التجري

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السیدجعفر، 1349 -

عنوان واسم المؤلف: التجري [الكتاب]تاٴليف: السیدجعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالعلم ، 1394.

خصائص المظهر : 148 ص.

ISBN : 978-964-204-257-9

ملاحظة : العربية.

ملحوظة: کتابنامه: ص.[139]-145

عنوان : تجری (فقه)

عنوان : *Tajarri (Islamic law)

ترتيب الكونجرس: BP163/3

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3843817

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

مقدمة الناشر

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

الكتاب الذي بين يديك باكورة مصنفات المؤلف، حيث ألّفه وهو في الثاني والعشرين من عمره، وأراد أن يكون مزيجاً يجمع بين الأصول والفقه؛ فأنّها مسألة يمكن عرضها أصولية ويمكن عرضها فقهيّة، كما سيتضح ذلك في طيّات الكتاب.

ويمتاز هذا الكتاب بتحرّي المسألة من جهاتها المختلفة، وعرض مختلف آراء أساطين الأصول والفقه، ومناقشتها تأييداً أو إشكالاً، وقد حاول المؤلف الاستعانة بمسائل أصولية أو فقهية من أبواب أخرى عندما رآها دخيلة في تنقيح هذه المسألة، كما خصّص فصلاً في آخر الكتاب لذكر المسائل الفقهية التي استنبطها الفقهاء باستعانة هذه المسألة، مما يدلّ على أنّها ليست مجرد مسألة علمية، وإنّما يضاف إلى ذلك كونها عملية ودخيلة في استنباط بعض الأحكام الشرعية.وقد طبع الكتاب في العام 1413 ه- ، وقد نفدت نسخه، فارتأينا تجديد

ص: 5

طباعته بصف جديد مع تخريج مصادره، وإضافة عناوين أدرجناها ضمن الكتاب بعد موافقة المؤلف عليها، ويبقى الكتاب كما هو من غير تغيير، رغم حدوث آراء جديدة للمؤلف، والتي أدرجها في كتابه (نبراس الأصول).

مؤسسة الشجرة الطيبة

قم المقدسة

25/ ربيع الثاني / 1436

ص: 6

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين.

وبعد، فهذا بحث في مسألة التجري حول حرمته وعدمها، وأسال اللّه سبحانه القبول والتوفيق للإتمام، وأن يجعله خالصاً لوجهه، إنه ولي ذلك، وهو المستعان.

وأهدي هذا الجهد المتواضع إلى بقية اللّه الأعظم الإمام الحجة ابن الحسن العسكري (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).

قم المقدسة

25/ شعبان المعظم/ 1412 ه-

جعفر بن محمد الشيرازي

ص: 7

ص: 8

الفصل الأول: في عناوين مسألة التجري

اشارة

ص: 9

ص: 10

أصولية المسألة

قد تعنون المسألة: بأن التجري هل هو حرام أو لا؟ وعنونه صاحب الكفاية بقوله: «فهل يوجب استحقاقها((1)) في صورة عدم الإصابة»((2))، والشيخ الأعظم: «لكن الكلام في أن قطعه هذا هل هو حجة عليه من الشارع وإن كان مخالفاً للواقع»((3))، وبعض: بأن الخطابات الأوليّة تعم صورتي الإصابة والخطأ أم لا؟((4))، وآخرون: بأنه قبيح أم لا((5)).

ص: 11


1- أي: العقوبة.
2- كفاية الأصول: 259، وفيه: «... أنه لا شبهة في أنّ القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة، والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الإصابة على التجري بمخالفته، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئاً؟».
3- فرائد الأصول1: 37.
4- انظر: فوائد الأصول3: 38، وفيه: «...دعوى أن الخطابات الأولية تعم صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته، ويندرج المتجري في عموم الخطابات الشرعية حقيقة، ببيان أن التكليف لابد وأن يتعلق بما يكون مقدوراً للمكلف....».
5- انظر: درر الفوائد2: 335، وفيه: «...وتحقيق المبحث أن يقال: إن النزاع يمكن أن يقع في استحقاق العقوبة وعدمه، فيكون راجعاً إلى النزاع في المسألة الكلامية، ويمكن أن يقع النزاع في أن ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح أم لا؟ فيكون المسألة من المسائل الأصولية التي يستدل بها على الحكم الشرعي، ويمكن أن يكون النزاع في كون هذا الفعل - أعني ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً - حراماً شرعاً أو لا، فتكون من المسائل الفقهية، فإن كان النزاع في الأخير».

الإيرادات على عناوين مسألة التجري

ما يرد على العنوان الأول

ما يرد على العنوان الأول((1))

ويرد على الأول: بأنه يكون حينئذٍ من عوارض فعل المكلف((2))، فتخرج عن كونها أصوليّة.

ولا يجدي التفصي بعمومية المسألة للموضوعات، وكل ما كان كذلك يكون قاعدة أصوليّة، بخلاف المسائل الفقهية فإنها تبحث عن أحكام مواضيع خاصة، وهذه ليست كذلك، بل هي عامة؛ وذلك لأنّه لا يشترط فيها ذلك، بل المناط غيره.

إذ جملة من القواعد الفقهيّة كذلك، كقاعدة ما يضمن وعكسها، وكالحمل على الصحة، وغيرها كثير، هذا من حيث انطباق تعريف الفقه عليه.

مضافاً إلى أنه بناءً عليه يكون موضوع الفقه متحققاً فتكون فقهيّة؛ إذالإيرادات على عناوين مسألة التجري

ما يرد على العنوان الأول((3))

ويرد على الأول: بأنه يكون حينئذٍ من عوارض فعل المكلف((4))، فتخرج عن كونها أصوليّة.

ولا يجدي التفصي بعمومية المسألة للموضوعات، وكل ما كان كذلك يكون قاعدة أصوليّة، بخلاف المسائل الفقهية فإنها تبحث عن أحكام مواضيع خاصة، وهذه ليست كذلك، بل هي عامة؛ وذلك لأنّه لا يشترط فيها ذلك، بل المناط غيره.

إذ جملة من القواعد الفقهيّة كذلك، كقاعدة ما يضمن وعكسها، وكالحمل على الصحة، وغيرها كثير، هذا من حيث انطباق تعريف الفقه عليه.

مضافاً إلى أنه بناءً عليه يكون موضوع الفقه متحققاً فتكون فقهيّة؛ إذ- كما حقق من محله((5)) - يكون تمايز العلوم بالموضوع، فإن كان واحداً وإلا

ص: 12


1- وهو ما ذهب إليه صاحب الكفاية، كما تقدمت عبارته.
2- انظر: أجود التقريرات2: 344، وفيه: «... أن الملاك في كون المسألة فقهية، سواء كان من مسائلها الشخصية أم قواعدها، هو كون محمول المسألة من عوارض فعل المكلف بلا واسطة، بحيث لو ضم إليها صغراها أنتج نتيجة شخصية...».
3- وهو ما ذهب إليه صاحب الكفاية، كما تقدمت عبارته.
4- انظر: أجود التقريرات2: 344، وفيه: «... أن الملاك في كون المسألة فقهية، سواء كان من مسائلها الشخصية أم قواعدها، هو كون محمول المسألة من عوارض فعل المكلف بلا واسطة، بحيث لو ضم إليها صغراها أنتج نتيجة شخصية...».
5- انظر: الفصول الغروية: 11، أوثق الوسائل: 435، بدائع الأفكار: 32.

فبالجامع العنواني بين المواضيع((1)).

وأما ما قيل: من أن الجامع لا يمكن، فإن الموضوع قد يكون وجوديّاً وقد يكون عدميّاً، كالفقه؛ فبعضها كالصلاة وجودّي، وبعضها عدمّي كتروك الحج والصوم - بناءً على أنه الترك لا كف النفس((2)) - كما أنه قد يكون من مقولة الكم كالتكلم، وقد يكون من مقولة أخرى، ويمنع الجامع الماهوي بين مقولتين فضلاً عن الوجود والعدم، فكيف يمكن الالتزام بوجود جامع حقيقي يكون مؤثراً في الغرض؟

فجوابه: الالتزام بالجامع العنواني - وهو جامع اعتباري كالمفهوم الجامع بينهما - ولكن لا ندعي أنه المؤدي للغرض، بل هو جامع لمسائل العلم ومائزه عن غيره، والغرض يترتب على نسبة المحمول إلى الموضوع في كل مسألة، وكل واحد منها موضوعه حقيقي، كما أن كل مسألة من مسائل النحو تؤدي جزءاً من غرضه وهو الصيانة؛ إذ الغرض واحد نوعي، وكل واحد نوعي يكون كذلك.

لا يقال: إن بعض العلوم موضوعهامتحد كالنحو والصرف، فإما يلتزم باتحادها وهو باطل، أو بأن التمايز بغيره.

لأنه يقال: إن الموضوع ليس الكلمة حتى يلزم ذلك، بل هو ذلك مقيداً بالحيثية، فهما متغايران بها، ففي النحو: الكلمة من حيث تلفظ آخرها، وفي الصرف: من حيث صحتها وإعلالها، وليس المراد منها إلا القابليّة؛ لكي لا

ص: 13


1- انظر: مقالات الأصول1: 36، هامش رقم (4).
2- انظر: رسائل الشريف المرتضى3: 53، المبسوط1: 265، الوسيلة: 139.

يلزم حمل الشيء على نفسه، كما أشار إليه المحقق الإصفهاني((1))، وحاصله: إنه لا يرد إشكال تحصيل الحاصل في تقسيماته، كقولنا: الكلمة من حيث الإعراب والبناء معربة أو مبنيّة؛ إذ فيه أخذ قيد القابليّة وفيها الفعلية، فيصح التقسيم كما لا يخفى.

ولا يمكن أن يكون التمايز بالغرض؛ إذ هو معلول، ففي رتبة العلة لا بد من مائز، وليس إلا الموضوع.

مضافاً إلى أن بعض العلوم لا غرض لها سوى حب الاستطلاع، فلا يوجد حتى يكون مائزاً، وإن قيل: إن هذا هو الغرض، فيقال: لازمه اتحاد تلك العلوم مما لا يصح.

وإلى((2)) أنه قيل بإمكان غرضين لعلم واحد، ولازمه على ذلك كون العلم علمين، اللّهم إلا أنّ يقال: إنّ التمايز بالغرض، لا أن وحدة الغرض مكونة لوحدة العلم، وقاعدة: (الواحد لا يصدر إلا من الواحد) غير جارية في المقام لإمكان الجامع بين الغرضين.

لا يقال: إن الغرض أول ما ينقدح ويطلب الوصول إليه، وإن كان آخر ما يتحقق من الخارج.

لأنه يقال: إنه وإن كان كذلك، إلا أنه بحسب قاعدة المسانخة يجب أن يكون المائز والمميّز في عالم واحد، إما كلاهما في الخارج، أو هما في الذهن، وإما هما حقيقيان أو اعتباريّان إلى آخر التقسيمات، ولا يمكن

ص: 14


1- انظر: نهاية الدراية في شرح الكفاية1: 48.
2- أي: ومضافاً إلى أنه....

التفكيك، وهو ذهني لكونه علة غائية والتمايز خارجي.

فاتضح أن هذا العنوان يشمله موضوع الفقه، فتخرج عن كونها أصوليّة.

ولو سلم أنّ التمايز بالغرض فأنّ غرض الفقه متحقق بناءً عليه، وحيث إن التمايز بالغرض فتكون فقهية كما لا يخفى.

لكن قد يقال: إن المسألة فقهيّة، والبحث عنها استطرادي؛ لأنه وإن أمكن تصحيح أصوليّتها - كما سيجيء - لكن المراعى في الأصولية وعدمها هو النظر فيما تقتضيه المسألة من كيفية طرحها والنظر في مصبها، وإلا أمكن طرح كل مسألة فقهيّة في الأصول بتغيير في المحمول.ولذا أشكل على من صحح أصولية المسألة في مقدمة الواجب: «بأن كل مقدمة يستلزم وجوب ذيها وجوبها»((1)): بأنه إن قُبل ذلك أمكن تحويل المسائل الفقهيّة بجعلها أصوليّة. مثلاً: يقال: (الضمان بالصحيح يستلزم الضمان بالفاسد) فيضم إلى صغرى (هذا فيه الضمان بالصحيح)، أو يقال: (كل أَمر المسلم محمول على الصحيح) فيضم إليه هذا أمر المسلم، فتأمل، فإن النتيجة في المثال حكم فرعي، وأن الطرح منوط بالطارح والصب بالصاب.

ولا يرد على تحريرها فقهية ما أشكل به المحقق النائيني بقوله: «وأنت بعدما عرفت أن انكشاف الواقع لا يزيد بنظر القاطع على الواقع بشيء،

ص: 15


1- كفاية الأصول 1: 226، وفيه: «لا يخفى عليك أن نتيجة المسألة الأصوليّة في المقام هي ثبوت الملازمة - لو قيل بها - ومعناها أن كلّ مقدّمة يستلزم وجوبُ ذيها وجوبَها». نهاية الدراية في شرح الكفاية1: 410.

ويستحيل أن يكون بهذا العنوان محكوماً بحكم آخر تعرف بطلان تحريرها فقهيّة»((1)).

إذ فيه: أولاً: أعمية البحث لغيره كالظن، بل قال قبل أسطر من ذلك: «إن حال مخالفة الطريق الوجداني حال الطريق الجعلي بعينها، من دون فرق بينهما أصلاً، وعليه يكون محل النزاعفي المقام أعم من مخالفة القطع الوجداني والأمارات والأصول، حتى أصالة الاحتياط في موارد العلم الإجمالي أو غيرها، وبالجملة مخالفة مطلق المنجز للحكم على تقدير انكشاف عدم ثبوته في الواقع يكون محل الكلام في المقام»((2)) .

وثانياً: إن ما ذكره يجري في الطريقي فقط لا الموضوعي، إلا أن يقال بخروجه، كما سيجيء أن ذلك هو الصحيح.

وثالثاً: إن الحكم بالحرمة لا يختص بالظن، بل يجري في القطع أيضاً، فإن ارتكاب القاطع بالحرمة - مصادفاً للواقع - حرام قطعاً، ويمكن نهيه، بل قد يجب إن اجتمعت الشروط، فلا مانع من نهي الجاهل المركب والحكم بالحرمة عليه، والخلط إنما حصل بين الحكم والموضوع، فإن ما ذكره يجري في الأول، وأما الثاني فإن المقطوع به والحكم متغايران.

نعم، إن أراد ما قاله الشيخ الأعظم من أن الحكم إنما هو على الواقع لا على مقطوع الحرمة مثلاً، فلهذا الكلام مجال هذا.

ويظهر من الشيخ الأعظم التصريح بذلك حيث قال: إن الكلام في أن

ص: 16


1- أجود التقريرات2: 22.
2- المصدر نفسه.

الفعل غير المنهي عنه واقعاً يصير محرماً شرعاً، أو مبغوضاً بسبب تعلق اعتقاد المكلف بكونه مبغوضاً((1)).

ما يرد على العنوان الثاني

ما يرد على العنوان الثاني((2))

وأورد على الثاني: بأن البحث عن استحقاق العقاب وعدمه، كالبحث عن الحسن والقبح، بحث كلامي((3)).

لكنه غير وارد على المحقق الخراساني؛ إذ هو قائل بأن البحث عن القطع في الأصول بحث استطرادي، حيث قال: «لا بأس بصرف الكلام إلى بيان ما للقطع من الأحكام، وإن كان خارجاً عنمسائل الفن، وكان أشبه بمسائل الكلام»((4))، والتجري من بحوث القطع، وقد صرح بذلك في حاشية الرسائل

ص: 17


1- انظر: فرائد الأصول1: 40، وفيه: «والحاصل: أن الكلام في كون هذا الفعل - الغير المنهي عنه واقعاً - مبغوضاً للمولى من حيث تعلق اعتقاد المكلف بكونه مبغوضاً، لا في أن هذا الفعل - المنهي عنه باعتقاده ظاهراً - ينبئ عن سوء سريرة العبد مع سيده، وكونه في مقام الطغيان والمعصية....».
2- وهو العنوان الذي ذكره الشيخ الأنصاري.
3- انظر: درر الفوائد في الحاشية على الفرائد1: 36، وفيه: «... ينبغي أولاً تحرير الوجوه التي يمكن أن يقع النزاع في هذه المسألة عليها، أو ربما وقع، فاعلم أن القطع إذا تعلق بالوجوب أو الحرمة بعنوان عام، أو تعلق بمصداق واجب أو حرام، فلا كلام فيما أصاب في استحقاق الثواب إذا عمل على طبقه، واستحقاق العقاب إذا لم يجرِ على وفقه وفيما أخطأ، ففيه إشكال وللنزاع فيه مجال، فيمكن أن يقع النزاع في مجرد استحقاق العقوبة في صورة المخالفة، واستحقاق المثوبة في صورة الموافقة من دون نظر إلى جهة أخرى، فيكون مسألة كلامية». مصباح الأصول2: 509، وفيه: «... فإن مسألة استحقاق العقاب وعدمه عقلية لا يعتمد فيها على الشهرة والإجماع».
4- كفاية الأصول: 257.

حيث قال: «فيمكن أن يقع النزاع في مجرد استحقاق العقوبة في صورة المخالفة، واستحقاق المثوبة في صورة الموافقة، من دون نظر إلى جهة أخرى، فيكون مسألة كلامية»((1)).

وإن كان يرد عليه الإشكال صغرى وكبرى:

أمَّا صغرى: فإنه كما يجري في القطع كذلك يجري في الظن المعتبر، والشك إذا كانت حجة على العبد، كالاستصحاب والاحتياط ونحوهما، كما لو ارتكب أحد أطراف الشبهة المحصورة ولم يصادف حراماً، أو استصحب النجاسة وقد طهر واقعاً، أو خالف البينة وكانت مخطئة، فإذا كان كذلك فيمكن طرحه في غير القطع أصولياً، ولا داعي للقول بالاستطراد لو كان بعض أطراف المسألة منه.

وأما كبرى: فيرد عليه بأن الالتزام بخروج القطع عن مسائل الأصول لجهتين كلتاهما محل تأمل.

الجهة الأولى: إن «مسائل الأصول قواعد يستنبط منها أحكام شرعية، أوينتهي إليها المكلف في مقام العمل، فالعلم بالأحكام - الذي هو موضوع هذه المسألة - من اللوازم المترتبة على العلم بتلك المسائل، فلا يكون موضوعاً لها»((2)).

الجهة الثانية: إن مسائل الأصول ما كانت حجة، والحجة عبارة عن الوسط الذي يحتج به على ثبوت الأكبر للأصغر، ويكون واسطة في

ص: 18


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد1: 36.
2- حقائق الأصول2: 3.

الإثبات، ولا يمكن ذلك في القطع؛ إذ لا يقال: إن هذا معلوم الخمريّة، وكل معلوم الخمريّة يجب الاجتناب عنه؛ وذلك لأن وجوب الاجتناب ليس عن معلوم الخمريّة، وإنما هو عن الخمر الواقعي، فإطلاق الحجة عليه من باب إطلاق السبب على المسبب.

أمّا الأولى ففيها: أولاً: إن بعض مسائل القطع لا تقع نتيجة للقياس، بل تقع في مقدماته، كمباحث العلم الإجمالي، فإنه في كبراه يبحث عن تنجزه بنحو المقتضي أو العلة التامة للموافقة القطعية أو المخالفة كذلك، أو بالتفصيل ففي الأول إحداهما وفي الثاني الآخر، إلى آخر التفصيلات فيه، فحينئذٍ يقال: هذا معلوم الحرمة - مثلاً - بالعلم الإجمالي، وكلما كان كذلك فحكمه كذا، فإطلاق القول: بأنَّه يقع في النتيجة فقط لا وجه له.

وثانياً: إن حجيته ليست مختصة بمالو كان نتيجة لمسألة أصوليّة - توجب القطع بالحكم أو بالوظيفة - بل تجري ولو حصل من غير سبب شرعي، سواء أحصل بلا سبب ظاهر - وإن كان واقعاً؛ إذ لا يعقل معلول بلا علة - أم ظاهر غير مجعول شرعاً، فإن حجيته ذاتيّة.

وثالثاً: إن بعض مسائله هي نتائج لمسائل أصوليّة أخرى، ككل صغريات حجيّة الظهور، فإنها نتيجة لكبرى حجيته، فتأمل.

وكأن وجهه مبتنٍ على ما قيل: من أن مسائله كبريات القياس((1))، وهو غير صحيح لاستلزامه الاستطراد في هذه الصغريات مما لا وجه للالتزام به.

ص: 19


1- انظر: فوائد الأصول1: 400، و4: 699، وفيه: «...وقد تقدم: أن ضابط المسألة الأصولية وقوعها في كبرى قياس الاستنباط».

وأما الثانية فيرد عليها: أولاً: النقض بالظن، فإن الحكم كما أنه ليس على معلوم الخمريّة - مثلاً - كذلك ليس على مظنونها.

وكأن الوجه في التفريق بينهما أن في الظن حكمين: واقعياً وظاهرياً، فتكون الكبرى صحيحة؛ إذ كل مظنون الخمريّة - مثلاً - حرام ظاهراً، وليس كذلك في القطع؛ إذ لا حكم ظاهري فيه، وإلا لزم الدور في قولنا: (هذا معلوم الحرمة، وكل معلوم الحرمة حرام) إذ العلم بالحكم متأخر عن الحكم رتبة،فلا يمكن أَخذه فيه؛ إذ أفق المعلوم متقدم على أفق العلم، فلو أخذ العلم بالحكم في موضوعه لزم الدور.

فإن تعلق القطع بحرمة الخمر يستلزم تقدم حكمه الواقعي المترتب عليه، فلو ترتب ثبوت الحكم الواقعي عليه - إذ يكون وسطاً - يلزم تأخر الحكم عنه، فيلزم تقدم الحكم على نفسه.

لكن التفريق غير وجيه؛ إذ هو إنما يكون على مبنى الحكم الظاهري.

وأما على مبنى جعل المنجزيّة فليسا حكمين، بل التنجيز والإعذار، وكذلك على مبنى جعل الحكم المماثل «فما أدّيا عنّي فعني يؤديّان»((1))، إلا أن يقال: إنّه لا جعل مماثل في مورد القطع إطلاقاً، وكذلك على مبنى

ص: 20


1- الكافي1: 329، ح1، وفيه: عن عبد اللّه بن جعفر الحميري... قال: سألته وقلت: «مَنْ أعامل أو عمن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثقة المأمون، وأخبرني أبو علي أنّه سأل أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عنّي فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعمها، فإنهما الثقتان المأمونان....».

الانكشاف، فإنّه على الأول والثالث ليس إلا واحداً فيهما، وعلى الثاني حكمان فيهما، فعليه لا فرق.

وأما الدور فيدفع بما عن المحقق النائيني بأن المولى يتصور أنه أمروبعد ذلك يعلم البعض به، فيأمرهم حقيقة أو الأعم منهم، كما في اختصاص القصر بالعالم، ونحوه موارد أخر. فتأمل ففيها رفع اليد عنه لا اختصاصه بهم.

ولو سلم إمكان دفعه الدور فغير معلوم وقوعه؛ إذ هو أعم منه ومن عدم الوقوع.

لكن يدفع بأنه إنما يستحيل بناءً على كونه بشرط شيء، أو بشرط لا أو مطلقاً. فالأول للدور.

والثاني: إن اختصاصه بغير العالم مستلزم للغو؛ إذ ما دام كذلك لا حكم عليه؛ إذ المفروض أنه جاهل به، وإن علم فيخرج موضوعاً.

والثالث: إنّه إذا استحال التقييد فالإطلاق أيضاً محال((1))؛ لتقابلهما تقابل العدم والملكة((2))، فهو بحاجة إلى المحل القابل لكليهما، فإذا استحال أحدهما كان الآخر كذلك، أو لأنه إذا لم يمكن الأخص فالأعم منه ومن غيره أيضاً كذلك، إن لم نقل بتقابلهما كذلك، بل السلب والإيجاب أو الضدين، كما هو مبنى البعض((3)).

ولا يستحيل على كونها مهملة فيالموالي العرفية، أي: في حين الأمر

ص: 21


1- انظر: أجود التقريرات1: 103.
2- انظر: أجود التقريرات1: 113.
3- انظر: أجود التقريرات2: 289، حيث نسبه للمشهور، فوائد الأصول1: 155.

يهملهما ولا طريق آخر غيره. نعم، الإهمال الثبوتي بالنسبة إلى الشارع غير معقول؛ لأن غرضه إما بالأعم أو بالأخص.

وثانياً: إن الحجة كذلك عند أهل الميزان، وأما عند الأصوليين فمطلق ما كان دليلاً - ولو عند البعض أو في الجملة - سواء كان وسطاً أم لا، وإطلاقهم الحجة على القطع وغيره على السواء، كما أشار إليه جملة من محشي الرسائل((1))، وهو لفظي كما أشاروا إليه، فحينئذٍ يكون القطع من الحجة؛ إذ هو دليل على الحكم وإن لم يكن بالجعل.

ما يرد على العنوان الثالث

ويرد على الثالث: أولاً: إنه ينافي ما مرّ من الشيخ الأعظم من ذاتيّة حجيته وعدم نيل يد الشرع له، فلا معنى للبحث عن حجيته شرعاً عند مخالفته للواقع بعد ذلك، فسواء خالفه أم وافقه فهو كذلك؛ إذ الحجيّة هي المنجزيّة والمعذريّة - كما هو مبنى المحقق صاحب الكفاية ومعظم مَنْ تأخر عنه((2)) - فلافرق بين الإصابة والخطأ حينئذٍ، ولا يمكن تخصيصها بالإصابة؛ إذ الذاتي سواء كان ذاتي باب الإيساغوجي أم البرهان لا يتخلف مطلقاً، أما الأول: فلاستلزامه انقلاب الماهيّة، وأما الثاني: فلأنه انتزاعي، كالإمكان من الممكن، وهو لا ينفك عن منشئه.

ص: 22


1- انظر: أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 5، درر الفوائد في الحاشية على الفرائد1: 333.
2- انظر: كفاية الأصول: 277، وفيه: «... والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق، بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب، وصحته الاعتذار به إذا أخطأ...».

لا يقال: إن شرط صحته هو الاشتقاق لمنشأ الانتزاع من المنتزع - بالفتح - كالزوج من العين المنتزع منها الزوجيّة.

لأنه يقال: يمكن ذلك بقولنا حجة.

أما الإشكال عليه بأن الشرط غير طارد، فبعض الاعتباريات - أيضاً - كذلك، كالملكية من الملك، بناءً على الأصح من أن عالم الانتزاع يغاير عالم الاعتبار، إلا أنهما شيء واحد، كما قال به المحقق صاحب الكفاية((1))؛ وذلك لاختلاف الآثار من إمكان الانفكاك وعدمه وغير ذلك. فلا يخفى ما فيه؛ إذ لم يقل: إن كلما اشتق منه فهو انتزاعي، بل قال كل انتزاعي فهو مشتق منه.

لكن يمكن القول: إنَّه لم يقصد من الحجة هنا ما ذكره في أول القطع - منكونها وسطاً فلا تنالها يد الجعل((2)) - بل ما يحتج به المولى لعقابه، كما يقولون مثل ذلك في البراءة العقليّة: إنَّه لا حجة للمولى على العبد، وفي الاشتغال العكس، وفي الاستصحاب ونحوه بالاختلاف حسب الموارد، ويؤيد ذلك تفريعه بقوله: «فيعاقب...»((3)) الخ، فتأمل، فإن قوله حجة عبارة

ص: 23


1- انظر: كفاية الأصول: 416.
2- انظر: كفاية الأصول: 272، أجود التقريرات2: 8 ، فوائد الأصول3: 7.
3- انظر: فرائد الأصول1: 37، وفيه: «أن القاطع لا يحتاج في العمل بقطعه إلى أزيد من الأدلة المثبتة لأحكام مقطوعه، فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها، فيقطع بالنتيجة، فإذا قطع بكون شيء خمراً، وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة، فيقطع بحرمة ذلك الشيء. لكن الكلام في أن قطعه هذا هل هو حجة عليه من الشارع، وإن كان مخالفاً للواقع في علم اللّه، فيعاقب على مخالفته، أو أنه حجة عليه إذا صادف الواقع؟....».

أخرى عن الحرام فيعود المحذور؛ لأن الكبرى حينئذٍ كل مقطوع الخمريّة - مثلاً - حرام.

