موسوعه فی ظلال شهداء الطف

اشارة

سرشناسه:صمیانی، حیدر، 1336 -

عنوان و نام پدیدآور:موسوعه فی ظلال شهداء الطف/ تالیف حیدر الصمیانی.

مشخصات نشر: کربلای معلی - قم - العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة 1434

مشخصات ظاهری:4ج.

شابک:978-964-538-250-4

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

یادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه: ص. [359] - 376؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع:حسین بن علی (ع)، امام سوم، 4 - 61ق.

موضوع:واقعه کربلا، 61ق.

رده بندی کنگره:BP41/5/ص8م8 1390

رده بندی دیویی:297/9534

شماره کتابشناسی ملی:2463263

ص :1

المجلد 1

هویة الکتاب

موسوعه فی ظلال شهداء الطف

تالیف حیدر الصمیانی

ص :2

* هویة الکتاب

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق - وزارة الثقافة العراقیة لسنة 337:2013

الصمیانی، حیدر

موسوعة فی ظلال شهداء الطف / تألیف حیدر الصمیانی؛ [تقدیم اللجنة العلمیة فی قسم الشؤون الفکریة والثقافیة. محمد علی الحلو]. - کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة 1434 ق. Í 2013 م.

4 ج. - (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة؛ 121).

المصادر. 9789933489687: ISBN

1. الحسین بن علی (علیه السلام)، الإمام الثالث، 61 4 ه -. أصحاب السیرة. 2. الحسین بن علی (علیه السلام)، الإمام الثالث، 61 4 ه -. أصحاب صفات. 3. واقعة کربلاء، 61 ه -. شهداء. 4. التاریخ الإسلامی العصر الأموی شبهات وردود. ألف. الحلو، محمد علی، 1957 -، مقدم. ب. العنوان 2013 269 S . 3 A . 193.13 BP

تمت الفهرسة قبل النشر فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة

ص:3

تألیف

الشیخ حیدر الصمیانی

جمیع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1434 ه - 2013 م

العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسینیة المقدسة

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - هاتف: 326499

الموقع الالکترونی: imamhussain-lib.com

البرید الالکترونی: info@imamhussain-lib.com

ص:4

قال الإمام الصادق علیه السلام

فی زیارته لأصحاب الحسین علیه السلام:

السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَوْلِیاءَ اللهِ وَأَحِبَّاءَهُ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَصْفِیاءَ اللهِ وَأَوِدَّاءَهِ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَنْصارَ دِینِ اللهِ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَنْصارَ رَسُولِ اللهِ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَنْصارَ أَمِیرِ المُؤْمِنِینَ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَنْصارَ فاطِمَةَ سَیِّدَةِ نِساءِ العالَمِینَ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَنْصارَ أَبِی مُحَمَّد الحَسَنِ بْنِ عَلِیٍّ الوَلِیِّ النَّاصِحِ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یا أَنْصارَ أَبِی عَبْدِ اللهِ، بِأَبِی أَنْتُمْ وَاُمِّی طِبْتُمْ وَطابَتِ الأَرْضُ الَّتِی فِیها دُفِنْتُمْ وَفُزْتُمْ فَوْزاً عَظِیماً فَیالَیْتَنِی کُنْتُ مَعَکُمْ فَأَفُوزَ مَعَکُمْ.

زیارة وارث

ص:5

الإهداء

إلی ریحانة المصطفی وابن علی المرتضی وابن فاطمة الزهراء

أبی عبد الله الحسین علیه السلام.

إلی من قدموا الغالی والنفیس من أجل دین الله ورسوله.

إلی من طلقوا الدنیا وکل زینتها وزبرجها دفاعاً عن الشریعة.

إلی من قدموا دماء هم رخیصة بین یدی أبی عبد الله الحسین علیه السلام.

إلی الذین لم یسبقهم من کان قبلهم، ولم یلحقهم من جاء بعدهم.

إلی من قال الحسین علیه السلام فی حقهم:

ما رأیت أصحاباً أبر وأوفی من أصحابی.

إلی شهداء الطف جمیعاً أهدی هذا الجهد المتواضع راجیاً منهم القبول والشفاعة.

ص:6

مقدمة اللجنة العلمیّة

تُشکل مجموعة انصار الحسین علیه السلام منحیً آخر من مناحی البحث فی حرکة الإمام الحسین علیه السلام إذ التعددیة التی تمیّز مجموعة الأصحاب تنعکس علی التعددیة الفکریة والثقافیة والاجتماعیة التی عُرفت بها هذه المجموعة لکنها تشترک فی نمط أخلاقی - عقائدی یُشیر الی المستوی القیمی لهذه المجموعة، وبمعنی آخر فان تسلیط الضوء علی مجمل هذه الحرکة یُعطی بُعداً آخر من المعرفة الاجمالیة للثورة الحسینیة ومعلماً آخر من ملامح هذه النهضة، إذ التوجهات المتعددة لأنصار الإمام الحسین علیه السلام تکشف أن النهضة الحسینیة استقطبت کل التوجهات الفکریة والثقافیة وانها لم تقتصر علی اتجاه دون آخر ولا ثقافة دون أخری، بل هی متعددة التوجهات الثقافیة التی ترعرعت فی جو عقائدی واحد وهو طاعة المعصوم والتسلیم له. ان کشفاً سریعاً لهذه المجموعة من الأصحاب تعطی کشفاً حقیقیاً لنموذج عقائدی تشترک فیه جمیع المستویات الثقافیة والرؤی المختلفة، وهذا فی واقعه یُعطی بُعداً آخر لثورة الإمام الحسین علیه السلام تکشف عن قوة تأثیر الاستقطاب الذی أحرزته هذه

ص:7

الثورة والحالة الإنسانیة التی حملتها حتی راح الجمیع یستشعرون مسؤولیتهم من خلال الانضمام إلیها.

إذن فان الدراسات فی مضمار الثورة الحسینیة وتقدیم الأنموذج الأکمل لکوادرها أصحاب الحسین علیه السلام وهو فنٌ قائم بذاته، إذ محاولة البحث فی أسماء هؤلاء الأصحاب والتأشیر علی سیرتهم وتوجهاتهم یحتاج الی جهود کبیرة للوصول الی بعض النتائج، کما أن الخلط الذی صاحب بعض الأخبار فیما یتعلق بهذه الصفوة من الأصحاب یحثُ الباحث علی بذل الجهد فی تخلیص الواقع التاریخی لهؤلاء مما اکتشفته کتابات البحث.

لذا فان الدعوة قائمة الی بذل الوسع فی تحقیق هذه البحوث ونشر هذه المعارف لیتسنی لنا الوقوف علی حقائق مفقودة کثیرة.

ان ما قدمه الشیخ حیدر الصمیانی من جهد فی دراسة شهداء الطف جهدٌ یضاف الی الجهود المبذولة فی هذا الشأن، حیث سلط الأضواء علی سیرة وحیاة الشهداء رضوان الله علیهم وسعی فی إیجاد بحوث ترفع الکثیر من حالات الخلط،

دام موفقاً لبحوث أخری.

عن اللجنة العلمیة

السید محمد علی الحلو

ص:8

المقدمة

لماذا هذه الموسوعة ؟

الحدیث عن أبطال کربلاء ورجالاتها یمثل فی الواقع حدیثاً عن لبّ کربلاء ولبابها، لأن کربلاء - والتی نحتفی بها وبذکرها دائماً إنما هی فی الواقع مجموعة من المواقف العظیمة التی سطرها لنا مجموعة من الناس لم یدرکهم الأولون بعمل ولم یلحقهم الآخرون بعمل.

ولقد کُتبت عن الثورة الحسینیة المبارکة وعن رجالها الکثیر من الکتب والمقالات وألقیت العدید من المحاضرات والخطابات وأقیمت شتی البحوث والندوات، وهذا أمر مُسلَّم به ویشعر به کل واحد منها بلا أدنی شک وریب. ولکنها مع کثرتها لم تستوعب - حسب علمی - کل مجالات کربلاء لاسیما المتعلق برجالها ورموزها والتی یقول الحسین علیه السلام فی حقها:

«إنی لا أعلم أصحاباً ولا أهل بیت أبرّ ولا أوصل من أصحابی وأهل بیتی»(1).

ص:9


1- (1) الکامل فی التاریخ: 57/4.

نعم الفت فی حقهم بشکل خاص مجموعة من المؤلفات مشکورةً أمثال «أنصار الحسین» للعلامة المرحوم محمد مهدی شمس الدین و «وسیلة الدارین» للسید الزنجانی و «الحدائق الوردیة» للمؤرخ الزیدی حمید بن أحمد المحلی و «إبصار العین» للشیخ محمد السماوی وأمثال هذه الکتابات، ولکنها کانت تتحدث بشکل مقتضب عنهم (رض)، حتی أن بعض المترجم عنهم لا یتعدی الحدیث عنه السطرین أو الثلاثة، وحتی لو کُتب عنهم فإن مستوی هذه الکتابات إنما هو فی حدود واقعة کربلاء، أو ما یرتبط بها کثورة مسلم بن عقیل فی الکوفة، والذی لا یتعدی فی أفضل الأحوال عدد الأصابع من الشهداء وبقی الکمُّ الغفیر فی دائرة الظلام لا یذکرون ولا یتحدث عنهم ولا یسلط علیهم الضوء بل ولا تعرف حتی أسماؤهم، وهذا لعمرک ظلم کبیر وتعدٍّ عظیم علی مثل هذه الشخصیات الکبیرة والمهمة فی نفس الوقت، والتی ینبغی أن یُشار إلیهم وإلی ما قدموا من أعمال جلیلة وکبیرة للإسلام وللمسلمین.

من هنا فقد رأیت من اللازم علینا أن نتحدث عن هذه الشخصیات وما یرتبط بها من أمور وأحداث.

وکانت البدایة عبارة عن مجموعة من المجالس المتناثرة التی ألقیت فی الکویت حول شهداء الطف، حیث أخذتُ أتحدث عنهم بشکل مستقل فی کل لیلة فرأیت أن التفاعل بدأ یکبر والانشداد بدأ یزداد وأخذت الأسئلة تتری وتتسع حولهم (رض)، بل وأخذت الدعوات تأتینی من قبل الکثیرین من الأخوة الأعزاء والذین کانوا یحضرون مجالسنا فی ضرورة تدوین هذه المعلومات مع مصادرها

ص:10

فی کتاب حتی یمکن أن یکون مرجعاً وموئلاً للمؤمنین فی الحصول علی معلومات معینة حول أی شخصیة من شخصیات کربلاء المقدسة، فضلاً عن کلمات الشکر والامتنان التی أتحفونی بها جزاهم الله عنی خیرا، ولمّا رأیت الأمر قد وصل إلی هذا الحدّ علمت بأن أعباء المسؤولیة قد بانت معالمها علیّ (وإذا أراد اللهُ أمراً هیّأ له أسبابه).

وأخذتُ القلمَ وبدأت أکتبُ فوجدتُ ثقلَ القلمِ قد أَخَذَ یخنقنی حیث لم أتعوّد أن أکتب سابقاً إلا فی حدود المحاضرات المنبریة التی لها طراز خاص وطابع خاص یختلف کثیراً عن التألیف والکتابة لا سیما فی مواضیع من هذا القبیل کما لا یخفی علی أهل الاختصاص ذلک. ولکنی کنت عازماً ومصمماً علی المضی فی هذا الطریق وعدم الوقوف فیه أمام عثراته الأولی وأنا أعلم أنها ستکون موجودة ومتوفرة لاسیما خلال البدایة الأولی من تألیف هذا الکتاب.

فتوکلت علی الله، وبذلت الوقت والجهد فی البحث والتنقیب، والذی لم یکن بسیطاً وسهلاً أبداً کما لا یخفی علی من خاض فی هذا المجال، فلقد کانت المعلومات نادرة عنهم (رض) بل ربما کانت عن بعضهم شبه معدومة بالکامل.

وبعد أکثر من سنة ونصف من البحث والتنقیب والمطالعة استطعت أن اکْمل - بتوفیق الله وتسدیداته - الحدیث عنهم فی الجزء الأول من هذا الکتاب الذی أسمیته «موسوعة فی ظلال شهداء الطف» وإنما اخترت «فی ظلال» دون بقیة الکلمات الأخری لأنی قصدت بذلک أن أجمع کل ما یعود من معلومات عنهم (رض) وأضعها تحت خیمة واحدة أطلقت علیها کلمة «ظلال». فقد ذکرتُ

ص:11

ما أستطیع من أسماء آبائهم (رض) وأخوانهم وأبنائهم بل وعنهم (رض)، حیث کان بعضهم راویاً ثقة روت عنه صحاح المسلمین عند الفریقین، وللمثال أذکر هنا شخصیة الشهید عبد الله بن بشر الخثعمی (رض) حیث روی عنه البخاری والبیهقی وأحمد وغیرهم، الکثیر من الروایات؛ حیث ذکرتها وذکرتُ ما یمکن أن یکون محل الدرس والعظة والعبرة فیها.

وهکذا کانت شخصیة الشهید أبو الشعثاء الکندی حیث عُدّ من جملة رجالات الطبری فی تفسیره کما سیأتینا عند الحدیث عنه فی الجزء الأول من هذه الموسوعة، وهذا فیض من غیض الشهداء الکربلائیین (رض)، الذین ینبغی علینا أن نقدم للناس آثارهم وما قدموه لتکون لنا مناراً یُهتدی به.

ولقد بذلت جهدی أن أجعل هذه الموسوعة - التی ربما تمتد فی أجزائها إلی اثنی عشر جزءاً بإذن الله تعالی - سهلة سلسة فی کلماتها ومواضع العظة والعبرة بها مبتعداً قدر الاستطاعة عن التعقید والصعوبة من أجل أن تکون - وهذا ما نریده ونتأمله - أقرب إلی فهم عامة الناس لتکون الفائدة أعم، وإنی إذ أقدم هذا الجزء الأول أتمنی منه سبحانه وتعالی أن یعیننی علی إتمام بقیة الأجزاء الأخری، فإن حق هذه الفئة من الناس علینا کبیر بل لا یوجد مسلم فی شرق الأرض وغربها عَلم بذلک أم جَهِلَ إلا وفی رقبته حق لهم علیه.

ولا یفوتنی أن أدعو الله - وهذا من الواجب علیّ - لکل أولئک الذین کان لهم الفضل والمنة علیّ فی انجاز مثل هذا العمل سواءً بالفکرة والنصیحة والإرشاد أو بالحث والدفع والنصرة أو بالمراجعة والتدقیق والتصحیح أو بالدعاء لنا

ص:12

بالتوفیق، أدعوا لهم جمیعاً أن لا یحرمنی منهم ومن عطائهم وأن یجعلهم دائماً فی طریق الخیر والعمل الصالح.

وأخیراً فإن هذا العمل بذلت جهدی فیه من أجل إخراجه - علی قدر ما استطیع - مناسباً لا کاملاً فإن الکمال لله سبحانه وتعالی، وعلیه فإن کان فیه نقص فی ألفاظه ومعانیه أو فی فکرته ومضمونه فإنی أرجو من أخوانی القراء جمیعاً أن یبینوها لی من خلال وسیلة الاتصال المدونة آخر هذه المقدمة حتی یمکن لی أن أتدارک الصالح منها فی المستقبل إن شاء الله تعالی فإن النقد البناء لا یمکن أن یستغنی عنه أحدٌ مهما أوتی من العلم وغزارة المعلومات.

وقد شاءت أقدار الله سبحانه وتعالی أن تکون آخر کلمات هذا الکتاب تنتهی فی یوم ولادة الإمام الحسین علیه السلام فی الثالث من شعبان سنة 1432 ه - لتکون هذه الموسوعة قد ولدت مع ذکری ولادة سید الشهداء علیه السلام لیجتمع اللفظ مع المعنی والشکل مع المضمون سائلاً الله سبحانه وتعالی أن یتقبله منی بأحسن قبوله وأن لا یحرمنی من شفاعة الحسین وأهل بیته وأصحابه إنه أرحم الراحمین.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمین.

حیدر الصمیانی

الثالث من شهر شعبان 1432 الموافق 2011/7/1

ص:13

من هم أصحاب الحسین علیه السلام ؟

اشارة

قال ابن أبی الحدید فی شرح النهج وهو یتحدث عن الإباء والشجاعة:

«قیل لرجل شهد یوم الطف مع عمر بن سعد: ویحک، أقتلتم ذریّة رسول الله؟! فقال: عضضتُ بالجندل(1) أنک لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلناه، ثارت علینا عصابة أیدیها فی مقابض سیوفها کالأسود الضاریة، تحطم الفرسان یمیناً وشمالاً، وتلقی أنفسها علی الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب فی المال، ولا یحول حائل بینهما وبین الورود علی حیاض المنیّة أو الاستیلاء علی الملک، فلو کففنا عنها رویداً لأتت علی نفوس العسکر بحذافیرها، فما کنّا فاعلین لا أمّ لک!»(2).

لقد أحسن هذا الرجل فی بیان صفة، أو صفات، أصحاب الحسین علیه السلام، لقد أعطاهم جملة من الصفات العظیمة، فهم الفدائیون، وهم أصحاب الشجاعة الفریدة، وهم المشتاقون إلی الجنّة، وهم الزاهدون فی الدنیا، وهم وهم، لقد أبان فضلهم وهو العدّو، والفضل ما شهدت به الأعداءُ، إنّها عصابة الحقّ التی یصفها

ص:14


1- (1) الجندل: الحجر العظیم.
2- (2) نهج البلاغة: ج 1 ص 307.

الله عزّ وجلّ بقوله:

«أُمَّةٌ یَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ یَعْدِلُونَ 1» .

ولو أراد الإنسان أن یستقصی صفاتهم وخصائصهم وما تمیزوا به، لاحتاج الأمر إلی مجلّدات لا إلی صفحات، ولقد قال الشیخ محمد جواد مغنیة عنهم: «ومن تتبّع سیرة أصحاب الحسین علیه السلام لا یجد لإخلاصهم وعزمهم نظیراً بین الشهداء وأتباع الأنبیاء کما لا یجد شبیهاً لتضحیات الحسین علیه السلام فی التاریخ کلّه، وقد أثنی علیهم الشعراء بما هم أهل لأکثر منه. قال الشیخ حسن البحرانی یصف إیمانهم وورعهم:

إن ینطقوا ذکروا أو یسکتوا فکّروا أو یغضبوا غفروا أو یُقطعوا وصلوا

أو یُظلموا صفحوا أو یوزنوا رجحوا أو یُسألوا سمحوا أو یحکموا عدلوا(1)

ولکن وکما یقال: ما لا یدرک کلّه لا یترک جلّه، حیث سنسلّط الأضواء علی بعض الصفات المهمّة التی تمیّزوا بها رضی الله عنهم

1. إنّهم مصطفون للشهادة قبل شهادتهم

وهذا ما دلّت علیه أخبار کثیرة نذکر منها ما یلی:

أ. عن أمیر المؤمنین: «أنّه خرج یسیر بالناس، حتی إذا کان بکربلاء علی میلین أو میل، تقدم بین أیدیهم حتی طاف بمکان یقال له «المقذفان» فقال: قُتل فیها مائتا نبی ومائتا سبط کلّهم شهداء، ومناخ رکاب ومصارع عشّاق شهداء، لا

ص:15


1- (2) المجالس الحسینیة للشیخ محمد جواد مغنیة: ص 61.

یسبقهم ممن کان قبلهم ولا یلحقهم من بعدهم».(1)

ب. حینما عُنِّف ابن عباس علی عدم نصرة الإمام الحسین علیه السلام أجاب، کما فی مناقب شهر آشوب: «إنّ أصحاب الحسین لم ینقصوا رجلاً ولم یزیدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم».(2)

ج. قال الإمام الباقر علیه السلام:

«ها هنا مناخ رکابهم ومصارع عشاقهم، شهداء لا یسبقهم من کان قبلهم ولا یلحقهم من کان بعدهم».(3)

د. عن الصادق علیه السلام:

«تفاخرت قطع الأرض بعضها علی بعض، فقالت أرض کربلاء بتواضع: أنا أرض الله المبارکة المقدّسة، الشفاء فی تربتی ومائی ولا فخر، بل أنا خاضعة ذلیلة لمن فعل بی ذلک، ولا فخر علی من دونی بل شکراً، فأکرمها الله وزادها بتواضعها وشُکرها لله بالحسین وأصحابه». (4)

ه -. عن المسیّب بن نجبة الفزاری: «لمّا أتانا سلمان الفارسی قادماً فلقیناه

فسار بنا إلی أرض کربلاء، فلما رحلنا قال: هذه مصارع أخوتی؛ هذا موضع

ص:16


1- (1) بحار الأنوار: ج 41 ص 290 ب 114 ح 18.
2- (2) مناقب آل أبی طالب: ج 4 ص 53.
3- (3) الخصائص العباسیة للکلباسی النجفی: ص 344.
4- (4) وسائل الشیعة: ج 14 ص 516.

رحالهم، وهذا مناخ رکابهم، وهذا مهراق دمائهم، یقتل فیها ابن خیر النبیّین، ویقتل فیها خیر الآخرین».(1)

و. قال الإمام الصادق علیه السلام فی زیارة وارث مخاطباً أولئک الشهداء من أصحاب الحسین علیه السلام:

«السلام علیکم یا أوصیاء الله وأحبّاءه، السلام علیکم یا أصفیاء الله وأودّاءه». (2)

ز. عن جبلة المکّیة قالت: سمعت میثم التمّار یقول: «یا جبلة، اعلمی أنّ الحسین بن علی سیّد الشهداء یوم القیامة، ولأصحابه علی سائر الشهداء درجة».(3)

ح. عن ابن عباس قال: فلمّا کانت اللیلة القابلة رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله فی منامی أشعث، فذکرت ذلک له وسألته عن شأنه فقال لی: «ألم تعلم أنّی فرغت الآن من دفن الحسین وأصحابه».(4)

2. الرحمة والشفقة علی الأعداء

وهذه مزیّة أخری من المزایا الکثیرة التی تمتّعت بها هذه الثلّة المؤمنة ألا وهی الشفقة والرحمة الملفتة للنظر والتی وصلت إلی حدّ أنّها شملت حتی

أعداءهم، حیث لم یکونوا یقاتلون انتقاماً ممّن وقفوا ضدّهم، وإنّما کانوا یقاتلون

ص:17


1- (1) فتوح البلدان: ص 406.
2- (2) مفاتیح الجنان: ص 430.
3- (3) علل الشرائع: ص 228.
4- (4) أمالی الشیخ الطوسی: ص 315.

حبّاً للخیر وانتصاراً للحقّ، وهذه هی مبادئ الإسلام التی جاء بها وطبقها رسول الله صلی الله علیه و آله فی حیاته، حتی نودی فی کتاب الله بقوله:

«وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ 1» .

فها هو التاریخ یحدّثنا أنّ النبی صلی الله علیه و آله امتنع عن قطع مجری الماء عن حصون خیبر، وهو الذی کان بأمسّ الحاجة إلی أن یسرع فی القضاء علی الیهود، أولئک الجرثومة التی بذل النبی صلی الله علیه و آله الکثیر من أجل أن یتعاملوا معه بالحسنی، ولکنهم کانوا ینقضون عهودهم ومیثاقهم مرّة بعد أخری، حتی نزل القرآن الکریم بقوله تعالی:

«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الَّذِینَ کَفَرُوا فَهُمْ لا یُؤْمِنُونَ * اَلَّذِینَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ یَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِی کُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا یَتَّقُونَ 2» .

والذی منع رسول الله من ذلک هو الرحمة، رحمة النبی صلی الله علیه و آله ورحمة القرآن ورحمة المنهج الذی جاء به علیهما السلام، بل إنّ الأعظم من ذلک هو أنّه علیهما السلام حینما فتح حصون خیبر وغنم من الیهود ما غنم من کمّیات کبیرة وهائلة من الذهب، وهم کانوا أصحاب الذهب وصاغته، وإذا به علیهما السلام یأمر أن یوزّع کلّ ذلک علی فقراء مکّة ومساکینها، رغم ما فعلته مکّة وکفّارها وأهلها به علیهما السلام حتی قیل: إنّ النبی صلی الله علیه و آله فتح قلوب أهل مکّة قبل أن یفتح مکّة، وهکذا صنع أمیر المؤمنین علیه السلام

ص:18

مع معاویة فی عدم منع الماء عن جنده فی حرب صفّین کما منعه معاویة عن جیش أمیر المؤمنین علیه السلام، وذلک لأنّ علیّاً کان ینطلق من قاعدة إنسانیة مهمة وهی:

«أنّ الناس صنفان: إمّا أخ لک فی الدین أو نظیر لک فی الخلق» (1).

فحتی لو کان أمامه عدوه فإنه یبقی یعامله کإنسان، له حقوق یجب أن لا تمنع منه، کالماء أو ما شاکل ذلک، بل لقد حرّمت الشریعة وضع السموم فی المیاه من أجل التخلّص من العدوّ والقضاء علیه، لما فی ذلک من معاملة غیر إنسانیة، ولقد سار علی هذا المنهج کل واحد من أئمّة أهل البیت علیهم السلام، والروایات والقصص فی ذلک کثیرة، ولقد وقف الحسین علیه السلام یوم العاشر من المحرم، ینظر إلی هذه الجموع الواقفة أمامه نظرة المسؤول، ونظرة الشخص الرحیم صاحب الخلق السامی العطوف الذی یمثّل الإسلام بعطفه والرسول بمحبّته، وقف یبکی فتسأله أخته زینب: لماذا کلّ هذا البکاء یا بن رسول الله؟

فقال:

«أبکی علی هؤلاء القوم، إنّهم سیدخلون النار بسببی» (2).

یا لها من إنسانیة فی أعلی صورها وأشکالها، یا لها من شفقة لا یستطیع الإنسان أن یجد لها مثیلاً إلاّ من خلال عدل القرآن وترجمانه، ألا وهم أهل البیت علیهم السلام، وقف الحسین علیهم السلام یوم العاشر من المحرّم یبکی علیهم لأنّه أراد لهم

ص:19


1- (1) شرح نهح البلاغة لابن أبی الحدید ج 17 /ص 33.
2- (2) بنور فاطمة اهتدیت لعبد المنعم حسن: ص 201

النجاة وأرادوا لأنفسهم الهلاک، فیبکی علی مصیرهم الذی سوف ینتهون إلیه، فکان تجسیداً لقوله تعالی:

«حَرِیصٌ عَلَیْکُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ 1» .

ووقف أنصاره وأصحابه یعایشون ما عایشه سیّد الشهداء، لأنّهم ذابوا فی الحسین علیه السلام فلم یکن لهم من مشاعر سوی مشاعر الحسین علیه السلام، ولهذا حملوها فی نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، یقف حنظلة بن أسعد الشبامی یوم العاشر من المحرّم متمثّلاً قوله تعالی:

«یا قَوْمِ إِنِّی أَخافُ عَلَیْکُمْ مِثْلَ یَوْمِ الْأَحْزابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللّهُ یُرِیدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ * وَ یا قَوْمِ إِنِّی أَخافُ عَلَیْکُمْ یَوْمَ التَّنادِ * یَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِینَ ما لَکُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ یُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ2» .

ویقف زهیر بن القین البجلی وهو یقول: «یا أهل الکوفة، نذار لکم من عذاب الله نذار لکم، إنّ حقّاً علی المسلم نصیحة أخیه المسلم، ونحن حتی الآن إخوة وعلی دین واحد وملّة واحدة»(1).

کلّ ذلک وغیره لیشیر وبشکل واضح إلی الرحمة العالیة والشفقة الکبیرة والقلب الواسع والصدر الرحب الذی یحمله أصحاب الحسین اتجاه أعدائهم الذین یریدون قتلهم، فضلاً عن أصحابهم ومحبیّهم.

ص:20


1- (3) إبصار العین للسماوی: ص 129.

3. المحافظة علی أوقات الصلاة

عرفوها کما هی فذابوا فیها، علموا أنّها معراجهم إلی الله فلم یتوانوا یوماً فی تعظیمها، سمعوها من أئمّة أهل البیت علیهم السلام أنّها عمود الدین فتمسکوا بها، إنّها الصلاة التی «إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها»(1) ، عاشوها مع علی علیه السلام الذی لم یترک صلاة اللیل حتی فی لیلة الهریر العظیمة فی معرکة صفین(2) ، وعاشوها مع الحسن علیه السلام الذی ینقل عنه ابن شهر آشوب قائلاً: «إنّ الحسن بن علی کان إذا توضّأ ارتعدت مفاصله واصفر لونه فقیل له فی ذلک فقال: «حقّ علی کلّ من وقف بین یدی ربّ العرش أن یصفرّ لونه وترتعد مفاصله». واذا بلغ المسجد رفع رأسه قائلاً: «إلهی، ضیفک ببابک، یا محسن قد أتاک المسیء، فتجاوز عن قبیح ما عندی بجمیل ما عندک یا کریم».(3)

وعاشوها مع الحسین الذی سمعوه یقول للعباس یوم التاسع من المحرم: «إن استطعت أن تصرفهم عنّا هذا الیوم فافعل، لعلّنا نصلی إلی ربّنا هذه اللیلة، فإنّه یعلم أنّی أحب الصلاة وتلاوة القرآن».(4)

ولهذا کلّه وقفوا یضربون أعلی المثل وأجمل الصور فی ذلک. یقف أبو ثمامة الصائدی أو سعید بن عبد الله الحنفی وقد نظر فی السماء وأخذ یقلّب وجهه فیها، ثمّ توجّه إلی الحسین علیه السلام وقال نفسی لنفسک الفداء، أری هؤلاء قد اقتربوا

ص:21


1- (1) من لا یحضره الفقیه ج 208/1-626.
2- (2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 1 / ص 27.
3- (3) مناقب آل أبی طالب: ج 4 ص 14.
4- (4) مقتل المقرّم: ص 212.

منک، لا والله لا تقتل حتی أُقتل معک، وأحب أن ألقی ربّی وقد صلّیت هذه الصلاة التی دنا وقتها، فأجابه الحسین علیه السلام:

«ذکرت الصلاة، جعلک الله من المصلین الذاکرین».

وأقاموا الصلاة.(1)

4. الیقین بالله وبثوابه

لقد نقلت لنا کتب التاریخ ألواناً من صور الإیثار والفرح التی کان أصحاب الحسین یعیشونها فی ذلک الیوم العظیم وکأنّهم واقفون علی أبواب الجنّة یریدون الدخول إلیها، وهذا لعمری یقین عظیم؛ تقول الروایة: لمّا أخبر الحسین أصحابه بأنّهم سیقتلون، قالوا بأجمعهم: «الحمد لله الذی أکرمنا وشرّفنا بالقتل معک، أولا ترضی أن نکون منک فی درجتک یا بن رسول الله»(2).

ویقول الشیخ محمد جواد مغنیة رحمه الله: «فی لیلة العاشر من المحرّم ضُرِب للحسین فسطاطًٌ لیطلی بالمسک والنورة، ولمّا دخله وقف بریر بن خضیر الهمدانی وعبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاری تختلف مناکبهما لیسبق کلّ واحد منهما صاحبه إلی فاضل المسک، فیفوز بما لمسته أنامل الطهر والقداسة، فیعرف(3) نشر المسک مع نشر الدم الزکی، دم الشهادة والتضحیة، قال راوی الحدیث: فأخذ بریر یهازل عبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاری ویضاحکه، فأجابه عبد الرحمن: دعنا،

ص:22


1- (1) معالم المدرستین ج 3 ص 11.
2- (2) نفس المهموم: ص 122.
3- (3) من العرف، وهو الرائحة الطیّبة.

فو الله ما هذه بساعة باطل، قال بریر: والله لقد علم قومی أنّی ما أحببت الباطل شابّاً ولا کهلاً، ولکنّی لمستبشر بما نحن لاقون، والله ما بیننا وبین الحور العین إلاّ أن یمیل علینا هؤلاء بأسیافهم، ووددت أنّهم مالوا علینا الساعة».(1)

5. تشخیص الأولویّات

مشکلة الکثیرین من الدعاة والعاملین لله سبحانه وتعالی تکمن فی عدم تشخیص الاولویات، فیعمل بما تکلیفه الترک ویترک بما تکلیفه العمل، ویقدّم ما تکلیفه التأخیر ویؤخّر ما تکلیفه التقدیم، وهکذا، ومثل هذا المرض قد یصیب الأمّة بکاملها بکلّ قیاداتها وزعاماتها، بحیث إنّ الجمیع یخطئون فی تقدیر ما یحسن فعله وما لا یحسن فعله فی ذلک الوقت، بینما نجد العکس عند أصحاب الحسین علیه السلام، فوضوح الرؤیة عندهم کانت بادیة للعیان بشکل کبیر تجاه الأولویّات التی ینبغی علیهم أن یفعلوها لتحقیق أهدافهم الکبری، ومن ثم ما کانوا لیعتذروا بأمور أخری أقلّ أهمّیة من أدائهم مثل هذا التکلیف، صحیح ربّما کان قیامهم بمثل هذا التکلیف یمنعهم أو یحرمهم من الوعظ والإرشاد وتبلیغ أحکام الإسلام والدفاع عن معارف أهل البیت وعلومهم، بل إنّ أداء مثل هذا التکلیف لسوف یمنع بعضهم من القیام لصلاة اللیل وطرق أبواب الفقراء والمساکین والیتامی والمحتاجین. لقد شخّص أصحاب الحسین علیه السلام من خلال قانون ومقیاس المهمّ والأهمّ فی دائرة أحکام الشریعة أن لا مجال للخوض فی أیّ جزئیة من الجزئیّات السابقة، مهما عظمت وجلّت، مع ترک النصرة والدفاع عن الإسلام

ص:23


1- (1) المجالس الحسینیة للشیخ محمد جواد مغنیة: ص 101.

وکرامته المتمثّلة بالموقف العظیم والکریم الذی وقفوه مع أبی عبد الله الحسین علیه السلام، وبتقدیری أنّ ذلک درس لنا جمیعاً لکی نتعامل مع الشریعة الإسلامیة وأحکامها علی هذا الأساس، فلا نفرّط بما لا مجال للتفریط به، ولا نتمسّک فی نفس الوقت بالقشور وندع اللبّ یسقط إلی الأرض ویداس فی الأقدام.

6. الترکیبة المتمیّزة لأصحاب الحسین علیه السلام

لقد ضمّت هذه الثلّة المبارکة الطفل الصغیر والشیخ الهرم الکبیر، والمرأة والرجل، کما ضمّت من جهة أخری الفقهاء والوجوه وذوی المراکز الاجتماعیة والعلمیة العالیة، کحبیب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة الفقیه، وبریر بن خضیر القارئ، وأنس بن الحارث، وغیرهم.

کما ضمّت هذه الترکیبة المتمیّزة مجموعة من النساء، حیث نالت الشهادة امرأة، وهی أمّ وهب.

کما ضمّت من جهة ثانیة التعدّدیة الجغرافیة إن صحّ التعبیر، فهناک البصری والکوفی والمدنی والمکّی، والحضری والأعرابی، والترکی والزنجی و... و... و.

کما ضمّت المعروف فی ولائه وإخلاصه کحبیب بن مظاهر، والعثمانی الهوی کزهیر بن القین، والخارجی کسعد بن الحرث، والمسیحی کوهب.

هذه الترکیبة فی العقیدة لم توجد لها سابقة فی أصحاب أُحد، ومن ثم فقد صارت هذه الترکیبة الإلهیة الفائقة الإتقان تذوب فیها کلّ الفوارق الأخری من أجل أن تعطی صورة رائعة من الشمولیة العالمیة فی الانتساب والانتماء.

ص:24

7. الوعی والبصیرة

وأعنی بالوعی والبصیرة شدّة إیمانهم واعتقادهم بقضیتهم، الناشئ عن الوعی والبصیرة، حیث لم یکونوا متأثّرین بالجوّ العامّ للأفکار والمواقف، إذ لا ینبغی للإنسان المؤمن الانسیاق وراء الجوّ الاجتماعی والجماهیری الذی ربّما لا یتّصف بالحکمة فی کثیر من الأحیان، وکما قال تعالی فی القرآن الکریم:

«قُلْ إِنَّما أَعِظُکُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنی وَ فُرادی ثُمَّ تَتَفَکَّرُوا ما بِصاحِبِکُمْ مِنْ جِنَّةٍ 1» .

حیث طلب منهم أن یفکّروا فرادی أو مثنی، لا مجامیع، حتی لا یسقطوا ضحیّة تحت تأثیرات الجوّ الاجتماعی العامّ علی أفکارهم وثقافاتهم ومن ثم مواقفهم.

وممّا یؤکّد هذا المعنی فی أصحاب الحسین علیه السلام، هو أنّ التأریخ لم یسجّل لهم أیّ موقف أو کلمة أو رأی مخالف لرأی الحسین علیه السلام، بینما تجد فی أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله من خالف وعصی وتمرّد(1) وکذلک الحال بالنسبة لأصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام فقد تحمّل منهم الکثیر، ولا ننسی موقفهم معه فی صفّین ورفع المصاحف(2) ، وهکذا بالنسبة لموقف الحسن علیه السلام مع أصحابه، حتی وصل ببعضهم الأمر إلی أن یخاطبه بکلمات قاسیة(3) ، بینما لا نجد فی الطف وفی

ص:25


1- (2) وقد ذکر التاریخ مواقف کثیرة لاسیما فی صلح الحدیبیة، وذلک حینما أمرهم أن ینفروا فلم یقم منهم أحد: البخاری ج 3 /ص 257.
2- (3) تذکرة الخواص لابن الجوزی ص 103.
3- (4) للمزید راجع کتاب الحسن بن علی لباقر شریف القرشی ص 267 وما بعدها.

عرصة کربلاء إلاّ صوت الحسین، وإلاّ رأی الحسین، وإلّا نهج الحسین، فلا تجد إلاّ المطابقة بین فکر الحسین وفکرهم، ومشاعر الحسین ومشاعرهم، فلا إثنینیة فی البین، إنّما هی وحدة واحدة.

8. إنّ الله تولّی قبض أرواحهم

فی حدیث للإمام زین العابدین علیه السلام عن عمّته زینب، عن أمّ أیمن مولاة رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه قال، فی وصف ما سیجری علی سبطه الحسین علیه السلام وأصحابه:

«فإذا برزت تلک العصابة إلی مضاجعها، تولّی الله قبض أرواحها بیده» (1).

ولا شکّ ولا ریب أنّ قبض الأرواح بید الله عزّ وجلّ لا بید غیره إنّما هو للمؤمن وللکافر، وحتی حینما أعطی لملک الموت ولأعوانه من الملائکة الإذن فی هذا الأمر، لم یستطع هؤلاء القیام بعملهم إلاّ بمعیّة الله لهم، فهم لا یقدّمون أمراً یرید الله تأخیره، ولا یؤخّرون أمراً یرید الله تقدیمه.

«عِبادٌ مُکْرَمُونَ * لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ 2» .

ومن ثم فإنّ تولّی قبض أرواح أصحاب الحسین من قبل الله تعالی إنّما یحمل علی التشریف وعلوّ المنزلة لهم (رضوان الله علیهم).

ص:26


1- (1) کامل الزیارات، الباب 88 ص 173.

9. نکرانهم لذواتهم

وقد تجلّت هذه الصفة فی مواطن کثیرة، فکان الواحد منهم لیسقط إلی الأرض والدماء تسیل منه، وقد امتلأ جسمه جراحات ومع ذلک لا یهمّه ما هو فیه، وما یهمّه هو الحسین علیه السلام، وعلی سبیل المثال، فإنّ مسلم بن عوسجة قد سقط إلی الأرض فجاء إلیه الحسین ومعه حبیب بن مظاهر، وإذا بمسلم یخاطب حبیباً بصوت ضعیف: یا حبیب، أوصیک بهذا الغریب أن تموت دونه(1).

وقال آخر للحسین علیه السلام: سیّدی لوددت أنّی أُقتل ثمّ أُحرق ثمّ أُذری، یفعل بی ذلک سبعین مرّة علی أدفع عنک بذلک القتل لفعلت. سبعین مرّة یحرق ویذری ولا یهمّه ذلک، المهمّ عنده أن لا یقتل الحسین علیه السلام، فأیّ نکران للذات هذا؛ وأیّ عشق للمولی هذا؛ وأیّ عطاء الهی یمکن أن یقف بإزاء هذا العطاء!.

ص:27


1- (1) معالی السبطین للمازندرانی ج 1 / ص 348.

کم هو عدد أصحاب الحسین علیه السلام ؟

اشارة

سؤال مهمّ طالما طرحه الکثیرون من الکتاب وغیرهم، وأعتقد أنّ الإجابة عن مثل هذا السؤال لا یمکن لها أن تکشف وبشکل واضح عن عدد الشهداء فی کربلاء، فعدد أصحاب الحسین هو أعمّ من الشهداء، فلیس کلّ من صحب قد استشهد، نعم کل من استشهد عُدَّ من أصحاب الحسین ضرورة، فهاهنا کما یقول العلماء عموم وخصوص مطلق، ولهذا لابدّ لنا من السؤال عن عدد الشهداء فی کربلاء، وعدم الاکتفاء بالسؤال عن الأصحاب، ومعرفة هذه الحقیقة سوف تهدینا إلی أرقام معیّنة، وربّما تختلف هذه الأرقام فیما لو لم ینظر إلی هذه الزاویة بعین الاعتبار، وقبل أن ندخل فی هذا البحث، والذی سوف یمثّل التوطئة للدخول إلی رحاب وظلال شهداء کربلاء، أودّ أن أشیر إلی مقدّمة مهمّة فی هذا المجال.

ص:28

المقدمة

لا شکّ ولا ریب أنّ کلّ من کتب أو تحدّث عن عدد أنصار الحسین علیه السلام فی کربلاء لا یمکن له أن یصل إلی مرحلة القطع بذلک مهما کان یملک من رجاحة فی الفکر وقوّة فی التحقیق، نعم غایة ما فی الأمر یمکن أن تمیل نفسه إلی عدد معیّن دون آخر أو أن یغلب علی ظنّه رقم دون بقیة الأرقام الأخری، مستنداً فی ذلک إلی مجموعة من الأدلّة والعلامات التی یراها هو دون الآخرین، ولهذا فلا یمکن والحال هذه أن تغلق أبواب البحث فی هذا الموضوع، معتمدین فی ذلک علی ما کتبه الآخرون مهما بلغوا من العلم فی هذا المجال، فالباب مفتوح یسع الجمیع، شرط امتلاکهم مؤهّلات وآلیات تعینهم علی الدخول إلی دراسات کهذه، ولقد أعجبتنی کثیراً کلمة قرأتها للشیخ محمد مهدی شمس الدین رحمه الله وهو یتحدّث عن مسألة الخلاف فی أسماء من استشهد من بنی هاشم فی کربلاء، حیث یقول: «هؤلاء السبعة عشر الذین ثبت عندنا أنّهم استشهدوا فی کربلاء من بنی هاشم...، أمّا ما عداهم فسنعرض أسماءهم فیما یلی مع شکّنا فی کونهم ممّن رزق الشهادة مع الإمام الحسین بن علی علیه السلام فی کربلاء، ونقدّر أنّ بعضهم قد استشهد فی مواقع أخری متأخّرة، واختلط أمره علی أصحاب الأخبار والمؤرّخین، مع احتمال أن یکون رأینا فی عدد الشهداء السبعة عشر وأسمائهم خطأ أیضاً، وأن یکون العدد أکثر ممّا ذکرنا، أو أن یکون بعض الأسماء غیر ما ذکرنا»(1).

ص:29


1- (1) کتاب أنصار الحسین للعلّامة محمد مهدی شمس الدین: ص 134-135.

واعتقد جازماً أنّ کلام شمس الدین المتقدّم یتضمّن الإشارة إلی ما ذکرناه سابقاً، فهو یرید أن لا یقف القارئ لکتابه وخصوصاً أهل الاختصاص منهم، موقف الإنسان العادی الذی لا یملک شیئاً من آلیات البحث، ومن ثم یقرأه قراءةً عادیة دون أن یتدبّر فیه، بل یرید منه أن یقرأ کتابه قراءة متأنّیة فیأخذ منه ما صحّت فکرته عنده، ویناقش فیما لم یصحّ منه، کما صنع هو رضی الله عنه مع ما کتبه الآخرون والمتقدّمون علیه مهما علت درجاتهم وسمت أفکارهم وانتشرت فی الأرجاء کتبهم، وهذه - حسب تصوّری - نقطة فی غایة الأهمّیة، تأتی فی طلیعة البحوث التی تتعلّق بواقعة الطفّ بشکل عامّ، التی تتعلّق بأنصار الحسین وشهداء کربلاء بشکل خاصّ، ولا یفهم من کلامی هذا أنّ لی رأیاً فی قبال آرائهم ضرورة، بل قد أتّفق فی کثیر من النقاط مع ما طرحه العلماء والمحقّقون الذین بذلوا الجهد الکبیر للوصول إلی هذا المستوی من الدراسات الکثیرة التی تتعلّق بهذا الموضوع المهمّ، ولکن بلا شکّ تبقی هناک نقاط تحتاج إلی تأمّل أکثر وبذل جهد أکبر للخروج برؤیة ربّما تکون أکثر انسجاماً مع الواقع التأریخی ومعطیاته، خصوصاً إذا علمنا بأن العدد الذی خرج به الحسین علیه السلام من المدینة لم یکن ذاته الذی خرج به من مکّة، ولم یکن هو نفسه الذی وصل به الحسین إلی کربلاء باتّفاق من کتب فی هذا الموضوع، بل الثابت أنّ هناک مجامیع انفضّت من الرکب الحسینی، وهناک أشخاص انضمّوا إلی هذا الرکب، وحتی فی کربلاء فهناک من استشهد وهناک من لم یستشهد بل أخذ جریحاً ومات علی رأس سنة أو أقلّ، وهناک من خرج من المعرکة قبیل انتهائها کالضحّاک المشرقی، وهناک من نجا

ص:30

من القتل سواء من أهل البیت علیهم السلام أو من الأصحاب، ومن ثم فلا یمکن لنا والحال هذه إلاّ أن نبذل تمام الجهد وکامل الوسع من أجل الأخذ بما یمکن أن یکون أکثر انسجاماً مع الأحداث والوقائع، وهذا بتقدیری غیر یسیر علی کلّ خبیر.

وعلی کلّ حال، فإنّی سأذکر أقوال العلماء وآراءهم فی هذا الموضوع وما ذکروه من عدد اطمأنّوا إلی أنّه هو العدد الذی کان مع سیّد الشهداء فی کربلاء، سواء أکانوا من أرباب المقاتل الحسینیة القدیمة أم من المؤرّخین، أم من سائر العلماء الذین تعرّضوا لحادثة کربلاء وتناولوها من زوایا وجهات أدبیة أو اجتماعیة أو سیاسیة أو ما شاکل ذلک، ولقد بذلت جهداً لیس بالقلیل فی تتبّع أقوالهم وترتیبها علی أساس العدد الذی أوردته فی تلک الآراء وعزلت فی الوقت نفسه قائمة الشهداء من بنی هاشم عن قائمة الشهداء من سائر الأصحاب رضی الله عنهم.

أمّا فیما یتعلّق بالشهداء من بنی هاشم فقد ذکر العلماء ما یلی:

أنّهم کانوا (13) کما یقول المسعودی فی مروج الذهب(1) ، وهو أقلّ عدد روی فی ذلک.

أنّهم کانوا (14) کما یقول الخوارزمی فی مقتله.(2)

أنّهم کانوا (16) کما فی روایة أخری للخوارزمی فی مقتله، یذکرها عن

الحسن البصری(3) ، وروایة الحصین بن عبد الرحمن عن سعد بن عبادة.

ص:31


1- (1) مروج الذهب للمسعودی: ج 3 ص 71.
2- (2) مقتل الخوارزمی: ج 2 ص 47.
3- (3) مقتل الخوارزمی: ج 2 ص 47، أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 46.

أنّهم کانوا (17) کما فی زیارة الناحیة، والإرشاد للشیخ المفید.(1)

أنّهم کانوا (19) کما عند الطبری فی تاریخه، ویعد منهم الحسین بن علی علیه السلام ومسلم بن عقیل.(2)

أنّهم کانوا (20) کما فی تسمیة من قتل مع الحسین من أصحابه وشیعته للفضیل بن الزبیر.(3)

أنّهم کانوا (22) کما یذکر أبو الفرج الأصفهانی فی مقاتل الطالبیّین.(4)

أنّهم کانوا (23) کما عند الیافعی فی مرآة الجنان.(5)

أنّهم کانوا (27) کما عند الخوارزمی فی مقتله حیث قال: «اختلف أهل النقل فی عدد المقتول یومئذ مع ما تقدّم من قتل مسلم من العترة الطاهرة، والأکثرون علی أنّهم کانوا سبعة وعشرین، منهم مسلم بن عقیل والحسین علیه السلام.(6)

أنّهم کانوا (30) کما عند السیّد الأمین فی أعیان الشیعة.(7)

أنّهم کانوا (49) کما عند السیّد الزنجانی فی وسیلة الدارین.(8)

ص:32


1- (1) الإرشاد للشیخ المفید: ص 248.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 5 ص 468.
3- (3) مجلّة تراثنا، العدد 2 تحقیق السیّد محمد رضا الجلالی: ص 127.
4- (4) مقاتل الطالبیین للأصفهانی: ص 62
5- (5) مرآة الجنان للیافعی: ج 1 ص 133.
6- (6) مقتل الخوارزمی: ج 2 ص 47.
7- (7) أعیان الشیعة: ج 4 القسم الأول ص 134.
8- (8) وسیلة الدارین: ص 94.

أمّا فیما یخصّ عدد الشهداء من أصحاب الحسین علیه السلام فقد فاق الاختلاف فیهم الاختلاف فی بنی هاشم، وها نحن نسجّل أقوالهم حسب العدد الوارد فیها وکما یلی:

أنّهم کانوا (60) رجلاً کما ذکر ذلک الدمیری فی حیاة الحیوان.(1)

أنّهم کانوا (61) راجلاً کما ذکر ذلک المسعودی فی إثبات الوصیة.(2)

أنّهم کانوا (70) فارساً خرجوا معه من المدینة.(3)

أنّهم کانوا (32) فارساً و (40) راجلاً کما ذکر ذلک الطبری وابن الأثیر والدینوری والخوارزمی.(4)

أنّهم کانوا (80) کما فی روایة الحصین بن عبد الرحمن عن سعد بن عبادة(5).

أنّهم کانوا (82) راجلاً کما فی الدمعة الساکبة.(6)

أنّهم کانوا (86) رجلاً کما ذکر ذلک الشریسی فی شرح مقامات الحریری من دون حساب علی الأکبر.(7)

ص:33


1- (1) حیاة الحیوان للدمیری: ج 1 ص 73.
2- (2) إثبات الوصیة للمسعودی: ص 35.
3- (3) مختصر تاریخ دول الإسلام للذهبی: ج 1 ص 31.
4- (4) الطبری: ج 6 ص 241؛ الکامل: ج 4 ص 24؛ الدینوری: ص 354.
5- (5) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: 46.
6- (6) الدمعة الساکبة: ص 327.
7- (7) شرح مقامات الحریری للشریسی: ج 1 ص 173.

أنّهم کانوا (82) مبارزاً، ونیّفوا علی الخمسین فی الحملة الأولی.(1)

أنّهم کانوا (45) فارساً ونحو (100) راجل کما فی تهذیب تاریخ دمشق لابن عساکر.(2)

أنّهم کانوا (45) فارساً و (100) راجل کما عند ابن نما فی مثیر الأحزان والطبری عن الباقر علیه السلام.(3)

أنّهم کانوا (87) رجلاً کما عن الفضیل بن الزبیر.(4)

أنّهم کانوا قریباً من (100) رجل کما عند الطبری.(5)

أنّهم کانوا (233) کما عند الزنجانی فی وسیلة الدارین.(6)

أنّهم کانوا (500) فارس و (100) راجل کما عند الطبری والمسعودی(7) ، ولکن یجب إسقاط عدد (19) شهیداً من أهل البیت کما یذهب إلی ذلک الطبری کما تقدم.(8)

ص:34


1- (1) مرآة الجنان للیافعی: ج 1 ص 131.
2- (2) تهذیب تاریخ دمشق لابن عساکر: ج 4 ص 337.
3- (3) مثیر الأحزان: ص 28، الطبری: ج 5 ص 381.
4- (4) مجلّة تراثنا: عدد 2 ص 151.
5- (5) الطبری: ج 5 ص 392.
6- (6) وسیلة الدارین: ص 94.
7- (7) المسعودی فی مروج الذهب: ج 3 ص 70؛ شرح مقامات الحریری للشریسی: ج 1 ص 172.
8- (8) حیث ذکر أنّ عدد الشهداء من أهل البیت علیهم السلام (19) فیکون الباقی هو (581) شهیداً من غیر أهل البیت علیهم السلام علی أساس هذا الرأی.

وممّا تقدّم یتبیّن لک بما لا یقبل الشکّ حجم الجهد الذی یتوجّب علی الباحث والدارس لهذا الموضوع بذله من أجل الخروج بنتیجة تکون هی الأقرب إلی العدد الذی کان مع الحسین علیه السلام.

وعلیه فلابد من مراجعة کلّ الروایات أو جُلِّها علی ما یتیسّر، وأقوال العلماء وما سردوه من أحادیث حول هذه الواقعة.

سؤال وجواب

وقد یقول قائل: ولم کُلّ هذا الجهد أصلاً؟ وما فائدة أن نعرف العدد الحقیقی أو ما یقاربه بالدقّة؟

أقول: إنّ معرفة أسماء الأصحاب الذین سایروا الحسین وترکوا الأهل والأولاد والأوطان، بل وطلّقوا الدنیا بکلّ ما تزخر به من إغراءات یسیل لها لعاب الکثیر من الناس، حسب تقدیری هو مسؤولیة دینیة وإنسانیة فی نفس الوقت من أجل الحفاظ علی ما قدّموه أوّلاً، وتقدیمه إلی الناس للاقتداء به ثانیاً.

ومن هنا نجد أنّ کلّ الشعوب والأمم علی اختلاف آیدیولوجیّاتها وانتماءاتها الفکریة، تبذل الغالی والنفیس من أجل الحفاظ علی عظمائها ومفکّریها وزعمائها وقادتها وشخصیّاتها شاخصةً فی أذهان أممهم وشعوبهم، وما النُصُب التی نراها ونقرأ عنها فی بلدان العالم کافة، إلاّ إشارة إلی هذه النزعة الإنسانیة اتجاه من یحملون الدرجات العالیة، ومن لهم شرف السبق فی شتّی المجالات.

ص:35

جهود العلماء

ومن هنا بذل علماؤنا الماضون ومحقّقونا وما زالوا، فی هذا الطریق - وإن قلّ ما نجده فی الوقت الحاضر - الجهد الکبیر من أجل تسلیط الضوء علی هذه الأسماء وجمعها من بطون الکتب المخطوطة، ودراستها ومقارنتها ببقیة النسخ الأخری، لمعرفة المکرّر منها والمصحّف وما شاکل ذلک، کلّ هذا من أجل الخروج - کما تقدّم فی ذکر آرائهم - بنتائج مُطَمْئِنة یمکن الرکون إلیها، سواء کانت هذه الأسماء من أهل البیت أم من الأصحاب رضی الله عنهم.

وقد استدلّوا فی الوصول إلی هذه النتائج، حسب فهمی، بمجموعة من الأدلّة لا تخرج عمّا سنذکره إلاّ نادراً:

1. الروایات التی تتحدّث عن العدد الذی خرج به الحسین من المدینة أو من مکّة أو الذی کان معه فی الطریق إلی العراق، أو حینما نزل فی کربلاء یوم الثانی من المحرّم، أو کان معه یوم التعبئة وهو یوم العاشر من المحرّم.

2. الروایات التی تحدّثت عن عدد الرؤوس المقطوعة بعد واقعة الطفّ والمحمولة علی أطراف الرماح.

3. الروایات التی تحدّثت عن عدد المستشهدین فی الحملة الأولی، والمستشهدین مبارزة بعد ذلک.

4. بعض کتب المقاتل القدیمة المعاصرة للحادثة، أو التی جاءت بعدها بمدّة وجیزة، کمقتل الفضیل بن الزبیر.

5. زیارة الناحیة وما حوته من أسماء الشهداء، وتسلیم الإمام المهدی علیها

ص:36

وذکر قاتلیها، والتی تمثّل مصدراً مهمّاً وقدیماً فی الوقت نفسه.

6. الزیارة الرجبیة، والتی تمثّل مصدراً لذکر الأسماء، وإن لم تکن أساسیة لعدم وجود السند فیها کما سیأتی.

أولاً: الروایات التی تحدثت عن العدد الذی خرج به الحسین من المدینة حتی وصوله إلی کربلاء، فخیر من تحدّث عنها وجمعها وناقشها هو المحقّق المرحوم آیة الله الشیخ محمد مهدی شمس الدین، فی کتابه القیّم «أنصار الحسین» حیث ذکر أربع روایات عبّر عنها بأنّها کانت رئیسیة فی هذا الموضوع، وهی کالتالی:

الروایة الأولی: روایة المسعودی والتی یقول فیها: «فلمّا بلغ الحسین القادسیة لقیه الحرّ بن یزید الریاحی...، فعدل إلی کربلاء وهو فی مقدار خمسمائة فارس من أهل بیته وأصحابه ونحو مائة راجل»(1).

ویقبل الشیخ شمس الدین العدد الوارد فی هذه الروایة ولکن بشرط ان نتأخّر بالروایة زماناً قلیلاً عن ملاقاة الحر ووصول خبر شهادة مسلم بن عقیل وعبد الله بن یقطر وهانی بن عروة.

أقول: إنّ توجیه العلّامة شمس الدین رحمه الله لهذه الروایة توجیه سلیم وفی محلّه، ونحن نمیل إلی ما مال إلیه، حیث تؤکّد جملة من الروایات التاریخیة أنّ مجامیع من الناس کانت تنفض عن الحسین بعد کلّ خبر یصل الیه من أهل الکوفة، أو بعد کلّ تصریح صریح للحسین فی أن النهایة التی سوف ینتهی إلیها

ص:37


1- (1) . أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 44.

هو وأصحابه هی الموت لا غیر، لاسیما قولته الشهیرة: «من لحق بنا استشهد، ومن لم یلحق بنا لم یدرک الفتح»(1) وقوله: «خیر لی مصرع أنا لاقیه... إلخ».(2)

الروایة الثانیة: روایة عمّار الدهنی، عن أبی جعفر الباقر علیه السلام حیث جاء فیها: «حتی اذا کان بینه وبین القادسیة ثلاثة أمیال لقیه الحرّ بن یزید الریاحی...، فلمّا رأی ذلک عدل إلی کربلاء، فنزل وضرب أبنیته، وکان أصحابه خمسة وأربعین ومائة راجل»(3).

ویقبل الشیخ شمس الدین رحمه الله کذلک هذا العدد من حیث المبدأ، حیث إنّه یمثّل بالنسبة الیه مرحلة من مراحل المسیرة الحسینیة إلی کربلاء مع إقراره رضی الله عنه أنّ الروایة مهمّة، لأنّها تأخذ المعلومة من الصدر الصافی النقی الثقة، وهو الإمام الباقر علیه السلام ولکنّه فی الوقت نفسه یؤکّد وجود تحریف منکر فی هذه الروایة لواقعة کربلاء، خصوصاً فی أهمّ رکن منها، وهو ثبات الحسین وعدم قبوله لأیّ حلول وسطیّة یحافظ من خلالها علی حیاته التی نذرها للإسلام، حیث أکّدت الروایة فی ثنایاها أنّ الحسین علیه السلام همّ بالرجوع بعد حدیث الحرّ معه، ولکن الذی منعه من ذلک موقف إخوة مسلم بن عقیل.

أقول: لقد أورد المسعودی نفس هذه الروایة التی أوردها الطبری عن عمّار الدهنی من دون أن ینسبها إلیه، کما أنّ العدد فیها خمسمائة فارس، قال: «فلمّا بلغ الحسین القادسیة لقیه الحرّ بن یزید التمیمی فقال له: أین ترید یا بن رسول الله؟

ص:38


1- (1) کامل الزیارة: ص 75.
2- (2) مثیر الأحزان لابن نما: ص 29.
3- (3) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 45.

قال: أرید هذا المصر فعَّرَفه بقتل مسلم وما کان من خبره، ثمّ قال: إرجع، فإنّی لم أدعْ خلفی خیراً أرجوه لک، فهمّ بالرجوع، فقال له إخوة مسلم: والله لا نرجع حتی نصیب بثأرنا أو نقتل کلّنا، فقال الحسین علیه السلام لا خیر فی الحیاة بعدکم...»(1).

کما أوردها بنفس هذا العدد من دون نسبة کذلک، الشریسی فی شرح مقامات الحریری(2).

ومن الواضح لکلّ ذی عینین أنّ هذه الروایات وإن اختلفت فی العدد الذی تضمّنته إلاّ أنّها اشترکت فی قضیّة واحدة، ألا وهی همّ الحسین علیه السلام بالرجوع إلی وطنه وإصرار إخوة مسلم بالاستمرار حتی أخذ الثأر، ثمّ تسلیم الحسین علیه السلام لرأیهم.

الأیادی الآثمة المحرِّفة

یعنی أنّ الأیادی الآثمة التی مُدّت إلی هذه الروایة وأرادت نشرها بأیِّ رقم وعدد، کانت تهدف من وراء ذلک إلی إثبات أنّ الحسین لم یکن جادّاً فی حرکته، والدلیل علی ذلک هو همّه بالرجوع إلی المدینة، وهذا یعنی ضمناً أنّ یزید لم یکن مستحقّاً أن یخرج علیه الحسین ولا غیره، بل کان مستحقّاً للتأیید والدعاء له بالاستقامة والثبات، هذا من جهة، ومن جهة أخری ترید أن تثبت أن الحسین علیه السلام کان مشتبهاً فی خروجه، وهذا بحدّ ذاته کان مطلباً أمویّاً کبیراً سعت الیه الدولة الأمویة بکلّ ما أوتیت من قوّة من أجل تحقیقه، وبذلوا الأموال

ص:39


1- (1) مروج الذهب للمسعودی: ج 1 ص 70.
2- (2) شرح مقامات الحریری للشریسی: ج 1 ص 173.

الطائلة من تنفیذه، ولقد قالها ابن خلدون فی مقدّمته صریحة جریئة من دون استحیاء من الله ورسوله: «فتبیّن من ذلک غلط الحسین إلاّ أنّه فی أمر دنیوی لا یضرّه الغلط فیه، وأمّا الحکم الشرعی فلم یغلط فیه لأنّه منوط بظنّه، وکان ظنّه القدرة علی ذلک»(1).

الید الآثمة فی تأریخ الثورة الحسینیة

ولم تکن هذه الید الأثیمة الوحیدة التی مدّت إلی هذه الروایة، بل هناک جملة من الروایات حاولت أن تسیء إلی شخص الحسین بشکل خاصّ، وإلی الحرکة الحسینیة بشکل عامّ.

الطبری مثالاً

وللمثال فقط أذکر ما قاله الطبری فی موضعین من تاریخه:

أما الأوّل: فیقول فیه: «کتب عبید الله بن زیاد إلی یزید بن معاویة یخبره بما حدث، ویستشیره فی شأن أبناء الحسین ونسائه فلمّا بلغ الخبر إلی یزید بن معاویة بکی وقال: کنت أرضی من طاعتهم (أی أهل العراق) بدون قتل الحسین علیه السلام...، لعن الله ابن مرجانة، لقد وجده بعید الرحم منه، أما والله لو أنّی صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسین»(2).

وثانیاً: یقول فی موضع آخر وهو ینقل حدیث یزید لعلی بن الحسین علیه السلام عند مغادرته دمشق: «لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أنّی صاحبه ما سألنی خصلة

ص:40


1- (1) مقدّمة ابن خلدون: ص 271.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 5 ص 393.

أبداً إلاّ أعطیتها إیّاه، ولدفعت عنه بکلّ ما استطعت ولو کلّفنی بعض ولدی، ولکنّ الله قضی ما رأیت، کاتبنی بکلّ حاجة تکون لک».(1)

فإذا تبیّن لنا أنّ الروایة قد مدّت لها هذه الید الأثیمة کما تقدّم، فحینئذ نرفع الید عمّا فیه تحریف وتزویر، ونأخذ بالعدد الذی ورد فی هذه الروایة، والذی یتردد بین (145-500). وبما أنّ العدد (500) مخالفة لکلّ المصادر التاریخیة فیعرض عنه، ویعمل بالعدد الآخر وهو (145)، خصوصاً إذا علمنا أنّ هناک جملة من المرجّحات التی ربّما تعین علی الأخذ بهذا العدد دون سواه، کما سیتبیّن لک فی نهایة هذا البحث.

الروایة الثالثة: روایة الحصین بن عبد الرحمن، عن سعد بن عبیدة قال: «إن أشیاخاً من أهل الکوفة لوقوف علی التلّ یبکون ویقولون: اللهمّ أنزل نصرک قال: قلت: یا أعداء الله، ألا تنزلون الیه فتنصرونه!... وإنّی لأنظر إلیهم (یعنی أصحاب الحسین) وإنّهم لقریب من مائة رجل، فیهم لصلب علی بن أبی طالب علیه السلام خمسة، ومن بنی هاشم ستة عشر، ورجل من بنی سلیم حلیف لهم، ورجل من کنانة حلیف لهم، وابن عمر بن زیاد»(2).

ویبدو أنّ الشیخ شمس الدین رحمه الله یقبل کذلک هذا الرقم الوارد فی هذه الروایة، ولکنّه یقیّده بالیوم العاشر من المحرّم وبعد الحملة الأولی، لوجود قرینة ربّما تکون فیها إشارة تؤیّد الرکون إلی مثل هذا الاعتقاد، ألا وهی رمی عمر

ص:41


1- (1) تاریخ الطبری: ج 5 ص 462.
2- (2) أنصار الحسین للشیخ شمس الدین: ص 46.

الطهوی بسهم علی الحسین وسقوطه بین کتفیه وتعلّقه بجبّته.

أقول: وهذا الحمل متین وفی محلّه، ونحن نذهب إلی ما ذهب إلیه، ولکنّ الغریب فی الأمر أنّ فضیلته بعد حمله الروایة علی هذا المحمل یضع هذا العدد الوارد فی هذه الروایة فی قبال العدد الوارد فی روایة عمّار الدهنی عن الإمام الباقر علیه السلام، وکان ینبغی أن توضع هذه الروایة - وخصوصاً مع حملها علی هذا المحمل - قرینة من جملة القرائن التی تُعین علی الأخذ بروایة عمّار الدهنی، لأنّ روایة سعد بن عبیدة تثبت وجود قرابة المائة، وقطعاً هذا التقریب من خلال النظر لا الدقّة والإحصاء، ومن ثم یکون العدد مُؤرجحاً بین (95-100) رجل، فإذا ما أضفنا إلی هذا العدد من ثبت أنّه استشهد فی الحملة الأولی من أنصار الحسین علیه السلام کما هو رأی سماحته فی حملة المتقدّم، والبالغ عددهم (50) نفراً أو یزیدون قلیلاً، فالنتیجة التی سوف تترتّب علی ذلک هو (145) أو ما یقارب هذا الرقم، وهو ما تشیر إلیه روایة عمّار المتقدّمة، ومن ثم تکون کلّ من الروایتین تشیران إلی عدد واحد بعینه کما تقدّم.

الروایة الرابعة: روایة أبی مخنف، عن الضحّاک بن عبد الله المشرقی حیث یقول: «وعبّأ الحسین أصحابه وصلّی بهم صلاة الغداة، وکان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً»(1).

ویقبل الشیخ شمس الدین رحمه الله عدد هذه الروایة، لوجود اتّفاق بینها وبین روایات مؤرّخین آخرین معاصرین له کالطبری، أو متأخّرین علیه کالدینوری

ص:42


1- (1) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 47.

والیعقوبی والخوارزمی والشیخ المفید.

أقول: ولا کلام فی حسن سمعة أبی مخنف، الذی عُدَّ من ثقات المحدّثین، حتی قال عنه ابن الندیم: «أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها، یزید علی غیره»(1).

الضحّاک کان دقیقا فی تعامله

ولا کلام کذلک حول شخصیة الضحّاک الذی کان دقیقاً فی تعامله مع الحسین غایة الدقّة، حتی أنّ کلّ ما جری وحصل من مجازرٍ وسفکٍ ٍ للدماء، لم یؤثّر فی هذا الرجل الذی عاش کلّ هذه الأجواء، ولم تتغیّر قناعاته فی ذلک الاتفاق الذی أبرمه مع الحسین علیه السلام وظلّ ثابتاً علیه حتی فارقه کما هو معلوم. إنّ أمثال هؤلاء حینما ینقلون لا شکّ یوثق بنقلهم من هذه الجهة دون بقیة الجهات الأخری یقول الشیخ محمد مهدی شمس الدین رحمه الله: «الضحّاک بن عبد الله المشرقی وهو فیما یبدو رجل صارم وعملی ودقیق جدّاً، فحین طلب الحسین منه النصرة أجابه إلی ذلک، مشترطاً أن یکون فی حلّ من الانصراف عنه حین لا یعود قتاله مفیداً فی الدفع عن الحسین علیه السلام وقد أجابه الحسین إلی شرطه، فاشترک الضحّاک فی المعرکة بصدق. إنّ هذه الملاحظة تبعث علی الوثوق بدقّته».(2)

وهذه الروایة مهمّة من جهتین: أمّا الجهة الأولی، فهی أنّ الناقل لها هو أبو مخنف فی مقتله، وهذه الخصّیصة سوف نتحدّث عنها بعد ذلک حیث سیتبیّن لنا

ص:43


1- (1) الفهرست لابن الندیم: ص 158.
2- (2) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 48.

أنّ کتب المقاتل هی أقلّ من کتب التأریخ العامّة عرضة للتحریف؛ وأمّا الجهة الثانیة، فهی وجود الضحّاک إلی جانب الحسین علیه السلام منذ مروره به فی منطقة قصر بنی مقاتل(1) وحتی استشهاد جمیع أصحابه سوی اثنین کان هو ثالثاً لهما، وهذا الرجل لا شکّ حینما یروی سوف یروی الحدث کما هو، لأنّه فیه ولیس خارجاً عنه. ولکن المشکلة التی تترتّب علی الأخذ بروایة أبی مخنف هی وجود نتیجتین لا یقول بهما أحد وهما:

1. أنّ جمیع من عبّأهم الحسین علیه السلام للقتال قد قتلوا وهذا ما لا یقول به أحد، فهناک من نجا من هذه المعرکة، سواء من أهل البیت علیهم السلام أم من الأنصار، وقد نصّ العلماء علی أسمائهم بالتفصیل، اللهمّ إلاّ أن یؤخذ برأی الشیخ شمس الدین رحمه الله حینما أشار إلی أنّ هذه التعبئة لم تکن شاملة بل کانت مختصّة بالأصحاب، فلا تشمل بنی هاشم ولا الموالی، حیث قال: «وهی فی تقدیرنا تعبّر عن عدد أصحاب الحسین علیه السلام من المحاربین العرب غیر الهاشمیّین، فهی لا تشمل الهاشمیین ولا الموالی ولا الخدم»(2).

ومع إجلالنا لسماحة المحقّق شمس الدین رضی الله عنه إلاّ أنّه لم یبیّن لنا دلیل هذا التقدیر الذی ذهب الیه، حیث أرسلها من دون الإشارة إلی ما یؤیّدها من قرائن حالیّة أو مقالیّة، ومع عدم ذکر المستند والدلیل لیتسنی لنا دراسته، لا نکون ملزمین بالمیل إلی ما مال الیه ولا تقدیر ما قدّره رضی الله عنه.

ص:44


1- (1) مقتل الحسین لأبی مخنف: ص 108.
2- (2) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 53.

تعبئة الحسین علیه السلام کانت عامة ولیست خاصة بالأصحاب

اشارة

نقول: إنّ الدلیل علی أنّ التعبئة لم تکن خاصّة بأصحابه علیه السلام، یعضدها الدلیل النقلی والمعنوی إن صحّ التعبیر.

أمّا الدلیل النقلی

فقد روت کتب المقاتل والتأریخ أنّ الحسین علیه السلام حینما رتّب أصحابه إلی میمنة ومسیرة وقلب، لم یترک أهل البیت علیهم السلام بل ورتّبهم کذلک، فذکروا فی هذا المجال صورة ربّما تختزن فی داخلها مجموعة من الصور التی تتعلّق بتوزیع الحسین علیه السلام لأهل البیت علیهم السلام.

یقول أرباب المقاتل: «ثمّ إنّه صفّ أصحابه ورتّبهم میمنة ومیسرة فی مراتبهم، فجعل علی بن الحسین فی میمنته، وحبیب بن مظاهر فی میسرته، وزهیر فی جناحه الأیمن، ومسلم بن عوسجة فی جناحه الأیسر، ووقف هو فی القلب، وأعطی رایته أخاه العباس»(1).

ص:45


1- (1) مصارع الشهداء ومقاتل السعداء، للشیخ سلمان بن عبد الله آل عصفور، تحقیق الشیخ علی آل کوثر: ص 111، وبهامشه یذکر المحقّق هذه الطریقة الحسینیة فی ترتیبه علیه السلام لصفوف أصحابه؛ الإرشاد للمفید: ج 2 ص 96؛ الطبری: ج 5 ص 423.

وبتقدیری، ما ذکر هذان العلمان من بنی هاشم دون الآخرین إلاّ لقربهما من سیّد الشهداء وعظیم أثرهما علیه، کما هو واضح من تفجّع الحسین حینما وقف علی مصرعیهما، وأمّا بقیّة بنی هاشم فلا شکّ أنّه تمّ توزیعهم ضمن هذه المحاور الأساسیة، من یمین وشمال ومقدّمة ومؤخّرة وقلب.

وأمّا الدلیل المعنوی

فلک أن تتصوّره معی والحسین واضع أهل بیته، من أولاده وإخوته وأولاد عمّه وقرابته، إلی جانبه، وقد صفّ أصحابه ووزعهم للقتال، وما یترکه مثل هذا الفعل فی نفوس أصحابه علیه السلام، وإن کنّا نقطع أنّ الاصحاب إنّما التحقوا به من أجل أن یموتوا دون بنی هاشم، ولکن تبقی لمثل هذه الصورة دلالاتها، والتی حاول الحسین علیه السلام فی أکثر من مناسبة التأکید علیها، وهذه الحقیقة قد عرفها ووعاها کلّ قریب للحسین من أهل بیته ممّن کانوا معه؛ ینقل الشیخ محمد مهدی المازندرانی(1) فی کتابه معالی السبطین، عن زینب علیها السلام فی أحداث لیلة العاشر من محرّم، فی روایة طویلة أنقل منها محلّ الشاهد: «لمّا کانت لیلة عاشر من المحرّم، خرجتُ من خیمتی لأتفقّد أخی الحسین وأنصاره، وقد أفرد له خیمة، فوجدتهُ جالساً وحده یناجی ربّه ویقرأ القرآن، فقلت فی نفسی: أفی مثل هذه اللیلة یترک أخی وحده؟!

ص:46


1- (1) . شیخ الخطباء فی کربلاء، ولد سنة 1293 ه - وتوفّی 1306 ه - له مؤلّفات عدیدة، منها: شجرة طوبی، والکوکب الدرّی، ومعالی السبطین وغیرها. أنظر تاریخ الحرکة العلمیة فی کربلاء، نور الدین الشاهرودی: ص 267-268.

والله لأمضینّ إلی إخوتی وبنی عمومتی وأعاتبهم علی ذلک، فأتیت خیمة العباس فسمعت منه همهمة ودمدمة، فوقفت علی ظهرها، فنظرت فیها فوجدت بنی عمومتی وإخوتی وأولاد إخوتی مجتمعین کالحلقة، وبینهم العباس ابن أمیر المؤمنین وهو جاث علی رکبتیه کالأسد علی فریسته، فخطب فیهم خطبة ما سمعتها إلاّ من الحسین علیه السلام، مشتملة علی الحمد والثناء والصلاة علی النبی وآله، ثمّ قال فی آخر خطبته: یا إخوتی وبنی إخوتی وبنی عمومتی، إذا کان الصباح ماذا تقولون؟ قالوا: الأمر إلیک یرجع، ونحن لا نتعدّی لک قولاً، فقال العباس: إنّ هؤلاء (یعنی الأصحاب) قوم غرباء، والحمل الثقیل لا یقوم به إلاّ أهله، فإذا کان الصباح فأوّل من یبرز إلی القتال أنتم»(1).

وممّا لا ریب فیه أنّ العباس لا یخطو کهذه خطوة إلاّ لمعرفته برغبة الحسین فی ذلک، فتبیّن ممّا تقدّم بأنّ الحسین لم یعبّئ أصحابه لوحدهم حینما صفّهم للحرب، وإنّما عبّأ معهم بنی هاشم والموالی کذلک، لأنّهم جزء من أصحابه بل ومن المستشهدین بین یدیه. فقول أبی مخنف إنّه صفّهم للحرب فکانوا اثنین وسبعین، سوف تترتّب علیه نتیجة لا یقول بها أحد، کما قلنا فی أوّل هذه النقطة، وهی أنّ جمیعهم قد قتلوا ولم یبق منهم أحد،(2) لأنّ من المتّفق علیه عند المؤرّخین جمیعاً وأرباب المقاتل، أنّ عدّة مَنْ قُتِلَ من أصحاب الحسین وأهل بیته لم ینقص عن اثنین وسبعین رجلاً، وهذه النتیجة لا توجد روایة واحدة ضعیفة

ص:47


1- (1) معالی السبطین: ج 1 المجلس الثالث فی وقائع لیلة عاشوراء، کما فی ص 53.
2- (2) الغریب أنّ الشیخ شمس الدین رحمه الله فی الوقت الذی یؤکّد علی أنّ التعبئة کانت خاصّة للأصحاب فقط، کما فی ص 53، یقول فی ص 65: إنّ الهاشمیین کانوا جزءاً من القوّة المعبّأة.

فضلاً عن الصحیحة تقول بها، لتواتر الأخبار التی تفید نجاة جماعة منهم، کما تقدم قبل ذلک.

2. والنتیجة الأخری التی تترتّب علی الأخذ بروایة أبی مخنف، هی أنّ جمیع الذین عبّأهم الحسین علیه السلام قد شملتهم جریمة قطع الرؤوس وحملها فوق الرماح. وهذا کذلک لا قائل به، لتواتر النقل بأنّ هناک رؤوساً لم تقطع، کرأس الحرّ بن یزید الریاحی وآخرین، کما یؤکّد علی ذلک المحامی أحمد حسین یعقوب فی دراسته لعدد أصحاب الحسین علیه السلام(1).

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (2) وهی جریمة قطع الرؤوس الشریفة

من الأدّلة التی ذکرها العلماء، وهی جریمة قطع الرؤوس ورفعها فوق الرماح والاستدلال من خلالها علی عدد شهداء کربلاء، فإنّ الشیخ شمس الدین رحمه الله درس هذه المسألة من خلال سؤال تحت عنوان: هل قتل الجمیع، أو بقیت منهم بقیة؟ بعد إثارته لمسألة عدد الرؤوس التی قطعت بعد واقعة الطف، ثمّ یذکر بعد ذلک جملة من الروایات التی تحدّثت عنها المصادر التاریخیة، کالطبری وأبی مخنف والشیخ المفید وغیرهم، فی عدد هذه الرؤوس المقطوعة، ثمّ یقول: وقد یقال بوجود دلالتین لعدد الرؤوس، إحداهما: دلالته علی عدد أصحاب الحسین علیه السلام، وثانیتهما: دلالته علی عدد القتلی. ویجیب الشیخ شمس الدین رحمه الله علی ذلک بقوله: «ولکنّنا لا نری لعدد الرؤوس أیّة

ص:48


1- (1) کربلاء الثورة والمأساة، المحامی أحمد حسین یعقوب: ص 39، أنصار الحسین لشمس الدین: ص 232.

دلالة من هذه الجهة، فإنّ قطع الرؤوس وحملها إلی الکوفة والشام، إجراء انتقامی ذو محتوی سیاسی، أو عمل سیاسی ذو صفة انتقامیة، وهو خاضع لاعتبار سیاسی معیّن».(1)

أقول:

إنّ قطع الرؤوس ورفعها فوق الرماح، وإن کان عملاً سیاسیّاً له صفة انتقامیة، ولکنّه یحمل فی الوقت نفسه دلالة علی عدد القتلی الذین سقطوا بین یدی الحسین علیه السلام، ولا تقاطع بین الصفة الانتقامیة لهذا العمل وبین دلالته علی العدد، مع إیماننا بأنّ هذه الدلالة حتی وإن تمّت، لا یمکن الاستدلال بها علی عدد من استشهد مع الحسین، فإنّ الرقم الذی ربّما یکون أقرب إلی عددهم رضی الله عنهم - کما سیأتینا بعد ذلک - أکبر من الرؤوس المقطوعة هذه.

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (3) وهم المستشهدون فی الحملة الأولی وفی المبارزة

من الأدلّة التی ذکرها العلماء، وهی الروایات التی تحدّثت عن عدد المستشهدین فی الحملة الأولی، وعدد المستشهدین مبارزة، فإنّ الروایات هنا، کما فی غیرها، تختلف فی تحدید عدد المستشهدین فی الحملة الأولی والمستشهدین مبارزة، فقد ذهب المشهور إلی أنّ عدد المستشهدین فی الحملة الأولی (50) کما فی مقتل المقرّم، والمقریزی فی خططه(2) ، وغیرهما، بینما ذهب

ص:49


1- (1) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 53-56؛ کربلاء الثورة والمأساة، أحمد حسین یعقوب: ص 39 وبعدها.
2- (2) مقتل الحسین لعبد الرزاق المقرّم: ص 237؛ الخطط المقریزیة: ج 2 ص 287.

بعضهم إلی أنّ عددهم هو (40) شهیداً، کما یذکر ذلک ابن شهر آشوب فی مقتله(1) ، ویقول محمد بن أبی طالب والخوارزمی: إنّ عددهم نیّف علی الخمسین(2).

وکذلک اختلفوا فی عدد المستشهدین مبارزة، فمع أنّ الکثیر یذهب إلی أنّ من استشهد مبارزة لا یتجاوز الأربعین، یذهب الیافعی فی مرآة الجنان إلی أنّهم کانوا اثنین وثمانین مبارزاً(3). ویبدو أنّ الیافعی حینما یذکر هذا القول یرسله أرسال المسلّمات من دون تعریض، وهذه الروایة تقدیریة سوف تعیننا علی معرفة العدد الذی کان مع الحسین علیه السلام بعد ذلک.

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (4) وهی کتب المقاتل القدیمة

اشارة

من الأدلّة التی ذکرها العلماء، وهی کتب المقاتل القدیمة، والتی رصدت هذا الحدث الألیم ونقلته الینا، وأقصد بکتب المقاتل القدیمة تلک التی لم یفصلها عن واقعة کربلاء إلاّ سنوات قلیلة، وبعبارة أخری، الواسطة فیها لنقل المعلومة لم تتعدّی فی معظم صورها وأشکالها الشخص أو الشخصین، کمقتل الفضیل بن الزبیر، وأبی مخنف، وآخرین، وسأحاول بتوفیق من الله تعالی الترکیز علی مقتل الفضیل بن الزبیر دون غیره من کتب المقاتل لقدمه، حیث توفّی صاحبه فی سنة 148 ه -، کما یؤکّد علی ذلک.

ص:50


1- (1) مقتل ابن شهر آشوب: ج 4 ص 114.
2- (2) مقتل الخوارزمی: ج 2 ص 1؛ بحار الأنوار: ج 45 ص 12، نقلاً عن محمد بن أبی طالب.
3- (3) مرآة الجنان: ج 1 ص 144.
السید الجلالی ومقتل الفضیل بن الزبیر

یقول السیّد محمد رضا الجلالی فی تحقیقه لهذا السفر القیم، والذی یقول عنه: ولقد لفت نظری فیه عدّة جهات دفعتنی إلی تحقیق نصّه، وهی:

1. أنّ روایاته مسندة إلی رجال معروفین...، وهذا ما لم تحظ به أکثر الروایات التی یتداولها المؤرّخون وأرباب المقاتل وغیرهم من المؤلّفین بهذا الصدد.

2. أنّ جامعه الفضیل بن الزبیر قصد استیعاب ما توفّر له من النقول.

3. احتواؤه علی أسماء لشهداء لم یذکروا فی موضع آخر.

4. احتواؤه علی آثار وروایات وتفصیلات، ممّا یرفع قیمته العلمیة.

5. یعتبر فریداً وجدیداً بالنسبة إلی حواضرنا العلمیة.(1)

ولکنّی وقبل أن ألج فی لجّة هذا السفر المهمّ، أودّ أن أشیر إلی أمر مهمّ أرانی مضطرّاً للحدیث عنه، لأنّه یصبّ فی صالح ما نرید أن نتحدّث عنه...

کتب المقاتل أقلّ تحریفاً من الکتب التاریخیة الرسمیة

إنّ ممّا یجب الالتفات إلیه هو أنّ المصادر التأریخیة التی وردت فیها أسماء وأرقام وأعداد أصحاب الحسین علیه السلام انقسمت إلی قسمین رئیسیین غالباً، وهما: کتب المقاتل وکتب المؤرّخین، ولا شکّ بأنّ الکتب التأریخیة تکون أکثر عرضة للتأثّر بعوامل التحریف والتزویر المتعدّدة، لاسیّما الدولة التی یعیش فیها ذلک

ص:51


1- (1) مجلّة تراثنا العدد 2: ص 127-128.

المؤرّخ، لأنّ أمثال هؤلاء یکونون تحت أنظار السلطة فیما یکتبون، ومن ثم قد تری الدولة بأنّ لیس من صالحها أن ینشر هذا المؤرّخ هذه الحادثة، أو تری العکس، بأنّ المصلحة فی أن ینشرها ولکن علی أن یبیّن فلسفتها والأسباب الکامنة وراءها، ومن هنا یکونون أکثر عرضة للضغوط التی تمارسها هذه الدولة أو تلک، وربّما حاضرنا الذی نعیش فیه یکشف لنا بشکل واضح عن مثل هذه التأثیرات، فکم من الإعلامیین الذین یعیشون الأحداث بأمّ أعینهم ویرون الحقّ ماثلاً أمامهم من خلال جملة من النقاط، ولکنّک تراهم غیر قادرین علی تسجیل ما یؤمنون به، والسرّ وراء ذلک هو الخوف من النظام الحاکم الذی ربّما تقتضی مصلحته عدم تسجیل مثل هذه الأمور، والمثال البارز فی التاریخ هو الضغوط الکبیرة التی مارستها الدولة الأمویة علی هؤلاء المؤرّخین فی عدم ذکر هذه الواقعة أصلاً، أو تزویرها علی أقل تقدیر، من خلال ذکر الروایات الکاذبة عنها، فضلاً عن رموزها وأبطالها.

یقول صادق جعفر الرّوازق وهو یتحدّث علی هامش تقریرات السیّد کاظم الحائری لمحاضرة السیّد الشهید محمد باقر الصدر، تحت عنوان «الحسین یکتب قصّته الأخیرة»: «ما لتأثیر الأسالیب السیاسیة القاهرة التی مارسها الأمویّون ومنذ عهد عثمان، ثمّ معاویة الذی قال: اقطعوا العطاء عن کلّ من یوالی أبا تراب. فقطع العطاء هو قطع الأعناق، وهو حکم إعدام سبقٍ مع وقف التنفیذ، فالسیاسة الأمویة التی لم ترحم الطفل الرضیع، فکیف الحال لمن یرید أن یؤرّخ واقعة مأساویة صنعتها دناءة النظام واستهتاره، ومن ثمّ کیف لمؤرّخٍ موالٍ أو حتی معادٍ أن

ص:52

یسترضی ضمیره وهو یذکر أسماء الشهداء من الأصحاب وفی مثل هذه الظروف السیاسیة التی لا ترحم، وکم من القبائل والبیوتات الکبیرة التی أدانها النظام الأموی لسبب اشتراک أفراد منها استشهدوا مع الحسین علیه السلام»(1).

ولقد ذکرت لک آنفاً نصّین للطبری کشاهد علی مثل هذا التزویر والدسّ، ولو أردت أن أسرد لک ما کتبه الطبری فی هذا المجال لرأیت العجب العجاب، ولثبت لک وبشکل قاطع، أنّ هذا الرجل لم یکن حرّاً فی کتابة أحداث هذه الواقعة، فضلاً عن رموزها وما جری وصنع بها، بینما لا نجد مثل هذا التأثیر الکبیر علی ما اصطلح علیه بکتب المقاتل، وخصوصاً المتقدّمة منها، کأبی مخنف الذی یُعدّ من «أصحاب الإمام الصادق علیه السلام، وله روایات عنه، وکان والده من أصحاب الإمام علی علیه السلام، وجدّه مخنف بن سلیم الأزدی من صحابة رسول الله والإمام علی، وکان عاملاً لعلی علی أصفهان وهمدان إبّان خلافته، وکان فی معرکة الجمل حامل لواء قبیلته، حتی استشهد هو واثنان من أخوته»(2).

وهکذا بالنسبة لمقتل الحسین علیه السلام للخوارزمی، فی القرن السادس الهجری، والذی ما زال الباحثون والخطباء یفیدون منه، وغالباً ما ینسب الخوارزمی روایاته إلی ذویها، وأحیاناً إلی أبی مخنف، وأحیاناً أخری إلی ابن أعثم الکوفی، ومن هنا یعدّ هذا المصدر من المصادر الموثوقة فی هذا الباب.

ص:53


1- (1) الحسین یکتب قصته الأخیرة (تقریرات السید کاظم الحائری لمحاضرة السید محمد باقر الصدر) تحقیق وتعلیق صادق جعفر الرّوازق: ص 117.
2- (2) معجم رجال الحدیث للسید الخوئی: ج 15 ص 140.

وکذلک مقتل ابن شهر آشوب فی کتابه مناقب آل أبی طالب، وابن طاووس فی اللهوف فی قتلی الطفوف، وابن نمّا فی مثیر الأحزان، إضافة إلی بقیّة کتب المقاتل الأخری. ولا شکّ أنّ هذه المصادر تمثّل الناقل الأکثر صدقاً من جهة، ومن جهة أخری أقلّ تأثّراً بالأوضاع السیاسیة للدولة، علی أساس أنّهم لا یمثّلون عنصراً رسمیّاً داخل الدولة فی تدوین الأحداث والوقائع. صحیح أنّ الطبری قد اعتمد فی حدیثه عن کربلاء علی أبی مخنف کثیراً، ولکنّه فی الوقت نفسه لم ینقل کلّ ما ذکره عنه فقط، وإنّما ذکر أحادیث وروایات أخری أسندها إلی آخرین، وما ذکرته من النصّین السابقین للطبری یعدّ دلیلاً وشاهداً علی ما نقول، وهذه حقیقة یجب علینا أن نعیها ونحن نقرأ کتاب الطبری کأقدم وأوسع کتاب تأریخی اعتمده المسلمون فی دراسة التأریخ.

أقول: إنّ کلّ ما ذکرته سابقاً یبیِّن لنا هذه الحقیقة، وهی أنَّنا اذا أردنا أن نبحث عن أسماء أصحاب الحسین علیه السلام، والشهداء منهم، علینا أن نمیل إلی کتب المقاتل أکثر من کتب المؤرّخین، وبعبارة أخری علینا أن نذهب إلی مصادر المؤرّخین أنفسهم، والتی اعتمدوها فی کتاباتهم قبل أن یخفوا فیها ما أخفوه تحت تأثیرات إرهاب الدولة، فضلاً عن العوامل الأخری التی ربّما لا یسع المجال هنا لذکرها، ومن ثم تخرج الأحداث مشوّهة عرجاء، بعیدة کلّ البعد عمّا جری وحصل بالفعل، آخذین بعین الاعتبار المصادر القریبة من الواقعة کأبی محنف والفضیل بن الزبیر، لأنّها ستکون أقلّ تحریفاً وتزویراً، وأکثر صدقاً فی ذکر الأحداث والأسماء والمواقف.

ص:54

مقتل الفضیل بن الزبیر

لقد ذکر الفضیل بن الزبیر فی کتابه القیمّ «تسمیة من قتل مع الحسین من أصحابه وأهل بیته وشیعته»(1) أنّ عدد الشهداء الذین سقطوا دفاعاً عن الحسین علیه السلام یبلغ (107)، وهو رقم ربّما تفرّد به دون بقیّة المصادر الأخری، وهذه الوثیقة لقدمها ووثاقتها، تحتاج إلی کثیر تأمل وکثیر عنایة، حتی یمکن أن یخرج الإنسان من خلالها إلی ما هو قریب إلی أرض الواقع، فقد ذکر الفضیل فی اسماء الشهداء (10) لم تذکرهم المصادر الأخری، وهم: «عبد الله بن عیّاش بن قیس» ومعه أسلم مولی لهم.

«القاسم بن شبر»، «همام بن سلمة القابضی»، «مولی لأهل شندة یدعی رافعاً»، «الضباب بن عامر»، «عمران بن کعب الأنصاری»، «سلیمان بن ربیعة»، «سوار بن أبی حمیر الفهمی الهمدانی»، «کُثیر بن عبد الله الشعبی»، «المهاجر بن أوس»، «وابن عمّه سلمان بن مضارب».

وهذه الأسماء تحتاج إلی تدقیق کبیر، لما تضمّنته من أشخاص اشتهر عند المؤرّخین وأرباب المقاتل أنّهم کانوا من عداد جیش عمر بن سعد، فضلاً عن أن یکونوا شهداء فی واقعة الطف إلی جانب الحسین، مثل کثیر بن عبد الله الشعبی والمهاجر بن أوس.

أما الأوّل: فیعبّر عنه فی الروایات بأنّه شرّ أهل الأرض وأجرأهم علی دم،

ص:55


1- (1) جزی الله خیراً المحقق البارع السید محمد رضا الجلالی علی جهده فی تحقیق هذا الکتاب، بعد أن وقع فی یده (مجلة تراثنا العدد 2) 1405 ه -.

کما فی روایة الطبری: لمّا نزل الحسین کربلاء ونزلها عمر بن سعد، بعث إلی الحسین علیه السلام کثیر بن عبد الله الشعبی، وکان فاتکاً، فقال له: إذهب إلی الحسین وسله ما الذی جاء به؟ قال: أسأله فإن شئت فتکت به، فقال: ما أرید أن تفتک به ولکن أرید أن تسأله، فأقبل إلی الحسین، فلما رآه أبو ثمامة الصائدی قال للحسین علیه السلام: أصلحک الله أبا عبد الله، قد جاءک شرّ أهل الأرض وأجرأهم علی دم وأفتکهم، ثمّ قام الیه وقال: ضع سیفک، قال: لا والله ولا کرامة، إنّما أنا رسول، فإن سمعتم منّی حتی ابلغتکم ما أرسلت به الیکم، وإن أبیتم انصرفت عنکم، فقال له أبو ثمامه: فإنّی آخذ بقائم سیفک ثمّ تکلّم بحاجتک، قال: لا والله ولا تمسّه، قال: فأخبرنی بماذا جئت؟ وأنا أبلغه عنک، ولا أدعک تدنو منه فإنّک فاجر، قال فاستبّا. ثمّ رجع کثیر إلی عمر فأخبره الخبر، فأرسل قرّة بن قیس التمیمی الحنظلی مکانه فکلم الحسین علیه السلام».

وأنت تقرأ معی فی هذه الروایة کم من الألفاظ المشینة قد وصفها له أصحاب أبی عبد الله؛ «شر أهل الأرض»، «أجرأهم علی دم»، إضافة إلی قول الطبری نفسه عنه إنه کان فاتکاً، کلّ هذا لا شکّ والحسین فی بدایة نزوله فی کربلاء، لیعطینا صورة واضحة عمّا یمکن أن یفعله هذا الفاجر فی الغد، أو ما فعله علی أرض الواقع یوم العاشر من المحرّم، حیث اشترک بشکل مباشر فی قتل خیار أهل الأرض وعبّادها، أمثال زهیر بن القین البجلی الذی کان راصداً له ولأخباره ولخطبه، وکان حریصاً علی أن یقتله هو لا غیره، فإذا کان هذا حال الرجل، فکیف یمکن له أن یهتدی، ومن ثم ینتقل إلی صفّ أبی عبد الله الحسین ویقتل

ص:56

بین یدیه، کما فعل الحرّ بن یزید الریاحی وآخرون؟! إنّ الهدایة لها دواعٍ ومقدّمات لابدّ من توفّرها أوّلاً، قال تعالی:

«أَ لَمْ تَرَ کَیْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً کَلِمَةً طَیِّبَةً کَشَجَرَةٍ طَیِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِی السَّماءِ» - إلی قوله -«وَ مَثَلُ کَلِمَةٍ خَبِیثَةٍ کَشَجَرَةٍ خَبِیثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ1» .

أمّا الثانی: وهو المهاجر بن أوس، فلم یکن أقلّ من صاحبه شرّاً وجرأة علی الله ورسوله، فقد ارتکب من الجرائم ما لا یعلم بها إلاّ الله، فقد نقل التاریخ عنه صوراً من الخسّة والحقارة، حیث انبری المهاجر بن أوس إلی الحسین مفتخراً ومتباهیاً بقطع الماء عن الحسین بقوله: «یا حسین، ألا تری الماء یلوح کأنّه بطون الحیّات، والله لا تذوقه أو تموت دونه. فقال الحسین علیه السلام إنّی لأرجو أن یوردنیه الله ویحلّئکم عنه»(1) ، وهکذا ینقل التأریخ عنه صور الإجرام، حتی أنّه اشترک فی قتل زهیر بن القین مع صاحبه کثیر بن عبد الله الشعبی، یقول المقرم فی مقتله: «وخرج بعد زهیر بن القین...، وهو یقول:

أنا زُهیرٌ وأنا ابنُ القَینِ أذُودُکُمْ بالسیف عن حسینِ

فقتل مائة وعشرین، ثمّ عطف علیه کثیر بن عبد الله الشعبی والمهاجر بن أوس فقتلاه»(2).

ص:57


1- (2) أنساب الأشراف: ج 3 ص 181، کتاب ترجمة الإمام الحسین من کتاب الفضائل لأحمد بن حنبل، تحقیق عبد العزیز الطباطبائی: ص 67.
2- (3) مقتل المقرّم: ص 247.

فإذا کان حاله کما سمعت وقرأت، فکیف یمکن أن یوفّق إلی الشهادة بین یدی ریحانة رسول الله صلی الله علیه و آله؟! فورود هذا الاسم عند الفضیل بن الزبیر فی کتابه مع أسماء الشهداء یشکّل نقطة تحیّر، کما حصل مع محقّق کتاب الملهوف علی قتلی الطفوف، الشیخ فارس تبریزیان، حیث علق بقوله: «ولا أعلم هل المهاجر بن أوس اثنان؟ أو واحد کان فی معسکر ابن سعد ثمّ التحق بمعسکر الحسین علیه السلام واستشهد معه؟»(1).

بل لابدّ من رفض هذا الاسم وعدم إدخاله فی قائمة شهداء الحسین فی کربلاء، وأعتقد جازماً بعد مراجعتی المتکرّرة لعبارة الفضیل بن الزبیر فی کتابه، أنّ هناک اسماً ساقطاً لا تستقیم العبارة من دونه، ومعه لا یکون هناک إشکال مطلقاً، فعبارة الفضیل فی کتابه وردت هکذا: «وقتل من بُجیلة، کثیر بن عبد الله الشعبی، ومهاجر بن أوس، وابن عمّه سلمان بن مضارب»(2).

وبتقدیری أن العبارة الصحیحة هکذا:

«وقتل من بُجیلة، زهیر بن القین، قتله کثیر بن عبد الله الشعبی ومهاجر بن أوس، وابن عمّه سلمان بن مضارب»(3)

ومع ما قدّمناه یکون الفضیل بن الزبیر قد أورد فی کتابه (105) من أسماء

الشهداء ولیس کما نقل فی مجلة تراثنا، العدد 2 لسنة 1405 ه -، حیث کانوا (107).

ص:58


1- (1) الملهوف علی قتلی الطفوف للسید ابن طاووس، تحقیق الشیخ فارس تبریزیان: ص 159، ویسمّی أیضاً: اللّهوف فی قتلی الطفوف.
2- (2) کما وردت فی مجلة تراثنا، العدد 2 لسنة 1405 ه -، تحقیق السید محمد رضا الجلالی.
3- (3) ومع وجود اسم زهیر بن القین یحل الإشکال فی العبارة ویفصل بین الصالح والطالح.

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة رقم (5) وهی زیارة الناحیة المقدّسة:

فإنّ هذه الزیارة من الزیارات المنسوبة إلی الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف للإمام الحسین کبقیة زیارات أئمّة أهل البیت علیهم السلام له ولکنّها تمیّزت عنها باحتوائها علی أسماء لشهداء الطفّ وأسماء من قتلهم.

وقد نقل هذه الزیارة من العلماء المتقدّمین الشیخ المفید والسیّد المرتضی وابن المشهدی(1) وابن طاووس(2) ، وبعد هؤلاء الأعلام نقلها العلماء المتأخّرون، کالمجلسی فی البحار والنوری فی مستدرک الوسائل وعباس القمی فی نفس المهموم وآخرین(3) ، حتی تسالم فی مؤلّفات الشیعة أنّ هناک زیارة تسمّی زیارة الناحیة، تنسب إلی الإمام الثانی عشر من أئمّة أهل البیت علیهم السلام ألا وهو الإمام المهدی المنتظر عج الله تعالی فرجه الشریف.

ص:59


1- (1) هو الشیخ الجلیل السعید أبو عبد الله محمد بن جعفر بن علی المشهدی الحائری، المعروف بابن المشهدی، هذا الرجل من أجلّاء العلماء من السلف الماضین واعتمد الأصحاب علی کتابه، وهو الأصل فی عدّة من الأدعیة والزیارات... قال عنه المحدّث الحرّ العاملی: «کان فاضلاً محدّثاً صدوقاً». کتاب المزار للشیخ ابن المشهدی، مقدّمة التحقیق لجواد الفیومی الأصفهانی: ص 5.
2- (2) هو السیّد علی بن موسی بن طاووس العلوی الحسنی، ینتهی نسبه إلی الحسن المثنی، ولد سنة 589 ه - وتوفّی فی بغداد 5 ذی القعدة سنة 664 ه - واختلف فی مدفنه، فبعض یذهب إلی أنّه دفن فی الحلّة وبعض یذهب إلی أنّه دفن فی النجف، له مؤلّفات کثیرة منها: فلاح السائل، والملهوف علی قتلی الطفوف، والإقبال وغیرها.
3- (3) أعیان الشیعة: ج 8 ص 219؛ بحار الأنوار: ج 98 ص 317، المزار الکبیر لابن المشهدی: ص 496-519؛ مصباح الزائر: ص 198.

نعم هناک إشکال یورده بعض علمائنا فی تاریخ الزیارة وهو سنة 252 ه - (1) حیث یقولون بأنّ هذا التاریخ لا یتّفق مطلقاً مع النسبة إلی الإمام المنتظر الذی لم یکن مولوداً فی ذلک الوقت، حیث ولد سنة 256 ه - أو 255 ه -(2).

ولذلک ذهب معظمهم إلی أنّ هذه الزیارة تنتسب إلی الإمام الحسن العسکری ولیس إلی الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف کما ذهب إلی ذلک التستری فی قاموس الرجال(3) ، بینما أصرّ آخرون علی أنّ الزیارة منسوبة إلی الإمام المهدی، غایة ما فی الأمر أنّ هناک اشتباهاً فی کتابة التأریخ، فبدلاً من 262 ه - کُتِب 252 ه - کما صرّح بذلک المجلسی فی بحاره(4).

وقد مال الشیخ محمد مهدی شمس الدین فی تحقیقه القیّم لهذه الزیارة إلی إمکانیة أن تکون الزیارة منسوبة إلی الإمام الحسن العسکری، حیث یقول: «والافتراض الثانی (النسبة إلی الإمام الحسن العسکری) أولی بالقبول من الافتراض الأوّل لولا الاعتراض علیه بأنّ مصطلح الناحیة فی الثقافة الشیعیة الإمامیة یعنی الإمام الثانی عشر محمد بن الحسن علیه السلام فی عصر غیبته الصغری، ولا نعلم أنّه استعمل للتعبیر عن غیره من الأئمة»(5).

وقد علّق سماحة الشیخ فوزی آل سیف فی کتابه «تساؤلات حول النهضة

ص:60


1- (1) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 170.
2- (2) أصول الکافی: ج 1 ص 514.
3- (3) قاموس الرجال للتستری: ج 8 ص 333-334.
4- (4) بحار الأنوار: ج 98 ص 274.
5- (5) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 171-172.

الحسینیة» بقوله: «یظهر أنّ ما ذهب الیه المحقّق التستری رحمه الله هو الأقرب بالرغم من أنّ لفظ الناحیة اذا أُطلق فإنّه یقصد منه صاحب العصر والزمان عج الله تعالی فرجه الشریف، إلاّ أنّنا وجدنا فی کتب الحدیث والمصادر الرجالیة أیضاً التعبیر عن غیر الإمام الحجّة بلفظ الناحیة، ممّا یسهّل أمر حمل اللفظ علی الاحتمال الثانی، وهو أنّها صادرة عن الإمام الحسن العسکری علیه السلام، والذی کان أیضاً فی فترات معیّنة یتعامل مع شیعته بنحو غیر مباشر، تمهیداً للمرحلة القادمة وتعویداً لهم علی التعامل مع إمام مستور.

فنحن نری أنّ هذا اللفظ قد استعمل من قبل الإمام الجواد علیه السلام للإشارة إلی أمر التشیّع فقد نقل الشیخ الطوسی عن داود أبی هاشم الجعفری قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام: ما تقول فی هشام بن الحکم؟ فقال: رحمه الله، ما کان أدبهُ عن هذه الناحیة، أی المذهب... أو الإمام.

ونقل الکلینی رضی الله عنه فی الکافی عن علی بن عبد الغفار قال: «دخل العباسیون علی صالح بن وصیف، ودخل صالح بن علی وغیره من المنحرفین عن هذه الناحیة، علی صالح بن وصیف عندما حبس أبا محمد علیه السلام، فقال لهم صالح: وما أصنع! قد وکلّت به رجلین من أشرّ من قدرت علیه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصیام إلی أمر عظیم، فقلت لهما: ما فیه؟ فقالا: ما تقول فی رجل یصوم النهار ویقوم اللیل کلّه...»

ویحتمل فیه أنّ المقصود هو انحرافه عن خطّ الإمامة، أو عن الإمام الحسن العسکری علیه السلام، وحین یتحدّث الشیخ الصدوق عن إبراهیم بن محمد الهمدانی، یصفه بأنّه وکیل الناحیة، مع أنّه لم یدرک الإمام الحجّة بل ولا العسکری، وإنّما

ص:61

هو صاحب الإمام الرضا والجواد والهادی علیهم السلام، فقد قال فی من لا یحضره الفقیه:«إبراهیم بن محمد الهمدانی، من أصحاب أبی الحسن الهادی علیه السلام، ووکیل الناحیة، ثقة جلیل، والطریق الیه حسن کالصحیح بإبراهیم بن هاشم» وأمّا العلّامة فی الخلاصة، فقد استعمل لفظ الناحیة للدلالة علی الأئمّة: الحجّة والعسکری والهادی، فقال:«حمد بن علی بن إبراهیم بن محمد الهمذانی - بالذال المعجمة - روی عن أبیه، عن جدّه، عن الرضا علیه السلام، وکان محمد وکیل الناحیة الذی لا تختلف الشیعة فیه، وقد کان من أصحاب الجواد والهادی والعسکری علیهم السلام، وکان وکیلاً لهم»(1).

وعلی هذا تکون زیارة الناحیة المقدّسة منسوبة إلی الإمام الحادی عشر من أئمّة أهل البیت علیهم السلام ألا وهو أبو محمد الحسن العسکری علیه السلام، وقد حوت هذه الزیارة علی (63) اسماً من أصحاب الحسین و (17) اسماً من أهل بیته من غیر الحسین علیه السلام ومسلم بن عقیل. وقد تحدّث العلماء عن الأسماء التی وردت فی هذه الزیارة، وهل یمکن أن تکون مرجعاً أساسیّاً فی قبال بقیّة المراجع الأساسیة الأخری؟

لقد ذهب الکثیر من علمائنا إن لم یکن کلّهم، إلی أنّ هذه الزیارة لا یمکن ان تُعدّ مصدراً أساسیّاً، نعم یمکن أن تعدّ ضمن المصادر الثانویة أو العاضدة للمصادر الأوّلیة إن صحّ التعبیر.

والسبب الرئیسی فی ذلک یعود إلی احتواء سندها علی شخصین مجهولین لا یعلم حالهما، فقد یکونان ممدوحین وقد یکونان مذمومین، ومع احتمال الذمّ

ص:62


1- (1) من قضایا النهضة الحسینیة للشیخ فوزی آل سیف: ج 1 ص 141.

یسقط الاعتبار الأساسی لهذه الزیارة(1) ، وبنفس المستوی الذی نتعامل فیه مع الادلة الأساسیة.

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة رقم (6) وهی الزیارة الرجبیة

من الأدلة التی یذکرها العلماء، وهی: الزیارة الرجبیة، التی ورد أصل هذه الزیارة فی کتاب الإقبال للسید ابن طاووس، ولها مع زیارة الناحیة أوجه تشابه فی أسماء شهداء کربلاء وأوجه اختلاف.

ویرجّح المحقّقون، ومنهم الشیخ محمد مهدی شمس الدین رحمه الله أنّ هذه الزیارة من تألیفات السیّد ابن طاووس نفسه حیث یقول: «ویبدو من هذه الکلمة أنّ السیّد ابن طاووس هو الذی ألّف هذه الزیارة، وإن لم یصرّح بذلک»(2).

ثمّ یقول فی نهایة بحثه: «ومن هنا فإنّنا لا نستطیع اعتبار الزیارة الرجبیة مصدراً أساسیاً فی بحثنا کما اعتبرنا الزیارة المنسوبة إلی الناحیة، لا لشکّنا فی وثاقة السیّد ابن طاووس رحمه الله، فهو فوق الشبهات، وإنّما لشکّنا فی دقة مصادره، ولعلمنا بتزاید التحریف والتصحیف فی هذه الفترة المتأخّرة، مع عدم العنایة بالتحقیق والتدقیق».(3)

وعلی هذا الأساس لا یمکن أن تکون هذه الزیارة معتمداً علمیّاً صحیحاً فی

ص:63


1- (1) وللمزید من الإیضاح حول هذه النقطة المهمّة راجع کتاب أنصار الحسین للعلّامة شمس الدین: ص 145 وما بعدها، ویقول عنها فی ص 72: «ونحن نعتبرها کوثیقة تاریخیة فقط، لأنّ صفتها الدینیة غیر ثابتة» ولهذا لم یکتفِ بهذه الأسماء بل أضاف علیها.
2- (2) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 175.
3- (3) المصدر السابق: ص 176.

معرفة عدد الشهداء فی واقعة الطفّ. نعم یمکن أن تکون مصدراً ثانویاً أو عاضداً للمصدر الأساسی، کما مرّ فی زیارة الناحیة.

تقدیرنا لعدد الشهداء

اشارة

حسب تتبّعنا وبذلنا للجهد بمقدار ما تبلغه الاستطاعة، وجدنا أنّ عدد الأشخاص الذین فازوا بالشهادة بین یدی ریحانة رسول الله الإمام الحسین بن علی علیه السلام یتراوح عددهم من (112) شهیداً إلی (145) شهیداً، وهی روایة الإمام الباقر علیه السلام(1) والتی نقلها لنا عمّار الدهنی، متضمّناً هذا العدد الشهداء من أهل البیت بما فیهم الحسین علیه السلام ومسلم بن عقیل علیه السلام. والیک بیان ما أجملناه.

التقدیر الأول

لا شکّ أنّ روایة الإمام الباقر علیه السلام المتقدّمة لا یمکن غضّ الطرف عنها بشکل کامل مع وجود مؤیّد لها کما سیأتیک، هذا من جهة، ومن جهة أخری بعد ما بیّناه فی مناقشتنا لها فیما تقدّم، حیث انتهینا إلی ضرورة طرح ما یتیقّن الانحراف والتزویر فیه، وأخذ ما عداه وهو الصحیح الذی ورد عن الإمام.

یقول السیّد سامی البدری: «وفی ضوء ذلک کان من الضروری التحقیق فی الروایة التأریخیة التی ظهرت فی هذه الفترة الخطیرة، سواء کانت روایة أبی مخنف أو روایة غیره، وتجزئة الروایة إلی أجزاء، واستبعاد الجزء الذی یلتقی مع الهدف الإعلامی للعباسیّین إن لم یکن لدینا غیرها».(2)

ص:64


1- (1) وإن کنّا نمیل إلی هذه الروایة وما ذکرته أکثر من الأرقام فی المصادر الأخری.
2- (2) الإمام الحسین الظلامة الفاتحة الهادیة، للسیّد سامی البدری، فقرة کتاب ابی مخنف حول مقتل الحسین.

ومن الجلی لکلّ ذی عینین أنّ روایة الإمام الباقر علیه السلام هی المصدر الموثوق من جهات متعدّدة، فوجود الإمام نفسه فی واقعة کربلاء ومشاهدة ما جری یعطی لنا صورة عمّا حمله الإمام من معاناة فی تلک الحقبة بأدق تفاصیلها، حیث یقول: «قتل جدّی الحسین، ولی من العمر أربع سنوات، وإنّی لأذکر مقتله وما نالنا فی ذلک الوقت»(1). فضلاً عمّا ورد فیه من أحادیث رسول الله صلی الله علیه و آله لاسیّما روایة جابر وسلامه علیه. إضافة إلی کلّ ذلک ما سمعه الإمام من أبیه زین العابدین، ومن عمّته زینب والهاشمیّین الذین حضروا الطفّ مع الحسین علیه السلام.

أولاً: وممّا یؤیّد ما جاء بهذه الروایة من أعداد، ما یلی:

روایة الیافعی فی مرآة الجنان حیث قال: «وقتل معه من أصحابه مبارزة (82)(2) ، فإذا أضفنا إلی هذا الرقم شهداء الحملة الأولی والبالغ عددهم (45) شهیداً وهو الوسط بین رقم (40) کما ذکره ابن شهر أشوب و (50) کما ذکرته بقیّة المصادر الأخری، إضافة إلی شهداء أهل البیت أو ما یعبّر عنهم بشهداء بنی هاشم، والبالغ عددهم کما عند المشهور (17)، فیکون المجموع (144)، أو ما یقاربه.

82 + 45 + 17 Í 144 وهی روایة الإمام الباقر أو ما یقاربها.

ثانیاً: روایة الحصین بن عبد الرحمن، عن سعد بن عبیدة(3) ، حیث یذکر بأنّهم کانوا قریباً من مئة، وهو الرقم الذی قبله الشیخ شمس الدین رحمه الله، ورجّح أنّ

ص:65


1- (1) طبقات ابن سعد: 5 ص 237-238.
2- (2) مرآة الجنان للیافعی: ج 1 ص 131.
3- (3) أنصار الحسین: ص 46.

هذا الرقم بعد الحملة الأولی، وذلک لرمی عمر الطهوی السهم علی الإمام الحسین ووقوعه بین کتفیه، وهذا ما لم یحصل إلاّ بعد نشوب الحرب وحصول الحملة الأولی، فاذا أضفنا إلی هذا الرقم وهو (100) أو ما یقاربها، عدد من استشهد فی الحملة الأولی والذی یتراوح بین (40) إلی (50) والمتوسط بینهما (45)، فستکون النتیجة (145).100 + 45 Í 145

ثالثا: روایة الخوارزمی حیث یقول: «فصل الحسین من مکّة یوم الثلاثاء، یوم الترویة، لثمان مضین من ذی الحجّة، ومعه اثنان وثمانون رجلاً من شیعته وموالیه وأهل بیته»(1).

نضیف إلیه من التحق به وهو فی طریقه إلی کربلاء، وهم قرابة (21) رجلاً کما یؤکّد ذلک محمد حسین الأعلمی فی دائرة المعارف، ثمّ یذکر بعد ذلک أسماءهم(2).

إضافة إلی ما ذکره ابن طاووس من التحاق (32) رجلاً بمعسکر الحسین علیه السلام فی کربلاء قبیل أو فی أثناء المعرکة.(3)

ص:66


1- (1) الخوارزمی فی مقتله: ج 1 ص 220.
2- (2) دائرة المعارف، محمد حسین الأعلمی: ج 23 ص 194.
3- (3) ویرفض الشیخ محمد مهدی شمس الدین هذه الروایة التی ذکرها ابن طاووس لسببین رئیسیین هما:أنّ حدثاً من هذا القبیل یجب أن یلفت نظر الرواة الآخرین فینقلوه لنا لا أن یکتفی به شخص.أنّ هذا العدد (32) عدد کبیر بالنسبة إلی عدد أنصار الحسین القلیل، فکان من الطبیعی أن تظهر آثار هذه القوة، ومع عدم ظهورها دلیل علی عدم وجود مثل هذا الالتحاق. نعم یفسرها علی فرض صحتها بأولئک الذین انحازوا ولم یقاتلوا، مثل مسروق بن وائل الحضرمی وغیره.ویعلّق الشیخ فوزی آل سیف علی ذلک بقوله: «ویمکن التعلیق علی ما ذکر آنفاً بعدم استبعاد هذا

وهناک بعض الأسماء لم یذکرها الأعلمی فی دائرة المعارف، وهی کالآتی:

1. الطرمّاح بن عدی، حیث التحق بالحسین علیه السلام منذ خروجه من مکّة، وبقی معه إلی أن استشهد بین یدیه، کما یؤکّد ذلک الشیخ الطوسی فی رجاله: «الطرماح بن عدی... من أصحاب الحسین، وهو فی غایة الجلالة والنبالة، ولولا إلاّ مکالماته مع معاویة التی أظلمت الدنیا فی عینیه لأجلها، وملازمته لسیّد الشهداء فی الطفّ إلی أن جرح وسقط بین القتلی، لکفاه شرفاً وجلالة».(1)

2. واضح الترکی، التحق مع جنادة وعمرو بن خالد ومجمع وابنه کما فی إبصار العین للسماوی.(2)

3. نافع بن هلال الجملی خرج من الکوفة ولقی الحسین فی الطریق، کما فی إبصار العین.(3)

4. سلمان بن مضارب البجلی، جاء مع ابن عمّه زهیر بن القین، کما فی

ص:67


1- (1) تنقیح المقال: ج 2 ص 109.
2- (2) إبصار العین: ص 113.
3- (3) المصدر السابق: ص 114.

إبصار العین: ص 132.

5. مجمع بن زیاد بن عمرو الجهنی، حیث تبع الحسین من منازل جهینة.(1)

6. عبّاد بن المهاجر بن أبی المهاجر الجهنی، تبع الحسین من منازل جهینة.(2)

7. عقبة بن الصلت الجهنی، تبع الحسین من منازل جهینة.(3)

فإذا حسبنا روایة الخوارزمی (82) وأضافنا إلیها ما جاء فی روایة الأعلمی فیمن التحق بالحسین فی الطریق إلی کربلاء (21)، مضافاً إلی ما جاء فی روایة ابن طاووس فیمن التحق بالحسین لیلة العاشر أو یومها (32) رجلاً زائداً الأسماء التی لم یذکرها الأعلمی وعددها (7)، فستکون النتیجة 142.

142 7 + 32 + 21 + 82 وهو العدد الأقرب لروایة الإمام الباقر علیه السلام، علماً أنّ الأعداد التی ذکرت فی الروایات لم تؤخذ بشکل إحصائی دقیق، وإنّما کانت نتیجة النظر الذی ربّما تکون فیه زیادة أو نقیصة علی الواقع.

التقدیر الثانی

والذی یشیر من خلال أدلته إلی أنّ أصحاب الحسین الذین جاءوا معه إلی کربلاء بلغ عددهم (112) زادوا عن ذلک قلیلاً أم نقصوا قلیلاً، بسبب الأخذ أو عدم الأخذ باحتمال تصحیف الأسماء، خصوصاً فیما ذکر فی مقتل الفضیل بن

ص:68


1- (1) إبصار العین: ص 152.
2- (2) إبصار العین: ص 152.
3- (3) إبصار العین: ص 152.

الزبیر علی أساس أنّه یمثّل مصدراً تاریخیاً مهمّاً فی هذا المجال لا یمکن لأیّ باحث عن شهداء کربلاء أن یتغافل عنه مع علمه به، حیث ذکر فی مقتله اسمین نحن نرجّح أنّ العبارة التی تستقیم معهما ما تقدّم فی حدیثنا عن هذا المقتل(1) ، وربّما یکون هناک تصحیف فیهما.

فتکون النتیجة مضافاً إلی ما ذکره الفضیل بن الزبیر من عدد الناجین:

105 + 10 Í 115 عدد أصحاب الحسین

التقدیر الثالث

أن نحسب عدد الرؤوس المقطوعة والتی بلغت 78 رأساً، کما عند المجلسی وابن طاووس(2) ، ونضیف الیها عدد رؤوس الموالی الذین لم ترفع رؤوسهم علی الرماح، بسبب العصبیة القبلیة من جهة، وعدم الافتخار برفعها علی الرماح کما یحصل عند رفع رؤوس الآخرین، مضافاً الیهم عدد ممّن تذکر الروایات أنه لم یقطع رأسه، وهم الحرّ بن یزید وأخوه مصعب وابنه بکیر أو علی وعبد الله الرضیع(3) ، مضافاً إلی کلّ ذلک عدد الناجین من معرکة کربلاء، فستکون النتیجة کالتالی:

11210 + 4 + 20 + 78 عدد أصحاب الحسین علیه السلام

ص:69


1- (1) فی بدایة هذا البحث، وهو ما یتعلق بالفقرة (4) من الأدلة التی ذکرها العلماء.
2- (2) بحار الأنوار: ج 45 ص 62؛ الملهوف علی قتلی الطفوف: ص 60.
3- (3) للمزید حول هذه الأسماء وما جری علیها یراجع: إبصار العین: ص 169؛ وسیلة الدارین: ص 111 وص 192، واعتقد أن العشیرة کما أبت قطع رأس الحرّ أبت کذلک قطع رأس أخیه وولده، فالملاک فی الجمیع واحد وإن کان فی الحر آکد لأنّه زعیمهم.

الشهید مسلم بن عوسجة

اشارة

صحابی جلیل من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله، ورکن من أرکان ثورة الحسین فی الکوفة مع مسلم بن عقیل وکذلک فی کربلاء، کان شریفاً سریّاً عابداً متنسّکاً کما تصفه الروایات(1) ، بذل نفسه الشریفة بسخاء من أجل الإسلام ومن أجل الدفاع عن حرمة الحسین علیه السلام، ولقد حفلت حیاة الرجل بالمواقف الکثیرة التی تحولت فیما بعد إلی أسوة یُحتذی بها، سواء أکانت هذه المواقف قبل کربلاء أم بعدها أم فیها، ولهذا نحن نحاول أن نسلّط الأضواء علیها لما لها من تأثیر کبیر علینا، من أجل أخذ العظة والعبرة والدرس منها، فی وقت عزّ فیه وجود القدوات، وکثر فیه المخادعون والدجّالون، وضاع فیه الصالح واختلط بالطالح، ولکن وقبل الدخول إلی هذه الشخصیة، نحاول أن نسلّط الأضواء علی ما قاله العلماء حول اسمه ونسبه وبعض صفاته.

ص:70


1- (1) إبصار العین للسماوی: ص 81.

أقوال العلماء فیه

1. قال النمازی: «من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله، کان رجلاً شجاعاً عابداً متنسّکاً، جملة من قضایاه مع معقل مولی ابن زیاد (فی الکوفة)».(1)

2. قال الشیخ السماوی: «هو مسلم بن عوسجة بن سعید بن ثعلبة بن دودان ابن أسد بن خزیمة، أبو حجل الأسدی السعدی، کان رجلاً شریفاً سریّاً عابداً متنسّکاً».(2)

3. قال الزنجانی: «قال ابن سعد فی طبقاته: وکان صحابیاً ممّن رأی رسول الله صلی الله علیه و آله، وروی عنه الشعبی، وکان فارساً شجاعاً، له ذکر فی المغازی والفتوحات الإسلامیة».(3)

4. قال المامقانی: «جلالة الرجل وعدالته وقوّة إیمانه وشدّة تقواه ممّا تکلّ الأقلام عن تحریر ذلک، وتعجز الألسن عن تقریره، ولو لم یکن فی حقّه إلاّ ما تضمّنته زیارة الناحیة المقدّسة لکفی».(4)

5. قال خیر الدین الزرکلی: «مسلم بن عوسجة الأسدی، بطل من أبطال الإسلام، شهد یوم أذربیجان وغیره من أیام الفتوحات، وکان مع الحسین بن علی فقصده فی الکوفة، فقتل وهو یناضل عنه».(5)

ص:71


1- (1) مستدرکات علم الرجال: ج 7 ص 414 ح 14915.
2- (2) إبصار العین: ص 81.
3- (3) وسیلة الدارین: ص 187.
4- (4) تنقیع المقال: ج 3 ص 214.
5- (5) الأعلام للزرکلی: ج 7 ص 222.

6. قال عبد الواحد المظفّر: «إذا کانت البطولة عنوان المحاسن ومجمع الکمالات ومحور الفضائل، فلا شکّ أنّ مسلم بن عوسجة الأسدی من أتمّ الرجال فی المحاسن التی یتفاخر بأقلّها عظماء الرجال، ویتمادح ببعضها الوجوه والاعیان»(1).

أسرة الشهید

یرجع نسب الشهید، کما تقدّم إلی سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزیمة، ولم یذکر أهل النسب ولم یتعرّضوا إلی کیفیة رجوع الشهید إلی سعد بن ثعلبة، علی أساس ان الفاصل الزمنی بین مسلم بن عوسجة وسعد بن ثعلبة کبیر، ومن ثم فلابدّ أن یکون بینهما لا أقل من ثلاثة أو أربعة أجداد، ولکنّهم مع ذلک ذکروا أمراً آخر ربّما من خلاله نستطیع أن نمیل إلی جهة من أجداده هم الأقرب إلی أن یکون الشهید راجعاً إلیهم.

فقد ذکر أهل الاختصاص لثعلبة هذا، الذی یرجع إلیه الشهید الکربلائی، أبناء متعدّدین، فمن هؤلاء بنو غاضرة بن مالک بن ثعلبة، ولهؤلاء تنسب الغاضریّات لأنّهم سکنوا فیها ومن هؤلاء بنو فقعس والذین یرجعون إلی الحارث بن ثعلبة(2) ومن هؤلاء بنو ناشرة، وهم الذین یرجعون إلی سعد بن ثعلبة(3) ، ومن هؤلاء بنو صیداوی،

ولیس صیدا کما یذکر بعضهم، وإلیهم یرجع قیس بن مسهر الصیداوی(4).

ص:72


1- (1) الأمالی المنتخبة للشیخ عبد الواحد المظفر/ ص 118.
2- (2) معجم قبائل العرب القدیمة والحدیثة لعمر کحالة/ باب القاف/ ص 925.
3- (3) نهایة الأرب للنویری ج 2 / ص 350؛ معجم ما استعجم للبکری ج 2 / ص 509.
4- (4) تنقیح المقال/ هامش صفحة 378؛ نهایة الأرب/ ص 422.

الشهید من بنی ناشرة

وبعد الجهد والعناء فی البحث وجدت - وهذا ما أمیل إلیه - أنّ الشهید الکربلائی ربّما یکون من بنی ناشرة، لأنّه یلتقی معهم فی جدّه الأکبر سعد بن ثعلبة، بینما الأبناء الآخرون یختلفون معه حتی بجده سعد هذا، فبعضهم ینتمی إلی مالک بن ثعلبة، وبعضهم إلی الحارث وهکذا. فمن المرجّح أن یکون أجداد الشهید هم بنی ناشرة دون غیرهم، والله أعلم بذلک فی الواقع.

وقد یسألنی أحدهم ویقول: ولم کل هذا العناء؟ أهناک ضرورة أن نعرف نسب الشهید بکلّ دقّة؟ ألا تکفی الرجل مواقفه فی کربلاء؟! فلماذا کلّ ذلک؟

وأجیب: أنّ هناک حاجة نفسیة توجد عند کلّ من تتعلّق نفسه بالعظماء والکبراء والشخصیّات الفذّة أن یعرف عنها کلّ صغیرة وکبیرة، حتی ولو کان هذا الصغیر لا یعنی شیئاً عند الناس، ولکنّه یعنی شیئاً کبیراً عند من تعلّق بهذه الشخصیة.

وربّما ولأجل ذلک نجد أنّ وسائل الإعلام تسلّط الأضواء فی بعض الأحایین علی بعض الشخصیّات السیاسیة أو الفنیّة أو العلمیة أو غیرها، حتی فی طریقة الأکل والنوم والسفر واللبس وهکذا، بل حتی فی أدقّ التفاصیل التی تتعلّق بهم، وهذا کلّه ناتج من أنّ الإنسان عندما یحبّ أحداً ویتعلّق به، خصوصاً اذا تحوّل هذا الإنسان إلی قدوة له فی حیاته، یحاول أن یعرف عنه کلّ شیء.

ومن هنا نقول إنّ معرفة النسب الحقیقی للشهید الکربلائی وتتبّعه علی وجه الدقّة، هو مطلب طبیعی لمن أحبّ تلک الشخصیة وتعلّق بها، ومن هنا فإنّ الدقّة

ص:73

فی ذکر النسب خیر من أن نذکر النسب ولکن لیس بشکل دقیق، یعنی بعبارة أخری أنّ الإنسان یحبّ أن یری من یتعلّق قلبه به فعلاً، واقعاً ملموساً، مجسّداً من خلال النسب والموقف، وهذا ما نحاول أن نرکّز علیه فی بحثنا هذا، وسیأتی فی الحدیث عن شهداء آخرین من بنی أسد بن خزیمة، التعرّض إلی هذه الأسرة العظیمة من جوانب أخری، تعمیماً للفائدة، ولکی یتحوّل هؤلاء الأفذاذ إلی قدوات فی کلّ أسرة وفی کلّ قبیلة وفی کلّ بیت.

مواقفه أیام الفتح الإسلامی

عاش مسلم بن عوسجة مع رسول الله وشارک فی غزواته وحروبه التی خاضها دفاعاً عن الإسلام، ونشراً للتوحید فی الأرض، وقد بذل مسلم بن عوسجة کلّ غالٍ ونفیس حیث تغرّب عن أهله وعن وطنه، وترک الدیار والأحبّة متسلّحاً بالإیمان بالله تعالی والحبّ للإسلام ولنبیّه الکریم، فکان مصداقاً واضحاً من مصادیق المؤمنین الذین جاهدوا وهاجروا وأنفقوا أموالهم وقدّموا أنفسهم فی سبیل الله، وبقیت مواقف هذا الرجل مناراً علی هذا الطریق وعلی هذا المنهج، لم ینکل ولم یهن ولم یضعف رغم کلّ الفتن والأهواء والمصالح والمخاوف والإغراءات، والتی کانت تعترض طریقه، وقد لزم فیها جادّة الحقّ متمسّکاً بمن رفع رسول الله یده حتی بان بیاض إبطیه، علی بن أبی طالب علیه السلام(1).

فکان الملتزم حقّاً بحقوق هذه الولایة، بحیث سخّر نفسه لخدمة إمامه کما سخّرها لخدمة نبیّه علیهما السلام، ووقف إلی جانبه فی حروبه وقتاله للناکثین والقاسطین

ص:74


1- (1) وذلک یوم غدیر خمّ، حیث قال: «من کنت مولاه فهذا علی مولاه».

والمارقین، وکان الإسلام هو الدافع الذی دفعه إلی کلّ ذلک. فقد آمن به الشهید الکربلائی أنّه الحلّ الوحید لکلّ المشاکل التی یعیشها الناس.

فتح سلق آذربیجان

ومن هنا کانت مشارکاته فی الفتوح الإسلامیة کثیرة، ولکن کان الأهمّ فیها هو فتحه «سلق أذربیجان» سنة عشرین مع حذیفة بن الیمان(1) ، تلک المعرکة التی تقابل فیها مئات الآلاف من النصاری مع عدد لا یتجاوز الثلاثین ألفاً من المسلمین، ولکنّها کانت تملک إرادة لا تقهر ولا یمکن ان تنکسر أبداً، إنّها إرادة هذا الإیمان المرتبط بالله القوی العزیز، الذی لا یخذل من یتمسّک به ولا یخیب من یلتجئ إلیه.

دور مسلم بن عوسجة المتمیز فی المعرکة

ولقد کان لمسلم بن عوسجة فی هذه المعرکة أثر بالغ فی نفوس المسلمین وإشعارهم بقوّتهم وضعف عدوّهم، وذلک حینما زحف الیهم مفرداً وحیداً لا یحمل معه إلاّ کما یحمل کلّ فارس - وهو ینزل إلی ساحة المعرکة - سلاحاً متمثّلاً بالسیف والدرع، ولکنّه سیف الإیمان ودرع الله الحصینة، وعشق الشهادة، ومن ثم أراد هو أن یکون قدوة لهم فی عدم الخوف والثقة بالله، والشوق والمحبّة لما أعدّه الله لهم من نعمٍ وخیرات فی جنّة عرضها السموات والأرض، وفعلاً نزل مسلم بن عوسجة واذا به یقتل ستة او سبعة من المشرکین الأقویاء، لأنّ الذی ینزل ویتحدّی الطرف الآخر فی البراز والقتال، لابدّ أن ینزل إلیه الشجعان وأصحاب

ص:75


1- (1) فتوح البلدان: ج 2 ص 324-325.

البأس منهم، ولکن لا یذکر التاریخ کیف قتلهم؛ هل قتلهم مجتمعین، وهو قادر علی ذلک، أم قتلهم واحداً بعد الآخر؟ وهو یمکن أن یکون کذلک، وعلی کلا التقدیرین فلقد أبلی الرجل فی ذلک الیوم بلاءً حسناً، حتی أنّ أعداءه فضلاً عن أحبائه، شهدوا له هذا الموقف وأُعجبوا به، وصاروا یذکرون لمن لم یحضر هذه المعرکة، ومن ثم تحوّل الشهید الکربلائی إلی قدوة ومثل عظیم یحتذی به.

شبث بن ربعی یشید بدور مسلم بن عوسجة فی المعرکة

فها هو شبث بن ربعی، وهو الذی کان قد عاش تلک المعرکة وقاتل فیها، ینقل عنه الطبری قوله: «لربّ موقف کریم له فی المسلمین».

وهذه نقطة مهمّة أنّ موقف مسلم بن عوسجة فی ذلک الیوم کان بدرجة من القوة وبدرجة من التأثیر، بحیث أنّ شبث بن ربعی یعترف بأنّ لمسلمٍ من خلال موقفه هذا دَیناً فی عنق کلّ مسلم ومسلمة، وقوله أیضاً: «لقد رأیته فی سلق أذربیجان قد قتل ستة أو سبعة من المشرکین قبل أن تلتام خیول المسلمین»(1).

وهنا العظمة، وهنا الفخر، وهنا الاعتزاز بأن یتقدّم قبل القوم ویقاتل قبل إخوانه المسلمین، یا لها من شجاعة ویا له من إیمان ویا له من عظیم شرف کان یحمله مسلم فی جنبات نفسه، ولا غرو أن یذکر له هذا الموقف العظیم بعد أکثر من 1400 سنة، وسیبقی هذا الموقف مدوّیاً فی عقول ونفوس المؤمنین الغیاری حتی یرث الله الأرض ومن علیها.

ص:76


1- (1) إبصار العین: ص 84.

درس کبیر من حیاة هذا الشهید

وهنا وانا أتحدث عن هذا الموقف العظیم لمسلم بن عوسجة، خطرت فی ذهنی وربما خطرت فی أذهان البعض أنّ شبثاً الذی وقف یوم العاشر یقاتل الحسین، کان ممّن اشترک یومها فی ذلک الفتح الإسلامی، وکان قد وقف إلی جانب مسلم بن عوسجة لأنّه یقول: «لقد رأیته فی سلق أذربیجان» ممّا یدلل علی أنّ الرجل کان معه یجاهد فی سبیل الله. وربّما ما کان آنذاک لیخطر فی ذهن شبث بن ربعی، وهو الذی کان وقتها یحارب من أجل الإسلام، أن سیأتی الیوم الذی سیحارب فیه الإسلام، بل ویقطع أعضاءه وینصر الباطل، لقاء الدنیا وبعض متعها، وخوفاً علی نفسه من الموت، ولقد قرأت کتاب (الحسین یکتب قصّته الاخیرة)(1) وهو عبارة عن محاضرات للسیّد الشهید الصدر، وتعلیقة السیّد کاظم الحائری، یقول فیه السیّد محمد باقر الصدر وهو خیر ما قرأت فی هذا المجال، وکان + یتحدّث عن شبث بن ربعی: «هو الرجل الذی عاش مع جهاد أمیر المؤمنین، الرجل الذی کان یعی مدلول حرب صفّین، وکان یدرک أنّ الإمام علیاً فی حرب صفّین کان یمثّل رسول الله صلی الله علیه و آله فی غزوة بدر، ولکنّ الدنیا والانهیار النفسی، ولکنّ النفس الأخیر خنقة فی البدایة»(2).

ویقول أیضاً: «إنّ عبید الله یبعث إلیه لیقاتل الحسین ابن رسول الله، فماذا یکون العذر؟ ماذا یکون الجواب؟ لا یملک أن یعتذر بعذر من الأعذار إلاّ أن یقول: أنا مریض! کلمة باردة جداً علی مستوی بروده النفسی، ثمّ یبعث الیه مرّة

ص:77


1- (1) البحار: ج 44 ص 386.
2- (2) الحسین یکتب قصّته الأخیرة: ص 71-72.

أخری لیقول له: المسألة جدّیة، لا مرض فی هذا المجال؛ إمّا أن تکون معنا وإمّا أن تکون عدوّنا، وبمجرّد أن یتلقّی هذه الرسالة، ویعرف أنّ المسألة جدّیة، یقوم شبث بن ربعی ویخرج متّجهاً إلی عبید الله بن زیاد وهو یقول: لبیک»(1).

وأعتقد أنّ هذا الدرس عظیم لنا جمیعاً، بأن نحذر من الدنیا وأن لا ندعها تؤثّر فینا بالشکل الذی نتحلل بسبب هذا التأثیر حتی من مسؤولیّاتنا أمام الله وأمام الناس وأمام هذا الدین العظیم، فهذا شبث بن ربعی لم یکن یوماً ملحداً، بل کان مسلماً، ولقد کان یصلّی ویقرأ القرآن، وکان یصوم ویجاهد فی سبیل الله، ومع کل ذلک لم یستطع أن یکبح جماح نفسه من السقوط فی تأثیرات الدنیا، فإذا کان الأمر کذلک، علینا أن لا نغترّ بما نصنع من عبادات؛ من صلاة وصیام وغیرهما؛ لأنّ الأهمّ من ذلک کلّه هو أن یکون لهذه العبادة أثر علینا، لأنّ المال والبنین والسلطة والجاه والکرسی وما شاکل ذلک، کلّها هی الاختبار الحقیقی لنجاحنا فی عباداتنا أو عدم نجاحنا، وها هو الموقف فی کربلاء یکشف عمّن جاهد وصلّی وقرأ القرآن علی نحوٍ یرید به وجه الله، ومن قام بذلک ولم یکن مریداً به وجه الله.

فهنیئاً لمسلم بن عوسجة هذا الثبات وتعساً لشبث بن ربعی(2) ومن هم علی شاکلته علی هذا الخسران فی هذه الدنیا.

«وَ لَلْآخِرَةُ أَکْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَکْبَرُ تَفْضِیلاً3» .

ص:78


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) تنقیح المقال للمامقانی: ج 2 ص 80؛ معجم رجال السیّد الخوئی: ج 10 شبث بن ربعی.

موقفه فی الکوفة

لقد کان مسلم بن عوسجة من الذین کانوا یترقّبون الأخبار، ویعیشون همَّ هذه الأمة فی کیفیة الخلاص من حکّامها وسلاطین الجور فیها، ولکنّهم کانوا صابرین مسلّمین لأمر إمامهم الذی دعاهم إلی التزام بیوتهم ما دام معاویة حیّاً، ولذلک تقول کتب السیر: إنّ شیعة أهل البیت، ومنهم الشهید مسلم بن عوسجة ما إن سمعوا بهلاک معاویة حتی کتبوا إلی الحسین علیه السلام من أجل المجیء لکی یقفوا إلی جانبه حتی آخر نفس من أجل إسقاط النظام الأموی الظالم الذی لم یرتضِ بکل الظلم الذی صنعهُ بهذه الأمة حتی ختم جرائمه شرّ ختمة، بتسلیطهم یزید الکفر والفجور علی رقاب هذه الأمة. فکتبوا إلی الحسین کتاباً، وکان بینهم حبیب وسلیمان بن صرد الخزاعی ومسلم بن عوسجة والمخلصون من شیعته، بعد أن اجتمعوا فی منزل سلیمان بن صرد الخزاعی کما یقول الشیخ المفید فی الارشاد(1) ، حیث جاء فیه:

«سلام علیک فإنّا نحرر الله الیک الذی لا إله إلاّ هو، أمّا بعد، فالحمد لله الذی قصم عدوک الجبار العتید الذی انتزی علی هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها حقّها، ألخ الکتاب».

ثمّ سرّحوا الکتاب مع عبد الله بن مسمع الهمدانی وعبد الله بن وال.

ومن هنا نفهم أنّ الشهید مسلم بن عوسجة کان متابعاً للأحداث السیاسیة عن کثب، ولقد کان الرجل صادقاً فی کلماته ولم ینطلق کما انطلق بعضهم

ص:79


1- (1) الإرشاد للمفید: ج 2.

من مصالح خاصة وأهواء معیّنة أمثال شبث بن ربعی وحجّار بن أبجر وآخرین، ولذلک ثبت مسلم علی موقفه فی کلّ الحالات سواء أکانت فی الرخاء أم الشدّة، بل جسّدها علی ثری الطف بین یدی أبی عبد الله الحسین علیه السلام، وبعد أن دخل مسلم بن عقیل إلی الکوفة سفیراً عن الحسین علیه السلام ومستقرئاً للأحداث له هناک، تقول الروایة أنّ مسلم بن عوسجة کان من أوائل الذین التحقوا به، بل کان موضع سرّه ورکن ثورته وحرکته الذی یعتمد علیه، وکان مسلم بن عوسجة من الذین تحرّکوا فی أخذ البیعة له من أهل الکوفة، وإنّ هذا لشرف عظیم کبیر حیث لم یعطِ علیه السلام هذا الوسام إلاّ لجماعة محدودة کانت تعدّ بعدد الأصابع، وهناک نصّ یذکره الشیخ عباس القمّی فی کتابه نفس المهموم، یکشف عن عظیم منزلة الشهید عند مسلم بن عقیل، حیث یقول: «مسلم بن عوسجة وکیل مسلم بن عقیل فی قبض الأموال وشراء وبیع الأسلحة وأخذ البیعة».

ولقد کان الشهید عند حسن ظنّ موکّله فیه، فلقد بالغ فی النصیحة وأعطی غایة المجهود، وتفنّن فی الدفاع عن حوزة الدین، ولقد تبیّنت الأمور السالفة فی عدّة مواقف کان فی مقدّمتها اختیار مسلم بن عقیل أن ینزل الکوفة عند دار مسلم ابن عوسجة، کما ینقل الطبری وابن کثیر(1) وغیرهما.

وإن کان هناک رأی آخر یقول إنّه نزل فی دار هانی بن عروة، ورأی ثالث یقول إنّه نزل فی دار المختار، کما یذهب إلی ذلک السیّد عبد الرزاق المقرّم فی

ص:80


1- (1) تاریخ ابن کثیر: ج 8 ص 152.

کتابه مسلم بن عقیل(1) ، وآخرون.

وکذلک حینما عقد مسلم بن عقیل له علی ربع مذحج وأسد حینما أراد أن یواجه عبید الله بن زیاد عندما دخل الکوفة، إضافة إلی عدم خروجه من الکوفة حتی آخر مرحلة من مراحل ثورة مسلم بن عقیل، ممّا یعنی أنّه کان إلی آخر اللحظات إلی جانبه مدافعاً عنه.

تنبیه حول قصة الجاسوس (معقل)

أودّ أن أشیر هنا إلی ما یذکره المؤرّخون حول قصّة الجاسوس الذی بعثه عبید الله بن زیاد إلی مسلم بن عوسجة فی مسجد الکوفة، وکیفیة کشف الأمر بعد ذلک من قبله وإخبار عبید الله بن زیاد. هذه القصّة التی وصلت إلی درجة کبیرة من الشهرة حتی أنّ الصغیر قبل الکبیر سمعها أو قرأها.(2)

وقد یرد فی ذهن کلّ من یسمعها ویقرأها جملة من الإشکالات حول کیفیة اختراق هذا الجاسوس لمسلم بن عوسجة، والذی حنّکته التجارب والحروب والغزوات بهذه السهولة! ثمّ کیف یطلعه مباشرة علی مرکز العملیات إن صح التعبیر، بحیث یکشف القائد الأکبر ومساعدیه وعملهم وکیفیة إدارة الثورة فی داخل الکوفة؟! واذا کان هذا الأمر یمکن أن نقبله أو نغضّ الطرف عنه مع مسلم بن عوسجة، فکیف بهانی بن عروة فضلاً عن الآخرین، وفضلاً عن سیّدهم ثقة الحسین مسلم بن عقیل علیه السلام؟

ص:81


1- (1) کتاب مسلم بن عقیل للمقرّم: ص 80.
2- (2) تلخیص قصّة الجاسوس معقل، تاریخ الطبری: ج 4 ص 270-272.

لا وجود لقصة الجاسوس

یذهب بعض المحقّقین، وهذا ما أمیل الیه کثیراً، إلی أنّ هذه القصّة مختلقة لا وجود لها، وکان لواضعها جملة من الفوائد التی یرید ان یجنیها بروایته هذه، والتی أهمّها تصویر أهل البیت ومن ینتسب لهم بالبلاهة، وعدم القدرة علی إدارة کفّة البلاد والعباد، وأنّ بنی أمیة هم أقدر الناس علی ذلک؛ فمن جهة یریدون أن یستصغروا أهل البیت وشیعتهم ویقلّلوا من شأنهم، ومن جهة أخری یرفعوا من شأن بنی أمیة ویعظّموهم.

ولقد حاول بنو أمیة قبل ذلک مثل هذه المحاولات مع علی بن أبی طالب، وأنّه وإن کان رجلاً صالحاً ولکنّه غیر قادر علی إدارة الحروب وإدارة البلاد، ولذا فالأفضل لهذه الأمة أن یکون علیها من هو قادر علی ذلک، وهو معاویة بن أبی سفیان، وخیر دلیل علی ذلک ما ذکره علی بن أبی طالب نفسه فی خطبة له کما فی نهج البلاغة(1):

«أمّا بعد، فإنّ الجهاد باب من أبواب الله فتحه الله لخاصة أولیائه إلی أن یقول: یا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال، لوددت أنّی لم أعرفکم معرفة والله جرت بذمّ وأعقبت سقماً، قاتلکم الله، لقد ملأتم قلبی قیحاً وشحنتم صدری غیظاً وجرّعتمونی نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم علیّ رأیی بالعصیان والخذلان، حتی لقد قالت قریش إنّ ابن أبی طالب رجل شجاع

ص:82


1- (1) نهج البلاغة: ج 1 ص 66-67.

ولکن لا علم له بالحرب، لله أبوهم، وهل أحد منهم أشدّ لها مراساً وأقدم فیها مقاماً منّی؟! لقد نهضت فیهم وما بلغت العشرین، وها أنا ذا قد ذرّفت علی الستّین، ولکن لا رأی لمن لا یطاع».

وها هو واقعنا الذی نعیش فیه خیر دلیل وشاهد علی ما نذهب إلیه، حیث یحاول العلمانیون بکلّ ما أوتوا من قوّة أن یصوّروا الإسلامیین ومن یعیشون خطّ الإسلام، بأنّهم أُناس فاشلون غیر قادرین علی إدارة الحیاة السیاسیة، ومن ثم فالأولی لهم تسلیم الأمر إلیهم وجلوسهم فی المساجد للذکر والصلاة وقراءة القرآن، وهذا لعمرک تسقیط کبیر لیس للإسلامیین فحسب، بل تسقیط للإسلام بأکمله، ویبدو أنّ من دسّ روایة الجاسوس معقل، أراد تحقیق نفس الأهداف والنوایا التی حملها بنو أمیّة من خلال قریش مع علی بن أبی طالب علیه السلام.

نعم، قد یعتذر بعضهم(1) عن هذا الاختراق بقوله: إنّ التعرّف علی مسلم بن عوسجة لا یحتاج إلی الکثیر من العناء، اذ کان رحمه الله وجهاً شیعیاً معروفاً، وقد کشف له معقل عن سرّ سهولة تعرّفه علیه حین قال: سمعت نفراً من الناس یقولون هذا رجل له علم بأهل هذا البیت، فأتیتک لتقبض هذا المال وتدلّنی علی صاحبک فأبایعه، وإن شئت أخذت البیعة له قبل لقائه، وقد عبّر مسلم عن استیائه من ذلک، حیث قال: لقد ساءتنی معرفتک إیّای بهذا الأمر قبل أن ینمی، مخافة هذا الطاغیة، وأنّه ظلّ أیّاماً یجتمع معه فی بیته قبل طلب الإذن، وأنّه لم یأذن له حتی أخذ إذن مسلم بن عقیل، وأنّ معقلاً عرّفهم بأنّه مولی لذی الکلاع الحمیری فی الشام،

ص:83


1- (1) کما یمیل إلی ذلک الشیخ محمد جواد الطبسی فی کتابه الرکب الحسینی: ج 3 ص 93-94.

والمعروف أنّ الموالی جلّهم لهم علاقة طیّبة بأهل البیت، ومن هنا جری الذی جری.

ولکن مع کلّ هذا التخریج، یبقی السؤال قائماً والإشکال متوجّهاً أن یأتی هذا الجاسوس فی مدّة وجیزة من الزمن، وفی مرحلة شدید الحساسیة، واختراق الجمیع بهذه الطریقة السهلة البسیطة، وهم أصحاب التجربة الکبیرة، والذین سمعوا وعلموا وعرفوا أنّ الحرب خدعة، فلابدّ من أخذ الاحتیاط کثیراً لذلک!

الخروج من الکوفة

یقول الشیخ السماوی فی إبصار العین(1) فی أنصار الحسین، «ثمّ إنّ مسلم ابن عوسجة، بعد أن قُبض علی مسلم وهانی وقُتلا، اختفی مدّة، ثمّ فرّ بأهله إلی الحسین، فوافاه بکربلاء وفداه بنفسه».

وأغلب الظنّ أنّه اختفی عند قبیلته بنی أسد، لأنّهم کانوا أصحاب نفوذ وقوة، ثمّ تمکّن بعد ذلک من الخروج من الکوفة والوصول إلی کربلاء، حیث اللقاء بسید الشهداء. وهناک من یذهب إلی أنّ مسلم بن عوسجة قد التحق بالحسین فی مکّة وهو لم یخرج بعد إلی العراق، وهذا یعنی - أو أنّ لازمه یعنی - أنّ مسلم بن عوسجة کان قد خرج من الکوفة قبل یوم 8 ذی الحجّة یوم شهادة مسلم بن عقیل، وهذا ما لا تساعد علیه القرائن، فإنّ کلّ المؤشّرات تؤکّد بقاء هذا الشهید لحین اعتقال هانی بن عروة وشهادة مسلم بن عقیل علیه السلام، ممّا یرجّح أن یکون اللقاء قد تمّ فی کربلاء مع الحسین.

ص:84


1- (1) إبصار العین: ص 82.

مسلم بن عوسجة یصحب معه زوجته وولده

وتنقل الروایات التی تتحدّث عن خروج مسلم بن عوسجة من الکوفة أنّه لم یکن قد خرج لوحده، بل کان قد صحب زوجته أمّ خلف وولده خلف معه، حیث کتب الشیخ ذبیح الله محلاتی، نقلاً عن عطاء الله الشافعی فی روضة الأحباب(1) «أنّ مسلماً حینما صرع وسمع خلف بمصرع أبیه، اندفع إلی ساحة المعرکة، فاعترضه الحسین وأعلمه أنّه إن قتل فإنّ أمّه ستبقی بعده وحیدة، فأراد خلف الرجوع امتثالاً لأمر أبی عبد الله الحسین، واذا بأمّه تعترضه وهی تقول: بنی إختر نصرة ابن بنت نبیک علی سلامة نفسک، أمّا اذا اخترت سلامتک فلن أرضی عنک ابداً. فبرز خلف وحمل علیهم وهو یسمع أمّه تنادیه وتشجعه: أبشر یا ولدی، فإنّک ستسقی من ماء الکوثر. فقتل 30 رجلاً إلی أن سقط علی أرض المعرکة شهیداً صابراً محتسباً» وتقول الروایات أنّه لما سقط إلی الأرض أقبلوا إلیه واحتزّوا رأسه ورموا به نحو أمّه، فأخذته أمّه واحتضنته ثمّ بکت وأبکت من کان معها، ثمّ أخذت أسیرة مع زینب وبنات رسول الله.

الشهید فی کربلاء

ولقد وصل مسلم بن عوسجة إلی کربلاء والتقی برکب الحسین، وأغلب الظنّ أنّه کان بعد الیوم الثانی من المحرّم، یوم وصول الحسین إلی کربلاء. وهنا بدأت مرحلة جدیدة فی حیاة هذا الشهید الکربلائی العظیم، حیث المواقف

ص:85


1- (1) ریاحین الشریعة، لذبیح الله محلاتی: ج 3 ص 305.

العظیمة وحیث التفانی فی الدفاع عن الإمام الحسین، معشوقهم الذی انتظروه کثیراً وتحمّلوا الکثیر من أجل الوصول الیه. وصل مسلم بن عوسجة لیکون من ضمن اولئک الذین عناهم الحسین بقوله:

«إنی لم أجد أصحاباً خیراً من أصحابی» (1).

ویروی أبو مخنف فی مقتله «عن الضحّاک بن عبد الله المشرقی، أنّ الحسین خطب فی أصحابه لیلة العاشر من المحرّم قائلاً: «إنّ القوم یطلبوننی، ولو أصابونی لذهلوا عن طلب غیری، وهذا اللیل قد غشیکم فاتّخذوه جملاً، ثمّ لیأخذ کلّ رجل منکم بید رجل من أهل بیتی»(2) . فأجابه العباس بن علی: لم نفعل ذلک؟ لنبقی بعدک؟ لا أرانا الله ذلک أبدا ً».

یقول أبو مخنف:

ثمّ قام مسلم بن عوسجة فقال للحسین: أنحن نخلّی عنک ولمّا تعذر إلی الله فی أداء حقک».

وهذه کلمة عظیمة أحببت أن أبیّنها قبل أن استرسل فی حدیثه رضی الله عنه، فهو یقول بلسان حاله إنّ حقّ الحسین علیه السلام فی عنق کلّ مسلم ومسلمة، وهذا الحق لا یعنی معرفته فقط، وأنه ابن رسول الله وإمام منصوب من قبل الله تعالی، بل إنّ هذا ربّما عرفه کلّ من عاش مع الحسین، بل ینقل أنّ خولّی بن یزید الأصبحی، حینما جاء برأس الحسین، جاء به وهو یقول لعبید الله بن زیاد:

ص:86


1- (1) معالم المدرسین: ج 3 ص 90.
2- (2) أبو محنف: ص 109-110.

إملأ رکابی فضّةً أو ذَهَبا إنّی قَتلتُ السیّدَ المحجّبا(1)

قَتلتُ خَیرَ الناس أُمّاً وأبا

فلا تعنی مجرّد المعرفة النسبیة بالحسین، وأنّه إمام معصوم ومنصوب من قبل الله أنّ الإنسان قد أدّی حقّه، بل إنّ حقّ الحسین کبیر وعظیم بالدرجة التی لا یستطیع الإنسان أن یؤدّیه حتی یراق دمه فی سبیل الله من أجله، بل ومع ذلک یبقی یشکّ فی نفسه؛ هل أدّی حقّه أم لا؟ کما حصل مع شهید من شهداء کربلاء، ألا وهو سعید بن عبد الله الحنفی حینما سقط إلی الأرض وجاءه الحسین وأخذ رأسه، قال له: سیّدی یا بن رسول الله، أوفیت؟ إنّه لا یقطع مع کل الذی لاقاه أنّه قد أدّی حقّ الحسین علیه السلام وهکذا نری مسلم بن عوسجة یقول للحسین: وبم نعتذر وماذا نقول إلی الله وإلی رسوله إذا قصّرنا فی أداء حقّک الواجب علینا، بأن ننصرک ونقف إلی جانبک حتی یسیل دمنا علی الأرض.

وهذا درس عظیم علینا أن نتأمّله کثیراً ونحن نعیش ونقرأ ونسمع بواقعة کربلاء والحدیث عن أصحاب الحسین علیه السلام، فلا نستکثر عملنا بعد ذلک مهما قدّمنا للحسین من خدمة ومن جهد فی سبیل تخلید مبادئ ثورته، بعد قول رسول الله له:

«یا حسین، إنّ لک فی الجنّة درجة لا تنالها إلاّ بالشهادة».

وهذا درس عظیم لنا جمیعاً نستلهمه من حیاة هذا الشهید العظیم.

ثمّ یقول مسلم بن عوسجة رضی الله عنه بعد ذلک: «أما والله، لا أبرح حتی أطعن فی

ص:87


1- (1) الشیخ السماوی، إبصار الحسین: ص 83؛ أبو محنف: ص 110.

صدورهم رمحی، وأضربهم بسیفی ما ثبت قائمه فی یدی، ولا أفارقک، ولو لم یکن معی سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونک حتی أموت معک»(1).

وهذه أعلی درجات الولاء، بل إنّ الولاء قد تجسّد من خلال هذا الموقف، وبقیة المواقف الأخری العظیمة التی صنعها أبطال کربلاء.

محاولة مسلم بن عوسجة قتل شمر

وممّا ینقل أیضا، کما فی إبصار العین للشیخ السماوی: «أنّ مسلماً تمکّن فی وقت ما قبل واقعة کربلاء - یوم العاشر - أن یقتل شمر بن ذی الجوشن، وکان مسلم رامیاً ماهراً قد تعلّم الرمایة وأتقنها فی الحروب السابقة، فرام مسلم أن یرمیه، فالتفت إلی الحسین لیأخذ منه الإذن قائلاً:

«سیّدی، إنّ الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبّارین، وقد أمکن الله منه. فقال له الحسین:

«لا ترمه، فإنّی أکره أن أبدأهم بقتال» (2).

