الامام المهدی علیه السلام من المهد الی الظهور

اشارة

سرشناسه:قزوینی، محمدکاظم، 1308-1373.

عنوان و نام پديدآور:الامام المهدی علیه السلام من المهد الی الظهور/محمدکاظم القزوینی.

مشخصات نشر:قم: فاجی جزایری، 1385، = 2006 م، = 1427ق.

مشخصات ظاهری:[674] ص.

شابک::964-95592-6-4

يادداشت:کتاب حاضر در سالهای مختلف توسط ناشرین مختلف به چاپ رسیده است.

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع:محمدبن حسن (عج)، امام دوازدهم، 255 ق.-

موضوع:مهدودیت.

رده بندی کنگره:BP51/ق4الف8 1385الف

رده بندی دیویی:297/959

شماره کتابشناسی ملی:1028155

وضعيت ركورد:ركورد كامل

ص :1

اشارة

ص :2

الامام المهدی علیه السلام من المهد الی الظهور

محمدکاظم القزوینی

ص :3

المقدّمة

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه،و صلى اللّه على محمد رسول اللّه،و على آله المصطفين الأخيار.

و بعد:لقد شاء اللّه تعالى أن أفتح عيني في بيت يتجلّى فيه الدين و العلم و التقوى،و منذ نعومة أظفاري كنت أعيش في جوّ ملطّف بالصلاح و الإعتدال،حتى شعرت بالإندماج و الإنسجام مع المعتقدات الصحيحة التي صارت عندي كالقضايا البديهية التي لا تقبل الشك،و لا تحتاج الى كثير من الأدلة و البراهين،و ذلك لوضوحها.

و من جملة تلك المعتقدات التي تلقّيتها فصارت جزءا منّي هو الإعتقاد بوجود الإمام المهدي(عليه السلام).

كنت أقرأ الكتب التي تتحدّث عن هذا الإمام،و أستمع الى المواضيع و المحاضرات التي تدور حول هذه الشخصية فيزداد قلبي تعلّقا بهذا الإمام،و أزداد ولعا و شوقا الى المزيد من هذه المواضيع.

و حينما كنت أقرأ عن الشخصيات العلمية و الدينية التي ساعدها الحظ و التوفيق ففازت بلقاء هذا الإمام العظيم،كنت أدرك أنّ باب الأمل و الرجاء مفتوح،و أنّ اللقاء بالإمام المهدي(عليه السلام)ممكن و ليس مستحيلا.

ص:4

و كان هذا الموضوع قد شغل قلبي و أطال فكري،و ذلك لما يتمتّع به من أهمية عظمى.

فالإمام المهدي(عليه السلام)الذي سمعت و قرأت عنه، شخصية لا تقاس بها شخصيات عالم اليوم من ملوك و رؤساء و غيرهم.

فهو أقرب الكائنات الى اللّه تعالى و أكرمهم عنده.

إنه أفضل أهل زمانه،قد منحه اللّه قدرة الإتصال بالعالم الأعلى، و الإحاطة بالكون،قد إدّخره ليوم عظيم،ليقوم بأعظم حملة تطهير في سبيل إصلاح المجتمع البشري،على جميع أنحاء الكرة الأرضية.

و يرفع راية السلم و السلام،و الأمن و الأمان،على كل بقعة من بقاع الأرض،الى غير ذلك من الأمور التي ستعرف بعضها من خلال هذا الكتاب.

و هكذا مرّت الأيام و الأعوام،و إذا بي أقرأ في بعض الكتب -القديمة منها و الحديثة-،أنواعا من التهجّم على هذه العقيدة و محاولة تزييفها و تفنيدها على حدّ زعمهم.

ففي الوقت الذي كنت أستاء من تلك التهريجات القاسية ضدّ هذا الإعتقاد،كنت أتعجّب من أولئك المهاجمين و المهرّجين،و أستغرب الدوافع التي دفعتهم الى تكذيب هذه الحقيقة الثابتة عند جميع المسلمين.

فإذا كان الشيعة يعتقدون بالإمام المهدي(عليه السلام)حسب ما ورد في تفاسيرهم و أحاديثهم المعتبرة المتواترة،فإنّ كتب أهل السنّة قد

ص:5

تطرّقت الى هذه الحقيقة أكثر و أكثر من كتب الشيعة،بل إنّ عددا من علماء السنّة القدامى ألّفوا كتبا حول الإمام المهدي(عليه السلام) و ملؤها بالأحاديث الصحيحة الواردة في صحاحهم بأسانيد معتبرة لديهم.

و إليك بعض تلك المصادر و المدارك الموثوقة التي صرّحت بهذه الحقيقة الثابتة عند الأمة الإسلامية،نذكرها و لا ندّعي أننا إستوعبنا جميع المصادر.

اسم المؤلف اسم الكتاب

[علماء السنة الذين كتبوا عن الامام المهدى عليه السلام]

1-الشيخ ابراهيم الذهبي الجويني الشافعي فرائد السمطين

2-الشيخ سليمان القندوزي الحنفي ينابيع المودّة

3-موفق بن أحمد الخوارزمي الحنفي مقتل الحسين،و المناقب

4-إبن حجر الهيثمي الشافعي الصواعق المحرقة

5-الشبلنجي الشافعي نور الأبصار

6-إبن الصبّاغ المالكي الفصول المهمة

7-الحافظ ابو نعيم الاصفهاني الأربعين

8-الحافظ أبو القاسم الطبراني المعجم الكبير

9-الكنجي الشافعي البيان في أخبار صاحب الزمان

10-محمد بن عيسى الترمذي السنن

11-الشيخ عبد اللّه الأمر تسري الحنفي أرجح المطالب

12-جلال الدين السيوطي الشافعي العرف الوردي في أخبار المهدي و(علامات المهدي)و(الجامع الصغير)

ص:6

13-البغوي الشافعي مصابيح السنة

14-الحاكم النيسابوري مستدرك الصحيحين

15-شيرويه الديلمي الفردوس

16-علي المتقي الحنفي في(البرهان في علامات مهديّ آخر الزمان) و(كنز العمّال)

17-أحمد بن حنبل في مسنده

18-الحافظ ابن ماجة القزويني في سننه

19-الحافظ أبو بكر البيهقي دلائل النبوة

20-أبو اسحاق الثعلبي في تفسيره

21-الدارقطني في سننه و كتاب مسند فاطمة الزهراء

22-محب الدين الطبري الشافعي ذخائر العقبى

23-الهيثمي الشافعي مجمع الزوائد و منبع الفوائد

24-الحميدي الجمع بين الصحاح الستة

25-أبو داود السجستاني السنن

26-نعيم بن حمّاد،استاذ البخاري الفتن و الملاحم

27-إبن الصبان الحنفي اسعاف الراغبين

28-إبن خلدون في مقدمته

29-الخطيب البغدادي تاريخ بغداد

30-أبو المظفر السمعاني فضائل الصحابة

31-المناوي المصري كنوز الحقائق

32-السمهودي الشافعي جواهر العقدين

33-ابن قتيبة الدينوري غريب الحديث

ص:7

34-محي الدين إبن العربي الفتوحات المكية

35-ابن عبد البر الإستيعاب

36-الكسائي المبتدأ

37-البخاري في صحيحه

38-يوسف بن يحيى الشافعي عقد الدرر في أخبار الإمام المنتظر

39-ابن حجر الهيثمي الشافعي القول المختصر في علامات المهدي المنتظر

40-سبط ابن الجوزي تذكرة الخواص

41-ابن خلّكان وفيات الأعيان

42-ابن طولون الدمشقي الأئمة الاثني عشر

43-محمد بن طلحة الحلبي الشافعي مطالب السؤول

44-عبد اللّه بن محمد الشبراوي الشافعي الإتحاف بحب الأشراف

45-عبد الوهاب الشعراني اليواقيت و الجواهر،و الطبقات الكبرى

46-ابن المغازلي المناقب

47-ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة

48-القرطبي الاندلسي الحنبلي التذّكرة

49-ابن الأثير الكامل

50-ابن حجر العسقلاني الإصابة

هذه بعض المصادر و المدارك أو الوثائق التاريخيّة التي كتب فيها المحدّثون من علماء السنة حول الإمام المهدي(عليه السلام).

أما تكفي هذه المصادر أيها المتطرّفون؟!.

ص:8

و هل هؤلاء العلماء و المحدّثون كذّابون عندكم؟!.

و هل هذا الجمّ الغفير و الجمع الكثير غير موثوقين لديكم؟!.

فما هي-إذن-المصادر الموثوقة عندكم؟و على من تعتمدون؟و ممن تأخذون؟!.

فإذا كانت هذه الحقيقة ثابتة فكيف كان طريق ثبوتها؟!.

فهل تتوقّعون أن ينزل جبرئيل على كل فرد فرد منكم ليقول له:

إنّ الإمام المهدي حق؟!.

أو تنتظرون الوحي ينزل عليكم من رب السماء حول الإمام المهدي؟!.

أليس هذا هو الجحود؟لماذا تحاربون الحق و تقتلونه؟إلى من تتقرّبون بهذا العمل؟!.

و هل يجتمع الإيمان باللّه مع تكذيب رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله)؟!.

و هل لكم عذر عند اللّه يوم يسألكم عمّا قلتم و كتبتم؟!.

و لماذا هذا التهريج و التشنيع ضدّ هذه الحقيقة،و ضدّ من يعتقد بها؟!

و لماذا الإلحاح و الإصرار على إنكار هذا الموضوع؟!.

هل لأنّه ينافي العقل أو القرآن أو الشرع أو الفطرة؟!.

كلاّ،كل ذلك لم يكن،بل العقل و الشرع و الفطرة تساعد على

ص:9

ذلك كما ستعرف ذلك من خلال هذا الكتاب؟!.

إنني أعتقد أنّ السبب الرئيسي لهذا الإنكار المستمر،و جميع المناقشات حول عمر الإمام المهدي و غيبته،و جميع التشكيكات في الاحاديث التي تتحدّث عن الإمام المهدي و ظهوره،سبب هذه الأمور كلّها هو شيء واحد و هو:

أنّ الإمام المهدي(عليه السلام)-الذي بشّر به القرآن الكريم و الأحاديث النبويّة-هو علويّ النسب،و هو من أئمة الشيعة..لا غير.

فلو كان الإمام المهدي أموي النزعة أو أموي النسب لما كان هذا التهريج و التشكيك و المناقشات تدور حوله.

و كم تشبه هذه التهريجات ضد الإمام المهدي التهريجات التي يقوم بها اليهود و النصارى ضدّ نبيّنا محمد(صلى اللّه عليه و آله)مع العلم أنّ الكتب المقدّسة عندهم بشّرت بظهور نبيّنا(صلى اللّه عليه و آله)و ذكرت علائمه و علائم بعثته و نبوّته.

نعم،ما أشبه الليلة بالبارحة.

و منذ مدة طويلة كنت أجد عددا كثيرا من الناس(شيبا و شبّانا) يتساءلون عن الإمام المهدي،و يناقشون حول الموضوع تثبيتا لعقائدهم، و تسلّحا لصدّ هجمات المستهزئين المتطرّفين،فكنت أجعل بعض تلك الكتب(التي تتحدّث عن الإمام المهدي)تحت تصرّفهم،فكانوا يتزوّدون منها،و يروون غليلهم بها.

ص:10

و هنا أرى لزاما عليّ أن أبوح بما في صدري من الوجد و الألم، و أبثّ آلامي من هذه المأساة التي طالما كنت و لا أزال أشعر بها.

و قد حان الوقت،و جاءت الفرصة لأشكو بثّي و حزني الى من يشاركني في العقيدة و المبدأ،و لعلّي أكون معذورا غير ملوم إذا قسوت في البيان،و أسرفت في التعبير و قلت:إنّ موقف الكثيرين من علماء الشيعة و من حملة الأقلام و مفكّريهم موقف غير مشرّف تجاه هذا الواجب العقائدي،و هو التحدّث عن الإمام المهدي(عليه السلام)،و تأليف الكتب المناسبة لهذه الشخصية،الملائمة لهذا الموضوع الأسمى.

فإنّ المؤلفات التي تدوّن حول شخصية الإمام المهدي(بصورة مستقلة)و تنزل الى المطابع و منها الى الأسواق هي أقل من 1/10,000 بالنسبة الى الكتب المطبوعة.

أنظر الى الكتب و المؤلّفات التي تنزل الى الأسواق في كل أسبوع حتى الكتب الدينيّة منها،فإنّ نسبة الكتب التي تتحدثّ عن الإمام المهدي ضئيلة جدّا.

و إن كنت لا تصدّق هذا فخذ القلم بيدك و اكتب أسماء الكتب العربية التي قد ألّفت حول الإمام المهدي و طبعت خلال هذا القرن فإنّك لا تجد عدد تلك الكتب يتجاوز مائة كتاب.

و لا بأس أن تقيس هذا العدد الى الآلاف المؤلّفة من الكتب التي صدرت و تصدر الى الأسواق في شتّى المواضيع حتى تعرف مدى تقصيرنا تجاه هذا الواجب الديني.

ص:11

[أهمية التأليف حول الإمام المهدي عليه السلام]

مع العلم أنّ التأليف حول الإمام المهدي(عليه السلام)اولى و أوجب من التأليف حول بقية الأئمة(عليهم السلام)لأن الناس كلهم -على إختلاف أديانهم و مذاهبهم-متّفقون على أولئك الأئمة و على انّهم قد ولدوا و عاشوا و ماتوا.

فمثلا:المسلمون و اليهود و النصارى و كل من قرأ تاريخ العرب أو تاريخ الإسلام قد إطّلع على حياة رجل إسمه:(علي بن أبي طالب).

إلاّ أنّ هناك من يعتقد بأنه الخليفة الأول للرسول(صلى اللّه عليه و آله)و هم الشيعة.و بعض المسلمين يعتبره الخليفة الرابع و هم أهل السنّة.

و بعض الناس يعتقد به إلها من دون اللّه و هم الغلاة الهالكون(1).

و بعض الطوائف لهم نظرة شاذّة في حق الإمام و هم الخوارج الضالّون2.

فالمقصود أنّه لا يوجد في العالم من ينكر الإمام علي بن أبي طالب تاريخيا،أو يقول عنه:إنّه خرافة أو:إنّه لم يولد بعد أو:لم يكن في التاريخ رجل إسمه علي بن أبي طالب.

و نفس هذا الكلام يأتي بالنسبة الى سائر أئمة أهل البيت(عليهم

ص:12


1- (1و2) قد ثبت في الصحيح قول علي(عليه السلام):«هلك فيّ اثنان:محبّ غال و عدو قال».

السلام)مع إختلاف آراء الناس و معتقداتهم في أولئك الأئمة.

و لكن الإمام المهدي(عليه السلام)تختلف حياته و ترجمته عن بقية الأئمة من حيث الخصوصيات المحيطة بحياته،فترى بعض المسلمين الشّواذ يعتبره خرافة،و أنّه لا وجود له،متحدّيا بذلك العشرات بل المئات من الأحاديث المدوّنة في كتب الحديث و التفسير.أو يقول عنه:

إنّه لم يولد بعد،أو:إنّه كيف يعيش هذه القرون؟و لماذا غاب؟و متى يظهر؟الى غير ذلك من أنواع الأسئلة و التشكيكات التي يثيرونها حول شخصية الإمام المهدي(عليه السلام).

و لنفرض-جدلا-أنّ الكتب التي قد ألّفت حول الإمام المهدي في هذا القرن قد بلغت أو تجاوزت مائة كتاب،فكم نسخة طبعت من كل كتاب؟!.

مع الأسف إنّ الكتاب الواحد لا يطبع منه-على الأكثر-سوى ألف نسخة أو ألفين،فكيف يملأ هذا العدد الفراغ الموجود عند المسلمين؟!و يسدّ الحاجة الماسّة إلى أمثال هذه الكتب العقائديّة؟!.

و مما يحزّ في الصدر أنّ الأموال التي جعلها اللّه تعالى من سهم الإمام المهدي(عليه السلام)المستخلصة من أخماس الأرباح،هي ملك للإمام و حقّه الشرعي،و هي موجودة في أيدي الأثرياء،تتجاوز مئات الملايين من الدنانير.

ص:13

أما يستحق صاحب هذه الأموال أن يكتب عنه في كل سنة كتاب واحد على أقلّ التقادير،من ماله الشخصي،و يترجم الى اللغات الحيّة الدراجة في البلاد الإسلامية كي يعرفه المسلمون و يطّلع عليه المؤمنون؟!.

أما يستحق الإمام المهدي أن يوجّه العلماء قلوب الناس إليه؟! و يكوّنوا العلاقات الودّية المفروضة بين الناس و بين إمامهم المهدي؟!.

إنّ الإحصائيات تدل على أنّ نفوس العرب حوالي مائة و خمسين مليون،و أنّ عدد المسلمين حوالي ثمانمائة مليون،و معنى ذلك أنّ من كل ربع مليون مسلم عربي لا يصل اليه كتاب واحد.

و يا ليت تلك الكتب-مع قلّة عددها-كانت تنتشر بين القرّاء كي تكثر الفائدة و يعمّ النفع،و لكن المشكلة أنّ أفرادا يقتنونها في مكتباتهم الخاصة و هم في غنى عنها،كأنّ هوايتهم جمع الكتب و حبسها فقط!!

إحفظ هذه الأرقام الضئيلة ثم أنظر الى الصحف و المجلاّت التي تنتشر يوميا و أسبوعيا و شهريا بأعداد تتجاوز عشرات الآلاف..بل عشرات الملايين.

إنّني أعرف بعض المجلات الأسبوعيّة في بعض البلاد الإسلامية تنتشر منها في كل اسبوع 300,000 نسخة،و مجلة(لايف)تنتشر منها في كل أسبوع 8,000,000 نسخة،و مجلة(المختار من ريدرز دايجست)تنتشر منها في كل شهر ستة و ثلاثون مليون نسخة بإحدى عشرة لغة.

ص:14

و في طوكيو تنتشر ثلاث جرائد يومية في إثني عشر مليون نسخة.

نعم!!الناس هكذا يكتبون،و هكذا يطبعون،و هكذا ينشرون، مع العلم أنّ قيمة الجريدة الواحدة متعلّقة بتاريخ يوم صدورها، فالجريدة الصادرة اليوم قيمتها دراهم معدودة،و لكن غدا و بعد غد لا قيمة لهذه الجريدة،بل تلفّ فيها البضائع ثم تطرح في سلّة القمامة، و ليست الكتب هكذا،بل الكتاب له قيمة علمية ثقافية لا تزول،و قد تبلغ قيمة الكتاب الواحد آلاف الدنانير.

هذا..و الكلام طويل،و القصة مفصّلة،و ما الفائدة من سرد هذه القضايا المؤلمة سوى تسجيل مسؤولياتنا على هذه الصفحات،و لعل اللّه تعالى يشحذ عزائم ذوي الهمم العالية و النفوس الغيورة فيتداركوا هذه الخسائر العلميّة و الفكريّة.

و قد قمت بتأليف هذا الكتاب المتواضع،و ضمّنته بعض المواضيع المتعلّقة بالإمام المهدي(عليه السلام)معترفا بالعجز و القصور تجاه هذا العبأ الثقيل،و أحببت أن أكون ضمن الذين كتبوا عن هذا الإمام العظيم قربة الى اللّه تعالى،و أداءا لأقل الواجب الإسلامي الديني، و خدمة للعقيدة الإسلامية،و لعل اللّه تعالى ينفع بهذه الأوراق من إلتبست عليه الأمور،و خفيت عنه الحقائق،و اللّه من وراء القصد، و هو الهادي الى الصراط المستقيم.

محمّد كاظم القزويني الموسوي 12 صفر 1397 ه

ص:15

المدخل

التحدّث عن الإمام المهدي(عليه السلام)في هذا الكتاب يشتمل على المواضيع الآتية:

1-من هو الإمام المهدي؟.

2-إسمه و نسبه.

3-البشائر في القرآن بالإمام المهدي.

4-البشائر في السنّة النبوية.

5-البشائر في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

6-هل ولد الإمام المهدي؟

7-كيف غاب عن الأبصار؟

8-الغيبة الصّغرى.

9-النوّاب الأربعة.

10-من الذي رآه في الغيبة الصغرى؟

11-الغيبة الكبرى.

12-من الذي رآه في الغيبة الكبرى؟

13-كيف عاش الى هذا اليوم؟

ص:16

14-متى يظهر؟

15-أوصاف الإمام المهدي و علائمه.

16-علائم ظهوره.

17-الذين إدّعوا المهدويّة كذبا وزورا.

18-كيف يظهر و من أين يبدأ

19-كيف يحكم إذا ظهر؟

20-كيف تخضع له الدول و الحكومات؟.

21-حياة المجتمع في عصره.

22-كم سنة يحكم؟

23-كيف تنتهي حياته؟.

24-ثم ماذا يكون بعده؟.

و هناك بحوث أخرى تندمج ضمن هذه المواضيع.

ص:17

الفصل الأول

من هو الإمام المهدي«عليه السّلام»؟

إنّ التحدّث عن الإمام المهدي(عليه السلام)يكون تحدّثا عن موضوع ديني عقائدي له غاية الأهمية،و له الصلة الكاملة بالإسلام و المسلمين.

إنّ شخصية الإمام المهدي تعتبر حقيقة إسلامية،و مسألة من أهمّ المسائل الدينية،و تعتبر من صميم الدين الحنيف.

و ليست أسطورة كتبها الشيعة تسلية لأنفسهم المضطهدة،و ترويحا عن قلوبهم المجروحة من جرّاء المصائب التي إنصبّت عليهم طيلة قرون طويلة،كما زعمها بعض الكتّاب المنحرفين.

و ليست نظرية أو فكرة إختمرت في بعض الأذهان تخفيفا أو تخديرا للآلام التي كانت الشيعة تشعر بها من سوء تصرّفات الحاكمين،كما ذكرها بعض المتفلسفين.

و ليست خرافة إختلقها القصّاصون و ألصقوها بالإسلام،كما تصوّرها بعض الجهّال ممّن يدّعي العلم و الثقافة.

و ليست مهزلة تاريخية كي يستهزيء بها المعاندون المستهترون.

ص:18

بل إنها حقيقة إسلامية واقعية،تليق بالإهتمام،و تجدر بالدراسة و الوعي،و تستحق كل تقدير و إنتباه.

إنها إمتداد للإسلام و القرآن،إنها مسألة جوهريّة مهمّة بشّر بها القرآن الكريم،و تحدّث عنها الرسول الأعظم(صلى اللّه عليه و آله و سلم)في مواطن كثيرة و مناسبات عديدة،و بشّر بها أئمة المسلمين (عليهم السلام)شيعتهم،بل بشّروا بها الأمّة الإسلامية جمعاء.

و كتب عنها العلماء و المحدّثون و المفسّرون و المؤرّخون على مرّ القرون،و ألّفوا الكتب المفصّلة حول الموضوع بالذات.

إذن،فالموضوع إستراتيجي جدّا،فريد من نوعه،وحيد في ذاته،يمتاز بمزايا كثيرة خاصة،كثر حوله النقاش،و تضاربت في رحابه الآراء،و طاشت الأقلام،و طغت عليه الأقوال،فآمن به قوم،و تحيّر قوم،و سكت آخرون،و سخرت طائفة من طائفة،كلّ ذلك حول شخصية الإمام المهدي(عليه السلام).

فالإمام المهدي ليس من الذين قد أكل الدهر عليهم و شرب و صار نسيا منسيّا،بل هو نداء الملايين،و مهوى أفئدة الأجيال،و محطّ أنظار الأمم،و معقد آمال الشعوب.

الإمام المهدي إنسان ولد قبل الف و مائة و اثنتين و أربعين سنة بالضبط الى حين تأليف هذا الكتاب سنة 1397 ه.

و لا يزال حيا،و يعيش الى الآن على وجه الأرض،يأكل و يشرب،و يعبد اللّه و ينتظر الأمر له بالخروج و الظهور.

ص:19

غائب عن الأبصار،و قد يراه الناس و لا يعرفونه،و هو لا يعرّف نفسه،و يحضر في كل مكان أراد.

و له إشراف على العالم،و إحاطة بالعباد و البلاد.

يعلم-بإذن اللّه-كلّ ما يجري في العالم.

و سيظهر في يوم معلوم عند اللّه-مجهول عندنا-.

و تحدث علائم حتميّة قبل ظهوره.

إذا ظهر يحكم على الكرة الأرضية جميعها.

و ينزل عيسى بن مريم(عليه السلام)من السماء و يصلّي خلفه.

تخضع له جميع الدول و الشعوب في العالم.

و تنقاد له كافة الأديان و الملل.

يأتي بالإسلام الصحيح الذي جاء به محمد(صلى اللّه عليه و آله و سلم).

هذه بعض رؤوس الأقلام مما يتعلّق بشخصية الإمام المهدي، و هي بمنزلة الفهرست لهذا الكتاب.

ص:20

الفصل الثاني

اشارة

إسمه و نسبه

هو الإمام محمد المهدي المنتظر.

إبن الإمام الحسن العسكري.

إبن الإمام علي الهادي.

إبن الإمام محمد الجواد.

إبن الإمام علي الرضا.

إبن الإمام موسى الكاظم.

إبن الإمام جعفر الصادق.

إبن الإمام محمد الباقر.

إبن الإمام علي زين العابدين.

إبن الإمام الحسين الشهيد.

إبن الإمام علي بن أبي طالب.

و إبن فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلوات اللّه عليهم أجمعين.

و ما أجمل قول الفرزدق الشاعر حيث يقول:

اولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع

ص:21

هذا نسبه الشريف الأرفع،كما صرّحت بذلك أحاديث متواترة، ستطّلع عليها إن شاء اللّه.

و أمّا أمّه فهي السيدة الجليلة السعيدة المعظّمة المكرّمة المسمّاة ب (نرجس)أو صقيل أو ريحانة أو سوسن.

و إختلاف أسمائها أو تعدّدها لا يقتضي تعدّد المسمّى أو الإختلاف في المسمّى.فقد كانت للسيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)أسماء عديدة لمناسبات او أسباب.و قد ذكرنا شيئا منها في كتاب(فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد).

و سنذكر في المستقبل بعض ما يتعلق بالسيدة نرجس بالمناسبة إن شاء اللّه.

التحريف في بعض الاحاديث:

إن كل من يراجع الأحاديث التي تتحدث عن نسب الإمام المهدي (عليه السلام)يجد-بكل وضوح-أن الإمام المهدي هو إبن الإمام الحسن العسكري(عليهما السلام)بلا أي شك و ريب.

و لكنّك تجد-في بعض كتب اهل السنّة-حديثا إمتدّت إليه يد التحريف و التزوير فأضافت اليه كلمة اجنبية،محاولة لتشويه الحديث و صرفه عن الإمام المهدي(عليه السلام)و بذلك سقط هذا الحديث عن أصالته و قيمته الواقعية.

هذا..بالاضافة إلى أن الحديث-مع الزيادة الموجودة فيه-

ص:22

ضعيف من حيث السند و من حيث المتن،و لا اعتبار به عند المحقّقين و العلماء،و العجيب ان بعض الشواذ تركوا مئات الأحاديث الصحيحة، و تمسّكوا بهذا الحديث السقيم،تجاوبا مع ميولهم و نفوسهم المريضة!.

و الحديث هو:عن أبي داود،عن زائدة،عن عاصم عن زر، عن عبد اللّه،عن النبي(صلى اللّه عليه-و آله-و سلم)انه قال:لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد،لطوّل اللّه ذلك اليوم،حتى يبعث اللّه رجلا منّي-أو:من اهل بيتي-يواطيء إسمه اسمي[و إسم أبيه إسم أبي]يملأ الأرض قسطا و عدلا،كما ملئت ظلما و جورا».

هذا الحديث-مع الزيادة الموجودة فيه-يختلف عن بقية الاحاديث الواردة حول الإمام المهدي(عليه السلام)من حيث السند و من حيث المتن:

أمّا السند:فالحديث يروى عن(زائدة)،و قد ذكر علماء الدراية في علم الرجال-في ترجمة(زائدة)-:أنه كان يزيد في الاحاديث.

و أمّا المتن:فقد روي هذا الحديث عن(زر)بطرق عديدة و كثيرة،و ليس فيه:[و اسم ابيه اسم أبي]مما يدل على أن هذه الزيادة جاءت من تصرّفات الراوي الذي اسمه(زائدة)(1).

ص:23


1- (1) ذكر الحافظ الكنجي الشافعي في كتابه(البيان في أخبار صاحب الزمان)ما لفظه: الأحاديث الواردة عن النبي(صلّى اللّه عليه-و آله-و سلم)جميعها خالية من جملة«و اسم ابيه اسم ابي»-ثم ذكر الحديث المروي عن زائدة و قال-بعد ذكر الحديث-ما نصّه: قلت:و قد ذكر الترمذي الحديث،و لم يذكر قوله«و اسم ابيه اسم أبي»...و في معظم-

ثم إن جميع الاحاديث المرويّة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)حول الإمام المهدي(عليه السلام)ليس فيها كلمة«و اسم ابيه اسم ابي»و خاصة بعد اجماع المسلمين على أن الإمام المهدي هو ابن الإمام العسكري(عليهما السلام).

إذن:فالحديث المروي عن(زائدة)ساقط عن الاعتبار،مرفوض عند العلماء،لمخالفته سائر الأحاديث الصحيحة،و لأن(زائدة)رجل متّهم بالتلاعب بالأحاديث التي يرويها.

أمّا سبب التلاعب بهذا الحديث فهو أن سماسرة الأحاديث كانوا يختلقون الاحاديث و ينسبونها الى رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم) تقرّبا إلى السلطات،و طمعا في الأموال،و تقوية للباطل.فإن اختلاق الأحاديث المزوّرة كان في بعض الأزمنة مهنة و تجارة يعيش من ورائها الوضّاعون الكذّابون،أمثال:أبي هريرة و سمرة بن جندب و المغيرة بن شعبة،و زملائهم و نظرائهم،و منهم راوي هذا الحديث،و هو (زائدة).

و السؤال الآن:ما هو الهدف من إضافة«و اسم ابيه اسم ابي» في هذا الحديث؟

ص:24

الجواب:احتمالان:

1-ان يكون تأييدا لأحد الحكام العباسيين،المسمّى ب «محمد بن عبد اللّه المنصور»و الملقّب ب«المهدي».

2-ان يكون تأييدا ل«محمد بن عبد اللّه بن الحسن»الملقّب ب «النفس الزكية»و الذي ثار ضد العباسيّين(1)-كما ذكره العلامة المعاصر الشيخ الصافي في كتابه منتخب الأثر-.

و لبعض علمائنا(رحمهم اللّه)توجيهات في تصحيح الحديث، و كلها تكلّف،و لا حاجة إليها.

و خلاصة القول:ان حديث(زائدة)-الذي يتضمّن كلمة «و اسم ابيه اسم ابي»-غير صحيح عند علماء الحديث،و ضعيف في غاية الضعف،و سقيم في منتهى السقم،و توجيه الغلط غلط آخر.

ص:25


1- (1) لا يخفى ان هذا الشخص الملقّب بالنفس الزكية،غير الذي يخرج في آخر الزمان، قبل ظهور الإمام المهدي،بالرغم من تشابه اللقب.

اسماء الإمام المهدي«عليه السّلام»

اشارة

للإمام المهدي(عليه السلام)اسماء متعددة وردت لمناسبات عديدة، و هذا شأن العظماء،حيث تتعدد اسماؤهم لتعدد صفاتهم و كثرة جوانب عظمتهم،فمثلا:تجد تعدد الاسماء لرسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)في القرآن الكريم و الانجيل،مثل:محمد،احمد،طه،يس، البشير،النذير.و في الانجيل:فارقليطا-باللغة السريانية- و بركلوطوس-باللغة اليونانية-.

كما تجد تعدد الأسماء لبطل الإسلام الخالد الإمام امير المؤمنين(عليه السلام)مثل:علي،حيدر،المرتضى،و«ايليا»باللغة السريانية..

و غيرها من الأسماء

و كذلك بالنسبة الى سيدة نساء العالمين(عليها السلام)مثل:

فاطمة،الزهراء،البتول،المباركة،المحدّثة،الطاهرة،الصدّيقة..

و غيرها.

و بالنسبة إلى الإمام المهدي(عليه السلام)وردت احاديث متعددة عن الرسول الأعظم(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)و عن أئمة اهل البيت(عليهم السلام)تعبّر عنه ب«المهدي»و«الحجة»و«القائم»و«المنتظر»و «الخلف الصالح»و«صاحب الأمر»و«السيّد»و«الإمام الثاني عشر» و غيرها..و تصرّح بأن اسمه اسم رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم):

محمد،و كنيته:ابو القاسم.

ص:26

و فيما يلي نشير إلى بعض هذه الأسماء،مع بعض الأحاديث الواردة فيها:

1-المهدي

عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم):إسم المهدي اسمي.

و قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام):اسم المهدي:محمد.(1)

و سمّي بالمهدي،لأن اللّه تعالى يهديه و يرشده الى الأمور الخفيّة التي لا يطّلع عليها احد،و إليك الحديث التالي:

قال الإمام محمد الباقر(عليه السلام):إذا قام مهديّنا اهل البيت، قسّم بالسويّة،و عدل في الرعيّة،فمن أطاعه فقد اطاع اللّه و من عصاه فقد عصى اللّه،و إنما سمّي المهدي لأنه يهدى إلى أمر خفي.(2)

2-القائم

يسمّى بالقائم،لأنه يقوم بأعظم قيام عرفه التاريخ البشري،و يقوم بالحق الذي لا يشوبه باطل ابدا،و هذا مما يمتاز به قيامه(عليه السلام)لأن التاريخ قد سجّل قيام بعض الأفراد بثورات و نهضات،و لكن قيامهم و نهضتهم لم تكن على الصراط المستقيم،إلا أن الإمام المهدي(عليه السلام)يقوم بالحق..لا غير،و اليك الحديث التالي:

ص:27


1- (1) كتاب البرهان في علامات مهدي آخر الزمان،للمتقي الهندي الحنفي،الباب الثالث،حديث 8 و 9.
2- (2) كتاب عقد الدرر الباب الثالث ص 40.

عن أبي حمزة الثمالي قال:سألت الباقر(صلوات اللّه عليه):يا بن رسول اللّه ألستم كلكم قائمين بالحق؟

قال:بلى.

قلت:فلم سمّي القائم قائما؟

قال:لما قتل جدّي الحسين(صلى اللّه عليه)ضجّت الملائكة إلى اللّه عزّ و جل بالبكاء و النحيب...-إلى أن قال:-ثم كشف اللّه عزّ و جل عن الأئمة من ولد الحسين(عليه السلام)للملائكة،فسرّت الملائكة بذلك، فإذا احدهم قائم يصلّي،فقال عزّ و جل:بذلك القائم أنتقم منهم.اي من قتلة الحسين عليه السلام.(1)

و قال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام):سمّي«القائم» لقيامه بالحق(2).

3-المنتظر

يسمّى بالمنتظر،لأن الناس كانوا و لا يزالون ينتظرون ظهوره و خروجه،لتطهير الكرة الأرضية من كل ظلم و جور،و إليك الحديث التالي:

سئل الإمام محمد الجواد(عليه السلام):يا بن رسول اللّه و لم سمّي:القائم؟

قال:لأنه يقوم بعد موت ذكره،و ارتداد اكثر القائلين بامامته.

ص:28


1- (1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 51 ص 28-29،طبع طهران عام 1393 ه،و علل الشرائع للشيخ الصدوق.
2- (2) بحار الأنوار ج 51 ص 30 طبع طهران عام 1393 ه،و الارشاد للشيخ المفيد.

فقيل له:و لم سمّي:المنتظر؟

قال:لأن له غيبة تكثر أيّامها،و يطول أمدها،فينتظر خروجه المخلصون،و ينكره المرتابون...الى آخر الحديث(1)

4-صاحب الامر

يسمّى بصاحب الأمر،لأنه الإمام الحق الذي فرض اللّه طاعته على العباد،في قوله تعالى:أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2)حيث صرّحت الأحاديث الصحيحة ان«اولي الأمر»هم أئمة اهل البيت(عليهم السلام).

5-الحجة

و يسمّى بالحجة،لأنه حجة اللّه على العالمين،و به يحتجّ اللّه تعالى على خلقه.

أمّا بقية اسمائه و القابه(عليه السلام)فهي واضحة،لا تحتاج الى الشرح و التفصيل.

ص:29


1- (1) بحار الأنوار ج 51 ص 30 طبع طهران عام 1393 ه،و إكمال الدين للشيخ الصدوق
2- (2) سورة النساء/الآية 59.

الدّخول في صميم البحث

لعلّ أفضل طريق نسلكه للدخول في صميم البحث عن الإمام المهدي(عليه السلام)هو ذكر الأحاديث الواردة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)حول الامام المهدي بصورة عامة أو بصورة خاصة،و بعبارة اخرى:بصورة إجماليّة أو تفصيليّة(1).

أمّا الأحاديث الواردة في كتب الشيعة و مؤلّفاتهم فلا نذكرها-هنا-لأنّ الإعتقاد بالإمامة يعتبر أصلا ثابتا من أصول الدين أو المذهب عند الشيعة الإماميّة.

و كلّ من يعتقد بالإمامة لا محيص له إلاّ أن يعتقد بالإمام المهدي(عليه السلام)لأنّ الأحاديث التي تتطرّق الى الإمامة و الى عدد الأئمة تصرّح بالإمام الثاني عشر و هو الإمام المهدي.

فالإعتقاد بالإمام المهدي لا ينفكّ و لا ينفصل عن الإعتقاد بالإمامة بصورة عامة،و هو جزء لا يتجزّأ عن الموضوع.

و أمّا الأحاديث الواردة في كتب أهل السنة حول الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام)فهي تختلف من حيث الإجمال و التفصيل،فهناك الأحاديث

ص:30


1- (1) كما إنتهج ذلك كثير من المؤلفين حول الإمام المهدي(عليه السلام).

التي تكتفي بذكر العدد فقط بدون ذكر أسماء الأئمة و تعيين أشخاصهم،و هناك الأحاديث التي تصرّح بالعدد و الأسماء،و بعض تلك الاحاديث تصرّح بالإمام المهدي و أنّه الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت(عليهم السلام).و خلاصة القول:إنّ تلك الأحاديث يفسّر بعضها بعضا.

و من الحقّ و الصواب أن أقول:إنّ تلك الأحاديث قد تجاوزت حدّ التواتر بحيث لا يبقى-هناك-مجال و لا موضع للمناقشة.

و لو أردنا سرد جميع تلك الأحاديث لطال بنا الكلام الى حدّ الملل و السأم بما في ذلك من تضييع العمر،و لكن لأجل أن لا يكون الكتاب خاليا عن هذا البحث نذكر بعض تلك الاحاديث و المصادر،تسهيلا للباحث الذي يفتّش عن الحق و الحقيقة:

1-أحمد بن حنبل في مسنده:يروي هذا الحديث عن جابر بن سمرة من أربع و ثلاثين طريقا،و هو:عن جابر بن سمرة قال:سمعت النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم)يقول:يكون لهذه الأمة إثنا عشر خليفة(1)،و يرويه مسلم في صحيحه(2).

و يروي البخاري في صحيحه ج 4 عن جابر بن سمرة قال:سمعت النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم)يقول:يكون إثنا عشر أميرا،فقال كلمة لم أسمعها فقال أبي:إنّه قال:كلّهم من قريش(3).

ص:31


1- (1) مسند احمد بن حنبل ج 5 ص 106 طبع(المطبعة الميمنية)في مصر 1313 ه.
2- (2) صحيح مسلم،كتاب الامارة،طبع(مطبعة بولاق)في تركيا 1292 ه.
3- (3) صحيح البخاري كتاب الاحكام طبع المطبعة الخيرية في مصر سنة 1320 ه.و رواه

و يرويه الترمذي في صحيحه(1)،و تجد الحديث في:

المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 2501 طبع الهند 1324 ه.

تيسير الوصول الى جامع الأصول ج 2

منتخب كنز العمّال

تاريخ بغداد ج 14 ص 353.

تاريخ الخلفاء ص 7

ينابيع المودّة ص 444.

و يروى هذا الحديث عن الإمام الحسن و عبد اللّه بن مسعود و أنس بن مالك و أبي هريرة و عمر بن الخطاب و وائلة بن الأسقع و أبي قتادة و غيرهم.

إنك تجد هذه الأحاديث تصرّح بالأئمة الاثني عشر و أنّهم من قريش- بصورة مجملة-و تأتي طائفة أخرى من الأحاديث تضع النقاط على الحروف كما يلي:

1-أخرج الجويني في فرائد السمطين قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):أنا سيد النبيّين،و علي بن أبي طالب سيد الوصيّين، و إنّ أوصيائي بعدي إثنا عشر،أوّلهم علي بن أبي طالب و آخرهم

ص:32


1- (1) صحيح الترمذي ج 2 ص 35،طبع(مطبعة بولاق)في تركيا 1292 ه.

المهدي(1).

2-أخرج سليمان القندوزي الحنفي في ينابيع المودة عن ابن عباس قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):إنّ خلفائي و أوصيائي و حجج اللّه على الخلق بعدي لإثنا عشر:أوّلهم عليّ و آخرهم ولدي المهدي، فينزل روح اللّه عيسى بن مريم،فيصلّي خلف المهدي(2)و تشرق الأرض بنور ربّها،و يبلغ سلطانه المشرق و المغرب(3).

3-و روي-ايضا-عن ابن عباس قال:قدم يهودي يقال له نعثل فقال:يا محمد أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين...الى أن قال:فأخبرني عن وصيّك من هو؟فما من نبيّ إلاّ و له وصي،و إنّ نبينا موسى إبن عمران أوصى الى يوشع بن نون.

فقال:«إنّ وصيّي علي بن أبي طالب،و بعده سبطاى الحسن و الحسين تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين».

قال:يا محمد فسمّهم لي؟

قال:«إذا مضى الحسين فابنه علي فإذا مضى عليّ فابنه محمد فإذا

ص:33


1- (1) فرائد السمطين للجويني الشافعي ج 2 ص 313 طبع لبنان 1400 ه.و رواه ايضا القندوزي الحنفي في كتابه(ينابيع المودّة ص 445).
2- (2) هكذا وجدنا في المصدر،و لعلّ هناك كلمات كانت قبل قوله«فينزل عيسى بن مريم»و لكنّها سقطت من أيدي النسّاخ.
3- (3) ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي ص 447 طبع إستانبول 1302 ه.

مضى محمد فابنه جعفر فإذا مضى جعفر فابنه موسى،فإذا مضى موسى فابنه علي فإذا مضى علي فابنه محمد فإذا مضى محمد فابنه علي،فإذا مضى علي فإبنه الحسن فإذا مضى الحسن فابنه الحجة محمد المهدي، فهؤلاء إثنا عشر...»إلى آخر الحديث(1).

إنّ الذي فهمه المسلمون المعتدلون من هذه الأحاديث هو أنّ المقصود بالأئمة الإثني عشر هم أئمة أهل البيت(عليهم السلام)لا غيرهم،كما صرّحت بذلك الأحاديث المتواترة.

و لكنّ المصابين بداء العناد،و المعتادين بإماتة الحق و إحياء الباطل لا يعجبهم الخضوع لهذه الحقيقة،و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم.

فتراهم كالغريق يتشبّث بكلّ حشيش،يحاولون صرف هذه الأحاديث عن ظواهرها،و تطبيقها على غير أئمة أهل البيت،و هم يعلمون(علم اليقين)أنّ هذا العدد(الإثني عشر)لا ينطبق على الأمويين و لا على العباسيين على كل حال،و لكن التعصّب يفعل كلّ شيء،و المتعصّب يعمى و يصمّ، و لا يهمّه الكذب و التزوير،و لا يبالي بالغش و الدجل.

لأنّ الدين هو الرادع الوحيد للإنسان عن الإنحراف،فاذا فقد الرادع صار مطلق العنان و مطلق اللسان،يفعل ما يشاء،و يقول ما يريد بلا حياء و لا

ص:34


1- (1) ينابيع المودّة ص 441 طبع تركيا سنة 1302 ه.

خجل،و لا شعور بالمسؤولية أمام اللّه و بلا خوف من العقاب.

و إذا أردنا أن نزيّف هذه النظريّة التائهة و نبطل هذا الإدّعاء المزعوم و الإفتراء المكشوف و الدجل المقصود،لكان علينا أن نقدّم قائمة سوداء بأسماء الجناة و المجرمين من حكّام بني أمية و بني العباس،من قاسط الى ملحد إلى إباحي سفّاك الى خمّار الى زنّاء الى سابح في حوض الخمر الى ممزّق للقرآن الى ناه عن المعروف الى أسير شهواته و نزواته و هكذا و هلم جرّا،ضع يدك على من شئت منهم فلا ترى إلاّ فاسقا أو فاجرا أو مهتوكا أو طليقا أو دعيّا،إذن لخرج هذا الكتاب عن موضوعه و تبدّل الى ملفّات سوداء مظلمة بحياة الأشرار اعداء الإسلام و الإنسانية.

أهؤلاء الأئمة الإثنا عشر الذين أخبر عنهم رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)؟.

الف كلاّ،و مليون حاشا،حاشا الرسول الأقدس الأطهر أن يمثّله هؤلاء الأرجاس الأقذار،أو يخلفه هؤلاء الخونة المجرمون الفسقة الفجرة.

إنّ رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)أجلّ شأنا و أعظم قدرا من أن يكون هؤلاء خلفاءه.

إنّ رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)لا يمثّله إلاّ الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا،و لا يخلفه إلاّ الطاهرون المطهّرون الذين هم

ص:35

أطهر من ماء السماء،و أشرف من على وجه الثرى،الصالحون الذين حياتهم مشرقة و متلألأة بكل فضيلة،ليس لأحد فيهم مهمز،و لا لقائل فيهم مغمز، الذين كانوا صورة طبق الأصل،الذين كانوا يمثّلون رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)في علمه و حكمته و ورعه و تقواه و زهده و عبادته و بقية صفاته و مكارمه.

الذين كانوا يستقون من منابع علمه،و يرتشفون من نمير حكمته، و يتّبعونه في هديه و سلوكه،و هم أولى الناس به و أقربهم إليه و أعزّهم عليه.

هم عترته الطاهرة و أهل بيته الأكرمون،و قد أثنى عليهم القرآن في آيات كثيرة،و عرّفهم الرسول في مواطن عديدة.

و لكن ما نصنع بالمصابين بالشذوذ الفكري،الذين لا يعترفون بالمنطق،و لا ينفع فيهم الدليل،و لا يقبلون البرهان لموت ضمائرهم، و إنحراف نفوسهم؟و لو جئتهم بكل آية لا يؤمنوا.

و هذه الفئة الشاذّة لا يخلو منهم زمان أو مكان،و في نفس الوقت تجد الكثير الكثير من الذين لم تتلوّث ضمائرهم و لم تتحجّر عقولهم و لم تتعطّل مشاعرهم يخضعون للحق إذا ظهر لهم الحق،و ينبذون الأنانية و التجبّر، و ليسوا من الذين ينطبق عليهم قوله تعالى:أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ.

و لكن المصيبة مصيبة المتعصّب للباطل،المعاند للحق،و هي ما ابتليت به الأمة الإسلامية منذ أربعة عشر قرنا.

ص:36

أعود الى حديثي عن الأئمة الإثني عشر الذين ذكرهم رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)فأقول:إننا في غنى عن تأويل هذه الأحاديث لأنّ الرسول العظيم(صلى اللّه عليه و آله و سلم)كشف النقاب و أوضح الحق و صرّح بما يلزم،و ليس من المعقول من نبيّ الحكمة أن يخبر عن أئمة المسلمين بعده بصورة مبهمة موجزة لأنه خلاف البلاغة،لأن الكلام هنا يتطلّب الشرح و التفصيل،و لا يقتضي الإجمال و الإبهام،لأن الموضوع إستراتيجي مهم غاية الأهمية،له كل الصلة بالإسلام و المسلمين و القيادة الإسلامية.

أمّا و قد وصل الكلام إلى هنا فمن اللازم ذكر بعض الأحاديث النبوية حول الإمام المهدي بصورة أوضح،مع العلم أن الأحاديث الواردة في كتب الشيعة و السنّة المرويّة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)لا يمكن إستيعابها و يصعب إحصاؤها بسبب كثرتها و غزارتها،فقد روى شيخنا العلاّمة المعاصر البحّاثة الجليل الشيخ لطف اللّه الصافي(دام علاه)أكثر من ثمانين حديثا مرويا عن كتب الفريقين الشيعة و السنّة،و هو يعترف بأنه لم يذكر إلاّ القليل،و هذه الأحاديث تصرّح بما ذكرناه في هذا الفصل،و إليك بعضها:

في كتاب(كفاية الأثر لأبي القاسم علي بن محمد الرازي القمي)عن سهل بن سعد الأنصاري قال:سألت فاطمة بنت رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)عن الائمة؟فقالت:كان رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم) يقول:يا علي أنت الإمام و الخليفة بعدي،و أنت أولى بالمؤمنين من أنفسهم فإذا مضيت فإبنك الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم،فاذا مضى الحسن فإبنك الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم،فاذا مضى الحسين فإبنه علي بن

ص:37

الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم،فإذا مضى علي فإبنه محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم،فإذا مضى محمد فإبنه جعفر أولى بالمؤمنين من أنفسهم،فاذا مضى جعفر فإبنه موسى أولى بالمؤمنين من أنفسهم،فإذا مضى موسى فإبنه علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم،فإذا مضى علي فإبنه محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى محمد فإبنه علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم،فإذا مضى علي فإبنه الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم،فإذا مضى الحسن فالقائم المهدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم،يفتح اللّه به مشارق الأرض و مغاربها،فهم أئمة الحق،و ألسنة الصدق،منصور من نصرهم،و مخذول من خذلهم.

و يروى هذا الحديث-بتغيير يسير-عن الإمام الحسين(عليه السلام).

و في(كفاية الأثر)أيضا عن سلمان الفارسي:قال:خطبنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلم)فقال:معاشر الناس إني راحل عنكم عن قريب، و منطلق الى المغيب،أوصيكم في عترتي خيرا،و إيّاكم و البدع،فإن كل بدعة ضلالة،و كل ضلالة و أهلها في النار.

معاشر الناس:من إفتقد الشمس فليتمسّك بالقمر،و من افتقد القمر فليتمسك بالفرقدين،و من افتقد الفرقدين فليتمسّك بالنجوم الزاهرة بعدي، أقول قولي هذا و أستغفر اللّه لي و لكم.

قال-سلمان-:فلما نزل عن منبره تبعثه حتى دخل بيت عائشة فدخلت عليه و قلت:بأبي أنت و أمي يا رسول اللّه!سمعتك تقول:إذا إفتقدتم الشمس فتمسّكوا بالقمر و إذا افتقدتم القمر فتمسّكوا بالفرقدين و إذا إفتقدتم

ص:38

الفرقدين فتمسّكوا بالنجوم الزاهرة،فما الشمس و ما القمر و ما الفرقدان،و ما النجوم الزاهرة؟.

قال:أمّا الشمس فأنا،و أمّا القمر فعليّ(عليه السلام)،و إذا افتقدتموني فتمسّكوا به بعدي،و أما الفرقدان فالحسن و الحسين(عليهما السلام)فإذا افتقدتم القمر فتمسّكوا بهما،و أما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسين(عليهم السلام)و التاسع مهديّهم.

ثم قال(صلى اللّه عليه و آله و سلم):إنهم هم الأوصياء و الخلفاء بعدي،أئمة أبرار عدد أسباط يعقوب و حواري عيسى،قلت:فسمّهم لي يا رسول اللّه.قال:أوّلهم و سيّدهم علي بن أبي طالب(عليه السلام).

و سبطاي،و بعدهما زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام)و بعده محمد بن علي باقر علم النبيّين،و الصادق جعفر بن محمد،و إبنه الكاظم سميّ موسى بن عمران،و الذي يقتل بأرض خراسان إبنه علي،ثم إبنه محمد،و الصادقان علي و الحسن،و الحجة القائم،المنتظر في غيبته، فإنهم عترتي من دمي و لحمي،علمهم علمي،و حكمهم حكمي،من آذاني فيهم فلا أناله اللّه تعالى شفاعتي»(1).

ص:39


1- (1) و روى الحديث ايضا-مع اختلاف يسير في بعض الفاظه-الجويني الشافعي في كتابه (فرائد السمطين)ج 2 ص 217 طبع لبنان سنة 1400 ه. و رواه الحاكم الحسكاني الحنفي في(شواهد التنزيل)ج 1 ص 59،و ج 2 ص 211.طبع لبنان 1393 ه. و رواه الشيخ الصدوق في معاني الاخبار ص 114،طبع النجف،و رواه ايضا الشيخ الطوسي في المجلد الثاني من(الامالي)ص 131.

و بعد هذه الأحاديث التي يصعب إحصاؤها ستعرف التفاصيل الواردة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)حول الإمام المهدي(عليه السلام)و أنّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)كان يركّز على هذا الموضوع في مناسبات عديدة،إتماما للحجّة و لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة، و اهتماما منه بضرورة هذا الإعتقاد.

ص:40

الفصل الثالث

اشارة

البشائر في القرآن

بالامام المهدي«عليه السّلام»

القرآن الكريم،كتاب اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.

فيه تبيان كلّ شيء،لا رطب و لا يابس إلاّ في كتاب مبين،ما فرّطنا في الكتاب من شيء،و هو آخر الكتب السماوية،كما أنّ الإسلام آخر الأديان.

أترى القرآن يسكت عن هذا الحادث الجلل الذي يعتبر تبدّلا عظيما في الحياة؟!.

القرآن الذي أخبر عن غلبة الروم على الفرس،و عن قيام دولة اليهود بالتعاون مع الدول الكبرى(1).

القرآن الذي أخبر عن يأجوج و مأجوج و مصيرهما في المستقبل.

القرآن الذي أخبر عن إمكانية غزو الفضاء بقوله تعالى:يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطانٍ (2)

أترى القرآن لا يخبر عن ظهور الإمام المهدي و استيلائه على الحكم؟

ص:41


1- (1) صربت عليهم الذلّة أينما ثقفوا إلا بحبل من اللّه و حبل من الناس.سورة آل عمران 112
2- (2) سورة الرحمن الآية 33.

كلاّ،إنّ القرآن الحكيم أخبر عن الامام المهدي(عليه السلام)و قيام حكومته في مواضع عديدة و آيات متعدّدة.

و هذه الآيات مأوّلة بالإمام المهدي و ظهوره كما صرّح بذلك أئمة أهل البيت(عليهم السلام)الذين أنزل القرآن في بيوتهم،و أهل البيت أدرى بما في البيت.

و إليك بعض تلك الآيات:

الآية الأولى:وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ،وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ .

(1)

في نهج البلاغة ج 3 قال علي(عليه السلام):لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها،و تلا(عليه السلام)-عقيب ذلك- قوله تعالى:وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ .

قال ابن أبي الحديد في شرحه:إن أصحابنا يقولون:إنه وعد بإمام يملك الأرض و يستولي على الممالك.

أقول:هذا الحديث مروي بطرق عديدة عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)،و لعلّ الحديث يحتاج الى شيء من الشرح:«لتعطفن»يقال:

عطفت الناقة على ولدها أي حنّت عليه و درّ لبنها،«شماسها»يقال:شمس

ص:42


1- (1) سورة القصص آية 5 و 6.

الفرس يشمس:أي إستعصى على راكبه و منع ظهره من الركوب، «الضروس»:الناقة السيئة الخلق،تعضّ حالبها(1).

و معنى كلامه(عليه السلام):ان الدنيا تقبل على أهل البيت (عليهم السلام)بعد الجفاء الطويل و المكاره الكثيرة،و المقصود:قيام حكومة أهل البيت و إنتصاراتهم على أعدائهم،و تذلّل جميع الصعوبات التي وقفت حجر عثرة في طريق نهضتهم المقدّسة،و تسهل لهم الدنيا بعد صعوبتها،و تحلو بعد مرارتها،و تخضع بعد تمرّدها،و تنقاد بعد عصيانها.

و عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام):قال:المستضعفون في الأرض،المذكورون في الكتاب،الذين يجعلهم اللّه أئمة:نحن أهل البيت،يبعث اللّه مهديّهم فيعزّهم و يذلّ عدوّهم(2).

و الآن-بعد أن وصل الكلام الى الآيات المأوّلة بالإمام المهدي (عليه السلام)-أرى من الأفضل أن أذكر كلمة موجزة عن التأويل، ليكون القاريء النبيه على مزيد من الإطّلاع،و المعرفة بمعنى التأويل:

التأويل:إرجاع الكلام و صرفه عن معناه الظاهري الى معنى أخفى منه(3)،و هكذا تأويل الرؤيا و الأحلام أي الشيء الذي ترجع اليه الرؤيا، فمثلا:رأى يوسف(عليه السلام)أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رآهم له

ص:43


1- (1) «مجمع البحرين»للطريحي.
2- (2) بحار الأنوار للمجلسي ج 51 ص 63،باب الآيات المأوّلة بالإمام المهدي(عليه السلام).
3- (3) المصدر:«مجمع البحرين»للطريحي،مادة،أوّل.

ساجدين،و بعد سنين طويلة لما ذهب يعقوب و أولاده الى مصر،قال تعالى:

وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً،وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ،قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا (1).و نفس هذا الكلام يأتي في تأويل الأحلام و المنامات،فقد قال يوسف(عليه السلام)للشابّين الذين رأى كل منهما رؤيا،قال لهما:لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ (2).و قال علي(عليه السلام)في حديثه عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم) و تعلّمه العلوم منه-:«ما من آية إلاّ و علّمني تأويلها»أي معناها الخفي.

أعود الى حديثي عن الآية الشريفة-التي سبقتها آية تتحدّث عن فرعون و جرائمه-فقال عزّ و جل:وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ. فالمعنى الظاهري هو أن اللّه تعالى يعيد لبني إسرائيل عزّهم و كرامتهم و يهلك فرعون و وزيره هامان و جنودهما.

و لكن تأويل الآية-أي معناها الخفي غير المعنى الواضح الجليّ-هو أن المقصود من المستضعفين في هذه الآية:هم آل محمد(عليهم السلام)فقد استضعفهم الناس و ظلموهم و قتلوهم و شرّدوهم و صنعوا بهم ما صنعوا،و قد قال لهم رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):«أنتم المستضعفون بعدي»،و لا أراني بحاجة إلى إثبات هذه الحقيقة،فالتاريخ الإسلامي يشهد و يصرّح بل و يصرخ بأعلى صوته بأنّ آل محمد(عليهم السلام)إستضعفهم الناس من يوم فارق رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)هذه الحياة،و لو

ص:44


1- (1) سورة يوسف/آية 100.
2- (2) سورة يوسف/آية 37.

راجعت كتاب(مقاتل الطالبيّين)و غيره من الكتب لوجدت-هناك-أنواع المصائب و المآسي و النوائب التي انصبّت على آل رسول اللّه(عليهم السلام)، لأن أصحاب السلطة و القدرة استضعفوا هذه الذرّية الطاهرة فصنعوا بهم ما شاءت نفوسهم الممتلئة بالحقد و الجبروت،حتى وصل الأمر إلى أن الناس كانوا يهدون رؤوس آل محمد إلى الحكّام تقرّبا اليهم و تفريحا لقلوبهم،كما فعل ذلك جعفر البرمكي و غيره،و أيّ إستضعاف أشد من هذا؟!.

و لكنّ اللّه تعالى قد تعلّقت ارادته أن يتفضّل على هذه الذرية الطاهرة المظلومة-عبر التاريخ-و على أتباعهم و شيعتهم المضطهدين الذين كانوا و لا يزالون يعيشون تحت الضغط و الكبت و الذلّ و الهوان،المحرومين من أبسط حقوق البشر،الذين سلبتهم السلطات كل حرية و كل كرامة،أن يتفضّل عليهم بحكومة تشمل الكرة الأرضية و من عليها و ما عليها.

حكومة حدودها القطبان المنجمدان الشمالي و الجنوبي،و جميع المحيطات المترامية الأطراف،و هي الحكومة الوحيدة التي تحكم الأرض و من عليها،بلا مزاحم أو منافس،و تكون لهم السلطة التامة و القدرة الكاملة،و سيأتيك التفصيل..بل التفاصيل قريبا إن شاء اللّه.

و ختاما للبحث و التحدّث عن هذه الآية يمكن أن نقول:من الممكن أن يستفاد هذا التأويل من نفس ظاهر الآية،و من قوله تعالى:

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ بلفظ المستقبل،لأنّ نزول الآية كان بعد آلاف السنين من عصر موسى(عليه السلام)و فرعون،و كان من الممكن أن يقول سبحانه:و أردنا أن نمنّ.أو:مننّا على الذين استضعفوا.كما

ص:45

قال في مكان آخر،بل في أمكنة أخرى:لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً (1).

كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ (2).

وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (3).

وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ (4).

ذكر اللّه تعالى هذه الآيات بلفظ الماضي،و هنا ذكرها بلفظ المستقبل فقال:و نريد أن نمنّ.

و هكذا قوله تعالى:وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ فإنّه تعالى لم يقل:و أرينا فرعون و هامان.

و هكذا قوله سبحانه:نُرِيدُ ونَجْعَلَهُمْ ونَجْعَلَهُمْ أيضا،ونُمَكِّنَ ونُرِيَ حيث جاءت جميع هذه الألفاظ الستّة بصيغة المستقبل لا الماضي.

و لعلّ قائلا يقول:إنّ فرعون و هامان و جنودهما كانوا قد هلكوا قبل نزول الآية بآلاف السنين،فكيف يمكن تأويل الآية الى المستقبل؟

ص:46


1- (1) سورة آل عمران آية 164.
2- (2) سورة النساء آية 94.
3- (3) سورة طه آية 37.
4- (4) سورة الصافات آية 114.

الجواب:لقد صار إسم(فرعون)رمزا لكلّ سلطان متجبّر جائر يتجاوز في ظلمه،فلكلّ عصر فرعون،و لكلّ امّة فراعنة.

و قد روي عن الإمام محمد الباقر و الإمام جعفر الصادق(عليهما السلام)-في تأويل هذه الآية-أنّ المراد منفِرْعَوْنَ وَ هامانَ -في هذه الآية-هما رجلان من جبابرة قريش،يحييهما اللّه تعالى عند ظهور الإمام المهدي(عليه السلام)-في آخر الزمان-فينتقم منهما بما أسلفا(1).

وَ جُنُودَهُما أتباع الرجلين،الذين تعاونوا معهما،و ساروا على خطّهما،و أحيوا ذكرهما.

الآية الثانية:وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ،وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ،وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً،وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ .

(2)

هذه الآية من جملة الآيات المأوّلة بالإمام المهدي(عليه السلام)، و معنى الآية-على الظاهر-:أنّ اللّه تعالى وعد المؤمنين من هذه الأمّة، الصالحين بأن يجعلهم يخلفون من قبلهم،أي يجعلهم مكان من كان قبلهم في الأرض،و من الطبيعي أنّ البشر لا يعيش إلاّ في الأرض أي في الكرة الأرضية

ص:47


1- (1) كتاب البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني.في تفسير الآية.
2- (2) سورة النور/آية 55

برّا أو بحرا،أي يورثهم اللّه أرض الكفّار من العرب و العجم،و يجعلهم اللّه تعالى يتصرّفون في الأرض و يحكمون فيها كما استخلف اللّه تعالى بعض أوليائه من قبل،و أعطاهم السلطة و الإمكانيات و القدرة في تطبيق دين اللّه الذي ارتضاه لهم،و تتبدّل حالة خوفهم الى حالة الأمن و الأمان،لا يخافون أحدا إلاّ اللّه،و لا يقدر عليهم أحد من أصحاب القدرة و السلطة،يعبدون اللّه تعالى بلا خوف و لا تقيّة من أحد،و يتجاهرون بالحق بكل وضوح.

و خلاصة البحث:أنّ اللّه تعالى وعد المؤمنين الصالحين من هذه الأمّة بمجتمع طاهر من كل رجس،و حياة طيبة مقدسة فاضلة،هذا هو المعنى الظاهري للآية الكريمة.

أقول:إنّ هذا الوعد الإلهي-المؤكّد بلام القسم ثلاث مرات؟ و بنون التأكيد ثلاث مرات ايضا-لم يتحقق الى يومنا هذا،و متى كان المؤمنون الصالحون يتمكّنون من الحكم على الناس و تطبيق الإسلام بكل حرية،و بلا خوف من أحد؟!.

و من هم المؤمنون الذين عملوا الصالحات الذين وعدهم اللّه تعالى بهذا الوعد العظيم؟!.

و لو راجعت تاريخ الإسلام و المسلمين منذ طلوع فجر الإسلام الى يومنا هذا لعلمت علم اليقين أنّ وعد اللّه تعالى لم يتحقّق خلال ألف و أربعمائة سنة.

إنني لا أظن أنّ مسلما منصفا يقبل ضميره بأن يكون المقصود من الذين آمنوا و عملوا الصالحات هم الأمويون،أو العباسيون،لأن التاريخ المتفق عليه

ص:48

بين المسلمين-بل و غير المسلمين-يشهد بأنّ الأمويين و العباسيين إرتكبوا أعظم الجرائم،و أراقوا دماء أولياء اللّه،و هتكوا حرمات اللّه،و كانت قصورهم مليئة بأنواع الفجور و المنكرات،و لو أردنا تفصيل تلك الجرائم و وضع النقاط على الحروف لخرج الكتاب عن اسلوبه المقصود و موضوعه المطلوب.

و بعد هذا...متى تمكّن دين اللّه-الذي ارتضاه لعباده-في الأرض؟ حتى يتحقق قوله تعالى:وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ.

إنّ الدين الإسلامي كان و لا يزال مهجورا ضعيفا يحاربه كل من يستطيع محاربته،إذهب الى بلاد الصين أو الإتحاد السوفيتي أو بعض البلاد الإفريقية و الأوروبية حتى تعرف الخوف المستولي على البقيّة الباقية من المسلمين، و الإضطهاد الذي شملهم من جميع جوانب حياتهم،و في بعض البلاد اللاّدينية يعتبر إقتناء القرآن أعظم جريمة يستحق الإنسان عليها أعظم العقوبات و أشد أنواع التعذيب،و لا تسأل عن عشرات الملايين من المسلمين الذين قتلوا لأنّهم مسلمون و هذا ذنبهم الوحيد،ففي بلاد الصين و الإتحاد السوفيتي، و يوغوسلافيا أقيمت المذابح و المجازر الرهيبة و سالت دماء المسلمين،و حتى اليوم يعاني المسلمون في الفيليبين أنواع الضغط و الكبت و الحرمان،و في فيتنام لا يعلم أحد إلاّ اللّه عدد المسلمين الذين قتلهم الشيوعيون،و لا تسأل عن عشرات الآلاف من المساجد التي انقلبت الى اصطبلات و مخازن و مسارح و كنائس،فمتى تحقّق وعد اللّه؟!.

من الممكن أن يقول قائل:بأن الإسلام تمكّن في الجزيرة العربية و بلاد الشرق الأوسط و كثير من البلاد و خاصة في عهد الفتوحات الإسلامية.

ص:49

نجيب على هذا السؤال بما يلي:

نحن لا ننكر ذلك،فالإسلام كان يحكم على المدينة المنوّرة في عهد رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)إذن فما معنى هذا الوعد الإلهي الذي يقول:وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ الى آخر الآية؟.

إن معنى هذا الوعد أنّ الإسلام يحكم على الأرض أي على الكرة الأرضية،و المسلمون يقيمون الطقوس و الشعائر الدينية بلا خوف و لا تقية، و أنّ جميع المناطق المعمورة و المسكونة يسودها الإسلام فقط و لا غير، و هذا لم يتحقق الى هذا اليوم.

إن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)ذكروا في تأويل هذه الآية الكريمة أنّ الوعد الإلهي يتحقق عند ظهور الإمام المهدي(عليه السلام)،و ستعرف في هذا الكتاب أن الأحاديث المتواترة تصرّح بأنّ هذه الآية ستنطبق على عصر الإمام المهدي(عليه السلام)،و اليك بعض تلك الأحاديث.

في تفسير مجمع البيان للطبرسي و تفسير العيّاشي و غيرهما عن الإمام علي إبن الحسين(عليه السلام):أنّه قرأ الآية و قال:هم و اللّه شيعتنا أهل البيت،يفعل اللّه ذلك بهم على يد رجل منّا،و هو مهديّ هذه الأمّة،و هو الذي قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي،إسمه إسمي،يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا(1).

ص:50


1- (1) مجمع البيان للطبرسي ج 7،ص 152.

و روي نفس هذه الكلام عن الإمامين:الباقر و الصادق(عليهما السلام).

ثم قال الطبرسي:فعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا و عملوا الصالحات:النبي و أهل بيته(صلوات الرحمن عليهم)و تضمّنت الآية البشارة لهم بالإستخلاف،و التمكّن في البلاد،و ارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي(عليه السلام).

و أضاف قائلا:و على هذا إجماع العترة الطاهرة،و إجماعهم حجّة،لقول النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم):«إني تارك فيكم الثقلين:كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي،لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»،و أيضا فإن التمكن في الأرض على الإطلاق لم يتّفق فيما مضى،فهو منتظر،لأنّ اللّه(عزّ إسمه)لا يخلف وعده(1).

الآية الثالثة:وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ

(2)

.ان كان المفسّرون قد اختلفوا في معنى الزبور،و معنى الذكر في هذه الآية،فليس الإختلاف جوهريّا،سواء كان المقصود من الزبور -هنا-هو الكتاب السماوي المنزّل على نبي اللّه داود(عليه السلام)،أو كان المقصود من الزبور هو جنس ما أنزل اللّه على الأنبياء من الكتب،و سواءا كان المقصود من الذكر في هذه الآية التوراة أو القرآن أو اللوح المحفوظ،فالمعنى-

ص:51


1- (1) مجمع البيان ج 7 ص 152.
2- (2) سورة الأنبياء/آية 105

على حدّ قول المفسّرين-:و لقد كتبنا في الكتب التي أنزلناها على الأنبياء أو في الزبور الذي نزل على داود(عليه السلام)من بعد كتابته في الذكر-أي في أمّ الكتاب الذي في السماء و هو اللوح المحفوظ أو التوراة أو القرآن-:أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون.

و قد روى الطبرسي و غيره في تفسير الآية عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر(عليه السلام)أنه قال:هم اصحاب المهدي (عليه السلام)في آخر الزمان.

أقول:إنّ الموضوع الذي كتبه اللّه تعالى في الزبور-بجميع معانيه-و في الذكر ينبغي أن يكون موضوعا له غاية الأهمية،و خاصة بعد الإنتباه الى كلمة (لقد)و(أنّ)المستعملة للتحقيق و التأكيد،فإن كان المفسّرون ذكروا أنّ المقصود من(الأرض)في هذه الآية أرض الجنة ليكون المعنى:أنّ عباد اللّه الصالحين يرثون أرض الجنة،أو المقصود هي الأرض المعروفة ترثها الأمة الاسلامية بالفتوحات فهذا معنى التنزيل.

و أما التأويل-و قد ذكرنا معناه-فيكون المعنى أن عباد اللّه الصالحين يحكمون الأرض كلها،و قد روى الشيخ الطوسي(عليه الرحمة)في التبيان في تفسير الآية عن الإمام الباقر(عليه السلام):أن ذلك وعد اللّه للمؤمنين بأنهم يرثون جميع الأرض(1).

ص:52


1- (1) تفسير التبيان ج 7 ص 252.

و هذه الآية تشبه الآية السابقة من حيث المعنى،حيث يقول تعالى:

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ و ما أجمل التعبير بالإرث و الإستخلاف في هاتين الآيتين،فالإرث إنتقال المال من الميت الى الحي،و الإستخلاف جعل هذا مكان ذاك عوضا منه و بدلا عنه.

الآية الرابعة:هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ .

(1)

لقد تكرّرت هذه الآية في القرآن ثلاث مرات،مما يدلّ على أهمية الموضوع.

و لقد تكرّر منّا الكلام حول التنزيل و التأويل،و هذه الآية أيضا لها تنزيل و تأويل،فالتفسير أو التنزيل للآية:أنّ اللّه تعالى أرسل رسوله محمدا «بالهدى»من التوحيد و إخلاص العبادة،«و دين الحق»و هو دين الإسلام «ليظهره»الظهور-هنا-:العلو بالغلبة بكل وضوح،قال تعالى:

كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً (2)أي يغلبوكم و يظفروا بكم.

فمعنى:«ليظهره على الدين كلّه»أي يعلو و يغلب دين الحق على جميع الأديان،فإن كان هذا الكلام قد تحقق و كانت الإرادة الإلهية قد تنجزّت فالمعنى

ص:53


1- (1) سورة التوبة/آية 33
2- (2) سورة التوبة/آية 8.

أنّ اللّه تعالى قد أدحض و زيّف جميع الأديان الباطلة و الملل و الشرائع المنحرفة، زيّفها بالقرآن و بالإسلام،و بعبارة أوضح:إنّ الإسلام قد أبطل و نسخ جميع الأديان،و ردّ على كل ملحد أو زنديق و على كل من يعبد شيئا غير اللّه.

أمّا إذا أردنا أن نتحدث عن الآية على ضوء التأويل،فإنّ هذا الهدف الإلهي لم يتحقق بعد،فالمسلمون عددهم أقل من ربع سكّان الأرض،و البلاد الإسلامية تحكمها قوانين غير إسلامية،و الأديان الباطلة تنبض بالحياة و النشاط،و تتمتع بالحرية،بل تجد المسلمين في بعض البلاد أقلية مستضعفة لا تملك لنفسها نفعا و لا ضرّا،إذن فأين غلبة الحق على الباطل،و اين قوله تعالى:

لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ و في ايّ زمان تحقق هذا المعنى؟.

إنّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام)ذكروا في تأويل الآية أنها تتعلق بعصر الإمام المهدي(عليه السلام)و ظهوره.

و أما الأحاديث الواردة في تأويل الآية فإليك بعضها:

في كتاب مجمع البيان-في تفسير الآية-عن عبابة أنه سمع أمير المؤمنين (عليه السلام)يقول:هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أظهر ذلك بعد؟قالوا:نعم.قال(عليه السلام):كلاّ، فو الذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلاّ و ينادى فيها بشهادة أن لا إله إلا اللّه بكرة و عشيا(1).و في تفسير البرهان:فلا،و الذي نفسي بيده حتى لا تبقى

ص:54


1- (1) مجمع البيان ج 9 ص 280.

قرية إلاّ و نودي فيها:بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أن محمدا رسول اللّه بكرة و عشيا(1).

و في تفسير البرهان-أيضا-عن ابن عباس في قوله(عزّ و جل):

لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ قال:لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي و لا نصراني و لا صاحب ملّة(2)إلاّ صار الى الإسلام،حتى تأمن الشاة و الذئب(3)و البقرة و الأسد،و الإنسان و الحيّة،حتى لا تقرض فارة جرابا(4)و حتى توضع الجزية(5)و يكسر الصليب(6)و يقتل الخنزير،و هو قوله تعالى:

ص:55


1- (1) تفسير البرهان ج 4 ص 329.
2- (2) الملّة:الشريعة أو الدين.كما في القاموس،و مجمع البحرين.
3- (3) أي تأتلف بعضها مع بعض،فلا الذئب يبطش و يأكل الشاة،و لا الشاة تخاف من الذئب، و نفس هذا الكلام في البقرة و الأسد و الإنسان و الحيّة؛و سيأتي بيان و شرح ذلك في فصل(حياة المجتمع في عصره)من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى.
4- (4) الجراب:كيس من جلد،توضع فيه الحبوب و الدقيق،و ما أشبه،و لعل قوله(عليه السلام)إشارة إلى عدم وقوع أيّ نوع من أنواع الفساد و الإفساد و الخراب.
5- (5) وضع الجزية:إلغاؤها،و الجزية:مبلغ من المال يدفعه اليهود و النصارى و المجوس-في كل سنة-إلى الدولة الإسلامية إزاء منحها إياهم الصيانة لأنفسهم و أموالهم و أعراضهم،و ذلك بشروط خاصة مذكورة في الكتب الفقهية،و عند ظهور الإمام المهدي(عليه السلام)يدخل الذين تجب عليهم الجزية في دين الإسلام فتلغى عنهم الجزية نهائيا.
6- (6) الصليب:شيء معروف،و هو شعار النصارى،ينصبونه على كنائسهم و مدارسهم و مستشفياتهم،و يعلّقونه على صدورهم.و الصليب يرمز الى صلب المسيح و قتله،مع العلم أنّ اللّه تعالى يقول في القرآن الكريم:وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ و كلام اللّه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،فالصليب يناقض كلام اللّه و يعتبر رمزا لتكذيب القرآن،

لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ و ذلك يكون عند قيام القائم(عليه السلام)(1).