وثانياً: إنه لا يكون حينئذٍ من مسائل الأصول على تعريفه لها؛ لأنّه عرّفها بالقواعد التي يكون تطبيقها بيد المجتهد((1))، والتجري بهذا العنوان لايكون كذلك، وإن كان يرد على تعريفه أن بعض القواعد الفقهية كذلك، كقاعدة كون البينة على المدعي، لكن مَنْ هو المدعي وعلى مَنْ يطبق؟ وهل هو مَنْ إذا تَرك تُرك، أو مَنْ خالف قوله الأصل، أو الظاهر، أو غير ذلك؟((2))

ص: 24


1- انظر: فرائد الأصول3: 18، وفيه: «... والمسألة الأصولية هي التي بمعونتها يستنبط هذه القاعدة من قولهم(عليهم السلام): لا تنقض اليقين بالشك... نعم، يشكل كون الاستصحاب من المسائل الفرعية: بأن إجراءها في موردها - أعني صورة الشك في بقاء الحكم الشرعي السابق، كنجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره - مختص بالمجتهد وليس وظيفة المقلد، فهي مما يحتاج إليه المجتهد فقط ولا ينفع للمقلد، وهذا من خواص المسألة الأصولية، فإنّ المسائل الأصولية لما مهدت للاجتهاد واستنباط الأحكام من الأدلة اختص التكلم فيها بالمستنبط، ولا حظ لغيره فيها».
2- انظر: مستند الشيعة17: 357، كتاب القضاء، للمحقق الرشتي2: 93، وفيه: «وقد عرف المدعي لما ذكرنا بتعريفات: أحدها أن يكون قوله مخالفاً للأصل، والثاني: من يدعي خلاف الظاهر، والثالث: من لو ترك ترك». والعروة الوثقى6: 462، وفيه: «عُرّف المدّعي بتعاريف: أحدها: أنّه من لو ترك ترك .... الثاني: أنّه من يدّعي خلاف الأصل... الثالث: أنّه من يكون في مقام إثبات قضيّة على غيره، وهذا أيضاً يساوق الأوّلين. الرابع: أنّ المرجع فيه هو العرف... وقد يعرّف: بأنّه من يدّعي خلاف الأصل أو الظاهر...».

ما يرد على العنوان الرابع

أمّا العنوان الرابع: فقد قيل به وحاصله((1)): إن التكليف يتعلق بالمقدور فقط؛ إذ القدرة شرط عقلي، ويقبح من الحكيم التكليف بالمحال، بل يستحيلذلك عليه وإلا خرج موضوعاً، والتكليف المتعلق بالموضوع الخارجي إنما هو بوجوده العلمي، وإن كان وجوده الواقعي مشروطاً بذلك الموضوع من غير دخل للعلم والجهل، إلا أن ذلك بوحده لا يكفي في الانبعاث؛ إذ هو بالوجود العلمي، فالعلم يكون طريقاً للمتعلق، لكنه موضوعاً للاختيار والإرادة؛ إذ لولاه لما أمكنا، فالتكليف لا يكون بالوجود الخارجي لكنه لا يكفي في الانبعاث، بل يكون التكليف بالاختيار الناشئ من العلم بالموضوع والتكليف، وهذا موجود في صورة الإصابة والخطأ، ولا يتعلق التكليف بالمصادفة فقط؛ إذ هي ليست اختيارية، فمفاد قول المولى: لا تشرب الخمر مثلاً - بعد ما تبين من أن متعلق التكليف لا يكون إلا المقدور، وهو الاختيار والانبعاث نحو ما علم أنه موضوع التكليف - هو لا تختر شرب ما أحرزت أنه خمر، وهذا يوجد في التجري أيضاً.

وفيه: أولاً: إن معنى ذلك رجوع الحرمة إلى المعلوم لا إلى الواقع، ولازمه عدم حرمة الخمر المجهول خمريتها واقعاً، فبين الالتزام بأن الوجود الواقعي للتكليف مشروط بذلك الموضوع من غير دخل للعلم والجهل،

ص: 25


1- انظر: فوائد الأصول3: 37.

والالتزام بأن الوجود الواقعي لا يكفيفي الانبعاث تهافت.

وثانياً: ضم الأمرين - وهما أن شرط التكليف هو الوجود الواقعي، وأن ذلك لا يكفي في الانبعاث، بل يحتاج إلى العلم به - لازمه أن فعلية التكليف إنما هي في ظرف العلم المطابق للواقع، وإلا حصل التهافت كما مرّ.

وثالثاً: إن إرادة التكليف في رتبة متأخرة منه؛ إذ هي معلولة له، فلا يمكن أن تكون متعلقه؛ إذ هو متقدم عليها رتبة كما لا يخفى.

ورابعاً: إنه يلزم من ذلك جريان جميع الأحكام والآثار - ولو كان القطع مخالفاً - كالحدّ وغيره، مع أنه لا يلتزم به أحد، بل الكلام في العقاب والحرمة ونحوهما.

أما جواب المحقق النائيني: «فلأن المتعلق هو الفعل الصادر عن إرادة واختيار لا نفس الإرادة والاختيار، فإن الإرادة والاختيار تكون مغفولة عنها حين الفعل، ولا يلتفت الفاعل إليها، فلا يصلح لأن يتعلق التكليف بها، فإذا كان متعلق التكليف هو الشرب المتعلق بالخمر الصادر عن إرادة واختيار فالمتجري لم يتعلق شربه بالخمر»((1)).

فيرد عليه: إن ذلك لا يصحح التكليف بالمحال؛ إذ لو سلم أن الوجودالواقعي لا يكفي في انبعاث المكلف لأنه بالوجود العلمي، فلا يمكن تصحيح التكليف به بأن الإرادة والاختيار مغفول عنهما، مضافاً إلى وجود الالتفات إلى الإرادة في العبادات ونحوها.

ص: 26


1- فوائد الأصول3: 39.

ما يرد على العنوان الخامس

أمّا العنوان الخامس، فقد قال به غير واحد من الأصوليين((1))، في تصحيح أصولية المسألة. ببيان: أن قبح الفعل المتجرى به عقلاً يستنتج منه الحرمة الشرعية، فتكون المسألة أصولية، لوقوع الحكم الشرعي في نتيجتها.

إن قلت: بناءً على عدم القبح - كما هو مبنى بعض الأصوليين - فلا يستنتج الحكم الشرعي وهو الحرمة.

قلت: يكفي في أصولية المسألة انطباق الموضوع والتعريف عليها على بعض المباني، كما لا يخفى.

لكن يستشكل على ذلك مبنىً وبناءً.

أما مبنىً: فنقول: ما هو المراد مما يستنتج منه الحكم الشرعي؟

فإن كان أن مطلق ما يستنتج منه الحكم الشرعي - ولو كان من المقدمات البعيدة - داخل في علم الأصول، فيرد عليه: دخول أكثر العلوم فيه، كالنحو واللغة والمنطق والحكمة والرجال ونحوها، وإن التزم المحقق العراقي بدخول علم الرجال فيه((2))، وبعض بدخولها أجمع، وإنما لم يبحث عنها فيه لعدم الحاجة لإفرادها في علوم أخرى.

وإن كان المراد: ما يستنتج منه الحكم الشرعي من المقدمات القريبة، كما قال المحقق النائيني: «والحاصل: إن علم الأصول يقع كبرى لقياس

ص: 27


1- انظر: حقائق الأصول2: 11، منتهى الأصول2: 376، الهداية في الأصول4: 301.
2- انظر: مقالات الأصول1: 54، وفيه: «وإن كان الميزان وقوعها في طريق الاستنباط ولو بالواسطة فلازمه دخول مسائل كثير من العلوم الأدبية، ومسائل علم الرجال...».

الاستنباط، وسائر العلوم تقع في صغرى القياس، مثلاً: استنباط الحكم الفرعي من خبر الواحد يتوقف على عدة أمور: فإنه يتوقف على معرفة معاني الألفاظ التي تضمنها الخبر، ويتوقف أيضاً على معرفة أبنية الكلمات ومحلها من الإعراب؛ ليتميز الفاعل عن المفعول والمبتدأ عن الخبر، ويتوقف أيضاً على معرفة سلسلة سند الخبر وتشخيص رواته، وتمييز ثقتهم عن غيره، ويتوقف أيضاً على حجية الخبر، ومن المعلوم: أن هذه الأمور مترتبة من حيث دخلها في الاستنباط حسب ترتبها في الذكر، والمتكفل لإثبات الأمر الأول هو علم اللغة، ولإثبات الثاني هو علم النحو والصرف، ولإثبات الثالث هو علم الرجال، ولإثبات الرابع الذي به يتم الاستنباط هو علم الأصول، فرتبة علم الأصول متأخرة عن جميع العلوم، ويكون كبرى لقياس الاستنباط، فيقال: الشيء الفلاني مما قام على وجوبه خبر الثقة، وكلما قام على وجوبه خبر الثقة يجب، بعد البناء على حجية خبر الواحد، الذي هو نتيجة البحث في مسألة حجية خبر الواحد، فيستنتج من تأليف القياس وجوب الشيء الفلاني.

بما ذكرنا من مرتبه علم الأصول يظهر الضابطة الكلية لمعرفة مسائل علم الأصول، وحاصل الضابط: أن كل مسألة كانت كبرى لقياس الاستنباط فهي من مسائل علم الأصول»((1)).

فيرد عليه: أنه وإن انطبق الضابط المزبور على المقام إلا أنه يستلزم

ص: 28


1- فوائد الأصول1 - 2: 18.

خروج كثير من مباحث الألفاظ عن الأصول، كمباحث الأمر والنهي والظواهر ونحوها؛ إذ هي تقع صغرى، مثلاً: دلالة الأمر على الوجوب والمرة والتكرار وغيرها، أو عدم دلالتها عليها صغرى لكبرى حجية الظهور، فيقال: الأمر ظاهر في الوجوب، والظاهر حجة.

مضافاً إلى أن مبنى كثير من المتأخرين هو المنجزية والمعذرية، والالتزام به إذا اجتمع مع الالتزامبكون المسائل الأصولية ما يستنتج منها الحكم الشرعي((1))، ينتج خروج جميع الحجج الشرعية عن الأصول؛ إذ الأدلة والحجج لا تكون طريقاً إلى الحكم الشرعي وكاشفاً عنه، بل هي منجزة ومعذرة، فتأمل.

وإن كان المراد القريب مطلقاً - ولو كان صغرىً - فيرد عليه دخول بعض المسائل الفقهية فيه، مثلاً: يقال (الحج واجب، وكل واجب يستلزم وجوبه وجوب مقدمته) وينتج من ذلك حكم شرعي كلّي هو (وجوب مقدمة الحج).

وأما بناءً: فقد يقال بعدم الحرمة ولو قيل بالقبح عقلاً، فحينئذٍ لا يستنتج من ذلك الحكم الشرعي، فتخرج عن الأصولية؛ لأن قبح قصد المعصية وحرمته عقلاً - لو تجرى - لا ينتجان الحرمة المولوية شرعاً، كما أن حسن قصد الطاعة لا ينتج الوجوب إذا كانت الطاعة واجبة؛ إذ القبح والحسن ليسا ملاكين للأوامر المولويّة الشرعيّة، بل في بعض صورهما، وهو ما إذا لم

ص: 29


1- انظر: منتهى الأصول1: 3.

يكونا بنفسيهما مقربين وموجبين للثواب، أو مبعدين وموجبين للعقاب، كي يكون مجال لإعمال المولوية. نعم، إن كان بنفسه مقرباً ولم يكن واجباً، بل كان الواجب كُلّيه، فلا مانع من الأمر المولويبالنسبة إلى الجزئي.

أمّا إذا كان الحسن والقبح بنفسيهما كذلك فلا يعقل الأمر المولوي، ولو كان أمر فلا يكون إلا إرشاداً وتأكيداً، كما في: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ}((1)).

إن قلت: إن بعض الأمور ذاتيها العبادة، ومع ذلك يصح الأمر المولوي بها، كما في السجود للإله.

قلت: إن كليّ العبادة واجب عقلاً، والجزئيات وان كانت مقربة إلا أنها ليست واجبة، فلا مانع من ترك السجود - عقلاً - مع الإتيان بعبادة أخرى، فالأمر المولوي إنما يكون بتعيين الوجوب فيها، فتأمل.

قاعدة الملازمة

إن قلت: إن قاعدة الملازمة تدل على ذلك؛ لأن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع.

أقول: لتوضيح ودفع الإشكال ينبغي التنبيه على مسائل:

الأولى: إن الحسن والقبح - بمعنى ما ينبغي أن يُفعل أو يُترك، الذي لازمه المدح والذم - لهما واقع غير أمر أو نهي الشارع، كما عليه العدلية((2)

ص: 30


1- آل عمران: 32.
2- انظر: أصول المظفر2: 271، وفيه: «وقالت العدلية: إن للأفعال قيماً ذاتية عند العقل مع قطع النظر عن حكم الشارع، فمنها ما هو حسن في نفسه، ومنها ما هو قبيح في نفسه... ومنها ما ليس له هذان الوصفان....».

وذلك إنما يكون في الأفعال الاختيارية التي توصف بأمر زائد عليها، لا كحركة المرتعش، خلافاً للأشاعرة((1)) القائلين: إن الحَسَن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه هو، ولا واقع لهما سوى ذلك.

ويدل عليه: إن كل عاقل يجزم بقبح الظلم وحسن العدل، ولو كان غير متشرع؛ إذ يحكم به حتى الملحدين، ولو لم يكن كذلك لجاز أن تعتقد طوائف من العقلاء بخلافها، كما في كثير من الأحكام الشرعية.

وأما اعتقاد الأشاعرة بخلاف ذلك - وهم من العقلاء - فلشبهة حصلت لهم، كما قال بعض الفلاسفة((2)) بوجود الحال مقابلاً للوجود والعدم، مع أن بطلانه من البديهيات ، لذلك وحيث بطل التالي فالمقدم مثله، مضافاً إلى أنه لو لم يكن كذلك، بل ثبتا بالشرع فلازمه انتفائهما به وبالعقل؛ إذ لو لم يكن قبح الكذب عقلياً لجاز ذلك علىالشارع، فلو أخبر بقبح شيء لا نعلم بقبحه؛ إذ لعله لم يقبحه وكذب علينا - تعالى اللّه عن ذلك - وكذا في الحسن، وما يلزم من وجوده عدمه باطل.

أمّا ما استدلوا به: بأن لا تفاوت بين الضروريات مع أنا نرى تفاوتاً بين العلم بحسن أو قبح بعض الأشياء، وبين العلم بأن الواحد نصف الاثنين،

ص: 31


1- انظر: فوائد الأصول3: 57، وفيه: «قد نسب إلى جملة من الأشاعرة إنكار الحسن والقبح العقليين، وأن العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها، بل بالغ بعضهم وأنكر ثبوت جهة الحسن والقبح للأشياء، وأن الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه، وليست الأحكام تدور مدار المصالح والمفاسد...».
2- انظر: المبدأ والمعاد: 425.

وبأن الشيء لو كان قبيحاً لكان كذلك مطلقاً، مع أنا نرى اختلافه باختلاف الموارد، فغير تام؛ إذ لا نسلم عدم تفاوتها، بل منها ما يحتاج إلى تأمل كثير، كما في كثير من المسائل الرياضية، كالجذور والكسور ونحوها، والقبيح قد يعارضه أقبح، فيرجح الأهم على المهم.

أمّا هما بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته((1))، وبمعنى الكمال والنقص فليسا محل إنكارهم لعقليتها، بل الكل متفقون على ذلك.

وقد يقال: إن المصلحة في نفس الأمر والنهي، لا في المتعلق((2))، في الجملة.

وفيه أولاً: ما مرّ في رد كلام الأشاعرة.

وثانياً: إن المصلحة الناشئة منالأوامر معلولة لها، فلا يمكن أن تكون مقتضية لها.

وأما ما مثلوا به لذلك من الأوامر الامتحانية فغير صحيح؛ إذ المصلحة هي الامتحان والأمر طريق إليه، فإن المصلحة حينئذٍ ليست في الأمر، وإلا لزم حصول المصلحة بمجرد الأمر بلا توقع حصول شيء من العبد.

الثانية: إن الشارع لا يفعل القبيح ولا يأمر به، ولا يخل بواجب ولا ينهى عنه؛ إذ عكسه إنما يكون من المحتاج أو الجاهل أو الخبيث، أمّا الغني العالم غير الخبيث فلا؛ إذ الفعل إنما يتم إذا كان هناك داعٍ مع قدرة الفاعل،

ص: 32


1- انظر: هداية المسترشدين3: 505، وفيه: «إن المذكور للفظي الحسن والقبح في كلماتهم إطلاقات عديدة: ... رابعها: ملاءمة الطبع ومنافرته، ذكره الرازي والعميدي...».
2- انظر: فوائد الأصول3: 59.

ولا داعي له إلى القبيح؛ لعدم حاجته إليه وعلمه بقبحه، فلا يصدر عنه ذلك حينئذٍ ضرورة، مضافاً إلى أنه لو جاز منه ذلك لم يمكن الوثوق بكلامه، واُحتمل صدور الكذب منه، وكذا لم يحصل وثوق بصدق الأنبياء(عليهم السلام)؛ لجواز إظهار المعجزة على يد الكاذب، تعالى اللّه عن ذلك.

الثالثة: إنه أنكر بعض الأخباريين الملازمة بين حكم العقل بوجوب أو حرمة شيء وبين حكم الشرع كذلك، فلا طريق إليه إلا الصادقون(عليهم السلام).

وذلك لأن العقل يفيد الظن بحكم اللّه تعالى، ولا اعتماد على الظن المتعلق بإثبات أحكامه تعالى أو بنفيه.

فعن المحقق الأسترآبادي في فوائده المدنية: «إن تمسكنا بكلامهم(عليهم السلام) فقد عصمنا عن الخطأ، وإن تمسكنا بغيره لم نعصم عنه، ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعاً وعقلاً، ألا ترى أنّ الإمامية استدلت على وجوب العصمة بأنه لولا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ، وذلك محال؛ لأنه قبيح عقلاً، وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى»((1)) . انتهى.

لكن الكلام أن الملازمة قد تكون قطعيّة، فلا جرم يكون اللازم - وهو الحكم الشرعي - ثابتاً، فيكون النزاع حينئذٍ صغروياً، وليس من شك في أن الحكم الشرعي إذا لم يثبت بالسماع فلا طريق إليه إلا القطع؛ لكونه حجة

ص: 33


1- الفوائد المدنية والشواهد المكية: 259.

ذاتاً لا يمكن جعله، ولا الردع عنه شرعاً؛ لاستلزام ذلك تحصيل الحاصل، أو اجتماع الضدين ولو في نظر العبد، والقائل بالملازمة إنما يدعي حصول القطع بها. وبعبارة أخرى: إن القائل بها إنما يقول بها في مورد حصول القطع بها.

وتوضيح ذلك: إنَّه لا طريق إلى العلم بملاكات أكثر الأحكام ، وكذلك نفس الأحكام، إلا عن طريق الكتاب والسنة؛ إذ لا يوجد علم من العقل بجميع أسرار حكم اللّه تعالى، وإنها مبتنية على أيةقاعدة وأصل. نعم، هي مجعولة طبق المصالح والمفاسد الواقعية، ولا علم لنا بكثير منها، {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}((1))، ولو فرض أنه علم بالملاك فلا يصح أن ينسب الحكم إلى الشارع؛ إذ لعله توجد موانع منه لم يدركها العقل.

نعم، القضايا التي تطابق عليها العقلاء أجمع - التي تسمى بالقضايا المشهورات - والتي يحكم العقل طبقها جزماً كالإطاعة ونحوها، يمكن أن تكون ملاكات للأحكام المولوية الشرعيّة، لكن يستحيل توجيه أمر مولوي ثانٍ بعد حكم العقل؛ للغويته ولكونه تحصيلاً للحاصل؛ إذ غاية ما يكون فيه إيجاد الداعي لدى العبد للفعل في الواجب أو الترك في الحرام، والفرض أن العقل يوجد ذلك الداعي، فلا حاجة إلى أمر جديد إلا من باب التأكيد والإرشاد.

لكن قد يدعى أن كثيراً من العباد لا يصغي للعقل، فهو لم يوجد الداعي

ص: 34


1- الإسراء: 85 .

فيه، فالشارع يوجد الداعي بأمر مولوي.

لكنها بعيدة؛ إذ لا يراد من ذلك إلا صلاحية العقل للدعوة إلى الفعل أو الترك، لا أنه يكون داعياً بالفعل لكل أحد، كما أن الأوامر كذلك، فإنها لا تسبب فعلية الداعي، بل قد يخالفهاأكثر الناس، وإنما هي صالحة لإيجاد الداعي، فكما أنه لو لم يمتثل العبد بالأمر الأول، فأمره المولى بأمر ثانٍ، وأوجد الأمر الثاني الداعي فيه، ليس ذلك أمراً جديداً، وإنما هو تأكيد للأمر الأول - والذي كان صالحاً للداعويّة - لغرض فعلية الداعي، فكذلك ما نحن فيه من حكم العقل، فإنه لا يمكن الحكم الشرعي فيه إلا إرشاداً.

والحاصل: إن الأوامر - عقلية كانت أو مولوية - لا يراد منها إلا صلاحيتها لإيجاد الداعي لا لفعليته، وحيث كان حكم العقل صالحاً لذلك فلا يمكن إيجادها مرة ثانية بالأمر المولوي، وإلا لزم تحصيل الحاصل.

اللّهم إلا أن يقال: فرق بين الأمر العقلي الأول والأمر الشرعي الأول؛ إذ وزان الأمرين الشرعيين واحد، بخلاف الأمر العقلي الأول والشرعي الثاني، وبعبارة أخرى: الحكم العقلي فاقد للصلاحية عند البعض، فالأمر الشرعي يُنشئ الصلاحية، بعكس الأمرين الشرعيين فإن وزانهما واحد.

مضافاً إلى أن أثر الأمر الشرعي المولوي هو استحقاق العقاب على مخالفته، فإن المعروف أنه لا عقاب على مخالفة الحكم العقلي، فالشارع يأمره وأثره استحقاق العقاب، وأثر ذلك انبعاث المكلف؛ إذ يرى أنه لو لم يكنعقاب فلا داعي للتقيد بحكم العقل، فتأمل.

ص: 35

وبعد بيان أن العقل لا يمكن أن يستقل بإدراك حكم الشرع وملاكه نقول: إن حكم العقل إنما يكون في الملازمة بين حكم شرعي ثابت معلوم أو حكم عقلي كذلك، وبين حكم شرعي آخر، فقد تكون ملازمة واضحة إما لكونها من البديهيات، كما في الحكم باستحالة العقاب بلا بيان، اللازم منه البراءة الشرعية، وقد تحتاج إلى تعمّل العقل فيدركها بالكسب عن طريق البديهيات أو النظريات، التي تنتهي إلى المسائل البديهية، كما في مسألة الإجزاء والضد ونحوهما، وبعد ذلك يحصل القطع بالحكم الشرعي، لكونه اللازم؛ إذ لو حصل قطع بالملزوم - وهو الحكم الشرعي أو العقلي المعلوم - وكذلك بالملازمة، فلا بد وأن يحصل له قطع باللازم - وهو الحكم الشرعي - بداهة.

والحاصل: إنه مع هذين القطعين يحصل القطع الثالث بداهة، كما في كل قياس اقتراني، فإنه يشكل منه قياس على هذه الصورة فيقال مثلاً: هذا مما قام الدليل على وجوبه، وكلما كان كذلك استلزم حرمة ضده - بناء على القول بها - فينتج من ذلك حرمة الضد، فالملازمات تكوّن الكبريات، فلو علمنا بحكم شرعي أو عقلي تحصل الصغرى،وبضمها إلى الكبرى تحصل النتيجة لا محالة.

وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تتمة لذلك.

ثم إن صاحب الفصول قد تبع بعض الأخباريين في إنكار الملازمة، فعنه: «فالحق عندي في المقام الأول: أن لا ملازمة عقلاً بين حسن الفعل وقبحه، وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه، وإنما الملازمة بين حسن

ص: 36

التكليف بالفعل أو الترك وبين وقوعه»((1)).

وكلامه وإن كان بحثاً في الأعم - أي: الملازمة بين الحسن والحكم، وكذلك الحكم والحسن - لكنه يشمل أيضاً ما نحن فيه من الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع؛ إذ حكم العقل إنما يكون فيما لو حَسُنَ الفعل أو قَبُحَ، فهل يحكم الشرع أيضاً طبقاً لذلك أو لا؟ فصاحب الفصول أنكر ذلك أيضاً تبعاً لإنكار الكلي.

وقد تمسك لذلك بوجوه((2)):

الأول: حسن التكليف الابتلائي، فإن الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحق فاعله المدح استخباراً لحال العبد، أو إظهاراً لحاله عند غيره، ولو كان حسن التكليف مقصوراً على حسن الفعل لما حسن ذلك.الثاني: التكاليف التي ترد مورد التقية، فإنها متصفة بالحسن لما فيها من صون المكلف عن شرور المخالفين، مع أنه لا حسن في نفس الفعل.

الثالث: إن بعض التكاليف مشترطة بقصد القربة، ولولاها لما رجحت، ولما وجبت مع أن تلك الأفعال واقعاً إما واجبات عقليّة مطلقاً أو بشرط الأمر بها، وعلى التقديرين يثبت المطلوب؛ إذ في الأول يحكم العقل بوجوبها حتى مع عدم قصد الامتثال، والشرع حكم بعدم الوجوب، وفي الثاني فلانتفاء الحسن قبل التكليف، فلم يتفرع حسن التكليف على حسن الفعل.

ص: 37


1- الفصول الغروية في الأصول الفقهية: 337.
2- انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: 337 - 339.

الرابع: الأخبار الدالة على عدم تعلق بعض التكاليف بهذه الأمة دفعاً للكلفة والمشقة عنهم، كما يظهر من قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»((1))، فإن وجود المشقة في الفعل قد يقدح في حسن الإلزام به.

ومَرَد هذا الوجه إلى أنه من الممكن أن تكون لجهات المصالح والمفاسد موانع في نظر الشارع، ولم يصل العقل إليها؛ إذ غاية ما يدرك أن للفعل مصلحة فيحسن، أو مفسدة فيقبح، ويمكن أن لا تكون تلك ملاكاً للحكم الشرعي، لوجود موانع.الخامس: إن كثيراً من الأحكام الشرعية معللة - ظناً أو احتمالاً - بحِكَم غير مطردة في مواردها، ومع ذلك فقد حافظ الشارع على عمومها وكليتها، حذراً من الأداء إلى الاختلال بموارد الحِكَم، فالفعل في الموارد المنفكة عن العلة خالٍ عن المصلحة، مع اطراد الحُكم واختصاص الحكمة بالبعض.

السادس: الصبي المراهق إذا كان لطيف القريحة، كامل العقل تثبت في حقه الأحكام العقلية، مع أنه لا يجب عليه شرعاً.

ويرد على الأول:

أولاً: إننا لم نقل: إن حسن التكليف مقصور على حسن الفعل، بمعنى أنه لا يحسن التكليف إلا مع حسن الفعل، بل قلنا: كلّما حَسُن الفعل حَسُن التكليف، فالملازمة من ذلك الطرف، لا أنه كلما حسن التكليف حسن الفعل.

ص: 38


1- الكافي3: 22، ح1.

وثانياً: إن الكلام في أنه بعد إدراك العقل الحسن أو القبح هل يحكم الشارع طبقه أو لا؟ فلا معنى للامتحان حينئذٍ.

مضافاً إلى أن الامتحان إنما يكون لاشتمال الفعل على مصلحة بعد تعلق الأمر، فعن الشيخ الأعظم تقسيم التكليف إلى ثلاثة أقسام((1)): فقسم يكون الفعل المأمور به مشتملاً على مصلحة توجب الأمر به، وهذا خارج عن الأمر الامتحاني، وقسم: تكون المصلحة في صدوره فقط من غير أن يكون الفعل ذا مصلحة، كما في التقية القولية - لا الفعلية - فحينئذٍ يكون الأمر صورياً محضاً، وقسم: لا يكون في الفعل مصلحة، بل قد تكون فيه مفسدة لكن بعد تعلق الأمر به توجد في فعله مصلحة، من حيث إنه محصل للامتثال، أي: يكون الفعل حينئذٍ طريقاً إلى تحصيل عنوان محبوبٍ لا يمكن الأمر به ابتداءً، مثلاً: يكون المطلوب هو الإطاعة فلا يصح الأمر بإظهار طاعة من دون سبق تكليف؛ لأنها امتثال أمر المولى لا غير، والمفروض انتفاء موضوعه في المقام، فلا بد في ذلك من أن الأمر بشيء قد يكون مبغوضاً، فهذا الأمر بالنسبة إلى المتعلق يكون صورياً لا يوجب وجوباً، وإن تخيله المكلف لعدم اطلاعه، وبالنسبة إلى المطلوب واقعاً فهو كالقسم الأول.

