ص :2

الوعی الاسلامی

ص :3

تالیف حسن شیرازی

ص :4

ص:6

بسم الله الرحمن الرحیم

الاخری فی بوتقتها بکل سهولة وبساطة.

کما ان الامة الاسلامیة فی ابتداء بعثة الرسول الاعظم لم تکن تملک حضارة ولا ثروة ولکنها حیث سارت علی خطط الاسلام والقرآن حکمت فی ربع المعمورة وانشأت الحضارة والثروة الهائلتین.

اما الامم التی تدین بمبدأ فاسد فإنها وان سنحت لها الظروف المؤاتیة وفراغ المیدان ان تملک الحضارة والثروة، وتصل الی الاکتشافات العلمیة والمخترعات الصناعیة.. لکنها ستنتهی فی اشواطها الی حروب طاحنة تخسر فیها کل شیء حتی شخصیتها وکیانها.

والتاریخ یحدثنا: ان (الفراعنة) رغم حضارتهم وثرواتهم الزاخرة کیف اندحروا امام النبی العظیم موسی بن عمران وهو یشرح لنا انهزام (بنی اسرائیل) تجاه الرسول الاقدس عیسی بن مریم...

ویبین لنا ان (الفرس) و (الروم) وما شیّدوها من حضارة وثروة کانت تلفظ انفاسها الاخیرة فی نفس المجازر الشاسعة التی ارصدتها للوقوف فی طریق ثورة النبی الاعظم صلی الله علیه وآله.. کما یحدثنا عن فشل المغول و (اللویسیین) و (النازیین) وغیرهم من الذین حفل بهم التاریخ وازدهرت الحضارة فی وجوههم وزحفت الثروات من اکناف العالم کی تتکدس بین ایدیهم.. فلم تغن حضارتهم واموالهم وشعوبهم من واقع الحیاة شیئاً..

وذهب مصیرهم الباکر عبرة الاجیال.. حیث لم یکن لهم مبدأ صحیح یسیّرهم وفق نظام یضمن لهم البقاء والخلود.

ص:8

أما الاشتراکیة، والرأسمالیة الدیمقراطیة, فالیوم یتجولان فی رحاب الحیاة، حیث لا مبدأ ینازلهم المیدان، ولو قُدّر للاسلام یوماً - کما هو المقدر انشاء الله تعالی - ان یقبض علی زمام الامر ویمسک بخیوط المؤامرات التی یحیکونها ضد الشعوب ویعلن للعالم تناقضاتهم وسیئاتهم وما ینطلون علیه من خداع وتشویه للحقائق لرأی الناس ان الاشتراکیة والرأسمالیة کیف تتضاءلان امامه وتتهافتان علی اعتابه.، ثم یبقی تاریخهم اضحوکة القرون ومهزلة المتفکهین والمسلمون - الیوم - یملکون اکبر ثروة مفتتة مجمدة ولدیهم مبدأ ومناهج لو نفّذوها لأجری ثروتهم فی مسالک الحیاة وشیّد لهم حضارة نادرة تنحسر عنها الانظار والافکار - کما جربوه من قبل - غیر ان ذلک المبدأ لا وجود له فی واقع الحیاة وانّما هو مذخور فی بعض الکتب والصدور.. وسائر المسلمین یعتبرون مسلمین لانهم یقولون: اشهد ان لا اله الا الله، واشهد ان محمداً رسول الله.

اما الافکار الاسلامیة، فیعرفونها فلسفة مثالیة فارغة لیس علیهم ان یدرسوها، وانما ذلک شأن الفلاسفة فحسب.. وامّا الشعائر الدینیة العامة، فیزعمون انها من وظائف رجال الدین.. واما الفرائض الدینیة فیؤجلونها الی أوان الشیخوخة والمشیب، والشاب ما دام فی غضون الشباب ف - (کان الله غفوراً رحیماً...)... وأمّا القسم الآخر من الاسلام، فملفق من قبل اناس نفعیین.. واما الاقتصاد والاجتماع والسیاسة وما شاکلها، فلا یربطها الی الاسلام، فبینها وبین الاسلام شقة واسعة ومن نسبها الی الدین فقد ابتدع فی الدین، لانها اطروحة مدخولة فی الاسلام ولیست من الاسلام.

ص:9

والبعض الآخر من المسلمین الذی عرف شیئاً من الاسلام فیحسب انه لا ینفعه فی القرن العشرین، وانما کان من صالح القرن العاشر.

هکذا الاستعمار الکافر صوّر الاسلام ضحلاً هزیلاً فی اعین المسلمین حتی اصبح ذلک طابعهم الاصیل والمستوی العام لوعیهم الاسلامی، وکذلک اصبحوا فاقدین للفکرة الاسلامیة الکاملة, ولأیة فکرة أخری، وانّما امسوا أذناباً لمن یسودهم، وعیالاً علی من یکفلهم ولم یعرفوا غیر هذه العیشة المضنیة التی اسهر الاستعمار علی ان یبقیهم علیها، فهم یبحثون عمن یتبعونه ولا یطلبون من یتبعهم، فکان طبیعیاً ان یتلونوا کل یوم بلون وان ینجرفوا مع کل تیار یمر ببلادهم لانهم ذلک المبدأ الذی یسیر ثروتهم ویبنی علیها حضارة وکیاناً.

اما سیاستهم الاقتصادیة، فانها - بحکم الاستعمار السافر او المتلصص فی بلادهم - رأسمالیة لم تتزحزح منذ ان وضع المستعمر الکافر قدمه فی بلادهم،... ولقد حاول البعض ان یوفق بین احکام الاسلام وبین القوانین الرأسمالیة حتی وصل الی حد الشعور بعجز الاسلام عن ایجاد المعالجات للمشاکل المتجددة، ثم حکم بضرورة اتخاذ المعالجات الرأسمالیة کما هی الان - دون حاجة الی محاولة التوفیق... ولا ضیر فی ترک الاحکام الاسلامیة لانها (فی نظره) قاصرة عن مجاراة الرأسمالیة والاشتراکیة.

وبقی القسم الاخر حتی الیوم یعتقد امکان التوفیق بین الاقتصاد الاسلامی والرأسمالی،. ولکنه سینتهی الی ما انتهی الیه صاحبه وسوف یفشل فی هذه المحاولة.

ص:10

کما ان جماعة من المفتونین بالنظام الاشتراکی، اطلقوا الاحکام الطائشة باتفاق الاقتصاد الاسلامی والاشتراکی علی معالجات موحدة للمشاکل الاقتصادیة واتخذوا من علی علیه السلام وابی ذر بطلین اشتراکیین..

والواقع: ان هؤلاء اناس لم یعرفوا الاسلام - رغم انهم نشأوا فی أحضانه - واتفقت الرأسمالیة أو الاشتراکیة مع میولهم، ومصالحهم الفردیة فحاولوا ان یبرروا موقفهم أو یجرفوا الاخرین معهم بمثل هذه الاکاذیب التی تنم عن الضمائر العفنة، والعقول الاسنة القذرة.

واذا کان ذلک مبلغ المسلمین من الاقتصاد الاسلامی وموقفهم من المبدأ الاسلامی.. فمعناه: ان لا وجود لمبدأهم فی واقع حیاتهم ومتی کان ذلک فلن یسودوا مهما تعددت منابعهم، وحضارتهم المدنیة لانها لاتجد قیادة تسیرها وفق نظام منتج ینقذهم من الجهل والفقر والتقشف ویدرأ عنهم المآسی والویلات.

فمتی ضاقوا بهذه الحیاة النکدة التعیسة علیهم ان یستسلموا لمبدأهم وینطلقوا فی الحیاة وفق أوامره وزواجره.

من هنا کان الواجب یحتم علینا.

1 - أن نستعرض صوراً واضحة عن الاقتصاد فی النظام الرأسمالی والاشتراکی وننوه الی تناقضهما مع الاسلام فی النقاط المرکزیة التی لاتقبل التأویل والتزویر.. لیعلم المأجورون والمغفلون ان الاسلام لیس رأسمالیاً ولا اشتراکیاً، ولن یتفق معهما ابداً، اضافة علی ما فیهما من اخطاء... واخطاء...

ص:11

2 - ان نفصل شطراً عن الاقتصاد الاسلامی ونشرح کیف انه یستقل بتنظیم الحیاة الاقتصادیة ویعالج المشاکل الحاضرة وفق نظام دقیق یرفع المستوی الاقتصادی للمجتمع الی درجة لا یمکن ان یتقاربها المجتمع الاشتراکی او الرأسمالی.

کما سنبحث فی الجزءین الاخیرین من هذا الکتاب عن جانبین اخرین للاسلام لنرفع الستار عن وجوه المتنطعین والمستغلین الذین یغالطون ضمائرهم ثم یسرقون رکائز الاسلام لیتباروا بها ویبیعوها علی الاسلام فیجلبوا بذلک اکبر عدد ممکن من المؤمنین من حضائرهم المقدسة الی مساقط المجرمین.

السید حسن الشیرازی

کربلاء

1379/8/17 ه -

ص:12

ص:14

وقد حاولنا ان ننظر الی الاقتصاد الاسلامی من الزوایة المادیة لینسجم مع الاقتصاد الاشتراکی والرأسمالی المادیین حین التقارن.. واهملنا النواحی المعنویة - مؤقتاً - لغیر اشعار.

واقتصادیات الاسلام تدور حول فکرة واحدة هی: تکوین مجتمع متقارب الطبقات, اعنی تأمین المصالح العامة: إلغاء الفقر والمرض.. ولا یفقر الغنی، بل یغنی الفقیر.

واقتصادیات الاسلام فکرة بین الاشتراکیة والرأسمالیة - او غیرهما تماماً - سبقتها الاشتراکیة ففشلت، وتأخرت عنها الرأسمالیة فسقطت.

وهذا الدستور هو النظام الوسط.. یکون حجة علی الناس ومهیمناً علی النظامین یکشف ما فیهما من مروق وجمود.

طبیعة المال:

طبیعة الثروة ان تتکدس فی جانب وتنحسر عن جانب.. تبعاً لاختلاف الاعمال والافکار والاسالیب - الی حیث تری الکلب المدلل یرفل فی الحریر, ویمرح فی ضیاء الکهرباء، وینعم باحدث المدافئ والمکیفات، فی الوقت الذی نجد الطفل البریء - خلف سیاج البیت نفسه - ینفض حیاته تحت وطأة الجوع، ولفحة الهجیر، او لدغة الثلوج وفی ذلک فساد المجتمع, فحیثما تکدست ثروة فائضة لا بد ان تبحث عن مسارب ومصارف فتأخذ طریقها الی شهوات الفرد واحلامه الفاجرة, عند ذلک ینفلت التوازن عن المجتمع - ولا تستطیع ان تعیده السلطة والنظام - ویوزع الی حلقات المترفین الجشعین وفریق الامعّات

ص:16

والطفیلیین وقافلة الرقیق والنخاسین..(1) وموکب الابطال الذین یکیدون لهؤلاء جمیعا..

ثم یأتی - بعد ذلک دور السرقات والفقر والجهل والمرض.. والاوبئات المتطایرة مع الریح فی کل مکان, ثم الثورات!!!

فهذه مشکلة عالمیة یجب معالجتها من قبل المسؤولین.

الوصفات:

وقد حاول علاجها الرأسمالیة, الاشتراکیة, الشیوعیة, الاسلام وقام کل منها بدور ایجابی جریء...! فلننظر من التائه؟ ومن المصیب؟

ص:17

ص:18

یعنی بها ان یعیش الناس احراراً فی افکارهم وعقائدهم.

ولسنا بصدد عرض النظام الرأسمالی الدیمقراطی بما فیه من حریات تؤول الی عبودیات وانما نبحث عن الحریة الاقتصادیة بهذا التفسیر الذی قرر - للشعوب - المآسی والویلات.

ومتی استعرضنا النظام الاقتصادی لدی الرأسمالیین وجدنا الاقتصاد لدیهم مجموعة مباحث عن:

1 - حاجات الانسان.

2 - وسائل اشباعها: (السلع والخدمات).

3 - کیفیة توزیع وسائل الاشباع علی الحاجات(1).

ص:20

حاجات الانسان:

یقررون ان للانسان حاجات الی اشیاء شتی فلا بد من اشباعها بالنسبة الی جمیع الافراد, وهذه الحاجات:

1 - قد تکون محسوسة ملموسة للافراد کحاجتهم الی الطعام والکسوة والمسکن...

2 - قد تکون محسوسة ملموسة للافراد کحاجتهم الی الطعام والکسوة والمسکن...

تکون محسوسة غیر ملموسة کحاجة الانسان الی الطبیب والنظام...

وبعد ذلک تنقسم الحاجات الی:

1 - الحاجات الضروریة للانسان والتی لا بقاء له إلا باشباعها، کحاجته الی الغذاء والکساء والدواء...

2 - الحاجات (الکمالیة) والتی تتزاید وترتقی مع المدنیة والحضارة کحاجة الانسان الی السیارة, القصر, الخادم, الفاکهة، العطور, المنازه...(1)

ص:21

هذه الحاجات تنمو وتتضاعف ولا یمکن اشباعها اشباعاً کلیاً حتی ولو وفرنا خیرات العالم لفرد واحد. وبما أن هذا النظام مادی دیمقراطی یری لکل فرد الحق فی اشباع حاجاته باقصی ما یمکنه السیطرة علی وسائل الاشباع وبأی اسلوب یستطیع به من تحصیلها.

وسائل الاشباع:

أما وسائل اشباع هذه الحاجات فیطلق علیها - عند الاقتصادیین الرأسمالیین - اسم (السلع) و (الخدمات) فالسلع وسائل الاشباع للحاجات المحسوسة الملموسة کالقمح، الارز، الرمان.. والخدمات وسائل الاشباع للحاجات المحسوسة غیر الملموسة کالهندسة التطیب التعلیم...

أما الذی یجعل السلع والخدمات صالحة للاشباع فهو - عندهم - (المنفعة) حتی اذا توفرت فی شیء جعلته صالحاً للاشباع، فالشیء النافع - اقتصادیاً - کل ما یرغب فیه سواء أکان مضراً أم نافعاً لدی الرأی العام، وفی نظر الدین والاخلاق فانه یعتبر نافعاً مادام هنالک راغب یبذل بازائه الثمن، ف - (الخمر) سلعة نافعة - من الوجهة الاقتصادیة الرأسمالیة - کما ان (الزنا) خدمة نافعة فی نظرها - و (الحانات) و (المواخیر) لا تختلف - عندها - عن المطاعم والمستشفیات...

فکلها یشبع الحاجات ویؤدی انتاجاً شریفاً - فی رأی الاقتصاد -.

ص:22

فالاقتصادی ینظر الی الاشیاء من الزاویة المادیة فحسب، ولا یطل علی المجتمع من فوق، حیث یشرف علی الجمیع فی نظرة واحدة حتی یستطیع من مقایسة المنافع بالمفاسد لیضع کل شیء فی موضعه.

هکذا یری الراقصة والمعلمة تخدمان الاجتماع، وتنتجان ما یجد راغباً یبذل له الثمن، کما یوقف المقامر بجانب الفلاح فکلاهما ینتج ما یشبع رغبة وبعد ذلک فلا یفرق بینهما شیء.!

تلک هی الحاجات ووسائل الاشباع غیر ان الاقتصاد الرأسمالی یواجه - الآن -.

مشکلة الندرة:

النسبیة للسلع والخدمات بالنسبة الی حاجات الافراد وما دامت السلع والخدمات لا تشبع حاجات الجمیع فالنتیجة الحتمیة لها: أن تشبع حاجات الاغنیاء بأکبر قدر ممکن من وسائل الاشباع، بینما تبقی حاجات الفقراء معطلة یعوزها حتی الخبز. واذا کانت وسائل الاشباع أقل من الحاجات فمن الطبیعی أن یکثر الطلب ویقل العرض فترتفع الاسعار وتقصر عنها الایدی الفقیرة - من هذه الناحیة أیضا - فیتضخم عدد ضحایا الخبز وتشیع الجرائم والوفیات والمرض فی سبیله.

فلا بد - إذن - من تقریر مصیر للقضاء علی هذا القصور الاجتماعی وذلک لا یکون الا بتقویة جهاز الانتاج حتی تتوفر السلع والخدمات وتسع الجمیع,

وتشبع حاجات الاغنیاء اشباعاً کلیاً، عندما تشبع الحاجات الاساسیة - فقط - للفقراء وذلک أقصی ما یبلغه الاقتصاد.

ص:23

اطلاق التجارة:

أما توفیر السلع والخدمات فلا یکون إلا بأطلاق التجارة الحرة فی الاسواق العالمیة، والموضعیة، وشتی مجالات الاقتصاد.

ذلک ان المصلحة العامة الفردیة أقوی حافز للتفکیر، والعمل من أجل تضخیم حجم الانتاج، وتحسینه مع تخفیض المصارف والنفقات فالانسان اذا علم ان فائض أعماله لا تغتصب منه ورأی منافسیه قد احتکروا أکبر ثروة رابیة نتیجة الدأب المتواصل عبر الشهور والسنین سوف تعصف فی دمه النخوة، والغیرة علی المال ولا یستقر قلبه، ونفسه، وشهوته حتی یبذل فوق المستحیل، ویفرغ امکاناته ومواهبه حتی الثمالة لیسبق أقرانه فی کل مجال فیصبح أوحداً لا یدانیه أحد وذلک لا یکون الا بأشغال أکبر عدد من العمال، واستخلاص الطاقات المعطلة, فیکون فی اطلاق التجارة الحرة علاج ل -:

1 - مشکلة الندرة النسبیة للسلع والخدمات بالنسبة الی الحاجات العامة.

2 - مشکلة الایدی العاطلة والفقر الناتج من العطل.

3 - مشکلة الطاقات المعطلة.(1)

ص:24

.........................................................................

ص:25

تحسین الموارد:

کما أن التنافس التجاری کفیل بتحسین الانتاج, فکل شرکة أفرد یسعی فی تحسین بضائعه لیجلب رغبة المستهلکین فیصرفها بأبلغ ثمن.

وکذلک یتم توفیر الانتاج وتحسینه.

میکانیکیة الثمن:

والثمن - بواسطة التجارة الحرة - یمارس شوطاً ناجحاً فی معالجة المشاکل الآتیة:

1 - تعیین نوع الانتاج.

2 - تقسیم الاعمال

3 - تحدید الاسعار.

4 - توزیع البضائع علی المستهلکین.

5 - توفیر أجور العمال والمستخدمین.

تعیین نوع الانتاج:

أما الدور الذی یقوم به جهاز الثمن فی تعیین نوع الانتاج وکمیته، فهو: أن الحافز الرئیسی للمنتجین فی القیام بأی مجهود أو أیة تضحیة فی سبیل الانتاج أنما هو مکافأته بما یصلح للاشباع أو الحصول علی الثمن - علی ما هو الغالب - ومتی کان الثمن العامل الوحید فی الانتاج فمن حریة المستهلکین ان لا یبذلوا

ص:26

الثمن إلا بازاء نوع خاص وکمیة معینة من الانتاج - فمثلاً - أن المستهلک الذی یرغب عن (التبغ) یمتنع عن شرائه ویعوض أمواله بالفواکه - مثلاً - واذا أضرب المستهلکون جمیعاً عن استهلاک التبغ وأقبلوا علی استهلاک الفواکه کان من الطبیعی أن یقف أنتاج التبغ ویهمله المنتجون ایضاً، عندما یتضاعف نشاطهم علی أنتاج الفواکه من تلک الانواع الخاصة التی تتوافد الیها الرغبات وبتلک الکمیات المعینة التی یستهلکها الناس.

هکذا یقرر المستهلکون کمیة الانتاج، ونوع الانتاج، ویفرضون علی المنتجین تعدیل نشاطهم وفق رغبات المستهلکین, وهذه العملیات تنفذ علی أثر انجازات من جهاز الثمن.

تقسیم الاعمال:

ومن بنود الاقتصاد الرأسمالی: لا یأکل إلا من ینتج فعلی الفرد أن یسعی فی اشباع حاجاته سوی العجزة وحب الذات یقرر نظاماً طبیعیاً یحفز کل فرد علی اطلاق غرائزه ومیوله بالتنعم بأکبر قدر من المتاع، وهو لا یتوفر إلا عن طریق العمل. فهذان العاملان یفرضان علی المرء الدؤوب فی العمل والتفکیر المتواصلین لازادة کمیة الانتاج وتحسینه مع تقلیل تکالیفه ونفقاته. وهکذا ینهض بقسم من الاعمال حسب ما تسمح له مواهبه وامکانیاته.

کذلک یقوم کل فرد من الافراد بما یستطیع من العمل کما یستوفی بمقدار عمله من الارباح.

ص:27

تحدید الاسعار:

للثمن - فی نظر الاقتصاد - مکانة آلیة فی الاحتفاظ بالمستوی الطبیعی للبضائع بالنسبة الی القیمة حتی لا یدع للمنتجین حریة تحدید الاسعار حتی لا یرفعوها بوحی من نهمهم القاسی الی ارفع مستوی, وذلک ان المادة الانتاجیة متی قلت تکالیف انتاجه وتحسینه، کثر عرضه علی المستهلکین، واذا ارتفع سعره عن مقدار اشباعه للحاجة مع الاحتفاظ بکون الحاجة ضروریة أو کمالیة فکل الراغبین یمتنعون عن استهلاکه الا بالمقدار الضروری، فلا بد للمنتج من احد مصیرین بالنسبة الی الباقی إما ان تبقی بضاعته من دون مستهلک حتی تبور ویخسر، أو ان یخفض السعر حتی یبلغ المستوی العادل بالنسبة الی العرض والطلب, ومتی علم المنتج التنافس التجاری الحر ورفض المستهلکین بضائعه إلا بالسعر المعین بادر الیه قبل ان یلحقه الخسران.

کما ان قلة العرض وکثرة الطلب للمادة الاستهلاکیة تدعوان الی ارتفاع السعر لیبلغ مستواه الطبیعی العادل بالنسبة الی الحاح الحاجة التی تشبعها هذه البضاعة.

توزیع البضائع:

وحیث ان المنتوجات العامة لا تسع لاشباع الحاجات العامة والثمن معدل المجهودات فالانسان لا یستطیع ان یحصل علی الثمن الا بمعدل مجهوداته الانتاجیة، کما لا یقدر علی استهلاک المواد الا بمقدار ما یحصله من الثمن.

ص:28

فهو فی الحقیقة یستبدل مجهوداته بمجهودات غیره وبمقتضی هذا النظام لا یستطیع احد ان یستهلک اکثر مما ینتج.

هکذا یقدر الاستهلاک بمعدل الانتاج حتی توزع البضائع علی الجمیع ویتمکنوا من اشباع حاجاتهم.

تحدید الاجور:

والثمن هو القاعدة التی یتواضع علیها المنتجون الفردیون او الشرکات مع العمال والمستخدمین بما یضمن لهم اشباع حاجاتهم, فالعامل او المستخدم لا یقوم الا بعمل یتکفل اشباع حاجاته الاساسیة - فی الحد الادنی - حتی لو اراد الرأسمالی استخدامه بأقل من ذلک أضرب عن العمل والتنافس الحر یحفز المنتج الاخر علی استخدامه بما یتفقان علیه فیفصل الرأسمالی الاول عن حلبة الانتاج، ولا تمهد له طریق العودة الی زمرة المنتجین الا بعد ان یوفر للعامل من الاجور ما یستقل بالترفیه عن حاجاته.

غیر ان الاجور ربما تختلف تبعاً لاختلاف الجهود التی یبذلها العمال والمستخدمون حسب القوانین الطبیعیة للعرض والطلب - فمثلاً - ان الاعمال التی ینفقها الکادحون من العمال کثیرة العرض لکثرة العمال وکثیرة الطلب لکثرة المنتجین ایضاً -، لذلک تقابل بأثمان ضئیلة. أما الخدمات التی یتقدم بها المهندسون فقلیلة العرض لندرة المهندسین وکثیرة الطلب لازدیاد عدد المنتجین الذین تعوزهم الهندسة لهذا تعادل بأجور طائلة حتی ان ارباح المهندس تدر علیه الموارد التی تشبع حاجاته الاساسیة وشطراً من حاجاته الکمالیة بینما العامل لا یوفق الا لکف حاجاته الضروریة بکل قنوع وتقتیر.

ص:29

هذه هی الخطوط العریضة لفلسفة النظام الاقتصادی الرأسمالی الدیمقراطی التی طالما تبجح بها الکثیرون رافعین عقیرتهم الخشناء قبل ان تقبض علی دست الحکم وتظفر بسیادة الشعوب، وما ان فتحت طریقها الی مخطط الحیاة إلا وانکشفت عن سیئات واخطاء استمرت حتی الیوم لعنة الشعوب رغم التعدیلات التی تواردت علیها من قبل کل مقنن ومفکر.

وسنلمح - الان - الی فشل هذا النظام وسیئاته، واخطائه المفضوحة وما فیه من عجز ومناقضات.

فشل الرأسمالیة:

ان مهمة النظام الاقتصادی - سواء أکان رأسمالیاً، او اشتراکیاً، او اسلامیاً - هی الغاء الفقر عن المجتمع لا ازدیاد حجم الانتاج ولا توفیر ثروة البلاد ولا ای شیء اخر، فأنها تخص علم الاقتصاد. اما النظام الاقتصادی فهدفه الوحید اشباع حاجات الافراد فرداً فرداً. فهو مخصص بمکافحة فقر الافراد لا فقر البلاد، او الاسواق, فالفرد فقیر یطلب الخبز لا البلاد ولا المجموع. والقضاء علی الفقر هو مقیاس النجاح فی النظام الاقتصادی کما ان بقاء الفقر، او استفحاله فی المجتمع اکبر دلیل علی فشل ذلک النظام الاقتصادی السائد.

ولکن الاقتصادی الرأسمالی لا یهمه فقر الافراد وما یصیبهم بعد ذلک وانما یختصر جهوده لمحاربة فقر البلاد والمجموع، اما الفرد فالنظام غیر مسؤول عنه ما دامت ثروة البلاد مکفولة والانتاج متوفر فعلیه ان یعمل(1)

ص:30

لینتج فیأکل(1). والنظام الرأسمالی یهدف الی غایة واحدة ویعمل للوصول الی ارفع مستوی ممکن من الانتاج وزیادة ثروة البلاد والدخل الاهلی ویحسب ان

ص:31

ازدیاد الدخل الاهلی وتضخیم حجم الانتاج فی البلاد یقضیان - بصورة طبیعیة - علی فقر الافراد وذلک بتمکینهم من اخذ الثروة حین تترک لهم الحریة فی العمل لانتاجها وحیازتها. فالنظام الاقتصادی - فی نظرهم - لیس لاشباع حاجات الافراد بل لایجاد اکبر قدر ممکن من الانتاج واشباع حاجات المجموع جملة. اما الافراد فلهم حریة التملک والاکتساب وعلیهم ان یستفیدوا من هذه الحریة وینالوا من وسائل الاشباع کل حسب ما یملک من عناصر الانتاج. وبعد ذلک سواء - لدی الاقتصادی الرأسمالی - ان حصل الاشباع لجمیع الافراد او لبعضهم دون بعض.

عجز وانهزام:

فأذن تتلخص الفلسفة الرأسمالیة - الحالیة - فی هذه العبارة یجب تمویل البلاد بالثروات الطائلة، فانها طاقة خلاقة یجب حمایتها، والانتاج مما لابد منه للتوفیر عن المجموع. أما توزیع الانتاج علی الافراد فعلی الشعب أن یقوموا بذلک. فماذا فعل النظام الاقتصادی الرأسمالی إذن؟ ان المشکلة الاقتصادیة هی توزیع الانتاج علی الافراد ولا غیر, والنظام الاقتصادی الرأسمالی ینکل عن معالجتها فهو فاشل.!

سیئات الرأسمالیة:

لقد کان الناس یأملون أن یربحوا من النظام الاقتصادی الرأسمالی إلغاء الفقر وتکوین مجتمع متقارب الطبقات وما إن طبق هذا النظام إلا وانقشعت امالهم عن جرائم وسیئات لم یجدوا إلی تبریرها سبیلاً. ودفعوا فی سبیلها أفدح الاثمان

ص:32

من هنا وقعت البشریة فی دوامة من الماسی والویلات والدماء والدموع لا تستطیع الهروب منها إلا إلی أسوء منها. وسوف یضیق المجال لو استعرضنا ما أصابت البشریة من هذا النظام الطائش، کما هی فی واقع الحیاة غیر انا نشیر إلی بعضها من بعید.

تکوین الطبقات:

فقد أعلن النظام الاقتصادی الرأسمالی حریة التجارة والاکتساب بشتی الوسائل والالوان واتفق هذا الاعلان مع دوی المعامل وهدیر المصانع التی تعهدت أداء شطر کبیر من الاعمال واکتساح القسم الاکبر من العمال فأهمل الناس الصناعات الیدویة - التی کانت تنفق علی الطبقة الوسطی وقسط من العمال - ولم یکن یستطیع استثمار الآلة إلا الصفوة من أرباب الثروات وقد استخدمت الحریات والضمانات المقدسة التی قررها النظام الرأسمالی للتوسعة فی استغلال الافراد والاموال فاصبح الناس وقد وضع أصحاب الثروات الکبری أصابعهم علی المعامل ومنابع الثروة الاخری (الاراضی الزراعیة، الخامات، العمال..) والفئة الوسطی علی شفیر الهاویة مشرفة علی السقوط - لان المستهلکین انصرفوا عن المنتوجات الیدویة وازدحموا علی الصناعات الآلیة - وعطل العمال الذین اخذ الحدید یمارس وظائفهم وجماهیر العمال الاخری بقی تحت رحمة تلک الصفوة التی لا تعرف إلا مغانمها ومآربها ولا تؤمن إلا بالمادة ولا تقدر الرحمة والانسانیة إلا من أنواع الجبن الفکری.

ص:33

وهکذا انقسم المجتمع إلی طبقتین:

1 - الاقلیة المتربعة علی قمة الثراء المزودة بأوسع الحریات والضمانات القانونیة والتی تملک مصیر الملایین وتستخدم حتی السلطة الحاکمة فی أعمالها الابتزازیة، وضیفتها الدائمة أن تستغل حاجة الاکثریة إلیها فتلتقط القادرین لتفرض علیهم العمل فی مدة لا یمکن الزیادة علیها وبأجور لاتفی إلا بالحیاة الضروریة. ثم تنطلق فی إشباع رغباتها الی..

وهکذا برز بعض الشرکات ومیزانیتها تصارع میزانیة الدولة. کما ان أقل من (4000: أربعة آلاف نسمة) - فی مصر - قبل إصدار قانون الاصلاح الزراعی کانوا یملکون ثلث جمیع الاراضی المصریة وثلث جمیع النقود الموجودة فی البنوک المصریة.

وأخیراً وبتأثیر الخوف من الشیوعیة أمموا الموارد العامة - إنجلترا - قبیل سنوات, أما فی أمریکا فحتی الیوم نجد المنابع الوهابة ملکاً للافراد.

2 - الاکثریة السحیقة المنهارة فی اعماق الفقر المدقع البریء والحطام البشری المنتشر فی الشوارع والطرقات والعمال القذرین الذین یکدحون مع العجلات والدوالیب فی الزیوت النتنة السوداء. حتی کأنهم الحدید المتحرک، او الدیدان التی تغوص فی الوحول والمستنقعات وإن خطاب (غلادستون) عن المیزانیة یعطینا صورة بارزة عن وضع الجماهیر التی تتزحلق علی حافة الاملاق عندما یقول: (لیست الحیاة البشریة فی کل تسع

ص:34

من عشر حالات سوی صراع من أجل الوجود)(1), وکما یتحدث عن ذلک (. س. لینغ) قائلاً: (لسنا نعرف مکاناً ضحیت فیه حقوق الاشخاص بکل صراحة وصفاقة لحقوق الملکیة کما هی الحال فی مساکن الطبقة الکادحة, وانه لیمکن اعتبار کل مدینة کبری مکاناً للتضحیة البشریة مذبحاً تحرق علیه سنویاً آلاف لاشخاص کضحایا لمولوخ البخل)(2).

وهکذا وجد فی إحدی البلاد الرأسمالیة رجل ورث عن أبیه خمسمائة ملیون جنیهاً ثم صار الذهب یتدفق علیه کما ینهمر الحمم الوهاج علی جوانب البرکان وقدر فائضه کل أسبوع بملیون جنیهاً - هو (جون روکفلر) ورجل یعمل فی المزرعة کل یوم (عشرة) ساعات ویتقاضی راتباً مقداره (خمس) سنتات - یومیاً - وفتاة وجدت میتة فکشف الفحص الطبی أنها ماتت جوعاً وفتیان انتحروا فقراً...

والسبب فی تکون هذه الطبقات الجائرة أن شیئاً من الاراضی الزراعیة والخامات لم یزدد بواسطة الآلة والذی حدث أن المنتوجات الآلیة حیث کانت أجود من المنتوجات الیدویة وأرخص - لانها اعتمدت علی الآلة الحدیدیة لا علی العضلات الحیوانیة - جلبت رغبات الناس وبالتبع خفضت أسعار المنتوجات الیدویة هذا من جهة ومن جهة اخری کان الرجل الواحد مع الآلة

ص:35

ینتج أضعاف ما ینتجه نفر من عمال الید فکان من الطبیعی أن تخفض أجور عمال الید کثیراً ویصبح راتب عامل الآلة اضعاف رواتب عدد من عمال الید, لذلک کله أضربت عمال الید وخسر أسیادهم وأصبحوا - جمیعاً - برتبة العمال. وهکذا تقلصت المنتوجات الیدویة عن الاسواق فبقیت الاراضی الزراعیة والخامات کلها تحت ایدی اصحاب الالة، فکان علی الناس ان یخرجوا أرزاقهم من ایدی أصحاب الالة, فما کان من اصحاب الالة الا ان زجوا بوفر من العمال فی ملحمة الاقدار واستخدموا القسط الاخر. وحیث کانت جهودهم منصبة علی الاستزادة من الفائض دون ان یحرصوا علی سلامة المجتمع رفعوا الاسعار الی حیث شائت لهم مطامعهم فکان العامل - فی الحقیقة - لا یتمتع الا بما یساوی قسماً من عمله, أما ما یساوی القسم الاخر فکان یتسرب الی صنادیق صاحب رأس المال! فکان العامل یتدهور نحو الهوة عندما جعل سیده یرتقی نحو القمة کما صرح بذلک (غلادستون) قائلاً: (انه لمن الصفات المحزنة للوضع الاجتماعی فی هذا البلد اننا نجد الی جانب النقص فی قوی الشعب الاستهلاکیة والی جانب الزیادة فی حرمانات الطبقة العاملة والاجراء ویؤسها تجمعاً مستمراً للثروة فی الطبقات العلیا وزیادة متصلة للرأس مال فی الوقت نفسه(1). وقد أکد ذلک (غلادستون) حیث قدم میزانیته قائلاً: (من 1842 الی 1852 زاد الدخل الوطنی الخاضع للضریبة بنسبة 6%... وفی ثمانیة سنوات من

ص:36

1853 الی 1861، زاد بنسبة 2% علی اساس عام 1853 وان هذه الحقیقة لباعثة علی الدهشة العمیقة حتی لا تکاد تصدق الزیادة المسکرة للثروة والقوی المحصورة کلیاً فی الطبقات المالکة یجب ان تعود بمنفعة غیر مباشرة علی السکان العاملین لانها تخص بضائع الاستهلاک العام, فبینما کان الغنی یزداد غنی کان الفقیر یصیر اقل فقراً(1)...).

وعندما کان العامل یحتم علی سیده ان یرفع الاجور لا یفتأ ان یرفعها غیر ان شیطان المادة کان یسول له ان یرفع بمقداره سعر البضاعة کی یتدارک الامر فلا تقل ارباحه کما یکشف ذلک (غلادستون) قائلاً:

(انا لا انکر بکل تأکید ان الاجور قد ارتفعت لهذه الزیادة للرأس مال (فی السنوات العشر الاخیرة)، بید ان هذه الحسنة الظاهرة تذهب هباءاً حتی درجة بعیدة لان عدداً کبیراً من ضرورات المعیشة قد اصبحت اغلی ثمناً, ان الغنی یزداد غنی بصورة سریعة فیما لا نجد ای تقدم محسوس فی الرغد الذی تتمتع به الطبقات الصناعیة(2)..).

فالعامل - علی ای حال - لا یستطیع ان یعیش مرفهاً وان کانت تدر علیه مدد من قبل صاحب رأس المال والعامل یرید ان یعیش سعیداً ولا یطالب بأی شیء سواه، وذلک ما لا یناله تحت هذا النظام. کما یدلی بذلک الدکتور (سیمون) فی تقریره بخصوص هذه الحقائق، حیث یقول:

ص:37

(... وان لمن الصحیح فیما یخص عمال المدن ان العمل الذی یحصلون بواسطته علی مرتبهم الهزیل یمدد بصورة دائمة تقریباً... ومع ذلک فان من المؤکد اننا لا نستطیع ان نقول الا فی حالات قلیلة ان هذا یکفی لاعالتهم..

ان ذلک لا یعدو کونه علی نطاق واسع جداً مسیراً یطول او یقصر نحو الاملاق(1).

النتائج:

وتکوین الطبقات لیس مما یضر الفقراء فحسب، وانما یسبب المشاکل کل للفقراء والاغنیاء علی حد سواء، فقد جاء فی الاحصائات العالمیة (ان 90% من حوادث الاجرام والاغتیال مصدرها الفقر...) وهذه الجرائم والاغتیالات تتوجه نحو الاغنیاء, کما ان الفقراء یعتنقون المبادیء الهدامة لمطاردة الفقر فیصبون العذاب الالیم علی رؤوس الناس...

وقد جاء فی احصائیة اخری: (ان 70% من القلق الذی نعانیه مرجعه الی المال، وان معظم الناس یعتقدون ان متاعبهم ستنتهی متی ازداد دخلهم بمقدار 10% وقد یصدق ذلک فی بعض الاحیان، ولکنه فی اکثر الاحیان لا یصدق)(2). فقد ثبت ان الاسراف یهدد کیان الانسان بالموت الباکر، وشتی الامراض, فان اجهزة الجسم لو افرطت فی استهلاک طاقاتها تحطمت وسوف لا تغفر للانسان

ص:38

صغیرة ولا کبیرة. کما ان الارباح الفائضة تولد مصارف جدیدة وتسبب المشاکل الاجتماعیة الفادحة.

الغاء الادیان:

أن فلسفة الاقتصاد الرأسمالی لا تنسجم مع فکرة الادیان! فالاقتصاد الرأسمالی یعمل لتوفیر الانتاج من أی سبیل کان والادیان لا ترضی بالظلم, والرشوة, والربا، والاحتکار، وسائر الموارد المحرمة... کما أن الاقتصاد الرأسمالی یقرر لکل فرد الحق المقدس فی إشباع حاجاته کلها فی حین أن الادیان تمنع الزنا، والمقامرة، والخمر، والغناء، واللهو...

والاقتصاد الرأسمالی یحاول تکریس جهود الناس، ومجالات نشاطهم فی الانتاج والاستهلاک.. فلا بد أن یعبدوا رباً واحداً هو المادة کی لا یفکروا الا فیها ولا یعملوا الا لها. اما الادیان فتوزع القوی والثروات إلی جمیع جوانب الحیاة وتحدد علاقة الفرد بالمادة. فهی إذن تعرقل طریق الاقتصاد فلابد من إلغائها.

والحریة الدینیة لا یعنی بها إلا أن یکون الفرد مؤمناً - فی قلبه - برب ونبی وإمام. ولیس له الحق فی تطبیق دینه علی المجتمع (فالدین لله والوطن للجمیع).

مأسات الفضیلة:

ومادامت الامور تقدر بمنافعها المادیة فمن الطبیعی سحق القیم المعنویة، والفضائل الخلقیة، وکبت البواعث الفکریة، والنزعات النبیلة.. فالمجتمع الرأسمالی الذی یری الانسان - کسائر الحیوانات - مجرداً عن المیول الروحیة،

ص:39

والافکار الانسانیة النبیلة، والاهداف التی تسمو عن عالم المادة وجواذبها ولا یعرف للفرد کرامة معنویة وسمواً روحیاً، بل یتطرف فی الاتجاهات والموازین المادیة البحتة ولا یقدر النجاح والفشل إلا بالاستغلال والاستهلاک وإشباع الجوعات الجسدیة وتوفیر ثروة البلاد لا بد أن یشذ مجتمع یسوده هذا النظام عن الفضیلة ویغری بالجریمة...

واذا آمن الفرد بالمادة وعرفها مقیاساً وهدفاً للحیاة، وعلم ان میدانه ونصیبه فی هذا الوجود هو هذه الفترة من حیاته الخاصة, وأن له الحریة فی التصرف والاستثمار وأنه المسؤول عن نفسه، ولا مدافع عنه إلا قواه، ولا غرض من حیاته إلا مصالحه الفردیة وانه فی خطر من کل مصلحة من مصالح الاخرین التی قد تزاحمه علی هدف عند ذلک یشعر الانسان أنه فی صراع دائب، وجهاد لا ینقضی، وقد یستبد به الخنوع، وتنسبوا قواه فیرضی أن یعلن انهزامه، ویضع حداً لحیاته بالانتحار. ولکن مادام حب الذات یحفزه علی الاستمرار فی الجلاد، فأنه لا یفتأ یتصاول من کل جانب ویسرق، ویغش، ویخون... ویعمل کلما تملیه علیه هواجسه وبوادره لیوفر علی حاجاته ومیوله وأغراضه اکبر قدر ممکن من وسائل الاشباع.

وهکذا نری المجتمعات الرأسمالیة تعرف - من الضروری - إطلاق البغاء، وتشجیع معاقرة الخمور، وشرب الافیون، وارتکاب المحرمات کلها لانها تشبع نوعاً من الحاجات وتجلب قسماً من الثروات وهل یعرف المجتمع الرأسمالی غیر الحاجات والثروات؟

ص:40

الخمر:

وکذلک نهض قوم واستغلوا الحریة الشخصیة للاکتساب وراحوا یبیعون الخمور علی قوارع الطریق جلباً للثروة الی جیوبهم ولم یکن هناک ثائر ینقذ المجتمع من غوائل هذا الطاعون الفتاک، بل حافظت السلطات والقوانین علی مصالح الخمارین ودافعت عنهم بالسلاح. والقضیة التالیة تضمن لنا ابراز مکانة الاخلاق من النظام الرأسمالی فی إحدی الدول الشقیقة عرضت لائحة علی البرلمان لمنع استعمال الخمور فکان الجواب الأول والأخیر ضدها: (إن الکحول تلتقط للدولة کل عام (40: أربعین ملیوناً) من ال - (...) وذلک وفر کبیر لا یمکن الغض عنه...) مع أن نواب البرلمان - جمیعاً - اعترفوا اثناء المحاورات بمضار الکحول الفردیة الاجتماعیة.

الربا:

وجاء آخرون فأخذوا یرابون الناس بأموالهم ونشروا فخاخهم فی القاصیة والدانیة وراحوا یمتصون دماء العالمین ویخلفون ورائهم الاساطیر والامثال بصورة قانونیة جریئة کی لا یسلم منهم أحد بقطرة من دمه.

القمار:

وقام اخرون فاشاعوا فی المجتمعات القمار وابتکروا له طرقاً حدیثة تتسرب الی جمیع شعب التجارة حتی لم یسلم مکسب من المکاسب من عنصر القمار ومآثمه, وکان لهذه العناصر الثلاثة الخمر, الربا، القمار أثراً بعیداً فی تفسخ الاخلاق وتکوین الطبقات.

ص:41

وکذلک انتحرت العفة ضحیة الترف الغلیظ والاغراض المثیر الذین تحفل بهما حیاة المترفین مع ما علیة الاکثریة من الفقر والحرمان.

اساطیر فارغة:

وقد یحلو للمتمشدقین من أنصار النظام الرأسمالی أن یدللوا علی وجود الأخلاق فی المجتمع الرأسمالی بأوهام خرافیة لیس لها فی صمیم الواقع أی أثر!!

ذلک أنهم یقولون: إن الهدف الشخصی بنفسه یحقق المصلحة الاجتماعیة وأن النتائج التی تهدف الیها الاخلاق تتحقق فی المجتمع الرأسمالی لا عن طریق الایمان بالاخلاق ومکانتها الذاتیة أو الاخرویة، بل عن طریق الدوافع المادیة الفردیه، فالإنسان حین یقوم بخدمة إجتماعیة یشمله قسم من تلک الخدمة العامة باعتباره عضواً فی المجتمع الذی خدمه وحین ینقذ حیاة فرد من الخطر فقد أفاد نفسه لان هذا الفرد سوف یخدم المجتمع فیعود الیه نصیب منها.

غیر أن هذه الکلمات البراقة لا تکون الاخلاق فی المجتمع، فأن کثیراً من الخدمات التی یسدیها الفرد الی المجتمع تبعاً للدوافع المعنویة لا تعود الیه بخیر أبداً.(1)

ص:42

فالأنبیاء جمیعاً أنفقوا فی سبیل المجتمع أوسع الخدمات فلم یشکرهم المجتمع إلا بالسم أو السیف, و (غاندی) حرر الهند و (إبراهام لنکولن) حرر العبید ورفع أعدائه إلی المناصب الخطیرة ثم کان نصیبهما الاغتیال!!!

ثم لو کان الانسان یخدم المجتمع لیعود الیه نصیب من تلک الخدمة کان الاجدر أن یکرس تلک الخدمة لنفسه - فمثلاً - لو کان الانسان یطعم الناس لیشترک معهم فی الاکل - ولا غرض سواه - فالعقل یفرض علیه أن یدخر مجموع الطعام لوجبات نفسه، وهل من المعقول أن یوزع الفرد علی المجتمع الملایین لیغنم واحداً من نفس ماله..؟

ولیت الامر وقف عند هذا الحد إذن لهانت المأسات، ولکن الاقتصادی الرأسمالی أدی إلی:

إنهیار المجتمع:

فرجل الاقتصاد لایحاول تنظیم المجتمع کما یجب أن یکون، وإنما تهمه المنافع والمصالح, فهو لا یغش حتی تنجح تجارته وتکثر رواده وإذا ربحت تجارته بالغش والخدیعة فالنظام الرأسمالی یسمح له مباشرتهما وهو لا یتکفل الفقراء تلبیة للبواعث الدینیة أو العاطفیة، وإنما یعیلهم مخافة أن یسرقوه او یقتلوه، أما إذا أمن مکرهم فالتفکیر الرأسمالی یؤکد علیه تجویعهم!!!

وهنا یتبلور الاقتصاد الرأسمالی فی اطار جدید هو الاستغلال والاستعباد - بلا حدود - فمن حق الصفوة من اصحاب الثراء ان یستغلوا حاجة الاکثریة الیهم فیفرضوا علیهم الاعمال المرهقة بأجور بخسة ضئیلة لا تضمن الحاجات

ص:43

الضروریة للانسان فیوزع المجتمع إلی اقلیة مترفة تسود وتستهلک ولا تنتج واکثریة تعمل ولا تسود ولا تستهلک إلا قلیلاً...

هکذا تحکم الاقلیة علی الاکثریة رغم دیمومقراطیة هذا النظام وبعد ذلک یأتی دور:

الاستعمار والحروب:

1 - العمال المنتجون لا یستطیعون ان یستهلکوا بمقدار ما ینتجون لضئولة اجورهم, والسادة المتخومین لن یأتوا علی مجموع الانتاج مهما حرصوا وشدة حرکة الانتاج وتدفقها بدافع الحرص والاستعلاء المادی(1) جعلت المنتجات الفائضة اکثر من الاستهلاک, فتجد المخازن تغص بالبضائع والمعامل تخب فی الفائض والاسواق جامدة غافیة, فلا بد للسادة المالکین أن یبحثوا عن اسواق متعطشة الی بضائعهم، ولا بد ان تخرج هذه البضائع الی خارج الحدود والجمارک لا تسمح أن یکون الوارد إلا أقل من الصادر - لتنمیة ثروات البلاد - فأذن أین تصرف هذه البضائع؟ إلا فی الدویلات التی لا تملک المقاومة والصمود. من هنا تنطلق الدول الکبار تستعمر ما تستطیع من الدول الصغارلتصرف فیها بضائعها وتفرضها علی الشعوب بأثمان تقدرها بنفسها. وهذا هو الاستعمار السافر.

ص:44

ویتلو ذلک تطاحن الدول الکبار حول إستعمار الدویلات، وهذا ما لا ینتهی إلا بالحروب.

2 - ان وفرة الانتاج تتوقف علی وفرة الخامات وجمیع الموارد الموجودة فی الدولة موزعة بین أصحاب رأس المال، فلا بد أن یمدوا أبصارهم إلی افاق جدیدة ومناطق تکتض بالمواد الاولیة لینشروا نفوذهم علیها فیمتصوا الموارد ویسلبوا الامتیازات، وهذا هو الاستعمار وهنا یکون التنافس والتناطح علی الاستغلال وإهدار الاموال السخیة فی سبیل الدعایة والتحبیذ.

فاذا کانت هناک دولة قویة یرضخ لها الجمیع إمتصت دماء العالمین بکل هدوء وتحت شعارات وطنیة مخلصة وویل للناس إذا تکافئت القوی ولعلعت الحروب تلتهم الرطب والیابس.(1)

ص:45

3 - أن هناک تبایناً شاسعاً بین طبائع البلاد ومناخاتها تبعاً للفروض الطبیعیة, فبینما نجد بعض البلاد یثقل بالخیرات ویطفح بالمواد الاولیة حتی ان فی ترابها انواعاً من الخامات، نجد إلی جانبها بلاداً قاحلة جرداء یسودها المحل والجدب. والرأسمالیة الکبری حیث تسعی نحو إنجاب أکبر قدر من الانتاج، لابد لها أن تقوم بتقسیم عالمی للأعمال والمناطق، تفرضه المراکز الرئیسیة للصناعة الکبری علی سائر المناطق، فتقلب قسماً من الکرة الارضیة التی تغلب علیها السهول وتتفجر بالمیاه والاشجار کأکثر البلاد الاسلامیة

ص:46

الی مناطق زراعیة وحقول ومراتع لانتاج الحبوب والفواکه وإنجاب الانعام وما یتبعها.(1)

وتحول المناطق الوعرة القاحلة الی مراکز صناعیة تغص بالمعامل والمصانع.

وهذا لا یکون الا اذا سیطر الوطن الام علی جمیع البلاد بالاستعمار حتی

ص:47

یفصلها الی مراکز صناعیة او مخازن زراعیة وذلک هو الاستعمارالذی یوزع مقادیر البلاد تفاصیل... تفاصیل... لیبدد قواها ویبعثر خیراتها کما یسول له عملاق المادة ومردة الشیاطین لیسهل له استغلالها ابشع استغلال.

اخطاء الرأسمالیة:

لا یسعنا - الان - أن نسطر جمیع الاخطاء التی یحفل بها هذا النظام باسهاب وإلا لخرجنا عن نطاق الکتاب ولکن نسجل بعض النقاط کنماذج.

مصدر الاخطاء:

أول خطأ یبعث علی أخطاء فی النظام الرأسمالی: ان الاقتصادیین الرأسمالیین لا یؤدون مسؤولیة النظام الاقتصادی، وانما یؤدون مسؤولیة علم الاقتصاد.

ذلک ان علم الاقتصاد یبحث عن کیفیة انتاج السلع والخدمات وتحسینها ومسؤولیة النظام الاقتصادی انما هی توزیع السلع والخدمات علی حاجات الافراد فرداً.. فرداً.

وهؤلاء لا یؤدون الا مسؤولیة علم الاقتصاد أی یوفرون وسائل الاشباع ویعلقون مسؤولیة النظام الاقتصادی علی عاتق الافراد فعلیهم ان یحصلوا وسائل الاشباع.

نحو الانتحار:

ثم لا ینظمون المجتمع - من الناحیة الاقتصادیة - کما یجب ان یکون وانما یطلقون المجتمع لیسیر نحو الانتحار، فانهم یعتبرون السلع والخدمات نافعة لمجرد وجود من یرغب فیها ویبذل بازائها الاموال أو الجهود، وهذا غیر صحیح

ص:48

, بل یجب اعتبار الاشیاء نافعة اذا کانت فی الحقیقة نافعة, فالخمر, والقمار، ولحم الخنزیر، والربا مما یضر المجتمع فلا یصح اعتبارها نافعة لانها تجلب الاموال(1) وقد ارغمت احصاءات ضحایا الخمر الحکومة الامریکیة علی منع الخمر, غیر ان محاولاتها بائت بالفشل الذریع(2) لان الفکرة المادیة السائدة علی

ص:49

الشعوب الرأسمالیة لا تسمح للافراد ان یتخلوا عن الخمر ماداموا یعرفونها نافعة.

تحدید الحاجات:

إن تقدیس حاجات الانسان سواء أکانت حاجات ضروریة أم کمالیة وتقریر الحق لکل فرد فی إشباعها اشباعاً کاملاً غیر صحیح! فالمشکلة التی یعالجها النظام الاقتصادی لیست هی إشباع مطلق الحاجات وإنما المشکلة الاساسیة التی یجب معالجتها فوراً وقبل کل شیء هی إشباع جمیع الحاجات الضروریة لجمیع الافراد فرداً فرداً إشباعاً کلیاً, فاذا تمت معالجة هذه المشکلة یأتی دور التفکیر فی إشباع قسم معین من الحاجات الکمالیة. أما حاجة الفرد إلی الخمر، والرقص، والغناء, والبغاء فهی لیست بحاجة وإنما هی شهوة جامحة یجب کبتها حرصاً علی إشباع الحاجات الضروریة للاخرین وحمایة للاجتماع.

ولو أطلقنا حق إشباع الحاجات الکمالیة کلها لبقیت الحاجات الضروریة لاکثر الناس معطلة کما هی الان.

إطلاق التجارة لا یشبع الحاجات:

وإطلاق التجارة والتنافس الحرلا ینهضان باشباع الحاجات إلا بعد:

1 - تحدید الحاجات ب -: (الحاجات الضروریة لجمیع الافراد, - فی الدرجة الاولی - ثم المساعدة علی إشباع قسم معین من الحاجات الکمالیة - فی الدرجة الثانیة -).

2 - تحدید وسائل الاشباع ب -: (ما یشبع الحاجات الضروریة، أو ذلک القسم

ص:50

المعین من الحاجات الکمالیة) والمنع الحاسم الفکری والجزائی من إنتاج غیر هذه الوسائل.

ولو لا ذلک لا نصرفت السلع والخدمات عن حاجات الاکثریة السحیقة وتضاعفت لتوفیر وسائل الاشباع الکمالیة وازدیاد الدخل الاهلی وثروة البلاد، کما نجد الان وسائل الاشباع تحوم وتتساقط علی موائد المترفین والجماهیر ترزح تحت کابوس الفقر والحرمان رغم التجارة المطلقة والتنافس الحر.

الحاجات المتجددة:

وأما مایزعمون: أن الحاجات المتجددة تتضاعف وترتقی مع المدنیة والحضارة والمنافع المنتجة لا تتکفل إشباعها اشباعاً کلیاً فتولد المشکلة الاقتصادیة الندرة النسبیة للسلع والخدمات بالنسبة الی الحاجات العامة. فهو غیر صحیح! لان الحاجات الاساسیة لا تتجدد أبداً وإنما تتجدد الحاجات الکمالیة, والقسم الاوفر من الحاجات المتجددة حاجات کاذبة یجب اهمالها - کما مر علیک - والقسم الاخر من الحاجات المتجددة لیس من الضروری اشباعه ولو بقیت جائعة.

فلیس هذا أساس المشکلة الاقتصادیة. والحاجات التی تکون محتمة الاشباع هی الحاجات الضروریة المحدودة التی لا تنمو ولا تتزاید والاموال والجهود الموجودة فی العالم تکفی لاشباعها اشباعاً تاماً, وانما المشکلة الاقتصادیة هی کیفیة توزیع الاموال والجهود علی الحاجات.

ص:51

غلطة فی التحدید:

ثم ان تحدید الحاجات بالحاجات المادیة خطأ سافر! فان أشد الحاجات الحاحاً علی الانسان هی الحاجات المعنویة، فان حاجة الفرد الی الدین(1) ، والحریة، والثقافة، والسلام، والتقدیر حاجة استکمالیة تسلح الفرد لمکافحة الکوارث ومقاومة العقبات ولو لا اشباعها انقلبت حیاة الانسان الی اتون مسعور.