وهنا إشارة أولاً إلی هذا اللعین، وإنّه کأمیره وسیّده یزید بن معاویة، فاسق فاجر متظاهر بالفسق، حیث وصفه العبد الصالح مسلم بن عوسجة بأنّه الفاسق، وثانیاً وهو الأعظم فی هذا المقام، أنّ الحسین کان یرید السلم لا الحرب، ویرید الجنّة لهم لا النار، وحتی حینما قاتلوه واختاروا الحرب کان علیه السلام یبکی علیهم، لأنّه کان ینطلق من منطلق القرآن والذی کان یقول:

ص:88


1- (1) إبصار العین/ ص 73.
2- (2) الشیخ المفید الإرشاد: ص 233-234.

«کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ کُرْهٌ لَکُمْ 1» .

فلم یکن القتال أمراً محبّباً عند الله ولا عند رسوله، ومع أنّه أمر غیر محبوب لما فیه من سفک للدماء وهدر للأموال، بل وتدمیر للبلاد والعباد، نجد أنّ القرآن قد أمر المسلمین بأن یقاتلوا:

«وَ قاتِلُوهُمْ حَتّی لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ یَکُونَ الدِّینُ کُلُّهُ لِلّهِ 2» .

فالحرب والقتال قد یلجأ الیه حتی الأنبیاء ولکن لا عن رغبة بل إطفاءً للفتنة ودرءاً للمفسدة وحفظاً للدین والحقوق من الضیاع، وهکذا کان رسول الله صلی الله علیه و آله یبذل الجهد ویحاور ویناقش ویدافع بکلّ الوسائل المتوفّرة لدیه حتی إذا رأی بأن لا مناص من الحرب عندها یأذن بالحرب ولکن وهو یقول:

«لا تقطعوا شجرة ولا تتبعوا مدبراً... الخ»(1).

وهکذا کان أمیر المؤمنین، حیث بذل الجهود من أجل الصلح وحفظ دماء المسلمین وخصوصاً مع الخوارج، حیث وقف أمامهم بجیشه، وکان قادراً علی القضاء علیهم بشکل کامل، فقال: أخرجوا لنا القاتل، وإذا بهم یقولون له: کلنّا قتله(2) ، فلم یجد بدّاً من أن یقاتلهم بعد أن عفا عنهم مرّات ومرّات، وهم یسرحون ویمرحون فی داخل الکوفة، فالحسین علیه السلام سار علی هذا النهج القرآنی النبوی العلوی

ص:89


1- (3) وسائل الشیعة: ج 15 ص 74.
2- (4) ابو مخنف.

الإسلامی، حیث کان کارهاً للقتال محبّاً للسلام متمنّیاً أنّ القوم یرجعون عن غیّهم، وکانت هذه هی أمنیة جمیع أصحاب أبی عبد الله الحسین، حیث کان الواحد بعد الآخر یخرج فیخطب ویعظ ویدعوهم إلی نصرة الحقّ، وأن یبتعدوا عن الحرب حیث کانوا یذکّرونهم بأنّهم ما زالوا جمیعاً أمّة واحدة، علی دین الإسلام، وأنّهم ما زالوا یقفون علی صعید واحد، ولکن إذا ما وقعت الحرب فإنّ الأرض التی سوف یقفون علیها سوف تختلف عن الأرض التی سوف یقف علیها المسلمون(1).

ومن هنا نجد أنّ الحسین یقول لمسلم بن عوسجة: «لا ترمه، إنّی أکره أن أبدأهم بقتال» لیرسلها کلمةً خالدة بقیت نهجاً لنا، وطریقاً تسیر علی وفقه کلّ الأجیال من أبناء هذه الأمّة، وهذا درس عظیم آخر نستلهمه من شهیدنا الکربلائی، لنسیر علیه ونجعله أمامنا مرشداً وهادیاً إلی الله وإلی صراط مستقیم.

شهادته

لم یقبل هذا الشهید العظیم أن یتأخّر عن اللقاء بالله ورسوله کثیراً، فقد کان شدید الشوق لنیل الشهادة بین یدی الحسین علیه السلام، فکان أول شهید من شهداء کربلاء.

یقول أبو مخنف: «لمّا التحم القتال حملت میمنة ابن سعد [والتی کان فیها عمر بن الحجّاج الزبیدی]، علی میسرة الحسین والتی کان فیها مسلم بن عوسجة، فقاتل مسلم بن عوسجة قتالاً شدیداً لم یسمع بمثله. [ما أعظم هذا الرجل وهو فی سنّ الشیخوخة]، فحمل علی القوم وهو یقول:

ص:90


1- (1) ومن أراد المزید فالیرجع إلی خطبهم (رض) فی کتب المقاتل، کأبی مخنف والخوارزمی والمقرّم وغیرها.

إنْ تَسألوا عنّی فإنّی ذو لَبَدْ(1) وإنّ بَیتی فی ذُری بَنی أسَدْ

فمَنْ بَغانی حائِدٌ عن الرَشَدْ وکافرٌ بدِینِ جبّارٍ صَمَدْ

ولم یزل یقاتل ویضرب فیهم بسیفه حتی قتل منهم مقتلة عظیمة، ثمّ عطف علیه مسلم بن عبد الله الضبابی وعبد الرحمن بن أبی خشکارة البجلی، فاشترکا فی قتله، مع اشتراک هذین الفارسین - یقال: - وقعت لشدّة القتال غبرة عظیمة، فما انجلت الغبرة إلاّ ومسلم بن عوسجة صریع علی ثری الطف، فمشی إلیه الحسین وبه رمق، فقال له الحسین: رحمک الله یا مسلم، ثمّ قرأ قوله:

«فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً» (2)»(3).

وکان حبیب بن مظاهر إلی جانب الحسین فقال لمسلم وقد رأی شفتیه تتمتمان: یا أخی یا مسلم، لو لم أعلم أنّی فی الأثر لأحببت أن توصینی بجمیع ما أهمّک، فقال مسلم بن عوسجة وهو یلفظ أنفاسه الأخیرة: أوصیک بهذا - وأشار إلی الحسین علیه السلام - أن تموت دونه. إنّ الکلمات ربّما لا یمکن أن تعطی وتصوّر العظیم من المواقف، وهذا هو أحدها، فإنّ القلم تراه یکلّ، والید تقف، واللسان لا یتکلّم، وهو یری موقفاً عظیماً کهذا الموقف الذی وقفه فیه مسلم بن عوسجة فی حیاته وعند مماته. فهنیئاً لک یا مسلم بن عوسجة هذه الشهادة العظیمة بین یدی مولاک الحسین، جمعنا الله وإیاکم معه تحت ظلّ رحمته، وفی جنّته، إنّه أرحم الراحمین.

ص:91


1- (1) معنی ذو لبد: الشعر المجتمع بین کتفی الأسد ولهذا یعبر عن الأسد بأنه ذو لبدة (لسان العرب مادة لبد).
2- (2) سورة الأحزاب، الآیة: 23.
3- (3) إبصار العین: 109.

الشهید حنظلة بن سعد الشبامی

اشارة

بین یدی الشهید: أن من جملة الأمور التی ینبغی علینا أن نعیها ونحن نتکلّم عن شهداء کربلاء، هی أنّ هذا الدین وهذا المذهب لم یُقدَّم إلینا علی طبق من ذهب، بل سالت لأجله الدماء الکثیرة، والأرواح، واُنفقت الأموال، وُضحِّیَ لأجله بکلّ غالٍ ونفیس، وما إلی ذلک مما قد یطول ذکره، وتأریخنا مُلئ بهذه الشواهد الکثیرة علی ذلک، بل ربما واقعنا الذی نعیش فیه یؤکّد هذه الحقیقة التاریخیة المهمّة(1) ، وصدق الشاعر حیث یقول:

الدهرُ آخره شبهٌ بأوّله ناسٌ کناسٍ وأیّامٌ کأیّام(2)

وقد یسأل الإنسان، لماذا کلّ ذلک، وما الحکمة فیه؟ فأقول إنّ استذکار هذه القیم والمعانی السامیة، خصوصاً فیمن نتحدّث عنهم، - ألا وهم شهداء کربلاء الذین لم یکونوا فی یوم من الأیام یعیشون فی هامش الحیاة بل کانوا من

ص:92


1- (1) وهذا ما نشاهده علی صعید الواقع متمثلاً بالهجمة الشرسة علی الإسلام بشکل عام، وعلی مذهب أهل البیت علیه السلام بشکل خاص.
2- (2) البصائر والذخائر، لأبی حیّان التوحیدی.

الشخصیات الکبیرة، والمهمّة فی المجتمع وعلی کل الصُعُد(1) - سوف یَهَبُ الکائن البشری قیمةً وجودیةً جدیدة، تبعث فیه الأمل کلّما أدلهمت به الخطوب، وشطت به الدروب، فَیهبُّ من جدید للدفاع عن دینه أو وطنه أو عرضه أو ماله أو کرامته، حیث إنّ العاقل یعلم جیّداً أنّه لیس أکرم علی الله من أولئک العظماء، فإذا کان أولئک قد ضحّوا بکل ما یملکون، فلم لا یضحی هو بکل ما یملک، ومن ثم یکون ذلک دافعاً ممتازاً للتضحیة والفداء.

من هنا، ولأجل الأخذ والتزود من التأریخ وقیمه التی لا تخلو من الفوائد والعبر، دعینا إلی قراءة التاریخ والتفکّر فیه أکثر، یقول سبحانه وتعالی وهو یتحدث عن هذا الأمر بقوله:

«قُلْ سِیرُوا فِی الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُکَذِّبِینَ 2» .

ولقد کانت کربلاء بحقٍّ وصدقٍ، واحدةً من أهمِّ الکنوز التاریخیة قیماً وعظةً وعبرةً، ومبادئ سامیة، ومعانی خالدة.

«رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً3» .

ص:93


1- (1) لم أجد حسب تتبّعی واحداً من شهداء کربلاء، لا یملک وزناً أجتماعیاً أو علمیاً أو عسکریا أو جهادیاً مُمَّیزاً کما سیتبین ذلک بشکل واضح فی طیّات الحدیث عنهم (رض).

ومن أولئک الأفذاذ شهیدنا حنظلة بن أسعد الشبامی (رض)، وحتی نعیش أجواء هذه المعانی والمواقف الخالدة فی حیاة هذا الشهید، بل وحیاة أسرته، وبیئتهِ کما سیأتینا، نحاول ان نسلّط الأضواء علی ذلک من خلال هذه السطور، ولکن وقبل ان نلج فی الحدیث عن حیاته الشریفة، أود أن أشیر إلی ما قاله العلماء فی حقّه.

أقوال العلماء فی الشهید

1 - قال السید محسن الأمین: «حنظلة بن أسعد بن شبام بن عبد الله بن حاشد ابن همدان الهمدانی الشبامی، أستشهد مع الحسین سنة 61 ه -، والهمدانی نسبةً إلی شبام، بوزن کتاب بطن من همدان»(1).

2 - قال أبو مخنف: «جاء حنظلة بن أسعد الشبامی إلی الحسین علیه السلام عند نزوله کربلاء، وکان الحسین علیه السلام یرسله إلی عمر بن سعد أیام المهادنة»(2).

3 - قال العلاّمة المامقانی: «هو حنظلة بن أسعد بن جسم بن عبد الله الهمدانی الشبامی، وما فی جملة من کتب الرجال منها: رجال الشیخ رحمه الله من أبدال الشبامی بالشامی یعتبر سهو من قلم الناسخ أو قلمه قدس سره، فإنّ الرجل همدانی شبامی کوفی ولیس بشامی وشبام هی من همدان»(3).

4 - قال الشیخ السماوی: «کان وجهاً من وجوه الشیعة، ذا الفصاحة والبلاغة،

ص:94


1- (1) . أعیان الشیعة 258:6.
2- (2) . مقتل أبی مخنف: 119.
3- (3) . تنقیح المقال للعلامة المامقانی 401:4-402.

شجاعاً قارئاً للقرآن، وله ولد یدعی علیاً له ذکر فی التأریخ»(1).

5 - قال المحقق الاسترابادی: «حنظلة بن أسعد الشبامی، وشبام طائفة فی الکوفة، منهم عبد الجبار بن العباس الشبامی من أهل الکوفة وهو من أصحاب الحسین بن علی وقتل معه فی کربلاء».

الاختلاف فی اسم الشهید ونسبه

ذکر أغلب من تحدث عن الشهید الکربلائی أنّ اسمه کان «حنظلة بن أسعد الشبامی» نعم ورد فی رجال الشیخ الطوسی أسمٌ آخر وهو «أسعد بن حنظلة الشبامی»(2) ، وأغلب الظن أنه کان سهواً من قلمه الشریف کما احتمله السید الأمین حیث قال: ولم یذکر المؤرخون فی أصحاب الحسین من اسمه أسعد بن حنظلة بل فیهم حنظلة بن أسعد الشبامی کما یأتی، ولیس لحنظلة ولد اسمه أسعد بل له ولد اسمه علی، فالظاهر أنه وقع اشتباه من الشیخ هنا حیث قلب حنظلة بن أسعد إلی أسعد بن حنظلة»(3).

وفی نفس هذا السیاق تحدث العلامة المامقانی رحمة الله تعالی بقوله: «لم أقف فیه إلا علی عدِّ الشیخ رحمهُ الله إیّاه فی رجاله من أصحاب الحسین علیه السلام، ولا یخفی أنّه لیس له ذکر فی شهداء الطف، ولا ابناً لحنظلة بن أسعد قتیل الطف - الآتی ذکره - لأنّ له إبناً یدعی: علیاً، له ذکر فی التأریخ، ولا أباً لحنظلة ذاک: لأنّ

ص:95


1- (1) . إبصار العین: 101.
2- (2) . رجال الشیخ الطوسی: 100.
3- (3) . أعیان الشیعة 258:6.

أباه أسعد بن جشم بن عبد الله بن شبام الهمدانی کما یأتی»(1).

وقد احتمل بعضهم اتحاد اسم الشهید حنظلة بن أسعد الشبامی مع اسم شهید آخر من شهداء الطف وهو «سعد بن حنظلة التمیمی»، کما أشار إلی ذلک الشیخ محمد مهدی شمس الدین رحمه الله فی کتابه القیّم أنصار الحسین حیث یقول: «سعد بن حنظلة التمیمی: ذکره ابن شهراشوب، وبحار الأنوار، وقد استظهر التستری فی قاموس الرجال: أنّ هذا هو حنظلة بن أسعد الشبامی المتقدم ذکره، واستدل بأنّ ابن شهراشوب لم یذکر حنظلة المتفق علیه وهو الشبامی، ونرجحّ أنّ سعداً هذا غیر حنظلة ذاک لأنّ غیر ابن شهر آشوب قد ذکر سعداً وهو محمد بن أبی طالب الهاشمی فی مقتله کما نقل ذلک المجلسی فی البحار، وأنّ ذاک شبامی من عرب الجنوب، وهذا تمیمی من عرب الشمال، والتصحیف فی هذه الحالة بعید جداً»(2).

وأما نسبة الشهید إلی شبام فهو المشهور عند الفریقین، نعم نسبه بعضهم إلی الشیبانی(3) ، والی الشام کما أشار إلی ذلک السید التفریشی فی نقد الرجال بقوله: «حنظلة بن الاسعد الشامی»(4) ، وعلق القهبانی فی ذیل الترجمة بقوله: الشبامی - نسخة بدل، وفی نقدالرجال نقلاً عن رجال الشیخ، الشامی، وفی جامع الرواة نقلاً عن رجال الشیخ، الشامی، وفی بعض النسخ: أسعد الشبامی قبیلة فی الیمن من

ص:96


1- (1) . تنقیح المقال 283:9.
2- (2) . أنصار الحسین للعلاّمة شمس الدین: 100.
3- (3) . أنصار الحسین للعلاّمة شمس الدین: 96.
4- (4) . نقد الرجال 175:2

همدان، ومثله فی الوسیط المخطوط من نسختنا.

والصحیح: الشبامی، بدلیل أنّ فی الیمن قبیلة باسم الشبامی ولا توجد قبیلة أو مکان فی الیمن باسم الشامی»(1).

معنی شبام: أمّا شبام التی ینتمی إلیها الشهید الکربلائی، وهی شبام حضرموت، أوکما یعبّر عنها «شیکاغوا الصحراء»، هی واحدة من أربع مدنٍ سُمِّیت بهذا الاسم (شبام)، وهی شبام کوکبان، وشبام سخیم، وشبام حضرموت، وشبام حراز(2).

وهذه المدینة یبدو أنّها تعود إلی القرن الرابع قبل المیلاد، ویرجع بعضهم أصلها إلی الملک شبام(3) ، وهو الذی أنشأها، کعاصمة اقتصادیة لمملکة حضرموت، وفعلاً کانت ملتقی القوافل التجاریة، حیث کانت تعجّ بالوان من المنتجات المهمة، وفی مختلف المجالات.

أمّا نفس کلمة شبام فلم یکن لها معنی مستقلّ کما یؤکّد علی ذلک علماء اللغة.

نعم، یذهب بعضهم إلی أنّ هذه الکلمة یعود معناها إلی شیاه، ومعناه الحّد(4) ، علی أساس أنّ هذه المدن کانت حدّاً لمدن الیمن القدیمة، کحضرموت.

ص:97


1- (1) . تنقیح المقال 283:9.
2- (2) . معجم البلدان 318:3.
3- (3) . کتاب الإکلیل فی النسب للهمدان: 39.
4- (4) . معجم البلدان 318:3.

وهناک من یجعل أصل الکلمة یعود إلی (شبم) وهو البرد(1) ، وعلی کل التقادیر، فهی مدینة عربیة ترجع إلی همدان، وأنا أعتقد أن المهمّ لیس هذا، وإنّما المهمّ هو الذی جری وحصل لهذه المدینة حینما جاء الإسلام، حیث أخذت القبائل العربیة تفد علی رسول الله صلی الله علیه و آله بحفاوة کبیرة وإکبار، ومنها قبیلة شبام حیث أعلنت إسلامها وقبلها رسول الله صلی الله علیه و آله ودعا لهم، وبعث علیهم زیاد بن لبید البیاضی والیاً علیهم من قبله(2) ، فجاء هذا الصحابی الجلیل واتّخذ شبام عاصمة ومقرّاً له.

ومن هذه المدنیة انطلقت جملة من الثورات، کثورة عبد الله بن یحیی الکندی، سنة 128 ه -(3) ،علی الحکم الأموی الظالم، حیث استطاع ان یستولی علی الحکم فی قبا والمدینة سنة 130 ه -، ولکن الثورة لم تستمرّ، حیث قتل آخر المطاف(4) ، وهناک ثوارت أخری خرجت من هذه المدنیة سواء فی العصر الأموی أو العباسی ضد الظلم والظالمین.

دور قبیلة شبام فی صفین

لقد تمیّزت قبیلة شبام بدورٍ مُمیَّز جداً فی واقعة صفین، حیث قدموا الدماء رخیصة فی نصرة الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام، حتی ورد (وکما سیأتی بعد ذلک) فی کتب التأریخ، أنّ ما من بیت فی هذه القبیلة إلا وقدّم شهیداً أو أکثر فی صفین.

ص:98


1- (1) . لسان العرب، مادّة شبم: 2189.
2- (2) . الإصابة رقم (2866).
3- (3) . نتف من تاریخ حضرموت 216:1.
4- (4) . نتف من تاریخ حضرموت 216:1.

یقول نصر بن مزاحم فی کتابه «وقعة صفّین»، عن عمر قوله: «حدّثنی عبد الله بن عاصم القائشی قال: لمّا مرّ علیٌ بالثورییّن «یعنی ثوّار همدان» سمع البکاء، فقال: ما هذه الأصوات؟ قیل هذا البکاء علی من قتل فی صفّین فقال علی علیه السلام أما إنّی أشهد لمن قتل صابراً محتسباً بالشهادة» ثمّ مرّ علی حیٍّ آخر من همدان، وهم الفائشیون(1) فسمع الأصوات فقال مثل ذلک، ثمَّ مرّ بالشبامیین، فسمع رنةً شدیدة وصوتاً مرتفعاً عالیاً، فخرج إلیه حرب بن شرحبیل الشبامی(2) ، فقال علیٌ: أیغلبکم نساؤکم، ألا تنهونهن عن هذا الصیاح والرنین؟ قال: یا أمیر المؤمنین، لو کانت داراً أو دارین أو ثلاثاً قدرنا علی ذلک، ولکن من هذا الحی ثمانون ومائة قتیل، فلیس من دار إلا وفیها بکاء، أمّا نحن معشر الرجال فإنا لا نبکی، ولکن نفرح لهم ألا نفرح لهم بالشهادة؟ فقال علی علیه السلام: رحم الله قتلاکم وموتاکم. وأقبل یمشی معه وعلی راکب، فقال له علی علیه السلام: إرجع.

ووقف ثم قال له: ارجع، فإن مشی مثلک فتنة للوالی ومذلة للمؤمنین.

ثمّ مضی حتی مر بالناعطیین(3) ، فسمع رجلاً منهم یقال له عبد الرحمن بن

ص:99


1- (1) . الفائشیون: بطن من همدان القحطانیة ینسبون إلی مالک بن زید بن کهلان (الإنساب: 418، الاشتقاق: 420).
2- (2) . یقول الشیخ محمد تقی التستری: وکان من وجوه قومه، کان من التابعین وقوله له علیه السلام فی خبره «أمّا نحن معاشر الرجال فلا نبکی ونفرح لهم بالشهادة» یدلُّ علی حسن حاله نهج الصباغة فی شرح نهج البلاغة 312:10.
3- (3) . یقول ابن منظور: ناعط: بطن من همدان/ لسان العرب: ج 14 / مادة نعط وروی «حتی حدّ بالناعطیین وجلهم عثمانیة... فلما نظروا إلی علیّ علیه السلام أبلسوا» تاریخ الطبری 62:5.

مرثد(1) ، فقال: ما صنع علیّ والله شیئاً، ذهب ثمّ انصرف فی غیر شیءٍ.

فلمّا نظر إلیه أمیر المؤمنین أبلس فقال علیّ علیه السلام: وجوه قوم ما رأوا الشام العام.

ثم قال لأصحابه: قوم فارقتهم آنفاً خیر من هؤلاء، ثم قال:

أخوک الذی إن أحرضتک ملمة ولیس أخوک بالذی إن تمنعت

من الدهر لم یبرح لثبک واجماً علیک أمور ظل یلحاک لائما

ثمّ مضی، فلم یزل یذکر الله حتی دخل الکوفة(2).

وواضح من خلال هذا النصّ، أنّ قبیلة الشهید الکربلائی کان لها دور کبیرٌ فی نصرة الإمام أمیر المؤمنین فی صفّین، بل یستطیع الإنسان أن یقول، إنّ دورها کان متمیّزاً، بحیث إنّ هذا التمیّز أدّی بهم إلی أن لا توجد دار من دیارهم إلاّ وفیها شهید وجریح فی معرکة العز والکرامة، والذی بلغت النظر فی هذا النص هو قول حرب (حارب) بن شرحبیل الشبامی: أمّا نحن معاشر الرجال، فلا نبکی علیهم، ولکن نفرح لهم.

وهذا وعیٌ عمیق وعظیم وبصیرة ثاقبة، بحیث یصل الأمر إلی عدم البکاء علی شهدائهم، وإن کان البکاء فی حدِّ ذاته جائزاً(3) ، ولکنه أراد ان یعبّر عن مدی ارتباطه هو وقومه بالإمام أمیر المؤمنین، والإمام قدّر لهم هذه المزّیة، ولهذا

ص:100


1- (1) . عبد الرحمن بن مرثد (یزید) من بنی عبدی من الناعطیین/ وقعة صفّین/ تحقیق عبد السلام هارون: 532.
2- (2) . وقعة صفّین لنصر بن مزاحم/ تحقیق عبد السلام هارون: 532.
3- (3) . علماً أنّ الإمام لم یمنع من البکاء وإنما منع ارتفاع الأصوات والرنین کما مرّ فی العبارة السابقة.

أجابه بقوله: «رحم الله قتلاکم وموتاکم».

وأنا أفهم من هذه العبارة أنّ المقتول غیر المیّت، فالذی یسقط فی ساحة المعرکة بحدِّ سیفٍ أو ضربة رمح یُعبّر عنه بالمقتول، وأمّا الذی یموت حتف أنفه فهو المیت، فکأنّ الإمام یرید أن یقول بأنّ من قاتلوا معی وقتلوا کانوا یملکون درجات عالیة من البصیرة والوعی، ومن لم یقاتل معی منکم ومات حتف أنفه، کان یحمل نفس هذه البصیرة وهذا الوعی، وبعبارة أوجز إنّکم جمیعاً من أهل البصائر، فرحم الله قتلاکم وموتاکم، حتی حینما انصرف إلی غیرهم وجد بعض من نصره، ولکنّه کان یعیش ردة فعلٍ ملفتة للنظر ناتجة عن ضعف إیمانٍ وتذبذبٍ فی المواقف، قال معلقاً بقوله: قوم فارقتهم آنفاً، خیر من هؤلاء» ثمّ قال:

أخوک الذی إن أحرضَتْکَ مُلٍمّةٌ ولیسَ أخوکَ بالّذی إنْ تمنّعَتْ

من الدهر لم یَبْرح لثبک واجماً علیک أمور ظل یلحاک لائما

قرأت بخط أبی علی البردانی قال: والمشارق بطن من همدان، وهم أخوة شبام الذین قتل یوم صفین ثمانمائة، فلما رجع علی إلی الکوفة سمع النوح علیهم فقال:

مررت علی شبام فلم تجبنی وعز علی مالقیت شبام

جدُّ الشهید الکربلائی

من أجداد الشهید الکربلائی القریبین إلیه، إن لم یکن هو جدّه الأول الذی یلقب ب - «شبام» واسمه سعید، وکنیته أبو دویلة، کما یؤکّد علی ذلک عبد الرحمن ابن عبید الله السقاف فی کتابه «معجم بلدان حضرموت» والذی ینصّ هو وغیره

ص:101

بأن «شباماً کان ملکاً علی ربیعة وتغلب، فقتله بضع الأراقم من بنی تغلب غدراً، فانتقم له ولده دویلة»(1).

ویقال إنّ «دویلة بن سعید بن اسعد بن جشم الحاشدی الهمدانی الشبامی، شاعر جاهلی، سید شبام ورئیسها وصاحب ایامها ووقائعها، کان أبوه ملکاً علی ربیعة وعلی أحیاء تغلب وقد قتلته غیلة نفر من حی الأراقم التغلبیین، فاستطار الشر بین هذا الحی من تغلب وبین قبیلة شبام الهمدانیة، فسرعان ما هبَّ دویلة الشاعر منادیاً بثارات أبیه المقتول، فأجابه قومه من شبام واجتمعت إلیه خیول قبائل آخری من همدان.

ورغم ان منازل اعدائه تبعد عن منازل قومه مسیرة شهر إلا أن ذلک لم یقعده عن طلب الثأر لأبیه وتحقق له النصر والظفر علی حی الاراقم ونظم فی ذلک شعراً وصف فیه إعداده لتلک الحرب»(2).

والدلیل علی ما ذکرناه هو ما ذکره الهمدانی فی کتابه الإکلیل فی أنساب الیمن وهو یتحدث عن أنساب الیمن وعن خصوص بنی جشم حیث یقول: «فأولد

ص:102


1- (1) . کتاب الإکلیل فی أنساب الیمن للهمدانی 108:10، معجم بلدان حضرموت للسقاف: 259.
2- (2) . بغیة الطلب لابن الندیم 4762:10.

أسعد بن جسم بن حاشد عبدَ الله، فأولد عبد الله شباماً، وهو سعید، بطن من همدان»(1).

وکذلک ما ذکره الزنجانی فی وسیلة الدارین بقوله: «وقال ابن الکلبی: ولد أسعد بن جشم بن حاشد بن خیران بن نوف بن همدان عبد الله، وهو شبام، بطن من همدان، وشبام جبل سکنه بنو عبد الله منهم حنظلة بن أسعد الشبامی، الذی قتل مع الحسین علیه السلام»(2).

وبما أنّ نسب الشهید الکربلائی هو «حنظلة بن أسعد بن شبام «سعید» بن عبد الله بن أسعد بن حاشد الهمدانی»(3).

فمن ثم یکون دویلة الذی جمع هو وابوه تحتهما شبام وقبائل همدان هو من اعمام الشهید الکربلائی، والذی یقول المهلهل فیه وفی أبیه:

والحارثان کلاهما ومحرِّقُ وأبو دویلة ملک آل شبام

من هنا نعرف عظمة شخصیة هذا الشهید، والسر فی إرسال الحسین علیه السلام له رسولاً من قبله إلی عمر بن سعد کما سیأتی، حیث کان ینتمی إلی البیوتات العریقة فی التأریخ، والتی کانت لها بصمات واضحة علی الحیاة فی الجاهلیة والإسلام، وربّما اتضحت الصورة أکثر، وسوف تتّضح أکثر فأکثر ونحن نتحدّث عن شهداء کربلاء، وستثبت تلک المقولة التی تنصّ علی أنّ أصحاب الحسین علیه السلام کانوا جمیعاً من سادات المجتمع والمبرّزین فیه، ونحن نعلم کذلک أنّ للبیت والأسرة والعشیرة والبیئة التی یعیشها الإنسان تأثیراً کبیراً علی بناء شخصیته، ومن هنا نجد أنّ النبی صلی الله علیه و آله یوصینا بقوله: «تخیّروا لنطفکم فإنّ العرق دسّاس»، مما یعنی أنّ المتولّد والناشئ، من هذه الجهة سوف یکون عنده استعداد

ص:103


1- (1) . الإکلیل فی أنساب الیمن للهمدانی 108:10.
2- (2) . وسیلة الدارین: 134.
3- (3) . إبصار العین للسماوی: 101.

کبیر للخیر إن کان الآباء کذلک، واستعداد للشرّ إن کانوا عکس ذلک.

وهذا ما تجسّد واضحاً فی سیرة هذا الشهید، وغیره من الشهداء الذین کان لهم دور کبیر فی التأریخ، وأبوا إلاّ أن تکون لهم القدح المُعلَّی فی تأریخ الإسلام بشکل عام، وفی تأریخ أهل البیت علیهم السلام بشکل خاصّ، وهاهی مواقف شبام فی حروب علیّ علیه السلام واضحةٌ، فلیس غریباً أن یقف الشهید الکربلائی هذا الموقف الذی هو امتداد لمواقف قومه واسرته، وهذا ما سوف نشیر إلیه ونحن نتحدّث عن مواقفه فی کربلاء.

ولد الشهید الکربلائی

لقد تحدّث الکثیر من العلماء عن الشهید الکربلائی وذکروا أنّ له ولداً یسمی «علیاً»، یقول الشیخ السماوی: «وله ولد یدعی علی له ذکر فی التأریخ»(1).

ولئن أغفل التأریخ غفلةً أو تغافلاً أخبار هذا الولد ومآثره الجلیلة تبعاً لأبیه رضی الله عنه، فلقد أبت الحقائق ان تختفی بالکامل مهما بذل الظالمون والمبطلون الجهود من أجل طمسها واخفاء معالمها، ولقد کانت واحدة من هذه المآثر الجلیلة هی تمدُّ العلماء له راویاً ثقةً یروی عنه الخاصة والعام.

ولد الشهید یروی خطبة زهیر بن القین

روی أبو مخنف عن علی بن حنظلة بن أسعد الشبامی عن کثیر بن عبد الله الشعبی قال: «لما زحفنا قبل الحسین علیه السلام خرج إلینا زهیر بن القین علی فرسٍ له

ص:104


1- (1) . إبصار العین: ص 101.

ذنوب، وهو شاک فی السلاح، فقال: یا أهل الکوفة، نذار لکم من عذاب الله، نذار لکم إنّ حقاً علی المسلم نصیحة أخیه المسلم، ونحن الآن أخوة علی دین واحد وملّة واحدة ما لم یقع بیننا وبینکم السیف، فإذا وقع السیف انقطعت العصمة، وکنا أمة وکنتم أمة، إنّ الله ابتلانا وإیّاکم بذریة نبیه محمد علیهما السلام لینظر ما نحن وانتم عاملون، إنّا ندعوکم إلی نصرهم وخذلان الطاغیة عبید الله بن زیاد، فإنکم لا تدرکون منهما إلا سوء عمل سلطانهما کله، إنّهما یسملان أعینکم ویقطعان أیدیکم وأرجلکم، ویمثلان بکم، ویرفعانکم علی جذوع النخل، ویقتّلان أماثلکم وقراءکم، أمثال حجر بن عدی واصحابه وهانئ بن عروة واشباهه، قال فسبوه وأثنوا علی عبید الله بن زیاد وابیه وقالوا: والله لا نبرح حتی نقتل صاحبک ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلی الأمیر فقال لهم زهیر: عباد الله ولد فاطمة علیها السلام أحقّ بالودّ والنصر من ابن سمیة، فإن لم تنصروهم فأعیذکم بالله ان تقتلوهم، فخلوا بین هذا الرجل وبین یزید، فلعمری إنّه لیرضی من طاعتکم بدون قتل الحسین علیه السلام، قال: فرماه شمر بسهم وقال له: أسکت أسکت الله نأمتک، فقد أبرمتنا بکثرة کلامک، فقال زهیر: یابن البوال علی عقبیه، ما إیّاک أخاطب أنّما أنت بهیمة، والله ما أظنک تحکم من کتاب الله آیتین، فأبشر بالخزی یوم القیامة والعذاب الألیم، فقال له شمر: إن الله قاتلک وصاحبک عن ساعة، قال زهیر: أفبالموت تخوفنی؟ والله للموت معه أحب الیّ من الخلد معکم، قال: ثم أقبل علی الناس رافعاً صوته: وصاح بهم: عباد الله لا یغرنکم هذا الجلف الجافی وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمد قوماً هرقوا دماء ذریته وأهل بیته، وقتلوا من نصرهم

ص:105

وذبّ عن حریمهم قال فناداه رجل من خلفه: یا زهیر إنّ أبا عبد الله یقول لک: أقبل فلعمری لئن کان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ فی الدعاء، لقد نصحت وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ، فذهب الیهم»(1).

شبهة أن الحسین علیه السلام لم یقتل والقاء شبهه علی الشهید حنظلة

لقد وردت فی بعض المصادر «کما سنشیر إلی ذلک» بعض الروایات والکلمات التی زعمت أنّ الحسین علیه السلام لم یقتل وأنّه ألُقی شبهه علی الشهید حنظلة بن أسعد الشبامی (رض)، وعلیه فالحسین لا یزال حیاً.

وقد اعتمدوا فی دعواهم وزعمهم هذا علی مجموعة من الأدلة الواهیة (کما سنبین ذلک فی مقام الردّ علیها)، والادلة هی کما یلی:

1 - قول الامام الصادق: «حنظلة ففدی کاسمه لأنه فدی مولانا الحسین بنفسه ففداه مولاه بالضد، والقتل والدّم واقع بالضدّ»(2).

قول الله سبحانه وتعالی:

«وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً3» .

حیث فهموا من هذه الآیة الکریمة أو هکذا أرادوا أن یفهموها ویفهموها إن صح التعبیر، أنّ الله آلی علی نفسه وجزم بشکل قاطع أن لا یسلّط کافرا علی

ص:106


1- (1) . تاریخ الطبری 319:3-320.
2- (2) . رواها الدکتور الطریحی فی طیّات بحثه حول «الحسین بین التألیه والتشویه» والذی القاه فی قاعة خاتم الأنبیاء فی الحضرة الحسینیة فی 17 سنة 2010.

مؤمن فینتهک حرمته، ویستبیح دمه ولاشک ولاریب أن یزید مشمول بهذه الآیة الکریمة، حیث أعلن کفره أمام الناس بقوله:

لعبت هاشم بالملک فلا خبر جاء ولا وحی نزل(1)

والحسین علیه السلام فی نفس الوقت کان یمثل الإیمان فی أعلی درجاته وأبعاده واتجاهاته، فکیف یمکن أن یسلّط یزید علیه، فینتهک حرمته، ویستبیح دمه، ولأجل ذلک جری علیه ما جری علی عیسی بن مریم علیه السلام، حیث رفعه الله عز وجل إلیه ولم یجعل للیهود علیه سبیلا، والحسین لیس أهون عند الله من السید المسیح لاسیما إذا کان الملاک فیهما واحداً.

3 - قوله تعالی:«وَ فَدَیْناهُ بِذِبْحٍ عَظِیمٍ 2» حیث رفع الله سبحانه وتعالی - کرامة لأبراهیم علیه السلام واسماعیل - الذبح عن اسماعیل وعوّضه عن ذلک الذبح بکبش عظیم، ومحمد علیهما السلام وولده الحسین علیه السلام، أعظم کرامة ومنزلة وقدراً من إبراهیم واسماعیل علیه السلام، فما جری هناک لاشک سوف یجری هنا.

ولقد أشار إلی ما ذکرناه بشکل واضح وصریح سرور بن القاسم الطبرانی(2)

ص:107


1- (1) . اللهوف فی قتلی الطفوف: 180.
2- (3) . هو سرور بن القاسم الطبرانی أبو سعید الملقب بالمیمون شیخ العلویین فی اللاذقیّة، ورئیس الطریقة المعروفة عندهم بالجنبلائیة، ولد فی طبریا وإلیها نسبته وانتقل إلی حلب فتفقه بفقه العلویین أصحاب الخصیبی والجنبلائی، وصنّف کتاباً فی مذهبهم، ثم رحل إلی اللاذقیة والتف حوله من فیها منهم واستمر إلی ان توفی ودفن بها علی شاطئ البحر فی مسجد الشعرانی. بحوث فی الملل والنحل 421:8 جعفر السبحانی.

وهو یتحدث عن یوم عاشوراء: «وهو الیوم الذی روت فیه العامة وظاهریة الشیعة وزعمت أنّ فیه مقتل مولانا الحسین منه السلام تعالی الله عما یقول الظالمون المفترون ویظنه الملحدون علواً کبیر، وذلک أنّ یزید بن معاویة لعنه الله أمر شمر ابن ذی الجوشن الضبابی لعنه الله بعد مسیر مولانا الحسین منه السلام من المدینة إلی الکوفة، فسار إلیه بالجیش وکانت الواقعة بکربلاء علی شاطئ العلقمی، وما جری من القتل والسبی وتسییر الرأس إلی یزید بن معاویة لعنه الله تعالی واظهر مولانا الحسین منه السلام الغیبة فیه جلّ من لا یغیب والقی شبهه علی حنظلة بن اسعد الشبامی، وکانت سیرته تقارب سیرة السید المسیح علی ذکره السلام وما أظهره من القتل والصلب، وکذلک اعتقدت کافة العامة من المسلمین وظاهریة الشیعة أنّ القتل صحیح، وطابقوا النصاری فی القول، فأوقع الله فیهم الحیرة والشک، وقد أخبر الله سبحانه فی کتابه عن قوله:

«وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَکاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَیْهِمْ ما یَلْبِسُونَ 1» .

ثم قال ردّاً علیهم وعلی کافتهم:

«وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لکِنْ شُبِّهَ لَهُمْ 2» .

لأنّ سیّدنا الحسین منه السلام هو المسیح والمسیح هو الحسین، والاسماء من آدم فی النبوة والرسالة والإمامة إلی القائم علی ذکره السلام، أشخاص السید محمد منه السلام واسماؤه، وکذلک ظهر فی القبة المحمدیة بالخمسة الأسماء،

ص:108

بمحمد وفاطمة والحسن والحسین ومحسن والخمسة محمد، وکان الحسین شخصاً من اشخاص السید محمود، وقال أبو عبد الله الخصیبی شرّف الله مقامه فی رسالته: وشاء المعنی ان یظهر بغیر الصورة المرئیة وهی الانزع البطین أزال الحسین وظهر کمثل صورته وکان المیم فی ذلک الوقت هو الحسین منه السلام، ثم قال أزال الحسن وهو المعنی للحسین وظهر بمثل صورته وکان المیم علی بن الحسین منه السلام والسید الحسین علی ذکره السلام علی ما قدمت هوالسید المسیح وهو داخل فی عدد الأسماء التی هی الإسم(1).

وقد أشار الخصیبی(2) إلی هذا المعنی کاملاً فی دیوانه فی أکثر من قصیدة

منها:

سلام علی أرض الحسین وحضرتهْ سلام علی أرواح أنوار فطرتهْ

سلام علی النور المضیء بکربلا بدار سلام الله فی جنب جیرتهْ

سلام علی من عظمّ الله قدره ورفّعَه فی القدس معْ خیر خیرتهْ

بموضع معراج النبی محمد وبقعة موسی والمسیح وربوتهْ

وبقعه موسی والمسیح وربوتهِ

ص:109


1- (1) جزء من بحث القاه الدکتور الطریحی فی قاعة خاتم الأنبیاء فی الحضرة الحسینیة تحت عنوان «الحسین بین التألیه والتشویه» فی 17 سنة 2010 م.
2- (2) . ترجمة (الحسین بن حمدان)قال النجاشی: «الحسین بن حمدان الخصیبی (الحصینی) الجنبلائی، أبو عبد الله، کان فاسد المذهب، له کتب، منها: کتاب الأخوان، کتاب المسائل، کتاب تاریخ الأئمة، کتاب الرسالة تخلیط» وقال الشیخ: «الحسین بن حمدان بن الخصیب، له کتاب أسماء النبی صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام» وقال ابن الغضائری: «کذّاب فاسد المذهب، صاحب مقالة ملعونة لا یلتفت إلیه» وقال ابن داود: «مات فی شهر ربیع الأول سنة 358 ه -». معجم رجال الحدیث للسید الخوئی 3381:6.

سلام علی من حجّب الله شخصه واظهر للاعداء شبهاً کصورتهْ

کعیسی وهُوْ عیسی ولا فرق بینهم ولاشک فیه انه من سریرتهْ

وقد ظن أهل الشک والزیغ أنهم یرونه مشهوراً بأحسن شهرتهْ

وقالوا قتلناه وما کان قتله ولا صلبوه بل شبیهاً لرؤیتهْ

کذاک حسیناً شبهّوه بکربلا کما شبهوا عیسی سواءً کسیرتهْ

وحاشا حسیناً ابن بنت محمد ضیاءً علیّاً نوره وسط غرَّتهْ

من السیف ان یصدا به أو یناله وحاشاه ان یدعی قتیلاً بحسرتهْ (1)

ویقول فی موضع آخر:

وباکیاً یبکی علی ربه

لستُ بحمد الله من حزبهِ وکلما ناحت له خلّة

علی الذی فرّط فی جنبهِ یبکی علی المقتول فی کربلا

لا خفف الله عن کربهِ معتذراً من سوءِ أفعاله

وغدره أعظم من ذنبهِ قلت لا تبک علی ذاک الذی

لم تطمع الأعداء فی غلبهِ ظنوا ظنونا کلها باطل

من قتله کان ومن سلبهِ وهکذا عیسی جری أمره

وما رواه القوم من صلبهِ ولم یکن قتلاً ولا صلبةً

لکنه شُبّه فی لزبهِ والقتل والصلب علی جانیٍ

بارزٍ یا بؤساه فی حربهِ فإنّ جهلتم ویلکم شخصه

فمن نفیل جا ومن لذ بهومن صهّاک ثم من حنتم

زوجة خطّابٍ وفی حقبهِ

ص:110


1- (1) . دیوان الخصیبی: 65-66.

واسمه أبلیس لا غیره

فی سالف الدهر وفی حقبهِ فجوّدوا یا أخوتی لعنه

جود الخصیبی علی سَبَّهِ (1)

ویقول صاحب کتاب «الهفت الشریف» فیما یزعمون أنّه للمفضِّل بن عمر الجعفی: فی الباب الأربعین: قال المفضل: «أخبرنی یا مولای، عن قصة الحسین کیف اشتبه علی الناس قتله وذبحه کما اشتبه علی من کان قبلهم فی قتل المسیح؟

قال الصادق: یا مفضل هذا سر من أسرار الله أشکله علی الناس فعرفوه خاصة أولیائه وعباده المؤمنون المختصون من خلقه... إنّ الإمام یدخل فی الإبدان طوعاً وکرها ًویخرج منها إذا شاء طوعاً وکرها کما ینزع أحدکم جبته وقمیصه بلا تکلف ولا ریب، فلما اجتمعوا علی الحسین علیه السلام لیذبحوه، خرج من بدنه ورفعه الله إلیه، ومنع الأعداء منه، وقد سخط سخطة جبار عنید، ولا تقوم بعظمته السموات والأرض والجبال، انه قادر سبحانه ان یعاجلهم العذاب، ولکنه حلیم ذو بأس لا یخشی القوة، ولا خلف لوعده، ولا معقب لحکمه کما وصف سبحانه، انه یقول ما یشاء ویظهر فی حجاب ما یشاء، وإنما یعجل من یخاف الفوت.

فاما الله إذا أراد ان یخلق شیئاً یقول له کن فیکون، فإنّه تعالی لا تعجل العقوبة وان الحسین لمّا خرج إلی العراق وکان الله محتجباً به وصار لا ینزل منزلاً صلوات الله علیه إلا ویأتیه جبرئیل فیحدثه حتی إذا کان الیوم الذی اجتمعت فیه العساکر علیه واصطفت الخیول لدیه وقام الحرب، حیئنذٍ دعا مولانا الحسین جبرئیل، وقال: یا أخی من أنا؟ قال: أنت الله لا إله إلاّ هو الحی القیوم

ص:111


1- (1) . دیوان الخصیبی: 85

والممیت والمحیی، انت الذی تأمر السماء فتطیعک والأرض فتنتهی لامرک والجبال فتجیبک والبحار فتسارع إلی طاعتک وانت الذی لا یصل الیک کید کائد ولا ضرر ضار.

قال الحسین: یا جبرئیل. قال جبرئیل: لبیک یا مولای قال الحسین: أفتری هذا الخلق المنکوس تحدثهم انفسهم أن یقتلوا سیدهم لضعفهم، ولکنهم لن یصلوا إلی ذلک، ولا إلی احد من أولیاء الله، کما أنهم لن یصلوا إلی عیسی والی أمیر المؤمنین علی، ولکنهم عملوا ذلک لیحل علیهم العذاب بعد الحجة والبیان.

قال الحسین: یا جبرئیل انطلق إلی هذا الملعون الضال الجاحد المنکوس، وقل له: من ترید ان تحارب؟ قال فانطلق جبرئیل فی صورة رجل غریب مجهول، فدخل علی عمر بن سعد وهو جالس علی کرسیه بین قواده وحراسه وأبوابه، فخرق صفوفهم حتی وصل إلیه ووقف بین یدیه.

فلما نظر إلیه عمر بن سعد ارتاب منه، وارتعب وقال له: من أنت؟ قال جبرئیل: أنا عبد من عبید الله جئت أسألک عمن ترید ان تحارب؟ قال: أرید ان أحارب الحسین بن علی، وهذا کتاب عبید الله بن زیاد یأمرنی فیه أن أقتل الحسین بن علی وأوجه إلیه رأسه واعتزل العسکر.

فقال له: ویحک تقتل رب العالمین وإله الأولین والآخرین وخالق السموات والأرض وما بینهما»(1).

ص:112


1- (1) . کتاب الهفت الشریف المزعوم للمفضل بن عمر الجعفی: 96-98. تحقیق وتقدیم د. مصطفی غالب دار الأندلس - بیروت.

ویقول فی موضع آخر: «وکان الحسین بن علی أکرم علی الله من أن یذیقه الحدید علی أیدی الکفرة، وحاشا أن یذیقه حرّ الحدید، وان عند الله من لطف التدبیر ما یتلطف بأولیائه، وینقذهم من أهل عداوته، ویهلک أعداءه وأعداء أولیائه بالحجة البالغة، وأنه عز وجل عادل لا یجور، وحلیم لا یمیل، ولقد فعل الله سبحانه بالحسین فعلة لم یفعلها بالمسیح ولا بزکریا ولا بیحیی ولا بأحد من الأنبیاء.

وأن الذبح فی الظاهر کان إلی اسماعیل الذی فدّی بذبحٍ عظیم، هو الحسین الذی هو عینه واسمه ونسبه، ولیس بینهما فرق کأنهما واحد، ولقد ذبح فی الظاهر أکثر من الف مرة علی ما یتوهمون أهل الکفر، وإنما الحسین مثله کمثل المسیح»(1) إلی أن تقول: «یا مفضل ما نقول شیعتی فی ذلک؟ قلت، یا مولای: یروی عن جابر عن الباقر فی قوله: «وفدیناه بذبح عظیم»(2) ، أن اسحاق هو الحسن والحسین هو اسماعیل... قال المفضل والله یا مولای اشفیتنی وأذهبت عنی کل همّ وغم، قال الصادق: ان الله تعالی شفاءٌ لما فی الصدور وهدی ورحمة للمؤمنین والباطن هو شفاء للصدور، قلت الحمد لله علی ذلک.

فقال یا مفضل هذا سبب ذبح الکبش، ألم أخبرک بتفصیل الیوم الذی اجتمعوا علی قتل الحسین. قلت: نعم. ثم البا والسلام»(3).

ص:113


1- (1) . کتاب الهفت الشریف المزعوم للمفضل بن عمر الجعفی: 93، تحقیق د. مصطفی غالب.
2- (2) . الصافات/ 107.
3- (3) . کتاب الهفت الشریف المزعوم للمفضل بن عمر الجعفی: 90، تحقیق د. مصطفی غالب.

ولاشک ولاریب لکل من یقرأ هذه الأحادیث وکلمات من تقدم یتلمس الغلو ظاهراً واضحاً لکل ذی بصیرة وبصر، مهما حاول البعض تأویل بعض الکلمات التی وردت فی هذه النصوص المتقدمة.

الرد علی هذه الشبهة

وعلیه فإن هناک جملة من الروایات التی جاءت عن طریق أهل البیت علیهم السلام لردّ مثل هذه الشبهات التی یبدو أنها بدأت بعد مصرع الحسین علیه السلام واستمرت حتی زمان الغیبة الصغری کما سیتبین لک ذلک.

ومن هذه الروایات....

1 - روایة الإمام الرضا علیه السلام: فقد روی صاحب عیون أخبار الرضا علیه السلام: «قال: قلت للرضا علیه السلام إنّ فی سواد الکوفة قوماً یزعمون أن الحسین علیه السلام لم یقتل وأنّه ألقی شبهه علی حنظلة بن أسعد الشبامی وأنه رفع إلی السماء کما رفع عیسی بن مریم، ویحتجون بهذه الآیة:

«وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً1» .

فقال کذبوا علیهم غضب الله ولعنته وکفروا بتکذیبهم لنبی الله فی إخباره بأنّ الحسین بن علی سیقتل، والله لقد قتل الحسین وقتل من کان خیراً من الحسین علیه السلام أمیر المؤمنین والحسن بن علی، وما منا إلا مقتول وإنی والله لمقتول بالسم باغتیال من یغتالنی أعرف ذلک بعهد معهود إلیّ من رسول الله صلی الله علیه و آله أخبره به جبرئیل عن رب العالمین.

ص:114

وأمّا قول الله «ولن یجعل الله للکافرین علی المؤمنین سبیلاً» فإنّه یقول ولن یجعل الله لکافرٍ علی مؤمن حجة، وقد أخبر الله عز وجل عن کفار قتلوا النبیین بغیر الحق ومع قتلهم إیّاهم أن یجعل الله لهم علی أنبیائه سبیلاً من طریق الحجة»(1).

وهناک إضافة إلی هذا التفسیر الذی ذکره الإمام علیه السلام تفسیر آخر یذکره صاحب تفسیر الأمثل بأن الآیة یمکن ان تکون شاملة حتی فی خصوص التسلط العسکری وما فی شاکلته، ولکن مع تعلیق مهم من قبله أحببت إیراده لأهمیته، یقول الشیخ مکارم الشیرازی فی تفسیره، لهذه الآیة الکریمة:

«وما نشاهده من انتصار للکافرین علی المسلمین فی المیادین المختلفة، إنما هو بسبب ان المسلمین المغلوبین لم یکونوا لیمثلوا فی الحقیقة المسلمین المؤمنین الحقیقیین، بل إنهم مسلمون نسوا آدابهم وتقالیدهم الإیمانیة وتخلوا عن مسؤولیاتهم وتکالیفهم وواجباتهم الدینیة بصورة تامة، فلا کلام عن الإتحاد والتضامن والأخوة الإسلامیة بهم، ولا هم یقومون بواجب الجهاد بمعناه الحقیقی کما لم یبادروا إلی اکتساب العلم الذی اوجبه الإسلام وجعله فریضة علی کل مسلم ودعا إلی تحصیله وطلبه من الولادة حتی ساعة الوفاة حیث قال النبی: «أطلب العلم من المهد إلی اللحد».

ولما اصبحوا هکذا استحقوا ان یکونوا مغلوبین، وقد استدل جمع من الفقهاء بهذه الآیة علی أن الکفار لا یمکن ان یسلطوا علی المسلمین المؤمنین من

ص:115


1- (1) . عیون أخبار الرضا: 220:1.

الناحیة الحقوقیة والحکمیة، ونظراً للعمومیة الملحوظة فی الآیة لا یستبعدون أن تشمل هذا الأمر أیضاً»(1).

2 - روایة الإمام زین العابدین هم: کفار ومباحو الدم:

روی المجلسی فی بحاره تحت باب: أنّ مصیبته صلوات الله علیه کانت من أعظم المصائب، وذلّ الناس بقتله، وردّ قول من قال أنه علیه السلام لم یقتل ولکن شبّه لهم. جلمة من الروایات منها روایة الإمام زین العابدین علیه السلام، وهی روایة طویلة نذکر محل الحاجة منها:

قال عبد الله بن الفضل الهاشمی: فقلت له (یعنی زین العابدین): یابن رسول الله صلی الله علیه و آله فکیف سمت العامة یوم عاشوراء یوم برکة؟ فبکی علیه السلام ثم قال: لما قتل الحسین علیه السلام تقرب الناس بالشام إلی یزید، فوضعوا له الأخبار وأخذوا علیها الجوائز من الأموال، فکان مما وضعوا له أمر هذا الیوم، وأنّه یوم برکة، لیعدل الناس فیه من الجزع والبکاء والمصیبة والحزن، إلی الفرح والسرور والتبرک والاستعداد فیه، حکم الله بیننا وبینهم.

قال: ثم قال علیه السلام: یابن عم وان ذلک لأقل ضرراً علی الإسلام وأهله مما وضعه قوم انتحلوا مودتنا وزعموا أنهم یدینون بموالاتنا ویقولون بإمامتنا: زعموا أن الحسین لم یقتل وأنّه شبه للناس أمره کعیسی بن مریم، فلا لائمة إذاً علی بنی أمیة ولا عتب علی زعمهم، یابن عم من زعم ان الحسین لم یقتل فقد کذب رسول الله وعلیاً وکذب من بعده من الأئمة علیهم السلام فی إخبارهم

ص:116


1- (1) . تفسیر الأمثل 499:3.

بقتله، ومن کذبهم فهو کافر بالله العظیم، ودمه مباح لکل من سمع ذلک منه»(1).

3 - روایة الإمام المهدی: کفر وتکذیب وضلال:

فقد ذکر محمد بن یعقوب الکلینی عن اسحاق بن یعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمری ان یوصل لی کتاباً قد سُئلت فیه عن مسائل أشکلت علیّ فورد التوقیع بخط مولانا صاحب الزمان «أمّا ما سئلت عنه خیر مما أتاکم وأمّا ظهور الفرج فإنّه إلی الله وکذّب الوقاتون، وأمّا قول من زعم ان الحسین لم یقتل فکفر وتکذیب وضلال(2)...»(3).

4 - رد العلامة المجلسی:

ذکر المجلسی (رحمه الله) فی بحاره باباً بهذا العنوان (العلة التی من أجلها لم یکف الله قتلة الأئمة علیهم السلام ومن ظلمهم عن قتلهم وعلّة ابتلائهم صلوات الله علیهم أجمعین)(4).

ولاشک أن المجلسی فی ذکره لهذا الباب أراد أن یردّ علی شبهة عدم قتل الحسین علیه السلام، بشکل خاص، وما یرد فی نفس الموضوع عن أئمة أهل البیت علیهم السلام بشکل عام، وللمثال سوف اذکر روایة واحدة ذکرها المجلسی تحت هذا الباب،

ص:117


1- (1) . بحار الأنوار 270:44.
2- (2) الغیبة للشیخ الطوسی: ص 176.
3- (3) وهذا یعنی ان هذه المسألة استمرت حتی إلی زمان الغیبة الصغری، ویبدو أنها لم تکن بالمسألة الهیّنة البسیطة، حتی عبّر عنها إسحاق بن یعقوب بأنها مسائل أشکلت علیّ لکثرة من سأل عنها وأراد جوابها فتأمل.
4- (4) . بحار الأنوار 180:53.

والطبرسی فی الاحتجاج، والصدوق فی علل الشرائع وکمال الدین وهی:

محمد بن إبراهیم بن إسحاق الطالقانی قال: کنت عند الشیخ أبی القاسم الحسین بن روح قدس الله روحه مع جماعة فیهم علی بن عیسی القصری فقام إلیه رجل فقال له: أرید ان أسألک عن شیء فقال له: سل عما بدا لک فقال الرجل: أخبرنی عن الحسین بن علی صلی الله علیه و آله أهو ولیّ الله؟ قال: نعم، قال: أخبرنی عن قاتله أهو عدو الله؟ قال: نعم، قال الرجل: فهل یجوز ان یسلّط الله عدوه علی ولیه؟ فقال له أبو القاسم قدس الله روحه: أفهم عنی ما أقول لک، إعلم أنّ الله عز وجل لا یخاطب الناس بشهادة العیان، ولا یشافههم بالکلام، ولکنه عز وجل بعث إلیهم رسولاً، من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم، فلو بعث إلیهم رسلاً من غیر صنفهم وصورهم لنفروا عنهم، ولم یقبلوا منهم، فلما جاؤوهم وکانوا من جنسهم یأکلون الطعام، ویمشون فی الأسواق قالوا لهم: أنتم بشر مثلنا فلا نقبل منکم حتی تأتونا بشیء نعجز أن نأتی بمثله، فنعلم أنکم مخصوصون دوننا بما لا نقدر علیه، فجعل الله عز وجل لهم المعجزات التی یعجز الخلق عنها، فمنهم من جاء بالطوفان بعد الانذار والاعذار فغرق جمیع من طغی وتمرد، ومنهم من ألقی فی النار، فکانت علیه برداً وسلاما، ومنهم من أخرج من الحجر الصلد ناقة وأجری فی ضرعها لبناً، ومنهم من خلق له البحر وفجر له من الحجر العیون، وجعل له العصا الیابسة ثعباناً فتلقف ما یأفکون، ومنهم من أبرأ الأکمه والأبرص وأحیا الموتی بأذن الله عز وجل وأنبأهم بما یأکلون وما یدخرون فی بیوتهم، ومنهم من انشق له القمر وکلّمه البهائم مثل البعیروالذئب وغیر ذلک.

ص:118

فلما أتوا بمثل هذه المعجزات، وعجز الخلق من أممهم عن أن یأتوا بمثله کان من تقدیر الله عز وجل، ولطفه بعباده وحکمته، أن جعل انبیاءه مع هذه المعجزات فی حالٍ غالبین، وفی أخری مغلوبین، وفی حالٍ قاهرین، وفی حالٍ مقهورین، ولو جعلهم عز وجل فی جمیع أحوالهم غالبین وقاهرین، ولم یبتلهم ولم یمتحنهم لاتخذهم الناس آلهة من دون الله عز وجل، ولما عرف فضل صبرهم علی البلاء والمحن والاختبار. ولکنه عز وجل جعل أحوالهم فی ذلک کأحوال غیرهم، لیکونوا فی حال المحنة والبلوی صابرین، وفی حال العافیة والظهور علی الاعداء شاکرین ویکونوا فی جمیع احوالهم متواضعین، غیر شامخین ولا متجبرین، ولیعلم العباد أنّ لهم علیهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبرهم، فیعبدوه ویطیعوا رسله وتکون حجة الله ثابتة علی من تجاوز الحدّ فیهم، وادعی لهم الربوبیة، أو عاند وخالف وعصی وجحد بما أتت به الأنبیاء والرسل، ولیهلک من هلک عن بینة، ویحیی من حی عن بینة.

قال محمد بن إبراهیم بن إسحاق: فعدت إلی الشیخ أبی القاسم بن الحسین بن روح قدس الله روحه من الغد وأنا أقول فی نفسی: أتراه ذکر ما ذکر لنا یوم أمس من عند نفسه؟ فابتدأنی فقال لی: یا محمد بن إبراهیم لان أخرّ من السماء فتخطفنی الطیر، أو تهوی بی الریح فی مکان سحیق أحب الیّ من أن أقول فی دین الله تعالی ذکره برأیی ومن عند نفسی، بل ذلک عن الأصل، ومسموع عن الحجة صلوات الله علیه»(1).

ص:119


1- (1) بحار الأنوار 273:44-274، علل الشرائع 230:1، کمال الدین 184:3، الاحتجاج: ص 243.

ولا ننسی بأن هذه وامثالها بأعتقادی هی من جملة التشویهات المقصودة من قبل أعداء الإسلام وأهل البیت علیهم السلام، فی تخریب وتحریف إن صح التعبیر صورة هذا الیوم العظیم فی نفوس المؤمنین، فهناک من فرح وسُرَّ فیه لروایات ما أنزل الله بها من سلطان، وهناک من شوهه من الداخل بادعاء عدم قتل الحسین علیه السلام.

وقت وصول الشهید إلی کربلاء

لقد وصل الشهید حنظلة بن أسعد الشبامی (رض) إلی الحسین علیه السلام، فی یوم وصوله علیه السلام إلی کربلاء والذی صادف فی الیوم الثانی من محرّم سنة 61 ه -، وصل الشهید إلی الحسین علیه السلام بعد رحلة شاقة استطاع من خلالها ان یتخلص من بین فکیّ عبید الله بن زیاد الذی صار ینهش بها کل من یشمَّ منه رائحة الولاء للحسین فضلاًعن التفکیر فی الخروج والوصول إلیه، یقول السید الزنجانی فی وسیلة الدارین: «وقال أبو مخنف: حدّثنی سلیمان بن أبی راشد عن حمید بن مسلم قال: جاء حنظلة بن أسعد الشبامی إلی الحسین علیه السلام عند نزوله کربلاء»(1).

الشهید حنظلة رسول الحسین إلی ابن سعد

ما إن وصل الشهید (رض) إلی کربلاء فی الیوم الثانی من محرم، حتی أرسله الحسین علیه السلام، رسولاً من قبله إلی ابن سعد فیما عرف عند ارباب التأریخ بأیام الهدنة، یقول السید الزنجانی فی وسیلة الدارین: «وکان الحسین یرسله إلی

ص:120


1- (1) وسیلة الدارین: 135.

عمر بن سعد للمکالمة أیّام المهادنة»(1).

ومما لاشک فیه ولاریب أن اختیار الحسین علیه السلام للشهید حنظلة رسولاً من قبله إلی ابن سعد یدلل وبشکل واضح علی مدی العقل الراجح والإیمان الثابت للشهید بل والخبرة الاجتماعیة العالیة لاسیما فی مجتمع مهم کمجتمع الکوفة حیث یحمل فی جنباته الکثیر من القبائل والبیوتات المهمة.

وقدیماً قالوا: «ارسل حکیماً ولا توصه»(2) ، وفی هذا یقول الزبیر بن عبد المطلب ابیاتاً منها:

إذا کنت فی حاجةٍ مُرسِلاً وإن باب أمر علیک التوی

فأرسل حکیماً ولا توصهِ فشاور لبیباً ولا تعصهِ (3)

ویقول آخر:

إذا أرسلت فی أمرٍ رسولاً فأفهمه وأرسله حکیماً(4)

ویقول آخر:

إذا کان الرسول کذاً بلیداً تکسّرت الحوائج فی الصدورِ

فأرسل من إذا لحظتهُ عینی حکی لک طرفه ما فی ضمیریَ (5)

ویقول الدنیوری: «ثلاثة أشیاء تدل علی عقول أربابها، الکتاب یدل علی

ص:121


1- (1) وسیلة الدارین: 135.
2- (2) جمهرة الأمثال لأبی هلال العسکری 99:1.
3- (3) نفس المصدر.
4- (4) نفس المصدر.
5- (5) نفس المصدر.

عقل کاتبه والرسول یدل علی عقل مرسله والهدیة تدل علی عقل هادیها»(1).

ولقد وعی الشهید حنظلة فکر الحسین علیه السلام ونهضته واطلّع علی ما یرید بنحوٍ لا یقبل الشک والتردید، حتی صار محل اعتماد الحسین علیه السلام ولا یتصور أحد أن مهمة الشهید تقتصر علی بعث الرسالة إیصالها إلی ابن سعد فقط، بل إن مهمته لأکبر من ذلک فقد تحتاج الرسالة إلی توضیح بعض فقراتها وقد تحتاج إلی بیان رأی الحسین علیه السلام فی بعض المسائل لاسیما إذا دخل القوم معه فی حوارٍ أو نقاش، وهو أمر متوقع فی حالات کهذه.

وهذه لعمری منزلة عظیمة وکبیرة ان یکون المعصوم واثقاً من إنسانٍ بحیث یلتقی فهم المعصوم، وهو فهم السماء، مع فهم اصحاب الحسین علیه السلام، وهذا یعنی انّهم رضوان الله علیهم کان هواهم هوی الحسین، ورأیهم رأی الحسین، وفکرهم فکر الحسین، ومنهجهم منهج الحسین، بل إن التأریخ لا یذکر لنا موقفاًواحداً کان فیه - معاذ الله - أنصار الحسین علیه السلام یملکون رأیاً مخالفاً لرأی الحسین، بل العکس هو الصحیح، حیث نجد أنّهم وصلوا إلی درجة التسلیم إلی المعصوم(2) فی کل الأمور، وهذا یمثل اعلی درجات الولاء، هذا مع رفعة شأنهم وعلو منزلتهم الاجتماعیة فقد کان الرجل یملک منزلة اجتماعیة کبیرة یستطیع من خلالها ان یجالس کبار القوم فی جیش ابن سعد ویتحدّث معهم، خصوصاً فی ظروف حسّاسة کالظروف التی کان فیها الحسین علیه السلام،

ص:122


1- (1) کتاب المجالسة وجواهر العلم للدینوری: حدیث 2412.
2- (2) کما تشیر الآیة الکریمة:«فَلا وَ رَبِّکَ لا یُؤْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَیْتَ وَ یُسَلِّمُوا تَسْلِیماً» سورة النساء: 65.

ولکن ویا للأسف، لا یذکر لنا التأریخ شیئاً عمّا جری فی تلک المراسلات، وهذه واحدة من مظلومیّات کربلاء.

أسماء رسل الحسین علیه السلام وسفراءه

وختاماً نذکر أسماء بعض الشهداء الذی قاموا بدور الرسول والناقل لکلمات الإمام الحسین وتوجیهاته وهم خمسة شهداء، ما عدا الشهید حنظلة (رض).

1 - مسلم بن عقیل، رسول الإمام إلی اهل الکوفة.

2 - سلیمان بن رزین (بن أبی رزین)، وکان رسول الإمام إلی رؤساء الاخماس فی البصرة.

3 - عبد الله بن یقطر، وکان رسول الإمام إلی مسلم بن عقیل أو العکس.

4 - قیس بن مسهِّر الصیداوی، رسول الإمام إلی مسلم بن عقیل من بطن ذی الرمة (الرقة).

5 - عمرو بن قرضة الأنصاری، رسول الإمام إلی عمر بن سعد أیّام المهادنة.

الشهید حنظلة قارئا للقرآن

جاء فی الروایات، وکما یذکر المؤرخون جمیعاً وهم یتحدثون عن هذا الشهید، أنّه «کان قرائاً للقرآن» فقد ذکر السماوی فی إبصار العین وهو یترجم للشهید قوله: «کان وجهاً من وجوه الشیعة، ذا لسان وفصاحة، شجاعاً قارئاً للقرآن»(1).

ص:123


1- (1) . إبصار العین للشیخ السماوی: 101.

وهذه الفقرة تعنی الکثیر، حیث تفید أنّ الأنصار کانوا من عشّاق کتاب الله، بل ومن معلمیِّه وموصلی آیاته إلی الناس، ولا ننسی جمیعاً فی لیلة العاشر من المحرّم عندما باتوا تلک اللیلة یقرأون القرآن، عشقاً وحبّاً لتلاوته وتدبّراً لآیاته، وما أحوجنا نحن فی هذا الیوم، ان نعی هذه الحقیقة الحسینیة العاشورائیة، وهی أن الحسینی الحقیقی، هو ذلک الذی یحمل الولاء الحسینی فی قلبه، وفی نفس الوقت یحمل القرآن فی قلبه متمثلاً بذلک قول رسول الله صلی الله علیه و آله الذی یقول: «ترکت فیکم ما إن تمسکتم به لن تظلّوا من بعدی أبداً؛ کتاب الله وعترتی أهل بیتی، وإنّهما لن یفترقا حتی یردا علیَّ الحوض»(1) ، وسیأتینا إن شاء الله فی بقیّة الإجزاء لهذه الموسوعة، ونحن نتحدث عن أصحاب الحسین علیه السلام، أنّ هذه الصفة، أعنی صفة حمل القرآن وتجسیده قولاً وعملاً، کانت صفة عامة لهم، ولا ننسی فی نهایة الحدیث ان بریر بن خضیر الهمدانی کانوا یعبرون عنه بأنّه من شیوخ القراء فی مسجد الکوفة، وهی علاقة مهمة وأساسیة سوف نسلّط الأضواء علیها ونحن نتحدث عن الشهید رضی الله عنه.

خطبة الشهید حنظلة فی کربلاء

لیس کل من صحب الحسین علیه السلام واستشهد بین یدیه، کان ممن أوتی فرصة الحدیث والوعظ لجیش عمر بن سعد، فقط حدّثنا التأریخ أن جماعة تمیزوا دون غیرهم فی هذه المنقبة المهمة.

وکان من جملة هؤلاء الشهید حنظلة بن أسعد الشبامی، والذی خطب خطبة

ص:124


1- (1) . الحاکم فی المستدرک 109:3، ینابیع المودة: 25، الصواعق المحرقة: 150.

عظمیة احتوت جملة من المفاهیم المهمة نحاول ان نسلّط الأضواء علیها بعد ذکر الخطبة کاملة.

یقول أبو مخنف فی مقتله: «وجاء حنظلة بن أسعد الشبامی، فقام بین یدی الحسین علیه السلام: فأخذ ینادی: یا قوم إنّی أخاف علیکم مثل یوم الأحزاب:

«مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللّهُ یُرِیدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ * وَ یا قَوْمِ إِنِّی أَخافُ عَلَیْکُمْ یَوْمَ التَّنادِ * یَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِینَ ما لَکُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ یُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ1» .

یا قوم لا تقتلوا حسیناً علیه السلام، فیسحتکم الله بعذابٍ:

«وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَری 2» .

فقال له الحسین علیه السلام: «یا بن أسعد - رحمک الله - إنّهم قد استوجبوا العذاب حیث ردّوا علیک ما دعوتهم إلیه من الحقّ، ونهضوا إلیک لیستبیحوک وأصحابک، فکیف بهم الآن وقد قتلوا أخوانک الصالحین.

قال: صدقت، جعلت فداک! أنت أفقه منیّ وأحقّ بذلک، أفلا نروح إلی الآخرة ونلحق بأخواننا؟ فقال علیه السلام: رحُ إلی خیر من الدنیا وما فیها وإلی مُلک لا یبلی، فقال السلام علیک أبا عبد الله، صلی الله علیک وعلی أهل بیتک وعرّف بیننا وبینک فی جنته، فقال علیه السلام: آمین، آمین»(1).

ص:125


1- (3) . مقتل أبی مخنف: 235-236.

وقفات مع خطبة الشهید

أولاً: جاء فی الروایات أنّ الشهید بقی مع الحسین علیه السلام حتی لم یبقَ معه من أصحابه إلا أثنان وهما عمرو بن سوید بن أبی المطاع الخثعمی وبشر بن عمرو الحضرمی، وکان بین الفینة والاُخری یستأذن الحسین علیه السلام من أجل ان یتحدث مع القوم، علّه یکون سبباً فی هدایة واحد منهم، ومن ثم ینتسله من نار جهنم، وهذا إ، دلّ علی شیء فانما یدلّ علی وعی عمیق وکبیر لمسؤولیته الشرعیة والتی ینبغی علی الإنسان المبلّغ والداعیة إلی الله عزّ وجل أن لا یتنازل عنها بأیّ حال من الأحوال، مهما ادلهمت الخطوب حیث یتوجب علیه أن یوصل صوته إلی کلّ من یسمعه، کما تحرک علی اساس ذلک شهیدنا الکربلائی وهو یعیش آخر ساعة من حیاته علی الثری، حتی یتحول إلی قدوة یمشی خلفها کل کربلائی حسینی بالشکل الذی لا یدع الیأس یدخل إلی جوفه أبداً، بل ویظل یعیش الأمل فی أن یستنقذ ما یمکن له استنقاذه.

والقرآن الکریم ربما یعطینا درساً هامّاً فی هذا المجال، حیث یقول فی آیة من آیاته الکریمة:

«وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِکُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِیداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلی رَبِّکُمْ وَ لَعَلَّهُمْ یَتَّقُونَ 1»

وقد جاءت هذه الآیة الکریمة فی قصة أصحاب السبت وملخصها أن الله أمر أهل قریة یسکنها الیهود بعدم صید الحیتان یوم السبت وأبیح لهم فی باقی أیام

ص:126

الأسبوع، فوسوس لهم الشیطان بأن ینصبوا شباکهم یوم السبت فإذا ما جاء یوم الأحد أخذوا ما حملته شباکهم من السمک.

عند ذلک انقسم الناس إلی ثلاثة أقسام.

یقول الشیخ مکارم الشیرازی فی تفسیره الأمثل: «عندما واجهت هذه الجماعة من بنی اسرائیل هذا الامتحان الکبیر الذی کان متداخلاً مع حیاتهم تداخلاً کبیراً، انقسموا إلی ثلاث فرق:

الفریق الأول: وکانوا یشکلون الأکثریة، وهم الذین خالفوا هذا الأمر الالهی.

الفریق الثانی: وکانوا علی القاعدة، یشکلون الأقلیة، وهم الذین قاموا تجاه الفریق الأول بوظیفة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

الفریق الثالث: وهم الساکتون المحایدون الذین لم یوافقوا العصاة، ولا قاموا بوظیفة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر».

وهنا یذکر الباری عز وجل حواراً دار بین العصاة وبین الذین نهوهم عن ارتکاب هذه المخالفة «وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلکهم أو معذبهم عذاباً شدیداً» «فأجابهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنکر: بأننا ننهی عن المنکر لأننا نؤدی واجبنا اتجاه الله تعالی وحتی لا نکون مسؤولین تجاهه، هذا مضافاً إلی أننا نأمل ان یؤثر کلامنا فی قلوبهم، ویکفوا عن طغیانهم وتعنتهم «قالوا معذرة إلی ربکم ولعلهم یتقون» ویستفاد من الجملة الحاضرة أن هؤلاء الواعظین کانوا یفعلون ذلک بهدفین:

ص:127

الأول: أنهم کانوا یعظون العصاة حتی یکونوا معذورین عند الله والآخر: عسی ان یؤثروا فی نفوس العصاة، ویفهم من هذا الکلام أنهم حتی مع عدم احتمال التأثیر، فانهم کانوا لا یحجمون عن الوعظ والنصیحة فی حین أن وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر مشروطان باحتمال التأثیر».

وهذا هو عین ما صنعه الشهید حنظلة بن أسعد الشبامی فی کربلاء حینما وقف حتی آخر اللحظات وهو یتحدث معهم ویوعظهم ولسان حاله یقول لکل من یعترض علیه «معذرة إلی ربکم ولعلهم یتقّون».

وکم عشنا قصصاً وقرأنا قصصاً وسمعنا قصصاً لأناس لم یکن أحدٌ یتصوّر أنّهم سیؤثرون فی یوم ما بالموعظة، وإذا بها تغلب کیانهم بشکل کامل، فتحولوا إلی أناسٍ صالحین، وبعضهم صار من أعاظم الدعاء إلی الله، ولماذا یذهب الإنسان بعیداً، ففی نفس تلک الواقعة تأثر جماعة من جیش عمر بن سعد بمواعظ الحسین واصحابه، وانتقلوا إلی صفِّ أبی عبد الله واستشهدوا بین یدیه.

ثانیاً: اختیار الشهید حنظلة لهذه السورة «أعنی سورة المؤمن أو ما یعرف بمؤمن آل فرعون» من جانب، وتذکیر الحسین علیه السلام لزهیر بن القین حینما خطب فی أهل الکوفة بقوله: «لئن کان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ فی الدعاء، لقد نصحت وابلغت لو نفع النصح والإبلاغ»(1).

لیجعلنا أمام حقیقة مهمة ألا وهی وحدة التشخیص ووحدة الطرح من قبل المعصوم وأصحابه.

ص:128


1- (1) أدب الطف: ج 1 ص 121.

فیما أن المعرکة التی یقفون فیها فی یوم عاشوراء تمثل فی واقعها صراعاً بین الحق والباطل والهدی والضلال ناسب أن یُطرح خطاب مؤمن آل فرعون مع قومه، والذی کان محوره الحقیقی ومضمونه الأساس حق وباطل وهدی وضلال.

ولقد وقف مؤمن آل فرعون مناصراً للحق ومدافعاً عنه بکل ما یملک وما تنازل عن مبدئه قید انملة بل وقف ناصحا ًوواعظاً ومذکراً «یا قوم إنی أخاف علیکم مثل یوم الأحزاب»، وکأنه یرید أن یذکّرَهم بأن هؤلاء الذین تحزّبوا واجتمعوا وتآمروا علی قتل الأنبیاء تعرضوا لهزیمة منکرة واهلکوا من قبل الله، وها هو رسول الله یقف بعد انتهاء معرکة بدر مخاطباً کل الطغاة والمتکبرین «الذین وقفوا أمامه وحاولوا قتله» وقال لهم: «یا شیبة بن ربیعة ویا أمیة بن خلف ویا فلان ویا فلان هل وجدتم ما وعد ربکم حقاً؟ فإنی وجدت ما وعدنی ربی حقاً، لقد کذبتمونی وصدقنی الناس وأخرجتمونی وآوانی الناس وخذلتمونی ونصرنی الناس»(1).

«یا قوم إنی أخاف علیکم مثل یوم الأحزاب» قاله مؤمن آل فرعون وطبقّه الشهید علی واقعه وعلینا أن نعیشه ونطبقه علی واقعنا، فإیّانا ثم إیّانا أن نکون فی خندق معادٍ للحق واهله، إیّانا ثم إیّانا أن نتحول إلی حربٍ لله ورسوله، إیّانا ثم إیّانا أن نکون مطیّة تصل الطغاة من خلال ظهورنا إلی اهدافهم فنکون کمن باع دینه بدنیا غیره.

«ویا قوم إنی أخاف علیکم یوم التنادِ» لقد حاول الشهید تبعاً لمؤمن آل

ص:129


1- (1) السیرة النبویة لابن هشام: ج 1 ص 639.

فرعون أن یستعمل أعظم الالفاظ وأعمق المعانی لإیصال الهدایة لمن یتحدث معهم عسی ان یکون ذلک دافعاً ومحرکاً لهم فی تدبر کلماته وتعقّل الفاظه ومن ثم نجاتهم من النار وفوزهم بالجنة.

وفی ظل هذا السیاق وهذا النسق الذی تحرک علی اساسه الشهید حنظلة «جاء النداء المذکّر بالآخرة وعذابها وأهوالها وکأنهم کالمنکرین للبعث الذی لا یحسبون له حساباً»(1) ، إنّه یوم التناد، حیث تنادی الأم ابنها فلا یستجیب لها، وینادی الابن أُمّه فلا تستجیب له، وینادی الأخ اخاه فلا یستجیب له، وینادی التابع المتبوع فلا یستجیب له، وینادی الضعفاء الأقویاء فلا یستجیبون لهم.

یا قومِ إنی أخاف علیکم أهوال هذا الیوم العظیم، فارحموا أنفسکم من عذابه وسکراته من خلال الاستجابة لنداء العقل والدین فی الوقوف إلی جانب الحق والعدل أمام الباطل والجور.

ثالثاً: لقد طبق الشهید حنظلة المفاهیم القرآنیة علی مصادیقهم الواقعیة، فهذا مؤمن آل فرعون یخاطب قومه بالآیة المتقدمة وهذا حنظلة بن أسعد یخاطب أصحاب عمر بن سعد بنفس الآیة الکریمة، وهذا یعنی بعبارة آخری تطبیق القرآن علی العترة الطاهرة والتی لا تختلف فی عطائها ووظیفتها عن عطاء ووظیفة الأنبیاء، ومن هنا نجد أن الشهید حنظلة بدل أن یقول «ویلکم لا تفتروا علی الله کذباً فیسحتکم بعذابٍ وقد خاب من افتری» وهی کلمة السحرة الذین وقفوا إلی جانب موسی علیه السلام وسألته، دفاعاً عنه وعن مبادئه، تلک الکلمة التی قالوها أمام

ص:130


1- (1) . تفسیر التحریر 136:24.

عشرات الآلاف من الناس المضلّلة، فأراد حنظلة أن یطبقها علی الحسین علیه السلام وهو یدافع عن رسالة جده علیهما السلام وقد قالها مدّویة أمام کل تلک الآلاف المؤلفة من الناس المغرّر بهم الذین جاؤوا لقتال أبی عبد الله الحسین علیه السلام، قال: «یا قوم لا تقتلوا حسیناً فیسحتکم الله بعذابٍ وقد خاب من افتری» ولکنهم بدل أن یتأثّروا بها، إذا بهم یرمونه بالسهام، ورحم الله الشاعر حیث یقول:

لم أنسه إذ قامَ فیهم خاطباً فغدوا حیاری لا یرون لوعظهِ

فإذا هُمُ لا یملکون خطابا إلاّ الأسنّة والسهامَ جوابا

رابعاً: قول الحسین علیه السلام، للشهید حنظلة: «إرجع یابن أسعد فإنّهم قد استوجبوا العذاب حینما ردّوا علیک ما دعوتهم إلیه من الحقن ونهضوا الیک یستبیحوک وأصحابک فکیف بهم الآن وقد قتلوا أخوانک الصالحین»(1).

وهنا یشیر الإمام الحسین علیه السلام، فی حدیثه هذا إلی مفهوم قرآنی إیمانی، ألا وهو عقوبة ردّ الحقّ بعد معرفته، وکأن الحسین علیه السلام یرید ان یذکرّ الشهید بدعوة نوح إلی قومه وکیفیة مواجهتهم له، یقول القرآن الکریم متحدثاً عن نوح علیه السلام ودعوته لقومه:

«قالَ رَبِّ إِنِّی دَعَوْتُ قَوْمِی لَیْلاً وَ نَهاراً * فَلَمْ یَزِدْهُمْ دُعائِی إِلاّ فِراراً * وَ إِنِّی کُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِی آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِیابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَکْبَرُوا اسْتِکْباراً * ثُمَّ إِنِّی دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنِّی أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کانَ غَفّاراً2» .

ص:131


1- (1) أعیان الشیعة 26:7 للسیّد محسن الأمین.

وبعد کلّ هذا البیان والمعرفة التی واجهوها بمنتهی القسوة والتحجر وردّ الحق الذی جاءهم به نوح علیه السلام جاءت العقوبة الإلهیة.

«رَبِّ لا تَذَرْ عَلَی الْأَرْضِ مِنَ الْکافِرِینَ دَیّاراً * إِنَّکَ إِنْ تَذَرْهُمْ یُضِلُّوا عِبادَکَ وَ لا یَلِدُوا إِلاّ فاجِراً کَفّاراً1» ، وقوله «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّی مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ * وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُیُوناً فَالْتَقَی الْماءُ عَلی أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ2» .

وهکذا حینما تحدث القرآن الکریم عن أهل الکتاب وردّهم الحق بعد ما عرفوه وما ترتب علی ذلک من عذاب وحساب.

«وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ وَ مَنْ یَکْفُرْ بِآیاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ سَرِیعُ الْحِسابِ 3» .

وقوله تعالی:

«کَیْفَ یَهْدِی اللّهُ قَوْماً کَفَرُوا بَعْدَ إِیمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَیِّناتُ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ * أُولئِکَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَیْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَ الْمَلائِکَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِینَ * خالِدِینَ فِیها لا یُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ یُنْظَرُونَ 4» .

ص:132

کل هذا وغیره لیرشدنا إلی هذه الحقیقة القرآنیة الحسینیة العاشورائیة التی ذکرها الحسین علیه السلام للشهید حنظلة أن ردّ دعوة الحق لابد أنها سوف تترک آثارها علیهم إن عاجلاً کما حصل فی نفس الیوم العاشر من المحرّم لبعضهم(1) وإن آجلاً حینما سلط الله علیهم غلام ثقیف فسقاهم کأساً مصبّرة بحیث لم یدع قاتلاً إلا وقتله، قتلة بقتلة کما ذکر ذلک الحسین علیه السلام یوم العاشر من المحرم «اللهم احبس عنهم مطر السماء وابعث علیهم سنین کسنی یوسف وسلط علیهم غلام ثقیف، یسقیهم کأساً مصبرة فانهم کذبونا وخذلونا وانت ربنا علیک توکلنا والیک المصیر، والله لا یدع واحداً منهم إلا انتقم لی منه قلتة بقتلة، وضربة بضربة وإنه لینتصر لی ولأهل بیتی واشیاعی»(2).

خامساً: قول الشهید حنظلة «صدقت یا أبا عبد الله، سیّدی افلا نروح إلی الجنّة؟»(3).

وما أعظمها من کلمة! وما أعظم قائلها هذا الذی اشتاق إلی الجنّة بدرجة کبیرة جداً، بحیث إنّه أصبح لا یطیق البقاء فی هذه الدنیا، وخصوصاً بعد أن فارق الأحبة والأعزّة من أصحاب الحسین! إنها میزة مهمة للشهید بل ولجمیع شهداء

ص:133


1- (1) أمثال ابن حوزة التمیمی حینما قال للحسین یا حسین تعجلت بالنار قبل یوم القیامة فدعا علیه الحسین علیه السلام وقال اللهم حزه إلی النار فاضطرمت به فرسه فی جدول، فوقع فیه وتعلقت رجله بالرکاب ووقع رأسه فی الأرض ونفر الفرس فأخذه، یمر به فیضرب برأسه کل حجر وکل شجرة حتی مات. معالم المدرستین 100:3، نقلاً عن تاریخ الطبری.
2- (2) مقتل الخوارزمی 7:2، اللهوف فی قتلی الطفوف: 56.
3- (3) اللهوف فی قتلی الطفوف: 47.

الطف (رض)، منها هو بریر بن خضیر یمازح عبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاری فقال له: «دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل، فقال له بریر: والله لقد علم قومی أنّنی ما أحببت الباطل شاباً ولا کهلاً ولکن والله إنی لمستبشر بما نحن لاقون، والله إنّه لیس بیننا وبین الحور العین إلا أن یمیل هؤلاء علینا بأسیافهم، ولوددت أنهم قد مالوا علینا بأسیافهم الساعة»(1).

وهکذا کان الشهید حنظلة یتوق إلی الجنة والی حورها ونعیمها الدائم لاسیّما فی ظل رضا الله الأکبر:

«فِی مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیکٍ مُقْتَدِرٍ2» .

لقد کان الشهید یرید أن یدخل الجنة بسرعة لیلتحق برکب من مضی قبله، ولکنه فی نفس الوقت یرید أن یدخل الجنة بإذن الحسین علیه السلام ولهذا نجده لیسأل الحسین علیه السلام مثل هذا السؤال الذی یتضمن فی حقیقته طلب الإذن من الحسین علیه السلام فی النزول إلی المعرکة والدخول إلی الجنة، سیدی أفلا نروح إلی الجنة؟.

وقت شهادة الشهید حنظلة

لقد اختلفت الروایات فی وقت شهادة حنظلة (رض)، والتی یمکن تقسیمها إلی ثلاثة أقسام:

القسم الأول: یری بأن الشهید (رض) قد التحق بالرفیق الأعلی بعد شهادة

ص:134


1- (1) ) معالم المدرستین 95:3.

الفتیین الجاریین، یقول أبو مخنف فی مقتله: «وجاء الفتیان الجابریان: سیف بن الحارث بن سریع ومالک بن عبد بن سریع وهما ابنا عمٍّ وأخوان لامٍّ، فأتیا حسیناً علیه السلام فدنیا منه، وهما یبکیان، فقال علیه السلام: أی ابنی أخی، ما یبکیکما؟ فوالله، أنا لأرجو أن تکونا قریری عین عن ساعة «قالا: جعلنا الله فداک، لا والله ما علی انفسنا نبکی ولکنّا نبکی علیک، نراک وقد أحیط بک ولا نقدر علی ان نمنعک، فقال علیه السلام: فجزاکما الله - یا ابنی أخی - بوجدکما من ذلک ومواساتکما إیایّ بأنفسکما أحسن جزاء المتّقین».

ثم استقدم الفتیان الجابریان یلتفتان إلی حسین علیه السلام، ویقولان: السلام علیک یا بن رسول الله، فقال علیه السلام: «وعلیکما السلام ورحمة الله» فقاتلا حتی قتلا.

وجاء حنظلة بن أسعد الشبامی فقام بین یدی حسین علیه السلام فأخذ ینادی...»(1).

القسم الثانی: یری أن الشهید (رض)، قد التحق بالرفیق الأعلی بعد شهادة بریر بن خضیر یقول السید المقرّم فی مقتله: «ولما رجع کعب بن جابر إلی اهله عتبت علیه امرأته النوار وقالت: أعنت علی ابن فاطمة وقتلت سیّد القراء(2) ،

لقد أتیت عظیماً من الأمر، والله لا أکلمک من رأسی کلمة أبداً... إلی یقول ونادی حنظلة بن أسعد الشبامی: یاقوم...»(3).

القسم الثالث: وهی التی تری ان شهادته (رض)، کانت بعد شهادة عمرو بن

ص:135


1- (1) مقتل أبی مخنف: 234-235 / تحقیق الشیخ الیوسفی.
2- (2) تعنی به الشهید بریر بن خضیر الهمدانی حیث کان یعرف من شیوخ القراء فی مسجد الکوفة.
3- (3) مقتل الحسین للمقرّم: 250-251.

خالد الصیداوی وقبل شهادة زهیر بن القین، یقول ابن نما فی مثیر الأحزان: «وبرز عمرو بن خالد الصیداوی(1) ، فقاتل فقال له علیه السلام: «تقدم فإنا لاحقون بک عن ساعة» فتقدم فقتل وجاء حنظلة بن أسعد الشامی(2) ، فوقف بین یدی الحسین علیه السلام یقیه الرماح والسهام والسیوف بوجهه ونحره ثم التفت إلی الحسین فقال أفلا نروح إلی ربنا ونلحق؟ فقال: رح إلی ما هو خیر لک من الدنیا وما فیها، فقاتل قتال الشجعان وصبر علی مضض الطعان حتی قتل وألحقه الله بدار الرضوان، وتقدم زهیر بن القین...»(3).

الشهید یدعو والحسین یؤمّن له

ما إن أذن الحسین للشهید أن ینزل إلی ساحة المعرکة حتی أخذ وجه حنظلة یشرق نوراً ویتلألأ فرحاً بما هو قادم علیه من نعیم لا یبلی ورضاً من رب الأرض والسما، ولکنه مع کل هذه النعم، طلب أمراً آخر من الله عز وجل وأمّن الحسین لطلبه، لقد قال حنظلة للحسین علیه السلام فی آخر کلماته: «السلام علیک یا أبا عبد الله، السلام علیک وعلی أهل بیتک، وعرّف بیننا وبینک فی الجنّة فقال الحسین: آمین آمین»(4).

وهذه الکلمات لاشک أن الشهید أراد من خلالها أن لا یکون فی الجنّة إلا

ص:136


1- (1) والصحیح الصیداوی بدل الصیدائی کما عند مشهور العلماء.
2- (2) والصحیح الشبامی بدل الشامی کما بیّنا ذلک فی بدایة الحدیث عن الشهید (رض).
3- (3) مثیر الأحزان لابن نما الحلی 12:3.
4- (4) إبصار العین: 101.

مع الحسین علیه السلام وأهل بیته علیه السلام، وأن یعَرّف الله تعالی بینه وبین الحسین علیه السلام فی الجنّة، وهذا غایة المسؤول ونهایة المأمول أن یجلس المحبوب إلی جانب حبیبه، وهکذا لم تمضِ إلا مدّة وجیزة من الزمن بعد ان قتل منهم مقتلة عظیمة حتی تعطّفوا علیه فقتلوه فی دوحة الحرب فسقط مضرجاً بدمائه إلی جانب إخوته وأحبته، وهو وإن کان قد حوی الفخر کل الفخر بموقفه هذا، ولکنّه أزاد علی الفخر فخراً، وعلی العزّ عزّاً، وعلی الرفعة رفعةً بتسلیم الإمام صاحب الزمان علیه فی زیارة الناحیة بقوله: «السلام علی حنظلة بن أسعد الشبامی ورحمة الله وبرکاته»(1) ، ونحن بدورنا نسلّم علی الشهید بعیون عبری وصدور حرّی وقلوب ملؤها الاشتیاق إلی شخصه الکریم وولائه العظیم ونسأل الله سبحانه وتعالی الذی أکرمه بهذا المقام ان یکرمنا بالسیر علی خطاه ورحمة الله وبرکاته.

ص:137


1- (1) . المزار للشهید الأول: 151.

الشهید کردوس التغلبی رحمه الله

اشارة

صحابی جلیل من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله، وقائد کبیر محنّک فی جیش علی بن أبی طالب علیه السلام، عرف عنه الثبات مع الحقّ مع شدّة الفتن وکثرة المنعطفات، والتی تزلزلت فیها أقدام قوم وثبتت فیها أقدام قوم آخرین، وعرفوا الحقّ فمالوا إلیه، إمامهم وولیّهم علی أمیر المؤمنین، وبعده الحسن، وبعده الحسین علیهم السلام ومن جملتهم الشهید کردوس، وقد عدّه الرجالیون والمؤرّخون من جملة الرواة الثقاة، إضافة إلی کونه رئیساً مطاعاً فی قومه، وهذه کلّها نقاط مشرقة فی حیاة هذا الرجل نحاول أن نسلّط علیها الأضواء علّنا نکون موفّقین فی اتّباع سیرته واقتفاء أثره.

اسم الشهید

هو کردوس یقول ابن منظور فی لسان العرب فی مادّة کردس: «الکردوس فِقرة من فقِر الکاهل، وکلّ عظم ضخم فهو کردوس، وکلّ عظم کثیر اللحم عظمت نحضته کردوس، وقالوا: الکرادیس رؤوس العظام، واحدها کردوس،

ص:138

وکلّ عظمین التقیا فی مفصل فهو کردوس»(1) فمعنی کردوس علی ما تقدّم یعنی القوی الضخم، فکأنّ الشهید کان اسماً علی مسمّی، حیث عرف بشجاعة متمیّزة، وقدرة فائقة علی مقارعته للأبطال وثباته فی ساحات القتال وعدم اکتراثه بالأسنّة والنبال.

الاختلاف فی اسمه

اسم کردوس محلّ اتّفاق فیما أعلم عند من ترجم له إلاّ ما شذّ، نعم ورد فی أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین(2) أنّه ذکر اسم کردوس، وهو المعتمد عنده، ولکنّه فی نفس الوقت وضع بین قوسین (کرش) وطبیعی لابدّ من وجود دلیل اعتمد علیه فی ذلک وإن لم نطلّع علیه، من اختلاف النسخ أو ما شاکل ذلک، ولکن ما ذکره الشیخ شمس الدین رحمه الله لم یذکره آخر، ومن ثم یکون عندنا اتّفاق، أو لا أقلّ شبه اتّفاق عند الفریقین فی أنّ اسم الشهید هو کردوس دون غیره من الأسماء.

اسم والد الشهید

وأما اسم أبیه فقد وقع الاختلاف فیه کثیراً، فقد ورد أنّ اسمه زهیر، وهذا محلّ اتفاق عند علمائنا، کما فی إبصار العین للسماوی(3) ، وابن شهر آشوب(4) فی

ص:139


1- (1) لسان العرب: ج 6 ص 195.
2- (2) أنصار الحسین: ص 107.
3- (3) إبصار العین: ص 151.
4- (4) مناقب ابن شهر آشوب: ج 4 ص 267.

المناقب، ووسیلة الدارین(1) وغیرهم.

أمّا عند الآخرین فقد ذکروا اسماءً أربعة، حیث ذکر البخاری فی التاریخ الکبیر ما نصّه: «کردوس بن عباس التغلبی، قاله أشعث بن سوار، وقال زائدة بن منصور: کردوس بن هانی التغلبی، وقال سلیمان بن حرب، عن شعبة، عن عمر بن مرّة، عن أبی وائل، عن کردوس بن عمرو: وکان یقرأ الکتب»(2).

حیث ذکر کما تقدّم أنّ اسم الأب مختلف فیه، بین عباس و هانئ و عمرو، کما هو واضح.

وأمّا الاسم الرابع وهو قیس، فقد ذُکر مع الأسماء الثلاثة الأولی مجتمعة، فی تعجیل المنفعة لابن حجر، حیث قال:(3) «کردوس بن قیس قاصّ العامّة بالکوفة، عن رجل بدری له صحبة. وعنه عبد الملک بن میسرة، أظنّه الذی قبله، یعنی الثعلبی، وکان ذکر أنّه اختُلف فی اسم ابیه، فقیل: عباس، وقیل: عمرو، وقیل: هانئ».

ونفس هذا الذی ذکره ابن حجر فی تعجیل المنفعة، ذکره فی کتابه الآخر تهذیب التهذیب (مَنْ اسمه کدام وکردوس وکرز) قال: «کردوس بن العباس الثعلبی، ویقال ابن هانئ الثعلبی، ویقال ابن عمرو الغطفانی، ویقال إنّهم ثلاثة، روی عن الأشعث بن قیس وحذیفة وابن مسعود بن شعبة وأبی مسعود الأنصاری

ص:140


1- (1) وسیلة الدارین: ص 185.
2- (2) التاریخ الکبیر: ص 557.
3- (3) تعجیل المنفعة: ج 1 ص 351 (907).

وأبی موسی الأشعری وعائشة، وروی عنه عبد الملک بن عمیر وأبو وائل وزیاد بن علامة والحارث بن سلیمان الکندی وأشعث بن أبی الشعثاء وأشعث بن سوار وابن عون ومنصور بن المعتمر وآخرون»(1).

وبعد ما تقدّم من اختلافهم فی اسم أب الشهید وما ذکروه، نود أن نثیر حوله ما یلی:

شخصیة واحدة أم شخصیات متعددة ؟

إنّهم وإن اختلفوا فی اسم أبیه ولکنّهم یشیرون فی طیّات کلماتهم إلی أنهم شخصیة واحدة ولیست شخصیّات متعدّدة، حیث وجدت بعد البحث والتمحیص وبذل الوقت أنّ کلّ ما یذکروه فی کتبهم من روایات حول واحد من هؤلاء الثلاثة یکون متطابقاً فی الغالب، ممّا یؤیّد أنّ المُتحدّث عنه واحد لا غیر.

فمثلاً حینما یتحدّثون عن أنّه کان قاصّاً فی الکوفة، فهذا الوصف قد ذکروه فی ترجمة کردوس بن العباس وکردوس بن عمرو وکردوس بن قیس، حیث ینقل صاحب کتاب الآداب الشرعیة(2) ، یقول: «حدّثنا هشام، حدّثنا شعبة، عن عبد الملک بن مسیرة: سمعت کردوس بن قیس، وکان قاص العامّة فی الکوفة» ثمّ یقول: «أخبرنی رجل من أصحاب بدر، أنّه سمع النبی صلی الله علیه و آله یقول: لأن أقعد فی مثل هذا المجلس أحبّ إلیّ من أن أعتق أربع نسمات»(3).

ص:141


1- (1) تهذیب التهذیب: ج 8، ص 387.
2- (2) الآداب الشرعیة: ج 2 ص 159.
3- (3) نفس المصدر.

وصفة القاصّ فی الکوفة وردت کذلک فی کردوس بن عمرو، حیث ینقل البزّاز فی روایته فی البحر الزخّار(1) من طریق روح بن عبادة قال: «أخبرنا شعبة قال: أخبرنا عبد الملک بن میسرة قال: سمعت کردوس بن عمرو قال: سمعت رجلاً من أهل بدر، قال شعبة: أراه علی بن أبی طالب، أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: «لأن تفصّل المفصّل أحبّ إلیّ من کذا باباً» قال شعبة: فقلت لعبد الملک: أیّ مفصّل؟ قال: القصص، ثمّ قال البزّاز: ولا نعلم روی کردوس بن عمرو عن علی إلاّ هذا الحدیث».

وقد ذکر ابن حبّان فی الثقات ما یشعر أنّ کردوس بن عمرو کان قاصّاً، حیث یقول: «کردوس بن عمرو الثعلبی، کنیته أبو نعیم، وکان یقرأ الکتب ویحکی عن الإنجیل والتوراة، روی عنه أبو وائل، وقد قیل: کنیته أبو وائل»(2).

والمتعارف علیه أنّ الحکایات التی تحکی فی تلک الحقبة إنّما کانت عبارة عن حکایات وقصص الیهود والنصاری فی الإنجیل والتوراة، ومن ثم تکون هذه الروایة التی تتحدّث عن کردوس بن عمرو هی بمضمونها نفس تلک التی تتحدّث عن کردوس بن قیس، أمّا کردوس بن العباس وکردوس بن هانئ التغلبی فقد ذکرهما البخاری فی تاریخه الکبیر، وعلق علیهما بأنّ کردوساً کان قاصّ الجماعة، وهو الکوفی، ثمّ بعد ذلک ذکر کردوس بن عمر الذی عبر عنه بالذی یقرأ الکتب، وهذا نصّ کلامه: «کردوس بن عباس التغلبی، قاله أشعث بن سوار، وقال زائدة بن منصور: کردوس بن هانئ التغلبی، وقال محمد بن بشّار، عن أزهر

ص:142


1- (1) البحر الزخّار: ج 3 ص 130.
2- (2) الثقات لابن حبّان: ح 5139.

ابن عون قال: رأیت کردوساً التغلبی وکان قاصّ الجماعة، وهو الکوفی، وقال سلیمان بن حرب، عن شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبی وائل، عن کردوس بن عمرو: وکان یقرأ الکتب».(1)

وممّا تقدّم یتبیّن أنّ صفة القاصّ التی ذکروها للشهید الکربلائی، تارة یطلقونها لکردوس بن قیس کما فی الآداب الشرعیة، وتارة أخری لکردوس بن عمرو کما فی البحر الزخّار، ومرّة لکردوس بن العباس وکردوس بن هانئ کما یفهم ذلک من البخاری فی تاریخه، ممّا یعنی أنّهم یتحدّثون عن شخصیة واحدة، غایة ما فی الأمر اختلفت الروایات فی اسم الأب، إمّا لاختلاف النسخ أو لسبب آخر ربما لا نعرفه.

ومن أجل هذا صار بعضهم حینما یتحدّث عن الشهید یترک الحدیث عن اسم أبیه والاختلاف فیه، ویکتفی بکردوس التغلبی، لشهرته.

یقول أبو حاتم: «أمّا علی بن المدینی فجعل کردوس بن عمرو علی حدة وکردوس بن هانئ علی حدة وکردوس بن العباس علی حدة، قال ابن أبی حاتم: سألت أبی عن ذلک (یعنی عن أنهم شخصیّات ثلاثة ولیست واحدة) فقال: فیه نظر، وقال الدوری، عن ابن معین: کردوس التغلبی مشهور»(2).

وأخیراً ذکر ابن الأثیر فی أسد الغابة بعد ذکر الاختلاف فی ذکر الأب، هل هو عمرو أم غیره: «قلت: أخرج أبو موسی حدیث من أحیا لیلتی العیدین، فی هذه

ص:143


1- (1) التاریخ الکبیر: ص 557.
2- (2) تهذیب التهذیب: ص 1310 (من اسمه کدام وکردوس وکرز).

الترجمة، وأفردها عن ترجمة کردوس بن عمرو، وهذا الحدیث قد أخرجه أبو نعیم فی ترجمة کردوس بن عمرو، فدلّ ذلک علی أنّهما واحد، فلا أعلم من این علم أبو موسی أنّهما اثنان وقد جعلهما أبو نعیم واحداً، ولم یذکر إلاّ الأول، لاسیّما وهذا الاسم ممّا تقلّ به التسمیة».(1)

نسب الشهید کردوس

أمّا النسب الذی یرجع الیه، فمشهور العلماء عند الفریقین یذهب إلی أنّه تغلبی، فقد ذکره ابن سعد فی الطبقات بالتغلبی(2) وکذلک البخاری فی التاریخ الکبیر(3) وابن حِبّان فی الثقات(4) والمزّی فی تهذیب الکمال(5) وآخرون.

نعم، هناک من ذهب إلی أنّه ثعلبی، ولکن هذه النسبة إمّا تذکر بعد ذکر النسبة الأولی (بقلیل) مثلاً، فتکون ضعیفة وغیر متبنّاة، بخلاف النسبة الأولی.

وإما أنّ تذکر فی البدایة، کما ذهب إلی ذلک البعض، مثل الذهبی فی الکاشف(6) حیث ذکره أولاً ثمّ ذکر بعد ذلک مباشرة: ویقال التغلبی.

ومع ذلک فإنّ من تبنّی أنّه ثعلبی جماعة قلیلة فی قبال التغلبی الذی ذهب إلیه مشهور العلماء، هذا کلّه فی خصوص المدرسة الثانیة.

ص:144


1- (1) أسد الغابة، باب الکاف - کردوس.
2- (2) ابن سعد، الطبقات: ص 183.
3- (3) التاریخ الکبیر، باب الکاف (1035).
4- (4) ابن حبّان فی الثقات: ج 1 ص 197.
5- (5) تهذیب الکمال للمزّی: ص 1144.
6- (6) الکاشف: 4652.

وأمّا علی أساس علماء مدرسة أهل البیت فقد أجمعوا علی أنّ نسبه هو التغلبی، إلاّ اللهمّ ما ذکره صاحب الهامش علی کتاب نقد الرجال، للسید مصطفی الحسینی بقوله: فی نسختی (م) و (ت) الثعلبی(1). ممّا یقوی فی النفس أنّ الثعلبی إنّما هی تصحیف عن التغلبی، وبما أنّ الشهید قد اتّفق علی أنّ اسمه کردوس ونسبهُ التغلبی کما تقدّم، فقد ارتأینا ذکره ب - «الشهید کردوس التغلبی» فقط.

قبیلة الشهید

لقد کانت قبیلة بنی تغلب منجبة للأبطال والفرسان والشعراء والأدباء، ولقد عرفت بین العرب بأنّها قبیلة عزیزة الجانب، أبیّة عصیّة لا یکبح جماحها إلاّ متسلّط بجبروت، وکانت تحمل فی نفس الوقت أنفة وفخراً کبیرین نتیجة لما کانت تملکه من تاریخ عظیم من البطولات والأمجاد ولهذا کلّه کانت اذا ما أرادت أن تنزل فی مکان ما، لا تهاب أحداً ولا تخشی من شیء، حیث کانت تنزل حیثما هطل المطر، کلّ ذلک لعزّتها ومنعتها وقوة بأسها.

وقد اشتهر من قبیلة تغلب جماعة منهم کلیب الذی کان یحمی مواقع السحاب، وأخوه البطل المهلهل، وکلثوم بن مالک أفرس العرب، والأخطل والقطامی، وکعب وعمیر أبناء جعیل والعتابی فی الاسلام(2). فضلاً عن عمرو بن کلثوم قاتل عمرو بن هند، وهو نار علی علم، حیث عرفه کلّ صغیر وکبیر، لشعره

ص:145


1- (1) نقد الرجال: ج 4 ص 4274.
2- (2) مجلة النبأ (عدد 57) شهر صفر 1422 ه - أیار 2001 م (مقال: من أعلام الشیعة سیف الدولة الحمدانی).

ولبأسه وقوته وسداد رأیه، حیث مَلَّکه قومه وعمره 15 سنة، ولقد کان من فخر هذه القبیلة أن قال عمرو بن کلثوم فی معلّقته الرائعة:

وإنّا الحاکمون بما أردنا وإنّا النازلون بحیث شینا

وإنّا النازلون بکلّ ثغرٍ یخاف النازلون به المنونا

إذا ما الملک سام الناس خسفاً أبینا أن نقرّ الخسف فینا

ألا لا یجهلنْ أحدٌ علینا فنجهل فوق جهل الجاهلینا

ملأنا البرّ حتی ضاق عنا وموج البحر نملؤه سفینا

اذا بلغ الفطام لنا رضیعٌ تخرّ له الجبابر ساجدینا

لنا الدنیا ومن أمسی علیها ونبطش حین نبطش قادرینا

وینقل أن هذه القصیدة کانت تزید علی الألف بیت، «وکانت بنو تغلب یعظّمونها ویرویها صغارهم وکبارهم، لما حوته من الفخر والحماسة مع جزالتها وسهولة ألفاظها وحفظها»(1).

ومع کونهم من صمیم العرب إلاّ أنّهم کانوا قد تأثّروا بالروم والمسیحیة، حتی عرفت هذه القبیلة بأنّها من القبائل المسیحیة، واستمرّوا علی ذلک حتی جاء الإسلام، کما یؤکّد علی ذلک ابن قیّم الجوزیة.(2)

فعبّر عنهم فی الروایات بأنّهم نصاری العرب، إضافة إلی آخرین أمثال نصاری نجران، وهؤلاء لم یدخل منهم الکثیر فی الإسلام بل دخل منهم القلیل، وینقل أنّهم جاءوا إلی رسول الله فی عام وفود القبائل العربیة فی السنة التاسعة

ص:146


1- (1) أشعار الشعراء الستة للأعلم الشنتمری: ص 98.
2- (2) أحکام أهل الذمة لابن القیم الجوزیة: ص 26.

للهجرة أو العاشرة، حیث یقول ابن سعد فی الطبقات(1): «إنّ ستة عشر رجلاً من بنی تغلب مسلمین ونصاری، وفدوا إلی رسول الله علیهم صُلب الذهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فصالح رسول الله صلی الله علیه و آله النصاری علی أن یقرّهم فی دینهم علی أن لا یصبغوا أولادهم فی النصرانیة، وأجاز المسلمین منهم بجوائزهم».

وإنّما اشترط رسول الله صلی الله علیه و آله علیهم ذلک لأنّ النصاری کانوا یغسلون أولادهم فی الماء بعد ولادتهم، بل وحتی الحوامل، ویعتقدون بذلک أنّهم سوف یتطهّرون من إثم آدم وبنیه، لأنّ هذا الماء هو الماء الذی ولد فیه عیسی علیه السلام، وتسمی هذه العملیة عند المسیح بالتعمید.

وهنا یقف القرآن الکریم موقفاً حازماً مبیّناً لهم أنّ هذه العملیة لا یمکن بأیّ حال من الأحوال أن تعطی الطهارة للإنسان، لأنّ الطهارة أمرٌ معنوی یأتی للإنسان من داخله، من خلال تفاعله مع قیم السماء وأخلاق الرسالة، ولو غمس الإنسان نفسه بالماء الأصفر الذی یعدّوه فی حوض ألف مرّة، بل فی جمیع المیاه ولو کانت میاه البحار والمحیطات، فإنّ هذا سوف لا یزیل أیّ شیء من النجاسات الخُلُقیّة عن نفس هذا الإنسان وعقله وقلبه.

ومن ثم فإنّ التطهّر بالطریقة التی یؤمنون بها هو ضرب من الخرافة وسخافة للعقل البشری، وذلک أن التخلّص من کلّ موروثه الذی یحمله خلال دقائق فی الماء هو أمر غیر عقلائی. یقول القرآن الکریم:

«قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَیْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلی إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ وَ إِسْحاقَ»

ص:147


1- (1) الطبقات: ج 1 ص 143.

«وَ یَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِیَ مُوسی وَ عِیسی وَ ما أُوتِیَ النَّبِیُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِی شِقاقٍ فَسَیَکْفِیکَهُمُ اللّهُ وَ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ * صِبْغَةَ اللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ 1» .

ویقول الشیخ الطبرسی فی کتابه مجمع البیان، فی تفسیر هذه الآیة: «صبغة الله مأخوذة من الصبغ، لأنّ بعض النصاری کانوا إذا ولد لهم مولود غمسوه فی ماء لهم یسمونه المعمودیة، یجعلون ذلک تطهیراً له، فقیل صبغة الله، أی تطهیر الله لا تطهیرکم بتلک الصبغة» ثمّ یقول «وإنّما سمّی الدین صبغة لأنّه هیئة تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة وغیر ذلک من الآثار الجمیلة التی هی کالصبغة»(1).

ویقول الطبری فی تفسیره: «یعنی تعالی ذکره بالصبغة، صبغة الإسلام، وذلک أنّ النصاری إذا أرادت أن تنصّر أطفالهم جعلتهم فی ماء لهم تزعم أنّ ذلک لها تقدیس بمنزلة غسل الجنابة لأهل الإسلام، وأنّه صبغة لهم فی النصرانیة، فقال الله تعالی ذکره اذ قالوا لنبیه محمد وأصحابه المؤمنین به:

«کُونُوا هُوداً أَوْ نَصاری تَهْتَدُوا» .

قل لهم یا محمد: أیّها الیهود والنصاری، بل اتّبعوا ملّة إبراهیم صبغة الله التی

ص:148


1- (2) مجمع البیان: ج 1 ص 138.

هی أحسن الصبغ، فإنّها هی الحنیفیة المسلمة، ودعوا الشرک والضلال عن محجّة هداة»(1).

ومن هنا نعرف أنّ ما طلبه رسول الله صلی الله علیه و آله منهم کان لا یؤثّر علی أهل النصرانیة ولا علی اختیارهم لها، وإنّما کان الموضوع ینصبّ علی رفع مستوی عقولهم ومستوی تفکیرهم فی جزئیة صغیرة کانوا یتمسّکون بها فی حیاتهم.

نعم وردت فی بعض الروایات أنّ النبی صلی الله علیه و آله صالحهم علی أن لا ینصّروا أبناءهم، أو بتعبیر آخر أن لا یصبغوا أولادهم فی النصرانیة، کما فی الروایة التی یذکرها ابن کثیر فی البدایة والنهایة «أنّهم کانوا ستة عشر رجلاً مسلمین ونصاری علیهم صلب الذهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث فصالح رسول الله صلی الله علیه و آله النصاری علی أن لا یصبغوا أولادهم فی النصرانیة، وأجاز المسلمین منهم»(2) وهذه الروایة وأمثالها فی التعبیر لا یمکن قبولها لأسباب منها:

1 - إنّ ذلک یخالف نصّاً صریحاً واضحاً فی القرآن الکریم یقول:

«لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ 3» .

وما یذکرونه فی هذه الروایة فیه اکراه لهذه الفئة فی عدم تنصیر أبنائهم، ومن ثم هم لابدّ أنّ یقبلوا من أجل أن یعیشوا، فتنتهی بهم الحال إلی دخول الإسلام، ولکن لا بشکل اختیاری وإنما جبری مفروض علیهم، وهذا ما لا یقرّه

ص:149


1- (1) تفسیر الطبری، تفسیر آیة: 138.
2- (2) البدایة والنهایة ج 5، هامش ص 108، وفیه (یضیّعوا) بدل (یصبغوا) وهو تصحیف.

الإسلام أبداً.

2 - لو صحّت هذه الروایة لکان بنو تغلب قد تحوّلوا جمیعاً إلی الإسلام ولم یبق لهم فی المسیحیة ذکر، وهذه الفرضیة لا یمکن قبولها، لأنّ المؤرّخین یجمعون علی أنّ بنی تغلب بقوا علی نصرانیتهم إلی مدّة لیست بالقلیلة، ربّما استمرت طیلة الحقبة الأمویة(1) وجزءًا من الحقبة العباسیة إلی أن حصل الانقلاب الطبیعی بحکم معیشتهم مع المسلمین وتأثّرهم بهم بشکل تدریجی، حتی آمنوا اختیاراً لا اضطراراً.

ولهذا کلّه وغیره قلنا بأنّ مثل هذا التعبیر لا یقبل فی هذه الروایة، ویقبل ما جاء فی الروایة الأولی لأنّه موافق للقرآن والسنّة وأحداث التاریخ والواقع، ولقد ذکر الطبرسی تأییداً لما ذکرنا فی تفسیر الآیة: 138 من سورة البقرة قوله: «أخذ العهد من بنی تغلب أن لا یصبغوا أولادهم، أی لا یلقّنونهم النصرانیة، لکن یدعونهم حتی یبلغوا فیختاروا لأنفسهم ما شاؤوا من الأدیان»(2).

نعم رووا نفس هذه الروایة عن عمر أنّه صالح بنی تغلب فی حیاته علی أنّ لا ینصّروا صبیانهم، وأن یدفعوا ضعف ما یدفعه المسلمون من الصدقة، حیث ینقل ابن حزم فی المحلّی(3) عن طریق هشیم، «عن المغیرة بن مقسم، عن السفّاح ابن المثنی، عن زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة أنّه کلّم عمر فی بنی تغلب

ص:150


1- (1) خزانة الأدب لعبد القادر البغدادی: ص 1415.
2- (2) تفسیر الطبرسی، تفسیر آیة: 138.
3- (3) المحلّی لابن حزم: ج 2 م (701).

وقال له: إنّهم عرب یأنفون من الجزیة، فلا تعن عدوّک بهم، فصالحهم عمر علی أنّ اضعف علیهم الصدقة واشترط علیهم أن لا ینصّروا أبناءهم».

والکلام فی هذه الروایة هو عین الکلام عن الروایة السابقة حیث ذکرت تنصیر الأبناء فضلاً عن الحکم فی تضعیف الصدقة من قبل عمر علیهم، وهذا ما تفرّد به عمر ولم یقل به أحد قبله، حیث خالف صریح القرآن بقوله:

«حَتّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ 1» .

وخیر ما قرأت فی ردّ حدیث عمر المتقدّم هو قول ابن حزم فی المحلی: «هذا کلّ ما موّهوا به، وهدموا به أکثر أصولهم، لأنّهم یقولون لا یقبل خبر الآحاد الثقات التی لم یجمع علیها فیما إذا کثرت فیه البلوی، وهذا أمر تکثر فیه البلوی ولا یعرفه أهل المدینة وغیرهم، فقبلوا فیه خبراً لا خیر فیه، وهم قد ردّوا بأقلّ من هذا خبر الوضوء من مسّ الذکر، ویقولون لا یقبل خبر الآحاد الثقات اذا کان زائداً علی ما فی القرآن أو مخالفاً له، وردّوا بهذا حدیث الیمین مع الشاهد وکذبوا ما هو مخالف لما فی القرآن، ولا خلاف للقرآن أکثر من قوله تعالی:

«حَتّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ» .

فقالوا: هم إلاّ بنی تغلب فلا یؤدّون الجزیة ولا صغار علیهم، بل یؤدّون الصدقة مضاعفة علیهم، فخالفوا القرآن والسنن المنقولة کافة بخبر لا خیر فیه، وقالوا: لا یقبل خبر الآحاد الثقات اذا خالف الأصول، وردّوا بذلک خبر القرعة فی الأعبد الستة، وخبر المصراة، وکذّبوهما مخالفین للأصول بل هما أصلان من کبار

ص:151

الأصول، وخالفوا هاهنا جمیع الأصول فی الصدقات، وفی الجزیة بخبر لا یساوی بعرة، وتعللوا بالاضطراب فی أخبار الثقات، وردّوا بذلک خبر لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان وخبر قطع إلاّ فی ربع دینار فصاعداً، وأخذوا هاهنا بأسقط خبر وأشدّه اضطراباً، لأنه یقول مرّة عن السفّاح بن مطرف، ومرّة عن السفاح بن المثنی، ومرّة عن داود بن کردوس أنّه صالح عمر علی بنی تغلب، ومرّة عن داود بن کردوس عن عبادة بن النعمان أو زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة أنّه صالح عمر، ومع شدّة الاضطراب المفرط فإنّ جمیع هؤلاء لا یدری أحد من هم من خلق الله تعالی؟

وکم قضیّة خالفوا فیها عمر ککلامه مع عثمان فی الخطبة ونفیة الزنا، وإغرامه فی السرقة قبل القطع، وغیر ذلک.

وقد صحّ عن عمر بأصحّ الطرق - من طریق عبد الرحمن بن مهدی، عن شعبة، عن الحکم بن عیینة، عن إبراهیم النخعی، عن زیاد بن حدیر قال: أمرنی عمر بن الخطاب أن آخذ من نصاری بنی تغلب العشر، ومن نصاری أهل الکتاب نصف العشر، قال أبو محمد: فکما لم یسقط أخذ نصف العشر من أهل الکتاب الجزیة عنهم، فکذلک لا یسقط اخذ العشر من بنی تغلب أیضاً الجزیة عنهم، وهذا أصحّ قیاس لو کان شیء من القیاس صحیحاً فقد خالفوا القیاس أیضاً، ثمّ لو صحّ وثبت لکانوا قد خالفوه، لأنّ جمیع من رووه عنه أولهم عن آخرهم یقولون کلّهم: إنّ بنی تغلب قد نقضوا تلک الذمة فبطل ذلک الحکم، ورووا ذلک أیضاً عن علی علیه السلام فخالفوا عمر وعلیا والخبر الذی احتجّوا به والقرآن والسنن، فی أخذ

ص:152

الجزیة من کلّ کتابی فی أرض العرب، وغیرها کهجر والیمن وغیرهما فعل الصحابة والقیاس، ونعوذ بالله من الخذلان»(1).

فقد ثبت فیما تقدّم أنّ فی هذه الروایة وأمثالها من المخالفات ما لا یمکن بأیّ حال من الأحوال قبوله، نعم ربّما تکون الروایة التی رواها ابن الشهید الکربلائی داود بن کردوس هی الأقرب إلی الواقع، والمتماشیة مع حکم رسول الله فی أن لا یصبغوا أولادهم، وأن یأخذ منهم الجزیة لا الصدقة.

وبهذا یقول السید مرتضی العسکری فی معالم المدرستین، وهو یتحدّث عن خطبة لأمیر المؤمنین ذکرها بعد تولیّه الحکم بعد الخلفاء الثلاثة، وشکواه بأنّهم خالفوا سنناً لرسول الله فأخذ الإمام فی الحدیث عنها بشکل مفصّل، وإنّه حاول أن یرجع الأمور إلی سابق عهدها، کما هی فی زمن رسول الله، فکان أن عدّد فیما عدّد «وسبیت ذراری بنی تغلب»(2).

یقول فی الهامش عن عبارة الإمام التی ذکرها «لأنّ عمر رفع عنهم الجزیة، فهم لیسوا بأهل ذمة، فیحلّ سبی ذراریهم، کما روی ذلک عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه قال: «إنّ بنی تغلب من نصاری العرب، أنفوا واستنکفوا من قبول الجزیة، وسألوا عمر أن یعفیهم عن الجزیة ویؤدّوا الزکاة مضاعفة، فخشی أن یلحقوا بالروم، فصالحهم علی أن صرف ذلک علی رؤوسهم وضاعف علیهم الصدقة»(3).

ص:153


1- (1) المحلّی: ج 2 مسألة (701).
2- (2) معالم المدرستین: ج 2 ص 353.
3- (3) الهامش رقم: 8 معالم المدرستین: ج 2 ص 353.

بنو تغلب ودولة الحمدانیین

والعجیب فی هذا الأمر أنّ هذه القبیلة التی کانت عصیّة وأبت الدخول فی الإسلام إلاّ قلیلاً منها تحولت بعد ذلک وبشکل طوعی إلی قبیلة طابعها العامّ هو الإسلام، ولیس هذا فقط، بل والولاء لأهل البیت، حیث عرفوا بعد ذلک بأنّهم من الشیعة، بل واستطاعوا أن ینشئوا دولة عرفت بدولة الحمدانیین أو ما یعرف بالدولة الحمدانیة فی الموصل وحلب.

وبالاتّفاق ینتسب الحمدانیون إلی تغلب حینما تحوّلوا فی نهایة القرن الثالث إلی مسلمین، ویذکر حسن إبراهیم حسن فی کتابه(1) «إنّه: اضطرّ قسم کبیر من بنی تغلب إلی الهجرة، فهاجروا إلی البحرین، وبقی جزء منهم فی الجزیرة وبلاد العراق، وهذا القسم هو الذی قاد لواء الیقظة الفکریة والسیاسیة فی أواخر القرن الثالث وبدایة القرن الرابع، والذی ترأس هذه الیقظة هم بنو حمدان من تغلب».

ولا یشکّ کذلک أحد فی أنّ هذه الدولة کانت شیعیة موالیة لأهل البیت علیهم السلام، ولقد ظهر مثل هذا الأمر واضحاً من خلال هجرة العلماء الشیعة الیها، إضافة إلی أنّ سیف الدولة ضرب علی سکّة الدینار لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، علی ولیّ الله، فاطمة، حسن، حسین، وجبرئیل.

ویقول ابن الندیم(2): «کان الحمدانیون شیعة ولکن فی غیر غلوّ، وکان سیف الدولة نفسه یتشیّع، فغلب علی أهل حلب التشیع».

ص:154


1- (1) تاریخ الإسلام: ج 3 ص 122.
2- (2) بغیة الطلب فی تاریخ حلب لابن الندیم: ج 1 ص 134.

ویقول المتنبی:

یا سیف دولة ذی الجلال ومن له خیر الخلائق والأنام سمیّ

أو ما تری صفّین کیف أتیتها فانجاب عنها العسکرُ الغربیّ

فکأنّه جیش ابن حربٍ رُعْتَهُ حتی کأنّک یا علیّ علیّ (1)

حین کان اسم الخلیفة الحمدانی علی بن أبی الهیجاء، وکان شیعیاً یطرب اذا شُبِّهَ بعلی بن أبی طالب.

ثمّ أنّ أبا فراس الحمدانی، الشاعر الکبیر المعروف، کان یدلّل فی شعره علی أنّه شیعی واثنا عشری، مع أنّ الذی ربّاه وهو طفل وعلمه من خلال اختیار معلّم له، هو سیف الدولة الحمدانی.

وربما من هنا بالذات نستطیع أن نفسر وجود التشیّع فی حلب وفی مصر(2) ، کذلک کما یؤکّد علی ذلک دائرة المعارف الشیعیة(3) ، وکذلک کتاب حلب والتشیّع.(4)

ولقد کان للدولة الحمدانیة الدور الکبیر فی ازدهار الثقافیة الإسلامیة فی حلب وغیرها، من خلال نبذ التعصّب المذهبی، وتشجیعهم علی العلم والفکر، وبخاصة من قبل سیف الدولة، والتضحیات والمواقف المشرّفة التی کانت للحمدانیین فی تصدّیهم للروم.

ص:155


1- (1) نفس المصدر.
2- (2) من خلال الدولة الکبیرة التی أقیمت هناک والتی سمّیت بالدولة الفاطمیة، تیمّناً بالزهراء.
3- (3) دائرة المعارف الشیعیة: ج 4 ص 57.
4- (4) ص 87.

مواقف الشهید فی صفّین

الموقف الأول: ونلمح للشهید موقفاً عظیماً کبیراً یدلّ علی وعی وبصیرة نافذین، حیث کانت الأمور واضحة والمحجّة بیّنة عنده، فنلمح له موقفاً فی وقت عصیب فی فتنة کبیرة، وذلک حینما رفعت المصاحف من قبل جیش معاویة بن أبی سفیان من خلال مکیدة عمرو بن العاص الشهیرة، وما أن رفعت المصاحف فوق الرماح حتی انقسم القوم إلی قسمین قسم ماجوا وقالوا: اکلتنا الحرب وقتلت الرجال، وقال قوم آخرون: نقاتل علی ما قاتلناهم علیه بالأمس، ولکن کان أصحاب هذا القول هم الأقلّ، ثمّ رجعت حتی هذه القلّة عن قولها ومالت إلی الموادعة، وعندها قام أمیر المؤمنین وقال: «إنّه لم یزل أمری معکم علی ما أحبّ، إلی أن أخذت منکم الحرب، وقد والله أخذت منکم وترکت، وأخذت من عدوّکم فلم تترک، وإنّها فیهم أنکی وأنهک، ألا إنّی کنت بالأمس أمیر المؤمنین، فأصبحت الیوم مأموراً، وکنت ناهیاً فأصبحت منهیّاً، وقد أحببتم البقاء ولیس لی أن أحملکم علی ما تکرهون» فأیّ غیور لا یشعر فی قلبه الحسرة والأسف حین سماعه لهذه الکلمات وهو یری الشخصیة الأولی بعد رسول الله ++++ علیهما السلام تعیش کلّ هذا الحزن والإحباط بعد فشل مشروعه الکبیر الذی أراد من خلاله حفظ کرامة الأمّة واسترداد عزّتها وهیبتها ومجدها، وإذا بها لا تقبل إلاّ الهوان ولا ترضی إلاّ بالذل وهی تجنح إلی السلام المهین مجبرة وقد مدّت ید الصلح إلی ید طالما قطعت أوصال الاسلام إربا إربا، وهم یعلمون ذلک، ولکن ویاللأسف کانوا لا یحملون إرادة کافیة تجعلهم یقفون موقف الصلب المدافع، واذا بعلی بن أبی

ص:156

طالب یجلس وفی ذلک الوقت بالذات وهو یری التخاذل قد وصل إلی أعلی درجاته ممّا دعاه إلی الرضوخ للأمر الواقع فقد أکلت الحرب وأخذت الکثیر، ولم یعودوا قادرین حتی علی رفع السیف فضلاً عن المقاتلة به، وبعد أن جلس أمیر المؤمنین متألّماً قام رؤساء القبائل، یقول ابن مزاحم، فی قعة صفّین:

خطبة الشهید کردوس فی صفین

فأمّا ربیعة، وهی الجبهة العظمی، فقام نیابة عنها الشهید الکربلائی العظیم کردوس بن هانی فقال: «أیّها الناس، إنّا والله ما تولّینا معاویة منذ تبرّأنا منه، ولا تبرّأنا من علی منذ تولیناه، وإنّ قتلانا لشهداء وإن أحیاءنا لأبرار، وإنّ علیاً لعلی بیّنة من ربّه ما أحدث إلاّ الانصاف، وکلّ محقّ منصف، فمن سلّم له نجا ومن خالفه هلک»(1).

وهذا النصّ الکریم من الشهید الکربلائی یبیّن نقاطاً مهمّة فی ظرف هامّ ومهمّ، حیث یتحدّث عن الولاء للحقّ والبراءة من الباطل، وإنّ هذا المفهوم العظیم قد اختمر فی ذهنه وراح یطبّقه فی حیاته ضمن ما یری من مصادیق، وها هو یری الحقّ الذی یقول عنه رسول الله «علی مع الحقّ، والحقّ مع علی»، وینادی ویستغیث من أجل نصرته، فیقف إلی جانبه، ویری الباطل متمثّلاً بمعاویة والذی جاء یرید أن یفتک، هو ومن قبله أبوه وبنوه من بعده، بالإسلام، بل ونبیّ الإسلام.

ویأبی الشهید إلاّ أن یقف مع الحقّ ضدّ هذا الباطل، وقد کشف الشهید عن

ص:157


1- (1) وقعة صفّین لنصر بن مزاحم: ص 485.

مدی وعیه لهذا المبدأ ومدی تشخیصه لمصادیقه الخارجیة بقوله: «إنّا ما تولّینا معاویة منذ تبرّأنا منه» وهذه إشارة إلی البراءة من الباطل ومن أهله والمنتسبین الیه حتی ولو رفعوا شعار الحقّ ظاهراً لیموّهوا علی الناس.

ثم أشار بقوله «وما تبرّأنا من علی منذ أن تولّیناه» إلی مبدأ الولایة التی أُمرنا بالتمسّک بها مهما کانت الظروف والأحوال، لأنّ بها وفیها ومن خلالها یحفظ الإسلام والدین بمبادئه وقیمه التی أراد الله أن ینشرها بین الناس، وقد شخصت هذه الولایة من قبل الشهید الکربلائی فی صفّین بعلی بن أبی طالب ومن بعده بالحسن المجتبی ومن بعده بالحسین الشهید بکربلاء حیث انتهت حیاته بین یدیه.

ثم یقول:«وإنّ قتلانا لشهداء» لأنّهم أصحاب الحقّ، وأصحاب الحقّ دائماً هم الشهداء عند ربّهم حتی لو لم یستشهدوا، فإنّهم الأبرار الصدّیقون.

ثمّ یؤکّد علی حقیقة مهمّة وهی قوله «وإنّ علیاً علی بیّنة من ربّه» یعنی أنّ علیاً لم یتحرّک لهوی ولم یتحرّک بدوافع عصبیة أو جاهلیة أو لوجود حسّاسیة بینه وبین معاویة، وإنّما هی مواقف الإسلام ومواقف الرسالة التی وقفها قبل علی رسول الله صلی الله علیه و آله فی تصدّیه للمشرکین والمنافقین، ومصداقاً لقوله تعالی علی لسان النبی صلی الله علیه و آله:

«قُلْ إِنِّی عَلی بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّی1» .

ومن ثم فإنّ حرکة علی لا ترید لهذه الأمة إلاّ تحقیق العدالة وحفظ

ص:158

الحقوق، ولذلک یقول «ما أحدث إلاّ الإنصاف» وبما أنّ کلّ محقّ منصف، فإذاً هو لا یبالی بالجموع، وعلینا نحن کذلک أن لا نبالی بکثرة أهل الباطل اذا کنا نعیش الوعی والبصیرة، فلماذا إذاً کلّ هذا الخذلان.

ثمّ یختمها بقوله: «فمن سلّم له نجا، ومن خالفه هلک وفی الآخرة عذاب الله والخزی»

حضور الشهید کردوس الاجتماعی

ولا شکّ أنّ الشهید الکربلائی بوقوفه نیابة عن ربیعة وهی القبیلة العصیّة وصاحبة المنعة لیکشف وبشکل قاطع مدی حضوره الاجتماعی الکبیر بین قومه، بل فی المجتمع ککلّ. فلمّا بلغ معاویة مقالة کردوس لقومه تألّم ألماً شدیداً، لعلمه أنّ ربیعة لها دور کبیر فی القتال، حتی أنّه لینقل عن معاویة قوله: «ما لقیت من أحد ما لقیت من ربیعة» وهنا ینقل التاریخ لنا أبیاتاً من الشعر تکشف عن صلابة هذا الرجل ودوره فی صفّین:

لن یهلک القوم ان تبدی نصیحتهم إلّا شقیقٌ أخو ذهلٍ وکردوس

وابن المعمّر لا تنفکّ خطبته فیها البیان وأمر القوم ملبوس

أمّا حریثٌ فإن الله ضلّله إذ قام معترضاً والمرء کردوس

طأطأ خضینٌ هنا فی فتنةٍ جمحت إنّ ابن وعلة فیها کان محسوس

منّوا علینا ومنّاهم وقال لهم قولاً یهیج له البزل القناعیس

کلّ القبائل قد أدی نصیحته إلّا ربیعة رغم القوم محبوس(1)

ص:159


1- (1) وقعة صفّین لنصر بن مزاحم: ص 468.

وقال شاعر آخر وهو النجاشی:

إنّ الأراقم لا یغشاهم بوسٌ ما دافع الله عن حوباء کردوس

نمته من تغلب الغلبا فوارسها تلک الرؤوس وأبناء المرائیس

لن تدرکوا الدهرَ کردوساً وأسرته أبناء ثعلبة الحادی وذو العیس

ویقول خالد بن المعمر:

شقیقٌ وکردوس ابن سیّد تغلب وقد قام فیها خالد بن المعمّر(1)

2 - وهناک موقف آخر للشهید فی صفّین یکشف عن مدی حبّه للإمام وتمسکه به مهما کانت الظروف، وذلک فی الوقت الذی قام فیه عمرو بن العاص وتکلم وقال: إنّ هذا قد خلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه کما خلعه وأثبت صاحبی معاویة فی الخلافة، فإنّه ولیّ عثمان والطالب بدمه وأحقّ الناس بمقامه، فقال أبو موسی: مالک قد غدرت وفجرت، إنّما مثلک مثل الکلب إن تحمل علیه یلهث أو تترکه یلهث فقال عمرو: إنّما مثلک کمثل الحمار یحمل أسفاراً وحمل شریح بن هانئ علی عمرو فقنّعه بالسوط، وحمل علی شریح ابن عمرو فقنّعه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بینهم فکان شریح یقول: ما ندمت علی شیء ندامتی إلاّ أکون ضربت عمرواً بالسیف بدل السوط ولکن أتی الدهر بما أتی به. والتمس أصحاب علی علیه السلام أبا موسی فرکب ناقته ولحق بمکّة، وکان ابن عباس یقول: قبّح الله أبا موسی، لقد حذّرته وهدیته إلی الرأی فما عقل، یقول نصر: ورجع عمرو إلی منزله فی دومة الجندل فکتب إلی معاویة:

ص:160


1- (1) نفس المصدر.

أتتک الخلافة مزفوفةً هنیئاً مریئاً تقرّ العیونا

فلمّا سمع الشهید کردوس بذلک قام مغضباً وقال أبیات تدلّ علی حرصه علی الإسلام والإمام:

ألا لیت من یرضی من الناس کلّهم بعمرو وعبد الله فی لجّةِ البحر

رضینا بحکم الله لا حکم غیره وبالله ربّاً والنبیّ وبالذکر

وبالأصلع الهادی علیٍّ إمامنا رضینا بذاک الشیخ فی العسر والیسر

رضینا به حیّاً ومیتاً وإنّه إمام هدیً فی الحکم والنهی والأمرِ

فمن قال لا قلنا بلی إنّ أمره لأفضل ما نعطاه فی لیلة القدر

وما لابن هندٍ بیعةٌ فی رقابنا وما بیننا غیر المثقّفةِ السمر

وضربٌ یزیل الهام عن مستقرّه وهیهات هیهات الرضا آخر الدهر

أبت لی أشیاخ الأراقم سبّه أُسبّ بها حتی أُغیّب فی القبر(1)

ویا لها من أبیات عظیمة قد حوت علماً ومعرفة وتجربة وسلوکاً وشجاعة فی أعلی مستویاتها، فهنیئاً للشهید وعیه، فإنّ أمثال هؤلاء هم الذین حفظوا لنا الإسلام ونقلوه الینا صحیحاً معافی، وهؤلاء هم القدوات التی دعینا للاقتداء بهم والسیر علی نهجهم، ولهذا وفِّقه الله إلی أن یکون أحد الشهداء العظام فی معرکة الطفّ العظیمة، وما أحوجنا فی وقتنا هذا إلی أن نعیش الوعی والبصیرة فی مذهبنا ودیننا ونحن نری ونسمع ونقرأ ونلمس الخناجر تتری فی خاصرة الموالین والمسلمین من داخلنا وخارجنا لتسقیط هذا المذهب العظیم وتدمیر الإسلام وتشویه صورته.

ص:161


1- (1) وقعة صفین/ ص 548.

ما أحوجنا إلی أن نکون علی قدر المسؤولیة فنبذل قصاری جهدنا کلٌّ بحسبه؛ العالم بعلمه، والمؤمن بسلوکه، والشابّ بوعیه، والمرأة بالتزامها، وهکذا، ولا نسقط تحت تأثیر شبهات هؤلاء المغرضین الذین یتربّصون بنا وبأمتّنا الدوائر، أولئک الذین یصدق علیهم أنّهم خفافیش الظلام التی لا یمکن أن تعیش فی النور أبداً.

إنّنا فی الوقت الذی نستذکر سیرة هذا الشهید العظیم فی صفّین، إنّما نرید أن نوصل رسالة إلی کلّ المنصفین، بل والغیاری جمیعاً مفادها أنّکم إذا ما أردتم أن تکونوا من المؤمنین، من ذوی البصائر فعلیکم أن تفهموا هذا الشهید وتقرأوه جیّداً، وتعرفوا ما قدّم من أجل نصرة الحقّ حتی تتأسّوا به.

الموقف الثالث: ولنسمع له نصّاً آخر قاله فی صفّین: «یا أهل العراق لا یهدّئنّکم ما ترون من رفع المصاحف فإنّها مکیدة» یقول لهم شخّصوا کما شخصت أنا الموقف بدقّة، وانظروا بعین البصیرة لا البصر، ستجدون أنّها لعبة ومکیدة منهم لأنّهم لا یعرفون من القرآن شیئاً، ولو علموه ووعوه لما قاتلونا وما خالفونا.

مع الشهید فی روایاته

لقد حوت کتب المسلمین الکثیر من الروایات التی نقلها لنا الشهید الکربلائی، وفی علوم شتّی، ممّا یدلّل علی مدی اطّلاعه وحفظه، وهنا نذکر هنا بعض تلک الروایات:

ص:162

أولا: ینقل ابن سعد فی الطبقات(1) عن کردوس التغلبی، عن زوجة رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه سمعها قالت: «إنّ آل محمد لم یشبعوا ثلاثة أیّام متوالیة من طعام برّ حتی مضی النبی إلی سبیله». وفی روایة أخری «أنّه کان یأتی علی آل محمد شهر لا نخبز فیه. قلت: یا أمّ المؤمنین، ممّا کان یأکل رسول الله؟ فقالت لنا: إنّما هو التمر والماء».

هکذا کان رسول الله وهکذا کان أهل بیته مثله، لأنّهم أکثر الناس معرفة به واتّباعاً له، کان رسول الله یجعل نفسه یعیش أدنی مستوی یمکن أن یعیشه إنسان مسلم فی مجتمعه، فیواسیه بجوعه وعطشه، ولذلک نجد أنّ النبی قد حمل آلام الناس وآمالها لأنّه عاش معهم وعاش کلّ ما یحسّون ویشعرون به، فکان یتقطّع ألماً علی کلّ فقیر وجائع ومحتاج ومسکین ویتیم، ولقد قال فی حقّ الیتیم:«أنا وکافل الیتیم کهاتین وأشار إلی إبهامه وسبابته»(2). وقد تعلّم أهل بیته ذلک منه، فقد ربّاهم المصطفی علیهما السلام علی هذا ودرجوا علیه، فخرجوا إلی الدین وهم أکثر الناس مواساةً وإحساناً للفقراء والجائعین، کانت العیون تنام وعیونهم ساهرة من أجل أن یوصلوا لقمة العیش لمن لا یملک خبزاً یسدّ به رمقه ورمق أولاده، ولا أراک تحتاج إلی ذکر قصص علی علیه السلام والحسن والحسین وزین العابدین وبقیة الأئمة علیهم السلام فی هذا المجال، والتی ملأت کتب الفریقین فی خروجهم علیهم السلام لیلاً وحمل الأکیاس المملوءة بالطعام إلی فقراء المدینة وغیرهم.

ص:163


1- (1) ابن سعد فی الطبقات: ص 183.
2- (2) صحیح مسلم: ج 14 ص 247.

فهذه الروایة من الشهید الکربلائی تحملنا مسؤولیة الشعور بالآخرین، وان لا نغمض جفوننا وحولنا أکباد جائعة تحنّ إلی لقمة من الخبز، وکذلک تحمّل المسؤولیة الکبری قائد الأمة وتدعوه إلی أن یعیش أحوال الفقیر وآلامه؛ حینما ینظر الیه یشعر بالألم والحسرة، یستشعر الفقیر أنّ هناک من یواسیه ویبذل الکثیر من أجله، ولقد قال علی علیه السلام کلمته الرائعة حینما سأله الأحنف بن قیس حینما رآه قد ختم الکیس الذی فیه کسیرات من خبز الشعیر: لم تختمه یا أمیر المؤمنین؟ قال: «أخشی أن یضع علیه أحد هذین الغلامین الحسن والحسین شیئاً من السمن فقال: سیدی، أمحرّم علیکم هذا؟ قال: لا، ولکن هکذا ینبغی علی أئمّة المسلمین أن یساووا ضعاف رعیّتهم حتی لا یتبیّغ بالفقیر فقره».(1)

ثانیاً: ینقل الدارمی فی سننه(2) قائلاً: أخبرنا یزید بن هارون، حدّثنا شعیب عن کردوس عن عبد الله قال: «إنّ للقلوب لنشاطاً وإقبالاً، وإنّ لها لتولیة وإدباراً، فحدّثوا الناس ما أقبلوا علیکم».

هذه الروایة التی رواها لنا الشهید الکربلائی، عن صحابی مثله وعی مفاهیم الشریعة، وهضم أحادیث رسول الله، فأخذت تخرج من فمه کالدرر والجواهر، ففی الحدیث قاعدة تربویة عظیمة المعانی والآثار فی مجال التعلیم والوعظ والإرشاد، حیث تشیر إلی أنّ هذه القلوب التی تحملها تعیش إقبالاً علی الله وتوجّها الیه، فتحصل نتیجة لذلک حالة نشاط وحیویة یعیشها ویشعر بها الإنسان،

ص:164


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید: ج 11 ص 32.
2- (2) سنن الدارمی: ص 448.

فینطلق من خلالها للعبادة وللقراءة وطلب العلم، بل وحتی للوعظ وللإرشاد، وللتبلیغ عن الله ورسوله؛ وقد تعیش القلوب حالة من حالات الإدبار والتولّی، ویحصل نتیجة لها ضعف فی النشاط الحیوی للإنسان، فتراه یفتر فی عبادته وعلمه ووعظه وتبلیغه ودعوته إلی الله سبحانه وتعالی.

وهنا لابدّ من الإشارة إلی أنّ حالات الإدبار والتولیة التی تعیشها قلوبنا أحیاناً، إنّما هی من أجل تنبیهنا إلی نعمة وسعادة التوجّه والإقبال وأهمّیته، والتی مرّت بنا ولم نعرف قدرها لأنّ السعادة لا تعرف إلاّ إذا فُقدت فتأتی الحکمة الإلهیة التی ترید أن تعرّفنا حلاوة التوجّه ولذة الإقبال من خلال فقدانها أحیاناً، وکلنا یشعر بوجدانه أنّه کلّما کان إقبال قلبه أکثر، کان نشاطه الروحی أکثر.

وهنا تأتی القاعدة التربویة التی تقول: إنّک ینبغی علیک أنّ تستغلّ هذه الفرصة وهذا الإقبال فی نفسک فتستفید منها استماعاً وإلقاءً، واذا حصل أن صار العکس، فعلیک أن لا تکلّف نفسک أکثر ممّا تتحمّل، ولکن اصبر حتی تزول ثمّ عد إلی حرکتک من جدید، لتجعل منها وقت راحة لتستعدّ للحرکة القادمة.

وهذا ما یحتاجه الداعی والمربّی فی حرکته، ویفیدنا هذا الحدیث کذلک أنّ المربّی والداعی الذی یجد إقبال الناس علیه، هنا یأتی فیقول له علیک أن تستثمر هذا الإقبال بأن تقبل علیهم وتحدّثهم ولا تترکهم، وتقدّم لهم ما یعود علیهم بالفائدة فی دینهم ودنیاهم، وإذا رأیتهم أدبروا فأوقف کلّ شیء حتی تعالج نقاط الضعف التی رأوها فیک، والشهید الکربلائی حینما یروی لنا هذا الحدیث فإنّما یکشف لنا عن نفائس العلوم والنظریات فی شتّی المجالات، والتی

ص:165

تحتاج منّا إلی بذل الجهد والوقت لاستخراجها والتزوّد منها.

ثالثاً: روی الشیخ الصدوق وابن حجر(1) ، عن کردوس، أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: «من أحیا لیلتی العید ولیلة النصف من شعبان لم یمت قلبه یوم تموت القلوب» وهذا الحدیث ورد فی کتب الفریقین فی فضل لیلة النصف من شعبان، وکذلک لیلتی العید، بل ورد فی الروایة عن الإمام الصادق علیه السلام:

«إنّ علیاً کان یعجبه أن یفرّغ نفسه أربع لیال من السنة؛ أول لیلة من رجب، ولیلة النحر، ولیلة الفطر، ولیلة النصف من شعبان» (2).

فقد أشارت بعض الروایات إلی أنّ فی لیلتی العید وصبیحتیهما تتمّ عملیة قطف الثمرات وأخذ الجوائز، بعد العمل الشاقّ الذی قدّمه المؤمنون فی صیام شهر رمضان وفی أداء مراسیم الحجّ وأعماله، حتی ورد فی الروایات عن سعید بن أوس الأنصاری عن أبیه: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«اذا کان یوم الفطر وقفت الملائکة علی أبواب الطریق فنادوا اغدوا یا معشر المسلمین إلی ربٍّ کریمٍ یمنّ بالخیر ثمّ یثیب علیه الجزیل، لقد أُمرتم بقیام اللیل فقمتم، وأمرتم بصیام النهار فصمتم، وأطعتم ربّکم، فاقبضوا جوائزکم، فإذا صلوا نادی منادٍ ألا إنّ ربّکم قد غفر لکم فارجعوا راشدین إلی رحالکم، فهو یوم الجائزة، ویسمی ذلک الیوم فی السماء یوم الجائزة» (3).

ص:166


1- (1) ثواب الأعمال: ص 77، الاصابة: ج 5 ص 580.
2- (2) فضائل الأشهر الثلاثة، للشیخ الصدوق: ص 46.
3- (3) المعجم الکبیر للطبرانی: ج 1 ص 226.

ومن هنا نعرف أنّ إحیاء هاتین اللیلتین إنّما هو إشارة إلی أنه ینبغی للانسان المؤمن أن یعیش حالة الترقّب لما سوف یؤول الیه أمره عند الله، فهل یکون من أصحاب الیمین وممّن ستکون جائزته الجنّة والعتق من النار أم لا؟ وهذا بحدّ ذاته یدعو الإنسان إلی أن یعود إلی الله ویلتمس منه غفران الذنوب التی لم تغفر، والتجاوز عن التقصیر الذی مضی، هذا کلّه فی خصوص هاتین اللیلتین، وأما لیلة النصف من شعبان، فقد ورد فی بعض الروایات أنّ التقدیر للإنسان من رزق وأجل وعطاء وما شاکل ذلک، کلّه یکتب له ویقدّر من خلال لیة النصف من شعبان، وأمّا فی لیلة القدر فیکون فیها الإمضاء(1) ، وهذا إن دلّ علی شیء فإنّما یدلّ علی فضل هذه اللیلة وارتباط مصیر کلّ فرد منا فیها بشکل کامل، ومن ثم لا ینبغی التهاون فیها وعدم الاهتمام بها، وعلیه فینبغی علی کلّ فرد منّا أن یستثمر کلّ ساعة فیها، بل وکلّ دقیقة، من أجل تقدیم الأفضل، من أعمال عبادیة وإخلاص وتوجّه، حتی یکون ذلک ذخیرة صالحة له؛ للتقدیر الذی یتناسب معها، ومثل هذا الأمر لا یتمّ إلاّ من خلال إحیائها ومن هنا یتّضح أهمّیة الحدیث الذی ورد عن الشهید الکربلائی فی التأکید علیها کما تقدّم.

رابعاً: روی ابن کثیر فی تفسیره(2) عند تفسیر قوله تعالی:

«وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِینَ یَخافُونَ أَنْ یُحْشَرُوا إِلی رَبِّهِمْ لَیْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِیٌّ وَ لا شَفِیعٌ 3» .

ص:167


1- (1) وللمزید یراجع کتاب إقبال الأعمال، للسیّد ابن طاووس الحسینی: ج 3 ص 422.
2- (2) تفسیر ابن کثیر: ص 51.

عن الشهید الکربلائی، عن ابن مسعود قوله: مرّ الملأ من قریش علی رسول الله وعنده خبّاب وصهیب وبلال وعمّار فقالوا: یا محمد، أرضیت بهؤلاء؟ أهؤلاء الذین منّ الله علیهم من بیننا؟ أنحن نصیر معک تبعاً لهؤلاء؟ أطردهم فلعلّک إن طردتهم أن نتّبعک، فنزل قوله تعالی:

«وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِینَ یَخافُونَ أَنْ یُحْشَرُوا إِلی رَبِّهِمْ لَیْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِیٌّ وَ لا شَفِیعٌ» .

وورد فی روایة أخری، عن الشهید، عن ابن مسعود قوله: فنزلت:

«وَ لا تَطْرُدِ الَّذِینَ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجْهَهُ»

(1).

هکذا ینقل الینا الشهید الکربلائی کیف عانی رسول الله من قومه، کیف أرادوا له أن یترک الفقراء والمساکین ویتوجّه الیهم فقط لأنّهم أصحاب الأموال والجاه والحظوة ولکنّه أبی إلاّ أن یبقی معهم ویثبت من أجلهم، وباعتقادی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله لو سمع قولهم وطرد تلک الثلّة المؤمنة واتّجه إلی أصحاب الغنی والأموال، لما کانت عقیدته لتأخذ کلّ هذا المدی وتعطی کلّ هذا الأثر.

ویبدو أنّ هذا هو المنهج نفسه الذی قد اتّبعته الأقوام السابقة مع أنبیائها، حیث ینبّئنا القرآن بخبرهم ویقول عن لسانهم:

«وَ ما نَراکَ اتَّبَعَکَ إِلاَّ الَّذِینَ هُمْ أَراذِلُنا بادِیَ الرَّأْیِ 2» .

وهذا دلیل علی أنّ الأنبیاء ما کانوا لیتّبعهم سوی من عاش الألم والمعاناة

ص:168


1- (1) سورة الأنعام، الآیة: 52.

فی حیاته، وأمّا المترفون فکانوا یقفون بوجوههم، لخوفهم علی جاههم وسلطانهم الفارغ من کلّ محتوی إنسانی؛ یقول القرآن الکریم:

«وَ ما أَرْسَلْنا فِی قَرْیَةٍ مِنْ نَذِیرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ کافِرُونَ 1» .

وکأنّ الحدیث الذی رواه لنا الشهید الکربلائی یرید أن یقول لنا جمیعاً: لا تستوحشوا من قلّة أتباع الحقّ ولا تحتقروهم، فهم الذخیرة الحقیقیة فی السماء والأرض، وهم اللبنة الأساسیة لتغییر المجتمعات، وأمّا غیرهم فزَبَدٌ لا قیمة له.

خامساً: روی الشهید الکربلائی قال: أخبرنی رجل من أهل بدر أنّه سمع النبی صلی الله علیه و آله یقول: «لئن أقعد فی مثل هذا المجلس أحبّ إلیّ من أن أعتق أربع رقاب» قال شعبة: أیّ مجلس تعنی؟ قال: کان قاصّاً(1).

الشهید خطیباً وواعظاً

لقد ذکر کل من ترجم لهذا الشهید وتحدّث عنه أنّه کان قاصّاً فی الکوفة، ومعنی ذلک أنّه کان واعظاً وخطیباً، ولا ریب أنّ من یتصدّی للوعظ والإرشاد واعظا به فی مسجد الکوفة، أو الکوفة بشکل عامّ، لابدّ أنّه قد امتلک من الخصائص النفسیة والعلمیة والثقافیة ما یؤهّله لأن یقوم بهذا النشاط الاجتماعی الکبیر، فضلاً عن التزامه وورعه وتقواه، وقد عبّرت عنه الروایات بأنّه کان یقرأ الکتب (یعنی للأدیان السابقة) علی أساس أنّه کان بالأصل مسیحیاً مثقّفاً، ثمّ

ص:169


1- (2) مسند أحمد: ج 3 ح 15335.

تحوّل إلی الإسلام، وبقی علی طریقته فی طلب العلم ونشره، حیث تحوّل بعد دخوله الإسلام إلی منبر لنشر العلوم الإسلامیة والأخلاقیة.

سادساً: روی الشهید الکربلائی عن رسول الله صلی الله علیه و آله قوله: «لا یقتطع رجل مالاً إلاّ لقی الله یوم القیامة وهو أجذم»(1) ، وهذه الروایة تشیر إلی حرمة الأموال وخطرها فی نفس الوقت، حیث إنّ اقتطاع جزء بسیط من مال الآخرین یعنی إنّک ستلقی الله أجذم، یعنی أنّ هناک جزءاً من جسمک وجسدک سیقطع عوضاً عن ذلک المال الذی اقتطعته من أخیک بلا وجه حقّ، ولقد وردت فی هذا الحدیث قصّة ذکرها المؤرخون قال المزی فی تهذیب الکمال «حدثنا کردوس التغلبی عن الأشعث بن قیس الکندی، وهی أنّ رجلاً من کندة ورجلاً من حضرموت اختصما إلی النبی فی أرضٍ بالیمن، فقال الحضرمی: یا رسول الله، أرضی اغتصبها أبو هذا (وهو یشیر إلی الکندی) فقال للکندی: ما تقول؟ قال: أقول: إنّ أرضی فی یدی ورثتها من أبی. فقال للحضرمی: هل لک بیّنة؟ قال: لا، ولکن یحلف بالذی لا إله إلاّ هو، ما یعلم أنّها أرضی اغتصبها أبوه، فتهیّأ الکندی للحلف، عندها قال رسول الله صلی الله علیه و آله: "لا یقتطع الرجل مالاً إلاّ لقی الله به أجذم" فردّها الکندی»(2). وممّا یستفاد من الحدیث أنّ البیّنة علی المدّعی، والیمین علی المدّعی علیه اذا أنکر.

وبه استدلّ من یقول إنّه اذا اعترف المدّعی أنّه لا بیّنة له لم یقبل دعواه بعد

ص:170


1- (1) المزی فی تهذیب الکمال: ص 1021.
2- (2) تهذیب الکمال للمزی: ص 1021.

ذلک، ورد بأنّه لیس فیه حجّة علی ذلک، لأنّ الأشعث لم یدّع بعد ذلک أنّ له بیّنة، وفیه - أی وفی الحدیث -: أنّ للحاکم أن یطلب من المدّعی علیه عند عدم البیّنة وإن لم یطلبه صاحب الحقّ، لأنّ النبی صلی الله علیه و آله أمره بالحلف، وفیه کذلک: إبطال مسألة الظفر، لأنّه ردّده بین البیّنة والیمین، فدلّ علی عدم الأخذ بغیر ذلک.(1)

سابعاً: روی الشهید الکربلائی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «یوم عرفة الیوم الذی یعرف فیه الناس»(2).

یوم عرفة هو الیوم التاسع من شهر ذی الحجّة، وهو یوم الوقوف بأرض عرفات، وهو أحد مناسک الحجّ، وللإنسان أن یقول عرفة، کما له أن یقول عرفات، لأنّها جمع عرفة.