ص: 39


1- انظر: مطارح الأنظار: 235، وفيه: «إن التكليف بشيء يقع على وجوه: الأول: أن يكون الفعل المأمور به مشتملاً على مصلحة توجب الأمر به، أو يشتمل على مفسدة مقتضية للنهي عنه.... الثاني: أن يكون المصلحة في نفس صدور الأمر من غير أن يكون الفعل ذا مصلحة توجد.... الثالث: أن يكون المصلحة في الفعل لكنه بعد ما تعلق الأمر به....».

والحاصل: إنه في الأوامر الامتحانية يحسن الفعل لتحصيله غرضاً من أغراضالمولى ، وإن لم يكن كذلك بالذات.

ويرد على الثاني: إن التقية تتصور على نحوين، فإما لحفظ الإمام(عليه السلام) نفسه، وإما لحفظ المكلفين والسامعين.

والأول: إنما يكون فيما لم يكن في العمل تقية أصلاً وإنما في القول فقط، وهذا لا يوجب حكماً أصلاً؛ لأنه صوري بحت قطعاً، وإن كان قد يتصور المكلف ذلك لكنه لا يضر بها، فليس هناك تكليف كي يقال إنه حسن.

والثاني: إنما يكون إذا كان في العمل تقية، وحينئذٍ يصير الفعل حسناً، لتلك الوجوه والاعتبارات التي منها صون النفس، فيكون الفعل من الأفعال التي تختلف باختلاف الوجوه والاعتبارات، كما في الكذب لإنقاذ محترم النفس من القتل، فإنه حسن مانع عن النقيض، وإن كان الكذب مع قطع النظر عن ذلك لا حسن فيه، وكذلك يقال هاهنا: إن العمل - مع غض النظر عن حفظ النفس - لا مصلحة فيه ولا حسن، بل قد يكون قبيحاً، لكنه باعتبارها ينقلب حسناً، بل قد يصل إلى المانع عن النقيض، فحينئذٍ يكون الفعل والتكليف كلاهما حسناً.

ويرد على الثالث: إن تقسيم تلك الأفعال إلى قسمين: فإما واجبات عقلية مطلقاً، أو بشرط الأمر بها مما لا يصح؛ إذ يوجد قسم ثالث وهو: كونها واجبات عقلية بشرط القربة، أي: إن الفعلبشرط القربة يحكم العقل بوجوبه؛ لأنه كشف الحسن في هذه الصورة لا غير عن طريق الشرع، فلا يثبت حينئذٍ مطلوب صاحب الفصول.

ص: 40

مضافاً إلى خروجه عن البحث؛ إذ عقولنا لا تدرك حسن الأعمال العبادية غالباً، غير إدراك الكلي ، كوجوب شكر المنعم ونحوه إلا عن طريق الشرع، والكلام إنما يكون فيما لو أدرك العقل حسن أو قبح شيء فهل يحكم الشرع طبقة أو لا؟

ويرد على الرابع: أولاً: بالنقض، فإنّ صاحب الفصول قائل بالملازمة بين حسن التكليف بالفعل أو الترك وبين وقوعه، ففي مورد السواك التكليف حسن لقوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لأمرتهم»((1)). اللّهم إلا أن يقال: إن الحسن حينئذٍ تقديري، والكلام في الحسن الفعلي.

وثانياً: إن المشقة من اعتبارات الفعل، فلولاها لكان حسناً مانعاً من النقيض، كما في كل فعل يتغيّر بالاعتبارات، كما مرَّ.

لكن يمكن دفعه: بأن بعض هذه التكاليف الحرجيّة كانت على الأمم السابقة، فيدل ذلك على عدم كون المشقة كذلك، بل رفع التكليف عن هذه الأمة امتناناً، ولازمه عدم الملازمة،فتأمل.

وثالثاً: إن الكلام في الملازمة فيما أدركه العقل من الحسن والقبح ونحوهما، لا فيما لم يدركه، فإن غالب هذه التكاليف لا يدرك العقل حسنها أو قبحها، والشارع أخبر بحسنها الواقعي مع رفعه لها، والكلام إنما يكون فيما يدركه العقل من ذلك.

وأما احتمال أن تكون لجهات المصالح والمفاسد موانع في نظر الشارع

ص: 41


1- الكافي3: 22، ح1.

لم يصل إليها العقل. ففيه: إن العقل إنما يستقل بالحكم بعد ملاحظة جميع الجوانب والقطع بعدم الموانع، حيث إن الشارع لا يحكم إلا طبق المصالح والمفاسد - لحكمته - .

ويرد على الخامس: - مضافاً إلى خروجه عن البحث؛ إذ الكلام فيما يحكم العقل بالتكليف، لا فيما لا حكم له، وإلى عدم القطع بكون تلك الأمور عللاً، كما قال هو: إن كثيراً من الأحكام الشرعية معلَّلة ظناً أو احتمالاً((1))، وذلك لا يكفي لدفع الملازمة - أن نفس الحذر يكون حكمة في الباقي، أي: إنّه في الباقي وإن لم يكن في الفعل مصلحةلكن نفس الحذر من الاختلال يكون من الوجوه والاعتبارات المحسنة للحكم، مع احتمال وجود علل وحكم أخرى في الباقي لم يصل إليها العقل، ولم تصل إلينا بالنقل.

وأما السادس: فقد دفعه الشيخ الأعظم بقوله: «والجواب الالتزام بالأحكام الشرعية في حقه أيضاً بعدما أدرك الحكم العقلي، كحرمة الظلم، أو وجوب ردّ الوديعة، غاية ما في الباب عفوه ثابت بالشرع تفضّلاً، كما في المعاصي الصغيرة مثلاً، مع أن الحكم بثبوت العفو في بعض المقامات - كما لو فرضنا فيما لو قتل الصبي قبل بلوغه بساعة مع كمال عقله وإدراكه نبياً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو وصي نبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في غاية الصعوبة، فإنه ربما يخالف العدل

ص: 42


1- انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: 339، وفيه: «...أن كثيراً من الأحكام المقررة في الشريعة معلَّلة في الحقيقة، ولو بحسب الظن أو الاحتمال بحِكَمٍ غير مطردة في جميع مواردها.».

على ما لا يخفى»((1)).

لكن يمكن أن يقال: إن حديث (رفع القلم عن الصبي)((2)) مطلق في جميع الموارد.

أما التزام الشيخ الأعظم بالأحكام الشرعية في حقه، وما مَثَّل به، فغير تام؛ إذ بعض الأشياء صرف وقوعها فيالخارج مبغوض للمولى، لا أن الفاعل مكلف، مثلاً: لو أراد الحيوان قتل إنسان وجب ردعه عن ذلك، ووجب تأديبه لكي لا يكرر، فالردع والتأديب ليس لأجل مخالفة التكليف؛ لأنه لا تكليف، بل لأجل مبغوضية وقوع الفعل - بالمعنى الاسم المصدري، أي: مع قطع النظر عن الفاعل - والصبي كذلك لا تكليف له، لكن ليس معنى ذلك أن لا يردع أو لا يؤدّب.

والحاصل: إن العقل يمكن أن يدرك جميع المصالح والموانع، ويحكم جزماً، ويكشف من ذلك حكم الشرع أيضاً، حيث لم تبتلِ تلك المصالح بموانع لا نعلمها؛ إذ الفرض إدراكها لها أجمع وفقدها في المورد.

ولا إشكال في أن العقل قد يستقل بإدراك المفسدة المانعة من النقيض غير المزاحمة أو المصلحة كذلك، وبعد ذلك يقبح أو يحسن العمل، ويذم

ص: 43


1- مطارح الأنظار: 238.
2- انظر: مستدرك الوسائل1: 84 ، ح10، وفيه: عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه بلغه عن عمر أنّه أمر بمجنونة زنت لترجم، فأتاه فقال: «أما علمت أن اللّه عز وجل رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يكبر، وهذه مجنونة قد رفع عنها القلم».

أو يمدح الفاعل، وحينئذٍ يحصل العلم بتمام مناط حكم الشارع، فتثبت قاعدة الملازمة، اللّهم إلا أن يقال: إن الشرع قد يستغني بحكم العقل فلا يحكم حينئذٍ، فتأمل.

وقد يقال: لا يلزم أن يكون ذلك كل الملاك عند الشارع؛ إذ لعل الشارع يرى مصلحة في سكوته على ارتكاب العبد القبيح لمصلحة أعظم، كتسهيل الأمر عليه، مع أنّها لا توجب منع استقلال العقل عن حكمه بقبح العلم؛ إذ لا معنىللصبر على القبيح مع عدمه.

إن قلت: ورد في الخبر: (إنّ اللّه سكت عن أشياء ولم يسكت عنها نسياناً)((1))، ومعنى ذلك أنّه مع وجود المصلحة أو المفسدة فقد سكت اللّه تعالى عنها، وسكوته تعالى هو عدم جعل الحكم فيها.

قلت: أولاً: إن تفسير الخبر بذلك محل تأمل؛ إذ لعل المراد في غير الأحكام أو غير الإلزاميّة منها.

وثانياً: ما أشار إليه المحقق النائيني((2)): بأنّه في المورد الذي استقل العقل بحسنه وقبحه لم يكن سكوت من الشارع، وكيف يكون مما سكت اللّه

ص: 44


1- انظر: نهج البلاغة4: 24، الحكمة (105)، وفيه: وقال (عليه السلام): «إن اللّه افترض عليكم الفرائض فلا تضيعوها، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها». وفي من لا يحضره الفقيه4: 75: وخطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: «إن اللّه تبارك وتعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء، لم يسكت عنها نسياناً لها فلا تكلفوها، رحمة من اللّه لكم فاقبلوها».
2- انظر: فوائد الأصول3: 61.

عنها مع أن العقل رسول باطني، وقد استقل به؟!

وإن أجاب المحقق العراقي عنه بقوله: «ومن هذا البيان أيضاً ظهر: أن العقل إنّما يكون رسولاً باطنياً في صورة إحراز أن الشارع اتكل في بيان مرامه بحكم عقله، وإلا فمع احتمال عدم اتكاله عليه، وأن صبره وسكوته عن إظهار مرامه لمصلحة أعظم من قبح العمل، فكيف يكون العقل رسولاً باطنياً؟»((1))، فتأمل.

وثالثاً: مع غض النظر عن الجواب الثاني، فإن سكوته لعله في موارد لم يصل العقل إليها.

ثم إن صاحب الفصول((2)) التزم بالملازمة الظاهرية، ومحصل كلامه: إنه لو جهل العقل جهات التكليف وأدرك جهات الفعل حكم في الظاهر بثبوت التكليف؛ لأن قضية جهات الفعل وقوع التكليف على حسبها إلا أن يعارضها مانع، ولا يكفي احتماله؛ إذ المحتمل لا يصلح في نظر العقل لمعارضة المقطوع به.

ويرد عليه: بأنه لا يستقل العقل بالحكم لو احتمل وجود المانع، حتى في الظاهر.

ص: 45


1- فوائد الأصول3: 61.
2- انظر: الفصول الغروية: 340، وفيه: «... ومن هنا يتضح أنّه لو جهل العقل جهات التكليف وأدرك جهات الفعل حكم في الظاهر بثبوت التكليف عملاً بعموم الآيات، وما في معناها من الأخبار؛ ولأن قضية جهات الفعل وقوع التكليف على حسبها إن لم يعارضها مانع، ولا يكفي احتماله؛ إذ المحتمل لا يصلح في نظر العقل لمعارضة المقطوع به....».

مضافاً إلى أنه يكون في بعض الموارد شك في مانعية الموجود، ولا حكم مطلقاً ههنا، ولو كان شك في المانع فلا تجريأصالة عدمه؛ لأنه إن كان أصلاً شرعياً فإنه حينئذٍ يكون أصلاً مثبتاً، وإن كان أصلاً عقلياً فغير مسلّم جريانه في بعض الأمور الخارجيّة والواقعية، ومضافاً إلى أنَّه يحتمل أن يكون المقتضي فاقداً لبعض أجزائه، فلا تجري الملازمة الظاهرية حينئذٍ.

وحيث اتضحت المسائل الثلاث نقول في دفع الإشكال على أن القبح العقلي لا ينتج الحرمة، بقاعدة الملازمة: إن معنى قاعدة الملازمة أن الشرع يحكم بقبح التجري تبعاً للعقل، لكن ليس لازم ذلك الحرمة الشرعيّة؛ لما ذكرنا من أن الحكم الشرعي المولوي يستحيل حينئذٍ؛ لاستلزامه تحصيل الحاصل، كما مرّ على تأملٍ .

ولذا قال المحقق الخراساني في الحاشية: «إن حسن قصد الطاعة الواجبة ووجوبه عقلاً، وقبح قصد المعصية وحرمته كذلك لا يستتبعان الوجوب والحرمة المولويين شرعاً، ولو على القول بالملازمة...»((1))، وإن علل ذلك بمايحتاج إلى التأمل.

ص: 46


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد1: 43، وتكملة عبارته: «لما حققناه من أن مجرد الحسن والقبح ليس ملاكاً للطلب المولوي، بل إنما يكون ملاكاً فيما لم يكن الحسن والقبح بنفسهما مقرباً ومعبداً عنه تعالى ومورثاً للثواب والعقاب، حيث لا يبقى معه وجه لإعمال جهة المولوية والسيادة في الطلب والبعث، والقصد بنفسه يوجب القرب أو البعد، والثواب أو العقاب، فلا يكون قصد الحرام حراماً شرعاً، بل عقلاً، فافهم».

نعم، يظهر من جملة من المتكلمين((1)): أن الحسن الذي لازمه المدح بفعله والذم بتركه، وكذلك القبح، ليس عند الشارع إلا الثواب والعقاب.

فعن بعضهم((2)): إن المدح والذم اللسانيين يستحيلان عليه تعالى، فلا بد من كونه بالثواب أو العقاب.

وفي التقريرات بعد ذكر جملة من كلمات المتكلمين «فظهر من جميع ما مرّ أن المراد بالحسن والقبح الواقعين في عنوان النزاع، المراد به ما يستحق الفاعل المدح في العاجل والثواب في الآجل»((3)) .

وإنّما قلنا: الحسن الذي لازمه المدح بفعله والذم بتركه؛ لأن الحسن عندهم أعم من ذلك، فقد قسموا الفعل((4)) إلى حسن وقبيح، والحسن إلى ما

ص: 47


1- انظر: أصول المظفر2: 294، وكذلك 3: 141، وفيه: «... ولذا قال المحققون من الفلاسفة: إن مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه».
2- انظر: أصول المظفر3: 142، وفيه: «... بل بالنسبة إلى اللّه تعالى لا معنى لفرض استحقاق المدح والذم اللسانيين عنده....».
3- مطارح الأنظار: 231.
4- انظر: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 417 - 418، وفيه: «...أن الفعل من التصورات الضرورية... وهو قسمان: حسن وقبيح، فالحسن ما لا يتعلق بفعله ذم القبيح بخلافه، والحسن إما أن لا يكون له وصف زائد على حسنه وهو المباح، ويرسم بأنه ما لا مدح فيه على الفعل والترك، وإما أن يكون له وصف زائد على حسنه فإما أن يستحق المدح بفعله والذم بتركه وهو الواجب، أو يستحق المدح بفعله ولا يتعلق بتركه ذم وهو المندوب، أو يستحق المدح بتركه ولا يتعلق بفعله ذم وهو المكروه، فقد انقسم الحسن إلى الأحكام الأربعة: الواجب والمندوب والمباح والمكروه، ومع القبيح تبقى الأحكام الحسنة والقبيحة خمسة».

لا يتعلق بفعله ذم والقبيح بخلافه، والحسن إما أن لا يكون له وصف زائد على حسنه وهو المباح، وإما أن يكون له وصف كذلك، فإما يستحق المدح بفعله والذم بتركه وهو الواجب، أو يستحق المدح بفعله ولا يتعلق بتركه ذم وهو المندوب، أو يستحق المدح بتركه ولا يتعلق بفعله ذم وهو المكروه.

لكن يرد عليه: أن المدح كذلك والذم عند الشارع أعم من العقاب والثواب، بل قد يحصل المدح برضوان اللّه تعالى وقرب العبد إليه، والذم بعدمهما مع عدم العقاب، فإن صاحب النفس الخبيثة بلا مبرز لها - عقلاً وبقاعدة الملازمة شرعاً - لا عقاب عليه لذلك، فأي فرق بينهما؟

والحاصل: أنهم يسلمون أن لا عقاب على مَنْ يحمل نفساً خبيثة إذا لميظهرها مع أنه مذموم عقلاً وشرعاً، فتفسيرهم الذم الشرعي بالعقاب ينافي هذا الأصل المتسالم عليه، وعكس ذلك في المدح.

سلسلة المعاليل

ثم إنّه قد أشكل بعض على العنوان الخامس - وهو أن قبح الفعل المتجرى به عقلاً يستنتج منه الحرمة الشرعية - : بأن التجري وقع في سلسلة المعاليل، وما كان كذلك لا يلازمه الحكم الشرعي، فإن قاعدة الملازمة خاصة بما إذا وقع الحكم العقلي في سلسلة العلل، ولا تشمل ما إذا كان في سلسلة المعاليل.

وتوضيحه: إن الأحكام العقلية قسمان: قسم لا يتوقف على حكم شرعي، كما في المستقلات العقيلة كالتحسين والتقبيح العقليين، وقسم يتوقف عليها

ص: 48

كغير المستقلات العقليّة.

فإن كان الأول - وهو ما يعبر عنه بسلسلة العلل لكونها مناطات الأحكام الشرعية وعللّها - فتجري قاعدة الملازمة حينئذٍ وإن خالفها جمع .

وإن كان الثاني - المعبر عنه بسلسلة المعاليل - فإن الحكم حينئذٍ يستلزم التسلسل.

مثلاً: إطاعة المولى واجبة عقلاً، فلو حكمنا بوجوبها شرعاً لقاعدة الملازمة فينقل الكلام إلى هذا الحكم الشرعي، فالعقل يحكم بوجوب إطاعته، وبالملازمة يحكم الشرع بالوجوب وهكذا.ولذا قالوا((1)): إن الأوامر الشرعيّة الواقعة في سلسلة المعاليل تكون إرشاديات إلى حكم العقل، فقوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ}((2)) ليس حكماً مولوياً وإنّما هو إرشادي.

أقول: إن هذا الدليل ينقسم إلى شقين:

الأول: ليست هناك ملازمة بين (أطع) مثلاً عقلاً، و(أطع) شرعاً، مع وجودها في سلسلة العلل.

الثاني: (أطع) الشرعي إرشادي لا مولوي.

ويمكن الإشكال على كلا الشقين: أما الشق الأول: فيرد عليه: أولاً : إنه أي مانع في كون الملازمة في الأول فقط، أي: إن وجوب إطاعة اللّه - مثلاً - يدل عليه العقل، فبملازمته يدل عليه الشرع أيضاً - مع قطع النظر عن الأمر

ص: 49


1- انظر: فرائد الأصول2: 102، فوائد الأصول3: 120، منتهى الأصول1: 181.
2- آل عمران: 32.

الوارد - ولا حكم عقلي آخر كي يلزم التسلسل.

لكن يمكن أن يقال: إن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فإذا كان (صلّ) يتبعه (أطع عقلاً) فيتبعه (أطع شرعاً)، فبنفس ملاك (أطع عقلاً لصلّ) يقول (أطع عقلاً ل- أطع شرعاً) وهكذا.

وثانياً: في تلك الموارد العقلاء عالمون أم أكثرهم جاهلون.فإن كان الأول: فيكون الإرشاد لغواً، أو لا معنى له.

وإن كان الثاني: فأي مانع من الأمر المولوي باعتبار الأغلب، بل وحتى البعض. لكن يمكن الجواب أيضاً بأنه يكون تأكيداً في صورة العلم، فإن كثيراً من الناس لا يهتم بحكم العقل، فلو قام هناك أمر شرعي ارتدع.

وثالثاً: إنه إن قلنا: إن ملاك استحالة التسلسل هو حصر المتناهي لغير المتناهي، فإن الملاك جارٍ هنا أيضاً لو سلمنا التسلسل فيه، لكن في كون هذا ملاكاً نظر.

وإن قلنا: إن الملاك استحالة وجود علل ومعلولات غير متناهية، لاستلزامه الخلف، حيث إنه إذا أخذنا جملة العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية، ثم اقتطعنا منها بعضها في جملة أخرى، ثم قارّنا إحدى الجملتين بالأُخرى بحيث يكون مبدأهما واحداً، فإن استمرا إلى غير نهاية كانت الزائدة كالناقصة، وهذا خلف، وإن انقطعت الناقصة تناهت، ويلزم تناهي الزائدة؛ لأن ما زاد على المتناهي بمقدار متناهٍ فهو متناهٍ، فإذا قلنا: إن الملاك ذلك فنقول ههنا: إنّه حيث لا توجد علية ومعلولية بين حكمي العقل والشرع فلا استحالة في وجود أحكام غير متناهية؛ إذ هنا: إما إطاعات غير

ص: 50

متناهية، وإما أوامر كذلك.والأول: من الأمور الاعتبارية التي ينقطع فيها التسلسل بانقطاع المعتبر.

والثاني: يمكن عقلاً من اللّه تعالى لكونه غير متناهٍ.

ولأجل ذلك أجاز المحقق الإصفهاني في النهاية كون أوامر الطاعة مولوية حيث قال: «وأمّا ما اشتهر من أن الأمر بالإطاعة لو كان مولوياً للزم التسلسل، أو التخصيص من غير مخصص فإنه مندفع: بأن الأمر بالإطاعة لو كان بنحو القضية الطبيعية لأمكن أن يعم نفسه.

مع أنه لا محذور هنا من وجود أوامر غير متناهية؛ لأن محذور التسلسل حقيقة لا يتحقق إلا إذا كان بين الأمور غير المتناهية ترتب عِلّي ومعلولي، وليس كذلك، لا بين الأوامر ولا بين الإطاعات والموافقات غير المتناهية.

أمّا الثانية((1)): فلأن عنوان الموافقة وإن كان ينتزع من الصلاة الخارجيّة بالنسبة إلى الصلاة العنوانية، التي تعلق بها الأمر بلحاظ موافقة العنوان والمعنون، فكذلك من الموافق بالحمل الشائع ينتزع عنوان الموافقة لعنوانه، لموافقة أي عنوان كان لمعنونه، وهكذا إلى ما لا نهاية، لكنه تسلسل في الأمور الاعتبارية وينقطع بانقطاع الاعتبار.

وأمّا الأولى((2)): فلأن الأوامر وإن كانت خارجيّة، لكنه ليس شيء منها معلولاً للآخر بنحو من أنحاء العليّة، وإن كان بين عنوان الأمر ومعنون أمر آخر ترتب طبعي، لكون عنوان موافقة الأمر موضوعاً للحكم، لكنه ليس

ص: 51


1- أي: الإطاعات والموافقات غير المتناهية.
2- أي: الأوامر.

بين الخارجيات منها ترتب عِليّ ومعلولي، وذهاب الأوامر إلى غير النهاية مع صدورها ممن هو غير متناهٍ في القوة والقدرة غير ضائر، وليست مقتضية لامتثالات غير متناهية؛ لأن الإطاعات والموافقات كلها منتزعة من فعل واحد، وهي الصلاة الخارجيّة، فالاستناد إلى التسلسل أو إلى ذهاب الأمر إلى غير النهاية لا وجه له»((1)) .

أقول: كلامه صحيح، إلا أن ذهاب الأوامر إلى غير النهاية وإن أمكن من غير المتناهي، لكنه لغو لا يصدر من الحكيم.

ورابعاً: إن غير المستقلات العقليّة تشمل مثل: (مقدمة الواجب واجبة)، فلو كان العقلي منها مستلزماً لوجوب شرعي فلا تسلسل، فلا يجري المحذور في كل غير المستقلات العقلية.

وخامساً: ما ذكره السيد العم (دام ظله)((2)) - على تأمل - : بأن العلية والمعلولية هي التي توجب التسلسل أمّاالكاشفية فلا، فإذا قال المولى: «أقم الصلاة» فالعقل - معلولاً له - حكم بأن التجري على المولى قبيح، والحرمة الشرعية ليست معلولة لحكم العقل، وإنما من حكمه نستكشف الحرمة الشرعيّة، بمعنى أن الحكم العقلي يكون مرآةً للحكم الشرعي، ولم نجد مَنْ تعرض إلى هذا الجواب، وهو بحاجة إلى تأمل، وإن تم فيجري في جميع موارد سلسلة المعاليل، فلا فرق حينئذٍ بين سلسلة العلل والمعاليل إن تمت الملازمة. انتهى.

ص: 52


1- نهاية الدراية في شرح الكفاية2: 310.
2- انظر: بيان الأصول1: 32.

وأما الشق الثاني((1)): فيرد عليه أولاً: إن ظاهر (أطيعوا) ونحوه المولوية، وحفظ الظاهر - بعد دفع المحذور العقلي - أولى من الحمل على الإرشاد.

إلا أن يقال: إن ذلك خلاف الظاهر عرفاً؛ ولذا إذا صلى العبد رأى العرف أنه يستحق على المولى ثواباً واحداً لا ثوابين، أحدهما لإطاعة أمر(صلّ) والآخر لإطاعة أمر (أطيعوا).

وثانياً: إنه لو قلنا: إن (أطيعوا اللّه) مولوي، فكيف يلزم التسلسل لو أنكرنا الملازمة؟ فأطيعوا مثل صلوا، والعقل يقول: (أطع صلّ) و(أطع أطيعوا)، ومنتهى القضية عند هذا الحدّ عند منكر الملازمة.

ص: 53


1- وهو: إن (أطع) الشرعي إرشادي لا مولوي.

تنبيهات

اشارة

وينبغي التنبيه على أمور:

الأول: جريان التجري في الطريقي والموضوعي

إن الكلام كما يكون في الطريقي كذلك يجري في الموضوعي، الذي يكون جزءاً؛ إذ موضوع الحكم الشرعي حينئذٍ يكون هو الواقع المقيَّد به، فلو قطع بغيره توهماً منه أنه هو وخالفه، فإنه تجرّى على مولاه، كما لا يخفى.

الثاني: في أقسام القطع

إن القطع على خمسة أقسام: فإمّا أن يكون مصيباً فلا كلام في استحقاق العقاب والثواب، فيما لو خالفه في الأول، أو وافقه في الثاني، وإن كان لأجل أنّه تعالى التزم بذلك.

وإمّا أن يكون مخطئاً وكان موضوعياً بحتاً - بمعنى أنه كان تمام الموضوع - فلا كلام في استحقاقه العقاب لو خالفه؛ إذ بعد تحققه يتحقق الموضوع الواقعي كما لا يخفى، فيكون كالأول، ومرجع هذا واقعاً إلى أن المولى لا يريد الواقع إطلاقاً، والعلم مطلقاً يكون واقعاً، فيكون مرجعه إلى الأول، وإنما جعلناه قسيماً له لاختلافهما في متعلق الحكم.

وإمّا أن يكون كذلك والقطع طريقي بحت، فهو مورد الكلام والنقض

ص: 54

والإبرامبين الأعلام.

وإمّا أن يكون كذلك والقطع جزء الموضوع وخالفه، فيجري فيه الكلام؛ إذ القاطع يتخيل حصول الموضوع - المركب - ويتجرى بارتكابه، ولكنه لم يحصل.

وإمّا أن يكون أحد الأقسام السابقة لكنه عمل بمقتضاه انقياداً، فلا إشكال في الحسن الفاعلي، وحصول الانقياد، واستحقاق المدح، لكن هل يستحق الإثابة؟

الظاهر استحقاقه لثواب الانقياد، والواقع أيضاً؛ لجملة من الأخبار، كقوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نية المرء خير من علمه»((1))، وغيرها.

ويمكن أن يستدل بمناط أخبار (من بلغ)((2))، بل ببعضها، فتأمل. فإنه يحتمل أن يُعطى ثواب النية لا ثواب الواقع، وإن المناط في أخبار (من بلغ) غير قطعي، بل هو مستنبط وهو ليس بحجة، والتفضل في مورد بلوغ الثواب أو الخبر لا يلازم التفضل في مورد تخيل الثواب.

