رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق ببغداد لسنة 2014-2119

جعفر، محمد باقر موسی

الشعائر الحسینیة فی العصرین الأموی والعباسی / تألیف محمد باقر موسی جعفر. الطبعة الأولی. - کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة، - شعبة الدراسات والبحوث الاسلامیة - وحدة الدراسات التخصصیة فی الإمام الحسین، 1436 ق. = 2015 م.

509 ص؛ 24 سم. (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة؛ 160).

تبصرة ببلیوغرافیة: یحتوی علی هوامش لأئمة المصادر (ص 497 451).

تبصرة ملحق: یحتوی علی ملحق بأسماء أشهر الشعراء الذین رثوا الامام الحسین علیه السلام من القرن الأول الهجری وحتی القرن السابع الهجری.

1. الحسین بن علی (ع)، الامام الثالث، 61 4 ه. مأتم العزاء. 2. الحسین بن علی (ع)، الامام الثالث، 61 4 ه. شهادة احادیث. 3. عاشوراء الشعائر الدینیة. 4. الشیعة الشعائر الدینیة. 5. الشیعة الامامیة الشعائر الدینیة دفع مطاعن. 6. المجالس الحسینیة تاریخ ونقد. 7. الحسین بن علی (ع)، الامام الثالث، 61 4 ه. زیارة. 8. ذکری عاشوراء البکاء. 9. زیارة عاشوراء. 10. الشعائر الحسینیة العصر الأموی تاریخ ونقد. 11. الشعائر الحسینیة العصر العباسی تاریخ ونقد. ألف العنوان. ب السلسلة.

تمت الفهرسة فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة قبل النشر

الطبعة الأولی

1436 ه - 2015 م

ص:2

ص:3

ص:4

(وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ)

صدق الله العلی العظیم

سورة الحج / 32

ص:5

إلی والدیّ یا من وهبانی جمال الوجود ونعمته، أمی التی حملتنی صغیراً

وربتنی کبیراً، یا من کانت تحنو علیَّ فی صغری وکبری.

إلی نبع الحنان ومصدر إصراری وإرادتی.

إلی والدی الأعلون جدی وجدتی الذین فقدوا أبناءهم فی مسیرة الخلود

إلی جمیع المعذبین الذین عشقوا الحسین فکانت أرواحهم أطراف رکبه

إلی زوجتی العزیزة وابنتیّ نور ناضری آمنة وزینب..

وإلی التی لم تکمل المسیرة مع أبیها وثلم القلب بفقدها رقیة

الباحث

ص:7

ص:8

ولم تکن الشعائر الحسینیة إلا قضیة إسلامیة أصیلة مثلت فریضة من فرائض الإسلام، حیث جسدت تلک الشعائر الإخلاص والحب والتفانی للرسالة الإلهیة لما جسده الإمام الحسین (علیه السلام) من مقام الإمامة الإلهیة فی الأمة، وإنّ سر بقاء الشعائر أنّها مستمرة فی خط الرسالة التی اختط منهجها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) عندما خاطب الأمة "حسین منی وأنا من حسین".

ولعل فی أحد أهداف الشعائر الحسینیة أن تستلهم الأمة من عطاء الثورة وأن تعیش أهدافها فی بناء المجتمع الصالح الذی تتکون هویته وفق المفردات العقائدیة والسیاسیة التی صاغ مفرداتها الأئمة المعصومون بعد مقتل الإمام الحسین (علیه السلام). ولقد استمدت الشعائر الحسینیة قیمها، من عظمة الثورة الحسینیة التی استمدت دیمومتها وخلودها من قدسیة منجزها وسمو أهدافه فأضحی الحسین (علیه السلام) رمزاً للأمة وانسجام الإنسان مع الحق وأصبحت الشعائر الحسینیة مدرسة فی توازن شخصیة الإنسان المسلم لأنها جسدت له کل معانی العظمة فی ترسیخها للمفاهیم الإسلامیة.

ولقد حفظت لنا الشعائر الحسینیة الرسالة الخاتمة من الضیاع أو التشویه والتحریف لذلک أراد النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) والأئمة من أهل البیت (علیهم السلام) للشعائر الحسینیة أنْ تستمر فی الزمان والمکان لتؤتی أکلها کل حین.

وعلی الرغم من أهمیة الشعائر الحسینیة وأثرها التاریخی والاجتماعی

ص:10

إلا أنّنا لم نجد أحداً من المؤرخین جعلها موضوعاً لدراسة أکادیمیة وافیة وقد قامت الاستاذة الفاضلة المشرفة الدکتورة رباب السودانی فی أثناء السنة التحضیریة لطلبة الدراسات العلیا لعام 2009/2008 أن اختارت موضوع الشعائر الحسینیة مادة للدراسة، وبعد دراسة الموضوع وتسلیط الضوء علیه تبین لنا أنّ معظم الدراسات والأبحاث التی نُشِرت عن الشعائر الحسینیة وحتی الان لم تتنأول الشعائر بدراسة تاریخیة أکادیمیة کاملة تعتمد المنهج الأکادیمی فی کتابتها بل اکتفت معظم تلک الدراسات فی تسلیط الضوء علی بعض جوانبه وقد دفعنا هذا إلی اختیار الشعائر الحسینیة فی العصرین الأموی والعباسی موضوعاً لهذه الرسالة علی الرغم من الصعوبات التی واجهناها فی کون کتب التاریخ الإسلامی إنّما تهتم فی المقام الأول بتسجیل الأعمال والأحداث التی ترتبط بتاریخ الخلفاء والحکام والسلاطین الذین حکموا بلاد المسلمین، ولولا ارتباط بعض ممارسات الشعائر الحسینیة فی زمن الحکام کالبویهیین والفاطمیین الذین حکموا بغداد ومصر لما أهتمت کتب التاریخ برصدها أساساً کما فعلت معظم المصادر التاریخیة التی لم تتعرض إلی موضوع الشعائر الحسینیة قبل عام 352 ه / 963 م إلا ما جاء عرضاً.

وقد اقتضت طبیعة إعداد هذه البحث إلی أن تقسم إلی مقدمة وثلاثة فصول. وقد تضمن الفصل الأول الذی جاء بعنوان (جذریة الشعائر الحسینیة) ثلاثة مباحث درسنا فی المبحث الأول التعریف بالشعائر الحسینیة من حیث معناها فی اللغة والاصطلاح. والمبحث الثانی / تنأولنا فیه المرتکز الدینی

ص:11

للشعائر الحسینیة بشقیه الجانب القرآنی أو الروائی الذی جاء عن طریق الرسول الاعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) وعرضنا فیه الأدلة التی تنأولها علماء التفسیر والحدیث فی مشروعیة الشعائر، والمبحث الثالث / خصص لأخبار رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بمقتل الإمام الحسین (علیه السلام) بما جاء عن طریق الصحابیات وأمهات المؤمنین وأخبار الصحابة، والطریق الآخر ما جاء بروایة أهل البیت (علیهم السلام) وکذلک أخبار أهل الکتاب بمقتل الإمام الحسین (علیه السلام).

أمّا الفصل الثانی والذی جاء بعنوان (أسالیب وممارسات الشعائر الحسینیة) عرضنا فیه أسالیب وممارسات الشعائر الحسینیة طیلة الفترة الممتدة من شهادة الإمام الحسین (علیه السلام) وحتی سقوط الخلافة العباسیة وقد اشتمل الفصل علی خمسة مباحث.

المبحث الأول تنأولنا فیه شعیرة البکاء علی الإمام الحسین (علیه السلام) وأشرنا لبکاء الإمام السجاد (علیه السلام) وأهل بیته وما وقع من حالات البکاء العامة من قبل المسلمین وذکرنا بکاء الأئمة (علیهم السلام) المتکرر فی ذکری یوم عاشوراء من کل عام کما وأشرنا إلی ظاهرة البکاء الکونی وأخبار العلماء فیه. أمّا المبحث الثانی فهو عن الشعر الرثائی الحسینی الذی اختص وقیل بحق الإمام الحسین (علیه السلام) وذلک بعد شهادته وتعرضنا لنماذج من بعض ذلک الرثاء والی موقف السلطات منه. فی حین تنأول المبحث الثالث المجالس الحسینیة التی انعقدت علی الإمام الحسین (علیه ا

ص:12

لسلام) والتی باتت تعقد فی کل عام بتوجیه من قبل الأئمة (علیهم السلام) ولقد حأولنا جاهدین رصد تلک المجالس وملاحظة تطورها وانتشارها فی البلدان الإسلامیة طیلة الفترة الممتدة من مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) وحتی سقوط الخلافة العباسیة 656 ه / 1258 م.

وجاء المبحث الرابع لیتنأول شعیرة الزیارة الحسینیة والی فضلها وأوقاتها وأول من وفد إلی زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام)، ومن قام بزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) من الثائرین، والی استمرار شعیرة الزیارة علی رغم ما واجهته من ظروف قاسیة کما وأشرنا إلی کیفیة زیارته من قبل الذین کانوا یفدون من أماکن نائیة اذ کانوا یقصدون کربلاء بعد أداء فریضة الحج وکیف کان القبر ملتقی لبعض الدعوات السریة المناهضة لبنی العباس. کما وذکرنا من قدم من الخلفاء والملوک والسلاطین والأمراء لزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) حتی سقوط الخلافة العباسیة. أمّا المبحث الخامس فقد تنأولنا فیه مؤلفی المقتل الحسینی ولقد استطعنا أن نحصی ما یقارب الثلاثین مؤلفاً ممن کتبوا فی مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) ولقد راعینا فی بحثنا عن المؤلفین فترة الدراسة المحصورة ما بین الدولة الأمویة وحتی نهایة الدولة العباسیة.

أمّا الفصل الثالث الذی جاء بعنوان (الموقف من الشعائر الحسینیة فی العصرین الأموی والعباسی)، وقد اندرج تحته ثلاثة مباحث. المبحث الأول / الموقف من الشعائر الحسینیة فی العصر الأموی والذی تنأولنا فیه موقف

ص:13

السلطة الأمویة من اقامة هذه الشعائر. أما المبحث الثانی / الموقف من الشعائر الحسینیة فی العصر العباسی فقد تنأولنا فیه موقف السلطة العباسیة من الشعائر وعلی طول الفترة الممتدة من قیام الخلافة العباسیة 132 ه / 749 م وحتی سقوطها عام 656 ه / 1258 م ولقد ابرزنا فیه مواقف الخلفاء من الشعائر والتی کانت متباینة ولم تتسم بموقف واحد یعبر عن توجه الخلافة، انما جاءت بمواقف مختلفة تعبر عن موقف هذا الخلیفة أو ذاک تبعاً للتأثیرات السیاسیة والفکریة المحیطة به وتنأولنا فیه کذلک موقف العامة من الشعائر الحسینیة فی بغداد کونها عاصمة الخلافة العباسیة والتی کانت تصل الفتن بها إلی حد المصادمات الطائفیة والاقتتال، کما تنأولنا فیه المواقف من الشعائر الحسینیة فی بقیة أرجاء العالم الإسلامی.

ص:14

ص:16

وأشعرت هذه البدن نسکاً أی جعلتها شعیرة تهدی، وإشعارها أن یوجأ سنامها بسکین فیسیل الدم علی جانبها فتعرف أنها بدنة هدی. وسبب تسمیة البدن بالشعیرة أو بالشعار أنها تشعر - أی تُعلم - حیث یعلم أنها بدن للهدی.

والملاحظ من کلام الفراهیدی أن هناک معنی مشترکاً بین الألفاظ التی استعملت فیها کلمة شعائر حیث تستعمل بکثرة بمعنی العلامة والاستعلام.

وفی الصحاح: جاءت الشعائر علی أنها أعمال الحج(1) ، وکل ما جُعِلَ علما لطاعة الله(2). والمشاعر مواضع النسک، والمشاعر الحواس، والشعار ما ولی الجسد من الثیاب فشعار القوم فی سفر القوافل والحرب، علامتهم التی یعرف فیها بعضهم بعضاً، فالعرب کانوا یتخذون شعاراً لقوافلهم یعرف القوم بها أثناء المسیر، ولذا یقال أشعر القوم، أی جعلوا لأنفسهم شعاراً، وشعار العسکر(3) أن یسموا لها علامة ینصبونها لیعرف الرجل بها رفقته. وفی الحدیث أن شعار أصحاب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) کان فی الغزو ((یا منصور أمت)) وهو تفاؤل بالنصر بعد الأمر بالإماتة(4) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: شعار المسلمین یوم أحد یا نصر الله اقترب، ویوم الطائف یا رضوان، ویوم حنین یا بنی عبد الله، ویوم الأحزاب حم لا

ص:18

ینصرون، ویوم الفتح نحن عباد الله حقاً حقا، ویوم تبوک یا أحد یا صمد، ویوم صفین یا نصر الله، وشعار الحسین یوم کربلاء یا محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)(1).

أما فی القاموس المحیط وردت لفظة أشعره الأمر أی أعلمه، وأشعرها جعل لها شعیرة وشعار الحج مناسکه وعلاماته والشعیرة والشعارة والمشعر موضعها... وشعائره معالمه التی ندب الله إلیها وأمر بالقیام بها(2).

أما فی معجم مقاییس اللغة فقد وردت لفظة الإشعار بمعنی ((الإعلام عن طریق الحس ومنه المشاعر: المعالم واحدها مشعر وهی المواضع التی قد أشعرت بعلامات ومنه الشعر لأنه حیث یقع الشعور (یعنی التحسس) ومنه الشاعر لأنه یشعر بفطنته بما لا یفطن له غیره))(3) ومنه قول النبی محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) للأنصار "أنتم الشعار والناس الدثار" (4) أی أنتم الخاصة والبطانة، وقد ضمن علماء اللغة المعنی القرآنی للشعائر فی معاجمهم اللغویة، واستدلوا بها علی بعض مدالیلها التی أشار إلیها القرآن الکریم کما أشرنا إلیه أعلاه وقد أشار صاحب مجمع البحرین لقوله تعالی:(وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَکُمْ فِیها خَیْرٌ...)5 .

ص:19

وفیه أن الله تعالی قدر ذلک لأن فی المعنی تعلیلاً لکون نحرها من شعائر الله بمعنی أن نحرها مع کونها کثیرة النفع والخیر وشدة محبة الإنسان للمال من أول الدلائل علی قوة الدین وشدة تعظیم أمر الله"(1).

وقد انعکست هذه الرؤیا أیضاً فی أقوال المفسرین مع ملاحظة إطلاق لفظة مفردة الشعائر أو تقییدها وهل کونها خاصة فی مناسک الحج وأعماله أم أنّها تتعدی تلک الخصوصیة إلی مفاهیم أعم وأشمل. وقد اختلف فی المعنی المراد من لفظة شعائر الله فهی تأتی بمعنی شعائر الله أی عموم شعائره فی جمیع تکالیفه غیر مخصوص بشیء معین، وبذلک تکون لفظة شعائر الله هی دین الله، وتأتی أیضاً لتؤکد معنی التکلیف الخاص فی شؤون الحج(2).

وفی دلالة هذین المعنیین جاءت أقوال المفسرین، فالسدی(3) یری أن شعائر الله، حرم الله. وقال ابن عباس(4) شعائر الله مناسک الحج، وقال:

ص:20

عطاء بن أبی رباح(1) شعائر الله جمیع ما أمر الله به أو نهی عنه(2) ویری الرازی أن شعائر الله هی أعلام طاعته وکل شیء جعل علماً من أعلام طاعة الله فهو من شعائر الله(3). قال تعالی:(وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ)4 . أی علامة للقربة وقال تعالی:(... وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ)5 ، وشعائر الحج معالم نسکه ومنه المشعر الحرام ومنه إشعار السنام وهو أن یعلم بالمدیة فیکون ذلک علماً علی إحرام صاحبها وعلی أنّه قد جعله هدیاً لبیت الله(4) ، وأما فی قوله تعالی:(إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ...) (5) فأنه یعنی من معالم الله التی جعلها تعالی ذکره لعباده معلماً ومشعراً یعبدونه عندها، إمّا بالدعاء وإمّا بالذکر وإمّا بأداء ما فرض علیهم من العمل عندها(6) ، ویری الرازی أن تحمل معنی الصفا والمروة علی أنّها مواضع العبادات وهو ما یستقیم ظاهر الکلام به حسب قوله لأن هذین

ص:21

الجبلین یمکن أن یکونا موضعین للعبادات، والسعی بین هذین الجبلین من شعائر الله، ومن أعلام دینه وقد شرعه الله تعالی لأمة محمد صلی الله علیه وآله وسلم ولإبراهیم (علیه السلام) بأن جعل أفعالهما - هاجر وإسماعیل - طاعة لجمیع المکلفین إلی یوم القیامة وآثارهما قدوة للخلائق أجمعین لیعلم أن الله لا یضیع أجر المحسنین(1).

وحدد القرطبی لفظة الشعائر بأنها کل شیء لله تعالی فیه أمر أشعر به وأعلم فیقال له شعائر(2). وقد أکدت القوامیس الفقهیة هذا المعنی الوارد للفظة الشعائر فی مجالاته العامة والخاصة وذلک عندما أشارت للشعائر بأنها ((ما ندب الشرع إلیها وأمرنا بالقیام بها))(3).

والذی یبدو من مجموع أقوال اللغویین والمفسرین أن موارد استعمال لفظة (شعائر) جاءت دائماً فی موارد الإعلام الحسی، فالمعنی العام الجامع الذی یتفق علیه فی حقیقة الشعائر یکمن فی کونها ذات بعد إعلامی حسی وأن فی ممارسة تلک الشعائر الدینیة وإحیائها تعظیماً لتلک الأوامر الإلهیة وأنها من تقوی القلوب لذا فان فی إحیائها إیصال رسالة إعلامیة حسیة معینة لمن یرید أن یستفید من تلک الشعائر.

ص:22

خیر"(1). وقال الرازی:" إنّ الآیة تدل علی أن هؤلاء الخمسة محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وعلی وفاطمة والحسن والحسین مطهرون من الذنوب الصغیرة والکبیرة"(2).

والمستفاد من کلام الرازی أن هذا دلیل عصمتهم سلام الله علیهم، والمعصوم أولی بأن یتبع ویقتدی به کونه القدوة الصالحة المنزهة عن الأخطاء والذنوب صغیرة کانت أم کبیرة. وقد أثبتت السنة المکرمة هذا المعنی القرآنی بقول الرسول محمد (صلی الله علیه وآله وسلم): "أنا وأهل بیتی مطهرون من الذنوب"(3).

کما ورد هذا المعنی فی قوله تعالی:(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَی الْکاذِبِینَ)4 . أجمع المفسرون بطرق مستفیضة أنّها نزلت فی أهل البیت (علیهم السلام) وأن أبناءنا إشارة إلی الحسن والحسین (علیهما السلام) ونساءنا إشارة إلی فاطمة الزهراء (علیها السلام) وأنفسنا إشارة إلی علی بن أبی طالب (علیه السلام)(4). وورد أیضاً فی قوله تعالی:(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ

ص:24

عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)1 ، وأن ذا القربی المقصودین بقوله هم علی وفاطمة والحسن والحسین(1). یلاحظ أن هذا النص الذی یشیر إلی أن احتجاج الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) بأهل بیته علی صدق دعواه بالنبوة وأن ورود الاحتجاج والابتهال بهم ورد من الله تعالی لنبیه انعکاس واضح للمنزلة التی یحظی بها أهل بیت النبوة عند الله تعالی وعند رسوله (صلی الله علیه وآله وسلم) وأن هذه الحظوة قد جاء بها أشعاراً للأمة لکی تمارس شعائرها ما یعکس تلک الخصوصیة التی اختصهم الله بها.

وفی قوله تعالی:(الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً) (2).

لقد کان تمام الدین، وکمال النعمة والرضا بالإسلام دیناً، بأن نصب علیاً إماماً للأمة باختیار الله وجعله وتنصیبه من قبل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو ما أشعر به رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) الأمة بذلک فی بیعة غدیر خم(3) فقد روی عن أبی سعید الخدری(4) أنّه قال:"

ص:25

دعا النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) الناس فی غدیر خم إلیه فأخذ بضبع علیٍّ (علیه السلام) حتی بان بیاض أبطی النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) ثم لم یفترقوا حتی نزلت تلک الآیة. فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) الله أکبر علی إکمال الدین، وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتی وبالولایة لعلی من بعدی فقال: من کنت مولاه فعلی مولاه اللهم وال ِمن والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله"(1).

ولا أری أن شعاراً أعظم عند الله - بعد التوحید - من شعار النبوة والإمامة فهما من أصول الإسلام الکبری والذی یلزم عدم الإیمان بالأولی عدم الإیمان بالله ولا یکتمل الإیمان بالأولی حتی یکون الإیمان بالثانیة. وکما عرَّف رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) الأمة بإمامة علیٍّ (علیه السلام) من خلال مرسوم التولیة عرَّف أیضاً بمکانة سبطیه فی کونهم إمامین بقوله (صلی الله علیه وآله وسلم): "الحسن والحسین إمامان إن قاما أو قعدا"(2).

ویعکس تلک المکانة قوله تعالی:(وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (3) وهو إشعار من الله أن نلتف حول أهل البیت (علیهم السلام) ونتمسک بهم ونأخذ من علومهم، لأنهم حبل الله الممتد بین الأرض

ص:26

والسماء. وما روی عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یثبت ذلک ویوضحه وهو یشیر إلی علیٍّ (علیه السلام)" هذا حبل الله الذی من تمسک به عُصِمَ به فی دنیاه، ولم یضل فی آخرته"(1) ، کما جاء حدیث الثقلین المروی عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لیشمل جمیع عترة النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو ما روی عن أبی سعید الخدری قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): "إنّی تارک فیکم الثقلین أحدهما أکبر من الآخر کتاب الله حبل ممدود من السماء إلی الأرض وعترتی أهل بیتی فإنّهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض"(2). وقد أوضح الإمام الصادق (علیه السلام) معنی الحبل فی بیان قوله تعالی:(وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً) (3) قال الإمام نحن الحبل(4) کما جاء عن الإمام الباقر (علیه السلام) فی بیان قوله تعالی:(ضُرِبَتْ عَلَیْهِمُ الذِّلَّةُ أَیْنَ ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النّاسِ) (5) قال الإمام الباقر (علیه السلام) حبل من الله کتابه، وحبل من الناس علی بن أبی طالب (علیه السلام)(6).

وفی قوله تعالی:(فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ

ص:27

فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ)1 .

أراد الله لأهل هذا البیت - أهل بیت النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) أن یرفع ویعظم لدی جمیع المسلمین وجاء فی هذا المعنی ما رواه أنس بن مالک(1) عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)" بعد أن قرأ رسول الله الآیة الآنفة الذکر، فقام إلیه رجل وقال: أی البیوت هذه یا رسول الله؟ قال بیوت الأنبیاء، فقام إلیه أبو بکر فقال: یا رسول الله هذا البیت منها؟ وأشار إلی بیت علیٍّ وفاطمة فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) نعم من أفاضلها"(2) ، وفی قوله تعالی:(لَیْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لکِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقی وَ أْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ أَبْوابِها)4 وفی ذلک یقول علیٌّ (علیه السلام) "نحن البیوت التی أمر الله تعالی أن تؤتی من أبوابها" (3) ومما یعضد ذلک القول قوله تعالی:(إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً) (4) وقوله تعالی:(رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَکاتُهُ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ)7 .

ص:28

فالإذن برفع بیوت الأنبیاء والأوصیاء مطلق. والمراد بالرفع هو التعظیم وقیل برفعها رفع الحوائج فیها إلی الله تعالی(1).

إن الله تعالی جعل الصفا والمروة من الشعائر والحرمات التی یجب احترامها، فکیف بالبقاع المقدسة التی تضمنت أجساد الأنبیاء والأولیاء فإنها أولی بأنْ تکون شعاراً للدین کیف لا وهی من البیوت التی أذن الله تعالی أن ترفع ویذکر فیها اسمه وقد مر فیما سبق أن الشعائر هی أعلام طاعة الله، أو ما جعل علماً لطاعة الله أن یعلم بأنه شعار منصوب من قبله تعالی وأنّ إشعار رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بمکانة أهل البیت (علیهم السلام) من خلال حدیثه وما نزل بحقهم من آیات مبارکة لا تدع مجالاً للشک أنّهم أعلام طاعته ومن شعائره العظمی التی یجب علی الأمة احترامها وتعظیمها.

کما یتوضح لنا خاصیة أهل البیت (علیهم السلام) کونهم من شعائر الله فی الأحادیث النبویة الواردة بحق آل البیت (علیهم السلام) وبیان منزلتهم، وأنّها من الکثرة بحیث ذکرها مختلف علماء الأمة ومن أبرز تلک الأحادیث قول النبی (صلی الله علیه وآله وسلم): "أهل بیتی مثل سفینة نوح من رکبها نجا ومن تخلف عنها غرق" (2) ومنها قول النبی (صلی الله علیه وآله وسلم):

ص:29

"أهل البیت أمان للأمة" (1) وقوله (صلی الله علیه وآله وسلم): "النجوم أمان لأهل السماء إذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء وأهل بیتی أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بیتی ذهب أهل الأرض" (2) وقول النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) "فاطمة بضعة منی فمن أغضبها أغضبنی"(3).

وقول رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم):" إن حب علیٍّ قذف فی قلوب المؤمنین، فلا یحبه إلا مؤمن ولا یبغضه إلا منافق "(4) وقول النبی (صلی

الله علیه وآله وسلم):" من أحب الحسن والحسین فقد أحبنی ومن أبغضهما فقد أبغضنی"(5). وفی الحسین (علیه السلام) یقول الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) "الحسین مصباح الهدی وسفینة النجاة" (6) وقوله (صلی الله علیه وآله وسلم): "حسین منی وأنا من حسین، أحب الله من أحب حسیناً، حسین سبط من الأسباط" (7) وقول الرسول الکریم (صلی

ص:30

الله علیه وآله وسلم): "الحسین أحب أهل الأرض إلی أهل السماء" (1) وعند سماع بکاء الحسین (علیه السلام) یقول رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) "إن بکاءه یؤذینی"(2).

وأشار الزرندی الحنفی إلی قول الرازی(3) الذی قرن فیه حرمة العترة الطاهرة بحرمة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وأشار إلی اشتراک أهل البیت (علیهم السلام) فی خمسٍ من الصفات التی وصف بها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أولها محبته کما فی قوله تعالی:(فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ اللّهُ) (4) وقوله تعالی لأهل بیت النبی (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی) (5) وثانیها: تحریم الصدقة، قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لا تحل الصدقة لمحمد (صلی الله علیه وآله وسلم) ولا لآل محمد إنما هی أوساخ الناس.

وثالثها: الطهارة، قال الله تعالی:(طه * ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی) (6) أی یا طاهر. وقال الله تعالی لأهل بیته:(وَ یُطَهِّرَکُمْ

ص:31

تَطْهِیراً)1 . ورابعها: السلام علیک أیها النبی، وقال لأهل بیته:(سَلامٌ عَلی إِلْ یاسِینَ) (1).

وخامسها: فی الصلوات علی النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) والصلاة علی الآل فی التشهد(2).

وقد قرن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) محبته بمحبة آل البیت (علیهم السلام) وهو ما رواه ابن عباس عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)" أحب الله لما یغذوکم من نعمه، وأحبونی لحب الله, وأحبوا أهل بیتی لحبی "(3) وقول النبی (صلی الله علیه وآله وسلم)" لا یؤمن عبد حتی أکون أحب إلیه من نفسه, وتکون عترتی أحب إلیه من عترته، ویکون أهلی أحب إلیه من أهله "(4) وقوله (صلی الله علیه وآله وسلم)" معرفة آل محمد براءة من النار، وحب آل محمد جواز علی الصراط، والولایة لآل محمد أمان من العذاب"(5). ویعلق القاضی عیاض علی ذلک بقوله: "قال بعض العلماء، حقوقهم (آل محمد) هی معرفة مکانتهم من النبی (صلی الله علیه وآله وسلم)

ص:32

وإذا عرف ذلک عرف وجوب حقهم، وحرمتهم بسببه"(1).

لم تقتصر انعکاسات خاصیة کون أهل البیت علیهم السلام من شعائر الله فی القرآن الکریم والأحادیث النبویة والتی وضعت أساساً مهماً یوضح العلاقة الترابطیة بین أفعال العباد ونظرتهم وإتباعهم لآل البیت کقرین مکمل لهذه الأفعال، بل جاءت أحادیث أهل البیت (علیهم السلام) موضحة لهذا الأساس المهم وبیان کیفیة التعاطی معه من قبل العباد، فالأحادیث الواردة علی لسان أهل البیت علیهم السلام أکدت هذا المعنی، وقد أشار أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) لذلک بقوله:" نحن الشعائر والأصحاب "(2) وعرف الإمام علی (علیه السلام) معنی الأصحاب فی موضع آخر حینما قال:" نحن أصحاب الأعراف من عرفناه بسیماه أدخلناه الجنة "(3) إشارة منه صلوات الله علیه إلی قوله تعالی:(وَ نادی أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً یَعْرِفُونَهُمْ بِسِیماهُمْ)4 .

قد جاء فی إحدی خطب الإمام علی (علیه السلام) قوله:" نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ولا تؤتی البیوت إلا من أبوابها فمن أتاها من غیر أبوابها سمی سارقاً"(4) ، والی ذلک المعنی یصف الإمام زین

ص:33

العابدین (علیه السلام) جده أمیر المؤمنین فی خطبته المشهورة بالشام إمام یزید(1) بقوله: "...من العرب سیدها، ومن الوغی لیثها، وارث المشعرین وأبو السبطین، الحسن والحسین..." (2) فقد أشار الإمام زین العابدین (علیه السلام) إلی موضع المشعرین، والمشعر هو موضع الشعائر وأولی الشعائر هی بیت الله والمشعر الثانی هو موضع رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فی المدینة المنورة(3) ، ووصف الإمام علی بن الحسین (علیهما السلام) جده أمیر المؤمنین بأنه وارث المشعرین، ولم یرث الإمام بطبیعة الحال موضعاً بل المراد به أنّه ورث التوحید إذ کانت مکة(4) رمز شعار التوحید وعلماً من أعلام طاعة الله، وورث الرسالة إذ کانت النبوة هی الدالة علی الله وعلماً من أعلام طاعته ولا یقبل توحید إلا من خلال النبوة، والأنبیاء هم الأدلاء علی الله، وأعلامه الکبری وشعائره العظمی.

وأکد الإمام الحسن (علیه السلام) ذلک المعنی إمام معاویة لما قام خطیباً، فقال: "أنا ابن مکة ومنی، أنا ابن من خضعت له قریش رغما، أنا ابن من

ص:34

سعد تابعه وشقی خاذله أنا ابن من جعلت له الأرض مسجداً وطهورا أنا ابن من کانت إلیه أخبار السماء تتری"(1).

یبرز الإمام الحسن (علیه السلام) مکانة آل محمد علیهم السلام ویؤکد ذلک المفهوم أنه ابن لتلک الشعائر وأنه سلیل نبوة وابن خاتم النبوة.

لقد جاءت تأکیدات أئمة أهل البیت (علیهم السلام) فی أکثر من مناسبة بإعلام الأمة أنهم من شعائر الله مما ألقی بالمسؤولیة علی المسلمین فی الحفاظ علی تلک الحرمات وتعظیمها ولزوم الاقتداء بها وأتباعها. وهو ما أکده الإمام الحسین (علیه السلام) فی خطبة له زمن معاویة قائلاً:" نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) الأقربون، وأهل بیته الطیبون، وأحد الثقلین اللذین جعلنا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ثانی کتاب الله... فأطیعونا فإن طاعتنا مفروضة"(2). فالإمام الحسین (علیه السلام) یمثل شعار الإمامة التی مثلت البعد الحقیقی الذی یربط حرکة الحسین (علیه السلام) بحرکة الأنبیاء والذی عبر عنه أئمة أهل البیت فی زیارة الحسین (علیه السلام) عن تلک الحقیقة وبعدها الدینی حینما أکدوا تلک الرابطة الشعائریة.

((السلام علیک یا وارث آدم صفوة الله، السلام علیک یا وارث نوح نبی الله، السلام علیک یا وارث إبراهیم خلیل الله، السلام علیک یا وارث

ص:35

موسی کلیم الله، السلام علیک یا وارث عیسی روح الله، السلام علیک یا وارث محمد حبیب الله))(1).

وهذا یدل علی أن الإمام الحسین (علیه السلام) جزء أصیل من تلک البنیة الشعائریة التی لا تنفک عن حرکة الأنبیاء (علیهم السلام) فی بعدیه الزمنی والمکانی.

وقد عبر الإمام الباقر (علیه السلام) عن مدی أهمیة ومرکزیة شعار الإمامة بین شعائر الله الکثیرة بقوله: "بنی الإسلام علی خمس علی الصلاة والزکاة والصوم والحج والولایة ولم یناد بشیء کما نودی بالولایة"(2).

فأئمة أهل البیت علیهم السلام من شعائر الله لم یکن لکونهم أولاداً نسبیین فقط لرسول الله إنما کونهم أئمة معصومین نص علیهم القرآن وبینه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) والإمام الحسین (علیه السلام) هو امتداد لحرکة الأنبیاء وامتداد طبیعی لرسول الله الذی عبر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) عن ذلک الامتداد الرسالی بقوله (صلی الله علیه وآله وسلم):" حسین منی وأنا من حسین"(3).

ص:36

وأشار الإمام علی بن الحسین (علیهما السلام) إلی ذلک الامتداد فی خطبته بالشام بعد مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) بقوله: "أنا ابن مکة ومنی، أنا ابن زمزم والصفا أنا ابن من حمل الرکن بأطراف الرداء، أنا ابن خیر من ائتزر وارتدی، أنا ابن خیر من انتعل واحتفی أنا ابن خیر من طاف وسعی، أنا ابن خیر من حج ولبی، أنا ابن من حمل علی البراق فی الهوی... أنا ابن من صلی بملائکة السماء، أنا ابن من أوحی إلیه الجلیل ما أوحی... أنا ابن صالح المؤمنین ووارث النبیین، ویعسوب المسلمین ونور المجاهدین... أبو السبطین الحسن والحسین علی بن أبی طالب، أنا ابن فاطمة الزهراء، وسیدة النساء وابن خدیجة الکبری. أنا ابن المرمل بالدماء، أنا ابن ذبیح کربلا، أنا ابن من بکی علیه الجن فی الظلماء، وناحت الطیر فی الهواء..."(1).

کشف الإمام زین العابدین (علیه السلام) الزیف الأموی الذی سوق للناس أن هؤلاء خوارج وأراد الإمام أن یعلم الناس أنّه ابن تلک الشعائر الإلهیة التی أمروا بتعظیمها واحترامها وعدم انتهاک حرماتها والتی تجاوز علیها الأمویون عدواً بالقتل والسبی ولم یراعوا أی حرمة لله فیهم تلک الحرمات التی أوضحها القرآن الکریم. قال تعالی:(وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)2 والحرمة هی ما لا یحل انتهاکه(2) وقوله تعالی:(لا تُحِلُّوا شَعائِرَ

ص:37

اَللّهِ) (1) أی لا یحل ما حرم الله منها بانتهاک حرمتها ودعا إلی تعظیم حرمات الله(2).

قال الإمام الصادق (علیه السلام):" لله عز وجل حرمات ثلاث لیس مثلهن شیء، کتابه وهو حکمته ونوره، وبیته الذی جعله قبلة للناس، لا یقبل من أحد التوجه إلی غیره، وعترة نبیکم صلی الله علیه وآله"(3). وفی روایة أخری للإمام الصادق (علیه السلام) قال: "لله عز وجل فی بلاده خمس حرم، حرمة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وحرمة آل الرسول وحرمة کتابه عز وجل، وحرمة الکعبة، وحرمة المؤمن"(4).

أما الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) فیوضح فی بیان قوله تعالی:(وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (5) بقوله (علیه السلام) هی ثلاث حرمات واجبة فمن قطع منها حرمة فقد أشرک بالله: انتهاک حرمة الله فی بیته الحرام، تعطیل الکتاب والعمل بغیره، قطیعة ما أوجب الله من فرض مودتنا وطاعتنا"(6). وجاء التأکید عن النبی الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) فی حفظ تلک الحرم والمحافظة علیها بقول رسول الله (صلی الله

ص:38

علیه وآله وسلم):" إن لله حرمات ثلاث من حفظهن حفظ الله له أمر دینه ودنیاه، ومن لم یحفظهن لم یحفظ الله له شیئاً: حرمة الإسلام وحرمتی، وحرمة عترتی"(1).

والذی یستفاد من هذه الأحادیث الشریفة الاتفاق علی نقطة جوهریة هی عدم التعدی علی حرمات الله ومنها أهل بیت النبی (علیهم السلام) والملاحظ من هذه الأحادیث هو اقتران العترة بحرمات الله والتأکید علی تلک الحقیقة فالمطالبة بالحفاظ والاهتمام والالتزام بآل البیت علیهم السلام لأنهم من شعائر الله. وقد أوضحت زیارة المعصومین للإمام الحسین وأخیه العباس علیهما السلام(2) عن ذلک التلازم الذی عبر عنه المعصوم بقوله: "لعن الله أمة استحلت منک المحارم، وانتهکت فیک حرمة الإسلام..."(3).

ص:39

البیت (علیهم السلام) للشعائر الحسینیة ان تحفظ الرسالة الخاتمة من الضیاع أو التشویه والتحریف إذ حأول الأمویون منذ البدایة تحریف الحقائق وتزییفها عندما طرحت قضیة الإمام الحسین (علیه السلام) علی أنها عملیة خروج علی السلطة الشرعیة المتمثلة بیزید وتسمیتهم بالخوارج(1).

وما کان للشعائر الحسینیة أن تؤدی هذا الدور والتأثیر فی الوسط الإسلامی ما لم تمتلک المستند الشرعی الأصیل الذی أوجد فیها القوة والعطاء ومنحها البقاء والدیمومة، لذا نجد جذریة تلک الشعائر متمثلة فی الممارسات العزائیة کالبکاء، والرثاء، وإقامة المجالس، والزیارة. وکل مفردات العزاء تلک استندت علی رکیزتین أساسیتین قامت علیها البنیة المعرفیة فی الفکر الإسلامی وهما المؤسس والمشرع لأی فعل أو عمل.

بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْکِتابِ الَّذِی نَزَّلَ عَلی رَسُولِهِ) (1) وأمرهم جل ذکره باتباعه لقوله تعالی:(هذا کِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَکٌ فَاتَّبِعُوهُ) (2) ولقد وصف الله تعالی هذا القرآن بأنّه لا یأتیه الباطل بقوله تعالی:(لا یَأْتِیهِ الْباطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ) (3) وأن هذا القرآن هدی للمؤمنین لقوله تعالی:(ذلِکَ الْکِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدیً لِلْمُتَّقِینَ) (4).

* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی) (1) ، وقوله تعالی:(وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (2) وقوله تعالی جل ذکره:(وَ ما کانَ لِرَسُولٍ أَنْ یَأْتِیَ بِآیَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ) (3) وکون النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) الأسوة الصالحة التی یجب أن تتبع لقوله تعالی:(لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (4).

وأمر الله تعالی الأمة فی لزوم طاعته بقوله تعالی:(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ) (5) کما ربط الله تعالی حبه فی قلوب عباده بطاعة رسوله بقوله تعالی:(إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِی)6 .

إن ما تقدم یؤسس لنقطة جوهریة تتمثل فی أن الشعائر وفق منطلقها التشریعی - القرآن والسنة - اللذان یمثلان المرتکزات الدینیة، وأن الإمام الحسین (علیه السلام) من شعائر الله، فأن الشعائر الحسینیة وبتقریر القرآن والسنة تعبر عن مرتکز دینی ویمکن أن توضح هذه الحقیقة بشقیها التشریعی والدلیل التاریخی بدراسة ما یلی: -

ص:43

کما استنکر القرآن الکریم قتل المصلحین من البشر الذین قادوا حملة الإصلاح ضد المستکبرین بقوله تعالی:(وَ یَقْتُلُونَ الَّذِینَ یَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِیمٍ) (1).

کذلک استنکر القرآن الکریم مقتل هابیل(2) علی ید أخیه قابیل(3) والتی تعد أقدم جریمة قتل علی مر التاریخ والتی استمرت ظلامتها باقیة فی الأذهان بما اقترف قابیل بحق أخیه بقوله تعالی:(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَیَّ یَدَکَ لِتَقْتُلَنِی ما أَنَا بِباسِطٍ یَدِیَ إِلَیْکَ لِأَقْتُلَکَ.. * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِیهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِینَ) (4).

ویذکر القرآن الکریم مقتل أصحاب الأخدود(5) بقوله تعالی:(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (6) والملاحظ أن أسلوب الأخبار بحادث المقتل هو أسلوب رثاء وندبة. نظیر الراثی حینما یرید أن یبلغ الناس بمقتل الحسین (علیه السلام) ((قتل الحسین بکربلاء)) أو نظیر قول النأدب ((قتل الحسین

ص:45

فأدمعی مدرار))(1) وقد اهتمت السورة المبارکة بتوضیح کیفیة القتل وتسلیط الضوء علیهم بقوله أصحاب الأخدود بقوله:(النّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) وهو بیان لشدة سعرة النار المؤججة وتوصیف بشاعة الجنایة وفظاعتها، وتمضی الآیات القرآنیة بتوصیف حال المؤمنین وصلابة إیمانهم وموقف الکافرین وغلظتهم لاستخدامهم أشد عملیات التنکیل والتعذیب بحق المؤمنین.

کما ندب القرآن الکریم قتل العرب فی الجاهلیة لبناتهم بقوله تعالی:(وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَیِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (2) هذه الندبة القرآنیة، تظهر عظم الجنایة المرتکبة، وتثیر هذه الآیة الشریفة الشجن بالنفوس لمجرد قراءتها أو سماعها. وحیث یستنکر القرآن الکریم فعل الجاهلیة نتیجة السنن العرفیة التی کان العرب یعیشونها کما یبین لنا القرآن العزیز بهذا الأسلوب الرثائی الحزین موقع الجریمة وکیفیة القتل لتلک البنات وهن أحیاء من خلال عملیة وأدهن.

وقد ورد مفهوم العزاء القرآنی لمن یقتل فی سبیل الله بقوله تعالی:(وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ یُقْتَلُ فِی سَبِیلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْیاءٌ وَ لکِنْ لا تَشْعُرُونَ)3 إذن هو عزاء الله لمن یقتل من الشهداء فی سبیل الله بأنهم أحیاء وهو خطاب موجه لأسر الشهداء، وخطاب استنکاری لما یقوله المنافقون والمشرکون بأنّ هؤلاء أموات.

ص:46

کما استنکرت الآیات القرآنیة ما أرتکبه فرعون وهامان من طغیان واستکبار فی الأرض بقوله تعالی:(یَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ یَسْتَحْیِی نِساءَهُمْ) (1) وکذلک قوله تعالی:(یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذابِ یُذَبِّحُونَ أَبْناءَکُمْ وَ یَسْتَحْیُونَ نِساءَکُمْ) (2).

وذکر القرآن الکریم قتل ناقة صالح (علیه السلام) بقوله تعالی:(کَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها * فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ناقَةَ اللّهِ وَ سُقْیاها * فَکَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَیْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوّاها * وَ لا یَخافُ عُقْباها)3 هنا إشارة قرآنیة واضحة إلی نبذ القرآن الکریم لمفهوم القتل بغیر وجه حق، فقد جاء البیان القرآنی لیوضح حجم طغیان ثمود وأن الذی أرتکب الجریمة هو الأشقی من قوم ثمود، وأسند فعل القتل للقوم کلهم وذلک لرضاهم بفعل القتل کما أن الله تعالی بین حرمة الناقة من خلال إضافتها إلی ذاته (ناقة الله) ثم أن القرآن الکریم بین موقف السماء من قتلة الناقة بأنّ أنزل عذابه علیهم. فإذا کان موقف القرآن من ناقة صالح لکونها آیة من آیات الله أن أنزل عذابه علی قتلة الناقة فکیف بمن عدوا من شعائر الله - الأنبیاء والأئمة (علیهم السلام).

وقد جاءت جمیع تلک المصادیق ممدوحة من قبل الشارع المقدس کما فی قوله تعالی:(وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَی الرَّسُولِ تَری أَعْیُنَهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ یَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاکْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِینَ) (1).

لقد عد القرآن الکریم ظاهرة البکاء انعکاساً للتفاعل الإیمانی سیما أن کان منشأه هو إدراک الحقیقة.

وقول الله تعالی:(لَیْسَ عَلَی الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَی الْمَرْضی وَ لا عَلَی الَّذِینَ لا یَجِدُونَ ما یُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَی الْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ * وَ لا عَلَی الَّذِینَ إِذا ما أَتَوْکَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُکُمْ عَلَیْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْیُنُهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ یَجِدُوا ما یُنْفِقُونَ) (2). یمدح القرآن الکریم فی هذه الآیات المبارکات تأثر المؤمنین الذی تحول إلی انفعال بکائی بسبب عدم مقدرتهم علی المشارکة فی الجهاد فی سبیل الله والإنفاق فی أوجه الخیر.

وقوله تعالی:(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا یُتْلی عَلَیْهِمْ یَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً * وَ یَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ کانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً * وَ یَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ یَبْکُونَ وَ یَزِیدُهُمْ خُشُوعاً) (3). إنّ الخشوع الحاصل هو فعل من أفعال القلب، ولولا ذلک البکاء لما حصل وتحقق ذلک

ص:48

الخشوع للقلب، وجاء القرآن یمدح فیهم ذلک البکاء الذی کان مدخلاً لزیادة خشوع الإنسان.

وقوله تعالی:(أُولئِکَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ مِنْ ذُرِّیَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّیَّةِ إِبْراهِیمَ وَ إِسْرائِیلَ وَ مِمَّنْ هَدَیْنا وَ اجْتَبَیْنا إِذا تُتْلی عَلَیْهِمْ آیاتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُکِیًّا) (1).

القرآن الکریم یمتدح ذلک التأثر العاطفی والذی ظهر علی شکل بکاء من قبل الأنبیاء الذین هم القدوة الصالحة واقتران ذلک البکاء فی السجود الذی یدلل علی الخضوع لله تعالی والخشوع لآیات الله.

وقوله تعالی:(وَ تَوَلّی عَنْهُمْ وَ قالَ یا أَسَفی عَلی یُوسُفَ وَ ابْیَضَّتْ عَیْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ کَظِیمٌ * قالُوا تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْکُرُ یُوسُفَ حَتّی تَکُونَ حَرَضاً أَوْ تَکُونَ مِنَ الْهالِکِینَ * قالَ إِنَّما أَشْکُوا بَثِّی وَ حُزْنِی إِلَی اللّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (2). إنّ یعقوب (علیه السلام) نبی من أنبیاء الله عز وجل والقرآن الکریم یخلد للإنسانیة أفعال الأنبیاء وبذلک یعطینا القرآن قدوة نموذجیة للاقتداء به فی هذا التفاعل العاطفی وهو أحد الأدلة القرآنیة فی مشروعیة فعل البکاء علی ما فقد الإنسان. وإن بکاء یعقوب (علیه السلام) الذی استمر طیلة غیاب یوسف (علیه السلام) إنما کان لنبوة نبی آخر وما حل به، ویعقوب (علیه السلام) ممن وصفهم الله تعالی:(وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ

ص:49

بِأَمْرِنا وَ أَوْحَیْنا إِلَیْهِمْ فِعْلَ الْخَیْراتِ) (1) فهذا السلوک النبوی الذی حفظه الله لنا فی القرآن الکریم حتی یکون للمؤمنین قدوة فی الاتباع حیث قال الله تعالی فی آخر السورة:(لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الْأَلْبابِ ما کانَ حَدِیثاً یُفْتَری وَ لکِنْ تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَ تَفْصِیلَ کُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ) (2).

کما أن الصورة الواردة فی القرآن الکریم عن مفهوم البکاء لیس محددا بالجانب الإنسانی الخاضع لمقاییس العاطفة التعبیریة الحسیة بل امتد المفهوم لیشمل حقیقة إلهیة کونیة فی السموات والأرض وقد ورد هذا التأکید فی قوله تعالی:(فَما بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ) (3).

یری السید الشریف المرتضی فی هذه الآیة المبارکة أربعة وجوه من التأویل(4) لکون - السموات والأرض - من غیر ذوات الحواس فکیف ینفی البکاء عنهما وهو لا یجوز فی الحقیقة علیهما، والجواب کما أورده السید الشریف المرتضی (أعلی الله مقامه) هو کالتالی:

الأول: أنّه تعالی أراد أهل السماء والأرض فحذف کما حذف فی قوله تعالی:(وَ سْئَلِ الْقَرْیَةَ)5 وأراد أهل القریة، وکذلک قوله تعالی:(حَتّی تَضَعَ

ص:50

اَلْحَرْبُ أَوْزارَها) (1) وأراد بها أصحاب الحرب، ویجری ذلک مجری قولهم السماء حاتم، یرید السخاء سخاء حاتم. والذی یتضح من کلام السید أن المراد من الآیة أنّه ما بکتهم أهل السماء ولا أهل الأرض: هذا فی بیان الوجه الأول.

الثانی: هو أراد المبالغة فی وصف القوم بصغر القدر وسقوط المنزلة لأن العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالک قالت کسفت الشمس لفقده وأظلم القمر وبکاه اللیل والنهار یریدون بذلک المبالغة فی عظم الأمر وشمول ضرره.

وقول جریر(2) یرثی عمر بن عبد العزیز:

الشمس طالعة لیست بکاسفة تبکی علیک نجوم اللیل والقمرا

الثالث: أن یکون معنی الآیة الأخبار عن أنّه لا أحد أخذ بثأرهم ولا انتصر لهم، لأن العرب کانت لا تبکی علی قتیل إلا بعد الأخذ بالثأر وقتل من کان بواء به من عشیرة القاتل فکنی تعالی بهذا اللفظ عن فقد الانتصار، والأخذ بالثأر، علی مذهب القوم الذین خوطبوا بالقرآن.

الرابع: أن یکون ذلک کنایة عن أنّه لم یکن لهم فی الأرض عمل صالح یرفع منها إلی السماء ویطابق هذا التأویل ما روی عن ابن عباس فی قوله تعالی:(فَما بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ) قیل له أوتبکیان علی أحد؟ فقال: نعم مصلاه فی الأرض ومصعد عمله فی السماء(3).

ص:51

وروی أنس بن مالک عن النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) أنّه قال: ((ما من مؤمن إلا وله باب یصعد منه عمله وباب ینزل منه رزقه فإذا مات بکیا علیه))(1). ومعنی البکاء ها هنا الأخبار عن الاختلال بعده کما یقال: بکی منزل فلان بعده، فإذا لم یکن لهؤلاء القوم الذین أخبر الله عن بوارهم مقام صالح فی الأرض، ولا عمل کریم یرفع إلی السماء جاز أن یقال: فما بکت علیهم السماء والأرض.

وقد نقل ابن الجوزی، رأی مجاهد(2) الذی یقول فیه "ما مات مؤمن إلا وبکت علیه السماء والأرض أربعین صباحاً. فقیل له: أوتبکی؟ قال: وما للأرض لا تبکی علی عبد کان یعمرها بالرکوع والسجود وما للسماء لا تبکی علی عبد کان لتسبیحه وتکبیره فیها دوی کدوی النحل"(3).

ویری السید الطباطبائی أن کان بکاء السماء والأرض علی شیء فان کان کنایة تخیلیة عن تأثرهما عن موته وفقده، فعدم بکائهما علیهم بعد إهلاکهم کنایة عن هوان أمرهم علی الله وعدم تأثیر هلاکهم فی شیء من أجزاء الکون(4). ویری مکارم الشیرازی أن بکاء السماء والأرض بکاء

ص:52

حقیقی حیث تظهر احمراراً خاصاً غیر احمرار الغروب والطلوع(1).

وهذا یقتضی بوجود شأن للبکاء من السماء والأرض کظاهرة کونیة وإلا لما کان للنفی معنی محصل، حتی یشیر إلیه القرآن الکریم، وقد أوردت الکتب تحقق هذه الظاهرة الکونیة ووقوعها عند مقتل الإمام الحسین (علیه السلام)(2).

عَلی أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلی قَبْرِهِ إِنَّهُمْ کَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ) (1).

لقد جاء النهی من الله تعالی لنبیه من الوقوف علی قبور المنافقین أو الصلاة علیهم وهو ما علیه إجماع المفسرین کون الآیة نزلت بخصوص المنافقین،(2) من النهی عن الصلاة علی جنائزهم بقوله تعالی:(وَ لا تُصَلِّ عَلی أَحَدٍ مِنْهُمْ) أی المنافقین (ماتَ أَبَداً) أی بعد موته فأنه صلی الله علیه وآله وسلم کان یصلی علیهم ویجری علیهم أحکام المسلمین.

وقوله تعالی:(وَ لا تَقُمْ عَلی قَبْرِهِ) أی لا تقف علی قبره للدعاء، فإنّه صلوات الله علیه کان إذا صلی علی میت یقف علی قبره ساعة ویدعو له فنهاه الله عن الصلاة علی المنافقین والوقوف علی قبورهم والدعاء لهم. وقد بین سبحانه سبب النهی فی الأمرین فقال:(إِنَّهُمْ کَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ) فما صلی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بعد ذلک علی منافق حتی قبض وفی ذلک دلالة علی أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) کان یحضر جنائز المسلمین ویقف علی قبورهم للدعاء لهم ولم یقف أو یصلی علی منافق بعد ورود النهی(3). إذن فالقیام علی القبر للدعاء عبادة مشروعة ولولا ذلک لم یخص سبحانه بالنهی عن الکافر،(4) والذی یستفاد من الآیة الکریمة هو جواز الوقوف علی قبور المؤمنین والدعاء لهم والترحم علیهم لأن النهی الوارد فی الآیة مختص بالمنافقین وعلی هذا فإن هذه الآیة تعنی بمفهومها جواز زیارة قبور المؤمنین والوقوف علی قبورهم والدعاء لهم(5).