الأیدی العاطلة:

ولقد قرر النظام الاقتصادی الرأسمالی: إن إطلاق التجارة، والتنافس الحر یقضیان علی الایدی العاطلة, غیر أن الفکرة المادیة التی تبناها الاقتصاد الرأسمالی هی التی ابتدعت الالة، إستخدمت النساء والاطفال بأجور بخسة, فاستغنی أصحاب الثروات عن العمال حتی أصبح العامل یری نفسه مخیراً بین أن لا یعمل أو یعمل طویلاً بأجور متهاودة, وهکذا رفض قسم من العمال العمل، کما بقی الاخرون یعملون بکل تبرم وقنوط. وقد دلت الاحصاءات علی: أن 8 ر 7 من القادرین علی العمل فی الریف یعتبرون قوة معطلة لانهم لا یعملون ولا یبحثون عن عمل سواء لعدم رغبتهم فیه، أو لا ستغنائهم عنه، أو لعدم قدرتهم علی الدخول فی میدانه.(2)

ص:52

کما دلت تقاریر وزارة الصناعة علی: أن 76% من طاقات العمال عندنا معطلة لعدم الکفائة.(1)

وعدم الکفائة لیس من رکائز الانسان الفطریة، وإنما هو رد الفعل الطبیعی عن ضئولة الاجور وعنف الاعمال.

الطاقات المعطلة:

والنظام الاقتصادی الرأسمالی اکد: أن استخدام الخامات وتحویلها ألی بضائع نافعة لا یکون الا باطلاق التجارة الحرة, وذلک أن صدق فی بعض حین فانه لا یصدق فی اکثر الاحیان لان فی بلادنا - مثلاً - توجد الخامات من کل شیء والتجارة رأسمالیة حرة, وبعد ذلک فنحن نستورد من الخارج کل شیء حتی اللحم، والسمک، والماء المقطر، ومرق اللحم، وطبیخ الارز!! أما الخامات فانها تبقی لدینا مهملة حتی تبور أو تصدر إلی الخارج بأبخس الاثمان.

وقد ثبت للساهرین ان الدول المستعمرة ربحت من نفطنا عام 1955 ما یساوی (000 ر 000 ر 000 ر 500 خمسمائة الف ملیون) دولاراً أمریکیاً!!! وقد تضاعف فیضان الابار، کما انفجرت ابار جدیدة، فکان ربح المستعمرین کل عام یربوعلی: (000 ر 000 ر 000 ر 900 تسعمائة الف ملیون) دولاراً أمریکیاً!!!(2) أما نصیب المسلمین من نفطهم فلیس إلا فتاتاً من موائد المستعمرین توزع علی

ص:53

الملوک والامراء ثم علی الموظفین, أما الوطن الاسلامی الکبیر فلا نصیب له منه.

کل ذلک سوی عائدات الذهب، والفضة، والکبریت... وسائر المعادن والخامات التی تصب أرباحها السخیة فی مصارف المستعمرین وترش القطرات فی بلادنا ثم لا تأتی إلی بلادنا وإنما تجمد - باسم الامانة - فی بنوک المستعمرین حتی أصبح لکویت وحدها فی مصارف لندن نحو: (000 ر 000 ر 700 سبعمائة ملیون جنیهاً استرلینیاً).

والامثلة لمصادرالثروة المعطلة لدینا کثیرة، فکل شیء عندنا طاقة معطلة.(1)

قصور الثمن:

یقول الاقتصادیون الرأسمالیون: ان الثمن هو الدافع الوحید نحو الانتاج لأن الحافز علی بذل أی مجهود انما هو الحصول علی ثمنه، أو بدله المعادل بالثمن, فالثمن هو الهدف من الانتاج.

ص:54

وهذا الکلام ینم عن مدی ضیق، والاتجاه المادی فی الفکرة الرأسمالیة, ولم أدر؟

ألم یسمع الاقتصادیون بأناس یصلون ویصومون ویحجون ویزکون ویخصصون انتاجهم للجهات الخیریة، للهُ، والجزاء الاخروی فقط؟ أو لم یقرأوا تواریخ العظماء الذین بذلوا فوق المستحیل من الجهود لا لأی ثمن أو جزاء مادی؟ ألم یبلغهم ان (جون روکفلر) خدم البشریة بأکبر ثروة جمعها انسان(1) وأن (اندرو کارنیجی) وهب الجمعیات الخیریة (365 ثلاثمائة وخمسة وستین) ملیوناً من الدولارات(2) ثم لم یحصلا من وراء ذلک سنتاً من الثمن المادی؟؟

أم غاب عنهم أن رجال الاعمال یکدحون لیدفعوا الضرائب الجائرة بلا بدل؟ فلو کان الدافع الوحید علی بذل أی مجهود مکافئته المادیة لما سخی هؤلاء بجهودهم ونفس الاثمان التی یعتبرونها الحافزة علی الانتاج.

توزیع جائر:

ینص النظام الاقتصادی الرأسمالی علی أن الثمن هو المنظم لتوزیع الاعمال علی الافراد, فان القانون المقرر (من لا یعمل لا یأکل) یحفز کل فرد علی العمل لیحصل الثمن فیحصل بازائه ما یأکل, وهکذا توزع الاعمال علی الافراد کل حسب طاقاته الانتاجیة.

ص:55

وهذه الفلسفة الافلاطونیة مثالیة اکثر مما هی واقعیة لانها - بالفعل - لم توزع الاعمال کما کان یحلم به القادة المبدئیون من أصحاب هذه الفکرة. فانا نری الیوم فی البلاد الرأسمالیة من یعمل کثیراً ثم یقتات الجوع والتعب, ومن لا یعمل إلا قلیلاً ویعیش فی بلهنیة ورخاء, وهذا اکبر شاهد علی مثالیة هذه الفکرة.

ثم انها تقرر أن لا یستحق الحیاة إلا من کان قادراً علی الانتاج فمن خلق ضعیفاً، أو أزاحته الظروف المعاکسة عن العمل فلیس له أن ینال من ثروة البلاد ما یطارد عنه الموت(1) أما من خلق قویاً، أو أتاحت له الظروف المؤاتیة ان یختصر جهود الناس فی موائده ویتوسع فی الحیازة والاحتکار، فله کل الحق فی التخمة والسیطرة والسیادة, وکذلک من یحجزه الوازع الدینی أو القیم الخلقیة أن یستنزف الدماء والدموع فهو فاشل مترهب متهادن عن خوض معترک الحیاة فعلیه أن یبقی حلیف التقشف والحرمان, ومن سمحت له القحة السافرة أن یدرس الدین والضمیر وینازع الفرص للتطاول والانتهاز ویکرس بین یدیه من

ص:56

فائض البغاء والفجور اکوام الفضة والنضار, فهو بطل الحیاة النابغ وإنسان قرن العشرین الذی لابد أن یطوق بهالة من الاکبار والتقدیر, وقدر بنفسک مقدار الصحة فی هاته الفکرة العاتیة المتمردة علی نوامیس الانسانیة الکافرة بالحیاة وقیمها النبیلة.

موضوع الثمن:

والاقتصادیون الرأسمالیون یقدرون الثمن معدل المجهودات التی یقدرها الافراد إلی الافراد وهذا غیرصحیح لأنا نری الناس یبیعون الخامات التی لم یعملوا علی تحسینها, بل الثمن قد یکون معدل الجهود وحدها کالاجور التی یتقاضاها العمال والمستخدمون، وتارة یکون معدل الخامات فقط کالاثمان التی یأخذها أصحاب الخامات وربما یکون الثمن معدل الجهود والخامات معاً کالاثمان التی یأخذها الباعة فاذن لیس الثمن معدل المجهودات وحدها.

أسعار باهضة:

کما ان میکانیکیة الثمن تقصر عن تعدیل الاسعار والتنافس الحر لن یضمن ذلک أبداً لأن الشرکات التی لا تجد منافساً لها، تستغل حاجة الناس إلیها فترتفع بثمن إنتاجها إلی أرفع مستوی, والشرکات المتنافسة تتفق علی سعر جائر ونهم التجار یقضی علی التنافس الحر - ولو إلی درجة - والمنتجون الکبار لا یخوفون بقلة الطلب ثم الخسارة لأن الحاجة ترغم الافراد علی الطلب مهما کانت الاسعار - وإن کان یقل نسبیاً -.

ص:57

ثم لا ترهبهم الخسارة مهما کانت بالغة لأنها لا تؤثر فی ثرواتهم المکدسة. والان یوجد فی الهند اناس مترهلون یملکون الاراضی الشاسعة ولا یزرعون إلا قسماً منها ویدعون الباقی مرتعاً خصیباً للهوهم وصیدهم والتنزه فی أوقات الفراغ ومسرحاً رحیباً للشمس والقمر والوحوش... ولا تهد الخسارة من رعونتهم العریضة.

وأما أصحاب الشرکات الکبری کشرکات البترول والسیارات والمصانع الثقیلة والاحتکارات العالمیة فانهم یتحکمون فی الاسواق ویفرضون علی المستهلکین أثماناً معینة، ثم لا تهمهم ندرة الطلب فی بلادهم أو فی الاسواق العالمیة لأنهم یصرفون بضائعهم فی مستعمراتهم بأی ثمن شاؤا، ولأن الاحتکار یلجیء الناس إلی الرضوخ لهم.

لذلک جرت محاولات لترفیع الاقتصاد الرأسمالی, فجعلوا للدولة الحق فی تحدید الثمن لحمایة الاقتصاد الاهلی والمستهلکین، من سلطة المحتکرین, غیر أن الرجال المالیین اشتروا ضمائر المسؤلین وملئوا أفواههم بالرشی وردوا أصوات الشعب إلی صدورهم. ثم إن تحدید الاسعار من قبل الدولة یناقض الخط العریض فی النظام الرأسمالی الدیمقراطی وهوحریة الاقتصاد.

هذا بالنسبة الی السلع, أما الخدمات العامة فقد أصبحت غیر قابلة لتحدید أسعارها فی البلاد الرأسمالیة, فالموظفون الکبار یرفعون رواتبهم یوماً بعد یوم لأنهم یتولون دفة الحکم, ولیس هناک من دین أو ضمیر یحاسبهم علیه والاطباء والجراحون یقدرون (المعاینة) و (القدمیة) و (العملیة الجراحیة) بما یشاؤن،

ص:58

وکثرة المرضی وثقتهم بهذا أو ذاک لا تدعان مجالاً للتنافس, کما سار علی نفس الخطة المحامون، والمهندسون، والکُتاب، والمعلمون.(1)

اجور متهاودة:

وقد عجز جهاز الثمن عن توفیر اجور العمال والمستخدمین, فبعدما تمخض العلم عن میلاد الالة التی استقلت بأفدح الاعمال. إستغنت الشرکات عن قسم کبیر من العمال وعن العمال الرجال بالنساء والاطفال حتی أصبح التنافس بین العمال علی العمل، بینما الغی التنافس بین أصحاب الاعمال علی العمال, فرضی العامل بالاجر الزهید لأنه خیر من البطالة, وأخذ صاحب العمل یدلل ویماکس لأن العامل لا یثق أن یجد غیره من الاعمال وصاحب المعمل متأکد أن فی کل یوم یعرض علیه عدد من العمال وقد إستعصت المشکلة وتفاقم الامر بعد ما دخلت النساء والاطفال فی المعمل باجور ضئیلة فهب أصحاب المعامل لاشغال النساء والاطفال لقلة اجورهما وللرغبة الذاتیة فیهما.

هکذا اصیب العمال والمستخدمون بضئولة الاجور دون أن یزیحها جهاز الثمن الذی علق علیه الاقتصادیون الرأسمالیون امالهم, واکبر شاهد علی ذلک: انک تجد کل یوم فی کل صحیفة أو إذاعة إضراب العمال ضد قلة الاجور.

ص:59

استخدام النساء والاطفال:

واکتفی الان بنقل هذه الصفحات من کتاب (رأس المال)(1), (حین تجعل الالة القوة العضلیة شیئاً عدیم الجدوی تسمح باستخدام عمال لا یتمتعون بقوة عضلیة کبری، لکن أطرافهم تکون اکثر مرونة بقدر نقص نموها، وعندما استولی رأس المال علی الالة کان شعاره هو التالی: عمل النساء، عمل الاطفال، وهکذا فان هذه الواسطة الجبارة لا نقاص جهود الانسان قد تحولت فی الحال إلی واسطة لزیادة عدد المأجورین، لقد أحنت سائر أفراد العائلة تحت عصا رأس المال دون تمییز للسن أو الجنس. إن العمل الاجباری لحساب رأس المال قد سلب لا مکان ألعاب الطفولة فحسب، بل مکان العمل الحر البیتی تأمین معیشة العائلة, ولا ننس ان القاعدة الاقتصادیة للعادات العائلیة لم تکن سوی هذا العمل البیتی.(2)

ص:60

ولقد کانت قوة العمل محدودة بتکالیف معیشة العامل وعائلته، ولکن الالة حین القت بالعائلة جمعاء فی السوق ووزعت هکذا قیمة قوة واحدة علی قوی عدیدة قد انقصت من قیمة تلک القوة ویمکن ان تدر القوی الاربع مثلاً التی تبیعها العائلة العمالیة الان ربحاً اکثر مما کان یجنیه من قبل رب هذه العائلة بقوته وحدها، ولکن اربعة ایام عمل قد قامت کذلک مکان یوم واحد وانخفضت اسعارها بنسبة زیادة العمل الفائض الذی تحویه الایام الاربعة إلی العمل الفائض الذی یحویه یوم واحد. ومن الضروری الاونة أن یقدم أربعة أشخاص لرأس المال لا العمل فحسب، بل العمل الفائض ایضاً، کی تتمکن عائلة واحدة من تأمین مواردها. وهکذا فان الالة حین تزید المادة القابلة للاستثمار تزید درجة الاستثمار فی الوقت ذاته).

خسائر وجرائم:

ولقد أدی دخول المرأة والطفل والالة، فی المعمل إلی الخسائر التالیة:

اضرابات ضد الالة:

إن العمال - بطبیعتهم - یؤدون الجهود والخدمات الکافیة لاشباع حاجات المجتمع، وفی نفس الوقت یعیشون باجورهم وتبقی لهم الحریة فی العمل لهذا أو ذاک، أو الاستقلال بالعمل، أما إذا دخلت الالة فی المعمل فسوف لا یتوفر لهم العمل مهما أرادوا، ولمن شاؤا، وقد أحس العمال بذلک ولهذا کرهوا الالة وقاموا ضدها بحروب لا هوادة فیها.

ففی عام 1629 م فی (لیید) إستعملت الة للنسیج فأجبرت المظاهرات

ص:61

القضاة علی تحریمها. وقد خشی الحاکم أن یحول هذا الاختراع عدداً کبیراً من العمال إلی مجرد متسولین(1), فدمر الالة وخنق مخترعها، أو أغرقه!.

وفی القرن السابع عشر قامت عصیانات عمالیة فی اوربا بأسرها تقریباً ضد الة لنسج الاشرطة والدنتلة، وقد حرمت نفس الالة فی (کولونیا) عام 1676 م وأدخلت فی إنکلترا فأثارت إضطرابات عمالیة کبیرة بین عمال النسیج وصدر مرسوم إمبراطوری عام 1685 م یحرم إستخدامها فی کل المانیا, وفی (هامبورغ) أحرقت أمام الملأ بأمر من الحاکم, وعندما رکب (إیفریت) عام 1758 م الالة المائیة لجز الصوف فان مائة ألف رجل جعلتهم هذه الالة عاطلین أحالوها هباءاً منثوراً, وإن خمسین ألف عامل یکسبون معیشتهم من طریق تمشیط الصوف أرهقوا البرلمان بعرائضهم المناهضة لالة التمشیط والتجیء العمال إلی تدمیر الات عدیدة فی المناطق (المانیفا کتوریة) الانکلیزیة فی السنوات الخمس عشرة الاول من القرن التاسع عشر, وفی (شیفیلة) عام 1865 م قامت ثورة عمال صقل المبادر ضد الة تؤدی نفس العمل, وکذلک تتابعت ثورات العمال ضد الالات بین فترة واخری.(2)

ص:62

أعمال فادحة:

لقد إستمر الصراع بین العامل والالة غیر طویل حتی انتصرت الالة علی العامل(1) واستقرت المکائن فی قلب المدن وأخذت تصک الاسماع بهدیرها الصاخب وتلفظ دخانها فی أجواز الفضاء بکل جرئة وإعتزاز وذابت غلواء العمال أمام روعة هذا الکائن القدیر.

هنا عرف أصحاب رؤس المال ان لا حاجة لهم إلی العمال الفنیین الذین یجیدون الاعمال ویتقاضون بأزائها اجوراً متکافئة, فالالة تسمح لصبی صغیر لا تجربة له بتشغیل نول کامل بسائر مکائنه، وما دام فی المعمل مهندسون فلا یضر جهل العمال بعد ذلک, وکذلک جعلوا ینتدبون للعمل الفلاحین الذین کانوا ثائرین علی الاقطاع منذ زمن بعید, والنساء اللواتی سلخ رأس المال دینهن وضمیرهن وصور لهن الحیاة معملاً کبیراً والاطفال الذین لم یبلغوا الحلم ولم یعرفوا من الحیاة إلا الدراهم اللماعة واخذوا یغرون الفلاحین بالعمل تحت شعار التحرر من عبودیة الاقطاع والنساء باسم الانطلاق من سیطرة الرجل وتحطیم کبت الرجعیة والقبور السوداء... والاطفال باسم الدراهم والدنانیر والعمل والمعمل وفیهما للطفل کل إغراء. کل ذلک لأن الفلاح تعود أن یعمل طویلاً ویربح قلیلاً والمرأة مرنت علی ان تعمل دون ان تتقاضی شیئاً وکذلک الطفل فیمکن إستغلال هؤلاء فی الاعمال الطویلة بأقل اجر ممکن ولم یحسب

ص:63

الفلاح ولا الطفل ولا المرأة هذا الحساب, والعمال الذین عرفوا هذه الحقیقة فشلوا فی مقاومة الالة أول الامر فلم یفعلوا الان شیئاً وخلدوا إلی الخنوع، غیر أن قسماً منهم رضخوا للعمل بمثل اجور الفلاح التی کانت أرفع من اجور المرأة والطفل قلیلاً، والقسم الاخر ألفوا عصابات إجرامیة وأخذوا یذرعون الشوارع ویملئون المقاهی والحانات ثم السجون.

وبذلک اصیب العمال بفداحة العمل، فقد کان علیهم أن یعملوا طویلاً باجور هزیلة کما یقول مارکس:

(.. لیس من النادر أن نری فی نوتنجهام خمسة عشرأو عشرین ولداً مکدسین کالسردین فی غرفة صغیرة لا تزید مساحتها عن - 12 - قدماً مکعبة وهم منهمکون طوال خمس عشرة أو أربع وعشرین ساعة فی عمل مرهق الرتابة وفی ملء هذه الظروف الضارة بالصحة وحتی اصغرهم سناً یشتغلون بانتباه مرکز وسرعة تبعثان علی الدهشة وهم لا یسمحون مطلقاً لأصابعهم بالتوانی أو الراحة.

وإذا وجهت إلیهم بعض الاسئلة فهم لا یرفعون عیونهم عن عملهم وذلک خوفاً من خسارة برهة وجیزة من الوقت)(1)..).

فالعمال علیهم أن یستمروا عبر هذه الاوقات الطویلة خمس عشرة أو اربع وعشرین ساعة فی عمل مرهق الرتابة وفی اماکن ضیقة تحت الارض أو فوقها

ص:64

یلتهم الغاز فیها الاوکسجین إلتهاما، کما یتحدث عن ذلک المفتش (لورد) قائلا: (.. إن الشعور الذی ینتاب المرء لدی دخوله فی مثل هذا المکان، حیث یشتغل ثلاثون أو أربعون عاملة معاً لهو شعور لا یطاق فی الحقیقة, وإن الحرارة الصادرة من الافران التی تسخن المکاوی فیها لترسل القشعریرة فی البدن, وحتی فی الورشات التی یسودها عمل یقال عنه إنه معتدل یعنی من الثامنة صباحاً حتی السادسة مساءاً فان ثلاثة أو اربعة أشخاص یغمی علیهم بصورة منتظمة یومیاً.(1)

قلة الاجور:

أما قلة الاجور فکان أثراً طبیعیاً لاستخدام الفلاحین والنساء والاطفال تحت قیادة النظام الرأسمالی حتی اصبح مرتب العامل الواحد یقصر إعالة نفسه فقط، أما عائلته فکان علی افرادها ان یعملوا فیأکلوا، وهذا ما شجع علی تحطیم الاسرة وتفکیک عناصرها.

وفی الحقیقة کان إستخدام الرأسمال للنساء والاطفال یبدل جوهر العقد الذی کان شرطه الاول تقدم الرأسمالی والعامل وجهاً لوجه بصفتهما شخصین حرین کلاهما تاجران یملک احدهما المال أو وسائط الانتاج ویملک الاخر قوة العمل. لقد انقلب هذا العقد کله رأساً علی عقب فأصبح إستخدام النساء والاطفال اشبه بشرائهم واخذ الطلب علی عمل الاولاد کثیراً ما یشبه - حتی فی

ص:65

الصیغة الاسلوب - الطلب علی العبید.

وفی مقاطعة (بنتال غرین) وهی اسوأ مناطق لندن شهرة تقام کل یوم اثنین وثلاثاء سوق عامة یبیع اطفال فی التاسعة - من الجنسین - انفسهم لأرباب عمل الحریر، ویقول احد الاطفال فی افادته عن شروط عمله الاسبوعی: (ان الشروط العادیة هی شلن واحد وثمانیة بنسات اسبوعیاً (تعود للابوین) زائداً شلنین لی مع الشای).

ویحدث فی انکلترا - ایضاً -: ان بعض الشحاذات الاناث یأخذن اولاداً من الملاجیء ویؤجرنهم لأی شار کان مقابل شلنین وستة بنسات فی الاسبوع(1), وکلما فرض القانون حدود الست ساعات لعمل الاطفال فی فروع الصناعة غیر الخاضعة للانظمة ارتفعت من جدید شکاوی ارباب العمل وهم یقولون: ان عدداً کبیراً من الاباء یسحبون ابنائهم من الصناعات منذ خضوعها للقانون کی یبیعوهم للصناعات حیث یسود بعد (حریة العمل) یعنی حیث یجبر الاولاد الذین دون الثالثة عشرة علی العمل مثل البالغین وبالتالی یباعون بثمن اکبر, ولکنه لما کان رأس المال مسویاً للفوارق بطبیعته فأنه یطالب باسم حقه الطبیعی ان تکون شروط استثمار العمل متساویة بالنسبة الی الجمیع فی سائر مجالات الانتاج. وهکذا فان التمدید القانونی لعمل الاطفال فی احد فروع الصناعة یؤدی الی تحدیده فی الفروع الاخری.(2)

ص:66

ولم تختلف کثیراً الاتفاقات مع الرجال والنساء عن الاتفاقات مع الاطفال.

حوادث وفجائع:

وقد اصیب العمال من الجنسین علی اثر ارهاق العمل وضؤلة الاجور بأزمة إقتصادیة وصدمة صحیة بعیدة الاثر فی حیاتهم، غیر ان ضحایا الاطفال کانت اکثر واکثر لطفولة عضلاتهم ومرونة قوائمهم الوانیة عن مقاومة الارهاق الدائب.

نکتفی هنا بالوقوف علی نقطة واحدة هی النسبة العالیة لوفیات ابناء العمال فی السنوات الاولی من حیاتهم، ففی إنکلترا 16 مقاطعة تجری فیها الاحصاءات حیث لا تقع فی السنة سوی 9000 حالة وفاة وسطیًا من أصل 000 ر 100 طفل!

ونجد فی 24 مقاطعة أن هذه النسبة تبلغ: 10-11 ألف وفاة، وفی 39 مقاطعة 11-12 ألف وفاة، وفی 48 مقاطعة 12-13 ألف وفاة، وفی 22 مقاطعة اکثر من 22000 وفاة، وفی 11 مقاطعة اکثر 23000 وفاة.

وفی مناطق (هو) و (وولفرهامبثون) و (برستون) اکثرمن 24000 وفاة، وفی مناطق (نوتنغهام) و (ستوکسبورت) و (برادفورد) أکثر من 25000 وفاة، وفی مقاطعة (ویسبیتش) 26000 وفاة، وفی (مانشیستر) 26125 وفاة.(1)

وقد أثارت هذه النسبة العالیة للضحایا هیجة ساریة الجئت الحکومة إلی

ص:67

تحدید عمل الاولاد قبل الثالثة عشرة ب - 6 ساعات فقط. غیر أن هذا التحدید لم یحد من جشع الرأسمالیین، فالکثیرون لم یخضعوا لهذا التشریع نهائیاً متسترین بألفاظ وأسماء والاخرون جعلوا یشترون ضمائر الاطباء المکلفین بالتفتیش عن أعمار الاحداث فی المعامل فکانت التقاریر تتفق مع المواد القانونیة عندما کان الواقع یکذبها, لکن الاطفال ربحوا بعض شیء عن هذه الضجة الصاخبة وخفت فیهم نسبة الوفیات والامراض نسبیاً. غیر أن المرأة لم تجد لها نصیراً فظلت تعمل إلی جانب الرجل وتأخذ اجور الاطفال(1) رغم ان قواها الجسدیة کانت تقصر عن قوی الرجل.

وهکذا خسرت صحتها(2) واسرتها دون ان تربح شیئاً.

ص:68

تحطیم الاسرة:

فالفتاة التی تستنزف نشاطها وطاقاتها فی المعمل تقصر عن القیام بفرائض الزواج وإنجاب الاطفال.

والرجل الذی ینبو راتبه عن إعالة نفسه یجمح عن النهوض بواجبات الزواج وتکالیف الاسرة ونفقاتها الدائمة مهما کلفه الامر خصوصاً وکلاهما یجدان فی نفس المعمل أو خارجه ما یشبع الرغبة الجنسیة، کما یسجل هذه الملحوظة العامة الدکتور (سیمون): بالرغم من کون وجهة نظری الرسمیة هی صحیة تماماً فان أبسط العواطف الانسانیة لا یمکن أن تسمح بتجاهل المظهر الاخر للشر, ذلک أنه (فرط الزحام) یتضمن بالضرورة - تقریباً - فی درجاته العلیا إنکاراً مطلقاً لکل حیاء وإختلاطاً قذرًا للابدان والوظائف البدنیة وعرضاًً للعری الحیوانی والجنسی هی قمینة بالوحوش بالاحری من الانسان. وإن الخضوع لمثل هذه التأثیرات یشکل إنحطاطاً لا بد أن یصیر أعمق فأعمق بالنسبة إلی اولئک الذین یستمر فعلها فیهم، وأما الاطفال الذین یولدون تحت ظل لعنتها فما اکثر ما تشکل لهم معمودیة للفجور(1).

وکما أعلنت لجنة طبیة التقریر التالی:

إن نساءاً متزوجات یعملن فی جماعات مع فتیات وشبان یوضعن تحت تصرف المزارع مقابل مبلغ معین من المال یتقاضونه من شخص یحمل اسم

ص:69

رئیس العصابة وهو لا یبیع هذه العصابات إلا کاملة.

وکثیراً ما یکون میدان عمل هذه العصابات بعیداً عن قراهم مسافة عدة أمیال ویراهم المرء صباح مساء علی الطرقات العامة النساء منهم یرتدین تنورات قصیرة ومناسبة ویلبسن أحذیة وسراویل فی الاحایین قویات ممتلئات صحة، لکن مفسدات بذلک التحرر الاخلاقی المألوف عندهن غیر ابهات مطلقاً للعقابیل المقیتة التی ستنشأ عن هذا النوع من الحیاة النشیطة والعجزیة بالنسبة إلی ذریتهن التی تبقی فی الدار وحدها وتفنی وحدها(1), فاذا علم الرجل المعسرأنه یستطیع أن ینال الارتواء الجنسی عن غیر طریق الزواج وحتی لو تزوج بامرأة فانها لا تختلف عن سائر نساء المعمل المائعات، فلا بد بعد ذلک أن یستغنی عن الزواج, کما ان الشابة الطالعة سوف لن ترضی أن تربط نفسها بعجلات الاسرة وهی تحلم بالانطلاق الکامل وتسعی لاقتحام الوظائف وإستلام المناصب وتسنم المسؤلیات(2), وهکذا إمتنع کل من الجنسین عن الزواج إستغناءاً بالبغاء وتبرماً عن تحمل تبعات الزواج من النفقات والتکالیف والالتزام بالمراسیم السائدة وإنجاب الاطفال حتی أصبح معدل الرجال

ص:70

والنساء الذین یتزوجون فی فرنسا الیوم لا یعدو سبعة أو ثمانیة فی الالف.(1)

اشاعة الفحشاء:

کل هذه العوامل کان لها الاثر البعید فی تجرید المجتمع من کل معنی من معانی الفضیلة واشاعة البغاء المکتوم والتفسخ الخلقی الرهیب اضافة علی ان استخدام المرأة فی الوظیفة او المعمل یعنی استباحتها لمن یرأسها ولمن هو اعلی رتبة منها, والیک بعض ما جاء فی استجوابات تقریر لجنة التحقیق عام 1840: - ما رأی عمال المناجم فی عمل النساء فی المناجم؟

- انهم یدینونه علی العموم!

- لماذا؟

- هم یجدونه مذلاً للجنس، مسیئاً الیه, ان النساء یرتدین ثیاب الرجال وانهن یلقین بالحیاء جانباً فی بعض الاحوال.

- اترید اذن تحریم عمل النساء فی المصانع ایضاً؟

- کلا، لا ارید ذلک!

- لم لا؟

- ان العمل فی المصانع اکثر حرمة وموافقة للجنس المؤنث!

- ومع ذلک فانت تعتقد انه یسیء الی اخلاقهن؟

ص:71

- ولکن لا یسیء الیها بقدر ما یفعل العمل فی المناجم، بل ان الفارق الشاسع بین العملین وعلی ایة حال فانا لا اقول ذلک عن وجهة النظر الاخلاقیة فحسب، بل من وجهة النظر الحکمیة والاجتماعیة ایضاً، ان الانحطاط الاخلاقی للفتیات لشدید وفاجع وعندما یصبح هؤلاء الفتیات زوجات عمال المناجم فان الرجال یتألمون کثیراً من انحطاطهن وهذا ما یؤدی بهم الی هجران البیت والانکباب علی الخمرة.

- أیمکنک ان تکشف فارقاً بین هذین الصنفین؟

- لم اتأکد من ای شیء لکننی اعرف من زیاراتی الی البیوت المختلفة الحالة الفظیعة التی تدهورت الیها الاشیاء فی مقاطعتنا.(1) ومضت مدة منعوا فی انکلترا إستخدام النساء المتزوجات کی یتفرغن للاعمال البیتیة التی لا بد ان یزاولها فرد من افراد المجتمع ویتکفلن حضانة اطفالهن ویبتعدن عن مساقط الاعراض, وقد اعلن استبشاره بهذه الظاهرة المفتش (بیکر) فی تقریر رسمی: (انه سیکون من حسن حظ المناطق الصناعیة فی انکلترا حرمان کل امرأة متزوجة وربة عائلة من الاشتغال فی ای معمل کان).(2)

غیر ان ضئولة اجور العمال والغلاء لم یسمحا للزوجات ان یستقررن فی بیوتهن, فعدن الی مراکزهن واخذت تتنزی علی مسرح العالم البوادر السیئة والعواقب الطبیعیة المترقبة التی اثارت حفیظة الاباء وثائرة المصلحین، غیر انهم

ص:72

لم یجدوا الی مکافحتها سبیلا وحاولوا التغاضی عنها فلم یسعهم ذلک، حیث بلغت من الصفاقة والصراحة ما لم یخف علی احد.

اخلاق مفتعلة:

فتوسلوا الی تبریرها بوضع فلسفة جدیدة للاخلاق ونسخ النظریات الفطریة والدینیة زاعمین: ان الواقع الذی امام اعینهم لیس فساداً خلقیاً، وهبوطاً وتردیاً، وانما هو من مظاهر الحریة والانطلاق والنهضة والارتقاء والتطور یقضی ان یکون المتاع الجنسی - الیوم - عن طریق الزواج، فأن کان بالامس یجمعهما رباط الزواج فالیوم یجمعهما رباط العمل المشترک، او الصداقة. ثم اتسعت هذه السفسطة فی الاونة الاخیرة، فجعلوا یقولون: واذا کانت الصداقة مبررة لتعاطی اللذة الجنسیة فلماذا یکتب التباعد بین الاقارب انهم لا یختلفون عن الاباعد فی ذلک! وما دامت تلک فلسفة الاخلاق - لدی الرأسمالیین - فلیس من الغریب ما شاع فی بعض الاقالیم الفرنسیة والمدن الصناعیة الاخری من وجود العلاقات الجنسیة بین الاقارب فی النسب کالاب, والبنت, والاخ, والاخت...(1)

استخدام الغریزة الجنسیة:

ولم یقف الامر عند هذا الحد، فالاثرة الرأسمالیة المعروفة بحریة التجارة المطلقة أبت إلا افتتاح نوافذ الی افاق جدیدة للتجارة باستخدام الغریزة الجنسیة

ص:73

لانها مکاسب مشروعة فی نظر الاقتصاد الرأسمالی، واذا کانت النفوس تتقزز منها یوم کان لها دین فالیوم قد انسلخت من دینها تهلع الیها هلعاً عمیقاً، لذلک اخذوا یتدرجون فی هذه المزالق الرهیبة الدکناء.

إستخدام الصحافة:

فابتدروا الی الجرائد والمجلات وجعلوا یدمجون فیها القصص والمقالات الغرامیة واستثاروا فی هذا السبیل اعلی ما حباهم الله من مواهب، وفنون، وعلوم, وشجعوا الادب المکشوف وافرغوا له قسماً من الجرائد والمجلات، اما القسم الاخر فان لم یکن مخصصاً بذلک، الا انه لم یخل علی ای حال من رکن، او ارکان موضوعة للفنون الجمیلة, وحیث لاقت الصحافة الماجنة من الاعجاب وتهافت القراء ما لم تنله الصحف من قبل.

کتب خلاعیة:

اخذ الکُتَّاب یُکرسون جهودهم لاخراج الکتب والرسائل فی القضایا الجنسیة وفنون الرقص والغناء واغراء العواطف واستجواب القلوب وال -...

ولم یفلت من کیدهم ان یمدحوا مهنتهم الفاجرة بألوان من الاطراء الرفیع والکلمات الخلابة النبیلة حتی اصبحت الفنون الجمیلة والاداب الجنسیة من ارقی الفنون، فلم یعد الان تألیف کتاب ملیء بأنواع الخلاعة المکشوفة البارزة مخزاة او مغمزاً للمؤلف, بل المؤلفون یتبارون بانهم مرهفون ویتباهلون ببراعة

ص:74

کتبهم وان نالت لدی الناس حظوة وقبولاً فسیجازون اما بعضویة المجامع العلمیة، او بشرف (کروی دونور(1)) او بجوائز (نوبل) باعتبارها خدمة للانسانیة وکم بلغ کتاب الجنس مصاف المثرین الکبارمن امتیازات کتبهم, ولم بفتهم بعد ذلک ان للشعر فتنة سحریة تنقر علی ارهف وتر ینبض فی القلوب والمشاعر ویغذی الموسیقی بمعین لا ینضب من الخواطر الحدیثة.

صور المائعات:

وان الصور الفوتوغرافیة والمجسمات العاریة تلهب الشهوات الدفینة والغرائز الهائجة وتفعل بالعواطف ما لا تفعله الحقائق الصارخة لذلک کله عمدوا الی استخدام الشعر والفوتوغراف ومصانع المجسمات کی یصرفوها فی مقاصد الاغراء والمجون حتی یسنح لهم استخراج اکبر قسط من أموال الناس من جیوبهم، ولذلک لا تجد الیوم اعلاناً تجاریاً فی الصحف الا وسمته البارزة صورة امرأة مبتذلة کأنه لم یعد من الممکن أن یکون اعلان ما وافیاً بالغرض بدون وجود الاغراء الجنسی حتی أصبحت صور العاهرات والعواهر فی حالات مریبة اقوی جهاز للدعایة والمعایدة والالفات.

وقد کان للمطابع, ودور النشر، والاذاعة، والتلفزیون دور ناجح فی تنشیط قفزة المیوعة والاستهتار.

ص:75

أدوات الاغراء:

ولم یفلت من دهاء التجار استغلال غریزة التبرج التی خامرت فطرة المرأة، فتفننوا فی ابتکار ادوات الزینة والترف واشاعوها فی المجتمع کی تصبح من الحاجات الاساسیة للمرأة لیربحوا منها فیضاً وفیراً وابتدعوا الازیاء الکاشفة المغریة واکثروا الغوانی الفاتنات لیرتدینها ویغشین بها النوادی والحفلات حتی یفتتن بهن الشباب النزق وتغرم الفتیات بتلک الازیاء الجدیدة والالوان الزاهیة من الثیاب الفضفاضة الرقاق وتذرعوا بهذه الطریقة لا ستدرار اموال الناس.

النساء المغریات:

ثم کان التنافس الحر وکان التجار یعلقون القطع واللافتات الکبار علی قارعة الطریق وعلی ابواب الحوانیت لیجلبوا بها انتباه المستهلکین, غیر ان التجار - جمیعاً - کانوا یفعلون ذلک حتی اصبح شیئاً مکرراً لا یلفت الانظار ثم بدا لهم من بعد ما رأوا فشل هذه العملیة ان یعمدوا الی الکواعب الحسان فیلتقطوا منهن اجمل فتاة آسر الجمال لیحلوها بأروع الازیاء والحلی والمباهج ویستخدموها مکان اللافتة فی الحوانیت لتعرض الامتعة علی المستهلکین وتتماکس علی الثمن, وفی الحقیقة لم یکن استخدامها لأداء هذه الوظائف وانما جیء بها لتکون دمیة تعمل فتنتها المغناطیسیة الاخاذة فی الرجال فترغمهم علی شراء حوائجهم من عندها دون أن یما کسوها طویلاً حتی أنک الیوم لن تجد فی المدن المزدحمة معرضاً، ولا فندقاً، ولا مقهی، ولا سینما، ولا حانوتاًإلا وفی صالته فتاة متحلیة بأحدث المغریات تستقبل الوراد بغنجها ودلالها.

ص:76

لقد سممت هذه العوامل الموبوئة أجواء العالم کله وسلخت من البشریة کل خاطرة من معانی الاخلاق والفضیلة ونازعت حتی الدرهم من ید البدوی التائه، ولکنها لم تنجح فی إشباع مطامع الرأسمالیین فأرادوا التوسعة فی الاستغلال وحاولوا لو یبتدعوا فتنة تقهر مختلف الطبقات والاصناف علی التعریة من أموالهم لتنصرف إلی ایدی نفر من تجار البشریة وخزان الفضة والنضار.

المسارح وال -....

فعملوا المسارح، والملاهی، والسینمات، والمقاهی، والحانات، وأبهاء الموسیقی، والمسابح المختلطة، ونوادی العراة، ثم دور الدعارة و... ما ینبو عنه القلم واستخدموا الغید والغلمان وصنعوا للمراهقین والمراهقات وسائر الممثلین والنجوم جمیع أدوات التبرج والاغراء الصارخ وجعلوا یعرضون فیها علی المنصات الاجساد المثیرة العاریة أو شبه العاریة وکل ما تحفل بها من فنون الدلال والغجر وعمموها لمختلف الطبقات وفی کل مکان کی لا یشذ عنها أحد حتی فلاح المزرعة وإن أوتی المعجزات من العصمة وقوة العقیدة والثبات والدین والاخلاق حتی ألهبوا الدنیا ضراما وحولوها إلی بؤرة فساد تضج بالاوبئات الغفالة الموبقة واتسع الفجور حتی أصبح میدان الشارع، والنادی، ووسائل المواصلات...(1), وحتی أصبحت النساء فی البلاد المزدحمة - إلا

ص:77

النادرات - مشاعة رسمیة قانونیة دون أیما تأثم او استنکار وحتی سیطرت الشراهات البهیمیة الدنیئة علی الرکائز الانسانیة النزیهة فأمست المرأة متعة قبل کل شیء وان غروها بألف شیء وشیء وحتی امست.

وسأنهی هذه المأساة الطویلة بتسجیل هذه الحقائق التالیة کشواهد علی مدی سقوط الانسانیة فی ظل النظام الرأسمالی الخلیع.

مباذل:

قد یقیم العشیق مع عشیقته وزوجها فی منزل واحد ویعیش الثلاثة فی هذا الوضع علی اتم وفاق! وهذا الوضع منتشر انتشاراً کبیراً فی فرنسا علی الاخص ویسمونه هناک (التعایش الثلاثی).

وفی السوید تعطی الزوجة حق اختیار صدیق یکون له ما لزوجها من حقوق, وفی امریکا لا تکاد الفتاة تبلغ سن الرابعة عشرة حتی یکون لها خدن یظل یعاشرها معاشرة الزوج لزوجه حتی تتزوجه او تتزوج غیره(1), وحتی

ص:78

مطلع القرن العشرین لم یبلغ التفسخ الخلقی الی هذه الدرجة من الصراحة، بل کان زنی الرجال امراً هیناً طبیعیاً یغضی عنه الاباء بشرط ألا تصاب ابنائهم بالامراض السریة, وربما کانوا یتباشرون او یلحون علی ابنائهم ان یخادنوا امرأة لها مکانة مالیة او اجتماعیة، وذلک ضماناً لمستقبلهم, ولکن نظریتهم بشأن المراة کانت مختلفة عن ذلک جداً الی تلک الاونة، فکان عفاف المراة شیئاً له قدرة وقیمته واولئک الاباء الذین کانوا لا یرون بأساً بخلاعة ابنائهم معتذرین عنها بسورة الشباب، کانوا یغارون علی اعراض بناتهم ویحرصون علی برائتها من کل وصمة سوء, غیر ان هذه الظاهرة الحسنة تقلصت بعد صراع طویل مع المتباکین علی حقوق المرأة والمطالبین بمساواتها مع الرجل حتی لم یعد تعلق المرأة بالرجل شیئاً یدنس عفتها وکرامتها کما ان الشذوذ الجنسی اصبح امراً مشاعاً فی الاوساط وبصورة فی المتزایدة فی المدارس والکلیات و... کما یتحدث عن ذلک الدکتور (هوکر): (انه لا تزال فی مثل هذه المدارس، والکلیات، ودور التربیة للممرضات حوادث من تسافح الولدین من الجنس الواحد فیما بینهما وقد تلاشی - او کاد - میلهم الطبیعی الی الجنس المخالف(1)..).

وقد کتب القاضی (لندسی) الامریکی: (ان خمساً واربعین فی المائة من فتیات المدارس یدنسن اعراضهن قبل خروجهن منها وترتفع هذه النسبة کثیرًا فی مراحل التعلیم التالیة: ان طالباً فی مدرسة ثانویة تکون عواطفه دون عواطف الطالبة شدة والتهاباً، فالصبیة هی التی تقدم ابداً وتأمر وما یفعل الصبی إلا ان

ص:79

یتبع ویأتمر(1).

وقد کثرت الفواحش - علی الاخص فی الامم الراقیة فی بادیء الامر بصورة غیر منتظمة فمثلاً ان النساء اللواتی اتخذن من الفحشاء حرفة برأسها فی امریکا کان یقدر مجموعهن - علی اقل التقدیر - بین اربعمائة وخمسمائة الف(2) وفی فرنسا کان عدد البغایا المحترفات قبل الحرب العالمیة الاولی نصف ملیون(3) فکان علیهن ان یستخدمن لهذه الحرفة الجرائد, والبطاقات المصورة، والتلفون، ورقع الدعوة الشخصیة حتی جاء قوم فمهدوا الاسباب لا کراء النساء وتقدموا بحرفة البغاء الی ان اصبحت تجارة دولیة منظمة(4) ، کما صرح موسیو (فردینان دریفوس) احد اعضاء المجلس الفرنسی قائلاً:

(ان حرفة البغاء لم تعد الان عملاً شخصیاً، بل قد اصبحت تجارة برأسها، وحرفة منظمة، بفضل ما تجلب وکالاتها من الارباح الغزیرة فلها فی هذه الایام وکلاء یهیئون (المواد الخام) واخرون یتجولون فی البلاد ولها الان اسواق منظمة تستورد فیها وتصدر منها الفتیات والصبایا کالاموال التجاریة, واکثر ما یطلب فی هذه الاسواق من الاموال هو بنات دون العاشرة(5).

ص:80

ویکتب (بول بیورو): (ان هذا العمل (احتراف البغاء) قد اصبح فی زماننا نظاماً محکم الترکیب یجری بما شئت من التنظیم علی ایدی الموظفین، والعاملین المأجورین، والخطباء، والمحاضرون، والاطباء، والقابلات، والسیاح التجار، ویستعمل له کل جدید من فنون النشر، والعرض، والاعلان(1).

ومن اکبر اسواق البغاء فی امریکا عواصم (نیویورک) و (ریودی جنیرو) و (بونس آیرس)، ولکل من المرکزین الاکبرین من مراکزه التجاریة فی مدینة (نیویورک) مجلس تنفیذی ینتخب رئیسه وامینه بطریقة الانتخاب المألوفة ولکل من تلک المراکز مستشارون من رجال القانون یراقبها مصالحها اذا هی وقعت فی قضیة قانونیة، ثم تستخدم تلک المراکز نخاسین لمراودة الفتیات عن انفسهن یتجولون فی البلاد بحثاً عن الصید.

ومن امتداد نفوذهم فی المجتمع انه عنی رئیس رابطة الجالیة ب - (شیکاغو) ذات مرة باحصاء عدد الفتیات المغویات فی مدة خمسة عشر شهراً فعلم انه وردت علی مکتب الرابطة رسائل (207000 مائتین وسبعة الآف) فتاة اخبرن فیها المکتب بکونهن فی الطریق الی شیکاغو.(2)

ص:81

ص:82

نضاله الطویل, کما تطور الی صورة مغریة کسبت السلطات إلی جانبها وتطور منطقها أیضاً، فأخذت الجماهیر تنادی: إن الدولة الجمهوریة لا تکون إلا مظهراً لمصالح الجمهور الذین ینظمون قوتهم السیاسیة فی صورة هذه الدولة فأی شیء إذن یدعو إلی الاحرار علی ان تکون الحکومة الجمهوریة محدودة العمل ضیقة النفوذ، کما کانت الحکومات الملکیة من قبل. إن الواجب علی الحکومة الجمهوریة أن تعمل للمصلحة الجماعیة علی الوجه الایجابی، واذا وجدت المظالم فی المجتمع فعلیها أن تعمل علی تدارکها بوضع القوانین وبتدخلها الاداری المسلح کادت التجار أن تخسر المعرکة تجاه هذا المنطق، کما خسرت البرلمان الیوم أن اصبح حق التصویت مشاعاً للجمیع.

برکان الحرب:

لولا ان انفجر برکان الحرب التی هزت العالم هزاً ونازعت الارواح وأطاشت الافکار وانتهزت الفرصة التجار، فرفعوا اجور العمال قلیلاً ورفعوا الاسعار أضعاف ذلک وتناسی العمال مطالیبهم واستسلموا للاقدار التی تحلق علی رؤوسهم والبلاء الذی یحیق بهم وانصرفت الحکومات عن الشعوب وطلباتها واخذت تختلس أنفاسها الاخیرة وهی تطفوا وترسب فی غمرات الحرب.

انفجارات:

فأهدرت حقوق العمال وتضاعفت قسوة الرأسمالیة وکان لا بد من ذلک, غیر ان الارض أخذت ترتجف وتلاحقت علی الرأسمالیین ضربات قاسیة من

ص:84

مطارق حدیدیة أیقظتهم فی مخادعهم, فقد قامت الشیوعیة فی روسیا حتی استئصلت دابر البورجوازیة بالحدید والنار وانفجرت (الفاشیة) و (النازیة) فی (إیطالیا) و (المانیا) فحصرتا البورجوازیین والعمال - جمیعاً - فی نطاق جبری ونظام حدیدی.

هذه الانفجارات الرهیبة حاسبت الرأسمالیة والقت بصیصاً من الضوء علی جرائمها الوحشیة وهددتها بالمصیر الاسود القریب, فما انفکت تقبل فی نظامها الاقتصادی الحر القدیم بما کانت تلقاه من ضغط العمال وقوة الجمهور المتزایدة تارة ومن تلقاء نفسها أخری، التعدیلات التالیة:

تعدیلات:

1 - رفع اجور العمال والمستخدمین والتقلیل فی ساعات العمل، والرفق فی احوال الاشتغال، وإعفاء النساء والاطفال من العمل والخدمة - فی بعض الاحوال - والاحتفال بنفس العامل وصحته، والعمل علی تحسین بیته وبیئته بالنسبة لها من قبل، والتدارک - ولو بشیء یسیر - عند مصابه بضرر فی البدن والترویج لبعض مشروعات التأمین الاجتماعی.

2 - قد سلموا بصفة رسمیة فی کل شعبة من شعب الاقتصاد بنقابات العمال والاجراء ومنظماتهم من حیث هی ممثلة لهم ومجازة بالمفاوضة عنهم، کما اعترفوا بمشروعیة بعض التدابیر العملیة التی تساعد العمال والاجراء لحمل المستأجرین(1) وأصحاب المعامل علی إجابة مطالبهم.

ص:85

3 - فوضوا للحکومة صلاحیة التحکم بین رأس المال والعمال وکذلک عینت الصور القانونیة والبنود القضائیة والجنائیة المختلفة لفصل الصراع القائم بینهما.

4 - اعترفوا بالمبدأ القائل: (ینبغی ان یفرض علی الاستثمار الفردی من القیود والحدود مالا یعود معه مضراً بالمصلحة الاجتماعیة ولا یقوم بفرض مثل هذه القیود والحدود إلا الحکومة) المحایدة نسبیاً.

5 - نهضت الحکومة ببعض الخدمات الاقتصادیة العامة کالبرید, والتلغراف، والتلفون، والقطر، وإنشاء الطرق والشوارع وتعهدها, وإنبات الغابات، وتوزیع المیاه فی المدن والبساتین والاراضی الزراعیة، وتولید الکهرباء وتوزیعها، وتحدید العملة ورقابتها.

6 - وفر للعمال والاجراء الحق فی الاشتراک مع أصحاب الشرکة, وذلک بتقسیم الشرکة إلی سهام رخیصة یستطیع العامل الوضیع أن یدخر من اجره کل یوم شیئاً حتی یشتری به بعض السهام، وقد اختیرت فی بعض البلاد صور ینقد العمال والاجرا فیها - وفقاً لقواعد معینة - قسماً من اجورهم ومشاهراتهم ویضم الجانب الاخر منها إلی رأس مال الشرکة من قبلهم. وهکذا اصبح کثیر من العمال والاجراء شرکاء فی ملکیة شرکتهم، أو مجموعة شرکاتهم الائتلافیة حتی ان فی بعض المعامل

ص:86

الثقیلة نحو 80% او 90% من عمالها شرکاء فی ملکیتها، ولا تزال نسبة شرکتهم فی نمو مطرد بمالهم من السهولة فی اشتراک الاسهم بالتقسیط من الاموال ما یؤمن حاجاتهم لأنهم یعملون بأجور ضئیلة، أو لا یجدون العمل.

فلنأخذ قضیته من القضایا الحیاتیة کقضیة تأمین المساکن، ونذکر علی سبیل المثل ما جاء فی (سجل الوقائع) الموضوع من قبل اللجنة الوطنیة للحزب الدیموقراطی فی الولایات المتحدة من: أن 15 ملیون شخصاً یعیشون فی الاحیاء الرثة القذرة وأن شروط السکن غیر متوفرة فی 13 ملیون بنایة (أی ربع مجموع البنایات) وأن 7 ملایین بنایة فی المدن غیر صالحة للسکن من جراء تداعیها بصورة رهیبة.(1)

افناء البضائع:

الکثیر من الغلة، والفواکه، والمعلبات، والبضائع الاخر تفسد أو تبور علی أثر الاحتکار فیحرقونها، أو یقذفونها فی البحر کل عام, وربما تصاب الاسواق بالتخمة نتیجة لتدفق الانتاج فیهدد الرأسمالیین بتخفیض الاسعار، فیعمدون إلی استعمار الشعوب الضعیفة لصرفها فیهم، أو یحرقونها قبل أن یأتوا بها إلی السوق خشیة الرخص والرخاء کی تبقی الشعوب جائعة حتی لا یعز علیها دفع الاثمان الفادحة بازائها.

ص:87

إهمال العجزة:

ففی المجتمع الرأسمالی لا تعتبر الدولة, ولا المجتمع، ولا الطبقة المالکة نفسها مسؤولة عن کفالة أولئک الملایین الذین یتعطلون عن العمل رغم قدرتهم علیه، أولا یقدرون علی العمل لکبر سنهم أو صغرها، أو یعجزون عنه موقتاً أو دائماً. أما التأمینات الاجتماعیة فأنها أسماء اکثر مما هی حقائق وإن وجد بعض هؤلاء معونة - علی سبیل المصادفة - فهو حظ لا تأمین ونظام.

تشنج الاقتصاد:

فالرأسمالیون یرفعون الاسعار - حینما یشاؤن - إلی ارقام خیالیة ویحدثون القحط المصطنع بخطط مرسومة ومؤامرات یحبکونها بطرق المساومات السریة والمقامرات التجاریة التی تلعب بالتجارة لعب الامراء بالشعوب.

دوران التجارة:

وهذه الالاعیب الصبیانیة التی یزاولها التجار تتضخم فتصیب الشعوب بصدمات اقتصادیة منهکة فیکون رد فعلها نوبات الکساد والبوار التی تنتاب الاقتصاد العالمی غب کل فترة مسعورة ونشاط محموم ینبجس فی صمیم التجارة العالمیة.

ذلک أن جشع التجار یحفزهم إلی الاکثار من التطورات التجاریة والتلونات فی استنزاف ثروات الشعوب باختلاق الاسالیب الفنیة فی ابتداع المفاتن الکمالیة وأدوات التسلیة والترف والاغراء فیلهون بذلک عن إنتاج البضائع الاساسیة, غیر أن الناس لا یشعرون بشیء فی باکورة الامر، وإنما یقبلون علی اقتناء هذه البدائع الخلابة فینهمک التجار فی الاستزادة منها وتطویرها، وإطلائها بشتی

ص:88

المغریات. هکذا ینقضی دور متحفز نشیط فی تاریخ التجارة وفجأة یشعر الناس بأن جیوبهم قد فرغت أو تکاد فیتراجعون عن شراء الکمالیات وفجأة یحس التجار أن المخازن والاسواق قد نفضت اخر (لتر) من البضائع الاساسیة عندما یرون أن البضائع الکمالیة الواردة الی مخازنهم لا تستهلک بسرعة مناسبة فیتوقفون عن الطلب، والصناع عندما یرون هذا الوضع یمسکون عن الانتاج والرأسمالی حینما یتفرس التوتر وعلائم الخطر یمتنع عن الاقراض ویستعجل فی استرداد ما أقرضه من قبل, وعندما تلمح الحکومة ضعف میزانیتها تحدد نفقاتها، وهکذا تخفف المعامل والمصانع إنتاجها وتخفض الاسعار إلی ارقام اسمیة ویقلل العمل وتسف الاجور فتعم البطالة ویکشر الکساد عن أنیابه وکل خطوة تقهر هکذا تقهقر خطوات عدیدة أخری معها حتی أذا وقف التجار علی نقطة التحول وعرفوا أن الناس مقبلون علی البضائع الاساسیة - علی حین ندرتها - تحولوا عن موقفهم السلبی إلی إنتاج واستیراد البضائع الاساسیة فتدب الحرکة فی اسواق البضائع الاساسیة ویخیم الکساد علی أسواق الکمالیات, عند ذلک یقرر المصیر لطائفتین فتحتم الخسارة علی أصحاب المعامل التی تنتج أدوات البذخ والترف وأرباب المخازن المتخومة بالکمالیات بینما یکتب الموز لتجار المواد الغذائیة والانشائیة، ومالکی معامل النسیج وسائر البضائع الاساسیة.

هکذا تفرط تجار من حلبة التجارة وینظم اخرون من الطبقة الواطئة إلی المباراة, وهذا الداء المعروف ب -: (دوران التجارة) یلاحق الرأسمالیة ملاحقة الظل للانسان.

ص:89

تفسخ المجتمع:

وهذا النظام لا یحترم حاجات الافراد ولا یدع المجتمع علی ما یجب ان یکون علیه، وأنما یقدس ما یجلب الاموال بسرعة وسهولة، ولیتحطم المجتمع کله علی أکوام النضار, فحتی الان تعتبر المنافع الشخصیة مقیاساً وهدفاً للحیاة، ولا یزال الاقتصاد العالمی یترکز علی الربا، والاحتکار، والخمر، والقمار.

