقّ ذلك على من اُقيم من مجلسه ، وعرف الكراهية في وجوههم . وقال المنافقون للمسلمين : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس ، فواللَّه ما عدل على هؤلاء أنّ قوماً أخذوا مجالسهم ، وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم ! فنزلت الآية(1).

عبر من الآية

في الآية الكريمة بيان أخلاقي رائع ، يختص بمجلس الرسول صلى الله عليه وآله ومعاملة العلماء واحترام مكانتهم وهذا غير مقتصر على اُولئك بل يشمل سائر مجالس المؤمنين الإسلامية ، فالأخلاقيات الحضارية في الإسلام تنال كل شي ء صغيراً كان أو كبيراً ،

ص: 602


1- مجمع البيان : ج28 مج9 ص417 .

فهي تشمل ((الأكل والشرب ، والقيام والنوم ، والزينة واللباس ، حتّى المحادثة والمخاطبة والمجالسة)) فلكلّ ذلك آداب يجب التقيّد بها ، وعلى كل فإنّ الآية تشتمل على أمرين مهمّين وهما :

1 - التفسّح في المجلس للقادم .

2 - التقيّد بالأوامر القيادية .

إذن إنه من أدب المجلس إنّه إذا قدم شخص فعلى الحاضرين أن يفسحوا له المجال فيما بينهم ، ويجمعوا له أنفسهم حتى يتّسع المكان له ولغيره .

علماً أنّ لهذا التصرف البسيط أثراً كبيراً على الرجل القادم من عدّة جهات أساسية منها :

1 - تحترم إنسانيته وكرامته وتقيه من المهانة والذلّ .

2 - ينقذه من الحيرة والإرباك .

3 - يقوّي أواصر المحبّة والتعاطف ويقوّي المجتمع ككل .

4 - يعلّم الناس الاهتمام بالآخرين واحترامهم .

وكلّ هذه الآثار دنيوية وقتية ، يمكن ملامسة آثارها المهمّة على المجتمع في الحياة الدنيا ناهيك عن أثرها الاُخروي . وبعبارة أدقّ أنّ اللَّه سبحانه وتعالى يجازيكم جزاءً من جنس العمل الصالح ذاك ، فكما )أفسحتم( المجال للآخرين كذلك يفسّح الآخرين لكم ويحترمونكم في الدنيا و )يفسح اللَّه لكم( في الآخرة .

ولا يخفى أنّ الفسحة في الدنيا تشمل السعة في المال ، والطول في العمر ، والزيادة في الرزق ، وعمق في الفكر والعقل ، وما أشبه ذلك ، فلكل منها فسحة خاصّة بها يتفضّل المولى - سبحانه - على العبد بها إذا التزم بالأوامر الإلهية .

فالجزاء في الآخرة يكون من سنخ العمل في الحياة الدنيا ، وهذا ما يسمّونه

ص: 603

تجسيم الأعمال أو تشخيصها في الدار الآخرة كما هو وارد في كثير من الأحاديث الشريفة .

من جانب آخر فالآية تدعوا إلى التقيّد بأوامر القيادة الشرعية .

لا سيّما قيادة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأهل البيت الكرام عليهم السلام التي هي امتداد رسالي لقيادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ، فالقائد إذا طلب من الناس طلباً ما طلب أو أمرهم بأمر فينبغي لهم التقيّد التامّ به والتنفيذ الحرفي والسريع للأمر دون أي تباطؤ أو تردّد أو مناقشة .

صور من معاناة الرسول صلى الله عليه وآله

وقد عانى رسول اللَّه من هذه النقطة - وهي عدم التقيّد بالأوامر أشدّ المعاناة - فمن أسباب انكسار المسلمين في معركة اُحد - بعد النصر الساحق على جيوش الكفر بقيادة أبو سفيان - هو عدم التزام رماة السهام بأوامره صلى الله عليه وآله لهم بالثبات في أماكنهم مهما كانت الأسباب المبرّرة للترك .

فما أن رأوا انتصار المسلمين وهروب المشركين وكثرة الغنائم في ساحة الميدان حتى تركوا أماكنهم جرياً وراء الغنائم ، بينما كان قائدهم المباشر ينهاهم عن ترك الأماكن ، ولمّا رأى خالد بن الوليد ذلك منهم التفّ من ورائهم وجاءهم بغتة وراح يقتل بهم ، حتى قتل أسد اللَّه وأسد رسوله )حمزة بن عبدالمطلّب(عليه السلام(( فصاحوا قتل حمزة ، ففرّ المسلمون وولّوا الدبر إلّا المؤمنون الخلّص الذين ثبتوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حتّى أنزل اللَّه بهم نصره بسيف أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) .

وأمّا في غزوة الأحزاب فالتخاذل كان واضحاً وذلك عندما استولى الخوف على المسلمين حتّى أنّ الباري تعالى وصف حالهم فقال : «وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ

ص: 604

وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ(1)« آنذاك قتل الإمام علي(عليه السلام) الطاغية الجبّار )عمرو بن عبد ودّ العامري( ، فكانت ضربته(عليه السلام) يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين إلى يوم القيامة(2).

وفي خيبر عندما تحصّن الأعداء في الحصون انهزم الجيش الإسلامي أكثر من مرّة وذلك لضعف قيادته وتخاذله عن مقاومة الأعداء الأمر الذي بعث الخوف في نفوس المسلمين حتّى أعطى الرسول صلى الله عليه وآله الراية إلى رجل قال عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يحبّ اللَّه ورسوله ويحبّه اللَّه ورسوله كرّار غير فرّار يفتح اللَّه على يديه ، واللطيف في ذلك أنه صلى الله عليه وآله عندما أعطاه الراية قال له :

انطلق إلى القوم ولا تلتفت إلى الوراء .

فأخذ الراية الأمير(عليه السلام) ومشى خطوات ونادى يارسول اللَّه على ماذا اُقاتل القوم ؟

فقال له صلى الله عليه وآله : على أن يقولوا لا إله إلّا اللَّه وأنّ محمداً عبده ورسوله ، أو يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

فقال له : سمعاً وطاعة يارسول اللَّه وراح يهرول إلى الحصن الذي كان يعجز عن هزّه أربع وأربعون رجلاً فقلعه ورمى به جانباً ، وقد أشار إلى ذلك ابن أبي الحديد فقال :

ياقالع الباب الذي عن هزّه

عجزت أكف أربعين وأربع

نعم ، هكذا يكون الإلتزام بأوامر القائد حرفية ودون أي نقاش في ذلك أبداً لا سيّما إذا كان القائد مسدّداً ومؤيّداً من عند اللَّه - تعالى - بالوحي المنزل .

ص: 605


1- سورة الأحزاب (33) : الآية 10 .
2- إقبال الأعمال : ص466 .

الملفت للانتباه أنّ الآية تقول : «وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا» أي إذا قيل لكم قوموا ، فقوموا دون أي انزعاج من ذلك ، فهو أمر أولاً من القائد العام ، وأدب ثانياً للمجالس الإيمانية .

فقد يأتي شيخ كبير في السن لا يستطيع الوقوف أكثر من اللازم ، أي أنه يحتاج إلى الجلوس ولا يوجد له محل مناسب ، وقد يكون عالماً محترماً أو نحو ذلك ، فيجب أن نقوم لأجلهم .

وربما يكون هذا نوع من أنواع الإيثار والاحترام والتقدير معاً .

والأثر الرائع لهذا الامتثال : هو ((الرفعة)) في الدنيا والآخرة وكما قال تعالى : «يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا(1)« أي أنّهم كلّما تواضعوا يرفعهم اللَّه ، ولنعم ما قال الشاعر :

ولا تكن كالدخان يعلو بنفسه

إلى طبقات الجو وهو وضيع

فإنّ من التواضع أن يقوم الإنسان للأكبر منه سنّاً ، أو للعالم ، ومن قلّة الأدب أن يجلس مسترخياً في مجلس مزدحم وفيه اُناس واقفين لا يجدون المكان الذي يجلسون فيه .

فالرفعة بالإيمان والعلم لا بالشرف والمال ، والشريف من شرّفه اللَّه بطاعته وعبادته وتقواه كل ذلك إنّ اللَّه به خبير بصير .

ص: 606


1- سورة المجادلة (58) : الآية 11 .

77- علي(عليه السلام) يناجي الرسول صلى الله عليه وآله

اشارة

(77) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(سورة المجادلة : 12)

في رحاب المفردات

ناجيتم : ناجيته أي ساررته ، وأصله أن تخلو به في نجوة من الأرض ، وقيل أصله من النجاة وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصه أو أن تنجو بسرّك من أن يطلع عليك(1).

صدقة : ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة لكن الصدقة في الأصل تقال للمقطوع به والزكاة للواجب وقد يقال للواجب صدقة إذا تحرّى صاحبها الصدق في فعله(2).

ص: 607


1- مفردات الراغب : ص504 .
2- مفردات الراغب : ص286 .

شأن النزول

عن ابن عباس في قوله : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً(1)« قال إنّه حرّم كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ثمّ رخص لهم في كلامه بالصدقة فكان إذا أراد الرجل أن يكلّمه تصدّق بدرهم ثمّ كلّمه بما يريد قال : فكفّ الناس عن كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وبخلوا أن يتصدّقوا قبل كلامه فتصدّق علي (عليه السلام)بدينار كان له فباعه بعشرة دراهم في عشر كلمات سألهنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره وبخل أهل الميسرة أن يفعلوا ذلك ، فقال المنافقون : ما صنع علي بن أبي طالب الذي صنع من الصدقة إلّا أنّه أراد أن يتزوّج لابن عمّه فأنزل اللَّه تبارك وتعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً(2).

عبر من الآية

بالرغم أنّ هذه الآية تنصّ على فضل أنّ اللَّه يؤتيه من يشاء ، إلّا أنّها في نفس الوقت توحي بأنّ ذلك يحتاج إلى قابليات ، وإلى قلوب سليمة وعقول جبّارة ، ونفوس طاهرة وأجسام مجاهدة ، وهمم عالية ، وخصوصيات اُخرى كثيرة ، تفرّد بها الإمام علي(عليه السلام) .

إذ أنّ الأغنياء عادةً ما يطلبون الربح ويهربون من الخسارة ، ولا يخفى أنّ

ص: 608


1- سورة المجادلة (58) : الآية 12 .
2- سورة المجادلة (58) : الآية 12) تأويل الآيات الظاهرة : ص648 .

إمتثالهم لمثل هذه الآية المباركة يقودهم إلى خسارة أموالهم لقاء تكلّمهم مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وهذا لا يُحتمل بالنسبة إليهم ، فالجلوس عند رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والإكثار من الحديث معه ومناجاته مطلوبة لديهم لأمرين اثنين وهما :

1 - قضاء الوقت الكبير من الفراغ لديهم .

2 - الظهور أمام الناس أنّهم من المقرّبين والملازمين لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله .

وأمّا الأمر إذا بلغ إلى دفع غرامة مالية للحديث معه صلى الله عليه وآله تجدهم يفرّون من ذلك الحديث معه صلى الله عليه وآله وحيث إنّهم لم يكونوا أصلاً يتحدّثون باُمور وقضايا ذات أهمية ، فيمكن الاستغناء عن الحديث من أوّله ، فتفرّقوا من ساعتهم ولم يعودوا لمناجاة الرسول صلى الله عليه وآله .

وبالجملة : إنّ ثمن القائد ثمين جدّاً ، وعلى الاُمّة أن تعرف ذلك جيداً ، وعليها أن تراعي هذا أيضاً ، فإن كان هناك ضرورة حقّ للناس أن يسألوا ويبحثوا كما يشاؤون ، أمّا إذا لم تكن هناك ضرورة فينبغي لهم أن يراعوا وقت القائد بقدر الإمكان .

فالقائد بحاجة إلى كل لحظة من أجل خدمة الرسالة الإلهية ، فهو ليس لأشخاص معينين فقط بل هو للدنيا وللعالمين وللثقلين من إنس وجنّ ، وهو يوزّع وقته بين :

1 - تلقّي الوحي الإلهي واستقبال جبرائيل(عليه السلام) .

2 - إبلاغ الوحي إلى جماعة المسلمين في حينه أو عند الضرورة له .

3 - تعليم المسلمين الأحكام والشرائع وآيات القرآن .

4 - تأديب المسلمين بآداب القرآن وأخلاقه الكريمة .

5 - إقامة العبادات من صلوات وأدعية وأذكار وتهجّد في الليل مع الصلاة

ص: 609

المختصّ بها .

6 - استقبال الناس ودعوتهم إلى الرسالة الجديدة مع الإيضاح ، والردّ على شبهات الكفّار والملحدين وأهل الكتاب وما شابه ذلك .

7 - مراعاة شؤون العائلة وتدبير اُمور البيوت حيث كان لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله عدداً كبيراً منها .

8 - مراعاة حقّ نفسه عليه من سكون وطمأنينة وراحة .

وغيرها من الاُمور التي يختصّ بها القائد أكثر من غيره ، من هذه الاُمّة فإذا لم يتوفّر له الوقت المناسب لكل ذلك ، فلربما خللاً تصاب به الرسالة ، وهذا غير مسموح به عند اللَّه - سبحانه - لذلك أنزل مثل هذه الآيات التأديبية والأخلاقية والتربوية الكثيرة في القرآن الكريم .

الاقتداء بأمير المؤمنين(عليه السلام)

إذن علينا أن نقتدي بأمير المؤمنين(عليه السلام) الذي قال عندما نزلت الآية : ((إنّ في كتاب اللَّه لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي)) .

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً(1)«.

فقال صلوات اللَّه عليه : ((بي خفّف اللَّه عن هذه الاُمّة ، ولم ينزل في أحد قبلي ، ولم ينزل في أحد بعدي)) .

وقال عمر بن الخطاب : وكان لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) ثلاثة لو كانت لي واحدة منهنّ ، لكانت أحب إليّ من حُمُر النعم .

ص: 610


1- سورة المجادلة (58) : الآية 12 .

1 - تزويجه فاطمة عليها السلام .

2 - وإعطاؤه الراية يوم خيبر .

3 - وآية النجوى(1).

ففي هذه الآية مباحث هي :

1 - أنّها تثبت فضيلة تفرّد بها أمير المؤمنين(عليه السلام) ولم يسبقه إلى ذلك أحد ، لا من الأوّلين ولا من الآخرين وذلك إلى قيام يوم الدين .

2 - لماذا شُرّع هذا الحكم ؟ ولماذ نسخ مباشرة وبنفس السورة ؟

البحث حول الناسخ والمنسوخ

إنّ هذا السؤال يقودنا إلى دراسة الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ، وهذا ما لا مجال لذكره الآن .

إلّا أن يقال : إنّ الأمر ليس بالأهواء والمزاج ، بل التشريع هو من اللَّه - سبحانه - وهو العالم بالمصالح والمفاسد فإنّ التشريع الذي هو بحاجة إلى تدريج فهو يدرجه من أجل أن يستأنس الناس ويروّضهم لتقبّله شيئاً فشيئاً ، لأنّ التشريع يراعي حرمة العقل وكذلك العواطف والمشاعر في الإنسان العادي .

كتحريم الخمر الذي تدرّج شيئاً فشيئاً فنزلت فيه ثلاث أو أربع آيات متتالية حتى نزل التحريم القطعي به .

وربما تكون المصلحة هنا هي امتحان الناس الذين كانوا في عهد الرسالة لا سيّما أصحاب الأموال والأغنياء ، ليعلم من يقدّم حبّ السؤال من رسول اللَّه وتعلّم مسائل الدين على ماله الذي سيفنى في يوم ما .

ص: 611


1- الطرائف : ص40 ح33 .

وصدق أبو عبداللَّه الحسين(عليه السلام) حيث قال : ((الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما درّت عليهم معائشهم ، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون))(1).

وعلى كل حال فالصدقة بحدّ ذاتها ((طهارة)) للنفس والمال ، ولذلك وصفها سبحانه بقوله ((خير لكم)) لأنّ فيها أداء لواجب وتحصيل للثواب وهي كذلك ((وأطهر)) أي : أدعى للمؤمنين ، وأزكى لهم ، ليتطهّروا بدفع الصدقة الرسول صلى الله عليه وآله ، كما تقدّم الطهارة والوضوء على الصلاة .

وهذا الواجب على الأغنياء فقط أمّا الفقراء والذين ((لا يجدون)) ما يتصدّقون به ((فإنّ اللَّه غفور)) يتستّر عليهم ويغفر ذنوبهم وينعم عليهم في الدنيا والآخرة .

فالمسألة إذن ليست مسألة تعجيز أو ما شابه بل هي مسألة حكمة وتأديب وتعليم للاُمّة كلّها ، ولم يعرف لها حقّها إلّا أمير المؤمنين(عليه السلام) فبادر إلى العمل بها دون غيره .

ص: 612


1- بحار الأنوار : ج75 ص116 ح2 .