لقد أظهر الدین الإسلامی الحنیف العنایة الخاصة بالمؤمنین حتی بعد موتهم ضمن تشریعاته والأمر بتغسیل المیت وتکفینه والصلاة علیه ودفنه وأوجب أن یولی احتراماً کبیراً وأن یودع التراب بمراسم خاصة، وحتی بعد

ص:54

دفنه فإنّ من حقوقه أن یزور المؤمنون قبره ویستغفروا له ویطلبوا الرحمة له(1) ، وهو ما ذهب إلیه جملة من الإعلام من عدم اختصاص الآیة بالوقوف علی المیت للصلاة فقط إنما تفید الصلاة والزیارة والدعاء له عند موته أو بعد وفاته من خلال تعاهد قبره(2).

الله علیه وآله وسلم) جاء رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فوجده فی حجر أُمِّه، وضعه فی حجره وقال: "یا إبراهیم إنا لن نغنی عنک من الله شیئاً - ثم ذرفت عیناه - وقال: إنا بک یا إبراهیم لمحزونون تبکی العین ویحزن القلب ولا نقول ما یسخط الرب، ولولا أنّه أمر وحق ووعد صدق وأنها سبیل فانیة لحزنا علیک حزناً شدیداً أشد من هذا" ولما قال له عبد الرحمن بن عوف(1): أولم تکن نهیت عن البکاء؟ أجاب بقوله (صلی الله علیه وآله وسلم) لا ولکن نهیت عن صوتین أحمقین فاجرین: صوت عند مصیبة وخمش وجوه وشق جیوب ورنة شیطان، وصوت عن نغمة لهو، وهذه رحمة ومن لا یرحم لا یرحم.

وبکاء النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) علی أبنته زینب(2)

عن ابن عباس قال: لما ماتت زینب بنت رسول الله (صلی الله علیه

ص:56

وآله وسلم) قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ألحقوها بسلفنا الخیر عثمان بن مظعون(1) ، فبکت النساء فجعل عمر یضربهن بسوطه فأخذ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یده وقال: "مهلاً یا عمر دعهن یبکین... إلی أن قال - وقعد رسول الله علی شفیر القبر وفاطمة إلی جانبه تبکی فجعل النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) یمسح عینی فاطمة بثوبه رحمة لها(2).

ومنها بکاء النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) علی فاطمة بنت أسد(3)

عن ابن عباس قال:" أقبل علی بن أبی طالب (علیه السلام) ذات یوم إلی النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) باکیاً وهو یقول: "إنا لله وإنا إلیه راجعون" فقال له رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) مه یا علی، فقال علی (علیه السلام) یا رسول الله ماتت أمی فاطمة قال: فبکی النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) ثم قال: رحم الله أمک یا علی أما أنّها إن کانت لک أماً فقد کانت لی أماً"(4).

ص:57

وکذلک بکاء النبی علی عمه حمزة(1)

فقد روی أنّه: ((لما أصیب حمزة رضی الله عنه جاءت صفیة بنت عبد المطلب(2) تطلبه فحالت بینها وبینه الأنصار، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) دعوها فجلست عنده فجعلت إذا بکت بکی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وإذا نشجت نشج(3) وکانت فاطمة (علیها السلام) تبکی ورسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) کلما بکت یبکی، وقال لن أصاب بمثلک أبداً))(4).

والذی یستفاد من هذه الروایة أنها اشتملت علی أمرین مهمین الأول: بیان فعل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو البکاء، وبکاء السیدة صفیة بنت عبد المطلب وفاطمة الزهراء إذ لم یبد النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) أی اعتراض علی فعلهن من البکاء علی حمزة (رضی الله عنه).

ص:58

وروی أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لما رجع من أحد(1) ، جعلت نساء الأنصار یبکین علی من قتل من أزواجهن قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ولکن حمزة لا بواکی له، ثم نام فاستنبه وهن یبکین قال فهن الیوم إذا یبکین یندبن بحمزة(2).

وعن ابن مسعود(3) قوله: "ما رأینا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) باکیاً أشد من بکائه علی حمزة (رضی الله عنه) وضعه فی القبلة ثم وقف علی جنازته وانتحب حتی نشق أی شهق حتی بلغ به الغشی یقول یا عم رسول الله وأسد الله وأسد رسول الله یا حمزة یا فاعل الخیرات یا حمزة یا کاشف الکربات یا حمزة یا ذاب یا مانع عن وجه رسول الله"(4). ومنها بکاء رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) علی سعد بن الربیع(5) لما قتل بأُحد

ص:59

عن جابر بن عبد الله الأنصاری(1) انه قال:" لما قتل سعد بن الربیع بأُحد رجع رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) إلی المدینة... وکانت امرأة سعد امرأة حازمة صنعت طعاماً، خبزاً ولحماً، ثم دعت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهی یومئذ بالأسواف(2) فانصرفنا إلی النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) من الصبح، فبینما نحن عنده جلوس ونحن نذکر وقعة أحد ومن قتل من المسلمین، ونذکر سعد بن الربیع إلی أن قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): قوموا بنا، فقمنا معه ونحن عشرون رجلاً حتی انتهینا إلی الأسواف، فدخل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ودخلنا معه فنجدها قد رشت ما بین صورین، وطرحت خصفةً (3). قال جابر بن عبد الله: والله ما ثم وسادة ولا بساط، فجلسنا ورسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یحدثنا عن سعد بن ربیع، یترحم علیه ویقول: لقد رأیت الأسنة شرعت إلیه یومئذ حتی قتل، فلما سمع النسوة ذلک بکین، فدمعت عینا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وما نهاهن عن شیء من البکاء(4).

ص:60

کما بکی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) شهداء مؤتة(1)

وقد جاء بالخبر أن النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) بکی علی جعفر بن أبی طالب(2) وزید بن حارثة(3) وقال: أخوای ومؤنسای ومحدثای(4).

وفی روایة أنّه لما جاء النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) نعی جعفر بن أبی طالب (علیه السلام) أتی امرأته أسماء بنت عمیس(5) فعزاها، ودخلت فاطمة وهی تبکی وتقول: واعماه فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): علی مثل جعفر فلتبک البواکی(6) وجلس رسول الله (صلی الله

ص:61

علیه وآله وسلم) فی المسجد یعرف فیه الحزن بعدما جاء خبر مقتل زید بن حارثة(1) وجعفر بن أبی طالب وعبد الله بن رواحة(2).

وحزن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حزناً شدیداً علی مقتل القراء(3).

عن أنس بن مالک قال: "قنت(4) رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) شهراً حین قتل القراء فما رأیت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حزن حزناً قط أشد منه(5).

کما بکی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) علی العدید من أصحابه عند موتهم ومنهم عثمان بن مظعون، عن عائشة: أن النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) دخل علی عثمان بن مظعون وهو میت فکشف عن وجهه ثم انکب علیه فقبله وبکی حتی رأیت الدموع تسیل علی وجنتیه(6).

ص:62

ب - بکاء الصحابة

لقد سجلت کتب التاریخ والسیرة والحدیث حالات عدیدة لبکاء الصحابة نذکر منها:

بکاء عمر بن الخطاب مع أبی بکر علی سعد بن معاذ(1) ، حتی قالت عائشة: فوالذی نفس محمد بیده إنّی لأعرف بکاء أبی بکر من بکاء عمر وإنی لفی حجرتی(2) وبکی الخلیفة عمر بن الخطاب علی النعمان بن مقرن المزنی(3) لما جاء نعیه فخرج ونعاه إلی الناس ووضع یده علی رأسه یبکی(4).

کما بکی الخلیفة عمر بن الخطاب أخاه زید بن الخطاب(5) وکان صحبه

ص:63

رجل من بنی عدی بن کعب، فرجع إلی المدینة فلما رآه عمر دمعت عیناه وقال: وخلفت زیداً قاضیاً وأتیتنی(1).

وبکت هند بنت عمرو بن حرام (عمة جابر بن عبد الله الأنصاری)، یوم أُحد أخیها عبد الله بن عمرو(2) ، وقال جابر: فجعلت أبکی وجعل القوم ینهونی ورسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لا ینهانی. فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ابکوه ولا تبکوه فو الله ما زالت الملائکة تظلله بأجنحتها حتی دفنتموه(3).

وذهب البعض إلی منع البکاء وکونه مما یعذب به المیت ولعل أدلة المانعین تندفع بما جاء عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وعن أهل بیته وصحابته. وقد جاءت روایة المنع بروایة عمر بن الخطاب، وعن عبد الله ابن عمر(4) أنّ رسول

ص:64

الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قال:" إنّ المیت یعذب ببکاء أهله"(1). وقد روی بلفظ آخر عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) إنّ المیت لیعذب ببکاء أهله علیه(2). فذکر ذلک لعائشة فقالت: - وهی تعنی ابن عمر - "إنّما مر النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) علی قبر یهودی فقال: إنّ صاحب هذا القبر لیعذب وأهله یبکون علیه، ثم قرأ: قوله تعالی:(وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْری)3 .

وروت عمرة(3): أنّها سمعت عائشة وذکرت لها أنّ عبد الله بن عمر یقول: إنّ المیت لیعذب ببکاء الحی، فقالت عائشة: أما إنّه لم یعذب ولکنه أخطأ أو نسی إنّما مر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) علی یهودیة یبکی علیها أهلها فقال: إنّهم لیبکون علیها وإنّها لتعذب فی قبرها(4).

ولعل فی سیرة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وأهل بیته وصحبه خیر دلیل علی دفع هذه الروایات کما أنّ روایات المنع تلک تخالف ظاهر القرآن الکریم وهذا ما استدلت به عائشة بقوله تعالی:(وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْری)6 وفی قوله تعالی:(وَ أَنْ لَیْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعی)7 وقوله

ص:65

تعالی:(فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ * وَ مَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ) (1).

وقوله تعالی:(لِتُجْزی کُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعی)2 فظاهر دلائل الآیات أنّ الإنسان هو المسؤول عن فعله وأنْ لا جنایة علیه إلا بما قام به وفعله، لا بما قام به وفعله غیره، لأن مثل هذا - أن یؤاخذ الإنسان بجریرة غیره - مما ینافی مبادئ العدل الالهی وبذلک یتضح بطلان ذلک القول، وان کان هناک منع أو نهی عن البکاء فقد نسخ وأُبیح الفعل وهذا ما دلت علیه أخبار السلف وما وقع منهم وما فعلوه أثناء مسیرة حیاتهم.

ج - بکاء أهل البیت (علیهم السلام)

قد ذکرنا فیما سبق بکاء الصدیقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) علی عمها حمزة وعلی ابن عمها جعفر الطیار کذلک بکت الزهراء علی أبیها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو من المشهور فی کتب الفریقین وکانت الصدیقة الطاهرة کثیرة الذکر لأبیها وقد بکته حتی عدت من البکائین(2) وقد وصف أنس بن مالک حال الزهراء بعد دفن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بقوله: لما فرغنا من دفن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أقبلت علیّ فاطمة فقالت: یا أنس کیف طابت أنفسکم أن تحثوا علی وجه رسول الله التراب؟ ثم بکت ونادت یا أبتاه: إلی جبریل ننعاه یا

ص:66

أبتاه: جنة الفردوس مأواه...(1).

عن علی (علیه السلام) قال: إنّ فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) جاءت إلی قبر أبیها بعد موته فوقفت علیه وبکت، ثم أخذت قبضة من تراب القبر فجعلتها علی عینها ووجهها وانشأت تقول:

ماذا علی من شم تربة أحمد أن لا یشم مدی الزمان غوالیا

صبت علیَّ مصائب لو أنها صبت علی الأیام صرن لیالیا(2)

وعن محمد بن لبید(3) قال: لما قبض رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) کانت فاطمة (علیها السلام) تأتی قبور الشهداء وتأتی حمزة وتبکی هناک، فلما کان فی بعض الأیام أتیت قبر حمزة فوجدتها تبکی هناک، فامهلتها حتی سکنت، فأتیتها وسلمت علیها وقلت: یا سیدة النسوان قد والله قطعت نیاط قلبی من بکائک، فقالت: یا أبا عمر ویحق لی البکاء، فلقد أُصبت بخیر الآباء رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) واشوقاه إلی رسول الله ثم انشأت تقول:

ص:67

اذا مات یوماً میت قل ذکره وذکر أبی مذ مات والله أکثر(1)

وعن أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) انه قال: عاشت فاطمة (علیها السلام) بعد أبیها خمسة وسبعین یوماً. لم تُرَ کاشرة ولا ضاحکة، تأتی قبور الشهداء فی کل جمعة مرتین. الاثنین والخمیس، فتقول: ها هنا کان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ها هنا کان المشرکون(2).

وقال سبط ابن الجوزی: إنّها اعتزلت القوم ولم تزل تندب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وتبکیه حتی لحقت به(3).

لقد اعتزلت الصدیقة فاطمة (علیها السلام) عن المدینة فی بیت بالبقیع(4) سمی (بیت الحزن)(5) بناه الإمام علی (علیه السلام) لفاطمة کی تبکی أبیها فیه. ویتضح من هذه الأخبار الخاصة بسیدة نساء العالمین هو أن لا مانع شرعی فی جواز البکاء علی المیت أو فی زیارة القبور ولو ثبت ذلک فعلاً لما قامت الصدیقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) من فعله وقد عکست سیرتها

ص:68

الفعلیة المنقولة إلینا أنّها لم تنقطع طیلة فترة بقائها بعد أبیها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) من البکاء وزیارة القبور خصوصاً قبور الشهداء.

کما بکی أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو یؤبن أخاه وابن عمه فقد غسله وکفنه وتولی دفنه ومما قاله: "إنّ الصبر لجمیل إلا عنک، وإنّ الجزع لقبیح إلا علیک، وإنّ المصاب بک لجلیل وبعدک لجلل"(1).

ثم قال الإمام علی (علیه السلام) یرثی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بقوله:

ما غاض دمعی عند نازلة إلا جعلتک للبکا سببا

فاذا ذکرتک سامحتک به منی الجفون ففاض وانسکبا

إنّی أُجل ثری حللت به من أن أری لسواه مکتئبا

کذلک روی عن الإمام علی (علیه السلام) بکاؤه علی السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) عند وفاتها.

فتشیر الروایة إلی أنّه لما أُخبر الإمام علی (علیه السلام) بوفاة الزهراء (علیها السلام)" وهو فی المسجد غشی علیه، حتی رُشَّ علیه الماء ثم أفاق وکان یقول: بمن العزاء یا بنت محمد. کنت بک أتعزی ففیما العزاء من بعدک(2). لقد کان لوجود الزهراء قرب أمیر المؤمنین سلوة لفقده رسول الله

ص:69

(صلی الله علیه وآله وسلم) وقد اشتدت مصیبته وتجدد حزنه وبکاؤه لفقد فاطمة (علیها السلام).

وقال المسعودی: إنّه لما قبضت فاطمة (علیها السلام) جزع علی (علیه السلام) جزعاً شدیداً واشتد بکاؤه وظهر أنینه وحنینه وقال فی ذلک:

لکل اجتماع من خلیلین فرقة وکل الذی دون الممات قلیل

وإنّ افتقادی فاطم بعد احمد دلیل علی أن لا یدوم خلیل(1)

وقال سبط بن الجوزی: ولما دفنها علی (علیه السلام) أنشد:

الا ایها الموت الذی لیس تارکی أرحنی فقد أفنیت کل خلیل

أراک بصیراً بالذین أحبهم کأنک تنحو نحوهم بدلیل

ثم جاء إلی قبر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وقال: السلام علیک یا رسول الله، وعلی ابنتک النازلة فی جوارک، السریعة اللحاق بک، قلَّ تصبری عنها، وضعف تجلدی علی فراقها إلاّ أنّ فی التأسی لی بعظیم فرقتک، وفادح مصیبتک مقنع، فإنا لله وإنا إلیه راجعون فلقد استرجعت الودیعة، وأُخذت الرهینة. أمّا حزنی علیکما فسرمد وأمّا لیلی فمسهد إلی أن یختار الله لی دارک التی أنت بها مقیم. فعلیکما منی السلام سلام مودع لا قالٍ ولا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة وإن أُقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرین(2).

ص:70

کما بکی الإمام علی (علیه السلام) علی بعض أصحابه فیروی أنّ الإمام علیاً (علیه السلام) قال: یا عدی بن حاتم(1) قتل عمار(2) قال: نعم فبکی علی وقال: رحمک الله یا عمار. کما روی أنّه قتل فی ذلک الیوم هاشم ابن عتبة(3) فبکی علی (علیه السلام) علیهما وصلی علیهما وجعل عماراً مما یلیه وهاشم بن عتبة مما یلی القبلة ولم یغسلهما،(4) کما بکی الإمام علی (علیه السلام) لمقتل محمد بن أبی بکر(5). وانه لما بلغ علی (علیه السلام) قتل محمد بن أبی بکر بکی وتأسف علیه ولعن قاتله(6) وعلی مالک

ص:71

الاشتر(1) قال الإمام علی (علیه السلام) علی مثل مالک فلتبک البواکی(2).

وبکی الإمام الحسن بن علی (علیهما السلام) علی أبیه أمیر المؤمنین لما استشهد.

فقد روی الشیخ المفید بإسناده أنّ الإمام الحسن (علیه السلام) خطب صبیحة اللیلة التی قبض فیها أمیر المؤمنین (علیه السلام) فحمد الله وأثنی علیه، وصلی علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ثم قال "لقد قبض فی هذه اللیلة رجل لم یسبقه الأولون بعمل ولا یدرکه الآخرون بعمل، لقد کان یجاهد مع رسول الله فیقیه بنفسه.

وکان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یوجهه برایته فیکنفه جبرائیل عن یمینه ومیکائیل عن یساره، فلا یرجع حتی یفتح الله علی یدیه، ولقد استشهد (علیه السلام) فی اللیلة التی عرج فیها بعیسی ابن مریم (علیهما السلام) وفیها قبض یوشع بن نون وصی موسی، وما خلف صفراء ولا بیضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه، أراد ان یبتاع بها خادماً لأهله" ثم خنقته العبرة فبکی وبکی الناس معه(3).

ص:72

بهالیل منهم جعفر وابن أمه علی ومنهم أحمد المتخیر(1)

ولما توفی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) رثته، فاطمة الزهراء (علیها السلام) بقولها:

ماذا علی من شم تربة أحمد أن لا یشم مدی الزمان غوالیا

صبت علیَّ مصائب لو أنّها صبت علی الأیام صرن لیالیا(2)

وربما یفهم من هذا أنّ فاطمة الزهراء (علیها السلام) کانت أول من رثی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)(3). وکذلک قول الزهراء علیها السلام بحق أبیها (صلی الله علیه وآله وسلم)(4)

إنّا فقدناک فقد الأرض وابلها وغاب مذ غبت عنا الوحی والکتب

فلیت قبلک کان الموت صادفنا لما نعیت وحالت دونک الحجب

وممن رثی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) کذلک الإمام علی بن أبی طالب (علیه السلام) بقوله:

ألا طرق الناعی بلیل فراعنی وأرقنی لما استقل منادیا

فقلت له لما رأیت الذی أتی أغیر رسول الله إن کنت ناعیا

ص:74

إلی أن یقول:

لیبک رسول الله جیران طیبة ویبک علی الإسلام من کان باکیا(1)

وممن رثاه من أصحابه وذکر فی شعره جلیل مصابه أبو بکر، فمما قاله أبو بکر:

ویا عین فابکی ولا تسأمی وحق البکاء علی السید

علی ذی الفواضل والمکرمات ومحض الغریبة والمحتد

علی خیر خندف عند البلاء امسی یغیب فی الملحد

فصلی الملیک ولی العباد ورب البلاد علی أحمد

فکیف الإقامة بعد الحبیب وزین المحافل والمشهد

فلیت الممات لنا کلنا وکنا جمیعاً مع المهتدی(2)

ومما قاله أبو سفیان(3) بن الحارث بن عبد المطلب یرثی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)

أرقت وبات لیلی لا یزول ولیل أخی المصیبة فیه طول

وأسعدنی البکاء وذاک فیما أصیب المسلمون به قلیل

فقد عظمت مصیبتنا وجلت عشیة قیل قد قبض الرسول

ص:75

الی أن یقول:

أفاطم أن جزعت فذاک عذر وإن لم تجزعی فهو السبیل

فعوذی بالعزاء فإن فیه ثواب الله والفضل الجزیل

وقولی فی أبیک ولا تملی وهل یجزی بفعل أبیک قیل

فقبر أبیک سید کل قبر وفیه سید الناس الرسول

صلاة الله من رب رحیم علیه لا تحول ولا تزول(1)

وممن رثی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حسان بن ثابت فی قصیدة طویلة نذکر منها:

ما بال عینک لا تنام کأنما کحلت مآقیها بکحل الأرمد

جزعاً علی المهدی أصبح ثاویاً یا خیر من وطئ الحصا لا تبعد

الی أن یقول:

والله أسمع ما بقیت بهالک إلا بکیت علی النبی محمد(2)

وممن رثت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) من النساء عمته صفیة بنت عبد المطلب بقولها:

أفاطم صلی الله رب محمد علی جدث أمسی بیثرب ثاویا

أری حسناً أیتمته وترکته یبکی ویدعو جده الیوم نائیا

ص:76

فدی لرسول الله أمی وخالتی وعمی ونفسی قصرة ثم خالیا(1)

ورثت عائشة اخیها عبد الرحمن(2) لما وقفت علی قبره وبکت علیه وتمثلت بقول الشاعر(3) متمم بن نویرة فی مرثیته لاخیه مالک بن نویرة(4):

وکنا کندمائی جذیمة حقبة من الدهر حتی قیل لن یتصدعا

فلما تفرقنا کأنی ومالکاً لطول اجتماع لم نبت لیلة معا(5)

أنّ الإسلام قد قطع کل العلاقات القأئمة مع الشرک وأهله، فنهی النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) عن زیارة الأموات والمتحقق أنّ الأموات إنّما کانوا مشرکین ومن عبدة الأصنام ولکون المسلمین حدیثی عهد بالإسلام، ولم تزل آثار السلوکیات الجاهلیة عالقة بهم ولما تمرکز الإسلام فی قلوبهم وأنسوا بالشریعة والأحکام ألغی النبی الأکرم (صلی الله علیه وآله وسلم) النهی عن زیارة القبور. قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) کنت نهیتکم عن زیارة القبور، فزوروها، فإنّها تزهد فی الدنیا وتذکر الآخرة(1) وقالت عائشة: ان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) رخص فی زیارة القبور(2) وکان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یزور القبور بالبقیع ویخرج فی آخر اللیل لزیارتهم وفی ذلک تقول عائشة: إنّ النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) قال: أمرنی ربی أن آتی البقیع فأستغفر لهم، قلت وکیف أقول یا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أی عندما أزورهم قال: قولی السلام علی أهل الدیار من المؤمنین والمسلمین، یرحم الله المستقدمین منا والمستأخرین، وإنّا إن شاء الله بکم لاحقون(3).

والمستفاد من هذه الروایة أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) کان یزور قبور الصحابة، کما أنّه علم عائشة ما تقوله فی الزیارة عندما تأتی

ص:78

القبور، وهذا یدلل علی عدم منع النساء من الزیارة.

وأورد العینی جملة من الأدلة من السنة النبویة الشریفة الدالة علی جواز الزیارة للنساء والرجال معاً بقوله: "اعلم أنّ الناس اختلفوا فی زیارة القبور، وأنّ أهل العلم قاطبة علی الإذن، وفی ذلک للرجال" (1) أی أن لا ضیر فی زیارة القبور للرجال. وقال ابن عبد البر: إن الإباحة فی زیارة القبور إباحة عموم، کما کان النهی عن زیارتها نهی عموم، فجائز للرجال والنساء زیارة القبور(2). وروی فی إباحة الزیارة أحادیث کثیرة منها:

من تلک الأحادیث ما أخرجه مسلم قال: "قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): ((نهیتکم عن زیارة القبور فزوروها..))"(3). وروی الترمذی أیضاً ولفظه:" قد کنت نهیتکم عن زیارة القبور فقد أذن لمحمد فی زیارة قبر أمه فزوروها فإنها تذکر الآخرة"(4).

ومنها ما أخرجه ابن ماجة فی ذلک الخصوص: ((أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قال: کنت نهیتکم عن زیارة القبور فزوروا القبور، فإنها تزهد فی الدنیا وتذکر الآخرة"(5).

ومنها حدیث أنس أخرجه ابن أبی شیبة عنه، قال: "نهی رسول الله

ص:79

(صلی الله علیه وآله وسلم) عن زیارة القبور، ثم قال: زوروها ولا تقولوا هجراً، یعنی سوءاً"(1). ومنها حدیث عائشة أخرجه ابن ماجة عنها:" أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) رخص فی زیارة القبور"(2).

ومنها حدیث علی بن أبی طالب (علیه السلام) أخرجه أحمد عنه: "أنّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قال: إنّی کنت نهیتکم عن زیارة القبور فزوروها فإنها تذکرکم الآخرة"(3). ومنها حدیث أبی هریرة(4):" أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أتی المقبرة فقال: السلام علیکم دار قوم مؤمنین وإنا إن شاء الله بکم لاحقون"(5).

قال العینی: "احتج من أباح زیارة القبور للنساء بحدیث عائشة عن عبد الله بن أبی ملیکة(6) ، أن عائشة أقبلت ذات یوم من المقابر، فقلت لها: من أین أقبلت؟ قالت: من قبر أخی عبد الرحمن بن أبی بکر فقلت لها: ألیس

ص:80

کان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ینهی عن زیارة القبور؟ قالت: نعم کان ینهی عن زیارتها ثم أمر بزیارتها.

وکان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یأتی قبور الشهداء عند رأس الحول فیقول: السلام علیکم بما صبرتم، فنعم عقبی الدار، وکان أبو بکر وعمر وعثمان یفعلون ذلک وزار رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قبر أمه یوم الفتح فی ألف مقنع" ،وذکر ابن أبی شیبة عن علی وابن مسعود، وأنس، إجازة الزیارة. وکانت فاطمة (علیها السلام) تزور قبر حمزة (علیه السلام) کل جمعة...(1). وقد أشار العینی إلی جملة من الأدلة التی اعتمدها جمهور علماء المسلمین الذین استدلوا علی جواز فعل الزیارة، وأنّها شملت الإباحة لکلٍ من الرجال والنساء وهذا ما علیه إجماع المسلمین إلا ما شذ منهم.

وکانت عائشة تزور القبور بعد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو ما رواه الترمذی: ((أنّه لما مات عبد الرحمن بن أبی بکر - شقیق عائشة - فی (الحبشی)(2) حملوا جثمانه إلی مکة ودفنوه فیها ولما جاءت عائشة إلی مکة - من المدینة - خرجت لزیارة قبر أخیها وأنشدت بیتین فی رثائه))(3).

ص:81

أما السیدة فاطمة الزهراء (علیه السلام) بنت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فقد کانت تخرج إلی زیارة قبر عمها حمزة فی کل جمعة أو أقل من ذلک، وکانت تصلی عند قبره وتبکی(1).

وعون(1) ، ومحمد(2) فمسح رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فقالت: إنک تمسح رؤوسهم کأنهم أیتام فتعجب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) من عقلها فقال: یا أسماء ألم تعلمی أن جعفراً استشهد فبکت فقال لها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لا تبکی فإنّ جبرائیل (علیه السلام) أخبرنی أن له جناحین فی الجنة من یاقوت أحمر، فقالت: یا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر لا ینسی فضله، فعجب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) من عقلها ثم قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ابعثوا إلی أهل جعفر طعاماً، فجرت السنة(3).

وکما حثت السنة علی الطعام فی المأتم لانشغال ذوی المیت وأهله

ص:83

بالمصیبة حضت السنة علی التصدق بالنیابة عن المیت وهو ما کان یفعله رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بذبحه الشاة وتقطیعها ثم یبعثها فی صدائق خدیجة(1). وأخرج الإمام أحمد، أن سعد بن عبادة(2) قال: إنّ أخا بنی ساعدة توفیت أمه وهو غائب عنها، فقال: یا رسول الله إنّ أمی توفیت وأنا غائب عنها فهل ینفعها إن تصدقت بشیء عنها فقال: نعم قال: فأنی أشهدک أن حائط المخدف صدقة علیها(3).

ص:84

لقد کانت منطلقات الشعائر الحسینیة الأولی إلهیة قد بینت بتشریع رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لها وأئمة أهل البیت من بعده، وکان للامة الاسوة بنبیها فی جمیع افعاله واقواله وتروکه اذ انها حجة علی الامة بالزام الله المسلمین بقوله تعالی (وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (1) ، کما ان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لم ینطلق مع أهل بیته من منطلق الوشائج العاطفیة أو النسبیة بل کانت وفق ارتباط سماوی الهی، اذ لم یکن الاختیار منه صلوات الله علیه لمنزلتهم فی مقام الإمامة انما هو بما نالوه من طاعة وعبودیة له سبحانه تعالی واختصاص الله لهم لتلک المنزلة، فکان جمیع ما اخبر به الرسول الاعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) سواء ما یتعلق بمکانتهم الدینیة التی بینها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بأکثر من موقع وحدث والتی کانت برعایة السماء وتوجیهاتها کما فی قوله تعالی:(إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی) (2) ، وقوله تعالی:(ما یَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَیْهِ رَقِیبٌ عَتِیدٌ) ،(3) أو ما سیقع للإمام الحسین (علیه السلام) علی ید الامة من انتهاک لحرمة الإسلام وحرمة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وحرمات الله جمیعاً.

فقد جاءت الروایات بطرق عدیدة ومعتبرة، لتؤکد أخبار السماء بمقتل الحسین بن علی (علیهما السلام) وتعد تلک الأخبار من أعلام النبوة التی

ص:86

أخبرت بالغیبیات التی ستقع، ومما أوحی الله به لنبیه ما سیقع علی أهل بیته (علیهم السلام) والحسین (علیه السلام) أحد أفراد هذا البیت النبوی ومنه قول رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) للحسین (علیه السلام) حینما سأله عن سبب بکائه:

"...هبط إلی جبرائیل فأخبرنی أنّکم قتلی وأنّ مصارعکم شتی، فحمدت الله علی ذلک وسألت لکم الخیرة..."(1).

جعفر بن أبی طالب، ولقد عادت مع زوجها إلی المدینة بعد فتح خیبر(1) ، علماً أنّ الإمام الحسین (علیه السلام) قد ولد السنة الرابعة من الهجرة،(2) ولعل خطأً قد وقع فیه الکثیر من الرواة بین أسماء بنت عمیس وأسماء أخری من الصحابیات، والأرجح أنّها أسماء بنت أبی بکر(3) والذی یؤیده روایة الصدوق بسنده عن أسماء بنت أبی بکر عن صفیة بنت عبد المطلب أنّها قالت: "لما سقط الحسین من بطن امه وکنت ولیتها..."(4). وفی روایة أخری عنه ایضاً - الصدوق -:" لما سقط الحسین من بطن امه ثم دفعه الی وهو یبکی ویقول: لعن الله قوما هم قاتلوک یا بنی قالها ثلاثاً. قالت: فداک أبی وأمی من یقتله؟ قال تقتله الفئة الباغیة من بنی أُمیة "(5) فقد تکون لفظة" بنت

ص:88

عمیس "هو من اقحام الرواة، انطلاقاً مما هو مرتکز فی اذهانهم عن الصحابیة الجلیلة أسماء بنت عمیس وقربها من أهل البیت (علیهم السلام) کونها زوجة جعفر بن أبی طالب وزید فی الروایة" بنت عمیس".

کذلک أخبرت أم الفضل بنت الحارث(1) بمقتل الإمام الحسین (علیه السلام) حیث ذکر" أنّها دخلت علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فقالت یا رسول الله، إنّی رأیت حلماً منکراً اللیلة، قال: وما هو؟ قالت إنّه شدید، قال: وما هو؟ قالت: رأیت کأن قطعة من جسدک قطعت ووضعت فی حجری فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) رأیت خیراً، تلد فاطمة - إن شاء الله غلاماً فیکون فی حجرک فولدت فاطمة (علیها السلام) الحسین (علیه السلام) فکان فی حجری کما قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فدخلت یوماً إلی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فوضعته فی حجره ثم حانت منی التفاتة فإذا عینا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) تهریقان من الدموع قالت: فقلت: یا نبی الله، بأبی أنت وأُمی مالک؟ قال: أتانی جبرئیل (علیه السلام) فأخبرنی أنّ أُمتی ستقتل ابنی هذا فقلت: هذا؟ قال: نعم وأتانی بتربة من تربته حمراء"(2).

ص:89

إنّ ما نسب إلی أم الفضل بنت الحارث زوجة العباس بن عبد المطلب(1) فی أمر رؤیاها مع العلم أنّها کانت مع زوجها العباس بن عبد المطلب فی مکة حینما ولد الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) ولم یکن العباس قد آمن بعد والمحتمل ان تکون الروایة من وضع العباسیین الذین یهمهم إثبات أمر کهذا. أو تکون رؤیة أم الفضل کانت قبل هجرة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) من مکة وذلک یکون بطبیعة الحال قبل زواج فاطمة (علیها السلام) أصلاً والاحتمال الثالث أن یکون فی حجرها کإرضاعه لأنّه یستحیل منها ذلک والظاهر من کتب التاریخ أنّ صاحبة الرؤیا، وصاحبة المنام المذکور هی أم أیمن(2) والفرق بین الروایتین بدل فی "حجری" بروایة أم الفضل "فی بیتی" بروایة أم أیمن. والروایة کما جاءت علی لسان الإمام الصادق (علیه السلام) بقوله: "أقبلت جیران أم أیمن إلی النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) فقالوا یا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) إنّ أم أیمن لم تنم البارحة من

ص:90

البکاء، لم تزل تبکی حتی أصبحت قال: فبعث رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) إلی أم أیمن فجاءته فقال لها: یا أم أیمن لا أبکی الله عینیک إنّ جیرانک أتونی فأخبرونی أنّک لم تزالی اللیل تبکین فلا ابکی الله عینک، ما الذی أبکاک؟ قالت: یا رسول الله رأیت رؤیا عظیمة شدیدة، فلم أزل أبکی اللیل أجمع فقال: لها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فقصیهاعلی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فالله ورسوله أعلم، فقالت یعظم علیَّ أن أتکلم بها، فقال: الرؤیا لیست علی ما تُری فقصها علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قالت: رأیت فی لیلتی هذه کأن بعض أعضائک ملقی فی بیتی فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) نامت عینک یا أم أیمن تلد فاطمة فیکون بعض أعضائی فی بیتک"(1). وقد أورد الحافظ الخوارزمی:" أنّه لما أتی علی الحسین من ولادته سنة کاملة، هبط علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) اثنا عشر ملکاً محمرة وجوههم قد نشروا أجنحتهم وهم یقولون: یا محمد سینزل بولدک الحسین ما نزل بهابیل وقابیل، وسیعطی مثل أجر هابیل، ویحمل قاتله مثل وزر قابیل. قال: ولم یبق فی السماء ملک إلا ونزل علی النبی یعزیه بالحسین ویخبره بثواب ما یعطی ویعرض علیه تربته والنبی (صلی الله علیه وآله وسلم) یقول اللهم اخذل من خذله، واقتل من قتله، ولا تمتعه بما طلبه.

ص:91

ولما أتت علی الحسین من مولده سنتان کاملتان خرج النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) فی سفرة فلما کان فی بعض الطریق، وقف فاسترجع ودمعت عیناه فسئل عن ذلک فقال: هذا جبریل یخبرنی عن أرض بشاطئ الفرات یقال لها کربلاء(1) یقتل فیها ولدی الحسین ابن فاطمة فقیل من یقتله یا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)؟

فقال رجل یقال له یزید لا بارک الله فی نفسه وکأنّی انظر إلی منصرفه ومدفنه بها، وقد أُهدی رأسه والله ما ینظر أحد إلی رأس ولدی الحسین فیفرح إلا خالف الله بین قلبه ولسانه، قال: ثم رجع النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) من سفره ذلک مغموماً فصعد المنبر فخطب ووعظ والحسین بین یدیه مع الحسن.

فلما فرغ من خطبته وضع یده الیمنی علی رأس الحسین ورفع رأسه إلی السماء وقال: اللهم إنّی محمد عبدک ونبیک وهذان اطائب عترتی وخیار ذریتی وأرومتی ومن أخلفهما بعدی اللهم وقد أخبرنی جبریل بأنّ ولدی هذا مقتول مخذول اللهم فبارک فی قتله واجعله من سادات الشهداء إنّک علی کل شیء قدیر اللهم ولا تبارک فی قاتله وخاذله، قال فضج الناس بالمسجد بالبکاء، فقال: النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) أتبکون ولا تنصرونه؟ اللهم فکن أنت ولی وخیر ناصراً"(2).

ص:92

التربة التی یقتل بها؟ قال: فقلت بلی: قال: فضرب بجناحه فأتی بهذه التربة، قالت: وإذا فی یده تربة حمراء، وهو یبکی ویقول: لیت شعری من یقتلک بعدی(1).

وعن أُم سلمة أیضاً قولها:

" کان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) جالساً ذات یوم فی بیتی فقال: لا یدخل علیَّ أحد فانتظرت فدخل الحسین رضی الله عنه، فسمعت نشیج رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یبکی فاطلعت فإذا حسین فی حجره والنبی (صلی الله علیه وآله وسلم) یمسح جبینه وهو یبکی فقلت: والله ما علمت حین دخل فقال: إنّ جبریل (علیه السلام) کان معنا فی البیت، فقال: تحبه؟ قلت: أمّا من الدنیا فنعم، قال: إن أمتک ستقتل هذا - حسین - بأرضٍ یقال لها کربلاء، فتنأول جبریل (علیه السلام) من تربتها فأراها النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) فلما أحیط بحسین حین قتل قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: کربلاء، قال: صدق رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أرض کربٍ وبلاء"(2).

وعن أُم سلمة أنّها قالت: کان الحسن والحسین، (علیهما السلام)، یلعبان بین یدی النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) فی بیتی فنزل جبریل (علیه السلام) فقال: یا محمد إنّ أمتک تقتل ابنک هذا من بعدک فأومأ بیده إلی

ص:94

الحسین، فبکی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وضمه إلی صدره، ثم قال: رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ودیعة عندک هذه التربة، فشمها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وقال: ویح کرب وبلاء قالت، وقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یا أم سلمة: إذا تحولت هذه التربة دماً فاعلمی أنّ ابنی قد قتل، قال فجعلتها أم سلمة فی قارورة ثم جعلت تنظر إلیها کل یوم وتقول ان یوماً تحولین دماً لیوم عظیم"(1).

وعن أم سلمة أنّها قالت. قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): اجلسی بالباب، ولا یلجن علیَّ أحد، فقمت بالباب إذ جاء الحسین (علیه السلام) فذهبت أتناوله، فسبقنی الغلام فدخل علی جده، فقلت: یا نبی الله جعلنی الله فداک، أمرتنی أن لا یلج علیک أحد، وأنّ ابنک جاء فذهبت أتناوله فسبقنی، فلما طال ذلک تطلعت من الباب فوجدتک تقلب بکفیک شیئاً ودموعک تسیل والصبی علی بطنک؟ قال نعم، أتانی جبریل (علیه السلام) فأخبرنی أنّ أمتی یقتلونه، وأتانی بالتربة التی یقتل علیها فهی التی أقلب بکفی(2).

ومنها روایة أبی أُمامة(3) ، عن أم سلمة، قال رسول الله (صلی الله علیه

ص:95

وآله وسلم) لنسائه "لا تبکوا هذا الصبی" یعنی حسیناً، قال: وکان یوم أُم سلمة، فنزل جبرائیل فدخل علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) الداخل وقال لأم سلمة: "لا تدعی أحداً یدخل علیَّ" فجاء الحسین فلما نظر إلی النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) فی البیت أراد أن یدخل فاخذته أم سلمة فاحتضنته وجعلت تناغیه وتسکته فلما اشتد فی البکاء خلت عنه، فدخل حتی جلس فی حجر النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) فقال جبریل للنبی (صلی الله علیه وآله وسلم) إنّ أمتک ستقتل ابنک هذا، فقال النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) یقتلونه وهم قوم یؤمنون بی؟ قال نعم یقتلونه. فتنأول جبریل تربة فقال: مکان کذا وکذا، فخرج رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وقد احتضن حسیناً کاسف البال مهموماً، فظنت أم سلمة أنّه غضب من دخول الصبی علیه، فقالت: یا نبی الله جعلت لک الفداء إنّک قلت لنا: لا تبکوا هذا الصبی، وأمرتنی أن لا أدع أحداً یدخل علیک فجاء فخلیت عنه، فلم یرد علیها، فخرج إلی أصحابه، وهم جلوس فقال: "إنّ امتی یقتلون هذا" وفی القوم، أبو بکر وعمر وفی حدیث آخر أراهم تربته"(1).

وفی هذا المعنی ما روی عن أم المؤمنین أم سلمة، أنّها قالت: إنّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) اضطجع ذات لیلة للنوم فاستیقظ وهو حائر، ثم اضطجع فرقد واستیقظ وهو حائر دون ما رأیت به المرة الأولی، ثم اضطجع،

ص:96

فاستیقظ وفی یده تربة حمراء یقبلها، قلت: ما هذه التربة یا رسول الله؟ فقال: أخبرنی جبریل (علیه السلام) أنّ هذا یقتل بأرض العراق - للحسین - فقلت لجبریل أرنی تربة الأرض التی یقتل بها فجاء بها وهذه تربتها(1).

وفی روایة أخری عن أُم المؤمنین أُم سلمة، أنّها قالت: دخل الحسین علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ففزع، فقالت أم سلمة: مالک یا رسول الله؟ قال: إنّ جبریل أخبرنی أنّ ابنی هذا یقتل وأنّه اشتد غضب الله علی من یقتله(2).

وقد أخبر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) عن وقت ومکان مقتل الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) بقوله (صلی الله علیه وآله وسلم) یقتل الحسین علی رأس ستین من مهاجری(3).

وفی روایة أخری عن أم سلمة أنّها قالت: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یقتل الحسین حین یعلوه القتیر(4)

(5).

ص:97

وفی روایة عن أم المؤمنین أم سلمة أو عائشة، کما فی مسند أحمد أنّ النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) قال لأحدهما: لقد دخل علیَّ البیت ملک لم یدخل علیَّ قبلها، فقال لی: إنّ ابنک هذا مقتول، وإن شئت أریتک من تربة الأرض التی یقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء(1).

عن عائشة أنّها قالت:

بینا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) راقد إذ جاء الحسین یحبو إلیه، فنحیته عنه، ثم قمت لبعض أمری، فدنا منه، فاستیقظ یبکی، فقلت: ما یبکیک؟ قال: إنّ جبرئیل أرانی التربة التی یقتل علیها الحسین، فاشتد غضب الله علی من یسفک دمه، وبسط یده فإذا فیها قبضة من بطحاء فقال: یا عائشة والذی نفسی بیده إنّه لیحزننی، فمن هذا من أُمتی یقتل حسیناً بعدی(2).

وفی روایة أخری عن عائشة أنّها قالت:

إنّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أجلس حسیناً علی فخذه فجاءه جبریل إلیه، فقال: هذا ابنک! قال: نعم. قال: أما إنّ أمتک ستقتله بعدک، فدمعت عینا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فقال: جبریل ان شئت اریتک الأرض التی یقتل فیها؟ قال: نعم فاراه جبریل تراباً من تراب

ص:98

الطف(1) ، وفی لفظ آخر: فأشار له جبریل إلی الطف بالعراق فأخذ تربة حمراء فأراه ایاها فقال: هذه من تربة مصرعه(2).

وفی روایة ثالثة عن عائشة، قالت: دخل الحسین بن علی، علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو یوحی إلیه فنزا علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو منکب، ولعب علی ظهره، فقال: جبریل لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أتحبه یا محمد؟ قال: یا جبریل ومالی لا أحب ابنی؟ قال فإنّ أمتک ستقتله من بعدک.

فمد جبرئیل یده فأتاه بتربة بیضاء، فقال: فی هذه الأرض یقتل ابنک هذا یا محمد واسمها الطف، فلما ذهب جبریل (علیه السلام) من عند رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) والتربة فی یده یبکی فقال: یا عائشة إنّ جبریل أخبرنی أن الحسین ابنی مقتول فی أرض الطف، وأنّ أُمتی ستفتتن بعدی، ثم خرج إلی أصحابه... وهو یبکی فقالوا ما یبکیک یا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أخبرنی أنّ ابنی الحسین یقتل بعدی بأرض الطف وجاءنی بهذه التربة وأخبرنی أنّ فیها مضجعه(3).

ص:99

صدورهم وقلوبهم وسلط علیهم شرارهم وألبسهم شیعاً، ثم قال: واهاً لفراخ آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) من خلیفة مستخلف مترف، یقتل خلفی، وخلف الخلف"(1). وروایة سعید بن جهمان(2): أنّ النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) أتاه جبریل بتراب من تراب القریة التی یقتل بها الحسین (علیه السلام) فقال: اسمها کربلاء، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) کرب وبلاء(3).

أمّا حبر الامة، ابن عباس (رضی الله عنه) فإنّه قال: ما کنا نشک أهل البیت وهم متوافرون ان الحسین بن علی (علیهما السلام) یقتل بالطف"(4).

ومنه حدیث أنس بن مالک: قال: استأذن ملک القطر ربه أن یزور النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) فأذن له، وکان فی یوم أُم سلمة، فقال النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) یا أُم سلمة احفظی علینا الباب، ولا یدخل علینا أحد قال: فبینما هی علی الباب إذ جاء الحسین بن علی (علیهما السلام)، فاقتحم ففتح الباب فدخل فجعل النبی (صلی الله علیه وآله وسلم)

ص:101

یلتزمه ویقبله. فقال للنبی: أتحبه؟ قال: نعم. قال: إنّ أمتک ستقتله، إن شئت أریتک المکان الذی یقتل فیه؟ قال نعم: قال فقبض قبضة من المکان الذی یقتل فیه فأراه فجاء بسهلة أو تراب أحمر فأخذته أم سلمة فجعلته فی ثوبها قال ثابت: کنا نقول إنّها کربلاء"(1).

ومنها ما روی عن أنس بن الحارث(2) ، قال سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یقول: إنّ ابنی هذا - یعنی الحسین (علیه السلام) یقتل بأرض یقال لها کربلاء، فمن شهد ذلک فلینصره، فخرج أنس بن الحارث إلی کربلاء فقتل بها مع الحسین (علیه السلام)(3).

لقد أصبحت تلک الأخبار مرتکزات عقائدیة لدی بعض الصحابة ممن بقی حتی سنة إحدی وستین للهجرة، وکانوا ینتظرون ذلک الیوم کی یشارکوا فیه وخیر دلیل علی ذلک هو أنس بن الحارث الصحابی الذی سمع النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) وقتل مع الحسین (علیه السلام).

ومنها ما روی عن العریان بن هیثم بن الأسود(4) ، قال: کان أبی

ص:102

یتبدی(1) فینزل قریباً من الموضع الذی کان فیه معرکة الإمام الحسین، فکنا لا نبدو إلا وجدنا رجلاً من بنی اسد هناک، فقال له أبی: إنّی أراک ملازماً هذا المکان؟ قال: بلغنی أنّ حسیناً یقتل ها هنا، فأنا أخرج لعلی أُصادفه، فأُقتل معه. فلما قتل الحسین. قال أبی: انطلقوا ننظر هل الأسدی فیمن قتل؟ وأتینا المعرکة فنظروا فإذا الأسدی مقتول"(2).

حسناً، فقال: والذی نفسی بیده لینزلن بین ظهرانیکم ولتخرجن إلیهم فلتقتلنهم ثم أقبل یقول:

هم أوردوهم بالغرور وعردوا أحبوا نجاة لا نجاة ولا عذراً(1)

وعن عبد الله بن نجی عن أبیه "أنّه سار مع علی رضی الله عنه وکان صاحب مطهرته فلما حاذی نینوی(2) وهو منطلق إلی صفین(3) ، فنادی (علیه السلام) اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات، قلت: وماذا؟ قال: دخلت علی النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) ذات یوم وعیناه تفیضان قلت: یا نبی الله أغضبک أحد؟ ما شأن عینیک تفیضان. قال: بل قام من عندی جبریل قبل، فحدثنی أنّ الحسین یقتل بشط الفرات. قال: فقال: هل لک إلی أن أُشهدک من تربته؟ قال: قلت نعم فمد یده فقبض قبضته من تراب فأعطانیها فلم أملک عینی أن فاضتا"(4).

ص:104

ومنها ایضاً ما کان فی مسیرة الإمام علی علیه السلام إلی صفین، ما ذکره الأصبغ بن نباتة(1) ، قال: أتینا مع علی فمررنا بموضع قبر الحسین، فقل علی: هاهنا مناخ رکابهم، وها هنا موضع رحالهم، ها هنا مهراق دمائهم، فتیة من آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) یقتلون بهذه العرصة تبکی علیهم السماء والأرض(2).

وقد روی ابن أعثم الکوفی عن ابن عباس، فی ذکری خروج علی بن أبی طالب أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلی صفین لمحاربة معاویة، وقد أورده فی حدیث طویل، إلی أن یقول:... حتی نزل بکربلاء، ثم نظر إلی شاطئ الفرات، وأبصر هنالک نخیلاً فقال: یابن عباس، أتعرف هذا الموضع؟ فقال: لا یا أمیر المؤمنین ما أعرفه قال: أما لو أنک لو عرفته کمعرفتی لم تکن تجاوزه حتی تبکی لبکائی، قال ثم بکی علی (علیه السلام) بکاءً شدیداً، حتی اخضلت لحیته بدموعه، وسالت دموعه علی صدره، ثم جعل یقول: أواه مالی ولآل أبی سفیان، ثم التفت إلی الحسین (علیه السلام) فقال: اصبر أبا عبد الله فقد لقی أبوک منهم مثل الذی تلقی بعدی. ثم جعل علی (علیه السلام) یجول فی کربلاء کأنّه یطلب شیئاً، ثم نزل ودعا بماءٍ فتوضأ وضوء

ص:105

الصلاة، ثم قام فصلی ما شاء أن یصلی والناس نزلوا هنالک قرب نینوی إلی شاطئ الفرات، قال ثم خفض برأسه خفضة فنام وانتبه فزعاً...)(1).

کما روی أنّ الإمام علیاً (علیه السلام) "اتی کربلاء، فوقف بها فقیل: یا أمیر المؤمنین هذه کربلاء؟ قال: ذات کرب وبلاء، ثم أومأ بیده إلی مکان فقال ها هنا مهراق دمائهم"(2).

ومنها ما أورده ابن کثیر، من تلک الأخبار المرویة عن علی بن أبی طالب (علیه السلام):" انه مر بکربلاء عند اشجار الحنظل، وهو ذاهب إلی صفین فسأل عن اسمها فقیل کربلاء، فقال: کرب وبلاء فنزل وصلی عند شجرة هناک ثم قال: یقتل ها هنا شهداؤهم خیر الشهداء، یدخلون الجنة بغیر حساب"(3).

ولقد داخل الشک بعض أصحاب علی (علیه السلام) من أخباره بمقتل الإمام الحسین (علیه السلام) فعن غرفة الأزدی(4) قال دخلنی شک من شأن علی، خرجت معه علی شاطئ الفرات فعدل عن الطریق ووقف ووقفنا

ص:106

حوله، فقال بیده، هذا موضع رواحلهم ومناخ رکابهم ومهراق دمائهم، بأبی من لا ناصر له فی الأرض، ولا فی السماء إلا الله، فلما قتل الحسین خرجت حتی اتیت المکان الذی قتلوا فیه، فإذا هو کما قال ما أخطأ شیئاً قال فاستغفرت الله مما کان فیّ من شک، وعلمت أنّ علیاً (علیه السلام) لم یقدم إلا بما عهد إلیه فیه"(1).

وفی روایة أخری عن هرثمة بن سلیم(2) قال: غزونا مع علی بن أبی طالب (علیه السلام) غزوة صفین، فلما نزلنا بکربلاء صلی بنا صلاة، فلما سلم رفع إلیه من تربتها فشمها ثم قال: واها لک أیتها التربة لیحشرن منک قوم یدخلون الجنة بغیر حساب، فلما رجع هرثمة إلی امرأته - وهی جرداء بنت سمیر(3) - وکانت شیعة لعلی فقال لها زوجها هرثمة: ألا أُعجبک من صاحبک أبی الحسن؟ لما نزلنا کربلاء رفع إلیه من تربتها فشمها، وقال: واهاً لک یا تربة لیحشرن فیک قوم یدخلون الجنة بغیر حساب، وما علمه بالغیب؟ فقالت: دعنا منک أیها الرجل فإن أمیر المؤمنین لم یقل إلا حقاً، فلما بعث عبید الله بن زیاد البعث الذی بعثه إلی الحسین بن علی وأصحابه، قال کنت فیهم فی الخیل التی بعث إلیهم، فلما انتهیت إلی القوم، وحسین وأصحابه

ص:107

عرفت المنزل الذی مر بنا علی فیه والبقعة التی رفع إلیه من ترابها، والقول الذی قاله، فکرهت مسیری فأقبلت علی فرسی حتی وقفت علی الحسین فسلمت علیه، وحدثته بالذی سمعت من أبیه فی هذا المنزل، فقال الحسین: معنا أنت أو علینا؟ فقلت یا بن رسول الله لا معک ولا علیک، ترکت أهلی وولدی وعیالی أخاف علیهم من ابن زیاد، فقال الحسین فول هارباً حتی لا تری لنا مقتلاً، فو الذی نفس حسین بیده لا یری مقتلنا الیوم رجل ولا یغیثنا إلا أدخله الله النار. قال: فاقبلت فی الأرض هارباً حتی خفی علیَّ مقتلهم"(1).

ونسائک، وانتهاب ثقلک، فعندها تحل ببنی أُمیة اللعنة. وتمطر السماء رماداً ودماً ویبکی علیک کل شیء حتی الوحوش فی الفلوات والحیتان فی البحار"(1).

کما روی ابن عباس فی ذلک المعنی ایضاً بقوله:" حتی إذا کان فی أیام عمر بن الخطاب وأسلم کعب الأحبار وقدم المدینة یسألونه عن الملاحم التی تکون فی اخر الزمان.