اخماد الثورة:

هذه النقائض والنقائص، والکثیرة من أمثالها لا تزال موجودة فی الرأسمالیة الجدیدة المقیدة کما کانت فی الرأسمالیة الحرة، فی القرن التاسع عشر, وذلک ما یدل علی أن الرأسمالیین لم یفکروا ولن یفکروا فی اتخاذ التدابیر الجذریة لمعالجة هذا النظام وفق المبادئ الانسانیة النبیلة والذی حصل حتی الان ان الطبقات البرجوازیة ظلت تعدل مناهجها علی قدر ما لقیت من ضغط العمال واحست بخطر الشیوعیة بین آن وآخر وبقدر ما یخفف سورة العامة وغضباتها النکراء ویسد الطریق علی الشیوعیین فی استغلال رئاسة العمال ویخدر الاعصاب الثائرة علی الرأسمالیة والرأسمالیین دون أن تکون هناک أیة رأفة بالعمال، او ای تقدیر لحقوقهم ومشاعرهم.

تقریر:

فالنتیجة الملخصة ظهر ان هذا النظام فاشل لا یستطیع حل المشکلة الاقتصادیة وهی توزیع السلع والخدمات علی الافراد وتشجیع الطبقات وغذیها بالحقوق القانونیة المسلحة, ولم یستطع ان ینظم الاقتصاد فی نطاق الادیان

ص:90

والاخلاق فاضطر الی الی تحطیم الادیان والاخلاق وجماع القیم والفضائل وهکذا جرد المجتمع من الایثار والتراحم والتعاطف والثقة المتبادلة وکل ما یرفه عن الانسان فی الحیاة وابدلها بعراقیل وقیود مضنیة وصراع عسکری مسلح.

وهاته الفکرة المادیة الهوجاء عصفت بالمجتمعات الرأسمالیة حتی جعلتها علی جرف هار یتأرجح للسقوط, ثم انطلقت تصب علی العالم الاستعمار والحروب, کما ان کل بند من بنود هذه الفلسفة وکل ما جاء فیها من تفاصیل واحکام مغلوطة متفاقمة التناقض تعرقل سیر الاقتصاد وتحرفه عن منهاجه الکامل الصحیح.

هذه هی الرأسمالیة:

وتلک بعض سیئاتها ومفاسدها التی اباحتها بکل صفاقة وجرئة تبعاً لحریة التجارة والاقتصاد التی اعلنتها بادیء ذی بدء، فصبت العذاب الالیم علی رأس الانسان وهی الان وبعد ما وقفت علی اخطائها وجرائمها لا ترضی ان تعلن انهزامها من المیدان عناداً لا لشیء، ولقد آن للناس ان یعرفوا الفکرة الرأسمالیة لا تصلح شیئًا من حیاتهم الاقتصادیة، فلا بد ان ینبذوها لا الی الاشتراکیة ولا الی الشیوعیة فهماً اسوأ من الرأسمالیة, بل الی الاسلام.

ص:91

ص:92

لا توجد هناک مباراة فی میدان حتی ینشب الصدام علی النتیجة, وبعد ذلک لا تبقی حاجة او فائدة للدولة هنالک یعود الانسان الی حالته الطبیعیة، ویلغی القیود والحدود المفتعلة کما کان اول یوم وضع قدمیه علی الأرض، فقد کان یعیش فی مجتمع شیوعی تسوده الفطرة البشریة الطاهرة غیر الملطخة بالحضارة والمدنیة.

تلک هی فلسفة الشیوعیة الاساسیة التی انفصلت منها القوانین والبرامج وتتلخص هذه الفلسفة فی الصیغتین التالیتین:

1 - فطرة الإنسان لیست مختمرة بحب الذات، أو الاستغلال والاستعباد، وإنما هی فطرة جماعیة لا فردیة، وانما طبعتها البیئة بطوابع یمکن تجریده منها وإعادته إلی ما کانت علیه أول یوم.

2 - إن المراحل التی مرت بها البشریة عبر التاریخ والقرون هی:

أالشیوعیة الأولی.

ب الرق.

ج الإقطاع.

دالرأسمالیة.

ه الشیوعیة الثانیة.

مرحلة التطبیق:

فیستنتجون من ذلک کله انه لا بد من اعادة الفترة الشیوعیة الاولی لاسعاد البشریة وازدهارها ولا بد لذلک من:

ص:94

1 - استیلاء (البرولیتاریا(1) المتمثلة فی الحزب الشیوعی علی الحکم بالقوة والعنف.

2 - القضاء علی رأس المال والربح الناتج منه.

3 - القضاء علی کل ما یعزز کیان الفرد ویوقظ فیه النزعة الفردیة وذلک بانتزاع الملکیة الفردیة وبعثرة العائلة.

4 - تأمیم وسائل الإنتاج(2) بمصادرة الثروات وجعلها ملکاً للمجموع.

5 - القضاء علی الطبقات وعلی البرولیتاریا ذاتها بصفتها طبقة.

6 - تجرید المجتمع من الدین والأخلاق وکل ما یعرقل سیر الشیوعیة من القوانین السائدة فی البلاد.

7 - إجبار الأفراد علی العمل حسب طاقاتهم.

8 - توزیع البضائع حسب حاجات الأفراد.

9 - القضاء علی الدولة.

وللتدلیل علی صدق هذه النقاط نسجل تصریحات زعماء الشیوعیین.

ص:95

دیکتاتوریة البرولیتاریا:

أول ضرورة من ضرورات قیام العهد الشیوعی هو استیلاء طبقة البرولیتاریا علی الحکم بالقوة والعنف کما یصرح بذلک کارل مارکس وفردریک انجلز: (... حتی الساعة التی تنفجر فیها هذه الحرب بشکل ثورة علنیة وتؤسس البرولیتاریا سیطرتها - بعد القضاء علی البرجوازیة(1) - بالشدة والعنف...)(2)

ویسترسلان الی حیث یقولان: (.. اما هدف الشیوعیین المباشر فهو الهدف نفسه الذی ترمی الیه جمیع احزاب العمال أی تنظیم البرولیتاریا فی طبقة وهدم سیادة البرجوازیة واستیلاء البرولیتاریا علی السلطة السیاسیة(3).

ثم یؤکدان ذلک - ایضاً -: (ان المرحلة الاولی فی ثورة العمال هی کما رأینا تشیید البرولیتاریا فی طبقة سائدة والاستیلاء علی الدیموقراطیة وتستخدم البرولیتاریا سیادتها السیاسیة لاجل انتزاع رأس المال من البرجوازیة ولا یتم ذلک الا بخرق حق التملک ونظام الانتاج البرجوازی بالشدة والعنف(4).).

فالخطوة الاولی من خطوات الشیوعیة هی: ان تتسنم البرولیتاریا السلطة السیاسیة بالشدة والعنف وهدفها الاخیرحذف الدیموقراطیة لتبقی الدکتاتوریة والارهاب المتسرب الی جمیع جوانب الحیاة, وکانت وصیة کارل مارکس بذلک

ص:96

تستند الی حجج هی: (ان مجرد قیام انقلاب شیوعی لا یکفی لتحقیق مبادئ الشیوعیة لان العبرة بالتنفیة, فالطبقة الرأسمالیة التی تسحقها طبقة العمال ستحاول دائماً التآمر ضد الثورة الشیوعیة کما ان الطبقة العاملة ینقصها دائماً العلم والتنظیم لانها جاهلة وغیر منظمة بحکم نشأتها, ومن هنا سیصبح حتماً علی العمال ان یواجهوا مشکلتین خطرتین هما:

اولاً: عدم قدرة الطبقة العاملة علی حکم نفسها بنفسها عندما تؤل الیها السلطة.

ثانیا: خطر قیام الطبقة الرأسمالیة بمحاولات ناجحة باسترداد سلطتها المسلوبة, ولذلک ینبغی ان تقوم علی اثر الانقلاب الشیوعی دکتاتوریة عمالیة عمادها هیئة مختارة من قادة العمال المثقفین تتولی الحکم وتهیأ الشعب للنظام الشیوعی(1).

وبعدما جاء (لینین) الی الحکم اخذ یردد نفس النغمة معلناًَ ان حکومته لم تقم الا بالقوة والدکتاتوریة: (من المؤکد ان جمیع الناس یرون ان البلاشفة(2) کانوا یستطیعون البقاء فی الحکم لا اقول سنتین ونصف سنة, بل حتی شهرین ونصف شهر لولا نظام الطاعة الصارم، لولا نظام الطاعة الحدیدی حقاً فی حزبنا(3)...)

ص:97

فلولا الدکتاتوریة العاصفة التی تذرع بها لینین واوصی بها کارل مارکس وانجلز لما کتب البقاء للحکومة الشیوعیة لا سنتین ونصف سنة بل ولا شهرین ونصف شهر.

ثم رأی لینین ان القوة التی تتسلح بها الحکومة السوفیاتیة والحزب الشیوعی لا تستقل بکبت الاصوات، لذلک ضمّ الیهما قوة البرولیتاریا، ففرض علیها الدفاع عن الحکومة الشیوعیة: (... ولکن فی الدولة البرولیتاریة التی هی من النوع الانتقالی کدولتنا لا یمکن ان یکون الهدف النهائی لکل عمل تقوم به الطبقة العاملة سوی تقویة الدولة البرولیتاریا وتقویة سلطة الدولة التی تمارسها طبقة البرولیتاریا وذلک بالنضال ضد کل ما یقع من تشویهات بیوقراطیة(1) لهذه الدولة(2)...).

فلما کان دور ستالین وقام بالاعمال القاسیة التی تقزز منها النفوس وتقشر منها الابدان حاول تبریر موقفه فقال عام 1934 م: (لماذا نتفاخر بسلطتنا الطاغیة؟ ولماذا نتفاخر باجراءات القمع الصارمة التی نلجأ الیها؟ ولماذا نتفاخر بسلطتنا المطلقة؟ الجواب هو اننا نتفاخر بها لانها سبیلنا الی النصر والنجاح ولن نفلح فی تدعیم النظام الشیوعی إلا اذا اتصفنا بالصرامة والقسوة والطغیان والاستبداد،... کل ذلک ریثما تتحقق الثورة الشیوعیة العالمیة(3).

ص:98

وصرح عام 1928: (.. اوصانا لینین بان نکون قساة عتاة فی معاملتنا مع اعدائنا فی الداخل والخارج, ونحن لا نرید ان ندع اعدائنا فی الداخل والخارج یعملون ضدنا, بل انه یتعین علینا ان نمنعهم بالقوة من ذلک، ولهذا نعتبر الوسائل العنیفة القاسیة التی نعامل بها خصومنا عملاً مشروعاً له ما یبرره مهما بدا هذا العمل استبدادیاً وطاغیاً(1).

ولقد جعل مارکس القوة قانوناً وحقاً فقال سنة 1860 م: (القوة هی التی تحدد مصیر کل شیء فالقوة هی القانون الطبیعی الذی یکشف عن نفسه فی کل میدان، ولهذا فاننا نؤمن بأن الحق کامن فی القوة ونؤمن بأن القوة هی سبیلنا الی النصر(2).

وسار علی خطته لینین حیث قال سنة 1905 م: (فلتکن سیاستنا قائمة علی اساس القوة فبالقوة نرهب خوصومنا وبالقوة یحترمنا انصارنا وبالقوة نحطم النظام القدیم وبالقوة نقیم نظاماً جدیداً ان القوة هی مفتاح النصر(3).

ثم اضاف علی ذلک قائلاً سنة 1922: (لیس الشیوعی الصادق هو ذلک الشخص الذی یؤمن بتجرید خصمه من قوته فحسب, بل الشیوعی الصادق هو ذلک الشخص الذی یقتل خصمه بعد ان یجرده من قوته فالموت هو الشیء الوحید الذی یریحنا من خصومنا(4).

ص:99

وقد اخذ استالین یفسر دکتاتوریة البرولیتاریا سنة 1930 م: (ارید ان اوضح لکم ان تعالیمنا تسمح لنا بالطغیان, ألا نسمی نظامنا دکتاتوریة البرولیتاریا, ان هذه الدکتاتوریة المستبدة هی سلاحنا فی المعرکة(1).

وقال ستالین عام 1933 م: (یجب ان یکون مفهوماً اننا نؤمن بالاستبداد، ونؤمن بالطغیان، ونؤمن بالعنف لان نظامنا الثوری القائم علی اساس القضاء علی الطبقات یتطلب الالتجاء الی کل هذه الوسائل(2).

مصادرة رأس المال:

وفی الثورة واللحظة التی تقیض فیها البرولیتاریا علی زمام الحکم تبتدر الی القضاء علی رأس المال والربح الناتج منه، کما یقرر ذلک مارکس وانجلز: (ان المرحلة الاولی فی ثورة العمال هی - کما رأینا - تشیید البرولیتاریا فی طبقة سائدة والاستیلاء علی الدیموقراطیة، وتستخدم البرولیتاریا سیادتها السیاسیة لاجل انتزاع رأس المال من البرجوازیة ومرکزة جمیع وسائل الانتاج فی ایدی الدولة, ولا یتم ذلک الا بخرق حق التملک ونظام الانتاج البرجوازی بالشدة والعنف، أی باتخاذ تدابیر, وتختلف هذه التدابیر - طبعاً - اختلافاً کبیراً فی مختلف الاقطار غیر انه یمکن تطبیق التدابیر التالیة، بصورة عامة فی اکثر البلاد تقدماً ورقیاً:

ص:100

1 - نزع ملکیة الاراضی الکبری وتخصیص الریع العقاری لتغطیة نفقات الدولة.

2 - فرض ضرائب متصاعدة جداً.

3 - الغاء الوراثة.

4 - مصادرة جمیع املاک المهاجرین العصاة المتمردین(1).

ولا یغفل انجلز ان یؤکد هذا المعنی: (وحینما تقبض البرولیتاریا علی زمام الحکم تحول وسائل الانتاج الی تملک الدولة وبذلک تتخلص من طابعها البرولیتاری(2).

ثم یکرر مناداته بذلک باعتبارها النقطة المرکزیة فی تشیید الکیان الشیوعی: (... تتولی البرولیتاریا علی سلطة الدولة وتحول وسائل الانتاج بادیء ذی بدء الی ملکیة الدولة(3).

القضاء علی الملکیة الفردیة:

ویتلو ذلک کله حملة عاصفة، للقضاء علی الملکیة الفردیة بصورة واسعة، وان لم تکون رأس المال.! فان من یملک ملکیة معینة، باستطاعته ان یستغنی عن الدولة، ولو فترة قصیرة، فیتمرد علی مقدساتها، وذلک ما تخشاه الحکومة

ص:101

الشیوعیة، ولذلک تعمد الی انتزاع الملکیة الخاصة من جمیع الافراد، کی یظلوا محتاجین الی الدولة عند کل وجبة طعام.

هکذا نجد مارکس وانجلز یصرحان: (.. وعلی هذا فباستطاعة الشیوعیین: ان یلخصوا نظریتهم بهذا الصدد فی هذه الصیغة الوحیدة، وهی: القضاء علی الملکیة الخاصة.(1)

ثم نجدهما یسجلان هذه الصیغة فی موضع اخر: (ان ظروف معیشة المجتمع القدیم قد اضمحلت، ولم یبق لها اثر فی ظروف معیشة البرولیتاریا، فالبرولیتاری محروم من الملکیة(2) وحاول لینین تنفیذ هذه الخطة واضاف الیها قائلا: عام 1920 م (یجب ان یکون مفهوما: ان العامل الذی یعمل فی معمل من المعامل لا یملک نفسه، فالمعمل هو الذی یملکه(3).

ولیس من العجیب ان یدلی لینین بهذا التصریح بعدما تلقی من اسیاده البیان التالی: (ان کل الطبقات التی کانت تستولی علی السلطة فیما مضی، کانت تحاول تثبیت اوضاعها المکتسبة، باخضاع المجتمع باسره لاسلوب التملک الخاص بها، ولا تستطیع البرولیتاریا الاستیلاء علی القوی المنتجة الاجتماعیة، الا بهدم اسلوب التملک الذی کان خاصاً بهذه القوی أی بهدم کل اسلوب للتملک

ص:102

مرعی الاجراء الی یومنا هذا. ولا تملک البرولیتاریا شیئا خاصا بها، حتی تصونه وتحمیه! فعلیها اذن ان تهدم کل ضمانة خاصة، وکل امان خاص موجود(1).

وعلی ضوء هذه التعالیم صرح استالین سنة 1927 م: (ان النظم الاقتصادیة التی تؤمن بها الشیوعیة، هی النظم التی تعتمد علی ثلاثة اسس، هی أولاً: الغاء الملکیة الفردیة، الغاءاً تاما، وثانیا: القضاء علی نظام الطبقات، قضاءاً تاما، وثالثا: احتکار الدولة لکل مصادر الثروة احتکاراً تاما،.. ولهذا فاننا نعارض کل النظم الاقتصادیة التی لا تقوم علی هذه الارکان الثلاثة(2).

واضاف قائلا سنة 1931 م: (نحن لا نسمح لاحد بادخال المال، واستخدامه فی شراء العقار! ذلک اننا نناهض کل ضرب من ضروب الملکیة الخاصة(3).

ولقد کان لینین یتبجح ببیانات اسیاده ویضیف علیها اشیاء واشیاء ولکن اسیاده کانوا یتفلسفون ویکتبون، وما اسهل ان یفرغ الانسان خواطره علی الورق، کما ان لینین - ایضا - قضی شطراً من حیاته وکانت الاحلام تداعب خیاله، وهو یترنح علی اراجیح الاوهام، فکان یکیل الخطط ویفصلها بلا حساب. وما ان بلغ مرحلة التطبیق حتی اصطدم بالواقع الحی، الذی حد من طیشه، وفل نشاطه وعزائمه، فجعل یرزح تحت الکابوس الذی اعده لنفسه،

ص:103

فلنسمع الی زفراته: (.. ولکنه من الصعب الی ما لا حد له، محو الطبقات، فان الانقسام الی عمال وفلاحین ما یزال قائما، فاذا اقام الفلاح علی قطعة من الارض واستاثر بفائض قمحه، أی القمح الذی لا یحتاج الیه، لا لنفسه ولا لماشیته، فی حین یظل جمیع الاخرین بلا خبز، فان هذا الفلاح یستحیل اذ ذاک الی مستثمر...

ینبغی ان یشتغل الجمیع وفقا لبرنامج مشترک، علی ارض مشترکة وفی المصانع والمعامل المشترکة، وفقا لنظام مشترک(1).

ثم جعل یستصرخ الشیوعیین لینظموا البرولیتاریا فی کفاح مشترک علیهم یؤدون مسؤلیته: (ان الاخلاق الشیوعیة، انما هی الاخلاق التی تخدم هذا النضال، وتوحید الشغیلة ضد کل ملکیة صغیرة، لان الملکیة الصغیرة تضع فی یدی فرد واحد ما ابدعه المجتمع باسره، ان الملکیة بنظرنا ملکیة مشترکة(2).

بعثرة العائلة:

ان بعثرة العائلة واشاعة النساء، من الشیوعیة کجزء لا یتجزأ منها فالمجتمع الشیوعی - کما یقول لینین - انما هو شیوعیة فی کل شیء(3) والعائلة تعرقل طریق الاقتصاد الشیوعی فی الصمیم!! فهی - اولا - تهدر فیضا من نشاط رب الاسرة، لحمایة مصالحها، والدفاع عنها، والولاء للاسرة یعوق الشیوعی عن القیام بواجباته العامة والخاصة، وربما یدفعه الی مخالفة النظام، وذلک ما تأباه

ص:104

الشیوعیة کما صرح بذلک ستالین سنة 1930 م: (ما دمنا ننکر الادیان، فاننا لا نستطیع ان نأخذ بالاراء القائلة بان للاسرة قداسة... فکل القداسات زائفة. نحن لا نرید ان یکون للاسرة ای نوع من انواع القداسة... مثلما لا نرید ان یصبح الولاء العائلی، عائقا یحول دون تحقیق اهدافنا(1).

وکما صرح من قبله لینین عام 1922 م: (حن لا نؤمن بالافکار المثالیة من الاسرة، فهذه الافکار المثالیة تنادی بجعل الاسرة مجتمعا ذا کیان خاص له استقلاله... ونحن لا نؤمن بمثل هذه المثالیة، التی تشجع علی جعل الوطن مجموعة من الاسرات المستقلة(2).

وفیما بعد رأی استالین ان یکشف النقاب بکل صراحة، فماذا یلجمه عن التصریح بنوایاه؟ ألیس هو الدکتاتور الجبار؟ فلیقل بکل وقاحة وصفاقة!: (.. دعونی اذکر لکم بصراحة: انه من الخطر علی حیاتنا السیاسیة تشجیع ذلک المفهوم الخاطیء للاسرة، واقصد بذلک الاراء القائلة بأن هناک ما یسمی: الولاء للاسرة! فالولاء الوحید المسموح به هو الولاء للدولة(3).

ثانیاً: ان الشیوعیة تفرض العمل الاجباری علی جمیع القادرین من الرجال والنساء علی حد سواء(4) والعائلة تشل هذه الحرکة، لانها تشغل النساء بالاعمال

ص:105

البیتیة، حتی لا یسنح لهن القیام بالاعمال الخارجیة

ثالثا: ان فشل مارکس فی الغرام الذی عصف به فی غضون شبابه، هو الذی دفعه الی الانتقام من البورجوازیة، عن طریق الدعایة للشیوعیة(1) وتبعا لذلک نجد ان حملات مارکس علی العائلة، تختلف عن هجماته علی الرأسمالیة والبرجوازیة فتراه ینادی - فی سخریة واستهزاء: (یا للهول!.. حتی اشد تطرفا تسخطهم نیة الشیوعیین، هذه الفاضحة المرذولة).

ثم یحاول ان یطمئن نفسه تجاه هذه الغضبة القاصفة حتی من اشد الناس تطرفا فیتسائل: علام تترکز العائلة؟ ألیست تترکز علی رأس المال؟ فاذن لا مبرر لهذا القلق! فسیقضی علی رأس المال وبالطبع یقضی علی العائلة:

(ولکن علی أیة قاعدة تترکز العائلة البرجوازیة فی الوقت الحاضر إنها تترکز علی رأس المال والربح الفردی! والعائلة بکامل کیانها، وتمام بنیاتها، لیست موجودة إلا عند البرجوازیة فقط! ولکن تتمتها هی الالغاء القسری لکل عائلة بالنسبة للبرولیتاریا، ثم البغاء العلق).

وبعد ذلک یؤکد: أن الصلات الع) ائلیة سوف تنفصم! فان الصناعة الکبری تستخدم الاولاد وتحولها الی تجاریة بسیطة:

(ان تشدق البورجوازیین الفارغ عن العائلة والتربیة، وعن الاواصر

ص:106

والصلات العذبة، التی تربط الولد بأهله، یصبح یوما بعد یوم سخیفا ممضا!! اذ ان الصناعة الکبری تهدم کل صلة عائلیة عند البرولیتاریا وتحول الاولاد الی مواد تجاریة بسیطة وادوات عمل صرفة).

وحیث سجل مارکس لنفسه الانتصار نراه یستلقی علی قفاه، لیضحک من العقلیة البورجوازیة، التی تستنکر إشاعة النساء... زاعما:

أن هراء البورجوازیین سوف لا ینفعهم، فقد کانت إشاعة النساء موجودة لدی البورجوازیین أنفسهم بصورة مکتومة وغایة ما ینتقمون من الشیوعیین: أنهم یریدون إسقاط النقاب، قائلین: ما هذا النفاق؟ فما دامت الاشاعة موجودة، فلتکن رسمیة صریحة! ولنستمع إلی قهقهات مارکس ومن حوله إمعانة، یساعدونه فی الضحک البذیء:

(لشد ما یضحکنا هذا الذعر فوق الاخلاقی، الذی توحیه الی البورجوازیین إشاعة النساء الرسمیة... لیست بالشیوعیین حاجة إلی إدخال إشاعة النساء، فهی تقریبا کانت دائما موجودة(1).

وعندما سئل أنجلز: ما هو وقع النظام الشیوعی فی العائلة؟

أجاب: (سیجعل علاقات الرجل مع المرأة، علاقات ودیة محضة، متقصرة علی الاشخاص (المشترکین بها)! دون ان یکون للمجتمع أدنی تدخل فیها.(2)

ص:107

تأمیم وسائل الانتاج:

وبعد ما تم القضاء علی رأس المال، ومصادرة جمیع الملکیات العامة والخاصة، یجب تسلیمها إلی الدولة: ممثلة المجموع(1) لتصرفها فی مصالح الشعب، وفق موازین عدل تضعها الدولة بنفسها!. دون ان یکون لاحد أی تدخل فیها. کما ینص علی ذلک الدستور السوفیاتی: (تحدد الحیاة الاقتصادیة، للاتحاد السوفیاتی، وتدار بموجب مشروع الدولة، للاقتصاد الوطنی(2).

اکتساح الطبقات:

وبعدما تستلم البرولیتاریا مقالید الحکم، وثروات الشعب: مجموع الممتلکات الفردیة والجماعیة، تنعطف علی الناس، لتفرض علیهم العمل الاجباری کما یصرح به مارکس وانجلز: (جعل العمل إجباریا للجمیع)(3).

وتلغی الاسواق والنقود! لأن کل فرد یتقاضی عن عمله الیومی، من البضائع ما یشبع حاجاته، فلا تبقی حاجة الی الاسواق أو النقود: (وعندئذ یصبح فی وسع السلطة المرکزیة، أو ایة هیئة مرکزیة إقتصادیة وإجتماعیة أخری. أن تدیر کل الانتاج الاجتماعی، وان توزع المنتجات فی مصلحة المجتمع. بدون

ص:108

توسط السوق، وبدون استعمال النقد الذی لن یبقی ضروریًا(1).

فتندمج الطبقات فی طبقة واحدة، هی: البرولیتاریا العاملة... وما تفتأ البرولیتاریا ذاتها، أن تحطم طبقیتها.! کی لا تکون طبقة متحیزة إزاء مجموع عناصر الشعب الذی انصهرت فوارقها وممیزاتها الذاتیة منها والعرضیة واندمجت فی صیغة واحدة، هی: الشعب، یرسم هذا المصیر المشترک لألبرولیتاریا وغیرها مارکس وانجلز: (فاذا کانت البرولیتاریا فی نضالها ضد البورجوازیة، تبنی نفسها حتما فی طبقة، وإذا کانت تجعل نفسها بواسطة الثورة طبقة حاکمة، ثم بصفتها طبقة حاکمة تهدم بالعنف والشدة نظام الانتاج القدیم، فأنها بهدمها نظام الانتاج القدیم، تهدم فی الوقت نفسه ظروف التناقض والتناحر بین الطبقات، وتهدم الطبقات بصورة عامة، وبذلک تهدم أیضا سیادتها ذاتها، من حیث انها طبقة(2).

فالطبقات یجب أن تهدم.! ولکن انجلز یری أن الطبقات سوف تنهدم بصورة طبیعیة، کما أنها تکونت بصورة طبیعیة، وحتمیة، فی الوقت نفسه:

(... وهکذا سوف تتلاشی الطبقات، بمثل الحتمیة التی ظهرت فیها(3)...).

ص:109

(... ولکنها إذ تفعل ذلک تقضی علی نفسها بصفتها برولیتاریا(1).

وقد مضی خلال التصریحات المتقدمة، وسیأتی، وفر من النصوص التی تؤکد: أن المجتمع الشیوعی یجب ان یحطم الطبقات، ویقضی حتی علی البرولیتاریا بصفتها طبقة!!.

الغاء الادیان:

من المبادئ المرکزیة فی الشیوعیة وإزاحة الادیان حتی عن قلوب الافراد!! وذلک أن الادیان أیة کانت تربط الفرد بالله، الذی لا یعزب عن علمه مثقال ذرة فی السموات والارض، وتحرم علی الانسان القتل، والاضطهاد، والکذب والخداع، والغش، والسلب، والفحشاء.. فاذا علم الفرد - بواسطة الایمان - ان التوسل بهذه الوسائل، محظور علیه، والملائکة یسجلون جمیع اعماله فی کتاب لا یظل ربی ولا ینسی، والله من ورائهم محیط... فاذا کان الشیوعی مؤمناً بهذه المبادئ فسوف لا یستخدم الوسائل المحرمة، فی سبیل خدمة الشیوعیة، بل یتخلی عن الشیوعیة فی اللحظة التی عرف فیها هذا المبدأ الهدام.. وهکذا تخسر الشیوعیة مصالحها فی کل مجال... ولذلک عمد قادة الشیوعیة الی تبنی المبدأ القائل: (الغایة تبرر الواسطة!)، التی تبیح للانسان اجتراح السیئات کلها فی سبیل انتصار القضایا الشیوعیة، کی لا یتوقف الشیوعی عن ارتکاب الحرام لتقدم، او ازدهار مبدئه، فتخسر المنظمة الشیوعیة ربحا متاحا!..

ص:110

کما ان الادیان لو ظلت تسود البلاد، اندحرت الشیوعیة، ولم تجد لها نصیرا، حتی ولا واحدا! لأن الشیوعیة - علی أحسن تقدیر - نظام مختلف یناهض نظام الادیان، ولن یستبدل المؤمن دینه بنظام مختلف!!!

لذلک کله نجد الشیوعیین المبدئیین یکرسون جهودهم لازاحة الادیان عن مجال النشاطات العامة، کی یبلغوا بذلک نشر نفوذه، ویحاولون خنق نور الایمان فی قلوب الشیوعیین المخدوعین، حتی یطمئنوا من استسلامهم الکامل، وانقیادهم الصادق، لتنفیذ الخطط الجهنمیة الموحات إلیهم...

کما صرح بهذه الحقیقة ستالین عام 1938 م: (یجب علی الشیوعی المخلص: ان ینکر الدین فالدین یمنع المؤمن من التوسل بالکذب، والخداع، والغش، والتضلیل فی نشر الدعوة التی یرید نشرها... اما الشیوعی المخلص الذی ینکر الدین ولا یؤمن به، فانه یستطیع: ان یحرر عقله من افکار الدین المثالیة... وهکذا یستطیع: ان یتوسل بکل الوسائل من کذب الی خداع، الی تضلیل، الی غش، فی تحقیق الاهداف الشیوعیة(1).

ولهذا الغرض تبنوا (الدیالکتیک) کفلسفة اساسیة یرکزون علیها مبدئهم... معتزین بافکار (هیجل) و (ولودفیغ فورباخ) و (دارون) و (فروید)... مرددین مع (هراقلیط): ذلک الرجل الاغریقی: (العالم هو واحد لم یخلقه ای إله، او ای انسان! وقد کان ولا یزال وسیکون شعلة حیة الی الابد، تشتعل وتنطفیء تبعاً

ص:111

لقوانین معینة(1)...

هکذا نجد کارل مارکس وفردریک انجلز یهتفان، بکل وقاحة وصفاقة:

(... وما القوانین والقواعد الاخلاقیة، والادیان بالنسبة الیه (العامل) الا اوهام بورجوازیة، تستتر خلفها مصالح بورجوازیة(2)..).

بهذه الاتهامات والتشویهات الفارغة، یحاول مارکس: ان یشوه الادیان ویقضی علیها، قبل ان تقضی علیه، غیر ان لینین اخذ یعبر عن الواقع الجاثم فی وجهه حیث رأی ان الدین یکون سداً منیعا امام افکار الاشتراکیة، لذلک جعل یحارب الدین اقترابا من الواقع الاشتراکی، فصرح عام 1902 م (کلما تحررنا من نفوذ الدین، ازددنا اقترابا من الواقع الاشتراکی... ولهذا یجب علینا: ان نحرر عقولنا من خرافة الدین(3).

ومن هنا اخذ یطلق التهم والافتراءات علی الدین عله ینفر الناس منه فقال لینین سنة 1905 م: (الدین هو افیون الشعوب... فالدین ورجل الدین یخدران اعصاب المظلومین والفقراء ویجعلانهم یرضخون للظلم(4) وحیث لم تنجح مؤامراته ضد الدین بالالفاظ المتبجحة، جعل یوجه حزبه لمحاربة الدین قائلاً

ص:112

سنة 1905 م: (ان حزبنا الثوری لا یستطیع ان یقف موقفا سلبیا من الدین... فالدین خرافة وجهل(1) وحیث کان ذلک قبل الثورة الشیوعیة فی روسیا، کان یرهب غضبة الشعب اذا اطلعوا علی الحاده وکفره فکان یوصی حزبه سنة 1905 م:) یجب: ان تهتم عناصرنا التی تقوم بالدعایة للشیوعیة، بنشر الالحاد والدعوة له، ولکن بطرق سلمیة خفیة(2).

وصرح عام 1905 م: (لماذا لا نعلن فی برامجنا اننا ملحدون؟ اننا نفعل ذلک لکی لا نزود خصومنا بسلاح یهاجموننا به... فعدد المؤمنین بالله لا یزال یفوق عدد الملحدین(3).

وبعدما سیطر الحزب الشیوعی علی روسیا، وساد الارهاب وزجوا بالمؤمنین، فی اللحود والسجون، وخنقوا اصوات الشعب، حتی ذابت فی ازیز الرصاص وهدیر المدافع، سقط النقاب واذا بستالین یقول عام 1927 م: (اننا نقوم بالدعوة ضد الدین الان، لاننا اقوی من ان ینال خصومنا منا عن طریق التشهیر بالحادنا... لقد کنا نحرص فی الماضی علی عدم اعلان الحادنا لاننا لم نکن اقویاء، اما الان فاننا نعلن بصراحة اننا ملحدون، واننا نری فی الادیان خطراً علی الحضارة الانسانیة... فالادیان افیون مخدر(4).

ص:113

واردف ذلک عام 1944 م قائلا: (نحن ملحدون... ونحن نؤمن بان فکرة الله خرافة، ونحن نؤمن بان الایمان بالدین یعرقل تقدمنا ونحن لا نرید ان نجعل الدین مسیطراً علینا، لاننا لا نرید ان نکون سکاری(1).

ولیس من المدهش ان یتجرأ ستالین بهذه الکلمات البذیئة بعدما سمع لینین عام 1913 م وهو یقول: (لیس صحیحا. ان الله هو الذی ینظم الاکوان... وانما الصحیح هو ان الله فکرة خرافیة، اختلقها الانسان لیبرر عجزه!.. ولهذا فان کل شخص یدافع عن فکرة، انما هو شخص جاهل عاجز(2).

وبعدما سمعه وهو یقول - ایضا - عام 1915 م: (الدین مرتبط بالظلم دائمًا،... فحیثما یوجد الظلم یوجد الایمان بالدین... واذا ما تخلصنا من الظلم، وجب ان نتخلص من الدین... بل ان تخلصنا من نفوذ الدین یساعدنا علی التخلص من الظلم(3).

وهکذا نجد ستالین یذهب لیتمم خطط لینین، فقال عام 1937 م (یجب ان یکون مفهوما: ان الدین خرافة... وان فکرة الله خرافة... وان الالحاد هو مذهبنا(4).

وتقدم ستالین خطوة جریئة عام 1928 م حیث اراد نشر الالحاد فی الجیل

ص:114

الصاعد عن طریق التربیة فی المدارس: فقال: (یجب ان تقوم التربیة فی المدارس علی اساس انکار الدین، وعلی اساس انکار الله(1) وتوسع ستالین عام 1933 م فاراد ان ینشر الالحاد فی الوعی العام فقال: (الثقافة النافعة هی التی تحرر عقول الناس من استبداد الدین... والتعلیم النافع هو التعلیم الذی ینشر الالحاد... والرأی العام الصالح هو الرأی العام الذی لا یؤمن بأیة افکار سوی الافکار المارکسیة(2).

وعلل ذلک عام 1935 م فقال: الدین هو الذی یغرس فی نفوس الناس الافکار والاخلاق المثالیة التی لا وجود لها فی الواقع... ولهذا نحارب الدین، لاننا لا نرید ان تتغلغل فی نفوس النشء آراء مثالیة زائفة(3).

محاربة الاخلاق:

مما یحرص علیه الشیوعیون، لنفس الغرض الذی من اجله یحاربون الادیان، وذلک ان الشیوعیة تزاحم الاخلاق، فی الخطوط المعاکسة!!، حتی لو بقیت النفوس مؤمنة بالاخلاقة الانسانیة النبیلة، لکفرت بالشیوعیة، واسالیبها، واهدافها، علی ضوء ذلک نجد لینین یلتجیء الی تفسیر الاخلاق بکل ما یخدم النضال الشیوعی... ویجعل الشیوعیة هدفا ووسیلة للحیاة، کی لا یفکر الناس فی غیرها، ویکرسوا طاقاتهم لخدمتها، دون ان یعیقهم منها دین او ضمیر او

ص:115

اخلاق، فیقول لینین: (غالبا ما یزعم: ان لیس لنا اخلاق خاصة بنا، وفی معظم الاحیان تتهمنا البورجوازیة: نحن الشیوعیین باننا ننکر کل الاخلاق، وتلک طریقة لتشویش الافکار لتضلیل العمال والفلاحین، بای معنی ننکر الاخلاق، وننکر السلوک؟؟ بالمعنی الذی تبشر به البورجوازیة التی کانت تشتق هذه الاخلاق من وصایا الله وبهذا الصدد نقول: بالطبع اننا لا نؤمن بالله ونعرف جیداً جدا: ان رجال الدین، وکبار الملاکین العقاریین کانوا یتکلمون باسم الله لکی یؤمنوا مصالحهم کمستثمرین(1)... ان کل اخلاق من هذا النوع مستقاة من مفاهیم غریبة عن الانسانیة غریبة عن الطبقات، ان کل اخلاق کهذه ننفیها وننکرها ونقول: انها تخدع العمال والفلاحین، وتغشهم وتحشو ادمغتهم حشوا: اننا نقول: ان اخلاقنا خاضعة تماما لمصالح نضال البرولیتاریا الطبقی ان اخلاقنا تنبثق من مصالح نضال البرولیتاریا الطبقی(2).

فالظلم والاضطهاد، والغش، والخداع، وسائر المظالم والجرائم، من صمیم الاخلاق ما دامت تخدم نضال البرولیتاریا الطبقی، واما الاخلاق الفاضلة، التی تناقض الشیوعیة، وتبرز مساوئها، ومفاسدها، فانها تخدع العمال والفلاحین!!

ص:116

لماذا؟ لانها تربح عنهم قسوة الشیوعیة، وتکسح عنهم سکرات الاغراء ویذهب لینین إلی حیث یقول: إننا لا نؤمن بالاخلاق الابدیة.(1)

وإننا نفضح جمیع القصص والحکایات الکاذبة، الملفقة حول الاخلاق(2) فلیفضح البراهین والحکم الصادقة الواردة حول الاخلاق الانسانیة النبیلة، ان کان من الصادقین، ولکن الواقع ان زعماء الشیوعیة، کاذنابهم لا یملکون الحجج والبینات وانما یطلقون دعاواهم الفارغة، ثم یؤیدونها بالسخریة، و الاستهزاء السخیف لیطمسوا بذلک الحقائق البارزة، ویحسبون ان الدکتاتوریة الفکریة تنجح کما نجحت دکتاتوریتهم الخارجیة... وقد فصل (انجلز) قاعدة مرکزیة للاخلاق یمیز بها الحسن من القبیح فقال عام 1877 م: (اننا نرفض شتی المحاولات التی تحاول ان تفرض علینا اخلاقا تسند الی (المثالیات): ذلک اننا نؤمن: ان الاخلاق هی نتاج الاوضاع الاجتماعیة، ولما کانت الاوضاع الاجتماعیة متغیرة فان مفاهیم الاخلاق لا بد ان تتغیر... ان الاخلاق التی نؤمن بها هی کل عمل یؤدی الی تحقیق انتصار مبادئنا، مهما کان هذا العمل

ص:117

منافیا للاخلاق المعمول بها(1). وعن هذه النظریة عبر لینین قائلا: ان ما یقوم فی اساس الاخلاق الشیوعیة، هو النضال فی سبیل ترسیخ الشیوعیة، وانجاز بنائها. ذلک هو ایضاً اساس التربیة الشیوعیة والتثقیف الشیوعی، والتعلیم الشیوعی(2).

وبعدما ترکزت هذه القاعدة کمبدأ اساسی فمن الطبیعی ان ینجم منها قول لینین عام 1910 م: (یجب علی المناضل الشیوعی الحق: ان یتمرس بشتی ضروب الخداع، والغش، والتضلیل...

فالکفاح من اجل الشیوعیة، تبارک کل وسیلة تحقق الشیوعیة(3). فالمناضل الشریف یجب علیه: ان ینبذ الاخلاق، ویعرف: ان الاخلاق فی سحق الاخلاق مهما تطلبت ذلک مصالح البرولیتاریا، اما اذا حفزه الوازع الدینی علی اعتناق مبادئه الاخلاقیة ومثله العلیا فان لینین حدد موقفة حیث قال عام 1918 م: (إذا لم یکن المناضل الشیوعی قادراً علی أن یغیر أخلاقة وسلوکه وفقاً للظروف، مهما تطلب ذلک من کذب وتضلیل وخداع، فانه لن یکون مناضلا ثوریا حقیقیا(4).

ص:118

انه لیس شیوعیا محترفا، لانه لا یتطوع للافکار الشیوعیة، أما الشیوعی الحق فهو الذی یتوصل الی تحقیق الاهداف الشیوعیة، بما تتطلبه الظروف الخاصة من التضحیة بکل شیء حتی بالاخلاق والکرامة والضمیر کما قال لینین عام 1920 م: (ان المناضل الشیوعی الثوری الحق هو ذلک الذی یبذل کل تضحیة یفرضها علیه تحقیق الهدف الشیوعی، ولو تطلب الامر التضحیة بالاخلاق والکرامة والضمیر... فالهدف المثالی الحق هو تحقیق المجتمع الشیوعی(1).

وذلک لأن الشیوعیة هدف نبیل یجب التوصل الیه. أما الواسطة فلتکن ما تشاء!! أو لیست الغایة تبرر الوسطة؟ هذا هو منطق لینین عام 1921 م عندما قال: (یجب أن یکون مفهوما: أن الشیوعیة غایة نبیلة وان تحقیق الغایة النبیلة یتطلب فی کثیر من الاحیان استخدام وسائل غیر نبیلة ولهذا فان الشیوعیة تبارک شتی الوسائل المناهضة للاخلاق، مادامت هذه الوسائل تساعد علی تحقیق أهدافنا الشیوعیة(2).

ونجد نفس النغمة تردد علی لسان ستالین فقد صرح عام 1921 م (لن نکون ثوریین مناضلین بحق، الا إذا طبقنا دائما ما تعلمناه من (مارکس) عن ضرورة استخدام کل الوسائل الاخلاقیة، وغیر الاخلاقیة فی کفاحنا من أجل الشیوعیة(3).

ص:119

وفی عام 1938 م بعدما انتشرت الشیوعیة فی شتی الاقطار، أراد ستالین أن یزودهم بنفس السلاح الذی نجح به فی روسیا، ویغذیهم بتلک الافکار التی استمدها من اسیاده الشیوعیین فاذا به یوجه الیهم هذا النداء: (أن الشیوعی المخلص فی الدول غیر الشیوعیة، هو ذلک الذی یعرف کیف یقضی علی نظم الحکم غیر الشیوعیة، بلا هوادة وبلا رحمة وبلا شفقة... وهو ذلک الذی یستعین بکل وسائل التضلیل، والخداع، وسعة الحیلة، لفرض النظم الشیوعیة علی البلاد التی یعمل فیها(1).

وکان قبل ذلک فی عام 1928 م قد ادلی إلی عملائه فی البلاد غیر الشیوعیة بهذا التصریح: (نحن نبارک کل عمل یؤدی الی التعجیل بتحقیق الشیوعیة الدولیة... ولهذا نبارک کل ضرب من ضروب التخریب الداخلی والفتن، والمشاحنات، والاضطرابات... فکل هذه الامور تؤدی الی التعجیل بالثورة الدولیة(2).

تحطیم القوانین السائدة:

وقیام الثورة الشیوعیة العالمیة، هو الحلم الاشقر، الذی ظل یداعب الشیوعیین جمیعا. فمنذ عام 1862 م کان کارل مارکس یقول: (لا بد أن یأتی یوم تصبح فیه العلاقات الشیوعیة، هی العلاقات التی تحکم کل مجتمع فی شتی انحاء العالم... ولا بد ان یأتی یوم یصبح فیه العالم کله شیوعیا(3).

ص:120

وبعدما جاء لینین الی الحکم رأی ان القوانین السائدة فی البلاد غیر الشیوعیة رغم انها غیر صالحة ولکنها خیر من النظم الشیوعیة، ولا بد ان تغری تلک القوانین الشیوعیین الذین یتبادلون العلاقات مع غیر الشیوعیین، ولا بد ان یتمخض ذلک عن قیام ثورة داخلیة ضد الشیوعیة لذلک عمد لینین إلی احداث توتر العلاقات بین شعب روسیا وشعوب العالم، ووضع السیاج الحدیدی بین البلاد الشیوعیة، والبلاد غیر الشیوعیة، کی یأمن انتشار الوعی السیاسی فی بلاده... وقد عبر ستالین عن هذه الحقیقة عام 1934 م ولکنه سکبه فی اسلوب اخر، حیث قال: (دعونی أذکر لکم بصراحة أن نظامنا الشیوعی فی الداخل سیظل مهدداً بالخطر، مالم نفلح فی تحقیق الشیوعیة الدولیة... فما دامت الدول المحیطة بنا مناهضة للنظام الشیوعی، فانها لن تکف عن محاربتنا... ولهذا یجب التعجیل باشعال نار الثورة الشیوعیة العالمیة(1).

وفی عام 1920 م صرح لینین بذلک عندما قال: (لقد نجحنا بفضل القوة، ولهذا لن نتخلی عن هذه القوة إلا بعد أن نحقق ثورتنا العالمیة... ولکن هذه القوة ستظل سلاحنا فی کل وقت(2).

فما دامت فی العالم نظم غیر شیوعیة، فان الشیوعیة - بذاتها - مهددة - بالخطر المحدق، دون ایما محاولة من أحد، لذلک لا بد للحکومة الشیوعیة أن تشهر السلاح لکبت الانتفاضات والحرکات الداخلیة، ولا تستطیع أن تضع السلاح

ص:121

إلا اذا سیطرت الشیوعیة علی العالم کله، حینما یطبق الظلام، فلا یری أحد بصیصا من الضیاء... ومع ذلک فلا یمکن وضع السلاح بحال، لان الشیوعیة غیر ملائمة للطبائع الاصلیة، فهی لا تنسجم مع العواطف حتی تتقبلها بسلام بل الواجب أن تفرض علی الناس فرضا...

فلا بد من تطبیق الشیوعیة علی العالم کله، کی تحرس شیوعیة روسیا

وإلا فانها محاطة باشباح الخطر التی ترتجف فی کل مکان.. وقد اشار الی ذلک لینین عندما قال: (یجب أن نعلم الشیوعیین فی کل مکان، کیف یعملون علی تحقیق الثورة الشیوعیة العالمیة... فالنظم الشیوعیة فی ایة دولة شیوعیة، لا تصح ولا تزدهر، الا إذا قامت الثورة الشیوعیة الدولیة، لتحرسها(1).

وقد صرح بذلک ستالین - ایضا - عام 1926 م قائلا: (لن یستقر نظامنا الداخلی، إلا إذا نجحت الاحزاب الشیوعیة فی إشعال نیران الثورة فی کل مکان بالعالم(2).

العمل الاجباری:

إن حب الذات یوزع الانسان الی الخلود فی التسلیة، والنکول حتی عن ابسط المتاعب والاعمال، فهو بنفسه تواق الی الهدوء والارتیاح وسوف یضرب الانسان أن یحرک إصبعه إلا إذا کان هناک وازع أقوی من حب الارتیاح، ینبعث

ص:122

من حب الذات - ایضا - فالانسان یسمح لنفسه أن یضحی بشطر من راحته، إذا کانت هناک منفعة راجحة، توفر للانسان من وسائل الراحة مقدارا أوسع من کمیة التضحیة، التی یتطلبها الموقف، - فمثلا - الفرد یعمل 8 ساعات شریطة ان ینال کفائه من الراحة 16 ساعة.... کما انه مستعد للعمل 16 ساعة متی علم ان ذلک یوفر له اسبوعا من الراحة - مثلا -...

وکذلک یتدرج الانسان فی ارهاق نفسه متی ضمن له مدد من الراحة المدخورة، یمکنه سحبها متی شاء، وذلک لا یکون الا بالمنافع الشخصیة المتکافئة.

أما اذا علم الفرد: انه لا ینال جزاء عمله وجهاده موفورا، وانما یسلب منه ریع انتاجه، ومکاسب جهاده بصورة منتظمة الزامیة، فلا بد ان یدب فیه روح التبرم، ویلتجئ الی الاضراب عن العمل، والنظام الشیوعی حیث یعرف ذلک، یقرر ان یکون العمل اجباریا للجمیع، حتی یعملوا، لا رغبة فی الانتاج، بل خشیة العقوبات... فنری کارل مارکس وفردریک انجلز عندما کانا یضعان الخطوط العریضة للشیوعیة التطبیقیة فی اکثر البلاد تقدما ورقیا، یجعلان المادة الثامنة منها: (جعل العمل اجباریا للجمیع(1) حتی ان نوع العمل، ومکانه، اجباری لیس لاحد ابداء رأیه فی الموضوع، بل الدولة تحدد لکل فرد عملا، یؤاخذه علی ترکه، کما صرح بذلک ستالین عام 1931 م: (نحن لا نتساهل مع اولئک البلهاء، الذین یظنون: أن حق العمل یعنی حق اختیار الوظیفة او العمل

ص:123

او المکان الذی یعلمون فیه... فنحن نحدد نوع العمل ومکانه وفقا لما تتطلبه اوضاعنا الاقتصادیة(1).).

ولیس للعامل حریة ترک العمل، فانه یعتبر بذلک عنصراً هداما للنظام الشیوعی، یجب مؤاخذته قبل ان یفت فی عضد النظام السوفیاتی، ذلک ما قاله لینین عام 1922 م: (یجب ان یکون مفهوما ان ای عمل فی ای مصنع من المصانع، هو عمل حددته الدولة للعامل... ولن نتساهل بایة حال من الاحوال مع العمال الذین یهجرون اعمالهم... فامثال هؤلاء العمال یعتبرون، فی نظرنا، عناصر هدم لنظامنا السوفیتی(2).

ولقد مر الکلام علی العمل الاجباری تحت عنوان: اکتساح الطبقات.

رفع النقود والاسواق:

فیجب علی الجمیع: ان لا یفرطوا فی اداء مسؤلیاتهم، المرسومة من قبل الدولة، دون ایما تردد او نقاش... کما تجنی الدولة ارباح مکاسبهم وتقرر لهم معدلا من الاجور، غیر ان النقود لا تحول الیهم ابداً لان البضائع کلها ترصد فی مخازن الدولة، فماذا یصنعون بالنقود؟ زیادة علی ان الاجور لا تفضل عن عیش مقتر کی یحتاجوا الی النقود لیترکوها بل اجور الیوم تستهلک فی الیوم ذاته. علی هذا الضوء لا تبقی حاجة الی النقود والاسواق، بل العامل یتقاضی

ص:124

ازاء عمله البضائع... کما ینص علی ذلک فی کتاب:

(الاتحاد السوفیاتی فی مائة سؤال وجواب ص 140 وقد مر ذلک تحت عنوان اکتساح الطبقات)!!!

القضاء علی الدولة:

وبعدما تنفذ الدولة، المتمثلة فی البرولیتاریا الحاکمة، جمیع هذه المخططات، وتؤدی مسؤلیاتها کاملة... وتروض الشعوب علی ان تعیش الشیوعیة، بنفسها، ودون أیما حافز او جاذب... تبقی لحکومة البرولیتاریا مهمة اخری یجب تنفیذها حتی تکمل رسالتها الشیوعیة، وهی ان تتقلص، رویدا... رویدا... وتتفتت - هی بنفسها - قلیلا.. قلیلا.. حتی تتبخر سلطتها وتذوب هی فی مجموع الشعب لان الشعب لا یسمح بتوسط الدولة بینه وبین افراده...

عندئذ یتحقق حلم البشریة، ویخرج الانسان من حظیرة الحیوان الی الفردوس الاعلی، وحکومة الضمیر، وتعود الشیوعیة الاولی، التی قضی علیها دور الرق، والاقطاع، والرأسمالیة..

تلک هی نظریة الشیوعیین عن الدولة.. فلیتحدث عنها القادة المبدئیون للشیوعیة!! ولیکن ذلک فردریک انجلز!.. فلنسمع الیه وهو یقول:

(.. وحینما تقبض البرولیتاریا علی زمام الحکم تحول وسائل الانتاج الی تملک الدولة، وبذلک تتخلص من طابعها البرولیتاری، وتتخلص من کل تمییز

ص:125

وتناقض طبقی فی المجتمع، وبالنهایة تقضی علی وجود الدولة، کدولة(1).

فآخر عملیة یلزم علی البرولیتاریا القیام بها هی القضاء علی الدولة، فالدولة غیر مسموح بها الا لتؤدی واجبات معینة تحتاج الی امکانات الدولة، مسؤلیاتها فلا معنی لبقائها فی حکومة البرولیتاریا التی تفرض قوة اجنبیة علی الشعب، ان الدولة ابدا توجد لفرض قوة خاصة علی مجموع الشعب.. ومکافحة الاصوات المعارضة بالقوة والتعذیب، وحیث ان حکومة البرولیتاریا نزیهة عن کل هذه المظالم فهی - بالطبع - مستغنیة عن الدولة، بل انها ترفض الدولة، ولا تسمح ببقائها، تلک حجة انجلز ضد الدولة: (وحیث ان الدولة وجدت لتمثل المجتمع باکمله تمثیلا رسمیا، فتجسیمها عملیا لا یمکن وجودها، الا حینما یقتصر علی تمثیل الطبقة، التی تفرض نفسها لتمثیل المجتمع بکامله ولکن حین تصبح حقیقة تمثل المجتمع علی اختلاف طبقاته، تصبح عندئذ لا ضرورة لوجودها، وحین لا توجد طبقات تحت الضغط والظلم، وحین لا یوجد صراع من اجل البقاء، فی فوضی الانتاج، ینعدم التصادم، والافراط فی التناقض، الناتج عن تلک الفوضی، وعندئذ لا تبقی وظیفة ولا حاجة للدولة!! واول حرکة تقوم بها الدولة، فی سبیل فرض تمثیلها الصحیح لکامل المجتمع، تأمیمها وسائل الانتاج باسم المجتمع، فتکون فی الوقت اخر حرکة تقوم بها باعتبارها دولة. وعندئذ حکم الافراد یفسح مجالا للانتاج، فیصبح له مکانة فی الادارة والتوجیه.

ص:126

حیث ان المجتمع لا یتسامح قط، مع وجود دولة بینه وبین افراده(1).

ولیس هذا فحسب! بل اکثر من ذلک، ان قیام طبقة معینة بفرض ارادتها علی المجتمع الواعی، لیس امراً مزعجاً فقط، بل یعرقل سیر الامة والاقتصاد، والسیاسة، لانه یحدد نشاط وطاقات الافراد ببرامجه الخاصة فیقل انتاج الامة، ولا یمکن اطلاق الحریات الکاملة فی کل مجال الا بألغاء ذلک الجهاز الموجه للمجتمع: الدولة، یصرح بذلک انجلز قائلا: (... ویعنی هذا ان نمو الانتاج الی درجة صالحة، وتملک وسائل الانتاج والمنتجات من قبل طبقة، کالسیطرة السیاسیة، وتوحید وثقافة، والتحکم بالتوجیه الاجتماعی العقلی، من قبل ای طبقة، لا تصبح امورا مزعجة فقط، بل تکون ایضا عقبة کأداء فی سبیل التقدم الاقتصادی والسیاسی، والعقلی(2).