78- التقوى طريق النجاة

اشارة

(78) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ »(سورة الحشر : 18)

في رحاب المفردات

لتنظر : النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشي ء ورؤيته ، وقد يُراد به التأمّل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وهو الرويّة(1).

نفس : النفس الروح في قوله : «أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ(2)« وقال : «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ(3).

خبير : قوله تعالى : «وَاللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(4)« أي عالم بأخبار أعمالكم ، وقيل : أي عالم ببواطن اُموركم ، وقيل : خبير بمعنى مخُبر كقوله : «فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ

ص: 613


1- مفردات الراغب : ص519 - 518 .
2- سورة الأنعام (6) : الآية 93 .
3- سورة البقرة (2) : الآية 235) مفردات الراغب : ص522 .
4- سورة التوبة (9) : الآية 16 .

تَعْمَلُونَ(1)« وقال تعالى : «وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ(2)« و «قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ(3) أي من أحوالكم التي نُخْبُر عنها(4).

شأن النزول

قال مفتي العراقين محمد بن يوسف بن محمد القرشي )الشافعي( في كتابه )كفاية الطالب( عن محمد بن عبدالواحد بن المتوكّل عن ابن عباس قال : ((ما نزلت آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها ، وأميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللَّه عزّوجلّ أصحاب محمد في غير آية من القرآن وما ذكر علياً إلّا بخير))(5).

عبر من الآية

بين الفترة والاُخرى تعاود آيات الذكر الحكيم وصاياها وإرشاداتها لعباد اللَّه المؤمنين الذين يعتبرون بمثابة الدعامة الأساسية لبناء المجتمع الإسلامي الفاضل .

ومن أهمّ الوصايا التي أكّدت عليها آيات القرآن الحكيم هي مسألة التقوى ، فما هي التقوى ؟ وكيف نتّقي ؟ ولماذا هذا الحصر بالمؤمنين ؟

وماذا عن غير المؤمنين ، فهل إنّهم مطالبون بالتقوى كذلك أم لا ؟

ص: 614


1- «(( - سورة المائدة (5) : الآية 105 .
2- سورة محمد (47) : الآية 31 .
3- سورة التوبة (9) : الآية 94 .
4- مفردات الراغب : ص142 .
5- كفاية الطالب : ص140 .

الجواب على ذلك إنّ كل الناس مطالبون بالتقوى والطاعة والعبادة لأنّها سبب خلقتهم جميعاً كما صرّحت الآية بذلك فقال عزّ من قائل : «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(1)« ولكن التخصيص هنا جاء لسببين :

1 - أنّ الذي ينتفع بهذا النداء هو المؤمن وحده ، أمّا الكفّار والمنافقون فقلوبهم لاهية وساهية عن الذكر والتذكير ، فلا ينفعهم مثل هذا النداء .

2 - في هذا إشعار وتذكير للمؤمنين ، بأنّكم مؤمنون حقّاً ، أي أنّكم قد أبرمتم عقداً مع اللَّه ، أو أخذ اللَّه عليكم عهداً ، فلابدّ من أن تلتزموا بلوازم الإيمان ، وتتحلّوا بصفات المؤمنين حقّاً لأنّ الالتزام بالشي ء هو التزام بلوازمه وخصوصياته .

ولا يخفى أنّ المؤمنين يتميّزون عن غيرهم بثلاث خصال وهي :

1 - تقوى اللَّه التي تسوقهم إلى الطاعة وتحجزهم عن المعصية وهي روح الإيمان .

2 - الإيمان بالآخرة كدار للبقاء ، والسعي الجاد والمستمر من أجل إعمارها ، باعتبارها دار مقرّ الإنسان ، فلا يصدّهم عن الإستعداد لها والتزوّد إليها شخص ولا شي ء أبداً .

3 - الإحساس العميق برقابة اللَّه في جميع أعمالهم ، وهذا ما ينمي فيهم روح التقوى والإيمان .

وحيث إنّ الشيطان يسعى إلى مسخ شخصيتهم من خلال سلب مثل هذه الصفات الفاضلة ، وجرّهم إلى الفسوق بأساليبه الخفيّة كالوساوس والاغراءات المضلّة لهم فقد وجّه الباري تعالى نداءه إليهم بلطفه وعظيم منّته ، لكي يظهر هذا النداء الربّاني على ما يلقي الشيطان من نداءاته الخبيثة في القلب ، ووساوسه الداعية

ص: 615


1- سورة الذاريات (51) : الآية 56 .

إلى التمرّد والعصيان ونسيان الآخرة .

فالتقوى كما قال الإمام الصادق(عليه السلام) : هي ((أن لا يفقدك اللَّه حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك))(1).

وقد جعل الإسلام مقياس التفاضل بين الناس هي التقوى : ((فلا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود إلّا بالتقوى))(2).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ألا إنّكم لآدم وآدم من تراب وأكرمكم عند اللَّه أتقاكم))(3).

وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((من اتّقى اللَّه وقاه))(4).

وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((من اتّقى اللَّه جعل له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً))(5).

الوصول إلى التقوى

وبما أنّ التقوى أرفع درجة من الإيمان فقد دعت آية البحث المؤمنين لينمّوا إيمانهم ليصلوا إلى درجة التقوى ، لأنّ الإنسان بحاجة إلى درجة رفيعة من الإيمان ، ليواجه بها الضغوط والتحديّات الشيطانية ، ولكي لا ينحرف المؤمن عن الصراط المستقيم ، الذي أُمر باتّباعه في الحياة الدنيا .

ويمكن القول بأنّ التقوى هي : التحصّن دون أسباب عذابه وسخطه ، أو

ص: 616


1- بحار الأنوار : ج67 ص285 .
2- معدن الجواهر : ص21 .
3- بحار الأنوار : ج73 ص348 ح13 .
4- غرر الحكم : 5949 .
5- غرر الحكم : 5951 .

الحرمان من رحمته ، والعرض لعقابه ، بحيث تشمل الكلمة العمل بالواجب والمندوب وترك المحرّم والمكروه .

وقد وصف أمير المؤمنين(عليه السلام) المتّقين وصفاً رائعاً عندما سأله تلميذه همّام عن صفات المتّقين فقال له :

((المتّقون فيها هم أهل الفضائل : منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللَّه عليهم ، ووقّفوا أسماعهم على العلم النافع لهم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزّلت في الرخاء ، ولولا الأجل الذي كتب اللَّه عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقاً إلى الثواب ، وخوفاً من العقاب .

عظم الخالق في أنفسهم ، فصغر ما دونه في أعينهم ، فهم والجنّة كمن قد رآها فيهم فيها منعّمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون ، قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، صبروا أيّاماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة ، تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم ، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها))(1).

اللَّه ، اللَّه ، نعم يحقّ لهمام أن يشهق شهقة تكون بها نفسه ، من تأثير مثل هذه المواعظ البليغة ، فقد جعل أمير المؤمنين(عليه السلام) هماماً يلامس الحقائق التي يعايشها المتّقون فلم يتحمّل ذلك وهوى إلى الأرض صريعاً .

العلاقة بين التقوى والآخرة

والسؤال الذي يطرح هنا هو : ما هي العلاقة بين التقوى والنظر إلى الآخرة

ص: 617


1- نهج البلاغة : خ193 يصف فيها المتّقين .

الذي أمرت به الآية المباركة ؟

الجواب عليه أنّ الإنسان المتّقي دائماً ينظر إلى الدار الآخرة ، ففي كل عمل ينظر إليه بعين الآخرة فإن كان مرضياً عند اللَّه ومقرّباً إليه تعالى فإنّه يقبل عليه أمّا إذا كان العمل مسخطاً للباري تعالى وموجباً لغضبه فإنّ المتّقي يتجافاه ويفرّ منه كفراره من الأسد .

ففي الحديث القدسي إنّ اللَّه تعالى خاطب نبيّه موسى فقال : ((والمؤمن من زُيّنت له الآخرة ، فهو ينظر إليها ما يفتر قد حالت شهوتها بينه وبين لذّة العيش فأدلجته بالأسحار كفعل الراكب السائق إلى غايته يظلّ كئيباً ويمسي حزيناً فطوبى له لو قد كشف الغطاء ماذا يعاين من السرور))(1).

وأخيراً نقول : إنّ الدنيا مزرعة الآخرة ، واليوم عمل ولا حساب ، وغداً النتائج تصدر والمحاصيل تحصد ، وكل يحصد نتائج غرسه وزرعه في هذه الدنيا .

فلا يتوقّع زارع الشوك حصاد القمح أو حتّى الشعير .

ص: 618


1- الكافي : ج8 ص41 ح8 .

79- موادّة أعداء اللَّه عزّوجلّ

اشارة

(79) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ »(سورة الممتحنة : 1)

في رحاب المفردات

عدوّي : العَدْو هو التجاوز ومنافاة الالتئام فتارةً يعتبر بالقلب فيقال له العداوة والمعاداة ، وتارةً بالمشي فيقال

ص: 619

له العَدْو ، وتارةً في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له العدوان والعدْوُ(1).

أولياء : الولاية هي النصرة ، والولاية بمعنى تولّي الأمر(2).

بالمودّة : الودّ هو محبّة الشي ء وتمنّي كونه ، ويستعمل إلى كلّ واحد من المعنيين على أنّ التمنّي يتضمّن معنى الودّ لأنّ الودّ هو تشهّي حصول ما تودّه(3).

شأن النزول

تحدّث المفسّرون وكتّاب السيرة والتفسير أنّ الآية المباركة نزلت في حاطب ابن أبي بلتعة ، وذلك أنّ سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام ، أتت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من مكّة إلى المدينة ، بعد بدر بسنتين ، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا . قال : أمهاجرة جئت ؟ قالت : لا . قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي ، وقد ذهب مواليّ ، واحتجت حاجة شديدة ، فقدمت عليكم لتعطوني ، وتكسوني وتحملوني! قال : فأين أنت من شبّان مكّة ؟ وكانت مغنية نائحة . قالت : ما طلب منّي بعد وقعة بدر . فحثّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله عليها بني عبدالمطلّب ، فكسوها ، وحملوها ، وأعطوها نفقة . وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يتهجّز لفتح مكّة ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة ، وكتب معها كتاباً إلى أهل مكّة ، وأعطاها عشرة دنانير ، وكساها برداً على أن توصل الكتاب إلى أهل مكّة ، وكتب في الكتاب :

ص: 620


1- مفردات الراغب : ص338 .
2- مفردات الراغب : ص570 .
3- مفردات الراغب : ص553 .

((من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة : إنّ رسول اللَّه يريدكم ، فخذوا حذركم)) .

فخرجت سارة ، ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى الله عليه وآله بما فعل ، فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله علياً وعمّاراً وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود ، وأبا مرثد ، وكانوا كلّهم فرساناً ، وقال لهم : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فخذوه منها ، فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي ذكره رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقالوا لها : أين الكفّار ؟ فحلفت باللَّه ما معها من كتاب ، فنحّوها وفتّشوا متاعها ، فلم يجدوا معها كتاباً ، فهمّوا بالرجوع ، فقال علي(عليه السلام) : واللَّه ما كذّبنا ، ولا كذّبنا ، وسلّ سيفه وقال لها : أخرجي الكتاب ، وإلّا واللَّه لأضربنّ عنقك! فلمّا رأت الجدّ أخرجته من ذؤابتها ، قد أخبأته في شعرها . فرجعوا بالكتاب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .

فأرسل إلى حاطب فأتاه ، فقال له : هل تعرف الكتاب ؟ قال : نعم . قال : فما حملك على ما صنعت ؟ قال : يارسول اللَّه ، واللَّه ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّا وله بمكّة من يمنع عشيرته ، وكنت عريراً فيهم )أي غريباً). وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتّخذ عندهم يداً ، وقد علمت أنّ اللَّه ينزل بهم بأسه ، وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فصدّقه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وعذره . فقام عمر بن الخطاب وقال : دعني يارسول اللَّه أضرب عنق هذا المنافق . فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : وما يدريك ياعمر ، لعلّ اللَّه أطلع على أهل بدر ، فغفر لهم ، فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت

ص: 621

لكم(1).

عبر من الآية

كيف نتعامل مع الكفّار ؟ وكيف ينبغي أن تكون علاقتنا معهم ؟

هذا ما تجيب عليه الآية الاُولى من سورة الممتحنة .

فالآية المباركة تتحدّث وتتناول فرع من فروع الدين المهمّة وهو التبرّي من أعداء اللَّه الذي يقابله التولّي لأولياء اللَّه الكرام عليهم السلام .

وربما تعتبر مسألة ((التبرّي)) بالمفهوم العام - أصل من اُصول الدين الإسلامي الحنيف ، والأحاديث الواردة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وعترته الطاهرة عليهم السلام كثيرة جدّاً وكلّها تدلّ على ذلك .

ففي الحديث عن الإمام الباقر : ((وهل الدين إلّا الحبّ والبغض في اللَّه))(2).

وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((إمّا أن تحبّ أعداء أو تصفّي ودّك لغير أولياء اللَّه ، فإنّ من أحبّ قوماً حُشر معهم))(3).

وقال الإمام علي(عليه السلام) : ((لا تمنحنّ ودّك لمن لا وفاء لها))(4).

قال الإمام الحسين(عليه السلام) : ((القريب من قرّبته المودّة وإن بعد ، والبعيد من

ص: 622


1- مجمع البيان : ج28 مج9 ص446 - 445 .
2- الكافي : ج8 ص79 ح35 .
3- غرر الحكم : في رضى اللَّه وسخطه 4015 .
4- غرر الحكم : 9560 .

باعدته المودّة وإن قرب))(1).

وعن الإمام علي(عليه السلام) قال : ((عين المحبّ عميّة عن معايب المحبوب ، واُذنه صمّاء عن قبح مساويه))(2).

المسلمون يوادّون أعداء اللَّه

وبالرغم من ذلك إلّا أنّ كثيراً من المسلمين دأبوا على اتّخاذ الأعداء أولياء من يهود ونصارى وملحدين ، يوادّونهم ويحبّوهم بل ويتّخذونهم خواصاً ومقرّبين ((بطانة)) ، ويفشون إليهم أسرارهم ، ويستشيرونهم في كل قضاياهم الكبيرة والصغيرة ، ويأخذون بمشورتهم مهما كانت تضرّ في مصالح الاُمّة ، لأنّهم يزيّنونها ويظهرونها أنّها تصب في مصالح الحاكم .

ألم يقاتل معاوية الإمام علي(عليه السلام) ويبيد الآلاف في صفّين بمشورة شخص نصراني ؟

وألم يقتل الإمام الحسن(عليه السلام) بمشورة نفس هذا النصراني ؟

وألم يقتل الإمام الحسين(عليه السلام) بمشورته أيضاً ؟

فالحاكم إذا قرّب الفاسق سوف يبعّد الصالح والمؤمن ، وإدخالهم وتداخلهم في جميع شؤونهم - وهم يحسبون أنّهم لهم ناصحون - وللأسف يدسّون له ولأمنه السمّ بالعسل دون أن يدري ، ورحم اللَّه الشاعر حيث قال :

إن كنت لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

ص: 623


1- الكافي : ج2 ص643 ح7 .
2- غرر الحكم : 11061 .

لذلك أخذت الآية المباركة تذمّ هذا الشعور ، لأنه هناك فاصلاً عقائدياً بين المسلمين ، والشقّة بعيدة جدّاً ، ومع وجود هذا الفاصل كيف يحصل لهم الاطمئنان بهم وكيف يسلّمونهم رقابهم ؟

فالجذور العقائدية مؤثّرة حتماً ، في الإنسان - مهما كان - ولو كان فاسقاً في عمله أو كافراً في عقيدته ، فالعقيدة تبقى مترسّخة ومتجذّرة في أعماق النفس وفي صميم القلب ، والعاقل أو الذكي النبيه لا يعطي أي فرصة لعدوّه للنيل منه .

فلا يمكن أن نجمع جذوة من نار وقطعة من ثلج في يد واحدة ، ولا يمكن أن يجتمع حبّ أولياء اللَّه وأعداء اللَّه في قلب قطّ .

فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال : ((لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول : «مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ(1).

وفي رواية عن أبي جعفر(عليه السلام) في قوله : «مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ(2)« قال علي بن أبي طالب(عليه السلام) : ((لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان ، إنّ اللَّه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه فيحبّ هذا ويبغض هذا ، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه ، فمن أراد أن يعلم حبّنا فليمتحن قلبه فإن شاركه في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا ولسنا منه واللَّه عدوّهم وجبرئيل وميكائيل واللَّه عدوّ للكافرين))(3).

ص: 624


1- سورة الأحزاب (33) : الآية 4) بحار الأنوار : ج24 ص318 ح24 .
2- سورة الأحزاب (33) : الآية 4 .
3- تفسير القمّي : ج2 ص171 .

أسباب البراءة من أعداء اللَّه

وعلى كل فإنّ في الآية إشعاراً بسبب الحكم والحكم معاً .