وقد أُختلف فی تسمیته إلی أقوال، منها: أنّه من العرف بمعنی الرائحة الزکیة، لأنّ فیها تصبح رائحتها منتشرة بشکل کبیر لکثرة الذبح.

ومنها أنّ العباد یتعرّفون علی ربّهم بالطاعات والعبادات.

ومنها الصبر، لأن العِرْف المعروف هو الصبر.

ومنها أنّ الله بعث جبرئیل علیه السلام إلی إبراهیم علیه السلام فحجّ به حتی اذا أتی عرفة قال: عرفت، وکان قد أتاها مرّة قبل ذلک. ومنها أنّ آدم وحواء تعارفا بعد الهبوط إلی الأرض علیه.

ومنها قول الشهید الکربلائی؛ «لأنّ الناس یجتمعون به فیتعارفون، وفی

ص:171


1- (1) عمدة القاری فی شرح صحیح البخاری، باب الخصومة فی البئر والبقاء فیها.
2- (2) تهذیب الکمال للمزی: ص 1144.

الروایة عن أهل البیت علیهم السلام أنّ جبرئیل قال لإبراهیم علیه السلام: هناک اعترف بذنبک واعرف مناسکک، فلذلک سمّیت عرفة».(1)

أبناء الشهید

لم تحدّثنا الروایات عن عدد أبناء الشهید، ولکنّهم ذکروا بأنّ للشهید ولداً کبیراً اسمه داود، ویبدو أنّه کان من الشخصیّات المهمة والعلمیة فی حیاة أبیه، ولقد ترجم له جملة من العلماء والمحدّثین، حتی أنّهم یروون أنّه قال: کنت أنا

الوسیط فی الصلح الذی جری بین الخلیفة الثانی عمر وبین بنی تغلب (قبیلة الشهید الکربلائی) حینما أرادوا أن یلحقوا بالروم.(2)

شهادته

لقد بقی الشهید بعد رسول الله یعیش علی مضض، وهو یری بأمّ عینیه کیف یُغتصب حقّ أصحاب الحقّ الإلهی، ومن وصّی بهم رسول الله ویُبعدون عن أماکنهم التی وضعهم الله بها. ولیس هذا فقط وإنّما تجهّز الناس من أجل القضاء علیهم، حتی وصل الأمر إلی سیّد الشهداء فأصبحت الدنیا لا تساوی عنده شیئاً إذ قد بلیت الأمة براعٍ مثل یزید.

ولئن أحجم التاریخ عن ذکر مواقف کردوس وحرکته فی داخل الکوفة مع مسلم بن عقیل وهانئ بن عروة وغیرهما، فإنّ الأحداث والمواقف التی حملها لنا التاریخ عن الرجل فی موقفه مع الحسین علیه السلام فی الطفّ، لا تدع لنا مجالاً

ص:172


1- (1) من لا یحضره الفقیه: ج 2 ص 196.
2- (2) رواه البیهقی: ج 9 ص 211 ح 11519.

للشکّ فی أنّ الشهید کانت له بطولات رائعة وصولات عظیمة، ولکنّ التاریخ قد أسدل الستار علیها، ولقد بقی الشهید فی داخل الکوفة متخفّیاً عن أعین الظالمین، مطارداً من مکان إلی مکان، إلی أن وصل الحسین إلی کربلاء، فتسلّل الیه لیلاً ومعه أخواه قاسط وعبد الله، ولم یلبثوا حتی تقدّموا بین یدیه، واذا بهم شهداء مضرّجین بالدماء فی الحملة الأولی، ولئن کانت الشهادة بین یدی الحسین شرفاً فلقد حاز هؤلاء الشهداء علی شرف مضاعف حینما جاءهم التسلیم من قبل الإمام المهدی فی زیارته للشهداء قائلاً: «السلام علی قاسط وکردوس ابنی زهیر التغلبی ورحمة الله وبرکاته».

ص:173

الشهید بشر بن عمرو الحضرمی الکندی علیه السلام

اشارة

لقد تمیّزت حیاة هذا الشهید العظیم بجملة من الخصائص نحن بأمسّ الحاجة الیها خصوصاً فی هذا الزمن الذی کثرت فیه الأعذار الزائفة والحجج الواهیة التی ما أنزل الله بها من سلطان، والتی یراد من خلالها التخلّی عن التکلیف الشرعی، کما سیتبیّن ذلک لنا فی طیّات حدیثنا عن الشهید.

واحدة من هذه الخصائص التی تمیّز بها هذا الشهید الکربلائی دون غیره، هو أنّه بقی هو وسوید بن عمرو بن أبی المطاع الخثعمی آخر رجلین مع الحسین، من أصحابه، قبل أن یبدأ أهل البیت علیهم السلام بالبراز والقتال کما ذکر ذلک الطبری(1) ، والشیخ شمس الدین(2) ، والسید الخوئی(3) ، وغیرهم.

ص:174


1- (1) تاریخ الطبری: ج 5 ص 432.
2- (2) أنصار الحسین للشیخ شمس الدین: ص 77.
3- (3) معجم رجال الحدیث: ج 3 ص 314.

أسرة الشهید

الشهید بشر بن عمرو الحضرمی الکندی یرجع فی الأصل إلی حضرموت، وهذا یعنی أنه من الیمن، ومن عرب الجنوب تحدیداً، وسوف نری ونحن نتحدّث عن شهداء کربلاء أنّ هناک عدداً کبیراً منهم یرجع أصله إلی الیمن وإلی عرب الجنوب بشکل خاصّ، حتی لقد شکّلت هذه الظاهرة والتی یمکن أن نعبّر عنها بالظاهرة الیمنیة فی أنصار الحسین أمراً یستحقّ أن یدرس وأن یسلّط علیه الضوء، لأنّ فی ذلک إبرازاً وبیاناً لمعادن هذه الصفوة من المؤمنین، وکشف ما تمتلک من قدرات وقابلیّات أخلاقیة ووراثیة کانت من جملة أسباب التوفیق ونیل السعادة فی الدارین، ولذلک نحاول أن نسلّط الأضواء وبشکل سریع علی هذه الظاهرة الیمنیة فی أنصار الحسین.

عرب الجنوب وعرب الشمال

وفی البدایة یجب أن نعرف أنّ مصطلح عرب الجنوب یقابله مصطلح عرب الشمال، وکلاهما یرجع إلی الیمن ولکنّ عرب الجنوب تمیّزوا عن الآخرین بأنّهم:

أولاً: هم أصل اللغة العربیة بل هم لبابها، کما یؤکّد علی ذلک علماء اللغة واصحاب الاختصاص، حیث یذکرون أنّ العرب ینقسمون إلی قسمین أساسیّین:

1. العرب العاربة، وهم عرب الجنوب، وینسبون إلی قحطان، وموطنهم الأصلی هو الیمن، وهؤلاء کانوا یتکلّمون اللغة العربیة بالأصل.

2. العرب المستعربة، وهم عرب الشمال، ویعبّر عنهم بعدّة تعابیر مثل:

ص:175

العدنانیون، والنزاریون، والمعدیون، وینسبون إلی عدنان.(1)

ثانیاً: إنّ عرب الیمن حینما دخلوا إلی الإسلام، وخصوصاً عرب الجنوب منهم، بعد أن دعاهم علی بن أبی طالب إلی الإسلام ودخلوا فیه، وقفوا إلی جانبه ولم یفارقوه، کهمدان والأزد وغیرهم، وکانت مواقفهم معه بمنتهی الشهامة حتی أنّ الإمام أمیر المؤمنین مدحهم فی أکثر من موقف، وخصوصاً همدان حینما قال فیهم:

دعوتُ فلبّانی مِنَ القومِ عُصْبَةٌ فوارسُ مِن همدانَ غیرُ لِئامِ

لِهمدانَ أخلاٌ کِرامٌ تَزینُهُمْ وبأسٌ إذا لاقوا وحَدُّ خِصامِ

وجِدٌّ وصِدقٌ فی الحروبِ ونَجْدَةٌ وقولٌ إذا قالوا بغیرِ أثامِ

متی تأتِهِمْ فی دارِهم تَستضیفُهمْ تَبِتْ ناعِماً فی خِدمةٍ وطَعامِ

جَزَی اللهُ همدانَ الجِنانَ فإنّها سُمامُ العِدی فی کلِّ یومِ زُحامِ

فلو کنتُ بوّاباً علی باب جنّةٍ لقلتُ لهمدانَ ادخلوا بسلامِ (2)

فکأنّها أرادت من خلال مواقفها المبدئیة مع علی علیه السلام أن تردّ له هذا الجمیل الذی صارت هی بسببه فی زمرة المسلمین، ومن هنا نجد التفانی فی أعلی درجاته فی الیمنیین بشکل عامّ، وخصوصاً عرب الجنوب منهم، وربّما هذا هو الذی یفسّر لنا معنی تلک النصائح التی أسداها عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفیة للحسین حینما أراد الخروج من المدینة إلی العراق، بالذهاب إلی الیمن،

ص:176


1- (1) للمزید یراجع کتاب تاریخ العرب فی الجاهلیة وفی عصر الدعوة الاسلامیة د. رشیدة الجمیلی: ص 38.
2- (2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 5 / ص 217.

وعلِّل ذلک کما عند بعض العلماء، لبعد الیمن، ولوجود شیعة وموالین له ولأبیه، کما فی مقتل الحسین للخوارزمی(1) ، ومروج الذهب للمسعودی(2) ، وربما هذا هو الذی یفسّر لنا کذلک ما ورد فی بعض الروایات من أنّ أحد أرکان ثورة الإصلاح العالمی الذین یظهرون فی آخر الزمان ویکونون مع الإمام المهدی هو الیمانی، بمعنی أنّه سیکون کذلک من تلک المنطقة بالذات، ومن هنا نجد أنّ مؤشّرات مشارکة هؤلاء دون غیرهم واضحة جلیة للعیان، بل إنّ هذه الظاهرة الیمنیة تجسّدت بعد کربلاء کذلک، حینما خرجت نساء همدان وکهلان وربیعة والنخع (عرب الجنوب) متظاهرات علی تنصیب عمر بن سعد والیاً علی الکوفة بعد مقتل الحسین علیه السلام، وهنّ یقلن: «أما رضی بعمر بن سعد بقتل الحسین حتی أراد أن یکون أمیراً علینا فی الکوفة، فبکی الناس وأعرضوا عن عمر بن سعد»(3).

وکانت هذه الظاهرة الیمنیة هی السبب فی عدم تولّی ابن سعد إمارة الکوفة.

وقد یقول قائل

وقد یقول قائل وما معنی ذلک کلّه ولم یشارک من عرب الجنوب العدد الکافی والذی یتناسب مع کلّ ما یذکر من مواقف وکلمات؟

فی الحقیقة إنّ هذا السؤال مهمّ للغایة، وقد أرّقتنی الإجابة علیه، ولکن وبعد

ص:177


1- (1) مقتل الحسین للخوارزمی: ج 1 ص 187.
2- (2) مروج الذهب للمسعودی: ج 3 ص 64.
3- (3) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 199.

بذل الجهد الذی استمرّ لفترة لیست بالیسیرة، وصلت إلی قناعة من خلال النصوص والوثائق إلی أنّ هؤلاء کانوا من سادات القوم ورؤساء العشائر، ولهذا کانوا قادرین علی السیطرة علی الموقف لو قدر للثورة أن تنتصر، وتمکنوا من الاستیلاء علی الحکم، وکانوا قادرین إذا لم یتح لهم النصر - کما حدث فی الواقع - أن یفجّروا طوفاناً من الغضب ضدّ الحکم المنحرف فی قلوب جماهیر غفیرة من الناس، وأن یضعوهم علی طریق الوعی الحقیقی، وأن یجعلوا منهم جمهوراً یغذّی الثورات باستمرار، وهذا ما حدث فی الواقع»(1). وربما کان لأجل ذلک کلّه أن حصلت ردّة فعل عند السلطة الأمویة آنذاک کبیرة جداً، ربما وصلت إلی درجة الهستیریا فی التعامل مع هؤلاء الثوّار، حیث قطع رأس مسلم بن عقیل ورمی بجسده إلی الأرض، وجرّ هانی بن عروة فی الأسواق، ورمی بجسد عبد الله بن یقطر من أعلی القصر، وهکذا قیس بن مسهر الصیداوی، بل حتی قطع الرؤوس الشریفة لشهداء کربلاء وحملها علی أطراف الأسنّة والدخول بها وهی معلّقة علیها إلی المدن، وأولها الکوفة، إنّما کان لأجل إدخال الرعب علی قلوب الکوفیّین الذین یرتبطون مع هؤلاء بصلة قبلیة وعشائریة وإیمانیة من أن یتّخذوا نفس الموقف لأنّ النتائج سوف تکون کهذه النتائج؛ رؤوس معلقة علی الرماح، وأجساد ترضّها الخیول. ومن هنا نعرف لماذا کان أکثر فی أنصار الحسین من عرب الجنوب وإن کان فیهم عدداً من عرب الشمال، ولکنّ الأغلب کانوا من عرب الجنوب، ومنهم هذا الشهید الذی نتحدّث عنه.

ص:178


1- (1) نفس المصدر: ص 202.

نسب الشهید حضرمی أم کندی

وأمّا نسبة الکندی له فإنّ المؤرّخین یقولون إنّ عداده فی کندة، یعنی أنّه فی الأصل لیس من کندة، ولکنّه جاء والتحق بها فعُدّ منها، وطبیعی أنّ کلّ قبیلة لا ترضی أن یدخل إلیها غریب ویحسب منها إلاّ من خلال شروط وأسباب یذکرون منها مثلاً التحالف، بأن یحصل بینها وبین الشخص الذی یرغب فی الدخول إلیها تحالف، مثل ما حصل للمقداد بن الأسود الکندی، فمع أنّه لیس من کندة ولکنّه عُدّ منها، نتیجة تحالف حصل فیما بینه وبینهم(1). وقد ینتقل شخص من مکان إلی مکان آخر ویعیش مع قبیلة أخری، ولکونه شخصیة علمیة أو اجتماعیة کبیرة فلا تمانع القبیلة فی ذلک، ومن ثم ینسب الیها، وهناک أسباب أخری ربّما یطول شرحها.

وغرضنا من ذلک کلّه ان نقول إنّ الشهید الکربلائی لم یکن من کندة، وإنّما عُدّ منها، وإلّا فهو من حضرموت؛ إمّا هی المدینة التی عرفت واشتهرت فی الیمن، وإمّا من بنی حضرموت، فخذ من الظبی من یافع إحدی قبائل الیمن(2) وعلی کلا التقدیرین فإنّ الرجل یُعدّ من عرب الجنوب کما بیّنا.

نقطة مضیئة

فی حیاة هذا الشهید الکربلائی العظیم جملة من النقاط المهمة التی تمثّل إضاءات یستضیء بها المؤمنون، ولکن هناک نقطة مهمة جداً فی حیاته، والتی لها

ص:179


1- (1) الصحابی المقداد بن الأسود لمحمد علی أسیر: ص 15-28.
2- (2) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 78.

آثارها الکبیرة علی حیاتنا لما تحمل من مضامین عالیة وقیم سامیة ودروس فی المحبّة والعشق لله ولرسوله ولأئمة أهل البیت علیهم السلام، حیث أتیح لهذا الشهید الکربلائی أن یغادر کربلاء بعذر مقبول من قبل الإمام الحسین علیه السلام ولکنّه أبی إلاّ المشارکة والشهادة بین یدی الحسین، فما هذا العذر وما قصّة ما حدث؟

یقول المؤرّخون(1): عندما أقبل لیل العاشر من المحرّم، وبعد سقوط قرص الشمس، جاء أحدهم برسالة إلی بشر بن عمرو الحضرمی بعد ان سأل عنه، فقال له: لقد أُسر ابنک فی ثغر الریّ وهو یجاهد مع المسلمین هناک من أجل دحر الفرس الذین کانوا یحاولون منذ أن فتحت الری سنة 17 للهجرة(2) أن یغزوها بین الفینة والأخری، وعلیه فیجب أن تتصرّف فقد أوصلنا الیک الخبر، وعند ما سمع الشهید الکربلائی ذلک لم یشأ أن یخبر أحداً، ولکن یبدو أنّ الخبر وصل إلی الحسین علیه السلام فاستدعی الشهید وقال له کما فی تنقیح المقال:«بلغنی أنّ ولدک أسر فی ثغر الری، فقال: سیّدی عند الله أحتسبه ونفسی، ما کنت لأحبّ ان یؤسر ولدی وأن أبقی بعده حیّاً، فقال له الحسین: رحمک الله، أنت فی حلٍّ من بیعتی، فاعمل فی فکاک رقبة ابنک. وقَدّم الیه الحسین خمسة أثواب وبرود قیمتها ألف دینار، فقال له: سیدی أبا عبد الله، أکلتنی السباع إن أنا فارقتک واسأل عنک الرکبان مع قلّة الأعوان، لا یکون ذلک ابدا ً»(3).

ص:180


1- (1) منهم السیّد ابن طاووس فی اللهوف: ص 93 (بتصرف)؛ تنقیح المقال: ج 12 ص 293-294.
2- (2) الکامل لابن الأثیر/ج 2 / أحداث سنة 21 ه -، وقد ذکر فیها أقوالاً منها أنّ الفتح حصل سنة 18 ه - و 19 ه -..
3- (3) تنقیح المقال/ ج 2 / ص 173.

ولنا إزاء هذا الموقف العظیم جملة من النقاط:

أولاً: إنّ الحسین علیه السلام قدّمَ إلی الشهید الکربلائی قیمة الفداء أو ما یصلح أن یکون مساعداً له فی مهمّته، وذلک لعلم الحسین أنّ الحکومة والدولة آنذاک متمثّلة بیزید وبنی أمیة، لا تهتمّ بقضایا المسلمین المهمة، نعم هی مهتمّة بقضایا أخری کالفسق والفجور والمجون واللیالی الحمراء، وملاعبة القرود والفهود التی کان خلیفة المسلمین یزید بن معاویة مولعاً بتربیتها واللعب بها، هذه هی اهتمامات الدولة.

أمّا ما یعود بالخیر علی المسلمین ویقوّی شوکتهم ویرفع من معنویاتهم، کفکّ أسیرهم، فهو آخر ما یمکن أن یفکّروا فیه، وبعبارة أخری أنّ الدولة لا تشعر بالمسؤولیة أمام مواطنیها، فیما یعود علیهم بالخیر ودفع الضرّ، لعدم صلاحیتها لذلک أصلاً، ولهذا قام الحسین بذلک، أو دعا إلیه، وهذا بنفسه کاشف عن عدم شرعیة هذه الدولة.

وإن کان بعضهم یحاول أن یحمل عمل الإمام فی تقدیم المال إلی الشهید الکربلائی علی أنّ هناک مفهوماً عرفیاً یساعد علی هذا الاحتمال، وهو أنّ الأسرة أو القبیلة أو العشیرة أو حتی الأصدقاء، یمکن أن یقدّموا عوناً للأسیر فی إطلاق سراحه، وأنا أعتقد أنّ هذا الاحتمال وإن کان مقبولاً، ولکن الاحتمال الأول یبقی هو السبب الأقوی فی تقدیم المال من قبل الإمام إلیه.

ثانیاً: ان توقیت الإذن بالانصراف من قبل الحسین علیه السلام جاء، کما تؤکّد علی ذلک الروایات، غروب یوم التاسع من المحرّم (لیلة العاشر) وهذا یعنی الکثیر

ص:181

بالنسبة إلی الشهید الکربلائی، حیث إنّ کلّ المؤشّرات تدلّل علی أنّ طبول الحرب قد دقّت، وأنّها صارت قاب قوسین أو أدنی، والدلیل علی ذلک أنّ الحسین علیه السلام طلب تأجیل الحرب من یوم التاسع من المحرّم إلی یوم العاشر منه، وأن یُمهل تلک اللیلة من أجل العبادة وقراءة القرآن والاستعداد للقاء الله تعالی. ومن هنا، ومن هذه النقطة بالذات، یستطیع الشهید الکربلائی أن یغادر کربلاء بعذر مشروع، بعد أن تأکّد للجمیع أنّه موطّن نفسه علی الشهادة، حیث أنّ الشهید قد بقی إلی جانب الحسین بعد إعلان الحرب وتأکُّدها، ومضی علی ذلک وقت لیس بالقلیل، فکان باستطاعته الخروج من کربلاء دون أن یشکّ أحد بأنّه جَبُن أو آثر الحیاة الدنیا أو شیء من هذا القبیل.

وأنا علی یقین بأنّ الحسین علیه السلام کان جادّاً فی إعطائه هذا الإذن وتقدیم هذه الرخصة له، ولیس کما یقول بعضهم بأنّه کان یرید اختباره وبیان حقیقة ما یفکّر فیه وینوی فعله، لأنّ قول الإمام حجّة تبیح له عذراً شرعیاً - وهو الأهمّ - یجیز له الخروج من کربلاء، ولکنّه أبی إلاّ ترک هذه الرخصة وهذا الإذن، وأبی إلاّ الجهاد والشهادة بین یدی أبی عبد الله الحسین، وکأنّی بلسان حاله یقول: اذا کان لی أن أخرج من کربلاء برخصة شرعیة وبدون ملامة عرفیة، فإنّی سأخسر خیراً لا یقاس به کلّ خیر، ولا یمکن أن أحصل علیه بعد الیوم مهما عشت؛ سأخسر شهادة دعا رسول الله صلی الله علیه و آله قبل أکثر من 60 سنة إلی الاستعداد لها، ومن ثم فإنّی وفق هذه المقاییس ینبغی أن أقدّم کلّ هذه الامتیازات التی سوف أحصل علیها علی هذا الإذن وهذه الرخصة.

ص:182

وهذه فی تقدیری خصلة مهمة وأساسیة یتمیّز بها هذا الشهید العظیم تستحق التأمّل، وسیأتینا فی بقیة الشهداء أنّ هناک شهیداً آخر کان له عذر شرعی ولکنّه أبی إلاّ الشهادة والجهاد والدفاع عن الحسین علیه السلام، فنحن نقرأ فی تاریخ الطفّ أنّ هناک الشیخ الکبیر الذی سقط عنه التکلیف بالجهاد، الذی حینما رآه الحسین شادّاً بطنه بقطعة قماش ورافعاً حاجبیه بعصابة بکی وقال: رحمک الله یا شیخ(1) ، ونقرأ کذلک فی کربلاء أنّ هناک الصبی الذی لم یبلغ الحلم، وکان التکلیف ساقطاً عن أمثاله، وقد قال له الحسین: بنی ارجع إلی أمّک إنّی لا أحبّ أن أجمع علیها عزاءین فی آن واحد(2) ، ولکنّه أبی إلاّ الشهادة، وأیضاً أنّ هناک الأعرج الذی أبی إلاّ أن یطأ بعرجته الجنة(3) ، وهکذا آخرون ممّن شملتهم الرخصة، بل إنّ هناک رخصة عامّة تشمل جمیع شهداء کربلاء، وهو قول الحسین وخطابه لهم لیلة العاشر من المحرّم حینما قال:

«هذا اللیل قد غشیکم فاتّخذوه جملاً، ولیأخذ کلّ واحد منکم بید رجل من أهل بیتی (4) ... الخ».

بل قد وجدت فی بعض الروایات أنّ بین شهداء کربلاء من کان علیه دین، وکان مأذوناً علی أساس ذلک أن یخرج لأداء دینه، ولمّا سمع الحسین به التفت إلی منادیه فنادی بأن لا یقاتل معی من علیه دین، کما فی الروایة عن موسی بن

ص:183


1- (1) وهو الشهید أنس بن الحرث بن کاهل الأسدی (رض).
2- (2) هو الشهید عمرو بن جنادة الأنصاری (رض).
3- (3) هو الشهید مسلم بن کثیر الأزدی (رض).
4- (4) أدب الطفّ ج 1 / ص 120.

عمر عن أبیه، أنّ الحسین أمرنی أن أنادی لیلة عاشوراء «أن لا یقتل معی رجل وعلیه دین» ثمّ قال الحسین:

«فإنّی سمعت جدّی رسول الله یقول: من مات وعلیه دین أخذت حسناته یوم القیامة» (1).

وهذا لا یعنی بالطبع عدم إمکان الجهاد أصلاً، وإنّما یجب علیه أن یقدّم وفاء الدین ثمّ بعد ذلک یأتی إلی الجهاد لکی لا یخسر حسناته یوم القیامة، ومع کلّ هذا کان هذا الشهید قد رتّب أمره وعیّن من یقوم مقامه فی أداء دینه، ولمّا سمع کلام الحسین وأنّه یریده بالذات، قال له: سیّدی أبا عبد الله، إنّ علیَّ دیناً وقد ضمنته لی زوجتی، فقال له الحسین علیه السلام:

«وما ضمان امرأة».

وهنا إشارة إلی عدم القدرة غالباً عند المرأة مثل هذه الأمور، وربّما کانت هذه زیادة من الراوی، خصوصاً وقد نقل الذهبی(2) مضمون الروایة هذه عن أبی الجحّاف، عن أبیه، عن رجل، أنّ الحسین قال له:

«لا یقتل معی رجل وعلیه دین».

من دون هذه الزیادة «وما ضمان امرأة»، وعلی کلّ تقدیر فقد کان هناک شهید کربلائی یملک مسوّغاً شرعیاً بالخروج من کربلاء لأداء الدین، ولکنّه أبی إلاّ أن یرتّب أمر الدین، ویرفض العمل بهذه الرخصة الشرعیة.

ص:184


1- (1) کلمات الإمام الحسین علیه السلام / ص 417.
2- (2) سیر اعلام النبلاء: ج 3 ص، المصنف لأبی شیبة: ح 30591.

ظاهرة رفض الاعذار الشرعیة فی أصحاب الحسین علیه السلام

إذن نحن فی کربلاء أمام ظاهرة رفض الأعذار الشرعیة، والمسوغة للخروج من ساحة المعرکة، ومن قتال لا هوادة فیه، ومن موت لا ریب فیه. فی الحقیقة وأنا أقرأ هذه الروایات وأجمع وأستقرئ المواقف حول هذا الشهید وما یرتبط به، جاءت فی ذهنی الآیات الشریفة فی سورة التوبة وفی غیرها، والتی تتحدّث عن فئة لا تملک عذراً مشروعاً ومع ذلک کانت تقدّم الأعذار لرسول الله صلی الله علیه و آله من أجل أن تتخلّف عن الجهاد، ویتحدّث کذلک عن فئة أخری کانت تقدّم أعذاراً مشروعة ومقبولة من أجل البقاء فی بیوتها، فقلت فی نفسی: ما اعظم أصحاب أبی عبد الله، أولئک الذین کانوا یملکون أعذاراً مشروعة ویأذن لهم الحسین علیه السلام ویأبون إلاّ الشهادة بین یدیه، وحتی یتبیّن لک عظمة هؤلاء وجلالة قدرهم أذکر هنا بعض الآیات التی تتحدّث عن هذا الموضوع، حیث یخبرنا القرآن الکریم فی سورة التوبة عن أولئک المعذّرین:

«وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِیُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِینَ کَذَبُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ سَیُصِیبُ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ 1» .

یقول السیّد الطباطبائی فی المیزان: «الظاهر أنّ المراد بالمعذّرین هم أهل العذر، کالذی لا یجد نفقة ولا سلاحاً، بدلیل قوله:

«وَ قَعَدَ الَّذِینَ کَذَبُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ» .

والسیاق یدلّ علی أنّ فی الکلام قیاساً لإحدی الطائفتین علی الأخری،

ص:185

لیُظهر به لؤم المنافقین وخسّتهم وفساد قلوبهم وشقاء نفوسهم، حیث إنّ فریضة الجهاد الدینیة والنصرة لله ورسوله، هیّج لذلک المعذّرین من الأعراب وجاؤوا إلی رسول الله (النبی) یستأذنونه، ولم یؤثّر فی هؤلاء الکاذبین شیئاً»(1).

ویقول مفسر آخر: «وقرأ الجمهور المعذّرون بالتشدید ففیه وجهان أحدهما أن یکون أصله المعتذرون فأدغمت التاء فی الذال، وهم الذین لهم عذر، ومنه قول لَبید:

إلی الحول ثم اسم السلام علیکما ومن یبکِ حولاً کاملاً فقد اعتذر

فالمعذرون علی هذا هم المحقون فی اعتذارهم... والمعنی: أنه جاء هؤلاء من الأعراب بما جاءوا به من الأعذار بحقٍ أو بباطل علی کلا التفسیرین لأجل أن یأذن لهم رسول الله صلی الله علیه و آله بالتخفیف عن الغزو، وطائفة لم یعتذروا، بل قعدوا عن الغزو لغیر عذر، وهم منافقو الأعراب الذین کذبوا الله ورسوله ولم یؤمنوا ولا صدقوا، ثم توعدهم الله سبحانه، فقال:

«سَیُصِیبُ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْهُمْ» .

أی من الأعراب، وهم الذین اعتذروا بالأعذار الباطلة، والذین لم یعتذروا، بل کذبوا الله ورسوله «عَذابٌ أَلِیمٌ» أی کثیر الألم، فیصدق علی عذاب الدنیا وعذاب الآخرة»(2). لعلّ الضمیر یعود إلی الأعراب الذین جاء ذکرهم فی نطاق الحدیث عن المعذّرین، وبذلک نفهم من الآیة أن الله قد أعطی العذر للفئة الأولی

ص:186


1- (1) تفسیر المیزان للسید الطباطبائی، تفسیر الآیة 90 من سورة التوبة.
2- (2) تفسیر فتح القدیر للشوکانی: ج 1 ص 590-591.

ولم یعذر الفئة الثانیة فی موقفها، لأنّها تمثّل الموقف المعاند والجاحد المتمرّد، فأنذرهم بأنّهم سیصیبهم عذاب الیم؛ إذن نحن أمام أعذار مشروعة ومقبولة، وقد قبلها ربّ العالمین ولم یعلّق علیها شیئاً، بل الوعد الوعید إنّما جاء لأولئک الذین لم یؤمنوا أصلاً بالله ورسوله.

بینما نجد فی أصحاب الحسین من کان له عذر مقبول ومأذون له من قبل الإمام وبشکل مباشر وجهاً لوجه، ومع ذلک لم یرضَ لنفسه أن یأخذ بهذه الرخصة، ومن ثم تمیّز علی أصحاب الفئة الأولی فضلاً عن الآخرین.

ومن هنا نعرف معنی حدیث الحسین علیه السلام عن أصحابه:

«ما رأیت أصحاباً أوفی وأبرّ من أصحابی» (1).

والذی منهم الشهید بشر بن عمرو الحضرمی، الذی رفض عرض الخروج من کربلاء وقال للحسین: «عند الله أحتسبه ونفسی». وهی عبارة عظیمة تکشف عن الکثرة من المعانی العظیمة، وتنمّ فی نفس الوقت عن وعی وبصیرة وفهم، حیث یرید أن یقول: اذا کان ولدی قد أسره الکافرون، فإنّی أعیش الآن کذلک الأسر، ولکن علی ید ظالمی هذه الأمّة وغاصبیها، ومن ثم فکلانا یواجه مصیره، وعلیه یجب أن نؤدّی تکلیفنا الشرعی مهما کلّف الأمر، محتسبین صابرین علی الأذی فی جنب الله تعالی، ولهذا قال: «عند الله أحتسبه ونفسی».

وقد یقول قائل: ألست أباً؟ ألا تعیش فی نفسک ما یعیشه الآباء من عاطفة تجاه أبنائهم؟ وکأنّی بالشهید الکربلائی قد تنفّس الصعداء ووقعت دمعة من

ص:187


1- (1) أمالی الشیخ المفید: ص 319.

عینیه، ثمّ أدار وجهه إلیهم وقال:

«ما کنت لأحبّ أن یؤسر ولدی وأن أبقی بعده حیّاً».

وکأنّه یرید ان یرد علی من یفکّر بمثل هذا التفکیر، وهذا فی تقدیری حال کلّ والد تجاه ولده، وکلّ أب تجاه ابنه اذا کان من الأسویاء، ولکن فی نفس الوقت هناک حبّ آخر علینا أن نفکّر فیه کما فکر فیه الشهید وکأنّی بلسان حاله یقول: إنّ فی قلبی حبّین؛ حبّاً لولدی، وحبّاً لابن بنت رسول الله، وعلیّ أن أقدّم حبّ ابن بنت رسول الله علی حبّ ولدی، وهذا مفهوم إسلامی عظیم، ومصداقه صریح القرآن الکریم یقول فی سورة التوبة:

«قُلْ إِنْ کانَ آباؤُکُمْ وَ أَبْناؤُکُمْ وَ إِخْوانُکُمْ وَ أَزْواجُکُمْ وَ عَشِیرَتُکُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ کَسادَها وَ مَساکِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَیْکُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّی یَأْتِیَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفاسِقِینَ 1» .

یقول الشیخ محمد مهدی الآصفی، بعد ذکره لهذه الآیة الکریمة: «فلا ینهی الله تعالی عن حبّ الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر ما لم یعادوا الله ورسوله، ولا ینهی عن حبّ المال والتجارة والمساکن ما لم تکن من حرام، وإنّما ینهی أن یکون حبّ هذه الأمور أقوی وأشدّ عند المؤمن من حبّ الله ورسوله وجهادٍ فی سبیله»(1).

ص:188


1- (2) کتاب الدعاء: ص 229.

وفی الروایات الکثیرة ما یؤکّد علی أنّ محبّة الإنسان لنبیّه ولأهل بیت نبیّه یجب أن تکون أشدّ من محبّته لولده وأهل بیته، وهنا أودّ أن أنقل هذه القصّة المعبّرة، والتی ینقلها الشیخ الآصفی عن الشیخ حسن البنّا فی کتابه «مذکّرات الدعوة والداعیة»(1) ، یقول الشیخ حسن البنّا: «رزق الله الشیخ شلبی أحد مشایخ مصر فی العرفان والأخلاق، بنتاً فی مرحلة متأخّرة من عمره، فولع بها الشیخ ولعاً شدیداً وشغف بها حتی کاد لا یفارقها إلی أن کبرت، وکان یزداد حبّاً لها کلّما شبّت وکبرت، ولقد زاره الشیخ البنّا مع جمع من أصحابه فی إحدی اللیالی بعد انصرافهم من موکب فرح، انطلقوا فیه من دار قرب دار الشیخ شلبی فی لیلة عید میلاد رسول الله صلی الله علیه و آله، وبعد عودتهم جلسوا مع الشیخ شلبی قلیلاً، ولمّا أرادوا الانصراف قال لهم الشیخ بابتسامة رقیقة لطیفة: إن شاء الله غداً تزورونی لندفن روحیة. وروحیة هذه وحیدته التی رُزقها بعد إحدی عشرة سنة من زواجه، وکان لا یفارقها حتی فی عمله، وقد شبّت وترعرعت، وأسماها روحیة لأنّها کانت تحتلّ منه منزلة الروح، یقول البنّا: استغربنا وسألناه: متی توفیت؟ فقال: الیوم قبیل المغرب، فقلنا: ولماذا لم تخبرنا فنخرج من منزل آخر بموکب التشییع؟ فقال: وما الذی حدث؟ لقد خفّف عنّا الحزن، وانقلب المأتم فرحاً، فهل تریدون نعمة من الله أکبر من هذه النعمة؟! وانقلب الحدیث إلی درس تصوّف یلقیه الشیخ ویعلّل وفاة کریمته بغیرة الله علی قلبه؛ فإنّ الله یغار علی قلوب عباده الصالحین أن تتعلّق بغیره، أو أن تنصرف إلی سواه، واستشهد بإبراهیم علیه السلام وقد تعلّق قلبه بإسماعیل

ص:189


1- (1) نفس المصدر: ص 218-219.

فأمره الله أن یذبحه، ویعقوب علیه السلام اذ تعلّق قلبه بیوسف فأضاعه الله منه عدّة سنوات، ولهذا یجب أن لا یتعلّق قلب العبد بغیر الله تعالی وإلّا کان کاذباً فی دعوی المحبّة، وساق قصّة الفضیل بن عیاض وقد أمسک بید ابنته الصغری فقبّلها فقالت له: یا أبتاه أتحبّنی؟ فقال: نعم یا بنیة، فقالت: والله ما کنت أظنّک کذّاباً قبل الیوم! فقال: وکیف ذلک؟ وبم کذبت؟ فقالت: ظننت أنّک بحالک هذه مع الله لا تحبّ معه أحداً! فقال: بعد أن بکی: یا مولای، حتی الصغار قد اکتشفوا ریاء عبدک الفضیل. وغیرها من الأحادیث التی کان الشیخ شلبی یحاول أن یسرّی بها عنّا ویُسَکّن ما لحقنا من ألم لمصابه، وخجل لقضاء هذه اللیلة عنده، وانصرفنا وعدنا الیه فی الصباح حیث دفنّا روحیة، ولم نسمع صوت نائحة ولم ترتفع حنجرة بکلمة شکوی، ولم نرَ إلاّ مظاهر الصبر والتسلیم لله العلی الکبیر».

ومن هنا نجد أنّ شهیدنا الکربلائی قد سَما عنده حبّ ابن رسول الله حتی ما کاد لیشعر بحبّ ولده تجاه انشغاله بحبّ الحسین علیه السلام، وبهذا یقول له: «سیّدی أکلتنی السباع إن أنا فارقتک»، وظلّ هذا الشهید علی هذا الثبات إلی آخر لحظة من لحظات حیاته، حیث لم یبق معه إلاّ الضحّاک بن قیس المشرقی الذی ساوره حبّ الدنیا یوم العاشر من المحرّم فاختطف منه السعادة الأبدیة، بینما تحرّک بشر بن عمرو الحضرمی إلی ساحات الوغی وملؤه الشوق إلی دخول الجنّة، وهنا درس لنا جمیعاً، حیث إنّ الضحاک یقدّم لنا درساً فی الضعف وعدم الثبات، بینما الشهید الکربلائی یقدّم لنا درساً فی الشجاعة والیقین والثبات رغم کلّ الظروف والأحوال، متأسّیاً بإمامه الحسین علیه السلام الذی ثبتت قدماه فی الأرض کالجبل الأشمّ، لا تحرّک منه الریح شیئاً، فسلام علی بشر بن عمرو الحضرمی الکندی ورحمة الله وبرکاته.

ص:190

الشهید یزید بن زیاد بن مهاجر الکندی البهدلی أبو الشعثاء علیه السلام

بین یدی الشهید

نعیش خلال هذه الوریقات نبذة من حیاة مقاتلٍ فارسٍ، ثمّ رامٍ ثمّ راجلٍ، أبلی بلاءً حسناً یوم العاشر من المحرم بین یدی الحسین علیه السلام، حتی فاضت روحه الطاهرة وهو فی أعلی درجات الیقین والثبات إنّه الشهید أبو الشعثاء یزید بن مهاجر الکندی البهدلی.

من هم بنو بهدلة ؟

ولا نرید أن نتحدّث عن کندة هنا، فسیأتی الحدیث عنها فی طیّات هذا الکتاب، ولکننّا سوف نتحدّث عن بنی بهدلة، لنسلط الضوء علی ما یملکون من خصائص وصفات فی الجاهلیة والإسلام. یقول القلقشندی:

«بنو بهدلة، بفتح الباء والدال المهملة واللام وسکون الهاء الأولی بطن من تمیم، وهم بنو بهدلة بن عوف بن کعب بن سعد بن زید مناة بن تمیم ثمّ قال وهم

ص:191

بطن عظیم منهم الزبرقان واسمه الحصین بن بدر بن امرئ القیس»(1).

وأمّا الزبرقان، فیقول عنه ابن عبد البرّ:

«وفد علی رسول الله فی قومه وکان احد ساداتهم فأسلموا وذلک فی سنة تسع فولاه رسول الله علی صدقات قومه، وأقرّه أبو بکر وعمر علی ذلک، وله فی ذلک الیوم من قوله بین یدی رسول الله مفاخراً:

نحن الملوک فلا حیٌّ یقاومنا فینا العلاء وفینا تنصبُ البیعُ

ونحن نطعمهم فی القحط ما أکلوا من العبیط إذا لم یونسِ القزعُ

وننحر الکوم(2) عبطاً فی أرومتنا للنازلین إذا ما أنزلوا شبعوا

تلک المکارمُ حزناها مقارعةً إذا الکرام علی أمثالها اقترعوا»(3)

وحینما یتحدّث الزبرقان عن نفسه وقومه بهذا اللون من الاعتزاز والفخر القائم علی أساس الأخلاق والمکارم، فلا شکّ أنّ الشهید الکربلائی مشمول بقوله، لأنّ الشهید والزبرقان کلیهما ینتسبان إلی بهدلة، وربما کان الشهید الکربلائی قد أدرک هذا الرجل، أو أنّ أباه قد أدرک هذا الرجل، فیکون قد تأثّر به من خلال أبیه.

فبنو بهدلة کانوا معروفین بمکارم الأخلاق، بل والجمال والحُسن کذلک، ولهذا یقال إنّ الزبرقان إنّما سمّی کذلک لأنّه کان جمیلاً حسن الوجه، فشبّه بالقمر، لأنّ القمر یقال له زبرقان.

ص:192


1- (1) نهایة الأرب فی معرفة أنساب العرب: ص 9-10 رقم 6.
2- (2) الکوم: جمع کوماء، وهو البعیر الضخم السنام، یُنحر عَبطاً من غیر علّة، والأرومة: الأصل.
3- (3) الاستیعاب: ج 1 ص 104-167، الإصابة: ج 3 ص 3. أسد الغابة: ج 1 ص 375.

ما قاله العلماء فی الشهید

1. قال السمعانی: «زیاد بن یزید بن مهاجر بن النعمان بن سلمة بن شجار بن بهدلة الکندی البهدلی، قتل مع الحسین بن علی»(1).

2. قال البخاری: «یزید بن مهاجر أبو الشعثاء الکندی، کناّه محمد بن عبد الله بن نمیر»(2).

3. قال أبو حاتم: «أبو الشعثاء الکوفی، روی عن ابن عمر وابن عباس. روی عنه أبو سنان الشیبانی وسعید بن سعید التغلبی، قال سمعت أبی یقول: أبو الشعثاء الکندی اسمه یزید بن مهاجر»(3).

4. قال السماوی: «کان یزید رجلاً شریفاً شجاعاً فاتکاً، خرج إلی الحسین من الکوفة قبل أن یتّصل به الحرّ»(4).

5. قال الزنجانی: «یزید بن مهاجر - حمل علی القوم کحملة الأسد حتی قتل منهم خمسین رجلاً»(5).

6. قال شمس الدین: «یزید بن زیاد بن مهاجر أبو الشعثاء الکندی، ذکره الطبری وابن شهر أشوب والخوارزمی، والزیارة وفیها ابن المظاهر، صحفته بعض

ص:193


1- (1) الأنساب للسمعانی: ج 1 ص 420.
2- (2) التاریخ الکبیر: ح 3342.
3- (3) الجرح والتعدیل لابن أبی حاتم: ج 9 ص 287 ح 1221.
4- (4) السماوی فی أنصار الحسین: ص 134.
5- (5) وسیلة الدارین: ص 215.

المصادر فقالت ابن مهاجر»(1).

7. قال السیّد الأمین: «یزید بن زیاد بن المهاجر مهاصر الکندی، ویکنّی أبا الشعثاء...، وکان رامیاً وکلّما رمی یقول له الحسین: اللهمّ سدّد رمیته واجعل ثوابه الجنّة»(2)

اسم الشهید

ممّا سبق ذکره یُعلم أنّ اسم الشهید قد ورد فیه اختلاف حیث ذکره السمعانی بزیاد، والآخرون بیزید.

وأیضاً ورد الاخلاف فی اسم أبیه، حیث ذکره بعضهم وهم الأکثر بمهاجر، وبعضهم بمظاهر.

وأمّا نسبه «الکندی البهدلی» فیبدو أنّ هناک اتّفاقاً علیه من قبل العلماء، کما وأنّ کنیته «أبا الشعثاء» لم یرد فیها اختلاف عندهم. ولهذا نمیل إلی ان اسمه رضی الله عنه هو یزید بن مهاجر الکندی البهدلی رضی الله عنه.

مع الشهید فی روایته

لقد عُدَّ الشهید الکربلائی واحداً من جملة الرواة الثقات الذین ترجم لهم العلماء، فقد عدّه ابن جریر الطبری واحداً من جملة رجاله الذین یعتمد علیهم فی تفسیر الآیات والأحکام الواردة فیها.

ص:194


1- (1) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 111.
2- (2) لواعج الأشجان للسید الأمین: ص 137.

وذکره ابن أبی حاتم فی کتابه الجرح والتعدیل، حیث ترجم له فی موضعین، فقال فی الأول: «یزید بن مهاجر أبو الشعثاء الکندی، ثمّ قال: روی عنه أبو إسحاق الهمدانی وأبو العنبس ویونس بن أبی إسحاق وأبو سنان الشیبانی»(1).

ثمّ عاد فترجم له بقوله: «روی عنه أبو سنان الشیبانی وسعید بن سعید الثعلبی. سمعت أبی یقول ذلک، ویقول لا یسمّی، وهو کوفی. قال علی بن المدینی: أبو الشعثاء الذی روی عنه أبو إسحاق الهمدانی ویونس بن أبی إسحاق وأبو العنبس وأبو سنان هو الکندی ولیس هو سلیم سمعت أبی یقول: أبو الشعثاء الکندی اسمه یزید بن مهاجر»(2).

کما وقد ذکره البیهقی فی السنن من طریق عبید الله بن معاذ عن أبیه عن شعبة عن أبی إسحاق عن أبی الشعثاء(3). کما وذکره علماء آخرون کابن أبی شیبة فی المصنف(4) وذکره الترکمانی فی الجوهر النقی، وشمس الدین الذهبی فی کتابه المقتنی فی سرد الکنی(5).

ومن هنا نفهم أنّ للشهید الکربلائی شخصیة علمیة وثقافیة مهمّة، جعلت العلماء یرجعون الیه فی معرفة الدین وبیان حقائقه، وسوف نذکر بعض تلک

الروایات التی رواها العلماء عنه:

ص:195


1- (1) المصدر السابق: ج 2 ص 391.
2- (2) ابن أبی حاتم فی الجرح والتعدیل: ج 4 ص 287، ج 42 ص 391.
3- (3) البیهقی: ج 5 ص 189.
4- (4) المصنّف: ج 1 ص 518.
5- (5) المقتنی فی سرد الکنی: ح 3039.

الروایة الأولی: روی البیهقی بسنده قال: «أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عمرو بن مطر، حدّثنا یحیی بن محمد، حدّثنا عبید الله بن معاذ، حدثنا شعبة عن أبی إسحاق قال: سمعت أبا الشعثاء یقول: سألت ابن عمر عن لحم الصید یهدیه الحلال للحرام قال: کان عمر یأکله، قلت: إنّما أسألک عن نفسک أتاکله؟ قال: کان عمر یأکله، قلت: إنّما عن نفسک أتأکله؟ قال: کان عمر خیراً منّی»(1).

وروی هذه الروایة الطبری فی تفسیره وابن أبی حاتم وابن أبی شیبة فی المصنّف وآخرون بألفاظ مختلفة.

سؤال مهم حول الروایة

وأول ما یتبادر إلی ذهن القارئ والسامع لهذه الروایة هذا السؤال، أ إنّ سؤال الشهید الکربلائی لابن عمر جاء لأجل أن یأخذ منه معالم الدین وأحکام الشریعة، کأیّ إنسان یبحث عن أجوبة لمسائله، کما یحثّ علی ذلک القرآن الکریم بقوله:

«فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 2» .

أم کان لأجل أن یطّلع علی رأیه فی هذه المسألة من دون أن یتّبعه فیه علی أساسه؟ وهذا الأمر ربما یکون معمولاً به کثیراً، فربّ سائل یسأل فی مسألة ما وهو یعلم جوابها، وإنّما أراد بسؤاله معرفة رأی المسؤول فیها لا غیر.

وإلاّ فإننّا أمرنا أن نأخذ الأحکام من رسول الله ومن أهل بیته، حیث ورد فی

ص:196


1- (1) البیهقی فی السنن: ج 5 ص 188.

کتب الفریقین أنّهم سفن النجاة وأنّهم مدینة العلم وانهم مع الحقّ والحقّ معهم، بینما لم یرد مثل هذا فی غیرهم.

نعم یُعمل برأی الغیر اذا وافق رأی أهل البیت، وهذا أمر غیر خافٍ علی أحد، فعلماؤنا جمیعهم یعملون برأی الراوی الثقة حتی ولو لم یکن إمامیاً اذا کان رأیه موافقاً لرأی أهل البیت علیهم السلام، أمّا اذا ورد عن غیرهم کائناً من کان ما یخالف أهل البیت علیهم السلام فی أیّ مسألة، فالمعوّل علیه هو حکم اهل البیت دون غیرهم.

قال الشیخ الطوسی کما یذکر ذلک المامقانی فی تنقیح المقال: «من شرط العمل بخبر الواحد العدالة بلا خلاف»(1).

وقال السیّد محمد تقی الحکیم فی الأصول العامّة:

«اعتبرت الشیعة الإمامیة أخبار مخالفیهم فی العقیدة حجّة اذا ثبت أنّهم من الثقات، وأسموا أخبارهم بالموثّقات»(2).

ومن ثم یمکن لأیّ إنسان أن یأخذ أحکام دینه من أیّ مسلم راوٍ إذا لم یکن هناک ما یخالفه عند أهل البیت.

وعلی هذا الأساس تحرّک الشهید الکربلائی مع عبد الله بن عمر، ومن ثم فلا یعنی سؤاله إیّاه أخذ علوم الدین وأحکامه منه، وإنّما أراد أن یعرف رأیه فی مسألة ما وقع الاختلاف فیها عندهم دون اهل البیت علیهم السلام، حیث اتّففت کلمتهم علیهم السلام علی تحریم لحم الصید علی المحرم حتی وإن صاده محلّ، والدلیل علی هذا ما یلی:

ص:197


1- (1) تنقیح المقال: ج 1 ص 73.
2- (2) الأصول العامة: ص 219.

تحریم لحم الصید علی المحرم

ألف: ذکر الحرّ العاملی فی وسائل الشیعة(1) مجموعة من الروایات تحت عنوان کبیر «تحریم أکل المحرم من صید البرّ حتی القدید وإن صاده محلّ» وذکر تحت هذا الباب بعض الروایات أذکر منها اثنتین.

الأولی: «وعنه عن إبراهیم بن أبی سمال عن معاویة بن عمّار عن أبی عبد الله قال:

لا تأکل شیئاً من الصید وانت محرم وان صاده محلّ».

الثانیة: «وبإسناده عن ابن أبی عمیر وصفوان، عن معاویة بن عمّار عن أبی عبد الله قال:

لا تأکل الصید وأنت حرام وإن کان أصابه محلّ».

باء: ذکر الطبرسی فی مجمع البیان فی تفسیر الآیة الکریمة من سورة المائدة:

«وَ حُرِّمَ عَلَیْکُمْ صَیْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً2»

فیقول:

«هذا یقتضی تحریم الاصطیاد فی حال الإحرام، وتحریم أکل ما صاده الغیر. وبه قال علی وابن عباس وابن عمر وسعید بن جبیر، وقیل: إنّ لحم الصید لا

ص:198


1- (1) وسائل الشیعة: ص 418 ح 16662 وح 16663.

یحرم علی المحرم اذا صاده غیره، عن عمر وعثمان والحسن، ثمّ یقول: ویجب حمل الآیة علی الأمرین وتحریم الجمیع»(1).

جیم: ما ذکره العلماء القدامی والمحدثون فی هذه المسألة، فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام، فقد ذکر المحقّق الحلّی فی شرائع الإسلام قوله فی باب المحرّمات والمکروهات للمحرم:«صید البرّ اصطیاداً وأکلاً ولو صاده محلٍ ّ»(2).

ومن العلماء المحدثین ذکر السیّد السیستانی فی مناسک الحجّ، طبعة النجف الأشرف، مسألة 202:

«لا یجوز للمحرم أکل شیء من الصید وإن کان قد اصطاده المحلّ فی الحلّ، کما یحرم علی المحلّ علی الأحوط وجوباً ما اصطاده المحرم فی الحلّ.

وممّا تقدّم نفهم أنّ مسألة أکل المُحِرمِ من الصید حرام علیه حتی ولو صاده محلّ أمر مجمع علیه عند فقهاء الإمامیة وعلمائهم، بینما تجد فی المدرسة المقابلة لمدرسة أهل البیت أنّ هناک نزاعاً وخلافاً فی المسألة، فبعض یذهب إلی ما ذهب الیه أئمّة أهل البیت، وبعض لا یذهب إلی ذلک، کما أشار إلی ذلک ابن حزم، حیث ذکر الرأیین معاً ثمّ مال إلی الجواز لا الحرمة، حیث قال: «وقد روینا عن عطاء، فی محرم کان بمکّة فاشتری حجلة فأمر محلاً بذبحها أنّه لا شیء علیه»(3).

ص:199


1- (1) مجمع البیان، تفسیر الآیة: 96 من سورة المائدة.
2- (2) شرائع الإسلام: ج 1 ص 183.
3- (3) المحلّی لابن حزم: ج 2، کتاب الحجّ مسألة: 892.

ومن ثم فإنّ الشهید الکربلائی أراد من سؤاله لابن عمر أن یستکشف رأیه أکان موافقاً لرأی أهل البیت أم مخالفاً له، دون إرادة المعرفة للحکم الشرعی للعمل به.

ومن هنا نفهم سرّ إعادة السؤال من قبل الشهید الکربلائی لابن عمر مرّتین بقوله: إنّما أسألک عن نفسک أتأکله؟

الروایة الثانیة: روی ابن أبی شیبة فی مصنّفه قال: «حدثنا ابو بکر، حدثنا وکیع عن سعید بن سعید البجلی عن أبی الشعثاء الکندی عن ابن عمر قوله: الأوعیة لا تحلّ شیئاً ولا تحرّم»(1).

المراد من الأوعیة الظروف، أو ما یسمّی بالأوانی التی یوضع فیها الشیء، ولا شکّ أن هذه الظروف والأوعیة لا یمکن أن تحلّ شیئاً هو بالأصل حرام ولا تحرّم شیئاً هو بالأصل حلال، وإنّما ورد التأکید من النبی صلی الله علیه و آله علی هذا الأمر لأنّ هناک بعض الظروف التی کانت تستعمل آنذاک وتکون مساعدة فی تنبیذ بعض التمور والعسل وقد ورد ذکر هذه الظروف بشکل عامّ فی أحادیث، کقول أنس: «نهی النبی صلی الله علیه و آله عن النبیذ فی هذه الظروف. ورد ذکرها مشخّصة بأسمائها کما فی قوله علیهما السلام لوفد عبد القیس:

«لا تشربوا فی نقیر ولا مقیر ولا دباء ولا حنتم ولا مزادة» (2).

«والمراد من النقیر أصل النخلة یُترک فی مکانه ثمّ ینقر جوفه ویتّخذ منه

ص:200


1- (1) المصنّف لابن أبی شیبة: ج 5 مسألة 3310.
2- (2) المصنف: ج 1 ص 518.

ظرف، والدباء القرع، والحنتم الجرار المطلیة بالأخضر»(1).

ویبدو أنّ الشهید الکربلائی یتحدث عن الحالة العامة التی عادة ما تکون فی جمیع الظروف مُطّردة، إلاّ ما ورد التخصیص فیها، کقولهم:«کلّ شیء طاهر حتی تعلم أنّه نجس»(2).

لقاء الشهید بالحسین علیه السلام ووقت التحاقه به

اختلفت الروایات فی وقت التحاق الشهید بالحسین علیه السلام، واختلفت معها آراء العلماء.

الرأی الأول

فهناک من ذهب إلی أنّ الشهید کان قد خرج مع عمر بن سعد أول الأمر فیمن خرج لحرب الحسین، ثمّ بعد ذلک تحوّل إلی الحسین لیلة العاشر من المحرّم. ویذهب إلی ذلک المقرّم(3) وأبو مخنف(4) ، والطبری(5) فی إحدی روایاته

وآخرون.

الرأی الثانی

بینما یذهب آخرون إلی أنّ لقاء الشهید بالحسین کان قبل وصول الحرّ

ص:201


1- (1) نفس المصدر.
2- (2) الفقه 1. أعیان الشیعة: ج 1، ص 73.
3- (3) مقتل المقرّم: ص 243.
4- (4) مقتل أبی مخنف: ص 158.
5- (5) الطبری: ج 5 ص 48.

ولقائه به علیه السلام فی منطقة شراف، وقد ذهب إلی هذا الرأی جملة من العلماء منهم الشیخ السماوی(1) ، والطبری(2) فی إحدی روایاته، والخوارزمی(3) وآخرون.

ملاحظة حول الرأی الأول

وقبل أن نبیّن بعض النقاط التی من خلالها یتّضح أنّ خروج الشهید ولقاءه بالحسین کان قبل وصول الحرّ الیه، وهو الرأی الذی أراه أکثر قبولاً وانسجاماً مع الأحداث، أودّ أن أبیّن أنّ الرأی الأول لا یشیر بأیّ حال من الاحوال، حتی مع فرض صحّته، إلی إدانة أو منقصة للشهید الکربلائی معاذ الله، إذ إنّ هناک جملة من الأصحاب لمّا رأوا أنّ سکک الکوفة أُغلقت وأُحکم الحصار علی البلدة من قبل ابن زیاد وجماعته، لم یجدوا بُدّاً من أن یتّخذوا الخروج لحرب الحسین مع من خرج للحرب واقعاً، طریقاً للوصول إلی الحسین علیه السلام، وهذا ما حاولنا أن نبیّنه من خلال حدیثنا عمّن تحدّثنا عنهم من الشهداء، وسوف نتحدّث عن هذه النقطة المهمّة من جوانب متعدّدة کلّما سنحت الفرصة إلی ذلک.

المرجحات علی الرأی الثانی

وأمّا الرأی الثانی، والقائل بوصول الشهید الکربلائی إلی الحسین قبل وصول الحرّ الیه فی منطقة شراف، فإنّ هناک بعض المرجّحات التی تجعلنا نمیل الیه دون الرأی الأول، ومن هذه المرجحات:

ص:202


1- (1) أنصار الحسین: ص 134.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 5 ص 445-446.
3- (3) مقتل الخوارزمی: ج 2 ص 25.

أولاً: ذکر کثیر من المؤرّخین فی خصوص لقاء الحرّ للحسین فی منطقة شراف ما هذا نصّه:

«فلمّا أصبح نزل فصلی الغداة، ثمّ عجّل الرکوب فأخذ یتیاسر بأصحابه یرید أن یفرّقهم، فیأتیه الحرّ بن یزید فیردّهم، فیردّه، فجعل اذا ردّهم إلی الکوفة ردّاً شدیداً امتنعوا علیه، فارتفعوا فلم یزالوا یتسایرون حتی انتهوا إلی نینوی، المکان الذی نزل به الحسین. قال: فإذا راکب علی نجیب له وعلیه السلاح، متنکّب قوساً، مقبل من الکوفة، فوقفوا جمیعاً ینتظرونه، فلمّا انتهی الیهم سلّم علی الحرّ بن یزید وأصحابه ولم یسلّم علی الحسین وأصحابه، فدفع إلی الحرّ کتاباً من عبید الله بن زیاد، فإذا فیه: أمّا بعد، فجعجع بالحسین حین یبلغک کتابی ویقدم علیک رسولی، فلا تنزله إلاّ بالعراء فی غیر حصن وعلی غیر ماء، وقد أمرت رسولی أن یلزمک ولا یفارقک حتی یأتینی بإنفاذک أمری والسلام.

فلمّا قرأ الکتاب قال لهم الحرّ:

هذا کتاب الأمیر عبید الله بن زیاد یأمرنی فیه أن أجعجع بکم فی المکان الذی یأتینی فیه کتابه، وهذا رسوله وقد أمره أن لا یفارقنی حتی أنفذ رأیه وأمره، فنظر إلی رسول عبید الله بن زیاد یزید بن زیاد بن مهاجر، أبو الشعثاء الکندی ثمّ البهدلی، فعن له فقال له: أمالک بن النُسر البدّی»(1) ؟ إلی آخر ما ورد فی هذا النصّ.

ولا شکّ أنّ کلّ من قرأ هذا النصّ، یقطع بأنّ الشهید الکربلائی کان مع

ص:203


1- (1) معالم المدرسین: ج 3 ص 77-78 (نقلاً عن مقتل أبی مخنف).

الحسین علیه السلام قبل أن یأتی رسول عبید الله بن زیاد، بل ربما کان موجوداً قبل ذلک الوقت.

ثانیاً: وعی الشهید الکربلائی وبصیرته النافذة، والتی یتلمّسها الإنسان من خلال المحاورة التی جرت فیما بینه وبین مالک بن النسر، رسول عبید الله بن زیاد إلی الحرّ التی تکشف وبشکل واضح عن إیمانه بالثورة، ممّا یوحی بأنّ هذا الرجل وأمثاله کان لهم دور مهمّ فی داخل الکوفة مع مسلم بن عقیل، لأنّ من وطّن نفسه علی القتل وعزم علی الالتحاق بالحسین من أجل الشهادة، لا یمکن أن یتصوّر فی حقّه إلاّ أنّه کان من الأرکان الأساسیة فی حرکة مسلم بن عقیل.

ومن هنا فإنّ أغلب من کانت له مشارکة واضحة ومهمّة حاول أن یخرج بعد شهادة مسلم بن عقیل من الکوفة، فقسم منهم التحق بالحسین وهو فی مکّة، مثل الحجّاج بن مسروق الجعفی وأمثاله.

وبعضهم التحق بالحسین وهو فی الطریق إلی العراق، أمثال الأربعة الذین جاءوا مع الطرمّاح فی منطقة عذیب الهجانات کما تقدم.

وبعضهم قبل وبعد ذلک، وکان من بینهم الشهید الکربلائی والذی نرجّح وصوله إلی الحسین قبل منطقة اللقاء مع الحرّ.

إشکال وجواب:

وقد تقول: وماذا عمّن خرج مع جیش عمر بن سعد والتحق بعد ذلک بالحسین، ألم یکونوا اصحاب مشارکة مع حرکة مسلم بن عقیل فلماذا لم یخرجوا مبکّراً ویلتحقوا بالحسین؟ أقول: نحن نتکلّم من حیث الطابع العام، وهذا

ص:204

لا یعنی بالضرورة أنّ کلّ من التحق بالحسین خرج الیه قبل وصوله إلی کربلاء، فهناک من المؤمنین من شارک فی حرکة مسلم وأراد نصرة الحسین حقّاً، ولکنّه رأی أن لا سبیل للوصول الیه إلاّ من خلال التظاهر بأنّه ممّن یرید الخروج لحرب الحسین.

وربما أعلن توبته علی الملأ من أجل أن ینفی عن نفسه الشبهة، ولکی یُقبل فی الجیش الذی سُرِّح لحرب الحسین علیه السلام، فلمّا وصل الیه انتقل وتحوّل إلی صفّه علیه السلام، ومن ثم یمکن القول بأنّ وعی النخبة من الأصحاب الذین نالوا شرف الشهادة مع الحسین علیه السلام فی کربلاء، وحرصهم علی الشهادة، ومشارکتهم الواضحة، جعلتهم یخرجون من الکوفة بعد سقوطها بید عبید الله بن زیاد، وشهادة من استشهد وسجن من سجن، ویلتحقون بالحسین مبکّراً، ومنهم الشهید یزید بن مهاجر الکندی رضی الله عنه.

ثالثاً

لا شکّ أنّ کلّ من قرأ وسمع بالروایتین اللتین تحدّثتا عن أبی الشعثاء الکندی ووقت التحاقه بالحسین، یجد وبشکل واضح أنّ هناک تعارضاً بیّناً بینهما، لأنّ کلّ واحدة من الروایتین تتضمّن الحدیث إمّا بشکل صریح کما فی الروایة الثانیة التی تؤکّد أنّه کان ممّن خرج مع جیش عمر بن سعد فلما ردّوا الشروط مال إلی الحسین لیلة العاشر من المحرّم.

وإما بشکل ضمنی کما فی الروایة الأولی التی تحدّثت عن حدیث أبی الشعثاء مع مالک بن النسر فی مرحلة التقاء الحرّ بالحسین علیه السلام.

ص:205

تعارض روایتی الالتحاق بالحسین وطرق معالجته

وبهذا نکون أمام اضطراب حقیقی وتعارض واضح بیّن، وهذا یدعونا إلی الرجوع إلی طرق معالجة مثل هذا التعارض، فقد ذکر العلماء أنّ من جملة المرجّحات هو السبق الزمنی للروایة علی غیرها من الروایات المعارضة لها والمتأخرة عنها زمناً، وهذا المقیاس لا شکّ أنّه یرجّح عندنا الروایة الأولی دون الروایة الثانیة، وکذلک ذکر العلماء أنّ من جملة المرجّحات هو أن تکون إحدی الروایتین مفصّلة والأخری مجملة، فتقدم المفصّلة فی مقام التعارض علی المجملة، وهذا المقیاس یقدّم کذلک، ویرجّح علی أساسه الروایة الأولی دون الروایة الثانیة والغریب فی هذا الأمر هو ذکر العلماء لکلّ من الروایتین دون ترجیح واحدة علی الأخری، وهذا بتقدیری یکرّس مفهوم التناقض والتضادّ بین الأشیاء، مع أنّه کان بإمکانهم ترجیح إحداهما علی الأخری، کما رجّحنا حسب رأینا خروج الشهید الکربلائی - علی حسب الروایة الأولی - من کربلاء فی وقت مبکّر والتحاقه بالحسین علیه السلام قبل وصول الحرّ إلیه. ولقد أحسن الشیخ محمد مهدی شمس الدین حینما أشار إلی هذا الاضطراب من خلال العمل بالروایتین معاً دون الترجیح بینهما قائلاً:

«وقد اضطرب فیه کلام الطبری، فمرّة قال عنه إنّه تحوّل إلی الحسین من معسکر ابن زیاد بعدما رفضوا عروض الحسین، ومرّة قال عنه إنّه خرج إلی الحسین من الکوفة قبل أن یلاقیه الحرّ، وکذلک اضطرب فیه کلام السیّد الأمین»(1).

ص:206


1- (1) أنصار الحسین: ص 112.

بین منطق الخضوع ومنطق المسؤولیة

قال أبو مخنف:

«لمّا کاتب الحرّ ابن زیاد فی أمر الحسین وجعل یسایره، جاء إلی الحر رسول ابن زیاد مالک بن النسر البدّی ثمّ الکندی، فجاء به الحرّ وبکتابه إلی الحسین، کما یذکر فی ترجمة الحرّ، وکما قصصناه، فعنَّ مالک لیزید هذا فقال یزید: أمالک بن النسر أنت؟ قال: نعم، فقال له: ثکلتک أمّک، ماذا جئت به؟ قال: وما جئت به، أطعت إمامی ووفیت ببیعتی، فقال له أبو الشعثاء: عصیت ربّک وأطعت إمامک فی هلاک نفسک، وکسبت العار والنار. ألم تسمع قول الله تعالی:

«وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَدْعُونَ إِلَی النّارِ وَ یَوْمَ الْقِیامَةِ لا یُنْصَرُونَ 1» فهو إمامک»(1)

إنّ هذه الروایة وما دار فیها من حوار بین الشهید أبی الشعثاء وبین مالک بن النسر، لتضعنا بین منطقین؛ منطق الخضوع والاستسلام للأمر الواقع، وبین منطق تحمّل المسؤولیة الشرعیة مهما کانت الظروف والأحوال.

أمّا المنطق الأوّل، فإنّ الشهید الکربلائی لا یقبله، ولا یمکن أن یسیر علیه، بل لسان حاله یقول: إنّ منهجی ومنطقی هو منطق القرآن الذی یقول:

«یَوْمَ نَدْعُوا کُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ 3» .

ص:207


1- (2) مقتل الحسین لأبی مخنف: ص 93.

ص:

«وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا» .

لا بأمر الناس، یقدّمون الله قبل أمرهم، وحکم الله قبل حکمهم، قال:

«جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَدْعُونَ إِلَی النّارِ» .

یقدمون أمرهم قبل أمر الله، وحکمهم قبل حکم الله، ویأخذون بأهوائهم خلاف کتاب الله»(1).

وینقل الصدوق فی أمالیه کما ورد فی تفسر الثقلین عن بشر بن غالب عن الإمام الحسین، أنّه سأله عن تفسیر الآیة:

«یَوْمَ نَدْعُوا کُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» .

فقال علیه السلام: «إمام دعا إلی هدی فأجابوه الیه، وإمام دعا إلی ضلالة فأجابوه الیها، هؤلاء فی الجنّة وهؤلاء فی النار، وهو قول الله:

«فَرِیقٌ فِی الْجَنَّةِ وَ فَرِیقٌ فِی السَّعِیرِ»2» .

ولعمری لقد کان الشهید الکربلائی بصیراً فی کتاب الله، متدبّراً فی آیاته، عالماً فی أحکامه. ومن هنا نراه یستدلّ استدلال العلماء، ویتحدّث تحدّث الحکماء، وینطق عن یقین بالله تعالی، ولا غرابة فی ذلک، فهو الذی نهل من معین الإسلام الصافی، وأُشرب علوم القرآن ومفاهیمه من مورده النقی فانعکست أقوالهم وأفعالهم علیهم السلام، علی وعی الشهید نتیجة لهذه المعاشرة لأئمّة أهل البیت علیهم السلام فأدرک أنّ الخزی کلّ الخزی حینما یتخلّی الإنسان عنهم، وأنّ السعادة

ص:209


1- (1) تفسیر الصافی، تفسیر آیة: 41-42 من سورة القصص.

کلّ السعادة فی الکون معهم ونصرتهم والذبّ عنهم ولهذا نراه یقول لمالک بن النسر: عصیت ربّک وأطعت إمامک (الضالّ) فی هلاک نفسک، وکسبت العار والنار(1). یعنی أنّ سوء اختیارک باتّباعک لأئمّة الضلال، وتخلّیک عن أئمّة الهدی، هو الذی سوف یُردیک فتخسر آخرتک بدخولک النار، کما أنّ العار سوف یلاحقک، وسبّة التاریخ والأجیال سوف لا تفارقک، لأنک تخلّیت عن الحقّ ونصرت الباطل.

الشهید فی کربلاء فارساً ثم رامیاً

لقد کان للشهید الکربلائی دور ممیّز فی کربلاء، فلقد کان قتاله أول الأمر فارساً ثمّ رامیاً ثمّ راجلاً. یقول أبو مخنف: «إنّ أبا الشعثاء قاتل فارساً، فلمّا عقرت فرسه جثا علی رکبتیه بین یدی الحسین علیه السلام، فرمی بمائة سهم ما سقط منها خمسة وکان رامیاً وکان کلما رمی قال:

أنا ابن بهدلة(2) فرسان العرجلة(3)

فیقول الحسین: «اللهمّ سدّد رمیته، واجعل ثوابه الجنّة». فلمّا نفدت سهامه قام فحمل علی القوم بسیفه وقال:

أنا یزیدٌ وأبی مهاجرٌ کاننی لیث بغیلٍ خادر

یا ربّ إنّی للحسین ناصرٌ ولابن سعدٍ تارک وهاجر»(4)

ص:210


1- (1) إبصار العین للسماوی: ص 134.
2- (2) حی من کندة، إبصار العین: ص 135.
3- (3) العرجلة: القطیع من الخیل ح تاج العروس: ج 6 ص 41.
4- (4) إبصار العین للسماوی: ص 135: أبو مخنف: ص 158.

وهنا تجد التمیّز فی الجهاد والدفاع، حیث نزل أولاً فارساً حتی اذا قتل منهم عدداً عُقرت الفرس، فلم یتنازل عن جهاده بل انتقل إلی مرتبة أخری حظی فیها بدعاء الحسین علیه السلام له، ولا شکّ أنّ دعاء الحسین بحدّ ذاته فضل لأنّه مجاب علی کلّ حال، ولهذا حینما کان یرمی لم تسقط من سهامه سوی خمسة ببرکة دعاء الحسین، والبقیة أصابت أهدافها ولمّا انتهت سهامه التفت إلی الحسین مودّعاً وقائلاً له: سیدی، لو کنت أملک غیر هذه النفس لقدّمتها بین یدیک رخیصة، ثمّ نزل إلی القتال راجلاً، ومما یلفت النظر فی رجز الشهید هو قوله:

یا ربّ إنّی للحسین ناصرٌ ولابن سعدٍ تارکٌ وهاجر

رسالة الشهید إلی من یهمه الأمر

وبهذا القول أراد أن یوصل رسالة إلی من هم لا یزالون فی جیش عمر بن سعد بأنّکم علی باطل، بل وأراد ان یعلن موقفه هذا للتاریخ، ویعطی درساً للأجیال فی التضحیة والولاء، لا کما تصوّر البعض من أنّ قوله: ولابن سعد تارک وهاجر، دلیل علی أنّه کان فی صفّ عمر بن سعد ثمّ انتقل إلی صفّ الحسین بعد ذلک: فهذا استدلال خاطئ، لأنّ الشهید إنّما أراد أن یعلن براءته من النهج لا من الأشخاص، کما أنّ ولاءه للقیم والمبادئ الحقّة هو الذی دعاه لنصرة الحسین علیه السلام، وهذا هو الدرس الأکبر. ویقول أبو مخنف: «ولم یزل یقاتل راجلاً حتی قتل رضی الله عنه، وفیه یقول الکمیت الاسدی:

ومال أبو الشعثاء أشعث دامیاً وإنّ أبا حجلٍ قتیلٌ مجحّلُ»(1)

ص:211


1- (1) مقتل أبو مخنف: ص، لسان العرب لابن منظور مادة «جحل».

الشهید عمّار بن حسّان بن شریح الطائی علیه السلام

بین یدی الشهید

هذا الشهید هو واحد ممّن یصفهم البعض بأنّهم من رجال ساعة العسرة، والذین مدحهم الله سبحانه وتعالی فی قرآنه الکریم یقوله:

«لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَی النَّبِیِّ وَ الْمُهاجِرِینَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِینَ اتَّبَعُوهُ فِی ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما کادَ یَزِیغُ قُلُوبُ فَرِیقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَیْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِیمٌ 1» .

وساعة العسرة قد تمرّ فی زمن رسول الله فینزل فیها قرآنٌ، وقد تمرّ بعد زمن رسول الله، إنّ ساعة العسرة متوقعة فی أی وقت علی مدی الحیاة، لأنّ کلّ إنسان منّا قد یمرّ بساعة عصیبة لا یجد إلی جانبه من یبثّه همومه، ویلتفت یمیناً وشمالاً فلا یجد إلاّ نفسه، ومثل هذا الأمر کثیراً ما یحدث لأصحاب المبادئ والقیم.

حیث تجد أنّ حیاتهم مثقلة بالمتاعب والهموم والمشاکل، وکثیراً ما کانوا یعیشون الوحدة والغربة تحت وطأة هذه الظروف، وهذا ما کان علی بن أبی

ص:212

طالب یعانی منه بعد رحیل رسول الله صلی الله علیه و آله حینما کان یعیش تلک المحنة التی مرّت علی الإسلام بعد فقده علیهما السلام فاضطرّته للابتعاد عن تلک الأجواء، وجرّته إلی غربة حقیقیة، ووحدة ووحشة، جعلته یفضّل الموت علی البقاء فی واقعٍ کهذا:

ألا أیّها الموت الذی لیس تارکی أرحنی فقد أفنیت کلّ خلیلِ

أراک بصیراً بالذین أُحبّهم کأنّک تنحو نحوهم بدلیلِ (1)

ومن هنا نفهم تلک الروایات التی جاءت تمجّد الغرباء فی آخر الزمان، بل وتصف الإسلام بأنّه سیکون غریباً. ینقل النعمانی فی کتاب الغیبة، عن أبی عبد الله علیه السلام قوله: «إنّ الإسلام بدأ غریباً، وسیعود غریباً فطوبی للغرباء»(2). وکلّ هذا المدح للغربة وللغرباء هو فی الواقع لأنّ المتّبعین للإسلام حقیقة قلیل، ولهذا کلّه صار سیّد الشهداء «غریب الغرباء»، ولأجل ذلک کلّه صار الصدیق فی ساعة العسرة نعمة، یقول علی علیه السلام:

وما أکثر الإخوان حین تعدّهم ولکنّهم فی النائبات قلیلُ (3)

ویقول ربیعة بن عامر (مسکین الدارمی):

ولیس أخی من ودّنی رأیَ عینهِ ولکنْ أخی من ودّنی وهو غائب(4)

ولقد تجلّت أروع صور النصرة، والأخوّة فی أعلی درجاتها، فی هذه الفئة

ص:213


1- (1) المرأة العظیمة لحسن الصفار: ص 129.
2- (2) الغیبة للنعمانی: ص 336، ومثله عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فی تفسیر ابن أبی حاتم: ج 9 ص 2990 ح 2991.
3- (3) دیوان الإمام علی: ص 96.
4- (4) المستطرف فی کلّ فنّ مستطرف، الباب الرابع والعشرون، فی حسن المعاشرة والمودّة والأخوة.

الموفّقة التی التفت حول أبی عبد الله الحسین علیه السلام فی وادی کربلاء، هذا الوادی الذی جمع القلوب المؤمنة من کلّ ملّة ودین، فکان فیهم العلوی والعمری والعثمانی، والمسلم والمسیحی، وکان فیهم الطفل الصغیر وصاحب الشیبة الکبیر، وکان منهم الشهید السعید عمّار بن حسان بن شریح الطائی رضی الله عنه، هذا الرجل الذی کانت مواقفه ومواقف أبیه وأقربائه کلّها تدور فی دائرة الولاء لأهل البیت علیهم السلام کما سیأتینا خلال حدیثنا عنه، بل لقد کان فی أحفاده من عاش الولاء والإیمان حتی امتلأ قلبه بحبّهم علیهم السلام وفیض علومهم، فتحول إلی راوٍ وفقیه کبیر.

أقوال العلماء فی الشهید

1. قال الشیخ السماوی: «عمار بن حسّان بن شریح بن سعد بن حارثة بن لأم ابن عمرو بن ظریف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن طیّ الطائی».(1)

2. قال الشیخ شمس الدین رحمه الله تعالی: «عمّار بن حسّان بن شریح الطائی، ورد ذکره فی الزیارة، وفی الرجبیة ورد ذکره عمّار بن حسّان».(2)

3. قال النجاشی «وهو یترجم لحفیده:... ابن عامر، وهو الذی قتل مع الحسین بکربلاء، ابن حسّان المقتول بصفّین مع أمیر المؤمنین، ابن شریح بن سعد...»(3).

ص:214


1- (1) إبصار العین: ص 150.
2- (2) أنصار الحسین: ص 101.
3- (3) رجال النجاشی: ص 229 ح 606.

أجداد الشهید

لقد تمتّع الشهید الکربلائی بأجداد عرفوا عند العرب بأنّهم من کبار الشخصیات وأصحاب المنزلة الاجتماعیة الکبیرة، حتی أنّ الجاحظ وهو یتحدّث عن سعد، الجدّ الثانی للشهید، یقول: قال ابن الکلبی: من الأشراف سعد الأثرم بن حارثة بن لأم، أخو أوس بن حارثة بن لأم، وکان شریفاً نبیهاً»(1).

سعد الأثرم جد الشهید الکربلائی

ولقد وصلت أسرة الشهید وأجداده إلی درجة من الشهرة عند العرب، من حیث الکرم والجود والسخاء والشجاعة وسائر الأخلاق الفاضلة، ممّا أدّی إلی أن تشرئبّ عنق ملک الحیرة یومها، النعمان بن المنذر، إلی أن یخطب منهم زوجة له، وفعلاً خطب من سعد (جدّ الشهید) ابنته فرعة، فتزوّجها وصاهر هذه الأسرة وقرّبها الیه ومنحهم الکثیر من المنزلة والحبوة عنده، وکان من جملة الأمور التی اهتمّ بها سعد هو أن یکون سبّاقاً إلی الخیر ومساعدة الناس وإجارتهم، فلم یکن لیرضی لنفسه أن یجیر أحدٌ من الناس أحداً وهو قادر علی الإجارة ولا یفعل. أمّا اذا أجار أحدهم أحداً من الناس علی أرضه أو فی بیته أو فی أیّ مکان تصل الیه یده ولم یکن هو المجیر، فذاک الیوم سیکون یوم حزنه وألمه، وسیشعر أنّ فی هذا من المهانة له لا یرضاه أبداً، فیقول أبو فرج الأصفهانی فی الأغانی وهو یتحدّث عن حاتم وعلاقته ببنی لأم(2) قائلاً:

ص:215


1- (1) کتاب البرصان والعرجان للجاحظ: ص 13.
2- (2) الأغانی لأبی الفرج الأصفهانی / ج 18 / فی أخبار حاتم ونسبه / حاتم وبنو لأم.

«خرج الحکم بن أبی العاص بن أمیة بن عبد شمس، ومعه عطر یرید الحیرة، وکان بالحیرة سوق یجتمع الیه الناس کلّ سنة، وکان النعمان بن المنذر قد جعل لبنی لأم بن عمرو بن طریف بن عمرو بن ثمامة بن مالک بن جدعان بن ذهل بن رومان بن حبیب بن خارجة بن سعد بن فطنة بن طیّئ، ربع الطریق طعمة لهم، وذلک لأنّ بنت سعد بن حارثة بن لأم کانت عند النعمان بن المنذر، وکانوا أصهاره، فمرّ الحکم بن أبی العاص بحاتم بن عبد الله، فسأله الجوار فی أرض طیّئ حتی یصیر إلی الحیرة فأجاره، ثمّ أمر حاتم بجزور فنحرت وطبخت أعضاء فأکلوا، ومع حاتم ملحان بن حارثة بن سعد بن الحشرج، وهو ابن عمّه، فلمّا فرغوا من الطعام طیّبهم الحکم من طیبه ذلک، فمرّ حاتم بسعد بن حارثة بن لأم ولیس مع حاتم من بنی أبیه غیر ملحان، وحاتم علی راحلته وفرسه تقاد، فأتاه بنو لأم فوضع حاتم سفرته وقال: أطعموا حیّاکم الله، فقالوا: من هؤلاء معک یا حاتم؟ قال: هؤلاء جیرانی، قال له سعد: فأنت تجیر علینا فی بلادنا»(1).

فلم یکن یقبل أن یجار أحد علی أرضه دون أن یکون هو المجیر، حتی ولو کان الذی أجار هو حاتم الطائی نفسه، صاحب الباع الطویلة فی الکرم والجود والعطاء، وحسب اعتقادی أنّ هذه الخصال لابدّ وأن تترک أثرها فی أبناء هذا الرجل وأحفاده، فإن لم یکونوا مثله فلا أقلّ من أن یکونوا فی درجة ممدوحة من ذلک، وعلی کلّ حال سیکون عندهم استعداد ومیول نحو هذه الخصال والصفات المحمودة.

ص:216


1- (1) الأغانی: ج 17 ص 369.

أمّا أخو سعد بن حارثة، وهو أوس بن حارثة، فقد کان ناراً علی علم، وکان من المعمّرین کذلک، حتی لینقل عنه أنّه عمّر أکثر من 200 سنة، وینقل المبرّد عن شخصیته ومنزلته قائلاً:

«إنّ النعمان بن المنذر دعا بحلَّة، وکان عنده وجوه العرب وساداتها، فقال انتظروا إلی الغد حتی ألبس هذه الحلّة أکرمکم، وفعلاً ذهب الجمیع وحضروا فی الغد ولم یتخلّف عنهم إلاّ أوس، فقیل له: لم تتخلّف؟ فقال: إن کان المراد غیری فأجمل الأشیاء ألاّ أکون حاضراً، وإن کنت أنا المراد فسأطلب وسیعرف مکانی. فلمّا جلس النعمان لم یر أوساً فقال اذهبوا إلی أوس فقولوا له: احضر أمناً مما خفت، فحضر فألبسه الحلة»(1).

ومن هنا نعرف أنّ الشهید الکربلائی کان من بیوت العزّ والشرف والمنعة والسیادة والریادة وکان وجوده قویّاً ومؤثّراً فی الساحة الاجتماعیة فلیس بعد کلّ هذا أن یُقال عنه بأنّه من الشخصیات المعروفة فی التاریخ.

والد الشهید الکربلائی

ذکر النجاشی فی رجاله، والخوئی فی معجمه(2) ، أنّ حسّان والد الشهید کان من الرجال المؤمنین الذین وقفوا إلی جانب علی بن أبی طالب وصحبوه فی کلّ من معرکة الجمل وصفّین، إلی أن استشهد فی صفّین رضی الله عنه، هذه المعرکة التی کشفت عن معادن الرجال، وبیّنت الحقائق من الدعاوی، فلم یثبت فیها سوی من

ص:217


1- (1) الکامل للمبرّد: ج 1 ص 186.
2- (2) رجال النجاشی: ص 229 (606)، معجم رجال الحدیث: ج 5 ص 2655.

کان علی بیّنة من ربّه ونبیّه علیهما السلام، فلقد تعرّض أهل صفّین إلی هزّات عنیفة من خلال الشبهات التی أُثیرت آنذاک وأثّرت فیهم، سواءٌ قبل نشوب المعرکة أو خلالها، فهناک من رفع المصاحف کذباً وبهتاناً ودعا إلی الرجوع کتاب الله، وهناک من جبن وجبّن، وهناک من کان یسیر بین الصفوف ویقول: لا قتال لا قتال.

ولم تکن هذه الشبهات قد اختصّت بها معرکة صفّین، بل کانت موجودة حتی فی معرکة الجمل، وللمثال أقول هذه الروایة لتکون شاهداً علی ذلک وإن کانت تتحدّث عن واقعة الجمل، ولکن الأمر نفسه حصل فی صفّین: «عن أبی یحیی الواسطی قال: لمّا افتتح أمیر المؤمنین (المقصود فتح البصرة) اجتمع الناس علیه، وفیهم الحسن البصری ومعه الألواح، فکان کلّما لفظ أمیر المؤمنین کلمة کتبها، فقال أمیر المؤمنین له بأعلی صوته: ما تصنع؟ فقال: نکتب آثارکم لنحدّث بها بعدکم، فقال أمیر المؤمنین: أما إنّ لکلّ قوم سامری، وهذا سامری هذه الأمّة، أما إنّه لا یقول: لا مساس ولکن یقول: لا قتال»(1).

فکم سامری ابتلی به أمیرالمؤمنین فی صفّین کان یثبّط من عزائم الناس فی القتال، ولهذا قلنا آنفاً إنّ هذه المعرکة بل والمعارک التی خاضها أمیر المؤمنین کانت مختبراً عملیاً لکلّ الادّعاءات، فمن ثبت فیها کان فی غیرها أثبت، ومن خسر فیها وتزلزل کان فی غیرها أخسر وأکثر تزلزلاً، وهذا ما یفسّر لنا ما حصل لشمر بن ذی الجوشن وشبث بن ربعی وآخرین، حیث کانوا ممّن تزلزلت اقدامهم فی معرکة صفّین بل ووقفوا ضدّ علی علیه السلام. یقول السیّد الخوئی وهو

ص:218


1- (1) العرفان الإسلامی للسید محمد تقی المدرسی: ص 39.

یتحدّث عن شبث بن ربعی: «من أصحاب أمیر المؤمنین رجع إلی الخوارج»(1).

ولهذا حینما نقرأ فی التأریخ أنّ والد الشهید قاتل فی الجمل وصفّین، ولم ینتهِ الأمر إلی هذا الحدّ بل واستشهد فی صفّین، نعرف مدی الإیمان والثبات الذی کان یتمتّع به رضی الله عنه.

ابن عمّ الشهید الکربلائی

عُرفت أسرة الشهید بالإباء وعدم الرضوخ للظلم مهما کانت النتائج، ولقد قدّمت النفوس والأرواح فی هذا المجال، وهذه کانت سیرة آبائه وأقربائه، وسأتناول للتدلیل علی هذه الحقیقة سیرة واحد من أبناء عمّه ألا وهو:

عروة بن افاق بن شریح الطائی

قال ابن حجر فی الإصابة(2): «له إدراک، وشهد قتال الخوارج مع علی، فقال علی علیه السلام: لا یفلت منهم واحد ولا یقتلون منّا عشرة وکان کذلک وکان عروة فیمن قتل من العشرة».

وفی روایة ینقلها الخوارزمی عن عبیدة السلمانی: «إنّ علیاً خطب أهل الکوفة فقال: یا أهل الکوفة، لولا أن تبطروا لحدّثتکم بما وعدکم الله علی لسان نبیّه علیهما السلام الذین تقتلونه منهم المخدج الید، وهو صاحب الثدیة، فو الله لا یقتل منکم عشرة ولا یفلت منهم عشرة»(3).

ص:219


1- (1) معجم رجال الحدیث للخوئی: ج 10 ح 5687.
2- (2) ابن حجر فی الأصابة: ج 5، ص 96.
3- (3) المناقب للخوارزمی: ص 263.

ولا شکّ أنّ علیاً حینما قال هذه الکلمة لم یکن اعتباطاً من دون أی سبب وإنّما کان وراءها سبب وهذا ما یشیر الیه الهیثمی فی مجمع الزوائد، وفتح الباری فی شرح صحیح البخاری عن جندب بن عبد الله البجلی (أخو جریر بن عبد الله البجلی) الذی کانت له مواقف مخجلة مع علی علیه السلام وانتهت إلی أن هدم أمیر المؤمنین مسجده فی الکوفة) یقول: «لمّا فارقت الخوارج علیاً، خرج فی طلبهم وخرجنا معه، فانتهینا إلی عسکرهم، فإذا لهم دویّ کدویّ النحل من قراءة القرآن، واذا فیهم أصحاب الثفنات وأصحاب البرانس (المعروفون بالزهد والعبادة) قال: فدخلنی من ذلک شکّ فنزلت عن فرسی وقمت أصلّی فقلت: اللهمّ إن کان قتال هؤلاء القوم لک طاعة فأذن لی فیه، وإن کان معصیة فأرنی براءتک، یقول: فمرّ بی علی علیه السلام فلمّا حاذانی قال: تعوّذ بالله من الشکّ یا جندب، فلمّا جئته أقبل رجل علی برذون یقول: إن کان لک بالقوم حاجة فإنّهم قد قطعوا النهر، قال: ما قطعوه، قلت: سبحان الله، ثمّ جاء آخر فقال مثل قوله، ثمّ جاء آخر بما جاء به الأولان، فی کلّ مرّة یقول: ما قطعوه ولن یقطعوه، ولیقتلنّ دونه، عهد من الله ورسوله، قلت: الله أکبر، ثمّ رکبنا فسایرته فقال لی: سأبعث الیهم رجلاً یقرأ القرآن یدعوهم إلی کتاب الله وسنّة نبیّهم، فلا یقبل علینا بوجهه حتی یرشقوه بالنبل، أما إنّه لا یقتل منّا عشرة ولا یفلت منهم عشرة، یقول: فانتهینا إلی القوم، فأرسل الیهم فتی من بنی عامر، فلمّا دنا منهم حیث یسمعون، قاموا ونشبوا الفتی، فأقبل علینا بوجهه فقعد، فقال علی: دونکم القوم. قال جندب: یکفی هذه بعد ما دخلنی ما کان دخلنی»(1).

ص:220


1- (1) مجمع الزوائد للهیثمی: ج 6، ص 241 (بتصرّف).

وفعلاً لم یقتل من جیش علی عشرة ولم یفلت منهم عشرة وکان من جملة الشهداء فی هذه المعرکة عروة بن أفاق بن شریح، ابن عمّ الشهید الکربلائی، ولحسن موقفه وثباته ذکره السیّد عبد الحسین شرف الدین فی کتابه الفصول المهمّة وترحم علیه بقوله:

«عروة بن شفاف بن شریح بن سعد بن حارثة بن لأم الطائی، الذی شهد قتال الخوارج مع أمیر المؤمنین فقال له: لا یفلت منهم عشرون ولا یقتلون منّا عشرة، فکان الأمر کذلک، وکان عروة فیمن قتل یومئذ رحمه الله تعالی».(1)

هل للشهید قریب من شهداء کربلاء؟

اشارة

لقد ذکر العلماء الذین ترجموا لأصحاب الحسین علیه السلام کلّ صغیرة وکبیرة تتعلّق بهم، لا سیما ما جری لهم فی کربلاء، حیث تحدّثوا وأشاروا إلی وقت التحاقهم بالحسین، وهل کان التحاقهم لوحدهم أم مع آخرین؟

وإذا کان برفقتهم آخرون فمن هم یا تری؟

هل کانوا من أقربائهم، وأبنائهم وإخوانهم وأبناء عمومتهم وزوجاتهم وبناتهم وأخواتهم؟

أم کانوا أصحاباً لهم وأصدقاء؟

بل لقد ذکر العلماء فی هذا المجال حتی الموالی الذین جاءوا واستشهدوا مع الشهداء، وحتی تکون الصورة واضحة أکثر سوف أذکر مثالاً علی ذلک.

ص:221


1- (1) الفصول المهمّة: ص 198.

أولاً: ذکروا أنّ الحرّ بن یزید الریاحی حینما انتقل إلی معسکر الحسین، انتقل معه ولده علی ومولی له یقال له ترکی.(1)

ثانیاً: ذکروا أنّ زهیر بن القین حینما انتقل وسایر الحسین إلی کربلاء، أقبل معه من أبناء عمومته سلمان بن مضارب البجلی.(2)

ثالثاً: ذکروا أنّ مسلم بن عوسجة حینما وصل إلی الحسین، وصل ومعه زوجته (أمّ خلف) وولده خلف.(3)

رابعاً: ذکروا أنّ جنادة بن کعب الأنصاری حینما أقبل إلی الحسین، أقبل ومعه زوجته وولده عمرو، المستشهدون بین یدی الحسین.(4)

خامساً: وذکرو من الموالی الکثیر، منهم عمرو بن خالد الصیداوی وسعد مولاه.(5)

وهناک آخرون ذکرهم العلماء، أعرضت عن ذکرهم، لأنّی أردت أن أعطی مثلاً للتدلیل علی أنّهم ذکروا هذا الأمر بکلّ تفصیلاته التی عرفوها واطّلعوا علیها، ولکنّهم وللأسف الشدید لم یذکروا أیّ شیء، لا من قریب ولا من بعید، عن الشهید الکربلائی عمّار بن حسّان الطائی، والذی کان من جملة من التحق

ص:222


1- (1) وسیلة الدارین: ص 111، مقتل الخوارزمی.
2- (2) إبصار العین: ص 132.
3- (3) ریاحین الشریعة لذبیح الله محلاتی: ج 3 ص 315.
4- (4) إبصار العین: ص 123.
5- (5) إبصار العین: ص 90.

بالحسین علیه السلام واستشهد فی کربلاء أحد أقربائه، وهو عامر بن مسلم العبدی، والذی نمیل إلی أنّه کان ابن أخی الشهید الکربلائی رضی الله عنه.

وقد ورد عن بعض علمائنا رضی الله عنه حول هذا الشهید الکربلائی (عامر بن مسلم العبدی) قولهم: مجهول فی أصحاب الحسین، کما سیأتینا خلال البحث إن شاء الله. وحینما ترجع إلی الکتب التی ترجمت وتحدّثت عنه، لا تجدهم یزیدون فی اسمه ونسبه عن هذا الذی ذکرت.

ولکنّی وجدت أنّ الشیخ النجاشی فی رجاله ذکر نسب الشهید مع تفصیل فی آبائه، حیث یقول السیّد الزنجانی فی کتابه وسیلة الدارین، نقلاً عن النجاشی: «هو عامر بن مسلم بن حسّان بن شریح بن سعد بن حارثة بن لأم بن عمرو بن طریف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن فطرة السعدی البصری، من أصحاب الحسین قتل معه بالطفّ»(1).

وقد طابقت نسب هذا الشهید مع ما ذکره السماوی فی إبصار العین، فی ترجمة عمّار بن حسّان الطائی، حیث یقول: «عمّار بن حسّان بن شریح بن سعد بن حارثة بن لأم بن عمرو بن ظریف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن فطرة بن طیّ ء الطائی»(2).

فوجدت أنّ هناک تطابقاً مئة بالمئة، نعم ورد الاختلاف فی «طریف» و «ظریف»، ولکن مثل هذا الأمر یحمل علی التصحیف، کما هو معروف عند

ص:223


1- (1) وسیلة الدارین: ص 161.
2- (2) ابصار العین: ص 150.

أهل هذا الفنّ، ولا یمکن أن یکون اختلافاً یوقف استدلالاً ما، نعم هناک مسألة مهمّة لابدّ من تسلیط الضوء علیها ومن مناقشتها مناقشة علمیة، وهی النسبة التی ذکرها العلماء لکلّ من الشهیدین؛ فهذا طائیّ، وذاک سعدی بصری عبدی.

أقول: إنّ نسبة السعدی التی ذکرها العلماء فی عامر بن مسلم، هی الأقرب إلی واقع نسب الشهید رضی الله عنه، لأنّ من کان نسبه حسب ما ذکره السماوی، لا یمکن أن ینتهی إلی أن یکون عبدیاً من عبد قیس.

نعم یمکن أن یکون عبدیاً ولکن من أبناء عبد جذیمة، لأنّه یرجع إلی طیّئ أو حسب تعبیر أهل هذا العلم أنّ جذیمة، بطن من طیّئ، یقول المعتری فی المنتخب فی نسب قبائل العرب، وهو من بنی لأم من طیّئ، وأعرف من غیره بأنساب طیّئ.

«وکان لطیّئ من الولد الغوث وقطرة والحارث، فولد لقطرة سعد، فتزوج سعد جدیلة بنت سبیع بن حمیر الأصغر، فعرفوا بها، ویقال لهم جدیلة، باسم أمّهم، وکان لطیّئ قبیلتان: جدیلة والغوث، ومن بطون الغوث بنو جرم، واسمه ثعلبة بن عمرو بن الغوث، ومن بطون جرم جذیمة، ذکرهم الحمدانی».

ولهذا یصحّ أن یعبّر عن أولاد بنی عبد جذیمة بالعبدی الطائی.

مع أن العبدیّین من عبد قیس، أمثال الأدهم بن أمیّة العبدی وآخرین، أصح أن یُطلق علیهم هذا اللقب وهو الطائی، دون الآخر وهو العبدی، ویمکن أن یکون شاهداً علی ذلک خروجهم جمیعاً إلی نصرة الحسین من بیت ماریة بنت منقذ

ص:224

العبدیة، التی ذکر الطبری أنّها من عبد قیس فی البصرة.(1).

وهذا الأمر متعارف علیه عند الناس قدیماً وحدیثاً، حیث یطلقون اسماً أو لقباً معیّناً علی إنسان ما، یختلف عن لقبه الأصلی، کمن یکون مثلاً کوفیاً فینتقل إلی البصرة ویسکن فیها لمدّة طویلة فیطلق علیه أو علی أولاده بصری، ولا یقال إنّ هذا الأمر یخصّ المدن ولا یشمل الأسماء والألقاب.

أقول: لا، بل یمکن ذلک، وقد الحقت ألقاب وأسماء بشخصیّات جاهلیة وإسلامیة، وعُرفت فی التاریخ بالاسم الثانی واشتهرت به، دون الاسم الحقیقی الذی یرجع الیه نفس الشخص، والمثال البارز علی ذلک هو المقداد بن الأسود الکندی، فمع أنّ اسمه هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالک بن ربیعة بن عامر ابن مطرود البهرائی، نسبه الناس إلی الکندی وإلی الأسود؛ فأمّا الکندی فلأجل أنّ أباه حالف قبیلة کندة، وأمّا الأسود فلأنّ المقداد حالف فی قریش الأسود بن عبد یغوث الزهری عندما قدم مکّة، وعرف منذ ذلک الوقت بالمقداد بن الأسود الکندی، دون الاسم الأول الذی بقی فقط فی کتب التحقیق والتألیف.

وربما کان الشهید عامر بن مسلم بن شریح العبدی نسب الیهم بسبب الصداقة الکبیرة والصحبة الولائیة التی ارتبط من خلالها بهم هو وأبوه، والتی انتهت إلی إطلاق لفظ العبدی علیها مع أنهما طائیّان.

أمّا لفظة السعدی فیمکن لکلّ طائی أن یقال عنه سعدی، لأنّ السعدی یرجع إلی طیّئ فلا یضرّ أن یقال للشخص السعدی طائی، أو أن یکتفی بذکر

ص:225


1- (1) تنقیح المقال: ج 3 ص 82، مستدرکات علم الرجال: ج 8 ص 598، تاریخ الطبری: ج 3 ص 287.

واحدة دون الأخری، لأنّهما بالنتیجة یرجعان إلی طیّئ وهو الذی نرید أن نصل الیه من حدیثنا هذا.

وللمثال فقط أقول إن ممّن أُطلق علیه اللفظان معاً السعدی والطائی، هو الصحابی مازن بن الغضوبة السعدی الطائی، وهو أول من أسلم من أهل عُمان(1) ومن هنا یمکن للانسان أن یخرج بنتیجة، وهی أنّ الشهید عامر بن مسلم لیس عبدیاً وإنّما هو طائی سعدی بصری، وممّا یؤکّد هذه النسبة التی ذهبنا الیها ما ذکره أعلامنا رضی الله عنه أمثال:

1. النمازی فی مستدرکات علم الرجال، وهو یترجم للشهید عامر، حیث قال:«عامر بن مسلم بن حسّان بن شریح البصری السعدی».(2)

2. النجاشی فی ترجمة الشهید، نقلاً عن الزنجانی فی وسیلة الدارین، حیث قال: «عامر بن مسلم بن حسّان بن شریح بن سعد بن حارثة بن لأم بن عمرو بن طریف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن فطرة السعدی البصری».(3)

فإذا علمنا أنّ نسبهما واحد، وأنّهما یشترکان فی أسماء الأجداد واسم الأب، سوی أنّ الأول أطلق علیه الطائی، والثانی أطلق علیه السعدی والعبدی، کما بیّنا، فتکون النتیجة أنّ القرابة بینهما أمر لابدّ من القول به

ص:226


1- (1) عمان فی التاریخ وزارة الاسلام: ص 112، اتحاق الأعیان سیف بن طمود البطاشی: ج 1 ص 21.
2- (2) مستدرکات علم الرجال: ج 4 ص 322 ح 7352.
3- (3) وسیلة الدارین: ص 161.
نوع القرابة ودرجتها

أمّا ما هی هذه القرابة ودرجتها؟ فعندنا احتمالات ثلاثة لا رابع لها:

أولاً: منهم من یقول إنّ عامر بن مسلم بن حسّان الطائی لابدّ أن یکون ابن أخی الشهید عمّار بن حسّان الطائی، کما هو واضح، ومنهم النمازی فی المستدرکات ووسیلة الدارین، وآخرون.(1)

ثانیاً: منهم من یقول بأنّ عامر هو ابن حسّان بن شریح الطائی، فلابدّ أن یکون الشهیدان أخوین، لأنّ أباهما واحد، وهو حسّان، وذهب إلی ذلک المامقانی، وعلی ما نقل فی کتاب النجاشی نفسه، فی ترجمة أحمد بن عامر حفیده، حیث قال: «أحمد بن عامر بن سلیمان بن صالح بن وهب بن عامر بن حسّان بن شریح بن سعد الخ».(2)

ثالثاً: ربما یأتی احتمال أن تکون کلّ من الشخصیّتین إنّما تشیر إلی شخصیة واحدة لاشتراکهما فی النسب، وبدل أن یقال عمّار قالوا عامر، للتصحیف مثلاً، کما ورد الاختلاف فی أسماء بعض الشهداء فی کربلاء، ومن ثم لا یؤدّی الاختلاف فی الاسم إلی تعدّد الشخصیّات فی الخارج، وقد مال إلی ذلک السیّد الخوئی رضی الله عنه(3) ، وهذه الاحتمالات الثلاثة کلّ منها یمکن قبوله، وعلیه علامات ودلائل.

ص:227


1- (1) مستدرکات علم الرجال: ج 4 ص 323 ح 7352. النصرة فی شیعة البصرة: ج 2 ص 137. وسیلة الدارین: ص 161، إیضاح الاشتباه للعلاّمة الحلی: ص 191 ح 88.
2- (2) المامقانی: ج 6 ص 194-195، رجال النجاشی: ص 100 ح 250.
3- (3) معجم رجال الحدیث: ج 10 ح 6086، حیث ذکره تحت اسم عامر بن حسان بن شریح... وجاء فی المناقب عمّار، ولعلهما واحد.

ولکن اذا ما دُقق فی هذه الاحتمالات واحداً واحداً فسننتهی إلی أنّ الرأی الأول هو الأقرب من هذه الاحتمالات الثلاثة، وإن کانت جمیعها مقبولة بشکل عامّ.

ومن ثم فإنّ بعض العلماء(1) أمثال الزنجانی فی وسیلة الدارین، والعلاّمة فی إیضاح الاشتباه، والنمازی فی مستدرکات علم الرجال، والنجاشی علی قول الزنجانی فی وسیلة الدارین، والسماوی کذلک، والفضیل بن الزبیر فی کتابه تسمیة من قتل مع الحسین، وآخرین، یرجّح کفّة الاحتمال أن یکون الشهید هو ابن أخی الشهید عمّار بن حسّان الطائی رضی الله عنه.

ولکن سواء ملنا إلی الرأی الأول أو الثانی أو حتی الثالث، فإنّ الصورة تکون واضحة.

وأمّا بالنسبة إلی نسب الشهید، فسواء قلنا هو عمّار بن حسّان الطائی أو عامر ابن مسلم بن حسّان العبدی، أو عامر بن حسّان العبدی، فإنّ هذا النسب معلوم غیر مجهول.

فکیف والحال هذه یمکن أن یقال عن هذه الشخصیة کلمة تشیر إلی مجهولیّتها، مع ما أوضحنا مِن معلومیة النسب والنسبة، وعلیه فلا یسعنی أن أقول شیئاً فی مقابل عمالقة علم الرجال وفطاحل العلماء الأفذاذ أمثال السیّد الخوئی والشیخ المامقانی، سوی أن أذکر عبارتهما التی انتهیا فیها إلی أنّ عامر بن مسلم

ص:228


1- (1) مستدرکات علم الرجال: ج 4 ص 323 ح 7352، النصرة فی شیعة البصرة: ج 2 ص 137، وسیلة الدارین: ج 161. إیضاح الاشتباه للعلاّمة: ص 191 ح 88.

ابن حسّان العبدی مجهول فی اصحاب الحسین. حیث نقل السیّد الخوئی فی معجمه فی ترجمة عامر بن مسلم:«مجهول من أصحاب الحسین علیه السلام»(1).

حفید الشهید الکربلائی

لقد وُهِبَ الشهید الکربلائی ذریة صالحة مبارکة، صاحبة عطاءٍ کبیر، حملت فکر أهل البیت وعلومهم، من جیل إلی جیل، حتی لقد کتب عنهم المؤرّخون وأصحاب الحدیث والرجال، ومجّدوا شخصیاتهم، فکانوا مصداقاً للآیة الکریمة:

«وَ أَمَّا الْجِدارُ فَکانَ لِغُلامَیْنِ یَتِیمَیْنِ فِی الْمَدِینَةِ وَ کانَ تَحْتَهُ کَنْزٌ لَهُما وَ کانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّکَ أَنْ یَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ یَسْتَخْرِجا کَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ 2» .

ولقد تحدّر من صلب الشهید أعلام مشهورون شهد لهم أرباب العلم والمعرفة، بالعلم والمعرفة وکان من هؤلاء أحمد بن عامر الطائی، وولده عبد الله، حیث یقول عنه المامقانی:

«أحمد بن عامر، أبو الجعد، عدّه الشیخ فی رجاله من أصحاب الرضا علیه السلام قائلاً: أحمد بن عامر بن سلیمان الطائی، روی عنه ابنه عبد الله بن أحمد وأسند عنه، انتهی. وقال النجاشی: أحمد بن عامر بن سلیمان بن صالح بن وهب بن عامر، وهو الذی قتل مع الحسین بن علی علیه السلام بکربلاء، ابن حسّان الشریح (بن شریح)

ص:229


1- (1) معجم رجال الحدیث: ج 10 ح 6113.

ابن سعد بن حارثة بن لأم بن طریف... ویکنّی أحمد بن عامر أبا الجعد»(1).

وممّا تمیّز به هذا الحفید هو أنّه کان الراوی لصحیفة الإمام الرضا علیه السلام، حیث وردت بعدة مسانید، کانت أغلب هذه المسانید ان لم نقل کلّها، تنتهی إلی حفید الشهید الکربلائی عبد الله بن أحمد بن عامر الطائی، فقد ذکرها الشیخ الصدوق(2) ، وابن جریر الطبری فی دلائل الإمامة(3) ، والنجاشی(4) ، والطوسی(5) ، وابن المغازلی فی المناقب(6) ، والخوارزمی(7) ، والکنجی فی کفایة الطالب(8) بسند

یقول عنه الزمخشری فی ربیع الأبرار(9): کان یقول یحیی بن الحسین الحسینی فی اسناد صحیفة الرضا لو قرأ هذا الاسناد فی مجنون أفاق.

ویقول أبو نعیم فی حلیة الأولیاء، بعد أن رواه بتفاوت یسیر: «هذا حدیث ثابت مشهور بهذا الإسناد من روایة الطاهرین عن آبائهم الطیّبین، وکان بعض سلفنا من المحدّثین اذا روی هذا الإسناد قال: لو قرأ هذا الإسناد علی مجنون لأفاق»(10).

ص:230


1- (1) تنقیح المقال: ج 6 ص 195-196.
2- (2) الصدوق ثواب الأعمال: ص 252 ح 3. عیون أخبار الرضا علیه السلام: ج 2 ص 8.
3- (3) دلائل الإمامة: ص 58.
4- (4) النجاشی: ص 170.
5- (5) الطوسی فی الأمالی: ص 285.
6- (6) المناقب لابن المغازلی: ص 64-69.
7- (7) المناقب للخوارزمی: ص 208-210.
8- (8) کفایة الطالب: ص 184.
9- (9) الزمخشری فی ربیع الأبرار: ص 673.
10- (10) حلیة الأولیاء: ج 3 ص 191.

وللتبرّک سوف أذکر روایة واحدة من هذه الصحیفة التی رواها لنا حفید الشهید الکربلائی عبد الله بن أحمد بن عامر.

«ینقل عبد الله بن أحمد بن عامر الطائی عن أبیه عن الرضا علیه السلام بالإسناد عن رسول قال: قال رسول الله: «یا علی، إنّی سألت ربّی فیک خمس خصال فأعطانی؛ أمّا أوّلهن فسألت ربی أن تنشق عنی الأرض وأنفض التراب عن رأسی وأنت معی فأعطانی، وأمّا الثانیة فسألت ربّی أن یوقفنی عند کفّة المیزان وأنت معی فأعطانی، وأمّا الثالثة فسألت ربی أن یجعلک حامل لوائی، وهو لواء الله الأکبر، تحته المفلحون الفائزون فی الجنّة فأعطانی، وأمّا الرابعة فسألت ربّی أن تسقی أمّتی من حوض الکوثر فأعطانی، وأمّا الخامسة فسألت ربّی أن یجعلک قائد أمّتی إلی الجنّة فأعطانی ربّی، والحمد لله الذی مَنّ علیّ بذلک».(1)

ولقد روی عنه أرباب العلم والمعرفة ألواناً من الروایات، بل لقد عدّه علماؤنا من أصحاب الفتوی. کما ورد عن الشیخ السبحانی فی کتابه «تاریخ الفقه الإسلامی وأدواره»(2) حیث ذکره فیمن کان من أصحاب الفتوی فی زمن الإمام الرضا علیه السلام، ولا یرد هنا إشکال: کیف یفتی مع وجود إمام معصوم؟ الفتوی إنّما تعنی أنّ الفقیه یکون مُلمّاً لأصول الشرعیة والقواعد، ما یستطیع من خلالها التفریع علیها واستنباط الحکم الشرعی، وقد ورد عن أهل البیت قولهم: «علینا إلقاء الأصول وعلیکم التفریع»(3).

ص:231


1- (1) صحیفة الإمام الرضا علیه السلام: ح 33.
2- (2) تاریخ الفقه الإسلامی وأدواره للشیخ السبحانی: ص 146.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 27 ص 62، میزان الحکمة: ج 1 ص 549.

ومن هنا نجد أنّ هناک جملة من أصحاب الأئمّة ألّفوا فی هذه الأصول حتی أوصلها بعضهم إلی أکثر من أربعمائة أصل (قاعدة) مثل قاعدة «کلّ شیء لک طاهر حتی تعلم أنّه نجس» أو قاعدة «کلّ شیء لک حلال حتی تعلم أنّه حرام»(1) بحیث یستطیع الفقیه من خلالها إصدار الحکم الشرعی، وکلّ هذه القواعد التی ذکرها العلماء مصدرها الأوّل هو القرآن وقول المعصوم علیه السلام وتقریره، ولذلک یقول السیّد عبد الله شبّر، فی کتابه الأصول الأصلیة والقواعد الشرعیة، فی مقدّمته: «وتضمّنت مهمّات المسائل الأصولیة التی تستنبط منها الأحکام الشرعیة الفرعیة، من الآیات القرآنیة والأخبار المعصومیة، وسمّیتها الأصول الأصلیة والقواعد الشرعیة»(2). ولقد عنی أئمّة أهل البیت بإعداد هؤلاء الأفذاذ الکبار من العلماء، وتعلیمهم قواعد الاستنباط، وتأهیلهم للفتوی، لعلمهم علیهم السلام بحاجة الأمّة إلی أمثالهم سواء فی عصرهم علیهم السلام، لتعذّر وصول المعصوم إلی کلّ مکان فی آن واحد، ممّا یستدعی وجود وکلاء یعملون ضمن قواعد معیّنة ومعطاة لهم من قبل المعصوم، هذا من جانب، ومن جانب آخر تکون مثل هذه العملیة إعداداً طبیعیاً تدریجیاً لمرحلة الغیبة الصغری والکبری، والتی سوف تعتمد الأمّة خلالها علی خلفاء المعصومین علیهم السلام، ألا وهم العلماء العاملون، کما فی التوقیع من الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف:

«وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فیها إلی رواة أحادیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة الله».(3)

ص:232


1- (1) الفقه للمعتریین: ص 85.
2- (2) الأصول الشرعیة والقواعد الفقهیة للسیّد عبد الله شبّر: ص 5.
3- (3) کفایة الأحکام: ص 83.

فائدة

وهناک بعض الروایات التی رواها لنا حفید الشهید الکربلائی «عبد الله بن أحمد بن عامر الطائی» وردت فی الکثیر من المؤلّفات القدیمة والحدیثة لمدرسة اهل البیت وغیرها، أذکر بعضاً منها فیما یتعلق بأهمّیة التسمیة وفضلها، خصوصاً فی أیّامنا، حیث أخذ الکثیر من إخواننا یسمّون أبناءهم تسمیات ما أنزل الله بها من سلطان، بل ربما تکون مدعاة لهم ودافعاً للانحراف لا قدّر الله، فإنّ للاسم آثاراً نفسیّة ومعنویة علی الولید تصحبه إلی آخر عمره.

ینقل ابن بکیر فی کتابه «فضائل التسمیة» أحادیث عن النبی صلی الله علیه و آله والمعصومین علیهم السلام فی هذا المجال، منها:

أولاً: «حدّثنا أبو یعقوب بن یوسف بن علی بن یحیی العزّاوی، حدّثنا أبو بکر أحمد بن شاذان البزّاز ببغداد، حدّثنا أبو القاسم عبد الله بن عمّار الطائی، حدّثنا أبی، حدّثنا علی بن موسی الرضا عن أبیه عن جدّه جعفر بن محمد عن أبیه عن جدّه الحسین بن علی عن علی بن أبی طالب قال:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله: إذا سمّیتم الولد محمّداً فأکرموه وأوسعوا له المجلس، ولا تُقبّحوا له وجهاً» (1).

ثانیاً: «حدّثنا أبو یعقوب بن یوسف بن علی الفقیه، حدّثنا أبو بکر ابن شاذان ببغداد، حدّثنا أبو القاسم الطائی، حدّثنا أبی، حدّثنا أبو الحسن الرضا عن موسی ابن جعفر الصادق عن أبیه محمد الباقر عن جدّه علی زین العابدین عن أبیه

ص:233


1- (1) فضائل التسمیة لابن بکیر، تحقیق مجدی فتحی السیّد: ح 25.

الحسین عن أبیه علی بن ابی طالب قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: ما من مائدة وضعت فحضر علیها من اسمه محمد أو أحمد إلاّ قدّس ذلک المنزل فی کلّ یوم مرّتین».(1)

ثالثا: «حدّثنا أبو یعقوب یوسف بن علی الفقیه، حدّثنا أحمد بن إبراهیم بن الحسن البغدادی، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عمّار الطائی، حدّثنا أبی، حدّثنا علی ابن موسی العلوی، حدّثنا أبی موسی بن جعفر عن أبیه عن جدّه محمد الباقر عن ابیه عن جده الحسین عن علی بن أبی طالب قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: ما من قوم کانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوا مشورته إلاّ خیر لهم فیها».(2)

وقدً ورد عن طریق حفید الشهید الکربلائی فی حقّ الزهراء روایات نذکر منها هذه الروایة: «روی الشیخ المجلسی عن عیون أخبار الرضا عن أحمد بن جعفر البیهقی عن علی الجرجانی عن إسماعیل بن أبی عبد الله القطّان عن أحمد ابن عبد الله بن عامر الطائی عن أبی أحمد بن سلمان الطائی عن علی بن موسی الرضا عن آبائه قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: تحشر ابنتی فاطمة یوم القیامة ومعها ثیاب مصبوغة بالدم تتعلّق بقائمة من قوائم العرش وتقول: یا عدل، احکم بینی وبین قاتل ولدی، قال رسول الله: فیحکم الله لابنتی وربّ الکعبة، وإنّ الله عزّ وجلّ لیغضب لغضب فاطمة ویرضی لرضاها».(3)

ص:234


1- (1) فضائل التسمیة لابن بکیر، تحقیق مجدی فتحی السیّد: ح 23.
2- (2) نفس المصدر: ح 4.
3- (3) بحار الأنوار: ج 43 ص 220.

الشهید فی کربلاء

لقد تربّی الشهید الکربلائی عمّار بن حسّان الطائی، علی نهج الولاء للحقّ وأهله، والبراءة من الباطل وأتباعه، کما کان أبوه «حسّان» علی ذلک، حتی خرّ فی صفّین شهیداً، فخرج الشهید وهو یملک إخلاصاً عالیاً، وشجاعة فی نصرة الحقّ یشار الیها بالبنان، وفهماً وبصیرة، وقد وعی قول رسول الله:

«من مات ولم یعرف إمام زمانه مات میتة جاهلیة» (1).

فعرف إمام زمانه فوالاه ولازمه، وصحبه من مکّة إلی کربلاء، ولم یتزلزل قید أنملة حتی وصل إلی کربلاء، وصار یوم العاشر من المحرّم.

وبدأ الحسین یعظ القوم وینصحهم عسی أن یجد فیهم من یتّعظ ویکفّ عن محاربة الله فی أهل بیت نبیّه، ولکنّ القوم أبوا إلاّ القتال وعندها أبت العزّة الحسینیّة إلاّ التقدّم والنزال، دفاعاً عن العرض والدین، وصوناً للمبادئ الأصیلة والقیم السامیة. وینقل أنّ الشمر حمل حملته الغادرة نحو عسکر أبی عبد الله بأصحابه، عن الیمین والشمال، رشقاً بالنبال عن بعد، فأصاب أصحاب الحسین التی بین قتیل وجریح، وهی التی عرفت بالحملة الأولی، وکان بین الشهداء آنذاک، کما یروی ابن شهر آشوب فی المناقب، عمّار بن حسّان الطائی رضی الله عنه، فحاز بذلک الفوز العظیم، وألهب الحماس والثورة فی نفوس الأحرار، وبقی ذکره خالداً مع ذکر الحسین علیه السلام وأصحابه إلی أن یرث الله الأرض ومن علیها، ونال الشرف العظیم بتسلیم الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف علیه بقوله:

«السلام علی عمّار بن شریح الطائی».

ص:235


1- (1) الملل والنحل للشهرستانی (طبعة القاهرة): ج 1 ص 172، فی ذیل الاسماعیلیة.

الشهید عبدُ الله بن یقطر علیه السلام

اشارة

بین یدی الشهید: "قال احد الشعراء راثیاً شهداء الطف(1):

أذا العین قرّت فی الحیاة وأنتم تخافون فی الدنیا فاظلم نورها

مررتُ علی قبر الحسین بکربلا ففاض علیه من دموعی غزیرها

ومازلت أبکیه وأرثی لشجوه ویسعُد عینی دمعها وزفیرها

وبکیت من بعد الحسین عصائباً أطافت به من جانبیه قبورها

سلامٌ علی أهل القبور بکربلا وقل لها منی سلامٌ یزورها

سلامٌ بأصال العشی وبالضحی تؤدیه نکباءُ الریاح ومورها

ولا برح الوفّاد زوار قبره یفوح علیهم مسکها وعبیرها

نعم، لا یستطیع الإنسان أن یمسک زمام نفسه وعاطفتها وأن یتمالک بإسرار زفرتهِ ودمعتها، وهو یقف علی ثری الطف، فتتمثل أمامه تلک النخبة المؤمنة والصالحة مع الحسین علیه السلام، التی سطرت أعظم الملاحم الإیمانیة علیها، أولئک الذی أبوا إلا أن یعیشوا مع الحسین علیه السلام وأن یموتوا مع الحسین علیه السلام وأن یحشروا مع الحسین علیه السلام ومنهم الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، هذا الرجل الذی آلی علی

ص:236


1- (1) هو عقبة بن عمرو السهمی بن عوف بن غالب وهو أول من رثی الحسین وشهداء الطف/ أدب الطف للسید جواد شبر 52/1.

نفسه أن لا یبیع سرَّ الحسین الذی أعطاه له، وإن حصل ما حصل، بل ولو قُطِعَ رأسه، وتکسرت أضلاعه، وکأنه أراد أن یوصل رسالةً مفادها، أنّ معنی الحیاة الحقیقیة، هی أن یعیش الإنسانُ حراً کریماً، أمّا إذا فقدها، فلا خیر فی الحیاة أبداً وکما یقول الإمام أمیر المؤمنین:

«فالموت فی حیاتکم مقهورین والحیاة فی موتکم قاهرین» (1).

وهذه هی رسالةُ الحسین علیه السلام نفُسها التی أراد ان یوصلها إلی تلک الأمة المیتة، من أجل ان تعی واقعها الخطیر الذی تعیشه مع یزید وعبید الله بن زیاد، یقول الحسین علیه السلام:

«فإنی لا أری الموت إلا سعادة والحیاة مع الظالمین إلا برما» (2).

أقوال العلماء فی الشهید الکربلائی

1 - قال ابن حجر وهو یتحدث عن الشهید عبد الله بن یقطر: ذکر أبو جعفر الطبری أنه قتل مع الحسین بن علی بکربلاء وکان رضیعه(3).

2 - قال الفضیل بن الزبیر: وقُتل عبد الله بن یقطر رضیع الحسین بن علی، بالکوفة، رمی من فوق القصر فتکسر فقام إلیه عبد الملک بن عمیر اللخمی فقتله واحتز رأسه(4).

ص:237


1- (1) علی خطی الحسین/ د. أحمد راسم النفیس/ ص 58.
2- (2) العوالم، الإمام الحسین/ الشیخ عبد الله البحرانی/ ص 67.
3- (3) الاصابة لابن حجر: ج 4 ص 59.
4- (4) مقتل الفضیل بن الزبیر/ تحقیق السید محمد رضا الجلالی/ مجلة تراثنا - العدد (2) ص 152.

3 - قال العلاّمة ابنُ داود: عبدُ الله بن یقطر، یقال بالیاء المثناة تحت ویقال بالباء المضمومة المفردة تحت والقاف والطاء المهملة المضمومة، رضیعه أرسله إلی الکوفة(1).

4 - قال الراوندی: عبد الله بن یقطر بن أبی عقب اللیثی من بنی اللیث بن بکر بن عبد مناة بن کنانة(2).

5 - قال علی النمازی الشاهرودی: عبد الله بن یقطر، رضیع الحسین، وهو حامل کتاب أهل الکوفة إلی مولانا الحسین علیه السلام، وهو حامل لکتاب الحسین إلی أهل الکوفة(3).

6 - قال الشیخ محمد السماوی: عبد الله بن یقطر الحمیری، رضیع الحسین، کانت أُمّه حاضنة للحسین کأم قیس بن ذریح للحسین علیه السلام ولم یکن رضع عندها ولکنه یسمی رضیعاً لحضانة أُمّه له(4).

7 - قال الشیخ محمد مهدی شمس الدین رحمه الله: عبد الله بن یقطر، حمیری من عرب الجنوب، کانت أُمّه حاضنة للحسین علیه السلام ذکره ابن حجر فی الاصابة، قال انه کان صحابیاً لأنه لدة الحسین(5).

ص:238


1- (1) کتاب الرجال لابن داود: ج 1 ص 930/135.
2- (2) کتاب الخرائج والجرائح للراوندی ج 2 ص 550.
3- (3) مستدرکات علم الرجال للنمازی: ج 5 / ص 135.
4- (4) إبصار العین للسماوی/ ص 93-94
5- (5) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: 123.

أسم الشهید واسم أبیه

اشارة

لا یوجد خلاف عند من تحدث وکتب عن الشهید انه «عبد الله».

نعم ورد الاختلاف فی اسم ابیه رضی الله عنه حیث انقسموا فیه إلی رأیین:

أحدهما: «یقطر» وهو ما ذهب إلیه مشهور العلماء(1).

والآخر: «بقطر» وهو ما مال إلیه بعضهم(2).

وقد أشار ابن حجر فی الاصابة إلی أن والد الشهید الکربلائی عبد الله هو «یقظة»(3) ولکنه یحمل علی التصحیف ومن ثم لا یرقی إلی درجة الرأی، ونفس الحمل یمکن ان یکون علی ما ورد فی روایة تسلیة المجالس أنه «ابن یقطین»(4).

معنی یقطر وبقطر

أمّا «یقطر» فلا أشکال فی أن معناها قطر الماء والدمع وغیرهما من السیال یقطر قطرا وقطورا وقطرانا وأقطر، الاخیرة عن أبی حنیفة، وتقاطر، أنشد ابن جنی:

ص:239


1- (1) الارشاد للشیخ المفید: ج 2 ص 70، عوائد الأیام للمحقق النراقی: ص 867، الخرائج والجرائح للراوندی: ج 2 ص 550، مناقب ابن شهراشوب: ج 3 ص 232، المزار للشهید الأول: ص 153، الصراط المستقیم، علی بن یونس العاملی: ج 3 ص 145، رجال الطوسی: ص 103، خلاصة الأقوال للعلامة الحلی: ص 192، رجال ابن داود: ص 135، نقد الرجال للتفریشی: ج 3 ص 154.
2- (2) قاموس الرجال للتستری: ج 10 ص 67، الثقات لابن حبَّان: ج 2 ص 310، سیر أعلام النبلاء للذهبی: ج 3 ص 299، الاصابة لابن حجر: ج 5 ص 8 (6180)، أعیان الشیعة للسید الأمین: ج 1 ص 595.
3- (3) الاصابة: ج 4 ص 59 وربما کان تصحیف أو خطأ فی بعض طبعات الاصابة الجدیدة کما أشار إلی ذلک بعض المحققین.
4- (4) تسلیة المجالس: ج 3 ص 183.

کأنه تهتان یوم ماطر من الربیع دائم التقاطرِ(1)

وأمّا «بقطر»: یقول الزبیدی: بقطر کعصفر رجل... بلالَ بن بقطر... أبو الخطاب عثمان بن موسی بن بقطر... بقاطر الاسقف.

والبقطریة بالضم أهمله الجوهری، قال الفراء: البقطریة: الثیاب البیض الواسعة(2). وفی التهذیب: القبطری: ثیاب بیض وانشد:

کأن لون القمر فی حضورها والقبطری ألبیض فی تأزیرها

ویقول آخر:

کأن زرور القبطریة علقت بنادکها منه بجذعٍ مقومِ

ویبدو أن «بقطر» من الاسماء القبطیة التی کانت موجودة سابقاً قبل الإسلام، وما زالت إلی یومنا هذا، حیث تستعمل فی الوسط المسیحی کثیرا - أمثال الیاس بقطر وهو مصری قبطی ولد فی مصر ومات فی باریس(3) وبقطر المحاسب وهو کاتب البردیسی(4) وآخرین ولا یعنی ذلک ان الشهید عبد الله بن یقطر کان مسیحیاً أو أنه یرجع إلی قبیلة مسیحیة، وإنما یرجع مثل هذا الأمر إلی ما تعارف علیه العرب من تداخل مع الدیانة المسیحیة وانتشارها وتغلغل الأسماء المسیحیة عندهم، وتسمیة بعضهم بها.

ص:240


1- (1) لسان العرب لابن منظور: ج 12 ص 134 مادة «قطر».
2- (2) تاج العروس للزبیدی: ج 6 ص 108 «بقطر». (هامش مفقود بالمتن: لسان العرب لابن منظور: ج 12 مادة «قبطر».
3- (3) الأعلام للزرکلی: ج 2 ص 9.
4- (4) عجاب الآثار، للجبریتی: ج 2 ص 632.

کلمة إلی من یهمة الأمر

وهنا لابد لنا من الاشارة إلی أهمیة الاسم للإنسان، حیث إن من حق الولد علی أبیه کما فی الروایات عن أهل البیت ان یحسن تسمیته، فمن سُمِّی حسیناً ثم اطلع علی ما صنعه الإمام الحسین علیه السلام بعد ذلک، لا شک أنه سیعیش الفخر والاعتزاز - طبعاً إذا جرت الأمور بشکل طبیعی - بعکس ما إذا سُمی الإنسان بأسماءٍ ترکت آثارها السلبیة علی التاریخ وعلی الواقع الإنسانی فإنها سوف تترک آثارها حتی بعد بلوغه، لا سیما فی هذا الوقت الذی نعیش فیه، حیث الغزو الثقافی الذی أخذ یأتینا من کل الجهات والذی وصل إلی درجة التأثیر حتی علی تسمیة أبنائنا وفلذات أکبادنا.

والد الشهید والخدمة لرسول الله

لقد عاش رسول الله صلی الله علیه و آله حیاته کما یعیشها سائر الناس فی جمیع صورها وأشکالها، وکما یقول القرآن الکریم:

«قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ 1» .

حیث کان یأکل الطعام ویمشی فی الأسواق، وکان له بیته کما کان للناس بیوتهم، فضلاً عما یترتب علی وجود مثل هذا البیت من تحملٍ لمسؤولیة الأزواج والذریة یقول القرآن الکریم وهو یتحدث عن هذا الجانب المهم فی حیاة الأنبیاء عموماً:

ص:241

«وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّیَّةً 1» .

ومع کل هذه المسؤولیات نجده صلی الله علیه و آله یحب ویرغب أن یباشر أعماله وأعمال بیته بنفسه، بل کان لا یرضی للآخرین أن یؤدوا بعض شؤونه، لا سیما فیما یتعلق بالطهارة والصدقة کما فی بعض الروایات، ومع ذلک فقد ذکر لنا التاریخ اسماء رجالٍ ونساءٍ تشرفوا فی خدمته صلی الله علیه و آله، ونذروا أنفسهم فی سبیل راحته صلی الله علیه و آله، لعظیم ما کانوا یرونه من أخلاقه العالیة وشفقته الممیّزة مع من یخدمه، حیث کان رافعاً لمعنویاتهم، وجابراً لخاطرهم، مبتسماً فی وجوههم، قاضیاً لحوائجهم، عائداً لمریضهم متفقداً لأحوالهم، ساداً لخلتهم، داعیاً لهم بالخیر(1) ، فضلاً عن تعلیمهم أمور دینهم ودنیاهم، حتی خرج من خدمته کبار العلماء والفقهاء والحکماء، ولقد ذکر لنا التاریخ العشرات ممن تبرعوا لخدمة رسول الله صلی الله علیه و آله، وکان منهم والد الشهید الکربلائی «عبد الله بن یقطر»، حیث ذکر السید البرقی فی تاریخ الکوفة ما نصه: «کان عبدالله بن یقطر الحمیری صحابیاً، وکان لدة الحسین، کما ذکره ابن حجر فی الاصابة، والجزری فی اسد الغابة، واللّدة: الذی ولد معک وتربی، لأن یقطر اباه کان خادماً لرسول الله صلی الله علیه و آله»(2).

ص:242


1- (2) حتی قال أحدهم «خدمت رسول الله عشر سنین، فلم یضربنی ضربة قط، ولم یسبّنی ولم یعبس فی وجهی، وکان أول ما أوصانی به ان قال: یا بنی أکتم سرّی تکن مؤمناً فما أخبرت بسرّه أحداً وإن کانت أمی، وازواج النبی صلی الله علیه و آله یسألننی أن أخبرهن بسرّه، فلا أخبرهن ولا أخبر بسرّه أحداً ابداً» المعجم الصغیر للطرانی: ج 2 / ص 100.
2- (3) تاریخ الکوفة للسید البرقی: ص 322.

ولقد کان والد الشهید مفتخراً بهذه الخدمة النبویة وبهذه التسمیة الإیمانیة، فکان یفرح ویطرب إذا ما نودی علیه بخادم رسول الله صلی الله علیه و آله ولقد اکتسب نتیجة هذه الخدمة وهذا الشرف مکانة کبیرة بین اصحاب رسول الله، بل بین المسلمین فی کل زمان ومکان حیث تحول إلی قدوة للمؤمنین یهتدون بهداه ویسیرون علی خطاه.

والدة الشهید والخدمة فی بیت علی علیه السلام

نقل السید البرقی فی کتابه القیِّم تاریخ الکوفة ان والدة الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه کان اسمها «میمونة»، وکانت خادمة فی بیت الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام، حیث عاشت فی هذا البیت الذی کانت السماء ترعاه، والملائکة تغشاه، حیث بیت النبوة وموضع الرسالة، ومختلف الملائکة، ومهبط الوحی، وأهل البیت الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهیرا، فنهلت من آدابهم وأخلاقهم وعلومهم لا سیما من سیدتها الزهراء علیها السلام والتی غرست فی نفسها معانی الکمال والفضیلة، فکانت بدرجة عالیة من التقوی والزهد والورع.

ویبدو أن بقاءها فی بیت الإمام لم یکن لمدة محدودة، بل کان وجودها منذ نشوء البیت فی أیامه الأولی، ولهذا یُنقل کما فی تاریخ الکوفة أنها ولدت الشهیدة عبد الله بن یقطر قبل ولادة الحسین علیه السلام بثلاثة أیام وکانت حاضنة له(1). ولا شک ان هذا الحضن لو لم یکن طاهراً وطیباً، لم یهیئه الله سبحانه وتعالی لإحتضان سید شباب أهل الجنة، الذی کانت ترعاه ید السماء منذ أن وطئت أقدامه هذه الدنیا.

ص:243


1- (1) تاریخ الکوفة للسید البرقی: ص 322.

روی الشیخ الصدوق بإسناده عن الحسن بن یزید، عن فاطمة بنت موسی بن جعفر عن عمر بن علی بن الحسین، عن فاطمة بنت الحسین، عن اسماء بنت أبی بکر، عن صفیة بنت عبد المطلب، قالت: «لما سقط الحسین علیه السلام من بطن أُمّه - وکنت ولیتها - قال النبی صلی الله علیه و آله یا عمة، هلمی إلی ابنی فقلت: یا رسول الله إنا لم ننظفه بعد. فقال صلی الله علیه و آله: یا عمة، أنت تنظفینه؟! إن الله تبارک وتعالی قد نظفه وطهّره»(1).

قبیلة الشهید الکربلائی

اشارة

لقد أخُتلف فی نسب الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه بین من یقول أنه «حمیریّ قحطانیّ»، وبین من یقول انه لیثیّ عدنانیّ.

وسوف نذکر القولین فیما یلی مع تعلیقتنا علی ذلک:

القول الأول

ذکر العلامة المرحوم الشیخ محمد مهدی شمس الدین الشهید عبد الله بن یقطر ثم نسبه بقوله «حمیریّ من عرب الجنوب(2)» وهکذا ذکره غیره(3) وأرسلوا ذلک إرسال المسلّمات من دون ان یبیّنوا الدلیل والمرجع الذی استقوا منه هذه النسبة. وبناءً علی هذا الرأی یکون الشهید راجعاً إلی حمیر أخی کهلان أولاد سبأ ابن یشجب بن یعرب بن قحطان(4).

ص:244


1- (1) أمالی الصدوق: ج 5 ص 117 المجلس 28.
2- (2) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 123.
3- (3) أبصار العین للشیخ السماوی: ص 93.
4- (4) التنبیه والإشراف للمسعودی: ص 233.
القول الثانی

ویذهب إلیه قطب الدین الراوندی فی کتابه الخرائج والجرائح إلی أن الشهید یرجع الی ابن أبی عقب اللیثی من بنی لیث بن بکر بن عبد مناف بن کنانة، رضیع الحسین علیه السلام(1).

وبناءً علی هذا الرأی یکون الشهید راجعاً إلی کنانة التی ینتهی نسبها إلی عدنان(2) وعلیه یکون من عرب الشمال لا الجنوب کما تقدم.

وعلی کلا الرأیین فإن کلتا القبیلتین الحمیریّة واللیثیّة کان لها دور مهم فی نصرة الإسلام ورسوله الکریم وخرّجت الکثیر من العلماء المجاهدین.

رضیعُ الحسین علیه السلام أُمّ لِدتهُ

انقسم العلماء ومن تحدث عن الشهید عبد الله بن یقطر إلی قسمین، حیث ذهب بعضهم إلی ان الشهید کان رضیعاً للحسین علیه السلام، بینما ذهب آخرون إلی أنه کان لدة الحسین علیه السلام، وسوف نتحدث عن کل من الرأیین بشیء من التفصیل.

الرأی الأول: یذهب أصحاب هذا الرأی إلی أن الشهید عبد الله بن یقطر کان رضعیاً للحسین بن علی علیه السلام(3) ، أی إن الحسین کان قد رضع من حلیب والدة الشهید عبد الله بن یقطر «میمونة». وعلیه یکون الشهید أخاً للحسین من الرضاعة.

ص:245


1- (1) الخرائج والجرائح لقطب الدین الراوندی: ج 2 ص 550.
2- (2) التنبیه والإشراف للمسعودی: ص 69، معجم قبائل العرب: ج 3 ص 1019.
3- (3) الإرشاد للشیخ المفید: ج 2 ص 70، ابن شهراشوب فی المناقب: ج 3 ص 232، رجال الشیخ الطوسی: ص 103، معجم رجال الحدیث للسید الخوئی: ج 11 ص 408، إبصار العین للسماوی: ص 93 وآخرین.

رضاعة الحسین

سوف نقف هنا قلیلاً مع هذا الموضوع المهم الذی تحدثت عنه الروایات، واخذ بعضهم یکیل - بسببه - التهم علی أتباع أهل البیت بالمغالاة وغیرها، ونحاول فی هذه الوریقات أن نتحدث عن هذا الأمر بشیء من التفصیل حتی یعلم المخالف فضلاً عن الموالف بأن ما نعتقده فیه لا یخرج عما یعتقده المسلمون ویؤمنون به.

ومن خلال مراجعة النصوص وآراء العلماء فی ذلک یتبین لنا بأن هناک ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: وهو الاتجاه الذی یؤمن بأن الحسین علیه السلام لم یرضع من ثدی امرأة سواءٌ أکانت أُمّه فاطمة أُمّ غیرها من النساء، إنما کانت رضاعته عن طریق مصِّ إبهام رسول الله صلی الله علیه و آله أو ما شاکل ذلک، وقد استُدل علی هذا الرأی بمجموعة من الروایات منها:

1 - روی المجلسی وغیره عن الصادق علیه السلام قال: «لم یرضع الحسین من فاطمة ولا من انثی، وکان یؤتی به النبی صلی الله علیه و آله فیضع إبهامه فی فیه فیمص منه ما یکفیه الیومین والثلاثة، فنبت لحم الحسین من لحم رسول الله ودمه»(1).

2 - وروی عن ثامن أئمة أهل البیت علیهم السلام وهو الإمام الرضا علیه السلام أنه قال:

«یؤتی به الحسین فیلقمه لسانه فیمصه فیجتزئ به، ولم یرضع من أنثی»(2).

ص:246


1- (1) بحار الأنوار: ج 44 ص 233 ح 17 باب 30
2- (2) بحار الأنوار: ج 36 ص 158 ح 137 باب 39.

3 - وممن ذکر هذا الأمر محمد بن العباس، قال: حدثنا همام عن عبد الله بن جعفر عن الحسن بن زید عن آبائه، قال: «نزل جبرئیل علی النبی صلی الله علیه و آله فقال: یا محمد یولد لک غلام تقتلهُ أمتک من بعدک، فقال: یا جبرئیل لا حاجة لی فیه فقال: یا محمد إن منه الأئمة والأوصیاء قال وجاء النبی صلی الله علیه و آله إلی فاطمة فقال لها إنک تلدین ولداً تقتله أمتی من بعدی فقالت لا حاجة لی فیه فخاطبها ثلاثاً ثم قال لها إن منه الأئمة والأوصیاء فقالت: نعم یا أبی فحملت بالحسین علیه السلام فحفظها الله وما فی بطنها من إبلیس فوضعته لستة أشهر، ولم یسمع بمولودٍ ولد لستة أشهر إلا الحسین علیه السلام ویحیی بن زکریا، فلما وضعته وضع النبی صلی الله علیه و آله لسانه فی فیه فمصه ولم یرضع من أنثی حتی نبت لحمه ودمه من ریق رسول الله صلی الله علیه و آله وهو قول الله تعالی:

«وَ وَصَّیْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَیْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ کُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ کُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً1,2» .

أقول: ما تقدّم یمثل أهم الروایات التی یمکن ان تُدّعی علی هذا الأمر، ولنا علیها النقاط التالیة:

أولاً: أن هذه الروایات ضعیفة السند إمّا لجهالة بعض رواتها وإمّا لإرسال البعض الآخر منها، کما أشار إلی ذلک العلّامة المجلسی فی کتابه «مرآة العقول»(1).

ص:247


1- (3) مرآة العقول: ج 5 ص 365.

ثانیاً: وعلی فرض صحة السند وتمامیته، فإمّا أن یُحمَل علی الکرامة والمعجزة لرسول الله صلی الله علیه و آله، لا سیما وقد ذکر لنا القرآن الکریم فضلاً عن الروایات، الکثیر من المعاجز والکرامات التی أجراها الله عز وجل علی یدیّ الأنبیاء السابقین، مثل التکلم بالمهد، والإحیاء للموتی، والشفاء للمرضی، والتکلم مع النمل والطیور، وما شاکل ذلک، فإذا کان مثل هذا الأمر قد حصل مع الأنبیاء السابقین، فلم یستکثر مع خاتمهم وسیدهم «محمد» مثل هذا الأمر.

وإمّا ان یحمل علی الکرامة والمعجزة للحسین علیهما السلام خصوصاً وقد امتلأت کتب الفریقین بالکثیر من معاجزه وکراماته سواءٌ عند ولادته أو بعدها إلی ساعة شهادته علیه السلام بل وبعدها، ولا أرید هنا سرد هذه الکرامات وهی کثیرة، ولکنی سوف أشیر إلی روایة واحدة، أشار الیها الخوارزمی فی مقتله، حیث یقول: «حدّثنا أمیر المؤمنین المنصور أبو جعفر قال: حدّثنی والدی، عن أبیه، عن جده قال: کنت ذات یوم جالساً عند رسول الله صلی الله علیه و آله إذ أقبلت فاطمة بنته علیه السلام فدخلت علیه، فقالت: یا أبة إن الحسن والحسین خرجا، آنفاً وما أدری أین هما؟ فقد طار عقلی وقلق فؤادی وقلّ صبری، وبکت وشهقت حتی علا بکاؤها، فرحمها ورقّ لها وقال: لا تبکی یا فاطمة فوالذی نفسی بیده إن الذی خلقهما هو الطف بهما منک، وأرحم بصغرهما منک، ثم قام من ساعته ورفع یدیه إلی السماء وقال: اللهم إنهما ولدای وقرة عینی وثمرة فؤادی وأنت أرحم بهما وأعلم بموضعهما، یالطیف بلطفک الخفی، أنت عالم الغیب والشهادة، اللهم إن کانا أخذا برّاً وبحراً فاحفظهما وسلّمهما حیث کانا، وحیث توجها. فما استتم رسول الله دعاءه حتی

ص:248

هبط جبرئیل من السماء ومعه عظماء الملائکة وهم یؤمّنون علی دعاء النبی صلی الله علیه و آله، فقال جبرئیل: یا حبیبی یا محمد! لا تحزن ولا تغتم وأبشر فإن ولدیک فاضلان فی الدنیا وفاضلان فی الآخرة، وأبوهما خیر منهما! وهما نائمان فی حظیرة بنی النجار، قد وکّل الله بهما ملکاً یحفظهما، فلما قاله له جبرئیل ذلک سرا عنه، وقام ومعه أصحابه وهو فرح حتی أتوا حظیرة بنی النجار، فإذا الحسن والحسین نائمان وإذا الحسن معانق الحسین وإذا الملک الموکّل قد وضع أحد جناحیه فی الأرض وطاءً تحتهما یقیهما من حر الأرض وجلّلهما بالجناح الآخر غطاءً یقیهما حرّ الشمس، فانکبّ علیهما النبی یقبّلهما واحداً مُوحداً، ویمسحهما بیده حتی أیقظهما من نومهما، فلما ایقظهما حمل النبی الحسن علی عاتقه وحمل جبرئیل الحسین علی ریشة من جناحه حتی خرجا بهما من الحظیرة والنبی یقول: والله لأشرّفنّکما الیوم کما شرّ فکما الله تعالی فی سماواته...»(1).

وهذا فیض من غیض کرامات الحسین علیه السلام الکثیرة، فاذا کان الأمر معه هکذا فلم یُستکثر علیه کرامة الرضاعة من إبهام جده المصطفی علیهما السلام.

ثالثا: وبغض النظر عن کل ما تقدم، فقد ذکرت کتب المسلمین وصحاحهم ما یقرب من هذه الکرامة مع نبی الله موسی علیه السلام.

فقد روی ابن عساکر فی تاریخ دمشق عن نبی الله موسی حینما کان طفلاً ورمی فی البحر وکیف وجدته أُمّه آسیة: «ففتحت التابوت فإذا هی بصبی صغیر

ص:249


1- (1) مقتل الحسین للخوارزمی: الفصل السادس/ فی فضائل الحسن والحسین والرضوان/ 101، المناقب / 284 / ج 279 بتفاوت.

فی مهده، فإذا نور بین عینیه، وقد جعل الله رزقه فی البحر فی إبهامه، وإذا إبهامه فی فیه یمصه لبناً وألقی الله لموسی المحبة فی قلب آسیة فلم یبقَ منها عضو ولا شعر ولا بشر إلا وقع فیه الاستشعار فذلک قوله:

«وَ أَلْقَیْتُ عَلَیْکَ مَحَبَّةً مِنِّی1,2» .

إضافة لما رواه الفریقان فی نبوع الماء من بین أصابعه الشریفة حتی سقی جیشاً کان یبلغ الفاً وخمسمائة رجل.

فقد روت صحاح المسلمین کالبخاری وغیره عن جابر بن عبد الله رضی الله عنه قال: «عطش الناس یوم الحدیبیة و النبی صلی الله علیه و آله بین یدیه رکوة فتوضأ، فجهش الناس نحوه، فقال: مالکم؟ قالوا: لیس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بین یدیک فوضع یده فی الرکوة، فجعل الماء یثور بین أصابعه کأمثال العیون، فشربنا وتوضأنا. قلت: کم کنتم؟ قال: لو کنا مائة ألف لکفانا، کنا عشرة مائة»(1).

أقول: إذا کانت أصابع رسول الله صلی الله علیه و آله قد سقت وأروت کل هذا العدد الکبیر من الجیش، ولم نعترض علیه، أو نری فیه محذوراً یمنعه، فلم نمنع أو نستکثر ان یتفجر من بین أصابعه الشریفة ما یمکن ان یغذی ولده الحسین علیه السلام.

الإتجاه الثانی: وهو الإتجاه الذی یؤمن أن الحسین علیه السلام رضع من أُمّه فاطمة، دون غیرها من النساء، وإبهام رسول الله صلی الله علیه و آله، کما أشار إلی ذلک بعض

ص:250


1- (3) صحیح البخاری: ج 3 ص 1105، صحیح ابن حبان: ج 14 ص 480، وغیرهما.

العلماء، یقول السماوی فی إبصار العین: کما صح فی الأخبار أنه لم یرضع من غیر ثدی أُمّه فاطمة وإبهام رسول الله صلی الله علیه و آله تارة، وریقه تارة أخری(1).

وبتقدیری أن أصحاب هذا الاتجاه، یؤمنون بأن رضاعة الحسین علیه السلام العامة کانت من ثدی أُمّه الزهراء علیها السلام، وهذا ما تتولاه بشکل طبیعی کل أُمّ بعد أن تضع ولیدها، ومن هنا نقرأ فی زیارة عرفة للإمام الحسین علیه السلام «غذتک یدُ الرحمة ورضعت من ثدی الإیمان وربیت فی حجر الإسلام»(2).

یقول توفیق بو خضر فی کتابه (عبقریة مبکرة لأطفالنا): (إن السیدة الزهراء علیها السلام تمثل الإیمان حقیقة، فقد رضع الحسین علیه السلام هذا الإیمان من أُمّه الزهراء علیها السلام)(3).

ویقول السید محمد رضا الجلالی فی کتابه الإمام الحسین سماته وسیرته: (لابد أن الحسین ارتضع بلبان المعرفة والحکمة من الزهراء أُمّه، وقد ورد فی الحدیث ان الرسول نفسه زقه بلسانه: وبإبهامه یمص منها ما ینبت اللحم)(4).

وکیف لا یرضع الحسین علیه السلام من ثدی أُمّه الزهراء علیها السلام وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله «لیس للصبی لبن خیر من لبن أُمّه»(5) ویقول أمیر المؤمنین علیه السلام «ما من

ص:251


1- (1) إبصار العین للسماوی: ص 93.
2- (2) مفاتیح الجنان، زیارة الإمام الحسین علیه السلام فی عرفة.
3- (3) عبقریة مبکرة لأطفالنا للاستاذ توفیق بو خضر: ص 101.
4- (4) الإمام الحسین سماته وسیرته للسید محمد رضا الجلالی: ص 29.
5- (5) وسائل الشعیة للحر العاملی: ج 15 ص 188.

لبن رضع به الصبی أعظم برکة علیه من لبن أُمّه»(1) ولا شک أن الزهراء أولی الناس بتطبیق کلام أبیها رسول الله صلی الله علیه و آله وکلام زوجها أمیر المؤمنین علیه السلام.

نعم، فی بعض الروایات أن الزهراء علیها السلام اعتلّت أو جف لبنها وبحث رسول الله صلی الله علیه و آله لها عن مرضعة للحسین علیه السلام فلم یجد، عندها قدم له إبهامه الشریف کما تقدم قبل ذلک، یقول ابن شهراشوب فی المناقب: اعتلّت فاطمة علیها السلام لمّا ولدت الحسین علیه السلام وجف لبنها، فطلب رسول الله صلی الله علیه و آله مرضعة فلم یجد، فکان یأتیه فیلقمه إبهامه یمصها ویجعل الله فی إبهام رسوله رزقاً یغذیه، ففعل ذلل أربعین یوماً ولیلة، فأنبت الله لحمه من لحم رسول الله صلی الله علیه و آله(2).

والذی یفهم من ظاهر نص ابن شهراشوب المتقدم، أن عملیة إرضاع رسول الله بإبهامه الشریف للحسین علیه السلام، لم تکن إلا لمدّة محدودة بسبب مرض أُمّه الزهراء علیه السلام، وإلا فمدّة الرضاعة بشکل عام کانت من ثدی أُمّه علیها السلام.

الاتجاه الثالث: یؤمن اصحاب هذا الرأی بأن الحسین علیه السلام کان قد رضع من غیر ثدی أُمّه الزهراء علیها السلام، حیث اختار له رسول الله صلی الله علیه و آله مراضع یرضعنه فی تلک المرحلة من عمره الشریف، ومثل هذا الأمر کان معمولاً به عند العرب لاسیما البیوتات الکبیرة، إذ کانوا یسترضعوا لأولادهم المرضعات ذوات الخلق الرفیع والنسب الأصیل، ممن یعشن فی البادیة، من أجل قوة البنیة والفصاحة، والبلاغة وما إلی ذلک، کما جری مثل هذا الأمر مع رسول الله صلی الله علیه و آله.

ص:252


1- (1) وسائل الشیعة: ج 15 ص 175.
2- (2) مناقب آل أبی طالب لابن شهراشوب: ج 4 ص 57.

وقد ذکرت کتب التأریخ ان الحسین علیه السلام، قد رضع من ثدی أکثر من امرأة، وهن:

أ) أُمّ الفضل لبابة بنت الحارث الهلالیة، یقول الذهبی: «وکانت ثانی امرأة أسلمت، أسلمت بعد خدیجة. قاله الکلبی(1).

ویقول ابن ماجة فی سننه: (قالت أُمّ الفضل یا رسول الله رأیت کأن فی بیتی عضواً من أعضائک قال خیراً رأیتِ تلدُ فاطمة غلاماً فترضعیه فولدت حسیناً أو حسناً فأرضعته بلبن قثم قالت فجئت به إلی النبی صلی الله علیه و آله فوضعته فی حجره...»(2) وعلیه فیکون قثم بن العباس بن عبد المطلب أخا الحسین علیه السلام من الرضاعة.

ب) أُمّ قیس بن ذریح، بنت سنة بن الذاهل بن عامر الخزاعی(3) ، وعلیه فیکون قیس بن ذریح أخا الحسین من الرضاعة(4) یقول القاضی التنوخی: وروی أبو الفرج قبل هذا فی أخبار قیس بإسناد مفرد لم أذکره ههنا فوق الاطالة أنه کان رضیع الحسین علیه السلام(5).

ج) میمونة أُمّ عبد الله بن یقطر: وقد تقدم الحدیث عنها(6).

ص:253


1- (1) سیر أعلام النبلاء للذهبی: ج 3 ص 440.
2- (2) سنن ابن ماجة، مسألة: 3923 / باب تعبیر الرؤیا: ج 2 ص 289.
3- (3) الاغانی لأبی فرج الأصبهانی: ج 8 ص 107.
4- (4) إبصار العین للشیخ السماوی: ص 93.
5- (5) الفرج بعد الشدة للقاضی التنوخی: ج 2 ص 419.
6- (6) وهناک من یری بأن أم عبد الله بن یقطر کانت حاضنة للحسین علیه السلام ولیست مرضعة، کما یذهب إلی ذلک السماوی فی إبصار العین: ص 93 وغیره، الإیام المکیة: ج 3 ص 170

لِدة الحسین علیه السلام

یذهب بعض العلماء - استناداً إلی بعض المؤشرات - أن الشهید الکربلائی لِدة الحسین علیه السلام، یقول السید محمد مهدی بحر العلوم: وما جاء فی کلام الطبری، وبعض المؤرخین، من أن عبد الله بن یقطر رضیع الحسین علیه السلام، لیس له صحة، بل کانت أُمّ عبد الله بن یقطر حاضنة للحسین علیه السلام، وکان لِدة الحسین علیه السلام، واللِّدة بکسر اللام الذی ولد مع الإنسان فی یوم واحد(1).

فخر اقتران ولادة الشهید بولادة الحسین علیه السلام

إن لمن دواعی الفخر والاعتزاز الکبیرین لدی الإنسان، أن یقترن مولده مع مولد إنسان عظیم کسید الشهداء علیه السلام، بل وتأتی ولادته فی نفس المکان الذی ولد فیه علیه السلام، ومن ثم تقترن حیاته مع حیاته منذ اللحظات الأولی مکاناً وزماناً، فلا ینادی إلا بلِدة الحسین علیه السلام، وفی ظل هذا الجو یکبر الشهید الکربلائی ویدرج، فلا یطرق سمعه إلا صوت الحسین علیه السلام والاطهار من أهل بیته ویلْعب ویمرح فلا یبصر أمامه إلا طفلاً صغیراً یتحرک فی بیت، ینزل فیه الوحی، وتتلی فیه آیات الله لیلاً ونهاراً ومهداً له یهزه جبرئیل، ویشب الشهید فی هذه الأجواء الإیمانیة والوجوه الربانیة، فتمتلئ عینه وقلبه ومشاعره من حب الحسین علیه السلام، ومن ثم یکون کظله الذی یتحرک معه، فلا یضع قدمه إلا حیث یضعها الحسین فماذا تری یمکن ان یأخذ مثل هذا الإنسان وهو یعیش مع رفیق معصوم نزل القرآن الکریم بمدحه والثناء علیه(2).

ص:254


1- (1) الفوائد الرجالیة للسید محمد مهدی بحر العلوم: ج 4 ص 32 الهامش رقم (1).
2- (2) کما فی آیة التطهیر، وآیة المودة، وآیة المباهلة، وآیة الإطعام وغیرها.

الجلیس الصالح

لقد ذکر النبی صلی الله علیه و آله وهو فی معرض حدیثه، عن الجلیس الصالح والجلیس السیئ الذی ترکن إلیه مدّة زمنیة محدودة بقوله: «إنما مثل الجلیس الصالح والجلیس السوء کحامل المسک ونافخ الکیر، فحامل المسک إمّا أن یحذیک (یعطیک)، وإمّا ان تبتاع منه، وإمّا أن تجد منه ریحاً طیبة، ونافخ الکیر إمّا ان یحرق ثیابک وإمّا ان تجد ریحاً خبیثة»(1) فإذا کان الإنسان بجلسة قصیرة مع جلیس صالح قد یحصل علی واحدة من ثلاثة فإما أن یعطیک ویهدیک أو تشتری منه أو تشم منه رائحة طیّبة، تؤثر فی نفسک وبدنک وثوبک، فما بالک بصحبة طویلة تقترن مع الولادة وتمتد لتشترک حتی فی صباها وشبابها وشیخوختها فلا ترضی لنفسها بعد ذلک إلا أن تشترک معها فی نهایةٍ شاءَ اللهُ تعالی لها أن تنتهی إلیها، ما الذی یمکن أن یأخذه مثل هذا الإنسان مع صحبة من هذا القبیل؟ لا شک أن الشهید عبد الله بن یقطر، قد أخذ من الحسین کلَّ مقومات الشخصیة الإیمانیة، فکان لا یری الحسینُ خیراً إلا ویأمره به، ولا یری سوءاً أو شراً إلا وینهاه عنه، فکان الحسینُ علیه السلام بالنسبة إلیه خیراً له من نفسه، وکما یقول أحد العلماء: (الأخ الصالح خیر لک من نفسک لأن النفس أمّارة بالسوء والأخ الصالح لا یأمر إلا بالخیر، یقول آخر: الاصدقاء ثلاثة أحدهم کالغذاء لابد منه، والثانی کالدواء یحتاج إلیه فی وقت دون وقت، والثالث کالداء لا یحتاج إلیه قط).