ثم یتفلسف لذلک، وکیف ان المجتمع اذا خرج من حکومة طبقة معینة، واستطاع ان یتمتع بأقصی حریاته ومواهبه، یکون حکومة انسانیة یسودها الضمیر، ویسیطر علیها العقل، یعیش فی المرة الاولی تحت رقابة الانسانیة المتحررة، ثم یسبح فی الاحلام، ویحلق فی سبحات تلک الاجواء المثالیة، کشاعر یعتصر قلبه صورا وألوانا، فلنصغ الی ترانیمه!.: (.. حینما سیطر المجتمع علی وسائل الانتاج، لا یعود یأخذ الانتاج صفة البضاعة اعنی بوضع حدود لطریقة تملک الانتاج، التی کما رأینا، تجعل المنتجات تتحکم بالمنتج، فالفوضی فی الانتاج

ص:127

الجماعی، تفسح مجالا للتنظیم الوعی المثالی، والصراع لاجل الوجود الفردی یتلاشی. ولا نستطیع الا من تلک اللحظة ان نقول بان الانسان خرج أکیدا، من مملکة الحیوان، حیث یکون عندئذ قد استبدل شروط الوجود الحیوانی، بشروط وجود إنسانیة حقیقیة. ومجموعة شروط الوجود، التی سیطرت حتی الان علی الناس، تصبح عندئذ خاضعة للرقابة الانسانیة، وببلوغ الانسان السیادة علی التنظیم الاجتماعی، یبلغ بذلک للمرة الاولی السیادة، والوعی علی الطبیعة ذاتها فالقوانین التی یفرض وجودها فی المجتمع حتی الان معتبرة کقوانین طبیعیة غاشمة، تفرض علی الانسان سلطة غریبة.... ولکن منذ هذه اللحظة ستصبح القوانین من إبداعه، وخلقه هو.. فمن هذا التاریخ سیبدیء الانسان فی بناء تاریخه بیدیه، بناءاً واعیاً مدرکا بأن الاسباب الاجتماعیة، التی یحرکها دوما تنتج بتقدم النتائج، التی یریدها، وعندئذ تخرج الانسانیة من مملکة القدر لتدخل فی مملکة الحریة(1).

کان بارقة أمل کانت تلوح لانجلز، او استبدت به الهواجس فی هدئة الظلماء فجعل یهذی بهذه الاساطیر: (منذ هذه اللحظة..):

(فمن هذا التاریخ...)

غیر ان اللیل لم یجرف هذه الاطیاف، بل ظلت تراود أفکار لینین - وحتی بعد ان مرت به تجارب قاسیة - فنراه یقول - ناقلا عن انجلز - (تتولی البرولیتاریا علی سلطة الدولة، وتحول وسائل الانتاج بادی ذی بدأ الی ملکیة

ص:128

الدولة لکنها إذ تفعل ذلک تقضی علی نفسها بصفتها برولیتاریا وتقضی علی الدولة بصفتها دولة... ان الدولة لم تلغ بل هی تفنی...(1).

ویؤکد ذلک مرددا کلام انجلز: (... وان ظلت غیر ملائمة لحزب لیس برنامجه الاقتصادی اشتراکیا، بصورة عامة بکل بساطة بل شیوعیا علی وجه الدقة، لحزب هدفه الاخیر حذف کل دولة، وحذف الدیموقراطیة بالتالی(2).(3) (.

ص:129

ص:130

اضغاث احلام:

ثم یأتینا الجواب سلبیا: (نعم! إنه نظام مثالی غیر صالح للتطبیق!!!) فقد کان مارکس رجلا متشائما ناقما علی الحیاة، وکافرا بالضیاء والنور والسعادة...(1) حاول الانتقام من البشر الذی لم یرکع امامه واطاح به فی بؤرة المنبوذین.... فکان کلما آوی الی مخدعه جعل ینحت من تجاعید دماغه هذه الافکار والنبوءات، ولم یلتقطها من واقع المجتمع والحیاة بل کان یتنقب فی الماء، ویتصید السمک فی الهواء، فأصبحت اشبه بالاوهام، منها بالمبادیء والدساتیر، وکانت قفزته الخیالیة انتفاضة عاطفیة فجائیة، عقبها سقوط اکثر إمعانا فی الفجائه..... ولکنه کان یعیشها جذلا مغتبطا... ثم انجرف معه تلمیذه وزمیله أنجلز... فتعاونا علی إطلاء أفکاره ونشرها فی الاوساط الناقمة الثائرة، کالعمال والفلاحین الذین هم أبعد الطبقات عن الوعی والثقافة، فتقبلها الکثیرون، لا رغبة فیها، بل خشیة من الانظمة التی کانت تسود ذلک الیوم، ورزحوا تحت کابوسها طویلا...

وکان کارل مارکس یؤمن بأفکاره إیمانا عمیقا، وحتی دفع بأنجلز لیبشر بها، ویعلن تطبیقها، ولکنها لم تغن من الحق شیئا... حتی إذا ظهر لینین علی المسرح واستعاد نشاطه، وتجمع قواه. واندفع بکل ثورة وحماس لیطبق أفکار مارکس وتنبؤاته... فاذا بها انفزرت کما تنفزر فقاقیع الصابون... واسقط فی یده أن رأی نفسه یتحطم علی صخرة الواقع...

ص:132

ارتداد عن الشیوعیة:

فابتدر الی نسخ النظریات الشیوعیة، وابتداع نظریة اخری هی الاشتراکیة... وحیث کان قد ألب الجماهیر حوله باسم المبادئ المارکسیة، ورأی الناس مغرمین بتلک المبادئ، لا بما یختلقه ارتجالا تحت ضغط الظروف والملابسات... وهاله ان یعلن عجزه وانهزامه من المیدان، وفشل المبادیء المارکسیة، خشیة ان یتفرق الناس من حوله، وینتهز الفرصة (حزب المنشفیک) المناویء للشیوعیة، ویعود قیصر الی العرش وینکل بلینین وزبانیته شر تنکیل...

لهذه العوامل، وغیرها.. حاول ان یوفق بین نظریاته والمبادیء المارکسیة، ماوسعه الامر... واعلن ان الشیوعیة لاتنزل علینا عفوا من السماء، وإنما یجب ان نصنعها بأیدینا عبر نضال طویل، یجب ان نخوضه ویخوضه کل فرد روسی... فلنستمع إلیه وهو یقول:

(والمجتمع الشیوعی انما هو شیوعیة فی کل شیء الارض مشترکة، والمعامل مشترکة، والعمل مشترک، تلک هی الشیوعیة، فهل یمکن ان یکون ثمة عمل مشترک؟ اذا کان کل أمرئ یستثمر قطعة من الارض لحسابه الخاص، إن العمل المشترک لا ینشأ دفعة واحدة! هذا غیر ممکن! ولا یهبط من السماء! انما ینبغی اکتسابه، إنه ثمرة آلام طویلة، ینبغی إنشائه، وهو ینشأ فی غمرة النضال(1).

ص:133

فاعتبر نفسه فی فترة الانتقال، زاعما: استحالة القفزة الفجائیة من المرحلة الرأسمالیة، الی الشیوعیة، دون ان تتخللهما المرحلة الاشتراکیة.

فقال: إننا یجب ان نحقق الاشتراکیة لنعبد الطریق الی الشیوعیة، وزعم ان هذه کانت فکرة مارکس وانجلز، لیبرر قصوره وعجزه، ونقل عن أنجلز، التصریح التالی:

(.. إذن فقد کان من المحال بصورة مطلقة، بالنسبة الی مارکس، کما بالنسبة الی ان نستعمل مثل هذا التعبیر المطاط، للتعبیر عن وجهة نظرنا الخاصة لکن الامور تختلف الیوم فیمکن التساهل بقبول مثل هذه الکلمة، (اشتراکی دیموقراطی)، وإن ظلت غیر ملائمة لحزب لیس برنامجه الاقتصادی اشتراکیا بصورة عامة، بکل بساطة، بل شیوعیا علی وجه الدقة(1)..).

وربما کان یلقی الذنب: ذنب عدم تطبیق الشیوعیة علی تأخر البلاد، زاعما اننا نقوم بشیء من التراجع فی اداء مسؤولیتنا لان تأخر البلاد الاقتصادی، لا یسمح لنا بتطبیق الشیوعیة، ولکننا بهذا التراجع نستمد نشاطا مضاعفا لنرجع الکرة الحاسمة علی رواسب الرأسمالیة، والاشتراکیة القائمة فی سبیل تطبیق الشیوعیة، قائلا: (... إنهما: (الحزب الشیوعی والحکم السوفیاتی) یقومان بشیء من التراجع، لکی یستطیعا حین یصبحان أحسن استعدادا، ان یستأنفا الهجوم علی الرأسمالیة إن التجارة الحرة، والرأسمالیة مسموح بهما الیوم، بصورة خاصة، وهما

ص:134

تتطوران علی أن تکونا خاضعین للترتیبات، التی تضعها الدولة... إن مشاریع الدولة التی حولت الی مشاریع اشتراکیة، تتبنی المبدأ المسمی بمبدأ المردود التجاری، أی إنها تعمل علی أساس تجاری، وهذه الحالة نظر لتأخر البلاد(1).

وحیث کان یحمل هذه المسؤولیة علی تأخر البلاد، حاول استنزاف طاقات العمال والفلاحین، لترمیم الاقتصاد، وذلک بجعل کل فرد عضوا فی الحزب الشیوعی، لیستفرغ مواهبه وامکانات فی تشیید البناء الشیوعی دون ایما قید او شرط لذلک نراه یطلق هذا النداء: (... أما نحن فینبغی لنا أن ننظم کل الاعمال... بصورة یستطیع معها کل عامل وکل فلاح أن یقول: إننی عضو فی هذا الجیش الکبیر، جیش العمل الحر(2).

وکان أبدا یمنی الناس بانه سیقیم الشیوعیة فی الیوم القریب...

فنجده مرة یقول: (.. وسأعرف بنفسی کیف أقیم النظام الشیوعی(3).

وأخری کان یؤمل الناس بقیام الشیوعیة بعد عشر او عشرین عاما قائلا: (ینبغی علی الجیل الذی یبلغ الیوم الخامسة عشرة من العمر، والذی سیعیش فی المجتمع الشیوعی، بعد عشر، او عشرین سنة ان ینظم دروسه...(4).

ص:135

لقد انطوت حیاة لینین، وخلفه استالین وهو الاخر أیضا لم ینجز تطویر الاشتراکیة الی الشیوعیة بل علقه علی ثلاثة شروط:

(فاولاً، یجب ان یؤمن بشکل متین، انما متواصل لکل الانتاج الاجتماعی...).

وثانیاً: یجب لتحقیق الانتقال... رفع الکولخوزیة..

وثالثاً، تأمین تقدم ثقافی للمجتمع یتیح لجمیع اعضائه تطویر مؤهلاتهم الجسدیة والفکریة تطویرا متناسقا....(1).

لقد کان لینین یهیب بالناس ان یعملوا لبناء الشیوعیة، التی ستتحقق بعد عشر او عشرین عاما... وأهاب ستالین بالناس أن یعملوا لتحقیق الشروط الثلاثة ولم یختلف عن لینین وستالین سائر زعماء الشیوعیة فانهم جمیعاً کانوا یلهجون بهذه النغمة... ولکن واحداً منهم لم یتخط هذه الخطوة... وان حملوا الناس باسمها اعباء واعباء...

ولقد انقضی عشر سنین، وعشرون سنة... وبلغ الاتحاد السوفیاتی العقد الخامس من عمره وانجز مکاسب وانتصارات (!) ولا یزال خرشوف یمنی بقیام المجتمع الشیوعی، لتغریر السذج البسطاء فنراه یقول: (... ونحن نسیر

ص:136

نحو المجتمع الشیوعی...(1).

ویقول: (... وعما قریب ستأخذ هذه البلدان، شأنها شأن الاتحاد السوفیتی، فی بناء المجتمع الشیوعی...(2).

وتجد هذه التصریحات وغیرها تتمیز بطابع التسویف... غیر ان خروشوف یأبی فی بعض الاحیان حتی هذا التسویف، فهو یجد الامور طوع یدیه، مهما کانت تصریحاته، فلا یجد حرجا من التصریح بالواقع الراهن لذلک یصرح بان الانتقال الی المرحلة الشیوعیة جد بعید، فان بعض البلاد السوفیتیة لم ینتقل بعد الی مرحلة الاشتراکیة، فکیف تسنح لها الانتقال الی الشیوعیة؟: (کیف یجری فی المستقبل تطور البلدان الاشتراکیة، نحو الشیوعیة؟ هل یمکن لنا ان نتصور وضعاً یتوصل فیه بلد من بلدان الاشتراکیة الی الشیوعیة؟ ویطبق المبادیء، الشیوعیة فی الانتاج والتوزیع، بینما سائر البلدان لا تزال متأخرة جداً، عند الاطوار الاولی من بناء المجتمع الاشتراکی ان هذا الوضع قلیل الاحتمال(3).

والواقع ان الانتقال الی الشیوعیة قلیل الاحتمال بل غیر ممکن بکل صرامة فان لینین حرف الشیوعیة تحریفاً جذریا، وکون نظاما جدیداً قابلا للتطبیق، وان اعتبره المرحلة الانتقالیة کما صرح بذلک ستالین: (اما الحقیقة کلها عن اللینینیة، فهی انها لم تقتصر علی بعث المارکسیة، بل خطت فوق ذلک خطوة اخری الی

ص:137

امام، بتطویرها المارکسیة فی الظروف الجدیدة للرأسمالیة، ولنضال البرولیتاریا الطبقی(1).

کل ذلک ینتج ان الشیوعیة لم تطبق، وانما ظلت حتی الان حلما شروداً، رغم المحاولات السخیة، التی اهدرها الحزب الشیوعی، الذی اخضع لارادته جمیع المواهب والطاقات، وهذا اکبر دلیل علی فشل هذا النظام، وعدم صلاحیته لتوجیه المجتمع وتنظیمه.

یتسائلون:

وعلی اعقاب ذلک یسئلون: ولکن هل یعتبر عدم تطبیق النظام الشیوعی عیبا فی النظام نفسه؟ ام یعتبر عیباً فی اولئک الذین لم یطبقوه؟

والجواب: ان عدم تطبیق نظام من الانظمة حینما یکون بسبب جبن انصاره، او عدم اخلاصهم لمبدئهم، فان ذلک العیب یکون راجعاً الی القادة، ومن الظلم ان یحمل علی النظام جریرة اقترفها اصحابه المسؤولون!!

اما لو کان عدم تطبیق ذلک النظام ناشئاً عن استعصائه، وعدم تطویعه للواقع، ومصادمته للفطرة، ومناقضته لنوامیس الاشیاء. فلا شک ان ذلک یکون نقصاً فی النظام.

والواقع انا لا نستطیع ان نتهم قادة الشیوعیة، من لدن مارکس الی خروشوف، بعدم الاخلاص لمبدئهم، او العمل علی عرقلة النظام الشیوعی

ص:138

والحیلولة دون تطبیقه.. وبالرغم من محاولاتهم الصادقة بقیت الشیوعیة بمعزل عن واقع الحیاة. لاستعصائها علی التطبیق، ومناوئتها لفطرة الاشیاء وهی التی اورثت جهادهم هنا الفشل الذریع.

اخطاء الشیوعیة:

لیست بی حاجة الی تعداد اخطاء الشیوعیة، فان الشیوعیة کلها مجموعة اخطاء واغلاط... ولا نجد بنداً من بنودها بریئاً من الطیش والتناقض. فان مبادیء الشیوعیة، لا تعدو الافکار التالیة:

1 - فطرة الانسان مجردة عن المیول، والغرائز، والاستئثار..!

2 - اختلفت عن البشریة المراحل الخمسة التاریخیة: الشیوعیة الاولی، الرق، الاقطاع، الرأسمالیة، الشیوعیة الثانیة!..

3 - ولا بد من: استیلاء البرولیتاریا علی الحکم.

4 - القضاء علی رأس المال، والربح الناتج منه!

5 - القضاء علی الملکیة الفردیة.

6 - القضاء علی العائلة.

7 - تأمیم وسائل الانتاج.

8 - القضاء علی الطبقات.

9 - الغاء الدین، والاخلاق، وتحطیم سائر القوانین السائدة.

10 - جعل العمل اجباریا للجمیع.

ص:139

11 - توزیع البضائع حسب الحاجات، ورفع الاسواق والنقود.

12 - القضاء علی الدولة.

تجرید الانسان من المیول:

فاما اعتبار الانسان مجرداً من المیول المتأصلة فی طبیعته، فهو خطأ تنقضه الفلسفة الدیاللتیکیة ذاتها!!.

فان (دارون) و (فروید) اللذان نشرا بذور الدیالکتیک، یقرران فی الحیوان کما فی الانسان الغرائز الجامحة، والمیول الشرهة، ویفسران جمیع مظاهر الانسانیات والدیانات بهما، ویعرفانهما مبعث الظواهر البشریة کلها... وهذا التفسیر الجنسی للسلوک البشری، لیس تفسیر للسلوک الفردی وحده، وانما هو کذلک. محور الحیاة الاجتماعیة. منذ بدأ التاریخ البشری حتی الیوم..

کان دارون قد قال: (فی عالم البقر تنطلق الثیران الفتیة الشابة ترید ان تزو علی امها. فتمنعها سیطرة الاب. المسیطر علی القطیع. فتنشب معرکة حامیة. بین الثیران الفتیة. والاب الشیخ. یتکتل فیها الابناء ضد ابیهم حتی یقتلوه. ثم یقتتلون فیما بینهم. کل منهم یرید ان یستخلص الام لنفسه فیموت الضعاف فی المعرکة. او ینعزلوا. ویبقی ثور واحد یستولی علی الام ویصبح هو قائد القطیع).

وجاء فروید ینقل عن دارون هذه الاسطورة القذرة. غیر انه نقلها (ایضاً) من عالم الحیوان الی عالم الانسان. فقال: (حدث فی البشریة الاولی. یحدث فی عالم البقر احس الابناء برغبة جنسیة نحو امهم التی ولدتهم ولکن سطوة الاب کانت تمنعهم من هذه الشهوة الاثمة. فتآمر الاولاد علی قتل ابیهم. لیتخلصوا

ص:140

من سطوته. ویستأثروا بأمهم. واستیقظت الارض ذات صباح علی صیحات مجنونة وصرخة مروعة: لقد نفذ الاولاد ما تآمروا علیه).

ویذهب فروید الی حیث یدعی: الجنس هو کل شیء. وکل شیء نابع من الجنس.. فیقول: (الطفل یرضع ثدی امه بلذة جنسیة ویتبول ویتبرز بلذة جنسیة. ویحرک عضلاته بلذة جنسیة... ویرتبط بامه بشعور جنسی. (کما ترتبط الطفلة الانثی بابیها بشعور جنسی).

لسنا بصدد مناقشة هذا الهراء الفارغ مناقشة موضوعیة ولکنا نستخلص من ذلک کله: ان المادیة الدیاللتیکیة تؤکد: ان الفطرة البشریة الاصلیة مختمرة بالوان من المیول العاطفیة والغرائز الجنسیة. والاستبداد والاستئثار.. اذن فکیف یمکن استخلاص الانسان من نزواتها الطائشة دون ایما کبت داخلی. او خارجی؟؟

فاذن! انهارت الدعامة الاولی، من دعائم الشیوعیة، القائلة: بان الانسان بطبیعته الاولیة مجرد عن المیول والغرائز، والبیئة هی التی تفرضها علیه، ویمکن تجرید الانسان منها بتبدیل البرامج الاجتماعیة، وتعقیم البیئة منها!!!

مراحل التاریخ:

تترکز الفکرة الشیوعیة - فی المرحلة الثانیة - علی مبدأ دارون القائل: بالتطور الطبیعی الحتمی للبشریة فی کل شیء... فهی کما تنتقل من الصید الی الرعی، الزراعة، الی الصناعة... وتتطور من الخرافة، الی التدین، الی العلم... کذلک تنتقل من الشیوعیة، الی الرق، الی الاقطاع، الی الرأسمالیة. الی الشیوعیة...

وهذه الفکرة مغلوطة، بالغة فی الغلط..

ص:141

فاولا: من ذا یقول: ان البشریة مرت بهذه المراحل؟ وای تأریخ یسجل: ان الانسانیة الاولی کانت شیوعیة؟ وحقا، ان من السخف ان یدعی المرء مثل هذا الادعاء الطائش، الذی لا یعتمد علی ای مدرک او دلیل...

ثانیاً، ان المصادر التی تروی لنا اخبار البشریة الاولی، لا تعدو الکتب السماویة، واحادیث الانبیاء والائمة. وهی جمیعا تؤکد: ان البشریة الاولی لم تکن شیوعیة، وان اول بشر وجد علی سطح الارض وابو الانسان. (آدم - ع) کان نبیا وذریته کانوا مؤمنین وکافرین، کما هم الان مؤمنون وکافرون...

فاذن! این وجدت الشیوعیة الاولی؟ اکثر الظن ان الشیوعیة الاولی تکونت، وعاشت، وماتت، فی خیال دارون وزبانیته واذنابه!! کما ان الشیوعیة الثانیة لم توجد الا فی اوهام مارکس، وانجلز، ولینین وعملائه.

ثالثاً، ان القول بالمراحل المتعاقبة للبشریة: الرق، ثم الاقطاع، ثم الرأسمالیة، خطأ مفضوح، فان التواریخ تحدثنا: انها لم تکن مراحل متتالیة، بل کانت ظواهر متقارنة لفساد الاجتماع، فکان یعدم الرق، والاقطاع، والرأسمالیة، فی المناطق الخاضعة للادیان الصحیحة، کما کانت توجد ثلاثتها بمجرد انطلاقها من حدود الادیان...

وحتی قبل نصف قرن کانت الرأسمالیة تعیش الی جانب الرق، والاقطاع، والیوم نجد الرأسمالیة والاقطاع معا الی جانب اسلوب متطور من الرق، یلائم القرن العشرین، هو استعباد المستعمرین لمستعمراتهم!

ص:142

فتلخص من ذلک کله: ان تفسیر التاریخ بهذه المراحل الخمس اکذوبة مرتجلة تائهة!

حکومة البرولیتاریا:

اول ما تنجزه الشیوعیة استیلاء البرولیتاریا: (الطبقة العاملة علی الحکم، وهو الرکیزة الثالثة فی الفکرة الشیوعیة... وهو خطأ ل -:

1 - ان توجیه الاجتماع، وادارة السیاسة الداخلیة والخارجیة، وتنظیم الاقتصاد والثقافة، والشرطة، والجیش،... یتطلب مزیداً من الوعی والمواهب. والتجارب والعمال ابعد طبقة عن الکفاءات والامکانات، والطاقات الفکریة الخلاقة الکافلة لتولی دفة الحکم بیقظة وحکمة أناة... فهل من الصحیح تفویض مصیر الملایین الی طبقة لم تؤت نصیبا من الوعی الاجتماعی. والتنظیم السیاسی. بعذر: انهم کانوا مضطهدین او انهم یکدحون اکثر من ایة طبقة اخری؟؟!

ب - صحیح ان العمال یقومون بدور هام فی الانتاج. وفی خدمة الاجتماع. ویبذلون من الجهد ما یستحق التقدیر. ولکن مجرد قیامهم بالعمل لا یعنی ان الطبقة المختارة المفضلة علی سواها. فالاجتماع یحتاج الی جهد تعاونی مشترک منظم، یقوم به العمال. والمهندسون والمفکرون. والمبتکرون. والجیش والشرطة، والمدراء، والمعلمون، والطلاب والکتاب... علی حد سواء، کشرکاء فی تنظیم الاجتماع، وضمان توفیر الرخان، والحیلولة دون طغیان انسان علی انسان. فالعمال یساهمون بالجهد البدنی کما غیره یساهم فی الجهد الفکری. او البدنی ایضاً.

ص:143

وبعد ذلک فلا یوجد مبرر لتفضیل العامل، علی من یؤدی مسؤلیته الاجتماعیة، بحجة ان العامل نواة الاجتماع فالمدیر - کذلک - نواة الاجتماع لولاه لشاع الفوضی. وسحق العامل وانتاجه معاً کما لا یوجد ما یدعو الی القول بان العامل یعیش بحق لانه یأکل انتاج نفسه. والاخرون متطفلون علی العامل لانهم یأکلون انتاجه، ففی وسعنا القول بان الجندی یحیا بحق لانه یحمی نفسه، والعامل متطفل علی الجندی لانه یتفیأ ظلاله، ولولاه لما استساغ الحیاة... وکذلک سائر الافراد الذین یقومون بخدمة اجتماعیة!! فکل فرد یبذل جهدا له ان یتقاضی ثمنه سواء تمثل هذا الجهد فی الطاقة البدنیة او الذهنیة او فی الطاقة المیکانیکیة التی توفرها الالات نیابة عن اصحابها.

ج - ثم لو اعترفنا لصدق نظریة لزوم دکتاتوریة البرولیتاریا هل ان جمیع العمال یتصدرون المناصب، ام بعضهم دون بعض؟؟ لا یمکن رفع جمیع العمال الی الحکم. لان الدوائر تضیق بهم. فلا بد من تفضیل بعضهم علی بعض. وذلک لا مبرر له.!

ثم لو رفعوا العمال الی الحکم فمن ذا یقوم باداء مسؤلیتهم فی الانتاج؟ ومن هم المعینون بکلام مارکس: (اذ ان الصناعة الکبری تهدم کل صلة عائلیة عند البرولیتاریا وتحول الاولاد الی مواد تجاریة بسیطة وادوات عمل صرفة(1) ؟ الا یشمل ذلک اولاد العمال؟ اذن فالعمال یحولون الی مواد تجاریة بسیطة. وادوات عمل صرفة. ولا یرفعون الی المناصب. اما دفة الحکم. فیولیها غیرهم.

ص:144

فالنتیجة الملخصة: ان (حکومة البرولیتاریا) سراب یحسبه الظمئان ماءاً حتی اذا جائه لم یجده شیئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه.

الدکتاتوریة:

وتتعارض نظریة (دکتاتوریة البرولیتاریا) مع الحریات العامة التی ینبغی ان تتوافر للمحکومین. فالدکتاتوریة فکرة لئیمة. مهما اختلفت اشکالها والوانها. ولا یشفع لها ان تکون دکتاتوریة البرولیتاریا. لانها تکشف عن عدم تطویع الشعب لتلک الحکومة. سواء أکانت تلک حکومة العمال. او البیوقراطین او الاستقراطیین او الارستقراطیین او الرأسمالیین والحکومة الشعبیة ابدا لیست بحاجة - فی تنفیذ برامجها - الی التوسل بالدکتاتوریة، والقسوة، والاضطهاد، وانما تتوسل بها الحکومات الاجنبیة عن روح الشعب، التی تفرض علیه سلطات غریبة عن حاجاته واهدافه) فالتجاء الحکومة الشیوعیة الی الدکتاتوریة تنم عن انها لیست حکومة من الشعب وللشعب، وانما هی حکومة ضد الشعب ورغم الشعب...

فلا بد اذن من الغاء الدکتاتوریة، واستبدالها بالحریة.!!

رأس المال وربحه:

یحسب الشیوعیین: ان رأس المال والربح الناتج منه، یلازمان - ابدا - الاستغلال، والاحتکار، والربا.. وبالتالی تکوین الطبقات المتعاکسة... ولا یفقهون ان تلک نتائج رأس المال المطلق اما رأس المال والربح الناتج منه المحددان، فلا ینتجان شیئا من تلک السیئات...

ص:145

بمقتضی هاته الفکرة الضیقة یحکم الشیوعیون بوجوب القضاء علی رأس المال والربح الناتج منه. فی حین ان رأس المال والربح الناتج منه، من العوامل الاساسیة فی توفیر الانتاج، وتحسینه وتوزیعه! اما ضرورة وجود رأس المال فل:

ا - ان دفع اجور العمال، والمستخدمین، والمبتکرین، والمدراء امر واجب الاداء فی الوقت المعلوم، ولا یحتمل التسویف والانتظار الی ان یتم اخراج السلعة وتسویقها، وذلک لا یکون الا مع وجود رأس المال. ولا یمکن ان یأخذ العمال والمستخدمون کمیات متکافئة من نفس السلعة التی ینتجونها، لان حاجاتهم لا تختصر فی سلعة معینة وانما تحدو بهم الی الوان شتی من السلع والخدمات... لذلک لا بد لهم من الاجور والمکافئات النقدیة، ولا بد للاجور والمکافئات النقدیة من رأس المال!!

ب - ان رأس المال هو الذی تهیأ به المعامل والمصانع، وتشتری به آلات التی لا بد منها فی توفیر الانتاج وتحسینه وتخفیف قسوة العمل... کما انه لا بد من رأس المال فی شراء الخامات واستخراجها من المناجم!.

ج - وبدون رأس المال، لا یمکن ضمان استمرار الانتاج - سیما فی الازمات الاقتصادیة - فصاحب رأس المال یغامر بثرواته، لانه یدفعها وهو یعلم انها لا ترجع الیه الا بعد انتاج السلعة وبیعها، وهذه مغامرة بالنسبة الی من لا یعرف مدی ما سیصیب سلعته من رواج او بوار.. کما ان صاحب رأس المال ربما یضطر الی التضحیة بشطر من امواله فی سبیل تحسین الانتاج اذا انتج الرأسمالی الاخر سلعة اروع واباعها بأبخس ثمن - تبعاً لعوامل قد

ص:146

تحدث فی الاقتصاد - فیضطر کل من التجار الی تحسین سلعته وبیعها بثمن زهید، تحت ضغط التنافس الحر... وذلک لا یکون الا بوجود رأس المال.. نعم لا بد من تحدید رأس المال، کی لا یطغی ویفسد اکثر مما ینتج ویصلح!!

واما ضرورة وجود الربح الناتج من رأس المال فلولاه لم یقدم احد علی الاشتراک فی حلبة التجارة، والمغامرة بامواله فی سبیل اللاشیء، لان التجارة لا تربح ابداً، فالتاجر قد یجهد ولا یربح، وربما یخسر اصل المال فلو لم تکن هناک رغبة ملحة فی الربح، تجافا کل فرد بامواله عن الاسواق ووقفت التجارة، وشاع الکساد، وتفشی العطل..

غلطة مارکس:

ولکن مارکس حیث لا یؤمن بملکیة الربح الفائض عن رأس المال یتسائل:

(کیف یقدر مال ما ان یربح، ویصبح اکثر من نفسه؟ اننا لا نجد فی المنتوج الا ما یساوی المال المدفوع للعامل، وقیمة العمل - ای القیمة الذاتیة للمنتوج - وتآکل الآلات.. فمن این اتی الربح؟ اکانت هناک قوة سحریة تجعل راس المال اکثر من هذه القیم؟) ثم یفسر هذه الظاهرة بان الرأسمالی انما یکسب الفرق بین الاجر الذی یعطیه للعامل، والقیمة الحقیقیة للمنتوج ای ان الربح یأتی علی حساب نفع العامل ومن وراء الاضرار بحقه، واذن فالربح لصوصیة ظالمة، ینبغی القضاء علیها.

ص:147

ان مارکس یعدد سعر الخامة، واجر العامل، ونفقات العمل فیری ان الواجب ان تباع البضاعة بنفس الثمن - مثلا - اذا کان ثمن الخامة 2 قرشاً، واجر العامل 1 قرشاً، والنفقات الاخری 1 قرشاً، فالمجموع - 4 قروش.. فلو باعها صاحب رأس المال ب - 5 قروش، یری مارکس. ان هذا القرش الخامس زائدا! فیتفلسف له، من این اتی؟ ینتهی الی ان اجر العامل لم یکن قرشاً واحدا، وانما کان قرشین، وحیث دفع صاحب رأس المال للعامل قرشاً واحدا، فهو اذن سرق منه القرش الاخر، الذی استأثر به.. مع ان هذا خطأ مفضوح!

لان صاحب رأس المال یعمل ایضاً، غیر ان عمله لیس عملا یدویا ولست ادری کیف ان المهندس یستحق الاجور؟

والمدیر یستحق المکافئة؟ اما صاحب رأس المال - الذی هو بمنزلة المدیر العام فی بعض الاحیان، وبمنزلة المهندس والمدیر فی بعض الاحیان - لا یستحق شیئا، حتی اذا وفر لنفسه قسما من سعر البضاعة یعتبر لصاً؟!!.

والواقع ان صاحب رأس المال لا یقل عن المدیر، فلا یعتبر لصا لو استوفی نصیبه. کما ان المدیر والمهندس، والعامل کذلک، فکما ان البضاعة لا تخرج من دون عمل العامل، کذلک لا یمکن الانتاج من دون تنظیم وتوجیه صاحب رأس المال...

وفی نفس الوقت نعترف بلزوم ان لا یغالی صاحب رأس المال فی تحدید الاسعار، کی لا ینال اکثر من نصیبه الشرعی.

ص:148

اما کیف یسمح لإصحاب الشرکات العالمیة، ان یستوفوا الارباح السخیة، لعدة کلمات یلفظونها کل یوم فی لاقطة التلفون؟ فمثلهم مثل الوزراء، الذین یحتکرون المناصب الخطیرة، وراتبهم - علی ای حال - اکثر من راتب موظف بسیط، مع ان عملهم الیومی اقل بکثیر من عمل ذلک الموظف... وهذا حق، لان نوع العمل یختلف، وتبعا لذلک تختلف کمیة الاجور، لان للعمل الخطیر مسؤلیة خطیرة والقیام بالمسؤلیة الخطیرة ربما یستتبع خسارة جسیمة، فلا بد ان یکون فی الطرف المقابل منفعة راجحة حتی ینهض فرد من الطامحین بعبئها...

فاذن لا بد من تقریر مشروعیة رأس المال، والربح الناتج منه...

والشیوعیة لا تقضی علی رأس المال قضاءًا تاما، وانما تحولها من اید الی ایدی، وسنبحث عن ذلک تحت عنوان (التأمیم)(1).

الملکیة الفردیة:

ان حریة الفرد فی اختیار العمل الذی یروقه، وتؤهله له ملکاته ومواهبه... وحریته فی ان یرصد لنفسه ریع انتاجه ومکاسبه... لان الحریة - لا القیود والاستعباد - هی التی تفسح المجال للتنافس الحر والسعی نحو الکمال، وانطلاق طاقة الابتکار، فحین توفر الحریة للافراد، بطریقة عادلة عمادها (تکافؤ الفرص).

ص:149

یشعر الافراد بما لدیهم من کرامة، کما یجعلهم یکیفون حیاتهم کما یریدون، فیتقدمون الی الامام، یوسعون البحث عن وسائل جدیدة لتنفیذ وتحقیق ما یریدون. والنظام الذی یکفل الحریة الفردیة، اقدر علی استفاد موارد البشر والطبیعة.. فالرغبة الجامحة المنبعثة من المنافع الشخصیة، هی التی تثیر فی الانسان طاقة الابداع والاختراع وتتیح للافراد حق زیادة الدخل بالوسائل المشروعة، وتؤدی الی انتشار الرخاء...

علی حین ان مصادرة الحریات، تجعل من الافراد آلات آدمیة وتنشر نوعا من السخرة الاقتصادیة، فحیث تحدد الدولة مقررات الافراد والسیطرة علی الانتاج، تعدم التنافس، وتقتل الابتکار، وتنجز النشاط والتحفز فی الانسان، فیضعف تدفق الانتاج، وبراعته وتحد سیر التقدم الاقتصادی فی المباریات الاقتصادیة العامة...

فاذن لا بد من الملکیة الفردیة. والا لنقلص الاقتصاد الوطنی، والدخل الاهلی.

القضاء علی العائلة:

من اسخف ما فی النظام الشیوعی، فانهم یحاولون القضاء علی العائلة لاطلاق الشهوة الجنسیة، والارتواء الجنسی الفاجر، وذلک هدف جد تافه، بالقیاس الی ما یستتبعه من خسائر فادحة علی الاقتصاد والاجتماع نذکر منها ما یلی:

ص:150

1 - ان رئیسی العائلة الرجل والمرأة، یقومان بجمیع الاعمال البیتیة، وهذه الاعمال کثیرة باهضة جدا، ولکن الرغبة العاطفیة نحو العائلة تحفز الرجل والمرأة الی انجاز هذه الاعمال، وتنسیهما الاتعاب والمصاعب، حتی لو لم تکن هناک عائلة، لم یقم احد بشطر من تلک الواجبات، فرجل العائلة یؤدی - علی الاقل - ضعف ما یؤدیه رجل الفرد... فلو الغیت العوائل فاضت الاعمال عن معدل العمال.. لان رب الاسرة ینهض باعبائها خارج 8 ساعات العمل المرسوم، فاذا تحطمت العائلة، اصبحت التکالیف المنزلیة داخل برنامج 8 ساعات العمل...

2 - ان حضانة الاطفال، وتربیتهم، وتنشئتهم، مما یقوم به رجل وامراة، ویظمنان اشباع جمیع حاجاتهم الاقتصادیة، والاجتماعیة، والنفسیة، اما لوبعثرت العائلة، کان علی الدولة ان تخصص کمیات کبیرة من الاموال، والموظفین والعمال والمستخدمین والنساء... للقیام بتلک الحاجات، التی تصبح اجتماعیة، بعدما کانت فردیة...

ان الاحصاءات المتکررة فی اکثر البلاد الراقیة، اعلنت: ان غالبیة اطفال الملاجیء ینشاؤن قلیلی الذکاء والمواهب، تبعا للروتین السائد علی الاعمال العامة، فتموت العبقریة فی نفوسهم الرشیقة، وتتحجر عواطفهم البضة، بینما نجد اطفال البیوت ینشاؤن متوفری الملکات والامکانات لانهم ینالون من حضانة الام ومرونتها وحنانها الکمیة المعینة من العنایة المنسجمة مع نداءات فطرتهم، التی تعلنها جرس البکاء، ویحددها الاعراض ومهما کان نظام الملاجیء، فانه لا یبلغ حنان الام.

ص:151

فلا بد ان من الابقاء علی العائلة، حرصا علی نوامیس الاجتماع..

التأمیم:

ما عسی ان تفعله الشیوعیة، باحتکارها مصادر الانتاج، وتأمیم الملکیات؟ اترید القضاء علی البرجوازیة والرأسمالیة؟ ام ترید سلب ثروات الشعب؟..

والواقع ان النظام الشیوعی، لم یحاول القضاء علی البرجوازیة والرأسمالیة، وان هتف المغفلون بذلک!! فقبل الشیوعیة کانت ثروات البلاد تحت ایدی افراد الشعب، غیر ان التوزیع کان جائرا، لذلک انقسم المجتمع الی ثلاثة طبقات متباعدة، الرأسمالیة، البرجوازیة، الطبقة العاملة والفقراء... وجائت الشیوعیة فسلبت مجموع الثروات من افراد الشعب وحولتها الی قاصات الدولة، فاصبح الشعب کله فقراء، واصبحت الدولة رأسمالیة جبارة.

فاذن الشیوعیة لم تقض علی رأس المال، وانما وجدته فی ایدی الشعب فانتزعته بالشدة والعنف. واستأثرت به فکانت النتیجة أن ظهر رأس المال فی اقسی مظاهره، عبر التاریخ والقرون، لان الزمان لم یشهد رجلا واحدا یقبض علی مجموعة ثروات عشرات الملایین من البشر حتی ان (فرعون) و (قارون) و (نیرون) و (هولاکو) و (جنکیز) وسائر المردة والطواغیت لم یبلغوا ما یبلغه رئیس الحکومة الشیوعیة..

فاذن لا یصح مصادرة رأس المال، وتأمیمه، لانه یبقی رأس المال وانما یتحول من اید الی اید، ویصبح اقسی مما کان علیه فی ای نظام اخر..

ص:152

الطبقات:

ان النظریة الشیوعیة تقسم المجتمع ابدا، الی طبقة عاملة کادحة هی البرولیتاریا، وطبقة مستغلة مستثمرة متطفلة علی المجتمع هی: البورجوازیون والرأسمالیون، ویختلفون - علی صعید الورق - الصراع الدائب العاصف بین هاتین الطبقتین... وهذا النوع من التقسیم لطوائف المجتمع ینطوی علی مغالطة مقصودة، فمجرد وجود جماعة من المفکرین، وجماعة من العمال، وجماعة من الموظفین، وجماعة من الضباط العسکریین، وجماعة من اصحاب رؤوس الاموال فی ای مجتمع من المجتمعات.. لا یعنی بالضرورة: ان هذا المجتمع موزع الی طبقات متباینة متصارعة...

کما ان قیام العمال بالعمل، وبذل الجهد البدنی، لا یجعل منهم طبقة قائمة بذاتها، مستغنیة عن سائر الطبقات... ومجرد استخدام اصحاب رؤس الاموال لاموالهم فی الانتاج، لا یلازم الاستغلال والتطفل.. فالعامل یملک طاقة بدنیة، والمهندس یملک طاقة فکریة، وصاحب رأس المال یملک طاقة مالیة، فاذا ما تعاونوا علی الانتاج یجب ان یوزع الفائض بینهم، ولکن یجب - ایضا - ان یکون التوزیع عادلا، لینال کل مکافأته الکاملة، کی لا تبعد الشقة بین الطبقات، ولا ینشب الصراع بینها ویلغی تألب الطبقات ضد بعضها البعض فاذا نال کل منجزات جهوده، او ارباح طاقاته ومواهبه، فای شیء یدعو لتحطیم الطبقات، وتسویتها فی طبقة موحدة، هی طبقة الکادحین؟؟؟ وانی ینشب الصراع والتناقض؟.

ص:153

ان الاعمال التی تبنی کیان الاجتماع، قد تکون فکریة، واخری تکون جسدیة، ویتقسم کل منهما الی العمل البسیط، والعمل القاسی، المستعصی... وتبعا لاختلاف هاته الاعمال سهولة وصعوبة، تختلف اجورها والا لما تطوع ای فرد للقیام بالاعمال القاسیة، وآثروا النهوض بالاعمال الهینة البسیطة... وباختلاف الاجور تلک، تتکون الطبقات...

تلک هی الفلسفة الطبیعیة لتکون الطبقات!!، فماذا ترید ان تفعله الشیوعیة؟

هل تحاول ان تجعل الاعمال المتباینة - کلها - فی مستوی واحد - تکوینا - من حیث الارهاق الفکری والجسدی؟ وهذا محال! لان الاعمال مختلفة، شائت الشیوعیة ام لم تشأ.

ام هل ترید ان تعتبر الاعمال المختلفة فی مستوی واحد، وتسبغ علیها کمیات متساویة من الاجور والتقدیر؟ وهذا جحود للفضیلة، وانکار للجمیل.. فان تسویة رئیس الحکومة، بکانوس البلدیة، من حیث التقدیر والاجور، کفر بالحق وظلم، وجفاء... ومتی کان ذلک فسوف ینکل الجمیع عن تحمل المسؤلیات الخطیرة، ویتوانوا الا عن البسیط الحقیر منها..

او تبغی الشیوعیة، ان ترفع الناس جمیعا الی ارفع مستوی من الثقافة الواعیة، ثم یدعهم لیزاولوا الزراعة والصناعة وینتظموا بانفسهم تنظیما مثالیا؟ ان کان ذلک فسنتحدث عن مثالیة هذه الفکرة تحت عنوان (إلغاء الدولة).

ص:154

فلا مناص اذن، من اقرار الطبقات، غیر انه یجب تعدیلها، والعمل لتکوین مجتمع متقارب الطبقات، القائمة علی اساس المواهب والاعمال..

الادیان والاخلاق:

لیست الادیان والاخلاق سلعة رابحة فی القبر، ویوم القیامة، وبین الجنة والنار فقط! ولکنها قوانین هبطت من السماء لتنظیم الارض، وتنسجم مع طبیعیة الانسان. انسجاما دقیقا عمیقا... ولقد لمحها مارکس امامه سداً راسخا شامخا یکسر نبض التیار مهما کان قویا جارفا، فوجه الیها حملة ظالمة مسلحة لیزیحها عن الطریق، حتی یمکنه تطبیق نظامه الکافر...

ولقد نفذ لینین مخططاته القذرة، ومؤامرات ضد الحق والبشر، ولکنه ذاق الامرین، کرد فعل طبیعی لالغاء الادیان والاخلاق لان الادیان والاخلاق، هی التی تعصم البشریة، دون اقتراف الجرائم واحداث الفساد الشامل، والفوضی العارمة، واغتیال الحقوق والاموال والنفوس.. فاذا تعری الانسان من الادیان والاخلاق، وعرف ان مدی نجاحه فی الحیاة انما یقدر بمقیاس المنافع الشخصیة، فای شیء یحجزه عن التوصل الی هدفه - مهما کان رخیصاً - حتی ولو تطلب سحق مئات الالوف من الابریاء؟

ان المحاکم والشهادات وجمیع الدوائر والادارات.. انما تلتزم بوظائفها، لو عرفت نفسها تحت رقابة دقیقة من الدین والاخلاق، وسوف تنحرف عن مناهجها - لو لم تؤمن بالدین والاخلاق حتی ولو کان علیها الف رقیب ورقیب...

ص:155

ان فی بلادنا التی لا تزال تتسم بطابع الدین نجد الحکام والشهود والرقباء، یحکمون بالباطل ازاء دراهم معدودة، مع ان فی بلادنا لا یزال اسم الحریة باقیا ویمکن الاستئناف، او توجیه الدعوی الی الحاکم والشاهد والر قیب، فکیف یکون الامر فی البلاد التی تسودها الدکتاتوریة المطلقة، من قبل فئة معینة، تحکم بالشبهة، وتقتل بالتهمة، ولا هدف لها الا انجاز مصالحها واغراضها، ونحن لا نطلق تلک جزافا وانما نستلهمها من الانباء التی تخترق الستار الحدیدی بین الفینة والفینة!!

وقد خصصت الحکومة السوفیاتیة - فی الوقت الحاضر - للعیون والبولیس السری ودوائر الامن، المیزانیة، اکثر بکثیر مما ارصدته لتأمین الاقتصاد الوطنی، واشباع حاجات مجموع الشعب... ولقد کانت الحکومة الاسلامیة تبعث رجلا واحدا - بصفة -: (الوالی) لتنظیم لواء کامل، فکان وحده ینهض بذلک العبء الفادح، دون ان یحتاج الی معاون، او امن... ومتی قایسنا هذا بذاک عرفنا مدی الخسارة التی تحملتها الشیوعیة بالغائها للادیان والاخلاق!!!

اما تحطیم القوانین السائدة، هو الثانی الذی یتوسل الشیوعیون له بشتی الوسائل والحیل، وهو حق لو کان هناک نظام خیر منها، وارید استبدالها به، لان جمیع هذه القوانین السائدة، فاسدة غاشمة، ولامراء فی ذلک ولکن الحق ان الشیوعی اطغی واقسی منها فلا یصح سحقها، لتطبیق النظام الشیوعی، فبعض الشر اهون من بعض!

ص:156

فاذن لا بد من الابقاء علی الادیان والاخلاق، وتشجیعها وتنمیتها کما لا یصح استبدال القوانین السائدة بالنظام الشیوعی...

القوة والعنف:

تعتمد الشیوعیة، فی مکافحة الادیان والاخلاق، والبورجوازیة والرأسمالیة، وتحطیم السلطات والقوانین السائدة علی الانقلاب الثوری عن طریق القوة والعنف، رغم ما تنطوی علیه هذه النظریة الهوجاء من مجافاة لما فطرت علیه الانسانیة، من النزعة السلمیة، والرغبة عن الظلم والاضطهاد، ومعاداة المبادئ التی تحرض علی القتل ونشر الفوضی، والولوغ فی الدماء، والاستهتار بالارواح والکرامات، والمثل والمقادیر..

ومن طبیعة النظم التی تفرض نفسها عن طریق القوة والعنف، والثورات الدامیة، انها لا تردد فی الالتجاء الی نفس الوسائل، فی اخضاع المواطنین لارادتها، واستغلالها الاقتصادی، والاجتماعی والسیاسی، والواقع ان الشیوعیة التی تشجع الانقلابات الدامیة فی الحیاة الفکریة، والاجتماعیة والسیاسیة، ترتکب اقسی جریمة مروعة فی حق الشعوب التی تقع تحت سیطرتها، لان الثورات الدامیة ابدا تصحبها جرائم نکراء، اهونها احداث الحروب الداخلیة، ثم المجازر الرهیبة...

عن طریق تألیب الطبقات علی بعضها البعض، وشل الاقتصاد والانتاج، والتضحیة بالحریات العامة، واهدار الحقوق والکرامات... فی سبیل تمکین فئة معینة من القبض علی زمام السلطة، ولا بد ان تثمر هذه الوسائل حکومة دکتاتوریة فجة قاسیة، لا تؤمن بالشعوب ومصالحها...

ص:157

وبالفعل حدثت هذه النتائج الوخیمة علی اثر الانقلاب الشیوعی فی روسیا ببشاعة وقسوة خیالیتین!!!

فلا بد اذن من حذف الانقلاب الثوری، والقوة والعنف عن قائمة المبادئ، والا انتجت الانقلاب الثوری والقوة والعنف فالبر یثمر البر، والشوک یولد الشوک...

اجباریة العمل:

لماذا یکون العمل اجباریا، ان کانت الشیوعیة لانقاذ العمال من قسوة البورجوازیة والرأسمالیة؟؟ وکیف تکون مصادرة حریات العمال واجبارهم علی العمل، لو کانت الشیوعیة حکومة العمال؟..

ان مارکس کان یصب احقاده علی الرأسمالیین والبورجوازیین لانهم کانوا یستعبدون العمال (!) فهل هناک استعباد اقسی من اجبارهم علی العمل، وسلبهم کافة الحریات والضمانات القانونیة؟ ان الرأسمالیة - رغم علاتها - کانت تقرر حریة العمل والعمال، وکانت تعترف بحریة العامل فی ان یعمل اولا یعمل، وباسم مکافحة هذا النظام تکونت الشیوعیة فاذا بها تقرر اجباریة العمل.

عمل النساء والاطفال:

کما ان الشیوعیة تسوی بین الرجال والنساء والاطفال فی اجباریة العمل، ولم تفلت من حوزتها الخشناء، لا النساء ولا الاطفال!! ولقد اسلفنا(1) تباکی

ص:158

مارکس وصرخاته المسعورة الکاذبة ضد الرأسمالیة لانها سلطت عصاها علی النساء والاطفال ایضا ولم یکفها ما صنعت بالرجال(1) والان نجد نفس مارکس یفعل ما فعلته الرأسمالیة من استخدام النساء والاطفال، ویأبی الا ان یضیف علیه، فیجعل العمل اجباریا للجمیع، لیصدق انتصاره العمیق للنساء والاطفال بصورة خاصة (!).

توزیع البضائع لا النقود:

تحاول الشیوعیة ان یعمل کل فرد حسب اقصی طاقاته ومواهبه عملا اجباریا لا یمکنه التخلف منه لحظة، ولو واحدة، ثم یتقاضی کفاء هذا العمل المرهق، وهذا الاستعباد الابدی... من البضائع بمقدار ما یشبع حاجاته الاساسیة فقط!.

ونحن عندما نلاحظ کتاب (رأس المال) لکارل مارکس، بأجزائه الثلاثة، نجده مکرساً فی لعنة واحدة یصبها علی الرأسمالیة والرأسمالیین لانهم یسرقون من العمال فائض انتاجهم ونراه الان یسوق العمال وانتاجهم جمیعا...

کان مارکس حاول ان یکرس فی مبدئه الهدام مجموع القذارات والدناءات والسخافات، ویضیف الیها افکاره التی هی شر منها جمیعا، ثم لا یستحی ان ینادی بأعلی اصواته: الحریة... العدالة... السلام... العمال... الحقوق..

ص:159

النساء... الاطفال... ویتباکی علی الحریات المضطهدة، والحقوق السلیبة، والبشریة التی تتلوی تحت عصا رأس المال...

الدولة:

ان الدولة هی السلطة الموجهة لنشاطات الشعب، وحیث انها تملک جمیع الطاقات الجبارة، تستطیع من فرض ارادتها علی الشعب، بحیث لا یشذ عنها احد، فاذا کانت الدولة منبعثة من صمیم الشعب، ولمصالح الشعب، وتبنت نظاما ینسجم مع العواطف، والغرائز، والاتجاهات الفطریة المرکزة فی الانسان، لا تحتاج الی اعمال مزید من النشاط، واستخدام القوة، والعسف والارهاق.. وانما یکفی ان تحد من نشاط المنحرفین بتوجیههم، او قمعهم اذا الحوا فی الشذوذ وهکذا یتقلص جهاز الدولة، الی ان تبلغ حد المراقبة علی الشعب من بعید، کما لا تحتاج عندئذ الی السلطات التنفیذیة لان الشعب یعملون معها کجنود متی تفرسوا فیها الخیر والصلاح... ولکن یجب ان تبقی لتکون کموجه ومؤدب للشعب، وکحامیة عن العدو. شأنها شأن راعی القطیع الذی یحرسه من السباع، ویرد الشاذ، والشرید، او کفلاح الحقل یتعهده بالسقی والتهدیب، ویطارد عنه اللصوص... فلا بد من بقائها ولکن بصورة بسیطة، ومتعاونة مع الشعب... ولا یمکن الغائها ما دام هناک اناس یتشذرون عن الطریق عن عمد او لا عمد.

اما اذا کانت الحکومة اجنبیة مفروضة علی الشعب او تبنت نظاما جائرا تلفظه فطرة الانسان ورکائزه الذاتیة الاساسیة، وتتحاماه الطبائع، وتنبو عن اطاعتها اومجاراتها، فلا بد حینئذ - لو ارادت البقاء - من استخدام صلاحیتها

ص:160

وامکاناتها، واستباحة القسوة فی البطش والتنکیل کی لا تفلت من یدیها الزمام، ولا یتمرد علیها الشعب بضربة قاضیة تطویها فی بطون التواریخ...

ومهما کانت الحکومة الشیوعیة، فانها لا تستطیع من تغییر طبیعة الانسان، ولن تقدر علی ان تخلق من الناس ملائکة، لا یتجاوزون حدودهم المرسومة لهم... زیادة علی ان الحکومة الشیوعیة اجنبیة عن غرائز الشعب وحاجاته، فتکون من النوع الثانی، التی لا بد لها من تنفیذ اقصی صلاحیاتها وقواها، لتبقی علی کیانها رغم مجموع الشعب...

فاذن لا یمکن الغاء الدولة، کما کان یحلم به مارکس واذنابه.!!

خاتمة:

لقد تلخص - من ذلک کله - ان الشیوعیة لیست الا مجموعة الاغلاط، فکل بند من بنودها خطأ مفضوح لا یمکن الغض عنه.. وانها مبادئ اسطوریة، بعیدة عن طبیعة الانسان وواقع الحیاة... ورغم المحاولات القاسیة، والضحایا الکثار التی قدمها لینین... وحیث لم تکن هذه الفکرة منتزعة من صمیم الحیاة تذرعت بالدکتاتوریة... وسلبت الحریات.. وفرضت الافراد أدوات میکانیکیة بسیطة مسخرة لانجاز واجباتها... ثم اصطدمت بالأدیان... والاخلاق... والقوانین.. فألغتها... واحتکرت مصادر الانتاج والملکیات الخاصة.. وقضت علی العائلة.. وحاولت تحطیم الطبقات... وتکفلت توزیع البضائع بنفسها لیکون مصیر الناس وحاجاتهم طوع إرادتها.. وهتفت باسم العمال والفلاحین لتکسبهم قوة هائلة عمیاء... وارتکبت شتی الجرائم والمهلکات علها تفلح فی فرض نفسها علی الشعب، ولکنها فشلت.. وفشلت... فهی إذن فاشلة!!

ص:161

هذه هی الشیوعیة:

التی تغری وتعجب الکثیرین.. والواقع ان الشیوعیة لا تغری ولا تعجب لو عرفها الناس کما هی ولکن قادة الشیوعیة بادروا الی ستر اخفاق الشیوعیة، وجرائمها وسیئاتها، خلف ستار حدیدی، بصورة فنیة دقیقة، ثم انطلقوا فی الارض: ان هلموا الی الفردوس الاعلی، ودار السلام، والحریة، والسعادة، والرخاء، والحضارة، والتقدم والعلم والجمال... مستغلین فی ذلک حقد الطبقة الکادحة الفقیرة علی الاوضاع والمستثمرین، وسرعان ما تفعل هذه الدعایة المغریة مفعولها السحری، فینصاع الفقراء السذج الی توجیهاتهم متجمهرین، بدافع التغریر، او التلوین من طعم المحنة - علی اقل تقدیر - حتی اذا نجحت الثورة الشیوعیة انفلق الستار الحدیدی، لیتسع لهم فینغلق علیهم... ومع انغلاق الستار الحدیدی، یفتحون اعینهم علی القوانین المروعة الرهیبة... وسوف تشملهم حملة التطهیر، اما من اعلن نقمته علی الاوضاع، أو انهم بعد ولائه للحکومة، فسوف تطویه السجون، ومعسکرات السخرة، ومجاهل سیبیریا، حسب خطورته، وتفاهته.(1)

ص:162

ص:164

بعث الاشتراکیة:

تلک المآسی والویلات التی استعرضنا شطرا منها فی الاقتصاد الرأسمالی، احدث برما، وانفجارا شاملا فی الوعی العام، وسادت فی الاوساط المضطهدة فکرة الانقلاب، وحیث کانت نقمتهم تنصب علی النظام الاقتصادی الرأسمالی، عمدوا الی تشخیص الداء، وتعین الدواء(1) لیکونوا نظاما ناضجا متبلورا حتی یسنح لهم تطبیقه غب اکتساح الرأسمالیة، وخرج الجمیع من بحوثهم الطویلة، بالاتفاق علی تصدیق اللائحة التالیة: التی تتضمن الخطوط العریضة للمبدأ المسمی ب - (سوسیالیزم) ای (الجماعیة) بازاء (الفردیة) التی تبناها النظام الرأسمالی.