فالحكم هو حرمة التعامل وحرمة المودّة لأعداء اللَّه .

وأمّا الأسباب فهي :

1 - أنّهم أعداء اللَّه )أي أنه هناك فاصل عقائدي( أو )تناقض عقائدي بحت).

2 - أنّهم أعداء لكم )لأنّ التناقض في المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وما إلى ذلك).

فالذي يفعل ذلك لا شك أنه كما قالت الآية المباركة : «فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(1)« أي الذي يودّ الأعداء وينصرهم ، ويكره المسلمين ويخذلهم فإنّه يضيّع طريق الحقّ المستقيم الواضح الذي لا إعوجاج فيه أبداً ، وهو طريق المسلمين ونهج المؤمنين بقيادة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والأئمّة الأطهار عليهم السلام .

الجدير بالذكر أنّ الآية تحتوي على لفتة لطيفة بقوله تعالى : «إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي(2)«.

أي أنّ الذي يخرج مهاجراً وغرضه الجهاد في سبيل اللَّه ، وأمله رضا اللَّه - عزّوجلّ - فعليه أن يبقى على ذلك لا أن يقوده هواه إلى غير ذلك .

وقد أشار رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إلى المعنى في حديث له فقال : ((من كانت هجرته إلى اللَّه ورسوله ، فهجرته إلى اللَّه ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها ، أو دنياً

ص: 625


1- سورة الممتحنة (60) : الآية 1 .
2- سورة الممتحنة (60) : الآية 1 .

يصيبها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه))(1).

فالهجرة يجب أن تكون إلى اللَّه لا إلى النساء أو الأموال أو المتاع الفاني حتّى أنّ التاريخ يقول : بأنّ أحدهم قتل من أجل الحمار فسمّي شهيد الحمار .

واللَّه سبحانه كما يقول في كتابه : «أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ(2)« لأنّه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد فيعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ويعلم النفس ووسوستها ، والقلب وخلجاته ، وما يقع فيه والفكر وما يدور فيه - سبحانه وتعالى - .

ص: 626


1- بحار الأنوار : ج67 ص249 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص90 ح57 .
2- سورة الممتحنة (60) : الآية 1 .

80- كيف نمتحن المهاجرات ؟

اشارة

(80) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ »(سورة الممتحنة : 10)

في رحاب المفردات

فامتحنوهنّ : المحن والامتحان نحو الابتلاء ... قال اللَّه تعالى : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى(1).

ص: 627


1- سورة الحجرات (49) : الآية 3) مفردات الراغب : ص485 - 484 .

جناح : سُمّي الإثم المائل بالإنسان عن الحقّ جُناحاً ، ثمّ سمّي كل إثم جناحاً نحو قوله تعالى : «لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ(1).

بعصم : العِصام ما يُعصم به أي يشد(2).

شأن النزول

قبل أن نتناول الآية بالشكل الكامل لا بأس أن نمرّ بقصّة نزولها فإنّ لها فائدة قد تفيدنا أثناء البحث .

فقد قال ابن عبّاس : صالح رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بالحديبية مشركي مكّة ، على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم ، ومن أتى أهل مكّة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فهو لهم ولم يردّوه عليه ، وكتبوا بذلك كتاباً ، وختموا عليه .

فجاءت سُبيعة بنت الحرث الأسلمية ، مسلمة بعد الفراغ من الكتاب - والنبي صلى الله عليه وآله بالحديبية - فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم ((أو صيفي بن الراهب)) في طلبها - وكان كافراً - .

فقال : يامحمّد ! اردد عليّ امرأتي ، فإنّك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا . وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد .

فنزلت الآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ(3)« من دار الكفر إلى دار الإسلام ((فامتحنوهنّ)) .

ص: 628


1- سورة البقرة (2) : الآية 235) مفردات الراغب : ص98 .
2- مفردات الراغب : ص349 .
3- سورة الممتحنة (60) : الآية 10 .

((وامتحانهنّ أن يستحلفن ، ما خرجت من بغض زوج ، ولا رغبة عن أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، وما خرجت إلّا حبّاً للَّه ولرسوله)) .

فاستحلفها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله على أنّها ما خرجت بغضاً لزوجها ، ولا عشقاً لرجل منّا ، وما خرجت إلّا رغبة في الإسلام ، فحلفت باللَّه الذي لا إله إلّا هو على ذلك ، فأعطى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله زوجها مهرها ، وما أنفق عليها ، ولم يردّها عليه ، وفيما بعد تزوّجها عمر بن الخطاب(1).

عبر من الآية

من المسائل المهمّة التي كانت محل ابتلاء المسلمين في صدر الإسلام هي مسألة كيفية التعامل مع النساء المهاجرات ، فكيف ينبغي أن نتعامل معهنّ ؟ وما هو نظر الإسلام في ذلك ؟ مثل هذه الآية المباركة جاءت لترشد المسلمين إلى ذلك .

فقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يردّ من جاءه من الرجال ، ويحبس من جاءه من النساء ، إذا امتحنّ ويعطي أزواجهنّ مهورهنّ .

وهذه الآية الكريمة تهدينا إلى اُسلوب العمل ازاء النساء المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام ، من خلال المنهجية التالية :

1 - الامتحان : أي يجب أن يقسمن باللَّه على الإخلاص في النيّة التي هاجرن لأجلها ، فهل كانت هجرتهنّ إيمانية أو لأسباب اُخرى دنيوية أو مصالح مكتسبة أو شرور مدفوعة ؟

إذ أنّ المرأة قد تفرّ من زوجها الظالم ، أو لأنّها تعشق رجلاً من القوم الذين تفرّ

ص: 629


1- مجمع البيان : ج28 مج9 ص452 .

إليهم ، أو طمعاً في السكن في بلاد غير بلادها ، وما شابه ذلك .

ولكن كيف يكون الامتحان ؟

هل كان بنفس الاُسلوب المستخدم لدى النصارى في القرون الوسطى )بمحاكم التفتيش( وما شابه ذلك من الوسائل الظالمة ؟

كلّا ، فاُسلوب الإسلام رائع وسهل وبسيط للغاية ، وهو )الاستحلاف( حيث إنّ المرأة تحلف على ذلك ، فالإسلام الحنيف لم يعقّد الاُمور بل جعلها في غاية البساطة ، فلا تعقيد ولا التواء ، بل يكفي مجرّد كلمات لإحقاق الحقّ ودحض الباطل .

وقد يرد تساؤل على ذهن البعض وهو : أنه يمكن أن تكون هذه الكلمات فارغة وغير نابعة من القلب بل مجرّد لقلقة لسان ، فهي بالتالي لا تعبّر عن حقيقة المشاعر الباطنية للإنسان الحالف ؟

وللجواب نقول :

1 - الحلف باللَّه تعالى : له خصوصية لدى جميع البشر ، وهو يشكّل )عقبة( يصعب على الكثيرين تجاوزها - إلّا على الكذّابين المحترفين - ولذا تقلّ نسبة الكذب في الحلف باللَّه تعالى إلى حدٍّ ما .

2 - نحن لا نعلم البواطن : ولسنا مكلّفين بالبواطن وما يدور فيها ، ولذا ورد الحديث : ((إنّما اُمرت أن أقضي بينكم بالأيمان والبيّنات))(1).

فعلينا العمل وفق الظواهر فقط والبواطن يترك حسابها على علّام الغيوب ، وكم من الموارد - وقد مرّت بعض القصص - الذي يقول فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لمن قتل رجلاً بعد أن شهد الشهادتين : ((هلّا شققت قلبه))(2).

ص: 630


1- الكافي : ج7 ص414 ح1 .
2- بحار الأنوار : ج66 ص140 .

من جانب آخر فإنّ الرجال يختلفون عن النساء ولذلك نجد أنّ الرسول صلى الله عليه وآله كان يردّ الرجال إلى أهل مكّة - حسب الاتّفاق - ولا يردّ النساء وذلك لضعفهنّ وقلّة حيلتهن ، فهنّ لا يستطعن المقاومة والعناد وتحمّل المشاقّ والعذاب في معظم الأحيان .

2 - لا يجوز تزويج المؤمنة أو المسلمة إلّا من المؤمن أو المسلم فلا يجوز أن تعطيها إلى الكفّار أو المشرك أو الملحد ولا بشكل من الأشكال لأنّها كما قال تعالى : «لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ(1)« وقال تعالى : «الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ(2)« وكما في الحديث الشريف : ((المؤمن كفؤ المؤمنة))(3) وغيرها من الأحاديث والأحكام المفصّلة في كتب الفقه .

وبالمقابل نجد أنّ المسلم يجوز له أن يأخذ من بقية الملل والطوائف إذا شعر الرشد والاستجابة فيها إذا دعاها إلى الإسلام والإيمان باللَّه تعالى ، أمّا الكافرة فلا يجوز الاستمرار معها لقوله تعالى : «وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ(4)«.

من شواهد التاريخ

وقد ذكرت كتب التفسير قصصاً كثيرة حصلت بعد نزول هذه الآية منها :

أنّ عمر بن الخطّاب طلّق امرأتين كانتا له بمكّة مشركتين وهما : قرنية بنت أبي اُميّة بنت المغيرة ، فتزوّجها بعده معاوية بن أبي سفيان ، وهي على شركهما بمكّة ، والاُخرى اُمّ كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية اُمّ عبداللَّه بن عمر ، فتزوّجها أبو

ص: 631


1- سورة الممتحنة (60) : الآية 10 .
2- سورة النور (24) : الآية 26 .
3- وسائل الشيعة : ج20 ص67 ح25055 .
4- سورة الممتحنة (60) : الآية 10 .

جهم بن حذافة بن غانم ، وكذلك كانت عند طلحة بن عبداللَّه أروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبدالمطلّب التي كانت كافرة ، ففرّق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسّك بعصم الكوافر .

وكان طلحة قد هاجر وهي بمكّة عند قومها كافرة ، ثم تزوّجها في الإسلام بعد طلحة ، خالد بن سعيد بن العاص بن اُميّة ، وكانت ممّن فرّت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من نساء الكفّار ، فحبسها وزوّجها خالداً ، وكذلك كانت اُميمة بنت بشر ، كانت عند ثابت بن الدحداحة ، ففرّت منه ، وهو يومئذ كافر ، إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فزوّجها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله سهل بن حنيف ، فولدت عبداللَّه بن سهل(1).

الاختلاف الفقهي في المسألة

وبما أنّ البحث انتهى إلى الزواج من أهل الكتاب فلا بأس من الاشارة إلى نظر الفقهاء فيها ، فإنّ المسألة - الزواج من أهل الكتاب - محلّ خلاف بين الفقهاء ، خاصّة إذا نظرنا إلى سورة المائدة التي جاء فيها : «وَالُْمحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالُْمحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ(2)« التي جعلت الفقهاء يختلفون في أنّ أيّهما تنسخ الاُخرى .

فقد قال صاحب الجواهر رحمه الله : إنّ التحقيق الجواز مطلقاً )أي جواز نكاح أهل الكتاب بصفة مطلقة( ، واستدلّ بداية على عدم الجواز بالكثير من الأقوال والروايات المشهورة عن أئمّتنا الكرام عليهم السلام لا سيّما الرواية التالية الموثّقة التي تفيد عدم الجواز .

فعن ابن الجهم قال : قال لي أبو الحسن الرضا(عليه السلام) : ((ياأبا محمد ما تقول في

ص: 632


1- مجمع البيان : ج28 مج9 ص453 - 452 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 5 .

رجل يتزوّج نصرانية على مسلمة ؟)) .

قلت : جعلت فداك وما قولي بين يديك ؟

قال(عليه السلام) : ((لتقولنّ فإنّ ذلك تعلم به قولي)) .

قلت : لا يجوز تزويج النصرانية على مسلمة ولا على غير مسلمة .

قال(عليه السلام) : ولِمَ ؟ قلت : لقول اللَّه - عزّوجلّ - «وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ(1)«.

قال : فما تقول في هذه الآية «وَالُْمحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ(2)«.

قلت : قوله : «وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ(3)« نسخت هذه الآية ، فتبسّم ثم سكت))(4).

ثمّ نقضها كلّها بالكثير من الأحاديث الموثّقة عن أهل البيت عليهم السلام كالحديث الوارد عن الإمام الصادق(عليه السلام) في الرجل المؤمن يتزوّج النصرانية واليهودية .

قال(عليه السلام) : ((إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية ؟)) .

فقلت : يكون له فيها الهوى ؟ فقال(عليه السلام) : ((إن فعل فليمنعها من شرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير ، واعلم أنّ عليه في دينه في تزويجه إيّاها غضاضة))(5).

ويبدو من هذه الروايات المؤيّدة للجواز أنّ المسألة فيها كراهة لا غير .

ففي هذه الآية المباركة درساً بليغاً جدّاً في الحقل الاجتماعي والاُسري ، وبالتحديد في موضوع هجرة النساء المؤمنات إلى ديار الإسلام والمجتمع المؤمن ، فإنه لا يعتبر ولاية الزوج عقبة في قبول هجرتهنّ إذا تبيّن منهنّ الصدق .

ص: 633


1- سورة البقرة (2) : الآية 221 .
2- سورة المائدة (5) : الآية 5 .
3- سورة البقرة (2) : الآية 221 .
4- الكافي : ج5 ص357 ح6 .
5- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص407 ح4422 .

بل يُحرم على المؤمنين إرجاعهنّ لأزواجهنّ الكفرة ، وهذا لون من الحماية التشريعية والاجتماعية ، فإنه ليست للكافر الولاية على المؤمنة ، كما لا يجوز للمؤمن أن يتزوّج الكافرة بالأصل أو بالردّة ، ويبيح الدين الزواج من الكافرات إذا آمنّ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله .

وعلى الإنسان المؤمن أن يحتاط لدينه ما استطاع لا سيّما بمثل هذه الأوضاع والمسائل الاجتماعية الحسّاسة جدّاً .

ص: 634

81- مفهوم التبرّي في القرآن الكريم

اشارة

(81) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ »(سورة الممتحنة : 13)

في رحاب المفردات

تتولّوا : الوِلاية النصرة ، والوَلاية هو تولّي الأمر(1).

يئسوا : اليأس هو انتفاء الطمع ، يقال يأس واستيأس مثل عَجب واستعجب وسخر واستسخر ، قال تعالى : «فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً(2).

ص: 635


1- مفردات الراغب : ص570 .
2- سورة يوسف (12) : الآية 80) مفردات الراغب : ص574 .

شأن النزول

قال أمين الإسلام الطبرسي رحمه الله : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» أي لا تتولّوا اليهود . وذلك أنّ جماعة من فقراء المسلمين ، كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين ، يتواصلون إليهم بذلك ، فيصيبون من ثمارهم ، فنهى اللَّه عن ذلك(1).

عبر من الآية

نداء رحماني جديد بأنّ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ(2)« كأن تقول لولدك : يابني لا تصحب الكاذب فإنه يقرّب منك البعيد ويبعّد عنك القريب .

أو كما قال لقمان الحكيم لإبنه عند موعظته إيّاه هذه الآية : «يَا بُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(3)«.

ولا يختلف إثنان إنّ هذا النداء من اللَّه سبحانه لعبادة المؤمنين هو رأفة منه تعالى بهم لأنّ تولّي من ((غضب اللَّه عليهم)) سيؤدّي إلى غضبه سبحانه الذي يستوجب دخول الجحيم الحارقة .

من هنا كان علينا أن نميّز بين ثلاثة اُمور مهمّة في هذا المجال وهي :

ص: 636


1- مجمع البيان : ج28 مج9 ص457 .
2- سورة الممتحنة (60) : الآية 13 .
3- سورة لقمان (31) : الآية 13 .

1 - )التعامل( والمعاملة بين المؤمنين واُولئك القوم .

2 - )الإحسان( بأن يحسن الإنسان المؤمن إلى بعض اُولئك القوم .

3 - )التولّي( بأن نجعلهم أولياء لنا ونصفي لهم الودّ والحبّ وما أشبه ذلك .

ولا يخفى أنّه بالنسبة للكفّار والمشركين وأهل الكتاب لا يوجد نهي وتحريم بالنسبة للأوّلين - أي أن نتعامل معهم بالبيع والشراء والعمل والأجار وما شابه ذلك أو حتى الزواج منهم إذا ما رأينا أنه هناك مصلحة دينية في ذلك - على اختلاف في المسألة بين الفقهاء كما ألمعنا في بحوث سابقة .

وكل ذلك لا بأس به في حدّ ذاته ما لم يطرأ في المسألة عنوان ثانوي آخر قد يقلب الموازين والأحكام وكذا هو الحال بالنسبة إلى مسألة )الإحسان( إليهم فهو لا بأس به على كل الأحوال وقد قال تعالى : «وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ(1)«.