وکعب یحدثهم بأنواع الملاحم والفتن، فقال کعب لهم: وأعظمها ملحمة هی الملحمة التی لا تنسی أبداً، وهو الفساد الذی ذکره الله تعالی فی الکتب، وقد ذکره فی کتابکم فی قوله:(ظَهَرَ الْفَسادُ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ)1 وإنّما فتح بقتل هابیل ویختم بقتل الحسین بن علی"(1).

وقد بلغ خبر مقتل الحسین بن علی (علیهما السلام) من الشهرة، حتی أنّ رأس الجالوت(2). قال: ما مررت بکربلاء إلا وأنا أرکض دابتی حتی أخلف المکان. قال: قلت لم؟ قال کنا نتحدث أنّ ولد نبی مقتول فی ذلک المکان، وکنت أخاف أن أکون أنا، فلما قتل الحسین قلنا: هذا الذی کنا نتحدث وکنت بعد ذلک إذا مررت بذلک المکان أسیر ولا أرکض(3).

وفی المعنی نفسه عن العلاء ابن أبی عائشة(4) ، عن أبیه، عن رأس الجالوت

ص:110

قال: کنا نسمع أنّه یقتل بکربلاء ابن نبی فکنت إذا دخلتها رکضت فرسی حتی أجوز عنها فلما قتل الحسین جعلت أسیر بعد ذلک علی هیئتی"(1). وروایة العلاء بن أبی عائشة وردت بشکلین: الأول عن العلاء. عن رأس جالوت عن أبیه، والثانی عن العلاء عن أبیه، عن رأس الجالوت "مما یظهر أنّ فی أحدهما تقدیماً وتأخیراً وان کان الارجح هو کون الروایة عن رأس الجالوت وأنّه رواها عن نفسه وعن أبیه أخری وأنّ کلیهما کان یعلم بمقتل ابن نبی فی کربلاء.

أمّا ابن نما الحلی فیروی:" أن رأس الجالوت بن یهوذا قال: ما مررت مع یهوذا بکربلاء إلا وهو یرکض دابته حتی یجاوزها: فلما قتل الحسین جعل یمر بها، فقلت له: فقال: یا بنی کنا نحدث أنّه سیقتل بکربلاء رجل من ولد نبی، فکنت أخاف أن أکون انا فلما قتل الحسین علمت أنّه هو"(2).

وذکر بن سعد: عن أبی الأسود محمد بن عبد الرحمن(3). قال: لقینی رأس الجالوت فقال: والله إنّ بینی وبین داود لسبعین أباً وإنّ إلیهود لتلقانی فتعظمی وأنتم لیس بینکم وبین نبیکم إلاّ أب واحد وقتلتم ولده"(4).

ص:111

ولعل مرد معرفة کعب الأحبار ورأس الجالوت بمقتل الإمام الحسین أنّهما سمعا ممن سمع من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لتواتر الأخبار عن النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) أو أنّهما قرءا شیئاً من ذلک فی کتب أهل الکتاب من کون أخبار مقتل الحسین قد وردت علی لسان الانبیاء السابقین (علیهم السلام) ودل علی ذلک المعنی ما روی عن الإمام الرضا (علیه السلام) فعن الفضل قال: سمعت الرضا (علیه السلام) یقول: لما أمر الله عز وجل إبراهیم (علیه السلام) أن یذبح مکان ابنه إسماعیل الکبش الذی انزله علیه تمنی إبراهیم (علیه السلام) أن یکون یذبح ابنه إسماعیل (علیه السلام) بیده وأنّه لم یؤمر بذبح الکبش مکانه لیرجع إلی قلبه ما یرجع قلب الوالد الذی یذبح أعز ولده بیده فیستحق بذلک أرفع درجات أهل الثواب علی المصائب

ص:112

فأوحی الله عزّ وجل إلیه: یا إبراهیم من أحب خلقی إلیک؟ فقال یا رب ما خلقت خلقاً هو أحب الی من حبیبک محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) فأوحی الله عزّ وجل إلیه: یا إبراهیم افهو أحب الیک أو نفسک؟ قال: بل هو أحب إلی من نفسی قال: فولده أحب الیک أو ولدک؟ قال: بل ولده قال: فذبح ولده ظلماً علی أعدائه أوجع لقلبک أو ذبح ولدک بیدک فی طاعتی. قال: یارب بل ذبحه علی ید اعدائه اوجع لقلبی. قال: یا إبراهیم فان طائفة تزعم أنّها من أمُة محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) ستقتل الحسین ابنه من بعده ظلماً وعدواناً کما یذبح الکبش فیستوجبون بذلک سخطی، فجزع إبراهیم (علیه السلام) لذلک وتوجع قلبه وأقبل یبکی فأوحی الله عزّ وجل إلیه: یا إبراهیم قد فدیت جزعک علی ابنک إسماعیل لو ذبحته بیدک بجزعک علی الحسین (علیه السلام) وقتله وأوجبت لک أرفع درجات أهل الثواب علی المصائب فذلک قول الله عزّ وجل:(وَ فَدَیْناهُ بِذِبْحٍ عَظِیمٍ)1 ولا حول ولا قوة الا بالله العلی العظیم"(1).

وقد أشار السید المسیح عیسی (علیه السلام) إلی مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) بقوله: "من أدرک أیامه فلیقاتل معه، فإنّه کالشهید مع الأنبیاء مقبلاً غیر مدبر وکأنی أنظر إلی بقعته وما من نبی إلا وزارها وقال إنّک لبقعةٍ کثیرة الخیر فیک یدفن القمر الزاهر"(2).

کما أشارت نصوص الکتاب المقدس إلی مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) وهذا ما تتبعه الباحث کاظم النصیری بکتابه أهل البیت فی الکتاب المقدس ولقد رجعت إلی الکتاب المذکور فی نقل النصوص المتعلقة بالأخبار عن مقتل الإمام الحسین نظراً لأهمیة الکتاب واختصاصه.

الحسین (علیه السلام) فی نصوص الکتاب المقدس" یوحنا "یخبر عن المذبوح بکربلاء:(3)

فقد جاء فی سفر یوحنا

کی اتانشحطتا

ص:113

وی بدمخا قانیتا لا یلوهیم

من کل مشبحا وی لاشون وی کل عم وی کَوی

وی ابریه وا اشمع

قول ملاخیم ربیم

قورئیم عوشیر وی حاخما

وی کبورها وی هدار کاود وی براخا(1)

ویعنی هذا النص:

إنک الذی ذبحت

وقدمت دمک الطاهر قرباناً للرب

ومن أجل إنقاذ الشعوب والأُمم

وسینال هذا الذبیح المجد

والعزة والکرامة إلی الأبد لأنّه

جسد البطولة والتضحیة بأعلی مراتبها.

یشیر النص العبری إلی الإمام الحسین (علیه السلام) من خلال ما جاء علی لسان "یوحنا" بأنّه المذبوح الذی ضحی بنفسه وأهل بیته من أجل الله وأنّه سینال المجد والعزة علی مر العصور حیث نجد الإشارة إلی أنّه (ذبح،

ص:114

قتل) من خلال صیغة اسم الفاعل (نشحطتا) وهی مشتقة من الفعل (شاحط): (ذبح، قتل) ثم نجد فی النص العبری تأکیداً آخر علی أنّ المذبوح یشری دمه الطاهر قربة إلی الله وابتغاء مرضاته من خلال عبارة: (بدمخا قانیتا) فالفعل (قانیتا) هو بالأصل: (قانا): (اشتری، باع) و (التاء) فی (قانیتا) هی (تاء المخاطب)، ثم الإشارة إلی قضیة مهمة وهی أن هذه التضحیة وهذا القربان الذی قدمه الحسین (علیه السلام) لکل الشعوب والأُمم علی اختلاف لغاتهم وقومیاتهم بقوله: (من کل مشبحا ولاشون، وعم وکَوی)، ثم یؤکد النص علی ان الله سیجعل - لسید الشهداء - المجد والکرامة والعزة بقوله: (وی اشمع قول ملاخیم ربیم قورئیم عوشر وی حاخما وی کَبورا وی هدار کاوود) وهذا ما ینطبق علی سید الشهداء المذبوح بکربلاء، الذی انفرد بهذه الخصوصیة التی میزته عن بقیة الشهداء علی مر التاریخ.

"أرمیا" یخبر عن مذبحة کربلاء:

فقد جاء فی سفر "أرمیا"

وی هیوم ههوکاشلوا

وی نافلواتسافونا عل ید نهر فرات

وی اکلا حیرب

وی سابعا

وی راوتا من دمام

ص:115

کی زیبح لادونای یهوا

تسواؤوت با ابرتس

تسافون ال نهر فرات

ویعنی هذا النص:

فی ذلک الیوم یسقط القتلی فی المعرکة

قرب نهر الفرات

وتشبع الحرب والسیوف وترتوی

من الدماء التی تسیل فی ساحة المعرکة

بسبب مذبحة رب الجنود فی أرض

تقع شمال نهر الفرات.

فالنص الذی أخبر عنه "أرمیا" یکشف بکل وضوح عن ملحمة الطف فی کربلاء الحسین، ومن خلال التحلیل اللغوی للنص العبری نجد تعظیماً لفداحة ما یحدث فی ذلک الیوم حیث یسقط القتلی فی المعرکة: "کاشلوا وی نافلوا" فی شمال نهر الفرات "تسافونا علی ید نهر الفرات" ثم التأکید علی أنّ: المحراب والسیوف ستشبع وترتوی من الدماء التی ستسیل فی ساحة المعرکة: "وی اکلا حیرب وی سابعا وی راوتا من دمام".

والإشارة الثانیة: إلی أنّ هذه المذبحة ستقع شمال نهر الفرات:

"تسافون ال نهر الفرات" .فإخبار "أرمیا" بسقوط الشهداء وارتواء

ص:116

السیوف من دمائهم علی الأرض تقع علی "نهر الفرات" یدل دلالة واضحة علی أنّ هذه الأرض هی کربلاء"

ویقول النصیری(1) ویتضح من خلال هذین النصین، وما تضمناه من تنبؤات بما سیحدث علی أرض کربلاء وما سیلاقیه" سید الشهداء "یتلاقی مع ما ورد عن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) والأئمة (علیهم السلام) بشأن مظلومیة الحسین ومقتله.

بعد الاستعراض لاغلب الروایات، فی مقتل الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) تبین أنّ هناک دلالات عدة تتضح من خلال قراءتنا لتلک النصوص التی اختصت بأخبار مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) ویمکن إجمال ما استنتجناه بما یلی:

أولاً: لقد دلت جمیع تلک الروایات علی مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) وأنّه سینال بذلک درجة الشهادة ولم تدع مجالاً للشک أو لأی إحتمال آخر إلا قتله صلوات الله علیه.

ثانیاً: إنّ جمیع تلک الروایات التی نقلت عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لم تکن فی عام واحد والذی یؤید ما ذهبنا إلیه عدة أمور منها:

أ - جاءت الروایات علی لسان اشخاص عدة وبطرق مختلفة.

ب - القرائن الزمنیة التی تظهر من خلال دلالات الالفاظ الموجودة فی

ص:117

الأحادیث النبویة وما یؤکد ذلک أمور:

منها ما ورد علی لسان أسماء - فقد کانت الروایة تشیر إلی زمن ولادة الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) وکذلک روایة أُم أیمن فإنها تشیر إلی الفترة الأولی من ولادته کذلک ما ورد فی روایة الحافظ الخوارزمی أنّها کانت فی السنة الأولی من ولادته وتکرر نزول الملائکة فی السنة الثانیة وکذلک ما جاء بروایات أمهات المؤمنین دلالة تلک الألفاظ التی تلحظ تطور ونمو الإمام فی العمر وهو ما أشارت إلیه تلک الألفاظ:

1 - ما جاء بروایة عائشة فی قولها" جاء الحسین یحبو "وکذلک.

2 - ما جاءت عن طریق أم سلمة نلاحظ ذلک التطور العمری" یدرج أو جاء فاقتحم الدار، وأن الحسن والحسین (علیهما السلام) کانا یلعبان بین یدی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وقولها فی بعضها "فسبقنی الغلام" وفی روایة جاءت لفظة أخری بقولها: ظننت انه غضب من دخول "الصبی" علیه.

فإنّ من الملاحظ من تلک العبارات الموجودة فی ألفاظ الروایات الصادرة عن أمهات المؤمنین والتی أشرنا لها أمثال: یحبو، یدرج، اقتحم الباب، أو أنّهما یلعبان بین یدی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أو قولها سبقنی إلی الباب الغلام وقولها صبی. کل تلک الألفاظ تفید التنوع الزمنی الملاحظ من عملیة نمو الإمام والتی اقترنت بنزول جبریل والملائکة بأخبار النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) بمقتل الإمام الحسین (علیه السلام) وتقدیم العزاء لرسول

ص:118

الله (صلی الله علیه وآله وسلم).

ثالثاً: وما یظهر من دلالة تلک الألفاظ والتی تدل علی الحالة الوجدانیة والنفسیة لرسول الله وما هو علیه من الحزن والأسی، ویظهر ذلک من تلک الروایات التی نقلت الینا بروایة أمهات المؤمنین أو الصحابة أو عن طریق أئمة أهل البیت (علیهم السلام) ونستطیع ان نرصد تلک الحالة من خلال العبارات الواردة بتلک الأخبار ونذکر منها:

أولاً: بکاء النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) حین ولادة الإمام الحسین (علیه السلام) حینما اخبر بمقتله وهو ما اوضحته روایة أسماء وام أیمن التی مر ذکرها. "استرجاعه وان عیناه قد دمعتا".

ثانیاً: ظهور علائم الحزن علی وجه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وأنه کاسف البال ومغتم کما جاءت بعض الألفاظ ذات مدالیل أکثر حزناً منها: نحیب النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) فی قول أُم سلمة: سمعت نحیب النبی. وفی روایة أخری تقول أم سلمة فیها "سمعت نشیج رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم). وفی روایة الإمام علی (علیه السلام) قوله:" دخلت علی رسول الله وعیناه تفیضان من الدموع".

رابعاً: لقد حددت تلک الروایات التی أخبرت عن فضل الإمام الحسین (علیه السلام) عن قاتل الإمام الحسین (علیه السلام) ودعاء النبی علیه ولعنه وشدة غضب الله علیه وهو ما اتضح من بعض الروایات التی نقلناها منها قول النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) یزید لا یبارک الله فی یزید وهی الروایة

ص:119

التی نقلتها عن معاذ، وأیضاً قول أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) مالی ولآل أبی سفیان وفی ذلک تحدید واضح لقتله الحسین (علیه السلام).

خامساً: یتضح من خلال قراءة النصوص السابقة لأخبار مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) أنّها حددت الأرض التی یقتل بها وذکرت اسمها، وقد ذکرت تارة شط الفرات وعرفت بأنّها ذات کرب وبلاء، وتارة کربلاء، وبالطف فی بعضها.

سادساً: التأکید علی التربة المطهرة، ولعل أکثر الروایات إن لم تکن معظمها أشارت بأن جبریل، والملائکة الذین زاروا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وقدموا العزاء واروه التربة، تربة الإمام الحسین (علیه السلام) واعطوها له، کما وصفت دائماً تربة مقتل الإمام بأنّها حمراء، وأنّها ذات رائحة زکیة، وهو ما میزها عبر التاریخ فی الاستدلال علی قبره الشریف ایام المنع السیاسی(1). والظاهر من هذا الاهتمام بتلک التربة ما یدلل علی عظمتها وفضلها بان جعل الله الشفاء بتربته من خصائص تربة الإمام الحسین التی خصها الله تعالی بها(2).

ونستطیع أن نقول إنّ هذه الأخبار جمیعها والتی أخبر عنها رسول الله فی أکثر من بیت وتعلن علی لسان أکثر من شخصیة، وأکثر من مکان

ص:120

ومناسبة کانت تؤسس لشعائریة مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) ولعل فی النزول المتکرر وتقدیم الملائکة للعزاء لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) اکدت إقامة تلک الشعائر ومن المحتمل أنّ النزول کان فی شهر محرم من کل عام یوم الحدث الذی سیقع وهو زمان مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) وهو ما یفسر لنا نزول الملائکة المتکرر علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).

ص:121

ص:122

ص:124

الشعائر الحسینیة: هی مجموعة من الأعمال والممارسات التی یقوم بها أتباع أهل البیت (علیهم السلام) استجابة لما دعا إلیه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وأکد علیه الأئمة المعصومون من بعده.

فکل فعل قام به شیعة أهل البیت أو یقومون به إنما مرجعه سنة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو خاضع للضوابط الشرعیة المستقاة من کتاب الله وسنة نبیه. ولقد أکد الأئمة (علیهم السلام) علی کون الشعائر خاضعة للموازین والقیم الدینیة لکونها ترتبط بشعار من أهم الشعارات الإسلامیة الا وهی الإمامة، ولقد جاءت أولی تلک الوصایا علی لسان الإمام الحسین (علیه السلام) حینما أوصی أخته زینب الکبری فی لیلة العاشر من المحرم، ولعل تلک الوصیة کانت مرتکزاً للشعائر الفعلیة من حیث توجیه الإمام لها، ووضعها بالاطر الشرعیة قائلاً لها:" أخیة لا یذهبن بحلمک الشیطان... أخیة تعزی بعزاء الله واعلمی ان أهل الأرض یموتون، وأنّ أهل

ص:125

السماء لا یبقون، وأنّ کل شیء هالک إلا وجه الله تعالی... یا أختاه إنّی أقسم علیک فأبری قسمی، لا تشقی علیَّ جیباً ولا تخمشی علیَّ وجهاً ولا تدعی بالویل والثبور إذا أنا هلکت"(1).

یتضح من خلال نص الوصیة السابق أنّ الإمام الحسین (علیه السلام) قد وضع اللّبنات الأولی لممارسة الشعائر بما ینسجم مع التعالیم الإسلامیة والأُطر الشرعیة. ولعل هذا التوجه من الإمام الحسین (علیه السلام) کان یستدعی الحفاظ علی أصل الثورة، والمبادئ الإسلامیة التی نادی بها الإمام ولکی تکون الشعائر مطابقة لأهداف الثورة ومنسجمة مع الخط العام الذی أراده الإمام الحسین (علیه السلام) کما أنّ صراع الإمام الحسین (علیه السلام) مع القوم لم یکن من أجل کسب دنیوی، إنّما هو من أجل حفظ حرم الله وتطبیق دین الله بحفظ الشعائر الإلهیة.

کما لا ینکر علی العقیلة زینب (علیها السلام) تلک العاطفة الطبیعیة فی إظهارها الحزن والجزع لأنها بمصیبة الإمام الحسین (علیه السلام) تجدد عزاءها بأبیها وأمها وأخیها الإمام الحسن (علیهم السلام)(2) وأنّ انبعاث تلک الأشجان، ینسجم مع الطبیعة البشریة، وهو مظهر من مظاهر الرحمة وهی لا تبکی أخاً فقط بل سبط رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وریحانته، وسید شباب أهل الجنة تبکی إماماً معصوماً مفترض الطاعة، لذا وجه الإمام

ص:126

الحسین (علیه السلام) أخته الالتزام بالأُطر الشرعیة فی القیام بالشعائر ببکائها وندبتها وحتی تکون منسجمة مع الخط العام، کما وأوصی الإمام الحسین (علیه السلام) فی الوداع الأخیر، وهو الوداع الثالث، أهل بیته بالصبر ووعدهم الثواب والأجر قائلاً:

"استعدوا للبلاء واعلموا أنّ الله تعالی حامیکم وحافظکم وسینجیکم من شر الأعداء، ویجعل عاقبة أمرکم إلی خیر ویعذب عدوکم بأنواع العذاب ویعوضکم عن هذه البلیة بأنواع النعم والکرامة فلا تشکوا، ولا تقولوا بألسنتکم ما ینقص قدرکم"(1).

ص:127

غلب؟ فقال له الإمام علی بن الحسین (علیهما السلام): إذا أردت أن تعلم من غلب، ودخل وقت الصلاة، فأذن ثم أقم"(1). فقد عد الإمام زین العابدین (علیه السلام) استمرار الشعائر علناً وعلی رؤوس الأشهاد دلیلاً حسیاً علی انتصار ثورة الإمام الحسین (علیه السلام).

ولم یقتصر دور الإمام علی بن الحسین (علیهما السلام) علی کشف الزیف الأموی، وبیان مظلومیة الإمام الحسین (علیه السلام) وأهل بیته سواء فی الکوفة أو بالشام، إنما استمر الإمام علی نهجه فی ترسیخ الشعائر فی وجدان الأمة، وتعمیق العاطفة وتوجیه الناس من خلالها وقد اغتنم الإمام جمیع الفرص لإظهار تلک العاطفة، وتحریکها لدی الناس وتبرز تلک الحالة فی خطبته بالشام إذ یقول:" ...أنا ابن المرمل بالدماء، أنا ابن ذبیح کربلاء، أنا ابن من بکی علیه الجن فی الظلماء وناحت علیه الطیر فی الهواء... فلما بلغ هذه الفقرة ضج الناس بالبکاء وخشی یزید الفتنة فأمر المؤذن أن یؤذن للصلاة"(2).

أراد الإمام السجاد (علیه السلام) التأثیر فی الرأی العام من خلال

ص:129

أمرین، أحدهما تعریف الناس بنفسه وبأهل بیته، الأمر الآخر تعریف الناس بمظلومیة الإمام الحسین (علیه السلام) مما حرک فی النفوس ازدراء فعل الحاکم والاحتجاج علیه من خلال تفاعل الناس وجدانیاً بالبکاء. وبذلک یعتبر البکاء أهم شعیرة من الشعائر الحسینیة ویمثل الذروة التی تحأول کل الشعائر الحسینیة الأخری ان تصل بالفرد إلیه سواء من خلال قراءة المقتل أو من خلال الخطابة أو الشعر الرثائی ولعل هذا ما یتضح من خلال قول الأئمة المنقول عنهم (علیهم السلام): "من بکی وأبکی واحداً فله الجنة" (1) فکلمة وأبکی کانت هی الدافع فی ابتکار وسائل فی العزاء لغرض الوصول بالأفراد لمرحلة البکاء، ولا ریب ان البکاء لا یتهیأ للإنسان الا عند التأثر بالأمور الأکثر حساسیة وإثارة وحرقة لیکون سبباً للهدوء والترویح عن النفس، کذلک هو وسیلة لإثارة قضیة ما إمام الآخرین وتهییج الآخر لیتعاطف معه، وعلی الأقل یثیر التساؤل بداخله عن سبب البکاء.

ان البکاء علی شهداء کربلاء لم یکن فی وقت من الأوقات ناتج من الإحساس بالضعف والانکسار، ولا هو عبرة یأس وقنوط، بل عد البکاء علی الحسین صلة لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وأنه أداء لحق النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) وأهل بیته، وأنه أجر الرسالة کما کان البکاء نصرة للحسین (علیه السلام) فی أحد معانیه، وهذه المعانی مما قررها أئمة أهل

ص:130

البیت (علیهم السلام) وأشاروا لها، ومنها ما روی عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّه تلی هذه الآیة:(إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ یَوْمَ یَقُومُ الْأَشْهادُ)1 .

قال الإمام الباقر (علیه السلام): "الحسین بن علی منهم ووالله إنّ بکاءکم علیه، وحدیثکم بما جری علیه، وزیارتکم قبره نصرة لکم فی الدنیا، فأبشروا فإنکم معه فی جوار رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)" (1) وإنّه أجر الرسالة لقوله تعالی:(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی وَ مَنْ یَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِیها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَکُورٌ) (2) وقد روی أبو حمزة الثمالی(3) عن السدی، أنّه قال: "إنّ اقتراف الحسنة المودة لآل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)"(4) ؛ وفی هذا المعنی ما روی عن الإمام الحسن فی تفسیر تلک الآیة(5).

وبذلک رسخ الإمام زین العابدین (علیه السلام) الشعائر الحسینیة،

ص:131

ورفع شعار البکاء طیلة عمره الشریف، واستمر ذلک الفعل متواتراً فی زمن جمیع الأئمة من بعده، فلم یزل الإمام باکیاً لیله ونهاره، حتی أشرف مولی لعلی بن الحسین (علیهما السلام) وهو فی سقیفة له ساجد یبکی فقال له:" یا مولای یا علی بن الحسین أما آن لحزنک ان ینقضی؟ فرفع رأسه إلیه وقال: ویلک - أو ثکلتک أمک - والله لقد شکا یعقوب إلی ربه فی أقل ما رأیت حتی قال:(وَ قالَ یا أَسَفی عَلی یُوسُفَ) (1) إنّه فقد ابناً واحداً، وأنا رأیت أبی وجماعة من أهل بیتی یذبحون حولی"(2).

ولقد وصف الإمام الصادق (علیه السلام) الحالة التی کان علیها الإمام علی بن الحسین (علیهما السلام) بقوله: "بکی علی بن الحسین علی أبیه، الحسین عشرین سنة أو أربعین - وما وضع بین یدیه طعامٌ إلا بکی علی الحسین، حتی قال ((مولی له)) جعلت فداک یابن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) إنّی أخاف علیک أنْ تکون من الهالکین،(قالَ إِنَّما أَشْکُوا بَثِّی وَ حُزْنِی إِلَی اللّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (3) إنّی لم أذکر مصرع بنی فاطمة إلا خنقتنی العبرة"(4).

ص:132

لم یکن الإمام لیفوت فرصة إلا وذکر الإمام الحسین (علیه السلام) وبکاه، ولما کان البکاء من شخصیة مرموقة، وذات مکانة اجتماعیة کبیرة، مثل الإمام السجاد (علیه السلام) فإنّ ظاهرة البکاء منه کانت مدعاة للاثارة وجلب الانتباه والاهتمام الأکبر بلا ریب.

وروی عن الإمام زین العابدین (علیه السلام) أنّه نظر یوماً إلی عبید الله بن العباس بن علی بن أبی طالب(1) (علیه السلام) فاستعبر ثم قال:" ما من یوم أشد علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) من یوم أُحد قتل فیه عمه حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله وبعده یوم مؤتة قتل فیه ابن عمه جعفر بن أبی طالب، ولا یوم کیوم الحسین (علیه السلام) ازدلف إلیه ثلاثون ألف رجل یزعمون أنهم من هذه الأمة. ثم قال: رحم الله العباس فلقد آثر وأبلی وفدی أخاه بنفسه حتی قطعت یداه فأبدله الله عز وجل بهما جناحین یطیر بهما مع الملائکة فی الجنة کما جعل لجعفر بن أبی طالب (علیه السلام)، وإنّ للعباس عند الله منزلة یغبطه بها جمیع الشهداء یوم القیامة"(2).

وأشار الإمام الصادق (علیه السلام) إلی بکاء جده الإمام السجاد (علیه السلام) بقوله: "وکان جدی إذا ذکره - یعنی الحسین - بکی حتی تملأ عیناه

ص:133

لحیته، وحتی یبکی لبکائه رحمة له من رآه"(1). إذن لم ینفک الإمام زین العابدین (علیه السلام) یذکر مآسی أهل البیت (علیهم السلام) وما حل بهم، ویذکر بها، وأنها مما یألم رسول الله لها ولا یمکن أن تکون مجرد انفعال عاطفی عاشه الإمام طیلة حیاته، بل کان حالة معبرة لإظهار الموقف الأموی علی حقیقته وکشفه للأجیال القادمة، کما أنّ الإمام زین العابدین (علیه السلام) من خلال فعله یحض المؤمنین من أتباعه التأسی به کونه القدوة التی یجب أن تتبع، وجعل من البکاء علی الإمام الحسین (علیه السلام) شعیرة مقدسة واجبة الإحیاء ولهم بذلک فی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أسوة حسنة، وهذا ما أکده الإمام زین العابدین (علیه السلام) بکل أقواله وأفعاله، فلقد استوقفته ذکری الفاجعة فی کل مفصل من مفاصل حیاته الیومیة حتی عد من البکائین الخمسة، فلم یدع الإمام علی بن الحسین (علیه السلام) مشهداً إلا ویصوره بذکری المأساة من خلال بکائه الطویل، وقد بکی الإمام علی بن الحسین (علیهما السلام) حتی قیل:" إنّه بکی حتی خیف علی عینیه "(2) وکان:" إذا أخذ إناءً یشرب ماءً بکی، حتی یملأها دمعاً فقیل له فی ذلک.

فقال: وکیف لا أبکی، وقد منع أبی من الماء الذی کان مطلقاً للسباع

ص:134

والوحوش"(1). إن هذه الاستیقافات المملوءة بالعبرة والحزن، المقرونة بالاستدلال الذی کان یعتمده الإمام زین العابدین (علیه السلام) إذ کیف یمنع الماء عن الإنسان، ویباح للسباع وکیف ذاک والإنسان هو سبط رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) الذی منع الماء وقتل وهو عطشاناً. وهذا أیضاً ما نستشفه من قول الإمام أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) الذی نقله لنا داود الرقی(2) بقوله: "کنت عند أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) إذا استسقی الماء فلما شربه رأیته استعبر واغرورقت عیناه بدموعه، ثم قال لی: یا داود لعن الله قاتل الحسین (علیه السلام) وما من عبد شرب الماء فذکر الحسین (علیه السلام) وأهل بیته ولعن قاتله إلاّ کتب الله عزّ وجل له مائة ألف حسنة وحط عنه مائة ألف سیئة ورفع له مائة ألف درجة وکأنما أعتق مائة ألف نسمة وحشره الله عزّ وجل یوم القیامة ثلج الفؤاد"(3).

ویمضی أئمة أهل البیت (علیهم السلام) فی بیان فضل البکاء علی الإمام الحسین (علیه السلام) وما له من الأجر وفی هذا المعنی یقول الإمام الصادق (علیه السلام):" من دمعت عیناه فینا دمعة لدم سفک لنا، أو حق لنا نقصناه أو

ص:135

عرض انتهک لنا أو لأحد شیعتنا بوأه الله تعالی بها فی الجنة حقباً"(1).

ویؤکد أئمة أهل البیت (علیهم السلام) علی هذا النوع من البکاء والذی نستطیع أن نسمیه بالبکاء الولائی المرتکز علی حق من حقوق الأئمة، والذی یمثل فی حد ذاته رفضاً لما یتعرض له أئمة أهل البیت (علیهم السلام) وشیعتهم من قبل أعدائهم. وهذا البکاء هو ما یمیز الموالین والأتباع والمؤمنین عن غیرهم وهو ما أکده الإمام الحسین (علیه السلام) بقوله: "أنا قتیل العبرة، ما ذکرنی مؤمن إلا وبکی" وفی روایة "إلا واستعبر"(2). یوضح لنا هذا النص الصادر عن المعصوم، البکاء الوجدانی المرتکز علی الإیمان، ((الإیمان)) بالحسین (علیه السلام) کونه إماماً مفترض الطاعة، مؤمن بحقه، مؤمن بحرکته من أجل الإصلاح والتغییر.

هنا تبرز عظمة البکاء، فلا یبکی الموالون قتیلاً صرع بکربلاء فقط، إنما یبکون فیه المبادئ والقیم التی جوبهت بقسوة وقوة وبأبشع صور القتل والتمثیل الذی تعرض له الإمام الحسین (علیه السلام) وأهل بیته وبذلک أعلن أئمة أهل البیت (علیهم السلام) یوم عاشوراء، وهو یوم العاشر من محرم یوم حداد عام یجدد فیه الحزن ویقام به العزاء وتذرف فیه الدموع علی ما جری علی الإمام الحسین (علیه السلام) وأهل بیته وصحبه کما دعا فیه

ص:136

أئمة أهل البیت (علیهم السلام) شیعتهم وأتباعهم للبکاء فیه من خلال إقامة العزاء. ویظهر ذلک جلیاً من خلال توجیه الإمام الباقر (علیه السلام) لأحد أتباعه ممن لم یتمکن من إقامة العزاء عند قبر الإمام الحسین (علیه السلام) بقوله:" ثم لیندب الحسین (علیه السلام) ویبکیه، ویأمر من فی داره بالبکاء علیه، ویقیم فی داره مصیبته بإظهار الجزع ویتلاقون بالبکاء"(1).

أما الإمام الصادق (علیه السلام) فهو یوجه أتباعه ویحثهم علی البکاء علی الإمام الحسین (علیه السلام) بقوله: "إنّ البکاء والجزع مکروه للعبد فی کل ما جزع ما خلا البکاء والجزع علی الحسین بن علی (علیهما السلام) فإنّه فیه مأجور"(2).

أما ماهیة الحالة التی کان یعیشها أئمة أهل البیت (علیهم السلام) فی یوم عاشوراء فلعل أوضح صورة لها هی ما روی عن الإمام الصادق (علیه السلام) والتی یصور فیها النص الحالة المؤلمة التی کان یعیشها الإمام الصادق (علیه السلام) وهو ما جاء بروایة عبد الله بن سنان(3) ، قال:" دخلت علی

ص:137

سیدی أبی عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) فی یوم عاشوراء فألفیته کاسف اللون ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عینیه کالؤلؤ المتساقط. فقلت: یا بن رسول الله ممَ بکاؤک؟ لا أبکی الله عینیک، فقال لی: أو فی غفلة أنت؟ أما علمت أنّ الحسین بن علی أصیب فی مثل هذا الیوم؟ فقلت: یا سیدی فما قولک فی صومه؟ فقال لی: صمه من غیر تبییت، وافطره من غیر تشمیت، ولا تجعله یوم صوم کاملاً ولیکن إفطارک بعد صلاة العصر بساعة علی شربة من ماء، فأنه فی مثل ذلک الوقت من ذلک الیوم تجلت الهیجاء علی آل رسول الله وانکشفت الملحمة عنهم وفی الأرض منهم سبعة عشر رجلاً صریعاً فی موالیهم یعز علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) مصرعهم ولو کان فی الدنیا یومئذ حیاً لکان صلوات الله علیه هو المعزی بهم قال: وبکی أبو عبد الله حتی أخضلت لحیته بدموعه"(1).

أما الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) فخیر من یصور شدة حزنه وبکائه علی جده الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) وما جری علیه فی یوم عاشوراء هو ما رواه الإمام الرضا (علیه السلام) بقوله: "کان أبی إذا دخل شهر محرم، لا یری ضاحکاً، وکانت الکآبة تغلب علیه حتی یمضی منه عشرة أیام، فإذا کان یوم العاشر کان ذلک الیوم یوم مصیبته وحزنه وبکائه،

ص:138

ویقول: هو الیوم الذی قتل فیه الحسین (علیه السلام)"(1).

هذا النص یبین لنا أنّ بکاء وحزن وحداد الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) کان یمتد لعشرة أیام ابتداءً من أول شهر محرم وحتی یوم العاشر منه وکان أشدها علیه یوم العاشر من محرم وطبیعی ان هذا التطور لحق جموع الشیعة إذ هی تقتدی بفعل الإمام وتتأسی به، ولقد استمرت هذه العادة باتخاذ العشر الأولی من المحرم أیام حداد وحزن وبکاء بعد ذلک وهذا ما أکده الریان بن شبیب(2) عن الإمام الرضا (علیه السلام) بقوله:" دخلت علی الرضا فی أول یوم من المحرم... قال الإمام: یابن شبیب إنّ المحرم هو الشهر الذی کان أهل الجاهلیة فیما مضی یحرمون فیه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها، ولا حرمة نبیها لقد قتلوا فی هذا الشهر ذریته، وسبوا نساءه، وانتهبوا ثقله فلا غفر الله لهم ذلک أبداً. یابن شبیب إن کنت باکیاً لشیء فابک للحسین بن علی بن أبی طالب (علیه السلام) فأنه ذبح کما یذبح الکبش وقتل معه من أهل بیته ثمانیة عشر رجلاً ما لهم فی الأرض شبیهون.... یا بن شبیب إن بکیت علی الحسین حتی تصیر دموعک علی خدیک غفر الله لک کل ذنب أذنبته صغیراً کان أو کبیراً قلیلاً کان أو

ص:139

کثیراً... یا بن شبیب إن سرک أن تکون معنا فی الدرجات العلی من الجنان فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا وعلیک بولایتنا فلو أنّ رجلاً تولی حجراً لحشره الله معه یوم القیامة"(1).

أما الإمام صاحب العصر محمد بن الحسن بن علی الهادی (علیهم السلام) فقد بکی جده الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) بقوله: "...فلأندبنک صباحاً ومساءً، ولأبکین علیک بدل الدموع دماً، حسرة علیک وتأسفاً علی ما دهاک وتلهفاً، حتی أموت بلوعة المصاب وغصة الاکتئاب..."(2).

دم لیوم عظیم"(1). وفی روایة سلمی الأنصاریة(2) أنها قالت: "دخلت علی أم سلمة، وهی تبکی فقلت: ما یبکیک؟ قالت: رأیت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فی المنام وعلی رأسه ولحیته التراب، فقلت: ما لک یا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)؟ قال: شهدت قتل الحسین آنفاً"(3).

ومما ظهر یوم مقتله من الآیات السماویة، ما نقل بعضها ابن حجر الهیتمی بقوله:" إنّ السماء اسودت اسوداداً عظیماً حتی رُئیت النجوم نهاراً ولم یرفع حجر إلا وجد تحته دم عبیط"(4).

وقد أشار إلیه آخرون بقولهم: "إنّ السماء انکشفت حتی بدت الکواکب نصف النهار وظن الناس أنّ القیامة قد قامت ولم یرفع حجر فی الشام إلا وقد رؤی تحته دم عبیط"(5).

ص:141

لم تقتصر رؤیا تلک العلامات علی الکوفة وحدها بل امتدت إلی أرجاء العالم الإسلامی وهذا ما رواه جعفر بن سلیمان(1) عن خالته أم سلمة، أنها قالت:" لما قتل الحسین بن علی (علیهما السلام) مطرنا مطراً علی البیوت والحیطان کالدم، فبلغنی أنّه کان بالبصرة(2) والکوفة(3) وبالشام(4) ونجران(5) حتی کنا لا نشک أنّه سینزل عذاب "(6) ومنها کذلک ما ذکره ابن سعد بقوله:" أحمرت آفاق السماء بعد مقتل الحسین ستة أشهر نری ذلک فی آفاق السماء کأنها الدم"(7).

ص:142

وتضافرت الروایات التاریخیة فی ذکر تلک العلامات حتی غدت من المتواترات فی کتب التاریخ والحدیث، ونجدها فی المصادر المعتبرة لدی علماء الأمة ومفسریها فلقد ذکر جملة من المفسرین تلک العلامات الکونیة وضمنوها فی کتب التفسیر ومنها ما نقله ابن جریر الطبری(1) ، عن السدی بقوله: "لما قتل الحسین بن علی (رضوان الله علیهما) بکت السماء علیه، وبکاؤها حمرتها".

أما ابن أبی حاتم، فنقل بسنده عن عبید المکتب(2) قوله: "ما بکت السماء منذ کانت الدنیا، إلا علی اثنین، قیل لعبید: ألیس السماء والأرض تبکی علی المؤمن؟ قال ذاک مقامه، وحیث یصعد عمله. قال: وتدری ما بکاء السماء؟ قال: لا، قال: تحمر وتصیر وردة کالدهان. إنّ یحیی بن زکریا لما قتل، أحمرت السماء وقطرت دماً وإنّ حسین بن علی یوم قتل أحمرت السماء"(3).

أما السمعانی فنقل بقوله عن بعض التابعین:" إنّ الحسین بن علی (رضی الله عنه) لما قتل أحمرت أطراف السماء أربعین صباحاً، وکان ذلک

ص:143

لبکائها علیه"(1).

أما القرطبی(2) فقد نقل عدة روایات تفید ذلک المعنی حیث قال: "إنّ السماء مطرت دماً یوم قتل الحسین (علیه السلام)" وفی روایة أخری أنّه "لما قتل الحسین بن علی (علیهما السلام) أحمرت له آفاق السماء أربعة أشهر".

کما جاءت أخبار تلک العلامات علی لسان أهل البیت (علیهم السلام) منها ما کان قبل شهادة الإمام الحسین (علیه السلام) ومنها ما کان فی زمن شهادة الإمام الحسین (علیه السلام) ومنها ما کان بعد شهادة الإمام الحسین (علیه السلام). ومن القسم الأول ما رواه إبراهیم النخعی(3) بقوله: "خرج أمیر المؤمنین (علیه السلام) فجلس فی المسجد واجتمع أصحابه حوله، وجاء الحسین (علیه السلام) حتی قام بین یدیه، فوضع یده علی رأسه، فقال: یا بنی إنّ الله عیر أقواماً بالقرآن فقال:(فَما بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما کانُوا مُنْظَرِینَ) (4) وایم الله لیقتلنک بعدی ثم تبکیک السماء والأرض"(5).

ص:144

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبیه. عن جده الحسین بن علی (علیهما السلام)" أنّ الحسین بن علی (علیهما السلام) دخل یوماً إلی الحسن (علیه السلام) فلما نظر إلیه بکی فقال له: ما یبکیک یا أبا عبد الله؟ قال: أبکی لمَا یصنع بک.

فقال له الحسن (علیه السلام): إنّ الذی یؤتی إلیَّ السم یدس إلیَّ فأُقتل به، ولکن لا یوم کیومک یا أبا عبد الله یزدلف إلیک ثلاثون ألف رجل یدعون أنهم من أمة جدنا محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وینتحلون دین الإسلام، فیجتمعون علی قتلک وسفک دمک وانتهاک حرمتک وسبی ذراریک ونسائک وانتهاب ثقلک فعندها تحل ببنی أمیة اللعنة، تمطر السماء رماداً ودماً، ویبکی علیک کل شیء حتی الوحوش فی الفلوات والحیتان فی البحار"(1).

ومن القسم الثانی: ما جاء فی خطبة الإمام السجاد (علیه السلام) بالمدینة فقد أشار إلی تلک الحقیقة بقوله: "...لقد بکت علیه السبع الشداد لقتله، وبکت البحار بأمواجها والسموات بأرکانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها والحیتان فی لجج البحار بأمواجها والملائکة المقربون وأهل السموات أجمعون"(2).

ص:145

وعن عمر بن ثبیت عن أبیه عن الإمام زین العابدین (علیه السلام) أنّه قال:" إنّ السماء لم تبک منذ وضعت إلا علی یحیی بن زکریا والحسین بن علی. قلت: أی شیء کان بکاؤها قال: کانت إذا استقبلت بثوب وقع علی الثوب شبه أثر البراغیث من الدم"(1).

وکذلک ما جاء علی لسان السیدة زینب بنت علی (علیهما السلام) فی خطبتها بالکوفة بقولها: "أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ولعذاب الآخرة أخزی وأنتم لا تنصرون"(2).

وعن الإمام أبی جعفر الباقر (علیه السلام) أنّه قال:" ما بکت السماء علی أحد بعد یحیی بن زکریا الا علی الحسین بن علی (علیهما السلام) فإنّها بکت علیه أربعین یوماً"(3). ومن تلک الروایات، ما روی أیضاً عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال: "یا زرارة(4) إنّ السماء بکت علی الحسین أربعین صباحاً بالدم"(5).

ص:146

وفی روایة أخری عن أبی بصیر(1) ، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:" إنّ الحسین (علیه السلام) بکی لقتله السماء والأرض، واحمرتا ولم تبکیا علی أحد إلا علی یحیی بن زکریا والحسین بن علی (علیه السلام)"(2).

وفی روایة أخری عن الإمام علی بن موسی الرضا (علیه السلام) أنّه قال فی حدیث طویل مع ابن شبیب: "یابن شبیب، لقد حدثنی أبی، عن أبیه عن جده (علیه السلام) أنّه لما قتل جدی الحسین (صلوات الله علیه) مطرت السماء دماً وتراباً أحمر"(3).

أما علی الصعید العالمی فقد جاء بکتاب ( ( The Angle saxon chronical ) ) (4)

وهو کتاب یحوی علی الأحداث التاریخیة التی مرت بها بریطانیا منذ عهد السید المسیح (علیه السلام) فیذکر فیها لکل سنة أهم الأحداث التی وقعت فیها، حتی یأتی علی ذکر أحداث سنة (685 م)، فیذکر المؤلف:

ص:147

" أنّ فی هذه السنة مطرت السماء دماً، وأصبح الناس فی بریطانیا فوجدوا أنّ البانهم وازبادهم تحولت إلی دم(1). ولم یجد الکاتب لهذه الظاهرة تفسیراً ولم یشر من قریب أو بعید إلی مقارنة ذلک إلی سنة (61 ه).

ص:148

ویرجع الشیخ شمس الدین ظاهرة الرثاء الحسینی فی الأدب الشیعی لیس کون المسألة الحسینیة ذات بعد عاطفی فقط، وإنّما هی بالإضافة إلی ذلک ذات بعد دینی یجعل تخلیدها فی الشعر عملاً من أعمال التقوی(1).

ویمکن تحدید ثلاثة مصادر لمنطلق الشعر الرثائی الحسینی ألا وهی:

لا غرو أنّ قتل الحسین وشیخه قد کان خیراً من حسین وأکرما

فلا تفرحوا یا أهل کوفة بالذی أصیب حسین کان ذلک أعظما

قتیل بشط النهر نفسی فداؤه جزاء الذی أرداه نار جهنما

یبدی الإمام زین العابدین علیه السلام فیها مشاعر حزنه اتجاه أبیه الإمام الحسین (علیه السلام) الذی قتل بجنب شط الفرات، وعلی جده أمیر المؤمنین الذی کان أفضل من الإمام الحسین علیه السلام والذی قتل بالکوفة أیضاً، ویؤاخذ الإمام علی أهل الکوفة فعلتهم، وفی استعماله للفظ شط الفرات، فهو رمز لعطش الإمام الحسین (علیه السلام) وهو علی شاطئ الفرات الذی یضیف بطبیعة الحال للرثاء لوعة وألماً وحرقة.

کذلک رثت السیدة زینب (علیها السلام) أخاها الإمام الحسین (علیه السلام) لما رأت رأسه مرفوعاً علی القنا أومأت إلیه بحرقة وهی تقول:(1)

یا هلالاً لما استتم کمالا فخاله خسفه فأبدی غروبا

ما توهمت یا شقیق فؤادی کان هذا مقدراً مکتوبا

یا أخی فاطم الصغیرة کلمها فقد کاد قلبها أن یذوبا

تبث السیدة لرأس الإمام الحسین (علیه السلام) الشکوی بعاطفة متألمة تصور بذلک تحسرها وتحسر أولاد الإمام علی فقدانه وما لحقهم من الیتم بمقتله.

وممن رثی الإمام الحسین من أهل البیت، أم کلثوم بنت علی بن أبی طالب (علیها السلام) عندما عاد الرکب الحسینی إلی مدینة رسول الله (صلی

ص:151

الله علیه وآله وسلم) فأنشدت تقول:(1)

مدینة جدنا لا تقبلینا فبالحسرات والأحزان جینا

ألا فاخبر رسول الله عنا بأنّا قد فجعنا فی أبینا

وأن رجالنا بالطف صرعی بلا رؤوس وقد ذبحوا البنینا

واخبر جدنا أنا أسرنا وبعد الأسر یا جد سبینا

ورهطک یا رسول الله أضحوا عرایا بالطفوف مسلبینا

وقد ذبحوا الحسین ولم یراعوا جنابک یا رسول الله فینا

فلو نظرت عیونک للأساری علی أقتاب الجمال محملینا

رسول الله بعد الصون صارت عیون الناس ناظرة إلینا

وهی قصیدة طویلة تربوا علی الثلاثین بیتاً مشبعة بعاطفة الحزن والشکوی لجدها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ولأمها الزهراء علیها السلام، تشکو غدر الأمة وبطش الظالمین وما لاقاه الإمام الحسین (علیه السلام) وما عانته السبایا من عنت وقسوة فی رحلة السبی.

وکانت الرباب(2) زوجة الإمام الحسین (علیه السلام) قد حزنت حزناً

ص:152

بالغاً، ووجدت علیه وجداً شدیداً وقد ذکر بعض المؤرخین أنها رثته رثاءً حزیناً فقالت فیه:(1)

إنّ الذی کان نوراً یستضاء به بکربلاء قتیل غیر مدفون

سبط النبی جزاک الله صالحة عنا وجنبت خسران الموازین

قد کنت لی جبلاً صعبا ألوذ به وکنت تصحبنا بالرحم والدین

من للیتامی ومن للسائلین ومن یغنی ویأوی إلیه کل مسکین

والله لا أبتغی صهراً بصهرکم حتی أغیب بین الرمل والطین

کما أقامت، أم البنین(2) زوجة أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی بیتها العزاء علی الإمام الحسین (علیه السلام) واجتمع عندها نساء بنی هاشم یندبن الحسین (علیه السلام) وأهل بیته ویذکر أنّ أم البنین کانت ((تخرج إلی البقیع فتندب بنیها أشجی ندبة وأحرقها فیجتمع الناس إلیها یسمعون منها، فکان مروان(3) یجیء لذلک، فلا یزال یسمع ندبتها، ویبکی ومن قولها رضی الله عنها:

یا من رأی العباس کر علی جماهیر النقد ووراه من أبناء حیدر کل لیث ذی لبد

ص:153

أنبئت أنّ ابنی أصیب برأسه مقطوع ید ویلی علی شبلی أمال برأسه ضرب العمد

لو کان سیفک فی یدیک لما دنا منک أحد

وقولها أیضاً:(1)

لا تدعونی ویک أم البنین تذکرینی بلیوث العرین

کانت بنون لی أدعی بهم قد واصلوا الموت بقطع الوتین

تنازع الخرصان أشلاءهم فکلهم أمسی صریعاً طعین

یا لیت شعری أکما أخبروا بأنّ عباساً قطیع الیمین

وممن رثی الإمام الحسین (علیه السلام) ابنة عقیل(2) بن أبی طالب وقد خرجت مع أخواتها بعدما سمعت ناعیة الحسین (علیه السلام) فی المسجد عندما أعلن والی المدینة عمرو بن سعید الأشدق(3) لما جاءه بالخبر موفد عبید الله بن زیاد عبد الملک بن أبی الحارث السلمی(4).

ص:154

ومما قالته فی رثاءها للإمام الحسین (علیه السلام)

ماذا تقولون ان قال النبی لکم ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتی وبأهلی بعد مفتقدی منهم أساری ومنهم ضرجوا بدم

ما کان هذا جزائی إذ نصحتکم أن تخلفونی بسوءٍ فی ذوی رحم(1)

والذی یلاحظ من خلال هذه الأبیات الشعریة هو التأنیب لموقف المسلمین المتخاذل وعدم نصرتهم للإمام الحسین (علیه السلام) وهی شکوی تصدرها لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) تبث فیها حزنها وأساها لما حل بالإمام الحسین (علیه السلام) وأهل بیته.

وممن رثی الإمام الحسین (علیه السلام) أبو الأسود الدؤلی(1) بقوله:(2)

أقول وذاک من جزع ووجد أزال الله ملک بنی زیاد

وأبعدهم بما غدروا وخانوا کما بعدت ثمود وقوم عاد

الی أن یقول:

حسین ذو الفضل وذو المعالی یزین الحاضرین وکل باد

أصاب الغر مهلکة فأضحی عمیداً بعد مصرعه فؤادی

عبر الشاعر عن مدی حزنه بما أصاب الإمام الحسین (علیه السلام) وأهله من الظلم والاضطهاد وعن غضبه وشدة حنقه علی بنی زیاد لقتلهم الإمام الحسین (علیه السلام).

ومن أولئک الشعراء الذین رثوا الإمام الحسین (علیه السلام) خالد بن المهاجر(3) الذی رثی شهداء الطف وتوعد بنی أمیة بطلب الثأر بقوله:(4)

ص:157

أ بنی أمیة هل علمتم أننی أحصیت ما بالطف من قبر

صب الإله علیکم غضبا أبناء جیش الفتح أو بدر

تحتوی الأبیات طابع الرثاء الهجائی وتظهر فی الشطر الثانی، أن الشاعر یحصی عدد الشهداء الذین قتلوا فی الطف ودعاء الشاعر علی بنی أمیة.

وقول الشاعر عامر بن یزید(1) بن ثبیط (2) العبدی البصری والذی یدعو فیها زوجته لندب الإمام الحسین (علیه السلام) والبکاء علیه کما یرثی فیها أباه وإخوته عبد الله وعبید الله الذین استشهدوا مع الإمام الحسین (علیه السلام) یوم عاشوراء(3):

یا مرو قومی فاندبی خیر البریة فی القبور

وابکی الشهید بعبرة من فیض دمع ذی درور

وارث الحسین مع التففف - جع والتأوه والزفیر

قتلوا الحرام من الأئمة فی الحرام من الشهور

وابکی یزید مجدلاً وابنیه فی حر الهجیر

ص:158

متزملین دماؤهم تجری علی لبب النحور

یا لهف نفسی لم تفز معهم بجنات وحور

وقد عبر بعض الشعراء عن مستویات فکریة، وعقائدیة فی مستوی فهمهم للإمامة المرتبط بخط النبوة کرکن أساس من أرکان الدین وهو ما عبر عنه أبو الأسود الدؤلی بقوله:(1)

یا ناعی الدین الذی ینعی التقی قم فانعه والبیت ذا الأستار

أبنی علی آل بیت محمد بالطف تقتلهم جفاة نزار

لم یقل الشاعر یا ناعی الحسین بل إنّه یری أنّ الحسین بن علی (علیهما السلام) شعار الدین هو التقی، وهو البیت ذو الأستار إشارة إلی ما یعکسه مقام الإمامة. وفی مثل هذا المعنی عبر عنه شاعر آخر، هو خالد بن معدان(2) ، بقوله فی قصیدة یرثی بها الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام)(3):

جاؤوا برأسک یا ابن بنت محمد مترملا بدمائه ترمیلا

قتلوک عطشاناً ولم یترقبوا فی قتلک التنزیل والتأویلا

وکأنما بک یا ابن بنت محمد قتلوا جهاراً عامدین رسولا

ص:159

ویکبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بک التکبیر والتهلیلا

ولم یکتف الشعراء برثاء أهل البیت (علیهم السلام) فقط بل دعاهم الحب لأهل هذا البیت أن یقفوا علی تلک القبور الشوامخ ویرثوا أهلها بدموع جاریة ومن أولئک الشعراء عقبة بن عمرو السهمی الذی وقف علی قبر الحسین (علیه السلام) وأنشد(1):

إذا العین قرت فی الحیاة وأنتم تخافون فی الدنیا فأظلم نورها

مررت علی قبر الحسین بکربلا ففاض علیه من دموعی غزیرها

فما زلت أرثیه وأبکی لشجوه ویسعد عینی دمعها وزفیرها

وبکیت من بعد الحسین عصائب أطافت به من جانبیه قبورها

سلام علی أهل القبور بکربلا وقل لها منی سلام یزورها

سلام بآصال العشی وبالضحی تؤدیه نکباء الریاح ومورها

ولا برح الوفاد زوار قبره یفوح علیهم مسکها وعبیرها

ومن تلک المراثی قول الشاعر أبی الرمیح الخزاعی(2) ، الذی یرثی فیها

ص:160

الإمام الحسین (علیه السلام) بقوله:(1)

أجالت علی عینی سحائب عبرة فلم تصح بعد الدمع حتی أرمعلت

تبکی علی آل النبی محمد وما أکثرت فی الدمع لا بل أقلت

أولئک قوم لم یشیموا سیوفهم وقد نکأت أعداؤهم حین سلت

هی مرثیة حزینة یصور فیها الشاعر العبرات ویصفها کالسحاب ومع ذلک یعرب الشاعر عن أسفه لعدم کثرة البکاء.