الثالث: في استحقاق المتجري العقاب في الواقع

إن الكلام إنما هو بالنسبة إلى استحقاق العقاب وعدمه في الواقع، وإن

ص: 55


1- الكافي2: 84 ، ح2.
2- انظر: الكافي2: 87 ، ح1و2، وفيه: ... عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «مَنْ سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له، وإن لم يكن على ما بلغه». ... عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: «مَنْ بلغه ثواب من اللّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه، وإن لم يكن الحديث كما بلغه».

المتجري هل يستحق عقاباً في الواقع أو لا؟

وأما اعتقاده حين التجري فهو أنه مستحق للعقاب قطعاً؛ وذلك لأن القاطع بحكم أو موضوع لا يحتمل الخطأ أصلاً في ذلك؛ إذ لو كان كذلك لزم الخلف، فهو حينئذٍ يقطع بارتكابه المعصية - بفعل حرام أو ترك واجب - ويقطع أيضاً نتيجة ذلك باستحقاقه العقوبة.

الرابع: في كون التجري كاشفاً عن سوء سريرة فاعله

إن البحث راجع إلى الحرمة أو استحقاق العقوبة أو غيرهما - حسب اختلاف المباني - أما كشف ذلك عن سوء سريرة المتجري وخبث باطنه فلا إشكال فيه، فإن العقلاء يذمون مَنْ هو أدون من ذلك، فإنهم لو علموا بأن شخصاً نوى قبيحاً ذموه على ذلك ولو لم يفعل أيَّ شيء، بل كذلك لو علموا حبّه لقبيح حتى مع عدم نيته، فضلاً عمّا لو تجرأ على اقتحام القبيح وارتكابه، فإن الصفات النفسانية - ولو لم تكن اختيارية - يستحق صاحبها المدح أو الذم عليها. نعم، ما لم يظهرها لا يستحق ثواباً ولا عقاباً، والعقل حاكم بذلك؛ إذ استحقاقهما منوط به.

الخامس: في محل النزاع في التجري

إن محل النزاع ليس في أن العلم يؤثر أو لا يؤثر فيما ليس بحرام واقعاً، فيصيرّه كذلك - في التجري - وفيما ليس بواجب واقعاً فيجعله واجباً - في الانقياد - وذلك لوضوح أن العلم ليس مما يؤثر في ملاكات الأحكام الواقعيّة، واشتراك العالم والجاهل في التكليف. نعم، المنجزية والمعذرية إنما تكون في العالم فقط، لكن لا يضر في توجه التكليف إلى الجاهل

ص: 56

أيضاً، وإلا لزم الدور في موارد، والخلف في موارد أخر.

أمّا الأول: فلأن الحكم متأخر عن متعلقه وشروطه وقيوده؛ وذلك لأن نسبة الحكم إلى متعلقه هي نسبة العرض إلى المعروض، فكما أن العرض يحتاج إلى الموضوع كذلك الحكم. وفي مرحلة الإنشاء لا يلزم ملاحظة جميع شروطه وقيوده، ولا يوجد حكم حينئذٍ حتى يؤخذ العلم به في شروطه وقيوده.

والحاصل: إن العلم بالحكم متأخر عن الحكم بديهة تأخر العلم عن المعلوم.

إن قلت: قد أخذ العلم بالحكم في بعض الموارد شرطاً له، كالعلم بالقصر، فلو جهله فلا يجب عليه القضاء ولا الإعادة.

قلت: إنّما كان ذلك لدليل خارجي بكفاية التمام حينئذٍ، ومرجعه - لدفع الدور - إنما هو إلى رفع اليد عن الحكم حينئذٍ، وجعل حكم آخر، ولا يوجد ذلك الدليل في أكثر الأحكام.

وكذلك يدفع الإشكال أيضاً على مسلك بعض الفقهاء من عدم رفع اليد عن الحكم، كما ذكروا في أن المسافر الجاهل بالحكم لو فاتته الصلاة فإنه يجب عليه القصر((1))، وإن كان لو صلى تماماً لقبلت منه؛ وذلك لأن العلم لا دخل له بالحكم، بل المولى تفضلاً قبل ذلك منه، فتأمل.

إن قلت: إن القدرة شرط التكليف عقلاً، والجاهل ليس كذلك.

ص: 57


1- انظر: منهاج الصالحين، السيد محسن الحكيم1: 349.

قلت: إن ذلك إنما يكون في المرتبة الرابعة - التنجز - أما في مرتبة الاقتضاء والإنشاء والفعلية فليس كذلك.

مضافاً إلى أن الجاهل قادر، وإن كان حينئذٍ ينقلب موضوعاً، لكن لا يضر ذلك في توجهه إليه، والجاهل وإن لم يعاقب على تركه الواجب وفعله الحرام لعدم القدرة بجهله، لكنه يعاقب على ما كان باختيار من تركه ما يوصله إلى العلم - لو كان مقصراً - أو يقال: إنه يعاقب على نفس الفعل؛ لأن ما بالاختيار لا ينافيه عقاباً وإن كان ينافيه خطاباً.

هذا - أي لزوم الدور - فيما إذاأخذ العلم بالحكم شرطاً له.

أمّا الثاني: - وهو الخلف - فيلزم إذا أخذ العلم بالموضوع شرطاً للحكم؛ لأن المفروض أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة - كما عليه العدلية((1)) - فلا تكون الأحكام حينئذٍ تابعة لغيرها، وهما إنما يكونان في الوجود الواقعي - معلوماً كان أم مجهولاً - لا في الوجود الواقعي بوصف كونه معلوماً.

وبعبارة أخرى: إن منشأ الأثر إنما هو الهوية الخارجية بذاتها، لا بوصف كونها ذات وجود ذهني أو ذات هوية ذهنية.

نعم، لو كانت المصلحة أو المفسدة في الوجود الواقعي المعلوم أمكن دفع الدور بمتمم الجعل، لكن أنّى لنا بذلك؟ فإن ذلك وإن أمكن ثبوتاً، لكن لا دليل له إثباتاً.

ص: 58


1- انظر: فرائد الأصول1: 368، أوثق الوسائل: 193، درر الفوائد في الحاشية على الفرائد1: 72.

وحيث اتضح أن النزاع ليس في تأثير العلم وعدم تأثيره في الوجود الواقعي، نقول: إن الكلام إنما هو في تأثير القطع في وجود عنوان محرَّم لمقطوع الحرمة، أو عنوان موجب لمقطوع الوجوب، وعدم وجوده.قد يقال: بعد الحكم باستحقاق المتجري للعقاب، والمنقاد للثواب، أو عدم الاستحقاق: إن «ذلك مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح، والوجوب أو الحرمة واقعاً، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة، ولا يغير جهة حسنه أو قبحه بجهته أصلاً، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً، ضرورة عدم تغير الفعل عمّا هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى، بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له. فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له، ولو اعتقد العبد بأنه عدوه، وكذا قتل عدوه، مع القطع بأنه ابنه، لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً»((1))، كما قال صاحب الكفاية.

أقول: لا كلام، بناءً على عدم حرمة التجري وعدم قبحه؛ في عدم تعارضٍ بين الحكمين أصلاً. وأمّا بناءً على قبحه وحرمته، فهنا جهتان: جهة الحكم الواقعي، وجهة عارضة، فهل بينهماتزاحم أو لا؟ وعلى فرضه فأي الجهتين تقدم؟

ص: 59


1- كفاية الأصول: 259.

قال المحقق الإصفهاني((1)): في عنوان التجري لا يوجد حكم مولوي لحكم العقل بالقبح؛ وذلك لأنه لا تكون ملاكات الحسن والقبح - بمعنى استحقاق الذم والمدح - مناطات للأحكام المولويّة؛ إذ العقل حاكم باستحقاق المدح أو الذم والثواب والعقاب، فلا يبقى مجال لإعمال المولوية بالبعث والزجر.

ولكن يمكن أن يقال: إن في كلية قاعدة: (كلما كان للعقل حكم فلا حكم شرعي إلا إرشاداً) نظراً؛ وذلك لأن المقصود إما الحكم العقلي مطلقاً، أو الحكم العقلي المعلوم.فإن كان الأول: فهو واضح الفساد؛ إذ لازمه كون جميع الأحكام الشرعية إرشادية؛ لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد قطعاً مما لو وصل إليها العقل لحكم بها.

وإن كان الثاني: فقد يقال : إنّه لا يوجد علم عند أكثر المكلفين في كثير

ص: 60


1- انظر: نهاية الدراية في شرح الكفاية2: 48، وفيه: «... وأما إذا كان إحداهما ملاكاً للحكم المولوي والأخرى للمدح والذم فلا تزاحم بينهما، حيث لا منافاة بين الوجوب الواقعي واستحقاق الذم على فعله؛ لدخوله تحت عنوان قبيح بالذات، ولا بين الحرمة الواقعية واستحقاق المدح على فعله؛ لدخوله تحت عنوان حسن بالذات، ولا تكون ملاكات الحسن والقبح - بهذا المعنى - مناطات للأحكام المولوية حتى يتحقق التزاحم بالواسطة؛ وذلك لأن الحكم المولوي لا يصلح للدعوة إلا باعتبار ما يترتب على موافقته ومخالفته من المثوبة والعقوبة عقلاً، ومع حكم العقل باستحقاق المدح والثواب أو الذم والعقاب لا يبقى مجال لإعمال المولوية بالبعث والزجر، ومنه تعرف عدم المزاحمة بين جهة التجري التي هي ملاك استحقاق العقاب، والجهة التي هي مناط الوجود المولوي....».

من الأحكام العقلية؛ لكونها من النظريات أو لجهة الغفلة، فلا مانع من إصدار أمر مولوي باعتبار أكثر العباد، بل جملة منهم؛ إذ الإرشاد إنما يتم إذا التفت العبد من حكم الشرع أو من غيره إلى حكم العقل، لا فيما لم يحصل التفات.

أمّا إن كان الكلام حول الحسن العقلي والقبح العقلي، واستحقاق المدح والذم فلا إشكال بتقدم جهة التجري على الجهة الواقعيّة؛ وذلك لأنّ الاتصاف بالحسن والقبح إنما يكون في الأفعال الاختياريّة، والجهة الواقعيّة لا صلاحية لها للتأثير. نعم، حينئذٍ يوجد ملاك الحكم المولوي في الأمر الواقعي، ضرورة أن لا تزاحم بين الوجوب الواقعي أو الحرمة كذلك، وبين استحقاقه الذم على الفعل؛ لدخوله تحت عنوان القبيح بالذات، وهو هتك المولى والجرأة عليه... في الأول، واستحقاق المدح على الفعل لدخوله تحت عنوان الحسن بالذات.إن قلت: إن لازم ذلك اجتماع الحسن والقبح، والأمر والنهي في مورد واحد، والجهة وإن كانت مختلفة لكنها لا تصححه؛ للزوم اجتماع الضدين في إرادة المولى، وهو الأمر المحال.

قلت: إن المضادة إنما هي في مرتبة الفعليّة؛ لوضوح التضاد بين البعث والزجر عن شيء في زمان واحد، لكن لا مضادة في مرتبة الاقتضاء والإنشاء؛ ضرورة عدم المضادة بين الوجودات الإنشائية، فلا مانع من وجود ملاك وإنشاء نحو الأمر الواقعي، وإن لم يكن فعلياً أو منجزاً، فقتل عدو

ص: 61

المولى بتوهم أنه ابنه فيه ملاك الحكم المولوي بالوجوب، لكن لا فعلية وتنجز لذلك، ويستحق العبد العقاب على ذلك، وكذلك العكس في الانقياد.

إن قلت: إن العقاب في مورد التجري لا يخرج عن أمرين: القصد والفعل. والأول: لا عقاب عليه؛ لأن مَنْ همّ بسيئة لم تكتب عليه حتى يفعلها، كما في جملة من الروايات((1)).والثاني: المفروض فيه أنه لا قبح فيه؛ لعدم خروجه بالعلم عما هو عليه، بداهة أن العلم ليس من الجهات المقبّحة أو المحسنة للفعل.

قلت: إن الفعل مع تجرده عن الاعتقاد إنما فيه ملاك الواقع فقط، لكن الكلام هنا في أن للقطع إيجاد عنوان في الفعل يقتضي ذلك استحقاق العقوبة، سواء صادف أم لم يصادف الواقع.

فإن بعض الأمور لا دخل للوجوه والاعتبارات في حسنها أو قبحها، كالظلم والعدل، وبعضها لها دخل فيها عقلاً، كضرب اليتيم، فإنه إن كان عدواناً فهو قبيح، وإن كان تأديباً بحدوده فهو حسن، وكالقيام تعظيماً أو استهزاءً أو للذهاب، ونحو ذلك، والقطع لا يكون من وجوه الحسن والقبح؛

ص: 62


1- انظر: الكافي2: 428، ح1، وفيه: ... عن جميل بن دراج، عن زرارة، عن أحدهما ، قال: «إن اللّه تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته مَنْ همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومَنْ همَّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشراً، ومَنْ همَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه سيئة، ومَنْ همَّ بها وعملها كتبت عليه سيئة».

لأن الفعل لا يخرج به عما هو عليه، لكنه قد يوجد في المقطوع به عنوان لم يكن فيه، كالجرأة والهتك فيما نحن فيه، مع بقائه على ما هو عليه.

هذا مضافاً إلى إمكان القول: إن القصد قسمان: قسم لا عقاب فيه - إلا ما ذكرنا من اللوم - وذلك لأنه مرفوع شرعاً، وآخر فيه عقاب، وهو فيما لو أظهره بالفعل ولو خطأ ، فتأمل.ثم مما ذكرنا من أن العلم ليس من الوجوه المقبحة للمعنونات - حيث إنّه لو كان كذلك لزم القبح في المعنون الخارجي، وإن لم يفعل شيئاً مما هو واضح البطلان - بل القبح على القول به، لأجل انطباقه تحت عنوان الجرأة، يتضح الإشكال في كلام المحقق النائيني، حيث قال((1)): إن الإحراز والعلم لا يكون مغيراً لما عليه ذلك الشيء من المصلحة والمفسدة، وليس من قبيل الضرر والنفع العارض على الصدق والكذب المغيّر لحسنه وقبحه؛ إذ الإحراز لا يوجب انقلاب الماء عما هو عليه.

وذلك لأنه وإن كان هذا صحيحاً في نفسه لكنه لا يجدي لإثبات عدم

ص: 63


1- انظر: فوائد الأصول3: 41، وفيه: «... دعوى أن صفة تعلق العلم بشيء تكون من الصفات والعناوين الطارئة على ذلك الشيء المغيرة لجهة حسنه وقبحه، فيكون القطع بخمرية ماء موجباً لحدوث مفسدة في شربه تقتضي قبحه. والإنصاف: إنّه ليس كذلك؛ فإن إحراز الشيء لا يكون مغيراً لما عليه ذلك الشيء من المصلحة والمفسدة، وليس من قبيل الضرر والنفع العارض على الصدق والكذب المغير لجهة حسنه وقبحه؛ لوضوح أن العلم بخمرية ماء وتعلق الإحراز به لا يوجب انقلاب الماء عما هو عليه وصيرورته قبيحاً، فدعوى أن الفعل المتجرى به يكون قبيحاً ويستتبعه الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة واضحة الفساد».

القبح الطارئ؛ لانطباق الفعل تحت عنوان الجرأة ونحوها مما سيأتي.إن قلت: إن بين بقاء الفعل على ما هو عليه من الحسن، وبين قبح التجري ومبغوضيته، تهافتاً، فإن قبحه ينافي بقاء الفعل على المحبوبيّة، وإلا لزم اجتماع الضدين، فإما أن يُلتزم بانقلاب الحقائق الخارجيّة بالعلم وهذا خلف، فلا يبقى إلا الالتزام بالأول دون الثاني.

وأجيب((1)): باختلاف الرتبة قبل الحكموبعد العلم به، وباعتبارهما تكون المحبوبية والمبغوضية معاً؛ وذلك لأن المحبوب الواقعي هو الذات قبل حكم المولى؛ لأن الذات متقدمة على الحكم وقبله، والمحبوبية من مقدماته؛ إذ هي في مرتبة الاقتضاء، والمبغوض في التجري هو الذات

ص: 64


1- انظر: فوائد الأصول3: 41، هامش(1)، وفيه: «أقول: يمكن دعوى أن نظر القائل بحرمة التجري ليس إلى دعوى كون العلم بشيء من الجهات المقبحة، بل عمدة نظره إلى أن إقدامه على العمل من قبل علمه نحو جرأة على المولى وهو قبيح؛ ولذا لو علم ولم يقدم لا قبح في البين، فعدم حرمة التجري مبني على عدم اقتضاء هذا العنوان المتأخر عن العلم أيضاً للقبح، لا عدم اقتضاء مجرد مخالفة العلم شيئاً، كما لا يخفى. وحينئذ قوله: فدعوى الخ ، كما أفاد، لا يخلو عن اغتشاش، بل بهذا البيان يرتفع شبهة اجتماع الضدين، بتقريب: أن قبح التجري ومبغوضيته لدى المولى ينافي بقاء الواقع على ما هو عليه من المحبوبية؛ للجزم بأن علم المكلف بخلاف مرامه لا يغير مرامه، أقدم المكلف على وفق علمه أم ما أقدم. وملخص جوابه: أن المحبوب في الواقع هو الذات في الرتبة السابقة عن حكمه؛ لأنه موضوعه، والذات المبغوض في التجري هو الذات الملحوظ في الرتبة اللاحقة عن العلم بحكمه، فالذاتان حيث كانتا في الرتبتين لا يتعدى حكم كل إلى الآخر، بعد التحقيق بأن موضوع الحكم ومعروضه في كل مقام هو العنوان لا المعنون، بلا إضرار لوحدة المعنون أصلاً؛ لعدم سراية الحكم إليه، كما لا يخفى».

الملحوظة في الرتبة اللاحقة عن العلم بحكمه، فحينئذٍ: الذاتان لا يتعدى حكم كل واحدة منهما إلى الأخرى.

وفيه: إنه وإن لم يكن تضادّ بينهما في المرتبة السابقة؛ لوجود ملاك المحبوبية في الذات بلا مزاحمٍ، لكن في المرتبة اللاحقة يحصل ذلك؛ لأن في مرتبة القطع بالحكم وارتكاب القبيح بالتجري توجد المحبوبية الواقعيّة فعاد المحذور، كما قالوا مثل ذلك في استحالة الترتب((1))، فإنه في رتبة الأهم وإن لم يكن تناقض أو تطارد، لكنه يلزم في رتبة المهم، فتأمل.

اللّهم إلا أن يكمّل ذلك بأن الموضوع للحكم في كل مرتبة هو العنوان لا المعنون، وأن وحدة المعنون لا تضرّ بذلك شيئاً؛ لعدم سراية الحكم إليه.

وتوضيحه: إن حسن وقبح الأفعال الخارجيّة إنما يكون لانطباق عناوينأخرى محّسنة أو مقبحة عليها، فالحسن والقبح في الواقع إنما يكون للعنوان لا المعنون، وههنا عنوانان: عنوان الجرأة، وعنوان الأمر الواقعي، فقتل عدو المولى بتوهم أنه ابنه ينطبق عليه العنوان الأول، وعنوان إنقاذ المولى منه أيضاً أو إراحته منه أو نحو ذلك.

وإن لم نقل بذلك فلا أقل من المحبوبيّة لفعله، وعدم المبغوضية له، وإنما هي لجرأته وهتكه ونحو ذلك، مما سيجيء إن شاء اللّه تعالى.

والحاصل: إن القطع بالقبح وكذلك الحسن لا يكون من الاعتبارات الموجبة لحصولهما واقعاً؛ إذ الحسن والقبح العقليان إمّا لكون العنوان من

ص: 65


1- انظر: أجود التقريرات1: 185.

العناوين التي هما فيه بالذات، كالظلم القبيح بالذات، ولا يتغير عن ذلك إطلاقاً، إلا بتغيير الفعل إلى عنوان آخر، وإلا فمع الحفاظ على هذا العنوان يلزم الانقلاب المحال، أو انفكاك ذاتي باب البرهان عن موضوعه وهو محال؛ لأن القبح منتزع من حاق الظلم ويحمل عليه، وإن لم يكن بجزئه ولا تمام ذاته، وليس محمولاً بالضميمة، بل هو خارج المحمول، كما في الإمكان للممكن، وكذلك عكسه في العدل، والحسن والقبح هنا إنما يكون من باب العلة التامة.وإمّا لكونه من العناوين العرضيّة الراجعة إلى العناوين التي هما فيها بالذات؛ لأن كل ما بالعرض لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات، كضرب اليتيم ونحوه، الذي يكون الحسن والقبح فيه من باب الاقتضاء، وكلاهما - أي: كونه من العناوين الذاتية أو العرضية الراجعة إليها - واضح عدمه ههنا بشهادة الوجدان، كما لا يخفى.

وقد استدل لعدم حرمة الفعل المتجرى به: بأن القاطع لا يلتفت إلى قطعه غالباً، بل إلى المكشوف والكلام في القطع، وغير المتلفت إليه خارج عن نطاق الاختيار، فليس قبيحاً فليس بحرام، فأمره دائر بين قصد غير ملتفت إليه وواقع غير مقصود، وكلاهما لا عقاب عليه.

وبعبارة أخرى: إن عنوان المقطوعيّة غالباً مغفول عنه، فكيف يؤثر في الفعل المتجرى به فيحسنه ويقبحه؟ قال المحقق الخراساني: «بل لا يكون

ص: 66

غالباً بهذا العنوان((1)) مما يلتفت إليه، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلاً، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلا إذاكانت اختياريّة»((2)).

ويرد عليه: أولاً: إنّه أخص من المدعى؛ إذ يجري الكلام في غير الغالب، ولا مانع من جريانه فيه، ويكون اختيارياً حينئذٍ، كما أن البحث يجري في غير القطع أيضاً.

وثانياً: إن الالتفات إلى العلم - وبعبارة أخرى: العلم بالعلم - إن أريد الحضوري منه - الذي هو من أتم العلم - فهو حاصل، وإن أريد به الحصولي منه - الذي هو من أضعفه - فليس وجوده شرطاً في تحقيق اختيارية الفعل، بل الالتفات الإجمالي كافٍ فيها، والقطع ملتفت إليه إجمالاً.

ومنه يعلم اندفاع ما قد يقال: من أن «عنوان مقطوع الوجوب والحرمة إذا كان عنواناً للفعل، ومورداً للتكليف فلا بد من أن يصدر بعنوانه بالاختيار، ولا يجدي مجرد وجوده»((3))؛ وذلك لما ذكرنا من أن العلم الحصولي ليس شرطاً، والحضوري حاصل؛ إذ لا يمكن وجوده وعدم الالتفات إليه، وإلا انقلبت جميع المعلومات بالعلم الحضوري إلى مغفول عنها، فتأمل.

أما أن غير الملتفت إليه خارج عن نطاق الاختيار، حيث إن ما وقع لم

ص: 67


1- أي: بما هو مقطوع الحرمة.
2- كفاية الأصول: 260.
3- نهاية الدارية في شرح الكفاية2: 51.

يقصدوما قصد لم يقع، ففيه: أولاً: إنّ الوجدان شاهد على أن الفعل صدر بالاختيار، وإنّه كان يمكنه أن لا يشرب، فالارتكاب تحقق بالإرادة لا بالإكراه. نعم، الداعي إلى تعلق الإرادة هو تصور أنه الحرام، وليس ذلك مما يوجب عدم اختيارية الفعل.

وثانياً: لو أغمضنا عن الجواب الأول فنقول: إن ذلك لا يصح بالنسبة إلى الجامع - في صورة كونه محرماً - فإنه قد تحقق اختياراً، فإن مَنْ سرق ديناراً بتوهم أنه درهم فلا شك في كونه سارقاً لمالٍ.

وبعبارة أخرى - كما عن بعض في توجيه كلام للفصول - : أن «المعصية المجتمعة مع التجري غير المعصية التي تجرّى فيها، بل معصية أخرى، كما لو شرب مائعاً باعتقاده أنه خمر ثم تبين أنه مغصوب، فإن المكلف تجرّى بالنسبة إلى شرب الخمر، وعصى بالنسبة إلى شرب المغصوب، بناءً على أن العلم بجنس التكليف يكفي في تنجز التكليف وإن لم يعلم فصله... فيقال في المثال: إنّه قد تعلق علمه بحرمة شرب المائع على أنه خمر، فبالنسبة إلى كونه خمراً أخطأ علمه، وبالنسبة إلى الحرمة لم يخطأ وصادف الواقع؛ لأنه كان مغصوباً، فيكون قد فعل محرماً ويعاقب عليه، وإن لم يعاقب على خصوص الغصبية؛ لعدم تعلق العلم بها، بل يعاقب على القدر المشترك بين الخمرية والغصبية، فلو فرض أن عقاب الغصب أشد يعاقب عقاب الخمر، ولو انعكس الأمر يعاقب عقاب الغصب؛ لأن المفروض أنّه لم يشرب الخمر، فلا يعاقب عليه، وفي الصورة الأولى إنّما كان يعاقب عقاب شرب

ص: 68

الخمر، مع أنه لم يشرب الخمر من جهة أن عقاب ما يقتضيه شرب الخمر هو المتيقن الأقل، والمنفي هو العقاب الزائد الذي يقتضيه الغصب»((1)).

وهذا التقرير وإن لم يبعد صحته في الجملة، لكن فيه مواقع للنظر، وإن كان ما مثلت له من السرقة أسلم؛ إذ لا يرد عليه بعضها.

وقد استدل المحقق الإصفهاني لذلك: بأنّه «لا واقع للحسن والقبح عقلاً، ولا لكون شيء وجهاً وموجباً لهما إلا في ظرف وجدان العقل، وعدم كون عنوان مقطوع الوجوب والحرمة من العناوين الحسنة والقبيحة بالذات - كالعدل والظلم - مما لا شبهة فيه، وكذا عدم كونهما من العناوين العرضية المنتهية إلى العناوين الذاتية»((2)).

وأجاب ب- «أن عنوان هتك الحرمة من عناوين الفعل ووجوهه، فلا حاجة إلىإحراز عنوانية مقطوع الحرمة - مثلاً - للفعل لإثبات استحقاق العقاب على الفعل المتجرى به»((3)).

وبعبارة أخرى: إن العلم لا يؤثر في الحرمة والقبح، لكنه يؤثر في صيرورة المعلوم منطبقاً على عنوان التجري.

واستُدل أيضاً((4)): بأن العناوين المحسنة والمقبحة لا بد وأنْ تكون

ص: 69


1- نهاية الأفكار3: 40.
2- نهاية الدراية في شرح الكفاية2: 50.
3- المصدر نفسه.
4- انظر: كفاية الأصول، تعليقة السبزواري 2: 239، وفيه: «أن العناوين المحسِّنة أو المقبِّحة لا بد من أن تكون اختياريّة ، وعنوان القطع لا يكون كذلك؛ لأن القاطع إنّما يقصد الفعل بعنوانه الواقعيّ، لا بعنوان كونه مقطوعاً به، فإذا قطع بخمريّة مائع وشربه فقد قصد شرب الخمر ولم يقصد شرب مقطوع الخمريّة أو مقطوع الحرمة، فإن الفعل بهذا العنوان لا يكون ملتفتاً إليه، ومع عدم الالتفات إليه يستحيل القصد إليه، ومع امتناع القصد لا يتّصف هذا العنوان بالقبح».

مقصودة كي يتعلق بها الاختيار، والقاطع عند الفعل لا يقصد عنوان المقطوعيّة، وإنما يقصد العنوان المتوهم.

وفيه: إن القصد بهذا النحو لا يشترط في اختيارية الفعل، فإن مَنْ يشرب الخمر بقصد أنه بارد لا بقصد أنه خمر يصدق عليه أنه شارب الخمر، مع أنه لم يقصد هذه الجهة.

وعلى أي حال، فإن الفعل المتجرى بهيبقى بحاله من الحسن أو القبح لما ذكرنا أولاً، والوجدان أقوى شاهد عليه.