الرسول صلى الله عليه وآله يحسن إلى مشركي مكّة

كما أنّ النبي صلى الله عليه وآله أحسن إلى مشركي قريش بعد فتح مكّة بعد فعلهم الأفاعيل ، حيث لم يتركوا شيئاً يضرّ الرسالة والرسول صلى الله عليه وآله إلّا وفعلوه ، سواء أكان ذلك في مكّة المكرّمة ، أم بعد أن هاجر إلى المدينة المنوّرة ، فجهّزوا عليه الجيوش وقادوا القبائل والكتائب وخاضوا الحروب المتتالية في بدر واُحد والأحزاب وغيرها ، وقتلوا من قتلوا من أقاربه الهاشميين كحمزة سيّد الشهداء فضلاً عن أصحابه المخلصين كعبداللَّه بن الحارث .

ورغم كل ذلك ، لمّا ظفر بهم جمعهم في ساحة الكعبة المشرّفة بعد أن كسر

ص: 637


1- سورة الممتحنة (60) : الآية 8 .

الأصنام التي فيها ، ووقفوا أمامه أذلّاء خاسئين منكّسي رؤوسهم إلى الأرض ، ووقف أمامهم كالطود الشامخ ، والقائد الفاتح المنتصر وجنده تحوط بهم من كل ناحية ، وقال لهم : ما تظنّون أنّي فاعل بكم ؟

فقالوا : أخ كريم وابن أخ كريم .

فقال صلى الله عليه وآله : إذهبوا فأنتم الطلقاء(1).

ياللَّه ، فإنّ مثل أبي سفيان وزوجته هند آكلة الأكباد وغيرهما ممّن آذوا الرسول وحاربوه تلك الحروب الدامية الطويلة لمّا يقعون في قبضة يده يعفو عنهم بهذا الشكل الإنساني وبهذه الكيفية التي لم تخطر في بالهم أصلاً .

لكن يبقى القول إنّ هذا ليس بغريب على صاحب الرسالة السماوية والأخلاق القرآنية ، والإحسان المحمّدي الخالص .

كما أنّ الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، فعل مثل ذلك مع أعدائه في معركة صفّين لمّا سبقه جيش معاوية واحتل شاطئ الفرات ومنعوا الماء عن جيشه (عليه السلام)فبعث إليهم من أجل الإنصاف وترك ماء الفرات إلى الجميع فرفضوا ذلك ، فأرسل مالك الأشتر رحمه الله بأربعة آلاف فأجلوهم بقوّة السلاح واحتلّوا مشرعة الفرات .

آنذاك أشار بعض من كان في عسكر الإمام علي(عليه السلام) بأن دعنا نحبسهم عن الفرات كما منعونا عنه .

فرفض ذلك وترك الفرات وماؤه إلى الجميع(2)... نعم إنّها أخلاق علوية رفيعة ، وإحسان منقطع النظير .

ص: 638


1- ذكرت هذه العبارة في البحار : ج19 ص181 .
2- راجع بحار الأنوار : ج41 ص146 - 145 .

ولكن مع الأسف الشديد فإنّهم مقابل هذا الإحسان العظيم حبسوا الإمام الحسين(عليه السلام) وأبنائه ونسائه وجيشه عن نهر الفرات في كربلاء حتّى كادوا يموتون عطشاً من جرّاء ذلك ، وإنّك لتعجب إذا عرفت أنّ أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) لا يتجاوزون المئة وخمسين رجلاً في أكبر الروايات والجيش الاُموي يبلغ لا أقل من ثلاثين ألف كافر ؟

وتزداد عجباً إذا عرفت أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) هو الذي أنقذ مقدّمة الجيش الاُموي وذلك حين قابل الحرّ الرياحي ومعه ألف فارس كادوا يموتون عطشاً ، فأمر أصحابه بأن يسقوا القوم ويرشفوا الخيل ترشيفاً .

حتّى أنه(عليه السلام) بيديه الكريمتين قد ساعد أحدهم للشرب من فم الراوية(1)، نعم إنّها الرسالة الإسلامية المباركة والأخلاق الحسينية العالية ، وصدق الشاعر الذي يقول : ((كلّ إناء بالذي فيه ينضح)) .

فالإحسان إلى الآخرين هو من شيم المؤمنين الملتزمين بمبادئ الإسلام المنادية إلى الإحسان إلى الآخرين .

فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال إلى أصحابه : ((افعلوا الخير ولا تحقّروا منه شيئاً ، فإنّ صغيره كبير وقليله كثير ، ولا يقولنّ أحدكم : إنّ أحداً أولى بفعل الخير منّي ، فيكون واللَّه كذلك ، إنّ للخير والشرّ أهلاً ، فمهما تركتموه منها كفاكموه أهله))(2).

والتاريخ ملي ء بالقصص - لا سيّما عن المعصومين عليهم السلام - الذين يحسنون لليهود

ص: 639


1- الإرشاد : ج2 ص78 .
2- نهج البلاغة : ق422 .

والنصارى فيسلمون بدين الإسلام من جرّاء ذلك ، وربما يكون هذا هو حكمة الحكم بحلّية التعامل مع الكفّار وأهل الكتاب وغيرهم ، من أجل أن يروا ويعيشوا الأخلاق الإسلامية ويسمعوا كلام اللَّه - تعالى - وأحاديث الرسول العظيم صلى الله عليه وآله .

فقد قال أحد النصارى للإمام الباقر(عليه السلام) : أنت بقر !

فقال له : ((أنا باقر)) .

قال : أنت ابن الطباخة !

قال : ((ذاك حرفتها)) .

قال : أنت ابن السوداء الزنجية البذيّة !

قال : ((إن كنت صادقاً غفر اللَّه لها ، وإن كنت كذبت غفر اللَّه لك)) ، فأسلم النصراني(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) : ((رحم اللَّه عبداً حبّبنا إلى الناس ولم يبغّضنا إليهم ، أما واللَّه لو يرون محاسن كلامنا لكانوا به أعزّ وما استطاع أحد أن يتعلّق عليهم بشي ء ، ولكن أحدهم يسمع الكلمة فيحطّ إليها عشراً))(2).

النهي عن تولّي أعداء اللَّه

أمّا ((التولّي)) الذي نهت عنه الآية الكريمة فهو أن نتّخذهم أصدقاء وأحباب وبطائن نعطيهم الأسرار ، ونشاورهم في الأعمال والأفكار ، فهذا ما لا يجوز أبداً عند اللَّه ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله لأنّ هؤلاء :

ص: 640


1- مناقب آل أبي طالب : ج4 ص207 .
2- الكافي : ج8 ص229 ح293 .

1 - غضب اللَّه عليهم .

فكيف نوالي من غضب اللَّه عليه ، وندّعي أنّنا أحبّاء اللَّه ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وآله يصفنا في ذلك قائلاً : ((اُولئك أحبّائي ، آمنوا بي ولم يروني ، يودّ أحدهم أن يفتديني بماله وولده والناس أجمعين))(1).

وقيل إنّها نزلت في اليهود خاصّة ، ولا سيّما الذين فسّروا وأوّلوا آيات سورة الفاتحة المباركة وذهبوا إلى أنّ ((غير المغضوب عليهم)) أنّهم اليهود خاصّة ، وأمّا ((الضالّين)) فهم النصارى خاصّة(2).

2 - إنّهم يئسوا من الآخرة .

فهم لا دنيا ولا آخرة لهم لأنّهم في الدنيا منبوذين وفي الآخرة مطرودين عن ساحة القرب المقدّسة .

لأنّ الاعتماد على الآخرة ، والأمل بها ، أو الخوف منها ((أي الأمل بالجنّة ، والخوف من النار)) يشكّل وازعاً داخلياً يمنع الإنسان من الخيانة والكذب والافتراء والدجل وما شابه ذلك من الاُمور التي يشتهر بها اليهود والمشركين .

أمّا الإنسان الذي لا يعتقد بالآخرة ، فلا وازع لديه من دين ولا رادع من ضمير يردعه عن ارتكاب أي محرّم أو أي عمل يضرّ بالمؤمن ، فكيف إذن يطمئن إليه ؟

أو كيف يطمئن أن لا يغشّ أو يخذل أو يكذب على الآخرين أو حتّى يقتلهم عند الضرورة ؟

ص: 641


1- بصائر الدرجات : ص84 ح4 .
2- راجع تفسير كنز الدقائق : ج1 ص80 .

نعم ، لقد يئس هؤلاء من أي خير في الدار الآخرة ، كما يئس الكفّار من أصحاب القبور حيث ظنّوا أن لا فائدة في من يموت بل يتحلّل جسمه ويعود إلى أصله التراب ، كحال المادّيين اليوم الذين يعتقدون بأنّ الحياة مادّة ، وأن لا فائدة ممّن يموت أبداً .

فعلى المؤمن أن يودّ المؤمن ويتّخذه أخاً وصديقاً وكاتماً لأسراره لأنّه أمين منه كل الأمان ولأنّ اللَّه سبحانه يقول : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(1)« والأخ لا يفرّط بأخيه بأي شكل من الأشكال .

ص: 642


1- سورة الحجرات (49) : الآية 10 .

82- الوقوع في مزالق النفاق

اشارة

(82) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ »(سورة الصف : 2)

في رحاب المفردات

تقولون : القول يستعمل على أوجه أظهرها أن يكون للمركّب من الحروف المُبرز بالنطق مفرداً كان أو جملة ، فالمفرد كقولك زيد وخرج . والمركّب زيد منطلق ، وهل خرج عمرو(1).

تفعلون : الفعل التأثير من جهة مؤثِّر وهو عام لما كان بإجادة أو غير إجادة ولما كان بعلم أو غير علم وقصد أو غير قصد ، ولما كان من الإنسان والحيوان والجمادات(2).

ص: 643


1- مفردات الراغب : ص430 .
2- مفردات الراغب : ص397 - 396 .

شأن النزول

نقل أصحاب التفاسير أنّ شأن نزول هذه الآية هو : أنّ رجلاً يوم بدر قد آذى المسلمين فقتله صهيب في القتال ..

فقال رجل : يارسول اللَّه قتلت فلاناً ..

ففرح الرسول بذلك ، فقال عمرو بن عبدالرحمن لصهيب : أخبر النبي صلى الله عليه وآله أنّك قتلته ، وإنّ فلاناً ينتحله .. فقال صهيب : إنّما قتلته للَّه ورسوله .. فقال عمر بن عبدالرحمن : يارسول اللَّه إنّما قتله صهيب .

فقال صلى الله عليه وآله : كذلك ياأبا يحيى ؟

قال : نعم يارسول اللَّه صلى الله عليه وآله(1).

عبر من الآية

إحدى الابتلاءات الكبيرة في المجتمعات المختلفة هي حالة ((الانفصام بين القول والعمل)) الذي كان وما زال منتشراً بين صفوف المسلمين في كل مكان ، وهذا يمكن أن يتحقّق على نحوين إثنين :

1 - أن يقول الإنسان شيئاً - كأن يعدّ بالمساهمة في عمل خيري معيّن - وهو لا يريد منذ البداية القيام به - فيكون هذا شعبة من شعب النفاق ، لأنّ النفاق هو أن يظهر الإنسان شيئاً ويبطن عكسه تماماً .

2 - أن يقول الإنسان شيئاً وهو يريد القيام به فعلاً ، ولكنّه عندما يحين موعد

ص: 644


1- مجمع البيان : ج28 مج9 ص461 - 460 .

التنفيذ فإنّه يتراجع ويتراخى عن القيام به ، وهذا ليس دليلاً على النفاق بل هو دليل على ضعف الهمّة وخور الإرادة لا أكثر .

وعلى كل إنّ هذين النوعين مذمومان عقلاً وشرعاً ، وينبغي للإنسان أن يتجنّبهما قدر المستطاع .

بل ينبغي للإنسان أن يكون قوله مطابقاً لعمله ، وعمله مطابقاً لقوله ، وكلا هذين العملين ناشئين من منشأ واحد ألا وهو ((القلب التقي النقي)) .

فقد نقل المؤرخّون : أنّ بعض المسلمين بعد غزوة بدر الكبرى كانوا يقولون : إنّنا إذا لقينا العدو فلن نفرّ ، وقد كان حديثهم هذا بعد أن حثّهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله على الجهاد ورغّبهم بالثواب وأنذرهم من العقاب ، ودعاهم إلى الشهادة .

ومع الأسف الشديد لم يطل عليهم العهد حتّى فرّوا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في معركة اُحد حتّى شجّ وجهه الكريم وكسرت رباعيته ، ولم يلتفّوا حوله بل إنّ بعضهم ركض إلى سيف البحر ، والآخرين وصلوا إلى مشارف الشام وعلى بعد ثلاثة أيّام من المدينة حتّى قال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : لقد ذهبت بها عريضاً .

إذن فهؤلاء قالوا ، وما فعلوا ، أي أنّهم ناقض قولهم فعلهم .

وقيل : إنّ اُناساً من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد كانوا يقولون : وددنا لو أنّ اللَّه دلّنا على أحبّ الأعمال إليه ، فنعمل به ؟

فأخبرهم اللَّه ، أنّ أفضل الأعمال الإيمان ، والجهاد في سبيل اللَّه .

فقبل الناس الاُولى باللسان ، وشقّ عليهم الثانية وتباطؤوا عنه ، وتثاقلوا وتكاسلوا عن ذلك كلّه .

وهنا ربما نتذكّر قصّة بني إسرائيل مع نبيّهم حين قالوا له إنّهم يريدون الجهاد والقتال في سبيل اللَّه ، فقال لهم نبيّهم(عليه السلام) أخاف أن تنكثوا عهدكم ولا تفعلون ما

ص: 645

تقولون ، فوعدوه الخير وأنّهم سينصرونه على كل حال .

فقال لهم : إنّ اللَّه بعث إليكم طالوت ملكاً تجاهدون تحت رايته وقيادته ، فكان أوّل اعتراض لهم على القائد بالذات ، وليس لعدم الكفاءة ، بل لعدم الجدّة والمال بين يديه ، ولم يكن جبّاراً وعملاقاً في الجسم ، فقد نقل عزّ من قائل ذلك في القرآن الكريم فقال : «وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ(1)«.

فقال لهم(عليه السلام) ووضّح : أنّ القيادة بمؤهّلات اُخرى غير المؤهّلات التي يطلبونها بل بالعلم والتقى والورع والشجاعة والإخلاص وما شابه ذلك ، والقصّة طويلة واردة في سورة البقرة .

وأخيراً قالوا : إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون .

ومع الأسف الشديد فقد اقتفى بعض المسلمين أثر هؤلاء ، إلّا أنّهم لم يقولوا للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله إذهب وربّك فقاتلا ، وإنّما خالفوه عملياً في كثير من وصاياه الخالدة .

كما أنّ هناك أقوالاً تقول إنّ المراد بالآية هو : أنّ قوماً كانوا يقولون : جاهدنا ، وأبلينا ، وفعلنا وهم لم يفعلوا شيئاً أبداً بل تكون الأقوال لهم ، والأفعال لغيرهم .

فكم كان يقتل ويأسر أمير المؤمنين(عليه السلام) ويأتي فلان وفلان من الناس ليقول له : لماذا لم تسلبه ياعلي ((كقصّة عمرو بن عبد ودّ)) في غزوة الأحزاب ، حيث إنّ الإمام(عليه السلام) قطع رأس النفاق وأخذه معه ، وركض الآخرون لسلب عمرو لأنّ درعه كانت أغلى الدروع العربية .

أو أنّ أحدهم يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وآله ويمتشق سيفه ويقول له : دعني أضرب عنق ذاك الأسير ، أو ذاك المنافق ، أو ما شابه ذلك ، وهو في ساحات القتال لم

ص: 646


1- سورة البقرة (2) : الآية 247 .

يضرب بسيف ولم يطعن برمح ولم يرم بنبل .

فأمثال هؤلاء وغيرهم نزلت فيهم هذه الآية المباركة وغيرها من الآيات .

تحذير المؤمنين من خطر النفاق

والسؤال الذي يطرح هنا هو : كيف يتوجّه النداء للمؤمنين ويصفهم بصفات المنافقين ؟

الجواب : إنّ المؤمن لو لم يكن في حذر وقع في حفرة من حفر النفاق ، وباستثناء المعصومين فإنّ كل فرد )حتّى المؤمنين( يمكن أن تراودهم بعض صفات النفاق )كالخلف بالوعد أو الكذب( وإذا ما بلغ الأمر إلى حدّ سيطرة هذه الصفات على مجمل حياته لحقّ بالمنافقين .

والقصص التي تدلّ على ذلك كثيرة ، وقصّة فتح خيبر هي من أعظم القصص عبرة في ذلك ، حيث إنّه ما من عمل إلّا وترى المتطفّلين يركضون في أوّل الناس لا لشجاعة أو مكرمة ، بل من أجل أن يرى الآخرون أنّهم تقدّموا .

ففي اليوم الأول أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أحدهم وهو يقود المسلمين وعند المساء عاد يجبّن أصحابه وهم يجبّنونه .

وفي اليوم الثاني أرسل الآخر وعاد عند المساء كذلك يجبّن أصحابه وهم يجبّنونه .