ولا ریب أن الحسین علیه السلام کان للِدته کالغذاء الذی لا یستغنی عنه، وقدیماً

ص:255


1- (1) صحیح مسلم: باب استحباب مجالسة الصالحین ومجانبة قرناء السوء: 2628.

قالوا «المرء علی دین خلیله فلینظر أحدکم لمن یخالل»(1) ، ولقد أحسن الشاعر بقوله:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرینه إذا کنت فی قوم فصاحب خیارهم

فکل قرین بالمقارن یقتدی ولا تصحب الأردی فتردی مع الردی(2)

وأخیراً یروی المجلسی وغیره قول رقیقة بنت صیفی فی حدیث سُقیا عبد المطلب: «ألا وفیهم إلاّ الطیب الطاهر لِداته»(3) والمراد من (لداته) یعنی أتراب النبی صلی الله علیه و آله وأقرانه، وإنما ذکروا أترابه وأقرانه کاسلوب من أسالیب تثبیتها ووجودها لهم، فإن الإنسان إذا نودی بأقرانه وأترابه الصالحین، وُذکّر بهم، فإن مثل هذا الأمر سیکون عاملاً دافعاً له للمضی خلفهم، ومن هنا قالت العرب: فلان قد أیفعت لِداته، أی أیفع هو فکُنی بإیفاع لداته عن إیفاع نفسه(4).

صحبة الشهید الکربلائی لرسول الله

لقد نصَّ کثیر من العلماء علی صحبة الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه لرسول الله صلی الله علیه و آله، وذلک اعتماداً علی الرأی المشهور للمُحدّثین الذین ذهبوا إلی تعریف الصحابی اعتماداً علی اللغة، فادخلوا بناءً علیه کل من لقی النبی صلی الله علیه و آله مؤمناً به، وإن لم تطل صحبته وجلسته معه، یقول ابن الجوزی: (وفصل الخطاب فی هذا الباب بأن الصحبة إذا اطلقت فهی فی المتعارف تنقسم إلی قسمین:

ص:256


1- (1) کتاب الاعتصام للإمام الشاطبی: ج 1 ص 172.
2- (2) الآداب الشرعیة، محمد بن مفلح بن محمد المقدسی: ج 3 ص 566.
3- (3) بحار الأنوار: ج 15 ص 404، التحریر والتنویر لابن عاشور: ج 26 ص 46.
4- (4) التحریر والتنویر لابن عاشور: ج 26 ص 46.

أحدهما: ان یکون الصاحب معاشراً مخالصاً کثیر الصحبة فیقال: هذا صاحب فلان، کما یقال: خادمه کمن تکررت خدمته لا لمن خدمه یوماً أو ساعة!!.

الثانی: أن یکون صاحباً فی مجالسة أو عشاة ولو ساعة، فحقیقة الصحبة، موجودة فی حقه وإن لم یشتهر بها(1).

وبناءً علیه یکون کل من نص علی أخوّة الشهید الکربلائی للحسین بالرضاعة، أو لِدته له، قد أشار إلی صحبة الشهید لرسول الله صلی الله علیه و آله. لا سیما ابن حجر فی الاصابة حیث نص علی ذلک بشکل واضح وصریح قال: کان صحابیاً لأنه لِدة الحسین علیه السلام(2).

الشهید عبد الله بن یقطر وحرکة الإمام المهدی: روی القطب الراوندی فی کتابه الخرائج والجرائح، شعراً منسوباً إلی الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، فی نصوص حرکة الإمام المهدی المبارکة، قال: ومنها ما روی عن عبد الله بن یقطر بن أبی عقب اللیثی من بنی اللیث بن بکر بن عبد مناف بن کنانة، رضیع الحسین علیه السلام:

إذا کملت أحدی وستون حجة إلی خمسة من بعدهن ضرائح

وقام بنو لیث بنصر إبن أحمد یهزون أطراف القنا والصفائح

تعرفنهم شعث النواصی یقودها من المنزل الأقصی شعیب بن صالح

وحدثنی إذ أعلم الناس کلهم أبو حسن أهل التقی والمدائح(3)

ص:257


1- (1) الصحبة والصحابة، للشیخ حسن بن فرحان المالکی: ص 140.
2- (2) الاصابة لابن حجر: ج 4 ص 59 وفیه عبد الله بن یقظة ویبدو أنه فیه تصحیف کما مر سابقاً.
3- (3) الخرائج والجرائح للقطب الراوندی: ج 2 ص 550.

هذه هی واحدة من الأدلة التی یذکرها العلماء فی خصوص حرکة الإمام المهدی علیه السلام، والعلامات المتعلقة بهذا الخروج، وقد ذکر الشهید الکربلائی فی طیّات أبیاته المتقدمة، واحدة من مجموعة من العلامات التی ورد ذکرها فی الروایات ان هذا الأمر لا یکون إلا بعد حصولها، فقد روی الشیخ الطوسی فی الغیبة، عن حذلم بن بشیر، قال: قلت لعلی بن الحسین علیه السلام: صف لی خروج المهدی، وعرّفنی دلائله وعلاماته؟ فقال: «یکون قبل خروجه خروج رجل یقال له عوف السلمی بأرض الجزیرة، ویکون مأواه تکریت، وقتله بمسجد دمشق، ثم یکون خروج شعیب بن صالح من سمرقند، ثمَ یخرج السفیانی الملعون من الوادی الیابس»(1).

وفی روایة النعمانی فی معتبرة البزنطی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام انه قال: «قبل هذا الأمر السفیانی والیمانی والمروانی وشعیب بن صالح، فکیف یقول هذا هذا»(2).

ویبدو أن هذا الرجل هو عبارة عن قائد عسکری کبیر ومحنک، یقف إلی جانب الإمام المهدی ویکون علی مقدمة جیشه، وأنه من بنی تمیم، وعن الحسن، قال: «یخرج بالریّ رجل ربعة، أشمّ، موالٍ لبنی تمیم، کوسج، یقال له «شعیب بن صالح» فی أربعة آلاف، ثیابهم بیض، ورایاتهم سود، یکون علی مقدمة المهدی، لا یلقاه أحدٌ إلا قتله»(3).

ص:258


1- (1) حقیقة الاعتقاد بالإمام المهدی، أحمد حسین یعقوب: ص 622.
2- (2) بحار الأنوار: ج 52 ص 233.
3- (3) عقد الدرر: ص 174-175.

وهناک من یری ان المراد بهذا الرجل، هو شعیب بن صالح النبی صلی الله علیه و آله ولیس شخصاً آخر، لا سیما وقد روت کتب المسلمین، أن هناک مجموعة من الأنبیاء سوف یخرجون مع الإمام المهدی، کالسید المسیح والخضر وإلیاس، ومن ثم یمکن ان یکون نبی الله شعیب بن صالح، نازلاً مع الأنبیاء.

وقد ورد فی تفاسیر أهل البیت، فی تفسیر الآیة الکریمة من سورة هود:

«بَقِیَّتُ اللّهِ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ 1» .

حکایة عن حدیث شعیب مع قومه، والتی سوف یقرأها الإمام المهدی علیه السلام بعد خروجه علی قومه(1).

وعلی کلا الاتجاهین، یبدو أن الشهید الکربلائی عبد الله بن یقطر رضی الله عنه کانت الصورة عنده واضحة فی خصوص حرکة الإمام المهدی علیه السلام، وتفاصیل هذه الحرکة المبارکة، بل إن الإنسان یلمس من خلال هذه الإبیات الشعریة والکلمات التی صیغت بها، ان هذه القضیة قد لامست کل شعوره ووجدانه، حتی عبر عنها بأبیات من الشعر، بیّن بها إیمانه وتفاعله مع هذه العقیدة المقدسة، التی هی امتداد للثورة الحسینیة المبارکة، والذی یعد الشهید أحد بُناتها ومُشیّدی مجدها، من هنا نفهم سر الروایات الکثیرة التی وردت عن الإمام الحسین علیه السلام فی خصوص حرکة الإمام المهدی علیه السلام، وسُرِّ مجیء الإمام المهدی إلی کربلاء أولاً دون سواها من الأماکن المقدّسة فی العراق.

ص:259


1- (2) نور الابصار: ص 172.

واکتفی أخیراً بذکر روایة واحدة عن الحسین علیه السلام أنه قال: «لا یکون الأمر الذی تنتظرونه حتی یبرأ بعضکم من بعض، ویشهد بعضکم علی بعض، ویلعن بعضکم بعضاً، قال الروای قلت: ما فی ذلک الزمان من خیر، فقال علیه السلام: الخیر کله فی ذلک الزمان، یخرج المهدی ویرفع ذلک کله»(1).

مهمة الشهید عبد الله بن یقطر علیه السلام

اشارة

کلمة لابد منها: أبدی الکثیر من المؤرخین فضلاً عن الکُتَّاب المُحدَثین، لاسیما المحققین منهم، وهم یتحدثون عن الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، والشهید قیس بن مُسِّهر الصیداوی، عن صعوبة الخوض فی مهمة کل واحد منهما، وما ذاک إلا لتداخل مهمتیهما من جانب، وعدم وضوح الروایات التی تحدثت عنهما من جانب آخر، فضلاً عن تشابه النهایة التی انتهی إلیها کلاهما، من هنا یجد

القارئ حالة الشک والتردد واضحة عند من کتب وتحدث عنهما، یقول الشیخ المفید فی کتابه الإرشاد: «ولما بلغ الحسین علیه السلام الحاجز من بطن الرمة، بعث قیس ابن مسِّهر الصیداوی، ویقال: بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن یقطر رضی الله عنه»(2).

ویعلق السید محسن الأمین فی کتابه القیّم المجالس السنیة بقوله: «وقع اشتباه هنا من بعض المؤرخین بین قصة قیس بن مسِّهر الصیداوی رسول الحسین علیه السلام إلی أن الذی قبض علیه هو الحصین بن تمیم وأرسله إلی زیاد فأمر أن یسبَّ الحسین وأباه ففعل ضد ذلک، فألقاه من أعلی القصر، وبین قصة عبد الله

ص:260


1- (1) عقد الدرر: ص 63.
2- (2) الارشاد للشیخ المفید: ج 2 ص 70، العوالم (الإمام الحسین): ج 2 ص 229.

ابن یقطر الذی أرسله ابن عقیل إلی الحسین علیه السلام فقبض علیه الحصین أیضاً وجری علیه نظیر ما جری لقیس»(1).

ولذلک نحاول فی هذه الدراسة المتواضعة أن نسلط الأضواء علی أهم الآراء والأقوال التی ذکرها العلماء فی کتبهم أو التی یمکن ان یتلمسها الإنسان فی طیّات کلماته، والتی نحاول أن نجمعها ونرتبها إلی ما یلی:

الرأی الأول

ویری أصحابه أن الحسین علیه السلام سرّح عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، إلی مسلم بن عقیل فی جواب کتابه الذی أخبره باجتماع الناس ومبایعتهم له، وفی طریقه إلی الکوفة ألقی علیه القبض الحصین بن نمیر فی القادسیة، یقول أصحاب السیر والتواریخ: «لما بلغ الإمام الحسین الحاجز من بطن الرمّة، بعث إلی أهل الکوفة کتاباً، وقال فیه: "بسم الله الرحمن الرحیم: من الحسین بن علیّ إلی وجوه إخوانه المؤمنین والمسلمین، سلامٌ علیکم، فإنّی أحمدُ الیکم الله الذی لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد، فإنّ کتاب مسلم بن عقیل جاءنی یخبرنی فیه بحسن رأیکم، وإجماع ملئکم علی نصرنا والطلب بحقنا، فسألت الله ان یحسن لنا الصنیع، وأن یثیبکم علی ذلک أعظم الأجر. وقد شخصت الیکم من مکة یوم الثلاثاء لثمانٍ مضین من ذی الحجة یومَ الترویة، فإذا قدم علیکم رسولی فانکمشوا فی أمرکم وجدّوا، فإنی قادم علیکم فی أیامی هذه، والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته"(2).

ص:261


1- (1) المجالس السنیة: ج 1 ص 70.
2- (2) الارشاد للشیخ المفید: ج 2 ص 70. روضة الواعظین للفتّال النیسابوری: ص 177.

وطوی الإمام الکتاب وختمه بختمه، ودفعه إلی عبد الله بن یقطر، کما یذهب إلی ذلک الفتال النیسابوری فی روضة الواعظین وغیره»(1).

ویقول الشیخ السماوی: قال أهل السیر: «إنّ عبد الله بن یقطر سرحه الحسین علیه السلام إلی مسلم بن عقیل بعد خروجه من مکة فی جواب کتاب مسلم إلی الحسین علیه السلام یسأله القدوم.

ویخبره باجتماع الناس، فقبض علیه الحصین بن تمیم بالقادسیة وأرسله إلی عبید الله بن زیاد»(2).

فبناءً علی هذا الرأی یکون الشهید عبد الله بن یقطر قد القی علیه القبض وهو رسول الإمام الحسین علیه السلام إلی أهل الکوفة.

الرأی الثانی

ویذهب أصحابه إلی أن الشهید قد سرّحه الحسین علیه السلام مع مسلم بن عقیل عند مغادرته مکة إلی الکوفة، وظل معه مراقباً للاوضاع، حتی إذا حصل الانقلاب المفاجئ فی الکوفة، بعثه مسلم بن عقیل بکتاب إلی الحسین علیه السلام یشرح فیه ما جری وحصل علیه آخر الأمر، فیقول الشیخ السماوی نقلاً عن ابن قتیبة وابن مسکویه إنهما قالا: «إن عبد الله بن یقطر بعثه الحسین علیه السلام مع مسلم، فلما أن رأی مسلم الخذلان قبل ان یتم علیه ما تم، بعث عبد الله إلی الحسین علیه السلام یخبره بالأمر»(3).

ص:262


1- (1) روضة الواعظین للفتّال النیسابوری: ص 177.
2- (2) إبصار العین للشیخ السماوی: ص 93.
3- (3) إبصار العین للشیخ السماوی: ص 93.

وهناک من یختلف مع اصحاب هذا الرأی فی وقت رجوع الشهید عبد الله ابن یقطر رضی الله عنه، حیث یذهبون إلی أنه کان قبل الخذلان والانقلاب الذی حصل فی الکوفة، وتحدیداً عندما بلغ عدد المبایعین رقماً کبیراً، فُبعث لیبشر الحسین علیه السلام بذلک، فقبض علیه مالکُ بن یربوع التمیمی، یقول ابن شهراشوب فی مناقب آل أبی طالب: «أن ابن زیاد بعد أن زار شریکاً فی مرضه، فی بیت هانئ، وجری ما جری من خطة اغتیاله، فخرج، فلمّا دخل القصر أتاه مالک بن یربوع بکتاب أخذه من ید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، وفی الرسالة: «أمّا بعد، فإنی أخبرک أنه قد بایعک کذا، فإذا أتاک کتابی... الخ»(1).

وعلی کلا التفسیرین یکون الشهید عبد الله قد القی علیه القبض وهو رسول مسلم بن عقیل إلی الحسین علیه السلام.

الرأی الثالث

وهو القائل بأن الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، بعثه الحسین وهو فی طریقه إلی الکوفة، بعد أن انقطعت عنه أخبارها، وبعد أن بعث قیس بن مسِّهر الصیداوی رضی الله عنه إنقطاع اخباره عنه علیه السلام، یقول علی بن محمد الفتّال النیسابوری: «ویجوز أنه أرسل إلیهم کتابین: أحدهما مع عبد الله بن یقطر، والآخر مع قیس بن مسهِّر الصیداوی»(2).

وربما یستشف مثل هذا الرأی من ظاهر کلمات السید محسن الأمین فی

ص:263


1- (1) مناقب آل أبی طالب: ج 4 ص 94.
2- (2) روضة الواعظین للفتّال النیسابوری: ص 152.

مجالسه السنیة حیث یقول: «إن الوضع قد بلغ الحد الذی یدفع إلی المواجهة وإلی القتال الصریح مهما تکن القوة التی تجابهه؛ وقد تأکد له الموقف بعد ذلک حین أرسل قیساً بن مسهِّر الصیداوی فقُتل هو الآخر، ثمَّ عاد فارسل عبد الله بن یقطر فألُقی من شرفات القصر»(1).

ویقول سعید أیوب فی کتابه معالم الفتن: «ولکی یطوقهم الحسین علیه السلام بطوق الحجة مرة أخری، بعث إلیهم عبد الله بن یقطر، وما حدث لقیس حدث لابن یقطر فلقد تلقته خیل الحصین بن نمیر بالقادسیة، وبعث به إلی ابن زیاد...»(2).

وتبقی الاحتمالات قائمة: ما تقدم یمثل أهم الآراء التی ذکرها العلماء فی الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، وقد حاولنا قدر استطاعتنا أن نعطی صورة للقارئ الکریم، ولو سریعة، بما ذکر وکتب عن مهمة الشهید رضی الله عنه، علی أن الأمر یحتاج إلی مزیدٍ من البحث والدراسة، وتبقی مع کل رأی من الآراء المتقدمة احتمالات الصحة والمطابقة للواقع قائمة.

وقت شهادة عبد الله بن یقطر: لقد ذکر العلماء فی کتبهم جملة من الروایات التی تحدثت عن وقت شهادة الشهید عبد الله بن یقطر، والمتتبع لهذا الروایات یجد أن کل واحدة لا تجتمع مع الآخری فی الوقت، وأهم هذه الروایات فی تقدیرنا ثلاثة:

الأولی: وهی التی تزعم أن وقت شهادة الشهید کان قبل انقلاب الأوضاع

ص:264


1- (1) المجالس السنیة للسید محسن الأمین: ج 2 ص 295.
2- (2) معالم الفتن: ج 2 ص 271.

فی الکوفة بشکل کامل، وتحدیداً فی أول لیلةٍ قدم فیها ابن زیاد إلی الکوفة کما یذکر ذلک ابن عساکر وغیره.

حیث ورد: «وأتی تلک اللیلة برسول الحسین علیه السلام وقد کان ارسله إلی مسلم ابن عقیل وکان یقال له: عبد الله بن یقطر فقتله»(1).

ومثل هذه الروایة یَبعُد قبولها، لا سیما وهی تتحدث عن اللیلة الأولی التی دخل فیها عبید الله بن زیاد إلی الکوفة، وهی اللیلة التی احتاج فیها ابن زیاد إلی کثیر من التأمل فی واقع الکوفة، وما یجری فیها، من أجل وضع الخطط المناسبة لها، والقادرة علی مواجهتها، کوضع الجاسوس معقل وغیره، ومن ثم، فإن مثل هذه الأمور تحتاج إلی وقت حتی یمکن ان تنفّذ، ومن ثم یستتب له الأمر، ثم یصنع بعد ذلک ما یشاء من ترویع وقتل.

هذا کله، إضافة إلی أن أمراً خطیراً - کقتل الشهید عبد الله بن یقطر - وبالکیفیة التی سوف نتحدث عنها لابد أنها سوف تترک أثراً کبیراً فی نفوس الناس وإذا کان مثل هذا الأمر متوقعاً فلا شک أن مسلماً وهانئاً وغیرهما من شخصیات الحرکة فی الداخل سوف یحاولون أن یتخذوا - قدر استطاعتهم - کافة الاحتیاطات لمواجهة ابن زیاد حتی لا یتحولوا إلی لقمة سائغة له، وهذا ما لم یحصل، مما یعنی ان شهادة عبد الله بن یقطر لم تحصل فی الزمان الذی ادعته هذه الروایة.

الروایة الثانیة: وهی الروایة التی یفهم من ظاهرها ان الشهید عبد الله بن

ص:265


1- (1) ابن عساکر، ترجمة الإمام الحسین: ص 327.

یقطر، قد قتل بعد شهادة مسلم بن عقیل علیه السلام، وهانیء بن عروة، یقول الطبری: «حتی إذا انتهی إلی زبالة سقط إلیه مقتل أخیه من الرضاعة عبد الله بن یقطر وکان سرحه إلی مسلم بن عقیل، فی الطریق وهو لا یدری أنه قد اصیب فتلقاه خیل الحصین بن تمیم بالقادسیة، فسرح به إلی عبید الله بن زیاد... الخ»(1).

فإن الحصین بن نمیر (تمیم) لم یُسرَّح خارج الکوفة علی الخیل إلا بعد شهادة مسلم بن عقیل علیه السلام وانقلاب الاوضاع فی الکوفة.

الروایة الثالثة: وهی الروایة التی ربما تکون هی الاقرب إلی وقت اعتقال الشهید وشهادته إلی انه رضی الله عنه اعتقل فی نفس وقت اعتقال هانیء أو قبله بقلیل، یقول ابن اعثم: «فبینا عبید الله مع القوم فی هذه المحاورة إذ دخل رجل من أصحابه، یقال له مالک بن یربوع التمیمی، فقال: أصلح الله الأمیر: ها هنا خبر، فقال ابن زیاد: ما ذاک؟ قال: کنت خارج الکوفة أجول علی فرسی، إذ نظرت رجلاً خرج من الکوفة مسرعاً یرید البادیة فأنکرته، ثم إنی لحقته وسألته عن حاله، فذکر أنه من المدینة، فنزلت عن فرسی وفتشته فأصبت معه هذا الکتاب... الخ»(2).

ومما یؤکد هذه الروایة، ما رواه ابن شهراشوب فی المناقب من أن وقت اعتقال الشهید کان بعد خروج عبید الله بن زیاد من بیت هانیء، یقول: «فتوهم ابن زیاد وخرج (من بیت هانیء) فلما دخل القصر أتاه مالک بن یربوع بکتاب أخذه من یدی عبد الله بن یقطر»(3).

ص:266


1- (1) تاریخ الطبری 303:3.
2- (2) الفتوح لابن اعثم 5: ص 45.
3- (3) المناقب لابن شهراشوب 243:3.

ومن ثم یکون الشهید قد اعتقل بوقت مقارب جداً إلی وقت اعتقال هانیء، الذی لم تکن قد سُکَّرت فیه الطرق خارج الکوفة، ولم یرسل بعد الیها الحصین ابن نمیر (تمیم)، ومن ثم یکون اعتقال الشهید قد تمّ بشکل فردی وبجهد شخصی من قبل مالک بن یربوع التمیمی ومن معه، والذی نسب وقوفه خارج الکوفة فی ذلک الوقت إلی نفسه حیث قال: «أجول علی فرسی، مما یعنی أن الأوامر لم تصدر بعد إلی الشرطة وغیرهم بالخروج خارج الکوفة وتسکیر الطرق علی الداخلین إلیها والخارجین منها).

کیفیة شهادة الشهید عبد الله بن یقطر: روی الطبری فی تاریخه، والشیخ المفید فی الارشاد وغیرهما کثیر ان ابن زیاد قال للشهید: «اصعد القصر والعن الکذّاب ابن الکذّاب! ثم انزل حتی اری فیک رأیی. فصعد القصر، فلمّا أشرف علی الناس قال: أیها الناس، أنا رسول الحسین بن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله إلیکم لتنصروه وتؤازروه علی ابن مرجانة وابن سمیة الدعیّ ابن الدعیّ، فأمر به عبید الله فألقی من فوق القصر إلی الارض، فتکسرت عظامه وبقی به رمق فأتاه عبد الملک بن عمیر اللخمی فذبحه بمدیة، فلما عیب علیه قال: إنی اردت ان أریحه»(1).

ولک ان تتصور معی، ویتصورها کل من یقرأ هذا النص، کم هی صلبة وقویة عقیدة الشهید رضی الله عنه، الذی لم یعبأ بکل طغیان ابن زیاد، وغطرسته، حتی انه ما تردد فی إیصال رسالته إلی الناس، ولک ان تتصور معی، حال ابن زیاد واقفاً وهو

ص:267


1- (1) تاریخ الطبری 303:3، الارشاد للشیخ المفید 70:2، إبصار العین: ص 93.

یسمع الصفعات تلو الصفعات، التی افقدته توازنه، حتی ان الإنسان لیتلمس انهیار ابن زیاد من خلال الأمر الذی اصدره بحق الشهید، ان یُصعد به أعلی القصر ویُرمی من سطحه إلی الارض.

ولک أن تتصور معی قاضی الکوفة ومفتیها الذی بلغ من العمر عتیا، وهو یعیش الصغار والضعة والذلة فی نفسه، فی أعلی صورها واشکالها، یبرز أمام الناس مفتخراً، إلی جهة الشهید عبد الله بن یقطر وهو یجود بنفسه علی الأرض، من أجل ان یثبت لابن سمیة مدی طاعته له ولسیده الفاجر یزید، من خلال اقدامه علی ارتکاب جریمة یندی لها جبین الإنسانیة قبل الدین، والعجیب فی أمر هذا الرجل، انه حینما ذُمَّ وعُنّف علی فعله هذا! اعتذر بقوله: انما أردت ان اریحه، عذرٌ أشد قبحاً من فعله.

الشهید عبد الله بن یقطر ومنهجیة القتل الأموی

أن من یقرأ ویتأمل فی سیرة بنی أمیة، منذ أن اعتلی معاویة بن أبی سفیان سدة الحکم ظلماً وعدواناً، وماتلاه من أقطاب هذه المدرسة الأمویة، علی صدر الأمة الإسلامیة، لیجد وبشکل واضح، أن هناک منهجاً مدروساً، وسیاسةً محکمة، اختیرت منذ الیوم الأول، وأرید لها أن تستمر فی حیاة هذه الأمة، من أجل القضاء علی هذا الدین من الداخل، بعد ان عجزت عن مواجهته من الخارج، فقد قررت هذه المدرسة منذ یومها الأول، ان تواجه من یقف أمام انحرافها وظلمها واستهتارها بمقدرات الإسلام والمسلمین، بأبشع صور الارهاب والقتل والتشرید، وربما لا یحتاج الإنسان کثیر عناءٍ من أجل إثبات هذه الحقیقة التاریخیة أو

ص:268

التدلیل علیها، فنظرة سریعة إلی ما صنعه حکام بنی أمیة واشیاعهم واتباعهم مع شخصیات هذه الأمة ورموزها الإسلامیة، من مآسٍ وویلات، یمثل أعظم دلیل یمکن أن یقدم فی هذا المجال، فهذا حجر بن عدی صاحب رسول علیهما السلام، بل من أفاضل اصحابه، کثیر الصلاة والصیام(1) ، یقتل وبأشبع صورة مع ثلة من اصحابه البررة بید معاویة بن أبی سفیان(2) ، وذاک رشید الهجری یقطع لسانه، ویصلب علی باب عمرو بن حریث(3) ، ونفس الطریق جرت مع میثم التمار وقنبر وو.. وقائمة الاسماء تطول مع اجرام بنی أمیة وظلمهم، ویبدو ان شهادة الشهید الکربلائی عبد الله بن یقطر، جاءت ضمن منهج هذه الفئة مع أبناء هذه الأمة، لا سیما أتباع أهل البیت علیهم السلام والمتمسکین بولایتهم.

ومن الغریب حقاً، ان تصوّر هذه الشخصیات الظالمة، عبر التاریخ إلی یومک هذا، علی أنها خدمت الإسلام والمسلمین، بعدلها الزائف، وحلمها الکاذب، وورعها الذی لا یمت إلی الواقع بصلة، ومن ثم یُمجَّد زیاد بن أبیه، وابنه عبید الله وبعدهم الحجاج وغیرهم من رموز الارهاب والقمع الاموی، علی اساس أنهم اصحاب قوة وحزم کبیرین فی إدارة شؤون العباد والبلاد، وینسون أویتناسون بعبارة أصح جرائمهم التی ارتکبوها عبر التاریخ والی یومک هذا، والتی ملأت کتب المسلمین، وباعتقادی ان هذا الأمر یمثل امتداداً لهذه السیاسة الأمویة السفیانیة التی ابتدعها معاویة، فی التعامل مع معارضیه والخارجین علیه وکل من

ص:269


1- (1) الاستیعاب لابن عبد الله 331:1.
2- (2) تاریخ دمشق 226:12-227.
3- (3) لسان المیزان للذهبی 461:2 (رقم 1859).

یکتم هذه السیاسة أو یتستر علیها أو حتی یقلل من مأساتها، فهو من منفذی هذه السیاسة الأمویة والداعین إلیها.

وما الترویع الذی یجری للآمنین من أتباع أهل البیت علیهم السلام، فی کل أرض یطؤوها، من قبل أتباع بنی أمیة - من الوهابیة وغیرهم - إلا اقتفاءً لأمر سیَّدهم معاویة بن أبی سفیان فی علیّ علیه السلام وفی قتل مَنْ یروی شیئاً فی فضائل أبی تراب، یقول ابن أبی الحدید المعتزلی: «کتب معاویة نسخة واحدة إلی عمّاله بعد عام الجماعة: أن قد برئت الذمة ممّن روی شیئاً من فضل أبی تراب»(1).

الحسین یؤبن الشهید عبد الله بن یقطر

ورد فی کتاب مقتل الحسین علیه السلام لأبی مخنف، أن الحسین علیه السلام لما أخبر بقتل رسوله عبد الله بن یقطر، تغرغرت عینه بالدموع، وفاضت علی خدیه، ثم قال:

«مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً2,3» .

الحسین یوسع من مفهوم الآیة: «مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ...»:

لقد أشار الحسین علیه السلام، وهو فی معرض التأبین للشهید عبد الله بن یقطر، إلی أن الآیة الکریمة لا تنحصر فی شهداء بدر فقط، کما تذهب إلی ذلک بعض الروایات، ینقل القرطبی فی تفسیره عن أنس قال: قال عمی أنس بن النضر -

ص:270


1- (1) شرح الخطبة (208)، طبعة مصر الأولی 15:3-16.

سمیت به - ولم یشهد بدراً مع رسول الله صلی الله علیه و آله، فکبر علیه فقال: أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه، أما والله لئن أرانی الله مشهداً مع رسول الله صلی الله علیه و آله فیما بعد لیدین الله ما أصنع.

قال: فهاب ان یقول غیرها، فشهد مع رسول الله صلی الله علیه و آله یوم أحد من العام القابل إلی ان یقول فقاتل حتی قتل... ونزلت الآیة رجال صدقوا ما عاهدوا الله علیه...»(1).

ویقول الطبری: «من المؤمنین رجال صدقوا ما عاهدوا الله علیه»: أی: وفوا الله بما عاهدوه علیه «فمنهم من قضی نحبه» أی فرغ من عمله، ورجع إلی ربه، کمن استشهد یوم بدر وأحد(2). وآخرین(3).

بینما أراد الحسین علیه السلام، ان یعطی للآیة مفهوماً أوسع بحیث یشمل کل اولئک الذین سقطوا ویسقطون فی طریق الدین، والوقوف أمام الظالمین، یقول الشیخ مکارم الشیرازی فی تفسیره الأمثل: للآیة مفهوم واسع یشمل کل شهداء الإسلام الذین استشهدوا قبل معرکة الأحزاب، وکل من کان منتظراً للنصر أو الشهادة، وکان علی رأسهم رجال کحمزة سید الشهداء وعلیّ علیه السلام، ولذلک ورد فی تفسیر الصافی: أن اصحاب الحسین علیه السلام بکربلاء کان کلّ من أراد الخروج للقتال ودّع الحسین علیه السلام وقال: السلام علیک یا بن رسول الله فیجیبه: وعلیک السلام

ص:271


1- (1) تفسیر القرطبی 146:14.
2- (2) تفسیر الطبری 238:20.
3- (3) تفسیر الیعقوبی 337:6.

ونحن خلفک، ویقرأ:

«فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ» .

ویستفاد من کتب المقاتل أنّ الإمام الحسین علیه السلام تلا هذه الآیة عند أجساد شهداء آخرین کمسلم بن عوسجة، وحین بلغه خبر شهادة عبد الله بن یقطر، ومن هنا یتضح أنّ للآیة مفهوماً واسعاً یشمل کلّ المؤمنین المخلصین الصادقین فی کلّ عصر وزمان، سواء من ارتدی منهم ثوب الشهادة فی سبیل الله، أُمّ من ثبت علی عهده مع ربه، ولم یتزعزع، وکان مستعداً للجهاد والشهادة(1).

ص:272


1- (1) تفسیر الأمثل 201:13-202.

المحتویات

الإهداء 6

المقدمة 9

لماذا هذه الموسوعة؟ 9

من هم أصحاب الحسین علیه السلام

1. إنّهم مصطفون للشهادة قبل شهادتهم 15

2. الرحمة والشفقة علی الأعداء 17

3. المحافظة علی أوقات الصلاة 21

4. الیقین بالله وبثوابه 22

5. تشخیص الأولویّات 23

6. الترکیبة المتمیّزة لأصحاب الحسین علیه السلام 24

7. الوعی والبصیرة 25

8. إنّ الله تولّی قبض أرواحهم 26

9. نکرانهم لذواتهم 27

ص:273

کم هو عدد أصحاب الحسین علیه السلام؟

المقدمة 29

سؤال وجواب 35

جهود العلماء 36

الآیادی الآثمة المحرِّفة 39

الید الآثمة فی تأریخ الثورة الحسینیة 40

الطبری مثالاً 40

الضحّاک کان دقیقا فی تعامله 43

تعبئة الحسین علیه السلام کانت عامة ولیست خاصة بالاصحاب

أمّا الدلیل النقلی 45

وأمّا الدلیل المعنوی 46

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (2) وهی جریمة قطع الرؤوس الشریفة 48

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (3) وهم المستشهدون فی الحملة الأولی وفی المبارزة 49

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (4) وهی کتب المقاتل القدیمة 50

السید الجلالی ومقتل الفضیل بن الزبیر 51

کتب المقاتل أقلّ تحریفاً من الکتب التاریخیة الرسمیة 51

مقتل الفضیل بن الزبیر 55

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة رقم (5) وهی زیارة الناحیة المقدّسة: 59

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة رقم (6) وهی الزیارة الرجبیة 63

تقدیرنا لعدد الشهداء 64

التقدیر الأول 64

التقدیر الثانی 68

التقدیر الثالث 69

ص:274

الشهید مسلم بن عوسجة

أقوال العلماء فیه 71

أسرة الشهید 72

الشهید من بنی ناشرة 73

مواقفه أیام الفتح الإسلامی 74

فتح سلق آذربیجان 75

دور مسلم بن عوسجة المتمیز فی المعرکة 75

شبث بن ربعی یشید بدور مسلم بن عوسجة فی المعرکة 76

درس کبیر من حیاة هذا الشهید 77

موقفه فی الکوفة 79

تنبیه حول قصة الجاسوس (معقل) 81

لا وجود لقصة الجاسوس 82

الخروج من الکوفة 84

مسلم بن عوسجة یصحب معه زوجته وولده 85

الشهید فی کربلاء 85

محاولة مسلم بن عوسجة قتل شمر 88

شهادته 90

الشهید حنظلة بن سعد الشبامی

أقوال العلماء فی الشهید 94

الاختلاف فی اسم الشهید ونسبه 95

دور قبیلة شبام فی صفین 98

جدُّ الشهید الکربلائی 101

ولد الشهید الکربلائی 104

ولد الشهید یروی خطبة زهیر بن القین 104

ص:275

شبهة أن الحسین علیه السلام لم یقتل والقاء شبهه علی الشهید حنظلة 106

الرد علی هذه الشبهة 114

ومن هذه الروایات.... 114

الشهید حنظلة رسول الحسین إلی ابن سعد 120

الشهید حنظلة قارئا للقرآن 123

خطبة الشهید حنظلة فی کربلاء 124

وقفات مع خطبة الشهید 126

وقت شهادة الشهید حنظلة 134

الشهید یدعو والحسین یؤمّن له 136

الشهید کردوس التغلبی رحمه الله

اسم الشهید 138

الاختلاف فی اسمه 139

اسم والد الشهید 139

شخصیة واحدة أم شخصیات متعددة 141

نسب الشهید کردوس 144

قبیلة الشهید 145

بنو تغلب ودولة الحمدانیین 154

مواقف الشهید فی صفّین 156

خطبة الشهید کردوس فی صفین 157

حضور الشهید کردوس الاجتماعی 159

مع الشهید فی روایاته 162

الشهید خطیباً وواعظاً 169

أبناء الشهید 172

شهادته 172

ص:276

الشهید بشر بن عمرو الحضرمی الکندی علیه السلام

أسرة الشهید 175

عرب الجنوب وعرب الشمال 175

وقد یقول قائل 177

نسب الشهید حضرمی أم کندی 179

نقطة مضیئة 179

ظاهرة رفض الاعذار الشرعیة فی أصحاب الحسین علیه السلام 185

الشهید یزید بن زیاد بن مهاجر الکندی

البهدلی أبو الشعثاء علیه السلام

بین یدی الشهید 191

من هم بنو بهدلة؟ 191

ما قاله العلماء فی الشهید 193

اسم الشهید 194

مع الشهید فی روایته 194

تحریم لحم الصید علی المحرم 198

لقاء الشهید بالحسین علیه السلام ووقت التحاقه به 201

تعارض روایتی الالتحاق بالحسین وطرق معالجته 206

بین منطق الخضوع ومنطق المسؤولیة 207

مفهوم الإمامة عند الشهید الکربلائی 208

الشهید فی کربلاء فارساً ثم رامیاً 210

رسالة الشهید إلی من یهمه الأمر 211

ص:277

الشهید عمّار بن حسّان بن شریح الطائی علیه السلام

بین یدی الشهید 212

أقوال العلماء فی الشهید 214

أجداد الشهید 215

سعد الأثرم جد الشهید الکربلائی 215

والد الشهید الکربلائی 217

ابن عمّ الشهید الکربلائی 219

عروة بن افاق بن شریح الطائی 219

هل للشهید قریب من شهداء کربلاء؟ 221

نوع القرابة ودرجتها 227

حفید الشهید الکربلائی 229

فائدة 233

الشهید فی کربلاء 235

الشهید عبدُ الله بن یقطر علیه السلام

أقوال العلماء فی الشهید الکربلائی 237

أسم الشهید واسم أبیه 239

معنی یقطر وبقطر 239

کلمة إلی من یهمة الأمر 241

والد الشهید والخدمة لرسول الله 241

والدة الشهید والخدمة فی بیت علی علیه السلام 243

قبیلة الشهید الکربلائی 244

القول الأول 244

القول الثانی 245

رضیعُ الحسین علیه السلام أُمّ لِدتهُ 245

ص:278

رضاعة الحسین 246

لِدة الحسین علیه السلام 254

فخر أقتران ولادة الشهید بولادة الحسین علیه السلام 254

الجلیس الصالح 255

صحبة الشهید الکربلائی لرسول الله 256

مهمة الشهید عبد الله بن یقطر علیه السلام 260

الرأی الأول 261

الرأی الثانی 262

الرأی الثالث 263

الشهید عبد الله بن یقطر ومنهجیة القتل الأموی 268

الحسین یؤبن الشهید عبد الله بن یقطر 270

ص:279

المجلد 2

اشارة

سرشناسه:صمیانی، حیدر، 1336 -

عنوان و نام پدیدآور:موسوعه فی ظلال شهداء الطف/ تالیف حیدر الصمیانی.

مشخصات نشر: کربلای معلی - قم - العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة 1434

مشخصات ظاهری:4ج.

شابک:978-964-538-250-4

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

یادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه: ص. [359] - 376؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع:حسین بن علی (ع)، امام سوم، 4 - 61ق.

موضوع:واقعه کربلا، 61ق.

رده بندی کنگره:BP41/5/ص8م8 1390

رده بندی دیویی:297/9534

شماره کتابشناسی ملی:2463263

ص :1

هویة الکتاب

ص :2

موسوعه فی ظلال شهداء الطف

تالیف حیدر الصمیانی.

ص :3

* هویة الکتاب

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق - وزارة الثقافة العراقیة لسنة 338:2013

الصمیانی، حیدر

موسوعة فی ظلال شهداء الطف / تألیف حیدر الصمیانی؛ [تقدیم اللجنة العلمیة فی قسم الشؤون الفکریة والثقافیة. محمد علی الحلو]. - کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة 1434 ق. Í 2013 م.

4 ج. - (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة؛ 121).

المصادر. 9789933489694: ISBN

1. الحسین بن علی (علیه السلام)، الإمام الثالث، 61 4 ه -. أصحاب السیرة. 2. الحسین بن علی (علیه السلام)، الإمام الثالث، 61 4 ه -. أصحاب صفات. 3. واقعة کربلاء، 61 ه -. شهداء. 4. التاریخ الإسلامی العصر الأموی شبهات وردود. ألف. الحلو، محمد علی، 1957 -، مقدم. ب. العنوان

BP 193.13..A3.S269 2013

تمت الفهرسة قبل النشر فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة

تألیف

الشیخ حیدر الصمیانی

جمیع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1435 ه - 2014 م

العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسینیة المقدسة

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - هاتف: 326499

الموقع الالکترونی: imamhussain-lib.com

البرید الالکترونی: info@imamhussain-lib.com

ص:4

مقدّمة الجزء الثانی

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمدُ لله ربّ العالمین والصلاة والسلام علی خیر خلقه محمد وآله الطاهرین.

وبعد... فإن کربلاء تحوّلت بفعل العناصر التی امتلکتْها إلی جامعة کبیرة - عبر التاریخ وإلی یومک هذا وستبقی إلی أن یرث الله الأرض ومَن علیها - ضمّت بین ثنایاها أرقی وأکمل وأنبل دروس العز والکرامة والإباء والإیثار والوفاء، وما شاکل ذلک من المعانی النبیلة والقیم الإنسانیة.

بل إنّ الإنسان یستطیع أن یقول بأنّ کربلاء أصبحت المعین الزلال الذی لا یظمأ من شربه أبداً، وما ذاک إلا لأجل تلک الوقفة المبارکة التی وقفها رجال کربلاء متمثلةً بالحسین علیه السلام، وأهل بیته وأنصاره، أولئک الذین أبوا لأنفسهم إلا أن یخلدوا مع خلود الحسین علیه السلام وثورته المبارکة.

لقد جمع صعید کربلاء بین فئتین من الناس لا یمکن اجتماعهما علی وجه الأرض أبداً مادامت السموات والأرض، فقد جمعت بین أولئک الذین کانوا یلهثون وراء الدینار والدرهم، والذهب والفضة، والجاه والمنصب، وبین أولئک الذین طلّقوا الدنیا بکل ما تحمل من زینة وأموال وأولاد، لا لشیءٍ إلاّ حباً

ص:5

للحسین علیه السلام، وإیماناً به وبحرکته المبارکة.

فقد تنازل عمر بن سعد عن دینه ومبادئه وقیمه، وکل ما یمت إلی الانسانیة بصلة، بل وما یملیه علیه ضمیره، حینما خُیِّر بین أن یملک بیده کتاب ولایته للری بشرط أن یخرج لحرب الحسین علیه السلام، علی أن یأخذ فی نفس الوقت وفی نفس الید کتاب عاره الدنیوی وناره الأخروی، وبین أن یرفض وإذا به یختار العار والنار وهو یقول:

یقولون إنّ الله خالق جنّة ونارٍ وتعذیبٍ وغلِّ یدینِ

وإن صدقوا فیما یقولونَ إنّنی أتوبُ إلی الرحمنِ فی سنتینِ

وإن کذبوا فُزنا بدنیا عظیمةٍ وملک عظیمٍ دائم ٍ الحجلینِ

بینما یقف فی الجهة الأخری أحد أصحاب أبی عبدالله الحسین علیه السلام، ألا وهو زهیر بن القین (رض)، وهو صاحب الثروة الطائلة الکبیرة فی الکوفة، فضلاً عن منزلته الاجتماعیة المرموقة، فیضع یده علی منکب الحسین علیه السلام وهو یقول له: (قد سمعت - هداک الله - مقالتک یابن رسول الله، والله لو کانت الدنیا باقیة وکنا فیها مخلدین، إلاّ أن فراقها فی نصرک ومواساتک، لآثرنا النهوض معک علی الاقامة فیها).

یا له من موقفٍ عظیم وبعیدٍ عن سابقه بعد المشرق عن المغرب، وبعد الحق عن الباطل؛ وذلک لأنّ المحور الذی کان یدور عمر بن سعد فی رحاه هو (الدنیا) بینما کان فی زهیر بن القین هو (الدین)، وکما ورد فی روایات أهل البیت علیهم السلام:

«الدین والدنیا ضرتان، لاتجتمعان فی قلب مؤمن أبداً».

ص:6

ولقد خلّد الله سبحانه وتعالی هذه المواقف المبدئیة وأصحابها فی کتابه الکریم بقوله تعالی:

«لا یَسْتَوِی أَصْحابُ النّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» .

وحقاً ما تقول الآیة الکریمة.... فکما أن أصحاب النار لا یستوون مع أصحاب الجنة فکذا:

لا یستوی أبداً من اختاروا الفقر مع الله علی الغنی مع أعداء الله.

ولا یستوی أبداً من فضلوا الموت فی سبیل الله علی الحیاة مع الظالمین.

ولا یستوی أبداً من رفضوا الجاه والمال والمنصب من أجل الله ودینه وأولیائه حتی لا یعطوا الدنیة فی دینهم، وبین من أصبح مطیّة الشیطان الرجیم والسلطان الجائر اللئیم حتی داسوا دینهم تحت أقدامهم من أجلهم.

وکما یقول القرآن الکریم:

«قُلْ لا یَسْتَوِی الْخَبِیثُ وَ الطَّیِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَکَ کَثْرَةُ الْخَبِیثِ» .

من هنا، کان کل واحد من أصحاب الحسین یمثل بحقٍ مشروعاً إسلامیاً رائعاً بما جسّده فی یوم عاشوراء من قیم الرسالة، ومبادئ الشریعة، ومفاهیم الاسلام.

وعلیه... فجدیر بنا - نحن المسلمین - ان نسلّط الأضواء علیهم وعلی مشروعهم الإسلامی الذی حملوه بین جنبات نفوسهم الشریفة، حتی یکون عوناً لنا فی الاقتداء بهم والسیر علی منهجهم رضوان الله تعالی علیهم. من هنا جاءت هذه الموسوعة التی أسمیناها «موسوعة فی ظلال شهداء الطف» والتی حاولنا جاهدین

ص:7

من خلالها إبراز بعض ما یمکن جمعه والتقاطه فی کتب العلماء حولهم (رضی الله عنهم) من معلومات (علی قلتها)، من أجل دراستها ثم أخذ العظة والعبرة منها.

وهذا هو الجزء الثانی من هذه الموسوعة والتی مَنَّ الله علیَّ بإکماله وانجازه وقد تضمن الحدیث عن خمسة شهداء وهم: (حبیب بن مظهِّر الأسدی وزاهر مولی عمرو بن الحمق الخزاعی ویزید بن مَغْفَل المزنی الأزدی وعبد الله بن بشر الخثعمی وعمرو بن قرظة بن کعب الأنصاری رضوان الله تعالی علیهم أجمعین.

ولسوف یری القارئ بشکل واضح حدیثاً موسعاً فی بعضهم ومضیِّقاً ومختصراً فی آخر وما ذاک إلاّ لکثرة المعلومات فی الأول وشحتها فی الثانی.

ولقد بذلت الجهد - بمقدار الاستطاعة - من أجل تتبع أحوالهم منذ نشأتهم صغاراً وحتی شهادتهم (رض)، جامعاً لهم الأقوال والمواقف، فضلاً عن القبیلة التی ینتمون إلیها، والبیت الذی یرجعون إلیه، والآباء والأمهات والأخوة والأولاد والأعمام وأبنائهم وما شاکل ذلک مما یحیط بهم ویدور فی فلکهم.

وختاماً.. أرجو من الأخوة القرّاء أن لا یبخلوا عنا بالنصیحة والفکرة البنّاءة التی یمکن أن تخدم هذه الثلة من المؤمنین.... فما من کتاب «إلاّ وتجد فیه نقصاً قلَّ هذا النقص أو کثر سوی کتاب الله الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه تنزیل من حکیم حمید».

سائلاً المولی جل وعلا أن یوفّقنا لإنجاز الأجزاء الباقیة لهذه الموسوعة إنه أرحم الراحمین وصلّی الله علی سیدنا محمّد وآله الطاهرین.

حیدر الصمیانی

ص:8

الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی الفقعسی علیه السلام

دیباجة

الحدیث عن الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی حدیثٌ عن التفانی والإخلاص فی أعلی صوره وأشکاله، حدیثٌ عن الإیمان والعشق الإلهی، والذی تجده بشکل واضح ممثّلاً بعلاقته بالحسین علیه السلام وانشداده إلیه وانجذابه نحوه، بل والفناء فی فلکه علیه السلام.

لقد کان هذا الشیخ الهَرِم الکبیر - کما سیأتینا خلال الحدیث عنه - رمزاً للعطاء وعنواناً للفداء فی کلّ زمان ومکان، فلم تکن شیبة حبیب وکِبَر سنّه مانعاً له من الوقوف إلی جانب الحق مهما کلّفه الأمر، حتی ولو أدّی ذلک إلی أن یترک أهله بلا ماء وطعام، بل وحتی لو سُفک فی سبیل ذلک دمه الطاهر، وهکذا صنع حبیب بالفعل فاستحق تکریم الحسین علیه السلام له یوم وقف علی جسده الطاهر فی کربلاء مؤبّناً له بقوله:

«عند الله أحتسبُ نفسی وحُماة أصحابی، إنّا لله وإنّا إلیه راجعون، قُتل والله أسدٌ من آساد الله، یذبّ عن حُرَم الله، رحمک الله یا حبیب، لقد کنتَ فاضلاً، تختم القرآن فی لیلةٍ واحدةٍ»(1).

ص:9


1- (1) مقتل أبی مخنف: ص 147.

أقوال العلماء فیه

1 - قال ابن حجر العسقلانی: «حبیب بن مُظهِّر، روی عن علیّ بن أبی طالب (رض)، ذکره الطوسی فی رجال الشیعة، وقال أبو عمرو الکشی: کان من أصحاب علی، ثمّ کان من أصحاب الحسن والحسین، وذُکرت له قصّة جرتْ له مع میثم التمّار، ویُقال إنّ حبیب بن مُظهِّر قُتل مع الحسین»(1).

2 - قال الشیخ المفید: «ومن أصفیاء أصحابه(2) عمرو بن الحَمِق الخزاعی، عربی، ومیثم التمّار، وهو میثم بن یحیی مولی، ورشید الهجری، وحبیب بن مظهِّر الأسدی، ومحمد بن أبی بکر»(3).

3 - قال الشیخ علی النمازی: «حبیب بن مظاهر الأسدی، من خواص أمیر المؤمنین والحسن والحسین، عَلِمَ المنایا والبلایا، وهو قرین میثم ورشید، فی غایة الجلالة والنبالة»(4).

4 - قال الزرکلی: «حبیب بن مظهِّر أو مظاهر أو مُطهّر... من القوّاد الشجعان، نزل الکوفة وصَحِب علیّ بن أبی طالب فی حروبه کلّها... وعمره خمس وسبعون سنة»(5).

ص:10


1- (1) لسان المیزان: ج 2، ص 554، 2129، وقد ذکر ابن حجر فی الإصابة: وأنّه أدرک النبی صلی الله علیه و آله و سلم تحت اسم (حتیت) ولیس (حبیب)، الإصابة: ج 1، 1939، وکذلک ابن مطهّر ولیس مظهّر، الإصابة: ج 1، 1939.
2- (2) یقصد الإمام أمیر المؤمنین.
3- (3) الاختصاص للشیخ المفید: ص 3.
4- (4) مستدرک سفینة البحار: ج 2، ص 170.
5- (5) الأعلام للزرکلی: ج 2، ص 166.

5 - قال السیّد الخوئی: «حبیب بن مظاهر الأسدی، ذکره الشیخ فی رجاله من أصحاب علی علیه السلام وعدّه أیضاً من أصحاب الحسن علیه السلام من غیر توصیف بالأسدی، وذکره البرقی من أصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام ومن شرطة خمیسه ومن أصحاب أبی محمد الحسن بن علی علیه السلام»(1).

الأسرة التی ینتمی إلیها الشهید

اشارة

لقد تمیّز حبیب بن مُظهِّر (رض) بخصائص إیمانیة عظیمة، إضافةً إلی نشوئه فی بیت توارث البطولة والشجاعة والوفاء والکرم والجود وإغاثة الملهوف وما شاکل ذلک من صفات العزّ والشرف، وکیف لا یکون کذلک وقد امتلأت کتب التاریخ والأدب بقصص آبائه وأجداده وأعمامه وأقربائه شعراً وأدباً وخُلُقاً وسیرةً تشرأبّ لها الأعناق.

بنو أسد

وهی القبیلة التی ینتمی إلیها هذا الشهید الکربلائی صاحبة الأمجاد والذکْر الجمیل، وقد تقدّم بعض الحدیث عنها فی الجزء الأول من هذه الموسوعة فی طیّات الحدیث عن الشهید مسلم بن عوسجة الأسدی (رض).

بنو فقعس

وهو الجدّ الرابع لحبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض)(2) ، وفقعس وبنوه هم

ص:11


1- (1) معجم رجال الحدیث: ج 5، ص 2575.
2- (2) قبائل العرب: ج 1، ص 246.

الذین یرجعون إلی الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزیمة(1) ، وقد تحدّث عنهم البلاذری بشکل یلفت الانتباه إلی أنّ هذه الأسرة لها میزات خاصة دون بقیّة الأسر الأخری، حیث تمیّزوا بالشجاعة والفصاحة والشعر والنخوة والکرم وما شاکل ذلک من الصفات الحسنة، حتی وصل الأمر إلی أن یمدح أحد الشعراء فقعس بقوله:

ولکن أبوکم فقعساً قد علمتم ومنصبکم إن صرتم للمناصب(2)

وحتی یکون القارئ أکثر فهماً وتفهّماً لهذه الأسرة التی ینتمی إلیها الشهید الکربلائی حبیب من مظهِّر الأسدی، أودّ أن أضع بین یدیه بعض شخصیات هذه الأسرة حتی نعلم أنّ هذا النسب الذی یرجع إلیه هذا الشهید لم یکن نَسَباً عادیّاً، بل جمع الکثیر من الخصائص التی یُمتدح ببعضها الشعوب والقبائل.

1 - ربیعة بن ثعلبة بن رئاب بن الأشتر بن حجوان والمکنّی «أبو ثور»، حیث عُرفت فیه الشجاعة المتمیّزة حتی علی شجعان العرب وذؤبانها، حیث قَتل صخر ابن عمرو (أخا الخنساء).

یقول البلاذری وهو یتحدّث عن شجاعة أبی ثور: (غزا صخر بن عمرو بنی أسد فَأَطْرَدَ إبَلَهم، فرکبوا فی طَلَبه حیث أتاهم الصریخ، فلمّا لحقوه بذات الأثل اقتتلوا قتالاً شدیداً فطعن أبو ثور صخراً فی جنبه وفات القوم، فکان أهله یمرضونه قریباً من حولٍ حتی ملّوه، فسألتْ امرأةُ سلمی امرأةَ صخرٍ کیف بَعْلُکِ؟ وهو یسمع،

ص:12


1- (1) معجم قبائل العرب القدیمة والحدیثة لعمر کحالة، باب الفاء، ص 925.
2- (2) الأنساب للبلاذری: ج 3، 499.

فقالت: هو لقیٌّ لا حی یُرجی ولا میت یُنعی، ولقد لقینا الأمرّین. فقال صخر:

أری أمَّ صخرٍ مَا تَمُلّ عَوَائِدِی وَمَلَّتْ سُلَیْمَی مَضْجَعِی وَمَکَانِی

وَمَا کُنْتُ أَخْشَی أنْ أَکُوْنَ جَنَازَةً عَلَیْکِ وَمَنْ یَغْتَرُّ بِالحَدَثانِ

قال أبو عبیدة: فلمّا طال به البلاء ونتأت فی موضع الجراحة منه قطعة مثل اللَّبَد فی جنبه، قالوا له: لو قطعتها وعولج قطعها رجونا أن تبرأ، فقال: شأنکم، وأشفق علیه بعضهم من ذلک فأبی، فأخذوا شفرة فقطعوا ذلک المکان فیئس من نفسه، فقال:

کَأنِّی وَقَدْ أَدْنَوا لِحَرِّ شِفَارِهِم مِن الصَّدْرِ دَامِی الصَّفْحَتَیْنِ نَکِیْبُ

فَقُلْتُ لَهُمْ لاَ تَحْرُمُوْنِی فَإنَّنِی مُقِیْمٌ مَکَانِی مَا أَقَامَ عَسِیْبُ)(1)

2 - ربیعة بن حوط بن رئاب بن الأشتر المُکنّی «أبی المهوش الأسدی»، وهو ابن عمّ الشهید الکربلائی والقائل:

دَبَبْتُ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُوْنَ قَدْ بَلَغُوْا جَهْدَ النُّفُوسِ وَأَلْقَوْا دُوْنَهُ الأُزُرَا

وقوله:

یَعِیْشُ الفَتَی بِالفَقْرِ یَوْمَاً وَبِالغِنَی وَکُلٌّ کَأَنْ لَمْ یَلْقَ حِیْنَ یُزَایِلُهُ (2)

3 - الکمیت بن ثعلبة بن رئاب بن الأشتر بن حجوان، الشاعر المعروف فی قصّة «دارة القمر» المشهورة، ذکرها البلاذری بقوله: (حدّثنی أحمد بن موسی

ص:13


1- (1) الأنساب للبلاذری: ج 4، ص 1.
2- (2) ابن حجر العسقلانی: کتاب الإحابة: الحاء بعدها الواو، حوط بن رئاب ولیس ربیعة کما ذکره الکثیرون کالبلاذری وغیره.

الفزاری، قال: کان سالم بن دارة القمر أحد بنی عبد الله بن غطفان، ویُقال إنّ دارة القمر أُمّه، ویُقال أبوه وأمّه من بنی أسد، هجا رجلاً یُقال له ثابت بن واقع، وکان ثابت فزاریّاً، فقال له:

وَیْحَکَ یَابْنَ وَاقِعٍ فَأَنْتَا أَنْتَ الَّذِی طَلَّقْتَ لَمَّا جِعْتَا

فغضب له رجل من بنی قومه من بنی فزارة یُقال له «زمیل»، فضرب ابن دارة بالسیف فقتله، وکان الکلبی یقول: دارة القمر أبو سالم قیل له ذلک لجماله، واسمه رویبة بن حَب، قال ابن دارة:

أَنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوْفٌ بها نَسَبِی وَهَلْ بِدَارَةَ یَا لَلنَّاسِ مِنْ عَارِ

مِنْ فَرْعِ قَیْسٍ وَأَخْوَالِی بَنُو أَسَدٍ مَنْ أَکْرَمِ النَّاسِ زَنْدِی فِیْهُمُ وَارِی

وقال أبو عبیدة القاسم بن سلام: هجا سالم بن دارة فی فزارة ففتک به بعضهم فضربه، فقال الکمیت:

لاَ تُکْثِرُوْا فِیْهِ العُجَاجَ فَإنَّهُ فِی السَّیْفِ مَا قَالَ ابْنُ دارةَ أُحِبهَا

فمضی کلام الکمیت مثلاً(1).

4 - عمرو بن نضلة الذی آلی علی نفسه أن یطعم رفقةً کان بها السویق والتمر، فبعث مَن یأتیه بذلک فأبطأ رسوله فرحلت امرأة من بنی محارب کانت فی الرفقة فاتبعها حتی ردّها، وقال:

یَا رَبَّةَ العِیْرِ رُدِّیْهِ لِمَرْبَعِهِ لاَ تَظْعَنِی فَتُهِیِّجِی النَّاسَ لِلظَّعْنِ (2)

ص:14


1- (1) الأنساب للبلاذری: ج 3، ص 500.
2- (2) الأنساب للبلاذری: ج 3، ص 500.

5 - خالد بن نضلة بن الأشتر المعروف - (خالد المهزول)، وأمّا لماذا اشتهر بالمهزول؟

فلأنّه وکما یقول البلاذری فی الأنساب:

«رأی خالد التیس یعتلف، أَنِفَ تتحرک لحیتُه کتحرّک لحیة التیس، فترک الأکل وعرضت له الخلفة حتی أخرج سَرْمَه، فجاء غراب فجعل یقول له: یا غراب، جر فلتجرن بسرم رجل کریم، ویقول أبو الیقظان: إنّه ترک الأکل حتی مات»(1).

وفیه یقول أحد أولاده مادحاً له:

وَجَدِّی خَالِدُ المَهْزُوْلُ حَسْبِی بِهِ فِی کُلِّ مَکْرُمَةٍ زَعِیْمَا(2)

وهکذا القائمة تطول بالأبطال والأفذاذ والذی فیهم مَن کان یُعدّ بألف فارس(3).

الاختلاف فی اسم الشهید وکنیته ولقبه

اسم الشهید

لقد اختلف العلماء فی اسم الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض) إلی آراء متعدّدة، سوف نذکرها ثمّ نشیر إلی المشهور عندهم.

ص:15


1- (1) الأنساب للبلاذری: ج 3، ص 500.
2- (2) الأنساب للبلاذری: ج 3، ص 500.
3- (3) انظر: الأنساب للبلاذری: ج 3، ص 500، والمقصود به هو طلیحة بن خویلد بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن جحوان، وکان یعدل - کما یقولون - ألف فارس.

ورد اسم (حبیب) عند الکثیر من العلماء من المدرستین، ویبدو أنّه المشهور عندهم کما ذهب إلی ذلک السید الأمین(1) والعلاّمة ابن داود(2) والنمازی الشاهرودی(3) والسید الخوئی(4) وآخرون.

بینما ذکره آخرون بلفظ (حتیت) کابن حجر فی الإصابة(5).

اسم والد الشهید مظهّر أم مظاهر

أمّا اسم والده، فقد ذهب البعض إلی أنّه مُظهِّر، کما مال إلی ذلک الطبری، وأبو مخنف(6) ، والعلاّمة فی القسم الأول من الخلاصة(7) ، وابن حجر فی لسان المیزان(8) ، والسماوی فی إبصار العین(9).

بینما ذکره جمعٌ مردّداً بین مُظهِّر ومظاهر من دون ترجیح، کالسید الزنجانی فی وسیلة الدارین(10).

ص:16


1- (1) الأعیان: ج 4، 553-555.
2- (2) رجال ابن داود، القسم الأول: 374.
3- (3) مستدرک سفینة البحار: ج 2، ص 170.
4- (4) معجم رجال الحدیث: ج 5، ص 201-203. لسان المیزان: ج 2، ص 554.
5- (5) الإصابة لابن حجر: ج 2، ص 1954 فی أحد قولیه.
6- (6) الطبری: ج 3، ص 327.
7- (7) الخلاصة: القسم الأول، الباب 13، حرف الحاء.
8- (8) لسان المیزان: ج 2، ص 554.
9- (9) أبصار العین: ص 56.
10- (10) وسیلة الدارین: ص 119.
مظهِّر هو الأصح

ویبدو أنّ (مُظهَّر) هو الصحیح دون (مظاهر) کما ذهب إلی ذلک المحقّقون؛ وذلک لسببین:

أمّا الأول: فهو رجزه کما سیأتینا بعد ذلک فی الحدیث عن شهادته (رض)، فقد ذکر العلماء بأنّ حبیب بن مُظهَّر حینما نزل إلی المعرکة ارتجز وهو یقول:

أَنَا حَبِیْبٌ وَأَبِی مُظهَّرُ فَارِسُ هَیْجَاءَ وَحَرْبٌ تَسْعَرُ

أَنْتُمْ أَعَدُّ عُدَّةً وَأَکْثَرُ وَنَحْنُ أَرْضَی مِنْکُمُ وَأَصْبَرُ

وَنَحْنُ أَعْلَی صُحْبَةً وَأَظْهَرُ حَقَّاً وَأَتْقَی مِنْکُمُ وَأَعْذَرُ(1)

ولم یذکر أحد رجزاً غیر هذا منسوباً إلی هذا الشهید من غیر (مظهّر).

وثانیاً: أنّ أهل اللغة یقولون: إنّ هناک کلمات ینطق فیها بحروف الألف ولکنّها لا تکتب حین الکتابة، والأمثال علی ذلک کثیرة حتی فی القرآن الکریم، حیث تقرأ کلمة (صلاة) بإثبات الألف ولکنّها حین الکتابة لا تثبت، وهکذا کلمة (سموات) (سموت) وکلمة (رحمان) و (رحمن).

ولهذا ربّما کانت کلمة (مظهّر) و (مظاهر) جاءت علی وفق هذا السیاق، فوقع الاشتباه عند مَن نقل اسم الشهید الکربلائی، حیث کان ینطق بمظاهر ولکن یکتب (مُظهِّر) (رض).

ص:17


1- (1) الطبری: ج 3، ص 327.
نسب الشهید الکربلائی

وأمّا نسبته فلم یختلف أحد علی أنّه أسدی، نعم ذکروا فی معرض الحدیث عنه أنّه کندی وفقعسی وهذا لا ضمیر فیه، إذ الجمیع یمثلون جهة واحدة، وأمّا کنیته فالجمیع یقولون هو أبو القاسم حبیب بن مُظهِّر الأسدی.

صحابی جلیل أم تابعی قدیر؟

اشارة

تحت هذا العنوان أو ما هو فی مضمونه وقع العلماء - وخصوصاً الرجالیین منهم - فی بحث ودرس ما إذا کان الشهید الکربلائی صحابیاً من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أم إنّه کان تابعیاً قدیراً من روّاد الطبقة الأولی؟

من خلال الرجوع إلی کتب العلماء وما تحدّثوا به وذکروه حول شخصیة هذا الشهید وخصوصاً الرجالیین منهم، یخرج الإنسان بالقول إنّ هناک - إجمالاً - رأیین أو اتجاهین فی هذا المجال:

الاتجاه الأوّل
اشارة

یذهب أصحاب هذا الاتجاه أنّ حبیب بن مُظهِّر الأسدی کان صحابیاً جلیلاً من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأصحاب هذا الرأی - وحسب کلماتهم - إمّا أنّهم یقطعون بصحبة هذا الشهید الکربلائی کما سیأتی، أو أنّهم یمیلون إلی هذا الرأی دون غیره، وهذا ما یمکن لنا أن نتلمّسه من خلال ما تحدّثوا به عن هذا الشهید، وممّن یذهب إلی هذا الرأی:

ص:18

1 - ابن حجر العسقلانی، حیث یقول فی کتاب (الإصابة)(1): «حتیت(2) بن مُظهِّر بن رئاب بن الأشتر بن جحوان بن فقعس الکندی ثمّ الفقعسی له إدراک، وعمّر حتی قُتل مع الحسین بن علی، ذکره ابن الکلبی مع ابن عمّه ربیعة بن حوط ابن رئاب»(3).

ولا شک ولا ریب أنّ قلیلَ تأمّلٍ فیما ذکره ابن حجر یُظهر - وبشکل واضح - أنّه یتبنّی الرأی القائل بصحبة الشهید لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بل ویرسلها إرسال المسلّمات.

2 - السید عبد الحسین شرف الدین فی کتابه القیِّم (الفصول المهمّة)، حیث یقول وهو یتحدّث عن الصحابة الذین عاصروا النبی صلی الله علیه و آله و سلم وعُرفوا فی نفس الوقت بالولاء والتشیّع لعلی علیه السلام وآل علی علیه السلام: «حبیب بن مظاهر بن رئاب... أدرک أیّام النبی صلی الله علیه و آله و سلم، وقد ذکره ابن حجر فی القسم الثالث من إصابته»(4).

3 - السید محسن الأمین نقلاً عن کتاب (مجالس المؤمنین):

«ثمّ حکی عن کتاب (روضة الشهداء) ما ترجمته أنّه تشرّف بخدمة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وسمع منه أحادیث، وکان مُعزّزاً مُکرّماً بملازمة حضرة المرتضی»(5).

ص:19


1- (1) الإصابة لابن حجر: باب الحاء بعدها التاء (حتیت).
2- (2) یبدو أنّ الاسم فیه تصحیف من حبیب، خصوصاً وقد ذکره نفس ابن حجر فی الإصابة بلفظ حبیب، ج 1، 1939.
3- (3) الإصابة: برقم 1954.
4- (4) الفصول المهمّة: ص 193.
5- (5) أعیان الشیعة: ج 4، ص 554، 291.

4 - الشیخ محمد السماوی: «حبیب بن مُظهِّر... کان صحابیاً، رأی النبی صلی الله علیه و آله و سلم، ذکره ابن الکلبی»(1).

5 - المازندرانی فی (معالم السبطین): «وفی الخبر أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم کان یوماً مع جماعة من أصحابه فی بعض الطریق وإذا هما بصِبْیَان یلعبون فی ذلک الطریق، فجلس النبی صلی الله علیه و آله و سلم عند صبیّ وجعل یقبّل بین عینَیه ویلاطفه، ثمّ أقعده فی حجره، وکان یُکثر تقبیله، فسُئل عن علّة ذلک فقال: إنّی رأیتُ هذا الصبی یوماً یلعب مع الحسین ورأیتُه یرفع التراب من تحت قدمیه ویمسح به وجهه وعینیه، فأنا أحبّه لحبّه لولدی الحسین، ولقد أخبرنی جبرئیل أنّه یکون من أنصاره فی وقعة کربلاء، وذکر بعض الثقات أنّ ذلک الطفل کان حبیب بن مظاهر الذی فدی الحسین بنفسه ومهجته»(2).

مناقشة روایة معالی السبطین

ومثل هذه الروایة لا یمکن قبولها علی إطلاقها لوجود فاصل زمنی یقدّر - 15 سنة علی الأقل بین الحسین وحبیب بن مُظهِّر، ومن ثم لا یمکن إطلاق لفظ الصبی فضلاً عن الطفل علی حبیب (رض) فی زمن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذی یُفترض أن یکون عُمُره علی أقل التقادیر 15 سنة، ولذلک نحن نمیل إلی استبعاد هذه الروایة کما استبعدها المازندرانی فی معالم السبطین بعد ذکْره لها مباشرة.

6 - ما ذکره الشیخ جعفر السبحانی فی کتابه (حوار مع الشیخ صالح بن عبد

ص:20


1- (1) إبصار العین: ص 56.
2- (2) معالم السبطین: ج 1، ص 368.

الله الدرویش) وهو یتحدّث معه حول الشیعة الذین کانوا معاصرین لزمن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، حیث یقول: «فها نحن نضع أمام الشیخ قائمة بأسماء لفیف من الصحابة الذین شهدت أعمالهم علی أوصافهم وأفعالهم علی نیّاتهم، وأثنی أصحاب الرجال والتراجم علیهم، أو علی الأقل سکت عنهم التاریخ، ولنکتف بذکر القلیل منهم عن الکثیر، وهم:... حبیب بن مظاهر الأسدی...»(1).

وکذلک ما ذکره فی کتابه (تاریخ الفقه الإسلامی وأدواره)، حیث تحدّث عن لفظ الفقه والفقیه واستعمالاتها بقوله: «وممّا یدلّ علی أنّ الفقیه فی الصدر الأول بمعنی صاحب البصیرة فی الدین، أنّ الحسین علیه السلام بن علی علیه السلام وصف حبیب بن مظاهر الأسدی بالفقیه»(2).

وممّا یؤیّد أنّ مراده من الصدر الأول هو عصر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قولُه بعد ذلک: «نعم، غلب استعمالها فی القرن الثالث أو قبله فی العارف بالأحکام الشرعیة الذی سبر أغوارها، وقد ذکر ابن خلدون أنّ اسم القرّاء یُطلق علی أهل الفتیا والفقه من الصحابة»(3).

الاتجاه الثانی

وهناک مَن یری أنّ الشهید الکربلائی کان تابعیّاً کبیراً فی السنّ، جلیلاً فی القدر، وذلک اعتماداً علی جملة من النقاط، وهی کالتالی:

ص:21


1- (1) حوار مع الشیخ صالح بن عبد الله الدرویش: ج 2، ص 93.
2- (2) تاریخ الفقه الإسلامی وأدواره: ص 23.
3- (3) تاریخ الفقه الإسلامی وأدواره: ص 24.

النقطة الأولی: إنّ کتب الرجال التی تحدّثت عن عصر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم تتحدّث عنه، لاسیّما صاحبا کتابی (الاستیعاب، وأُسْد الغابة) سوی ابن حجر کما تقدّم.

مناقشة النقطة الأولی

ویَرُدّ علی هذا الاستدلال أنّه متی کانت مثل هذه الکتب مقیاساً واقعیاً لمعرفة الصحابی عن غیره؟! وهل یا تری کل ما ذکروه صحیح فی کتبهم؟ أم أنّ فیه الغَثّ والسمین والدسّ والتزویر وهذا واضح وجلی لکلّ ذی عینین بصیرتین، نعم، نحن قد نستشهد بها ولکن فی مقام الردّ من حیث المقوله القائلة:

«ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»(1).

لا أن یُعوَّل علیها فقط، خصوصاً وقد تحدّثتْ کتب أخری عنه وعن صحبته (رض) کابن حجر فی الإصابة.

النقطة الثانیة

ما ذکره الشیخ الطوسی فی رجاله عن الشهید، حیث عَدّه من أصحاب الإمام أمیر المؤمنین، حیث قال: «أسماء مَن روی عن الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام... حبیب بن مظاهر الأسدی»(2) ، ممّا یعنی أنّه لم یکن من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حسب ظاهر کلامه رحمه الله.

النقطة الثالثة: الزرکلی: «حبیب بن مُظهِّر أو مظاهر أو مُطهّر بن رئاب بن

ص:22


1- (1) مائة قاعدة فقهیة، السیّد المصطفوی.
2- (2) رجال الشیخ الطوسی: ص 60، 512.

الأشتر... نزل الکوفة وصحب علی بن أبی طالب علیه السلام، تابعیٌّ من القوّاد الشجعان... وعمره خمس وسبعون سنة»(1).

مناقشة رأی الزرکلی

ویمکن أن یُقال بأنّ کلام الزرکلی من الممکن أن یُقبل فی حال عدم وجود قرائن علی وجود الشهید وصحبته وإدراکه للنبی صلی الله علیه و آله و سلم، أمّا مع وجودها(2) فیمکن أن یکون کلامه - لاسیما فی خصوص عمر الشهید حبیب بن مظاهر الأسدی وأنه کان 75 سنة - من مؤیّدات الرأی الأول القائل بالصحبة لا الثانی.

یوم الفرقان

لقد تحوّل یوم عاشوراء إلی یوم عظیم من أیام الله، مُخَلَّد فی قلوب وضمائر المؤمنین الأحرار، فهو الیوم الذی تمیّز فیه الحق من الباطل والإیمان الصادق من الإیمان الکاذب المنافق، فصار بحقٍ یوم الفرقان، فکما أنّ القرآن الکریم وصف یوم انتصار معرکة بدر بیوم الفرقان بقوله:

«وَ ما أَنْزَلْنا عَلی عَبْدِنا یَوْمَ الْفُرْقانِ یَوْمَ الْتَقَی الْجَمْعانِ» .

حتی تحوّلت بدر إلی مَعْلَم مهمّ من معالم أیام الله، مخلّد فی التاریخ، فکذلک کانت وستبقی معرکة کربلاء ویوم عاشوراء کذلک.

فهاهما الجمعان یتمیزان بالمواقف، وها هی الشخصیات تُمتحن بالشدائد، فیمکث منها الصالح القوی فی إیمانه، ویذهب جفاءً مَن لا إیمان له ولا صلاح،

ص:23


1- (1) الزرکلی فی الأعلام: ج 2، ص 166.
2- (2) وقد تقدّم قبل قلیل ما یؤکّد ذلک، لاسیّما فی الإصابة لابن حجر.

فلقد عاش حبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض) وعاش معه شمر بن ذی الجوشن وشبث بن ربعی وعمر بن سعد وآخرون، ورأی الجمیع بأُمِّ أعینهم کیف تعامل معهم علی بن أبی طالب صاحب المبادئ والقِیَم، حیث فتح لهم باب التعبیر عن الآراء والمعتقدات بأجمل صورها وأشکالها حتی مع أعدائه وهم الخوارج، ورأوا فی نفس الوقت کیف تعامل معهم آل أبی سفیان بدایةً من معاویة والذی قالها لهم صارخةً واضحة فی النُخیلة: «ألا وإنّی ما قاتلتکم لتصوموا ولا لتصلّوا، ولا لتحجّوا ولا لتزکّوا، قد عرفت أنّکم تفعلون ذلک، ولکن إنّما قاتلتکم لأتأمّر علیکم، فقد أعطانی الله ذلک وأنتم کارهون»(1).

ونهایةً إلی آخر أموی سفیانی تسلّط علیهم فی الکوفة، ومع ذلک کلّه لم یمیّزوا بینهما مع صراحة ووضاحةِ کلٍ من الفریقین، ولیس ذلک إلاّ لعمی البصیرة عندهم وسوء السریرة فیهم ونیّة السوء التی کانوا یحملونها فی صدروهم.

نعم، لم ینجوا من ذلک إلاّ قلیلٌ منهم، حیث وقفوا إلی جانب الحق مهما کانت النتائج، وهؤلاء هم الذین تحدّث عنهم القرآن الکریم بقوله:

«أُولئِکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ 2» .

أولئک الذین أَبَوا أن یحشروا مع الظالمین ومنهم حبیب بن مُظهّر الأسدی (رض)، وکأنّ الله عزّ وجلّ شاءت إرادته أن یفترق الحق والباطل فی هذه الدنیا وفی الآخرة.

ص:24


1- (1) البدایة والنهایة لابن کثیر: ج 11، ص 429. سیر أعلام النبلاء: ج 3، ص 146.

أمّا فی هذه الدنیا فیقول القرآن الکریم:

«وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ کانَ زَهُوقاً1» .

وکأنّ الآیة ترید أن تقول أن لا وجود للباطل إلاّ مع غیاب الحق.

وأمّا فی الآخرة فیقول القرآن:

«وَ امْتازُوا الْیَوْمَ أَیُّهَا الْمُجْرِمُونَ 2» .

ولمّا کانت إرادة الله متعلّقة بهذا الأمر منذ القِدَم، أبتْ کربلاء إلاّ أن تکون ترجماناً بارزاً ومصداقاً صارخاً لهذا المفهوم القرآنی والربّانی، ویبدو أنّ کربلاء ویوم فرقانها مستمرّ إلی أبد الآبدین ما دامت السماوات والأرض، فهی الفرقان فی کلّ عام بین أولئک المضحّین فی طریق الحسین، نفساً وجهداً ومالاً ووقتاً، وبین أولئک الذین یرکضون ویلهثون وراء یزید وعبید الله بن زیاد وعمر بن سعد من خلال ملذّات هذه الدنیا وأهوائها المُضِلّة، بل إنّها الفرقان حتی بین مَن یستفید من مائدة الحسین لیرقی، وبین مَن یأکل من نفس هذه المائدة ولکنّه لا یعیش الوعی فی فکره ولا البصیرة فی دینه ولا الاستقامة فی سلوکه، فقد جعلها طریقاً للوصول إلی مآربه التی هی أقرب إلی مآرب شمر وشبث وأمثالهما، وهذا فی الواقع درس مهمّ وبلیغ فی نفس الوقت نأخذه من خلال هذا الشهید السعید حبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض)، حیث أبی لنفسه أن تُحشر مع مَن انقلب علی وجهه وخسر الدنیا والآخرة.

ص:25

«ذلِکَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِینُ 1» .

فأراد أن یمیّزها فی هذه الدنیا فضلاً عن الآخرة فیالیتنا نمیز أنفسنا عمّن نعیش معهم ممّن لا یعرفون للدین فی نفوسهم أیّ أثر، من خلال المواقف والأحداث التی تتطلّب منّا وقفة وصرخة وغلظة فی وجه الباطل عن أولئک الذین لا یملکون من الشجاعة ما یؤهّلهم للوقوف معنا، فإذا ما تمیّزنا عنهم فسوف نأتی یوم القیامة متمیزین کذلک، مظلَّلین برحمة الله تعالی:

«إِنَّ الَّذِینَ أَجْرَمُوا کانُوا مِنَ الَّذِینَ آمَنُوا یَضْحَکُونَ * وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ یَتَغامَزُونَ * وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلی أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَکِهِینَ * وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ * وَ ما أُرْسِلُوا عَلَیْهِمْ حافِظِینَ * فَالْیَوْمَ الَّذِینَ آمَنُوا مِنَ الْکُفّارِ یَضْحَکُونَ * عَلَی الْأَرائِکِ یَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْکُفّارُ ما کانُوا یَفْعَلُونَ 2» .

حبیب بن مُظهِّر الأسدی والعصمة

لقد وصل حبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض) إلی درجة عالیة من التقوی والعدالة والاتباع لأوامر الشریعة ونواهیها، حتی أنّ الإنسان لیسهل علیه أن یقول وبضرس قاطع إنّ صدور الذنب منه وحاله هذه إمّا أن یکون معدوماً بالکامل، أو أن تکون نسبته بدرجة من القلّة بحیث لا تُعدّ ولا تحسب، وهذه العصمة التی وصل إلیها هذا الشهید الکربلائی لا شک بخلاف تلک العصمة الواجبة التی وصل

ص:26

إلیها أئمة أهل البیت علیهم السلام، حیث تُعدّ عصمة واجبة بخلاف الأخری التی لا تکون واجبة.

ونعنی بالعصمة غیر الواجبة هی تلک التی لا یکون صاحبها قوله وفعله وتقریره حجّة شرعیة یُسار علی أساسها ویُستدلّ علی الحکم من خلالها، بینما فی عصمة المعصوم الواجبة یکون الأمر کذلک، وبعبارة أخری: یمکن أن تکون عصمة أهل البیت عصمة تکوینیة بمعنی تعلّق الإرادة الإلهیة تکویناً بعصمتهم کما هو مقتضی قول الله تعالی:

«إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً1» .

یقول الشیخ جعفر السبحانی فی کتابه (أهل البیت علیهم السلام سماتهم وحقوقهم): «والقرائن التی ستمرّ علیک تدلّ علی أن الإرادة فی الآیة تکوینیة لا تشریعیة، بمعنی أن ّإرادته التکوینیة تعلّقت بتکوین الاشیاء، وإبداعها فی عالم الوجود تعلّقت أیضاً بإذهاب الرجس عن أهل البیت علیهم السلام وتطهیرهم»(1).

وأمّا عصمة أصحاب الأئمة علیهم السلام لا سیّما الشهید الکربلائی فیمکن أن تکون عصمة اکتسابیة، وهذه العصمة لا تختصّ بفرد من هذه الأمّة دون فرد آخر، وإنّما هی لجمیع عباده المخلصین؛ لأنّ الجمیع مأمور بها من قِبل الله تبارک وتعالی کما فی قول الله تعالی:

ص:27


1- (2) أهل البیت سماتهم وحقوقهم: ص 83.

«فَاسْتَقِمْ کَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَکَ 1» .

ومتی علم الله سبحانه وتعالی باستعداد العبد للاعتصام بحبل الله عزّوجل والابتعاد عن معصیته، أفاض علیه سبل الوصول إلی ذلک، ومن ثم یمکن أن یکون مشمولاً حتی بآیات الاصطفاء التی تحدّث عنها القرآن الکریم فی أکثر من آیة، کقوله:

«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا2» .

خصوصاً إذا أخذنا الاصطفاء بمعنی التصفیة(1) ، وبما أنّهم تحرّکوا فی طریق تصفیة نفوسهم من الأکدار والأقذار وممّا عَلِقَ بها من شهوات هذه الدنیا ورذائلها، فقد أعانهم الله علی هذا بأن أعطاهم القدرة علیه ومنحهم سهولة الوصول إلیه، فضلاً منه ورحمة، وهو القائل:

«وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِینَ 4» .

ولقد تحدّث السید الشهید الصدر الثانی فی کتابه القیّم (أضواء علی الثورة الحسینیة) حول هذا الموضوع بما لا مزید له، حیث ذکر جملة من الأدلّة العقلیة والنقلیة، والتی تؤکّد علی أنّ بعض أصحاب الحسین معصومون بما فیهم الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض).

ص:28


1- (3) التفسیر الکبیر للرازی: ج 4 ص 23، دار الفکر - بیروت.

یقول الشهید الصدر: «إنّ أمثال هؤلاء الأصحاب والمقرّبین للأئمة علیهم السلام قد ربّاهم المعصومون علیهم السلام وکانوا تحت رعایتهم وتوجیههم وأمرهم ونهیهم ردحاً طویلاً من الزمن، إلی حدٍّ یُستطاع القول إنّهم فهموا الاتجاه المعمّق والارتکازی - لو صحّ التعبیر للمعصومین، ومن هنا کان باستطاعتهم أن یطبّقوا هذا الاتجاه فی کلّ أقوالهم وأفعالهم، کما یُستطاع القول إنّ الأصحاب (رض) تلقّوا من الأئمة علیهم السلام توجیهات وقواعد عامّة فی السلوک والتصرف أکثر ممّا هو معلن بین الناس بکثیر، بحیث استطاعوا أن یطبّقوا هذه القواعد طِیلة حیاتهم»(1).

حبیب بن مٌظهِّر الرجل الفقیه

ذکر السید الزنجانی فی (وسیلة الدارین فی أنصار الحسین) کتاباً من الحسین علیه السلام أرسله إلی حبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض)، وهذا نصّه: «مِن الحسین ابن علی إلی الرجل الفقیه حبیب بن مظاهر، أمّا بعد یا حبیب، فأنت تعلم قرابتنا من رسول الله، وأنت أعرف بنا من غیرک، وأنت ذو شیمة وغیرة، فلا تبخل علینا بنفسک، یجازیک جدّی رسول الله یوم القیامة»(2).

إنّ هذا الکتاب الذی بَعث به الحسین علیه السلام إلی حبیب بن مُظهِّر لیحمل فی طیّاته وکلماته الکثیر من النقاط المهمة، والتی سوف نتعرّض إلیها إن شاء الله تعالی فی وقت لاحق فی طیّات هذه الدراسة حول شخصیة حبیب، ولکنّنا نرید

ص:29


1- (1) أضواء علی الثورة الحسینیة: ص 43-44.
2- (2) وسیلة الدارین فی أنصار الحسین: ص 120-121.

أن نسلّط الأضواء فی هذا الوقت حول معنی کلمة (الفقیه) والتی وردت فی کتاب الحسین وعلاقتها مع الشهید الکربلائی (رض)، فنقول:

معنی کلمة الفقیه
اشارة

کلمة الفقیه یمکن أن تُحمل علی أحد معانٍ ثلاثة لا رابع لها، وفی کلّ هذه المعانی الخیر کلّ الخیر إلی الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی.

المعنی الأول الواعی والبصیر

إنّ المراد من الفقیه: الواعی والبصیر وصاحب البیّنة من دینه، فقد وردت هذه الکلمة (فقیه) ومشتقّاتها فی معاجم اللغة وفی القرآن الکریم وفی السنّة النبویة المُطهَّرة بمعنی الواعی والفَطِن والبصیر والعالم وما شاکل ذلک.

یقول ابن منظور:

(الفقیه: العالم بالشیء والفهم له... وفی حدیث سلمان أنّه نزل علی نبطیّة بالعراق، فقال لها: هل هنا مکان نظیف أصلّی فیه؟ فقالت طهّر قلبک وصلّ حیث شئتَ، فقال سلمان: فقهتِ: أی فهمتِ وفطنتِ... ویقول الفقه: الفطنة، وفی المثل: خیر الفقه ما حاضرت به، وشرّ الرأی الدّبری)(1).

أمّا القرآن الکریم فقد تحدّث وعلی نفس الشاکلة وفی آیات کثیرة عن هذه المفردة (الفقه)، وفی جمیعها أراد معنی الفهم الدقیق للدین والعمیق للشریعة وإدراک المعنی والغایة والسر، یقول القرآن الکریم وهو یتحدّث عن موسی علیه السلام

ص:30


1- (1) لسان العرب: ج 5 ص 3450، (مادّة فقه).

فی طلبه لله عزّ وجلّ:

«وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِی * یَفْقَهُوا قَوْلِی1» .

وعندما دعا شعیب قومه إلی عبادة الله سبحانه وتعالی والالتزام بأوامره ونواهیه، قالوا له:

«یا شُعَیْبُ ما نَفْقَهُ کَثِیراً مِمّا تَقُولُ 2» .

أی لا نفهم کثیراً ممّا تقول وتتحدّث، وقوله:

«قَدْ فَصَّلْنَا الْآیاتِ لِقَوْمٍ یَفْقَهُونَ 3» .

أی یعلمون ویفهمون، وقوله:

«لَعَلَّهُمْ یَفْقَهُونَ 4» .

أی یفهمون، وقوله:

«وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ کَثِیراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها5» .

أی لا یعون بها ولا یفهمون، وهکذا آیات کثیرة کلّها تُشیر إلی نفس هذا المعنی أو ما یقارب منه.

أمّا السنّة النبویة المُطهَّرة، فقد ورد فیها هذا المعنی کثیراً لقوله صلی الله علیه و آله و سلم:

ص:31

«نظر الله عبداً سمع منّا حدیثاً فحفظه حتی یبلغه، فرُبّ حامل فقهٍ إلی مَن هو أفقه منه، ورُبّ حامل فقه لیس فقیهاً»(1).

والمتأمّل فی حدیث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المتقدّم یخرج بنتیجة مفادها: أنّ الفقیه المراد به هنا هو صاحب البصیرة فی دینه الذی خلص إلی معانی النصوص واستطاع أن یخلص تبعاً لذلک إلی العبر والفوائد التی حوتْها، ولهذا یقول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «ربّ حامل فقهٍ إلی مَن هو أفقه منه» أی أقدر منه علی التعرّف علی مراد الله سبحانه وتعالی، وقوله: «لیس بفقیه» یعنی لیس عنده قدرة علی استخلاص الدروس والمواعظ والعبر التی تضمّنتْها هذه النصوص. ویقول صلی الله علیه و آله و سلم فی حدیث آخر:

«مِن فقه الرجل أن یقول لِمَا لا علم به: الله أعلم»(2).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم:

«إنّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنّة من فقهه، فأطیلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، وإنّ من البیان لسحراً»(3).

ویقول الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام:

«ألا أنبئکم بالفقیه کلّ الفقیه؟ مَن لم یؤس عباد الله من روح الله ولم یؤمنهم من مکره»(4).

ص:32


1- (1) مسند الإمام أحمد بن حنبل: ج 5، ص 183.
2- (2) شرح النووی علی صحیح مسلم: مسألة 2798.
3- (3) صحیح مسلم: ح 869.
4- (4) معانی الأخبار: ص 47.

ویقول ابن القیّم فی کتابه (مفتاح دار السعادة): (بل لم یکن السلف یطلقون اسم الفقیه إلاّ علی العالم الذی یصحبه العمل کما سئل سعد بن إبراهیم عن أفقه أهل المدینة فقال: أتقاهم)(1). وربّما من هنا جاء الحدیث عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم:

«مَن یُرِد الله به خیراً یفقّهه فی الدین»(2).

والفقه فی الدین المراد به حتماً لیس هو معرفة الأحکام لوحدها والقدرة علی استخلاصها، وإنّما المراد بالفقه فی هذا الحدیث وفی غیره کما تقدّم هو الوعی والبصیرة والفهم العمیق للدین الملازم بالضرورة للتقوی والورع والزهد والخوف من الله سبحانه وتعالی.

المعنی الثانی القَرَّاء للقرآن الکریم

ورد فی بعض الأخبار وفی کتب العلماء ما یوحی أنّ المراد بالفقهاء فی الصدر الأول للإسلام هم القُرّاء للقرآن الکریم والحَمَلَة له حفظاً وتفسیراً وتلاوةً وتدبّراً، فقد ورد فی حقّ هؤلاء أنّهم کانوا إذا قرأوا عشر آیات من القرآن الکریم لا ینتقلون إلی غیرها حتی یحفظوها ویفهموا معناها ویعملوا بها، وللتدلیل أکثر أنّ الفقهاء هم القرّاء أو العکس فی الصدر الأول للإسلام أذکر هنا مثالاً، وهو شخصیة معاذ بن جبل (رض)، حیث عُدّ فقیهاً وقارئاً للقرآن فی آنٍ واحد، یقول المصنف فی کتاب (فضائل القرآن الکریم) فی مسألة مَن قرأ فی عهد النبی صلی الله علیه و آله و سلم: (حدّثنا ابن إدریس عن شعبة عن قتادة، قال: سمعتُ أنساً یقول: قرأ معاذ وأبی

ص:33


1- (1) مفتاح دار السعادة: ج 1، ص 89.
2- (2) فتح الباری شرح صحیح البخاری: کتاب العلم، باب من یرد الله به خیراً یفقّهه فی الدین.

وسعد وأبو زید، قال: قلتُ: ومَن أبو زید؟ قال أحد عمومتی)(1).

ویذکر البخاری فی صحیحه عن عبد الله بن عمر قال: سمعتُ النبی صلی الله علیه و آله و سلم یقول:

«ستقرئوا القرآن عند أربعة... ومعاذ بن جبل»(2).

وقد ذکر ابن حجر العسقلانی فی شرحه فتح الباری علی صحیح البخاری: (وقد أخرج ابن حبّان والترمذی من حدیث أبی هریرة رفعه: نعم الرجل معاذ بن جبل، کان عقبیاً بدریاً من فقهاء الصحابة... وقد صحّ عن عمر أنّه قال مَن أراد الفقه فلْیأتِ معاذاً»(3).

المعنی الثالث المفتی

أن یکون المراد من صفة (الفقه) التی تمتّع بها الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی، هو قدرته علی فهم النصوص والإفتاء کما هو حال الفقیه فی عصرنا هذا، نعم ربّما کانت المسألة فی عصر الصحابة لیست بتلک الدرجة الکبیرة من الإمعان والنظر والدراسة کما هو حال الفقیه فی عصرنا هذا، وممّا یؤّید ما ذهبنا إلیه هو ما ذکره الشیخ جعفر السبحانی فی کتابه (تاریخ الفقه الإسلامی وأدواره)، حیث یقول:

(کان الافتاء هو الإجابة علی السؤال، فالکلمة جاءت بمعنی واحد فی فتوی

ص:34


1- (1) المصنّف لابن أبی شیبة: ج 4، مسألة 4389، ص 24.
2- (2) صحیح البخاری: باب مناقب معاذ بن جبل: ح 3595.
3- (3) فتح الباری فی صحیح البخاری: ح 3595، حاشیة رقم 1.

الصحابة والتابعین والفقهاء، والجمیع یجیبون عن السؤال ویفتون بالحکم، بَیْد أنّ إجابة الطائفتین الأولیین کانت تقتصر علی الکتاب والسنّة غالباً خلافاً لفتوی الفقهاء، حیث یطعمونها بالإمعان والنظر فی مصادر التشریع أکثر ممّا علیه الصحابة والتابعون)(1).

حبیب بن مُظهِّر الأسدی وعلم المنایا والبلایا
اشارة

ذکر العلاّمة الشیخ علی النمازی الشاهرودی قدس سره فی کتابه القیّم (مستدرکات علم الرجال): (حبیب بن مظاهر الأسدی من خواصّ أصحاب أمیر المؤمنین والحسن والحسین علیهم السلام، عَلِمَ المنایا والبلایا، وهو قرین میثم ورشید، فی غایة الجلالة والنبالة»(2).

لقد عشق حبیب بن مُظهِّر الإسلام عشقاً عظیماً وذاب فی قادته، حتی لم یکن لیری لنفسه وجوداً مع وجودهم، ابتداءً من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ثمّ من بعده أمیر المؤمنین والحسن والحسین علیهم السلام، ولقد تمیّزت علاقة الشهید مع أمیر المؤمنین بشکل خاص؛ وذلک لطول المدة التی صحبه بها، حتی صار له موضع خاصة لدیه، فکان الإمام یسرّه بعلوم وأسرار لم یُسرّ بها إلاّ القلّة القلیلة من أصحابه الثقات والتی یراهم الإمام یحملون استعداداً کبیراً لقبولها؛ وذلک لأنّ العلوم لا یمکن إعطاؤها إلی الناس بدرجة واحدة، بل لابدّ من النظر إلی الجهة المخاطبة بهذه العلوم، حتی ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قوله:

ص:35


1- (1) تاریخ الفقه الإسلامی وأدواره: ص 25-26.
2- (2) مستدرکات علم الرجال: ج 2، ص 170.

«نحن معاشر الأنبیاء أُمرِنا أن نخاطب الناس علی قدر عقولهم»(1).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم:

«ما حدّث أحدٌ قوماً بحدیث لم تبلغه عقولهم إلاّ کان فتنة علیهم»(2).

ولهذا ینبغی أن تقدم العلوم بشکل تدریجی حالها حال الوصفة الطبیة التی یقدمها الطبیب إلی مریضه فی أن یأخذ الدواء الفلانی علی شکل جرعات، لعلم الطبیب أنّ أخْذ الدواء دفعةً واحدةً یعنی الموت والهلاک، وما أجمل تلک الأبیات التی نُسبت فی کتب العلماء إلی حفید الإمام أمیر المؤمنین علی بن الحسین علیه السلام وهو یشیر إلی هذه الحقیقة الإیمانیة:

إنّی لأکتمُ مِن عِلْمِی جَوَاهِرَهُ کَیْ لاَ یَرَی العِلْمَ ذُو جَهْلٍ فیَفْتَتِنَا

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِی هَذَا أَبُوْ حَسَنٍ إِلَی الحُسَیْنِ وَأَوْصَی قَبْلَهُ الحَسَنَا

فَرُبَّ جَوْهَرِ عِلْمٍ لَوْ أَبُوْحُ بِهِ لَقِیْلَ لِی: َنْتَ ممّنْ یَعبدُ الوَثَنَا

ولاسْتَحَلَّ رِجَالٌ مُسْلِمُوْنَ دَمِی یَرَوْنَ أقبحَ مَا یَأتونَهُ حَسَنَا(3)

وهذه باعتقادی واحدة من جملة الأدلّة علی أحقّیة الإمام أمیر المؤمنین وولایته الإلهیة، فها هو القائد الإلهی یربّی الناس مِن حوله ویرفع درجاتهم ویلتقطهم التقاط الطیر للحَبّ الجیّد من الحبّ الردیء، إنّه یلتقطهم إذا رأی عندهم مثل هذا الاستعداد، حتی ولو کانوا فی بیوت مَن یختلف معهم فی الرأی کمحمد بن أبی بکر وغیره، فقد أخذهم الإمام وربّاهم وأودعهم علوماً عالیة

ص:36


1- (1) الآداب الشرعیة، فصل مخاطبة الناس علی قدر عقولهم: ج 2، ص 155.
2- (2) المصنّف لابن أبی شیبة: ج 11، ص 286.
3- (3) تفسیر الآلوسی: ج 6، ص 190.

المستوی کعلوم البلایا والمنایا، حتی صار بعضهم یفوق حتی عبد الله بن عباس فی علمه، وإلیک نموذجاً یبیّن أهمّیة هذا العلم وتمیّز مَن أوتیه علی الآخرین، فیُنقل: (أنّ ابن عباس جلس یوماً بین یدی میثم التمار کالتلمیذ بین یدیّ معلّمه، فقال له میثم: یا بن عباس، سلنی ما شئتَ من تفسیر القرآن، فلقد تعلّمت تنزیله من أمیر المؤمنین وعلّمنی تأویله)(1).

ویظهر من خلال قراءة الروایات - وکما سوف یأتینا بعد ذلک - أنّ الشهید الکربلائی حبیب بن مُظهِّر الأسدی کان من الذین حظوا بهذه المنزلة الرفیعة عند الإمام أمیر المؤمنین، حتی خصّهم بعلم المنایا والبلایا.

وأعظم علم البلایا والمنایا بتقدیری أن یخبِر الإنسان بموته متی وکیف، خصوصاً إذا کان هذا الموت سیأتی بأقسی أشکاله وعلی ید شرّ البریة طغیاناً وکفراً، مع صدق القائل ویقین الخبر.

ولا شک أنّ مثل هذا الأمر سیترک أثره فی نفس المخاطب به والذی سیجری علیه مضمون الخبر، ومن ثم فمن الممکن أن یصدر منه ما یعکس مثل هذا الأثر من کلمة تضجّر أو قلق أو خوف أو ما شاکل ذلک، ولکنّنا نجد مثل هؤلاء الأبدال یتلقّون مثل هذه الأخبار بنفوس مطمئنّة وراضیة بقضاء الله بدرجة عالیة جداً، بل إنّ بعضهم لیتحدّث بما سوف یجری علیه بالشکل الذی ربّما یُفهم السامع، کأنّ مثل هذا الأمر سیجری علی غیره لا علیه، وما ذاک إلاّ لعظیم إیمانهم وسموّ أنفسهم وعلاقتهم المتمیزة بالله سبحانه وتعالی وبالإمام

ص:37


1- (1) بحار الأنوار: ج 4، ص 128، ح 11، نقلاً عن معرفة اختیار الرجال للطوسی.

أمیر المؤمنین علیه السلام.

ینقل العلاّمة آیة الله الحاج سید محمد حسین الحسینی الطهرانی قدس سره فی کتابه (معرفة الإمام) فی القسم المتعلّق بالإمام أمیر المؤمنین وإخباره بالمغیّبات: «لقد أخبر الإمام أمیر المؤمنین بمقتل ثلّة من أصحابه، منهم حجر بن عدی، ورشید الهجری، وکمیل بن زیاد النخعی، ومیثم التمّار، ومحمد بن أکتم، وخالد ابن مسعود، وحبیب بن مظاهر، وجویریة بن مسهر، وعمرو بن الحَمِق، وقنبر، ومزرّع وغیرهم، ووصف قاتلیهم وکیفیة قتلهم»(1).

وهکذا نری أنّ الشهید الکربلائی حبیب بن مُظهِّر قد تقدّم إلیه من الإمام کما تقدّم إلی غیره وقت وفاته وکیفیّتها، ولقد جری علیهم جمیعاً ما ذکره لهم أمیر المؤمنین لفظاً ومعنی، فها هو حجر یخرج من الدنیا شهیداً ویُدفن فی مرج عذراء(2) ، ورشید الهجری تُقطّع یداه ورجلاه ثمّ لسانه ویُصلب(3) ، وهذا میثم التمّار یطعن فی خاصرته حتی انبعث الدم من منخریه(4) ، وذاک قنبر یُذبح بید الحجّاج، وهکذا الآخرون.

ولقد کان من بین هؤلاء الذین أخبروا بما یجری علیهم حبیب بن مُظهِّر حیث ینقل الکشی روایة یؤکّد فیها علی هذه الحقیقة، وفی نفس الوقت یتبیّن لنا من خلالها متی الاستعداد الکبیر الذی کان یحمله هذا الشهید (رض)

ص:38


1- (1) کتاب معرفة الإمام: ج 12، القسم الخامس، أخباره بمقتل بعض أصحابه.
2- (2) الطبقات لابن سعد: ج 6، ص 217 - ص 220.
3- (3) رجال الکشی: ص 51-52.
4- (4) بحار الأنوار: ج 42، ص 128 - ص 129.

للقاء نهایته، روی الکشی عن فضیل بن الزبیر(1) ، قال: (مرّ میثم التمّار علی فرس له، فاستقبله حبیب بن مظاهر الأسدی عند مجلس بنی أسد، فتحادثا حتی اختلف عنقا فرسیهما، ثمّ قال حبیب: لکأنّی بشیخ أصلع، ضخم البطن، یبیع البطیخ عند دار الرزق، قد صلب فی حبّ أهل بیت نبیّه، فتُبقَر بطنه علی الخشبة، فقال میثم: وإنّی لأعرف رجلاً أحمر، له خفیرتان، یخرج لنصرة ابن بنت نبیّه، فیقتل ویُجال برأسه فی الکوفة، ثمّ افترقا، فقال أهل المجلس: ما رأینا أکذب من هذین، قال: فلم یفترق المجلس حتی أقبل رشید الهجری فطلبهما، فقالوا: افترقا، وسمعناهما یقولان کذا وکذا، فقال رشید: رحم الله میثماً، نسی ویُزاد فی عطاء الذی یجیء بالرأس مائة درهم، ثمّ أدبر، فقال القوم: هذا والله أکذبهم، قال: فمَا ذهبت اللیالی والأیام حتی رأینا میثماً مصلوباً علی باب عمرو بن حریث، وجیء برأس حبیب وقد قُتل، ورأینا کلّ ما قالوا)(2).

ولا شک ولا ریب أنّ مَن یقرأ هذه الروایة ویتدبّر فیها، یخرج بنتیجة أنّ هؤلاء الرجال کانوا علی یقین من ربّهم ونبیّهم وإمامهم أمیر المؤمنین، حتی أنّهم کانوا ینقلون أدقّ التفاصیل فیما یجری علیهم، وکأنّ الأمر سینزل بهم ویحلّ علیهم الآن، وهذا لعمرک یقین لا یمکن أن یوجد إلاّ عند هؤلاء وأمثال هؤلاء (رض).

ص:39


1- (1) صاحب مقتل للحسین یُعرف بمقتل: (الفضیل بن الزبیر)، ذکره صاحب نقد الرجال أنّه کوفی أسدی، من أصحاب الصادق علیه السلام، نقد الرجال: ج 4، ص 27.
2- (2) رجال الکشی: ص 78، الرقم 133. منتهی المقال: ج 2، ص 328.
إشکال وردّه

وربّما یرد فی ذهن البعض وهو یقرأ سیرة هذا الشهید - لاسیّما فیما یتعلّق بإخبار أمیر المؤمنین له فی وقت مقتله وطریقتها - أنّ هذا یتعارض مع ما ینقل فی القرآن الکریم:

«وَ لَوْ کُنْتُ أَعْلَمُ الْغَیْبَ لاَسْتَکْثَرْتُ مِنَ الْخَیْرِ وَ ما مَسَّنِیَ السُّوءُ1» !

لا شک أنّ علم الغیب من مختصات الله سبحانه وتعالی، ولیس لغیره - حتی الأنبیاء والأئمة - أن یعلم ذلک، ولکن هذا لا یعنی إغلاق أبواب علم الغیب بالکامل، بل إنّ اطلاع الأنبیاء علی بعض المغیبات جزء من الفیض الذی ذکره لنا القرآن الکریم.

حیث یقول:

«عالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضی مِنْ رَسُولٍ 2» .

وقوله:

«وَ ما کانَ اللّهُ لِیُطْلِعَکُمْ عَلَی الْغَیْبِ وَ لکِنَّ اللّهَ یَجْتَبِی مِنْ رُسُلِهِ مَنْ یَشاءُ3» .

ص:40

وقوله:

«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ کَرِیمٍ» ...«وَ ما هُوَ عَلَی الْغَیْبِ بِضَنِینٍ 1» .

وهذه الآیات وغیرها تؤکّد علی هذه الحقیقة القرآنیة، وهی أنّ هناک نوعاً من الارتباط بین الرسل والأنبیاء وبین عالم الغیب، نعم هناک ما یُعرف ب - (علم الغیب الذی استأثر الله به)، وهذا لا یطّلع علیه أحد، لا نبیّ مرسل ولا ملک مقرّب وهو المقصود بقوله:

«وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَیْبِ لا یَعْلَمُها إِلاّ هُوَ2» .

ولذلک نحن نعتقد أنّ کلّ العلوم التی علّمها رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم سواء فیما یتعلّق بعلم الغیب أو غیره، أَطْلَعَ بها أهل بیته لاسیما ابن عمّه ووصیه أمیر المؤمنین علی ابن أبی طالب علیه السلام، وهم بدورهم أطلعوا خُلّص أصحابهم علیها، إذ فی ذلک مصلحة یرونها راجحة، بل إنّنا لنجد أنّ النبی صلی الله علیه وآله وسلم قد أطلع عموم أمّته علی إخبار الغیب کالإخبار المتعلّق بالإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف والدجّال ونزول السید المسیح، والإخبار بأشراط الساعة، وما شاکل ذلک.

وعلیه فلا مشکلة فی وجود علم المنایا والبلایا عند أئمة أهل البیت التی أخذوها عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وهذا ما یتوافق مع القرآن الکریم والسنّة النبویة المطهّرة.

ص:41

حبیب بن مُظهِّر الأسدی والانسجام مع الشباب

ربّما تکون ظاهرة الانسجام بین مکوّنات الحرکة الحسینیة أمراً یلفت النظر ویستحق الدرس والبحث، لاسیّما فیما یتعلّق بالفوارق العُمریة التی کانت موجودة بین أنصار أبی عبد الله الحسین علیه السلام، فلم ینقل لنا التأریخ ما یمکن أن یعکّر صفو هذا الانسجام، فکان الکبیر إلی جانب الصغیر، وکان الشیخ إلی جانب الشاب کلّ منهم یری نفسه جندیاً عند الحسین علیه السلام ولا فرق فی ذلک، وهذه نقطة ملفتة للنظر وتستحق الاهتمام؛ لأنّ الفوارق العُمریة لابدّ أن تؤتی أکلها وأثرها فی الواقع الخارجی، لاسیّما فی أوضاع صعبة کالذی مرّ فیها أنصار الحسین علیه السلام.

فلابدّ من أفکار وفهْم مختلف للأحداث والطریقة فی معالجتها، کما حصل فی معرکة أُحُد حینما استشار رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المسلمین فی القتال، فکان رأی کبار السنّ أن یقاتلوهم فی داخل المدینة ویتحصّنوا فی البیوت وینقضّوا علیهم، وأمّا الشباب فکان رأیهم أن یقاتلوهم خارج المدینة قائلین یا رسول الله ما قوتل قوم فی عقر دارهم إلاّ ذلّوا، فقدّر لهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هذا الاندفاع ونزل علی رأیهم(1).

ومثل هذا الأمر لا یُعدّ مثلبة أو منقصة لهم، ولهذا نجد أنّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم أخذ برأیهم کما تقدّم، ومن ثم یمکن أن یجری نفس هذا الأمر مع أصحاب أبی عبد الله فی طریقة المواجهة وأسلوبها، ولکنّنا مع ذلک کلّه لم نجد شیئاً من هذا القبیل مطلقاً فی کربلاء، فکلّ واحد منهم کان یشعر أنّه جندیّ فی جیش الإمام الحسین

ص:42


1- (1) انظر: المغازی للواقدی: ص 208-214.

ومَن معه، لا فرق بین کبیرهم وصغیرهم، وإنّی لعلی یقین أنّ حبیب بن مُظهِّر وأمثاله من شیوخ الأنصار لم یکونوا یتعاملون مع شباب الأنصار تعاملاً فوقیاً، فلا یتحدّثون معهم ولا یجلسون إلیهم ولا یشارکونهم فیما یمکن أن یجری علیهم کما هو حاصل ومعمول به فی کثیر من الحروب والمعارک، حیث تجتمع قیادات الحرب وتتّخذ القرارات ثمّ علی الآخرین أن یسمعوا ویطیعوا.

وإنّی لعلی یقین أنّ مثل هذا لم یحصل، فإنّ المنقول عنهم (رض) هو مشارکتهم لهم فی کلّ صغیرة وکبیرة، حتی أنّ الحوراء زینب علیها السلام نقلتْ لنا فی روایات کثیرة عن أحداث لیلة العاشر من المحرم(1) أنّ حبیباً جلس مع أنصار الحسین کلّهم - کهولهم وشبابهم - وحثّهم علی القتال وإلی بذل المُهَج والأرواح قبل الحسین وأهل بیته، وکان یخاطب فی ذلک مسلم بن عوسجة الأسدی الذی بلغ من الکبر عتیّاً، وعمرو بن جنادة الأنصاری الذی لم یبلغ الحلم، خطاباً واحداً لا یفرّق فیه بینهما، وهذا بتقدیری درس مهمّ وأساس من دروس الحرکة الحسینیة نأخذها من خلال هذا التلاؤم والتلاحم والانسجام بین مکوّنات ما یمکن أن یصطلح علیه بکوادر الحرکة الحسینیة.

فکل الشرائح قد انتظمت فی بوتقة واحدة من أجل أن تواجه الظلم والبغی والعدوان؛ ولهذا نجحوا فی ثورتهم وانتصروا فی ثَباتهم وأعطوا کلّ هذا العطاء عبر التاریخ للأحرار وللثوار فی العالم، ولسان حالهم یقول إلینا: إذا ما أردتم النصر والحظوة عند الله والناس، علیکم أن تکونوا أمّة واحدة، ولیس هذا بین

ص:43


1- (1) لیلة عاشوراء فی الحدیث والآداب للشیخ عبد الله الحسن: ص 51.

مکوناتها المذهبیة فقط، بل أن تکونوا أمّة واحدة حتی فیما یتعلّق بالفوارق العُمریة.

وعلی شیوخ الأمّة وکهولها أن یعیشوا المسؤولیة فی أنفسهم أوّلاً، وثانیاً أن لا ینسوا أنّ فی المجتمع طاقات شبابیة مهمّة علیهم أن یسلّطوا الأضواء علیها، وأن یکملوا معها ثورة التغییر الحقیقی، والتی یمکن أن تترک أثرها وآثارها فی الحیاة الخاصة والعامّة، وأنّ ما یجری فی هذه الأیام من انتفاضة عارمة هزّت عروش الظالمین الذین تسلّطوا علی صدر الأمة الإسلامیة مدة طویلة من الزمن، ابتداءً من تونس ومصر ولیبیا والیمن والأردن، وانتهاءً بما لا یعلم نهایته إلاّ الله سبحانه وتعالی.

إنّ مثل هذه الثورات والتی عبّر عنها ب - (تسونامی المنطقة العربیة أو الشرق الأوسط) لم یکن لیعطی کلّ هذا الأثر لولا تعاضد الشباب مع الشیوخ والشیوخ مع الشباب فی حرکة لا تجد لها مثیلاً إلاّ فی خط الإسلام الأصیل فی حرکة الحسین علیه السلام فی کربلاء.

لقد وقف حبیب بن مُظهِّر یضرب أروع أمثلة البطولة والفداء والتضحیة والعطاء إلی جانب الثلّة الشبابیة المؤمنة، والتی قامت بدورها بجهاد قلّ مثیله وتفنّنٍ فی الدفاع عن الإسلام ملفتٍ للنظر، فکأنّه الطوفان الذی ابتلع عروش الظالمین، حیث اشترک فیه ماء السماء وعیون الأرض، ثمّ التقی الماء علی أمر قد قُدِر(1).

ص:44


1- (1) سورة القمر: 11-12:«فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ * وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُیُوناً فَالْتَقَی الْماءُ عَلی أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ».
حبیب بن مُظهِّر الأسدی والعبادة

ربّما لا یبالغ الإنسان إذا ما قال إنّ عبادة أصحاب الحسین علیه السلام إمّا هی معدومة النظیر أو - لا أقل - نادرة الوجود، حیث تمیّزوا جمیعاً بعبادة وعشق مُمیَّز لله سبحانه وتعالی، فکلّ مَن ترجم وتحدّث عن واحد من أصحاب الحسین علیه السلام کان یصفه بالناسک العابد الزاهد القارئ للقرآن وما شاکل ذلک من هذه الکلمات، ولعلّ ما ذکره العلماء بالتواتر عنهم لیلة العاشر من المحرم لیکشف - وبشکل لا یقبل الشک - أنّهم بلغوا مرتبة عالیة جدّاً من السموّ الروحی، حیث باتوا تلک اللیلة بین داعٍ ومصلٍّ وقارئ للقرآن ومستغفرٍ، فکان لهم دوی کدویّ النحل(1).

کل ذلک استعداداً للقاء الله سبحانه وتعالی، بل إنّ درجة العشق والحب للعبادة تبلغ أعلی مستویاتها عند أصحاب الحسین علیه السلام حینما لا ینسون حتی وقت فضیلة الصلاة فضلاً عن الصلاة نفسها، وهو الوقت الذی ربّما لا یلتفت إلیه الکثیر من المؤمنین فی أوقات الرخاء لا البلاء، ولکنّ الأمر یختلف مع أنصار سید الشهداء، فالمهم عندهم أن یتشبّعوا ویمتلئوا من عبادة الله سبحانه، وهذا الأمر لا یمکن أن یکون بأعلی مستویاته إلاّ فی وقت فضیلة الصلاة، کلّ هذا وهم یعیشون فی ظرف خطیر ووقت عسیر، فهم قلّة وحولهم جیش من الأعداء لا یعرف الله ولا رسوله مُحدِق بهم من کل جانب.

یقول المجلسی: (جاء أبو ثمامة الصیداوی وقال للإمام الحسین علیه السلام: نفسی

ص:45


1- (1) الطبری: ج 6، ص 241.

لک الفداء، إنّی أری هؤلاء القوم قد اقتربوا منک، لا والله، لا تُقتل حتی أُقتل دونک، وأُحب أن أَلقی الله وقد صلّیت هذه الصلاة التی دنا وقتها، فرفع الحسین علیه السلام رأسه إلی السماء وقال:

ذکرت الصلاة، جعلک الله من المصلین، نعم هذا أول وقتها)(1).

ثمّ یقف الحسین لیصلّی بأصحابه المتبقین معه صلاة الجماعة، فأیّ حبّ للعبادة هذا؟! وأیّ شوق للوقوف بین یدی الله؟! لا شکّ أنّها العبادة المتمیّزة فی کربلاء، ویقول الشاعر:

سِمَةُ العبیدِ مِنَ الخشوعِ عَلَیْهِمُ للهِ إنْ ضَمَّتْهُمُ الأَسْحَارُ

وَإِذَا تَرَجَّلَتْ الضُّحَی شَهِدَتَ لهم بِیْضُ القواضب أنَّهُمْ أَحْرَارُ(2)

وربّما کانت هذه العبادة التی تحلّی بها أصحاب الحسین علیه السلام فی کربلاء هی أحد الأسباب الرئیسیة التی جعلت بعض الجماعات فی جیش عمر بن سعد ینتقلون إلی صفّ معسکر الحسین علیه السلام، یقول السید ابن طاووس:

(وبات الحسین وأصحابه تلک اللیلة ولهم دویّ کدویّ النحل، ما بین راکع وساجد وقائم وقاعد، فعبر إلیهم فی تلک اللیلة من عسکر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً»(3).

وکانت من بین عبادة هؤلاء المتمیّزة عبادةٌ أعظم تمیّزاً، أَلاَ وهی عبادة حبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض)، هذا الرجل الذی ارتقت عبادته إلی مدارج

ص:46


1- (1) بحار الأنوار: ج 45، ص 21.
2- (2) دیوان السید حیدر الحلّی: القسم الحسینی، ص 36.
3- (3) بحار الأنوار: ص 394.

الکمال العالیة حتی وصلت إلی درجة أن خصّها الحسین علیه السلام بکلمات بیّنت قیمتها وعظمتها، وذلک حینما وقف علیه الحسین علیه السلام وقال:

«لله دَرّک یا حبیب، لقد کنتَ فاضلاً تختمُ القرآن فی لیلة واحدة»(1).

وقد أشار إلی هذه الحقیقة السید الأمین حینما قال:

«کان یحفَظ القرآن کلّه، وکان یختمه فی کلّ لیلة من بعد صلاة العشاء إلی طلوع الفجر»(2).

وأمّا عن معنی هذه العلاقة الخاصّة والمتمیّزة لحبیب مع القرآن الکریم التی ذکرها له الحسین علیه السلام، فقد تحدّث عنها السید محمد حسین الحسینی الطهرانی بقوله: (ولقد کان حبیب بن مظاهر الأسدی الکوفی، الشیخ الکبیر المتداعی، قارئ القرآن، وفقیه أهل البیت علیهم السلام، حینما سقط علی الأرض فی معرکة کربلاء فی سبیل إعلاء القرآن قال الإمام الحسین: «لله درک یا حبیب...»، ولقد کان هؤلاء - بلا شکّ - من واجدی المراتب القرآنیة العالیة، ومن الذین لمسوا حقائقه، قال سید الشهداء علیه السلام:

«کتاب الله علی أربعة أشیاء، علی العبادة، والإشارة، واللطائف، والحقائق، فالعبادة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولیاء، والحقائق للأنبیاء»)(3).

ص:47


1- (1) حبیب بن مظاهر للمظفّری: ص 11.
2- (2) أعیان الشیعة: ج 20، ص 69.
3- (3) معرفة الإمام للسید محمد حسین الطهرانی: ج 3، القسم العاشر، معنی القرآن وأصحاب الحسین علیه السلام.

وهنا لابدّ من الإشارة إلی أنّ هذه العبادة التی تمتّع بها حبیب (رض) لم تکن عبادة مجرّدة عن الوعی والبصیرة کما هو حال الکثیر من أبناء هذه الأمّة، حیث تراهم یسجدون اللیل کلّه لله ولکنّهم یتحوّلون فی النهار من حیث یشعرون أو لا یشعرون إلی مطیّة الشیطان والسلطان، إنّ عبادة حبیب کانت من نوع وسنخ عبادة الأحرار، والتی وصفها سید الشهداء علیه السلام بقوله:

«إنّ العباد ثلاثة، قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلک عبادة العبید، وقوم عبدوا الله تبارک وتعالی طلب الثواب فتلک عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ حبّاً فتلک عبادة الأحرار وهی أفضل العبادة»(1).

وإنّما أصبحت هذه العبادة هی أفضل من غیرها؛ وذلک لأنّ صاحبها إنّما یقوم بتکلیفه وأداء ما علیه لأنّه یری الله أهلاً لهذا التکلیف وهذا الأداء، وهناک فرق کبیر وواسع بین مَن یعبد الله عزّ وجلّ من أجل أن یدفع عن نفسه الضُرّ والبأس - کذاک الذی لا یترک الصلاة خوفاً مِن أن تناله عقوبة تارک الصلاة - وبین مَن یعبد الله حبّاً وشوقاً نتیجة معرفته به وبعظمة آلائه ونِعَمِه علیه، فمثل هذا الإنسان لا یبقی فی دائرة أداء الواجب فقط، وإنّما یتعدّاها إلی غیرها من المستحبّات، ومع کلّ هذا لا یری نفسه قد وفّت حق الله أو استوعبت استحقاقه علیها.

وما أجمل کلمة القرآن الکریم وهو یتحدّث عن هذه النخبة من

ص:48


1- (1) وسائل الشیعة: ج 1، ص 62.

المؤمنین، والذی أقطعُ أنّ منها هذا الشهید الکربلائی حبیب بن مُظهِّر الأسدی، ما أجمل القرآن وهو یخبرنا بوجود جماعة من الأولیاء لا ینامون کما ینام الناس علی فراشهم، حیث منعهم حبّ الله وشوقه ووَلَهُ الوقوف بین یدیه من أن یناموا، یقول القرآن:

«تَتَجافی جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً1» .

یقول الطبرسی فی تفسیر هذه الآیة: (أی ترتفع جنوبهم عن مواضع اضطجاعهم لصلاة اللیل، وهم المتهجّدون باللیل الذین یقومون عن فرشهم للصلاة، عن الحسن ومجاهد وعطاء، وهو المروی عن أبی جعفر وأبی عبد الله)(1).

ویقول الإمام أمیر المؤمنین:

«إلهی، ما عبدتُکَ خوفاً من نارکَ ولا طمعاً فی جنّتکِ ولکن رأیتک أهلاً للعبادة فعبدتُکَ»(2).

وهذا الذی عاشه علی بن أبی طالب ومِن بعده الحسن والحسین علیهم السلام فی طریقة التعامل مع الله، قد تأثر فیه کلُّ مَن تبعهم صادقاً فی اتّباعه ومخلصاً فی ولائه، حیث کانوا یُقبِلون - کأئمّتهم وقادتهم علیهم السلام - علی العبادة وهم مشتاقون إلیها، وکأنّهم هم المقصودون فی دعاء الإمام زین العابدین علیه السلام:

«ولا تشغلهم عن تسبیحک الشهوات، ولا یقطعهم عن عظمتک

ص:49


1- (2) مجمع البیان: تفسیر آیة 16 من سورة السجدة.
2- (3) بحار الأنوار: ج 41، ص 14.

سهوُ الغفلات، الخُشّع الأبصار، فلا یرومون النظر إلیک، النواکس الأذقان، الذین طالت رغبتهم فیما لدیک، المستهترون بذکر آلائک، والمتواضعون دون عظمتک وجلال کبریائک، والذین یقولون إذا نظروا إلی جهنّم تزفر علی أهل معصیتک: سبحانک ما عبدناک حقّ عبادتک»(1).

حبیب بن مُظهِّر مع الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام

کلّ مَن تحدّث عن الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی ذکر أنّه کان من خُلَّص أصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام وخاصّته وحامل علومه، لاسیّما عِلْم المنایا والبلایا، وأنّه نزل الکوفة وصحب علیّاً فی حروبه الثلاث(2) ، ولقد کانت صحبة الشهید للإمام أمیر المؤمنین علیه السلام طویلة جدّاً، حیث امتدّت منذ زمن ما قبل وفاة ورحیل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلی آخر یوم من أیّام علی علیه السلام، حتی عدّه علماء الرجال من أصحابه علیه السلام(3) ، فضلاً عن محبّته للحسن والحسین صلی الله علیه و آله، وعدّته الروایات الواردة عن أهل البیت علیهم السلام من الأصفیاء، حیث ینقل الشیخ المفید وهو یتحدّث عن أصحاب الإمام علی علیه السلام: (ومن أصحابه عمرو بن الحَمِق الخزاعی، ومیثم التمّار، ورشید الهجری، وحبیب بن مظاهر الأسدی، ومحمد بن أبی بکر)(4).

ص:50


1- (1) الصحیفة السجادیة: ص 11، دعاؤه فی الصلاة علی حملة العرش وکلّ ملک مقرّب.
2- (2) إبصار العین فی أنصار الحسین: ص 100-106.
3- (3) معجم رجال الحدیث: ج 5، ص 201-203.
4- (4) الاختصاص: ص 2.

ولقد تحمّل فیها الشهید الکربلائی الکثیر الکثیر من المآسی والمِحَن والأکدار والإحن وهو إلی جانب إمامه وسیّده أمیر المؤمنین، لاسیّما فی تلک الحقبة الحَرِجة التی أعقبت وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهی الحقبة التی تنازلت فیها الأمّة عن وصیّة نبیّها فی خصوص الإمامة والخلافة والوصایة له علیه السلام من بعده، فی تلک المرحلة ظلّ علیّ جلیس البیت، یعیش الألم والحسرة وهو یری تراثه نهباً، وما أعظم تلک الکلمة التی قالها علی علیه السلام وهو یتحدّث عن ذاک الظرف الخاص الذی مرّ به علیه السلام، وکذلک مَن کان معه من المخلصین:

«وطفقتُ أرتأی بین أن أصول بیدٍ جذّاء أو أصبرُ علی طخیة عمیاء، یَهرم بها الکبیرُ ویشیبُ فیها الصغیرُ، ویکدح فیها مؤمنٌ حتی یلقی ربَّه، فرأیتُ أنّ الصبر علی هاتا أحجی، فصبرتُ وفی العین قذی وفی الحلقِ شجی، أری تراثی نهباً»(1).

ولقد بانت معالم صعوبة تلک الحقبة أکثر حینما وصل علی علیه السلام إلی سِدّة الحکم، لا برغبة شخصیة منه، وإنّما بعد أن أقبل الناس من کلّ حدب وصوب یسألونه أن یتسلّم زمام السلطة والحکم، بعد أن رأوا بأمّ أعینهم ظلمَ مَن مضی، وکیف تسلّط الأدعیاء والطلقاء من خلالهم علی مقدّرات هذه الأُمّة ومقدّساتها، ولکن ما إن وصل إلی سِدّة الحکم حتی خرجت علیه أصحاب المطامع والمصالح والأهداف الدنیویة وسائر قبائل قریش؛ لأنّها کانت تعلم أنّ علیّاً سیتعامل وفق منهج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فی تعامله معهم، حینما وقف أمام جشعهم

ص:51


1- (1) نهج البلاغة بشرح محمد عبده: ج 1، ص 31.

وظلمهم وحاربهم فی کلّ ما کانوا یتمتّعون به من صفات دنیّة قائمة علی الباطل.

ولمّا رأت کلّ هذه المجامیع ذلک من علیٍّ وتیقّنتْ به، أشعلتْ علیه حروباً ثلاثاً ما أنزل الله بها من سلطان، ابتداءً من واقعة الجمل وانتهاءً بالنهروان، فضلاً عن الإرهاب الأموی المتمثّل بالنهب والقتل والترویع الذی کان یصنعه معاویة وعصابات الإجرام التابعة له.

ولا شک ولا ریب أنّ وقوف الناس إلی جانب علی بن أبی طالب علیه السلام فی تلک المرحلة الصعبة تمثّل مکرمة وفخراً للإنسان، حیث یعنی الوقوف إلی جانب علی علیه السلام تعریض المال والنفس والأهل إلی الضرر الحقیقی، ومع ذلک کلّه فقد ثبتتْ معه فئة من المؤمنین من حوله، وفدتْه بالغالی والنفیس وحافظت علیه کما یحافظ الإنسان علی عینَیه، حتی وُصِفوا تارةً بالحواریین وأخری بالأصفیاء وأخری بالمخلصین، وما شاکل ذلک من هذه الصفات التی تکشف کلّ واحدة منها معدن هؤلاء وأصالتهم، وکان من بین هؤلاء حبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض)، هذا الرجل الذی لازم علیّاً ملازمة الظلّ للشخص، فلم یکن یفارقه لا فی صغیرة ولا فی کبیرة، فکان معه فی حلّه وترحاله.

حبیب بن مُظهِّر من حواریی علی علیه السلام

أَطلقتْ بعضُ الروایات علی جماعة خاصة من أصحاب علی علیه السلام أنّهم کانوا من الحواریین، ومن هذه الروایات ما ذکره المجلسی عن الإمام أبی الحسن موسی علیه السلام، حیث یقول:

ص:52

«إذا کان یوم القیامة نادی منادٍ أین حواری محمّد بن عبد الله رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، الذین لم ینقضوا العهد ومضوا علیه؟ فیقوم سلمان والمقداد وأبو ذر، ثمّ ینادی أین حواری علیّ بن أبی طالب وصیّ محمد بن عبد الله رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فیقوم عمرو بن الحمق الخزاعی ومحمد بن أبی بکر ومیثم التمّار مولی بنی أسد وإدریس القرنی»(1).

صحیح أنّ هذه الروایة وأمثالها لم تُدخل الشهید الکربلائی حبیب بن مُظهِّر الأسدی معهم، ولکن من خلال ملاحظة جملة من النقاط یتبیّن لنا أنّ الشهید یُعدّ من حواری أمیر المؤمنین علیه السلام، بل ومن ساداتهم.

1 - یقول ابن منظور: (الحواریون صفوة الأنبیاء علیهم السلام، وقال الزجاج: الحواریون خُلصانُ الأنبیاء علیهم السلام وصفوتهم). ویقول: (وتأویل الحواریین فی اللغة: الذین أخلصوا ونقّوا من کلّ عیب). ویقول: (قیل لناصر نبیّه حواری إذا بالغ فی نصرته، تشبیهاً بأولئک، والحواریون الأنصار: وهم خاصة أصحابه). ویقول (الحواریّ: الناصح، وأصله الشیء الخالص، وکلّ شیء خلص لونه فهو حواریّ)(2).

وإلی نفس هذا المعنی أشار الشیخ الطبرسی فی مجمعه بقوله: (وقال الکلینی وأبو روق: الحواریون أصفیاء عیسی، وکانوا اثنی عشر رجلاً، وقال عبد

ص:53


1- (1) بحار الأنوار: ج 22، ص 342.
2- (2) لسان العرب لابن منظور: ج 2، ص 1044، مادّة (حور).

الله بن المبارک: ُمّو حواریین لأنّهم کانوا نورانیین، علیهم آثار العبادة ونورها وحسنها، کما قال تعالی:

«سِیماهُمْ فِی وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ1» .

وربّما هذا المعنی هو المروی عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام حینما سُئل: ِمَ سُمّی الحواریون الحواریین؟ قال:

«أمّا عند الناس فإنّهم سُمّو الحواریین لأنّهم کانوا یقصّرون الثیاب من الوسخ بالغسل، وأمّا عندنا فإنّهم کانوا مخلصین فی أنفسهم ومخلصین لغیرهم من أوساخ الذنوب»(1).

فتبیّن فیما سبق أنّ لفظة الحواریین إنّما تُطلق علی أتباع الأنبیاء ومَن لهم صفات خاصة مِن تقوی وزهد وعبادة، وخلوص وإخلاص فی درجاته العالیة، وهذا المعنی - لا ریب ولا شکّ - قد تمثّل فی أصحاب الإمام أمیر المؤمنین وأهل البیت علیهم السلام بشکل عام، لاسیّما الأبدال منهم، أمثال حجر وعمرو بن الحَمِق وحبیب بن مُظهِّر وسلمان وأبی ذر والمقداد وآخرین.

ومن ثم یکونون أولی من غیرهم فی هذا اللفظ، بل یکون الشهید حبیب بن مُظهِّر أعظمهم منزلةً وأفضلهم مکانةً؛ وذلک لأنّه اشترک معهم فی کلّ هذه الصفات وزاد علیها الشهادة بین یدی ریحانة ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقد أشار الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام إلی هذه الحقیقة من خلال الروایة التی تروی عنه علیه السلام

ص:54


1- (2) مستدرک سفینة البحار: ج 2، ص 464.

حینما سأل حبیباً قائلاً: یا حبیب، ما یزین الرجل؟ فقال: العلم والحلم والشجاعة، فقال له الإمام: أحسنتَ یا حبیب، وکلّها مجموعة فیک، وکذا بقیت فضیلة رابعة وسوف تنالها إن شاء الله، فقال حبیب: وما هی؟ قال: هی الشهادة.

2 - ورد فی بعض المصادر اللغویة والتفسیریة أنّ المراد من الحواریین هم الصفوة من أتباع الأنبیاء(1) ، وهذا المعنی بالنص ورد فی کتاب الاختصاص للشیخ المفید، حیث قال: (ومن أصفیاء أصحابه - یقصد الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام - عمرو بن الحَمِق الخزاعی عربی ومیثم التمّار... وحبیب بن مظاهر الأسدی...)(2).

إنّ نفس لفظة الحواریین قد أُطلقت علی جماعةٍ ذُکروا فی روایة الاختصاص للشیخ المفید، أمثال محمد بن أبی بکر، ومیثم التمّار، کما فی الروایة المتقدّمة عن الإمام موسی بن جعفر علیه السلام(3) ، فهم الصفوة فی الاختصاص، وهم الحواریون فی البحار، ممّا یعنی أنّ الذین أُطلق علیهم هذا اللفظ إنّما ذُکروا للمثال ولیس للحصر، فیکون حبیب بن مُظهِّر الأسدی داخلاً معهم.

حبیب بن مُظهِّر من شرطة الخمیس

ورد فی کثیر من المصادر التاریخیة لاسیّما الرجالیة منها أنّ حبیب بن مُظهِّر کان من شرطة الإمام أمیر المؤمنین، بل وفی بعضها أنّ أقلّ درجاته أنّه من شرطة الخمیس، وهی تکفی لوحدها لإثبات جلالته ووثاقته، یقول السید الخوئی وهو

ص:55


1- (1) التفسیر الکبیر للرازی: تفسیر الآیة 52 من آل عمران. لسان العرب: ج 2، ص 1044، (مادّة حور).
2- (2) الاختصاص للشیخ المفید: ص 3.
3- (3) وقد تقدّمت قبل قلیل فلتراجع.

یتحدّث عنه (رض): «وذکره البرقی من أصحاب أمیر المؤمنین ومن شرطة خمیسه»(1).

ویقول أهل اللغة: إنّ (الشرطة جمع شرط، سُمّوا بذلک لأنّهم أُعدّوا لذلک، وأعلموا أنفسهم بعلامات، وقیل هم أوّل کتیبة تشهد الحرب وتتهیأ للموت، وفی حدیث بن مسعود: «تشرط شرطة للموت لا یرجعون إلاّ غالبین، هم أوّل طائفة من الجیش تشهد الواقعة»)(2).

والخمیس کما یقول أهل اللغة هو الجیش: (والخمیس: الجیش، وقیل: الجیش الجرّار، وقیل: الجیش الخشن، وفی المحکم: الجیش یخمس ما وجده، وسُمّی بذلک لأنّه خمسة فِرَق: المقدّمة، والقلب، والمیمنة، والمیسرة، والساقة، أَلاَ تری قول الشاعر:

قد یضربُ الجیشُ الخمیسُ الأزدرا)(3)

وإنّما لقّبهم وأطلق علیهم مثل هذا الاسم الإمامُ أمیر المؤمنین علیه السلام لأنّه شارطهم وشارطوه کما فی الروایة التی ذکرها الشیخ المفید فی کتاب الاختصاص: (محمد بن الحسین عن محمد بن جعفر عن أحمد بن أبی عبد الله قال: قال علی بن الحکم: أصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام الذین قال لهم:

«تشرّطوا فأنا أشارطکم علی الجنّة، ولستُ أشارطکم علی ذهب

ص:56


1- (1) معجم رجال الحدیث: ج 4، ص 2236، مادّة (شرط).
2- (2) لسان العرب: ج 2، ص 1264، مادة (خمس).
3- (3) لسان العرب: ج 2، ص 1264، مادّة (خمس).

وفضة، إنّ نبیّنا صلی الله علیه و آله و سلم قال لأصحابه: تشرّطوا فإنّی لست أشارطکم إلاّ علی الجنّة، وهم سلمان والمقداد...»)(1).

فیظهر من کلّ ما تقدّم دور هذه الفئة وعظمة المسؤولیة المناطة بها، فهی أشبه بالقوّات الخاصة التی تحتفظ بها الدولة فی أوقات الشدّة أو عند بدایة الحروب لحسمها، إضافة إلی المسؤولیات الداخلیة للبلاد کحفظ النظام والاستقرار وإقامة الأحکام والقوانین الإسلامیة، لاسیّما فی المسائل الحساسة والمهمّة.

وإذا کان الأمر کذلک فإنّ المنخرط فی قوات عسکریة کهذه فی ظلّ حکومة الإمام أمیر المؤمنین لا شکّ أنّه یُعدّ من خیار المؤمنین وثقات الإمام فضلاً عن شجاعته وبسالته، ولقد أشار الإمام أمیر المؤمنین إلی فضل هذه الجماعة فی أکثر من مناسبة، لاسیّما حینما أراد أن یتحدّث مع عبد الله بن یحیی الحضرمی:

«أبشر یا بن یحیی، فإنّک وأباک من شرطة الخمیس حقّاً، أخبرنی رسول الله باسمک واسم أبیک فی شرطة الخمیس، والله سمّاکم شرطة الخمیس علی لسان نبیه صلی الله علیه و آله و سلم»(2).

ولقد کان للشهید الکربلائی دور مهمّ فی هذه الشرطة وهذه القوّة الضاربة، والتی کانت تمثّل بالنسبة إلیه علیه السلام بمثابة الید التی یحمل بها السیف.

فهنیئاً للشهید هذا الفضل الکبیر من الله تعالی، والذی وصل إلی درجة أن

ص:57


1- (1) الاختصاص: ص 2-3.
2- (2) رجال الکشی: ص 4.

یسجّل اسمه فی سجلّ شرطة الإمام أمیر المؤمنین وسِجل الشهداء مع ولده الحسین علیه السلام فی کربلاء(1).

حبیب بن مُظهِّر فی الکوفة

بعد شهادة الإمام أمیر المؤمنین ظلّ حبیب إلی جانب ولده الإمام الحسن لاسیّما فیما مرّ علیه من مآسٍ کبیرة وفتن متعدّدة وتخاذل غیر مسبوق من قِبل الأمّة، والتی انتهت آخر الأمر بقبول الإمام الحسن علیه السلام للصلح مرغماً، وکان حبیب بن مُظهِّر إلی جانب الإمام فی کلّ هذه الشدائد التی مرّت علیه فادیاً له بنفسه ومهجته.

وبعد شهادة الإمام الحسن علیه السلام وتسلّط معاویة علی رقاب الأمّة ظلماً وجوراً، وتسلّط أمثال زیاد بن أبیه علی الکوفة، فقد تمّت تصفیة الکثیر من قیادات علی بن أبی طالب علیه السلام وشیعته بشکل لم یعهد من قبل، قتلاً وسجناً وتشریداً، حتی أنّ الإنسان لیأخذه العجب کیف استطاع هذا الشیخ الهرم - حبیب ابن مُظهِّر - أن یفلت من أیدی هؤلاء الظلمة، الذین تتبّعوهم تحت کلّ حجر ومدر، ولکنّ الله إذا أراد شیئاً هیّأ له أسبابه، فالله سبحانه وتعالی أراد لهذا الشیخ الذی أفنی کلّ عمره من أجل الإسلام أن تنتهی حیاته بنهایة تشرئبّ لها الأعناق وتخفق لها القلوب وتتمنّاها کلّ النفوس الصادقة والمخلصة لله سبحانه وتعالی.

بقی حبیب بن مُظهِّر (رض) فی الکوفة مختفیاً بین هذا البیت وذاک، وربّما

ص:58


1- (1) وسیأتینا مزید من الحدیث عن هذه القوّة الضاربة ونحن نتحدّث عن الشهید القائد الحلاّس بن عمرو الراسبی (رض).

کان من جملة أسباب بقائه هو قوّة وهیبة وسلطان عشیرته التی ینتمی إلیها وهم بنو أسد، حیث کان لهم وجود واضح وبارز فی الکوفة، وکان حبیب زعیم هذه القبیلة وسیّدها بلا منازع.

ظلّ حبیب علی هذا الحال مراقباً للأحداث ومتّبعاً لأوامر إمامه الحسین علیه السلام الذی أمرهم بالصبر والسکوت ولزوم البیوت مادام معاویة علی قید الحیاة، فقد روی البلاذری: (لمّا تُوفّی الحسن بن علی علیه السلام اجتمعت الشیعة ومعهم بنو جعدة بن هبیرة ابن أبی وهب المخزومی وأمّ جعدة هی أم هانئ بنت أبی طالب فی دار سلیمان بن صرد، فکتبوا للحسین کتاباً بالتعزیة، وقالوا فی کتابهم: إنّ الله قد جعل فیک أعظم الخلف ممّن مضی ونحن شیعتک المصابة بمصیبتک المحزونة بحزنک المسرورة بسرورک المنتظرة لأمرک، وکتب إلیه بنو جعدة یخبرونه بحسن حال رأی الکوفة فیه وحبّهم لقدومه وتطلّعهم إلیه، وإن قد لقوا من أنصاره وأخوانه مَن یرضی هَدْیَه ویطمئنّ إلی قوله ویُعرف نجدته وبأسه، فأفضوا إلیه ما هم علیه من شنآن ابن أبی سفیان والبراءة منه، ویسألونه الکتابة إلیهم، فکتب الحسین علیه السلام إلیهم:

«أنّی لأرجو أن یکون رأی أخی علیه السلام فی الموادعة ورأیی فی جهاد الظالمین رشداً وسداداً، فالصقوا بالأرض واخفوا الشخص واکتموا الهوی واحترسوا من الأضناء ما دام ابن هند حیّاً، فإن یحدث به حدث وأنا حی یأتیکم رأیی إن شاء الله»)(1).

وفی روایة أخری وهو یتحدّث مع محمد بن بشر الهمدانی:

ص:59


1- (1) أنساب الأشراف: ج 3، ص 151-152. الأخبار الطوال للدینوری، ص 222.

«لیکن کلّ امرئ منکم حِلساً من أحلاس بیته ما دام هذا الرجل حیّاً، فإن یهلک ونحن وأنتم أحیاء رجونا أن یخیر الله لنا ویؤتینا رشدنا ولا یکلنا إلی أنفسنا، فإنّ الله مع الذین اتقوا والذین هم محسنون»(1).

حبیب والاجتماع الأول للشیعة

بمجرّد أن هلک معاویة ووصلت الأخبار إلی مسامع شیعة أهل البیت علیهم السلام فرحوا واستبشروا خیراً بموته وهلاکه، فاجتمعت کبار شخصیاتها فی الکوفة علی وجه السرعة، وکان الاجتماع فی بیت سلیمان بن صرد الخزاعی (رض).

روی أبو مخنف عن الحجاج بن علی عن محمد بن بشر الهمدانی قال: (اجتمعت الشیعة فی منزل سلیمان بن صرد فذکرنا هلاکه فحمدنا الله علیه، فقال لنا سلیمان بن صرد: إنّ معاویة قد هلک وإنّ حسیناً قد تقبّض علی القوم ببیعته وقد خرج إلی مکة وأنتم شیعته وشیعة أبیه، فإن کنتم تعلمون أنّکم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاکتبوا إلیه، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل، قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه، قال: فاکتبوا إلیه، فکتبوا إلیه:

بسم الله الرحمن الرحیم، للحسین بن علی من سلیمان بن صرد والمُسَیَّب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبیب بن مُظهِّر وشیعته من المؤمنین والمسلمین من أهل الکوفة، سلام علیک، فإنّا نحمد الله إلیک الذی لا إله إلاّ هو، أمّا بعد، فالحمد لله الذی قصم عدوّک الجبّار العنید الذی انتزی علی هذه الأمّة فابتزّها وغصبها فَیْأَهَا

ص:60


1- (1) أنساب الأشراف: ج 3، ص 150، تحقیق المحمودی.

وتأمّر علیها بغیر رضا منها، ثمّ قَتل خیارها واستبقی شرارها، وجعل مال الله دُوْلَةً بین جبابرتها وأغنیائها، فبعداً له کما بعدت ثمود، إنّه لیس علینا إمام فأقْبِلْ لعلّ الله أن یجمعنا بک علی الحقّ، والنعمان بن بشر فی قصر الإمارة لسنا نجتمع معه فی جمعة ولا نخرج معه إلی عید، ولو قد بلغنا أنّک قد أقبلتَ إلینا أخرجناه حتی نلحقه بالشام إن شاء الله والسلام ورحمة الله علیک)(1).

ثمّ سرَّحوا الکتاب مع عبد الله بن مسمع الهمدانی وعبد الله بن وال وأمروهما بالنجاء، فخرجا مسرعَین حتی قَدِمَا علی الحسین علیه السلام بمکة لعشر مضینَ من شهر رمضان.

ثمّ بدأت بعد ذلک الرسائل والکتب تتری إلی الحسین من أهل الکوفة، فورد علیه فی یوم واحد ست مائة کتاب، وتواترت الکتب حتی اجتمع عدّة منها فی نوب متفرّقة اثنا عشر ألف کتاب(2).

ومن خلال هذه الوثائق وغیرها یتبیّن لنا أنّ الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی کان من أوّل الداعین إلی هذا الاجتماع والمنظّرین إلیه والمبادرین إلی عقده مع ثلة من أصحاب السوابق الإیمانیة، وهذا إذا دلّ علی شیء فإنّما یدلّ علی أنّ هذا الرجل لم یتزعزع إیمانه ولم یقلق تمسّکه بأئمّته رغم کلّ الظروف الصعبة التی مرّ بها، وما زالت قائمة آنذاک فی الکوفة والتی یمکن أن یتعرّض من خلالها إلی الموت الحقیقی، ومع کلّ هذا نجد الشهید علماً بارزاً من أعلام هذا الاجتماع، بل وکان من سادات العمل بعد ذلک کما سیأتی فی حرکة مسلم بن عقیل علیه السلام.

ص:61


1- (1) تاریخ الطبری: ج 3، ص 277. الإرشاد: ص 203.
2- (2) انظر: اللهوف فی قتلی الطفوف: ص 105.
دور حبیب بن مُظهِّر فی ثورة مسلم بن عقیل

ما إن وصلت رسائل أهل الکوفة إلی الإمام الحسین علیه السلام حتی بعث إلیهم سفیره وثقته من أهل بیته مسلم بن عقیل، التی کانت مهمّته تعبئة الأمّة إیمانیاً وروحیاً من أجل الوقوف بقوة أمام ما یمکن أن تواجهه الأمّة الآن وفی المستقبل من ویلات مع بنی أمیّة، لاسیّما حکومة یزید بن معاویة، والمهمّة الأخری هی دراسة الوضع العام فی داخل الکوفة من قِبل مسلم بن عقیل وإرسال التقریر إلی الإمام الحسین علیه السلام لاتخاذ الموقف اللازم والمناسب فی تلک المرحلة الخطرة.

وفعلاً جاء مسلم إلی الکوفة واختار دار المختار بن أبی عبید الثقفی محلاًّ ومکاناً له، وبدأت تُعقد الاجتماعات السیاسیة والاجتماعیة، وکانت علی مستویین: مستوی عام لکلّ الناس أو ما یمکن أن نعبّر عنه بالمستوی الشعبی، خصوصاً عندما کانت الدعوة غیر سرّیة ومکان مسلم بن عقیل مُشَخَّصاً ومعروفاً.

وهناک مستوی آخر من الاجتماع وهو الخاص، حیث کان یخصّ النخب الاجتماعیة والسیاسیة والعشائریة فی داخل الکوفة، ولقد نقل لنا التاریخ صوراً لبعض الجوانب التی حصلت فی هذه الاجتماعات التی تؤکّد بشکلّ واضح وصریح عظمة تلک الشخصیات المجتمعة وحِنْکتها وشوقها إلی الشهادة بین یدی أبی عبد الله الحسین علیه السلام ومسلم بن عقیل علیه السلام.

ومن هذه الصور ما یذکره المقرّم فی کتابه القیّم: (ووافت الشیعة مسلماً فی دار المختار بالترحیب وأظهروا له من الطاعة والانقیاد ما زاد فی سروره وابتهاجه، فعندما قرأ علیهم کتاب الحسین علیه السلام قام عابس بن شبیب الشاکری وقال: إنّی لا

ص:62

أخبرک عن الناس ولا أعلم ما فی نفوسهم، ولا أغرک بهم، والله، إنّی أحدّثک عمّا أنا مُوَطِّن علیه نفسی، والله لأجیبنکم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معکم عدوّکم، ولأضربنّ بسیفی دونکم حتی ألقی الله، لا أرید بذلک إلاّ ما عند الله، ثمّ قال حبیب ابن مظاهر: قد مضیت ما فی نفسک بواجز من القول، وأنا - والله الذی لا إله إلاّ هو - علی مثل ما أنت علیه، وقال سعید بن عبد الله الحنفی مثل قولهما)(1).

ویضیف الطبری نصاً مُکَمِّلاً لهذا النص عن علی بن الحجاج حینما یقول: «سألت محمد بن بشیر الهمدانی هل کان منک قول أنت (یعنی بعد قول عابس وحبیب وسعید هل تکلمت أنت؟) فقال له: إنّی کنتُ أحبُّ أن یُعزَّ أصحابی بالظفر، وما کنتُ لأحب أن أقتل وکرهت أن أکذب»(2).

ولا شکّ أنّ مثل هذه الاجتماعات کانت تضمّ فیما بینها حتی الشخصیات المختلفة فی درجة الولاء والإیمان والمبدئیة والقِیَم، کان أتباع أهل البیت قد شخّصوها وعرفوها أنّها لم تکن - لا فی الماضی ولا فی الیوم - محلّ ثقة واعتناء من قِبلهم، ولکنّهم مع ذلک قرّروا عدم إثارتها ومواجهتها، لاسیّما فی هذه المرحلة الحساسة من حرکة مسلم بن عقیل علیه السلام علی أن یعالج مثل هذا الأمر فیما بعد، بشکل یضمن أن یُعطی کل ذی حقٍ حقه، وفی هذه الدائرة یمکن أن نمثل بمحمد بن بشیر الهمدانی صاحب النص الثانی الذی ذکره الطبری، حیث کان حاضراً فی هذا الاجتماع ولکنّه کان أشبه وأقرب إلی قول الفرزدق للإمام

ص:63


1- (1) مقتل الحسین للمقرّم: ص 147.
2- (2) الطبری: ج 1، ص 199.

الحسین علیه السلام حینما سأله عن أهل الکوفة: إنّ قلوبهم معک وسیوفهم علیک، فکان یرید النصر لأهل البیت ولأتباعهم، ولکنّه فی نفس الوقت کان لا یرید مثل هذا النصر أن یتمّ من خلال قتْل نفسه أو تعریضها للأذی.

ولقد لفتت انتباهی فقرة من فقرات کلامه حینما قال: (کرهت أن أکذب)، والتی تصبّ فی صالح ما نرید أن نتحدّث عنه فی ذلک الاجتماع، حیث أراد لکلامه - والله العالم - الإشارة إلی حدیث بعض تلک الشخصیات المتلوّنة بتلوّن الهوی والدنیا، حینما کانت تتحدّث بقوة فی داخل هذا المجلس وتدعو إلی الوقوف والقتال، وما شاکل ذلک من تلک الکلمات التی کانت مُشَخَّصة ومعروفة من قِبل مَن عاش مثل هذه النفوس وکیفیة تعاملها مع علی علیه السلام وولده الحسن علیه السلام.

ومن هنا نعرف ونقیّم فی نفس الوقت کلمة الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض) حینما أکّد علی ما ذکره عابس، سواء فی جانب التصمیم علی الشهادة أو التخوّف وضرورة الحذر من قِبل أمثال هؤلاء الأدعیاء، ومن هذه النقطة بالذات لم نجد أحداً ممّن ذکره التاریخ وقف إلی جانب مسلم بن عقیل ثمّ من بعده سید الشهداء ثمّ وُفّق للشهادة بین یدیه، لم نجد أحداً من هؤلاء إلاّ وقد أُسندت إلیه مهمّة کبیرة، وهی أخذ البیعة للإمام الحسین من قِبل أهل الکوفة، وکان علی رأس أولئک الجماعات شخصیة حبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض)، الذی کان له دور کبیر فی هذه الحرکة المبارکة. مما یعنی أنّ مسلماً کان قد شَخّص هذه العناصر الولائیة دون الآخرین.

ص:64

ولئن کان التاریخ قد أغفل عن جهل أو عمد بنود هذه البیعة التی أخذها مسلم بن عقیل علیه السلام وأرکان ثورته من الناس للإمام الحسین علیه السلام، فیمکن للإنسان أن یقطع أنّها لم تکن غیر تلک البیعة التی أخذها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من الأنصار فی العقبة الأولی والثانیة، تلک البیعة التی غیّرت مجری التاریخ وأعطت للنبی صلی الله علیه و آله و سلم زخماً کبیراً وواسعاً فی الوقوف أمام طغاة قریش وکفّارها، وما أجمل البیعة إذا کانت لله ولرسوله وإقامة الصلاة وإیتاء الزکاة والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والإصلاح فی أمّة رسول الله، کما هی فی الواقع الشعارات الحسینیة التی خرج بها الإمام الحسین ودعا الناس إلی الوقوف إلی جانبه من أجل الدعوة إلیها والعمل بها.

ولقد قرأتُ فی بیعة الأنصار لرسول الله مبدأً عظیماً کشف فی الواقع مدی الإیمان العمیق الذی کان یکنّه الأنصار له صلی الله علیه و آله و سلم، وذلک حینما قال لهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

«تبایعونی علی السمع والطاعة فی النشاط والکسل، والنفقة فی العسر والیسر، وعلی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وأن تقولوا فی الله، لا تخافون فی الله لومة لائم، وعلی أن تنصرونی فتمنعونی إذ قدمت علیکم ممّا تمنعون منه أنفسکم وأزواجکم وأبنائکم»، ثمّ قال صلی الله علیه و آله و سلم وهی النقطة المهمّة: «ولکم الجنّة»(1).

وهکذا کانت البیعة من قِبل المؤمنین لمسلم بن عقیل فی الکوفة، إنّها بیعة

ص:65


1- (1) البدایة والنهایة: ج 3، ص 157.

الموت من أجل الله عزّ وجلّ والجنّة، ثبت علیها مَن کان خائفاً من الله ورسوله، معروفاً بالولاء لأهل بیت نبیّه صلی الله علیه و آله و سلم، ونکل عنها وتراجع مَن غَرّتْه الدنیا وباع آخرته بالثمن الأوکس الأدنی.

إشارة لابدّ منها:

تداعیات التفرق عن مسلم بن عقیل
اشارة

وهنا ونحن نتحدّث عن هذه النقطة بالذات فقد تتوارد إلی الذهن مجموعة من الأسئلة المهمّة، والتی ترتبط بنفس هذه البیعة التی أخذها مسلم بن عقیل من أهل الکوفة، وکیفیة انکفاء الناس عنه وعدم بقائهم معه إلی آخر نفس، لاسیّما وهم بایعوه علی السمع والطاعة والجهاد بین یدیه.

وإذا کان هناک مَن یذکر ویدّعی وجود أسباب ومبررات لهذا النکول والتراجع - ککون الکوفة لیست کلّها من جنس الموالین، بل هی عبارة عن خلیط غیر متجانس من الأفکار والتیارات والإیدیولوجیات الدینیة والمذهبیة والقومیة والعشائریة - فإنّ مثل هذه الأسباب والأعذار یمکن أن تُقبل فی دائرة عامّة المبایعین، ولا شک فیهم الصالح والطالح والسلیم والسقیم، أمّا فی دائرة القمم الإیمانیة العالیة وأصحاب السوابق الجهادیة والذائبین فی خط أهل البیت علیهم السلام، فلا یمکن أن تُقبل بأیّ حال من الأحوال.

أسئلة مهمة تحتاج إلی جواب

ربما لا یملک الإنسان نفسه وهو یقرأ ویسمع ما جری وحصل مع مسلم بن

ص:66

عقیل فی الکوفة إلا وتتجمع فی ذهنه الأسئلة تلو الأسئلة عن ذلک فکیف یمکن أن نقبل أن یعیش مسلم بن عقیل لوحده فی الکوفة بشکل غیر مسبوق، حتی أنّ الرواة ینقلون أنّه صلّی صلاة المغرب والعشاء وبعد انتهائها خرج من باب کندة فلم یجد أحداً یدله علی الطریق؟(1) ، کیف یمکن لعاقل أن یقبل مثل هذه النتیجة؟! أین ذهب عابس وحبیب وأمثالهما ممّن لا تأخذه فی الله لومة لائم؟ أین کانوا حینما وصل الأمر إلی أن یُقتل ویُجرّ مسلم وهانی فی شوارع الکوفة وأزقّتها؟ لاسیّما ونحن نقطع أنّ حبیباً وأمثاله من الشهداء بین یدی الحسین علیه السلام لم یکونوا قد اعتقلوا قبل هذا الیوم، ولم یکونوا قد قُتلوا قبل ذلک الیوم، ولم یکونوا قد التحقوا وتوجّهوا إلی الحسین قبل ذلک الیوم، کیف ذاک وهم لم یعلموا بوقت خروج الحسین علیه السلام من مکّة والذی صادف فی نفس الیوم الذی استشهد فیه مسلم بن عقیل علیه السلام فی الکوفة، وهو یوم 8 ذی الحجة سنة 60 ه -.