وقد ثمن أهل البیت (علیهم السلام) مواقف الشعراء ونصرتهم الحقیقیة لقضیة الإمام الحسین (علیه السلام) وولاءهم لآل بیت النبوة وهذا ما أشار إلیه ابن الصباغ المالکی "ما زال النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) وأهل بیته (علیهم السلام) یستنشدون الأشعار فی مدائحهم ومراثیهم، ویجیزون علیها ویدعون لقائلها ویبشرونه بثواب الآخرة ویبکون منذ سماع مراثیهم من أولیائهم ومحبیهم"(2) ، فقد کرم الإمام الباقر (علیه السلام) من یفد علیه من الشعراء الذین یرثون الإمام الحسین (علیه السلام) بوعده ثواب الآخرة

ص:161

والدعاء لهم وإعطائهم جزیل العطاء ویذکر أن الکمیت(1) أتی الإمام الباقر (علیه السلام) فأذن له لیلاً وأنشده قوله:

من لقلب متیم مستهام غیر ما صبوة ولا أحکام

بل هوای الذی أحب وأبدی لبنی هاشم أجل الأنام

فلما بلغ من المیمیة قوله:

وقتیل بالطف غودر منهم بین غوغاء أمة وطغام

فبکی الإمام الباقر (علیه السلام) ثم قال: یا کمیت لو کان عندنا مال لأعطیناک، ولکن لک ما قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لحسان ابن ثابت:" لا زلت مؤیداً بروح القدس ما ذببت عنا أهل البیت "(2) وفی روایة أخری قال الإمام الباقر (علیه السلام):" اللهم اغفر للکمیت! اللهم اغفر للکمیت وأن الإمام أعطی الکمیت ألف دینار وکسوة، فقال الکمیت ما أحببتکم للدنیا ولو أردت الدنیا لأتیت من هی فی یدیه ولکنی أحببتکم للآخرة فأما الثیاب التی أصابت أجسامکم فأنا أقبلها لبرکتها وأما المال فلا أقبله فرده وقبل الثیاب"(3).

ص:162

ولعل فی مجموع هذه الروایات أنها تشیر إلی لقاءات عدة جمعت الشاعر الکمیت بالإمام الباقر (علیه السلام) وفی أوقات مختلفة. وقد ذکرت بعض المصادر ان السیدة سکینة بنت الحسین(1) (علیها السلام) کانت تولی شعر النیاحة اهتماماً کبیراً وقد أشار ابن جامع(2) إلی ذلک بقوله: "حدثنی جماعة من شیخ أهل مکة أنهم حدثوا: ان سکینة بنت الحسین بعثت إلی ابن سریج(3) بشعر أمرته ان یصوغ فیه لحناً یناح به فصاغ به، وهو الآن داخل فی غنائه والشعر:

یا أرض ویحک أکرمی أمواتی فلقد ظفرت بسادتی وحماتی

فقدمه ذلک عند أهل الحرمین، علی جمیع ناحة مکة والمدینة والطائف"(4).

ص:163

والذی نحأول الوصول إلیه هو لیس اهتمام السیدة سکینة بالنوح علی الإمام الحسین فقط بل فیه دلالة علی وجود مختصین بشعر النیاحة وإنشاده فی مکة والمدینة والطائف ولا شک أنّ هؤلاء وجدوا فی شعر الرثاء مادة خصبة لرثائهم، ثم یذکر أن السیدة سکینة لم تکتف بنوح ابن سریج بل" بعثت إلی ابن سریج بمملوک لها یقال له عبد الملک وأمرته أن یعلمه النیاحة، فلم یزل یعلمه مدة طویلة "(1) ومما یثبت ذلک النوع من شعر النیاحة ونمطه وطریقته الخاصة، ما روی عن أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) لما أراد أبو هارون(2) إنشاده، فالإمام کان یرغب أن ینشده أبو هارون إنشاداً شجیاً حزیناً فقال له مرة، أنشدنی کما تنشدون، وکما رثیته عند قبره، ومرة أخری قال له أنشدنی کما تنشدون یعنی بالرقة" (3) کما وبلغ من اهتمام الإمام الصادق (علیه السلام) بالنوح, أن جعل نساءً مختصات بالنوح وأمر الشاعر العبدی(4) ان

ص:164

ینظم لهن ما ینحن به فی المآتم النسائیة. کما حث الإمام الصادق الشیعة بقوله: "یا معشر الشیعة علموا أولادکم شعر العبدی فإنّه علی دین الله" (1) وبذلک یؤکد الإمام الصادق (علیه السلام) علی إحیاء شعائر الحسین علیه السلام وإبقاء ذکری مقتله متجددة حاضرة کل عام، وفی کل مکان، ویذکر ان الکمیت وفد أیام الحج علی الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) واستأذنه بالانشاد، قائلاً له: جعلت فداک ألا أنشدک؟ قال: إنّها أیام عظام، قال الکمیت: إنّها فیکم، قال: هات. وبعث أبو عبد الله علیه السلام إلی بعض أهله فقرب، فأنشده فکثر البکاء وحین أتی علی هذا البیت من الشعر:

یصیب به الرامون عن قوس غیرهم فیا آخر أسدی له البغی أول

فرفع أبو عبد الله (علیه السلام) یدیه فقال: "اللهم اغفر للکمیت ما قدم وأخر وما سر وأعلن وأعطه حتی یرضی"(2). ما یلاحظ من هذا النص أن الکمیت هو الذی بادر الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) واستأذنه بالإنشاد، وأنّ الإمام ذکره أنّ تلک الأیام أیام الحج والتی یکره فیها قول الشعر، ولما کانت القصیدة فی الحسین (علیه السلام) لم یکتف الإمام الصادق (علیه السلام) بالاستماع إلیها بمفرده، بل دعا بعض أهله لیکون هناک تجمع ومأتم یستمع فیه إلی قصیدة رثاء بحق الإمام الحسین (علیه السلام) حتی لو کانت فی أیام الحج.

ص:165

احتفی أئمة أهل البیت (علیهم السلام) بالشعراء فقد کانوا یستقبلونهم فی بیوتهم ولقد ارتبط رثاء أولئک الشعراء بمجالس عقدها الأئمة من أجل البکاء فیها علی الإمام الحسین (علیه السلام) ونری تلک الظاهرة تبرز علی أوجها فی زمن الإمام الصادق (علیه السلام) من خلال وفرة الشعراء الذین یقولون الشعر فی الحسین (علیه السلام) أو ظهور المنشدین الذین ینشدون أشعار شعراء رثوا بشعرهم الإمام الحسین (علیه السلام) وهنالک جملة من المجالس الحسینیة التی عقدها أئمة أهل البیت (علیهم السلام) وکانت بحضور الشعراء وقد أشرک أئمة أهل البیت (علیهم السلام) النساء فی سماع تلک المجالس والمشارکة فی الحضور فیها، وکان حضورهن بمعزل عن الرجال یسمعن من وراء حجاب، ومن تلک المجالس التی عقدت بحضور الشاعر السید الحمیری(1) ، فقد روی علی بن إسماعیل(2) عن أبیه قال: کنت عند أبی عبد الله جعفر بن محمد علیهما السلام إذ استأذن آذنه للسید فأمر بإیصاله،

ص:166

وأقعد حرمه خلف ستر، ودخل فسلم وجلس فاستنشده فأنشده قوله:(1)

أمرر علی جدث الحسین فقل لأعظمه الزکیة

یا أعظما لا زلت من وطفاء ساکبة رویة

وإذا مررت بقبره فأطل به وقف المطیة

وابک المطهر للمطهر والمطهرة النقیة

کبکاء معولة أتت یوماً لواحدها المنیة

قال: "فرأیت دموع جعفر بن محمد تنحدر علی خدیه، وارتفع الصراخ والبکاء من داره، حتی أمره بالإمساک فأمسک"(2).

کما عقدت مجالس العزاء وبحضور الشاعر أبی هارون المکفوف، الذی یقول:" دخلت علی أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) فقال لی: أنشدنی فأنشدته، فقال: لا، کما تنشدون، وکما ترثیه عند قبره، قال فأنشدته:

أمرر علی جدث الحسین فقل لأعظمه الزکیة

قال: فلما بکی أمسکت أنا، فقال: مر، فمررت قال: ثم قال: زدنی زدنی. قال فأنشدته:

یا مریم قومی فاندبی مولاک وعلی الحسین فاسعدی ببکاک

قال أبو هارون: فبکی وتهایج النساء، قال: فلما سکنت قال لی: یا أبا هارون من أنشد فی الحسین (علیه السلام) فأبکی عشرة فله الجنة، ثم جعل

ص:167

ینقص واحداً واحداً حتی بلغ الواحد فقال: من أنشد فی الحسین (علیه السلام) فأبکی واحداً فله الجنة"(1).

وهنالک مجالس أخری عقدت وبحضور شعراء آخرین منهم الشاعر عبد الله بن غالب(2) الذی یقول: "دخلت علی أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) فأنشدته مرثیة الحسین (علیه السلام) فلما انتهیت إلی هذا الموضع:

لبلیة تسقوا حسینا بمسقاة الثری غیر التراب

فصاحت باکیة من وراء الستر وأبتاه"(3).

والشاعر سفیان بن مصعب العبدی الذی یقول: دخلت علی أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) فقال: قولوا لأم فروة(4) تجیء، فتسمع ما صنع بجدها. قال: فجاءت فقعدت خلف الستر ثم قال: أنشدنا، قال: فقلت:

فرو جودی بدمعک المسکوب

قال: فصاحت، وصحن النساء... فقال أبو عبد الله (علیه السلام):

ص:168

الباب الباب: فاجتمع أهل المدینة علی الباب قال: فبعث إلیهم أبو عبد الله (علیه السلام) صبی لنا غشی علیه فصحن النساء(1).

والشاعر أبو الرمیح الخزاعی، الذی یذکر عنه أنه کان یزور آل محمد فیجتمعون إلیه ویقرأ علیهم مراثیه فی الإمام الحسین (علیه السلام) ویذکر انه دخل علی فاطمة بنت الحسین(2) بن علی (علیها السلام) مرة فأنشدها فی الحسین (علیه السلام). بقوله:

أجالت علی عینی سحائب عبرة فلم تصح بعد الدمع حتی أرمعلت

تبکی علی آل النبی محمد وما أکثرت فی الدمع لا بل أقلت

أولئک قوم لم یشیموا سیوفهم وقد نکأت أعداءهم حین سلت

وان قتیل الطف من آل هاشم أذل رقاباً من قریش فذلت

فقالت فاطمة: یا أبا الرمیح هکذا تقول؟ قال: فکیف أقول جعلنی الله فداک؟ قالت قل: أذل رقاب المسلمین فذلت. فقال: لا انشدها بعد الآن الا

ص:169

هکذا..."(1)

والشاعر أبو عمارة(2), الذی ذکر أنّ أبا عبد الله الصادق (علیه السلام) قال له: یا أبا عمارة: أنشدنی فی الحسین (علیه السلام) قال: فأنشدته, فبکی ثم أنشدته فبکی، قال: فو الله ما زلت أنشده ویبکی حتی سمعت البکاء من الدار فقال لی: "یا أبا عمارة من أنشد فی الحسین (علیه السلام) شعراً فأبکی خمسین فله الجنة، ومن أنشد فی الحسین شعراً فأبکی أربعین فله الجنة، ومن أنشد فی الحسین شعراً فأبکی ثلاثین فله الجنة... ومن أنشد فی الحسین شعراً فأبکی واحداً فله الجنة ومن أنشد فی الحسین شعراً فبکی فله الجنة، ومن أنشد فی الحسین شعراً فتباکی فله الجنة"(3).

وکذلک الشاعر دعبل(4) بن علی الخزاعی الذی یقول:" دخلت علی سیدی ومولای علی بن موسی الرضا (علیه السلام) فی مثل هذه الأیام

ص:170

فرأیته جالساً جلسة الحزین الکئیب، وأصحابه من حوله، فلما رآنی مقبلاً قال لی: مرحباً بک یا دعبل، من بکی وأبکی علی مصابنا ولو واحداً کان أجره علی الله، یا دعبل من ذرفت عیناه علی مصابنا وبکی لما أصابنا من أعدائنا حشره الله معنا فی زمرتنا، یا دعبل من بکی علی مصاب جدی الحسین غفر الله له ذنوبه البتة. ثم إنه (علیه السلام) نهض وضرب ستراً بیننا وبین حرمه، وأجلس أهل بیته من وراء الستر لیبکوا علی مصاب جدهم الحسین (علیه السلام) ثم التفت إلی وقال لی یا دعبل أرث الحسین فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حیاً فلا تقصر عن نصرنا ما استطعت. قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتی وأنشأت أقول:(1)

مدارس آیات خلت من تلاوة ومنزل وحی مقفر العرصات

أ فاطم لو خلت الحسین مجدلا وقد مات عطشاناً بشط فرات

إذن للطمت الخد فاطم عنده وأجریت دمع العین فی الوجنات

أ فاطم قومی یا ابنة الخیر واندبی نجوم سموات بأرض فلات

قبور بکوفان وأخری بطیبة وأخری بفخ(2) نالها صلواتی

قبور ببطن النهر من جنب کربلا معرسهم فیها بشط فرات

ص:171

توفوا عطاشا بالعراء فلیتنی توفیت فیهم قبل حین وفاتی

الی ان یقول:

سأبکیهم ما ذر فی الأرض شارق ونادی منادی الخیر للصلوات

وما طلعت شمس وحان غروبها وباللیل أبکیهم وبالغدوات

ولدعبل الخزاعی أیضاً فی رثاء الإمام الحسین (علیه السلام) قوله:(1)

أنسیت إذا صارت إلیه کتائب فیها (ابن سعد) والطغاة الجحد

لم یحفظوا حق النبی محمد إذا جرعوه حرارة لا تبرد

قتلوا الحسین واثکلوه بسبطه فالثکل من بعد الحسین مبدد

کیف القرار وفی السبایا زینب تدعو بفرط حرارة یا أحمد

هذا حسین بالسیوف مبضع وملطخ بدمائه مستشهد

وله أیضاً:(2)

کم عبرة فاضت لکم وتقطعت یوم الطفوف علی الحسین نفوس

واحسرتاه لکم جسوم بالعرا فیها وفوق الذابلات رؤوس

التیار بعد مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) ورجوع الجیش الأموی من کربلاء إلی الکوفة وکان فی خطب الإمام زین العابدین (علیه السلام) والعقیلة زینب (علیها السلام) ما قد قلب المعأدلة فی الکوفة، ولا غرو أن أتباع أهل البیت (علیهم السلام) الذین حیلوا عن نصرته کانوا أشد المتأثرین بذلک وهم من یعرف مکانة الإمام الحسین علیه السلام فی الأمة، وقد عرف هذا التیار فیما بعد بحرکة التوابین، وقد مثل هؤلاء وعبر عنهم شعراء کشفوا عن حجم الأسی والألم والندم والحسرة لعدم نصرتهم للإمام الحسین (علیه السلام) وکان أول رد فعل مباشر علی مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) هو ظهور حرکة التوابین، وکان لشعراء التوابین الدور المهم فی الثورة علی الأمویین وأن ما قاله شعراؤهم فی هذا المضمار کان له الأثر فی تعبئة الناس وتحریضهم علی طلب الثأر من قتلة الإمام الحسین (علیه السلام) ومن أولئک الشعراء هو عوف بن عبد الله الأزدی(1) له مرثیة تحکی صدور الندم والتوبة عما وقع منه، ویصور الشاعر ما لاقاه الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) بقوله:

أضحی حسین للرماح دریئة فغودر مسلوباً علی الطف ثاویا

قتیلاً کأن لم یعرف الناس أصله جزی الله قوماً قاتلوه المطاویا

ص:173

فیالیتنی إذ ذاک کنت لحقته وضاربت عنه الفاسقین الأعادیا

ودافعت عنه ما استطعت مجاهدا وأعملت سیفی فیهم وسنانیا

ولکن عذری واضح غیر مختف وکان مقودی ضلة من ضلالیا

ویا لیتنی غودرت فیمن أجابه وکنت له فی موضع القتل عادیا

ویا لیتنی جاهدت عنه بأسرتی وأهلی وخلانی جمیعاً ومالیا

کانت هذه القصیدة من المکتومات فی العصر الأموی، ولیس بذاک بعجیب بسبب ما تحتویه القصیدة من التحریض علی الثورة والقیام ضد بنی أمیة، ومما یلاحظ من هذه المرثیة انه ندب حزین تخالطه روح التضحیة وصدق العاطفة.

ولما قامت دعوة التوابین، وصیح یا لثارات الحسین وسمعها عوف بن عبد الله الأزدی أعلن استجابته لنداء التوابین لأخذ ثأر الإمام الحسین (علیه السلام) وأنشد فی ذلک یقول:(1)

صحوت وودعت الصبا والغوانیا وقلت لأصحابی أجیبوا المنادیا

وقولوا له إذ قام یدعو إلی الهدی وقتل العدا لبیک لبیک داعیا

وشدوا له إذ سعر للحرب أزره لیجزی امرؤ یوماً بما کان ساعیا

الی أن یقول:

وابکوا لخیر الخلق جداً ووالداً حسین لأهل الأرض ما زال هادیا

ص:174

وابکوا حسیناً معدن الجود والتقی وکان لتضعیف المثوبة راجیا

وابکوا حسینا کلما ذر شارق وعند غسوق اللیل ابکوا إمامیا(1)

وممن أظهر ندمه علی عدم نصرته الإمام الحسین (علیه السلام) الشاعر عبید الله بن الحر الجعفی(2) وکان سأله الإمام الحسین (علیه السلام) النصرة فلم یستجب لدعوة الإمام الحسین (علیه السلام) وللشاعر قصیدة شعریة فی رثاء الحسین (علیه السلام) یظهر فیها ندمه علی عدم استجابته لدعوة الإمام حینما سأله ذلک، ویصف ذلک بقوله:(3)

فیا لک حسرة ما دمت حیا تردد بین حلقی والتراقی

حسینٌ حین یطلب بذل نصری علی أهل العداوة والشقاق

ولو أنّی أواسیه بنفسی لنلت کرامة یوم التلاق

مع ابن المصطفی نفسی فداه فولی ثم ودع بالفراق

غداة یقول لی بالقصر قولاً أتترکنا وتزمع بانطلاق

فلو فلق التلهف قلب حی لهمّ الیوم قلبی بانفلاق

ص:175

فقد فاز الأولی نصروا حسینا وخاب الآخرون أولو النفاق

إذن هی حسرة تعتلج بصدر الشاعر، وتأنیب ضمیر دائم لعدم نصرته الإمام الحسین (علیه السلام) وتفویت الفرصة لنیل شرف المشارکة معه ونیل بذلک شرف درجة الشهادة معه. ونقل لنا الطبری(1) الندامة والحسرة التی أبداها عبید الله بن الحر الجعفی فی شعره لعدم مشارکته مع الإمام الحسین (علیه السلام) وعند وقوفه علی مصارع القوم فاستغفر لهم هو وأصحابه وأنشد فی ذلک:

یقول أمیر غادر حق غادر الا کنت قاتلت الشهید ابن فاطمة

فیا ندمی الا أکون نصرته الا کل نفس لا تسدد نادمة

وإنی وإن لم أکن من حماته لذو حسرة ما أن تفارقه لازمة

سقی الله أرواح الذین تأزروا علی نصره سقیا من الغیث دأئمة

وقفت علی أجداثهم ومحالهم فکاد الحشی ینفض والعین ساجمة

لعمری لقد کانوا مصالیت فی الوغی سراعاً إلی الهیجا حماة خضارمة

تأسوا علی نصر ابن بنت نبیهم بأسیافهم أساد غیل ضراغمة

فإن یقتلوا فکل نفس تقیة علی الأرض قد أضحت لذلک واجمة

ص:176

ثالثاً - شعر الجن

یعد شعر الجن نوعاً من أنواع الشعر الموجود فی تراثنا الأدبی، ولقد اهتم علماء الأدب والتاریخ فی مدوناتهم به حتی عد جزءاًمن تلک المادة العلمیة والأدبیة. کما أفرد بعض العلماء مدونة خاصة أسماها الهواتف(1) ویعنی بذلک شعر الجن.

وإن من المسلم به هو بکاء الملائکة، والجن علی مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) وبذلک أخبر المعصومون (علیهم السلام) کما دلت علیه الأخبار عند الفریقین بحیث إنه من الکثرة أصبح معها من المسلمات ولیس لأحد إنکاره(2). کما أن الجن من حقائق مخلوقات الله تعالی وقد سلط القرآن الکریم الضوء علی بعض جوانب حیاتهم(3) وأشار إلی أصنافهم(4) وأنهم مکلفون کما نحن بنی البشر(5) ویتضح من روایة صفوان الجمال(6) التی

ص:177

یرویها عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن حزنهم وبکائهم علی الإمام الحسین (علیه السلام) بقوله: "سألته فی طریق المدینة ونحن نرید مکة فقلت: یا بن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ما لی أراک کئیباً حزیناً منکسراً؟ فقال الإمام الصادق (علیه السلام) لو تسمع ما أسمع لشغلک عن مسألتی، قلت: فما الذی تسمع؟ قال: ابتهال الملائکة إلی الله عز وجل علی قتلة أمیر المؤمنین، وقتلة الحسین ونوح الجن وبکاء الملائکة الذین حوله وشدة جزعهم"(1).

کما تضافرت الروایات الصحیحة بأن الله تعالی وکّل بقبر الحسین علیه السلام أربعة آلاف ملک یبکونه شعثاً غبراً إلی یوم القیامة(2) أو سبعین ألفاً(3) أو ألف ألف(4) وغیرها من الروایات الکثیرة.

ویعود انتشار شعر الجن أو الهواتف وشیوعه بین الناس مرده أنّ بعض الشعراء لجأوا إلی أشعارهم ونسبوها إلی الجن تقیة وخوفاً من السلطة

ص:178

وبطشها، وهو أمر واقع علی مر التاریخ من إخفاء بعض الشعراء أو الکتاب لهویتهم لهذا السبب. وهذا ما أشار إلیه أبو الفرج الأصفهانی بقوله:" وقد رثی الحسین من متأخری الشعراء استغنی عن ذکرهم فی هذا الموضوع کراهیة الإطالة وأما من تقدم فما وقع إلینا شیء رثی به وکانت الشعراء لا تقدم علی ذلک مخافة بنی أمیة وخشیة منهم"(1).

وقد أشار الشیخ شمس الدین إلی عامل آخر دفع بعضهم أن ینسب تلک المقطوعات الشعریة للجن، وهو رغبتهم فی إضفاء بُعدٍ تأکیدی وتشویقی علی أهمیة الحدث من خلال ابراز اهتمام الجن به ورثائهم للإمام الحسین (علیه السلام) بقوله: "ولعل بعض هذا الشعر من عمل النائحات اللاتی یزأولن النوح فی المآتم النسائیة علی الحسین (علیه السلام) وکن یردن الإغراب وإثارة الدهشة بنسبة ما نحن به إلی مخلوقات غیر بشریة من خلال نسبة رثاء الجن للحسین (علیه السلام) وهو ما یلائم العقلیة الشعبیة المولعة بأمثال هذه الأمور"(2).

أما الشیخ مرتضی مطهری فإنه یری بقوله:" ولا یستبعد أن تکون هذه الأبیات الشعریة، قد نظمت من قبل المحبین الشیعة خاصة، وأنها تعبر عن حنین وعمق فی الأسی والعواطف ولکن لما کان الوضع لا یحتمل تلک العلاقة فی زمن الحکومات التی کانت تطارد الشیعة والمحبین لآل البیت فإنّ أصحابها کانوا

ص:179

ینشدونها علی أنها من الجن، وبهذا کانوا یخفون علی النظام من جهة، والجهات الحقیقیة الناظمة لها، یجعلون الناس تحفظها وترددها بسهولة أکثر من جهة أخری..."(1). وأکده الشیخ شمس الدین بقوله: "ویبدو ان أکثر هذا الشعر لشعراء منسیین مغمورین، أرادوا ضمان انتشار الدعایة للثورة والمساهمة فی عمل من أعمال التقوی المحبوبة دون أن یخاطروا بأنفسهم ویتعرضوا لنقمة السلطة، فأنشأوا هذه الأبیات ونسبوها للجن"(2). فإنّ حملة التهدید الأموی قد طالت جمیع محبی علی وأهل بیته (علیهم السلام) وقد تتبعوهم فی کل مکان، وقد لحق الشعراء فی ذلک الکثیر کونهم اللسان الناطق، والصوت الإعلامی الصادح الذی یمثل الدعایة المتحرکة خصوصاً إن کان من کبار الشعراء. ومن المؤکد الذی أشارت له المرویات السابقة التی صدرت عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وأهل بیته فی إن الملائکة، والجن قد ناحت وبکت علی الحسین (علیه السلام) الا أنه لم یرد عن أئمة أهل البیت (علیهم السلام) أنّ الجن قد رثت الإمام الحسین (علیه السلام).

لقد کان شعر الرثاء الحسینی المنسوب للجن من الکثرة بلغ حد التواتر عند علماء الأمة بحیث نجده فی کتب المؤرخین وأصحاب السیر وحتی کتب الحدیث فلا نکاد نستعرض کتاباً من کتب التاریخ الا ووجدنا فیه تلک المراثی، ونذکر هنا نماذج من بعض ما سمع من تلک المرثیات ومنها:(3)

ص:180

أیها القاتلون جهلاً حسینا أبشروا بالعذاب والتنکیل

کل أهل السماء یدعو علیکم من نبی وملاک وقبیل

قد لعنتم علی لسان ابن داو د وموسی وحامل الانجیل

وقال المقدسی:" وسمع أهل المدینة لیلة مقتل الحسین بن علی (علیهما السلام) فی نهارها هاتفاً یهتف ":(1)

مسح الرسول جبینه فله بریق فی الخدود

أبواه من علیا قریش وجده خیر الجدود

ومنها ما سمع بالبصرة، فقد روی أن هاتفاً سمع بالبصرة ینشد لیلاً(2)

إن الرماح الواردات صدورها نحو الحسین تقاتل التنزیلا

ویهللون بأن قتلت وإنما قتلوا بک التکبیر والتهلیلا

فکأنما قتلوا أباک محمداً صلی علیه الله أو جبریلا

وإنه سمع نوح جن قصدوا لمؤازرة الإمام الحسین (علیه السلام) وهو یقول:(3)

ص:181

والله ما جئتکم حتی بصرت به بالطف معفر الخدین منحورا

وحوله فتیة تدمی نحورهم مثل المصابیح یملون الدجا نورا

وقد حثثت قلوصی کی أصادفهم من قبل ما ان یلاقوا الخدر الحورا

وقد روی أنّ أم سلمة قالت: ما سمعت نوح الجن منذ قبض النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) إلا اللیلة وما أری ابنی إلا قتل تعنی الحسین رضی الله عنه فقالت لجاریتها اخرجی فسلی فأخبرت أنه قد قتل وإذا جنیة تنوح(1):

ألا یا عین فاحتفلی بجهد ومن یبکی علی الشهداء بعدی

علی رهط تقودهم المنایا الی متجبر فی ملک عبد

ومما سمع من نوح الجن ورثائها الإمام الحسین (علیه السلام) هو ما کان یسمع فی کربلاء فعن أبی الجناب الکلبی(2) قال:" أتیت کربلاء فقلت لرجل من أشراف العرب بها بلغنی أنکم تسمعون نوح الجن؟ قال: ما تلقی حراً أو عبداً إلا أخبرک أنه سمع ذاک قال: قلت: وأخبرنی ما سمعت قال: سمعتهم یقولون:(3)

مسح الرسول جبینه فله بریق فی الخدود

ص:182

کانت تحت إشراف الإمام زین العابدین علی بن الحسین (علیه السلام)(1).

ولعل أولی تلک المجالس هی مجالس النساء العلویات وممن کان معهن من نساء أنصار الإمام الحسین (علیه السلام) فقد وقفن علی مصارع الشهداء" فلطمن النسوة، وصحن حین مررن بالحسین، وجعلت زینب بنت علی تقول: یا محمداه صلی علیک ملک السما. هذا حسین بالعرا، مرمل بالدما، مقطع الأعضا یا محمداه، وبناتک سبایا وذریتک مقتلة تسفی علیها الصبا فأبکت کل عدو وولی"(2).

اما مجلس العزاء الثانی فقد انعقد بالکوفة وذلک عند وصول سبایا آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) إلیها وهو ما یصوره ابن طیفور بقوله: "عن خدام الأسدی أنه قال: دخلت الکوفة سنة إحدی وستین، وهی السنة التی قتل فیها الحسین بن علی (علیهما السلام) فرأیت نساء أهل الکوفة یومئذ یلتدمن(3) مهتکات الجیوب، ورأیت علی بن الحسین (علیه السلام) وهو یقول بصوت قد نحل من المرض: یا أهل الکوفة إنکم تبکون علینا فمن قتلنا غیرکم"(4).

ص:184

وقد وصفت السیدة زینب بنت علی (علیها السلام) مجالس المأتم التی علیها کان حال أهل الکوفة عند دخول السبایا بقولها:" أتبکون؟ إی والله فابکوا کثیراً، واضحکوا قلیلاً، فلقد فزتم بعارها وشنارها، ولن تغسلوا دنسها عنکم ابداً، فسلیل خاتم الرسالة، وسید شباب أهل الجنة، وملاذ خیرتکم، ومفزع نازلتکم، وإمارة محجتکم..."(1).

کما ذکر الدینوری بکاء أصحاب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) علی الإمام الحسین (علیه السلام) فی مجلس عبید الله بن زیاد بالکوفة بقوله: "لما أُدخل رأس الحسین (علیه السلام) علی ابن زیاد، فوضع بین یدیه، جعل ابن زیاد ینکث بالخیزرانة ثنایا الحسین (علیه السلام) وعنده زید ابن أرقم(2) صاحب رسول الله فقال له: مه ارفع قضیبک عن هذه الثنایا، فلقد رأیت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یلثمها ثم خنقته العبرة فبکی، فقال ابن زیاد: مم تبکی؟ أبکی الله عینیک والله لولا أنک شیخ قد

ص:185

خرفت لضربت عنقک"(1).

لقد کان لخبر مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) الوقع الأکبر فی المدینة قبل عودة أهل البیت (علیهم السلام) إلیها، فقد بادر ابن زیاد ومنذ الوهلة الأولی لمصرع الإمام الحسین (علیه السلام) بإرسال رسول من الکوفة، إلی والی المدینة عمرو بن سعید الأشدق یخبره بمقتل الحسین بن علی (علیهما السلام) فیذکر أنّ عبید الله بن زیاد دعا:" عبد الملک ابن أبی الحارث السلمی، فقال: انطلق حتی تقدم المدینة علی عمرو بن سعید بن العاص فبشره بقتل الحسین... فلما بلغ الرسول المدینة لقیه رجل من قریش عند مدخل المدینة، فسأله عن الخبر فقال له: الخبر عند الأمیر، ودخل الرسول علی الأشدق، فقال له: ما وراءک؟ قال: ما یسر الامیر قتل الحسین بن علی، فقال: ناد بقتله، فنادیت بقتله، فلم أسمع والله واعیةً قط مثل واعیة نساء بنی هاشم فی دورهن، ولما فشا الخبر وانتشر فی المدینة، ضجت نساء بنی هاشم بالبکاء والنیاحة علی الحسین (علیه السلام) حینها قال الاشدق، واعیة بواعیة عثمان وتمثل بقول معد یکرب الزبیدی(2):

عجت نساء بنی زیاد عجة کعجیج نسوتنا غداة الأرنب

ولما أتی أهل المدینة مقتل الحسین خرجت ابنة عقیل بن أبی طالب ومعها

ص:186

نساؤها وهی تقول:(1)

ماذا تقولون إن قال النبی لکم ماذا فعلتم وأنتم آخر الأُمم

بعترتی وبأهلی بعد مفتقدی منهم أساری ومنهم ضرجوا بدم

ما کان هذا جزائی اذ نصحتکم أن تخلفونی بسوء فی ذوی رحم

وأخذ الناس یتوافدون علی عبد الله بن جعفر الطیار یعزونه بمصرع الإمام الحسین (علیه السلام) والشهداء من أهل بیته وأصحابه، وکان له مولی یقال له أبو السلاسل، فقال: متأثراً بمقتل أبناء عبد الله: "هذا ما لقیناه من الحسین، فحذفه عبد الله بنعله، وقال له: یابن اللخناء، تقول ذلک فی الحسین، والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتی أقتل معه، والله إنّه یسخی نفسی عن ولدی، ویهون علی المصاب بهما، أنهما أُصیبا مع أخی وابن عمی مواسین له صابرین معه، ثم أقبل علی حضار مجلسه، فقال لهم: الحمد لله وإن عزّ علیّ المصاب بمصرع الحسین (علیه السلام) أن أکون واسیته بنفسی فلقد واساه ولدی"(2).

أما ابن عباس فیروی أنه" بینما ابن عباس جالس فی المسجد الحرام وهو یتوقع خبر الحسین بن علی إلی أن اتاه آت فساره بشیء فأظهر الاسترجاع فقلنا ما حدث یا أبا العباس قال مصیبة عظیمة نحتسبها أخبرنی مولای أنّه سمع ابن الزبیر یقول قتل الحسین بن علی فلم نبرح حتی جاءه ابن الزبیر فعزاه ثم

ص:187

انصرف فقام ابن عباس فدخل منزله ودخل علیه الناس یعزونه..."(1).

اما أم المؤمنین، أم سلمة، أعلنت الحداد ولبست السواد علناً فی الملأ من الناس فی مسجد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ویروی القاضی النعمان عن أم سلمة بقوله:(2) "إنها لما بلغها مقتل الحسین (علیه السلام) ضربت قبة فی مسجد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) جلست فیها ولبست سواداً".

کذلک لما بلغ الحسن البصری(3) ، خبر مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) "بکی حتی اختلج صدغاه ثم قال: واذل أمة قتلت ابن بنت نبیها، والله لیردن رأس الحسین إلی جسده ثم لینتقمن له جده وأبوه من ابن مرجانة"(4).

وقد أقام سبایا آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) مجالس العزاء طیلة فترة وجودهم فی بلاد الشام، حیث یذکر أنّه" لما سار أهل البیت إلی الشام أمر یزید بإیوائهم فی خربة لا تقیهم من حر ولا برد فأقاموا بها حتی تقشرت

ص:188

وجوههم وکانوا مدة إقامتهم ینوحون الحسین ویبکون علیه"(1).

وکان لخطاب السیدة زینب (علیها السلام) وردها علی کلام یزید بن معاویة وفی مجلسه الاثر الکبیر فی کشف ما ارتکبه یزید بحق ال بیت النبوة الأمر الذی ترک أثره فی نفوس الناس قال الراوی:(2) "فقامت زینب بنت علی بن أبی طالب (علیها السلام) فقالت الحمد لله رب العالمین وصلی الله علی رسول الله واله: أجمعین، صدق الله سبحانه کذلک یقول:(ثُمَّ کانَ عاقِبَةَ الَّذِینَ أَساؤُا السُّوای أَنْ کَذَّبُوا بِآیاتِ اللّهِ وَ کانُوا بِها یَسْتَهْزِؤُنَ)3 أظننت یا یزید حیث أخذت علینا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق کما تساق الاسراء ان بنا هوانا علی الله وبک علیه کرامة وأنّ ذلک لعظم خطرک عنده فشمخت بأنفک ونظرت فی عطفک جذلان مسروراً حین رأیت الدنیا لک مستوثقة والأمور متسقة وحین صفا لک ملکنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً أنسیت قول الله تعالی:(وَ لا یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّما نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِینٌ)4 أمن العدل یابن الطلقاء تخدیرک حرائرک وإمائک وسوقک بنات رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) سبایا قد هتکت ستورهن وأبدیت

ص:189

وجوههن تحدوا بهن الأعداء من بلد إلی بلد ویستشرفهن أهل المناهل والمناقل ویتصفح وجوههن القریب والبعید والدنی والشریف لیس معهن من رجالهن ولی ولا من حماتهن حمی وکیف یرتجی مراقبة من لفظ فوه أکباد الأزکیاء ونبت لحمه من دماء الشهداء وکیف یستبطأ فی بغضنا أهل البیت من نظر إلینا بالشنف والشنان والإحن والإضغان ثم تقول غیر متأثم ولا مستعظم:

لأهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا یا یزید لا تشل

منحنیاً علی ثنایا أبی عبد الله (علیه السلام) سید شباب أهل الجنة تنکتها بمخصرتک وکیف لا تقول ذلک وقد نکأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتک دماء ذریة محمد ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشیاخک، وزعمت أنّک تنادیهم فلتردن وشیکاً موردهم ولتودن أنّک شللت وبکمت ولم تکن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت اللهم خذ لنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا واحلل غضبک بمن سفک دماءنا وقتل حماتنا فوالله ما فریت الا جلدک ولا حززت إلا لحمک ولتردن علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بما تحملت من سفک ذریته وانتهکت من حرمته فی عترته ولحمته وحیث یجمع الله شملهم ویلم شعثهم ویأخذ بحقهم... فإلی الله المشتکی وعلیه المعول فکد کیدک واسع سعیک وناصب جهدک فو الله لا ترحض عنک عارها وهل رأیک إلا فند وأیامک إلا عدد وجمعک إلا بدد یوم یناد المنادی ألا لعنة الله علی الظالمین فالحمد لله رب العالمین الذی ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة ونسأل الله أن یکمل لهم الثواب ویوجب لهم المزید

ص:190

ویحسن علینا الخلافة إنّه رحیم ودود وحسبنا الله ونعم الوکیل".

لقد کشف خطاب السیدة زینب (علیها السلام) حجم الجریمة التی ارتکبها یزید بحق آل البیت (علیهم السلام) مما دفع یزید إلی التظاهر بالتراجع والندم وإلقاء تبعة جریمة قتل الإمام الحسین (علیه السلام) علی ابن مرجانة فی الکوفة(1). وقبوله مضطراً بأن یرتقی الإمام زین العابدین (علیه السلام) المنبر وأن یخطب بالناس، فخطب الإمام زین العابدین (علیه السلام) بالناس قائلاً:" ...أنا ابن مکة ومنی، أنا ابن زمزم والصفا أنا ابن من حمل الرکن بأطراف الردی، أنا ابن خیر من ائتزر وارتدی، أنا ابن خیر من انتعل واحتفی، أنا ابن خیر من طاف وسعی، أنا ابن خیر من حج ولبی، أنا ابن من حمل علی البراق فی الهواء، أنا ابن من اسری به من المسجد الحرام إلی المسجد الأقصی، أنا ابن من بلغ به جبرئیل إلی سدرة المنتهی، أنا ابن من دنی فتدلی فکان قاب قوسین أو أدنی، أنا ابن من صلی بملائکة السماء، أنا ابن من أوحی إلیه الجلیل ما أوحی، أنا ابن من ضرب بین یدی رسول الله ببدر وحنین، ولم یکفر بالله طرفة عین، أنا ابن صالح المؤمنین ووارث النبیین ویعسوب المسلمین ونور المجاهدین وقاتل الناکثین والقاسطین والمارقین ومفرق الأحزاب، أربطهم جأشاً وأمضاهم عزیمة ذاک أبو السبطین الحسن والحسین، علی بن أبی طالب، أنا ابن فاطمة الزهراء وسیدة النساء، وابن خدیجة الکبری، أنا ابن المرمل

ص:191

بالدماء، أنا ابن ذبیح کربلاء، أنا ابن من بکی علیه الجن فی الظلماء، وناحت الطیر فی الهواء فلما بلغ إلی هذا الموضع ضج الناس بالبکاء"(1).

وقد خصص یزید لأهل البیت (علیهم السلام) داراً قریبة من قصره (دار الحجارة)(2) واذن لهم باقامة العزاء والنیاحة علی الحسین (علیه السلام) من بعد ما کان محظوراً علیهم.

وقد عبر الشیخ ابن نما الحلی، عن هذا التغیر فی موقف یزید بقوله: "إنّ یزید لم یأمر باستقبال سبایا أهل البیت (علیهم السلام) فی قصوره وإقامة النیاحة علی الحسین (علیه السلام) فیها الا بعد ما أحس أنّ الخطر أحدق به وتزلزل عرشه، وسلطانه فرأی أن یرعوی عن غیه وطیشه، ویلقی ثقل الجریمة علی ابن مرجانة(3) ویتظاهر بالحزن علی الحسین (علیه السلام) ویأمر بإعادة سبایا أهل البیت إلی المدینة المنورة بإکرام وقد أوقفهن قبل أیام علی هیئة الأسری مغلولین مصفدین علی مدرج جامع دمشق"(4).

ومن مظاهر تغیر موقف یزید أنّه سمح لنساء بنی أمیة مشارکة الهاشمیات بالعزاء والنیاح علی الإمام الحسین (علیه السلام) وإقامة المأتم، فقد روی

ص:192

سبط ابن الجوزی" عن الزهری(1) قوله: "لما دخلت نساء الحسین (علیه السلام) وبناته علی نساء یزید فنحن إلیهن وصحن وبکین وأقمن المأتم علی الحسین (علیه السلام) وقال الشعبی(2) لما دخل نساء الحسین (علیه السلام) علی نساء یزید قلن: واحسیناه فسمعهن یزید، فأنشأ یقول:(3)

یا صیحة تحمد من صوائح ما أهون الموت علی النوائح

وتشیر المصادر التاریخیة إلی أن نساء آل البیت (علیهم السلام) أقمن المأتم علی الإمام الحسین (علیه السلام) فی دمشق(4) لعدة أیام بعد أن أذن لهن یزید بذلک وهذا ما أشار إلیه البلاذری بقوله:" وصیح نساء من نساء یزید بن معاویة، وولولن حین أُدخل نساء الحسین علیهن وأقمن علی الحسین مأتماً ویقال إنّ یزید أذن لهن فی ذلک"(5).

ص:193

والمستفاد من بعض النصوص التاریخیة، أنّ مأتم الحسین (علیه السلام) استمر أکثر من ذلک وهو ما أشار إلیه ابن أعثم الکوفی بقوله: "وأقاموا أیاماً یبکون وینوحون علی الحسین (علیه السلام)"(1).

وقد أشار ابن سعد، إلی أنّ مأتم الإمام الحسین (علیه السلام) أقیم لمدة ثلاثة أیام بقوله:" وأمر - یزید - نساء آل أبی سفیان، فأقمن المأتم علی الحسین ثلاثة أیام "(2) فی حین أشار المجلسی إلی أنّ العزاء استمر سبعة أیام بقوله:" ...ثم أخلیت لهن الحجر والبیوت فی دمشق، ولم تبق هاشمیة، ولا قرشیة إلا ولبست السواد علی الحسین (علیه السلام) وندبوه علی ما نقل سبعة أیام..."(3).

بینما ذکر ابن نما أنّ عزاء الهاشمیات علی الحسین (علیه السلام) استمر طیلة مدة إقامتهن فی بلاد الشام بقوله: "وکانت النساء مدة إقامتهن بدمشق ینحن علیه بشجون وأنة ویندبن بعویل ورنة" (4) وما أکده کذلک ابن طاووس بقوله: "وکانوا مدة مقامهم فی البلد المشار إلیه، ینوحون علی الحسین (علیه السلام)"(5).

کما أقام أهل البیت (علیهم السلام) مجالس عزاء والمأتم علی الإمام

ص:194

الحسین (علیه السلام) فی کربلاء لما عاد رکب السبایا إلی مدینة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو ما ذکره السید ابن طاووس بقوله:" فوصلوا إلی موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاری وجماعة من بنی هاشم ورجالاً من آل الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) قد وردوا لزیارة قبر الحسین (علیه السلام) فوافوا فی وقت واحد وتلاقوا بالبکاء والحزن واللطم"(1).

وأشار ابن طاووس إلی استمرار هذا العزاء أیاماً بقوله: "وأقاموا المآتم المقرحة للأکباد، واجتمعت إلیهم نساء ذلک السواد، وأقاموا علی ذلک أیاماً" (2) وهو ما أکده القندوزی الحنفی: "فأخذوا بإقامة المآتم إلی ثلاثة أیام"(3) ، ثم إنّ أهل بیت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) غادروا کربلاء قاصدین مدینة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بعدما أقاموا مأتم العزاء فیها(4) الذی شارکهم فیه سکان أهل کربلاء" وبذلک أسست النواة الأولی لإقامة المجالس الحسینیة والتی أصبحت سنة استمرت من ذلک الیوم إلی وقتنا هذا.

کما وأقام أهل البیت (علیهم السلام) مجالس العزاء علی الإمام الحسین

ص:195

(علیه السلام) فی المدینة المنورة بعد عودتهم من سبی الشام فقد ذکر بشر بن حذلم "لما اقتربنا من المدینة نزل علی بن الحسین (علیهما السلام) وحط رحله وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، وقال: یا بشر رحم الله أباک لقد کان شاعراً فهل تقدر علی شیء منه؟ قلت: بلی یا بن رسول الله إنّی لشاعر، فقال: ادخل المدینة وانع الحسین (علیه السلام) قال بشر: فرکبت فرسی حتی دخلت المدینة فلما بلغت مسجد النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) رفعت صوتی بالبکاء وأنشأت:

یا أهل یثرب لا مقام لکم بها قتل الحسین فأدمعی مدرار

الجسم منه بکربلا مضرج والرأس منهُ علی القناة یدار

وقلت هذا علی بن الحسین مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتکم وأنا رسوله الیکم أعرفکم مکانه، فخرج الناس یهرعون ولم تبق مخدرة إلا برزت، وضجت بالبکاء فلم یر باکیاً أکثر من ذلک الیوم قال بشر: فترکونی مکانی وبادرونی - سبقونی إلی الإمام - خارج المدینة، فضربت فرسی حتی رجعت إلیهم فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواقع فنزلت عن فرسی وتخطیت رقاب الناس حتی قربت من الفسطاط، وکان علی بن الحسین (علیه السلام) داخلاً فخرج ومعه خرقة یمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه کرسی فوضعه له، وجلس علیه، وهو لا یتمالک نفسه من العبرة وارتفعت أصوات الناس بالبکاء، وحنین النساء والجواری والناس یعزونه من کل ناحیة فضجت تلک البقعة ضجة شدیدة فأومأ بیده أن اسکتوا فلما سکنت ثورتهم قال:" ...إن

ص:196

الله تعالی إلیه الحمد ابتلانا بمصائب جلیلة، وثلمة فی الإسلام عظیمة، قتل أبو عبد الله الحسین (علیه السلام) وعترته، وسبیت نساؤه وصبیته وداروا برأسه فی البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزیة التی لا مثل لها رزیة، أیها الناس فأی رجالات فیکم یسرون بعد قتله، أم أی فؤاد لا یحزن من أجله أم أی عین فیکم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها فلقد بکت السبع الشداد لقتله وبکت البحار بأمواجها والسماوات بأرکانها، والأرض بأرجائها والأشجار بأغصانها والحیتان فی لجج البحار والملائکة المقربون وأهل السموات أجمعون..."(1).

لقد أعطی الإمام زین العابدین (علیه السلام) الخطوط العامة لإقامة المجالس بهذه المضامین التی تضمنها خطابه (علیه السلام) ومن جانب آخر وجه أهل المدینة خاصة والناس عامة إلی عمق الجراح والمصیبة والثلمة التی ثلمت الإسلام وقباحة الجریمة التی ارتکبها بنو أمیة، وقد وجه الإمام علی اتخاذ المواقف عما فعله الأمویون عندما أشار إلی تصدع القلب والسمع لقوله: "أیها الناس أی قلب لا ینصدع لقتله، أم أی فؤاد لا یحن إلیه أم أی سمع یسمع هذه الثلمة التی ثلمت فی الإسلام ولا یرحم".

ولما دخل رحل الحسین (علیه السلام) المدینة کان أول عهدهم هو زیارة قبر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یشکون له ما أصابهم، ویبثون

ص:197

حزنهم وما رأوه من ظلم وسفک دماء. فأما العقیلة زینب (علیها السلام) فإنّها: "أخذت بعضادتی باب المسجد ونادت یا جداه إنّی ناعیة إلیک أخی الحسین (علیه السلام)، وأما سکینة فقد شکت لجدها ما رأته من قسوة یزید ما کان یفعله بمخصرته وهو یضرب ثغر الحسین"(1).

وأقامت الهاشمیات مجالس العزاء والنیاحة علی الإمام الحسین (علیه السلام) ولم تزل حرائر آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) یداومن علی النیاحة والحزن علی الإمام الحسین (علیه السلام) وکان علی بن الحسین (علیهما السلام) یتعهدهن بالطعام. فعن عمر بن علی بن الحسین(2) (علیه السلام) قال:" لما قتل الحسین بن علی (علیهما السلام) لبس نساء بنی هاشم السواد، والمسوح(3) وکن لا یشتکین من حر ولا برد وکان علی بن الحسین (علیه السلام) یعمل لهن الطعام للمأتم "(4) ویصف الإمام الصادق (علیه السلام) ما کان علیه حال نساء بنی هاشم من حزن ووجد علی مقتل الحسین بن علی علیهما السلام بقوله:" ما اختضبت منا امرأة ولا أدهنت ولا اکتحلت، ولا رجلت حتی أتانا رأس عبید الله بن زیاد، وما زلنا فی عبرة بعده، وکان جدی إذا ذکره بکی حتی تملأ عیناه لحیته، وحتی یبکی لبکائه

ص:198

رحمة له من رآه"(1).

إن ما یمیز مجالس العزاء الأولی التی أقیمت فی المدینة المنورة هو حرارة العاطفة المشحونة بألم المصاب التی کانت الصفة الغالبة لتلک المجالس کونها بکائیة، لأن أغلب أفرادها قد عاینوا المأساة التی جرت علی أهل البیت (علیهم السلام) وعایشوا ظروف السبی، وبطبیعة الحال فقد نقلوا وقائع المقتل وصوروا ما جری علی أهل البیت فی کربلاء، وما مسهم من معاناة وآلام السبی. ولقد شهد أهل المدینة تلک المجالس، وقد امتازت مآتم الرجال عن مآتم النساء کلاً بصفته، وهذا ما أشار إلیه الشیخ شمس الدین بقوله(2): "إن مآتم الرجال کانت تبدأ بعبارات العزاء، وکانت تدور بعد ذلک الأحادیث عن الواقعة وملابساتها، وکانت هذه الأحادیث تعج بالنقمة علی الأمویین وأشیاعهم وقد حفظ لنا التاریخ صورة عن أحد هذه المآتم الرجالیة، وهو مأتم عبد الله بن جعفر الطیار(3) ، وأما مأتم النساء، فقد کانت أکثر حرارة، وعاطفیة بطبیعة الحال، وقد کان بعضها یعقد فی المنازل وبعضها یعقد فی البقیع، وکان نساء أهل المدینة یحضرن هذه المآتم وبعض الرجال کانوا یحضرون فی البقیع أیضاً کما تشیر إلیه بعض الروایات التاریخیة"(4). وقد

ص:199

أشار الشیخ شمس الدین إلی مآتم النساء بقوله:" إنّ مآتم النساء الطالبیات کانت تشتمل علی بیان الواقعة بعبارة عاطفیة، وبیان مناقب الشهداء، یتخلل ذلک شعر النوح، وربما رافق ذلک لطم علی الوجوه، ولطم علی الصدور"(1).

واستمرت مجالس العزاء الحسینی بالانعقاد وقد ظهرت بعد هلاک یزید ابن معاویة بجنبتها السیاسیة ما قام به التوابون عندما اجتمعوا عام ((65 ه / 685 م)) عند قبر الإمام الحسین (علیه السلام) قبل إعلان ثورتهم ضد بنی أمیة، من مجلس عزاء استمر یوماً ولیلة مشتملاً علی البکاء والتضرع والصلاة وندب الإمام الحسین (علیه السلام) وهذا ما أشار إلیه الطبری بقوله: "لما انتهی سلیمان بن صرد(2) وأصحابه إلی قبر الحسین نادوا صیحة واحدة رب إنّا قد خذلنا ابن بنت نبینا، فاغفر لنا ما مضی منا وتب علینا إنک التواب الرحیم وارحم حسیناً وأصحابه الشهداء والصدیقین وإنا نشهدک یا رب إنا علی مثل ما قتلوا علیه، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنکونن من الخاسرین... فأقاموا عنده یوماً ولیلة یصلون علیه ویبکون ویتضرعون، فما انفک الناس من یومهم ذلک یترحمون علیه وعلی أصحابه، حتی صلوا الغداة من الغد

ص:200

عند قبره..."(1).