فانزعج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقال : ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ اللَّه ورسوله ويحبّه اللَّه ورسوله كرّاراً غير فرّاراً يفتح اللَّه عليه يديه))(1).

آنذاك استشرف القوم لها ، حتّى قال أحدهم : ما أحببت الإمارة كذاك اليوم .

ص: 647


1- مسند أحمد بن حنبل : ج5 ص354 - 353 ، خصائص النسائي ص5 .

الملفت للانتباه أنّ هذه الحالة بقيت على مرّ التاريخ وقد ابتلي أمير المؤمنين(عليه السلام) بمثل هؤلاء وظلّ يعاني منهم أشدّ المعاناة حتّى أنّه(عليه السلام) قال في كلام له : ((أيّها الناس ، المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهي الصم الصلاب ، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء ، تقولون في المجالس كيت وكيت ، فإذا جاء القتال قلتم : حيدي قتاد ! ما عزّت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم ، أعاليل بأضاليل ، وسألتموني التطويل ، دفاع ذي الدين المطوّل ، لا يمنع الضيم الذليل ، ولا يدرك الحقّ إلّا بالجدّ! أي دار بعد داركم تمنعون ، ومع أي إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور واللَّه من غررتموه ، ومن فاز بكم فقد فاز - واللَّه - بالسهم الأخيب ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل أصبحت واللَّه لا اُصدّق قولكم ، ولا أطمع في نصركم ، ولا أوعد العدو بكم ، ما بالكم ؟ ما دواؤكم ؟ ما طبّكم ؟ القوم رجال أمثالكم أقوالاً بغير علم )عمل( وغفلة )عفّة( من غير ورع ، وطمعاً في غير حقّ))(1).

فالواجب على المؤمن أن يقترن قوله بفعله ، ويبادر نصيحته لتقواه وعمله وورعه عن المحارم وكما جاء في الحديث الشريف عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((كونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً))(2).

ص: 648


1- نهج البلاغة : خ29 يستنهض فيها أصحابه .
2- الكافي : ج2 ص77 ح9 .

83- تجارة لن تبور

اشارة

(83) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ »(سورة الصف : 10)

في رحاب المفردات

أدلّكم : الدلالة ما يتوصّل به إلى معرفة الشي ء كدلالة الألفاظ على المعنى ودلالة الإشارات والرموز والكتابة والعقود في الحساب ، وسواء كان ذلك بقصد ممّن يجعله دلالة أو لم يكن بقصد كمن يرى حركة إنسان فيعلم أنه حي ، قال تعالى : «مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ(1)«، وأصل الدلالة مصدر كالكناية والأمارة ، والدالّ من حصل منه ذلك ، والدليل في المبالغة كعالم ، وعليم ، وقادر وقدير ، ثمّ يسمّى الدالّ والدليل دلالة كتسمية الشي ء بمصدره(2).

تجارة : التجارة التصرّف في رأس المال طلباً للربح يقال تَجَرَ يتّجر وتاجر وتَجْر كصاحب وصحب(3).

ص: 649


1- سورة سبأ (34) : الآية 14 .
2- مفردات الراغب : ص173 .
3- مفردات الراغب : ص69 .

شأن النزول

عن أبي جعفر(عليه السلام) في قوله : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ» فقالوا : لو نعلم ما هي لنبذلن فيها الأموال والأنفس والأولاد ، فقال اللَّه : «تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ »إلى قوله : «ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(1)«.

عبر من الآية

دعت هذه الآية المباركة إلى متاجرة عظيمة بين اللَّه وعباده المؤمنين ، إلّا أنّ الرابح دائماً في هذه التجارة هم المؤمنون لأنّ اللَّه - سبحانه وتعالى - لا يريد منّا شيئاً إلّا العبادة ، أمّا الربح الذي يطمح إليه العباد فهو النجاة من عذاب جهنّم وهوانها .

فيالها من صفقة رابحة ، فمثل هذه الآية جاءت لترغّب المؤمنين في )التجارة( إلّا أنها بربح دائم ولا خسارة فيها أبداً .

فالمؤمنون - إذن - تجّار ، ولكن ليس كالكفّار بتجارتهم ، إذ أنّه هناك فرق كبير جدّاً بين التجارتين حيث إنّ هناك نوعين من التجّار ، بنوعين من التجارات .

فهناك تجارة يقوم بها اُناس قصيري النظر .

وهناك تجارة يقوم بها اُناس بعيدي النظر .

وهذا هو الفرق الجوهري بين التجارة التي يقوم بها المؤمن والتجارة التي يقوم بها غيرهم من الناس .

ولإيضاح الفكرة نضرب مثلاً من أرض الواقع والحياة اليومية .

ص: 650


1- تفسير القمّي : ج2 ص365 .

طالبان أحدهما يلهو طيلة أيّام السنة ولا يدرس ولا يكتب الواجبات المدرسية ، ويخلد في أيّام الامتحان إلى الدعّة والراحة والكسل ، أو يقضي أوقاته الثمينة في اللعب واللهو ، فهل يربح مثل هذا الطالب ؟

نعم ، ربح )ربحاً آنياً( فهو ربح )الراحة( و )اللهو( و )اللعب( ولكنّه خسر المستقبل حيث إنّه سقط في الامتحان الذي سبّب له خسارة المستقبل والوظيفة والراتب ، وربما يسقط حتّى من العيون القريبة إليه .

أمّا الآخر فقد درس دروسه بالترتيب وكتب واجباته كلّها ، وهو يرهق نفسه ، ويسهر ليله ، ويضغط على أعصابه ، وربما فقد بصره من كثرة الدراسة .

ولكنّه )ربح( المستقبل والوظيفة والراتب والكرامة والرفعة في عيون الناس كلّهم .

فأيّهم الرابح حقيقة ؟ لا شك أنّه الثاني دون الأول .

ولذا فإنّ ما قاله عمر بن سعد قائد الجيش الذي قاتل وقتل الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه الكرام - رضوان اللَّه عليهم - حيث قال : ((وما عاقل باع الوجود بدين)) .

فهذا القول هو خطأ كبير ، بل هو نفث من الشيطان ، وتبرير من نفس عمر بن سعد الشيطانية الخبيثة ، إذ أنّ كل العقلاء يبيعون الوجود بالدين .

ولولا ذلك لما كان هناك حاجة إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام ولا الكتب المنزلة من السماء بل نقول كما يقول الملحدون : إنّ الحياة مادّة ولا شي ء سواها .

فما الفرق إذن بين أي واحد من الملحدين وعمر بن سعد وغيره ممّن قالوا بمقالته الخبيثة تلك ، فإذا كانت الجنّة والنار دين ، فإنّ اللَّه - سبحانه - كذلك دين ؟

آثار التجارة مع اللَّه عزّوجلّ

وعلى كل فإنّ الآية المباركة تدعو المؤمنين إلى )تجارة( ، مربحة جدّاً ، وليس

ص: 651

أثرها كأثر بقيّة التجارات ، بل لا قياس بين التجارتين أبداً لأنّ أثرها هو :

1 - غفران الذنوب : إذ أنه لا يوجد إنسان ليس له ذنوب إلّا من عصمهم اللَّه تعالى ، فلكل إنسان ذنوب عادة ، وغفرانها ضرورة ملحّة في الدارين ، إذ أنه لا يمكن تسويق البضاعة إذا كان فيها عيب ، فيجب أن تكون بضاعتك مزجاة لتقبل وتباع .

لذلك كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يستغفر اللَّه سبعين مرّة في كل يوم ، وهو الذي غفر اللَّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، فكيف لا نستغفر نحن ؟ بل كيف لا يجب علينا الاستغفار ؟

وهذا ما نأخذه من أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي قال بحضرته رجلاً من أصحابه : أستغفر اللَّه وأتوب إليه فقال له : ((ثكلتك اُمّك ، أتدري ما الاستغفار ؟

الاستغفار درجة العلّيين وهو اسم واقع على ستّة معانٍ :

أوّلها الندم على ما مضى ، والثاني العزم على ترك العودة إليه أبداً ، والثالث أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى اللَّه أملس ليس عليك تبعة ، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها ، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان ، حتّى تلصق الجلد بالعظم ، وينشأ بينهما لحم جديد ، والسادس أن تذيق الجسم ألف طاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : ((أستغفر اللَّه))(1).

فلكي يغفر اللَّه ذنوب الإنسان عليه أن يفعل ما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) بأن )يندم ، ويعزم ، ويؤدّي الحقوق للناس ، ويؤدّي الفرائض المطيعة ، ويذيب اللحم الثابت من الحرام ، ويذيق نفسه ألم الطاعة( وعند ذلك يقول - ويحقّ له - أن يقول : أستغفر اللَّه ربّي وأتوب إليه ، فالاستغفار ليس لقلقة لسان ، بل عمل عظيم الشأن .

ص: 652


1- نهج البلاغة : ق417 .

2 - الفوز بالجنّة :

وهذا طموح عالٍ جدّاً ، فدخول الجنّة التي قال عنها تعالى : «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً(1)« يحتاج إلى إخلاص وصدق نيّة ترفع الإنسان إلى نيل هذه المرتبة التي لا ينالها إلّا ذو حظّ عظيم .

ففي الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يصف فيه الجنّة فقال : ((هو قصر لؤلؤ في الجنّة ، في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء .

في كل دار سبعون بيتاً من زمرّدة خضراء .

في كل بيت سبعون سريراً .

على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون .

وفي كل بيت سبعون مائدة .

على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام .

في كل بيت سبعون وصيفاً ووصيفة .

قال : ويعطي اللَّه المؤمن من القوّة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كلّه))(2).

فمثل هذه الجنّة خلقها اللَّه تعالى لعباده المؤمنين مقابل إخلاصهم وحرصهم على طاعته في هذه الدنيا الفانية .

3 - النصر الإلهي ، والفتح القريب .

فالنصر بيد اللَّه - تعالى - يهبه لمن يشاء ، إذا ما كان هناك مقوّمات النصر وأسبابه أو كمعجزة إلهية كنصر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في معظم غزواته لا سيّما في غزوة بدر الكبرى والأحزاب ، وغيرها .

وأمّا الفتح فهو أشمل وأعمّ من النصر الآني أو المحدود فقد كان فتح مكّة فاتحة

ص: 653


1- سورة التوبة (9) : الآية 72 .
2- بحار الأنوار : ج8 ص149 ح84 .

لفتح الجزيرة العربية أمام المسلمين ، وفتح الجزيرة كان فاتحة لفتح الدنيا .

فهذه الآيات الكريمة تحدّد الاستراتيجيات الأساسية للجهاد بنوعيه ، فهو على صعيد الآخرة - وقبل كل شي ء - يجب أن يستهدف النجاة من النار وغفران اللَّه وكذلك يشمل الفوز بالجنّة وقد قال تعالى مشيراً إلى ذلك : «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ(1)«.

أمّا على صعيد الدنيا فإنّ الفتح أهمّ من النصر لأنّ النصر هو هزيمة العدو عسكرياً وقد يكون محدوداً بالزمان والمكان ، بينما الفتح فهو الانتصار الشامل في كل الأبعاد . كما أنّ في الآيات بياناً لمسيرة الصراع بين الأفكار والاُمم ، ففي المرحلة الاُولى يدور الصراع بين الفلسفات الدينية والقيم البشرية ، فتنتصر الفكرة الدينية على الآخرين . وسوف يستمر هذا التحوّل حتّى يأتي اليوم الذي تعود فيه البشرية إلى اللَّه والدين ، فتبدأ المرحلة الثانية ، التي يدور فيها الصراع بين الدين الخالص ، والأديان المنحرفة ، وقد تكفّل ربّنا بإظهار دينه الحقّ على كل الأديان حيث قال عزّوجلّ : «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(2)«.

فما أحوجنا اليوم إلى المصلح المنتظر - عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف - ليخرجنا من الظلمات إلى النور ، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً .

سهّل اللَّه مخرجك سيّدي ياصاحب الزمان وجعلنا من أصحابك وأعوانك على أعدائك ومن المستشهدين بين يديك إله الحقّ آمين .

ص: 654


1- سورة آل عمران (3) : الآية 185 .
2- سورة التوبة (9) : الآية 33 .

84- الكون مع أنصار اللَّه تعالى

اشارة

(84) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ »(سورة الصف : 14)

في رحاب المفردات

أنصار : النصر والنصرة هي العون ، قال تعالى : «إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا(1).

للحواريين : هم أنصار عيسى(عليه السلام) وقال بعض العلماء : إنّما سمّوا حواريين لأنّهم كانوا يطهّرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم(2).

ص: 655


1- سورة غافر (40) : الآية 51) مفردات الراغب : ص516 .
2- مفردات الراغب : ص135 - 134 .

طائفة : الطائفة من الناس هي الجماعة منهم ، ومن الشي ء القطعة منه(1).

شأن النزول

عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال : ((إنّ حوارييّ عيسى صلّى اللَّه عليه كانوا شيعته ، وإنّ شيعتنا حواريونا ، وما كان حوارييّ عيسى بأطوع له من حواريينا لنا ، وإنّما قال عيسى(عليه السلام) : ((من أنصاري إلى اللَّه قال الحواريون نحن أنصار اللَّه)) فلا واللَّه ما نصروه من اليهود ، ولا قاتلوهم دونه ، وشيعتنا واللَّه لم يزالوا منذ قبض اللَّه عزّ ذكره رسوله صلى الله عليه وآله ينصرونا ويقاتلون دوننا ويخوّفون ويحرقون ويعذّبون ويشرّدون في البلاد ، جزاهم اللَّه عنّا خيراً ، وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ((واللَّه لو ضربت خيشوم(2) محبّينا بالسيف ما أبغضونا ، واللَّه لو أدنيت إلى مبغضينا وحثوت لهم من المال ما أحبّونا))(3).

عبر من الآية

العديد من الناس لمّا يقرأون مثل هذه الآية المباركة تراودهم التساؤلات التالية وهي : هل إنّ اللَّه سبحانه بحاجة إلى أنصار ؟

وكيف يمكن لنا أن نكون أنصاراً للَّه عزّوجلّ ؟

ص: 656


1- مفردات الراغب : ص320 .
2- الخيشوم : أقصى الأنف .
3- الكافي : ج8 ص224 ح396 .

ولماذا تدعو الآية المؤمنين إلى نصرة اللَّه ؟

مقدّمة ينبغي الالتفات بأنّ اللَّه تعالى هو الغني المطلق وإلى هذا تشير الآية الكريمة قائلة : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(1)« ، والذي يتّصف بهذه الصفات القدسية لا يحتاج إلى نصرة بشر ضعيف ذليل حقير مسكين مستكين ، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا حياة ولا نشوراً .

من جانب آخر الإنسان الذي لا يستطيع أن ينفع نفسه هل يستطيع أن ينفع اللَّه سبحانه ؟

الجواب : لا ، ولكن اللَّه - تعالى - أرسل رسلاً ، وبعث أنبياء كراماً إلى الاُمم على الأرض ، وأنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط ، فشرّع لهم شرائع ووضع لهم قوانين ناظمة للحياة كلّها .

لذلك فإنّ نصرة اللَّه - سبحانه - هي عبارة عن نصرة اُولئك الرسل والأنبياء العظام عليهم السلام والالتزام بذاك القانون والدفاع عن تلك الشرائع السماوية الحقّة ليست إلّا .

بالطبع فإنّ نفع ذلك كلّه يعود لنا جميعاً نحن بني البشر - أفراداً ومجتمعات - وليس عائداً إلى اللَّه سبحانه تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ، لأنّه لا تنفعه طاعة من أطاع ولا تضرّه معصية من عصى . بل إنّ المنفعة التامّة هي للمطيعين الذين ستشملهم عناية اللَّه وألطافه فيخلّدون في دار النعيم التي أعدّها الباري تعالى لهم .

من هنا فإنّ النصرة للَّه هي من باب التشريف والتفضيل للرسول صلى الله عليه وآله وللرسالة السماوية ، حيث نسبت نصرتهما إلى نصرة اللَّه تعالى ، وقد ورد هذا في القرآن الكريم في موارد عديدة منها اقراض اللَّه الذي قالت عنه الآية : «مَنْ ذَا الَّذِي

ص: 657


1- سورة فاطر (35) : الآية 15 .

يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ(1)«.

أنصار اللَّه عزّوجلّ في القرآن

وقد ضرب لنا القرآن الكريم - في آية البحث - مثالاً رائعاً ، ونموذجاً تاريخاً لأنصار اللَّه ، الذين تفانوا في دين اللَّه الذي أنزله على رسوله الكريم عيسى المسيح(عليه السلام) ألا وهم )الحواريون).

وذلك ليكون محفّزاً للمسلمين حتّى يكونوا أنصار اللَّه - تعالى - كأصحاب عيسى المسيح(عليه السلام) بل وأفضل منهم إن استطاعوا ، لأنّ رسولهم هو الأفضل ورسالتهم الأكمل والأعمّ والأشمل من كل الرسالات السابقة لها .