السادس: قوام التجري هو الحجة

إن قوام التجري هو الحجة، بمعنى عدم العذر العقلي والشرعي، وليس مختصاً بالقطع فقط، فلو خالف الطرق والأمارات أو الأصول الشرعية المثبتة للتكليف، ولم تكن مطابقة للواقع فهو تجرٍ، فلو اقتحم أحد أطراف الشبهة المحصورة فيما لو كان العلم منجزاً عليه، أو أحد أطراف الشبهة البدويّة قبل الفحص في الحكمية أو الموضوعيّة - بناءً على القول بوجوب الفحص فيها مطلقاً أو في الجملة على خلاف((1)) - أو خالف البينة أو قاعدة

ص: 70


1- انظر: أوثق الوسائل: 528 - 529، أجود التقريرات1: 480، و2: 84 ، 225.

اليد أو الاستصحاب وغيرها من الأصول والأمارات، ثم تبين خطؤها فإنّه يكون متجرياً حينئذٍ، ولا خصوصية للعلم في ذلك أصلاً.

ثم إنه قد قال بعض بعدم جريانه فيها، بل يستحق العقاب على مخالفتها، سواء وافقت الواقع أم لا، فلا مجال لاحتمال عدم الحرمة فيها، فهو حرام قطعاً، ولأن مورد الأمارة والأصل العملي أو موضوعهما هو الشك، ومقتضى إطلاق حجيتها، حجيتها ولو انكشف الخلاف.ويرد عليه: أولاً: إنّه يجري على السببيّة، والأدلة لا تساعد عليها، أما على الطريقية فلا وجه لذلك، وغاية ما يقال فيها إنها كالعلم - ومنزّلة منزلته - فيما يجري فيها بطريق أولى.

وثانياً: إنه لا حكم ظاهري في مواردها - كي يكون جارياً حتى مع المخالفة - وإنما هو تنجيز وإعذار.

ثم إن المحقق النائيني فصل في الأصول، حيث قال: «وأما النافية((1)): فلا إشكال في رجحان الاحتياط معها، ولكن لو فعل متعلقها برجاء مخالفتها للواقع فلا يبعد أن يكون من التجري، كما لو قامت البينة على عدم خمرية مائع وشرب المكلف ذلك المائع برجاء أنّه خمر، وأن البينة مخالفة للواقع، فحيث لم يكن شربه ذلك مستنداً إلى الترخيص الشرعي كان ذلك من التجري، بل لا يبعد أن يكون ذلك من المعصية الحقيقية إذا كانت البينة في الواقع مخالفة وكان ما شربه خمراً، ويكون المقام نظير الاقتحام في

ص: 71


1- أي: الأصول النافية للتكليف.

الشبهات قبل الفحص، فتأمل»((1)).

ويرد عليه: أنّه إن كان الملاك هو الترخيص الشرعي وعدمه فلا فرق في ذلك بين الموردين، والرجاء لا مدخل له فيذلك إن لم يصل إلى القطع أو الاطمينان، وإن كان المناط هو الرجاء فلازمه عدم حرمة ارتكاب ما قام الدليل على حرمته، وكان الدليل مصادفاً للواقع، برجاء أنه غير مطابق له.

أمّا القول: إن ما قامت البينة على عدم حرمته وارتكبه المكلف برجاء أنه الحرام من التجري؛ لعدم كون الشرب مستنداً إلى ترخيص شرعي، فمما لم يعلم وجهه، كيف والبينة هي المستند الشرعي؟! مضافاً إلى أن الرجاء لو كان له دخل في صدق التجري ففي عكس المورد لا يكون تجرباً، مع أنه قطعاً منه، فإن مَنْ أقدم مع عدم وجود المؤمِّن برجاء الجواز - كمَنْ ارتكب بعض أطراف الشبهة المحصورة المنجزة - فإنه متجرٍ.

أما تنظيره بالاقتحام في الشبهات قبل الفحص فغير تام؛ إذ هو تنظير مع الفارق، فإن المنظَّر به لا يوجد فيه مؤمِّن شرعي، أما المنظَّر فإن ذلك يوجد فيه، ولعلَّ تأمله يشير إلى ذلك.

فاتضح من ذلك أن المناط هو وجود المؤمِّن الشرعي وعدمه، فإن كان فلا تجري فضلاً عن المعصية الواقعية، ولو كان رجاؤه أيّ شيء، وإن لم يكن فهو تجرٍ مطلقاً.

ومن ذلك يتضح كلام الشيخ الأعظم في أقسام التجري، فإنّه قال: «ثم

ص: 72


1- فوائد الأصول3: 53.

اعلم: أن التجري على أقسام، يجمعها عدمالمبالاة بالمعصية أو قلتها. أحدها: مجرد القصد إلى المعصية. ثانيها: القصد مع الاشتغال بمقدماته. وثالثها: القصد مع التلبس بما يعتقد كونه معصية. ورابعها: التلبس بما يحتمل كونه معصية رجاءً لتحقق المعصية به. وخامسها: التلبس به لعدم المبالاة بمصادفة الحرام. وسادسها: التلبس برجاء أن لا يكون معصية، وخوف أن يكون معصية. ويشترط في صدق التجري في الثلاثة الأخيرة عدم كون الجهل عذراً عقلياً أو شرعياً»((1)).

فإنه عدّ منه التلبس بما يحتمل كونه معصية - وهو رابع الأقسام - بشرط عدم المؤمِّن الشرعي، ومفهومه أنّه لو كان ذلك موجوداً فليس منه في شيء.

نعم، يرد عليه: أن الأول ليس منه؛ إذ القصد بدون الإتيان بالفعل أو بمقدماته ليس بمصطلح عليه ذلك، بلى يمكن أن يطلق عليه لغةً لكنه بعيد.

كما أن الثاني أيضاً كذلك، وإن كان ذلك يكشف سوء السريرة وخبث الباطن، وقد مرَّ أن ذلك يستتبع مجرد اللوم والذم لا أكثر.

مضافاً إلى أن مقدمة الحرام ليست محرمة((2))- إمّا مطلقاً وإمّا غير الموصلة- حتى عند القائلين بحرمة التجري؛ وذلك ليس تهافتاً في كلامهم؛ إذ ارتكابها ليس منه اصطلاحاً، وإن أمكن أن يطلق على ارتكابها لغة، ولو كان الكلام في التجري اللغوي فإنه يشمل التجري بارتكاب المحرم

ص: 73


1- فرائد الأصول1: 48 - 49.
2- انظر: هداية المسترشدين3: 612، الفصول الغروية: 89، بدائع الأفكار: 356.

المصادف للواقع، إلا أن يقال: إن ذلك مما لا خلاف فيه ولا إشكال فليس مقصوداً، لكن الكلام أن هذا العنوان هل يوجب عقاباً أو لا؟ مع قطع النظر عن الفعل المتجرى به، وقد وقع خلاف في استحقاق عقاب ثانٍ أم تداخلهما كما سيجيء.

وأن الأقسام الأخرى متداخلة، ومرجعها إلى شيء واحد، هو ما مرّ من أن الملاك التنجز وعدمه، فإن كان وارتكبه وكان مخطئاً فهو، وإن لم يكن فليس منه، وإلا فيمكن تكثير الأقسام بأن يجعل من أقسامه التلبس بما ظنه محرماً بظن معتبر عند العقلاء، مع عدم وجود مؤمِّن شرعي، فإن هذا القسم ليس بقطع بالحرام ولا احتماله، اللّهم إلاّ أن يقال بشمول الاحتمال له، لكنه خلاف الظاهر.

ثم إن بعض هذه الأقسام لا تجري فيما لو كان قاطعاً، كالقسم الرابع والخامسوالسادس((1))، فإن القاطع يستحيل أن يحتمل خطأه وإلا انقلب غير قاطع؛ ولذا ذكرها الشيخ الأعظم بعنوان: «التلبس بما يحتمل كونه معصية» لا بما كان مقطوعاً.

هذا، ويمكن أن تُضاف إلى التجري أقسامٌ أخرى على بعض المباني، وإن كان فيها تأمل، كما في الوصائل((2)).

ص: 74


1- من الأقسام التي ذكرها الشيخ في عبارته المتقدمة.
2- انظر: الوصائل1: 117، وفيه: «...ويمكن أن يعدّ من التجرّي سابع: وهو إراءة مقدمات المعصية بدون قصدها، كمَنْ يذهب وراء غلام موهماً له أنّه يريد الفاحشة، ولكن لا يقصد ذلك، إنّما قصده في نفسه مجرد الإراءة. وثامن: إراءة مستتبعات المعصية من دون أن يكون قد ارتكبها، كمَنْ يتصرّف كما يتصرّف الخمارون، يريد إراءة أنّه شرب الخمر من دون أن يكون قد شربها. وتاسع: أن يتظاهر بما يزعم الناس أنّه عصيان، وهو يعلم أنّه ليس بعصيان، كمن يملأ قنينة الخمر ماءً ثم يشربها، مما يتوهم للناس أنّه خمر وليس خمر. وعاشر: ترك ما يزعم الناس أنّه ترك واجب، كمَنْ يزعمه الناس أنّه مستطيع لكنه لا يحج؛ لعدم كونه مستطيعاً واقعاً، وإن كان يريهم نفسه أنّه غير مبالٍ للحج، أو تترك المرأة الحائض الصوم حيث يزعم الناس أنّها طاهرة، تريهم بالترك أنّها غير مبالية بالصوم، إلى غير ذلك من الأمثلة. ومما تقدّم يعلم: أنّه من التجري فعل المقدمات بدون القصد وهو يوهم للناس أنّه قاصد، كمَنْ يجعل أمامه إناء خمر بحيث يزعم الناس أنّه يريد شربها، أو ترك أمامه ولده الجميل، حيث لا يعلم الناس أنّه ولده، فيزعمون أنّه يريد به الفاحشة».

منها: إراءة مقدمات المعصية بدون قصدها، كمَنْ يذهب إلى سوق الخمارين موهماً أنه يريد الشرب، ولكن لا يقصد ذلك، إنما قصده مجرد الإراءة.

ومنها: إراءة مستتبعات المعصية من دون أن يكون قد ارتكبها، كمَنْ يتصرف كما يتصرف الخمارون، يريد إراءة أنه شرب الخمر من دون أن يكون قد شربها.

ومنها: أن يتظاهر بما يزعم الناس أنه عصيان، وهو يعلم أنه ليس بعصيان، كمَنْ يملأ قنينة الخمر ماءً ثم يشربها، مما يتوهم للناس أنه خمر، وليس بخمر.

ومنها: ترك ما يزعم الناس أنه ترك واجب، كمَنْ يزعمه الناس أنه

ص: 75

مستطيع، ولكنه لا يحج لعدم كونه مستطيعاً واقعاً، وإن كان يريهم نفسه أنه غير مبالٍ للحج، أو ترك المرأة الحائض الصوم حيث يزعم الناس أنها طاهرة.

وعد هذه الوجوه من التجري مبتنٍ على أن من التجري فعل المقدمات بدون القصد، وهو يُوهم للناس أنه قاصد.

وهذه الوجوه وإن كانت محل تأمل، إلا أنّه حيث تم الخروج عن الاصطلاح فلا بأس بها.

ثم إنه قد يقال: إن مرتكب ما قامتالأمارة على حرمته برجاء خطئها إنما هو متجرٍ للطريق؛ إذ يلزم إلغاء احتمال الخلاف، كما أن مرتكبها بناءً على أنّها مصادفة إنما هو متجرٍ للواقع.

لكن حيث إن الأمارة طريقية فلا فرق بينهما في تجري الواقع لا الطريق، حيث إن في الأول: إلغاء احتمال الخلاف لم يكن واجباً واقعاً - وإن كان كذلك ظاهراً - والمرتكب برجاء الخطأ يبني على عدم كون هذا الإلغاء واجباً.

اللّهم إلا أن يقال: إن هذا هو عين التجري؛ إذ إلغاء احتمال الخلاف وإن لم يكن واجباً واقعاً إلا أنه واجب ظاهراً، وليس المراد الحكم الظاهري، بل المراد أن المرتكب يتصوره واجباً، هذا أولاً.

وثانياً: إنه لو سُلّم أن في الأول تجرياً للطريق فإن في الثاني لا يكون في الواقع فقط، بل فيه وفي الطريق أيضاً كما لا يخفى.

السابع: في كون المتجري فاسقاً أو لا

إنّه بناءً على حرمة التجري هل يوجب ارتكابه الفسق أو لا؟

ص: 76

حُكي عن بعض العامة قوله: «نحكم بفسق المتعاطي ذلك؛ لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي، ويعاقب في الآخرة -ما لم يتب - عقاباً متوسطاً بين الصغيرة والكبيرة»((1)).

وردّه الشهيد بقوله: «وكلاهما تحكم وتخرّص على الغيب»((2)).

والمراد من قوله: (كلاهما): الحكم بالفسق، والعقاب المتوسط.

أمّا أن كون العقاب المتوسط بينهما تحكماً وتخرّصاً فلا شبهة فيه، حيث لم يدل عليه دليل أصلاً.

وأمّا أن كون ذلك فسقاً تخرّص ففي إطلاقه تأمل؛ إذ لو قلنا: إن العدالة هي الملكة، وأنه لا واسطة بينها وبين الفسق، فإن التجري على الكبيرة يزيل الملكة، وحيث لا واسطة فيصير فاسقاً.

أما لو قلنا: إنّها ليست الملكة، أو قلنا بالواسطة فلا ينقلب بذلك فاسقاً، كما هو واضح.

نعم، ما استدل به هذا البعض من العامة من أنّه فاسق لعدم المبالاة بالمعاصي، ليس وجهاً للفسق، اللّهم إلا أن يقال: إنّها الملكة وإنها تزول بذلك.

وبعبارة أخرى - كما عن بعض المحققين - : «بل الوجه هو الحكم بكونه فاسقاً إذا كان التجري على ارتكاب ما يوجب الفسق، وإن قلنا بعدم استحقاقه للعقاب أصلاً، نظراً إلى كشفه عن عدم وجود الملكة الرادعة له،

ص: 77


1- فرائد الأصول1: 50.
2- القواعد والفوائد1: 108.

بناءً على كون الفسق نقيضاً للعدالة بمعنى الملكة الرادعة. نعم، لا إشكال في عدم الحكم بفسقه إذا كان متجرياً بما لا يكون ارتكابه موجباً للفسق كما في الصغائر، وإن قلنا باستحقاق العقاب على التجري؛ إذ التجري على المعصية لا يكون أولى من ارتكاب نفس المعصية. كما أنه لا إشكال في الحكم بعدم كونه فاسقاً لو بُني على كونه بمعنى الخروج عن طاعة اللّه بفعل الكبائر»((1)).

وفي هذا المبنى الأخير تأمل، لكن بناءً عليه يفرق بين مرتكب الكبيرة والمتجري بها، حيث إن الأول يسقط عنها بمجرد الفعل، دون الثاني؛ إذ على القول بالحرمة لا دليل على كونها كبيرة.

لا يقال: لا دليل على كونه صغيرة أيضاً.

لأنه يقال: الأصل يدل على عدم كونها كبيرة، وليس الأصل معارضاً؛ إذ هو أصل عدم الزيادة، وليس بمثبت؛ إذ لا نريد إثبات كونه صغيرة، بل عدم كونه كبيرة، اللّهم إلا أن يقال: إن الكبيرة والصغيرة من المتباينين.وعلى فرض سقوط الأصل السببي، تصل النوبة إلى الأصل المسببي، وهو إجراء الأصل في الأثر، كعدم ترتيب أثرها كالفسق.

مضافاً إلى أن كونه صغيرة أثر شرعي، لا عقلي ولا عادي، فتأمل، فإن الأصل عدم كونه كبيرة لازمه العقلي كونه صغيرة، لا أنه لازم شرعي؛ لأن نفي أحد المتضادين الذين لا ثالث لها وإثبات الآخر بذلك أصل مثبت عبر

ص: 78


1- بحر الفوائد في شرح الفرائد1: 107.

اللازم العقلي.

هذا، ولكن قد يشكل على إجراء أصل العدم ههنا، فإنه يمكن أن يقال: ما هو المراد به؟

فإن كان المراد أنّه أصل برأسه فلم يثبت وجوده، وإن كان الاستصحاب فلا حالة سابقة له؛ إذ المعصية منذ بدايتها إما كبيرة وإما صغيرة ، فلا حالة سابقة كي تستصحب.

ثم إن أصل عدم الفسق لا يجري في جميع الموارد، فلو فرضنا أن شخصاً تواردت الحالات عليه، ونُسيت الحالة المتأخرة فلا تجري أصالة عدم الفسق، فتأمل جيداً.

ص: 79

ص: 80

الفصل الثاني: الأقوال في التجري وأدلتها

اشارة

ص: 81

ص: 82

الأقوال في التجري

اشارة

لا يخفى أن الأقوال في التجري كثيرة، وقد أنهاها المحقق العراقي إلى ستة أقوال((1))، ولكن أهمها ثلاثة، وتظهر أدلة الأقوال الأخرى وضعفها من أدلة هذه الأقوال، ومن الإيراد على بعضها.

وهذه الأقوال هي:

الأول: إنه ليس بحرام شرعاً، لكنه يكشف عن سوء السريرة وخبث الباطن فقط، الذي لا يترتب عليه سوى اللوم والمذمة، كسائر الأوصاف المذمومة، التي لا يترتب عليها شيء سوى الذم، ما لم تظهر في الخارج، كما أيده الشيخ الأعظم((2)).

ص: 83


1- انظر: مقالات الأصول2: 37 - 40.
2- انظر: فرائد الأصول1: 39، وفيه: «...والحاصل: أن الكلام في كون هذا الفعل - غير المنهي عنه واقعاً - مبغوضاً للمولى من حيث تعلق اعتقاد المكلف بكونه مبغوضاً ، لا في أن هذا الفعل - المنهي عنه باعتقاده ظاهراً - ينبئ عن سوء سريرة العبد مع سيده وكونه في مقام الطغيان والمعصية، فإن هذا غير منكر في المقام، لكن لا يجدي في كون الفعل محرماً شرعياً؛ لأن استحقاق المذمة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل، ومن المعلوم أن الحكم العقلي باستحقاق الذم إنما يلازم استحقاق العقاب شرعاً إذا تعلق بالفعل لا بالفاعل».

الثاني: إنه قبيح عقلاً وحرام شرعاً - كما اختاره صاحب الكفاية((1)) - مع بقاء العمل على ما هو عليه من الحسن والقبح.

الثالث: إنّه قبيح عقلاً وحرام شرعاً في بعض الموارد، فتكون الحرمة بالوجوه والاعتبارات، كما هو مختار صاحب الفصول((2)).

أدلة القول الأول

اشارة

استدل لعدم الحرمة بأمور:

الدليل الأول: المتجري ليس مرتكباً للحرام عرفاً

إنّه يكون كذلك لو كان من صغريات المعصية، وإلا فلا، ولا شك في أن معرفة مصاديق المعصية بيد العرف، وهو لا يسمى عرفاً مرتكبها، ولا ينطبق عليهعنوان محرم آخر، فآكل المذكاة بتوهم الميتة لا يسمى عرفاً آكل الميتة، ولا ينطبق عليه عنوان محرم آخر، وأما ما ذكر من العناوين فغير كافٍ.

ونظير ذلك ما لو نوى الحرام وتمنى وأظهر الشوق إليه، فليس بعاصٍ ولا

ص: 84


1- انظر: كفاية الأصول: 259، وفيه: «قد عرفت أنّه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة، والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة....الحق أنّه يوجبه؛ لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته، وذمه على تجريه، وهتكه لحرمة مولاه، وخروجه عن رسوم عبوديته، وكونه بصدد الطغيان، وعزمه على العصيان... ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجري به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح....».
2- انظر: الفصول الغروية: 272، وفيه: «... ثم هذا مبني على ما حققناه في محله من أن حسن الفعل وقبحه ليسا من لوازمه وذاتياته غالباً، بل مبناهما على الوجوه والاعتبارات اللاحقة له، فيختلفان باختلاف الأحوال..».

مرتكب حرام في الجملة، كما أن مَنْ يرتكب مقدماته غير الموصلة كذلك، كيف وأن الموصلة ليست بمحرمة؟! وما قلتم في الموردين يجري فيه أيضاً؛ لأنها كلها من وادٍ واحد.

وقد يقرر بوجه آخر: وهو أنّ الآيات والروايات التي دلت على المحرمات مطلقاً ظاهرها الحرمة الحقيقية لا المحرمات الخيالية((1)).

وفيه: إن العناوين المذكورة كافية لإثباتها، فكونها معصية ليست بالذات، بل لانطباق عنوان محرم، وهو هتك حرمة المولى مثلاً، وهو موجب لحرمة الفعل وقبحه، كما سيجيء.

أما تنظيره بالموردين فمع الفارق، فإن نية الحرام وتمنيه وإظهار الشوق إليه ليس بمحرم إطلاقاً، لعدم الدليل عليه، بل الدليل على عدمه.

نعم، لو انطبق على التمنّي وإظهارالشوق عنوان الهتك ونحوه فكذلك.

كما أن عدم حرمة المقدمة - موصلة أو غيرها - إنما هو من حيث هي، لا من جهة عنوان آخر. نعم، لو انطبق عليها عنوان الجرأة ونحوه فإنه يكون مرتكب محرَّم ، فتأمل.

كما أن ما نحن فيه كذلك، فإن المتجرى به ليس بمحرم - كما مرّ - وإنما الكلام أن المرتكب تجرّى على الحرام، وهذا العنوان هو الحرام أم لا؟

وأما التقرير الآخر ففيه أن هذا وحده غير كافٍ؛ إذ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه؛ إذ هي تدل على حرمة التصادف، ولا مفهوم إلا اللقب، وهو غير حجة.

ص: 85


1- انظر: بيان الأصول1: 59، وفيه: «.. فالآيات المباركات الدالة على حرمة المحرمات، وظاهرها المحرمات الواقعية لا الخيالية، فهي لا تدل على حرمة الخيال...».
الدليل الثاني: حرمة التجري تستلزم التسلسل

إن الحرمة تستلزم التسلسل((1))، ولزوم اشتمال كل حرام على محرمات لا تتناهى، وحيث بطل اللازم؛ للزومه حصر اللامتناهي بين محصورين؛ لمعلومية أن كل حرام متناهٍ، بطل الملزوم وهو حرمته، حيث إن لكل تجرٍ تجرياً؛ إذ على فرض حرمة التجري فإنه يكون من المحرمات، وتجري العبد على هذا التجري حرام، وينقل الكلام إلى التجري على التجري وهكذا إلى ما لا يتناهى.

وفيه: أولاً: إنه إشكال على إمكانالتجري؛ إذ حتى على عدم حرمته فيشكل على إمكان التجري بأنه يستلزم التسلسل؛ إذ كل تجرٍ - وإن لم يكن حراماً - فيه تجرٍ، والتجري الثاني فيه تجرٍ وهكذا إلى ما لا نهاية، وحيث بطل التسلسل في وجوده بوقوعه خارجاً - فإن الوقوع أدّل دليل - بطل ذلك في حرمته أيضاً.

وثانياً: بأنه لا تجري على التجري؛ للغفلة عنه أصلاً، أما التجري الأول فإنه يحصل التفات إليه - ولو إجمالاً - فإن مرتكب الحرام أو ما يتوهمه كذلك يعلم بأنه يخالف مولاه ولو إجمالاً، لكنه غافل عن الثاني إطلاقاً، فينتفي موضوعه كما لا يخفى.

وثالثاً: إن الملاك فقط في الأول لا غير، فإنه لا مانع في تحريم الشارع التجري إلى سائر المعاصي إلا التجري إليه، وكما قال الوالد دام ظله: «ما المانع من تحريم الشارع ما فيه المفسدة، والمتجرى إليه فقط، فلا ملاك في

ص: 86


1- انظر: الأصول: 585.

غير الأول»((1)).

الدليل الثالث: اجتماع حرمتين وعقابين على المتجري

إنه كما يكون في مورد الخطأ، يكون أيضاً فيما لو أصاب، فلو قيل بالحرمة فيلزم حينئذٍ اجتماع حرمتين وعقابين، فتكون كل معصية معصيتين((2))، وهو خلافما يستفاد من الأدلة.

وأجاب صاحب الفصول، في التنبيه الرابع من بحث مقدمة الواجب بقوله: «فإن التحقيق أن التجري على المعصية معصية أيضاً، لكنه إن صادفها تداخلا وعدا معصية واحدة»((3)).

وأجاب صاحب الكفاية: «إنّه ليس في المعصية الحقيقية إلا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة وهو هتك واحد»((4)).

وأشكل على الفصول بأنه بعد كونه هتكاً واحداً لا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم((5))، مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب

ص: 87


1- الأصول: 585.
2- انظر: كفاية الأصول، تعليقة السبزواري 2: 244.
3- الفصول الغروية: 87 .
4- كفاية الأصول: 262.
5- انظر: كفاية الأصول: 262، وفيه: «ثم لا يذهب عليك إنّه ليس في المعصية الحقيقية إلا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة، وهو هتك واحد، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم، مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب إلا عقوبة واحدة، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما، كما لا يخفى. ولا منشأ لتوهمه إلا بداهة أنه ليس في معصية واحدة إلا عقوبة واحدة، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تكشف بنحو الإن عن وحدة السبب».

إلا عقوبة واحدة، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما كما لا يخفى.

ووجّه المحقق الإصفهاني كلام الفصول بما يرجع إلى كلام الكفاية، حيث قال: «ويمكن توجيه كلامه - زيد في علومقامه - بدعوى أنّه لم يظهر منه سببية كل من التجري والمعصية الواقعية للعقاب، ليورد عليه: بأن المراد من التداخل إن كان وحدة العقاب فهو هتك منافٍ لسببية كل منهما، وإلا فلا معنى للتداخل، بل لم لا يكون مراده أن المصحح للعقاب هتك حرمة المولى، سواء تحقق بالمعصية الواقعية أم لا، فليس في مورد المصادفة إلا سبب واحد، ومراده من التداخل هو التداخل بحسب الأثر كما هو ظاهر كلامه، وظاهر قوله: عدا معصية واحدة بحسب الأثر، فإن شرب الخمر الذي علم به مبغوض للمولى، وهتك الحرمة أيضاً مبغوض، لكن هذين المبغوضين في حكم مبغوض واحد من حيث السببية والتأثير في الاستحقاق فتأمل»((1)).

وأما المحقق العراقي فقد أشكل على كونه معصيتين متداخلتين، بقوله: «وهو بظاهره مشكل: بأن التجري وإن كان يصدق على ترك مقدمة من مقدمات الواجب - كما هو محل كلامه - ويلزمه تحققه مع العصيان أيضاً؛ إذ ليس من مقومات التجري عدم مصادفته مع العصيان، كما أفاده بعض الأعاظم، وإنّما قوامه بعدم صدق العصيان عليه، ولكنه بعد أن يباين العصيان

ص: 88


1- نهاية الدراية في شرح الكفاية2: 55.

وجوداً ومورداً بلحاظ أنمورده هي المقدمة، التي هي غير نفس العصيان، يستحيل تداخله معه، وحينئذ، لو قيل باستحقاق العقوبة على خصوص هذا العنوان المقابل للعصيان يلزمه لا محالة تعدد العقوبة، ولا مجال للتداخل»((1)).

أقول: يرد على الأول - وهو كلام صاحب الفصول - : أنّه لا وجه للتداخل أصلاً، فإنه مستحيل عقلاً؛ إذ لا يعقل أن ينقلب الوجودان وجوداً واحداً، وإلا لزم الخلف؛ إذ لازم انقلابهما واحداً أن لا يكونا اثنين.

ولا يخفى أن المتصور في هذا ثلاثة فروض: الأول: انعدام الوجودين، وهذا وجه آخر غير التداخل، فلم يتداخلا، الثاني: انضمام أحدهما إلى الآخر، وهذا لا يفيد الاتحاد. نعم، قد يعتبران شيئاً واحداً - بمعنى الانتزاع - كَلَبِنات البيت ، الثالث: الاندكاك.

كما أن العكس كذلك.

هذا حسب الواقع. نعم، قد تكون هناك مسامحات عرفية، لكن لا يعبأ بها في ذلك.

إن قلت: الإجماع((2)) والأخبار((3)) يدّلال على التداخل في الوضوء،

ص: 89


1- نهاية الأفكار3: 40.
2- انظر: جامع المقاصد1: 77، مسالك الأفهام1: 35، مدارك الأحكام1: 193، روض الجنان1: 64، كفاية الأحكام1: 40، مستند الشيعة2: 367، جواهر الكلام2: 114.
3- انظر: الكافي3: 41، ح1، وفيه: ... عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة قال: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة، وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة، وإذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد....».

والغسل، في الجملة.