وهنا یزداد الأمر تعقیداً وتکبر الحیرة أکثر فأکثر، حتی کأنّها ترید أن تأخذ بمجامع العقل کلّه.

وقد یعتذر بعضهم أولاً

وقد یعتذر البعض بأنّ هؤلاء الشهداء الأبطال قد هیّأوا أنفسهم واستعدّوا للخروج من أجل الشهادة بین یدی أبی عبد الله الحسین علیه السلام، ومن ثم خرجوا إلیه مبکرین أو متخفّین بعد ذلک(2).

ص:67


1- (1) انظر: أعلام الوری بإعلام الهدی: ص 244.
2- (2) انظر: أضواء علی الثورة الحسینیة: ص 222.
ردٌّ علی الاعتذار الأول

وهذا العذر لا شکّ فیه ما فیه من الشبهات التی إذا أردنا أن نقبلها فإنّما تُقبل مع غیر هؤلاء الأبدال، وأمّا معهم فلا وألف لا، فهؤلاء یعلمون قبل غیرهم أنّ امتثال أمر الحسین علیه السلام فی الوقوف إلی جانب مسلم بن عقیل هو بمثابة الوقوف إلی جانب شخص الحسین علیه السلام والشهادة بین یدیه، فالمهم عندهم هو أداء التکلیف الملقی علی عاتقهم من قِبل الحسین، سواء أکان هذا التکلیف معه علیه السلام أم مع غیره، وسواء أکان فی الکوفة أم فی کربلاء أم فی غیرهما من المناطق، ولذا یصعب علینا أن نقبل مثل هذا العذر مع هؤلاء الثلّة من المؤمنین.

وقد یعتذر بعضهم ثانیاً

وقد یعتذر البعض الآخر عن مثل فعل هذا النکول والتراجع عن مسلم بن عقیل من قِبل الناس، بأنّ هؤلاء الأبطال قدّروا أنّ الأمر قد انتهی وأنّ القتل هو المصیر الحتمی والنهائی لمثل هذه الثورة، ومن ثم حاولوا أن ینقذوا أنفسهم من القتل، فلربّما الحیاة تحتاج إلیهم بعد ذلک، ومن ثم یمکن أن یخسروا هذه النفوس فی جهاد الظالمین فی أماکن أکثر تأثیراً من هذه الثورة التی جرت فی الکوفة وبانت علائم فشلها، فقرّروا الخروج من أتون هذه الثورة التی انتهت بنظرهم(1).

ردٌّ علی الاعتذار الثانی

وهذه کذلک لا یمکن قبولها بأیّ حال من الأحوال، فإنّ انتهاء هذه الثورة وبیان فشلها أمامهم لا یمکن أن یکون مبرراً لهذه الفئة المؤمنة الواعیة فی أن

ص:68


1- (1) انظر: أضواء علی الثورة الحسینیة: ص 222.

تترک مسلم بن عقیل فریسةً سهلة یفعل به ابن زیاد ما یشاء، إذاً أین ذهب عابس الذی قال وهو بین یدی مسلم بن عقیل: (والله لأجیبنکم إذا دعوتم ولأقاتلنّ معکم عدوَّکم ولأضربنّ بسیفی دونکم الخ...)؟!

الأسئلة تتری من جدید إلی الذهن

وهکذا یتری بعد السؤال، أین ذهب قول الشهید حبیب بن مُظهِّر وهو یؤکّد علی نفس مقالة الشهید عابس؟ أین ذهب وعی حبیب وبصیرته وهو صاحب هذه الأرجوزة التی تکشف عن مدی یقینه بقضیته العادلة حیث یقول:

أنتم أعدُّ عدّةً وأکثرُ ونحنُ أعلی حجّةً وأصبرُ

أین ذهب کل هذا الصبر إذاً؟ وأین ذهبت کل هذه البصیرة الواسعة التی کانت تُمیّز فی مثل ذلک الموقف بین جیش جرار یحمل کل إمکانیات القمع والقتل، وبین جیش صغیر لا یحوی معه إلاّ أسلحة سهلة صغیرة بسیطة، ولکنّهم کانوا یحملون أعلی درجات الإیمان والیقین بالله عزّ وجلّ، کما هو معنی أرجوزة حبیب المتقدّمة.

طریق لمعالجة المشکلة

وحتی یمکن أن نعالج کل هذه الأسئلة والإشکالات التی تقدّمت، ویمکن أن یُجاب علیها بشکل صحیحٍ ومقبولٍ عقلاً وعرفاً، لابدّ من التعامل مع ما ذکره المؤرخون حول قصّة مسلم بن عقیل - لاسیّما فی خصوص انکفاء الناس عنه بشکل کلّی لا جزئی - بشیء من التأمّل والتفکّر والنظر، فإنّ المسألة باعتقادی تستحق النظر والبحث، آخذین فی الوقت نفسه فی نظر الاعتبار أنّنا مهما ذکرنا

ص:69

من نقاط فإنّنا لا یمکن أن نصل إلی مرحلة القطع فیما نذهب إلیه؛ لأنّ البحث فی المسألة التأریخیة لا یمکن القطع بها، لاسیّما إذا تعلّق الأمر فی تفاصیلها، إلاّ فی مجموعة قلیلة منها ثبتت فی التواتر، وأمّا فیما عداها فمن حقّ الإنسان الباحث أن یُعمل فِکره ونظره فیها، مستنداً فی ذلک إلی مجموعة من الوسائل والآلیات العلمیة التی یمکن أن یستعین بها فی هذا الإطار.

ومن هنا - وحتی لا أترک القارئ فی مجموعة من الإشکالات والأسئلة حول ما تقدّم - أودّ أن أذکر مجموعة من النقاط، أری من اللازم الإشارة إلیها والتأمّل فیها، ثمّ یُترک الأمر إلی القارئ لیحکم بعد ذلک ویری هل یمکن قبول أو عدم قبول ما نقل عن هذه المرحلة من صور وأحداث، لاسیّما عن شخصیات هذه المرحلة من المؤمنین الموالین دون غیرهم؟

نقاط لابدّ منها:

1 - لابدّ من افتراض أنّ هناک صوراً مفقودة فی قصة مسلم بن عقیل علیه السلام یمکن من خلالها أن نجمع بین الصور المتناقضة، وهذا الافتراض الذی نذکره تستدعیه طبیعة الأحداث التی نُقلت إلینا، وقد أشار إلی هذا الافتراض أو لنقل بعبارة أخری مفتاح هذا اللغز مجموعةٌ من العلماء الباحثین فی هذا المجال، منهم السید محمد صادق الصدر فی کتابه (أضواء علی الثورة الحسینیة)، حیث یقول:

(ولعلّ السؤال الأخیر الذی یمکن عرضه فی هذا الصدد ما قاله بعض الأذکیاء لبعض العلماء عمّا روی فی التأریخ من أنّ مسلم بن عقیل تفرّق عنه أصحابه کلّهم فی یوم واحد أو عشیة واحدة، حتی أصبح یتلبّد فی أزقّة الکوفة

ص:70

فی ظلام اللیل لا یجد مَن یؤویه، مع العلم أنّ من الکوفیین مَن هم علی درجة عالیة من الإخلاص للحق المتمثّل فی مسلم بن عقیل والحسین علیه السلام، أمثال حبیب ابن مظاهر ومسلم بن عوسجة وآخرین، بدلیل أنّ هذین المذکورین استُشهدا مع الحسین فی کربلاء، إذاً فإخلاصهم محرز، فلماذا تفرّقوا عن مسلم فی تلک اللیلة وترکوه وحیداً حائراً؟!)(1).

وإن کنّا غیر موافقین علی ما أجاب به السید الشهید رحمه الله علی مثل هذا التساؤل(2) ، ولکنّه أجاد فی عرض هذه القضیة التی تحتاج إلی دراسة معمّقة للخروج بنتائج مرضیة ومتناسبة مع عظمة الشخصیات المتحدَّث عنها فی هذه الواقعة.

2 - من الواضح أنّ مثل هذه الصور المفقودة فی حرکة مسلم بن عقیل والتی غابت أو - بتعبیر أدق - غُیّبت لأسباب ترجع برمّتها إلی صالح السلطة الحاکمة، المتمثّلة ببنی أمیة ویزید بن معاویة، حیث کان الجمیع یبحث دائماً عمّا یؤدّی إلی تشویه صورة الکوفة إجمالاً وهی عاصمة الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام.

وکذلک تشویه صورة الموالین لأهل البیت علیهم السلام من خلال تشویه صورتهم، وهم بشکل بعید عن الخُلُق والإنسانیة، وقد لا یحتاج الإنسان أن یسهب فی بیان مدی الحدیث الذی وضعه بنو أمیة علی الکوفة وأهلها من خلال وعّاظ السلاطین وعلماء الجور ومَن لا حظّ لهم بالعلم فضلاً عن الدین، حیث کتبوا کثیراً فی

ص:71


1- (1) أضواء علی الثورة الحسینیة: ص 222.
2- (2) انظر: أضواء علی الثورة الحسینیة: ص 222.

غدرهم لعلیّ ثمّ من بعده الحسن ثمّ من بعده مسلم بن عقیل ثمّ من بعده الحسین، وهکذا مع أئمة أهل البیت علیهم السلام.

وأنا لا أرید هنا أن أردّ علی هذه الأراجیف الباطلة والأکاذیب الکالحة، ولکنّنی أرید - فقط - أن أنوّه إلی أمرٍ مهمّ، وهو أنّ کلّ مَن یطالع وقائع حرب صفّین وعظمتها وما جری فیها سیخرج بنتیجة مفادها عظمة تضحیات أهل العراق الموالین منهم، وهم یدافعون عن خطّ الإمامة، فضلاً عن عشرات الأحادیث التی وردت فی مدح أهل الکوفة، کقول علی علیه السلام:

«یا أهل الکوفة، جزاکم الله من أهل مصر عن أهل بیت نبیّکم أحسن ما یجزی العاملین بطاعته، سمعتم فأطعتم ودعیتم فأجبتم»(1).

وقوله:

«لا تسبّوا أهل الکوفة، فوالله إنّ فیهم لمصابیح الهدی»(2).

و «الکوفة جمجمة الإسلام وکنز الإیمان»(3).

أمّا تشویه صورة الموالین فیها فقد اتّخذ أشکالاً متعدّدة، منها ما ذکرناه قبل قلیل، ومنها قصّة معقل الجاسوس، حیث یذهب بعض المحققین إلی أنّها قصّة مفتعلة لا وجود لها، والغایة الأساس من ذلک هو إظهار ضعف شخصیات

ص:72


1- (1) نهج البلاغة للشریف الرضی: ص 583، من کتاب له علیه السلام إلی أهل الکوفة بعد فتح البصرة.
2- (2) تاریخ دمشق لابن عساکر: رقم الحدیث 445.
3- (3) الطبقات لابن سعد: ج 6، ص 1-6.

الموالین، وأنّها بسیطة إلی درجة کبیرة بحیث لا تستطیع أن تصمد أمام شخص جاسوس کهذا، حیث استطاع خلال مدة وجیزة أن یصل إلی القلب، ومن ثم ینهی کلّ هذه التنظمیات التی مضی علی ترتیبها مدة طویلة من الزمن، وفی نفس الوقت تُظهر هذه القصة قوّة بنی أمیة ومَن یتبعهم من وُلاة، ومن ثم سیکونون هم أقدر علی الحفاظ علی دفّة العباد والبلاد.

وباعتقادی أنّ هذه الروایة التی ترید أن تشیر إلی انکفاء الناس بالکامل عن مسلم بن عقیل فی الکوفة جاءت ضمن هذا السیاق وهذا الهدف، حیث ترید أن تقول ولمَن یهمّه الأمر، سواء أکان ذلک فی زمن یزید وبنی أمیة أم بعدهم: إنّکم إذا دافعتم عن الکوفة بأنّها لیست شیعیة، ومن ثم حصل الذی حصل وابتعد الناس عن مسلم بن عقیل، إذاً فماذا تقولون عن الموالین وأصحاب السوابق الإیمانیة من أتباع أهل البیت علیهم السلام؟ ومن ثم یحاولون خلال هذه الأکاذیب تسقیط هذه الشخصیات التی ما فتئتْ تدافع عن أهل البیت بکلّ ما تملک من مال وجهد ونفس.

3 - إنّ سیرة هؤلاء الشهداء لاسیّما حبیب بن مُظهِّر ومسلم بن عوسجة وعابس وأمثالهم قبل یوم ورود مسلم بن عقیل، بل وفی یوم وروده واجتماعه بهم، لیؤکّد حرص هذه الجماعات علی الشهادة، وأنّها علی استعداد للقتل بین یدیه بلا أدنی ریبة أو شک فی ذلک، والذی یراجع کلماتهم (رض) یکتشف مثل هذه الحقیقة بشکل سریع، هذا من جانب.

ویوجد جانب آخر هناک وصورة أخری وموقف آخر ینقله لنا التاریخ

ص:73

عنهم، أنّهم قُتلوا بین یدی إمامهم وسیّدهم الحسین علیه السلام وبشکل ملفت للنظر، حیث استبسلوا جمیعاً فی الدفاع عنه، بل وتفنّنوا فی مثل هذه الشهادة، فإذا کان الأمر کذلک فلابدّ أن نفترض وجود صور أخری وموقف آخر غیر هذا الذی ذکر مع مسلم بن عقیل فی صلاة المغرب والعشاء الأخیرة التی صلاّها مع الناس فی الکوفة، ومثل هذا الأمر یدعو إلیه العقل من خلال المقدّمات التی ذکرناها سابقاً، وبخلاف هذه النتیجة نکون قد وضعنا العقل جانباً فی قضیة ما کان ینبغی للعقل أن یتجنّبها.

4 - وأمّا الاعتماد علی ما ذکره المؤرخون فی هذا الموضوع فلا یمکن قبوله مطلقاً؛ لکونه لا ینسجم مع طبیعة الأحداث والأشخاص، وما یدریک لعلّها کانت من جملة الموضوعات التی ذکرها بعضهم وأخذها عنهم الآخرون؛ لأنّها کانت تصبّ إمّا فی صالح النظام الحاکم آنذاک أو لأنّها تصبّ فی صالح حقد هذا المؤرّخ علی أهل البیت علیهم السلام وعلی شیعتهم، وکم ذکر لنا التاریخ صوراً لا وجود لها، وربّما الواقع الذی نعیش فیه یکشف لنا سرّ ما کتبه الأوائل، حیث ما زالت الحناجر الطائفیة والأیادی والأقلام الحاقدة تأخذ معینها ومراد حدیثها من خلال ما کتبه هؤلاء المؤرّخون.

وعلیه لا یمکن أن نأخذ بکل ما ورد فی تاریخ الطبری مثلاً، لا لشیء إلاّ لأجل أنّ الطبری قد روی مثل هذا الأمر، وإلاّ إذا کان الأمر کذلک فإنّ الإنسان ربّما یصل إلی درجة لا یستطیع معها حتی أن یدافع عن نفسه، نعم نحن ننقل عن الطبری وغیره إذا کان یتماشی مع عقیدتنا بأهل البیت علیهم السلام وبأشیاعهم وأتباعهم

ص:74

وما ورد عنهم فیهم علیهم السلام حقّاً وصدقاً، وإنّ ما یتنافی مع ذلک نضرب به عرض الجدار، غیر مأسوفٍ علیه؛ لأنّ هذه الکتب مهما علتْ وغلتْ فلا یمکن أن تکون قرآن هذه الأمّة ودستورها الذی لا یناقش ویجب العمل به بشکل تعبّدی، حتی وإن لم تُفهَم بعض الأمور فیه.

5 - ثم ما الداعی إلی أداء مسلم بن عقیل علیه السلام لصلاة الجماعة هذه وفی مثل هذه اللیلة الصعبة، والتی لاحت بها علامات سیطرة عبید الله بن زیاد علی الأوضاع فی الکوفة؟

ما معنی أن تقام مثل هذه الصلاة فی هذا الظرف الخاص؟ لاسیما ونحن نعلم یقیناً أن مسلم بن عقیل، سوف یقیمها مع خُلّص أصحابه المؤمنین بحرکته وقیامه فی الکوفة بل والذین یمثلون أرکان هذه الحرکة المبارکة.

ومن ثم إقامة الصلاة جماعة تعنی بشکل ضمنی تجمعاً لکل هذه العناصر أو أغلبها ومن ثم سیتحولون إلی لقمة سائغة بید عبید الله بن زیاد الذی یرید هو ومن یدور فی فلکه الانقضاض علیهم وبأسرع فرصة.

وقد یقال بأن مسلم بن عقیل أراد بهذه الصلاة تحصیل الثواب الأکثر فالصلاة جماعة خیر من الصلاة بشکل فردی والصلاة فی المسجد خیر من الصلاة فی البیت.

أقول إن مسلم بن عقیل علیه السلام الذی خاض الحروب والغزوات وخبرها عَلِمَ وبشکل قاطع ان الحرب خدعة لاسیما إذا کان عدوه لا یحمل من القیم الإنسانیة فضلاً عن الإسلامیة شیئاً کبنی أمیة وعلیه لا یمکن له أن یکون بتلک الدرجة من

ص:75

السذاجة بحیث یجعل هذه الصلاة طریقاً سهلاً لابن زیاد فی الحصول علیه بل والمؤیدین له.

بل إننا نری أن الشریعة الإسلامیة التی فرضت صلاة الخوف بشکل معین وفی ظل شروط خاصة، لم تترک حتی مسألة الحذر من العدو بشکل کامل، بل وضعت لذلک ضمانات تحفظ من خلالها هذه الأعداد المصلّیة، یقول القرآن الکریم:

«وَدَّ الَّذِینَ کَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِکُمْ وَ أَمْتِعَتِکُمْ فَیَمِیلُونَ عَلَیْکُمْ مَیْلَةً واحِدَةً 1» .

ولا شک ولا ریب أن مسلم بن عقیل هو ابن الشریعة والمتربی علی یدیّ أئمتها ولا بد أن یکون مطّلعاً علی هذه النقطة بشکل کامل، ولذلک أعتقد أن صلاة الجماعة هذه غیر موجودة أصلاً ولم یکن قد صلاّها مسلم بن عقیل علیه السلام، وإنّما هی کذبة وفریة افتراها بنو أمیة ومن لف ودار فی فلکهم والغایة الأساس منها هو تشویه صورة الموالین أمثال حبیب ومسلم بن عوسجة وغیرهما من الأبدال، بأنهم أهل غدر وختل وخدیعة.

فإذا کنتم تدافعون عن مجمل الانقلاب فی الکوفة سابقاً وإن الشیعة والموالین لم یکونوا فی جملة الانقلابیین إن صح التعبیر، حیث امتلأت بهم السجون والقبور والبراری سجناً وقتلاً وتشریداً، فماذا تقولون فیمن ترک مسلم بن عقیل لوحده فی آخر ساعات حیاته فریسة لابن زیاد بعد ما فرّ عنه ولم یقف

ص:76

خلفه حتی فی آخر صلاة صلاها والتی لا یقف خلفه فیها مصلیاً فی ذلک الظرف الخاص إلا من کان موالیاً شیعیاً مخلصاً؟

ومن ثم أُریدَ من خلال هذه الصلاة إرسال هذه الرسالة المهمة عبر العصور وهی الرسالة التی سعت الماکنة الأمویة بکل ما أوتیت من قوة للترویج إلیها وتثقیف الأمة علی أساسها ابتداءً من الیوم الأول بعد واقعة کربلاء والی یومک هذا حتی سرت هذه الأکذوبة فیما بین أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام وللأسف الشدید.

6 - ثمّ کیف یمکن أن یتناسب ما حصل وجری فی صلاة الجماعة هذه - علی فرض وجودها تنزلاً - من تفرّق الموالین والمخلصین وفیهم علی أقلّ تقدیر 70 شهیداً من شهداء کربلاء کانوا قد التحقوا بعد ذلک بالحسین وقتلوا بین یدیه.

أقول کیف یمکن أن یتناسب کل ذلک الغدر والخذلان منهم مع قول الحسین علیه السلام بعد ذلک بمدّة وجیزة من الزمن لم تستغرق أکثر من شهر حینما جمعهم لیلة العاشر من المحرّم وقال:

«ما رأیت أصحاباً أوفی وأبّر من أصحابی».

حیث مدحهم الحسین علیه السلام بصفة مهمة وأساسیة ألا وهی الوفاء بل الأوفی علی وفق قوله علیه السلام؟

أفیمکن أن یمدح الغادر والخاذل للحق بالوفاء؟

أم یمکن أن یحابی الحسین علیه السلام ویجامل فی دین الله ویشوه الحقائق علی الناس وهو الذی أعطی دمه من أجل الدین والدفاع عنه؟

ص:77

7 - وبغض النظر عن کل ما تقدم، فإن مثل هذا الأمر لم یحصل مع من تقدم ومن تأخر من أئمة أهل البیت فی الکوفة، حیث لم ینقل التأریخ ان الناس کانت قد انکفأت عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی الکوفة بشکل کامل بحیث لم یبقَ خلفه أو معه أحد من أصحابه وشیعته، مع شدة المأساة والظلامة التی مر بها الإمام أمیر المؤمنین سواء أکان مثل هذا الأمر فی حرب الجمل أم صفین أم مع الخوارج بل حتی حینما رفعت المصاحف وضغط الکثیر من جیش الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام علیه فی ضرورة القبول بقی إلی جانبه جماعة من المخلصین والموالین أمثال مالک الأشتر.

ومثل هذا الأمر کذلک لم یجرِ مع الإمام الحسن علیه السلام مع شدة الخذلان الذی لاقاه من أهل الکوفة بل ومن المقربین له أمثال عبید الله بن العباس - إن صحت الروایة عنه بذلک - ومع کل ما مرّ وحصل من مظلومیة نجد أن هناک من المخلصین من وقف إلی جانبه وبقی مدافعاً عنه أمثال عبد الله بن العباس وقیس ابن سعد بن عبادة وأمثالهما.

بل إننا نری أن مثل هذا الأمر لم یجرِ حتی مع الحسین علیه السلام، حیث لم تخذل الأمة بکاملها سید الشهداء بل وقف إلی جانبه مجموعة من الناس فدوه بالغالی والنفیس.

وهکذا مع بقیة أئمة أهل البیت علیهم السلام، فإذا کان الأمر کذلک فَلِمَ یجری مثل هذا الأمر مع مسلم بن عقیل فقط فی داخل الکوفة ومن ثم یُترک وحیداً فریداً لا یجد أحداً یدلّه علی الطریق؟

ص:78

الحسین علیه السلام یراسل حبیب بن مُظهِّر الأسدی
اشارة

ربّما تکون رسالة الإمام الحسین علیه السلام - التی سوف نذکرها بعد قلیل - إلی حبیب بن مُظهِّر الأسدی من جملة ممیزات هذا الشهید علی غیره، حیث لم یحدّثنا التاریخ الموجود بین أیدینا أنّ الحسین علیه السلام راسل جماعة أو أشخاصاً بشکل منفرد فی الکوفة غیر هذا الشهید رضی الله عنه وغیر أولئک الذین کانوا فی البصرة من أصحاب الأخماس فیها، وها نحن نذکر هنا نصّ هذا الکتاب محاولین تسلیط الأضواء علیه وعلی أهمّ النقاط المهمّة فیه.

کتاب الحسین إلی حبیب

روی الفاضل الدربندی فی کتابه (أسرار الشهادة) کتاباً من الحسین علیه السلام إلی حبیب بن مُظهِّر، هذا نصّه:

«من الحسین بن علی بن أبی طالب إلی الرجل الفقیه حبیب بن مظاهر

أمّا بعد..

فأنت تعلم قرابتنا من رسول الله، وأنت أعرف بنا من غیرک، وأنت ذو شیمة وغَیرة، فلا تبخل عنّا بنفسک، یجازیک جدّی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم یوم القیامة»(1).

ص:79


1- (1) أسرار الشهادة: ص 390.
النقاط المهمة التی حواها کتاب الحسین

وقد حمل هذا الکتاب الحسینی إلی الشهید الحسینی - إذا صح التعبیر - مجموعة من النقاط، أری من اللازم الإشارة إلیها:

1 - لا شکّ أنّ هذا الکتاب یکشف - وبشکل کبیر - مدی الاحترام العالی والتأثیر المُمیَّز الذی تضمّنته هذه الشخصیة فی الواقع الإسلامی والاجتماعی، وسیأتینا بعد ذلک دور حبیب فی دعوة بنی أسد للالتحاق برکب الحسین علیه السلام.

2 - أشار الحسین علیه السلام فی کتابه بکلمة «الرجل» إلی معنی الثبات وعدم الانجرار وراء الفتن مهما عظمت وجلّت، وهذا مفهوم قرآنی عظیم أشار إلیه القرآن الکریم فی أکثر من آیة، لاسیّما فی سورة الأحزاب بقوله:

«مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ 1» .

وقوله:

«فِیهِ رِجالٌ یُحِبُّونَ أَنْ یَتَطَهَّرُوا2» .

فلیس کل مَن حمل الذکورة رجلاً فی نظر القرآن، فهناک الرجل وهناک مَن لا یمکن تشبیهه إلاّ بعقول ربّات الحجال کما یقول الإمام علی علیه السلام:

«یا أشباه الرجال ولا رجال حلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال»(1).

ص:80


1- (3) بحار الأنوار: ج 8، ص 680.

3 - کلمة «الفقیه» التی وردت فی هذا الکتاب لا شکّ أنّ فیها منقبة للشهید حبیب، تزیده فخراً وکرامة فوق ما یحمله من فخر وکرامة، وقد تقدّمت معانی هذه الکلمة فیما سبق فراجع(1).

4 - الإیمان بالله عزّ وجلّ وبرسوله وبهذا الدین یُحَتِّم علی الإنسان أن ینصر الله ورسوله، ما فی ذلک من ریب، ولکن ممّا یزید الأمر مسؤولیة أکبر وتکلیفاً أعظم فی هذه النصرة علی الإنسان، هو قربه من رسول الله واطلاعه وبشکل مکثّف علی حیاته وعلاقاته وأحادیثه وأحکامه، وهذا کذلک معنی قرآنی اتّبعه القرآن مع نساء النبی صلی الله علیه و آله و سلم بقوله:

«یا نِساءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ 2» .

وربّما یکون هذا المعنی هو الذی أشار إلیه الإمام الصادق علیه السلام مع الشقرانی بقوله:

«الحسنُ من کلّ أحدٍ حَسَنٌ ومنکَ أحسنُ لقربِکَ منّا، والقبیحُ من کلّ أحدٍ قبیحٌ ومنکَ أقبح؛ لمکانک منّا»(2).

وعلی نفس هذا السیاق خاطب الحسین علیه السلام حبیب بن مُظهِّر بهذه اللهجة، فهو الأعرف والأدری برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وبأهل بیته ومدی احترامه (رض) لهم علیهم السلام ودعوة الأمّة إلی نصرتهم علیهم السلام.

ص:81


1- (1) فی طیّات الحدیث عن علاقة حبیب بالفقه.
2- (3) سفینة البحار: ج 1، ص 708.

5 - ذکر الإمام فی کتابه ما یحمله حبیب وأسرته من خُلُق رفیع وشیمة نبیلة إضافة إلی الغَیرة علی هذا الدین، خصوصاً وأنّه یعلم أنّ صاحب الغیرة لا یمکن أن یصبر وهو یری بأمّ عینه انتهاک حرمات الله ومقدّساته، فهذا هدهد سلیمان - وهو لم یکن بشراً بل کان حیواناً - قد غضب وتألّم یوم رأی بلقیس وقومها یسجدون للشمس من دون الله، حتی جاء وأعلن غضبه أمام سلیمان علیه السلام، ولم یقل حین رأی ذلک: مالی ولهم، فذنبهم علی جنبهم کما یقولون، فإذا کان حال الهدهد هکذا علی دین الله، فما بالک بالأولیاء والصلحاء، ولهذا نجد الحسین علیه السلام أراد أن یشیر إلی هذا المفهوم المکنون فی نفس الشهید (رض) من أجل أن یُحفّزه علی الجهاد أکثر فأکثر.

6 - فی قبال کلّ هذه التی سوف یقدّمها حبیب من بذلٍ للغالی والنفیس فإنّ هناک ثمناً عظیماً ینتظره، ألا وهو مجازاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم له بنفسه (رض)، هذا الرسول الذی یقول عنه القرآن إنّه سیعطی منزلة عظیمة:

«وَ لَسَوْفَ یُعْطِیکَ رَبُّکَ فَتَرْضی 1» .

حتی لیغبطه علی ذلک الأوّلون والآخرون، هذا کلّه والنداء یسمعه الجمیع:

«یا محمّد، ارفع رأسک، سل تُعْطَه، اشفع تُشَفّع»(1).

فما بالک بمَن تکون مجازاته فی ذلک الیوم عند هذا الإنسان؟ کیف سیکون حاله؟ وکیف ستکون کرامته ومنزلته؟

ص:82


1- (2) کتاب الخصائص الکبری للسیوطی: ج 2، ص 327.

7 - أودّ الإشارة هنا إلی نقطة أراها مهمّة حول مجمل هذا الکتاب الذی أرسله الحسین علیه السلام إلی حبیب (رض)، حیث إنّه لم یرسل إلیه بشکل مبکّر، بل أرسل إلیه متأخّراً جدّاً، بل وبعد خروج الحسین من مکّة باتجاه الکوفة، ممّا یعنی أنّ أصل النصرة حاصلة وثابتة من خلال إرسال حبیب الکتب إلی الحسین ودعوته للحضور إلی الکوفة، والتعهّد له ببذل المال والنفس بین یدیه، أو بعد ذلک من خلال حرکة مسلم بن عقیل علیه السلام، حیث تحوّل حبیب إلی رکن مهمّ من أرکان هذه الثورة المبارکة.

وعلیه فإنّ هذا الکتاب لا یعنی مطلقاً طلب النصرة من حبیب ابتداءً، وإنّما هو من باب شحذ الهمّة أکثر، وربّما کان موجّهاً بالدرجة الأولی إلی مجمل الموالین فی الکوفة لأجل إیصال رسالة، مفادها: إذا کان هذا الشیخ الهرم مطلوباً للنصرة، فإنّکم ستکونون مطلوبین من باب أولی.

وصول حبیب بن مُظهِّر إلی کربلاء

یذهب الکثیر من المؤرّخین والمحققین إلی أنّ وقت وصول الشهید حبیب ابن مُظهِّر الأسدی إلی الحسین فی کربلاء کان فی الیوم السادس من المحرم عام 61 ه -، وذلک بعد أن تسلّم رسالة الحسین علیه السلام وفهم ما یریده فیها، وبعبارة أخری: إنّ وصول الشهید إلی کربلاء کان علی إثْر وصول الرسالة إلیه.

وبما أنّنا نُقدّر أنّ الرسالة لم تُرسل إلی حبیب إلاّ فی منطقة قریبة من کربلاء أو ربّما بعد وصول الحسین إلیها فی 2 محرم، فلابدّ أن یکون وصول الشهید إلیه فی ما یمکن أن یقدّر بالسادس من محرم أو ربّما قبله بقلیل، وهذا

ص:83

المعنی یمکن للإنسان أن یتلمّسه فی قول الخوارزمی فی مقتله حیث یقول: (والْتَأَمَتْ العساکر عند عمر لستّ أیام مضینَ من محرم، فلمّا رأی ذلک حبیب بن مظاهر الأسدی جاء إلی الحسین علیه السلام فقال له...)(1) ، ممّا یعنی أنّ الشهید کان فی کربلاء الیوم السادس من محرم قطعاً، فلربّما کان التحاقه بالحسین فی الیوم السادس من محرم أو قبله بقلیل علی أقل التقادیر.

زوجة الشهید حبیب والموقف الإسلامی

إن کان القرآن الکریم قد تحدث عن مواقف بعض النساء فی طریق الجهاد والدعوة إلی الله عزّ وجلّ أمثال أم موسی، والتی یقول عنها القرآن:

«وَ أَوْحَیْنا إِلی أُمِّ مُوسی أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَ لا تَخافِی وَ لا تَحْزَنِی إِنّا رَادُّوهُ إِلَیْکِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ 2» .

حیث تحمّلت التکلیف والمسؤولیة الإلهیة وصنعت مع ولدها ما لم تصنع أم برضیعها.

أو تلک المرأة الصالحة - زوجة فرعون - التی ترکت کلّ شیء بعد أن آمنت بالله وصدّقت رسلَه، ومن ثم خرجت من کلّ ما یمکن أن تفکّر به کلّ امرأة من عزّ ومال وجاه، وتحمّلت أشدّ الآلام فی هذا الطریق وهی تقول:

«رَبِّ ابْنِ لِی عِنْدَکَ بَیْتاً فِی الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِی مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِی

ص:84


1- (1) مقتل الحسین للخوارزمی: ج 1، ص 345.

مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِینَ 1» .

وهکذا صور أخری من البطولة والشجاعة قلّ نظیرها.

أقول إذا کان القرآن قد ذکر کلّ هذا، فلقد خلّفت کربلاء وما قبلها وما بعدها صوراً من المواقف الإسلامیة والإنسانیة للنساء تقف لها البشریة إجلالاً وإکباراً، حیث وقفنَ مواقفَ قلّ أن یقفها الکثیر من الرجال، ولقد کان من بین هذه النسوة زوجة هذا الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی، التی کانت تقول بعد أن وصلت رسالة الحسین علیه السلام له: (بالله علیک یا حبیب، لا تقصّر عن نصرة ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

ولکنّ الشهید أراد أن یختبرها لیکشف عن عظمة معدنها وإیمانها، ولتبقی أسوةً حسنةً تشرئبّ لها الأعناق عبر الزمن، فقال لها: (أخاف علی أطفالی من الیتم وأخشی أن تُرمّلی بعدی، فقالت: ولنا التأسّی بالهاشمیات والبُنَیَّات والأیتام من آل رسول الله، والله تعالی کفیلنا وهو حسبنا ونعم الوکیل. فلمّا عرف حبیب منها حقیقة الأمر دعا لها وجزّاها خیراً وأخبرها بما هو فی نفسه وأنّه عازم علی المسیر والرواح، فقالت: لی إلیک حاجة، فقال: وما هی؟ قالت: بالله علیک یا حبیب، إذا قدمتَ علی الحسین علیه السلام قبّل یدیه ورجلیه نیابةً عنّی، واقرأه عنّی السلام، فقال: حبّاً وکرامةً)(2).

ص:85


1- (2) معالی السبطین: ج 1، ص 370.
2- (3) المصدر نفسه: ج 1، ص 370.
حبیب بن مُظهِّر الأسدی فی کربلاء
اشارة

إنّ کان التأریخ قد سجّل للشهید حبیب بن مُظهِّر مواقف کثیرةً قبل یوم عاشوراء، فإنّ یوم عاشوراء قد حمل فی طیّاته الکثیر من المواقف مع قصر المدّة الزمنیة، وها نحن مُسجِّلون بعض هذه المواقف والتی یفتخر الإنسان ویرفع رأسه عالیاً بها:

1 - الموقف الأوّل: ویحک یاقّرة أنّی ترجع إلی القوم الظالمین؟

ینقل الطبری فی تاریخه: (بعث عمر بن سعد إلی الحسین علیه السلام عزرة بن قیس الأخمسی(1) فقال: ائتِهِ فسلْه ما الذی جاء به وماذا یرید؟

وکان عزرة ممّن کتب إلی الحسین فاستحیا منه أن یأتیه، فعرض ذلک علی الرؤساء الذین کاتبوه، فکلّهم أبی وکرهه، وقام إلیه کثیر بن عبد الله الشعبی - وکان فارساً شجاعاً لیس یردّ وجهه شیء - فقال: أنا أذهب إلیه، والله لئن شئت لافتکنّ به؟

فقال عمر بن سعد: ما أرید أن تفتک به، ولکن ائتِهِ فسلْه ما الذی جاء به؟

فأقبل إلیه، فلمّا رآه أبو ثمامة الصائدی قال للحسین: أصلحک الله أبا عبد الله، قد جاءک شرّ أهل الأرض وأجرأه علی دم وأفتکه، فقام إلیه فقال: ضع سیفک، قال: لا ولا کرامة، إنّما أنا رسول، فإن سمعتم منّی أُبلغکم ما أُرسلتُ به

ص:86


1- (1) هو ممّن کتب إلی الحسین علیه السلام ثمّ کان مع عمر بن سعد، وکان رئیساً علی الخیل، مستدرکات علم الرجال للنمازی: ج 5، 234. ولکن انظر ماذا یقول عنه ابن حبّان: (ثقة، یروی عنه أحمد فی مسنده)، ابن حبّان: ج 5، 279.

إلیکم، وإن أبیتم انصرفتُ عنکم، فقال له: فإنّی آخذ بقائم سیفک ثمّ تکلّم، قال: لا والله، لا تمسّه، فقال له: أخبرنی ما جئتَ به وأنا أبلغه عنک، ولا أدعک تدنو منه فإنّک فاجر، فاستبّا ثمّ انصرف إلی عمر بن سعد فأخبره الخبر، فدعا قرّة بن قیس، فلمّا رآه الحسین مُقبِلاً قال: أتعرفون هذا؟

فقال حبیب بن مُظهِّر: هذا رجل من حنظلة تمیم، وهو ابن أختنا، ولقد کنتُ أعرفه بحسن الرأی، وما کنتُ أراه یشهد هذا المشهد)(1).

وهنا لابدّ لنا من الإشارة إلی نقطة مهمّة قبل أن نسترسل فی الحدیث الذی رواه الطبری، وهذه النقطة متعلّقة بما ذکره الشهید حبیب بن مُظهِّر عن قرّة، حیث وصفه بأنّه حسن الرأی، وکان یعتقد أنّه لا یقف مثل هذا الموقف، وهنا ینقدح فی الذهن سؤال مهم مفاده: هل یمکن یا تری لإنسان (عاقل) معروف بین الناس بحسن السیرة والسلوک أن یقف أمام الحسین علیه السلام؟

باعتقادی أنّ هذه المسألة لا دخل لها بما یحمل الإنسان من فکر ومعرفة، وإنّما لها علاقة مباشرة بقدرة ذلک الإنسان علی الصبر وتحمّل نوَب الزمان والشدائد التی تترتّب علی المواقف، وإلاّ فهناک الکثیر ممّن یحملون القرآن والسنّة حفظاً وتلاوةً وربّما تفسیراً وفهماً، ولکنّهم مع ذلک وقفوا یوم النهروان یقاتلون مَن شهد القرآن بصدقه وجهاده وإیمانه وسابقته.

وهکذا نجد أمثال هؤلاء یسیرون دائماً فی رکاب الظلمة والسلاطین، حتی عُرفوا ب - (وعّاظ السلاطین)، ویبدو أنّ قرة بن قیس وإن کان معروفاً فی داخل

ص:87


1- (1) تاریخ الطبری: ج 6، ص 234.

الکوفة بحسن الرأی والسیرة، ولکن یبدو أنّ کلّ هذا ما دام الأمن والأمان علی المال والنفس والأهل والولد موجودَینِ، أمّا مع عدمهما فإنّ الموقف هو ما یطلبه الظالمون، وهذا ما حصل، فحینما بعث عمر بن سعد قرّة بن قیس إلی الحسین علیه السلام وهو العارف بکلّ منهما، لبّی هذه الدعوة من دون أن یتّخذ الموقف الذی یقتضیه حُسن الرأی الذی یحمله.

والذی یدلّ علی ما ذکرناه هو تکملة الحدیث الذی ذکره الطبری، حیث یتبیّن فیه أنّه وبعد الحدیث مع حبیب وتحذیره إیّاه من بقائه فی رِکَابِ الظَّلَمَة ووعْد قُرّةَ له بأن یرجع إلی عمر بن سعد وإخباره الخبر ثمّ یری رأیه بعد ذلک، ولکنّه لم یفکّر فی الأمر ولم یرجع، وربما یکون قد فکّر ولکنه فضّل دنیاه علی آخرته.

یقول الطبری: «فجاء حتی سلّم علی الحسین علیه السلام وأبلغه رسالة عمر بن سعد إلیه، فقال له الحسین: کتب إلیّ أهل مصرکم هذا أن أَقْدِمْ، فأمّا إذا کرهتمونی فأنا أنصرف عنهم، ثمّ قال له حبیب بن مُظهِّر: ویحک یا قرّة بن قیس، أنّی ترجع إلی القوم الظالمین، انصر هذا الرجل الذی بآبائه أیّدک الله بالکرامة وإیاّنا معک، فقال له قرّة: أرجع إلی صاحبی بجواب رسالته وأری رأیی»(1).

وهذا درس لابدّ للإنسان أن یتفهّمه فی حیاة هذا الشهید وموعظته لقرّة بن قیس، فکم عندنا مثل قرّة فی حیاتنا، کلّ إنسان یدعوه التکلیف الإسلامی إلی اتخاذ موقف ما، وهو یری أنّ هذه القضیة یمکن أن یقفها ولکن من دون أن تترتّب خسائر مادیة أو معنویة، فإنّه یؤدّیها، أمّا مع هذه الخسارة فهو لا یعرف

ص:88


1- (1) تاریخ الطبری: ج 6، ص 234.

التکلیف ولا المسؤولیة الإسلامیة، بل یکون مَثَله مَثَل أولئک الذین تحدّث عنهم الحسین بقوله:

«الناسُ عبیدُ الدنیا، والدینُ لَعِقٌ علی ألسنتِهمْ یَحوطونَهُ ما دَرَّتْ معائشُهمْ، فإذا مُحّصوا بالبلاءِ قَلَّ الدیَّانونَ»(1).

2 - الموقف الثانی: أتیتکم بخیر ما أتی به وافد إلی قوم

حبیب بن مُظهِّر وبنی أسد

ربّما یکون حبیب بن مُظهِّر الأسدی قد تمیّز عن الآخرین من شهداء کربلاء بأنّه الشهید الوحید الذی لم یکتفِ بدعوة قومه للوقوف معه لنصرة الحسین حتی وصل إلی کربلاء، فقد ورد فی کتب التأریخ والمقاتل:

(وأقبل حبیب بن مظاهر إلی الحسین علیه السلام فقال: یابن رسول الله، ههنا حی من بنی أسد، أتأذن لی فی المصیر إلیهم فأدعوهم إلی نصرتک فعسی الله أن یدفع بهم عنک؟ قال: قد أذنت لک، فخرج حبیب إلیهم فی جوف اللیل متنکّراً حتی أتی إلیهم فعرفوه أنّه من بنی أسد، فقالوا: ما حاجتک؟ فقال: إنی قد أتیتُکم بخیر ما أتی به وافد إلی قوم، أتیتُکم أدعوکم إلی نصر ابن بنت نبیّکم، فإنّه فی عصابة من المؤمنین، الرجل منهم خیر من ألف رجل، لن یخذلوه ولن یسلموه أبداً، وهذا عمر بن سعد قد أحاط به وأنتم قومی وعشیرتی، وقد أتیتُکم بهذه النصیحة فأطیعونی الیوم فی نصرته تنالوا بها شرف الدنیا والآخرة، فإنّی أقسم بالله لا یُقتل

ص:89


1- (1) بحار الأنوار: ج 44، ص 386-387.

أحد منکم فی سبیل الله مع ابن بنت رسول الله صابراً محتسباً، إلاّ کان رفیقاً لمحمد صلی الله علیه و آله و سلم فی علِّیین، قال: فوثب إلیه رجل من بنی أسد یُقال له عبد الله بن بشر فقال: أنا أوّل مجیب إلی هذه الدعوة، ثمّ جعل یرتجز ویقول:

قَدْ عَلِمَ القَوْمُ إِذ تَوَاکَلُوْا وَأَحْجَمَ الفُرْسَانُ إِذْ تَنَاقَلُوْا

أنّیْ شُجَاعٌ بَطَلٌ مُقَاتِلُ کَأنَّنِی لَیْثُ عرینٍ بَاسِلُ

ثمّ تبادر رجال الحی حتی الْتَأَمَ منهم تسعون رجلاً(1) ، فأقبلوا یریدون الحسین علیه السلام، وخرج رجل فی ذلک الوقت من الحی حتی صار إلی عمر بن سعد فخبّره بالحال، فدعا ابن سعد برجل من أصحابه یُقال له الأزرق، فضمّ إلیه أربعمائة فارس وجّهه نحو حی بنی أسد، فبینما أولئک القوم قد أقبلوا یریدون عسکر الحسین علیه السلام فی جوف اللیل إذ استقبلتهم خیل ابن سعد علی شاطئ الفرات وبینهم وبین عسکر الحسین الیسیر، فناوش القوم بعضهم بعضاً واقتتلوا قتالاً شدیداً وصاح حبیب بن مظاهر بالأزرق: ویلک، مالک ومالنا، انصرف عنّا ودعنا یشقی بنا غیرک، فأبی الأزرق أن یرجع، وعلمتْ بنو أسد أنّه لا طاقة لهم بالقوم فانهزموا راجعین إلی حیِّهم، ثمّ إنّهم ارتحلوا فی جوف اللیل خوفاً من ابن سعد أن یبیتهم، ورجع حبیب بن مظاهر إلی الحسین فأخبره بذلک فقال علیه السلام: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله)(2).

والملفت للنظر فی هذا النص المتقدّم أنّ الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی

ص:90


1- (1) انظر: قصّة کربلاء لعلی نظری، ص 225.
2- (2) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 67.

لم ینطلق فی دعوة قومه لنصرة الحسین علیه السلام من منطلق أنّه سید قبیلته وزعیم کبیر من زعمائها، ومن ثم یحرّک فیهم الروح القبلیة والعشائریة، ولکنّه أبی إلاّ أن یدعوهم دعوة الإسلام والإیمان، دعوة قائمة علی أساس الدین والعقیدة وما یتطلّبه الإیمان بالله ورسوله والوقوف أمام الظالمین من آثار؛ ولهذا تراه ذکر مفردات کثیرة تؤکّد هذا المعنی فی کلمته مع قومه: (أدعوکم إلی نصر بن بنت رسول الله... کان رفیقاً لمحمد صلی الله علیه و آله و سلم فی علّیین).

کما أنّ النص المتقدّم یبین فی نفس الوقت - کما هو واضح - مدی الاستجابة السریعة لهذا الحی فی نصرة الحسین علیه السلام، بل وعقیدتهم فیه علیه السلام، وربّما یتلمّس الإنسان مثل هذا المعنی فی حدیث عبد الله بن بشر وأرجوزته التی بادرت الرجال بعدها حتی وصل العدد إلی تسعین فارساً من هذا الحی الصغیر، وهذا الرقم بتقدیری یکشف مقدار الاستجابة الکبیرة التی حصلت فی هذا الحی لحرکة الحسین علیه السلام.

وأغلب الظنّ أنّهم کانوا صادقین فی مشاعرهم تجاه نصرة الحسین علیه السلام، ولکنّ وجود أحد أفراد هذه القبیلة فی جوّ وهوی عمر بن سعد وإخباره بما جری وحصل، جعلت المعادلة تنقلب وتذهب باتجاه آخر ربّما لم یکن مقصوداً منذ البدء، والدلیل علی ذلک قتالهم الشدید مع جیش ابن الأزرق الذی انتهی بانسحابهم خوفاً علی أنفسهم من القتل بعد أن رأوا أن لا طاقة لهم بهم، وهذا المعنی لیس عیباً یمکن أن یسجل علیهم من قِبل البعض کما یحلو له، فبقاؤهم یقاتلون ربّما یعنی فناءهم عن آخرهم.

ص:91

نعم، ربّما تأتی هنا مسألة ارتحالهم لیلاً بکامل قبیلتهم إلی مکان آخر غیر المکان الذی کان یعیشون فیه، فیتمسک بها البعض فی الحدیث عنهم، ولکنّی اعتقد أنّ عملیة الارتحال کانت تنسجم مع الخوف من ابن سعد وابن زیاد ومسألة انتهاک حرمات هذه القبیلة، من خلال تعریض نسائها وشیوخها إلی السجن والتعذیب.

3 - الموقف الثالث: أما والله لبئس القوم عند الله غداً

یقول المُقرَّم فی مقتله: (نهض ابن سعد عشیّة الخمیس لتسعٍ خَلَوْنَ من المحرم، ونادی فی عسکره بالزحف نحو الحسین، وکان علیه السلام جالساً أمام بیته محتبیاً بسیفه وخفق برأسه، فرأی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم یقول: إنّک صائر إلینا عن قریب، وسمعتْ زینب أصوات الرجال وقالت لأخیها: قد اقترب العدو منک، فقال لأخیه العبّاس: ارکب بنفسی أنت حتی تلقاهم واسألهم عمّا جاء بهم وما الذی یریدون، فرکب العباس فی عشرین فارساً فیهم زهیر وحبیب وسألهم عن ذلک، قالوا: جاء أمر الأمیر أن نعرض علیکم النزول علی حکمه أو ننازلکم الحرب، فانصرف العباس یخبر الحسین بذلک، ووقف أصحابه یعظون القوم، فقال حبیب بن مُظهِّر:

َمَا واللهِ، لبئس القوم عند الله غداً قوم یُقدمون علیه وقد قتلوا ذرّیة نبیّه وعترته وأهل بیته وعُباد أهل هذا المصر المتهجّدین بالأسحار الذاکرین الله کثیراً، فقال عزرة بن قیس: إنّک تزکّی نفسک ما استطعت؟ فقال زهیر: یا عزرة، إنّ الله قد زکّاها وهداها، فاتّقِ الله یا عزرة فإنّی لک من الناصحین)(1).

ص:92


1- (1) مقتل الحسین علیه السلام للمقرّم: ص 256.

وفی هذا النص نجد أنّ أصحاب الحسین علیه السلام لا یألون جهداً من أجل هدایة مَن یستطیعون هدایته؛ ولهذا نجد أنّ الشهید حبیب بن مُظهِّر یبادر هو من أجل بیان عظمة ما یمکن أن یُرتکب فی حقّ الدین، من خلال قتل هذه الثلّة المؤمنة التی عرفت عند أهل الکوفة جمیعاً بأنّهم المتهجدون بالأسحار والعُبّاد والذاکرون الله کثیراً.

وبدل أن یقبل عزرة مثل هذا الکلام ویتّخذ الموقف الذی یملیه علیه دینه وإنسانیّته، وإذا به یخرج حتی عن حدّ الاعتدال فی کلامه لیتّهم حبیب بأنّه ممّن یرید أن یشیر إلی نفسه وصلاحها وقربها من الله سبحانه وتعالی، ولا یرید بذلک إلاّ الریاء (معاذ الله)، مع أنّ عزرة هو أعرف به من غیره، فقد خَبِرَه هو وخَبِرَه غیره، فکان الإیمان المتجسّد فی الخارج عقیدة وسلوکاً منذ أن کان یافعاً وإلی أن صار شیخاً هرماً کبیراً، ولکنّ الله عزّ وجلّ أراد لهذا الرجل - بسبب تمسّکه بالباطل مع علمه به وعدم نصرته للحق مع معرفته له - أن یختم علی قلبه ویجعل علیه غشاوة، ومن ثم یکون مصداقاً للآیة الکریمة:

«خَتَمَ اللّهُ عَلی قُلُوبِهِمْ وَ عَلی سَمْعِهِمْ وَ عَلی أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ 1» .

4 - الموقف الرابع: والله إنّی أراک تعبد الله علی سبعین حرفاً

روی أبو مخنف فی مقتله أنّ الحسین علیه السلام خطب فی کربلاء خطبةً، وفی أثناء کلامه وحدیثه الذی کان یوجّهه إلی أهل الکوفة ومَن وقف أمامه قائلاً لهم

ص:93

أن یسألوا جابراً الأنصاری وأبا سعید الخدری وغیرهما أنّهم سمعوا رسول الله یقول له ولأخیه:

«هذان سیّدا شباب أهل الجنّة»(1).

اعترضه شمرٌ فقال له: (هو یعبد الله علی حرف إن کان یدری ما تقول، فقال له حبیب: والله، إنّی أراک تعبد الله علی سبعین حرفاً، وأشهد أنّک صادق ما تدری ما یقول، قد طبع الله علی قلبک)(2).

ماذا یرید أن یقول شمر بقوله: (هو یعبدُ الله علی حرف إن کان یدری ما تقول).

هل یرید أن یُکذِّب الحسینَ علیه السلام بقوله وهو یعلم أنّه الصادق ابن الصادقین؟

أم هل یرید أن یُکذِّب الحسینَ علیه السلام فی نسبه إلی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟

أم إنّه یرید أن یبطل دعوة الحسین علیه السلام إلی سؤال مَن إذا سألوه أخبرهم بمقالة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم له ولأخیه الحسن علیه السلام: هذان سیدا شباب أهل الجنّة؟

أم یرید أن یقطع حدیث الحسین علیه السلام من الاسترسال خوفاً من الفضیحة أکثر أمام الناس؟

أم إنّه البغض والحقد والکراهة لعلی علیه السلام وآل علی علیه السلام؟

ص:94


1- (1) سلسلة الأحادیث الصحیحة: ج 2، ص 438، رقم الحدیث 797.
2- (2) إبصار العین: ص 68، نقلاً عن أبی مخنف.

وأراها قد اجتمعت فی شخص هذا الصلف النطف، هذا الذی له السوابق والمآثر فی کلّ خسّةٍ ورذیلة، فهو الذی جلس علی صدر الحسین علیه السلام لحزِّ رأسه، وهو الذی هجم علی خیام بنات رسول الله لترویعهنّ، وهو الذی جاء بکتاب الأمان لأبی الفضل العباس فأبی إلاّ الدفاع عن الحسین علیه السلام، ولکن ماذا یقول الإنسان فیمَن لا یعرف التاریخ أجرأَ منه علی حزب الحق ولا أقسی ولا أشدّ غلظةً منه، وکأنّ الله نزع الرحمة من قلبه کاملاً، إضافة إلی دناءة المولد(1) ، وسوء الحضن أباً وأمّاً.

ولمّا رأی الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی کلّ هذه الصلافة مع الحسین علیه السلام فی اعتراض الشمر علیه، ناداه برفیع صوته غیر آبه به وبمَن معه من الجُنْد: (والله، إنّی أراک تعبد الله علی سبعین حرفاً)، یعنی إذا کنتَ باعتراضک هذا ترید أن تدافع عن موقف الکفر والضلال الذی تَقِفه أمام الحسین علیه السلام، فإنّ مثل هذا الأمر یمکن أن تُموّهه علی مَن أعمی الله بصره من الرؤیة وسمعه من الفهم وقلبه من التفقّه، أمّا مَن کان علی بیّنة من ربّه فلا یمکن أن یُخدع، بل إنّی أشهد علی أعظم من العبادة علی حرف واحد،

حیث أوصلتْک مطامعک الشخصیة وهواک الذی أضلّک إلی العبادة علی سبعین حرفاً، ومثل هذا الأمر أنت لا تعیه ولا تعرفه؛ لأنّ الله قد طبع علی قلبک، ومَن یطبع الله علی قلبه فهو محجوب عن رحمة الله ورضوانه:

ص:95


1- (1) راجع مستدرکات علم الرجال: ج 4، ص 220: (وهناک قصّة ذکرها فی أمّ الشمر وزناها، وأنّ شمراً تولّد بعد ذلک من الزنا).

«بَلْ رانَ عَلی قُلُوبِهِمْ ما کانُوا یَکْسِبُونَ» ...«إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ یَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ 1» .

ومن ثم أنا أشهد أنّک صادق فی دعواک، وأنّک لا تفهم ما یقول لا بمعنی أنّ مقالة الحسین علیه السلام لا تُفهم، أو لا یمکن فهمها، بل لأنّ قلبک قد أُغلق عن کلّ هدایة.

معنی العبادة علی حرف

یقول ابن منظور: (الحرف فی الأصل: الطرف والجانب، وبه سُمّی الحرف من حروف الهجاء... وحرف الشیء ناحیته، وفلان علی حرف من أمره أی ناحیةٍ منه، کأنّه ینتظر ویتوقّع، فإن رأی من ناحیةٍ ما یُحب وإلاّ مال إلی غیرها)(1).

ویقول السید الطباطبائی فی تفسیر هذه الآیة الکریمة:

«وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَعْبُدُ اللّهَ عَلی حَرْفٍ 3» .

(وهذا صنف آخر من الناس غیر المؤمنین الصالحین، وهو الذی یعبد الله سبحانه بانیاً عبادته علی جانب واحد دون کل جانب، وعلی تقدیر دون کلّ تقدیر، وهو جانب الخیر، ولازمة استخدام الدین للدنیا، فإن أصابه خیرٌ استقرّ بسبب ذلک الخیر علی عبادة الله واطمأنّ إلیها، وإن أصابتْه فتنة ومحنة انقلب ورجع علی وجهه من غیر أن یلتفت یمیناً وشمالاً، وارتدّ عن دینه تشؤّماً أو رجاء

ص:96


1- (2) لسان العرب: ج 2، ص 838، مادّة (حرف).

أن ینجو بذلک من المحنة والمهلکة)(1).

وهذا هو الدرس الذی ینبغی علینا أن نَعِیَه ونحن نقرأ هذا الموقف للشهید حبیب بن مُظهِّر (رض) مع شمر بن ذی الجوشن، حیث یرید منّا الشهید أن نعیش العبادة مع الله ولکن لا علی حرف، ومن ثم نکون مطیّة للشیطان والسلطان یفعل بنا ما یشاء، بل لابدّ أن تکون هذه العبادة متمکّنة منّا تمکّناً کبیراً من خلال وعینا بها وفهمنا الصحیح لها، وإذا ما تمکّنت العبادة من قلب إنسان فلا یمکن أن تهزّه الفتن مهما علتْ وعظمت.

ومن هنا نجد أنّ مضمون العبادة عند الشمر یختلف عن مضمون العبادة عند الحسین علیه السلام وأصحابه، فذاک جعل الدین والعبادة لَعِقاً علی لسانه، یحوطه ویحفظه ما دام عائداً له بالعوائد المادیة المعنویة، أمّا إذا انعدمت هذه العوائد فلا إله یُعبد ولا نبی یُطاع ولا دین یُتّبع، بینما أصحاب الحسین عرفوا من الحسین علیه السلام أنّ العبادة لله یجب أن تکون فی کلّ حالاتها وأوضاعها، ففی السراء والرخاء عبادة، وفی الضراء والبأساء عبادة، وحین البأس عبادة، وفی الغنی عبادة، وفی الفقر عبادة، وفی السلامة عبادة، وفی السقم عبادة وهکذا، وهذه هی العبادة التی ینبغی علی کلّ مؤمن أن یعیشها لله عزّوجل.

وأخیراً علینا أن نتأمّل فی کلام الحسین علیه السلام الذی قاله عند وصوله إلی کربلاء فی شهر محرم عام 61 ه -، والذی أرسله إلی کلّ مَن یهمّه الأمر، لاسیما أتباع الحسین علیه السلام ومحبّیه والمتعلّقین به.

ص:97


1- (1) تفسیر المیزان: ج 14، ص 351.

«الناس عبید الدنیا والدین لَعِقٌ علی ألسنتهم، یحوطونه ما دَرّتْ معائشُهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الدیانون»(1).

5 - الموقف الخامس: زعمت أنها لا تقبل من آل الرسول

ذکر المؤرّخون أنّ الحسین علیه السلام صلّی بأصحابه صلاة الخوف یوم العاشر من المحرّم، وبینما هم یریدون الصلاة وإذا برجل من جیش عمر بن سعد - واسمه الحصین بن تمیم - یقول: (إنّها لا تقبل)، فقال له حبیب بن مُظهِّر: (زعمت أنّ الصلاة من آل الرسول لا تقبل وتقبل منک یا حمار، ثمّ حمل علیهم حصین بن تمیم فخرج إلیه حبیب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسیف، فشبّ ووقع عنه وحمله أصحابه)(2).

وأنا أقرأ هذا النص المتقدّم لأسلط الأضواء علیه - لاسیما فیما یتعلق بموقف الشهید حبیب (رض) - قادنی فکری راغماً إلی حیث النصوص الکثیرة فی حقّ عبادة الحسین علیه السلام وصلاته، لاسیّما قول الإمام الصادق علیه السلام فی زیارة وارث:

«أشهد أنک قد أقمت الصلاة»(3).

فقلتُ فی نفسی: یا سبحان الله! هل یمکن أن یکون هناک مسلم عاقل یحترم دینه وعقله یقول بمقالة هذا الإنسان؟!

ص:98


1- (1) بحار الأنوار: ج 44، ص 382.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 3، ص 326.
3- (3) مفاتیح الجنان للشیخ عباس القمّی: زیارة وارث.

وهل یمکن أن یقول أحد: أنا مسلم، لی ما للمسلمین، وعلیّ ما علیهم، وهو یقف أمام نصوص قرآنیة واضحة وصریحة فی مدح سید الشهداء کآیة التطهیر وآیة المودّة وآیة المباهلة وآیة الإطعام وما شاکل ذلک من الآیات التی اتفق الفریقان علی نزولها به علیه السلام؟!

هل یمکن أن تصل الجرأة بأحدٍ من الناس حتی یخاطب ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بهذا الشکل من الخطاب، وهو الذی قال له رسول الله:

«إمام قام أو قعد»؟!(1).

من هنا نجد أنّ ردّة فعل الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی کانت شدیدةً تجاه ذلک الإنسان، حتی خاطبه یقول: (زعمتَ أنّها لا تُقبل من آل الرسول وتقبل منک یا حمار).

وکأنّه یرید أن یقول له: لقد أعمی الله بصرک وأصمَّ سمعک وأقفل فؤادک عن کلّ هدی وصلاح، حتی ما عدتَ لتمیّز بین الأشیاء مهما کانت واضحة وجلیّة أمامک، حتی أوصلک هذا الضلال والسقوط فی وادی المعاصی والذنوب إلی أن تقبل یزید بن معاویة خلیفة وإماماً، معتقداً بصلاته وتقتدی بها، بل وتتّبعه حتی یوصلک فی نهایة هذا الطریق إلی جهنّم وساءت مصیراً.

ص:99


1- (1) هو مضمون حدیث للنبی یقول فیه: (الحسن والحسین إمامان إن قاما وإن قعدا)، رواه الصفوری فی نزهة المجالس: ج 2، ص 184. والصدّیق القنوجی فی شرح صحیح مسلم فی باب المناقب وآخرون.

وفی الوقت نفسه تنکّرتَ بأشد الوسائل قمعیةً ووحشیة إمامةَ الحسین علیه السلام وخلافته علیک! وهو الذی قال عنه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

«حسین منّی وأنا من حسین»(1) ، و «أحبّ الله مَن أحبّ حسیناً»(2) ، و «حسین سبطٌ من الأسباط»(3).

ومن ثم تنکر حتی صلاة الحسین علیه السلام وعبادته، فتقولها وبضرس قاطع غیر آبه بها ولا خائف منها: (إنّ صلاة الحسین علیه السلام لا تقبل)! یا لها من جرأة عظیمة تکاد السموات یتفطرنَ منها وتتدکدک علی الأرض وتخرّ الجبال هدّاً!

فیا تری، إذا لم تُقبل صلاة الحسین علیه السلام، فأیّ صلاة سوف تُقبل وتُرفع بعده علیه السلام؟

شتّان بین موقفک وموقف الحر بن یزید الریاحی، ذاک الذی بُعث للجعجعة بالحسین وبمَن معه، وإذا به من حیث یشعر أو لا یشعر ینجذب إلی صلاة الحسین علیه السلام فیقف خلفه یصلّی جماعة ومعه جنده، وما ذاک إلاّ لأنّه عرف قدر صلاة الحسین علیه السلام وقیمتها، وعرف أنّ عروج صلاة الحسین علیه السلام إلی الله سبحانه وتعالی سوف یترک أثراً إیجابیاً فی عروج صلاة مَن یصلّی خلفه.

بل إنّک - والحدیث ما زال فی لسان حال الشهید الکربلائی - لم تصل حتی إلی تلک الدرجة التی وصل إلیها کبار المجرمین فی کربلاء، أمثال خولی

ص:100


1- (1) مسند أحمد: ج 4، ص 172، ح 14.
2- (2) السلسلة الصحیحة: رقم 1227.
3- (3) صحیح الترمذی: رقم 2970.

ابن یزید الأصبحی، هذا الذی اشترک فی قتل الحسین علیه السلام وحمل رأسه، ولکنّه فی نفس الوقت کان یعرف قدر الحسین ومنزلته، بل ومنزلة أمّه وأبیه، حیث یقول:

امْلأْ رِکابِی فِضّةً أو ذَهَبَاً إنّی قَتَلْتُ السیّدَ المُحَجِّبا

قَتَلْتُ خیرَ النَّاسِ أُمّاً وَأَبَاً(1)

وبتقدیری لقد کشف الحسین علیه السلام بصلاته وصلاة أصحابه زیفَ مَن یدّعی الإسلام کذباً وزوراً ممّن وقف أمامه، حیث فضح هویتهم اللادینیة وبیّن إلحادهم وکفرهم، لاسیّما بعد أن صاروا یرمونهم بالسهام والنبال وهم واقفون للصلاة بین یدی الله سبحانه وتعالی، حتی سقط جماعة من أصحاب الحسین علیه السلام بین شهید وجریح.

فبانت بذلک طبیعة المعسکرین اللذَین وقفا یوم العاشر من المحرم، فمعسکر الحسین یقاتل من أجل الدین، والمعسکر الآخر یقاتل الدین متمثلاً بتلک الصفوة من الأمّة ویحارب شعیرة الإسلام الأولی.

من هنا نفهم سبب موقف الشهید الصارم والحازم مع هذا الضال المنحرف، حیث لم یکتف بالرد القولی، بل رأی أنّ أمثال هؤلاء یجب أن یُقتلوا حتی لا تلوّث الحیاة بلوثهم؛ لهذا (خرج إلیه حبیب بن مُظهِّر وضرب وجه فرس الحصین بالسیف، فشبّ به الفرس ووقع عنه، فحمله أصحابه واستُنقذ)(2).

ص:101


1- (1) معالم المدرستین: ج 3، ص 317.
2- (2) معالی السبطین: ج 1، ص 372.

إشکال وردّه:

وقد یستشکل بعضهم وهو یقرأ قول حبیب لهذا الرجل: (حمار)، فیقول: هل یناسب مثلاً مقام حبیب أن یتلفّظ بهذا الکلام؟ لاسیما وقد وردت فی بعض الروایات بدل کلمة (حمار) (خمار)(1) ، فیکون الأمر أکثر استغراباً واستنکاراً وعدم ملاءمة مع شخصیته (رض)؟ أفلا یکون ذلک داخلاً فی باب السباب وقد ورد أنّ «سباب المؤمن فسوق»(2) ؟

أمّا بالنسبة إلی الاعتراض القائل بأنّ هذه الکلمة لا تتناسب مع مقام حبیب، فنقول: إنّ القرآن الکریم قد تلفّظ بها وبغیرها قبل ذلک فی مواضع متعدّدة، منها علی نحو المثال لا الحصر حدیثُهُ عن أهل الکتاب، وهم الجماعة الذین أُعطُوا العلم والمعرفة ولکنّهم لم یعملوا بها ولم یستفیدوا منها، یقول القرآن الکریم:

«مَثَلُ الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ یَحْمِلُوها کَمَثَلِ الْحِمارِ یَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِ اللّهِ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ 3» .

وکذلک فی معرض حدیثه عن ذلک الذی آتاه الله الکتاب والحکمة ولکنّه

ص:102


1- (1) کما وردت هذه اللفظة فی جملة من الکتب، منها: أعیان الشیعة: ج 1، ص 606. لواعج الأشجان: ص 156.
2- (2) سنن الترمذی: حدیث 2634، باب ما جاء سباب المؤمن فسوق.

لم یهتدِ بهما، حیث یقول:

«فَمَثَلُهُ کَمَثَلِ الْکَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَیْهِ یَلْهَثْ أَوْ تَتْرُکْهُ یَلْهَثْ 1» .

وأُطلق لفظ الأنعام علی کلّ مَن لم یستفد من الأجهزة العظیمة التی زوّده الله بها، وهی السمع والبصر والفؤاد، یقول القرآن:

«وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ کَثِیراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا یَسْمَعُونَ بِها أُولئِکَ کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِکَ هُمُ الْغافِلُونَ 2» .

ویبدو أنّ مثل هذا الأمر کان جاریاً فی لغة العرب ومستعملاً عندهم بشکل واسع، حیث کانوا یشبِّهون بعضهم ببعض الحیوانات لوجود صفات مشترکة من جانب، ومن جانب آخر لِمَا للبیئة التی یعیشونها من أثر کبیر علیهم، لاسیّما فیما یرتبط بالحیوان ودوره الکبیر فی حیاتهم، وللمثال أذکر هنا شاهدین علی ما ذکرناه:

1 - قال طرفة العبد:

کُلُّ خَلِیْلٍ کُنْتُ خَالَلْتُهُ لاَ تَرَکَ اللهُ لَهُ وَاضِحَة

کُلُّهُمْ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ مَا أَشْبَه اللَّیْلَة بِالبِارِحَة(1)

ص:103


1- (3) مجمع الأمثال للمیدانی: ج 2، ص 275، رقم 3831، وقد تمثّل به الإمام الحسن المجتبی فی بعض کلامه للناس.

2 - وقال مروان بن محمد:

یَمْشِی رُوَیْدَاً یُرِیْدُ خَتْلَکُمْ کَمَشْیِ خِنْزِیْرَةٍ إِلَی عَذْرَه(1)

هذا کلّه علی روایة (حمار)، وأمّا علی روایة (خمّار) کما وردت فی بعض المصادر، فنقول: إنّ هذا محمول علی أنّ الطرف المقابل کان فاسقاً فاجراً معلناً بالفسق والفجور، ومن ثم جاز نعتُه بمثل هذه الصفة التی کانت فیه، وکیف لا یکون شارباً للخمر ومعلناً به وهو یری إمامه یزید شارب الخمر ومُعلِن الفسق والفجور کما قال الحسین علیه السلام، ومَن کانت هذه صفته فلابدّ من فضحه وتسلیط الأضواء علیه، خصوصاً وأنّ الشهید الکربلائی کان أعرف به حیث کان یعیش معه بالکوفة.

یقول الشیخ المفید فی کتاب المقنعة: (وقول القائل للمعلّم: أنت خسیس أو وضیع أو رفیع أو نذل أو ساقط أو نجس أو رجس أو کلب أو خنزیر أو مسخ وما أشبه ذلک، یوجب التعزیر والتأدیب ولیس فیه حدّ محدود، فإن کان المقول له ذلک مستحقاً للاستخفاف لضلاله عن الحق لم یجب علی القائل له تأدیبٌ، وکان باستخفافه به مأجوراً، ومَن قال لغیره: یا فاسق، وهو علی ظاهر الإسلام فقد صدق علیه وأُجر فی الاستخفاف به)(2).

ص:104


1- (1) الحیوان للجاحظ: ج 4، ص 63.
2- (2) المقنعة للشیخ المفید: ص 796.
6 - الموقف السادس: عزّ علیّ مصرعک یا مسلم، أبشر بالجنة

یقول الطبری وهو یتحدّث عن شهادة مسلم بن عوسجة (رض): (إنّ الحسین علیه السلام مشی لمصرع مسلم بن عوسجة ومعه حبیب بن مظاهر الأسدی، فدنا منه حبیب فقال: عزّ علیّ مصرعک یا مسلم، أبشر بالجنّة، فقال مسلم قولاً ضعیفاً: بشّرک الله بخیر، فقال له حبیب: لولا أنّی أعلم أنّی فی أثرک لاحق بک من ساعتی هذه لأحببت أن توصینی بجمیع ما أهمّک، حتی أحفظک فی کلّ ذلک بما أنت أهل له فی القرابة والدین، قال: بل أوصیک بهذا الغریب رحمک الله، وأهوی بیده إلی الحسین علیه السلام أن تموت دونه، قال: أفعل وربِّ الکعبة، فما أسرع من أن مات فی أیدیهم)(1).

یَحار المرء، کیف له أن یعبّر عن مثل هذا الموقف المشرّف العظیم؟!

وکیف یمکن أن تعبّر الألفاظ وتستوعب مهما بلغت فی سباکتها ودقّة حروفها وأدب کاتبها مثل هذه المعانی الکبیرة؟

ولکنّه الحبّ فی الله الذی تجسّد فی شخص الحسین علیه السلام یوم العاشر من المحرّم حتی وصل إلی درجة العشق والوَلَه، ومثل هذا الحبّ إذا حلّ فی قلب إنسان فإنّه یصنع المعجزات، ویصل إلی درجة یکون فیه منطق المحب مختلفاً عن منطق الآخرین، فضلاً عن الأفعال التی قد تکون فی نظر غیرهم أشبه بالأساطیر منها إلی الحقیقة.

ص:105


1- (1) تاریخ الطبری: ج 6، ص 249.
مسلم بن عوسجة وحبیب بن مُظهِّر
اشارة

لقد عاش کل من الشهیدین حبیب بن مُظهِّر الأسدی ومسلم بن عوسجة (رض) الحبّ فی الله فی أعلی صوره وأشکاله، فقد التقیا علیه منذ نعومة أظفارهما وهما ما زالا شابین فی زمن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وعاشاه فی کلّ مرحلة من مراحل حیاتهما، مُجسَّداً فی کلّ صغیرة وکبیرة بینهما، فقد جاهدا الکفار والمنافقین معاً، وحملا مشعل الإسلام إلی الناس معاً، کما وقفا أمام الظالمین واستهتار المتجبّرین لاسیّما الطلقاء وأبناء الطلقاء الذین تسلّطوا علی رقاب هذه الأمّة فنهضا لردعهم والوقوف أمامهم إلی جانب الإمام أمیر المؤمنین ثمّ الحسن ثم کانت الوقفة الکربلائیة التی قلّ نظیرها مع الحسین علیه السلام.

والملفت فی وقفة الحسین أنّهما وقفا معه حیَّین وأوصیا به میِّتَین، وهذه لعمرک تمثّل أعلی درجات الحبّ والولاء، بل وأرقی درجات الأخوّة، حیث یدّخر مسلم بن عوسجة (رض) هذه الوصیة لأخیه الذی عاش معه طویلاً حبیب ابن مُظهِّر الأسدی (رض) دون سواه، وهذا درس کبیر علینا أن نَعِیَه ونفهمه ونستلّه من حیاة هذا الشهید الکربلائی.

درس کبیر الأخوّة والمحبّة فی الله

ورد فی الحدیث عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم قوله:

«سبعةٌ یظلّهم الله تحت ظلّه یوم لا ظلّ إلاّ ظلّه... ورجلان تحابّا فی الله وتفرّقا علیه...»(1).

ص:106


1- (1) تحفة الأحوذی للمبارکفوری: ص 57، باب ما جاء فی الحب فی الله.

وإنّما یظلّهم الله عزّ وجلّ فی ذلک الیوم الذی یحتاج المرء فیه إلی الظلال؛ لشدّة الحر ولعظمة الخوف، حیث یقول القرآن الکریم:

«وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِینَ یَوْمَئِذٍ زُرْقاً1» .

لقربهم من الله أوّلاً، وجلیل ما قدّموه من أعمال ثانیاً.

وواحدة من هذه الجماعات السبعة المظلّلة وهی: «رجلان تحابّا فی الله وتفرّقا علیه»، حیث لم تکن الصداقة والأخوّة بینهما قائمة علی أساس المصالح المادّیة التی سرعان ما تذهب ویحلّ محلّها البوار والحقد الدفین، وتنشأ علی أساسها ألوان من المشاکل الاجتماعیة وغیرها، بل کانت الأخوة والصداقة بین هذین الأخوین - اللّذین تحابّا فی الله عزّ وجل - أخوّة من نوع آخر، أخوّة تمثّل فی واقعها أعلی درجات النعم التی یقدّمها الله علی عباده، وما ذاک إلاّ لأنّها قرینة الإیمان والحب فی الله.

وقد تحدّث القرآن الکریم عن هذه الأخوّة إذ یقول:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ 2» .

وکان الله عزّ وجلّ یرید أن یقول إنّ القیمة الکبری عندی هی الأخوّة الإیمانیة المنطلقة علی أساس الدین والعقیدة، وإذا کان الأمر کذلک فلا أخوّة بلا إیمان ولا إیمان بلا أخوّة.

ولأهمیة هذه الأخوّة القائمة علی أساس الإیمان حاول الإسلام تجسیدها

ص:107

عملیاً بین المسلمین بعد الهجرة النبویة المبارکة المدنیة مباشرة، حیث آخی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بین المهاجرین والأنصار.

یقول ابن هشام فی سیرته: (قال ابن إسحاق: وآخی رسول الله بین أصحابه من المهاجرین والأنصار، فقال فیما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول علیه ما لم یُقَل: «تآخوا فی الله أخوین أخوین»، ثمّ أخذ بید علی بن أبی طالب فقال: هذا أخی، فکان رسول الله سیّد المرسلین... وعلی بن أبی طالب أخوین)(1).

وهنا لابدّ من الإشارة أنّ هذه الأخوّة هی التی أرادها الإسلام أن تتحرک فی حیاة کلّ من هذین الأخوین اللّذین تآخا فی الله وتُحفظ حقوقها فیما بینهما فی کلّ صغیرة وکبیرة متعرّضان إلیها، فإنّ حقوق الأخوّة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا یمکن أن تُحفظ وتُؤدّی إلاّ من خلال أخوّة علی بن أبی طالب، وهذه واحدة من جملة فضائل علی بن أبی طالب علیه السلام والتی ملأت الخافقین.

شهادة حبیب بن مُظهِّر الأسدی
اشارة

ینقل الشیخ الطوسی: (ولقد مزح حبیب بن مظاهر الأسدی فقال له یزید بن خضیر الهمدانی وکان یُقال له سیّد القراء: یا أخی، لیس هذه بساعة ضحک، قال: فأیّ موضع أحق من هذا السرور؟ والله، ما هو إلاّ أن تمیل علینا هذه الطغام بسیوفهم فنعانق الحور العین)(2).

لا أخالک وأنت تقرأ معی کما قرأت هذا النص الشریف عن کربلاء البطولة

ص:108


1- (1) سیرة ابن هشام: ج 2، ص 123.
2- (2) اختیار معرفة الرجال للشیخ الطوسی: ج 1، ص 293.

والتضحیة والفداء إلاّ أن تترک لفکرک کما ترکتُ لفکری العنان فی أن یجمع لک صوراً من الیقین والاطمئنان بوعد الله عزّ وجلّ بالشکل الذی لا یستطیع حتی القلم أن یترجمه بکلمات وألفاظ مهما کانت متمیّزة فی أدبها وبلاغتها.

فإنّ الخوف من الموت والقلق من حلول الأجل أمر محسوس ومشاهد عند الناس؛ لأنّ الناس یمیلون إلی الحیاة والبقاء ویفرّون من الموت والفناء، ولکن مثل هذه المعادلة قد تغیّرت فی کربلاء، حیث تحوّل الخوف إلی فرح وسرور والقلق إلی بهجة واستبشار بوعد الله عزّ وجلّ، وما أعدّه لأولیائه وأهل طاعته حینما یقول:

«إِنَّ الَّذِینَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ الْمَلائِکَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِی کُنْتُمْ تُوعَدُونَ 1» .

ولقد کان الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی یتمنّی أن یأتی هذا الیوم الذی ینال فیه مِثْل هذا الوسام الحسینی، من خلال الشهادة بین یدی الحسین علیه السلام؛ لیحظی بعزّ الدنیا وکرامة الآخرة.

شهادة حبیب بعد صلاة الظهر

وشاءت إرادة الله عزّ وجلّ أن یُستقبل هذا الشهید مضرّجاً بدمائه بعد صلاة الظهر یوم العاشر من المحرم، یقول المازندرانی فی معالم السبطین: (حین استأذن الحسین أهلَ الکوفة لصلاة الظهر وطلب منهم المهلة لأداء الصلاة، قال له الحصین بن نمیر(1): صلّ، لا تقبل منک، فقال له حبیب: إنّها لا تُقبل زعمت الصلاة من آل

ص:109


1- (2) قد مرّ علیک سابقاً أنّه الحصین بن تمیم، فتأمّل.

الرسول! وتُقبل منک یا حمار. فحمل الحصین علیهم فخرج إلیه حبیب وضرب حبیب وجهَ فرس الحصین بالسیف فشبّ به الفرس، ووقع عنه فحمله أصحابه)(1).

هنا لم یستطع الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی صبراً، حیث طفح به الکیل وهو یری أمامه هؤلاء الطغاة وما یصنعونه بعترة المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم وبثقله الذی خلّفه فیما بینهم، یقول أبو مخنف: (سلّم حبیب علی الحسین علیه السلام وودّعه وقال: والله یا مولای، إنّی لأرجو أن أتمّم صلاتی فی الجنّة وأقرأ أباک وجدّک وأخاک عنک السلام)(2).

وبعد أن ودّع الحسین نزل إلی ساحة المعرکة وجعل یحمل علیهم یمیناً وشمالاً وهو یقول:

أُقْسِمُ لَوْ کُنَّا لَکُمْ أَعْدَادَا أَوْ شَطْرَکُمْ وَلَّیْتُمُ الأَکْتَادَا

یَا شَرَّ قَوْمٍ حَسَبَاً وَأَدَّا

ثمّ جعل یحمل علیهم ویقول فی رجزه:

أَنَا حَبِیْبٌ وَأَبِی مُظهَّرِ ذ فَارِسُ هَیْجَاءٍ وَحَرْبٍ تَسْعَرُ

أَنْتُمْ أَعَدُّ عُدَّةً وَأَکْثَرُ وَنَحْنُ أَوْفَی مِنْکُمُ وَأَصْبَرُ

وَأَنْتُمْ عِنْدَ الوَفَاءِ أَغْدَرُ وَنَحْنُ أَعْلَی حُجَّةً وَأَظْهَرُ

حَقَّاً وَأَتْقَی مِنْکُمُ وَأَعْذَرُ(3)

ص:110


1- (1) معالم السبطین: ج 1، ص 372.
2- (2) معالم السبطین: ج 1، ص 373.
3- (3) معالم السبطین: ج 1، ص 373.

ولقد قُلتُها سابقاً وأقولها هنا وأکرّرها کلّما سنحت الفرصة: إنّ أشعار وأراجیز شهداء کربلاء تحتاج - بحق - إلی کتاب مستقل یؤلّف حولها؛ وذلک لعظمة المفاهیم التی حوتْها، فها هو الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی یشیر إلی ما أشار إلیه القرآن الکریم إلی قلّة أعداد المسلمین أمام کثرة أعدائها فی أیام المواجهة:

«إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ وَ إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ مِائَةٌ یَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِینَ کَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا یَفْقَهُونَ * اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْکُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِیکُمْ ضَعْفاً فَإِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ وَ إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ أَلْفٌ یَغْلِبُوا أَلْفَیْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِینَ 1» .

وکأنّه یرید أن یقول: إنّ شعار المؤمنین فی حروبهم وشأنهم دائماً فی صراعاتهم مع أعدائهم، أنّهم ما کانوا ینتصرون بعدّتهم ولا بعتادهم فحسب، فهی مقدمات، وإنّما کان النصر یتنزّل علیهم مع قلّتهم وکثرة أعدائهم؛ لأجل إیمانهم بالله أوّلاً، ولصبرهم أمام عدوهم ثانیاً، وهذا هو عین ما أراد الشهید حبیب أن یقوله: (أنتم أعدّ عدّة وأکثر، ونحن أوفی منکم وأصبرُ).

فضلاً عن الأبیات الأخری التی أراد أن یشیر من خلالها إلی غدرهم بالحسین علیه السلام بعد مبایعتهم له، وذلک حینما جاء وقت الإیفاء بها (وأنتم عند الوفاء أغدرُ، ونحن أعلی حجّة وأظهرُ).

ص:111

ولا شکّ أنّهم أعلی مجداً وأعظم برهاناً وأبین طریقاً وسبیلاً حینما ثبتوا علی بیعتهم ووفوا لإمامهم وحفظوا عترة نبیّهم وأطاعوا الله فی وُلاة أمرهم، حقاً إنّهم سیکونون بذلک أتقی عند الله وأعذر (حقاً وأتقی منکم وأعذر).

یقول المازندرانی: (ثمّ برز یقاتل اثنین وستّین فارساً، فحمل علیه رجل من بنی تمیم - یُقال له بدیل بن حریم من بنی عقفان - فضربه بالسیف علی رأسه، وحمل علیه آخر من بنی تمیم وطعنه برمحه فوقع، وذهب لیقوم فضربه الحصین ابن نمیر علی رأسه بالسیف فسقط، فنزل إلیه التمیمی فاحتزّ رأسه، فقال له: أنا شریکک فی قتله، فقال التمیمی: والله، ما قتله غیری، فقال الحصین: اعطنیه أعلّقه فی عنق فرسی کیما یری الناس ویعلموا أنّی شریکک فی قتْله، ثمّ خذه أنت فامضِ به إلی عبید الله بن زیاد، فلا حاجة لی فیما تُعطاه علی قتلک إیّاه، فأبی علیه، فأصلح قومهما فیما بینهما علی ذلک فدفع إلیه رأس حبیب فعلّقه بعنق فرسه، فجال به فی العسکر، ثمّ دفعه بعد ذلک إلیه فأخذه التمیمی فعلّقه فی لبان فرسه، ثمّ أقبل به إلی ابن زیاد وجال به فی الکوفة)(1).

قصة الرأس الشریف

إذا کان للبطولة عنوان وللشجاعة شأن ولسان لقالت إنّ ما صنعه أهل الکوفة مع رأس الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی - علی کبره وشیبته وجلالة قدره من قطع الرأس الشریف والتنازع فی قتله کما تقدّم - لیشیر وبشکل واضح إلی مدی الشجاعة العالیة والبطولة العظیمة والبسالة الملفتة للنظر التی تمتّع بها هذا

ص:112


1- (1) معالم السبطین: ج 1، ص 373.

الشهید (رض)، ولله در الشاعر حیث یقول فیه:

آسَادُ مَلْحَمَةٍ وَسَمُّ أَسَاوِدٍ وَشُوَاظُ بَرْقِ صَوَارِمٍ وَلَهِیْبُ

الرَّاکِبِیْنَ الهَوْلَ لَمْ یَنْکُبْ بِهِمْ وَهْنٌ وَلاَ سَأَمٌ وَلاَ تَنْکِیْبُ

أَبْکِیْکُمُ وَلَکُمْ بِقَلْبِی قُرْحَةٌ أَبَدَاً وَجُرْحٌ فِی الفُؤَادِ رَغِیْبُ (1)

تقول الروایة:

(فلمّا رجعوا إلی الکوفة أخذ الآخر(2) رأس حبیب فعلّقه فی لبان فرسه، ثمّ أقبل به إلی ابن زیاد فی القصر، فبصر به ابنه القاسم بن حبیب وهو یومئذٍ قد راهق، فأقبل مع الفارس لا یفارقه، کلّما دخل القصر دخل معه وإذا خرج خرج معه فارتاب به، فقال مالک: یا بنی، تتبعنی، قال: لا شیء، قال: بلی یا بنی، أخبرنی؟ قال له: إنّ هذا الرأس الذی معک رأس أبی، أفتعطینیه حتی أدفنه؟ قال: یا بنی، لا یرضی الأمیر أن یُدفن، وأنا أرید أن یثیبنی الأمیر علی قَتْله ثواباً حسناً، قال له الغلام: لکنّ الله لا یثیبک علی ذلک إلاّ أسوأ الثواب، أَمَا والله، لقد قتلتَه خیراً منک، وبکی)(3).

وشاءت إرادة الله أن یؤخذ ثأر هذا الشهید علی ید ولده القاسم، کما شاءت إرادة الله أن یؤخذ ثأر الحسین علیه السلام علی ید ولده الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف.

ص:113


1- (1) أدب الطف: ج 8، ص 167، والأبیات من قصیدة کبیرة للسید إبراهیم ابن السید حسین بحر العلوم فی رثاء الشهید حبیب بن مظاهر الأسدی (رض).
2- (2) المراد به غیر الحصین بن تمیم.
3- (3) مقتل الحسین لأبی مخنف: ص 146.
الولد یطلب ثأر أبیه

وبقیت لوعة الألم التی أشعلها قاتل الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی تغلی فی نفس ولده القاسم، لا تهدأ له عبرة ولا تسکن له زفرة حتی هیّأ الله عزّ وجلّ له أسباب الأخذ بثأر والده (رض)، وتمضی الأیام ثقیلةً علی ولد الشهید الکربلائی، حتی إذا جاء زمن مصعب بن الزبیر وحربه مع عبد الملک بن مروان، وإذا بابن الزبیر یستعین لقتال عبد الملک بجملة من مجرمی واقعة الطف وقتلة أهل البیت وأنصارهم، فکان من جملة من التحق منهم قاتل حبیب بن مُظهِّر الأسدی (رض).

یقول أبو مخنف فی مقتله: (فمکث الغلام حتی إذا أدرک لم یکن له همّة إلاّ اتباع أثر قاتل أبیه لیجد منه غرة فیقتله بأبیه، فلمّا کان زمان مصعب بن الزبیر وغزا مصعب باجمیرا(1) ، دخل عسکر مصعب فإذا قاتل أبیه فی فسطاطه، فأقبل فی طلبه والتماس غُرّته، فدخل علیه وهو قائل نصف النهار، فضربه بسیفه حتی برد)(2).

ص:114


1- (1) باجُمَیری - بضمّ الجیم وفتح المیم ویاء ساکنة وراء مقصورة -: موضع دون تکریت، ذکر الأخباریون أنّ عبد الملک بن مروان کان إذا هَمّ بقصد مصعب بن الزبیر بالعراق یخرج فی کلّ سنة إلی بطنان حبیب، وهی أدنی من قنسرین إلی الجزیرة، فیعسکر بها ویخرج مصعب بن الزبیر إلی مسکن فیعسکر بباجمیری من أرض الموصل، کلّ واحد منهما یری صاحبه أنّه یقصده، ولا یتم لکلّ واحد منهما قصده، فإذا جاء الشتاء وارتجّ الثلج انصرف عبد الملک إلی دمشق ومصعب إلی الکوفة، فکان یقول عبد الملک إنّ مصعباً قد أبی إلاّ جمیراته والله موقدهن علیه. معجم البلدان للحموی: ج 1، ص 219.
2- (2) مقتل أبی مخنف: ص 146-147.
الحسین علیه السلام یؤبّن حبیباً

ذکر کلّ مَن تحدّث عن شهادة حبیب بن مُظهِّر، أنّه حینما قُتل هدّ ذلک حسیناً، وقال: «عند الله احتسب نفسی وحماة أصحابی، لله دَرّک یا حبیب، لقد کنتَ فاضلاً، تختم القرآن فی لیلة واحدة»(1).

یقول الشیخ محمد السماوی أبیاتاً فی حال الحسین بعد مقتل حبیب، منها:

إنْ یهدِّ الحسینَ قَتْلُ حبیبٍ فَلَقَدْ هَدَّ قَتْلُهُ کُلَّ رُکْنِ

بَطَلٌ قَدْ لَقَی جِبَالَ الأَعَادِی مِنْ حَدِیْدٍ فَرَدَّهَا کَالعِهْنِ

لاَ یُبَالِی بِالجَمْعِ حَیْثُ تَوَخَّی فَهُوَ یَنْصَبُّ کَانْصِبَابِ المُزْنِ

أَخَذَ الثَّأرَ قَبْلَ أنْ یَقْتُلُوْهُ سَلَفَاً مِنْ مَنِیَّةٍ دُوْنَ مَنِّ

قَتَلُوا مِنْهُ للحسینِ حَبِیْبَاً جَامِعَاً فی فِعَالِهِ کُلَّ حُسْنِ (2)

یقول المازندرانی فی معالم السبطین: (أقول: لمّا قُتل حبیب بانَ الانکسار فی وجْه الحسین علیه السلام وسرّه واضح؛ لأنّ اطمینان قلب السلطان وقلوب العسکر بحامل اللواء، فإذا سقط اللواء یتزلزل قلب السلطان والعسکر، وکان زهیر حامل لواء المیمنة، وحبیب حامل لواء المیسرة، والعبّاس حامل لواء القلب، ولهذا لمّا قُتل حبیب بانَ الانکسار فی وجه الحسین، وکذلک لمّا قُتل العبّاس)(3).

ص:115


1- (1) مقتل أبی مخنف: ص 147. منتهی الآمال: ج 1، ص 263.
2- (2) إبصار العین: ص 60-61.
3- (3) معالم السبطین: ج 1، ص 375.
مدفن الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی

یبدو من خلال البحث والمطالعة فی کتب المصادر التی تحدّثت عن دفن شهداء کربلاء لاسیّما الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی، أنّ هناک رأیین:

الرأی الأول

یذهب أصحاب هذا الرأی أنّ الذی تولّی عملیة الدفن للشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی وسائر الشهداء من أصحاب الحسین علیه السلام، بل وحتی الحسین نفسه، إنّما هم جماعة من بنی أسد من سکنة منطقة الغاضریات، ویبدو أنّها نفس تلک الجماعة التی طلب منها الشهید حبیب بن مُظهِّر النصرة للحسین علیه السلام، فلبّت نداءه واستجابت لمطلبه، ولکنّها سرعان ما رجعت بعد أن واجهت قوّة کبیرة من جیش ابن زیاد، لا قدرة لهم علی الصمود أمامها، فقرّروا بَعدها أن یرحلوا عن أماکنهم لاسیّما فی تلک المرحلة؛ حفاظاً علی أنفسهم من بطش ابن زیاد ورجاله.

(وبعد العاشر من المحرّم رجعوا إلی أماکنهم، فرأت نساؤهم أجساداً مجرّدة وشباباً مرمّلة وخدوداً معفّرة، تصهرهم الشمسُ وتسفی علیهم الریاح، زوّارهم العقبان والرخم، فلم یتمالکنَ النسوة أنفسهنّ لروعته، بل ولّین الأدبار متقهقرات وقد أخذ منهنّ التأثّر کلّ مأخذ، فأخذنَ فی تقریع الرجال من غیر وعی ولا رشد، بأشد لهجةٍ وأقسی عتاب؛ لتوانیهم وقعودهم عن مواراة تلک الجثث والأشلاء الطاهرة.

ففعل حدیثهنّ فعلَ السحر فی نفوس الرجال، وأثار الحفائظ وألهب الشیم، فنهضوا نهضةَ الرجل الواحد إجابةً للدعوة الصاخبة علی سبیل التضحیة والانتحار،

ص:116

مستبسلین غیر هیّابین ولا وجلین من سلطان بنی أمیة وشدید بطشها، فتسربلوا بسواد اللیل لئلاّ یفتضح أمرهم، باذلین قُصاری جهدهم فی إنجاز مهمّتهم باختصار وسرعة متناهیة، من غیر غسل ولا کفن)(1).

وهناک روایة أخری یذکرها المازندرانی نقلاً عن السید نعمة الله الجزائری، فیها إشارة إلی نفس مضمون الروایة المتقدّمة، یقول فیها:

(وکان إلی جنب العلقمی حیٌّ من بنی أسد، فتمشّت نساء ذلک الحیّ إلی المعرکة فرأت جثث أولاد الرسول وأفلاذ حشاشة الزهراء البتول وأولاد علیّ فحل الفحول، وجثث أنصارهم فی تلک الأصحار وهاتیک القفار، تشخب الدماء من جراحاتهم کأنّهم قتلوا فی تلک الساعة، فتداخل النساء من ذلک تمام العجب، فابتدرنَ إلی حیِّهنّ وقلنَ لأزواجهن ما شاهدنَ، ثمّ قلن لهم:

بماذا تعتذرون من رسول الله وأمیر المؤمنین وفاطمة الزهراء إذا وردتم علیهم... فقوموا الآن إلی أجسادهم فواروها، فإنّ اللعین ابن اللعین ابن سعد قد واری أجساد مَن أراد مواراته من قومه، فبادروا إلی أجساد آل الله وادفعوا عنکم بذلک العار... فأتوا علی المعرکة وصارت همّتهم... إلخ الروایة)(2).

أمّا لماذا دفن بنو أسد الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی منفرداً عن بقیة الشهداء الآخرین؟ فهذا ما لا نجد له دلیلاً واضحاً یمکن الاعتماد علیه، ولکن یمکن أن یوجّه من خلال نقطتین:

ص:117


1- (1) بغیة النبلاء فی تاریخ کربلاء للسید عبد الحسین آل طعمة: ص 56-57.
2- (2) معالی السبطین: ج 2، ص 62.

الأولی: أنّهم إنّما دفنوه منفرداً اعتناءً منهم فیه؛ لأنّه أسدیّ، بل ومن شخصیات بنی أسد.

الثانیة: أنّهم دفنوا أصحاب الحسین علیه السلام حول قبره الشریف متفرّقین، حیث جعلوا لکلّ واحدٍ منهم قبراً منفرداً، فاشتهر من بینهم قبر حبیب؛ لکثرة زائریه من قِبل بنی أسد والمعتنین به من قِبلهم دون بقیّة القبور الأخری، وربّما یستطیع الإنسان أن یوجّه مثل هذا الرأی من خلال کلمات الشیخ المفید (رض)، والتی ذکرها فی کتابه الإرشاد حول قبور الشهداء فی کربلاء، حیث یقول: (ولسنا نحصِّل لهم أجداثاً علی التحقیق والتفصیل، إلاّ أنا لا نشکّ أن الحائر محیط بهم رضی الله عنهم وأرضاهم)(1).

فإذا علمنا أنّ الحائر الحسینی یشمل مساحة قطرها 22/915 م 2 کما هو المشهور عند العلماء، فیکون الحائر الحسینی ممتدّاً إلی مسافة 11/5 م من الجهات الأربعة لقبر الحسین علیه السلام،

وقد ورد مثل هذا التقدیر فی أکثر من روایة للإمام الصادق علیه السلام: (عن إسحاق بن عمّار قال: سمعته یقول:

لموضع قبر الحسین حرمة معلومة، مَن عرفها واستجار بها أُجیر.

قلتُ: صف لی موضعها. قال:

امسح من موضع قبره الیوم خمسة وعشرین ذراعاً من قدّامه، وخمسة وعشرین ذراعاً عند رأسه، وخمسة وعشرین ذراعاً من

ص:118


1- (1) الإرشاد للشیخ المفید: ج 2، ص 126.

ناحیة رجلیه، وخمسة وعشرین ذراعاً من خلفه)(1).

وکل ذراع بما یعادل تقریباً 45 سم، فإذا علمنا بکلّ ذلک أمکن لنا تصوّر أنّ الشهداء دفنوا فی هذه الساحة المقدرة ب - 11/5 م من کلّ جهات قبر الحسین علیه السلام، نعم، اشتهر قبر حبیب لکثرة زائریه وزیادة الاعتناء به کما تقدّم.

الرأی الثانی

ویذهب أصحاب هذا الرأی إلی أنّ عملیة الدفن تمت إمّا بشکل مباشر من قِبل الإمام زین العابدین علیه السلام، وإمّا بتوجیه منه إلی بنی أسد(2).

وهناک من الروایات الکثیر ممّا یُنقل مثل هذا المعنی، فإذا تمّ ذلک فیکون إفراد قبر حبیب بن مُظهِّر الأسدی قد تمّ بتوجیه من قِبل المعصوم، ولکن لماذا؟

هل لأجل کِبر السنّ؟ فهناک مَن هو أکبر منه سنّاً ک - (أنس بن الحرث بن کاهل الأسدی)، أم لأجل العبادة؟ وهناک (بریر بن خضیر) الذی کان یصلّی الظهر بوضوء الفجر، أم لأجل الاخلاص؟ ونحن نعلم أنّ جمیع أصحاب الحسین علیه السلام مخلصون.

علی أیّ حال علینا أن نعلم أنّ هناک سبباً وراء مثل هذا الإفراد لقبر حبیب (رض)، حتی وإن لم نعرف علّة ذلک، یقول المازندرانی وهو یتحدّث عن دور الإمام زین العابدین علیه السلام فی دفن الأجساد الطواهر:

ص:119


1- (1) الکافی: ج 4، ص 588.
2- (2) راجع: تاریخ دمشق: ج 41، ص 372. حلیة الأولیاء: ج 3، ص 135. مناقب آل أبی طالب: ج 3، ص 275. المسعودی فی إثبات الوصیة: ص 173.

(فأتوا إلی المعرکة وصارت همّتهم أوّلاً أن یواروا جثّة الحسین علیه السلام من بین تلک الجثث، ولکنّهم ما کانوا یعرفونه؛ لأنّها بلا رأس وقد غیّرتْها الشموس، فبینما هم کذلک وإذا بفارس مقبل إلیهم، حتی إذا قاربهم قال: «ما بالکم»؟ قالوا: اعلم أنّا أتینا لنواری جثّة الحسین علیه السلام وجثث ولده وأنصاره، ولم نعرف جثّة الحسین علیه السلام، قال: فلمّا سمع ذلک حنّ وأَنّ وجعل ینادی:

«وا أباه.. وا أبا عبد الله.. لیتَک حاضراً وترانی أسیراً ذلیلاً».

ثمّ قال لهم: «أنا أرشدکم إلیه»، فنزل عن جواده وجعل یتخطّی القتلی، فوقع بصره علی جسد الحسین علیه السلام، فاحتضنه وهو یبکی ویقول:

«أبتاه، بقتلک قُرّت عیون الشامتین، یا أبتاه، بقتلک فرحتْ بنو أمیة، یا أبتاه، بعدک طال حزننا، یا أبتاه، بعدک طال کربنا».

ثمّ أنّه مشی قریباً من محلّ جثّته فأهال یسیراً من التراب فبان قبرٌ محفور ولحد مشقوق، فنزّل الجثّة الطاهرة وواراها فی ذلک المرقد الشریف کما هو الآن، قال: ثمّ إنّه جعل یقول: هذا فلان، وهذا فلان، والأسدیون یوارونهم، فلمّا فرغوا منهم مشی إلی جثّة العباس بن علی، فانحنی علیها وجعل ینتحب...)(1).

والروایة طویلة تنتهی بدفن الحرّ (رض) من قِبل الإمام بمساعدة بنی أسد، وهناک روایة أخری أکثر صراحة فی هذا المجال ذکرها السید الجزائری فی کیفیة دفن الأجساد کذلک:

ص:120


1- (1) معالم السبطین: ج 2، ص 62-63.

(وإذا به یقول لنا: أمّا ضریح الحسین فقد علمتم، وأمّا الحفیرة الأولی ففیها أهل بیته والأقرب إلیه منهم ولده علی الأکبر، وأمّا الحفیرة الثانیة ففیها أصحابه، وأمّا القبر المنفرد ممّا یلی الرأس الشریف فهو حامل رایة الحسین علیه السلام حبیب بن مظاهر...»)(1). ویقول سلمان هادی طعمة وهو یتحدّث عن مرقد حبیب بن مُظهِّر المتمیّز دون الآخرین: (وهو أحد شهداء حادثة الطف، نصر الحسین علیه السلام وشهر سیفه أمام الأعداء حتی سقط صریعاً علی رمضاء کربلاء، ودُفن فی الواجهة الغربیة من الرواق الأمامی للروضة الحسینیة المطهَّرة، وضریحه مصنوع من الفضّة، وهو أجلّ شأناً من أن یوصف)(2).

وأمّا بقیّة الشهداء فیقول عنهم: (وهم ملحودون فی ضریح واحد، وهذا الضریح وضع علامة لمکان قبورهم، وهم فی التربة التی فیها قبر الحسین علیه السلام)(3).

مدفن رأس حبیب بن مُظهِّر

إتماماً للفائدة أحببتُ أن أورد ما ذکره العلماء حول رأس الشهید حبیب بن مُظهِّر ومدفنه، حیث ذکر السید الأمین فی أعیان الشیعة ما نصّه:

(رأیتُ بعد سنة 1321 ه - فی المقبرة المعروفة بمقبرة باب الصغیر بدمشق مشهداً وضع فوق باب صخرة کُتب علیها ما صورته: هذا مدفن رأس العباس بن علی، ورأس علی بن الحسین علیه السلام الأکبر، ورأس حبیب بن مظاهر.

ص:121


1- (1) معالم السبطین: ج 2، ص 65.
2- (2) تراث کربلاء لسلمان هادی طعمة: ص 109.
3- (3) تراث کربلاء: ص 110.

ثمّ إنّه هُدم بعد ذلک بسنتین هذا المشهد وأعید بناؤه وأزیلت هذه الصخرة، وبُنی ضریح داخل المشهد ونقش علیها أسماء کثیرة لشهداء کربلاء، ولکنّ الحقیقة أنّه منسوب إلی الرؤوس الشریفة الثلاثة المتقدّم ذکرها بحسب ما کان موضوعاً علی بابه کما مر.

وهذا المشهد الظنّ یقوی بصحّة نسبته؛ لأنّ الرؤوس الشریفة بعد حملها إلی دمشق والطواف بها وانتهاء غرض یزید من إظهار الغلبة والتنکیل بأهلها والتشفّی، لابدّ أن تُدفن فی إحدی المقابر، فدفنتْ هذه الرؤوس الثلاثة فی مقبرة باب الصغیر، وحفظ محلّ دفنها والله أعلم)(1).

وهناک مَن یناقش هذا الرأی، وإنه لا معنی لدفن هذه الرؤوس الثلاثة هنا دون الأخری، ومن ثم فنحن أمام خیارین، فإمّا أن نقبل بحمل الرؤوس جمیعاً، وإمّا أن نقول بدفن الرؤوس جمیعاً، وإنّ القول ببعضها دون البعض الآخر لا دلیل علیه سوی الظنّ و «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً2,3» .

لاسیّما وقد ورد فی نفس المهموم(2) وریاض الأحزان(3) عن حبیب السیر: أنّ یزید سلّم جمیع الرؤوس إلی علی بن الحسین علیه السلام فألحقها بالأبدان الطاهرة فی العشرین من صفر ثمّ توجّه إلی المدینة.

ص:122


1- (1) أعیان الشیعة: ج 4، ص 259 قسم أ.
2- (4) نفس المهموم: ص 253.
3- (5) ریاض الأحزان: ص 151.

الشهید زاهر مولی عمرو بن الحمق الخزاعی الکندی علیه السلام

اشارة

بنو أسلم الذین ینتمی الیهم الشهید الکربلائی، من القبائل التی أسلمت مبکّراً، وذلک قبل عام الوفود، التی أخذت القبائل تفد فیه علی رسول الله وتعلن إسلامها بین یدیه والذی کان بعد فتح مکّة، وذکر المؤرّخون أنّهم أسلموا حتی قبل أن یصل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المدینة، حیث انقسموا إلی نصفین، نصف آمن بالإسلام قبل مجیء رسول الله إلی المدینة، والنصف الآخر آمن بالإسلام وأعلنه بعد مجیئه صلی الله علیه و آله و سلم، وقال عندها رسول الله کلمته المشهورة: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله»(1).

ینقل ابن سعد وغیره أنّ أبا ذرّ الغفاری رضی الله عنه أقبل متنکّراً علی مکّة، وذهب إلی رسول الله وأعلن إسلامه والذی کان رسول الله حینها یدعو الناس سرّاً إلی الإسلام، فقال أبو ذر للنبی صلی الله علیه و آله و سلم: بم تأمرنی؟ فقال: «ارجع إلی قومک فأخبرهم حتی یأتیک أمری فقال أبو ذرّ: والذی نفسی بیده لأصرخنّ بها (الشهادة) بین

ص:123


1- (1) الترمذی: ص 31-34، صحیح مسلم: ج 1 ص 470.

ظهرانیهم، فخرج حتی أتی المسجد ونادی بأعلی صوته أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، فقام الیه المشرکون فضربوه ضرباً شدیداً، وأتی العباس بن عبد المطلب عمّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم فانکب علیه وقال: ویلکم، ألستم تعلمون أنّه من غفار، وأنّه طریق تجارتکم إلی الشام؟!

فثابوا إلی رشدهم وترکوه، ثمّ عاد أبو ذرّ فی الغد لمثلها، فضربوه حتی افقدوه وعیه، فاکبّ علیه العباس فأنقذه، ورجع أبو ذرّ إلی قومه بنی غفار وجیرانهم بنی أسلم فدعاهم إلی الإسلام، فأسلم نصف قبیلة غفار ونصف جارتها (أسلم) وعندما هاجر النبی صلی الله علیه و آله و سلم إلی المدینة أقبل علیه أبو ذرّ مع قبیلتی غفار وأسلم ففرح رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقال: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله».

وحسن إسلام القبیلة ووقفت إلی جانب رسول الله، حتی أنّ ابن کثیر ینقل فی البدایة والنهایة عن ابن إسحاق قوله «وکان جمیع من شهد فتح مکّة من المسلمین عشرة آلاف، ومن بنی أسلم لوحدها أربعمائة شخص».(1) ویوم حنین شارکوا ب - (1000) شخص، وقد أخرجت هذه القبیلة الکثیر الکثیر من المجاهدین والأبطال والموالین، فضلاً عن العلماء والرواة.

فهم علی سبیل المثال أبو برزة الأسلمی، الذی عده البرقی والعلاّمة الحلّی من أصفیاء أمیر المؤمنین، وبریدة الأسلمی الذی قتل بین یدی إمامه أمیر المؤمنین فی صفّین. ویبدو أنّ بنی أسلم فی صفّین أبلوا بلاءً حسناً، حتی ورد أنّ أمیر المؤمنین قال فیهم بیتین من الشعر أشار من خلالهما إلی شجاعتهم وإخلاصهم،

ص:124


1- (1) ابن کثیر، البدایة والنهایة، باب من شهد فتح مکة.

وخصّ منهم جماعة لعلوّ منزلتهم:

جزی الله خیراً عصبةً أسلمیّةً حِسان الوجوه صُدِّعوا حول هاشمِ

بریدُ وعبد الله منهم ومنقذٌ وعروةٌ ابنا مالکٍ فی المکارمِ (1)

وکان منهم شهیدنا الکربلائی زاهر بن الأسود الأسلمی، والذی کان من أوائل من أسلم من قومه ووقف إلی جانب النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی معارکه الکبری لا سیما حنین، المعرکة التی قلّ فیها من ثبت.

أقوال العلماء فیه

1. یقول السماوی: کان زاهر بن عمرو الکندی بطلاً مجرّباً وشجاعاً مشهوراً، ومحبّاً لأهل البیت معروفاً.(2)

2. یقول المامقانی: هو زاهر بن عمرو الکندی الأسلمی، من أصحاب الشجرة، وروی عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم وشهد الحدیبیة وخیبر.(3)

3. یقول شمس الدین: زاهر مولی عمرو بن الحمق الخزاعی، ذکره الشیخ وابن شهر آشوب فی عداد الحملة الاولی.(4)

4. قال ابن الأثیر: زاهر بن الأسود بن حجّاج بن قیس بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزیمة بن مالک بن سلامان بن أسلم بن أفطی الأسلمی، أبو مجزأة، کان

ص:125


1- (1) کتاب وعتاب للشیخ قیس العطار: ص 116-118.
2- (2) إبصار العین: ص 135.
3- (3) مستدرکات علم رجال الحدیث للنمازی: ج 3 ص 416.
4- (4) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 86-87.

ممّن بایع تحت الشجرة وسکن الکوفة، قال الواقدی: کان من أصحاب عمر بن الحمق الخزاعی.(1)

5. قال ابن حجر العسقلانی: زاهر بن عمرو بن الأسود بن حجّاج بن قیس الأسدی الکندی، من أصحاب الشجرة، وتحتها بایعوا رسول الله، وسکن الکوفة وشهد الحدیبیة وخیبر.(2)

ممّا مضی تبیّن لنا أنّ العلماء قد اختلفوا فی اسم زاهر وفی اسم أبیه وفی نسبه، ولکنّهم کما رأینا متّفقون علی نقاط أساسیة ذکروها وهم یتحدثون عن الشهید الکربلائی، ومن هذه النقاط:

1. أنّه من أصحاب الشجرة.

2. روی عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم.

3. شهد الحدیبیة وخیبر.

4. کان من أصحاب عمرو بن الحمق الخزاعی.

5. سکن الکوفة.

ومن ثم نحن نمیل إلی أنّهم جمیعاً یتحدّثون عن شخصیة واحدة ولیس شخصیات متعدّدة، وأمّا أسباب الاختلاف فیمکن أن تعود إلی ما یلی:

1. الاختلاف فی مولویة الشهید فی قولهم زاهر مولی عمرو بن الحمق الخزاعی، فالمولی هنا معناه الصدیق والصاحب، کما سیأتینا مفصّلاً الحدیث عنه،

ص:126


1- (1) أسد الغابة، باب الزای «زاهر».
2- (2) وسیلة الدارین: ص 137-138.

حتی أنّ بعضهم ذکر هذا المعنی بشکل صریح فقال: زاهر صاحب عمرو بن الحمق الخزاعی.(1) ومن هنا ربما نفهم سبب وقوع البعض بخطأ نسبته إلی عمرو، حیث قال: «زاهر بن عمرو»(2). وقد أشار إلی ذلک بشکل واضح وصریح الشیخ محمد مهدی شمس الدین رحمه الله فی کتابه أنصار الحسین(3) ، ومن ثم یبقی ما ذکره الآخرون وهو زاهر بن الأسود.

2. الاختلاف فی نسبه، حیث نسبه بعضهم إلی کندة، مع أنه لم یکن منهم وإنما کان من موالی کندة، وقد أشار الشیخ شمس الدین رحمه الله إلی ذلک، حیث قال وهو یتحدّث عن زاهر:

«من شخصیّات الکوفة، شیخ کبیر السنّ من موالی کندة»(4).

وکذلک ذکر ذلک السیّد محمد رضا الحسینی فی بحثه الرائع حول «التسمیات» حیث قال:

«وقد ذکر الفضیل الرسّان اسم زاهر فی قبیلة کندة باعتبار مصاحبته لعمرو ابن الحمق الخزاعی الکندی»(5).

فإذا ثبت أنّه لیس من کندة ولا یقال له الکندی، فلا یبقی إلاّ ما ذکره الأکثرون حیث نسبوه إلی «أسلم».

ص:127


1- (1) الأعیان: ج 7 ص 41-42.
2- (2) إبصار العین: ص 135.
3- (3) أنصار الحسین: ص 86-87.
4- (4) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 86-87.
5- (5) مجلة تراثنا العدد 15 السنة الرابعة 1409 ه -.

نعم، یبقی عندنا ما ذکره الزنجانی فی وسیلة الدارین وهو یتحدّث عن ابن حجر العسقلانی حیث یقول: «زاهر بن عمرو بن الأسود بن حجّاج بن قیس الأسدی الکندی».

وأغلب الظنّ أنّ کلمة الأسدی قد تفرّد بنقلها الزنجانی التی ربما تکون مصحّفة عن الأسلمی، علماً أنّی رجعت إلی المصدر المذکور فلم أجد هذه العبارة، وإنّما وجدت عبارة أخری تقول: «زاهر بن الأسود بن حجّاج بن قیس الأسلمی»(1). وربما اعتمد السیّد الزنجانی علی نسخة وجد فیها ما ذکر وإلاّ الموجود فعلاً فی المکتبات لا ینسبه إلاّ إلی الأسلمی.

یبقی ما ورد منسوباً إلی زیارة الناحیة فی بحار الأنوار: «السلام علی زاهد مولی عمرو بن الحمق الخزاعی»(2) بینما ورد فی نسخة الإقبال: «السلام علی زاهر مولی عمرو بن الحمق الخزاعی» ممّا یؤکد علی أنّ زاهد مصحّفة من زاهر. وبهذا نکون قد انتهینا إلی أنّ الشهید الکربلائی اسمه: زاهر بن الأسود الأسلمی، مولی عمرو بن الحمق الخزاعی الکندی.

صحبة الشهید لعمرو بن الحمق الخزاعی

نقل أکثر المؤرّخین الحدیث عن مصاحبة الشهید الکربلائی لعمرو بن الحمق الخزاعی، حتی صار یُعبّر عنه بالمولی لعمرو بن الحمق الخزاعی، وربما لأجل هذا اشتبه بعضهم فعبّر عنه بأنّه مولی عمرو حقیقة.

ص:128


1- (1) ابن حجر، الإصابة: ج 2 ح 2779.
2- (2) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 86-87.

مع أنّ المراد من المولی هنا الصاحب والناصر دون معنی المولی الحقیقی، وقد تابع الشهید صاحب رسول الله فی کلّ سکناته وحرکاته، فاقتبس منه العلم والورع والزهد والشعور بالمسؤولیة أمام ما تواجهه الأمّة من تحدّیات، وإذا أردنا أن نعرف حقیقة هذه الصحبة وآثارها علی الشهید الکربلائی علینا أن نسلّط الضوء علی شخصیة عمرو بن الحمق الخزاعی لنعرف حقیقة هذا الرجل، والذی عُدّ فی نظر العلماء من أولیاء الله الخاصین.

عمرو بن الحمق الخزاعی

اتّفق الرواة علی أنّ إسلامه کان بمعجزة من رسول الله، وأنّه أرسل سریة وأخبرهم أنّهم سیصادفونه وأوصاهم أن یبلغوه أنّه من أهل الجنّة.

فتأمل فی مقام شخص یخبره سیّد المرسلین قبل إسلامه أنّه من أهل الجنّة ینقل الطبرانی فی المعجم الأوسط (1) قوله:

«عن صخر بن الحکم عن عمّه أنّه سمع عمرو بن الحمق یقول: بعث رسول الله بسریة فقالوا: یا رسول الله، إنک تبعثنا ولیس لنا زاد ولا لنا طعام ولا علم لنا بالطریق فقال: إنّکم ستمرّون برجل صبیح الوجه یطعمکم من الطعام ویسقیکم من الشراب ویدلّکم علی الطریق، وهو من أهل الجنة.

فلمّا نزل القوم علیّ جعل یشیر بعضهم إلی بعض وینظرون الیّ فقلت: ما بکم یشیر بعضکم إلی بعض وتنظرون الیّ؟ فقالوا: أبشر ببشری الله ورسوله، فإنّا

ص:129


1- (1) المعجم الأوسط: ج 4 ص 239.

نعرف فیک نعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فأخبرونی بما قال لهم، فأطعمتهم وسقیتهم وزوّدتهم وخرجت معهم حتی دللتهم علی الطریق.

ثمّ رجعت إلی أهلی فأوصیتهم بإبلی ثمّ خرجت إلی رسول الله فقلت: ما الذی تدعو إلیه؟ فقال: أدعوا إلی شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّی رسول الله، وإقام الصلاة وإیتاء الزکاة وحجّ البیت وصوم رمضان، فقلت: إذا أجبناک لهذا فنحن آمنون علی أهلنا ودمائنا وأموالنا؟ قال: نعم، فأسلمت ورجعت إلی قومی فأخبرتهم بإسلامی، فأسلم علی یدی بشر کثیر منهم، ثمّ هاجرت إلی رسول الله، وبینما أنا عنده ذات یوم فقال لی: یا عمرو، هل لک أن أریک آیة الجنّة یأکل الطعام ویشرب الشراب ویمشی فی الأسواق؟ قلت: بلی، قال: هذا وقومه وأشار إلی علی ابن أبی طالب.

وقال لی: یا عمرو، هل لک أن أریک آیة النار یأکل الطعام ویشرب الشراب ویمشی فی الأسواق، قلت: بلی بأبی أنت وأمّی، قال: هذا وقومه آیة النار، وأشار إلی رجل، فلمّا وقعت الفتنة ذکرت قول رسول الله ففررت من آیة النار إلی آیة الجنّة.

ویری بنی أمیّة قاتلی بعد هذا؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: والله، لو کنت فی جوف حجرٍ لاستخرجونی بنو أمیّة حتی یقتلونی. حدّثنی به حبیبی رسول الله، وأنّ رأسی یحتزّ فی الإسلام وینقل من بلد إلی بلد(1).

ص:130


1- (1) وإذا کان الطبرانی لم یستطع أن یذکر ذلک الرجل الذی هو آیة للنار، فإنّ استقراء الأحداث التاریخیة وحده کفیل بالتعریف به. وقال صاحب مجمع الزوائد: إنّ هذه الروایة ضعیفة لوجود عبد الله بن عبد الملک المسعودی وهو ضعیف: مجمع الزوائد: ج 9 ص 405، وضعفه کما یقول العقیلی ناشئ من کونه شیعیاً؛ انظر الضعفاء الکبیر للعقیلی: ج 2 ص 275، فیما یقول فی تاریخ دمشق، ج 45 ص 502: حیث ذکروا بأنّ المراد من الرجل معاویة والادی لیس شیعیاً.

وقد ذکر الشیخ المفید حدیثاً لعمرو بن الحمق الخزاعی یدلل علی مدی إیمان هذا الرجل وحبّه لعلی بن أبی طالب، حیث یقول فی کتاب الاختصاص(1):

«قال عمرو بن الحمق الخزاعی لأمیر المؤمنین: والله ما جئتک لمال من الدنیا تعطینیها ولا لالتماس السلطان ترفع به ذکری، إلاّ لأنّک ابن عمّ رسول الله، وأولی الناس بالناس، وزوج فاطمة سیّدة نساء العالمین، وأبو الذرّیة التی بقیت لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأعظم سهماً فی الجهاد، وأسبق الناس للإسلام من المهاجرین والأنصار، والله لو کلّفتنی نقل الجبال الرواسی، ونزح البحور الطوامی، أبداً حتی یأتی علیّ یومی وفی یدی سیفی أوهن به عدوک وأقوّی به ولیک ویعلو به الله کعبک ویفلج به حجّتک ما ظننت أنّی أدّیتُ من حقّک کلّ الحقّ الذی یجب لک علیّ. فقال أمیر المؤمنین:

«اللهمّ نوّر قلبه بالیقین، واهده إلی الصراط المستقیم، لیت فی شیعتی مائة مثلک».

ولا شکّ أنّ هذا الحدیث والذی سبقه، لیدلاّن وبشکل واضح وجلی علی ما تمتّع به هذا الرجل من الوعی والمعرفة والتوفیق إلی معرفة أئمّته، ولا غرابة فی ذلک لمن کان مصاحباً لأمیر المؤمنین وملازماً له علیه السلام.

إنّ الشهید الکربلائی کان موفّقاً کلّ التوفیق باختیاره لخلیلٍ من مستوی الشهید العظیم عمرو بن الحمق الخزاعی، وسیأتینا فی آخر بحثنا هذا، کیف استمرّت هذه العلاقة ولم تنتهِ حتی استشهد عمرو، واضطرّ الشهید الکربلائی إلی الفرار للنجاة بنفسه.

ص:131


1- (1) الاختصاص: ص 14.

مع الشهید الکربلائی فی روایاته

اشارة

لقد عدّ کلّ من کتب عن الشهید أنّه من جملة الرواة الثقات الذین نقلوا الأحادیث عن رسول الله وعن أهل بیته، وها نحن ننقل بعض ما ذکره لنا التاریخ من روایاته علّنا نوفّق للعمل بها.

الروایة الأولی: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فی حقه: «إنّ لکل حاضر بادیة، وبادیة آل محمد زاهر بن حرام الأشجعی وزاهر بن الأسود الأسلمی»(1). ولهذا الحدیث من رسول الله سبب وقصّة یذکرها المؤرّخون، حیث ینقل أنس بن مالک «أنّ رجلاً من أهل البادیة اسمه زاهر(2) ، وکان النبی صلی الله علیه و آله و سلم یحبّه وکان زاهر رجلاً دمیماً، وکان یهدی إلی النبی الهدیة من البادیة وکان النبی صلی الله علیه و آله و سلم یجهّزه إذا أراد أن یخرج من المدینة ویرجع إلی بادیته حیث یعیش ویقیم، فقال النبی صلی الله علیه و آله و سلم: «إنّ زاهراً بادیتنا ونحن حاضروه». وهذا فی واقع الأمر خلق کریم من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أولاً، کما أنّه فی نفس الوقت یشیر إلی خلق الشهید الکربلائی حیث لا یقدم علی رسول الله إلاّ ومعه بضائع البادیة یحملها ثانیاً، وکم هی جمیلة هذه العادة حینما تقدم علی أناس من سفر وتقدّم لهم بین یدیک هدیة ولو لم تکن کبیرة، لتدخل الفرحة فی قلوبهم، فهی ترمز إلی الکثیر من المعانی الإنسانیة الجمیلة ولهذا قالوا: الهدیة علی قدر هادیها لا علی قدرها.

ص:132


1- (1) تاج العروس: ج 10 ص 2913.
2- (2) یمکن أن یحمل علی الشهید الکربلائی، ویمکن أن یحمل علی الآخر، لأنّ کلاً منهما زاهر، وقد وردت الروایات بهما معاً، حیث تارة تعبّر عنه بزاهر الأشجعی وتارة بزاهر الأسلمی.
مزاح رسول الله مع الشهید الکربلائی

وینقل لنا التاریخ طرفة جمیلة صنعها رسول الله مع زاهر فی سوق المدینة، حیث یُنقل «أنّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم أتاه یوماً وهو یبیع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا یبصر، فقال الرجل: أرسلنی! مَن هذا؟ فالتفت فعرف النبی صلی الله علیه و آله و سلم فجعل لا یألوما ألصق ظهره بصدر النبی صلی الله علیه و آله و سلم حین عرفه، وجعل النبی صلی الله علیه و آله و سلم یقول (ممازحاً): من یشتری العبد؟ فقال: یا رسول الله، إذاً والله تجدنی کاسداً!(1) فقال النبی صلی الله علیه و آله و سلم لکنّک عند الله لست بکاسد، وفی روایة ولکنک عند الله غالٍ»(2).

مزاح رسول الله مع أصحابه

هذا هو خلق رسول الله مع أصحابه، فهو لم یکن بالفظ الغلیظ، بل کان سمحاً سهلاً بسیطاً مداعباً لهم، ولکنّه کان فی نفس الوقت اذا أقبل وقت الصلاة صار کأنّه لا یعرفنا ولا نعرفه. وقد نقل لنا التاریخ صوراً عن مزاح رسول الله لأصحابه ومزاحهم له صلی الله علیه و آله و سلم، طبعاً إذا کان المزاح مستجمعاً للضوابط والمعاییر الأدبیة والعرفیة، ولأجل إتمام الفائدة، نذکر بعض النماذج حتی تکون لنا منهجا نسیر علی أساسه:

أولاً: ینقل الترمذی وأبو داود(3) عن أنس، أنّ رجلاً أتی النبی وقال: یا رسول الله، احملنی، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: «انا حاملوک علی ولد ناقة، قال: وما أصنع بولد

ص:133


1- (1) کاسدة: بائرة، وکسد الشیء کساداً فهو کاسد وکسید. لسان العرب لابن منظور، مادة کسد.
2- (2) رواه أحمد فی مسنده: ح 17369.
3- (3) صحیح الترمذی: ح 1991. سنن أبی داود: ح 4998.

الناقة؟! فقال صلی الله علیه و آله و سلم: «وهل تلد الإبلَ إلاّ النوقُ؟».

حیث توهّم أنّ الولد لا یطلق إلاّ علی الصغیر الذی لا یصلح للرکوب، والحال أنّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم أراد الجنس لا السنّ.

ثانیاً: وروی النسائی(1) عن کعب بن مرّة قوله: سمعته صلی الله علیه و آله و سلم یقول: «إرموا! من بلغ العدوَّ بسهم رفعه الله به درجة» قال ابن النحّام یا رسول الله، وما الدرجة؟ قال: «أما إنّها لیست بعتبة أمّک، ولکن ما بین الدرجتین مائة عام».

ثالثاً: وممّن عُرف بالمزاح من الصحابة نعیمان بن عمرو، وکان لا یدخل المدینة طرفة أو فاکهة إلاّ اشتری منها وأکل بعضها وأهدی الباقی إلی رسول الله، فإذا جاء صاحبها یطلب ثمنها من نعیمان أحضره إلی النبی صلی الله علیه و آله و سلم وقال: أعط هذا ثمن متاعه، فیقول النبی: أولم تهده لی؟ فیقول: نعم، ولکن والله لیس عندی ثمنه، ولقد أحببت أن تأکله! فیضحک النبی ویأمر بالثمن إلی صاحبه.

ومن النوادر الأخری لهذا الرجل، «أنّ أعرابیاً دخل علی النبی صلی الله علیه و آله و سلم وأناخ ناقته بفنائه، وکانت ناقة فتیة سمینة، فقال له بعض الأصحاب: ُعیمان، لو عقرتها فأکلناها، فإنّا قد قرمنا(2) إلی اللحم، فقام نُعیمان وعقر الناقة، فخرج الأعرابی من عند رسول الله وصاح: واعقراه یا محمد! فخرج النبی صلی الله علیه و آله و سلم وقال: من فعل هذا؟ قالوا: النُعیمان، فأتبعه یسأل عنه حتی وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبیر بن عبد المطلب واستخفی تحت سرب لها (دکّة تکون خارج الغرفة) فوقه جرید فأشار

ص:134


1- (1) سنن النسائی: ح 3144.
2- (2) قرم إلی اللحم، أی اشتدّت شهوته له.

بعضهم إلی النبی ودلّه علی مکانه، فأمر بإخراجه وقال له: ما حملک علی ما صنعت؟ قال: الذین دلّوک علیّ یا رسول الله هم الذین قرموا إلی اللحم وأمرونی بعقر الناقة: فضحک رسول الله وجعل یمسح التراب عن وجهه، ثمّ غرم ثمنها للأعرابی»(1).

مزاح بلا تفریط ولا أفراط

ومن هنا نفهم أنّ علینا أنّ نجعل علاقتنا بالناس علاقة ملؤها الابتسامة، فلیس عیباً أن تمازح الناس مزاحاً لا إفراط فیه ولا تفریط، وإنّما العیب أن تکون عبوساً قمطریراً فی لیلک ونهارک وسرّک وإعلانک، والشهید الکربلائی أراد من خلال هذه الروایة وغیرها ان یوصل إلینا رسالة مفادها: کن لیّن الجانب، معاشراً ظریفاً هشّاً بشّاً بسّاماً، مع کیاسة، ولا تکن وَعِرَ الطبع مزهوّاً، ذا خشونة وجفاء.

الروایة الثانیة: روی ابن أبی شیبة فی المصنف(2) قال: حدّثنا محمد بن بشّار قال: حدّثنا مسعر قال: حدّثنا أبو حصین عن زاهر الأسلمی عن أبیه عن عبد الله کان یقول: «الرؤیا الصالحة الصادقة جزء من سبعین جزءاً من النبوّة».

الرؤیا الصالحة
اشارة

لابدّ لنا ونحن نقرأ هذه الروایة الشریفة عن الشهید الکربلائی، من الاعتراف بأنّ موضوع الرؤی والاحلام وما یراه الإنسان فی منامه، ما زال إلی یومک هذا محلّ اهتمام الإنسان بشکل کبیر، ولا نرید هنا أن ندخل فی بحث علمی حول نظریات الأحلام التی یطرحها العلماء، ولکننّا نحاول أن نأخذ رأی الإسلام فیها،

ص:135


1- (1) الإصابة: ج 6 ح 8794.
2- (2) المصنّف، کتاب الإیمان والرؤیا: ص 11.

من خلال القرآن والسنّة الشریفة رسول الله والأئمّة المعصومین علیهم السلام، لا سیّما فی الرؤیا الصالحة الصادقة، کما ینقلها ویتحدّث عنها الشهید، من حیث إنّ الرؤیا الصادقة حقیقة ثابتة فی القرآن والسنّة.

فقد تحدّث لنا القرآن الکریم عن جملة من الرؤی التی رآها الأنبیاء، کما ذکر رؤی لغیرهم، فقد تحدّث عن رؤیا رسول الله:

«لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْیا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ 1» .

ورؤیا یوسف علیه السلام:

«إِذْ قالَ یُوسُفُ لِأَبِیهِ یا أَبَتِ إِنِّی رَأَیْتُ أَحَدَ عَشَرَ کَوْکَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَیْتُهُمْ لِی ساجِدِینَ 2» .

ورؤیا السجینین:

«قالَ أَحَدُهُما إِنِّی أَرانِی أَعْصِرُ خَمْراً وَ قالَ الْآخَرُ إِنِّی أَرانِی أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِی خُبْزاً تَأْکُلُ الطَّیْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِیلِهِ إِنّا نَراکَ مِنَ الْمُحْسِنِینَ 3» .

وهکذا رؤیا الملک:

«إِنِّی أَری سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ یَأْکُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ یابِساتٍ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِی فِی رُءْیایَ إِنْ کُنْتُمْ لِلرُّءْیا

ص:136

تَعْبُرُونَ 1» .

إضافة إلی مجموعة کبیرة من الروایات، کالتی رواها الفریقان عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حیث یقول:

«الرؤیا ثلاثة: بشری من الله، وتحزین من الشیطان، والذی یحدّث به الإنسان نفسه فیراه فی منامه»(1)).

ومن ثم فإنّ الرؤیا الصادقة الصالحة التی لا تحتاج إلی تعبیر، أو تکون قابلة للتعبیر، وهی المُعبّر عنها بالبشری من الله تعالی، یراها الأنبیاء وغیر الأنبیاء من الصالحین، ولکنّها للأنبیاء بمثابة الوحی، فعن ابن عباس:

«إنّ أوّل ما ابتدأ به رسول الله من الوحی الرؤیا الصالحة فی النوم، وکان لا یری رؤیا إلاّ جاءت کفلق الصبح»(2)).

ویقول الإمام الباقر علیه السلام فی قول الله عزّ وجلّ:

«لَهُمُ الْبُشْری فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا4» .

قال:

«هی الرؤیا الحسنة یری المؤمن فیبشّر بها فی دنیاه»(3)).

ص:137


1- (2) بحار الأنوار: ج 58 ص 191.
2- (3) حلیة الأبرار: ج 1 ص 67 للسید هاشم البحرانی.
3- (5) الکافی: ج 8 ص 90.

حیث یعرف حسنها وصدقها باطمئنان قلبه وسکونه الذی ألقاه الله تعالی إلیه(1).

سؤال وجواب

وقبل أن نغادر هذه الروایة إلی روایة أخری لشهیدنا الکربلائی، أودّ أن أجیب عن سؤال ربّما یسأل عنه الکثیر، وهو کیف یمکن للإنسان أن یوفّق لرؤیا صالحة، وهل هناک آداب وسنن حتی تصبح منامات الإنسان ورؤیاه صالحة؟ أم أنّ الأمر خارج عنه بالمرّة؟

آداب وسنن التوفیق إلی الرؤیا الصالحة

وفی معرض الجواب نقول: لا شکّ ولا ریب أنّ هناک قسماً من الأحلام خارجة عن إرادة الإنسان، ولکن مع هذا فقد وضعت الشریعة مجموعة من الآداب والسنن نذکر منها:

ألف: أن ینام الإنسان علی طهارة، یقول الإمام علی علیه السلام:

«لا ینام المسلم وهو جنب، ولا ینام إلاّ وهو علی طهور».(2))

باء: أن یسبّح الإنسان قبل نومه تسبیحة الزهراء، وهو أربع وثلاثون تکبیرة، ثمّ ثلاث وثلاثون تحمیدة، ثمّ ثلاث وثلاثون تسبیحة(3).

ص:138


1- (1) شرح أصول الکافی: ج 11، ص 479.
2- (2) التحفة السنیة للفیض الکاشانی: ص 317.
3- (3) مفاتیح الجنان: ص 58.

جیم: أن یستعیذ بالله من الشیطان الرجیم ویذکر الله قبل نومه بتوجّه. إضافة إلی عوامل أخری کالوقت، حیث یکون اللیل فی رؤیاه أقوی من النهار فی رؤیاه، وکلّما قرب الوقت من الفجر کانت الرؤیا أکثر صدقاً وصلاحاً.

«فعن أبی بصیر قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: الرؤیا الصادقة والکاذبة مخرجهما واحد؟

فقال: صدقت، أمّا الکاذبة المختلفة فإنّ الرجل یراها أوّل لیله فی سلطان المردة والفسقة، وإنّما هی شیء یخیّل إلی الرجل، وهی کاذبة مخالفة لا خیر فیها؛ وأمّا الصادقة إذا رآها بعد الثلثین من اللیل مع حلول الملائکة، وذلک قبل السحر، فهی صادقة لا تختلف إن شاء الله إلاّ أن یکون جنباً أو علی غیر طهور، ولم یذکر الله عزّ وجلّ حقیقة ذکره، فإنّها تختلف وتبطئ علی صاحبها، فإن کان قد دخل فراشه وشقّ علیه الخروج للوضوء فلیتیمّم بغبار».(1))

الروایة الثالثة: روی ابن حجر وغیره(2) عن زاهر بن الأسود الأسلمی قال: «إنّی لأوقد تحت القدر بلحوم الحُمر إذ نادی منادی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إنّ رسول الله نهاکم عن لحوم الحُمر».

ص:139


1- (1) التحفة السنیة: ص 317.
2- (2) کتاب المغازی: ح 3835.
تحریم لحوم الحُمُر

وقبل أن ندخل فی دراسة هذا الحدیث الشریف للشهید الکربلائی، لابدّ من الإشارة إلی أنّ هذا الحدیث وغیره صدر فی غزوة خیبر، وقد اتّفق الفریقان علی جواز أکل لحوم الحُمر وإباحته قبل هذه الغزوة، وإنّما صار الکلام والخلاف بعد هذه الغزوة، حیث ذهبت المدرسة الأخری إلی حرمة تناول لحوم الحُمُر مستندین إلی القرآن الکریم.

حیث أشار فی سورة النحل إلی الفوائد المترتّبة علی الخیل والبغال والحمیر، ولم یذکر منها الأکل، بالإضافة إلی مجموعة من الأحادیث من بینها حدیث الشهید الکربلائی، ولنا علی هذا الاستدلال ما یلی:

أ. إنّ القرآن الکریم حینما یتحدّث عن فوائد الخیل والبغال والحمیر، وأنّها للرکوب والزینة، لا یرید الحصر، وإنّما هو فی مورد الحدیث عن أهمّ هذه الفوائد التی لها علاقة بحیاتهم، وخصوصاً حمل الأثقال فی السفر، ولهذا قال تعالی:

«وَ تَحْمِلُ أَثْقالَکُمْ إِلی بَلَدٍ لَمْ تَکُونُوا بالِغِیهِ إِلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ 1» .

ومن ثم لیس هناک لا من قریب ولا من بعید علی نفی الفوائد الأخری ومن ثم تبقی الإباحة، وهذا الذی ذکرناه هو عین ما ذکره القرطبی فی تفسیره، ولکنّه اقتصر علی الخروج بإباحة لحوم الخیل والبغال، وکان ینبغی علیه أن یذکر الحُمر کذلک، لأنّها علی نفس شاکلة الخیل والبغال. قال فی تفسیره:

ص:140

«قلت: الصحیح الذی یدلّ علیه النظر والخبر جواز أکل لحوم الخیل، وأنّ الآیة والحدیث لا حجّة فیهما لازمة؛ أمّا الآیة فلا دلیل فیها علی تحریم الخیل، إذ لو دلّت علیه لدلّت علی تحریم لحوم الحُمُر، والسورة مکیّة وأیّ حاجة کانت إلی تجدید تحریم لحوم الحُمُر عام خیبر، وقد ثبت فی الأخبار تحلیل الخیل علی ما یأتی، وأیضاً لمّا ذکر تعالی الأنعام ذکر الأغلب من منافعها وأهم ما فیها، وهو حمل الأثقال، ولم یذکر الرکوب ولا الحرث ولا غیر ذلک مصرحاً به، وقد ترکب ویحرث بها.

قال تعالی:

«اَلَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْکَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْکُلُونَ 1» .

وقال فی الخیل:

«لِتَرْکَبُوها وَ زِینَةً» .

فذکر أیضاً أغلب منافعها والمقصود منها، ولم یذکر حمل الأثقال علیها، وقد تحمل کما هو مشاهد فلذلک لم یذکر الأکل».(1)

وأمّا الروایات، وخصوصاً تلک التی تتحدّث عن القدور وانقلابها، فقد آمن بها علماؤنا ولکنّهم حملوها علی النهی التدبیری أو التنزیهی، وعلی کلّ منهما یکون مفاد النهی هو الکراهة لا الحرمة.

خصوصاً وأنّ التعلیل فی هذا النهی کما فی بعض الروایات هو لأجل الظهر

ص:141


1- (2) تفسیر القرطبی، آیة: 8.

(الرکوب ونقل الأثقال علیها)، أو لأنّها کانت تأکل العذرة فتکون من الحیوانات الجلّالة التی لا یجوز أکلها حتی تستبرئ مدّة من الزمن.

فقد ورد عن أنس قوله: لما کان یوم خیبر أُتِیَ فقیل له: یا رسول الله، فنیت الحُمُر، فأمر أبا طلحة فنادی أنّ الله ورسوله ینهاکم عن لحوم الحُمُر(1).

وممّا یؤیّد ذلک، الروایة التی تقول إنّ المسلمین أصابهم جوع ومخمصة فی غزوة خیبر، حیث یروی البخاری ومسلم عن سلمة قوله:

«أتینا خیبر فحاصرناها حتی أصابتنا مخمصة شدیدة - یعنی جوع شدید - ثمّ إنّ الله فتحها علینا، فلما أمسی الناس مساء الیوم الذی فتحت علیهم أوقدوا نیراناًً کثیرة، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ما هذه النیران؟ علی أیّ شیء توقدون؟ قالوا: علی اللحم قال علی أیّ لحم؟ قالوا: لحم حمر أنسیّة، فقال رسول الله: أهرقوها واکسروا الدنان»(2)).

ومن ثم خاف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن تفنی مراکب المسلمین، والمعبّر عنها بالظهر فی الروایة، التی یحتاجونها لنقل البضائع والأسلحة والأمتعة، خصوصاً وهم فی حرب، وربما هذا هو الذی یفسّر لنا خوف الراوی حینما جاء إلی رسول الله فأخبره بأنّ الحُمُر قد فنیت، فأصدر النبی صلی الله علیه و آله و سلم عند ذلک أوامره بقلب القدور.

ص:142


1- (1) الطبرانی فی الکبیر: ج 5 ص 316.
2- (2) مسلم: ج 3 ص 1540، البخاری: ج 5 ص 72.

وقد یقال بأنّ النبی کان بإمکانه أن یدعهم یأکلون ما وضعوه فی القدور ثمّ یأتی الأمر والنهی لهم بعدم الأکل فی المستقبل؟ وهنا یمکن أن یکون الجواب بأنّ هذا النهی، وفی مثل تلک الظروف الصعبة، حیث المخمصة والأضرار، له أبلغ الأثر فی التأکید علی المنع، بحیث لا یدعهم یمیلون بعدها إلی الإباحة. بل ربما یفهم من هذا الموقف أنّه صلی الله علیه و آله و سلم قد أمر بذلک قبل هذه المرّة، ولمّا لم یجد استجابة واضحة، قام بهذا العمل بشکل لا یدع مجالاً للشکّ فی أنّ النبی لا یرید ذبح الحُمُر؛ لحاجتهم إلیها. وقد وردت روایة عن الإمام الباقر تعضد ما ذهبنا إلیه، حیث یقول:

«نهی رسول الله عنها یوم خیبر، وإنّما نهی عن أکلها فی ذلک الوقت لأنها کانت حمولة الناس وانما الحرام ما حرّم الله عزّ وجلّ فی القرآن»(1)).

فإذا کان الأمر کذلک، فتکون هذه الروایة للشهید الکربلائی صحیحة، ولکنّ النهی فیها یکون محمولاً علی الکراهة لا الحرمة، کما هو مشهور علمائنا. وقد جاء فی الروضة البهیة:

«یکره أکل الخیل والبغال والحمیر الأهلیة فی الأشهر وآکدها کراهةً البغل؛ لترکیبه من الفرس والحمار، وهما مکروهان، فجمع الکراهتین، ثمّ الحمار»(2).

ص:143


1- (1) الکافی: ج 6 ص 246، علل الشرائع: ص 563.
2- (2) شرح اللمعة: ج 2 ص 277.

نعم، إلی هنا تکون روایة الشهید موافقة لروایات أهل البیت علیهم السلام ومنسجمة مع احکامهم، ولکنّ المدارس الأخری لم یکتفوا بتحریمها تحریماً باتّاً، بل قالوا بأنّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم نهی عن لحوم الحُمُر ونهی کذلک عن الزواج المؤقّت، والذی عرف (بالمتعة)، وذکروا فی ذلک روایات لا یمکن أن تصمد أمام البحث الموضوعی، من حیث عدم اعتبارها عندهم قبل کونها غیر معتبرة عندنا. یقول أبو عمر بن عبد البرّ: «ذکر المتعة یوم خیبر غلط والأقرب أن یکون هذا من غلط ابن شهاب والله أعلم»(1).

وقال ابن القیّم: «قصّة خیبر لم یکن فیها الصحابة یتمتّعون بالیهودیات ولا استأذنوا رسول الله فی ذلک، ولا نقله أحد قطّ فی هذه الغزوة، ولا کان للمتعة فیها ذکر البتّة، لا قولاً ولا تحریماً»(2).

نعم هم نسبوا إلی علی علیه السلام قوله: «إنّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم نهی عن لحوم الحُمر ونهی عن المتعة»، وهذا لعمرک من اکبر العجب حیث إنّ المؤرّخین جمیعاً نقلوا حدیثاً لعلی علیه السلام یعترض فیه علی عمر وعلی منعِهِ المتعة، حیث یقول: «لولا أنّ عمر نهی عن المتعة ما زنی إلاّ شقی»(3) ، ثمّ یکون هناک نداء فی خیبر ولا یسمعه إلا علی ابن أبی طالب! وإذا کان الأمر کذلک، فلم کتمه حتی علی ولدیه الحسن والحسین؟! ومن أراد المزید فلیرجع إلی مظانّه من الکتب الفقهیة لعلمائنا الأعلام.

ص:144


1- (1) التمهید: ج 9 ص 99.
2- (2) زاد المعاد: ج 2 ص 143.
3- (3) تفسیر الرازی: ج 10 ص 50، الدّر المنثور: ج 2 ص 140.
جهاده

لقد کان للشهید الکربلائی دور بارز منذ إسلامه المبکر، قبل أن یصل النبی إلی المدینة أو بعد وصوله مباشرة، حیث آمن مع قومه کما تقدّم، إذ وقف إلی جانب الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم فی حروبه وغزواته، ولقد أکّد المؤرّخون ومن ترجم للشهید الکربلائی، أنّه شارک فی خیبر وما بعدها من المعارک، ابتداءً من حنین وفتح مکّة والطائف وغیرها، وقد أبلی فی هذه المعارک البلاء الحسن، حتی قال عنه العلماء: «إنّه کان مجرّباً وشجاعاً»(1) ، وکلّما کانت اشتدّت الأحوال بالمسلمین وأخذت فرائص البعض وقلوبهم ترتعد خوفاً، کان هو من الذین یعیشون الثبات والیقین وعدم الخوف، وبخاصّة حینما لازم إمامه علی بن أبی طالب علیه السلام، کیف لا وهو أوحد زمانه فی الثبات والشجاعة وقوّة القلب ورباطة الجأش، لا یعبأ بالأعداء مهما نصبوا له من غوائل مکرهم، وقد رآه وهو یجندل مرحباً فی تلک الحرب الشرسة، ثم زحف إلی حصون الیهود واقتلع باب خیبر، ویُنقل أنّ مرحباً نزل وهو یقول: َن المبارز حیث جرت العادة ان تحصل هناک مبارزة فردیة قبل بدایة الهجوم، فنزل یقول:

قد علمت خیبر أنّی مرحبُ شاکی السلاح بطلٌ مجرَّبُ

یقول الطبری فی تاریخه:

«عن بریدة الأسلمی قال: کان رسول الله حین نزل بحصن خیبر أعطی اللواء عمر بن الخطاب، ونهض من نهض معه من الناس فلقوا أهل خیبر، فانکشف عمر

ص:145


1- (1) إبصار العین: ص 135.

وأصحابه فرجعوا إلی رسول الله یجبّنه أصحابه ویجبّنهم، فقال عندها رسول الله: «لأعطینّ الرایة غداً رجلاً یحبّ الله ورسوله ویحبّه الله ورسوله، فلمّا کان من الغد تطاول لها أبو بکر وعمر، فدعا علیاً وهو أرمد، فتفل فی عینیه وأعطاه اللواء، ونهض معه من الناس من نهض، قال: فلقی أهل خیبر، فإذا مرحب یرتجز - وقد سمعت أرجوزته - فأجابه علی علیه السلام:

أنا الذی سمّتنی أمی حیدرة أکیلکم بالسیف کیل السندرة

لیثٌ بغاباتٍ شدیدٌ قسورة

فاختلف هو وعلیّ ضربتین، فضربه علیّ علی هامته حتی غصّ السیف منها بأضراسه، وسمع أهل المعسکر صوت ضربته، فما تتامّ آخر الناس مع علیّ حتی فتح الله له ولهم»(1).

الشهید الکربلائی وبیعة الشجرة (الرضوان)

وقد عدّ العلماء الشهید الکربلائی من أصحاب بیعة الشجرة، والمعبّر عنها بیعة الرضوان، سنة 6 للهجرة، حینما أراد رسول الله أن یؤدّی العمرة، ولقد اکتسب من بایع من المسلمین رسول الله تحت الشجرة مکانة خاصّة، حیث إنّها کانت تمثّل التأیید والمؤازرة الکبیرة للنبی صلی الله علیه و آله و سلم، حیث عاهدوه علی السمع والطاعة والقتال بین یدیه حتی الموت، ولا شکّ أنّ لهؤلاء مزیّة السبق، إلاّ أنّنا قد نختلف مع من یصل به التقدیس لأصحاب بیعة الشجرة إلی درجة أن یعطیهم صفة العدل، ویجعلهم من المغفور لهم والمرضی عنهم من قبل الله مهما فعلوا ومهما

ص:146


1- (1) تاریخ الطبری: ج 3 ص 93، مسلم: ج 5 ص 195.

بدّلوا بعد ذلک، استناداً إلی قوله تعالی:

«لَقَدْ رَضِیَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِینَ إِذْ یُبایِعُونَکَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ 1» .

قد نختلف مع من یذهب به الغلوّ إلی هذا الحدّ ولکنّها لا شکّ فضیلة لمن وفی ببیعته وثبت علیها ولم یخالف ولم ینکث، وکان مصداقاً لقول الله بعدها:

«وَ مَنْ أَوْفی بِما عاهَدَ عَلَیْهُ اللّهَ فَسَیُؤْتِیهِ أَجْراً عَظِیماً2» .

وکان الشهید زاهر من أولئک الذین ثبتوا ولم یبدّلوا فی زمن رسول الله ولا بعده صلی الله علیه و آله و سلم، وکان لصحبته عمرو بن الحمق الخزاعی دور فی الوقوف بوجه الانحرافات التی دبّت فی جسد الأمة بعد رسول الله.

الشهید الکربلائی والثورة علی عثمان

وهنا ربما لا نجد فی هذه الحقبة تحدیداً یشیر إلی مکانه من الأحداث ومواقفه التاریخیة، ولکنّنا یمکن أن نلمسها ونحسّ بها من خلال حرکة صاحبه وصدیقه الملازم له کظله عمرو بن الحمق الخزاعی، والذی کان له دور کبیر فی الوقوف بوجه الفساد الکبیر الذی حصل فی زمن الخلیفة عثمان، والذی وصل إلی درجة أصبح معها السکوت عنه یضرّ بالاسلام والمسلمین، فأخذ بتألیب المسلمین علیه وعلی بطانة السوء التی کانت تتحرّک تحت عباءته، وکان الشهید الکربلائی یضع قدمه حیث یضعها عمرو بن الحمق، وکان للشهید الکربلائی دور کبیر فی هذه الثورة، لأنّ عمرو بن الحمق الخزاعی کان له دور القیادة، حیث عُدّ

ص:147

من جملة قیادات الثورة،(1) ولهذا حینما جاء زیاد بن أبیه بعد ذلک لم یکن له همٌّ إلاّ طلبه، فخرج عمرو ومعه زاهر وجعلا یتنقّلان من مکان إلی مکان خشیة أن یلقی زیاد علیهما القبض(2). فخرجا من الکوفة إلی أن وصلا إلی رجل مقعد کان أمیر المؤمنین علیه السلام قد أخبر عمرو بن الحمق أنّک ستمرّ به فتستسقیه فیسقیک، ویسألک عن شأنک، فأخبره وادعه إلی الإسلام، فإنّه سوف یسلم، وامسح بیدک علی ورکیه فإنّ الله یمسح ما به وینهض قائماً فیتّبعک، وتمرّ برجل أعمی علی ظهر الطریق، فتستسقیه فیسقیک ثمّ یسألک عن شأنک، فأخبره وادعه إلی الإسلام فإنّه یسلم، وامسح بیدیک علی عینیه فإنّ الله عزّ وجلّ یعید إلیه بصره، فیتّبعک. ففعل عمرو بن الحمق الخزاعی کلّ الذی قاله له أمیر المؤمنین، ولمّا وصلا قریباً من الحصن نزلا ثمّ دخلا إلی الغار، وانفلت فرس عمرو بن الحمق وذهب، فرآه القوم فقالوا: هذا فرسه وهو قریب، فطلبه الرجال فأصابوه فی الغار. یقول صاحب شجرة طوبی:

«إنّ الحیّة نهشت عمرو بن الحمق الخزاعی فی الوادی فی جوف اللیل فأصبح منتفخاً فقال: یا زاهر، تنحّ عنی، فإنّ حبیبی رسول الله أخبرنی أنّه سیشترک فی دمی فسقة من الإنس والجنّ (علی أساس أنّ الحیّة کانت من فسقة الجنّ کما فی الروایة) ولابدّ لی أن أقتل، فبینما هما کذلک اذ رأیا نواصی الخیل فی طلب عمرو فقال: یا زاهر، تغیب فإذا قتلت فإنّهم سوف یأخذون رأسی، فإذا انصرفوا

ص:148


1- (1) للمزید راجع کتاب «وانحدر الجمل من السقیفة» للأستاذ نبیل فیاض: ص 81.
2- (2) راجع کتاب صلح الإمام الحسن للسید عبد الحسین شرف الدین: ص 345.

فاخرج إلی جسدی فواره، فقال له زاهر: لا، بل أنثر نبلی ثمّ أرمیهم به، فإذا فنیت نبالی قتلت معک، قال: لا، بل تفعل ما سألتک ینفعک الله به، فاختفی زاهر. وأتی القوم فقتلوا عمراً واحتزّوا رأسه، فلمّا انصرفوا خرج زاهر فواری جسده. فوفّق لمواراة جسد عمرو ودفنه»(1).

یقول الحائری، بعد ذکره الروایة السابقة:

«ثمّ ساقته السعادة إلی أن رزق الشهادة فی نصرة الحسین، وبقی حتی قتل مع الحسین علیه السلام، والحجّة عج الله تعالی فرجه الشریف یسلّم علیه فی زیارة الناحیة: السلام علی زاهر مولی عمرو بن الحمق الخزاعی.

وقول عمرو بن الحمق الخزاعی له: تفعل ما سألتک ینفعک الله به، إشارة إلی أنّک سترزق الشهادة فی مقام أحسن من هذا المقام، وهو طفّ کربلاء مع سیّد الشهداء علیه السلام فی نصرة ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. نعم والله، فکأنّ الحسین کما هو سیّد الشهداء فکذلک أصحابه سادات الشهداء، وفی الخبر: الشهید معه کالشهید مع الأنبیاء، مقبل غیر مدبر، فطوبی لهم وحسن مآب».(2)

أولاده وأحفاده

لقد ذکر لنا التاریخ أنّ للشهید الکربلائی ولداً اسمه مجزأة، وکان من جملة الرواة الثقات الذین نقلوا جملة من الأحادیث، حتی أنّ ابن حجر یقول فیه:

«مجزأة بفتح أوّله وسکون الجیم وفتح الزای بعدها همزة مفتوحة، ابن زاهر

ص:149


1- (1) شجرة طوبی للشیخ محمّد مهدی الحائری: ج 1 ص 82-84 (بتصرّف یسیر).
2- (2) نفس المصدر: ص 84.

ابن الأسود الأسلمی الکوفی، ثقة من الرابعة»(1).

ویقول البردیجی فی طبقات الأسماء المفردة من الصحابة والتابعین:

«مجزأة بن زاهر، یروی عنه رقیة بن مصقلة وشعبة الکوفی»(2). ولقد حفلت کتب الحدیث بروایات ولد الشهید الکربلائی، نحاول أن نسلط الأضواء علی بعضها:

أولاً: روی عنه مسلم فی صحیحه، فی باب ما یقوله عند الرکوع:

«عن مجزأة بن زاهر، عن عبد الله بن أبی أوفی، عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم أنّه یقول:

«اللهمّ لک الحمد ملء السماوات ولک الحمدُ ملء الأرض وملء ما شئت من شیء بعد، اللهمّ طهّرنی بالثلج والبَرَد والماء البارد، اللهمّ طهّرنی من الذنوب والخطایا کما ینقّی الثوب الأبیض من الدنس».(3))

ثانیاً: یقول ابن حجر فی الإصابة:

«روی مجزأه بن زاهر، عن أبیه عن ناجیة بن جندب قال: أتیت النبی صلی الله علیه و آله و سلم حین صُدّ عن الهدی، قلت: یا رسول الله، إبعث معی بالهدی حتی أنحره فی الحرم، قال: وکیف تصنع؟ قال: قلت: أخذ فی أودیة لا یقدرون علیّ، قال: فدفعه إلیّ فنحرته فی الحرم».(4)

ص:150


1- (1) تقریب التهذیب: ح 6485.
2- (2) ص 3.
3- (3) صحیح مسلم: ح 1097.
4- (4) الإصابة: ج 6 ح 8648.

ثالثاً: «عن مجزأة بن زاهر، عن رجل منهم من أصحاب الشجرة اسمه أهبان ابن أوس، وکان اشتکی رکبته، فکان اذا سجد جعل تحت رکبته وسادة».(1)

وینقل التأریخ أنّ للشهید الکربلائی ولداً آخر اسمه سنان بن زاهر الأسلمی، وقد بذلت جهدی للحصول علی معلومات حوله فلم أجد بحسب تتبّعی شیئاً، ولکنّی وجدت أنّ لسنان هذا حفیداً اسمه محمد، عرف بین الرواة بأنّه محمد بن سنان، حیث نسبوه إلی جدّه الأول الذی تربّی فی أحضانه بعد وفاة أبیه (الحسن ابن سنان) مبکّراً وربما نسبه بعضهم إلی الزاهری، وذلک نسبةً إلی جدّه الثانی، وهو الشهید الکربلائی، وقد اشتهر اسم هذا الراوی (محمد بن سنان الزاهری) فی کتب الحدیث، لکثرة روایاته عن أهل البیت، وفی مجالات مختلفة نذکر منها:

1. «روی ابن طاووس فی الإقبال، عن حفید الشهید الکربلائی، محمد بن سنان الزاهری، عن الإمام الصادق، الدعاء المشهور الذی یدعی به فی غرّة رجب وفی کلّ یوم من أیّامه وهو قوله علیه السلام:

«خاب الوافدون علی غیرک، وخسر المتعرّضون إلاّ لک، وضاع الملمّون إلاّ بک، وأجدب المنتجعون إلاّ من انتجع فضلک بابک مفتوح للراغبین، وخیرک مبذول للطالبین، وفضلک مباح للسائلین، ونیلک متاح للآملین، ورزقک مبسوط لمن عصاک، وحلمک معترض لمن ناواک، عادتک الإحسان إلی المسیئین، وسبیلک الإبقاء علی المعتدین، اللهمّ فاهدنی هدی المهتدین،

ص:151


1- (1) رواه البخاری فی صحیحه: ح 3940.