فإنّ النماذج الحيّة والأمثلة الحياتية عادةً ما تحرّك الناس وتترك فيهم أثراً طيّباً أكثر ممّا تحرّكهم الأفكار المجرّدة والنظريات المجمّدة ، فمن هم الحواريون إذن ؟

إنّهم خاصّة الأنبياء ، وقد سمّوا بذلك لأنّهم أخلصوا من كل عيب .

وقد كانوا (12) رجلاً مخلصاً ، بعثهم نبي اللَّه عيسى(عليه السلام) رسلاً عنه ومبلّغين لرسالته إلى بلدان متعدّدة للدعوة إلى اللَّه ، ونصرة ونشر دين اللَّه تعالى .

والتاريخ يقول : إنّهم ظلّوا على خطّ السيّد المسيح(عليه السلام) إلّا واحداً منهم فسق عن أمر ربّه وهو )يهوذا الاسخريوطي).

وربما تسأل عزيزي القارئ وتقول : كم هم صحابة الرسول وحوارييه ؟

ولا اُبيحك سرّاً إذا قلت لك إنّ جواب هذا السؤال هو من السهل الممتنع ، وذلك لأنّه تبهرك الأعداد التي تقرأها في التاريخ ممّا يسمّونهم ويقولون عنهم أنّهم كلّهم عدول .

ص: 658


1- سورة البقرة (2) : الآية 245 .

فبالرغم أنّه في حجّة الوداع فقط كان مع الرسول صلى الله عليه وآله أثناء الحج ما يزيد عن (124) الف(1) وعلى قولهم أنّهم صحابة النبي صلى الله عليه وآله .

إلّا أنّه وبعد وفاته صلى الله عليه وآله ظلمت إبنته وصودرت أموالها المنقولة وغير المنقولة بأمر من الخليفة الأوّل شخصياً ، حتى أنّها الوحيدة في الدنيا كلّها لا يحقّ لها أن ترث أباها صلى الله عليه وآله ولماذا ؟ لست أدري ؟!

فقد احتجّت على المهاجرين بكتاب اللَّه وبأوّل من هاجر ، واحتجّت عليها السلام على الأنصار بكتاب اللَّه ، وبالأنصار ، واستنجدت وذكّرتهم عهودهم للرسول صلى الله عليه وآله إلّا أنّهم جميعاً لم يجيبوها بشي ء ... لماذا ؟ لست أدري ؟

بل إنّهم جمعوا الحطب على باب دارها بعد أن هجموا وحاولوا اقتحامه بالقوّة ، فصدّتهم بجسدها النحيل - روحي فداها - فكسروا ضلعها ، ومزّقوا أحشاءها حين أسقطوا جنينها ، ولطموا وجهها حتّى تناثر قرطها ، وضربوا ظهرها حتّى أنّها توفّيت وفي جسدها الطاهر أثراً كالدملج .

وبعد أيّام من انتقال والدها العظيم صلى الله عليه وآله استشهدت عليها السلام وقيل بأشهر ودفنت في الليل سرّاً ولم يحضر جنازتها إلّا أربعة أو خمسة ، وهي غاضبة على أقوام ظلموها حقّها ، وغصبوها إرثها واعتدوا على حرمتها ، لماذا ؟ لست أدري ؟

ونعود إلى السؤال ونقول : هل عرفت لماذا هو من السهل الممتنع ؟

أين الحواريون إذن ، ومن هم ؟

إن كان لروح اللَّه المسيح(عليه السلام) (12) حوارياً فلم نجد لرسولنا محمد صلى الله عليه وآله إلّا )ثلاثة( ، فعن أبي جعفر(عليه السلام) قال : ((ارتدّ الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله إلّا ثلاثة نفر : المقداد

ص: 659


1- راجع الغدير للعلّامة الأميني : ج1 ص9 .

ابن الأسود ، وأبو ذرّ الغفاري ، وسلمان الفارسي ثمّ إنّ الناس عرفوا ولحقوا بعد))(1).

وهكذا فمن الطبيعي أن ينخرط جميع الناس في خطّ التفاني في بادئ الأمر ، إلّا أنّهم ينقسمون إلى فريقين )مؤمن وكافر( وهنا يأتي دور أنصار اللَّه في حمل راية الحق والمحافظة عليها عالية خفّاقة فوق الرؤوس ، والجهاد ضدّ تعدّي وظلم وطغيان الفئة الكافرة . وبالطبع فإنّ اللَّه سبحانه لن يترك أنصاره بلا مدد ولا عدد ، حيث إنّهم نصروه ، لذلك فإنّه سبحانه قد تكفّل بنصرهم وإلى ذلك تشير الآية : «لَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ(2)«.

وعلى كل فالآية تشير إلى المراحل الأساسية في الحركات الرسالية وهي أربع مراحل :

1 - انبعاث القائد الرسالي في المجتمع ، وهو يمثّل بذرة الخير والنور الأساسية للحركة والإصلاح والتغيير الجذري للمجتمع .

2 - التفاف مجموعة من الناس حول القائد ، وإيمانهم بفكره ، وتسليمهم الاُمور كلّها لقيادته الحكيمة ، ويشكّلون هم الطلائع الثورية الرسالية .

3 - توسّع دائرة الحركة وتيارها في المجتمع ، الأمر الذي يقسّمه إلى جبهتين : جبهة الحقّ ، وجبهة الكفر ، ممّا يؤدّي إلى الصراع بين الجبهتين .

4 - انتصار الحقّ وأهله على جبهة الباطل كعاقبة نهائية للصراع .

وعلى الإنسان المؤمن دائماً وأبداً أن يكون في جبهة الحقّ ضدّ جبهة الكفر والنفاق حتّى آخر قطرة من دمه ، وإلى آخر نفس من أنفاسه .

ص: 660


1- الاختصاص : ص6 .
2- سورة الحجّ (22) : الآية 40 .

85- خصائص يوم الجمعة المبارك

اشارة

(85) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»

(سورة الجمعة : 9)

في رحاب المفردات

نودي : النداء رفع الصوت وظهوره ، وقد يقال ذلك للصوت المجرّد ، ويقال للمركّب الذي يفهم منه المعنى ذلك ، قال تعالى : «وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى(1)« وكذلك «إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ(2)«، ونداء الصلاة مخصوص في الشرع بالألفاظ المعروفة(3).

فاسعوا : السعي المشي السريع وهو دون العَدْو ويستعمل للجدّ في الأمر خيراً كان أو شرّاً(4).

ص: 661


1- سورة الشعراء (26) : الآية 10 .
2- سورة الجمعة (62) : الآية 10 .
3- مفردات الراغب : ص507 .
4- مفردات الراغب : ص238 .

شأن النزول

قيل أنه أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام ، والنبي صلى الله عليه وآله يخطب يوم الجمعة ، فلمّا رأوه قاموا بالبقيع ، خشية أن يسبقوا إليه ، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله إلّا رهط ، فنزلت الآية فقال صلى الله عليه وآله : ((والذي نفسي بيده ! لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً))(1).

عبر من الآية

على الرغم أنّ ترك الاشتغال الزائد بمتعلّقات الدنيا ومشاغلها محبّذ إسلامياً وقد أكّدت عليه العديد من الآيات والروايات إلّا أنّ ترك الاشتغال بذلك في يوم الجمعة له خاصية اُخرى ، فياترى ما هي هذه الخاصية الموجودة في يوم الجمعة ؟

الجواب إنّ الخصوصية هي في يوم الجمعة وليلته حيث إنه يوم عيد للمسلمين ، وللعيد تهيئة خاصة ، فلذلك نجد أنّ ليلة الجمعة هي ليلة مباركة يجب أن تحيى بالعبادة والتهجّد والصلاة والدعاء والتضرّع إلى اللَّه سبحانه وتعالى .

فقد وصف الإمام الباقر(عليه السلام) اهتمام الرعيل الأول من المسلمين بالجمعة فقال : ((واللَّه لقد بلغني أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله كانوا يتجهّزون للجمعة يوم الخميس))(2).

فيوم الجمعة هو يوم عيد للاُمّة الإسلامية التي لها استقلالها في شعائرها ورسالتها عن الاُمم الاُخرى والديانات الاُخرى كاليهود والنصارى الذين لهم رسالتهم ولهم أعيادهم . وكما نقرأ في بعض الأخبار أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : ((كيف

ص: 662


1- مجمع البيان : ج28 مج10 ص11 .
2- الكافي : ج3 ص415 ح10 .

أنتم إذا تهيّأ أحدكم للجمعة عشيّة الخميس كما تهيّأ اليهود عشيّة الجمعة لسبتهم))(1).

من معطيات يوم الجمعة

وقد أشار القرآن الكريم إلى الموقع المهم لصلاة الجمعة ويومها ، فالجمعة على الصعيد الخارجي رمز استقلال الاُمّة ، وعلى الصعيد الداخلي رمز الوحدة والائتلاف . فالصلاة يوم الجمعة مثلاً لها ما يميّزها عن غيرها من الصلوات ، فهي صورة مصغّرة عن الحجّ ، الذي هو صورة مصغّرة عن يوم الحشر والنشر حيث يقف الناس لربّ العالمين ليروا أعمالهم . فالتجمّع الصغير يوم الجمعة هو اسبوعياً ، أي أنه مؤتمر إسلامي اسبوعي يجتمع فيه المسلمون من أجل مصالحهم الدينية والدنيوية ، كما أنّ الحج مؤتمراً إسلامياً عاماً يعقد كل عام مرّة لتداول الشؤون العامّة واتّخاذ القرارات المناسبة من أجلها ، وهذا ما لا يوجد له مثيل في الأديان كلّها على وجه الأرض . فلا يخفى ما لتلك المؤتمرات من فائدة على كل المستويات الحياتية للاُمّة الإسلامية فهي ضرورة حضارية وذات تأثير واضح وفوائد جمّة على كل الصعد ، ومنها :

1 - الصعيد السياسي : إذ أنّ لهذه التجمّعات والاجتماعات فائدة للقائد الذي يقود الجماهير ، فيشرح لهم المعطيات السياسية المستجدّة على أرض الواقع وربما كانت الجمعة مقرّاً لاتّخاذ القرارات المناسبة .

2 - الصعيد الاجتماعي : حيث إنّ هذا الاجتماع العظيم يؤدّي إلى تعارف الاُمّة إلى بعضهم البعض ، ممّا يعزّز أواصر المحبّة والاُلفة ويقوّي ويغذّي عنصر الوحدة فيها .

3 - الصعيد الاقتصادي : لا شك أنّ التعارف ، يمكن أن يؤدّي إلى التبادل التجاري ، هذا فضلاً عن الأمر الوارد في الآية التالية : «إِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا

ص: 663


1- مستدرك الوسائل : ج6 ص43 ح6387 .

فِي الْأَرْضِ(1)«، الأمر الذي يؤدّي إلى توسّع الحركة التجارية بين الأرياف والمدن كما هو معروف ومألوف .

4 - الصعيد الثقافي : إذ أنّ للجمعة خطبتين أحدهما ثقافية تعمّق الثقافة الرسالية في الاُمّة وتحصّنها مقابل الأفكار الدخيلة الاُخرى ، والثانية للدعاء والموعظة ، فمؤتمر الجمعة مؤتمر ثقافي رسالي بكل ما تعنيه الكلمة .

5 - الصعيد العبادي : فهي صلاة والصلاة صلة بين العبد وربّه ، والصلاة هي عمود الدين فمن أقامها أقام الدين ، إلى غيرها من الأحاديث الواردة في هذا الشأن .

السعي لصلاة الجمعة

من هذا المنطلق المهم أكّد الشارع المقدّس على السعي إلى صلاة الجمعة وترك كل ما سواها من شؤون الدنيا ، ولذلك أصبح السعي إلى الجمعة لدى بعض المسلمين أمراً مفروضاً بإجماع الاُمّة عند توفّر جميع شروطها ، وكما ورد في الحديث : إنّه كان بالمدينة إذا أذّن المؤذّن يوم الجمعة ، نادى منادٍ حرام البيع لقول اللَّه : «إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ(2)«. ولا يخفى الأمر فإنّ الكثير من فقهاء الإسلام اعتبروا وجود الحكم الشرعي والإمام العادل شرطاً أساسياً لإقامة صلاة الجمعة ، ولعلّ ذلك مرتكزاً على كونها من الشعائر الدينية السياسية التي ينبغي أن لا ينتفع منها الظلمة في تضليل الناس وتمكين أنفسهم . فهي من أبرز المناسبات وأهمّها لأنّه يجتمع فيها المسلمون ممّا يسمح للظلمة اتّخاذها كمنبر جماهيري لتضليل المجتمع ، ونحن نقرأ في التاريخ كيف أصبحت خطب الجمعة مركزاً لحرب أولياء اللَّه )وسبّهم والعياذ باللَّه( كما فعل الحزب الاُموي تجاه الإمام علي وأهل بيته عليهم السلام .

ص: 664


1- سورة الجمعة (62) : الآية 10 .
2- سورة الجمعة (62) : الآية 10 .

وبإعادة قراءة الآية نرى بأنّ هناك فرق بين تعبيرين :

1 - صلاة الجمعة .

2 - الصلاة من يوم الجمعة .

والآية الكريمة أمرت بالثاني دون الأول فلا تكون الآية إذن دليلاً على وجوب )صلاة الجمعة( في الآية ، بل منتهى الأمر أنّ الآية تأمر بالاهتمام )بالصلاة في يوم الجمعة( وهذا حاصل وموجود عندنا بلا شك .

مستحبّات يوم الجمعة

إذن - وكما يستفاد من الأخبار الشريفة - إنّ يوم الجمعة هو يوم عيد للمسلمين وهو سيد الأيّام ، وليلتها ليلة عبادة وتهجّد ودعاء ، ويستحبّ فيها المزيد من الابتهال إلى اللَّه ، والانشغال في المستحبّات كصلاة الليل وبعض النوافل الاُخرى وزيارة القبور لتذكّر الموت والموتى والترحّم عليهم والاعتبار بمصيرهم ، وبالذات قبور أئمّة الهدى عليهم السلام ومرقد سيّد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام) وأبنائه وإخوته وأصحابه الكرام عليهم السلام . وهي ليلة تجديد العهد مع الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام والإمام الحجّة صاحب العصر والزمان - عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف - لأنه صاحب يوم الجمعة - كما يقال - والمتوقّع فيه ظهوره بإذن اللَّه تعالى .

كما ينبغي صلة الأرحام والتزوار وإحياء جلسات الذكر في ليلة الجمعة ويومها ، والتوجّه إلى المساكين وتذكّر الفقراء والمحتاجين ببعض الصدقات ، والتزاور بين الإخوان لتتقوّى عناصر الاُلفة والمحبّة بين صفوف الاُمّة . ولا بأس بأن يقف الإنسان مع نفسه في ليلة الجمعة ليحاسبها محاسبة دقيقة وذلك لقوله صلى الله عليه وآله : ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم بميزان الحياء قبل أن توزنوا))(1) وبذلك يتم

ص: 665


1- بحار الأنوار : ج68 ص265 ح8 .

تجديد العزم على متابعة الخطط السليمة ومقاومة الانحرافات والضلالات .

الاهتمام بالاُمور المهمّة

إذن إنّ يوم الجمعة ليس يوم لعب ولهو باطل وانشغال بالتوافه ، وإنّما هي فرصة للمؤمنين للتفرّغ للعبادة وذكر اللَّه بخير الأعمال . ولذلك نرى بأنّ الكثير من العلماء الأعلام أفتوا بحرمة البيع حين الصلاة ، ومنهم من قال ببطلان العقود كذلك إذا كانت الجمعة مستوفية الشروط فقد قال المحقّق الحلّي في الشرائع : إن باع )عند النداء( أثم وكان البيع صحيحاً على الأظهر(1)، ومنهم من ذهب إلى الحرمانية .

ولا يخفى أنّ ترك البيع يوم الجمعة ليس مفسدة أبداً كما يظن بعض البسطاء بل هي )خير لكم( بل وكل خير وهناك أحاديث كثيرة توضّح ذلك .

فعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال : ((إذا كان يوم الجمعة نزل الملائكة المقرّبون معهم قراطيس من فضّة وأقلام من ذهب ، فيجلسون على أبواب المسجد على كراسي من نور ، فيكتبون الناس على منازلهم الأوّل والثاني ، حتّى يخرج الإمام ، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ، ولا يهبطون في شي ء من الأيّام إلّا في يوم الجمعة))(2).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((اُفٍّ لرجل لا يفرّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه))(3). وقال صلى الله عليه وآله : ((إنّ لكم في كل جمعة حجّة وعمرة ، فالحجّة الهجرة إلى الجمعة ، والعمرة انتظار العصر بعد الجمعة))(4).

ص: 666


1- شرائع الإسلام : كتاب الصلاة - في صلاة الجمعة - ج1 ص76 .
2- الكافي : ج3 ص413 ح2 .
3- الكافي : ج1 ص40 ح5 .
4- بحار الأنوار : ج86 ص214 .