و في تفسير البرهان عن كتاب الكافي عن أبي الفضيل عن الإمام أبي الحسن الكاظم(عليه السلام)،قلت:هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ؟قال(عليه السلام)؛هو أمر اللّه رسوله بالولاية و الوصية،و الولاية:هي دين الحق.قلت:لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ؟ قال(عليه السلام):يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم (عليه السلام)(2).

و روى القندوزي الحنفي في كتابه(ينابيع المودّة)و شيخنا المجلسي (رضوان اللّه عليه)في كتابه(بحار الأنوار)عن الإمام الصادق(عليه السلام)في تفسير الآية حديثا،أما ما ذكره القندوزي فهو كما يلي:

قال(عليه السلام):و اللّه ما يجيء تأويلها حتى يخرج القائم المهدي (عليه السلام)فإذا خرج لم يبق مشرك إلا كره خروجه،و لا يبقى كافر إلاّ قتل...الى آخر الحديث(3).

ص:56


1- (1) تفسير البرهان ج 4 ص 329.
2- (2) تفسير البرهان ج 4 ص 330.
3- (3) المهدي في القرآن ص 62.

و أما ما ذكره المجلسي:فعن أبي بصير قال:سألت أبا عبد اللّه -الصادق-(عليه السلام)عن قوله تعالى في كتابه:هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فقال(عليه السلام):و اللّه ما أنزل تأويلها بعد.قلت:جعلت فداك و متى ينزل؟ قال:حتى يقوم القائم إن شاء اللّه فإذا خرج القائم لم يبق مشرك...إلى آخر الحديث(1).

أقول:نكتفي بهذا المقدار من الآيات البّينات المأوّلة بالإمام المهدي (عليه السلام)و الأحاديث الواردة حول تلك الآيات،و من اللازم أن أقول:

بأني لم أذكر من الآيات إلاّ القليل الأقل منها،فإنّ الآيات المأوّلة بالإمام المهدي -حسب ما ورد في الأحاديث-كثيرة جدّا و قد جمع بعضها العلاّمة المعاصر السيد صادق الشيرازي في كتاب سمّاه:(المهدي في القرآن) فإنه ذكر(106)من الآيات المأولة بالإمام المهدي(عليه السلام)و قد نقلها عن مصادر أهل السنّة فقط،و لو أردنا إستعراض تلك الآيات و الأحاديث الواردة في تأويلها لطال بنا الكلام،و في هذا المقدار كفاية إن شاء اللّه.

ص:57


1- (1) بحار الأنوار ج 51 ص 60.

الفصل الرابع

البشائر في الأحاديث النبويّة

بالامام المهدي«عليه السّلام»

إنّ الأحاديث المرويه عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)حول الإمام المهدي(عليه السلام)تشكّل أكبر طائفة و أكثر كميّة من مجموع الأحاديث و البشائر بالإمام المهدي(عليه السلام)و قد ذكرنا بعضها-فيما مضى-و نذكر بعضها في المستقبل.

و من العجيب أنّ أكثر الأحاديث الموجودة في كتب أهل السنّة حول الإمام المهدي(عليه السلام)مرويّة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)بأسانيد متعدّدة و مضامين متنوّعة

فتارة يبشّر رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)المسلمين بالإمام المهدي(عليه السلام)في ضمن الأئمة الإثني عشر،و أنه هو الثاني عشر، و تارة أخرى يخبر عنه أنه من ولد فاطمة الزهراء(سلام اللّه عليها)،و أنه من صلب الحسين،و أنه الإمام التاسع من ولد الحسين(عليه السلام).

و ستعرف في هذا الفصل و الفصول الآتية أنّ الرسول(صلى اللّه عليه و آله و سلم)كان يخبر عن الإمام المهدي(عليه السلام)في مناسبات عديدة و مواقف كثيرة و مواطن حسّاسة جدا،مما يدل على أهمية الموضوع غاية الأهمية،و إلاّ فما الداعي الى هذا الإهتمام و الى هذه العناية بالموضوع،و الإلحاح و التكرار و التركيز في الإخبار عن الإمام المهدي(عليه السلام).

ص:58

الأحاديث المروية عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)حول الإمام كثيرة جدا،و نقتطف بعضها رعاية لأسلوب الكتاب:

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):إنّ خلفائي و أوصيائي و حجج اللّه على الخلق بعدي لإثنا عشر،أوّلهم أخي و آخرهم ولدي.قيل:يا رسول اللّه و من أخوك؟قال:

علي بن أبي طالب.قيل:و من ولدك؟قال:المهدي الذي يملؤها-أي يملأ الأرض-قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما،و الذي بعثني بالحق بشيرا لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، فينزل روح اللّه عيسى بن مريم فيصلي خلفه،و تشرق الأرض بنور ربها، و يبلغ سلطانه المشرق و المغرب(1).

2-عن حذيفة قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):

المهدي رجل من ولدي،وجهه كالكوكب الدرّي(2).

3-عن حذيفة أيضا قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم) المهدي رجل من ولدي،وجهه كالكوكب الدرّي،اللون لون عربي،و الجسم جسم إسرائيلي،يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا،يرضى في خلافته أهل السماء،و الطير في الجو،يملك عشرين سنة(3).

ص:59


1- (1) فرائد السمطين للجويني ج 2؛و كذلك في كتاب بحار الأنوار ج 51 ص 71.
2- (2) كنز العمال ج 7.الكوكب الدرّي.هو الثاقب المضيء الشديد الإنارة،نسب إلى الدرّ لبياضه و شدة توقّده و تلألأه،قال تعالى:اَلزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ.
3- (3) المصدر:عقد الدرر،في الباب الثالث.

4-عن الإمام محمد بن علي الباقر عن آبائه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(صلوات اللّه عليهم اجمعين)قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):المهدي من ولدي،يكون له غيبة،و حيرة تضل فيها الأمم، يأتي بذخيرة الأنبياء(عليهم السلام)فيملؤها عدلا و قسطا كما ملئت جورا و ظلما(1).

5-روى القندوزي الحنفي عن أبي بصير عن الصادق جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليهم السلام)قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):المهدي من ولدي،إسمه إسمي، و كنيته كنيتي،و هو أشبه الناس بي خلقا و خلقا،يكون له غيبة و حيرة في الأمم حتى تضل الخلق عن أديانهم،فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب،فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا(2).

6-روى المجلسي عن الشيخ المفيد عن أبي أيوب الانصاري قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)-لفاطمة-(في مرضه):و الذي نفسي بيده لا بدّ لهذه الأمة من مهدي،و هو و اللّه من ولدك(3).

7-عن مكحول عن علي بن أبي طالب(عليه السلام)قال:قلت يا رسول اللّه أمنّا-آل محمد-المهدي أم من غيرنا؟فقال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):لا،بل منّا،بنا يختم اللّه الدين كما فتح اللّه بنا،و بنا

ص:60


1- (1) فرائد السمطين.
2- (2) ينابيع المودّة.
3- (3) بحار الأنوار ج 51 ص 67.

ينقذون عن الفتنة كما أنقذوا من الشرك،و بنا يؤلّف اللّه بين قلوبهم بعد عداوة الفتنة إخوانا كما ألّف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك،و بنا يصبحون بعد عداوة الفتنة إخوانا كما اصبحوا بعد عداوة الشرك إخوانا(1).

إنّ سؤال الإمام أمير المؤمنين من رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم) من قبيل تجاهل العارف،فهو يسأل عما يعلم و كأنّه لا يعلم و ذلك لغرض يقصده،و هذا النوع من الكلام وارد في القرآن و الأحاديث بل و في العرف أيضا قال تعالى:وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى.

8-عن هشام بن سالم عن الإمام الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه(عليهم السلام)قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):

القائم من ولدي،إسمه إسمي،و كنيته كنيتي،و شمائله شمائلي(2)،و سنّته سنّتي،يقيم الناس على ملّتي و شريعتي،و يدعوهم الى كتاب اللّه عزّ و جل، من أطاعه أطاعني،و من عصاه عصاني،و من أنكره في غيبته فقد أنكرني، و من كذّبه فقد كذّبني،و من صدّقه فقد صدقني،الى اللّه أشكو المكذّبين لي في أمره،و الجاحدين لقولي في شأنه،و المضلّين لأمتّي عن طريقته،و سيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون(3).

9-عن إبن عباس قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):علي بن أبي طالب إمام أمتّي،و خليفتي عليهم بعدي،و من ولده

ص:61


1- (1) بحار الأنوار ج 51،رواه عن إكمال الدين للشيخ الصدوق.
2- (2) الشمائل:الأخلاق و الطبائع.
3- (3) بحار الأنوار ج 51.

القائم المنتظر الذي يملأ اللّه(عزّ و جل)به الأرض عدلا و قسطا كما ملئت جورا و ظلما،و الذي بعثني بالحق بشيرا:إنّ الثابتين على القول به-في زمان غيبته- لأعزّ-أيّ أقلّ و أندر-من الكبريت الأحمر.فقام اليه جابر بن عبد اللّه الأنصاري فقال:يا رسول اللّه و للقائم من ولدك غيبة؟فقال:إي و ربيّ وَ لِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ يا جابر إنّ هذا لأمر من أمر اللّه، و سرّ من سرّ اللّه،مطوي-أي مستور-عن عباده،فإياك و الشك في أمر اللّه فهو كفر(1).

10-عن أبي سعيد الخدري-في حديث طويل-قال:قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلم)-لفاطمة-:يا بنيّة:إنا أعطينا-أهل البيت-سبعا لم يعطها أحد قبلنا:

1-نبيّنا خير الأنبياء،و هو أبوك.

2-و وصيّنا خير الأوصياء و هو بعلك.

3-و شهيدنا خير الشهداء و هو عمّ أبيك حمزة.

4-و منّا من له جناحان خضيبان يطير بهما في الجنة و هو إبن عمّك جعفر.

5 و 6-و منّا سبطا هذه الأمة و هما إبناك الحسن و الحسين.

7-و منّا-و اللّه الذي لا إله إلاّ هو-مهدي هذه الأمة،الذي يصلّي خلفه عيسى بن مريم،ثم ضرب بيده على منكب الحسين(عليه السلام)فقال:

من هذا،ثلاثا2.أي قال(صلى اللّه عليه و آله و سلم):«من هذا»ثلاث

ص:62


1- (1و2) بحار الانوار ج 51.

مرات.و في كتاب(البيان)للشافعي الكنجي،:قال(صلى اللّه عليه و آله و سلم):من هذا مهدي هذه الأمّة.

11-عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):ينزل عيسى بن مريم(عليه السلام)فيقول أميرهم المهدي:تعال صلّ بنا،فيقول:ألا:إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة من اللّه عزّ و جلّ لهذه الأمّة(1).

12-في كتاب فرائد السمطين،عن الإمام علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام)قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم):«من أحبّ أن يتمسّك بديني و يركب سفينة النجاة بعدي فليقتد بعلي بن أبي طالب،و ليعاد عدوّه،و ليوال وليّه،فإنه وصيّي و خليفتي على أمتّي، في حياتي و بعد وفاتي،و هو إمام كل مسلم،و أمير كل مؤمن بعدي،قوله قولي،و أمره أمري،و نهيه نهيي،و تابعه تابعي،و ناصره ناصري،و خاذله خاذلي؛

ثم قال(صلى اللّه عليه و آله و سلم):من فارق عليا بعدي لم يرني و لم أره يوم القيامة،و من خالف عليا حرّم اللّه عليه الجنة و جعل مأواه النار،و من خذل عليا خذله اللّه يوم يعرض عليه،و من نصر عليا نصره اللّه يوم يلقاه،و لقّنه حجّته عند المسألة.

ثم قال(صلى اللّه عليه و آله و سلم):الحسن و الحسين إماما أمتّي بعد أبيهما،و سيّدا شباب أهل الجنة،أمّهما سيدة نساء العالمين،و أبوهما سيد

ص:63


1- (1) الأربعين للحافظ أبي نعيم.

الوصيّين،و من ولد الحسين تسعة أئمة،تاسعهم القائم من ولدي،طاعتهم طاعتي،و معصيتهم معصيتي،

الى اللّه أشكو المنكرين لفضلهم،و المضيّعين لحرمتهم بعدي،و كفى باللّه وليا و ناصرا لعترتي و أئمة أمتي،و منتقما من الجاحدين حقّهم،و سيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون».

13-و قال(صلى اللّه عليه و آله و سلم)-في خطبة يوم الغدير و بحضور 120 ألف مسلم-:«...معاشر الناس:النور من اللّه عز و جل،فيّ مسلوك،ثمّ في علي،ثم في النسل منه الى القائم المهدي، الذي يأخذ بحقّ اللّه و بكلّ حق هو لنا...الى آخر الخطبة الشريفة(1).

لقد مرّ عليك-في الأحاديث النبوية-أنّ الرسول(صلى اللّه عليه و آله و سلم)يحلف باللّه،و يقول:«و الذي بعثني بالحق بشيرا»أو«و الذي نفسي بيده»أو«منّا-و اللّه الذي لا إله إلاّ هو-مهدي هذه الأمّة»كل ذلك تأكيدا لهذه الحقيقة،و تثبيتا للموضوع،و لا يكتفي الرسول الصادق الأمين (صلى اللّه عليه و آله و سلم)بهذا حتى يقول:لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد...و يقصد(صلى اللّه عليه و آله و سلم)أنّ هذا الأمر كائن قطعا و بلا شك،و حتى إذا طالت الأزمنة،بل و حتى لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد فلا بدّ و أن يظهر الإمام المهدي(عليه السلام)و هذا منتهى المبالغة في التأكيد

ص:64


1- (1) كتاب الاحتجاج للطبرسي.

و التحقيق.

و قد سمعت و قرأت أنّ الرسول(صلى اللّه عليه و آله و سلم)يتحدّث عن الإمام المهدي بأنه يملأ الأرض قسطا و عدلا،بعد ما ملئت ظلما و جورا.

و لهذه الكلمة تحقيق و شرح يأتيك في المستقبل القريب.

و أما ذكر الظلم و الجور معا،و القسط و العدل معا-كما مرّ عليك في الأحاديث-فمن الممكن أن يكون المقصود من قوله:«تملأ ظلما و جورا» إنتشار الظلم من عامة الناس،و إنتشار الجور من الحكّام.و أن يكون المقصود من قوله:«يملؤها قسطا و عدلا»القسط من الحكّام و العدل من عامة الناس، و سيأتيك مزيد من التفصيل في فصل:حياة المجتمع في عصره.

و قد مرّ عليك كلام رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)حول الإمام المهدي(عليه السلام):«اللون لون عربي و الجسم جسم إسرائيلي»أي أنه مثل بني إسرائيل في طول القامة،فإن الكثير من الساكنين في بلاد الأردن و فلسطين طوال القامة و هم من بقايا بني إسرائيل،أي من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن(عليهم السلام)و ليس جسمه(عليه السلام)كأجسام اليابانيين أو أهل الصين أو ساكني بلاد شرق آسيا،فإنّ أجسامهم-على الأغلب-قصيرة أو متوسطة.

ص:65

الفصل الخامس

اشارة

البشائر في أحاديث الأئمّة الطّاهرين«عليهم السلام»

بالإمام المهدي«عليه السّلام»

تجد في موسوعات الأحاديث(كالكافي و البحار و غيرهما)طائفة كثيرة من البشائر التي رويت عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)بالإمام المهدي (عليه السلام)في شتّى المناسبات مما يدل على إهتمام الأئمة(عليهم السلام) بهذا الموضوع،بل على أهمية الموضوع.

و لا نريد-هنا-البحث عن علم الإمام و كيفية إخباره عن المستقبل، و لكنّنا نكتفي-هنا-بكلمة واحدة و فيها الكفاية:

أقول:الأحاديث المرويّة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم) حول الإمام المهدي(عليه السلام)المذكورة في كتب الشيعة و السنّة تبلغ المئات،و كذلك الأخبار و الأحاديث المرويّة عنه(صلى اللّه عليه و آله و سلم) حول المستقبل،القريب من عهده أو البعيد عنه،و حول آخر الزمان و تبدّل الأحوال،فقد أخبر(صلى اللّه عليه و آله و سلم)عن حكومة الأمويين و العباسيين و غيرهما من الحوادث.

أقول:كل ما تقوله في تلك الأحاديث-أي في مصدر هذه الإخبارات عن المستقبل-نقوله نحن في الإخبارات الواردة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)حول الملاحم و الفتن بصورة عامة و حول الإمام المهدي(عليه

ص:66

السلام)بصورة خاصة،فإن كان مستقى علم النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم)هو الوحي فكذلك الأئمة علومهم عن جدّهم عن جبرئيل عن اللّه تعالى،و ليس معنى ذلك علم الغيب فإنه خاص باللّه تعالى.

و قد ألّف علماؤنا المتقدّمون(رحمهم اللّه)و بعض المعاصرين كتبا كثيرة حول علم الإمام،و ذكرنا بعض تلك الأحاديث في الجزء الأول من كتابنا شرح نهج البلاغة،و كتاب:(فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد)في البحث عن مصحف فاطمة عليها السلام.

و خلاصة البحث:أنّ مصادر علومهم و منابع معلوماتهم متنوّعة و متعدّدة،فمنها:المسموعة و المرويّة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)،و منها:ما هو مذكور في كتاب علي و مصحف فاطمة(عليهما السلام)و منها:ما هو مذكور في الجفر الأحمر،و منها:ما هو من خصائص الإمام،و البحث يحتاج الى شيء من الشرح و التفصيل،و نرجو اللّه تعالى أن يوفّقنا لتأليف كتاب حول الموضوع يتضمّن شيئا من التفصيل و التحليل.

أعود الى حديثي حول البشائر الواردة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)حول الإمام المهدي(عليه السلام)فأقول:

حينما نراجع موسوعات الأحاديث الواردة عن أهل بيت النبوة(عليهم السلام)نجد فيها البشائر الواردة عن جميع الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام)بالإمام المهدي،و هذا أيضا مما يدل على مدى إهتمام الأئمة الطاهرين و شدّة عنايتهم بهذا الموضوع،و خاصة بعد الإنتباه الى المواطن الحسّاسة و المواقف الفريدة التي نوّه الأئمة(عليهم السلام)بالإمام المهدي(عليه

ص:67

السلام)و أشادوا بذكره و إسمه،و من الطبيعي أن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)-بالرغم من ظروفهم الخاصة-كانوا يبذلون ما أمكنهم من الجهود في تثبيت هذه الحقيقة على الصعيد العقائدي.

و لا عجب إذا كنت كميات الأحاديث الواردة عن الأئمة تختلف من حيث القلّة و الكثرة،و الإجمال و التفصيل،فالظروف كانت تختلف، و الحريات كانت تتفاوت حسب تبدّل الظروف السياسية التي كانت لا تسمح لنشر هذه الحقيقة بصورة مكشوفة،أو التحدّث عنها بصورة مفصّلة،و اليك نبذة من تلك الأحاديث المرويّة عن أئمة أهل البيت الصادقين(عليهم السلام):

ص:68

الامام أمير المؤمنين«عليه السّلام»

يبشّر بالإمام المهدي«عليه السّلام»

الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)باب مدينة علم الرسول،و هو أبو الأئمة و سيّد العترة،و قد إشتهر بين جميع المسلمين قوله (عليه السلام):«علّمني رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)ألف باب من العلم،يفتح لي من كل باب ألف باب»و قد أخبر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)عن حوادث جمّة و قضايا كثيرة جدّا،فقد أخبر(عليه السلام)عن إستيلاء معاوية بعده على البلاد الإسلامية(1)و أخبر-أكثر من مرة -عن شهادة الإمام الحسين(عليه السلام)في كربلاء،و خاصة حين مرّ بكربلاء قبل شهادة الحسين بأكثر من عشرين عاما(2)و أخبر عن الحكّام العباسيين،و بناء بغداد،ثم إنقراض العباسيين على أيدي المغول بقوله(عليه السلام):«الزوراء!و ما أدراك ما الزوراء؟أرض ذات أثل،يشيّد فيها البنيان،و تكثر فيها السكّان،و يكون فيها مخادم و خزّان،يتخذها ولد العباس موطنا،و لزخرفهم مسكنا،تكون لهم دار لهو و لعب،يكون بها الجور

ص:69


1- (1) قال(عليه السلام):«أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم،مندحق البطن،يأكل ما يجد،و يطلب ما لا يجد،فاقتلوه،و لن تقتلوه،ألا:و إنّه سيأمركم بسبّي و البراءة منّي...إلى آخر الحديث».راجع نهج البلاغة ص 105، و بحار الأنوار ج 41 ص 317.
2- (2) راجع كتاب بحار الأنوار ج 41 ص 337،315،313،286.

الجائر،و الخوف المخيف،و الأئمة الفجرة،و الأمراء الفسقة،و الوزراء الخونة،تخدمهم أبناء فارس و الروم،لا يأتمرون بمعروف إذا عرفوه،و لا يتناهون عن منكر إذا نكروه،تكفي الرجال منهم بالرجال،و النساء بالنساء، فعند ذلك الغمّ العميم،و البكاء الطويل،و الويل و العويل لأهل الزوراء من سطوات الترك،و هم قوم صغار الحدق،وجوههم كالمجانّ المطوّقة(1)،لباسهم الحرير،جرد مرد،يقدمهم ملك يأتي من حيث بدا ملكهم،جهوريّ الصوت،قويّ الصولة،عالي الهمّة،لا يمرّ بمدينة إلاّ فتحها،و لا ترفع عليه راية إلاّ نكّسها،و الويل الويل لمن ناواه،فلا يزال كذلك حتى يظفر»(2).

لا أراني بحاجة إلى شرح هذه الخطبة،و خاصة و أنّها ليست مقصودة بالذات،بل ذكرتها كمثال و شاهد لما نحن فيه،و لكن في الخطبة نكتة لطيفة و هي أنّ حكومة العباسيين إبتدأت من خراسان على يد أبي مسلم الخراساني،و كان زحف المغول من خراسان أيضا،يقول(عليه السلام):

«يأتي من حيث بدا ملكهم»و قد تحقّق كل هذا و هذا كلّه،فالزوراء-و هي مدينة بغداد-كانت و لا تزال كما وصفها الإمام(عليه السلام)و المغول صنعوا ما صنعوا في البلاد الإسلامية،تجد التفاصيل في شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد.

و خلاصة البحث:إنّ الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)أخبر عن

ص:70


1- (1) و في نسخة«المجان المطرقة».المجان-جمع مجنّ-:و هو الترس.و الترس: صفحة من الفولاذ-مستديرة الشكل غالبا-تحمل في الحرب للوقاية من السيف.
2- (2) كتاب(سفينة البحار)للمحدّث القميّ.ج 1 ص 568.

حوادث كثيرة و كوارث عديدة قد تحقّق معظمها(1).

و من جملة تلك الإخبارات هو الإخبار عن الإمام المهدي(عليه السلام) و قد ذكرنا كلامه في تفسير الآيات المأوّلة بالإمام المهدي(عليه السلام)و إليك بعض تلك الأحاديث:

روى الشيخ الصدوق في(إكمال الدين)بسنده عن أبي جعفر الثاني (الإمام محمد الجواد)عن آبائه عن أمير المؤمنين(عليه السلام)قال:للقائم منّا غيبة،أمدها طويل،كأنّي بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته،يطلبون المرعى فلا يجدونه؛

ألا:فمن ثبت منهم على دينه و لم يقس قلبه لطول أمد إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة،ثم قال:إن القائم منّا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة، فلذلك تخفى ولادته و يغيب شخصه.

و روى الصدوق أيضا عن الإمام الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)أنه قال-للحسين(عليه السلام)-:التاسع من ولدك يا حسين هو القائم بالحق،المظهر للدين،الباسط للعدل،قال الحسين(عليه السلام):فقلت يا أمير المؤمنين و إنّ ذلك لكائن؟...فقال:إي و الذي بعث محمدا بالنبوة و اصطفاه على جميع البرية،و لكن بعد غيبة و حيرة،لا يثبت فيها على دينه إلاّ المخلصون المباشرون لروح اليقين،الذين أخذ اللّه ميثاقهم

ص:71


1- (1) الجدير بالذكر أن الشيخ المجلسي(رضوان اللّه عليه)قد خصّص-في كتابه بحار الأنوار فصلا خاصا بعنوان(باب إخباره عن الغائبات و علمه باللغات)و قد جمع فيه 64 حديثا مرويا عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)حول المستقبل،راجع بحار الأنوار ج 41 ص 283 الى 360

بولايتنا،و كتب في قلوبهم الإيمان،و أيّدهم بروح منه.

و في كتاب نهج البلاغة:قال(عليه السلام):فأنظروا أهل بيت نبيّكم فلئن لبدوا فألبدوا(1)و إن استنصروكم فانصروهم.فليفرّجنّ اللّه الفتنة برجل منّا أهل البيت،بأبي ابن خيرة الإماء،لا يعطيهم إلاّ السيف هرجا هرجا(2)موضوعا على عاتقه ثمانية اشهر،حتى تقول قريش:لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا؛

يغريه اللّه ببني أميّة-أي يسلّطه اللّه عليهم-حتى يجعلهم حطاما و رفاتا، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتّلوا تقتيلا،سنّة اللّه في الذين خلوا من قبل و لن تجد لسنّة اللّه تبديلا.

و في كتاب(ينابيع المودّة)للقندوزي الحنفي ص 512 قال:خطب علي بعد إنقضاء أمر النهروان،فذكر طرفا من الملاحم،و قال:ذاك أمر اللّه،و هو كائن،وقتا مريحا،فيا ابن خيرة الإماء متى تنتظر؟(3)أبشر بنصر قريب من ربّ رحيم.فبأبي و أمي عدة قليلة أسماؤهم في الأرض مجهولة.

و في(ينابيع المودّة)أيضا(ص 467)عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام)أنه قال:سيأتي اللّه بقوم يحبّهم اللّه و يحبّونه،و يملك من هو بينهم غريب،فهو المهدي،أحمر الوجه،بشعره صهوبة(4)يملأ الأرض عدلا بلا

ص:72


1- (1) لبد في المكان:أي أقام فيه.
2- (2) لعل المراد:قتلا قتلا.
3- (3) هكذا وجدنا في المتن،و لعل الأصح«الى متى تنتظر»و يحتمل أن يكون«متى تنتصر».
4- (4) الصهبة:الشقرة في شعر الرأس،و الشقرة:اللون الأشقر،و هي في الانسان حمرة تعلو بياضا كما في كتب اللغة،

صعوبة،يعتزل في صغره عن أمّه و أبيه،و يكون عزيزا في مربّاه،فيملك بلاد المسلمين بأمان،و يصفو له الزمان،و يسمع كلامه،و يطيعه الشيوخ و الفتيان،و يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا،فعند ذلك كملت إمامته و تقرّرت خلافته،و اللّه يبعث من في القبور(1)فأصبحوا لا ترى إلاّ مساكنهم، و تعمر الأرض و تصفو و تزهو بمهديّها،و تجري به أنهارها،و تعدم الفتن و الغارات،و يكثر الخير و البركات.

و في كتاب(منتخب الأثر)عن كتاب تذكرة الخواص،عن أمير المؤمنين(عليه السلام)في خطبة في مدح النبي و الأئمة(عليهم السلام) قال:فنحن أنوار السماوات و الأرض،و سفن النجاة،و فينا مكنون العلم، و إلينا مصير الأمور،و بمهديّنا تقطع الحجج،فهو خاتم الأئمة،و منقذ الأمّة،و منتهى النور،و غامض السرّ،فليهنأ من استمسك بعروتنا و حشر على محبّتنا.

و أيضا في كتاب(منتخب الأثر)عن(ينابيع المودّة)للقندوزي الحنفي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام):يظهر صاحب الراية المحمديّة،و الدولة الأحمديّة،القائم بالسيف و الحال(2)الصادق في المقال، يمهّد الأرض،و يحيي السنّة و الفرض(3).

ص:73


1- (1) إشارة الى الرجعة و يأتي التفصيل في أواخر الكتاب.
2- (2) هكذا وجدنا في المصدر،و لعل الصحيح«الخال»كما صرّحت الأحاديث أن على خده الايمن خالا.
3- (3) السنّة:المستحب،الفرض:الواجب.

و في كتاب عقد الدرر:قال علي بن أبي طالب:إذا نادى مناد من السماء:انّ الحق في آل محمد.فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس(1)يشربون ذكره،فلا يكون لهم ذكر غيره.

في كتاب(إكمال الدين)للشيخ الصدوق بأسناده عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر)عن أبيه عن جده(عليهم السلام)قال:قال أمير المؤمنين(عليه السلام)-و هو على المنبر-.يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان،أبيض اللون،مشرّب بالحمرة(2)مبدّح البطن(3)عريض الفخذين،عظيم مشاش المنكبين،بظهره شامتان:شامة على لون جلده، و شامة على شبه شامة النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم).

له إسمان:إسم يخفى و إسم يعلن:فأما الذي يخفى فأحمد،و أما الذي يعلن:محمد.فإذا هزّ رايته أضاء لها ما بين المشرق و المغرب، و يوضع(4)يده على رؤوس العباد فلا يبقى مؤمن إلاّ صار قلبه أشدّ من زبر الحديد،و أعطاه اللّه قوة أربعين رجلا،و لا يبقى ميت من المؤمنين إلاّ دخلت عليه تلك الفرحة في قلبه و هو في قبره،و هم يتزاورون في قبورهم،يتباشرون بقيام القائم(عليه السلام).

و روى القندوزي في(ينابيع المودّة)هذه الأبيات لأمير المؤمنين(عليه

ص:74


1- (1) أن يكون ظهوره حديث الساعة،و أهمّ الأخبار في جميع المجالس و الإجتماعات.
2- (2) أبيض مشرب بالحمرة:أي إختلط أحد اللونين بالآخر،إذ قد يكون بياض فقط في اللون،و قد يكون البياض مختلطا باللون الأحمر.
3- (3) مبدح البطن:واسع البطن.و المشاش:رؤوس العظام.
4- (4) هكذا وجدنا في المتن و لعل الأصح أن يكون هكذا:يضع يده.

السلام):

حسين إذا كنت في بلدة غريبا فعاشر بآدابها

إلى أن يقول:

سقى اللّه قائمنا صاحب القيامة،و الناس في دابها

هو المدرك الثار لي يا حس ين بل لك،فاصبر لأتعابها

أقول:الأحاديث المرويّة عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)حول الإمام المهدي كثيرة جدا،و لعلنا نتطرّق إلى ذكر بعضها في الفصول القادمة من هذا الكتاب إن شاء اللّه.

و أختم هذا الفصل بكلام أمير المؤمنين(عليه السلام)حول الإمام المهدي(عليه السلام)،في أواخر لحظات حياته المشرقة و أثناء وصيته لإبنه الإمام الحسن(عليه السلام)حيث قال:ثم تقدّم-يا أبا محمد-و صلّ عليّ- يا بني يا حسن-و كبرّ عليّ سبعا،و اعلم أنه لا يحلّ ذلك على أحد غيري إلاّ على رجل يخرج في آخر الزمان إسمه:القائم المهدي،من ولد اخيك الحسين يقيم إعوجاج الحق(1).

ص:75


1- (1) الصلاة على الميت خمس تكبيرات،و لا تجوز الزيادة على الخمس إلاّ لافراد مخصوصين.

الإمام الحسن«عليه السّلام»

يبشّر بالامام المهدي«عليه السّلام»

الإمام أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سيد شباب أهل الجنة و السبط الأكبر لرسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)هو أحد الأئمة المبشّرين و المخبرين بالإمام المهدي(عليه السلام).

و لا عجب إذا كانت الأحاديث المروية عنه-بصورة عامة-و حول الإمام المهدي-بصورة خاصة-قليلة،فمن اللازم أن لا ننسى أن أيام خلافته و هي حوالي عشر سنوات(ابتداءا من شهادة أبيه امير المؤمنين(عليه السلام) و انتهاءا إلى وفاته)إنقضت في جوّ من المآسي و المحن و الإضطرابات و التوتّر.

فقد تربّع إبن آكلة الأكباد(معاوية بن أبي سفيان)على منصّة الحكم و ساعدته الظروف لمحاربة آل محمد(عليهم السلام)محاربة شعواء بلا هوادة، و فتح بيوت أموال المسلمين ليشتري بها الضمائر،و يستأجر المرتزقة ليختلقوا الأحاديث المزوّرة ليشوّهوا سمعة آل البيت النبوي الطاهر،و يحطّموا معنوياتهم، و يدنّسوا قداستهم،و في نفس الوقت يضعوا الأحاديث المزيّفة في فضل الشجرة الملعونة ليلبسوها حلّة النزاهة و المجد؛و الأموال لها كل الأثر في تشويه الحقائق و نشر الأباطيل في كل زمان،و خاصة إذا كانت مصحوبة بالقدرة و السلطة الغاشمة.

ص:76

فكان التشيّع و الشيعة في أقسى أزمنة الإضطهاد و الكبت و القلق، و كانت أعاصير السياسة تبلبل الأفكار و الأهواء.

ظروف عجيبة،و مشاكل رهيبة،و مآسي و مصائب جمّة عاشها الإمام الحسن السبط،فكيف يجد الزمان المناسب لنشر الحقائق؟و أين الإمكانيات التي تتيح له الفرصة للتحدّث عن الأمور العظيمة التي لا تتقبّلها إلاّ القلوب المطمئنة لا المضطربة،و لا تنسجم معها إلاّ الأفكار السليمة لا المذبذبة.

و بالرغم من أنّ تلك الفترة من ذلك العصر لم يكن للناس فيها إقبال على الحديث و ضبطه و لا اهتمام بأخذ العلم عن المصادر النزيهة و المنابع العذبة،مع ذلك كله لم يهمل الإمام الحسن(عليه السلام)التنويه و الإشادة بالإمام المهدي(عليه السلام).

فحينما كان يتحدث عن ظروفه الصعبة إنتهز الفرصة ليقول:

....أما علمتم أنّه ما منّا أحد إلاّ و يقع في عنقه(1)بيعة لطاغية زمانه إلاّ القائم الذي يصلّي روح اللّه عيسى بن مريم خلفه،فإنّ اللّه عز و جل يخفي ولادته،و يغيّب شخصه لئلاّ يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج،ذاك التاسع من ولد أخي الحسين،ابن سيدة الإماء،يطيل اللّه عمره في غيبته،ثم يظهره بقدرته في صورة شاب إبن دون أربعين سنة،ذلك ليعلم أن اللّه على كل شيء قدير(2).

ص:77


1- (1) لا شك أنه ليس المراد من«البيعة»في قوله«عليه السلام»:«بيعة لطاغية زمانه»البيعة بالخلافة و التعهّد بالطاعة،بل المراد ما يكون نتيجة البيعة و هو العيش-مقهورين-تحت سلطة و حكومة أولئك الطغاة.
2- (2) بحار الأنوار ج 51 ص 132.نقلا عن إكمال الدين للشيخ الصدوق.

الامام الحسين«عليه السّلام»

يبشّر بالإمام المهدي«عليه السّلام»

لقد مرّ الإمام الحسين(عليه السلام)بنفس الظروف الصعبة و الملابسات المؤلمة التي مرّ بها الإمام الحسن(عليه السلام)و زيادة،فلقد عاش الإمام الحسين بعد أخيه الإمام الحسن حوالي عشر سنوات إشتدّت فيها المحنة و كثر فيها البلاء،و طالت المدّة،و مع ذلك كلّه لم يترك الإمام الحسين (عليه السلام)الفرصة أن تفوته،بل كان ينتهزها بالإخبار عن الإمام المهدي (عليه السلام)و الإشادة به و التحدّث عنه،فمثلا:يقول(عليه السلام) لعبد اللّه بن عمر:

لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه(عزّ و جل)ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي يملأها عدلا و قسطا كما ملئت جورا و ظلما،كذلك سمعت رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)يقول.(1).

و يقول(عليه السلام)-لرجل من همدان(2)-:قائم هذه الأمّة هو التاسع من ولدي،و هو صاحب الغيبة،و هو الذي يقسّم ميراثه و هو حيّ (3).

ص:78


1- (1) «كذلك سمعت رسول اللّه»أي هكذا سمعت من رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم). بحار الأنوار ج 51 ص 133 نقلا عن إكمال الدين للشيخ الصدوق.
2- (2) همدان:اسم قبيلة في اليمن.
3- (3) نفس المصدر.قوله(عليه السلام):«و هو الذي يقسّم ميراثه و هو حيّ»:يمكن أن يكون-

و في كتاب(عقد الدرر)بسنده عن الحسين بن علي(عليه السلام) قال:لو قام المهدي لأنكره الناس،لأنه يرجع اليهم شابا و هم يحسبونه شيخا كبيرا.

و روى الشيخ الصدوق في(إكمال الدين)بأسناده عن عبد الرحمن بن سليط قال:قال الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهما السلام):منّا إثنا عشر مهديّا،أوّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب،و آخرهم التاسع من ولدي(1)،و هو الإمام القائم بالحق،يحيي اللّه به الأرض بعد موتها، و يظهر به دين الحق على الدين كلّه و لو كره المشركون،له غيبة يرتدّ فيها أقوام،و يثبت فيها على الدين آخرون،فيؤذون و يقال لهم:«متى هذا الوعد إن كنتم صادقين».

أما إنّ الصابر-في غيبته-على الأذى و التكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)(2).

و روى الصدوق أيضا عن عيسى الخشّاب قال:قلت للحسين بن علي (عليهما السلام):أنت صاحب هذا الأمر؟.

ص:79


1- (1) ليس المقصود من قوله(عليه السلام):«منّا إثنا عشر مهديّا»أن«المهدي»إسم لكل واحد من الأئمة الإثني عشر،بل المقصود وصفهم بالهداية و أنهم جميعا مهديّون.
2- (2) (إكمال الدين)للشيخ الصدوق ج 1 ص 317.

قال:لا...و لكنّ صاحب الأمر الطريد الشريد،الموتور بأبيه، المكنى بعمّه(1)يضع سيفه على عاتقه ثمانية أشهر.

ص:80


1- (1) المستفاد من هذا الحديث و من الحديث الذي سيأتي في فصل(الإمام الباقر عليه السلام يبشّر بالإمام المهدي عليه السلام)أن«أبا جعفر»كنية للإمام المهدي(عليه السلام)،و ان كانت هذه الكنية غير مشهورة.

الامام زين العابدين«عليه السّلام»

يبشّر بالامام المهدي«عليه السّلام»

و من المبشّرين بالإمام المهدي(عليه السلام)هو زين العابدين و سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين(عليه السلام)،و مما يجدر الإنتباه إليه هو أن الإمام أشار الى هذه الحقيقة في ساعة يعجز القلم عن وصفها،فلقد عاش الإمام زين العابدين(عليه السلام)واقعة كربلاء الدامية،و فقد في يوم كربلاء(عاشوراء)أباه الإمام الحسين(عليه السلام)و عشيرته و أغصان الشجرة الطيّبة في غضون يوم واحد،و انصبّت عليه الفجائع،الواحدة تلو الأخرى في خلال ساعات،و حكموا عليه بالإعدام ثلاث مرات:

الأولى:في كربلاء بعد شهادة أبيه سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام)

الثانية:في الكوفة،و في مجلس عبيد اللّه بن زياد،حين أمر إبن زياد بقتل الإمام.

الثالثة:في الشام،لما عزم يزيد على قتله،و حتى أنه أمر أن يحفر قبر للإمام ليدفن فيه بعد تنفيذ حكم الإعدام عليه.

ص:81

و لكن اللّه تعالى كفاه شرّهم،و دفع عنه السوء،و حفظه من القتل؛ و في يوم جمعة من تلك الأيام حضر يزيد بن معاوية ليؤمّ الناس في أداء صلاة الجمعة في الجامع الأموي بدمشق،و أمر يزيد خطيبا أن يتولّى خطبة صلاة الجمعة،إذ أنه كان عاريا عن الثقافة الدينية،و بمعزل عن وعظ الناس و إرشادهم،و لكنّه أعطى للخطيب رؤوس الأقلام التي تدور عليها الخطبة.

أمر يزيد الخطيب أن يمدح بني أمية و على رأسهم معاوية و يزيد،و أن يذكر آل رسول اللّه(صلوات اللّه عليهم)بكل سوء،و نفّذ الخطيب المأجور هذه الخطّة القذرة.

كل هذا و الإمام زين العابدين(عليه السلام)حاضر يسمع تلك الترّهات و الأباطيل،فينهض الإمام ليكسر أقفال الصمت،و ليصرخ في وجه الخطيب صرخة يدوّي صداها على مسامع الجماهير المتجمهرة في الجامع الأموي لأداء صلاة الجمعة قائلا:«ويلك أيها الخاطب!!إشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوّأ مقعدك من النار»ثم يستأذن الإمام زين العابدين (عليه السلام)من يزيد ليأذن له ليرقى المنبر،و بعد محاولات كثيرة و إلحاح من الحاضرين أذن له يزيد مكرها،و صعد الإمام المنبر،و بعد مقدّمات و كلمات في المواعظ جلب إنتباه الحاضرين و ملك قلوبهم و مشاعرهم،فقال:-في ضمن خطبته-:

«أيها الناس:أعطينا ستّا،و فضّلنا بسبع:أعطينا العلم،و الحلم، و السماحة،و الفصاحة،و الشجاعة،و المحبّة في قلوب المؤمنين؛و فضّلنا:

بأن منّا النبيّ المختار،و منّا الصّدّيق،و منّا الطيّار،و منّا أسد اللّه و أسد

ص:82

رسوله،و منّا سبطي هذه الأمّة،و منّا مهديّ هذه الأمة...إلى آخر الخطبة»(1).

2-في كتاب(إكمال الدين):قال الإمام علي بن الحسين سيّد العابدين(عليه السلام):القائم منّا تخفى ولادته على الناس حتى يقولوا:لم يولد بعد،ليخرج حين يخرج و ليس لأحد في عنقه بيعة(2).

3-و أيضا في(إكمال الدين)عن ابي خالد الكابلي-و هو من أصحاب الإمام زين العابدين عليه السلام-:...قال أبو خالد:فقلت:يا بن رسول اللّه إن ذلك لكائن؟.

فقال:إي و ربيّ،إنّ ذلك لمكتوب عندنا في الصحيفة التي فيها ذكر المحن التي تجري علينا بعد رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم).

قال أبو خالد:فقلت يا بن رسول اللّه ثم يكون ماذا؟

قال(عليه السلام):ثم تمتدّ الغيبة بوليّ اللّه(عزّ و جل)الثاني عشر من أوصياء رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)و الأئمة بعده.

يا أبا خالد:إنّ أهل زمان غيبته،القائلين بإمامته،و المنتظرين ظهوره أفضل من أهل كل زمان،لأنّ اللّه تبارك و تعالى أعطاهم من العقول و الأفهام

ص:83


1- (1) معالي السبطين نقلا عن منتخب الطريحي.الصّدّيق:هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)،و الطيّار:أخوه جعفر بن أبي طالب،و أسد اللّه رسوله:هو عمّه حمزة بن عبد المطلب.
2- (2) (إكمال الدين)للشيخ الصدوق ج 1 ص 323.

و المعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة،و جعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)بالسيف، أولئك المخلصون حقّا،و شيعتنا صدقا،و الدعاة الى اللّه(عزّ و جل)سرّا و جهرا.

4-و في كتاب(إكمال الدين)بإسناده عن سعيد بن جبير قال:

سمعت سيد العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام)يقول:

في القائم منّا سنن من الأنبياء،سنّة من أبينا آدم(عليه السلام)و سنّة من نوح،و سنّة من إبراهيم،و سنّة من موسى،و سنّة من عيسى،و سنّة من أيّوب،و سنّة من محمد(صلوات اللّه عليهم)

فأمّا من آدم و نوح:فطول العمر.

و أمّا من إبراهيم:فخفاء الولادة و اعتزال الناس(1).

و أمّا من موسى:فالخوف و التقيّة(2).

و أمّا من عيسى:فاختلاف الناس فيه(3).

ص:84


1- (1) قال اللّه تعالى في القرآن-حكاية لكلام النبي إبراهيم(عليه السلام)-:وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ،وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا،فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ سورة مريم/آية 48-49.
2- (2) قال اللّه تعالى في القرآن الكريم-في ذكر قصة النبي موسى(عليه السلام)-:فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ.سورة القصص/آية 18.فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ سورة القصص/آية 21.
3- (3) قال تعالى:لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ سورة المائدة/آية 17.-

و أمّا من أيوب:فالفرج بعد البلوى.

و أمّا من محمد(صلى اللّه عليه و آله و سلم):فالخروج بالسيف(1).

نكتفي بهذا العدد،و لعلّنا نذكر في المستقبل بعض الأحاديث الأخرى المرويّة عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام).

ص:85


1- (1) سيأتي معنى هذه الجملة في فصل(كيف تخضع له الدول و الحكومات؟)من هذا الكتاب إنشاء اللّه.

الإمام الباقر«عليه السّلام»

يبشّر بالإمام المهدي«عليه السّلام»

يستفاد من مطاوي كتب التواريخ أن عصر الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)كان نقطة تحوّل و تطوّر في الثقافة الإسلامية،فقد تولّد في الناس الوعي،و الرغبة الى طلب العلم،و شدّ الرحال الى المراكز الدينية لتحصيل العلوم،و خاصة الفقه و التفسير و الحديث،و حصل شيء من النضج الفكري،فكان الناس لا يكتفون بسماع الأحاديث،إلاّ بعد التحقيق و البحث عن التحليل و التعليل.

فلا عجب إذا كان الناس يقصدون المدينة المنوّرة للتزوّد من التابعين الذين أدركوا أصحاب رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)و أخذوا منهم العلوم.

فكم من الفقهاء الذين هاجروا من الكوفة أو غيرها الى المدينة المنوّرة و إتصلوا بالإمام الباقر(عليه السلام)يرتشفون من نمير علمه،و يروّون غليلهم من بحار معرفته و ينابيع حكمته،فكانت العلوم و المعارف تتفجّر لهم من ناحية الإمام الباقر(عليه السلام)و تنكشف لهم الأدلّة و البراهين في المسائل العقائدية كالتوحيد و العدل و النبوّة،و الإمامة بصورة خاصة و غيرها.

و من البديهي ان تكون الأحاديث المرويّة عن الإمام الباقر(عليه السلام)حول الإمام المهدي(عليه السلام)غزيرة المادّة،كثيرة العدد،قد

ص:86

سجّلتها أقلام الفقهاء الذين تلمّذوا على الإمام الباقر،و لا يسع هذا الكتاب إستيعاب تلك الأحاديث بأجمعها،بل نكتفي ببعضها،مع العلم أننا سنذكر بعض تلك الأحاديث،في الأبواب و الفصول القادمة بالمناسبة إنشاء اللّه تعالى،و قد ذكرنا شيئا منها في الفصول السابقة:

1-في كتاب(بحار الأنوار)نقلا عن كتاب(الغيبة)للنعماني بأسناده عن أبي حمزة الثمالي قال:كنت عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر(عليه السلام)ذات يوم،فلما تفرّق من كان عنده قال لي:يا أبا حمزة من المحتوم الذي حتمه اللّه قيام قائمنا،فمن شكّ فيما أقول لقى اللّه و هو به كافر،ثم قال:بأبي و أمي المسمّى بإسمي،و المكنّى بكنيتي،السابع من بعدي(1)، بأبي من يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا،يا أبا حمزة من أدركه فيسلّم له ما سلّم لمحمد و علي فقد وجبت له الجنة،و من لم يسلّم فقد حرّم اللّه عليه الجنة،و مأواه النار،و بئس مثوى الظالمين.

2-و في(إكمال الدين)للشيخ الصدوق(عليه الرحمة)بأسناده عن أمّ هانىء الثقفية قالت:غدوت على سيدي محمد بن علي الباقر(عليه السلام) فقلت له:يا سيدي!آية في كتاب اللّه عزّ و جل عرضت بقلبي فأقلقتني و أسهرتني.قال:فأسألي يا أمّ هانىء..قالت:قلت:قول اللّه عزّ و جل:

«فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ اَلْجَوارِ الْكُنَّسِ 2 قال:نعم المسألة سألتيني يا أمّ

ص:87


1- (1) الإمام الباقر(عليه السلام)هو الإمام الخامس،و الإمام المهدي(عليه السلام)هو الإمام الثاني عشر،فيكون الإمام المهدي(عليه السلام)سابع إمام بعد الإمام الباقر(عليه السلام.).

هانىء،هذا مولود في آخر الزمان،هو المهدي من هذه العترة،تكون له حيرة و غيبة يضلّ فيها أقوام،و يهتدي فيها أقوام،فيا طوبى لك إن أدركتيه،و يا طوبى لمن أدركه(1)».

3-و أيضا في(إكمال الدين)عن أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام)قال:قال لي:يا أبا الجارود إذا دار الفلك و قال الناس:مات القائم أو هلك،بأيّ واد سلك،و قال الطالب:أنّى يكون ذلك و قد بليت عظامه فعند ذلك فأرجوه،فإذا سمعتم به فاتوه و لو حبوا(2)على الثلج(3).

نكتفي-هنا-بهذا المقدار من الأحاديث،و لنا في المستقبل مجال واسع لذكر بعض الأحاديث الأخرى المرويّة عن الإمام محمد الباقر(عليه السلام).

ص:88


1- (1) إكمال الدين ج 1 ص 330،بحار الأنوار ج 51 ص 137.
2- (2) الحبو:هو المشي على اليدين و الرجلين،يقال:حبا الصبي:أي زحف على يديه و بطنه.
3- (3) (إكمال الدين)للشيخ الصدوق ج 1 ص 326.

الإمام الصادق«عليه السّلام»

يبشّر بالامام المهدي«عليه السّلام»

إن التحدّث عن عصر الإمام الصادق جعفر بن محمد(صلوات اللّه عليه)و إنتشار العلم و إزدهاره يحتاج الى تأليف خاص،و ربما يحتاج الى موسوعة لمن يريد الإحاطة بجميع جوانب عصر الإمام من الناحية السياسيّة و العلميّة و الظروف الخاصة التي إندمجت مع عصره.

و نستطيع-هنا-أن نلخّص الكلام فنقول:

إن الحكومة الأموية الغاشمة كانت في طريقها الى الزوال وا الأضمحلال في أواسط حياة الإمام الصادق(عليه السلام)،ثم تأسّست الحكومة العباسية و قبل أن تشتدّ أركانها و يقوى نفوذها في البلاد الإسلامية و خاصة في المدينة المنّورة وجد الإمام الصادق(عليه السلام)المجال المناسب لنشر العلوم على أوسع صورة ممكنة،فلقد إستطاع الإمام أن يرقى منبر جده رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)،ذلك المنبر الطاهر بعد أن كان البعض ينزون عليه نزو القردة كما رأى رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم) ذلك في المنام و ساءه ذلك فنزل عليه قوله تعالى:وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ (1).فقد تقوّضت تلك

ص:89


1- (1) سورة الإسراء/آية 60؛و مصادر هذا الحديث و نزول الآية بهذه المناسبة كثيرة جدا، راجع التفاسير كتفسير إبن جرير الطبري،و السيوطي في(الدرّ المنثور)و غيرهما.

الشجرة الملعونة بإنقراض الحكومة الأموية،و أتيحت الفرصة للشجرة الطيّبة- و إن كانت الفرصة قصيرة-أن تؤتي اكلها،و وجد الإمام الصادق(عليه السلام)شيئا من حريّة التكلّم،و ساعدته الظروف أن يرقى منبر جدّه في مسجد جدّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)و يدرّس الفقه و التفسير و العقائد و غيرها،فكان يحضر مجلس درسه أربعة آلاف بين فقيه و محدّث و مفسّر و غيرهم.

و ممن كان يحظى بشرف التلمّذ عند الإمام هو أبو حنيفة نعمان بن ثابت حيث قال:«لو لا السنتان لهلك نعمان»(1).إشارة الى السنتين اللتين حضر فيهما مجلس درس الإمام الصادق(عليه السلام).

و تخرّج من تلك المدرسة المباركة عظماء أبرار يفتخر بهم الدهر،و تعتزّ بهم البشرية أمثال:جابر بن حيان أول كيماوي في الإسلام و العرب،و هشام بن الحكم و غيرهما ممن يطول الكلام بذكر أسمائهم،حتى بلغ الأمر أن تسعمائة متكلّم كانوا يخطبون في مسجد الكوفة و كل منهم يقول:حدّثني جعفر بن محمد(2).

و مع هذا التجاوب و توفّر الأهلية و المؤهّلات في الأصحاب وجد الإمام الصادق(عليه السلام)الفرصة المناسبة ليضع النقاط على الحروف، و يتحدّث عن الإمام المهدي(عليه السلام)و يبشّر به كلّ من يعتقد بالإمام المهدي،و يكون التحدّث عنه متنوّعا،فتراه يتحدّث عن إسمه،و نسبه،

ص:90


1- (1) التحفة الاثنا عشرية للدهلوي ص 8.
2- (2) المجالس السنيّة للسيد الأمين ج 5 ص 309.

و علائم ظهوره،و مدّة حكومته،و غير ذلك مما يدور في هذا الفلك.

و من الصدق و الصواب أن أقول:إن الأحاديث المروّية عن الإمام الصادق(عليه السلام)حول الإمام المهدي(عليه السلام)أكثر من الأحاديث المرويّة عن بقية الأئمة(عليهم السلام).

و بعبارة أخرى:لم يرو عن إمام من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) حول الإمام المهدي بمقدار ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)و ذلك لما تقدّم الكلام عنه و هو مساعدة الظروف المواتية للإمام الصادق(عليه السلام).

و من الواضح أننا لا نستطيع أن نذكر-هنا-جميع الأحاديث المرويّة عن الإمام الصادق حول الإمام المهدي(عليهما السلام)بسبب غزارة المادّة، و إرتفاع النسبة،و الكتاب يفرض علينا أن نوزّع بعض تلك الأحاديث على فصول الكتاب رعاية للمناسبة،و نكتفي-هنا-بما تيسّر رعاية لإسلوب الكتاب:

1-في كتاب(بحار الأنوار)نقلا عن كتاب(أمالي الصدوق)بأسناده عن إبن أبي عمير عمّن سمع أبا عبد اللّه-الصادق-(عليه السلام)يقول:

لكلّ أناس دولة يرقبونها و دولتنا في آخر الدهر تظهر

2-في كتاب(إكمال الدين)بأسناده عن صفوان بن مهران عن الإمام الصادق جعفر بن محمد(عليه السلام)أنه قال:من أقرّ بجميع الأئمة (عليهم السلام)و جحد المهدي كان كمن أقرّ بجميع الأنبياء و جحد محمدا (صلى اللّه عليه و آله و سلم)نبوّته،

ص:91

فقيل له:يا بن رسول اللّه فمن المهدي(1)؟من ولدك؟.

قال(عليه السلام):الخامس من ولد السابع(2)،يغيب عنكم شخصه،و لا يحلّ لكم تسميته(3).

3-و أيضا في(إكمال الدين)عن أبي بصير قال:سمعت أبا عبد اللّه- الصادق-(عليه السلام)يقول:«إنّ سنن الأنبياء(عليهما السلام)و ما وقع عليهم من الغيبات جارية-و في نسخة:حادثة-في القائم منّا أهل البيت، حذو النعل بالنعل،و القذّة بالقذّة»(4).

قال أبو بصير:فقلت له:يا بن رسول اللّه!و من القائم منكم أهل البيت؟.

فقال:يا أبا بصير هو الخامس من ولد إبني موسى،ذلك إبن سيدة الإماء،يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون،ثم يظهره اللّه عزّ و جل،فيفتح على يديه مشارق الأرض و مغاربها،و ينزل روح اللّه عيسى بن مريم(عليه السلام)فيصلّي خلفه،و تشرق الأرض بنور ربّها،و لا تبقى في الأرض بقعة

ص:92


1- (1) و في نسخة«ممّن المهدي».
2- (2) الامام السابع هو موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام)و الامام المهدي هو الابن الخامس للامام السابع،هكذا:الامام المهدي بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى(عليهم السلام).
3- (3) إكمال الدين ج 1 ص 333.
4- (4) أي أن الشبه موجود 100%،و قوله(عليه السلام):«حذو النعل بالنعل،و القذّة بالقذّة»:مثل مشهور يضرب للشيئين المتساويين الّلذين لا تفاوت بينهما.

عبد فيها غير اللّه عزّ و جلّ إلاّ عبد اللّه فيها،و يكون الدين كلّه للّه و لو كره المشركون(1)

ص:93


1- (1) (إكمال الدين)ج 2 ص 335.

الامام الكاظم«عليه السلام»

يبشّر بالإمام المهديّ«عليه السّلام»

لقد كانت ظروف الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام) تختلف عن ظروف أبيه الإمام الصادق(عليه السلام)فقد قضى الإمام الكاظم(عليه السلام)سنوات طويلة من حياته المباركة في سجون بغداد، بعيدا عن الناس،و منقطعا عن المجتمع،يعبد اللّه تعالى في قعر السجون، و ظلم المطامير(1)و أطلقوا سراحه مرة أو أكثر،فكان تحت المراقبة الشديدة، ثم سجنوه و قتلوه بالسمّ،و على هذا فقد كانت إمكانيّاته و حرّيته محدودة،و لم يستطع الشرح و التحليل لموضوع الإمام المهدي(عليه السلام).و مع ذلك كلّه لم تخل موسوعات الأحاديث عن كلمات الإمام الكاظم(عليه السلام) حول الإمام المهدي(عليه السلام)و فيما يلي نذكر بعضها:

1-في كتاب(إكمال الدين)بإسناده عن محمد بن زياد الأزدي،قال:

سألت سيدي موسى بن جعفر-الكاظم-(عليهما السلام)عن قول اللّه(عزّ و جل):وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً؟ فقال:النعمة الظاهرة:

الإمام الظاهر،و الباطنة:الإمام الغائب،

فقلت:و يكون في الأئمة من يغيب؟.

ص:94


1- (1) المطامير-جمع مطمورة-:هي السجون المظلمة تحت الأرض.

قال:نعم،يغيب عن أبصار الناس شخصه،و لا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره،و هو الثاني عشر منّا،يسهّل اللّه له كلّ عسير،و يذلّل له كلّ صعب،و يظهر له كنوز الأرض،و يقرّب له كلّ بعيد،و يبير-أي يهلك-به كلّ جبّار عنيد،و يهلك على يده كلّ شيطان مريد،

ذلك إبن سيدة الإماء الذي تخفى على الناس ولادته،و لا يحلّ لهم تسميته حتى يظهره اللّه(عزّ و جل)فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما.

2-و أيضا في(إكمال الدين)بإسناده عن يونس بن عبد الرحمن قال:

دخلت على موسى بن جعفر-الكاظم-(عليه السلام)فقلت له:يا بن رسول اللّه أنت القائم بالحق؟.

فقال:أنا القائم بالحق،و لكنّ القائم الذي يطهّر الأرض من أعداء اللّه و يملأها عدلا كما ملئت جورا هو الخامس من ولدي،له غيبة يطول أمدها خوفا على نفسه،يرتدّ فيها أقوام و يثبت فيها آخرون.

ثم قال(عليه السلام):طوبى لشيعتنا المتمسّكين بحبلنا-و في نسخة:

بحبّنا-في غيبة قائمنا،الثابتين على موالاتنا و البراءة من أعدائنا،أولئك منّا و نحن منهم،قد رضوا بنا أئمة و رضينا بهم شيعة،و طوبى لهم،هم-و اللّه- معنا في درجتنا يوم القيامة.

ص:95

الامام الرّضا«عليه السّلام»

يبشّر بالامام المهدي«عليه السّلام»

لقد إمتاز عصر الإمام الرضا(عليه السلام)بمزايا كثيرة متنوّعة، و التحدّث عن ذلك العصر يحتاج الى مجال واسع أو تأليف آخر،فلا أقول:إنه وجد الحرية التامّة الكاملة،بمعنى أن يفعل ما يشاء و يقول ما يريد،و لا أقول:إنه كان مضيّقا عليه،و لا يستطيع أن يتكلّم بكلمة واحدة.

لما مات الطاغية هارون الرشيد،و قام إبنه المأمون مقامه،تظاهر بحبّه للعلويّين و على رأسهم الإمام الرضا(عليه السلام)،فتلطّف الجوّ السياسي الذي كان سائدا ضدّهم،و فرضت السياسة على المأمون أن يجعل الإمام الرضا (عليه السلام)وليّ عهده،و أن يضرب الدراهم و الدنانير باسمه،و يبذل العطايا للشعراء الذين يمدحون الإمام(عليه السلام).

و كانت هذه فرصة إنتهزها الإمام الرضا(عليه السلام)للتحدّث عن الإمام المهدي(عليه السلام)فمثلا:عند ما دخل عليه دعبل الخزاعي شاعر أهل البيت و أنشده قصيدته التائيّة المعروفة،و وصل الى هذين البيتين:

خروج إمام لا محالة خارج يقوم على اسم اللّه و البركات

يميّز فينا كلّ حقّ و باطل و يجزي على النعماء و النقمات

بكى الإمام الرضا(عليه السلام)بكاءا شديدا،ثم رفع رأسه الى دعبل،و قال له:يا خزاعي...نطق روح القدس على لسانك بهذين

ص:96

البيتين..فهل تدري من هذا الإمام؟و متى يقوم؟.

فقال:لا يا مولاي..إلاّ أني سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد و يملأها عدلا كما ملئت جورا.

فقال الإمام:يا دعبل..الإمام بعدي:محمد إبني،و بعد محمد:إبنه علي،و بعد علي:إبنه الحسن،و بعد الحسن:إبنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته،المطاع في ظهوره،لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.

و أضاف(عليه السلام)قائلا:

و أمّا متى...فإخبار عن الوقت،و لقد حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي(عليه السلام):أن النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم)قيل له:يا رسول اللّه متى يخرج القائم من ذريّتك؟.

فقال:مثله مثل الساعة(القيامة)لا يجلّيها لوقتها إلاّ هو،ثقلت في السماوات و الأرض،لا يأتيكم إلاّ بغتة(1)(2).

و في إكمال الدين عن أبي الصلت الهروي قال:قلت للرضا(عليه السلام):ما علامة القائم منكم إذا خرج؟.

ص:97


1- (1) وجدنا في المصدر«يأتيكم»مع العلم أن في الآية«تأتيكم»و لعل الرسول الأعظم(صلى اللّه عليه و آله و سلم)أدمج حديثه مع الآية فقال:«يأتيكم»أي:المهدي يأتيكم.
2- (2) إكمال الدين ج 2 ص 372.و رواه-ايضا-الجويني الشافعي في(فرائد السمطين)ج 3 ص 337.

فقال:علامته أن يكون شيخ السن(1)شابّ المنظر،حتى أنّ الناظر اليه ليحسبه إبن أربعين سنة أو دونها،و إنّ من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيام و الليالي حتى يأتيه اجله.

ص:98


1- (1) «شيخ السن»:أي كبير من حيث العمر،و شاب من حيث المنظر كالنضارة،و الطراوة، و لون الشعر،و عدم التجاعيد في الوجه.

الامام الجواد«عليه السّلام»

يبشّر بالامام المهدي«عليه السّلام»

من الواضح أنّ الحكمة الإلهية تقتضي أن تكون البشائر المرويّة عن الإمام محمد بن علي الجواد(عليه السلام)بالإمام المهدي(عليه السلام) كثيرة و غزيرة،و ذلك بسبب قرب الزمان،لأنّ عصر الإمام الجواد(عليه السلام)كان قبل ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)بما يقارب الخمسين عاما،و كان من المتوقّع و المقتضي أن تكون البشائر بإقتراب مولد الإمام- الذي بشّر به القرآن الكريم و النبي العظيم(صلى اللّه عليه و آله و سلم)و أئمة أهل البيت(عليهم السلام)-على أوسع نطاق،تنبيها للغافلين،و تشجيعا و ترويحا و تفريحا لقلوب المؤمنين،و لكن.

و لكنّ يد الغدر و الخيانة حالت دون ذلك،فقتلت الإمام الجواد في ريعان شبابه،و نضارة حياته،و قضى(عليه السلام)نحبه مسموما و هو إبن أربع و عشرين أو خمس و عشرين سنة،و عاصر في حياته ثلاثة من طواغيت بني العباس،و قد كان كلّ منهم ممتلئا غيظا و حقدا على الإمام الجواد،و كانوا يضايقونه في كل خطوة من خطواته،و يبذلون المحاولات في تشويه سمعته و إطفاء نوره.

و بالرغم من هذه العقبات و المشاكل التي إعترضت طريق الإمام الجواد (عليه السلام)فإن موسوعات الأحاديث لا تخلو عن البشائر المرويّة عنه

ص:99

(عليه السلام)بالإمام المهدي(عليه السلام)و إليك بعضها:

1-في كتاب(بحار الأنوار)ج 51 نقلا عن(إكمال الدين)بسنده عن السيد عبد العظيم الحسني قال:دخلت على سيدي محمد بن علي-الجواد- (عليهما السلام)و أنا أريد أن أسأله عن القائم أهو المهدي أم غيره؟.

فابتدأني-عليه السلام-فقال:يا أبا القاسم إنّ القائم منّا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته،و يطاع في ظهوره،و هو الثالث من ولدي و الذي بعث محمدا(صلى اللّه عليه و آله و سلم)بالنبوّة،و خصّنا بالإمامة إنه لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج فيه،فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما،و إنّ اللّه تبارك و تعالى يصلح له أمره في ليلة،كما أصلح أمر كليمه موسى(عليه السلام)إذ ذهب ليقتبس لأهله نارا فرجع و هو رسول نبي؛

ثم قال(عليه السلام):أفضل أعمال شيعتنا إنتظار الفرج.

2-و في(بحار الأنوار)أيضا عن عبد العظيم الحسني قال:قلت لمحمد بن علي بن موسى(عليهم السلام):إني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد(صلى اللّه عليه و آله و سلم)الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما.

فقال(عليه السلام):ما منّا إلاّ و هو قائم بأمر اللّه،و هاد الى دين اللّه، و لكنّ القائم الذي يطهّر اللّه(عزّ و جل)به الأرض من أهل الكفر و الجحود، و يملأها عدلا و قسطا:هو الذي تخفى عن الناس ولادته،و يغيب عنهم

ص:100

شخصه،و يحرم عليهم تسميته،و هو سميّ رسول اللّه و كنيّه،و هو الذي تطوى له الأرض،و يذلّ له كلّ صعب...الى آخر الحديث(1).

ص:101


1- (1) (بحار الأنوار)للمجلسي ج 51/ص 157،(إكمال الدين)للشيخ الصدوق ج 2/ ص 377-378.

الإمام الهادي«عليه السّلام»

يبشّر بالامام المهدي«عليه السّلام»

الإمام علي بن محمد الهادي(عليه السلام)هو جدّ الإمام المهدي (عليه السلام)،و إن كان اللّه تعالى لم يقدّر للإمام الهادي أنّ يرى حفيده الإمام المهدي(عليهما السلام)لأن ولادة الإمام المهدي كانت بعد وفاة جدّه الإمام الهادي(عليه السلام)(1)،و لكنّه(عليه السلام)كان يهيّىء الجوّ و يمهّد المقدمات للإمام المهدي بسبب إقتراب الموعد،و ستعرف-قريبا-أنّ زواج الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)بالسيدة نرجس كان تحت إشراف الإمام الهادي(عليه السلام)و مشفوعا بالبشائر و الإخبار بأنّ السيدة نرجس هي التي سوف تنجب الإمام المهدي(عليه السلام).

فلا عجب إذا كان الإمام الهادي(عليه السلام)يقلّل إجتماعاته بالناس،و لا يخرج إليهم كالعادة،كأنّه يريد أن يعوّدهم تدريجيا على غيبة الإمام و اختفائه عنهم تمهيدا لغيبة الإمام المهدي(عليه السلام)؛فتراه يعيّن الوكلاء في بغداد ليكونوا همزة وصل بينه و بين الشيعة في مراجعاتهم و مسائلهم،و يأمر الشيعة بمراجعة الوكلاء في قضاياهم المالية و الفقهية و غيرها.

ص:102


1- (1) الإمام الهادي(عليه السلام)قتل مسموما في الثالث من شهر رجب سنة 254 هجرية، و الإمام المهدي(عليه السلام)ولد في النصف من شعبان سنة 255 هجرية.

و هنا أسأل اللّه تعالى أن يوفّقني لتأليف كتاب يتضمّن شيئا من حياة الإمام الهادي(عليه السلام)...بل أتضرّع الى اللّه تعالى أن يتفضّل عليّ-بمحمد و آله عليهم السلام-بالتوفيق للتأليف عن جميع أئمة أهل البيت(سلام اللّه عليهم أجمعين).

و نذكر-هنا-حديثا واحدا و نرجىء الباقي الى الفصول القادمة إنشاء اللّه

روى الشيخ الصدوق-رضوان اللّه عليه-في كتاب(إكمال الدين) باسناده عن أبي دلف قال:سمعت علي بن محمد-الهادي-(عليه السلام) يقول:إن الإمام بعدي:الحسن ابني،و بعد الحسن إبنه القائم الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما.

ص:103

الامام الحسن العسكري«عليه السّلام»

يبشّر بالإمام المهدي«عليه السّلام»

الإمام أبو محمد الحسن العسكري(عليه السلام)هو والد الإمام المهدي(عليه السلام)و من الطبيعي أنّ أكبر عدد من البشائر يتحقق على يديه،و ينطلق من لسانه،فقد إقترب موعد ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)و ينبغي ان يكون الإعلام بولادته على أوسع نطاق،و لكن...هل يمكن ذلك؟.

و كيف يمكن ذلك؟و هناك الموانع و الحواجز و العقبات التي تحول دون ذلك،فالإعتقاد بظهور الإمام المهدي كان سائدا في الأمة الإسلامية في تلك العصور،و مشهورا عند المسلمين مع اختلاف بعض الطوائف الإسلامية في شخصية ذلك الإنسان المسمّى بالمهدي الذي بشّر به رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)و الأئمة(سلام اللّه عليهم)و ستعرف في الفصول القادمة أن الذين إدّعوا المهدويّة كذبا وزورا إنّما كانوا يعتمدون على الأحاديث الواردة حول الإمام المهدي،و كانوا يطبّقون تلك الأحاديث على أنفسهم إفتراءا و خداعا.

إذن...فالإعتقاد و القول بظهور الإمام المهدي كان من الأمور القطعيّة عند المسلمين في ذلك الزمان،و خاصة بعد التركيز على أنه يملأ الأرض قسطا و عدلا،و أنه يقضي على الطواغيت و الجبابرة الظالمين،و من الواضح أنّ الحكّام العباسيين كانوا في طليعة المعادين و المناوئين لهذه الشخصية المبشّر بها،

ص:104

لانهم يظنّون أنّ حكوماتهم سوف تنهار على يديه و دماؤهم تسفك بسيفه.

بعد الإنتباه الى هذه الظروف و الملابسات...هل يستطيع الإمام العسكري(عليه السلام)أن يعلن عن ولادة الإمام المهدي(عليه السلام) بصورة واسعة؟.

أليس معنى ذلك أنّ الإمام العسكري يسبّب قتل ولده الإمام المهدي جريا على العادة؟فما الذي يمنع الأعداء من أن يهجموا عليه الدار و يقتلوا أهل الدار كلهم؟و ما المانع من ذلك؟.

ثم...هل يسكت الإمام العسكري(عليه السلام)و يخفي ولادة ولده المهدي عن كل أحد؛فلا يدع أحدا يعرف ذلك أبدا؟فكيف يعلم الشيعة بولادة إمامهم،و خاصة و أنّ الإمام العسكري كان يرى أنّ حياته شخصيّا في معرض الخطر،و يعلم-بعلم الإمامة-أنّه سوف يقتل مسموما و هو إبن ثمان و عشرين سنة؟و الأوامر الإلهيّة تفرض عليه أن يعرّف الإمام الذي بعده و ينصّ عليه،حفظا للأمة الإسلامية من الضياع و الضلال،فقد ورد في الحديث الصحيح-المتّفق عليه بين جميع المسلمين-عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)أنه قال:«من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»(1).

ص:105


1- (1) مصادر هذا الحديث كثيرة جدا،و قد روي بألفاظ مختلفة،و من المصادر:شرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ص 275،صحيح مسلم ج 6 ص 22،سنن البيهقي ج 8 ص 156، مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 446،و غيرها.

مشكلة و أيّة مشكلة،لا يحلّها إلاّ عقل الإمام،ذلك العقل الذي تتجلّى فيه الحكمة بأجمل الصور،و تظهر فيه الحنكة بأبهى منظر،و تبرز حقيقة علم الإمام و مدى تدبيره للأمور و كيفية تصرّفاته في تحقيق الأهداف مع رعاية جميع الجوانب و الأطراف.

الحلّ الذي اختاره الإمام العسكري(عليه السلام)في هذا المجال:

هو الحدّ الوسط،فلا إعلام عام،و لا كتمان و إخفاء مطلق،و الأفضل أن يكون تمام الحديث في الفصل القادم إنشاء اللّه،و نكتفي-هنا-بذكر حديثين رعاية لإسلوب الكتاب:

1-في كتاب(بحار الأنوار)نقلا عن كتاب(الخرائج)بسنده عن عيسى بن صبيح قال:دخل الحسن العسكري(عليه السلام)الحبس، و كنت به عارفا،فقال لي:لك خمس و ستون سنة و شهر و يومان.و كان معي كتاب دعاء عليه تاريخ مولدي،و إني نظرت فيه فكان كما قال.

و قال(عليه السلام):هل رزقت ولدا؟.

فقلت:لا..فقال:اللهم أرزقه ولدا يكون له عضدا،فنعم العضد الولد.ثم تمثّل(عليه السلام):

من كان ذا ولد يدرك ظلامته إنّ الذليل الذي ليست له عضد

قلت:ألك ولد؟قال-عليه السلام-:إي و اللّه سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطا،فأمّا الآن فلا-أي فليس لي ولد-ثم تمثّل.

ص:106

لعلّك يوما أن تراني كأنّما بنيّ حواليّ الأسود اللوابد

فإنّ تميما قبل أن يلد الحصا أقام زمانا و هو في الناس واحد

2-عن كتاب(إكمال الدين):بسنده عن احمد بن إسحاق قال:

سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري(عليه السلام)يقول:الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي،أشبه الناس برسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)خلقا و خلقا،يحفظه اللّه تبارك و تعالى في غيبته،ثم يظهره فيملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت جورا و ظلما.

ص:107

الكتب السّماويّة تبشّر

بالإمام المهدي«عليه السّلام»

لقد وردت بشائر كثيرة بالإمام المهدي(عليه السلام)في الكتب السماوية،و إخبارات المتنبّئين،و الكهّان،توجد طائفة منها في كتاب(بحار الأنوار)للشيخ المجلسي،و كتاب(يوم الخلاص)للكاتب المعاصر كامل سليمان،و كتاب(أنيس الأعلام)للقسّ المسيحي الذي أسلم و صار من علماء المسلمين،و غير هؤلاء،و قد ذكرنا في أوائل هذا الكتاب في تفسير الآية الثالثة بعض ما يتعلّق بالموضوع؛و قد أعرضنا-هنا-عن ذكر تلك البشائر رعاية للإختصار،و من أراد المزيد من الإيضاح و التفصيل فعليه بمراجعة الكتب المذكورة(1)

ص:108


1- (1) راجع(بحار الأنوار)ج 51 ص 162،و كتاب(يوم الخلاص)ص 286،254- 287،و كتاب(أنيس الأعلام)ج 7 ص 386.من الطبعة الجديدة.