وارزقنی اجتهاد المجتهدین، ولا تجعلنی مع الغافلین المبعدین، واغفر لی یوم الدین».(1))

2. «محمد بن سنان قال: دخلت علی أبی الحسن موسی علیه السلام قبل أن یحمل إلی العراق بسنة، وعلی ابنه بین یدیه، فقال لی:

یا محمد، قلت: لبیک، قال: إنّه سیکون فی هذه السنة حرکة ولا تخرج منها، ثمّ أطرق ونکت الأرض بیده ثمّ رفع رأسه إلیّ وهو یقول: ویضلّ الله الظالمین ویفعل الله ما یشاء، قلت: وما ذاک جعلت فداک؟ قال: من ظلم ابنی هذا حقّه وجحد إمامته من بعدی کان کمن ظلم علی بن أبی طالب حقه وإمامته من بعد محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فعلمت أنّه قد نعی إلیّ نفسه ودلّ علی ابنه، فقلت: والله، لئن مدّ الله فی عمری لأسلّمنّ إلیه حقّه، ولاقرّنّ له بالإمامة، وأشهد أنّه حجّة الله من بعدک علی خلقه، والداعی إلی دینه، فقال لی: یا محمد، یمدُّ الله فی عمرک وتدعو إلی إمامته وإمامة من یقوم مقامه من بعده، فقلت: ومن ذاک جعلت فداک؟ قال: محمد ابنه، قلت: بالرضا والتسلیم، فقال: کذلک وقد وجدتک فی صحیفة أمیر المؤمنین، أما إنّک فی شیعتنا أبین من البرق فی اللیلة الظلماء، ثم قال: یا محمد، إنّ المفضّل أنسی ومستراحی، وأنت

ص:152


1- (1) إقبال الأعمال لابن طاووس: ج 3 ص 209. مصباح المتهجّد: ج 2 ص 801.

أنسهما ومستراحهما، حرام علی النار أن تمسّک أبداً».(1))

ولا شکّ ولا ریب أنّ هذه الروایة تدلّل وبشکل واضح، أنّ الرجل فی غایة الوثاقة والإیمان، وأنّه من الموالین حقّاً، حتی ورد عن الإمام الجواد علیه السلام فی حقّه مدح عظیم، وحتی قال السیّد الخوئی فی حقّه:

«المتحصّل أنّه کان من الموالین، وممّن یدین الله بموالاة أهل بیت نبیه صلی الله علیه و آله و سلم فهو ممدوح، فإن ثبت فیه شیء من المخالفة فقد زال ذلک، وقد رضی عنه المعصوم علیه السلام، ولأجل ذلک عدّه الشیخ ممّن کان ممدوحاً حسن الطریقة»(2).

وحتی من ضعّفه، ربما لأجل ما کان ینقله من علوم أهل البیت علیهم السلام. والتی لا یطیقها إلاّ الخواصّ، ولا یفهمها إلاّ من شرح الله صدره للإیمان، ومن ثم یُفتتن فیها الأعمّ الأغلب، فلا تحظی بالقبول، بل ترفض ویرفض معها الراوی، وربما لأجل ذلک یقول السیّد نعمة الله الجزائری: «إنّ أبا ذرّ لو علم کلّ ما علمه سلمان لم یمکنه کتمانه، فإذا أظهره قتله الناس، لعدم فهمهم لمعانیه، کما اتّفق ذلک فی کثیر من خواصّ أئمّة أهل البیت، کمحمد بن سنان، وجابر الجعفی، ممّن اتّهمهم أهل الرجال بالغلو وارتفاع القول، وذلک لأنّ الأئمّة علیهم السلام ألقوا إلیهم أسرار علومهم ما لم یعطوه أحداً غیرهم من الشیعة، فاستغرب الشیعة تلک الأخبار، لعدم موافقة غیرهم لهم علی روایتها، فطعنوا علیهم لهذا السبب».(3)

ص:153


1- (1) معجم رجال الحدیث للسیّد الخوئی: ص 17، محمد بن سنان.
2- (2) نفس المصدر: ص 17، محمد بن سنان.
3- (3) الأنوار النعمانیة: ج 4 ص 31.
شهادته

عاش زاهر بعد صاحبه الشهید عمرو قرابة العشر سنین، قضاها متخفّیاً ومتنقّلاً من بلدٍ إلی بلد، وهکذا حال الدنیا التی أبت إلاّ أن تکون دار بلاء للمؤمن. وشاءت الأقدار أن یلتقی زاهر بالحسین علیه السلام فی مکّة مع الحجیج، وإذا به یراه من بعید فیتهلّل وجهه فرحاً وکأنّه علی موعدٍ مع الحبیب انتظره طویلاً، وأخذا یتبادلان مشاعر الألم والحسرة علی ما أصاب الأمّة من سطوة اللئام، وتسلّط الطغاة من بنی أمیّة وعلی رأسهم یزید الفسق والفجور، وکشف الحسین علیه السلام لزاهر عن مشروعه فی الثورة وإذا به یتهلّل وجهه من جدید، ویستقبل الخبر بالترحیب، ویعاهد الحسین علیه السلام علی الخروج معه ونصرته، وبذل النفس والمال من أجله، وهکذا کان.

یقول المامقانی: «إنّ زاهراً حجّ سنة ستّین للهجرة، فالتقی بالحسین علیه السلام وصحبه، وکان ملازماً له حتی حضر معه کربلاء واستشهد بین یدیه، وکانت شهادته فی الحملة الأولی»(1).

ومن ثم أبت نفسه الشریفة علی کبر سنّه إلاّ أن تنال الشهادة، فیختلط دمه مع تلک الدماء الطاهرة التی سالت علی أرض کربلاء، لتکون مناراً للسالکین فی الظلام، وطریقاً یسیر علیه الأولیاء، ومنهجاً یتمسک به المؤمنون، فسلام علیک یا زاهر، یا من أزهرت بموقفه یوم عاشوراء قلوب المؤمنین، السلام علیک أیّها العبد الصالح یوم ولدت ویوم استشهدت ویوم تبعث حیاً.

ص:154


1- (1) مستدرکات علم رجال الحدیث للشیخ علی النمازی: ج 3 ص 416.

الشهید یزید بن مَغْفَل المزنی الأزدی علیه السلام

أسم الشهید واسم أبیه ونسبه

اشارة

لقد اتّفق العلماء علی اسم الشهید وعلی اسم أبیه، واختلفوا فیما بینهم فی نسبته، حیث ذهب بعضهم إلی أنه جعفی مذحجی، کالسید الزنجانی فی وسیلة الدارین(1) ، والشیخ السماوی فی أنصار الحسین(2) ، وآخرین.

بینما ذهب آخرون إلی أنّه مزنی، کابن کثیر، وأحمد فی مسنده(3).

وقد ذکر الطبری وهو یتحدّث عن أحداث المختار وما صنعه مع قتلة الحسین علیه السلام بأنّه أزدی(4).

وانفرد ابن حجر فی نسبة الشهید إلی أنّه عامری(5).

ص:155


1- (1) وسیلة الدارین: ص 214.
2- (2) أنصار الحسین: ص 120.
3- (3) ابن کثیر فی البدایة والنهایة: ج 8 تحت عنوان عبد الله بن معفل المزنی. مسند أحمد: ح 16184.
4- (4) تاریخ الطبری، أحداث سنة 67 ح 6.
5- (5) الإصابة: ج 5 ص 9422.

وإن کان المشهور عنه فی کتب التاریخ والحدیث أنّه المزنی، ممّا یقوّی هذه النسبة دون غیرها.

اللهمّ إلاّ أن یقال بأنّ جعفاً وعامراً ترجع إلی الأزد، فأطلق علیه تارة الجعفی وتارة العامری والأزدی، وهو ممکن فی حدّ ذاته.

ولکنّنا سوف نمیل إلی ما مال الیه جمهور العلماء من أنّه المزنی الأزدی، خصوصاً وأنّهم حینما یتحدّثون عن أبیه - کما سیأتینا - ینسبونه إلی المزنی کذلک، وهکذا إخوته، وعلی کلّ حال فإن الإنسان مهما نسب إلی ما نسب إلیه، تبقی أعماله ومواقفه هی الرافعة أو الخافظة له دون قبیلته وعشیرته، وإن کان لهما دور فی صقل الشخصیة وإعدادها سلباً أو إیجاباً.

ولقد تمیّز الشهید یزید بن مَغْفَل المزنی بجملة من المواقف العظیمة، جعلت منه علماً من أعلام التاریخ وصانعاً من صنّاع الحیاة، ویکفیه فخراً أن صار سلام المُسلّم علی الحسین مقترناً بسلامه علیه، حین یقول: السلام علی الحسین وعلی علی بن الحسین وعلی أولاد الحسین وعلی أصحاب الحسین، ولکنّنا وقبل أن نسلّط الأضواء علی هذه الشخصیة الفذّة، نحاول أن نسلّط الأضواء علی أسرته الکریمة صاحبة المبادئ والقیم، والتی عشقت الإسلام والرسالة عشقاً صادقاً وحقیقیّاً.

والد الشهید

ورد فی ترجمة والد الشهید الکربلائی أنّه کان صحابیاً جلیلاً محبّاً وعاشقاً لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأنّه دخل فی الإسلام واشترک مع رسول الله فی غزواته وحروبه،

ص:156

ولکن حینما تجهّز هذا الوالد للذهاب مع رسول الله إلی فتح مکّة فی السنة الثامنة للهجرة، شاءت الأقدار لروحه أن تحلّق إلی بارئها، حیث أتته المنیة قبل الفتح. یقول ابن حجر:

«مَغْفَل بن عبد نهم بن عفیف المزنی، والد عبد الله بن مَغْفَل الصحابی المشهور، وهو عمّ عبد الله ذی البجادین، ومات عام الفتح قبل دخولهم مکّة. ذکر ذلک أبو جعفر الطبری»(1).

ولکنّی أقول، وإن مات مَغْفَل فی بدایة الدعوة إلی الله ولم یر فتح مکّة، وکان یتمنّی أن یشارک فی تحریر بیت الله الحرام من الأرجاس والأوثان فقضی أجله قبل ذلک، فلقد ترک أولاداً وإخوة کان لهم دور کبیر فی نصرة الإسلام والوقوف إلی جانب آل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ابتدأً من علی علیه السلام إلی سیّد الشهداء ومن بعده.

عمّ الشهید الکربلائی
اشارة

ینقل المؤرّخون أنّه کان للشهید الکربلائی أعمام یُفتخر بهم وبمواقفهم، وتشرئبّ الأعناق لمواقفهم الصادقة وشجاعتهم المتمیّزة، ومن هؤلاء الأعمام:

أولاً: عبد الله بن عبد نهم المعروف بذی البجادین

حیث ولد هذا الصحابی فی جبل ورقان، علی یمین الراکب من المدینة المنورة إلی مکّة المکرمة، وکان اسمه «عبد العزّی»، ولد لأبوین فقیرین، ومات

ص:157


1- (1) الإصابة: ج 6 ص 8173.

والده وهو صغیر، ولکن کان له عمّ علی قدر کبیر من الغنی والثراء، فتبنّاه وکفله عمّه، فلمّا قدم رسول الله المدینة جعلت تتوق نفسه إلی الإسلام وهو یتلقی الأخبار عنه من الناس، ولکنّه لا یقدر أن یسلم لأجل عمّه.

یقول المؤرّخون «بأنّ السنین قد مضت، والمشاهد کلّها، وانصرف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم راجعاً من فتح مکّة، وکان عبد الله قد ضاق ذرعاً بعمّه، فالتفت یوماً إلی عمّه وقال له: یا عمّ، لقد انتظرت إسلامک فلم أرک ترید محمداً، فأذن لی فی الإسلام، فقال: والله لئن اتّبعت محمداً لا أترک بیدک شیئاً کنت أعطیتکه إلاّ نزعته منک، حتی ثوبیک، فقال: فأنا والله متّبع محمداً وتارک عبادة الحجر والوثن، وهذا ما بیدی فخذه، فأخذ کلّ ما أعطاه حتی جرّده من إزاره، فأتی أمّه فقطعت له بجاداً لها باثنین، فائتزر به وارتدی الآخر، ثمّ أقبل إلی المدینة وکان ورقان، وهو جبل من جبال المدینة فاضطجع فی المسجد فی السحر، فصلی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الصبح، وکان من عادته أن یتصفّح وجوه الناس اذا انصرف من الصلاة، فنظر الیه فأنکره فقال: من أنت؟ فانتسب له، وکان اسمه عبد العزّی، فقال: أنت عبد الله ذو البجادین(1) ، ثمّ قال: انزل منّی قریباً، فکان فی ضیافته یعلّمه القرآن، حتی قرأ قرآناً کثیراً، وکان رجلاً صَیّتاً، فکان یقوم فی المسجد فیرفع صوته بالقراءة، فقال عمر: یا رسول الله، ألا تسمع هذا الأعرابی یرفع صوته بالقرآن حتی منع الناس من القراءة، فقال: دعه یا عمر، فإنّه خرج مهاجراً إلی الله ورسوله»(2).

ص:158


1- (1) البجاد: کساء غلیظ.
2- (2) راجع سبل الهدی والرشاد للصالحی، ج 5، ص 459.

یقول الأدرع: «کنت أحرس النبی صلی الله علیه و آله و سلم، فخرج ذات لیلة لبعض حاجته قال: فرآنی فأخذ بیدی فانطلقنا فمررنا علی رجل یصلّی یجهر بالقرآن، فقال النبی صلی الله علیه و آله و سلم: «عسی أن یکون مرائیاً» قال: قلت: یا رسول الله، یصلّی یجهر بالقرآن! قال: فرفض یدی ثمّ قال: «إنّکم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة». ثمّ خرج ذات لیلة وأنا أحرسه لبعض حاجته، فأخذ بیدی فمررنا علی رجل یصلّی یجهر بالقرآن، فقلت عسی أن یکون مرائیاً، فقال النبی صلی الله علیه و آله و سلم: کلا، إنّه أوّاب، قال: فنظرت فإذا هو عبد الله ذو البجادین (عمّ الشهید الکربلائی)».

ومع أنّ عمر ذی البجادین آنذاک لم یتجاوز الثمانی عشرة سنة، أی إنّه فی عمر الشباب، والإنسان عادة فی مثل هذا العمر یحلم ببناء مستقبله، من بیت وأسرة وأولاد وتجارة وما شاکل ذلک، ولکنّ هذا الشاب لم یکن لیهتمّ بذلک مطلقاً، بل کان همّه الشاغل هو حبّ الله ورسوله، الذی لم یدعه یهدأ، فکان بین الفینة والأخری یطلب من الله أن یرزقه الشهادة فی سبیله.

وتمرّ الأیّام، وتأتی معرکة تبوک، ویتجهّز المسلمون للقتال، صادف أنّ ذا البجادین کان مریضاً بالحمّی، ومع ذلک یلبس ملابس الحرب ویأتی إلی رسول الله ویطلب منه الإذن فی الذهاب معه إلی المعرکة ویقول له: یا رسول الله، ادعُ الله لی بالشهادة.

فلمّا رآه النبی ربط علی عضده عوذة وقال: اللهمّ إنّی أحرّم دمه علی الکفّار، فقال: لیس هذا ما أردت یا رسول الله، فقال له النبی: إنّک إذا خرجت غازیاً فأخذتک الحمی فقتلتک فأنت شهید فلمّا سمع ذلک اطمأنّ ثمّ خرج معهم،

ص:159

فلمّا نزلوا تبوک أقاموا بها أیّاماً أخذته خلالها الحمّی فتوفّی عبد الله.

وکان بلال بن الحارث یقول: «حَضَرت مع رسول الله ومع بلال المؤذن شعلة من النار، وإذا بأصحاب رسول الله یحملون عبد الله ذو البجادین، فصنعوا له قبراً، وأخذ النبی یجلس فیه وینام ویقرأ له القرآن، فلمّا أنزله إلی القبر التفت إلی أصحابه وقال: ادنوا إلیّ أخاکم، فلمّا هیّأه لشقه ومستقرّه الأخیر قال رسول الله: «اللهمّ إنّی قد أمسیت راضیاً عنه فارض عنه».

یقول ابن مسعود: «فتمنّیت أن أکون أنا صاحب الحفرة. وقد استدلّ بعضهم من خلال هذه الروایة علی جواز رفع الیدین بالدعاء، علی أساس أنّ ابن مسعود یُنقل عنه أنّه قال: رأیت رسول الله فی قبر عبد الله ذی البجادین. الحدیث. وفیه: فلمّا فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعاً یدیه».(1)

ثانیاً: خزاعی بن عبد نهم بن عفیف بن سحیم

والذی هدم صنمه بیده بعدما فکّر بأنّه حجارة لا تضرّ ولا تنفع، وأقبل إلی النبی صلی الله علیه و آله و سلم مع قومه، وکان صاحب منزلة رفیعة بینهم. یقول ابن حجر:

قال ابن الکلبی: «هو أخو عبد الله ذی البجادین لأبویه، وعمّ عبد الله بن مَغْفَل بن عبد نهم. وروی ابن شاهین من طریق ابن الکلبی: حدّثنا أبو مسکین وغیره، عن أشیاخ لمزینة قالوا: کان لمزینة صنم یقال له نهم، وکان الذی یحجبه خزاعی بن عبد نهم المزنی، فکسر الصنم ولحق بالنبی وهو یقول:

ذهبتُ إلی نهمٍ لأذبحَ عنده عُتیرةَ نُسْکٍ کالذی کنتُ أفعلُ

ص:160


1- (1) فتح الباری، باب الدعاء مستقبل القبلة: ح 5983.

وقلت لنفسی حین راجعت حزمها أهذا إلهٌ أبکمٌ لیس یعقلُ

أبیتُ فدینی الیوم دینُ محمّد إلهُ السماء الماجدُ المتفضّلُ

قال: فبایع النبی صلی الله علیه و آله و سلم، وبایعه عمّی مزینة، قال: وقدم معه عشرة من قومه، منهم عبد الله بن ذرّة وأبو أسماء والنعمان بن مقرن. وروی قاسم فی الدلائل، من طریق محمد بن سلام الجمحی، عن ابن دأب قال: وفد خزاعی بن أسود فأسلم، ووعد أن یأتی بقومه فأبطأ، فأمر النبی حسان بن ثابت فقال:

ألا أبلغ خزاعیّاً رسولاً فإنّ الغدر یغسلهُ الوفاءُ

فإنّک خیرُ عثمان بن عمرو وأسناها إذا ذُکر السناءُ

وبایعت النبیّ فکان خیراً إلی خیرٍ وأدّاک الثراءُ

فما یُعجزْک أو ما لا تُطِقْهُ من الأشیاء لا یعجز عُداءُ

یعنی قبیلته. قال: فلمّا سمع ذلک أقبل إلی النبی صلی الله علیه و آله و سلم وهم معه فأسلموا، وقوله: خزاعی بن أسود، غلط، وإنّما هو خزاعی بن عبد نهم، قال ابن سعد فی الطبقات اخبرنا هشام بن الکلبی أخبرنا أبو مسکین وأبو عبد الرحمن العجلانی قالا: قدم علی رسول الله نفر من مزینة، منهم خزاعی بن عبد نهم، فبایعه علی قومه ومعه عشرة، فذکر القصّة والشعر، وزاد: فیهم بلال بن الحارث وبشر بن المحتفز، وزاد: فقام خزاعی بن عبد نهم فقال: یا قوم، قد خصّکم شاعر الرجل، فأنشدکم الله، فأطاعوه وأسلموا وقدموا علی رسول الله، قال: وأعطی رسول الله لواء مزینة یوم الفتح لخزاعی هذا، وکانوا یومئذ ألف رجل. قال ابن سعد: وزاد غیره: فیهم دکین بن سعد. وذکر المرزبانی هذه القصّة مطوّلة ودلّ شعر حسّان علی أنّ عدیّ هذا یُمدّ، والله أعلم»(1).

ص:161


1- (1) الإصابة لابن حجر: ج 2 ص 2250.

وأنت تری بعد ما سمعت نتفاً من أخبار أبیه وأعمامه وکیف کانوا من أهل البصیرة والوعی، بحیث إنّهم انقلبوا علی أعرافهم وتقالیدهم السائدة، والتی کانت تمثّل بالنسبة الیهم عقائد یصعب تجاوزها، بل إنّ تجاوزها یعنی تجاوز شرع الآباء والأجداد، بینما نری والد الشهید من السبّاقین، إلی الإسلام، وأعمامه من المتفانین فی الدعوة إلیه، حتی أنّ خزاعیاً کسر صنمه بیده، ولا شکّ أن هذا یوحی وبشکل واضح إلی أنّه کان یحمل عقلاً کاملاً وعزماً ثاقباً، وحکمة وبصیرة.

إخوة الشهید

کان قد تربّی فی هذا البیت العامر بالإیمان، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله علیه، ولقد علم الله ما فی قلوبهم من الصدق والولاء، فهیّأ لهم أسباب السعادة فی الدارین والتوفیق فی مختلف المجالات العلمیة والجهادیة والإیمانیة وغیرها، ومن هؤلاء الذین خرّجهم هذا البیت الإیمانی هو عبد الله بن مَغْفَل المزنی الذی عدّه کثیر من المؤرّخین بأنّه کان من البکّائین، ومن مشاهیر الصحابة، حتی أنّ ابن حجر فی الإصابة یقول عنه:

«قال البخاری: له صحبة، سکن البصرة، وهو أحد البکّائین فی غزوة تبوک، وشهد بیعة الشجرة. ثبت ذلک فی الصحیح»(1).

ولهؤلاء البکّائین قصّة جمیلة فیها عظة وعبرة، نذکرها کما ذکرها کثیر من المؤرّخین والمفسّرین فی خصوص قوله تعالی:

ص:162


1- (1) الإصابة: ج 4 ح 4975.

«وَ لا عَلَی الَّذِینَ إِذا ما أَتَوْکَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُکُمْ عَلَیْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْیُنُهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ یَجِدُوا ما یُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِیلُ عَلَی الَّذِینَ یَسْتَأْذِنُونَکَ وَ هُمْ أَغْنِیاءُ رَضُوا بِأَنْ یَکُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللّهُ عَلی قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا یَعْلَمُونَ 1» .

قال ابن کثیر:

«والمقصود ذکر البکّائین الذین جاءوا إلی رسول الله لیحملهم حتی یصحبوه فی غزوته هذه، فلم یجدوا عنده من الظهر ما یحملهم علیه، فرجعوا وهم یبکون تأسّفاً علی ما فاتهم من الجهاد فی سبیل الله والنفقة فیه. قال ابن إسحاق: وکانوا سبعة نفر من الأنصار وغیرهم، فمن بنی عمرو بن عوف: سالم بن عمیر، وعَلَبة بن زید أخو بنی حارثة، وأبو لیلی عبد الرحمن بن کعب اخو بنی مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بنی سلمة، وعبد الله بن المَغْفَل المزنی، وبعض الناس یقولون: بل هو عبد الله بن عمرو المزنی، وهرمی بن عبد الله أخو نبی واقف، وعرباض بن ساریة الفزاری. قال ابن إسحاق: فبلغنی أنّ ابن یامین بن عمیر بن کعب النضری، لقی أبا لیلی وعبد الله بن مَغْفَل وهما یبکیان، فقال: ما یبکیکما؟ قالا: جئنا رسول الله لیحملنا فلم نجد عنده ما یحملنا علیه، ولیس عندنا ما نتقوّی به علی الخروج معه، فأعطاهما ناضحاً فارتحلاه، وزوّدهما شیئاً من تمر، فخرجا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم»(1).

ص:163


1- (2) ابن کثیر فی البدایة والنهایة: ج 5، فصل فیمن تخلّف معذوراً من البکائین وغیرهم.

وأنا أقرأ هذه الروایة عن أخی الشهید الکربلائی تذکّرت تلک الآیة الکریمة التی تتحدّث عن المعذّرین، والأعذار التی کان بعضهم یقدّمها للنبی من أجل أن لا یخرج إلی الحرب، فضلاً عن أولئک الذین کانوا لا یملکون أعذاراً، ولکنّهم کانوا یتحجّجون بأعذار کاذبة للفرار من القتال. یقول الله تعالی:

«وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِیُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِینَ کَذَبُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ سَیُصِیبُ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ 1» .

بینما نجد أنّ عبد الله بن مَغْفَل یبکی حسرة وأسیً لأنّه لم یخرج مع رسول الله للحرب، مع أنّه کان یملک عذراً مشروعاً مقبولاً، ولأنّه کان صادقاً فی مشاعره وایمانه وحبّه لله ورسوله، وفّق للجهاد بین یدی رسول الله حین هیّأ الله له من یهیّئ له زاده وراحلته، وکان عبد الله بن مَغْفَل من أصحاب بیعة الشجرة، وکان لقربه من رسول الله أن کان من الذین رفعوا عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أغصان تلک الشجرة، فقد نقل هو عن نفسه «إنّنی کنت لمن الأشخاص الذین رفعوا عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أغصان تلک الشجرة فی ذلک الیوم».(1)

وینقل الذهبی، عن خزاعی بن زیاد المزنی قوله:

«أری عبد الله بن مَغْفَل رضی الله عنه أنّ الساعة قد قامت، وأنّ الناس قد حشروا، وثمّ فکان من جازه فقد نجا، وعلیه عارض، فقال لی قائل: أترید أن تنجو وعندک ما عندک؟ یقول: فاستیقظت فزعاً، فأیقظ أهله، وعنده عیبة مملوءة بالدنانیر ففرّقها

ص:164


1- (2) سیر أعلام النبلاء: ج 2 ص 484.

کلها»(1).

وقف عبد الله إلی جانب أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام فی حروبه کلّها، ثمّ سکن البصرة وظلّ فیها إلی أن جاءه الأجل، وقد أوصی أصحابه أن لا یصلّی علیه ابن زیاد، وأن یصلّی علیه أبو برزة الأسلمی (وهو من شیعة الإمام علی) وجماعة من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وفعلاً فقد غُسّل وکفّن، «فلمّا أخرجوه من الدار واذا بابن زیاد قد حضر فقالوا له: لقد أوصی بأن لا تصلّی علیه، ثمّ صلّی علیه أبو برزة الأسلمی، ثمّ خرجوا لتشییعه، واذا بابن زیاد یمشی فی جنازته، فسار معه حتی بلغ حدّ البیضاء، فمال إلی البیضاء وترکه. وکانت وفاته آخر خلافة معاویة، سنة 59 ه -، کما یؤکّد علی ذلک ابن حجر فی الإصابة».(2)

أولاد الشهید

اشارة

کان للشهید الکربلائی أولاد تمیّزوا بمواقفهم الجریئة وملکاتهم العالیة، ممّا أهّلهم لأن یلعبوا أدواراً مهمّة فی الحیاة الاجتماعیة والسیاسیة والجهادیة، فضلاً عن العلمیة والثقافیة، ولئن کان التاریخ ظالماً لهم ولأمثالهم فی عدم تسلیط الضوء علی ما قدّموه من خدمات جلیلة للإسلام والمسلمین، بینما أخذت الأقلام تکتب وبإفراط عن المغنّین والراقصات ونظائرهم، ولکن مع کلّ هذا الظلم، فإنّ الحقّ لابد أن یترک أثره، لتکون لله الحجة الکاملة علی الخلق من خلاله، ومن هنا فقد بذلنا جهداً لیس بالقلیل من أجل تتبّع آثار أولاد الشهید وما قاموا به، فاتّضح أنّ

ص:165


1- (1) سیر اعلام النبلاء: ج 2 ص 48.
2- (2) الإصابة: ج 4 ح 4975.

للشهید ولدین هما:

أ. عبد الله بن یزید بن مَغفَل الأزدی

لقد شارک هذا البرعم الإیمانی المفعم بولاء أهل البیت فی الوقوف بوجه النظام الأموی الظالم، وخصوصاً بعد واقعة کربلاء، وکان ذلک من خلال مشارکته وبشکل واضح فی ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فی سنة 81 ه -.

هذه الثورة التی قَضَّت مضجع الحجّاج وعبد الملک بن مروان، بل وکافّة بنی أمیّة، نتیجة لقوّتها واتّساعها، والأهمّیة السیاسیة والاجتماعیة والدینیة لمن اشترک فیها، فقد اشترک فی هذه الثورة المئات، بل الآلاف من القراء والعلماء والفقهاء، حتی عرفت فی التاریخ بثورة القرّاء أو الفقهاء.

ولکبیر أثر هذه الثورة علی بنی أمیّة أرسل عبد الملک بن مروان إلی قادتها یعرض علیهم عزل الحجّاج عن ولایته، وتسلیمها لآخرین، ولکنّهم رفضوا، لأنّ الظلم إنّما هو بسبب تسلّط بنی أمیّة علی الحکم، وتعدّیهم الحدود، وانتهاکهم حرمات الناس وکراماتهم.

ولقد کان المشارکون فی هذه الثورة معظمهم من الشیعة، ومن علماء وفقهاء وشخصیّات مرموقة ممّن عرفوا بتشیّعهم وولائهم لأهل البیت علیهم السلام أمثال کمیل بن زیاد وسعید بن جبیر وآخرین، وهذا فی حدّ ذاته دلیل واضح یردّ علی مزاعم من یدعی أنّ الشیعة بعد واقعة کربلاء ترکوا العمل الجهادی واتّجهوا إلی العمل السرّی.

فهذا سعید بن جبیر، وهو من خیرة فقهاء الشیعة، الموالین لأهل البیت علیهم السلام،

ص:166

بل کما یعبّر عنه بأنّه فقیه الفقهاء، قد اشترک فی هذه الثورة، ووقف إلی جانب الثوّار، وکان وجوده وأمثاله، دافعاً للناس إلی الانضمام لها، حتی قدّر بعض المؤرّخین عدد من اشترک فی ثورة ابن الأشعث بمئات الآلاف، ولولاوقوع بعض الأخطاء لآتت هذه الثورة أکلها، ولاستطاعت أن تطیح بعرش بنی أمیّة.

ولقد کان من جملة شخصیّات هذه الثورة عبد الله بن یزید بن مَغْفَل الأزدی، الذی کان له دور مهمّ فی نصرة ابن الأشعث ضدّ بنی أمیّة، حیث بقی إلی جانبه طیلة الثلاث أو الأربع سنوات التی دامت خلالها الثورة، إلی أن بانت معالم الفشل فیها، وأخذ الناس بعد أن قتل الفقهاء والعلماء فیها، یفرّ الواحد بعد الآخر.

یقول الطبری:

«وصعد عبد الرحمن بن الأشعث المنبر، وأخذ ینادی فی الناس: عباد الله، إنّی أنا ابن محمد، فأتاه عبد الله بن رزام الحارثی فوقف تحت منبره، وجاء عبد الله بن ذؤاب السلمی فی خیل له فوقف منه قریباً، وثبت حتی دنا منه أهل الشام، فأخذت نبلهم تحوزه، فقال: یا بن رزام، احمل علی هذه الخیل والرجال، فحمل علیهم حتی أمعنوا، ثمّ جاءت خیل أخری ورجال، فقال: احمل علیهم یا بن ذؤاب، فحمل علیهم حتی أمعنوا، وثبت لا یبرح منبره، ودخل أهل الشام العسکر، فکبّروا فصعد الیه عبد الله بن یزید بن مَغْفَل الأزدی، وکانت ملیکة ابنة أخیه امرأة عبد الرحمن، فقال: انزل فإنّی أخاف علیک إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلّک إن

ص:167

انصرفت أن تجمع لهم جمعاً یهلکهم الله به بعد الیوم»(1).

فمع أنّ جیش الشام دخل إلی الکوفة، والناس قد تفرّقت یمیناً وشمالاً، نجد أنّ ولد الشهید الکربلائی لم یضعف ولم یترک الجهاد، ولم یفرّ کما فرّ الآخرون، بل یبقی مصرّاً علی الثورة، ویطلب من ابن الأشعث أن ینزل ویختبئ فی مکان ما من أجل إعداد العدّة مرّة أخری للانقضاض علیهم.

ویبدو أنّ عبد الرحمن بن الأشعث قد عمل بهذه النصیحة حیث ذهب إلی بلاد الملک رتبیل، ودخل فی جواره وأکرمه رتبیل وعظّمه، وأقام بخراسان مجموعة کبیرة من جیشه، وکتبوا الیه أن یقدم علیهم لیعید الکرّة علی الحجّاج، ولکن جهودهم لم یکتب لها النجاح، وعاد عبد الرحمن بن الاشعث إلی الملک رتبیل وأقام عنده، وأخذ الحجّاج یتتبّع من خرج ضدّه من أعوان ابن الأشعث وأمعن فیهم فی القتل، حتی قیل أنّه قتل منهم بین یدیه ما قارب مائة وثلاثین ألفاً، آخرهم سعید بن جبیر.

ثم أرسل الحجّاج إلی رتبیل یتوعّده ویتهدّده لکی یبعث الیه بابن الأشعث، ولمّا علم ابن الأشعث بأنّ رتبیل سیغدر به رمی بنفسه من القصر فمات، فقطع رتبیل رأسه فأرسله إلی الحجّاج، وقام الحجّاج بإرساله إلی عبد الملک بن مروان سنة 85 ه -.

ب. سفیان بن یزید بن مَغفَل الأزدی

وهذا ولد آخر من أولاد الشهید الکربلائی، وکان له دور کبیر وأساس فی

ص:168


1- (1) تاریخ الطبری: ج 6، ذکر أحداث سنة 83 ه - ص 1495.

الأخذ بثأر الحسین وأهل بیته واصحابه من خلال وقوفه إلی جانب المختار فی ثورته، حیث تتبّع قتلة الحسین واحداً بعد الآخر، إلی أن وصل الأمر إلی عبید الله ابن زیاد، فجهّز المختار جیشاً کبیراً بقیادة إبراهیم بن مالک الأشتر، وکان أحد قوّاده الرئیسیین سفیان ابن الشهید الکربلائی یزید بن مَغْفَل الأزدی، وینقل الطبری فی تاریخه تفاصیل هذه الواقعة التی آتت أکلها، ورجع إبراهیم بن مالک الأشتر ومن معه إلی الکوفة، ومعهم رأس عبید الله بن زیاد، حیث یقول فی ذکر أحداث سنة 67 ه -:

«فمّما کان فیها من ذلک، مقتل عبید الله بن زیاد ومن کان معه من أهل الشام، یقول أبو مخنف: حدّثنی أبو الصلت، عن أبی سعید الصیقل قال: مضینا مع إبراهیم بن مالک الأشتر ونحن نرید عبید الله بن زیاد ومن معه من أهل الشام، فخرجنا مسرعین لا ننثنی نرید أن نلقاه قبل ان یدخل أرض العراق قال: فسبقناه إلی تخوم أرض العراق سبقاً بعیداً ووغلنا فی أرض الموصل، فتعجّلنا الیه وأسرعنا السیر فنلقاه فی خازر إلی حیث قریة یقال لها باربیثا، بینها وبین مدینة الموصل خمسة فراسخ.

وکان ابن الأشتر قد جعل علی مقدّمتة الطفیل بن لقیط، من وهبیل من النخع - رجلاً من قومه - وکان شجاعاً بئیساً، فلمّا أن دنا من ابن زیاد ضمّ حمید بن حریث الیه، وأخذ ابن الأشتر لا یسیر إلاّ علی تعبیة، وضمّ أصحابه کلّهم الیه بخیله ورجاله، فأخذ یسیر بهم جمیعاً لا یفرّقهم، إلاّ أنّه یبعث الطفیل بن لقیط فی الطلائع، حتی نزل تلک القریة.

ص:169

قال: وجاء عبید الله بن زیاد حتی نزل قریباً منهم علی شاطئ نهر خازر، وأرسل عمیر بن الحباب السلمی إلی ابن الأشتر أنّی معک، وأنا أرید اللیلة لقاءک، فأرسل الیه ابن الأشتر أن القنی إن شئت، وکانت قیس کلّها بالجزیرة، فهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، وجنّد مروان حینئد کلب، وصاحبهم ابن بجدل، فأتاه عمیر لیلاً فبایعه، وأخبره أنّه علی میسرة صاحبه، وواعده أن ینهزم بالناس، وقال ابن الأشتر: ما رأیک؟ أخندق علی نفسی واتلوم یومین أو ثلاثة؟ قال عمیر ابن الحباب: لا تفعل، إنّا لله! هل یرید القوم إلاّ هذه؟! إن طاولوک وماطلوک فهو خیر لهم، هم کثیر أضعافکم، ولیس یطیق القلیل الکثیر فی المطاولة، ولکن ناجز القوم فإنّهم قد ملئوا منکم رعباً، فأتهم فإنّهم إن شاموا أصحابک وقاتلوهم یوماً بعد یوم ومرّة بعد مرّة، أنسوا بهم واجترأوا علیهم.

قال إبراهیم: الآن علمت أنّک لی ناصح، صدقت، الرأی ما رأیت أمّا إنّ صاحبی بهذا أوصانی وبهذا أمرنی، قال عمیر: فلا تعدون رأیه، فإنّ الشیخ قد ضرّسته الحروب وقاسی منها ما لم تُقاسِ، ثمّ إنّ عمیراً انصرف.

وأذکی ابن الأشتر حرسه تلک اللیلة، اللیل کله ولم یدخل عینه غمض، حتی اذا کان فی السحر الأول عبّأ أصحابه وکتّب کتائبه وأمّر أُمراءه، فبعث سفیان ابن یزید بن مَغْفَل الأزدی علی میمنته، وعلی بن مالک الجشمی علی میسرته، وهو أخو أبی الأحوص، وبعث عبد الرحمن بن عبد الله، وهذا أخو إبراهیم الأشتر لأمّه، علی الخیل، وکانت خیله قلیلة، فضمّها إلیه وکانت فی المیمنة والقلب،

ص:170

وجعل علی رجّالته الطفیل بن لقیط، وکانت رایته مع مزاحم بن مالک»(1).

ویقول فی موضع آخر، وهو یتحدّث عمّن قتل مَنْ؟: یقول أبو مخنف: «حدّثنی فضل بن صریح قال: قتل شرحبیل بن ذی الکلاع وادّعی قتله ثلاثة، أولهم سفیان بن یزید بن مَغْفَل الأزدی»(2).

وعلی کلّ حال، فقد انتهت المعرکة بقتل عبید الله بن زیاد شرّ قتلة من قبل ابن الأشتر، واحتزّ رأسه وجاء به إلی المختار.

حفید الشهید الکربلائی

لقد کان لحفید الشهید الکربلائی عبد الله بن سفیان بن یزید بن المَغْفَل الأزدی دور کبیر فی الخروج علی بنی مروان، خصوصاً سلیمان بن عبد الملک وحزبه الظالم، حیث لم یطق أن یری الظلم أمامه ویسکت، وهو من بیت عرف بالجهاد والطاعة لله ولرسوله، وهو ممّن لا تأخذهم فی الله لومة لائم، کما کان جدّه وأبوه صاحب الموقف المشرّف فی طلب الثأر لشهداء کربلاء، ولذا فإنّ هذه الفئة الضالّة المضلّة لابدّ أن تنتهی ویقضی علیها.

وإذا کان هذا الأمر عسیراً فلا أقلّ من أن تسمع الناس بأنّ هناک فی الأمّة من یعارض ومن یقف بوجه الظلم الأموی، ولهذا تراه یتحیّن الفرص من أجل الخروج وتعبئة الناس فی هذا الاتّجاه.

وبینما هو فی تلک الحال اذ بانت علائم خروج یزید بن المهلّب علی

ص:171


1- (1) تاریخ الطبری: ج 6، أحداث سنة 67 ه -.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 6، أحداث سنة 67 ه -.

سلیمان بن عبد الملک، فأقبل الیه مع مجموعة ممّن عرفوا بالموالاة لأهل البیت، أمثال النعمان بن إبراهیم بن مالک الأشتر وآخرین، ومعهم الألوف ممّن یشاطرهم الرأی، ولمّا رآهم یزید فرح فرحاً شدیداً وجعلهم قادة أساسیّین فی حربه ضدّ المروانیّین، لشجاعتهم المشهودة وصدقهم فی مناهضة هذا الحکم الظالم.

یقول الطبری فی هذا المجال: «وسقط إلی یزید ناس من الکوفة کثیر، ومن الجبال، وأقبل الیه ناس من الثغور، فبعث علی أرباع أهل الکوفة الذین خرجوا الیه، وربع أهل المدینة عبد الله بن سفیان بن یزید بن المَغْفَل الأزدی، وبعث علی ربع مذحج وأسد النعمان بن إبراهیم بن مالک الأشتر النخعی، وبعث علی ربع کندة وربیعة محمد بن إسحاق بن محمد بن الأشعث، وبعث علی ربع تمیم وهمدان حنظلة بن عتاب بن ورقاء التمیمی، وجمعهم جمیعاً مع المفضل بن المهلّب»(1).

ولکنّ المعرکة وإن انتهت إلی غیر ما کان یتوقّعه ویأمله الثائرون، إلاّ أنّ العبرة بکسر حاجز الخوف، والوقوف بوجه هذه الجرثومة التی أخذت تعیث فی جسد الأمّة الإسلامیة فساداً، والتی اذا ما ترکت دون مقاومة ورفض فإنّها سوف تأتی علی کلّ هذا الجسد، فلا تجد ثمّة صلاة ولا صیاماً ولا حجّاً ولا أمراً بالمعروف ولا نهیاً عن المنکر، وکذا المبادئ والقیم کانت ستضیع، ولن یبقی منها إلاّ ما کان موافقاً للطبع المنکوس للبیت الأموی المروانی، فیکون الإسلام علی إثرها إسلام بنی أمیّة ولیس إسلام رسول الله.

ص:172


1- (1) تاریخ الطبری: ج 5 ص 338-339.

ولذلک فإنّ هذه الثورات حتی وإن لم تحقّق نصراً میدانیاً، إلاّ أنّها حملت رسالة مفادها عدم شرعیة هذه الدولة، وأنّ علی أحرار الأمّة تقع مسؤولیة التغییر مهما کان الثمن، متّکلین علی الله وتارکین الیه عواقب الأمور.

الشهید الکربلائی مع علی علیه السلام

حینما نقرأ عن حیاة هذا الشهید ومواقفه بحسب الروایات المتناثرة فی کتب التاریخ، والتی یصعب جمعها، نجد أنّ لهذا الشهید مواقف عظیمة منذ زمن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حینما أدرکه وهو فی مقتبل العمر، واستمرت مواقفه مع أمیر المؤمنین فی أکثر من معرکة، حتی سقط فی إحدی معارک أمیر المؤمنین جریحاً، کما تنادی الناس فی وقتها، وکما سیأتینا لاحقاً، ثمّ مع ولده الحسن، ثمّ ختمها مع سیّد الشهداء بشهادة جعلت روحه تخلد بخلود الحسین وثورته. وسوف نذکر بعضاً منها:

أولاً: موقفه مع علی علیه السلام فی حربه ضدّ الخوارج: تمیّز موقف الشهید فی حرب الخوارج بأنّه کان مصداقاً لقول الله تعالی:

«إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ 1» .

حیث شهد له الأبطال - کما سیأتینا - بأنّه کان یعدل فی قتاله عشرة، حیث کان اذا وقف أمام عشرة قاتلهم فی وقت واحد وانتصر علیهم، لاسیما مع الخوارج الذین عرفوا بالقسوة والغلظة والشدّة والتحجّر وإشاعة الرعب والخوف

ص:173

فی نفوس المسلمین.

ولهذا کان الإمام علیه السلام بحاجة إلی مقاتلین أشداء أبطال شجعان لیتمکّن من مواجهتهم والقضاء علیهم، وینقل التاریخ لنا بأنّ الخوارج قاموا بالإغارة علی بعض المناطق التابعة لأمیر المؤمنین فی منطقة هیت وما حولها، وقتلوا بعض المسلمین هناک، فکتب والی أمیر المؤمنین قرظة بن کعب الأنصاری إلی الإمام وأعلمه بأمر هؤلاء الجماعة وما صنعوا من جرائم، وأنّهم علی ما نُقل الینا فی قریة یقال لها «نفرّ». یقول الطبری:

«قال أبو مخنف وحدّثنی أبو الصلت الأعور التیمی عن أبی سعید العقیلی عن عبد الله بن وائل قال: کتب علی علیه السلام معی کتاباً إلی زیاد بن خصفة وأنا یومئذ شابّ حدث: أمّا بعد، فإنّی کنت أمرتک أن تنزل دیر أبی موسی حتی یأتیک أمری، وذلک لأنّی لم أکن علمت إلی أیّ وجه توجّه القوم (یقصد الإمام جماعة الخوارج) وقد بلغنی أنّهم أخذوا نحو قریة یقال لها «نفر» فاتبع آثارهم وسل عنهم، فإنّهم قد قتلوا رجلاً من أهل السواد مصلیاً، فإذا أنت لحقتهم فأرددهم إلیّ، فإن أبوا فناجزهم، واستعن بالله علیهم فإنّهم قد فارقوا الحقّ وسفکوا الدم الحرام وأخافوا السبیل، والسلام».

فقلت: یا أمیر المؤمنین، ألا أمضی مع زیاد بن خصفة اذا دفعت الیه کتابک إلی عدوک، فقال: یا بن أخی، إفعل، فوالله إنّی لأرجو أن تکون من أعوانی علی الحقّ وأنصاری علی القوم الظالمین، فقلت له: أنا والله یا أمیر المؤمنین کذلک ومن أولئک، وأنا حیث تحبّ، قال ابن وائل: فو الله ما أحبّ أن لی بمقالة علیّ

ص:174

تلک حُمُر النعم، ثمّ یقول: مضیت إلی زیاد بن خصفة بکتاب علی علیه السلام فقال لی زیاد: یا بن أخی، والله ما لی عنک غناء، وإنّی لأحبّ أن تکون معی فی وجهی هذا، فقلت: قد استأذنت أمیر المؤمنین فی ذلک فأذن لی فسرّ بذلک(1).

وذکر الطبری کیف التقی الجمعان وکیف حاول وفد أمیر المؤمنین، علی عادته الإسلامیة فی التمسّک بالمثل العلیا، أن یجعلوا بینهم حواراً قبل أن یبدأ القتال، فتحدّث زیاد بن خصفة مع الخرّیت بن راشد الخارجی، وکان رئیسهم.

یقول الطبری:

«فقال له زیاد: ما الذی نقمتموه علی أمیر المؤمنین وعلینا إذ فارقتنا؟ فقال: لم أرض صاحبکم إماما ولم أرض سیرتکم سیرة، فرأیت أن أعتزل وأکون مع من یدعو إلی الشوری من الناس، فإذا اجتمع الناس علی رجل لجمیع الأمّة رضی کنت معهم.

فقال له زیاد: ویحک! وهل یجتمع الناس علی رجل منهم یدانی صاحبک الذی فارقته علماً بالله وبسنن الله وکتابه، مع قرابته من الرسول وسابقته فی الإسلام؟! فقال: ذلک ما أقول لک. فقال له زیاد: ففیم قتلتم ذلک الرجل المسلم؟ قال: ما أنا قتلته، إنّما قتلته طائفة من أصحابی. قال: فادفعهم الینا، قال ما إلی ذلک من سبیل. قال: کذلک أنت فاعل؟ قال: هو ما تسمع»(2).

ثمّ ذکر الطبری الواقعة بالتفصیل، حیث التقی الفریقان ودارت بینهم حرب

ص:175


1- (1) تاریخ الطبری: ج 4، ص 9.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 4 ص 95.

شرسة، من أول النهار حتی اللیل، ثمّ هرب الخوارج إلی جهة البصرة وتبعهم أصحاب أمیر المؤمنین.

یقول زیاد: فلمّا وصلنا إلی هناک، بلغنا أنّهم ذهبوا إلی جهة الأهواز، فکتبت إلی أمیر المؤمنین ما جری بیننا وبینهم من الحوار والقتال، وإنّنا الآن نداوی جراحنا فی البصرة، وهم ذهبوا إلی جهة الأهواز.

وفی هذا الظرف الخاصّ الذی یحتاج فیه أمیر المؤمنین إلی الرجال للقضاء علی هذه الفئة الضالّة لم یجد بدّاً من أن یقرأ کتاب زیاد بن خصفة علی مسامع المؤمنین فی الکوفة حتی یضعهم أمام الأمر الواقع خصوصاً بعد وصول الأخبار بالتحاق مئتین من الخوارج بهم من الکوفة. یقول الطبری، وهو یتحدث عمّا جری بعد وصول الکتاب إلی أمیر المؤمنین علیه السلام واطّلاع الأصحاب علیه:

«فقام الیه معقل بن قیس فقال: أصلحک الله یا أمیر المؤمنین، إنّما کان ینبغی أن یکون مع من یطلب هؤلاء مکان کلّ رجل منهم عشرة من المسلمین، فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم - إلی قوله - فقال - یعنی أمیر المؤمنین علیه السلام -: تجهّز یا معقل إلیهم، وندب معه ألفین من أهل الکوفة منهم یزید بن مغفّل الأزدی، وکتب إلی ابن عباس: أمّا بعد، فابعث رجلاً من قبلک صلباً شجاعاً معروفاً بالصلاح، فی ألفی رجل فلیتبع معقلاً»(1).

ودعا أمیر المؤمنین علیه السلام زیاد بن خصفة وأصحابه بالرجوع، وجزّاهم خیراً علی موقفهم، وذکر علیه السلام ما سیؤول إلیه مصیر هؤلاء الشرذمة حیث قال فی کتابه

ص:176


1- (1) تاریخ الطبری: ج 4 ص 95.

الذی کتبه لزیاد:

«أمّا بعد، فقد بلغنی کتابک، وفهمت ما ذکرت - إلی قوله علیه السلام - وأمّا عدوّکم الذین لقیتموهم، فحسبهم بخروجهم من الهدی إلی الضلال، وارتکابهم فیه، وردّهم الحقّ ولجاجهم فی الفتنة، فذرهم وما یفترون، ودعهم وفی طغیانهم یعمهون، فتسمع وتبصر کأنک بهم عن قلیلٍ بین أسیر وقتیل»(1).

ثمّ إنّ معقلاً لمّا وزّع جماعته بین یمین وشمال وقلب، جعل علی میمنته الشهید الکربلائی یزید بن المَغْفَل الأزدی. یقول الطبری:

«فجعل علی میمنته یزید بن المَغْفَل الأزدی، وعلی میسرته منجاب بن راشد الضبّی من أهل البصرة»(2).

وحصل اللقاء، وجرت الواقعة، وکادوا أن یستأصلوهم، حتی قتل فی تلک الواقعة أخو الخرّیت بن راشد، جندب بن راشد، وهرب الخرّیت إلی جهة البحر، حیث قومه هناک، فدعاهم إلی الوقوف معه ضدّ علی بن أبی طالب، ولم یزل یقنعهم علی ذلک حتی خرج معه خلق کثیر، «وکتب معقل إلی علی علیه السلام: بسم الله الرحمن الرحیم، لعبد الله علی أمیر المؤمنین، من معقل بن قیس، سلام علیک فإنّی أحمد الیک الله الذی لا اله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّا لقینا المارقین، وقد استظهروا علینا بالمشرکین، فقتلناهم قتل عاد وإرم، مع أنّا لم نَعدُ فیهم إلا سیرتک، ولم نقتل من المارقین مدبراً ولا أسیراً، ولم ندفّف منهم علی جریح، وقد نصرک الله والمسلمین

ص:177


1- (1) نفس المصدر.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 4 ص 95.

والحمد لله ربّ العالمین»(1).

فلمّا قرأ أمیر المؤمنین الکتاب، استشار من معه، فاستقرّ الرأی علی أن یتبع معقل بن قیس الفاسق حتی یقضی علیه، وکتب الیه فی ذلک: «أمّا بعد، فالحمد لله علی تأیید أولیائه وخذلان أعدائه، جزاک الله والمسلمین خیراً، فقد أحسنتم البلاء وقضیتم ما علیکم، وسل عن أخی بنی ناجیة، فإن بلغک أنّه استقرّ ببلد من البلدان فسر الیه حتی تقتله، فإنّه لن یزال للمسلمین عدوّاً وللقاسطین ولیّاً ما بقی والسلام»(2).

وینقل المؤرّخون أنّ الخرّیت بن راشد حشد قومه ضدّ علی، وجنّد معه جماعته من الخوارج، بل وحتی من کان یری مظلومیة عثمان بإظهار أنّه یری نفس رأیهم، وکان هناک جماعة من الناس قد منعوا الزکاة، فأقبل الیهم وقال لمن منع الزکاة منهم: شدّوا أیدیکم علی صدقاتکم وصلوا بها أرحامکم وعودوا بها إن شئتم علی فقرائکم، وکان فی المنطقة مجموعة من النصاری قد کان أسلم کثیر منهم، فلمّا رأوا القتل والقتال وما اختلف فیه الناس قالوا: والله لدیننا الذی خرجنا منه خیر من هذا الدین، فأقبل الیهم الخرّیت وقال لهم: إلی أین أنتم ذاهبون، أتعلمون ماذا سوف یصنع علی بکم إن ظفر بکم، والله إنّه سوف لن یری لکم قولاً ولا یسمع لکم غدراً ولا یقبل لکم توبة، وإنّ حکمه فیکم لضرب العنق، وهکذا جمع الجموع وخدع الجمیع واجتمع الیه ناس کثیر. یقول الطبری:

ص:178


1- (1) نفس المصدر.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 4 ص 96.

«عن أبی الطفیل قال: کنت فی الجیش الذین بعثهم علی بن أبی طالب إلی بنی ناجیة فقال: انتهینا إلیهم فوجدناهم علی ثلاث فرق، فقال أمیرنا لفرقة منهم: ما أنتم؟ قالوا: نحن قوم نصاری، لم نرَ دیناً أفضل من دیننا فثبتنا علیه، فقال لهم: اعتزلوا. وقال للفرقة الأخری: ما أنتم؟ قالوا: نحن کنّا نصاری فأسلمنا فثبتنا علی إسلامنا، فقال لهم: اعتزلوا، ثمّ قال للفرقة الثالثة: ما أنتم؟ قالوا: نحن قوم کنا نصاری فأسلمنا، فلم نرَ دیناً افضل من دیننا الأول، فقال لهم: أسلموا فأبوا، فقال: لأصحابه: فشدّوا علیهم فاقتلوا المقاتلة واسبوا الذرّیة، ثمّ قرأ علیهم معقل بن قیس کتاب علی علیه السلام هذا نصه «بسم الله الرحمن الرحیم من عبد الله علی أمیر المؤمنین، إلی من یقرأ علیه کتابی هذا من المؤمنین والمسلمین والنصاری والمرتدّین عن الإسلام، سلام علیکم وعلی من اتّبع الهدی وآمن بالله ورسوله وکتابه والبعث بعد الموت، وأوفی بعهد الله ولم یکن من الخائنین. أمّا بعد، فإنّی أدعوکم إلی کتاب الله وسنّة نبیّه، والعمل بالحقّ وبما أمر الله فی الکتاب، فمن رجع إلی أهله منکم وکفّ یده واعتزل هذا الهالک الحارب الذی جاء یحارب الله ورسوله والمسلمین وسعی فی الأرض فساداً، فله الأمان علی ماله ودمه. ومن تابعه علی حربنا والخروج من طاعتنا، استعنّا بالله علیه وجعلنا الله بیننا وبینه وکفی بالله نصیراً.

وأخرج معقل رایة أمان فنصبها وقال: من أتاها من الناس فهو آمن، إلاّ الخرّیت وأصحابه، الذین حاربونا وبدأونا أوّل مرّة، فتفرّق عن الخرّیت جلّ من کان معه من غیر قومه، وعبّأ معقل بن قیس أصحابه، فجعل علی میمنته یزید بن المَغْفَل الأزدی، وعلی میسرته المنجاب بن راشد الضّبی، ثمّ زحف بهم نحو

ص:179

الخریت»(1).

ویقول فی موضع آخر:

«عن عبد الله بن فقیم قال: سار فینا معقل فَحّرضَ الناس فیما بین المیمنة والمیسرة یقول: أیّها الناس المسلمون، ما تریدون أفضل ممّا سیق لکم فی هذا الموقف من الأجر العظیم، إنّ الله ساقکم إلی قوم منعوا الصدقة وارتدّوا عن الإسلام ونکثوا البیعة ظلماً وعدواناً، فأشهد لمن قتل منکم بالجنّة، ومن عاش فإنّ الله مقرّ عینه بالفتح والغنیمة، ففعل ذلک حتی مرّ بالناس جمیعاً، ثمّ إنّه جاء ووقف فی القلب برایته، ثم أنّه بعث إلی یزید بن المَغْفَل وهو فی المیمنة أن احمل علیهم، فحمل علیهم فثبتوا وقاتلوا قتالاً شدیداً، ثمّ إنّه انصرف حتی وقف موقفه الذی کان به فی المیمنة»(2).

وهکذا صنع مع المیسرة، ولم تمضِ إلاّ مدة من الزمن وجیزة حتی قضی علیهم قضاء مبرماً، وقُتل الخرّیت بن راشد ومائة وسبعون من جماعته، وفرّ الباقون، وسُبی من سُبی منهم، وکتب معقل إلی امیر المؤمنین یقول: «أمّا بعد، فإنّی أخبر أمیر المؤمنین عن جنده وعدوّه إنّا دفعنا إلی عدوّنا بالأسیاف، فوجدنا بها قبائل ذات عدّة وحدّة وجدّ، وقد جمعت لنا وتحزّبت علینا، فدعوناهم إلی الطاعة والجماعة وإلی حکم الکتاب والسنّة، وقرأنا علیهم کتاب أمیر المؤمنین، ورفعنا لهم رایة أمان، فمالت الینا طائفة منهم وبقیت طائفة أخری منابذة، فقبلنا

ص:180


1- (1) تاریخ الطبری: ج 4 ص 98-98.
2- (2) نفس المصدر.

من التی أقبلت وصمدنا صمداً للتی أدبرت، فضرب الله وجوههم ونصرنا علیهم، فأمّا من کان مسلماً فإنّا مننا علیه وأخذنا بیعته لأمیر المؤمنین، وأخذنا منهم الصدقة التی کانت علیهم، وأمّا من ارتدّ منهم عرضنا علیه الرجوع إلی الإسلام وإلاّ قتلناه، فرجعوا غیر رجل واحد فقتلناه، وأمّا النصاری فسبیناهم، وقد أقبلنا بهم لیکونوا نکالاً لما بعدهم من أهل الذمّة لکیلا یمنعوا الجزیة، ولکیلا یجترئوا علی قتال أهل القبلة، وهم أهل الصغار والذلّ، رحمک الله یا أمیر المؤمنین وأوجب لک جنّات النعیم، والسلام»(1).

موقف الشهید الکربلائی فی صفین

لا یسع الإنسان وهو یتحدث عن صفّین إلاّ أن یقول بأنّها کشفت عن معادن الرجال، وبینّت حقائقهم من دعاواهم، فقد کانت مختبراً عظیماً علی کلّ الصُعْد، حیث رفعت أُناساً ووضعت آخرین، رفعت من ثبت فی دفاعه عن الحقّ، وخفضت من تزلزلت قدمه.

وربما ساقنا الحدیث إلی الحدیث عن صفّین وما جری فیها من مواقف وأحداث مهمة إلی الحدیث عن شهداء کربلاء الذین کان لجُلّهم مشارکة واضحة فیها، ومنهم شهیدنا الکربلائی یزید بن مغفّل الأزدی، والذی یتحدّث نصیر بن مزاحم عن بطولته وشهامته فی تلک الحرب، حیث یذکر بأنّه قاتل قتالاً شدیداً شهدت له فیه الأبطال حتی أثخن بالجراح وسقط علی الأرض، حتی لیحس کلّ من رآه سقط أنّه فارق الحیاة، وربما کان لسقوطه متابع من أحد

ص:181


1- (1) تاریخ الطبری: ج 4 ص 99.

اقربائه الأزدیّین من أهل الشام، فجاء وطلب الإذن فی أخذه یقول نصر بن مزاحم فی هذا المجال:

«فحدّثنا عمر قال: حدّثنا الصلت بن زهیر قال: حدّثنی عبد الرحمن بن مخنف قال: صرع(1) یزید بن مغفل إلی جنبی فقتلت صاحبه(2) وقمت علی رأسه، وقُتِلَ أبو زینب بن عروة فقتلت صاحبه، وجاءنی سفیان بن عوف(3) فقال: أقُتِلَ یا معشر الأزد یزید بن المَغْفَل؟ فقلت له: أی والله، إنّه لهذا الذی ترانی قائماً علی رأسه، قال: ومن أنت حیّاک الله؟ قلت: أنا عبد الرحمن بن مخنف، فقال: الشریف الکریم، حیاّک الله ومرحباً بک یا بن العمّ، ألا تدفعه إلیّ فأنا عمّه سفیان بن عوف ابن المَغْفَل، فقلت: مرحباً بک، أمّا الآن فنحن أحقّ به منک، ولسنا بدافعیه الیک، وأمّا ما عدا ذلک فلعمری أنت عمّه ووارثه»(4).

وهذه الروایة إن دلّت علی شیء فإنّها تدلّل علی أنّ الله سبحانه وتعالی إذا أراد بعبده خیراً، رغّبه فی الآخرة، وزهّده فی الدنیا، وهیّأ له الأسباب، ووفّقه للسعی والجدّ والاجتهاد، وألهمه الإخلاص، وهذا ما حصل مع الشهید الکربلائی، حیث بذل الجهد منذ کان شاباً یافعاً یوم أدرک رسول الله، وخاض معه ألوان المشقّة والعذاب، وتعرّض للکثیر من المصائب والآلام، ولمّا علم الله سبحانه

ص:182


1- (1) الصَرعُ: الطَرْحُ بالأرض، ولا تعنی بالضرورة القتل، ویقال للقتیل صریع تجوّزاً، لکونه مطروحاً علی الأرض.
2- (2) یعنی قاتله.
3- (3) هو سفیان بن عوف بن المَغْفَل الأزدی، وکان مع معاویة.
4- (4) وقعة صفین لنصر بن مزاحم: ج 4 ص 261-262.

صدقه، هیّأ له الأسباب لینال شهادة عظیمة کریمة تذکرها الأجیال خَلَفاً بعد سَلَف، وهی الشهادة التی نالها بین یدی أبی عبد الله الحسین علیه السلام.

الشهید فی کربلاء

لقد أعطانا الشهید الکربلائی درساً عظیماً فی التضحیة والفداء، وأنا أقطع بأنّ الشهید لم یزده تفرّق الناس عن علی علیه السلام أمیر المؤمنین وعن أهل البیت إلاّ وعیاً وفهماً وبصیرةً، ودارت الأیّام، وإذا بواقعة کربلاء تأتی من أجل أن یختم حیاته بالشهادة فیها مع الحسین علیه السلام بعد أن لقی جیش عمر بن سعد ما لم یکن یتوقعه من شدّة بأس أصحاب الحسین وصبرهم وتفانیهم، ولعلّ قتال الشهید یزید ابن مَغْفَل الأزدی وأصحابه هو الذی جعل قائد میمنة عمر بن سعد عمرو بن الحجّاج الزبیدی «یقول: یا أهل الکوفة، أتدرون من تقاتلون تقاتلون، فرسان المصر وأصحاب البصائر وقوماً مستمیتین لا یبرز الیهم أحد إلاّ قتلوه علی قلّتهم»(1).

یقول ابن شهر آشوب:

لمّا التحم القتال فی یوم العاشر استأذن یزید بن مَغْفَل الحسین فی البراز فأذن له، فتقدّم أمام القوم وهو یرتجز ویقول:

أنا یزیدٌ وأنا بن مَغْفَل وفی یمینی نصل سیف منجلِ

أعلو به الهامات وسط القسطل(2) عن الحسین الماجد المفضّلِ

ص:183


1- (1) مقتل الخوارزمی: ج 2 ص 15.
2- (2) القسطل: الغبار الذی تثیره حوافر الخیل فی الحرب.

وقال المرزبانی فی معجمه: «إنّه لمّا جدّ القتال تقدّم وهو یقول:

إن تنکرونی فأنا ابن مغفل شاکٍ لدی الهیجاء غیر أعزل

وفی یمینی نصل سیفٍ منصل أعلو به الفارس وسط القسطلِ

یقول: فقاتل قتالاً لم یَرُ مثله، حتی قتل جماعة من القوم إلی أن قتل رضی الله عنه»(1). بعدما أبلی أحسن البلاء، وبالغ فی الدفاع، وأعطی غایة المجهود، وتحرّک بأعلی درجات الإخلاص فالسلام علیک أیّها الشهید، یا من أثخنت بالجراح، وسالت منک الدماء، وسقطت إلی الأرض فی ساحات الوغی أکثر من مرّة، فالسلام علیک بما صبرت واحتسبت فنعم عقبی الدار یوم ولدت والسلام علیک بما صبرت واحتسبت فنعم عقبی الدار، والسلام علیک یوم استشهدت ویوم تبعث حیّاً مع الحسین علیه السلام.

ص:184


1- (1) ابصار العین: ص 120.

الشهید عبد الله بن بشر الخثعمی علیه السلام

اشارة

قمّة من قمم الإیمان، وصحابی من أصحاب رسول الله الأجلّاء، ورجل أنهکته الحروب والغزوات التی خاضها مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثمّ مع علی بن أبی طالب فی حروبه الثلاث، ثمّ مع الإمام الحسن علیه السلام فی أیّام محنته مع معاویة، وأخیراً ختمها بشهادة کریمة مبارکة أسال بها دمه الطاهر بین یدی سیّد الشهداء، ولسان حاله یقول: سیّدی أبا عبد الله، لو کنت أملک غیر هذه النفس لقدّمتها بین یدیک رخیصة، فکیف وهی نفس واحدة لا أملک غیرها، وکان هو وأبوه من رواة الأحادیث، بل وکان أحفاده من العلماء الکبار والرواة الکرام وحملة العلوم الدینیة، ولهم مواقف مشهودة کما سیأتی الحدیث عنها.

اسم الشهید ونسبه

اشارة

ینتسب الشهید الکربلائی إلی قبیلة خثعم فی أحسن الأقوال وأصحّها، وذلک لورود الاختلاف فی اسمه ونسبه، حیث نسبه بعضهم إلی الخثعمی ونسبه آخرون إلی الجشعمی وبعضهم إلی الغنوی، وسیأتینا بعد ذلک ثمرة الأخذ بالرأی

ص:185

الأقوی والأصحّ وهو الخثعمی دون غیره(1).

وقد ورد الاختلاف فی اسمه واسم أبیه، حیث ذهب بعضهم إلی أنّ اسمه عبد الله وبعضهم إلی عبید الله وبعضهم إلی عبید من دون إضافة، وکذلک ورد نفس الشیء فی اسم أبیه، حیث ذهب البعض إلی أنه بشر والآخر إلی بشیر(2) ، وإن کان الأقوی والأصحّ أنّه عبد الله بن بشر الخثعمی دون غیره.(3)

قبیلة الشهید (خثعم)

اختلف العلماء وأهل الأنساب فی خثعم إلی أقوال، حیث نسبها بعضهم إلی قحطان، وإن کان الاشهر أنّها تنتهی إلی قبیلة عدنان، علی أساس أنّ کلّاً من قحطان وعدنان کان له ولد من أحفاده یقال له خثعم.

وهناک من یذهب إلی أنّ خثعم إنّما هو اسم جبل بالسراة، فمن نزل ذلک الجبل فهو خثعمی، قاله الخلیل والزبیر بن بکار، وقال أبو عبیدة، خثعم التلطّخ بالدم، حیث کان هناک جمل نحروه اسمه خثعم، وغمسوا أیدیهم فی دمه، وهناک من یذهب إلی غیر ذلک(4).

وتقطن هذه القبیلة منطقة سراة فی الیمن، مع عدد من القبائل من بینها بجیلة

ص:186


1- (1) السلسلة الضعیفة للألبانی: ص 778.
2- (2) إبصار العین للسماوی: ص 133؛ تعجیل المنفعة لابن حجر: ص 524.
3- (3) إبصار العین: ص 133.
4- (4) معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، عبد الله بن عبد العزیز البکری الأندلسی، تحقیق مصطفی السقّا: ج 2 ص 489.

وغامد وبارق وغامق والأزد، ومن مدن خثعم تبالة وبیشة وشمال جرش، وشرقیها، ولمّا أرسل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم صُرد بن عبد الله الأزدی لقتال المشرکین من خثعم، تحصّنوا فی جرش. وأمّا قصّة إسلامها فیقال إنّه لمّا قدم جریر بن عبد الله البجلی المدینة مع وفد بجیلة، أمره رسول الله بتحطیم صنم ذی الخلصة، وهو صنم أبیض متوّج، فتوجّه جریر إلی قبیلته واستعان ببنی أحمس، فتوجّهوا إلی الصنم المذکور وقتلوا مائة رجل من باهلة ومائتی رجل من خثعم کانوا حُجّاباً لذی الخلصة، وهزموا الباقین، ثمّ ضربوا الصنم وأحرقوه وأضرموا فیه النیران، وبعد تخریب ذی الخلصة قدم إلی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عثعث بن زحر، وأنس ابن مدرک فی رجال من خثعم وأعلنوا إیمانهم بالله وبرسوله وبما جاء به الرسول، فکتب لهم رسول الله کتاباً أباح فیه کلّ دم سفکوه فی الجاهلیة، وأمرهم بالتصدّق بعشر غلات أراضیهم الدیمیة والمسقیة، وعیّن لهم حدود مراتعهم(1).

وهناک روایة أخری فی إسلامهم تدلّل علی أنّهم کانوا من أهل الفکر والوعی والبصیرة، بحیث کانوا من الموفّقین ان طلبهم الله عزّ وجلّ لدینه وإسلامه، بحیث تحوّل مثل هذا الأمر إلی معجزة وکرامة لرسول الله، أوردها بعضهم فی باب دلائل رسول الله علی نبوته.

قال الخرائطی: «وحدثنا عبد الله بن محمد البلوی بمصر، حدثنا عمارة بن زید، حدثنا إسحاق بن بشر وسلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، حدثنی شیخ من الأنصار یقال له عبد الله بن محمد، من آل محمد بن مسلمة قال: بلغنی أنّ

ص:187


1- (1) لبّ الألباب فی معرفة الأنساب للسیوطی، باب الحاء والثاء (خثعمی).

رجالاً من خثعم کانوا یقولون: إنّ ممّا دعانا إلی الإسلام أنّا کنّا قوماً نعبد الأوثان، فبینما نحن ذات یوم عند وثن لنا اذ أقبل نفر یتخاصمون الیه یرجون الفرج من عنده لشیء شجر بینهم، إذ هتف هاتف بهم یقول:

یا أیّها الناس ذوو الأجسام من بین أشیاخٍ إلی غلّام

ما أنتم وطائش الأحلام ومسند الحکم إلی الأصنام

اکلّکم فی حَیْرةِ النیامِ أم لا ترون ما الذی أمامی

من ساطعٍ یجلو دجی الظلام قد لاح للناظر من تُهام

ذاک نبیٌّ سیّد الأنام قد جاء بعد الکفر بالإسلام

أکرمه الرحمن من إمام ومن رسولٍ صادقِ الکلام

أعدل ذی حکمٍ من الأحکام یأمر بالصَلاة والصیام

والبرّ والصِلات للأرحام ویزجر الناس عن الآثام

والرجس والأوثان والحرام من هاشمٍ فی ذروة السنام

مستعلناً فی البلد الحرام

قال: فلما سمعنا ذلک تفرّقنا عنه وأتینا إلی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأسلمنا عنده».(1)

ومهما یکن فلقد أسملت هذه القبیلة، وأخرجت الرجال والنساء الذین وقفوا مواقف مشرّفة فی الدفاع عن الإسلام، فکانوا من أکثر الناس شجاعة وعلماً وعبادة وحلماً نذکر منهم علی سبیل المثال لا الحصر، النعمان بن محمیة الخثعمی، یقال له ذو الأنف، والذی قاد خیل خثعم إلی النبی یوم الطائف وکانوا مع ثقیف، وعبد الله بن حبش، وهو أحد رواة الحدیث وأبو رویحة الخثعمی،

ص:188


1- (1) دلائل النبوة لأبی نعیم: ج 1 ص 145 ح 64؛ بحار الأنوار: ج 6 ص 319.

عون بن عمیس أخو أسماء، الذی قتل یوم الحرّة من قبل جیش یزید، سلمی بنت عمیس، أسماء بنت عمیس، سلمی بنت أنس، عبد الله بن یزید الخثعمی، بشر بن عمارة الخثعمی، ثعلبة بن مسلم الخثعمی، حصین بن عوف الخثعمی، وآخرین لا یسعنا ذکرهم.

والد الشهید

هو بشر بن ربیعة الخثعمی، وهو صحابی جلیل، أسلم فیمن أسلم من خثعم وحسن إسلامه، وقد عُرف الرجل بشجاعته المتمیّزة فی ساحات القتال حتی عرّفه العلماء بأنّه کان له ذکر فی المغازی والحروب(1).

ولقد کانت له مواقف کثیرة، یذکرها المؤرّخون، فی شجاعته وبطولته فی ساحات الوغی، وخصوصاً فی معرکة القادسیة، حیث أبلی بلاءً حسناً فیها، حتی «أن سعداً بن أبی وقّاص حینما أراد أن یوزّع الغنائم بقیت فضلة، فکتب إلی عمر ما یفعل بها، فکتب الیه عمر أن فضّها علی حملة القرآن، فجاء عمرو بن معدی کرب فسأل سعداً عنها، فقال له: ما معک من کتاب الله؟ قال: شغلت بالقتال والجهاد عن حفظه، فقال: مالک فی هذا نصیب، ثمّ جاء بشر الخثعمی فقال له: ما معک من کتاب الله؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحیم، فضحک وضحک من کان حوله، فلم یعطه شیئاً، ثمّ کتب إلی عمر مرّة ثانیة، فجاءه الجواب أن أعطهما بسبب بلائهما، فأعطی کلّ واحد منهما الغبن»(2).

ص:189


1- (1) إبصار العین للسماوی: ص 133.
2- (2) الإصابة لابن حجر، بشر بن ربیعة: ج 1 ص 770.

وینقل أنّه قال أبیاتاً من الشعر فی نفس تلک الواقعة بعثها إلی عمر، منها:

أنختُ (1) بباب القادسیّة ناقتی وسعدُ بنُ وقّاصٍ علیّ أمیرُ

تَذکّرْ هداک الله وقع سیوفنا بباب قدیسٍ والمکرُّ عسیرُ

عشیّةَ ودَّ القوم لو أنّ بعضهم یُعار جناحی طائر فیطیرُ

إذا ما فرغنا من قراعِ کتیبةٍ دلفنا لأخری کالجبال نسیرُ(2)

ولا شکّ أنّ کلّ من یقرأ هذه الأبیات یتبادر إلی ذهنه کم کان والد الشهید الکربلائی شجاعاً وقویاً وصاحب صولات وجولات فی ساحات الوغی، بحیث إنّه یشبّه نفسه بالجبل، وربما قولة عمر التی قالها إلی سعد بأن یعطی کلّاً منهما لبلائه فی الحرب، لتکشف وبشکل واضح، دوره الکبیر فی معرکة القادسیة بل وغیرها من المعارک، لأنّ من کانت طبیعته فی معرکة من المعارک هکذا فهو فی غیرها لا شکّ علی نفس الشاکلة، لأنّ الطبیعة الإنسانیة لا تتجزّأ.

ومع کلّ ذلک، فإنّ الرجل کان من المبرّزین فی المیادین الاجتماعیة، بل کان سیّداً فی قومه ورئیساً لهم، بل ومعتمداً عندهم وعند أهل الکوفة، حیث ورد فی کتب التاریخ حینما أرادت القبائل أن تجعل لها مراکزلتجمّعاتها، وجبّانات لدفن موتاها اتّخدت قبیلة بشر لنفسها خطّة وجبّانة باسم بشر، یقول باقر شریف القرشی فی کتابه حیاة الإمام الحسین علیه السلام(3): «فکانت کلّ قبیلة تنزل فی حی معیّن لها لا یشارکها فیه إلّا حلفاؤها، کما کان لکلّ قبیلة مسجدها الخاصّ

ص:190


1- (1) فی بعض المصادر: وحلّت بدل أنخت، وفی أخری تحنّ.
2- (2) الوافی بالوفیّات للصفدی، ج 10، ص 92.
3- (3) حیاة الإمام الحسین: ج 2 ص 435-436.

ومقبرتها الخاصّة، ویری ماسنیون أنّ جبّانات الکوفة هی إحدی الصفات الممیّزة لطبوغرافیتها».

جبّانة بشر الخثعمی فی الکوفة

ومن هنا نفهم أنّه حینما تسمی هذه الخطّة والجبانة باسم بشر الخثعمی والد الشهید الکربلائی فإنّ هذا یکشف عن أنّ الرجل یحتلّ منزلة اجتماعیة ودینیة متمیّزة فی الکوفة بشکل عام، وفی قومه بشکل خاصّ، ویتأکّد لنا هذا الأمر إذا ما علمنا أنّ الجبّانات فی داخل الکوفة لم تکن لدفن الموتی فقط، وإنّما کانت محلّاً لتجمّعات القبیلة ومناقشة أمورها، بل مقرّاً عسکریاً واجتماعیاً وإداریاً، کما یصرّح بذلک من کتب عن الجبّانات فی الکوفة، والدلیل علی ذلک أنّه حینما أراد المختار أن یخرج علی بنی أمیّة فی الکوفة، جعل من هذه الجبّانات تجمّعات عسکریة لبعض القبائل التی انضوت تحت لوائه، وقد أدرک الوالی لبنی أمیّة هذا الأمر، فبعث عبد الرحمن بن سعید بن قیس الهمدانی إلی جبّانة السبیع وقال له اکفنی قومک ولا تحدثنّ بها حدثاً، وبعث کعب بن أبی کعب الخثعمی إلی جبّانة بشر بنفس الشیء، وبعث زحر بن قیس الجعفی إلی جبّانة کندة، وهکذا جبّانة العائدین، وجبّانة سالم، وجبّانة المراد(1) ، وهکذا بقیة الجبّانات، ممّا یدلّل علی أهمّیتها فی داخل الکوفة، وهذا یعنی أنّ من تنسب الیه لا شکّ أنّه یحتلّ منزلة اجتماعیة کبیرة فی قومه وفی القبائل وفی الکوفة، وهذا ما نرید أن نصل إلیه.

ص:191


1- (1) ابن الأثیر، الکامل: ص 726.
أقوال العلماء فی الشهید الکربلائی

1. یقول ابن الأثیر «عبد الله بن بشر الخثعمی، وهو أنصاری من بنی خثعم ابن أنمار بن الحراش بن عمرو بن القوت من الأزد القحطانیة، وهم إخوة بجیلة».(1)

2. یقول المبارکفوری: «عبد الله بن بشر الخثعمی، أبی عمیر، الکاتب الکوفی، صدوق من الرابعة».(2)

3. یقول الشیخ السماوی: «وکان عبد الله بن بشر الخثعمی ممّن خرج مع عسکر ابن سعد ثمّ صار إلی الحسین».(3)

4. یقول السید الزنجانی: «کان عبد الله بن بشر الخثعمی من مشاهیر الکماة الحماة للحقائق وله ولأبیه ذکر فی المغازی والحروب».(4)

5. قال ابن حجر: «عبد الله بن بشر الخثعمی، روی عن أبیه، وله حجبة».(5)

ومن خلال ما ذکره العلماء وما نقلوه عنه من روایات وما نقله هو رضی الله عنه من روایات وأحادیث، عَدّه العلماء عند الفریقین من أجلّاء الرواة الموثّقین، وقد ذکره العلماء فی أسانیدهم وکتب الحدیث عندهم، حیث روی عنه الترمذی

ص:192


1- (1) ج 1 ص 286.
2- (2) تحفة الأحوازی بشرح سنن الترمذی: (3310).
3- (3) إبصار العین: ص 133.
4- (4) وسیلة الدارین رقم 96.
5- (5) تعجیل المنفعة: ص 524.

والنسائی والبخاری وأحمد بن حنبل وآخرون، فضلاً عن علماء مدرسة أهل البیت، حیث وضعوه فی مقدّمة الرواة الموثّقین الذین یؤخذ منهم ولا یسأل عنهم، وها نحن فی هذه الوریقات القلیلة نحاول أن نسلّط الأضواء علی بعض هذه الروایات التی رواها الشهید الکربلائی عن رسول الله وعن أهل البیت علیهم السلام لنجعل منها طریق هدایةٍ نسیر فیه للوصول إلی رضوان الله سبحانه وتعالی.

مع الشهید الکربلائی فی روایاته

1. روی النسائی فی باب الاستعاذة من کآبة المنقلب(1): «عن عبد الله بن بشر الخثعمی عن أبی زرعة عن أبی هریرة قال: کان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم اذا سافر فرکب راحلته قال بإصبعه هکذا، ومدّ شعبة إصبعه وقال: «اللهمّ أنت الصاحب فی السفر والخلیفة فی الأهل والمال والولد، اللهمّ إنّی أعوذ بک من وعثاء السفر وکآبة المنقلب». ما أجمل هذا الدعاء وما أعظم هذه الروایة، حیث تتحدّث عن ذلک الإنسان الذی یعزم علی السفر فیعیش فی نفسه بعض المخاوف المتعلّقة بسفره أو بمن یخلّفهم وراءه، فیأتی هذا الدعاء لیربط علی قلب هذا الإنسان إذا فوض أموره إلی الله تعالی فی جمیع الأحوال، واستودعه جمیع ودائعه، وهو الذی لا تضیع لدیه الودائع.

2. روی البیهقی وغیره عن علی بن حرب، حدثنا عبد الله بن بشر الخثعمی «عن رجل من قومه، أنّ رجلاً سقطت علیه جرّة من دیر بالکوفة وفیها ورق، فأتی بها علیاً فقال له: قسّمها خمسة أقسام (أخماساً) ثمّ قال: خذ منها أربعة ودع واحدة،

ص:193


1- (1) النسائی، باب الاستعاذة من کآبة المنقلب: ج 4 ص 460، الترمذی/ ح 3769.

ثمّ قال: فی حیک فقراء أو مساکین؟ قال: نعم، قال: خذها قسّمها فیهم»(1).

وقد روی هذه الروایة باختلاف یسیر کذلک المغنی لابن قدامة، حیث جاء فیه: «أنّ علیاً أمر صاحب الکنز أن یتصدّق علی المساکین؛ حکاه الإمام أحمد وقال: حدّثنا سعید، حدّثنا سفیان عن عبد الله بن بشر الخثعمی عن رجل من قومه یقال له ابن حممة قال: سقطت علیّ جرّه من دیر قدیم بالکوفة عند جبّانة بشر، فیها أربعة آلاف درهم، فذهبت بها إلی علی علیه السلام فقال: أقسمها خمسة أخماس، فقسمتها فأخذ علی منها خمساً وأعطانی أربعة أخماس، فلمّا أدبرت دعانی فقال: فی جیرانک فقراء ومساکین؟ قلت نعم، قال: فخذها وقسّمها بینهم»(2).

وهناک آخرون رووا مثل هذه الروایة، عن الشهید الکربلائی، وهناک جملة من النقاط المهمة علی هذه الروایة والتی نودّ أن نسلّط الأضواء علیها.

1. إنّ أول ما یتبادر إلی الذهن ونحن نقرأ هذه الروایة التی رواها لنا الشهید الکربلائی حول الخمس، أنّه یتعلّق لیس فقط فی غنائم الحرب، بل یتعلّق بکلّ غنیمة یحصل علیها الإنسان أیّاً کان مصدرها إن کانت من الحلال، وهذا ما طبّقه أمیر المؤمنین مع الرجل الذی سقطت علیه الجرّة من تلک الکنیسة والتی عدّها الإمام من جملة المغانم التی حصل علیها هذا الإنسان، فأخرج منها خُمسها واعطی الباقی له، وهذا الحکم یمثّل الرأی الذی تذهب الیه مدرسة أهل البیت، والتی لا تجعل الخمس محصوراً فی باب غنائم الحرب بل یشمل کلّ

ص:194


1- (1) سنن البیهقی، کتاب الزکاة، باب الرکاز.
2- (2) المغنی لابن قدامة، باب الزکاة، الفصل الرابع.

غنیمة یحصل علیها الإنسان انطلاقاً من معنی الغنیمة الذی یشمل غنائم الحرب وغیرها لغة، وهو قوله:

«أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ 1» .

حیث یذهب علماؤنا إلی أنّ الآیة وإن نزلت فی مورد خاصّ، فإنّ خصوص المورد لا تخصّص الوارد، کما هو مسلّم عند الأصولیین. یقول السیّد الطبطبائی فی المیزان(1): «قوله:

«أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ» .

الغنم والغنیمة، إصابة الفائدة من جهة تجارةٍ أو عملٍ أو حرب، وینطبق بحسب مورد نزول الآیة علی غنیمة الحرب.

قال الراغب(2) الغنم - بفتحتین - معروف، قال:

«وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَیْهِمْ شُحُومَهُما4» .

والغنم - بالضم والسکون - إصابته والظفر به، ثمّ استعمل فی کلّ مظفور به من جهة العِدی وغیرهم قال:

ص:195


1- (2) تفسیر المیزان، سورة الأنفال، الآیة: 41.
2- (3) مفردات الراغب: ص 378.

«وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ1» «فَکُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَیِّباً2» .

والمغنم ما یغنم، وجمعه مغانم، قال:

«فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ کَثِیرَةٌ 3» انتهی.

بینما تذهب المدرسة الأخری إلی أنّ الخمس فی خصوص غنائم الحرب، لأنّها نزلت فیها فنقتصر علی مورد النزول ولا نعمم، هذا من جهة، ومن جهة أخری فإنّ الجرّة التی سقطت علی رأس الرجل من تلک الکنیسة التی یبدو أنّها کانت مهجورة وقدیمة لا یدخل إلیها أحد، وقد هجرها أهلها وجُهل موضع أصحابها، کانت تحمل أربعة آلاف درهم، ممّا کان یعنی أنّها أدخلت فی باب الکنز والرکاز، والذی یُعدّ واحداً من جملة موارد الخمس التی ذکرها الفقهاء وعمل بها حسب مدرسة أهل البیت، یقول الشیخ محمد جواد مغنیة: «الکنز ویسمی رکازاً، من رکز فی الأرض اذا خفی، ومنه قوله تعالی:

«أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِکْزاً» .

أی صوتا خفیّاً، والمراد به هنا المال المدفون فی الأرض، نقداً کان او جوهراً، علیه أثر الإسلام او الجاهلیة، وجد فی أرض أهل الحرب أو السلم، فإنّ من وجد شیئاً من ذلک فهو ملک له وعلیه خمسه اذا بلغ النصاب، وهو عشرون

ص:196

دیناراً، ولا شیء فیما دون ذلک. سُئل الإمام الرضا علیه السلام عن مقدار الکنز الذی یجب فیه الخمس فقال:

«ما تجب فیه الزکاة من ذلک بعینه ففیه الخمس، وما لم یبلغ حدّ ما تجب فیه الزکاة فلا خمس فیه، أی ما قیمته عشرون دیناراً أو أربعمائة درهم

ص:197

وأعلم ما فی النار وأعلم ما کان وما یکون

ص:198

متعدّدة یرویها الفریقان عن رسول الله والأئمة الهداة من أهل البیت، وکلّ ما ورد من نصوص فی هذا المجال فیحمل علی العلم اللا استقلالی بالغیب فی قبال العلم الاستقلالی الذاتی، والذی هو من مختصّات الله سبحانه، وغیر هذا الکلام لا یقول به مسلم لا فی شرق الأرض ولا فی غربها، فلا یقول أحد بأنّ نبیّاً من الأنبیاء أو ولیّاً من الأولیاء یعلم الغیب بشکل ذاتی استقلالی، وإنّما یقول بأنّ الله أعلمه وأطلعه فأطلع الناس علیه، وهناک مجموعة من النصوص أودّ أن أضعها بین أیدیکم لتتبیّنوا ان ما یثیره الحاقدون لا مبرّر له ولا واقع، وأنّه من محض نسائج الشیطان التی یخیطها فی أذهان الجهلة، فقد ذکر لنا القرآن الکریم نماذج من تلک العلوم الغیبیة التی أعطاها الله عزّ وجلّ لأنبیائه لمصلحة یعلمها هو، ألم یخبر یوسف أباه یعقوب برؤیاه فقال له أبوه:

«یا بُنَیَّ لا تَقْصُصْ رُؤْیاکَ عَلی إِخْوَتِکَ فَیَکِیدُوا لَکَ کَیْداً1» .

وکذلک حینما أخبر یوسف صاحبیه فی السجن بتأویل رؤیاهما:

«أَمّا أَحَدُکُما فَیَسْقِی رَبَّهُ خَمْراً2» .

وقال للثانی الذی رأی أنّه یحمل فوق رأسه خبزاً تأکل الطیر منه:

«وَ أَمَّا الْآخَرُ فَیُصْلَبُ فَتَأْکُلُ الطَّیْرُ مِنْ رَأْسِهِ 3» .

وهکذا حینما یتحدّث القرآن بعد ذلک عن یعقوب حینما فصلت العیر فقال

ص:199

لأبنائه:

«إِنِّی لَأَجِدُ رِیحَ یُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ 1» .

وکذلک حینما یتحدّث عن عیسی علیه السلام:

«وَ أُنَبِّئُکُمْ بِما تَأْکُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِکُمْ 2» .

ألیست هذه إخبارات بالغیب من قبل رسل الله، عن الله سبحانه، فإذا ثبت هذا الأمر فلم لا یمکن أن یثبت مثله لأئمّة أهل البیت علیهم السلام ومن ثم فهم یخبرون عن بعض المغیّبات لمصلحة یراها الله سبحانه وتعالی خصوصاً إذا علمنا أنّ هناک آخرین کذلک أخبروا عن المُغیّبات، وهل أنّ علیّاً أقلّ شأناً من هارون؟ وهل علی أقل من کعب الأحبار؟ الذی أخبر الخلیفة الثانی بوفاته حیث أخبره بأنّه سیموت بعد ثلاثة أیّام(1) ، وکذلک فی مسند أحمد(2) أنّ عمر بن الخطّاب أخبر بموته بسبب رؤیا رآها، وکان بین رؤیاه ومصرعه أسبوع واحد؟!

إذن فعلم الله منحصر به اذا أرید به العلم بالذات والاستقلال، وأمّا ما یکون بالواسطة فهو جائزٌ لکلّ من أراد الله إطلاعه علی الغیب، وعلمهم علیهم السلام هو من هذا النوع، ولقد قرأت روایة ذکرها کتاب ینابیع المودة، وهی أنّ الإمام الباقر علیه السلام قال:

«لمّا نزلت الآیة:

ص:200


1- (3) تاریخ الطبری: ص 629.
2- (4) مسند أحمد: ج 1 ص 48.

«وَ کُلَّ شَیْ ءٍ أَحْصَیْناهُ فِی إِمامٍ مُبِینٍ 1» .

قام رجلان فقالا: یا رسول الله، من الإمام المبین، أهو التوراة؟ قال: لا قالا: فهو الإنجیل؟ قال: لا، قالا: فهو القرآن؟ قال: لا، فأقبل أمیر المؤمنین فقال رسول الله: هذا هو الإمام المبین الذی أحصی الله فیه علم کل شیء»(1)).

ومن ثم من الممکن أن یطّلع النبی والإمام علی بعض الأمور الغیبیة من قبل الله، لمصلحة هو یراها کموت إنسان أو بیان ما یجری فی المستقبل أو بعض أحوال الماضی، أو کما یقول الإمام إنه یعلم ما فی الجنّة وما فی النار، وبغضّ النظر عن علم الإمام الذی خصّه الله به، فإنّه قد ورد فی کتب الفریقین أنّ الناس والأصحاب کانوا یعرفون المؤمن من غیره من خلال بغضه وحبه لعلی بن أبی طالب، وهو قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

«هذا فاروق أمّتی؛ یفرق بین أهل الحقّ والباطل»(2)).

حتی إنّ أمّ سلمة قالت: کان رسول الله یقول:

«لا یحبّ علیاً منافق ولا یبغضه مؤمن»(3)).

فإذا ثبت ذلک فإن علم الإمام قد یکون تعلّق بهذه النتائج، وفقاً للقانون

ص:201


1- (2) ینابیع المودّة: ج 1 ص 77 طبعة ترکیا.
2- (3) البدخشی صاحب مفتاح النجاح فی نزل الأبرار: ص 21 و 47.
3- (4) الترمذی فی جامعه: ج 2 ص 213، البیهقی فی المحاسن والمساوی: ج 1 ص 29.

الذی وضع بین یدیه، ومن هنا تفهم مغزی تلک الروایات التی وردت فی کتب المسلمین من أنّ علیاً قسیم الجنّة والنار(1). وأختمها بروایة جمیلة ذکرها الشیخ الطوسی فی أمالیه(2):

عن المفضّل بن عمر قال: «قلت لأبی عبد الله الصادق علیه السلام: لم صار أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب قسیم الجنّة والنار؟ قال:

لأنّ حبّه إیمان وبغضه کفر، وإنّما خلقت الجنّة لأهل الإیمان وخلقت النار لأهل الکفر، فهو علیه السلام قسیم الجنّة والنار لهذه العلة فالجنة لا یدخلها إلاّ أهل محبّته، والنار لا یدخلها إلاّ أهل بغضه، قال المفضّل: قلت: یا بن رسول الله، فالأنبیاء والأوصیاء علیهم السلام کانوا یحبّونه، وأعداؤهم کانوا یبغضونه؟ قال: نعم، قلت: فکیف ذلک؟ قال أما علمت أنّ النبی قال یوم خیبر: لأعطینّ الرایة غداً رجلاً یحبّ الله ورسوله، ویحبّه الله ورسوله، ما یرجع حتی یفتح الله علی یدیه؟ قلت: بلی، قال: أما علمت أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لمّا أتی بالطائر المشوی قال صلی الله علیه و آله و سلم: اللهمّ ائتنی بأحبّ خلقک الیک یأکل معی هذا الطائر، وعنی به علیاً؟ قلت: بلی، قال: فهل یجوز أن لا یحبّ الله ورسوله؟ فقلت له: لا، قال: فهل یجوز أن یکون المؤمنون من أُممهم لا یحبّون حبیب الله وحبیب رسوله؟ قلت له:

ص:202


1- (1) الخوارزمی: ص 209. ابن حجر فی الصواعق: ص 126.
2- (2) الشیخ الطوسی، الأمالی: ص 18.

لا، قال: فقد ثبت أنّ أنبیاء الله ورسله وجمیع المؤمنین کانوا لعلی ابن أبی طالب محبّین، وثبت أنّ أعداءهم والمخالفین لهم کانوا لهم ولجمیع أهل محبّتهم مبغضین، قلت: نعم، قال: فلا یدخل الجنّة إلاّ من أحبّه من الأوّلین والآخرین، ولا یدخل النار إلاّ من أبغضه من الأوّلین والآخرین، فهو إذاً قسیم الجنّة والنار».

ومع کلّ ما ذکرنا، فإنّ الإمام الحسین حینما رأی أنّ ذلک کبر علی من سمع حدیثه، حاول استدراک الأمر، ونسب کلّ ما ذکره إلی القرآن الکریم الذی کانوا علیه حفظة، حیث یقول:

«تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ1» .

أفبعد هذا کلّه یمکن أن یأتی مخرّف هنا أو جاهل هناک یحمل هذه الروایة وأمثالها علی جهله وقلة معرفته بالشریعة، ویمزجها بحقده وکراهیّته لأئمّة أهل البیت ولمدرستهم ومحبیّهم، فیشنّع علی هذه الروایة وأمثالها، وفیما ذکرناه کفایة لمن کان له قلب أو ألقی السمع وهو شهید.

2. ما یتعلّق بالشهید الکربلائی الذی نقل هذه الروایة عن الحسین علیه السلام فإنّه کان موالیاً له وعارفاً بحقّه، حیث یؤکّد علی مدی حبّه وإیمانه وعقیدته بأئمّة أهل البیت علیهم السلام وأنّهم أعلم هذه الأمّة بدینها ودنیاها، ومن ثم فهم الأولی بالاتّباع من غیرهم الذین هم إلی الجهل أقرب منهم إلی العلم، علی أنّ هذا العلم الذی یذکره لنا الإمام إنّما هو من الکتاب العزیز حیث یقول:

ص:203

«وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ 1» .

3. روی عن عبد الله بن بشر الخثعمی عن أبیه أنّه قال: «لتفتحنّ القسطنطینیة، فلنعم الأمیر أمیرها ولنعم ذلک الجیش»(1). هذا الحدیث یمکن ان ینظر له من جوانب متعددة:

ألف: السؤال الذی یخالج ذهن کلّ من یقرأ هذا الحدیث: لماذا القسطنطینیة بالذات دون غیرها؟ ولماذا جیشها بالذات خیر جیش، وأمیرها بالذات خیر أمیر؟ ألم تکن هناک فتوحات أعظم شهدها التاریخ الإسلامی، کفتح القدس وغیرها ولماذا یا تری الترکیز علی الأمیر الذی کانت له حصّة الأسد فی هذه الکرامة والنبوءة النبویة؟

وقبل أن نجیب عن هذا التساؤل نودّ الإشارة إلی أنّ کتب التاریخ والحدیث، روت حدیثاً آخر ربما یکون مکمّلاً لهذا الحدیث المکذوب علی رسول الله، حیث یتبیّن لک من خلال هذین الحدیثین أسباب وضعهما، حیث ینقل البخاری فی صحیحه(2):

«فحدّثتنا أمّ حرام أنّها سمعت النبی صلی الله علیه و آله و سلم یقول: أوّل جیش من أمّتی یغزون البحر قد أوجبوا، قالت أمّ حرام: قلت: یا رسول الله، أنا فیهم؟ قال: أنت فیهم، ثمّ

ص:204


1- (2) احمد: ج 4 ص 336، الطبرانی فی الکبیر: ج 2 ص 38، البخاری فی التاریخ الکبیر: ج 2 ص 81 والصغیر 1482.
2- (3) البخاری فی صحیحه: ج 3 ص 232.

قال: أوّل جیش من أمّتی یغزون مدینة قیصر مغفور لهم، قلت: أنا فیهم یا رسول الله، قال لا».

ولا شکّ أنّ الواضع لهذین الحدیثین أراد من خلالهما إضفاء منقبة لمعاویة وولده یزید، من أنّ کلاً منهما قد استحقّ الجنّة، فلا مشکلة فی قتال معاویة لعلی بن أبی طالب وسفکه دماء مئات الآلاف من المسلمین، لأنّه وببساطة أوّل من غزا البحر، فهذه کافیة لأن تعفو عن کلّ تلک الدماء التی أزهقها معاویة بنفسه أو بسببه، والفتن التی أجّج نیرانها معاویة، والتی ما زالت إلی الآن آثارها قائمة بین المسلمین؛ کما أنّ الغفران موصول إلی یزید لأنّه أوّل من غزا القسطنطینیة، فهو مغفور له حتی لو قتل الحسین علیه السلام سید الشهداء وأباد عترته وذریته وأصحابه بل یزید مغفور له حتی ولو ضرب الکعبة وأباح مدینة رسول الله لجنده ثلاثة أیّام یفعلون بها ما یشاؤون، بل هو مغفور له حتی لو صنع ما صنع من المنکرات الجسام والذنوب العظام. یقول فتح الباری(1): «قال المهلّب: فی هذا الحدیث منقبة لمعاویة لأنّه أوّل من غزا البحر، ومنقبة لولده یزید لأنّه أوّل من غزا القسطنطینیة».

وأغلب ظنّی، بل یقیناً أنّ ابن تیمیة قد تنفّس الصعداء وأخذت أساریر وجهه تنبسط بالفرح حینما وجد دلیلاً وشاهداً علی أنّه سیُغفر لإمامه الذی سیحشر معه، یزید بن معاویة کل تلک الجرائم والعظائم التی لم یشهد له التاریخ مثیلاً،

ص:205


1- (1) فتح الباری: ج 6 ص 74.

لمجرّد فتحه القسطنطینیة، حیث یقول فی مجموع الفتاوی(1): «ومع هذا فإنّ کان فاسقاً أو ظالماً فالله یغفر للفاسق والظالم، لا سیّما اذا أتی بالحسنات العظیمة».

وبعد هذا الکلام أظنّک لا تحتاج لبیان أنّ کلّ کلمة قالها ابن تیمیة فی تعلیقته علی هذا الحدیث إنّما هی قنبلة موقوتة قد تنفجر فی کلّ المساجد وأماکن العبادة وتقطّع أشلاء المصلّین، کما هو واقع الحال فی زمننا هذا، للأسف الشدید، فی العراق وأفغانستان وباکستان، وغیرها من المناطق العربیة والإسلامیة فضلاً عن الغربیة، وفی النهایة سیُغفر لهذا الظالم جمیع ما اقترفه من المظالم إذا جاء ببعض الأعمال الحسنة الصالحة ومن ثم فإنّ کلام ابن تیمیة سیطلق أیدی الظلمة فی أن یبعثوا بمقدّرات هذه الأمّة ومقدّساتها.

وقد ردّ علماء السنّة قبل علماء الشیعة علی مثل هذه الروایات، حیث ینقل المنّاوی فی فیض القدیر(2):

«وأوّل جیش من أمّتی یغزون مدینة قیصر الروم، یعنی القسطنطینیة، أو المراد مدینته التی کان بها یوم قال النبی الأکرم ذلک، وهی حمص، وکانت دار مملکته إذ ذاک (مغفور لهم) لا یلزم منه کون یزید بن معاویة مغفور له لکونه منهم، إذ الغفران مشروط بکون الإنسان من أهل المغفرة، ویزید لیس کذلک لخروجه بدلیل خاصّ، ویلزم من الجمود علی العموم أنّ من ارتدّ ممّن غزاها مغفور له، وقد أطلق جمعٌ محقّقون حلّ لعن یزید به، حتی قال التفتازانی: الحقّ أنّ

ص:206


1- (1) مجموع الفتاوی لابن تیمیة: ج 3 ص 413.
2- (2) فیض القدیر للمنّاوی: ج 3 ص 109.

رضا یزید بقتل الحسین، وإهانته أهل البیت علیهم السلام ممّا تواتر معناه، وإن کان تفاصیله آحاداً، ونحن لا نتوقّف فی شأنه بل فی إیمانه، لعنة الله علیه وعلی انصاره وأعوانه».

وإن کان بعض المؤرّخین یذکرون، وهو الحقّ أنّ یزید لم یخرج وتثاقل عن الذهاب للغزوة، حیث یذکر ابن عساکر(1).

«بعث معاویة جیشاً إلی الروم، فنزلوا منزلاً یقال له الفرقدونة، فأصابهم بها الموت وبلاء شدید، فکبر ذلک علی معاویة، فاطّلع یوماً علی ابنه وهو یشرب وعنده قینة تغنی، فقال: ُقسم علیک لترحلنّ حتی تنزل مع القوم وإلاّ خلعتک، فتهیّأ یزید للرحیل وکتب إلی أبیه:

تجنّی لا تزال تُعدُّ ذنباً لیقطع وصل حبلک من حبالی

فیوشک أن یریحک من بلائی نزولی فی المهالک وارتحالی»

بل ربما یفهم من شعر یزید الذی یذکره البلاذری من أنساب الأشراف(2) ، أنّ یزید لم یخرج أصلاً إلی القسطنطینیة، حیث یقول:

اذا اتّکأتُ علی الأنماط مرتفقاً بدیر مرّان عندی أُمّ کلثومِ

فما أُبالی بما لاقت جموعهمُ بالفرقدونة من حمّی ومن موم(3)

ثمّ یقول البلاذری: «وأُمر یزید بالغزو فتثاقل واعتلّ، فأمسک عنه، وأصاب

ص:207


1- (1) تاریخ دمشق: ج 6 ص 404.
2- (2) أنساب الأشراف للبلاذری: 1149.
3- (3) موم: الجدری کما فی بعض کتب اللغة.

الناس فی غزاتهم جوع وأمراض، ثمّ أنشأ یزید البیتین السابقین».

نعم إنّ أعظم ما یستدلّ به علی قولهم هو أنّ أبا أیّوب الأنصاری الذی مات فی تلک الغزوة ودفن عند سورها، أوصی حینما جاءه الموت أن یحملوا جنازته إلی أقرب منطقة ممکنة فی القسطنطینیة، ویقال إنّهم ساروا به (بجنازته) یوماً، وربما ساروا أیّاماً وإنّهم دفعوا للروم أموالاً حتی سمحوا لهم بدفنه هناک، حیث یروی عبد الرزاق(1) ، «عن معمر عن ابن سیرین، وهو سند صحیح عندهم، أنّ یزید زار أبا أیّوب الأنصاری - فی تلک الغزوة - وهو مریض فقال له: ما حاجتک؟ قال: اذا أنا متّ فسر بی فی أرض العدوّ ما استطعت، ثمّ ادفنّی، فلمّا مات سار به وأوغل فی أرض الروم یوماً أو بعض یوم، ثمّ نزل فدفنه».

بل هناک بعض الروایات تشیر إلی أنّ أبا أیّوب الأنصاری مات فی ارض المسلمین ولم یوصِ یزید، وهذا یدلّ بشکل ضمنی علی أنّ الجمیع کانوا خارج أرض العدوّ کلّیاً او فی طرفها، بعیداً عن العاصمة (استانبول)، ومن ثم فإنّ یزید علی أساس هذه الروایات، لم یصل سور القسطنطینیة، ولم یضرب سورها بسیفه، حیث ورد فی تعجیل المنفعة لابن حجر(2) «أنّ أبا أیّوب الأنصاری قال: اذا أنا متّ فأدخلونی فی أرض العدوّ فادفنونی تحت أقدامکم حیث تلقون العدوّ».

ممّا یدلّل علی أنّ الموصی له هم المسلمون ولیس یزید، وفی نفس الوقت کانوا جمیعاً خارج أرض العدوّ.

ص:208


1- (1) المصنف لعبد الرزّاق الصنعانی: ج 5 ص 279.
2- (2) تعجیل المنفعة لابن حجر: ج 1 ص 452، مسند أحمد: ج 5 ص 423، الطبقات لابن سعد: ج 3 ص 485.

باء: وعلی فرض صحّة هذه الروایة فی فتح القسطنطینیة، فأین حصل هذا الفتح؟ أأنّه فعلاً حصل فی زمن یزید؟ کیف یمکن أن یکون ذلک وقد اتّفق المؤرّخون علی أنّ فتح القسطنطینیة لم یحصل فی ذلک الوقت مطلقاً، بل ولم یحصل حتی فی زمن الدولة الأمویة کلّها، وکذلک العباسیة، نعم یذکر العلماء أنّ هذا الفتح حصل فی زمن محمّد الفاتح العثمانی سنة 857 ه - کما یذهب إلی ذلک د. محمّد مصطفی فی کتابه فتح القسطنطینیة وسیرة محمد الفاتح(1) ، وآخرون، أنّ هذه البشارة النبویة حصلت علی ید الفاتح العثمانی دون غیره، بل إنّ هناک روایات تقول إنّ هذا الفتح سوف یحصل فی زمن الإمام المهدی، وعند خروج الإمام، والملفت للنظر أنّ هذه الروایة تنقل عن نفس الشهید الکربلائی، ممّا یؤیّد أنّ الشهید رضی الله عنه ربما روی هذه الروایة ولکنّ أصحاب الأهواء والمطامع حرّفوها بالشکل الذی یمکن ان یخدم الظلمة وأهل الفسق والفجور، حیث ینقل نعیم بن حمّاد المروزی(2):

«حدّثنا أبو یوسف المقدسی، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن بشر الخثعمی، عن کعب قال: المهدی یبعث بقتال الروم، یعطی فقه عشرة، یستخرج تابوت السکینة من غار بأنطاکیة فیه التوراة التی أنزلها الله تعالی علی موسی، والإنجیل الذی أنزله الله علی عیسی یحکم بین أهل التوراة بتوراتهم، وبین أهل الإنجیل بانجیلهم».

ص:209


1- (1) ص 36.
2- (2) کتاب الفتن للمروزی: ص 220.

وهذه الروایة تعضدها روایة اخری رویت فی صحیح مسلم عن أبی هریرة تقول:

«لا تقوم الساعة حتی ینزل الروم بالأعماق، فیخرج الیهم جیش من المدینة، من خیار أهل الأرض یومئذ، فإذا تصاخوا قالت الروم خلّوا بیننا وبین الذین سبوا منا نقاتلهم، فیقول المسلمون لا والله، لا نخلّی بینکم وبین أخواننا، فیقاتلونهم فیهزم ثلث هم لا یتوب الله علیهم أبداً، ویقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ویفتح ثلث لا یفتنون أبداً، یفتحون القسطنطینیة، فبینما هم یقتسمون الغنائم وقد علّقوا سیوفهم بالزیتون، إذ صاح فیهم الشیطان: إنّ المسیح قد خلّفکم فی أهلیکم، فیخرجون، وذلک باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فینما هم یعدّون للقتال ویسوّون الصفوف اذا أقیمت الصلاة، فینزل عیسی بن مریم، فأمّهم فإذا رآه عدوّ الله ذاب کما یذوب الملح فی الماء، فلو ترکه لذاب حتی یهلک، ولکن یقتله الله بیده، فیریهم دمه فی حربته»(1).

وفی روایة ینقلها معاذ بن جبل کما فی صحیح الجامع: «عمران بیت المقدس خراب یثراب، وخراب شرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطینیة، وفتح القسطنطینیة خروج الدجال»(2).

ولا شکّ أنّ مثل هذه الروایات وغیرها تدلّل علی أنّ مثل هذا الحدیث الذی رواه الشهید الکربلائی ربما یکون قد صدر من رسول الله ولکن لیس کما

ص:210


1- (1) صحیح مسلم: ح 2897.
2- (2) صحیح الجامع الصغیر للألبانی: ص 1 ح 4096.

تأوّله أولئک الذین أرادوا من خلاله اختلاق منقبة لیزید الفجور، وإنّما فیه إشارة إلی وعد إلهی عظیم قد یحصل فی زمن خروج الإمام المهدی وخروج الدجال.

وهناک نقطة مهمّة جدّاً ونحن نتحدث عن روایة الشهید الکربلائی فی فتح القسطنطینیة، حیث رواها البخاری وغیره عن عبد الله بن بشر الغنوی ولیس الخثعمی، وأن الأول ضعیف عند أهل الرجال، وأما الثانی وهو الشهید الکربلائی فهو الموثّق، ممّا یدلّل علی أن الروایة لم تکن للشهید الکربلائی وإنّما کانت لغیره، وهذا ما مال الیه جملة من الباحثین والمؤرّخین، منهم ابن حجر، والذی أری من اللازم ذکر ما قاله بالنصّ فی کتابه تعجیل المنفعة(1):

«عبد الله بن بشر الخثعمی، عن أبیه، وله صحبة، وعنه الولید بن المغیرة المعافری، وثّقه ابن حبّان وقال ابن شیخنا: إن کان هو الذی أخرج له الترمذی والنسائی فهو ثقة، وإلاّ فلا أعرفه، کذا قال، والذی أخرج له الترمذی والنسائی لم یُختلف فی اسمه ولا فی اسم أبیه ولا فی نسبه، وأمّا هذا (الغنوی) فاختلف فی اسمه، فقیل عبد الله، وقیل عبید الله بالتصغیر، وقیل عبید من غیر إضافة، واختلف فی نسبه فقیل الخثعمی، وقیل الغنوی، ثمّ إنّ الذی أخرج له الترمذی والنسائی اسم ابیه بشر بسکون المعجمة وکسر أوّله، واسم أبی هذا بشیر، بفتح أوّله وکسر الشین، وقیل بشر. قال: البخاری عبد الله بن بشیر الخثعمی فذکر ترجمة الذی أخرج له الترمذی والنسائی ثمّ قال: عبید بن بشیر الغنوی، عن أبیه. روی عنه الولید بن المغیرة، ویقال عبید الله، حدیثه فی ناحیة الشام. وقال ابن أبی حاتم:

ص:211


1- (1) تعجیل المنفعة: ص 524.

عبید بن بشیر الغنوی، من أقران ابن لهیعة. وقال ابن حبّان فی (ثقات التابعین): عبید بن بشیر الغنوی، یروی عن أبیه، ولأبیه صحبة روی عنه الولید بن المغیرة، وقد أخرج حدیثه ابن یونس والطبرانی وأبو علی بن السکن کلّهم من طریق زید ابن الحباب عن الولید بن المغیرة المعافری عن عبد الله بن بشیر الخثعمی عن أبیه، وفی روایة ابن السکن عن عبد الله بن بشیر بن ربیعة الخثعمی، وفی روایة الطبرانی: حدّثنی عبد الله بن بشیر الغنوی، حدّثنی أبی، وفی بعض ما ذکرته ما یوضّح أنّه غیر عبد الله الذی أخرج له الترمذی والنسائی».

ونفس الکلام ذکره الألبانی فی السلسلة الضعیفة(1) فإذا اثبت أنّ جمیع من ترجم لعبد الله بن بشر الغنوی ضعّفه، ولم یوثّقه سوی ابن حبّان الذی عرف - کما یقول بعضهم - بتوثیق المجاهیل، والذی لا یعتدّ بتوثیقه وتوثیقهم، کما یذکر ابن حجر عبد الله بن بشر الخثعمی، وهو الذی روی عنه الرواة لا سیما الترمذی والنسائی. فتکون النتیجة التی نخلص الیها أنّ هناک شخصیّتین مشترکتین فی الاسم والنسب، ولکن أحدهما موثّق وهو الشهید الکربلائی، والآخر غیر الموثّق وهو الذی روی حدیث القسطنطینیة والذی ضعّفه العلماء سوی ابن حبّان. ومن ثم یکون میلان ابن حجر فی محلّه حینما قال: «وفی بعض ما ذکرته ما یوضح أنّه غیر عبد الله الذی أخرج له الترمذی والنسائی».

وربّما هذا هو الذی یجعلنا أکثر تقبّلاً لتلک الکلمة القاسیة التی ذکرها العلاّمة المامقانی وهو یتحدّث ویترجم لبشر الغنوی، حیث قال:

ص:212


1- (1) السلسلة الضعیفة: ص 778.

«(بشر الغنوی) عدَّه الشیخ فی رجاله من أصحاب رسول الله ولم استثبت حاله - ثمّ یقول بعد ذلک - نقلنا ما قاله الأعلام من الخاصّة والعامة فیه، فهو عندهم مجهول الحال، وعندی ضعیف لوضعه حدیثاً فی مدح الفاسق الخبیث مسلمة بن عبد الملک»(1).

أبناء الشهید وأحفاده

یذکر العلماء أنّ للشهید الکربلائی ولداً اسمه عمیر وآخر اسمه عبیدة، وقد ذکرهما العلماء من جملة الرواة الثقات، حیث ذکر ابن مأکولا(2) فی کتابه الإکمال (باب عبیدة) «قال: عبیدة بن عبد الله بن بشر الخثعمی، کوفی روی عن جعفر بن محمد الصادق وعن أبیه (الشهید).

وأمّا ولده الآخر عمیر فقد ذکره ابن حجر فی تقریب التهذیب(3) فیمن اسمه (عمیر أو عمیرة) روی عن جبلة بن حممة وعروة البارقی وابی زرعة بن عمرو بن جریر روی عنه ابنه بشیر بن عمیر بن عبد الله وسفیان الثوری وسفیان بن عیینة وشعبة بن الجراح وابنه عمیر بن عبد الله بن بشیر الخثعمی»، کما یذکر ذلک صاحب کتاب تهذیب الرجال، فی أسماء الرجال(4) ، ویقول أبو حاتم: «هو شیخ کان کاتب شیخ کان لشعبة، ذکره ابن حبّان فی الثقات، روی له الترمذی

ص:213


1- (1) تنقیح المقال: ح 3135.
2- (2) إکمال الکمال لابن مأکولا: ص 428.
3- (3) ابن حجر فی تقریب التهذیب: ح 5184.
4- (4) تهذیب الرجال فی أسماء الرجال: ص 1590.

والنسائی». وقد ذکر ولد الشهید الکربلائی الحسکانی فی شواهد التنزیل، حیث روی عنه روایة حیث یقول فیها:

«حدّثنی أحمد بن علی بن إبراهیم قال: أخبرنی أحمد بن محمد الصائغ قال: حدّثنی محمد بن حفص الجوینی قال حدثنی الحسن بن غرفة قال حدثنی یحیی بن یمان العجلی عن عمّار بن زریق عن عمیر بن عبد الله بن بشر الخثعمی قال: قال ابن عمر: علی أعلم الناس بما أنزل الله علی محمد»(1).

وذُکِرَ فی کتاب رجال الشیعة للشیخ محمد جعفر الطبسی فی مسانیده وهو یترجم لعبد الجبّار الشبامی، «أنّ من جملة الرواة عنه هو عمیر بن عبد الله بن بشر الخثعمی» علماً أنّ عبد الجبّار الشبامی کان من کبار الشخصیات الشیعیة فی الکوفة، حتی أن العُقیلی فی الضعفاء الکبیر(2) یقول: کان یتشیّع، وکذلک عبد الله ابن أحمد فی تهذیب الکمال(3) ویقول البخاری فی التاریخ الکبیر(4): إنّ عمیر بن عبد الله بن بشر الخثعمی قال: إنّ کبراء الکوفة أربعة: أبو إسحاق، وابن علاقة، وعبد الله بن شریک الأعور، ویزید بن مسهر من بنی فهد.

وبعد کلّ ما ذکرناه من کلمات فی حقّ أولاد الشهید ومن رووا عنهم، وما ذکروه من روایات، لیکشف بشکل واضح أنّهم کانوا من الموالین لأهل البیت، وأنّهم تحرکوا علی نهج أبیهم الشهید الذی کان راویاً وفی نفس الوقت مجاهداً

ص:214


1- (1) شواهد التنزیل: ج 1 ص 40.
2- (2) الضعفاء الکبیر: ج 3 ص 88 رقم 1058.
3- (3) تهذیب الکمال: ج 16 ص 385.
4- (4) البخاری، التاریخ الکبیر: ص 512.

من الطراز الأول. وربما هذا کلّه یؤکّد أنّ الراوی الذی ضعفه العلماء فی فتح القسطنطینیة هو غیر هذا الشهید الکربلائی العظیم.

شهادته

لقد أبی الشهید الکربلائی البقاء فی بیته والتحجّج بالظروف الصعبة، ولمّا رأی أن الطرق کلّها مغلقة ولا یمکن الخروج منها والوصول إلی الحسین، فکّر بأنّ أفضل حلّ للقضیة هو أن یتظاهر بأنّه یرید الخروج مع الناس لحرب الحسین علیه السلام، ثم بعد أن یصل إلی الحسین یمیل الیه، وهذا ما حصل بالفعل، حیث التقی الحبیب بحبیبه.

وینقل أهل المقاتل أنّ الشهید کان من جملة الشهداء الذین سقطوا فی الحملة الأولی، والتی حصلت بعد أن رُشق أصحاب الحسین بوابل من سهام الحقد، فنهضوا جرحی إذ ناداهم سیّدهم بالنهوض إلی الموت الذی لابدّ منه، لخوض هذه الملحمة الإلهیة التی تعرج فیها الأرواح إلی بارئها فی ساحة الحقّ والشهادة الکبری وقاموا وحملوا حملة واحدة واقتتلوا قتالاً شدیداً خلف ذلک خمسین شهیداً، وکان من بینهم الشهید الصحابی الجلیل عبد الله بن بشر الخثعمی رضی الله عنه، فسلام علیه فی الأوفیاء، وسلام علیه فی السعداء، وسلام علیه من الله تبارک وتعالی ومن رسوله، ومن خاتم الأوصیاء الإمام المهدی المنتظر عج الله تعالی فرجه الشریف حیث یقول فی زیارته: السلام علی عبد الله بن بشر الخثعمی ورحمة الله وبرکاته.

ص:215

الشهید عمرو بن قرظة بن کعب الأنصاری علیه السلام

اشارة

إنه واحد من أجلاّء التابعین، وأحد عشّاق الحسین علیه السلام الذی ذاب مع عشقه للحسین کلّ معشوق آخر مهما غلا وعلا، فکان مصداقاً للشاری نفسه والباذل مهجته فی سبیل الله، کما قال تعالی:

«وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ1» .

إنّه الشهید الکربلائی الشابّ عمرو بن قرظة بن کعب الأنصاری رضی الله عنه.

أقوال العلماء فیه

اشارة

1. یقول السیّد الخوئی: «عمرو بن قرظة الأنصاری، من أصحاب الحسین، واستشهد بین یدیه، ووقع التسلیم علیه فی زیارتی الناحیة والرجبیة».(1)

2. یقول الشیخ محمد مهدی شمس الدین: «عمرو بن قرظة بن کعب الأنصاری، ذکره الطبری وابن شهر آشوب والزیارة والبحار والخوارزمی، وقد

ص:216


1- (2) معجم الرجال: ج 14 ح 8984.

ورد فی الزیارة: «عمر بن قرظة الأنصاری» وفی نسختها الأخری «عمران» کما ورد فیها عمرو بن قرظة الأنصاری، وکذا ورد فی الرجبیة، والکلّ واحد».(1)

3. قال ابن الأثیر وابن عبد البرّ وابن حجر(2): «عمرو بن قرظة بن کعب بن ثعلبة بن عمرو بن کعب الأنصاری الخزرجی».(3)

4. یقول الشیخ النمازی الشاهرودی: «کلماته یوم عاشوراء مع الحسین، وشدّة إخلاصه وشهادته، تشرّف بسلام الناحیة المقدّسة، أبوه قرظة بن کعب، یأتی، وأخوه علی بن قرظة خبیث ملعون، کان مع عمر بن سعد فی جند بنی أمیّة».(4)

5. یقول السیّد ابن طاووس: «خرج عمرو بن قرظة الأنصاری فاستأذن الحسین فأذن له، فبرز وهو یرتجز ویقول:

قد علمت کتیبة الأنصار أنّی سأحمی حوزة الذمار

ضرب غلامٍ غیر نکسٍ شاری دون حسینٍ مهجتی وداری

فقاتل قتال المشتاقین إلی الجزاء، وبالغ فی خدمة سلطان السماء، حتی قتل جمعاً کثیراً من حزب ابن زیاد، وجمع بین سداد وجهاد».(5)

ص:217


1- (1) أنصار الحسین: ص 103-104.
2- (2) وسیلة الدارین: ص 173.
3- (3) لم أجد ما ذکره فی وسیلة الدارین عمّن نقله عنه فی مظانه.
4- (4) مستدرکات علم الرجال: ج 6 ص 57.
5- (5) اللهوف: ص 162.
والد الشهید

لقد کان للشهید الکربلائی والد من الطراز الإیمانی الأول، حیث کان صحابیاً جلیلاً، شهد غزوات رسول الله منذ أحد وما بعدها، وکان شجاعاً مجرّباً ومؤمناً عابداً، تترقرق الدمعة فی عینیه، ولقد نسبت للرجل عدّة أمور مهمة قام بها، ذکرها المؤرخون، منها:

أولاً: ینقل المؤرّخون، کابن الأثیر(1) ، أنّ قرظة کان أحد العشرة الذین بعثهم عمر إلی الکوفة، ویُنقل فی سنن ابن ماجة قوله: «حدثنا أحمد بن عبده، حدثنا حمّاد بن زیاد، عن مجالد، عن الشعبی، عن قرظة بن کعب قال: بعثنا عمر ابن الخطّاب إلی الکوفة، وشیّعنا فمشی معنا إلی موضع یقال له حرار، فقال: أتدرون لم مشیت معکم؟ قال: قلنا: لحقّ الصحبة لرسول الله، ولحقّ الأنصار. قال: لکنّی مشیت معکم لحدیث أردت أن أحدّثکم به فأردت أن تحفظوه لممشای معکم؛ إنّکم تقدمون علی قوم للقرآن فی صدورهم هزیر کهزیر المرجل، فإذا رأوکم مدّوا أعناقهم الیکم وقالوا: أصحاب محمد، فأقلّوا الروایة عن رسول الله ثمّ أنا شریککم»(2).

وهذا الحدیث أغلب الظنّ أنّه حدیث موضوع علی لسان والد الشهید، خصوصاً وأنّهم یذکرون بعد ذلک أنّه حینما وصل إلی الکوفة أخذ یُسأل عن أحادیث رسول الله وهو یقول: أنا أحفظ الناس بها ولکن ما کنت لأتحدّث بها

ص:218


1- (1) ابن الأثیر، أسد الغابة، حرف القاف، قرظة بن کعب.
2- (2) ابن ماجة فی سننه: ج 1 ح 28.

لأنّ عمر نهانا عنه.

والسبب فی هذا الظنّ أنّ الرجل عرف عند العامّ والخاصّ أنّه من جملة المخلصین فی ولائه للإمام أمیر المؤمنین، وقد ظهر مثل هذا الأمر فی أکثر من موقف کما سیأتی، حتی أنّ الإمام صلّی علیه بنفسه فی الکوفة حینما توفّی، واذا کان أمر الرجل هکذا فإنّی أمیل إلی أنّه لا یمکن له أن یتبنّی أمراً ویعمل علی تبلیغه وهو یعلم مسبقاً أنّ علیاً علیه السلام لا یرضاه ولا یتبنّاه، بل وقد حاجج القوم علیه، ألا وهو کتمان أحادیث رسول الله وعدم إذاعتها، وأنا لا أرید هنا أن أتناول هذا الموضوع المهمّ والحسّاس بهذه العجالة، ولکنّی أقول: إنّ ما ذکره عمر لقرظة، علی فرض صحّة هذه الروایة، لا یمکن أن یکون مبرّراً له لکتمان أحادیث رسول الله، کیف یکون ذلک وهو المبیّن الحقیقی للقرآن الکریم حیث یقول: «ترکت فیکم ما إن تمسّکتم بهما لن تضلّوا بعدی أبداً؛ کتاب الله وعترتی أهل بیتی» وحتی علی روایة «وسنّتی»(1) حیث تحتاج إلی مبیّن وشارح لآیات الله.

ولهذا نجد أنّ ابن حزم قد هجم علی هذا الحدیث هجوماً قویاً، رافضاً له البتّة، حیث یقول بالنص: «والشعبی (راوی الحدیث الأول عن قرظة) أقرب إلی الصبا، فلا شکّ أنّه لم یلق قرظة قطّ، فسقط هذا الخبر، بل قد ذکر بعض أهل العلم بالأخبار أنّ قرظة بن کعب مات وعلی رضی الله عنه فی الکوفة، فصحّ یقیناً أنّ الشعبی لم یلق قرظة قطّ ولا عقل منه کلمة».(2)

ص:219


1- (1) الترمذی: ص 3788، میزان الاعتدال: ج 2 ص 302.
2- (2) الإحکام فی أصول الأحکام، المجلد الأول، الجزء الثانی، فصل فی فضل الإکثار من الروایة للسنن.

ثانیاً: وینقل الهیثمی(1): عن القاسم قوله: «أتی عبد الله (یعنی ابن مسعود) فقیل له یا أبا عبد الرحمن، إنّ ههنا أناساً یقرأون قراءة مسیلمة الکذاب، فردّه عبد الله، فلبث ثمّ أتاه فقال: والذی أحلف به یا أبا عبد الرحمن، لقد ترکتهم الآن فی دار وإنّ ذلک المصحف لعندهم، فأمر قرظة بن کعب فسار بالناس معه، فقال ائتِ بهم، فلما أتی بهم قال: ما هذا؟ بعدما استفاض الإسلام! فقالوا: یا أبا عبد الرحمن، نستغفر الله ونتوب الیه ونشهد أنّ مسیلمة هو الکذّاب المفتری علی الله ورسوله، قال: فاستتابهم عبد الله وسیّرهم إلی الشام وإنّهم لقریب من ثمانین رجلاً، وأبی ابن النوّاحة أن یتوب، فأمر به قرظة بن کعب فأخرجه إلی السوق فضرب عنقه وأمر أن یأخذ رأسه فیلقیه فی حجر أمّه، قال عبد الرحمن بن عبد الله: فلقیت رجلاً شیخاً کبیراً بعد ذلک فی الشام فقال لی: رحم الله أباک، والله لو قتلنا یومئذ لدخلنا النار کلّنا»

ثالثاً: ولّاه أمیر المؤمنین علی مناطق مهمة جداً وحساسة وفی ظرف خاصّ یحتاج فیه الإمام إلی من یثق به کثیراً إضافة إلی شجاعته وبطولته، فقد وضعه أمیر المؤمنین علی الکوفة والیاً من قبله عندما أراد أن یتوجّه إلی البصرة للقاء أهل الجمل هناک، بعد أن ازال عنها أبا موسی الأشعری.

یقول الطبری: «إنّ الامام کتب کتاباً إلی أبی موسی الأشعری جاء فیه: إنّی وجّهت هاشم بن عتبة لینهض من قبلک من المسلمین إلی، فأشخص الناس فإنّی لم أولّک الذی أنت به إلاّ لتکونن من أعوانی علی الحقّ فدعا أبو موسی السائب

ص:220


1- (1) مجمع الزوائد: ج 6 ح 10578.

ابن مالک الأشعری فقال له: ما تری؟ قال: أری أن تتّبع ما کتب به الیک، قال: لکنّی لا أری ذلک، فکتب هاشم إلی علی علیه السلام أنّه قد قدمت علی رجل غالٍ مشاقٍّ ظاهرا الغلّ والشنآن

ص:221

فیها، فیتبعه بشکل کامل مهما کانت النتائج.

ینقل الطبری: «عن أبی مخنف قوله: فحدثنی أبو الصلت الأعور التیمی، عن أبی سعید العقیلی، عن عبد الله بن وال التیمی قال: والله إنّی لعند أمیر المؤمنین إذ جاءه أحدهم بکتاب بیدیه من قبل قرظة بن کعب الأنصاری [جاء فیه]: «بسم الله الرحمن الرحیم، أمّا بعد، فإنّی أخبر أمیر المؤمنین أنّ خیلاً مرّت بنا من قبل الکوفة متوجّهة نحو نفر، وأنّ رجلاً من دهاقین أسفل الفرات قد صلّی یقال له زاذان فروخ أقبل من قبل أخواله بناحیة نفرَّ، فتعرضوا له فقالوا له: أمسلم أنت أم کافر؟ قال: أنا مسلم، قالوا: ما تقول فی علی؟ قال أقول فیه خیراً، أقول إنّه أمیر المؤمنین وسیّد البشر، فقالوا له: کفرت یا عدو الله، ثمّ حملت علیه عصابة منهم فقطّعوه، ووجدوا معه رجلاً من أهل الذمّة فقالوا له: ما أنت؟ قال: أنا رجل من أهل الذمّة، قالوا: اما هذا فلا سبیل علیه، فأقبل الینا ذلک الذمّی وأخبرنا بالخبر، وقد سألت عنهم فلم یخبرنی أحد عنهم بشیء، فلیکتب الیّ أمیر المؤمنین برأیه فیهم أنته الیه، والسلام».

فکتب الیه: «أمّا بعد، فقد فهمت ما ذکرت من العصابة التی مرّت بک فقتلت البرّ المسلم، وأمن عندهم المخالف الکافر، وإنّ أولئک قوم استهواهم الشیطان فضلّوا وکانوا کالذین یحسبون أن لا تکون فتنة فعموا وصمّوا، فأسمع بهم وأبصر یوم تخبر أعمالهم، والزم عملک وأقبل علی خراجک فإنّک کما ذکرت فی طاعتک ونصیحتک والسلام».(1)

ص:222


1- (1) الطبری: ج 4 ص 89-90.

والد الشهید وفتح الری

رابعاً: وینقل المؤرّخون أنّ قرظة والد الشهید هو الذی فتح الریّ، واذا کانت هناک أسماء تذکر لمن فتح الریّ مع قرظة فلأنّهم کانوا مشارکین معه أو هو مشارک معهم، ومع ذلک لم یتمّ الفتح الحقیقی والکبیر إلّا علی یدی قرظة بن کعب، یقول البلاذری: «حدّثنی بکر بن الهیثم، عن یحیی خریس قاضی الریّ قال: لم تزل الریّ بعد أن فتحت أیام حذیفة تنتقض وتفتح حتی کان آخر من فتحها قرظة بن کعب»(1).

وقد أکّد علی فتح الریّ علی ید قرظة ابن حجر وابن الأثیر وآخرون.(2) وسوف تعرف بعد قلیل ونحن نتحدث عن الشهید، ما معنی أن یکون والد الشهید الکربلائی فاتحاً للریّ؟

خامساً: مات فی الکوفة وصلّی علیه أمیر المؤمنین بنفسه، ودفن فی داره بالکوفة(3) ، وینقل فی کتاب الأوائل «أنّه أول من نیح علیه فی الکوفة».(4)

نعم یذکر بعضهم روایة فی قرظة بن کعب الأنصاری وأبی مسعود الأنصاری، عن عامر بن سعد یقول: «دخلت علی قرظة بن کعب الأنصاری وأبی مسعود الأنصاری فی عرس، واذا جوارٍ یغنّین فقلت: أنتما صاحبا رسول الله ومن أهل بدر، یُفعل هذا عندکم؟ فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا، وان شئت

ص:223


1- (1) فتوح البلدان للبلاذری: ج 2 فتح همدان.
2- (2) تهذیب التهذیب: ج 8 ص 329؛ أسد الغابة، حرف القاف، قرظة بن کعب.
3- (3) أسد الغابة، حرف القاف، قرظة بن کعب.
4- (4) کتاب الأوائل: ص 214.

فاذهب، فإنّه قد رخّص لنا فی اللهو عند العرس

ص:224

فسألنا النبی صلی الله علیه و آله و سلم فأمرنا أن نضحّی به».(1)

وروی له ابن عبد البرّ فی کتابه التمهید لما فی الموطّأ من المعانی والأسانید قال: «وفی کتاب عبد الرزاق، عن ابن مسعود ومحمد بن قرظة، إنّ أحدهما صلّی علی جنازة بعد ما دفنت، وصلّی علیها الآخر بعد ما صُلی علیها».(2)

ثالثاً: یزعم بعضهم أنّ للشهید أختاً اسمها فاختة بنت قرظة، والتی کانت متزوجة من معاویة بن أبی سفیان بعد زواجها الأول من عتبة بن سهیل، وهذه فریة کبیرة علی الشهید، إذ حاولوا من خلالها تشویه صورة عائلته الموالیة.

وقد یقال إنّ الإنسان یُقیّم من حیث هو، ولا دخل لأهله به، فلا یعاب مثلاً علی نبی الله نوح لکون ولده کان کافراً، ولا علی لوط لکون أمرأته کذلک، وهکذا سائر المؤمنین ممّن ابتلوا عادة بأبناء غیر صالحین، أو إخوة فاسدین او آباء منحرفین، کما حصل بالفعل مع الشهید وأخیه؛ أقول إنّ هذا صحیح وهو عین الواقع، ولکن إذا کان أخو الشهید علی بن قرظة قد دلّ الدلیل علی انحرافه وضلاله، فإنّ أخته لم یثبت ضلالها، فضلاً عن أصل القصّة المفتراة علیه.

لأنّ الصحیح أنّ هذه الروایة تخصّ امرأة أخری اسمها (فاختة) وهی بنت قرظة بن عبد بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف، وهی نوفلیة قرشیة ولیست أنصاریة بالمرّة، ومن ثم لا علاقة لها لا من بعید ولا من قریب بقرظة والد الشهید الکربلائی، ولقد صرّح بما ذکرته ابن حجر فی کتابه فتح الباری فی شرح صحیح

ص:225


1- (1) سنن أبی ماجة، کتاب الأضاحی: ح 4266.
2- (2) التمهید لما فی الموطأ من المعانی والأسانید: ج 6 ص 261.

البخاری، حیث یقول «بنت قرظة هی زوج معاویة، واسمها فاختة، وقیل کنود، وکانت تحته بعد عتبة بن سهیل، ویحتمل أن یکون معاویة تزوّج الأختین واحدة بعد الأخری، وهذه روایة بن وهب فی موطّأته، عن ابن لهیعة، عمّن سمع. قال: ومعاویة أول من رکب البحر للغزاة، وذلک فی خلافة عثمان وأبوها قرظة، بفتح القاف والظاء المعجمة، هو ابن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، وهی قرشیة نوفلیة، وظنّ بعض الشرّاح أنّها بنت قرظة بن کعب الانصاری فوهم، والذی قلته صرّح به خلیفة بن خیّاط فی تاریخه، وزاد أنّ ذلک کان سنة ثمان وعشرین؛ والبلاذری فی تاریخه أیضاً وذکر أنّ قرظة بن عبد عمرو مات کافراً».(1)

مع الشهید الکربلائی

الشهید رسولاً إلی ابن سعد

لقد وصل الشهید الکربلائی إلی کربلاء حیث التقی الحسین، فی السادس من المحرّم سنة 61 ه -، وبمجرد وصوله بعثه الحسین رسولاً من قبله إلی عمر بن سعد من أجل أن یقیم علیه الحجّة ولیعظه فی نفس الوقت، عسی ینفع الوعظ والإرشاد، وهذه فی تقدیری مؤشّر علی مکانته وإخلاصه، أن یُختار من قبل الحسین رسولاً فی ظرف خاصّ کهذا الظرف الذی فیه الحسین وأصحابه، وبما أنّه یقال بأنّ الرسول یکشف عن شخصیة المرسِل، ولهذا تحاول دائماً کلّ الدول فی العالم أن تختار سفراءها من ذوی الثقافة العالیة والخبرة طویلة، وأن یکون خطیباً مفوّها، لعلمها أنّه قد یتعرّض إلی مآزق سیاسیة تحتاج إلی حنکة وحکمة

ص:226


1- (1) فتح الباری لابن حجر: ج 6 ص 76-77.

وتعقّل، وهذا نفسه یمکن أن نتلمّسه ونقرأه من خلال هذا الاختیار الحسینی لهذا الشهید، فلابدّ أن یکون الشهید قد أدرک ما یریده الحسین بشکل کامل، منهجاً وعقیدة بحیث وصل إلی درجة الفهم الکامل بما یریده الحسین وما یفکر فیه، وبعبارة أخری أنّ هذا الشهید قد وصل إلی درجة عالیة جداً من وضوح الرؤیة ولا یقولنّ قائل بأنّه کان مجرّد رسول، یعنی أنّه یرید أن یوصل رسالة معینة إلی ابن سعد، ومن ثم لا یکشف بالضرورة عن کلّ ما تقدّم، أنّ اختیار الحسین له فی هذا الظرف الخاصّ لا یمکن أن یکون دون معرفة به، لعلم الحسین علیه السلام أنّ الشهید ربما سوف لا تنحصر مهمته علی إیصال الکلمات والرسائل فقط، وإنّما سیتعرّض إلی مُماحکات صاخبة وخصومة وجدال، سواء من قبل ابن سعد، أو من قیادات الجیش هناک، عن الحسین وحرکته وما یرید، وکلّ هذه الأمور لابدّ لها من شخص یکون قد استوعبها ووعاها قبل ذلک، حتی یکون قادراً علی أداء مهمّته بالشکل الصحیح، ولهذا قلنا إنّ الشهید عرف الحسین حقّ المعرفة فی نفسه وعقله ومشاعره بحیث وصل إلی درجة الاطّلاع علی ما یفکّر به الحسین علیه السلام ویریده.

وهذه لعمرک فضیلة من الفضائل، تدلّ علی أنّ الشهید الکربلائی قد تسامی فی فهمه ووعیه وبصیرته إلی الدرجة التی استطاع من خلالها أن یستکشف أهداف ثورة الحسین، وفی أیّ اتّجاه تسیر حرکته الإصلاحیة الکبری.

سؤال وجواب:

وربّما یسأل سائل: لماذا اختاره الحسین علیه السلام دون غیره من أصحابه، وفیهم

ص:227

من صحابة رسول الله ومن کبراء وساداة المسلمین أمثال حبیب ومسلم بن عوسجة؟

وللجواب عن هذا السؤال فی اعتقادی، أنّ أهمّ نقطة فی حیاة هذا الشهید والتی ربّما تکون هی السبب الکامن وراء اختیار الحسین علیه السلام له، هی أنّ والد الشهید: قرظة بن کعب، هو الذی فتح الریّ کما تقدّم، وکأنّ الحسین أراد أن یوصل إلی ابن سعد رسالة مفادها: یا بن سعد، إنّ هذا الریّ الذی ترکت کلّ قیمک ومبادئک من أجله، وسحقت بقدمیک ما یملیه علیک دینک وإسلامک، بل وحتی إنسانیتک، فی الوقوف إلی جانب الحقّ ضدّ الباطل، وأن تکون مع الصادقین دون الکاذبین، هذا الریّ الذی أعمی عینیک إنّما فتحه أبو هذا.

ولکنّه وقف إلی جانب الحقّ والصدق، ولم یأبه بالحطام، ومن ثم فهو لا یری فقط الریّ بل جمیع الدنیا لا تساوی عنده شیئاً فی مقابل إیمانه وعقیدته، وهو من ثم لن یبیع دینه لأهل الفسق والفجور لیشتروا به دنیاهم کما فعلت أنت.

إشارة مهمة

وهنا لابدّ من الإشارة إلی ما ذکرته بعض المصادر التاریخیة حول هذه المراسلات بین الحسین وعمر بن سعد حیث یروی ابن الأثیر عن الحسین علیه السلام قوله:

«اختاروا منّی واحدة من ثلاث، إمّا أن أرجع إلی المکان الذی أقبلتُ منه، وإمّا أن أضع یدی فی ید یزید بن معاویة فیری فیما

ص:228

بینه وبینی رأیه، وإمّا أن تسیروا بی إلی أیّ ثغر من ثغور المسلمین شئتم، فأکون رجلاً من أهله، لی ما لهم وعلیّ ما علیهم»(1)).

وهنا لابدّ من الإشارة إلی أنّ أمثال هذه الروایات لا یمکن قبولها، لأنّها تتنافی مع تواتر ما نُقل عن الحسین، وکلماته التی صدرت منه سواء فی المدینة أو مکّة أو فی الطریق إلی الکوفة، بل وحتی فی کربلاء، حیث تدلل وبشکل قاطع علی أنّ الحسین ذاهب إلی الموت وإلی الشهادة، ولیس هو فقط بل وکل من لحق به فإنّه سیقتل وسینال الشهادة، فلا یمکن بأیّ حال من الأحوال أن یأتی الحسین ویضع یده بید فاسق الأمة وفاجرها الأول یزید بن معاویة، بل لقد عَلِمَ الکثیرون بأنّ الحسین ماضٍ إلی الشهادة لذا فإن الکثیر من هؤلاء الصحابة والشخصیّات الإسلامیة التی کانت موجودة فی المدینة أو مکّة، أو حتی تلک التی لاقت الحسین وهو فی طریقه إلی کربلاء، کانوا یبدون تخوّفهم علیه، لعلمهم بأنّه اذا استمر فی هذا الطریق فإنّ النهایة التی سیواجهها هی الموت لامحالة.

وحتی سیّد الشهداء نفسه لم یکن یعترض علیهم، بل کان یواجههم بالأمر الواقع، وبأنّه مأمور بأمر هو ماضٍ إلی تحقیقه وتنفیذه، ولقد أجاد الحسین فی وصف نهایته وشهادته بأدقّ وصف، حیث قال لابن عباس: «یا بن عباس، إنّ القوم لن یترکونی، وإنّهم یطلبونی أینما کنت حتی أُبایعهم کرهاً أو یقتلونی، والله لو کنت فی ثقب هامة من هوامّ الأرض لاستخرجونی منها وقتلونی، والله إنّهم

ص:229


1- (1) الکامل لابن الأثیر: ج 4 ص 54.

لیعتدون علیّ کما اعتدت الیهود فی یوم السبت وإنّی ماضٍ فی أمر رسول الله حیث أمرنی، وإنّا لله وإنّا الیه راجعون

ص:230

السلام إذ قد بلیت الأمّة براعٍ مثل یزید»(1) ، وقوله لوالی یزید علی المدینة: «إنّا أهل بیت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائکة ومعدن الوحی، بنا فتح الله وبنا یختم، ویزید رجل فاجر فاسق، شارب للخمر، معلن بالفسق والفجور، ومثلی لا یبایع مثله»(2). فمنذ الیوم الأول أدرک الحسین أنّ تکلیفه الشرعی هو أن یخرج ویجاهد هذا المشروع الأموی الجدید، والذی یراد له أن یستمرّ فی حیاة هذه الأمة، ولهذا السبب دون غیره من الأسباب اختار الحسین الشهادة، لأنّ الأسباب الأخری مهما کانت مهمة فهی لا ترقی إلی تحدید مصیر الأمّة ومستقبل إسلامها، ومن ثم لا یمکن له وهو المؤتمن علی مصالح هذه الأمة أن یتنازل عن هذا الأمر العظیم.

أمّا قوله علیه السلام الذی ذکره ابن الأثیر: «وأمّا أن أرجع إلی المکان الذی أقبلت منه» وفی بعض الروایات «إلی مأمنی من الأرض» فهو علی فرض صحّته، یمکن أن یحمل علی مسألة إلقاء الحجّة علی الجیش الواقف أمامه بشکل خاصّ، وعلی أهل الکوفة بشکل عام، وإبطال کافّة الذرائع، لأنّ القوم مصمّمون علی قتله حتی لو طلب الرجوع إلی قاصیة، أی قطعة من الأرض یعیش فیها الأمان.

ومن ثم فهو أراد أن یوصل رسالة مفادها: أنّ علیکم ان تنظروا بعین البصیرة لا البصر، وسأکشف لکم عن حقیقة هذا الأمر بإعلانی أنی سأرجع من حیث أتیت، وإن لم أرد ذلک حقیقة، لتروا بأعینکم أنّهم سوف لن یقبلوا حتی بهذا،

ص:231


1- (1) الخوارزمی، مقتل الحسین: ج 1 ص 184-185.
2- (2) اللهوف: ص 10.

فإذا کان الأمر کذلک فعلیکم أن تنصرونی وتقفوا إلی جانبی، من حیث أنّ المسألة أخذت بُعداً دفاعیّاً، والدفاع عن النفس فرضٌ واجب.

وهذا یشبه إلی حدٍّ کبیر طلبه علیه السلام الماء من جیش ابن سعد، وهو یعلم أنّهم لا یسقونه الماء ولکنّه أراد أن یصوّر مدی وحشیة هؤلاء وانسلاخهم من کلّ قیمة إنسانیة یمکن أن یؤمن بها إنسان علی وجه الأرض، وإلّا فما معنی أن یترک إنسان یعالج سکرات الموت، قد تحول جسده إلی شبه القنفذ من کثرة السهام، فضلاً عن طعن الرماح والسیوف، والدماء تشخب منه، وهو لا محالة خارج من الدنیا خلال دقائق، ومع کلّ ذلک یطلب قلیلاً من الماء لیداوی کبده الظامی فلا یلبّی طلبه، إنّها أبشع صورة یسجّلها التاریخ، ولو لم یکن الحسین هو الذی فضحهم بهذا العمل لما استطعنا تصوّر سقوط وانحطاط إنسانی کهذین، ومن ثم فإنّ الماء لم یکن هو مطلوب الحسین، بل کان مطلوبه أن نصل فی تصوّراتنا إلی حجم مأساته مع هؤلاء الذین ما عرف التاریخ أبشع منهم، ونفس هذه الصورة أراد الحسین أن یبیّنها لنا من خلال إعلانه بأنّه سیختار العودة إلی مأمنه من الأرض لو خیّروة، حتی تتمّ الحجّة علیهم، وحتی یمکن أن یعی هذه الحقیقة من له صحوة ضمیر، ومن ثم یلتحق برکب الحسین ویستنقذ نفسه من الضلال والهلکة، کما حصل بالفعل لأشخاص مثل الحرّ بن یزید الریاحی، وسعد وأخیه أبی الحتوف، وآخرین.

وتذکر الروایات أنّ الحسین علیه السلام قد بعث الشهید الکربلائی مرّة أخری إلی عمر بن سعد، وذلک یوم التاسع من المحرّم، وفی هذه المرّة أراد الحسین أن

ص:232

یواجهه بشکل مباشر عسی أن یؤثّر فیه ویصلحه. ینقل أبو مخنف فی مقتله قائلاً: «حدثنی أبو جناب، عن هانی بن ثبیت الحضرمی، وکان قد شهد قتل الحسین علیه السلام قال: بعث الحسین إلی عمر بن سعد عمرو بن قرظة الأنصاری أن ألقنی اللیل بین عسکری وعسکرک، قال: فخرج عمر بن سعد فی نحو عشرین فارساً وأقبل حسین فی مثل ذلک»(1).

ومن ثم فإنّ الشهید قد اطّلع علی ما دار بینهما فی هذا اللقاء المهمّ الذی أراد من خلاله الحسین أن یحرّک آخر ورقة له، عسی أن تنفع فی إخراج عمر بن سعد من ضلاله وطغیانه، ولکن هیهات هیهات لمن طبع الله علی قلوبهم وعلی سمعهم وأبصارهم، أن یعوا کلمة واحدة من إصلاح أو وعظ، ولقد نقلت لنا کتب التاریخ عن هذا الحوار ما یکشف عن ضحالة هذا الرجل وسقوطه، وتمسکه العجیب بهذه الدنیا الدنیّة، وهو الرجل الشیبة الذی ناهز الخمس والستین سنة، ومع ذلک ما زالت نفسه متعلّقة کل التعلق بالمال والمنصب والجاه.

یقول السید الأمین فی لواعج الأشجان: «أرسل الحسین إلی ابن سعد أنّی أرید أن أکلّمک، فالقنی اللیلة بین عسکری وعسکرک، فخرج الیه عمر بن سعد فی عشرین فارساً، والحسین فی مثل ذلک، ولمّا التقیا أمر الحسین فتنحّوا أصحابه عنه، وبقی معه أخوه العباس وابنه علی الأکبر، وأمر ابن سعد أصحابه فتنحّوا عنه، وبقی معه ابنه حفص وغلام له یقال له لاحق، فقال الحسین لابن سعد: ویحک أما تتّقی الله الذی إلیه معادک، أتقاتلنی وأنا ابن من عرفت؟! یا هذا ذر هؤلاء القوم

ص:233


1- (1) مقتل أبی مخنف: ص 99.

وکن معی، فإنّه أقرب لک من الله، فقال عمر بن سعد: أخاف أن تُهدم داری، فقال له الحسین: أنا ابنیها لک، فقال عمر: أخاف أن تؤخذ ضیعتی، فقال: انا أُخلف علیک خیراً منها من مالی بالحجاز، فقال: لی عیال أخاف علیهم، فقال: أنا أضمن سلامتهم، قال: ثمّ سکت فلم یجبه عن ذلک، فانصرف عنه الحسین وهو یقول: ما لک ذبحک الله علی فراشک سریعاً عاجلاً ولا غفر لک یوم حشرک ونشرک، فوالله إنّی لأرجو أن لا تأکل من بُرّ العراق إلّا یسیراً، فقال عمر: یا أبا عبد الله، فی الشعیر عوض عن البرّ، ثمّ رجع عمر بن سعد لیلاً إلی معسکره»(1).

ولقد کان مع الوفد الذی جاء به الحسین فی هذا اللقاء الشهید الکربلائی عمرو بن قرظة، ومن ثم فهو قد اطّلع علی ما دار بین الحسین وعمر بن سعد، إمّا سماعاً وإمّا نقلاً عن الحسین نفسه، أو من العباس أو علی الأکبر، وعرف الأسباب التی دعت عمر بن سعد للتخلّی عن نصرة الحسین، ألا وهی الدار والنفس والولد والجاه وما أشبه ذلک من متع هذه الدنیا الفانیة المتقلبة بأهلها، ولهذا فإنّ الشهید الکربلائی حینما نزل إلی ساحة المعرکة کان رجزه الذی اختاره یتناسب مع هذا الحضور، وکأنّه أراد أن یردّ علی ابن سعد، حیث کان یقول:

قد علمت کتیبة الأنصار أنّی سأحمی حوزة الذمار

ضربَ غلامٍ غیرِ نَکْسٍ شارِی دون حسینٍ مهجتی وداری

یقول الشیخ ابن نما «عرّض بقوله» «دون الحسین مهجتی وداری» بعمر بن سعد، فإنّه لمّا قال له الحسین: صر معی، قال: أخاف أن تهدم داری، فقال له

ص:234


1- (1) السید الأمین، لواعج الأشجان: ص 114.

الحسین: أنا أبنیها لک... الخ کلامه»(1).

وکأنه یرید أن یقول لعمر بن سعد: أیّ دار هذه التی تریدها دون الحسین، وأیّ مهجة تبغیها ومهجة الحسین ترید أن تقطعها السیوف، وأیّ أولاد تخاف علیهم وعرض رسول الله مهدّد من قبل الاجلاف من بنی أمیة، أی مقیاس هذا الذی تعتمده؟ إن الحسین هو الحقّ والإسلام والإیمان والقرآن، وهو الذی یجب ان تضحّی بکل الأمور من أجله، مهما غلت وعلت فی نفاستها، لأنّ ذلک یمثّل تکلیفاً شرعیاً.

رسالة الشهید إلی المسلمین فی العالم

وهذه أیضاً رسالة یقدّمها الشهید إلی کلّ المسلمین فی العالم، إنّ الدین والإسلام والقرآن قد یمرّ بأوقات عصیبة یکون فیها التحدّی فی أعلی مستویاته، فإمّا أن نوجد وإمّا أن لا نوجد، وهنا لا یبقی أمامنا غالٍ ولا نفیس إلّا ویوضع تحت الأقدام من أجل بقاء الإسلام والقرآن، علیکم أن لا تسمعوا من أولئک الجبناء والمجبّنین لغیرهم، والبعیدین عن کلّ ما فیه ضرر علی أجسادهم، قدّموا کل ما عندکم فإنّ الإسلام أغلی من کلّ ذلک.

«إِنَّ اللّهَ اشْتَری مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَیَقْتُلُونَ وَ یُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِیلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفی بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ»

ص:235


1- (1) إبصار العین للسماوی: ص 122.

«اَلَّذِی بایَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ 1» .

ویاللعجب ولیس مع أصحاب الحسین عجب، فمع أن الشهید لم یبلغ عمره ما بلغ عمر بن سعد من السنین، ولکنّنا نراه فی هذا الموقف یمثّل قمّة النضوج والوعی والخبرة بینما نجد أنّ من ناهز السبعین سنة وکأنّه صبی صغیر متعلّق بوسائل لهوه ولعبه ولا یستطیع أن یغادرها أو یترکها، إنّه السقوط الذی ما بعده سقوط، أن یستولی حبّ الدنیا علی العقول إلی هذا الحدّ المذموم، فلو نظرنا إلی ابن سعد کم عاش بعد جریمته هذه؟ وکم تهنّأ بطعام وشراب بعد مقتل الحسین علیه السلام؟ إنّها لم تکن سوی أیام معدودات فی حساب الزمن، وانتهت به إلی شرّ نهایة، ثمّ لحق بمزابل التاریخ وأصبح بعدها لعنةً وسبّة علی کلّ لسان. أمّا الشهید الکربلاء فقد بقی موقفه خالداً علی مرّ العصور وکرّ الدهور. فما أحوجنا الیوم وفی هذا الوقت إلی أن نقدّم الأرواح والأموال والأولاد من أجل الدنیا رخیصة «دون حسین مهجتی وداری».

شهادته

لقد کانت شهادة عمرو بن قرظة من نوع آخر، حیث کان ینزل إلی ساحة المعرکة یقاتل وقلبه متعلّق بالحسین، یخاف أن یناله من سهامهم ورماحهم شیء، ولهذا کان یقاتل ثمّ یرجع لیقف أمام الحسین علیه السلام یدرأ عنه السهام، وهنا وفی هذا الموقف العظیم حیث کان واقفاً امام الحسین والسهام علیه تتری وهو یستقبلها بجبهته وصدره الشریفین وإذا به یثخن بالجراح فیسقط إلی الأرض، یقول الشیخ

ص:236

ابن نما: «فجعل یتلقّی السهام بجبهته وصدره، فلم یصل إلی الحسین سوء حتی أثخن بالجراح، فالتفت إلی الحسین فقال: «أوفیت یا بن رسول الله؟ قال: نعم، وأنت أمامی فی الجنّة، فاقرأ رسول الله السلام وأعلمه أنّی فی الأثر، فخر قتیلاً رضی الله عنه»(1).

وإن دلّ هذا النص علی شیء فإنّما یدلّ علی عظیم الحبّ والشوق الذی یحمله هذا الشهید فی قلبه تجاه الحسین علیه السلام، فمع کلّ ما قدّمه من غالٍ ونفیس، ولیس هناک أغلی من الروح، یشعر وکأنّه مقصر ولم یفِ لإمامه وقرّة عینه، ولذا نراه یسأل الحسین: أوفیت یا بن رسول الله؟ وکأنّی به والسعادة قد ملأت قلبه حینما أجابه الحسین بالإیجاب وبشّره، وأنّه سوف یکون أمامه فی الجنّة، فیا لها من سعادة ویا له من هناء ویا لها من عاقبة حسنة! حیث فاضت روحه وعینه لا تفارق عین الحسین ولم تغمض إلّا علی صورة الحسین، وسیفتحها والحسین أمامه وإلی جانبه فی الجنّة، وهنا وفی هذه اللحظات فارقت روح الشهید جسده راجعةً إلی ربّها راضیةً مرضیة، وعندها قام الحسین علیه السلام من عنده وهو یقرأً قول الله:

«فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً2» .

قام الحسین من عنده وإذا به یسمع صوتاً عالیاً من جهة الأعداء، وقائلاً یقول: یا حسین یا کذّاب، أغررت أخی وقتلته، فقال له الحسین: «إنّی لم أغرّ أخاک ولکن هداه الله وأضلک»(2).

ص:237


1- (1) إبصار العین: ص 122.
2- (3) إبصار العین: ص 122.