أما النقاط الرئیسیة فی اللائحة، فتتلخص فی:

(ان مصدر الاخطاء والشرور - فی عالم الاقتصاد - إنما هو (الملکیة الفردیة) ولا بد لتنظیم الاقتصاد العادل من اخذ التدابیر التالیة:

1 - إلغاء الملکیة الخاصة الغاءاً کلیاً او جزئیاً.

2 - تنظیم الانتاج والتوزیع بواسطة المجموع.

3 - تحقیق نوع من المساواة الفعلیة).

تلک هی الجذور المرکزیة للاقتصاد الاشتراکی، المتفق علیها لدی الجمیع...

ص:165

وبعد الاتفاق علی هذه الاسس تشعبت واختلفت المذاهب وتناقضت وتضاربت الآراء، وتحیزت إلی کل مذهب کتلة من الناس... غیر أن هذه المذاهب لم تفتح طریقها إلی التطبیق غیر:

1 - الاشتراکیة العلمیة: المارکسیة اللینینیة.

2 - الاشتراکیة النازیة.

3 - الاشتراکیة الفاشیة.

ونحن لا نناقش هذه المذاهب مناقشة موضوعیة مجردة، لأن أصحابها لا یعیرون اهتماماً للمباحث الموضوعیة النظریة کما لا نبحث عن سائر المذاهب الاشتراکیة، التی أعلن الزمان والتأریخ عجزها وفشلها، لأنها صوت إن صح فقد بح، والمذاهب الطائشة فی العالم کثیرة لا تجلب الانتباه.. ونبتدئ ب -.

اشتراکیة روسیا:

ویجدر بی - قبل البدأ - أن أنوه الی الحقیقة التأریخیة، والعوامل التی دفعت بهذه الاشتراکیة الی الوجود:

لم تکن اشتراکیة روسیا قبل ثورة اکتوبر، مبدءاً أو فکرة قائمة بذاتها، وإن کان مارکس قد وضع النظریة الشیوعیة کاملة، ولکن مارکس لم یضع تصمیم هذه الاشتراکیة، وإنما ارتجلها لینین بعد ثورة اکتوبر تدریجا وفی غمرات الصراع مع البشریة... فقد کان یقود الجماهیر باسم الشیوعیة ولکنه بعدما نزوی علی العرش، وحاول تطبیقها، استعصت علیه واصطدم بالواقع الحی، الذی لم یتطوع له... فکان یقاسی الامرین، بین ضغط الجماهیر من الرفاق، التی کانت

ص:166

تطالبه بتطبیق الشیوعیة، وبین الواقع الحی الذی ابی علیه تطبیق الشیوعیة... لذلک کان یأخذ المادة من النظام الشیوعی، ویحاول تطبیقها، حتی إذا استعصت علیه حرفها کما تنسجم مع الواقع، وکلما سئل عن ذلک اعتذر: بأن الشیوعیة لا تطبق فجئة، ولا تنزل من السماء، ونحن نطوی فترة الانتقال. وحیث کانت تأبی علیه غلوائه أن یعلن عجزه، وفشل الشیوعیة، جعل یمنی الناس بقیام الشیوعیة بعد حین.

فمجموعة الأنظمة التی طبقها لینین، کمرحلة بدائیة لشق الطریق الی الشیوعیة هی: (الاشتراکیة المارکسیة اللینینیة) التی ظلت حتی الیوم -

سائدة فی روسیا ومستعمراتها بغیة ان تؤدی إلی الشیوعیة، کما یهتف بذلک خروشوف: (... والاحزاب المارکسیة اللینینیة تعتبر أن الهدف النهائی هو بناء المجتمع الشیوعی، ولکن المجتمع لا یمکن له أن یقفز من الرأسمالیة إلی الشیوعیة، دون أن یجتاز المرحلة الاشتراکیة من تطوره، قال لینین:

(إن الانسانیة لا تستطیع الانتقال مباشرة من الرأسمالیة إلا الی الاشتراکیة) (المؤلفات، المجلد 24 ص 62).... رغم کل الفرق بین المرحلة الشیوعیة والمرحلة الاشتراکیة، لا یوجد سد یفصل بین هاتین المرحلتین... وما من تقویم یعین موعد مجیء الشیوعیة. ولن تأتی أبدا لحظة نستطیع فیها أن نغلق بابا ونعلن قائلین: (إن بناء الاشتراکیة قد انتهی) ونفتح بابا آخر ونقول: (لقد وصلنا إلی الشیوعیة).(1)

ص:167

فأذن لم تنته بعد فترة الانتقال، ولا زالت اشتراکیة لینین هی الطابع العام لروسیا ومستعمراتها کما ینص علی ذلک الدستور السوفیتی المادة الاولی:

(إن اتحاد جمهوریات السوفیت الاشتراکیة، دولة اشتراکیة(1).)

وتتلخص الخطوط العریضة لهذا النظام فی المواد التالیة:

1 - دکتاتوریة الحزب الشیوعی

2 - مصادرة کافة الحریات

3 - تحدید الملکیة الخاصة

4 - مساواة الرجل والمرئة فی الحقوق والواجبات

5 - تأمیم موارد الثروة العامة والخاصة

6 - توزیع البضائع حسب مشروع الدولة

7 - إجباریة العمل

فأما

دکتاتوریة الحزب:

کان مارکس، ولینین، والحزب الشیوعی یعدون العمال والفلاحین بانهم

ص:168

سیتولون قیادة روسیا فور تنازل قیصر عن الحکم وستحظی البرولیتاریا بسیادة الامة وزعامتها، إذا عملت علی زوال قیصر، وهذه الوعود الخلابة کانت تستخف العمال الذین کانت تلتهب ظهورهم تحت سیاط رأسمال المال والعمال - أبدا - أقویاء مضطهدون، وصدر القوی المظلوم برکان لا یخبو إذا انفجر.

دور الطبقة الکادحة:

ولهذه الحقیقة استعارهم الحزب الشیوعی، من مزارعهم ومعاملهم، لیکونوا عمالا عنده، لا فی الانتاج الاقتصادی، بل فی الانتاج الثوری، لیکونوا له الجیش الباسل الامین، فی الانقضاض علی الحکم القیصری وإشعال نار الثورة علیه. أما جزائهم، فلا یعدو الوعود المغریة التی استلموها سلفا عن الحزب... کما افصح عن ذلک انجلز عام 1872: (علمنا کارل مارکس: أن الصراع الطبقی الذی یحقق لنا الشیوعیة، یعتمد أول ما یعتمد علی القوة... ولهذا وقفنا إلی جانب العمال، لأن العمال هم أقوی طبقة فی المجتمع(1).

وما إن نجحت الثورة، حتی تقدم الحزب الشیوعی، وأزاح العمال والفلاحین عن الطریق، امراً إیاهم أن ینصرفوا مشکورین، فقد نجحت الثورة، ولا مهمة غیرها، وقبض الحزب الشیوعی، والحزب الشیوعی وحده علی زمام الحکم..

ص:169

وحیث لم تکن الثورة - حتی ذلک الحین - ناضجة مضمونة النجاح کان الحزب یوجه بطشها وعنفها نحو أذناب قیصر، ودعاة القیصریة، وحزب المنشفیک: - المناوء للحزب الشیوعی - والرأسمالیین، والبورجوازیین والاقطاعیین وکان بحاجة ماسة الی استخدام العمال والفلاحین، فی القضاء علی هؤلاء، وإنجاز مکاسبه الدامیة... لذلک کله عندما طالب العمال والفلاحون قیادة البلاد من الحزب الشیوعی، استمهلهم، معتذرا بأننا فی احرج ساعات الصراع مع اذناب الحکم البائد والبورجوازیة والرأسمالیة، وهذه فترة حاسمة لا بد للنجاح فیها مزیداً من الوعی السیاسی والتجارب الکافیة سیما وأن المستعمرین - من وراء الحدود - لنا بالمرصاد، وأنهم ینتهزون الفرص للتربص بنا، والقضاء علینا قضاءاً مبرماً، الان دعونا نکافح هؤلاء، ونثقفکم تثقیفاً دقیقاً، ثم نسلم الحکم الیکم، ونحن الان إنما نعمل نیابة عنکم، بصفتنا منظمة مثقفة منکم، ولا فضل لنا علیکم فانصرفوا الی أعمالکم مجتهدین، فقد عاد الحکم الیکم، واسترجعتم کافة الحریات بایدیکم...

ازاحة الطبقة الکادحة:

بهذا المنطق المعسول والمواعید المنمقة، خدع العمال والفلاحون، وراحوا إلی معاملهم واراضیهم فرحین مستبشرین، وراح الحزب الی ترکیز منظماته وقواته، والتغلغل فی جمیع الاوساط، کما اطلق حملات التطهیر من کل جانب، للقضاء علی اعداء الشیوعیة، باسم مکافحة الرأسمالیة والبورجوازیة، والقیصریة... حتی أمن الحزب مستقبله وساد الارهاب وخفقت الاصوات، وتغنی

ص:170

الرصاص، وأعلن الحزب دکتاتوریته الکاملة... کان اول رأس هشم تحتها هو رأس الطبقة الکادحة، إذ قام الحزب بتشکیل (الکولخوزات): المزارع التعاونیة، وراح یجبر الفلاحین علی الانضمام الیها عن طریق تهدیدهم بمصادرة ممتلکاتهم، تحت لائحة من قوانین الجور والاستعباد.

مجازر وسجون:

هنالک ثارت حفیظة العمال والفلاحین، واندفعوا ثائرین لحقوقهم وکراماتهم، وثورتهم... فقد علموا ان کل الجهود والاتعاب الخیالیة التی بذلوها فی سبیل الشیوعیة، عادت لعنة علیهم، فأخذوا یقاومونها مقاومة صادقة، واعترضهم الحزب بالحدید والنار... حتی قدر: أن من قتل من الطبقة الکادحة، فی سبیل هذا المشروع بنحو 000 ر 19000 نسمة وحکم علی نحو 000 ر 2000 نسمة بعقوبات فادحة مختلفة، کما نفی عن البلاد نح 000,4000 او 000، 5000 نسمة، حتی ان اخلص الرفاق، وأکبر دعاة الشیوعیة، لم یکد یصبر علی ما اقترفه الشیوعیون داخل بلادهم، فی سبیل تنفیذ مشروع الزراعة الاجتماعیة وحدها، من قتل لملاکی الاراضی الادنین، والمتوسطین بمنتهی القسوة والعنف.(1)

والتجئ العمال والفلاحون... الی احراق الکثیر من محاصیلهم، وتبدید مواشیهم واموالهم، کی لا تقع فریسة فی ایدی الحزب... ونشأت عنها المجاعة

ص:171

الرهیبة عام 1929... وحور الحزب دستوره ثلاث مرات عام 1924 و 1936 و 1944. غیر ان ید التحریف لم تنل المواد المرکزیة التی اثارت غضبة الشعب.

وراح لینین یزأر فی وجوههم: (ان من یضعف ولو قلیلا فی نظام الطاعة الحدیدی، فی حزب البرولیتاریا یساعد البورجوازیة فی الواقع ضد البرولیتاریا(1).

ومنع اللجوء الی الاضراب، کما اعطی الصلاحیات الکاملة للنقابات فی معالجة الحوادث بأسرع ما یمکن، واذا استعصت علیها، او تفاقمت المشاکل، فعلیها ان تراجع السلطات العلیا، قائلا: (... وینبغی علیها (النقابات): ان لا تخفی عن العمال والجماهیر الکادحة، ان اللجوء الی النضال الاضرابی، فی دولة تتولی البرولیتاریا السلطة السیاسیة فیها، امر تفسره وتبرره فقط، تشویهات بیوقراطیة للدولة البرولیتاریة. فواجب النقابات فی حالة حدوث احتکاکات ومنازعات.. ان تساهم فی حل هذه النزاعات بأسرع ما یمکن... واما ان ترجع الی المراجع العلیا فی الدولة(2)..).

وجعل یزعق فی وجه الحزب، کی یأخذ موقفا حازما لا ستئصال دابر التمرد علی النظام، دون ان تحدد جرائمه البربریة، الرقة والعاطفة الانسانیة، منادیا عام 1920:

ص:172

(یجب ان تکون القوانین التی نطبقها فی بلادنا صارمة، ویجب ان تتمیز بحمل المواطنین علی اطاعتها، ویجب ان یبلغ احترام هذه القوانین أقصی الحدود، فنحن لا نتساهل مع ای فرد یتجاوز سلطة الدولة(1).

وعقبه ستالین عام 1951:

(ان الشیوعی الذی یتسامح مع الخارجین علی القانون الشیوعی، لا یقل عداوة لنا عن اعداء الشیوعیة، ولهذا فاننا لا نرحم الرفاق الشیوعیین، الذین لا یطبقون القانون الشیوعی بقسوة وصرامة(2).

هکذا سحقت الطبقة الکادحة، التی دارت علی اکتافها الثورة وظل الحزب الشیوعی دکتاتورا جائرا، معلنا انه سوف لا یتنازل عن الحکم، وان فترة الانتقال لا تزال مستمرة، وانها لا تنقضی فی الیوم القریب وأطلق لینین کلماته الصارمة:

(ان الحزب هو الزعیم السیاسی للطبقة العاملة... ان الحزب هو ارکان الحرب لکفاح البرولیتاریا(3).

وجعل ستالین یربط الطبقة الکادحة بعجلات الحزب قائلا: (ان نقابات العمال هی اجهزة تابعة لأجهزة الحزب(4) ، (ان نقابات العمال کلها یجب ان تکون

ص:173

فی خدمة الحزب(1) ، (ان الحزب یضع لانتاج کل عامل منسوبا معیناً یجب علیه ان یبلغه(2).

مصادرة الحریات:

وبعدما قرر النظام الاشتراکی کالنظام الشیوعی دکتاتوریة الحزب کان من الطبیعی تقریر مصادرة الحریات! ولقد کانت الدکتاتوریة، التی اعلنت اول یوم - باسم البرولیتاریا - اقوی حجة علی ان هذا النظام لا ینسجم مع طبائع الافراد، کما لا یمکن تنفیذه إلا بالقهر والارغام. وکیف ینال الشعب حریاته، والنظام الاشتراکی، هو وحده مصدر القوانین التشریعیة، والجزائیة، وهو یحدد کافة الاعمال والافراد، بحدود ضیقة جائرة، ولا یعترف للانسان بأیة کرامة لو لم یقتنع بصدق أنظمته وقوانینه، ومنطق دعاته: اننا یجب ان ننشر فکرتنا حتی ولو کان فی ذلک فناء مئات الملایین من الناس. ولقد صرح لینین عام 1920: (نحن نعرف: ان نظامنا الجدید لا یحظی بتأیید کثیر من المتذمرین. ولکننا لن نحفل بهؤلاء المتذمرین... بل اننا لن نسمح لهم بالتذمر.. وکل متذمر ضدنا هو فی الواقع عدو لنا. ونحن لا نرحم أعدائنا، ولهذا لن نرحم المتذمرین(3).

فاذا لم یکن هناک مجال للتذمر علی النظام، فهل یبقی معنی لسائر الحریات الواسعة النطاق، التی یشرعها کل نظام؟. ولکن ستالین لا یکتفی بعدم التذمر

ص:174

علی النظام، وإنما یرید أن یکون الجمیع شیوعیین، أما من لم یؤمن بالشیوعیة، فلا تشمله الرحمة، فقد هتف عام 1935: (نحن لا نرحم أحداً ممن لا یؤمنون بالشیوعیة(1).

وحیث کان بعض الرفاق ینتقد هذه الدکتاتوریة المقیتة - فقد خدعوا باسم الحریة، وأصبحوا من الرفاق لینالوا أوسع الحریات - فردهم لینین عام 1921 بهذه الکلمات النابیة: (یقع کثیر من الناس فی خطأ فاحش، هو الاعتقاد بان القوانین یجب أن تحمی الحریات، ونحن نرد علی هؤلاء البلهاء، قائلین: إن القوانین لا توضع لحمایة الحریات، وإنما توضع لحمایة الدولة(2).

فأذن جمیع الحریات محظورة فی البلدان الاشتراکیة، لأن القوانین لم توجد لتحمی حریات الشعب، وإنما وجدت لحمایة مصالح الدولة، المتکونة من الفئة الخاصة.

تحدید الملکیة:

لیس لأحد - فی النظام الاشتراکی - حق امتلاک أی شیء إلا الأجور التی یتقاضاها من الدولة، إزاء جهوده أو خدماته، وله الحق فی التقتیر علی نفسه، لیدخر الزائد عن استهلاکاته، فاذا تجمعت لدیة ثروة کان له أن یشتری بها الأدوات المنزلیة البسیطة، أو أن یبنی داراً، ویقتنی عدة طیور ومواشی...

ص:175

(... توجد فی الاتحاد السوفیاتی ملکیة شخصیة، للمداخیل المتأتیة من عمل المواطن واستثماراته، وللبیت الذی یسکنه، واقتصاده المنزلی المساعد، ولسلع الاستعمال المنزلی، والاستعمال الدارج، وسلع الاستهلاک(1).

ثم یؤکد ذلک ویفصله: (.. فلکل مواطن سوفیاتی الحق فی أن یتصرف کما یشاء بادخاراته التی هی ثمرة عمله. ویستطیع أن یستعملها لبناء مسکن او فیلا لنفسه. أو أن یشتری بها سیارة أو أی شیء اخر کما یرید کل شیء یتوقف علی اجرته، وإدخاراته المتأتیة من عمله(2).

فللانسان - فی روسیا - الحق فی ادخار قسم من اجوره، کما یوفر له الحق فی ان یشتری بها سیارة أو یبنی داراً... ولکن... هل فی وسعه ان یدخر شیئاً من اجوره؟ او انها تقصر حتی عن حاجاته الاساسیة؟؟ اننا سنعرض فی الصفحات القادمة ان عوائل العمال تقطن فی الشقات المستأجرة..

اما اذا استنفذ الفرد اجوره فی حاجاته الیومیة الاساسیة فلابد له ان یستأجر - من الدولة - محل السکنی.

کما یوفر النظام الاشتراکی الحق للفرد فی ان یعمل لنفسه ساعات إضافیة خارج الدوام، او ان یقوم بانتاج ما یجد فیه راغبا خارج ساعات العمل فیکون له ربحه، شریطة ان لا یستثمر فیه مجهود الاخرین.. ثم یکون لورثته ممتلکاته بعد موته..

ص:176

ذلک مجموع حقوق الفرد، فی الملکیة الخاصة، ولیس له ان یملک ای شیء وراء هذه.. نجد التصریح بهذه الحقوق مجموعة فی دستور الاتحاد السوفیتی:

(الی جانب النظام الاقتصادی الاشتراکی، الذی هو الشکل السائد فی اقتصاد الاتحاد السوفیتی. یسمح القانون بالمشاریع الاقتصادیة الصغیرة، الخاصة بالفلاحین الفردیین، وبالحرفیین، علی ان تقوم علی عملهم الشخصی، وبشرط ان لا یستثمروا فیها مجهود الاخرین).

(ان حق الملکیة الشخصیة للمواطنین فی دخلهم وتوفیرهم الناجمین عن عملهم، وفی مساکنهم واقتصادیات بیتهم الاضافیة، وفی الحاجیات والادوات المنزلیة، وفی الاشیاء ذات الاستعمال الشخصی، والراحة، وکذلک حقهم فی ارث الملکیة الشخصیة، حق مصون بموجب القانون(1).

تلک هی الاشیاء التی یستطیع الفرد ان یمتلکها، وهی تختصر فی اجوره وما یشتریه بأجوره او یستثمره بنفسه...

وهناک اشیاء تمنح للعامل کملکیة، ولکن لیست بالملکیة الحقیقیة، التی یستطیع ان یفعل بها ما یشاء، وانما تخول له لیؤدی بها اعمالا خاصة مرسومة من قبل الدولة، ینص علی ذلک دستور الاتحاد السوفیاتی: (لکل عائلة من عوائل المزرعة التعاونیة، بالإضافة الی دخلها الاساسی الذی یأتیها من اقتصاد المزرعة التعاونیة المشترکة، قطعة من الارض خاصة بها، وملحقة بمحل السکن، ولها فی

ص:177

هذه الارض اقتصاد اضافی، ومنزل للسکنی، وماشیة منتجة، وطیور وأدوات زراعیة، کملکیة خاصة، وذلک وفقا لنظام جمعیة الانتاج التعاونی الزراعی(1).

وهذه الاشیاء لیست ملکا للعائلة، وانما هی کملک لها، لأنها تبقی تحت یدها باستمرار، لتعمل فیها باستمرار،. فتتقاضی اقتصادیا اضافیا... وما عدا ذلک.

إن هناک نوعین من الملکیة کما ینص علی ذلک الدستور السوفیاتی (للملکیة الاشتراکیة فی الاتحاد السوفیاتی شکلان. فهی إما ان تکون علی شکل ملکیة للدولة (ثروة الشعب بأسره) او ان تکون علی شکل ملکیة تعاونیة اشتراکیة (ملکیة حقول تعاونیة - کولخوزات - وملکیة جمعیات تعاونیة).(2)

أملکیة الدولة:

ای ملکیة الدولة: القادة الزعماء فی الحزب الشیوعی.. وهذه ملکیة واسعة النطاق، تشمل جمیع الموارد العامة والخاصة، یصرح بها الدستور السوفیاتی: (ان الارض، وما فی بطنها، والمیاه، والغابات، والمصانع، والمعامل، والمناجم، والمعادن، والسکک الحدیدیة، والمواصلات المائیة والجویة، والمصارف، ووسائل المخابرات، والمشاریع الزراعیة الکبیرة المنشائة من قبل الدولة (حقول حکومیة، ومحطات آلات، والتراکتورات الخ..) وکذلک مشاریع البلدیات، والمجموعات الرئیسیة من المساکن فی المدن، والمراکز الصناعیة، هی ملک الدولة(3).

ص:178

فهذه الاشیاء کلها ملک للدولة، بصورة رسمیة صریحة.

ب - الملکیات الاشتراکیة:

تتألف من ملکیة الجمعیات التعاونیة، وملکیة الحقول التعاونیة: (الکولخوزات) أما ملکیة الجمعیات التعاونیة فهی الممتلکات العامة التی شیدت علی نفقة الکولخوزات، وأما الحقول التعاونیة، فهی الاراضی التی انتزعت من الفلاحین لتکون ملکا للدولة ولما أن تفاقمت غضبات الفلاحین ضد الدولة وقدموا الارقام الهائلة الخیالیة من الضحایا واستبدت بهم الثورة، وتحالفوا علی الثبات فی کفاحهم المریر، اضطر لینین إلی إرجاع الاراضی إلی أصحابها بشرط أن ینتظموا فنظمهم فی شبکة قویة من شبکات الحزب الشیوعی کی لا تختلف شؤنهم عن الفلاحین، الذین یعملون للحکومة وقرر أن لیس للکولخوزیین الحق فی امتلاک الالات الزراعیة، ولیس لهم إکراه إنسان لمساعدتهم فی أداء مهماتهم، فالاقتصاد الاشتراکی أسس علی أنقاض هذین العنصرین، کما یقرر ذلک الدستور السوفیاتی: (یتألف الاسس الاقتصادی الذی یقوم علیه الاتحاد السوفیتی، من النظام الاقتصادی الاشتراکی، ومن التملک لأدوات الانتاج ووسائله، وهما اللذان ثبتت دعائمهما بعد تصفیة النظام الاقتصادی الرأسمالی، وبعد إلغاء الملکیة الخاصة لأدوات الانتاج ووسائله، وبعد إلغاء استثمار الانسان للانسان(1).

ص:179

کمان ان الکولخوزات لیست حرة فی تنظیم أعمالها وفق نظام تقررها لنفسها، وإنما تدیرها جمعیة الکولخوزیین العامة(1) وتوافق الجمعیة العامة علی تقریر الهیئة الاداریة السنوی، وعلی برنامج الانتاج السنوی، وعلی معدلات کل عملیة من العملیات، وعلی اجرتها محسوبة بأیام العمل، وعلی قدر ما یوجب توظیفه من الاموال الجماعیة، وعلی مقدار ما یجب تقاضیه من منتجات زراعیة ونقد لقاء یوم العمل.(2)

ثم لا یکون لکل عامل مقدار ما أنتجه، وإنما تعتبر المنتجات وجمیع آلالات والادوات والمواشی... ملکا اشتراکیا کما ینص علی ذلک الدستور السوفیاتی: (المشاریع العامة فی الحقول والمنظمات التعاونیة، بما فیها من آلات وأدوات، ومواشی، ومنتوجات هذه الحقول والمنظمات، وکذلک أبنیتها العامة، کل ذلک یکون الملکیة العامة الاشتراکیة، للحقول والمنظمات التعاونیة(3).

ص:180

وعلی هذا الضوء فکل شیء ملک اشتراکی یجب تفویضه الی جمعیة الکولخوزیین العامة، لتصرفها فی مصارفها المرسومة... فتدفع الجمعیة الی الدولة من مجموع المنتجات، الضرائب المتصاعدة الفادحة، وأقساط التأمین والدیون المترتبة علیه، وتکالیف حاجات الانتاج الجاریة ونفقات الادارة کما ترصد وفرا منها باسم الحاجات الثقافیة، وتقدر شطرا هائلا منها لشراء العتاد، والماشیة. وتشیید الابنیة الضخمة، للمدارس، والاندیة ودور الحضانة، والمستشفیات...

وبعد ذلک کله تعد الجمعیة أیام عمل العامل، وتدفع الیه الاجور بنسبة العمل المبذول ونوعه: حراثة هکتار من الارض، تعشیب دونم من دوار الشمس، حلب الف لتر من الحلیب....... الخ

فاذن لا یختلف الکولخوز عن الفلاح الاخر الذی یعمل للدولة، نعم إذا خرجت معدات الدولة من مجموع الانتاج، وبقیت المنتجات أقل من أجور الکولخوزیین، توزع علیهم بنسبة أجورهم ویخسرون الاجر العادل... أما اذا فاضت المنتجات فانها تدخر فی صندوق الجمعیة...

ولا تدفع الاجور الی الکولخوزیین نقداً وإنما تحول الیهم کما تشاء الجمعیة، بضائع أو نقوداً، او قسطاً من الانتاج وقسما من النقود...

وحیث لا تؤمن حیاتهم البضاعة المعینة التی ینتجونها، یلتجؤن إلی بیعها من منظمات الدولة، التی لا تشتری الا بابخس الاثمان، ولا تبیع إلا باقدح الاسعار.(1)

ص:181

وقدر بنفسک الحیاة التی یقدرها الحزب الشیوعی للکولخوزیین کم ذا تکون مضنیة متقشفة؟ ولقد أدی ذلک إلی انفجارات وانتفاضات هددت روسیا بالدمار والهلاک.. کما رأوا أن من الممکن استغلال الکولخوزیین أکثر من ذلک، فوضعوا قانون یمنح الکولخوزیین الحق فی أن یتقاضوا أجراً إضافیاً، مقابل تجاوز البرنامج: (... ولذا وضع نظام ینص علی منح أعضاء الکولخوز أجراً إضافیاً، عینا أو نقداً، مقابل تجاوز البرنامج(1).

فاذن لم یختلف الکولخوز عن فلاح اخر یعمل لحساب الحکومة، لأنه الثانی الذی لا یملک الانتاج، ولا یملک حریته فی العمل، ووضع المنهاج، والمخطط. ولا یملک الالات، ولا یملک الارض، لانها تعتبر ملکا للدولة أبیح له التصرف فیها، کما ینص علی ذلک الدستور السوفیاتی: (إن الارض التی تشغلها المزارع التعاونیة معطاة، کملک لها، تستفید منها مجاناً إلی أجل غیر مسمی(2).

مساواة الرجال والنساء:

من الضرورات الاساسیة فی النظام الاشتراکی، مساواة الرجل والمرئة فی العمل وتلک تعتبر من الاهداف الرئیسیة فی المجتمع الاشتراکی کما یقول إبراهیم الحداد: (أما الاصلاح الذی تسعی الاشتراکیة إلی تحقیقه فی المجتمع الحاضر، فیمکن تلخیصه فیما لی: 1 - إعلان المساواة التامة بین المرئة والرجل(3)...).

ص:182

والان تعمل المرئة فی البلاد الاشتراکیة الی جانب الرجل، تدلنا علی ذلک الجمل التالیة:

(فبموجب القوانین السوفیاتیة، یدفع معاش التقاعد علی مدی الحیاة، إلی العمال والمستخدمین الذین بلغوا سن الستین... أما النساء فینلن هذا المعاش عندما یبلغن سن الخامسة والخمسین...(1).

(وهناک قوانین خاصة، لتنظیم عمل النساء الحوامل..(2).

(... وفی میدان التعلیم العام یعمل اکثر من ملیون معلمة، ویزید عدد النساء اللواتی یشتغلن فی المستشفیات والمستوصفات والمنشآت الریاضیة عن الملیونین. کما یشتغل فی المنشآت العلمیة والثقافیة والتربویة اکثر من 2700000 إمرئة، وثمة 1300000 إمرئة یدرسن فی منشآت التعلیم العالی، والتعلیم الثانوی الاختصاصی. والنساء فی الاتحاد السوفیاتی یدرن کثیراً من معاهد البحوث العلمیة، والمدارس العلیا، والمصانع الکبیرة، والسوفخورات(3) والکولخوزات، والمدارس، والمستشفیات(4).

(ینص التشریع السوفیاتی علی شروط خاصة لعمل المراهقین والنساء،... وعندما تحمل المرئة تنقل الی عمل أسهل..(5).

ص:183

من هذه النصوص نعرف أن الرجال والنساء والمراهقون یعملون سواء بسواء، فی النظام الاشتراکی القائم..

مصادرة الاملاک:

علی أثر قیام ثورة اکتوبر صادر لینین جمیع الملکیات الکبری، والاراضی، والنقود... ثم أخنی علی أصحاب الملکیات الصغیرة وصادرها... غیر أن ذلک الثانی حیث اثار غضبة العمال والفلاحین، التجیء الی منح حق امتلاک الافراد لاجورهم، وما یشترونها بأجورهم... کما أن الحکومة اضطرت - بعدما رأت قلة الانتاج علی أثر إجباریة العمل - إلی تجاری الحاح الفلاحین، فضمنت المادة السابعة والتاسعة(1) من دستورها إعطاء الحق لهم فی استثمار قطع صغیرة من الاراضی، وتربیة بعض المواشی والطیور، شریطة أن لا یستثمر فیها مجهود اخرین، وأن یدفعوا الضرائب التصاعدیة حتی عن المواشی والطیور، والتأمینات الاجتماعیة، و...

فأذن یقرر النظام الاشتراکی مصادرة جمیع الملکیات الصغیرة والکبیرة أما هذه الاخریات التی فصلناها، فلیست ملکیة، وإنما هی أشبه بالخداع وتخدیر المشاعر، فالفائض الناتج من هذه الملکیات، لصاحبها القانونی، لیس باکثر من الاجر الذی یتقاضاه، لو عمل أجیراً، اما الوفر الفائض فان الحکومة تستأثر به...

ص:184

توزیع البضائع:

کان مارکس یحاول أن یلغی النقود، ویعمل کل فرد حسب طاقاته ثم یستهلک من البضائع حسب حاجاته، ولکن لینین حیث عجز عن تطبیق ذلک، جعل یوزع البضائع حسب مشروع الدولة، وذلک بأن یدفع نوعا من البضائع، بدل قسم من الاجور، ویدفع القسم الاخر من الاجور نقداً الی العمال، ویستعرض بقیة البضائع فی الاسواق الحکومیة، لیشتریها العمال بذلک القسم من الاجور، الذی استلموه نقداً...

أما کمیة الاجور، ومقدار ما تستلمه العمال، نقداً أو عیناً، فان ذلک کله یقدر حسب مشروع الدولة(1) الذی ینظم تبعاً لجداول الاجور التی تشترک فی وضعها النقابات، وتوافق علیها الحکومة بالتزکیة، وهذه الجداول عبارة عن توزیع التعرفات، ومقادیر الاجور، تبعاً لمستوی العامل المهنی، وصعوبة العمل، وتعقد التکنیک، وخصائص مراحل الانتاج(2) ولقد قرر ستالین ان لا تمنح الاجور للعامل بمقتضی نوع العمل الذی یؤدیه وإنما تقدر الاجور بمعدل کمیة الانتاج فمن یعمل 8 ساعات یمنح 3 روبلات - مثلا - سواء أنتج ذلک العمل اکنتالا من القمح، أو أنتج صاروخا، فالفلاح لا یختلف عن رئیس المهندسین کما هتف بذلک عام 1930:

ص:185

(نحن لا نمنح(1) العمال أجوراً بمقتضی نوع العمل الذی یؤدونه، وإنما نمنحهم هذه الاجور بمقتضی کمیة العمل، التی ینتجونها(2).. وإن کانت الکتب الصادرة فیما بعد تخالف هذا التصریح کما اثبتنا شطراً منها فی الصفحات السابقة..

فأذن یوزع الانتاج بدل الاعمال، ولکنه لیس کل الاجور ولیس لاشباع الحاجات الاساسیة(3) وإنما هو بدل قسم من الاعمال، حسب موازین، وبرامج النفایات.

العمل الاجباری:

ولم تحرف نظریة مارکس فی إجباریة العمل، رغم أن الاشتراکیة حورت جمیع الرکائز الاساسیة لمبدأ مارکس لذلک هتف لینین عام 1920 مبشراً بخلق معنی جدید لحریة العمل: (إن حریة العمل لا تعنی حریة العامل فی ترک عمله... فنحن لا نستخدم العمال باعتبارهم احراراً یعملون أولا یعملون، وإنما نستخدمهم باعتبارهم مکلفین بالعمل... ولهذا فانهم لا یملکون حق ترک العمل المحدد لهم...(4).

ص:186

فالعمال لیسوا احراراً فی أن یعملوا أو لا یعملوا. وإنما هم مرغمون علی القیام بای عمل یعهد إلیهم وحریة العمل إنما تعنی حریة الحزب الشیوعی فی أن یحملوا العمال ما یشاؤن من أعمال فادحة، بأجور ضئیلة. وحیث رأی ستالین أن ارغام العمال علی العمل، جعلهم یتوانون عن استفراغ جهودهم بنشاط واندفاع، فی سبیل توفیر الانتاج وازدهاره لذلک اخذ یزعق فی وجوههم بکل صفاقة، ان یبذلوا أقصی امکاناتهم ومواهبهم فی سبیل الانتاج والا فان الرحمة سوف تدرأ عنهم، وحتی لو استنزفوا طاقاتهم ومقادیرهم فی سبیل النهوض بمستوی الانتاج، فان ذلک لا یبرر ان یتقاضوا علی ذلک اجورا إضافیة، فالحزب یقدر لکل عامل منسوبا معینا لو لم یبلغه یعتبر مجرما یعاقب علی إجرامه... اما لو ضرب رقما قیاسیا بین العمال، فان ذلک یؤهله للاجر الاضافی، ما لم یتجاوز مستواه عامل اخر، اما اذا کان ذلک فان المکافئة لا تمنح له لان الرقم القیاسی اصبح لغیره او اذا اخذ الحزب موقفا جدیداً، لیفصل للعمال منسوبات اوسع... وذلک فی تصریحه عام 1934: (... نحن لا نرحم اولئک الذین لا یعملون علی رفع مستوی الانتاج بکل ما وسعهم من جهد ولن یکون رفع مستوی الانتاج مسوغا لزیادة الاجور، فالحزب یضع لانتاج کل عامل منسوبا معینا یجب علیه ان یبلغه، فاذا لم یبلغه اعتبرناه اداة تخریب... اما العامل الذی یتجاوز هذا المنسوب فانه یستحق المکافئة... ولکن هذه المکافئة لا تمنح له اذا ظهر عامل جدید یتجاوز مستواه، او اذا قرر الحزب منسوبا جدیدا للانتاج(1).

ص:187

وعلی هذا الضوء سار الدستور السوفیاتی مؤکداً اجباریة العمل، (العمل فی الاتحاد السوفیتی واجب علی کل مواطن یستطیع ان یعمل، ومدعاة شرف له، وذلک وفقاً لمبدأ: (من لا یعمل لا یأکل).

(ولقد تحقق فی الاتحاد السوفیتی مبدأ الاشتراکیة القائل: من کل فرد حسب مقدرته، ولکل حسب عمله(1).

فاذن العمل فی البلاد الاشتراکیة اجباری، لا یرفضه احد الا ویعتبر اداة تخریب یفت فی عضد النظام، وینال من کرامة البلاد، فیجب إدانته وتعریضه للحساب.

تلک هی الجذور الام، والقواعد الرئیسیة فی النظام الاشتراکی، کما فصلها زعماء الاشتراکیة...

ص:188

ص:190

تأخر الاقتصاد:

لم تکن اقتصادیات روسیا القیصریة فائزة علی الارقام الاقتصادیة فی البلاد الاخری، ولکنها لم تکن متخلفة عن سائر البلاد الرأسمالیة، وکانت تسیر فی قافلة الشعوب المضطهدة تحت کابوس رأس المال ولم تکن یوما بحاجة الی الخبز بصورة مطلقة... وما فاجئتها ثورة اکتوبر إلا وعلی صوت لینین، وهو ینتکص علی عقبیه، قائلا: (موسکو بحاجة مطلقة وماسة للخبز. لذلک طبقوا (السیاسة الاقتصادیة الجدیدة) وسلسلة من التنازلات، والمساعدات الی التجار(1) وفی نفس الوقت اعتلی صوت لینین ایضا وتعالت معه عقیرة عبیده وعملائه ترثی ألوان التأخر الاقتصادی والثقافی فی روسیا القیصریة، وتصب لعائنها المضاعفة علی الرأسمالیة التی أخرت البلاد، وربطتها الی عجلات الوراء... ولکن یجدر بنا أن نتسائل عما: إذا کانت روسیا متأخرة کما تصفون؟ فمن أین جاء أولئک البورجوازیون، والرأسمالیون، والاقطاعیون.. الذین کان نضالکم المقدس (!) لمکافحة هؤلاء.؟؟ ولقد اضطر لینین فیما بعد إلی التصریح بأن الماشیة فی عهد قیصر کانت أکثر منها فی عهد الشیوعیة.. ولکنه کان یلقی هذا الذنب علی عاتق الحرب الاهلیة، وثورة الفلاحین الذین اعدموا محاصیلهم ومواشیهم خشیة ان تقع فی ایدی الشیوعیین.!! ولکنا نتسائل - أیضاً - هل کانت الحرب الاهلیة الطاحنة، وثورة الفلاحین، إلا من لعنات الشیوعیة؟ وهل کانتا منبعثتین إلا من صمیم الشعب الذی تهتفون باسمه؟ ومن أثار الحرب الاهلیة، وثورة الفلاحین، غیر لینین وأذنابه وزملائه..؟ ومن ذا قلب الفلاحین والشعب ضدکم، وقد

ص:191

کانوا الجنود المتطوعین فی ثورتکم؟ إذن فهذه الخسائر کلها کانت من صنع أیدیکم، ومن تعسف نظامکم الذی طبقتموه بالجور والتعذیب.

فشل الاشتراکیة:

إن أبشع الوان الفشل - بما للکلمة من معنی - ظهر علی جبین النظام الاشتراکی السائد فی روسیا، فان اکبر الفشل لنظام أن یعجز من بلوغ هدفه... ولقد کان الهدف الوحید الذی من أجله تکونت الاشتراکیة، هو إصلاح ما أفسده النظام الرأسمالی، فقد کان الاشتراکیون ینتقدون: أن خیرات الارض کافلة لتنظیم حیاة مرفهة سعیدة، لجمیع البشر ولکن النظام الرأسمالی أفسد التنظیم الواعی العالمی للاقتصاد، وسبب توزیع المجتمع إلی طبقة مترفة متطفلة، وطبقة کادحة محرومة، فلا بد من اکتساح هذا النظام لیسود محله النظام الاشتراکی، فیوجه الانتاج والاستهلاک توجیها عادلا صحیحا، لینعم الجمیع بالرخاء والرفاه..

وهذه النظریة تدل علی ان النظام الاشتراکی - علی أیحال - خیر من النظام الرأسمالی... وبعد ذلک فمن الفشل المخزی الذریع أن یعلن قادة الاشتراکیة: أن هذا النظام أفسد من النظام الرأسمالی، ونحن لا نعتمد فی هذه النقطة علی غیر کلمات خروشوف، لأنه أکبر المسؤلین الیوم، فیعبر عن اخر الانتصارات الاشتراکیة، ولن یحاول تحطیم نفسه وحکومته ولتکن اعترافاته مقتضبة من خطبته الطویلة، التی قرر فیها الارقام التوجیهیة لمشروع السنوات السبع، فی المؤتمر الحادی والعشرین للحزب الشیوعی، فلیدل إلینا باعترافاته:

ص:192

(والان یشغل الاتحاد السوفیتی المکان الاول فی أوربا، والثانی فی العالم، من حیث الانتاج الصناعی(1).

فأمریکا الرأسمالیة الفاسدة، متقدمة علی البلاد الاشتراکیة، وهذا یدل علی أن الرأسمالیة المقیتة، أفضل من الاشتراکیة.

وبعد ذلک یری خروشوف أن علیه أن لا یقف مکتوف الایدی تجاه انتصارات البلاد الرأسمالیة، بل الواجب یحتم علیه أن یرهق الشعب لیلتحق بأمریکا الرأسمالیة، ویسبقها فی الانتاج... ثم یرجع إلیه وعیه، ویعرف أن هذه الکلمات التی صدرت عن لسانه، کانت علی اثر نوبة عصبیة عصفت به، والعالم سیحاسبه عنها، فیتدارک الامر، معلناً أن ذلک یتطلب مدداً من الوقت تخرج عن نطاق مشروع السنوات السبع: (... ومن الناحیة العملیة، یجب تنفیذ مهمة تاریخیة، وهی اللحاق بأکثر البلدان الرأسمالیة تطوراً، وسبقها فی الانتاج بالنسبة للنسمة الواحدة من السکان. وسیتطلب تحقیق هذه المهمات مدداً تخرج عن نطاق مشروع السنوات السبع(2).

فلا بد إذن أن تعمل البلاد الاشتراکیة بسرعة فائقة فی السنوات السبع، وبعد السنوات السبع، علها تلحق بالمستوی الحالی فی الولایات المتحدة، ولنستمع الی خروشوف نفسه لیحدثنا عن ذلک: (.. ولذلک فاذا ما حسبنا بالنسبة لکل نسمة

ص:193

من السکان، فان الامر یتطلب فی اکبر الظن بعد مشروع تنفیذ السنوات السبع، خمس سنوات أخری، للحاق بالولایات المتحدة الامریکیة(1).

ولکن هذا الامر سوف لا یکون إذا تباطئت البلاد الاشتراکیة فی سیرها، إن اللحاق بالولایات المتحدة، أمر یتطلب فیضا وافراً من الجهود الحثیثة، ولیحدثنا خروشوف بنفسه عن مدی ما یقتضه الامر من تحفز ونشاط: (فنحن نرکض بسرعة تعادل أربعة أضعاف سرعة الولایات المتحدة ونضیف کل سنة کمیات اکبر من المنتجات. وإذن فاللحاق بالولایات المتحدة قد غدا الیوم أسهل جدا(2). وبعد أن ترکض البلاد الاشتراکیة بسرعة تعادل أربعة أضعاف سرعة الولایات المتحدة، یکون اللحاق بالولایات المتحدة أسهل منه فیما مضی..

وتأخر البلاد الاشتراکیة لیس فی ناحیة معینة من جوانب الاقتصاد وإنما هو تأخر فی کل فرع من فروع الاقتصاد، حتی فی الحلیب، والزبدة واللحم.. فهذا خروشوف یردد: (لقد أصبحت بلادنا تشغل المکان الاول فی العالم، من حیث الانتاج الاجمالی للبن الحلیب، والزبدة، وفی السنوات القریبة سنلحق بالولایات المتحدة الامریکیة... لتحقیق النداء الصادر عن شغیلة الکولخوزات، والسوفخوزات الطلیعیین، والداعی الی اللحاق بالولایات المتحدة، فی الانتاج الحیوانی(3):

ص:194

(... وبالتالی الاسهام، بسقط هام فی تنفیذ نداء الکولخوزات الطلیعیة، إلی اللحاق بالولایات المتحدة فی إنتاج اللحم).

وسوف لن یکون اللحاق بالولایات المتحدة فی إنتاج اللحم وسائر المنتجات الزراعیة، أمرا هینا تستطیع ان تنهض بعبئه روسیا وحدها، بل لا بد من توزیع الالتزامات علی هذا التقدیر: (... أما نصیب کل جمهوریة، وإقلیم، ومقاطعة، ومنطقة، وکولخوز، وسوفخوز فی النضال لتنفیذ نداء الکولخوزات والسوفخوزات الطلیعیة، إلی اللحاق بالولایات المتحدة، فی انتاج اللحم، وغیره من المنتجات الزراعیة فیجب تقدیره علی أساس المئة هکتار من الارض).

وهذا الفشل الذریع الذی یلاحق الاشتراکیة فی کل مکان، حتی ینبعث من لسان رئیس البلاد الاشتراکیة، کشیء طبیعی بارز، لا یقبل الجحود والاختفاء، لیس مختصرا فی روسیا ومستعمراتها، وإنما هو ملازم للاشتراکیة، تلازم الحرارة للنار، فالصین الاشتراکیة، تقتضی اثر روسیا فی التطفل بالمبارات الجانبیة مع إنجلترا... وحسب الصین تأخراً وانحطاطاً أنها، بملایینها، وفخفخاتها، وصرخاتها المسعورة، تتعرض بالمبارات الاقتصادیة المحدودة مع انجلترا. ولکن الصین مع ذلک ترهب أن تعلن مباراتها، وإنما یعبر عنها خروشوف بأسلوب یمکن سحبه بعد حین قائلا: (.. فمن المعروف مثلا: أن الحزب الشیوعی الصینی قد وضع فی سنة 1957 مهمة سبق إنجلترا فی غضون 15 سنة من حیث الانتاج الاجمالی فی الفروع الصناعیة الهامة(1).

ص:195

نفثات:

عندئذ یجدر بنا أن نتسائل هل إن الشعب السوفیتی یعیش أرفه وأسعد من الشعوب الرأسمالیة؟ أم أن الشعب السوفیتی الاشتراکی أشقی وأنکد عیشا من الشعوب الرأسمالیة.؟؟ لا بد أن یکون الجواب: أن الشعب السوفیتی أشقی من الشعوب الرأسمالیة تبعاً لتصریحات خروشوف: زعیم الاشتراکیة العالمیة!..

وإذن ففی وسعنا أن نقول بکل جرأة وقوة: إن النظام الاشتراکی نظام فاشل، وإنه افسد من النظام الرأسمالی، وإن الاشتراکیة عاجزة عن تنظیم الاقتصاد، رغم انها ترهق الشعوب وتعدو بها بسرعة تعادل أربعة أضعاف سرعة الشعوب الرأسمالیة، ورغم انها صادرت جمیع الاملاک وخنقت کافة الحریات، وقضت علی الادیان والاخلاق، وقتلت الملایین وسجنت وسفرت الملایین...

کما ظهر: ان الشیوعیین - جمیعا - کذابون لا یتورعون عن التلفیقات المزورة، لتغریر عباد الله، فقد کانوا یقولون: ان الشعب السوفیتی اسعد الشعوب، ان العامل والفلاح یعیشان عیشة مترفة مرفهة وان روسیا تفیض بخیرات الارض وبرکات السماء...

وما ان اعتلی خروشوف منصة مؤتمر الحادی والعشرین الا وظهر ان الشعب السوفیتی اتعس الشعوب، وان اقتصاده متأخر 12 أعوام - علی الاقل - عن اقتصاد الولایات المتحدة، هذه الدولة التی یصب الشیوعیون نقمتهم ولعائنهم علیها. وقد تبین: ان العامل والفلاح فی روسیا یعیشان فی شظف وتقشف وحرمان، ویرکضان بسرعة تعادل اربعة اضعاف سرعة العامل والفلاح فی

ص:196

البلاد الرأسمالیة...

وعلینا حینئذ ان نتسائل: لماذا تدعون الی هذا النظام الفاشل لو کنتم احرار کما تزعمون؟ وماذا یعجبکم من هذا التأخر المتعب إن کنتم تقدمیین کما تقولون؟ وبأی مبرر تسوقون الناس الی تلک البؤرة الجرداء ان لم تکونوا مأجورین؟..

مناقشة الاشتراکیة:

ما ان نعرض الاشتراکیة علی المشرحة، الا وتتکشف عن مجموعة اخطاء واغلاط، وسیئات ومناقضات، وتشف عما تنطلی علیه من استعباد واستثمار.. لذلک لا نکلف انفسنا بالتعمق فی مناقشتها، وانما نکتفی بالقاء الضوء علی اسسها ومبادئها الرئیسة، بعجالة واختزال:

دکتاتوریة الحزب:

اول ضرورة من ضرورات الاشتراکیة، اطلاق الدکتاتوریة للحزب الشیوعی(1) واستبداده بفرض احکامه علی الشعب، مهما کلف الامر من الخسائر والضحایا..

ص:197

وهذه النظریة ترشدنا الی ان الاشتراکیة لیست لصالح الشعب، وانما هی تؤمن اغراض القادة المنظمین فی الحزب فقط، رغم الشعب ومصالحه، ولولا ذلک لاستجاب لها الشعب بکافة عناصره وقومیاته، ولما احتاجت الی التوسل بالعنف والدکتاتوریة.

والعجیب ان الاشتراکیة استقامت علی اکتاف المضطهدین لانقاض الدکتاتوریة، واستبدالها بالحریات الکاملة، والدیمقراطیة الصحیحة... فاذا بها ترفض الدیمقراطیة، والحریة، وتتبنی اقسی دکتاتوریة خیالیة، والدکتاتوریة اول ما یکرهها الشعب، ویعمل لتحطیمها ومکافحتها بکل ما یملک من قوی وجهود. فضرورة الدکتاتوریة فی الاشتراکیة، کأکبر دعائمها، اغلوطة لا سبیل الی تصحیحها، او تبریرها...

مصادرة الحریات:

وتتلو تلک، مصادرة الحریات - بما لها من معنی - واستعباد الملایین لاسیاد الکرملین..

تلک هی الثانیة التی تهدینا الی مدی مناقضة هذا النظام، للانسانیة وارادة الشعب، فالنظام الصالح هو الذی یسعی الی أهداف الشعب وآماله، وینظم الحیاة السیاسیة وفق دستور یستطیع توجیه الشعب الی مصالحه فی زحمة الحریات، واطلاق الصلاحیات الکاملة... ولولا ذلک لم یصح اعتباره نظاما، وانما الاجدر ان نعبر عنه ب - (شبکة اللصوص) فالنظام یجب ان یکون لصالح الشعب، لا ضد الشعب، ومرکزا علی اساس الایمان بالشعب ومصالحه، لا علی

ص:198

اعتباره جسرا الی اهدافه واغراضه وبعد ذلک فان کبت الحریات، تؤدی الی کبح المواهب وخنق روح الابداع، وغریزة المبارات ثم الاستباق علی الصعید العلمی، والاقتصادی، والفنی، والثقافی... ولعل هذا التأخر الملموس فی روسیا ومستعمراتها - الذی اعترف به خروشوف - ناجم عن کبت الحریات.. فکما ان الانسان لا یبتسم للأفق الخانق، کذلک لا تتفتق مواهب المرء، ومقادیره وطاقاته الکامنة، لو لم توقظها انسام الحریة والنتائج المتکافئة.

تحدید الملکیة:

من ذا یعمل لغیره؟ ومن الذی یضحی بوقته وقواه فی سبیل عدوه؟ وهل تحمل الشاة السکین الی جزاره؟ ان الانسان لا یخلص فی العمل، الا علی صعید تکافؤ الفرص، والا اذا علم ان جهوده لا تسلب منه.. ولن یتدفق نشاط المرء علی ساحة العمل الا بالحافز الداخلی أو الخارجی فاطلاق الملکیة الفردیة، هو الذی یستنزف طاقات الفرد، کما لا یستنزفها ای شیء اخر. ولقد کفر لینین بهذه الحقیقة، حتی تراکمت امامه اتلال الضحایا، وانقاض الاقتصاد.. فاستسلم للواقع الحی، ولکن بعد ان فلت من یدیه الزمام فاطلق صرخته الاخیرة: (ینبغی تأسیس کل فرع من فروع الاقتصاد الوطنی، علی المصلحة الشخصیة(1).

ولقد اضطر خروشوف فیما بعد ان یأخذ بکلام لینین، فجعل ینادی فی مؤتمر العشرین:

ص:199

(... ففیما یتعلق بالمهندسین، والاختصاصیین وکذلک رؤساء المؤسسات، ینبغی ان یتوقف قسم من راتبهم، توقفا دقیقا علی معدلات العمل الاساسیة، فی المعمل، والمؤسسة، والفرع الاقتصادی والکولخوز(1).

فکما ان لینین وخروشوف عرفا: ان الغاء الملکیة الفردیة یشل الاقتصاد الوطنی، ولا یمکن ترمیمه الا بترتب المنافع الشخصیة علی معدلات العمل.. کذلک تحدید الملکیة الفردیة ینخر فی کیان الاقتصاد ویلویه الی الوراء.

تحدید الاقتصاد الوطنی:

ان تقدیر معایش الناس حسب مشروع الدولة، تنفع لتحدید الاستهلاک، والتقتیر علی الشعب، للتوفیر علی خزائن الدولة، ولکنه یضر من ناحیتین:

أ - ان الشعب ینقلب الی فقراء مدقعین، وذلک هو المستمسک الوحید الذی یحتج به علی فساد الرأسمالیة، والذی اخنی علیه الشیوعیون باللائمة الکبری.

ب - ان الشعب متی علم ان معیشته ترسم من قبل الدولة، تبعاً لمشروع عام ینبو عن التحویل والتبدیل، یصاب بخور الحافز الفردی، ویسعی للهروب عن العمل جهد الامکان، وفی ذلک انهیار الاقتصاد، وتجمده فی موقفه...

ص:200

مساواة الرجال والنساء:

ان مساواة الاکفاء مستحبة فی کل مکان، اما مساواة الرجال والنساء فی العمل فهی من سیئات النظام، ولکن الاشتراکیین لا یعقلون!! والاشتراکیون انفسهم یزِنون طاقات الحدید، والخشب والتراب فیمتنعون عن تحمیل کل واحد الا بمقدار طاقته، او اقل منها..: فیقدرون ان الطائرة المعینة تحلق بالف کیلو غرام. وان العمود الساجی المعین یستقل ب - 500 کیلو غرام. وان التربة السبخة لا تتحمل الا طبقتین من البناء - مثلا - فیکلفون کلا من الحدید، والخشب، والتراب، ان ینهض بما لا یبهضه عبئه...

اما الانسان: هذا الکائن المسکین، فیجب ان یعمل علی قدم المساوات، دون ان یکون هناک من یقدر طاقات افراده، ویکلفهم العمل بموجبها.. فالمرأة رغم ان کیانها ادق واوهی من کیان الرجل، یجب ان تعمل کما یعمل، تحقیقاً لمساوات الاشتراکیة.. وهکذا قد تکون المساواة من سیئات النظام، واکبر دلیل علی عدم نضوجه وتبلوره.

وهناک حقیقة ثانیة یجدر بنا ان نستوعبها فی هذا المجال، هی ان طبائع الاشیاء بذاتها تقرر اعمالها، وتحدد کمیة وکیفیة انتاجها.

والاشتراکیون - رغم کفرهم بالحقائق الصارخة - آمنوا بهذه الحقیقة، ولکن.. إیمانا ناقصا.. والحقیقة کلها: ان طبیعة الشیء، وقواه ومقادیره الکامنة، هی التی تحد له منسوبا معینا من العمل، ونوعا خاصا من الانتاج، یتحطم ان تعداهما الی اوسع منهما، کما تتعطل تلک الوظیفة شاغرة، ان ترکها لغیره...

ص:201

مثلا ان التراکتور یؤدی واجبا زراعیا، والقمر الاصطناعی یؤدی واجبا فلکیا. وهذان الواجبان انما تفرضهما طبیعة التراکتور والقمر الاصطناعی، لا السلطات الحاکمة، حتی ولو بلی الناس بسلطة تشریعیة شائت ان یؤدی التراکتور واجب القمر الاصطناعی، وان یؤدی القمر الاصطناعی واجب التراکتور، لیتحطما معا دون ان یؤدیا واجبا.