الفصل السادس

اشارة

هل ولد الامام المهدي«عليه السّلام»؟

كان كلامنا من أوّل الكتاب الى هنا حول الآيات الماوّلة بالإمام المهدي(عليه السلام)و الأحاديث المبشّرة به و بظهوره و نسبه،و ذكرنا بعض ما يلزم حول هذه المواضيع.

و لا يخفى أنّ الأحاديث المرويّة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)و عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)صدرت عنهم قبل ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)و كانت تلك الأحاديث بمنزلة البشائر و الإخبارات عن المستقبل.

و الآن وصل كلامنا الى ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)،أي وصلنا الى ولادة ذلك الإمام الذي بشّر به القرآن الكريم و بشّر به النبي العظيم(صلى اللّه عليه و آله و سلم)و بشّر به ائمة أهل البيت الصادقون(عليهم السلام).

و هنا نقطة الخلاف و الإختلاف،و معترك الآراء،و تضارب الحق و الباطل،و صراع الحقيقة مع الدجل...و ما دمنا مسلّحين بالأدلّة الكافية و البراهين القطعيّة فلا مانع من أن نتحدّث على ضوء العقل و المنطق في حدود الإمكان،ثم نترك القارىء و ضميره و عقله و فكره،و لسنا مسؤولين عن أكثر من هذا،و اللّه الهادي الى سواء السبيل،فنقول:

كلّ من آمن بالأحاديث المتواترة الصحيحة المرويّة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)و عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)حول الإمام

ص:109

المهدي(عليه السلام)فمن الواجب عليه أن يؤمن و يعترف بولادته،إذ من المستحيل-عقلا و عرفا-أن تكون هذه الأخبار و الأحاديث صحيحة و أن يكون الإمام المهدي لم يولد بعد،و إليك تفصيل و توضيح هذا المعنى:

إنّ الأحاديث الواردة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله)و عن الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)حول الإمام المهدي(عليه السلام)تصرّح بنسبه الشريف،و أنه التاسع من أولاد الامام الحسين(عليه السلام)بمعنى:أن يكون الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام)هو الولد الأول للحسين،و يكون الإمام الباقر محمد بن علي:الولد الثاني للحسين(عليه السلام)أي يكون إبن إبنه،و على هذا:يكون الإمام الحسن العسكري هو الولد الثامن للحسين(عليه السلام)و من الطبيعي ان يكون الإمام المهدي إبن الحسن العسكري هو الولد التاسع للإمام الحسين(عليه السلام).

و قد ثبت أن الإمام الحسن العسكري قد فارق الحياة مسموما،و حضر تشييع جنازته الآلاف من الناس،و دفن في ضريحه بمرأى من الناس،فلا محيص لنا من القول بولادة الإمام المهدي(عليه السلام)إذ لا يمكن أن يموت أبوه و هو غير موجود،فإمّا أن يكون قد ولد في حياة أبيه و هو الصحيح الثابت-لما ستعرف-،و إمّا أن يكون جنينا في بطن أمّه ثم ولد بعد وفاة أبيه بفترة،إذ لا يمكن أن يموت الرجل و يولد إبنه-الذي من صلبه-بعد عشرات أو مئات السنين.

إذن..فالإمام المهدي(عليه السلام)قد ولد قطعا،و بلا أيّ شك أو

ص:110

ريب،و هو حيّ موجود قطعا،لأنّه لا يمكن أن يفارق الحياة قبل أن يظهر(1)، و من الواضح أنه لم يظهر بعد،لأنه إذا ظهر يملأ الأرض قسطا و عدلا كما صرّحت بذلك مئات الأحاديث،و من البديهي أن الأرض قد إنتشر فيها الظلم و الجور،و لا أقول قد ملئت ظلما و جورا،لأنها اذا إمتلأت ظلما و جورا فإن الإمام المهدي(عليه السلام)يظهر عند ذلك.

و بعد هذه المقدمة نقول:إنّ الأحاديث التي تتحدّث عن ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)كثيرة بحيث يصعب إحصاؤها،و يتعسّر أو يتعذّر إستيعابها،و هذه الأحاديث مرويّة في كتب الشيعة و السنّة.

أمّا الشيعة فيعتقدون بولادة الإمام المهدي(عليه السلام)كما يعتقدون بولادة رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)لا يدخلهم في ذلك شك و لا ريب،و منذ مئات السنين تحتفل الشيعة في بلادها في النصف من شهر شعبان من كل سنة بولادة الإمام المهدي(عليه السلام)و تقام آلاف الإحتفالات في المساجد،و المدارس العلميّة، و بيوت العلماء،و توزّع الحلويّات،و تلقى القصائد بالمناسبة،و يرقى الخطباء المنابر،و يتحدّثون حول الإمام المهدي(عليه السلام)و ولادته، و ما يدور في هذا المجال.

ص:111


1- (1) و قد شاهده المئات من الناس-على اختلاف مذاهبهم-خلال الغيبة الصغرى،و الغيبة الكبرى،و حتى في زماننا هذا،و قد ذكر أسماء بعضهم الشيخ المجلسي في(بحار الأنوار) و الشيخ النوري في(جنّة المأوى)و(النجم الثاقب).

و أمّا أحاديث الشيعة و مؤلّفاتهم فإنها تعتبر ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)من الأمور القطعيّة الثابتة التي لا تقبل الشك و الجدل.

و أمّا الأحاديث الواردة-عن كتب أهل السنّة-حول ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)فكثيرة جدا،ثابتة عند أكابر العلماء،و قدماء المحدّثين منهم،و إليك بعض تلك الأقوال:

ص:112

علماء السّنّة المعترفون

بولادة الامام المهدي«عليه السّلام»

لقد ذكر المرحوم الشيخ نجم الدين العسكري في الجزء الأول من كتابه(المهدي الموعود المنتظر)أسماء أربعين من علماء السنّة الذين اعترفوا بولادة الإمام المهدي(عليه السلام)كما ذكر العلاّمة المعاصر الشيخ لطف اللّه الصافي في كتابه(منتخب الأثر)جماعة أخرى يبلغ عددهم ستة و عشرين عالما من علماء السنّة الذين صرّحوا بولادة الإمام المهدي(عليه السلام)و نحن ننتخب من هذين الكتابين ثمانية عشر مصدرا رعاية للإختصار،و من أراد المزيد من التفصيل فليراجع هذين الكتابين و غيرهما من الكتب التي تتحدّث حول الموضوع:

1-محمد بن طلحة الحلبي الشافعي في كتابه(مطالب السؤول في مناقب آل الرسول)(1)قال:الباب الثاني عشر في أبي القاسم محمد بن الحسن...المهدي الحجّة الخلف الصالح المنتظر...فأمّا مولده فبسرّ من رأى(2)...الى آخر كلامه.

و قال أيضا:المهدي هو إبن أبي محمد الحسن العسكري،و مولده بسامراء...الى آخر كلامه.

ص:113


1- (1) صفحة 88،طبع إيران سنة(1287)ه
2- (2) (سرّ من رأى):إسم لمدينة سامرّاء.

2-محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كتابه(البيان في أخبار صاحب الزمان)ص 336 قال:إن المهدي ولد الحسن العسكري،فهو حيّ موجود،باق منذ غيبته الى الآن.

3-محمد بن أحمد المالكي المعروف بابن الصبّاغ في(الفصول المهمّة)ص 273 في الباب الثاني عشر قال:ولد أبو القاسم محمد الحجّة ابن الحسن الخالص(1)بسرّ من رأى في النصف من شعبان سنة خمس و خمسين و مائتين للهجرة...الى آخر كلامه...

4-سبط إبن الجوزي الحنفي في كتابه(تذكرة الخواص)(2)قال:

و أولاده(أي و أولاد الإمام الحسن العسكري):محمد الإمام.ثم قال- تحت عنوان(فصل في ذكر الحجّة المهدي)-:هو محمد بن الحسن بن علي...و كنيته:أبو القاسم،و هو الخلف الحجّة،صاحب الزمان، القائم،و المنتظر،و هو آخر الأئمة...الى آخر كلامه.

5-أحمد بن حجر في كتابه(الصواعق المحرقة)(3)عند ذكره للإمام الحسن العسكري قال:و لم يخلّف غير ولده:أبي القاسم محمد الحجّة،و عمره عند وفاة أبيه خمس سنين،آتاه اللّه الحكمة...الى آخر كلامه.

ص:114


1- (1) الخالص:من ألقاب الإمام الحسن العسكري(عليه السلام).
2- (2) صفحة 88 من الطبعة القديمة و هي طبعة ايران سنة 1287 ه،و في صفحة 363 من الطبعة الحديثة المتداولة في الأسواق.
3- (3) صفحة 127،طبع مصر 1308 ه.

6-الشبراوي الشافعي في(الإتحاف بحبّ الأشراف)(1)قال:

الحادي عشر من الأئمة:الحسن الخالص و يلقّب بالعسكري...و يكفيه شرفا أنّ الإمام المهدي المنتظر من أولاده...ثم قال:ولد الإمام محمد الحجّة إبن الإمام الحسن الخالص بسرّ من رأى،ليلة النصف من شعبان سنة 255...الى آخر كلامه.

7-عبد الوهّاب الشعراني في(اليواقيت و الجواهر)(2)ذكر أشراط الساعة(3)فقال:كخروج المهدي،ثم قال:و هو من أولاد الإمام حسن العسكري،و مولده ليلة النصف من شعبان سنة خمس و خمسين و مائتين،و هو باق الى أن يجتمع بعيسى بن مريم(عليه السلام)...

إلى آخر كلامه.

8-عبد اللّه بن محمد المطيري الشافعي في(الرياض الزاهرة)- بعد ذكر الأئمة و الإمام العسكري-قال:إن إبنه الإمام الثاني عشر، إسمه:محمد القائم المهدي...الى آخر كلامه.

9-سراج الدين الرفاعي في(صحاح الأخبار)قال:...أمّا الإمام الحسن العسكري فأعقب صاحب السرداب(4)،الحجّة المنتظر، وليّ اللّه،الإمام المهدي.

ص:115


1- (1) صفحة 178 طبع مصر سنة 1316 ه.
2- (2) صفحة 145،طبع مصر سنة 1307 ه.
3- (3) أشراط الساعة:أي العلامات التي تدلّ على قرب يوم القيامة.
4- (4) «صاحب السرداب»سيأتي بيان معنى هذه الجملة.

10-الأستاذ بهجت افندي في(كتاب المحاكمة)قال-في ذكر ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)-:ولد في الخامس عشر من شعبان سنة 255،و إن إسم أمّه نرجس...إلى آخر كلامه.

11-الحافظ محمد بن محمد الحنفي النقشبندي في(فصل الخطاب)قال:و أبو محمد الحسن العسكري ولده م ح م د(رضي اللّه عنهما)معلوم عند خاصّة أصحابه،ثم ذكر ولادته في النصف من شعبان سنة 255 على رواية السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد(عليه السلام).

12-سليمان القندوزي الحنفي في كتابه(ينابيع المودّة)(1)،ذكر ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)كما هي مرويّة في كتب الشيعة عن السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد(عليه السلام)(2)ثم قال:الخبر المعلوم المحقّق عند الثقات:أنّ ولادة القائم كانت ليلة الخامس عشر من شعبان سنة خمس و خمسين و مائتين،في بلدة سامرّاء.

13-الشبلنجي الشافعي في كتابه(نور الأبصار)(3)قال:

و كانت وفاة أبي محمد الحسن بن علي في يوم الجمعة لثمان خلون-أي مضين-من شهر ربيع الأول سنة ستين و مائتين،و خلّف من الولد:

محمدا...الى آخر كلامه.

ص:116


1- (1) صفحة 449-452-طبع ايران سنة 1385 هجرية.
2- (2) ننبّه القارىء بأننا سنذكر بالتفصيل حديث الميلاد المرويّة عن السيدة حكيمة(عليها السلام).
3- (3) صفحة 185.طبع بيروت،سنة 1398 هجرية.

14-إبن خلّكان في(وفيات الأعيان)قال:كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس و خمسين و مائتين،و لما توفي أبوه-و قد سبق ذكره-كان عمره خمس سنين،و إسم أمّه خمط،و قيل نرجس.

15-إبن الخشاب في كتابه(تاريخ مواليد الأئمة):الخلف الصالح من ولد أبي محمد الحسن بن علي،و هو صاحب الزمان،و هو المهدي.

16-عبد الحق الدهلوي في رسالته في أحوال الأئمة قال:و أبو محمد الحسن العسكري ولده م ح م د(رضي اللّه عنهما)معلوم عند خواصّ أصحابه و ثقاته..ثم قال:الخلف الصالح من ولد أبي محمد الحسن بن علي،و هو صاحب الزمان.

17-محمد أمين البغدادي السويدي في كتابه(سبائك الذهب) قال:محمد المهدي،و كان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين...الى آخر كلامه...

18-المؤرّخ إبن الوردي قال في(تاريخه):ولد محمد بن الحسن الخالص سنة خمس و خمسين و مائتين.

هذه نبذة من المصادر غير الشيعيّة التي صرّحت بولادة الإمام المهدي(عليه السلام)في النصف من شهر شعبان سنة 255، و صرّحت أنه إبن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)و لو أردنا جمع الأقوال في هذا الكتاب لطال الكلام الى حدّ الملل و السأم.

ص:117

ترجمة حياة السيّدة نرجس«عليها السّلام»

و هنا يناسب أن نذكر شيئا من ترجمة حياة السيدة نرجس والدة الإمام المهدي(عليه السلام)و قد ذكرنا-فيما مضى-بعض كلمات الأئمة(عليهم السلام)التي عبّرت عن السيدة نرجس ب(خيرة الإماء) أو(سيدة الإماء).

و الآن-و قبل كلّ شيء-نذكر أسماءها،فقد ذكر المحدّثون لها ثمانية أسماء:نرجس،سوسن،صيقل أو صقيل،حديثة،حكيمة، مليكة،ريحانة،و خمط.

و أشهر أسمائها:نرجس...و كنيتها:أم محمد.

و قد ذكرنا-في أوائل الكتاب-أنّ تعدّد الأسماء لا يدلّ على تعدّد المسمّى،و ذكرنا أنّ السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)كانت لها أسماء عديدة لأسباب و مناسبات متنوّعة،و هكذا الكلام هنا،فإن نرجس:إسم لبعض الأزهار العطرة،و الخمط:نوع من شجر الأراك له حمل و ثمر يؤكل قال تعالى:ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ (1)و سوسن:أيضا من أنواع الأزاهير ذات الرائحة الطيّبة و الفوائد الكثيرة المذكورة في كتب

ص:118


1- (1) سورة سبأ آية 16.

الطب،و الصقيل:هو الشيء الأملس،فلا مانع من أن تسمّى المرأة بأسماء متعدّدة لمناسبات مختلفة،و لعلّ هناك أسباب و حكم و مصالح سياسية أو إجتماعية قد خفيت علينا.

و لا يضرّ الإختلاف في حسبها و نسبها،فالشخصية واحدة، و الأقوال حولها مختلفة،و نحن نذكر-هنا-قولين لأصحابنا و علمائنا المحدّثين:

روي عن بشر بن سليمان النخّاس،و هو من ولد أبي أيوب الأنصاري،و أحد موالي(1)أبي الحسن-الهادي-و أبي محمد العسكريين(2)و جارهما بسرّ من رأى،قال:

كان مولانا أبو الحسن الهادي(عليه السلام)فقّهني في علم الرقيق(3)فكنت لا أبتاع(4)و لا أبيع إلاّ بإذنه،فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتى كملت معرفتي فيه،و أحسنت الفرق بين الحلال و الحرام، فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسرّ من رأى،و قد مضى هويّ(أي:

ساعة)من الليل إذ قرع الباب قارع،فإذا أنا بكافور الخادم،رسول مولانا أبي الحسن علي بن محمد(عليهما السلام)يدعوني إليه فلبست ثيابي و دخلت عليه،فرأيته يحدّث إبنه أبا محمد و أخته حكيمة من وراء الستر،فلما جلست قال:

ص:119


1- (1) أي أحد الموالين للإمام.
2- (2) العسكري:لقب الإمام الحادي عشر،و قد يطلق على أبيه الإمام الهادي(عليه السلام)
3- (3) الرقيق:المملوك من الجواري و العبيد.
4- (4) لا أبتاع:أي لا أشتري.

يا بشر:إنّك من ولد الأنصار،و هذه الموالاة لم تزل فيكم، يرثها خلف عن سلف،و أنتم ثقاتنا أهل البيت،و إني مزكّيك و مشرّفك بفضيلة تسبق بها سائر الشيعة في الموالاة بها:بسرّ أطلعك عليه، و أنفّذك في ابتياع(1)أمة.

فكتب كتابا ملصقا بخط رومي و لغة روميّة،و طبع عليه بخاتمه،و أخرج شنتقة(أي صرّة توضع فيها النقود)صفراء فيها مائتان و عشرون دينارا،فقال:خذها و توجّه بها الى بغداد،و أحضر معبر الصراة(2)ضحوة يوم كذا،(3)فإذا وصلت إلى جانبك زوارق(4)السبايا،و برزن الجواري منها،فستحدق بهنّ طوائف المبتاعين(5)من وكلاء قوّاد بني العباس،و شراذم(6)من فتيان العراق،فإذا رأيت ذلك

ص:120


1- (1) إبتياع:أي شراء.
2- (2) معبر:اي الجسر الذي يعبر الناس عليه.الصراة:إسم لنهرين في بغداد،هما: الصراة الكبرى،و الصراة الصغرى.ذكر ذلك ياقوت الحموي في كتابه(معجم البلدان). هذا..و الموجود في المصدر:«معبر الفرات»لكن يبدو أنّ ذلك من اخطاء النسّاخ او المطبعة،إذ من الواضح أنّ النهر الذي يجري في بغداد هو:دجلة..لا الفرات.
3- (3) «ضحوة كذا»:أي وقت الضحى من يوم كذا.
4- (4) زوارق-جمع زورق-:السفينة الصغيرة و الموجود في المصدر الزواريق،و لكن لم نجد ذلك في اللغة.
5- (5) المبتاعين-جمع مبتاع-:و هو المشتري.قوله«فستحدق»:يقال حدق القوم به:أي أطافوا و أحاطوا به من كل جهة.
6- (6) شراذم-جمع شرذمة-:و هي الجماعة القليلة من الناس.

فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس(1)عامّة نهارك إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا و كذا،لابسة حريرتين صفيقتين(2)تمتنع من السفور و لمس المعترض و الإنقياد لمن يحاول لمسها،و يشغل نظره بتأمّل مكاشفها من وراء الستر الرقيق.فيضربها النخّاس،فتصرخ صرخة روميّة، فاعلم أنّها تقول:و اهتك ستراه.فيقول بعض المبتاعين:عليّ بثلاثمائة دينار،فقد زادني العفاف فيها رغبة.فتقول له-بالعربية-:لو برزت في زيّ سليمان بن داود و على مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة،فأشفق على مالك.

فيقول النخّاس:فما الحيلة؟و لا بدّ من بيعك؟.

فتقول الجارية:و ما العجلة؟و لا بدّ من إختيار مبتاع يسكن قلبي إليه و الى وفائه و أمانته.

فعند ذلك..قم إلى عمر بن يزيد النخّاس و قل له:إنّ معي كتابا ملصقا لبعض الأشراف،كتبه بلغة روميّة و خط رومي و وصف فيه كرمه و وفاءه و نبله و سخاءه،فناولها لتتأمّل منه أخلاق صاحبه،فإن مالت إليه و رضيته فأنا وكيله في إبتياعها منك.

قال بشر:فامتثلت جميع ما حدّه(3)لي مولاي أبو الحسن(عليه السلام)في أمر الجارية.

ص:121


1- (1) النخّاس:بيّاع الجواري و العبيد.
2- (2) «صفيقتين»:يقال ثوب صفيق:أي كثيف نسجه.
3- (3) حدّه:أي عرّفه و بيّنه.

فلما نظرت في الكتاب بكت بكاءا شديدا،و قالت لعمر بن يزيد:بعني من صاحب هذا الكتاب.و حلفت بالمحرجة المغلّظة(1)أنّه متى إمتنع من بيعها منه قتلت نفسها،

فما زلت أشاحّه(2)في ثمنها حتى استقرّ الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي(عليه السلام)من الدنانير في الشنتقة(أي الصرّة) الصفراء،فاستوفاه منّي و تسلّمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة،و انصرفت بها الى حجرتي التي كنت آوي اليها ببغداد.

فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولاها(عليه السلام)من جيبها و هي تلثمه(3)و تضعه على خدّها،و تطبقه على جفنها(4)،و تمسحه على بدنها.فقلت-تعجّبا منها-أتلثمين كتابا لا تعرفين صاحبه؟

فقالت:أيّها العاجز،الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء!أعرني سمعك و فرّغ لي قلبك:أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم،و أمّي من ولد الحواريّين(5)تنتسب الى وصيّ المسيح:شمعون،

أنبّئك العجب العجيب:إنّ جدّي قيصر أراد أن يزوّجني من إبن أخيه،و أنا من بنات ثلاث عشرة سنة،فجمع في قصره من نسل الحواريين

ص:122


1- (1) المحرجة:أي القسم و اليمين التي تضيّق على الحالف،بحيث لا يبقى له مجال عن برّ قسمه.قوله«المغلّظة»:أي المؤكّدة من اليمين و القسم.
2- (2) قوله«أشاحّه»يقال:تشاحّ الرجلان على كذا:أي لا يريدان أن يفوتهما،و المقصود أنه كان يساوم في ثمن الجارية و يطلب منه التخفيض في قيمتها.
3- (3) تلثمه:أي تقبّله.
4- (4) تطبقة على جفنها:أي تضعه على عينها.
5- (5) الحواريّون:هم خواصّ أصحاب النبي عيسى(عليه السلام)

و من القسّيسين و الرهبان ثلاثمائة رجل،و من ذوي الأخطار(1)سبعمائة رجل،و جمع من أمراء الأجناد و قوّاد العساكر و نقباء الجيوش و ملوك العشائر أربعة آلاف،و أبرز من بهو(2)ملكه عرشا مصنوعا(3)من أصناف الجواهر الى صحن القصر،فرفعه فوق أربعين مرقاة،

فلما صعد إبن أخيه و أحدقت به الصلبان(4)و قامت الأساقفة(5)عكّفا، و نشرت أسفار الإنجيل(6)تساقطت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض، و تقوّضت الأعمدة فانهارت الى القرار،و خرّ الصاعد من العرش مغشيّا عليه(7)فتغيّرت ألوان الأساقفة و ارتعدت فرائصهم،فقال كبيرهم-لجدّي:

أيها الملك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي و المذهب الملكاني(8).

فتطيّر جدّي من ذلك تطيّرا شديدا(9)و قال للأساقفة:أقيموا هذه

ص:123


1- (1) ذوي الأخطار-جمع الخطر-أصحاب الشرف،و الشخصيّات البارزة.
2- (2) البهو:هو البيت المقدّم أمام البيوت،و الذي يعبّر عنه ب(قاعة الإستقبال).
3- (3) و في نسخة:مصوغا.
4- (4) الصلبان:جمع صليب،و قد تقدّم تعريفه.
5- (5) الأساقفة-جمع اسقف-:هو الرئيس الديني عند النصارى.و هو أعلى مرتبة من القسيس.
6- (6) أسفار-جمع سفر-:جزء من اجزاء الإنجيل.
7- (7) يقال لهذا النوع من الحوادث:الإرهاص:و معناه الإخبار عن حادث عظيم قبل وقوعه بفترة طويلة،كما حدث شبيه هذا..ليلة ميلاد نبي الإسلام الرسول الأعظم(صلى اللّه عليه و آله)و سقطت شرفات من طاق كسرى و خمدت نار فارس و أمثال ذلك.
8- (8) الملكانية:من المذاهب المسيحيّة.
9- (9) تطيّر:أي تشاءم.

الأعمدة و ارفعوا الصلبان و أحضروا أخا هذا المدبر العاثر المنكوس جدّه(1)لأزوّج منه هذه الصبيّة فيدفع نحوسه عنكم بسعوده.

فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول،و تفرّق الناس، و قام جدّي قيصر مغتمّا،و دخل قصره،و أرخيت الستور.

فأريت في تلك الليلة كأنّ المسيح و شمعون و عدّة من الحواريّين قد اجتمعوا في قصر جدّي،و نصبوا فيه منبرا يباري السماء علوّا و ارتفاعا في الموضع الذي كان جدّي نصب فيه عرشه،فدخل عليهم محمد(صلى اللّه عليه و آله)مع فتية و عدّة من بنيه،فتقدّم المسيح إليه فاعتنقه،فقال(2)له محمد (صلى اللّه عليه و آله و سلم):يا روح اللّه إني جئتك خاطبا من وصيّك شمعون فتاته مليكة لإبني هذا،-و أومأ بيده إلى أبي محمد إبن صاحب هذا الكتاب.

فنظر المسيح الى شمعون و قال له:قد أتاك الشرف،فصل رحمك برحم رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله).قال:قد فعلت.فصعد ذلك المنبر و خطب محمد(صلى اللّه عليه و آله)و زوّجني من إبنه و شهد المسيح (عليه السلام)و شهد أبناء محمد(صلى اللّه عليه و آله)(3)و الحواريّون.

فلما استيقظت من نومي أشفقت أن أقصّ هذه الرؤيا على أبي و جدّي مخافة القتل،.

ص:124


1- (1) المنكوس جدّه:أي المقلوب حظّه،.و المقصود:أنّ قيصر لما رأى ما جرى في زواج إبن أخيه أراد أن يزوّج السيدة نرجس من أخ ذلك العرّيس.
2- (2) الموجود في المصدر:«فيقول»عوضا عن«فقال».
3- (3) و في نسخة«بنو محمد».

و ضرب صدري بمحبة أبي محمد(1)حتى امتنعت من الطعام و الشراب، و ضعفت نفسي،و دقّ شخصي،و مرضت مرضا شديدا،فما بقي في مدائن الروم طبيب إلاّ أحضره جدّي و سأله عن دوائي،فلمّا برح به اليأس قال:يا قرّة عيني هل تشتهين شيئا؟.

فقلت:يا جدّي أرى أبواب الفرج عليّ مغلقة،فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين،و فككت عنهم الأغلال،و تصدّقت عليهم،و مننت عليهم بالخلاص،لرجوت أن يهب المسيح و أمّه لي عافية و شفاءا.

فلما فعل ذلك جدّي تجلّدت في اظهار الصحة في بدني،و تناولت يسيرا من الطعام،فسرّ بذلك جدّي،و أقبل على إكرام الأسارى و إعزازهم.

فرأيت أيضا-بعد أربع ليال-:كأنّ سيّدة النساء قد زارتني و معها مريم بنت عمران و ألف و صيفة من وصائف الجنان،فتقول لي مريم:هذه سيدة نساء العالمين،و أمّ زوجك أبي محمد.فأتعلّق بها و أبكي و أشكو اليها إمتناع أبي محمد من زيارتي.

فقالت لي سيّدة النساء:إنّ إبني لا يزورك و أنت مشركة باللّه و على مذهب النصارى،و هذه أختي مريم تبرأ الى اللّه من دينك،فإن ملت(2)الى رضى اللّه عزّ و جل و رضى المسيح و مريم عنك و زيارة أبي محمد إياك فقولي:

أشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ أبي محمدا رسول اللّه.

ص:125


1- (1) ضرب صدري:أي ألزم و أحيط بمحبة أبي محمد.
2- (2) ملت:أى رغبت

فلما تكلّمت بهذه الكلمة ضمّتني سيدة النساء إلى صدرها،فطيّبت لي نفسي و قالت:الآن توقّعي زيارة أبي محمد إياك فإنّي منفّدته إليك.

فانتبهت و أنا أقول:و اشوقاه إلى لقاء أبي محمد.فلما كانت الليلة القابلة جاءني أبو محمد(عليه السلام)في منامي،فرأيته كأنّي أقول له:جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبّك؟.فقال:ما كان تأخيري عنك إلاّ لشركك،و إذ قد أسلمت فإني زائرك في كل ليلة الى أن يجمع اللّه شملنا في العيان.فما قطع عني زيارته بعد ذلك الى هذه الغاية.

قال بشر:فقلت لها:و كيف وقعت في الأسر؟.

فقالت:أخبرني أبو محمد ليلة من الليالي أنّ جدّك سيسيّر جيشا الى قتال المسلمين يوم كذا،ثم يتبعهم،فعليك باللحاق بهم متنكّرة في زيّ الخدم مع عدّة من الوصائف من طريق كذا.

ففعلت،فوقعت علينا طلائع المسلمين حتى كان من أمري ما رأيت و شاهدت،و ما شعر أحد-بي بأني إبنة ملك الروم الى هذه الغاية-سواك، و ذلك بإطلاعي إياك عليه.

و لقد سألني الشيخ-الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة-عن إسمي، فأنكرته و قلت:نرجس.فقال:إسم الجواري.

فقلت:العجب انّك روميّة و لسانك عربي؟(1).

ص:126


1- (1) هذا كلام بشر و سؤاله منها.

قالت:بلغ من ولوع(1)جدّي و حمله إيّاي على تعلّم الآداب أن أوعز إلى إمرأة ترجمانة في الإختلاف إليّ،فكانت تقصدني صباحا و مساءا،و تفيدني العربية حتى استمرّ عليها لساني و استقام.

قال بشر:فلما انكفأت(2)بها إلى(سرّ من رأى)دخلت على مولانا أبي الحسن العسكري(عليه السلام)(3)فقال لها:كيف أراك اللّه عزّ الإسلام و ذلّ النصرانية(4)و شرف أهل بيت محمد(صلى اللّه عليه و آله و سلم)؟

قالت:كيف أصف لك-يا بن رسول اللّه-ما أنت أعلم به منّي؟.

قال:فإني أريد(5)أن أكرمك،فأيّما أحب إليك،:عشرة آلاف درهم؟أم بشرى لك بشرف الأبد؟.

قالت:بل البشرى.

قال(عليه السلام):فأبشري بولد يملك الدنيا شرقا و غربا،و يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا.

قالت:ممّن؟قال(عليه السلام)ممّن خطبك رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)له،ليلة كذا من شهر كذا،من سنة كذا

ص:127


1- (1) الولع:شدة الحب و التعلّق بشيء.الإختلاف اليّ:اي التردّد يقال:إختلف الى المكان:أي تردّد،و جاء اليه المرة بعد الأخرى.
2- (2) إنكفأت:أي رجعت.
3- (3) سبق أن ذكرنا أن لقب«العسكري»قد يطلق على الإمام الهادي والد الامام الحسن العسكري(عليهما السلام).
4- (4) إشارة الى انتصار المسلمين على جيش قيصر جدّ نرجس.
5- (5) و في نسخة:إني أحبّ.

بالروميّة(1).

قالت:من المسيح و وصيّه؟.

قال:ممّن زوّجك المسيح و وصيّه.؟

قالت:من إبنك أبي محمد؟.

فقال:هل تعرفينه؟.

قالت:و هل خلت ليلة لم يرني فيها منذ الليلة التي أسلمت على يد سيدة النساء:أمّه(2)؟.

فقال أبو الحسن الهادي(عليه السلام):يا كافور أدع لي أختي حكيمة،فلما دخلت عليه قال لها:هاهيه.فاعتنقتها طويلا،و سرّت بها كثيرا،فقال لها أبو الحسن(عليه السلام):يا بنت رسول اللّه خذيها الى منزلك،و علّميها الفرائض و السنن،فإنّها زوجة أبي محمد و أمّ القائم(عليه السلام)(3).

أيها القارىء الكريم:لعلّ هذا الحديث يحتاج الى شيء من التعليق و التحليل و التحقيق فأقول:

الرؤيا الصادقة حقيقة ثابتة في القرآن و السنّة،و إستيعاب هذا البحث يحتاج الى تأليف خاص،كما فعل ذلك شيخنا النوري(عليه الرحمة)في كتابه:(دار السلام)و يمكن أن نلخّص القول فيما يلي:

ص:128


1- (1) أي بالتاريخ الميلادي...لا التاريخ الهجري.
2- (2) يعبّر عن السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)ب«أمّ الأئمة»لأنّ الأئمة الأحد عشر أبناؤها.
3- (3) روى هذا الحديث الشيخ الصدوق في(إكمال الدين)و الشيخ الطوسي في(كتاب الغيبة) بألفاظ متقاربة،و نحن جمعنا بين الروايات بقدر المستطاع و أخترنا احسن الوجوه.

لقد ذكر اللّه تعالى في القرآن الكريم منامات عديدة للأنبياء و غيرهم، فذكر في سورة الصافّات رؤيا النبي إبراهيم(عليه السلام)(1)و في سورة يوسف تجد أربع منامات أحدها ليوسف بن يعقوب(عليهما السلام)و إثنين للشابّين اللذين دخلا معه السجن،و رؤيا للملك يومذاك،و كانت هذه الأحلام و المنامات صادقة،فقد تحقّق تأويلها و تعبيرها في الخارج(2).

و في الأحاديث النبويّة و أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام)تجد كميّة كثيرة من المنامات و الأحلام الصادقة التي تحقّق تأويلها و تعبيرها،فلقد رأى رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)في المنام:أنّ رجالا ينزون على منبره نزو القردة،و يردّون الناس على أعقابهم القهقرى،فاستوى رسول اللّه جالسا و الحزن يعرف في وجهه،فأتاه جبرئيل بهذه الآية:وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ،وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ،وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً يعني بني أميّة(3).

و رأى رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)منامات أخرى و فسّرها فكانت كما أخبر بها،تجد التفاصيل في الكتب التي تتحدّث عن سيرته(صلى اللّه عليه و آله)

و السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)رأت أباها رسول اللّه في المنام في

ص:129


1- (1) سورة الصافات/آية 102.
2- (2) تجد ذلك في سورة يوسف آية 36،4-42،40،37.
3- (3) بعض مصادر الحديث:السيوطي في(الدر المنثور)في تفسير الآية،مقدمة الصحيفة السجادية،البيهقي في(الدلائل)،و ابن عساكر،و الألوسي في تفسيره(روح البيان)ج 15 ص 100،و ابن كثير في تفسيره ج 3 ص 49،و الفخر الرازي في تفسيره.

يوم وفاتها،فقال لها النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم):أنت الليلة عندي.

فتوفّيت(عليها السلام)في ذلك اليوم،و كذلك الإمام علي أمير المؤمنين و الإمام الحسين(عليهما السلام)كلّ منهما رأى رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله)في المنام.فأخبر النبي كلا منهما باقتراب شهادته و تعيين يومها.

فالرؤيا الصادقة تعتبر للإنسان الرائي مكاشفة و مكالمة و مخابرة من عالم ما وراء الطبيعة،و لقد ثبت في الأحاديث الصحيحة كلام رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله)حيث قال:«من رآني فقد رآني،فإن الشيطان لا يتمثّل بي»و روي الحديث أيضا هكذا:«من رآنا فقد رآنا».

لقد كانت رؤيا السيدة نرجس رؤيا صادقة،بل تعتبر رؤياها نوعا من المكاشفة،فقد خطبها رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)في عالم الرؤيا، و أسلمت في عالم الرؤيا بعد أن لقّنتها السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) كلمة الشهادتين،و كانت السيدة نرجس ترى الإمام الحسن العسكري في منامها في كل ليلة،و أخيرا أخبرها الإمام بأنّ جدّها قيصر ينوي محاربة المسلمين،و أمرها أن تجعل نفسها مع الوصائف و الخدم و ترافق الجيش ليكون ذلك وسيلة لوصولها الى البلاد الإسلامية،ثم تحظى بشرف المثول و الحضور عند الإمام العسكري(عليه السلام).

كل هذه الأشياء تعتبر من الأمور الممكنة،و قد وقعت أمثالها بكثرة على مرّ التاريخ.و اختصّ اللّه تعالى السيدة نرجس بهذا الشرف الأرفع الخالد، بعد أن خلق فيها المؤهّلات و المواهب من:نفسية شريفة،و فضائل شخصية،و مزايا جمّة،كالحياء و العفّة،و قوّة الشخصية،و الإيمان و الأصالة

ص:130

و غيرها،و هذه الفضائل و الإمتيازات قد أهّلتها لتكون والدة لسيّدنا صاحب الزمان الحجّة بن الحسن،المهدي(عليهما السلام)فإنّ الوراثة لها كلّ الأثر في الطفل...و إلاّ فما هي الدوافع و الدواعي لأن يخطبها رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)في المنام و هي في بلاد الروم.

أما وجد الإمام العسكري(عليه السلام)في البلاد الإسلامية إمرأة مسلمة يتزوّجها،أو جارية مسلمة يشتريها.فلماذا هذه المقدّمات الطويلة العريضة،و هذه التشريفات الخاصة العجيبة؟.

من الواضح أننا لا نستطيع الإحاطة و الإطّلاع بصورة مفصّلة عن حياة السيدة نرجس من حيث نفسيتها الممتازة و شخصيتها المثالية!

و أمّا الحديث الآخر الذي يترجم حياة السيدة نرجس فهو كما يلي:

1روى الشيخ الصدوق في(إكمال الدين)بأسناده عن محمد بن عبد اللّه المطهّري قال:قصدت حكيمة بنت محمد الجواد(عليه السلام)بعد مضي- أي:بعد وفاة-أبي محمد الحسن العسكري(عليه السلام)أسألها عن الحجّة و ما اختلف فيه الناس من الحيرة التي فيها...الى أن يقول:فقلت يا مولاتي هل كان للحسن العسكري(عليه السلام)ولد؟.

فتبسّمت...ثم قالت:إذا لم يكن للحسن عقب فمن الحجّة من بعده؟و قد اخبرتك أنه لا إمامة لأخوين بعد الحسن و الحسين(عليهما السلام)(1).

ص:131


1- (1) و في نسخة:ان الإمامة لا تكون لأخوين بعد الحسن و الحسين(عليهما السلام).-

فقلت:يا سيدتي حدّثيني بولادة مولاي و غيبته(عليه السلام)؟.

قالت:نعم..كانت لي جارية يقال لها(نرجس)،فزارني إبن أخي،فأقبل يحدق النظر اليها.فقلت له:يا سيدي لعلّك هويتها فأرسلها إليك؟فقال:لا يا عمّه،و لكنني اتعجّب منها.فقلت:و ما أعجبك منها؟(1)فقال(عليه السلام):سيخرج منها ولد كريم على اللّه عزّ و جل،الذي يملأ اللّه به الأرض عدلا و قسطا.فقلت:فأرسلها اليك يا سيدي؟فقال:إستأذني في ذلك أبي.

قالت حكيمة:فلبست ثيابي و أتيت منزل أبي الحسن،فسلّمت و جلست،فبدأني(عليه السلام):و قال:يا حكيمة إبعثي نرجس الى إبني أبي محمد.فقلت:يا سيدي على هذا قصدتك:على أن أستأذنك في ذلك.

فقال:يا مباركة إنّ اللّه تبارك و تعالى أحبّ أن يشركك في الأجر و يجعل لك في الخير نصيبا.

قالت حكيمة:فلم ألبث أن رجعت الى منزلي و زيّنتها و وهبتها لأبي محمد(عليه السلام)و جمعت بينه و بينها في منزلي،فأقام عندي أيّاما ثم مضى الى والده(عليهما السلام)و وجّهت بها معه...إلى آخر الحديث»(2).

ص:132


1- (1) يقال:أعجبه:أي حمله على العجب منه:فيكون المعنى:أيّ شيء عجيب رأيت منها؟.
2- (2) اكمال الدين للصدوق ج 2 ص 427 طبع طهران سنة 1395 ه.

أقول:هذا الحديث-كما تراه-لا يذكر شيئا من أصل السيدة نرجس، و ترجمة حياتها،سوى أنها كانت جارية للسيدة حكيمة و رآها الإمام الحسن العسكري،و لا يذكر هذا الحديث كيفية وصولها الى سامراء و الى السيدة حكيمة بصورة خاصة.و لقد حاول بعض المعاصرين أن يجمع بين هذين الحديثين فقال:«لقد مرّ في الحديث السابق أنّ الإمام الهادي(عليه السلام) قال لأخته حكيمة:يا بنت رسول اللّه خذيها إلى منزلك و علّميها الفرائض و السنن فإنها زوجة أبي محمد و أمّ القائم.فكانت نرجس عند حكيمة حتى إشتهرت ب(جارية حكيمة).

فلعلّ الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)رآها في بيت عمّته بعد ذلك،و جعل يحدق النظر إليها،و لا مانع من ذلك فهي زوجته»إنتهى.

و لكن المشكلة أنّ كلمات هذا الحديث لا تساعد على هذا التأويل و التوجيه،فقول السيدة حكيمة:«كانت لي جارية يقال لها:نرجس»يدل على أن نرجس كانت ملكا للسيدة حكيمة،و كذلك قولها:«و وهبتها لأبي محمد»ينافي كلام الإمام الهادي(عليه السلام)-في الحديث السابق- «فإنّها زوجة أبي محمد».

و بعد تضعيف نظرية الجمع و التوجيه يأتي سؤال و هو:كيف جاز للإمام العسكري(عليه السلام)أن يحدق النظر إلى إمرأة لا تحلّ له؟.

و الجواب:يجوز النظر الى جارية الغير إذا أذن مالكها ذلك،و من المستحيل أن ينظر الإمام العسكري الى إمرأة لا يحل له النظر اليها لأنه خلاف العصمة...و بعد هذا فإنّ هذا الحديث الثاني مروي عن محمد بن عبد اللّه

ص:133

المطهّري أو الطهوي،و هو مجهول،و معنى ذلك ان هذا الخبر ضعيف، و الإعتماد على الحديث الأول أولى و أنسب،و اللّه العالم.

ص:134

ميلاد الامام المهدي«عليه السّلام»

روى الشيخ الصدوق في(إكمال الدين)بأسناده:عن حكيمة (بنت الإمام الجواد عليه السلام)قالت:بعث إليّ أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام)فقال:يا عمّة إجعلي إفطارك الليلة عندنا،فإنها ليلة النصف من شعبان،و إنّ اللّه تبارك و تعالى سيظهر في هذه الليلة الحجّة،و هو حجّته في أرضه-و في رواية:فإنه سيولد-الليلة-المولود الكريم على اللّه عزّ و جل،الذي يحيي اللّه(عزّ و جل)به الأرض بعد موتها.

قالت(حكيمة):فقلت:و من أمّه؟قال لي:نرجس.قلت له:

جعلني اللّه فداك ما بها أثر(1)؟.فقال:هو ما أقول لك.قالت:فجئت فلما سلّمت و جلست جاءت(نرجس)تنزع خفّي(2)و قالت لي:يا سيدتي و سيدة أهلي كيف أمسيت؟(3)فقلت:بل أنت سيدتي و سيدة أهلي.فأنكرت قولي

ص:135


1- (1) أي:ما بها أثر من الحمل،لأن اللّه تعالى أخفى فيها أثر الحمل،كما صرّحت بذلك الأحاديث،كما أخفى اللّه ذلك في أمّ النبي موسى(عليه السلام)و لم يظهر عليها أثر الحمل و لم يعلم بها أحد الى وقت ولادتها،لأن فرعون كان يشق بطون النساء الحبالى في طلب موسى.
2- (2) كانت العادة المتعارفة في ذلك الزمان أنّ صاحبة البيت كانت تنزع خفّ المرأة الزائرة التي جاءت الى بيتها إحتراما و إكراما و تقديرا لها.
3- (3) كلمة«كيف أصبحت»أو«كيف امسيت»كانت تستعمل في ذلك الزمان مكان كلمة «كيف حالك»في زماننا.

و قالت:ما هذا يا عمّة؟!(1).و في رواية أخرى:فجاءتني نرجس تخلع خفّي،فقالت:يا مولاتي ناوليني خفّك،فقلت:بل أنت سيدتي و مولاتي،و اللّه لا أدفع اليك خفّي لتخلعيه،و لا لتخدميني،بل أنا أخدمك،على بصري(2).فسمع أبو محمد(عليه السلام)ذلك،فقال:

جزاك اللّه-يا عمّة-خيرا.

قالت حكيمة:فقلت لها:يا بنيّة إنّ اللّه سيهب لك-في ليلتك هذه-غلاما سيدا في الدنيا و الآخرة.فجلست(نرجس)و استحيت، فلما أن فرغت من صلاة العشاء أفطرت و أخذت مضجعي فرقدت، فلما كان في جوف الليل قمت الى الصلاة،ففرغت من صلاتي و هي (أي:نرجس)نائمة ليس بها حادث،ثم جلست معقّبة(3)،ثم اضطجعت،ثم انتبهت فزعة و هي راقدة،ثم قامت فصلّت.فدخلتني الشكوك،فصاح بي أبو محمد(عليه السلام)من المجلس(أي:

من حجرته التي كان جالسا فيها):لا تعجلي يا عمّه فإنّ الأمر قد قرب.

ص:136


1- (1) «فأنكرت»:أي تعجّبت من قولي لها:«بل أنت سيدتي و سيدة أهلي»أي:كيف يسوغ للسيدة حكيمة و هي بنت الإمام و أخت الإمام و عمّة الإمام أن تخاطب جارية بهذه الكلمات؟.و أما قول نرجس:«يا عمّة»فهو بإعتبار أن السيدة حكيمة عمّة زوجها،فكما كان الإمام العسكري يخاطبها«يا عمّة»كذلك خاطبتها نرجس بكلمة«يا عمّة».
2- (2) قولها«على بصري»كالقول المتعارف في هذا الزمان(على عيني)
3- (3) معقّبة:أي مشتغلة بتعقيبات الصلاة كالأدعية و الأوراد و تلاوة القرآن و غيرها.

و في رواية:فوثبت سوسن(أي:نرجس)فزعة،و خرجت و أسبغت الوضوء،ثم عادت فصلّت صلاة الليل حتى بلغت الوتر(1)فوقع في قلبي أنّ الفجر قد قرب،فقمت لأنظر،فإذا بالفجر الأول قد طلع(2)فتداخل قلبي الشك من وعد أبي محمد(عليه السلام)(3)فناداني من حجرته:لا تشكّي.فاستحييت من أبي محمد و ممّا وقع في قلبي،و رجعت الى البيت(4)و أنا خجلة،فإذا هي(أي:

نرجس)قد قطعت الصلاة،و خرجت فزعة،فلقيتها على باب البيت،فقلت لها:هل تحسّين شيئا مما قلت لك؟.

قالت:نعم يا عمّه(5)إنّي أجد أمرا شديدا.

قلت:إسم اللّه عليك،إجمعي نفسك،و اجمعي قلبك فهو ما قلت لك،لا خوف عليك إنشاء اللّه،فأخذت و سادة فالقيتها في وسط

ص:137


1- (1) الوتر:آخر ركعة من صلاة الليل.
2- (2) الفجر الأول:هو البياض«الضوء»الذي يظهر في الأفق-في جانب المشرق- ثم يزول و يأتي مكانه الظلام،و يعبّر عنه أيضا ب«الفجر الكاذب».
3- (3) كان سبب الشك أنّ الإمام العسكري(عليه السلام)كان قد أخبرها بأنّ المولود يولد ليلا،و كانت تلك الليلة على وشك الإنتهاء،و قد قرب طلوع الفجر،و المولود لم يكن يولد بعد،و لهذا صاح بها الإمام-من حجرته حتى تسمع صوته-و نهاها عن الشك.
4- (4) البيت:أي الحجرة..و كذا فيما يأتي،فإنّ المراد من«البيت»:الحجرة... لا الدار المستقلّة
5- (5) حيث أن السيدة حكيمة كانت عمّة الإمام العسكري(عليه السلام)و كان الإمام يخاطبها«يا عمّة»كذلك خاطبتها نرجس مجازا..لا حقيقة.

البيت،و أجلستها عليها،و جلست منها حيث تقعد المرأة من المرأة للولادة،فقبضت على كفّي و غمزت غمزا شديدا(1)ثم أنّت أنّة(2)و تشهّدت،فصاح بي أبو محمد(عليه السلام)و قال:إقرئي عليها:

إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (3)فأقبلت أقرأ عليها كما أمرني،فأجابني الجنين من بطنها يقرأ كما أقرأ،ففزعت لما سمعت،فصاح بي أبو محمد(عليه السلام):لا تعجبي من أمر اللّه(عزّ و جلّ)إنّ اللّه (تبارك و تعالى)ينطقنا بالحكمة صغارا،و يجعلنا حجّة في أرضه كبارا،فلم يستتمّ الكلام حتى غيّبت عنّي نرجس،فلم أرها،كأنّه ضرب بيني و بينها حجاب(و في رواية:ثم أخذتني فترة،و أخذتها فترة)(4)فعدوت نحو أبي محمد(عليه السلام)و أنا صارخة،فقال لي:إرجعي يا عمّه،فإنّك ستجدينها في مكانها.فرجعت فلم ألبث أن كشف الحجاب الذي كان بيني و بينها،و إذ أنا بها و عليها من أثر النور ما غشى بصري،و إذا أنا بوليّ اللّه(صلوات اللّه عليه)متلقّيا الأرض بمساجده(5)-و على ذراعه الأيمن مكتوب:جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ

ص:138


1- (1) غمزت:أي كبست و عصرت يدي عصرا شديدا.
2- (2) «أنّت أنّة»الأنين:الصوت من ألم أو مرض.
3- (3) و في رواية:أمرها أن تقرأ سورة الدخان التي أوّلها:بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ،فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ و لا يخفى ما في هذه الآيات من التناسب بينها و بين الولادة أو المولود.
4- (4) سنذكر معنى كلمة«فترة»بعد انتهاء حديث ولادة الامام(عليه السلام)
5- (5) أي قد وضع مواضع السجود السبعة على الأرض.

اَلْباطِلُ،إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (1)-و هو(أي الإمام حال كونه ساجدا)يقول:«أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له،و أنّ جدّي محمدا رسول اللّه،و أنّ أبي أمير المؤمنين وليّ اللّه»ثم عدّ الأئمة إماما إماما إلى أن بلغ إلى نفسه،ثم قال:«اللهمّ أنجز لي ما وعدتني،و أتمم لي أمري،و ثبّت وطأتي(2)و املأ الأرض بي عدلا و قسطا»ثم رفع رأسه-من الأرض-و هو يقول:شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ،قائِماً بِالْقِسْطِ،لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ (3)ثم عطس فقال:«الحمد للّه ربّ العالمين،و صلى اللّه على محمد و آله،زعمت الظلمة أنّ حجّة اللّه داحضة(4)لو أذن لنا في الكلام لزال الشك.

ص:139


1- (1) سورة الإسراء/آية 81.
2- (2) «و ثبّت وطأتي»:يقال:وطأه برجله:أي داسه،فالوطىء:هو الدوس بالقدم.و يعبّر عن الغزو و الغلبة و القتل ب«الوطيء»لأنّ من يطأ على الشيء برجله فقد إستقصى في هلاكه و إهانته،فيكون معنى«ثبّت وطأتي»:أي ثبّت و أحكم ما وعدتني من محاربة المخالفين و إستئصالهم،و سهّل لي ذلك.
3- (3) سورة آل عمران/آية 18-19.
4- (4) داحضة:أي زائلة و باطلة.و ذلك لأن أعداء الأئمة الطاهرين كانوا يظنّون أن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)لا عقب له،و كانوا يقولون:إن العسكري يموت و تنتهي سلسلة«أئمة أهل البيت»،زاعمين أنّ بموته تنقطع حجّة اللّه على الأرض،دون أن يعلموا أن له ولدا هو الإمام المهدي(عليه السلام)و لكن اللّه تعالى لم يأذن له بالإعلان عن نفسه حتى يعلم الجميع أن الإمامة مستمرة من خلاله،و لو أذن اللّه له بالإعلان عن نفسه لزال الشك في إنقطاع سلسلة الأئمة- الطاهرين(عليهم السلام).

قالت حكيمة:فأخذت بكتفيه فضممته إليّ،و أجلسته في حجري،فإذا هو نظيف منظّف،فصاح بي أبو محمد(عليه السلام):هلمّي إليّ بابني يا عمّه،فجئت به إليه،فأجلسه على راحته اليسرى،و جعل راحته اليمنى على ظهره،ثم أدخل-الإمام العسكري-لسانه في فيه،و أمرّ يده على رأسه و عينيه و سمعه و مفاصله،ثم قال له:تكلّم يا بني!!(و في رواية:يا بني انطق بقدرة اللّه تكلّم يا حجّة اللّه و بقيّة الأنبياء،و خاتم الأوصياء،تكلّم يا خليفة الأتقياء..فتشهّد الشهادتين و صلى على النبي و الأئمة الطاهرين واحدا واحدا،ثم سكت بعد وصوله إلى إسم أبيه،ثم استعاذ من الشيطان الرجيم و تلى هذه الآية:بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ،وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ،وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (1).

فناولنيه أبو محمد(عليه السلام)و قال:يا عمّة ردّيه إلى أمّه كي تقرّ عينها و لا تحزن و لتعلم أنّ وعد اللّه حق و لكنّ أكثر الناس لا يعلمون.

فرددته إلى أمّه،و قد إنفجر الفجر الثاني(2)فصلّيت الفريضة،

ص:140


1- (1) سورة القصص/آية 5-6.
2- (2) الفجر الثاني:و يعبّر عنه ب«الفجر الصادق»:-هو البياض«الضوء»الذي يظهر في عرض الأفق-في جانب المشرق-و يمتد و ينتشر حتى يعمّ السماء كلّها،-

ثم ودّعت أبا محمد و انصرفت(1).

أقول:ليس في هذا شيء من الغلو أو الخرافة،و ليس الإمام المهدي(عليه السلام)هو الطفل الأول-في العالم-الذي تكلّم قبيل ولادته أو بعدها مباشرة،بل تجد القرآن الكريم يصرّح بأنّ عيسى بن مريم تكلّم يوم ولادته..بل ساعة ولادته(بناءا على بعض الروايات) فقد ذكر بعض المفسّرين-في تفسير قوله تعالى:فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا،وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا،فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً،فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (2)أنّ هذا كلّه:

كلام عيسى ساعة إنفصاله عن بطن أمّه،كما روي ذلك عن مجاهد، و سعيد بن جبير،و الحسن،و وهب بن منبّه،و إبن جرير،و إبن زيد، و الجبائي(3).و في رواية:ناداها جبرئيل.و إن كان-هناك-إختلاف في

ص:141


1- (1) لقد نقلنا كيفية ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)من روايات متعدّدة و من عدّة مصادر مع رعاية الترابط و التناسق،و كان من بين المصادر:كتاب(إكمال الدين) للشيخ الصدوق ج 2 ص 424-433.طبع ايران 1395.ه.و كتاب(بحار الأنوار)للشيخ المجلسي ج 51 ص 13-28 من الطبعة الحديثة،طبع ايران 1393 ه.
2- (2) سورة مريم/آية 24-26.أما الآيات التي بعدها فهي كالتالي:فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ،قالُوا:يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا!!يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا!!فَأَشارَتْ إِلَيْهِ،قالُوا:كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؟قالَ:إِنِّي عَبْدُ اللّهِ...إلى آخر الآيات»سورة مريم/آية 26-30.
3- (3) مجمع البيان الطبرسي في تفسير الآية،تفسير التبيان للشيخ الطوسي،أيضا في تفسير الآية.

المنادي-في قوله تعالى:فَناداها أنّه هل هو عيسى أو جبرئيل-فلا خلاف و لا اختلاف في كلام عيسى لليهود-حين قالوا:كيف نكلّم من كان في المهد صبيّا-؟«قال:إنّي عبد اللّه،آتاني الكتاب،و جعلني نبيّا،و جعلني مباركا أينما كنت،و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيّا...»أنه كلام عيسى(عليه السلام).

قد يقال:إنّ هذه معجزة أوجدها اللّه تعالى لعيسى بن مريم تثبيتا لنبوّته،

و نحن نقول:إنّ هذه معجزة أوجدها اللّه سبحانه للإمام المهدي تثبيتا لإمامته،و هو(عليه السلام)إمام عيسى بن مريم في الصلاة، كما تقدّم الكلام،و سيأتي المزيد من التفصيل أنّ عيسى بن مريم ينزل من السماء و يصلّي خلف الإمام المهدي(عليه السلام)فلا عجب أن يحدث للإمام المهدي ما حدث لعيسى بن مريم(عليهما السلام).

و قد تكرّرت هذه الظاهرة في آل البيت النبوي،و قد ذكرنا في كتاب(فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد)حديثا مروّيا عن الدهلوي الحنفي في كتاب(تجهيز الجيش)عن كتاب(مدح الخلفاء الراشدين):«أنّه لمّا حملت خديجة بفاطمة كانت تكلّمها ما في بطنها»و حديثا آخر مرويّا عن شعيب بن سعد المصري في كتابه (الروض الفائق):«...قالت خديجة:و اخيبة من كذّب محمدا و هو رسول ربّي.فنادت فاطمة-من بطنها-يا أمّاه لا تحزني و لا ترهبي

ص:142

فإنّ اللّه مع أبي(1).

و الآن نعود الى ولادة الإمام المهدي(عليه السلام).

لقد ولد الإمام في جوّ من الكتمان و الخفاء،في وقت السحر من ليلة النصف من شهر شعبان،قبيل الفجر،في تلك اللحظات التي كان جبابرة بني العباس و أتباعهم في نوم عميق،كعادتهم في كل ليلة.

تلك اللحظات التي كان البيت العلوي الطاهر(و أخصّ بيت الإمام العسكري)عامرا بأصوات الدعاء و الإبتهال و الصلاة و تلاوة القرآن.

ما أشرف تلك اللحظة من سحر ليلة الجمعة النصف من شعبان !!و ما أسعد تلك الليلة التي«لا يولد فيها مولود إلاّ كان مؤمنا،و إن ولد في أرض الشرك نقله اللّه إلى الإيمان ببركة الإمام المهدي(عليه السلام)!!(2)و ما أنسب ذلك الوقت لولادة الإمام حيث روعيت فيه جوانب الحكمة كلها!

ص:143


1- (1) و قد روى الحافظ محبّ الدين احمد الطبري الشافعي-في كتابه(ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى)ص 45،طبع مصر سنة 1356-حديثا عن النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم)أنّ السيدة فاطمة(عليها السلام)كانت تكلّم أمّها و هي في بطنها.
2- (2) نقل الشيخ المجلسي في كتابه(بحار الأنوار)ما نصّه:«نقل من خطّ الشهيد عن الصادق(عليه السلام)قال:إنّ الليلة التي يولد فيها القائم(عليه السلام) لا يولد فيها مولود إلاّ كان مؤمنا،و إن ولد في أرض الشرك نقله اللّه الى الإيمان-

و قد حضرت السيدة حكيمة ولادة الإمام(عليه السلام)و شاهدت المراحل كلهّا في تلك الليلة،و من الطبيعي أنّ الولادة إنّما تثبت بشهادة نساء الأسرة او القابلة المولّدة،و السيدة حكيمة:هي بنت الإمام و أخت الإمام و عمّة الإمام(1)و هل كانت-في ذلك العصر-إمرأة أصدق منها قولا؟و أوثق منها كلاما؟و أطهر منها لسانا؟و أكثر منها إطمئنانا؟و هي السيدة الشريفة العابدة المتهجّدة الصالحة،فمن أين يأتي الشك في صدق كلامها؟و صحّة حديثها؟.

إنّ بعض المنحرفين عن الحق،المعاندين للصواب يشك أو يشكّك في ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)و يقول:إنّ مصدر هذا الخبر هي السيدة حكيمة،فكيف يثبت هذا الأمر بشهادة إمرأة!!.

إنّ هذا المعاند قد ضرب الرقم القياسي في الحمق و الجهل،فكأنّه يتوقّع أن يولد الإمام المهدي(عليه السلام)في ساحة من الساحات المزدحمة بالناس،أو في مسجد غاصّ بالمصلّين،أو في مكان آخر يكثر فيه

ص:144


1- (1) السيدة حكيمة:هي بنت الإمام التاسع محمد الجواد(عليه السلام)و أخت الإمام العاشر علي الهادي(عليه السلام)و عمّة الإمام الحادي عشر أبو محمد الحسن العسكري(عليه السلام).

المتفرّجون،و تقع ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)بمرأى من الجماهير المتجمهرة،و السيل البشري حتى تثبت ولادته(عليه السلام)عند هذا الأعوج!!.

قبحا لهذه النفسيّة القذرة،و تعسا لهذه العقلية السافلة الساقطة، و لعنة التاريخ على هذا المستوى النازل المنحط،و على كلّ معقّد بعقدة الحقارة الجهنميّة.

هذا..بالإضافة إلى أنّ شهادة السيدة حكيمة بولادة الإمام المهدي (عليه السلام)ليست الدليل الأول و الاخير،فالإمام الحسن العسكري (عليه السلام)لم يتهاون في إعلام الشيعة بولادة إبنه الإمام المهدي،رغم الظروف القاسية،و عدم توفّر الإمكانيات الإعلامية،و كثرة الموانع.

أمّا كلمة«الفترة»التي ذكرتها السيدة حكيمة،أو كلمة«السبات» و أمثالها،فهي تشير إلى حالة نفسيّة تعرض نادرا لبعض الأفراد،في حالات خاصة،و لحظات محدودة.و هي حالة تشبه فقدان الوعي بصورة سريعة، و في مدّة قصيرة،تتعطّل خلالها المشاعر،و يتصوّر الإنسان أنّه على وشك الإغماء،فيحاول أن يتغلّب على تلك الحالة،و يحافظ على مشاعره، كالإنسان الذي يغلب عليه النوم و هو يحاول أن لا ينام.

و هذه الحالة-التي يعجز القلم عن وصفها-تعتري الإنسان في حالة التوجّه القويّ إلى اللّه تعالى،أو في حالة الإتصال بعالم الأرواح أو الروحانيّات.

و إنما يفهم هذا الكلام أهل المعنى الروحيّون الذين تكثر إتصالاتهم بعوالم ما وراء الطبيعة.

ص:145

إستولت حالة«الفترة»أو«السبات»على السيدة حكيمة في اللحظات و الثواني التي سبقت ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)و إنفصاله عن بطن أمّه،و شعرت السيدة نرجس بنفس الحالة،في نفس تلك اللحظات.

و من الواضح أنّ لحظة ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)و إنتقاله إلى هذا العالم،لحظة رهيبة،تتجلّى فيها القدسية و النورانية و الروحانية، و يغشى النور الباهر القوي السيدة نرجس،بحيث لا يمكن رؤيتها في تلك اللحظة،لأنها مغمورة بنور لا يشبه أنوار الدنيا،و لم تستطع أن تراها السيدة حكيمة لهذا السبب.و من الطبيعي أنّ هذه الحالة تورث في الإنسان الذعر و الذهول و الدهشة،فلا عجب إذا خرجت السيدة حكيمة و هي صارخة، من جرّاء حالتها النفسيّة المريعة،و لفقدان السيدة نرجس.

ص:146

العقيقة و الإطعام

العقيقة:هي الذبيحة-من شاة أو بقر او إبل-تذبح بعد ولادة المولود،و هي مستحبّة شرعا،و قد عقّ رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)عن ولديه:الحسن و الحسين(عليهما السلام)بكبشين في اليوم السابع من ولادتهما(1).

و العقيقة تعتبر فداءا للطفل،و تأمينا على حياته،فقد ورد في الحديث عن رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم):«كلّ امرىء مرتهن بعقيقته»(2)و عن الإمام الصادق(عليه السلام):«كلّ مولود مرتهن بالعقيقة»(3)

و ما أبدع هذا التعبير،و أجمل هذا البيان،فإن اللّه تعالى إذا وهب المولود للوالدين فإنه يمكن أن يعيش الطفل،و يمكن أن يسترجع اللّه هبته فيموت الطفل في وقت مبكّر،فإذا عقّ عنه بعقيقة،فإنه يعيش،لأن العقيقة بمنزلة الرهان.

و إنطلاقا من هذه الحقيقة،فإن الإمام العسكري(عليه السلام)عقّ

ص:147


1- (1) فرائد السمطين للحمويني الشافعي ج 2 ص 104-105،طبع لبنان 1400 هجرية، ذخائر العقبى للطبري الشافعي ص 118 طبع مصر 1356 هجرية.و غيرها.
2- (2) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 104 ص 126 طبع طهران 1389 هجرية.
3- (3) مكارم الأخلاق للطبرسي ص 226 طبع لبنان 1392 هجرية.

عن الإمام المهدي(عليه السلام)بثلثمائة عقيقة(1).

و قد إمتاز الإمام المهدي(عليه السلام)بهذه المزيّة عن جميع الأوّلين و الآخرين،إذ لم يذكر التاريخ أنّ مولودا عقّ عنه بثلثمائة عقيقة،سوى الإمام المهدي(عليه السلام).

و تجد-هنا-سرّا عظيما،فإنّ العقيقة الواحدة إذا كانت نافذة المفعول في طول عمر المولود بالعمر الطبيعي المتعارف-و هو ما بين الستين و السبعين مثلا-،فإنّ المولود الذي قدّر اللّه تعالى له أن يعيش ألفا و مئات السنين-مع كثرة أعدائه-يتطلّب أن يعقّ عنه بمئات الذبائح لنفس الغرض.

و لا منافاة في أن يكون اللّه تعالى هو الحافظ و الحارس للإمام المهدي (عليه السلام)خلال قرون حياته،و في نفس الوقت يعقّ عنه بهذه الكمية و العدد الوافر،تحقيقا للهدف،لأن العقيقة لها آثارها الوضعية.

و البحث يتطلّب شيئا من الشرح و التفصيل،و لكنّه يستدعي مجالا أوسع.

و قد قام الإمام العسكري(عليه السلام)بهذه العملية التي تعتبر:

1-تمديدا لطول عمر ولده الإمام المهدي(عليه السلام).

2-إعلاما لشيعته بولادة الإمام المهدي المنتظر.

و لم يكتف الإمام العسكري(عليه السلام)بذلك،بل أمر عثمان بن

ص:148


1- (1) إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 106،طبع طهران المطبوع مع الترجمة الفارسية سنة 1396 ه.

سعيد-و هو من أخصّ أصحابه-بأن يشتري عشرة الآف رطل(1)من الخبز،و عشرة الآف رطل من اللحم،و يوزّعها على بني هاشم لنفس الغرض(2).

و ربما أرسل الإمام العسكري(عليه السلام)شاة مذبوحة الى بعض أصحابه،و قال له:هذه من عقيقة إبني محمد(3).

و أرسل إلى إبراهيم-و هو من أصحابه-بأربعة أكبش،و كتب:بسم اللّه الرحمن الرحيم،عقّ هذه عن إبني محمد المهدي،و كل،هنّأك اللّه، و أطعم من وجدت من شيعتنا(4).

و يخبر الإمام العسكري(عليه السلام)بعض ثقاة شيعته بولادة الإمام المهدي(عليه السلام)و يأمره بالكتمان،بل و يكتب رسالة الى الشيخ أحمد ابن إسحاق القمّي-و هو من أجلاّء أصحابه-يبشّره بولادة ولده الإمام المهدي(عليه السلام)،بل ربما كان يري ولده لبعض أصحابه الثقاة، تأكيدا لهذه الحقيقة،و من الأحاديث التالية يتّضح ما نقول:

في كتاب(إكمال الدين)باسناده عن الحسن بن المنذر قال:جاءني

ص:149


1- (1) الرطل:وزن يختلف بإختلاف البلدان،و المراد منه هنا:هو الرطل العراقي.و الرطل العراقي الواحد:يساوي 10/6 327 غرام،أمّا عشرة آلاف رطل:فتساوي 3276 كيلو غرام.
2- (2) إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 431 طبع طهران سنة 1395 هجرية.
3- (3) إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 432،طبع طهران سنة 1395 هجرية.
4- (4) بحار الأنوار للشيخ المجلسي الطبعة الحديثة ج 51 ص 28،طبع طهران سنة 1393 هجرية.

يوما حمزة بن أبي الفتح،فقال لي:البشارة!ولد-البارحة-في الدار مولود لأبي محمد(عليه السلام)و أمر بكتمانه،قلت:و ما اسمه؟قال:سمّي بمحمد،و كنّي بجعفر(1).

و أيضا في(إكمال الدين)عن أحمد بن الحسن بن إسحاق القمّي قال:لما ولد الخلف الصالح(عليه السلام)ورد عن مولانا أبي محمد الحسن بن علي(عليهما السلام)إلى جدّي أحمد بن اسحاق(2)كتاب،فإذا فيه مكتوب بخط يده(عليه السلام)الذي كان ترد به التوقيعات عليه(3)و فيه:.

«ولد لنا مولود،فليكن عندك مستورا،و عن جميع الناس مكتوما، فإنّا لم نظهر عليه إلاّ الأقرب لقرابته،و الولي لولايته،أحببنا إعلامك ليسرّك اللّه به مثل ما سرّنا به،و السلام»(4).

و في(إكمال الدين)باسناده عن جعفر الفزاري عن جماعة من أصحاب الإمام العسكري(عليه السلام)قالوا:عرض علينا أبو محمد

ص:150


1- (1) إكمال الدين للصدوق ج 2 ص 432.طبع طهران سنة 1395 هجرية.
2- (2) هكذا وجدنا الحديث في المصدر،و يمكن أن يكون المراد:جدّه من طرف أمّه.
3- (3) كانت الرسائل التي يرسلها الشيعة الى الإمام العسكري(عليه السلام)مشتملة على أسئلة متنوّعة،و كان بين كل سؤال و سؤال فراغ ليكتب فيه الجواب،فكان الإمام يجيب على الأسئلة في نفس الورقة...لا في رسالة مستقلة.و التوقيع-لغة-:إضافة شيىء الى الرسالة بعد الفراغ منها،و لأجل هذا سمّيت هذه الرسائل ب«التوقيعات»لأن الإجابات كانت مذكورة بين الأسطر في نفس الرسالة.
4- (4) إكما الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 434.طبع طهران سنة 1395 هجرية.

الحسن بن علي(عليهما السلام)إبنه و نحن في منزله،و كنّا أربعين رجلا، فقال:هذا إمامكم من بعدي،و خليفتي عليكم،أطيعوه،و لا تتفرّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا،أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا.

قالوا:فخرجنا من عنده،فما مضت إلاّ أيام قلائل حتى مضى أبو محمد عليه السلام(1).

ص:151


1- (1) إكمال الدين ج 2 ص 435.طبع طهران سنة 1395 هجرية.

الفصل السابع

اشارة

كيف غاب عن الأبصار؟

إنّ الذي يراجع موسوعات الأحاديث يجد أن الكميّة الهائلة من الأحاديث التي تخبر عن الإمام المهدي(عليه السلام)قد تضمّنت الإخبار عن غيبته.

و لكلمة«الغيبة»-هنا-معنيان:

الأول:انه لا يعيش في المجتمعات البشرية،و لا يكون في متناول الناس،بأن يقصده الناس،و يلتقي به كل أحد،و يراه القريب و البعيد، كما هو شأن الإنسان العادي المتعارف.

الثاني:الإختفاء عن العيون-حسب إرادته-فلا تراه العيون مع كونه موجودا،كما أن العيون لا ترى الأرواح،و لا الملائكة،و لا الجن،مع تواجدها في المجتمعات البشرية.

و قد تظهر الأرواح بالشكل المرئي لبعض الأفراد،كما هو المشهور عند الذين يمارسون إحضار الأرواح.و قد تظهر الملائكة لغير الأنبياء،كما ظهرت لسارة زوجة ابراهيم(عليه السلام)و لمريم بنت عمران.

و في عهد رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)كان جبرئيل يتمثّل بصورة الصحابي دحية الكلبي،فيظن الناس أنّه دحية.

و قد ظهرت الملائكة يوم بدر للمسلمين و غيرهم.

ص:152

و لعلّ قائلا يقول:إنّ الملائكة أجسام لطيفة،و من شأنها أن لا ترى بهذه العيون إلاّ في ظروف خاصّة،و ليس البشر كذلك.

فنقول:كان مقصودنا التشبيه بالكائنات التي لها القدرة على الظهور للناس،و الإختفاء و الإستتار عن العيون.

و أمّا بالنسبة لإختفاء الإمام المهدي(عليه السلام)عن العيون فإن المقاييس الطبيعية فاشلة لإثبات ذلك،و لا أستطيع إثبات ذلك على ضوء المادّة و الطبيعة،فالقضية تعتبر من الحقائق الماورائية،و ليست هذه نظريّة او فكرة..بل حقيقة ثابتة،و نحن أمام أمر واقع،فإنّ أكثر الذين تشرّفوا بلقاء الإمام المهدي(عليه السلام)كان لقاؤهم مختوما بغيبة الإمام المهدي عن أنظارهم.

و من الصحيح أن نقول:إنّ غيبة الإمام بعد تلك اللقاءات كانت دليلا واضحا على أنه هو الإمام،لأنّ الفرد العادي كيف يستطيع أن يستتر و يختفي أو يغيب عن العيون في طرفة عين؟

معجزة الاستتار

و يمكن أن يعتبر هذا الإستتار و الإختفاء معجزة من معاجز الإمام المهدي(عليه السلام)لأنّ المعجزة:ما يعجز عنه الناس،و المعجزة تحدّ للعادة و الطبيعة فكما ان المعجزة-بصورة عامة-لا يمكن تحليلها على ضوء المادة و الطبيعة لأنها من ما وراء الطبيعة،فكذلك إستتار الإمام المهدي (عليه السلام)يعتبر من الماورائيات بهذا المعنى.

ص:153

و هناك احتمال آخر:و هو أن الإمام المهدي(عليه السلام)يتصرّف في عيون الناظرين حتى لا يروه،و ليس هذا بعيدا من أولياء اللّه الذين لهم قدرة التصرّف في الكائنات.

و يمكن لنا أن نستفيد من القرآن الكريم إمكانيّة الإستتار و الإختفاء عن العيون لفترة قصيرة،أو طويلة:

قال تعالى:وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا،وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (1).

و قال سبحانه:وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (2).

و قال عزّ و جلّ-حكاية عن السامري-:قالَ:بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ،فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ... (3).

أمّا الآية الأولى:فقد ذكر المفسّرون عن عبد اللّه بن مسعود أنّ قريشا إجتمعوا بباب دار النبي(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)فخرج إليهم فطرح التراب على رؤوسهم و هم لا يبصرونه(4).

و عن إبن عباس قال:إنّ قريشا اجتمعت فقالت:لئن دخل محمد

ص:154


1- (1) سورة يس،الآية 9.
2- (2) سورة الإسراء،الآية 45.
3- (3) سورة طه،الآية 96.
4- (4) (مجمع البيان في تفسير القرآن)للشيخ الطبرسي،في شأن نزول الآية،ج 8 ص 416 طبع لبنان سنة 1379 هجرية.

لنقومنّ إليه قيام رجل واحد.فدخل النبي(صلّى اللّه عليه و آله و سلم) فجعل اللّه من بين أيديهم سدّا و من خلفهم سدا فلم يبصروه،فصلى النبي الكريم،ثم أتاهم فجعل ينثر على رؤوسهم التراب و هم لا يرونه،فلما خلى عنهم رأوا التراب،و قالوا:هذا ما سحركم إبن أبي كبشة.أي رسول اللّه(1).

و قد ذكر الطبري الشافعي-في تفسير الآية-حديثا عن عكرمة قال:

«قال أبو جهل لئن رأيت محمدا لأفعلنّ و لأفعلن،فأنزلتإِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً. إلى قوله:فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ، قال-عكرمة-:

فكانوا يقولون:هذا محمد،فيقول-أبو جهل-أين هو..أين هو،لا يبصره»(2).

و أمّا الآية الثانية:فقد ورد في كتب التفسير أنّ المقصود مناَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هم:أبو سفيان،و النضر بن الحرث،و أبو جهل،و أمّ جميل زوجة أبي لهب،حجب اللّه رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن،

ص:155


1- (1) مجمع البيان للطبرسي-في شأن نزول الآية-ج 8 ص 416 طبع لبنان سنة 1379 ه كان المشركون ينسبون النبي(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)الى ابي كبشة،و يقولون:«إبن أبي كبشة»،و كان أبو كبشة رجلا من قبيلة خزاعة،خالف قريشا في عبادة الأوثان،و لم يعبد الأصنام كبقية أفراد قبيلته،و كذلك المشركون،لمّا خالفهم النبي في عبادة الأوثان،شبّهوه ب«أبي كبشة».و قيل:إنّ أبي كبشة-الذي تقدّم تعريفه-كان احد أجداد النبي من طرف أمّه،فأرادوا أنه نزع إليه في الشبه.
2- (2) (جامع البيان في تفسير القرآن)لمحمد بن جرير الطبري الشافعي ج 22 ص 99 طبع مصر سنة 1328 هجرية.