86- الإعراض عن ذكر اللَّه عزّوجلّ

اشارة

(86) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ »(سورة المنافقون : 9)

في رحاب المفردات

تلهكم : اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يعينه ويهمّه ، يقال لهوت بكذا ولهيت عن كذا اشتغلت عنه بلهو ، قال : «إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ(1).

ذكر : الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلّا أنّ الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره ، وتارة يقال لحضور الشي ء القلب أو القول ، ولذلك قيل الذكر ذكران : ذكر بالقلب وذكر باللسان(2).

ص: 667


1- سورة محمد (47) : الآية 36) مفردات الراغب : ص475 .
2- مفردات الراغب : ص181 .

عبر من الآية

ضمّت هذه الآية المباركة أمر صعب عظيم ، خصّ اللَّه - سبحانه وتعالى - به المؤمنين في هذه السورة )المنافقون( التي جاءت في سياق الآيات الواصفة لبعض أحوال المنافقين .

فالأموال والأولاد زينة الحياة الدنيا ولكن الباقيات الصالحات خير ثواباً وخير عقباً ، فيجب على الإنسان دائماً أن يذكر اللَّه ، خاصّة في الخلوات حيث يكون المجال مفتوحاً للمعصية والعياذ باللَّه . وعل كل حال فإنّ الذكر على نوعين :

1 - الذكر الواجب : وهو ما يشمل ويتضمّن فعل الواجبات الشرعية ، وترك المحرّمات حيث إنّ تذكّر اللَّه يجعل الإنسان يفعل الأولى ويترك الثانية .

ولعلّ خير شاهد على ذلك هي قصّة نبي اللَّه يوسف(عليه السلام) وزليخا امرأة عزيز مصر .

حيث إنّها لمّا طلبت نبي اللَّه يوسف(عليه السلام) وغلّقت الأبواب وكانت قد أعدّت واستعدّت بكامل استعدادها لذلك ذهبت إلى صنم كانت تعبده وألقت عليه غطاءه ، فقال لها نبي اللَّه يوسف(عليه السلام) : لماذا فعلت ذلك ؟ فقالت : أخشى أن يراني وأنا في هذه الحال من المعصية .

ثمّ التفتت إليه وقالت : «هَيْتَ لَكَ(1)«.

آنذاك تذكّر نبي اللَّه يوسف(عليه السلام) ربّه وقال : «مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ(2)«.

2 - الذكر المستحبّ : الذي يتمثّل في الأوراد والأذكار كالتهجّد والدعاء ،

ص: 668


1- سورة يوسف (12) : الآية 22 .
2- سورة يوسف (12) : الآية 23 .

وصلاة الليل ، وبقية النوافل ، وقراءة القرآن والتحميد والتمجيد ، والتسبيح والتهليل وما إلى ذلك من الأذكار المعروفة .

منشأ الإعراض عن اللَّه عزّوجلّ

وهنا قد يرد سؤال على الذهن اليقظ فيقول : ما هو المانع عن ذكر اللَّه ، بكلا نوعيه الواجب والمستحب ؟

الجواب عليه بكلمة مختصرة : إنه الانشغال بالدنيا ، ومشاغلها التي من أهمّها هم الأولاد والأموال لذلك وصفهم ربنا سبحانه بالفتنة .

ولذا فإنّ الآية المباركة تنهانا عن الإنشغال بهما عوضاً عن ذكر اللَّه سبحانه وتعالى .

ولعلّ خير شاهد على هذا المطلب هي قصّة ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، حيث كان هذا الرجل غاية في الفقر والعوز إلّا أنه كان مواظباً على الطاعات والعبادات والجمعة والجماعات ، وبين الفينة والاُخرى كان يطلب من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الدعاء له من أجل زيادة رزقه قائلاً : يارسول اللَّه صلى الله عليه وآله ادع اللَّه أن يرزقني مالاً ، والذي بعثك بالحقّ ، لأن رزقني اللَّه مالاً لأعطينّ كل ذي حقّ حقّه .

وبعد تكرار الطلب والإلحاح قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((اللهمّ ارزق ثعلبة مالاً)) .

فاتّخذ غنماً فراحت تنمو وتكثر بسرعة حتى ضاقت عليه المدينة المنوّرة ، فتنحّى عنها إلى وادياً من أوديتها ، فكثرت أكثر فضاق عليها الوادي كذلك .

فأخذها وتباعد بها عن المدينة ، فانشغل بذلك عن الطاعات والجمعة والجماعات ، وفي أحد الأيّام بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله جامع الصدقات إليه ليأخذ صدقة الأموال الكثيرة عنده .

ص: 669

فأبى ثعلبة وأنكر واستنكر وبخل بحقّ اللَّه تعالى في ماله وقال : ما هذه إلّا أخذ لمال الناس بالباطل ، ولمّا عاد المحتسب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأخبره بذلك .

قال صلى الله عليه وآله : ياويح ثعلبة ، فأنزل اللَّه سبحانه الآية التي تقول : ((ومنهم من عاهد اللَّه ثمّ أتانا من فضله لنصدّقن)) فبخل واستغنى ، فما هي إلّا أشهر حتى عاد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بدون أي نوع من المال يبكي وينتحب حظّه التعيس(1).

ص: 670


1- مجمع البيان : ج10 مج5 ص94 - 93 .

87- احذروا هؤلاء

اشارة

(87) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(سورة التغابن : 14)

في رحاب المفردات

أزواجكم : يقال - الزوج - لكل واحد من القرينين من الذكر والاُنثى في الحيوانات المتزاوجة زوج ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج ... ولكل ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادّ زوج . قال تعالى : «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى(1).

عدوا : العَدْو التجاوز ومنافاة الالتئام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له العداوة والمعاداة ، وتارة بالمشي فيقال له العَدْو ، وتارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له العدوان والعَدْوُ(2).

ص: 671


1- سورة القيامة (75) : الآية 39) مفردات الراغب : ص221 - 220 .
2- مفردات الراغب : ص338 .

شأن النزول

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : ((إنّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وذلك أنّ الرجل كان إذا أراد الهجرة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله تعلّق به ابنه وامرأته ، وقالوا : ننشدك اللَّه أن لا تذهب عنّا وتدعنا فنضيع بعدك فمنهم من يطيع أهله فيقيم ، فحذّرهم اللَّه أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم ، ومنهم من يمضي ويذرهم ، ويقول : أما واللَّه لئن لم تهاجروا معي لم يجمع اللَّه بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشي ء أبداً ، فلمّا جمع اللَّه بينه وبينهم أمره اللَّه أن يحسن إليهم ويصلهم ، فقال : «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(1).

عبر من الآية

لا يخفى أنّ تخصيص المؤمنين في هذا الخطاب القرآني الجليل فيه بيان لحقيقة واقعية وهي : أنّ المؤمن الحقيقي هو مجاهد بطبعه ، لذلك تتوالى عليه الضغوط والتحدّيات ، ولأنّه من دون سائر الناس يتحمّل المسؤولية الرسالية ، وبالتالي فإنّه الأولى بمثل هذا الخطاب ، والأقرب لفهم معانيه .

فالعدو القليل الحقير ، ربما فعل فعلاً كبيراً وعمل عملاً كثيراً ، فلا ينبغي الاستهانة بالعدو مهما صغر .

ولا يخفى أنّ أعداء الإنسان المؤمن كُثر ، فمن نفسه الأمّارة بالسوء إلى أعدى أعدائه وهم أعداء اللَّه وأعداء رسوله ووليّه عليهم السلام .

ص: 672


1- سورة التغابن (64) : الآية 14) تفسير القمّي : ج2 ص372 .

ولكن - وكما تنصّ الآية - أنّ أخطر هؤلاء الأعداء هو العدو الخفي الذي يتلبّس بلباس الأخ والصديق فإنّ ضرره أخطر وأفتك لمعرفته الحقيقية بموطن الضعف في الإنسان ، واحصائه لعثراته وزلّاته ، ومعرفته بخططه ومشاريعه الحالية والمستقبلية . فهذا العدو هو أخطر أنواع الأعداء ، فضلاً عن ذلك فإنّ مقاومته غاية في الصعوبة ... فالعدو الذي يتلبّس بلباس صديق ناصح ومشفق ، وهو يضمر الخيانة والوقيعة بنا هو من أخطر الأعداء وألدّها .

من هنا ، فإنّ الأزواج والأولاد إذا كانوا فاسدين ، فهم من أخطر الأعداء على الإنسان المؤمن لأنّهم أعداء ملاصقون ، ويلبسون ثياب الصديق - بل الأهل - .

ولا يخفى أنّ لهؤلاء قدرة هائلة جدّاً على التأثير في الإنسان ، ففي الحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) يوضّح فيه مدى خطورة الأهل والأولاد إذا كانوا يصدّون الإنسان عن طاعة اللَّه فقال(عليه السلام) : ((أنّ الرجل كان إذا أراد الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وآله تعلّق به إبنه وامرأته وقالوا : ننشدك اللَّه أن لا تذهب عنّا وتدعنا فنضيع بعدك .

فمنهم من يطيع أهله فيقيم ، فيحذّرهم اللَّه من أبنائهم ونسائهم ونهاهم عن طاعتهم .

ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول : أما واللَّه لئن لم تهاجروا معي ثمّ يجمع اللَّه بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشي ء أبداً))(1).

خذلان الكوفة لسفير الحسين(عليه السلام)

إنّ التاريخ يشهد على الكوفيين عندما تخاذلوا عن نصرة الإمام الحسين (عليه السلام)ووقعوا تحت تأثير النساء حتّى بلغ الأمر أنّ مسلم بن عقيل سفير الإمام الحسين(عليه السلام) عندما صلّى صلاته كان المسجد غاصّ بالمصلّين خلفه .

ص: 673


1- تفسير القمّي : ج2 ص372 .

وإذا بالنساء يأتين كلٌّ تأخذ عزيزها وهي تقول : ما لنا والدخول بين السلاطين ، أو هم أبناء عمّ ، فلماذا نقتل أنفسنا من أجلهم ؟ وما إلى ذلك من الأقوال الباطلة .

فتفرّقوا جميعاً عن مسلم بن عقيل(عليه السلام) وبقي في المسجد وحيداً فريداً ، حيث إنّهم تركوه يقابل ابن زياد بلا ناصر ولا دليل ولا مأوى إلى أن آوته )طوعة( المؤمنة في بيتها ، إلّا أنّ ولدها الجاسوس بلّغ عنه طمعاً في الجائزة المالية التي أعلنها عبيداللَّه ابن زياد .

فهذا يدلّ على أنّ الأمر غير مختصّ بالرجال أو النساء ، ولا البنين والبنات بل هو شامل للجميع دون استثناء ، فكل مؤمن إذا ما حاول أحد أن يصدّه عن عمل الخير والجهاد في سبيل اللَّه وطاعة أولياء اللَّه والدفاع عنهم فعليه أن يعتبره عدوّاً ويحاربه خاصّة أنّ كلمة )مؤمن( تشمل الرجل والمرأة على حدّ سواء . إذن فليس كلّ الأزواج أو الأولاد هم أعداء ، ولذا عبّرت الآية المباركة ب )من( وهذا الحرف يفيد كما في اللغة العربية التبعيض لا الشمول للجميع .

ولذا فعلى الإنسان أن يكون حذراً جدّاً حتّى لا تورده زوجته أو أولاده في معصية اللَّه ، بل يجب أن يكون كل منهم دافعاً للآخر باتجّاه الطاعة والعبادة .

ولذلك حثّت الروايات على انتخاب الزوجة الصالحة ، فعن النبي صلى الله عليه وآله قال : ((ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمرها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسه وماله))(1).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : قال اللَّه عزّوجلّ : ((إذا أردت أن أجمع للمسلم خير الدنيا وخير الآخرة جعلت له قلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وجسداً على البلاء صابراً

ص: 674


1- الكافي : ج5 ص327 ح1 .

وزوجة مؤمنة تسرّه إذا نظر إليها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله))(1).

بطولات المرأة في كربلاء

وفي هذا المضمار يتجلّى دور زوجة زهير بن القين تلك المرأة الصالحة التي دفعت زوجها للالتحاق بركب الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه البررة .

فبينما كان ركب الإمام الحسين(عليه السلام) باتّجاه الكوفة ، كان ركب زهير بن القين في نفس الوقت يسير وكان يتحاشى الالتقاء مع الإمام(عليه السلام) وركبه ، إلى أن نزلوا جميعاً بقرب عين ماء ، فأرسل الإمام الحسين(عليه السلام) إليه . فجاء الرسول وقال له : أجب ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله . فتثاقل زهير ، فقالت له زوجته الصالحة : ويلك يازهير يدعوك ابن بنت نبيّك ولا تجبه ؟ قم إليه وانظر ما يكون من أمرك .

وبالفعل قام زهير وذهب إلى الإمام الحسين(عليه السلام) ليعود بعد قليل فيطلّقها ويرسلها إلى أهلها فتبكي تقول له : اذكرني عند فاطمة الزهراء عليها السلام .

انظر - عزيزي القارئ - إلى هذه المرأة المؤمنة التي دفعت زوجها إلى قمّة المجد والسؤدد حيث الشهادة في ركب الإمام الحسين(عليه السلام) ليكون من قادة جيشه في الحياة الدنيا ، وفي جواره في الجنّة في الدار الآخرة .

وهناك أكثر من قصّة في واقعة كربلاء تحكي عن بطولات النساء ، فالأقلام مهما كتبت وسطّرت فهي لا تفي بموقف واحد من مواقف اُمّ المصائب ((زينب العقيلة عليها السلام)) .

وفعلاً إنّ قول حسّان بن ثابت كان رائعاً وجميلاً حين قال :

ولو أنّ النساء كمثل هذي

لفضّلت النساء على الرجال

وكما أنّ للنساء تأثيراً خاصّاً على الإنسان كذلك هو تأثير الأولاد ، فهو لا

ص: 675


1- وسائل الشيعة : ج20 ص39 ح24977 .

يقلّ عن النساء أثراً ، فمثل قصّة ((محمد بن أبي بكر مع أبيه)) و ((الزبير بن العوام مع ولده)) و ((معاوية الثاني من حكم أبيه وجدّه)) كلّها تكشف بوضوح عن مدى تأثير الأبناء على الآباء ، ولذا فإنّ موقف الرجل المؤمن دائماً ينبغي أن يكون مع الحق لا مع سواه .

وفي نهاية هذه الآية المباركة وكعادة الخطاب للمؤمنين فهي دائماً وفي معظم الأحيان تنتهي بتحذير وتذكير .

تحذّر من الخشونة في التعامل مع الزوجة والأولاد والأقارب .

وتذكر بغفران الذنوب للعاصين ، والرحمة الواسعة من ربّ العالمين .

ولكن على الإنسان أن لا يبغي ويصفح ويغفر . وربما تستوقفنا هذه الكلمات الثلاثة قليلاً حيث إنّ : العفو : هو التنازل عن حقّ الانتقام والمماثلة في القصاص - بالذات عند المقدرة - .

والصفح : درجة أرفع ، إذ أنّه قد يتنازل الإنسان عن حقّه في الاقتصاص مثلاً ولكن علاقته مع الطرف الآخر تبقى كدرة بسبب الإساءة ، أمّا إذا صفح عنه فهو يطوي صفحة الماضي ويفتح صفحة جديدة فتعود علاقته الظاهرة به علاقة طبيعية ، وليس بالضرورة أن تزول الآثار النفسية الداخلية بذلك ، بلى إذا غفر أزال حتى هذه الآثار ، بل وتنازل عن طلب الانتقام من اللَّه عزّوجلّ ، وهذه الصفات ينبغي أن يتحلّى بها المؤمن تجاه اُسرته والآخرين على كل حال وفي كل الظروف وبالذات عندما يحتدم الصراع المبدئي بينه وبينهم ، فإنّ هذا الصراع ينبغي أن يبقى في حدود المبدأ ولا يتحوّل إلى صراع شخصي مستمر ، فإذا عادت زوجته التي كانت تمنعه من العمل في سبيل اللَّه إلى رشدها أو اقتنع أباؤه وسائر اُسرته عليه أن ينسى الإساءات التي صدرت منهم تجاهه ، ولا يذكّرهم بها ، ولا يحمل في نفسه غضاضة ، ولا يطالبهم بالغرامة ، وما أشبه .

ص: 676

88- الطريق إلى إنقاذ الأهل

اشارة

(88) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ »(سورة التحريم : 6)

في رحاب المفردات

قوا : الوقاية هي حفظ الشي ء ممّا يؤذيه ويضرّه ، يقال وقيت الشي ء أقيه وقاية ووقاءً ، قال تعالى : «وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(1).

وقودها : يقال وَقَدَت النار تقد وقوداً ووقداً ، والوقود ، يقال للحطب المجعول للوقود ولما حصل من اللهب(2).

غلاظ : الغلظة ضدّ الرقة .