ومن الجدیر بالذکر أنّ مجلس العزاء الذی أقامه التوابون ونظراً لکثرة من شارک فیه ما دفع أحد المستشرقین إلی عد ذلک نواة المجالس الحسینیة الذی عبر عنه بقوله:" هنا تکمن نواة التعزیة أو مسرحیات المآتم التی تمثل کل عام فی العاشر من محرم حیثما وجد الشیعة "(2) هذا الرأی یجانب الحقیقة فی الواقع لأن إقامة مجالس العزاء الحسینی سبقت مجلس العزاء الذی أقامه التوابون وأنّ انبثاق نواتها الأولی کان علی ید الأئمة المعصومین (علیهم السلام) واستمرت بتوجیهاتهم.

ومن مظاهر تلک المجالس أیضاً ما قامت به نساء همدان وکهلان والأنصار وربیعة والنخع من عزاء فی مسجد الکوفة الجامع حینما دخلن إلیه صارخات باکیات معولات نأدبات الإمام الحسین (علیه السلام) معترضات علی سعی بعض أهل الکوفة لاختیار عمر بن سعد(3) بن أبی وقاص أمیراً علیهم بعد خلعهم عبید الله بن زیاد، الأمر الذی أحبط ذلک المسعی(4).

ومما یضم إلی هذه المجالس ما قام به المختار بن أبی عبیدة الثقفی(5)

ص:201

عندما أقدم علی استئجار نساء یندبن الإمام الحسین (علیه السلام) عند باب عمر بن سعد وهذا ما أشار إلیه ابن عبد ربه بقوله:" استأجر المختار نساءً یبکین علی الحسین (علیه السلام) ویجلسن علی باب دار عمر بن سعد فضجر ابن سعد وکلم المختار فی رفعهن عن باب داره، فقال المختار: "ألا یستحق الحسین البکاء علیه" (1) وقد رافق تلک المجالس الحسینیة ذات الصبغة السیاسیة حدث آخر سجلته لنا المصادر التاریخیة هو المطالبة بالثأر للإمام الحسین (علیه السلام) من خلال رفع شعار ((یا لثارات الحسین))(2).

وقد شهد عهد الإمام الباقر (علیه السلام) الذی کان حاضراً فاجعة کربلاء مع جده وأبیه وعمره إذ ذاک أربع سنوات، توجهاً جدیداً فی إقامة المأتم الحسینی، حیث أخذ الإمام الباقر (علیه السلام) یوجه أتباع آل البیت علی ضرورة إقامة المآتم الحسینیة فی بیوتهم والی کیفیة إقامتها بقوله: "ثم لیندبن الحسین (علیه السلام) ویبکیه ویأمر من فی داره بالبکاء علیه، ویقیم فی داره مصیبته بإظهار الجزع علیه، ویتلاقون بالبکاء بعضهم بعضاً بمصاب الحسین (علیه السلام)... قلت: فکیف یعزی بعضهم بعضاً، قال: یقولون: عظم الله أجورنا بمصابنا بالحسین (علیه السلام) وجعلنا وإیاکم من المطالبین

ص:202

بثأره مع ولیه الإمام المهدی من آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)"(1).

إنّ دعوة الإمام الباقر (علیه السلام) أصحابه لإقامة هذه المآتم فی البیوت، یکشف عن الحالة السیاسیة العامة التی کانت تمنع وتحارب مثل هکذا تجمعات وتعتبرها تحریضاً ضد السلطة الحاکمة وهناک توجیه آخر من قبل الإمام الباقر (علیه السلام) أیضاً لإقامة المجالس من دون تخصیص تلک المجالس بزمان معین بقوله (علیه السلام):" رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاکر فی أمرنا فإنّ ثالثهما ملک یستغفر لهما، وما اجتمع اثنان علی ذکرنا الا باهی الله بهما الملائکة، فإذا اجتمعتم فاشتغلتم بالذکر فإنّ فی اجتماعکم ومذاکرتکم إحیاءنا، وخیر الناس بعدنا من ذاکر بأمرنا ودعا إلی ذکرنا"(2).

جاء هذا التوجیه لیؤکد إقامة المجالس، والتی تعتبر المحور البنائی لشخصیة الجماعة الصالحة المرتبطة بالخط الولائی لأهل البیت (علیهم السلام) والتی تبنی وفق الأفکار والتوجیهات الصادرة منهم، هذه المجالس التی تعنی کذلک بإظهار علوم آل محمد (علیهم السلام) وتجدید ذکراهم، کما وأنّ الالتزام بإحیائها، هو نصرة للإمام الحسین (علیه السلام). وهو ما یوضحه النص الوارد عن الإمام الباقر (علیه السلام) بروایة أبی حمزة الثمالی بقوله: "إنّه تلا هذه الآیة:(إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ یَوْمَ یَقُومُ

ص:203

اَلْأَشْهادُ) (1) وأنّ الحسین بن علی علیهما السلام منهم، ووالله ان بکاءکم علیه، وحدیثکم بما جری علیه، وزیارتکم قبره، نصرة لکم فی الدنیا فابشروا فإنکم معه فی جوار رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)"(2).

وقد أخذت تلک التوجیهات طریقها لدی أتباع أهل البیت (علیهم السلام) حتی غدت تلک المجالس عامرة بذکر الحسین (علیه السلام) ومناقب وفضائل آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وأصبحت تلک المجالس، أندیة فکریة یتعاطی فیها أتباع أهل البیت (علیهم السلام) الفکر الروحی والعقائدی والسیاسی لآل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم).

وفی عهد الإمام الصادق (علیه السلام) (114-148 ه / 732-765 م) أصبحت التجمعات المخصصة لذکر أهل البیت (علیهم السلام) ومصیبة الإمام الحسین (علیه السلام) أمراً مألوفاً فی أوساط الشیعة فقد روی أنّ الإمام الصادق (علیه السلام) قال للفضیل بن یسار(3):" یا فضیل أتجلسون وتتحدثون؟ قال: نعم سیدی قال: یا فضیل هذه المجالس أحبها أحیوا أمرنا، رحم الله من أحیا أمرنا "(4) کما یتضح من خلال قراءة

ص:204

النصوص التی وردت عن الإمام الصادق (علیه السلام) فی الحث علی الشعر وإنشاده وبیان الثواب العظیم لمن أبکی بإنشاده خمسین أو عشرة أو خمسة... أن ساهمت تلک النصوص فی تکوین المجالس لأن إنشاد الشعر لابد له من تجمع(1). فقد تطورت المجالس فی عهد الإمام الصادق (علیه السلام) فلم تقتصر تلک المجالس علی إلقاء الشعر الرثائی بحق الإمام الحسین (علیه السلام) بل إن الأمر تطور حینما اعتمدت تلک المجالس الحسینیة نمطاً آخر فی إلقاء الشعر الرثائی والبکاء علیه، واستخدام الرقة بالصوت الذی من شأنه أن یحدث التفاعل العاطفی مع مصیبة کربلاء وما حل بالإمام الحسین (علیه السلام) والذی أدی إلی بروز طبقة عرفت بالمنشدین فی مجالات الشعر الرثائی الذی قیل فی الحسین (علیه السلام)، منهم أبو هارون المکفوف وأبو عمار المنشد وغیرهم.

ویدل علی ذلک قول الإمام الصادق (علیه السلام) لأبی هارون المکفوف، حین أنشد الإمام بعض مراثی الإمام الحسین (علیه السلام) وقول الإمام الصادق (علیه السلام) له:" أنشدنی کما تنشدون یعنی بالرقة قال: فأنشدته:

أمرر علی جدث الحسین فقل لأعظمه الزکیة(2)

بل یظهر أنّ التطور الذی لحق المجالس الحسینیة بإیجاد طبقة المنشدین

ص:205

امتدت لتشمل النساء أیضاً، وإن لم تظهر لنا النصوص التاریخیة أسماء بعینها للنساء فی ذلک العصر بل دل علیه الخبر المنقول عن الإمام الصادق (علیه السلام) حینما أمر العبدی ((بنظم ما تنوح به النساء فی المآتم))(1).

کما برز فی عهد الإمام الصادق (علیه السلام) ((القصاص)) وهم طبقة أخری من المتخصصین بسیرة الإمام الحسین (علیه السلام) ومقتله وجاءت روایة الإمام الصادق (علیه السلام) لتکشف ما لحق المجالس الحسینیة من تطور سواء من حیث السعة والانتشار أو تطور فی الأسالیب التی قام بها الشیعة طلباً للثواب والأجر الأخروی، فقد کانت مقولة الإمام الصادق (علیه السلام): من بکی وأبکی فینا مائة فله الجنة(2) ما ولد حافزاً لدی الکثیرین أن یجتهدوا فی ابتکار تلک الأسالیب التی ساعدت فی تطور الشعائر الحسینیة التی غدت وکأنها مؤسسة ذات اختصاصات شتی من قصاص، ونواح، وقراء مراثی أوضحها الإمام الصادق (علیه السلام) بقوله: "بلغنی أن قوماً یأتونه - یعنی مشهد الحسین علیه السلام - من نواحی الکوفة، وناساً من غیرهم، ونساء یندبنه وذلک فی النصف من شعبان فمن بین قارئ یقرأ وقاص یقص ونأدب یندب وقائل یقول المراثی فقلت: نعم جعلت فداک، قد شهدت بعض ما تصف، فقال: الحمد لله الذی جعل فی الناس من

ص:206

یفد إلینا ویمدحنا ویرثی لنا وجعل عدونا من یطعن علیهم من قرابتنا وغیرهم یحقرونهم ویقبحون ما یصنعون"(1).

کما أولی أئمة أهل البیت (علیهم السلام) عنایة خاصة فی إقامة مجالس العزاء فی دورهم وحرصوا علی مشارکة النساء من أهل بیتهم فی سماع ذلک العزاء ولقد أقام تلک المجالس کلٌ من الإمام الباقر (علیه السلام) وکذلک الإمام الصادق (علیه السلام) بحضور شعراء منهم أبو هارون المکفوف، وعبد الله بن غالب، وسفیان العبدی، وأبو دهبل(2) ، والسید الحمیری، ودعبل بن علی الخزاعی بحضور الإمام الرضا علیه السلام وبمشارکة نساء بیته.

ولما کانت مساحة الحریة السیاسیة والاجتماعیة متاحة للإمام الصادق (علیه السلام) أکثر من غیره من أئمة آل البیت (علیهم السلام) کونه عاصر السنوات الأخیرة من ضعف الدولة الأمویة وزوالها، والسنوات الأولی من عمر الدولة العباسیة، فقد أصبحت الفرصة متاحة له فی غرس المرتکزات الأساسیة لإحیاء الشعائر الحسینیة وتعمیقها فی وجدان الأمة من خلال تأکیده علی البکاء علی الإمام الحسین (علیه السلام) وحث الآخرین علی البکاء

ص:207

علیه(1) ، وإقامة المجالس العزائیة فی أوقات مختلفة کلما کانت الظروف ملأئمة ومهیأة لذلک وحث الشعراء علی رثاء الإمام الحسین (علیه السلام)(2) ودعوة النعاة ((الخطباء والأدباء)) إلی رثاء الإمام الحسین فی البیوت، وحثهم علی الرثاء بصوت حزین بحیث یثیر شجون السامعین(3). والحث علی زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) والتذکیر بمصاب الحسین فی یوم عاشوراء وما لهذا الیوم من أهمیة خاصة، وضرورة إحیاء ذکراه(4). کما أکد الإمام الصادق (علیه السلام) علی ضرورة إقامة المجالس العزائیة فی یوم عاشوراء حتی وان کان الشخص لوحده(5).

وقد شهدت المجالس الحسینیة تطوراً ملحوظاً فی عهد الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) بعد تصدی الإمام لشؤون الإمامة منذ ((148-183 ه / 765-799 م)) والذی شهد مع أبیه الإمام الصادق (علیه السلام) ذلک الزخم الکبیر من إقامة المجالس العزائیة بشتی إشکالها وعاش معه إقامة تلک المآتم فی بیته کل عام، ولعل أولی تلک التطورات التی طرأت علی الشعائر الحسینیة فی زمن الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) أن شعائر

ص:208

محرم أخذت تبدأ من أول یوم غرة شهر محرم الحرام ولمدة عشرة أیام وهذا ما دلت علیه الروایة المنقولة عن الإمام الرضا (علیه السلام) "...کان أبی إذا دخل شهر المحرم لا یری ضاحکاً وکانت الکآبة تغلب علیه حتی یمضی منه عشرة أیام، فإذا کان یوم العاشر کان ذلک الیوم یوم مصیبته وحزنه وبکائه ویقول هو الیوم الذی قتل فیه الحسین بن علی (علیهما السلام)"(1).

وقد توسعت المجالس العزائیة الحسینیة فی زمن الإمام الکاظم (علیه السلام) حتی شملت أناساً من غیر الشیعة(2) وأقیمت المجالس عند قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وهذا ما رواه قائد الحناط (3) الذی شاهد تلک المجالس ونقلها إلی الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) بقوله:" قلت لأبی الحسن موسی بن جعفر (علیهما السلام) إنهم یأتون قبر الحسین (علیه السلام) بالنوائح والطعام قال: قد سمعت... "(4) وکان لتطور الشعائر الحسینیة وانتشارها فی بغداد علی عهد الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) أن أدت إلی وقوع أولی الفتن الطائفیة ببغداد(5). وعلی الرغم من الظروف السیاسیة الصعبة التی تعرض لها الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام)

ص:209

علی ید السلطات العباسیة التی وصلت إلی حد الاعتقال والتغییب فی السجون إلا أنها لم تمنع من إقامة الشیعة للشعائر الحسینیة.

ولعل أبرز خصائص تطور المجالس الحسینیة فی عهد الإمام الرضا (علیه السلام) ((183-203 ه / 799-818 م)) هو ظهور شعراء احتلوا مکانة بارزة فی طبقة شعراء الرثاء الحسینی، الذین حظوا بثناء وتکریم وعنایة الإمام الرضا علیه السلام ورجالات التشیع، ومن بین هؤلاء الشعراء، الشاعر دعبل الخزاعی الذی وفد علی الإمام الرضا علیه السلام فی خرسان(1) وأقام مجلس عزاء عنده ضمنه قصیدته التائیة المشهورة فی رثاء الإمام الحسین (علیه السلام) وکان ذلک بحضور أصحاب الإمام وأهل بیته، وقد أشارت الروایة التاریخیة إلی ذلک بقول دعبل(2):" دخلت علی سیدی ومولای علی بن موسی الرضا (علیه السلام) فی مثل هذه الأیام، فرأیته جالساً جلسة الحزین الکئیب وأصحابه من حوله، فلما رآنی مقبلاً قال لی: مرحباً بناصرنا بیده ولسانه، ثم إنه وسع لی فی مجلسه وأجلسنی إلی جانبه، ثم قال لی: یا دعبل أحب أن تنشدنی شعراً فإن هذه الأیام أیام حزن کانت علینا أهل البیت وأیام سرور کانت علی أعدائنا خصوصاً بنی أمیة، یا دعبل من

ص:210

بکی أو أبکی علی مصابنا ولو واحداً کان أجره علی الله، یا دعبل من ذرفت عیناه علی مصابنا وبکی لما أصابنا من أعدائنا حشره الله معنا فی زمرتنا، یا دعبل من بکی علی مصاب جدی الحسین (علیه السلام) غفر الله له ذنوبه البتة. ثم إنه نهض وضرب ستراً بیننا وبین حرمه، وأجلس أهل بیته من وراء الستر لیبکوا علی مصاب جدهم الحسین (علیه السلام) ثم التفت وقال: یا دعبل أرث الحسین (علیه السلام)، فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حیاً فلا تقصر عن نصرنا ما استطعت. قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتی وأنشأت أقول:

أ فاطم لو خلت الحسین مجدلاً وقد مات عطشاناً بشط فرات

إذا للطمت الخد فاطم عنده وأجریت دمع العین فی الوجنات

ولما رجع دعبل بن علی الخزاعی من خراسان إلی بغداد مر بقم(1) فسأله أهلها أن ینشدهم قصیدته التائیة فأمرهم أن یجتمعوا فی المسجد الجامع لمدینة قم، فلما اجتمعوا أقام مجلساً للإمام الحسین (علیه السلام) حیث صعد المنبر وأخذ ینشدهم القصیدة فما کان منهم إلا أن أغدقوا علیه الکثیر من المال والخلع والهدایا(2).

ص:211

وقد بلغت قصیدة دعبل التائیة من الشهرة ما دفع الخلیفة المأمون(1) العباسی إلی منح الشاعر الأمان، الذی کان قد هجاه من قبل ((فلما دخل - أی دعبل - وسلم علیه - علی المأمون - تبسم فی وجهه ثم قال: أنشدنی

مدارس آیات خلت من تلاوة ومنزل وحی مقفر العرصات

فجزع، فقال له: لک الأمان فلا تخف وقد رویتها ولکنی أحب سماعها من فیک. فأنشده إیاها إلی آخرها، والمأمون یبکی حتی أخضلت لحیته بدمعه))(2).

إلیه التنوخی(1) بقوله: "حدثنی أبی قال: خرج إلینا یوماً، أبو الحسن الکاتب، فقال أتعرفون ببغداد رجلاً یقال له ابن أصدق؟ قال: فلم یعرفه من أهل المجلس غیری فقلت: نعم، فکیف سألت عنه؟ فقال: أی شیء یعمل؟ قلت: ینوح علی الحسین (علیه السلام)، قال: فبکی أبو الحسن، وقال: إنّ عندی عجوزاً ربتنی من أهل کرخ جدان(2) عفطیة اللسان، الأغلب علی لسانها النبطیة(3) لا یمکنها أن تقیم کلمة عربیة صحیحة، فضلاً عن أن تروی شعراً، وهی من صالحات نساء المسلمین، کثیرة الصیام والتهجد، وأنها انتبهت البارحة فی جوف اللیل، ومرقدها قریب من موقعی فصاحت بی: یا أبا الحسن. فقلت: ما لک؟ فقالت: الحقنی. فجئتها، فوجدتها ترعد، فقلت: ما أصابک؟ فقالت: إنّی کنت قد صلیت وردی فنمت، فرأیت الساعة فی منامی، کأنی فی درب من دروب الکرخ(4)... فقلت من أنت، فقالت: لا علیک، أنا فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهذا رأس أبنی الحسین (علیه السلام) قولی لابن أصدق

ص:213

عنی أن ینوح:

لم أمرضهُ فاسألو لا ولا کان مریضا

فانتبهت فزعة. قال: وقالت العجوز: لم أمرطة، لأنها لا تتمکن من إقامة الضاد. فسکنت منها إلی أن نامت. ثم قال لی: یا أبا القاسم(1) مع معرفتک الرجل، قد حملتک الأمانة، ولزمتک، إلی أن تبلغها له، فقلت: سمعاً وطاعة، لأمر سیدة نساء العالمین. قال: وکان هذا فی شعبان، والناس إذ ذاک یلقون جهداًجهیداً من الحنابلة، إذا أرادوا الخروج إلی الحائر(2).

فلم أزل أتلطف، حتی خرجت، فکنت فی الحائر، لیلة النصف من شعبان، فسألت عن ابن أصدق، حتی رأیته. فقلت له: إنّ فاطمة (علیها السلام) تأمرک بأن تنوح بالقصیدة التی فیها:

لم أمرضه فاسألو لا ولا کان مریضا

وما کنت أعرف القصیدة قبل ذلک. قال: فانزعج من ذلک، فقصصت علیه وعلی من حضر الحدیث، فأجهشوا بالبکاء، وما ناح تلک اللیلة إلا بهذه القصیدة، وأولها:

أیها العینان فیضا واستهلا لا تغیضا

ص:214

وهی لبعض الشعراء الکوفیین. وعدت إلی أبی الحسن، فأخبرته بما جری.

کما أشار التنوخی إلی إحدی النساء ممن اشتهرت بالنیاحة ألا وهی النائحة خلب وقد ذکر أنّه ((کانت ببغداد نائحة مجیدة حاذقة، تعرف بخلب، تنوح بهذه القصیدة:

أیها العینان فیضا واستهلا لا تغیضا

فسمعناها فی دور بعض الرؤساء، لأن الناس إذ ذاک کانوا لا یتمکنون من النیاحة إلا بعز سلطان، أو سراً لأجل الحنابلة ولم یکن النوح إلا مراثی الحسین وأهل البیت (علیهم السلام) فقط، من غیر تعریض بالسلف، قالا: فبلغنا أنّ، البربهاری(1) ، قال: بلغنی أنّ نائحة یقال لها خلب تنوح، أطلبوها فاقتلوها))(2).

یوضح النص المذکور أعلاه أن خلب کانت نائحة متمرسة ذات تجربة فوصفت بأنها حاذقة مجیدة، وأنّها کانت تلبی دعوة بعض الشخصیات البارزة

ص:215

فی المجتمع لعقد المجالس الحسینیة العلنیة فی دورهم مما یجعلها بمنأی عن تعصب العامة وعدم التعرض لها، لأنهم کانوا قادرین علی توفیر الحمایة لها من عوام الحنابلة الذین کانوا یضایقون مجالس العامة الأمر الذی یضطرهم إلی إقامتها بشکل سری أو متکتم، ورغم ذلک لم تسلم النائحة خلب من تعرض الحنابلة لها، فالنص یشیر إلی ان البربهاری أحد کبار الحنابلة أشار إلی اتباعه بمتابعتها وقتلها، وعلی ما یبدو أنها قتلت سنة ((323 ه / 935 م)) وهی السنة التی کانت فیها قوة الحنابلة ببغداد بلغت أوجها.

وممن اشتهر بالنیاحة علی الإمام الحسین (علیه السلام) ببغداد فی القرن الرابع الهجری، النائح أحمد المزوق(1) ، والذی أشارت الروایة التاریخیة إلی طلبه بالاسم لینوح بشعر الناشئ(2) المعروف بشعره الرثائی الحسینی، وذلک عندما قدم إلیه أحد الرجال سنة (346 ه / 957 م) وهو جالس فی مجلس عزاء الکبوذی(3) أحد المجالس المزدحمة بالناس فی بغداد والذی کان یعقد بین

ص:216

سوق الوراقین والصاغة، قائلاً له: "رأیت مولاتنا السیدة الزهراء (علیها السلام) فی النوم فقالت: أمض إلی بغداد واطلبه - أی المزوق - وقل له: نح علی أبنی بشعر الناشئ الذی یقول فیه:

بنی أحمد قلبی لکم یتقطع بمثل مصابی فیکم لیس یسمع

وکان الناشئ حاضراً، فلطم لطماً عظیماً علی وجهه، وتبعه المزوق والناس کلهم، وکان أشد الناس فی ذلک الناشئ ثم المزوق ثم ناحوا بهذه القصیدة فی ذلک الیوم إلی أن صلی الناس الظهر وتقوض المجلس(1).

ومن هذه القصیدة وهی بضعة عشر بیتاً منها:

عجبت لکم تفنون قتلاً بسیفکم ویسطوا علیکم من لکم کان یخضع

کأن رسول الله أوصی بقتلکم فأجسامکم فی کل أرض توزع

ومنها أیضاً:

فما بقعة فی الأرض شرقاً ومغرباً ولیس لکم فیها قتیل ومصرع

ظلمتم وقتلتم وقسم فیئکم وضاقت بکم أرض فلم یجمعهم موضع(2)

ویبدو من خلال الروایة أعلاه بروز ظاهرة أخری بالنسبة للمجالس الحسینیة وهی ظاهرة عقد هذه المجالس فی الأسواق المشهورة ببغداد وبدعم أشخاص معروفین، عرفت هذه المجالس بأسمائهم وکانت من الشهرة بحیث

ص:217

تکون عامرة بالناس ویؤمها کبار النواح وشعراء المراثی الحسینیة المشهورین. ویمکن إرجاع علنیة هذه المجالس وحضور العامة فیها وبهذه الأعداد الکبیرة إلی وصول البویهیین إلی السلطة عام ((334 ه / 945 م)) وفسحهم المجال إمام إقامة هذه المجالس، وانحسار نفوذ الحنابلة ومضایقتهم لهذه المجالس(1).

کما أشارت المصادر إلی أسماء نواح آخرین اشتهروا بالنیاحة فی بغداد فی القرن الرابع الهجری منهم النائح أبو القاسم عبد العزیز الشطرنجی(2) ، والنائحة ذرة(3) أو زرة، والنائحة المعروفة بسکینة نائحة الرافضة(4).

ومما یلاحظ علی مسار المجالس الحسینیة فی الفترة البویهیة بدء اهتمام السلطة الحاکمة المتمثلة بالبویهیین بإقامة هذه المجالس وأداء مراسم الشعائر الحسینیة والاشتراک فیها، ویأتی فی مقدمة ذلک الاهتمام ما أقدم علیه الأمیر البویهی معز الدولة(5) من اعتبار یوم العاشر من محرم یوم حداد رسمی للدولة

ص:218

یخصص لإقامة الشعائر الحسینیة وبشکلها العلنی وذلک بإصدار مرسوم رسمی عام ((352 ه / 963 م))، یقضی إلزام الناس باتخاذ جملة من الإجراءات یوم عاشوراء، منها إغلاق الأسواق ببغداد، ومنع البیع والطبخ والذبح وسقایة الماء، ونصب القباب فی الأسواق والشوارع وتعلیق المسوح علیها وعلی الدکاکین والبیوت، ونشر التبن والرماد فی الشوارع لإظهار الجزع والحزن وقراءة المصرع ((المقتل)) صبیحة یوم عاشوراء(1).

کما وردت الإشارة فی عام ((392 ه / 1001 م)) إلی إقامة الشعائر الحسینیة فی مشهد الإمامین الکاظم والجواد (علیهما السلام) ولعلها کانت عادة عند الشیعة ممن لم یتمکن من إحیاء مراسم عاشوراء فی کربلاء عند قبر الإمام الحسین (علیه السلام)(2).

وقد استمر أداء الشعائر الحسینیة وفق هذه الأسالیب طیلة العهد البویهی الذی عکس اهتمام الدولة بإقامتها إلا أنّ الملاحظ علیها أنها بدأت بالانحسار عند مجیء السلاجقة للسلطة عام ((447 ه / 1055 م)) نتیجة سیاسة التعصب التی انتهجها سلاطین السلاجقة ضد أتباع أهل البیت(3) الذی أثر سلباً علی إقامة الشعائر الحسینیة والحد منها بشکلها العلنی ومعاقبة

ص:219

من یقیمها(1).

ویبدو أنّ الشعائر الحسینیة شهدت نوعاً من الانفراج لإقامتها وذلک باستعادة العباسیین السلطة من السلاجقة زمن الخلیفة الناصر لدین الله(2) ((575-622 ه / 1180-1225 م)) الذی فسح المجال إمام إقامة الشعائر الحسینیة وبشکلها العلنی إلی الحد الذی اتهم فیه بالتشیع(3). کما کان لوصول وزراء شیعة إلی سدة الحکم الأثر الکبیر فی إقامة وانتشار الشعائر الحسینیة فی بغداد وضواحیها وهذا ما أشار إلیه الذهبی فی أحداث الیوم العاشر من محرم عام ((582 ه / 1186 م)) فی بغداد بقوله:" فرش الرماد فی الأسواق ببغداد وعلقت المسوح وناح أهل الکرخ والمختارة وخرج النساء حاسرات یلطمن وینحن من باب البدریة إلی باب حجرة الخلیفة، والخلع تفاض علیهن وعلی المنشدین من الرجال وتعدی الأمر إلی سب الصحابة وکان أهل الکرخ یصیحون ما بقی کتمان، وأقاموا ابنة قرایا وکان الظهیر ابن العطار قد کبس

ص:220

دار أبیها، وأخرج منها کتباً فی سب الصحابة فقطع یدیه ورجلیه(1) ورجمته العوام حتی مات فقامت هذه المرأة تحت منظرة الخلیفة وحولها خلائق وهی تنشد أشعار العونی(2)"(3).

یتضح من خلال النص أعلاه عودة ممارسة الشعائر الحسینیة وبشکلها العلنی من خلال خروج مواکب العزاء النسائیة والرجالیة وأنّ هناک عطاءات کانت تعطی لهؤلاء المنشدات من النساء وکذلک إلی المنشدین من الرجال ویعبر النص بصورة واضحة عن صیغة الجمع لهؤلاء المنشدین وهو ما یدل علی کثرة القراء سواء من النساء أو الرجال علی حد سواء.

ویرجع الذهبی سبب انتشار الشعائر ومجالس العزاء الحسینی إلی وجود أُستاذ الدار مجد الدین ابن الصاحب(4) ، الذی أعطاها زخماً وأضفی علیها الحمایة حیث عرف عنه وأهل بیته ولاؤهم لآل البیت (علیهم السلام)(5).

ص:221

وقد شهدت المجالس الحسینیة خلال هذه المرحلة تطوراً آخر فی أسالیب العزاء الحسینی وهو استخدام أسلوب الوعظ مع إنشاد المراثی الحسینیة، وممن برز فی هذا الأسلوب المنشد الواعظ أبو المنصور محمد بن محمد المبارک الکرخی، وهو شیخ حافظ للقرآن المجید، حسن القراءة جید الأداء ذو صوت شجی کان ینشد ویعظ فی المشاهد المقدسة توفی عام ((598 ه/ 1201 م))(1).

کما أنّ إقامة المجالس الحسینیة وقراءة المقتل شهدت انتشاراً کبیراً فی النصف الثانی من القرن السابع الهجری فی جانبی بغداد وضواحیها، حتی خشی الخلیفة العباسی المستعصم بالله(2) ((640-656 ه / 1242-1258 م)) أنْ یؤدی ذلک التوسع فی المجالس الحسینیة إلی إثارة حفیظة المتعصبین من النواصب(3) ، وهذا ما أشار إلیه ابن الفوطی فی حوادث سنة ((641 ه / 657 م))(4).

ص:222

منصور ماشاده وهو قدوة المذهب السنی فی زمانه، کان یقیم مراسیم العزاء فی یوم عاشوراء کل سنة مع النیاحة والبکاء والعویل، ثم تعال معی إلی بغداد مدینة السلام ومقر دار الخلافة فستلقی الخواجة علی الغزنوی الحنیفی کیف کان یقیم هذه المراسم إلی درجة أنّه کان یبالغ فی لعن السفیانیین یوم عاشوراء، وکانت بغداد حدیثة عهد بعزاء الحسین الموسوم بعزاء عاشوراء مع النیاحة والعویل، وأما همذان(1) فعلی الرغم من کثرة المشبهة فیها بسبب وجود رایة السلطان وجیش الأتراک، بید أن مجد الدین الواعظ الهمذانی کان یقیم العزاء یوم عاشوراء کل عام بشکل کان یعجب منه القمیون وکان الخواجة الإمام نجم أبو المعالی بن أبی القاسم البزاری یقیم العزاء فی أحسن صورة بنیسابور(2) مع انه کان حنیفیاً وکان یأخذ المندیل وینوح، وینشر علیه التراب ویصرخ عالیاً خارجاً من طوره وأما الری(3) التی کانت من أمهات

ص:224

الحواضر فی العالم فقد کان واضحاً ماذا یفعل فیها الشیخ أبو الفتوح نصر أبادی، والخواجة محمود الحدادی الحنیفی وغیرهما یوم عاشوراء من العزاء ولعن الظالمین فی محط القوافل بکوشک(1) والمساجد الکبیرة، وهکذا کان الخواجة الإمام شرف الأئمة أبو نصر الهسنجانی یقیم مراسیم العزاء یوم عاشوراء سنویاً بحضور الأمراء والأتراک والوجهاء الکبار، والحنفیین المعروفین، وکان یتفق معه هؤلاء کلهم، ویعینونه علی ما هو بسبیله ورأی الناس الخواجة الإمام أبا منصور حفیده وهو مقدم بین أصحاب الشافعی عندما کان فی الری، کیف کان یتلو قصة عاشوراء فی جامع سرهنک، ویفضل الحسین علی عثمان، ویسمی معاویة باغیاً وکذلک کان یفعل القاضی عمدة ساوی حنیفی المتکلم المعروف فی جامع طغرل بحضور عشرین ألف من الناس إذ یتلو قصة عاشوراء ویقیم العزاء برأس حاسر وثوب ممزق، ولم یفعل أحد مثله، وإذا کان مصنف الکتاب رازیا فلا بد أنّه رأی وسمع ذلک وشهد الناس الخواجة تاج شعری حنیفی نیسابوری کیف کان یبالغ فی إقامة العزاء یوم عاشوراء بعد الصلاة فی الجامع العتیق، وذلک سنة ((555 ه / 1161 م)) بإجازة القاضی وحضور الأمراء والأکابر"(2).

والذی یستفاد من هذه المعلومات أن الحنفیین والشافعیین کانوا یفعلون

ص:225

کما یفعل الشیعة فی إقامة مجالس العزاء الحسینی فی القرن السادس وکانوا یبدأون بقراءة المقتل علی عثمان وعلی (علیه السلام) أحیاناً حفاظاً علی التوازن، ثم ینتقلون إلی مقتل الحسین (علیه السلام).

ونظراً لمشارکة أهل السنة، الشیعة فی إقامة مجالس العزاء الحسینی وما ترکه ذلک من أثر فی نفوس العامة بتفاعلهم مع مصیبة أهل بیت النبوة، دفع البعض من السنة الذین قاطعوا هذه المجالس المقامة من قبل أصحابهم معتبریها بدعة وقالوا:" یحرم علی الواعظ وغیره روایة مقتل الحسین وروایته وحکایته "(1) کذلک نقل لنا رسول جعفریان عن کتاب القزوینی، نقض فضائح الرافضة، ما کان یقیمه الشیعة فی بلاد فارس من شعائر حسینیة أیام عاشوراء، بقوله:" وتظهر هذه الطائفة الجزع یوم عاشوراء وتقیم مراسیم العزاء، وتحیی مصیبة شهداء کربلاء علی المنابر ویسرد خطباؤها القصص فی ذلک، ویحسر العلماء رؤوسهم، ویلبس العوام أثواباً ممزقة، وتخمش النساء وجوههن وینحن ویبکین"(2).

محرم وینعون الإمام الحسین علی منابر الشام(1) التی ترجع معرفتها بالمجالس الحسینیة إلی عصر فاجعة الإمام الحسین (علیه السلام)(2) ومن الإشارات علی استمرار إقامة المجالس الحسینیة فی بلاد الشام ما ورد فی سیرة الشاعر دیک الجن(3) ((161-236 ه / 777-851 م)) الذی کتب مراثی عدیدة فی الإمام الحسین (علیه السلام) کانت مصدراً للمنشدین ینوحون بها فی المجالس الحسینیة وهی مشهورة عند العام والخاص من الناس(4). وأشار ابن کثیر إلی أحد تلک المجالس التی کانت تعقد فی الشام، بأن الملک الناصر یوسف بن غیاث الدین محمد(5) ((ت 659 ه / 1261 م)) صاحب حلب ودمشق طلب من سبط ابن الجوزی ((ت 654 ه / 1256 م)) فی یوم عاشوراء أن یحدث الناس عن مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) ولما صعد سبط ابن الجوزی المنبر جلس طویلاً لا یتکلم ثم وضع المندیل علی وجهه

ص:227

وبکی شدیداً ثم أنشأ یقول وهو یبکی:(1)

ویل لمن شفعاؤه خصماؤه والصور فی نشر الخلائق ینفخ

لابد ان ترد القیامة فاطم وقمیصها بدم الحسین ملطخ

ومن الأماکن التی کانت تقام فیها المجالس الحسینیة فی بلاد الشام هو مشهد السیدة زینب بنت الإمام علی (علیهما السلام) الذی کان یقصده الشیعة فی العاشر من محرم لزیارتها وإقامة العزاء عند ضریحها(2).

ویبدو ان مجالس العزاء الحسینی استمرت فی بلاد الشام حتی عصر ابن تیمیة(3) ((661-728 ه / 1328 م)) الذی أنکر علی خطباء جوامع الشام إقامة مثل هذه المجالس(4).

بن عبد المطلب فی البقیع من یوم عاشوراء ویقرؤون مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) وقد عرفت المدینة المنورة إقامة الشعائر الحسینیة منذ حصول فاجعة کربلاء والتی حرص بعد ذلک أئمة أهل البیت علیهم السلام علی إقامتها فی المدینة المنورة کل عام، لاعطائها صفة الدیمومة والاستمراریة(1).

358 ه / 935-969 م)(1) ، وقد أخذت وتیرة إقامة هذه المجالس بالتصاعد بعد دخول المعز لدین الله الفاطمی(2) مصر عام ((362 ه / 972 م)) الذی کان من جملة اهتماماته إقامة الشعائر الدینیة ولاسیما الشعائر الحسینیة، فقد أشار المقریزی إلی إقامته لهذه الشعائر فی یوم عاشوراء بعد ثلاثة أشهر من دخوله القاهرة(3) عند قبری السیدة کلثوم والسیدة نفیسة والتی حضرها خلق کثیر من الخاصة والعامة الذین بدأوا مجالسهم بالنیاحة والبکاء علی الإمام الحسین (علیه السلام) ثم خرجوا إلی شوارع القاهرة لإظهار الحزن بعد أن عطلت الأسواق ومنع بیع الماء فی ذلک الیوم لأن الإمام الحسین (علیه السلام) قتل عطشاناً(4).

ص:230

یلاحظ علی ما تقدم أن الأسس التی أتبعها الفاطمیون فی إقامة الشعائر الحسینیة لا تختلف عما کان یجری فی بغداد، وإن کانت إقامتها أشد مما کانت علیه فی بغداد وهذا ما أشار إلیه ابن تغری بردی بقوله: "فأما مصر فأنه کان یفعل فیها فی یوم عاشوراء من النوح والبکاء والصراخ وتعلیق المسوح أضعاف ذلک لاسیما أیام خلفاء مصر بنی عبید" (1) حیث کانت تعطل الأسواق ویمنع البیع وتقام المجالس للنیاحة والبکاء وتخرج مواکب العزاء فی شوارع القاهرة.

وقد استمرت إقامة المجالس الحسینیة علی هذه الحال بعد عصر المعز لدین الله الفاطمی وقد أشار المقریزی عندما تحدث عن إقامة هذه المجالس زمن الحاکم بأمر الله الفاطمی(2) عام ((396 ه / 1006 م)) أی بعد ثلاثة وثلاثین عاماً بقوله: "وفی یوم عاشوراء یعنی من سنة ست وتسعین وثلاثمائة جری الأمر فیه علی ما یجری کل سنة من تعطیل الأسواق وخروج المنشدین إلی جامع القاهرة ونزولهم مجتمعین بالنوح والنشید"(3).

وهنا لابد لنا من الإشارة إلی إقدام البعض خلال هذه الفترة علی

ص:231

التکسب بالنوح والنشید علی الإمام الحسین (علیه السلام) ما دفع قاضی القضاة عبد العزیز بن النعمان(1) إلی الاجتماع بسائر المنشدین والنائحین الذین کانوا یتکسبون بالنوح والنشید قائلاً لهم:" لا تلزموا الناس أخذ شیء منهم إذا وقفتم علی حوانیتهم ولا تؤذوهم ولا تتکسبوا بالنوح والنشید ومن أراد ذلک فعلیه بالصحراء"(2).

ومن التطورات التی شهدتها الشعائر الحسینیة فی زمن الحاکم بأمر الله الفاطمی والتی تتعلق بمدة إقامة الشعائر الحسینیة فی مصر، فبعد أن کانت تقام تلک الشعائر فی الیوم العاشر فقط فأنه أصدر أمراً عام ((404 ه / 1013 م)) بإقامتها فی الثلاثة أیام الأخیرة قبل یوم العاشر من محرم أی من یوم السابع من محرم علی أن تعطل خلالها سائر الدواوین وأماکن بیع الغلال والفواکه وغیرها، أما فی الیوم العاشر من محرم فأنه أمر بإغلاق کافة الحوانیت فی مصر باستثناء حوانیت الخبازین وهذا ما أشار إلیه المقریزی بقوله: "أمر بغلق سائر الدواوین وجمیع الأماکن التی تباع فیها الغلال والفواکه وغیرها ثلاثة أیام من آخر عاشوراء، فلما کان یوم عاشوراء أغلقت سائر حوانیت مصر والقاهرة بأسرها إلا حوانیت الخبازین"(3).

ص:232

أما فی حکم الخلیفة المستعلی بالله الفاطمی(1) ((487 ه / 1094 م)) فعلی الرغم من استمرار إقامة المجالس الحسینیة طیلة عهده منتهجاً سیرة آبائه وأجداده إلا أنّه أظهر بها اهتماماً کبیراً إلی الحد الذی وصفه ابن تغری بردی بالمبالغة فی إقامته مأتم عاشوراء حیث ذکر أنّه:" یبالغ فی النوح والمأتم ویأمر الناس بلبس المسوح وغلق الحوانیت واللطم والبکاء زیادة عما کان یفعله آباؤه"(2).

أما الکیفیة التی کانت تقام فیها الشعائر الحسینیة من قبل الخلفاء الفاطمیین فی أیام عاشوراء وطیلة فترة حکمهم فقد أشار إلیها، ابن تغری بردی بشیء من التفصیل بقوله: "إذا کان العاشر من المحرم، احتجب الخلیفة عن الناس فإذا علا النهار رکب قاضی القضاة(3) والشهود، وقد غیروا زیهم ولبسوا لباس الحزن ثم صاروا إلی المشهد الحسینی(4) بالقاهرة، وکان قبل ذلک

ص:233

یعمل المأتم بالجامع الأزهر(1) فإذا جلسوا فیه بمن معهم من الأمراء والأعیان وقراء الحضرة والمتصدرین فی الجوامع، جاء الوزیر فجلس صدراً والقاضی وداعی الدعاة(2) من جانبه والقراء یقرؤون نوبة ثم ینشد قوم من الشعراء، غیر شعراء الخلیفة أشعاراً یرثون بها الحسن والحسین وأهل البیت علیهم السلام وتصیح الناس بالضجیج والبکاء والعویل، فإذا کان الوزیر رافضیاً علی مذهب القوم تغالوا فی ذلک وأمعنوا، وإن کان الوزیر سنیاً اقتصروا ولا یزالون کذلک حتی تمضی ثلاث ساعات، فیستدعون إلی القصر عند الخلیفة بنقباء الرسائل، فیرکب الوزیر وهو بمندیل صغیر إلی داره، ویدخل قاضی القضاة والداعی ومن معهما إلی باب الذهب (أحد أبواب القصر) فیجدون الدهالیز قد فرشت مساطبها بالحصر والبسط، وینصب فی الأماکن الخالیة

ص:234

الدکک لتلحق بالمساطب والفرش، ویجدون صاحب الباب جالساً هناک، فیجلس القاضی والداعی إلی جانبه، والناس علی اختلاف طبقاتهم، فیقرأ القراء وینشد المنشدون، ثم یفرش وسط القاعة بالحصر المقلوبة ولیس علی وجهها وإنما تخالف مفارشها ثم یفرش علیها سماط الحزن، مقدار ألف زبدیة من العدس والمسلوقات والمخللات والأجبان والألبان الساذجة، وأعسال النحل والفطیر المغیر لونه بالقصد لأجل الحزن فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب وصاحب المائدة یعنی الحاجب والحشد وأدخل الناس للأکل من السماط فیدخل القاضی والداعی ویجلس صاحب الباب ببابه، ومن الناس من لا یدخل من شدة الحزن فلا یلزم أحد بالدخول فإذا فرغ القوم انفصلوا إلی مکانهم، رکبنا بذلک الزی الذی ظهروا فیه من قماش الحزن وطاف النواح بالقاهرة فی ذلک الیوم وأغلق البیاعون حوانیتهم إلی بعد العصر والنوح قائم بجمیع شوارع القاهرة وأزقتها، فإذا فات العصر یفتح الناس دکاکینهم وینصرفون فی بیعهم وشرائهم فکان ذلک دأب الخلفاء الفاطمیین من أولهم المعز لدین الله معد إلی آخرهم العاضد عبد الله(1)"(2).

ص:235

یتضح لنا من خلال قراءة النص التاریخی السابق عدة أمور کانت تعمل فی الشعائر الحسینیة فی مصر أیام الخلفاء الفاطمیین، فقد أبرز النص أن هنالک ثیاباً خاصة للحزن کانت تلبس فی یوم عاشوراء لإظهار الحزن، وکانت الشعائر الحسینیة تقام فی الجامع الأزهر حیث کان الکل یتوجه إلیه، وبعد ذلک انتقلت مراسم الشعائر الحسینیة إلی مشهد الحسین (علیه السلام)، وکان الخلیفة لا یحضر إلی المسجد بل کان الوزیر هو من یتولی رعایة تلک الشعائر وإحیاءها وبعد أن تنتهی المواکب من قراءة القرآن، وإنشاد الشعر الرثائی وارتفاع الصیاح والبکاء، یرجع الناس إلی قصر الخلیفة حیث تقام مجالس عزاء فی قصر الخلیفة وتنشد المراثی قبل تنأول الطعام الذی یعد خصیصاً لأهل العزاء، وبعد ذلک ینصرف الناس بثیاب الحزن إلی أماکنهم، أما مواکب النائحین والمنشدین فإنهم یطوفون فی شوارع القاهرة وأزقتها، إذ یحیون الشعائر بین الناس وإلی العصر تعود الحیاة مرة أخری إلی الأسواق حیث یفتح الناس حوانیتهم.

ولم تشهد هذه الشعائر تغییراً فی أدائها إلا فی عام ((515 ه / 1121 م)) فی عهد الخلیفة الفاطمی الأمر بأحکام الله(1) ((46-524 ه / 1072 -

ص:236

1131 م)) حیث أقدم الوزیر الأفضل(1) ابن أمیر الجیوش بدر الجمالی علی نقل مجلس العزاء الحسینی من قصور الخلافة الفاطمیة وهو ما جرت علیه العادة إلی دار الملک(2) التی کان یسکنها الوزیر الأفضل، حینما فرض هیمنته وسیطرته علی إدارة الأمور فی مصر فی فترة الضعف التی مرت بها الخلافة الفاطمیة وهذا ما أشار إلیه ابن المأمون بقوله: "فی یوم عاشوراء، یعنی سنة خمس عشرة وخمسمائة، عبئ السماط بمجلس العطایا من دار الملک بمصر، التی کان یسکنها الأفضل ابن أمیر الجیوش، وهو السماط المختص بعاشوراء، وهو یعبئ فی غیر المکان الجاری به العادة فی الأعیاد ولا یعمل مدورة خشب بل سفرة کبیرة من ادم والسماط یعلوها من غیر مرافع نحاس، وجمیع الزبادی، أجبان وسلائط ومخللات، وجمیع الخبز من شعیر، وخرج الأفضل من باب فرد الکم وجلس علی بساط صوف من غیر مشورة واستفتح المقرئون، واستدعی الأشراف علی طبقاتهم وحمل السماط لهم وقد عمل فی الصحن الأول الذی بین یدی الأفضل إلی آخر السماط عدس أسود ثم بعده عدس مصفی إلی آخر

ص:237

السماط ثم رفع وقدمت صحون جمیعها عسل نحل"(1).

إلا أنه وبعد مقتل الوزیر الأفضل عام ((516 ه / 1122 م)) أعید إقامة المجالس الحسینیة إلی قصور الخلافة الفاطمیة کسابق عهدها وهذا ما أشار إلیه ابن المأمون:" ولما کان یوم عاشوراء من سنة ست عشرة وخمسمائة جلس الخلیفة الأمر بأحکام الله، علی باب الباذهنج یعنی من القصر بعد مقتل الأفضل وعود الأسمطة إلی القصر، علی کرسی جدید بغیر مخدة متلثماً هو وجمیع حاشیته فسلم علیه الوزیر المأمون(2) وجمیع الأمراء بالسلام علیه وهم بغیر منادیل ملثمون حفاة وعبئ السماط فی غیر موضعه المعتاد وجمیع ما علیه خبز شعیر والحواضر علی ما کان فی الأیام الافضلیة، وتقدم إلی والیی مصر والقاهرة أن لا یمکنا أحداً من جمع ولا قراءة مصرع الحسین، وخرج الرسم المطلق للمتصدرین والقراء الخاص والوعاظ والشعراء وغیرهم علی ما جرت به عادتهم"(3).

ص:238

أما فی عام ((517 ه / 1123 م)) فقد تم إحیاء لیلة عاشوراء من قبل الوزیر المأمون وصبیحة عاشوراء من قبل الخلیفة الفاطمی وهذا ما أشار إلیه ابن المأمون بقوله: "اعتمد الاجل الوزیر المأمون علی السنة الأفضلیة من المضی فیها إلی التربة الجیوشیة، وحضور جمیع المتصدرین والوعاظ وقراءة القرآن إلی آخر اللیل وعودة إلی داره، واعتمد فی صبیحة اللیلة المذکورة مثل ذلک، وجلس الخلیفة علی الأرض متلثماً یری به الحزن، وحضر من شرف بالسلام علیه، والجلوس علی السماط بما جرت به العادة"(1).

یشیر النص السابق، إلی أنّ إحیاء الشعائر الحسینیة لم تکن تنحصر فی یوم عاشوراء، بل کانت تحیی تلک المراسیم فی لیلة عاشوراء، وأنها کانت تحیی فی التربة الجیوشیة عند قبر بدر الجمالی(2) الوزیر الإمامی الذی کان یحضی بمحبة الشعب المصری واحترامه، کما یلاحظ دخول عنصری قراءة القرآن والوعظ ضمن مراسم إحیاء الشعائر الحسینیة فی لیلة عاشوراء ویومها.

ص:239

ومن خلال النصوص السابقة یتضح لنا تعدد الأماکن الرئیسة لإقامة الشعائر الحسینیة فی مصر، فبعد أن کانت تقام عند قبری السیدة کلثوم والسیدة نفیسة وکذلک عند جامع القاهرة(1) ، أصبح الجامع الأزهر بعد إتمام بنائه عام ((361 ه / 971 م)) من قبل القائد جوهر الصقلی(2) من الأماکن الرئیسة لإقامة الشعائر الحسینیة فی مصر طیلة عهد الفاطمیین.

ثم غدا بعد ذلک المشهد الحسینی منذ عام ((548 ه / 1153 م)) وهی السنة التی نقل فیها رأس الإمام الحسین (علیه السلام) علی أحد الأقوال(3) ، وکما تشیر إحدی الروایات التاریخیة من مدینة عسقلان(4) فی فلسطین إلی القاهرة حیث مدفنه الیوم والمسجد المنسوب إلیه، من الأماکن المهمة والرئیسة

ص:240

التی تقام فیها الشعائر الحسینیة ومرکز لتجمع الأعداد الکبیرة من الناس فی أیام عاشوراء، والذی برزت فیه ظاهرة ذبح الإبل والأبقار والأغنام لتوفیر الغذاء لهذه الأعداد الکبیرة من الزائرین التی تفد للمشارکة فی إحیاء المراسم الحسینیة(1). ومن الأماکن الأخری التی أقیمت فیها الشعائر الحسینیة هی قصور الخلفاء الفاطمیین والوزراء(2) والتربة الجیوشیة وهو المکان الذی فیه قبر أمیر الجیوش بدر الجمالی والذی أقیمت فیه الشعائر الحسینیة فی بعض السنین(3) بالإضافة إلی عشرات المساجد المنتشرة فی أرجاء مصر(4).

کذلک کان مشهد زید بن علی(5) بن الحسین بن علی بن أبی طالب (علیهم السلام) من الأماکن المقدسة التی حرص المصریون علی زیارتها وإقامة الشعائر الحسینیة فیها أیام عاشوراء(6).

ص:241

خرجت إلی حیز الوجود العلنی بعد أن کانت قد مُنعتْ من قبل الأمویین وذلک بزوال دولتهم والذی عبر عنه بقوله: "بعد الامان من نکیر دولة قتلته"(1). کذلک أشار النص إلی الکیفیة التی تؤدی فیها هذه الشعائر حینما أشار إلی أنّ العزاء کان یقام جماعیاً وتمتد لیوم ولیلة العاشر من محرم، وکانوا یعمدون إلی عمل جنازة تشبیهیة من الثیاب کان یرافقها حمل الأضواء والشموع والبخور وقراءة المراثی الحسینیة یعقبها عمل الأطعمة للمعزین.

ویبدو أن الشعائر الحسینیة بالأندلس أخذت شکلها المعهود بعد زوال الحکم الأموی علی ید بنی حمود العلویین فی مطلع القرن الخامس الهجری ((407 ه / 1016 م)) حیث أسهم حکام بنی حمود فی فسح المجال إمام هذه الشعائر والتشجیع علیها وذلک بحکم کونهم علویین(2) واستمرت هذه الشعائر حتی القرن الثامن الهجری فی حیاة ابن الخطیب وهذا ما أشار إلیه عندما تحدث عن القصائد الحسینیة الرثائیة بقوله:" الحسینیة التی یستعملها الیوم المسمعون فیلوون لها العمائم الملونة ویبدلون الأثواب فی الرفض کأنهم یشقون الأعلی عن الأسفل بقیة من هذا لم تنقطع بعد وإن ضعفت، ومهما قیل: الحسینیة أو الصفة لم یدر الیوم أصلها"(3).

یتضح ذلک الاستمرار من خلال ما أورده من معلومات عن الشاعر

ص:243

الأندلسی الذی اشتهر برثاء الإمام الحسین (علیه السلام) وهو أبو بحر صفوان ابن إدریس التجیبی المرسی(1) ((561-598 ه / 1165-1201 م)) هذا الشاعر(2) الذی حظی بشهرة واسعة خاصة بالمغرب والأندلس. إذ کان یقوم بتهیئة العزاء الحسینی فی عاشوراء ویسیر إمام الموکب لینشد الناس المشارکین فی المسیرة المهیبة قصائد تمثل صوراً للمأساة التی حلت بالحسین (علیه السلام) ومصرع أهله وأصحابه فی واقعة کربلاء سنة (61 ه / 681 م) وسبی نسائه وأهله وأطفاله، وکانت مجالس العزاء تقام فی مرسیة(3) وبلنسیة(4) إذ انتشر الولاء والحب لأهل البیت (علیهم السلام) فی هذه المدن(5) حتی وصل الأمر

ص:244

بالأمویین إلی أن أخفوا نسبهم إلی أمیة فی الآخر لما انحرف الناس عنهم وذکروا أفعالهم فی الحسین (علیه السلام) وکانوا یسمون بالقرشیین(1) وهذا یشیر إلی سعة انتشار الشعائر الحسینیة وإحیاء ذکری مقتله مما سیتبعه ذکر قتلة الإمام الحسین (علیه السلام) والتی أصبحت سُبة علی بنی أمیة مما أدی بهم لأن یخفوا نسبهم لبنی أمیة.