و كانوا يأتونه و يمرون به و لا يرونه(1).و الذي يجلب الإنتباه و يدعو الى التعجبّ هو قوله تعالى:حِجاباً مَسْتُوراً إذ قد يمكن أن يحتجب الإنسان وراء الحجاب،فلا يراه الناس..بل يرون الحجاب،و هنا تجد أنّ ذلك الحجاب الذي حجب النبي(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)عن الأبصار.

أيضا كان مستورا.

و لا تغفل عن قوله تعالى:وَ جَعَلْنا في الآية الأولى و الثانية،مما يدل على القدرة الإلهية.

و أمّا الآية الثالثة:فهي تتحدّث عن الحوار الذي جرى بين موسى بن عمران(عليه السلام)و بين السامري الذي صنع العجل(2)فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ (3).فسأله موسى عن فعله:قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟قالَ:بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ،فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها (4)فلقد ذكر المفسّرون أنّ السامري رأى جبرئيل-في شكل البشر-،و قد نزل على موسى بالوحي،أو رآه و قد نزل راكبا على فرس من الجنّة،فأخذ قبضة من تراب أثر قدم جبرئيل،أو أثر حافر فرسه،و نبذ ذلك التراب في تمثال العجل فتكوّنت فيه الحياة.

و المقصود:أنّ السامري رأى جبرئيل في الوقت الذي لم يره أحد من

ص:156


1- (1) مجمع البيان للطبرسي ج 6 ص 418 طبع لبنان سنة 1379 هجرية.
2- (2) العجل:ولد البقرة،كما في(مجمع البحرين)و(المنجد في اللغة).
3- (3) سورة طه،الآية 88.
4- (4) سورة طه،الآية 95-97.

بني إسرائيل،و هدفنا من الإستشهاد بهذه الآية إمكانية الإختفاء عن بعض العيون و إمكانية الظهور لبعض العيون في نفس الوقت.

حكمة الغيبة الطويلة

بقي هنا سؤال لا بدّ من الإجابة عليه و هو:لماذا غاب الإمام(عليه السلام)هذه القرون الطويلة؟

و الجواب-كما صرّحت بذلك الأحاديث-:هو أنّ حياته مهدّدة بالقتل،إذ من الطبيعي أنّ الحكّام الذين حكموا طيلة هذه القرون-من العباسيّين و العثمانيين و غيرهم ممّن حكموا بلاد الشرق الأوسط بصورة خاصة-كانوا يبذلون أقصى جهودهم للقضاء على حياة الإمام المهدي(عليه السلام)و خاصة بعد أن علموا بأنّ الإمام المهدي هو الذي يزلزل كراسي الظالمين،و يقوّض عروشهم،و يدمّر كيانهم،و يمنعهم من الإستيلاء على العباد و البلاد.

أنظر إلى تاريخ أئمة أهل البيت(عليهم السلام)فلا ترى واحدا منهم مات حتف أنفه..بل قتلهم طواغيت هذه الأمّة،إبدأ من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)و سر مع تاريخ الأئمة،فإنّك تراهم قد قتلوا إمّا بالسيف،و إمّا بالسمّ،(و حتى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)دسّوا إليه السمّ و قتلوه)مع العلم أنّه لم يرد فيهم ما ورد في حق الإمام المهدي(عليه السلام)من البشائر و الإخبارات،فمثلا:لم يرد حديث واحد في حقّ أحد الأئمة بأنّه يملأ الدنيا قسطا و عدلا،و أنّه يحكم

ص:157

العالم كلّه،و أنّ جميع وسائل الإنتصار تتوفّر له،سوى في حق الإمام المهدي (عليه السلام).فما ترى يكون موقف الحكومات من هذا الموجود الذي يشكّل الخطر على كلّ ما يملكون؟.

و لقد مرّ عليك أنّه كيف كان الإمام العسكري(عليه السلام)يحاول إخفاء ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)عن عامّة الناس،تحفّظا على حياة ولده من شرّ الفراعنة الطغاة،و سيأتيك شيء من التفاصيل التي تصرّح بأنواع التحرّي و التفتيش الذي قام به رجال السلطة في دار الإمام العسكري (عليه السلام)بحثا عن الإمام المهدي(عليه السلام).

شبهات و ردود

و ختاما لهذا البحث،أجلب إنتباه القارىء إلى بعض المناقشات أو التساؤلات او المغالطات التي قام و يقوم بها بعض المشكّكين،حول غيبة الإمام المهدي-مع إعترافهم بوجوده(عليه السلام)،حسب ما صرّحت بذلك مئات الأحاديث التي لا يمكن تزييفها أو تضعيفها،و ذلك لغزارة المادّة و كثرة الكميّة-.

لقد وردت الى النجف الأشرف قصيدة مجهولة،لم يذكر الناظم إسمه و لا هويته و إتجاهه،و فيها يثير بعض التشكيكات و الشبهات الباطلة حول غيبة الإمام المهدي(عليه السلام)و قد اجاب بعض علمائنا(رحمهم اللّه) على تلك الشبهات،نظما و نثرا.و ها نحن نورد القصيدة بصورة متقطّعة، مع الإجابة على التساؤلات المدرجة فيها.

ص:158

و القصيدة كما يلي:

أيا علماء العصر يا من لهم خبر بكلّ دقيق حار في مثله الفكر

لقد حار منّي الفكر في القائم الذي تنازع فيه الناس و اشتبه الأمر

فمن قائل:في القشر لبّ وجوده و من قائل:قد نضّ عن لبّه القشر

يعترف الشاعر بالحيرة في ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)لأنّ الأقوال فيه مختلفة،فقد قال البعض:إنّه لم يولد بعد.و قال البعض:إنّه قد ولد.و قد ذكرنا لك الأقوال و البراهين و الاحاديث في ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)قبل هذا الفصل.

و أوّل هذين الذين تقرّرا به العقل يقضي و العيان و لا نكر

و كيف و هذا الوقت داع لمثله ففيه توالى الظلم و انتشر الشرّ

و ما هو إلاّ ناشر العدل و الهدى فلو كان موجودا لما وجد الجور

يختار هذا الشاعر القول الأول و هو:«في القشر لبّ وجوده»أي إنه لم يولد بعد،و يستدل على ذلك بعقله المريض،و هو أنه لو كان الإمام موجودا لكان الواجب عليه أن يظهر،بسبب إنتشار الظلم و الجور في البلاد و العباد، و حيث انه لم يظهر الى الآن فهو غير موجود،أي لم يولد بعد!!

أنظر إلى هذا الدليل الأعوج،حيث ان الشاعر يتوقّع أن يتّبع الإمام المهدي(عليه السلام)أهواء الناس،و كأنّه لا يعلم بانتشار الظلم في الأرض،أو كأنّه لا يعلم التكليف الشرعي الواجب عليه،ثم يوالي الشاعر كلامه و استدلاله المنهار فيقول:

ص:159

و إن قيل:من خوف الطغاة قد اختفى فذاك لعمري لا يجوّزه الحجر(1)

و لا النقل كلاّ إذ تيقّن أنّه إلى وقت عيسى يستطيل له العمر

و أن ليس بين الناس من هو قادر على قتله و هو المؤيده النصر

و أن جميع الأرض ترجع ملكه و يملأها قسطا و يرتفع المكر

يقول الشاعر:إن كان سبب اختفاء الإمام المهدي(عليه السلام) هو الخوف من الأعداء،فهذا شيء لا يقبله العقل..و لا النقل،لأن الإمام المهدي(عليه السلام)يعلم أنّه سيطول عمره إلى نزول عيسى بن مريم(عليه السلام)من السماء،و أنّه لا يستطيع أحد أن يقتله،و يعلم أنه سيملك الكرة الأرضية،و يملأها عدلا،فكيف يخاف من الأعداء مع علمه بذلك؟

و الجواب:كيف و لماذا إختفى رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)في الغار خوفا من المشركين،و كان(صلّى اللّه عليه و آله)يعلم أنّ اللّه سيظهر دينه على الدين كلّه فلما ذا الخوف من المشركين؟و لماذا سلك طريقا غير الطريق المتعارف في توجّهه نحو المدينة؟

و قبل ذلك:لماذا«أصبح»موسى بن عمرانفِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ؟ (2)و لماذافَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ،قالَ:رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ

ص:160


1- (1) الحجر-بكسر الحاء-:العقل.
2- (2) سورة القصص،الآية 18.

اَلظّالِمِينَ؟ (1).و لماذا قال:فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ؟ (2)

و لماذا الخوف و هو يعلم بأنّه سيعيش حتى ينقذ بني إسرائيل من ظلم فرعون و آل فرعون،و هو يعلم بأنه سيدمّر عروش الفراعنة الظالمين

فكلّما تقوله في خوف موسى بن عمران و خوف رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله)من المشركين،فهو جوابنا عن سبب إختفاء الإمام المهدي (عليه السلام).

و خلاصة القول:إنّ الإمام المهدي(عليه السلام)ينتظر أمر اللّه و إذنه له بالظهور،فهو يعلم بأنّه سوف يعيش الى نزول عيسى بن مريم من السماء،و أنه سيملأ الأرض قسطا و عدلا،و لكن مع رعاية الشروط و الظروف،و هو يعلم أنّ الأمور مرهونة بأوقاتها،و من الطبيعي أنّه لو حضر الوقت المناسب و الزمان الملائم للظهور،و توفّرت الشروط اللازمة لأذن اللّه تعالى له بالظهور.و سبب إمتداد إستتاره و اختفائه الى هذا اليوم هو عدم توفّر الجوّ المناسب و الوقت الملائم.

و إن قيل:عن خوف الأذاة قد اختفى فذلك قول عن معائب يفترّ

فهلاّ بدا بين الورى متحمّلا مشقّة نصح الخلق من دأبه الصبر

و من عيب هذا القول لا شكّ إنّه يؤول إلى جبن الإمام و ينجرّ

ص:161


1- (1) سورة القصص،الآية 21.
2- (2) سورة الشعراء،الآية 21.

و حاشاه عن جبن و لكن هو الذي غدا يختشيه من حوى البرّ و البحر

و يرهب منه الباسلون جميعهم و تعنو له حتى المثقّفة السمر

على أنّ هذا القول غير مسلّم و لا يرتضيه العبد كلاّ و لا الحرّ

يقول هذا الشاعر المتفلسف:إن كان الإمام المهدي(عليه السلام) قد اختفى خوفا من ايذاء الناس له،فهو عيب و نقص للإمام المهدي (عليه السلام)،فلماذا لا يخرج و يتحمّل المكاره و الأذى في سبيل اللّه، و يصبر على ما يناله من الأعداء،حتى يؤدّي واجبه الشرعي،و ينقذ البشر من مخالب الظالمين

و هناك عيب آخر و هو أنّ إختفاء الإمام خوفا من الأذى يدلّ على جبنه و عدم إتّصافه بالشجاعة،مع العلم أنه منزّه عن الجبن،بل هو الذي يخاف منه الجميع:الحكومات و الشعوب.

نجيب على هذه الأباطيل فنقول:

هل كان رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)جبانا يوم فرّ الى الغار..ثم الى المدينة المنوّرة؟!

و هل كان النبي(صلّى اللّه عليه و آله)فاقدا لفضيلة الشجاعة طيلة ثلاث سنين و شهور،و هي الفترة التي قضاها في شعب أبي طالب في جوّ من الضيق و المجاعة و الخوف؟!

و هل كان النبي(صلّى اللّه عليه و آله)غير واثق بربّه في الفترة التي كان يدعو الى اللّه سرّا،و كان هو و أصحابه يعبدون اللّه تعالى سرّا في دار

ص:162

الأرقم،حتى نزل عليه قوله تعالى:فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ؟! (1).

نعم،الحكمة شيء،و الجبن شيء آخر،و الحنكة و العقل و معرفة الأمور شيء،و التهوّر و المجازفة شيء آخر،و لكنّ الشاعر لا يفرّق بين هذه المفاهيم،ثم يقول:

ففي الهند أبدى المهدويّة كاذب و ما ناله قتل و لا ناله ضرّ

الهند-في القرون الأخيرة-كانت و لا تزال حكومة و ثنيّة علمانية لا تعترف بالدين،و فيها من جميع الملل و الأديان،و لا يتعرّض أحد لأحد في القضايا الدينية،فإن ظهر كذّاب في الهند و ادّعى المهدويّة،و ما أصابه أذى و لا مكروه،و سرعان ما تبخّر و تبخّرت آثاره و دعوته،فإنّ هذا لا يبّرر للإمام المهدي(عليه السلام)أن يظهر إستنادا على سلامة ذلك الكذّاب المدّعي للمهدوية.

و ما يدرينا،فلعلّ الإستعمار هو الذي نحت ذلك الكذّاب،و كان يراقبه و يحرسه،تنفيذا لخطّته الإستعمارية،و لعلّ ذلك الكذّاب لو كان يدّعي النبوة أو الربوبيّة،لما كان يتعّرض له أحد،فبعض الوثنيّين-في الهند-يعبدون البقر،و الحجر،و الشجر،بل و يعبدون الذكر!فما المانع أن يدّعي الكذّاب المهدوية و يسلم من كل مكروه.

و قد نحت الإستعمار الروسي كذّابا آخر،و هو علي محمد،الذي

ص:163


1- (1) سورة الحجر،الآية 94.

إدّعى البابيّة(1)ثم إدّعى أنّه هو الإمام المهدي،و كان عاقبة أمره الحبس، و الضرب،و الصلب،ثم طرح أرضا فمزّقته الكلاب.

إذن:فالإستدلال بالكذّاب الهندي-الذي ما ناله مكروه و لا أذى- منقوض بالكذّاب علي محمد الباب،و سيأتيك شيء من أباطيله و ترجمة حياته في المستقبل.

و في هذا القرن،حينما إنتشر المستعمرون في البلاد الإسلامية، و سلبوا و نهبوا،و دمّروا و حطّموا،و قتلوا،و أفسدوا،و صنعوا ما أرادوا، نجد أنّ كلّ من يتكلّم بكلمة الحق،توضع عليه علامة الإستفهام،ثم يخطّط المستعمرون الخطط الجهنّمية للقضاء عليه.

و لو أردنا أن نذكر الشخصيّات البارزة من المسلمين الذين قتلهم المستعمرون في هذا القرن،لتبدّل طابع الكتاب،و تغيّر موضوعه الى موضوع آخر.ففي تاريخ ايران تجد عددا من أجلاّء العلماء الذين لم يخضعوا لقوانين الإستعمار،كان مصيرهم الإغتيال،او الصلب،أو القتل بالسمّ،بعد أن رشقوهم بالتهم و الافتراءات.و تجد نفس المأساة في شخصيّات العراق-قبل ثورة العشرين و بعدها-أمثال:آية اللّه الشيخ محمد تقي الشيرازي زعيم الثورة الإسلامية في العراق.و السيد جمال الدين الأفغاني الذي قتلوه في تركيا،و هكذا في الجزائر و ليبيا تجد عددا من الزعماء الذين قتلهم المستعمرون.و لو فتّشت تاريخ البلاد الإسلامية في خلال هذا القرن،لوجدت الفجائع و الكوارث التي تشيب منها النواصي.

ص:164


1- (1) أي:إدّعى أنّه باب و طريق الى الإمام المهدي(عليه السلام).

مع العلم أنّهم لم يدّعوا المهدويّة،بل كانوا دعاة لإصلاح المجتمع الإسلامي،و إيجاد الوعي و اليقظة في النفوس،و هذا ما لا يريده المستعمرون.

و ممّا زاد في أبعاد تلك الفجائع و المآسي،أنّ الذين كانوا يقومون بتنفيذ خطط الإستعمار،كانوا من المنتمين الى الديانة الإسلامية!، أولئك العملاء الذين باعوا ضمائرهم و عقائدهم للإستعمار،و استسلموا لأوامره قربة الى الشيطان الرجيم!!.

فما ظنّك بمصير الإمام المهدي(عليه السلام)لو كان يظهر في هذا القرن-مثلا-مع كثرة الأعداء،و عدم إستعداد النفوس لنصرته؟!.

و ستعرف-قريبا-بعض الظروف التي يجب أن تتحقّق حتى يستعدّ جميع الطبقات لتلبية نداء الإمام المهدي(عليه السلام)إذا ظهر.

ثم يوالي الشاعر كفريّاته فيقول:

فإن قيل:إنّ الإختفاء بأمر من له الأمر في الأكوان و الحمد و الشكر

فذلك أدهى الداهيات و لم يقل به أحد إلاّ أخو السفه الغمر

أيعجز ربّ الخلق عن نصر حزبه على غيرهم؟حاشا،فهذا هو الكفر

فحتّى م هذا الإختفاء و قد مضى من الدهر الآف و ذاك له ذكر؟

يقول هذا الجاهل:إذا قيل:بأنّ الإمام المهدي(عليه السلام)قد اختفى بأمر اللّه تعالى،و لا يظهر إلاّ بأمر اللّه عزّ و جل،فهذا القول يعتبر-عند الشاعر-أدهى الداهيات،و أفجع الفجائع،و لا يقول بهذا القول إلاّ السفيه الجاهل،لأنّ هذا القول يعني أنّ اللّه تعالى عاجز عن

ص:165

نصرة الإمام المهدي(عليه السلام)،و هذا هو الكفر حسب منطق هذا الشاعر.

و نحن نجيب على هذا الإستدلال الخاطىء الساقط فنقول:

هل كان اللّه عاجزا عن نصرة أنبيائه على أعدائهم؟!

إستمع الى هذه الآيات:

قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1).

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (2).

سَنَكْتُبُ ما قالُوا،وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ (3).

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ (4).

وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً،كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا،وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ (5).

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ (6).

ص:166


1- (1) سورة البقرة/الآية 91.
2- (2) سورة البقرة/الآية 61.
3- (3) سورة آل عمران،الآية 181.
4- (4) سورة آل عمران،الآية 112.
5- (5) سورة المائدة،الآية 70.
6- (6) سورة النساء،155.

قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (1).

و قد روي أنّ الإمام الحسين(عليه السلام)قال-لعبد اللّه بن عمر-:«يا أبا عبد الرحمن،أما علمت أنّ من هوان الدنيا على اللّه تعالى أنّ رأس يحيى بن زكريا أهدي الى بغيّ من بغايا بني اسرائيل؟!

أما تعلم أنّ بني اسرائيل كانوا يقتلون-ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس-سبعين نبيّا،ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون و يشترون كأن لم يصنعوا شيئا...»(2).

هذا..و لو راجعت قصص الأنبياء لوجدت آلاف المآسي التي انصبّت عليهم من القتل و التعذيب،و سلخ جلدة الرأس،و دفنهم و هم أحياء.

فهل كان اللّه تعالى عاجزا عن نصر أنبيائه أيها الشاعر المتفلسف؟!.

مع العلم أن اللّه سبحانه هو الذي بعث أنبيائه الى الأمم،و من الطبيعي أنّ الأنبياء أفضل طبقات البشر،و أقرب الخلائق الى اللّه تعالى، فلماذا لم ينصرهم اللّه سبحانه؟!.

و قد ذكرنا-قبل قليل-أنّ نبيّنا(صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)إستتر

ص:167


1- (1) سورة آل عمران،183.
2- (2) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 44 ص 365،طبع ايران،سنة 1393 هجرية.نقلا عن كتاب اللهوف للسيد إبن طاووس(رحمه اللّه).

في شعب أبي طالب ثلاث سنين و شهورا،وفرّ الى الغار،و هاجر من مكة الى المدينة،أما كان اللّه قادرا على نصره و هو سيّد الأنبياء؟!.

نعم،للّه تعالى حكمة بالغة في عباده،فهو بكل شيء عليم و خبير، و بصير و محيط،و على كل شيء قدير،فالحكمة شيء..و القدرة شيء آخر.

و الحكمة الإلهية تقتضي تأخير ظهور الإمام المهدي(عليه السلام) الى الزّمان المناسب الذي يعلمه اللّه..لا الوقت الذي يختاره العباد، الجاهلون بالمصالح الإلهية و عواقب الأمور.

و هكذا يسرد الشاعر في التهريج و الإستهزاء قائلا:

و ما أسعد السرداب في سرّ من رأى له الفضل عن أمّ القرى و له الفخر

فيا للأعاجيب التي من عجيبها أن اتّخذ السرداب برجا له البدر

فيا علماء المسلمين فجاوبوا بحقّ،و من ربّ الورى لكم الأجر

ليس هذا الشاعر هو أوّل مستهزء و مهرّج-بإسم السرداب-ضد الإمام المهدي(عليه السلام)،و سيأتيك شيء من التفصيل-قريبا- حول السرداب الذي يدور حوله الأعداء للتهريج.

ص:168

الفصل الثامن

اشارة

الغيبة الصغرى

لقد ذكرنا في الفصل السابق كلمة حول الغيبة،و إختفاء الإمام المهدي(عليه السلام)عن الأبصار،و قد وصل الكلام الى الغيبة الصغرى،فنقول:

لقد إختلف العلماء و المحدّثون حول بداية الغيبة الصغرى،و أنّها هل بدأت من أوائل عمر الإمام المهدي(عليه السلام)و في عهد والده الإمام العسكري(عليه السلام)أم بدأت من وفاة الإمام العسكري؟

و لعلّ من الصحيح أن نقول:إنّ الإستتار و الإختفاء كان ملازما لحياة الإمام المهدي(عليه السلام)منذ أوائل عمره،و على هذا يمكن لنا أن نقول:إنّ الغيبة الصغرى إبتدأت مع حياة الإمام المهدي(عليه السلام)،أي:كانت حياته منذ الولادة مقرونة بالإستتار عن الناس، و يمكن أن نعتبر السنوات الخمس التي قضاها الإمام المهدي(عليه السلام) مع والده الإمام العسكري(عليه السلام)من ضمن الغيبة الصغرى، تبعا للشيخ المفيد و غيره.

و لقد كانت الغيبة الصغرى مقدّمة تمهيدية و مدخلا للغيبة الكبرى، و الغيبة الكبرى مقدّمة للظهور،و-أيضا-كانت الغيبة الصغرى حدّا وسطا بين الغيبة الكبرى-التي انقطعت فيها الإتصالات بين الشيعة و بين الإمام المهدي(عليه السلام)بالمعنى الذي سنذكره فيما سيأتي-و بين

ص:169

تواجد الإمام المهدي في المجتمعات البشرية.و اليك شيئا من التفصيل و التوضيح:

كان الناس بصورة عامة،و الشيعة بصورة خاصة،بإمكانهم أن يلتقوا بالأئمة الطاهرين(عليهم السلام)في أيّ وقت شاؤا،و في أيّ مكان أرادوا،فكانت اللقاءات مستمرة:في المسجد،و في الطريق و في مواسم الحج:في مكّة،و عرفات،و منى،و في بيوت الأئمة،بلا رادع و لا مانع.

و استمرت الحالة على هذا المنوال حتى زمان الإمام الهادي(عليه السلام) حيث إشتدّت فيه الرقابة على الإمام من قبل السلطة الجائرة،بعد أن جمّدت نشاطاته،فكانت العيون تراقب حركاته و سكناته بكلّ دقّة،و تراقب إتّصالاته و لقاءاته بالأفراد.

و كان الحكّام العبّاسيون-بالرغم من قدرتهم و إستيلائهم على مرافق الحكم-يعلمون أنّ هناك طائفة إسلامية كبيرة،لا تعترف بشرعية السلطة للعباسيينّ،بل تعتقد أنّ الخلافة حق شرعي لأئمة أهل البيت(عليهم السلام)و أنّ غيرهم من مدّعي الخلافة-على طول الخط-على الباطل،و أنّهم غاصبون و معتدون في إستيلائهم على الحكم.

كانت هذه الحقيقة ثابتة عند الحكّام العبّاسيين من ناحيتين:

الأولى:توفّر المؤهّلات في أئمة أهل البيت،من النسب الشريف الأعلى،و جميع المقوّمات الأخرى كالعلم الكامل،و التقوى بجميع معنى الكلمة،و الصلاح و الإعتدال،و السمعة الطيّبة عند كافّة الطبقات، و السلوك النزيه،و الحياة المشرقة بالفضائل و المكرمات،بالإضافة إلى ما كانوا

ص:170

يتمتّعون به من خصائص الإمامة،كالإعجاز و النصوص الواردة في حقّهم من عند اللّه و رسوله و هذه الصفات و المزايا تكفي لإثبات إمامتهم الصحيحة، و خلافتهم الشرعية،و تضمن جلب القلوب إليهم،و الإعتراف بهم،و إثبات الحقّ لهم.

الثانية:هي الناحية المغايرة للناحية الأولى،عند العبّاسيّين،و الحياة المخالفة لمفهوم الإسلام،فالعبّاسيّون-بعد أن تأكّدوا من رسوخ قواعد الحكم،و إستيلائهم على نصف الكرة الأرضية-كانوا لا يبالون بعواطف الشعب،و لا يخافون من تمرّد المسلمين عليهم،و لا يعبئون بنقمة الشعب و سخطه على السلطة العبّاسية.

و لماذا يخافون من الشعب الأعزل في مقابل القدرة الكبرى؟

و لماذا يتورّعون من المحرّمات،و يجتنبون المنكرات؟

و لماذا لا يشبعون رغباتهم،و يلبّون شهواتهم مع توفّر الوسائل بأجمعها؟

على هذا الأساس قلبوا مفهوم«خليفة رسول اللّه»إلى مفهوم طاغوت جبّار،يدور في فلك الترف و البذخ،و الفحشاء و المنكرات.فمجالس اللهو،و حفلات الرقص و الغناء،و سهرات الخمور و المجون كانت قائمة على قدم و ساق في كلّ ليلة،و في كلّ صبيحة و مساء،في قصور هؤلاء الخلفاء!يحضرها الخليفة و حاشيته الفسقة الفجرة،الذين ليست لهم همّة إلاّ رضى الخليفة،و توفير وسائل الفجور له.

و لا تسأل عن علماء السوء،الذين منحوا الخليفة صيانة شرعية دينية، لا مثيل لها في تاريخ البشر،و هي أنّهم زعموا أنّ الخليفة لا يحاسب على أعماله

ص:171

يوم القيامة،و لا يسأل عمّا كان يفعله!

إذن،فسواء عليه صلّى..أم زنى،لأنّه خليفة!!

و لم يكن للخليفة إنجاز و إنتاج،و تفكير حول قضايا الدولة..بل كان متفرّغا للأمور التي ذكرناها.

نعم،الذي شغل بال الخليفة،و ربّما نغّص عليه الملذّات هو وجود أئمة أهل البيت(عليهم السلام)الذين ألبسهم اللّه حلّة القداسة و النزاهة، و التقوى و الورع،و توّجهم بتاج أحسن الفضائل،و أجمل مكارم الأخلاق.

فكان الخليفة(بصورة عامّة)يفكّر-دائما-في كيفية القضاء على تلك الشخصيات المقدّسة،و تحطيم معنوياتهم،و تشويه سمعتهم،و تجميد نشاطاتهم،و ملاحقة أصحابهم و أتباعهم.

هذا الجوّ،و هذه الظروف كان يعيشها الإمام الهادي(عليه السلام).

أليست الحكمة تفرض عليه أن يختار سلوكا خاصا في حياته،يراعي فيه جميع جوانب الحكمة و الحنكة و العقل؟!

ففي الوقت الذي كان(عليه السلام)يعيش تحت المراقبة الشديدة،- تلك الرقابة التي من شأنها الإرهاب و الإرعاب،للإمام و لكلّ من يتّصل به من الشيعة-كان يراعي الظروف،و يخطّط للتخلّص من مضاعفات تلك الرقابة.

و لقد شاهدنا-في زماننا-بعض النماذج عن تلك المآسي و الضغوط، و أنّ السلطات كيف كانت تحسب ألف حساب و حساب للشخصيات المرموقة التي لها شعبية دينيّة،و نفوذ في المجتمع،و كيف كانت تتّخذ الإجراءات الطويلة العريضة للعثور على شيء من المعلومات التافهة،فتجعلها من أهمّ

ص:172

التقارير السّريّة ذات الأهمية الكبرى،فترفعها إلى السلطات العليا،و كأنّهم إكتشفوا أسرارا عسكرية،أو خلايا التجسّس.

فكيف بذلك العهد؟!و كيف بتلك السلطات التي كانت تعتبر أئمة اهل البيت(عليهم السلام)هم الخطر الأول و الأخير على حكوماتهم؟!لأنّ السلطات كانوا على يقين أنّ ائمة اهل البيت يملكون القلوب،و انّ علاقة المجتمع بهم علاقة دينيّة التي هي أقوى و أصلب من كلّ علاقة،و ما كانت هذه المزيّة متوفّرة في رجال الحكم في ذلك العهد،فهم كانوا يملكون الرقاب..لا القلوب،و كانوا يحكمون بمنطق القوّة..لا منطق الدين.

نعم،إنّهم كانوا يحكمون باسم الدين،و يعرّفون أنفسهم أنّهم خلفاء رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)لأنّ القيادة الإسلامية-يوم تكوّنت مع تولّد الإسلام-كانت متمثّلة في نفس رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله)فكان هو الحاكم،و هو الآمر و القائد،و بيده السلطة التشريعية و التنفيذية،و إدارة البلاد،فكان يأمر بالجهاد،و أخذ الزكاة،و إقامة احكام اللّه و حدوده،الى غير ذلك من الأمور التي تتعلّق بالنظام الإجتماعي والديني.

و قد جعل اللّه تعالى تلك القيادة-بعد رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله)- لأئمة اهل البيت(عليهم السلام)فكان ما كان من إستيلاء الحكّام على منصّة الحكم،و سلب الإمكانيات من أئمة أهل البيت،و منعهم من أيّ تصرّف، إبتداءا من الإمام علي أمير المؤمنين..و انتهاءا بالإمام الحسن العسكري (عليهما السلام).

فكان الحكّام-طيلة هذه القرون-يدّعون القيادة الإسلامية باسم الخلافة من بعد رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)لأنّهم لو كانوا يدّعون

ص:173

أنّهم ملوك،أو رؤساء الجمهورية،لكان المسلمون يرفضون الخضوع لهم لعدم إنسجام الملوكيّة مع الخلافة الإسلامية،و الزعامة الروحيّة.

و لهذا السبب إدّعى الأمويون و العباسيّون و غيرهم الخلافة كي يثبتوا لأنفسهم السلطة الروحيّة على العباد و البلاد،و على الدماء و الانفس،و كأنّهم يحكمون بحكم اللّه،و يأمرون بأمر اللّه.

و لكنّ الواقع كان خلاف هذا مائة بالمائة،فالخلافة الإسلامية(بمعناها الصحيح)يجب أن تكون مطوّقة بهالة من النزاهة و القداسة،و الديانة و العلم،و التقوى و غيرها من المؤهّلات،و هذه الصفات و المؤهّلات كانت مفقودة في أولئك الحكّام المدّعين للخلافة،من الباب الى المحراب،و التاريخ الصحيح يؤيّد هذا القول و يصدّقه.

و جميع تلك الصفات المطلوبة و المؤهّلات اللازمة كانت متوفّرة في أئمة أهل البيت(عليهم السلام)على أحسن ما يرام،و أتمّ وجه،و أجمل صورة، و التاريخ يعلن هذا بأرفع صوت.

نعود إلى حديثنا عن عصر الإمام الهادي(عليه السلام)و عن الرقابة المشدّدة عليه فنقول:

إن من جملة الطرق و الوسائل الحكيمة التي إختارها الإمام الهادي(عليه السلام)للتخلّص من مشاكل الرقابة و مضاعفاتها هي:أنّه عيّن بعض الثقاة من شيعته في بغداد،ليكون وكيله،و يكون مرجعا لقضايا الشيعة،و مصدرا لأمورهم الدينية و الدنيوية.

فكانت الأموال تحمل الى الوكلاء،و المسائل الدينية تسلّم اليهم،

ص:174

فكانوا يقومون بالوساطة بين الإمام الهادي(عليه السلام)و بين الشيعة.

و قد إختار الوكلاء بعض المهن تغطية لهذا المنصب الخطير.

و استمر الأمر على هذا المنوال سنوات،حتى تعوّد الناس على مراجعة الوكلاء في بغداد،...إلى أن إستشهد الإمام الهادي(عليه السلام)و بقيت الوكالة نافذة المفعول عند الوكلاء،فكانوا همزة وصل بين الشيعة و بين الإمام العسكري(عليه السلام).

و لما استشهد الإمام العسكري(عليه السلام)أبقى الإمام المهدي (عليه السلام)الوكلاء على وكالتهم،و سنذكر في الفصول القادمة شيئا عن حياة الوكلاء أو النوّاب أو السفراء،إن شاء اللّه تعالى.

ص:175

الامام المهدي في عهد والده«عليها السّلام»

بعد أن اخترنا القول الذي يعتبر بداية الغيبة الصغرى،من ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)فلا بأس ان نذكر لمحة خاطفة عن حياة الإمام المهدي في عهد والده الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)و نرجىء التفصيل الى الفصول القادمة،فنقول:

من الواضح أن الإمام المهدي(عليه السلام)كان يعيش في سامراء، تحت رعاية والده الإمام العسكري(عليه السلام)مشمولا بعواطفه و عنايته طيلة حياة والده.

و في خلال تلك الفترة،كان الإمام العسكري(عليه السلام)يظهر إبنه لبعض الثقاة من الشيعة،و يعرّفه لهم بأنه الإمام الثاني عشر،و أنه المهدي الموعود المنتظر.و سنذكر بعض الاحاديث المتعلقة بالموضوع في فصل قادم إن شاء اللّه تعالى.

و بعد أن دسّ السمّ إلى الإمام العسكري(عليه السلام)و حضرت اللحظات الأخيرة من حياته-و خلى بيته من الأغيار و الجواسيس الذين تركوا دار الإمام العسكري بعد أن تأكّدوا من تأثير السمّ القتّال في جسمه-حضر الإمام المهدي(عليه السلام)عند والده،ليعينه على شرب الدواء،و يمسك الاناء الذي كان يصطكّ بأسنان الإمام العسكري(عليه السلام)بسبب رعشة يديه الكريمتين من جرّاء ذلك السم!.

ص:176

كان ذلك اللقاء آخر لقاء و آخر العهد،و فارق الإمام العسكري(عليه السلام)الحياة،تاركا شبله الأعزّ الأقدس يتيما في مهبّ الأعاصير،و معرض الحوادث و المآسي،محروسا بعين اللّه التي لا تنام،و محفوظا بركنه الذي لا يرام.

و الآن..قد وصلنا الى بحث حسّاس يتطلّب شيئا من التفصيل و التحليل،و سنحاول الإيجاز قدر المستطاع:

ص:177

جعفر ابن الامام الهادي

جعفر،من ابناء الإمام الهادي(عليه السلام)و قد انحرف عن خط آبائه الطاهرين،و سلك طريق الهوى و المنكرات.

و ليس انحراف جعفر بأعجب من انحراف ابن نوح نبي اللّه(عليه السلام)الذي قال اللّه تعالى في شأنه:يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ،إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ (1).

و لم يكن انحراف جعفر-عن خط آبائه المعصومين-بسبب اهمال والده في تربيته،و لا البيئة التي كان يعيش فيها،بل كان بسبب مجالسته للفسقة و المنحرفين،و من الواضح أن المجالسة مؤثّرة.

و لا نعلم-بالضبط-كيفية اتصاله و ارتباطه بالمنحرفين،الذين وصموه بالخزي،و جرّوا عليه الويلات،و أبعدوه عن خط اهل البيت(عليهم السلام).

و العجيب أن الإمام العسكري(عليه السلام)-في الوقت الذي كان يظهر ولده الإمام المهدي(عليه السلام)للثقاة من شيعته و يخبر الخواصّ من اصحابه بولادته-لم يخبر اخاه جعفرا بذلك،و لم يعرف جعفر أن لأخيه ولدا، و لعله كان يعلم ذلك و لكنه كان يتجاهله،لأسباب و اهداف.

و قبل وفاة الإمام العسكري(عليه السلام)بخمسة عشر يوما،كتب

ص:178


1- (1) سورة هود الآية 46.

الإمام رسائل عديدة لشيعته من اهل المدائن(1)و سلّم الرسائل الى خادمه ابي الأديان،و قال له:

«إمض بها(أي بالرسائل)الى المدائن،فإنك ستغيب خمسة عشر يوما(2)و تدخل الى«سرّ من رأى»يوم الخامس عشر(اي من سفره)و تسمع الواعية في داري(3)و تجدني على المغتسل.

قال أبو الأديان:فقلت:يا سيدي فإذا كان ذلك فمن؟أي:فمن الإمام بعدك؟

قال:من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم بعدي.

فقلت:زدني؟أي:أذكر لي المزيد من العلائم؟

قال:من يصلّي عليّ فهو القائم بعدي.

فقلت:زدني؟

قال:من أخبر بما في الهميان(4)فهو القائم بعدي.

ثم منعتني هيبته أن أسأله عمّا في الهميان.

و خرجت بالكتب(الرسائل)الى المدائن،و أخذت جواباتها،و دخلت «سرّ من رأى»يوم الخامس عشر-كما ذكر لي عليه السلام-فإذا أنا بالواعية في

ص:179


1- (1) المدائن:اسم كان يطلق-حينذاك-على مدينة او مجموعة مدن في العراق،تبعد عن بغداد 30 كيلو مترا.
2- (2) و في نسخة:«ستغيب اربعة عشر يوما و تدخل الى سرّ من رأى يوم الخامس عشر».
3- (3) الواعية:الصراخ على الميّت.
4- (4) الهميان:كيس تجعل فيه نفقة السفر،و يشدّ على الوسط كالحزام.

داره،و إذا به على المغتسل،و إذا أنا بجعفر بن علي أخيه(1)(أي:أخ الإمام العسكري)بباب الدار،و الشيعة من حوله يعزّونه و يهنّئونه.(أي:يهنّئونه بالخلافة و الإمامة).

فقلت-في نفسي-:إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة،لأنّي كنت أعرفه يشرب النبيذ،و يقامر في الجوسق(2)و يلعب بالطنبور(3)!!.

فتقدّمت فعزّيت و هنّأت،فلم يسألني عن شيء.ثم خرج عقيد (خادم الإمام العسكري)فقال:يا سيّدي قد كفّن أخوك،فقم و صلّ عليه(4)فدخل جعفر و الشيعة من حوله،-يقدمهم السمّان و الحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة-فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي (صلوات اللّه عليه)على نعشه مكفّنا،فتقدّم جعفر بن علي ليصلّي على أخيه،فلمّا همّ بالتكبير خرج صبيّ(صلوات اللّه عليه)بوجهه سمرة،بشعره قطط (5)بأسنانه تفليج(6)فجبذ(أي:جذب)برداء جعفر بن علي و قال:

«تأخّر يا عم،فأنا أحقّ بالصلاة على أبي».

ص:180


1- (1) و في نسخة:«و إذا أنا بجعفر الكذّاب ابن علي»
2- (2) الجوسق:اسم قصر المقتدر العباسي.
3- (3) الطنبور:آلة لهو و غناء.
4- (4) و في نسخة:«نصلّ عليه».
5- (5) بشعره قطط:أي مجعّد.
6- (6) بأسنانه تفليج:يقال:فلجت أسنانه:أي تباعدت أسنانه بعضها عن بعض،و الجدير بالذكر أنّ هذه الصفة ذكرها المؤرخون في وصف رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم).

فتأخّر جعفر،و قد إربدّ وجهه و اصفرّ(1)،فتقدّم الصبيّ و صلّى عليه، و دفن إلى جانب قبر أبيه(عليهما السلام)ثم قال-الصبي-:يا بصري هات جوابات الكتب التي معك؟فدفعتها إليه،و قلت-في نفسي-:هذه بيّنتان (أي:علامتان)بقي الهميان.

ثم خرجت الى جعفر بن علي و هو يزفر(2)فقال له حاجز الوشاء:يا سيّدي من الصبي؟ليقيم الحجّة عليه.

فقال:و اللّه ما رأيته قطّ و لا أعرفه.

فنحن جلوس(3)إذ قدم نفر(أي:جماعة)من قم،فسألوا عن الحسن ابن علي(عليهما السلام)فعرفوا موته.قالوا:فمن؟(أي:فمن الإمام بعده؟)(4)فأشار الناس الى جعفر،فسلّموا عليه،و عزّوه،و هنّئوه، و قالوا:إنّ معنا كتبا و مالا،فتقول(أي:فهل تقول)ممّن الكتب؟و كم المال؟

فقام جعفر ينفض أثوابه و يقول:تريدون منّا أن نعلم الغيب؟!

فخرج الخادم(أي:خادم الإمام المهدي عليه السلام)فقال:معكم كتب فلان و فلان،و هميان فيه ألف دينار،عشرة دنانير منها مطليّة (بالذهب).

ص:181


1- (1) إربد وجهه:تغيّر.
2- (2) زفر الرجل:أخرج نفسه بعد مدّه إيّاه.
3- (3) هكذا وجدنا في المصدر،و المقصود:فبينما نحن جلوس.
4- (4) و في نسخة:«فمن نعزّي».

فدفعوا إليه الكتب و المال،و قالوا:الذي وجّه بك لأخذ ذلك هو الإمام.....إلى آخر الحديث»(1).

نستفيد من هذا الحديث أمورا عديدة:

1-إنّ جعفر الكذّاب كان قد رشّح نفسه للإمامة الكبرى و الخلافة العظمى،في حين أنّه كان فاقدا لجميع مؤهّلات الإمامة،و عارفا بموبقاته و فجوره و مخاريه،و هذا يدلّ على عدم ورعه،و قلّة مبالاته بالدين،إذ كان من اللازم عليه أن ينفي عن نفسه هذا المقام الأرفع،حينما رأى بعض الناس يهنّئونه بالخلافة و الإمامة،و لكنّه لم يقل شيئا يدلّ على ذلك،بل كان يتقبّل التهاني من الناس.

2-كان المشهور بين الشيعة:أنّ الإمام لا يصلّي عليه(صلاة الميّت) إلاّ الإمام،لأنّ الصلاة على الميّت تعتبر دعاءا من المصلّي للميّت،و بالنسبة للصلاة على جثمان الإمام فهي خاصّة بالإمام الذي بعده،و حينما تقدّم جعفر ليصلّي على جثمان الإمام العسكري(عليه السلام)شاء اللّه تعالى أن يكشف الغطاء للجماهير التي تجمهرت لأداء الصلاة على الإمام العسكري،و يعرّفهم الإمام الحقيقي،تحدّيا لجعفر،و إتماما للحجّة على الأمة الإسلامية،و لهذا خرج الإمام المهدي(عليه السلام)و جذب رداء جعفر الذي همّ بالتكبير للصلاة على جثمان الإمام العسكري،و تكلّم كلمة تعتبر في أعلى درجات

ص:182


1- (1) المصدر:إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 475-476 طبع طهران،سنة 1395 هجرية.

الفصاحة و البلاغة،و هي-بالرغم من إيجازها و قلّة ألفاظها-تعتبر قليلة النظير.قال-عليه السلام-:

«تأخر يا عمّ،فأنا أحقّ بالصلاة على أبي»!!.

قال له:«تأخّر»فلم يسمح له بأداء الصلاة،و قال:«يا عمّ»و بهذه الكلمة أخبر الإمام أنّ جعفرا عمّه،فالإمام إبن أخ جعفر.

«فأنا أحقّ بالصلاة على أبي»إنّ الإمام المهدي(عليه السلام)يثبت- بهذه الكلمة-الأولويّة بالصلاة على الإمام العسكري(عليه السلام).

و يقول:«على أبي»فهنا إثبات للنسب،و إثبات للإمامة،لأنّ الإمام لا يصلّي عليه إلاّ الإمام،و لأنّه وليّ الميّت،و أولى الناس بميراثه.

إذن:فجعفر ليس بإمام،و ليس وارثا للإمام العسكري،لأنّ الإمام المهدي هو الكلّ في الكلّ،و جعفر لا حقّ له في الموضوع بتاتا.

و ترى جعفرا يتراجع عن الساحة،و لا يستطيع أيّة مقاومة أمام ذلك الصبي،ترى..أين ذهبت قدرته؟!و كيف سلبت منه إمكانيّة التكلّم..

و لو بكلمة واحدة؟!!و كيف يخاف الرجل-الذي خلفه الجماهير-من ذلك الصبي؟!

نعم،إنّها هيبة الإمام،و قوّة الإمامة المتوفّرة في الإمام المهدي(عليه السلام)،المفقودة عند جعفر و أمثاله!!

و لماذا إصفرّ لون جعفر؟!و لماذا إربدّ وجهه؟!و لماذا تحمّل الخجل و الفشل أمام الناس المهنّئين له بالإمامة؟!و لماذا كذّب نفسه بنفسه،حينما إنسحب عن الصلاة على الإمام العسكري(عليه السلام)لأجل كلمة«تأخّر

ص:183

يا عمّ»التي سمعها من ذلك الصبي؟!.

أنظر الى الحق كيف يظهر!والى الباطل كيف يندحر!

و يسأله بعض أهل البصيرة من الشيعة:يا سيّدي من الصبي؟

سأله السائل عن ذلك الصبي،كي يعترف جعفر بالإمام المهدي(عليه السلام)بعد أن رأى نفسه أمام أمر واقع،و لكنّه حلف باللّه تعالى قائلا:و اللّه ما رأيته قطّ و لا أعرفه.

عجيب أمرك يا جعفر!!إنّ أحمد بن إسحاق القمّي الأشعري -و هو في قم-يعرف هذا الصبي،و أنت لا تعرفه؟!و كثيرون من الشيعة الغرباء رأوا الإمام المهدي في عهد والده الإمام العسكري(عليهما السلام)و أنت ما رأيته؟!!

هذا إذا كنت صادقا في يمينك و حلفك باللّه تعالى:

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة و إن كنت تدري فالمصيبة أعظم

و يا ليت جعفرا إكتفى بهذا الموقف المخزي المخجل،و يا ليته تراجع عن إدّعائه الإمامة المزعومة،و يا ليت الحاضرين-الذين شهدوا موقف جعفر في الصلاة-عاد اليهم وعيهم،و عرفوا الحق من الباطل...و لكن للناس أهداف،و في القلوب أمراض.

و ليتهم لم يشيروا الى جعفر،حينما وصل وفد أهل قم إلى مدينة سامراء،و بلغهم خبر وفاة الإمام العسكري(عليه السلام)و سألوا عن الإمام بعده.

ص:184

و ليتهم لم يدّعوا إمامته،كيلا يزيد خجلا على خجل،و فضيحة على أخرى.

و لكنّ القمّيين الأذكياء،العارفين بعلائم الإمامة سألوه أن يخبرهم بكلّ ما معهم من الرسائل و الأموال،كي يتأكّدوا من صحّة إمامة جعفر المشكوكة.

و هنا ينفض جعفر أثوابه و يقول:«تريدون منّا أن نعلم الغيب»يفعل ما يفعله البريىء من التهمة،النزيه عن كلّ إفتراء،و يا ليته عرف الفرق بين علم الغيب و بين علم الإمام الذي هو تعلّم من ذي علم.

و يا ليته تذكّر الآلاف من الأحاديث المرويّة عن جدّه رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)و عن آبائه الطاهرين،الأئمة الهداة حول المستقبل،من الملاحم و غيرها(1).

و يا ليته عرف كلام جدّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) -لمّا أخبر عمّا يجري على البصرة من صاحب الزنج،و عن الأتراك-فقال له بعض أصحابه:لقد أعطيت-يا أمير المؤمنين-علم الغيب،فقال الإمام:

«ليس هو بعلم غيب،و إنّما هو تعلّم من ذي علم،و إنّما علم الغيب:علم الساعة،و ما عدّده اللّه سبحانه بقوله:إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ،وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ،وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ،وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً،وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ،إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (2)فيعلم اللّه سبحانه ما في

ص:185


1- (1) الملاحم-جمع ملحمة-:و هي الوقعة العظيمة،او القتل في الحرب،و قد يطلق-مجازا- على أخبار آخر الزمان.
2- (2) سورة لقمان/الآية 34.

الأرحام:من ذكر أو أنثى،و قبيح أو جميل،و شقيّ أو سعيد،و من يكون في النار حطبا،أو في الجنان للنبيّين مرافقا،فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه،و ما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه فعلّمنيه،و دعا لي بأن يعيه صدري و تضطمّ عليه جوانحي(1)»(2).

و ما زال جعفر مصرّا على غيّه و عناده و ضلاله،فقد ذهب إلى المعتمد العباسي-و هو الحاكم الذي دسّ السمّ الى أخيه الإمام العسكري(عليه السلام)بالأمس و قتله-ليخبره بوجود الإمام المهدي(عليه السلام)،و كأنّ جعفرا جاسوس للمعتمد ضد أهل البيت.

فأمر المعتمد بإلقاء القبض على السيّدة نرجس زوجة الإمام العسكري (عليه السلام)،فألقوا القبض عليها،و طالبوها بالإمام المهدي،و لكنّها أنكرته تقيّة،و لم يعبأ الخليفة بإنكارها،بل امر بتسليمها الى قاضي سامراء (ابن أبي الشوارب)لتكون تحت الرقابة المشدّدة،و لكن اللّه تعالى فرّج عنها بعد فترة قليلة.

الا..لعن اللّه الرئاسة الشيطانية المزيّفة،التي يضحّي المجرمون-في سبيلها-بشرفهم و ضمائرهم و دينهم و عقائدهم..و تبّا لكل من يتّبع هوى نفسه فيفعل ما يشاء و يقول ما يريد!

ص:186


1- (1) قوله:«و تضطم عليه جوانحي»:الاضطمام:صيغة افتعال من الضمّ و هو الجمع، يقال:«اضطمّ عليه»او«اضطمّت عليه الضلوع»اي اشتملت عليه.و الجوانح-جمع جانحة-:هي اضلاع ما تحت الترائب مما يلي الصدر،سمّيت بذلك لانحنائها و ميلها.
2- (2) نهج البلاغة ص 239 المطبوع-في بيروت-مع شرح محمد عبده،سنة 1382 ه و ذكره العلامة المجلسي في بحار الأنوار ج 41 ص 335.

وفد آخر من أهل قم:

و ترى جعفرا يصرّ على باطله و لا يتنازل عنه،و تتكرر الحوادث فتزيد- معها-فضيحة جعفر،و ذلك حينما وصل وفد آخر من اهل قم الى سامراء، كما روي عن علي بن سنان الموصلي قال:حدّثني أبي قال:«لما قبض سيّدنا أبو محمد الحسن بن علي العسكري(صلوات اللّه عليهما)وفد من قم و الجبال وفود بالأموال التي كانت تحمل على الرسم و العادة،و لم يكن عندهم خبر وفاة الحسن (عليه السلام)فلما أن وصلوا الى«سرّ من رأى»سألوا عن سيدنا الحسن بن علي(عليهما السلام)فقيل لهم:إنه قد فقد.

فقالوا:فمن وارثه؟

قالوا:أخوه جعفر بن علي.

فسألوا عنه.فقيل لهم:انه قد خرج متنزّها،و ركب زورقا في «دجلة»يشرب و معه المغنّون!!

قال:فتشاور القوم..فقالوا:هذه ليست من صفة الإمام.و قال بعضهم:إمضوا بنا حتى نردّ هذه الأموال على اصحابها.

فقال ابو العباس محمد بن جعفر الحميري القمي:قفوا بنا حتى ينصرف هذا الرجل و نختبر أمره بالصحة(1).

فلما أنصرف جعفر،دخلوا فسلّموا عليه و قالوا:يا سيدنا نحن من اهل قم،و معنا جماعة من الشيعة و غيرها،و كنا نحمل الى سيدنا ابي محمد الحسن

ص:187


1- (1) اي:انتظروا حتى يرجع جعفر من نزهته،و نعرف الأمر.

ابن علي الأموال.

فقال:و أين هي؟

قالوا:معنا.

قال:إحملوها إليّ.

قالوا:لا..إن لهذه الأموال خبرا طريفا.

قال:و ما هو؟

قالوا:إن هذه الأموال تجمع،و يكون فيها-من عامة الشيعة-،:

الدينار و الديناران،ثم يجعلونها في كيس و يختمون عليه،و كنّا اذا وردنا بالمال على سيدنا ابي محمد(عليه السلام)يقول:جملة المال كذا و كذا دينار(1)من عند فلان كذا،و من عند فلان كذا.حتى يأتي على اسماء الناس كلهم، و يقول ما على الخواتيم من نقش.

فقال جعفر:كذبتم!..تقولون على اخي ما لا يفعله،هذا علم الغيب،و لا يعلمه الا اللّه.

فلما سمع القوم كلام جعفر،جعل بعضهم ينظر الى بعض.

فقال لهم جعفر:إحملوا هذا المال إليّ؟

قالوا:إنا قوم مستأجرون،وكلاء لأرباب المال،و لا نسلّم المال إلا بالعلامات التي كنا نعرفها من سيدنا الحسن بن علي(عليهما السلام)فإن كنت (أنت)الإمام فبرهن لنا،و إلا رددناها الى اصحابها،يرون فيها رأيهم.

ص:188


1- (1) اي يخبر بمجموع المال اولا و قبل كل شيىء.

قال(الراوي):فدخل جعفر على المعتمد العبّاسي-و كان بسرّ من رأى-فاستعدى عليهم(1)فلما احضروا،قال المعتمد:إحملوا هذا المال الى جعفر؟

قالوا:..إنا قوم مستأجرون،وكلاء لأرباب هذه الأموال،و هي وداعة لجماعة(2)و أمرونا بأن لا نسلّمها إلا بعلامة و دلالة،و قد جرت بهذه العادة مع ابي محمد الحسن بن علي(عليهما السلام).

فقال الحاكم:فما كانت العلامة التي كانت لكم مع ابي محمد؟

قال القوم:كان يصف لنا الدنانير،و اصحابها،و الأموال و كم هي(3)فإذا فعل ذلك سلّمناها اليه،و قد وفدنا اليه مرارا فكانت هذه علامتنا معه و دلالتنا،و قد مات،فإن يكن هذا الرجل صاحب الأمر فليقم لنا ما كان يقيمه لنا اخوه،و إلاّ رددناها الى اصحابها.

قال جعفر:يا امير المؤمنين إن هؤلاء قوم كذّابون،يكذبون على اخي،و هذا علم الغيب.

فقال العبّاسي:القوم رسل،و ما على الرسول إلا البلاغ المبين.

قال(الراوي):فبهت جعفر و لم يرد جوابا.

فطلب الوفد من الحاكم العباسي أن يرسل معهم حارسا يصحبهم حتى

ص:189


1- (1) اي اشتكى عليهم عند الحاكم.
2- (2) اي أمانة.
3- (3) اي ان الإمام العسكري(عليه السلام)كان يبيّن صفة الدنانير-من مغشوشة و غيرها- و اسماء اصحابها،و نوعية الأموال من دينار و غيره،و مقدارها.

يخرجوا من المدينة،فأمر بذلك.

فلما أن خرجوا من البلد،خرج اليهم غلام احسن الناس وجها،كأنه خادم،فنادى:يا فلان بن فلان و يا فلان بن فلان اجيبوا مولاكم؟

فقالوا:أنت مولانا؟

قال:معاذ اللّه..أنا عبد مولاكم،فسيروا اليه.

قال:فسرنا معه حتى دخلنا دار مولانا الحسن بن علي(عليهما السلام)فإذا ولده القائم سيدنا(عليه السلام)قاعد على سرير،كأنه فلقة قمر،عليه ثياب خضر،فسلّمنا عليه،فردّ علينا السلام ثم قال:جملة المال كذا و كذا دينار،حمل فلان كذا و فلان كذا،و لم يزل يصف،حتى وصف الجميع.

ثم وصف ثيابنا و رحالنا و ما كان معنا من الدواب،فخررنا سجّدا للّه عز و جل،شكرا لما عرّفنا،و قبّلنا الأرض بين يديه،و سألناه عما اردنا فأجاب،فحملنا إليه الأموال.و امرنا القائم(عليه السلام)أن لا نحمل الى سرّ من رأى بعدها شيئا من المال،فإنه ينصب لنا-ببغداد-رجلا تحمل إليه الأموال،و تخرج من عنده التوقيعات.

قالوا:فانصرفنا من عنده،و دفع(اي الإمام)إلى أبي العباس محمد بن جعفر القميّ الحميري شيئا من الحنوط و الكفن فقال له:اعظم اللّه اجرك في نفسك.

قال:فما بلغ ابو العباس عقبة همدان حتى توفي«رحمه اللّه».

ص:190

و كان بعد ذلك،تحمل الأموال الى بغداد إلى النوّاب المنصوبين بها، و تخرج من عندهم التوقيعات».

قال الشيخ الصدوق(رحمه اللّه)-بعد نقل هذا الحديث في كتابه إكمال الدين-:هذا الخبر يدّل على أن الخليفة كان يعرف هذا الأمر(أي أمر الإمامة)كيف هو؟و أين هو؟و اين موضعه؟فلهذا كفّ عن القوم و عما معهم من الأموال،و دفع جعفر الكذّاب عنهم،و لم يأمر بتسليمها إليه.

إلاّ أنه كان يحب أن يخفى هذا الأمر و لا ينشر،لئلا يهتدي اليه الناس فيعرفونه،و قد كان جعفر الكذّاب حمل الى الخليفة عشرين الف دينار،لما توفي الحسن بن علي(عليهما السلام)و قال له:يا امير المؤمنين..تجعل لي مرتبة اخي الحسن و منزلته!!

فقال الخليفة:إعلم أن منزلة اخيك لم تكن بنا،إنما كانت باللّه عز و جل،و نحن كنّا نجتهد في حطّ منزلته و الوضع منه،و كان اللّه عز و جل يأبى إلا ان يزيده-كل يوم-رفعة،لما كان فيه من الصيانة و حسن السمت(1)و العلم و العبادة.

فإن كنت عند شيعة اخيك بمنزلته فلا حاجة بك الينا،و إن لم تكن عندهم بمنزلته و لم يكن فيك ما كان في اخيك،لم نغن عنك شيئا».(2)

و من هذا الحديث-الذي يشبه الحديث السابق-نستفيد ايضا بعض

ص:191


1- (1) السمت:العلم و العبادة.
2- (2) إكمال الدين

الأمور التي لا بأس بالاشارة اليها كالتالي:

1-إلحاح جماعة من الناس على تعيين جعفر للإمامة،و هنا تبرز علامة استفهام بل علامات إستفهام:

لماذا اختارت هذه الجماعة-المشبوهة-جعفرا للإمامة-مع كثرة الموانع و عدم وجود مقتضيات الإمامة فيه-؟

-و مع فشله في جميع المواقف،و انسحابه عن الساحة،و انهيار معنويّاته مع وفد القميّين الأول-:ما هو الداعي الى التركيز على إمامة هذا الإنسان المشوّه المفضوح؟

2-تكذيب جعفر للشيعة،حول إخبار الأئمة بما معهم من الأموال و تفاصيلها،فإن كان جعفر فاقدا لصفات الإمام،و جاهلا بهذه الخصائص،فلماذا ينفي ذلك عن اخيه الإمام العسكري(عليه السلام) و يكذّب الشيعة،ذلك التكذيب الفضيع؟

أليس الأفضل ان ينفي علمه بهذه الأمور،و يعلن جهله بهذه المواضيع حتى لا يكذّب امرا واقعيا و حقيقة ثابتة؟

3-مطالبته القميّين بالأموال،ظلما وزورا،مع عدم استحقاقه لتلك الأموال،و هو يعلم ذلك،و هذا يدلّ على عدم تورّعه من المحرّمات،و لعله لو كان يقبض منهم الأموال لكان يصرفها في خموره و فجوره!

4-استعانة جعفر بالسلطة-الظالمة الغاشمة-ضد الشيعة، و تجاوب السلطة معه.إن ذا لعجيب.

ص:192

فالحاكم العبّاسي يأمر القميّين بتسليم الأموال الى جعفر،فهل كان ذلك بدافع الحب لجعفر؟أم كان اعترافا ضمنيّا بإمامة جعفر-تشويها لجمال الإمامة،و تدنيسا لقداستها،و تحطيما لمعنويّاتها،و تغييرا لمفهوم الإمامة في المجتمع الشيعي-؟

و يا ليت الفضيحة كانت تنتهي عند هذا الحدّ،و يا ليت جعفرا كان يكتفي بهذا المقدار من المأساة،و لكنه ذهب الى السلطة ليتفاوض معها، و يحمل عشرين الف دينار الى الحاكم العباسي،ثمنا للاعتراف بامامته.

مسكين هذا الجاهل!..انظر اليه كيف يتشبّث بالوسائل الفاشلة، لتثبيت مقامه،و تقوية مكانته؟!و كيف يتّخذ المضلّين عضدا؟!و كيف يستعين بالباطل للقضاء على الحق؟!و كيف يبرّر الوسيلة لتحقيق غايته الجهنّمية؟!

انني لا اتعجب من جعفر و تصرفاته و محاولاته..فقد رأينا في زماننا- امثال جعفر-الفاقدين للشعبيّة و السمعة الطيبة،المنبوذين في المجتمع الديني،كيف يبايعون الحكّام مائة بالمائة،لتعترف لهم السلطة ببعض المزايا التافهة و الخصائص المادّية!

5-و اخيرا..يتفطّن الحاكم العباسي الى أن تجاوبه مع جعفر،لا يسمن و لا يغني من جوع،و لا يجديه اي نفع،لأن اصول عقيدة الإمامة- عند الشيعة-متكاملة الجوانب،مستجمعة الصفات،مدروسة الأطراف،مترابطة من جميع الجهات،و لا يمكن التلاعب بها،و لا تغيير مجراها و مفهومها،فتراه يتنازل عن فكرته الأولى،و يعطي الحق لوفد قم و يقول:القوم رسل،و ما على الرسول إلا البلاغ المبين!

ص:193

و بهذه الكلمة تنغلق الأبواب في وجه جعفر،و يخيب ظنه و تنقطع آماله من تلك اللحظة!.

و يخاف القميّون من شرّ جعفر،و شرور الجماعة التي تدور حول جعفر،فيطلبون من المعتمد العباسي ان يحميهم برقابة أمنيّة،حتى يخرجوا من مدينة سامراء.

و يلبيّ الحاكم طلبهم و يرسل معهم الحرس،حتى يخرجوا من البلد بسلام.

و لا تسأل عن الحيرة التي استولت على القميّين حول أمر الإمام الذي يقوم مقام الإمام العسكري(عليه السلام)..فما الذي يصنعون؟و كيف يعودون الى بلادهم قبل التعرف على إمام الحق؟

و هنا شملهم اللطف الالهي و أنقذهم من تلك الحيرة،و انتشلهم من تلك الورطة و جاءهم الغلام المرسل من عند الإمام المهدي(عليه السلام) و ناداهم بأسمائهم،و أرشدهم الى مقرّ الإمام المهدي(عليه السلام) و تشرّفوا بلقاء الإمام فانحلّت المشكلة و انكشف الغطاء و زالت الحيرة.

و بعد هذا كله..ادّعى جعفر أنه هو الوارث الوحيد للإمام العسكري(عليه السلام)متحدّيا وجود الإمام المهدي(عليه السلام) و منكرا نسل اخيه الإمام العسكري(عليه السلام)،و استولى على تركة الإمام العسكري كلّها،و تحقق كلام الإمام الحسين(عليه السلام)في

ص:194

شأنه،حيث قال-لرجل من همدان-:«قائم هذه الأمة هو التاسع من ولدي،و هو صاحب الغيبة،و هو الذي يقسّم ميراثه و هو حي»(1).

عاقبة أمر جعفر:

لقد اختلف المحدّثون في عاقبة أمر جعفر،فقال بعضهم:إنه تاب و رجع عن غيّه،و استقام أمره،و ظهر له إنحرافه،فرجع الى الصراط المستقيم.و دليلهم الوحيد على ذلك هو التوقيع الذي خرج من الإمام المهدي(عليه السلام)في جواب مسائل إسحاق بن يعقوب،و فيه يقول ما نصّه:«و أمّا سبيل عمّي جعفر و ولده،فسبيل إخوة يوسف»(2)و ترى أنّ الإمام المهدي(عليه السلام)يشبّه عمّه جعفر و أولاده بإخوة يوسف الذين صنعوا ما صنعوا بأخيهم يوسف.

و لنا أن نتساءل:كيف يستفاد-من هذه الجملة-أنّ جعفرا تاب، و أنّ اللّه تعالى قبل توبته؟؟!

نعم..إنّ إخوة يوسف-لما انكشف سوء صنيعهم-قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئِينَ،قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (3).

و لكن هنا لا يستفاد الإستغفار و التوبة من جعفر،و من الصحيح أن نقول:إنّ وجه الشبه-هنا-غير واضح،و اللّه العالم.

ص:195


1- (1) قد مرّ هذا الحديث في باب البشائر.
2- (2) هذا ما رواه الطبرسي في كتاب الاحتجاج،و الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة.
3- (3) سورة يوسف الآية 97-98.

الفصل التاسع

اشارة

النوّاب الأربعة

النيابة الخاصة

اشارة

تعتبر النيابة الخاصّة من المناصب الخطيرة ذات الأهميّة الكبرى،و لا يليق بهذا المقام السّامي إلاّ من تتوفّر فيه الصفات المطلوبة،و المؤهّلات اللازمة،كالأمانة(بجميع معنى الكلمة)و التقوى و الورع،و كتمان الأمور التي لا ينبغي إفشاؤها،و عدم التصرّف-في القضايا الخاصّة-بالرأي الشخصي،و تنفيذ الاوامر و التعليمات الواصلة إليه من الإمام،و غير ذلك من الشروط.

و لا يخفى أنّ النيابة الخاصّة أهم و أعلى من النيابة العامّة،التي هي مرتبة الإجتهاد المحفوفة بالشروط اللازمة،كالعدالة،و مخالفة الهوى، و شدّة التمسّك و الإلتزام بالموازين الشرعية،و غير ذلك من الصفات التي يجب توفّرها في المجتهد.

و لا نريد أن نخوض في هذا البحث اكثر من هذا،و إنّما المقصود- هنا-التحدّث عن النوّاب الأربعة،و بيان شيء من ترجمة حياتهم.

النائب الأول:[عثمان بن سعيد]

إسمه:عثمان بن سعيد.

كنيته:أبو عمرو.

لقبه:العمري،السمّان،الزيّات،الأسدي،العسكري.

ص:196

و كان يلقّب ب«السمّان»و«الزيّات»لأنه كان يتّجر بالسمن و الزيت،تغطية على مقامه،و تقية من السلطة،فكان الشيعة يحملون إليه الأموال و الرسائل،فيجعلها في جراب السمن و زقاقه(1)-كي لا يعلم بذلك أحد-و يبعثها الى الإمام.

و لا يهمّنا التحقيق في لقبه بالعمري،و لا في إنتسابه الى بني أسد، و إنما نكتفي بما يلي:

لقد كان للعمري شرف خدمة الإمام الهادي(عليه السلام)يوم كان عمره إحدى عشرة سنة،و هذا يدلّ على ما كان يتمتّع به من الذكاء، و العقل،و الرشد الفكري المبكّر،و المؤهّلات التي منها العدالة و الوثاقة و الأمانة،و اللّه يختصّ برحمته من يشاء.و الآن..اليك الحديث التالي:

روي عن أحمد بن إسحاق قال:سألت الإمام الهادي(عليه السلام) و قلت:من أعامل؟و عمّن آخذ؟و قول من أقبل؟

فقال الإمام:«العمري ثقتي،فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي،و ما قال لك عنّي فعنّي يقول،فاسمع له و أطع،فإنّه الثقة المأمون»(2).

و-بعد وفاة الإمام الهادي عليه السلام-زاد اللّه العمريّ شرفا على شرفه،إذ صار وكيلا للإمام العسكري(عليه السلام)أيضا.

فقد روي عن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)أنّه قال-

ص:197


1- (1) الجراب:وعاء من جلد.الزقاق:جلد يستعمل لحمل الماء او السّمن.
2- (2) كتاب الأصول من الكافي للشيخ الكليني ج 1 ص 330 طبع طهران سنة 1388 هجرية.كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 219،طبع طهران سنة 1398 ه.

لأحمد بن إسحاق-:«العمري و ابنه ثقتان،فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان،و ما قالا لك فعنّي يقولان،فاسمع لهما و أطعهما،فإنّهما الثقتان المأمونان»(1).

و قد كتب الإمام العسكري كتابا مفصّلا إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري،نقتطف منه كلمة تتعلّق بالمترجم له:«...فلا تخرجنّ من البلدة حتى تلقى العمري(رضي اللّه عنه برضاي عنه)و تسلّم عليه، و تعرفه و يعرفك،فإنّه الطاهر الأمين،العفيف،القريب منّا و إلينا...»(2).

و روي عن محمد بن إسماعيل و علي بن عبد اللّه السجستاني،قالا:

دخلنا على أبي محمد الحسن(عليه السلام)بسرّ من رأى،و بين يديه جماعة من أوليائه و شيعته،حتى دخل بدر خادمه،فقال:يا مولاي..بالباب قوم شعث غبر(3)فقال لهم(أي:قال الإمام للحاضرين عنده):«هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن»...الى أن قال الإمام الحسن لبدر:«فامض فأتنا بعثمان بن سعيد العمري».فما لبثنا إلاّ يسيرا حتى دخل عثمان،فقال له سيّدنا أبو محمد(عليه السلام):«إمض يا عثمان فإنّك الوكيل،و الثقة المأمون على مال اللّه،و اقبض من هؤلاء النفر اليمنييّن ما حملوه من المال»...

ص:198


1- (1) كتاب الأصول من الكافي ج 1 ص 330 طبع طهران سنة 1388 ه.و كتاب الغيبة للطوسي ص 219 طبع طهران 1398 ه.
2- (2) كتاب(إختيار معرفة الرجال)المعروف ب(رجال الكشّي)ج 6 ص 580 طبع مشهد-ايران سنة 1390 هجرية.
3- (3) شعث غبر:أي عليهم الغبار و التراب.

ثم قلنا-بأجمعنا-:يا سيّدنا..و اللّه إنّ عثمان بن سعيد لمن خيار شيعتك،و لقد زدتنا علما بموضعه من خدمتك،و إنّه وكيلك و ثقتك على مال اللّه؟

قال(عليه السلام):«نعم..و اشهدوا على أنّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي،و أنّ إبنه محمدا وكيل إبني:مهديّكم»(1).

و روي عن جماعة من الشيعة،منهم:علي بن بلال،و أحمد بن هلال،و الحسن بن أيوب،و غيرهم-في خبر طويل مشهور-قالوا جميعا:

إجتمعنا الى أبي محمد الحسن بن علي العسكري(عليهما السلام) نسأله عن الحجّة من بعده،و في مجلسه أربعون رجلا،فقام إليه عثمان بن سعيد العمري فقال له:يا بن رسول اللّه أريد أن أسألك عن أمر أنت أعلم به منّي؟

فقال الإمام(عليه السلام):«أخبركم بما جئتم»؟

قالوا:نعم يا بن رسول اللّه.

قال:«جئتم تسألوني عن الحجّة من بعدي».

قالوا:نعم..فإذا غلام كأنّه قطعة قمر،أشبه الناس بأبي محمد (العسكري).

فقال:«هذا إمامكم من بعدي،و خليفتي عليكم،أطيعوه،و لا تتفرّقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم.

ص:199


1- (1) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 216،و(بحار الأنوار)للشيخ المجلسي ج 51 ص 345 طبع طهران سنة 1393 ه.

ألا:و إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا حتى يتمّ له عمر،فاقبلوا من عثمان ما يقوله،و انتهوا الى أمره،و اقبلوا قوله...»(1).

و قد سبق أن ذكرنا أنّ الإمام العسكري(عليه السلام)أمر العمري-بعد ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)-أن يشتري آلاف الأرطال من اللحم و الخبز،و يوزّعها على الفقراء،و يعقّ عددا من الأغنام عن ولده الإمام المهدي(عليه السلام).

و كان العمري يسكن في بغداد،و يكثر السفر الى سامراء ليلتقي بالإمامين:الهادي و الحسن العسكري(عليهما السلام).

و يستفاد من بعض الروايات أن العمري حضر تغسيل الإمام العسكري(عليه السلام)و تحنيطه و تكفينه و دفنه(2).و لا نقول:إنّه باشر ذلك بنفسه،فالإمام لا يغسّله إلاّ الإمام.و لا يهمّنا إن كان التاريخ أهمل تغسيل الإمام المهدي أباه،و لم يتعرّض لذلك،فالعقيدة ثابتة..سواء ذكر التاريخ ذلك..أو لم يذكره.

و بعد وفاة الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)أبقى الإمام المهدي(عليه السلام)العمريّ على وكالته،و على هذا..يعتبر العمري

ص:200


1- (1) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 217،طبع طهران سنة 1398 ه.
2- (2) يستفاد ذلك من كتاب(الغيبة)للشيخ الطوسي ص 216 حيث قال ما نصه:«عن أبي نصر بن أحمد،عن شيوخه:أنّه لما مات الحسن بن علي(عليهما السلام)حضر غسله عثمان بن سعيد، و تولّى جميع أمره في تكفينه و تحنيطه و تقبيره...». و قد مرّ-في الحديث عن«جعفر بن الإمام الهادي»-قول الراوي:«يقدمهم السمّان»يعني عثمان بن سعيد العمري،الذي كان حاضرا عند الصلاة على جثمان الإمام العسكري(عليه السلام).

النائب الأول للإمام المهدي.

و هكذا..كان العمري همزة وصل بين الإمام المهدي و شيعته،في مراسلاتهم و قضاياهم،و حلّ مشاكلهم.

و يعلم اللّه تعالى عدد لقاءاته مع الإمام المهدي(عليه السلام)و تشرّفه بالمثول بين يديه،و يعلم اللّه كيفية تلك اللقاءات و مقدارها يوميا؟ أسبوعيا؟شهريا؟أو حسب الظروف و الحاجة،في حين كان الملايين من الشيعة محرومين عن هذا الشرف،و فاقدين لهذا التوفيق.

نعم..إنّ الأمانة و المصلحة كانتا تفرضان على العمري أن لا يبوح بهذا السرّ للناس،ليبقى السرّ مكتوما و يدفن مع صاحبه.

و قد روي أنّ عبد اللّه بن جعفر إلتقى بالعمري-بعد وفاة الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)-فأقسم على العمري-بعد وفاة الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)-فأقسم على العمري و حلّفه قائلا:

فأسألك بحقّ اللّه و بحقّ الإمامين الذين وثّقاك(1)هل رأيت إبن أبي محمد الذي هو صاحب الزمان؟

فبكى العمري من هذا الإحراج،و اشترط على عبد اللّه بن جعفر أن لا يخبر بذلك أحدا ما دام العمري حيّا،و قال:قد رأيته(عليه السلام)...الى آخر كلامه(2).

و خلاصة الكلام:إنّ العمري كان من النوابغ..فكرا و عقلا، أضف الى ذلك مزاياه الخاصّة كالتقوى و الورع و الأمانة،و غيرها من

ص:201


1- (1) يعني:الإمام علي الهادي،و الإمام الحسن العسكري(عليهما السلام).
2- (2) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 215 طبع طهران سنة 1398 ه.

الصفات التي جعلته أهلا للنيابة الخاصّة و الوكالة العامّة،و«هنيئا لأرباب النعيم نعيمهم»فالعمري كان مغمورا بالسعادة و شرف خدمة الأئمة قبل أن يبلغ الحلم،الى أن فارق حياته السعيدة المباركة.

و من الواضح أنّ الأئمة الثلاثة(سلام اللّه عليهم)إنما انتخبوه و اختاروه لهذا المنصب الخطير و المكانة السّامية لوجود المؤهلات فيه.

و لقد أمره الإمام المهدي(عليه السلام)أن ينصب ولده محمد بن عثمان من بعده،ليتولّى الامور بعد وفاة أبيه.

النائب الثاني:[محمد بن عثمان]

إسمه:محمد بن عثمان.

كنيته:أبو جعفر.

لقبه:العمري،العسكري،الزيّات.