تلک هی قضیة المرأة والرجل، فطبیعة الانثی وترکیباتها السیکلوجیة والبیولوجیة، ونداءاتها الفطریة والعاطفیة، تقرر لها مسؤولیة البیت والاعمال البیتیة، من حضانة الاطفال، وتربیتهم، وتنظیم الشؤون المنزلیة البسیطة لان دقة کیان المرأة ورقة عاطفتها، تؤهلانها للوظائف البسیطة العاطفیة الدقیقة، کحضانة الاطفال، التی تحتاج الی دقة عاطفیة، بریئة عن البطش والحماس، وکاالاعمال البیتیة البسیطة، التی لا تحتاج الی عضلات مفتولة تتفجر قوة ونشاطا، ولا تتطلب عقلیة واسعة جبارة وانما تکفیها اعصاب المرأة وعقلیتها... کما ان طبیعة الرجل وطاقاته، وطموحه الغلاب، تقرر له مسؤولیة خشناء کالقیام باعمال المعامل والمناجم، والمؤسسات، والفروع الاقتصادیة والکولخوزات، والسوفخوزات. وسوف یعجز عن تنظیم البیت وحضانة الاطفال - لو کلفت بهما - او یحول البیت الی سجن السفاکین من ذلک کله نستلخص: ان مساوات الرجال والنساء فی العمل لیست الا من بوادر الترف، والطیش البلید، ومناقضة طبیعة الرجل والمرأة معا.

ص:202

اجباریة العمل:

ان الناس کانوا یعملون، ولا یزالون یعملون، حتی ان الانسان القدیم کان یعمل لیأکل، دون ان یحفزه ایة قوة اجنبیة فکم یقتضی ان یکون النظام طائشا، حتی یمتنع الناس - فی ظله - عن العمل؟ ویلجوا فی اضرابهم، حتی یلتجیء النظام الی اجبارهم علی العمل؟.

والواقع ان الاجبار حیلة العاجز، واکبر دلیل علی ان النظام السائد هو الذی عرقل سیر البشریة، حتی اذا تورمت اقدامها، وسقطت علی الارض، لتنفض عن نفسها التعب والسهاد، شهر سلاحه فی وجهها صارخا بها: سیری، والا جعلت الارض مقبرة واسعة..

فالناس - ابداً - سائرون فی مسراهم، ولیست مسؤلیة النظام الا ان یوجههم ویرشدهم، ثم یعبد لهم الطریق، ویغذیهم بالعقیدة، لیستحثوا خطاهم، ویشذب المتشذر. ولیس النظام جلادا تائها، یقذف الناس فی المهاوی والتلال، ثم - یسوقهم بالحدید والنار، والتهدید والارهاب من ذلک کلمة نستنتج: ان التجاء النظام الی الاجبار یشف عما ورائه من عجز، وطیش، وفشل...

ذنوب الاشتراکیة:

وبعدما وقفنا علی فساد اسس الاشتراکیة، ومدی تکلفها، ومعاکستها لواقع الحیاة، وطبائع الاشیاء، نحاسبها مرة اخری، من جدید لنحصی علیها بعض جرائمها ومؤامراتها ضد البشریة والشعوب:

ص:203

مؤامرة ضد الانسانیة:

لم تکن سیئات الرأسمالیة، هی التی اثارت ضجیج الاشتراکیین کما لم یکونوا اناساً متطوعین بالفداء، لحمایة مصالح الشعوب، ومکفاحة اعدائها الرأسمالیین، وانما کانو اناساً منبوذین - وحق لهم ان یکونوا منبوذین - فی حین انهم کانوا یشعرون بحسب الذات، والعظمة الکاذبة بینما المجتمع الرأسمالی، قد القی بهم بعیدا... بعیدا... فی قرارة الاکدار وبؤرة المفسدین المهرجین: اعداء الانسان حتی عز علیهم ان ینالوا حظوة فی ظل النظام(1) والذی کان یحز فی قلوبهم اکثر من کل شیء انهم کانوا یرون زملائهم - فی عداوة الانسان - یتصدرون مناصب الحکم الرأسمالی... هذه العوامل کلها دفعتهم الی اختلاف نظام جدید، یتبنی فکرة (الدیالکتیک) البعیدة فی الرجعیة، حتی یثیر ذلک ضجة شاملة، وحیث ان فی المجتمع - ابدا - اناسا منبوذین، فسیلتفون حولهم، ویتوسعون فی التهریجات التی تهدد النظام والسلطة والشعب، وذلک یجلب انتباه کافة الطبقات...

وحیث ان الطبقة الکادحة مضطهدة وغاضبة - وفی نفس الوقت - بعیدة عن الوعی السیاسی والاجتماعی، یمکن استغلالها لصالحهم.. وهکذا یتکون لهم کیان. لهذا الهدف راح الاشتراکیون یضعون مبادئهم ومناهجهم.

ص:204

اسلوب جدید للرأسمالیة:

وکانوا یستلهمون افکارهم من الرأسمالیة نفسها، رغم انهم کانوا یهتفون ضدها.. حتی اصبحت الاشتراکیة صیغة أخری للرأسمالیة، غیرأنها صیغة مزورة، تنطلی علی خداع وتمویه للحقائق - ولکنها تخدع الطبقات الامیة، وذلک یکفی الاشتراکیین لبلوغ السیادة والسیطرة - ولکن الواقع الراهن خلف الدعایات الکاذبة، کان یختفی حیناً، ویظهر حیناً، فیفتضح الاشتراکیون، ویتوسلون لتغطیتها بالمبررات الملفقة، ولکن الرأسمالیة لا تستأصل جذورها فی الحکم الاشتراکی. ولقد صرح لینین بأن التجارة والرأسمالیة مسموح بهما الیوم بصورة خاصة، نظراً لتأخر البلاد.(1)

وحتی الیوم نجدهم یرددون نفس النغمة، معترفین: (... وأخیراً تبقی فی النظام الاشتراکی رواسب من الرأسمالیة.. أما فی النظام الشیوعی فستزول جمیع رواسب الرأسمالیة(2).

والاشتراکیة لم بعد تتحقق فی جمیع البلدان الشرقیة، فکیف بالشیوعیة؟ کما یصرح بذلک خروشوف: (لقد دخلت بعض بلدان الدیمقراطیة الشعبیة مرحلة إنجاز بناء الاشتراکیة(3). أما سائر البلدان فأنها لم تبلغ بعد مرحلة الاشتراکیة،

ص:205

ورواسب الرأسمالیة لا تزول إلا إذا اکتمل بناء الشیوعیة.

فأذن لا تزول رواسب الرأسمالیة بسرعة، وإنما هی باقیة حتی الان وستبقی مدة اخری من الزمان، أما موعد زوالها فهو شیء لا یعینه تقویم، ولن تأتی فجئة.(1)

وبعد ذلک فمن الصین أن یصرح ما وتسی تونغ بأن فکرة الکولجوزات فکرة بورجوازیة:

(... ولذا فان اقتراح الارض للفلاحین لیس إلا اقتراحا بورجوازیا دیموقراطیا، ولیس اقتراحا برولیتاریا اشتراکیا(2).

فالنظام الاشتراکی - إذن - لیس إلا صیغة ممسوخة للنظام الرأسمالی، او هو بعینه وسنفصل الان: ان جمیع المآسی والمظالم التی انکرها الشیوعیون والاشتراکیون فی النظام الرأسمالی، ظلت سائدة - بأقسی مظاهرها - فی روسیا ومستعمراتها:

العطل:

فالعطل لا یزال موجودا فی ظل الاشتراکی، بکثرة هائلة والاعمال الموجودة لا تکفی لأشغال جمیع الایدی، وإنما تستخدم کل عام عدد من الایدی العاطلة، تبعاً لتقدم الاقتصاد:

(ویزداد عدد العمال والمستخدمین فی الاتحاد السوفیاتی کل سنة. ففی أواخر

ص:206

عام 1950 کان فی الاقتصاد الوطنی من العمال والمستخدمین أکثر مما فی أواخر عام 1940 بسبعة ملایین وسبعمائة ألف وفی عام 1951 و 1952 إزداد عدد العمال والمستخدمین من جدید مقدار 000 ر 2500(1).

(ستزداد للتوظیفات فی الزراعة مرتین بالنسبة لتوظیفات البرنامج الخامس الخماسی، و 14 مرة بالنسبة لتوظیفات البرنامج الخماسی الاول(2).

ومن البین أن الشعب لم یزداد 14 مرة بین البرنامج الخماسی الاول والبرنامج الخماسی الخامس، وإن الذی کان هو أن واحداً من أربعة عشر شخصا کان یعمل فی مشروع السنوات الخمس الاول، والثلاثة عشر شخصا من کل أربعة عشر شخصا، کانوا عاطلین عن العمل فی ذلک الوقت، ثم توفر لهم العمل فیما بعد.

ورغم ذلک کله فان الیوم یوجد فی البلاد الاشتراکیة عدد خیالی من العاطلین، والنظام الاشتراکی یسعی لإیجاد الاعمال لهم: (.. أما الاصلاح الذی تسعی الاشتراکیة إلی تحقیقه فی المجتمع الحاضر، فیمکن تلخیصه فیما یلی: 3000 - تحدید ساعات العمل للعمال، والاهتمام بهم، وإیجاد أعمال للذین بدون عمل(3).

وقد أکد دعاة الاشتراکیة أن: (.. فی عام 1953 شغل فی الاتحاد السوفیاتی

ص:207

اخر عاطل من العمل، وابتداء من ذلک التاریخ لم یعد الاتحاد السوفیاتی یعرف البطالة، وفی عام 1953 کان عدد العمال والمستخدمین 000 ر 800 ر 44، أی أکثر مما فی عام 1913 ب 28 ملیونا وفی برنامج السنوات الخمس الخامس: ل - 1951)... سیرتفع عدد العمال والمستخدمین مقدار 15 بالمائة(1).

وإذا لم یوجد عاطل فی البلاد الاشتراکیة، فکیف یصح تفسیر کلام خروشوف:

(... فی غضون السبع سنوات سیزداد عدد العمال والمستخدمین فی جمیع فروع الاقتصاد الوطنی زیادة جدیدة تبلغ زهاء 12 ملیون شخص(2).

فهل هذا ال - 12 ملیون شخص، وذلک ال - 15 بالمائة، ولدوا من جدید، واصبحوا عمالا ومستخدمین؟ أم جیء بهم من خارج الحدود؟..

إنهم اولئک العاطلون الذین تغص بهم الشوارع، والمعتقلات، والسجون، ومجاهل سیبیریا، والذین یستخدمون تبعا لحاجات الدولة، ویعطلون متی استغنت عنهم الدولة!

الفقر:

الذی هو أکبر جرائم الرأسمالیة، والذی ثار الفقراء ضد النظام الرأسمالی للقضاء علیه، اصبح الطابع العام لشعوب روسیا ومستعمراتها وحتی لو کانت

ص:208

فی المجتمع الرأسمالی طبقات ثلاثة: الطبقة المستغلة، والطبقة البورجوازیة، والطبقة الفقیرة، ففی المجتمع الاشتراکی لا توجد إلا طبقتان الطبقة المستغلة الحاکمة: (الحزب الشیوعی)، والطبقة الکادحة الفقیرة: (مجموع الشعب).

وذلک ان مجموع الشعوب الاشتراکیة یتألف من العمال والمستخدمین المسخرین للدولة، فلیست لهم موارد سوی الاجور التی یستلمونها من الدولة ذاتها - بصورة البضائع أو النقود - والدولة توفر علی الخزینة کل عام 7 ر 9 ملیار روبل تقریبا(1) ومن البین ان الدولة الاشتراکیة لا یاتیها هذا ال - 7 ر 9 ملیار روبل من الخارج، اذ لیست لها تجارة خارجیة مطلقا فی بعض الاحیان، وحین تکون لها التجارة الخارجیة تستورد اکثر مما تصدر فهذا ال - 7 ر 9 ملیار روبل کل عام، انما یستخرج من افواه الشعب ومعنی ذلک: ان الشعب یخسر کل عام 7 ر 9 ملیار روبل، لتتخم به الخزانة.

ذلک من جهة، ومن جهة اخری، ان واردات الدولة الاشتراکیة عام 1954 م کانت 5 ر 570 ملیار روبل وهذه الواردات انما تتألف من الاموال التی تدفعها المؤسسات الصناعیة، والنقلیات، والمؤسسات التجاریة الحکومیة، والضرائب علی رقم الاعمال، والرسوم علی الارباح والضرائب الاهلیة.

وهذا یعنی أن واردات الدولة الاشتراکیة مجباة من الشعب فقط... فلننظر

ص:209

کذا من هذه الاموال: - التی انتزعت من الشعب بالصورة الشرعیة، وغیر الشرعیة - عاد الی الشعب فی نفس العام؟.

إن مجموع النفقات المنصوص علیها فی میزانیة عام 1954 م یبلغ 8 ر 562 ملیار روبل، والباقی من الواردات ارصد للخزینة، أما فصول تلک النفقات فهی کما یلی: 3 ر 216 ملیار روبل ارصد لتوظیفه فی الاقتصاد الوطنی، و 3 ر 141 ملیار روبل للتدابیر الاجتماعیة، و 2 ر 205 ملیار روبل للقوات المسلحة والجواسیس والمنظمات السریة...(1) فالمخصص للاقتصاد هو الذی یعود الی الشعب، وهو لا یعدو 3 ر 216 ملیار روبل، ومن المعلوم ان قسما وفیرا منه یصرف فی تمکنة الاقتصاد أی فی جعل الاعمال الاقتصادیة من الحرث والزرع، والنسج... بواسطة الادوات المیکانیکیة.

من ذلک کله یستلخص ان الشعب دفع الی الدولة عام 1954 م 5 ر 572 ملیار روبل، وعاد الی الشعب فی نفس العام قسم من 3 ر 216 ملیار روبل.

علی هذا الضوء نستطیع ان نعرف مدی الفقر الذی یصیب الشعوب الاشتراکیة کل عام، ومدی رأسمالیة الدولة الاشتراکیة، وسلبها حقوق الشعوب، لتحقیق أهدافها الکافرة، ولیکن الشعب بعد ذلک فقیرا! فأنه لا یهم الدولة بقدر ما تهمها اهدافها واطماعها... کما صرح بذلک ستالین عام 1951 م

ص:210

: (یجب ألا نعیر افتقار المواطنین السوفیت الی وسائل الراحة المنزلیة ای التفات.. فنحن لا نستطیع ان نقدم للسیدات الجوارب الحریریة، بینما نحن فی حاجة الی مدافع نستخدمها فی تحقیق اهدافنا(1).

فکان الشعب انما یعمل لحساب الحکومة، حتی لیس له الحق فی استهلاک إنتاجه لمصالحه، بل الواجب أن تقدم حاجة الحکومة الی المدافع التی تحقق أهداف الشیوعیة، فی استعمار العباد والبلاد، علی حاجة المواطنین الی وسائل الراحة المنزلیة!!.

علی ضوء هذه النظریة یرسم مجلس السوفیت الاعلی برامج الاقتصاد الوطنی، التی تقدم مصالح السیاسة - فی المجال الاقتصادی - علی مصالح الشعب، وحاجاته الاساسیة... ولا بد بعد ذلک ان یعم الفقر جمیع مرافق الحیاة الاقتصادیة لمجموع الشعب.

وقد نجم من جراء ذلک فشل الحکومة - ذاتها - فی المجال الاقتصادی، حتی أنها نائت بحمل الفرائض التی أوجبتها علی نفسها:

قلة البضائع:

فقد أصبحت المطاعم أقل من حاجات الشعب، کما یعترف بها خروشوف: (... ومن الضروری، أیها الرفاق، أن نشیر إلی ما للمطاعم العامة من الأهمیة الکبری، فینبغی أن توسع لدرجة أکبر شبکة المطاعم.. لکیما یستطیع أفراد

ص:211

عائلات الشغیلة الاستفادة من هذه المطاعم(1)..).

من ذلک نعلم: أن افراد عائلات الشغیلة - فی الوقت الحاضر - لا تستطیع الاستفادة من المطاعم، حتی أن خروشوف یهیب برفاقه: أن یوسعوا شبکة المطاعم کی تستطیع أفراد عائلات الشغیلة، الاستفادة منها...

ومن الطبیعی أن تقصر البضائع عن إشباع حاجات الشعب، إذا کثر العطل، وقل العاملون، وضئل استنفاد الطاقات ومنابع الثروة الکامنة فی الاراضی الاشتراکیة.

وقبل کل شیء یجب أن نعلم: أن العطل السائد علی شعوب روسیا ومستعمراتها، یسبب قلة البضائع إلی درجة بعیدة، فأن عدد سکان روسیا ومستعمراتها ینوف علی 200 ملیون نسمة. أما العمال والمستخدمون منهم - فی الوقت الحاضر - لا یزیدون علی 54 ملیون نسمة. کما نعرف ذلک من تصریح خروشوف: (فی غضون السبع سنوات سیزداد عدد العمال والمستخدمین فی جمیع فروع الاقتصاد الوطنی، زیادة جدیدة، تبلغ 12. ملیون شخص، وسیزید عدد العمال والمستخدمین بالمجموع علی 66 ملیون و 500 الف شخص(2).

فعدد العمال والمستخدمین، إذا اضیف الیه 12 ملیون یبلغ 66 ملیون فهو الان 54... وحتی لو وفی خروشوف بما وعد، وأصبح عدد العمال والمستخدمین

ص:212

66 ملیون شخص، فان هذا العدد لا یکفی لا عداد البضائع الکافیة لا شباع حاجات الشعب، البالغ عدده 200 ملیون - علی أقل تقدیر - ثم ان 66 ملیون شخص لیسوا عمالا وفلاحین وإنما فیهم عدد کبیر من المستخدمین الذین لا یعملون فی الانتاج، وإنما هم موظفون الذین یشغلون الدوائر وبعد ذلک کم یکون عدد العمال والفلاحین؟ بطبیعة الحال یکون أقل من 50 ملیون شخص ومعلوم أن هؤلاء العمال، لا یعملون - جمیعا - فی إنتاج البضائع وانما یعمل قسم کبیر منهم فی إنتاج المعامل، والمکائن والاسلحة البحریة والجویة... وبعد إخراج هؤلاء، کم ذا یکون عدد العمال المنتجین للبضائع.؟ إن عددهم یکون ضئیلا وضئیلا جداً... ومن الطبیعی - بعد ذلک کله - أن تقصر البضائع المنتجة عن إشباع مجموع حاجات الشعب.. وإننا نجد خروشوف یعترف بمدی تأخر روسیا ومستعمراتها فی المجال الاقتصادی، عن مستوی الولایات المتحدة، کشیء طبیعی یأبی الجحود والانکار، وذلک فی مجالی الانتاج الصناعی والزراعی: (- یؤلف الانتاج الصناعی الاجمالی فی الاتحاد السوفییتی تقریبا نصف الانتاج الصناعی فی الولایات المتحدة الامریکیة، ویؤلف الانتاج الزراعی الاجمالی فی الاتحاد السوفییتی حوالی 75-80 فی المائة من الانتاج الزراعی الاجمالی فی الولایات المتحدة الامریکیة).

(- ومن حیث الانتاج الصناعی بالنسبة لکل نسمة من السکان تتفوق الولایات المتحدة علی الاتحاد السوفییتی بما یزید علی 100 فی المائة وتتفوق من

ص:213

حیث الانتاج الزراعی بما یقرب من 40 فی المائة(1) والواقع ان هذا التصریح یدلنا علی مدی الانهیار الاقتصادی فی الحیاة الاشتراکیة، حتی ان رئیس الدولة الاشتراکیة، یهتف فی مؤتمر الحزب الشیوعی: (ومن حیث الانتاج الصناعی بالنسبة لکل نسمة من السکان تتفوق الولایات المتحدة علی الاتحاد السوفییتی بما یزید علی 100 فی المائة.) أی ان معدل انتاج البلاد الاشتراکیة أقل من الصفر بالنسبة الی الولایات المتحدة التی تسودها الرأسمالیة الفاسدة، والتی ینقم علیها الشیوعیون.

وعلی هذا الحساب فالاشتراکیة أقل من الصفر فی مقابل الرأسمالیة الفاسدة، وهنا نعرف مدی فساد الاشتراکیة وبعدها عن صلاحیتها للحکم والسیادة.

کما ان هذا التصریح ینص علی ان الولایات المتحدة تتفوق علی البلاد الاشتراکیة من حیث حجم الانتاج الزراعی، بما یقرب من 40 فی المائة واذا علمنا ان فی الولایات المتحدة ینتحر الکثیرون لینقذوا انفسهم من الم الجوع، عرفنا مدی شیوع الفقر وقلة البضائع فی البلاد الاشتراکیة.

فهناک الفقر، وقلة البضائع، تجتاحان الملایین، ویعجز النظام الاشتراکی عن اشباع الحاجات الاساسیة لجمیع أفراد الشعب، حتی ان من المستبعد إمکان تحقق ذلک فی ظل النظام الاشتراکی، علی ما یقرره الرفاق انفسهم، غیر ان خروشوف یهب لیقول: إن ذلک ممکن فی المستقبل: (... فهل لا یزال بعیدا ذلک

ص:214

الوقت الذی یمکن فیه تلبیة حاجات جمیع السوفییتیین؟...

لا ریب ابدا فی أنه سیکون من الممکن فی مستقبل قریب تلبیة حاجات جمیع السوفییتیین کلیا الی الطعام واللباس والمسکن ضمن حدود المعقول والضروری.. یقینا اننا حین نتحدث عن تلبیة حاجات الناس، لا نقصد الاهواء، أو حب أشیاء الترف(1).

وهذا اعتراف بأن البضائع - فی الوقت الحاضر - لا تکفی لسد الحاجات الضروریة، لجمیع الافراد، وإنما تتضارب الاراء حول إمکان ذلک فی المستقبل، أو عدم إمکانه مطلقاً.

وسوف لا یدهشنا هذا الانحطاط الهائل فی الاقتصاد الوطنی إذا علمنا: أن عدد العمال ضئیل جدا بالنسبة الی مجموع الشعب، وأن الاراضی الشاسعة المترامیة الاطراف ظلت حتی الیوم قاحلة جرداء، دون أن تخصبها ید زارع، وأن المناجم والمعادن الفیاضة لا تزال حتی الان دفینة فی التراب، وأن هذه الکمیة الضئیلة من البضائع التی تستحصل لا تفرق علی الشعب، وإنما یدخر قسم منها من عام الی اخر، إعدادا للشیوعیة

قلة المساکن:

ولقد أعلن النظام الاشتراکی عجزه عن تلبیة حاجات الشعب بالنسبة إلی المساکن، رغم أن العائلات لا تنفرد بالبیوت، بل نجد فی کل شقة عائلة أو أکثر،

ص:215

کما یهتف بذلک خروشوف: (... إنه مهما اتسع نطاق إشغال بناء المساکن، فأن الحاجة إلی أبنیة السکن تکاد لا تنقص(1).

لذلک اعتمد الحزب الشیوعی إلی صد انهمار القاطنین فی القری والاریاف علی المدن، علها تفلح بذلک فی إعداد الکمیة الکافیة من البیوت للمقیمین فی المدن فقط... ولکن ذلک وحده غیر ناجح فی معالجة هذه المشکلة، فأن الانهیار الذاتی فی الاقتصاد الاشتراکی یحجزه عن تقدیر الاعتمادات الکافلة لسد الحاجات الضروریة إلی المسکن بل لا بد من أن تبنی العمال لا نفسها البیوت الفردیة. علی ما یصرح به خروشوف: (... وإذا أفلحنا فی صد تدفق سکان المدن الاخری علی المدن الکبیرة فاننا سنؤمن حاجات سکان المدن سریعا فیما یتعلق بالمساکن... وینبغی إنماء أعمال البناء الفردی، ومساعدة العمال والمستخدمین فی بناء مساکن لأنفسهم علی نفقتهم(2) أما المتدفقون علی المدن الکبیرة، فلن ینالوا نصیبهم من المنازل - علی أی حال -.

قلة الاعتمادات العامة:

لقد تعالت اصوات الرفاق ناقمین علی قصور النظام الاشتراکی، عن تخصیص الاعتمادات الکافیة للحاجات العامة، وهناک ینبری خروشوف لیهدأ اعصابهم، او یخفت اصواتهم منادیا فیهم: (یشکو بعض الرفاق من ان النظام ما یزال غیر کاف فی تخصیص اعتمادات التعلیم والصحة وبناء المساکن،

ص:216

والمؤسسات الاجتماعیة، والتجمیل إلخ...(1).

ولا تکشف شکاوی الرفاق إلا عن فراغ هائل فی الاعتمادات وثورة مکبوبة فی جمیع الاوساط، ولکن خروشوف - کعادته - یعدهم ویمنیهم وما یعدهم خروشوف إلا غروراً قائلا: (... لا یقتضی لنا وقت طویل) لکی... نضمن لجمیع الاطفال الاماکن فی دور الحضانة وریاض الاطفال، والمدارس الداخلیة..(2).

فالفقر هو الطابع العام، والمشکلة السائدة، فی جمیع مرافق الحیاة الاقتصادیة، سواء فی ذلک الاوساط الشعبیة والحکومیة، الفردیة منها والاجتماعیة. ما عدی الحزب الشیوعی، والاسلحة الحربیة، فان الحزب الشیوعی یعیش کما یعیش المترفون من الرجال المالیین الکبار، والاسلحة الحربیة التی وجدت للقضاء علی السلام العالمی، ولاجل استعمار العالم کله، تستنفد اوفر الحظوظ، واوسع کمیة من الثروات، والطاقات، والجهود، والخدمات.

الطبقات:

ان اعظم مقومات الرأسمالیة یتمثل فی نظام الطبقات الجائرة، وحتی الیوم یثیر الاشتراکیون حربا شعواء ضد الطبقات. ورغم ذلک نجد سلم الطبقات، یشکل النظام والحکم، فی روسیا ومستعمراتها. والطبقات توجد فی النظام

ص:217

الاشتراکی کشیء طبیعی لذات النظام: (فی الاشتراکیة تبقی الطبقات الکادحة: العمال والفلاحون، وکذلک المثقفون، وتبقی ایضا الصفات التی تمیز بعضها عن بعض(1).

فالقادة المنظمون فی الحزب یتربعون علی الذروة، وتتوالی بعده طبقات الحزب نفسه - ذلک العملاق الکبیر المفضل علی الناس اجمعین -، ثم طبقات الشعب. وحتی من العمال تتکون طبقات مختلفة الاجور فهناک الفئات الدنیئة الواطئة الأجور، والفئات العلیا الضخمة الراتب کما نجدها فی خطاب خروشوف:

(ان لجنة الحزب المرکزیة، ومجلس وزراء الاتحاد السوفیاتی، یتخذان تدابیر من اجل تنظیم معاشات التقاعد، والتعویضات بحیث تزداد فئات معاشات الدنیئة بقدر محسوس، وتخفض المعاشات المفرطة نوعا ما(2).

فالرواتب تتصاعد کلما تدرجت الطبقات، فالحزب الشیوعی له رواتبه المفرطة، المختلفة تبعا لاختلاف الافراد فی مدی اخلاصهم لقائد الکرملین، وتتلوه النقابات، ثم المخترعون.(3)

ثم الاختصاصیون الفنیون ثم المعلمون(4)..

ص:218

اما العمال والفلاحون الذین دارت الثورة باسمهم وعلی اکتافهم، فهم الملایین الذین یجمعهم الفقر والشظف، والحرمان...

وبعد ذلک فهناک طبقات توزع العمال والفلاحین:

(نعم ان فی الاتحاد السوفیاتی طبقات اجتماعیة... لقد بین احصاء عام 1939: ان 7,49 بالمئة من سکان الاتحاد السوفیاتی هم من العمال والمستخدمین وعائلاتهم، وان 47 بالمئة تقریبا هم من الفلاحین الکولخوزیین واصحاب الحرف المجتمعین فی تعاونیات، اما الفلاحون الفردیون واصحاب الحرف الفردیون فکانوا یشکلون (مع عائلاتهم) 5 ر 2 بالمئة من السکان(1).(2).(3).

الربا:

ان اکبر رکائز الرأسمالیة، وقواعده ومقوماته، هو الربا. وهو اقوی مظاهر الاستغلال، ورغم ذلک کله فالنظام الاشتراکی یقرر الربا ویعترف به، ویأخذه ویعطیه، فالدولة الاشتراکیة تمنح الربا الی المقرضین بصورة الربا، وبصورة

ص:219

الجوائز. والیک النص التالی:

(... ففی مدة برنامج السنوات الخمس بعد الحرب 1946-1950 دفعت الدولة الی الاهلین 17 ملیار روبل جوائز وفوائد، وفی عام 1953 نال الاهلون بشکل جوائز 9 ملیارات و 800 ملیون روبل(1).

فالدولة تأخذ ما لدی الشعب من روافد - خصوصا فی الازمات الاقتصادیة والسیاسیة - لکی یبقی الشعب فی مستوی واحد من الفقر والحرمان سواء منهم یملک شیئا من النقود ومن لا یملک شیئا. ثم یمنحهم الربا علی اقراضهم الدولة...

کما ان الدولة تأخذ الربا من افراد الشعب الذین یقترضون الکمیات المحددة لمصالح معینة، فی الاوقات الخاصة. نعرف ذلک من تعالیم ومخططات ماوتسی تونغ: (- تقلیل الإیجار والفائدة... ومنح قروض صغیرة الفائدة الی الفلاحین الفقراء(2).

أما کمیة اقصی القروض، ومقدار الفائدة، فیقال عنهما: (ثم ان العمال والمستخدمین الذین یرغبون فی بناء مسکن لانفسهم ینالون من الدولة قطعة ارض مجانا. کما ان بنک الدولة یمنح هؤلاء، بطلب من الادارة والنقابة، قروضا طویلة الاجل، من (500) الی (1000) روبل قابل للوفاء فی خمس او عشر

ص:220

سنین، وبشروط متساهلة، بفائدة 2 بالمئة فی السنة(1).

فالربا مشروع فی النظام الاشتراکی، ولکن المحظور هناک شیء واحد، هو ان یأخذ الربا واحد من افراد الشعب(2) بل اللازم ان ترتکب الدولة وحدها جمیع ألوان الاستغلال والاستعباد.

اضطهاد العمال:

لا تختلف حیاة العمال فی روسیا ومستعمراتها، عن حیاتهم فی الدولة الرأسمالیة الا فی شیء واحد، هو ان العمال فی ظل النظام الرأسمالی یتمتعون بکافة الحریات المضمونة، فهم ینعمون بحریة العمل لهذا أو ذاک او الاستقلال بالعمل لانفسهم، او ترک العمل مطلقا - متی وجدوا لدیهم ثروة کافیة تعیلهم، وتغنیهم عن تحمل ارهاق العمل فی سبیل البقاء کما ینالون حریة اختیار أی عمل شاؤا، وحریة الاضراب، والاحتجاج والمظاهرة، وتکوین الاحزاب التی یریدونها، وتشکیل النقابات والغائها واما العامل فی روسیا ومستعمراتها فمسخر مرغم علی العمل، وای نوع تختاره الدولة له من الاعمال، وفی أی مکان تحدده الدولة(3) دون ان تکون له حریة الاحتجاج، او الاضراب، او المظاهرة، او تکوین الاحزاب - فهناک حزب واحد لا یسمح لغیره ابداً - او الحریة فی

ص:221

انتخاب النقابات ورؤسائها، فانهم یرشحون وینتخبون من قبل الحزب الشیوعی بالتزکیة.

الاجور:

ولیس للعمال الحق فی تحدید الاجور، او المناقشة حولها، وانما تحدده النقابات: (وفی کل فرع من فروع الصناعة جدول للاجور تشترک النقابات فی وضعه، وتوافق الحکومة علیه، وهو عبارة عن توزیع للتعرفات، ومقادیر الاجور... اما اجر العمال والمستخدمین المحدود، فیقرر حسب التعرفة(1).

وتجری هذه التحدیدات الاجور، تبعا لساعات العمل، ومعدل الانتاج، فی الاعمال الیومیة، المحددة بالساعات وهناک ثلاثة انواع اخری للأجور هی:

1 - الاجر الیومی المحدود علی العمل المعین، مع الجوائز علی تعدی البرنامج الخاص، والزیادة علیه زیادة بارزة، وهذا هو الضرب الاول باضافة الجائزة علی ازدیاد کمیة الانتاج.(2)

2 - الاجر علی القطعة، وذلک بتقدیر تکنیکیة العمل: (الوقت اللازم لصنع کل قطعة) ویقوم هذا التقدیر علی اساس صارم، وعلی تقریر المعدلات لمدة سنة(3).

ص:222

3 - الاجر التصاعدی علی القطعة، وهی تجمع بین الاجر علی القطعة والاجر مع الجوائز، وفی هذا الحال ینال العامل الذی ینتج أکثر من المعدل، اجراً یحسب علی اساس تصاعدی. وهذا النظام یطبق عادة علی الصناعات الرئیسیة.(1)

والاجور - فی هذه الاشکال ایضا - تکون اجباریة تحددها النقابات، وتوافق علیها الحکومة، اما العمال فلیس لهم الحق فی المطالبة بأجور اکثر مما تحددها الدولة.

دوام العمل:

اما ساعات العمل - فی القسم الاول - فیتراوح بین الثمانیة ساعات واکثر. وأما الذین یعملون تحت الارض فلا یقل عملهم الیومی عن السبع ساعات، وهذا التقدیر یوافق أقصی مدة الاعمال التی یفرضها الرأسمالیون علی العمال والمستخدمین. نعرف هذا التحدید فی ساعات العمل من وعود خروشوف عندما قال: (وقد نص مشروع الارقام التوجیهیة علی ان ینجز فی سنة 1960 م تخفیض.. یوم عمل العمال والمستخدمین الی سبع ساعات، وتخفیض یوم عمل العمال الذین یعملون تحت الارض، المهن الرئیسیة، فی صناعات استخراج الفحم والمعادن الی ست ساعات).

ذلک فی الاجر الیومی، اما فی الاجر علی القطعة، والاجر التصاعدی علی

ص:223

القطعة، فیوم العمل غیر محدد فیهما، وعلی العامل ان یستنفد طاقته وجهوده، بدافع الخوف حینا، والرجاء حینا اخر، وقد وضع هذان القسمان من الاجر لغرض اعتبار ساعات العمل، ثم ان تقریر الجوائز فی القسم الاول لمن تعدی المقدار المحدد من الانتاج، یدلنا علی ان تقدیر ساعات یوم العمل، لیس الا لتحدید اقل ساعات یوم العمل، خلاف ما هو موجود فی البلاد الرأسمالیة.

اعمال فادحة:

ولیست الاعمال فی روسیا ومستعمراتها، الا اعمالا تکنیکیة قاسیة، تتطلب مزیدا من الدقة والانتباه، اضافة علی ان تقدیر الاعمال یکون - دائما - بصورة مرهقة باهضة، فالعامل فی روسیا ومستعمراتها، یجب ان یرکض بسرعة تعادل أربعة اضعاف سرعة العامل فی الولایات المتحدة(1) واذا کان العامل فی الولایات المتحدة مرهقا متوتر القوی والاعصاب فماذا یبلغ من النصب بعامل یجب ان یرکض بسرعة تعادل اربعة اضعاف سرعته.

استخدام النساء والاطفال:

ان النظام الاشتراکی یستخدم النساء والاطفال، کاستخدام الاماء والعبید... ومن العجیب جداً ان الشیوعیین والاشتراکیین یوجهون دعایتهم ضد النظام الرأسمالی، بحجة انه یستخدم النساء والاطفال، وعندما ننظر فی نظامهم الشیوعی او الاشتراکی، نجدهم یستخدمون النساء والاطفال - ایضا - ألیس

ص:224

هذا هو التناقض المریب؟

ولقد کان استخدام النظام الرأسمالی للنساء والاطفال، یعنی انه کان یسمح بذلک، والرأسمالیون کانوا لا یسخون بأموالهم الا ازاء العمل دون ان یفرقوا بین الرجال والنساء والاطفال، اما النظام الاشتراکی فانه یقهر النساء والاطفال علی العمل، حتی لو استعصی واحد منهم. اعتبر هذا ما یجب مؤاخذته وتعریضه للعقاب.

النقابات ضد العمال:

إن من طبیعة النقابات ان توجد لحمایة مصالح العمال، وردء المظالم والضربات الموجهة إلیهم، ولکن النقابات فی روسیا ومستعمراتها لیست إلا شبکة من شبکات الحزب، ودوائر حکومیة متغلغلة فی اعماق الحرکات العمالیة، ومسیطرة علیها، لتکون اقدر علی استعبادها.. کما صرح بذلک ستالین عام 1933: (یجب ان یکون مفهوما ان نقابات العمال لا تعمل لحساب العامل باعتباره عاملا، وإنما تعمل لحساب العمال باعتبارهم ادوات من ادوات الانتاج... ولهذا فأن هذه النقابات لا تحمی مصالح العمال التی تتعارض مع مصالح الحزب(1).

فالنقابات یجب ان تعتبر العمال من ادوات الانتاج، وتعمل لحساب الحرکة العمالیة: الشیوعیة، بهذا المقیاس. کما یجب ان تعرف النقابات موقفها من العمال

ص:225

ومن الحزب، فهی لیست إلا فصیلة عن الحزب، یکونها الحزب، ویختار قادته لتکون جهازا تابعا مساعدا له، وهذا ما نادی به ستالین عام 1933: (دعونی اوضح بصراحة: ان نقابات العمال هی اجهزة تابعة لأجهزة الحزب... ویجب ان یکون مفهوما: ان الحزب هو الذی یختار قادة النقابات، لأن فروع النقابات داخل الحزب هی المسؤولة عن هذه النقابات(1).

فالنقابات عملت وفق مؤامرة رئیسها ستالین، ووقفت من العمال موقف العدو المتربص، فکانت الحکومة تحتسی دماء العمال - کالعلق - وکانت النقابات هی الاخری، التی تکونت باسم الصدیق، وتکشفت عن عدو لدود...

لهذه العوامل کلها ظل العمال یرزحون تحت کابوس الفقر ونیر الاستعباد، دون ان یطیقوا الدفاع عن انفسهم بشطر کلمة، لأن النقابات تملک الصلاحیات الکاملة لکبت الاصوات المعارضة، بما تراه صالحا لخنق الصوت المناوء.

اهمال العجزة:

والنظام الاشتراکی لا یختلف عن النظام الرأسمالی فی إهمال العجزة وعدم الاهتمام بهم، حتی یلقیهم الموت جوعا وعریا، علی ما نطق به ستالین عام 1936 م: (جرت العادة فی وقتنا هذا علی إهمال شأن الضعفاء، وعدم الاهتمام بهم. فالاهتمام کله مقصور علی الاقویاء وحدهم(2).

ص:226

وحتی ان الکولخوزات التی تخرج من فائض انتاجها الضمانات الاجتماعیة، دون ان تنفق الحکومة شیئا علیها، یمتنع ستالین عن ان یتکفل صندوق الضمانات الاجتماعیة إعالة العجزة، مع انها لا تعود الی الدولة بخسارة، فکان النظام الاشتراکی یأبی ان یعیش الا من یکون مطیة خاضعة. وذلک فی تصریحه عام 1936 م: (یجب ان یکون مفهوما: ان نظام المزارع الجماعیة. لا یعنی مجرد احتکار الدولة لکل مصادر الانتاج الزراعی فحسب بل یعنی ایضاً: جعل العمل شرطا اساسیا للحصول علی لقمة العیش... فنحن لا نقیم المزارع الجماعیة لنطعم المتطفلین(1).

رأس المال والربح الناتج منه:

إن النظام الرأسمالی یتکون من هذین العنصرین: رأس المال والربح الناتج منه. وجمیع انتقادات مارکس وسائر الشیوعیین والاشتراکیین تنصب علی رأس المال، والربح الناتج منه، لا غیرحتی لو فرض نظام لم یکن فیه وجود لرأس المال والربح الناتج منه لما کان للشیوعیین والاشتراکیین فیه مجال للنقد والنقاش... ولکن المدهش جداً ان نری النظام الاشتراکی یقرر رأس المال والربح الناتج فی اجلی واقسی مظاهرهما اما رأس المال فلأن هناک الاموال کلها بید الدولة إلا ما یدفعها من الاجور الی العمال کما ان وسائل الاستثمار کلها ملک للدولة، کالمعامل والمصانع والمکائن، والالات، والاراضی، و.... والدولة تستثمر هذه

ص:227

الاموال والاعیان فتوظفها فی شتی المشاریع والمتاجر، وتقوم بالتجارة الداخلیة والخارجیة(1) فتستورد من الخارج الوان البضائع والخامات کما تشتری من الکولخوزات بضائعها الفائضة عن حاجاتها ثم تبیع تلک إلی البلدان الخارج، وإلی افراد شعوب روسیا ومستعمراتها، فالاستیراد والتجارة موجودتان فی النظام الاشتراکی، وهما لا یکونان إلا بواسطة رأس المال، فرأس المال موجود فی النظام الاشتراکی.

وأما وجود الربح الناتج من رأس المال فی النظام الاشتراکی فلأن الدولة تستورد البضائع من الخارج بأسعار معینة، أو تشتریها من أصحاب الکولخوزات، بما تقدر لها من اسعار... ثم تبیع نفس هذه البضائع بأثمان خیالیة باهضة حسب ما یقدرها جشع الدولة ف -: (إن أسعار البضائع الموحدة فی الاتحاد السوفیاتی تضعها هیئات برنامج الدولة، ثم تصادق علیها الحکومة(2).

من هنا تنشأ مضاعفات الارباح الخیالیة، کما لیست موجودة فی النظام الرأسمالی، لأن التجار لا یستطیعون أن یطیشوا فی تقدیر الارباح لأن التنافس الحر یوقفهم عند الحد العادل - نسبیا - ولکن فی روسیا ومستعمراتها حیث لا یوجد إلا تاجر واحد: هو الدولة فباستطاعته أن ینطلق فی استغلال حاجة الناس الی ما فی یدیها من البضائع، بتقدیر أفدح الاسعار، ولیست هناک تجارة

ص:228

حرة توقفه عند حده العادل.(1)

وهذا الربح هو الذی عرّفه مارکس باللصوصیة، أصبح الان جزأ لا یتجزأ من النظام الاشتراکی، وهذا اکبر دلیل علی رأسمالیة النظام الاشتراکی، رغم أنهم یعتبرونه نظاماً مناوئاً للرأسمالیة.

ولکن هناک اختلاف بین هذین النظامین فی نقطة واحدة، هی أن الرأسمالیون فی ظل النظام الرأسمالی کثیرون متنافسون فیما بینهم، وفی النظام الاشتراکی لا یوجد إلا رأسمالی کبیر، هو وحده یرتکب جمیع المظالم، ویترک للتاریخ أساطیر مفعمة بالدماء والدموع، دون أن تستطیع أیة قوة مناوئة تحدید جرائمه وسیئاته....

استثمار الانسان للانسان:

طالما رفع الاشتراکیون عقیرتهم المتغطرسة بالنقد اللاذع البذیء للنظام الرأسمالی، بحجة أنه یسمح باستثمار الانسان للانسان، وذلک صاحب المعمل حیث یستخدم العمال، ولا یوزع علیهم مجموع الانتاج، بل یقسم الانتاج بین نفسه وبینهم، فهو یستثمرهم، ویضطهد هم فی ذلک القسم الذی یستأثر به.

ص:229

وعندما تحّکم الاشتراکیون علی روسیا ومستعمراتها، جعلوا یتبجحون ب -: أننا حررنا العمال من الاستغلال والاستثمار، وسوف لا یستطیع إنسان أن یستثمر إنسانا - فی ظل النظام الاشتراکی...

ومن المدهش جداً: أن الاشتراکیون - فی نفس الوقت - یقومون بأوسع الاستغلال والاستثمار، فالحکومة الاشتراکیة تستثمر مجموع الشعب لمصالحها الخاصة، ولا تدع أی فرد یهرب من هذا الاستثمار الشامل لانها تقهر الجمیع وتسخّره للعمل وفق برامجها الخاص بما تقدر من الاجور حتی الکولخوزات، والحرفیون، والفلاحون الفردیون، الذین عجز النظام عن إخضاعهم الکامل للدستور، والذین یعتبرون متحررین - نسبیا - ألجئتهم الحکومة، تحت نظام التعاونیات والنقابات، إلی الرضوخ للاستثمار الحکومی، کی لا یختلفوا عن العمال والفلاحین المأجورین.

فالاستثمار العام الشامل هو النظام الوحید، الذی تعیشها شعوب روسیا ومستعمراتها. ولکن الحکومة حیث تحاول أن تستثمر - وحدها - مجموع الجهود والخدمات، تمنع بکل صرامة أن یستثمر إنسان من أفراد الشعب إنسانا اخر، علی سبیل تکافؤ الفرص، والجهد والجزاء...

الایجار:

ان هناک قوانین طبیعیة لا یشذ عنها حتی المستثمرون والمضطهدون التزاما بحکم الطبیعة القوی الصارم، التی لا یخبو صوتها حتی فی الحالات الشاذة، فالانسان متی استعبد انسانا لیسخره فی مصالحه، فلا بد ان یضمن له القیام بحاجاته الاساسیة، بان یلتزم بتسلیم قوته، وملبسه، ومسکنه الیه... ولکن

ص:230

النظام الاشتراکی یتنمر حتی علی هذه الحکومة، ویکفر بحاجات الانسان.. فهو عندما یقرر للعامل معدلا من الاجور، لا تضمن له غذائه الکامل الملائم، یطالبه بأجور المسکن - حسب ما تقدر الحکومة اجور المسکن - والیک النص التالی، الذی یشف عن القسوة والتقتیر فی بیوت السکن:

(... یقضی القانون بان بدل الایجار یجب ان لا یزید عن روبل 32 کوبیکا(1) علی کل متر مربع واحد من المساحة القابلة للسکن... وهکذا فان اقصی حد لبدل ایجار من 35 الی 40 متراً مربعاً، یتراوح بین 46 و 53 روبلا فی الشهر(2).

اجور علی الحاجات العامة:

کذلک ینکل النظام الاشتراکی عن تحمل الحاجات، وانما یوفرها للعمال و الفلاحین، وسائر المسخرین من افراد الشعب، شریطة ان یدفعوا الاجور، والا فالحکومة تأبی عن اسداء الخدمات للمواطنین، فحضانة الاطفال(3) وتربیتهم علی الاباء(4) الا ان یدفعوا اجوراً باهضة رغم ان المرأة والرجل المسخران للعمل الاجباری، لا یستطیعان ان یقوما بحاجات الاطفال التی تستغرق الوقت الطویل... وحتی ان أی فرد التجئ الی دخول المصح لمرض او نقاهة، یجب علیه

ص:231

ان یدفع السعر المقرر.(1)

الضرائب التصاعدیة:

ثم.. وبعد ذلک کله.. لا تعفی سکان المساکن من الضرائب التصاعدیة، بصورة جائرة لیس لها مثیل فی دول العالم، وحتی هذه الضرائب المفروضة - حالیا - لا تسد جشع السادة المترفین فماوتسی تونغ - فی الاونة الاخیرة - یطلق هذا النداء: (- تأسیس جهاز تقدمی ینظم الضرائب(2)).

ومن المدهش: ان اسیاد الکرملین وعملائه یحقرون الضرائب الخیالیة التی یجبونها من السکان.. وهذا خروشوف یقول: (... ان الوزن النسبی للضرائب التی تجبی من السکان، قد اصبح فی الوقت الحاضر ضئیلا لا یزید علی 7.8 فی المئة من واردات المیزانیة(3).

ویسیر علی خطة خروشوف فی تضلیل الضرائب النص التالی: (... اما الضرائب التی یدفعها الاهلون، فلیس لها الا دور ضئیل فی المیزانیة: فهی لم تشکل الا 9.3 بالمئة من الواردات عام 1952 و 8.4 بالمئة عام 1953، 8 بالمئة عام 1954(4).

ص:232

ماذا یرید هؤلاء؟ أیریدون ان تتألف میزانیة الواردات کلها من الضرائب؟ او یریدون ان یأخذوا مجموع الاجور التی یدفعونها الی الشعب بأسم الضرائب؟ ام ماذا یأملون؟.

ان فکرة جبایة الضرائب فکرة مغلوطة بالذات، سواء أکانت فی النظام الرأسمالی، او الشیوعی او الاشتراکی، او ای نظام اخر!!

فالضرائب لیست الا اموالا تغتصب من الناس بصورة رسمیة قانونیة ولا مبرر لها الا ان الدولة تملک القوة، والقوی له ان یفعل ما یشاء، وهذا المنطق لا یشبه الا منطق ذلک اللص یشهر سلاحه فی وجوه الناس لیسلب اموالهم بالعنف والارهاب الا ان الناس روضوا علی تحمل مظالم الحکومات حتی طمئنوا الیها، واذعنوا بها ثم استسلموا لها، دون ان یشعروا بوقع الاضطهاد، ولم یتعودوا منطق اللص، او علموا: ان اللص ضعیف یستطیعون مقاومته، وتعریضه للعقاب، فثاروا ضده، ثم ان الضرائب لا تفرض علی اجور العمال، والفلاحین والمستخدمین وانما الحکومات تتذرع بهذا السلاح فی نهب الاموال الوفیرة، والتجارات الضخمة، لا فی الدنیا رأوا الدرهم المرتعش فی ید الفقیر العاری الهزیل.

وبعد هذا... فان ال - 8 بالمئة من میزانیة الواردات التی هی معدل الضرائب التصاعدیة، لیست بالنزر الیسیر - کما یصفها الشیوعیون، لیهونوا بذلک مظالمهم، واضطهادهم للشعب - وانما هی مصفی اعمار وجهود، وخدمات.

ص:233

واننا نستطیع، ان نعرف مدی قسوة الضرائب هناک بالبیان التالی ان 8 بالمئة من میزانیة الواردات هی کمیة الضرائب فی عام 1954 م(1) - ولنفرضها المقیاس المعدل للضرائب، کل عام، علی اقل تقدیر - ومیزانیة الواردات فی نفس العام 572.5 ملیار روبل(2) و 8 بالمئة من هذا العدد یربو 71.5 ملیار روبل.. فهو اذن مجموع الضرائب فی ذلک العام. ومجموع الاموال التی ارصدتها الدولة، لتوظیفها فی الاقتصاد الوطنی، ذلک العام 216.2 ملیار روبل(3) و 71.5 یقرب من ثلث 216.2.

من ذلک نستنتج ان ضرائب عام 1954 م کانت تساوی ثلث مجموع النفقات التی وزعت علی جمیع مشاریع الاقتصاد الوطنی... وهذه کمیة جدا هائلة، لا نجد لها نضیراً فی ایة دولة من دول العالم.. من ذلک کله نستنتج.. ان النظام الاشتراکی لیس الا نوعا من الرأسمالیة، وهو اقسی انواع الرأسمالیة، وان جمیع التضاربات بین الرأسمالیة والاشتراکیة، لیست الا علی الهدف الموحد، وهو الاستغلال والاستعباد، اما الکلمات الخلابة، والقوالب الجاهزة المغریة.. فلیست الا حبائل وشبکات لصید الملایین من بنی الانسان.

هذه اشتراکیة روسیا:

ذلک هو النظام الاشتراکی السائد فی روسیا ومستعمراتها، وتلک بعض

ص:234

سیئاتها وجرائمها، او بعد الاحاطة بما سبق هل یروق لاحد ان یعیش فی جو یسوده هذا النظام؟؟ مع العلم: اننا لم نسجل جمیع النقاط التی تلفت الانظار، وتبهت المرء، وتحفزه الی التسائل: هل تقود المطامع والاهواء، اناسا من اولاد ادم وحواء، الی ان یصبوا هذا السعیر الفوار علی رؤس الملایین من اخوانهم فی البشریة؟ ان هذه اعجوبة لم نجد لها مثیلا فی تاریخ الانسان، حتی ان الوحوش الهاصرة، وجوارح الطیر، تأبی ان تضطهد اخوانها هذا الاضطهاد الدائم الالیم... الا ان البشر: هذا المخلوق الضعیف الجبار، لا یربو بنفسه ان ینزل الی ابعد من قرارة الوحش الضاری، فی سبیل مطامعه الوقتیة الرخیصة، واهوائه الدنیة القذرة.. ان هذا لشیء عجاب... والاعجب من هذا کله: ان نجد اناساً من السذج البسطاء، والمغفلین المعتوهین، او العملاء المأجورین، یطالبون باستیراد ذلک النظام، وتطبیقه علی الملایین... والملایین... فی سبیل اللا شیء ظانین: انهم یستطیعون العیش فی ذلک الجو الخانق القاتم، أرفه مما هم الیوم وهم لا یعلمون: انهم فی طلیعة الذین تدرأ عنهم الرحمة، ویشملهم العذاب.

مناقشات علی الاعقاب:

علی انقاض الحدیث یتسائلون:

1 - وإذا کانت الاشتراکیة کما تصفون؟ فکیف استطاعت ان تنهض بشعوبها الی هذا المستوی الرفیع فی الحقول العلمیة، والصناعیة، والاقتصادیة، والحربیة؟ رغم ما کانت علیه فی عهد قیصر من التأخر والجمود والانحطاط..؟ اذن فهذا الفضل کله یرجع الی صلاحیة النظام

ص:235

الاشتراکی، وامکاناته وطاقاته!!.

والجواب علی هذا الکلام یأتی من وجوه:

أ - ان جمیع البلاد کانت متأخرة فی عهد قیصر، فی المجالات العلمیة، والصناعیة، والاقتصادیة والحربیة. ثم تقدم العلم الحدیث فسببت تقدم جمیع البلاد، علی حد سواء، ما عدی المستعمرات التی لم تکن تتمتع بالحکم الذاتی.

ب - ان میزان النجاح والفشل، فی دولة او نظام، لیس مجرد الارقام التی تحرزها الحکومة فی داخل صندوقها، او الطاقات الحربیة التی تعبئها فی معسکراتها، ولکن المقیاس الوحید هو سعادة ابنائها، أوشقائهم اذ ان الدولة شعب وافراد قبل ان تکون جیشاً وصندوقا..

ومن السهولة بمکان ان تعمد ایة دولة الی تسخیر شعبها تحت عصی القسر والاکراه، فی شتی المجالات السیاسیة والاقتصادیة، حتی تسبق سائر الدولة، فی تلک المجالات، او تسلب اموال شعبه، کی یفیض صندوقه بین عشیة وضحاها بالمال الوفیر... ولا یکلفها ذلک الا قدرة علی البطش وقوة علی الظلم والاضطهاد...

ولکن الصعب ان توفر الدولة جمیع الحریات، والوان السعادة لشعبها، وتضمن لنفسها التقدم والازدهار.

فالحکومة لم توجد لتلوک شعبها بین ماضغیها، فتزداد سمنا وترها، وانما وجدت لتحمی مصالحه وحریاته.

ص:236

ج - اننا لو وازنا بین ما احرزته روسیا فی هذه السنین الاربعین الاخیرة من النجاح والتقدم وما رزقته بلاد الیابان، او المانیا، او امریکا، فی مثل هذه السنین الاربعین، من المکاسب والانتصارات، لرأینا ان روسیا لم تضرب ای رقم قیاسی فی ای مجال، بالنسبة لکل نسمة من السکان.

2 - اذن لماذا تمعن حکومة روسیا فی الدعوة الی الشیوعیة ونعیمها، وتتحمس للدفاع عنها، دون ان تعلن فشلها واستعصائها عن التطبیق؟؟.

والجواب: ان حکام روسیا لا یهدفون من وراء الشیوعیة غیر الاستیلاء العسکری والسیاسی علی اکبر رقعة من العالم، او ربط البلاد بزمام التبعیة لها - علی اقل تقدیر - کی یستطیعوا بذلک من استثمار البلاد الغنیة، واستلاب خیراتها ونعیمها، لیوفروها علی شهواتهم الجشعة الفاجرة، والسیطرة والسیادة منبتا الجائرین المفسدین الذین یریدون علوا فی الارض وفسادا..

والحکومة لو تعلن فشل النظام الشیوعی او الاشتراکی، لما استجاب لها احد، ولما استطاعوا من استعمار البلاد الاخری، لذلک ظلوا محتفظین بعدة من الکلمات والالفاظ کی یستعبدوا بذلک الملایین...

کما ان مبادئ الشیوعیة المارکسیة بائت بالفشل الذریع، ورغم ذلک بقی حکام روسیا متعصبین لمارکس ومبادئه، واستمروا فی المواعید بان الشیوعیة ستطبق، بالرغم من انهم حوروها وزیفوها، ثم القوا بها فی زاویة الاساطیر والاوهام واختلقوا مکانها النظریة الاشتراکیة...