لقد وقفت أمام هذه الروایة طویلاً، وأطلقت لفکری العنان لکی یسرح فی فقرات هذه الکلمات التی قالها أخٌ یقف علی الطرف النقیض لأخیه، فیکون هو فی أعلی درجات الضلال والسقوط، ویکون أخوه فی أعلی درجات الهدایة والصلاح، إنّه لدرس عظیم أن یخرج من صلب واحد ومن رحم واحدة ومن بیت واحد رجلان، أحدهما کان عوناً للهدایة علی الضلال، والآخر عوناً للضلال علی الهدایة، یقف فی وجهه ویتحدّث مع الحسین بلهجة ملؤها القسوة والعنجهیة المقیتة: یا حسین یا کذّاب! ویقف أخوه لیقول للحسین، بعد أن أخذت الدماء کلَّ مأخذ: أوفیت یا بن رسول الله. إنّه الدرس الذی یعطیه لنا الشهید الکربلائی حیث یصل إلی أعلی درجات سلّم الکمال بإرادته وحسن اختیاره وبالمقابل یقع أخوه ضحیة سوء اختیاره، لیصل إلی أسفلَ سافلین، یقول الله سبحانه:

«وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْیَکْفُرْ1» .

والشیء الملفت للنظر والذی یستدعی منّا التأمّل والتدبّر کثیراً هو قول علی ابن قرظة للحسین: أغررت أخی وقتلته، مع أنّ الذی قتله لیس هو الحسین، بل الذی قتله هو الجیش الذی وقف بوجه الحسین والذی کان علیٌّ أحد أفراده، ولکنّه منطق الظلمة والجبابرة عبر العصور، یقتلون الناس ویروّعونهم ومع ذلک ینسبون الأمر إلی الله، ولی علی هذا المنطق الذی یحدّث به علی بن قرظة مجموعة من الشواهد التاریخیة والتی تؤکّد علی أنّ هذ الذی قاله قد قاله غیره من الظلمة:

ص:238

أولاً: نقل لنا التاریخ قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لعمّار: «یا عمّار تقتلک الفئة الباغیة»، وهذا القول قد نقله الکثیر من علماء الإسلام من الفریقین، فقد رواه أحمد فی مسنده(1) والبخاری(2) والترمذی(3) والنسائی(4) ، وللاطّلاع علی روایة واحدة ممّا ذکروه فی هذا المجال انقل ما ذکره البخاری، وهو أصحّ الکتب بعد کتاب الله عند جمهور المسلمین، حیث یقول: «وکان عمّار ینقل لبنتین لبنتین، فمرّ به النبی صلی الله علیه و آله و سلم ومسح عن رأسه الغبار وقال:

«ویح عمّار تقتله الفئة الباغیة، عمّار یدعوهم إلی الجنّة وهم یدعونه إلی النار»(5)).

ومع أنّ الفئة الباغیة هی التی سوف تقتل عمّار، وعمّار قتله جیش معاویة فی صفّین بالاتّفاق حیث قال ابن سعد: «وکان الذی قتل عمّار أبو غادیة المزنی، حیث طعنه برمح فسقط وهو ابن أربع وتسعین سنة، فلمّا وقع إلی الأرض أکبّ علیه رجل آخر واحتزّ رأسه، فأقبلا یختصمان فیه کلاهما یقول أنا قتلته، فقال عمرو بن العاص: والله إن تختصمان إلّا فی النار، فسمعها منه معاویة، فلمّا انصرف الرجلان قال معاویة لعمرو بن العاص: ما رأیت مثل ما صنعت؛ قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما إنّکما تختصمان فی النار! فقال عمرو بن العاص: هو والله ذاک،

ص:239


1- (1) مسند أحمد: ج 3 ص 91.
2- (2) البخاری: ج 2 ص 87.
3- (3) سنن الترمذی: ص 542.
4- (4) خصائص النسائی: ص 29.
5- (5) صحیح البخاری: ج 2 ص 87.

والله إنّک لتعلمه، ولوددت أنّی متّ قبل هذه بعشرین سنة»(1).

وهذا یعنی بالإجماع أنّ جیش معاویة هو الباغی، وأنّ جیش علی هو المَبْغِیُّ علیه، ولکن انظر إلی الانحطاط الخلقی، واللهَث وراء الأهواء والمطامع ماذا یفعل، فقد روی البلاذری عن عبد الله بن الحارث قال: «إنّی لأسیر مع معاویة منصرفه من صفین، بینه وبین عمرو بن العاص، فقال عبد الله لعمرو بن العاص: یا أبت، سمعتُ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم یقول لعمار: «ویحک یا بن سمیة، تقتلک الفئة الباغیة» فقال عمرو بن العاص لمعاویة: ألا تسمع ما یقول هذا؟ فقال معاویة: ما تزال تدحض بها فی قوله، أنحن قتلناه؟! إنّما قتله الذین جاءوا به»(2). وینقل الطبری روایة أخری فی هذا المورد، یقول: فقال عبد الله بن عمرو لأبیه: یا أبت قتلتم هذا الرجل فی یومکم هذا وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فیه ما قال، قال: وما قال؟ قال: ألم تکن معنا ونحن نبنی المسجد والناس ینقلون حجراً حجراً ولبنة لبنة وعمّار ینقل حجرین حجرین ولبنتین لبنتین فغشی علیه، فأتاه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فجعل یمسح التراب عن وجهه ویقول:

«ویحک یا بن سمیة، الناس ینقلون حجراً حجراً ولبنة لبنة وأنت تنقل حجرین حجرین ولبنتین لبنتین، رغبة منک فی الأجر، وأنت - ویحک - مع ذلک تقتلک الفئة الباغیة

ص:240


1- (1) الطبقات الکبری لابن سعد: ج 3 ص 259.
2- (2) أنساب الأشراف: ج 1 ص 164.

یقول عبد الله؟! قال: وما یقول؟ فأخبره الخبر، فقال معاویة: إنّک شیخ أخرق ولا تزال تحدّث بالحدیث وأنت تدحض فی قولک، أو نحن قتلنا عماراً؟! إنّما قتل عمّاراً من جاء به، فخرج الناس من فساطیطهم وأخبیتهم یقولون إنّما قتل عماراً من جاء به»(1).

ویا له من منطق ضالّ ومضلّ لأنّه سوف یلزم من قولهم هذا أن یکون رسول الله هو الذی قتل حمزة وسائر الشهداء فی غزواته، لأنّه هو الذی جاء بهم، والأعجب من هذا القول هو قول بعض من یُسمّون علماء بأنّ جیش معاویة صحیح أنّهم بغاة ولکنّهم کانوا مجتهدین، والمجتهد له أجر علی کلّ حال؛ لأنّه إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد!!

ثانیاً: ینقل الشیخ المفید رحمه الله أنّ عبید الله بن زیاد سأل الإمام زین العابدین: من أنت؟ فقال: أنا علی بن الحسین، فقال: ألم یقتل الله علی بن الحسین، قال علیه السلام: کان لی أخ یسمّی علیاً قتله الناس، فقال ابن زیاد بل قتله الله»(2).

وعلی منطق ابن زیاد ومن لفّ لفّه وسار علی نهجه، یکون الله هو القاتل للأنبیاء والصالحین والمصلحین فی الأرض أیضاً لأنّه هو الذی أرسلهم، مع أنّه یقول فی کتابه الکریم وهو یخاطب بنی إسرائیل:

«وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ ذلِکَ بِأَنَّهُمْ کانُوا یَکْفُرُونَ بِآیاتِ اللّهِ وَ یَقْتُلُونَ النَّبِیِّینَ بِغَیْرِ الْحَقِّ ذلِکَ بِما عَصَوْا وَ کانُوا یَعْتَدُونَ 3» .

ص:241


1- (1) تاریخ الطبری: ج 6 ص 22.
2- (2) الإرشاد: ج 2 ص 116.

وهذا هو منطق الطغاة والمستکبرین فی الأرض علی مرّ العصور وقبل أقلّ من أربع سنین، هجمت إسرائیل بکامل ترسانتها العسکریة، فحظت بتخاذل عربی فی أحسن أحوال الظنّ به، وعدم مبالاة من قبل کافّة دول العالم، وذلک حینما استباحت لبنان وجنوبه أرضاً وبحراً وجوّاً، فقتل من قتل، وشرّد من شرّد، وتهدّمت البیوت والبنایات علی رؤوس ساکنیها، وتحول جنوب لبنان ومناطق تابعة له خلال مدّة وجیزة إلی أرض محروقة، ولولا جنود الله المتمثّلة بتلک الفئة الصالحة المؤمنة الموالیة لأهل البیت، لرأیت إسرائیل قد حقّقت کلّ ما ترید، ولکن ومع کلّ ما جری بالرغم من تلک الوقفة البطولیة الرائعة أخذ بعض من یُسَمّون علماء المسلمین یتحدّث بأنّ الذی دمرّ لبنان هو حزب الله ولیس إسرائیل، مع أنّ الذی قصف لبنان أرضاً وجوّاً وبحراً إنّما هی إسرائیل لا غیر، وهذا هو منطق معاویة ومنطق عمرو بن العاص، وهو الیوم منطق إسرائیل، وهو منطق علی ابن قرظة الأنصاری حینما قال للحسین علیه السلام: «أغررت أخی وقتلته؟» فقال له الحسین:

«إنّی لم أغرر أخاک ولکن هداه الله وأضلّک» فلمّا سمع ذلک من الحسین قال: قتلنی الله إن لم أقتلک أو أموت دونک، ثمّ حمل علی الحسین علیه السلام، فاعترضه نافع بن هلال فطعنه حتی صرعه، فحمل علیه أصحابه واستنقذوه، فدووی بعد فبرئ».(1))

ص:242


1- (1) إبصار العین: ص 122.

المحتویات

الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی الفقعسی علیه السلام

دیباجة 9

أقوال العلماء فیه 10

الأسرة التی ینتمی إلیها الشهید 11

بنو أسد 11

بنو فقعس 11

الاختلاف فی اسم الشهید وکنیته ولقبه 15

اسم الشهید 15

اسم والد الشهید مظهّر أم مظاهر 16

مظهِّر هو الأصح 17

نسب الشهید الکربلائی 18

صحابی جلیل أم تابعی قدیر 18

الاتجاه الأوّل 18

مناقشة روایة معالی السبطین 20

الاتجاه الثانی 21

یوم الفرقان 23

حبیب بن مُظهِّر الأسدی والعصمة 26

حبیب بن مٌظهِّر الرجل الفقیه 29

ص:243

معنی کلمة الفقیه 30

المعنی الأول الواعی والبصیر 30

المعنی الثانی القُرّاء للقرآن الکریم 33

المعنی الثالث المفتی 34

حبیب بن مُظهِّر الأسدی وعلم المنایا والبلایا 35

إشکال وردّه 40

حبیب بن مُظهِّر الأسدی والانسجام مع الشباب 42

حبیب بن مُظهِّر الأسدی والعبادة 45

حبیب بن مُظهِّر مع الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام 50

حبیب بن مُظهِّر من حواریی علی علیه السلام 52

حبیب بن مُظهِّر من شرطة الخمیس 55

حبیب بن مُظهِّر فی الکوفة 58

حبیب والاجتماع الأول للشیعة 60

دور حبیب بن مُظهِّر فی ثورة مسلم بن عقیل 62

تداعیات التفرق عن مسلم بن عقیل 66

أسئلة مهمة تحتاج إلی جواب 66

وقد یعتذر بعضهم أولاً 67

ردٌّ علی الاعتذار الأول 68

وقد یعتذر بعضهم ثانیاً 68

ردٌّ علی الاعتذار الثانی 68

الأسئلة تتری من جدید إلی الذهن 69

طریق لمعالجة المشکلة 69

الحسین علیه السلام یراسل حبیب بن مُظهِّر الأسدی 79

کتاب الحسین إلی حبیب 79

ص:244

النقاط المهمة التی حواها کتاب الحسین 80

وصول حبیب بن مُظهِّر إلی کربلاء 83

زوجة الشهید حبیب والموقف الإسلامی 84

حبیب بن مُظهِّر الأسدی فی کربلاء 86

1 - الموقف الأوّل: ویحک یاقّرة أنّی ترجع إلی القوم الظالمین؟ 86

2 - الموقف الثانی: أتیتکم بخیر ما أتی به وافد إلی قوم 89

3 - الموقف الثالث: أما والله لبئس القوم عند الله غداً 92

4 - الموقف الرابع: والله إنّی أراک تعبد الله علی سبعین حرفاً 93

5 - الموقف الخامس: زعمت أنها لا تقبل من آل الرسول 98

6 - الموقف السادس: عزّ علیّ مصرعک یا مسلم، أبشر بالجنة 105

مسلم بن عوسجة وحبیب بن مُظهِّر 106

درس کبیر الأخوّة والمحبّة فی الله 106

شهادة حبیب بن مُظهِّر الأسدی 108

شهادة حبیب بعد صلاة الظهر 109

قصة الرأس الشریف 112

الولد یطلب ثأر أبیه 114

الحسین علیه السلام یؤبّن حبیباً 115

مدفن الشهید حبیب بن مُظهِّر الأسدی 116

مدفن رأس حبیب بن مُظهِّر 121

الشهید زاهر مولی عمرو بن الحمق الخزاعی الکندی علیه السلام

أقوال العلماء فیه 125

صحبة الشهید لعمرو بن الحمق الخزاعی 128

عمرو بن الحمق الخزاعی 129

مع الشهید الکربلائی فی روایاته 132

ص:245

مزاح رسول الله مع الشهید الکربلائی 133

مزاح رسول الله مع أصحابه 133

مزاح بلا تفریط ولا أفراط 135

الرؤیا الصالحة 135

سؤال وجواب 138

آداب وسنن التوفیق إلی الرؤیا الصالحة 138

تحریم لحوم الحُمُر 140

جهاده 145

الشهید الکربلائی وبیعة الشجرة (الرضوان) 146

الشهید الکربلائی والثورة علی عثمان 147

أولاده وأحفاده 149

شهادته 154

الشهید یزید بن مغفّل المزنی الأزدی علیه السلام

أسم الشهید واسم أبیه ونسبه 155

والد الشهید 156

عمّ الشهید الکربلائی 157

أولاً: عبد الله بن عبد نهم المعروف بذی البجادین 157

ثانیاً: خزاعی بن عبد نهم بن عفیف بن سحیم 160

إخوة الشهید 162

أولاد الشهید 165

أ. عبد الله بن یزید بن مغفّل الأزدی 166

ب. سفیان بن یزید بن مغفّل الأزدی 168

حفید الشهید الکربلائی 171

الشهید الکربلائی مع علی علیه السلام 173

موقف الشهید الکربلائی فی صفین 181

الشهید فی کربلاء 183

ص:246

الشهید عبد الله بن بشر الخثعمی علیه السلام

اسم الشهید ونسبه 185

قبیلة الشهید (خثعم) 186

والد الشهید 189

جبّانة بشر الخثعمی فی الکوفة 191

أقوال العلماء فی الشهید الکربلائی 192

مع الشهید الکربلائی فی روایاته 193

أبناء الشهید وأحفاده 213

شهادته 215

الشهید عمرو بن قرظة بن کعب الأنصاری علیه السلام

أقوال العلماء فیه 216

والد الشهید 218

والد الشهید وفتح الری 223

إخوة الشهید 224

مع الشهید الکربلائی 226

الشهید رسولاً إلی ابن سعد 226

إشارة مهمة 228

رسالة الشهید إلی المسلمین فی العالم 235

شهادته 236

المحتویات 243

ص:247

المجلد 3

اشارة

سرشناسه:صمیانی، حیدر، 1336 -

عنوان و نام پدیدآور:موسوعه فی ظلال شهداء الطف/ تالیف حیدر الصمیانی.

مشخصات نشر: کربلای معلی - قم - العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة 1434

مشخصات ظاهری:4ج.

شابک:978-964-538-250-4

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

یادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه: ص. [359] - 376؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع:حسین بن علی (ع)، امام سوم، 4 - 61ق.

موضوع:واقعه کربلا، 61ق.

رده بندی کنگره:BP41/5/ص8م8 1390

رده بندی دیویی:297/9534

شماره کتابشناسی ملی:2463263

ص :1

هویة الکتاب

ص :2

موسوعه فی ظلال شهداء الطف

تالیف حیدر الصمیانی.

ص :3

* هویة الکتاب

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق - وزارة الثقافة العراقیة لسنة 339:2013

الصمیانی، حیدر

موسوعة فی ظلال شهداء الطف / تألیف حیدر الصمیانی؛ [تقدیم محمد علی الحلو]. - الطبعة الأولی. - کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة 1434 ق. Í 2013 م.

3 ج. - (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة؛ 121).

المصادر. 9789933489700: ISBN

1. الحسین بن علی (علیه السلام)، الإمام الثالث، 4-61 ه -. - أصحاب - السیرة. 2. الحسین بن علی (علیه السلام)، الإمام الثالث، 4-61 ه -. أصحاب - صفات. 3. واقعة کربلاء، 61 ه -. شهداء. 4. التاریخ الإسلامی - العصر الأموی - شبهات وردود. ألف. الحلو، محمد علی، 1957 -، مقدم. ب. العنوان

BP 193.13..A3.S269 2013

تمت الفهرسة قبل النشر فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة

تألیف

الشیخ حیدر الصمیانی

جمیع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1434 ه - 2013 م

العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسینیة المقدسة

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - هاتف: 326499

الموقع الالکترونی: imamhussain-lib.com

البرید الالکترونی: info@imamhussain- lib.com

ص:4

مقدمة الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام علی أشرف خلقه محمد وآله الطاهرین.

(إن الحسین مصباح الهدی وسفینة النجاة).

أما بعد:

... یقف الإنسان متعجباً ومنبهراً بل وحائراً لا یعرف ماذا یقول أمام خلود وبقاء واستمرار الثورة الحسینیة المبارکة طیلة هذه المدّة الزمنیة الطویلة.

هذه الثورة التی لم تکن فی بدایتها إلا حدثاً تأریخیاً حصل وجری فی حقبة زمنیة محدودة، ولو أردنا أن نحسب المدة الزمنیة التی تحرکت فیها هذه الثورة لوجدناها تمتد فی أکثر التقادیر إلی ستةٍ أشهر أو سبعة، حیث خرج الحسین علیه السلام رافضاً بیعة یزید بن معاویة فی الثامن والعشرین من شهر رجب وانتهت فی یوم شهادته علیه السلام فی العاشر من المحرّم، بل إن ذروة هذه الثورة إن صح التعبیر لم تستمر سوی سویعات قلیلة من النهار ربما لا تزید علی خمس

ص:5

ساعات وفق ما ذکره وتحدث عنه المؤرخون.

ومع کل ذلک نجد أن هذه الثورة امتلکت النفوس والأرواح والمشاعر والعقول والقلوب عبر الأجیال وما انطفأت یوماً شعلتها فیهم مهما تمادت السنین وتباعدت الأیام، بل العکس هو الصحیح حیث نراها تتجذر فی القلوب أکثر.

وما هذه الملایین التی تزحف إلی کربلاء من کل عام علی اختلاف قومیاتهم وبلدانهم وأجناسهم وأعمارهم إلا دلیل حیّ وشاهد ملموس ومحسوس علی هذا الخلود والثبات لهذه الثورة المبارکة.

ولقد أشار الکاتب المصری عبد الله العلائلی فی کتابه «سمو المعنی فی سمو الذات» إلی ما تقدم من المعانی وما حصلت علیه کربلاء من التفاف الناس فیها بأبیات جمیلة من الشعر منها:

فیاکربلا کهف الإباء مجسماً ویا کربلاء کهف البطولة والعُلا

ویا کربلا قد حُزت نفساً نبیلة وصُیِّرت بعد الیوم رمزاً إلی السما

ویا کربلا قد صرت قبلة کل ذی نفس تصاغی دون مبدئها الدنا

ویا کربلا قد حُزت مجداً مؤثلاً وحُزت فخاراً ینقضی دونه المدی

فخارٌ لعمری سطرّته ضحیة فکان لمعنی المجد أعظم مُحتلی

فللمسلم الأسمی شعارٌ مقدسٌ هما قبلتان للصلاة وللإبا

وفی اعتقادی أن واحدة من أهم النقاط التی جعلت هذه الثورة متجذرة فی قلوب الملایین عبر السنین - بعد وجود شخصیة الحسین علیه السلام وآثارها العظیمة علی هذه الثورة - هی سمو الأهداف التی ناظلت هذه الثورة من أجل الوصول

ص:6

إلیها أولاً، وخلوص أصحابها وتفانیهم من أجلها ثانیاً.

ولقد وصلت درجة الإخلاص والتفانی عندهم إلی مرحلة نسوا فیها حتی ذواتهم المبارکة الشریفة، فها هو أحدهم یسقط إلی الأرض جریحاً وبه رمق من الحیاة فیأتی إلیه الحسین علیه السلام علی عادته فیضع خده علی خده ویقرأ علیه قول الله تعالی:

«مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً» .

فیفتح الشهید عینه وهو یعیش فی آخر لحظات حیاته والدماء تشخب منه وإذا به یری الحسین علیه السلام وقد وضع خده علی خده فیقول مبتسماً «من مثلی وابن رسول الله واضع خده علی خدی».

لقد نسی هذا الشهید فی لحظة العشق والقرب مع الحسین کل جراحاته وآلامه التی حلّت ببدنه ونالت منه، وفی بعض الروایات سأل الحسینَ علیه السلام قائلاً: «أوفیت یابن رسول الله؟».

أیّ عظمة هذه؟

وأیّ شموخ هذا؟

وأیّ نکران للذات هذا؟

وهذا مثال واحد من عشرات الأمثلة العظیمة التی حظیت بها کربلاء مع أمثال هذه الجماعات التی وصفها الحسین علیه السلام بقوله:

ص:7

«ما رأیت أصحاباً أوفی وأبّر من أصحابی».

لقد حمّلتنا هذه المواقف الکریمة لهذه الثلة المؤمنة الصالحة فی کربلاء الشموخ والبطولة، حملتنا المسؤولیة الکبیرة فی أن نسلّط الأضواء علیها حتی تحفظ مواقفهم أوّلاً ومن ثمّ تُقدَم إلی الناس حتی یتحولوا إلی قدوات یُسار علی نهجها ویُتحرک علی أساسها، لاسیما فی مثل هذا العصر الذی کثر فیه الدجالون وأصحاب الأهواء والمطامع ممن لبس لباس الدین وصار یضحک علی ذقون الفقراء والمساکین حتی ضاع الصالح بالطالح واختلط الشریف بالدنیء.

ولقد بدأت بحمد الله وتوفیقه فی تسلیط الأضواء علیهم (رضوان الله علیهم) من خلال موسوعتی هذه التی أسمیتها (موسوعة فی ظلال شهداء الطف) والتی خرج منها إلی یومک هذا الجزء الأول والثانی.... وها هو الجزء الثالث یخرج إلی النور وهو یحمل فی طیّاته الحدیث عن شهداء الطف.

ص:8

الشهید زهیر بن القین البجلی علیه السلام

بین یدی الشهید

لقد أیّد الله سبحانه وتعالی دینه الحنیف ورسالته الشریفة برجال من المؤمنین یصفهم الله عزّ وجلّ بقوله:

«مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً1» .

فاختارهم واصطفاهم من بین خلقه لنیل شرف المهمّة العظیمة والمنزلة الکریمة، أَلاَ وهی الدفاع عن حومة الدین وعترة سید المرسلین، لاسیّما أبو عبد الله الحسین علیه السلام، فقد آثروا الدین علی الدنیا، ومرضاة الله علی مرضاة الناس، والتعب والنصب علی الراحة والسکون والدعة، حتی توّجت حیاتهم فی آخر المطاف - بمنّة من الله ولطفه - بأسمی ما یریده المؤمن ویطلبه، وهی الشهادة فی سبیل الله سبحانه، حتی داستْ الخیل صدورهم بحوافرها وعلتْهم الطغاة ببواترها،

ص:9

فرفعت رؤوسهم علی أطراف الرماح، وترکت أجسادهم علی الأرض تشخب منها الجراح، وکان منهم الشهید زهیر بن القین (رض)، الذی أعطی وصدق بالحسنی، فیسّره الله إلی الأخری ویالها من عاقبة حسنی ومنزلة عظیمة فضلی!

أقوال العلماء فیه

1 - قال الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف فی زیارته المقدّسة:

«السلام علی زهیر بن القین البجلی، القائل للحسین علیه السلام وقد أذن له فی الانصراف: لا والله، لا یکون ذلک أبداً، أترک ابنَ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أسیراً فی یدِ الأعداء وأنجو! لا أرانی الله ذلک الیوم»(1).

2 - یقول العلاّمة المامقانی: (ذکر أهل السیر أنّ زهیر بن القین هذا کان رجلاً شریفاً فی قومه، نازلاً فیهم بالکوفة، شجاعاً، له فی المغازی مواقف مشهورة ومواطن مشهودة)(2).

3 - یقول تقی الدین الحسن بن علی بن داود الحلّی: (زهیر بن القین قُتل بکربلاء رحمه الله، عظیم الشأن»(3).

4 - ویقول ابن سعد فی ترجمة عامر بن شرحبیل بن عباد الشعبی: «ومَن روی عنهم... زهیر بن القین...»(4).

ص:10


1- (1) إقبال الأعمال للسید ابن طاووس: ص 576.
2- (2) تنقیح المقال للمامقانی: ج 1، ص 452.
3- (3) رجال ابن داود: ص 99، رقم 646، تحقیق محمّد صادق بحر العلوم.
4- (4) الطبقات لابن سعد: ترجمة عامر الشعبی، الحدیث 6815.

5 - یقول ذبیح الله المحلاتی: «یجب أن یُعلم أنّ زهیر بن القین کان من الرجال المهمّین، ومن الفرسان الأسود، ومن الخطباء، کان عالی القدر، وکان فی میمنة أصحاب الإمام الحسین علیه السلام»(1).

6 - یقول بعد الواحد المظفّر: «زهیر بن القین الشهید مع الحسین بطفّ کربلاء، هو من وجوه أهل الکوفة، وأعیان التابعین، وأعلام أهل العراق، المعروفین بالرئاسة والشرف والشجاعة، ومن الخطباء والشعراء والأبطال»(2).

7 - یقول النمازی الشاهرودی: «زهیر بن القین خرج من مکّة، وکان مع جماعة یکرهون أن یکونوا مع الحسین، فنزلوا فی منزل... فجاء إلی الحسین، فما لبث أن جاء مستبشراً... ولحق زهیر بالحسین علیه السلام»(3).

8 - یقول ابن حزم: «هو زهیر بن القین بن الحارث بن عامر بن سعد بن مالک بن ذهل بن عمرو بن یشکر بن علی بن سعد بن نذیر بن قسر، قتل مع الحسین علیه السلام»(4).

القبیلة التی ینتمی إلیها الشهید

لقد کان لهذه القبیلة التی ینتمی إلیها الشهید وهی: «بجیلة» تاریخ حافل بالمواقف الطیّبة فی نصرة الإسلام والمسلمین، لاسیّما فی معرکة الیرموک

ص:11


1- (1) فرسان الهیجاء: ج 1، ص 142.
2- (2) الأمالی المنتخبة: ص 56.
3- (3) مستدرکات علم الرجال: ج 3، ص 581 4405.
4- (4) جمهرة أنساب العرب لابن حزم: ص 388.

والقادسیة وغیرهما، حتی نُقل أنّ الذی قَتل رستم قائد الفرس هو زهیر بن عبد شمس بن نوف البجلی، ثمّ أنشد یقول:

أَنَا زُهَیْرٌ وَابْنُ عَبْدِ شَمْسِ أَرْدَیْتُ بِالسَّیْفِ عَظِیْمَ الفُرْسِ

رُسْتَمَ ذَا النَّخْوَةِ وَالدَّمْسِ أَطَعْتُ َربِّی وَشَفَیْتُ نَفْسِی(1)

ولقد خرّجت هذه القبیلة الکثیر الکثیر من المجاهدین والمدافعین عن حومة الدین، منهم علی سبیل المثال لا الحصر قیس بن المکشوح البجلی، الذی کانت بیده رایة علی علیه السلام فی معرکة صفّین، وهو القائل:

إِنَّ عَلَیَّاً ذُوْ أَنَاةٍ صَارِمُ جَلْدٌ إِذَا مَا خَطَرَ العَزَائِمُ

لَمَّا رَأَی مَا تَفْعَلُ الأَشَائِمُ قَامَ لَهُ الذَّرْوَةُ وَالأَکَارِمُ (2)

ومنهم عبد الله بن قلع البجلی، وعفیف بن إیاس البجلی، ورفاعة بن شداد البجلی الذی شهد له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالإیمان والصلاح وهو یتحدّث عن وفاة أبی ذر (رض)(3).

زهیر بن القین وسحرة موسی

اشارة

حینما یدرس الإنسان حیاة هذا الشهید الکربلائی زهیر بن القین (رض) بدقّة ویسلّط الضوء علی الانتقالة السریعة والنوعیة التی حصلت له فی حیاته (رض)، لَیجد وبشکل واضح أنّ ما مرّ به هذا الشهید یمثّل منعطفاً إلهیاً ربّانیاً، اقتضتْ إرادة

ص:12


1- (1) فتوح البلدان: ج 2، ص 259.
2- (2) وقعة صفین لنصر بن مزاحم: ص 258.
3- (3) سلسلة الأرکان الأربعة (أبو ذر الغفاری) للشیخ محمد جواد الفقیه: ص 156-157.

الله وحکمته أن یمرّ به، وإنّما عبّرنا عن هذه الانتقالة بالمنعطف؛ لأنّها تمثّل فی واقع الأمر نقطة فصل بین تصوّرین وتوجّهین لم یجتمعا من قبل أبداً، حیث عرف عن الشهید الکربلائی أنّه کان عثمانی الهوی(1) قبل لقاء الحسین علیه السلام، ثمّ عُرف بعد ذلک بأنّه حسینی من أنصار الحسین بن علی بن أبی طالب.

وممّا لا یخفی علی أحد أنّ هذه الانتقالة تشکّل - بشکل عام - ثقلاً علی الإنسان؛ لأنّها تتعلّق بتصوّراته وأفکاره ومتبنّیاته العقیدیة، بل یمکن أن یقول الإنسان إنّ تغییر میاه نهر عظیم أو التحکّم فی جریانه أو حتی حفر الصخور فی الجبال والآبار فی الأرض ربّما یکون أسهل بکثیر من تغییر الإنسان لنفسه وأفکاره وآرائه.

یقول أحد الشعراء وهو یتحدّث عن الآراء وأهمّیتها وضرورة الدفاع عنها:

قِفْ دُوْنَ رَأْیِکَ فِی الحَیَاةِ مُجَاهِدَاً إِنَّ الحَیَاةَ عَقِیْدةٌ وَجِهَادُ

من هنا کانت فکرة التغییر التی تحملها الحضارة فی شِقّها المادّی أسهل علی الإنسان فی مقدار تقبّله لها وتفاعله معها، بخلاف الشِقّ الثانی من الحضارة والمتعلّق بالعادات والتقالید والأفکار والتصوّرات التی یحملها الإنسان معه منذ أن یعی هذه الحیاة.

وبعبارة أخری: لیس عزیزاً علی الإنسان أن یُقال له - مثلاً - بدل أن تطهو الطعام علی الخشب، فإنّک تستطیع أن تطهوه علی الغاز أو الکهرباء، أو أن یُقال له:

بدل أن تنتقل من مکان إلی مکان بواسطة الحیوان، فإنّک تستطیع أن تنتقل بواسطة

ص:13


1- (1) سیأتی بعد ذلک مناقشة هذه القضیة وما تعنیه بشیء من التفصیل.

السیارة أو الطائرة أو ما شاکل ذلک، وهکذا بقیة الأمور الأخری، ولکن یصعب علی الإنسان کثیراً أن یبدّل أمراً أخذه عن آبائه وأجداده، أو حتی توقّفه علی الخطأ الذی کان سائراً مدّة طویلة من الزمن علیه، ومن هنا عبّر القرآن الکریم عن الرسالة التی نزلت علی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأنّها ثقیلة(1).

«قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِی الْمَدائِنِ حاشِرِینَ * یَأْتُوکَ بِکُلِّ ساحِرٍ عَلِیمٍ * وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ کُنّا نَحْنُ الْغالِبِینَ * قالَ نَعَمْ وَ إِنَّکُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِینَ * قالُوا یا مُوسی إِمّا أَنْ تُلْقِیَ وَ إِمّا أَنْ نَکُونَ نَحْنُ الْمُلْقِینَ * قالَ أَلْقُوا فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْیُنَ النّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِیمٍ * وَ أَوْحَیْنا إِلی مُوسی أَنْ أَلْقِ عَصاکَ فَإِذا هِیَ تَلْقَفُ ما یَأْفِکُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما کانُوا یَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنالِکَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِینَ * وَ أُلْقِیَ السَّحَرَةُ ساجِدِینَ * قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِینَ * رَبِّ مُوسی وَ هارُونَ * قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَکُمْ إِنَّ هذا لَمَکْرٌ مَکَرْتُمُوهُ فِی الْمَدِینَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَیْدِیَکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّکُمْ أَجْمَعِینَ * قالُوا إِنّا إِلی رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ * وَ ما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآیاتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَیْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِینَ 2» .

ص:14


1- (1) کما فی قوله تعالی من سورة المزمل، الآیة 5:«إِنّا سَنُلْقِی عَلَیْکَ قَوْلاً ثَقِیلاً».

وفی سورة طه:

«فَلَأُقَطِّعَنَّ أَیْدِیَکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّکُمْ فِی جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَیُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقی * قالُوا لَنْ نُؤْثِرَکَ عَلی ما جاءَنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَ الَّذِی فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِی هذِهِ الْحَیاةَ الدُّنْیا * إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِیَغْفِرَ لَنا خَطایانا وَ ما أَکْرَهْتَنا عَلَیْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللّهُ خَیْرٌ وَ أَبْقی 1» .

لقد وقفتُ أمام هذا النص القرآنی مراراً وتکراراً وتأمّلتُ فیه طویلاً فوجدتُ أمامی شخصیتین:

الشخصیة الأولی

کانت مشدودة إلی المال:

«قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ کُنّا نَحْنُ الْغالِبِینَ 2» .

وکانت مرتبطة بفرعون وعزّته وقوّته:

«وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ 3» .

وکانت تعیش التحدّی لموسی علیه السلام ولرسالته، حتی قال لهم موسی:

«وَیْلَکُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَی اللّهِ کَذِباً فَیُسْحِتَکُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ

ص:15

مَنِ افْتَری 1» .

کانت هذه عقیدتهم وهذا هو توجّههم ومنطقهم مع موسی علیه السلام ورسالته.

أمّا الشخصیة الثانیة

فأصبحت مؤمنة خاضعة ساجدة لله سبحانه وتعالی:

«فَأُلْقِیَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسی 2» .

وأصبحت واعیة البصیرة والبیّنة فی دینها وإیمانها:

«لَنْ نُؤْثِرَکَ عَلی ما جاءَنا مِنَ الْبَیِّناتِ 3» .

وأصبحت الموطّنة نفسها للشهادة من أجل الله ورسالته:

«فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ 4» .

«وَ مِنْهُمْ مَنْ یَسْتَمِعُ إِلَیْکَ حَتّی إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِکَ قالُوا لِلَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً5» .

وهناک مَن یسلب منه حتی تمییز الحق من الباطل والطیب من الخبیث والجیّد من الردیء فمثل هؤلاء لا یسمعون ولا یهیّأون للسمع أصلاً:

«وَ لَوْ عَلِمَ اللّهُ فِیهِمْ خَیْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ» .

ص:16

زهیر بن القین والاستماع إلی الحق

من هنا وبعد هذه الإطلالة السریعة علی ما یفعله الإیمان فی نفوس الناس لاسیّما مع سحرة فرعون کما تقدّم، نعرف سرّ هذه الانتقالة السریعة التی حصلت فی حیاة هذا الشهید الکربلائی (رض)، هذا الرجل الذی لم یبق مع الحسین علیه السلام إلاّ مدّة وجیزة من الزمن وإذا به یرجع ووجهه یتلألأ نوراً واستبشاراً بدعوة الحسین له إلی نصرته ونصرة الدین.

ولقد علم الرجل منذ اللحظة الأولی أنّ مثل هذا القبول لمثل هذه الدعوة سیؤدّی إلی موت محقّق غیر مشکوک فیه، فضلاً عن عدم حصول مثل هذا الإنسان علی أبسط مقدار من حطام هذه الدنیا الفانیة ومتعتها الزائلة.

لقد برهن زهیر بن القین أنّه یحمل نفساً أکبر من أن تتقیّد بقیود التوجّه أو الفهم الخاطئ لهذا الأمر أو ذاک، بل إنّه أعطی صورة مفادها أنّ الدین عنده أعظم من کلّ شیء، وله یجب تقدیم کلّ شیء، وهذه بتقدیری فضیلة کبری ومنزلة فضلی تمتّع بها (رض)، یقول ابن القیم فی تفسیر الآیة الکریمة:

«فَهَدَی اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللّهُ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ 1» .

(فمَن هداه الله سبحانه إلی الأخذ بالحق حیث کان ومع مَن کان ولو کان مع مَن یبغضه ویعادیه وردّ الباطل مع مَن کان ولو کان مع مَن یحبه ویوالیه، فهو ممّن هداه الله لِمَا اختلف فیه من الحق، فهذا أعدل الناس وأقومهم قیلاً)(1).

ص:17


1- (2) الصواعق المرسلة: ج 2، ص 516.

یقول صلی الله علیه و آله و سلم:

«اقبلْ الحق ممّن أتاک به صغیراً أو کبیراً وإن کان بغیضاً، وارْددْ الباطل علی مَن جاء به صغیراً أو کبیراً وإن کان حبیباً»(1).

ویقول صلی الله علیه و آله و سلم:

«السابقون إلی ظلّ العرش طوبی لهم.

قیل: یا رسول الله، ومَن هم؟ فقال:

الذین یقبلون الحقّ إذا سمعوه، ویبذلونه إذا سألوه، ویحکمون للناس کحکمهم لأنفسهم»(2).

ویقول الإمام الصادق علیه السلام:

«إنّ الله إذا أراد بعبدٍ خیراً شرح صدره للإسلام، فإذا أعطاه ذلک أنطق لسانه بالحق وعقد قلبه علیه فعمل به، فإذا جمع الله له ذلک تمّ له إسلامه... وإذا لم یُرد الله بعبدٍ خیراً وَکَلَهُ إلی نفسه وکان صدره ضیّقاً حرجاً، فإن جری علی لسانه حقّ لم یعقد قلبه علیه، وإذا لم یعقد قلبه علیه لم یعطه الله العمل به»(3).

ومن کلّ ما تقدّم من النصوص نفهم أنّ علینا - إذا ما أردنا أن نتّبع هذا الشهید الکربلائی (قابل الحق والمدافع عنه) - أن نکون ممّن یرعی حرمة الحق

ص:18


1- (1) کنز العمال: برقم 31556.
2- (2) بحار الأنوار: ج 75، ص 29.
3- (3) الکافی: ج 8، ص 13.

فی نفسه ومع الله، ویجابه الباطل أینما کان، ومع مَن کان، حتی ولو کلّفه ذلک تقدیم نفسه بین یدیّ الله سبحانه وتعالی، فأصحاب الحسین علیه السلام إنّما وصلوا إلی ما وصلوا إلیه من المنزلة والرفعة والمکانة السامیة فی الدنیا والآخرة من خلال مواقفهم المبدئیة، وتقدیمهم الغالی والنفیس من أجل الدین.

ولم تکن المسألة متعلّقة بالأمانی فقط، فکلّ إنسان بإمکانه أن یتمنّی الکثیر، یتمنّی أن یکون أعظم الناس وأفضل الناس وأعلم الناس، بل ویتمنّی أن یدخل الجنّة ویکون من ساداتها وشخصیّاتها، ولکن علی أرض الواقع لا یعمل ما یتناسب مع مثل هذه التمنّیات، فیکون مَثَلُهُ مَثَل الیهود فی تمنّیاتهم، حیث یقول القرآن الکریم:

«لَیْسَ بِأَمانِیِّکُمْ وَ لا أَمانِیِّ أَهْلِ الْکِتابِ مَنْ یَعْمَلْ سُوءاً یُجْزَ بِهِ 1» .

یقول الشیخ مکارم الشیرازی فی تفسیر الأمثل: (جاء فی تفسیر مجمع البیان وتفاسیر أخری أنّ المسلمین وأهل الکتاب کانوا یتفاخرون بعضهم علی بعض، فکان أهل الکتاب یتباهون بکون نبیّهم قد بعث قبل نبیّ الإسلام، وأنّ کتابهم أسبق من کتاب المسلمین، بینما کان المسلمون یفتخرون علی أهل الکتاب بأنّ نبیّهم هو خاتم النبیین، وأنّ کتابه هو آخر الکتب السماویة وأکملها.

وفی روایة أخری نُقل أنّ الیهود کانوا یدّعون أنّهم شعب الله المختار، وأنّ نار جهنّم لا تمسّهم إلاّ لأیّام معدودات کما ورد فی سورة البقرة:

ص:19

«وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَیّاماً مَعْدُودَةً 1» .

وإنّ المسلمین کانوا یقولون ردّاً علی کلام الیهود هذا بأنّهم خیر الأمم؛ لأنّ الله قال فی شأنهم:

«کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ 2» .

ولذلک نزلت الآیة الکریمة ودحضت کلّ هذه الدعاوی، وحدّدت قیمة کلّ شخص بما یقوم به من أعمال)(1).

وعلیه فإنّ زهیر بن القین قد أثبت قیمته من خلال موقفه وعمله، الذی کَرُمَ من خلاله فی الدنیا والآخرة حتی صار مع الحسین رفیقاً وکفی بها نعمة، فماذا عنّا؟ أنکتفی بالأمانی أم نتحرک لإعطاء القیمة لأنفسنا من خلال العمل والموقف:

«وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ» ؟(2).

زهیر بن القین والفتوحات الإسلامیة

اشارة

إنّ أجمل ما یمکن أن یترجم به الإنسان المسلم اعتقاده بالله عزّ وجلّ وبما أعدّه للمطیعین والسائرین فی خطّ الدعوة إلیه، هو حمله لروحه علی أسنّة الرماح، ودمه علی راحته، وسیفه علی عاتقه، من أجل أن یقاتل مَن یبغی فی الأرض فساداً ولا یرعی للبشریة أدنی حقوقها، ومن ثم ینشر الخیر والعدل والنور والتسامح فی

ص:20


1- (3) تفسیر الأمثل: ج 3، ص 465-466.
2- (4) التوبة: 105.

أرجاء هذه الدنیا، من هنا صار الجهاد فریضة لازمة لإعلاء کلمة الله وإنقاذ المستضعفین وقهر الظالمین، لاسیّما حینما یخیّر الإنسان المؤمن بین حالین لا ثالث لهما، فأمّا العزّة والکرامة وأمّا الذلّة والهوان.

یقول الله عزّ وجلّ وهو یتحدّث عن نبیّ الله شعیب الذی اختلف قومه فی دعوته، فآمنت بها طائفة وکفرت به طائفة أخری، وهو یدعو الطائفة الکافرة إلی الصبر حتی یحکم الله بینه وبینهم، فیأبون إلاّ أن یخرجوه هو وأصحابه من دیارهم أو یعیدوهم فی ملّتهم، ولا یطیقون وجود فئة تؤمن بالله وبرسالته فی دیارهم:

«وَ إِنْ کانَ طائِفَةٌ مِنْکُمْ آمَنُوا بِالَّذِی أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ یُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتّی یَحْکُمَ اللّهُ بَیْنَنا وَ هُوَ خَیْرُ الْحاکِمِینَ * قالَ الْمَلَأُ الَّذِینَ اسْتَکْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّکَ یا شُعَیْبُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا مَعَکَ مِنْ قَرْیَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنا1» .

وهنا یقف الداعی إلی الله کالجبل الأشمّ مجاهداً فی سبیل الله للحفاظ علی دینه والتبرّی من الکفر الذی نجّاه الله منه، ویلجأ إلی القویّ القادر یستنصره فیأتیه النصر ویفتح الله بینه وبین عدوّه وهو خیر الحاکمین.

یقول الله عزّ وجلّ:

«قالَ أَ وَ لَوْ کُنّا کارِهِینَ * قَدِ افْتَرَیْنا عَلَی اللّهِ کَذِباً إِنْ عُدْنا فِی مِلَّتِکُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ مِنْها وَ ما یَکُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِیها إِلاّ أَنْ

ص:21

یَشاءَ اللّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا کُلَّ شَیْ ءٍ عِلْماً عَلَی اللّهِ تَوَکَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَیْنَنا وَ بَیْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَیْرُ الْفاتِحِینَ 1» .

إنّ المؤمن لیتحرّک فی هذا الخط وهو یعیش الأمل الکبیر فی الله عزّ وجلّ، هذا الأمل الذی یجعله فی أعلی درجات الراحة والاطمئنان وهو یؤیّد مثل هذا التکلیف، حتی أنّ الشهید لیتمنّی أن یعود إلی هذه الدنیا فیُقتل عشرات المرّات لِمَا یری من عظیم الکرامة وکبیر المنزلة، مثلما حصل مع الشهید زهیر بن القین کما سیأتینا فی الحدیث عنه مجاهداً بین یدی الحسین علیه السلام.

من هنا نجد أنّ عطاءات هذا الشهید لم تنحصر فی کربلاء، بل کان قبلها ألوان من الجهاد والدعوة إلی الله عزّ وجلّ فی شتّی صورها وأشکالها، ومنها تلک المشارکة الواضحة والفاعلة فی الفتوحات الإسلامیة، هذه الفتوحات التی کان للشهید الکربلائی وأمثاله الدور الأبرز فی الحفاظ علی قِیَم الإسلام داخلها وعدم الانحراف فیها، لاسیّما وقد تحکم فی بعضها مجامیع من القیادات التی لم تعرف الإسلام حقّ معرفته.

معرکة باب الأبواب

ومن هذه المعارک التی خاضها الشهید الکربلائی (رض) هی معرکة باب الأبواب، والتی کانت تمثّل مرکزاً وقاعدة لانطلاق الفتوحات الأخری، لاسیّما نحو المدن الترکیة وما حولها أو ما یُعرف ب - (بلاد الترک)، وکان من جملة تلک الفتوحات هو فتح عبد الرحمن بن ربیعة الباهلی لبلاد أرمینیة.

ص:22

ویبدو لی أنّ هذه المنطقة قد تمّت محاصرتها فی زمن عمر واستمرّت لمدّة لیست بالقصیرة کما سیأتینا، وأمّا فتحها بشکل کامل فقد تمّ فی زمن عثمان، ومن هنا وقع الاختلاف عند المؤرّخین فی عصر الخلیفة الذی حصلت فیه هذه المعرکة، حیث نسبها بعضهم إلی عمر(1) ، والبعض الآخر إلی عثمان(2) ، خصوصاً وأنّ شخصیات هذه المعرکة وقادتها الرئیسیین لم یتغیّر الکثیر منهم.

بدایات المعرکة
اشارة

وتبدأ المعرکة حینما یرسل عمر بن الخطاب جیشاً علی رأسه حبیب بن سلمة لیدخل إلی مدینة (باب الأبواب) من جهة الغرب، وجیشاً آخر بقیادة عبد الرحمن بن ربیعة الباهلی لیدخل المدینة من جهة الشرق، یعنی بعبارة أخری: أنّهم استعملوا نفس الخطّة التی استعملوها فی فتح أذربیجان، المهم یتقدم الجیشان حتی یصلا إلی مدینة الباب، أو ما یُعرف ب - (باب الأبواب)، حیث کان الحاکم لهذه المدینة هو (شهر براز)، فیتسارع إلی طلب الصلح من قیادة الجیش الإسلامی الفاتح، ویضع شرطاً أن یقف أهل الباب دفاعاً عن الباب وعن المسلمین، ویقاتلوا من أجلهم علی أن یسقطوا الجزیة عنهم أو أخذ أجر فی قباله من المسلمین.

وبعد أن تمّ الصلح سقطت مدینة الباب التی کانت من أشدّ المناطق حصانة من دون صعوبة تُذکر، وبمجرّد أن فتح الباب أصبح المسلمون علی حدود بلاد

ص:23


1- (1) تاریخ الطبری: ج 4، أحداث سنة 32 ه -.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 4، أحداث سنة 24 ه -.

الترک(1) ، ویأتی هنا حدیث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حینما تحدّث عن مثل هذه الغزوة کما روی ذلک الکثیر من العلماء، یقول صلی الله علیه و آله و سلم:

«لا تقوم الساعة حتی تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر، وحتی تقاتلوا الترک صغار الأعین حمر الوجوه دلف الأنوف، کأن وجوههم المجان المطرقة(2)»(3).

وربّما کان شعور عبد الرحمن بن ربیعة بمثل هذا الحدیث وأمثاله دافعاً لهم أکثر فی الخوض فی هذه المعرکة، حتی تحقّق کلّ بنود هذه النبوة المحمدیة المقدسة، فیجهز عبد الرحمن جیشاً وفی نفس الوقت یرسل إلی شهر براز - وهو الذی عقد معه الصلح - لإخباره بما یفکّر فیه، فقال له: ما ترید؟

قال: أرید أن أغزو بلنجر والترک، قال: لقد رضینا منهم ألاّ یغزونا ولا نغزوهم، فقال: ولکنّنا لا نرضی حتی نغزوهم فی دیارهم، وتالله إنّ معنا أقواماً لو یأذن لنا أمیرنا فی الإذعان لبلغت بهم إلی الروم، فقال: ومَن هم؟ عندها وصف عبد الرحمن له صفات مَن معه لاسیّما الشهید الکربلائی زهیر بن القین، حیث یقول: (هم أقوام صحبوا رسول الله ودخلوا فی هذا الأمر بنیّة، ولا یزال هذا الأمر لهم دائماً، ولا یزال النصر معهم حتی یغیرهم مَن یغلبهم)(4).

ص:24


1- (1) الکامل فی التاریخ: ج 2، ص 429-430.
2- (2) یعنی وجوههم تتّصف بأنّها غلیظة وکثیرة اللحم وتمیل إلی الحمرة، ولهم أنوف قصیرة، ویلبسون الشعر وینتعلوه.
3- (3) إتحاف الجماعة بما جاء فی الفتن والملاحم وأشراط الساعة، کتاب الفتن، باب ما جاء فی قتال الترک: ج 1، ص 367.
4- (4) الکامل فی التاریخ: ج 2، ص 431.
وقفة لابدّ منها

وهنا لابدّ لنا أن نقف أمام هذه الکلمة العظیمة التی ذکرها لنا التاریخ بفخر واعتزاز عن عبد الرحمن بن ربیعة الباهلی، وهو یتحدّث مع ملک کبیر کان موجوداً علی بلاد شدیدة التحصّن فی ذلک الیوم، ألا وهی (باب الأبواب)، هذه الکلمات التی تحمل فی طیّاتها نظراً ثاقباً وفهماً عمیقاً للإسلام حین یؤکّد علی أنّ النصر دائماً مع المسلمین، وهذا هو وعد الله الذی طالما قرأه وسمعه وعاشه کلّ مسلم، کما فی قول الله عزّ وجلّ:

«وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ 1» .

بل حتی قضیة العدد والعدّة لم تکن لتشکّل عنصر خوف وقلق عند المسلمین، بل بالعکس، کانت تمثّل شعوراً بتأمل فضل الله ورحمته أکثر، یقول القرآن الکریم:

«إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ یَنْصُرْکُمْ 2» .

وهنا تأتی کلمة هذا القائد الکبیر عبد الرحمن بن ربیعة الباهلی، حیث یؤکّد علی هذه الحقیقة الإسلامیة المهمّة: إنّ النصر دائماً حلیف المسلمین حتی یتغیّروا، ولکن یا تری مَن الذی سوف یغیّرهم؟

هنا وبنظرة ثاقبة یقول له: إنّ الذی یغیّرهم هو مَن یغلبهم. وبعبارة أخری: إنّ غالب المسلمین هو ذاک الذی یستطیع أن یزیلهم ویدفعهم عن دینهم والتزامهم

ص:25

واستقامتهم. وبمراجعة سریعة إلی التاریخ وإلی وقتنا المعاصر، نجد أنّ هذه الغَلَبَة - وللأسف الشدید - قد حصلت علی المسلمین من قِبل أعدائهم، وربّما یکون واحداً من هذه الأسباب التی تقف وراء هذه الغلبة هو ما نعیشه ومنذ مدّة لیست بالقصیرة من وجود انقسام للنخب الثقافیة والفکریة من أبناء هذه الأمّة الإسلامیة إلی فریقین غیر متجانسین، هما المتغرّبون والمحافظون إن صحّ التعبیر.

أمّا الفریق الأول فیدعون إلی اقتفاء أثر الحضارة الغربیة بحلوها ومرّها، والفریق الثانی یدعو إلی التمسّک بالأصول الفکریة التی قامت علیها الحضارة الإسلامیة وازدهرت بسببها، ومن خلال هؤلاء حاول الیهود والنصاری أن یغیّروا المسلمین ویبثّوا روح الیأس من بعض مفاهیم الإسلام بحجّة عدم ملاءمتها للواقع وللعصر، فضلاً عن دعوات الحریات وإقامة الدیمقراطیة المستلزِمة فی کثیر من الأحیان لإباحة النساء والانحراف فی داخل الأمّة الإسلامیة.

ومن ثم استطاعوا أن یغیّروا المسلمین کلّ هذه التغییرات، وهذا بالذات هو معنی کلام عبد الرحمن بن ربیعة الباهلی: لا یزال هذا الأمر دائماً لهم والنصر معهم حتی یغیّرهم مَن یغلبهم.

غزوة بلنجر

بعدما تحدّث عبد الرحمن بن ربیعة الباهلی مع الملک فی غزو الترک، والتی کانت قوّة کبیرة لا یُستهان بها، حتی أنّ الفرس عقدوا معهم اتفاقیة ألاّ یغزوهم وأن یحترم کلّ واحد منهم الآخر.

یقول ابن أعثم: (وتسامعت ملوک أرمینیة بدخول العرب إلی بلدهم فهربوا

ص:26

علی وجوههم حتی تحصّنوا فی الجبال والقلاع والأودیة والغیاض، وجعل بعضهم یقول لبعض: إنّه قد جاءنا قوم بلغنا أنّهم نزلوا من السماء، فلیس یموتون ولا یعمل فیهم السلاح... ثمّ انّه سار یرید مدینة الباب، وبها یومئذٍ خاقان ملک الخازر فی زهاء ثلاثمائة ألف من الکفّار، فلمّا سمع بمسیر العرب إلی مَن قبله ارتحل عن مدینة الباب، فقیل له: أیّها الملک، أنت فی ثلاثمائة ألف وهؤلاء فی عشرة آلاف وتنهزم من بین أیدیهم؟

فقال: إنّه بلغنی عن هؤلاء القوم أنّهم نزلوا من السماء، وأنّ السلاح لا یعمل فیهم، فمَن یقوم لهؤلاء؟ قال ثم جعل یمرّ علی وجهه(1).

واستمرّ الأمر علی هذه الحال مدّة من الزمن، حتی إذا نزلوا بعد ذلک علی نهر وفیه جماعة من الخزر من أصحاب خاقان، فأقبل رجل منهم لینظر إلی عسکر المسلمین، فبینما هو کذلک إذ نظر إلی رجل من المسلمین قد نزل إلی ذلک النهر لیغتسل فیه، فأحبّ أن یجرّب السلاح أیعمل فیه أصلاً؟ فاستخرج له سهماً فرماه به فقتله، ثمّ دنا منه فأخذ ثیابه واحتزّ رأسه وجاء به بین یدی خاقان وقال: أیّها الملک، هؤلاء بلغک عنهم أنّ السلاح لا یعمل فیهم، وأنّ القتل لم یکتب علیهم، فلمّا نظر خاقان إلی ذلک نادی فی أصحابه فجمعهم، ثمّ إنّه رجع علی المسلمین فی ثلاثمائة ألف فقاتلهم وقاتلوه حتی ما بقی من المسلمین أحد)(2) ، فقتل قائد المعرکة واستلم الرایة من بعده أخوه سلمان.

ص:27


1- (1) الفتوح لابن أعثم: ج 2، ص 344.
2- (2) الفتوح لابن أعثم: ج 2، ص 345.

یقول السید الزنجانی فی وسیلة الدارین: (استشهد عبد الرحمن بن ربیعة وأخذ الرایة أخوه سلمان بن ربیعة، ولم یزل یقاتل حتی أمکنه دفن أخیه بنواحی بلنجر ورجع ببقیة المسلمین عن طریق جیلان فیهم سلمان الفارسی وأبو هریرة، فقال عبد الرحمن بن حجانة الباهلی:

وَإِنَّ لَنَا قَبْرَیْنِ قَبْرٌ بِلَنْجَرِ وَقَبْرٌ بِأَرْضِ الصِّیْنِ یَالَکَ مِنْ قَبْرِ

فَهَذَا الَّذِی بِالصِّیْنِ عَمَّتْ فُتُوْحُهُ وَهَذَا الَّذِی یُسْقَی بِهِ سُبُلُ القَطْرِ(1)

حدیث بَلَنْجَر

وفی هذه الواقعة حدّث الشهید الکربلائی زهیر بن القین الذی کان حاضراً فیها ومشارکاً بها قائلاً: (غزونا بلنجر ففتح الله علینا، وأصبنا غنائم کثیرة، فقال لنا سلمان الفارسی(2): أفرحتم بفتح الله علیکم، فإذا أدرکتم شباب آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم فکونوا أشدّ فرحاً بقتالکم معهم)(3).

قال سلمان هذا الحدیث لزهیر بن القین قبل أن تقع واقعة کربلاء بثلاثین عاماً تقریباً، ولا شکّ أنّ سلمان لم یقل هذا الحدیث من عنده؛ بل لأنّه سمعه من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذی طالما تحدّث عن کربلاء وما یجری فیها علی أهل بیته

ص:28


1- (1) وسیلة الدارین: ص 144-145.
2- (2) إمّا أن یکون سلمان الفارسی؛ لأنّه کان من المشارکین فی هذه الحملة، حتی أنّ صاحب کتاب الروض العطار فی خبر الأقطار رواها عن سلمان: ج 1، ص 93. ویحتمل أن یکون سلمان الباهلی؛ لأنّه کان یلی لعمر الخیل علی مقاسم مغانم المسلمین حین افتتحوا بلاد العجم: ج 1، ص 94. أسد الغابة ج 2، ص 225.
3- (3) ابن الأثیر فی الکامل: 42/4.

وأمّته، بل وحتی زوجاته کان لهنّ نصیب من هذه الإخبارات، والتی ذکر فیها ما یصنعه شرار هذه الأمّة بعترته وأهل بیته، من تقتیل وتقطیع للأوصال وانتهاک لحرم الله عزّ وجل.

وحتی تقف علی بعض هذه الأحادیث التی جاءت فی هذا السیاق والذی جاء فیه حدیث بلنجر الذی رواه الشهید الکربلائی، أذکر لک جانباً منها:

1 - روی الحاکم فی المستدرک بسنده عن عبد الله بن وهب بن زمعة قال: أخبرتْنی أُمّ سلمة (رض) أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم اضطجع ذات لیلة للنوم فاستیقظ وهو حائر، ثمّ اضطجع فَرَقَدَ، ثمّ استیقظ وهو حائر دون ما رأیت فی المرّة الأولی، ثمّ اضطجع فاستیقظ وفی یده تربة حمراء یقبّلها، فقلتُ: ما هذه التربة یا رسول الله؟ قال: أخبرنی جبرئیل أنّ ولدی هذا یُقتل بأرض العراق وأشار إلی الحسین علیه السلام، فقلتُ لجبرئیل: أرنی تربة الأرض التی یُقتل بها فهذه تربتها»(1).

2 - روی الهیثمی عن الطبرانی بسنده عن أبی الطفیل: (قال: استأذن ملک القطر أن یسلّم علی النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی بیت أُمّ سلمة، فقال: لا یدخل علینا أحد فجاء الحسین بن علی فدخل، فقالت أُمّ سلمة: هو الحسین علیه السلام، فقال النبی صلی الله علیه و آله و سلم: دعیه، فجعل یعلو رقبة النبی صلی الله علیه و آله و سلم ویعبث به والملک ینظر، فقال الملک: أتحبّه یا محمد؟ فقال: أی والله، إنّی لأحبّه.

قال: أما إنّ أمّتک ستقتله، وإن شئتَ أریتُک المکان، فقال بیده فتناول کفّاً من تراب، فأخذت أُمّ سلمة التراب فصرّتْه فی خمارها، فکانوا یرون أنّ ذلک

ص:29


1- (1) المستدرک علی الصحیحین: ج 4، ص 44.

التراب من کربلاء»(1).

3 - أخرج الطبرانی فی المعجم الکبیر بإسناده عن أُمّ سلمة قالت: کان الحسن والحسین یلعبان بین یدی النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی بیتی، فنزل جبرئیل فقال: یا محمد، إن أمتک تقتل ابنک هذا من بعدک، فأومأ إلی الحسین، فبکی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وضمّه إلی صدره، وأتاه بتربة فشمّها ثمّ قال:

ریح کرب وبلاء، وقال: یا أُمّ سلمة، ودیعةٌ عندک هذه التربة، إذا تحوّلتْ هذه التربة دَمَاً فاعلمی أنّ ابنی قد قُتل، فجعلتْها فی قارورة، ثمّ جعلتْ تنظر إلیه کلّ یوم، وتقول: إنّ یوماً تتحوّلین دَمَاً لیوم عظیم(2).

4 - عن عبد الله بن نجی عن أبیه: أنّه سار مع علی علیه السلام وکان صاحب مطهرته، فلمّا حاذی نینوی وهو منطلق إلی حطّین، فنادی علی علیه السلام:

اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات، قلتُ: وماذا؟ قال: دخلتُ علی النبی صلی الله علیه و آله و سلم وعیناه تفیضان، قلتُ: یا نبیّ الله، أَغْیَظَکَ أحدٌ؟ ما شأن عینیک تفیضان؟ قال: بل قام من عندی جبرئیل قبل، فحدّثنی أنّ الحسین یُقتل بشطّ الفرات، قال: فقال: هل لک إلی أن أشمّک من تربته؟ قال: قلتُ: نعم، فمدّ یده فلم

ص:30


1- (1) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: کتاب المناقب، باب مناقب الحسین بن علی علیهما السلام، مسألة: 15121.
2- (2) المعجم الکبیر للطبرانی: ج 3، ص 81.

أملک عینَی أن فاضتا»(1).

عثمانیّ الهوی

اشارة

ورد مصطلح (عثمانی) أو (عثمانیة) الهوی فی کتب التاریخ والرجال ومعاجم البلدان، حیث أُطلق علی جهتین أساسیّتین فی الأعمّ الأغلب، وهما:

1 - مدن ومواقع معیّنة من العالم الإسلامی

فقد ذکرت المصادر التاریخیة والمهتمّة بهذا الشأن أنّ هناک مدناً معیّنة تمّ وصفها دون غیرها بأنّها کانت عثمانیة.

یقول صاحب العقد الفرید: (الأصمعی قال: البصرة کلّها عثمانیة(2) ، والکوفة علویّة، والشام أمویّة، والجزیرة خارجیة، والحجاز سنّیة، وإنّما صارت البصرة عثمانیة من یوم الجمل إذ قاموا مع عائشة وطلحة والزبیر، فقتلهم علیّ بن أبی طالب علیه السلام)(3).

وقال محمد بن علی العباسی - زعیم الحرکة العباسیة - لدعاته: (أمّا

ص:31


1- (1) مسند أحمد: ج 2، ص 60.
2- (2) یقول العلاّمة المظفر: (کان التشیع شائعاً فی قبائل البصرة، وکفی البصرة أن یکون فیهم مثل یزید بن مسعود النهشلی صهر أمیر المؤمنین وشیعته الذین لولا حیلولة القدر لنصر الحسین وبین یدیه ما یربو علی عشرة آلاف مقاتل... وقال: «مهما اجتهدوا أن یجعلوا العراق أمویّاً کانت تلک الجهود فاشلة وکانت الروح السائدة علیه هاشمیة علویة خاصّة إلاّ فی البصرة فی عهود قلیلة)، تاریخ الشیعة للعلاّمة المظفّر: ص 76، و ص 113.
3- (3) العقد الفرید: ج 6، ص 248.

الکوفة وسوادها فهناک شیعة علی وولده، وأمّا البصرة وسوادها فعثمانیّة)(1).

ویقول الشیخ محمد الطنطاوی فی کتابه (نشأة النحو) وما جری من حرب فی البصرة عرفت بالجمل: (ومن هذه الحادثة اختلف الهوی السیاسی بین المدینتین، فالبصرة عثمانیة والکوفة علویة، وکان هذا الاختلاف فی الانحیاز ناتج طبیعة المدینتین؛ لأنّ الکوفة أهل طاعة وخشوع، بعکس أهل البصرة المشتهرین بالعصیان والشقاق والعصبیة)(2).

2 - مجامیع من الناس أفراداً وجماعات

قد حفلت فی هذا القسم کتب التاریخ والرجال وغیرها بالکثیر من الروایات التی وصفت أشخاصاً معیّنین بأنّهم عثمانیون، أو مجامیع من الناس بأنّها کانت علی نفس هذه الشاکلة. یقول ابن خلدون فی مقدّمته وهو یتحدّث عن مصر وما حصل فیها من اضطراب مع محمد بن أبی بکر:

(وقد اضطرب الأمر علی محمد بن أبی بکر وخرج علیه معاویة بن مذحج السکونی مع جماعة من العثمانیة بنواحی مصر)(3).

ویقول البلاذری: (ووافی علیّ الرقّة وبها جماعة ممّن هرب إلیها من الکوفة من العثمانیة الذین أهواؤهم مع معاویة)(4).

ص:32


1- (1) معجم البلدان للحموی: ج 2، ص 352.
2- (2) نشأة النحو للشیخ الطنطاوی: ص 106-107.
3- (3) مقدمة ابن خلدون: ج 4، ص 294.
4- (4) أنساب الأشراف للبلاذری: ج 1، ص 323.

أمّا کتب الرجال فحدّث ولا حرج، فقد ذکرتْ الکثیرُ منها فی مقام الترجمة لبعض الرجال أنّهم کانوا عثمانیة أو عثمانیّ الهوی، وللمثال أذکر النماذج التالیة:

یقول ابن حجر: (عبد الله بن إدریس الأزری: إنّه صاحب سنّة وجماعة، وکان صلباً فی السنّة، وکان عثمانیّاً)، ویقول کذلک فی عبد الله بن عون البصری أنّه موثّق، وله عبادة وصلابة فی السنّة، وشدّة علی أهل البدع، قال ابن سعد: وکان عبد الله بن عون البصری عثمانیّاً)(1).

ویقول الذهبی عن مغیرة بن مقسم أبو هشام الضبّی الکوفی: (وکان عثمانیاً، إلاّ أنّه کان یحمل علی علی علیه السلام بعض الحمل)(2).

ویقول ابن خراش عن عبد الله بن شقیق العقیلی: (کان ثقة، وکان عثمانیاً یُبغض علیّاً)(3).

زهیر بن القین عثمانیّ الهوی

اشارة

وفی نفس هذا السیاق وعلی الطریقة المتقدّمة بعینها ذکر المؤرّخون أنّ الشهید الکربلائی کان عثمانیّ الهوی.

یقول ابن الأثیر: (وکان زهیر بن القین البجلی قد حجّ، وکان عثمانیّاً، فلمّا عاد جمعهما الطریق من مکّة إلاّ أنّه لا ینزل معه، فاستدعاه یوماً الحسینُ علیه السلام فشقّ

ص:33


1- (1) تهذیب التهذیب، ج 5، ص 15، و ص 82.
2- (2) سیر أعلام النبلاء: ج 6، ص 261.
3- (3) تهذیب الکمال: ج 4، ص 162.

علیه ذلک، ثمّ أجابه علی کُرْه، فلمّا عاد من عنده نقل ثقله إلی ثقل الحسین علیه السلام، ثمّ قال لأصحابه: َن أحبّ منکم أن یتبعنی وإلاّ فإنّه آخر العهد، وسأحدّثکم حدیثاً: غزونا بلنجر فَفُتِحَ علینا، وأصبنا غنائم ففرحنا، وکان معنا سلمان الفارسی فقال لنا: إذا أدرکتم سیّد شباب أهل محمّد فکونوا أشدّ فرحاً بقتالکم معه بما أصبتم الیوم من الغنائم. فأمّا أنا فأستودعکم الله، ثمّ طلّق زوجته وقال لها: إلحقی بأهلک)(1).

ویقول السید الأمین: (زهیر بن القین بن قیس الأنماری البجلی، استشهد مع الحسین علیه السلام سنة 61 ه -، کان زهیر أوّلاً عثمانیاً وکان قد حجّ فی السنة التی خرج فیها الحسین علیه السلام، فلمّا رجع من الحج جمعه الطریق مع الحسین، فأرسل إلیه الحسین فکلّمه، فانتقل علویاً وفاز بالشهادة)(2).

ویقول الشیخ السماوی عن زهیر بن القین: (وکان أوّلاً عثمانیاً، فحجّ سنة ستین فی أهله، ثمّ عاد فوافق الحسین علیه السلام فی الطریق، فهداه الله وانتقل علویّاً)(3).

سؤال وجواب
اشارة

وهنا - وبعد کلّ ما تقدّم - لابدّ لنا أن نسأل عن ماهیة هذه العثمانیة التی حملها ونقلها لنا التاریخ عن الشهید الکربلائی زهیر بن القین (رض)، وکیف یمکن - یا تری - أن ینسجم مِثْل هذا الأمر - علی فرض صحّته - مع المواقف

ص:34


1- (1) الکامل فی التاریخ: ج 4، ص 42.
2- (2) أعیان الشیعة: ج 7، ص 71-72.
3- (3) أبصار العین للسماوی: ص 161.

العظیمة التی صدرت منه (رض) ونقلها لنا التاریخ؟ لاسیّما قوله للحسین علیه السلام: والله، لو کانت الدنیا لنا باقیة وکنّا فیها مخلّدین - إلاّ أنّ فراقها فی نصرک ومواساتک - لآثرنا الخروج معک علی الإقامة فیها)(1).

وحتی نجیب عن هذا السؤال المهمّ وأسئلة أخری کثیرة معه، یوجد عندنا اتجاهان أو رأیان، أحدهما مشهور، بل ربّما یکون هو الرأی المتاخم للإجماع إن لم نقل بالإجماع، وهو الرأی الناقل والقابل لعثمانیّة الشهید زهیر بن القین (رض). وفی قبال هذا الرأی هناک مَن لا یری عثمانیة الشهید الکربلائی، کما یذهب إلی ذلک جماعة من العلماء المحقّقین.

وحتی تکون الفائدة أکبر والنفع أعظم، سوف نحاول أن نسلّط الأضواء علی الرأیین معاً؛ من أجل أن یکون القارئ أکثر إحاطةً وفهماً بما کُتب ویُکتب عن الشهید الکربلائی (رض)، مسلّطین الأضواء فی نفس الوقت علی ما یمکن أن یکون مورداً للعِظة والعبرة والدرس تحت کلّ من هذین الرأیین.

الرأی الأوّل

عمدة ما یمکن أن یَستدل به أصحابُ هذا الرأی علی عثمانیة الشهید زهیر ابن القین (رض)، هی مجموعة من الروایات التی أشارت إلی عثمانیّة الشهید، إمّا نصاً وإمّا بألفاظ أخری تُعطی نفس هذا المعنی أو ما یقرب له، کما روی - مثلاً - أنّه کان یکره مسایرة الإمام الحسین علیه السلام حتی فی الطریق، أو أنّه کان أمویّ الهوی، أو ما شاکل ذلک من الألفاظ التی تصبّ فی معنی واحد مهمّ، وهو عدم

ص:35


1- (1) جمهرة خطب العرب: ج 2، ص 39.

ملاءمة هوی الشهید الکربلائی وعقیدته هوی الحسین علیه السلام وعقیدته، ولقد ذکروا فی هذا العدد مجموعة من الروایات أذکر منها ما یلی:

1 - ورد فی کتب التاریخ والمقاتل وغیرها، أنّ عزرة بن قیس البجلی - وهو قائد کبیر - کان علی خیّالة الجیش الذی زحف یوم العاشر من المحرّم لحرب الحسین بقیادة عمر بن سعد، قال للشهید الکربلائی زهیر بن القین: یا زهیر، ما کنتَ عندنا من شیعة أهل هذا البیت، إنّما کنتَ عثمانیّاً(1).

2 - یقول البلاذری فی کتابه (أنساب الأشراف): (قالوا: وکان زهیر بن القین البجلی بمکّة، وکان عثمانیّاً)(2).

3 - ویقول أبو مخنف فی مقتله: (عن رجل من بنی فزارة قال: کنّا مع زهیر ابن القین البجلی حین أقبلنا من مکّة نسایر الحسین، فلم یکن شیء أبغض إلینا من أن نسایره فی منزل، فإذا سار الحسین تخلّف زهیر بن القین، وإذا نزل الحسین تقدّم زهیر، حتی نزلنا فی منزل لم نرَ بُدّاً من أن ننازله فیه)(3).

إضافةً إلی ما ذکره الآخرون أمثال ابن الأثیر وغیره، والذی لا یخرج عمّا ذکرتْه الروایات الثلاثة المتقدّمة إجمالاً، بل وکذا ورد نفس هذا المعنی فی کتب علمائنا أمثال السید الأمین فی الأعیان، والمقرم فی مقتله، وأمثالهما(4).

ص:36


1- (1) انظر: تاریخ الطبری: ج 3، ص 314.
2- (2) أنساب الأشراف للبلاذری: ج 3، ص 1304، دار الفکر (بیروت)، تحقیق: د. سهیل زکار، د. ریاض زرکلی.
3- (3) مقتل أبی مخنف: ص 162، تحقیق الشیخ محمد هادی الیوسفی.
4- (4) السید الأمین فی الأعیان: ج 7، ص 71-72 مقتل الحسین للمقرّم، ص 177.

عظات وعبر

اشارة

وتحت هذا الرأی الأول الذی یذهب إلیه جُل العلماء من المدرستین، توجد هناک مجموعة من العظات والعبر المهمّة علینا أن نسلّط الأضواء علیها، حتی تکون لنا مرجعاً وموئلاً نلوذ بها عند الشدائد.

1 - عثمانیّ غیر معاند

لیس عیباً علی الإنسان أن یتخذ له فی حیاته منهجاً أو مذهباً فکریاً أو حتی طریقة اعتقادیة معینة، مؤمناً أنّه الحق الذی لا باطل فیه، ولکنّ العیب کلّ العیب أن یبقی مثل هذا الإنسان مصرّاً علی رأیه، متمسکاً بمعتقده حتی بعد بیان فساده وضلاله وانحرافه، لاسیّما ونحن نعلم أنّ الحق بیّن واضح جَلِیّ کالشمس لا یمکن أن تحجب بالغیوم، فلا یمکن کتمان الحق إلی الأبد، ولا القضاء علیه إلی الأبد.

یقول الإمام الصادق علیه السلام وهو یتحدّث عن الحق والباطل وأنّهما لا یمکن أن یختلطا بالشکل الذی لا یُمیَّز فیه أحدهما عن الآخر، خصوصاً فی قلب الإنسان وضمیره:

«لا یستیقن القلب أنّ الحق باطل أبداً، ولا یستیقن القلب أنّ الباطل حق أبداً»(1).

وهذه بتقدیری حجّة بالغة لله علی خلقه «فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ 2» ، بحیث إنّ الإنسان لو عاد إلی قلبه وتأمّل فیه بعیداً عن کلّ المؤثرات الأخری، لأصبح

ص:37


1- (1) تفسیر نور الثقلین للشیخ الحویزی، ج 2، ص 142.

هذا القلب مقیاساً لمعرفة الحقّ وبیانه وکشف الباطل وإدانته، وإذا ما تبیّن الحق وبانتْ معالمه، فعلی الإنسان أن یُذعن له ویسلّم، فإنّ حقیقة الإیمان هی الإذعان والتسلیم ظاهراً وباطناً إلی الحق.

ولقد مدح الله سبحانه وتعالی جماعة من النصاری ومیّزهم عن الیهود، لا لشیء، إلاّ لأنّهم کانوا لا یستکبرون عن الحق إذا رأوه واطّلعوا علیه.

یقول القرآن الکریم:

«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الْیَهُودَ وَ الَّذِینَ أَشْرَکُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ قالُوا إِنّا نَصاری ذلِکَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّیسِینَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا یَسْتَکْبِرُونَ 1» .

یقول الطبرسی فی تفسیره: إنّ هذه الآیة الکریمة نزلت فی النجاشی وجماعة من النصاری من أصحابه، ثمّ ساق الحدیث فی سبب النزول، إلی أن وصل إلی قوله: (فقال النجاشی لجعفر: هل تحفظ ممّا أنزله الله علی نبیّک شیئاً؟ قال: نعم، فقرأ سورة مریم، فلمّا بلغ قوله:

«وَ هُزِّی إِلَیْکِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَیْکِ رُطَباً جَنِیًّا2» .

فقال: هذا والله هو الحق، فقال عمرو: إنّه مخالف لنا فردّه إلینا، فرفع النجاشی یده وضرب بها وجه عمرو وقال: اسکت، والله لئن ذکرتَه بعد بسوء لأفعلنّ بک، وقال: أرجعوا إلی هذا هدیّته، وقال لجعفر وأصحابه: امکثوا، فإنّکم

ص:38

سَیُوم، والسیوم الآمنون)(1).

وعلیه، فإذا ما ظهرتْ بوادر الحق من أحد - أیّاً کان هذا الأحد - فینبغی علیه أن یقبله، فإنّ الإعراض عنه یورث طبعاً تکون نتیجته سلوک طریق الباطل والحید عن طریق الحق.

یقول القرآن الکریم:

«سَأَصْرِفُ عَنْ آیاتِیَ الَّذِینَ یَتَکَبَّرُونَ فِی الْأَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ یَرَوْا کُلَّ آیَةٍ لا یُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ یَرَوْا سَبِیلَ الرُّشْدِ لا یَتَّخِذُوهُ سَبِیلاً وَ إِنْ یَرَوْا سَبِیلَ الغَیِّ یَتَّخِذُوهُ سَبِیلاً2» .

حیث انتهوا إلی نهایة بشعة مؤلمة، فقد ترکهم الله عزّ وجلّ فی غیِّهم وشهواتهم یتردّدون، فلم یمنحهم اللطف والرحمة التی یمنحها للمؤمنین حینما یدلّهم علی طریق الهدایة وسبیل النجاة، لاسیّما عندما تکثر الفتن وتتعدّد السبل:

«وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا3» .

ولقد تحدّث القرآن الکریم فی طیّات آیاته الکریمة عن نموذج من أولئک الذین تُرکهم الله، بعد أن أصمّوا أسماعهم عن سماع الحق وأعینهم عن رؤیته وقلوبهم عن الإحساس به وکانوا قادرین علیه.

ص:39


1- (1) تفسیر الطبرسی.

وهذا النموذج هو الولید بن المغیرة المخزومی، عظیم مکّة، وکان یملک من القدرات والمؤهّلات ما یستطیع من خلالها أن یمیّز الحق من الباطل، حیث لمس بنفسه وتیقّن بقلبه أنّ ما یقوله رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لیس سحراً وإنّما هو وحی من قِبل الله عزّ وجلّ، ولکنّه وقف بین أمرین: فإمّا أن یُذعن للحقّ ویسلّم له، وإمّا أن یُذعن لهواه وهوی قومه فیتکبّر علیه، فاختار الأمر الثانی دون الأوّل.

ولکن ما الذی جری یا تری علی الولید بعد ذلک؟ وماذا قال عنه القرآن الکریم؟ وکیف عبّر عنه وبأیّ لهجة؟

یقول الله سبحانه فی سورة المدّثر وهو یسرد لنا قصّة هذا النموذج المتکبّر عن الحق:

«إِنَّهُ فَکَّرَ وَ قَدَّرَ * فَقُتِلَ کَیْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ کَیْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَکْبَرَ * فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ یُؤْثَرُ * إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِیهِ سَقَرَ * وَ ما أَدْراکَ ما سَقَرُ * لا تُبْقِی وَ لا تَذَرُ * لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَیْها تِسْعَةَ عَشَرَ1» .

وعلیه، فلیس المهمّ أن یطّلع الإنسان علی الحق أو أن یعرفه، وإنّما المهمّ أن تُذعن له نفسه وتُطیع.

یقول ابن مسعود: (مَن جاءک بالحقّ فاقبل منه وإن کان بعیداً بغیضاً، ومَن جاءک بالباطل فاردده وإن کان حبیباً قریباً)(1).

ص:40


1- (2) تفسیر الطبری الکبیر: ج 9، ص 601.

فالمعیب فی الإنسان هو عدم قبوله للحقّ بعد ظهوره له وبیانه عنده، ومن هنا نعرف أنّه لیس کلّ منحرف عن الحق یُعبّر عنه بأنّه معاند، بل المعاند هو ذلک الإنسان الذی بانت له ملامح الحقّ فرفضها مع علمه بصحّتها وأحقّیتها.

«وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا1» .

وإلاّ فإنّ هناک الکثیر من المنحرفین عن نهج وخط أهل البیت علیهم السلام فی ما مضی، وفی هذا الوقت کذلک الذین لم یکونوا فی یوم من الأیام من المعاندین والرافضین لهم، بل إنّ کلّ ما یمکن أن یُقال فی حقّهم هو أنّهم کانوا من المغرَّر بهم نتیجة الدعایات المضلّلة والکاذبة لوعّاظ السلاطین ومَن فی فلکهم، حتی أعْمَوْهم عن رؤیة الحق والاستماع إلیه.

ولذا تراهم ما أن یطّلعوا علی الحقّ أو یستمعوا إلیه حتی ینقلبوا رأساً علی عقب، فیتحوّلوا إلی مذهب أهل البیت علیهم السلام، بل ویتفوّقوا علی مَن لم یکن منحرفاً فی ثقافتهم ومعرفتهم، ولقد کان الشهید زهیر بن القین (رض) هو من هؤلاء الذین حَظَوا بهذه المرتبة الجلیلة وهذه المنزلة النفیسة بالانتقال إلی خطّ أهل البیت علیهم السلام، فمع أنّه کان عثمانیّ الهوی، غیر أنّ الزمن بیّن أنّ کلّ هذا کان نتیجة الإعلام الأموی الکاذب لیس إلاّ؛ ولهذا تراه بمجرّد أن التقی الحسینَ علیه السلام وتحدّث إلیه مال إلی رکب الحقّ وترک ما سواه، لیترکها للتاریخ أنّه لم یبتعد عن الحسین علیه السلام عن تقصیر وإنّما عن قصور.

ص:41

2 - زهیر بن القین (رض) والقرار الشجاع
اشارة

درس مهمّ وکبیر یمکن لنا أن نسلّط الأضواء علیه فی حیاة الشهید زهیر بن القین (رض)، حیث یحتاج الناس إلیه، علی المستوی الفردی والجماعی وفی کلّ مرحلة من مراحل الحیاة وعلی کافّة المستویات.

لقد خلق الله عزّ وجلّ الإنسان خلیفةً له علی وجه هذه البسیطة، وأخبره بأنّه سوف یکدح فی طریق تصاعدی تکاملی للوصول إلیه سبحانه وتعالی:

«یا أَیُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّکَ کادِحٌ إِلی رَبِّکَ کَدْحاً فَمُلاقِیهِ 1» .

ولقد حمّل الله سبحانه الإنسانَ فی طیّات هذا الکدح مجموعةً من التکالیف والمسؤولیات التی ینبغی علینا أداؤها أفراداً وجماعات، حتی نکون قد أتینا بمقتضی هذا الاستخلاف، وواحدة من هذه التکالیف التی حمّلها الله عزّ وجلّ لهذا الإنسان هی ضرورة انتصاره علی شهواته وغرائزه، ووقوفه أمام هوی نفسه ومکائده، بل ومن کلّ ما هو مرتبط بحفنة التراب من شدٍ إلی مستنقع الفساد والرذیلة.

کل ذلک من أجل أن تبقی نفس الإنسان - وعلی مدی الحیاة - ترفل بالعزّة والکرامة والنعمة.

ولا شکّ أنّ مثل هذا الهدف السامی - لاسیما وهو یتعلّق بالنفس وما ترید - لا یمکن الوصول إلیه بسهولة، بل لابدّ من وجود عوائق وحواجز وموانع علی المستوی الفردی وعلی المستوی الجماعی تَحوْل دون أن یکمل هذا الإنسان هذه

ص:42

المسیرة التکاملیة إلی الله عزّ وجلّ.

ومن هنا احتاج الإنسان فرداً واحتاجت الأمّة جماعةً إلی قرار شجاعٍ یمکن له ولها من خلاله أن تعبر کلّ هذه الموانع؛ لتصل إلی الضفّة الأخری وهی مرفوعة الرأس شامخة الهامة.

ولقد رسم لنا القرآن الکریم - وهو دستورنا الخالد ومرجعنا الأساس - فی طیّات آیاته الکریمة نماذج من أولئک الذین عاشوا هذه القرارات الشجاعة، وتحمّلوا کلّ ما ترتّب علیها من آثار، کلّ ذلک لإیمانهم بأهمّیة هذه القرارات علی مجمل حیاة الإنسان، فهذا حبیب النجّار ربّما کان سیظلّ حظّه من الدنیا تجارته لا غیر، ولکنّه حینما وقف إلی جانب الأنبیاء - علی قلّة أتباعهم وکثرة أعدائهم - واتّخذ القرار الشجاع فی ذلک، خلّده الله عزّ وجلّ فی القرآن الکریم فی أجمل ما یمکن أن یفتخر به الإنسان، یقول فی سورة یاسین:

«وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِینَةِ رَجُلٌ یَسْعی قالَ یا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِینَ * اِتَّبِعُوا مَنْ لا یَسْئَلُکُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ * وَ ما لِیَ لا أَعْبُدُ الَّذِی فَطَرَنِی وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ * أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ یُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّی شَفاعَتُهُمْ شَیْئاً وَ لا یُنْقِذُونِ * إِنِّی إِذاً لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ * إِنِّی آمَنْتُ بِرَبِّکُمْ فَاسْمَعُونِ * قِیلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ یا لَیْتَ قَوْمِی یَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لِی رَبِّی وَ جَعَلَنِی مِنَ الْمُکْرَمِینَ 1» .

ص:43

فقد تحوّل هذا الإنسان إلی رمزٍ لکلّ المؤمنین حینما تقف أمامهم الأکثریة الکافرة المشرکة لتردعهم عن دینهم وعن قِیَمِهم وما آمنوا به، بل إنّه تحوّل إلی ناصح لقومه فی حیاته وبعد مماته:

«قِیلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ یا لَیْتَ قَوْمِی یَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لِی رَبِّی وَ جَعَلَنِی مِنَ الْمُکْرَمِینَ» .

ولولا قراره الشجاع لَمَا کان له کلّ هذا الإطراء من قِبل الله عز ّوجلّ.

وهذه امرأة فرعون التی کانت تعیش فی أعلی درجات العزّ والرفاه والحشم والخدم، کانت کلّ طلباتها مسموعة ومنفّذة، ولم یکن هناک ما یمکن أن ینغّص علیها هذا النعیم، حتی فرعون کان ذائباً فی حبّها؛ لأنّه کان محافظاً علیها ومبقیاً لها، حتی مع عدم إنجابها الولد والذرّیة، وکان بإمکانه أن یستبدلها بأجمل النساء، ولکنّه أبی إلاّ زوجته.

إذاً، ما هو الشیء الذی دعا أن تُعلن - وبقرار شجاعٍ - إیمانها بالله، ومن ثم تخرج من کلّ هذا النعیم طالبةً من الله أن یبنی لها قصراً فی الجنّة؟

إنّه لیس إلاّ صدقها مع الله سبحانه الذی أبی إلاّ أن تبوح به وبشجاعة ملفتة للنظر، لتتحوّل بعد ذلک إلی مَثَل یضربه الله عزّ وجلّ للرجال وللنساء معاً:

«وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِینَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِی عِنْدَکَ بَیْتاً فِی الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِی مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِی مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِینَ 1» .

ص:44

أمّا فتیة أهل الکهف فکانت لهم مع آیات الله سبحانه وقفة فی تخلید موقفهم والإشارة لقرارهم الشجاع، حینما أعلنوها مدوّیة:

«هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا یَأْتُونَ عَلَیْهِمْ بِسُلْطانٍ بَیِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَری عَلَی اللّهِ کَذِباً * وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما یَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَی الْکَهْفِ یَنْشُرْ لَکُمْ رَبُّکُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ یُهَیِّئْ لَکُمْ مِنْ أَمْرِکُمْ مِرفَقاً1» .

وما أعظم تلک الوقفة الشجاعة التی وقفها المقداد بن الأسود مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم یوم بدر، حینما استشار المسلمین فی قتال المشرکین فأخذ البعض یثبّط والآخر یحبّط، وعندها أعلن المقداد قراره الشجاع فانفرجتْ لأجله أساریر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: (یا رسول الله، امضِ لِمَا أمرک اللهُ، فنحن معک والله لا نقول ما قالت بنو إسرائیل لموسی: اذهب أنت وربّک فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون، ولکن اذهب أنت وربّک فقاتلا إنّا معکما مقاتلون، فوالذی بعثک بالحق، لو سرتَ بنا إلی بَرَکِ الغَمَاد لجالدنا معک من دونه حتی تبلغه)(1).

ولقد تمیّزت کربلاء فیما تمیّزت به بأنّها کانت صاحبة القرارات الشجاعة والمصیریة فی حیاة أصحاب الحسین علیه السلام، فها هو الحرّ (رض) یقف بین الحقّ والباطل یقدّم رِجْلاً ویؤخّر أخری وقد أخذتْه مِثْل الرِّعْدة، ولکنّه فی نهایة المطاف یضرب برجله فرسَه وهو یقول بقرار شجاع وبصوت یسمعه مَن کان إلی

ص:45


1- (2) فی رحاب المصطفی للشیخ حسن آل یاسین: ص 163.

جانبه: (لا والله، لا أختار علی الجنّة شیئاً ولو قُطّعتُ)(1).

وها هو سعد بن الحرث وأخوه أبو الحتوف یسمعان الحسین علیه السلام یستغیث فی کربلاء طالباً الناصر والمعین، وإذا بهما یمیلان بسیوفهما إلی جانب الحسین علیه السلام بقرار مصیری شجاع، وهکذا کان أمر زهیر بن القین (رض)، حیث اتّخذ القرار الشجاع بعد حدیثه مع الحسین علیه السلام، وهذا القرار هو الذی نقل زهیر من الثری إلی الثریا، ومن ملامسة التراب إلی معانقة السحاب.

القرارات المصیریة

وممّا یُلفت النظر فی هذا القرار المصیری أنّه لم تکن فیه فترة تردّد أو تفکیر طویل کما هی حال القرارات المصیریة التی یتّخذها الناس فی حیاتهم، حیث تمرّ عادّةً بمرحلتین:

المرحلة الأولی: هی مرحلة العزیمة والتصمیم، ولابدّ لها من مدة زمنیة حتی یأخذ التفکیر فیها دوره.

والمرحلة الثانیة: هی مرحلة تنفیذ هذا القرار.

ولکنّ الأمر قد اختلف تماماً مع الشهید الکربلائی، فتراه قد اختصر المرحلتین بمرحلة واحدة، حیث قال بعد رجوعه من الحسین مباشرة: (مَن أحبّ منکم نصرة ابن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وإلاّ فهو آخر العهد)(2).

وما أکرم الإنسان عندما یفیء إلی الله تعالی ویستجیب لدعوته، ویبصر

ص:46


1- (1) مقتل أبی مخنف: ص 214، تحقیق الشیخ هادی الیوسفی.
2- (2) مقتل الحسین للمقرّم: ص 177.

أمامه الطریق المستقیم من أجل أن یقوم بدوره فی هذه الحیاة ویُدرک معنی وجوده فیها، وعندئذٍ تتحقّق له الحیاة الحقیقیة، الحیاة الکریمة الطیّبة، فالذین یستجیبون لله ولرسوله ولدینه ظاهراً وباطناً هم الأحیاء وإن ماتوا، وهم الأغنیاء وإن قلّ ما فی أیدیهم، وهم الأعزّة وإن خذلتْهم البیوت والعشائر.

ولابدّ للإنسان حتی تحصل عنده هذه الاستجابة أن تکون عنده القوّة والعزیمة أوّلاً، ثمّ القرار والتنفیذ ثانیاً، وربّما أشار الله عزّ وجلّ إلی هذا بقوله وهو یتحدّث عن یحیی:

«یا یَحْیی خُذِ الْکِتابَ بِقُوَّةٍ 1» .

وقوله:

«خُذُوا ما آتَیْناکُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْکُرُوا ما فِیهِ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ 2» .

وهذا هو شأن الإنسان المؤمن الداعی إلی الله عزّ وجلّ والمستجیب له، إنّه الإنسان القوی الشجاع الذی لن یحمل الدعوة إلی الله ولن یصبر علی عوائق طریقها إلاّ هو، دون الجبناء الذین لا یعرفون إلاّ الخوف وإلاّ التردد فی اتّخاذ القرارات المصیریة.

وعلینا - إذا ما أردنا أن نعی هذا الدرس ونفهم الشهید زهیراً حقّ الفهم - أن نتّخذ القرارات المصیریة، لاسیّما المرتبطة بالله وبشریعته بشکل سریع من دون تردّد، وإلاّ فسوف نقع بما وقع فیه عبد الله بن الحر الجعفی، حیث

ص:47

خذل الحسین علیه السلام ولم ینصره، فعاش الحسرة والندامة، ولکن ولات ساعة مندم.

فیَا لکِ حسرةً مادُمتُ حیّاً تَرَدَّدُ بَیْنَ حَلْقِی والتَّرَاقِی

حُسَیْنٌ حِیْنَ یَطْلُبُ بَذْلَ نُصْرِی عَلَی أَهْلِ الضَّلالةِ وَالشِّقَاقِ

غَدَاةَ یَقُوْلُ لِی بِالقَصْرِ قَوْلاً أَتَتْرُکُنَا وَتَزْمَعُ بِالفِرَاقِ (1)

3 - والعاقبة للمتقین

ربّما لا یوجد هناک هدف یسعی إلی تحقیقه المؤمنون فی هذه الدنیا أعظم من خاتمةٍ حسنة، یمکن أن تبیِّض وجه الإنسان یوم یَفِدُ علی الله عزّ وجلّ، بل یستطیع الإنسان أن یقول وبضرس قاطع إنّها تُمثّل بحقٍّ الحاجة التی لا تعدلها حاجة أخری مهما علتْ وغلتْ.

وقد ورد فی أدعیة أهل البیت علیهم السلام ما یشیر إلی مثل هذا المعنی، فقد ورد فی صحیحة معاویة بن عمّار عن أبی عبد الله علیه السلام وهو یتحدّث عمّا یدعو به الإنسان فی أعظم أیّام الدعاء إلی الله عزّ وجلّ، ألا وهو یوم عرفة:

«اللّهمّ حاجتی إلیکَ التی إن أعطیتَنِیْهَا لم یضرّنی ما مَنَعْتَنِی، والتی إن منعتَنِیْها لم ینفعنی ما أَعْطیتَنِی، أسألک خلاص رقبتی من النار»(2).

ص:48


1- (1) أدب الطف: ج 1، ص 96.
2- (2) مناسک الحج والعمرة للسید محمد سعید الحکیم: مندوبات الوقوف بعرفة، مسألة 350.

ولا شکّ أنّ ذلک لا یکون إلاّ بعاقبة حسنة طیّبة یرضاها الله سبحانه، وممّا لا ریب فیه ولا شبهة أنّ مِثْل هذا الهدف السامی والأمنیة العظیمة لیست سهلة المنال، بل تحتاج إلی کفاح وجهد وعناء للوصول إلیها؛ لأنّ جمیع أعمال الإنسان الصالحة والتی یقوم بها - علی فرض حصولها منه - لا یمکن له أن یقطع بأنّها مقبولة عند الله عزّ وجلّ، وهذا ممّا یزید الأمر صعوبة، فقد ورد فی روایات أهل البیت علیهم السلام:

«الدنیا کلّها جهل إلاّ مواضع العلم، والعلم کلّه جهل إلاّ مواضع العمل، والعمل کلّه ریاء إلاّ ما کان مخلصاً، والإخلاص علی خطر عظیم حتی ینظر العبد بما یُختم له»(1).

أعمال زهیر بن القین والعاقبة الحسنة

اشارة

ربّما لا یمکن للإنسان أن یقطع بنوع الأعمال التی قام بها الشهید زهیر بن القین حتی صار مؤهّلاً لمثل هذه العاقبة التی یرجوها ویتمنّاها کلّ إنسان مؤمن بالله وبالیوم الآخر، ولکنّنا فی نفس الوقت لا نشکّ أنّ هذه النتیجة التی وصل إلیها إنّما جاءت بعد مقدّمات عملها وصنعها الشهید السعید (رض)، وهذه المقدّمات - باعتقادی - لیست إلاّ أعمالاً ندبت إلیها الشریعة قرآناً وسنةً من أجل التحلّی بها والسیر علی نهجها، ومنها:

أ - عدم إرادة العلوّ والفساد فی الأرض

یقول القرآن الکریم:

ص:49


1- (1) الوافی بالوفیات: ج 14، ص 54، فی وصیة النبی صلی الله علیه و آله و سلم لأبی ذر.

«تِلْکَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً1» .

والمراد من العلوّ فی هذه الآیة الکریمة التکبّر والتجبّر علی خلْق الله تبارک وتعالی؛ نتیجة المال والسلطان والجاه والمنزلة التی یمکن أن یتمتّع بها دون الآخرین.

یقول الإمام أمیر المؤمنین:

«إنّ هذه الآیة الکریمة نزلت فی أهل العدل والتواضع من الوُلاة وأهل القُدْرَة من الناس»(1).

وأهل القدرة من الناس أولئک الذین أعطوا نصیباً من المال وغیره من الامتیازات، ینظر الله لهم کیف یعملون، بل إنّ الإمام أمیر المؤمنین قد وسّع من دائرة هذا العلوّ الذی تقصده الآیة الکریمة لیشمل حتی شراک فعل الإنسان إذا ما تباهی فیه أمام الناس، یقول الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام:

«إنّ الرجل لیعجب إن یکن شراک نعله أجود من شراک نعل صاحبه فیدخل تحتها»(2).

ولقد ذکر الذین تحدّثوا عن الشهید الکربلائی زهیر بن القین أنّه کان من شخصیات الکوفة من حیث المال والجاه والمنزلة، ولکنّه مع ذلک کلّه لم یُنقَل أنّه

ص:50


1- (2) تفسیر الأمثل: ج 12، ص 310.
2- (3) تفسیر الأمثل: ج 12، ص 309.

تکبّر علی أحد من الناس أغنیاء وفقراء.

یقول الشیخ محمد مهدی الآصفی: (ولقد کان زهیر بن القین یملک المال والعیال کما کان یملکه الضحاک بن عبد الله، وکان یعیش دنیاه کما کان یعیش الضحّاک دنیاه، بل قد یکون حظ زهیر من الدنیا أعظم من حظ الضحاک، فقد کان زهیر بن القین زعیماً فی قومه وجیهاً فی بلده ولم یحفل المؤرخون بأمر الضحاک وصاحبه فی شأن من شؤون الدنیا)(1).

ب - التقوی

وهذا ما یؤکّده القرآن فی أکثر من آیة کقوله:

«وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ 2» .

وقوله:

«وَ مَنْ یَتَّقِ اللّهَ یَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ یُسْراً3» .

وقوله:

«إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ یَجْعَلْ لَکُمْ فُرْقاناً4» .

وقوله:

ص:51


1- (1) فی رحاب عاشوراء للشیخ محمد مهدی الآصفی: ج 2، ص 304.

«إِنَّهُ مَنْ یَتَّقِ وَ یَصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لا یُضِیعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِینَ 1» .

وإلی ما شاء الله تعالی من هذه الآیات، التی تدلّل جمیعها علی معنی واحد مهم، وهو النهایة الحسنة الطیبة.

ولقد عرف الشهید زهیر بن القین بکثرة تقواه وورعه وخضوعه وخشوعه لله سبحانه وتعالی، بل کان من العُبّاد الذین عُرفوا فی داخل الکوفة وخارجها، ولولا هذه التقوی التی تمتع بها لَمَا وفّق لمثل هذا العمل العظیم، حتی صار محلّ استجابة دعاء رسول الله ودعوته لنصرة ولده علیه السلام، کما حصل ذلک واقعاً فی منطقة زرود حینما التقی فیها الحسین علیه السلام.

ج - القلب السلیم

هو مرکز أحاسیس الإنسان ومشاعره، ومنه ینطلق الخضوع إلی سائر أنحاء الجسد، ومنه تُدرک الرقّة وتسقط الدمعة، وهو القائد إلی الله سبحانه وتعالی عندما تنعدم السبل، إنّه معجزة الله مع هذا الإنسان، وقد وردت آیات وروایات کثیرة، کلّها تؤکّد أنّ هذا القلب إذا صلح صلح الإنسان وکانت عاقبته إلی خیر، وإذا فسد فسد هذا الإنسان وکانت عاقبته إلی شرّ، وفیها قول الله عز وجل:

«یَوْمَ لا یَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَی اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِیمٍ 2» .

ویقول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم:

ص:52

«ما مِن عبدٍ إلاّ وفی وجهه عینان یبصر بهما أمرَ الدنیا، وعینان فی قلبه یبصر بهما أمرَ الآخرة، فإذا أراد بعبدٍ خیراً فتح عینیه اللتین فی قلبه فأبصر بهما ما وعده بالغیب فآمن بالغیب علی الغیب»(1).

ویقول الإمام علی علیه السلام:

«إذا أراد الله بعبدٍ خیراً رزقه قلباً سلیماً، وخلقاً قویماً»(2).

وقد رزق اللهُ عزّ وجلّ الشهیدَ زهیر بن القین هذا القلب الطاهر السلیم حتی صار محلاًّ لفیوضات الله تبارک وتعالی، فسلم عمله وانتهی إلی عاقبة حسنة مبارکة:

«فَنِعْمَ عُقْبَی الدّارِ3» .

د - ولا تستبدل به غیری

دعاء عظیم الشأن من أدعیة أئمّة أهل البیت علیهم السلام، روی عن أکثر من إمام، ومن جملة رواة هذا الحدیث هو أبو هاشم، حیث یقول: (کتب إلی الإمام الحسن العسکری علیه السلام أحدُ موالیه یسأله أن یعلّمه دعاءً، فکتب إلیه أن یدعو بهذا الدعاء:

«یا أسمعَ السامعینَ، ویا أبصرَ الناظرین... واجعلنی مِمَّن تنتصرُ به لدینکَ ولا تستبدلْ به غیری».

قال أبو هاشم: فقلتُ فی نفسی: اللّهمّ اجعلنی فی حزبِکَ وفی زمرتک، فقال

ص:53


1- (1) میزان الحکمة: 8، ص 224.
2- (2) میزان الحکمة: 8، ص 222.

أبو محمد العسکری:

«أنت فی حزبه وزمرته، إذ کنتَ بالله مؤمناً، ولرسوله مصدّقاً، ولأولیائه عارفاً، ولهم تابعاً»)(1).

ربّما یکون من مصادیق هذا الدعاء الشریف - الذی یرجو فیه الإنسانُ المؤمنُ أن لا یستبدله الله عزّ وجلّ فی نصر دینه وإعزاز کلمته بآخرین - هو الشهید زهیر بن القین (رض) وعبید الله بن الحرّ الجعفی، فقد التقی الحسین بهما فی طریقه إلی العراق، أحدهما فی قصر بنی مقاتل، والثانی فی منطقة زرود، وقد طلب الحسین علیه السلام من کلیهما النصرة له، وإذا بعبید الله بن الحر الجعفی - وهو الشخص المعروف فی تشیعه وولائه لأئمة أهل البیت علیهم السلام - یجیب الحسین علیه السلام بکلمات مِلْؤها الخوف من الموت والفرار منه والتمسّک بهذه الدنیا وزخارفها الفارغة بشکل ملفت للنظر، حتی أنّ المؤرّخین لَیَذکرون أنّ الحسین علیه السلام ذهب بنفسه الشریفة إلیه ووقف عنده ودعاه بنفسه إلی نصرته، حیث قال له:

یا بن الحر، إنّ أهل هذا المصر کتبوا إلیّ أنّهم مجتمعون علی نصرتی وسألونی القدوم علیهم، ولیس الأمر علی ما زعموا، وأن علیک ذنوباً کثیرة فهل لک من توبة تمحی بها ذنوبک؟».

قال: وما هی یا بن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ فقال:

تنصر ابن بنت نبیّک وتقاتل معه.

ص:54


1- (1) مرآة العقول: ج 1، ص 383.

فقال ابن الحر: والله، إنّی لأعلم أنّ مَن شایعک کان السعید فی الآخرة، ولکن ما عسی أن أُغنی عنک ولم أخلّف لک بالکوفة ناصراً، فأنشدک الله أن تحملنی علی هذه الخطّة، فإنّ نفسی لا تسمح لی بالموت ولکن فرسی (الملحقة) هذه خذها، والله ما طلبت علیها شیئاً قط إلاّ لحقتُه، ولا طلبنی أحدٌ وأنا علیها إلاّ سبقتُه، فخذها فهی لک.

قال الحسین علیه السلام:

أمّا إذا رغبتْ عنّا بنفسُک فلا حاجة لنا بفرسک ولا فیک:

«وَ ما کُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّینَ عَضُداً1,2» .

والحسین علیه السلام بکلمته الأخیرة ربّما أشار إلی ما نرید أن نتحدّث عنه من خلال استشهاده علیه السلام بالآیة الکریمة، فإنّ مثل هذا الإنسان لا یمکن أن یکون عضداً للدین ویُعتمد علیه، لاسیّما والحسین علیه السلام ذاهب لنصرة هذا الدین، ومن ثم لابدّ أن یستبدله الله عزّ وجلّ استناداً إلی سنّته القرآنیة کما سوف نتحدّث عنها، ولکن إذا شاءت إرادة الله أن یستبدل عبید الله بن الحر الجعفی، فمع مَن یا تری سوف تقع هذه السنّة؟

من هنا شاءت إرادة الله عزّ وجلّ أن یعطینا نموذجاً من نماذج الاستبدال والحسین علیه السلام ما زال فی طریقه إلی العراق، وأن یکون المُستبدَل به هو الشهید زهیر بن القین (رض)، هذا الرجل الذی لم یُعرف بولاءٍ ولا تشیّع لأهل

ص:55

البیت علیه السلام، بل کان عثمانیّ الهوی، یطلب الحسین علیه السلام منه النصرة له کما طلبها من المستبدل، ولکن هنا یختلف المشهد وتختلف الاستجابة، فقد نقل لنا المؤرّخون أنّ زهیر بن القین سرعان ما رجع من الحسین وهو مستبشر مسرور، فقال لزوجته: أنت طالق، الحقی بأهلک، فإنّی لا أحبّ أن یصیبک بسببی إلاّ خیر(1).

وفی روایة الملهوف أنّه قال: (قد عزمتُ علی صحبة الحسین علیه السلام لأفدیه بنفسی وأقیه برمحی)(2).

وهنا - وفی هذا المکان بالذات - تتحقّقت آثار الدعاء، فیستبدل عبید الله ابن الحر الجعفی بالشهید زهیر بن القین (رض) وینتصر به للدین ولرسوله الأمین ولسبطه الشهید أبی عبد الله الحسین علیه السلام.

درس من حیاة الشهید

اشارة

لقد تحوّل الشهید (رض) بموقفه هذا والمواقف الأخری التی سوف تأتی إلی رمزٍ من رموز الإسلام الخالدة، التی یسیر خلفها المسلمون ویلهج بذکرها المؤمنون السائرون فی طریق الله عزّ وجلّ، ولقد کان لموقف زرود وما جری فیها من انتقالة سریعة إلی خطّ أهل البیت علیهم السلام، وتباطؤ مَن کان فی خطّهم عن نصرتهم علیهم السلام، درسٌ لابدّ لنا من تسلیط الضوء علیه والتزوّد من معالمه.

ص:56


1- (1) انظر: تاریخ الطبری: ج 7، ص 290.
2- (2) اللهوف فی قتلی الطفوف: ص 64.
الاستبدال سنّة قرآنیة

الاستبدال کمفهوم وکسنّة قرآنیة معناه: أن یستبدل اللهُ عزّ وجلّ الطالحَ بالصالح والعاصی بالمطیع والفاجر بالمؤمن والظالم بالعادل، وما شاکل ذلک من المفردات الحیاتیة التی یعیشها ویحسّ بها کلّ إنسان علی وجه هذه البسیطة.

یقول القرآن الکریم وهو یتحدّث عن موسی وأصحابه فیما لاقوه من ظلم فرعون وجبروته:

«قالَ مُوسی لِقَوْمِهِ اسْتَعِینُوا بِاللّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ یُورِثُها مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ * قالُوا أُوذِینا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِیَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسی رَبُّکُمْ أَنْ یُهْلِکَ عَدُوَّکُمْ وَ یَسْتَخْلِفَکُمْ فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرَ کَیْفَ تَعْمَلُونَ 1» .

وسنّة الاستبدال التی تحدّث عنها القرآن الکریم کانت علی مستویین أو جانبین إن صحّ التعبیر:

أمّا الجانب الأوّل: فهو الجانب العام الذی یشمل الأمّة بکاملها.

وأمّا الجانب الثانی: فهو الجانب الفردی.

ویبدو أنّ فی کلّ منهما کان العهد قد أخذه الله عزّ وجلّ فی نصره ونصر دینه.

یقول القرآن الکریم:

ص:57

«إِنَّ اللّهَ اشْتَری مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَیَقْتُلُونَ وَ یُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِیلِ وَ الْقُرْآنِ 1» .

ویقول:

«مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً2» .

ومعنی العهد الذی أُخذه الله عزّ وجلّ لهم، هو أن یمکّنوا فی الأرض ویعیشوا العزّة والکرامة والنعمة، وأن یکونوا أصحاب الید العلیا أبد الآبدین، ولکن - وهذا هو الأهمّ - إذا ما تخلّوا عن ذلک العهد وما یتضمّنه من التزامات فسوف یعیشون الذلّ والهوان، وفی النهایة سوف یُستبدلون من قِبل الله عزّ وجلّ بأناس آخرین:

«وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ ثُمَّ لا یَکُونُوا أَمْثالَکُمْ 3» .

أسباب الاستبدال
اشارة

ولقد تحدّث القرآن الکریم عن أسباب رئیسیة ثلاثة تترتّب علیها سنّة الاستبدال.

وهی کالآتی:

ص:58

1 - تخلّی الأمّة أفراداً وجماعات عن المسؤولیات الملقاة علیهم

وهذا ما یؤکّده القرآن الکریم بقوله:

«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ما لَکُمْ إِذا قِیلَ لَکُمُ انْفِرُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَی الْأَرْضِ أَ رَضِیتُمْ بِالْحَیاةِ الدُّنْیا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَیاةِ الدُّنْیا فِی الْآخِرَةِ إِلاّ قَلِیلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا یُعَذِّبْکُمْ عَذاباً أَلِیماً وَ یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَیْئاً وَ اللّهُ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ1» .

ولا شک أنّ التخلّی عن الجهاد من الأمّة أفراداً وجماعات هو المقصود الأوّل للآیة الکریمة فی تخلّی الناس عن مسؤولیّاتها أمام الله تعالی ونصرة دینه.

2 - التخلّی عن الإنفاق

وهذا - لا شکّ - مورد من الموارد الهامّة التی لابدّ من توفّرها فی داخل المجتمع الإسلامی؛ حتی تسیر عجلة الحیاة بشکل صحیح، فالمال هو العنصر المهمّ الداخل فی عملیة الجهاد، بل ربّما لا یتمّ الجهاد إلاّ به، فضلاً عن أهمّیته فی رفع معاناة الفقراء والمساکین والمُعْدَمِین فی داخل المجتمع، إضافة لِمَا یمثّله مثل هذا العطاء والإنفاق من مورد مهمّ وکبیر لخزینة الدولة، فإنّ الدولة وما تملکه إنّما ینتهی آخر الأمر إلی ما یقدمه الناس إلی خزینها من حقوق وضرائب وما شاکل ذلک.

ولهذا کلّه وغیره عبّر القرآن الکریم عن أهمّیة الإنفاق، وأنّ من جملة آثار البخل فیه التخلّی عنه هو سنّة الاستبدال:

ص:59

«ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ فَمِنْکُمْ مَنْ یَبْخَلُ وَ مَنْ یَبْخَلْ فَإِنَّما یَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اللّهُ الْغَنِیُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ ثُمَّ لا یَکُونُوا أَمْثالَکُمْ 1» .

3 - الارتداد عن الدین

للإنسان کامل الحریة أن یختار الإسلام دیناً أو أن لا یختاره، ولکن إذا ما اختار الإسلامَ بعد دراسة وبحث وتدقیق فلْیعلم أنّ مثل هذا الاختیار سوف تترتّب علیه آثاره، وواحدة من هذه الآثار هی سنّة الاستبدال:

«مَنْ یَرْتَدَّ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ 2» .

ولا شک ولا ریب أنّ مثل هذه السنن التی جرتْ علی مَن کان قبلنا ستجری علینا شئنا ذلک أم أبینا، فکلّ مَن یتنازل عن دینه وعن عقیدته لقاء متاع من مُتَع هذه الدنیا الفانیة وزخارفها الزائلة فإنّ سنّة الاستبدال لا محالة سوف لن ترحمه ولن ترحم قومه إذا کانوا علی شاکلته.

یقول الشیخ الطبرسی وهو یتحدّث عن الآیة الکریمة:

«وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ ثُمَّ لا یَکُونُوا أَمْثالَکُمْ 3» .

(قوله:«وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا» : أی تعرضوا عن طاعته وعن أمر رسوله.

ص:60

«یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ» : أمثل وأطوع لله منکم.

«ثُمَّ لا یَکُونُوا أَمْثالَکُمْ» : بل یکونوا خیراً منکم وأطوع لله.

وروی أبو هریرة أنّ أناساً من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قالوا: یا رسول الله، من هؤلاء الذین ذکر اللهُ فی کتابه، وکان سلمان إلی جنب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فضرب بیده علی فخذ سلمان فقال: هذا وقومه، والذی نفسی بیده، لو کان الإیمان منوطاً بالثریا لتناوله رجال من فارس.

وروی أبو بصیر عن أبی عبد الله، قال:«وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا» یا معشر العرب «یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ» یعنی الموالی. وعن أبی عبد الله قال: «قد والله أبدل بهم خیراً فهم الموالی»)(1).

وإذا کان الأمر کذلک علینا أن نتأمل فیما جری فی زرود من سنّة الاستبدال، حیث تخلّی الله لنصر دینه عن إنسان طالما عرف بالموالاة والتشیع لأهل البیت علیهم السلام، وعوّض بإنسان آخر یعیش فی خطّ آخر، بعید کلّ البعد عن خط أهل البیت علیهم السلام، لا لشیء إلاّ بسبب الصدق فی التعامل مع الحدث، والإخلاص فی تقدیم الغالی والنفیس من أجل الدین.

فمَن کانت الدنیا عنده عزیزة من خلال ما یملکه من مال وأولاد وجاه وغیرها، فلا محالة أنّه سیختار عند المواجهة ما اختاره عبید الله بن الجعفی، ومن اختار ذلک فلیتأمّل فی مستقبل حیاته (معاذ الله)، عقوبة الاستبدال وحینها لا ینفعه أن یقرأ الدعاء فارغاً من العمل والمضمون:

ص:61


1- (1) انظر: تفسیر مجمع البیان للطبرسی: ج 1، ص 180.

«واجعلنی ممّن تنتصر به لدینک ولا تستبدل به غیری».

* الرأی الثانی:

زهیر بن القین والموالاة لأهل البیت علیهم السلام
اشارة

کلّ ما مضی من حدیث إنّما کان استناداً إلی الرأی المشهور عند المدرستین من أنّ زهیر بن القین (رض) کان عثمانیّ الهوی، وقد ذکرنا فی طیّات هذا الرأی مجموعة من الدروس والعظات والعبر التی یمکن أن یستلهما الإنسان من حیاة الشهید (رض).

بین یدی الرأی الثانی:

وأمّا من الآن فصاعداً فسوف یکون الحدیث مختلفاً جدّاً، فالحدیث هنا سیکون عن موالٍ ولیس مُعادٍ، وعن علویّ الهوی ولیس عثمانیّ الهوی، ولا شکّ أنّ الحدیث فی هذا الرأی فیه من الصعوبة والخطورة الشیء الکثیر؛ لأنّک سوف تتحدّث عن مسألة تسالم علیها الکتاب والقرّاء والخطباء والجلساء، أو کما یعبّر عنه بأنّه سباحَة عکس التیار.

ولکن ومع کلّ هذا فإنّ مِثْل هذا الأمر لا یمکن أن یوقف قلم الإنسان فی أن یکتب ما یعتقد، ویسطّر فی طیّات أوراقه ما یراه مناسباً أکثر من غیره؛ استناداً إلی مجموعة فی الأدوات والوسائل العلمیة، وإلاّ إذا لم نفعل ذلک فإنّنا نکون عندها من الخائنین للأمانة والحقیقة العلمیة.

ولا یقولنّ قائل: وما فائدة أن نعرف أکان الشهید علویاً موالیاً أم عثمانیاً

ص:62

معادیاً، فالمهم - وهذا هو الأساس - أنّه وقع شهیداً بین یدی أبی عبد الله الحسین علیه السلام، وهذا فیه من الشرف والرفعة ما یغنی الإنسان للحدیث عن تاریخه وحیاته وما کان یعتقد.

أقول: الأمر لیس کما یتصوّر هذا المعترض بهذه البساطة والسذاجة، وإلاّ إذا کان الأمر کذلک إذاً لم یکن هناک فائدة من دراسة العلماء وبشکل تفصیلی دقیق لحیاة أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأصحاب الإمام أمیر المؤمنین وهکذا بقیّة أئمة أهل البیت علیهم السلام، حتی صار هناک علم مستقلّ مختص بدراسة الرجال وتسلیط الضوء علی مجمل حیاتهم وما صنعوه وما قدّموه من أجل أخْذ الصالح منها وترک الطالح.

إضافة إلی إمکانیة الدفاع عنهم لاسیّما إذا کانوا قد تعرّضوا إلی مظلمة من قِبل التاریخ، وهم کثیر لاسیّما أتباع أهل البیت علیهم السلام والمتأثّرین بهم.

ولقد ذکر أصحاب هذا الرأی - علی ما یذهبون إلیه - جملةً من الأدلّة، وهی کالآتی:

أوّلاً:

مناقشة الروایات - التی تتحدّث عن عثمانیة الشهید زهیر بن القین (رض) وکراهة المسایرة للحسین علیه السلام - من حیث السند والدلالة، وعمدة هذه الروایات حسب علمی ثلاثة: وهی روایة البلاذری، والطبری، وأبی مخنف والتی تمثّل أقدم المصادر التی تحدّثت عن هذا الأمر.

1 - فیما یتعلّق بروایة البلاذری والتی تقول: (قالوا: وکان زهیر بن القین

ص:63

البجلی بمکّة، وکان عثمانیاً، فانصرف فأرسل الحسین علیه السلام إلیه فی إتیانه، فأمرتْه امرأتُهُ دیلم بنت عمرو أن یأتیه فأبی، فقالتْ: سبحان الله، أیبعثُ إلیک ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فلا تأتیه؟! فلمّا صار إلیه ثمّ انصرف إلی رَحْلِهِ قال لامرأته: أنت طالق، فالحقی بأهلک، فإنّی لا أحبّ أن یصیبک بسببی إلاّ خیر، ثمّ قال لأصحابه: َن أحبّ منکم أن یتبعنی وإلاّ فإنّه آخر العهد، وصار مع الحسین علیه السلام)(1).

ولنا علی هذه الروایة مجموعة من النقاط:

أ - الروایة مرسلة وغیر مسندة من البلاذری، حیث جاء فیها (قالوا)، ولا شکّ أنّ مِثْل هذا الأمر سوف یضعّف الروایة ویوهن من قیمتها العلمیة، فمَن هؤلاء الذین أخذ عنهم البلاذری؟ وما هی أسماؤهم؟ وهل کانوا عدولاً أم لا؟ ومع وجود الاحتمال فیهم یبطل الاعتماد علی هذه الروایة، ومن ثم فالاستدلال بها باطل.

ب - ومتن الروایة نفسها - فضلاً عن السند - غیر مستقیم أبداً، بل هو مضطرب، حیث عبّرت الروایة عن الشهید زهیر بن القین (رض) أنّه کان عثمانیّاً، وأنّه کان یکره مسایرة الحسین علیه السلام فی الطریق، حتی إذا نزل الحسین فی مکان نزل زهیر فی مکان آخر، ولکنّ الروایة فی نفس الوقت تذکر بأنّ زهیر بن القین قد خرج من مکّة متعجّلاً، وهذا الأمر ممّا یلفت الانتباه فی هذه الروایة، فلماذا - یا تری - کان هذا الاستعجال؟

هل کان استعجاله من أجل الذهاب إلی الکوفة خوفاً علی أهله والمتعلّقین

ص:64


1- (1) أنساب الأشراف للبلاذری: ج 3، ص 1304، تحقیق د. سهیل زکار، د. ریاض زرکلی.

به بعدما تناهی إلی سَمْعه ما جری وحصل فی الکوفة؟

کیف ذلک وجمیع أفراد عائلته معه بما فیهم امرأته، أم کان استعجاله إلی الکوفة بعدما جری وحصل فیها من أجل نصرة ابن زیاد ومَن یعمل لهم کیزید وبنی أمیّة؟ کیف ذلک وهو العارف بیزید وابن زیاد وبنی أمیّة وما صنعوه وفعلوه فی الکوفة بل وفی العالم الإسلامی من ویلات ومِحَن، حتی أنّ الرواة لینقلون قوله یوم عاشوراء: (إنّ ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنصر من ابن سمیة)(1).

ثمّ إن کان عثمانیاً - علی ما یتبنّی أصحاب الرأی الأول - فما معنی استعجاله وهو یعلم أنّه سیلتقی الحسین علیه السلام فی الطریق وهو ما لا یریده زهیر ولا یرغب فیه.

وعلیه فلا یبقی أمام الإنسان إلاّ الاحتمال الأقرب الذی یمکن أن نتصوّره حول هذا الاستعجال الذی خرج به الشهید زهیر بن القین (رض) باتجاه العراق، وذلک أنّه أراد أن یلتحق بالحسین علیه السلام بعدما علم بخروجه المفاجئ من مکّة.

وبعبارة أخری: إنّ الشهید زهیر کان إلی فترة وجیزة یعلم - کما کان یعلم الجمیع - بأنّ الحسین علیه السلام سوف یقف علی صعید عرفات مع حجّاج بیت الله الحرام، ولکنّه قرّر الخروج من مکّة سریعاً.

ویبدو أنّه لم یُعلن خروجه هذا علی الناس، بل إنّ الروایة لتنقل أنّ الحسین علیه السلام أخبر أخاه محمد بن الحنفیة لیلة الثامن من ذی الحجّة بعزمه الخروج إلی العراق غداً، وذکر له فی نفس الوقت مبررات هذا الخروج السریع والمفاجئ.

ص:65


1- (1) جمهرة خطب العرب: ج 2، ص 42.

ینقل ابن طاووس فی اللهوف: (فلمّا کان السَّحَر ارتحل الحسین علیه السلام، فبلغ ذلک ابنَ الحنفیة فأتاه فأخذ بزمام ناقته وقد رکبها، فقال: یا أخی، ألم تعدنی النظر فیما سألتُک؟ قال: بلی، قال: فما حداک علی الخروج عاجلاً؟ قال:

أتانی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بعدما فارقتُک فقال: یا حسین، أخرج، فإنّ الله شاء أن یراک قتیلاً.

فقال محمد بن الحنفیة: إنّا لله وإنّا إلیه راجعون، فما معنی حملک هؤلاء النساء معک وأنت تخرج علی مثل هذا الحال؟

قال: بلی فقال لی صلی الله علیه و آله و سلم:

«إنّ الله قد شاء أن یراهنّ سبایا». فسلم علیه ومضی)(1).

واستناداً إلی هذا الخروج المفاجئ للحسین علیه السلام من مکة، یبدو أنّ الشهید زهیر بن القین (رض) قد علم به بعد یوم أو یومین من خروج الحسین علیه السلام؛ ممّا حدا به إلی الخروج خلفه تارکاً الحج، لاسیّما وهو مجاز خصوصاً إذا کانت هناک ضرورة(2) ، وعلیه یکون الشهید قد حوّل حجّه إلی عمرة مفردة علی وجه السرعة

ص:66


1- (1) اللهوف لابن طاووس: ص 39-40. بحار الأنوار للمجلسی: ج 44، ص 364.
2- (2) یقول السید السیستانی فی کتاب الحج مسألة 453: (وإذا کان حاجّاً وقد تعذّر علیه إدراک الموقفین أو الموقف فی المشعر الحرام خاصّة، فعلیه أن یتحلّل من إحرامه بعمرة مفردة).ویقول الإمام مالک فی موطئه: (إنّ أبا أیوب الأنصاری خرج حاجّاً، حتی إذا کان بالنازیة من طریق مکّة أضلّ رواحله، وأنّه قدم علی عمر بن الخطاب یوم النحر، فذکر ذلک له، فقال عمر: اصنع کما یصنع المعتمر، ثمّ قد حللت، فإذا أدرکک الحج قابلاً فاحج واهدر ما تیسّر من الهدی)، الموطأ: 870.

ثمّ التحق بالحسین متعجّلاً الوصول إلیه علی وفق روایة البلاذری.

أمّا القول بأنّه أکمل حجّه ثمّ خرج من مکّة، فلا یمکن أن یقبل بأیّ حال من الأحوال؛ لوجود ما لا یقل عن خمسة أیّام فاصلة بین خروج الحسین علیه السلام وخروج زهیر بن القین (رض)، بل إنّ مثل هذا الرأی لا یمکن قبوله حتی مع القول إنّ زهیر کان مستعجلاً فی حرکته إلی العراق؛ وذلک لأنّ الحسین علیه السلام فی نفس الوقت کان متعجّلاً فی حرکته أیضاً، فلا یمکن - والحال هذه - أن یجمعهما مورد الماء فی زرود کما ذکر المؤرخون.

یقول الشیخ محمد جواد الطبرسی فی کتابه (الرکب الحسینی) مناقشاً هذه النقطة بالذات: (روایة منازل الطریق... فضلاً عن ضعف سندها بمجهولیة الفزاری لا یستقیم متنها مع الحقیقة التاریخیة والجغرافیة، ذلک لأنّ زهیر بن القین کان عائداً من مکّة إلی الکوفة بعد الانتهاء من أداء الحج.

فلو فرضنا أنّه قد خرج من مکة بعد انتهاء مراسم الحج مباشرة فإنّه یکون قد خرج منها یوم الثالث عشر من ذی الحجّة علی الأقوی، وبهذا یکون الفارق الزمنی بین یوم خروجه ویوم خروج الإمام علیه السلام منها خمسة أیام علی الأقل، وإذا کان هنا فکیف یصحّ ما فی متن الروایة: کنّا مع زهیر بن القین البجلی حین أقبلنا من مکّة فسایر الحسین... إلخ»(1).

2 - فیما یتعلق بروایة الطبری، فإنّ عمدة الدلالة فیها هی قول عزرة بن قیس البجلی لزهیر بن القین أنّه کان عثمانیّاً.

ص:67


1- (1) الرکب الحسینی: ج 3، ص 210.

وعجبی کیف یمکن أن یثبت الإنسان بهذا الرجل قولاً ذکره علی عدوّه، ومَن یتتبّع تاریخ هذا اللعین یجد أنّه ملطّخ بالسواد بوقوفه أمام الحق والمساعدة فی القضاء علیه.

وإلیک النزر القلیل من تأریخه الأسود الذی ذکره المؤرخون عنه فی عدائه لأهل البیت علیهم السلام.

أ - عزرة بن قیس یمنع الاهتداء بأصحاب الحسین علیه السلام

ینقل صاحب البدایة والنهایة، عن أحداث لیلة العاشر من المحرم: (وبات الحسین وأصحابه طوال لیلهم یستغفرون ویدعون ویتضرّعون، وخیول عدوّهم تدور، من ورائهم علیها عزرة بن قیس الأحمسی، والحسین علیه السلام یقرأ:

«وَ لا یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّما نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِینٌ * ما کانَ اللّهُ لِیَذَرَ الْمُؤْمِنِینَ عَلی ما أَنْتُمْ عَلَیْهِ حَتّی یَمِیزَ الْخَبِیثَ مِنَ الطَّیِّبِ 1» .

فسمعها رجل من تلک الخیل التی کانت تحرس من أصحاب ابن زیاد فقال: نحن وربّ الکعبة الطیّبون، میّزنا الله عنکم، قال: فعرفته فقلتُ لبریر بن خضیر: أتدری مَن هذا؟

قال: لا، فقلتُ: هذا أبو حرب السبیعی - عبد الله بن شهر - وکان مضحاکاً بطّالاً، وکان شریفاً شجاعاً فاتکاً، وکان سعید بن قیس ربّما حسبه فی جنایة، فقال له بریر: یا فاسق، متی کنتَ من الطیبین؟

ص:68

فقال: ومَن أنت؟! ویلک، قال: أنا بریر بن خضیر، قال: إنّا لله هلکت، والله عزّ والله علیّ یا بریر قتلک، قال: فقلتُ: یا أبا حرب، هل لک أن تتوب إلی الله من ذنوبک العظام، فوالله لنحن الطیّبون وإنّکم لأنتم الخبیثون، قال: نعم، وأنا علی ذلکم من الشاهدین، قال: ویحک، أفلا تنفعک معرفتک؟ قال: فانتهره عزرة بن قیس أمیر السریّة التی تحرسنا، فانصرف عنّا)(1).

وهذا إن دلّ علی شیء فإنّما یدلّ علی مدی حرص هذا الرجل علی رَدْع مَن تمیل نفسه إلی التأثّر بالحسین وأصحاب الحسین فضلاً عن الالتحاق بهم.

فلیس غریباً علی مَن یکون علی هذه الشاکلة من الحرص والدفاع عن بنی أمیة، ومَن یعمل لهم أن یلفق التهم علی جیش الحسین لاسیّما الشخصیات الکبیرة من أجل زعزعة ثقة الناس بهم.

ولقد کانت من جملة التهم الکبیرة التی تشنها الآلة الإعلامیة الأمویة عبر التاریخ ضد شیعة أهل البیت علیهم السلام هو رمیهم بالتشیع، حتی صار الواحد منهم یتمنّی أن یُقال له: زندیق، أحبّ من أن یُقال شیعی؛ لعظیم ما یجری ویحصل له من البلاء والعناء، ویبدو أنّ عزرة بن قیس أراد بهذه الکلمة أن یجعل الذی یفکر فی المیل إلی جهة الحسین أو حتی التفاعل معهم نفسیاً أن یعید حساباته کثیراً قبل أن یَقدم علی مِثْل هذه الخطوة.

ب - عزرة بن قیس یکتب للحسین ثمّ یکذّبه یوم عاشوراء

یروی الطبری بقوله: (وکتب شبث بن ربعی، وحجّار بن أبجر، ویزید بن

ص:69


1- (1) البدایة والنهایة: ج 11، ص 532-533.

الحارث، ویزید بن رویم، وعزرة بن قیس، وعمرو بن الحجّاج الزبیدی، ومحمد ابن عمیر التمیمی:

أمّا بعد:

فقد اخضرّ الجناب وأینعت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئتَ فأقدم علی جندٍ لک مجنّدة والسلام علیک(1). ووقف الحسین علیه السلام یوم عاشوراء لیتحدث إلی مَن کتب إلیه فی هذا الکتاب، فقد ذکر فی طیّات حدیثه بعضاً منهم دون الجمیع، فقال:

«یا شبث بن ربعی، وحجّار بن أبجر، ویا قیس بن الأشعث، ویا زید بن الحارث، ألم تکتبوا لی أن أقدم، قد أینعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم علی جُندٍ لک مجنّدة؟ فقالوا: لم نفعل، فقال علیه السلام: سبحان الله، بلی والله، لقد فعلتم»(2).

ولا شکّ أنّ الجواب لم یأتِ بلسان هؤلاء الذین ذکرهم الإمام، وإنّما جاء بلسان مَن کتب ومنهم عزرة بن قیس.

کذب عزرة بن قیس
اشارة

وقد تجسّد کذب هذا الرجل وعدم صدقه مع نفسه إزاء المواعید والمواثیق التی یقطعها فی أکثر من موقف، وسوف أذکر هنا موقفاً واحداً دون بقیّة المواقف الأخری اختصاراً.

ص:70


1- (1) مثیر الأحزان لابن نما: ص 11. مقتل الحسین للخوارزمی: ج 1، ص 193.
2- (2) تاریخ الطبری، ج 6، ص 343.
عزرة بن قیس والشهادة علی حجر

حیث شهد کذباً وزوراً علی جماعة من المصلّین العابدین لله عزّ وجلّ بأنّهم کفروا بالله تعالی کفرة صلعاء کما جاء فی وثیقة الشهادة التی کتبها زیاد، وشهد علیها رؤوس الأرباع فی الکوفة، ثمّ سبعون شخصیة من داخل الکوفة کان من ضمنهم عزرة بن قیس البجلی، حیث یقول الطبری وهو یروی مأساة هذه الشهادة ومَن شهدها:

(هذا ما شهد علیه أبو بردة بن أبی موسی لله ربّ العالمین، شهد أنّ حجر بن عدی خلع الطاعة وفارق الجماعة، وجمع إلیه الجموع یدعوهم إلی نکث البیعة وخلع أمیر المؤمنین معاویة، وکفر بالله کفرة صلعاء، فقال ابن زیاد: علی مثل هذه الشهادة فاشهدوا، أَمَا والله لأجدنّ علی قطع ضبط عنق الخائن الأحمق. فشهد رؤوس الأرباع علی مثل شهادته وکانوا أربعة، ثمّ إنّ زیاداً دعا الناس فقال: اشهدوا علی مثل شهادة رؤوس الأرباع، فقرأ علیهم الکتاب، فقال: أوّل الناس عناق بن شرحبیل بن أبی وهم التمیمی، فقال زیاد: أبدأ بأسامی قریش ثمّ اکتبوا اسم عناق فی الشهود ومَن نعرفه ویعرفه أمیر المؤمنین، فشهد إسحاق بن طلحة بن عبید الله وموسی بن طلحة... وعزرة بن قیس الأحمسی...)(1).

أقول: إذا کان عزرة قد تجرّأ کلّ هذه الجُرأة العظیمة وشهد کذباً وزوراً علی إنسان مؤمن مصلٍّ ومَن معه من المصلّین الذین یصفهم الحسین علیه السلام:

«المصلّین العابدین الذین کانوا ینکرون الظلم ویستعظمون البِدَع،

ص:71


1- (1) تاریخ الطبری: ج 6، ص 149-155.

ولا یخافون فی الله لومة لائم»(1).

بأنّهم کفروا بالله کفرة صلعاء، أفلیس من السهل علیه أن یکذب علی زهیر ابن القین فی یوم عاشوراء مِثْل هذه الکذبة، لاسیّما وأنّ الذی دعاه إلی الشهادة علی حجر وأصحابه کذباً هو نفسه الذی یدعوه إلی الکذب فی یوم عاشوراء؟

3 - وأمّا فیما یتعلّق بروایة أبی مخنف، فقد نقلها عن رجل من بنی فزارة، والنص هکذا: (حدّثنی السدی عن رجل من بنی فزارة)(2).

ویبدو أنّ هذا النقل کان فی ظرف خاص، حیث کان فیه أتباع أهل البیت یخافون حتی من ظلّ أشخاصهم؛ لشدید الظلم الذی حلّ بهم ونزل علیهم بسبب الولاء والتشیّع لأهل البیت علیهم السلام، لاسیّما فی زمن الحجّاج الذی ولغ فی دماء شیعة أهل البیت علیهم السلام بشکل فاق الحدود والتصوّرات، حتی صار یُضرب به المثل. ویبدو أنّ هذه الروایة - علی فرض صحّتها - قد ذکرها هذا الراوی الفزاری فی ظرف کهذا وفی زمن کهذا ومع ظالم کهذا.

یقول أبو مخنف فی مقتله: (حدّثنی السدی عن رجل من بنی فزارة، قال: لمّا کان زمن الحجّاج بن یوسف کنّا فی دار الحارث بن أبی ربیعة(3) التی فی

ص:72


1- (1) حیاة الإمام الحسین علیه السلام: ج 2، ص 235. الإمامة والسیاسة: ج 1، ص 284. الدرجات الرفیعة: ص 334. راجع الغدیر: ج 10، ص 161.
2- (2) مقتل أبی مخنف: ص 73.
3- (3) الحارث بن أبی ربیعة: کان والیاً علی البصرة من قِبل ابن الزبیر، وکان إلی جانب مصعب بن الزبیر الذی قاتل المختار، ومن هنا نعرف سرّ عدم دخول جیش الشام إلی هذه الدار التی کانوا محتبین بها، فإذا کان الحال هذه فی مثل هذه الدار کیف یمکن لهذا الرجل الفزاری أن یتحدّث عن زهیر بلا خوف کما هی الحقیقة؟!

التمارین، التی أقطعت بعد زهیر بن القین من بنی عمرو بن یشکر من بجیلة، وکان أهل الشام لا یدخلونها، فکنّا محتبین فیها، قال: قلتُ للفزاری: َدّثْنِی عنکم حین أقبلتم مع الحسین بن علی، قال: کنّا مع زهیر بن القین... إلخ)(1).

ثانیاً: مواقف زهیر بن القین
اشارة

وکل مَن یتتبّع مواقف هذا الرجل وکلماته التی نقلها لنا التاریخ سواء فی الطریق وهو یلتقی الحسین فی زرود أم بعد ذلک، أو حتی فی یوم عاشوراء کما سیأتینا؛ لیدلک وبشکل واضح أنّ الرجل لم یکن یحمل فی قلبه سوی ولاء الحسین علیه السلام ولا شیء معه، ممّا یمکن أن یزری به.

الموقف الأول

موقفه فی زرود بعد مجیئه من الحسین علیه السلام، حیث قال لزوجته: (وقد عزمتُ علی صُحبة الحسین لأفدیه بروحی وأقیه بنفسی)(2).

ثمّ قوله لأبناء عمّه ومَن کان معه: (مَن أحبّ منکم الشهادة فلیقم، ومَن کرهها فلیتقدم)(3).

یکشف لکلّ ذی بصیرة أنّ قائل هذه الکلمات مؤمن بالحسین علیه السلام وقضیّته مئة فی المئة بلا أدنی شک وریب، فمسألة الفداء بالروح والوقایة بالنفس وبذل

ص:73


1- (1) مقتل أبی مخنف: ص 73.
2- (2) الملهوف فی قتلی الطفوف: ص 133.
3- (3) الأخبار الطوال: ص 246. أنساب الأشراف للبلاذری، ص 168.

الدم فی هذا المجال، لا یمکن أن تجتمع إلاّ مع إیمانه الیقینی بعدالة قضیّته، وهذا ما لا یتصوّر مع عثمانیّته (رض).

الموقف الثانی

وهو الذی جری بعد مدة وجیزة من الزمن علی لقاء زرود، وذلک حینما وصل الرکب الحسینی إلی منطقة (ذی حسم)، حیث نزل الحسین فیها وخطب بمَن معه خطبةً بعد أن وصل إلیه خبر مقتل مسلم بن عقیل وهانی بن عروة وما جری فی الکوفة، فقال بعد أن حمد الله وأثنی علیه وصلّی علی جدّه صلی الله علیه و آله و سلم:

«إنّه قد نزل فینا من الأمر ما قد ترون، وإنّ الدنیا قد تغیّرت وتنکّرت، وأدبر معروفها، واستمرّت حَذَّاء، ولم یبقَ فیها إلاّ صُبَابة کصُبَابة الإناء، وخسیس عیش کالمرعی الوبیل، أَلاَ ترون إلی الحق لا یُعمَل به، وإلی الباطل لا یُنهی عنه؟ فلیرغبْ المؤمن فی لقاء ربّه محقّاً، فإنّی لا أری الموت إلاّ سعادة، والحیاة مع الظالمین إلاّ بَرَمَاً»(1).

فقام زهیر بن القین البجلی فقال لأصحابه: (تکلّمون أم أتکلّم؟ فقالوا: بل تکلّم، فحمد الله وأثنی علیه ثمّ قال: قد سمعنا - َدَاک اللهُ - مقالتَک، والله لو کانت الدنیا لنا باقیة وکنّا فیها مخلّدین إلاّ أنّ فراقها فی نصرک ومواساتک، لآثرنا الخروج معک علی الإقامة فیها)(2).

ص:74


1- (1) المجالس الفاخرة فی مأتم العترة الطاهرة، ص 226.
2- (2) معالم المدرستین: ج 3، ص 72.

یقول الشیخ باقر شریف القرشی معلّقاً علی کلمة زهیر المتقدّمة: (ومَثّلت هذه الکلمات شرف الإنسان الذی لا یضاهیه شرف، وقد حکی ما فی نفوس أصحابه الأحرار من الولاء لریحانة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والتفانی فی سبیله)(1).

أقول: لا یمکن لأیّ إنسان منصف یتأمّل فی هذه الکلمات التی ذکرها (رض) إلاّ ویخرج بنتیجة مفادها: أنّ قائل هذه الکلمات یحمل ولاءً للحسین مُلفتاً للنظر، وبراءة من أعدائهم منقطعة النظیر، وهی واحدة من جملة الصفات المهمّة التی ذکرتْها الروایات کما فی زیارة عاشوراء للحسین علیه السلام، حیث جاء فیها:

«یا أبا عبد الله، إنّی أتقرّب إلی الله وإلی رسوله وإلی أمیر المؤمنین وإلی فاطمة وإلی الحسن وإلیکَ بمولاتِکَ وبالبراءةِ ممَّن قاتلک ونصب لک العداوة، وبالبراءة ممّن أسّس أساس الظلم والجَور علیکم أهل البیت علیهم السلام»(2).

وکأنّ هذه الزیارة للحسین علیه السلام تحکی لنا وتنطق عن لسان حال زهیر وهو واقف أمام الحسین علیه السلام یوم عاشوراء، ویبدو لی أنّ مسألة البراءة من أعداء آل محمّد ربّما تکون أکثر خطورة من مسألة التولّی مع عظمتها وعظمة آثارها؛ وذلک لأنّ أعداء آل محمّد قد یرتضون لک الولاء لأهل البیت، ولکنّهم لا یرتضون العداء من أعدائهم والبراءة منهم، ولو فعلنا ذلک لَمَا کانت هناک مشاکل عظیمة وبلایا کثیرة نشهدها عبر التاریخ وإلی یومک هذا.

ص:75


1- (1) العباس رائد الکرامة: ص 168.
2- (2) مفاتیح الجنان للشیخ القمّی، زیارة عاشوراء.

ولقد وصل زهیر إلی التمسّک بکلّ من هاتین الحلقتین اللتین بهما یستطیع الإنسان أن یدخل إلی قلب رسول الله ثمّ إلی الجنّة وتحمّل فی سبیل هذا التمسّک کلّ المصائب والآلام، أفیُعقل أن یکون مَنْ حاله هکذا عثمانیّاً؟!

الموقف الثالث

وقد تجسّد هذا الموقف فی منطقة نینوی، یقول الشیخ المفید فی کتابه الإرشاد وهو یتحدّث عن مسایرة الحرّ وجیشه للحسین وأصحابه: (فلمّا أصبح نزل وصلّی بهم صلاة الغداة، ثمّ عجّل الرکوب وأخذ یتیاسر بأصحابه یرید أن یفرّقهم فیأتیه الحر بن یزید فیردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم نحو الکوفة ردّاً شدیداً امتنعوا علیه فارتفعوا، فلم یزالوا یتسایرون کذلک حتی انتهوا إلی نینوی - المکان الذی نزل به الحسین علیه السلام - فإذا راکب علی نجیب له علیه السلاح متنکّب قوساً مُقْبِل من جهة الکوفة، فوقفوا جمیعاً ینظرونه، فلمّا انتهی إلیهم سلّم علی الحرّ وأصحابه ولم یسلّم علی الحسین وأصحابه، ودفع إلی الحرّ کتاباً من عبید الله بن زیاد (لعنه الله)، فإذا فیه:

أمّا بعد، فجعجعْ بالحسین حین یبلغک کتابی هذا ویقدم علیک رسولی، ولا تُنْزِلْه إلاّ بالعراء، فی غیر خضر وعلی غیر ماء، وقد أمرتُ رسولی أن یلزمک ولا یفارقک حتی یأتینی بإنفاذک أمری، والسلام.

فلمّا قرأ الکتاب قال لهم الحرّ: هذا کتاب الأمیر عبید الله یأمرنی أن أُجَعْجِعَ بکم فی هذا المکان الذی یأتینی کتابه، وهذا رسوله وقد أمره أن لا یفارقنی حتی أنفذ أمره فیکم.

ص:76

فنظر یزید بن المهاجر الکندی - وکان مع الحسین علیه السلام - إلی رسول ابن زیاد فعرفه، فقال له: ثکلتکَ أُمّک، ماذا جئتَ به؟ قال: أطعتُ إمامی ووفیتُ ببیعتی، فقال له ابن المهاجر: بل عصیتَ ربّک وأطعتَ إمامک فی هلاک نفسک وکسب العار والنار، وبئس الإمام إمامک، قال الله عزّ وجلّ:

«وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَدْعُونَ إِلَی النّارِ وَ یَوْمَ الْقِیامَةِ لا یُنْصَرُونَ 1.»

فإمامک منهم وأخذهم الحر بالنزول فی ذلک المکان علی غیر ماء ولا فی قریة، فقال له الحسین علیه السلام: دعنا ویحک ننزل هذه القریة أو هذه یعنی نینوی أو هذه یعنی شفیة؟ قال: لا والله، ما أستطیع ذلک، هذا رجل قد بُعِثَ إلیّ عیناً علیّ، فقال زهیر بن القین: إنّی والله لا أری أن یکون بعد الذی ترون إلاّ أشدّ ممّا ترون، یا بن رسول الله: إنّ قتال هؤلاء القوم أهون علینا من قتال مَن یأتینا من بعدهم، فلعمری فلیأتینّا من بعدهم ما لا قِبل لنا فیه، فقال الحسین:

ما کنت لأبدأهم بقتال)(1).

فقد أراد زهیر بن القین من خلال هذا الموقف أن یصدُقَ نفسه مع الحسین علیه السلام بقدر ما أُوتی من قوّة قولاً وعملاً، فلقد ذکر (رض) للحسین علیه السلام قبل هذا المنزل کلماتٍ کلّها تدلّک علی عقیدته بالحسین علیه السلام، واستعداده التامّ لسفک دمه الطاهر فی طاعته علیه السلام، فأراد فی هذا المنزل أن یجسّد ذلک عملیاً من

ص:77


1- (2) الإرشاد للشیخ المفید: ج 2، ص 82-84. بحار الأنوار: ج 44، ص 379-381. جمهرة خطب العرب: ج 2، ص 39-40.

خلال طلبه فی قتال جماعة عبید الله بن زیاد ومَن یدور فی فلکهم.

أقول: إذا کان الأمر کذلک، فهل یمکن أن یکون زهیر جادّاً فی قتال آل بنی أمیة والسائرین علی نهجهم، وهم الذین یرفعون عَلَمَ المطالبة بدم عثمان ومطاردة قتلته، لاسیّما وقد تتبّع زیاد بن أبیه وولده عبید الله الکثیرَ منهم فی الکوفة والبصرة؟

وبعبارة أخری: هل یمکن أن تجتمع عثمانیة زهیر بن القین ومقاتلة مَن یطالب بالثأر له ظاهراً؟

الموقف الرابع

وهو الذی حصل لیلة العاشر من محرّم، وذلک حینما جمع الحسین علیه السلام أهل بیته وأصحابه ثمّ خطب فیهم قائلاً:

«أثنی علی الله تبارک وتعالی أحسن الثناء، وأحمده علی السرّاء والضرّاء، اللّهمّ إنّی أحمدک علی أنْ أکرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآنَ، وفقّهتَنا فی الدینِ، وجعلتَ لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً ولم تجعلْنا من المشرکین.

أمّا بعد.. فإنّی لا أعلم أصحاباً أولی ولا خیراً من أصحابی، ولا أهل بیتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بیتی، فجزاکم اللهُ عنّی جمیعاً خیراً، ألا وإنّی أظنّ یومنا من هؤلاء الأعداء غداً، أَلاَ وإنّی قد رأیتُ لکم فانطلقوا جمیعاً فی حلّ، لیس علیکم منّی ذِمام، هذا اللیل قد غَشِیَکُم فاتّخذوه جَمَلاً، ثمّ لیأخذْ کلُّ رجلٍ منکم بِیَدِ رجلٍ من أهل

ص:78

بیتی ثمّ تفرّقوا فی سوادکم ومدائنکم، حتی یفرّج الله، فإنّ القومَ إنّما یطلبوننی، ولو قد أصابونی لَهَوْا عن طلب غیری»(1).

فلمّا سمع أهلُ بیته ذلک قاموا وأبَوا ذلک وفدّوه بالأنفس والأموال والأهلین، ثمّ قام أصحابه واحداً بعد واحد، حتی وصل الدور إلی زهیر بن القین فقال: «(والله، لوددتُ أنّی قُتلتُ ثُمّ نُشرتُ، ثُمّ قُتلتُ، حتی أُقْتَل کذا ألف قتلة، وأنّ اللهُ یدفع بذلک القتل عن نفسک وعن أنفس هؤلاء الفتیة من أهل بیتک)(2).

أقول: لا أعلم کیف یمکن أن یتغافل إنسان عن معانی هذه الکلمات الجلیلة ومقاصدها العمیقة، وهی تُصوّر لنا ذلک الإنسان الذی یرید أن یقطع جسده قطعة قطعة ویُنشَر بالمناشیر، ویُفعل به ذلک ألف مرّة فداءً للحسین علیه السلام ودفعاً للقتل عنه علیه السلام، ومع ذلک لا یُرمَی ولا یُوصَف بالولاء لأهل البیت علیهم السلام؟!

وإذا لم یکن مثل هذا الإنسان علویّاً حسینیاً موالیاً، فمَن - یا تری - یمکن أن یصدق علیه مثل هذا الوصف؟

هل هناک موالٍ طلب مِثْل هذا الطلب، أو حتی تجرّأ أن یطلبه فی مستقبل حیاته وإلی یومک هذا؟

ما الفرق بین قول زهیر بن القین الذی یرمی بالتعثمن وبین قول الموالی لأهل البیت علیهم السلام سعید بن عبد الحنفی الذی قال للحسین علیه السلام فی نفس الزمان

والمکان: (والله، لو علمتُ أنّی أُقْتَل ثُمّ أحیا ثمّ أُحرق حیّاً ثمّ أُذَرّ، یُفعل ذلک بی

ص:79


1- (1) جمهرة خطب العرب: ج 2، ص 41.
2- (2) جمهرة خطب العرب: ج 2، ص 42-43.

سبعین مرّة ما فارقتُک حتی ألقی حِمامی دونک، فکیف لا أفعل ذلک وإنّما هی قتلة واحدة، ثمّ هی الکرامة التی لا انقضاء لها أبداً؟!)(1).

لا شکّ أن لا فرق بین قولیهما ولا حتی فی درجة الاستعداد للتضحیة والفداء؛ لأنّ القلب الذی حمل الولاء لأهل البیت علیهم السلام - الذی یعیش أعلی درجات الإخلاص کما فی قلبیهما - لا یمکن أن تختلف آثاره فی الخارج، فهو واحد عند الجمیع، بل إنّی أری أنّ موقف الشهید زهیر بن القین (رض) هو فی امتداد مواقف الموالین قبله، أمثال میثم وحجر وکمیل وقنبر، وما إلی ذاک من أسماء لامعة فی رحاب الولاء لمحمّد وآله الطاهرین.

الموقف الخامس

خطبة زهیر بن القین (رض) یوم العاشر من المحرّم، والتی تحدّث فیها عن نقاط مهمّة، ولا یسعنی هنا فی هذه الدراسة المختصرة أن أُسلّط الأضواء علی جمیعها، ولکنّی سوف أضع بین یدی القارئ العزیز بعض المقاطع والجمل بعد ذکر الخطبة کاملةً، راجیاً منه التمعّن بها والتأمّل فیها، أفیمکن أن تصدر خطبة کهذه من إنسان لا یعرف الولاء لأهل البیت علیهم السلام؟

(وخرج زهیر بن القین علی فرس ذَنوب وهو شاک فی السلاح، فقال: یا أهل الکوفة، نَذَارِ لکم من عذاب الله، نَذَارِ لکم أنّ حقّاً علی المسلم نصیحة أخیه المسلم، ونحن حتی الآن أخوة وعلی دین واحد ما لم یقع بیننا وبینکم السیف، وأنتم للنصیحة منّا أهل، فإذا وقع السیف انقطعتْ العصمة وکنّا أمّة وأنتم أمّة، إنّ

ص:80


1- (1) جمهرة خطب العرب: ج 2، ص 42.

اللهَ ابتلانا وإیّاکم بذرّیة نبیّه محمّد صلی الله علیه و آله و سلم؛ لینظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوکم إلی نصرهم وخذلان الطاغیة یزید وعبید الله بن زیاد، فإنّکم لا تدرکون منهما إلاّ سوء عمر سلطانهما، یسملان أعینکم، ویقطعان أیدیکم وأرجلکم، ویمثّلان بکم، ویرفعانکم علی جذوع النخل، ویقتلان أماثلکم أمثال حجر بن عدی وأصحابه، وهانی بن عروة وأشباهه.

فسبّوه وأثنوا علی عبید الله بن زیاد، ودَعَوا له، قالوا: لا نبرح حتی نَقتل صاحبَک ومَن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلی عبید الله بن زیاد سالماً.

فقال زهیر: عبادَ الله، إنّ ولد فاطمة أحقّ بالوُدّ والنصر من ابن سمیة، فإن لم تنصروهم فأعیذکم بالله أن تقتلوهم، فخلّوا بین هذا الرجل وبین یزید، فلعمری إنّه لَیرضی من طاعتکم بدون قَتْل الحسین علیه السلام.

فرماه شمر بسهم وقال: اسکتْ، أَسْکَتَ اللهُ نأمتک، أبرمتنا بکثرة کلامک.

فقال زهیر: یا بن البوّال علی عقبیه، ما إیّاک أخاطب، إنّما أنت بهیمة، والله ما أضنّک تُحْکِم من کتاب الله آیتَین، فابشرْ بالخِزْی یوم القیامة والعذاب الألیم.

فقال: إنّ الله قاتلک وصاحبک عن ساعة.

فقال زهیر: أبالموت تخوّفنی، فوالله لَلْموت معه أحبّ إلیّ من الخُلْد معکم.

ثمّ أقبل علی القوم رافعاً صوته وقال: عباد الله، لا یغرّنّکم هذا الجلف الجافی وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمّد صلی الله علیه و آله و سلم قوماً هرقوا دماء ذرّیته وأهلِ بیته وقَتلوا مَن نصرهم وذبّ عن حریمهم.

ص:81

فناداه رجل من أصحابه: إنّ أبا عبد الله یقول لک: أقبل، فلعمری لئن کان مؤمن آلُ فرعون نَصَحَ لقومه وأَبْلَغَ فی الدعاء، فلقد نصحتَ لهؤلاء وأبلغتَ فی الدعاء لو نفع النُّصْح والإبلاغ)(1).

أوّلاً: قوله: (إنّ اللهَ ابتلانا وإیّاکم بذرّیة نبیّه محمّد صلی الله علیه و آله و سلم؛ لینظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوکم إلی نصرهم وخذلان الطاغیة یزید وعبید الله بن زیاد...).

وهذا مطلبُ کلّ إنسان موالٍ لأهل البیت علیهم السلام منذ وفاة النبی صلی الله علیه و آله و سلم وإلی یومک هذا، وهی دعوة الناس إلی التمسّک بمَن أمرنا بالتمسّک بهم:

«ترکتُ فیکم ما إن تمسّکتم به لن تضلّوا من بعدهِ أبداً، کتاب الله وعترتی أهل بیتی»(2) ، وخذلان کلّ مَن نصب نفسه فی مقامهم علیهم السلام، أمثال معاویة ویزید وغیرهما.

ثانیاً: قوله: (یسملان أعینکم، ویقطعان أیدیکم وأرجلکم، ویمثّلان بکم، ویرفعانکم علی جذوع النخل، ویقتلان أماثلکم أمثال حجر بن عدی وأصحابه، وهانی بن عروة وأشباهه...).

وهذه هی أسالیب الظَّلَمَة من بنی أمیّة ومَن جاء بهم وسلّطهم علی رقاب المسلمین مع شیعة أهل البیت علیهم السلام وأتباعهم، فقد تتبّعوهم تحت کلّ حَجَر ومَدَر.

ویبدو لی أنّ الصورة کانت واضحة تمام الوضوح عن الشهید زهیر (رض) منذ أیّام معاویة وقَتْله للموالین، لاسیّما حجر بن عدی وأصحابه، فضلاً عمّا جری

ص:82


1- (1) تاریخ الطبری: ج 3، ص 320. معالم المدرستین: ج 3، ص 98.
2- (2) رواه الترمذی فی جامعه وآخرون: ج 2، ص 219.

فی الکوفة مِن قَتْل لمسلم بن عقیل ولهانی بن عروة وأتباعهما، وهذا إن دلّ علی شیء فإنّما یدلّ علی أنّه کان صاحب موقف ودور من قضیة حِجْر وأصحابه، ومسلم بن عقیل وأتباعه فی الکوفة، والاعتذار بعدم وجود النصوص لیس دلیلاً کافیاً؛ لعدم وجود الحرکة لهذا الشهید (رض) کما هو واضح.

ثالثاً: (عبادَ الله، إنّ وُلْد فاطمة أحقّ بالوُدّ والنصر من ابن سمیة...)، الله أکبر.. ومع کلّ ذلک تأتی الروایة التی ترید أن تشوّه صورةَ هذا الشهید بأنّه کان یکره مسایرة الحسین علیه السلام، أو أنّه کان عثمانیّاً لاسیّما وقد قارن الشهید بین أولاد فاطمة وأولاد سمیّة من أجل أن یشیر علی إلحاق معاویة لعبید الله بن زیاد بأبی سفیان.

رابعاً: قوله: (فوالله، لَلْمَوت معه أحبّ إلیّ من الخُلْدِ معکم...)، بالله علیک.. قل لی: هل یوجد هناک أعظم من هذا العشق؟ أی صورة من الولاء یحملها هذا الشهید تجاه الحسین علیه السلام؟

خامساً: قوله: (فوالله، لا تنال شفاعة محمّد قوماً هرقوا دماء ذرّیته وأهل بیته، وقَتلوا مَن نصروهم وذَبّ عن حریمهم...).