لقد كان من حسن حظّ عثمان بن سعيد العمري أن رزقه اللّه تعالى ولدا صالحا يشبه أباه في المؤهّلات و المزايا و الفضائل،«و من يشابه أبه فما ظلم»،و قد مرّ-عليك-أنّ الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)نصّ عليه و على أبيه حيث قال:«العمري و ابنه ثقتان...»و قال:«...و إنّ إبنه محمدا وكيل إبني:مهديّكم».

فاختاره مولانا الإمام المهدي(عليه السلام)ليقوم مقام أبيه عثمان، و يمارس أعماله.

و قد بعث الإمام رسائل متعدّدة الى زعماء الشيعة،يخبرهم-فيها-بأنّه

ص:202

قد عيّن محمد بن عثمان نائبا عنه(1)و منها الرسالة التي كتبها الإمام إلى محمد بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي،و قد جاء فيها:

«...و الإبن(وقاه اللّه)لم يزل ثقتنا في حياة الأب(رضي اللّه عنه و أرضاه،و نضّر وجهه)يجري عندنا مجراه،و يسدّ مسدّه،و عن أمرنا يأمر الإبن،و به يعمل،تولاّه اللّه،فانته الى قوله(2)...»(3).

و لقد إزداد محمد بن عثمان شرفا على شرفه حيث تلقّى رسالة من الإمام المهدي(عليه السلام)يعزّيه فيها بموت أبيه،و قد جاء في الرسالة:

«إنّا للّه و إنا إليه راجعون،تسليما لأمره،و رضاءا بقضائه،عاش أبوك سعيدا،و مات حميدا،فرحمه اللّه،و ألحقه بأوليائه و مواليه عليهم السلام،فلم يزل مجتهدا في أمرهم،ساعيا فيما يقرّبه الى اللّه(عزّ و جل) و إليهم،نضّر اللّه وجهه،و أقاله عثرته...

أجزل اللّه لك الثواب،و أحسن لك العزاء،رزئت و رزئنا(4)و أوحشك فراقه و أوحشنا،فسرّه اللّه في منقلبه،

كان من كمال سعادته أن رزقه اللّه تعالى ولدا مثلك،يخلفه من بعده،و يقوم مقامه بأمره،و يترحّم عليه،

و أقول:الحمد للّه،فإنّ الأنفس طيّبة بمكانك و ما جعله اللّه تعالى

ص:203


1- (1) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 220.
2- (2) «فانته الى قوله»:أي:إسمع كلامه،و امتثل أوامره.
3- (3) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 220،طبع طهران سنة 1398 ه.
4- (4) و في نسخة:«رزيت و رزينا».كتاب الغيبة للشيخ الطوسي.

فيك و عندك،أعانك اللّه و قوّاك،و عضدك و وفّقك،و كان لك وليا و حافظا،و راعيا و كافيا و معينا»(1).

لا يستطيع القلم أن يستوعب ما احتوته هذه الرسالة من الأوسمة و الخلع التي تفضّل بها الإمام المهدي(عليه السلام)على الوالد و ما ولد.

إنّ كلّ كلمة من كلمات الرسالة تعتبر ثناءا عاطرا،و وساما ساميا، لو فاز رجل بواحدة منها لحقّ له أن يمشي مرفوع الرأس،يشمخ بأنفه، و يفتخر على غيره،و يقول:من مثلي؟!

فكيف و هذه الكلمات-التي هي أغلى من كلّ غال و نفيس-قد توفّرت و اجتمعت في عثمان بن سعيد و إبنه محمد،فهنيئا لهما بشرف الدنيا و سعادة الآخرة.

لقد كان محمد بن عثمان كأبيه سفيرا بين الإمام المهدي و بين جميع الشيعة في ذلك العصر،سواء القاطنين في العراق،او القادمين من مدينة قم أو البلاد الإسلامية الأخرى،و كان يسكن في بغداد،كما تقدّم في الحديث عن أبيه.

و من الطبيعي أنّه كان يؤدّي الوظائف الواجبة الملقاة على عاتقه في جو من الكتمان و التقيّة،فكان يستلم الأموال و الحقوق الشرعية من الشيعة و يحملها الى الإمام المهدي(عليه السلام)بصورة سرّية.

أمّا كيفية إيصّاله الأموال الى الإمام فهي مجهولة جدّا،فالقضية مغطّاة بالغموض من جميع جوانبها.

ص:204


1- (1) إكمال الدين للشيخ الصدوق،ج 2 ص 510.كتاب(الغيبة)للشيخ الطوسي ص 219-220.

و قد أخبر محمد بن عثمان-اكثر من مرة-أنّ الذي يقوم مقامه-بعد وفاته-هو الحسين بن روح النوبختي.

النائب الثالث:[الحسين بن روح]

إسمه:الحسين بن روح.

كنيته:أبو القاسم.

لقبه:النوبختي.

كان الحسين بن روح شخصية مشهورة و معروفة عند الشيعة و كان- قبل تولّيه النيابة-وكيلا للنائب الثاني محمد بن عثمان،يشرف على أملاكه، و يقوم بدور الواسطة بينه و بين زعماء الشيعة،في نقل الأوامر و التعليمات و الاخبار السرّية إليهم.

و بهذا إزدادت ثقة الشيعة به،بعدما رأوا أنّ النائب الثاني يثق به، و يعتمد عليه،و يشهد بفضله و دينه،و يراه أهلا لمنصب الوكالة.

و كان الحسين بن روح مشهورا و معروفا بالعقل و الرشد،و يشهد له الموافق و المخالف،حتى أنّ العامّة كانت تعظّمه و تحترمه.

كلّ هذه الأمور..كوّنت للحسين بن روح رصيدا شعبيا،و مكانة رفيعة عند الناس على اختلاف مستوياتهم و اتجاهاتهم و مذاهبهم.

و قبل وفاة النائب الثاني،صدر الأمر من الإمام المهدي(عليه السلام)اليه،بأن يقيم الحسين بن روح مقامه في النيابة الخاصّة،فامتثل النائب الثاني أمر الإمام،و أعلن أن النائب الثالث الذي يقوم مقامه:هو

ص:205

الحسين بن روح،فقد جمع زعماء الشيعة و شخصياتهم،و قال لهم:«إنّ حدث عليّ حدث الموت،فالأمر الى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي، فقد أمرت أن أجعله في موضعي بعدي،فارجعوا اليه،و عوّلوا في أموركم عليه»(1).

و قبل وفاة النائب الثاني بساعات،حضر عنده جمع غفير من زعماء الشيعة و شيوخهم،فقال لهم:«هذا ابو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي،القائم مقامي،و السفير بينكم و بين صاحب الأمر(عليه السلام)و الوكيل و الثقة الأمين،فارجعوا اليه في أموركم،و عوّلوا عليه في مهمّاتكم،بذلك أمرت،و قد بلّغت»(2).

و كان للنائب الثاني صديق حميم،اسمه جعفر بن أحمد بن متيل، يكثر مجالسته و معاشرته،حتى بلغ من أمره أنّ النائب الثاني-في أواخر حياته-لم يكن يتناول طعاما إلاّ ما تهيّأ في منزل جعفر بن أحمد،و كان الكثيرون من الشيعة يتوقّعون أن يكون جعفر هو النائب الثالث،لكن إختيار الإمام المهدي(عليه السلام)وقع على الحسين بن روح.

و الجدير بالذكر:أنّ جعفر بن أحمد لم يغيّر سلوكه مع الحسين بن روح-بالرغم من تفوّق الأخير عليه-بل كان بين يديه كما كان بين يدي النائب الثاني،صديقا وفيا،يحضر مجلسه،و يعينه على أداء مهامّه و مسؤوليّاته،الى أن توفي الحسين بن روح سنة 326 ه،و كانت مدّة سفارته إحدى و عشرين أو إثنتي و عشرين سنة.

ص:206


1- (1) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 227.
2- (2) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 227.

النائب الرابع:[علي بن محمد]

إسمه:علي بن محمد.

كنيته:أبو الحسن.

لقبه:السمري.

إختاره الإمام المهدي(عليه السلام)ليكون سفيرا له،فأمر الحسين بن روح-النائب الثالث-بأن يقيم علي بن محمد السمري مقامه، و نفّذ الحسين بن روح أمر الإمام المهدي(عليه السلام).

أمّا شخصية علي بن محمد السمري فهي كالشمس لا تحتاج الى بيان نورها،و ثقته و جلالته أشهر من أن تذكر.

و من كراماته:أنه أخبر-و هو في بغداد-بموت علي بن الحسين بن بابويه القمي(والد الشيخ الصدوق)و هو في الرّي(1)ساعة وفاته،و كان عنده جماعة من الشيعة،فسجّلوا الساعة و اليوم و الشهر،و جاء الخبر-بعد سبعة عشر يوما-فكان مطابقا لما أخبر به،من حيث اليوم و الساعة التي أخبر بها.

و بوفاة السمري إنقطعت السفارة،و انتهت الغيبة الصغرى،و ابتدأت الغيبة الكبرى التي امتدت الى يومنا هذا،و سوف تنتهي بظهور الإمام المهدي(عليه السلام).

و صدر توقيع من الإمام المهدي(عليه السلام)الى السمري،قبل

ص:207


1- (1) الريّ:إسم مدينة في ضواحي طهران.

وفاته بستة أيام،و قد جاء فيه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم.يا علي بن محمد السمري:أعظم اللّه أجر إخوانك فيك،فإنّك ميّت ما بينك و بين ستة أيام،فاجمع أمرك،و لا توصي الى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك،فقد وقعت الغيبة التامّة(1)فلا ظهور إلاّ بعد إذن اللّه-تعالى ذكره-و ذلك بعد طول الأمد،و قسوة القلوب،و امتلاء الأرض جورا...»الى آخر كلامه عليه السلام(2).

فأخرج السمري هذا التوقيع الى الناس،فكتبوه و خرجوا من داره، فلما كان اليوم السادس عادوا اليه و هو يجود بنفسه(3)فقيل له:من وصيّك؟

فقال:للّه أمر هو بالغه.

و كان هذا آخر كلام سمع منه،و قضى نحبه(رحمة اللّه عليه)و كانت وفاته سنة 329 ه.

ص:208


1- (1) و في بعض النسخ:«فقد وقعت الغيبة الثانية».
2- (2) كتاب الغيبة للطوسي ص 242-243،و إكمال الدين للصدوق ج 2 ص 516.
3- (3) أي:يعالج سكرات الموت،و يقضي اللحظات الأخيرة من حياته..

وكلاء الامام المهدي«عليه السّلام»

لقد كان الشيعة يسألون الإمام المهدي(عليه السلام)عن المسائل الفقهية و الماليّة،بل و عن القضايا الشخصية أيضا،و ذلك عن طريق السفراء(النوّاب الأربعة)فكان الجواب يأتيهم بعد فترة قصيرة.

و قد كان للسفراء وكلاء في كثير من البلاد الإسلامية،يقومون بدور كبير في تسهيل مهمّة السفراء و وظائفهم.

و كان هؤلاء الوكلاء محمودين في سلوكهم،مستقيمين في عقيدتهم، معروفين بالزهد و التقوى و الصلاح،و لم يتغيروا و لم ينحرفوا الى آخر حياتهم.

و كان الوكلاء،تارة يراجعون السفراء في القضايا و الأسئلة الموجّهة اليهم،و تارة يراسلون الإمام المهدي(عليه السلام)بصورة مباشرة.

و فيما يلي نذكر أسماء بعض الوكلاء،و نترك التحدّث عن حياتهم،رعاية للإختصار:

1-حاجز بن يزيد الملقّب بالوشّاء.

2-إبراهيم بن مهزيار.

3-محمد بن إبراهيم بن مهزيار.

4-أحمد بن اسحاق الأشعري القمّي.

ص:209

5-محمد بن جعفر الأسدي.

6-القاسم بن العلاء.

7-الحسن بن القاسم بن العلاء.

8-محمد بن شاذان.

و هناك أناس آخرون لم تثبت وكالتهم،أو لم تشتهر بين المحدّثين،و لا يهمّنا التعرّض لذلك.

ص:210

الذين ادّعوا السّفارة أو الوكالة كذبا وزورا

اشارة

من أعاجيب الدهر أنّ عددا من أصحاب الإمام الهادي و الإمام العسكري(عليهما السلام)إختاروا لأنفسهم سوء العاقبة،و الإنحراف عن الطريق المستقيم،بالرغم من سوابقهم المشرقة،و كثرة تشرّفهم بلقاء الإمامين العسكرييّن(عليهما السلام)و شدّة إتصالهم بهما و استماعهم الى أحاديثهما،حتى أنّ بعضهم ألّف كتابا سجّل فيه الاحاديث التي سمعها من أحد الإمامين او منهما.

و لا نعرف لإنحرافهم سببا سوى تأمين المصالح الشخصيّة،و الطمع في الأموال-و هي الحقوق الشرعية التي كانت الشيعة تدفعها الى نوّاب الإمام المهدي(عليه السلام)-و حبّ الرئاسة و الشهرة،ثم الحكم-من ورائها-على جميع مرافق الشيعة،و إتّباع الهوى الذي يصدّ عن الحق.

و كانت عاقبة أمرهم أن شملتهم اللعنة من الإمام المهدي(عليه السلام)تلك اللعنة التي ترتعد منها الفرائص و ترتجف منها القلوب!

و من الطبيعي أنّ أولئك الكذّابين قد كونّوا مشاكل عقائدية و إجتماعية في المجتمع الشيعي،بالإضافة الى أنهم أشغلوا افكار النوّاب الحقيقيين،لأنّ المنحرف عقائديا إذا ادّعى الوكالة أو النيابة عن الإمام المهدي(عليه السلام)سيكون سببا لتشويه خط الإمام أوّلا،و منافسا للنائب الحقيقي ثانيا.

ص:211

و هذه مشكلة لا يصحّ السكوت عنها،و لا بدّ من تدارك الأمر، و كشف الحقيقة،و رفع النقاب عن الواقع،و فضح المدّعي الكاذب.

و اليك شيئا من التفصيل:

1-ابو محمد الحسن الشريعي:

كان من أصحاب الإمامين:الهادي و العسكري(عليهما السلام) و ادّعى أنه سفير الإمام الحجّة المهدي(عليه السلام)كذبا وزورا،و لم يكن أهلا لذلك،و كذب على اللّه تعالى،و نسب الى الأئمة الطاهرين أشياء لا تليق بهم،و هم منها برآء،ثم ظهر منه الكفر و الإلحاد،و خرج التوقيع من مولانا صاحب الزمان(عليه السلام)-على يد النائب الثالث- بلعنه و البراءة منه،فلعنته الشيعة و تبرّأت منه.

2-محمد بن نصير النميري:

كان من أصحاب الإمام العسكري(عليه السلام)فلما توفّي الإمام،إدّعى النميري-كذبا وزورا-أنه سفير الإمام المهدي(عليه السلام)و نائبه و لكن اللّه تعالى فضحه،حينما ظهرت منه عقيدة الإلحاد،فلعنه النائب الثاني محمد بن عثمان،و تبرّأ منه.

و كان اللعين يقول بربوبية الإمامين:الهادي و العسكري(عليهما السلام)،و يدّعي أنه نبي مرسل من عند الإمام الهادي(1).

ص:212


1- (1) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 244.

و كان يقول بالتناسخ(1)و يفتي بإباحة نكاح المحارم و اللواط، و يقول:إنه من اللذّات و الشهوات-في الفاعل-و من التواضع-في المفعول به-و قد شوهد مرّة و غلامه راكب على ظهره،و لما عوتب على هذا الفعل القبيح قال:إنّ هذا من اللذات،!و هو من التواضع و ترك التجبرّ(2).

نكتفي بذكر هذه المخازي التي سوّدت صحيفة الرجل،و كشفت عن خبثه،و إنحرافه و سوء عاقبته.

3-أحمد بن هلال العبرتائي:

ينسب الى«عبرتا»و هي قرية كبيرة،كانت في ضواحي النهروان، بين بغداد و واسط.

قيل:كان من أصحاب الإمام الهادي(عليه السلام).

و قيل:كان من أصحاب الإمام العسكري(عليه السلام).

و على كل حال..فالرجل مشهور باللعنة و الغلوّ،و كان-في أوائل أمره-من ثقاة الإمام العسكري(عليه السلام)و خواصّه،و من المحدّثين

ص:213


1- (1) لقد أجمع المسلمون على بطلان نظريّة التناسخ التي اختلقها بعض المتفلسفين المنحرفين، و التناسخ:هو إنتقال الروح-بعد موت صاحبها-الى بدن آخر،و القائلون بالتناسخ ينكرون الآخرة و الجنة و النار،و لهذا حكم عليهم بالكفر.و في كتاب(المعجم الوسيط):تناسخ الروح:عقيدة شاعت بين الهنود و غيرهم من الأمم القديمة،و مؤداها:أنّ روح الميّت تنتقل الى حيوان أعلى أو أقل منزلة،لتنعّم أو تعذّب،جزاءا على سلوك صاحبها الذي مات،و أصحاب هذه العقيدة لا يقولون بالبعث.
2- (2) كتاب رجال الكشي ص 438.كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 244-245.

عن الأئمة(عليهم السلام)و قد حجّ أربعا و خمسين حجّة،عشرين منها على قدميه،و لكنه إنحراف أيّ إنحراف،حتى ورد فيه من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)ذمّ كثير،و قد صدر في شأنه:«إحذروا الصوفيّ المتصنّع»(1)و لا نعلم-بالضبط-أنّ هذا التوقيع صدر من الإمام العسكري او من ولده الإمام المهدي(عليهما السلام).

و عاش إبن هلال الى أيّام النائب الثاني محمد بن عثمان،فصار ينكر نيابته عن الإمام المهدي(عليه السلام)و يصرّ على ذلك،فورد التوقيع من الإمام المهدي(عليه السلام)بلعنه و البراءة منه،فانقلب الرجل ناصبيّا معاديا،فلعنته الشيعة و تبرأت منه.

و بعد هلاك العبرتائي،خرج توقيع آخر من ناحية الإمام المهدي (عليه السلام)يزيد في ذمّه و البراءة منه.

و السبب في ذلك-كما ذكروا-هو أنّ بعض الشيعة أنكروا ما ورد في ذمّ العبرتائي،فطلبوا من القاسم بن العلا-و هو من وكلاء الإمام المهدي- أن يكتب الى الإمام(عليه السلام)و يتأكّد من صحّة خبر إنحرافه، و يستفسر عنه،حتى تطمئن القلوب بذلك.

فجاء الجواب من ناحية الإمام المهدي(عليه السلام)يقول:

«...قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنّع إبن هلال(لا رحمه اللّه)بما قد علمت،و لم يزل-لا غفر اللّه له ذنبه و لا أقاله عثرته-يداخل في أمرنا بلا إذن منّا و لا رضى،يستبدّ برأيه....لا يمضي من امرنا إيّاه إلا بما يهواه و يريده،أرداه اللّه بذلك في نار جهنّم.

ص:214


1- (1) المتصنّع:هو الذي يظهر عن نفسه ما ليس فيه،كالذي يتظاهر بالتقوى و الورع و هو فاقد لهما.

فصبرنا عليه،حتى بتر اللّه-بدعوتنا-عمره(1)و كنّا قد عرّفنا خبره قوما من موالينا في أيامه(لا رحمه اللّه)و أمرناهم بإلقاء ذلك الى الخاص من موالينا،و نحن نبرأ الى اللّه من ابن هلال(لا رحمه اللّه)و ممّن لا يبرأ منه.

و أعلم الإسحاقي(2)-سلّمه اللّه-و أهل بيته بما أعلمناك من حال هذا الفاجر،و جميع من كان سألك و يسألك عنه من أهل بلده و الخارجين، و من كان يستحقّ أن يطّلع على ذلك،فإنه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنّا ثقاتنا،قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم بسرّنا،و نحمله إياه اليهم،و عرفنا ما يكون من ذلك إن شاء اللّه تعالى»(3).

و هناك توقيع ثالث صدر من الإمام المهدي(عليه السلام)في ذمّ العبرتائي أيضا.

4-محمد بن علي بن بلال:

أبو طاهر محمد بن علي بن بلال،كان-في بدء أمره-ثقة و معتمدا عند الإمام العسكري(عليه السلام)و لكنّه إنحرف بعد ذلك،و ادّعى أنه وكيل للإمام المهدي(عليه السلام)و أنكر نيابة النائب الثاني محمد بن عثمان،و خان بالأموال التي إجتمعت عنده لكي يوصلها الى الإمام المهدي.

و بالرغم من أنّ النائب الثاني سهّل له طريق الإلتقاء بالإمام المهدي

ص:215


1- (1) بتر:أي قطع.
2- (2) الإسحاقي:أحمد بن اسحاق العمري.
3- (3) كتاب(رجال الكشّي)ص 450 طبع النجف الأشرف.

(عليه السلام)و أمره الإمام بدفع الأموال الى نائبه،إلاّ أنّ الرجل بقي على عناده و انحرافه،و كانت عاقبة أمره أن خرج التوقيع من ناحية الإمام المهدي(عليه السلام)بلعنه و البراءة منه،في ضمن جماعة،منهم:

الحلاّج و الشلمغاني،و نعوذ باللّه من سوء العاقبة.

5-الحسين بن منصور الحلاّج

شيطان و أيّ شيطان؟!

إبتليت به الأمة الإسلامية منذ عشرة قرون،و لا يزال الحبل ممدودا حتى اليوم،و بالرغم من ظهور كفره و انحرافه،فلا يزال بعض الساقطين يعتبرون أنفسهم من هواة الرجل،و المعجبين به،و المعتقدين بعقائده الفاسدة«و شبه الشيء منجذب إليه».

إختلف المؤرّخون في أصله و بلده،فقيل:هو من أهل نيسابور- إقليم خراسان-،و قيل:من أهل مرو،أو طالقان،أو الريّ.

و قد تحدّث عنه المؤرّخون و المحدّثون،و اعتبروه من الكذّابين الدجّالين،و المحتالين المشعوذين(1)،و كان يتظاهر بالتصوّف،و يدّعي معرفة كل علم-و هو جاهل به-و يتلوّن بألوان مختلفة،فيتظاهر بالتشيّع عند الشيعة،و يدّعي التسنّن عند أهل السنّة،و قد خرج التوقيع من ناحية الإمام المهدي(عليه السلام)بلعنه و البراءة منه.

و لذلك كلّه..فلا عجب إذا إلتبس الأمر على بعض الشيعة،

ص:216


1- (1) المشعوذ:هو الذي يستعمل الشعوذة،و الشعوذة:هي خفّة في اليد،و أعمال كالسحر،تري الشيء للعين بغير ما هو عليه.

فبالغوا في مدحه،و غفلوا عن منكراته و انحرافاته،و عمّا ورد في ذمّه،و ما صدر من التوقيع بلعنه و البراءة منه.

و من إنحرافاته أنه كان يقول بالحلول،أي:يدّعي أنّ اللّه تعالى قد حلّ فيه،و بهذا كان يدّعي الألوهيّة و الربوبيّة.

و مرّة ذهب الى مدينة قم-بإيران-و ادعى أنه رسول الإمام المهدي (عليه السلام)و وكيله،فاستخفّ به الناس و طردوه.

و ذكر الشيخ البهائي-في الكشكول-ما يلي:الحسين بن منصور الحلاّج:أجمع أهل بغداد على إباحة دمه،و وضعوا خطوطهم على محضر يتضمّن ذلك(1)و هو يقول:اللّه في دمي فانه حرام(2)و لم يزل يردّد ذلك و هم يثبتون خطوطهم.

ثم صدر الأمر بإلقاء القبض عليه،فحمل الى السجن،و أمر المقتدر العباسي بتسليمه الى مدير الشرطة،ليضربه ألف سوط،فإن مات..و إلاّ يضربه ألفا أخرى حتى يموت،ثم يضرب عنقه.

فجيىء به الى باب الطاق،حيث كانت جماهير غفيرة من الناس قد اجتمعت-هناك-للتفرج عليه،و ضرب ألف سوط،ثم قطعت أطرافه،و حزّ رأسه،و احرقت جثّته،و نصب رأسه على الجسر،و ذلك في سنة 309 ه.

ص:217


1- (1) أي أنهم أعدّوا سجلاّ و شهدوا فيه بإنحرافه،و وقّعوا فيه بأسمائهم.و«محضر الضبط»-في إصطلاح المحاكم-هي الشهادة و الإفادة الخطّية،التي يشهد فيها رجل الأمن أو الشرطي،بما قيل أمامه،و ما شاهده و ما قام به من تنفيذ مذكّرات المحاكم و الأحكام.
2- (2) أي:إحذروا اللّه في إراقة دمي.

6-محمد بن علي الشلمغاني:

أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن العزاقر.ينسب الى شلمغان:ناحية من نواحي واسط في العراق.

كان من المحدّثين،و له مؤلّفات كثيرة جمع فيها الاحاديث التي وصلت إليه من أئمة أهل البيت(عليهم السلام)و لمّا إنحرف و تغيّر، جعل يتلاعب بالاحاديث،و يزيد فيها،و ينقص منها.

و خرج توقيع من ناحية الإمام المهدي(عليه السلام)الى الشيخ الحسين بن روح،يتبّرأ من الشلمغاني،و يذمّه و يلعنه،و فيه يقول(عليه السلام):

«..عرّف-أطال اللّه بقاءك،و عرّفك الخير كلّه،و ختم به عملك-من تثق بدينه و تسكن الى نيّته،من إخواننا-أدام اللّه سعادتهم-:بأنّ محمد بن علي المعروف بالشلمغاني-عجّل اللّه له النقمة و لا أمهله-قد إرتدّ عن الإسلام و فارقه،و ألحد في دين اللّه،و ادّعى ما كفر معه بالخالق-جلّ و تعالى-و افترى كذبا وزورا،و قال بهتانا و إثما عظيما،كذب العادلون باللّه و ضلّوا ضلالا بعيدا و خسروا خسرانا مبينا.

و إنّا برئنا إلى اللّه تعالى و الى رسوله و آله(صلوات اللّه و سلامه و رحمته و بركاته عليهم)منه،و لعنّاه،عليه لعائن اللّه تترى،في الظاهر منّا و الباطن،و السرّ و العلن،و في كل وقت،و على كل حال و على من شايعه و بايعه،و بلغه هذا القول منّا فأقام على تولّيه بعده.

و أعلمهم-تولاّك اللّه-أنّنا في التوقّي و المحاذرة منه،على مثل ما كنّا

ص:218

عليه ممّن تقدّمه من نظرائه من الشريعي و النميري و الهلالي و البلالي و غيرهم.

و عادة اللّه-جلّ ثناؤه-مع ذلك قبله و بعده-عندنا جميلة،و به نثق،و ايّاه نستعين،و هو حسبنا في كل أمورنا و نعم الوكيل»(1).

و قد صدر هذا التوقيع الشريف،حين كان الشيخ الحسين بن روح مسجونا في دار المقتدر العبّاسي،و بالرغم من ذلك فقد سلّم الشيخ هذا التوقيع الى أحد اصحابه،و أمره أن يوزّعه توزيعا عاما بين الشيعة، فانتشر ذلك بينهم،و اتفقوا على لعنه و البراءة منه و الإبتعاد عنه.

أمّا إنحرافاته:فمنها أنه كان يقول بالحلول و التناسخ،أي:يدّعي أنّ اللّه تعالى قد حلّ فيه،و يقول لأتباعه:إنّ روح رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)إنتقلت الى محمد بن عثمان(النائب الثاني للإمام المهدي)و انّ روح أمير المؤمنين علي(عليه السلام)إنتقلت الى بدن الشيخ الحسين بن روح،و ان روح فاطمة الزهراء(عليها السلام)إنتقلت الى أمّ كلثوم بنت محمد بن عثمان.و يدّعي لأصحابه أنّ هذا سرّ عظيم، ينبغي أن يظلّ مكتوما.

و يلتقي الشلمغاني و الحلاّج على خط واحد و هو خط الكفر و الإلحاد.

و لا نعرف-بالضبط-كيف تكونّت-في هؤلاء-هذه العقيدة المنحرفة؟! و ما الذي دعاهم الى هذا الإختلاق و الكذب العظيم،و الإفتراء المبين، و الكفر المكشوف؟!

ص:219


1- (1) كتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي ج 2 ص 474-475.طبع بيروت سنة 1401 ه.

و كان الشيخ الحسين بن روح قد وثّق الشلمغاني عند بني بسطام، فكانوا يوالونه و يسمعون كلامه،و لما إنحرف اللعين جعل يحكي كل كذب و كفر،لبني بسطام،و يسنده الى الحسين بن روح،فكانوا يقبلون منه، و يأخذونه عنه.

فلما علم الحسين بن روح بذلك،أنكر ما نسبه الشلمغاني اليه، و نهى بني بسطام عن الأخذ بكلامه،و أمرهم بلعنه و البراءة منه،فلم ينتهوا عن ذلك،بل أقاموا على موالاته.

و لما علم الشلمغاني أنّ الشيخ الحسين بن روح قد أمر بلعنه و البراءة منه،راح يراوغ و يخادع،بتأويل اللعن الى معان واهية،تخلّصا منه.

و قد بذل الحسين بن روح جهودا كثيرة،لفضح الرجل و كشف حقيقته عند الشيعة،و لم يترك أحدا إلاّ و كاتبه بلعن الشلمغاني و البراءة منه و ممن تابعه و رضي بقوله.

و على أثر ذلك إنتشر خبر لعنه بين الناس،و صار حديث المجالس، فاشتد الأمر على الشلمغاني،و حاول أن يتخلّص من هذا المأزق،فقال لجماعة من الشيعة:إجمعوا بيني و بين الحسين بن روح،حتى آخذ بيده و يأخذ بيدي،فان لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه فجميع ما قاله فيّ حق!

و وصل خبر الشلمغاني و انحرافه الى الراضي-الحاكم العباسي يومذاك-فأمر بالقاء القبض عليه،فاختفى الشلمغاني،و صار ينتقل من بيت الى بيت،و كان إبن مقلة-الوزير-يبحث عنه حتى وجده فالقى القبض عليه،و وجد عنده رسائل كتبها اليه بعض أتباعه،و خاطبوه فيها

ص:220

بكلمات لا تليق إلا باللّه تعالى مثل:يا إلهي و سيّدي و رازقي!

و أخيرا ساقوه الى محكمة تشكّلت من الفقهاء و القضاة و رؤساء الجيش،و بعد محاكمات عديدة،إتّفقت كلمتهم على قتله،فضربوه بالسياط،ثم ضربوا عنقه،و أحرقوا جثّته،و القوا رمادها في نهر دجلة.

7-أبو دلف الكاتب:

أبو دلف محمد بن المظفّر الكاتب الأزدي.إدّعى السفارة كذبا وزورا،و قال فيه جعفر بن قولويه:«و أمّا أبو دلف الكاتب-لاحاطه اللّه- فكنّا نعرفه ملحدا،ثم أظهر الغلوّ،ثم جنّ و سلسل(1)ثم صار من المفوّضة(2).و ما عرفنا-قطّ-إذا حضر في مجلس إلاّ استخفّ به، و لا عرفته الشيعة إلا مدة يسيرة(3)و الجماعة تتّبرأ منه و ممن يومي اليه و يتنمّس به»(4).

و أمّا إنحرافاته:فمنها أنه كان من المخمّسة و هم طائفة من الغلاة تقول:إنّ الخمسة-و هم سلمان،و أبو ذر،و المقداد،و عمّار، و عمرو بن أمية الضمري-هم الموكّلون بمصالح العالم من قبل الرب(5).

ص:221


1- (1) أي:صار مجنونا و قيّد بالسلاسل.
2- (2) المفوّضة:قوم قالوا:إنّ اللّه خلق محمدا(صلى اللّه عليه و آله و سلم)و فوّض إليه خلق الدنيا، فهو الخلاّق لما فيها،و قيل:فوّض ذلك الى الإمام علي(عليه السلام).و في الحديث«من قال بالتفويض فقد أخرج اللّه عن سلطانه».-مجمع البحرين للطريحي-.
3- (3) إشارة الى انها تبرأت منه فور انحرافه.
4- (4) أي:ينتسب اليه،و يسير على خطّه.
5- (5) ذكر ذلك البهبهاني في التعليقة.

و قيل:المخمّسة فرقة من الغلاة تقول بألوهيّة أصحاب الكساء الخمسة:محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين(عليهم الصلاة و السلام) و أنهم نور واحد،و الروح حالّة فيهم بالسويّة،لا فضل لأحدهم على الآخر(1).

و على كل حال..فهو قائل بالحلول،كافر نجس،ضالّ مضلّ، و المعروف أنه كان مجنونا و هذه الخرافات منبعثة من جنونه و زوال عقله.

8-محمد بن أحمد البغدادي:

أبو بكر محمد بن أحمد بن عثمان المعروف بالبغدادي.من العجيب أنه كان حفيد عثمان بن سعيد(النائب الأول)و ادّعى-كذبا وزورا-أنه سفير من قبل الإمام المهدي(عليه السلام).

و كان قليل العلم،ضعيف العقل،و كفى في جهله أنه كان يتبع أبا دلف،و يؤمن بأباطيله و كفريّاته.

و يذكر:أنه دخل يوما مجلس عمّه محمد بن عثمان-النائب الثاني- و كانوا يتذاكرون حول الأحاديث الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) فقال محمد بن عثمان للحاضرين:أمسكوا-أي:أسكتوا-فإنّ هذا الجائي ليس من أصحابكم.

و قد كان هذا المنافق يتلوّن كل يوم بلون من الألوان،و مرّة إدّعى أنه وكيل لليزيدي في البصرة،و جمع مالا عظيما،فقبض عليه و ضربه

ص:222


1- (1) نقل ذلك الشهرستاني في كتاب الملل و النحل ج 2 ص 13.

على رأسه ضربة شديدة،نزل الماء في عينيه،فعمى و مات(1).

ص:223


1- (1) اقتبسنا هذه المواضيع في تراجم هؤلاء من كتاب(رجال الكشّي)،و تنقيح المقال للمامقاني، و كتاب الغيبة للطوسي،و كتاب بحار الأنوار للمجلسي(رحمة اللّه عليهم).

الفصل العاشر

اشارة

من الذي رآه في الغيبة الصّغرى؟

بعد أن اعتبرنا مبدأ الغيبة الصغرى من ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)يمكن لنا أن نقسّم الذين فازوا بلقائه الى قسمين-مع ذكر بعضهم بالإجمال و بعضهم بالتفصيل-:

1-الذين فازوا بلقائه في حياة والده الإمام العسكري(عليه السلام).

2-الذين تشرّفوا بلقائه بعد وفاة الإمام العسكري(عليه السلام).

القسم الأول:[الذين فازوا بلقائه في حياة والده الإمام العسكري(عليه

اشارة

السلام)]

[1-السيدة حكيمة عمّة الإمام العسكري(عليه السلام)]

1-السيدة حكيمة عمّة الإمام العسكري(عليه السلام)فلقد حضرت ولادة الإمام المهدي(عليه السلام)-و قد ذكرنا ذلك بالتفصيل- و رأته بعد ذلك مرّات عديدة.

[2-«نسيم»جارية الإمام العسكري(عليه السلام)]

2-«نسيم»جارية الإمام العسكري(عليه السلام)قالت:

دخلت عليه(أي:على الإمام المهدي)بعد مولده بليلة(1)فعطست عنده،فقال لي:«يرحمك اللّه».

قالت نسيم:ففرحت بذلك.

ص:224


1- (1) و في رواية:بعد مولده بعشر ليال.

فقال لي(عليه السلام):«ألا أبشّرك بالعطاس»؟

فقلت:بلى يا مولاي.

فقال:«هو أمان من الموت ثلاثة ايام»(1).

[3-جماعة من أصحاب الإمام العسكري(عليه السلام)]

3-جماعة من أصحاب الإمام العسكري(عليه السلام)فقد روي عن أبي غانم الخادم قال:ولد لأبي محمد ولد فسمّاه محمدا،فعرضه على أصحابه في اليوم الثالث و قال:«هذا صاحبكم من بعدي،و خليفتي عليكم،و هو القائم الذي تمتدّ إليه الأعناق بالإنتظار،فإذا امتلأت الأرض جورا و ظلما،خرج فملأها قسطا و عدلا»(2).

[4-أربعون رجلا-تقريبا-شاهدوا الإمام المهدي(عليه السلام)

حين أخرجه أبوه الإمام العسكري(عليه السلام)اليهم]

4-أربعون رجلا-تقريبا-شاهدوا الإمام المهدي(عليه السلام) حين أخرجه أبوه الإمام العسكري(عليه السلام)اليهم و قال لهم:«هذا إمامكم من بعدي،و خليفتي فيكم...»و قد ذكرنا ذلك-بالتفصيل-في الحديث عن النائب الأول عثمان بن سعيد.

5-أبو الأديان

.و قد مرّ خبره في ذكر وفاة الإمام العسكري(عليه السلام).

6-الشيخ الجليل أحمد بن اسحاق القمي الأشعري.

قال دخلت على أبي محمد الحسن بن علي(عليهما السلام)و أنا أريد أن أسأله عن الخلف بعده،فقال لي-مبتدءا-:«يا أحمد بن إسحاق إنّ اللّه(تبارك و تعالى)لم يخل الأرض-منذ خلق آدم(عليه السلام)و لا

ص:225


1- (1) إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 430،كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 139.
2- (2) إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 431 طبع طهران سنة 1395 ه.

يخليها الى أن تقوم الساعة-من حجّة للّه على خلقه،به يدفع البلاء عن أهل الأرض،و به ينزّل الغيث،و به يخرج بركات الأرض».

قال:فقلت:يا بن رسول اللّه..فمن الإمام و الخليفة بعدك؟

فنهض(عليه السلام)مسرعا فدخل البيت،ثم خرج و على عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر،من أبناء الثلاث سنين،فقال:«يا أحمد بن إسحاق لو لا كرامتك على اللّه(عزّ و جل)و على حججه،ما عرضت عليك إبني هذا.

انه سميّ رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلم)و كنيّه،الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا..كما ملئت جورا و ظلما.

يا أحمد بن إسحاق..مثله في هذه الأمّة مثل الخضر،و مثله مثل ذي القرنين،و اللّه ليغيبنّ غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلاّ من ثبّته اللّه-عزّ و جلّ-على القول بإمامته،و وفّقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه».

قال أحمد بن إسحاق:فقلت له:يا مولاي فهل من علامة يطمئنّ إليها قلبي؟

فنطق الغلام(عليه السلام)بلسان عربي فصيح فقال:أنا بقيّة اللّه في أرضه،و المنتقم من أعدائه،فلا تطلب أثرا بعد عين يا أحمد بن إسحاق(1).

ص:226


1- (1) «فلا تطلب أثرا بعد عين»:قد يفحص الإنسان عن الأثر كي يعرف المؤثّر،أمّا إذا وجد المؤثّر فلا داعي للفحص عن الأثر،و لعلّ معنى كلام الإمام(عليه السلام):«لا تطلب أثرا بعد عين» انك وجدت إمامك،فلا تفحص عن الأدلّة و العلامات التي يفحص عنها الشاكّون.

قال أحمد بن إسحاق:فخرجت مسرورا فرحا،فلما كان من الغد عدت إليه،فقلت له(أي:للإمام العسكري)يا بن رسول اللّه لقد عظم سروري بما مننت به عليّ،فما السنّة الجارية فيه من الخضر و ذي القرنين؟

فقال(عليه السلام):طول الغيبة يا أحمد.

فقلت:يا بن رسول اللّه و إنّ غيبته لتطول؟

قال:إي و ربّي،حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به،فلا يبقى إلاّ من أخذ اللّه(عزّ و جلّ)عهده بولايتنا،و كتب في قلبه الإيمان، و أيّده بروح منه.

يا أحمد بن إسحاق:هذا أمر من أمر اللّه،و سرّ من سرّ اللّه، و غيب من غيب اللّه(1)،فخذ ما آتيتك و كن من الشاكرين،تكن غدا معنا في علّيّين(2).

7-يعقوب بن منقوش:

قال:دخلت على أبي محمد الحسن بن علي(عليهما السلام)و هو جالس على دكّان في الدار(3)و عن يمينه بيت عليه ستر مسبل،فقلت له:

يا سيدي..من صاحب هذا الأمر؟

ص:227


1- (1) تقدّم الكلام أن علم الغيب شيء،و الإطّلاع على علم الغيب شيء آخر.
2- (2) علّيين:إسم لأعلى درجات الجنّة.المصدر:إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 384- 385،طبع طهران 1395 ه.
3- (3) الدكّان:الدكّة التي يجلس عليها.البيت:أي الحجرة.مسبل:أي مرخى،يقال:أسبل الستر:أي أرخاه.

فقال:إرفع الستر.

فرفعته،فخرج الينا غلام خماسي(1)له عشر أو ثمان-سنوات-أو نحو ذلك،واضح الجبين،أبيض الوجه،درّي المقلتين(2)ششن الكفّين(3)معطوف الركبتين(4)في خدّه الأيمن خال،و في رأسه ذؤابة(5).

فجلس على فخذ أبي محمد(عليه السلام).

فقال(أي:الإمام العسكري):هذا صاحبكم.

ثم وثب(أي:قام الإمام المهدي ليذهب)فقال له:يا بني أدخل الى الوقت المعلوم.

فدخل البيت و أنا أنظر اليه.

ثم قال(أي:الإمام العسكري)لي:يا يعقوب أنظر من في البيت.

فدخلت فما رأيت أحدا(6).

القسم الثاني:[الذين تشرّفوا برؤيته بعد وفاة والده]

اشارة

و أمّا الذين تشرّفوا برؤية الإمام المهدي بعد وفاة والده الإمام

ص:228


1- (1) خماسي:أي طوله خمسة أشبار،كما في كتاب(النهاية)لإبن الأثير،و(مجمع البحرين) للطريحي.و تقدير عمر الامام كان حسب رأيه الشخصي.
2- (2) درّي المقلتين:أي متلألأ العينين.
3- (3) ششن الكفين:أي يميلان الى الغلظ،لأن الششن:هو الغليظ.
4- (4) معطوف الركبتين:أي كانتا مائلتين الى الأمام لعظمهما و غلظهما.
5- (5) ذؤابة:المضفور من شعر الرأس.
6- (6) إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 3 ص 437.

العسكري(عليهما السلام)في أيام الغيبة الصغرى فكثيرون يصعب إحصاؤهم،و إليك أسماء بعضهم:

1-أبو الأديان

،و قد مرّ خبره في الحديث عن وفاة الإمام العسكري (عليه السلام).

2-حاجز بن يزيد الوشّاء

،و قد صار بعد ذلك من وكلاء الإمام المهدي(عليه السلام)(1).

3-جعفر بن علي-عمّ الإمام المهدي-

و قد ذكرنا أنه لمّا أراد أن يصلي على جثمان الإمام العسكري خرج اليه الإمام المهدي و جذب رداءه و قال:تنحّ يا عمّ،أنا أولى بالصلاة على أبي.

و رآه جعفر مرّة أخرى،و ذلك حينما نازع في الميراث-بعد وفاة الإمام العسكري-فظهر له الإمام المهدي من موضع لم يعلم به فقال له:

يا جعفر!ما لك تتعرّض في حقوقي؟!ثم غاب عنه(2).

و رآه مرّة ثالثة،و ذلك حينما توفّيت والدة الإمام العسكري(عليه السلام)و كانت قد أوصت أن تدفن في الدار التي دفن فيها الإمامان الهادي و العسكري(عليهما السلام)فنازعهم جعفر و قال:هي داري..

لا تدفن فيها،فظهر له الإمام المهدي(عليه السلام)و قال له:يا جعفر..أدارك هي؟!ثم غاب عنه فلم يره جعفر بعد ذلك3.

[4-الجماهير التي حضرت للصلاة على جثمان الإمام العسكري]

4-الجماهير التي حضرت للصلاة على جثمان الإمام العسكري

ص:229


1- (1) كان من الذين شاهدوا الإمام المهدي(عليه السلام)عند الصلاة على جثمان الإمام العسكري (عليه السلام).
2- (2و3) إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 3 ص 442.طبع طهران سنة 1395 ه.

(عليه السلام)كلّها شاهدت الإمام المهدي حين تقدّم للصلاة على والده.

5-الوفد الثاني من القميّين

الذين تشرّفوا بلقاء الإمام المهدي(عليه السلام)في مدينة سامرّاء،و قد ذكرنا ذلك بالتفصيل.

6-سيماء

-و هو من غلمان جعفر أو شرطة المقتدر العبّاسي-كسر باب دار الإمام العسكري(عليه السلام)فخرج اليه الإمام المهدي و بيده طبر زين(1)فقال:ما تصنع في داري؟

قال سيماء:إنّ جعفرا زعم أنّ أباك مضى و لا ولد له،فإن كانت دارك فقد انصرفت عنك.ثم خرج من الدار(2).

7-إبراهيم بن إدريس

-و كان من أصحاب الإمام الهادي عليه السلام-.

قال:رأيته-أي:الإمام المهدي-بعد مضيّ-أي:وفاة-أبي محمد العسكري(عليه السلام)حين أيفع(3)و قبّلت يده و رأسه(4).

8-علي بن مهزيار

تشرّف بلقاء الإمام في وادي جبل الطائف، و مكث عنده أيّاما،و حديثه مفصّل جدّا(5).

ص:230


1- (1) طبر زين:فأس كبيرة،تستعمل كسلاح.
2- (2) كتاب(الغيبة)للشيخ الطوسي ص 162 طبع طهران 1398 ه.
3- (3) أيفع الغلام:راهق العشرين من العمر،و قيل:إذا شارف الإحتلام و لم يحتلم.أي:من أبناء أربع عشرة سنة.
4- (4) كتاب(الغيبة)للشيخ الطوسي ص 162،و(بحار الأنوار)للشيخ المجلسي ج 52 ص 14.
5- (5) ذكر حديثه و قصّته الشيخ الصدوق في(إكمال الدين)ج 3 ص 465-470،و الشيخ الطوسي-

9-النائب الثاني محمد بن عثمان

،سئل:أرأيت صاحب هذا الأمر؟

فقال:نعم،و آخر عهدي به عند بيت اللّه الحرام و هو يقول:

«اللهمّ أنجز لي ما وعدتني»(1).

و روي عن عبد اللّه بن جعفر الحميري قال:سمعت محمد بن عثمان العمري(رضي اللّه عنه)يقول:رأيته-أي الإمام المهدي- (صلوات اللّه عليه)متعلّقا بأستار الكعبة في المستجار(2)و هو يقول:

«اللهمّ انتقم لي من أعدائي»(3).

هذا..و الذين تشرّفوا بلقاء الإمام المهدي(عليه السلام)في الغيبة الصغرى كثيرون،يطول الكلام باستيعاب أخبارهم،و فيما ذكرناه كفاية.

ص:231


1- (1) إكمال الدين ج 2 ص 440،و كتاب(الغيبة)ص 221-222.
2- (2) المستجار:هو الحائط المقابل للباب دون الركن اليماني،لأنه كان قبل تجديد الكعبة هو الباب، سمّي بذلك لأنه يستجار عنده باللّه من النار.مجمع البحرين للطريحي.
3- (3) و في نسخة:«من أعدائك».إكمال الدين ج 3 ص 440 و كتاب(الغيبة)ص 222.

محاولة فاشلة لاغتيال الامام المهدي«عليه السّلام»

لقد سكن الإمام المهدي(عليه السلام)في مدينة سامراء بعد وفاة والده فترة لا نعلم مقدارها بالضبط،إلا أنّ الكثيرين تشرّفوا بلقائه في سامراء،و سلّموا الأموال اليه هناك.

و من الطبيعي أنّ السلطة-يومذاك-كانت تعتبر وجود الإمام المهدي (عليه السلام)خطرا عليها،و ما كانت تغفل عن وجود هذا الخطر، و عن الخطّ الشيعي الذي لا يعترف بخلافة الجالسين على منصّة الحكم من العبّاسيين.

و لهذا كان سفراء الإمام المهدي(عليه السلام)ينتهجون سلوكا و أسلوبا خاصّا مقرونا بالحذر،لكي يدفعوا عن أنفسهم كلّ شك، و حتى يسلموا من مطاردة السلطة لهم.

و قد حاولت السلطة-مرّات عديدة-إلقاء القبض على الإمام المهدي (عليه السلام)و إغتياله،إلا أنّ جميع محاولاتها باءت بالفشل.

و قد مرّ عليك أنّ السلطة ألقت القبض على السيدة نرجس بحثا عن الإمام المهدي(عليه السلام)فلم يظفروا به.

و أخيرا...و بعد مرور تسع عشرة سنة،أصبحت بغداد عاصمة العبّاسيين-بعد أن كانت سامرّاء عاصمة لهم-و انتقل اليها جهاز الحكم،و المعتضد-يومذاك-هو المدّعي للخلافة،و هو رئيس الدولة و صاحب القوّة و الإمكانيّات.

ص:232

فقرّر المعتضد إغتيال الإمام المهدي(عليه السلام)فأرسل إلى ثلاثة من المقرّبين لديه،و أمرهم بالخروج الى سامراء،بصورة متفرّقة،و أن لا يصحبوا معهم متاعا،قليلا و لا كثيرا،و وصف لهم محلّة في سامراء و دارا فيها،و قال:إذا أتيتموها-أي الدار-تجدون على الباب خادما أسود، فاكبسوا الدار،و من رأيتم فيها فأتوني برأسه.

و الآن..لنقرأ ما قاله أحد هؤلاء الثلاثة-و إسمه رشيق-و هو يحكي محاولة الإغتيال:

قال:(فوافينا سامرّاء،فوجدنا الأمر كما وصفه،و في الدهليز خادم أسود،و في يده تكّة ينسجها(1)فسألناه عن الدار و من فيها؟فقال:

صاحبها.

فو اللّه ما التفت الينا،و قلّ إكتراثه بنا،فكبسنا الدار(2)كما أمرنا، فوجدنا دارا سرية و مقابل الدار ستر،ما نظرت قطّ الى أنبل منه،كأنّ الأيدي رفعت عنه في ذلك الوقت،و لم يكن في الدار أحد،فرفعنا الستر،فإذا بيت كبير،كأنّ بحرا فيه ماء،و في أقصى البيت حصير قد علمنا أنّه على الماء،و فوقه رجل من أحسن الناس هيئة قائم يصلّي،فلم يلتفت إلينا،و لا الى شيء من أسبابنا.(3)

فسبق أحمد بن عبد اللّه-أحد الثلاثة-ليتخطّى البيت،فغرق في الماء،و ما زال يضطرب حتى مددت يدي إليه فخلّصته و أخرجته،و غشي عليه و بقي ساعة مغشيّا عليه،و عاد صاحبي الثاني الى ذلك الفعل،فناله

ص:233


1- (1) الدهليز:مدخل الدار،أي:ما بين الباب و صحن الدار.التكّة:رباط السراويل.
2- (2) الكبس:الهجوم و الإقتحام.
3- (3) أسبابنا:أي أسلحتنا التي كنّا قد اصطحبناها معنا لإغتياله.

مثل ذلك.

و بقيت مبهوتا..فقلت-لصاحب البيت-:المعذرة الى اللّه و إليك،فو اللّه ما علمت كيف الخبر،و لا إلى من أجيىء،و أنا تائب الى اللّه.

فما التفت الى شيء ممّا قلناه،و ما انفتل عمّا كان فيه.

فهالنا ذلك،و انصرفنا عنه.

و قد كان المعتضد ينتظرنا،و قد تقدّم الى الحجّاب(1)-إذا وافيناه- أن ندخل عليه في أيّ وقت كان.

فوافيناه في بعض الليل،فأدخلنا عليه،فسألنا عن الخبر؟فحكينا له ما رأينا.

فقال:و يحكم!لقيكم أحد قبلي؟و جرى منكم الى أحد سبب أو قول؟

قلنا:لا.

فقال:أنا نفي من جدّي(2)و حلف بأشدّ أيمان له،أنّه إن بلغه هذا الخبر ليضربنّ أعناقنا!فما جسرنا أن نحدّث به إلا بعد موته(3).

يستفاد من هذا الخبر أنّ الدار التي سكن فيها الإمام المهدي(عليه السلام)-في سامرّاء-كانت تحت الرقابة المشدّدة،و كانت التقارير ترفع

ص:234


1- (1) تقدّم الى الحجّاب..سبق أن قال لهم.
2- (2) سيأتي معنى هذه الجملة.
3- (3) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 149.

الى المعتضد بصورة مستمرة،و لهذا كان المعتضد على علم بوجود غلام أسود في مدخل الدار،بصورة دائمة-حسب التقارير التي وصلت اليه-.

و لهذا تراه يختار ثلاثة من حاشيته و جلاوزته،و يأمرهم بالخروج من بغداد الى سامراء،بكيفية خاصّة،لا يحملون معهم شيئا من المتاع،ثم يصف لهم محلّة من محلاّت سامراء،و دارا معيّنة،و يأمرهم بإقتحام الدار،أي:الدخول بلا إذن..بل الهجوم بكلّ قوّة و شدّة،و يأمرهم بقتل كلّ من وجدوه في البيت.

فتراه لا يخبرهم باسم ذلك الإنسان المقصود قتله،بل يريد أن يكونوا على عمى الجهالة،فلا يعرفوا من هو المقصود بالقتل؟و لماذا حكم عليه بالقتل؟و ما ذنبه؟

و يصل هؤلاء الثلاثة الى مدينة سامراء،و يقتحمون الدار، فيجدون الغلام الأسود و هو ينسج التكّة بيده،فلا يعبأ الغلام بهؤلاء و لا يبالي بهم،و كأنّهم حشرات دخلت الدار،و عندما يسألونه عن الدار و من فيها،تراه يجيبهم بجواب موجز و بكلّ هدوء،يقول:صاحبها.أي:

صاحب الدار و لا يذكر الغلام هويّة صاحب الدار و لا إسمه(1)و لا يخفى ما في ذلك من التحقير و الإستخفاف بشأنهم،و قد شعروا بهذا الاستخفاف.

و يجدون على الباب سترا نبيلا،أي:جيّدا جديدا كأنّه قد انتهى نسجه و صنعه في ذلك اليوم.

و أخيرا يقتحمون الدار فيجدون حجرة كبيرة مملوءة بالماء،و كأنها

ص:235


1- (1) لعلّ الإمام المهدي(عليه السلام)هو الذي أعطاه تلك التعليمات.

بحر،و يرون في اقصى الحجرة حصيرا و كأنّه على الماء،و عليه رجل حسن الهيئة،و هو يصلّي،و لم يرتبك من إقتحام هؤلاء،بل و لم يلتفت اليهم و كأنّ شيئا لم يحدث.

من الواضح أنّ الإمام المهدي(عليه السلام)إستعان بالمعجزة، لدفع اولئك الأفراد،و تفنيد خطّتهم،و لكنّ أحدهم تحدّى ذلك المنظر المرعب و نزل الى الماء محاولا الوصول الى الإمام عن طريق السباحة،إلاّ أنه غرق في الماء..فأنقذه(رشيق)و أخرجه من الماء،و حاول الثاني ما حاوله الأول فكان مصيره مصير الأول.

تبّا لهذا البشر المسكين،العاجز الطاغي،الذي يريد أن يتغلّب على قدرة اللّه تعالى،و يخالف إرادته سبحانه.

و في هذا المجال..لا أراني بحاجة الى تفسير المعجزة و تحليلها على ضوء المادّة و الطبيعة،لأنّ المعجزة فوق هذه المقاييس،و العقل عاجز عن تحليلها و تفسيرها من زاوية مادّية،و يكفي أن نعلم أنّ ما رآه رشيق كان معجزة،و المعجزة لا حدود لها،و لا تختصّ بالنبي،بل هي عامّة له و لخلفائه الشرعيّين:الأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

و في جوّ خارق للطبيعة و العادة،ينتبه رشيق الى أنه أمام معجزة، و كأنّه يعيش في عالم آخر غير عالم المادّة..و لهذا غيّر موقفه،و تحوّل من مهاجم الى معتذر،فاعتذر إلى اللّه أوّلا،و الى المصلّي فوق الحصير ثانيا، و إدّعى أنّه لا يعرف شيئا عن الدار و صاحبها،و لا يعرف لماذا امره المعتضد بقتل صاحب الدار،و ما ذنبه الذي استحق عليه القتل؟!

و لكنّ الإمام لم يبال باعتذاره،و لم يغيّر شيئا من هيئة الصلاة،

ص:236

فإزداد هؤلاء رعبا و خوفا.و رجعوا الى بغداد فاشلين خاسئين!

و كان المعتضد على أحرّ من الجمر،ينتظر رجوع هؤلاء الثلاثة، للإطّلاع على نتيجة العمليّة الإجراميّة المفوّضة إليهم،و قد أوعز الى الحرس أن يسمحوا لهؤلاء بالدخول عليه فور وصولهم،و في أيّ ساعة من ساعات الليل أو النهار.

و عندما دخلوا على المعتضد و أخبروه بما جرى.سألهم:هل لقيكم أحد قبلي؟يعني:هل أخبرتم أحدا بما جرى؟

قالوا:لا.فحلف لهم بأشدّ الإيمان و أغلظها عنده،بأسلوب متعارف عند سفلة الناس و أراذلهم فقال:أنا نفي-أي منفيّ-من جدّي،و هذا كأن يقول:لست إبن أبي،؛أولست إبن حلال إن كان الأمر هكذا.و يقول المعتضد:إن اخبرتم أحدا بما رأيتم،لأضربنّ أعناقكم،و هذا أشد تهديد لهم بالقتل إن كشفوا الستر عن الحادثة.

محاولة أخرى لإغتيال المهدي(عليه السلام)

بعد أن رأى المعتضد أنّ المحاولة باءت بالفشل،أراد أن يتخذ الإجراءات بصورة أوسع و أقوى.

أنظر الى عقليته السخيفة و رأيه الفاسد و نظرته الحمقاء..حيث إنّه في الوقت الذي يعلم أنّ الأمر من عند اللّه تعالى و أنّ اللّه هو الحافظ للإمام المهدي(عليه السلام)و أنّ الإمام مسلّح بسلاح المعجزة..مع ذلك كلّه،لا يعود اليه وعيه و رشده،بل يستمرّ على عناده و جبروته،و يحاول التغلّب على إرادة اللّه تعالى.

ص:237

و في هذا المجال..يحدّثنا رشيق أيضا عن المحاولة الأخرى لإغتيال الإمام،و لعلّه كان حاضرا بنفسه مع الجيش:

يقول:«...ثم بعثوا عسكرا أكثر،فلما دخلوا الدار سمعوا من السرداب(1)قراءة القرآن فاجتمعوا على بابه(باب السرداب)و حفظوه، حتى لا يصعد(الإمام)و لا يخرج،و أميرهم قائم حتى يصل العسكر كلّهم،فخرج(اي:الإمام)من السكّة التي على باب السرداب و مرّ عليهم،فلما غاب قال الأمير:إنزلوا عليه.

قالوا:أليس هو مرّ عليك؟

قال:ما رأيت!و لم تركتموه؟

قالوا:إنا حسبنا أنّك تراه)(2).

نعم..أرسل المعتضد جيشا-لا نعلم عدده بالضبط-الى سامراء،لإغتيال الإمام المهدي(عليه السلام)أو إلقاء القبض عليه، فدخلوا الدار و سمعوا صوت الإمام يتلو القرآن من السرداب،فوقف قائد الحملة ينتظر وصول الجيش كلّه حتى ينزلوا الى السرداب و ينفّذوا ما أمرهم المعتضد.

أنظر إلى هؤلاء الجبناء،كيف يتّخذون التدابير الطويلة العريضة، لإلقاء القبض على إنسان واحد.

و هنا شاءت الإرادة الإلهيّة أن يتحدّاهم الإمام(عليه السلام)

ص:238


1- (1) السرداب-بكسر السين-بناء تحت الأرض يلجأ اليه من حرّ الصيف.
2- (2) بحار الأنوار ج 52 ص 52-53،نقلا عن كتاب(الخرايج).

فتنطبع جباههم بوصمة الخزي و الفشل أكثر من المحاولة السابقة،ففي لحظة من تلك اللحظات،خرج الإمام(عليه السلام)من السرداب، و مرّ على الجيش فرأوه،ثم ذهب و غاب.

يبدو أنّ قائد الحملة كان متشتّت الفكر،مرتبك النفس و أنّ اللّه جعل أمام عينيه سدّا فأغشاه،فلم ير الإمام المهدي(عليه السلام)حينما رآه الجيش..

و عندما رأى الجيش أنّ القائد لم يأمره بشيء-عند خروج الإمام المهدي من السرداب-ظنّ أنّ القائد رأى الإمام و لكنّه لم يتكلّم بشيء.

و هكذا حفظ اللّه الإمام من تلك المحاولات الفاشلة التي قام بها أولئك السفلة،و سوف يحفظه و يحرسه الى يوم ظهوره.

قضية السرداب:

و ما دام قد وصل الكلام الى هذا المجال،فلا بأس أن نتحدّث عن موضوع لا يخلو من أهميّة:

إنّ اكثر البيوت و المساكن في المناطق الحارّة في العراق،كانت و لا تزال مزوّدة بالسرداب(1)لإتّقاء حرارة الصيف.

و كانت دار الإمام العسكري(عليه السلام)في مدينة سامرّاء أيضا مزوّدة بالسرداب،و قد قرأت أنّ رشيق-و هو راوي خبر محاولة

ص:239


1- (1) تقدّم معنى السرداب.

الإغتيال-حدّثنا أنّ الإمام المهدي(عليه السلام)خرج من السرداب، حين كانت الدار مطوقة بالجيش لإلقاء القبض عليه،ثم غاب عنهم.

و السرداب لا يزال موجودا في جوار مرقد الإمامين:الهادي و العسكري(عليهما السلام)و من الطبيعي أنّ بناءه قد تجدّد خلال هذه القرون،و لكنّه المكان نفسه لم يتغير،و الزوّار يحترمون هذا السرداب، لشرافته و قدسيّته و يتبّركون به لأنّه كان مسكنا لثلاثة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)و هذا هو الشأن في بيوت النبي و الأئمة(عليهم الصلاة و السلام)حيث إنها بيوت مباركة قد أذن اللّه أن ترفع و يذكر فيها اسمه و لهذا فإنّ المسلمين الشيعة يصلون للّه هناك و يزورون،و لا يعتقد أحد منهم أنّ الإمام يسكن في السرداب،أو أنّه يظهر منه،فالسرداب ليس إلاّ مكان إكتسب الشرف و البركة،و كأنّهم يتمثّلون بقول الشاعر:

و ما حبّ الديار شغفن قلبي و لكن حبّ من سكن الديارا

هذه خلاصة قضيّة السرداب و حديثه،و لكن تعال معي و انظر الى الكذّابين الدجّالين،الذين كانوا و لا يزالون يهرّجون باسم السرداب و يستهزؤن بالشيعة الذين يعتقدون بغيبة الإمام المهدي(عليه السلام)في السرداب،مع العلم أنّه لا يوجد-و لم يوجد-أحد من الشيعة يعتقد بأنّ الإمام المهدي(عليه السلام)غاب في السرداب،أو أنّه ساكن و مقيم فيه.

و لكنّ المنحرفين و المستهزئين يكتبون ما يريدون،و يقولون ما يشتهون،بلا رادع ديني،و لا حياء و لا خجل من الناس،و لا خوف من اللّه تعالى.

ص:240

و قد بلغ الجهل و الحقد بأحدهم الى أن ينظم شعرا في هذا الموضوع و يقول:

ما آن للسرداب أن يلد الذي سمّيتموه بزعمكم إنسانا

و قد بقيت هذه الأكذوبة-خلال هذه القرون-تنتقل من كاتب الى مؤلّف،و من جاهل الى حاقد،و من كذّاب الى دجّال،و تتطوّر في عالم الوهم و الخيال،حتى بلغ الجهل بأحدهم أن يذكر في كتابه:إنّ السرداب (المزعوم!)في مدينة الحلّة بالعراق!مع العلم أنّ المسافة بين الحلّة و سامراء تبلغ 300 كيلو مترا تقريبا!

و يأتي آخر و يضيف الى هذه الأكذوبة-من نسيج خياله-تهمة أخرى و افتراءا آخر،فيقول:إنّ الشيعة يأتون-في كلّ جمعة-بالسلاح و الخيول الى باب السرداب،و يصرخون و ينادون:يا مولانا أخرج إلينا!.

و يا ليت هؤلاء المنحرفين إتّفقوا-في هذه الأكذوبة-على قول واحد، حتى لا تنكشف سوءتهم،و لا تتساقط أقنعتهم المزيّفة،و لكن أبى اللّه إلاّ أن يظهر الحق و يدمغ الباطل و يفضحه،فتراهم يتفرقون على أقوال متناقضة،فيقول أحدهم:إنّ هذا السرداب في الحلّة،و يقول آخر:إنّه في بغداد،و يقول ثالث:إنّه في سامراء،و يأتي القصيمي من بعدهم فلا يدري أين هو،فيطلق لفظ السرداب،ليستر سوءته.

أمّا نحن فلا نعلّق على هذه الأكاذيب و الإفتراءات إلاّ بقول:ألا لعنة اللّه على الكاذبين.ألا لعنة اللّه على كلّ مفتر أفّاك.

ص:241

نشاطات الامام المهدي«عليه السّلام»خلال الغيبة الصّغرى

إنتقلت الإمامة و الخلافة الى الإمام المهدي بعد وفاة والده الإمام العسكري (عليهما السلام)فكان الإمام-في الوقت الذي يعيش في جوّ من الإستتار و الإختفاء،و لا يراه إلاّ الأخصّ من شيعته-مشرفا على حياة الناس،و محيطا بما يجري من الأحداث،قابضا على زمام القيادة و إدارة الشؤون العامّة و الخاصّة لشيعته،و تدبير أمورهم،و الإجابة على أسئلتهم و حلّ مشاكلهم،و غير ذلك.

فكان(عليه السلام)يأمر و ينهى،و يعزل و ينصب،و يقرّب و يبعّد، و كأنّه حاضر في المجتمع..لا يغيب عنه شيء.

و كان(عليه السلام)على اتصال تام بسفرائه و وكلائه،يسعفهم بالأوامر و التعليمات اللازمة،و يرشدهم الى ما يجب عليهم حسب الظروف المختلفة، و يأمرهم بإتخاذ التدابير الخاصّة،إذا اقتضت الحاجة ذلك.

و إليك شيئا من التفصيل في هذا المجال:

لقد مرّ عليك أنّ الإمام المهدي(عليه السلام)امر الوفد الثاني من أهل قم بمراجعة سفيره عثمان بن سعيد العمري في بغداد،و لذلك فإنّ الشيعة-السائرين على خطّ الإمام المهدي-كانوا يراجعون عثمان بن سعيد في قضاياهم الفقهيّة و الماليّة و الإجتماعيّة،و هم على بصيرة من الأمر،لا يشكّون في وثاقة السفير و ديانته و أمانته.

فتارة كانوا يكتبون مسائلهم الفقهيّة،أو قضاياهم الشخصيّة،أو ما يرتبط

ص:242

بالحقوق الماليّة،و يسلّمونها الى النائب،ثم يأتي الجواب بخط الإمام المهدي(عليه السلام).

و تارة كانوا يطلبون من النائب أن يكتب مسائلهم و حوائجهم الى الإمام، فكان النائب يكتب ذلك،و بعد فترة قصيرة يخبرهم بالجواب الصادر من الإمام (عليه السلام)أو يريهم جواب الإمام في رسالة مفصّلة فيها الإجابات على مسائل كثيرة،و قد لا يجيب الإمام على السؤال،لحكمة و مصلحة يراها.

و قد كان بعض الشيعة يتنازعون في بعض المسائل العقائديّة،فينحلّ النزاع و يرتفع الإختلاف عند مراجعتهم لأحد النّواب و عرض المشكلة أو المسألة-التي إختلفوا فيها-عليه،فيأتيهم الجواب من ناحية الإمام المهدي(عليه السلام) و يكون كلامه القول الفصل،فيذعن به الجميع.

و فيما يلي نشير الى نماذج من مراجعة الناس للسفراء في مشاكلهم العامّة أو الخاصّة:

1-إختلف جماعة من الشيعة في أنّ اللّه عزّ و جل هل فوّض الى الأئمة (صلوات اللّه عليهم)أن يخلقوا أو يرزقوا؟

فقال قوم:هذا محال،و لا يجوز على اللّه تعالى،لأنّ الأجسام لا يقدر على خلقها غير اللّه عزّ و جل.

و قال آخرون:بل اللّه تعالى أقدر الأئمة على ذلك(1)و فوّضه اليهم،فخلقوا و رزقوا.

ص:243


1- (1) أي:منحهم القدرة على أن يخلقوا و يرزقوا بإذن اللّه،كما منح القدرة لعيسى بن مريم،فكان يبرء الأكمة و الأبرص و يحيي الموتى بإذن اللّه تعالى.

فقال قائل:ما بالكم لا ترجعون الى أبي جعفر محمد بن عثمان العمري، فتسألونه عن ذلك،فيوضّح لكم الحق فيه(1)؟؟فإنّه الطريق الى صاحب الأمر عجّل اللّه فرجه.

فرضوا بذلك،و كتبوا المسألة و أرسلوها إليه،فخرج اليهم من ناحية الإمام (عليه السلام)هكذا:«إن اللّه تعالى هو الذي خلق الأجسام و قسم الأرزاق، لأنه ليس بجسم،و لا حالّ في جسم،ليس كمثله شيء و هو السميع العليم.

و أما الأئمة(عليهم السلام)فإنّهم يسألون اللّه تعالى فيخلق،و يسألونه فيرزق،إيجابا لمسألتهم،و إعظاما لحقّهم»(2).

2-و حدث خلاف بين الشيعة حول الخليفة من بعد الإمام العسكري(عليه السلام)فقال أحدهم:إنّ الإمام العسكري مضى و لا خلف له،و قال آخرون:

كلا..إنّه لم يمض إلاّ بعد أن عيّن الخلف،و لكي يحسموا النزاع كتبوا كتابا حول هذا الموضوع و أنفذوه الى الناحية المقدّسة،فورد الجواب بخطّ الإمام المهدي (عليه السلام)يقول:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم.عافانا اللّه و إيّاكم من الضلالة و الفتن،و وهب لنا و لكم روح اليقين،و أجارنا و إيّاكم من سوء المنقلب.

إنّه أنهي إليّ إرتياب جماعة منكم في الدين،و ما دخلهم من الشكّ و الحيرة في ولاة أمورهم،فغمّنا ذلك لكم..لا لنا،و ساءنا فيكم..لا فينا،لأنّ اللّه معنا و لا فاقة بنا الى غيره،و الحقّ معنا،فلن يوحشنا من قعد عنّا،...

ص:244


1- (1) أي:في هذا الموضوع المختلف فيه.
2- (2) كتاب(الغيبة)للشيخ الطوسي ص 1398.

يا هؤلاء..ما لكم في الريب تتردّدون؟!و في الحيرة تنعكسون؟!أو ما سمعتم اللّه عزّ و جلّ يقول:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (1)؟!

أو ما علمتم ما جاءت به الآثار ممّا يكون و يحدث في أئمّتكم عن الماضين و الباقين منهم(عليهم السلام)؟!

أو ما رأيتم كيف جعل اللّه معاقل تأوون إليها،و أعلاما تهتدون بها،من لدن آدم(عليه السلام)إلى أن ظهر الماضي(عليه السلام)، كلما غاب علم بدا علم،و إذا افل نجم طلع نجم؟!

فلما قبضه اللّه إليه(2)ظننتم أن اللّه تعالى أبطل دينه و قطع السبب بينه و بين خلقه!؟

كلا..ما كان ذلك و لا يكون حتى تقوم الساعة،و يظهر أمر اللّه سبحانه و هم كارهون،و إنّ الماضي(عليه السلام)مضى سعيدا فقيدا على منهاج آبائه (عليهم السلام)،و فينا وصيّته و علمه،و من هو خلفه و من هو يسدّ مسدّه،لا ينازعنا موضعه إلاّ ظالم آثم،و لا يدّعيه دوننا إلاّ جاحد كافر،و لو لا أنّ أمر اللّه تعالى لا يغلب،و سرّه لا يظهر و لا يعلن لظهر لكم من حقّنا ما تبين منه عقولكم،و يزيل شكوككم،لكنّه ما شاء اللّه كان،و لكلّ أجل كتاب،فاتّقوا اللّه و سلّموا لنا، و ردّوا الأمر إلينا،فعلينا الإصدار،كما كان منّا الإيراد،و لا تحاولوا كشف ما غطّي

ص:245


1- (1) سورة النساء/الآية 59.
2- (2) الضمير في«قبضه»يعود الى الإمام العسكري عليه السلام،المعبّر عنه ب«الماضي»أي:المتوفىّ الذي مضى الى ربّه.

عنكم،و لا تميلوا عن اليمين(1)و تعدلوا الى الشمال،و اجعلوا قصدكم إلينا بالمودّة على السنّة الواضحة،فقد نصحت لكم،و اللّه شاهد عليّ و عليكم،و لو لا ما عندنا من محبّة صلاحكم و رحمتكم و الإشفاق عليكم،لكنّا عن مخاطبتكم في شغل،فيما قد امتحنّا به من منازعة الظالم العتلّ الضالّ المتتابع في غيّه(2)المضادّ لربّه،الداعي ما ليس له،الجاحد حقّ من افترض اللّه طاعته،الظالم الغاصب،و في إبنة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم)لي أسوة حسنة(3)و سيردي الجاهل رداءة عمله، و سيعلم الكافر لمن عقبى الدار.

عصمنا اللّه و إيّاكم من المهالك و الأسواء و الآفات و العاهات كلّها برحمته، فإنّه وليّ ذلك و القادر على ما يشاء،و كان لنا و لكم وليّا و حافظا،و السلام على جميع الأوصياء و الأولياء و المؤمنين،و رحمة اللّه و بركاته،و صلّى اللّه على محمد و آله و سلّم تسليما»(4).

3-رجل رزق مولودا،و مات المولود في اليوم الثامن،فكتب الرجل رسالة الى الإمام المهدي(عليه السلام)يخبر-فيها-بموت إبنه،فجاء الجواب من الإمام عليه السلام:«سيخلف اللّه عليك غيره و غيره،فسمّه أحمد،و من بعد أحمد جعفرا».فكان كما أخبر الإمام،و امتثل أمر الإمام في إختيار الاسم لولديه(5).

ص:246


1- (1) لقد عبّر القرآن الكريم عن المؤمنين ب«أصحاب اليمين»و عن الكافرين و المنحرفين ب«أصحاب الشمال»و الظاهر أنّ الإمام(عليه السلام)يشير الى ذلك.
2- (2) يحتمل أن يكون المراد:جعفر بن علي الذي أشير إليه سابقا،و يحتمل أن يكون المراد:خليفة ذلك الزمان،و اللّه العالم.
3- (3) يشير(عليه السلام)الى السيدة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين(عليها السلام)،التي غصبوا حقّها و ظلموها و تجاهلوا قدرها و مكانتها.
4- (4) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 172 طبع طهران 1398 ه.
5- (5) كتاب(الغيبة)للطوسي ص 171.

4-و في أيام النائب الثالث الحسين بن روح،طلب الشيخ علي بن الحسين بن بابويه(والد الشيخ الصدوق)من الحسين بن روح أن يسأل مولانا صاحب الزمان(عليه السلام)أن يدعو اللّه ليرزقه ولدا ذكرا.

فجاء الجواب بعد ثلاثة أيام:أنه(عليه السلام)قد دعا لعلي بن الحسين،و سيولد له ولد مبارك،و سيولد له بعد هذا الولد أولاد أيضا.

فولد له-في تلك السنة-محمد بن علي بن الحسين بن بابويه،الملقّب بالشيخ الصدوق(رضوان اللّه عليه)و ولد بعده أولاد أيضا.

و كان الشيخ الصدوق عالما جليلا حافظا للأحاديث،بصيرا بالرجال(1)لم ير في القميين مثله في حفظه و كثرة علمه،و له ما يقارب ثلاثمائة كتاب.

و في رواية أخرى:إنّ علي بن الحسين(والد الشيخ الصدوق)كتب الى الشيخ الحسين بن روح أن يسأل الإمام المهدي(عليه السلام)أن يدعو اللّه ليرزقه أولادا فقهاء.

فجاء الجواب:إنّك لا ترزق من هذه(2)و ستملك جارية ديلميّة(3)و ترزق منها ولدين فقيهين.