ص:237

کل ذلک لان کل دولة کبیرة لها وسائل، منتزعة من صمیمها تتوسل بها فی استعمار البلاد، والوسیلة التی تبنتها روسیا فی استعمار البلاد هی الوقوف الی جانب الفقراء، وتردید المبادئ المارکسیة، والهتاف بالحریات والحقوق، والتهجم علی الظلم والظالمین، والبورجوازیة والرأسمالیة... لذلک تحافظ علی هذه الجمل والعبارات..

3 -: واذا کان کذلک؟ فلماذا تندفع الجماهیر، وتلبی هذا النداء الکذوب، وتنتشر الفکرة الشیوعیة فی کل مکان، وکیف لا تفضح الدول الرأسمالیة هذه الاکاذیب؟؟.

الجواب: اما الجماهیر التی تندفع تلبیة لهذا الصدی المستطار، فلأنها ناقمة علی حکوماتها، والقوانین السائدة فی بلادها، وهی أبدا تتوقع الخلاص منها، ولو الی أسوأ منها، فتلبی داعی الشیوعیة، عله یزیح عنها هذا الکابوس، الذی طالما رزحت تحته.

ب -: ان الواعین الذین یقودون هذه الجماهیر، أناس نفعیون مأجورون، وانتهازیون محترفون، یعملون فی هذا السبیل لیکسبوا به الرزق ویحصلوا - فی نفس الوقت - علی السلطة والکیان... واما الجماهیر التی لا تعرف شیئا فی العالم غیر الخبز، فتنطلی علیها الحقائق المروعة، الکامنة خلف الوعود والاکاذیب...

ج -: ان الحکومات الرأسمالیة - قبل ان یأتی خروشوف الی الحکم - کانت تعرف صورة باهتة عن الاوضاع السائدة فی روسیا ومستعمراتها ولم تکن

ص:238

تعرف کل الحقائق، فالستار الحدیدی انما نصب لیفصل البلاد الاشتراکیة، عن العالم کله، وحتی لا یستطیع احد ان یتسقط اخبارها مهما بلغت به الحیلة والدهاء. وهکذا کانت الدول الرأسمالیة بعیدة عن اکثر الاوضاع الاشتراکیة، وکانت تعرض تلک الصورة الباهتة - التی عرفتها رغم الستار الحدیدی - علی الناس، ولکنها حیث لم تکن صورة قویة حیة لکل ما هنالک، عجزت عن مقاومة دعایات الشیوعیین..

إضافة علی ان الناس کانوا ینظرون الی الحکومات الرأسمالیة نظرهم الی اعداء الانسانیة والشعوب، فکانوا لا یصدقونها فی شیء مما تقول، وکانوا یظنون انها دعایات مغرضة، یجب ان یغلقوا افهامهم دونها...

ولکن بعدما جاء خروشوف الی الحکم، ونفض فصولا من الستار الحدیدی، وانطلقت الوفود والبعثات، تروح لتحمل الینا الانباء المدهشة الهائلة، وجائنا من روسیا بعض البضائع التافهة، وعدد من الخبراء والاطباء... التافهین، واطلقت الاحزاب الشیوعیة هنا وهناک، لتعرف الشیوعیة والشیوعیین للناس و... اذا بالجماهیر المتفانیة فی سبیل الشیوعیة تنفض عن جفونها الرقاد، وتندفع - فی المرة الثانیة - لتحارب الشیوعیة، کما کانت فی السابق تعمل للشیوعیة لذلک کله نجد الاحزاب الشیوعیة تتسساقط فی کل مکان. حتی لم تبق للشیوعیین خلیة امینة، وانما خسروا الکادحین، واصبحوا مطاردین منبوذین، تطاردهم الشعوب قبل السلطات، ویلاحقهم الخزی والعار، أینما اتجهوا...

ص:239

وهکذا سقطت الاحزاب الشیوعیة - بعدما کانت اقوی من الحکومات المحلیة - فی ایران، ومصر، وسوریا، ولبنان، والعراق، والأردن، وأندنوسیا، والحجاز، وترکیا... وسائر الدول الاسلامیة والرأسمالیة... وسوف تسقط الشیوعیة العالمیة، وتندحر روسیا ومستعمراتها فی یوم قریب... وقریب جداً...

التقریر الأخیر:

یدل جمیع ما سجلناه الی الان علی ان المذهب الاشتراکی مذهب فاشل، لم یطبق الا بقتل الملایین، والسجن والتعذیب والارهاب، ثم لم یستطع ان یعیش الی جانب الحریات والادیان والاخلاق، فصادرها - جمیعا - ولم یتمکن من ان یسیر الناس بحکمة ورزانة وهدوء، فجعل یسوق الناس بعصی القسر والارهاب، ولم یتطوع له الناس فیما یرسم من مخططات واهداف، فالتجیء الی اجبار واکراه الناس حتی علی الاعمال الطبیعیة البسیطة... ومع ذلک کله فشل فی رفع المستوی السیاسی، والاقتصادی الثقافی لروسیا، فظلت متأخرة بکثیر، عن کثیر من البلاد الرأسمالیة... فالنتیجة: ان هذا النظام کالنظام الرأسمالی والشیوعی - فاشل لم یکتب له البقاء!!!..

ص:240

ص:242

مولد الاشتراکیات المبتورة:

وبعدما تمر السفینة علی سطح الماء - بعدة دقائق - توجد مویجات صغیرة علی الضفاف، فتتضارب وتتلاطم، ولا تستطیع ان تفعل شیئا دون ان تعکر نفسها، وتبلل الغادین والرائحین، ولن تمر عدة ثوان حتی تتلاشی وتعود زجاجة الماء الی هدوئها ولمعانها الفتان، وانغامها المتزنة الودیعة...

تلک هی اسطورة المذاهب الاشتراکیة المرتعشة، التی حدثت بعد ثورة اکتوبر:

فبعدما انتشرت دعایات الاشتراکیة فی البلاد الرأسمالیة، استجاب لها الکادحون المضطهدون، فأحدث رجات عنیفة فی الحکم الرأسمالی، وأنذر الحکام بالمصیر المظلم، فالتجئوا الی تلبیة مطالیب الجماهیر، علها تخفف ثورتها الجامحة. هذا من جهة، ومن جهة اخری وجد الحکام: ان النظام الاشتراکی ینفعهم الی حد بعید، لان الاشتراکیة تضع فی ید الدولة جمیع الثروات، وتعبد العمال والفلاحین للحکومة، بصورة اجباریة واسعة النطاق، وذلک ما تتلهف الیها الحکومات...

الاشتراکیة الفاشیة والاشتراکیة النازیة:

لهذین العاملین سارع هتلر النازی فی المانیا، وموسولینی الفاشی فی إیطالیا، الی اختلاق مذاهب اشتراکیة، فالتقطا من اشتراکیة لینین، تلک المواد التی تنسجم مع میولهما واهدافهما، وانتخبا تلک المواد التی تلائم افکارهما واغراضهما بشیء من التحویر والتطویر، فطوراها کما اشتهیا..

ونبذا المواد الاخری، التی لا تلتئم مع اهوائهما ومطامعهما اولا یجداها صالحة للتطبیق..

ص:243

وحیث لم یکن هتلر وموسولینی، واتباعهما وانصارهما، الا من ابناء الرأسمالیة، الذین ورثوا من العقلیة الأوربیة، جمیع اخطائها، ونقاط الضعف فیها... اضف الی ذلک دکتاتوریة هتلر وموسولینی، والفکرة النازیة والفاشیة و...

هذه العناصر کلها تفاعلت فی ادمغة هتلر وموسولینی وزبانیتهما منذ سنین حتی اختمرت وتجسمت... فلما حاول تکوین فکرة اشتراکیة، تناولوا طائفة من الحقائق ومزجوها بکثیر من الغلوا والمبالغة، واستبدلوا کتلة من الاباطیل والخرافات، بمجموعة من الحقائق الاخری، وأقاموا للحیاة البشریة نظاما جدیداً، کان فی الواقع مزیجا مرکبا من عناصر شتی فجمعت کثیرا من اخطاء الرأسمالیة والاشتراکیة معاً..

ورغم سوء المزاج، وفساد الترکیب، الذان انطبعت بهما الاشتراکیة النازیة والفاشیة، کانت بریئة من کثیر من اغلاط الشیوعیة والاشتراکیة فقد رفضوا نظریة الصراع الطبقی فی المجتمع، وقالوا بامکان تأخر طبقات المجتمع. کما نبذوا نظریة لزوم القضاء علی الملکیة الفردیة والطمع فی المنافع الشخصیة وقالوا بوجوب تقریرالملکیة الفردیة والمنفعة الذاتیة.

وایضا حاربوا جملة من الافکار السخیفة التی منیت بها الرأسمالیة، فمثلا، ناقضوا نظریة وجوب اهمال العجزة، فقالوا بلزوم اعالتهم، وانتشالهم من ضائقة الجهل والفقر والمرض، وفی حالات العجز الدائم، یجب اعالتهم حتی یقضی علیهم، لانهم کانوا اعضاء فی المجتمع، فلا نبترهم بمجرد انهم عاجزون.

ص:244

هکذا کانت الاشتراکیة النازیة والفاشیة نقیة من کثیر من الاوهام والاخطاء، فی حین انها کانت ملیئة بشتی الرواسب والاغلاط المخلفة من الانظمة القدیمة والرأسمالیة والاشتراکیة معاً...

واننا لا نستعرض هذین المذهبین، کمالا نستعرض اهتماما لوضع النقاط علی الحروف لانهما مذهبان مغلوطان، ولقد وقفنا علی اخطائهما عند استعراضنا النظام الرأسمالی والاشتراکی، فلا حاجة، ولا مبرر للتکرار... خصوصا بعدما اعلن التاریخ فشل هذین المذهبین، واندحر لغیر عودة...

اشتراکیات هوجاء:

وبعدما انقضی دور الفاشیة والنازیة، اخذت الساسة فی استغلال سذاجة الجماهیر الغریرة، التی کانت تطالب باشتراکیة روسیا فجعلوا یطبقوا فی بلادهم بعض مواد الاشتراکیة، التی کانت تتفق وافکارهم ومصالحهم واهملوا بقیة النظام، وهکذا قضوا علی الحرکات الشیوعیة، التی کانت تستفحل فی بلادهم وفی نفس الوقت، غذوا سیطرتهم الاقتصادیة والسیاسیة بمواد قانونیة جریئة، التی لم یکن فی وسعهم ان یضعوها من قبل.

ولکن اقتصادهم اصبح شیئا مضطربا مضنیاً لا یترکز علی فکرة جامعة. ومن هذا النوع تکون اشتراکیة الهند وبریطانیا، واکثر البلاد الرأسمالیة... لکن هذه الاشتراکیات کلها تدور فی حلقة شاغرة، ولیست من الصحة فی شیء لانها لا تعدوان تکون مرکبة من الرأسمالیة والاشتراکیة ففیها من اخطاء وسیئات الرأسمالیة والاشتراکیة، وهذا یکفی دلالة علی بطلانها، وسیعلن الزمان بعد حین فشلها...

ص:245

ص:246

ص:248

الفرد فی نظر الاسلام:

للأسلام رأی آخر حول مکانة الفرد، یختلف عن فکرة الرأسمالیة ومنطق الشیوعیة والاشتراکیة، لأنه یعرف الفرد موجودا ذا اعتبارین - فی آن واحد -:

1 - صفته کفرد مستقل، له کیان خاص، ومؤهلات معینة.

2 - صفته کعضو فی المجتمع، فهو یلبی حاجاته الفردیة حینا، ویستجیب لعلاقاته الاجتماعیة مرة، فلابد وأن یکون للفرد کیان، وللمجتمع کیان.. طبقان لموازین لا یصطدم احدهما بالآخر... وعلی ضوء ذلک، یرسم الإسلام خطة جدیدة بین المرحلتین، علی حد سواء، ثم لیسیر قدما والی الأمام حیث یأمن العثار.

ویجعل حجر الزاویة للمجتمع: المال والروح... ولیضع الدولة مهیمنة علیها...

وهنا نستعرض بعض النماذج، من شتی ادوار الاقتصاد: التی یسنها بوحی من هذا المبدأ الرشید...:

الملکیة الفردیة:

هنا منبع الاقتصاد.. او مفترق الطرق.. الذی تذهب منه الشیوعیة الی الملکیة الجماعیة.. والرأسمالیة الی الملکیة الفردیة المطلقة.. والاسلام الی الملکیة الفردیة المقیدة.

وقد ذکرنا ما فی الملکیة الفردیة المطلقة من سوء.

ویزعم الاشتراکیون: ان الملکیة الفردیة قارنت الظلم والاستعباد - علی مدار التاریخ - وقبل اکتشاف الزراعة کانت (الفترة الملائکیة) التی رأت مجتمعا

ص:249

فاضلا: یسوده التعاون والتعارف والاخاء.. لذلک لا بد ان نعید تلک الفترة السحیقة، بالغاء الملکیة الفردیة!

وهذا الکلام لا یعرفه التاریخ ولا تقره الصحف السماویة...

وقد قتل (قابیل) (هابیل) فی اولی اسرة تکونت علی وجه الارض وعلم النفس والاجتماع یحکمان: بان نزعة السیطرة الفردیة من الطبائع الفطریة، المرکبة علی الانسان، ویولد بها.. مع اهمال البیئة، وجمیع الظروف المحدقة به من قریب او بعید.. فهذا الادعاء مختلق..! ثم ان هؤلاء یریدون: ان یرجعوا البشریة الی الوراء... الی الوراء. الی البدویة الاولی... الی اول یوم انطلق البشرفیه علی التراب!!

یقرر الاسلام الملکیة الفردیة - بوسائل مشروعة - ثم یصون هذا الحق لصاحبه. ویقطع الایدی المعتدیة علیه.. واثبات الملکیة الفردیة تحقیق للعدالة بین الجهد والجزاء. (من عمل فلنفسه) ومن اهمل فقد خسر نفسه.

ویسایر الفطرة والمیول... ویجاری الاشواق البشریة الحافزة علی العمل، للحصول علی اکبر قدر ممکن من النتاج، فی حین انه یتفق مع المصلحة العامة: باغراء الفرد علی انفاق اقصی مجهوده فی سبیل تنمیة الحیاة والفرد متی علم: انه یعمل لنفسه، والتوفیر علی حاجاته، یندفع نحو العمل بنشاط وانطلاق.. ویختلس من وجبات فراغه وراحته، لیخصص للعمل اوسع فرصة عریضة، ویستنزف طاقاته بانبساط والحاح، ولا یحس انه مسخر للعمل، ولا یشعر بالتعب مهما کد وکدح، ولا یضیره: ان یسامر سریر الالم بعد ذلک.

ص:250

لهذا الهدف النبیل یعترف الاسلام بالملکیة الفردیة، ویضع اصولها المعینة: التی تتیح للمجتمع هاته الفوائد الجسیمة من فرد واحد، دون ان یمس کرامة الاخرین.

ومثل عمل هذا الفرد لا تؤدیه العشرة من المسیرین قسراً وغصباً، لا یملکون ارادتهم، ولا یعرفون احترامهم، وانما هم ادوات میکانیکیة بسیطة فی المعمل.. علی حد تعبیرهم.

نطاق الملکیة الفردیة:

ولکن الإسلام لا یدع الملکیة الفردیة تطغی علی مصالح الجماعة.. فالإسلام إنما یقنن نظام الملکیة الفردیة للمصلحة المشترکة بین الفرد والمجتمع، وتقدم ضرورات الجماعة علی حاجات الفرد عند الاصطدام

فکرة الاسلام عن الملکیة:

تدور فکرة الإسلام عن الملکیة علی نقطة واحدة: هی مبعث التحلیل والتحریم فی منابع الثروة، وهی قانون (تکافؤ الفرص) فالعمل سبب لتنمیة المال...، فلذلک العامل یستحق النماء. وأما عین المال، فبنفسه لا ینمو، والنقود لا تلد النقود، ولو مر علیها ألف سنة، فبم یطالب صاحب رأس المال؟

وبمثال اوضح: دع ملیونا من الدنانیر فی الصندوق.. ماءة عام! هل یزید علیه واحد؟ وضع اطنان القمح والرز والشعیر فی المخازن حتی تبور... لا تنمو نصف مثقال..! ولکن.. تاجر بالدنانیر! ستدر علیک ارباحها! واترک الفلاحین یزرعون الحبوب، ویجتهدون علیها بضع شهور سیحصدونها سبعمائة مثلا!!

ص:251

من وحی هذه الفلسفة الواقعیة یضع الاسلام برنامج اقتصادیاته ویرسم الحدود والقیود للمکاسب! وعلی هذا الضوء یحرم اشیاءاً ویحلل اشیاءاً.!!

المتاجر المحرمة فمنها:

1 - الربا:

عصب الرأسمالیة ودعامتها الراسیة، لأن الربا لا یکون إلا فی المجتمع المضطرب، فیه الثری الذی نقوده أکثر من نفقاته وتجاراته، وفیه المحتاج الذی سدت فی وجهه السبل، فلم یجد منفذاً یرتزق منه أینما اتجه، حتی التجأ إلی المعاملات الربویة بدافع الحاجة والاضطرار، وإن خسر الفائز کل یوم، لکنه کالمقدم علی الانتحار... وهکذا الربا ینمو ویزید أضعافاً مضاعفة، فما هی إلا سنوات حتی تتسرب ثروات هائلة من أنامل الکادحین إلی مخازن المترفین...

وکم نعرف اناساً اقدموا علی الدیون الربویة لترمیم بیوتهم او مصانعهم، ثم عصفت بهم ازمات اقتصادیة: عاقتهم عن اداء الدیون.. وتضاعف الربا عاما بعد عام.. حتی اخذت المصانع والبیوت من ایدیهم.. وضلوا یلفضون حیاتهم فی سلسلة من الحسرات والعبرات!

فهذا الفائض یستمتع به صاحب المال، ابتزازا بتحین ساعة احتیاج الناس. انه العرق والدماء یلغ فیهما بنهم وشراهة، لا لشیء الا لانه صاحب المال.. والاسلام الذی یقدس العمل، ویجعله السبب الاساسی للربح، لا یعترف بهکذا اموال... ولا یعرفها الا سرقة قانونیة.. لان المال بنفسه لا یولد المال، وانما الجهد والعمل یحصلان علی الفائدة.. فیجب ان تعود غلة الجهد لصاحب الجهد، وان یعود المال مفردا لصاحب المال..

ص:252

وهناک الخطر الجاثم خلف اباحة الربا، هو: تمهید الوسائل لتضخم رؤوس الاموال، بلا جهد وکفاح فی سبیله! وتکاثر الفقر والفقراء... ومعنی ذلک: توزیع المجتمع طبقتین متباعدتین: طائفة من المترفین البطالین یعتمدون علی الربا فی تنمیة اموالهم بلا حساب... وفرقة الکادحین المتسولین یقترضون بالربا - فی ساعة العسرة - ثم یعوزهم الاداء... فیصبح المجتمع اشبه بکفتی المیزان: تعلو الطبقة المترهلة الفاجرة، کلما یشیع الفقر ویزداد الفقراء..

الترف الحرام:

ومتی تأمرون المترفون.. فهم - بطبیعة الحال - یسوقون الاجتماع الی الهلاک والتدمیر... فالمترفون ینضب الایمان والضمیر فی قلوبهم، وتعلوهم الغلواء والغلظة، والاندفاع الهائج، والوقاحة المائعة.

فالطاقة الفائضة لا بد لها من متصرف.. والمترفون والمترفات یجدون رزمة من الطاقات تتلاطم لتفیض: طاقة الشباب. طاقة الفراغ. طاقة المال. ویعرفون مصارفها فی حیاتهم الرخوة الناعمة.. وفی متاعهم المستهتر الداعر... وهم محتاجون الی حاشیة وبطانیة ترضخ لسخافاتهم واوهامهم الشاذة، وتتحمل خرافاتهم واساطیرهم البالیة، وتشترک معهم فی اللهو القذر.. فتجتمع کتلة آسنة، من الامعات العفنة، والمستغلین والمهرجین، والذیول والحواشی، والحشاشة وتجار الرقیق... ینشرون الدعارة والترهل، ویرخصون قیم الحیاة الجادة: التی لا تروق للمترفین والمترفات... والی جنب هؤلاء القصر المجنح الذی یرف علی المزارع والحقول... والضیاء الصفراء الضحوک، تتنزی من

ص:253

عیون الشرفات والزجاج. والاغراء الحاسم الخلاق... وعلی الضفة الاخری الحطام الآدمی الهزیل، الضحل المتهافت، ومن لا طمع له فی القرص، ولا عهد له بالشبع لا تخشی بوادره، ولا ترهب سطواته...

او فی مثل هؤلاء من یستطیع: ان لا یحشر فی فخاج الفجور... الا الابطال والقدسیون.. وما اکثر الناس - ولو حرصت - بابطال او قدیسین!!!

کذلک یستفحل الداء فی مرافق الحیاة.!. ثم تکون عاقبة ذلک شیوع الفاحشة فی الامة.. وانتشار الاباحیة والفوضی... وخواء الضمائر والاجسام والعقول...

تلک هی فکرة الاسلام عن الربا.. تبدء فردیة، ثم تصبح جماعیة وکل هاته المظالم تکون.. ومشارها الربا!.

وهناک فلسفة ثالثة لتحریم الربا، هی: ان الربا یوهن علاقات الافراد، بعضها مع بعض، وتقطع الاواصر والصلات العذبة: فان من یعطیک دینارا لیأخذ منک - بعد ستة اشهر - دینارین هو عدوک، وانت عدوه: لا تجمعکما الاخوة الاسلامیة، وروح التعاون والتعاضد: التی بنی علیها الاسلام...

وبالاخوة یفشی التباغض والتکاید، التحاسد: التی تنتهی بالانتفاضات الدامیة... ویعتبر الناس روادها ابطالا، وحملة مشاعل الانسانیة فی دروب الحیاة..

لذلک یحرم الاسلام الربا.. ویبالغ فی تحریمه. حتی لعن النبی صلی الله علیه وآله آکل الربا، ومؤکله.

ص:254

وکاتبه، وشاهدیه، وقال صلی الله علیه وآله: هم سواء! ویأمر بتبادل القروض الاهلیة بلا فائدة.. لتنمی - فی المجتمع - المودة والمروءة والتضامن، بین الجماعة: غنیها وفقیرها، وعالیها وسافلها .!!

استحباب الزیادة:

ولکن ثمة حقیقة لا تغفلها نظرات الاسلام، العمیقة الثاقبة.. وهی ان نفس المال اذا بقی عند صاحبه، ولم یقترضه احد، لتاجر به وربح.. ولکن عندما یقرضه للناس، لا یستطیع ان یستفید من ماله هذا، لا بالمعاملة ولا بالربا.. وذلک یوجب تجمید المال، وشلل الثروة - بالنسبة لمالکها - عندما ینتفع بها الاخرون، وکذلک تقل الرغبات.. وینقطع الجمیع عن اعطاء الدیون!

لذلک وازن الاسلام مصلحة المقرض بمصلحة المقترض.. فعندما یکون المقترض فقیرا، یقتضی التکافل الاسلامی: ان یکف الغنی عن الربح قلیلا - لامداد حیاة الفقیر... واذا کانا غنیین قدم مصلحة صاحب المال فکان من المستحب علی المقترض - عندما یؤدی الدین - ان یضیف الیه شیئا من المال تبرعا، دون تبان علیه من اول الامر. لئلا یفوت صاحب المال الربح.. فیکره الدیون بعدئذ.

وکذلک الاسلام راعی حق الجانبین، باسلوبه الرفیع الحکیم دون ایما محاباة او استئثار.

ص:255

محاولة فاشلة:

وحاول فریق اطلاق الربا فی بعض الوانه، فقالوا: ینقسم الربا نوعین: 1 - ربا الاستهلاک. وهی: الدیون الشعبیة، التی یأخذ الفقراء لسد حاجاتهم الفردیة، من تکالیف الغذاء... الکساء... الدواء.

1 - ربا الانتاج، وهو القروض التی تستوفی للاغراض التجاریة البحتة.

وقالوا: ان الربا المحرم فی الاسلام هو ربا الاستهلاک لا ربا الانتاج وذلک منطق لا یلائم نصوص القرآن المطلقة:«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِیَ مِنَ الرِّبا» .(1)

«لا تَأْکُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ» .(2)

«وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا» .(3)

ولا تعتبره فلسفة الاسلام حول فائض المال.. (فالغنم لمن علیه الغرم). ومالم یشترک صاحب المال مع المدیون فی الغرامات لا یشترک معه فی الانتاج. وان اشترکا - معا - فی الخسائر والارباح، فتلک شرکة ولیس من الربا فی شیء.

وایضا. فالفائدة حصیلة الجهد والعمل.. لا المال الذی یستدینه، فلیس لصاحب المال فی المنفعة نصیب!

ص:256

تلک هی: نظرة عجلی - علی الفقه الاسلامی - حول الربا. وسنلقی نظرة اخری علی الربا، فی افکار العظماء والدساتیر غیر الاسلامیة!

للضعفاء:

الذین لم یحیطوا بفکرة الاسلام القویمة الشاملة، عن الکون والحیاة والانسان... فراحوا ینتصروا للاسلام بالعلم الحدیث، وآراء العظماء... اما نحن فنستغنی بوثوقنا بروح الاسلام المعصومة - فی اتجاهاته وتوجیهاته - عن الاستنجاد له بغیره... فلا نزداد اطمئنانا اذا وافقه.. ولا نضطرب اذا ما خالفه!!

مع القوانین والعظماء:

1 - کان القانون الرومانی یبیح الفائز... فجائت الکنیسة الکاثولیکیة فحرمته تحریما صارما لانه أکل لاموال الکادحین بالباطل!

ولقد کانت (التوراة) و (الانجیل) یحرمانه من قبل. ثم نقل فقهاء القانون الفرنسی: هذا التحریم وعللوه بسبب اقتبسوه عن (ارسطو) هو: ان النقود لا تلد النقود فتکون المطالبة بفائدة عن النقود ضد طبائع الاشیاء.

فی مصر من عهد الاسرة الفرعونیة الثالثة سنة 2980 ق. م. لم تعهد القروض الربویة.. الا فی عهد الانحطاط الثانی، فی الفترة الواقعة بین 1200-663 ق. م. فدخلت الفائدة القانون المصری منقولة عن (الکلدان).

2 - یقول علماء التشریع الحدیث: ان اثر ما تقدم علی القانون یبدو فی تحدید سعر الفائدة.

ص:257

کارل مارکس: ان الربا واحد من مظاهر اللصوصیة، التی تسلکها الرأسمالیة فی سلب حقوق الطبقات العاملة.

البنوک:

لقد نشأت المجتمعات الیوم، علی فکرة الرأسمالیة، فی جمیع مرافق الحیاة.! فصاحب المال لا تسخو نشأته باقراض المحتاج لقضاء حاجته. والحاجة تلح علی الفقیر فلا بد من سدها ولو بالربا... وهکذا وجدت: المصارف (البنوک) للتعامل بالربا وتامین حاجات الناس من هذا الطریق الحرام.. والتجار الذین لهم حریة الاستغلال: بالغش والقمار والاحتکار والربا دون رقابة من دولة، او تقیید من قانون، یرون من الضروریات البدائیة وجود المصارف (البنوک) لاشباع نهمهم الملتهب الضاری..!

والاسلام لا یعرف مجتمعا یلتجئ الی الربا فی یوم من الایام.! بل یرسم المجتمع علی لحن: یتحامی الربا بطبیعته، ویعرفه شرا وفتنة، للفقراء والاغنیاء سواء بسواء.

لان المحتاجون الی الدیون ثلاثة انواع: المحتاجون الی قوتهم الیومی. المحتاجون الی العمل. المحتاجون الی التجارة والاستیراد... والاسلام یضمن لهؤلاء جمیعا: تأمین کفاءاتهم..

اما الصنف الاول: وهم المحتاجون الی العیش والحیاة، فبیت المال یدر علیهم ارزاقهم، فی صور رواتب رسمیة او غیر رسمیة..!

ص:258

واما الصنف الثانی: وهم المحتاجون الی العمل، فالاسلام مسؤول عن ایجاد اعمال شریفة لهم، تلیق بکرامتهم، وتلائم قواهم الجسدیة!؟

واما الصنف الثالث: وهم المحتاجون الی اموال طائلة، لتوسعة نطاق التجارة والاستیراد..! فالاسلام فتح امامهم باب...

القرض:

بکلتا مصراعیه.! یستعرض الاموال المتخمة - فی هذا الطریق - وحیث یحرص بعض النفوس علی بقاء اموالهم المتجمدة فی مخادعها..!

ونجد حرجا فی انفاقها للقروض، ومشقة فی تفتیت ثرواتهم فی ایدی الناس وفی الناس - ابدا - مماطلون وسلابون... ثم لیست التجارة مضمونة النجاح دائما، فربما تخسر الصفقة، او تصیب السلعة بآفة سماویة، او ارضیة، ویبقی صاحب المال یقلب کفیه علی ما انفق فیها، ویذهب الدین هباءا.!! لذلک کله یری الاغنیاء: ان الافضل ان یبقوا علی اموالهم جامدة: لا یرهبون الضرر ولا یهابون الخسران... وکذلک یقفل سبیل المعروف، وتتبخر الدیون فی المجتمع!

ولئن یطمئن الاسلام اصحاب المال من هذه الحوادث یتبادر: اولا: الی بیان ما فی القرض من ثواب..: حتی ان الملائکة لتصلی علی المقرض ما دام ماله فی القرض کما یقول النبی الاکرم صلی الله علیه وآله:

«من اقرض مؤمنا قرضا ینظر به میسوره، کان ماله فی زکاة.. وکان هو فی صلوة من الملائکة، حتی یؤدیه...».

ص:259

ویزید الامام الصادق علیه السلام قائلاً:«القرض الواحد بثمانیة عشر.. وان مات حسبتها من الزکاة!!».

الی حیث یبلغ القرآن.. فیعتبر من اقرض المسلمین فقد اقرض الله.. حیث یقول:«مَنْ ذَا الَّذِی یُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَیُضاعِفَهُ لَهُ!؟؟1» .

فمن ذا الذی یرضی: ان یکدس امواله ولا یقرضها المسلمین!؟

وثانیا: یفرض الاسلام علی المدین: ان یجتهد فی قضاء دینه - تمکینا للثقة بین العباد -: (من اخذ اموال الناس یرید ادائها ادی الله عنه! ومن اخذها یرید اتلافه اتلفه الله!!).

فمن یحاول اداء الدین یجد ویکدح والمجد الصادق ینال هدفه - غالبا - اما المماطل: الذی استمرأ البطالة، والعیش علی فضلات الناس!

فمن الطبیعی ان یسترخی همته.! وحتما لا یجد ما یقضی به دینه، الا فی الاحوال الشاذة: التی لا تنفع الا للاحلام. والاسلام لم یکن یوما من الحالمین.! ولا یعلق فرائضه علی النوادر.. فالاسلام لا یعتبر هکذا رجل الا سارقا! ولقد قال الامام الصادق علیه السلام:» ایما رجل اتی رجلا فاستقرض منه مالا، وفی نیته: ان لا یؤدیه، فذلک اللص العادی.. «.

واداء الدین مقدمة - فی حکمة الاسلام - علی سائر الحاجات.! وقد سئل (سماعة) جعفر بن محمد الصادق علیه السلام: الرجل منا عنده الشیء یبتلغ به وعلیه

ص:260

دین!! أیطعمه عیاله حتی یأتیه الله بمیسرة... او یقبل الصدقة؟؟

فقال علیه السلام:«یقضی مما عنده دینه! ولا یأکل اموال الناس الا وعنده ما یؤدی حقوقهم»!!

ان الله تبارک وتعالی یقول:«لا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَکُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» ..!.

اما اذا لم یستطیع المدین من اداء دینه، او مات او قتل، فالاسلام یتکفل قضاء دینه! و یقدر له حصة من الزکاة:«إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ...» «وَ الْغارِمِینَ...» .(1)

وکان رسول الله صلی الله علیه وآله یقول فی خطبه:«... من ترک ضیاعا فعلی ضیاعه..! ومن ترک دینا فعلی دینه»!.

هکذا الاسلام یعالج مشکلة الربا، وحاجة المجتمع الی المصارف: (البنوک) ولکن الاسلام یحمی.

البنوک الاسلامیة:

التی یودعها الناس اموالهم الفینة بعدالفینة، من الحین الی الحین، لتکون اعتبارا لهم فی الاسواق العالمیة..! ولیاخذوا من اموالهم ما شاؤا ومتی شاؤا!؟؟ دون ان یکلفوا المحافظة علیها بأنفسهم..!

وفی نفس الوقت یقوم صاحب المصرف بالتجارة والاستیراد! بهذه الاموال

ص:261

مع الاذن من اربابها..! وهذه منفعة لها مکانتها الاجتماعیة! فیقتصر علیها صاحب المال المصرف!

هکذا یقرر الاسلام البنوک! اما بنوک الیوم فأنها اوتاد الراسمالیة ولا یعرفها الاسلام ابدا..!

ب - المکاسب الحمراء:

وکذلک للاسلام فلسفة عامة: تعتبر الحد الفاصل بین المکاسب الفاجرة، والمتاجر الشرعیة المباحة، هی: ان الاجزاء بلا عمل ولا جزاء علی الحرام والواجب.. وعلی طبق هذا النظام نرسم ثلاثة نقاط، مع محاولة التبسیط والاختزال!

ص:262

ص:264

الغش:

یؤکد الاسلام فی تحریمه... ویفاتح الطریق الی انتزاعه عن المجتمع والغائه عن الاسواق، بجمل تؤلم العواطف والنفوس: (من غش الناس فلیس بمسلم!)، «من غش فلیس منا».

«.. من غش غُش فی ماله» «من غش نزع برکة رزقه، وضیق علی معیشته، ووکله الله الی نفسه..».

والغش من عوامل الراسمالیة: الذی یمتص دماء الالوف من الشعب، دون ان یعمل شیئا، او یضحی بشیء من قواه، انما سلعته الدهاء والخداع، ینشر فخاخه والناس یتسابقون الیها، باقدام لاهثة متعطشة، ثم الغش یصیب النفوس، اکثر مما یضر بالمال، فمن غش یمقت الغاش! ولا تنسیه السنین... وهو مما ینم عن قذارة النفس، ودنائة الفطرة، ویبعث علی التباغض، فالتشاجر، فالتناحر علی اللاشیء، وذلک مما یحاربه الاسلام بمجموعة رسالته، فی صمود وانطلاق!.. ولیس الغش باکثر من سرقة نظامیة.. بید انه اعمق جرحا، واسوء اثرا..

السرقة:

التی هی اهم ما یکف الانسان عن العمل..! فالرجل ما لم یؤمن بان مجهوده سیحفظ له لا یجد من نفسه رغبة ساحقة، علی المثابرة والتجلد فی سبیل الانتاج! لذلک یحرص الاسلام علی حمایة الحقوق بقسوة عادلة.. فیقطع ید السارق، عبرة للاخرین، واستنکار الثمرة علی جهود الکادحین وکان فی وسع السارق: ان یجتهد ویعمل لیحصل علی نفس الانتاج من الطرق المشروعة النظامیة!

وفی السرقة اهدار للکرامات والدماء: فالسارق الذی یتسلق الجدران - فی

ص:265

سدف الظلام - لینهب مصفی اعمال السنین القاسیة، لا یجد من نفسه حرجا فی ان ینعطف علی اعراض الناس. مهما ارخی له الموقف - وصاحب الدار سوف لا یقف مکتوف الایدی تجاه اعتدائاته القذرة.. ولا ینکشف النضال الا عن سابح فی الدماء!!

فالافضل ان یمنع الاسلام عن السرقة، ولو بقطع الایدی... ویسرنی: ان اسجل هاته النکتة التاریخیة: ان الاسلام منع من السرقة، ولم یقطع الا ست ایدی - فی زمان طویل -.

2 - الجزاء علی الحرام:

فکرة الحرام:

لم یحرم الاسلام شیئا من منابع الرزق الا واضراره الاجتماعیة، تربو علی منفعته الفردیة.. وبمقتضی العدالة الاجتماعیة، والتوازن الدقیق بین المفاسد والمنافع حرم الاتجار به..!

والاسلام لم یکن یوما من الطواغیت الجافة: التی لا تؤمن الا بأتجاهاتها وتسحق کل ما سواها...

فهو یعترف بما فی المحرمات من لهو واغراء! ولکن عندما یقایسها بفجورها الفائض یحکم: بتحریمها. وهو واثق من عدالة حکمه...

ویضع القرآن نفس الحجة امام الناس، لیطیعوه رغبة وطواعیة (یسئلونک عن الخمر والمیسر.! قل فیهما اثم کبیر.! ومنافع للناس وأثمهما اکبر من نفعهما!).

ص:266

الاکتساب بالحرام:

بهذه الحکمة الرائعة، حرم الاتجار بکل عمل محرم: یضربه غیره او یجلب تدهورا خلقیا او مادیا للمجتمع.

وبموجب هذا النظام یحرم: امتهان الخمر وسائر المسکرات. وتعاطی القمار والمیسر. واوراق الیانصیب والبغاء والرقص والغناء والسحر وبیع کتب الضلال والوحوش والحشرات والمیتة والدم ولحم الخنزیر والعذرة واجهزة الغناء وآلات القمار والمجسمات وحلق اللحی وکل محرم فی الشریعة الاسلامیة.

3 - الجزاء علی الفرائض:

لا تعلق الواجبات:

لا یفرض الاسلام شیئا علی المجتمع، ما لم تکن فیه مصلحة ملحة وهو یحاول عتق الرقاب من الالزامات والفرائض، اما وحیث علم ان هنالک اشیاء لا بد منها فی تنظیم الاجتماع واسعاد الناس فلا بد من ایجابها والعقوبة علی ترکها.. ولا بد من الاتیان بها طوعا: من دون اکراه واجور... ولا یغرق الاسلام فی الاحلام. ولا یعلق الواجبات علی النیات الخیرة، والنزعات الدینیة!!

فمن یضمن للاسلام ان یوجد دائما وفی کل مکان من یدفعون الاجرة ویستأجرون الناس للقیام بالضرورات: التی لولاها یضطرب النظام؟ وهکذا یحرم الجزاء علی الفرائض!

سواء أکانت من الواجبات العینیة التی تجب علی کل فرد فرد، باصل الشریعة الاسلامیة، من امثال: الصلوة، الصیام، الحج... ام من الواجبات

ص:267

الکفائیة: التی تسقط عن الجمیع بقیام الفرد بها: کغسل المیت، وکفنه، ودفنه،... ومنها:

الرشوة

فانها اجرة علی بیان الحکم الواقعی للقاضی.! وتلک محرمة یعاقب علیها الاسلام.. فالقاضی یاخذ علی وظیفته - من الرواتب المعینة او غیر المعینة - ما یکفیه!

فلیس له فوق ذلک الطمع، فی مال الناس لبیان حکم الله الواقعی!!

هذا اذا کانت الرشوة فی اجراء اصل الاحکام الواقعیة! اما اذا اخذها الحاکم علی الحکم بالباطل، فذلک کما قال رسول الله صلی الله علیه وآله «الراشی والمرتشی کلاهما فی النار».. وینتهی المقام بامیر المؤمنین علیه السلام الی حیث یقول: «... وان اخذ هدیة کان غلواً، وان اخذ رشوة فهو شرک».

اما الرشوة التی تعطیها الافراد کل موضع قدم، علی الاجازة والتوقیع والموافقة، فهی اکبر ذنبا واشد عقوبة..

الاحتکار:

هو من عناصر الرأسمالیة الفاجرة... ویحاربه الاسلام منذ البدایة حتی النهایة..! واذا کان الناس عباد الله، ومنافع الارض مسخرة لهم، فما بال المحتکر یوصد ابواب الرزق فی وجوههم، ویکلفهم العنت والشقاء، کالاسد العبوس! تتلاطم خلفه البحار، وامامه الفیافی الظامئة، ترفع الشکاوی الی الله!.

ولقد کانت غضبة الاسلام علی المحتکر عاصفة: لا تسمح له بالغفران حتی

ص:268

قال النبی صلی الله علیه وآله:«ایما اشتری طعاما فحبسه اربعین صباحا، یرید به الغلاء للمسلمین. ثم باعه، وتصدق بثمنه، لم یکن کفارة لما صنع»!

ولقد قال الامام الصادق علیه السلام:«الحکرة فی الخصب اربعون یوما، وفی الغلاء والشدة ثلاثة ایام... فما زاد علی الاربعین یوما فی الخصب، فصاحبه ملعون..! وما زاد فی العشرة علی ثلاثة ایام فملعون»..!.

وعن النبی صلی الله علیه وآله عن جبرئیل قال:«اطلعت علی الناس فرأیت وادیا فی جهنم یغلی، فقلت: یا مالک لمن هذا؟ قال: لثلاثة: المحتکرین والمدمنین للخمر، والقوادین»!

هذا هو المحتکر: الذی یقفل الموارد العامة، لیسلط علی الفقراء قسوته الخشناء، ویسعر لهم تسعیرا جائرا: لا یعرف المروءة والضمیر! وکان بعض المحتکرین - فی الحرب العالمیة الثانیة - یغرقون السکر فی البحر ویدفنون اطنان القند تحت التراب، او یحرقون القمح والشعیر... لیضخموا بذلک اموال الحرام..! عندما الناس کانوا یشربون الشای مع التمر، ویتنازعون الخبز!! ولقد قرر الاسلام اکراه المحتکرین، علی تعریض البضائع للبیع بالاثمان العادلة المرفهة!

وفی کتاب امیر المؤمنین علیه السلام الی مالک الاشتر - والیه علی مصر -:«فامنع من الاحتکار! فان رسول الله صلی الله علیه وآله منع منه. ولیکن البیع بیعا سمحا - فی موازین عدل -: لا یجحف بالفریقین: البایع والمبتاع! فمن قارف حکرة بعد نهیک ایاه، فنکل به، وعاقب فی غیر اسراف»!!.

ص:269

وذهب بعض الفقهاء الی التسعیر الاجباری علی المحتکرین، متی اسرفوا فی الثمن!

الامتیازات:

ومن نوع الاحتکار البغیض، الامتیازات السائدة: التی یتولیها بعض التجار او الدول.! فلا حق لغیرهم: ان یشتری تلک السلعة من منابعها... ولا ان یشتری احد من سواهم! فیشترون الخامات من المنتجین باثمان زهیدة! ویبیعونها الی المستهلکین باسعار غالیة! ویتحتم علی السلطات الحاکمة ان تحافظ هاته الحقوق المختلفة..

من هنا تنشأ ثلاث مشاکل: فسدت الارض وما علیها، الفقر فی جمیع الطبقات الرأسمالیة. الاستعمار..

1 - اما الفقر.. فلأن المنتجین لتلک السلع لا بد لهم وان یبیعوها من صاحب الامتیاز، بثمن بخس ضئیل: لا تسد حاجاتهم الاساسیة..! والمستهلکون لا محیص لهم من شرائها من صاحب الامتیاز فقط - دون المنتجین - بای ثمن یقدره لها..! وسائر التجار لا حق لهم فی معاطاة هذه الموارد: التی هی عمدة الانتاج والاستهلاک. الا باجازة موقته من صاحب الامتیاز، وتلک الاجازة تکلف اکثر من الربح.. وکذلک یخشی الفقر فی الطبقات الثلاث: المنتجین، المستهلکین، التجار، وهم عامة الناس، فشاع الفقر!.

2 - واما الرأسمالیة... فلأن اصحاب الامتیاز، یکرسون حیاة الناس فی ثروتهم الفاجرة ویمتصون دماء الشعوب للتوفیر علی خزائنهم الموقرة بالفضة والنضار! وتلک هی الرأسمالیة الشائنة: التی یرزح تحت کابوسها

ص:270

العالم المتحضر فی قرن العشرین.

3 - واما الاستعمار.. فلأن المستهلکین لا یستطیعون من استهلاک مجموع الانتاج، مادامت الاسعار رفیعة: لا ینالها الجمیع الا بقناعة مقترة! فتبقی الشرکات متخمة الخزائن، والمعامل تخب فی الفائض ولا نجد لها مصرفا!! فلا بد لاصحاب الشرکات من ان تطلب لها مصارف، فی غیر بلدانها وتبحث عن اسواق جدیدة: ترغب فی بضائعها. فیکون التنافس علی الاسواق.. وحیث ان اصحاب الامتیازات عملوا فی سبیل ارتفاع الاسعار، لا لاجل اسفافها. فهم لا یرضون بالتجارة الحرة والتناقص فالدول الکبیرة تحاول: ان تحتکر الدول الصغیرة، لتستورد الحاجات منها لا من غیرها.. ویکون بعد ذلک من التناطح علی الاستغلال، الحروب الباردة ما تنتهی باطلاق الصواریخ، وانتشار القنابل، فالقضاء علی البشر المسکین.. وذلک هو الاستعمار...! هذا هو الاحتکار.! وهذه نتائجه الثلاث: الفقر، الرأسمالیة، الاستعمار...! فلا غرو اذا رأینا الاسلام یندد بالمحتکرین، تندیداً قاصفا، وتعصف بهم غضباته النکراء، فلا تبقی ولا تذر.. ویصرخ النبی صلی الله علیه وآله فی وجوههم «من احتکر طعاما اربعین یوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه»!

من دخل فی شیء من اسعار المسلمین کان حقا علی الله: ان یقعده بعظم من النار یوم القیامة ولیس من حکمة الاسلام ان یکتفی بالالفاظ والوعود، ثم یسبح فی الاحلام ودیع البال، دون ان ینزل فی المیدان، لیعالج المشاکل عملیا ولهذا یضع - بعد ذلک کله - قانون:

ص:271

الملکیة العامة:

وهی: ان الاسلام لا یدع التجار یستأثرون بخیرات الارض ویحتکرون منابع الثروة العامة، وخلفهم الشعب یقاسی الالم والحرمان بل الموارد العامة جمیعها ملک مشاع للجمیع.. وقد قال النبی صلی الله علیه وآله:«المسلمون شرکاء فی ثلاث: فی الماء. والکلاء. والنار». وفی خبر «الماء والملح والنار» ومن اختلاف الخبرین فی تعداد المواد المشاعة نکشف ان النبی صلی الله علیه وآله لم یختصر شرکة العامة، فی تلک الثلاثة او الاربعة! وانما کانت تلک موارد کلام النبی صلی الله علیه وآله لانها فقط کانت الحاجات الرئیسیة، للبیئة العربیة: التی ترعرع فیها الاسلام..! کما یدلنا علی ذلک ذکر (المسلمین) فقط فی الحدیث مع ان الناس جمیعا شرکاء فی هذه الثلاثة، او الاربعة بدلیل: ان النبی صلی الله علیه وآله نفسه، وامیر المؤمنین علیه السلام، اباحا الماء - وقد کان فی حوزتهما لجیوش المخالفین... فتلک حجة اشتراک الناس فی الحاجات العامة... حتی ولو کان النبی صلی الله علیه وآله الیوم لضم الیها: خیرات البحار والغابات. والجبال والفضاء. والکهرباء. والنفط. والغاز...

الحمی:

وبموجب هذا النظام حرم الاسلام الحمی! واصل الحمی: ان العرب اذا نزلوا منزلا مخصبا، ارسل رئیسهم کلبا علی ربوة من الارض، واستعواه فالی حیث یخمد صوته فهو حماه: لا یرعی فیه غیره، وهو یرعی فی مرائع القوم!! وجاء الاسلام فاکتسحه فیما اکتسحه، من تقالید الفراعنة، وسنن الطواغیت، وقال:«لا حمی الا لله ولرسوله..».

فحمی رسول الله صلی الله علیه وآله (النقیع): - مروج علی بعد عشرین فرسخا من

ص:272

المدینة للخیل خیل المسلمین..!

ولقد کان هذا الناموس مقدسا، حتی ارتمی عثمان علی فیصلة الحکم فحمی لنفسه دون ابل الصدقة، کما فی (انساب) البلاذر: 37\5. و (السیرة الحلبیة): 87\2.. والحکم بن ابی العاص! کما فی روایة الواقدی..! ولبنی امیة کلهم! کما فی شرح (ابن ابی الحدید): 67\1 حتی نقمت علیه هذه الفلته.! وقالت عائشة: انا عتبنا علیه... وموضع الغمامة المحمات!.. هذا هو الاسلام... وهذ دساتیره... یمنع من اکل اموال الناس بالباطل.. ومن الجدیر بنا ان لا نغفل: ان الرأسمالیة لا تنشأ الا فی هذه المراحل السالفة.

ص:273

ص:274

أَمْسَکْنَ عَلَیْکُمْ وَ اذْکُرُوا اسْمَ اللّهِ!1»

والصید هو الوسیلة البدائیة فی حیاة البشر.. ولکنها لا تزال من الموارد الضخمة للدول والافراد!

2 - احیاء الموات:

من القفار التی لم یسبق الیها مالک... او سبق ثم اعرض... حتی صارت مواتا، لقول النبی الاکبر صلی الله علیه وآله:«عادی الارض لله ولرسوله، ثم لکم من بعد... فمن احیا ارضا میتة فهی له..! ولیس لمحتجر حق ابد ثلاث سنوات».«من سبق الی مالم یسبق الیه مسلم فهو احق به».

اما القانون الفرنسی الذی یقرر (ان من وضع یده علی الموات لمدة خمسة عشرة سنة تصبح الارض ملکا له، سواء احیاها ام ترکها مواتا...) فهو مخالف لحکمة احیاء الموات، لان فی وسع تجار النفوس: ان یضعوا اصابعهم علی جمیع الاراضی.. ویبقی الفقیر یطالب شبرا من الارض لموضع قبره، ولا یجده!

3 - استخراج المعادن والرکاز:

من بطون الار ض والاودیة، والآجام... ولا فرق بین ان یکون من الموارد العامة: کالبترول الحدید النیکل. الفحم. الزجاج. البلور. الذهب. الفضة. الرصاص الفافون الصفر الکبریت او کان من غیر الحاجات العامة: من المعادن القلیلة: کتلة من الذهب الفضة الدر الیاقوت الزبرجد الفیروزج الالماس.. وکل ما یستخرج من طبقات الارض فی الحفریات..

ص:276

ویلحق بهذا کل ما یخرج من الماء: الاملاح الماء الثقیل... او یتصید من الهواء الاوکسجین الایدروجین الغازات الخانقة والباکیة... او تجلب من الشمس: الطاقة الذریة الضیاء التی تشربها الاحجار الکریمة والمواشیر.

4 - المضاربة:

هی: ان یشترک اثنان فی تجارة.. ویکون من احدهما المال، ومن الاخر الید.. ثم لیوزع الربح بینهما علی حسب ما یتراضیان علیه، وتوحیه الظروف القائمة انذاک.. کالثلث، او النصف او الثلثان او ازید او اقل وقد حرض الاسلام علی هذا النوع من الشرکة - تشغیلا للاموال الجامدة والایدی العاطلة - واکد علی محافظة الامانة، والرفق واللین، وتجنب الخیانة. فقال النبی الاعظم صلی الله علیه وآله:«ید الله علی الشریکین ما لم یتخاونا».

(یقول الله تعالی: انا ثالث الشریکین ما لم یخن احدهما صاحبه.! فان خان احدهما صاحبه خرجت من بینهما).

5 - الزراعة والمساقات:

هی: ان یستأجر صاحب البستان او المزرعة عاملا، یقوم بجمیع الخدمات اللازمة للزرع او الشجر ویدفع المالک: البذر والبقر وسائر الحاجات... ثم یکون الثمر او الحصیل مشاعا بینهما... علی حسب ما اتفقا علیه: ربعا. ثلثا. نصفا..!

6 - العمل باجر:

ومن المرابح الشرعیة: ان یعمل الانسان لغیر - العمل الحلال - ویستقضی بذلک اجرة معینة... ولا فرق فی ذلک بین الوظائف المستمرة: کعمال المصانع والمطابع والمناجم.. والمتقطعة: کالاستخدامات الیومیة الموقفة..! ویشترط فی

ص:277

صحة الاجارة - ان تکون مدة العمل ومقدار الانتاج. والاجرة معلومة من ابتداء التبانی...

وهنا یتقدم الاسلام - لمنع الخصام بین الاجیر والمستأجر - فیضع نقطتین:

1 - ان یوفر العامل لنشاطه، ویستفرغ جهوده مدة العمل، بدقة واتقان، ولیسبق فرصة العمل، وینتهی بعد انتهائها.. وبدأب فی برنامجه المرسوم دون تله بالمهازل والمغریات, والقصص والاساطیر او ابداء الکسل والضجر... وذلک ما یکرهه الاسلام، ویعد علیه الفقر والذلة - فی الدنیا والاخرة - یقول الامام الباقر علیه السلام:«انی اکره للرجل ان یکون کسلانا عن امر دنیاه. ومن کسل عن امر دنیاه فهو عن امر اخرته اکسل». ولقد قال امیر المؤمنین علیه السلام:«ان الاشیاء لما ازدوجت ازدوج الکسل والعجز، فنتجا بینهما الفقر...».

ب - الاهتمام بشأن الاجیر فلا تضیع اجرته! یقول النبی العادل صلی الله علیه وآله:«قال الله عز وجل: ثلاثة انا خصمهم یوم القیامة... ورجل استأجر اجیرا، فاستوفی منه ولم یعطه اجره». ولا یکتفی الاسلام باداء الاجر کاملا، حتی یأمر بادائه عاجلا، ویسارع فی التعجیل، حتی یقول نبی الحیاة:«اعطوا الاجیر حقه قبل ان یجف عرقه» فالاجیر محتاج الی المال ومحتاج الی تقدیر عمله.. وفی حصول الاجرة قبل ان یجف عرقه شعور بتقدیس العامل، وحرص علی کرامته.

والاسلام بتلک التعالیم الانسانیة، استنفد طاقات العمال برغبة نادرة مع المحافظة الکاملة علی حقوق الکادحین وارباب العمل.

ص:278

7 - الهدایا والهبات:

التی یتعاطاها الافراد.. دون عوض من جهد او مال..! وذلک ان الاسلام احب ب - (انتظام التکافل الاجتماعی): ان یسد الترحة بین الطبقات... فحبب الی المسلمین: ان ینفقوا فضل اموالهم، وان لم یکن بالجانب الاخر فقر واملاق.. وفی ذلک یقول الامام الصادق علیه السلام:«لا یکمل ایمان العبد حتی یکون فیه اربع خصال... ویخرج الفضل من ماله» وهذا لیس من الزکوة ولا من سائر الحقوق الشرعیة، انه کما یقول ابو عبد الله علیه السلام: «... ولکن الله عز وجل فرض فی اموال الاغنیاء حقوقا غیر الزکاة..! فقال عز وجل: والذین فی اموالهم حق معلوم فالحق المعلوم غیر الزکاة.. وهو شیء یفرضه الرجل علی نفسه، فی ماله یجب علیه ان یفرضه بقدر طاقته، وسعة ماله فیؤدی الذی فرض علی نفسه! ان شاء فی کل یوم، وانشاء فی کل جمعة، وانشاء فی کل شهر...).

وقد سئل الصادق علیه السلام عن قول الله عز وجل:«وَ الَّذِینَ فِی أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ...» اهو سوی الزکاة..؟

فقال علیه السلام:«هو الرجل یؤتیه الله الثروة من المال، فیخرج منه الالف والالفین والثلاثة الاف، والاقل والاکثر، فیصل به رحمه، ویحمل به الکل عن قومه..» وعن رسول الله صلی الله علیه وآله قال:

«ومن منع الماعون من جاره اذا احتاج الیه، منعه الله فضله یوم القیامة، ووکله الی نفسه، ومن وکله الله الی نفسه هلک، ولا یقبل الله له عذراً»...

ص:279

ولا یعتبر الاسلام: ان تکون من افضل ما تتزین به الاسواق.. حتی یکف الناس عنها بحجة. انهم لا یجدون الافضل! فتنقطع هاته الصلة بینهم. ولکن ینص علی: ان الهبة مهما کانت بخسة ضئیلة، فهی عند الله مقدرة - الیس المقصود منها التکافل والتحابب؟؟ - ویبالغ النبی صلی الله علیه وآله فی ذلک حتی یقول:«اتقوا النار ولو بشق تمرة» فحتی هذا هدیة تعصم من النار!

هذه... هی موارد الرزق: الاولیة البدائیة.. والطبقات: التی تتبادل هاته الاعمال، هی التی تستخرج الشعب، والشعب کله عالة علیها اما حقاً او باطلا...