ص:245

جاء عن الإمام علی بن أبی طالب (علیه السلام) أنّه قال: "زارنا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ذات یوم فقدمنا إلیه طعاماً، وأهدت إلینا أم أیمن صحفة من تمر وقعباً من لبن وزبد فقدمناه إلیه، فأکل منه، فلما فرغ قمت وسکبت علی یدی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ماءً، فلما غسل یدیه مسح وجهه ولحیته ببلة یدیه ثم قام إلی مسجد فی جانب البیت وصلی وخر ساجداً، فبکی وأطال البکاء ثم رفع رأسه، فما اجترأ منا أهل البیت أحد یسأله عن شیء فقام الحسین (علیه السلام) یدرج حتی صعد علی فخذی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فأخذ برأسه إلی صدره، ووضع ذقنه علی رأس رسول الله ثم قال: یا أبت ما یبکیک؟ فقال له: یا بنی إنّی نظرت إلیکم الیوم فسررت بکم سروراً لم أسر بکم قبله مثله فهبط إلی جبرائیل فأخبرنی أنکم قتلی وأنّ مصارعکم شتی فحمدت الله علی ذلک وسألت لکم الخیرة، فقال له: یا أبة فمن یزور قبورنا ویتعاهدها علی تشتتها؟ قال: طوائف من أمتی یریدون بذلک بری وصلتی، أتعاهدهم فی الموقف وآخذ بأعضادهم فأنجیهم من أهواله وشدائده"(1).

وعن الإمام علی بن أبی طالب (علیه السلام) أنّه قال:" کأنی بالقصور قد شیدت حول قبر الحسین (علیه السلام) وکأنی بالأسواق قد حفت حول قبره، ولا تذهب الأیام واللیالی، حتی یسار إلیه من الآفاق، وذلک عند انقطاع

ص:247

ملک بنی مروان"(1).

وقول رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لأمیر المؤمنین علی (علیه السلام): "یا أبا الحسن إنّ الله تعالی جعل قبرک وقبر ولدک بقاعاً من بقاع الجنة، وعرصة من عرصاتها، وإنّ الله جعل قلوب نجباء خلقه وصفوة من عباده تحن إلیکم وتحتمل المذلة والأذی فیکم، فیعمرون قبورکم ویکثرون زیارتها تقرباً منهم إلی الله ومودة منهم لرسوله، أولئک یا علی المخصوصون بشفاعتی والواردون حوضی، وهم زواری وجیرانی غداً فی الجنة، یا علی، من عمر قبورکم وتعاهدها فکأنما أعان سلیمان بن داود علی بناء بیت المقدس"(2).

ولما نزل الإمام الحسین (علیه السلام) سأل ما اسم هذه الأرض قالوا کربلاء، ثم قال: انزلوا ها هنا مناخ رکابنا، ها هنا تسفک دماؤنا، ها هنا والله تهتک حریمنا، ها هنا والله تقتل رجالنا، ها هنا والله تذبح أطفالنا، ها هنا والله تزار قبورنا وبهذه التربة وعدنی جدی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ولا خلف لقوله"(3).

وقد أشارت الحوراء زینب (علیها السلام) إلی هذه الحقیقة بقولها للإمام السجاد (علیه السلام) حینما مر بساحة المعرکة" لا یجزعنک ما تری، فو الله

ص:248

إنّ ذلک لعهد من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) إلی جدک وأبیک وعمک، ولقد أخذ الله میثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون فی أهل السماوات أنهم یجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فیوارونها، وهذه الجسوم المضرجة فیدفنونها، وینصبون بهذا الطف علماً لقبر أبیک سید الشهداء، لا یدرس أثره ولا یعفو رسمه علی کدور اللیالی والأیام ولیجتهدن أئمة الکفر وأشیاع الضلالة فی محوه وتطمیسه فلا یزداد أثره إلا ظهوراً وأمره الا علواً..."(1).

وکذلک بقولها عندما خاطبت یزید فی عقر داره بدمشق: "کد کیدک واسع سعیک، وناصب جهدک فوالله لا تمحو ذکرنا، ولا تمیت وحینا ولا تدرک أمرنا"(2).

إنّ ارتباط الحسین (علیه السلام) بالوحی وکونه شعاراً من شعائر الإسلام والتی أکدت علیها السیدة زینب بخطابها وجعلتها حقیقة إمام ناظر یزید لتقول له إن تمکنت من قتل الحسین (علیه السلام) فإنک لا تتمکن من محو أثره.

لقد برزت العنایة بقبر الإمام الحسین (علیه السلام) منذ وقت مبکر جداً یتصل بأیام الحادثة وأنّ أول من بنی علی القبر هم بنو أسد، لقول السید ابن

ص:249

طاووس:" إنهم أقاموا رسماً لقبر سید الشهداء "(1) ولعل فی هذه البنایة الصغیرة الرمزیة تدل علی مکان القبر الشریف ولتهدی الزائرین له ثم وضعت علامات ترشد علیه. ومما یدل علی ذلک أنه لما جاء جابر بن عبد الله الأنصاری لزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) قال لعطیة العوفی(2) ، ألمسنی القبر(3) وهذا یدل علی وجود بناء علی القبر ولو بشکل بسیط. کما یؤید هذا الرأی - البناء علی القبر فی ذلک الوقت - هو مجیء التوابین فی ربیع الأول من عام (65 ه / 684 م) وزیارتهم للقبر واجتماعهم حوله وکان عددهم یقارب الأربعة آلاف شخص(4) فکان القبر ظاهراً معروفاً، وتذکر بعض المصادر التاریخیة أن المختار بن أبی عبیدة الثقفی فی أیام إمرته علی الکوفة، أقام بناءً فوق القبر تعلوه قبة من الطابوق (الآجر) وهذه القبة تعد أول قبة شیدت فی الإسلام وذلک سنة (66 ه / 685 م)(5).

وقیل إنّ مصعب بن الزبیر(6) لما توجه إلی عبد الملک بن مروان لقتاله،

ص:250

فلما بلغ الحیر دخل فوقف علی قبر أبی عبد الله الحسین (علیه السلام) ثم قال:" یا أبا عبد الله، أما والله لئن کنت غصبت نفسک ما غصبت دینک ثم انصرف وهو یقول:

إن الأولی بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للکرام التآسیا "(1)

ومما یشیر إلی وجود بناء علی قبر الإمام الحسین (علیه السلام) هو ما ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) فی کیفیة زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) بقوله:" إذا أتیت الباب الذی یلی الشرق فقف علی الباب وقل... "(2) وقال الإمام الصادق (علیه السلام):" ثم تخرج من السقیفة وتقف بإزاء قبور الشهداء "(3) وذکر الشیخ المفید بسنده عن صفوان بن مهران الجمال عن الإمام الصادق (علیه السلام):" إذا أردت زیارة قبر الحسین فی کربلاء قف خارج القبة وارم بطرفک نحو القبر ثم أدخل الروضة وقم بحذائها من حیث یلی الرأس ثم أخرج من الباب الذی عند رجلی علی بن الحسین (علیه السلام) ثم توجه إلی الشهداء، ثم أمشی حتی تأتی مشهد العباس بن علی

ص:251

(علیهما السلام) فإذا أتیته فقف علی باب السقیفة "(1) وهذا دلیل أنّ علی القبر بناءً وبقیت تلک السقیفة والمسجد طیلة فترة العهد الأموی إلی قیام دولة بنی العباس سنة (132 ه / 749 م).

ومما یدلل علی کبر البناء المقام علی حائر الحسین (علیه السلام) والذی قد یکون قد زید فی بنائه علی فترات عدة، قول الإمام الصادق (علیه السلام) لما استأذنه صفوان لزیارة مولانا الحسین (علیه السلام) فسأله أن یعرفه ما یعمل علیه فقال:" یا صفوان... فإذا أتیت باب الحائر فقف وقل: الله أکبر کبیراً... إلی أن یقول:... ثم تأتی باب القبة وقف من حیث یلی الرأس"(2).

کما یتضح من نصوص الزیارة الواردة عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن هنالک بناءً مرفوعاً علی قبر أبی الفضل العباس بن علی بن أبی طالب (علیهما السلام) لقوله: "ثم امش حتی تأتی مشهد العباس بن علی (علیهما السلام) فإذا أتیته فقف علی باب السقیفة وقل - الزیارة"(3).

وعن الحسین ابن بنت أبی حمزة(4) قال:" خرجت فی آخر زمان بنی أمیة

ص:252

وأنا أرید قبر الحسین (علیه السلام) فانتهیت إلی الغاضریة(1) ، حتی إذا نام الناس اغتسلت، ثم أقبلت أرید القبر... فلما انتهیت إلی باب الحائر..."(2).

بالبکاء، والحزن واللطم وأقاموا فی کربلاء ینوحون علی الحسین (علیه السلام) ثلاثة أیام(1). وقد وقف جابر بن عبد الله الأنصاری علی القبر فأجهش بالبکاء ونادی یا حسین ثلاثاً ثم قال: حبیب لا یجیب حبیبه وأنی لک بالجواب وقد شحطت أوداجک علی أثباجک وفرق بین رأسک وبدنک، فأشهد أنک ابن خاتم النبیین وابن سید المؤمنین وابن حلیف التقوی وسلیل الهدی وخامس أصحاب الکساء، وابن سید النقباء وابن فاطمة الزهراء سیدة النساء..."(2).

واستمرت زیارة الإمام زین العابدین (علیه السلام) لقبر أبیه الإمام الحسین (علیه السلام) ومن تلک الزیارات التی کان الإمام یقدم من المدینة إلی کربلاء وقد شاهده بعض شیعته فی مسجد الکوفة وتعجب من وجوده، ویذکر أن أبا حمزة الثمالی قال للإمام علی بن الحسین (علیهما السلام): "ما أقدمک بلاداً قتل فیها أبوک؟" أجابه الإمام علی بن الحسین (علیهما السلام): "زرت أبی وصلیت فی هذا المسجد..."(3).

وفی زیارة أخری قام بها الإمام علی بن الحسین (علیهما السلام) وهو ما تبینه الروایة بأنّ الإمام علی بن الحسین (علیهما السلام) قال:" کنا زوار الحسین (علیه السلام) وهناک نسوان کثیرة إذ أقبلت منهن امرأة فقلت لها -

ص:254

الإمام السجاد - من أنت رحمک الله؟ قالت: أنا زبدة ابنة العجلان من بنی ساعدة فقلت لها: هل عندک من شیء تحدثینا به..."(1).

إن هذا الخبر المنقول علی لسان الإمام علی بن الحسین (علیهما السلام) مع الأخبار الأخری یدل علی خروج الإمام المتکرر لزیارة قبر أبیه الحسین (علیه السلام) وأنّ هنالک نسوة قد خرجن لزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام)، ولعل تلک الزیارة کانت فی فترة الاضطراب السیاسی بعد موت یزید وزوال النفوذ الأموی علی العراق والحجاز.

وفی روایة أخری یتضح من خلالها تکرار الإمام زین العابدین (علیهما السلام) لزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وفیها صحب الإمام الباقر (علیه السلام) فی هذه المرة. وهو ما جاء بروایة جابر بن یزید الجعفی(2) ، عن أبی جعفر محمد بن علی الباقر (علیه السلام) قال: "کان أبی علی بن الحسین (علیهما السلام) قد اتخذ منزله من بعد قتل أبیه الحسین بن علی (علیهما السلام) بیتاً من الشعر وأقام بالبادیة، فلبث بها عدة سنین کراهیة لمخالطة الناس وملابستهم وکان یسیر من البادیة بمقامه بها إلی العراق زائراً لأبیه وجده (علیه السلام) ولا یشعر بذلک من فعله. قال محمد بن علی (علیه السلام):

ص:255

فخرج (علیه السلام) متوجهاً إلی العراق لزیارة أمیر المؤمنین (علیه السلام) وأنا معه ولیس معنا ذو روح إلا الناقتین، فلما انتهی إلی النجف(1) من بلاد الکوفة وصار إلی مکان منه فبکی حتی أخضلت لحیته بدموعه ثم قال: السلام علیک یا أمیر المؤمنین ورحمة الله وبرکاته..."(2).

إن المستفاد من هذه الروایة أمور منها اعتزال الإمام زین العابدین (علیه السلام) الناس لفترة بعد مقتل أبیه الإمام الحسین (علیه السلام) وقد اتخذ الإمام من البادیة مکاناً لعزلته، وتوجه الإمام زین العابدین (علیه السلام) من البادیة لزیارة الإمام الحسین (علیه السلام) متکتماً لا یعلن عن فعله، وقد یکون مصدر موقف الإمام المتکتم عن الناس، هو طبیعة الأوضاع السیاسیة، وموقف السلطة من زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) کما یشیر النص أعلاه أنّ الإمام الباقر (علیه السلام) قد صحب أباه فی زیارته للإمام الحسین (علیه السلام) وأمیر المؤمنین (علیه السلام).

واستمرت ممارسة شعیرة الزیارة من قبل أئمة أهل البیت (علیهم السلام) وهو ما أکد علیه الإمام الصادق (علیه السلام) الذی قام بزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وزیارة قبر جده أمیر المؤمنین (علیه السلام) وزیارته لموضع رأس الإمام الحسین (علیه السلام) فی الکوفة أیضاً ولعدة

ص:256

مرات. وهو ما أشار إلیه ابن عقدة الکوفی بسنده إلی حسین بن أبی العوجا الطائی، قال:" سمعت أبی ذکر أنّ جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) مضی إلی الحیرة(1) ومعه غلام له علی راحلتین، وذاع الخبر بالکوفة، فلما کان الیوم الثانی، قلت لغلام لی: أذهب فاقعد فی موضع کذا فی الطریق، فإذا رأیت غلامین علی راحلتین فتعال إلی، فلما أصبحنا جاءنی فقال: لقد أقبلا، فقمت إلی باریة فطرحتها علی قارعة الطریق والی وسادة وصفریة جدیدة، وقلتین علقتهما فی النخلة، وعندها طبق من الرطب وکانت النخلة صرفانة(2) ، فلما أقبل تلقیته وإذا الغلام معه، فسلمت ورحب بی ثم قلت: یا سیدی یابن رسول الله، رجل من موالیک، تنزل عندی ساعة وتشرب شربة ماء بارد، فثنی رجله، فنزل، واتکأ علی الوسادة، ثم رفع رأسه إلی النخلة، فنظر إلیها وقال: یا شیخ ما تسمون هذه النخلة عندکم؟ قلت: یا بن رسول الله، صرفانة، فقال ویحک! هذه والله العجوة نخلة مریم. القط لنا منها، فلقطت فوضعته فی الطبق الذی فیه الرطب، فأکل منها فأکثر، فقلت له: جعلت فداک بأبی أنت وأمی، هذا القبر الذی أقبلت منه قبر الحسین؟ قال: أی والله یا شیخ حقاً ولو أنّه عندنا لحججنا إلیه. قلت فهذا الذی عندنا فی الظهر، أهو قبر أمیر المؤمنین؟ قال: أی والله یا شیخ حقاً ولو أنّه عندنا

ص:257

لحججنا إلیه، ثم رکب راحلته ومضی"(1).

والملاحظ من هذه الروایة السابقة، هی زیارة الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) لقبر الإمام الحسین (علیه السلام) بصورة علنیة وهی ما تشیر إلیه الروایة، من ذیاع الخبر وشیاعه بین الناس وکأن هناک إعلاناً بالمسألة، الأمر الآخر هو دعوة الإمام (علیه السلام) إلی زیارة قبر الحسین (علیه السلام) أولاً من خلال فعله صلوات الله علیه، والأمر الآخر هو قول الإمام (علیه السلام): "لو أنّه عندنا لحججنا إلیه" والمقصود به لقصدناه بالزیارة. إذ أنّ الحج بمعناها اللغوی هو القصد(2).

کما تکررت هذه الممارسة من الإمام الصادق (علیه السلام) بزیارته قبر الإمام علی (علیه السلام) وقبر الإمام الحسین (علیه السلام) وموضع رأس الإمام بالقرب من الکوفة حیث جاء بروایة أبی الفرج السندی(3) ، قوله: "کنت مع أبی عبد الله جعفر بن محمد (علیه السلام) حیث قدم إلی الحیرة، فقال لیلة: اسرجوا إلی البغل، فرکب وأنا معه حتی انتهینا إلی الظهر، فنزل، فصلی رکعتین ثم تنحی، فصلی رکعتین ثم تنحی، فصلی رکعتین،

ص:258

فقلت جعلت فداک إنّی رأیتک صلیت فی ثلاثة مواضع قال: أما الأول، فموضع قبر أمیر المؤمنین (علیه السلام) والثانی، موضع رأس الحسین (علیه السلام) والثالث، موضع منبر القائم"(1).

ووالله إنّ بکاءکم علیه، وحدیثکم بما جری علیه وزیارتکم قبره، نصرة لکم فی الدنیا، فأبشروا فإنّکم معه فی جوار رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)"(1).

وعن أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) قال: "لو أنّ أحدکم حج دهره ثم لم یزر الحسین بن علی (علیهما السلام) کان تارکاً حقاً من حقوق الله، وحقوق رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لأن حق الحسین (علیه السلام) فریضة من الله عز وجل واجبة علی کل مسلم"(2).

کما استخدم أئمة أهل البیت (علیهم السلام) أسلوباً آخر فی تأکید شعیرة الزیارة، وترسیخها لدی الشیعة، وقد عرف ذلک من خلال تکرار سؤالهم الدائم والمستمر لأتباعهم عن مدی بعد المسافة التی تفصلهم عن قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وعن عدد المرات التی یزورونه فیها، وهل تکون تلک المسافة مبررة لعدم زیارته وجفوته. وکان لهذا الأسلوب الذی انتهجه أئمة أهل البیت (علیهم السلام) أن عرف الشیعة بفضل زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وأهمیتها، مما زاد فی الإقبال علیها وتکرار فعل الزیارة بعدما علموا فضلها وهو ما أشارت إلیه الروایات التالیة.

ومنها سؤال الإمام الباقر (علیهما السلام) لأحد أصحابه بقوله:" کم

ص:260

بینک وبین قبر أبی عبد الله الحسین بن علی (علیه السلام)؟ قال: قلت یوم وشیء، قال: فقال الإمام: لو کان منا علی مثل الذی هو منکم لاتخذناه هجرة"(1). إنّ الذی یتضح من هذه العبارة ((لاتخذناه هجرة)) أنّ الإمام یحث فیها أتباعه أن یهاجروا إلیه ویتخذوه سکناً.

وفی روایة أخری عن الإمام الباقر (علیه السلام) حینما یسأل عن المسافة فیقال له: "یوم للراکب، ویوم وبعض الیوم للماشی، فیقول له: أتأتونه فی کل یوم جمعة؟ قال: قلنا فی الحین، قال: ما أجفاکم، أما لو أنّه، لو کان منا قریباً لاتخذناه هجرة"(2).

وفی ذلک المعنی ما روی عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال:" جاء رجل إلی أبی جعفر الباقر (علیه السلام) فذاکره قبر الحسین (علیه السلام) فقال: أما تأتونه؟ قال بلی: إنا نأتیه فی السنة مرة، فقال: ما أجفاکم یا أهل الکوفة، لو کنت بمنزلتکم، ما أخطأتنی فیه صلاة"(3). ولعل المراد هنا صلاة الجمعة، أی ان یأتیه فی کل صلاة جمعة وهو ما سیتضح وان المطالبة بالاکثار من إتیان القبر وزیارة الحسین (علیه السلام) هو لإحیاء شعیرة الزیارة وجعلها ظاهرة بارزة للعیان، مما یحفز الناس ویدفعهم للزیارة.

ص:261

فتأتونه فی کل شهر؟ فقلت: لا، فقال ما أجفاکم، إنّ زیارته تعدل حجة وعمرة"(1).

کما روی عن عبد الله بن عبید الأنباری(2) ، قال: "قلت لأبی عبد الله - الصادق (علیه السلام) -: جعلت فداک إنّه لیس کل سنة یتهیأ لی ما أخرج به إلی الحج؟ فقال: إذا أردت الحج ولم یتهیأ لک فائت الحسین (علیه السلام)..."(3).

وعن أبی سعید المدائنی(4) قال:" قلت لأبی عبد الله (علیه السلام) جعلت فداک آتی قبر الحسین (علیه السلام)؟ قال: نعم یا أبا سعید ائت قبر ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أطیب الطیبین وأطهر الطاهرین، وأبو الأبرار، وإذا زرته کتب الله لک عتق خمس وعشرین رقبة"(5).

وروی عن عبد الله بن حماد البصری(6) ، عن أبی عبد الله (علیه

ص:263

السلام) قال: قال لی: إنّ عندکم - أو قال: فی قربکم - لفضیلة ما أوتی أحدٌ مثلها... قلت جعلت فداک وما هذا الذی وصفت ولم تسمه؟ قال: زیارة جدی الحسین بن علی (علیهما السلام) فإنّه غریب بأرض غربة، یبکیه من زاره ویحزن له من لم یزره، ویحترق له من لم یشهده، ویرحمه من نظر إلی قبر ابنه عند رجله، فی أرض فلاة لا حمیم قربه ولا قریب... فقلت له: جعلت فداک قد کنت آتیه حتی بلیت بالسلطان"(1).

وعن معاویة بن وهب(2) قال: "کنت جالساً عند جعفر بن محمد (علیه السلام) إذ جاء شیخ قد انحنی من الکبر فقال: السلام علیک ورحمة الله وبرکاته، فقال له أبو عبد الله (علیه السلام): وعلیک السلام ورحمة الله وبرکاته یا شیخ ادن منی، فدنا منه فقبل یده وبکی... قال: یا شیخ ما أحسبک من أهل الکوفة، قال: لا، قال: فمن أین أنت؟ قال: من سوادها، قال: أین أنت من قبر جدی المظلوم الحسین (علیه السلام)؟ قال: إنّی لقریب

ص:264

منه، قال: کیف إتیانک له؟ قال: إنّی لآتیه وأکثر، قال: ذاک دم یطلب الله تعالی به، ما أصیب ولد فاطمة ولا یصابون بمثل الحسین (علیه السلام)..."(1).

لقد أثرت تلک الدعوات فی زرع ثقافة الزیارة عند شیعة أهل البیت (علیهم السلام) وقد بات الشیعة، یتوجهون لزیارة الإمام الحسین (علیه السلام) مما دفع البعض منهم أن یسأل الأئمة عن کیفیة الزیارة، وزمانها، وما هی الأفعال المندوبة، وعن فضلها، وفی حال الخوف من السلطان، أو فی زیارة قبر الإمام الحسین علیه السلام عن بعد وذلک فیمن لم یتمکن من الحضور عند قبره إلی غیرها من الکیفیات والأعمال، فقد سأل الإمام الصادق (علیه السلام) أحد أصحابه کیف یصنع وکیف یقول إذا أراد زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) قال له الإمام الصادق (علیه السلام):" اغتسل علی شاطئ الفرات، وتلبس الثیاب الطاهرة، ثم امش حافیاً فإنّه فی حرم من حرم الله تعالی، وحرم رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)..."(2).

کما روی عن الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) قوله: "لا یستغنی شیعتنا عن أربع: عن خمرة یصلی علیها، وخاتم یتختم به، وسواک یستاک به، وسبحة من طین قبر الحسین (علیه السلام) فیها ثلاث وثلاثون

ص:265

حبة، متی قلبها، فذکر الله تعالی کتب له بکل حبة أربعون حسنة وإذا قلبها ساهیاً یعبث کتب له عشرون حسنة"(1).

ومما روی عن الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) أنه قال:" أدنی ما یثاب به زائر أبی عبد الله (علیه السلام) بشط الفرات - إذا عرف حقه وحرمته وولایته - أن یغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"(2). وقد کتب بعض الشیعة إلی الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) یسأله عن فضل الزیارة ومن ذلک ما روی عن إبراهیم بن عقبة(3) قال: "کتبت إلی العبد الصالح (علیه السلام) إن رأی سیدنا إن یخبرنی بأفضل ما جاء به فی زیارة الحسین (علیه السلام) وهل تعدل ثواب الحج لمن فاته؟ فکتب الإمام (علیه السلام) تعدل الحج لمن فاته الحج"(4).

أما ما جاء عن الإمام الرضا (علیه السلام) فی فضل زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) ما روی عن الوشاء(5) قال: قلت للرضا (علیه

ص:266

السلام):" ما لمن زار قبر أحد من الأئمة (علیهم السلام) قال: له مثل من أتی قبر أبی عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: وما لمن زار قبر أبی عبد الله (علیه السلام) قال: الجنة والله"(1).

کما روی الریان بن شبیب، عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: "یا ابن شبیب إن سرک أن تلقی الله عزّ وجلّ ولا ذنب علیک فزر الحسین بن علی"(2). وفی روایة محمد بن سنان(3) قال:" سمعت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) یقول: من أتی قبر الحسین (علیه السلام) کتب الله له حجة مبرورة"(4).

وقد سُئل الإمام الرضا (علیه السلام) عن فضل زیارة قبر الحسین (علیه السلام) فقال: "إن الحسین قتل مکروباً فحقیق علی الله عز وجل أن لا یأتیه

ص:267

مکروب إلا فرج الله کربه"(1). وقول الإمام علی بن موسی الرضا (علیه السلام): "إنّ لکل إمام عهداً فی عنق أولیائه وشیعته وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زیارة قبورهم، فمن زارهم رغبة فی زیارتهم، وتصدیقاً لما رغبوا فیه کان أئمتهم شفعاءهم یوم القیامة"(2).

أما ما جاء عن الإمام علی بن محمد الهادی (علیهما السلام) فی فضل زیارة قبر الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) والتی دلت علی استمرار شعیرة الزیارة علی الرغم من موقف السلطة المتشنج آنذاک، فعن علی بن جعفر الهمانی(3) قال:" سمعت علی بن محمد العسکری (علیهما السلام) یقول: من خرج من بیته یرید زیارة الحسین (علیهما السلام) فصار إلی الفرات فاغتسل منه کتب من المفلحین فإذا سلم علی أبی عبد الله کتب من الفائزین..."(4). وقد بلغ من اهتمام الإمام علی الهادی (علیه السلام) بزیارة

ص:268

قبر الإمام الحسین (علیه السلام) أنّه أرسل من یدعو له عند الحائر الحسینی فقد روی أبو هاشم الجعفری(1) قال:" بعث إلی أبو الحسن (علیه السلام) فی مرضه والی محمد بن حمزة(2) ، فسبقنی إلیه محمد بن حمزة فأخبرنی أنّه ما زال یقول: ابعثوا إلی الحائر، فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلی الحائر، ثم دخلت علیه فقلت له: جعلت فداک أنا أذهب إلی الحائر، فقال: انظروا فی ذلک، ثم قال: إنّ محمداً لیس له سر من زید بن علی وأنا أکره أن یسمع ذلک، قال: فذکرت ذلک لعلی بن بلال(3) ، فقال: ما کان یصنع بالحائر وهو الحائر. فقدمت العسکر فدخلت علیه، فقال لی أجلس حین أردت القیام، فلما رأیته أنس بی ذکرت قول علی بن بلال فقال لی: ألا قلت له: إنّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) کان یطوف بالبیت ویقبل الحجر، وحرمة النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) والمؤمن أعظم من

ص:269

حرمة البیت، وأمره الله أن یقف بعرفة، إنما هی مواطن یحب الله ان یذکر فیها، فأنا أحب أن یدعی لی حیث یحب الله أن یدعی فیها، والحائر من تلک المواضع"(1). لقد أوضح الإمام علی الهادی (علیه السلام) ما کان یفعله جده رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فی الحرم من الطواف أو تقبیل الحجر والوقوف بعرفات وغیر ذلک من الأماکن المقدسة، ولعل غایة الإمام هو ربط شیعته بتوقیر الأماکن المشرفة وشدهم إلی الحائر الحسینی، وغیرها من المقدسات، والتوجه إلی زیارة کربلاء المقدسة مهما قست علیهم الظروف ومهما بلغ منع الحکام.

أما الإمام الحسن بن علی العسکری (علیهما السلام) فقد عد زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) من علائم الإیمان بقوله: "علامات المؤمن خمس: صلاة إحدی وخمسین، وزیارة الأربعین والتختم فی الیمین، وتعفیر الجبین، والجهر بسم الله الرحمن الرحیم"(2).

وعلی الرغم من موقف السلطة العباسیة المتشدد آنذاک خصوصاً من زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام)، بأن جعل الإمام الحسن العسکری (علیه السلام) زیارة الإمام الحسین علیه السلام علامة من علامات المؤمن مثلت دفعاً للزوار وموقفاً رسمیاً من قبل الإمام لرفضه تلک الإجراءات التی

ص:270

اتخذتها السلطة، علی الرغم من الإقامة الجبریة التی کانت تقام علی الإمام (علیه السلام) فی سامراء(1).

کما أکد بقیة العلویین علی فضل زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وهو ما أشار إلیه عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علی بن أبی طالب(2) لما سئل عن زیارة قبر الحسین (علیه السلام) فقال:" تعدل عمرة مبرورة "(3) وقال أیضاً:" من زار قبر الحسین (علیه السلام) لا یرید إلاّ الله، فتفطرت قدماه فی ذهابه إلیه کان کمن تفطرت قدماه فی سبیل الله"(4).

وروی الشجری بسنده عن سعید بن خیثم(5) ، عن أخیه معمر قال: "سمعت زید بن علی یقول: من زار قبر الحسین علیه السلام لا یرید بها إلا الله

ص:271

غفر الله له جمیع ذنوبه ولو کانت مثل زبد البحر، فاستکثروا من زیارته یغفر لکم ذنوبکم"(1).

وقد بین الأئمة الأطهار ثواب من أتی قبر الإمام الحسین (علیه السلام) راکباً وماشیاً، وهذا ما أشار إلیه الإمام الصادق (علیه السلام) حینما قال:" وإنّ زائره - الحسین (علیه السلام) - لیخرج من رحله فما یقع فیؤة علی شیء إلا دعا له"(2). وکذلک منه قول الإمام الصادق (علیه السلام): "من خرج من منزله یرید زیارة قبر الحسین بن علی (علیهما السلام) إن کان راکباً کتب الله له بکل حافر حسنة وحط بها عنه سیئة" (3) وقوله (علیه السلام): "ومن أتی قبر الحسین (علیه السلام) فی سفینة فکفئت بهم سفینتهم نادی مناد من السماء طبتم وطابت لکم الجنة"(4).

ویظهر أنّ وسیلة المشی علی القدمین ولمسافات طویلة وصولاً إلی قبر الإمام الحسین (علیه السلام) کانت من الوسائل التی أکد علیها أئمة آل البیت (علیهم السلام) لعظم ثوابها وهذا ما ورد علی لسان الإمام الباقر (علیه

ص:272

السلام) حینما ذکر عنده قبر الإمام الحسین علیه السلام قائلاً:" ما أتاه عبد فخطا خطوة الا کتب الله له حسنة وحط عنه سیئة"(1). وورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله: "من خرج من منزله یرید زیارة قبر الحسین بن علی (علیهما السلام) إن کان ماشیاً کتب الله له بکل خطوة حسنة ومحی عنه سیئة، حتی إذا صار فی الحائر کتبه الله من المفلحین المنجحین حتی إذا قضی مناسکه کتبه الله من الفائزین..."(2). وقوله أیضاً (علیه السلام):" ومن أتی قبر الحسین (علیه السلام) ماشیاً کتب الله له بکل خطوة وبکل قدم یرفعها ویضعها عتق رقبة من ولد إسماعیل"(3).

عمر بن علی بن عبد الله بن علی(1) ، فقال لی أبو جعفر (علیه السلام): أبشر یا حمران، فمن زار قبر شهداء آل محمد یرید بذلک وجه الله، خرج من ذنوبه کیوم ولدته أمه"(2).

وکذلک من خلال الدعاء لزوار قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وهو ما یؤکد ما أولاه الأئمة من رعایة واهتمام بحق زوار الإمام الحسین (علیه السلام) وفضل الزیارة وفضل زائرها، فعن معاویة بن وهب قال:" دخلت علی أبی عبد الله (علیه السلام) وهو فی مصلاه فجلست حتی قضی صلاته فسمعته وهو یناجی ربه فیقول: یا من خصنا بالکرامة ووعدنا الشفاعة وحملنا الرسالة وجعلنا ورثة الأنبیاء وختم بنا الأمم السالفة وخصنا بالوصیة... اغفر لی ولإخوانی وزوار قبر أبی عبد الله الحسین بن علی (علیهما السلام) الذین أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبة فی برنا ورجاءً لما عندک فی صلتنا وسروراً أدخلوه علی نبیک محمد صلی الله علیه وآله وسلم وإجابة منهم لأمرنا، وغیظاً أدخلوه علی عدونا أرادوا بذلک رضوانک فکافهم عنا بالرضوان واکلآهم باللیل والنهار واخلف علی أهلیهم وأولادهم الذین خلفوا بأحسن الخلف واصحبهم واکفهم شر کل جبار عنید وکل ضعیف من

ص:274

خلقک وشدید، وشر شیاطین الأنس والجن واعطهم أفضل ما أملوا منک فی غربتهم عن أوطانهم، وما أثروا علی أبنائهم وأبدانهم وأهالیهم وقراباتهم اللهم ان أعداءنا عابوا علیهم خروجهم فلم ینههم ذلک عن النهوض والشخوص إلینا خلافاً علیهم، فارحم تلک الوجوه التی غیرتها الشمس وارحم تلک الخدود التی تقلبت علی قبر أبی عبد الله الحسین (علیه السلام) وارحم تلک العیون التی جرت دموعها رحمة لنا وارحم تلک القلوب التی جزعت واحترقت لنا وارحم تلک الصرخة التی کانت لنا اللهم إنّی استودعک تلک الأنفس وتلک الأبدان حتی ترویهم من الحوض یوم العطش فما زال الإمام صلوات الله علیه یدعو بهذا الدعاء وهو ساجد..."(1).

لقد أبرز النص أنّ ظاهرة الزیارة قد أخذت بالتعاظم، وأنّ طقوساً شعائریة کانت تجری عند القبر، ولم تتمکن الإجراءات الأمویة التی کانت مفروضة من القضاء علیها أو الحد منها.

یتضح من خلال النصوص الواردة عن أئمة أهل البیت (علیهم السلام) أن عملیة الربط بین أتباعهم وزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) قد أخذت أبعاداً مختلفة. کما عمد أئمة أهل البیت (علیهم السلام) إلی إبراز الجانب العقائدی، وربط المعرفة العقدیة بزیارة الإمام الحسین (علیه السلام) من خلال نصوص الزیارات التی وضعها أئمة أهل البیت (علیهم السلام) مما

ص:275

یتیح الفرصة لأتباعهم من الإطلاع علی تلک البنیة المعرفیة التی تمثلت من خلال امتداد الإمامة والتی بینها أهل البیت علیهم السلام، وأکدوا علیها فی کثیر من نصوص الزیارة. ومن اللافت أن هنالک کماً هائلاً من نصوص الزیارات، قد جاءت علی لسان جمیع أئمة أهل البیت (علیهم السلام) فی مواسم مخصوصة وغیر مخصوصة، مختصرة مرة ومطولة تارة أخری منها:

1 - زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) فی یوم العاشر من المحرم(1).

2 - زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) فی یوم العشرین من صفر(2) زیارة الأربعین.

3 - زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) فی أول یوم من رجب والنصف منه(3).

4 - زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) فی لیلة النصف من شعبان(4).

5 - زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) فی لیالی القدر من شهر رمضان(5).

6 - زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) فی یوم عرفة(6).

ص:276

7 - زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) فی العیدین ((عید الأضحی، وعید الفطر))(1).

8 - زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) فی الأوقات الشریفة واللیالی والأیام المبارکة، کیوم المباهلة ویوم نزول سورة هل أتی أو یوم میلاده الشریف، ولیالی الجمع وغیر ذلک من شریف الأزمان(2).

وسئل الإمام الصادق (علیه السلام) عن زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) هل لها وقت أفضل من غیره؟ قال الإمام (علیه السلام): "زوروه فی کل زمان، فإن زیارته خیر مقدر من أکثر منها کثر نصیبه من الخیر، ومن قل منها قل نصیبه، واجتهدوا فی زیارته فی الأوقات الشریفة ففیها یضاعف أجر الصالحات وتنزل فیها الملائکة"(3).

وقد أشار الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) إلی فضل الأوقات التی یزار فیها قبر الإمام الحسین (علیه السلام) بقوله:" ثلاث لیال من زار الحسین (علیه السلام) فیهن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لیلة النصف من شعبان، ولیلة ثلاث وعشرین من رمضان، ولیلة العید"(4).

إن تعدد أزمنة الزیارة وفضلها کان لها الأثر فی ترسیخ شعیرة الزیارة لدی الأمة، وشد الناس فی التوالی علی قبر الإمام الحسین بن علی (علیهما

ص:277

السلام) وتکرار زیارته.

وروی عن الإمام محمد الجواد (علیه السلام) أنّه قال: "من زار الحسین (علیه السلام) لیلة ثلاث وعشرین من شهر رمضان - وهی اللیلة التی یرجی أن تکون لیلة القدر -(فِیها یُفْرَقُ کُلُّ أَمْرٍ حَکِیمٍ)1 صافحه أربعة وعشرون ألف ملک ونبی(1) أو روح أربعة وعشرین ألف ملک ونبی" (2) کلهم یستأذن الله فی زیارة الحسین (علیه السلام) فی تلک اللیلة(3).

کما وقد أشار التنوخی إلی مواسم الزیارة، وخصوصاً زیارة لیلة النصف من شعبان(4) وأشار إلی قدوم بعض الزائرین من همذان إلی العراق لزیارة قبر الحسین بن علی (علیهما السلام)(5).

لقد کان لزیارة أئمة أهل البیت (علیهم السلام) لقبر الإمام الحسین (علیه السلام) الأثر الفاعل فی تحفیز أتباعهم ومحبیهم فی التشبه بهم والاقتداء بهدیهم، کما أکد الأئمة (علیهم السلام) علی إحیاء تلک الشعیرة المقدسة وبینوا فضلها ووقتها، وما لها من الأجر والثواب الأخروی، وقد عد الأئمة (علیهم السلام) أن زیارة الإمام الحسین (علیهما السلام) فرض واجب علی المؤمنین وهو ما بینه الإمام الباقر (علیه السلام) بقوله: "مروا شیعتنا بزیارة

ص:278

قبر الحسین بن علی (علیهما السلام) فإنّ إتیانه مفترض علی کل مؤمن یقر للحسین (علیه السلام) بالإمامة من الله عز وجل"(1). هذا التوجیه الصادر من قبل الإمام الباقر (علیه السلام) لخلص أتباعه من فقهاء مدرسة أهل البیت الذین کانوا من أصقاع مختلفة من بلدان العالم الإسلامی بأن یحضوا الشیعة ویعرفونهم فضل زیارة الحسین (علیه السلام) والوفود علی القبر الشریف وقد أوجبها الإمام الباقر (علیه السلام) علی کل من یقر بإمامة الحسین علیه السلام المنصوصة من قبل الله تعالی.

النموذج لذلک الانتشار والتوسع لزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام).

ومن تلک الروایات، ما روی عن موسی بن القاسم الحضرمی(1) ، قال:" قدم أبو عبد الله الصادق (علیه السلام) فی أول ولایة أبی جعفر(2) فنزل النجف فقال: یا موسی اذهب إلی الطریق الأعظم فقف علی الطریق فانظر فإنّه سیأتیک رجل من ناحیة القادسیة(3) ، فإذا دنا منک فقل له: ههنا رجل من ولد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یدعوک، فسیجیء معک، قال: فذهبت حتی قمت علی الطریق والحر شدید، فلم أزل قائماً حتی کدت أعصی وأنصرف وأدعه إذا نظرت إلی شیء یُقبل شبه رجل علی بعیر، قال: فلم أزل أنظر إلیه حتی دنا منی فقلت: یا هذا ههنا رجل من ولد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یدعوک وقد وصفک لی، قال: اذهب بنا إلیه،

ص:280

قال: فجئت به حتی أناخ بعیره ناحیة قریباً من الخیمة قال: فدعا به فدخل الأعرابی إلیه، ودنوت أنا فصرت إلی باب الخیمة أسمع الکلام ولا أراهما. فقال أبو عبد الله (علیه السلام): من أین قدمت؟ قال: من أقصی الیمن، قال: أنت من موضع کذا وکذا؟ قال: نعم... قال: فیما جئت ههنا؟ قال: جئت زائراً للحسین (علیه السلام) فقال أبو عبد الله (علیه السلام): فجئت من غیر حاجة لیس إلا للزیارة؟ قال: جئت من غیر حاجة لیس إلا أن أصلی عنده وأزوره فأسلم علیه وأرجع إلی أهلی..."(1).

وروی عن أبی عامر(2) واعظ أهل الحجاز قال: أتیت أبا عبد الله الصادق (علیه السلام) فقلت له یا بن رسول الله ما لمن زار قبره - یعنی أمیر المؤمنین - وعمر تربته؟ قال: یا أبا عامر حدثنی أبی عن أبیه، عن جده الحسین بن علی، عن علی (علیهم السلام) أنّ النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) قال له: والله لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها، قلت: یا رسول الله ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟ فقال لی: یا أبا الحسن إنّ الله تعالی جعل قبرک وقبر ولدک بقاعاً من بقاع الجنة وعرصة من عرصاتها، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحن إلیکم... إلی أن یقول - ولکن حثالة من الناس یعیرون زوار قبورکم بزیارتکم کما تعیر الزانیة بزنائها،

ص:281

أولئک شرار أمتی لا أنالهم الله شفاعتی، ولا یردون حوضی"(1).

ومن تلک الروایات ما روی عن عبد الله(2) بن مسکان قال: "شهدت أبا عبد الله الصادق (علیه السلام) وقد أتاه قوم من أهل خراسان فسألوه عن إتیان قبر الحسین (علیه السلام) وما فیه من الفضل..."(3).

وروی عبد الله بن الفضل الهاشمی(4) ، قال:" کنت عند أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) فدخل علیه رجل من أهل طوس، فقال له: یا بن رسول الله ما لمن زار قبر أبی عبد الله الحسین بن علی (علیهما السلام) فقال له: یا طوسی من زار قبر أبی عبد الله الحسین بن علی (علیهما السلام) وهو یعلم أنّه إمام من الله مفترض الطاعة علی العباد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر..."(5).

وفی عهد الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) (148-183 ه /

ص:282

765-799 م) أقیمت الشعائر الحسینیة عند قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وانتشرت انتشاراً کبیراً وکانت عنصر جذب لجمیع المسلمین ولم یقتصر الأمر علی شیعة آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وقد أظهرت النصوص الروائیة تلک الحقیقة وأبرزتها وهو ما روی عن قائد الحناط الذی رصد تلک الحالة وشاهدها وقد نقلها للإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) قال: "دخلت - علی العبد الصالح موسی بن جعفر (علیهما السلام) - فقلت له: جعلت فداک إنّ الحسین (علیه السلام) قد زاره الناس من یعرف هذا الأمر ومن ینکره، ورکبت إلیه الناس، ووقع حال الشهرة، وقد انقبضت منه لما رأیت الشهرة. قال: فسکت ملیاً لا یجیبنی ثم أقبل علیَّ فقال: یا عراقی إن شهروا أنفسهم، فلا تشهر أنت نفسک فو الله ما أتی الحسین (علیه السلام) آتٍ عارفاً بحقه إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"(1).

دلت الروایة السابقة علی نمو ظاهرة الزیارة، وأنها لم تقتصر علی الشیعة بل إنّ هنالک إقبالاً من غیر الشیعة علی زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) بحیث لم یعد الزائر المتقی الذی یمارس أفعاله بالسر قادراً علی أن یمارس الزیارة من دون أن یعرف لکثرة زوار الإمام الحسین (علیه السلام) من جمیع المسلمین ومن الرجال والنساء.

ص:283

ومما شاهده قائد الحناط ونقله للإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) قوله:" إنهم یأتون قبر الحسین (علیه السلام) بالنوایح والطعام، قال: قد سمعت، قال: فقال: یا قائد من أتی قبر الحسین بن علی (علیهما السلام) عارفاً بحقه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"(1).

أبرزت هذه الروایة مدی اهتمام الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) بما یحدث عند قبر الإمام الحسین (علیه السلام) کما یؤکد الإمام علی مدی أهمیة معرفة الزائر بحق الإمام الحسین علیه السلام وما یترتب علی تلک المعرفة من أجر.

کما اتسعت دائرة الزیارة لتشمل أناساً من غیر المسلمین کانوا یزورون قبر الإمام الحسین (علیه السلام) بعدما عرفوا فضله وشهدوا بعض کراماته ما رواه محمد بن موسی الربعی(2) عن أبیه موسی بن عبد العزیز قال: "لقینی یوحنا بن سراقیون النصرانی(3) المتطبب فی شارع أبی أحمد، فاستوقفنی وقال لی: بحق نبیک ودینک من هذا الذی یزور قبره قوم منکم بناحیة قصر بن هبیرة(4) ؟ من هو من أصحاب نبیکم؟ قلت لیس هو من أصحابه، هو ابن

ص:284

بنته فما دعاک إلی المسألة عنه؟ فقال: له عندی حدیث طریف، فقلت حدثنی به، فقال: وجه الیّ سابور الکبیر الخادم الرشیدی فی اللیل فصرت إلیه، فقال لی: تعال معی فمضی وأنا معه حتی دخلنا علی موسی بن عیسی الهاشمی(1) فوجدناه زائل العقل متکئاً علی وسادة وإذا بین یدیه طست فیه حشو جوفه وکان الرشید استحضره من الکوفة فأقبل سابور الخادم کل من خاصة موسی فقال له: ویحک ما خبره؟ فقال له: أخبرک أنّه کان من ساعة جالساً، وحوله ندماؤه وهو من أصح الناس جسماً وأطیبهم نفساً إذا جری ذکر الحسین بن علی (علیهما السلام) قال یوحنا: هذا الذی سألتک عنه فقال موسی إنّ الرافضة لتغلو فیه حتی أنهم فیما عرفت یجعلون تربته دواءً یتداوون به، فقال له رجل من بنی هاشم کان حاضراً قد کانت بی علة غلیظة فتعالجت لها بکل علاج فما نفعنی حتی وصف لی کاتبی ان آخذ من هذه التربة فأخذتها فنفعنی الله بها وزال عنی ما کنت أجده. قال: فبقی عندک منها شیء؟ قال: نعم فوجه فجاء منها بقطعة فنأولها موسی بن عیسی فأخذها موسی فاستدخلها دبره استهزاءً بمن یداوی بها واحتقاراً وتصغیراً لهذا الرجل الذی هذه تربته -

ص:285

یعنی الحسین - فأخرج فیها ما تری فانصرف الندماء وصار المجلس مأتماً، فأقبل علیّ سابور فقال: انظر هل لک فیه حیلة؟ فدعوت بشمعة فنظرت... إلی أمر عظیم فقلت: ما لأحد فی هذا صنع إلا أن یکون لعیسی الذی کان یحیی الموتی، فقال لی سابور صدقت ولکن کن ها هنا فی الدار إلی أن یتبین ما یکون من أمره فبت عندهم وهو بتلک الحال ما رفع رأسه فمات وقت السحر"(1).

یتضح من هذا الخبر أنّ زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) کان أمراً متعارفاً وأنّ الناس کانوا مستمرین بزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) حتی أنهم کانوا یتخذون من تربة الإمام علاجاً، وأنّ شیوع ثقافة الزیارة، ومعرفة فضل تربته کانت معلومة لدی الناس. ثم ینقل الطوسی بقوله:" وکان یوحنا یزور قبر الحسین علیه السلام وهو علی دینه ثم أسلم بعد هذا وحسن إسلامه"(2).

ویظهر أنّ قبر الإمام الحسین (علیه السلام) قد برز کمکان له من یقوم بخدمته ورعایته منذ وقت مبکر ویؤشر ذلک إلی تزاید تیار الزائرین مما یستدعی العنایة بالضریح ورعایته کما یستوجب السکن إلی قربه وقد ذکر الطبری فی أحداث سنة (193 ه / 808 م) بأنّ الرشید(3) قد (بعث إلی ابن

ص:286

أبی داود، والذین یخدمون قبر الحسین بن علی علیهما السلام فی الحائر(1) فأتی بهم فنظر إلیه الحسن بن راشد(2) وقال: مالک، قال: بعث هذا الرجل - یعنی الرشید - فأحضرنی ولست آمنه علی نفسی قال له: فإذا دخلت علیه فسألک فقل له الحسن بن راشد وضعنی فی ذلک الموضع فلما دخل علیه قال هذا القول. قال: ما أخلق أن یکون هذا من تخلیط الحسن أحضروه قال: فلما حضر قال: ما حملک علی أن صیرت هذا الرجل فی الحیر قال: رحم الله من صیره فی الحیر أمرتنی أم موسی(3) أن أصیره فیه وأن أجری علیه فی کل شهر ثلاثین درهماً، فقال: ردوه إلی الحیر وأجروا علیه ما أجرته أم موسی))(4).

ولعل فی امتعاض الرشید هو مما رآه عند قبر الإمام الحسین (علیه السلام) من کثرة وفود الزائرین وإقامة مراسم العزاء والنیاحة عند قبره وهذا ما برر خوف متولی القبر من استدعاء الرشید له.

ص:287

(علیه السلام) لقبر الإمام الحسین صلوات الله علیه بقوله: "خرج یحیی بن زید من الکوفة هارباً، بعد مقتل أبیه شهراً أو أقل من ذلک ومعه جماعة من شیعته، حتی صاروا نینوی(1) ، فانکب علی قبر جده الحسین بن علی (علیهما السلام) وجعل یشکو ما نزل به وبأبیه زید بن علی..."(2). وقد سجلت لنا کتب التاریخ بعض هذه الزیارات الثوریة فی الفترة العباسیة إذ ینقل أبو الفرج الأصفهانی إحدی تلک اللقاءات التی جمعت

ص:289

أبو السرایا(1) بمحمد بن إبراهیم(2) (ابن طباطبا) خلال عودته إلی بلاد الحجاز وفیها عرض أبو السرایا أن یقدم للزعیم العلوی ما کان نصر بن شبیب قد وعده به ولم یف وتعهد له أبو السرایا بالوفاء وان یکون له نصیراً ومؤازراً وطلب منه أن یعدل عن الرجوع إلی الحجاز وأن یتجه إلی الکوفة حیث یوافیه بعد فترة وجیزة. ورحل أبو السرایا فی طریقه إلی الکوفة، فمر بنینوی، ثم اتجه إلی قبر الحسین علیه السلام علی رأس عدد کبیر من الفرسان(3) ، وقد نقل أبو الفرج الأصفهانی عن نصر بن مزاحم قال:" حدثنی رجل من أهل المدائن(4) ، قال: إنّی لعند قبر الحسین فی تلک اللیلة، وکانت لیلة ذات ریح ورعد ومطر، إذا بفرسان قد أقبلوا فترجلوا ودخلوا إلی القبر فسلموا، وأطال رجل منهم الزیارة ثم جعل یتمثل أبیات منصور بن الزبرقان(5) النمری بقوله:(6)

نفسی فداء الحسین یوم عدا الی المنایا عدوا ولا قافل

ذاک یوم انحنی بشفرته علی سنام الإسلام والکاهل

کأنما أنت تعجبین ألا ینزل بالقوم نقمة العاجل

لا یعجل الله إن عجلت وما ربک عما ترین بالغافل

مظلومة والنبی والدها یدیر أرجاء مقلة جافل

ص:290

إلا مساعید یغضبون لها بسلة البیض والقنا الذابل

قال: ثم أقبل علیَّ فقال: ممن الرجل؟ فقلت: رجل من الدهاقین من أهل المدائن. فقال: سبحان الله، یحن الولی إلی ولیه کما تحن الناقة إلی حوارها، یا شیخ إنّ هذا الموقف یکثر لک عند الله شکره ویعظم أجره. قال: ثم وثب - أبو السرایا - فقال: من کان ها هنا من الزیدیة فلیقم إلی، فوثبت إلیه جماعات من الناس، فدنوا منه فخطبهم خطبة طویلة ذکر فیها أهل البیت وفضلهم وما خصوا به، وذکر فعل الأمة بهم وظلمهم لهم، وذکر الحسین بن علی علیهما السلام فقال: أیها الناس هبکم لم تحضروا الحسین فتنصروه فما یقعدکم عمن أدرکتموه ولحقتموه؟ وهو غداً خارج طالب بثأره وحقه، وتراث آبائه وإقامة دین الله، وما یمنعکم من نصرته ومؤازرته؟ إنّنی خارج من وجهی هذا إلی الکوفة للقیام بأمر الله، والذب عن دینه، والنصر لأهل بیته، فمن کان له نیة فی ذلک فلیلحق بی. ثم مضی من فوره عائداً إلی الکوفة ومعه أصحابه".

وفی سنة (250 ه / 865 م) خرج یحیی بن عمر(1) علی المستعین(2) ،

ص:291

وقد أشار أبو الفرج الأصفهانی:" أن ّیحیی بن عمر لما أراد الخروج بدأ فزار قبر الحسین، وأظهر لمن حضره من الزوار ما أراده، فاجتمعت إلیه جماعة من الأعراب ومضی فقصد شاهی(1) فأقام بها إلی اللیل، ثم دخل الکوفة لیلاً وجعل أصحابه ینادون: أیها الناس أجیبوا داعی الله حتی اجتمع إلیه خلق کثیر"(2).

وفی سنة (251 ه / 865 م) احتضنت کربلاء علویاً ثائراً کان خرج بادئ الأمر فی الکوفة والعلوی هو الحسین بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسین بن علی بن الحسین بن علی ابن بی طالب(3) (علیهم السلام) وکان معه ثلاثمائة رجل من بنی أسد وثلاثمائة رجل من

ص:292

الجارودیة(1) والزیدیة(2) وعامتهم صوافیة، ثم ظهر بنینوی فی آخر جمادی الآخر من هذه السنة فاجتمع إلیه جماعة من الأعراب وفیهم قوم ممن کان خرج مع یحیی بن عمر العلوی فی سنة (250 ه / 855 م)(3).