و كان الشيخ الصدوق و أخوه الحسين فقيهين،يحفظان من الأحاديث مالا يحفظ غيرهما من أهل قم(4).

ص:247


1- (1) أي:عارفا بأحوال رجال أسانيد الأخبار و الأحاديث و الروايات.
2- (2) كانت زوجته-يومذاك-بنت عمّه،و لم يرزق منها ولدا.
3- (3) ديلميّة:-نسبة الى الديلم-:و هم قوم كانوا يسكنون في نواحي آذربايجان في ايران.المعجم الوسيط في اللغة.
4- (4) كتاب(الغيبة)للشيخ الطوسي ص 188،

5-رجل إسمه سرور،كان في أيام صباه أخرسا لا يستطيع التكلّم،و بلغ من العمر ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة،فجاء به أبوه الى الشيخ الحسين بن روح،و طلب منه أن يسأل من الإمام المهدي(عليه السلام)أن يفتح اللّه لسانه.

فقال لهم الشيخ:إنكم أمرتم بالخروج الى الحائر(1).

فجاء به أبوه و عمّه الى كربلاء المقدّسة،و بعد زيارة مرقد الإمام أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)صاح به ابوه و عمّه:يا سرور؟

فأجابهم-بلسان فصيح-:لبيّك!

فقال:و يحك..تكلّمت؟!

قال سرور:نعم(2).

6-رجل إختلف مع زوجته،و انتهى الأمر الى النزاع الشديد،و الخلاف الكثير،فطلب الرجل من الناحية المقدّسة حلّ مشكلته؟

فجاء الجواب من الإمام(عليه السلام)-ضمن رسالة فيها الإجابات على أسئلة الناس-:«و الزوج و الزوجة فأصلح اللّه ذات بينهما»فعادت اليه زوجته

ص:248


1- (1) الحائر:مرقد الإمام الحسين عليه السلام،و من الواضح أن الأمر صدر من الإمام المهدي(عليه السلام)،و ممّا يجدر الإنتباه إليه:هو أنّ الإمام المهدي(عليه السلام)-في الوقت الذي كان يمكن له الدعاء بنفسه،و يستجاب دعاؤه فورا..و بدون أيّ تأخير-أمرهم بالتوجّه إلى مرقد الإمام الحسين(عليه السلام)و بذلك أراد توجيه قلوب الناس نحو تلك البقعة الطاهرة.و قد ورد في الحديث الصحيح:«إنّ للّه بقاعا يحبّ أن يدعى فيها...و منها:عند قبر الإمام الحسين (عليه السلام).
2- (2) كتاب(الغيبة)للشيخ الطوسي ص 188.

و اعتذرت إليه،و عاش معها على أحسن حال(1).

7-و جاء رجل من مدينة قم إلى بغداد،و معه أموال كثيرة و هدايا من أهالي قم الى الإمام المهدي(عليه السلام)عن طريق النائب الثاني محمد بن عثمان.

و لما سلّم الأموال قال له محمد بن عثمان:قد بقي شيء مما استودعته فأين هو؟

فقال الرجل:لم يبق شيء-يا سيدي-إلاّ و قد سلّمته!

قال محمد بن عثمان:بلى..قد بقي شيء،فارجع الى ما معك و فتّشه.

فمضى الرجل و فتّش أمتعته،و تفكر كثيرا،فلم يصل فكره الى شيء، فرجع الى محمد بن عثمان و قال له:لم يبق شيء في يدي.

فقال له محمد بن عثمان:يقال لك:الثوبان السودانيان اللذان دفعهما اليك فلان بن فلان،ما فعلا(أي:أين هما)؟

فتذكّر الرجل الثوبين و قال:لقد نسيتهما و لست أدري أين وضعتهما؟

و ذهب الرجل يبحث عن الثوبين،فلم يجدهما.فرجع الى محمد بن عثمان،و أخبره بفقدان الثوبين،فقال له محمد:يقال لك:إمض الى فلان بن فلان القطّان الذي حملت إليه العدلين(2)فافتق أحد العدلين،تجد الثوب في جانبه.فتحيّر الرجل(3)و ذهب،و فتق العدلين و جاء بالثوبين الى محمد بن عثمان(4).

ص:249


1- (1) كتاب(الغيبة)للشيخ الطوسي ص 184،طبع طهران 1398 ه.
2- (2) العدل:كيس كبير توضع فيه الأمتعة.
3- (3) الظاهر انه كان قد نسي ذلك.
4- (4) كتاب(الغيبة)للشيخ الطوسي ص 179.

الفصل الحادي عشر

اشارة

الغيبة الكبرى

إنتهت الغيبة الصغرى بوفاة النائب الرابع للإمام المهدي(عليه السلام) و ابتدأت الغيبة الكبرى،و بذلك انقطعت طرق الإتّصالات بالإمام المهدي، و كانت الطامّة الكبرى،و المأساة العظمى،و تطوّرت القيادة الدينيّة،و انتقلت الى الفقهاء الجامعين لشرائط الفتوى.

و كان الإمام المهدي(عليه السلام)قد كتب إلى أحد وجهاء الشيعة-و هو إسحاق بن يعقوب،بواسطة النائب الثاني محمد بن عثمان-توقيعا جاء فيه:

«...و أمّا الحوادث الواقعة،فارجعوا فيها الى رواة حديثنا،فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجة اللّه عليكم...»(1).

و قد كان في ذلك العصر عدد كثير من المحدّثين:أصحاب الإمامين الهادي و العسكري(عليهما السلام)،و ألّف بعضهم كتبا عديدة جمع فيها الأحاديث المتنوّعة و الأحكام الشرعيّة،و كانت بيوت الشيعة مليئة بتلك المؤلّفات الزاخرة، و كانوا يراجعون تلك الأحاديث عند الحاجة.

و قد كان الجمّ الغفير و الجمع الكثير من أصحاب الإمامين:الباقر و الصادق (عليهما السلام)قد ألّفوا كتبا بلغت أو تجاوزت أربعمائة كتاب،تسمّى ب

ص:250


1- (1) هذا نصّ ما ورد في كتاب(الغيبة)للشيخ الطوسي،أمّا في(إكمال الدين)للشيخ الصدوق ج 2 ص 484 فقد ورد الشطر الأخير-من الحديث-هكذا:«و أنا حجّة اللّه عليهم»،و في كتاب (الإحتجاج)للطبرسي ج 2 ص 470 لا يوجد لفظ«عليهم»و لا«عليكم».

(الأصول الأربعمائة)،و أكثر تلك الكتب-إن لم يكن كلّها-كانت موجودة و متداولة،يعتمد عليها،و يعمل بها في ذلك العهد.

و أمّا القضايا و الأمور الحادثة التي لم يجدوا لها حديثا خاصّا يبيّن حكمها،فقد أمرهم الإمام المهدي(عليه السلام)أن يراجعوا فيها المحدّثين الذين لهم قوّة إستخراج و إستنباط الأحكام من الأدلّة،و هي القواعد و الأصول العامّة المستفادة من الأحاديث الصحيحة.

و بهذه الوسائل فتح الإمام المهدي(عليه السلام)لشيعته خطّا جديدا لتأمين الناحية الفقهيّة لهم عن طريق القيادة المرجعيّة المتجسّدة في رواة أحاديث أئمّة أهل البيت(عليهم السلام).

و ليس معنى ذلك إنسحاب الإمام المهدي(عليه السلام)عن المجتمع الإسلامي،أو إعتزاله عن مركز القيادة و التصرّف في العالم،أو إنقطاعه عن كلّ ما يحدث في العباد و البلاد،أو إنقراض نظام الإمامة و إنهياره،كلاّ..بل إنّ نظام الإمامة ممتد إلى أن ينقرض العالم،لأنّه نظام إلهيّ،و لا يقبل الزوال،سواءا كان ذلك النظام حاكما على المجتمع،و سائدا على السّاحة الإسلامية يتصرّف في شؤون الناس أم كان ممنوعا عن الظهور،و مكبوتا مضغوطا عليه من الحكومات الغاصبة الظالمة.

و هنا يتبادر سؤال الى الذهن،و هو:إذن..فما الفائدة من وجود الإمام الغائب،و كيف ينتفع الناس به؟؟

الجواب يأتيك في الفصل القادم إنشاء اللّه تعالى.

ص:251

وجه الانتفاع بالامام الغائب

لقد وردت أحاديث متعدّدة تذكر فوائد وجود الإمام الغائب(عليه السلام)و وجه الإنتفاع به،و فيما يلي نذكر بعضها بالمناسبة:

1-عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّه سأل النبيّ(صلى اللّه عليه و آله و سلّم):هل ينتفع الشيعة بالقائم(عليه السلام)في غيبته؟

فقال(صلى اللّه عليه و آله و سلّم):«إي و الذي بعثني بالنبوّة،إنّهم لينتفعون به،و يستضيئون بنور ولايته في غيبته،كإنتفاع الناس بالشمس و إن جلّلها السحاب»(1).

2-عن سليمان الأعمش عن الإمام الصادق(عليه السلام)قال:«لم تخل الأرض-منذ خلق اللّه آدم-من حجّة للّه فيها،ظاهر مشهور،أو غائب مستور،و لا تخلو-الى أن تقوم الساعة-من حجّة للّه فيها،و لو لا ذلك لم يعبد اللّه».

قال سليمان:فقلت-للصادق عليه السلام-:فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور؟

ص:252


1- (1) و في نسخة:«و إن تجلّلها سحاب».إكمال الدين ج 1 ص 253،طبع طهران سنة 1395 ه

قال:«كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب».(1)

3-و روي مثل هذا الكلام،عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام).(2)

4-و قد ذكر في التوقيع الصادر من ناحية الإمام المهدي(عليه السلام)-الى إسحاق بن يعقوب-:«...و أمّا وجه الإنتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الابصار السحاب...»الى آخره(3)

أقول:ما أعمق هذا التشبيه!!

و ما أجمل و أكمل هذا التعبير!!

إن كان الناس-فيما مضى-لا يعرفون عن الشمس إلاّ أنّها جرم سماويّ،يشرق على الأرض،و يبتدأ النهار بشروقها،و ينتهي بغروبها،و أنّها تجفّف الأجسام الرطبة،و تبخّر الماء،و تولّد الحرارة في الجوّ،و أمثال ذلك،فإنّ العلم الحديث-اليوم-إكتشف للشمس فوائد عظيمة و منافع مهمّة جدا.

هذا و الموضوع يتطلّب شيئا من التفصيل و التوضيح فنقول:

لقد عرفت أنّ الأحاديث-التي مرّت عليك قبل لحظات-كانت

ص:253


1- (1) إكمال الدين ج 1 ص 207.و(فرائد السمطين)للجويني الشافعي ج 1 ص 46 طبع لبنان 1398 ه
2- (2) الإمامة لأحمد محمود صبحي ص 413.
3- (3) إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 485!و كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 177.

مرويّة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلّم)و عن ثلاثة من أئمة أهل البيت(عليهم السلام)و كلّها تؤكّد على حقيقة واحدة،و بمضمون واحد،و كأنّها صادرة من نبع واحد.

و عرفت-أيضا-أنّ النبي و الأئمة(عليهم السلام)يشبّهون الإمام المهدي الغائب،بالشمس المستورة بالسحاب.

و نتساءل:لماذا لم يشبّهوه بالقمر المستور بالسحاب؟مع العلم أنّ القمر له تأثيرات كثيرة في الأرض،كالمدّ و الجزر في البحار و ما شابه.

الجواب:من الواضح أنّ الشمس تمتاز على القمر من عدّة جهات:

1-إنّ نور الشمس نابع من ذاتها،بينما القمر يكتسب نوره من الشمس.

2-إنّ في أشعّة الشمس فوائد كثيرة ليست في أشعّة القمر.

3-إنّ دور الشمس-في المجموعة الشمسيّة-دور قياديّ رئيسيّ، بخلاف القمر،فإنّه واحد من الكواكب التي تسبح في المجموعة.

و هناك جهات أخرى لا داعي لذكرها.

و نعود لنتساءل-مرّة أخرى-:لماذا شبّهوا الإمام الغائب، بالشمس؟

الجواب:إنّ المقام يتطلّب شيئا من البحث عن الشمس و تأثيرها في الكرة الأرضيّة-بمقدار ما وصل اليه العلم الحديث-و لكنّ المجال لا يتّسع للتفصيل في ذلك،لعدم علاقة مباشرة بينه و بين الكتاب،و لهذا نذكر كلمة بالمناسبة-مع رعاية الإختصار-حتى نعرف وجه الشبه بين

ص:254

الشمس و الإمام المهدي-أوّلا-ثمّ نعرف وجه الشبه بين الشمس المستورة بالسحاب و الإمام الغائب-ثانيا-فنقول:

توجد في هذا الفضاء آلاف أو ملايين المجموعات الشمسيّة التي تسبح في هذا الجوّ الواسع الشاسع،و لكلّ مجموعة من هذه المجموعات الشمسيّة مركز(1)و تدور كواكب تلك المجموعة-في مداراتها-حول ذلك المركز،بسرعة مدبّرة و مقدّرة،و في نفس الوقت يبتعد كلّ واحد من الكواكب عن المركز بمسافات معيّنة.

و مجموعتنا الشمسيّة-التي هي واحدة من ملايين المجموعات-لها مركز أيضا،و هي الشمس،و تدور حولها الكواكب،و قد إشتهر-في الأوساط العلمية-أنّ مجموعتنا الشمسيّة عبارة عن تسعة كواكب هي عطارد،الزهرة،الأرض،المرّيخ،المشتري،زحل،اورانوس، نبتون،بلوتو.(2)

و النظام العجيب البديع الموجود في هذه المجموعات الشمسيّة، و الذي يحافظ على بقائها:هي الجاذبيّة التي أودعها اللّه-الحكيم المدبّر الذي هو على كل شيء قدير-في مركز المجموعة فالمركز يجذب كلّ ما يدور حوله من الكواكب،و الكواكب تحاول الإفلات و الإبتعاد عن المركز

ص:255


1- (1) ملاحظة:في علم الفضاء و الفلك يعبّر عن مركز المجموعة ب(النجم)و هو الذي يضيء بذاته،و يعبّر عمّا يدور في المجموعة ب(الكواكب)
2- (2) ننبّه القاريء بأن هناك أجرام سماويّة تدور حول بعض كواكب المجموعة،و يعبّر عنها-في علم الفلك ب(الأقمار التوابع)،كالقمر الذي يدور حول الأرض.و لا يأتي في عداد كواكب المجموعة

بكلّ قوّة.(1)

و لهذا فإنّ بقاء هذه المجموعات و إنتظامها و سيرها بصورة مدهشة، إنّما هو بسبب الجاذبيّة الموجودة في الشمس،و لو لا الجاذبيّة لاختلّ النظام،و اضطربت المجموعة،و انتثرت الكواكب،و اصطدم بعضها ببعض،و تلاشت في هذا الفضاء-الذي لا يعلم حدوده إلاّ اللّه-و هلكت الكائنات و تبدّل الوجود الى العدم و الفناء.فسبحان من أمسك السماوات و الأرض أن تزولا.

و اللّه تعالى الذي جعل القوّة الجاذبة في الشمس،جعل القوّة المانعة الطاردة في كواكب المجموعة الشمسيّة،فكلّ كوكب يحاول أن يبتعد عن الشمس،بقوّة خارجة عن التصوّر،و لكنّ القوّة الجاذبة الموجودة في الشمس تمنعه عن الهرب،فلولا القوّة الطاردة لإقتربت الكواكب من الشمس و احترقت،و لو لا القوّة الجاذبة في الشمس لتفرّقت الكواكب و تبعثرت،و خرجت عن مداراتها،و اختلّ نظامها،و انعدمت الحياة الى الأبد.

فالشمس أمان للمجموعة الشمسيّة من الفناء و الزوال.

هذه لمحة خاطفة،و شرح موجز،لتأثير الشمس في الكواكب التي تدور حولها،و منها الأرض و من عليها و ما عليها.

فانظر الى أهميّة هذا النجم المشرق الذي نراه كتلة ملتهبة،ترسل أشعّتها النافعة المفيدة الى الأرض،و تتفاعل-بأنواع التفاعلات-في الإنسان و الحيوان و النبات و الهواء و الماء و التراب و الجماد.

ص:256


1- (1) يعبّر عن هذه القوة ب(القوة الطاردة)

و من الواضح أنّ السحاب لا يغيّر شيئا من تأثير الشمس،و إنّما يحجب الشمس عن الرؤية-في المنطقة التي يخيّم عليها السحاب-فقط.

و من الطبيعي أنّ السحاب لا يتكوّن إلاّ من إشراق الشمس، و الأمطار لا تهطل إلاّ من السحاب،فلو لا الشمس ما كان سحاب و لا مطر،و لا زرع و لا ضرع،و كان مصير الحياة معلوما.

فالإمام المهدي عليه السلام-الذي شبّهه رسول اللّه و الإمامان:

السجّاد و الصادق(عليهم السلام)بالشمس من وراء السحاب-هو الذي بوجوده يتنعّم البشر،و تنتظم حياته،و كلّ ذلك من فضل اللّه تعالى على رسوله محمد و أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام).

و هو الذي تتفجّر منه الخيرات و البركات و الألطاف الخفيّة و الفيوضات المعنويّة الى الناس.

و هو المهيمن على الكون-بإذن اللّه تعالى-من وراء ستار الغيبة و الإختفاء،فهو يتصرّف في الكائنات بصورة مستمرّة،و يملك كافّة الصلاحيّات التي فوّضها الله إليه،و ليست حياته حياة العاجز الضعيف، الذي لا يملك حولا و لا قوّة،و يكتفي بصلاته و صيامه،و يقضي أوقاته في الصحاري و البراري،منعزلا عن الناس،لا يعرف شيئا عن العباد و البلاد،كلاّ..و الف كلاّ

إنّ الإمام المهدي(عليه السلام)-بالرغم من غيبته التي أرادها الله له-يتمتّع بقدرة من اللّه تمكّنه من كلّ ما يريد،و توفّر له جميع الوسائل اللازمة.

ص:257

و ممّا لا شكّ فيه أنّ تصرّفات الإمام المهدي و إنجازاته،كلّها مطابقة للحكمة و المصلحة،و ليست تابعة للهوى و الميول النفسانيّة، فيعطي و يمنع،و ينصر و يخذل،و يفعل و يترك،و يدعو اللّه تعالى لهذا و ذاك،و يرشد الضالّ،و يبرء المريض،و يطلق لسان الأخرس،و يظهر نفسه لهذا و ذاك،تارة في العراق،و اخرى في ايران،و مرّة في طريق الحج،و أخرى في مكّة و المدينة و منى و عرفات،و في بعض الأحيان يري نفسه-لبعض الأفراد-في البحرين،و في بلاد القفقاس،و غيرها من بقاع العالم.كلّ ذلك بقدرة اللّه تعالى و إذنه.

أيها القارىء الكريم:بعد هذا كلّه،يتّضح لك شيء من معنى الأحاديث التي شبّهت الإمام المهدي الغائب،بالشمس-أولا-و المحجوبة بالسحاب-ثانيا-.

نعم..ذلك هو الإمام الذي يختاره اللّه تعالى..لا الذي يختاره الناس.

ذلك الإمام هو خليفة رسول اللّه حقا..لا كلّ من يدّعي الخلافة.

ذلك الإمام هو المنصوب من عند اللّه تعالى،لا كلّ من يسمّى بالإمام.

لا كلّ من إستلم الحكم و الزعامة و القيادة.لا..لا..لا.

بل هو الإمام الذي تتوفّر فيه جميع المؤهّلات بجميع معنى الكلمة،و يجتمع فيه كلّ ما يحتاج اليه البشر،بل كلّ ما تحتاج اليه الحياة،بل كلّ ما يحتاج اليه الكون.

ص:258

الإمام-الموصوف بهذه الأوصاف-أمان لأهل الأرض،و وجوده سبب لبقاء الأرض و من عليها«بيمنه رزق الورى،و بوجوده ثبتت الأرض و السماء».

و لعلّ بعض الناس يتصوّر أنّ في هذا الكلام شيئا من المبالغة و الغلوّ و الإسراف،و لكن هذا التصوّر يزول و يتبخّر إذا عرف أنّ عشرات الأحاديث الصحيحة-التي لا تقبل الشكّ،المرويّة في كتب الحديث بطرق متعدّدة،المتّفق عليها بين الطوائف و المذاهب الإسلامية-تؤكّد هذه الحقيقة.

و إليك بعض تلك الأحاديث:

1-عن أياس بن سلمة،عن أبيه،قال:قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلّم):«النجوم أمان لأهل السماء،و أهل بيتي أمان لأمّتي»(1)

2-عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال:قال رسول اللّه(صلّى اللّه عليه و آله و سلّم):«النجوم أمان لأهل السماء،فإذا ذهبت أتاهم ما يوعدون،و أهل بيتي أمان لامّتي،فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما يوعدون»(2)

ص:259


1- (1) الجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 189،ذخائر العقبى ص 17 طبع مصر 1356 ه،منتخب كنز العمّال للمتقي الهندي ج 5 ص 92،فرائد السمطين للجويني ج 2 ص 241 طبع لبنان 1400 ه،الصواعق المحرقة لإبن حجر ص 185، و بحار الأنوار للمجلسي ج 27 ص 309 و غيرها من عشرات المصادر.
2- (2) مستدرك الصحيحين للحاكم النيسابوري الحنفي ج 2 ص 448،منتخب كنز العمّال للمتّقي الهندي.

3-قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلّم):«أهل بيتي أمان لأهل الأرض،فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون»(1)

4-عن الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)قال:قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلّم):«النجوم أمان لأهل السماء،فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء،و أهل بيتي أمان لأهل الأرض،فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»(2)

5-قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلّم):«إنّ اللّه جعل النجوم أمانا لأهل السماء،و جعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض»(3)

و توجد طائفة أخرى من الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)توضّح هذا المعنى أكثر و أكثر،و إليك بعض تلك الأحاديث:

1-ورد في رسالة الإمام المهدي(عليه السلام)-الى إسحاق بن يعقوب-:«...و إنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل

ص:260


1- (1) الصواعق المحرقة لإبن حجر الهيثمي الشافعي ص 150
2- (2) الصواعق المحرقة ص 150،و اخرجه احمد بن حنبل في كتاب المناقب،بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 27 ص 310 نقلا عن إكمال الدين،و رواه الطبري الشافعي في كتابه(ذخائر العقبى)ص 17 طبع مصر 1356،رشفة الصادي لإبي بكر الحضرمي ص 78،إسعاف الراغبين للصبان ص 144 فرائد السمطين ج 2 ص 253.و غيرهم
3- (3) مجمع البيان للطبرسي،في تفسير الآية 16 من سورة النحل.

السماء...»(1)

2-قال الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام):

«نحن أئمّة المسلمين،و حجج اللّه على العالمين،و سادة المؤمنين،...و نحن أمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء،و نحن الذين بنا يمسك اللّه السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه،و بنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها(2)و بنا ينزل الغيث(3)و تنشر الرحمة،و تخرج بركات الأرض،و لو لا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها»(4)

3-قال الإمام محمد الباقر(عليه السلام):«و نحن أئمّة الهدى، و نحن الذين بنا ينزل اللّه الرحمة،و بنا يسقون الغيث،و نحن الذين بنا يصرف عنكم العذاب،فمن عرفنا و عرف حقّنا و أخذ بأمرنا فهو منّا و الينا»(5)

4-كتب محمد بن إبراهيم رسالة الى الإمام جعفر الصادق(عليه

ص:261


1- (1) إكمال الدين ج 2 ص 485،و كتاب الغيبة للطوسي ص 177،و كتاب الإحتجاج للطبرسي ج 2 ص 471.
2- (2) تميد:تضطرب،و تفقد توازنها.
3- (3) الغيث:المطر،و قيل:هو المطر الغزير،الكثير المنافع.
4- (4) ساخت الأرض بأهلها:إنخسفت بهم،و غاصوا فيها.فرائد السمطين للجويني الشافعي ج 1 ص 45-46،طبع لبنان 1398 ه،و رواه القندوزي الحنفي في(ينابيع المودّة)ص 21،و الصدوق في إكمال الدين ج 1 ص 207،و الطبرسي في(الإحتجاج)ج 2 ص 317.
5- (5) إكمال الدين ج 1 ص 206،فرائد السمطين للجويني الشافعي ج 2 ص 253-254

السلام)جاء فيها:أخبرنا ما فضلكم أهل البيت؟

فكتب الإمام(عليه السلام)-في الجواب-:«إنّ الكواكب جعلت في السماء أمانا لأهل السماء،فإذا ذهبت نجوم السماء جاء أهل السماء ما كانوا يوعدون.و قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلّم):جعل أهل بيتي أمانا لأمّتي،فإذا ذهب أهل بيتي جاء أمتي ما كانوا يوعدون».(1)

5-قال الإمام علي الرضا(عليه السلام):«نحن حجج اللّه في خلقه،...بنا يمسك اللّه السماوات و الأرض أن تزولا،و بنا ينزل الغيث،و ينشر الرحمة،و لا تخلو الأرض من قائم منّا ظاهر أو خاف، و لو خلت يوما بغير حجّة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله»(2)

6-عن سليمان الجعفري،قال:سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام)فقلت:أتخلو الأرض من حجّة؟

فقال:«لو خلت طرفة عين لساخت بأهلها».(3)

7-قال الإمام محمد الباقر(عليه السلام):«لو بقيت الأرض-يوما-بلا إمام منّا لساخت بأهلها،و لعذّبهم اللّه بأشدّ عذابه.

إنّ اللّه-تبارك و تعالى-جعلنا حجّة في أرضه،و أمانا في الأرض لأهل الأرض،لم يزالوا في أمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم،فإذا أراد اللّه أن يهلكهم ثمّ لا يمهلهم و لا ينظرهم..ذهب بنا من بينهم،و رفعنا إليه،ثم يفعل اللّه ما يشاء و يحبّ»(4)

ص:262


1- (1) إكمال الدين ج 1 ص 205
2- (2) ماج:إضطرب.إكمال الدين ج 1 ص 202-203
3- (3) إكمال الدين ج 1 ص 204
4- (4) إكمال الدين ج 1 ص 204

8-قال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام):«لو لا من على الأرض من حجج اللّه لنفضت الأرض ما فيها و ألقت ما عليها،إنّ الأرض لا تخلو ساعة من الحجّة»(1)

9-قال الإمام محمد الباقر(عليه السلام):«لو أنّ الإمام رفع من الأرض ساعة..لماجت الأرض بأهلها كما يموج البحر بأهله»(2)

10-سئل الإمام محمد الباقر(عليه السلام):«لأيّ شيء يحتاج الى النبيّ و الإمام؟

فقال:«لبقاء العالم على صلاحه،و ذلك أنّ اللّه(عزّ و جلّ)يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيهم نبيّ أو إمام،قال اللّه(عزّ و جل):وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ... (3)و قال النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم):«النجوم أمان لأهل السماء،و أهل بيتي أمان لأهل الأرض،فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون،و إذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون»،يعني بأهل بيته:الأئمّة الذين قرن الله طاعتهم بطاعته فقال:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (4)و هم المعصومون المطهّرون،

ص:263


1- (1) إكمال الدين ج 1 ص 202
2- (2) إكمال الدين ج 1 ص 202،كتاب أصول الكافي للشيخ الكليني ج 1 ص 179،طبع طهران 1388 ه،و كتاب الغيبة لمحمد بن إبراهيم النعماني ص 139،طبع طهران سنة 1397 ه
3- (3) الآية 33/سورة الأنفال.
4- (4) الآية 59-سورة النساء.

الذين لا يذنبون و لا يعصون،و هم المؤيّدون الموفّقون المسدّدون،بهم يرزق الله عباده،و بهم يعمر بلاده،و بهم ينزل القطر من السماء،و بهم تخرج بركات الأرض،و بهم يمهل أهل المعاصي و لا يعجّل عليهم بالعقوبة و العذاب،لا يفارقهم روح القدس و لا يفارقونه،و لا يفارقهم القرآن و لا يفارقونه،صلوات اللّه عليهم»(1).

نكتفي بهذا المقدار من الأحاديث الشريفة،و نعود لنواصل الحديث عن الغيبة الكبرى و ابتداء القيادة المرجعيّة:

ص:264


1- (1) علل الشرائع للشيخ الصدوق ص 52

القيادة المرجعيّة

اشارة

لقد كان إبتداء إستلام القيادة المرجعيّة الدينيّة في الغيبة الكبرى-حسب إطّلاعنا-على يد الشيخ الفقيه:الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني(1).

فقد قال السيّد محمد مهدي بحر العلوم(رضوان اللّه عليه):

«...و هو أوّل من هذّب الفقه،و استعمل االنظر(2)و فتق البحث عن الأصول و الفروع في ابتداء الغيبة الكبرى»(3).

و قال أيضا:إنّ حال هذا الشيخ الجليل-في الثقة و العلم و الفضل و الكلام(4)و الفقه-أظهر من أن يحتاج الى البيان،و للأصحاب(5)مزيد إعتناء بنقل أقواله و ضبط فتاواه،خصوصا الفاضلين(6)و من تأخّر

ص:265


1- (1) نسبة الى عمان-بضم العين و تخفيف الميم-:بلاد تقع في الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربيّة،و تعرف اليوم بإسم(سلطنة عمان)و عاصمتها:مسقط.
2- (2) أي:إجتهد في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من ادلّتها التفصيلية.
3- (3) فتق البحث:نقّحه و قوّمه و وسّعه.
4- (4) علم الكلام-في إصطلاح الفقهاء-يطلق على العقائد و الفلسفة الإسلامية.
5- (5) المقصود من«الأصحاب»-في كلمات الفقهاء-:هم الفقهاء.
6- (6) الفاضلان:العلاّمة الحلّي و المحقّق الحلّي،و هما من أكابر العلماء و الفقهاء و أعاظمهم.

عنهما(1).».(2)

و للفقيه العماني منزلة كبيرة جدّا عند الفقهاء،و قد أثنى عليه علماؤنا القدامى،كالشيخ المفيد و الشيخ الطوسي.

و للعماني كتاب(الكرّ و الفرّ)في موضوع الإمامة،و كتاب(المتمسّك بحبل آل الرسول)في الفقه،و هو كتاب حسن كبير،و كان مشهورا في ذلك الزمان،و لكنّه الآن غير موجود.

أقول:لم أجد في كتب التراجم-الموجودة عندي-تاريخ مولده أو وفاته،و لكنّه كان قبل الشيخ المفيد،بسنوات عديدة،لأنّه أسبق زمنا من إبن الجنيد،و إبن الجنيد من مشايخ المفيد و أساتذته(3).

و لعلّ من الصحيح أن نقول:إنّ هذه الفترة-و هي ما بين وفاة النائب الرابع و بين نبوغ الشيخ المفيد-فترة مفقودة الحلقات،فقد كانت وفاة النائب الرابع سنة 329 ه،و ولد الشيخ المفيد سنة 336 أو 338 هجرية.

و على كلّ حال،فقد أخذت القيادة المرجعيّة طابعها الخاصّ، و تكوّنت حلقات التدريس في بغداد،و انقضت سنوات،و لمع نجم الشيخ المفيد في بغداد،و أسّس الحوزة العلميّة،و كان يحضر مجلس

ص:266


1- (1) من تأخّر عنهما:من جاء بعدهما،باعتباره متأخّرا من حيث الزمن
2- (2) كتاب(الفوائد الرجاليّة)المعروف ب(رجال السيّد بحر العلوم)ج 1 ص 220، طبع النجف الأشرف سنة 1385.
3- (3) كتاب(رجال السيد بحر العلوم)ج 2 ص 220

درسه العشرات من الفضلاء و في طليعتهم السيّدان:الرضيّ و المرتضى، و يعتبر كل واحد منهما من ألمع الشخصيّات العلمية و أبرزها.

و كان الشيخ المفيد آية من آيات اللّه تعالى،و نادرة من نوادر الكون،و نابغة من نوابغ الدهر،فهو شيخ المشايخ و رئيس الفقهاء، و قد إجتمعت فيه صفات الفضل،و انتهت اليه الرئاسة العامّة،و إتّفق الجميع على علمه و فقهه،و فضله و ورعه و تقواه،و زهده و عدالته و جلالته.

فلا عجب إذا ساعده الحظّ و التوفيق،فكتب إليه الامام المهدي(عليه السلام)رسائل عديدة في السنوات الأخيرة من حياته، و كان(عليه السلام)يرسل اليه في كلّ سنة رسالة.

و نجد في كتب التراجم رسالتين فقط،و لكن يستفاد من نصوص الرسالة الثانية أنّ الإمام المهدي(عليه السلام)أرسل إليه أكثر من رسالتين،و ستعرف ذلك قريبا.

و كلّ رسالة من تلك الرسائل تضع و سام الفخر على صدر الشيخ المفيد،و تاج العزّ و الشرف على رأسه،و الله يختصّ برحمته من يشاء.

و إليك نصّ الرسالة الأولى التي وصلت في شهر صفر سنة 410 ه مع شرح بعض نقاطها بعد ذلك:

[رسالة الامام المهدى عليه السلام الى الشيخ المفيد]

((للأخ السديد،و الوليّ الرشيد،الشيخ المفيد:أبي عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان أدام الله إعزازه.

من مستودع العهد المأخوذ على العباد:

ص:267

بسم اللّه الرحمن الرحيم

أمّا بعد:سلام عليك ايها المخلص في الدّين،المخصوص فينا باليقين،فإنّا نحمد-اليك-اللّه الذي لا إله إلاّ هو،و نسأله الصلاة على سيّدنا و مولانا و نبيّنا محمد و آله الطاهرين.

و نعلمك-أدام اللّه توفيقك لنصرة الحقّ،و أجزل مثوبتك على نطقك عنّا بالصدق-:أنّه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة،و تكليفك ما تؤدّيه عنّا الى موالينا قبلك-أعزّهم اللّه بطاعته،و كفاهم المهمّ برعايته لهم و حراسته-.

فقف-أمدّك اللّه بعونه(1)على أعدائه المارقين من دينه-على ما نذكره(2)و اعمل في تأديته إلى من تسكن اليه،بما نرسمه إن شاء اللّه:

نحن و إن كنّا ثاوين بمكاننا،النائي عن مساكن الظالمين،حسب الذي أراناه اللّه تعالى لنا من الصلاح و لشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين.

فإنّا نحيط علما بأنبائكم،و لا يعزب عنّا شيء من أخباركم، و معرفتنا بالذلّ (3)الذي أصابكم،مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعا،و نبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم

ص:268


1- (1) و في نسخة:أيّدك اللّه بعونه.
2- (2) و في نسخة:على ما أذكره.
3- (3) و في نسخة:بالزلل.

لا يعلمون.

إنّا غير مهملين لمراعاتكم،و لا ناسين لذكركم،و لو لا ذلك لنزل بكم الّلأواء،و اصطلمكم الأعداء،فاتّقوا الله جلّ جلاله،و ظاهرونا على إنتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم،يهلك فيها من حمّ أجله، و يحمى عنها من أدرك أمله،و هي أمارة لأزوف حركتنا،و مباثّتكم بأمرنا و نهينا،و الله متمّ نوره و لو كره المشركون.

إعتصموا بالتقيّة من شبّ نار الجاهليّة،تحشّشها عصب أمويّة، يهول بها فرقة مهديّة.

أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن الخفيّة،و سلك في الظعن منها السبل المرضيّة.

إذا حلّ جمادى الأولى-من سنتكم هذه-فاعتبروا بما يحدث فيه، و استيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه.

ستظهر لكم من السماء آية جليّة،و من الأرض مثلها بالسويّة، و يحدث في أرض المشرق ما يحزن و يقلق،و يغلب-من بعد-على العراق طوائف عن الإسلام مرّاق،تضيق-بسوء فعالهم-على أهله الأرزاق،ثم تنفرج الغمّة-من بعد-ببوار طاغوت من الأشرار،ثم يسرّ بهلاكه المتّقون الأخيار.

و يتّفق لمريدي الحجّ من الآفاق ما يأملونه منه،على توفير عليه منهم و إتفاق(1)و لنا-في تيسير حجّهم على الإختيار منهم و الوفاق-شأن

ص:269


1- (1) و في نسخة:على توفير غلبة منهم و انفاق

يظهر على نظام و اتساق.

فليعمل كلّ امرىء منكم بما يقرّبه من محبّتنا(1)و يتجنّب ما يدنيه من كراهتنا و سخطنا،فإنّ أمرنا بغتة فجأة،حين لا تنفعه توبة،و لا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة.

و اللّه يلهمكم الرشد،و يلطف لكم في التوفيق برحمته)).

نسخة التوقيع باليد العليا،على صاحبها السلام:

((هذا كتابنا اليك أيها الأخ الوليّ و المخلص في ودّنا الصفّي، و الناصر لنا الوفيّ،حرسك اللّه بعينه التي لا تنام،فاحتفظ به،و لا تظهر على خطّنا-الذي سطّرناه بماله ضمّنّاه-أحدا،و أدّ ما فيه الى من تسكن اليه،و أوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء اللّه،و صلّى اللّه على محمد و آله الطاهرين))(2)

و الآن نشرح ما ينبغي شرحه من بعض كلمات الرسالة:

لقد جرت العادة-في المراسلات-أن يتقدّم إسم المرسل على إسم المرسل إليه،فيكتب:من فلان الى فلان،و قد يتقدّم إسم المرسل إليه على إسم المرسل إذا أريد له التعظيم و الإحترام الكثير.و هذا ما حصل فعلا في هذه الرسالة،فقد قدّم الإمام المهدي(عليه السلام)إسم الشيخ المفيد،حيث كتب(عليه السلام)إليه:

((للأخ السديد و الوليّ الرشيد الشيخ المفيد))و هذا إن دلّ على

ص:270


1- (1) و في نسخة:«بما يقرب به من محبّتنا».
2- (2) كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي ج 2 ص 497،طبع لبنان 1401 ه

شيء فإنّه يدلّ على ما كان يتمتّع به الشيخ من الصلاح و الديانة و الورع.

كما أنّ تعبير الإمام(عليه السلام)عنه ب((الأخ))يعتبر مرتبة عالية لا يمكن تصوّرها،فما أعظم أن يبلغ الإنسان-من التقرّب الى اللّه تعالى-مرتبة يخاطبه الإمام بكلمة(الأخ)مع العلم أنّنا لم نجد هذا التعبير صادرا عن الإمام المهدي(عليه السلام)الى غير الشيخ المفيد، من النوّاب الأربعه و الوكلاء و غيرهم.

ثم يصفه بالسداد-بفتح السين-:و هو الإصابة في القول و العمل،فالسديد هو المصيب الذي لا يخطيء في اقواله و أفعاله.

و يصفه بالولاء،و الوليّ له معان متعدّدة،لكن الأنسب-هنا:

الذي له النصرة و المعونة.

ثم يصفه بالرشاد،و الرشيد هو الناضج الذي يدبّر الأمور و القضايا بحكمة و تعقّل،من غير إشارة مشير و لا تسديد مسدّد.

و يعبّر الإمام المهدي(عليه السلام)عن نفسه ب(مستودع العهد المأخوذ على العباد)فالمستودع:مكان الحفظ و الإيداع،و العهد المأخوذ على العباد يحتمل معنيين:

1-العهد العقلي و معناه أنّ العقل السليم يحكم على الإنسان أن يصدّق الأنبياء و المرسلين،و من لوازم هذا التصديق هو الإيمان و الإعتراف بوجود الامام المهدي(عليه السلام)الذي أخبر عنه رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم).

ص:271

و بناءا على هذا،يكون الإمام المهدي(عليه السلام)مستودع العهد المأخوذ على العباد.

2-الإقرار الذي أخذه اللّه من خلقه في عالم الذرّ.(1)ففي تفسير قوله تعالى:وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ:أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟قالُوا:بَلى شَهِدْنا.. (2)وردت أحاديث كثيرة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)أنّ الآية تتعلّق بعالم الذرّ، و أنّ اللّه تعالى قد أخذ العهد من عباده أن يقرّوا له بالربوبيّة، و لمحمد(صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)بالرسالة،و للأئمّة الإثني عشر-بما فيهم الإمام المهدي-بالإمامة.

و قد ذكرنا شيئا يسيرا ممّا يتعلّق بعالم الذر في كتاب(فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد).

و على كلّ تقدير فالإمام المهدي(عليه السلام)يقصد نفسه بهذا الوصف.

((و نعلمك-أدام اللّه توفيقك لنصرة الحقّ،و أجزل مثوبتك

ص:272


1- (1) ملخّص القول-عن عالم الذرّ هو:أنّ اللّه تعالى-يوم خلق آدم-أخرج ذرّيته من صلبه،و هم كهيئة الذر-أي:و هم في منتهى الصغر-،فعرضهم على آدم، و قال:إني آخذ على ذرّيتك ميثاقهم أن يعبدوني و لا يشركوا بي شيئا،و عليّ أرزاقهم، ثم قال-لهم-:ألست بربّكم؟قالوا:بلى شهدنا إنّك ربّنا،فقال اللّه تعالى للملائكة:إشهدوا،فقالوا:شهدنا.ثم ردّهم الى صلب آدم.و قد سئل الإمام الصادق(عليه السلام):كيف أجابوا و هم ذر؟فقال:جعل اللّه فيهم ما إذا سألهم أجابوه.
2- (2) سورة الأعراف/الآية 172

على نطقك عنّا بالصدق-أنّه قد اذن لنا في تشريفك بالمكاتبة))

دعا الإمام المهدي(عليه السلام)للشيخ المفيد بدوام التوفيق لنصرة الحق،فالكثيرون من العلماء يفضّلون الخمول و الخمود على النشاط و الإنتاج،و إنجاز الأعمال النافعة للمجتمع الاسلامي،كلّ ذلك مع توفّر المؤهّلات فيهم،و ما ذاك إلاّ لعدم التوفيق الإلهي،الذي يعتبر السبب الأصلي لتحقّق الأعمال.

و أمّا كيفية صدور الإذن من اللّه تعالى للإمام المهدي بمكاتبة الشيخ المفيد،فلا يعلمها إلاّ اللّه تعالى و الإمام المهدي(عليه السلام)و جميع الإحتمالات و الوجوه المتصوّرة في هذ المسألة تعتبر آراء شخصية..لا حقائق قطعيّة.

فاللّه سبحانه يأذن لأوليائه في القيام ببعض الامور،بكيفيّة مجهولة عندنا،و لا نستطيع أن ندرك كيفيّة الإتّصالات بين اللّه سبحانه و بين أوليائه،في صدور الأوامر إليهم،و إنّما نكتفي بالقول:إنّ الشيخ المفيد حصل له هذا الشرف-شرف المكاتبة-بإذن اللّه تعالى للإمام المهدي(عليه السلام)و لا يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم.

((و تكليفك ما تؤدّيه عنّا إلى موالينا قبلك))و أيضا أذن اللّه تعالى للإمام المهدي(عليه السلام)أن يكلّف الشيخ المفيد بأن يكون همزة وصل بين الإمام المهدي و بين شيعته الموالين للإمام في بيان الأوامر العامّة و التعاليم الخاصّة.

و دعا الإمام(عليه السلام)في حقّ شيعته الموالين،بقوله:

«أعزّهم اللّه بطاعته،و كفاهم المهمّ برعايته لهم و حراسته»لقد روي عن

ص:273

الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)أنّه قال:«..و إذا أردت عزّا بلا عشيرة،و هيبة بلا سلطان،فاخرج من ذلّ معصية اللّه الى عزّ طاعته»(1)

و معنى ذلك أنّ طاعة اللّه تعالى توجب-للمطيع-العزّة في الدنيا و السعادة في الآخرة،و أنّ المعاصي تورث الذلّ و الهوان في الدنيا،و الخزي و العذاب في الآخرة.

و دعا الإمام المهدي(عليه السلام)لشيعته أن يعزّهم اللّه بطاعته، بأن يوفّقهم للطاعة،فينالوا بها العزّ،و أن يكفيهم اللّه تعالى ما أهمّهم من أمورهم،برعايته لهم،و يحرسهم من شرّ الأعداء.

((فقف-أمدّك اللّه بعونه،على أعدائه المارقين من دينه-على ما نذكره))من الواضح أنّ كلمة«قف»معناها-هنا-:إفهم و تبيّن و اطّلع على ما نذكره،و قد دعا الإمام(عليه السلام)له دعاءا آخر،جعله جملة معترضة بين كلمة«فقف»و كلمة«على ما نذكره»دعا الإمام أن يمدّ اللّه الشيخ المفيد بعونه،أي:يعينه على اعداء اللّه المارقين،و هم الخارجون من دين اللّه،و لا أظنّ أنّ الإمام(عليه السلام)يقصد بذلك اليهود أو النصارى أو المشركين،بل يقصد بعض الطوائف التي تدّعي الإسلام و هي في طليعة أعداء الاسلام،بل هي أضرّ على الإسلام و المسلمين من المشركين.

ص:274


1- (1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 44 ص 139

«و اعمل في تأديته الى من تسكن إليه،بما نرسمه إن شاء اللّه» أمره الإمام المهدي أن يؤدّي إلى من يطمئنّ به من الشيعة هذه الأخبار و الأوامر:

«نحن و إن كنّا ثاوين بمكاننا النّائي عن مساكن الظالمين،حسب الذي أراناه اللّه تعالى لنا من الصلاح»يقول(عليه السلام):إنّه يسكن في المناطق البعيدة عن سلطة الظالمين،و إنّ هذا من المصلحة التي رآها اللّه تعالى له،إذ من الواضح أنّ الإمام(عليه السلام)لو كان يعيش بين الناس بصورة علنيّة،لكانت السلطات المنحرفة تلقي القبض عليه و تقتله،و قد مرّ-عليك-أنّ المعتضد العبّاسي أرسل فرقة مسلّحة الى دار الإمام بسامراء لإلقاء القبض على الإمام و قتله.

«و لشيعتنا المؤمنين في ذلك،ما دامت دولة الدنيا للفاسقين»أي:

إنّ مصلحة الشيعة أيضا في غيبة الإمام،لأنّ ظهور الإمام بين الناس-قبل اليوم المعيّن عند اللّه تعالى-يؤدّي الى إلتفاف الشيعة حوله و إجتماعهم عنده،و بهذا يشملهم جميعا الخطر و البلاء من قبل الحكومات المنحرفة التي تلاحق أهل الحقّ و الإيمان،إذ من السهل القضاء على طائفة من الناس مجتمعة في مكان واحد.

و ليس معنى هذا أنّ الإمام(عليه السلام)منقطع عن المجتمع، و أنّه لا يحضر في المدن و المجتمعات و لا يلتقي بمن يريد،كلاّ،و إنّما معناه أنّ مسكن الإمام و إقامته في المناطق البعيدة عن الطواغيت و الظالمين،و أنّه(عليه السلام)حين تواجده في المدن و بين الناس لا يعرّف نفسه،و لا يظهر بشكل أو بزيّ خاص،بحيث يعرفه كلّ أحد،و إنما يعرّف نفسه لمن يريد،و لا يعرّف نفسه لمن لا يحب،و قد

ص:275

صرّح الامام المهدي(عليه السلام)-لجمع من الذين تشرّفوا برؤيته-بأنه يحضر عند قبر جدّه الامام الحسين الشهيد(عليه السلام)في كلّ ليلة جمعة،و لهذا يقول(عليه السلام):

«فإنّا نحيط علما بأنبائكم،و لا يعزب عنّا شيء من أخباركم» هذه الجملة مرتبطة بالتي قبلها،و المعنى:أنّنا و إن كنّا بعيدين عنكم من حيث المكان،إلاّ أنّنا نعلم كلّ ما يدور حولكم و يحدث عندكم،و لا يغيب عنّا شيء من أخباركم و قضاياكم.

من الطبيعي أنّ الإمام الذي جعله اللّه مستودع العهد المأخوذ على العباد،لا بدّ و أن يوفّر اللّه تعالى له وسائل الإطّلاع و المعرفة على ما يجري و يحدث في هذا الكون.

و لا نعلم-بالضبط-نوعيّة وسائل الإستخبارات المتوفّرة لدى الإمام المهدي(عليه السلام)فيمكن له إستخدام الملائكة و الجنّ و البشر لهذا الغرض،و يمكن أن يكتفي بما توفّرت لديه من خصائص الإمامة، فترتفع له الحجب،و تنكشف له الخفايا و النوايا باذن اللّه تعالى،فيعلم بما جرى و يجري.

إنّنا نرى-اليوم-أنّ الحكومات و الدويلات توفّر جميع وسائل الإستخبارات-.كالهاتف و اللاسلكي و التلكس و الرادار و ما شابه ذلك-لمنتسبي دوائر المخابرات،بالإضافة الى الأفراد الكثيرين الذين تنشرهم في الأوساط و المجتمعات و البلاد،كي يسترقوا السمع و يلتقطوا الأخبار،و يوحوا بها الى أوليائهم.

فكيف بمن جعله اللّه تعالى إماما و أمينا في أرضه و حجّة على

ص:276

عباده،أما ينبغي أن يسخّر اللّه تعالى له جميع الوسائل المادّية و الماورائيّة، و يزوّده بجميع الأجهزة المعنويّة اللازمة،ليكون على علم و إحاطة بكلّ ما يجري؟؟!

«و معرفتنا بالذلّ الذي أصابكم مذ جنح(1)كثير منكم الى ما كان السلف الصالح عنه شاسعا»هذه الجملة-كما تراها-مبهمة و غير واضحة عندنا،فما هو الذلّ الذي أصاب الناس حينما أقبل الكثيرون الى إرتكاب الأعمال التي كان الخطّ الشيعيّ السالف بعيدا عنها؟إنّ الإمام(عليه السلام)لا يكشف النقاب عمّا جرى،و يراعي الإختصار و الإجمال، لأنّ المرسل إليه-و هو الشيخ المفيد-يفهم ما يقصده الإمام.

و لكن المستفاد من ظاهر كلامه(عليه السلام)هو أنّ بعض الناس-يومذاك-إنحرفوا عن الصراط المستقيم،و لا نعلم هل كان إنحرافهم عقائديّا أم سلوكيّا،فأصابهم الذلّ و فقدوا العزّة و الإستقلال.

«و نبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم،كأنّهم لا يعلمون»لا نعلم-بالضبط-ما هو المقصود من نبذ العهد المأخوذ؟و لعلّ المعنى هو أنّ بعض الناس-بعد وقوع الغيبة الكبرى و انقطاع الإتّصالات بين الشيعة و بين الإمام المهدي-بدأ يشك او يشكّك في وجود الإمام المهدي(عليه السلام)و ذلك لمّا أصابتهم المحن و المشاكل و الضغوط من الحكومات الظالمة،فتصوّروا أنّ الإمام لو كان موجودا لما أصابتهم تلك المكاره،و لكنّ الإمام(عليه السلام)يبيّن سبب ذلك الذلّ،و هو أنّهم إنحرفوا و خالفوا العهد،فأصابتهم سيّئات ما كسبوا،و إلاّ فإنّ

ص:277


1- (1) جنح:مال.

الإمام(عليه السلام)يشمل شيعته بدعائه و عطفه و لطفه،و لهذا قال(عليه السلام):

«إنّا غير مهملين لمراعاتكم،و لا ناسين لذكركم،و لو لا ذلك لنزل بكم اللأواء،و اصطلمكم الأعداء»لو لا رعاية الإمام(عليه السلام) لشيعته و دعاؤه لهم،لضاقت عليهم الأمور،و اشتدّت بهم المحن، و هذا معنى«اللأواء»،و قد كانت الحكومات المنحرفة-في عهد الأمويّين و العبّاسيّين و العثمانيّين و غيرهم-تحارب الشيعة و تطاردهم و تلاحقهم، و كان المفروض أن لا يبقى منهم أحد،لو لا دعاء الأئمّة الطاهرين و عناية الإمام المهدي و رعايته،و هذا معنى«إصطلمكم الأعداء»أي:

إستأصلكم.يقال:إستأصل الشجرة،أي قلعها من أصولها و جذورها.

و خلاصة القول:إنّ الإمام المهدي(عليه السلام)يدافع و يحامي عن الشيعة بالطرق و الوسائل المتوفّرة لديه،و بالإستفادة من القدرة المادّية و الماورائيّة التي يتمتّع بها،و لقد أحسن و أجاد الخاجة نصير الدين الطوسي-الفيلسوف الشيعيّ العظيم-حيث قال-في حقّ الإمام المهدي عليه السلام-:«وجوده لطف،و تصرّفه لطف آخر،و عدمه منّا».

و سنذكر-في الفصل القادم-بعض النماذج لعناية الإمام المهدي بشيعته، و رعايته لهم.

و ينبغي أن لا ننسى أنّ الإمام المهدي(عليه السلام)يدافع عن شيعته ما داموا على الخطّ الشيعيّ الصحيح،أمّا إذا انحرفوا عقائديا أو سلوكيا فإنّ الأمر يختلف،و العناية تضعف،كما شاهدنا و نشاهد ذلك، فالإمام المهدي(عليه السلام)لا يشمل برعايته الخمّارين و القمّارين

ص:278

و الزنّائين و أمثالهم من الفسقة الفجرة،و لا يبالي بالمنحرفين عقائديا و لا بالعاملين في الأحزاب و المنظّمات المخالفة للإسلام و المناقضة للدين، نعم..لا يبالي بهم لأنّهم ليسوا على خطّ الإمام المهدي الذي هو خطّ الإسلام و النبيّ و الأئمّة(عليهم الصلاة و السلام)و بالتالي ليسوا من شيعته.

«فاتّقوا اللّه جلّ جلاله،و ظاهرونا على إنتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم(1)»يأمرهم الإمام(عليه السلام)بتقوى اللّه سبحانه،و الإبتعاد عن المعاصي التي تجلب أنواع البلاء.

إنّ الامام المهدي-الذي يتجسّد فيه الإسلام،و الذي يمثّل جدّه صاحب الشريعة الإسلاميّة رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم) و أجداده الطاهرين(عليهم السلام)-لا يتجاوب مع المستهترين الذين لا يبالون بالقيم الإسلاميّة و الأحكام الدينيّة،فترى بعضهم يرتاد المسابح المختلطة و الملاهي و المخامر و المدارس المختلطة،و يتعاطى المعاملات الربويّة،و يتعاون مع الظالمين،و يبايعهم على تنفيذ أوامرهم مهما كانت، و كأنّه لا يعترف بالحلال و الحرام،و لا بالنجس و الطاهر،و لا بالواجبات و التكاليف الشرعيّة،فهو شيعي بالإسم فقط..لا بالعمل..و لا بالعقيدة!!

فما كرامة هذا الشيعي الذي يستخفّ بأحكام الإسلام،و يرتكب المحرّمات و كأنّه ليس من هذه الأمة،و لا من أفراد هذه الملّة؟!!

و لقد مرّت عليك-في فصل سابق-أسماء بعض المنحرفين الذين تبّرأ الإمام المهدي(عليه السلام)منهم،بل و لعنهم و أمر شيعته بالبراءة

ص:279


1- (1) ظاهرونا:تعاونوا معنا.إنتياش:إنقاذ و إنتشال.أنافت:أشرفت و ارتفعت

منهم.كلّ ذلك بسبب منكراتهم و إنحرافاتهم.ثم ينذر الإمام المهدي(عليه السلام)شيعته،و يخوّفهم من فتنة كانت في طريقها الى المجتمع الإسلامي،أو الى بغداد بصورة خاصّة،و يأمرهم أن يتعاونوا معه عمليّا حتى ينقذهم من تلك الفتنة.

و المقصود من التعاون العملي هو ما ذكره الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب(عليه السلام)في الرسالة التي كتبها الى عثمان بن حنيف(1)، حيث ذكر فيها:«...و لكن أعينوني بورع و اجتهاد،و عفّة و سداد...»فالدعاء من الإمام و التقوى من الشيعة ينتجان معا:

الخلاص من البلايا و الفتن.

و يشبّه الإمام(عليه السلام)تلك الفتنة بالسحابة التي تخيّم على البلدة،و تسدّ الفضاء من الافق الى الأفق.

«يهلك فيها من حمّ أجله،و يحمى عنها من أدرك أمله»:يهلك في تلك الفتنة كلّ من قدّر اجله و انتهت مدّته،و يحفظ اللّه عن تلك الفتنة كلّ من أدرك أمله،و قدّر له البقاء.

«و هي أمارة لأزوف حركتنا»الأمارة-بفتح الهمزة-العلامة، الأزوف-بضمّ الهمزة-:الدنوّ و الإقتراب.فالمعنى:أنّ الفتنة المذكورة علامة لقرب حركتنا،و ليس المقصود من الحركة-هنا-الظهور،بل هو الإنتقال من مكان الى مكان،فإنّ الذي أوصل هذه الرسالة الى الشيخ المفيد قال إنّه يحملها من ناحية متّصلة بالحجاز،فلعلّ الإمام إنتقل من تلك المنطقة الى مكان آخر،في أوائل حدوث تلك الفتنة المشار إليها.

ص:280


1- (1) كان واليا على مدينة البصرة من قبل الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام).

«و مباثّتكم بأمرنا و نهينا»و في بعض النسخ:مباينتكم،و هناك نسخ أخرى بعيدة،و الأقرب الى الصواب هو«مباثّتكم»يقال:تباث القوم الأسرار،أي كشفها بعضهم لبعض،و المقصود أن يخبر كلّ واحد منهم الآخر بما يعلمه من الأوامر و النواهي الواردة من ناحية الإمام المهدي(عليه السلام)،و لعلّ المعنى هو أنّ الإمام سوف يرسل تعليمات جديدة عند حلول تلك الفتنة.

«إعتصموا بالتقيّة من شبّ نار الجاهليّة»(1)التقيّة:هي كتمان العقيدة التي لا يتّفق معها الناس،و موافقتهم في قول أو فعل..مخالف للحق،إتّقاء شرّهم،و هي راجحة عقلا،و قد تجب شرعا في ظروف خاصّة،و شروط مذكورة في الكتب الفقهيّة.

امر الإمام(عليه السلام)شيعته أن يلتزموا بالتقيّة،و ليس هذا بشيء جديد،فقد أمر الأئمّة(عليهم السلام)شيعتهم بذلك بكلّ تأكيد.

و لعلّ المقصود من التقيّة-هنا-:الإبتعاد عن مواطن الفتنة، و الحذر منها،و إنتهاج أسلوب خاص-في الحياة-لا يجلب إنتباه الأعداء و لا يهيّج عزائمهم ضدّ الشيعة و التشيّع.

و من المؤسف أنّ هذه الكلمات-بالنسبة إلينا-في منتهى الخفاء و الغموض،و لا نستطيع أن نعرف-بالضبط-المقصود منها،و لا يبعد أن تكون الحكومة العباسيّة-يومذاك-قد خطّطت للقضاء على الشيعة، باعتبارها القلب النابض لخطّ الإمام المهدي(عليه السلام)،و لأنّها تحافظ

ص:281


1- (1) شبّ نار الجاهليّة:يقال:شبّ النار:إذا أوقدها.

على كيانها و تعتمد على نفسها،و تتحدّى الحكومات اللاشرعيّة،فأنذر الإمام المهدي(عليه السلام)شيعته بتلك النوايا السيّئة و الخطط الجهنميّة التي كانت تحاك خلف الستار،و أمرهم بالإجتناب عما يعرّضهم للخطر، و ذلك بالإعتصام و الإلتزام بالتقيّة.

«تحشّشها عصب أمويّة»حشّ النار:أوقدها أو حرّكها(1)فيمكن أن يكون المعنى أنّ طائفة أمويّة النزعة تستغلّ الموقف،فتحشّ النار و تحرّكها،و تشعل نار الفتنة لإيجاد حرب طائفيّة،فتثور في الشيعة روح الحميّة،و تهيج عزائمهم،و يقاومون تلك المشاغبات،و كأنّهم بذلك يشبّون النار،و بما أنّهم-يومذاك-طائفة مستضعفة،لذلك سيكونون ضحيّة تلك الفتنة،و وقود تلك النار.

«أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن الخفيّة»يقال:رام،يروم روما-بفتح الراء-الروم:الحركة المختلسة الخفيّة.يضمن الإمام المهدي(عليه السلام)و يتكفّل بنجاة من لم يقم بأعمال سريّة،و لم يقم بنشاط مضاد للشيعة و التشيّع،كإيجاد علاقات صداقة سريّة مع أعداء الشيعة.

«و سلك في الظعن منها السبل المرضيّة»أي:إختار الطرق السليمة المعتدلة،في مواجهة تلك الحوادث الخطيرة التي خطّطها الأعداء.

ثم أخبرهم الإمام بما سيحدث في تلك الأزمنة فقال:«إذا حلّ

ص:282


1- (1) لم أجد في كتب اللغة-الموجودة عندي-حشّش،بل الموجود:حشّ النار:أي أوقدها أو حرّكها.

جمادى الأولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيها(1)»كلمة(العبرة) و(الإعتبار)بمعنى الإتّعاظ،و هي مشتقّة من العبور،و هو الإنتقال من مكان الى مكان،و المراد-هنا-إنتقال الذهن من أمر الى آخر،مثلا:

الإعتبار بالموت هو إنتقال ذهن الإنسان من موت الناس الى موته هو، فيتفكّر أنّه يموت كما مات غيره،أو فلان كان غنيا فافتقر،أو عزيزا فذلّ،فيعتبر الإنسان بذلك،و يتّخذ التدابير اللازمة،و لا يعتمد على الدنيا،فهنا إنتقل الذهن عن الحوادث الى مصير الإنسان نفسه.

أمر الإمام المهدي(عليه السلام)شيعته بالإعتبار بالحوادث التي أخبر عنها مسبقا،و لا أراني بحاجة الى تكرار التحدّث عن علم الإمام(عليه السلام)و إخباره عن المستقبل،و قد سبق هذا البحث في فصل سابق.

«و استيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليها»(2)يستفاد من هذه الكلمة أنّ الخمود و تعطّل المشاعر و فقدان الوعي كان سائدا على ذلك المجتمع،فكأنّهم كانوا نائمين..لا يشعرون بالذي يجري حولهم.

((ستظهر لكم من السماء آية جليّة،و من الأرض مثلها بالسويّة)) مع كلّ أسف أنّ التاريخ أهمل ذكر الحوادث التي حدثت في تلك السنة، و نجد في كتب التاريخ حوادث لا تتّفق مع تلك السنة تاريخيا،لأنّ تاريخ هذه الرسالة سنة.41 ه،و قد حدثت حوادث في سنين متأخّرة عن تاريخ هذه الرسالة،و لا ينطبق عليها إخبار الإمام

ص:283


1- (1) و في نسخة:فيه،باعتبار رجوع الضمير الى لفظة«شهر»المقدّرة في الجملة
2- (2) و في نسخة:يليه.

المهدي(عليه السلام).

مثلا:((ستظهر لكم من السماء آية جليّة،و من الأرض مثلها بالسويّة))الآية السماوية التي حدثت هو سقوط كوكب(أي قذيفة منفصلة عن الكواكب)عظيم،إستنارت منه الأرض،و سمع له دويّ عظيم،و لكن كان ذلك في سنة 417 ه،و حدث مثل هذا الحدث سنة 401 ه،و ارتفع ماء دجلة-بسبب الفيضان-مقدار إحدى و عشرين ذراعا،و غرق جانب كبير من بغداد و أراضي العراق.

فمن المستبعد جدا أن يأمر الإمام شيعته بأن يعتبروا بما يحدث في شهر جمادى الإولى من تلك السنة من الحوادث،من ظهور آية سماويّة، و من الأرض مثلها بالسويّة ثمّ تحدث الحوادث بعد سبع سنوات!.

و لا محيص لنا من أن نقول:إن حوادث سماويّة و أرضيّة حدثت في تلك السنة،و لكنّ التاريخ أهمل ذكرها،أو لم يصل إلينا خبرها، بسبب تطاول الزمان.

((و يغلب-من بعد-على العراق طوائف عن الإسلام مرّاق)) مرّاق-جمع مارق-:يقال مرق عن الدين:أي خرج منه.أخبر الإمام المهدي(عليه السلام)عن غلبة طوائف خارجة عن الإسلام،أو خارجة عن تعاليم الإسلام،على العراق.يقال إنّ(طغرل بك)أول ملوك السلاجقة،إستولى على العراق،بعد حروب دامية،و شمل شرّه العباد و البلاد،و ذلك في سنة 447،فدخل جيشه بغداد،و ضيّق على الناس في المساكن و الأرزاق،فوقع القحط و الغلاء في المواد الغذائية،و ارتفعت الأسعار إرتفاعا جنونيّا،و كثر الموت،و حدث وباء عظيم،و اشتد الأمر

ص:284

و تطوّر من سوء الى أسوأ،حتى عجز الناس عن دفن الموتى.

فلعلّ المقصود من الطوائف المرّاق عن الإسلام،هم:(طغرل بك) و عساكره الذين أفسدوا في البلاد العراقية،و جعلوا أعزّة أهلها أذلّة، و أهلكوا الحرث و النسل،و هتكوا الحرمات بعد أن أراقوا الدماء، و ارتكبوا أبشع الجرائم و أفظع الفجائع،و جعلوا الحياة الإقتصاديّة في تدهور و تأزّم(1)و اللّه العالم.

((ثم تنفرج الغمّة-من بعد-ببوار طاغوت من الأشرار،ثم يسرّ بهلاكه المتّقون الأخيار))و اخيرا مات الطاغوت طغرل بك،و انفرجت الغمّة و الأزمة،و فرح المتّقون الأخيار بهلاكه و موته،و انحلّت المشاكل، و زال الغلاء و تحسّنت الأوضاع،و تبدّلت الحياة الى التي هي أحسن.

((و يتّفق لمريدي الحجّ من الآفاق ما يأملونه منه على توفير عليه منهم و اتّفاق))إجتاحت بعض بلاد الشرق الأوسط موجة من الإضطرابات و المآسي،و منها طرق الحجّ للحجاج،فكانت الطرق غير مأمونة،بل و حتى في مكّة ذاتها،قبل صدور هذه الرسالة و بعدها، و استمرّ الوضع طيلة سنوات غير قليلة،و بعد ذلك عادت المياه الى مجاريها،و عاد الأمان و الهدوء و الإستقرار الى البلاد،و الطمأنينة الى العباد،كلّ ذلك ببركة الإمام المهدي(عليه السلام)كما صرّح بذلك في هذه الرسالة:

((و لنا في تيسير حجّهم-على الإختيار منهم و الوفاق-شأن يظهر على نظام و اتّساق))لا بأس أن ننتبه الى أنّ في هذه الجملة تقديما

ص:285


1- (1) تجد تفصيل ذلك في كتاب الكامل للطبري ج 7

و تأخيرا،فالمعنى:و لنا شأن يظهر على نظام و اتّساق في تيسير حجّهم على الإختيار منهم و الوفاق.

فالإمام المهدي(عليه السلام)له القدرة في التصرّف في هذا الكون بأساليب عديدة مقدورة لديه،و قد ذكر الطبري أنّ محمد بن سبكتكين سعى في توفير سلامة الحجّاج،و ما يدريك من الذي أوعز اليه ذلك و امره ببذل الجهود في هذا السبيل؟!و اللّه العالم بالمقصود.

((فليعمل كلّ امرىء منكم بما يقرّبه من محبّتنا،و يتجنّب ما يدنيه من كراهتنا و سخطنا))من الواضح أنّ الأعمال التي تقرّب الإنسان الى اللّه تعالى تقرّبه الى أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)و الأعمال التي توجب سخط اللّه تعالى توجب سخط الأئمّة أيضا،لأنّهم يحبّون ما أمر اللّه به و يكرهون ما نهى اللّه عنه،و من الطبيعي أنّ هذا الخطاب لا يخصّ أهل ذلك الزمان،بل يشمل جميع الشيعة على مرّ القرون.

((فإنّ أمرنا بغتة فجأة))البغتة و الفجأة متقاربتان في المعنى، الظاهر أنّ المراد من الأمر-هنا-هو ظهور الإمام المهدي،فالعلائم الحتميّة-التي تحدث قبل الظهور-لا تعيّن يوم الظهور،فيكون الظهور فجأة بغتة،و خاصّة للأفراد الذين لا يتفكّرون حول ظهور الإمام المهدي(عليه السلام)لعدم المبالاة،أو ضعف الإعتقاد بالإمام المهدي(عليه السلام)و ظهوره.

((حين لا تنفعه توبة،و لا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة)) الحوبة:الإثم.إنّ الانسان إذا أذنب-في عصر الغيبة-ذنبا يستحقّ عليه الحدّ،ثم تاب الى اللّه تعالى،قبل أن تشهد البيّنة بذنبه،فإنّ الحدّ

ص:286

يسقط عنه،أمّا بعد قيام الإمام المهدي(عليه السلام)فان التوبة لا تسقط الحد،و الندم لا ينجي من العقاب الذي يستحقّه المذنب، مثلا:السارق إذا تاب قبل ظهور الامام المهدي(عليه السلام)قبلت توبته،لأنّها توبة خالصة للّه و خوفا منه،و لكن إذا ظهر الإمام المهدي(عليه السلام)فإنّ التوبة لا تنفع في رفع الحد،فيأمر الإمام بقطع يد السارق،و إقامة الحدّ على من يستحقّ الحدّ و يأمر برجم من يستحقّ الرجم،كما قال تعالى:إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا،أَوْ يُصَلَّبُوا،أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ،أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ،ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا،وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ،إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقد ذكر الطبرسي في مجمع البيان-في تفسير هذه الآية-:إستثني من جملتهم:من يتوب مما ارتكبه قبل أن يؤخذ و يقدر عليه،لأن توبته-عند قيام البيّنة عليه و وقوعه في يد الإمام-لا تنفعه،بل يجب إقامة الحدّ عليه.

و ستعرف أنّ الإمام المهدي(عليه السلام)يعامل الناس حسب علمه و اطّلاعه بالحوادث،و لا ينتظر شهادة الشهود او إقامة البيّنة،بل يحكم بما أراه اللّه تعالى،و انكشف له من الواقع،فعند ذلك تكون التوبة خوفا من الإمام لا من اللّه تعالى،و لهذا لا تنفع التوبة.

((و اللّه يلهمكم الرشد،و يلطف لكم في التوفيق برحمته))دعا الإمام المهدي(عليه السلام)في حق شيعته بأن يلهمهم اللّه الرشد و الاستقامة و الصواب،و الإلهام:ما يلقى في الروع،و الروع-بضم الراء-العقل و الذهن و القلب،كالتلقين،يقال:وقع ذلك في روعي،

ص:287

أي:في بالي.

((و يلطف لكم في التوفيق)).التوفيق من اللّه:هو توجيه الأسباب نحو المطلوب الخير،و«يلطف لكم في التوفيق»أي:يهيّىء لكم الأسباب بالرفق،اذ قد يتوفّق الانسان للأعمال الحسنة..لكن مع تحمل المكاره و الصعوبات،و قد تتهيء له الأسباب فيقوم بنفس العمل..بكلّ سهولة و يسر.

الى هنا كانت الرسالة بإملاء الإمام(عليه السلام)و خطّ كاتبه، ثم كتب الإمام بخطّه الشريف المبارك في ذيل الرسالة هذه الجملات، و سمّى الشيخ المفيد هذه الملحوظة ب((نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السلام))و قد ذكرنا-فيما مضى-أنّ معنى التوقيع إضافة شيء الى الرسالة،و الشيخ المفيد يقصد باليد العليا يد الإمام المهدي(عليه السلام)المقدّسة،و الملحوظة كما يلي:

((هذا كتابنا إليك أيها الأخ الوليّ،و المخلص في ودّنا الصفيّ، و الناصر لنا الوفّي،حرسك اللّه بعينه التي لا تنام،فاحتفظ به،و لا تظهر على خطّنا-الذي سطّرناه بما له ضمّنّاه-أحدا،و أدّ ما فيه الى من تسكن اليه،و أوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء اللّه و صلى اللّه على محمد و آله الطاهرين)).

دعا له الإمام المهدي(عليه السلام)بالحفظ من كلّ شرّ،و أمره أن لا يطلع أحدا على خطّ الكاتب و خطّ الامام،و إنّما يستنسخ منه نسخة و يخبر بذلك الموثوقين من الشيعة المعتمدين.

ص:288

و هناك أسرار و حكم-لا نعلمها-في إخفاء خطّ الإمام(عليه السلام)و خطّ كاتبه عن الناس،و لا نستطيع أن نعرف السبب القطعيّ لذلك.

رسالة أخرى الى الشيخ المفيد

و ورد على الشيخ المفيد رسالة أخرى من ناحية الإمام المهدي(عليه السلام)في يوم الخميس،الثالث و العشرين من شهر ذي الحجّة سنة 412 ه،هذا نصّها:

((من عبد اللّه المرابط في سبيله

الى ملهم الحقّ و دليله».

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سلام اللّه عليك أيّها الناصر للحقّ،الداعي إليه بكلمة الصدق، فإنّا نحمد اللّه إليك الذي لا إله إلاّ هو،إلهنا و إله آبائنا الأوّلين، و نسأله الصلاة على سيّدنا و مولانا محمد خاتم النبيينّ،و على أهل بيته الطاهرين.

و بعد..فقد كنّا نظرنا مناجاتك،عصمك اللّه بالسبب الذي وهبه اللّه لك من أوليائه،و حرسك به من كيد أعدائه،و شفّعنا ذلك.

الأن من مستقرّ لنا ينصب في شمراخ من بهماء،صرنا إليه آنفا من غماليل،ألجأنا اليه السباريت من الايمان،و يوشك أن يكون هبوطنا الى

ص:289

صحصح،من غير بعد من الدهر،و لا تطاول من الزمان.

و يأتيك نبأ منّا بما يتجدّد لنا من حال،فتعرف بذلك ما تعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال،و اللّه موفّقك لذلك برحمته.

فلتكن-حرسك اللّه بعينه التي لا تنام-أن تقابل لذلك فتنة تبسل نفوس قوم حرثت باطلا لإسترهاب المبطلين يبتهج لدمارها المؤمنون، و يحزن لذلك المجرمون.

و آية حركتنا من هذه اللّوثة حادثة بالحرم المعظّم،من رجس منافق مذمّم،مستحلّ للدم المحرّم،يعمد بكيده أهل الإيمان،و لا يبلغ بذلك غرضه من الظلم و العدوان،لأنّنا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض و السماء.

فلتطمئنّ بذلك من أوليائنا القلوب،و ليثقوا بالكفاية منه و إن راعتهم بهم الخطوب،و العاقبة-بجميل صنع اللّه سبحانه-تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهيّ عنه من الذنوب.

و نحن نعهد إليك-أيّها الوليّ المخلص،المجاهد فينا الظالمين(أيّدك اللّه بنصره الذي أيّد به السلف من أوليائنا الصالحين)-أنّه من اتّقى ربّه من إخوانك في الدين،و أخرج ممّا عليه الى مستحقّيه، كان آمنا من الفتنة المبطلة،و محنها المظلمة المضلّة.

و من بخل منهم بما أعاره اللّه من نعمته على من أمره بصلته،فإنّه يكون خاسرا بذلك لأولاه و آخرته(1)

ص:290


1- (1) و في نسخة:لأولاه و أخراه.

و لو أنّ أشياعنا-وفّقهم اللّه لطاعته-على أجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم،لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا،و لتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة و صدقها منهم بنا!

فما يحبسنا عنهم إلاّ ما يتّصل بنا ممّا نكرهه و لا نؤثره منهم.و اللّه المستعان و هو حسبنا و نعم الوكيل،و صلاته على سيّدنا البشير النذير محمد و آله الطاهرين و سلّم.

و كتب في غرّة شوال سنة إثنتي عشرة و أربعمائة

نسخة التوقيع باليد العليا(صلوات اللّه على صاحبها):

((هذا كتابنا إليك أيّها الوليّ الملهم للحقّ العليّ،بإملائنا،و خطّ ثقتنا،فأخفه عن كلّ أحد،و اطوه،و اجعل له نسخة تطلع عليها من تسكن الى أمانته من أوليائنا،شملهم اللّه ببركتنا إن شاء اللّه

الحمد للّه و الصلاة على سيّدنا محمد النبي و آله الطاهرين)).