وبعد ذلک یأتی دور التجارات. وقطائع السلطان وغنائم الحروب والصدقات والحقوق الشرعیة والارث... ونغفل الان الثلاثة الاول لخروجها عن نطاق البحث... ونستغنی عنها بالثلاثة الاخیرة.. فاما

5 - الصدقات:

مهمة الصدقات:

یجعلها الإسلام کرصید للفقراء، والحالات الشاذة، والحوائج الوقتیة الملحة التی لیس علی ولی الامر معالجتها..!، وفیما اذا کانت الدولة الاسلامیة مضطربة: لا تستطیع من الثروات: توزیعاً دقیقا لا یشذ عنه احد.

اولم تشمل الزکاة جمیع الفقراء للجدب والمحل.. فهناک الصدقات تقوم بمهمة مقدسة: هی امداد حیاة المتبتلین، واسعاف المرضی والمستضعفین حتی تنصرم الازمات، ویسود الامن والرخاء...

ص:280

غضبة وتشکر:

لمثل هذه المحارج الصارمة، یطالب الاسلام بالصدقات کالواجب اما اذا استأثر المترفون، ولم یؤدوا الصدقات فیبعث الاسلام قوارعه اللاذعة «کَلاّ بَلْ لا تُکْرِمُونَ الْیَتِیمَ * وَ لا تَحَاضُّونَ عَلی طَعامِ الْمِسْکِینِ * وَ تَأْکُلُونَ التُّراثَ أَکْلاً لَمًّا * وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا * کَلاّ إِذا دُکَّتِ الْأَرْضُ دَکًّا دَکًّا * وَ جاءَ رَبُّکَ وَ الْمَلَکُ صَفًّا صَفًّا * وَ جِیءَ یَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ یَوْمَئِذٍ یَتَذَکَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنّی لَهُ الذِّکْری * یَقُولُ یا لَیْتَنِی قَدَّمْتُ لِحَیاتِی1» .

.. فکلمات النفی مع التأکید. کلا. کلا تصور للانسان: من ینتفض غیضا، ویتمیز زئیرا... والنبرات الغضوبة القویة، والمقاطع المشددة لما. جما... والالفاظ الرهیبة المتکررة: دکت. دکا دکا. صفا، صفا، تبرز عتاب الاسلام القاسی علی المترفین - بجانب الایتام والمساکین - وتصور: کان من احتدم غیضا، جعل یزمجر وتصطک اسنانه فتقطع الکلمات، او کانها انطلاقات الرصاص والمدافع، یتلو بعضها بعضا. وفی نفس الموقف - وبذلک الوزن والقافیة والنبرات -«أَ رَأَیْتَ الَّذِی یُکَذِّبُ بِالدِّینِ * فَذلِکَ الَّذِی یَدُعُّ الْیَتِیمَ * وَ لا یَحُضُّ عَلی طَعامِ الْمِسْکِینِ * فَوَیْلٌ لِلْمُصَلِّینَ * اَلَّذِینَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ * اَلَّذِینَ هُمْ یُراؤُنَ * وَ یَمْنَعُونَ الْماعُونَ» .(1)

ص:281

ویقول النبی العظیم صلی الله علیه وآله:«... فما آمن بی من بات شبعان وجاره المسلم جائع».

هذه من مشاهد المسرفین: الذین لم یرحموا الفقراء ولم ینقذوهم من الکوارث، کله: جهنم. وکذب. وبراءة. ودک. وتأسف. ودع.. اما من رحم.. فسوف ننظر الیهم فی القران:«إِنَّ الْأَبْرارَ یَشْرَبُونَ مِنْ کَأْسٍ کانَ مِزاجُها کافُوراً * عَیْناً یَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ یُفَجِّرُونَها تَفْجِیراً * یُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ یَخافُونَ یَوْماً کانَ شَرُّهُ مُسْتَطِیراً * وَ یُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِیناً وَ یَتِیماً وَ أَسِیراً * إِنَّما نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزاءً وَ لا شُکُوراً1» : کلمة: ابرار. وشراب. وکأس ومزاج. وکافور. وعباد الله. ووفاء وحب ووجه الله...

هکذا الاسلام یغضب لمظاهر الجوع والحرمان ویشکر الراحمین المقیمین لحدود الله...

حکمة الصدقات:

اما حکمة الصدقات فی غیر المواقف الحرجة:

1 - ان الفقراء بطبیعتهم حاقدون علی الاغنیاء، حیث یرون المال الوفیر بین ایدیهم.. وهم فی شظف وتقشف: لیس لهم ما یتقوتون به من الخبز الرخیص.. وتلک عقدة تشتعل وتلتمس منفذا لتنفجر، ولا تخمدها میاه البحار.. وقد صدق (ابوذر) حیث قال: عجبت للفقراء کیف لا یخرجون بسیوفهم علی الاغنیاء..!؟ - وفی نظر الفقراء إن الأغنیاء مجرمون،

ص:282

وأموالهم من الحرام! - وان کان اموالهم من الحلال - والفقیر یطلب الخبز! ولا یعرف المنطق والدلیل، بل ولا یعرف الله، فی بعض الاوقات، کما قال امیر المؤمنین علیه السلام:«ما دخل الفقیر بلدا الا قال له الکفر خذنی معک».

«... من ابتلی بالفقر فقد ابتلی باربع خصال. والرقة فی دینه، وقلة الحیاة فی وجهه» وقال النبی صلی الله علیه وآله:«کاد الفقر ان یکون کفرا» ولکن الصدقات وحدها هی التی تخمد ثورة الفقراء... فالدینار الواحد یکتسح غیظ الفقیر الی اجل غیر معلوم ویجعل بین الغنی والفقیر نوعا من الالفة والوداد.. بعدما کان الفقیر یتربص بالغنی الدوائر.

2 - تقریب مستوی معیشة الفقراء والأغنیاء، والحرص علی التوازن الاجتماعی بقدر الإمکان.! فالحقوق الشرعیة لا تجعل الفقراء فی منازل الاغنیاء! وان کانت تنتشلهم من الجوع والالم والموت.. ولکن الصدقات تقرب الطبقات.. فاذا جلس الفقیر علی مائدة الغنی، یشعر بنوع من المساواة، واذا لبس من لباسه بین الحین والحین، ونال من نقوده: التی لم یرها من قبل، فان المساواة الی حد ما قد حصلت!

فان الصدقات - فی عرف الاسلام - لیست کما یتعاطاها البعض ویتصوره الاخرون.. فکلما سمعوا بالصدقة احضروا فی خیالهم: صورة ید علیا هی المعطیة، وید سفلی هی السائلة.. ووجه الفقیر فی هالة من العرق والحیاء، ووجه الغنی یعلوه الشموخ والکبریاء!

وبالعکس من ذلک، فالاسلام یحب صدقة السر. وصدقة اللیل وان یاخذ الغنی الصدقة بانامله، ویجعل کفه تحت ید الفقیر، حتی تکون ید الفقیر هی

ص:283

العلیا وید الغنی هی السفلی.. ثم یعطی الاموال الضخمة وقد تصدق ابو عبدالله علیه السلام باربعین دینارا، ولم یکن عنده سواه، واخرج الامام الرضا یده من اعلی الباب، واعطی ابن السبیل مائتی دینار فسئل عن ذلک، فقال:«مخافة ان اری ذل السؤال فی وجهه»!. وکان یفرق جمیع امواله - فی خراسان - کل یوم عرفة... والمثل العلیا لنا فی الاسلام من هذا النوع کثیرة، نرجئها لفرصة اخری.

3 - ارتفاع نفسیة الغنی، او شعوره بانه قوة فعالة فی حفظ امان المجتمع.

یقول علم النفس: ان اساس الصحة العقلیة فی اشتراک الانسان فی النشاط الاجتماعی، وشعوره بانه یؤدی نفعا لمجتمعه، ویبنی له الاسس الصالحة فی سبیل انقاذه من براثن الفقر، والذلة والسقوط.

4 - ان الصدقات التطوعیة تجعل الانسان یتحلل من عبادة المال وسیطرته الغاشمة التی تؤدی بالانسان الی الانتحار حینا، والی المرض احیانا.

5 - ما فی الصدقات من الاثار الخارجیة: من دفع الفقر، والمرض والمو ت... کما فی الخبز:«اذا املقتم فتاجروا بالصدقة».«داووا مرضاکم بالصدقة» «ان الصدقة باللیل تدفع میتة السوء، وتدفع سبعین نوعا من البلاء».

«ان الصدقة تطفی غضب الرب».«ان الله.. لیدفع بالصدقة الداء. والوبیلة والحرق والغرق والهدم والجنون»،«باکروا بالصدقة! فان البلاء لا یتخطاها». «یستحب للمریض: ان یعطی السائل بیده، ویأمره ان یدعو له».

منابع ثروة بیت المال:

موارد بیت مال المسلمین ستة: الزکاة، الخمس.، الجزیة الانفال، الخراج، المقاسمة.

ص:284

وثانیا: یعتبرها الإسلام حقا لا صدقة، فلیس فیها ما یخدش کرامة الفقیر، أو یلثم عزته.

وثالثا: یجبیها الإسلام بنفسه، ثم یعید توزیعها علی المرافق المرسومة لها، ولا یدع الفقراء یستقضونها من الأغنیاء، لتحول تفضلا وإحسانا من المعطین، وخسّة ودناءة من الآخذین!!

موارد الزکاة:

تفرض الزکاة علی تسعة اشیاء، هی منابع الثروة الاولیة فی الحیاة: الذهب الفضة القمح الشعیر التمر الزبیب الابل البقر الغنم.. ویعتبر فی جمیعها بلوغ النصاب، حتی لو کانت اقل منه فهی معفوة من الزکاة..

اما الذهب فنصابه الاول 15 مثقالا صیر فیاً. والفضة نصابها الاول 105 مثاقیل صیرفیة ولیس فی الزینة زکاة.! ونصاب الغلات الاربع ثمان وزنات وخمس حقق ونصف تقریبا.. وکذلک النصاب الاول فی الابل 5. وفی البقر 30 وفی الغنم 40.

وتستحب الزکاة فی مال التجارة! وحاصل العقار المتخذ للنماء وکلما یکال او یوزن مما تنبته الارض...

من ذلک یظهر - بوضوح - ان الاسلام لا یعمل فی سبیل جبایة الاموال، وانما یحاول تحطیم الرأسمالیة، ومکافحة الفقر فحسب..!

ص:286

مقدار الزکاة:

لیست الزکاة کالضرائب القانونیة: التی تختلف علی حسب فهم الحکام واهوائهم الطائشة، ولکنها حق معلوم: یفرض بسبب اختلاف مواردها.. وتتراوح بین اثنین ونصف بالمائة وعشرة بالمائة.

مصارف الزکاة:

یعدها القرآن بقوله:«إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساکِینِ وَ الْعامِلِینَ عَلَیْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِی الرِّقابِ وَ الْغارِمِینَ وَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ» .(1)

أ - الفقراء: الذین لا یملکون قوت سنتهم بالفعل، ولیست لدیهم حرفة تنهض بواجباتهم فی الحیاة... فالاسلام یکمل من الزکاة حاجاتهم الاصلیة!

ب - المساکین.. وهم المرضی والشیوخ الناقهون، والاطفال: الذین لم یرشدوا من بعد، ولا یجدون حیلة ولا یکفلهم وال، حتی لو ترکهم وحالتهم المرثیة، لألتجئوا الی السؤال.. او قضی علیهم الفقر والمرض.!

ج - العاملین علی الزکاة من المؤمنین: الذین یضحون باوقاتهم واموالهم، سعیا وراء الزکاة... فهم یقتضون رواتبهم تبعاً لوظائفهم المقررة!

د - المؤلفة قلوبهم.. من الکفار: الذین هم حدیثو عهد بالاسلام، ولم یستوعبوا مبادئه الروحیة، وافکاره السامیة... والمادیة الجامحة تسیطر علی مشاعرهم.. فان اعطوا منها رضوا، وان لم یعطوا منها اذاهم یسخطون.!

ص:287

ه -- فی الرقاب.. من الرقیق المسلم: الذی یبادر الاسلام الی فک اسارة.

و - الغارمین: الذین استغرقت الدیون ثرواتهم، وفاضت تطغی علی رقابهم... ولم یاخذوا الدیون لینفقوها تبذیرا او فجورا ولا یجدون الان متجرا یستثیرونها علی سداد دیونهم، لشلل فی الاعصاب او التفکیر.. فیسارع الاسلام الی فک رقابهم.. حرصا علی اموال الدائن وکرامة المدیون!

ز - فی سبیل الله.. من بناء المدارس، والمصحات، والمستشفیات، والثکنات، والجسور... وسائر المصالح العامة، مما تتحقق به شتی الخدمات الاجتماعیة، حسب ما یراه الامام وفق نداءات الظروف والبیئات.

ح - ابن السبیل.. المنقطع عن ماله واهله... کالمهاجرین من الحروب، والغارات، والاضطهاد.

ومتی فقد بعض هذه المصارف توفر حصتها علی الباقی ومجموع هذه الابواب کافل بتمویل شتی مرافق العوز، وتأمین الضمان الاجتماعی الکافل.

الزکاة کفایة:

ثم ان فی الزکاة - وحدها - کفایة لسد الحاجات الاساسیة للمعوزین فان عوامل الفقر لیس الا المرض، والعجز لصغر او کبر، والسفر والدین الباهظ، فالفقراء الذین لا یملکون معالجة فقرهم الا بصب الاموال علیهم حتی یذوب عامل فقرهم، لیسوا الا اربعة: المرضی، العجزة، ابناء السبیل، الغارمون اما غیر هؤلاء فمن الممکن مکافحة فقرهم بتوفیر العمل لهم.

ص:288

وأولئک الفقراء الذین لا یبرؤن من الفقر الا بصب الحیاة فی شرایینهم، حتی تبرؤا من المرض، او یکبروا، او یموتو، او یرجعوا الی اوطانهم، او یدفع الدین عنهم، لا یؤلفون الا اقلیة ضئیلة، لا یکون منسوبهم الی مجموع المجتمع الا منسوبا ضعیفا، والکمیة المحددة من الزکاة، فی الاجناس المعینة من الاموال، نسبة کبیرة بالقیاس الی عدد الفقراء، فیمکن اعالة الفقراء جمیعا - لا بمجموع الزکاة - بل ب 4 من 8 من الزکاة ویبقی 4 من 8 من الزکاة لسد الحاجات العامة لذلک ورد عن الامام الصادق علیه السلام:

«... ان فرض للفقراء فی مال الاغنیاء ما یسعهم، ولو علم: ان ذلک لا یسعهم لزادهم».

وعنه علیه السلام:«... ولو ان الناس ادوا زکاة اموالهم ما بقی مسلم فقیرا محتاجا، ولاستغنی بما فرضه الله له، وان الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا الا بذنوب الاغنیاء...».

فالزکاة - وحدها - تکفی لاعالة الفقراء، وتفیض عن حاجاتهم الاساسیة، وعلی هذا الضوء تقرر الایة الکریمة مصارف اخری للزکاة:

«إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساکِینِ وَ الْعامِلِینَ عَلَیْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِی الرِّقابِ وَ الْغارِمِینَ وَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ» .(1)

ص:289

وقد صدق التاریخ ذلک، حیث کانوا یطوفون بالزکاة فی الشوارع ولم یکن فی المسلمین فقیرا یقبل الزکاة، فکانت تصب فی بیت المال، للتوفیر علی المصالح العامة...

وربما تلتهم الکوارث الشاذة جمیع حصص الزکاة علی اثر اصابات المسلمین بالزلازل والفیضانات...

ولکنها حالات شاذة، وفی اکثر الاحیان لا یستطیع الفقراء ان یستهلکوا الا نسبة محدودة من الزکاة.

زکوات مسنونة:

ولکن الاسلام حیث یحرص علی صیانة الفقراء، من مختلف النوازل الفجائیة، یقرر علی الاموال الطاغیة زکوات مستحبة: للاغنیاء ان یدفعوها اولا یدفعوها، کی تکون ضمانا للحاجات الاحتیاطیة، والشعب - علی کل حال - لا یخسر هذه الزکوات لانها ان اتفقت والحالات المجدیة، کانت خیر سلاح لمحاربة الکوارث، وان رافقت حالات الرخاء ارصد مقابلها من الزکاة الواجبة للحاجات العامة. ونحن نقتصر من الزکوات المنسوبة علی ما یأتی:

1 - یستحب الزکاة فیما سوی الغلات الاربع (الحنطة، الشعیر، التمر، الزبیب) من الحبوب کالسمسم، والارز، والدخن، والحمص، والعدس،... فعن ابی عبد الله الصادق علیه السلام:

«الذرة، والعدس، والسلت، والحبوب، فیها مثل ما فی الحنطة والشعیر، وکل ما کیل بالصاع فبلغ الاوساق - التی تجب فیها الزکاة - فعلیه الزکاة».

ص:290

2 - یؤکد اخراج الزکاة عن مال التجارة، اذا اشتری متاعا فادخره بغیة الفضل حتی دارت علیه السنة، فعندئذ یستحب لدفع زکاته، وذلک غیر الخمس الملزم فی مال التجارة عندما یحول الحول. فعن ابی الربیع الشامی عن ابی عبد الله علیه السلام:«فی رجل اشتری متاعا فکسد علیه متاعه - وقد کان زکی ماله قبل ان یشتری به - هل علیه زکاة؟ او حتی یبیعه؟ فقال علیه السلام:«ان کان امسکه التماس الفضل علی راس المال فعلیه الزکاة».

وعن الامام الصادق علیه السلام:«ما کان من تجارة فی یدک، فیها فضل، لیس یمنعک من بیعها الا لتزداد فضلا علی فضلک، فزکه..».

وبهذا المعنی روایات جمة.

3 - ویستحب اعطاء الزکاة عن الخیل الاناث السائمة طوال الحول، عن کل فرس عتیق دینارین، وعن کل برذون دینارا، کل عام اما فی سائر الحیوانات المسخرة فلا یستحب الزکاة... کل ذلک عدی الانعام الثلاثة: (الغنم، الابل، البقر) التی تجب فیها الزکاة.

صدقات شتی:

ولا ینسی الإسلام عواطف الفقراء، فهی لا تختلف عن عواطف الأغنیاء، وربما کانت أشواق الفقراء أرهف وانبض من إحساسات الثری الکسول، فکما إن الأغنیاء یوفرون علی أنفسهم وعلی أولادهم فی الأعیاد، کذلک الإسلام یرفه عن الفقراء وأطفالهم فی الأعیاد، ففی عید الفطر یأمر بزکاة الفطرة تخرج إلی الفقراء، وفی عید الأضحی تکون القرابین نصیب الفقراء، وفی سائر الأیام

ص:291

یتناولون من کفارات (إفطار الصوم)، و (حنث النذر والعهد والیمین)، و (کفارات الحج)، وغیرها ما یغیرون به سیر حیاتهم البطیء.

حق یوم الحساب:

وعندما ینهمک الزراع فی الحصاد، والفلاحون فی جز النخیل، یحضرهم الفقیر والمسکین، لانهما یبصران بنعمة موفورة، خولها الله لبعض عباده، وآثره علیها، فیحضران ویتبسطان اکف السؤال، فمن حقهم علی اصحاب الزرع والنخل ان یعطیهما الحفنة بعد الحفنة، من البیادر، والضغث بعد الضغث من التمر، حتی یفرغوا من الجز والحصاد.

فعن الامام الصادق علیه السلام فی قوله تعالی:«وَ آتُوا حَقَّهُ یَوْمَ حَصادِهِ1» ، قال:«تعطی المساکین الذین یحضرونک تأخذ بیدک القبضة بعد القبضة حتی تفرغ».

وعن الحلبی عن الامام الصادق علیه السلام قال سئلته عن قوله تعالی: وآتو حقه یوم حصاده... قال:«تقبض بیدک الضغث فتعطیه المسکین ثم المسکین حتی تفرغ، وعند الصرام الحفنة ثم الحفنة حتی یفرغ منه».

ویشتد کراهة رد السائل الاول والثانی والثالث، بل یستحب اعطائهم، ثم الفقراء الذین یفدون بعد هؤلاء للانسان ان یمنحهم او یردهم، کما عن مصادف قال: کنت مع ابی عبد الله علیه السلام فی ارض له وهم یصرمون، فجاء سائل یسئل، فقلت یرزقک الله فقال علیه السلام:«مه! لیس ذلک لکم حتی تعطوا ثلاثة، فاذا اعطیتم ثلاثة، فان اعطیتم فلکم وان امسکتم فلکم».

ص:292

ویکره الاسراف فی الاعطاء عند الحصاد والجذاذ، بل یلزم التوازن فی الاعطاء والامساک، فعن محمد بن مسلم عن ابی جعفر علیه السلام فی قوله تعالی:

«وَ آتُوا حَقَّهُ یَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا یُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ» قال علیه السلام:» کان فلان بن فلان الانصاری... کان له حرث وکان اذا جذه تصدق به، وبقی هو وعیاله بغیر شیء، فجعل الله ذلک سرفا «.

وحیث کان بعض الناس یحتالون للبخل علی السائل، وعدم رده، بالحصاد لیلا، علی حین غفوة من السؤال، حتی اذا جاؤا مبکرا وجدوا البیادر المعبئة، او آثار الحصاد المبیت سراً، ورد النهی عن ذلک کما عن ابی بصیر عن الامام الصادق علیه السلام قال:«لا تصرم باللیل ولا تحصد باللیل، ولا تضح باللیل ولا تبذر باللیل، فانک ان فعلت ذلک لم یأتک القانع والمعتر، فقلت ما القانع والمعتر؟ فقال: القانع الذی یقنع بما اعطیته، والمعتر الذی یمر بک ویسئلک، وان حصدت باللیل لم یأتک السؤال، وهی قول الله عز وجل: وآتو حقه یوم حصاده، یعنی القبضة بعد القبضة، اذا حصدته، فاذا خرج فالحفنة بعد الحفنة، وکذلک عند الصرام، وکذلک البذر لا تبذر باللیل، لانک تعطی فی البذر کما تعطی فی الحصاد».

حق معلوم:

وهناک حقوق اخری فی الاموال عدی تلک، اکد الاسلام علی استحبابها فلنستمع الی الامام الصادق علیه السلام وهو یفصلها ویرسم حدودها:«.. ولکن الله عز وجل فرض فی أموال الأغنیاء حقوقا غیر الزکاة، فقال عزوجل:«وَ الَّذِینَ فِی

ص:293

أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ» فالحق المعلوم غیرالزکاة وهوشیء یفرضه الرجل علی نفسه فی ماله یجب علیه أن یفرضه علی قدرطاقته وسعة ماله فیؤدی الذی فرض علی نفسه إن شاءفی کل یوم، وإن شاءفی کل جمعة، وإن شاءفی کل شهروقد قال لله عزوجل ایضا «أَقْرَضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً» وهذا غیرالزکاة وقد قال الله عزوجل أیضا «... یُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِیَةً» والماعون أیضاوهوالقرض یقرضه والمتاع یعیره، والمعروف یصنعه، وممافرض الله عزوجل أیضاً فی المال من غیرالزکاة قوله عزوجل:«اَلَّذِینَ یَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ یُوصَلَ» ، ومن أدی مافرض الله علیه فقد قضی ماعلیه وأدی شکرماأنعم الله علیه فی ماله.... فهذه الفرائض کلها تخرج من الاموال المتخمة المتضخمة، لتنتشر فی المجتمع، فتنتشل المدقعین من المساقط الرهیبة، وتوثق الاواصر والوشائج بین الفقیر والغنی، ویأخذ من حدة الصراع الدائب بینهما ولذلک کله لم یقرر الاسلام لها حدودا معینة، وانما فوض تحدیدها الی اصحاب رؤوس الاموال لانها لم توضع لتسد فراغا ابدیا فی المجتمع، وانما قررت لسد الحاجات الاحتیاطیة، ولتخفیف التوتر والحروب الباردة، فربما یتطلب الوضع السائد المبالغة فیها، کما قد تستغنی الحالة الراهنة الا عن القلیل منها، فلیس لها حدوداً الا ما تلهمها الاوضاع، وتناشدها الظروف والملابسات الخاصة کل یوم، حسب ما تقررها العوامل والدوافع الموجودة...

هکذا نجد الشرع یؤکد علی توجیه المجتمع نحو الفکرة ذاتها، وینص علی عدم حدود مرسومة، وانما یکتفی بالاشعار عنها، لینبه علی ان الاسلام یحبذ تبادل العلاقات الودیة بین الافراد، کما نجد هذا الطابع بادیا علی لهجة الامام

ص:294

زین العابدین علیه السلام فعن ابی جعفر علیه السلام: «إن رجلا جاء إلی علی بن الحسین علیه السلام فقال له: أخبرنی عن قول الله عزوجل:«وَ الَّذِینَ فِی أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ» ماهذاالحق؟

فقال له علی بن الحسین علیه السلام: الحق المعلوم الشیء یخرجه من ماله لیس من الزکاة ولامن الصدقة المفروضتین قال فإذا لم یکن من الزکاة ولامن الصدقة فما هو؟

فقال: هوالشیء یخرجه الرجل من ماله إن شاء أکثر وإن شاء أقل علی قدر مایملک. فقال له الرجل: فما یصنع به؟ فقال علیه السلام: یصل به رحماً ویقری به ضیفاً و یقوی به ضعیفاً ویحمل به کلا ویصل به أخاً له فی الله أولنائبة تنوبه...».

فالحق المعلوم فی الاموال الفائضة یلزم ان یعزل جانباً لمکافحة الکوارث الفردیة، وتأمین الحاجات المتوقعة، فهو یشبه ما یدخره الرجال المالیون الیوم فی (شرکات التأمین) و (صنادیق الضمانات الاجتماعیة) غیر ان الاسلام بفکرته العمیقة الواسعة فی ردء الاخطاء والخطوب، ومعالجة المشاکل السوداء بکل بساطة وهدوء لا یقرر الصنادیق والشرکات کی تشغل شعباً، وتکون مشکلة وتبدد ثروة، وانما یفصل الحق المعلوم من ثروة الانسان، ویدخره عنده، لیسهل ادخاره واسترجاعه.

بین الزکاة والضرائب:

وهناک حقیقة ماثلة یجب ان نتشبع بها، لنقف علی تمام فلسفة الزکاة، ومدی الدقة والحکمة فی تشریعها، تلک هی المقارنة بین الزکاة والضرائب الوضعیة.

ص:295

وقبل تلک علینا ان نعرف فلسفة الضرائب، والهدف المنشود من ورائها، وذلک هو الاحتفاظ بتوزیع ثروة الشعب علی افراد الشعب توزیعا عادلا، فی نطاق تکافؤ الفرص، وصیانة حق الحیاة للجمیع، وحیث ان طبیعة الثروة ان تتکدس فی جانب، وتتقلص عن جانب، تبعاً للعجز المؤقت او الدائم: العجز البدنی او الفکری حیث ان طبیعة الثروة وتکافؤ الفرص، یبعثان علی اختلاق ثروة عاتیة الی جانب فقر ذریع، وجب ان تؤخذ من الاموال المتضخمة - فقط - حصص لمعالجة هذه المشکلة، وتأمین الحاجات الناتجة من العجز فقط وایضا لتأمین الحاجات العامة، والمشاریع الحکومیة العامة التی تمثل مطالیب مجموع الشعب...

فأذن تختصر فلسفة الضرائب فی تأمین حالات العجز، وتأمین الحاجات العامة. هذه هی النقطة المرکزیة فی فلسفة الضرائب ولا غیر.. فلننظر هل الضرائب تؤدی هذا الهدف المنشود منها؟ ام انها اغلال فرضت علی الشعب دون ان تحمل فکرة، او تنتج هدفا؟ وهل الزکاة ادت مسؤولیتها کاملة؟ او ابهضت بحملها.؟؟.

تکفینا الجواب عن کل ذلک جولة مع التاریخ فی شعوب الزکاة وشعوب الضرائب الوضعیة:

یحدثنا التاریخ ان امیر المؤمنین علیه السلام کتب الی عامله عثمان بن حنیف «... ولعلّ بالحجازأو الیمامة من لاطمع له فی القرص ولاعهد له بالشبع...». وذلک یدل علی ان امیر المؤمنین علیه السلام کان واثقا من عدم وجود الفقر فی ما سوی هاتین المنطقتین، فی الوطن الاسلامی الکبیر..

ص:296

ولقد ارسل والی الصدقات بأفریقیة الی عمر بن عبد العزیز یقول له: لم یبق فقیر محتاج فی افریقیة، وبیت مال الصدقات ممتلئ، فارسل الیه عمر بن عبد العزیز، یأمره بان یسدد الدیون عن الغرماء، فسدد الدیون عن المدینین، ثم ارسل الی عمر ایضا بأنه ما زال بیت المال یغص بالصدقات، فارسل الیه عمر، ان یشتری بها العبید، ویعتقها، حتی اذا فعل ذلک لم تنفد الصدقات، فوجهها الی عمر نفسه...

ثم ان تاریخ الاسلام کله لم یسجل انسانا واحدا مات من الجوع فقرا.. کل ذلک رغم ان منابع الثروة - فی بدء الاسلام - لم تکن بوفرتها الیوم، وانما کانت رکیزة بیت المال الزکاة فقط.

اما الخمس والجزیة والخراج و... فلم یکن لها الا دور ضئیل، ومسارب معینة، فکانت الزکاة وحدها تنظم الحیاة الاقتصادیة العامة، رغم ان المجتمع الاسلامی - ذلک الیوم - کان فی دور الطفولة، وکانت تختلف فیه عملیة الهدم والبناء، وکان الترمیم الاقتصادی یقوم علی انقاض الفوضی الجاهلی او الفارسی او الرومی، وفی مثل هذا الدور یصاب الاقتصاد بتشنج واضطراب مربک وکان الاقتصاد الاسلامی یسخر من هذه العراقیل والصدمات المعاکسة، ویهزأ بالحروب الطاحنة التی کانت تشنها اعداء الاسلام علی المسلمین، وکانت جدیرة بأن ترتبک بها الحیاة الاقتصادیة الناشئة علی أسس جدیدة لم یمارسها الشعب الا منذ فترة الانتقال، من الفوضی الملون الی الاسلام... اضافة علی الانحصار الاقتصادی، الذی طوق الجزیرة، من جراء قطع العلاقات مع الدول

ص:297

القویة، المحدقة بها، وأولئک الزعماء المترفون الذین کانوا یبددون الملایین.. والملایین.. بین عشیة وضحاها(1) ویخصصون خراج دولة بکامله لجاریة(2) ویبعثرون مئات الالوف بین الشعراء(3) والفتیان والغلمان.. کل هاته الضربات النابیة لم تهد فی کیان الاقتصاد الاسلامی، بل صمد امام هذه المعاول، واجتاح المعاول، دون ان یتأرجح بنفسه، وذلک ما یکشف عن ترکیز، وأصالة فائقة فی هذه الضریبة الاسلامیة (ان صح التعبیر): الزکاة.

اما تاریخ الضرائب الوضعیة، فهی تشهد مصارع عشرات الألوف من الفقراء الذین یموتون جوعا وعریا، کل عام... وهذا اقوی حجة علی فشل نظام الضرائب.

ثم ان موارد الدولة - بما فیها الضرائب - یجب ان تسد الفراغ الهائل بین الطبقات، ویکشح البلاء الفاغر للبشریة جمعاء، ویکمل النواقص فی الحاجات العامة، وذلک ما لا یکون، وحتی ان الضرائب لا تستطیع ان توقف مآسی الاقتصاد عند حدها، فنحن نری النواقض تتزاید، والطبقات تقسو، والفقر یتأزم، یوما بعد یوم.. وهذا دلیل اخر علی فشل نظام الضرائب..

ص:298

ثم ان دول الضرائب تحتجز کثیرا من موارد الثروة المشاعة للجمیع علی قدر حاجاتهم، ثم تبیعها علیهم. وذلک مورد ثری یتورع عنه الاسلام ورغم ان الزکاة لیست الا 10% او 5% فی الغلات الاربع وما یتراوح بین 2% - 3% فی سائر الاشیاء.. ومع ذلک ینهض الاسلام بکفالة شتی الضمانات الاجتماعیة والفردیة.. والضرائب التصاعدیة ربما تبلغ 96%، والضرائب تفرض علی کل شیء، حتی علی الارث، وعلی الاموال التی تعبر الحدود بأسم ضرائب الجمارک والمکوس، وربما تتکرر علی البضاعة الواحدة کلما انتقلت من ید الی ید..

والضرائب - مهما کانت صورها - توجب الغلاء، لان التاجر او المستورد، او صاحب رأس المال، یقدر: انه یجنی من بضاعته ربحا معینا، لا یتجاوز 20% - مثلا - فاذا فرضت الضریبة علی تلک البضاعة، بنسبة 80% فانه لا یلغی ربحه، وانما یضیف الربح والضریبة علی أصل رأس المال، فیبیعه بضعفی الثمن العادل لهذه البضاعة..

أما الزکاة فانها تفرض علی الناتج - فی الغلات الاربع - بعد إخراج سعر البذر، وأجرة الارض، وسائر التکالیف - کما هو المشهور - فلا توجب الزکاة ارتفاع الاسعار، وانما تقلل قسما ضئیلا من الناتج، فلو کان المأمول ان تثمر النخیل 10 اطنان من التمر، فان الزکاة تجعله 9 اطنان..

تعالیم للجباة:

والاسلام - بنظراته العمیقة الواعیة - یری ان استخدام العنف والقسوة فی جمع الزکاة، عجز وهروب مواجهة الحقائق الراهنة، فان الزکاة إنما فرضت

ص:299

لتکمیل النواقص، وتلک النواقص غضبات الفقراء الثائرة فعندما یحاول الاسلام إطفاء تلک الغضبات یجب ان لا یلهب مکانها غضبات اخری، هی غضبات الاغنیاء، لان الزکاة اذا اخذت منهم بالعنف والارهاب فسوف تثور حفائظهم، ولا یقفون مکتوفی الایدی تجاه التعذیب والارهاق. لذلک یکتفی الاسلام بأن ینذر مانع الزکاة بعذاب الله الالیم وحسب، ثم یفوض الیه الامر فله ان یتولی بنفسه اعطاء الزکاة الی من شاء من الفقراء، او ان یدفعها الی جباة بیت المال لیوزعه الامام او نائبه کما یری، فاذا جاء الجابی الی صاحب الغلات او النقدین او الانعام عرض علیه اخرج الزکاة، فلو قال: لیس فی مالی زکاة، صدق، وان اعترف ان فی ماله الزکاة، لکن اعتذر بأنه سیدفعها الی الفقراء، او دفعها من قبل، قبل کلامه...

کما نجد هذه التعالیم الحکیمة فی کلام علی امیر المؤمنین علیه السلام، فعن ابی عبد الله الصادق علیه السلام قال: «بعث أمیر المؤمنین علیه السلام مصدقا من الکوفة إلی بادیتها، فقال له: یاعبد الله انطلق، وعلیک بتقوی الله وحده لا شریک له، ولاتؤثرن دنیاک علی آخرتک، وکن حافظا لما ائتمنک علیه، راعیا لحق الله فیه، حتی تأتی، نادی بنی فلان، فإذا قدمت فأنزل بمائهم، من غیر أن تخالط أبیاتهم، ثم أمض إلیهم بسکینة ووقارحتی تقوم بینهم، ثم قل لهم: یا عباد الله، أرسلنی الیکم ولی الله! لآخذ منکم حق الله فی اموالکم، فهل فی أموالکم من حق فتؤدوه إلی ولیه؟ فإن قال لک قائلا: لا، فلا تراجعه!!، وإن أنعم لک فهو منعم فانطلق معهم، من غیر أن تخیفه، أوتعده إلا خیرا، فإذا أتیت ماله، فلاتدخله إلا بإذنه، فإن أکثره له، فقل: یاعبد الله أتأذن لی فی دخول مالک؟

ص:300

فإن أذن لک فلا تدخله دخول متسلط علیه فیه، ولاعنف به، فاصدع المال صدعین، ثم خیره أی الصدعین شاء، فأیها اختارفلا تعرض له!! ثم أصدع الباقی صدعین، ثم خیره، فأیها اختارفلا تعرض له، ولاتزال کذلک حتی یبقی ما فیه وفاء لحق الله فی ماله، فإذا بقی ذلک فاقبض حق الله منه، وإن استقالک فأقله، ثم اخلطها، واصنع مثل الذی صنعت أولا حتی تأخذ حق الله من ماله..».

بالله علیک! هل یوجد فی الضرائب علی وجه الارض کهذه الضریبة - لو صح التعبیر -؟ وهل فی شرق الارض وغربها دولة تعترف بکرامة الافراد، کأعتراف الاسلام بها، ان الغنی الذی علیه الزکاة إنسان تحمل المصاعب، واهدر الجهود السخیة، حتی استطاع ان یحصل علی مال فائض، تفرض فیه الزکاة، فالزکاة اذن لیست الا شطرا من کده وعرقه، واضافة علی ذلک فهو واحد من افراد الشعب، الذین وجدت الحکومة لحمایة مصالحهم، فلیس من الصحیح ان یعنف فی اعطاء الزکاة. وهو مصدق لو قال: اخرجت زکاة اموالی، لانه مؤمن بالله والدار الآخرة، والاسلام قد ارهف عواطفه، حتی ان یتطوع بحر امواله فی سبیل الله، فهو مصدق فی کل ما یقول...

وبعد ذلک فالاسلام لا یسمح لاحد ان یبتز حقوق الفقراء، فلو تمرد شخص علی فریضة الزکاة، وابی ان یدفعها، یشهر الاسلام سیف العذاب فی وجهه، ویذیقه حرارة الحدید فی الدنیا قبل الاخرة. ولکن الاسلام فی تلک التعالیم یحاول ان یربی المجتمع علی الامانة، والصدق، ولذلک لا یبتدر باتهام

ص:301

الناس بالکذب، والخیانة، حتی یقرروا علی انفسهم هذه الجریمة البشعة، فینطلقوا فی الارض بتکرارها، وتحقیر الجرائم فی اعین الناس، فالاسلام یحاول ان یبرز الجرائم فی صورة نکراء یستقذرها الجمیع، کی لا یرتکبوها، اما اذا علموا: انها جریمة یمارسها کل فرد یسمحون لانفسهم بارتکابها.

ص:302

ص:304

مصادر الخمس:

سبعة اشیاء تستدرک ما لیس فیه زکاة.. ومقداره عشرون بالمائة وهو اضخم بکثیر من اموال الزکاة!.

الموارد السبعة:

أ - غنائم الحروب... وما تخلفه جیوش الکفر فی ساحات الحرب ومیادین القتال.. سواء اکانت من المنقولات: التی یحویها العسکر ام من العقارات: تنهزم عنها المشرکون!.

ب - المعادن: التی یتصرف فیها المسلمون.. متی زادت علی خمسة عشر مثقالا صیرفیا من النضا... من غیر فرق بین ما کان منها علی سطح الارض: کالملح. الیاقوت. الزبرجد. العقیق. الکحل. او فی بطونها المغلفة: کالبترول. الغاز. الزفت. الکبریت. المرمر... یخرج الخمس من الفائض الصافی بعد استثناء جمیع تکالیف الحفر والاذابة، والعمال المهندسین..!.

ج - الکنز.. من الاموال: التی تدخر تحت التراب.. او فی الاسطوانات والسقوف، للحفظ من الاقارب الفاجرة واللصوص الزاحفة حتی یموت عنها المالک، وتختلف علیها الایدی، وتمحی الآثار، او کانت فی الموات، حیث لا یستدل علی مالکه بشیء... اما اذا کانت علیها علامة الاسلام، او کان للارض ملاک، فیجب المراجعة الیهم، حتی یعلم بعدم وجود مالک شرعی لها!.

د - ما یستخرج من الارض بالغوص: کاللؤلؤ. المرجان. العنبر. اذا بلغت قیمته الدینار!.

ص:305

ه -- المال المختلط بالحرام.. فیما اذا لم یعلم مقدار الحرام، ولا ملاکه الشرعیون، وعند احتمال معرفة المالک الشرعی یجب الفحص حتی الیأس!.

و - العقار: الذی یشتریه الذمی من المسلم!.

ز - الفائض من ارباح، بعد اخراج جمیع النفقات الواجبة علیه، لنفسه وعیاله... بل والتکالیف المستحبة والمباحة... ومصارف الحج والاسفار غیر المحرمة.. ومختلف انواع الزینة والکمالیات، ما لم تکن من الترف والتبذیر!.

توزیع الخمس:

تقرر الآیة الکریمة ذلک:

«وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ» .(1)

فهو اذن یوزع ستة اقسام: ثلاثة لله وللرسول ولذی القربی، وجمیعها ترجع الی الامام ومن بعد الی نائبه الخاص، ثم العام.. یصرفها فی شؤون المسلمین... والثلاثة الاخیرة، للیتامی والمساکین وابن السبیل، من ابناء هاشم..

ومتی قصرت حصصهم عن کفاءاتهم، سده الامام علیه السلام من حقه.! واذا زادت تلحق بحصة الامام علیه السلام فی تأمین المصالح العامة.

ص:306

الجزیة:

والاسلام یفرض الجزیة علی اهل الکتاب: الیهود، والنصاری، والمجوس: الذین هم فی بلاد الاسلام، ولم یسلموا! ولکنهم یحتمون بالحکومة الاسلامیة!.. فالاسلام یفرض علی الرؤوس أوالاراضی مقدار من المال - بإسم الجزیة - ولیس لها حد محدود، بل هو موکول الی رأی الامام عندئذ! یقرره علی وفق المصالح المشترکة بین المسلمین،

وتلک بدل عن قیام الدولة الاسلامیة، بمصالحهم، وکف الاعتداءات عنهم! فالاسلام یقوم بواجبات المسلمین والذمیین علی حد سواء! فیاخذ الزکاة من المسلمین، والجزیة من الذمیین... فالاسلام انما یأخذ الجزیة لصرفها فی مصالح انفسهم.. فله الفضل علیهم فی ایوائهم، ودفع الاذی عنهم، من الخارج والداخل... وهذا النوع من المحافظة علی الاقلیات ما لم یعرفه العالم.. لا قبل الاسلام ولا بعده! مع ان اهل الکتاب کانوا من الدّ اعداء الاسلام فی بدء انبثاق الدعوة. حتی الیوم اصبحوا قذی فی عین المسلمین: یکیدون لهم من الف باب..!

الانفال:

«یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْأَنْفالِ! قُلِ: الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ...» والانفال ملک للنبی صلی الله علیه وآله ثم للامام من بعده.. والنبی والائمة علیه السلام لا یستاثرون بشیء من اموالهم حتی یفرقوه بین المسلمین، او یوفروا به علی بیت المال..! والأنفال خمسة:

ص:307

1 - الاراضی: التی یملکها المسلمون، دون ان یرجعوا علیها بخیل ولا رکاب... ولکن صولحوا علیها من غیر زحف وقتال.! او ابخل اهلها وسلموها للمسلمین رهبة اوطواعیة..!

ب - الاراضی الموات القاحلة الجرداء: التی لیست علیها ید، من الفیافی والمفاوز والقفار.!

ج - شواطیء البحار.

د - رؤوس الجبال، وما بها من معادن وکنوز!

ه -- بطون الاودیة والآجام وما فیها...

غیر ان الائمة علیه السلام أباحوهافی غیبتهم - لشیعتهم...

مال الخراج:(1)

ان الاراضی المفتوحة عنوة وبالسیف، تعتبر ملکا مشاعا لجمیع المسلمین، حتی یوم القیامة.! ویمثلهم النبی صلی الله علیه وآله ثم من بعده الامام علیه السلام وفی وسعه ان یؤجر السواد والبیاض بما یراه مصلحة.. کما فعل النبی صلی الله علیه وآله بخیبر، حین فتحت، فاعطاها الیهود بالنصف فی الحاصل.!

ص:308

هذا هو الخراج ویسمی ایضا ب - (قبالة الارض) فالخراج والقبالة تکونان علی الارض الیابسة البیضاء، والبساتین والمزارع..!

المقاسمة:

وتکون فی الارض المفتوحة عنوة - مثل الخراج - ولکن الامام یؤجر الاراضی الزراعیة، بقسمة معینة من الحصید..! والخراج والمقاسمة إنما یکونان بدلا من الزکاة.! اما اذا اسلم أهلها علیها - کالطائف - فهم یدفعون الزکاة فقط.! اما الذین لا یطالبهم الاسلام بالزکاة، وهو مسؤول عن تأمین حاجاتهم الجماعیة، فیطالبهم بالخراج والمقاسمة، لصرفها فی نفس مصالحهم، فی اطار مصلحة المسلمین، کما ینص علیه النبی صلی الله علیه وآله بقوله:«.. لا یجتمع خراج، وعشر - زکاة - فی ارض مسلم» تلک هی موارد بیت المال..! اما

وظائف بیت المال:

فهی نفس تلک الثمانیة: التی بیناها - آنفا - فی مصارف الزکاة وهی.. إعالة الفقراء. والمساکین والموظفین وابن السبیل. والمؤلفة قلوبهم. وإطلاق الغارمین وفی الرقاب.! وفی سبیل الله، وتلک کلمة تنطبق - فی کل عصر ومصر - علی الصالح العام، وتشمل بناء الثغور والثکنات، وتشیید محاکم ومدارس، واستیراد المصانع والمعامل، وارسال البعثات العلمیة، واللجان والوفود لجمع المعلومات الحدیثة، وانشاء القواعد، وتهیئة العتاد، وتعبئة اللوازم لمکافحة المرض، والمجاعة، والطوفان، والفیضان، والزلازل.. وکل شیء یکون من صالح المسلمین..!

ص:309

محاربة الفقر والرأسمالیة:

من ذلک کله.. تبدو طریقة الاسلام فی مکافحة الفقر والرأسمالیة صریحة صارخة: لا تشوبها الغیاهب والتمویهات.. فان تلک الموارد: التی حرمها الاسلام الربا. الاحتکار. المکاسب الحمراء. هی العلقات: التی تمتص دماء الشعوب بصمت وصمود.. لتفرغها فی کؤوس المترفین مرة واحدة.. ولولاها لا ینشب الفقر ولا تتزاید الرأسمالیة!

ومن بعد ذلک الحقوق الشرعیة الستة: التی یجبیها بیت المال من المثرین، لیضیفها علی المساکین، کفیلة بتحقیق العدالة الاقتصادیة الی حد بعید..!

ولکن الاسلام یفقه: ان الشاب الیقظ الملی لو استخدم جمیع مواهبه، واستنجد بطاقات غیره، فی سبیل التجارة خمسین عاما، لحصل علی ثروة ربما یخل بالتوازن المنشود، فیلزم بحکم العدالة الاقتصادیة: تأسیس:

نظام الارث:

فانه من العوامل الدائبة علی توزیع الملکیات الکبری، وتحطیم کتلتها. اثلاثا، وارباعا، واسداسا، واثمانا..

واول ما یلاحظ الاسلام فی تقسیم الترکة: ان یجعله اجباریا بالنسبة للوارث والمورث..! فلیس للمورث سلطان علی ماله بعد وفاته، لیعمل بنظرته الطائشة، فی ایثار البعض، وحرمان الآخرین، حسب ما تقتضیه احقاده الثائرة وافکاره الهوجاء ساعة الاحتضار..! وحتی معاملاته الغبنیة - فی مرض الموت - تعتبر باطلة، لانها - کثیرا ما - تلاحظ فیها المصالح والمفاسد الشخصیة، وتنبعث

ص:310

لتناقض التوریث الشرعی! الا فی الثلث فللمورث السلطة علیه، لیتدارک تقصیرا دینیا او دنیویا فإنه - فی سورة حیاته - ویحاول الان استدراکه.

وکذلک الوارث لیس له الحق فی ان یطلب الزیادة من حقه.. انما هو ملک مقدر، فعلیه ان یقبلها طوعا او کرها.!

ویتولی الحاکم الشرعی توزیع التراث کله - ان لم یوص - والثلثین - ان اوصی - بموجب المقررات الشرعیة، علی نحو لا تخرج الترکة عن نفس الاسرة.. الا اذا لم یکن هناک وارث فامواله تنتقل الی بیت المال لجمیع المسلمین.

ویولی علی حصص الاطفال والسفهاء، وغیر الراشدین - من نفس الاسرة او غیرها - من یتولی التصرف علی غبطة المتولی علیه، بارشاد الحاکم، ورقابة الناظر..!

توزیع الترکة:

ویقررالاسلام توزیع الترکة علی فکرة دقیقة عمیقة: لم تستعد الامم الاخری - بعد - لان تتلقی عنه هاته الحکمة..! فبعض دول الیوم تأخذ من مجموع التراث 80%، والبعض الاخر 85%، والثالثة 95% ثم یقسم الباقی فی الورثة بقانون جائر مضطرب.. او یستأثر به الولد الاکبر فقط - کما کان من رسم الجاهلیة -.! وذلک ما اثار حزب العمال الانجلیزی علی ان یطالب فی برنامجه الاشتراکی: بتطبیق نظام الاسلام فی المواریث! واخذت الدولة السوفیاتیة تطبق ما یشبه نظام الاسلام فی التراث بعد استثناء حصص الدولة.

وتعتمد الفکرة الاسلامیة فی توزیع الارث علی ثلاثة دعائم.

ص:311

1 - ایثار الاقرب الی المتوفی علی غیره، مع ملاحظة تفتیت الثروة فعمود النسب اقرب من الحواشی.! فالاب والام والزوجة.. والاولاد واولاد الاولاد - الاقرب فالاقرب - دون تفرقة بین الصغیر والکبیر هم الطبقة الاولی.! فان فقدوا جمیعا تأتی نوبة الطبقة الثانیة، وهم الاجداد والجدات - الاقرب فالاقرب - والاخوة والاخوات، فان فقدوا فالطبقة الثالثة.. وهم الاعمام والعمات، والاخوال والخالات وهکذا...

ب - ملاحظة الاحتیاج الی المال - نوعا - ولعل ذلک هو السر فی زیادة نصیب الاولاد علی حصة الابوین - فالاولاد لا یأخذون اقل من النصف، عندما الأبوان لا یأخذان اقل من الثلث - فالغالب فی الابوین: ان یکون لهما من فضل المال ما یتقوتانه... وحاجاتهما ضئیلة جدا، وهما یستدبران الحیاة.. بخلاف الذریة الضعاف الذین یستقبلون الحیاة بحاجاتهم الکثار، من ضرورات التعلیم والولی وعدم الکفائة.. وذلک ما جعل للذکر ضعف الانثی.! فالذکر یطالب بعیشه وعیشة نفر - فی الغالب - والانثی مکفولة للاخرین.!

وهذه الملحوظة تجعل الحبوة -: وهی مختصات الاب - لبکر الذکور، جزاء لما تقع علیه من قضاء فوائت الاب: کالصلوة والصیام وتکالیف الاسرة التی یصبح لها أبا..!

ج - عدم الاستئثار فی جانب، والحرمان فی جانب، فلیس المیراث للولد الاکبر فحسب.! ولا للابناء دون البنات.! ولا للاولاد دون الاباء والازواج.!

ص:312

تلک هی قضیة النظم الاقتصادیة، فما کان منها منتزعا من واقع الاجتماع، ومنسجما مع طبائع الاشیاء، فهو النظام الصحیح الذی یصلح لتنظیم الحیاة الاقتصادیة، وما کان منها نسیج احلام واطماع افراد حاقدین من اعداء الانسانیة والشعوب، فهو نظام فاشل: یفسد ولا یصلح. لان الفشل فی النظام لا یعنی عجزه عن السیادة والسیطرة، فربما یکون النظام فاسدا یقاومه الشعب بمختلف عناصره ودوافعه، ورغم ذلک یسود طیلة سنین، بواسطة استخدام القوة وخنق الاصوات الناقمة المتحدیة له، ولکن سرعان ما تشیب القوة، فیذوب النظام تحت غضبة الشعب ولعائنه الهادرة.

فمقیاس النجاح فی النظم الاقتصادیة، لیس الا کونه مستلهما من واقع الحیاة الاقتصادیة، وقادرا علی معالجة مشکلة الطبقات واصهارها فی طبقات متقاربة - لا تمایز بینها الا باختلاف الاعمال والافکار - بکل عفویة ومرونة حکیمة. وبالتالی ان لا یدع الثروات تتضخم فی جانب وتخسر عن جانب فیصاب الاغنیاء والفقراء بأوبئات اوهنها الانتحار والاغتیال.

وبعد ما اتفقنا: أنا وأنت علی هذه الحقیقة نستطیع ان ندرک مدی الفشل فی النظم: الاقتصاد الراسمالی، والاقتصاد الشیوعی، والاشتراکی الروسی اللینینی، والاشتراکی الفاشی، والاشتراکی النازی، والبعثی، والدیموقراطی، والبریطانی، والهندی، وسائر الاشتراکیات المختلفة الفاسدة فانها - جمیعا - لم تقدر علی الغاء الطبقات، وتوزیع ثروات البلاد علی کل فرد فرد، توزیعا عادلا حسب معدل عام، قوامه تکافوء الفرص، وتعادل الجهد والجزاء بل ظلت

ص:314

الکثرة الهائلة من الطاقات معطلة، تولد وتموت وتقبر فی الارض، دون ان یستغلها النظام، وبقیت الثروات - کطبیعتها الاصیلة - تقلص ذیولها بسرعة خیالیة، عن الاسواق والایدی والافواه لتنکمش وتتکدس فی المخازن والبنوک والقاصات، تحت أیدی افراد معدودین هم الاغنیاء فی النظام الرأسمالی، والحزب الشیوعی فی النظام الشیوعی والاشتراکی الروسی، وافراد الدولة فی سائر الاشتراکیات.

واضافة علی ذلک کله لم تستطع هذه النظم ان نفتح طریقها للتطبیق الا بإلغاء الادیان والاخلاق، واباحة الفساد والاستهتار والمجون، وتحطیم الاسر باستخدام النساء والاولاد، واستعمار البلاد الآمنة الودیعة، واشعال نیران الحروب... کما تکشفت هذه الحقائق فی ذلک العرض الموجز لتلک النظم، وما اصاب المجتمع من مآسی وویلات...

أما الاقتصاد الاسلامی فهو النظام الوحید الذی استطاع - بکل هدوء وحکمة ورزانة - ان یوجه الشعب توجیها راشدا، یحفزه علی استخراج الطاقات وإثارة المواهب والصلاحیات، وتوزیعها علی مجموع الافراد: فردا فردا، توزیعا عادلا عفویا طبیعیا، حتی لم یبق فی الدولة الاسلامیة الرحیبة، فقیر یقبل الصدقات، فانهارت الطبقات بنفسها، واصبح المجتمع الاسلامی الکبیر اشبه بالطبقة الواحدة رغم ان الاسلام بنفسه دین، واقر سائر الادیان - فی نطاق عادل - وحث علی الالتزام بالاخلاق والفضائل، وحرر النساء عن العمل المضنی خارج البیت، واعفی الاولاد لینطلقوا فی حیاة الطفولة، حتی یرشدوا

ص:315

ویبلغوا اشدهم، وتفتل عضلاتهم المفعمة قوة وحرارة، وشوقا الی العمل.

کل ذلک دلالة مجردة علی فساد وفشل النظم الاقتصادیة الحاضرة والبائدة کلها، ونجاح الاقتصاد الاسلامی، وصلاحیته للعودة الی الحیاة التطبیقیة.

حسن السید مهدی الشیرازی

کربلاء 1380 ه -

ص:316

تم بحمد الله

ص:318

الزراعة السوفیتیة............ أنیسیمون

دستور الاتحاد السوفیاتی

التعالیم الشیوعیة

النظام الشیوعی ماهر نسیم

الاشتراکیة العملیة نشوئها وتطورها............ إبراهیم حداد

المذهب الاقتصادی بین الشیوعیة والاسلام............ محمد سعید رمضان البوطی

النظام الاقتصادی فی الاسلام............ تقی الدین النبهانی

أسس الاقتصاد بین الاسلام والنظام المعاصر............ ابو علی المودودی

تنقیحات............ أبو علی المودودی

الحجاب............ أبو علی المودودی

الربا............ أبو علی المودودی

رسالة الثروة المعدنیة............ سعید محمد عودة

لمحات من تاریخ العالم............ جواهر لال نهرو

العدالة الاجتماعیة فی الإسلام............ سید قطب

الإسلام والطاقات المعطلة............ محمد الغزالی

الإسلام والأوضاع الاقتصادیة............ محمد الغزالی

الإسلام والمنهاج الاشتراکیة............ محمد الغزالی

شبهات حول الإسلام............ محمد قطب

تنظیم الإسلام للمجتمع............ محمد أبو زهرة

دع القلق وابدأ الحیاة............ دبل کارنیجی

الإسلام فی عصر العلم............ فرید وجدی

مشاعل الطریق للشباب............ سلامة موسی

ص:320