قلت: أما في الوضوء فلا تداخل فيه أصلاً؛ لأن نواقضه وموجباته توجب الحدث، وهو موجب الوضوء، وهو شيء واحد غير متعدد، فالموجب - بالفتح - من جميع النواقض واحد هو الحدث ولا تعدد فيه، وإذا صدر أحدهما من المتطهر فتوجد هذه الحالة، فلا توجد مرة أخرى، فلو صدرت ثانية أو صدر غيرها فلا تكون سبباً، لكونه تحصيلاً للحاصل، ولو صدر أكثر من واحدة دفعة فيكون الجميع علة، أي كل واحد جزء علة.

أمّا الغسل فإن التداخل حاصل لكنه حكمي لا واقعي، كما لا يخفى على من راجع كلماتهم، بل قد يقال: إنه كالوضوء في كونه سبباً واحداً.

هذا كله إن كان مراد صاحب الفصول التداخل الواقعي. وأمّا إن كان مراده التداخل الحكمي - كما هو الظاهر - فيرد عليه : أن الأصل تعدد المسببات بتعدد الأسباب، ولا دليل على خلافه كي يتنازل عن الأصل، وإلى هذا يرجع ما في الكفاية من أنه: «لا وجه لتداخلهماعلى تقدير استحقاقهما»((1))، كما ذكرناه.

ويرد على كلام صاحب الكفاية: أن لازم ذلك أن يكون لكل شيء محظور معصية واحدة، حتى لو انطبقت عليه عناوين مختلفة، فهل يُلتزم بأن مَنْ قتل إنساناً ظلماً إعانة للظالم أنّه معصية واحدة؟ وليس هذا هتكاً واحداً، بل هو هتكان، ومثله كمثل الذي ارتكب معاصي عديدة دفعة واحدة.

ص: 90


1- كفاية الأصول: 262.

مضافاً إلى أنه لا دليل على كون منشأ استحقاق العقاب هو الهتك وأنه واحد، بل يمكن أن يكون المنشأ أموراً أخرى أو هو وهي، ويمكن أن يكون الهتك متعدداً ألا ترى أن مَنْ أهان مولاه في مكان له حرمة، فإنه ارتكب هتكين: هتك المولى وهتك الحرمة. ويمكن أن يستدل لذلك بنظيره في العقوبة الدنيوية، بزيادة الحد في مَنْ زنى في الأشهر الحرم ونحو ذلك((1))، فتأمل.ويرد على الثالث - وهو التوجيه((2)) - : أنه خلاف ظاهر كلام الفصول، فإن الظاهر يأبى عن ذلك، وإن كان من المحتمل أن يكون مراده ذلك، لكن بيان المراد لا يدفع الإيراد، ولعل أمره بالتأمل إشارة إلى ذلك، كما أن المحقق العراقي احتمل رجوع كلامه إلى ما ذكره في الكفاية.

ويرد على الرابع - وهو كلام المحقق العراقي - : أنّه على فرض حرمة التجري فهو عصيان، فلا وجه للقول: إن قوامه عدم صدق العصيان عليه.

اللّهم إلا أن يكون مراده عدم صدق العصيان المتوهم لا عدم صدقه من

ص: 91


1- انظر: المراسم العلوية: 256، وفيه: «ومن زنى في شهر رمضان، فإن كان في نهاره فعليه مع الجلد العقوبة والكفارة، وإن زنى في ليله فعليه الحد والتعزير، وكل من زنى في وقت شريف أو موضع شريف أضيف إلى حده التعزير». وقال الشيخ الطوسي في النهاية: 698: «ومن زنى في الليالي الشريفة مثل ليالي الجمعة أو ليلة النصف من شعبان أو ليلة الفطر أو الأضحى أو يومهما، أو يوم سبعة وعشرين من رجب، أو خمسة وعشرين من ذي القعدة، أو ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول، أو يوم الغدير أو ليلته أو ليلة عاشوراء أو يومه، فإنه يغلظ عليه العقوبة».
2- الذي ذكره المحقق الإصفهاني لتوجيه كلام الفصول.

حيث حرمته.

وأما ما ذكره من أنّه: (ليس من مقوماته عدم مصادفته مع العصيان)((1)) فإن كان مراده أنه ليس من مقوماته لغة فلا إشكال، وإن كان المراد أنه ليس كذلك اصطلاحاً فلا يساعد عليه مراجعة كلماتهم، حتى أنه ذكر في عنوان المسألة: «إنما الكلام في كونه قاطعاً للعذر مطلقاً حتى في فرض عدم المصادفة بمحض كونه تجرياً على المولى.... »((2)).

لكنه أيد وحدة العقاب بأن مدار العقوبة على عنوان الطغيان على المولى الجامع بين التجري والعصيان، لا على خصوص عنوانهما، ولا بأس بالالتزام بوحدة العقوبة في الفرض المزبور بلحاظ كونه حينئذٍ طغياناً واحداً مستتبعاً لعقوبة واحدة، ولكن ذلك غير مرتبط بالتداخل كما هو واضح.

وهذا الكلام نفس ما في الكفاية، ويرد عليه ما ورد عليه.

ويمكن أن يقال: إن استبعاد تعدد العقاب استبعاد لغير البعيد، ولم يدل دليل على ذلك، بل الدليل على عدمه؛ إذ الدليل على تعدد المسببات بتعدد الأسباب، والتداخل الحكمي لا دليل عليه، وحيث تعدد العنوان فتعدد العقوبة، فتأمل.

نعم، لو استبعد ذلك فالأولى في الجواب ما ذكره الوالد دام ظله، حيث قال: «وفيه: إمكان الاندكاك، كما قال به بعض في تعاون الإنسان مع نفسه

ص: 92


1- انظر: فوائد الأصول3: 55، هامش(2)، وفيه: «وليس من مقوماته عدم مصادفة هذه المقدمات مع العصيان».
2- نهاية الأفكار3: 30.

في شرب الخمر، فلشربها معصية واحدة مندكة شديدة، بينما في التعاون مع الغير واحدة خفيفة، ومنه ظهر الجواب عن الكفاية: بأنه مع تعدد الحرمة لاتداخل في العقاب ومع وحدتها لا عقاب للتجري؛ إذ هناك شق ثالث، وذلك للجمع بين دليل وحدة العقاب، ودليل حرمة التجري»((1))، انتهى.

إن قلت: إنه تحصيل للحاصل؛ إذ الأول واجد للتحقق فلا يعقل أن يفيض له الثاني ذلك.

قلت: إنه لا يرد ذلك على مبنى التشكيك في الوجود؛ إذ الوجود حينئذٍ حقيقة ذات تشكك، وتشتمل على مراتب مختلفة، كمرتبة الغنى والفقر، والشدة والضعف، والأزيدية والأنقصية - في الكم المتصل - والأكثرية والأقلية - في الكم المنفصل - والأولوية وخلافها في العلة والمعلول، والشدة والضعف، فهذه أمور ستة يحصل فيها التفاوت في الوجودات المختلفة، وعليه فلا مانع من الاندكاك حينئذٍ، فمرتبة الوجود الأول - مثلاً - تقوى باندكاك الوجود الثاني.

مضافاً إلى أنه لو أنكرنا التشكيك فيه كما قالت المشائية بأنه حقائق تباينت، فيمكن القول: إن هناك ليس وجود حاصل للعقاب حتى يشتد، بل المولى له - عقلاً - أن يضاعف العقاب، فعلى رأي المشائين يمكن أن يقال بشدة العقاب، أي: إن العقل يرى أن المولى لو ضرب العبد بشدة أو أضاف العقاب لم يكن ملوماً، وكان العبد به جديراً،فتأمل.

ص: 93


1- الأصول: 586.

أما ما ذكره هذا البعض((1)) من أن تعاون الإنسان مع نفسه على الحرام مندك في الحرام، فإنه وإن كان لا مانع من ذلك عقلاً - كما ذكرنا - لكنه لم يدل دليل على حرمة تعاون الإنسان مع نفسه على الحرام؛ إذ أدلة الحرمة - كقوله تعالى: {ولا تعاونوا} ونحوها - ظاهرة في التعاون مع الغير أو منصرفة إليه، اللّهم إلا أن يقال: إنه بدوي، أو إنه لغلبة الوجود لا لانصراف اللفظ، ومثله ليس بحجة، فتأمل.

الدليل الرابع: يستلزم من وجود حرمة التجري عدمها

إن الحرمة فيه يستلزم وجودها عدمها، وكل ما استلزم وجوده عدمه فهو محال؛ وذلك لأن الموضوع لها هو القاطع الجاهل جهلاً مركباً، أي: القاطع بالخلاف، ومجرد أن قال المولى: أيها القاطع بالخلاف فيزول القطع به، وبزوال الموضوع يزول الحكم.

وفيه: أولاً: إن الموضوع ليس القاطع بالخلاف، بل قد يكون القاطع بالحكم، أو الموضوع، فيقال: أيها القاطع بالحرمة جرأتك على مولاك محرمة، أو أيها القاطع بخمرية هذا المائع، أو يقال: لا تجترئ على مولاك ونحو ذلك.

وثانياً: إنه قد لا يزول القطع بالخلاف، لقطعه بخطأ المولى - في الموالي العرفية - وفي غير القطع باحتماله خطأ المولى، فلا يلزم حينئذٍ من وجوده عدمه.

ص: 94


1- انظر: فرائد الأصول1: 48، بحر الفوائد في شرح الفرائد1: 27، أوثق الوسائل: 26.

اللّهم إلا أن يقال: في القطع أنه لا يشمله الحكم؛ لأنه يقطع بعدم شمول الموضوع له؛ إذ هو قاطع بالخلاف، أما مَنْ يحتمل خطأ المولى وظن بالخلاف فكذلك، فإنه يقطع بأنه ليس ظاناً بالخلاف حتى يشمله موضوع الحكم، وهو أيها الظان بالخلاف، بل هو ظان بالوفاق.

وثالثاً: ما ذكره الوالد (دام ظله) من أنه يرد عليه: «ما ذكروه في مسألة ناسي الجزء، حيث يتمكن المولى أن يقول: أيها الناسي لشيء ما؛ إذ يأتي بعنوان ملازم، أو يكون النسيان بحيث يقول المولى: أيها الناسي للسورة، لكنه ينسى بمجرد ذكر المولى له، وهنا: أيها القاطع لشيء ما»((1)).

أدلة القول الثاني

اشارة

واستدل للقبح والحرمة بأمور:

الدليل الأول: التجري هتك لحرمة المولى

إنّه هتك لحرمة المولى وخروج عن رسوم عبوديته، وكون العبد بصدد الطغيان((2)).

وبعبارة أخرى - كما في كتاب الأصول - :«إن الفعل المتجرى به انطبق عليه عنوان ذو مفسدة، وكلما كان كذلك كان حراماً ، فيما لم يكن معارضاً بأهم أو مماثل - كما إذا كان واجباً قطع بأنه حرام - وهكذا الحال فيما إذا

ص: 95


1- الأصول: 585.
2- انظر: كفاية الأصول: 259، وفيه: «... الحق أنّه يوجبه؛ لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته، وذمه على تجريه، وهتكه لحرمة مولاه، وخروجه عن رسوم عبوديته، وكونه بصدد الطغيان، وعزمه على العصيان....»، حاشية على كفاية الأصول2: 15.

انطبق عنوان ذو مصلحة على شيء، فإنه يكون واجباً؛ ولذا حرم ما يهتك المولى وإن كان في نفسه مباحاً، ووجب ما ينقذ المسلم وإن كان كذلك، أما الواجب المقطوع بحرمته وبالعكس، فيلاحظ الأهم المانع عن النقيض منها، وإلا يخير»((1)).

وقد أشكل عليه بأمور:

الأول: ما قاله المحقق الحائري في الدرر: «بان اتحاد الفعل المتجرى به مع تلك العناوين ليس دائمياً((2))، لأنا نفرض الكلام فيمن أقدم على مقطوع الحرمة لا مستخفاً بأمر المولى، ولا جاحداً لمولويته، بل غلبت عليه شقوته، كإقدام فساق المسلمين على المعصية، ولا إشكال في أن نفس الفعل المتجرى به مع عدم اتحاده مع تلك العناوين لا قبحفيه أصلاً»((3)).

الثاني: إن كونه هتكاً للمولى أول الكلام؛ إذ هو تخيل هتك المولى، وأنى لهم بإثبات كون تخيل الهتك هتكاً؟ نعم، هو بمثابة مَنْ لا مانع له من هتك المولى، وإن الخروج عن رسم العبوديّة ليس بحرام، إنما الحرام الخروج عن نفس العبوديّة لا رسمها، كما أن العصيان هو المحرم، ولم يدل دليل على حرمة الكون بصدد العصيان، بل هو أول الكلام.

الثالث: المنع من كون العلم غير المصادف علماً، وإنه - حقيقة - جهل

ص: 96


1- الأصول: 580.
2- وإن كان هتك حرمة المولى والاستخفاف بأمره تعالى شأنه وأمثال ذلك مما لا شبهة في قبحه، بل في بعض الأحيان لا يتحد معها.
3- درر الفوائد2: 337.

مركب أطلق عليه العلم((1))؛ لمكان أنّه في نظر القاطع كاشف عن الواقع، لا من جهة كونه كاشفاً حقيقة، فلا يمكن حينئذٍ أن يقال: إن العلم بما هو مأخوذ على نحو الطريقية والكاشفية يكون تمام الموضوع في إحداث عنوان الطغيان على إقدامه.

ويرد على الأول((2)):

أولاً: إن الكلام ليس في قبح الفعل المتجرى به، واتحاد عناوين الهتك والطغيان... عليه، بل إن بعض المستدلين - كصاحب الكفاية - قالوا بالحرمة في التجري مع بقاء المتجرى عليه على ما هو عليه من الحسن أو القبح((3)).

ثانياً: إن الاستخفاف بأمر المولى وجحد مولويته ليس مأخوذاً في التجري، بل يصدق حتى مع قصد عدمهما. نعم، غلبة الشقوة سبب له، كما أنّه قد تكون هناك أسباب أخرى، فإن ضرب المولى - مثلاً - جرأة عليه، ولو لم يقصد الاستخفاف وجحد المولوية، وكذا فيما أخطأ.

وثالثاً: إنه لو قيل بذلك لزم عدم العقاب في المعصية الواقعية، إذا كان الارتكاب لغلبة الشقوة لا لجحد المولوية أو الاستخفاف به، بناءً على أن وجه العقاب هو هتك المولى، كما قال صاحب الكفاية: إن العقاب في

ص: 97


1- انظر: نهاية الأفكار3: 31، وفيه: «... وأمّا المنع عن كون العلم غير المصادف علماً، وأنّه حقيقة جهل مركب أطلق عليه العلم لمكان أنّه في نظر القاطع كاشف عن الواقع، لا من جهة كونه كاشفاً حقيقة فيدفعه....».
2- أي: ما قاله المحقق الحائري في الدرر.
3- انظر: كفاية الأصول: 259.

المعصية لهتك المولى وهو واحد((1)).

وقد يشكل أيضاً بأن الفعل المتجرى به قد يكون قبيحاً مع عدم اتحاده معتلك العناوين، بل لأجل أنه كان قبيحاً، وإنما أخطأ المرتكب بتصوره قبيحاً آخر.

لكن هذا لا يرد عليه؛ إذ مراده غير ذلك، بل مراده عدم القبح من جهتها، وإن كان بيان المراد لا يدفع الإيراد.

والحاصل: إن الظاهر أن عنوان الهتك ونحوه منطبق على التجري مطلقاً من أي سبب كان.

وأما الإشكال الثاني: فهو وإن كان على الظاهر وارداً على الخروج عن رسم العبوديّة، والكون بصدد الطغيان - على تأمل - لكنه غير وارد على هتك حرمة المولى؛ إذ هو عرفاً هتك له. نعم، هو تخيل هتك آخر.

وبعبارة أخرى: إن متخيَّل - بالفتح - الهتك لم يقع وهو ليس بهتك واقعي؛ إذ كما مّر العلم طريقي فلا يغير الشيء عن واقعه، لكن هنا وقع هتك آخر كما يشهد له العرف، ويشهد له أيضاً صحة العقوبة، فإن مَنْ قتل مهدور الدم بتوهم أنه المولى يصح للمولى عقوبته، بل قد يلام المولى إن لم يعاقبه.

إن قلت: إنّه لأجل ردعه عن العود لمثلها لعلها تكون مصيبة للواقع، فلعله

ص: 98


1- انظر: كفاية الأصول: 262، وفيه: «ثم لا يذهب عليك: إنّه ليس في المعصية الحقيقية إلا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة، وهو هتك واحد، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين، كما توهم، مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب إلا عقوبة واحدة....».

لم يرتكب محرماً، لكن حيث لم يكن رادع عن ذلك الارتكاب فيمكن أن يعود لمثله فيصيب، فتكون المؤاخذة حينئذٍ للدفع.

قلت: أولاً: إن ذلك لا يصحح العقوبة،وإلا لجاز عقوبة كل مَنْ يحمل في قرارة نفسه صفات نفسية قبيحة مع احتمال بروزها، ويدل على ذلك من الشرع روايات((1)) تدل على عدم جواز العقاب على محرم لم يرتكب، وإن كان محتمل الارتكاب.

وثانياً: ليُفرض الأمر فيما قطع بعدم تمكن العبد من العود لمثله، فإنا نجد أنه لا مانع من العقوبة حينئذٍ، فتأمل.

لا يقال: إنه بناءً على تغاير الهتكين، ففي المعصية الواقعية يكون هتكان، هتك مقصود وهتك للجرأة.

لأنه يقال: أيّ مانع من ذلك، كما مرّ في تعدد العقاب، مضافاً إلى احتمال الاندكاك فيكونان واحداً، أو ما قاله صاحب الكفاية من كونه هتكاً واحداً شديداً، مع قطع النظر عمّا ذكرنا من التأمل فيه.

وأما الإشكال الثالث: فقد أجاب عنه المحقق العراقي بقوله: «فيدفعه كفايةمثل هذا الجهل أيضاً، كالعلم المصادف في إحداث عنوان الطغيان

ص: 99


1- انظر: الكافي2: 463، ح2، وفيه: ... عن محمد بن أحمد النهدي، رفعه، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم): وضع عن أمتي تسع خصال: الخطأ والنسيان وما لا يعلمون، وما لا يطيقون وما اضطروا إليه، وما استكرهوا عليه والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد». وفي من لا يحضره الفقيه1: 59، ح132: وقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وضع عن أمتي تسعة أشياء: السهو... والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفة».

على العمل المتجرى به، وفي اشمئزاز العقل عنه بعين اشمئزازه عنه في العلم المصادف، كإحداثه لعنوان التسليم على إقدامه في طرف الانقياد.

كما هو الشأن أيضاً في مقام الانبعاث، حيث كان مثل هذا الجهل محدثاً لإرادة العالم بالبعث والمصلحة بعين محدثية العلم المصادف، كما هو ظاهر.

نعم، بينهما فرق من حيث إصابة المصلحة وعدمها، لكن ذلك أجنبي عن المقام، الذي هو من وجدانيات العقل فتدبر. ولعمري إن تمام المنشأ للتوهم المزبور إنما هو تخيل أن الأحكام العقلية الوجدانية كغيرها مما تكون مصلحتها واقعية قابلة لتخلف الطريق عنها، كما في مدركاته التي هي مركز بحث الملازمة، مع أنها ليست كذلك»((1)).

وبعد ذلك كله اتضح أن التجري هو هتك لحرمة المولى، وذلك محرم، فيكون حراماً، وهذا هو الدليل الذي يلزم أن يتمسك به، وأما سائر الأدلة فهي محل تأمل، كما سيتضح ذلك إن شاء اللّه تعالى.

الدليل الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم

ما في الرسائل((2)) من: دعوى جماعةالإجماع على أن مَنْ ظن ضيق

ص: 100


1- نهاية الأفكار3: 31.
2- انظر: فرائد الأصول1: 37 - 38، وفيه: «... ظاهر كلماتهم في بعض المقامات الاتفاق على الأول، كما يظهر من دعوى جماعة الإجماع على أن ظان ضيق الوقت إذا أخر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت، فإن تعبيرهم بظن الضيق لبيان أدنى فردي الرجحان، فيشمل القطع بالضيق. نعم، حكي عن النهاية وشيخنا البهائي التوقف في العصيان، بل في التذكرة: لو ظن ضيق الوقت عصى لو أخر إن استمر الظن، وإن انكشف خلافه، فالوجه عدم العصيان، انتهى. واستقرب العدم سيد مشايخنا في المفاتيح. وكذا لا خلاف بينهم - ظاهراً - في أن سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية يجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه».

الوقت إذا أخر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت، ولا يستشكل بأن الكلام في القطع وكلامهم في الظن؛ لأن البحث أعم كما عرفت، مضافاً إلى أن التعبير بظن ضيق الوقت لبيان أدنى فردي الرجحان فيشمل القطع بالضيق، ولا خلاف ظاهراً في أن سلوك الطريق المظنون الخطر، أو مقطوعه معصية يجب إتمام الصلاة فيه، ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه؛ إذ لا معنى للحكم بالإتمام ولو بعد الانكشاف للخلاف إلا على القول بأن استحقاق العقوبة إنما هو بسبب الاعتقاد المخالف للواقع.

ويرد عليه: أولاً: عدم وجود الإجماع في ظان ضيق الوقت، كما حكي التوقف عن النهاية والبهائي، بل عن التذكرة: لو ظن ضيق الوقت عصى لو أخر إن استمرالظن، وإن انكشف خلافه فالوجه عدم العصيان.

كما أنّه عن المفاتيح استقراب العدم((1)).

ثانياً: إن في المثالين القطع موضوعي، وهو - كما مرّ - لا واقع له سوى الذهن، فلا يعقل انكشاف الخلاف فيه، والكلام إنما هو في الطريقي منه، ولا يمكن أن يقال: إنّه كذلك؛ إذ لا موجب لاتباع هذا الظن؛ إذ الأصل عدم حجية الظن مطلقاً.

ص: 101


1- انظر: مفاتيح الأصول: 308.

وأما سلوك الطريق المظنون الخطر فإنه موضوعي أيضاً، وقد يقال: إن العقل يحكم بقبح الإقدام على ما لا يؤمن معه من الوقوع في الضرر، وملاكه واحد في مورد العلم والظن والاحتمال، الذي يكون للمحتمل فيه خطر، فإن الارتكاب قبيح ولو لم يصادف خطراً.

ويمكن أن يفرق بين الأخروي من الضرر والدنيوي منه بذلك.

أما القول: إن الحكم الواقعي وإن كان مترتباً على الضرر الواقعي إلا أن الحكم الظاهري مترتب على الظن به مطلقاً، فيكون جزءاً من موضوعه، فإنما هو على مبنى وجود الحكم الظاهري، وأما على التنجيز والتعذير فلا، بل كما ذكرنا.

ويتضح من ذلك عدم التلازم بينالإجماع في هاتين المسألتين وبين حرمته؛ لأن الوجه غير منحصر فيه.

وثالثاً: إن الإجماع - حتى المحصل منه - لا حجية له في المسائل العقلية.

وقد يشكل ذلك بإمكان تحرير المسألة فقهيّاً، ببيان أنه لا يمكن أن يكون عنوان التجري معروض الحرمة؛ إذ لا يمكن الالتفات إلى هذا العنوان، كما لا يمكن أن يكون الفعل المتجرى به معروض الحرمة؛ إذ العلم لا يحدث عنواناً يكون ملاكاً للحرمة، فيقع الكلام فيما هو معروض الحرمة، ولا بد أن يكون ذلك العنوان الذي يعرض عليه الحرمة يعم كلا قسمي التجري، وهما: ما إذا فعل متوهم الحرمة، وما إذا أتى ببعض المقدمات ثم عدل عن قصده بنفسه أو بصارف - بناءً على كونه من التجري - فمعروض الحرمة لا بد أن يكون جامعاً بين هذين القسمين، ولا يكون هو

ص: 102

قصد المعصية؛ لدلالة الأخبار على عدم المؤاخذة عليه، ويمكن أن يكون هو القصد مع الجري على طبقه، كما قد ارتضى ذلك المحقق النائيني((1)).

لكن يمكن أن يقال: إن عنوان التجري ملتفت إليه ولو إجمالاً، مع أنه من العلم الحضوري به، وقد مرّ تفصيل ذلك.

مضافاً إلى أن الإتيان ببعض المقدمات ثم العدول عن المعصية بنفسه ليس منالتجري على الأظهر، أما لو كان بصارف قسري فلا يبعد كونه منه، وقد يقال بدلالة العرف عليه، فتأمل.

أمّا أن معروض الحرمة هو القصد مع الجري على طبقه فقد يبدو للنظر كونه كذلك، كما سيجيء تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

لكن قد يُدعى أن الحرمة للجامع بين المعصية وبينه كعنوان الهتك، وهذا المقدار كافٍ لإثبات الحرمة فيه، وقد مرّ أنّه في المعصية يكون هتكان، أو واحد شديد والآخر مندك، فراجع.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق السبزواري

ما قرره المحقق السبزواري((2)) وغيره من أنّه لو لم يكن له عقوبة لزم الإناطة بما هو خارج عن الاختيار، وحيث بطل التالي بطل المقدم.

وقرره الشيخ الأعظم: «بأنا إذا فرضنا شخصين قاطعين، بأن قطع أحدهما

ص: 103


1- انظر: أجود التقريرات1: 412.
2- انظر: كفاية الأصول، تعليقة السبزواري 2: 243، وفيه: «أنّه لولاه مع استحقاق العاصي له يلزم إناطةُ استحقاق العقوبة بما هو خارجٌ عن الاختيار، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره، مع بطلانه وفساده».

بكون مائع معين خمراً، وقطع الآخر بكون مائع آخر خمراً فشرباهما، فاتفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر، فإما أن يستحقا العقاب، أو لا يستحقه أحدهما، أو يستحقه مَنْ صادف قطعه الواقع دون الآخر، أو العكس، لا سبيل إلى الثاني والرابع، والثالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار، وهو منافٍ لما يقتضيه العدل، فتعين الأول»((1)).

ويرد عليه أولاً: إن لازم ذلك تساويهما في العقاب - الدنيوي منه والأخروي - والذم مطلقاً؛ إذ لو قيل بالتفاوت فيقال: إنّه كيف فرق بينهما بما لا يرجع إلى الاختيار؟ مع أن الضرورة قاضية بعدم حدّ غير المصادف وحدّ المصادف مثلاً، كما أن ذمهما مختلف شدة وضعفاً ، كما أن العقاب الأخروي كذلك.

وثانياً: إنّه في صورة المصادفة لا قبح في عقابه قطعاً، حيث ارتكب المنهي عنه بلا عذر عامداً عالماً إلى آخر شرائط التكليف، وليس هو على المصادفة كي يقال: إنّها غير اختيارية ، أما في غيرها فعدمه لا يستلزم قبحاً؛ إذ هو إنما يكون في العقوبة بأمر غير اختياري، لا في عدمها به.

وبعبارة أخرى: إن المصادف يعاقب لإتيانه بما هو مبغوض للمولى مع اجتماع شرائط التكليف، أما غير المصادف فلا يعاقب - من جهة الفعل المتجرى به - لأنه لم يأتِ بما هو مبغوض للمولى. نعم، عدمه إنما كان لعدم

ص: 104


1- فرائد الأصول1: 38.

المصادفة، ولا مانع من عدم العقاب بما هو خارج عن الاختيار.

ولو قطع النظر عن ذلك فيمكن أن يقال: إنه لا مانع من العقاب على أمر بعض مقدماته غير اختيارية، فإن بعض المقدمات غير اختيارية كالقدرة مثلاً، فلا مانع من العقوبة على ما نحن فيه من المصادفة.

لكن قد يفرق بأن تلك من المقدمات البعيدة والمصادفة من القريبة، والمناط في العقاب اختيارية القريب منها لا غيرها.

وإلى هذا الجواب - الثاني - يرجع ما أفاده الشيخ الأعظم((1)) من الالتزام باستحقاق المصادف للعقاب لأنّه عصى اختياراً دون مَنْ لم يصادف، حيث قال الشيخ الأعظم: «وقولك: إن التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار ممنوع، فإن العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى الاختيار قبيح، إلا أن عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم، كما يشهد به الأخبار الواردة في أن: مَنْ سنَّ سنة حسنة كان له مثل أجر مَنْ عمل بها، ومَنْ سنَّ سنة سيئة كان له مثلوزر مَنْ عمل بها، فإذا فرضنا أن شخصين سنّا سنة حسنة أو سيئة واتفق كثرة العامل بإحداهما وقلة العامل بما سنه الآخر، فإن مقتضى الروايات كون ثواب الأول وعقابه أعظم»((2)).