أقول:هذه الرسالة-كسابقتها-تشتمل على رموز و كنايات لا يعرفها إلاّ الشيخ المفيد نفسه،و تتضمّن إخبارات عن المستقبل، بالإضافة الى إحتوائها على كلمات عربيّة غير مألوفة،و يجب أن لا ننسى أنّ كلّ غموض أو توضيح أو رمز أو ما شابه ذلك إنّما هو منبعث عن الحكمة و العناية الخاصّة.

((من عبد اللّه المرابط في سبيله))المرابطة:هي الملازمة و المواظبة على حفظ ثغور البلد من شرّ العدو،و المقصود من الثغور-هنا-:

المواضع التي يخاف منها هجوم العدو،و هي الحدود التي تفصل بين دولتين.

ص:291

و الإمام المهدي(عليه السلام)يسمّي نفسه:المرابط في سبيل اللّه،لأنّه المحافظ على الدين الإسلامي الصحيح،من الضياع و التلف،فما أجمل هذا التعبير!و ما أحسن هذا البيان!.

إنّ المرابط جالس بالمرصاد لكلّ من يحاول الإعتداء على المدينة، في حين أنّ الناس لاهون بأعمالهم و أشغالهم،و هم لا يعلمون بالأخطار التي تتوجّه نحو المدينة و يدفعها المرابطون.

((الى ملهم الحقّ و دليله))قد ذكرنا معنى الإلهام-في شرح الرسالة الأولى-و للدليل معنيان:1-ما يستدلّ به.2-الدالّ على الشيء،و بعبارة أخرى:قد يكون لفظ«الدليل»إسم الفاعل،و قد يكون إسم المفعول،و على كلّ تقدير فالإمام المهدي(عليه السلام) يصف الشيخ المفيد بدليل الحق،ذلك الحقّ الذي ألهمه اللّه تعالى.

((فقد كنّا نظرنا مناجاتك))أي:كنا نرقب أو نشاهد مناجاتك، فلعلّ الشيخ المفيد كان قد توسّل بالإمام المهدي(عليه السلام)و خاطبه في أموره،فجاء الجواب إنّا سمعنا صوتك و فهمنا مرادك.

و دعا له الإمام بالحفظ((عصمك اللّه بالسبب الذي وهبه اللّه لك من أوليائه،و حرسك به من كيد أعدائه))يمكن أن يكون المقصود من السبب-هنا-:المنزلة الشامخة و المقام الرفيع الذي كان له عند الإمام المهدي(عليه السلام).

((و شفّعنا ذلك))أي:إستجاب اللّه هذا الدعاء في حقّنا أيضا، و ذلك كما يقال:غفر اللّه لك و لنا،أو:حفظك اللّه و إيّانا.

((الآن من مستقرّ لنا ينصب في شمراخ من بهماء))أظنّ أنّ هنا

ص:292

كلمة أو جملة محذوفة،و لعلّ التقدير:نكتب إليك الآن،أو نحن الآن،أو ما شابه ذلك،و بدونه يكون الكلام ناقصا.

و المقصود من((مستقر لنا))إمّا خيمة منصوبة،أو دار مبنيّة على قمّة جبل من أرض غير مسلوكة،و مكان لا يعرف الطريق اليه، لأن«الشمراخ»:قمّة الجبل،و«بهماء»-هنا-:المكان الذي لا يعرف الطريق إليه.

((صرنا اليه آنفا من غماليل،ألجأنا اليه السباريت من الايمان)) كان الإمام قد انتقل الى ذلك المكان حديثا،و كان قبل ذلك في غماليل،أي:واد ملتفّ بالشجر الكثير..كالغابة.و إنّما انتقل الإمام من ذلك الوادي بسبب صعوبة العيش فيها،من الجدب و عدم وجود الزرع.

و إنما اختار الإمام(عليه السلام)هذه المناطق المجهولة البعيدة عن المدن و الأماكن المسكونة،بوصية من والده الإمام الحسن العسكري(عليهما السلام)كما صرّح الإمام المهدي بذلك لإبن مهزيار حيث قال له:

((إنّ أبي(صلى اللّه عليه)عهد إليّ أن لا أوطّن من الأرض إلا أخفاها و أقصاها،إسرارا لأمري،و تحصينا لمحلّي،لمكائد أهل الضلال و المردة من أحداث الأمم الضوال..))الى آخر كلامه(1).

((و يكون هبوطنا الى صحصح من غير بعد من الدهر،و لا تطاول

ص:293


1- (1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 53 ص 34

من الزمان))و يمكث الإمام في تلك المنطقة الجديدة فترة قصيرة،ثم يهبط من قمّة الجبل الى صحصح أي:الى أرض مستوية.و في نسخة:«ضحضح»أي:ماء يسير،و لعلّ الأول أقرب.

((و يأتيك نبأ منّا بما يتجدّد لنا من حال))يستفاد من هذه الجملة أنّ الإمام المهدي(عليه السلام)كتب الى الشيخ المفيد أكثر من الرسالتين المذكورتين،كما ذكرنا ذلك في أوائل هذا البحث،و المقصود أنّنا نخبرك عن كلّ تغيير يحصل لنا في المسكن((فتعرف بذلك ما تعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال))أي:إنما نخبرك لتعرف أنّ لك عندنا قربا و منزلة شامخة حصلت لك بسبب أعمالك الحسنة.

((فلتكن-حرسك اللّه بعينه التي لا تنام-أن تقابل لذلك فتنة تبسل نفوس قوم حرثت باطلا لإسترهاب المبطلين))دعا الإمام المهدي(عليه السلام)للشيخ المفيد بأن يحرسه اللّه عن المكاره،و كان هذا الدعاء مقدّمة تمهيديّة لتقوية عزائمه،و تثبيته في مقابل فتنة تهلك نفوس قوم زرعت الباطل في القلوب الفارغة عن العقيدة الصحيحة،و ذلك عن طريق نشر الأباطيل و إشاعة الأكاذيب في ذلك المجتمع.

فالظاهر أنّ الإمام(عليه السلام)أمره بمقاومة تلك الفتنة،و اتّخاذ التدابير اللازمة لها،لتخويف المبطلين،حتى يعلموا أنّ الساحة غير خالية أمامهم،و أنّ هناك من يقاوم نشاطاتهم الجهنميّة.

و يحتمل أن يكون المعنى:إنّ الذين يزرعون الباطل إنما هو لاسترهاب و تخويف المبطلين أمثالهم.و يحتمل-قويّا-أنّ معارك طائفيّة كانت مترقّبة و مخطّطة،و لا نستطيع أن نعلم ماهيّتها و حقيقتها، لغموضها و إهمال التاريخ لذكرها.

ص:294

و على كلّ تقدير:فقد وجد الإمام(عليه السلام)الكفاءة في الشيخ المفيد،ليقف أمام تلك الموجة التي كادت أو كانت تقوم بأعمال شيطانيّة،و يتصدّى لها بكلّ حزم و صمود.

((يبتهج لدمارها المؤمنون،و يحزن لذلك المجرمون))و أخيرا كان مصير تلك المحاولات الفشل،و كأنّ تلك الفتنة أكلت أصحابها و دمّرتهم،ففرح المؤمنون بذلك،و حزن المجرمون لانهيار مساعيهم المنحرفة.

((و آية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالحرم المعظّم،من رجس منافق مذمّم،مستحلّ للدم المحرّم،يعمد بكيده أهل الايمان،و لا يبلغ بذلك غرضه من الظلم و العدوان))اللّوث-بفتح اللام-:لزوم الدار(1)و أمّا اللوثة-بضم اللام-:فهي بمعنى الاسترخاء و البطؤ،و لا تناسب المقام.

و المقصود أنّ علامة حركتنا،أي مغادرتنا هذا المكان الذي نقيم فيه حاليا-و الذي قد تقدّم وصفه-حادثة بالحرم المعظّم،أي:مكّة أو المسجد الحرام،و يقوم بها رجس منافق يظهر الايمان و يبطن الكفر، مذمّم مذموم،كثير الذم،أي:لا يذكره الناس إلا بالشر سفّاك للدماء المحرّمة،لا يبالي من إراقة دماء الأبرياء،يقصد المؤمنين،و يحيك ضدّهم المؤمرات،و لكن محاولاته تبوء بالفشل،فلا يتحقّق هدفه السيء،و لا يبلغ الى آماله من الظلم و العدوان،و هذه أيضا مشكلة تاريخيّة

ص:295


1- (1) القاموس للفيروز آبادي.

لا نستطيع التأكّد من تعيينها،فالحوادث التي جرت في المسجد الحرام كثيرة،و لا نعرف ما يقصده الإمام(عليه السلام)بالضبط.

و لكن نعلم باليقين أنّ الحادثة حدثت في زمان الشيخ المفيد،و لهذا أمره الإمام باتخاذ التدابير لإبطال تلك المؤمراة الكافرة،و تفنيد ذلك المخطّط الشيطاني.

((لأنّنا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض و السماء)).الدعاء:هو الإستمداد من مركز القدرة التامّة و مصدر القوّة الكاملة العامّة غير المحدودة،الدعاء هو:إستمداد من اللّه تعالى الذي هو ملك السماوات و الأرض و مالكها،و يدبّرها كيف يشاء، و يتصرّف فيها كما يريد،و هو على كل شيء قدير،و بكلّ شيء محيط عليم بصير خبير.

و دعاء الإمام المهدي(عليه السلام)لا يحجب عن اللّه تعالى، لعدم وجود ما يحبس الدعاء عن الإجابة و يمنعه عن التنفيذ،فدعاؤه لا يردّ،بالغا ما بلغ،و كائنا ما كان،و لا يحول دون إجابته حائل.

و يدفع اللّه الفتن بدعاء الإمام المهدي(عليه السلام)و طلبه من اللّه تعالى ذلك،فالإمام المهدي هو الحافظ لشيعته عن طريق الدعاء لهم، و لو لا دعاء الإمام لكانت الحياة على خلاف ما هي عليه الآن.

أيها القاريء:في غضون تأليف هذا الكتاب،إنصبّت أنواع المصائب و المآسي على الشيعة في كثير من بلاد الشرق الأوسط،فقتل من قتل،و اسر من أسر،و سجن من سجن،و اقصي من اقصي،و تشتّت العوائل،و تفرّقت العشائر،و هدّمت بيوت و احترقت أجساد،و زهقت نفوس تحت الأنقاض،و هتكت الاعراض و تمزّقت الاسر،و صودرت

ص:296

الأموال و العقار،و عاشت الشيعة في جوّ من الضغط و الكبت و الإختناق،و انقلبت عليهم الأمور،فصار الأغنياء فقراء و الأعزّة أذلّة، و شملهم الخوف و الذلّ و الهوان،فكانت الويلات و الدموع و الآهات ممّا تعجز الأقلام عن وصفها،و الألسن عن شرحها،فأين دعاء الإمام؟؟!!

لا أريد أن أخدش عواطف أبناء مذهبي و أضع النقاط على الحروف،حتى يحمل كلامي على الشماتة،و لكنّي أقول:كلّ من قرأ هذا البحث من كتابي،فليلق نظرة الى المجتمع و ليقارن بينه و بين التعاليم الإسلامية،ليرى بونا شاسعا و ابتعادا كثيرا بينهما.

فأين التشيّع من السفور و الخلاعة،و الخمور و الفجور،و الربا و الزنا و أكل الحرام و الإنحراف عن خط أهل البيت الذي هو خطّ الاسلام؟!

و لا تسأل عن الإنحرافات العقائديّة التي ابتلي بها شبابنا في هذا العصر بصورة خاصّة!

فأين التشيّع من الشيوعيّة الكافرة،و الوجودية الباطلة،و الأحزاب الأخرى التي هي و التشيّع على طرفي نقيض؟!

إنّ الكثيرين من الشيعة هم شيعة بالولادة،شيعة إسما،لا سلوكا و لا عقيدة و لا عملا..فكيف يشملهم دعاء الإمام؟!.

و ليس معنى كلامي هذا،أنّ الانحراف خاص ببعض أفراد الشيعة فقط،كلاّ..بل إنّ الإنحرافات و المفاسد و المساوىء عند أفراد بقيّة المذاهب الاسلامية أكثر و أكثر ممّا هو موجود عند الشيعة،كما رأيت ذلك و شاهدت،و ليس معنى كلامي المتقدّم أنّ أتباع بقية المذاهب أبرار

ص:297

و أخيار و معصومون من كلّ ذنب و كأنّهم ملائكة..كلاّ،و إنّما المقصود أنّ دعاء الإمام لشيعته يكون عند صفاء الشيعة و ابتعادهم عمّا نهى اللّه عنه،و إلاّ فالبلاء نازل و الشرّ قادم-نعوذ باللّه-.

((فلتطمئنّ بذلك من أوليائنا القلوب،و ليثقوا بالكفاية منه و إن راعتهم بهم الخطوب))و هكذا يفيض الإمام المهدي(عليه السلام) الطمأنينة و الإستقرار على قلوب مواليه و محبّيه،ببركة دعاء الإمام،حتى يثقوا بأنّ اللّه تعالى يكفيهم شرّ الأحداث و حتى إذا أخافتهم البهم:و هي الخطوب و المكاره العظيمة.

((و العاقبة-بجميل صنع اللّه سبحانه-تكون حميدة لهم،ما اجتنبوا المنهيّ عنه من الذنوب))و هذه بشرى سارة أنّ عاقبة أمرهم-و هي نهايتها-تكون حميدة،و ذلك بسبب جميل صنع اللّه تعالى؛أي:جميل إحسانه لهم،ما داموا مبتعدين عن المعاصي و المنكرات.

((و نحن نعهد اليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين-ايّدك اللّه بنصره الذي ايّد به السلف من أوليائنا الصالحين-أنّه من اتقى ربّه))نعهد اليك أي:نتقدّم اليك بهذا القول،أو:نوصيك بهذه الوصيّة،أو نعدك.ثم وصف الإمام الشيخ المفيد بالولاء الخالص، و سمّاه وليا مخلصا في ولائه و أعماله،و معنى الاخلاص:التجرّد عن الشوائب،و كلّ ما صفى و خلص و لم يمتزج بغيره فهو خالص،و العمل الذي يكون للّه و لا يريد أن يحمده عليه أحد إلاّ اللّه سبحانه.

و يستفاد أنّ الشيخ المفيد بذل الجهود و المساعي الكثيرة في دفع شبهات المبطلين،و تفنيد مزاعمهم،و تثبيت قواعد التشيّع و مكافحة المنحرفين،و قد وصفه الإمام(عليه السلام)بقوله:((المجاهد فينا

ص:298

الظالمين)ثم دعا له بهذه الدعوات التي تعتبر من نوادر النعم..و لا تثمّن بثمن:((أيّدك اللّه بنصره الذي أيّد به السلف من أوليائه الصالحين)) لعلّ الإمام المهدي(عليه السلام)يشير بهذا الدعاء الى الآية الشريفة:

((و أيّدناه بروح القدس))أيدّك اللّه أي:قوّاك اللّه بنصره،فيمكن أن يكون المقصود من قوله:((بنصره الذي أيّد به السلف))هي تقوية الروح و النفس عن طريق روح القدس الموكّل ببعض العباد،يلهمهم الكلام،و يلقّنهم المعاني،و يجري على ألسنتهم الحقائق،كما قال النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم)لحسّان بن ثابت:«لا زلت مؤيّدا بروح القدس ما دمت ناصرنا».و قال الإمام الرضا(عليه السلام) لدعبل:يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك.و قد ذكرنا ذلك في فصل:((الإمام الرضا يبشّر بالإمام المهدي)).

نعهد اليك((أنّه من اتقى ربّه من إخوانك في الدين،و أخرج ممّا عليه الى مستحقّيه،كان آمنا من الفتنة المبطلة،و محنها المظلمة المضلّة)) يضمن الإمام المهدي(عليه السلام)لأهل التقوى الذين يخرجون ما عليهم من الحقوق المالية-كالخمس و الزكاة و غيرهما-و يدفعونها الى مستحقّيها،يضمن لهم الأمان من مضاعفات الفتنة المبطلة،و هي التي تأتي بالباطل و الكذب،و المحن-جمع محنة-و هي ما يمتحن به الانسان من بليّة،و وصفها بالظلام و الضلال،كالطريق المظلم الذي يضلّ فيه الإنسان و لا يعرف طريق الخلاص و الخروج من تلك الظلمة.

((و من بخل منهم بما أعاره اللّه من نعمته على من أمره بصلته فانه يكون خاسوا لأولاه و أخراه))لقد ضمن الإمام المهدي(عليه السلام) للذين يدفعون حقوقهم الماليّة الواجبة أن يكونوا آمنين من البلايا و المحن

ص:299

و الشدائد،و كذلك هدّد الذين يبخلون عن دفع الحقوق الماليّة التي أعارها اللّه عندهم،و العارية:هي الشيء الذي تدفعه للآخر بشرط أن يردّه إليك،فالأموال التي يتركها الإنسان بعده هي بمنزلة العارية،لأنها تنتقل الى غيره،أو يصرفها في حياته،و على كلّ حال فالأموال التي بيد الإنسان جعلها اللّه سبحانه عارية عنده،لا تبقى دائما بل تزول و تخرج من يده،فمن بخل عن دفع الحقوق المالية الى المستحقّين فسوف يرى الخسائر الماليّة في هذه الدنيا،بأن تسرق أمواله أو تتلف بالحرق أو الغرق أو النهب أو ما شابه ذلك.

و يكون خاسرا في آخرته أيضا،لأنّه يخسر الأجر العظيم و الثواب الجزيل الذي أعدّه اللّه للمنفقين أموالهم في سبيل اللّه،بل و يعذّب على ترك هذا الواجب و هو دفع الحقوق الشرعيّة.

((و لو أنّ أشياعنا-وفّقهم اللّه لطاعته-على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم،لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا و لتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة،و صدقها منهم بنا))كلام مؤسف و خبر مؤلم،يشير الى أكبر خسارة منيت بها الطائفة الشيعيّة،و هي حرمانها عن الفوز بلقاء الإمام(عليه السلام)خلال الغيبة الكبرى، و ذلك بسبب فقدان المؤهّلات و هي:اجتماع قلوب الشيعة في الوفاء بالعهد.

لا نستطيع أن نعرف-بالضبط-المقصود من كلمة((الوفاء بالعهد))و الإحتمالات كثيرة و التصوّرات متعددة،و لكنّ الشيء الثابت هو أن المقصود من«الوفاء بالعهد»هو الإلتزام بالاستقامة و السير على خطّ الاسلام بدون أيّ إنحراف.

ص:300

فلو كان المجتمع الشيعي هكذا،لكان الطريق مفتوحا له،يلتقي بالإمام بصورة مكشوفة واضحة،لا أن يكون غافلا حين اللقاء،لأنّ أكثر اللقاءات التي حصلت لبعض الأفراد خلال الغيبة الكبرى كان مقرونا بالغفلة و عدم الإنتباه،و بعد إنتهاء اللقاء كان ينكشف لهم أنّهم التقوا بالإمام المهدي(عليه السلام)في جوّ من الغفلة و انصراف الفكر.

و لو كان المجتمع الشيعي على ما يحبّه الإمام المهدي(عليه السلام) لكانت السعادة تغمرهم بالتشرّف بلقاء الإمام مع معرفتهم به،لا في حالة الغفلة و عدم الإنتباه.

((فما يحبسنا عنهم إلا ما يتّصل بنا مما نكرهه و لا نؤثره منهم))إنّ الأحاديث الكثيرة تصرّح بأنّ أعمال الناس تعرض على كلّ إمام من أئمّة أهل البيت،في كل أسبوع مرّتين،في أيّام الخميس و الاثنين،فمن الطبيعي أن الإمام يكره لشيعته أن يتلوّثوا بأيّ إنحراف،و لا يرضى لهم ذلك،و لأن التلوّث بالمعاصي يسلب منهم توفيق التشرّف بلقاء الإمام المهدي(عليه السلام)و يكون مانعا لحصول هذا الشرف.

((و كتب في غرّة شوال من سنة إثنتي عشرة و أربعمائة))

((نسخة التوقيع باليد العليا صلوات اللّه على صاحبها)):

هذا كتابنا اليك أيها الولي الملهم للحق العلي،بإملائنا و خطّ ثقتنا،فأخفه عن كلّ أحد و اطوه،و اجعل له نسخة تطلع عليها من تسكن الى أمانته من أوليائنا،شملهم اللّه ببركتنا إن شاء اللّه)).

لقد ذكرنا-في شرح الرسالة الأولى للشيخ المفيد-المقصود من كلمة«نسخة التوقيع....».

ص:301

لقد أمر الإمام المهدي(عليه السلام)الشيخ المفيد بأن يخفي رسالة الإمام عن جميع الناس،حتى لا يطّلع أحد على خطّ الإمام و خطّ كاتبه،لأسرار و حكم،و أمره الإمام أن يستنسخ من الرسالة نسخة حتى يطلع عليها من يطمئنّ الشيخ المفيد بأمانته و عدم إفشائه السرّ من الشيعة فقط.

فلعلّ الإمام(عليه السلام)كان يرى كتمان هذا الأمر عن غير الشيعة و عن السلطات الحاكمة في ذلك الزمان.

ص:302

الفصل الثاني عشر

اشارة

من الذي رآه في الغيبة الكبرى؟

إنّ الذين تشرّفوا بلقاء الإمام الحجّة المهدي(عليه السلام)-في أيام الغيبة الكبرى-كثيرون جدّا،و لا يمكن إحصاؤهم،كما يصعب إستيعاب أسماء من سجّلتهم كتب التاريخ و الحديث في هذا المجال.

و قد ذكر الشيخ المجلسي-رحمه اللّه-أسماء جماعة من الذين تشرّفوا بلقاء الإمام في أيام الغيبة الكبرى،في كتاب بحار الانوار.(1)

كما ذكر الشيخ النوري-في كتاب النجم الثاقب-مائة قصّة عن الذين ساعدهم الحظ ففازوا بلقائه(عليه السلام)ثم إنتخب منها ثمان و خمسين قصّة و حكاية،و ذكرها في كتاب جنّة المأوى.(2)

و قد ألّف علماؤنا القدامى و المعاصرون-كتبا مستقلّة حول الذين تشرّفوا بلقاء الإمام المهدي(عليه السلام)مثل:كتاب(تبصرة الوليّ، فيمن رأى القائم المهدي)للسيّد هاشم البحراني،و(تذكرة الطالب، فيمن رأى الإمام الغائب)،و(دار السلام فيمن فاز بسلام الإمام) للشيخ محمود الميثمي العراقي،و(بدائع الكلام فيمن اجتمع بالإمام)للسيّد

ص:303


1- (1) بحار الأنوار ج 52 ص 1-77،طبع طهران سنة 1393 ه
2- (2) لقد طبع كتاب(جنّة المأوى)مع الجزء الثالث و الخمسين من بحار الأنوار

جمال الدين محمد بن الحسين اليزدي الطباطبائي،و(البهجة فيمن فاز بلقاء الحجّة)للميرزا محمد تقي الألماسي الاصفهاني،و(العبقريّ الحسان في تواريخ صاحب الزمان)للشيخ علي أكبر النهاوندي.

أما قصص و حكايات الذين تشرّفوا بلقاء الإمام(عليه السلام)في زماننا هذا-ممّن لم يذكر قصصهم المحدّثون،و لم يسجّل أسماءهم المؤلّفون-فكثيرة جدّا.

و بما أنّ للقصص أهميّة كبرى في التثقيف و التوجيه و التعليم،لذا ننتخب في هذا الفصل-من مجموع القصص و الحكايات-عشر قصص، نوجزها رعاية للإختصار.

و الجدير بالذكر أنّ كثيرا من الذين ساعدهم التوفيق ففازوا بهذا الشرف العظيم،ما كانوا يخبرون أحدا بذلك،خوفا من الشهرة،أو من أن يتّهموا بالكذب و الدجل فلا يصدّقهم أحد،أو تقيّة من السلطة أو ما شابه ذلك،و لهذا كانوا يفضّلون السكوت على الإخبار بذلك.

و أمّا الذين أخبروا بالتشرّف بلقاء الإمام(عليه السلام)-ممّن وصلتنا أخبارهم-فلعلّ الضرورة اقتضت ذلك،أو أنّ التكليف الشرعي فرض عليهم،إثباتا للحق و تثبيتا لعقائد الناس.

و فيما يلي نذكر القصص المختارة،مع مراعاة الإختصار:

ص:304

1-قصّة الرمّانة في البحرين

لقد كانت بلاد البحرين-و لا تزال-آهلة بشيعة أهل البيت(عليهم السلام)،و في القرن السابع الهجري كان والي البحرين من النواصب و الأعداء الألدّاء للشيعة،و كان وزيره أخبث منه،و أكثر بغضا للشيعة.

و في يوم من الأيام جاء الوزير للوالي برمّانة مكتوب عليها:(لا إله إلاّ اللّه، محمد رسول اللّه،أبو بكر و عمر و عثمان و علي خلفاء رسول اللّه) فنظر الوالي الى كتابة الرمّانة،فظن أنّ تلك الخطوط كتبت بقلم القدرة،و ليست من صنع البشر.

فقال للوزير:هذه آية بيّنة،و حجّة قويّة على إبطال مذهب الرافضة-يقصد الشيعة-.

فاقترح الوزير أن يجمع الوالي علماء الشيعة و شخصيّاتهم،و يريهم الرمّانة،فإن تخلّوا عن مذهب التشيّع و اعتنقوا مذهب أهل السنّة، تركهم بحالهم،و إن أبوا إلا التمسّك بمذهبهم،خيّرهم بين ثلاثة أمور:

الأول:أن يدفعوا الجزية،كما يدفعها غير المسلمين من اليهود و النصارى و المجوس.

ص:305

الثاني:أن يأتوا بجواب لردّ و تفنيد الكتابة الموجودة على الرمّانة.

الثالث:أن يقتل الوالي رجالهم،و يسبي نساءهم و أولادهم، و يأخذ أموالهم بالغنيمة!

فأرسل الوالي الى شخصيّات الشيعة و أحضرهم،و أراهم الرمّانة، و خيّرهم بين الأمور الثلاثة المذكورة،فطلبوا منه المهلة ثلاثة أيام.

فاجتمع رجالات الشيعة و أهل الحلّ و العقد،يتذاكرون فيما بينهم حول كيفية التخلّص من هذه المشكلة،و بعد مذاكرات طويلة،اختاروا من صلحائهم عشرة رجال،و اختاروا من العشرة ثلاثة،و تقرّر أن يخرج في كل ليلة واحد من الثلاثة الى الصحراء،و يستغيث بالإمام المهدي(عليه السلام)للتخلّص من هذه المحنة.

فخرج أحدهم في الليلة الأولى،فلم يتشرّف بلقاء الإمام و لم تنحلّ المشكلة،و هكذا حدث للثاني أيضا،و في الليلة الثالثة خرج الشيخ محمد بن عيسى الدمستاني(1)-و كان فاضلا تقيّا-فخرج الى الصحراء حافيا حاسر الرأس،و قضى ساعات من الليل بالبكاء و التوسّل و الإستغاثة بالإمام المهدي(عليه السلام)لكي ينقذهم من هذه الورطة و البلاء.و في الساعات الأخيرة من الليل،حضر الإمام المهدي(عليه السلام)و خاطبه:يا محمد بن عيسى مالي أراك على هذه الحالة؟و لماذا خرجت الى هذه البريّة(2)؟فامتنع الرجل أن يذكر حاجته إلاّ للإمام

ص:306


1- (1) دمستان:قرية في البحرين.
2- (2) البريّة:الصحراء

المهدي(عليه السلام).

فقال له الإمام:أنا صاحب الأمر فاذكر حاجتك.

قال محمد بن عيسى:إن كنت صاحب الأمر فانت تعلم قصّتي، و لا حاجة الى البيان و الشرح.

فقال الإمام:نعم،خرجت لما دهمكم من أمر الرمّانة،و ما كتب عليها(1)

فلمّا سمع محمد بن عيسى ذلك،أقبل الى الإمام،و قال:نعم يا مولاي،تعلم ما أصابنا،و أنت إمامنا و ملاذنا،و القادر على كشفه عنّا.

فقال الإمام:إنّ الوزير-لعنه اللّه-في داره شجرة رمّان،فلمّا حملت تلك الشجرة،صنع الوزير شيئا(أي:قالبا)من الطين على شكل الرمّانة،و جعله نصفين،و نحت في داخله تلك الكلمات المذكورة،ثم جعل رمّانة من الشجرة في ذلك القالب،و شدّ القالب على الرمّانة،فلما نبتت الرمّانة و كبرت،دخل قشرها في تلك الكتابة المنحوتة.

فإذا مضيتم غدا الى الوالي(2)فقل له:جئتك بالجواب،و لكنّني لا أبديه إلاّ في دار الوزير،فإذا مضيتم الى داره،فانظر عن يمينك ترى غرفة،فقل للوالي:لا أجيبك إلاّ في تلك الغرفة،و سيمتنع الوزير عن

ص:307


1- (1) دهمكم:ساءكم،و أشغل أفكاركم.
2- (2) مضيتم:ذهبتم

ذلك،و لكن عليك بالإلحاح،و حاول أن لا يدخل الوزير تلك الغرفة قبلك،بل أدخل معه،فإذا دخلت الغرفة رأيت كوّة(1)فيها كيس أبيض،فانهض اليه و خذه،فترى فيه تلك الطينة(القالب)التي عملها لهذه الحيلة،ثم ضعها أمام الوزير،ثم ضع الرمّانة فيها حتّى ينكشف أنّ الرمّانة على حجم القالب.

ثم قال الإمام المهدي(عليه السلام)يا محمد بن عيسى:قل للوالي:إنّ لنا معجزة اخرى،و هي أنّ هذه الرمّانة ليس فيها إلاّ الرماد و الدخان(2)فإن أردت صحة هذا الخبر فأمر الوزير بكسرها،فإذا كسرها طار الرماد و الدخان على وجهه و لحيته!

إنتهى اللقاء،و رجع محمد بن عيسى و قد غمره الفرح و السرور، و انصرف الى الشيعة يبشّرهم بحلّ المشكلة.

و أصبح الصباح و مضوا الى الوالي،و نفّذ محمد بن عيسى كلّ ما أمره الإمام(عليه السلام)فسأله الوالي:من أخبرك بهذا؟

قال:إمام زماننا،و حجّة اللّه علينا!

فقال:و من إمامكم؟

فأخبره بالأئمة الإثني عشر واحدا بعد واحد،حتّى انتهى الى الإمام المهدي صاحب الزمان(عجّل اللّه ظهوره)

فقال الوالي:مدّ يدك فأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه،و أنّ محمدا

ص:308


1- (1) الكوّة:ثقبة في الحائط توضع فيها الأشياء،و ربّما نفذ منها الهواء و الضوء.
2- (2) و ذلك لعدم وصول الهواء و أشعّة الشمس إليها،بسبب كونها في القالب.

عبده و رسوله،و أنّ الخليفة بعده بلا فصل:أمير المؤمنين علي(عليه السلام)ثم أقرّ بالأئمة الطاهرين(عليهم السلام)و أمر بقتل الوزير، و اعتذر الى أهل البحرين(1)

أيّها القاريء الكريم:هذه القصّة مشهورة عند المؤمنين و خاصّة عند أهل البحرين،و قبر محمد بن عيسى في البحرين معروف يزوره الناس.

2-قصّة ياقوت الدهّان

روي عن الشيخ الجليل العالم النبيل الشيخ علي الرشتي-و كان من أجلاّء العلماء الأتقياء-قال:سافرت من مدينة كربلاء المقدّسة الى النجف الأشرف عن طريق(طويريج)(2)فركبنا السفينة،و فيها جماعة كانوا مشغولين باللهو و اللعب و بعض الأعمال المنافية للوقار و الأدب، و رأيت رجلا معهم لا يشاركهم في أعمالهم،بل يحافظ على وقاره و أخلاقه،و لا يشترك معهم إلاّ عند تناول الطعام،و كانوا يستهزؤن به و يخاطبونه بكلام لاذع،و ربما طعنوا في مذهبه!

فسألته عن سبب إبتعاده عن تلك الجماعة و عدم إشتراكه معهم في

ص:309


1- (1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 52 ص 178-180.
2- (2) طويريج:إسم مدينة تبعد عن كربلاء حوالي 15 كيلوا مترا،و تعرف اليوم ب(قضاء الهنديّة)و قد كان الناس يسافرون-بالزوارق و السفن-من كربلاء الى طويريج، و منها الى النجف.

اللهو و اللعب؟

فقال:هؤلاء أقاربي،و هم أهل السنّة،و أبي منهم،و لكن والدتي من أهل الإيمان(أي:أنّها شيعيّة)و كنت أنا أيضا على مذهبهم، و لكنّ اللّه تعالى منّ عليّ بالتشيّع ببركة الإمام الحجّة صاحب الزمان(عليه السلام).

فسألته عن سبب هدايته و تشرّفه بالتشيّع؟

فقال:إسمي:ياقوت،و أنا دهّان(1)في مدينة الحلّة.ثم بدأ يحكي لي قصّة هدايته فقال:خرجت-في بعض السنين-الى البراري، خارج الحلّة،لشراء الدهن،فاشتريت كميّة من الدهن و رجعت مع جماعة،و وصلنا ليلا الى منزل-في الطريق-فبتنا فيه تلك الليلة،فلّما انتبهت من النوم،رأيت أنّ الجماعة قد رحلوا جميعا،فخرجت في أثرهم،و كان الطريق في البرّ الأقفر،و أرض ذات سباع،فضللت عن الطريق،و بقيت متحيّرا خائفا من السباع و العطش.

فجعلت أستغيث بالخلفاء!!و أسألهم الإعانة،فلم يظهر منهم شيء!و كنت-فيما مضى-قد سمعت من أمّي أنّها قالت:إنّ لنا إماما حيّا،يكنّى:أبا صالح،و هو يرشد الضالّ (2)و يغيث الملهوف و يعين الضعيف،فعاهدت اللّه تعالى:إن أغاثني ذلك الإمام أن أدخل في دين أمّي(أي:أعتنق مذهب التشيّع).

ص:310


1- (1) أي:إنّ مهنتي بيع الدهن.
2- (2) أي:التائه الذي ضاع و ضلّ عن الطريق.

فناديت:يا أبا صالح!

و إذا برجل في جنبي و هو يمشي معي و قد تعمّم بعمامة خضراء، فدلّني على الطريق،و أمرني بالدخول في دين أمّي،و قال:ستصل الى قرية أهلها جميعا من الشيعة

فقلت له:ألا تأتي معي الى هذه القرية؟

قال:لا..لأنّه قد إستغاث بي-الآن-الف إنسان في أطراف البلاد،و أريد أن أغيثهم.ثم غاب عنّي،فمشيت قليلا،فوصلت الى القرية و كانت تبعد عن ذلك المنزل-الذي نزلنا فيه ليلا-مسافة بعيدة، و وصلت الجماعة الى تلك القرية بعدي بيوم!

و دخلت الحلّة،و ذهبت الى دار السيّد مهدي القزويني(1)فذكرت له القصّة،و تعلّمت منه معالم الدين...الى آخر كلامه.(2)

3-قصّة إسماعيل بن الحسن الهرقلي

حكي عن شمس الدين بن إسماعيل الهرقلي(3)أنّ أباه كان-في أيام شبابه-قد أصيب بقرحة على فخذه الأيسر يقال لها:(توثة)و كانت تتشقّق-في موسم الربيع-و يخرج منها دم وقيح.فخرج من

ص:311


1- (1) كان من علماء الشيعة البارزين في عصره.
2- (2) كتاب(جنّة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجّة عليه السلام في الغيبة الكبرى)لمؤلّفه الشيخ النوري،ص 293،المطبوع مع الجزء الثالث و الخمسين من بحار الأنوار.
3- (3) هرقل:إسم قرية كانت في ضواحي مدينة الحلّة.

قريته(هرقل)و قصد مدينة الحلّة(1)و شكى الى السيّد رضيّ الدين علي بن طاووس(2)ما يجده من الألم،فأحضر إبن طاووس الأطبّاء لمعاينته،و بعد الفحص قال الأطبّاء:إنّ في إجراء العمليّة الجراحيّة على هذه القرحة خطر الموت،و إنّ نسبة نجاح العمليّة ضئيلة جدّا.فذهب إسماعيل الهرقلي مع السيّد إبن طاووس الى بغداد لمراجعة الأطباء الحاذقين.فكان الجواب نفس الجواب الأوّل.

فتوجّه إسماعيل الى مدينة(سامرّاء)للتوسّل بالإمام المهدي(عليه السلام)و طلب الشفاء منه،و بعد أيام ذهب الى نهر دجلة،و اغتسل فيه و لبس ثوبا نظيفا،فالتقى به أربعة فرسان،أحدهم بيده رمح و عليه فرجيّة(3).

فتقدّم اليه صاحب الفرجيّة،و وقف أصحابه الثلاثة على جانبي الطريق،و سلّموا على إسماعيل،فسأله صاحب الفرجيّة:أنت غدا تروح الى أهلك؟

قال إسماعيل:نعم

فقال له:تقدّم حتى أبصر ما يوجعك.فجعل يلمس جسم الهرقلي،حتى أصابت يده القرحة فعصرها ثم استوى على سرج فرسه

فقال أحد الفرسان الثلاثة:أفلحت يا إسماعيل!

ص:312


1- (1) الحلّة:إسم مدينة في العراق،تقع على نهر الفرات،تبعد عن مدينة كربلاء حوالي 40 كيلو مترا.
2- (2) هو من كبار علماء الشيعة ولد سنة 589 ه،و توفّي سنة 664 ه
3- (3) الفرجيّة:ثوب واسع،طويل الأكمام،يتزيّا به علماء الدين.

فتعجّب إسماعيل من معرفتهم إسمه،و لكنّه لم ينتبه الى ما يجري عنده،و قال:أفلحنا و أفلحتم إنشاء اللّه.

فقال له الرجل:هذا هو الإمام-و أشار الى صاحب الفرجيّة-.

فتقدّم إسماعيل و احتضن رجله و قبّل فخذه،فقال له الإمام-بلطف و رأفة-:إرجع

قال إسماعيل:لا أفارقك أبدا.

فقال الإمام:المصلحة في رجوعك

فأعاد إسماعيل كلامه الأول

فقال أحدهم:يا إسماعيل ما تستحي؟!يقول لك الإمام-مرّتين-:إرجع.و تخالفه؟!

فتوقّف إسماعيل عند ذلك،فقال له الإمام:إذا وصلت بغداد فلا بدّ أن يطلبك أبو جعفر-يعني الحاكم العباسي:المستنصر-فإذا حضرت عنده و أعطاك شيئا فلا تأخذه،و قل لولدنا الرضيّ:ليكتب لك الى علي بن عوض،فإنّني أوصيه يعطيك الذي تريد.

ثم تركه الإمام و أصحابه و واصلوا المسير،و مضى إسماعيل الى مشهد الإمامين العسكريّين فالتقى به بعض الناس فسألهم عن الفرسان الأربعة؟فقالوا:هم من الشرفاء أرباب الغنم

فقال لهم:بل هو الإمام

فقالوا:أريته المرض الذي فيك؟

ص:313

قال:هو قبضه بيده.ثم كشف عن رجله فلم ير أثرا لذلك المرض،فتداخله الشك في أن تكون القرحة في الرجل الأخرى، فكشف عن رجله الأخرى فلم ير شيئا،فتهافت الناس عليه،يمزّقون قميصه تبرّكا به.

و جاءه رجل من قبل السلطة العباسيّة،و سأله عن إسمه و تاريخ مغادرته بغداد؟فأخبره بكلّ شيء،فكتب الرجل بالخبر الى بغداد.

و بعد يوم واحد خرج إسماعيل من مدينة سامراء متوجّها الى بغداد،فلمّا وصل اليها رأى الناس مزدحمين على القنطرة-خارج المدينة-يسألون كلّ قادم عن إسمه و نسبه و أين كان؟فسألوه عن إسمه،فأخبرهم بكلّ شيء،فاجتمعوا عليه يمزّقون ثيابه للتبرّك، و وصل الى بغداد و قد كاد أن يموت من كثرة الإزدحام.

و خرج السيّد إبن طاووس و معه جماعة،فالتقوا بإسماعيل و ردّوا الناس عنه،فلما رآه السيد قال له:أعنك يقولون؟

قال:نعم

فنزل عن دابّته و كشف عن فخذ إسماعيل،فلم ير أثرا من القرحة،فغشي عليه..و لمّا أفاق أخذ بيد إسماعيل و أدخله على الوزير باكيا،و قال:هذا أخي و أقرب الناس الى قلبي.

فسأله الوزير عن القصّة فحكى له،فأحضر الوزير الأطبّاء-الذين عاينوا القرحة قبل ذلك و قالوا ليس لها دواء إلاّ القطع بالحديد و فيه خطر الموت-فقال لهم:فبتقدير أن يقطع و لا يموت..في كم تبرأ؟(1)

ص:314


1- (1) أي:لو فرضنا أنّ العمليّة أجريت له و نجحت،في كم مدّة يندمل الجرح و يبرأ؟

قالوا:في شهرين،و يبقى مكانها حفيرة بيضاء لا ينبت فيها شعر!

فسألهم الوزير:متى رأيتم القرحة؟

قالوا:منذ عشرة أيام.

فكشف الوزير عن الفخذ التي كانت فيه القرحة،فلم يروا لها أثرا،فصاح أحد الأطباء:هذا عمل المسيح!

فقال الوزير:حيث لم يكن هذا من عملكم،فنحن نعرف من عملها.

ثم إنّ الحاكم العباسي المستنصر أحضر إسماعيل و سأله عن القصّة؟ فقصّها عليه،فأمر له بألف دينار و قال له:خذ هذه و أنفقها

فقال إسماعيل:ما أجسر أن آخذ منه حبّة واحدة!!

فقال المستنصر-متعجبا-ممّن تخاف؟!

قال:من الذي فعل معي هذا،فإنه قال:لا تأخذ من المستنصر شيئا!

فبكى المستنصر و تكدّر،و خرج إسماعيل من عنده و لم يأخذ منه شيئا.

قال شمس الدين بن إسماعيل الهرقلي:رأيت فخذ أبي-بعد ما صلحت-و لا أثر فيها،و قد نبت في موضعها الشعر(1).

ص:315


1- (1) كتاب بحار الأنوار ج 52 ص 61-64،نقلا عن كتاب(كشف الغمّة في معرفة الأئمّة)لمؤلّفه علي بن عيسى الإربلي.

4-قصّة ابي راجح الحمّامي

روى الشيخ المجلسي عن الشيخ العابد المحقّق شمس الدين محمد بن قارون قال:كان في مدينة الحلّة رجل يقال له:أبو راجح الحمّامي،و حاكم ناصبي إسمه مرجان الصغير(1)و ذات يوم أخبروا الحاكم بأنّ أبا راجح يسبّ بعض الصحابة!،فأحضره و أمر بضربه و تعذيبه،فضربوه ضربا مهلكا على وجهه و جميع بدنه،فسقطت أسنانه،ثمّ أخرجوا لسانه و أدخلوا فيه إبرة عظيمة،و ثقبوا أنفه، و جعلوا في الثقب خيطا و شدّوا الخيط بحبل و جعلوا يدورون به في طرقات الحلّة،و الضرب يأخذه من جميع جوانبه،حتى سقط على الأرض.

فأمر الحاكم بقتله،فقال الحاضرون:إنّه شيخ كبير،و سوف يموت من شدة الضرب و كثرة الجراحات.فتركوه على الأرض،و جاء أهله و حملوه الى الدار،و كان بحالة فظيعة لا يشكّ أحد أنّ الرجل سيفارق الحياة،ممّا نزل به من التعذيب الوحشي.

و أصبح الصباح،و إذا الرجل قائم يصلّي على أحسن حالة،و قد عادت اليه أسنانه التي سقطت،و التأمت جراحاته،و لم يبق في بدنه أثر من ذلك التعذيب!!

ص:316


1- (1) الناصبي:هو الذي يتظاهر بعداوة أهل البيت،أو شيعتهم لأجل متابعتهم لأهل البيت.مجمع البحرين للطريحي.

فتعجّب الناس من ذلك،و سألوه عن واقع الأمر؟فأخبرهم أنّه أستغاث بالإمام المهدي(عجّل اللّه ظهوره)و توسّل الى اللّه تعالى به، فجاءه الإمام الى داره،فامتلأت الدار نورا.

قال أبو راجح:فمسح الإمام بيده الشريفة على وجهي،و قال لي:أخرج و كدّ على عيالك(1)فقد عافاك اللّه تعالى،فاصبحت كما ترون.

و رآه محمد بن قارون و قد عادت اليه نضارة الشباب،و احمرّ وجهه و اعتدلت قامته.

و شاع الخبر في الحلّة،فأمر الحاكم بإحضاره-و كان قد رآه يوم أمس و قد تورّم وجهه من الضرب-فلما رآه صحيحا سليما و لا أثر للجراحات في جسمه،خاف الحاكم خوفا شديدا،و غيّر سلوكه مع شيعة أهل البيت(عليهم السلام)و صار يحسن المعاملة معهم.

و كان أبو راجح-بعد تشرّفه بلقاء الإمام-كأنه إبن عشرين سنة و لم يزل كذلك حتى أدركته الوفاة(2).

5-قصّة المقدّس الأردبيلي

ذكر العلاّمة المجلسي-رحمه اللّه-أنّه سمع من جماعة أخبروه عن السيد الفاضل أمير علاّم قال:كنت في صحن الإمام أمير المؤمنين(عليه

ص:317


1- (1) كدّ على عيالك:أي:أطلب الرزق لهم.
2- (2) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 52 ص 70-71

السلام)(1)في ساعة متأخّرة من الليل،فرأيت رجلا مقبلا نحو الروضة المقدّسة،فاقتربت منه فإذا هو العالم التقيّ مولانا أحمد الأردبيلي-قدّس اللّه روحه-فاختفيت عنه،فجاء الى باب الروضة-و كان مغلقا-فانفتح له الباب،و دخل الروضة،فسمعته يتكلّم كأنّه يناجي أحدا،ثمّ خرج،و أغلق باب الروضة،فتوجّه نحو مسجد الكوفة،و أنا خلفه أتّبعه و هو لا يراني،فدخل المسجد و قصد نحو المحراب الذي إستشهد فيه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).

و مكث هناك طويلا،ثمّ رجع نحو النجف و كنت خلفه أيضا، و في أثناء الطريق غلبني السعال،فسعلت،فالتفت إليّ و قال:أنت أمير علاّم؟

قلت:نعم

قال:ما تصنع ها هنا؟!

قلت:كنت معك منذ دخولك الروضة المقدّسة و الى الآن، و أقسم عليك بحقّ صاحب القبر أن تخبرني بما جرى عليك من البداية الى النهاية؟

قال:أخبرك بشرط أن لا تخبر به أحدا ما دمت حيا،فوافقت على الشرط.

فقال:كنت أتفكّر في بعض المسائل الفقهيّة الغامضة،فقرّرت أن

ص:318


1- (1) الصحن:الساحة التي تحيط ببناء الروضة التي فيها قبر الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام).

أحضر عند مرقد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)لأسأله عنها،فلمّا وصلت الى باب الروضة إنفتح لي الباب بغير مفتاح،فدخلت الروضة و سألت اللّه تعالى أن يجيبني مولاي أمير المؤمنين(عليه السلام)عن تلك المسائل،فسمعت صوتا من القبر:أن ائت مسجد الكوفة،و سل من القائم،فإنّه إمام زمانك.

فأتيت المسجد عند المحراب،و سألت الإمام المهدي(عليه السلام)عنها فأجابني عن ذلك،و ها أنا راجع الى بيتي.(1)

6-قصّة الشيخ محمد حسن النجفي

ذكر الشيخ النوري-في كتاب جنّة المأوى-عن بعض علماء النجف الأشرف:أنّه كان في النجف رجل من طلاّب العلوم الدينيّة، إسمه الشيخ محمد حسن سريرة،و كان يعاني ثلاث مشاكل:

1-يقذف الدم من صدره.

2-يعيش في فقر شديد.

3-يحبّ الزواج من امرأة إمتنع أهلها أن يزوّجوها إيّاه،لفقره.

فلمّا يئس من ذلك،قرّر الذهاب الى مسجد الكوفة(2)أربعين ليلة

ص:319


1- (1) بحار الأنوار ج 52 ص 175
2- (2) مسجد الكوفة:مسجد عظيم مبارك،يقع في مدينة الكوفة بالقرب من النجف الأشرف،و قد كان الإمام علي أمير المؤمنين يصلّي بالناس فيه،و فيه قتل،و قد جدّد بناؤه عدة مرات.

أربعاء،لأنّه قد اشتهر بين المؤمنين أنّ من واظب على زيارة مسجد الكوفة أربعين ليلة أربعاء،فلا بدّ أن يرى الإمام المهدي صاحب الزمان (عليه السلام).

فواظب الرجل على ذلك،أملا في أن يتشرّف بلقاء الإمام، و يعرض عليه حوائجه الثلاث.

فلمّا كانت الليلة الأخيرة-و كانت ليلة ظلماء باردة ذات ريح عاصفة-جلس الرجل على دكّة باب المسجد في الخارج-لأنّه لم يستطع اللبث في المسجد،بسبب الدم الذي كان يقذفه من صدره عند السعال- و جعل يفكّر في أنّه لم يوفّق لزيارة الإمام المهدي(عليه السلام)بالرغم من أنّه في آخر أسبوع من الأسابيع الأربعين.

كان الرجل متعوّدا على شرب القهوة،فأشعل النار لصنع القهوة،و إذا به يرى رجلا قصده،فانزعج من ذلك و قال في نفسه:

إنّ هذا الأعرابي سيشرب القهوة كلّها،و لا يبقى لي شيء!.

يقول:فوصل الرجل و سلّم عليّ باسمي.فتعجّبت من معرفته باسمي و جعلت أسأله:من أيّة طائفة أنت،من طائفة فلان؟فيقول:

لا،حتى ذكرت أسماء طوائف متعدّدة،و هو يقول:لا.لا.

و أخيرا سألني:ما الذي جاء بك الى هنا؟.

فقلت له:و لماذا تسأل عن ذلك؟

فقال:و ما يضرّك لو أخبرتني به؟!.

فصببت له القهوة في الكأس المعروفة ب(الفنجان)و قدّمته له،

ص:320

فشرب قليلا منه،ثمّ ردّ الفنجان و قال لي:أنت إشربها.فأخذت الكأس منه و شربت ما تبقّى من القهوة.

ثم بدأت ببيان حوائجي فقلت له:أنا في غاية الفقر و الحاجة، و مصاب بقذف الدم منذ سنين،و قد تعلّق قلبي بامرأة،و امتنع أهلها من تزويجها إيّاي.

و قد خدعني بعض رجال الدين إذ قالوا لي:أقصد-في حوائجك-الإمام صاحب الزمان(عليه السلام)و اذهب الى مسجد الكوفة أربعين ليلة أربعاء،فتقضى حوائجك،و قد تحمّلت المشاق و المتاعب في هذه الليالي،و هذه هي الليلة الأخيرة و لم أر فيها أحدا.

فقال لي-و أنا غافل-:أمّا صدرك فقد برأ،و أمّا المرأة فستتزوّج بها قريبا،و أمّا الفقر فلا يفارقك حتى الموت.

..و لما أصبح الصباح شعرت أنّ صدري قد برأ،و بعد اسبوع تزوّجت تلك المرأة،و بقي الفقر على حاله(1).

7-قصّة آية اللّه القزويني

ذكر الشيخ النوري-في كتاب جنّة المأوى-ثلاث قصص من

ص:321


1- (1) جنة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجة(عليه السلام)في الغيبة الكبرى.الحكاية الخامسة عشرة.

تشرّف العالم الجليل آية اللّه السيّد مهدي القزويني(1)بلقاء الإمام المهدي (عليه السلام)و نحن نذكر منها قصّتين يرويها السيّد ميرزا صالح نجل السيّد المذكور عن رجل من صلحاء الحلّة إسمه علي:

يقول:خرجت من داري قاصدا دار السيّد مهدي القزويني، فمررت على مرقد السيّد محمد المعروف ب(ذي الدمعة)و هو إبن زيد بن علي بن الحسين(عليهم السلام)و كان للمرقد شبّاك على الطريق، فرأيت رجلا جليل القدر،بهيّ المنظر،واقفا عند الشباك يقرأ سورة الفاتحة على روح صاحب المرقد.

فوقفت أنا و قرأت الفاتحة،و بعد الفراغ سلّمت على ذلك الرجل،فردّ عليّ السلام و قال لي:يا علي أنت ذاهب لزيارة السيّد مهدي القزويني؟.

قلت:نعم.

قال:لنذهب معا.

و في أثناء الطريق قال لي:يا علي لا تحزن على ما أصابك من الخسران و ذهاب المال في هذه السنة،فإنّك رجل إمتحنك اللّه بالمال فوجدك مؤدّيا للحقّ،و قد قضيت ما فرض اللّه عليك،و أمّا المال فإنّه عرض يأتي و يذهب.

يقول علي:و كنت-في تلك السنة-قد اصبت بخسارة كبيرة في

ص:322


1- (1) كان السيّد المذكور يسكن في مدينة الحلّة بالعراق،و قد توفّي سنة 1300 ه.

التجارة،و لم يطّلع عليها أحد،و لكنّني إغتممت كثيرا عندما رأيت أنّ هذا الرجل الغريب يعلم بخسارتي،و ظننت أنّ هذا الخبر قد إنتشر بين الناس،بحيث أنّ هذا الغريب إطّلع عليه.

فقلت له:الحمد للّه على كلّ حال.

فقال:إنّ ما ذهب من أموالك سوف يعود إليك بعد مدّة، و تقضى ديونك!و لمّا وصلنا الى دار السيّد مهدي،وقفت و قلت له:

أدخل يا مولاي فأنا من أهل الدار فقال:أدخل أنت،أنا صاحب الدار!

فامتنعت من أن أتقدّم عليه،فأخذ بيدي و أدخلني الدار،و كان بجوار دار السيّد مسجد له باب الى دار السيّد،فدخلنا المسجد فوجدنا جماعة من طلبة العلوم الدينيّة ينتظرون خروج السيّد من داخل الدار للتدريس.فجلس الرجل في مكان السيّد-الذي كان يجلس فيه كلّ يوم للتدريس،و أخذ كتابا كان هناك-و هو كتاب شرائع الإسلام للمحقّق الحلّي-و فتحه،فوقع نظره على أوراق كان السيّد قد كتب فيها بعض المسائل و جعلها في الكتاب،فجعل الرجل يتصفّح تلك الأوراق و يقرأ تلك المسائل.

و دخل السيد مهدي،فرأى الرجل جالسا في مكانه،فرحّب به، و تنحّى الرجل عن مكان السيّد،و لكن السيّد أصرّ عليه أن يجلس في مكانه.

يقول السيّد مهدي-و هو يحكي لنا جانبا من القضيّة-:(رأيته

ص:323

رجلا بهيّ المنظر،وسيم الشكل(1)،فأقبلت عليه أسأله عن حاله، و استحييت أن أسأله عن إسمه و وطنه).

و شرع السيّد بتدريس الفقه،فجعل الرجل يناقشه في المسألة التي طرحها السيّد على بساط البحث!

فقال أحد الطلبة المتطفّلين-لذلك الرجل-:أسكت!ما أنت و هذا؟!.

فتبسّم الرجل و سكت!

و بعد الفراغ من البحث سأله السيّد:من أين مجيئك الى الحلّة؟

فقال:من بلدة السليمانيّة.

قال السيّد:متى خرجت من السليمانيّة؟.

فقال:بالأمس خرجت منها.و قد دخلها(نجيب باشا)فاتحا، و قد ألقي القبض على المتمرّد:أحمد باشا(و كان أحمد باشا قد تمرّد على الدولة العثمانيّة الحاكمة في العراق يومذاك).

يقول السيّد:فجعلت أتفكّر في كلامه و أنّه كيف لم يصل خبر فتح السليمانيّة الى حكّام الحلّة؟!،و لم يخطر ببالي أن أسأله:كيف وصلت الى الحلّة و بالأمس خرجت من السليمانية؟!لأنّ المسافة تزيد على عشرة أيام.(أي حوالي أربعمأة كيلو متر).

ص:324


1- (1) الوسيم:الجميل الوجه.

ثم طلب الرجل ماءا ليشرب،فقام أحد الخدم ليأتيه بالماء من (الحب)(1)فناداه الرجل:لا تفعل،فإنّ في الحب حيوانا ميتا!فنظر فيه فإذا فيه(سام أبرص)ميّت،فجاء الخادم بالماء من مكان آخر و شرب الرجل،ثم قام ليخرج فقام السيّد و ودّعه.

فلما خرج الرجل قال السيّد للحاضرين:لماذا لم تنكروا عليه خبر فتح السليمانيّة؟!

و هنا شرع الحاج علي-الذي التقى بالرجل عند مرقد ذي الدمعة- يحدّث الحاضرين بما سمعه من الرجل في أثناء الطريق.فقام الحاضرون-و قد أخذتهم الدهشة و الحيرة-و خرجوا من الدار يبحثون عنه،فما وجدوه،فكأنّه صعد الى السماء أو غاب في الأرض!

فقال السيّد لهم:هو-و اللّه-صاحب الأمر،روحي فداه.

و بعد عشرة أيام جاء الخبر بفتح السليمانيّة..الى آخر القصة(2).

8-قصة أخرى لآية اللّه القزويني.

و هذه قصّة أخرى لآية اللّه السيّد مهدي القزويني،يذكرها الشيخ النوري عن نجل السيّد أنّه سمع أباه يقول:

خرجت يوم الرابع عشر من شهر شعبان،من مدينة الحلّة قاصدا

ص:325


1- (1) الحب:إناء خزفيّ كبير،الجرّة الكبيرة.
2- (2) جنّة المأوى للشيخ النوري،الحكاية الرابعة و الأربعون.

كربلاء لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام)ليلة النصف من شعبان(1)فلما وصلت الى نهر الهندية(أي:طويريج)وجدت الزوّار متجمهرين هناك،و قد وصلهم الخبر أنّ عشيرة عنيزة(عشيرة بدويّة) قد نزلت على طريق كربلاء لسلب الزوّار و نهب أموالهم!

فبينما الناس حيارى،و قد أمطرت السماء،توسّلت الى اللّه تعالى بالنبي و آله الأطهار،لإغاثة الزوّار و نجاتهم.فبينما أنا كذلك،و إذا بفارس بيده رمح طويل،وقف عندي و سلّم،فرددنا عليه السلام، فسمّاني باسمي و قال:ليأت الزوّار،فإنّ عشيرة عنيزة،قد رحلوا عن الطريق،و صار الطريق مأمونا.

فخرجت مع الزوّار و هو يرافقنا في الطريق و يمشي أمامنا،و كأنّه الأسد.و في أثناء الطريق غاب عنّا فجأة و بغتة،فقلت لمن معي:أبقي شكّ في أنّه صاحب الزمان؟!فقالوا:لا و اللّه.

يقول السيّد:إنّني كنت أطيل النظر اليه،كأنّي رأيته قبل هذا، فلما غاب عنّا تذكّرت أنّه هو الشخص الذي زارني في الحلّة.

أمّا عشيرة عنيزة فلم نر أحدا منهم،و رأينا غبرة شديدة مرتفعة في البر،فوصلنا كربلاء خلال ساعة-و كانت المسافة ثلاث ساعات-

ص:326


1- (1) زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)من المستحبّات الشرعيّة المؤكدّة،و قد وردت في فضلها و ثوابها أحاديث كثيرة،و هي مستحبّة في كلّ الأيام و الساعات،إلاّ أنّ الإستحباب يتأكّد و الثواب يتضاعف في بعض المناسبات،كيوم عاشوراء،و ليلة النصف من شعبان،و ليالي القدر،و ليالي الجمعة و غيرها.

فوجدنا الحرّاس على باب البلد،فسألونا:من أين جئتم؟و كيف وصلتم؟و أين صارت عشيرة عنيزة؟!.

فقال أحد الفلاّحين-المتواجدين هناك-:بينما عشيرة عنيزة جلوس في خيامهم،و إذا بفارس بيده رمح طويل،فصاح في عشيرة عنيزة و أنذرهم بالدمار و الهلاك،فألقى اللّه الخوف في قلوبهم،و تركوا المنطقة فورا.

يقول السيّد:فسألت ذلك الفلاّح عن وصف ذلك الفارس؟ فوصفه لي،فإذا هو نفسه الذي رأيته عند نهر الهنديّة(1).

9-قصّة أحمد العسكري:

ذكر البحّاثة المعاصر العلاّمة الشيخ لطف اللّه الصافي-صاحب التآليف القيّمة-(2)قصة سمعها في سنة 1398 ه من الحاج احمد العسكري و هو من الأخيار الساكنين في طهران-ايران-،و القصّة تتعلّق ببناء مسجد يقع على طريق قم-طهران،و هو الآن على مدخل مدينة قم المقدسة و يسمّى:مسجد الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام).

يقول أحمد العسكري:قبل سبع عشرة سنة،و في يوم خميس، جاءني ثلاثة من الشباب-و كانت حرفتهم تصليح السيارات-و قالوا لي:

اليوم يوم الخميس،و نريد أن نذهب الى مدينة قم،الى مسجد جمكران(3)

ص:327


1- (1) جنّة المأوى،الحكاية السادسة و الأربعون.
2- (2) في كتابه(ياسخ ده برسش)باللغة الفارسيّة.
3- (3) مسجد جمكران:مسجد بني بأمر الإمام المهدي(عليه السلام)يقع في ضواحي-

للتوسّل الى اللّه تعالى بالإمام المهدي صاحب الزمان(عليه السلام) لقضاء بعض الحوائج الشرعيّة،و نحب أن ترافقنا في هذه الرحلة.

فوافقت على ذلك،و ركبنا السيارة و اتّجهنا نحو مدينة قم، و بالقرب من المدينة حصل خلل في السيّارة فتوقفت عن السير،و انشغل الشباب بتصليحها،فانتهزت الفرصة و اخذت قليلا من الماء و ابتعدت عنهم لقضاء الحاجة.

فرأيت-هناك-سيّدا جميل الوجه،أبيض اللون،أزجّ الحاجبين(1)أبيض الثنايا(2)و على خدّه خال،و عليه ثياب بيضاء و عباءة رقيقة،و في رجليه نعلان صفراوان،و قد تعمّم بعمامة خضراء،و بيده رمح يخطّ به الأرض.

فقلت في نفسي:إنّ هذا السيّد قد جاء-في هذا الصباح الباكر- الى هذا المكان،و على جانب الطريق و يخطّ الارض بالرمح!هذا غير صحيح.لأنّ الطريق عام يمرّ فيه السوّاح الأجانب.

كان أحمد العسكري يحكي قصّته هذه،و هو يظهر الندم على ما صدر منه تجاه صاحب الرمح،من سوء الظن و سوء الأدب.

يقول:فتقدّمت اليه و قلت له:هذا العصر عصر الدبّابات

ص:328


1- (1) أزجّ الحاجبين:أي إنّ حاجبيه دقيقتان طويلتان،متقوّستان،أو متصلتان-على اختلاف الأقوال-.
2- (2) الثنايا:أسنان مقدّم الفم.

و المدافع و الذرّة و أنت تأخذ بيدك الرمح؟!إذهب و ادرس العلوم الدينيّة-و إنما قال له ذلك لأنّ الرجل كان بزيّ رجال الدين-.

ثم تركته..و اتّجهت نحو موضع بعيد،و هناك جلست لقضاء الحاجة..فناداني باسمي و قال:لا تجلس في هذا المكان لقضاء الحاجة،لأني قد خطّطت هذا المكان لبناء المسجد.

فغفلت عن معرفته باسمي و لم أتمالك أن قلت:على عيني.و قمت فورا.

فقال لي:إذهب وراء تلك الربوة لقضاء الحاجة،فذهبت هناك، و تبادرت الى ذهني بعض الأسئلة حول هذا الموضوع،و قرّرت أن أطرحها على ذلك السيد،و أقول له:لمن تبني هذا المسجد؟!للملائكة أم للجن؟!-لأنّ المنطقة كانت بعيدة عن المدينة و في صحراء قاحلة-.

و بعد ذلك..أقول له:إنّ المسجد لم يشيّد بعد،فلماذا منعتني عن قضاء الحاجة في هذا المكان؟-لأنّ المسجد يحرم تنجيسه إذا وقفت الأرض للمسجد،أمّا قبل كل شيء فلا يجري عليه هذا الحكم-.

فلما فرغت من قضاء الحاجة..قصدت السيّد و سلّمت عليه، فركزّ رمحه في الأرض،و رحّب بي و قال:اعرض علي الأسئلة التي نويت أن تسألني عنها؟!.

فلم أنتبه الى أنه يخبر عمّا في قلبي ممّا لم أتفوّه به،و أنّ هذا ليس أمرا عاديا،بل هو خارق للعادة.و على كلّ حال..قلت له:يا سيّد..تركت الدراسة،و جئت الى هذا المكان،و كأنّك لا تتفكّر بأننا

ص:329

في عصر الصاروخ و المدفع..فما قيمة الرمح؟.

و جرى بيني و بينه حوار..ثم قال لي-و قد القى نظره الى الأرض-:أخطّط للمسجد.

قلت:للجن أم للملائكة؟!.

قال:للبشر.

و أضاف:سوف تعمر هذه المنطقة بالسكّان.

قلت له:أخبرني:حينما أردت قضاء الخاجة قلت لي:«هنا مسجد»مع العلم أنّ المسجد لم يشيّد بعد؟.

فقال:إنّ سيّدا من ذريّة فاطمة الزهراء(عليها السلام)قد قتل في هذا المكان و استشهد،و سوف يكون مصرعه محرابا،لأنّ عليه أريق دم ذلك الشهيد.

ثم أشار الى جانب من الأرض و قال:و في ذلك المكان تبنى المرافق الصحيّة،لأنّ أعداء اللّه و أعداء رسوله قد صرعوا في ذلك المكان.

ثم التفت خلفه و قال:و في هذا الموضع تبنى الحسينيّة،و جرت دموعه على خدّيه،حين تذكّر الإمام الحسين الشهيد(عليه السلام) فبكيت لبكائه.

ثم قال:و خلف هذا المكان تبنى مكتبة،و أنت تهدي اليها الكتب..

قلت:أوافق.لكن بثلاثة شروط:

1-أن أعيش الى زمان تشييد المكتبة.

ص:330

فقال:إنشاء اللّه.

2-و أن يبنى المسجد هنا.

فقال:بارك اللّه.

3-و أن اهدي الى المكتبة بقدر استطاعتي،و لو كتابا واحدا، إمتثالا لأمرك يا بن رسول اللّه.

فضمّني الى صدره..فقلت له:من الذي يبني هذا المسجد؟

قال:يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ.

قلت:أنا أعلم أنّ يد اللّه فوق أيديهم.

فقال:سوف ترى المسجد حينما يتم بناؤه،و أبلغ سلامي الى المتبرّع لبناء المسجد.

ثم قال لي:وفّقك اللّه للخير.

فتركت السّيد،و اتّجهت نحو السّيارة التي كانت واقفة على جانب الشارع،و قد تمّ إصلاحها،فسألني الإخوة:مع من كنت تتكلّم تحت حرارة الشمس؟

قلت:أما رأيتم ذلك السيّد مع الرمح الطويل..كنت اكلّمه؟

قالوا:و أيّ سيّد؟

فنظرت خلفي..ها هنا و هناك..فلم أر أحدا،بالرغم من أنّ الأرض كانت منبسطة لا توجد فيها ارتفاعات و انخفاضات!

فاستولت عليّ حالة ذهول و دهشة،و ركبت السيارة و أنا في حالة لا

ص:331

أستطيع وصفها!..

كان الأصدقاء يتكلّمون معي و لا استطيع ان اجيبهم..و لا أعرف كيف صلّيت الظهر و العصر!!

و أخيرا..وصلنا الى مسجد جمكران و أنا متشتّت الفكر،و جلست أبكي في المسجد و كان عن يميني شيخ و عن شمالي شاب،ثم صلّيت الصلاة التي تصلى في هذا المسجد،و أردت أن أسجد بعد الصلاة، فرأيت سيدا تفوح منه رائحة طيّبة فقال لي:آقاي عسكري..سلام عليكم.و جلس عندي-و كان صوته يشبه صوت ذلك السيّد الذي رأيته في الصباح-و نصحني نصيحة.فسجدت و قرأت ما ينبغي قراءته في السجود،ثم رفعت رأسي فلم أره،فسألت عنه من الذي عن يميني و شمالي..فقالا:لم نر أحدا.

فكأنّ الأرض ارتجفت تحتي..و فقدت الوعي،فجاء أصدقائي و تعجبوا ممّا جرى عليّ،و رشّوا على وجهي الماء.

و رجعنا الى طهران،فحدّثت أحد العلماء بما جرى.فقال:إنّه هو الإمام المهدي،فاصبر حتى ننظر هل يبنى المسجد!.

و انقضت سنوات و جئت الى قم-في احدى المناسبات-فلما وصلت الى تلك المنطقة رأيت الأعمدة مرتفعة في ذلك المكان،فسألت عن القائم ببناء المسجد؟

فقيل لي:رجل إسمه:الحاج يد اللّه رجبيان،فلما سمعت هذا الإسم إنهارت أعصابي و غمر العرق جسمي و لم أستطع الوقوف على

ص:332

قدمي،فجلست على الكرسي و عرفت معنى كلام الإمام(عليه السلام) حين سألته:من الذي يبني المسجد؟فقال:يد اللّه فوق أيديهم.

فذهبت الى طهران و اشتريت أربعمائة كتاب،و أوقفتها لتلك المكتبة،و التقيت بالحاج يد اللّه رجبيان..الى آخر القصّة،و قد ترجمناها الى اللغة العربية و ذكرناها بصورة ملّخصة مع حذف الزوائد.

10-قصّة الحاج علي البغدادي:

ذكر الشيخ النوري في كتابه(النجم الثاقب)أنّ رجلا من أهل بغداد،إسمه الحاج علي البغدادي،و كان من الصالحين الأخيار،و قد فاز بلقاء الإمام المهدي المنتظر(عليه السلام)و اليك خلاصة قصّة تشرّفه بلقاء الإمام:

كان الحاج علي يسافر-بصورة دائمة-من بغداد الى مدينة الكاظمية-التي تقع في ضاحية بغداد-و ذلك لزيارة الإمامين الكاظم و الجواد(عليهما السلام).

يقول الحاج علي:كان قد وجب عليّ شيء من الخمس و الحقوق الشرعيّة،فسافرت الى مدينة النجف الأشرف،و دفعت عشرين تومانا منها الى العالم الزاهد الفقيه الشيخ مرتضى الأنصاري و عشرين تومانا(1)الى المجتهد الفقيه الشيخ محمد حسين الكاظمي،و عشرين تومانا منها الى الشيخ محمد حسن الشروقي،و بقيت عندي عشرون منها،قرّرت أن

ص:333


1- (1) التومان:هي العملة الإيرانية.

أدفعها-عند رجوعي الى بغداد-الى الفقيه الشيخ محمد حسن آل ياسين.

و عدت الى بغداد في يوم الخميس،فتوجهت-أولا-الى مدينة الكاظميّة،و زرت الإمامين الكاظم و الجواد(عليهما السلام)،ثم ذهبت الى دار الشيخ آل ياسين،و قدّمت له جزءا ممّا بقي عليّ من الخمس، كي يصرفه في موارده المقرّرة في الفقه الإسلامي،و استأذنت منه على أن أدفع باقي المبلغ بصورة تدريجيّة..إليه أو الى من أراه مستحقا لذلك، ثم أصرّ الشيخ بأن أبقى عنده،فلم اجبه الى ذلك،معتذرا بأن عليّ بعض الأشغال الضروريّة،و ودّعته و توجّهت نحو بغداد،فلمّا قطعت ثلث الطريق إلتقيت بسيّد جليل القدر،عظيم الشأن،عليه الهيبة و الوقار،و قد تعمّم بعمامة خضراء،و على خدّه خال أسود،و كان قاصدا مدينة الكاظميّة للزيارة،فاقترب منّي و سلّم عليّ،و صافحني و عانقني بحرارة و ضمّني الى صدره،و رحّب بي و سألني:على خير..الى أين تذهب؟

قلت:لقد زرت الإمامين الكاظمين،و الآن أنا عائد الى بغداد.

فقال:عد الى الكاظمين فهذه ليلة الجمعة.

قلت:لا يسعني ذلك.

فقال:إنّ ذلك في وسعك،إرجع كي أشهد لك بأنك من الموالين لجدّي أمير المؤمنين(عليه السلام)و لنا،و يشهد لك الشيخ، فقد قال تعالى:وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ.

و كنت قد طلبت من الشيخ آل ياسين أن يدفع اليّ وثيقة يشهد لي

ص:334

فيها بأنّني من الموالين لأهل البيت(عليهم السلام)كي أجعلها في كفني.

فسألت السّيد:من أين عرفتني..و كيف تشهد لي؟.

فقال:كيف لا يعرف المرء من وافاه حقّه!

قلت:و أيّ حق هذا الذي تقصده؟

فقال:الحقّ الذي قدّمته لوكيلي.

قلت:و من هو؟

قال:الشيخ محمد حسن.

قلت:أ هو وكيلك؟قال:نعم.

فتعجّبت من كلامه..و احتملت أن تكون بيننا صداقة سابقة لا أتذكّرها،لأنّه ناداني باسمي في أول اللقاء،كما أنّني احتملت أن يكون متوقّعا منّي لأن أدفع اليه شيئا من الخمس-باعتباره من ذرّية رسول اللّه-.

فقلت له:سيّدنا..لقد بقي في ذمّتي شيء من حقكم-حقّ السادة-و قد استأذنت الشيخ محمد حسن أن أدفعه الى من احب.

فتبسّم و قال:نعم..لقد دفعت شيئا-من حقّنا-الى وكلائنا في النجف الأشرف.

فقلت:هل حظي هذا العمل بالقبول؟

قال:نعم.

ص:335

ثم انتبهت الى أنّ هذا السيّد يعبّر عن أعاظم العلماء بكلمة «وكلائي»فاستعظمت ذلك،لكن عادت اليّ الغفلة مرة اخرى.

ثم قال لي:عد الى زيارة جدّي.فوافقت فورا و توجّهنا معا نحو مدينة الكاظميّة،و كانت يدي اليسرى في يده اليمنى.

و سرنا نتجاذب أطراف الحديث،و كنت أسأله عن مسائل مختلفة و يجيبني عليها،و كان ممّا سألته:سيّدنا..إنّ خطباء المنبر الحسيني يقولون:إنّ سليمان الأعمش تذاكر مع رجل حول زيارة سيّد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام)فقال له الرجل:إنّ زيارة الحسين بدعة، و كلّ بدعة ضلالة-و كلّ ضلالة في النار،ثم رأى ذلك الرجل-في المنام-أنّ هودجا بين السماء و الأرض،فسأل عن الهودج فقيل له:إنّ فيه السيدة فاطمة الزهراء و خديجة الكبرى،فسأل أين تذهبان؟فقيل له:إلى زيارة الحسين في هذه الليلة-و هي ليلة الجمعة-،و شاهد رقاعا-جمع رقعة-تتساقط الى الأرض من ذلك الهودج،و قد كتب عليها:أمان من النار لزّوار الحسين(عليه السلام)في ليلة الجمعة، أمان من النار الى يوم القيامة..فهل صحيح هذا الحديث؟

فقال:نعم..تام صحيح.

قلت:سيدنا..هل صحيح ما يقال أنّ من زار الإمام الحسين (عليه السلام)ليلة الجمعة كان آمنا؟

فقال:نعم..و دمعت عيناه و بكى.

فلم تمض علينا إلاّ فترة قصيرة من الوقت..و إذا بي أرى نفسي

ص:336

في روضة الإمامين الكاظمين(عليهما السلام)من دون أن نمرّ بالشوارع و الطرق المؤدّية الى الروضة الشريفة.

و وقفنا على مدخل الحرم الشريف..فقال لي:زر

قلت:لا احسن القراءة.

قال:هل أقرأ الزيارة و تقرأ معي؟قلت:نعم.

فشرع في الزيارة.و جعل يسلّم على رسول اللّه و الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)واحدا بعد واحد..حتى بلغ الى الإمام العسكري..

ثم خاطبني قائلا:هل تعرف إمام عصرك؟فقلت:و كيف لا أعرفه؟

قال:فسلّم عليه،فقلت:السلام عليك يا حجّة اللّه يا صاحب الزمان يا بن الحسن،فتبسّم و قال:عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته.