ص: 677


1- سورة الطور (52) : الآية 18) مفردات الراغب : ص568 .
2- مفردات الراغب : ص566 .

ويقال غِلظة وغُلطة وأصله أن يستعمل في الأجسام لكن قد يستعار للمعاني كالكبيرة الكثيرة ، قال تعالى : «وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً(1)« أي خشونة(2).

عبر من الآية

هذه الآية المباركة من سورة التحريم تدور حول علاقة الزوج بزوجته حيث ينبغي أن تكون وفق المقاييس الإلهية ، فلا يجوز لأحد أن يقيّم الزوجة على أساس زوجها سلباً أو إيجاباً .

وذلك لأنّ قيمة كل إنسان ما يحسنه هو لا ما يحسنه الآخرون مهما كانت الرابطة بينه وبينهم قريبة وحميمة .

كما أنّ مقياس القبح هو ما يقوم به الفرد من السيّئات لا ما يقوم به الآخرون مهما قربوا منه .

إذن فالتقييم الموضوعي الدقيق لأي شخص إنّما هو بقيمته كفرد منقطع عن أيّ أحد ، وهذا الذي يجعل زوجتي )نوح ولوط عليهما السلام( مثلاً من الكفّار فتدخلان النار فهما كسائر الناس عند اللَّه ، ومن جهة اُخرى نفس هذه الحقيقة هي التي تجعل )آسية بنت مزاحم( زوجة فرعون مدّعي الربوبية مثلاً للمؤمنين عبر التاريخ وكذلك السيّدة مريم التي أحصنت فرجها وصدّقت بكلمات اللَّه وكتبه وقنتت إليه مع القانتين .

إذن فالتقييم شخصي ، والإنسان أوّلاً وقبل أي شي ء مسؤولاً عن نفسه لكي

ص: 678


1- سورة التوبة (9) : الآية 123 .
2- مفردات الراغب : ص376 .

ينقذها من النار وغضب الجبّار وذلك بالتزام الطاعات واجتناب المعاصي .

وبعد أن يعمل الإنسان على إنقاذ نفسه ، عادةً ما يسعى لتخليص أقاربه وأحبابه كالوالدين والزوجة وغيرهما ، فإنّه يحبّ لهم جميعاً ما يحبّ لنفسه ، ويطمح لهم الخلاص من النار ليكونوا سوية هناك في الجنان ، فيعمل من أجل إنقاذهم بكل طريقة وأي اُسلوب في الدعوة .

من هنا فإنّ الإسلام الحنيف أكّد على أنّ كل إنسان مسؤول بالدرجة الاُولى عن أهله وإن كان ذلك لا يلغي مسؤوليته عن المجتمع ، إلّا أنه في الدرجة الاُولى - ظاهراً - مسؤول عن عائلته واُسرته فقط .

حتّى أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله دعاه الباري تعالى في بداية الدعوة أن يدعو أقاربه إلى الإسلام بقوله - عزّوجلّ - :

«وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(1)«.

فجمعهم الرسول صلى الله عليه وآله وذبح لهم وأطعمهم وسقاهم وقال لهم - فيما قال صلى الله عليه وآله : ما عرفت أنّ أحداً من العرب جاء لأهله بالخير والهدى كالذي جئتكم به ؟ جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، فمن منكم يؤازرني ويعاضدني على أن يكون أخي ووزيري ووصيي في اُمّتي .

فسكت الجميع ، فقال الإمام علي(عليه السلام) : أنا يارسول اللَّه صلى الله عليه وآله .

فأخذ في عنقه وقال : هذا أخي ووصيي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا .

وكان الأمير(عليه السلام) آنذاك فتى في مقتبل العمر ، فراحوا يقولون لأبيه أبي

ص: 679


1- سورة الشعراء (26) : الآية 214 .

طالب(عليه السلام) يوصيك بأن تسمع لولدك الصغير وتطيعه(1).

وقد قال اللَّه تعالى في آية اُخرى : «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا(2)«.

فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يأتي إلى باب علي وفاطمة عليهما السلام كل يوم ، ولمدّة ستّة أشهر لإيقاظهما قائلاً : الصلاة ياأهل البيت الصلاة ، «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(3).

فالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله يوقظ أهل بيته ويناديهم بهذا الشكل اللطيف الرائع طيلة الستّة أشهر للصلاة والحال أنّهم أهل بيت أذهب اللَّه عنهم جميع أنواع الرجس وطهّرهم في أعلى أنواع الطهارة والتطهير .

أفلا يحقّ لنا التساؤل فنقول : لماذا صنع الرسول صلى الله عليه وآله ذلك ؟

الجواب أنّها المسؤولية ، التي ألقتها هذه الآية المباركة على كاهله ، وكاهل كل إنسان يطمح لخلاص نفسه وأهله في الدار الآخرة .

ولذلك كان على الإنسان المؤمن أن يسعى جاهداً من أجل خلاص أهله وعياله من النار وذلك بتوفير وسائل الوقاية والتربية لهم كأن يصطحبهم معه إلى مجالس الذكر والدعاء والعبادة .

ص: 680


1- راجع كل من : مسند أحمد بن حنبل : ج1 ص159 ، نظم درر السمطين : ص82 ، كفاية الطالب للكنجي : ص205 ، تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام علي : ج1 ص87 ح139 ، أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب : ب3 ص12 ، منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد : ج5 ص41 ، السيرة الحلبية : ج1 ص460 ، شواهد التنزيل : ج1 ص420 ، جامع البيان : ج19 ص131 ، الدرّ المنثور : ج5 ص97 ، تفسير القرآن العظيم : ج3 ص350 ح5 ، تفسير الخازن : ج3 ص371 .
2- سورة طه (20) : الآية 132 .
3- سورة الأحزاب (33) : الآية 33) سورة الأحزاب : 33 .

لا سيّما مجالس أهل البيت عليهم السلام التي تحيي النفوس وتربّي الأجيال على المشاركة في مثل هذه المجالس العامرة بالإيمان والوعظ .

من جانب آخر يمكن أن يكون المؤمن قدوة صالحة لأهله وعياله من خلال التزامه أوّلاً بكلّ ما يأمرهم وينهاهم .

فمن خلال هذه الاُمور نكسب أبنائنا وندفعهم إلى الطاعات بحبّ واطمئنان ، وبهذا نقيهم النار التي وقودها الناس والحجارة .

ففي الحديث أنّ سليمان بن خالد قال : قلت للإمام الصادق(عليه السلام) : إنّ لي أهل بيت وهم يسمعون منّي أفأدعوهم إلى هذا الأمر )الولاية( ؟

فقال : ((نعم إنّ اللَّه عزّوجلّ قال : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً(1).

وعن أبي بصير قال : سألت أبا عبداللَّه الصادق(عليه السلام) عن قول اللَّه : «قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً(2)«.

وقلت : هذه نفسي أقيها ، فكيف أقي أهلي ؟

قال(عليه السلام) : ((تأمرهم بما أمرهم اللَّه به ، وتنهاهم عمّا نهاهم عنه ، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم ، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك))(3).

وسئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن قول اللَّه عزّوجلّ : «قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ

ص: 681


1- سورة التحريم (66) : الآية 6) تفسير نور الثقلين : ج7 ص422 ح17 .
2- سورة التحريم (66) : الآية 6 .
3- تفسير القمّي : ج2 ص377 .

نَاراً(1)« كيف نقيهنّ ؟

قال(عليه السلام) : ((تأمرونهنّ وتنهونهنّ)) .

قيل له : إنّا نأمرهنّ وننهاهنّ فلا يقبلنّ .

قال(عليه السلام) : ((إذا أمرتموهنّ ونهيتموهنّ فقد قضيتم ما عليكم))(2).

ص: 682


1- سورة التحريم (66) : الآية 6 .
2- من لا يحضره الفقيه : ج3 ص442 ح4533 .

89- مباحث حول التوبة النصوحة

اشارة

(89) - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ »(سورة التحريم : 8)

في رحاب المفردات

نصوحاً : هي من قولهم نصحت له الودّ أي أخلصته ، وناصح العسل خالصه(1).

يخزي : خزي الرجل أي لحقه انكسار إمّا من نفسه وإمّا من غيره ، فالذي يلحقه من نفسه هو الحياء المفرط ، ومصدره الخزاية ، والذي يلحقه من غيره يقال هو ضَرْبٌ من الاستخفاف ، ومصدره الخزي ، قال تعالى : «ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي

ص: 683


1- مفردات الراغب : ص515 .

الدُّنيَا(1).

شأن النزول

أخرج الحافظ جمال الدين محمد بن يوسف )الحنفي( الزرندي في كتابه )نظم درر السمطين( عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : ((ما أنزل اللَّه تعالى آية فيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّا وعلي رأسها وأميرها))(2).

عبر من الآية

نداء آخر لعامّة المؤمنين ، يدعوهم الباري تعالى إلى التوبة النصوحة ، ويرغّبهم بالجنّة ، ويعدهم المغفرة ويبشّرهم بالشفاعة المقبولة من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل الأطهار عليهم السلام .

الملفت للانتباه أنّ النداء موجّه هنا للمؤمنين بأن توبوا والحال أنّ التوبة ينبغي أن تكون للعصاة والمذنبين ، فما المراد بذلك ؟

وفي جوابه يقال : إنّ التوبة ليست خاصّة بالمذنبين ، بل هي عامّة لكل الناس ، حتّى المقرّبين من العباد الصالحين .

لأنّ اللَّه قد خلق الإنسان ليبتليه دوماً ، فإنه يتعرّض للسقوط والخطأ كثيراً ،

ص: 684


1- سورة المائدة (5) : الآية 33) مفردات الراغب : ص148 - 147 .
2- نظم درر السمطين : ص89 .

وحيث إنّ اللَّه يعلم مراكز ضعف البشر وقوّتهم ، فقد فتح أمامهم أبواب التوبة ، ودعاهم إلى الدخول في فسيح رحمته .

ولا يخفى أنّ للتوبة درجات - بحسب المذنب والذنب - وهي على الشكل التالي :

1 - توبة العوام : )أو العموم( وهي التوبة من كل أنواع الذنوب والمعاصي التي يقترفها العبد خلال مسيرة حياته اليومية .

2 - توبة الخواص : وهي توبة الصالحين من ارتكاب بعض المكروهات ، وترك بعض المستحبّات ، أو ربما العمل بخلاف الأولى ، كفعل أبينا آدم (عليه السلام)وزوجته حوّاء .

3 - توبة خواص الخواص : وهي التوبة من الالتفات إلى غير الحقّ تعالى والغفلة والسهو عن الحقّ تعالى ، فهذا عندهم بحاجة إلى توبة لأنّه يعتبرونه ذنباً .

وقد جاء عن الإمام علي(عليه السلام) أنّه رأى شخص يقول : أستغفر اللَّه فقال له : ((ثكلتك اُمّك ، أتدري ما الاستغفار ؟ الاستغفار درجة العلّيين ، وهو اسم واقع على ستّة معانٍ : أوّلها الندم على ما مضى ، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً ، والثالث أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى اللَّه أملس ليس عليك تبعة ، والرابع أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان ، حتّى تلصق الجلد بالعظم ، وينشأ بينهما لحم جديد ، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : ((أستغفر اللَّه))(1).

ص: 685


1- نهج البلاغة : ق417 .

شرائط التوبة النصوحة

إذن فالتوبة يجب أن تكون نصوحاً : أي جامعة للشرائط التي ذكرت كلّها ، أي أنّها توبة حقيقية وكاملة بحيث تحتوي على :

1 - الندم على ما مضى من الذنوب والمعاصي .

2 - العزم على عدم العودة في المستقبل إلى أمثال تلك الذنوب .

3 - الاستغفار باللسان كثيراً .

4 - تدارك ما فات ، كردّ المظالم وإرجاع الحقوق إلى أصحابها ، وقضاء ما فات من الواجبات والفرائض المكتوبة .

فقد سأل أحدهم الإمام الهادي(عليه السلام) عن التوبة النصوح فكتب إليه : ((أن يكون الباطن ، كالظاهر وأفضل من ذلك))(1).

وقال الإمام عنها : ((يتوب العبد من الذنب ، ثمّ لا يعود فيه))(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) : قال : ((إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه اللَّه فستر عليه في الدنيا والآخرة)) .

فقلت - الراوي - : كيف يستر عليه ؟

قال(عليه السلام) : ((ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ، ويوحي إلى جوارحه : اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض : اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب ، فيلقى اللَّه حين يلقاه وليس شي ء يشهد عليه بشي ء من الذنوب))(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال : ((أوحى اللَّه - عزّوجلّ - إلى داودالنبي(عليه السلام) :

ص: 686


1- وسائل الشيعة : ج16 ص76 ح21025 .
2- تفسير القمّي : ج2 ص377 .
3- الكافي : ج2 ص430 ح1 .

ياداود وإنّ عبدي المؤمن إذا أذنب ذنباً ثم رجع وتاب عن ذلك الذنب واستحيى منّي عند ذكره غفرت له ، وأنسيته الحفظة ، وأبدلته بالحسنة ، ولا اُبالي وأنا أرحم الراحمين))(1).

كما أنّ للتائب صفات وعلامات تدلّ عليه حدّدها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله عبر الحديث التالي حيث قال صلى الله عليه وآله : ((التائب إذا لم يستبن أثر التوبة فليس بتائب ، يرضي الخصماء ، ويعيد الصلوات ، ويتواضع بين الخلق ، وينقي نفسه عن الشهوات ، ويهزل رقبته بصيام النهار ، ويصفرّ لونه بقيام الليل ، ويخمص بطنه بقلّة الأكل ، ويقوّس ظهره من مخافة النار ، ويذيب عظامه شوقاً إلى الجنّة ، ويرقّ قلبه من هول ملك الموت ، ويجفّ جلده على بدنه يتفكّر الأجل .

فهذا أثر التوبة ، وإذا رأيتم العبد على هذه الصورة فهو تائب ناصح لنفسه))(2).

آثار التوبة النصوحة

وعلى كل فإنّ الإنسان المؤمن إذا حافظ على قربه من اللَّه تعالى من خلال التوبة فإنّ الباري عزّوجلّ بالمقابل يعطيه عدّة اُمور منها :

1 - «يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ(3)«.

والجنّة هي أرفع ما يمكن أن يفكّر به المؤمن ، بل وما يصلح له لأنّها بجوار ربّ العالمين ورعاية رسوله الأمين ، وقيادة أمير المؤمنين ولا يوجد فيها إلّا اُناساً

ص: 687


1- وسائل الشيعة : ج16 ص74 ح2107 .
2- مستدرك الوسائل : ج12 ص130 ح13709 .
3- سورة التحريم (66) : الآية 8 .

صالحين .

2 - الشفاعة وهي في قوله تعالى :

«يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ(1)« وكما في الحديث .

«وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى» في أمر الشفاعة وردت(2).

3 - «نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ» : أي أنّ مؤمني كل حقبة وكل عصر يكونون بقيادة إمام ذاك العصر وذاك الزمان فيأخذ بأيديهم إلى أن يدخلهم إلى الجنّة ويسكنهم في مساكنهم المخصّصة لهم .

فالتائبون يكمل نورهم ، وتغفر ذنوبهم ، باعتمادهم وتوكّلهم على اللَّه ، ويقينهم بأنّه تعالى على كل شي ء قدير .

اللهمّ تب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم ، واغفر لنا ذنوبنا ياأرحم الراحمين إله الحقّ آمين .

ص: 688


1- سورة التحريم (66) : الآية 8 .
2- راجع تفسير الفرات : ص570 .

الخاتمة

وفي ختام هذه الدراسة الرحمانية الإيمانية المباركة ، التي قادتنا إلى شواطئ الإيمان الواسعة ، وتنقّلت بنا في رياض العلم والمعرفة فرأينا العجب العجاب في توجيهات الحبيب للأحباب .

تسع وثمانون محطّة نورانية ، استرحنا بها ، وأرحنا أنفسنا من العناء والتعب في أخبائها ، وأنرنا أبصارنا بقراءتها ، وبصائرنا بأنوارها ، وسكنت أرواحنا إلى هداها واطمأنّت قلوبنا بذكر اللَّه .

فندعوا اللَّه متضرّعين إلى مقامه الجليل وبهائه الجميل ، أن يعافنا ويعفو عنّا ويرحمنا برحمته التي وسعت كل شي ء ، ويتجاوز عن خطايانا وسيّئاتنا ويشفّع بنا رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار الأبرار عليهم السلام لا سيّما سيّدنا ومولانا صاحب العصر والزمان الإمام الحجّة بن الحسن(عليه السلام) .

اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلّ بها النفاق وأهله ويجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك والمستشهدين بين يديه في جملة أوليائك .

اللهمّ ما بنا من نعمة فمنك لا إله إلّا أنت نستغفرك ربّنا ونتوب إليك .

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد للَّه ربّ العالمين .

ص: 689

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.