لكن قد يتأمل في المثال، فإنه لا كلام في أجر مَنْ سنّ سنة حسنة، لكن

ص: 105


1- انظر: فرائد الأصول1: 40، وفيه: «... وأما ما ذكر من الدليل العقلي: فنلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع؛ لأنّه عصى اختياراً دون من لم يصادف».
2- فرائد الأصول1: 40 - 41.

مَنْ سنّ السيئة فإن عقابه يكون لأمر غير اختياري هو كثرة العامل، فيعود المحذور فيه.

نعم، ما مثل له - وهو ما نحن فيه - كان عدم العقاب لأجل أمر غير اختياري.

فلا بد من دفع الإشكال بأن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، وبهذا يندفع هذا التأمل؛ لأن الشيخ الأعظم ذكر «فإن العقاب بما لا يرجع بالآخرة إلى الاختيار قبيح»، ومفهومه أنّه بما يرجع إليه ليس كذلك، وكثرة العامل بالسنة السيئة وإن كان غير اختياري لكنه راجع إلى الاختيار.

الدليل الرابع: وجود القبح الفاعلي في التجري

دعوى القبح الفاعلي((1)) بأن يكون صدورهذا الفعل عن هذا الفاعل قبيحاً، وإن لم يكن الفعل قبيحاً، ولا ملازمة بين القبح الفعلي وبين القبح الفاعلي، حيث إنه يمكن أن يكون الفعل قبيحاً ولكن صدوره عن الفاعل حسن، كما في الانقياد، وعكسه يكون في التجري.

لكن الكلام حول أنه هل يمكن أن يكون هذا الأمر ملاكاً للأمر المولوي أو لا؟

المصحح لذلك أحد أمرين:

ص: 106


1- انظر: فوائد الأصول3: 42، وفيه: «نعم، لا بأس بدعوى القبح الفاعلي، بأن يكون صدور هذا الفعل عن مثل هذا الفاعل قبيحاً، وإن لم يكن الفعل قبيحاً، ولا ملازمة بين القبح الفاعلي والقبح الفعلي؛ إذ ربما يكون الفعل قبيحاً ولكن صدوره عن الفاعل حسن - كما في صورة الانقياد - وربما ينعكس الأمر، كما في صورة التجري».

1 - دعوى أن الخطابات الأولية تعم ذلك أيضاً، كما أنها تعم الفعلي منه.

2 - دعوى أن للقبح الفاعلي خطاباً خاصاً غير خطابات الموضوعات الواقعية.

وهذا حاصل الدليل، كما قرره المحقق النائيني، وقبل النظر في إشكاله على الأمرين لابد من النظر فيما يقتضيه الدليل، فنقول: إن الانقياد ليس على الفعل مجرداً وإنما هو على القصد، كما أن التجري كذلك، فلو صدر الفعل لا عن قصد - كالسهو والخطأ ونحوه - لا يكون كذلك، ولذا ذكر في الدليل: أن صدور هذا الفعل عن هذا الفاعل قبيح....

وهل الحسن في الانقياد هو في صدور الفعل عن الفاعل؟ فلو أراد الفعل لكن منعه مانع، فهل يقال إنه ليس منقاداً؟ الظاهر إن الانقياد أعم من ذلك؛ ولذا يثاب على ذلك.ويمكن أن يقال: إن القبح الفاعلي قسمان:

الأول: ما يتولد من القبح الفعلي، وهذا بعد العلم بالفعلي منه، لكن هذا لا يستنتج العقاب بالفاعلي منه، وإلا لزم عقابان: عقاب عليه، وعقاب على الفعلي، وقد مرّ تفصيل ذلك، فإن جوزناه فلا بأس بهما، وإلا فلا يوجد إلا على الفعل.

الثاني: ما يتولد من خبث الباطن فقط، والعقاب حينئذٍ لا وجه له إلا انطباق عنوان الهتك، وهو قبح فعلي لا فاعلي.

وبذلك يتضح أنه لا مصحح للقبح الفاعلي.

وأما المحقق النائيني فقد أجاب عن الأمرين المصححين له، بما حاصله:

ص: 107

أما الأمر الأول((1)): فالخطابات الأولية لا تعم القبح الفاعلي؛ إذ الحسن والقبح الفاعلي من الانقسامات اللاحقة له؛ إذ بعد تعلق الخطابات بموضوعاتها تتحقق رتبة الحسن الفاعلي وقبحه، فإنه يقع في رتبة امتثال تلك الخطابات وعصيانها. نعم، يمكن ذلك بمتمم الجعل، لكن لا برهان عليه، وأنّى لهم لإثباته، بعدما كانت الخطابات مترتبة على الموضوعات الواقعية؟

وأما الأمر الثاني: وهو اختصاص القبح الفاعلي بخطاب يخصه غير الخطابات الأولية، ف- «أن توجيه الخطاب إلى ما يختص بالقبح الفاعلي مما لا يمكن، فإن موضوع الخطاب الذي يمكن أن يختص بذلك إنما هو عنوان المتجري، أو العالم المخالف علمه للواقع وأمثال ذلك من العناوين المختصة بالقبح الفاعلي، والخطاب على هذا الوجه لا يعقل؛ لأن الالتفات إلى العنوان الذي تعلق به الخطاب مما لا بد منه، والمتجري لا يمكن أن يلتفت إلى أنّه متجرٍ؛ لأنه بمجرد الالتفات يخرج عن كونه متجرياً»((2)).

أقول: أما عدم شمول الخطابات الأولية له فمسلّم، وأما الخطاب الآخر فإنه يمكن توجيه خطاب مختص، بما أشرنا إليه في جواب الدليل الرابع من

ص: 108


1- انظر: فوائد الأصول3: 43، وفيه: «أمّا الكلام في الحيثية الأولى: فالحق فيه أن الخطابات الأولية لا تعم القبح الفاعلي، فإن الحسن والقبح الفاعلي إنما يكون مترتباً على الخطابات الأولية، ومن الانقسامات اللاحقة له؛ إذ بعد تعلق الخطابات بموضوعاتها تتحقق رتبة الحسن الفاعلي وقبحه، فإن ذلك يقع في رتبة امتثال تلك الخطابات وعصيانها، فلا يمكن أن تكون الخطابات مطلقة تعم الحسن الفاعلي وقبحه بالإطلاق والتقييد اللحاظي».
2- فوائد الأصول3: 44.

أدلة النافين للحرمة، أو نقول بما عن المحقق العراقي: «إن تمام المناط على الطغيان على المولى والتسليم له الجامعين بين العصيان والتجري،والإطاعة والانقياد. وحينئذٍ: الغفلة عن فرد الجامع مع الالتفات بنفسه - ولو بخيال فرد آخر - لا يضر باستحقاق العقوبة وقبحه الفاعلي، ولو صادف الفرد الآخر»((1)).

كما قال في نهاية الأفكار: «من أن التقبيح والعقوبة إنما يكونان على عنوان التمرد والطغيان، وإبراز الجرأة على المولى الذي هو جامع بين التجري والعصيان، لا على خصوص عنوان التجري أو العصيان، كي يقال: إن الأول من جهة الغفلة عنه غير اختياري، والثاني غير متحقق بالفرض. ومن المعلوم بداهة كون هذا العنوان الجامع مما يلتفت إليه المتجري حين إقدامه عليه، فإن القادم على ارتكاب مقطوع المبغوضية قادم على هتك المولى، وعلى الطغيان عليه، غاية الأمر يتخيل تحقق هذا العنوان في ضمن العصيان لغفلته عن الفرد الآخر.... ومن المعلوم أن مثل هذه الغفلة عن فرد الجامع مع الالتفات إلى نفسه غير ضائرة بالتقبيح واستحقاق العقوبة عليه»((2)).

الدليل الخامس: كون التجري مقابلاً للانقياد

إن التجري مقابل للانقياد، وللانقياد ثواب - ولو انكشف خلافه - فمقابله وهوالتجري فيه عقاب؛ إذ المتقابلان فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

وقد اختار هذا الوجه المحقق العراقي، حيث قال: «إنّه لا مجال لإنكار

ص: 109


1- فوائد الأصول3: 44، هامش رقم (1).
2- نهاية الأفكار3: 35.

القبح والعقوبة رأساً - كما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري - إذ هو مع مخالفته لما عرفت من حكم الوجدان بقبح الطغيان على ولي النعمة والإحسان منافٍ لما تسالموا عليه من حسن الانقياد وترتب المثوبة عليه»((1)).

والجواب أولاً: بأنهما ليسا متقابلين؛ إذ الانقياد أعم من مصادفة الواقع وعدمها، والتجري ما لم يصادف((2)).

وفيه: أنه أيضاً كذلك، إلا أنه لمّا كان المصادف منه خارجاً عن النزاع، ومعلوم استحقاق العقاب عليه، فلم يدخلوه في البحث.

ثانياً: بناءً على وجود العقوبة على غير الحرام كالمكروهات، لكن أقل بدرجات من عقوبة الحرام - كما قد يقال إنّه يظهر من بعض الروايات، وأعظمها البعد عنه تعالى((3)) - فبناءًعلى ذلك فنقول: إن التجري فيه عقوبة غير الحرام على نسق الثواب في الانقياد المخالف للواقع، فتأمل.

ثالثاً: إن التقابل إن كان تقابل النقيضين فإن حُكِم لأحدهما بأمر فيعلم حُكم الآخر قطعاً؛ إذ يكون الحكم نقيضاً أيضاً، أما إن كان تقابل الضدين فإن حُكم لأحدهما بحكم فلا يحكم للآخر بنقيضه، بل بضده، فإن كانا ضدين لا ثالث لهما فهو، وإلا فلا يعلم الحكم بمجرد ذلك. نعم، يعلم كليّه

ص: 110


1- نهاية الأفكار3: 37.
2- منتهى الأصول2: 30.
3- انظر: نهاية الدراية في شرح الكفاية1: 542، وفيه: «أقول: مخالفة النهي يوجب البعد مطلقاً غاية الأمر أن التحريمي منه يوجب مخالفته بُعداً من المولى في بعض المراتب، والتنزيهي منه يوجب البعد عنه في بعض المراتب الأخر، كموافقة الأمر اللزومي والأمر الندبي فإنها توجب القرب من المولى بحسب مراتب القرب المترقّب في الواجبات والمستحبات....».

الجامع بين جميع الأضداد، أما تعيينه فلا تكفي هذه القاعدة فيه، بل يحتاج إلى دليل آخر، وفيما نحن فيه الانقياد ليس نقيضاً للتجري، بل ضده ولهما ثالث، وحينئذٍ فلو حكم بالثواب للمنقاد فلا يلزمه العقاب للمتجري.

ورابعاً: إن الثواب فيه تفضلي((1))، فلا مانع من إثابة غير المستحق، أمّا عقابه فهو خلاف مقتضى العدل.

وأشكل عليه: بأنهم صرحوا برجحان الاحتياط بالفعل المأتي بداعي المحبوبية لكونه انقياداً وإطاعة حكمية، حتى أن الشيخ بنى على إمكانتصحيح العبادة المحتملة بهذا المقدار من الحسن العقلي، وهذا ما ارتضاه المحقق العراقي((2)).

ويرد عليه: إنه لا إشكال في حسن الانقياد، لكن الكلام في أنه هل هو مانع عن النقيض بحيث يوجب استحقاق الثواب أو لا؟ ولا تلازم بين الحسن واستحقاق الثواب كما لا يخفى، وحينئذٍ فمجرد رجحان الاحتياط بالفعل المأتي به بداعي المحبوبيّة لا يكفي لتصحيح استحقاق الثواب وعدم كونه تفضلياً.

أما تصحيح العبادة المحتملة بهذا المقدار من الحسن العقلي فليس لأجل أن المنقاد مستحق للثواب، وإنما لاشتراط الحسن في العبادة، بمعنى أنه

ص: 111


1- انظر: مقالات الأصول2: 38، نهاية الأفكار3: 37.
2- انظر: نهاية الأفكار3: 37، وفيه: «... وأمّا توهم أنّ الثواب فيه تفضلي فيدفعه تصريحهم برجحان الاحتياط بالفعل المأتي بداعي المحبوبية؛ لكونه انقياداً وإطاعة حكمية، حتى أنه(قدّس سرّه) بنى على إمكان تصحيح العبادة المحتملة بهذا المقدار من الحسن العقلي».

يشترط أن تكون العبادة راجحة، ولذا التزموا بأن النهي فيها مستلزم لبطلانها لزوال الرجحان والحسن حينئذٍ.

إن قلت: إن الثواب في الواجبات لا يخلو عن أحد أمرين: الانقياد، أو مطابقة الواقع. أما الأول: فالمفروض عدم استحقاق الثواب به.

وأما الثاني: فلازمه الإثابة حتى لو لم يكن مقصوداً، ولا يمكن الالتزامبذلك، وإلا فيلزم إثابة مَنْ قتل عدو المولى خطأ أو في النوم أو نحو ذلك.

قلت : هناك شق ثالث وهو: أن استحقاق الثواب إنما هو على الانقياد المطابق للواقع.

أما إشكال عدم اختيارية المطابقة للواقع فقد مرّ الإجابة عنه، هذا.

مضافاً إلى أن استحقاق الثواب على الواجبات إنما هو لالتزامه تعالى ذلك وإيجابه إياه عليه؛ لأنه تعالى لا يخلف الميعاد، فهو أيضاً تفضلي، وفرقه عن التفضلي فيما حَسُن إنما هو في ذلك، حيث إنه لم يلزم اللّه تعالى ذلك على نفسه، وإنما يتفضل في إعطائه بلا ملزم.

والحاصل: أنه لا يمكن اعتماد هذا الوجه لإثبات الحرمة.

الدليل السادس: الآيات دالة على حرمة التجري

وقد استُدل بجملة من الآيات على حرمته، مما لا ربط لها به أصلاً.

منها((1)): قوله تعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ}((2))، دلت الآية على أن الفؤاد يكون مذنباً أيضاً، وإلا لم يصح العقاب عليه،

ص: 112


1- انظر: بيان الأصول 1: 47.
2- الهمزة: 6 - 7.

والتجري معصية قلبية فيستحق العقاب عليه.

ومنها((1)): قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَوَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُول-ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}((2))، والاستدلال بها كالاستدلال بسابقتها.

ومنها((3)): قوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}((4)).

ومنها((5)): قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}((6))؛ إذ الحب أمر قلبي وعد العذاب عليه، والتجري قلبي أيضاً.

والجواب عن الاستدلال بها واضح؛ إذ الآيات تدل على أن للقلب معاصياً، وأنه مسؤول ، وأنه قد يبتلى بالأثم، وليس معنى ذلك أن كل ما كان جوانحياً فهو حرام، بل الآيات من هذه الجهة مجملة، فالسمع مثلاً - كما دلت الآية الثانية - مسؤول ولكن عن أي شيء؟ فالآية مجملة بالنسبة إليه، وعلى كل حال فالاستدلال بهذه الآيات ونحوها ضعيف جداً، مضافاً إلى تفسير الروايات للآيات بغير ذلك.

وعلى كل حال فبعض الجزئيات لا يثبت الكلي؛ إذ هو لا يكون كاسباً

ص: 113


1- انظر: بيان الأصول1: 46.
2- الإسراء: 36.
3- انظر: بيان الأصول1: 47.
4- البقرة: 283.
5- انظر: بيان الأصول1: 50.
6- النور: 19.

ولا مكتسباً.

الدليل السابع: الروايات دالة على حرمة التجري

ومما استُدل به جملة من الروايات،وهي طائفتان:

الأولى: ما دل على حرمة نية الحرام

مثل: ما ورد في تعليل خلود أهل النار فيها، وخلود أهل الجنة فيها: بعزم كل من الطائفتين الثبات على ما كان عليه من المعصية والطاعة لو خلدوا في الدنيا((1)) .

وكقوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لكل امرئ ما نوى»((2)).

وقوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا عمل إلا بنية»((3)).

ومثل ما ورد : في أن الراضي له إثم والداخل إثمان((4)) .

وكقوله: «مَنْ أسرّ سريرة ألبسه اللّه رداءها، إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر»((5)).

ص: 114


1- انظر: الكافي2: 85 ، ح5، وفيه: ... عن أحمد بن يونس، عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إنّما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أنْ لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً، وإنّما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبداً، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء....».
2- تهذيب الأحكام2: 186، ح2، وفيه: «إنّما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى».
3- الكافي1: 70، ح 9.
4- انظر: نهج البلاغة4: 40، وفيه: وقال (عليه السلام): «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به وإثم الرضا به».
5- الكافي2: 296، ح15.

وقوله: «من أسرّ ما يسخط اللّه تعالى أظهراللّه

ما يخزيه»((1))، أي: العذاب.

الثانية: ما دلت على حرمة التجري

مثل: ما ورد في أنه «إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول اللّه، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لأنه أراد قتل صاحبه»((2)).

ومثل: ما ورد في عقاب مَنْ فعل بعض المقدمات بقصد ترتب الحرام كغارس الخمر((3))، والماشي لسعاية مؤمن((4))، وغيرها.

والجواب: أما عن الطائفة الثانية: فإن الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً((5))؛ إذ بعض الصغريات لا تثبت الكلي، مع قطع النظر عن ضعف السند في بعضها.

ص: 115


1- مستدرك الوسائل1: 98، ح4.
2- علل الشرائع2: 462، ح4، تهذيب الأحكام6: 174، ح25، بحار الأنوار97: 21، ح10.
3- انظر: الكافي6: 429، ح4، وفيه: ... عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الخمر عشرة: غارسها وحارسها وبائعها ومشتريها وشاربها، والآكل ثمنها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها».
4- انظر: الكافي8 : 403، وفيه: «.. اتقوا اللّه أيتها العصابة وإن استطعتم أن لا يكون منكم محرج للإمام، وإن محرج الإمام هو الذي يسعى بأهل الصلاح من أتباع الإمام...». يعني السعاية، يقال: سعى به إلى الوالي إذا وشى به إليه.
5- انظر: فوائد الأصول1 - 2: 31.

وأمّا عن الطائفة الأولى فأجاب السيد العم (دام ظله)((1)):

أولاً: بعضها لا دلالة لها: فإن قوله «إنما الأعمال بالنيات» وقوله «لا عمل إلا بنية» معناه اشتراط النية في العمل، فوزانه وزان «لا صلاة إلا بطهور» فالعمل ليس هو النية، بل هي شرطه، ولولاها لما كان عملاً صحيحاً، فالرواية تثبت الثواب والعقاب على العمل لكن بشرط النية، لا أن النية محرمة.

وأمّا إثم الراضي: فأولاً: هو في أصول الدين، وثانياً: لو كان أعم - ولا نقول به - فإنه يدل على حرمة الرضا بالحرام الواقعي لا الحرام الخيالي.

وثالثاً: إنها معارضة بروايات أخرى - كما مرّ بعضها - فاللازم الجمع بينهما إن أمكن.

نعم، ذلك فرع التكافؤ السندي والدلالي ، وقد ادعى الآشتياني تواتر الطرفين، ولا يخفى ما فيه.

وجوه الجمع بين الطائفتين

اشارة

وجوه الجمع بين الطائفتين((2))

الأول: إن الروايات المحرِّمة إنّما هي في مورد الاَوْل إلى الحرام، وغير المحرمة في غيره((3)).

الثاني: حمل الأخبار الأولى((4)) - الدالة على عدم العقاب - على مَنْ ارتدع

ص: 116


1- انظر: بيان الأصول1: 53.
2- أي: الأولى: التي دلت على حرمة نية الحرام، والثانية: التي دلت على حرمة التجري.
3- انظر: بيان الأصول1: 59.
4- انظر: فرائد الأصول1: 48، وفيه: «ويمكن حمل الأخبار الاُول على مَنْ ارتدع عن قصده بنفسه، وحمل الأخبار الأخيرة على مَنْ بقي على قصده حتى عجز عن الفعل لا باختياره..».

عن قصده بنفسه، وحمل الأخبار الأخيرة على مَنْ بقي على قصده حتى عجز عن الفعل لا باختياره، كما يدل عليه قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا التقى المسلمان بسيفيهما...».

الثالث: حمل الأخبار الأولى((1)) على مَنْ اكتفى بمجرد القصد، والثانية على مَنْ اشتغل بعد القصد ببعض المقدمات.

الرابع: حمل ما دل على نفي العقاب على العفو وعدم فعلية العقاب، وما دل على ثبوته على الاستحقاق.

وأجاب السيد العم «دام ظله» عنها بما حاصله((2)): أنه يرد على الأول: مضافاً إلى أنه جمع تبرعي لا شاهد له، أن بعض الروايات لا يمكن تخصيصها بذلك، فقوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إنه أراد قتل صاحبه، كيف يخصص؟ بل مورده فيما لم يفعل المقتول حراماً سوى نيته.

وعلى الثاني: مضافاً إلى ضعف السند- كما قد يدعى - أن المورد لا يخصص الوارد، فالمورد - وهو عدم الانقلاع عن نية الحرام - لا يخصص الوارد المطلق، وأن بعض الروايات لا يمكن تخصيصها بذلك، كرواية خلود أهل الجنة فيها، وخلود أهل النار فيها.

وعلى الثالث: أن بين التجري والاشتغال بالمقدمات عموماً من وجه، فقد يكون تجرياً بلا مقدمات، وقد تكون مقدمات بلا تجري، ومورد الاجتماع

ص: 117


1- انظر: فرائد الأصول1: 48، وفيه: «أو يحمل الاُول على مَنْ اكتفى بمجرد القصد، والثانية على مَنْ اشتغل بعد القصد ببعض المقدمات، كما يشهد له حرمة الإعانة على المحرم....».
2- انظر: بيان الأصول1: 59 - 61.

تجرٍ مع مقدمات، وما كان أعم من وجه لا يمكن الاستدلال به.

وعلى الرابع: مضافاً إلى أنه تبرعي، أن بعض الأخبار الدالة على الحرمة تدل على فعلية العقاب لا استحقاقه فقط، كما في روايات خلود أهل النار فيها، وقوله: إن الراضي له أثم، وقوله: لأنه أراد قتل صاحبه.

وكما ذكرنا فإن الجمع فرع التكافؤ السندي والدلالي ولا يوجد ذلك، فإن روايات عدم حرمة نية الحرام أكثر عدداً وأقوى سنداً ودلالة، وروايات الحرمة - بعد الغض عن الإيراد في سند أكثرها - جزئيات لا تكون دليلاً على الكلي. نعم، إن تم بعض أدلة الحرمة فتكون مخصصة بروايات عدم الحرمة، فلاحظ.

القول الثالث: ما ذكره صاحب الفصول

وهو مختار صاحب الفصول: فإنّه فصّل بين صورة القطع بتحريم شيء غير محرم واقعاً، فيرجح العقاب بفعله، وبين الاعتقاد بتحريم واجب غير مشروط بقصد القربة، فلا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقاً أو في بعض الموارد، حيث قال: «وأما بالنسبة إلى المحرمات فينبغي القطع بعدم استحقاق الأجر، لا سيما إذا كان من الكبائر، كما لو اعتقد الوثني وجوب عبادة الأوثان، أو المخالف وجوب إطاعة مشايخه، فإنّه لا يستحق الثواب بعمله قطعاً. هذا إذا اعتقد الوجوب أو الندب، وأما إذا اعتقد التحريم فلا يبعد استحقاقه العقوبة بفعله، وإن كان بطريق غير معتبر؛ نظراً إلى حصول التجري بفعله، إلا أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة، فإنّه لا يبعد عدم ترتب العقاب على فعله مطلقاً، أو في بعض الموارد؛ نظراً إلى

ص: 118

معارضة الجهة الواقعية للجهة الظاهرية، فإن قبح التجري ليس عندنا ذاتياً، بل يختلف بالوجوه والاعتبار، فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل، فحسب أنّه ذلك الكافر فتجرى ولم يقدم على قتله، فإنّه لا يستحق الذم على هذا التجري عقلاً عند مَنْ انكشف له الواقع، وإن كان معذوراً لو فعل، وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبي أو وصي فتجرى ولم يفعل، ألا ترى أن المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدو لهفصادف العبد ابنه، وقطع بأنّه ذلك العدو فتجرى ولم يقتله أن المولى إذا اطلع على حاله لا يذمه بهذا التجري، بل يرضى به وإن كان معذوراً لو فعل، وكذا لو نصب له طريقاً غير القطع إلى معرفة عدوه فأدى الطريق إلى تعيين ابنه فتجرى ولم يفعل، وهذا الاحتمال حيث يتحقق عند المتجري لا يجديه إن لم يصادف الواقع؛ ولهذا يُلزمه العقل بالعمل بمقتضى الطريق المنصوب؛ لما فيه من القطع بالسلامة من العقاب، بخلاف ما لو ترك العمل به، فإن المظنون فيه عدمها. ومن هنا يظهر أن التجري على الحرام في المكروهات الواقعية أشد منه في مباحاتها، وهو فيها أشد منه في مندوباتها، ويختلف باختلافها ضعفاً وشدة كالمكروهات، ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعية ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجري»((1)).

ويرد عليه: أولاً: إن قبح التجري ذاتي؛ لانطباق عنوان هتك المولى ونحوه - كما مرّ سابقاً - ولا يعقل انفكاك الذاتي عن ذيه، فلا يمكن أن

ص: 119


1- الفصول الغروية في الأصول الفقهية: 431 - 432.

يكون بالوجوه والاعتبارات.

نعم، لو كانت مصلحة الواقع أهم منمفسدة التجري فتُقدم، لا لزوال المفسدة في التجري، بل لأقوائية ملاك مصلحة الواقع.

إن قلت: معنى ذلك زوال المفسدة فيه للكسر والانكسار، فثبت كلام الفصول، وبطل القول بذاتية قبحه.

قلت: لا يجري الكسر والانكسار ههنا، بل يبقى الفعل على المفسدة التي فيه، لكن رُخص فيها، فلا قبح فاعلي مع بقاء القبح الفعلي، فمثله كمثل ما إذا توقف إنقاذ غريق على غصب حبل الغير، أو الدخول في ملكه مع عدم رضاه، فإن ذلك ظلم قبيح فعلاً، لكن لا قبح فاعلي فيه، لتوقف الأعم عليه، فتأمل.

وثانياً: إن الحسن والقبح مختلف عن المصلحة والمفسدة؛ إذ الحسن والقبح إنما هو فيما لو كان هناك التفات، فإنهما بمعنى استحقاق المدح والذم، وهو في الملتفت فقط، وأما غير الملتفت فلا يجري فيه ذلك، كما لا يخفى.

وحينئذٍ فإن المتجري يكون مستحقاً للذم لما فيه من القبح، وأما الفعل فهو محبوب لما فيه من المصلحة الواقعيّة.

فمثاله فيما لو جزم بوجوب قتل نبي فتجرى فلم يقتله غير تام؛ إذ تجريه على المولى قبيح قطعاً، وإن كان الفعل مشتملاً على مفسدة عظيمة، لكن لا دخل لها في القبح، كما مرّ، فإن بعضالأفعال لا يريد المولى وقوعها في الخارج بأي طريق كان، فتجريه بعدم قتل ابن المولى الذي توهم كونه

ص: 120

عدواً له قبيح، وإن كان عدم وقوع هذا الفعل مطلوباً للمولى، وحينئذٍ عدم العقاب ليس لأجل عدم قبح التجري، وإنما لأجل أن مصلحة عدم وقوع الفعل أقوى من مفسدة التجري.

ومنشأ هذا الكلام هو الالتباس بين التجري والفعل المتجرى به، وقد ذكرنا سابقاً أن التجري قبيح مع بقاء المتجرى به على ما هو من الحسن والقبح، ولا يلزم من ذلك مشكلة اجتماع الضدين، لتخالف الجهة فراجع.

وإن شئت اتضاح عدم زوال مفسدة التجري بمصلحة الواقع الأهم، وإن كان الواقع مقدماً، فلاحظ باب التزاحم، فإنه لم يقل أحد بزوال ملاك المهم، بل المتفق عليه بقاؤه، وإن لم يجز ارتكابه، فتأمل.

وبعبارة أخرى - كما يقال - : إنه لا منافاة بين الوجوب الواقعي وقبح الفعل، إذا دخل تحت عنوانين.