ولما کانت کربلاء المقدسة، وزیارة الحائر الشریف موطناً للحرکات السیاسیة المعارضة فهی خیر مکان لالتقاء الشیعة من شتی أصقاع العالم، فقد ارتبطت الدعوة الفاطمیة، وکانت بدایتها فی کربلاء المقدسة عند قبر الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) والتی مهدت فیما بعد لإقامة الخلافة الفاطمیة بالقیروان(4) ویذکر القاضی النعمان ذلک اللقاء الذی انعقد فی کربلاء(5) کذلک

ص:293

انعقد اللقاء بین أبی الحسن علی بن الفضل(1) الذی خرج حاجاً من جیشان(2) فی جماعة من أهلها فی جملة من أهل الیمن سنة 266 ه / 871 م فلما قضی حجه خرج إلی قبر الحسین صلوات الله علیه زائراً له فی جماعة من أهل الیمن وغیرهم ممن شهد الموسم من الشیعة فلما انتهوا إلیه أصابوه معموراً بالشیعة، فجعل علی بن الفضل هذا یبکی عنده وینتحب ویعدد مناقب الحسین صلوات الله علیه ویذکر فضله، وکان رجل من الدعاة یراعیه کل یوم وهو علی ذلک فلما رأی نیته واجتهاده خلا به وبسطه..."(3).

وقد أشار ابن خلدون إلی کیفیة تواصل الشیعة مع محمد الحبیب(4) بقوله: "کان محمد الحبیب ینزل سلمیة من أرض حمص(5) ، وکان شیعتهم

ص:294

یتعاهدونه بالزیارة إذا زاروا قبر الحسین (علیه السلام)" (1) وسلمیة بلدة علی أطراف البادیة إلی الشرق من مدینة حماة(2) فی سوریة مقر للتنظیم الفاطمی السری. والذی بقی بعیداً عن أعین العباسیین وکانت سلمیة فی ذلک الوقت مرکزاً تجاریاً هاماً علی أطراف بادیة الشام سکنها التجار من مختلف الطبقات، واتخذها الأئمة الإسماعیلیون المستورون مقراً لهم، لأنهم کانوا یتزیون بزی التجار ومن هذا المرکز کان الإمام الإسماعیلی یدیر شؤون دعوته فی مختلف أنحاء الخلافة الإسلامیة(3). "وکان من عادتهم فی کل ناحیة یدعون للرضا من آل محمد ویرمون إظهار الدعوة بحسب ما علیهم وکان الشیعة من النواحی یعملون مکیهم فی أکبر الأوقات لزیارة قبر الحسین ثم یعرجون علی سلمیة لزیارة الأئمة من ولد إسماعیل بن الإمام الصادق (علیه السلام) وکان بالیمن من شیعتهم"(4). ومع أن سلمیة کانت مقر إقامة الأئمة المستورین الإسماعیلین ومرکز نشاطهم الإداری والفکری، إلاّ أن الکوفة کانت المکان الذی اتخذوه لکسب الأنصار الجدد لدعوتهم، وذلک لقرب الکوفة من ضریح

ص:295

الحسین بن علی علیهما السلام فی کربلاء. وکربلاء هی قبلة الحجاج الشیعة الثانیة یؤمونها بعد انتهاء موسم الحج إلی مکة ومن هذا المرکز کانت تنطلق قوافل الدعاة الذین کان یبعث بهم الأئمة المستورون إلی مختلف المناطق وفی هذا المکان کان لقاء ابن حوشب(1) وابن الفضل بالإمام المستور ومنه انطلقا إلی الیمن للقیام بالدعوة هناک(2).

والمستفاد من هذه النصوص التاریخیة السابقة، عدة أمور منها، استمرار شعیرة الزیارة وقدوم الشیعة من أماکن متفرقة بعد موسم الحج لزیارة قبر أبی عبد الله الحسین (علیه السلام) وأشار النص لکثرة الزائرین عند القبر الشریف وأنّه معمور بالزائرین کما وصف بالإضافة إلی الأهمیة السیاسیة کونه مکان تجمع کبیر لعموم الشیعة من مختلف الأماکن مما أوجد الأرضیة المناسبة لاتصال الدعاة ونشر الدعوة الفاطمیة السریة ونقلها إلی أماکن بعیدة.

بعد وصول المتوکل العباسی(1) إلی الحکم ((232 ه - 247 ه / 837 م - 861 م)) والذی عمد إلی إجراء الماء علی القبر وتهدیمه، إلا أنّه ورغم تلک الإجراءات فإنّ الزیارة لم تتوقف وأشار إلی ذلک ابن عساکر بقوله:" لما أجری الماء علی قبر الحسین نضب بعد أربعین یوماً وانمحی أثر القبر، فجاء إعرابی من بنی أسد فجعل یأخذ قبضة قبضة ویشمه حتی وقع علی قبر الحسین وبکی وقال: بأبی أنت وأمی ما کان أطیبک وأطیب تربتک میتاً ثم بکی وأنشأ یقول:

أرادوا لیخفوا قبره عن ولیه فطیب تراب القبر دل علی القبر(2)

واستمرت شعیرة الزیارة فی أکثر الأوقات شدة، فقد وصف أبو الفرج الأصفهانی حالة القبر وحال زائریه فی تلک الأیام من حکم المتوکل بقوله: "عن محمد بن الحسین الاشنانی(3) حیث قال: بعد عهدی بالزیارة فی تلک الأیام خوفاً، ثم عملت علی المخاطرة بنفسی فیها وساعدنی رجل من

ص:297

العطارین علی ذلک فخرجنا زائرین نکمن بالنهار ونسیر باللیل حتی أتینا نواحی الغاضریة وخرجنا منها نصف اللیل، فسرنا بین مسلحتین وقد ناموا، حتی أتینا القبر فخفی علینا، فجعلنا نشمه ونتحری جهته حتی أتیناه وقد قلع الصندوق الذی کان حوالیه وأحرق، وأجری الماء علیه فانخسف موضع اللبن، وصار کالخندق فزرناه وأکببنا علیه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط من الطیب فقلت للعطار الذی کان معی أی رائحة هذه؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها بشی من العطر فودعناه وجعلنا حول القبر علامات فی عدة مواضع، فلما قتل المتوکل اجتمعنا مع جماعة من الطالبین والشیعة حتی صرنا إلی القبر وأخرجنا تلک العلامات وأعدناه إلی ما کان علیه"(1).

وقد أورد الطوسی شهادة عبد الله بن دانیة الطوری(2) ، والتی توثق حال الزیارة واستمرارها علی الرغم من الظروف السیاسیة آنذاک قال: "حججت سنة سبع وأربعین ومائتین، فلما صدرت من الحج صرت إلی العراق، فزرت أمیر المؤمنین (علیه السلام) علی حال خیفة من السلطان، ثم توجهت إلی زیارة الحسین (علیه السلام) فإذا هو قد حرثت أرضه ومخر فیها الماء، وأرسلت الثیران العوامل فی الأرض، فبعینی وبصری کنت أری الثیران

ص:298

تأتی فی الأرض فتساق لهم فیها حتی إذا حاذت مکان القبر حادت عنه یمیناً وشمالاً، فتضرب بالعصا الضرب الشدید فلا ینفع ذلک فیها ولا تطأ القبر بوجه من الوجوه ولا سبب"(1).

وأکد ابن تیمیة ظاهرة زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) واستمرارها فی معرض جوابه عمن سأله عن مشهد رأس الحسین علیه السلام فی مصر بقوله:" إن الناس کانوا ینتابون کربلاء لأن البدن هناک فی زمن أحمد - الإمام أحمد بن حنبل - وغیره"(2).

وبعد وفاة المتوکل العباسی سنة (247 ه / 852 م) ومجیء ولده المنتصر بالله(3) العباسی لسدة الخلافة شهدت الشعائر الحسینیة تطوراً ملحوظاً نتیجة فسحة الحریة الممنوحة للطالبین وشیعتهم فقد أزال کل معالم الخوف بجملة من الإجراءات، منها أمر بالکف عن آل أبی طالب، وترک البحث عن أخبارهم، وأن لا یمنع أحد زیارة الحیر لقبر الحسین (علیه السلام)، ولا قبر غیره من آل أبی طالب، وأمر برد فدک إلی ولد الحسن والحسین وأطلق أوقاف آل أبی

ص:299

طالب، وترک التعرض لشیعتهم ودفع الأذی عنهم(1).

وبقیت شعیرة الزیارة مستمرة یتعاهدها شیعة آل البیت (علیهم السلام) بدون انقطاع حتی فی أشد الأوقات حراجة، وقد ذکر ابن طاووس بسنده عن أبی الحسین علی بن الحسین بن الحجاج قال: "کنا جلوساً فی مجلس ابن عمی أبی عبد الله محمد بن عمران بن الحجاج(2) وفیه جماعة من أهل الکوفة من المشایخ وفیمن حضر العباس بن أحمد العباسی، وکانوا حضروا عند ابن عمی یهنئونه بالسلامة لأنه حضر وقت سقوط سقیفة سیدی أبی عبد الله الحسین بن علی (علیهما السلام) فی ذی الحجة من سنة ثلاث وسبعین ومائتین..."(3).

وقد أورد الطوسی روایات تحکی عن الزیارة فی زمن غیبة الإمام المهدی (علیه السلام) وفیها لقاء بعض الزوار بحضرة الإمام المهدی، والأخری فیها توجیه من الإمام للشیعة لزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام)(4). وذکر الطوسی بسنده عن أبی عبد الله بن سورة القمی(5) یقول:

ص:300

" سمعت سروراً وکان رجلاً عابداً مجتهداً لقیته بالأهواز غیر أنّی نسیت نسبه یقول: کنت أخرس لا أتکلم فحملنی أبی وعمی فی صبای وسنی إذ ذاک ثلاث عشرة أو أربع عشرة إلی الشیخ أبی القاسم بن روح(1) (رضی الله عنه) فسألاه أن یسأل الحضرة - الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف - ان یفتح الله لسانی فذکر الشیخ أبو القاسم الحسین بن روح أنکم أمرتم بالخروج إلی الحائر، قال سرور: فخرجنا أنا وأبی وعمی إلی الحائر فاغتسلنا وزرنا، قال: فصاح بی أبی وعمی یا سرور فقلت بلسان فصیح لبیک فقال لی: ویحک تکلمت فقلت نعم"(2).

السیاسی والأمنی وقد سجلت لنا کتب التاریخ أجواء تلک الزیارة بعد الإعلان الرسمی للدولة. ((ففی سنة 352 ه / 963 م فی النصف من شعبان وهی إحدی المواسم الکبری لزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) خرجت العامة لزیارة قبر الحسین (علیه السلام) وعقدت القباب بباب الطاق))(1). والذی یفهم من إقامة القباب فی موسم الزیارة هو لتقدیم الخدمة والضیافة، ویتصور منه قدوم زائرین من نواحی العراق لزیارة قبر الإمام مما یستدعی بناء تلک القباب فی أیام الزیارة.

وقد اتسعت دائرة الزیارة حتی شکلت ظاهرة بارزة مما استدعی الشعراء لذکرها فی أشعارهم التی أنشدوها فی مدح أهل البیت (علیهم السلام) ورثائهم والتی برزت فی النصف الأول من القرن الرابع الهجری ولعل شیوع الزیارة مرده إلی الحریة المتاحة والتی تحققت فی العصر العباسی الثانی وبعد سیطرة البویهیین علی السلطة فی العراق وبلاد فارس وکذلک سیطرة الحمدانیین علی السلطة فی شمال العراق وسوریا مما أدی إلی تدفق وفود الزائرین إلی کربلاء.

والذی یهمنا هنا حرکة الزیارة القادمة من بلاد الشام والتی وثقت من خلال قصائد الشامیین وهو خیر دلیل علی وجود تلک الظاهرة وشیوعها فی بلاد الشام.

ومن أوائل شعراء الرثاء الذین عکسوا فی شعرهم شأن الزیارة هو

ص:302

الشاعر أبو بکر أحمد بن محمد بن الحسن بن مراد الضبی الحلبی الأنطاکی المعروف بالصنوبری(1).

وقد أمضی الشاعر حیاته ما بین حلب(2) ودمشق. ومما قاله الصنوبری فی إحدی قصائده الرثائیة فی الحسین (علیه السلام) والذی ضمنها ذکر الزیارة وقصد کربلاء بقوله:(3)

عرجا بدار الطف بالدار التی ورث الهدی أهلوه عن أهلیها

نبکی قبوراً إن بکینا غیرها بعض البکاء فإنما نعنیها

وقال فی قصیدة أخری:(4)

أنیخا بنا العیس فی کربلاء مناخ البلاد مناخ الکرب

ص:303

نشم ممسک ذاک الثری ونلثم کافور تلک الترب

ونقضی زیارة قبر بها فإنّ زیارته تستحب

سآسی لمن فیه کل الأسی وأسکب دمعی له ما انسکب

وفی نفس العام خرج الناس لزیارة عرفة فی ذی الحجة وهی من الزیارات المهمة لقبر الإمام الحسین (علیه السلام) والتی أکد علیها الأئمة (علیهم السلام) وما یلاحظ هنا هو الأجواء الإیجابیة التی ظهرت فی بغداد وخروج الجمیع لقصد زیارة الحسین (علیه السلام) فقد ذکر ابن الجوزی بقوله: "واستهل ذو الحجة فعمل الناس علی الخروج لزیارة المشهدین بالحائر والکوفة، فبدأ أهل القلائین(1) بعمل طرد أسود علیه اسم الخلیفة ونصبوه علی بابهم، وأخرج أهل نهر الدجاج(2) والکرخ(3) مناجیق ملونات مذهبات واختلط الفریقان من السنة والشیعة... وخرج إلی الزیارة من الأتراک وأهل السنة من لم تجر له عادة بها"(4).

وفی سنة (502 ه / 1108 م) وصف ابن الأثیر خروج الناس للزیارة بقوله:" فی هذه السنة (502 ه / 1108 م) من شعبان اصطلح عامة بغداد

ص:305

السنة والشیعة وخرج الشیعة لیلة النصف منه إلی مشهد موسی بن جعفر وغیره فلم یعترضهم أحد من السنة فعجب الناس لذلک"(1). واستمرت شعیرة الزیارة علی الرغم مما شهدته تلک السنون من وقوع الفتن المذهبیة والتی تؤثر بطبیعة الحال علی حرکة الزوار وتنقلهم وبالخصوص القاطنین ببغداد مرکز عاصمة الخلافة العباسیة، وفی سنة 529 ه / 1135 م نشهد تطوراً وازدیاداً ملحوظاً مما دعا ابن الجوزی إلی أن یصفها بقوله: "فی هذه الأیام مضی إلی زیارة علی ومشهد الحسین (علیهما السلام) خلق لا یحصون وظهر التشیع"(2). کما یلاحظ أن وتیرة الزیارة بقیت مستمرة وبدون انقطاع وشملت بلاداً بعیدة وهو ما نقله قطب الدین الراوندی وهو أحد أعلام القرن السادس الهجری، عن شیخه أبی جعفر النیسابوری(3) الذی خرج لزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) ویصف بقوله:" خرجت ذات سنة إلی زیارة مولانا أبی عبد الله الحسین (علیه السلام) فی جماعة فلما کنا علی فرسخین من المشهد أو ثلاثة أصاب رجلاً من الجماعة الفالج وصار وکأنه قطعة لحم، وجعل یناشدنا بالله سبحانه أن لا نخلیه وأن نحمله إلی المشهد قال: فشددناه علی الرایة وأخذنا نراعیه ونحافظه فلما دخلنا المشهد علی ساکنیه الصلاة

ص:306

والسلام وضعناه علی ثوب وأخذ رجلان من طرفی الثوب ورفعناه علی القبر، وکان یدعو ویتضرع ویبکی ویقسم علی الله بحق الحسین ان یهیئ له العافیة، قال: فلما وضع الثوب علی الأرض جلس ومشی وکأنما نشط من عقال"(1).

(247 ه - 248 ه / 861 م - 862 م) والخلیفة المقتفی(1) العباسی (530-555 ه / 1135-1160 م) الذی زاره عام (553 ه / 1158 م، وفی سنة 650 ه / 1253 م))(2) کما توجه المستعصم بالله (640 ه - 656 ه / 1233 م - 1258 م)(3) إلی زیارة مشهد الإمام الحسین (علیه السلام) وتصدق هنالک بمال کثیر ثم توجه إلی زیارة مشهد الإمام علی (علیه السلام) وفی شوال توجه الخلیفة المستعصم بالله وأولاده وحظایاه إلی زیارة المشاهد المقدسة(4).

وممن زار قبر الإمام الحسین (علیه السلام) واعتنی بعمارته الداعی العلوی محمد بن زید(5) بن إسماعیل بن الحسن بن زید بن الحسن بن علی بن أبی طالب، وهو المعروف بالداعی، صاحب طبرستان (ت 287 ه / 900 م)، وفی سنة (273 ه / 886 م) تداعی البناء علی قبر الإمام الحسین (علیه السلام)(6) فقام الداعی العلوی بتجدید وعمارة المشهدین، مشهد الإمام علی

ص:308

(علیه السلام)(1) وعمارة مشهد الإمام الحسین (علیه السلام)(2).

وممن زار قبر الإمام الحسین (علیه السلام) الوزیر أبو الحسین بن مقلة(3) خرج سنة 346 ه / 957 م إلی کربلاء لزیارة قبر الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) وکان مصاباً بالفالج(4) فمات فی طریقه(5). وفی سنة (366 ه / 976 م) خرج عز الدولة(6) ومعه ابن بقیة(7) فزار مشهد الإمام الحسین

ص:309

(علیه السلام)(1). وفی سنة (369 ه / 979 م) بنی عمران بن شاهین(2) رواق حرم أمیر المؤمنین بالمشهد العلوی، وآخر فی الحائر الحسینی، وهو الرواق المعروف برواق عمران فی المشهدین الشریفین(3).

وأولت السلطة زمن البویهیین فی بغداد عنایة خاصة بأمن الحائر الشریف ومعاقبة کل اللصوص ومن یعبث بأمنه وکان من تلک الإجراءات إرسال سریة إلی عین التمر(4) لمعاقبة ضبة بن محمد الأسدی(5) فی سنة 369

ص:310

ه / 979 م وهو أحد اللصوص وقطاع الطرق الذی نهب مشهد الإمام الحسین (علیه السلام)(1).

کما أولی السلاطین البویهیون عنایة خاصة بتشیید قبور الأئمة ومنهم السلطان البویهی عضد الدولة(2) الذی کان یکثر الزیارة للمشهدین المقدسین ویتفقد أحوال الناس ویأمر بتلبیة مطالبهم وقد ذکر ابن طاووس ذلک بقوله:" کانت زیارة عضد الدولة للمشهدین الشریفین الطاهرین الغروی والحائری فی شهر جمادی الأولی فی سنة 371 ه / 981 م وورد مشهد الحائر مشهد مولانا الحسین (علیه السلام) لبضع بقین من جمادی، فزاره وتصدق، وأعطی الناس علی اختلاف طبقاتهم، وجعل فی الصندوق دراهم ففرقت علی العلویین فأصاب کل واحد منهم اثنان وثلاثون درهماً، وکان عددهم ألفین ومائتی اسم ووهب للعوام والمجاورین عشرة آلاف درهم، وفرق علی أهل المشهد من الدقیق والتمر مائة ألف رطل ومن الثیاب خمسمائة قطعة، وأعطی الناظر علیهم ألف درهم"(3).

والظاهر من روایة ابن طاووس التی ذکر فیها زیارة عضد الدولة فی الربع الأخیر من القرن الرابع الهجری للکوفة وکربلاء، ان المدینتین المقدستین

ص:311

قد ازداد عدد ساکنیها سواء من العلویین أو من الشیعة کما تشیر الروایة إلی الشؤون الإداریة وتنظیم إدارة الحرمین الشریفین وذلک من خلال وجود مرتبین وخازن ونواب.

وقد أشار مؤرخ آخر إلی زیارة عضد الدولة فناخسرو لمرقد الإمام الحسین (علیه السلام) ان یشید علیه مشهد فبنی وفیه نحو من ألف دار یعرف بمشهد الحسین(1).

وفی سنة (392 ه / 1001 م) زار أبو علی الحسن بن ثمال(2) مع فوارس من أصحابه، مشهد الإمام الحسین (علیه السلام) وبات عنده وعاد إلی الحلة(3). وقد کان یطارد بنی عقیل فی عرض البریة(4). وفی سنة (402 ه / 1011 م) زار فخر الملک(5) المشاهد المقدسة وکان یفرق فیها المساعدات

ص:312

علی الفقراء من الناس هناک، وهذا ما أشار إلیه ابن الجوزی بقوله: "فی رجب وشعبان ورمضان واصل فخر الملک الصدقات والحمول إلی المشاهد بمقابر قریش(1) والحائر والکوفة، وفرق الثیاب والتمور والنفقات فی العید علی الضعفاء"(2).

والظاهر من النص السابق أنها کانت جولة قام بها فخر الملک إلی مشاهد قبور الأئمة (علیهم السلام). وفی سنة (407 ه / 1016 م) زار الوزیر الحسن بن أبی الفضل بن سهلان أبو محمد(3) ، وزیر سلطان الدولة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وهو من قام ببناء سور الحائر بمشهد الحسین بکربلاء(4). وفی سنة (431 ه / 1039 م) زار الملک أبو طاهر(5) قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وهذا ما أشار إلیه ابن کثیر بقوله:" فیها زار الملک الطاهر مشهد الحسین علیه السلام ومشی حافیاً فی بعض تلک الازوار"(6).

ص:313

وفی سنة (436 ه / 1044 م) استقبل دبیس بن مزید(1) الملک أبا کالیجار(2) فی النعمانیة(3) عندما قدم إلی العراق، ومضی إلی زیارة المشهدین بالکوفة وکربلاء(4). وفی شهر صفر من سنة (451 ه / 1058 م) خرج البساسیری(5) إلی زیارة المشهد بالکوفة علی ان ینحدر من هناک إلی واسط (6) ، واستصحب معه غلة فی زوارق لیرتب العمال فی حفر النهر

ص:314

المعروف بالعلقمی(1) ویجریه إلی مشهد الحائر وفاءً بنذر کان علیه(2).

یوضح هذا الخبر مدی الاهتمام الذی کان یولیه الأمراء بقبر الإمام الحسین (علیه السلام) ورعایة زواره من خلال شق القناة النهریة إلی مشهد الإمام الحسین (علیه السلام).

وممن زار قبر الإمام الحسین (علیه السلام) من سلاطین السلاجقة، ملک شاه السلجوقی(3) ، الذی زاره عام (479 ه / 1086 م) وأمر بعمارة سوره(4). وقد تکررت زیارته لقبر الإمام الحسین علیه السلام فی نفس السنة عندما خرج للصید فی البریة(5). وممن زار قبر الإمام الحسین (علیه السلام) ملک الکرک(6) الناصر داود ابن المعظم عیسی بن العادل

ص:315

حمد الأیوبی(1)(2) سنة (653 ه / 1255 م) والذی ما أن اقترب من کربلاء حتی أنشد یقول:

فلما تبدت کربلاء وتبینت قباب بها السبط الشهید المکرم(3)

ص:316

الیمامة(1) بقوله: "أرسل أبو بکر مقتل أهل الیمامة" ،وقال ابن الأثیر، المقتل هنا ظرف زمان أی عند قتلهم فی الواقعة التی کانت بالیمامة(2).

أما فی الاصطلاح: فإنها تطلق علی الکتاب الذی یروی أحداث مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) وعن واقعة کربلاء(3).

وکتب المقاتل هی کتب وضعها علماء أو متأدبون من الشیعة الإمامیة(4) ، وهی عادة مقصورة علی روایة تاریخ الثورة الحسینیة وملابساتها منذ بدایتها حتی النهایة(5).

ویری شمس الدین فی کتب المقاتل "أنها الأجدر بأن تکون مرجعاً فی شأن الثورة الحسینیة من کتب التاریخ العام لأنها تعنی بشکل خاص بوقائع ثورة الإمام الحسین (علیه السلام) وبالتاریخ الشخصی للثوار، أما کتب

ص:318

التاریخ العام کما یصورها شمس الدین بأنها تعطی غالباً أهمیة متساویة لکل ما تروی به، کما أنّ أهمیة المقاتل تنبع من أنّ رجالها کانوا ینظرون إلی الثورة الحسینیة بعاطفة الحب والتقدیس، ولذا فهی جزء نابض بالحیاة من تاریخهم وقد اعتمدوا فی حکایتهم لأحداث المقتل علی مصادر ذات صلة حمیمة بالثورة، أئمة أهل البیت علیهم السلام، الرجال والنساء الذین رافقوا الثورة منذ بدایتها حتی نهایتها فی کربلاء مع ذلک فإنهم لم ینقلوا کل ما حدث فلقد ضاع الکثیر وطمس الکثیر"(1).

ولقد مثلت الأخبار الواردة عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فی شأن مقتل الإمام الحسین (علیه السلام)، النواة الأولی فی تکوین کتب المقاتل، التی عنی المسلمون بتدوینها وحفظها إذ کان بعض المسلمین یدونون حدیث رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ویکتبونه ومنها أحادیث مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) ولعل أول من أولی العنایة بحفظ حدیث رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وکتابته هو أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) وقد نقل عن ابن عباس قوله:" دخلت علی علی (علیه السلام) بذی قار(2) ، فأخرج الی صحیفة وقال: یا بن عباس هذه صحیفة أملاها علیّ

ص:319

رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وخطی بیدی، فقلت یا أمیر المؤمنین أقرأها علیّ فقرأها، فإذا بها کل شیء کان منذ قبض رسول الله (صلی الله علیه واله) إلی مقتل الحسین (علیه السلام) وکیف یقتل، ومن یقتله، ومن ینصره ومن یستشهد معه، فبکی بکاءً شدیداً وأبکانی فکان فیما قرأه علیّ... کیف یقتل الحسین ومن یقتله، أکثر البکاء ثم أدرج الصحیفة"(1).

ولعل هذا ما أشار إلیه ابن عباس حین عنف علی ترکه الإمام الحسین (علیه السلام) بأنّ أصحاب الحسین (علیه السلام) لم ینقصوا رجلاً ولم یزیدوا، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم وکذلک ما أشار إلیه محمد ابن الحنفیة(2): أنّ أسماء أصحابه لمکتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم(3).

ویعد سبایا أهل البیت الرواة الأوائل لواقعة الطف فقد شکلت مشاهدتهم الحدث ومعایشتهم له النواة للمادة التاریخیة المکتوبة.

کما أنّ الأئمة من أهل البیت (علیهم السلام) ذکروا أخبار مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) وقد استفاد الرواة من سماعها عن الإمام علی بن

ص:320

الحسین (علیهما السلام) کونه أحد من عایش أحداث المقتل، فقد روی عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبیه أنّه دخل علی أبیه - علی بن الحسین - رجلان من قریش فذکر مقتل الحسین بن علی (علیهما السلام) بطوله(1). وکذلک روی الإمام الباقر (علیه السلام) الکثیر من فصول الواقعة مما علق فی ذهنه وما کان سمعه من أبیه الإمام السجاد (علیه السلام)(2) ، فقد روی المؤرخون عن الإمام الباقر (علیه السلام) بعض من أحداث الواقعة کالطبری، روی بسنده عن الإمام الباقر (علیه السلام) عن عمار بن معاویة الدهنی قلت: لأبی جعفر محمد بن علی (علیه السلام) حدثنی عن مقتل الحسین (علیه السلام) حتی کأنی حضرته..."(3).

کما رویت أحداث مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) عن طریق الإمام الصادق (علیه السلام) فعن عبد الله بن منصور وقد کان رضیعاً لبعض ولد زید بن علی (علیه السلام) قال: سألت جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) عن مقتل الحسین بن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فقال: حدثنی أبی عن أبیه وساق الحدیث(4).

لقد أوجدت تلک الروایات المنقولة عن الأئمة من أهل البیت (علیهم

ص:321

السلام) ومن الرجال والنساء الذین کانوا فی رکب السبایا النواة فی جمیع تلک الروایات وحفظها وتسجیلها لتکون بذلک کتب المقاتل.

ولابد من الإشارة إلی أنّ هنالک مرحلة سبقت المرحلة التدوینیة للمقتل ألا وهی مرحلة الروایة الشفویة له مثلها القصاص الذین اختصوا بذکر المقتل وروایته وهذا ما أشار إلیه الإمام الصادق (علیه السلام) بقوله: "بلغنی أنّ قوماً یأتونه - قبر الحسین - من نواحی الکوفة، وناساً من غیرهم، ونساءً یندبنه وذلک فی النصف من شعبان، فمن بین قارئ یقرأ وقاص یقص، ونأدب یندب وقائل یقول المراثی"(1).

وبذلک غدا المقتل والکتب التی ألفت فیه انعکاساً واضحاً لمسار الأحداث التاریخیة التی رافقت حدث واقعة الطف وفی ذات الوقت تمثل المخزون التاریخی والتراثی الذی بواسطته یستذکر محبوا آل البیت (علیهم السلام) مصرع الإمام الحسین (علیه السلام) لیشکل حلقة مهمة من التاریخ الدوری لواقعة الطف وإحیائها علی مر الدهر والعصور، ومن أهم من ألف فی هذا المجال وهم علی حسب سنی الوفاة کالتالی:

1 - أبو القاسم: الأصبغ بن نباته المجاشعی التمیمی الحنظلی، ذکره النجاشی، وقال:" الأصبغ بن نباته المجاشعی کان من خاصة أمیر المؤمنین (علیه السلام) عمر بعده طویلاً وتوفی بعد المائة. روی عنه عهد الأشتر

ص:322

ووصیته إلی محمد ابنه، وهو من شرطة الخمیس(1) ذکره الطوسی وذکر إسناده عن أبی الجارود الزیدی عنه، أقول: والظاهر أول من کتب مقتل الحسین وکتابه أسبق المقاتل(2).

2 - أبو عبد الله جابر بن یزید بن الحارث الجعفی المتوفی بالکوفة سنة (128 ه / 745 م) لقی أبا جعفر الباقر (علیه السلام) وأبا عبد الله الصادق (علیه السلام) ومات فی أیامه روی عنه جماعة، له کتب منها کتاب مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) وقال العلامة الحلی إنّ الکشی روی فیه مدحاً وبعض الذم، وقال ابن الغضائری: إنّ جابر بن یزید الجعفی الکوفی ثقة فی نفسه ولکن جل من روی عنه ضعیف، وقال ابن داود: جابر بن یزید الجعفی مدحه الکشی روی عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال: "رحم الله جابر کان یصدق علینا" وذمه النجاشی(3).

3 - أبو مخنف: لوط بن یحیی بن سعید بن مخنف بن سلیم الأزدی،

ص:323

المتوفی سنة (157 ه / 774 م) من أصحاب أمیر المؤمنین (علیه السلام) ومن أصحاب الحسن والحسین (علیهما السلام) علی ما زعم الکشی والصحیح أنّ أباه کان من أصحاب علی (علیه السلام) وهو لم یلقه، له کتب فی السیر منها کتاب مقتل الحسین (علیه السلام) وکان راویاً أخباریاً له تصانیف کثیرة(1).

4 - أبو المنذر: هشام بن محمد بن السائب بن بشر الکلبی، توفی سنة (204 ه أو 206 ه / 819 م - 811 م) النسابة، العالم بالأیام، المشهور بالفضل والعلم له کتب کثیرة منها کتاب مقتل الحسین (علیه السلام)(2).

5 - أبو عبد الله: محمد بن عمر بن واقد السهمی الأسلمی بالولاء، المدنی المعروف بالواقدی، المولود (130 ه / 747 م) انتقل إلی بغداد سنة (180 ه / 896 م) وتوفی فیها سنة (207 ه / 812 م) له کتب عدیدة منها کتاب مقتل الحسین (علیه السلام). وکان یتشیع، حسن المذهب، یلزم التقیة، کان من أهل المدینة، انتقل إلی بغداد وولی القضاء بها للرشید بعسکر المهدی(3).

6 - أبو عبیدة: معمر بن المثنی التیمی بالولاء، البصری، ولد سنة (110 ه / 728 م) بالبصرة واستقدمه هارون الرشید إلی بغداد سنة 188 ه

ص:324

/ 804 م توفی بالبصرة سنة (209 ه / 824 م) له کتاب مقتل الإمام الحسین (علیه السلام)(1).

7 - أبو الفضل: نصر بن مزاحم بن سیار المنقری العطار کوفی، سکن بغداد، توفی سنة (212 ه / 827 م) مستقیم الطریقة، صالح الأمر، کتبه حسان من طبقة أبی مخنف له من الکتب، کتاب مقتل الحسین بن علی (علیهما السلام) ذکره أبو جعفر الطوسی فی مصنفی الإمامیة وذکر أنّه روی عن لوط بن یحیی(2).

8 - أبو الحسن المدائنی، علی بن محمد بن عبد الله من أهل البصرة ولد سنة (135 ه / 752 م) سکن المدائن، ثم انتقل إلی بغداد وتوفی بها سنة (225 ه / 820 م) له کتب کثیرة حسنة فی السیر وله کتاب مقتل الحسین بن علی (علیهما السلام)(3).

9 - إبراهیم بن اسحق النهاوندی الأحمری، سمع منه القاسم بن محمد الهمدانی سنة (269 ه / 882 م) قال عنه النجاشی: کان ضعیفاً فی حدیثه متهوماً، له کتب منها کتاب مقتل الحسین (علیه السلام) وقال الطوسی، کان

ص:325

ضعیفاً فی حدیثه متهماً فی دینه وصنف کتباً جماعة قریبة من السداد منها کتاب مقتل الحسین بن علی (علیهما السلام)(1).

10 - أبو الفضل أو أبو محمد - سلمة بن الخطاب البراوستانی(2) ، توفی سنة (270 ه / 883 م) صاحب کتاب مولد الحسین ومقتله (علیه السلام) وغیر ذلک یروی عنه جمع من مشایخ قم منهم محمد بن الحسن الصفار والحمیری وغیرهما(3).

11 - أبو جعفر محمد بن أحمد بن یحیی بن عمران الأشعری القمی، کان ثقة فی الحدیث یعرفه القمیون بدبة شبیب، قال وشبیب فامی - بیاع القوم کان بقم له دبة ذات بیوت یعطی منها ما یطلب منه من دهن فشبهوا کتابه نوادر الحکمة بذلک، له کتاب مقتل الحسین (علیه السلام) ثقة عین کثیر الحدیث، روی عنه الکلینی وابنه أحمد واضرابهم من مشایخ الطائفة(4).

12 - أبو بکر عبد الله بن محمد بن عبید بن سفیان بن قیس، القرشی الأموی مولاهم المعروف ب (ابن أبی الدنیا) البغدادی ولد سنة (208 ه / 823 م) وتوفی سنة (281 ه / 894 م) ذکره الشیخ الطوسی، أنّ له کتباً

ص:326

منها مقتل الحسین (علیه السلام)(1).

13 - أبو اسحق، إبراهیم بن محمد بن سعید بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفی الکوفی، نشأ بالکوفة، وانتقل إلی أصفهان، وتوفی بها سنة (283 ه / 896 م) کان زیدیاً ثم انتقل إلی القول بالإمامة، له مصنفات کبیرة منها مقتل الحسین (علیه السلام)(2).

14 - أبو عبد الله محمد بن زکریا بن دینار البصری الغلابی، مولی بنی غلاب، إمام أهل السیر والتاریخ بالبصرة، توفی سنة (298 ه / 910 م) وهو أحد الرواة للسیر والأحداث والمغازی وغیر ذلک، کان ثقة صادقاً، وله من الکتب کتاب مقتل الحسین بن علی وقد ذکره النجاشی بأنّه کان وجهاً من وجوه البصرة(3).

15 - أبو أحمد عبد العزیز بن یحیی بن أحمد بن عیسی الجلودی الأزدی البصری، شیخ البصرة وأخباریها توفی سنة (332 ه / 943 م)، کان عیسی الجلودی من أصحاب أبی جعفر الباقر (علیه السلام) وهو منسوب إلی جلود قریة فی البحر وقال قوم إلی جلود بطن من الأزد ولا یعرف النسابون ذلک،

ص:327

له کتب ذکرها الناس ومنها کتاب مقتل الحسین بن علی (علیهما السلام)(1).

16 - أبو سعید، الحسن بن عثمان بن زیاد بن الخلیل التستری، روی عنه ابن عدی المتوفی سنة (365 ه / 975 م) مباشرة، وروی عنه الصدوق المتوفی فی سنة (381 ه / 992 م) بواسطة واحدة، کما روی عنه محمد بن عمر الجعابی من مشایخ المفید، له کتاب فی مقتل الحسین (علیه السلام)(2).

17 - الشیخ الصدوق، أبو جعفر محمد بن علی بن الحسین بن موسی ابن بابویه القمی المتوفی سنة (381 ه / 992 م) له مصنفات عدیدة، منها کتاب مقتل الإمام الحسین (علیه السلام)(3).

18 - محمد بن علی بن الفضل بن تمام بن سکین، من ولد شهریار الأصغر، وهو فی طبقة الصدوق، ومن مشایخ ابن الغضائری المتوفی سنة 411 ه / 1020 م وکان لقب بسکین بسبب إعظامهم له، کان ثقة عیناً صحیح الاعتقاد جید التصنیف له کتب، منها کتاب مقتل الحسین (علیه السلام)(4).

19 - الحافظ أبو القاسم سلیمان بن أحمد بن أیوب بن مطیر اللخمی

ص:328

الشامی الطبرانی، نزیل أصفهان، الحافظ المشهور صاحب المعجم الکبیر والوسیط والصغیر ولد سنة (260 ه / 865 م) وتوفی عام (360 ه / 971 م) وقد أفرد الحافظ ابن منده الأصفهانی، وهو أبو زکریا، یحیی بن عبد الوهاب المتوفی سنة (511 ه / 1117 م) جزءاً حافلاً فی ترجمته وبعض مناقبه ومولده ووفاته وعدد تصانیفه، طبع فی نهایة المعجم الکبیر للطبرانی ذکر فیه أنّ له کتاب مقتل الحسین بن علی (علیهما السلام)(1).

20 - أبو عبید القاسم بن سلام الهروی الأزدی الخزاعی، بالولاء، الخرسانی البغدادی من کبار العلماء بالحدیث والأدب والفقه، من أهل هراة(2) ولد وتعلم بها، وکان مؤدباً، ولی القضاء بطرسوس(3) ثمانی عشرة سنة ورحل إلی مصر سنة (213 ه / 828 م) والی بغداد، فسمع الناس من کتبه، وحج فتوفی بمکة. کانت ولادته (157 ه / 731 م) ووفاته (224 ه / 838 م) صاحب غریب الحدیث، له کتب عدة ومنها کتاب مقتل الحسین (علیه السلام)(4).

ص:329

21 - عمارة بن زید الخیوانی (القرن الرابع الهجری) أبو زید الهمدانی المصری، شکک النجاشی فی وجوده بقوله: "لا یعرف من أمره غیر هذا ذکر الحسین بن عبید الله أنّه سمع بعض أصحابنا یقول: سئل عبد الله بن محمد البلوی! من عمارة بن زید هذا الذی حدثک؟ قال: رجل نزل من السماء حدثنی ثم عرج، وینسب إلیه کتب منها: کتاب مقتل الحسین بن علی (علیهما السلام) وقال ابن الغضائری: وأصحابنا یقولون إنّه اسم ما تحته أحد وکل ما یرویه کذب والکذب بین فی وجه حدیثه(1).

22 - محمد بن الحسن بن علی الطوسی المولود سنة (385 ه / 996 م) والمتوفی سنة (460 ه / 1067 م) قال النجاشی أبو جعفر جلیل فی أصحابنا ثقة عین من تلامذة أبی عبد الله له کتب منها، کتاب مقتل الحسین (علیه السلام)(2).

23 - الإمام الحافظ أبو عبد الله النیسابوری، محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدویة بن نعیم بن الحکم الحاکم الضبی الحافظ ویعرف بابن البیع من أهل نیسابور، وکان من أهل العلم والحفظ والحدیث ولد سنة (321 ه / 933 م) وتوفی سنة (405 ه / 1014 م) وذکر الحاکم، أن له کتاباً فی مقتل الحسین علیه السلام بقوله:" وقد ذکرت هذه الأخبار بشرحها فی کتاب مقتل

ص:330

الحسین علیه السلام وفیه کفایة لمن سمعه ووعاه"(1).

24 - أبو المفاخر بن بابویه، اسمه هبة الله بن الحسن بن الحسین بن بابویه شمس الدین أبو المفاخر بن محمد الرازی مداح آل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو من شعراء الفرس المشهورین، کان له جاه وقبول تام عند السلاطین والحکام، ولأبی المفاخر الرازی کتاب اسمه مقتل الشهداء، باللغة الفارسیة، ذکره الطهرانی. وهو من الشعراء المجیدین فی عصر غیاث الدین محمد(2) بن ملک شاه المتوفی سنة (511 ه / 1117 م)(3).

25 - الحافظ أبو المؤید، وأبو محمد موفق بن أحمد بن أبی سعید إسحق ابن المؤید المکی الحنفی المعروف بأخطب خوارزم، وکان فقیهاً غزیر العلم، حافظاً طائل الشهرة محدثاً، کثیر الطرق خطیباً طائر الصیت متمکناً فی العربیة خبیراًعلی السیرة والتاریخ أدیباً شاعراً له خطب وشعر مدون، توفی سنة 568 ه / 1173 م له کتاب مقتل الإمام الحسین (علیه السلام)(4) ، ویری

ص:331

شمس الدین أن أخباره فی کتاب المقتل غالباً عن تاریخ ابن أعثم الکوفی التی هی بمستوی روایات الطبری، وأخباره تتسم بالموضوعیة واللغة الرفیعة غالباً کما أنها ذات محتوی عاطفی معتدل(1).

26 - المحبر البغدادی: أبو القاسم محمد بن المبارک بن الحسین البقیرة البغدادی المحدث المعروف بالمحبر والمتوفی سنة (592 ه/ 1195 م) له کتاب مقتل الحسین (علیه السلام)(2).

27 - الشیخ نجم الدین محمد بن جعفر بن أبی البقاء هبة الله بن نما الحلی توفی سنة (654 ه / 1256 م) له کتاب مقتل الحسین علیه السلام تحت عنوان ((مثیر الأحزان))(3).

28 - القاضی أبو عبد الله ابن الأبار محمد بن عبد الله بن أبی بکر القضاعی البلنسی المولود سنة (595 ه / 1198 م) والمتوفی سنة (658 ه / 1260 م) له کتاب درر السمط فی معالی خبر السبط، کتاب فی مقتل الحسین (علیه السلام) علی طراز إنشاء المقامات(4) ، قال المقری هو کتاب غایة فی بابه وأورد قسماً مقتضباً منه(5) وقال الصفدی له جزء سماه درر السمط فی خبر السبط... ولکنه إنشاء بدیع(6).

ص:332

29 - عز الدین أبو محمد الرسعنی، عبد الرزاق بن رزق الله بن أبی بکر ابن خلف الجزری المحدث الحنبلی ولد سنة (589 ه / 1193 م) برأس عین الخابور(1) وتوفی سنة (661 ه / 1262 م) له کتاب(2) مصرع الحسین (علیه السلام) الزمه بتصنیفه صاحب الموصل(3).

30 - علی بن موسی بن جعفر بن طاووس الحسنی فاضل من أجلاء الطائفة وثقاتها، جلیل القدر، عظیم المنزلة، کثیر الحفظ، نقی الکلام، حاله فی العبادة والزهد أشهر من أن یذکر ولد 589 ه / 1193 م وتوفی 664 ه / 1265 م من کتبه اللهوف فی قتلی الطفوف، وهو کتاب مقتل الإمام الحسین (علیه السلام)(4).

ص:333

ص:334

ص:336

أحدثته الثورة الحسینیة من آثار انعکست فی المجتمع الإسلامی وما ولدته من ردود فعل مباشرة تجاه الحکم الأموی والتی تمثلت فی العدید من الثورات فی العالم الإسلامی متخذة من مبادئ الثورة الحسینیة مرتکزاً لها أو مستغلة ما أحدثته هذه الثورة من نقمة ضد الحکم الأموی، وهو ما فعله عبد الله بن الزبیر(1) عندما أعلن ثورته علی الحکم الأموی (61 ه / 681 م) إذ أخذ یشنع علی الأمویین قتلهم للإمام الحسین علیه السلام ویثیر فی الناس عواطفهم وینعی علی العراقیین غدرهم وخذلانهم،(2) أو کما أخذ بعض زعماء الثورات یفتخرون بالتأسی بثورة الإمام الحسین (علیه السلام)(3) وما أظهره الإمام وأهل بیته وأصحابه من صبر وإقدام، وهذا ما أقدم علیه مصعب بن الزبیر حینما أراد مواجهة جیش عبد الملک بن مروان(4) أن قال

ص:338

لعروة بن المغیرة(1) ، وهو یسایره ادن یا عروة أکلمک، فدنا منه فقال: أخبرنی عن الحسین کیف صنع حین نزل به الأمر قال عروة: فجعلت أحدثه بحدیث الحسین وما عرض علیه ابن زیاد من النزول علی حکمه فأبی وصبر للموت، فضرب مصعب معرفة دابته بالسوط ثم قال:

فإن الأولی بالطف من آل هاشم تأسوا فسنّوا للکرام التآسیا(2)

ولعل من أبرز الثورات التی اتخذت من الثورة الحسینیة مرتکزاً لها فی صراعها مع الأمویین هی ثورة التوابین بقیادة سلیمان بن صرد الخزاعی، وثورة المختار بن أبی عبیدة الثقفی، اللتان قامتا من أجل الأخذ بالثأر من قتلة الإمام الحسین (علیه السلام)، وثورة زید بن علی بن الحسین (علیه السلام) (122 ه / 738 م)، وابنه یحیی بن زید بن علی بن الحسین (علیه السلام) (126 ه / 743 م) اللتان تعدان امتداداً طبیعیاً لثورة الإمام الحسین علیه السلام ومبادئها التی نادی بها یوم عاشوراء وهی الإصلاح فی أمة جده(3).

وإنّ من آثار الثورة الحسینیة هو بلورة العقیدة الشیعیة ونموها وتعبئة أنصارها بشکل أوضح مما کانت علیه زمن الرسول الکریم (صلی الله علیه وآله وسلم) والإمام علی (علیه السلام) وهذا ما أشار إلیه أحد المؤرخین

ص:339

المحدثین بقوله: "لقد اختمرت العقیدة الشیعیة بعد مقتل الإمام الحسین (علیه السلام) فی النفوس، وکانت دماؤه أبعد أثراً من دماء أبیه الإمام علی (علیه السلام) من حیث نمو الحرکة الشیعیة، وازدیاد أعضائها بل یمکننا أن نقول إنّ حرکة الشیعة بدأ ظهورها فی العاشر من المحرم وبعده صبغت مبادئ الشیعة بصبغة دینیة"(1).

وکذلک یری الشبیبی:" أن استقلال الاصطلاح الدال علی التشیع إنّما کان بعد مقتل الحسین (علیه السلام) حیث أصبح التشیع کیاناً ممیزاً له طابعه الخاص"(2). کما أن ابن تیمیة یری "أن التشیع لم یظهر ویصیر له قوة إلا بعد مقتل الحسین (علیه السلام)" (3) فمن الطبیعی أن یدفع أتباع العقیدة الشیعیة ثمناً باهظاً نتیجة لقیامهم بجملة من ممارسات الشعائر الحسینیة التی تعبر عن تمسکهم بمبادئ الثورة الحسینیة ومعارضتهم للأنظمة الجائرة والمستبدة.

وهنا لابد من الإشارة إلی أن موقف الأمویین من الشعائر الحسینیة اتخذ عدة أسالیب للعمل علی منعها والقضاء علیها ویمکن حصر هذه الأسالیب بالآتی:

محأولة طمس معالم الثورة الحسینیة وما یتصل بها باعتبارها خارجة عن الشرعیة، حیث بدأت أولی بوادر هذه المحأولة فی الکوفة عندما أشاع الأمویون بأن من قتل بالطف هو من الخارجین علی سلطة الدولة، وهذا ما

ص:340

أشار إلیه مسلم الجصاص بقوله: "دعانی ابن زیاد لإصلاح الإمارة بالکوفة، فبینما أنا اجصص الأبواب، وإذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الکوفة، فأقبلت علی خادم کان معنا فقلت: مالی أری الکوفة تضج؟ قال: الساعة أتوا برأس خارجی(1) خرج علی یزید، فقلت من هذا الخارجی؟ فقال الحسین بن علی (علیهما السلام) قال: فترکت الخادم حتی خرج ولطمت وجهی حتی خشیت علی عینی أن تذهب..."(2).

وکذلک یمکن تلمس ما أراد أن یقوم به الأمویون من طمس لحقیقة ثورة الإمام الحسین (علیه السلام) فی بلاد الشام بعبارة السیدة زینب بنت علی (علیها السلام) التی أجابت بها یزید بن معاویة رداً علی محأولته تلک بقولها:" یا یزید... فکد کیدک، واسع سعیک، وناصب جهدک، فو الله لا تمحوا ذکرنا، ولا تمیت وحینا ولا تدرک أمدنا..."(3).

ومن محأولات الأمویین الأخری لطمس معالم الثورة الحسینیة، هو إقدام

ص:341

الأمویین وإصرارهم علی سب الإمام الحسین وأبیه علیهما السلام، علی المنابر وهذا ما أشار إلیه ابن أبی الحدید عند ذکره لأبیات الشاعر عبد الله بن کثیر السهمی(1) التی یرد فیها علی قیام خالد القسری(2) ، أمیر مکة وعماله بلعنهم الإمام علی (علیه السلام) وولده الإمام الحسین (علیه السلام) بقوله:(3)

لعن الله من یسب علیا وحسیناً من سوقة وإمام

أیسب المطهرون جدوداً والکرام الآباء والأعمام

یأمن الطیر والحمام ولا یأ من آل الرسول عند المقام

طبت بیتاً وطاب أهلک أهلا أهل بیت النبی والإسلام

رحمة الله والسلام علیهم کلما قام قائم بسلام

وقد أشار العقاد إلی ذلک بقوله: "وقد لبثت بنو أمیة بعد مصرعه ستین سنة یسبونه ویسبون أباه علی المنابر"(4). وقوله أیضاً" وما زال یزید وأخلافه یأمرون الناس بلعن علی والحسین وآلیهما علی المنابر فی أرجاء

ص:342

الدولة الإسلامیة ویستفتون من یفتیهم بإهدار دمهم، وصواب عقابهم بما أصابهم، ومن تجب لعنته علی المنابر بعد موته بسنین، فقتله جائز أو واجب فی رأی لاعنیه"(1).

2 - ومما أقدم علیه الأمویون أیضاً تفعیلهم للجانب الإعلامی المضاد للشعائر الحسینیة من خلال اتخاذهم یوم عاشوراء یوم عید وفرح وسرور لهم،(2) للتغطیة علی فعلتهم الشنعاء بقتلهم الإمام الحسین (علیه السلام) فی کربلاء، ولأجل التصغیر من جریمتهم الکبری والتقلیل من حجمها وصرف الرأی العام عنها الذی بدأ یزداد حنقاً یوماً بعد یوم علی ما فعلوه بالإمام الحسین وأهل بیته. وأن أول من أقام الاحتفال بذلک الیوم من الأمویین، هو یزید بن معاویة الذی احتفل بقدوم السبایا ورأس الإمام الحسین (علیه السلام) وهذا ما أکدته الروایة المنقولة عن سهل بن سعد الساعدی(3) بقوله: "توسطت المدینة... وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء یلعبن بالدفوف والطبول، فقلت فی نفسی لعل لأهل الشام عیداً لا نعرفه نحن، فرأیت قوماً یتحدثون فقلت: یا هؤلاء ألکم بالشام عید لا نعرفه نحن، قالوا یا شیخ نراک غریباً، فقلت: أنا سهل بن سعد قد رأیت محمداً (صلی الله علیه وآله وسلم)

ص:343

قالوا یا سهل ما أعجبک السماء لا تمطر دماً والأرض لا تنخسف بأهلها؟ قالوا هذا رأس الحسین عترة محمد یهدی من أرض العراق إلی الشام وسیأتی الآن قلت: وا عجباه! یهدی رأس الحسین والناس یفرحون. فمن أی باب یدخل، فأشاروا إلی جانب یقال له:" باب الساعات"(1) ، فسرت نحو الباب فبینما أنا هنالک. إذ جاءت الرایات یتلو بعضها بعضاً، وإذا أنا بفارس بیده رمح منزوع السنان، وعلیه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)..."(2).

وقد أکد الإمام الباقر (علیه السلام) الحال التی کان علیها الأمویون من الاحتفال بیوم عاشوراء بقوله فی الزیارة المعروفة بزیارة عاشوراء: "اللهم إن هذا یوم تبرکت به بنو أمیة، وابن آکلة الأکباد"(3). وذکره کذلک البیرونی بقوله:" فأما بنو أمیة، فقد لبسوا فیه ما تجدد، وتزینوا واکتحلوا، وعیدوا وأقاموا الولائم، والضیافات، وأطعموا الحلاوات والطیبات، وجری الرسم فی العامة علی ذلک أیام ملکهم وبقی فیهم بعد زواله عنهم، وأما الشیعة فإنهم ینوحون ویبکون أسفاً لقتل سید الشهداء فیه، ویظهرون ذلک بمدینة السلام وأمثالها من المدن والبلاد ویزورون فیه التربة المسعودة بکربلاء وکذلک

ص:344

کره العامة فیه تجدید الأوانی والأثاث"(1).