ثم دخلنا الحرم الشريف،و قبّلنا الضريح المقدّس،فقال لي:

زر،قلت:لا احسن القراءة قال:هل اقرأ لك الزيارة؟فقلت:

نعم.

فشرع بالزيارة المعروفة ب(أمين اللّه)و بعد انتهاء الزيارة، قال لي:هل تزور جدّي الحسين؟قلت:نعم،فهذه ليلة الجمعة، فزاره الزيارة المعروفة بزيارة الوارث،و حان وقت صلاة المغرب،فأمرني بالصلاة،و قال لي:التحق بصلاة الجماعة

فوقفت للصلاة و بعد الفراغ من الصلاة غاب عني ذلك السيد، فخرجت ابحث عنه فلم أجده.

ص:337

فانتبهت من غفلتي و تذكّرت أنّ السيد ناداني باسمي،و دعاني الى العودة الى الكاظمية مع العلم أنني امتنعت عن ذلك،و كان يعبّر عن الفقهاء ب(وكلائي)ثم غاب عني فجأة،فعلمت أنّه صاحب الزمان الإمام المهدي(عليه السلام)(1).

أقول:إنّ قصص الذين تشرّفوا بلقاء الإمام المهدي(عليه السلام)كثيرة جدا،و قد انتخبنا من مجموعها هذا العدد اليسير،و كلّ قصة منها تدلّ على مواضيع مهمّة و فوائد جمّة،و قد حدثت هذه الحوادث في خلال قرون عديدة،من أوائل الغيبة الكبرى الى زماننا هذا.

ففي سامرّاء يلتقي الإمام المهدي(عليه السلام)بإسماعيل الهرقلي و يبرأ قرحته،و يخبره أنّ المستنصر العبّاسي سوف يدفع اليه شيئا من المال،و ينهاه عن أخذه منه.

و في النجف الأشرف يلتقي(عليه السلام)بالرجل المسلول و يشرب القهوة و يدفع سؤره اليه،فيبرأ من السلّ المزمن،و يتزوّج تلك المرأة،بعد أن كان أهلها يمتنعون عن ذلك.

و في البحرين يلتقي(عليه السلام)بمحمد بن عيسى،و يخبره عن قصّة الرمّانة،و الحيلة التي استعملها الوزير،و يخبر عن مكان القالب الذي صنعه الوزير.

و في طريق كربلاء المقدّسة يحضر(عليه السلام)عند عشيرة

ص:338


1- (1) كتاب النجم الثاقب-الحكاية الواحدة و الثلاثون.

عنيزة،و يصيح فيهم تلك الصيحة،فيلقي اللّه الرعب في قلوبهم، و يرحلون عن ذلك المكان خائبين خائفين،و يفتح الطريق لزّوار قبر الإمام الحسين(عليه السلام).

و في مدينة الحلّة يخبر(عليه السلام)الحاج علي بالخسارة التي حلّت به،و يبشّره بتبدّل الأحوال و تحسّن حالته الاقتصاديّة.

و في الحلّة أيضا يحضر(عليه السلام)في دار العالم الجليل السيّد مهدي القزويني،و يخبره أنّه خرج من السليمانية أمس-و هي على الحدود العراقيّة التركية،و في أقصى نقاط شمال العراق-و يخبره بالفتح و الإنتصار،ثم يغيب عنهم فلا يرونه،و يصل الخبر الى حكّام الحلّة بعد عشرة أيام.

و يحضر في مجالس الشيعة التي تنعقد لإحياء ذكريات الأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

فانظر كيف يثبت(عليه السلام)وجوده لشيعته،و كيف يسعفهم و يغيثهم و يدفع عنهم الأعداء،و يخبرهم عن المؤامرات و المكائد و المخطّطات التي يرسمها الأعداء لإيذاء الشيعة،ثم يغيب عنهم فجأة لتكون غيبته دليلا على أنّه هو الإمام لا غير.

و في هذا المجال يتّضح لك-أيها القارىء الكريم-ما كتبه(عليه السلام)الى الشيخ المفيد،من قوله:«فإنّا نحيط علما بأنبائكم، و لا يعزب عنّا شيء من أخباركم»و قوله:«إنّا غير مهملين لمراعاتكم و لا ناسين لذكركم،و لو لا ذلك لنزل بكم اللأواء و اصطلمكم

ص:339

الأعداء»و قوله:«لأنّا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض و السماء»و قوله:«و لو أنّ أشياعنا-وفّقهم اللّه لطاعته- على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا،و لتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا».

ص:340

الفصل الثالث عشر

اشارة

كيف عاش الى هذا اليوم؟

قبل كلّ شيء..إنّني أعتقد أنّ المناقشة و المجادلة حول موضوع طول عمر الامام المهدي(روحي له الفداء)ليست مناقشة هادفة و بنّاءة،بل هي تجاهل العارف،و نوع من العناد،بدليل أنّنا لا نجد أحدا يناقش في طول أعمار الملائكة،أو طول عمر إبليس(لعنه اللّه) أو طول عمر الخضر(عليه السلام)الذي شرب من ماء الحياة و بقي حيّا من عهد النبي موسى(عليه السلام)الى يومنا هذا(1)و إنّما المناقشات

ص:341


1- (1) لقد ورد في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)أنّه قال«إنّ الخضر(عليه السلام)شرب من ماء الحياة،فهو حيّ لا يموت حتى ينفخ في الصور،و إنّه ليحضر الموسم كلّ سنة،و يقف بعرفة فيؤمّن على دعاء المؤمنين (أي:يقول آمين)و سيؤنس اللّه به وحشة قائمنا في غيبته،و يصل به وحدته». إكمال الدين ج 2 ص 390-391. و روي عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)أنّه قال:«...و أمّا العبد الصالح أعني الخضر(عليه السلام)،فانّ اللّه-تبارك و تعالى-ما طوّل عمره لنبوّة قدّرها له،و لا لكتاب ينزّله عليه،و لا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء،و لا لإمامة يلزم عباده الإقتداء بها،و لا لطاعة يفرضها له،بلى..إنّ اللّه -تبارك و تعالى-لمّا كان في سابق علمه أن يقدّر من عمر القائم(عليه السلام)في أيّام غيبته ما يقدّر،و علم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طوّل عمر العبد الصالح من غير سبب أوجب ذلك..إلاّ لعلّة الإستدلال به على

و الشبهات كلّها حول طول عمر صاحب الزمان(عليه السلام)!

فلماذا هذا التهريج و التجاهل و الإستهزاء؟؟!!.

هل هو بدافع البغض و العداء لآل رسول اللّه؟!

أم أنّه إستبعاد لقدرة اللّه تعالى؟!

و ما قيمة الإستبعاد المنبعث من الجهل-أو العناد-أمام الأمر الواقع؟؟!.

أتذكّر عندما نزل روّاد الفضاء على سطح القمر،انتشر هذا الخبر في شرق الأرض و غربها،و تحدّثت عنه جميع الإذاعات و الصحف، و ظهرت صورة روّاد الفضاء-ساعة نزولهم على سطح القمر-على شاشة التلفزيون،و نقلتها الأقمار الصناعيّة الى كلّ مكان،و بالرغم من كلّ ذلك رأيت كثيرا ممّن أعرفهم يستهزؤن بهذا الحادث و يعتبرونه من أكذب الأساطير،حتى قال لي أحدهم:إنّني أتعجّب منك كيف تصدّق هذا الخبر؟!و كيف يمكن للنصارى و الكفّار أن ينزلوا على القمر؟!

فهل انّ استبعادهم و انكارهم يمنع حقيقة الوصول الى القمر؟!

طبعا..لا.

إنّ طول عمر الإمام المهدي(عليه السلام)حقيقة ثابتة لا مجال

ص:342

لإنكارها أو التشكيك فيها،و إنّ جميع الشبهات-حول هذا الموضوع- لا قيمة لها،لأنّها من قبيل التشكيك في حرارة النار،و نور الشمس في منتصف النهار،و غير ذلك من الحقائق الثابتة.

بعد هذه المقدّمة،نأتي الآن لنبحث حول موضوع طول العمر على ضوء القرآن الكريم و من الناحية العقائديّة و على ضوء العلم الحديث.

طول العمر على ضوء القرآن الكريم

إذا عرضنا مسألة طول العمر على القرآن الكريم نجد نماذج من البشر قدّر اللّه تعالى لهم أن يعيشوا قرونا طويلة،و عند ذلك يكون طول عمر الإمام المهدي(عليه السلام)أمرا عاديا،بل يكون طول عمر أيّ إنسان-قدّر اللّه له أن يعيش طويلا-أمرا عاديا.

و الآن إليك نموذجا من القرآن الحكيم:

قال تعالى:وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (1).

إنّ هذه الآية الكريمة تقول:إنّ الفترة التي دعا فيها نوح(عليه السلام)الى اللّه تعالى هي 950 سنة،فكم كان عمره يوم أرسله اللّه نبيا؟و كم عاش بعد الطوفان؟

لقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنّه قال:

«عاش نوح ألفي سنة و ثلاثمأة سنة،فمنها ثمانمائة و خمسون سنة قبل أن

ص:343


1- (1) سورة العنكبوت الآية 14.

يبعث،و ألف سنة إلاّ خمسين عاما و هو في قومه يدعوهم،و خمسمائة بعد ما نزل من السفينة و نضب الماء(1)فمصّر الأمصار،و أسكن ولده البلدان..»(2).

و في رواية أخرى:إنّ نوحا عاش ألفين و خمسمائة سنة،و على كلّ حال فمن الواضح أنّ نوحا(عليه السلام)عاش هذه القرون الطويلة بقدرة اللّه تعالى و قد روي عن الإمام زين العابدين(عليه السلام)أنّه قال:«في القائم سنّة من نوح،و هي طول العمر(3).

و تتجلّى القدرة الإلهيّة في تحقيق مشيئته و ارادته،و إخضاع الطبيعة،في قصّة النبي يونس(عليه السلام)الذيفَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ،فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (4)فالظاهر من هذه الآية أنّ يونس لو لم يكن من المسبّحين في بطن الحوت للبث حيّا في بطن الحوت الى يوم القيامة.

و أمّا ما ذكره بعض المفسّرين من(أنّ بطن الحوت كان قبرا له، أي كان يموت و يبقى جسده في بطن الحوت الى يوم يبعثون)فهو خلاف الظاهر.

ص:344


1- (1) نضب الماء:غار الماء.مصّر الأمصار:بنى المدن.
2- (2) تفسير البرهان للبحراني في تفسير الآية،نقلا عن كتاب الكافي للشيخ الكليني. إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 523.
3- (3) كتاب إكمال الدين ج 1 ص 322 و 524.
4- (4) سورة الصّافات،الآية 142-144.

و قد ذكر الزمخشري-في تفسيره الكشّاف-ان الظاهر من قوله تعالى:لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ هو لبثه فيه حيا إلى يوم القيامة،و مثله في تفسير البيضاوي.

و لعلّ المعنى-و اللّه العالم-أنّ النبي يونس(عليه السلام)كان يبقى حيا محبوسا في بطن الحوت-مع حياة الحوت-الى يوم القيامة، فيستفاد من هذه الآية أنّ اللّه تعالى قادر على أن يحفظ إنسانا من الموت في مكان لا هواء فيه و لا طعام و لا شيء من لوازم الحياة و البقاء،بل و يحفظه من الهضم في بطن الحوت و صيرورته جزءا من جسد الحوت، الى ملايين السنين.

أليس اللّه تعالى بقادر على أن يحفظ وليّه من الموت و يعمّره مئات السنين؟!.

طول العمر من الناحية العقائديّة:

و إذا نظرنا الى موضوع العمر من الناحية العقائديّة وجدناه أمرا عاديا جدا،لأن كلّ مؤمن باللّه يعتقد أنّ الآجال بيد اللّه تعالى،و معنى هذا أنّ اللّه هو الذي يقدّر الآجال لكلّ نفس و لكلّ ذي حياة،و اللّه قادر على إطالة الأعمار كقدرته على تعجيل الآجال،فاذا قدّر اللّه تعالى لأحد عباده طول العمر فمن البديهي أن يهيّىء له الأسباب الماديّة،و الطبيعيّة الموجبة لطول العمر،و من الممكن أن يسعفه-للعمر الطويل-بالأمور الطبيعيّة و بالماورائيّات معا،أي ماوراء الطبيعة و المادّة،و لا يستلزم من ذلك خرق الطبيعة و لا العادة،فكما أنّ هناك وسائل و عوامل لقصر

ص:345

العمر و تعجيل الأجل،كذلك هناك وسائل لإطالة العمر و تأخير الأجل، و كلا القسمين من الوسائل في قدرة اللّه تعالى على حدّ سواء.

و لتوضيح هذا المعنى نقول:من الواضح أنّ جسم الإنسان يتعفّن و يتلاشى بعد الموت،و تتفرّق أجزاؤه و تنقلب الى ديدان،هذا من ناحية الطبيعة،و لكنّنا نجد-في مدينة القاهرة-عشرات الأجسام المحنّطة-من عهد الفراعنة-التي مرّت عليها آلاف السنين و هي لا تزال متماسكة الأعضاء و الأجزاء،فلا يقال:هذا خرق الطبيعة،بل الطبيعة ناقضت الطبيعة،يعني انّ التحنيط يناقض و يمانع تعفّن البدن و تلاشيه.

و إن تجاوزنا مرحلة تحنيط الأجسام الى مرحلة أعلى منها،رأينا ما يوجب الدهشة و العجب،فقد انهدمت قبور بعض عباد اللّه الصالحين فوجدت أجسادهم طريّة لم يطرأ عليها أيّ تغيير،فقد وجد جثمان الشيخ الصدوق-في إحدى ضواحي طهران-و قد مرّ على وفاته حوالي تسعمائة سنة،و كان جسده طريّا(1)،و في زماننا هذا،أرادوا نقل مرقد الصحّابي الجليل حذيفة بن اليمان من شاطىء نهر دجلة-ببغداد-الى جوار مرقد الصحّابي الجليل سلمان الفارسي-بالمدائن-فانهار القبر و ظهر الجثمان، فكأنّه مات في ذلك اليوم و لم يتغيّر جثمانه و ملامحه أبدا،و كانت وفاته سنة 36 من الهجرة،مع العلم أنّه لم يكن محنّطا بالتحنيط المتعارف،

ص:346


1- (1) توفي الشيخ الصدوق-رضوان اللّه عليه-سنة 381،و قد جدّد البناء الموجود على قبره سنة 1238 ه و وجد جسده طريا حين تجديد البناء.ذكر ذلك بالتفصيل الخونساري في(روضات الجنّات)و التنكابني في(قصص العلماء)،و المامقاني في (تنقيح المقال)و غيرهم.

و إنّما بقي جسده طريّا باذن اللّه تعالى.

و المشهور بين المؤمنين أنّ من واظب على غسل الجمعة لا يبلى جسده.

إذن:فالطبيعة شيء،و إرادة اللّه فوق الطبيعة،و مشيئته فوق المادّة و الماديّات،لأنّه تعالى خالق الطبيعة و المادّة،يقلّبها كيف يشاء و يتصرّف فيها بما يريد،فهو الذي منح للاشياء طبايعها.

فمن الممكن أن الإمام المهدي(عليه السلام)يراعي في حياته النواحي الصحيّة،فيتناول ما ينفع و لا يضرّ،فيعيش سالما عن جميع الأمراض،و تكون جوارحه و أجهزة جسمه نشيطة تؤدّي وظائفها على أحسن ما يرام،فالشيب و الشيخوخة و الضعف و الذبول لا طريق لها الى جسمه(عليه السلام)و إنّما يتمتّع بالطراوة و النضارة،فكأنّه شاب متكامل القوى..سليم الأعضاء،كلّ ذلك بسبب القابليّات و الإستعدادات و الطاقات التي أودعها اللّه تعالى في جسم الإمام المهدي (عليه السلام).

و خلاصة القول:إنّ اللّه تعالى هو الحافظ للإمام المهدي(عليه السلام)و هو الذي يصونه من نوائب الدهر و حوادث الزمان،و يمدّ سبحانه في عمره(عليه السلام)بما يشاء،و يحافظ على سلامة جسمه من كلّ مرض و آفة و عاهة.

طول العمر على ضوء العلم الحديث

قبل أن ندخل في هذا البحث،لا بأس أن نذكر كلمة بالمناسبة:

ص:347

من المؤسف جدا أنّ بعض الشباب-في المجتمع الإسلامي- يقتنعون بكلمات الغربيّين-من اليهود و النصارى و غيرهم-و يتلقّونها بالتصديق و القبول حتى لو كانت فوق مستوى عقولهم و مشاعرهم، و لكنّهم يتردّدون في قبول الحقائق الماورائيّة الغيبيّة التي تتجاوز حدود المادّة و الطبيعة،و يشكّكون فيها.

و هذا إن دلّ على شيء فانما يدلّ على الإستعمار الفكري و الثقافي الذي غزى البلاد الإسلاميّة،و سلب الإيمان و اليقين من قلوب كثير من الشباب الغافلين،و أحدث فجوة كبيرة و بونا واسعا بين هؤلاء الشباب و بين الحقائق التي لا ترتبط بالمادّة.

لقد دفع الإستعمار الشباب الى الإيمان بالماديّات فقط،والى رفض المعنويّات و الغيبيّات.

فإذا قيل:قال المستر فلان،و قال المسيو فلان،و كتب البروفسور فلان،و قال الفيلسوف فلان،و المكتشف فلان،و الدكتور فلان،الألماني أو الفرنسي أو الإمريكي،أو الأستاذ بجامعة كذا،أو الكاتب اليهودي،أو الخبير المسيحي،أو الزعيم الوثني،فإنّ أقوال هؤلاء و آراءهم و نظريّاتهم تعتبر-عند هؤلاء الشبّان-وحيا يوحى،و يتلقّونها بصدور رحبة و بكلّ تقدير!

أمّا إذا قلنا:قال اللّه تعالى،أو قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)أو قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام)أو ذكرنا حديثا أو معجزة لأحد أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)ثقل عليهم تصديقه

ص:348

و صعب عليهم قبوله!.

لماذا أيها المسلمون؟!.

أما كان رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)عالما حكيما فيلسوفا خبيرا مكتشفا،مرتبطا بالوحي،متّصلا بالمبدأ الأعلى؟؟!.

لماذا لا يقبل كلامه و لا تصدّق أقواله و أخباره؟؟!!

إذا قلنا:إنّ عمر الإمام المهدي أكثر من ألف و مائتي سنة قالوا:

كيف يمكن ذلك؟و تردّدوا فيه،أمّا أذا قيل:إنّ المستر فلان قال:إنّ بإمكان الإنسان أن يعيش ألوف السنين،صدّقوه و قبلوا منه!!لماذا؟!

قليلا من التفكّر و الإنتباه.

قليلا من الوعي و اليقظة.

إنّنا يجب أن نفتخر بعظماء الإسلام،بالنبي العظيم،بالإمام علي العظيم،بأهل البيت العظماء،و يجب أن نرفض الدخلاء الذين دسّ بهم الإستعمار الى مجتمعاتنا و أفكارنا و أذهاننا!

يجب أن لا ننسى أنّ المسلمين هم رجال العلم الحديث و أبطاله، و أنّهم الذين فتقوا هذه العلوم و كتبوا عنها و نشروها!

ما قيمة الغربيين؟!و ما قيمة أقوالهم و نظريّاتهم؟؟!!

لماذا نسينا أصالتنا و مجدنا؟.

إذا ذكروا قولا أو نظريّة لداروين اليهودي،و فرويد اليهودي، و أينشتاين اليهودي،و سارتر الوجودي الملحد،و أمثالهم-ممّن أنكروا

ص:349

الخالق و جحدوا الصانع،و رفضوا جميع الأديان،و جاؤا بنظريّات فاشلة،مضادّة للإسلام-رأيت هؤلاء الشباب،يتلقّون كلمات هؤلاء بالقبول،و يعتبرونها من الحقائق الثابتة التي لا تقبل الشك و الجدل!!

و لهذا ترى كثيرا من المؤلّفين يضطرّون الى الإستشهاد بكلمات الغربيّين،لإقناع الشباب بالموضوع الذي يتحدّثون حوله!.

لماذا يا أبناء الاسلام؟!.

لماذا يا شباب القرآن؟!.

عودوا إلى إسلامكم،و افتخروا به على غيركم.

إرفضوا الغرب و رجاله و أفكاره،فإنّه لا يزيديكم إلاّ وبالا و انحرافا.

و الآن أعود الى حديثي عن طول العمر على ضوء العلم الحديث:

إن مسألة طول العمر من المسائل التي لم يتحقّق تحديدها بالضبط، فاذا قالوا:فلان عاش مئات السنين أو آلاف السنين،فليس معنى ذلك أنّه عاش الحدّ الأقصى من العمر الممكن للبشر أن يدركه،لأنّ العمر الممكن للبشر لم يتحقّق تحديده-كما تقول بذلك آخر الإكتشافات العلميّة-.

و أمّا الأعمار القصيرة-في هذا الزمان و قبل هذا الزمان-فليست مقياسا تقاس عليه الأعمار،لأنّ الحياة مستلزمة-غالبا-للحوادث و الكوارث و الآلام التي تسبّب قصر العمر،كسوء التغذية و سوء التهوية

ص:350

و عدم رعاية التعاليم الصحيّة،و الأمراض الفتّاكة،و تراكم الهموم و الاحزان،التي لها كل الأثر في هدم الحياة و العقد النفسيّة التي تسبّب أمراضا خطيرة على حياة الانسان و غيرها.

و في هذا المجال ذكر في صفحة 239 من مجلة المقتطف المصريّة ما نصه:(...لكن العلماء الموثوق بعلمهم(1)يقولون:إنّ جميع الأنسجة الرئيسيّة في جسم الحيوان تقبل البقاء الى ما لا نهاية له،و أنه في الإمكان أن يبقى الإنسان حيّا ألوفا من السنين،إذا لم تعرض عليه عوارض تصرم حبل حياته».

و في صفحة 240 من نفس العدد تقول:«و غاية ما ثبت الآن من التجارب المذكورة أنّ الإنسان لا يموت بسبب بلوغ عمره الثمانين أو المائة من السنين،بل لأنّ العوارض تنتاب بعض أعضائه فتتلفها،و لإرتباط بعضها ببعض تموت كلّها،فإذا استطاع العلم أن يزيل هذه العوارض أو يمنع فعلها،لم يبق مانع من استمرار الحياة مئات السنين(2).

و لم نقرأ في كتاب أو تقرير،و لم نسمع من أيّ طبيب أو حكيم أو فيلسوف أنّ عمر البشر قد تمّ تحديده،و أنّه لا يمكن أن يتجاوز عمره ذلك الحدّ،أو أنّ من المستحيل أن يعيش الإنسان ألف سنة مثلا.

ص:351


1- (1) ليس المقصود من كلمة(العلماء)-هنا-الفقهاء و علماء الدين،بل المكتشفون و علماء العلم الحديث.
2- (2) مجلة المقتطف المصرية،في الجزء الثالث الصادر في سنة 1379 ه.في مقال تحت عنوان«هل يخلّد الإنسان في الدنيا؟».

بل نجد أنّ الطب الحديث يأمل في أن يجد دواءا لطول العمر، و منع الشيخوخة،و حفظ خلايا جسم الإنسان و الغدد التي تنشّط الأعضاء،و المحاولات مبذولة في هذا المجال.

نعم..العمر الطويل-في هذا الزمان-غير مألوف،نظرا الى الأعمار القصيرة التي يعيشها البشر اليوم،فاذا كان الشيء غير مألوف عندنا فليس معناه أنّه محال و غير ممكن(1)،فالناس-فيما مضى-كانوا يقطعون مسافة الف كيلو متر في شهر،و اليوم يقطعون هذه المسافة في ساعة واحدة بالطائرة،فلو أنّ إنسانا كان يخبر الناس-قبل مائة سنة- أنه يمكن قطع هذه المسافة في ساعة واحدة لما كانوا يصدّقونه،بل كانوا يستبعدون ذلك،لأنّه خلاف المألوف عندهم،و لكن الخبر صحيح.

إنّ المجتمعات البشريّة-اليوم-تعرف الأشياء حسب العادة الجارية،لا حسب الاصول العلمية،و حتى الذين لهم معرفة بالأصول العلمية لا يدّعون أنّهم أحاطوا بجميع الأسباب و المسبّبات،بل يعترفون أنّهم لا زالوا في بداية الطريق،و يقرّون بأنّ الأصول العلمية التي خفيت عنهم أكثر جدا ممّا ظهرت لهم.

فالمقاييس العلمية-في هذا الكون-أكثرها مجهولة،و لم يستطع البشر أن يحيط بها علما،و إنما استطاع أن يدرك أشياء ظاهرة بدون أن يعرف أسبابها و عللها،فكلّ شيء له سبب،و ذلك السبب أيضا له

ص:352


1- (1) روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)انه قال:«كانت اعمار قوم نوح(عليه السلام)ثلاثمائة سنة..ثلاثمائة سنة»اكمال الدين ج 2 ص 523.

سبب،و هكذا تجد الأسباب و المسببّات متسلسلة و لا تستطيع أن تعرف السبب الأول-الذي يقال له(علّة العلل)-إلاّ أن تقول:انّها قدرة اللّه سبحانه و إرادته..لا غيرها.

المعمّرون:

في تاريخ البشر توجد أسماء كثيرين من الذين عاشوا في هذه الحياة قرونا طويلة،و قد تعرّض المؤرّخون الى ذكر أسمائهم و بعض قضاياهم،كما أفرد بعض العلماء-في كتبهم-فصلا خاصّا لهم تحت عنوان«أخبار المعمّرين»و ذكروا فيه بعض ما يتعلّق بهم،ممّا يدلّ على أنّ طول العمر ليس أمرا غريبا في حياة الإنسان،بل كان شيئا طبيعيّا في بعض الأزمنة.

و نحن نذكر-هنا-أسماء بعضهم،مع رعاية الإختصار:

1-النبي آدم(عليه السلام)عاش 930 سنة.

2-النبي سليمان بن داود(عليهما السلام)عاش 712 سنة.

3-لقمان الحكيم عاش 4000 سنة و قيل 400 سنة.

4-الربيع بن الضبع الفزاري عاش 380 سنة.

5-شدّاد بن عامر عاش 900 سنة.

6-عمر بن عامر عاش 800 سنة.

7-قس بن ساعدة الأيادي عاش 600 سنة.

8-عزيز مصر عاش 700 سنة.

9-الريّان-والد عزيز مصر-عاش 1700 سنة.

ص:353

10-لقمان العادي عاش 560 سنة(1).

و هناك الكثيرون-ممّن سجّل التاريخ أسماءهم-الذين عاشوا مئات السنين،و لا أرى حاجة الى ذكرهم،و قد اكتفينا بالقرآن العظيم و قصّة نوح(عليه السلام)و فيها الكفاية.

ص:354


1- (1) و إن أردت المزيد من التفصيل فراجع كتاب إكمال الدين ج 2 ص 523 و ما بعده، و كتاب بحار الأنوار ج 51 ص 225 و ما بعده.

الفصل الرابع عشر

متى يظهر؟

لقد اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يكون وقت ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)مجهولا عند الناس و مكتوما عنهم،فلا يعلمون في أيّ وقت-بالضبط-يظهر الإمام(عليه السلام).

و بالرغم من وجود الأحاديث الكثيرة الواردة عن الرسول الأعظم و الأئمة الطاهرين حول مختلف جوانب حياة الإمام المهدي(عليه السلام)-بما في ذلك جانب ظهوره-لم يجيء التصريح بوقت ظهور الإمام،في أيّ خبر أو حديث،بل بالعكس وردت أحاديث شريفة عن النبي و الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)تكذّب-بشدّة-كلّ من يخبر بوقت الظهور،و تنفي أن يكون أحد المعصومين قد أخبر عن ذلك.

فقد روي عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)في إخباره عن غيبة الإمام المهدي:«...و يكذب فيها الوقّاتون»(1).

و سأل الفضيل من الإمام محمد الباقر(عليه السلام):هل لهذا الأمر وقت؟

ص:355


1- (1) كفاية الأثر للرازي القمّي.و هو من تلامذة الشيخ الصدوق.

فقال(عليه السلام):«كذب الوقّاتون،كذب الوقّاتون،كذب الوقّاتون»(1).

و روي عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)أنّه قال:«كذب الموقّتون،ما وقّتنا فيما مضى،و لا نوقّت فيما يستقبل»(2).

و قال(عليه السلام):«...كذب الوقّاتون،و هلك المستعجلون،و نجا المسلّمون»(3).

و المراد من عدم التوقيت-هنا-هو عدم تحديد السنة التي يظهر فيها الإمام المهدي بالضبط،إذ أنّ الأحاديث التي تذكر العلائم الحتميّة لظهوره(عليه السلام)تجعل ظهور تلك العلائم مقرونا بظهور الإمام المهدي في نفس السنة.

أمّا الحكمة في إخفاء وقت ظهوره(عليه السلام)فلا نستطيع أن نعرفها بصورة قطعيّة.

و لعلّ الحكمة في هذا السرّ المكتوم هو أن يبقى المؤمنون-طيلة هذه القرون-ينتظرون ظهور الإمام المهدي(عليه السلام)فيثابون على هذا الإنتظار المر.فالأجيال-منذ الغيبة الصغرى الى يومنا هذا-كانت

ص:356


1- (1) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 262،و كتاب الكافي ج 1 ص 368.
2- (2) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 262.
3- (3) كتاب الكافي للشيخ الكليني ج 1 ص 368،و كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 262.

و لا تزال ترجو أن تدرك ظهور الإمام المهدي،فلو كان وقت الظهور محدّدا لما كان هذا الإنتظار،بل كانت الآمال تنقلب الى اليأس،و كان الملايين يحرمون من ثواب الإنتظار،فقد روي عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)أنه قال:«أفضل أعمال أمّتي إنتظار الفرج»(1).

و قال الإمام علي أمير المؤمنين(عليه الصلاة و السلام):«المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه»(2).

و قال الإمام الصادق(عليه السلام):«من مات منتظرا لهذا الأمر كان كمن كان مع القائم(عليه السلام)في فسطاطه(3)لا..بل كان بمنزلة الضارب بين يدي رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم) بالسيف»(4).

و في إنتظار الفرج فائدة أخرى و هي أنّ الإنتظار يعتبر تصديقا لكلام اللّه تعالى و كلام رسوله و الأئمة الطاهرين من ولده،و هذا التصديق من مراتب الإيمان و درجات التسليم و الإطاعة.

و هناك حكمة أخرى في هذا الموضوع و هي:الإمتحان و الإختبار، فانّ اللّه سبحانه يمتحن عباده بشتّى أنواع الإمتحانات،و منها القضايا

ص:357


1- (1) إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 644،و رواه الجويني الشافعي في(فرائد السمطين).
2- (2) إكمال الدين ج 2 ص 645.
3- (3) فسطاطه:الخيمة التي يعسكر فيها الإمام.
4- (4) إكمال الدين ج 2 ص 338.

العقائديّة،فالذين آمنوا باللّه و بالرسول و بما جاء به من عند ربّه حول الإمام المهدي لا يهمّهم طول الغيبة،مهما طالت المدّة و طال الإنتظار.

و أمّا المنافقون فانّهم يجدون المجال المناسب للإستهزاء و التهريج ضدّ هذه العقيدة المقدّسة،و يضربون الآيات القرآنيّة و الأحاديث النبويّة عرض الجدار،و هذه عادة أهل الباطل في كلّ زمان و مكان.

و قد روي عن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)أنّه قال -في حديثه عن غيبة الإمام المهدي-:«...إنّما هي محنة من اللّه-عزّ و جلّ-إمتحن بها خلقه...»(1).

و ليس معنى الإمتحان أنّ اللّه سبحانه لا يعلم حقائق عباده و لا يعرف ما في ضمائرهم و سرائرهم إلاّ بعد الإمتحان.كلاّ..بل إنّ اللّه بكلّ شيء عليم،و يعلم ما في الصدور،و لا يخفى عليه شيء،قال تعالى:أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (2).

فلماذا الإمتحان إذن؟

ص:358


1- (1) كتاب الكافي للشيخ الكليني ج 1 ص 336.
2- (2) سورة العنكبوت الآية 3-5.

الجواب:إنّ اللّه سبحانه يمتحن عباده لعدّة أمور:

منها:إتمام الحجّة على الخلق،لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة.

و منها:لكي ينجح المؤمن في الإمتحان،فيستحقّ بذلك الأجر و الثواب.

و قد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)أن يدعو الإنسان-في عصر الغيبة-بهذا الدعاء المسمّى ب(دعاء الغريق):

«يا اللّه يا رحمن يا رحيم،يا مقلّب القلوب،ثبّت قلبي على دينك»(1)

و روي-أيضا-عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنّه أمر بهذا الدعاء:«اللهمّ عرّفني نفسك،فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيّك،اللّهم عرّفني رسولك،فإنّك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك،اللهمّ عرّفني حجّتك،فإنّك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني»(2).

هذا..بالاضافة الى وجوه الحكمة الأخرى،التي خفيت علينا.

أيها القارىء الكريم:هناك أحاديث شريفة تتحدّث عن بعض ما يتعلّق بوقت الظهور،نذكر بعضها بالمناسبة:

قال الإمام الصادق(عليه السلام):«يخرج قائمنا أهل البيت يوم الجمعة».

ص:359


1- (1) إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 352.
2- (2) كتاب الكافي للشيخ الكليني ج 1 ص 337،إثبات الهداة للشيخ الحر العاملي ج 7 ص 31.

و قال(عليه السلام):لا يخرج القائم(عليه السلام)إلاّ في وتر من السنين:سنة إحدى أو ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع(1).

و قال(عليه السلام):«ينادى باسم القائم(عليه السلام)في ليلة ثلاث و عشرين،و يقوم في يوم عاشوراء،و هو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي(عليهما السلام)...»(2).

و المستفاد من مجموع الأحاديث التي تتحدّث عن ظهور الإمام المهدي(عليه السلام)أنّ الظهور يكون قبل القيام بفترة غير قصيرة، فلعلّ الإمام(عليه السلام)يظهر من الإختفاء حين ينادى باسمه،في شهر رجب أو شهر رمضان،و ينقضي شهر شوّال و ذي القعدة و ذي الحجّة و عشرة أيام من شهر محرّم،ثم يقوم(عليه السلام)و ينهض تلك النهضة المباركة،فهو-في خلال هذه الفترة-يتّخذ التدابير اللازمة، و ينتظر الوقت و الزمان المناسب الذي يأذن اللّه له كي يبدأ حملة التطهير و يزيل الظلم و الجور،و ينشر العدل و العدالة في ربوع الكرة الأرضيّة، و سنذكر بعض التفصيل في المستقبل القريب إنشاء اللّه تعالى.

و أمّا حساب المنجّمين و أهل الرمل و الجفر و المكاشفات،و المرتاضين و غيرهم من الذين يدّعون الإخبار عن المغيّبات-في هذا الزمان-فليس

ص:360


1- (1) كشف الغمة ج 3 باب 4 ص 534.
2- (2) كتاب الغيبة للنعماني ص 282،إثبات الهداة بالنصوص و المعجزات للشيخ الحر العاملي ج 7 ص 31،و كتاب عقد الدرر للشافعي ص 65.

بشيء يعبأ به أو يعتمد عليه،خاصّة مع الإخبار المسبق من الرسول الأعظم و الأئمة الطاهرين بتكذيب كلّ من يخبر بوقت الظهور،كائنا من كان،و لقد رأينا و قرأنا و سمعنا تنبّؤات كثيرة حول العالم و حول ما يحدث لبعض الأفراد،فكان أكثرها كذبا وزورا!.

نعم يمكن أن نعرف إقتراب الظهور إذا ظهرت العلامات القطعيّة و الحتميّة،و لنا بحث حول تلك العلامات،سنذكره في فصل قادم باذن اللّه تعالى.

ص:361

الفصل الخامس عشر

اوصاف الامام المهدي و علائمه

لقد تعرّضت الأحاديث الشريفة لذكر علائم الإمام المهدي(عليه السلام)و أوصافه،و كان هذا ضروريا جدا،حتى يعرف الحقّ من الباطل،و ليكون حاجزا قويّا أمام من سوّلت له نفسه أن يدّعي ما ليس له.

و هذه العلامات يتعلّق بعضها بجسم الإمام المهدي(عليه السلام)و بعضها يصف أخلاقه،و بعضها يبيّن كيفية ظهوره،و بعضها يشرح حياة المجتمع في عصره.

و الجدير بالذكر أنّ علائم الإمام المهدي-المذكورة في الأحاديث الشريفة-تعتبر من العلائم التي لا تجتمع في غيره.فالعلائم التي تحدث قبل الظهور و بعد الظهور و حين قيامه بالحكم،و أيام حكومته، و فتوحاته،و امتلاء الأرض قسطا و عدلا بعد أن تملأ ظلما و جورا، و غيرها..كلّ هذه الأمور تعتبر شواهد صدق على حقيّة الإمام المهدي (عليه السلام)و تعيين شخصه.

و من الصحيح أن نقول:إنّ أكثر الأحاديث الواردة حول الإمام المهدي(عليه السلام)إنّما هي علائم لتعيين شخصه،كالأحاديث التي

ص:362

تشرح نسبه الشريف،و أنّه إبن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) و أنّه يملأ الأرض قسطا و عدلا،و أنّه يستولي على الكرة الأرضيّة،فلا يبقى على وجه الأرض دين غير دين الإسلام..و الى ما شاء اللّه من العلائم التي لم تتحقّق الى الآن و لم تتوفّر في أحد من مدّعي المهدويّة.

و السؤال الآن:ما هي الحكمة من ذكر أوصاف الإمام المهدي و علاماته؟.

الجواب:يمكننا أن نشير الى بعضها فيما يلي:

1-إنّ بتحقق هذه العلامات و انطباق هذه الأوصاف على الإمام المهدي-حين ظهوره-يرتفع كل شك و ريب،و يتلقّى الناس خبر ظهور الإمام بكلّ يقين،و لا يبقى مجال لأصحاب القلوب المريضة أن يشكّوا أو يشكّكوا في الإمام المهدي(عليه السلام)مع توفّر العلائم و تحقّق الصفات فيه،و تلزمهم الحجّة القطعيّة التي تأخذ بأعناقهم و تسدّ عليهم أبواب الشكوك و المناقشة.

2-إنّ اللّه تعالى كان يعلم أنّ عددا كثيرا من أهل الضلالة و أتباع الشيطان الرجيم سيدّعون المهدويّة كذبا وزورا،و افتراءا و خداعا،و لهذا جعل اللّه تعالى هذه العلائم المهمّة-التي لم تحدث في الكون أبدا-من العلائم القطعيّة للإمام المهدي(عليه السلام)و لظهوره،كي لا ينخدع الناس بأباطيل الضالّين و وساوس الشياطين،بل و حتى تفشل الدعاوي الباطلة التي يدّعيها المبطلون المدّعون للمهدويّة.

ص:363

و حينما نستعرض التاريخ الإسلامي نجد أنّ جماعة من أهل الضلال و الباطل،إدّعوا المهدويّة كذبا وزورا،و لكنّهم كانوا فاقدين لهذه الصفات و لم تتوفّر فيهم العلامات.

فقد كان قيام بعضهم ضيّق النطاق،قصير المدة،فاقد الشرائط، لم يستطع ان يملأ بلدة واحدة قسطا و عدلا،فكيف بأن يملأ الأرض كلّها قسطا و عدلا؟!

و كثير من هؤلاء فشلوا في إدّعائهم الكاذب،و لم يتّبعهم سوى بعض البسطاء الضعفاء من الناس،فباؤا بالفشل و لاذوا بالفرار، و جرّوا الويلات على أتباعهم،فكانوا لعنة التاريخ و أضحوكة المجالس.

و سنذكر في فصل قادم-إن شاء اللّه تعالى-أسماء بعض الذين ادّعوا المهدويّة،و نذكر بعض انحرافاتهم و أباطيلهم.

و فيما يلي نشير الى بعض الأحاديث الواردة في أوصاف الإمام المهدي(عليه السلام)و علائمه:

1-قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلّم):«المهديّ من ولدي،إبن أربعين سنة(1)كأنّ وجهه كوكب درّي(2)في خدّه الأيمن خال

ص:364


1- (1) إبن أربعين سنة:أي يبدو كأنّه إبن أربعين سنة،إذ لا طريق للذبول و آثار الشيخوخة اليه.
2- (2) الدرّي:المضيء الشديد الإضاءة،نسب الى الدرّ لبياضه و شدّة توقّده و إنارته.

أسود،عليه عباءتان قطوانيتان(1)كأنّه من رجال بني إسرائيل(2)يملك عشرين سنة،يستخرج الكنوز،و يفتح مدائن الشرك»(3).

2-و قال(صلى اللّه عليه و آله و سلّم):«يخرج المهديّ و على رأسه غمامة،فيها مناد ينادي:هذا المهدي خليفة اللّه فاتّبعوه»(4).

3-و قال(صلى اللّه عليه و آله و سلم):«المهديّ منّي،أجلى الجبهة،أقنى الأنف»(5).

4-و قال(صلى اللّه عليه و آله و سلّم):«المهديّ من ولدي، وجهه يتلألأ كالقمر الدرّي،اللون لون عربي،و الجسم جسم

ص:365


1- (1) القطوانية-نسبة الى قطوان-:و هو موضع في الكوفة،كان يصنع فيه العباءة، و قيل:القطوانية:عباءة بيضاء قصيرة الخمل.
2- (2) كأنّه من رجال بني إسرائيل:أي:انّه جسيم و طويل القامة.
3- (3) كتاب البيان للكنجي الشافعي ص 137،و رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب الأربعين،و الجويني في(فرائد السمطين)ج 2 ص 314،و يوسف بن يحيى الشافعي السلمي في(عقد الدرر)ص 36.
4- (4) و في نسخة«يخرج المهدي و على رأسه ملك ينادي:هذا المهدي...».فرائد السمطين للجويني ج 2 ص 316،و كتاب البيان للكنجي الشافعي ص 132، و رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب الأربعين،و المتّقي الهندي في(البرهان)و الخطيب البغدادي في(تلخيص المتشابه).
5- (5) أجلى الجبهة:واسع الجبهة،أو:هو الذي انحسر الشعر عن مقدّم رأسه.أقنى الأنف:القنا في الأنف:هو طوله ورقّة أرنبته..مع حدب في وسطه.مصدر الحديث:البرهان للمتقي الهندي ص 99،و البيان للكنجي الشافعي ص 117.

إسرائيلي،يملأ الأرض عدلا..كما ملئت جورا»(1).

5-و قال الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام)-في خطبة له-:«...المهدي من ذرّيتي،يظهر بين الركن و المقام،عليه قميص إبراهيم،و حلّة إسماعيل،و في رجله نعل شيث(2)،و الدليل عليه قول النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلّم):عيسى بن مريم ينزل من السماء و يكون مع المهدي من ذرّيتي..»(3).

6-و قال(عليه السلام)أيضا-في خطبة البيان-:«...هو صاحب الوجه الأقمر،و الجبين الأزهر(4)و صاحب العلامة و الشامة، العالم غير معلّم،المخبر بالكائنات قبل أن يعلم(5)...

ألا و إنّ المهدي يطلب القصاص ممّن لا يعرف حقّنا،و هو الشاهد بالحق و خليفة اللّه على خلقه،إسمه كإسم جدّه رسول اللّه(صلى اللّه

ص:366


1- (1) البيان للكنجي ص 118،و عقد الدرر ليوسف بن يحيى السلمي الشافعي ص 34،و أخرجه الحافظ أبو نعيم في(مناقب المهدي)و الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه.
2- (2) شيث:هو إبن النبي آدم-أبي البشر-(عليهما السلام).و لا يخفى أنّ هذه مواريث الأنبياء و ودائع النبوّة،التي انتقلت من نبي الى نبي،الى خاتم الأنبياء، الى الأئمة الطاهرين،حتى وصلت الى الإمام المهدي(عليه السلام).
3- (3) كتاب إثبات الهداة للشيخ الحر العاملي ج 7.
4- (4) الأقمر:الأبيض،الأزهر:المشرق اللون.
5- (5) أي:قبل أن يخبر عنها.و في نسخة:«قبل أن تعلم».

عليه و آله و سلم)إبن الحسن بن علي(عليه السلام)(1)،من ولد فاطمة، من ذريّة الحسين ولدي...»الى آخر خطبته(2).

7-و قال الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام):«لو قام المهدي لأنكره الناس،لأنّه يرجع اليهم شابا و هم يحسبونه شيخا كبيرا(3).

8-و عن الهروي قال:قلت للإمام الرضا(عليه السلام):ما هي علامات القائم منكم إذا خرج؟

قال(عليه السلام):«علامته:أن يكون شيخ السنّ،شابّ المنظر،حتى أنّ الناظر اليه ليحسبه إبن أربعين سنة أو دونها،و إنّ من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيّام و الليالي،حتى يأتي أجله(4).

ص:367


1- (1) المقصود هو الامام الحسن العسكري إبن الامام علي الهادي(عليهما السلام).
2- (2) كتاب إلزام الناصب ج 2 ص 200.
3- (3) كتاب عقد الدرر ليوسف بن يحيى الشافعي السلمي ص 42.
4- (4) إكمال الدين ج 2 ص 652.

الفصل السادس عشر

اشارة

علائم ظهوره

يمكننا أن نقسّم علائم ظهور الإمام المهدي(عليه السلام)المرويّة في كتب الأحاديث،إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول:العلائم العامّة،التي تتحدّث عن الإنحرافات التي تنتشر في الأوساط الإسلاميّة و غيرها،و تتلوّث بها المجتمعات البشريّة.

و هذه العلائم ليست من العلائم المقارنة لظهور الإمام المهدي (عليه السلام)بل يمكن أن تحدث قبل ظهور الإمام بعشرات السنين.

القسم الثاني:العلائم التي تحدث قريبا من ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)بسنوات غير كثيرة،و لكنّها لا تدلّ على وقوع الظهور في تلك السنة،بل تعتبر من أنواع الملاحم و الفتن في القرون المتأخّرة عن زمن صدور هذه الأحاديث.

القسم الثالث:العلائم التي تحدث في السنة التي يظهر فيها الامام (عليه السلام)أو في السنة السابقة على سنة الظهور.

و هذا القسم الأخير ينقسم الى نوعين:

النوع الأول:العلائم غير المحتومة،و معنى ذلك أنّها ليست قطعيّة،فيمكن أن تقع و يمكن أن لا تقع.

ص:368

النوع الثاني:العلائم المحتومة التي لا تقبل الشك و الترديد،و هي قطعيّة الوقوع..لا محالة.

ثم إنّ هذه العلائم-من حيث المجموع-بعضها ظاهر المعنى و واضح المراد،و بعضها في غاية الإبهام و الإجمال و الغموض.

و قد سبقني الكثيرون الى ذكر تلك الأحاديث،و خاصّة الكتّاب المعاصرون،و قد فسّروها و أوّلوها حسب آرائهم الخاصّة و نظريّاتهم الشخصيّة.

و إنّني أظن أنّهم لا يستطيعون إثبات تلك الآراء لا علميا و لا تاريخيا،و لهذا فإنّني لا اتجرّأ في أن أتّبعهم في تلك التوجيهات،أو أقتدي بهم في آرائهم و تأويلاتهم لتلك الأحاديث،فاللّه و رسوله و أهل البيت أعلم بحقائق الأمور.

و هاك مثالا في هذا المجال:

ذكر الشيخ المفيد في كتابه الارشاد-في ضمن العلائم-::

«...و نزول الترك الجزيرة،و نزول الروم الرملة..».

إنّ الأتراك يسكنون-حاليا-في إيران و في شمال العراق،و في تركيا،و في القفقاس،من الإتحاد السوفياتي،فيا ترى ما هو المقصود من الترك هنا؟.

و الجزائر كثيرة فما هي الجزيرة التي تنزل بها الترك؟و اين هي؟

ص:369

و أما الروم فهم-على الاكثر-الأوروبيّون،و من الواضح أنّ أوروبا قارّة مشتملة على دول عديدة و حكومات متعدّدة،و كلّهم روم،فما هو المقصود من الروم،

هل يمكن أن يكون المقصود من الروم اسرائيل؟!(1).

و يمكن أن يكون المقصود امريكا،لأنّ أكثر الإمريكيين هم من المهاجرين من القارّة الأروبيّة.

و هكذا وردت في الأخبار كلمة«المشرق«أو«المغرب»فما هو المقصود من المشرق و المغرب؟

المشرق الأقصى؟أم الشرق الأوسط؟

المغرب الأقصى؟أم المغرب العربي المشتمل على ليبيا و تونس و الجزائر و المغرب؟

و هكذا وردت كلمة:«بنو فلان»أو«ألا أخبركم بآخر ملك بني فلان»فما هو المقصود من بني فلان؟.

يقال:إنّهم بنو العباس،مع العلم أنّ العباسيّين إنقرض ملكهم سنة 656 من الهجرة،فهل يمكن أن يكون بعض الرؤساء في البلاد العربية عباسيّين في النسب؟.

ص:370


1- (1) باعتبار أن الروم الذين جاءوا لحرب المسلمين-في غزوة مؤتة-كانوا يسكنون الأردن و فلسطين.

و على كلّ حال..لا نستطيع أن نتأكّد من معرفة هذه الأسماء في هذه الأحاديث التي تشبه الرموز،و لا نتمكن أن نعرف المقصود منها بالضبط.

إذن..فالأفضل أن نذكر العلائم كما هي،و المستقبل يضمن تفسير هذه الكلمات و تطبيقها على مصاديقها.

القسم الأول:العلائم العامّة:

أمّا العلائم العامّة-و هي القسم الأول من العلائم-فهي كثيرة، و نقتطف من مجموع الأحاديث حديثا واحدا و فيه الكفاية،ثم نشرح بعض الكلمات الواردة فيه:

روي عن النزال بن سبرة قال:خطبنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(صلوات اللّه عليه)فحمد اللّه-عزّ و جلّ-و أثنى عليه،و صلى على محمد و آله،ثم قال:سلوني-أيها الناس-قبل أن تفقدوني-قالها ثلاث مرات-.

فقام اليه صعصعة بن صوحان فقال:يا أمير المؤمنين متى يخرج الدجّال؟.

فقال(عليه السلام)له:أقعد،فقد سمع اللّه كلامك،و علم ما أردت..

الى أن قال:و لكن لذلك علامات و هيئات يتبع بعضها بعضا كحذو النعل بالنعل،و إن شئت أنبأتك بها.

ص:371

قال:نعم يا أمير المؤمنين.

فقال(عليه السلام):«إحفظ..فإنّ علامة ذلك:إذا أمات الناس الصلاة،و أضاعوا الأمانة،و استحلوا الكذب،و أكلوا الربا، و أخذوا الرشا..و باعوا الدين بالدنيا،و استعملوا السفهاء،و قطعوا الأرحام،و اتّبعوا الأهواء،و استخفّوا بالدماء.

و كان الحلم ضعفا،و الظلم فخرا،و كان الأمراء فجرة،و الوزراء ظلمة،و العرفاء خونة،و القرّاء فسقة،و ظهرت شهادات الزور، و استعلن الفجور و قول البهتان،و الإثم و الطغيان.

و حليت المصاحف،و زخرفت المساجد،و طوّلت المنارات،و أكرم الأشرار،و ازدحمت الصفوف،و اختلفت الأهواء،و نقضت العهود، و اقترب الموعود،و شارك النساء ازواجهنّ في التجارة حرصا على الدنيا، و علت أصوات الفسّاق و استمع منهم،و كان زعيم القوم أرذلهم،و اتّقي الفاجر مخافة شرّه،و صدّق الكاذب،و اؤتمن الخائن،و اتخذت القيان و المعازف(1)و لعن آخر هذه الأمّة اوّلها،و ركبت ذوات الفروج السروج، و تشبّه النساء بالرجال و الرجال بالنساء،و شهد شاهد من غير أن يستشهد و شهد الآخر قضاءا لذمام بغير حق عرفه،و تفقّه لغير الدين،و آثروا عمل الدنيا على الآخرة،و لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب،

ص:372


1- (1) القيان:الإماء المغنّيات:و قيل:المغنّيات..سواء كنّ من الإماء أولا.و المعازف: هي آلات اللهو يضرب بها..من الدفوف و غيرها.

و قلوبهم أنتن من الجيف و أمرّ من الصبر،فعند ذلك..ألوحا..

الوحا..ثم العجل العجل...»الى آخر الحديث(1).

و الآن..نذكر بعض الجملات الواردة في هذا الحديث،مع شيء من الشرح و التفصيل،حسب ما يتبادر الى الذهن،و اللّه العالم:

الحديث المذكور يشير الى بعض المفاسد في المجتمعات الإسلاميّة، و قلب المفاهيم،و تبدّل المقاييس،و ضعف الجانب العقائدي،و عدم المبالاة بالنواميس الإسلامية،و كثرة الإهتمام بالأشياء التافهة،و استيلاء المنحرفين على الحكم،و سقوط الفضائل عن الإعتبار و انتشار المنكرات بلا خوف و لا خجل.

فالصلاة-التي هي عمود الدين-تفقد جوهرها،و الأمانات تضيع،و يصبح الكذب الحرام حلالا،و الربا مباحا،و يستولي الفاقدون للمؤهّلات على الحكم،و العلاقات الودّية بين الأقارب و الأرحام تنقطع،و يستهان بإراقة دماء الأبرياء و الظالم يفتخر بالظلم،و ينتشر الفجور بين الأمراء،و الظلم بين الوزراء،و الخيانة بين العرفاء(2)و الفسق بين القرّاء-قرّاء القرآن أو الخطباء-.

و يكون إحترام القرآن العظيم بإناقة الطباعة و تلوين الغلاف و ما

ص:373


1- (1) الوحا..الوحا:أي العجل..العجل..إكمال الدين للشيخ الصدوق ج 2 ص 525-526.
2- (2) الظاهر أنّ العرفاء:هم الشرطة و الجواسيس،و ما يسمّون برجال أمن الدولة.

شابه ذلك،لا تلاوته و لا العمل به.

و صفوف صلاة الجماعة تكون مزدحمة بالمصلّين الذين يحملون قلوبا متنافرة،فالأجساد متقاربة و القلوب متباعدة.

و تنزل النساء و الفتيات الى الأسواق و الحوانيت،جلبا للمال، و أصوات الفسّاق تعلو و تنتشر من الإذاعات و غيرها،و الناس يصدّقون كلامهم و يعتبرونه وحيا يوحى.

و تكون الزعامة و الرئاسة للسفلة الاراذل الذين لا يؤمنون بالقيم و الشرف،و الناس يخافون من شرّ الفجّار فيدارونهم إتّقاء شرّهم.

و أمّا اصوات المغنّيات و الراقصات و المطربات-المقرونة بالموسيقى و الدفّ و أمثال ذلك-فهي مرتفعة من أكثر البيوت،و تسمعها في الجوّ و البرّ و البحر،و في الشوارع و الأسواق و حتى في الصحاري و البراري-في الوسائل النقليّة-كلّ ذلك عبر الإذاعات و أجهزة التسجيل و الأشرطة.

و ركوب النساء الدرّاجات الهوائيّة أو الناريّة أو الخيول..و لا شكّ أنّ ركوب المرأة على السرج يهيّج فيها غريزة الجنس،بسبب الحركة العنيفة،المصحوبة بكيفية جلوسها على السرج،مع العلم أنّ ركوب السيّارة و أمثالها ليس فيه هذا التأثير.

و أما تشبّه النساء بالرجال فقد صار من أرقى مراتب الحضارة و التقدّم،فالفتاة تلبس البدلة الرجاليّة،و تقصّر شعر رأسها،بحيث يصعب التمييز بينها و بين الرجل.هذا من ناحية الملبس و المظهر.

ص:374

و أمّا التوظّف في الدوائر و الإستخدام في المحلاّت،و المشاركة في بقيّة مرافق الحياة الخاصّة بالرجل-كالوزارة و المجلس النيابي و المحاماة و أمثالها-فحدّث و لا حرج!!.

و أما تشبّه الرجال بالنساء..فتراه في كلّ مكان،فالرجل يلبس القميص الملوّن و البنطلون الضيّق،و يضع السلسلة الذهبيّة في رقبته، و يتختّم بالذهب،و يحلق اللحية مع الشارب و يرقّق حاجبيه عند الحلاّق،و يستعمل المساحيق الخاصّة لطراوة الوجه و لمعانه،و كأنّه يجلب الأنظار الى نفسه!و كأنّ هناك إتفاقيّة بين الرجال و النساء للتبادل الثقافي!!.

نعم..هذا بعض مظاهر تشبّه الرجال بالنساء!.

و أمّا في المحاكم فالشاهد يشهد من غير أن يطلب منه الشهادة، و الآخر يشهد لصديقه رعاية لحقّه،و هو لا يعرف القضيّة و لا يعلم الحقّ مع من؟!.

و لا تسأل عمّا يجري في هذه المحاكم من بذل المال و الرشوة و الهدايا الى الحاكم أو الوسيط،جلبا لرضاه و رعايته.فذلك ممّا لا يخفى على أحد.

و أمّا التفقه لغير الدين،فقد صار متعارفا عند البعض،فتراه يتفقّه لا للدين..بل للدنيا،يدرس العلوم الدينيّة لكي يتخرّج و يصبح قاضيا،فيجرى له راتب يوفّر له الحياة المرّفهة،و لا يهمّه من أمور الدين

ص:375

شيء أبدا.

و هناك أفراد يتظاهرون بالصلاح و الورع،و لكنّهم يحملون نفوسا شرّيرة،و نوايا سيّئة و ضمائر قذرة،فاذا أتيحت لهم الفرصة فلا وجدان و لا عطف و لا إنسانيّة و لا دين و لا مذهب،تماما كالذئب الذي لا يعرف شيئا سوى تمزيق فريسته،و شرب دمائها و تقطيع أعضائها!.

أيها القارىء الكريم:كان هذا شرحا موجزا لبعض الجملات التي وردت فيما روي عن مولانا و سيّدنا علي أمير المؤمنين(صلوات اللّه و سلامه عليه)و الأحاديث التي تتضمّن هذه المواضيع كثيرة،و قد اكتفينا بهذا الحديث رعاية للإختصار.

القسم الثاني:العلائم القريبة من زمن الظهور:

و أمّا القسم الثاني من العلائم،و هي التي تحدث قريبا من ظهور الإمام المهدي(عليه السلام)فكثيرة جدا،و قد ذكر الشيخ المفيد(رحمه اللّه)-في كتاب الإرشاد-علائم كثيرة إستخلصها من الأحاديث التي إعتبرها صحيحة و ثابتة عنده،و قد جمع بين العلائم القريبة و المقارنة للظهور و القيام،بصورة مجملة و موجزة،و فيما يلي نذكر كلامه،تتميما للفائدة،ثم نشرح بعض ما يستدعي الشرح و التوضيح:

قال(رحمه اللّه):«قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي(عليه السلام)و حوادث تكون أمام قيامه،و آيات و دلالات،فمنها:

ص:376

خروج السفياني،و قتل الحسني،و اختلاف بني العباس في الملك الدنياوي(1)و كسوف الشمس في النصف من شهر رمضان،و خسوف القمر في آخره على خلاف العادات،و خسف بالبيداء،و خسف بالمشرق،و خسف بالمغرب،و ركود الشمس من عند الزوال الى وسط أوقات العصر،و طلوعها من المغرب،و قتل نفس زكيّة بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين،و ذبح رجل هاشمي بين الركن و المقام،و هدم حائط مسجد الكوفة،و إقبال رايات سود من قبل خراسان،و خروج اليماني،و ظهور المغربي بمصر و تملّكه الشامات،و نزول الترك الجزيرة، و نزول الروم الرملة.

و طلوع نجم يضيىء كما يضيىء القمر،ثم ينعطف حتى يكاد يلتقي طرفاه،و حمرة تظهر في السماء و تنتشر في آفاقها،و نار تظهر بالمشرق طولا و تبقى في الجوّ ثلاثة أيام أو سبعة أيام.

و خلع العرب أعنّتها(2)و تملّكها البلاد،و خروجها عن سلطان العجم،و قتل أهل مصر أميرهم(3)و خراب الشام و اختلاف ثلاث رايات فيه،و دخول رايات قيس و العرب الى أهل مصر،و رايات كندة الى خراسان،و ورود خيل من قبل المغرب حتى تربط بفناء الحيرة،و إقبال

ص:377


1- (1) هكذا وجدنا في المصدر و لعل الأصح:الملك الدنيوي.
2- (2) الأعنّة جمع عنان،مثل أزمّة جمع زمام وزنا و معنى.
3- (3) لعلّ هذا قد تحقّق،فقد قتل المصريّون أنور السادات رئيس الجمهورية،و اللّه العالم.

رايات سود من قبل المشرق نحوها،و ثبق بالفرات(1)حتى يدخل الماء أزقّة الكوفة.

و خروج ستّين كذّابا كلّهم يدّعي النبوّة،و خروج إثني عشر من آل أبي طالب كلّهم يدّعي الإمامة لنفسه،و إحراق رجل عظيم القدر من شيعة بني العباس،بين جلولاء و خانقين(2)و عقد الجسر ممّا يلي الكرخ بمدينة بغداد و ارتفاع ريح سوداء بها في أول النهار،و زلزلة حتى ينخسف كثير منها،و خوف يشمل أهل العراق و بغداد،و موت ذريع فيه، و نقص في الأموال و الأنفس و الثمرات.

و جراد يظهر في أوانه و غير أوانه حتى يأتي على الزرع و الغلاّت، و قلّة ريع لما يزرعه الناس(3)،و اختلاف صنفين من العجم و سفك دماء كثيرة فيما بينهم،و خروج العبيد عن طاعة ساداتهم و قتلهم مواليهم، و مسخ لقوم من أهل البدع حتى يصيروا قردة و خنازير،و غلبة العبيد على بلاد السادات،و نداء من السماء حتى يسمعه أهل الأرض كلّهم، اهل كلّ لغة بلغتهم،و وجه و صدر يظهران من السماء للناس في عين الشمس،و أموات ينشرون من القبور حتى يرجعوا الى الدنيا فيتعارفون فيها و يتزاورون،ثم يختم ذلك بأربع و عشرين مطرة تتّصل،فتحيى بها

ص:378


1- (1) ثبق النهر:أي كسر سدّه،و فاض منه الماء،و الثبق:موضع الكسر من النهر. المنجد.
2- (2) جلولاء و خانقين مدينتان في العراق تقعان بين بغداد و الحدود الإيرانية.
3- (3) الريع:ما فضل و زاد من الزرع.

الأرض بعد موتها،و تعرف بركاتها،و يزول بعد ذلك كلّ عاهة عن معتقدي الحقّ من شيعة المهدي(عليه السلام)فيعرفون عند ذلك ظهوره بمكّة،و يتوجّهون نحوه لنصرته».

أقول:لعل بعض ما ذكره الشيخ المفيد من العلائم قد وقع، و بعضها سوف يقع في المستقبل القريب أو البعيد.

و بعض هذه العلائم يحتاج الى شيء من الشرح و التوضيح، و بعضها غير واضح المراد،و لا نستطيع بالتأكيد أن نفسّر ما أبهم منها، و لكنّنا نبدأ-بعون اللّه تعالى-بشرح ما هو المظنون،و لا ندّعي أنّ هذا هو المقصود لا غير:

أمّا السفياني و الحسني فسوف نتحدّث عنهما قريبا،و سيأتي الكلام كذلك عن كسوف الشمس و خسوف القمر و عن الخسف بالبيداء،في ضمن الحديث عن السفياني.و هكذا سيأتي الكلام عن قتل النفس الزكيّة و الرجل الهاشمي.

و أمّا إختلاف بني العباس في الملك-مع العلم أنّ حكومتهم قد انقرضت قبل حوالي ثمانمائة سنة-فلا بدّ لنا من القول:إنّ بعض الحكّام في البلاد العربيّة هم عباسيّون في النسب و لكنّهم غير معروفين بذلك.

و أمّا ركود الشمس،أو طلوعها من المغرب،فلا يؤمن به العلم الحديث-اليوم-و لكنّنا نقول:إنّ اللّه على كلّ شيء قدير،و لسنا

ص:379

بحاجة الى تصديق العلم الحديث و تأييده في هذه الأمور.

و أما إقبال رايات،سود من قبل خراسان،فلا نعلم هل هو إشارة الى واقعة التتار و سقوط حكومة العباسيّين،و قد وقع هذا قبل مئات السنين؟!أم أنّه إشارة الى ما سيقع في المستقبل؟!.

و(خراسان)أسم منطقة واسعة تشمل شيئا من أرض الأفغان و الإتّحاد السوفياتي،بالإضافة لشمولها لمدينة مشهد الإمام الرضا(عليه السلام)و ضواحيها و نواحيها.و اللّه يعلم ماذا خبّأ الدهر لهذه المنطقة و تلك البلاد.

و أمّا خروج اليماني و ظهور المغربي بمصر،فالتاريخ يذكر إستيلاء المصريّين على الشام مرّات عديدة،و يمكن أن يتكرّر ذلك في المستقبل.

و أمّا الحمرة التي تظهر في السماء فيمكن أن تكون من إنعكاسات أشعّة الشمس في الأفق أو الفضاء بصورة عامّة،و يعتبر هذا من آثار غضب اللّه تعالى على أهل الأرض،و قد حدث نظير هذا بعد إستشهاد الإمام الحسين(عليه السلام).

قال أبو العلاّء المعرّي:

و على الأفق من دماء الشهيدين علي و نجله شاهدان

و أمّا النار التي تظهر بالمشرق طولا و تبقى في الجوّ ثلاثة أيام أو سبعة أيام،فلعلّها من الحرائق الرهيبة التي تظهر،و ما يدرينا لعلّ آبار

ص:380

البترول-في بعض المناطق-تصاب بالحريق فيمتلأ الفضاء بالنار و الدخان،و لا يستطاع إخماد النار الى ثلاثة أيام أو سبعة أيام.و اللّه العالم.

و أما خلع العرب أعنّتها و تملّكها البلاد و خروجها عن سلطان العجم،فلعلّه قد وقع،و ينبغي أن لا ننسى أنّ العجم هم:غير العرب،سواء في ذلك الفرس و الترك و غيرهما.

فبعد أن كانت الإمبراطورية العثمانيّة تحكم على أكثر البلاد العربيّة-كالعراق و الأردن و فلسطين و سوريا و لبنان و مصر و السودان و الحجاز و اليمن و غير ذلك-إنهارت تلك الإمبراطورية و خرجت البلاد العربية عن السلطة العثمانية.

و أمّا خراب الشام و اختلاف ثلاث رايات فيها،فسنذكره قريبا.

و أمّا دخول رايات قيس و العرب الى أهل مصر،فالمستقبل كفيل بتوضيحه.

و أمّا ورود الخيل من قبل المغرب حتى تربط بفناء الحيرة-في العراق-،فحيث أنّنا لا نعلم المقصود من المغرب.لا نستطيع أن نتأكّد من معرفة الخيل القادم من المغرب نحو العراق.

و نفس هذا الكلام بالنسبة الى الرايات السود القادمة من قبل المشرق نحو الحيرة.

و أما الثبق في الفرات،فلعلّه يحدث من إنهيار السدّ على شطّ

ص:381

الفرات و تفايض الماء و طغيانه،فيدخل الماء أزقّة الكوفة.و قد تفايض الماء-فيما مضى من السنين-بصورة مكرّرة.

و أمّا خروج ستين كذّابا كلّهم يدّعي النبوّة،فقد خرج عدد من هؤلاء في خلال قرنين أو أكثر،أمثال علي محمد الباب-رئيس البهائية الباطلة-و أحمد القادياني-رئيس القاديانيّة المنحرفة-و غيرهما ممّن لا داعي لذكرهم.

و أما إحراق رجل عظيم من شيعة بني العباس-بين جلولاء و خانقين-فلا يتبادر الى الذهن-الآن-شيء حوله،و لعلّه يتّضح ذلك في المستقبل.

و أما عقد الجسر ممّا يلي الكرخ و بغداد،فقد بني الجسر قبل عشرات السنين،بل بلغ عدد الجسور التي بنيت في بغداد سبعة.

و أمّا إرتفاع الريح السوداء بها في أوّل النهار،فيمكن ان يكون ذلك بسبب الحرائق و المتفجّرات،أو يكون عذابا من عند اللّه،كما حدث ذلك بالنسبة لبعض الأمم السابقة.

و أما الزلزلة التي ينخسف منها كثير من بغداد،فلعلّها إشارة الى القصف الذي يزلزل المدينة و يهدم بناياتها،أو أنّها زلزلة حقيقية،لم تقع بعد.

و أمّا الخوف الذي يشمل أهل العراق،فلعلّه إشارة الى ما هو موجود الآن-و نحن في عام 1403 هجريّة-حيث لم يبق في العراق

ص:382

إنسان إلاّ و شمله الخوف.

و أمّا الموت الذريع،فلعلّه اشارة الى الإعدامات الكثيرة الجماعية و غيرها،التي تحدث-حاليا-بصورة مستمرة في كلّ يوم..بل في كلّ ساعة!

و أما النقص في الأموال،فلعلّه إشارة الى آثار الإشتراكيّة و ما تتركه من الفقر و الجوع و الحرمان،كما هو موجود-حاليا-في العراق،و في كل دولة تطبق فيها الإشتراكية السوداء.

و أمّا النقص في الأنفس،فلعلّه إشارة الى الحرب التي لا تزال قائمة-حين كتابة هذا الفصل-بين العراق و إيران.

و أمّا النقص في الزرع و الثمرات،فهو بسبب ما يسمّى بالإصلاح الزراعي الذي حوّل بلاد السواد الى أرض جرداء.

و أمّا الجراد الذي يظهر في أوانه و غير أوانه..حتى يأتي على الزرع و الغلاّت،فالظاهر أنّه لم يأت حتى الآن..

و أمّا قلّة الريع في الزرع،و سلب البركة من المزروعات،فيمكن أن يكون بسبب الحشرات التي تفسد الزرع،أو الأمطار الغزيرة التي تتلف الزرع،أو غير ذلك.

و أمّا إختلاف صنفين من العجم،فليس واضحا،بعد أن عرفنا أنّ المقصود من العجم هم غير العرب و ليس الفرس فقط،و اللّه يعلم

ص:383

حقائق الأمور.

و أمّا خروج العبيد عن طاعة ساداتهم و قتلهم مواليهم،فهو يشير الى تمرّد-حدث أو يحدث-بين طوائف من الناس،كالفلاّحين الذين يتمرّدون على الملاّكين،أو العمّال الذين يثورون ضد أرباب المعامل،أو الجنود الذين يخرجون عن طاعة القوّاد و لا ينفّذون أوامرهم،و يوجّهون بنادقهم الى صدور أمرائهم و يقتلونهم،و يمكن أن يكون المراد بذلك ما حدث في ثورة صاحب الزنج في البصرة.و اللّه العالم.

و أمّا النداء من السماء حتى يسمعه أهل الأرض،فسنذكره قريبا.

و أمّا الوجه و الصدر اللذان يظهران من السماء للناس في عين الشمس،فيعتبر من الأمور المبهمة الغامضة،و لا مجال للظنّ و الحدس في تفسيره و تحليله.

و أمّا الأموات الذين ينشرون من قبورهم فهو إشار الى الرجعة، و لنا حديث مفصّل حول هذا الموضوع يأتي في أواخر الكتاب.

و أمّا الأمطار الغزيرة الكثيرة،فهذا أيضا يأتي شرحه في المستقبل القريب إنشاء اللّه تعالى.

و ختاما لهذا البحث أعود لأقول-مرّة ثانية-:إنّ ما ذكرته في شرح و توضيح ما ذكره الشيخ المفيد(رضوان اللّه عليه)إنّما هو ما تبادر اليه الظن،و من الممكن أنّ تشير مجموعة هذه الأحاديث الى معان أخرى لم تتبادر الى الذهن،و اللّه العالم.

ص:384

القسم الثالث:العلائم التي تحدث في سنة الظهور:

اشارة

القسم الثالث و الأخير:العلائم التي تحدث في السنة التي يظهر فيها الإمام المهدي(عليه السلام)أو في السنة السابقة على سنة الظهور،و قد ذكرنا أنّها على نوعين:

الأول:العلائم غير المحتومة و هي التي يحتمل وقوعها كما يحتمل عدمه،فهي ليست قطعيّة..و الآن نشير الى بعضها كالتالي:

الهاشمي:

خروج راية(الهاشمي)من العلائم غير المحتومة لظهور الإمام المهدي(عليه السلام)،و قد ورد ذكر(الهاشمي)في أحاديث عديدة، و المستفاد من مجموعها أنه رجل من بني هاشم،و من ذرّية رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلم)و أنّه في سنّ الشباب و بكفّه اليمنى خال و أنّه يخرج من خراسان،و قد ذكرنا-فيما مضى-أنّ خراسان إسم منطقة واسعة تشمل جزءا من إيران و الأفغان و الإتّحاد السوفياتي،و لا نستطيع التأكّد من نقطة إنطلاقه و مركز نهضته.

و تقول الأحاديث:إنّ الهاشمي يصل بجيشه الى العراق،بعد خروج جيش السفياني من الكوفة،و ارتكابه الفجائع و اراقته للدماء، و سبيه للنساء و وضعهنّ في الوسائل النقليّة و حملهنّ الى الشام.

في هذا الوضع المأساوي المؤلم يصل السيّد الهاشمي الى الكوفة فيعلم أنّ جيش السفياني قد خرج-حديثا-من الكوفة متوجّها نحو

ص:385

الشام،و معه السبايا و يصل الى الكوفة-أيضا-اليماني بجيشه الجرّار، ثم يخرج الهاشمي و اليماني بجيشهما لملاحقة جيش السفياني،و يلتقي الجيشان-جيش الهاشمي و اليماني من جهة،و جيش السفياني من جهة أخرى-و يقع بينهما قتل كبير،و أخيرا ينتصر السيّد الهاشمي،و يقضي على جيش السفياني بكامله،و يرجع الى الكوفة مظفّرا،بعد أن استنقذ السبايا.

و قد اختلفت الأحاديث في نسب الهاشمي،فبعضها يقول:إنّه حسني،و بعضها يقول:إنّه حسيني،و من المحتمل قويّا كونه حسني النسب و إنّني أظنّ ظنيا قويّا-أنّ الهاشمي هذا،هو الذي يعبّر عنه في بعض الأحاديث ب«الحسني»و«النفس الزكية»و لا مانع من أن يكون هناك سادة حسنيّون ذوو نفوس زكيّة.

نعم..قد اشتهر الرجل المذبوح بين الركن و المقام ب«النفس الزكية»و هو حسني النسب.

و ممّا لا شكّ فيه أنّ السيّد الهاشمي شيعيّ المذهب،متمسّك بعقيدته،و له شعبيّة واسعة و محبّة في القلوب.

و فيما يلي نذكر بعض الأحاديث المرويّة في هذا المجال:

عن عبد اللّه بن مسعود قال:أتينا رسول اللّه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)فخرج الينا مستبشرا يعرف السرور في وجهه،فما سألناه عن شيء إلاّ أخبرنا به،و لا سكتنا إلاّ ابتدأنا،حتى مرّت فتية من بني

ص:386

هاشم،فيهم الحسن و الحسين(عليهما السلام)،فلما رآهم إلتزمهم و انهملت عيناه.

فقلنا:يا رسول اللّه ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه؟!.

فقال:«إنا أهل بيت إختار اللّه لنا الآخرة على الدنيا،و إنّه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريدا و تشريدا،حتى ترفع رايات سود من المشرق،فيسألون الحقّ فلا يعطونه،فيقاتلون فينصرون،فمن أدركهم منكم أو من أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي،و لو حبوا على الثلج(1)فإنّها رايات هدى،يدفعونها الى رجل من أهل بيتي(2).

أقول:لعلّ بعض الناس يتوهّم أن المقصود من الرايات السود- في هذا الحديث-هي الرايات السود التي كانت مع أبي مسلم الخراساني حين نهض و قوّض حكومة بني امية،و أسّس حكومة العبّاسيّين في سنة 656 هجريّة.

و الصحيح أنّ هذه الرايات ا