وأجاب الشيخ الأعظم أيضاً بأنه: «لو سلمنا عدم كون التجري علة تامة للقبح، فلا شك في كونه مقتضياً له، كالكذب، وليس من قبيل الأفعال التي لا يدرك العقل بملاحظتها في أنفسها حسنها ولا قبحها، وحينئذٍ فيتوقف ارتفاع قبحه على انضمام جهة يتدارك بها قبحه،كالكذب المتضمن لإنجاء نبي، ومن المعلوم أن ترك قتل المؤمن بوصف أنه مؤمن في المثال الذي ذكره، كفعله، ليس من الأمور التي تتصف بالحسن أو القبح؛ للجهل بكونه قتل مؤمن»((1)).

ص: 121


1- فرائد الأصول1: 43.

وفيه: «إن غفلة المكلف عن مصلحة الواقع إنما تمنع عن تأثيرها في المصلحة بحسب نظره الذي به قوام حكم عقله بالقبح، وإلا فبالنسبة إلى نظر المولى العالم بالواقع والملتفت إلى الجهتين، فلا تمنع غفلة المكلف من تأثير المصلحة، التي هي أهم في نظره في المحبوبيّة الفعلية المانعة عن تأثير التجري في المبغوضية الفعلية والحرمة. نعم، تأثيرها في تحسين الفاعل واستحقاقه بذلك للمثوبة يحتاج إلى التفاتة إلى الجهات المحسنة»((1))، كما قال المحقق العراقي.

ويمكن أن يكون مراد صاحب الفصول لا يعدو مراد القائلين بالقبح والحرمة، وإنما أراد من هذا التفصيل إثبات عدم العقاب على ما لو كان الفعل المتجرى به مشتملاً على مصلحة أعظم من مفسدة التجري، فعبَّر عنه بعدم القبح، كما يشهد لذلك مراجعة أول كلامه، ومراجعة أمثلته((2)).ولا يضرنا إن كان مراده ما كان الظاهر من عبارته، بعدما عرفت من ورود تلك الإشكالات عليه فلاحظ.

ص: 122


1- نهاية الأفكار3: 39.
2- انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: 430.

الثمرة في مسألة التجري

أمّا على القول بقبح التجري ذاتاً ومبعديته، فقد قال المحقق العراقي: «لو قامت أمارة معتبرة على حرمة شيء فلا إشكال في عدم صلاحية العمل المتجرى به حينئذٍ للمقربية، ولو مع إتيانه برجاء مطلوبيته واقعاً، من جهة أنه مع قبحه فعلاً ومبعديته يستحيل صلاحيته للمقربيّة»((1)).

وفيه: إن المحقق العراقي قد اختار إمكان تقدم المصلحة الواقعية على مفسدة التجري - وقد نقلنا كلامه - فأي مانع حينئذٍ من صلاحية العمل للمقربيّة؟ نعم، ما دام لا توجد مصلحة واقعية فلا مقربيّة لتقدم تلك المفسدة.

وأما على القول بعدم الحرمة والقبح ومجرد كشفه عن سوء السريرة فقد يقال بالبطلان أيضاً؛ إذ معنى التقرب هو إتيان الفعل بداعي أمر المولى((2))، وحيث إن الحرمة منجزة عليه فلا يتمكنمن الإتيان بالفعل كذلك.

وفيه: إنه أخص من المدعى؛ إذ لو قطع العبد بالحرمة فيجري ذلك، أما

ص: 123


1- نهاية الأفكار3: 42.
2- انظر: درر الفوائد1: 97، نهاية الأفكار1 - 2: 183.

لو قام الدليل الظني المعتبر على الحرمة، وظن ظناً شخصياً بمخالفته للواقع، فإنه يمكنه الإتيان بالعمل قربة إلى اللّه تعالى برجاء مخالفة الدليل للواقع، فتأمل.

ولذا قال الوالد (دام ظله): «لو قامت أمارة على حرمة شيء، ثم جاء به لرجاء المطلوبية أمكن التقرب به إن كان كذلك في الواقع؛ لعدم التنافي بين سوء السريرة ومقربية العمل، اللّهم إلا إذا دل الدليل على عدم المقربيّة، مثل: مَنْ قضى بالحق وهو لا يعلم...((1))، ومَنْ فسر القرآن برأيه فأصاب...((2))»((3)).

وأما على رأي صاحب الكفاية في التجري، فقد قال المحقق العراقي: «وأما على مختار الكفاية يمكن الالتزام أيضاً بصحة عمله وصلاحيته للمقربية؛ إذ بعد عدم سراية القبح إلى نفس العمل، ووقوفه على نفس العزم على المعصية فلا قصور في صلاحيته للمقربيّة، اللّهم إلا أن يقال بأن قوام مقربية الأعمال بعد أن كان بقصدها فلا محالة يكون مبعدية قصده مانعاً عن

ص: 124


1- انظر: الكافي7: 407، ح1، وفيه: ... عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه رفعه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة....».
2- انظر: وسائل الشيعة27: 202، ح66، وفيه: ... عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «مَنْ فسر القرآن برأيه، إن أصاب لم يوجر، وإن أخطأ خر أبعد من السماء».
3- الأصول: 587.

مقربيّة عمله»((1)).

أقول: إن صاحب الكفاية لم يكتفِ بقبح العزم فقط، بل هتكه لمولاه أيضاً، فالظاهر أن كلامه يكون ككلام المحقق العراقي، ويجري فيه ما جرى فيه.

ص: 125


1- نهاية الأفكار3: 42.

ص: 126

الفصل الثالث: من الفروع الفقهية التي تبتني على مسألة التجري

اشارة

ص: 127

ص: 128

خاتمة

اشارة

نذكر فيها بعض الفروع الفقهية التي ادُعي أو يمكن أن يدعى ابتنائها على مسألة التجري، اقتداءً بالأخ الأستاذ السيد محمد رضا الشيرازي في ذكره المسائل الفقهية المبتنية على مسألة الترتب في كتاب الترتب، كي تتبين الفائدة العملية للمسألة الأصولية، مع قطع النظر عن الفائدة العلمية، فنقول وباللّه التكلان:

قد عرفت فيما مرّ أنه لو قلنا بالحرمة فالمتجري يكون عاصياً يستحق على فعله العقاب، ومع التكرار يسقط عن العدالة، إن لم نقل: إنّه كبيرة، وقلنا بالفرق بينها وبين الصغيرة .

مضافاً إلى ما قد ذكر في ثمرة المسألة من أنّه هل يمكن أن يكون العمل العبادي المتجرى به مقرباً أو لا؟

فلنذكر بعض الفروع التي وجدتها في العروة الوثقى وشروحها المبتنية على المسألة، وإن كانت الفروع أكثر بكثير، فمنها:

مسألة: بطلان الصلاة حال ترك الاستبراء

قال في العروة: «إذا تركت الاستبراءوصلت بطلت، وإن تبين كونها

ص: 129

طاهرة، إلا إذا حصلت منها نية القربة»((1)).

وفي المستمسك: «نعم، لو قلنا بحرمة العبادة على الحائض ذاتاً بنحو يوجب تعذر الاحتياط.... وجب الفحص فراراً عن الوقوع في المخالفة الواقعية من دون عذر، لإمكان الفحص، فلو اغتسلت وصلّت قبل الفحص بطلت صلاتها؛ لفوات التقرب المعتبر فيها؛ لوقوعها على نحو التجري والإقدام على محتمل الحرمة المنجزة.... ولا فرق في بطلان العبادة حينئذٍ بين البناء على جريان أصالة الحيض وعدمه؛ لعدم الفرق بينهما في صدق التجري»((2)).

وفي المهذب: «لا تصح عبادتها قبل الاستبراء ظاهراً؛ لأصالة بقاء الحيض، بل ولو قيل بعدم جريانها في التدريجيات لا يصح أيضاً؛ لإطلاق أدلة وجوب الاستبراء، وينطبق على العمل حينئذٍ عنوان التجري، فتكون متقربة بالمبغوض»((3)).

وفي الفقه: «أما الإشكال على ذلك: بأنه يلزم التجري على تقدير طهارة الباطن، والحرام على تقدير بقاء الحيض؛ لحرمة العبادة حال الدم،والغسل عبادة، ومع الحرمة تجرياً أو عصياناً كيف تنوي القربة؛ إذ لا قربة بالحرام؟ ففيه مواضع للتأمل»((4)).

ص: 130


1- العروة الوثقى1: 591.
2- مستمسك العروة الوثقى3: 258.
3- مهذب الأحكام في بيان مسائل الحلال والحرام 3: 181.
4- الفقه 11: 39.

وفي مصباح الهدى: «ولو نوت الاحتياط وصادف الواقع، فعلى القول بكون العبادة التي منها الغسل حراماً ذاتياً على الحائض تبطل من غير إشكال؛ لعدم محل للاحتياط حينئذٍ، مع كونها محكومة بالحيض بالاستصحاب، وكون الإتيان بها عصياناً أو تجرياً، وعلى أي تقدير لا تتمكن من الإتيان بها على وجه قربي»((1)).

مسألة: لو توضأ أو اغتسل مع اعتقاد الضرر

قال في العروة: «وأما إذا توضأ أو اغتسل مع اعتقاد الضرر أو خوفه لم يصح وإن تبين عدمه»((2)).

وفي مصباح الهدى، بعد حكمه ببطلان الصلاة مع خوف الضرر؛ وذلك لموضوعيته قال: «ولا يمكن تصحيحه((3)) بحرمة التجري؛ لعدم حرمته كما حقق في محله»((4)) .

وفي المستمسك: «إن وقوع الوضوء أو الغسل على وجه المعصية مانع عن صحة التقرب به فيبطل، وتبين عدم الضررواقعاً وإن كان يكشف عن عدم الحرمة واقعاً، لكنه يقتضي وقوعها بعنوان التجرؤ الذي هو كالمعصية الحقيقية في كونه مبعداً ومانعاً من التقرب»((5)).

ص: 131


1- مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى4: 493.
2- العروة الوثقى2: 172.
3- أي: الحكم بالبطلان.
4- مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى7: 183.
5- مستمسك العروة الوثقى4: 337.

مسألة: لو اعتقد الغصبية فصلى

قال في العروة: «إذا اعتقد الغصبية وصلى فتبين الخلاف، فإن لم يحصل منه قصد القربة بطلت وإلا صحت»((1)).

وفي المستمسك: «فإن بُني على قبح التجرؤ واستحقاق فاعله العقاب عليه يتعين القول بالبطلان، وإن حصلت نية القربة»((2)).

وفي الفقه: «واعتقاد الغصبية لا يؤثر في قبح العمل - وإن قلنا بحرمة التجري - فإن التجري حينئذٍ قبيح وحرام، لا الفعل الذي أتى به، فقول المستمسك: فإن بُني على قبح التجري واستحقاق فاعله العقاب عليه يتعين القول بالبطلان، وإن حصلت نية القربة، محل نظر»((3)).

مسألة: لو وطأها بتخيل أنها حائض

قال في العروة: «إذا وطئها((4)) بتخيل أنها في الحيض فبان الخلاف لا شيءعليه»((5)).

وفي الفقه: «نعم، هو تجرٍ، وقد حققنا في الأصول أنه لا عقاب عليه وليس بحرام»((6)).

ص: 132


1- العروة الوثقى2: 369.
2- مستمسك العروة الوثقى 5: 430.
3- الفقه 18: 370.
4- هكذا في المصدر، والصحيح: وطأها.
5- العروة الوثقى1: 610.
6- الفقه 11: 193.

وفي المستمسك: «لانتفاء موضوع الكفارة، ولا دليل على اقتضاء التجري ثبوتها»((1)).

وفي المهذب: «إذ ليس في البين واقع منجز حتى يتعلق به التكليف»((2)).

مسألة: عمل الجاهل المقصر

قال في العروة: «عمل الجاهل المقصر الملتفت باطل وإن كان مطابقاً للواقع»((3)) .

وفي التنقيح : «إن الماتن ذهب إلى بطلان عمل الجاهل المقصر الملتفت وإن كان مطابقاً للواقع، والظاهر أنه استند في ذلك إلى أن المقصر الملتفت لا يتمشى منه قصد التقرب في عباداته»((4)).

وفي المستمسك: «والوجه فيه - مضافاً إلى نفي الإشكال والخلاف فيه ظاهراً، على ما ادعاه شيخنا الأعظم في مبحث العمل قبل الفحص من رسالة البراءة - ما ذكره في ذلك المقام من عدم تحقق نية القربة؛ لأن الشاك في كون المأتي به موافقاً للمأمور به كيف يتقرب به؟»((5)).

وفي المهذب: «ومَنْ يقول بالبطلان في الصورة الأولى فلا بد له إمّا أن يقول بالموضوعية في الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، وهو باطل، أو يستند

ص: 133


1- مستمسك العروة الوثقى3: 331.
2- مهذب الأحكام3: 334.
3- العروة الوثقى1: 20.
4- التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الاجتهاد والتقليد: 197.
5- مستمسك العروة الوثقى1: 35.

إلى بعض الإجماعات المنقولة على البطلان، واعتباره ممنوع، أو يقول: إن البطلان مستند إلى فقد جزء أو شرط أو وجود مانع، وهو خلف، أو مستند إلى اعتبار الجزم في النية، والجاهل غير جازم بها، فيبطل عمله من هذه الجهة»((1)).

وفي الفقه، في العمل التوصلي غير المحتاج إلى قصد الإنشاء: «نعم، هنا فرق من جهة أخرى بين أقسام الجاهل، فإن القاصر والمقصر غير الملتفت حين العمل ليسا معاقبين مطلقاً، أما المقصر الملتفت فإنه لو قلنا بحرمة التجري كان معاقباً من جهته، وإلا فكقسيميه»((2)).

مسألة: لو صلى مع عدم اليقين بدخول الوقت

قال في العروة: «وإذا صلّى مع عدم اليقين بدخوله، ولا شهادة العدلين أوأذان العدل بطلت، إلا إذا تبين بعد ذلك كونها بتمامها في الوقت مع فرض حصول قصد القربة منه»((3)).

وفي كتاب الصلاة تقريرات المحقق النائيني: أما في صورة مصادفة وقوع جميعه في الوقت، ففي صورة ترك المراعاة مع علمه باعتباره، لا إشكال في بطلان عمله؛ لعدم تمشي قصد القربة منه بهذا العمل، مع التفاته بشرطية الوقت وأنه لا بد من اعتباره، وكونه تعمد في ترك مراعاته((4)).

ص: 134


1- مهذب الأحكام1: 32.
2- الفقه 1: 157.
3- العروة الوثقى2: 277.
4- انظر: كتاب الصلاة، للنائيني1: 137، وفيه: «... أما لو دخل في الصلاة عامداً عالماً بعدم دخول الوقت، أو جاهلاً بشرطية الوقت، أو ناسياً لها أو للوقت، فمقتضى القاعدة البطلان لو وقع جزء منها في خارج الوقت، وأما لو وقعت تمام الصلاة في الوقت فالأقوى الصحة في الجميع إن تمشى منه قصد القربة، وإن كان حصول ذلك في صورة التعمد مشكل؛ وذلك لأن الوقت ليس من الخصوصيات القصدية التي يعتبر قصدها في الصلاة، بل ما هو المعتبر في تحقق قصد المأمور به إنما هو قصد الصلاة في هذا الوقت والزمان....».

مسألة: الغسل مع قصد عدم إعطاء الأُجرة للحمامي

قال في العروة: «إذا كان من قصده عدم إعطاء الأجرة للحمامي فغسله باطل، وكذا إذا كان بناؤه على النسيئة من غير إحراز رضى((1)) الحمامي بذلك، وإن استرضاه بعد الغسل»((2)).

وفي المستمسك «نعم، قد يقال بأن الرضا اللاحق يكشف عن ثبوت الحلّ للفعل من حين وقوعه؛ لكون الرضا ملحوظاً بنحو يعم ما لو كان بنحو الشرط المتأخر، لكنه - مع أنّه خلاف ظاهر قوله(عليه السلام): لا يحل مال امرئ... ونحوه لظهوره في مقارنة الطيب للحل - إنّما يوجب صحة الغسل حين وقوعه على تقدير العلم بالرضا اللاحق لا مع الشك؛ لأصالة عدم الرضا، فيكون تجرؤاً مانعاً عن صحة الغسل، على ما هو التحقيق من إيجابه العقاب، وإن تعقبه الرضا واقعاً، فتأمل»((3)).

مسألة: لو ترك طلب الماء مع سعة الوقت وصلّى

قال في العروة: «إذا ترك الطلب في سعة الوقت وصلّى بطلت صلاته،

ص: 135


1- كذا في المصدر، والصحيح: رضا.
2- العروة الوثقى1: 537.
3- مستمسك العروة الوثقى3: 106.

وإن تبين عدم وجود الماء. نعم، لو حصل منه قصد القربة مع تبين عدم الماء فالأقوى صحتها»((1)).

والمسألة مبتنية على ما ذكرناه في ثمرة بحث التجري.

وفي الفقه: «إنّه لا شرط في صورة العدم واقعاً وإنّما تخيل شرط، فهو كما إذا صلي بلا ساتر، ولم يكن ساتر واقعاً، لكنه تخيل أن له ساتراً، وأنّه مكلف بالستر، فإن التكليف يدور مدار الواقع لا الخيال»((2)).

مسألة: وجوب تأخير الصلاة للمستحاضة

قال في العروة: «إذا علمت المستحاضة انقطاع دمها بعد ذلك إلى آخر الوقت انقطاع برء، أو انقطاع فترة تسع الصلاة وجب عليها تأخيرها إلى ذلك الوقت، فلو بادرت إلى الصلاة بطلت، إلا إذا حصل منها قصد القربة»((3)).

والمسألة مبتنية على ما ذكرناه من ثمرة بحث التجري.

وفي مصباح الهدى «فلو بادرت إلى الصلاة فلا إشكال في البطلان مع انكشاف الانقطاع، أو عدم انكشافه أصلاً، وكذا مع انكشاف عدمه إذا لم يحصل منها قصد القربة، وتصح مع حصوله»((4)).

مسألة: لو أفطر يوم الشك ثم تبين أنه من شوال

قال في العروة: «لو أفطر يوم الشك في آخر الشهر ثم تبين أنه من شوال،

ص: 136


1- العروة الوثقى2: 166.
2- الفقه 16: 56.
3- العروة الوثقى1: 632.
4- مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى5: 203.

فالأقوى سقوط الكفارة وإن كان الأحوط عدمه»((1)).

وقد بني البعض المسألة على مسألة التجري((2)).ففي الفقه: «والاستدلال لذلك بأن الكفارة من آثار التجرؤ والتمرد، وهما حاصلان بالإفطار، فيما يرى أنه من رمضان غير تام»((3)) .

هذا، وهناك مسائل كثيرة مبتنية عليه، تظهر عند مراجعة العروة وشروحها.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}((4)).

والحمد للّه ربّ العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين .

ص: 137


1- العروة الوثقى3: 598.
2- انظر: مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم1: 335، وفيه: «.. وملخص الكلام أنّه لا أثر للاعتقاد ولا للحجة الشرعية إذا انكشف خلافها، فإنّ الحكم الظاهري إنما يكون حجة ما دام موجوداً، فإذا تبدل باليقين بالخلاف فلا أثر له. نعم، استحقاق العقاب من جهة التجري أمر آخر، بل ربما يكون ذلك منافياً للعدالة....».
3- الفقه 3: 179 - 180.
4- الصافات: 180 - 181.

ص: 138

فهرس المصادر

* القرآن الكريم.

* نهج البلاغة.

1. أجود التقريرات، تقرير بحث الشيخ محمد حسين النائيني، منشورات مصطفوي، قم، الطبعة الثانية، 1368ش.

2. أصول الفقه، الشيخ محمد رضا المظفر، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة.

3. الأصول، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار المهدي والقرآن الحكيم، الطبعة الخامسة، 1422ق.

4. أوثق الوسائل في شرح الرسائل، الشيخ ميرزا موسى تبريزي، محمد علي التبريزي الغروي، 1397ق.

5. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، الشيخ محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء بيروت، الطبعة الثانية، 1403ق.

6. بحر الفوائد في شرح الفرائد، الشيخ محمد حسن الآشتياني، الطبعة الأولى، قم، 1403ق.

7. بدائع الأفكار، الشيخ ميرزا حبيب اللّه الرشتي، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء1. التراث، قم، الطبعة الأولى.

ص: 139

8. بيان الأصول، السيد صادق الحسيني الشيرازي، دار الأنصار، الطبعة الثانية، 1428ق.

9. تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، تحقيق مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم، 1414ق.

10. التنقيح في شرح العروة الوثقى، الشيخ علي الغروي، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، الطبعة الثانية، 1426ق.

11. تهذيب الأحكام، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، الطبعة الثالثة، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1364ش.

12. جامع المقاصد في شرح القواعد، الشيخ علي بن الحسين الكركي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم، الطبعة الأولى، 1408ق.

13. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن النجفي، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1367ش.

14. حقائق الأصول، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، مكتبة بصيرتي قم، الطبعة الخامسة، 1408ق.

15. دراسات في علم الأصول، السيد علي الهاشمي الشاهرودي، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى، 1419ق.

16. درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، الشيخ محمد كاظم1. الخراساني، مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، الطبعة الأولى، 1410ق.

ص: 140

17. درر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الخامسة.

18. رسائل الشريف المرتضى، السيد المرتضى، دار القرآن الكريم، قم، 1405ق.

19. روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، الشهيد الثاني، بوستان كتاب قم، الطبعة الأولى، 1422ق.

20. العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، مع تعليقات عدة من الفقهاء العظام، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1417ق.

21. علل الشرائع، الشيخ الصدوق، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف، 1385ق.

22. فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، الطبعة الأولى، 1419ق.

23. الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1363ق.

24. الفقه، موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم للتحقيق والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1417ق.1.

25. فوائد الأصول، الشيخ محمد علي الكاظمي، مع تعليق: الشيخ ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404ق.

26. الفوائد المدنية والشواهد المكية، الشيخ محمد أمين الأسترآبادي، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1424ق.

27. القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية، الشيخ محمد بن مكي

ص: 141

العاملي المعروف بالشهيد الأول، مكتبة المفيد، قم.

28. الكافي، الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الثالثة، 1388ق.

29. كتاب الصلاة، تقرير بحث الشيخ محمد حسين النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1411ق.

30. كتاب القضاء، الشيخ ميرزا حبيب اللّه الرشتي، دار القرآن الكريم، قم، 1401ق.

31. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلامة الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة السابعة، 1417ق.

32. كفاية الأصول، الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني، تحقيق وتعليق الشيخ عباس علي الزارعي السبزواري، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة السادسة، 1430ق.1.

33. كفاية الأصول، الشيخ محمد كاظم الخراساني، تحقيق مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث.

34. كفاية الفقه، المشتهر ب- (كفاية الأحكام)، الشيخ محمد باقر السبزواري، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1423ق.

35. المبسوط في فقه الإمامية، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

36. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، تحقيق: مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث،

ص: 142

الطبعة الأولى، 1410ق.

37. المراسم العلوية في الأحكام النبوية، للشيخ حمزة بن عبد العزيز الديلمي، المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام)، 1414ق.

38. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع إسلام، الشيخ زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، الطبعة الأولى، 1413ق.

39. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الشيخ ميرزا حسين النوري، تحقيق مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1408ق.

40. مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، مكتبة1. السيد المرعشي النجفي، الطبعة الرابعة، مطبعة الآداب النجف الأشرف، 1404ق.

41. مستند الشيعة في أحكام الشريعة، الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، مشهد المقدسة، الطبعة الأولى، 1415ق.

42. مستند العروة الوثقى، الشيخ مرتضى البروجردي، الناشر لطفي، المطبعة العلمية، قم، 1364ق.

43. مصباح الأصول، السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي، مكتبة الداوري، قم، الطبعة الخامسة، 1417ق.

44. مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى، الشيخ محمد تقي الآملي، الطبعة الأولى، 1377ق.

ص: 143

45. مطارح الأنظار، الشيخ أبو القاسم كلانتر، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، الطبعة الأولى، 1404ق.

46. مفاتيح الأصول، السيد محمد بن علي الطباطبائي المجاهد، مؤسسة آل البيت، الطبعة الأولى، 1296ق.

47. مقالات الأصول، الشيخ ضياء الدين العراقي، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1414ق.

48. من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، منشورات جماعة المدرسين، الطبعة1. الثانية.

49. منتهى الأصول، الشيخ حسن البجنوردي، مؤسسة العروج، طهران، الطبعة الأولى، 1380ش.

50. المنطق، الشيخ محمد رضا المظفر، مؤسسة النشر الإسلامي.

51. منهاج الصالحين، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1410ق.

52. مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، مؤسسة المنار، الطبعة الرابعة، 1413ق.

53. نهاية الأفكار، الشيخ محمد تقي البروجردي، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة.

54. نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، انتشارات سيد الشهداء، قم، الطبعة الأولى، 1374ش.

55. نهاية النهاية في شرح الكفاية، الشيخ علي الإيرواني، مؤسسة الإعلام

ص: 144

الإسلامي، الطبعة الأولى، 1370ش.

56. النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، انتشارات قدس محمدي، قم.

57. هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الأصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي.

58. الهداية في الأصول، تقرير أبحاث1. السيد أبو القاسم الخوئي، تحقيق ونشر: مؤسسة صاحب الأمر، قم المقدسة، الطبعة الأولى، 1417ق.

59. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، قم، الطبعة الثانية، 1414ق.

60. الوسيلة إلى نيل الفضيلة، الشيخ محمد بن علي الطوسي المعروف بابن حمزة، مكتبة السيد المرعشي النجفي، قم، 1408ق.

61. الوصائل إلى الرسائل، السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة عاشوراء، قم، الطبعة الثانية، 1421ق.

ص: 145

ص: 146

فهرس المحتويات

مقدمة الناشر...5

المقدمة...7

الفصل الأول: في عناوين مسألة التجري

أصولية المسألة...11

الإيرادات على عناوين مسألة التجري...12

ما يرد على العنوان الأول...12

ما يرد على العنوان الثاني...17

ما يرد على العنوان الثالث...22

ما يرد على العنوان الرابع...25

ما يرد على العنوان الخامس...27

قاعدة الملازمة...30

سلسلة المعاليل...48

تنبيهات...54

الأول: جريان التجري في الطريقي والموضوعي...54

الثاني: في أقسام القطع...54

الثالث: في استحقاق المتجري العقاب في الواقع...55

الرابع: في كون التجري كاشفاً عن سوء سريرة فاعله...56

الخامس: في محل النزاع في التجري...56

السادس: قوام التجري هو الحجة...70

السابع: في كون المتجري فاسقاً أو لا...76

الفصل الثاني: الأقوال في التجري وأدلتها

الأقوال في التجري...83

أدلة القول الأول...84

ص: 147

الدليل الأول: المتجري ليس مرتكباً للحرام عرفاً...84

الدليل الثاني: حرمة التجري تستلزم التسلسل...86

الدليل الثالث: اجتماع حرمتين وعقابين على المتجري...87

الدليل الرابع: يستلزم من وجود حرمة التجري عدمها...94

أدلة القول الثاني...95

الدليل الأول: التجري هتك لحرمة المولى...95

الدليل الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم...100

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق السبزواري...103

الدليل الرابع: وجود القبح الفاعلي في التجري...106

الدليل الخامس: كون التجري مقابلاً للانقياد...109

الدليل السادس: الآيات دالة على حرمة التجري...112

الدليل السابع: الروايات دالة على حرمة التجري...114

وجوه الجمع بين الطائفتين...116

القول الثالث: ما ذكره صاحب الفصول...118

الثمرة في مسألة التجري...123

الفصل الثالث: من الفروع الفقهية التي تبتني على مسألة التجري

خاتمة...129

مسألة: بطلان الصلاة حال ترك الاستبراء...129

مسألة: لو توضأ أو اغتسل مع اعتقاد الضرر...131

مسألة: لو اعتقد الغصبية فصلى...132

مسألة: لو وطأها بتخيل أنها حائض...132

مسألة: عمل الجاهل المقصر...133

مسألة: لو صلى مع عدم اليقين بدخول الوقت...134

مسألة: الغسل مع قصد عدم إعطاء الأُجرة للحمامي...135

مسألة: لو ترك طلب الماء مع سعة الوقت وصلّى...135

مسألة: وجوب تأخير الصلاة للمستحاضة...136

مسألة: لو أفطر يوم الشك ثم تبين أنه من شوال...136

فهرس المصادر...139

فهرس المحتويات...147

ص: 148

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.