وقد وضع علماء البلاط الأموی أخبار وأحادیث کثیرة فی یوم عاشوراء، بأنه یوم برکة لیعدل الناس - کما یقول الإمام الصادق (علیه السلام) من الجزع والبکاء والمصیبة والحزن، إلی الفرح والسرور والتبرک(2). ویقول ابن تیمیة فی ذلک "إنّ قوماً من المتسننة رووا ورویت لهم أحادیث موضوعة بنوا علیها ما جعلوه شعاراً فی هذا الیوم یعارضون به شعار ذلک القوم - الشیعة -... مثل الحدیث الطویل الذی روی فیه (من اغتسل یوم عاشوراء لم یمرض ذلک العام، ومن اکتحل یوم عاشوراء لم یرمد ذلک العام وأمثال ذلک من الخضاب یوم عاشوراء والمصافحة فیه ونحو ذلک، فإنّ هذا الحدیث ونحوه کذب مختلق باتفاق من یعرف علم الحدیث، وإن کان قد ذکره بعض أهل الحدیث وقال إنّه صحیح وإسناده علی شرط الصحیح فهذا من الغلط الذی لا ریب فیه کما هو مبین فی غیر هذا الموضع).(3)

أما ابن کثیر فقد أرجع اتخاذ یوم عاشوراء یوم فرح وسرور إلی النواصب من أهل الشام وذلک لمعارضتهم الشیعة الذین اتخذوه یوم حزن وأسی لإقامة العزاء، وهذا ما أشار إلیه بقوله:" قد عاکست الرافضة

ص:345

والشیعة فی یوم عاشوراء النواصب من أهل الشام، فکانوا إلی یوم عاشوراء یطبخون الحبوب ویغتسلون ویتطیبون ویلبسون أفخر ثیابهم ویتخذون ذلک الیوم عیداً یصنعون فیه أنواع الأطعمة ویظهرون السرور والفرح، یریدون بذلک عناد الروافض ومعاکستهم "(1) کما أکد الزرندی الحنفی هذا المعنی بقوله:" زین لقوم آخرین معارضة هؤلاء فی فعلهم فاتخذوا هذا الیوم عیداً وأخذوا فی إظهار الفرح والسرور أما کونهم من النواصب المتعصبین علی الحسین وأهل بیته، وأما من الجهال"(2).

وقد أرجع ابن تیمیة الاحتفال بالفرح والسرور إلی الناصبة المبغضین لعلی - رضی - وأولاده ومنهم الحجاج بن یوسف الثقفی(3). حسب قوله(4).

إنّ النصوص التاریخیة تشیر إلی تأکید الأمویین علی إحیاء الاحتفالات وإظهار الفرح والسرور والاکتحال، وما إلی ذلک من أمور تمثل الموقف الرسمی الأموی المواجه لموقف الشیعة،. وهذا إن دل علی شیء فإنّه یدلل

ص:346

علی اتساع دائرة الشعائر، حتی أن ظاهرة العزاء والزیارة وإقامة الشعائر المختلفة أخذت تزعج السلطة وتمثل حرجاً لها مما استدعاها للرد علی الشعائر الحسینیة الحزینة بشعائر معاکسة لها. فإن لم تکن الشعائر الحسینیة قد أخذت بالانتشار وأصبحت ظاهرة تزعج الأمویین لما أکدوا علی الشعائر المعاکسة التی حأولوا أن ینشروها بالأمة ویقطعوا مظاهر الحزن التی تجدد ذکری مقتل الإمام الحسین علیه السلام وتذکر الأمة بقتل الأمویین لابن بنت نبیها وهی جریمة لحق الأمویین جراءها الخزی والذل حتی سار مثلاً بقولهم: "أذل من أموی بالکوفة فی یوم عاشوراء"(1).

وأضاف البعض" أن بنی أمیة کانوا اتخذوا الیوم الأول من صفر عیداً لهم حیث أدخلت فیه رأس الحسین"(2).

ومن تلک الأحادیث التی وضعت علی لسان النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) فی فضل هذا الیوم - عاشوراء - واستحباب الزینة والخضاب والسرور والتوسعة علی العیال ولبس الجدید فیه، تنکیلاً منهم بأهل البیت (علیهم السلام) وتضلیلاً للمسلمین ما وضعوه علی لسان ابن عباس فی قوله تعالی:(... مَوْعِدُکُمْ یَوْمُ الزِّینَةِ...)3 قال یوم الزینة(3) ، یوم عاشوراء(4).

ص:347

3 - التصدی لآل البیت علیهم السلام وأتباعهم بالقتل والحبس والتشرید لمنعهم من إقامة الشعائر الحسینیة، ولعل أولی محأولات التصدی الأموی لآل البیت هو إقدامهم علی تهجیر السیدة زینب (علیها السلام) من المدینة لما شکلته من عامل ضغط علی والی المدینة عمرو بن سعید بن العاص، الذی کتب إلی یزید بن معاویة یخبره بمخاوفه من السیدة زینب (علیها السلام) التی أججت فی الحجاز روح الثورة والنقمة علی الحکم الأموی، فقد روی عن السیدة زینب (علیها السلام) أنّها "کانت وهی بالمدینة تألب الناس علی القیام بأخذ ثار الحسین علیه السلام. فلما قام عبد الله بن الزبیر بمکة، وحمل الناس علی الأخذ بثأر الحسین علیه السلام، وخلع یزید بلغ ذلک أهل المدینة فخطبت فیهم السیدة زینب (علیها السلام) وصارت تؤلبهم علی القیام للأخذ بالثأر فبلغ ذلک عمرو بن سعید فکتب إلی یزید یعلمه بالخبر، فکتب إلیه أن فرق بینها وبینهم فأمر أن ینادی علیها بالخروج من المدینة والإقامة حیث تشاء...)(1).

وتذکر بنت الشاطئ" أن السیدة زینب (علیها السلام) هی التی جعلت من مصرع أخیها الشهید مأساة خالدة وصیرت من یوم مقتله مأتماً سنویاً للأحزان والآلام"(2). هذه المآتم أثارت مخاوف السلطة الأمویة لما أحدثت من سخط وغضب لدی عامة الناس فی المدینة المنورة وردود فعل ضد السلطة الأمویة، مما دعاها إلی أن تأمر السیدة زینب (علیها السلام) بترک المدینة

ص:348

والإقامة فی أی مکان تشاء من العالم الإسلامی.

ولعل خیر من وصف معاناة آل البیت (علیهم السلام) وشیعتهم من الجور الأموی هو الإمام محمد الباقر (علیه السلام) حینما قال: "ثم لم نزل أهل البیت نستذل ونستضام ونقصی ونمتهن ونحرم ونقتل ونخاف ولا نأمن علی دمائنا ودماء أولیائنا، ووجد الکاذبون الجاحدون لکذبهم وجحودهم موضعاً یتقربون به إلی أولیائهم وقضاة السوء وعمال السوء فی کل بلدة فحدثوهم بالأحادیث الموضوعة المکذوبة ورووا عنا ما لم نعمله لیبغضونا إلی الناس، وکان عظم ذلک وکبره زمن معاویة بعد موت الحسن (علیه السلام) فقتلت شیعتنا بکل بلدة، وقطعت الأیدی والأرجل علی الظنة وکان من یذکر بحبنا والانقطاع إلینا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم یزل البلاء یشتد ویزداد إلی زمان عبید الله بن زیاد قاتل الحسین (علیه السلام) ثم جاء الحجاج فقتلهم کل قتلة، وأخذهم بکل ظنة وتهمة حتی أن الرجل لیقال له زندیق أو کافر أحب إلیه من أن یقال له شیعة علی" (1) کذلک کشف لنا أبو جعفر الإسکافی حجم الهجمة الأمویة التی تعرض لها آل البیت (علیهم السلام) وشیعتهم بقوله: "فکان الأمویون لا یألون جهداً فی طول ملکهم أن یخمدوا ذکر علی (علیه السلام) وولده، ویطفؤوا نورهم، ویکتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم، ویحملون الناس علی سبهم ولعنهم علی المنابر والعیاذ

ص:349

بالله فلم یزل السیف یقطر من دمائهم، مع قلة عددهم وکثرة عدوهم فکانوا بین قتیل وأسیر وشرید وهارب ومستخف أو خائف مرتقب، حتی أن الفقیه والمحدث والقاص والمتکلم لیتقدم إلیه ویتوعد بغایة الإبعاد وأشد العقوبة ألاّ یذکر شیئاً من خصائصهم، ولا یرخصوا لأحد... حتی بلغ من تقیة المحدث إذا ذکر حدیثاً عن علی بن أبی طالب (علیه السلام) کفی عن ذکره فقال: قال رجل من قریش، وفعل رجل من قریش، ولا یذکر علیاً (علیه السلام) ولا یتفوه باسمه"(1).

کما أشار لها ابن أبی الحدید بقوله:" ثم تفاقم الأمر بعد مقتل الحسین (علیه السلام) وولی عبد الملک بن مروان، فاشتد علی الشیعة، وولی علیهم الحجاج بن یوسف الثقفی، فتقرب إلیه المتظاهرون بالنسک والصلاح والدین ببغض علی، وموالاة أعدائه، وموالاة من یدعی من الناس عداوته فأکثروا فی الروایة وسوابقهم ومناقبهم وأکثروا من البغض من علی (علیه السلام) وعیبه والطعن فیه، والشنآن له حتی أن إنساناً وقف للحجاج ویقال هو جد الأصمعی عبد الملک بن قریب، فصاح أیها الأمیر إنّ أهلی عقونی فسمونی علیاً، وإنّی فقیر بائس، وأنا إلی صلة الأمیر محتاج، فتضاحک له الحجاج، وقال للطف ما توسلت به ولیت موضع کذا"(2).

تظهر لنا النصوص الآنفة الذکر شدة الحملة الأمویة الشرسة التی

ص:350

واجهها آل البیت وأتباعهم علی کافة الأصعدة وخاصة الشعائر الحسینیة التی تمثل خطراً علی السلطة الأمویة لأن فی إحیائها نصرة للمبادئ التی من أجلها ضحی الإمام الحسین (علیه السلام) وتحریضاً علی السیاسة الأمویة وهو ما یعد خطراً علی المکتسبات السیاسیة التی حققها الأمویون، ولعل الحملة الأکثر قسوة هی فی زمن الحجاج بن یوسف الثقفی والتی جاءت بعد تصفیة المختار بن أبی عبیدة الثقفی الذی رفع شعار الثأر من قتلة الإمام الحسین (علیه السلام) وکذلک بعد ازدیاد نشاط الشیعة والتفافهم حول الأئمة من أهل البیت (علیهم السلام) وإحیائهم مراسم الشعائر الحسینیة من إقامة المآتم وزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وهو ما دعی السلطة إلی اتخاذ أشد الإجراءات لمنع ذلک.

فقد جاء سلوک عبد الملک بن مروان، ووالیه علی العراق الحجاج بن یوسف الثقفی استمراراً للنهج الأموی فی التعامل مع الشعائر الحسینیة، فقد کان للبعد السیاسی والاجتماعی للزیارة وارتباطها بثورة الإمام الحسین (علیه السلام) أن جعلها فی مواجهة الإجراءات التعسفیة التی کانت ترتکبها السلطة الأمویة بحق من کانوا یتوافدون علی زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) حیث کان یتعرض الزوار للقتل والمطاردة. ولقد وثّق المؤرخون جرائم الحجاج بحق المسلمین بقولهم: "کان عدة من قتله الحجاج صبراً سوی من قتل فی زحوفه وحروبه مائة ألف، منهم سعید بن جبیر(1) ، وکمیل بن زیاد

ص:351

النخعی(1) صاحب علی بن أبی طالب علیه السلام. وتوفی فی محبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة، وکان حبسه حائراً لا شیء فیه یکنهم فیه حر ولا برد، أو یسقون الماء مشوباً بالرماد"(2).

کذلک یذکر" أن سلیمان بن عبد الملک(3) ، لما ولی أطلق فی یوم واحد من المسجونین واحداً وثمانین ألفاً من الأسری، ووجد ثلاثین ألفاً ممن لا ذنب

ص:352

لهم وثلاثین ألف امرأة "(1) ووصل الأمر بالحجاج حداً تمادی بها کل الحدود، ما دفع عمر بن عبد العزیز(2) أن یقول فیه:" لو جاءت کل أمة بخبیثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم"(3). ولم یکتف الحجاج بما فعله بخصومه وهم الشیعة العدو الأول من قتل وزج بالسجون والتی وصفها الإمام الباقر (علیه السلام) وما کان یقع علی الشیعة من شدة الإجراءات إلی أن وصل الحال أن یقال للرجل کافر أحب من أن یقال له شیعة علی(4). حتی قطع علی المسلمین وعاب علیهم قصد زیارة قبر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فقد ذکر الجاحظ: "خطب الحجاج بالکوفة، فذکر الذین یزورون قبر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بالمدینة فقال: تباً لهم، إنّما یطوفون بأعواد ورمة بالیة. هلا طافوا بقصر أمیر المؤمنین عبد الملک ألا یعلمون أن خلیفة المرء خیر من رسوله، وهو یعرض برسول الله ویفضل الخلیفة الأموی ویقدمه علی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)"(5). أما المبرد فیذکر: أن الحجاج قال

ص:353

ذلک والناس یطوفون بالقبر.(1)

فمن الطبیعی أن من کان هذا رأیه بزیارة قبر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو خاتم الأنبیاء والمرسلین فما یکون رأیه بزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) الذی یمثل رمز الشهادة والتی تذکر زیارته الناس بما فعله الأمویون به وبأهل بیته وبمطاردة شیعته الذین خرجوا للأخذ بثأره. وقد أشارت الروایات الواردة عن الأئمة (علیهم السلام) فی تلک الفترة إلی طبیعة الإجراءات التی کان یتبعها الأمویون ضد شیعة أهل البیت علیهم السلام فی خصوص إحیاء الشعائر الحسینیة.

فقد روی عن الإمام علی بن الحسین (علیها السلام) أنه قال:" بلغنی یا زائدة(2) أنک تزور قبر أبی عبد الله الحسین (علیه السلام) أحیاناً، فقلت: إنّ ذلک لکما بلغک، فقال لی: فلماذا تفعل ذلک؟ ولک مکان عند سلطانک الذی لا یحتمل أحداً علی محبتنا وتفضیلنا وذکر فضائلنا والواجب علی هذه الأمة من حقنا؟ فقلت: والله ما أرید بذلک ألا الله ورسوله ولا أحفل بسخط من سخط ولا یکبر فی صدری مکروه ینالنی بسببه فقال: والله إنّ ذلک لکذلک؟ فقلت؟ والله إنّ ذلک لکذلک، یقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً..."(3). تبرز

ص:354

الروایة اهتمام الإمام زین العابدین علی بن الحسین (علیه السلام) بزیارة قبر أبیه من خلال سؤال زائدة بن قدامة بن مسعود الثقفی ابن عم المختار، کما تبرز موقف السلطة الأمویة ممن یتعاطف مع أهل البیت أو یزور قبورهم وما یمثله ذلک التعاطف من خطر خصوصاً إن کان الزائر أحد أمراء الدولة الأمویة، فزائدة هو أحد رجالات الدولة الأمویة الذی قتل فی حدود سنة (76 ه / 695 م)(1).

کما کشفت نصوص روائیة أخری عن حالات تنامی ثقافی أوجده الأئمة (علیهم السلام) فی أتباعهم بخصوص الشعائر الحسینیة وأوضحت مستویات الزیارة وکیفیتها، وکیفیة تعاطی السلطة الأمویة مع الزائرین طیلة فترة الحکم الأموی ومن تلک الروایات ما روی عن زرارة بن أعین(2) ، قال: قلت لأبی جعفر الباقر (علیه السلام) "ما تقول فیمن زار أباک علی خوف. قال: یؤمنه الله یوم الفزع الأکبر وتلقاه الملائکة بالبشارة ویقال له لا تخف ولا تحزن هذا یومک الذی فیه فوزک."(3).

ص:355

إنّ سؤال زرارة للإمام الباقر (علیه السلام) عن زیارة الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) علی حال الخوف والذی یشیر إلی الإجراءات القمعیة التی کانت تتبعها السلطة الأمویة ضد زوار قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وکأنما زرارة کان یتطلع من خلال سؤاله للإمام الباقر (علیه السلام) لتوجیه یصدر من الإمام فیه بیان الحکم الشرعی للزیارة فی حالة الخوف فی الاستمرار فی الشروع بالزیارة أو التوقف فی هکذا حال.

وفی روایة أخری، عن الإمام الباقر (علیه السلام) وهو یتفقد أصحابه من خلال سؤالهم عن إتیان زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) ما رواه محمد بن مسلم(1) فی حدیث قال:" قال لی أبو جعفر (علیه السلام) هل تأتی قبر الحسین (علیه السلام)؟ قلت علی خوف ووجل، فقال: ما کان من هذا أشد فالثواب فیه علی قدر الخوف، ومن خاف فی إتیانه أمن الله روعته یوم القیامة، یوم یقوم الناس لرب العالمین، وانصرفوا بالمغفرة، وسلمت علیه الملائکة وزاره النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) ودعا له، وانقلب بنعمةٍ من الله وفضل لم یمسسه سوء واتبع رضوان الله..."(2).

ص:356

تکشف لنا الحوارات التی کان یجریها الأئمة علیهم السلام مع أتباعهم، والتی تبرزها الروایات الصادرة عنهم حجم وشدة الإجراءات، التی کانت تفرضها السلطة علی الزائرین من خلال بث العیون وإقامة المسالح(1) علی الطرقات، وهذا ما أشار إلیه ابن بکیر(2) بقوله: "قلت للإمام الصادق (علیه السلام) إنّی أنزل الأرجان(3) وقلبی ینازعنی إلی قبر أبیک، فإذا خرجت فقلبی وجل شفق حتی أرجع خوفاً من السلطان والسعاة، وأصحاب المسالح فقال: یابن بکیر أما تحب أن یراک الله فینا خائفاً؟ أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظله الله فی ظل عرشه وکان محدثه الإمام الحسین (علیه السلام) تحت العرش وآمنه الله من أفزاع یوم القیامة، یفزع الناس ولا یفزع فإن فزع وقرته الملائکة وسّکنت قلبه بالبشارة"(4). إن استمرار النهج الأموی فی سیاسة مطاردة الشیعة ومنع زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) هو خوفهم بما تحمله من

ص:357

منطلقات فی توجیه وعی الأمة لأهداف ومبادئ الثورة الحسینیة مما یجعلها مرتکزاً فکریاً تنطلق منه الجموع الثائرة ضد التسلط الأموی، وأن الملاحقة التی کان یقوم بها الحجاج لم تمنع الشیعة من زیارة قبر الحسین (علیه السلام) فقد حرص أتباع أهل البیت علی زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) التی تمثل تحدیاً للسلطة الأمویة من جانب، واستجابة لدعوات الأئمة وتوجیهاتهم من جانب آخر.

وقد أوضح الکلیدار صعوبة وصول الزائرین إلی قبر الإمام الحسین (علیه السلام) فی تلک الفترة فعن محمد بن سلیمان، عن عمه، قال:" لما خفنا أیام الحجاج خرج نفر منا من الکوفة مستترین وخرجنا معهم فصرنا معهم، فصرنا إلی کربلاء ولیس بها موضع نسکنه فبنینا کوخاً علی شاطئ الفرات وکنا نأوی إلیه... فلما غربت الشمس وأظلم اللیل أشعلنا فکنا نشعل بالنفط، ثم جلسنا نتذاکر أمر الحسین بن علی، ومصیبته وقتله ومن تولاه..."(1).

وقد عمد الأمویون علی تکریس سیاسة المنع واستمروا علیها حتی نهایة حکمهم وهذا ما أشار إلیه الحسین بن بنت أبی حمزة بقوله: "خرجت فی آخر زمان بنی مروان إلی زیارة قبر الحسین بن علی (علیهما السلام) مستخفیاً من أهل الشام، حتی انتهیت إلی الغاضریة فاختفیت فی ناحیة القریة، حتی إذا ذهب من اللیل نصفه أقبلت نحو القبر... وأنا أخاف أن أصبح

ص:358

فیقتلونی أهل الشام إن أدرکونی ها هنا... فأقبلت لما طلع الفجر نحوه فلم یحل بینی وبینه أحد، فدنوت من القبر وسلمت علیه ودعوت الله علی قتلته وصلیت الصبح وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام"(1).

وقد أوضح الکلیدار صعوبة وصول الزائرین إلی قبر الإمام الحسین (علیه السلام) فی تلک الفترة عندما کانت تنشر السلطات الأمویة المسالح علی طریق کربلاء لمنع الزائرین من الوصول إلی القبر الشریف. بقوله:" انتشرت فی العهد الأموی المسالح فی کربلاء، لمنع الزوار من زیارة مشهد الحسین (علیه السلام) وکان الزائرون من جانبهم یتخذون من الغاضریة، ونینوی ملجأ ومحطاً لرحالهم لقربهما من کربلاء، ویجعلونه بالظاهر هدفاً یمکثون فیها حیناً لإبعاد الشبهة عنهم والتمویه علی المسالح الأمویة ثم یلجأون منها سراً إلی المرقد الشریف ".(2)

ومما یؤید هذا الرأی قول المفید، عن الإمام الصادق (علیه السلام)" ولیکن رحلک بنینوی أو الغاضریة وخلوتک للنوم والطعام أو الشراب هناک فإذا أردت الرحیل فودع الحسین صلوات الله علیه "،(3) وهنالک دلائل تاریخیة تدل علی أن الزائرین قد اتخذوا من الغاضریة أو نینوی مقراً للانطلاق

ص:359

لزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) لقربهما من موضع القبر وکونهما مأهولات بالناس وهو ما أشارت له روایة الحسین بن بنت أبی حمزة الثمالی الذی قال فیها إنّه خرج فی آخر زمان بنی مروان لزیارة قبر الإمام الحسین وکان مستخفیاً من أهل الشام وأنه انتهی إلی الغاضریة ومنها توجه لزیارة قبر الإمام بعد أن نام الناس وأمن(1).

وفی بعض الأحیان یکون المنع شدیداً من خلال کثرة المسالح وتشدید الحراسة فلا یستطیع الزوار الوصول إلی قبر الإمام الحسین (علیه السلام) لذا وجه الأئمة أتباعهم بزیارة خاصة فی مثل هکذا حال، حینما سئل الإمام الصادق (علیه السلام) من قبل أحد الشیعة عن زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) فی حال التقیة فقال له الإمام:" إذا أتیت الفرات فاغتسل ثم البس أثوابک الطاهرة ثم استمر بإزاء القبر، وقل صلی الله علیک یا أبا عبد الله، صلی الله علیک یا أبا عبد الله، صلی الله علیک یا أبا عبد الله، فقد تمت زیارتک"(2). نلمس من خلال هذه الروایة أن التقیة لا تقع إلاّ بأسوأ الحالات والذی یکشف بدوره شدة المنع کما تؤکد علی أمرین مهمین، الأول، هو ما کان علیه الحال من حالة المنع، وشدة الحالة النفسیة التی کان یعیشها الزوار.

الأمر الآخر: هو حث الأئمة أتباعهم علی مواصلة الزیارة، حتی وإن

ص:360

کان فی أقصی حالات المنع والوصول ولو لمسافة قریبة من قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وزیارته. ویعد ذلک تأکیداً علی شعیرة الزیارة وإحیائها علی الرغم من الإجراءات الأمنیة المشددة.

وفی روایة معاویة بن وهب، عن أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) "...یا معاویة لا تدعه - یعنی زیارة قبر الحسین - لخوف من أحد فمن ترکه لخوف رأی الحسرة ما یتمنی أن قبره عنده، أما تحب أن یری الله شخصک وسوادک فیمن یدعو له رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وعلی وفاطمة والأئمة" .(1) فی هذا النص نلاحظ أن الأئمة یوجهون أتباعهم علی ضرورة زیارة الإمام الحسین (علیه السلام) وأن لا یجعلوا خوف السلطان وما تقوم به المسالح عنصراً رادعاً عن هذه الزیارة. ولم یکن الأمر لیصل إلی حد المنع فقط من قبل المسالح الأمویة بل زاد الأمر علی ذلک لیصل حد القتل، والحبس والضرب وهذا ما نستشفه من خلال سؤال الأئمة من آل البیت (علیهم السلام) لبیان واقع حال الزیارة فی حال تعرض الزائرین لمثل هکذا سلوک من قبل السلطة الأمویة، وهذا ما أشار إلیه صفوان الجمال فی حدیث له مع الإمام الصادق (علیه السلام) بقوله: "...قلت فما لمن قتل عنده - یعنی قبر الحسین (علیه السلام) جار علیه السلطان فقتله؟ قال: أول قطرة من دمه یغفر له بها کل خطیئة..." .(2)

ص:361

أما فیما یخص الحبس، فقد روی عن هشام بن سالم(1) ، عن أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) قال: "أتاه رجل فقال له: یابن رسول الله هل یزار والدک؟ قال: فقال: نعم إلی أن قال: قلت فما لمن حبس فی إتیانه؟ قال: له بکل یوم یحبس ویغتم فرحة إلی یوم القیامة"(2).

لقد کشفت هذه النصوص الروائیة المهمة أسالیب تعاطی الأمویین مع الشعائر الحسینیة فکانت سبباً لکثرة السؤال عن حکم الزیارة فی حال الخوف کما تبین أن حرکة الزیارة بقیت ثابتة وفی تصاعد مستمر دون أن تؤثر أسالیب القمع علیها. أی أنه لم یتحقق المنع المطلق بدلیل روایات الزیارة التی حکت لنا الحالة العامة التی کان علیها الزوار من الشعور بالخوف والترقب من السلطة.

کما لم تقف حدود المنع الأموی عند المأتم والزیارة الحسینیة بل تعدتها إلی منع شعر الرثاء الحسینی الذی شکل محوراً مهماً فی الشعائر الحسینیة، وفی دائرة نقد التسلط الأموی. الأمر الذی دفع الأمویین للوقوف بوجه أولئک الشعراء ومطاردتهم مما أدی ذلک إلی ضیاع الکثیر من شعر الرثاء الحسینی لأولئک الشعراء إلی الحد الذی اضطر البعض منهم نسبة أشعارهم إلی أناس

ص:362

مجهولین أو إلی الجن خوفاً من بطش السلطة الأمویة، وهذا ما أشار إلیه ابن الأثیر، حینما ذکر قصیدة أعشی همدان(1) التی یرثی بها التوابین بقوله: "وهی مما یکتم ذلک الزمان"(2).

ولقد وصل حد المنع الأموی أن جعل الإمام الصادق (علیه السلام) یعمل بالتقیة فی إحدی مجالس العزاء التی کانت معقودة فی بیته بحضور الشاعر سفیان بن مصعب العبدی، قال أبو عبد الله الصادق (علیه السلام)" أنشدنی فی الحسین، وأمر بتقریب أم فروة وعیاله، فلما حظرت قال سفیان:

فرو جودی بدمعک المسکوب فصاحت أم فروة فصحن النساء، فقال أبو عبد الله: الباب الباب واجتمع أهل المدینة فأرسل إلیهم أبو عبد الله: صبی لنا غشی علیه"(3).

وقد أشار أبو الفرج الأصفهانی إلی أنه: "قد رثی الحسین بن علی - صلوات الله علیه - جماعة من متأخری الشعراء أستغنی عن ذکرهم فی هذا الموضع کراهیة الإطالة وأما من تقدم فما وقع إلینا شیء رثی به وکانت

ص:363

الشعراء لا تقدم علی ذلک مخافة من بنی أمیة وخشیة منهم"(1). یشیر هذا النص التاریخی إلی أن رثاء الإمام الحسین (علیه السلام) کان من الأمور المحظورة علی عهد بنی أمیة وکان مما یعاقب علیه.

أما المرزبانی فقد صور الحالة السیاسیة السائدة زمن الأمویین بقوله:" إنّ عوف بن عبد الله الأزدی له قصیدة طویلة رثی بها الحسین (علیه السلام) وکانت هذه القصیدة مما تخبئ أیام بنی أمیة وإنما خرجت بعده والتی یقول فیها(2).

نحن سمونا لابن هند بجحفل کرجل الدبا یزجی إلیه الدواهیا

کما صرح الکمیت وهو الشاعر المعروف بولائه لأهل البیت (علیهم السلام) فی شعره ما کان یلاقیه من عداوة وأذی وتأنیب نتیجة لموقفه المعلن فی شعره من السلطة الأمویة بقوله:

وارمی وأرمی بالعداوة فیهم وإنی لأوذی فیهم وأونب

یعیرنی جهال قومی بحبهم وبغضهم أدنی لعار وأعطب

وأحمل أحقاد الأقارب فیکم وینصب لی فی الأبعدین فأنصب

یشیرون بالأیدی إلی وقولهم ألا خاب هذا والمشیرون أخیب

وطائفة قد کفرتنی بحبکم وطائفة قالوا مُسیء ومذنب

ألم ترنی من حب آل محمد أروح وأغدوا خائفاً أترقب

ص:364

علی أی جرم أم بأیة سیرة أعنف فی تقریظهم وأؤنب(1)

"ولقد سار علی درب الکمیت شعراء عرفوا بحبهم لآل البیت وخصوهم الولاء وأکثروا القول فیهم، منهم کثیر عزة، والسید الحمیری، وأیمن بن خزیم(2) وهم قلة غیر أن واحدهم کثیر علی الدولة الأمویة وکفیل شطر لأقلهم شهرة أن یغرس الشوک فی مضجع أعتی خلفاء بنی أمیة فلا یدرک النوم حتی یفتک بقائله"(3).

ص:365

النهایة من أن تؤدی الغرض المقصود منها وهو إسقاط الدولة الأمویة وإقامة الدولة العباسیة عام (132 ه / 749 م).

إنّ انتصار الدولة العباسیة ووصول العباسیین إلی السلطة دفعهم إلی الاستئثار بها والعمل علی حصرها فی أبناء العباس بن عبد المطلب دون أبناء عمومتهم من العلویین،(1) وهذا ما کشف عنه العباسیون أنفسهم من خلال مرسوم التولیة یوم بویع لأبی العباس السفاح،(2) عن وجهة نظرهم بالسلطة وأحقیتهم بها ویظهر ذلک فی خطبة داود بن علی العباسی(3) بالکوفة بقوله:" أیها الناس إنا والله ما خرجنا فی طلب هذا الأمر لنکثر لجیناً ولا عقیاناً ولا نحفر نهراً ولا نبنی قصراً وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقنا والغضب لبنی عمنا "(4) ثم قال:" واعلموا یا أهل الکوفة أنه لم یصعد منبرکم هذا خلیفة بعد

ص:367

رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) إلا أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب وأمیر المؤمنین هذا وأشار بیده إلی السفاح، واعلموا أن هذا الأمر فینا لیس بخارج عنا حتی نسلمه إلی عیسی بن مریم (علیه السلام) والحمد لله رب العالمین علی ما أبلانا وأولانا ثم نزل أبو العباس وداود حتی دخلا القصر ثم دخل الناس یبایعون إلی العصر ثم من بعد العصر إلی اللیل."(1).

امتازت علاقة العلویین مع أبی العباس السفاح بالمهادنة، واتخذ سیاسة اللین معهم فلم تشهد فترة حکمه أی نوع من التصادم وأنه "ما حصل فی زمانه - السفاح - بینه وبین الطالبیین من الأشراف شیء، ولا قام علیه أحد منهم بل قربهم وأحسن إلیهم وکانت المحبة صافیة بینهم"(2). کذلک تمتع الشیعة فی فترة أبی العباس السفاح بفسحة من الحریة فی إقامة الشعائر الحسینیة، وإقامة العزاء عند قبر الإمام أو فی دورهم ومحافلهم(3).

ولما أدرک العلویون أن بنی العباس قد اغتصبوا الخلافة شأنهم فی ذلک شأن الأمویین وأنهم استغلوا شعار الدعوة للرضا من آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) فی استمالة شیعة آل البیت أظهر العلویون ولا سیما آل الحسن عدم رضاهم بهذا الاستئثار السلطوی للعباسیین، وأنه من وجهة نظرهم أن العباسیین قد تنصلوا من التزاماتهم لآل الحسن فی اجتماع

ص:368

الأبواء(1) عام (127 ه / 744 م)(2).

إنّ هذا الموقف دفع العباسیین ولا سیما أبو جعفر المنصور إلی موقف التوجس والخیفة من العلویین لاسیما من عبد الله بن الحسن وولده محمد(3) ، وهذا ما أبداه لأخیه أبی العباس السفاح، حینما قال له:" أن هؤلاء شنئونا فأنسهم بالإحسان، فإن استوحشوا فالشر یصلح ما عجز عنه الخیر ولا تدع محمداً یمرح فی أعنة العقوق، فقال له السفاح: من شدد نفر ومن لان تآلف، والتغافل من سجایا الکرام"(4). إلا أن أبا العباس السفاح وعلی الرغم من ذلک لم یتخذ موقف المتشدد من العلویین لأن الظروف لم تکن مهیأة لمثل ذلک التشدد، إلاّ أنه فی الوقت ذاته لم یترک مراقبتهم والتجسس علیهم وهذا ما أشار إلیه ابن عبد ربه حینما ذکر زیارة آل الحسن لأبی العباس السفاح الذی طلب من أحد رجاله حینما خرجوا من عنده قائلاً له "قم بإنزالهم ولا تأل فی ألطافهم وکلما خلوت معهم فأظهر المیل إلیهم والتحامل علینا وعلی ناحیتنا وأنهم أحق بالأمر منا واحص لی ما یقولون وما یکون منهم فی

ص:369

مسجدهم ومقدمهم"(1).

وإنّ فترة الهدوء فی العلاقة بین العباسیین والعلویین والتی شهدها عصر أبی العباس السفاح لم تستمر طویلاً فما إن آلت الخلافة لأخیه أبی جعفر المنصور بعد وفاته عام (136 ه / 753 م)، حتی بدأت العلاقات بین الأسرتین تأخذ بالتوتر لا سیما بعد ثورة ابنی عبد الله بن الحسن المحض، محمد النفس الزکیة، وأخیه إبراهیم(2) ، والتی تعتبر فی مقدمة الثورات العلویة ضد الحکم العباسی(3). وبقضاء أبی جعفر المنصور علی هذه الثورة عام" 145 ه / 762 م "اتخذ جملة من الإجراءات المتشددة ضد العلویین، التی لم تقتصر علیهم فقط بل شملت شیعتهم ومریدیهم، الأمر الذی انعکس بدوره علی إقامة الشعائر الحسینیة، لأن العباسیین کانوا یدرکون ما لهذه الشعائر من أثر علی نفوس الناس واستقطابهم وتعاطفهم مع آل البیت ومطالبهم السیاسیة، وخوفهم من أن تتحول تلک التجمعات العزائیة إلی منبر إعلامی یجدد ظلامة آل البیت ورافد بشری لدعم الثورات العلویة ضد الحکم العباسی وهذا ما کان یخشاه الخلفاء العباسیون من تلک الشعائر الحسینیة.

ص:370

ومن الإجراءات التی قام بها أبو جعفر المنصور لمنع إقامة الشعائر الحسینیة هو منع زیارة قبر الإمام الحسین علیه السلام والتجمع عنده وإقامة المأتم علیه، وهذا ما أشار إلیه مسمع بن عبد الملک کردین البصری(1) ، عندما سأله الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) بقوله "یا مسمع أنت من أهل العراق أما تأتی قبر الحسین (علیه السلام) قلت: لا أنا رجل مشهور عند أهل البصرة، وعندنا من یتبع هوی هذا الخلیفة، وعدونا کثیر من أهل القبائل من النصاب وغیرهم ولست آمنهم أن یرفعوا حالی عند ولد سلیمان(2) فیمثلون بی. قال لی: أفما تذکر ما صنع به، قلت نعم قال: فتجزع قلت: أی والله وأستعبر لذلک ویری أهلی أثر ذلک علی فأمتنع من الطعام حتی یتبین ذلک فی وجهی قال: رحم الله دمعتک أما إنّک من الذین یعدون من أهل الجزع لنا والذین یفرحون لفرحنا ویحزنون لحزننا ویخافون لخوفنا ویؤمنون إذا أمنا أما إنّک ستری عند موتک حضور أبائی..."(3).

ص:371

لقد دل النص السابق علی حالة المنع السیاسی الذی کان یفرض علی الشیعة من خلال شدة الإجراءات التی کانت یتخذها العباسیون وخصوصاً للمعروفین منهم، کما یشیر النص إلی وجود النصاب المخالفین وغیرهم وخوف عقوبة بنی العباس والتی تصل حد التمثیل علی ما ورد فی الروایة، وکذلک تظهر الروایات حال الخوف الذی کان علیه الشیعة فی أیام بنی العباس فی حال زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) ومن ذلک قول عبد الله بن حماد البصری(1) للإمام الصادق (علیه السلام):" جعلت فداک قد کنت آتیه - قبر الحسین - حتی بلیت بالسلطان وفی حفظ أموالهم وأنا عندهم مشهور فترکت للتقیة إتیانه، ثم قال له الإمام: بلغنی أن قوماً یأتونه من نواحی الکوفة وناساً من غیرهم ونساء یندبنه، وذلک فی النصف من شعبان فمن بین قارئ یقرأ، وقاص یقص، ونأدب یندب، وقائل یقول المراثی قلت له نعم: جعلت فداک قد شهدت بعض ما تصف، فقال: الحمد لله الذی جعل فی الناس من یفد إلینا ویمدحنا ویرثی لنا، وجعل عدونا من یطعن علیهم من قرابتنا وغیرهم یهددونهم ویقبحون ما یصنعون"(2).

ص:372

یظهر لنا هذا النص عدم توقف الشعائر الحسینیة والتطور الذی حصل بأسالیبها علی الرغم من الإجراءات التعسفیة للسلطة العباسیة، ویبدو أن حالة المنع کانت تشمل فئات معینة من المجتمع ووفق متطلبات الوضع السیاسی لا سیما مطاردة بعض من یشکل خطراً علی السلطة أو الخوف من التحاقهم بمن یقوم بثورة ضد العباسیین، حیث غدا قبر الإمام الحسین علیه السلام موضع التقاءٍ وتجمعٍ من نواحی العراق کافة وأرجاء مختلفة من العالم الإسلامی وعنصر جذب لجمیع شیعته ومحبیه.

إنّ طبیعة الواقع السیاسی لکل خلیفة عباسی ومتبنیاته حول علاقته بالعلویین تحدد نمطیة إقامة الشعائر الحسینیة، ویبدو انعکاسات ذلک فی عصر هارون الرشید العباسی(1) (170 ه - 193 ه / 787-789 م)، الذی عرف بعداوته للعلویین وشیعتهم، من قبل أن یتولی شؤون الخلافة، والتی اشتدت بعد وصوله لها حتی أنه أقسم علی استئصالهم بقوله: "حتام أصبر علی آل أبی طالب والله لأقتلنهم ولأقتلن شیعتهم ولأفعلن وأفعلن" (2) ولعل الرشید الذی توجس خیفة من وجود إدریس بن عبد الله بن الحسن المحض(3)

ص:373

فی المغرب العربی، ووجود أخیه یحیی بن عبد الله بن الحسن المحض(1) فی بلاد الدیلم حتی سعی بالقضاء علیهما، ووجود الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) فی المدینة المنورة حتی سعی بإلقاء القبض علیه وسجنه ومن ثم قتله بالسم عام "183 ه / 799 م)، فمن الطبیعی أن یری الرشید فی قبر الإمام الحسین (علیه السلام) الذی غدا قبلة الزائرین الذین یعلنون ولاءهم لآل البیت (علیهم السلام) ویتبرأون من أعدائهم خطراً یهدد عرش الخلافة العباسیة، لذا نراه فی عام (193 ه / 808 م) یقدم علی استدعاء خدمة قبر الإمام الحسین علیه السلام لمعرفة من أوکل إلیهم هذا العمل، والذین خشوا علی أنفسهم من عقوبته مما اضطر أحد أفراد حاشیته المدعو الحسن بن راشد إلی التعاطف معهم، بأن ألقی باللأئمة علی أم موسی. أم الخلیفة المهدی وجدة الرشید عذراً لإنقاذهم من عقوبته وهذا ما أشار إلیه الطبری بقوله:" بعث الرشید إلی ابن أبی داود، والذین یخدمون قبر الحسین بن علی فی الحیر، قال فأتی بهم، فنظر إلیه الحسن بن راشد وقال: ما لک؟ قال: بعث إلیّ هذا الرجل - أی الرشید - فأحضرنی ولست آمنه علی نفسی، قال له: فإذا دخلت علیه فسألک، فقل له: الحسن بن راشد وضعنی فی هذا الموضع، فلما دخل علیه، قال: هذا القول، قال: ما أخلق أن یکون هذا من تخلیط

ص:374

الحسن، أحضروه. قال فلما حضر قال: ما حملک علی أن صیرت هذا الرجل فی الحیر؟ قال رحم الله من صیره فی الحیر أمرتنی أم موسی أن أصیره فیه، وأن أجری علیه فی کل شهر ثلاثین درهماً"(1). ثم یقدم بعد ذلک علی هدم قبر الإمام الحسین (علیه السلام) عندما أسند هذه المهمة إلی والیه علی الکوفة موسی بن عیسی العباسی(2) ، وهذا ما أشار إلیه الطوسی عندما أورد روایة هدم وحرث قبر الإمام الحسین (علیه السلام) زمن هارون الرشید، واستنکار أبی بکر بن عیاش(3) علی ما عمله موسی بن عیسی بقبر الإمام الحسین (علیه السلام) قائلاً له: "إنّی رأتک وما صنعت بهذا القبر، قال: أی قبر؟ قال: قبر الحسین بن علی بن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وکان موسی قد وجه إلیه من کربه وکرب جمیع أرض الحائر وحرثها وزرع الزرع فیها، فانتفخ موسی حتی کاد أن ینقد، ثم قال: وما أنت وذا...)(4).

ص:375

کما ذکر الشیخ الطوسی ما یؤکد هدم وکرب قبر الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) من قبل هارون الرشید عندما أورد روایة بسنده إلی یحیی بن المغیرة الرازی(1) الذی قال:" کنت عند جریر بن عبد الحمید(2) إذ جاءه رجل من أهل العراق، فسأله جریر عن خبر الناس، فقال ترکت الرشید، وقد کرب قبر الحسین (علیه السلام) وأمر أن تقطع السدرة التی فیه فقطعت، قال: فرفع جریر یدیه وقال: الله أکبر جاءنا فیه حدیث عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أنه قال: "لعن الله قاطع السدرة، ثلاثاً، فلم نقف علی معناه حتی الآن لأن القصد بقطعه تغییر مصرع الحسین (علیه السلام) حتی لا یقف الناس علی قبره"(3).

أما عن موقف الأمین(4) العباسی (193 ه - 198 ه / 808 م -

ص:376

903 م) من الشعائر الحسینیة فالمرجح أنها شهدت إقبالاً کثیراً إذ لم یکن هنالک أی قیود أو إجراءات اتبعت ضدها فقد انشغل الأمین عن تتبع العلویین واضطهادهم باللهو والترف ومن ثم بالفتن والاضطرابات الکثیرة التی واجهته، وقد أشار أبو الفرج الأصفهانی إلی ذلک بقوله:" وکانت سیرة محمد - أی فی آل أبی طالب - خلاف ما تقدم لتشاغله بما کان فیه من اللهو والإدمان له، ثم الحرب التی کانت بینه وبین المأمون حتی قتل فلم یحدث علی أحد منهم فی أیامه حدث بوجه ولا سبب"(1).

فمن الطبیعی أن تجد الشیعة فی ذلک الانشغال متسعاً من الحریة فی إقامة الشعائر وزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام).

وفی عهد المأمون العباسی (198-218 ه / 808 م - 833 م)، الذی اتبع سیاسیة اللین والتسامح والاحتواء مع العلویین لامتصاص حالة الحنق والغضب التی کان یعیشها العلویون وشیعتهم تجاه بنی العباس، وذلک باتباعه جملة من الإجراءات منها إسناد ولایة العهد(2) للإمام علی بن موسی الرضا (علیه السلام) عام (201 ه / 816 م) وتولیة أخیه إبراهیم بن موسی بن جعفر(3) (علیه السلام) إمرة الحج عام (202 ه / 817 م) وتزویج ابنتیه أم حبیب من الإمام علی بن موسی الرضا (علیه السلام)،

ص:377

وأم الفضل من الإمام محمد بن علی الجواد (علیه السلام) عام (202 ه / 817 م)(1) ومن الطبیعی أن تنعکس تلک السیاسة علی أداء الشعائر الحسینیة حیث تمکن الإمام الرضا (علیه السلام) وأتباع آل البیت من إقامتها دون رقابة أو ضغوط سیاسیة، کما کان لإقدام المأمون علی إظهار قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وبنائه بناءً شامخاً ظل شاخصاً حتی عام (232 ه / 846 م) أثر فی أداء شعیرة الزیارة لقبر الإمام الحسین (علیه السلام)(2).

لقد کان لسیاسیة الاحتواء التی اتبعها المأمون مع العلویین ووصیته لولی عهده المعتصم(3) باتباع سیاسة اللین والتسامح مع العلویین والتی جاء فیها: "...وهؤلاء بنو عمک من ولد أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب فأحسن صحبتهم وتجاوز عن مسیئهم واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها فی کل سنة من حملها فإن حقوقهم تجبی من وجوه شتی"(4). أثرت فی موقف المعتصم" 218-227 ه / 833 م / 841 م "وولده الواثق(5)" 227 -

ص:378

232 ه 833 م - 846 م "من ممارسة الشعائر الحسینیة، حیث منح العلویین(1) وأتباعهم نوعاً من الحریة فی ممارستها وزیارة قبر الإمام الحسین علیه السلام وکانت وفود الزائرین ترد علی عهدیهما جماعات وأفراداً علی کربلاء وتقوم بدورها من إقامة مجالس العزاء علی ذلک القبر الطاهر وعلی سائر قبور الشهداء(2). وقد أشار أبو الفرج الأصفهانی إلی سیاسة الواثق التسامحیة مع العلویین بقوله:" وکان آل أبی طالب مجتمعین بسر من رأی فی أیامه تدور الأرزاق علیهم حتی تفرقوا أیام المتوکل"(3). الأمر الذی لا یستبعد إقامة الشعائر الحسینیة فی سامراء علی عهده.

أما فی فترة خلافة المتوکل العباسی الذی تبوأ عرش الخلافة العباسیة فی سنة (232-247 ه / 846-861 م) اتسمت بالشدة ومتابعة العلویین والتنکیل بهم، وقد خالف أسلافه حتی وصفه ابن الأثیر بقوله: "وقیل إنّ المتوکل کان یبغض من تقدمه من الخلفاء، المأمون والمعتصم والواثق فی محبة علی وأهل بیته. وأنه کان شدید البغض لعلی بن أبی طالب ولأهل بیته وکان من یبلغه أنه یتولی علیاً وأهله بأخذ المال والدم"(4).

ص:379

لم یکتف المتوکل بسیاسة القمع والشدة مع العلویین وشیعتهم بل طالت تلک السیاسة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) خلال الفترة الممتدة من (232 ه / 846 م) وحتی سنة (247 ه / 861 م) وکان القبر الشریف عرضة للهدم والتخریب لعدة مرات. کما قام باتخاذ إجراءات مشددة علی زوار قبر الإمام الحسین (علیه السلام) بإقامة المسالح علی الطرق المؤدیة إلی کربلاء وإنزال العقوبات علی من یخالف أمر الخلیفة فقد وصف أبو الفرج الأصفهانی هذه الفترة بقوله:" کان المتوکل شدید الوطأة علی آل أبی طالب وغلیظاً علی جماعتهم متهماً بأمورهم شدید الغیظ والحقد علیهم وسوء الظن والتهمة لهم واتفق أن فتح بن خاقان(1) وزیره کان سیئ الرأی فیهم یحسن له القبیح فی معاملتهم فبلغ بهم ما لم یبلغه أحد من خلفاء بنی العباس قبله، وکان من ذلک کرب قبر الحسین (علیه السلام) وعفی آثاره، ووضع علی سائر طرق الزوار مسالح لا یجدون أحداً زاره إلا أتوا به فقتله أو أنهکه عقوبة"(2). وقد أرجع أبو الفرج الأصفهانی سبب فعلته فی هدم قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وتخریبه إلی ذهاب أحدی جواریه لزیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) عندما ذکر: "أن بعض المغنیات التی کانت تبعث بجواریها إلیه قبل

ص:380

الخلافة یغنین له إذا شرب، فلما ولیها بعث إلی تلک المغنیة فعرف أنها غائبة، أو کانت قد زارت قبر الحسین وبلغها خبره، فأسرعت الرجوع، وبعثت إلیه بجاریة من جواریها کان یألفها فقال لها: أین کنتم؟ قالت: خرجت مولاتی إلی الحج وأخرجتنا معها وکان ذلک فی شعبان، فقال: إلی أین حججتم فی شعبان؟ قالت إلی قبر الحسین، فاستطیر غضباً وأمر بمولاتها فحبست واستصفی أملاکها وبعث برجل من أصحابه یقال له الدیزج(1) وکان یهودیاً فأسلم إلی قبر الحسین وأمره بکرب قبره ومحوه واخراب کل ما حوله، فخطی ذلک وخرب ما حوله وهدم البناء وکرب ما حوله نحو مائتی جریب(2) فلما بلغ إلی قبره لم یتقدم إلیه أحد فأحضر قوماً من إلیهود فکربوه وأجری الماء حوله ووکل به مسالح بین کل مسحلتین میل لا یزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إلیه"(3).

ولعل الباعث فی قلق الخلیفة وغضبه أن وصل الأمر إلی داخل قصره، فالذی یستفاد من روایة الأصفهانی أن زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام) أصبحت تیاراً ملحوظاً خصوصاً أنها جاءت فی شعبان والتی تعد من کبریات مواسم الزیارة والتی باتت لا تقتصر علی الشیعة وحدهم بل امتدت لتصل

ص:381

إلی حاشیة الخلیفة وخاصة جواریه. کما یظهر من الروایة أیضاً أن الشیعة قد اتخذوا دوراً ومنازلَ حول قبر الإمام الحسین (علیه السلام) وهذا ما دعا المتوکل العباسی إلی تهدیم وتخریب الدور التی حوله وأنه أمر بإقامة المسالح للمراقبة ومنع الزوار من أن تصل إلی قبر الحسین (علیه السلام) ورغم ذلک لم یستطع المتوکل بتلک الإجراءات المتشددة أن یمنع زیارة قبر الإمام الحسین (علیه السلام).

أما ابن الأثیر، فإنّه ذکر فی أحداث سنة (236 ه / 850 م) أن المتوکل" أمر بهدم قبر الحسین بن علی (علیهما السلام) وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن یبذر ویسقی موضع القبر وأن یمنع الناس من إتیانه فنادی الناس فی تلک الناحیة من وجدناه عند قبره بعد ثلاث حبسناه فی المطبق، فهرب الناس وترکوا زیارته وخرب وزرع "(1) وأرجع ابن الأثیر سوء فعلته إلی أنه کان منحرفاً عن علی (علیه السلام) وأن حالة النصب التی عنده بسبب حاشیته بقوله:" کان ینادمه ویجالسه جماعة اشتهروا بالنصب والبغض لعلی منهم علی بن الجهم(2) الشاعر الشامی وعمرو بن فرج

ص:382

الرخجی(1) وأبو السمط (2) من ولد مروان بن أبی حفصة من موالی بنی أمیة، وعبد الله بن محمد ابن داود الهاشمی(3) المعروف بابن أترجه، وکانوا یخوفونه من العلویین ویشیرون علیه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إلیهم ثم حسنوا إلیه الوقیعة فی أسلافهم الذین یعتقد الناس علو منزلتهم فی الدین، ولم یبرحوا به حتی ظهر منه ما کان"(4).

أما المسعودی، فقد ذکر الحادثة بقوله: "وفی سنة (236 ه / 850 م)

ص:383

أمر المتوکل المعروف بالدیزج بالمسیر إلی قبر الحسین بن علی (علیهما السلام) وهدمه ومحو أرضه وإزالة أثره وأن یعاقب من وجد به، فبذل له الرغائب لمن تقدم علی هذا القبر فکل خشی العقوبة وأحجم فتنأول الدیزج وهدم أعالی قبر الحسین فحینئذ أقدم الفعلة فیه"(1).

ویورد الطوسی، شهادة الدیزج نفسه فی هدم وتخریب قبر الإمام الحسین علیه السلام بقوله:" بعثنی المتوکل إلی کربلاء لنبش قبر الحسین (علیه السلام) وکتب معی إلی جعفر بن محمد بن عمار(2) القاضی: أعلمک إنّی قد بعثت إبراهیم الدیزج إلی کربلاء لنبش قبر الحسین (علیه السلام) فإذا قرأت کتابی هذا فقف علی الأمر حتی تعرف فعل أو لم یفعل. قال الدیزج: فعرفنی جعفر بن محمد ما کتب بهِ إلیه، ففعلت ما أمرنی به جعفر بن محمد بن عمار، ثم أتیته فقال لی: ما صنعت؟ فقلت: قد فعلت ما أمرت به فلم أر شیئاً ولم أجد شیئاً فقال لی أفلا عمقته؟ قلت قد فعلت فما رأیت فکتب إلی السلطان أن إبراهیم الدیزج قد نبش القبر فلم یجد شیئاً وأمرته فمخره بالماء وکرب القبر.."(3).

وأحدثت إجراءات المتوکل ردود فعل عنیفة فغدا الخلیفة جراء ما أقدم علیه من تهدیم القبر وتخریبه مثلاً لاستهجان وسخریة المسلمین، وکتب أهل بغداد شتمة علی الحیطان والمساجد، کما هجته الشعراء بقصائد لاذعة لدعبل

ص:384

وغیره من الشعراء ومنها قول البسامی(1):

تالله إن کانت أمیة قد أتت قتل ابن بنت نبیها مظلوماً

فلقد أتاه بنو أبیه بمثله هذا لعمرک قبره مهدوماً

أسفوا علی أن لا یکونوا شارکوا فی قتله فتتبعوه رمیماً(2)

وقد هجاه دعبل بن علی الخزاعی بقصیدة مشهورة منها(3)

زر خیر قبر فی العراق یزار واعص الحمار فمن نهاک حمار

لم لا أزورک یا حسین لک الفدا قومی ومن عطفت علیه نزار

ولک المودة من قلوب ذوی النهی وعلی عدوک مقتة ودمار

ومنها قول الشاعر علی بن العباس الرومی(4) ، من قصیدة یرثی بها

ص:385

یحیی بن عمر بن الحسین بن زید بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (علیهم السلام)(1) بقوله:

إمامک فانظر أی نهجیک تنهج طریقان شتی مستقیم وأعوج

إلی أن یقول:

ولم تقنعوا حتی استثارت قبورهم کلابکم منها بهیم ودیزج