وهذا أمر مُسلَّم به عند جمیع المذاهب الإسلامیة حین عدّوا ناصبَ العداء لأهل البیت علیهم السلام بقلبه وبلسانه وبیده کافراً؛ لأنّه منکر لضرورة من الضرورات الإسلامیة، أَلاَ وهو وجوب المودّة فی قلوب المسلمین لأهل البیت علیهم السلام، وهو ما عَنَتْه الآیة الکریمة:

«قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی 1» .

ص:83

ومن ثم فمِثْل هذا الإنسان لا یُغسّل ولا یُکفّن ولا یُدفن فی مقابر المسلمین، ولکن بتقدیری إنّ هذا النص الذی ذکره الشهید زهیر بن القین إنّما هو عبارة عن مضمون آخر لحدیث الغدیر والأحادیث الکثیرة التی رُویت عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فی خصوص أهل البیت علیهم السلام وضرورة نصرتهم والوقوف إلی جانبهم، وأنّه صلی الله علیه و آله و سلم خصمٌ لمَن خاصمهم وعدوٌّ لمَن عاداهم، وما إلی ذلک من ثقافة ربّما لا تجد لها واقعاً ملموساً حقیقیاً یُتحدَّث به إلاّ فی أوساط شیعة أهل البیت علیهم السلام وأتباعهم.

ومن ثم فإنّ الشهید زهیر بن القین قد انطلق فی الحدیث مع أهل الکوفة من خلال هذه الثقافة الإسلامیة الشیعیة الموالیة لأهل البیت علیهم السلام، وللمثال فقط أذکر هنا حدیثاً واحداً ورد عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی هذا الخصوص:

«أیّها الناس، اسمعوا قولی واعرفوا حقّ نصیحتی، ولا تُخالفونی فی أهل بیتی إلاّ بالتی أُمِرْتُم به مِن حفظهم، وأنّهم خاصّتی وقرابتی وإخوتی وأولادی، وأنتم مجموعون ومساءلون عن الثقلین، فانظروا کیف تخلفونی فیهما، إنّهم أهل بیتی فمَن آذاهم فقد آذانی، ومَن ظلمهم فقد ظلمنی، ومَن أذلّهم فقد أذلّنی، ومَن أعزّهم فقد أعزّنی، ومَن أکرمهم فقد أکرمنی، ومَن نصرهم فقد نصرنی، ومَن خذلهم فقد خذلنی، ومَن طلب الهدی من غیرهم فقد کذّبنی. أیُّها الناس، اتقوا الله وانظروا ما أنتم قائلون إذا لقیتموه، فإنّی خصمٌ لمَن آذاهم،

ص:84

ومَن کنتُ خصمَه خَصَمْتُه، أقول قولی هذا واستغفر الله لی ولکم»(1).

الموقف السادس

قول زهیر بن القین (رض) إلی عزرة بن قیس البجلی - حینما قال عزرة له: یا زهیر، ما کنتَ عندنا من شیعة أهل هذا البیت، إنّما کنتَ عثمانیاً -: (أفلا تستدلّ بموقفی هذا أنّی منهم)(2).

أنا لا أعلم کیف یمکن لإنسان سویّ وسلیم أن یمرّ بهذه الروایة ولا یخرج بالقول إنّ زهیراً کان من الموالین لأهل البیت علیهم السلام؟!

وکیف یمکن أن نُسدِل الستارَ علی قول زهیر: (أفلا تستدلّ بموقفی هذا أنّی منهم)؟

ألیست دلالة الفعل علی الشیء أعظم من دلالة اللفظ علی الشیء نفسه؟ فلماذا مثل هذه القاعدة مطّردة فی کلّ مواردها سوی هذا المورد الذی توقّفت فیه عن الدلالة؟

إنّنا أمام نصّ فصیح وفعل صریح أنّه منهم، وهذا یکفینا فیما نحن بصدد إثباته، وممّا ینبغی أن یُلتفت إلیه أنّ الإسلام اکتفی بفعل الإنسان فی ترتیب بعض الأحکام حتی وإن لم یصرّح بها، ومنها علی سبیل المثال: (الشهادة له بالإیمان)، حیث ورد عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم قوله:

ص:85


1- (1) أمالی الصدوق: ص 121، مجلس 15، حدیث 11.
2- (2) مقتل أبی مخنف: ص 105.

«إذا رأیتم الرجل یتعاهد المسجد، فاشهدوا له بالإیمان»(1).

حیث رتّب حکم الإیمان لهذا الإنسان بمجرّد فعله وهو الدخول إلی المسجد دون قوله، ومنها: (دلالة غیبة الإنسان المسلم علی الطهارة)، ومثاله:

لو أنّ إنساناً مسلماً تنجّست یده بالبول مثلاً، ثم غاب عنّا ورجع، فغیبته هذه دلیل علی طهارة یده، حیث نحمل غیبة هذا الإنسان عنّا علی ذهابه من أجل التطهیر من هذه النجاسة، وهنا أیضاً رتّب الشارع المقدّس حکم الطهارة - کما هو واضح - علی مجرّد فعله وهو غیبته وحضوره دون القول، وهکذا فی أحکام کثیرة ومتنوّعة وفی مجالات مختلفة یطول ذکرها، فإذا کان الأمر کذلک، فلِمَ لا یشفع فِعْل زهیر وموقفه - الذی هو یدعو إلی التأمّل فیه - علی الاستدلال أنّه من شیعة أهل البیت علیهم السلام وموالیهم؟

الموقف السابع

وهو موقف الشهادة بین یدیّ أبی عبد الله الحسین علیه السلام، وهذا ما سیأتی الحدیث عنه بعد قلیل، لاسیّما من أبیاته التی نقلها لنا القندوزی فی (ینابیع المودّة)، حیث یقول فیها زهیر بن القین (رض):

أَقْدِمْ حُسَیْنُ الیَوْمَ تَلْقَی أَحْمَدَا ثُمّ أَبَاکَ الطَّاهِرَ المُؤَیَّدَا

وَالحَسَنَ المَسْمُوْمَ ذَاکَ الأُمُجَّدَا وَذَا الجَنَاحَیْنِ حَلِیْفَ الشُّهَدَا

وَحْمَزَةَ اللَّیْثَ الهُمَامَ الأَسْعَدَا فِی جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ عَاشُوْا سُعَدَا(2)

ص:86


1- (1) مرقاة المفاتیح شرح مشکاة المصابیح: کتاب الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، مسألة 723، ص 606.
2- (2) ینابیع المودة للقندوزی: ج 3، ص 72، تحقیق سید علی جمال أشرف الحسینی.
ثالثاً: الشهید زهیر بن القین ومؤمن آل فرعون
مَن هو مؤمن آل فرعون؟

اختلف المؤرّخون والمفسّرون فی شخصیة مؤمن آل فرعون وقصّته مع قومه، فذهب بعضهم إلی أنّه کان نبیاً من أنبیاء بنی إسرائیل(1) ، کان یُعرف ب - (حزبیل) أو (حزقیل).

وذهب آخرون إلی أنّه کان خازن خزائن فرعون والمسؤول عن الشؤون المالیة(2).

ویقول ابن عباس: إنّ هناک ثلاثة من آل فرعون آمنوا بموسی، وهم: مؤمن آل فرعون، وزوجة فرعون، والرجل الذی أخبر موسی قبل نبوّته أنّ الملأ یأتمرون من أجل أن یقتلوک:

«وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَی الْمَدِینَةِ یَسْعی قالَ یا مُوسی إِنَّ الْمَلَأَ یَأْتَمِرُونَ بِکَ لِیَقْتُلُوکَ فَاخْرُجْ إِنِّی لَکَ مِنَ النّاصِحِینَ 3,4» .

ویری آخرون أنّه کان نجّاراً، وأنّه هو الذی صنع التابوت لأمّ موسی علیه السلام حین قذفتْه رضیعاً فی البحر، وأنّه کان یکتم إیمانه إلی أن ظهر موسی علی السحرة فأظهر إیمانه، فأُخِذ وقُتل مع السحرة صلباً.

ص:87


1- (1) انظر: تفسیر نور الثقلین: ج 4، ص 519.
2- (2) انظر: تفسیر نور الثقلین: ج 4، ص 518.

یقول الإمام الصادق وهو یتحدّث عن قتله:

«ولقد قطّعوه إرباً إرباً، ولکن وقاه الله أن یفتنوه فی دینه».

ویقول علیه السلام:

«ولقد سطوا علیه وقتلوه، ولکن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن یفتنوه فی دینه»(1).

وبعد هذه الإطلالة السریعة علی حیاة هذا الرجل المختلَف فیه - کما تقدّم، والذی أحببنا إیراده هنا حتی یطّلع القارئ العزیز عمّا کُتب حول هذا الرجل المؤمن - نحاول أن نسلّط الضوء حول ما تحدّث عنه القرآن الکریم بقوله:

«وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَکْتُمُ إِیمانَهُ..2» .

حیث ذکر - بما لا یقبل النقاش - أنّ الرجل کان من آل فرعون، أی من أقربائه، وأنّه کان یکتم هذا الإیمان فی نفسه، وهاتان النقطتان بتقدیری هما ما یهمّنا کثیراً فی حیاة هذا الرجل، وربّما کانتا السبب وراء التشبیه الحسینی لزهیر بن القین بأنّه کمؤمن آل فرعون (رض) کما سیأتی بیانه بعد ذلک.

أوجه التشابه بین زهیر ومؤمن آل فرعون
اشارة

لقد کانت أوجه التشابه کثیرة بینهما وعلی مستویات مختلفة، سوف نذکر منها أربعة، وهی: الخطبة والکلام، والزوجة والأهل، وکتمان الإیمان، والشهادة.

ص:88


1- (1) قصص الأنبیاء للسید الجزائری: ص 258 وما بعدها.
1 - علی مستوی الخطبة والکلام

وممّا یُذکر فی أوجه التشابه بین خطبتیهما جملة من النقاط، منها:

أ - الحرص علی الجماعة التی ینتمون إلیها:

حیث یجد الإنسان مثل هذا الحرص بادیاً کثیراً علی مؤمن آل فرعون فی الآیات التی تحدّثت عنه، من الآیة 28 من سورة غافر وإلی الآیة 44، والتی ذکر فیها قومه (6) مرات (یا قوم)، ولقد عاش نفس هذا الحرص علی قومه وأبناء جلدته الشهید زهیر بن القین حین وقف یوم العاشر من المحرّم وهو یقول: یا أهل الکوفة... إنّ حقّاً علی المسلم نصیحة أخیه المسلم، ونحن حتی الآن أخوة علی دین واحد... وأنتم للنصیحة منا أهل(1).

ب - الجرأة علی بیان الحق

حیث لم یعبأ مؤمن آل فرعون وهو المقرّب إلیه وصاحب المنزلة الرفیعة عنده، بل وصاحب المال فهو المسؤول المالی عن خزائن فرعون، ومع کلّ هذا لم یعبأ لا بترغیب فرعون ولا فی ترهیبه:

«یا قَوْمِ لَکُمُ الْمُلْکُ الْیَوْمَ ظاهِرِینَ فِی الْأَرْضِ فَمَنْ یَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللّهِ إِنْ جاءَنا2» .

ووقف زهیر بکل شموخ غیر آبه بما تؤول إلیه النتائج، وغیر مبالٍ بکلّ هذه الآلاف المؤلّفة من الجیوش التی جاءت من أجل قَتْله ومَن معه، فوقف (رض)

ص:89


1- (1) انظر: تاریخ الطبری: ج 6، ص 243.

وهو یقول: (عباد الله، لا یغرنّکم عن دینکم هذا الجلف الجافی وأشباهه)(1).

ج - التخویف بالله وعذابه

وکان واحداً من أهمّ الأسالیب التی اتّبعها مؤمن آل فرعون من أجل هدایة قومه وردعهم، وهو تذکیرهم بالعذاب الأخروی الذی ینتظرهم:

«یا قَوْمِ إِنِّی أَخافُ عَلَیْکُمْ یَوْمَ التَّنادِ * یَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِینَ ما لَکُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ 2» .

ونفس هذا المعنی صنعه زهیر بن القین حینما ذکّرهم بالله وعذابه الألیم الذی أعدّه للفاسقین: (یا أهل الکوفة، نذارِ لکم من عذاب الله... فابشر بالخزی یوم القیامة والعذاب الألیم)(2).

2 - علی مستوی الزوجة والأقرباء

حیث کان یعیش مؤمن آل فرعون بین ظهرانی قوم لا یعرفون الله عزّ وجلّ ولا یطیعونه، بل کانوا یشرکون به ویطیعون غیره، ولکن فی نفس الوقت رزقه الله عزّ وجلّ زوجةً صالحةً مؤمنةً عُرفتْ فی الروایات بأنّها ماشطة بنات فرعون کما یروی المجلسی فی بحارالانوار(3).

وروی عن ابن عباس أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال:

ص:90


1- (1) تاریخ الطبری: ج 2، ص 243.
2- (3) تاریخ الطبری: ج 6، ص 243.
3- (4) تاریخ الطبری: ج 2، ص 243. بحار الانوار للمجلسی: ج 13، ص 164.

«لمّا أُسری بی مرّت بی رائحة طیّبة، فقلتُ لجبرئیل: ما هذه الرائحة؟

قال هذه ماشطة آل فرعون وأولادها، کانت تمشطها فوقعت المشطة من یدها، فقالت: بسم الله، فقالت بنت فرعون: أبی؟

فقالت: بل ربّی وربّک وربّ أبیک.

فقالت: لأخبرنّ بذلک أبی، فقالت: نعم، فأخبرتْه فدعا بها وبولدها، وقال: َن ربّک؟

قالت: إنّ ربّی وربّک الله. فأمر بتنّور من نحاس، فأُحْمِی، فدعا بها وبولدها، فقالت: إنّ لی إلیک حاجة.

قال: وما هی؟

قالت: تجمع عظامی وعظام ولدی فتدفنها.

قال: ذاک لک لِمَا لک علینا من حقّ، فأمر بأولادها فألقوا واحداً واحداً فی التنّور، حتی کان آخر ولدها صبیاً مرضعاً، فقال: اصبری یا أمّاه، إنّک علی الحقّ، فأُلقیتْ فی التنّور مع ولدها»(1).

ولقد عاش الشهید زهیر بن القین بین قوم عانی منهم أمیر المؤمنین کثیراً، حیث لم یکونوا یقدّرونه علی حقیقة قدره، حتی قال علیه السلام:

«غداً تعرفون أیّامی ویُکشف لکم عن سرائری»(2).

ص:91


1- (1) البحار: ج 13، ص 163.
2- (2) نهج البلاغة: خطبة 149.

فضلاً عن الرفقة التی کانت حول زهیر بن القین من بنی عمّه وأقربائه، والتی یُشمّ منها رائحة العثمانیة، لاسیّما فی روایة منازل الطریق والتی عبّرت عنهم بتعبیر الضمیر (نا)، کقولهم: أقبلنا من مکّة نسایر الحسین... أبغض إلینا... نسایره... نزلنا... ننازله فیه»(1).

ولکنّه مع ذلک کلّه رزقه الله زوجةً صالحةً مؤمنةً موالیةً لأهل البیت علیهم السلام، حتی أنّ الروایة لتؤکّد أنّها کانت مطمئنّة إلی شهادة زوجها بالتحاقه مع الحسین علیه السلام؛ ولهذا طلبت منه أن یدعو لها ویذکرها عند جدّ الحسین علیه السلام، یقول السید ابن طاووس: فقامتْ إلیه وبکتْ وودعتْه وقالتْ: (کان الله عوناً ومعیناً، خار الله لک، أسئلک أن تذکرنی فی القیامة عند جَدّ الحسین علیه السلام)(2).

3 - علی مستوی کتمان الإیمان

وهذا ما کان واضحاً جلیّاً فی کتاب الله حینما عبّر عنه بأنّه کاتم لإیمانه، وأمّا زهیر فنحن نمیل إلی أنّه کان کاتماً لولائه، مُسرّاً لتشیّعه کما سیأتی بیانه بعد ذلک مفصّلاً.

4 - علی مستوی الشهادة

فقد تحدّثت الروایات عن مؤمن آل فرعون أنّه قُتل آخر الأمر وصُلب علی جذوع الشجر مع سحرة موسی علیه السلام الذین آمنوا معه، ولکنّه - وکما یقول الإمام الصادق علیه السلام فی الروایة المتقدّمة - أبی إلاّ أن یخرج مؤمناً ثابتاً غیر مفتون فی

ص:92


1- (1) مقتل أبی مخنف: ص 161-162، تحقیق الشیخ محمد هادی السیوطی.
2- (2) اللهوف فی قتلی الطفوف: ص 63.

دینه(1) ، ولقد شارک الشهید زهیر بن القین هذا المؤمن بنفس هذه النتیجة، حیث أبی إلاّ الصمود مع الحسین علیه السلام والوقوف إلی جانبه أمام طغیان بنی أمیة، ثابتاً فی إیمانه وغیر مفتون فیه وهو یقول: (فوالله، لَلموت معه أحبّ إلیّ من الخُلْد معکم)(2) ، إلی أن خرّ إلی الأرض شهیداً کما سیأتی.

سؤال وجواب:

وربّما یسأل سائل - وحق له أن یسأل - أنّ مؤمن آل فرعون کتم إیمانه علی أساس أنّه یعیش فی ظلّ دولة لا تری رأیه، ومن ثم کان یخشی علی نفسه القتل وعلی دینه ورسالته الفتنة، فاضطر أن یُضمره فی نفسه ولا یُبدیه لهم، وعلی هذا الأساس مُدِح فی القرآن الکریم وذکره الله عزّ وجلّ بالتمجید والتبجیل، ولکن - یا تری - هل کانت هناک مبررات علی إخفاء الشهید زهیر بن القین ما یعتقده فی أئمّة أهل البیت علیهم السلام فی داخل الکوفة؟ وإذا کان الأمر کذلک فکیف إذاً اختارها علی علیه السلام عاصمة لدولة الإسلام فی وقته؟

وفی معرض الإجابة علی هذا السؤال المهمّ علینا أن ننظر إلی مجمل الأحداث والمواقف التی حصلت فی الکوفة، لاسیّما مع أتباع أهل البیت علیهم السلام وکیفیة تعامل الأئمة علیهم السلام معها؟ وهنا - وحتی تکون الإجابة وافیة ولو علی نحو الإجمال لمثل هذا التساؤل المهم - لابدّ أن نضع بین یدی القارئ العزیز جملة من النقاط المهمّة.

ص:93


1- (1) فی الروایة عن الصادق علیه السلام: «ولقد قطعوه أرباً إرباً، ولکن وقاه الله أن یفتنوه فی دینه».
2- (2) مقتل أبی مخنف: ص 120.
النقطة الأولی: أحادیث أئمّة أهل البیت علیهم السلام والتقیّة فی الکوفة

لقد حفلت کتب الأحادیث الصادرة عن أئمّة الهدی علیهم السلام بأعداد کبیرة جدّاً من الروایات، التی کانت تحثّ أتباعَهم وأشیاعهم والموالین لهم علی العمل بالتقیة، وعدم إظهار المعتقد إلی کلّ أحد بشکل سهل حتی یطمئن إلیه خوفاً علی حیاتهم؛ وذلک لشدید المعاناة التی کانوا یتعرّضون إلیها، وسوف أذکر بعض هذه الروایات لکثرتها کشاهد لِمَا نرید أن نصل إلیه.

1 - روی الکلینی عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد وعیسی بن زکریا عن عبد الله بن أسد عن عبد الله بن عطاء قال: قلتُ للإمام محمد الباقر علیه السلام: رجلان من أهل الکوفة أخذا، فقیل لهما: ابرءا من أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب، فبرئ رجل وأبی الآخر فخُلّی سبیل الذی برئ وقُتل الآخر، فقال علیه السلام:

«أمّا الذی برئ فرجل فقیه فی دینه، وأمّا الذی لم یبرأ فرجل تعجّل إلی الجنّة»(1).

وفی هذه الروایة یجد الإنسان عملیة تخییر بین التضحیة تلبیةً لنداء الروح عند الإنسان، والتی تحبّب إلیه مثل هذه المواقف، وبین البقاء فی ساحة الصراع لخدمة دینه بطریقة أخری، وفی وقت آخر ربّما تکون الظروف فیها أکثر ملاءمة من الظروف الحالیة التی یعیشها، وعلیه یبقی الإنسان فی التصوّر الإمامی مجاهداً فی کلتا الحالتین.

والراوی الذی نقل هذه الروایة عن الإمام الباقر علیه السلام کان یعیش فی الکوفة،

ص:94


1- (1) الکافی: ج 2، ص 219.

وکان من شخصیاتها، ویری الأحداث فیها؛ ولذلک سَأل عن تکلیفه وما هو واجب علیه فعله.

یقول علماء الرجال وهم یتحدّثون عن هذا الراوی عبد الله بن عطاء: (کوفی، قلیل الحدیث، له کتاب، وفی القسم الأول من الخلاصة: ابن عطاء، قال الکشی: قال نصر بن الصباح: ولدَ عطاء بن أبی رباح تلمیذ ابن عباس عبد الملک وعبد الله وعریفاً نجباء من أصحاب أبی جعفر وأبی عبد الله علیه السلام»(1).

2 - ما رواه الکلینی عن أبی علی الأشعری عن الحسن بن الکوفی عن العباس بن عامر عن جابر المکفوف (الأنصاری) عن عبد الله بن یعفور عن أبی عبد الله جعفر الصادق علیه السلام قال:

«اتقوا الله فی دینکم فاحجبوه بالتقیة، فإنّه لا إیمان لمَن لا تقیّة له، إنّما أنتم فی الناس کالنحل فی الطیر، لو أنّ الطیر تعلم ما فی أجواف النحل ما بقی فیها شیء إلاّ أکلتْهُ، ولو أنّ الناس علموا ما فی أجوافکم أنّکم تحبّونا أهل البیت لأکلوکم ولنحلوکم فی السرّ والعلانیة، رحم الله عبیداً منکم کان علی ولایتنا»(2).

والإمام هنا فی صدد الدعوة لأتباعه بضرورة حفظ وجودهم المهم، لاسیّما فیما یتعلّق بشخصیات الموالین فی داخل الکوفة بشکل خاص،

ص:95


1- (1) حاوی الأقوال للشیخ عبد النبی الجزائری: ج 4، ص 90-91، تحقیق: مؤسسة الهدایة لأحیاء التراث.
2- (2) الکافی: ج 2، ص 218.

وخارجها بشکل عام، فکما أنّ النحل یحوی فی داخله الشفاء من الأمراض وینبغی حفظه عن الطیر عن طریق إخفائه فی أجوافها وعدم إظهاره، فهکذا ینبغی علی الموالین حفظ هذا المذهب المهم؛ لأنّه یمثّل الشفاء من کلّ ما تمرّ به الأمّة من مشاکل.

ویبدو أنّ الراوی کصاحبه الأول فی الروایة الأولی، کان من أهل الکوفة وکان من شخصیاتها المتمیّزة فی الولاء لأهل البیت علیهم السلام، ومع ذلک أمر بکتمان أمره وعدم إظهاره، بل ومُدح من قِبل الإمام فی طاعته له فی ذلک.

یقول السید مصطفی بن الحسین الحسینی وهو یترجم إلی (عبد الله بن أبی یعفور) حیث یقول: (عبد الله بن أبی یعفور العبدی، وکان قارئاً یقرأ فی مسجد الکوفة، قال عنه الإمام الصادق علیه السلام:

«ما رأیتُ أحداً یَقبل وصیّتی ویطیع أمری إلاّ عبد الله بن أبی یعفور»(1).

3 - روی معلّی بن خنیس عن الإمام الصادق علیه السلام قوله له مباشرة:

«یا معلّی، اکتمْ أمرنا ولا تذعْه، فإنّه مَن کتم أمرنا ولم یذعْه أعزّه الله فی الدنیا وجعله نوراً بین عینیه فی الآخرة یقوده إلی الجنّة، یا معلّی، مَن ذاع أمرنا ولم یکتمه أذلّه الله فی الدنیا ونزع النور من بین عینیه فی الآخرة، وجعله ظلمة تقوده إلی النار، یا معلّی، إنّ التقیة دینی ودین آبائی، ولا دینَ لمَن لا تقیّة له، یا معلّی، إنّ الله یحبّ أن

ص:96


1- (1) نقد الرجال: ج 3، ص 83 للسید مصطفی بن الحسین الحسنی.

یعبد الله فی السرّ کما یُحبّ أن یُعبد فی العلانیة، یا معلّی، إنّ المذیع لأمرنا کالجاحد له»(1).

وهنا یؤکّد الإمام علی نقطة مهمّة، وهی: إذا کان الصبر علی الباطل مرفوضاً فی داخل الإسلام، وکتمان الحق انحرافاً عن تعالیم السماء، فإنّ الظروف الطارئة التی یمرّ فیها الإنسان المؤمن قد تجعل من هذین الأمرین المرفوضین وسیلة من وسائل تعزیز الحق ونشر الدین؛ لأنّ مقیاس الأمور فی الشریعة علی أساس المضمون لا الشکل.

والمعلّی بن خنیس هو أحد الساکتین فی مدینة الکوفة ومن الممدوحین کما یقول علماء الرجال، یقول السید الخوئی فی معجمه: عدّه البرقی من أصحاب الصادق قائلاً: (معلّی بن خنیس مولی أبی عبد الله علیه السلام، کوفی بزّاز، وعدّه الشیخ من السفراء الممدوحین وقال: بینهم المعلّی بن خنیس، وکان من خدّام أبی عبد الله علیه السلام)(2).

4 - أصول الکافی عن الحسین بن محمد عن معلّی بن محمد عن محمد بن جمهور عن أحمد بن حمزة عن الحسین بن المختار عن أبی بصیر، قال: قال أبو جعفر علیه السلام:

«خالطوهم بالبرانیة وخالفوهم بالجوانیة(3) ، إذا کانت الإمرة

ص:97


1- (1) أصول الکافی: ج 2، ص 223. وسائل الشیعة: ج 11، ص 485.
2- (2) معجم رجال الحدیث للخوئی: ج 19، برقم 12525.
3- (3) أصول الکافی: ج 2، ص 220.

صبیانیة»(1).

والراوی المباشر لهذه الروایة کالسابقات هو من شخصیات الموالین ویسکن الکوفة أیضاً.

یقول الشیخ جعفر السبحانی: (یحیی بن القاسم، وقیل: ابن أبی القاسم، واسمه إسحاق الفقیه، المحدِّث أبو بصیر الأسدی الکوفی، وقیل فی کنیته: أبو محمد... وکان من کبار الفقهاء، ثقة، وجیهاً، أخذ الحدیث والفقه وسائر العلوم عن الإمامین أبی جعفر الباقر وأبی عبد الله الصادق، وروی عنهما وعن الإمام موسی الکاظم علیه السلام)(2).

وهذه عیّنة غیر مرتبة من الروایات التی جاءت عن أئمّة الهدی فی خصوص التقیّة لأتباع أهل البیت علیهم السلام، والمتحدّث معهم مباشرة فی هذه الروایات - کما مرّ علیک - کلّهم کانوا من سادات الکوفة وشخصیاتها العلمیة المرموقة، ومع کلّ هذا جاء الأمر من قِبل الأئمة علیهم السلام لهم علی ضرورة کتمان أمر تشیّعهم وعدم إظهاره؛ حفاظاً علیهم من جهة، ومن جهة أخری یسهل علیهم مراقبة الأوضاع السیاسیة من الداخل عن کثب ونقلها إلی أئمّة أهل البیت لأخذ التدابیر الملائمة لها.

ص:98


1- (1) المراد من البرانیة هو الظاهر، والمراد من الجوانیة الباطن، وقد وردت هاتان الکلمتان بلا ألف ولام فی کتب کافة المسلمین، حیث روی السنّة والشیعة عن علی علیه السلام وسلمان أنّهما قالا: «لکلّ امرئ جوّانی وبرّانی، فمَن یُصلح جوّانیه یُصلح الله برّانیه، ومَن یُفسد جوّانیه، یُفسد الله برّانیه»، حلیة الأولیاء: ج 1، ص 203.
2- (2) موسوعة طبقات الفقهاء: ج 2، ص 632-633.
النقطة الثانیة: معاویة وسیاسة البطش مع الشیعة فی الکوفة

لا یمکن لأیّ کاتب مهما أوتی من قوّة وبیان أن یجسّد فی ألفاظه التی یکتبها حقیقة الظلامة الکبری التی تعرّض لها أتباع أهل البیت علیهم السلام فی داخل الکوفة عبر العصور، فلقد مُلئت منهم السجون وفاضت بهم الأنهر وأکلت منهم الأرض وبُنیت بهم القصور، ولم یتبقَّ وسیلة من وسائل التنکیل والتعذیب إلاّ واستُخدمتْ ضدّهم.

وکانت أعظم الظلامات وأشقّها علیهم أنّهم أُرغِموا علی سماع لعن أمیر المؤمنین علیه السلام فی کلّ جمعة ومن علی منبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، کلّ ذلک - وغیره أعظم - من أجل ولائهم ومتابعتهم لأئمّة الهدی ومصابیح الدجی علیهم السلام.

ولقد امتلأت الکتب عند الفریقین بذکر هذه الجرائم، لاسیّما فی زمن معاویة، وهو أحد المؤسّسین الکبار لها، وللاختصار سوف أذکر بعض الأحادیث للمثال لا للحصر.

1 - ورد فی کتاب الاحتجاج: (وکان أشدّ الناس بلیّة أهل الکوفة؛ لکثرة من بها من الشیعة(1) ، فاستُعمل زیاد بن أبیه وضمّ إلیه العراقین: الکوفة والبصرة، فجعل یتتبّع الشیعة وهو بهم عارف، یقتلهم تحت کلّ حَجَر ومَدَر، وأخافهم، وقطع الأیدی والأرجل، وصلبهم فی جذوع النخل، وسمل أعینهم، وطردهم وشرّدهم، حتی نفوا عن العراق، فلم یبقَ بها أحد معروف مشهور، فهم بین مقتول

ص:99


1- (1) مقارنة بأعدادهم فی بقیة الأمصار الأخری، وإلاّ فعدوّهم فی داخل الکوفة قلیل کما سیأتی بعد ذلک.

أو مصلوب أو محبوس أو طرید أو شرید)(1).

ویقول الشیخ محمد مهدی شمس الدین: (بعد شهادة علی کتب معاویة إلی عمّاله فی الولایات: انظروا مَن قامت علیه البیّنة أنّه یُحبّ علیّاً وأهل بیته فامحوه من الدیوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلک بنسخة أخری: َن اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنکّلوا به واهدموا دارَه(2). ومن هنا کان البلاء عظیماً فی العراق، لاسیّما فی الکوفة، حتی أنّ الرجل من الشیعة إذا یأتیه مَن یثق به فیدخل علیه بیته ویعطیه سرّه، یَخاف من خادمه حتی یأخذ علیه الأیمان المغلّظة أن یکتمها علیه.

2 - ینقل الشعبی أنّه سمع من رشید الهجری والحارث بن الأعور الهمدانی وصعصعة بن صوحان العبدی وسالم بن دینار الأزری، کلّهم یذکرون أنّهم سمعوا علی بن أبی طالب علی منبر الکوفة یقول فی خطبته:

«یا معشر أهل الکوفة، والله لتصبرنّ علی قتال عدوّکم أو لَیُسلّطنّ الله علیکم أقواماً أنتم أولی بالحقّ منهم، فیعذّبکم الله بهم، ثمّ یعذّبهم بما شاء من عنده، أو من قتلة بالسیف تفرّون إلی الموت علی الفراش»(3).

وواضح من خلال هذه الخطبة أنّ الإمام أمیر المؤمنین یهیّئ نفوس أتباعه إلی تقبّل هذه الحقیقة المُرّة التی سوف تحلّ بهم وتنزل علیهم، بل إنّ الإمام وضع لهم لتلک المرحلة علاجاً کما سیأتی فی الحدیث الآخر.

ص:100


1- (1) الاحتجاج: ج 2، ص 17.
2- (2) ثورة الإمام الحسین علیه السلام للشیخ محمد مهدی شمس الدین نقلاً عن نهج البلاغة: ص 70.
3- (3) شرح الأخبار: ج 1، ص 159.

3 - ومن کلام له علیه السلام لأصحابه:

«أَمَا إنّه سیظهر علیکم بعدی رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، یأکل ما یجد، ویطلب ما لا یجد، فاقتلوه ولن تقتلوه، أَلاَ وإنّه سیأمرکم بسبّی والبراءة منّی، فأمّا السبّ فسبّونی، فإنّه لی زکاة ولکم نجاة، وأمّا البراءة فلا تَتَبَرَّءُوا(1) منّی، فإنّی وُلدتُ علی الفطرة، وسبقت الی الإیمان والهجرة»(2)).

وهذا فیض من غیض الظلامات التی تعرّض لها أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام مع أئمّتهم فی داخل الکوفة، فأنت تقرأ معی ما تقدّم من الروایات وغیرها، والتی تتحدّث عن بعض ما جری فیها، وکیفیة معالجة الأئمّة لها، وإذا تقرر هذا أفلا یکون عاملاً مهمّاً من عوامل إخفاء الولاء والتشیّع من قِبل أتباع أهل البیت علیهم السلام فی داخل الکوفة؟ أفلا یمکن أن تضیع فی زُحام هذه الإخفاءات بعضُ الأسماء، فتُصرَف بشکل آخر بعیداً عن خطّ أهل البیت علیهم السلام؟ أفلا یستحقّ مثل هذا الأمر أن تُصرَف له الجهود وتُبذل الأوقات من أجل الوقوف علی حقیقة الأسماء والشخصیات التی نقلها لنا التاریخ وعلیها رائحة الانحراف أو المیل إلی خطّ آخر غیر خط أهل البیت علیهم السلام؟

ص:101


1- (1) قال السید الکلبایکانی فی الدر النضید: (ولعلّ الفرق بین السب والبراءة - حیث أمر بالأوّل ونهی عن الثانی - أنّ السبّ صادر بالنسبة إلی المسلم أیضاً، بخلاف البراءة فإنّها تکون عن المشرکین والکافرین کما قال الله تعالی:«بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَی الَّذِینَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِکِینَ»، ومَن کان یتبرّأ منه کان یعدّه من الکفار، وبهذه المناسبة علّل الإمام نهیه عن البراءة بقوله: «فإنّی ولدت علی الفطرة وسبقت إلی الإیمان والهجرة». الدر النضید: ج 2، ص 253.
2- (2) نهج البلاغة: ج 1، ص 105.
النقطة الثالثة: قلّة أتباع أهل البیت علیهم السلام فی الکوفة

وهذا الموضوع من المواضیع المهمّة التی تندرج فی إطار الظلامات التی تعرّض لها خطّ أهل البیت علیهم السلام، حیث حمّلوهم کلّ الإخفاقات التی تعرّضت لها الکوفة، سواء فی زمن الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام أم فیما بعد ذلک، أو حتی فی علاقة بعضهم بالبعض الآخر، حیث صار یُضرب بهم المثل فی الغدر والخیانة وسوء السریرة وسقوط الأخلاق وما إلی ذلک من الموبقات والجرائم، بل وحمّلوهم کذلک تبعات قَتْل سیّد الشهداء علیه السلام، حیث ساروا یردّدون من خلال الخطب والکتب والمقالات أنّ الشیعة داخل الکوفة هم الذین قتلوا الحسین علیه السلام، وهذه باعتقادی واحدة من السیاسات الأمویة التی أُرِیْدَ لها أن تنتشر فی ربوع الأمّة الإسلامیة؛ حتی تُمَوّه علی القاتل الحقیقی وأصحاب الجرم الواقعی.

وأنا هنا لستُ بصدد الحدیث عن هذا الموضوع المهمّ، فلعلّنا نوفّق للحدیث عنه فی طیّات هذه الموسوعة عن شهداء الطف، ولکنّی أودّ أن أشیر من خلاله إلی أنّ الکوفة لم تکن متمحّضَة بالولاء لأهل البیت علیهم السلام، بل کان فیها غیرهم من الخوارج والأمویین ومَن عُرفوا بالعثمانیة، فضلاً عن الیهود والنصاری وبقیّة الدیانات الأخری، بل یستطیع الإنسان القول: إنّ نسبة الموالین فی الکوفة هی النسبة الأقل إذا ما قُورنتْ ببقیة النسب الأخری.

نعم، هی النسبة الأکبر إذا ما قُورنت ببقیة الأمصار الإسلامیة الأخری، کالحجاز مثلاً، فإنّ نسبة الموالین فیها أقلّ من الکوفة، وسوف أذکر هنا بعض الأدلّة التی تؤکّد علی هذه الحقیقة.

ص:102

1 - کلّنا قرأ وسمع أنّ الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام حینما أراد أن یوقف صلاة التراویح جماعةً فی مسجد الکوفة وإذا به یفاجأ من قِبل الناس قولهم وا سنّة عمراه(1).

وقوله حینما أراد أن یصلّی علی جنازةٍ فکبّر علیها خمساً، ثمّ التفت إلی الناس بعد أن أحسّ بعدم قبولهم له:

«ما نسیتُ ولا همتُ، ولکن کبّرتُ کما کبّر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم»(2).

والأمر نفسه حینما أراد أن یوقف شریح القاضی عن دکّة القضاء فی مسجد الکوفة، فقالوا له: کیف تعزل مَن عیّنه عمر(3).

2 - یقول الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام:

«لو حَمَلْتُ الناسَ علی ترکها وحوّلتها عن مواضعها وإلی ما کانت فی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، لتفرّق عنّی جُندی حتی أبقی وحدی، وقلیل من شیعتی الذین عرفوا فضلی وفرض إمامتی»(4).

3 - روی أنّ أمیر المؤمنین قال وهو علی منبر الکوفة بعد أن سُئل عن بیع أمّهات الأولاد:

«قد کان رأیی ورأی عمر لا یُبَعْنَ، ثمّ رأیتُ بیعهنَّ».

ص:103


1- (1) تاریخ السنّة النبویة ثلاثون عاماً بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لصائب عبد الحمید: ص 61.
2- (2) نفس المصدر: ص 62.
3- (3) رجال المامقانی: ج 2، ص 83.
4- (4) الکافی: ج 8، ص 59-63.

فقال له عبیدة السلمانی: رأیک مع الجماعة أَحَبّ إلینا من رأیک وحدک)(1).

أفیمکن أن یُصدِّق أحدٌ أنّ علیّاً علیه السلام کان یعیش بین شیعته ومحبّیه الذین لا یعصونه؟

هل یمکن أن یکون شیعیاً أو حتی یمیل إلیهم مَن یخاطب علیاً علیه السلام بمثل هذا الخطاب الفج؟

ولا شک ولا ریب أنّ عبیدة السلمانی ینطق استناداً إلی الرأی العام فی الکوفة، ولم ینقل وجهة نظره فقط، وإلاّ لخاف علی نفسه ممّن کان جالساً معه فی تلک الحلقات، أعنّی أتباع علی علیه السلام ولیس علیّاً نفسه.

4 - عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:

«کان علی بن أبی طالب عندکم بالعراق یقاتل عدوّه ومعه أصحابه، وما کان فیهم خمسون رجلاً یعرفونه حقّ معرفته وحق معرفة إمامته»(2).

وبتقدیری إنّ هذه المعرفة الکاملة ربّما لم یصل إلیها حتی بعض الشیعة فضلاً عن المخالفین لهم.

النقطة الرابعة: منهج أهل البیت علیهم السلام فی کتمان وسرّیة أمرهم

لا یجد الإنسان وهو یقرأ فی روایات أئمّة أهل البیت علیهم السلام وحال الموالین

ص:104


1- (1) المحصول فی علم الأصول لفخر الدین الرازی، دراسة وتحقیق د. طه جابر فیاض العلوانی: ج 4، ص 148-149، القسم الثانی فیما أخرج من الإجماع وهو منه.
2- (2) اختیار معرفة الرجال للشیخ الطوسی: ص 6.

معهم عبر التاریخ إلاّ وینتهی إلی نتیجة مفادها: أنّ هناک حثّاً واضحاً من قِبل الأئمّة - لاسیّما بعد الإمام الحسین علیه السلام - لشیعتهم بضرورة الکتمان والسرّیة فی حرکتهم، وکان من جملة آثار هذا العمل أن استطاعوا أن یصلوا بأتباعهم إلی سِدّة الحکم الأموی والعباسی، أمثال علی بن یقطین ویونس بن عبد الرحمن وآخرین. یقول الإمام موسی بن جعفر علیه السلام لعلی بن یقطین:

«یا علی؛ إنّ لله تعالی أولیاء مع أولیاء الظلمة لیدفع بهم عن أولیائه، وأنت منهم یا علی»(1).

ومن طریف ما قرأتُ فی هذا المجال روایة عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نقلها الشیخ الصدوق عن الإمام الحسن العسکری علیه السلام فی حدیث طویل: «إنّ الله تبارک وتعالی أوحی إلی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنّی قد أیدتُک بشیعتین: شیعة تنصرک سرّاً وشیعة تنصرک علانیةً، فأمّا التی تنصرک سرّاً فسیّدهم وأفضلهم عمّک أبو طالب، وأمّا التی تنصرک علانیة فسیّدهم وأفضلهم علی بن أبی طالب، ثمّ قال: وإنّ أبا طالب کمؤمن آل فرعون یکتم إیمانه»(2).

ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فی هذه الروایة یوسّع من دائرة المنهج الذی اتّخذه أئمّة أهل البیت علیهم السلام فی رعایة الحالة السرّیة فی حرکة أشیاعهم وأتباعهم فی داخل الأمّة، حتی جعله صلی الله علیه و آله و سلم منهجاً إلهیّاً مرسوماً من قِبل السماء منذ بدایة هذه الدعوة الإسلامیة، وما أشبه واقع أبی طالب ومظلومیته مع واقع زهیر بن القین ومظلومیته،

ص:105


1- (1) رجال الکشی: ص 367.
2- (2) الغدیر: ج 7، ص 395.

فکلٌّ منهما ظَلَمَهُ التاریخ - منحرفاً عن رسول الله وأهل بیته - مع عظیم ما قدّم للإسلام وجلیل ما ضحّی به من أجله، ومِن هنا نجد التشبیه النبوی والحسینی لهما بأنّهما کمؤمن آل فرعون یکتم إیمانه.

رابعاً: زهیر بن القین یروی زواج علی علیه السلام من أمّ البنین
اشارة

یُروی أنّ زهیر بن القین أتی إلی عبد الله بن جعفر بن عقیل قبل أن یُقتل، فقال: یا أخی، ناولنی هذه الرایة، فقال له عبد الله: َوَفِیّ قصور عن حَمْلها، قال: لا ولکن لی بها حاجة، قال: فدفعها إلیه وأخذها زهیر وأتی تجاه العباس ابن أمیر المؤمنین، وقال: یا بن أمیر المؤمنین، أرید أن أحدّثک بحدیث وعیتُه، فقال: حدِّث، فقد حلا وقت الحدیث، حدّث ولا حرج علیک، فإنّما تروی متواتر الإسناد.

فقال:

اعلم یا أبا الفضل أنّ أباک أمیر المؤمنین علیه السلام، لَمّا أراد أن یتزوّج بأمّک - ُمّ البنین - بعث لأخیه عقیل وکان عارفاً بأنساب العرب، فقال له: یا أخی، أرید منک أن تخطب لی امرأة من ذوی البیوت أو الحسب والنسب والشجاعة؛ لکی أصیب منها ولداً یکون شجاعاً وعضداً ینصر ولدی هذا، وأشار إلی الحسین علیه السلام لیواسیه فی طفّ کربلاء، وقد ادّخرک أبوک لمثْل هذا الیوم فلا تقصّر عن حلائل أخیک وعن إخوانک، قال: فارتعد العباس وتمطّی فی رکابه حتی قطّعه، وقال یا زهیر: تشجّعنی فی مِثْل هذا الیوم، والله لأرینّک شیئاً ما رأیتَه قط»(1).

ص:106


1- (1) أسرار الشهادة للدربندی: ص 234. بطل العلقمی للمظفّر: ج 1، ص 120.
ولنا علی هذه الروایة مجموعة من النقاط

1 - إنّ هذه الروایة تدلّ وبشکل واضح وصریح - وهذا ما نحن بصدد إثباته - أنّ زهیراً لم یکن فی هوی غیر هوی أهل البیت علیه السلام، حیث یبدو أنّه - من خلال الروایة - کان واعیاً وملتفتاً إلی کربلاء وما سوف یجری فیها من قَتْل للحسین علیه السلام وأهل بیته، بل وکان ملتفتاً حتی إلی التحضیرات التی تُقام من أجل هذه الواقعة، من قبیل تهیئة أصحابها وشخصیاتها.

وهذا ما لیس یخفی علی کلّ مَن اطّلع علی کتب صحاح المسلمین وغیرها، حیث سیجد أنّ هناک روایات تُعدّ بالعشرات إن لم نقل بالمئات تحدّثتْ عن کربلاء وما یحصل فیها وتحدید المجرم، بل والمکان الذی یتمّ قَتْل الحسین علیه السلام فیه، وما حدیث القارورة التی روتْها أُمّ سلمة فی صحاح المسلمین(1) عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلاّ واحد من عشرات الروایات فی هذا المجال.

2 - حرص زهیر بن القین علی أداء المهمّة التی دعا إلیها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والأئمّة من بعده، من خلال الوقوف إلی جانب الحسین والقتل بین یدیه، وقد

ص:107


1- (1) تقول أم سلمة: (کان الحسن والحسین یلعبان بین یدی النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی بیتی فنزل جبرئیل فقال: یا محمد، إنّ أمّتک تقتل ابنک هذا من بعدک، فأومأ بیده إلی الحسین، فبکی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وضمّه إلی صدره، ثمّ قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «ودیعة عندک هذه التربة، فشمّها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقال: ریح کرب وبلاء»، قالت: وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «یا أمّ سلمة، إذا تحوّلت هذه التربة دماً فاعلمی أنّ ابنی قد قُتل»، فجعلتها أمّ سلمة فی قارورة ثمّ جعلت تنظر إلیها کلّ یوم وتقول: إنّ یوماً تتحوّلین فیه دماً لیوم عظیم)، الطبرانی فی المعجم الکبیر: ج 3، ص 108. مجمع الزوائد: ج 9، ص 189. الخصائص الکبری للسیوطی: ج 2، ص 152.

یُری ذلک واضحاً من خلال ذهابه (رض) إلی العباس وطلبه منه أن یثبت مع أخیه ویحمی حرائر النبوّة وعقائل الإمامة، وتذکیره بأنّه مدّخر لمثل هذا الموقف.

ویبدو أنّ هذا الحرص لم یکن ولید منطقة زرود ولقاء الحسین علیه السلام به، بل هو قدیم بقدم الروایة التی وعاها زهیر بن القین، أی بعبارة أخری: کان زهیر یحمل فی نفسه کلّ هذه المشاعر بالرغبة فی الشهادة بین یدی الحسین علیه السلام قبل کربلاء بأکثر من 35 سنة، ومن هنا أری أنّ روایة زرود وما یُنقل فیها من تذکیر الحسین له بحدیث سلمان لا یتناسب مع الروایات الأخری، التی تؤکّد أنّ الرغبة للشهادة کانت قبل لقاء الحسین علیه السلام.

نعم، ربّما کان هذا اللقاء هو لقاء تنفیذ هذه الرغبة وإعلان الانتقال الحقیقی إلی رکب الشهادة الحسینیة.

3 - تکشف هذه الروایة عن عمر الشهید زهیر بن القین (رض)؛ لأنّه فی حدیثه للعباس قال له: (أحدّثک بحدیث وعیته)، والوعی المتصوّر له هو أن یکون عمره بین (12-14) سنة حتی یتناسب معها فی أن یعی مثل هذه الروایة والأهداف منها، وأن تبقی عالقة فی ذهنه.

وبما أنّ الرواة قالوا بأنّ زواج الإمام علی علیه السلام من أمّ البنین (رض) فی سنة (23-24) ه -؛ لأنّ ولدها الأکبر وهو العباس کان عمره یوم عاشوراء 35 سنة تقریباً، فإذا ما رجعنا إلی الوراء سنجد أنّ الولادة حصلت فی سنة (29) ه -(1) ،وإذا

ص:108


1- (1) العباس للسید المقرّم: ص 127. السیرة النبویة لابن کثیر: ج 4، ص 581. الکنی والألقاب للقمّی: ج 1، ص 115.

ما طرحنا سنة الحمل والسنتان بعد الزواج علی أکثر التقادیر، فلا مناص من القول إنّ الزواج حصل سنة (23-24) ه - تقریباً، وحتی یعی الشخص مثل هذا الزواج وینقله لابدّ أن یکون عمره کما قدّرنا (12-14) سنة، فتکون سنة ولادته (10) ه - أو بعدها بقلیل.

4 - مشارکة الشهید زهیر بن القین (رض) للحوراء زینب فی روایة زواج الإمام علی علیه السلام من أمّ البنین (رض)، حیث ذکر بعضهم حدیثاً جری بین العباس وبین أخته زینب، وذلک بعد رجوعه من محادثة الشمر وقد أنکر علیه رافضاً أمانه الذی جاء به له ولإخوته، قال: ورجع أبو الفضل العباس علیه السلام یتهدرس کالأسد الغضبان، استقبلتْه الحوراء زینب وقد سمعت کلامه مع الشمر، قالت له: أخی، أحدّثک بحدیث؟

قال: حدّثینی یا زینب، لقد حلا وقت الحدیث، قالت: اعلم یا بن والدی، لمّا ماتتْ أُمّنا فاطمة علیها السلام قال أبی لأخیه عقیل: أرید منک أن تختار لی امرأة من ذوی البیوت والشجاعة حتی أصیب منها ولداً ینصر ولدی الحسین بطف کربلاء، وقد ادّخرک أبوک لمثل هذا الیوم، فلا تقصّر یا أبا الفضل، فلمّا سمع العباس علیه السلام کلامها تمطّی فی رکاب سرجه حتی قطعهما، وقال لها: ُخیة، أفی مثل هذا الیوم تشجّعینی وأنا ابن أمیر المؤمنین؟! فلمّا سمعتْ کلامه سُرّتْ سروراً عظیماً»(1).

5 - وصفَ العباس علیه السلام زهیر بن القین (رض) بالعدالة بأعلی صورها وأجملها حینما قال له: إنّما تروی متواتر الأسناد، وهذا إن دلّ علی شیء فإنّما یدلّ

ص:109


1- (1) ثمرات الأعواد للسید علی الهاشمی: ج 1، ص 167-168.

علی أنّ الشهید کان محلّ اعتماد ووثاقة عند أهل البیت علیهم السلام، لاسیّما الحسین علیه السلام؛ وذلک لأنّ العباس علیه السلام لا ینطق إلاّ بما یتلاءم مع فَهْم أهل البیت علیهم السلام بشکل عام والحسین بشکل خاص، فلا یمکن أن یصف أحداً بأنّه یروی متواتر الأسناد وهو یروی إلی فترة وجیزة من عمره علی وفق رؤیة خاطئة کان یعتقدها فی مظلومیة عثمان، وعلیه فیکون هذا المقطع ممّا یؤیّد علویّة هذا الرجل لا عثمانیّته.

خامساً: زوجة الشهید زهیر وغلامه وتکفین الحسین علیه السلام

ینقل ابن عساکر فی ترجمة الإمام الحسین علیه السلام فی القسم غیر المطبوع قوله: (وکان زهیر بن القین قد قُتل مع الحسین علیه السلام، فقالتْ امرأته لغلام له یُقال له شجرة: انطلق فکفّن مولاک، قال: فجئتُ فرأیتُ حسیناً ملقی، فقلتُ: أکفّن مولای وأدع حسیناً؟!

فکفّنتُ حسیناً ثمّ رجعت، فقلتُ ذلک لها فقالت: أحسنت، وأعطتنی کفناً آخر وقالت: انطلق فکفّن مولاک ففعلتُ)(1).

ولنا علی هذه الروایة مجموعة من النقاط:

1 - إنّ هذه الروایة لتدلّک وبشکل واضح أنّ الشهید زهیر بن القین حینما انتقل إلی الحسین علیه السلام لم یکن ذلک بمفرده، بل کانت هناک مجموعة من الناس قد انتقلوا معه والذین من جملتهم ابن عمّه سلیمان بن مضارب البجلی، أحد

ص:110


1- (1) مجلّة تراثنا: العدد 10، ص 190، نقلاً عن کتاب ابن عساکر فی ترجمة الإمام الحسین علیه السلام فی القسم غیر المطبوع.

الشهداء الکربلائیین، وکذلک غلامه شجرة وزوجته دیلم بنت عمرو، وهذا الأمر یشیر ضمناً أنّ الشهید زهیراً کان حریصاً علی جلْب أکبر عددٍ ممکن من الناس للوقوف إلی جانب الحسین علیه السلام فی حرکته، رائده وقائده فی ذلک ولاؤه للحسین علیه السلام وآل الحسین علیه السلام، وهذا ما نرید إثباته.

2 - هذه الروایة تشیر أیضاً إلی تشیّع زوجة الشهید زهیر بن القین (رض)، وإلی جَلَدِها فی سبیل الدفاع عن أهل البیت علیهم السلام وخطّهم، حیث أبتْ علی نفسها إلاّ المجیء مع زوجها إلی کربلاء مع علمها ومعرفتها المسبقة بأنّ مثل هذا الانتقال إلی رَحْل الحسین علیه السلام والمجیء معه إلی کربلاء سیؤدّی - لا شکّ - إلی الشهادة لزوجها، وهذا ما أکّدتْه وبشکل واضح حینما قالت له: (خار الله لک، اذکرنی عند جدّ الحسین علیه السلام یوم القیامة)(1).

ولکنّها - ومع کلّ هذا - آلت علی نفسها إلاّ المشارکة مع السیّدة زینب وبنات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فی مصائبهنّ، وممّا لا شکّ ولا ریبَ فیه أنّ هذا الذی تذکره الروایة عن امرأة زهیر بن القین وحضورها فی کربلاء هو خلاف المشهور والمتّفق علیه - علی أقل التقادیر - عند مَن تحدّث عن زوجة الشهید زهیر، وأنّه طلّقها وأمرها بالعودة إلی أهلها، وقال لها: إنّی لا أحبّ أن یصیبک بسببی إلاّ خیر.

وربّما تکون روایة ابن عساکر عن هذه المرأة هی الأقرب إلی واقع إیمانها وواقع قولها وعملها الذی صدر منها (رض)، فإنّها کانت الحاثّة لزوجها والدافعة له إلی الشهادة بین یدی الحسین علیه السلام، بل والطالبة منه أن یذکرها عند رسول

ص:111


1- (1) أدب الطف: ج 8، ص 169.

الله صلی الله علیه و آله و سلم لمّا قدمت وتحمّلت فی سبیل الله، ومن ثم فإنّ مَن تقول بمقالتها لابدّ أنّها قد هیّأت نفسها للمشارکة الحقیقیة إلی جانب الحسین، لا أن تترک زوجها یذهب وتبقی بعده بلا مواساة حقیقیة.

3 - تکشف هذه الروایة عن غلام زهیر بن القین (شجرة) فتسلّط الأضواء علیه بشکل مُلفت للنظر، وهو الذی أعطی صورة فی أعلی درجات الولاء لأبی عبد الله الحسین علیه السلام کما یقول الراوی، حیث أبتْ علیه مُثُل الولاء وقِیَمُه - التی أخذها وتعلّمها من سیّده الموالی زهیر بن القین وزوجته الموالیة (دلهم بنت عمرو) - أن یری الحسین علیه السلام مجرّداً بلا کفن علی رمضاء کربلاء تصهره الشمس بحرارتها فیترکه ویذهب لیکفّن سیّده ومولاه زهیر بن القین، وهو العبد الذی ینبغی أن یکون مطیعاً لأسیاده فیما یأمرونه فیه.

ولهذا نراه بعد أن اطّلع علی هذه الصورة تحرّک سریعاً ضمن دائرة هذه التربیة الإیمانیة الولائیة العالیة التی أخذها عن أسیاده فی حبّ أهل البیت علیهم السلام ومودّتهم، قد تحرّک فاتّخذ القرار بتکفین الحسین علیه السلام وترک سیّده بلا کفن حتی من دون أن یأخذ الإذن من زوجة الشهید.

وبعبارة أخری أکثر وضوحاً: إنّ (شجرة) حینما علم وتیقّن بصحّة عمله وقبوله عند زوجة الشهید، قام بعمله من دون أن یرجع إلیها، فکأنّه أخذ الأذن بالفحوی، وهذا ما حصل فعلاً، حیث رجع إلیها وأخبرها بالخبر وبما صنع، فشکرتْه علی فعله وقالتْ له: (أحسنت)، وهی کلمة بتقدیری تعنی ضمناً أنّ ما صنعه «(شجرة) هو عین الصواب، وکلّ شیء عداه سیکون خلاف هذا الصواب،

ص:112

ثمّ قدّمت له کفناً آخر وأَمَرَتْه بتکفین زهیر بن القین ففعل ثانیاً.

ولقد وقفتُ أمام هذه الصورة الولائیة الرائعة التی صنعها هذا الغلام، وتأمّلتُها کثیراً، فرأیتُ أنّ مثل هذا الموقف یمکن أن یکون عنصر إثارة کبیرة جدّاً لکلّ الأدباء والشعراء، بل وحتی أرباب الفن والمسرح؛ لعظیم ما تضمّنه من تهییج للمشاعر والعواطف الإنسانیة والإحساس المرهف الذی یحمله الناس بین جَنَبَات أنفسهم.

فإذا لم یکن مثل هذا الموقف دالاًّ - وبشکل واضح - علی تشیّع الغلام فضلاً عن سیّده زهیر بن القین وزوجته، فأیّ صورة وموقف یمکن أن یکشف لنا عن التشیّع ویمکن أن یرقی إلی هذا المستوی الممیّز من التفاعل مع أهل البیت علیهم السلام.

4 - وقد یقول قائل: إنّ هذه الروایة تخالف ما ذکرتْه الروایات الأخری، بأنّ الذی تولّی تجهیز الإمام الحسین علیه السلام وتکفینه هو ولده زین العابدین علیه السلام، فما تقولون؟

نقول: إنّ ما ذکرتْه مثل هذه الروایات لا یتنافی مع ما ذکرتْه روایة ابن عساکر، حیث یمکن حَمْلها علی المساعدة والمشارکة فی عملیة التجهیز للإمام الحسین علیه السلام مع الإمام زین العابدین ولیس بشکل مستقل، نظیر لِمَا حصل وجری مع بنی أسد فی تجهیزهم لشهداء الطف، لاسیّما الحسین علیه السلام، حیث یذهب - علی أساس الرأی الأصحّ - المشهور من العلماء إلی أنّ بنی أسد شارکوا الإمام فی تجهیز الحسین علیه السلام وبقیّة الشهداء؛ جمعاً بین الروایات.

ص:113

أو أن یکون التکفین قد حصل مرّتین، مرّة علی ید شجرة ومرة أخری علی ید الإمام زین العابدین علیه السلام، مثلما کان یجری مثل هذا الأمر وحسب الروایات مع أئمّة أهل البیت علیهم السلام، حین کان الشهید منهم یُجهَّز من قِبل بعض الناس ظاهراً، وأمّا واقعاً فکان یُجهّز من قبِل المعصوم الذی کان یلیه، ومن ثم فلا تنافی بین الروایات.

إشارة لابد منها:

وبعد هذه الإطلالة السریعة علی کلّ من الرأیین السابقین اللّذین ذکرهما العلماء حول عثمانیة الشهید زهیر بن القین وعدمها، یبقی الموقف الحق والعظیم الذی ختم الشهید حیاته به هو رمزاً لکلّ المواقف الحقّة والعظیمة، التی ترفع شأن الإنسان فی هذه الحیاة والحیاة الأخری، بغضّ النظر عمّا کان یعتقد فیما مضی، فأساس الأعمال خواتیمها کما نقل عن السید المسیح(1).

ولقد بذلتُ جهداً لیس بالقلیل من أجل أن أعطی کلّ رأی ما یستحقّه من تسلیط للأضواء علی العظات والعِبَر المترتبة علیه، وإن کنتُ أمیل أنا شخصیاً - حسب ما تتبّعتُ ممّا کُتب أو قِیل حول هذا الموضوع - إلی الرأی الثانی، وهذا ما یمکن أن یتلمّسه القارئ لمّا کتبتُ حول کلٍّ من الرأیین، ولکنّ هذا لا یعنی - بأیّ حال من الأحوال - التقلیل من شأن الرأی الأوّل (معاذ الله)، فقد ذهب إلیه جُلّ علمائنا، رحم الله الماضین منهم وحفظ الباقین. وأخیراً، یبقی للرأی حرمته ویبقی الباحث هو ابن الدلیل الذی حیث ما مال یمیل.

ص:114


1- (1) ذکر المجلسی فی بحاره: ج 14، ص 322: أنّ السید المسیح قال: «الناس یقولون إنّ البناء بأساسه، وأنا لا أقول لکم کذلک، قالوا: فما تقول یا روح الله؟ قال: بحق أقول لکم إنّ آخر حجر یضعه العامل هو الأساس».

الحسین علیه السلام یخبر الشهید زهیر بمقتله علیه السلام

اشارة

روی محمد بن جریر الطبری فی کتابه (دلائل الإمامة) بسنده عن عمارة بن زید عن إبراهیم بن سعید(1) ، وکان هو مع زهیر بن القین حین صحب الحسین، فقال لزهیر بن القین: «اعلم أن ها هنا مشهدی، ویحمل هذا من جسدی (وأشار إلی رأسه) زحر بن قیس فیدخل علی یزید ویرجو نائله فلا یعطیه شیئاً»(2).

وکان کما أخبر الحسین علیه السلام

یقول صاحب البدایة والنهایة: (قال هشام: فحدّثنی عبدُ الله بن یزید بن روح بن زنباع الجذامی عن أبیه الغازی بن ربیعة الجرشی من حمیر، قال: والله، إنّی لعند یزید ابن معاویة إذ أقبل زحر بن قیس، فدخل علی یزید، فقال له یزید: ویلک، ما وراءک؟

قال: أبشر یا أمیر المؤمنین بفتح الله علیک ونصره، ورد علینا الحسینُ بن علی ابن أبی طالب وثمانیة عشر من أهل بیته وستون رجلاً من شیعته، فسِرْنا إلیهم فسألناهم أن یستسلموا وینزلوا علی حکم الأمیر عبید الله بن زیاد أو القتال، فاختاروا القتال، فغدونا علیهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من کلّ ناحیة، حتی أخذتْ السیوف مأخذها من هام القوم، فجعلوا یهربون إلی غیر مهرب ولا وزر، ویلوذون بالآکام والحفر، ولوذاً کما لاذ الحَمَام من صقر(3) ، فوالله، ما کان إلاّ

ص:115


1- (1) دلائل الإمامة لأبی جعفر الطبری: ص 74. إثبات الهداة: ج 5، ص 206، ح 67.
2- (2) هو إبراهیم بن سعید المدنی الزّهری، عدّه الشیخ الطوسی من رجال الإمام الصادق علیه السلام وأنّه کان إمامیاً.
3- (3) لیس غریباً علی زحر بن قیس الذی یرضی بخلافة یزید وبإمرة الدعی بن الدعی عبید الله بن مرجانة أن یکذب مثل هذه الکذبة العظیمة علی أصحاب أبی عبد الله الحسین، وهم أسود الحروب، وقد وصفهم مَن قاتلهم بأنّهم (فرسان المصر) (ولو ترکناهم لأتوا علینا جمیعاً).

جزر جزور أو فوقه، حتی أتینا علی آخرهم فهاتیک أجسادهم مجرّدة، وأبدانهم مرمّلة، وخدودهم معفّرة، تصهرهم الشمس، وتسفی علیهم الریح، زوّارهم العقبان والرخم.

قال: فدمعتْ عینا یزید بن معاویة(1).

وقال: کنتُ أرضی من طاعتکم بدون قَتْل الحسین علیه السلام، لعن الله ابن مرجانة، أَمَا والله لو أنّی صاحبه لعفوتُ عنه، ورحم الله الحسین، ولم یصل زحر بن قیس بشیء)(2).

شهادة زهیر بن القین

لأصحاب أبی عبد الله الحسین علیه السلام حملة کبری حصلت عند ارتفاع نهار یوم عاشوراء، حیث اشترکوا جمیعاً فیها وأبلوا بلاءً حسناً حتی جُرح فیها أکثرهم، وبعد أن بان النقص فیهم بدأوا یبرزون وحداناً أو علی شکل مجامیع صغیرة.

وعندما خرج الحرّ بن یزید الریاحی للقتال والحرب، خرج زهیر بن القین یحمی ظهره، فکان إذا شدّ أحدهما واستلحم شدّ الآخر فاستنقذه، وظلّوا علی هذا الحال مدة من الزمن حتی قَتلوا عدداً کبیراً من جنود ابن زیاد وعمر بن سعد، إلی أن سقط الحرّ شهیداً علی رمضاء کربلاء، عندها خرج زهیر بن القین مُصْلِتاً سیفه لقتال القوم.

ص:116


1- (1) کذباً من الراوی أو المؤرّخ، أو نفاقاً من یزید بن معاویة.
2- (2) البدایة والنهایة: ج 12، ص 556-557.

وقت الشهادة

لقد کانت شهادة زهیر بن القین بعد الظهر بمدة وجیزة من الزمن، حیث أبی أن یستشهد حتی یری ابن عمّه الملتحق به أنّه قد سار علی خطّه وسیرته وثبت فی نصرة الحسین علیه السلام، وهذا ما کان الأولیاء یصنعونه دائماً مع ذرّیّاتهم والمقرّبین لهم فی مثل هذه الظروف، کما حصل فی یوم عاشوراء مع أبی الفضل العباس، عندما قدّم إخوته أمامه وهو یقول لهم:

«تقدّموا حتی أراکم نصحتُم لله ولرسوله»(1).

والتفت إلی أخیه عبد الله وقال:

«تقدم یا أخی؛ حتی أراک قتیلاً وأحتسبک»(2).

ونفس هذا المعنی صنعه عابس بن شبیب الشاکری مع شوذب(3) ، حیث قال له: (یا شوذب، ما فی نفسک أن تصنع؟

قال: ما أصنع؟ أُقاتل معک دون ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتی أُقتل.

فقال: ذلک الظنّ بک، أمّا الآن فتقدّم بین یدی أبی عبد الله حتی یحتسبک کما احتسب غیرک من أصحابه، وحتی أحتسبک أنا، فإنّه لو کان معی الساعة أحدٌ أنا أولی به منّی بک، لَسرّنی أن یتقدّم بین یدیّ حتی أحتسبه، فإنّ هذا یوم ینبغی لنا أن نطلب الأجر فیه بکلّ ما نقدر علیه، فإنّه لا عمل بعد الیوم وإنّما هو الحساب)(4).

ص:117


1- (1) الإرشاد: 269.
2- (2) مقاتل الطالبیین: ص 82.
3- (3) بغض النظر عن کونه مولی له أو لم یکن.
4- (4) تاریخ الطبری: ج 3، ص 339.

وداع زهیر للحسین علیه السلام وشهادته

وبعد أن تقدّم زهیر بن القین إلی القوم بوعظه وإرشاده ونُصحه لهم بقدر ما یستطیع لعلّهم یرجعون عن غیّهم فأبَوا إلاّ الضلال، نزل إلیهم بسیفه یمسکه بیده ولواء العزّة والرفعة یرفرف فوق رأسه، وقبل أن یتوجّه إلی الأعداء ذهب إلی الحسین علیه السلام وقد أمسک سیفَه بیدٍ ووضع الأخری علی منکب الحسین علیه السلام قائلاً له ومستأذناً منه:

أقدِم هدیت هادیاً مهدیّا فالیوم ألقی جدّک النبیّا

وحسناً والمرتضی علیّا وذا الجناحَین الفتی الکُمیّا

فقال له الحسین علیه السلام:

«وأنا ألقاهما علی إثرک».

فتقدّم إلی القوم وقاتل قتالاً لم یُرَ مثله وهو یحمل علی القوم ویرتجز قائلاً:

أنا زهیرٌ وأنا ابنُ القینِ أذُودُکُم بالسَّیفِ عنْ حُسَیْنِ

إنّ حسیناً أحدُ السبطَینِ مِن عترةِ البِرّ التَّقی الزَّیْنِ

فحصد العشرات من رؤوس الشرک والضلال حتی أُرهق من شدّة القتال، فتربّص به غادران وهما: کثیر بن عبد الله الشعبی، والمهاجر بن أوس فقتلاه(1).

ص:118


1- (1) أعیان الشیعة: ج 7، ص 71-72.

ویروی القندوزی فی (ینابیع المودّة): (إنّ زهیر بن القین حینما صار یوم عاشوراء قال لأصحابه قبل أن ینزل إلی ساحة المعرکة، حاثّاً لهم علی التمسّک والثبات والاستبشار بالجنّة:

«یا قوم، هذه الجنّة قد فتحت أبوابها وأَیْنَعَتْ ثمارُها، وهذا رسول الله والشهداء یتوقّعون قدومنا، فحاموا عن دینِ اللهِ واحفظوا حُرَمَ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم».

ثمّ برز وهو یقول:

أَقْدِمْ حُسَیْنُ الیَوْمَ تَلْقَی أَحْمَدَا ثُمَّ أَبَاکَ الطَّاهِرَ المُؤَیَّدَا

وَالْحَسَنَ المَسْمُومَ ذَاکَ الأُمَجَّدَا وَذَا الجَنَاحَیْنِ حَلِیْفَ الشُّهَدَا

وحمزةَ اللیثَ الهُمامَ الأسْعَدا فی جنّةِ الفردوس عاشوا سُعَدَا)(1)

یقول ابن شهر آشوب: (فقتل منهم (120) رجلاً ثمّ رجع فوقف أمام الحسین علیه السلام وقال له:

فَدَتْکَ نفسی هادِیَاً مَهْدِیّا فَالیومَ أَلْقَی جَدَّکَ النَّبِیَّا

وَحَسَنَاً والمُرْتَضَی عَلِیَّا وَذَا الجَنَاحِیْنِ الشَّهِیْدَ الحَیَّا

فکأنّه ودّعه وعاد یقاتل، فشَدّ علیه کثیر بن عبد الله الشعبی ومهاجر بن أوس التمیمی فقتلاه)(2).

ص:119


1- (1) ینابیع المودّة للقندوزی: ج 3، ص 72، تحقیق سید علی جمال أشرف الحسینی.
2- (2) أعیان الشیعة: ج 2، ص 72. تاریخ الطبری: ج 3، ص 328 بتفاوت یسیر.

الحسین علیه السلام یؤبّن الشهید زهیراً

روی السروی فی المناقب: (لمّا صُرعَ زهیر بن القین وقف الحسین علیه السلام علیه فقال:

«لا یبعدنّک الله یا زهیر، ولعن الله قاتلیک لَعْنَ الذین مُسِخُوا قردةً وخنازیر»)(1).

وفی هذا التأبین یتلمس الإنسان أَلَمَ الحسین علیه السلام علی زهیر وغضبه علی قاتلیه الذین شبّههم بالیهود، حیث مُسِخوا من الإنسانیة ومعانیها الجلیلة، وفی هذا یقول الشیخ محمد السماوی:

لاَ یُبْعِدَنْکَ اللهُ مِنْ رَجُلٍ وَعَظَ العِدَی بِالوَاحِدِ الأَحَدِ

ثُمَّ انْثَنَی نَحْوَ الخَمِیْسِ فَمَا أَبْقَی لِدَفْعِ الضَّیْمِ مِن أَحَدِ

وتمرّ اللیالی والسنون فیأتی الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف لیستذکر موقف زهیر فی زیارته الشریفة لشهداء الحسین علیه السلام بقوله:

«السلام علی زهیر بن القین البجلی، القائل للحسین علیه السلام وقد أذن له فی الانصراف: لا والله، لا یکون ذلک أبداً، أترک ابن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أسیراً فی ید الأعداء وأنجو أنا؟! لا أرانی الله ذلک الیوم»(2).

ونحن نقول: هنیئاً لک یا زهیر هذا التأبین وهذا الإطراء، وهذا الخلود الذی صنعتَه لک یوم عاشوراء، حیث حلّقت مع الحسین علیه السلام فی أعلی مراتب الجنّة، فسلام علیک یوم وُلدت ویوم استُشهدت ویوم تُبعث حیّاً.

ص:120


1- (1) المناقب: ج 4، ص 103.
2- (2) بحار الانوار، ج 98، ص 272.

الشهید أنس بن الحارث بن نبیه الکاهلی علیه السلام

المقدمة

اشارة

لا یبالغ الإنسان إذا ما قال بأن ما جری فی واقعة کربلاء وما نتج عنها یمثل خلاصة الأدیان والرسالات التی بعثها الله عز وجل، فقد حققت هذه المعرکة بکل عزّ وافتخار حلم الأنبیاء جمیعاً وجسدت إرادة الله سبحانه وتعالی فی الأرض.

تجسّد مفهومان کبیران فی کربلاء وحتی یتقرب هذا المعنی المهم أکثر إلی الذهن أشیر هنا إلی مفهومین أساسیین دعا إلیهما الأنبیاء جمیعاً وتجسدا فی کربلاء وهما:

أولاً: العدل

حیث لا تجد نبیاً بعثه الله عز وجل إلا وقد دعا وناضل من أجل إقامة العدل ورفع الظلم والجور عن الناس حتی أعطوا نفوسهم رخیصة فی هذا الطریق کما هو واضح من خلال الرجوع إلی تأریخهم علیهم السلام، ولقد أشار القرآن الکریم إلی ذلک بقوله:

«لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَیِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْکِتابَ وَ الْمِیزانَ لِیَقُومَ

ص:121

النّاسُ بِالْقِسْطِ 1» .

ونحن نفهم من هذه الآیة الکریمة کما هو واضح أنّ العدل کان مطلب جمیع الأنبیاء والمرسلین بل کان هو المطلب الأسمی والأهم بنظر السماء، ویکفی فی التدلیل علی أهمیته هو الرجوع إلی ما ذکرته النصوص الإسلامیة عند علماء المسلمین، فی خصوص الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف وخروجه فی آخر الزمان حتی ولو لم یبق من الدنیا إلا یوم واحد، کل ذلک من أجل أن یملأها قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجورا(1).

ومثل هذا المفهوم قد تجسد فی کربلاء فی أعلی صوره وأشکاله، فقد وقف الحسین علیه السلام والثلة المؤمنة من أهل بیته وأنصاره یوم العاشر من المحرم وقدموا کل غال ونفیس من أجل أن یثبّتوا العدل وینشروه ویوقفوا الظلم ویبتروه.

ثانیاً: التسلیم لله

ولقد أشار القرآن الکریم إلی هذا المعنی فی أکثر من موضع لاسیما وهو یتحدث عن الأنبیاء وسیرتهم، یقول القرآن وهو یتحدث عن إبراهیم علیه السلام:

«إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِینَ 3» .

ویقول کذلک وهو یتحدث عن وصیة یعقوب لبنیه:

ص:122


1- (2) مضمون أحادیث کثیرة وردت فی حق الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف وخروجه، معجم أحادیث المهدی: ج 1، ص 104.

«أَمْ کُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ یَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِیهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِی قالُوا نَعْبُدُ إِلهَکَ وَ إِلهَ آبائِکَ إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 1» .

وهکذا مع بقیة الأنبیاء والمرسلین بل لقد اختصر الباری عز وجل الدین کله بالإسلام بقوله:

«إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ 2,3» .

وقد تجسد مثل هذا المعنی العظیم فی کربلاء بدرجة قلّ مثیلها، حیث کان جمیع من حضر فی کربلاء مسلماً لله نفسه ومفوضاً إلیه فی أمره، راضیاً بکل ما نزل به أنه بعین الله عزّ وجلّ، بل کانوا من المستأنسین بالمنیة بین یدی الله سبحانه وتعالی.

وهکذا مفاهیم الإخلاص والصبر والتضحیة والعمل الصالح والإباء والعزة والکرامة وما إلی ذلک دعا إلیها الأنبیاء وتجسدت فی کربلاء.

من هنا نفهم أنّ کربلاء ما کانت فی یوم من الأیام منذ أن حصلت منحصرة فی بقعتها التی جرت علیها ولا حتی برجالها العظام الذین سطروا أعظم الملاحم الإیمانیة فیها، بل إن کربلاء تمتد بعدلها ومبدئیتها وقیمها العالیة إلی أرجاء کل الدنیا فی کل زمان ومکان، فقد حمل مشعل کربلاء هادیاً ومسترشداً له حتی من

ص:123

کانوا خارج الدائرة الإسلامیة أمثال غاندی الذی قال: «تعلمت من الحسین أن أکون مظلوماً فأنتصر»(1) ، وغیره کثیر.

وربّما مثل هذا الأمر هو الذی یفسر لنا عمومیة الشهداء الذین وقفوا إلی جانب الحسین حتی ضرّجوا بدمائهم (رض)، فقد کان المسیحی إلی جانب المسلم والخارجی إلی جانب الموالی والأسود إلی جانب الأبیض والأحرار إلی جانب العبید والعربی إلی جانب الأعجمی والرجال إلی جانب النساء وکان الشیبة وکبار السن إلی جانب الشباب والصبیان بل وحتی الرضع، کل هذا من أجل أن یقولوا لنا جمیعاً حاولوا أن تقرأونا ککتلة واحدة من دون أن تنظروا إلی تفاصیل کل واحد منا فقد وسعتنا کربلاء بکل أطیافنا وعلیکم أن تفهموا کربلاء کما فهمناها حتی تسعکم کما وسعتنا.

بین یدی الشهید أنس (رض)

لقد کان من جملة خصائص الشهداء کما تقدم قبل قلیل هو التنوع العمری حیث وقف الشیبة وکبار السن إلی جانب الشبیبة فی بوتقة من الانصهار الإیمانی قلّ أن توجد فی غیرهم (رض)، وکان من جملة کبار السن الذین سطروا أعظم الملاحم کما سیأتی هو الشهید أنس بن الحارث بن نبیه الکاهلی (رض)، هذا الرجل الذی وقف بشیبته المبارکة مدافعاً عن الإسلام وعن إمامه علیه السلام بشکل أبکی حتی الحسین علیه السلام نفسه علیه حتی قال له: «شکر الله سعیک یا شیخ»(2).

ص:124


1- (1) من أخلاق الإمام الحسین علیه السلام، عبد العظیم المهتدی البحرانی: ص 248.
2- (2) أبصار العین: ص 56، مقتل الحسین للمقرم: ص 253.

أقوال العلماء فی حق الشهید أنس (رض)

1 - قال الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف «مخاطباً الشهید فی زیارته:

«السلام علی أنس بن کاهل الأسدی»(1).

2 - قال المامقانی: «بخٍ بخٍ لمثل هذا الرجل العظیم مثال السعادة والتوفیق ففی بدء حیاته ینال شرف الصحبة وفی خاتمة حیاته ینال شرف الشهادة فی الدفاع عن سید شباب أهل الجنة صلوات الله علیه وبعد وفاته ینال شرف التسلیم من حجة الله علی الخلق أجمعین»(2).

3 - قال ابن عبد البر: «أنس بن الحارث روی عن سلیم والد الأشعث بن سلیم عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی قتل الحسین علیه السلام وقتل مع الحسین علیه السلام رضی الله عنهما»(3).

4 - قال البخاری: «أنس بن الحارث قتل مع الحسین علیه السلام سمع النبی قاله محمد بن سعید بن عبد الملک الحرّانی»(4).

5 - قال ابن حجر: «أنس بن الحارث بن نبیه بن کاهل بن عمرو بن صعب ابن أسد بن خزیمة الأسدی الکاهلی عداده فی أهل الکوفة انتهی»(5).

6 - قال السید الأمین: «أنس بن الحارث ذکره الشیخ فی رجاله فی أصحاب

ص:125


1- (1) إقبال الأعمال لابن طاووس: 576.
2- (2) تنقیح المقال: ج 11، ص 331.
3- (3) الاستیعاب: ج 8 ص 46 رقم 44.
4- (4) الإصابة: ج 1، ص 84 رقم 266.
5- (5) أعیان الشیعة: ج 3، ص 499 (500).

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقال: ُتل مع الحسین علیه السلام»(1).

7 - قال ابن نما الحلی: «خرج أنس بن الحارث الکاهلی وهو یقول:

قَدْ عَلِمَتْ کَاهِلُهَا وَدَوْدَانِ وَالخَنْدَفِیُّوْنَ وَقَیْسُ عَیْلاَنِ

بِأَنَّ قَوْمِی قَصَمُ الأَقْرَانِ یَا قَوْمِ کُوْنُوا کَأُسُوْدِ الجَانِ

آلُ عَلِیٍّ شِیْعَةُ الرَّحْمَنِ وَآلُ حَرْبٍ شِیْعَةُ الشَّیْطَانِ»(2)

8 - قال السید المقرم: «وکان أنس بن الحارث بن نبیه شیخاً کبیراً صحابیاً رأی النبی وسمع حدیثه وشهد معه بدراً وحنیناً»(3).

قبیلة الشهید الکربلائی (کاهل)

معنی کاهل وهو الجدّ الأکبر للشهید الکربلائی، مأخوذ من کاهل البعیر وهو مقدم ظهره وهو الذی یکون علیه المحمل وقال بعضهم الکاهل من الفرس ما ارتفع من فروع کتفیه وجعل الکاهل من الإنسان ما بین کتفیه ویقال للشدید الغضب والهائج من الفحول لذو کاهل وقال الأزهری سمعت غیر واحد من العرب یقول فلان کاهل بنی فلان أی معتمدهم وسندهم فی المهمات وهو مأخوذ من کاهل الظهر؛ لأنّ عنق الفرس یتساند إلیه إذا حضر وهو محمل مقدم قربوس السرج ومعتمد الفارس علیه)(4).

ص:126


1- (1) أعیان الشیعة: ج 3، ص 499 (500).
2- (2) أعیان الشیعة: ج 3، ص 499 (500).
3- (3) مقتل المقرم: ص 352-253.
4- (4) لسان العرب: ج 13 - مادة کهل -.

وکاهل قبیلة عربیة عدنانیة أسدیة وهی من القبائل المستعربة(1) ومضی کون هذه القبیلة أسدیة أی إنها ترجع إلی أسد بن خزیمة کما ذکر ذلک ابن حزم فی جمهرة أنساب العرب بقوله:

«کاهل بن أسد بن خزیمة بن مدرکة بن إلیاس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان»(2).

ولکاهل بن أسد (جد الشهید الکربلائی) أخوة أربعة وهم ذودان بن أسد وعمرو بن أسد وصعب بن أسد وحلمة بن أسد، ومعظم بطون بنی أسد من دودان فقد أولد دودان ثعلبة وغنم(3) ، وأمّا حلمة بن أسد فأبادهم أمرؤ القیس ابن حجر الکندی الشاعر ثائراً لأبیه، وبقی منهم قلّة دخلوا فی بنی جذیمة بن مالک(4).

وقد أولد کاهل بن أسد ذریة ذکر التاریخ لنا بعضهم ومنهم:

1 - مازن بن کاهل بن أسد بن خزیمة والذی منهم علباء بن حارث بن هلال الذی یقول له امرؤ القیس:

وأفلتهنّ عَلْبَاءُ حَرِیْضَاً وَلَو أدرکته صَفِرَ الوطابُ (5)

ص:127


1- (1) مضی الحدیث حول القبائل العاربة والمستعربة فی الجز الأول من هذه الموسوعة فراجع.
2- (2) جمهرة أنساب العرب: ج 1، ص 10، الأنساب للسمعانی: ج 1، ص 138.
3- (3) خزانة الأدب: 8، 356.
4- (4) جمهرة الأنساب للکلبی: ج 1، ص 188، تحقیق ناجی حسن (طبعة بیروت).
5- (5) إکمال الکمال لابن هاکولا: ج 2، ص 24.

2 - الحزمر بن کاهل بن أسد بن خزیمة(1).

3 - صفیة بن کاهل بن أسد بن خزیمة(2).

4 - حنیفة بن کاهل بن أسد بن خزیمة(3) ، والتی لعظمتها وعظمة شخصیتها نسب إلیها ولدها ربیعة دون أبیه فکان یقال ربیعة بنو حنیفة.

5 - جد الشهید الکربلائی کما سیأتی الحدیث عنه بعد قلیل.

مسکن قبیلة بنی کاهل

سکنت هذه القبیلة کما سکن غیرهم من بطون بنی أسد فی الکوفة حیث کانت لهم خطة فیها.

یقول الطبری وهو یتحدث عن حوادث سنة 17 ه - وعن هذه الجماعات من بنی أسد: (ونهج فی الودعة من الصحن خمسة مناهج وفی قبلته أربعة مناهج وفی شرقیه ثلاثة مناهج وفی غربیه ثلاثة مناهج وعلمها، فأنزل فی ودعة الصحن سلیما وثقیفاً مما یلی الصحن علی طریقتین وهمدان علی طریق وبجیلة علی طریق آخر وتیم اللات علی آخرهم وأنزل قبلة الصحن بنی أسد علی طریق...)(4).

وکان من جملة من سکن فی هذا الموقع من قبلة الصحن قبیلة کاهل ومنهم الشهید أنس بن الحارث (رض).

ص:128


1- (1) إکمال الکمال لابن هاکولا: ج 2، ص 224.
2- (2) إکمال الکمال لابن هاکولا: ج 1، ص 224.
3- (3) إکمال الکمال لابن هاکولا: ج 1، ص 224.
4- (4) تاریخ الطبری: ج 4، ص 191.

مسجد بنی کاهل فی الکوفة

لا شکّ أنّ وجود مسجد لقبیلة أو بطن ما فی داخل الکوفة - وهی الحاضرة الإسلامیة المهمة - لیبین ثقل هذه القبیلة أو البطن بین الناس، فما بالک إذا ما عُرف مثل هذا المسجد ب - (مسجد أمیر المؤمنین)(1) ؟!

فقد نقل الشیخ محمد جعفر المشهدی فی کتابه القیم (فضل الکوفة ومساجدها) تحت هذا العنوان: (ذکر ما جاء فی مسجد بنی کاهل ویُعرف بمسجد أمیر المؤمنین علیه السلام):

(وأخبرنی الفقیه الجلیل عز الدین أبو المکارم حمزة بن زهرة الحسنی الحلبی أملاء من لفظه وأرانی المسجد وروی لی هذا الخبر عن رجاله عن الکاهلی قال: قال لی:

ألا تذهب بنا إلی مسجد أمیر المؤمنین صلوات الله علیه نصلی فیه؟ قلت: وأی المساجد هذا؟

قلت مسجد بنی کاهلة وأنه لم یبق منه سوی أسسه وأسس مئذنته، قلت حدثنی بحدیثه قال: صلی بنا علی بن أبی طالب علیه السلام فی مسجد بنی کاهلة الفجر فقنت بنا فقال:

«اللّهمّ إنا نستعینک ونستهدیک ونؤمن بک ونتوکّل علیک ونثنی

ص:129


1- (1) وإنما عرف بمسجد أمیر المؤمنین لصلاة الإمام علی علیه السلام فیه کما سیأتی، ومن مؤذنی هذا المسجد المحدث الکوفی أبو الجنوب الأسدی، سمع علیاً وروی عنه حسین بن لیمون وعیسی ابن قرطاس ذکره البخاری فی التاریخ الکبیر (کتاب الکنی والألقاب: 158).

علیک بالخیر ولا نکفرک ونخلع ونترک من ینکرک، اللّهمّ إیّاک نعبد ولک نصلّی ونسجد وإلیک نسعی ونحفد ونرجو رحمتک ونخشی عذابک إن عذابک بالکافرین یخلف، اللهم اهدنا فیمن هدیت وعافنا فیمن عافیت وتولنا فیمن تولیت وبارک لنا فیما أعطیت، وقنا شر ما قضیت، إنّک تقضی ولا یُقضی علیک، إنه لا یذل من والیت ولا یعز من عادیت، تبارکت ربنا وتعالیت، نستغفرک ونتوب إلیک، ربنا لا تؤاخذنا إن نسینا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علینا إصراً کما حملته علی الذین من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علی القوم الکافرین»)(1).

وبالإسناد عن أبی عبد الله بن یحیی الکاهلی قال: (صلّی بنا أبو عبد الله علیه السلام فی مسجد بنی کاهل الفجر فجهر فی السورتین وقنت قبل الرکوع وسلم واحدة تجاه القبلة)(2).

الاختلاف فی اسم الشهید

أطبق کل من ترجم وکتب عن الشهید الکربلائی (رض) أنه: (أنس) سوی ما ذهب إلیه بعضهم أنّه (مالک) وهو أمر فی غایة الاشتباه والخطأ کما سنتحدّث عن ذلک بعد قلیل.

ص:130


1- (1) فضل الکوفة ومساجدها: ص 24.
2- (2) فضل الکوفة ومساجدها: ص 25.

والد الشهید

ذهب الکثیرون من العلماء إلی أن والدالشهید الکربلائی هو «الحارث»(1) کما ذکر ذلک السید الأمین(2) وابن حجر(3) وابن نما الحلی(4) والشیخ شمس الدین(5) والشیخ علی النمازی(6) وآخرون(7) ، بینما ذهب البعض أنه «هزلة» کما نص علی ذلک ابن الأثیر بقوله: أنس بن هزلة وفد إلی النبی صلی الله علیه و آله و سلم روی عنه ابنه عمرو بن أنس أخرجه أبو عمر مختصراً. قال أبو أحمد العسکری: أنس بن هزلة ویقال أنس بن الحارث له صحبة قتل مع الحسین بن علی رضی الله عنهما وهذا أنس بن الحارث قد تقدم ذکره فلا أعلم أهما واحد أم إثنان، وأبو أحمد عالم فاضل لو یعلم أنهما واحد لما قاله وما أقرب أن یکونا واحداً لأنه قد ذکر فی أنس أنه قتل مع الحسین علیه السلام والله أعلم(8).

أقول: وقد أحسن ابن الأثیر فی تخریجته هذه حیث ذکر أنهما واحد، ومن ثم یمکن أن یُحمل اسم هزلة علی أنه اسم أمه، وهذا أمرٌ معروف بین الناس، فقد

ص:131


1- (1) نعم نقل بعضهم أنه: «الحرث» والأمر فیه هیّن حیث یحمل علی التصحیف أو الاختلاف فی النسخ.
2- (2) أعیان الشیعة: ج 3، ص 499.
3- (3) الإصابة: ج 1، ص 81.
4- (4) أعیان الشیعة: ج 3، ص 499.
5- (5) أنصار الحسین: ص 74.
6- (6) مستدرکات علم الرجال: ج 1، ص 701.
7- (7) کالسید المقرم فی مقتله: ص 352.
8- (8) أسد الغابة لابن الأثیر: ج 1، ص 132.

ذکر لنا التاریخ أناساً کانوا ینسبون إلی أمهاتهم(1) تارة وتارة إلی آبائهم ومن أمثلة هؤلاء الواضحة الجلیة هو «محمد بن الحنفیة» حیث نسب إلی أمه فی بعض الأحایین وفی بعضها الآخر نسب إلی أبیه فیقال: «محمد بن علی بن أبی طالب»(2) ، ومن ثم فیمکن أن یکون الشهید أنس قد نسب إلی أبیه «الحارث بن نبیه الکاهلی» وإلی أمه «هزلة» فی نفس الوقت فاشتبه الأمر علی من ذکرهما.

جد الشهید الکربلائی

ذهب مشهور العلماء ومن تحدث عن الشهید أنس إلی أن جده اسمه «نبیه» کما نص علی ذلک ابن حجر فی الإصابة(3) ، وابن عساکر فی ترجمة الإمام الحسین علیه السلام(4) ، والقندوزی فی ینابیع المودة(5) ، وآخرون. بینما ذهب آخرون إلی أنه «منبه» کما أشار إلی ذلک المتقی الهندی فی کنز العمال(6). وانفرد العجلی فی معرفة الثقات إلی أنه «لقیط» حیث قال: أنس بن الحارث بن لقیط النخعی کوفی ثقة(7).

ص:132


1- (1) من أراد التوسع أکثر فلیراجع کتاب معجم الذین نسبوا إلی أمهاتهم د. فؤاد صالح السید.
2- (2) سفینة البحار: ج 1، ص 319.
3- (3) ابن حجر فی الإصابة: ج 1، ص 270 تحقیق الشیخ عادل أحمد عبد الموجود ط 1 (1415 ه -) دار الکتب العلمیة.
4- (4) ترجمة الإمام الحسین لابن عساکر: ص 348.
5- (5) ینابیع المودة للقندوزی: ج 3، ص 8 تحقیق سید جمال أشرف الحسینی ط 1 (1416 ه -) دار الصفوة.
6- (6) کنز العمال للهندی: ج 12، ص 126 تحقیق الشیخ بکری همیانی، الشیخ صفوة القاطبة مؤسسة الرسالة.
7- (7) معرفة الثقات: ج 1، ص 17، ط 1 (1405 ه -) مکتبة الدار بالمدینة المنورة.

ابن نما الحلی واسم الشهید أنس

نقل الصدوق فی أمالیه وهو یتحدث عن الشهید مالک بن أنس الکاهلی نفس أبیات الأرجوزة التی ذکرها أنس بن الحارث الکاهلی وهو نازل إلی ساحة المعرکة حیث قال: ثم برز مالک بن أنس الکاهلی وهو یقول:

قَدْ عَلِمَتْ کَاهِلُهَا وَدَوْدَانِ وَالخَنْدَفِیُّوْنَ وَقَیْسُ عَیْلاَنِ

بِأَنَّ قَوْمِی قَصَمُ الأَقْرَانِ یَا قَوْمِ کُوْنُوا کَأُسُوْدِ الجَانِ

آلُ عَلِیٍّ شِیْعَةُ الرَّحْمَنِ وَآلُ حَرْبٍ شِیْعَةُ الشَّیْطَانِ

فقتل منهم ثمانیة عشر رجلاً ثم قتل انتهی(1).

وفی کتاب المناقب لابن شهر آشوب وردت نفس هذه المقالة حیث قال: «ثم برز مالک بن أنس الکاهلی وقال:

آل علی شیعة الرحمن وآل حربٍ شیعة الشیطان(2)

ونقل ابن نما الحلی فی کتابه «مثیر الأحزان» بعد ذکره لأنس بن الحارث الکاهلی قوله: أقول یوشک أن یکون قد وقع اشتباه بین أنس بن حارث الکاهلی ومالک بن أنس المالکی(3) ، بسبب أن لکل منهما رجزاً علی هذا الوزن وهذه القافیة وإن یکون نسب بعض ما لأحدهما من هذا الرجز إلی الآخر کما وقع مثله

ص:133


1- (1) أعیان الشیعة: ج 3، ص 499.
2- (2) أعیان الشیعة: ج 3، ص 499.
3- (3) علی روایة البحار حیث ذکره مالک بن أنس المالکی فضلاً عما ذکره صاحب المناقب والصدوق کما تقدم.

کثیراً والله أعلم(1).

تجنّی الذهبی علی الشهید أنس

لیس غریباً علی من تتبع سیرة أصحاب أهل البیت علیهم السلام وموالیهم أن یجد المحاولات الدائبة والحثیثة من أجل تقلیل محامدهم وتشویهها وحصر فضائلهم وإخفائها، وقد ساروا فی ذلک علی خطی أئمتهم علیهم السلام الذین أبت النفسیة العدوانیة لبنی أمیة ولبنی العباس ومن دار فی فلکهم من الظلمة إلا إخفاء مناقبهم علیهم السلام، ومحوها، ولقد کانت من جملة هذه المحاولات ما ذهب إلیه الذهبی فی کتابه التجرید من القول بأن الشهید أنس لیست له صحبة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بل وحدیثه مرسل.

وقد ردّ هذه الشبهة وکفانا مؤنتها ابن حجر فی الإصابة بعد أن ترجم للشهید (رض) قال: ووقع فی التجرید للذهبی لا صحبة له وحدیثه مرسل... وکیف یکون حدیثه مرسلاً وقد قال سمعتُ، وقد ذکره فی الصحابة البغوی وابن السکن وابن شاهین والدغولی وابن زبر والبارودی وابن مندة وأبو نعیم وغیرهم(2).

رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یخبر أنساً بمقتل الحسین علیه السلام

روی ابن حجر فی الإصابة وغیره عن أشعث بن سحیم عن أبیه قال سمعت أنس بن الحارث یقول سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم یقول: «إن ابنی هذا (یعنی الحسین) یقتل بأرض یقال لها کربلاء فمن شهد منکم فلینصره»(3).

ص:134


1- (1) أعیان الشیعة: ج 3، ص 499.
2- (2) الإصابة لابن حجر: ج 1، ص 270.
3- (3) التاریخ الکبیر للبخاری: 2، 30، مقتل الخوارزمی: ج 1، ص 233، الإصابة: ج 1، ص 270.

ولنا علی هذه الروایة مجموعة من النقاط:

1 - ذکر العلامة المامقانی قدس سره فی تصحیح المقال أن هذه الروایة رویت عن أنس بن أبی سحیم کما ذکر ذلک العلامة المجلسی فی البحار والعلامة البحرانی فی عوالم علوم الإمام الحسین علیه السلام بسنده عن أشعث بن عثمان عن أبیه عن أنس بن أبی سحیم قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:... ولکن فی کتاب مثیر الأحزان لابن نما الحلی أنس بن أبی سحیم ولکن المشهور أن هذا الحدیث عن أنس بن الحارث الذی استشهد مع أبی عبد الله الحسین علیه السلام کما فی مناقب آل أبی طالب لابن شهر أشوب(1).

2 - لم یکن مثل هذا الإخبار من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلی الشهید أنس (رض) هو الإخبار الأول فی هذا الشأن بل قد أخبر صلی الله علیه و آله و سلم أصحابه ومن معه رجالاً ونساء عشرات الأحادیث بما سوف یجری ویقع علی ذریته من بعده لاسیما سبطه الحسین فی کربلاء فقد روی الطبرانی بسنده عن عائشة حدیثاً طویلاً یتضمن إخبار النبی صلی الله علیه و آله و سلم لها بقتل الإمام الحسین علیه السلام بالطف وفیه: ثم خرج إلی أصحابه - فیهم علی وأبو بکر وعمر وحذیفة وعمار وأبو ذر (رضی الله عنهم) وهو یبکی فقالوا ما یبکیک یا رسول الله؟ فقال: «أخبرنی جبرئیل أن ابنی الحسین یقتل بعدی بأرض الطف وجاءنی بهذه التربة وأخبرنی أن فیها مضجعه»(2).

وینقل الخوارزمی فی مقتله عن ابن عباس قوله: (بعد أن ذکر خطبة

ص:135


1- (1) تنقیح المقال للعلامة المامقانی: ج 11، ص 220 (3675).
2- (2) المعجم الکبیر للطبرانی: 3، 107، مجمع الزوائد: 9، 188.

النبی صلی الله علیه و آله و سلم) ثم نزل عن المنبر ولم یبق أحد من المهاجرین والأنصار إلا وتیقن بأن الحسین مقتول»(1). کما ذکر غیر واحد من العلماء عن ابن عباس قوله: (کنّا لا نشکّ وأهل البیت متوافرون أن الحسین بن علی یُقتل بالطف»(2).

وبتقدیری أن هذه الإخبارات التی صدرت من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وغیرها ترید أن تشیر أولاً إلی أهمیة هذه الواقعة وأثرها الکبیر علی الإسلام والمسلمین وثانیاً دعوة الناس إلی الوقوف إلی جانبها ونصرتها وتقدیم الغالی والنفیس من أجلها، وقد بان مثل هذا الأمر بشکل واضح من خلال دعوة الناس إلی نصرة الحسین علیه السلام فی کربلاء، فها هو الشهید أنس بن الحارث الکاهلی یأمره رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأن یشهد هذه الواقعة إن استطاع إلی ذلک سبیلا.

وقد روی أصحاب السیر والتاریخ عن سلمان الفارسی قوله فی واقعة بلنجر بعد النصر الکبیر الذی حققوه فیها والفرحة التی عمت المسلمین بسببه: إذا أدرکتم سید شباب أهل محمد (الجنة) فکونوا أشد فرحاً بقتالکم معه بما أصبتم الیوم من الغنائم(3). وینقل الخوارزمی وغیره عن معاذ بن جبل عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم قوله بعد أن أخبر بقتل الحسین «والذی نفسی بیده لا یقتل بین ظهرانی قوم لا یمنعوه إلا خالف الله بین صدورهم وقلوبهم وسلط علیهم شرارهم وألبسهم شیعا»(4).

وینقل ابن عساکر عن العریان بن الهیثم قوله «کان أبی یتبدی فینزل قریباً

ص:136


1- (1) مقتل الخوارزمی: 1، 164-165 (الفصل الثامن).
2- (2) المستدرک علی الصحیحین: 3، 179.
3- (3) الکامل فی التاریخ: 4، 42، أحداث سنة ستین للهجرة، ذکر سیر الحسین إلی الکوفة.
4- (4) المعجم الکبیر للطبرانی: 3، 120، مسند الحسین بن علی: ذکر مولده وصفته.

من الموضع الذی کان فیه معرکة الحسین علیه السلام فکنا لا نبدو إلا وجدنا رجلاً من بنی أسد هناک علیه سیماء الصلاح وتقوی الأولیاء فقال له أبی: أراک ملازماً هذا المکان؟ قال بلغنی أن حسیناً یقتل ها هنا فأنا أخرج إلی هذا المکان لعلی أصادفه فأقتل معه... قال الراوی: فلما قتل الحسین علیه السلام قال أبی: انطلقوا ننظر هل الأسدی فیمن قتل؟ فأتینا المعرکة وطوّفنا فإذا بالأسدی مقتول»(1).

ولا شک أنّ روایة الأسدی المتقدمة لتکشف لنا وبشکل واضح مدی التبلیغ الواضح الذی حَظِیَتْهُ قضیة الحسین علیه السلام عند المسلمین من قبل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وتکشف فی نفس الوقت مدی التوفیق الکبیر الذی حظاه هذا الشهید بامتثاله أمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فی نصرة الحسین علیه السلام وعدم توفیق الکثیر من أبناء هذه الأمة لمثل هذا الأمر مع قدرتهم علیه.

وهکذا کان الشهید أنس فی نفس هذا الخط والاتجاه فقد أخبره رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بمقتل الحسین علیه السلام وأمره بنصرته، وظل أنس یحمل هذا التکلیف عشرات من السنین حتی وفقه الله لأدائه یوم العاشر من المحرم.

3 - ویبدو من خلال هذه الروایة المتقدمة أن الشهید أنساً لم یکتف بالسعی إلی أداء أمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والشهادة مع الحسین علیه السلام، بل سعی کذلک لنشر هذا الحدیث وإذاعته ولکن لمن یکون أهلاً لحمل هذا الأمر النبوی، حیث کان من جملة من تحدث معه الشهید هو سلیم بن حنظلة المحاربی الکوفی(2) ، (راوی

ص:137


1- (1) مختصر تاریخ دمشق لابن منظور: 7، 145.
2- (2) روی فی بعض المصادر أنه أشعث بن سحیم والصحیح هو أشعث بن سلیم بن حنظلة الکوفی کما ذکر ذلک ابن حبان فی الثقات: 4، 249، وابن عبد البرفی الاستیعاب: 1، 112، وأبو الفتح محمد بن الحسین الأزدی فی المخزون فی علم الحدیث: 48، والوافی فی الوفیات: 9، 239.

الحدیث المتقدم) والذی عرف بالولاء لعلی علیه السلام والاتباع له، یقول الذهبی وهو یتحدث عنه «صاحب علی علیه السلام روی عن علی علیه السلام وشهد معه مشاهده»(1).

الشهید عمار بن یاسر والشهید أنس بن الحارث ووحدة الموقف

لیس غریباً أن تتفق حیاة العظماء علی اختلاف أدیانهم ومشاربهم فی الکثیر من صفاتهم وخصائصهم النفسیة، بل وحتی تفاصیل حیاتهم وما یلاقونه فیها، لاسیما الربانیون منهم، فلقد حملوا لواء المطالبة بحقوق الفقراء والمساکین ووقفوا أمام الظلم والظالمین وبذلوا فی سبیل هذا الهدف کل غال ونفیس ومع کل ذلک لم ینحنوا أو ینکسروا حتی فارقت أرواحهم أبدانهم.

ولقد کان من جملة ألطاف الله عز وجل علی الشهید أنس أن جعل حیاته موافقة فی أکثر من جهة حیاة الشهید عمار بن یاسر (رض) فلقد عاش عمار بن یاسر الإسلام منذ بدایاته مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وتحمل فی سبیل ذلک کل شیء حتی إذا ما خرج المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم من هذه الدنیا وقف إلی جانب إمامه المفروض علیه طاعته وعاش معه أعظم الفتن وأشدها وأکثر المحن وأهولها وهو یعیش فی أعلی درجات الوعی والبصیرة لاسیما فی معرکة صفین حیث کانت له فیها مقالات وسجالات تکشف عن عمیق وعیه وثبات إیمانه وارتکاز عقیدته بعلی بن أبی طالب علیه السلام مع کبر سنه وانحناء ظهره حیث بلغ التسعین من عمره فی ذلک الیوم فنزل إلی القوم وهو یقول: «اللهم إنی لا أعلم عملاً صالحاً هذا الیوم هو أرضی

ص:138


1- (1) سیر أعلام النبلاء للذهبی: ج 4، ص 179.

من جهاد القاسطین ولو أعلم عملاً هو أرضی لک منه لفعلته ثم ارتجز وهو یقول:

نحن ضربناکم علی تأویله کما ضربناکم علی تنزیله

ضرباً یزیل الهام عن مقیله ویذهل الخلیل عن خلیله

أو یرجع الحق إلی سبیله(1)

وهکذا کان الشهید الکربلائی أنس بن الحارث الکاهلی حیث عاش مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وشهد معه بدراً وأحداً وسائر حروبه وغزواته وبعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عاش الثبات مع من أوصی صلی الله علیه و آله و سلم بالتمسک بهم فعاش مع علی علیه السلام مشاهده ومع الحسن علیه السلام محنته ومع الحسین علیه السلام ثورته وبالتالی وقف کما وقف عمار یوم العاشر من المحرم وقد بلغ التسعین أو ناهزها وقد شد وشطه بعمامه ورفع حاجبیه بعصابه وهو یقول:

آلُ عَلِیٍّ شِیْعَةُ الرَّحْمَنِ وَآلُ حَرْبٍ شِیْعَةُ الشَّیْطَانِ (2)

لقد اختصر الشهید بکلماته هذه الزمن علی اتساعه والمواقف علی کثرتها فکأنه یرید أن یقول بأن یزید وابن زیاد ومن والاهما الذین نقف الیوم أمامهم إنما هم صنیعة ذلک الضال المنحرف معاویة بن أبی سفیان الذی وقف أمامه عمار (رض). فیاله من موقف مهیب وعظیم أن یسقط عمار علی کبر سنه وحنو ظهره أمام علی بن أبی طالب شهیداً وهو یعیش الثبات وأن یسقط الشهید أنس بن الحارث أمام الحسین علی جلال شیبته ووهن عظمه وهو یعیش الیقین!!

ص:139


1- (1) سلسلة الأرکان الأربعة (عمار بن یاسر) للشیخ محمد جواد الفقیه: ص 214 - ص 224.
2- (2) مثیر الأحزان لابن نما: ص 46 ت ص 47.

الشهید أنس من أهل الصُفّة

اشارة

روی ابن الأثیر فی أسد الغابة ما نصه:

«روی أنس بن الحارث بن نبیه، عن أبیه الحارث بن نبیه وکان من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من أهل الصُفّة انتهی»(1).

ربّما یستغرب الإنسان للوهلة الأولی فی ذکر هذه الصفة إلی الشهید الکربلائی (رض) فما معنی أن یکون الإنسان من أهل الصفة؟ أفیوجد فیهم ما یمکن أن یُمیَّزوا به عن غیرهم؟

وممّا لا شک فیه أن مثل هذا التساؤل وغیره ربما یخطر ببال الإنسان قبل أن یرجع إلی ما ذکره القرآن والروایات عن هذه الفئة من الناس، وإلا إذا رجعنا إلیهما فإننا سوف نجد فیهم من الخصائص والصفات ما یمکن أن تکون محل فخر واعتزاز کبیرین، وهذا ما نود أن نبینه ونحن نتحدث عن أحد أفراد هذه المجموعة ألا وهو الشهید أنس (رض).

ما معنی الصُفّة؟

الصُفَّة هی عبارة عن مکان مُظلَّل فی مؤخر المسجد النبوی صنعه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم للمهاجرین الذین ترکوا أموالهم ودیارهم، وإنما التجأ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلی ذلک بعد ما زاد عددهم کثیراً ولم یکن لهم من مأوی یمکن أن یلتجئوا إلیه فی داخل المدینة.

ص:140


1- (1) أسد الغابة لابن الأثیر: ج 1، 349.
صفات أهل الصُفّة

ذکر أبو نعیم الاصبهانی فی حلیة الأولیاء فی أهل الصُفة قوله: «وهم قوم أخلاهم الحق من الرکون إلی شیء من العروض، وعصمهم من الافتتان بها عن الفروض. وجعلهم قدوة للمتجردین من الفقراء، کما جعل من تقدم ذکرهم أسوة للعارفین من الحکماء. لا یأوون إلی أهل ولا مال ولا یلهیهم عن ذکر الله تجارة ولا حال، لم یحزنوا علی ما فاتهم من الدنیا، ولا یفرحون إلا بما أیدوا به من العقبی. کانت أفراحهم بمعبودهم وملیکهم وأحزانهم علی فوت الاغتنام من أوقاتهم وأورادهم، هم الرجال الذین لا تلهیهم تجارة ولا بیع عن ذکر الله، ولم یأسوا علی ما فاتهم، ولم یفرحوا بما أتاهم. حماهم ملیکهم عن التمتع بالدنیا والتبسیط فیها: لکیلا یبغوا ولا یطغوا، رفضوا الحزن علی ما فات من ذهاب وشتات، والفرح بصاحب نسب إلی بلی ورفات(1). ویقول أنس بن مالک: «أقبل أبو طلحة یوماً، فإذا النبی صلی الله علیه و آله و سلم قائم یقرئ أصحاب الصُفّه، علی بطنه فصل من حجر یقیم به صُلبه من الجوع. کان شغلهم تفهّم الکتاب وتعلّمه، ونهمتهم الترنّم بالخطاب وتردده(2).

ولأجل ذلک کله کان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم کثیر الشفقة علیهم ودائم الزیارة لهم ولقد أوصی المسلمین بالتصدق علیهم فجعلوا یصلونهم ما استطاعوا إلی ذلک سبیلا ولقد خرج من هذه الصُفّه من عُرِفَ بالعلم کحذیفة بن الیمان والجهاد

ص:141


1- (1) أبو نعیم الاصبهانی فی حلیة الأولیاء، ذکر أهل الصفة: ص 337-338.
2- (2) المصدر نفسه: ص 342.

کغسیل الملائکة وعبد الله ذی البجادین وعمار بن یاسر وآخرین ممن خدموا الدین وارسوا قواعده المتینة.

ویکفی فی حقهم مدح القرآن الکریم لهم وذلک حینما جمع لهم صفاتٍ وخصائصَ قلّ أن توجد فی غیرهم من المسلمین وذلک من خلال آیات ثلاث:

«وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِینَ یَخافُونَ أَنْ یُحْشَرُوا إِلی رَبِّهِمْ لَیْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِیٌّ وَ لا شَفِیعٌ 1» ، وقوله:«وَ اصْبِرْ نَفْسَکَ مَعَ الَّذِینَ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ تُرِیدُ زِینَةَ الْحَیاةِ الدُّنْیا2» ، وقوله:«لِلْفُقَراءِ الَّذِینَ أُحْصِرُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ لا یَسْتَطِیعُونَ ضَرْباً فِی الْأَرْضِ یَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِیاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِیماهُمْ لا یَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً3» .

فهم علی أساس ما ذکره القرآن

1 - من أهل التعفف:«لا یَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً» .

2 - ظهور الفقر علیهم:«تَعْرِفُهُمْ بِسِیماهُمْ» .

3 - الخائفون من الله:«یَخافُونَ أَنْ یُحْشَرُوا إِلی رَبِّهِمْ» .

4 - لا شفیع ولا ولی لهم سوی الله:«لَیْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِیٌّ وَ لا شَفِیعٌ» .

ص:142

5 - مقصدهم رضا الله وفضله:«یُرِیدُونَ وَجْهَهُ» یبتغون فضلاً من الله.

6 - ناصرون لله ولرسوله:«وَ یَنْصُرُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ» .

7 - الصادقون:«أُولئِکَ هُمُ الصّادِقُونَ» .

وبعد کل ما تقدم من حدیث القرآن والرسول عن أهل الصُفّة وخصائصهم، نعلم بما لا مجال للشک فیه أن الشهید الکربلائی کان له قدم السبق فیهم فی کل ما ذکر عنهم من إیمان مُمَیَّز وعمل صالح، فلقد کان مع شدة فقره وعوزه وحاجته عابداً وعاشقاً لله سبحانه وتعالی بالشکل الذی لم یشغله عنه شیء مهما کان خطیراً، وکان فی ذات الوقت عالماً عاملاً مطیعاً لله ولرسوله فی کل ما أمرا به ونهیا عنه، وناصراً لهما بقلبه ولسانه ویده لا تأخذه فیهما لومة لائم، فضلاً عن إیمانه العمیق وعقیدته الراسخة، حتی استحق أن یکون ممن أمر النبی صلی الله علیه و آله و سلم بالبقاء والصبر معه وعدم مفارقته حیث یقول:

«وَ اصْبِرْ نَفْسَکَ مَعَ الَّذِینَ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجْهَهُ» .

حیث ذکر العلماء أن هذه الآیة الکریمة نزلت فی أهل الصفة: «قال قتادة نزلت فی أصحاب الصفة وکانوا سبعمائة رجل فقراء فی مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا یرجعون إلی تجارة ولا إلی زرع ولا ضرع یصلون صلاة وینتظرون أخری فلما نزلت هذه الآیة قال النبی صلی الله علیه و آله و سلم: «الحمد لله الذی جعل فی أمتی من أمرت أن أصبر نفسی معهم»(1).

ص:143


1- (1) تفسیر البغوی للحسین بن مسعود البغوی (دار طیبة) ج 5، ص 166.

الشهید أنس والهمة العالیة

تحتاج الأمم جمیعها علی اختلاف نحلها ومشاربها إلی أصحاب الهمم العالیة والإرادات الکبیرة فهم صُنّاع الحیاة، وبناة المستقبل، فهم الذین تقف الحیاة وتنمو وتزدهر بهم، وهم الذین تشرئبّ الأعناق عند الشدائد والأعسار لهم، ولئن میزتهم البشریة حسب موازینها ومقاییسها فقلد میّزتهم السماء قبل ذلک من خلال ما ورد عنها من نصوص، یقول القرآن الکریم:

«وَ سارِعُوا إِلی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِینَ 1» .

وهنا یحث الله سبحانه وتعالی عباده علی القیام بالأعمال الصالحة ولکن بوقت زمنی أقل من الوقت المعتاد لها وهذا یعنی ضمناً طلب الزیادة والاکثار من هذه الأعمال بلا شک، ومثل هذا الأمر والندب لا یقوی علی القیام به إلا أصحاب الهمم العالیة، ویقول تعالی مخاطباً نبیه صلی الله علیه و آله و سلم:

«فَاصْبِرْ کَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ 2» .

یقول محمد إسماعیل المقدم: «فی هذه الآیة ثناء علی أصحاب الهمم العالیة، وفی طلیعتهم الأنبیاء والمرسلون وفی مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلی رأسهم خاتمهم محمد صلی الله علیه و آله و سلم... وقد تجلت همتهم العالیة فی مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلی الله عز وجل، کما أوضحه الله عز وجل فی قصص

ص:144

الأنبیاء کنوح وإبراهیم وموسی وعیسی ومحمد صلی الله علیه و آله و سلم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین»(1) ، وهکذا قوله تعالی:

«أُولئِکَ یُسارِعُونَ فِی الْخَیْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ 2» .

یقول الشیخ الطبرسی فی تفسیر هذه الآیة الکریمة: «معناه الذین جمعوا هذه الصفات وکملت فیهم هم الذین یبادرون إلی الطاعات ویسابقون إلیها رغبة منهم فیها وعلماً منهم بما ینالون بها من حسن الجزاء»(2) ، وغیرها من الآیات، وأما ما ورد عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم والمعصومین فکثیر، عن الحسین بن علی علیهما السلام قال:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «إن الله تعالی یحب معالی الأمور، وأشرافها، ویکره سفاسفها»(3) ، ویقول صلی الله علیه و آله و سلم: «احرص علی ما ینفعک، واستعن بالله ولا تعجز»(4).

وإن نَنْسَ فلا ننسی تلک الروایة العظیمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو یتحدث عن عجوز بنی إسرائیل التی کانت همتها عالیة وإرادتها کبیرة إلی درجة لم ترضَ لنفسها إلا أن تکون فی درجة نبی الله موسی فی الجنة، یروی الهیثمی فی باب الحث علی طلب الجنة: أن رجلاً سأل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم شیئاً، فقال: أعجزت أن تکون مثل عجوز بنی إسرائیل؟!

ص:145


1- (1) علو الهمة لمحمد إسماعیل المقدم: ص 128.
2- (3) تفسیر الطبرسی.
3- (4) الطبرانی الکبیر: 3، 131 (2894).
4- (5) مسلم فی صحیحه: (2664).

فقال أصحابه: وما عجوز بنی إسرائیل یا رسول الله؟ فقال: إن موسی حین أمر أن یسیر ببنی إسرائیل ضل الطریق، فسأل بنی إسرائیل: ما هذا؟

فقال علماء بنی إسرائیل: إن یوسف حین حضره الموت أخذ علینا موثقاً من الله أن لا نخرج من مصر حتی ننقل عظامه، فقال لهم موسی: وأیکم یدری أین قبر یوسف؟

فقال له بنو إسرائیل: ما یدری أین قبر یوسف إلا عجوز بنی إسرائیل، فأرسل إلیها فقال: دلینی علی قبر یوسف، فقالت لا والله، حتی تعطینی حکمی، قال: وما حکمک؟

قالت: أکون معک فی الجنة فکأنه ثقل ذلک علیه، فقیل له: أعطها حکمها، فانطلقت بهم إلی بحیرة مستنقع ماء، فقالت: أنضبوا هذا المکان فلما أنضبوه قالت: أحفروا فی هذا المکان، فلما احتفروا أخرجوا عظام یوسف صلی الله علیه وسلم فلما استقلوها من الأرض إذ الطریق مثل النهار»(1).

ولم یکن الشهید الکربلائی أنس (رض) بأقل شأناً من عجوز بنی إسرائیل حیث لم یرضَ لنفسه إلا مصاحبة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بیته فی أعلی مراتب الجنة، فقد حمل (رض) همة عالیة وإرادة کبیرة لم یستطع حتی بدنه أن یتحملها، وهکذا هی النفوس الکبیرة، یقول المتنبّی واصفاً لهذه الفئة من الناس:

وَإِذَا کَانَتْ النُّفُوْسُ کِبَارَاً تَعِبَتْ عَنْ مُرَادِهَا الأَجْسَامُ (2)

ص:146


1- (1) مجمع الزوائد: ج 10، باب الحث علی دخول الجنة (17348)، ص 170 (مکتبة القدسی).
2- (2) البدایة والنهایة لابن کثیر: ج 15، ص 278 (دار عالم الکتاب) 2003 م.

فلم ینشغل (رض) بالتوافه من الأمور وما لا فائدة فیه، وکان یتجنّب أن یُضِّیع عمره فی القیل والقال وسفاسف الأشیاء.

یقول المتنبی:

إِذَا غَامَرْتَ فِی شَرَفٍ مَرُوْمِ فَلا تَقْنَعْ بِمَا دُوْنَ النُّجُوْمِ

فَطَعْمُ المَوْتِ فِی أَمْرٍ حَقِیْرٍ کَطَعْمِ المَوْتِ فِی أَمْرٍ عَظِیْمِ (1)

ولقد کانت من جملة العوامل التی ساعدت الشهید للوصول إلی هذه النهایة المبارکة هو مصاحبته العظماء والحکماء وأصحاب الهمم العالیة کرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعلی علیه السلام والحسن والحسین صلی الله علیه و آله و سلم وأتباعهم أمثال أبی ذر وسلمان وعمار ومالک الأشتر وغیرهم، فعاشرهم معاشرة الطالب لمعلمه والولد لأبیه فتأثر بهم وتفاعل معهم حتی أخذ منهم العلو والرفعة والهمة العالیة وهذه واحدة من آثار الصحبة الطیبة والطاهرة علی الإنسان، یقول الشاعر:

أَنْتَ فِی النَّاسِ تُقَاسُ بِالذِی اخْتَرْتَ خَلِیْلا

ذ

فَاصْحَبِ الأَخْیَارَ تَعْلُو ذذ وَتَنَلْ ذِکْرَاً جَمِیْلا(2)

وهذا درس کبیر لنا جمیعاً علینا أن نأخذه من الشهید أنس (رض) وأن نحرص علی العمل به کثیراً، فهو مفتاح الفلاح وقائد النجاح والأساس فی الإصلاح والصلاح، وأن لا ندع أوقاتنا تذهب هدراً من دون أن نؤثر فیها تأثیراً إیجابیاً تکون عوناً فی خیر دیننا ودنیانا.

ص:147


1- (1) البدایة والنهایة لابن کثیر: ج 15، ص 280 (دار عالم الکتب) 2003 م.
2- (2) الأخلاق بین الطبع والتطبع، فیصل بن عبده قائد الحاشدی: ص 44-45.

الشهید والعمر الطویل

مما لا شک فیه ولا ریب أن الشهید أنساً (رض) وهو جالس إلی جانب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقد سمع منه صلی الله علیه و آله و سلم دعوته إلیه لنصرة ولده الحسین علیه السلام قد توجه إلی الله عز وجل بکله ودعا الله أن یطیل عمره وأن ینسأ فی أجله حتی یبلغ هذه الدعوة المحمدیة فی الوقوف إلی جانب الحسین علیه السلام والشهادة بین یدیه، وهذا یعنی ضمناً أن الشهید أراد أن یستثمر أقصی ما یستطیع لساعات عمره ولحظات حیاته فی خدمة الإسلام، بل لقد طلب الشهید أن یبقی فی خدمة الإسلام حتی ولو بلغ من العمر عتیا، ومثل هذا الأمر إن دل علی شیء فإنما یدل علی مدی فهم الشهید لنصوص الشریعة ومفاهیم الدین، فقد وردت الروایات المتعددة من المعصومین فی أن یطلب الإنسان المؤمن من الله عز وجل العمر الطویل فی طاعة الله، فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام قوله فی لیالی شهر رمضان المبارک أن یجعل الله عز وجل من جملة الأمور المقدرة المحتومة علیه طول العمر فی خیر وعافیة «وأن تجعل فیما تقضی وتقدر أن تطیل عمری فی خیر وعافیة»(1) ویقول الإمام زین العابدین فی جانب من دعائه المعروف بمکارم الأخلاق «وعمّرنی ما کان عمری بذلة فی طاعتک فإذا کان عمری مرتعاً للشیطان فاقبضنی إلیک قبل أن یسبق مقتک إلی أو أن یستحکم غضبک علیّ»(2) ، وقال النبی صلی الله علیه و آله و سلم: «خیر الناس من طال عمره وحسن عمله»(3) ، وقال صلی الله علیه و آله و سلم: «السعادة کل السعادة طول العمر فی طاعة الله»(4).

ص:148


1- (1) مفاتیح الجنان: ص 286.
2- (2) الصحیفة السجادیة للإمام علی بن الحسین زین العابدین علیه السلام، دعاء مکارم الأخلاق.
3- (3) تحفة الأحوذی للمبارکفوری: ص 511، (طبعة دار الکتب العلمیة).
4- (4) مسند الشهاب للشهاب القضاعی رقم الحدیث (302).

فملازمة الطاعة لعمر الإنسان تعنی زیادة القرب من الله سبحانه وتعالی والرفعة لدیه فی الآخرة ومن ثم فقد فهم الشهید (رض) أن الوقت أنفس ما یحرص علیه الإنسان ویوظفه لصالح هدفه الذی یبغیه ویریده وهو رضا الله سبحانه وتعالی، فهو المطیة التی إذا ما ضاعت لم یمکن للإنسان أن یصل إلی مقصوده ومراده بغیره، وقد ذمّ الله سبحانه أقواماً لم یستفیدوا من هذه النعمة الکبری والمنحة العظمی یقول تعالی:

«وَ هُمْ یَصْطَرِخُونَ فِیها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَیْرَ الَّذِی کُنّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْکُمْ ما یَتَذَکَّرُ فِیهِ مَنْ تَذَکَّرَ وَ جاءَکُمُ النَّذِیرُ فَذُوقُوا فَما لِلظّالِمِینَ مِنْ نَصِیرٍ1» .

فیاله من درس بلیغ یمکن أن یستله الإنسان المؤمن من حیاة هذا الشهید الذی استثمر کل ساعات حیاته ولحظاتها فیما یقربه إلی الله سبحانه وتعالی، فحری بنا نحن الذین نلهج باسمه ونتحدث عنه ونرجو شفاعته أن نسیر علی خطاه وننهج علی طریقته حتی نستثمر أوقاتنا بالشکل الصحیح ولا ندعها تضیع هدراً بلا فائدة بل وفی بعض الأحیان بما یعود بالضرر علینا، وقد قال بعضهم إن الإنسان یستطیع أن یصنع الکثیر من الأعمال فی دقیقة واحدة، حیث یمکن أن یقرأ (7) مرات سورة الفاتحة سرداً وأن یقول (100) مرة سبحان الله وبحمده ولا إله إلا الله (18) مرة وهکذا فضلاً عن الساعة والیوم والشهر والسنة ولله در الشریف الرضی (رض) حینما قال:

ص:149

یَا آمِنَ الأَیَّامِ بَادِرْ صَرْفَهَا وَاعْلَمْ بِأَنَّ الطَّالِبِیْنَ حُثَاثُ

خُذْ مِنْ ثَرَائِکَ مَا اسْتَطَعْتَ فإنما شُرَکَاؤُکَ الأَیَّامُ وَالوُرَّاثُ

لَمْ یَقْضِ حَقَّ المَالِ إِلاَّ مَعْشَرٌ نَظَرُوا الزَّمَانَ یَعِیْثُ فِیْهِ فَعَاثُوا

إنِّی لأَعْجَبُ للَّذِیْنَ تَمَسَّکُوْا بِحَبَائِلِ الدُّنٍْیَا وَهُنَّ رَثَاثُ

أَتَرَاهُمُ لَمْ یَعْلَمُوْا أَنَّ التُّقَی أَزْوَادُنَا وَدِیَارُنَا الأَجْدَاثُ (1)

لقاء الشهید أنس بالحسین علیه السلام

اشارة

یبدو أن مسألة لقاء الشهید أنس بالحسین علیه السلام لم تکن محل اتفاق عند من تحدث عنها، ویمکن للإنسان أن یتلمس - من خلال مراجعة المصادر - أن هناک ثلاثة آراء:

الرأی الأول

یذهب أصحاب هذا الرأی إلی أن الشهید أنساً التقی بالحسین بعد نزوله فی کربلاء لیلاً، وهذا یعنی أن اللقاء قد تم بعد الیوم الثانی من محرم سنة 61 ه -، یقول الشیخ السماوی فی إبصار العین وهو یتحدث عن الشهید: جاء إلی الحسین علیه السلام عند نزوله کربلاء والتقی معه لیلاً فیمن أدرکته السعادة(2) ، ویقول جواد محدثی فی موسوعة کربلاء: سار إلی کربلاء لیلاً واستشهد یوم الطف فی رکب الإمام الحسین علیه السلام(3).

ص:150


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلی: ج 3، ص 338.
2- (2) إبصار العین للسماوی: ص 56، المطبعة الحیدریة سنة 1341 ه -، ویذهب إلی هذا الرأی الزنجانی فی وسیلة الدارین، ص 101-102، أسد الغابة: 1، 123، وآخرون.
3- (3) مقتل الحسین للسید بحر العلوم: ص 410-411.
الرأی الثانی
اشارة

یذهب أصحابه إلی أن اللقاء قد تم قبل الوصول إلی کربلاء، أمّا أین حصل هذا اللقاء؟ فیوجد اتجاهان أحدهما یری أنه حصل قبل کربلاء من دون أن یشیر إلی مکان اللقاء. وممن یذهب إلی هذا الاتجاه السید بحر العلوم فی مقتل الحسین علیه السلام حیث یقول: فلما رآه الشیخ فی طریقه إلی العراق وشهده جاء معه إلی کربلاء، والاتجاه الآخر یحدد مکان اللقاء وأنه حصل فی قصر بنی مقاتل، وممن یذهب إلی هذ الاتجاه البلاذری فی أنساب الأشراف حیث یقول: وکان أنس بن الحارث الکاهلی سمع مقالة الحسین لابن الحر، وکان قدم من الکوفة بمثل ما قدم به ابن الحر، فلما خرج من عند ابن الحر سلّم علی الحسین علیه السلام وقال له: والله ما أخرجنی من الکوفة إلا ما أخرج هذا من کراهة قتالک أو القتال معک، ولکن الله قذف فی قلبی نصرتک وشجعنی علی المسیر معک فقال له الحسین علیه السلام «فاخرج معنا راشداً محفوظاً»(1).

کلمة لابد منها

وقبل أن نسترسل فی حدیثنا عن الشهید ولقائه الحسین علیه السلام أود أن أشیر ولو علی نحو السرعة إلی روایة البلاذری من خلال النقاط التالیة:

1 - کل من یقرأ هذه الروایة یجد وبشکل واضح أن الشهید أنساً کان متردداً فی بدایة الأمر فی نصرة الحسین علیه السلام بل وکان خائفاً من الموت کما هو حال عبید الله بن الحر الجعفی وهذا ما أشار إلیه الشهید من خلال هذه الروایة المزعومة بقوله: «ما أخرجنی من الکوفة إلا ما أخرج هذا، ومثل هذا التردد أو

ص:151


1- (1) أنساب الأشراف للبلاذری: 3، 384.

الخوف لا یتناسب مطلقاً مع موقف هذا الشهید یوم العاشر من المحرم حیث رفع حاجبیه بعصابة وشد وسطه بعمامة لشدة کبره ووهن عظمه ثم نزل إلیهم وهو یعی مع من یقف مدافعاً ومع من یقاتل فقد کانت الصورة عنده واضحة:

آل علی شیعة الرحمن وآل حرب شیعة الشیطان

فالعزم کان فی أعلی درجاته وإرادة الموت والشهادة هدفه وأمنیته فلا یمکن أن نقبل أن من کان حاله هکذا أن یکون متردداً أو خائفاً من نصر الحسین لاسیما وقد روی الخاص والعام عن هذا الرجل أمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم له ولسائر المسلمین بنصر الحسین والشهادة بین یدیه.

2 - کیف یمکن أن یلتقی الشهید أنس مع عبید الله بن الحر الجعفی ویجلسا تحت خیمة واحدة؟ کیف یمکن أن یجتمع من عاش مع رسول الله حروبه وغزواته منذ بدر وما بعدها بثبات فی الموقف ووضوح فی الرؤیة مع شخص یقول البلاذری نفسه عنه فضلاً عن الآخرین بأنه ما کان یحمل دیناً مطلقاً وإن کل سعیه کان من أجل الدنیا یقول: وکان عبید الله بن الحر رجلاً لا یقاتل لدیانة وإنما کان کل همه الفتک والتصعلک والغارات(1).

3 - ومع کل ما تقدم فإن هذه الروایة قد تفرد بها البلاذری وحده، ولم یشر إلیها مؤرخ آخر، وکل من أشار إلیها نقلها عن البلاذری، ومن ثم لا نکون ملزمین بالعمل بها مع وجود روایة أخری ذکرها مشهور المؤرخین بأن عبید الله بن الحر عند ما کان فی خیمته ودخل علیه الحسین لم یکن معه أحد حتی یسمع مقالة الحسین له ویعتذر له بنفس العذر الذی اعتذر به ابن الحر کما یزعم البلاذری.

ص:152


1- (1) أنساب الأشراف للبلاذری: 3، 174-175.
الرأی الثالث

وهو ما أشار إلیه الشیخ باقر شریف القرشی أن الشهید أنس بن الحارث قد أقبل مع الحسین من مکة(1) ، وهذا الرأی یعنی ضمناً أن الشهید قد ترک الکوفة مبکراً ربما قبل أن یقتل الشهید مسلم بن عقیل، ومثل هذا الرأی لا دلیل علیه، بل الدلیل علی خلافه، ومع ذلک نقول ربما کانت هناک وثیقة اعتمدها الشیخ القرشی ولم تصل إلینا.

الشهادة فی کربلاء

لقد کانت أهم أمنیة عاشها الشهید فی حیاته، وتمنی تحقیقها قبل مماته، هی تصدیق حدیث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم له فی الشهادة بین یدی الحسین علیه السلام، وتمر الأیام ثقیلة علی الشهید، وهو یلملم طاقاته، التی أخذت تتبدد نتیجة العمر الطویل له (رض).

وما أن علم بخروج المولی أبی عبد الله الحسین علیه السلام، حتی بانت علائم البشری فی وجهه، وأخذ قلبه ینبض فرحاً لقرب الوصول إلی الهدف المقصود، وتحقق الأمنیة المنشودة.

وهکذا وصل إلی کربلاء مع الحسین علیه السلام، وهو مشتاق إلی الرواح إلی الجنة سریعاً، لا یحتمل التأخیر والانتظار، مهما کان الوقت قصیراً، فوقف مع إخوانه فی الإیمان ینتظر الإذن من الحسین علیه السلام فی النزول إلی ساحة المعرکة، ولمّا حان وقت الإذن، أخذ عصابة ورفع بها حاجبیه اللذین تدلیا علی عینیه، وشد وسطه بعمامة، وربما کانت هی عمامته التی یضعها علی رأسه، ثم رفع بصره إلی الحسین علیه السلام،

ص:153


1- (1) حیاة الإمام الحسین علیه السلام لباقر شریف القرشی: 1، 101 و 3، 234.

یطیل النظر إلی وجهه الشریف مودعاً، ثم نزل إلی ساحة المعرکة، وعین الحسین تلاحقه وهو یری کبره وضعفه، وفی نفس الوقت یری عزمه وقوته، فلما رآه علی هذه الحال بکی وقال رحمک الله یا شیخ، ثم حمل علی القوم وهو یقول:

قَدْ عَلِمَتْ کَاهِلُهَا وَدَوْدَانِ وَالخَنْدَفِیُّوْنَ وَقَیْسُ عَیْلاَنِ

بِأَنَّ قَوْمِی قَصَمُ الأَقْرَانِ یَا قَوْمِ کُوْنُوا کَأُسُوْدِ الجَانِ

آلُ عَلِیٍّ شِیْعَةُ الرَّحْمَنِ وَآلُ حَرْبٍ شِیْعَةُ الشَّیْطَانِ (1)

فقتل منهم علی کبر سنه ثمانیة عشر رجلاً، وما زال یرید أن یحصد منهم أکثر إلی أن حاصروه وأحاطوا به من کل جانب وقد أجهده القتال وإذا به یسقط علی الأرض صریعاً فیستقبل أرض الشهادة بکربلاء وهو مضرج بدمه الذی أخذ یصبغ شیبته الکریمة بحمرة الولاء لله ولرسوله ولأهل بیته.

رثاء الشهید أنس

وفی حبیب بن مظاهر الأسدی وأنس بن الحارث الکاهلی یقول الکمیت ابن زید الأسدی راثیاً:

سِوَی عُصْبَةٍ فِیْهِمْ حَبِیْبٌ مُعَفَّرُ قَضَی نَحْبَهُ وَالکَاهِلِیُّ مُرَمَّلُ (2)

فسلام علیک یا أنس بن الحارث الکاهلی وعلی شیبتک المبارکة المضرّجة بالدماء، السلام علیک یا ناصر دین الله یوم ولدت ویوم استشهدت ویوم تبعث حیا ورحمة الله وبرکاته.

ص:154


1- (1) أعیان الشیعة: ج 3، ص 499 (500).
2- (2) البحار: 45، 25.

الشهید نصر بن أبی نیزر النجاشی علیه السلام

اشارة

هکذا ذکره العلماء دون أن یختلفوا فی اسمه أو اسم أبیه أو نسبه، نعم اختلفوا أهو ابن النجاشی ملک الحبشة أم أنّه ابن ملک آخر من ملوکها؟ وأصحّ الأقوال فی ذلک ما ذکره المبرّد فی الکامل، حیث قال: وصحّ عندی بعد أنّه من ولد النجاشی، فرغب فی الإسلام صغیراً(1).

وهذه بعض کلماتهم فی حقّ هذا الشهید (رض):

أقوال العلماء فیه

1 - قال النمازی: «نصر بن أبی نیزر: لم یذکروه، هو مولی أمیر المؤمنین، ومن أصحابه وأصحاب الحسن والحسین صلی الله علیه و آله و سلم، وتقدّم یوم الطفّ وتشرّف بالشهادة بین یدیه»(2).

2 - قال السماوی: «ونصر هذا، انضمّ إلی الحسین بعد علی بن أبی طالب والحسن، ثمّ خرج معه من المدینة إلی مکّة، ثمّ إلی کربلاء فقتل بها»(3).

ص:155


1- (1) معجم البلدان، نقلاً عن المبرّد فی الکامل: ج 4، ص 175.
2- (2) مستدرکات علم الرجال للنمازی: ج 8، 15529.
3- (3) إبصار العین: ص 72.

3 - قال صاحب الحدائق الوردیة: «ونصر هذا، انضمّ إلی الحسین بعد علی ابن أبی طالب والحسن، ثمّ خرج معه من المدینة إلی مکّة، ثمّ من مکّة إلی کربلاء، وکان فارساً شجاعاً»(1).

جدّ الشهید

اشارة

الحدیث عن جدّ الشهید الکربلائی حدیث طویل وله أبعاد متعدّدة، لأنّ هذا الجدّ هو الذی کان سبباً وراء هذا الانقلاب فی مسیرة هذه الأسرة الحبشیة النصرانیة، بل کان السبب وراء کلّ هذا الانقلاب من المسیحیة إلی الإسلام، الذی حصل فی الحبشة، کما سیأتینا.

بل أستطیع إن أقول إن لهذا الجدّ دیناً فی عنق کل مسلم ومسلمة، لأنه کان السبب الأکبر، بعد تسدیدات الله تبارک وتعالی، وراء عدم إرجاع المهاجرین من الحبشة مع وفد قریش الذین بعثوهم من أجل أن یأتوا بهم إلی قریش، لکی یسوموهم ألواناً من العذاب وأشکالاً من الأذی والاضطهاد، لعلّ شعلة الإیمان وأنوار الهدایة تنطفئ فی نفوسهم، وتخمد جذوة الحقّ التی أخذت الأعناق تشرئب إلیها؛ لأنّها کانت المنقذ الذی ینتظره کل مظلوم ومحروم ومضطهد ومستعبد.

النجاشی

إنّ کلمة النجاشی لم تکن اسماً خاصّاً لشخص معیّن، بل کانت لقباً یلقّب به کل من یجلس علی سدّة الحکم فی الحبشة، کما أن من جلس علی سدة الحکم فی بلاد فارس یطلق علیه کسری، وهکذا من یملک مصر یلقّب بفرعون،

ص:156


1- (1) وسیلة الدارین: ص 199.

وفی الروم یلقّب بقیصر، وفی الیمن تُبّع، وهکذا. یقول ابن خلکان فی الوفیات:

ثمّ إنّ الراضی لقبه بالأخشید فی شهر رمضان المعظم سنة سبع وعشرین وثلاثمائة، وإنّما لقّبه بذلک لأنّه لقب ملوک فرغانة وهو من أولادهم، وتفسیره فی العربیة ملک الملوک، وکلّ من ملک الناحیة لقبوه بهذا اللقب، کما لقبوا کل من ملک بلاد فارس کسری، وملک الترک خاقان، وملک الروم قیصر، وملک الشام هرقل، وملک الیمن تُبّع، وملک الحبشة النجاشی(1).

وقد وصف هذا الرجل من قبل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأجمل ما یمکن أن یوصف به شخص، ألا وهی العدالة، وهی تلک الصفة الإنسانیة ذات المعنی الجامع والکبیر، وهی هدف الأنبیاء والرسالات، من حیث إنّ هدفهم جمیعاً إقامة العدل والقسط وإحقاق الحقّ، یقول القرآن الکریم:

«لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَیِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْکِتابَ وَ الْمِیزانَ لِیَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِیدَ فِیهِ بَأْسٌ شَدِیدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ لِیَعْلَمَ اللّهُ مَنْ یَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَیْبِ إِنَّ اللّهَ قَوِیٌّ عَزِیزٌ2» .

فهنیئاً للنجاشی مدح رسول الله له بقوله صلی الله علیه و آله و سلم:

«لو خرجتم إلی أرض الحبشة فإنّ بها ملکاً لا یُظلم عنده أحدٌ، وهی أرض صدق، حتی یجعل الله لکم فرجاً ممّا أنتم فیه»(2).

ص:157


1- (1) وفیات الأعیان: ج 5، ص 58.
2- (3) سیرة ابن هشام: ج 1 ص 321.

ویبدو أنّ هذه الکلمة من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم للمسلمین، کانت بشارة لمستقبل عظیم ینتظرهم، فکانت هذه الکلمات کافیة لتبعث فی قلوبهم الأمل والاطمئنان، والیقین بأنّ الله مانعهم، وبأنّ الله بالغ أمره لا محالة.

ولقد عاش هذا الرجل العادل صفة العدالة فی نفسه، وحاول تطبیقها ونشرها من خلال إنصاف المظلوم من الظالم؛ لأنّه عاش مظلوماً طول حیاته، ظلمه أقرب المقرّبین إلیه وهو عمّه، ولیس هو فقط، بل حتی أبوه کان مظلوماً، فقد راح ضحیة الجشع والحقد، حیث نقل المؤرّخون أنّ أباه کان ملکاً علی الحبشة، ولم یکن له سوی ولد واحد وهو النجاشی، وکان له أخ له اثنا عشر ولداً، فتآمر الأخ مع أبنائه علی قتْل أخیه لیکون له الملک من بعده، ظنّاً منه أنّ الأمر إذا ورثه هو فسیکون لأبنائه من بعده، فیدوم الملک فیهم طویلاً، بینما لا یملک أخوه إلاّ ولداً واحداً وهو النجاشی، لذا فقد صمّم علی قتْل أخیه، وفعلاً لم تمضِ إلاّ مدّة وجیزة من الزمن حتی وثب الأخ علی أخیه فقتله وتولّی الأمر من بعده، فعاش النجاشی (جدّ الشهید الکربلائی) مع عمّه الذی قتل أباه.

وکان النجاشی قد عرف منذ ذلک الوقت بالذکاء والحکمة، حتی لقد أخذ بمجامع قلب عمّه فقرّبه إلیه دون أولاده الذین هم من صلبه، حتی لیذکر أنّ عمّه لم یعد یُبرم أمراً إلاّ بمشورته، فلمّا رأی أولاده ذلک منه حقدوا علی ابن عمّهم وخافوا منه کثیراً، خصوصاً وأنّ هاجس الملک کان یراودهم، وکانوا یخافون من ابن عمّهم أن یکون له نصیب من ذلک، کما أنّهم کانوا یعرفون بأنّه یعلم بمَن کان وراء قتل أبیه، فأقبلوا إلی أبیهم وبیّنوا له ما کان من مخاوفهم من هذا الرجل،

ص:158

والضرر الذی یمکن أن یلحقه بهم تقریبه له دونهم، ومن ثم أخذوا یزینون له قتله أو إخراجه من البلد، فقال:

أما وقد قتلت أباه فلن أقتله، لا یمکن أن یکون ذلک، بل أُخرجه خارج البلاد. وفعلاً أخرج النجاشی وبیع لتاجر فی السوق، فحمله التاجر معه فی السفینة.

قال ابن هشام: حتی إذا کان العشی من ذلک الیوم، هاجت سحابة من سحائب الخریف، فخرج عمّه یستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعت الحبشة إلی وُلده، فإذا هم محمقون، لیس فیهم خیر، فمرج علی الحبشة أمرهم. فلمّا ضاق علیهم ما هم فیه من ذلک قال بعضهم لبعض: تعلمون والله إنّ ملککم الذی لا یُقیم أمرکم غیره، هو الذی بعتموه غدرةً، فإن کان لکم بأمر الحبشة حاجة فأدرکوه.

فخرجوا فی طلبه، وطلبوا الرجل الذی باعوه منه حتی أدرکوه فأخذوه منه، ثمّ جاؤوا به فعقدوا علیه التاج وأقعدوه علی سریر المُلک(1).

وبتقدیری أنّ کلّ هذا الظلم الذی وقع علی النجاشی وعلی أبیه کان السبب وراء العدل الذی عرف به هذا الرجل (رض)، حتی أنّ المؤرخین لیذکرون بأنّ (عدل النجاشی وصل إلی درجة باتت تحتکم إلیه قریش فی خصومة زعمائها)(2).

کما أنّ أبناء النجاشی کانوا علماء ومحدّثین ومجاهدین، وکانت بلاد الحبشة علی عهده بلد أمن وأمان، ولهذا السبب أشار النبی صلی الله علیه و آله و سلم إلی جمع من

ص:159


1- (1) ابن هشام فی سیرته: ج 1 ص 419-420. سیر أعلام النبلاء: ج 1 ص 429-430. ابن إسحاق فی سیرته: ص 116.
2- (2) البلاذری فی الأنساب: ج 1 ص 73.

المسلمین الأوائل، وعلی رأسهم جعفر بن أبی طالب، بالتوجّه إلی الحبشة بعدما اشتدّ إیذاء قریش لهم.

ففی روایة عن الزهری أنه قال لهم صلی الله علیه و آله و سلم:

«تفرّقوا فی الأرض، قالوا: فأین یا رسول الله؟ قال: ها هنا، وأشار بیده إلی أرض الحبشة»(1).

وتقول أمّ سلمة: لمّا نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خیر جار، النجاشی؛ أمنّا علی دیننا، وعبدنا الله تعالی، لا نؤذی(2).

ویقول ابن حبان: (حتی قدموا أرض الحبشة وأقاموا بها علی الطمأنینة)(3).

وهذا قلیل من کثیر فی هذا المقام، ولعل عدل النجاشی وسیرته المحمودة فی قومه هو العامل الأهم فی جعلهم یتقبّلون النبوة الخاتمة صلی الله علیه و آله و سلم؛ هذا فضلاً عن علم النجاشی بحقیقة الأمر، ولقد أوضح القرآن الکریم هذه الحقیقة بقوله:

«اَلَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ یَعْرِفُونَهُ کَما یَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِینَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا یُؤْمِنُونَ 4» .

فإذا

ص:160


1- (1) المغازی النبویة، تحقیق سهیل زکار: ص 96.
2- (2) انظر: سیرة ابن هشام: ج 1 ص 413.
3- (3) السیرة النبویة وأخبار الخلفاء لابن حبان: ص 77.

کان أهل الکتاب الذین یتحدث عنهم القرآن الکریم قد حصل لهم معرفة برسول الله وبدینه الخاتم، فهم یعرفونه کما یعرفون أبناءهم، فکیف بمَن کان أعلم النصاری فی وقته، ألا وهو النجاشی؟!

یقول الشیخ أحمد زین دحلان، فی کتابه السیرة النبویة:

(إنّ النجاشی کان أعلم النصاری فی وقته بما أنزل علی عیسی، حتی أن قیصر الروم کان یرسل إلیه علماء النصاری لیأخذوا منه العلم)(1).

ولقد کان من صلاح هذا الرجل وعلمه الوفیر، وارتباطه بالله تبارک وتعالی، ما ذکره المجلسی فی بحاره:

(قال النجاشی: یا جعفر، هل تحفظ ممّا أنزل الله علی نبیّک شیئاً؟ قال: نعم، فقرأ علیه سورة مریم، فلمّا بلغ إلی قوله:

«وَ هُزِّی إِلَیْکِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَیْکِ رُطَباً جَنِیًّا * فَکُلِی وَ اشْرَبِی وَ قَرِّی عَیْناً2» .

فلما سمع النجاشی بهذا بکی بکاءً شدیداً وقال: هذا والله هو الحق)(2).

وأغلب الظنّ أنّ الرجل دخل فی الإسلام مبکّراً ببرکة جعفر وحنکته ومَن معه، ولکنّه لم یکن یری مصلحة فی إعلان هذا الأمر علی الملأ، وإن کان قد صدرت منه مواقف تدلل علی إیمانه وإسلامه وحبّه لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فعن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«لمّا قدم جعفر بن أبی طالب من الحبشة قال لرسول الله: أحدّثک

ص:161


1- (1) جریدة الوحدة، السبت، 7 محرم 1385 ه - 8، 5، 1965، بقلم مفتی ارتیریا الشیخ إبراهیم المختار.
2- (3) بحار الأنوار: ج 18، ص 415.

یا رسول الله، دخلت علی النجاشی یوماً من الأیام وهو فی غیر مجلس الملک، وفی غیر ریاشه وفی غیر زیّه، قال: فحیّیته بتحیّة الملک وقلت له: یا أیّها الملک، مالی أراک فی غیر مجلس الملک وفی غیر ریاشه وفی غیر زیّه، فقال: إنّا نجد فی الإنجیل أنّ مَن أنعم الله علیه بنعمة فلیشکر الله، ونجد فی الإنجیل أن لیس من الشکر لله شیء یعدله مثل التواضع، وأنّه ورد علیّ لیلتی هذه أنّ ابن عمّک محمد صلی الله علیه و آله و سلم قد أظفره الله بمشرکی أهل بدر فأحببت أن أشکر الله بما تری»(1).

ولا شکّ أنّ هذه وأمثالها لتشیر إلی أنّ الرجل کان قلبه متعلّقاً برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وبدینه، إلی درجة أنه یعد انتصاره نعمة کبیرة یجب فیها الشکر لله بما یناسبها، کما فی الروایة المتقدمة، نعم یمکن أن یکون إعلان هذا الإسلام وإظهاره قد أخّره لحین بعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بکتابه إلیه، حیث دعاه إلی الإیمان بالله ورسوله والدین الخاتم.

فقد ذکر الیعقوبی والطبری وغیرهما أن النبی صلی الله علیه و آله و سلم کتب إلی ملک الحبشة (النجاشی) کتاباً جاء فیه:

«بسم الله الرحمن الرحیم، من محمد رسول الله، إلی النجاشی عظیم الحبشة، سلام علی من اتبع الهدی؛ أمّا بعد، فإنّی أحمد إلیک الله الذی لا إله إلاّ هو الملک القدوس السلام المؤمن المهیمن، وأشهد

ص:162


1- (1) راجع بحار الأنوار: ج 18، ص 421-422.

أنّ عیسی بن مریم روح الله وکلمته ألقاها إلی مریم البتول الطیّبة الحصینة، فحملت بعیسی من روحه ونفخه، کما خلق آدم بیده، وإنّی أدعوک إلی الله وحده لا شریک له، والموالاة علی طاعته، وأن تتبعنی وتؤمن بی، فإنّی رسول الله، وإنّی أدعوک وجنودک إلی الله عزّ وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبل نصیحتی، والسلام علی من اتّبع الهدی»(1).

ولم یمض علی إرسال الکتاب إلاّ مدة وجیزة وإذا بالنجاشی یکتب کتاباً جواباً علی کتاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، یجسد فیه أعلی درجات الصدق والولاء للإسلام ولرسوله الکریم صلی الله علیه و آله و سلم حیث کتب:

(بسم الله الرحمن الرحیم، إلی محمد رسول الله، من النجاشی الأصحم بن أبحر، سلام علیک یا نبی الله ورحمة الله وبرکاته، من الله الذی لا إله إلاّ هو الذی هدانی إلی الإسلام؛ أمّا بعد، فقد بلغنی کتابک فیما ذکرت من أمر عیسی، فوربّ السماء والأرض إن عیسی ما یزید علی ما ذکرت ثفروقاً(2) ، إنّه کما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلینا، وقد قرینا ابن عمّک وأصحابه، فأشهد أنک رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بایعتک وبایعت ابن عمّک، وأسلمت علی یدیه لله رب العالمین، وقد بعثت إلیک یا رسول الله بابنی أریحا بن الأصحم بن أبحر، فإنّی لا أملک إلاّ نفسی، وإن شئت أن آتیک فعلت یا رسول الله، فإنّی أشهد أنّ ما تقول حق، والسلام

ص:163


1- (1) الیعقوبی: ج 5، ص 77. الطبری: ج 2، ص 297.
2- (2) ثُفْروق: بالثاء المثلّثة المضمومة، بعدها الفاء الساکنة: جمعة ثفاریق، وهی الأقماع - جمع قِمَع - التی تلزق بالبُسر. والبُسر هو التمر قبل أن یصیر رُطباً، واحدته بُسرة.

علیک یا رسول الله)(1).

وبعث الکتاب إلی رسول الله ومعه هدایا له، حیث نقل المؤرخون أنه أهدی إلیه خفین وحله وقارورة طیب وثلاث غزات(2) وهکذا ظل النجاشی الحصن الحصین للإسلام فی الحبشة، إلی أن لبّی نداء ربّه، وقد دعا إلی الله وعمل صالحاً وقال إننی من المسلمین، وکان یوم وفاته یوم حزن وألم علی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ففی عیون أخبار الرضا علیه السلام، بإسناده عن آبائه عن علی علیه السلام قال:

(إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لمّا أتاه جبرئیل ینعی النجاشی، بکی بکاء حزین علیه وقال: إنّ أخاکم أصحمة - وهو اسم النجاشی - مات.

ثمّ خرج إلی الجبانة وکبّر سبعاً، فخفض الله له کلّ مرتفع، حتی رأی جنازته وهو بالحبشة)(3).

وقد فهم علماؤنا من هذا الذی قام به رسول الله فی خصوص الصلاة علی جنازة النجاشی وهو بعید عنه، بأن هذا الأمر مختصّ بالنجاشی وبما قام به رسول الله، ولا یتعدّی إلی غیره، بل القیاس کما فی الروایات، أی لابد أن توضع جنازة المیّت أمام المصلّی حتی تتمّ الصلاة علیها، بینما فهمت المدرسة الأخری أنّ هذا الأمر غیر مختصّ بالنجاشی، بل ویتعدّاه إلی غیره، فیجوز أن تؤدّی صلاة المیت مع عدم وجود جسد المیت أمام المصلّی، وهو ما یعرف بالصلاة علی الغائب.

ص:164


1- (1) نفس المصدر.
2- (2) السیرة الحلبیة، باب غزوة بدر الکبری.
3- (3) بحار الأنوار: ج 18، ص 418.

یقول النووی فی المجموع: (مذهبنا جواز الصلاة علی الغائب عن البلد، ومنعها أبو حنیفة، ودلیلنا حدیث النجاشی، وهو صحیح لا مطعن فیه، ولیس لهم عنه جواب صحیح)(1).

بینما یشترط علماؤنا حسب روایات أهل البیت فی صحّة الصلاة علی المیت، جملة من الشروط، منها وجود المیت أمام المصلی(2).

مع ابن عم الشهید

ذکر المؤرخون فی کتبهم وفی سیر رسول الله، أن ذا مخبر کان ابن أخی الملک النجاشی، هاجر مع أبناء عمه (أولاد النجاشی) إلی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وحسن إسلامه، وقربه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلیه، حتی طلب أن یکون خادماً لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقبل النبی ذلک، فعاش فی أکناف النبوة وألطاف الرسالة.

وممّا لا ریب فیه أنه قد نال فی عمله وخدمته هذه شرفاً عظیماً وأجراً لا یعلم قدره إلا الله، حیث سخره الله لخدمة سید الخلق؛ لأنّ خدمته صلی الله علیه و آله و سلم شرف عظیم، وإضافة إلی کل ما تقدم، فقد عد من أصحاب الأحادیث والرواة الموثوقین.

یقول ابن حجر فی الإصابة: (ذو مخبر یُقال ذو مخمر الحبشی، ابن أخی النجاشی، وفد علی النبی صلی الله علیه و آله و سلم وخدمه، ثم نزل الشام، وله أحادیث)(3).

ص:165


1- (1) المجموع للنووی: ج 5، ص 211.
2- (2) انظر: منهاج الصالحین للسید السیستانی: ج 1، ص 107.
3- (3) ابن حجر فی الإصابة: ج 2، ح 2471.

ومن الأحادیث التی رواها القوم عنه (رض) فیما یخص الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف، وما یجری من الأحداث قبله، والتی أدخلها بعضهم فی روایات الفتن والملاحم، ومنها هذه الروایة، یقول ابن حبان: (أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحی قال: حدثنا علی بن المدینی قال: حدثنا الولید بن مسلم، عن الأوزاعی، عن حسن بن عطیة، عن خالد بن معدان، عن جبیر ابن نفیر، عن ذی مخبر بن أخی النجاشی أنه سمع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یقول:

«ثمّ تصالحون الروم صلحاً أمناً، ثمّ تغزون أنتم وهم عدوّاً من ورائهم، فتنتصرون وتغنمون، وتنصرفون حتی تنزلوا برج ذی تلول، فیقول قائل من الروم: غلب الصلیب، ویقول قائل من المسلمین: بل الله غلب، فیثور المسلم إلی صلیبهم وهو منه غیر بعید فیدقه، وتثور الروم إلی کاسر صلیبهم فیضربون عنقه، ویثور المسلمون إلی أسلحتهم فیقتتلون، فیکرم الله تلک العصابة من المسلمین بالشهادة، فتقول الروم لصاحب الروم: کفیناک العرب، فیجتمعون للملحمة، فیأتونکم تحت ثمانین غایة، تحت کلّ غایة اثنا عشر ألفاً»)(1).

أعمام الشهید الکربلائی

اشارة

کان للشهید الکربلائی أعمام کرام، کما هو شأن أبیهم آمنوا وحسن إیمانهم، وتحوّلوا إلی دعاة إلی الله مع أبیهم منذ اللحظة الأولی، وکل هذه الأوصاف التی تمتّعت بها هذه الأسرة التی ینتمی لها الشهید لتکشف وبشکل

ص:166


1- (1) ابن حبان: ج 15، ص 101 ح 6708. مسند أحمد: ج 4، ص 91.

واضح عن تلک الشخصیة، وعلی کل حال، فإنّ المؤرخین ذکروا بأنّ للنجاشی أولاداً؛ ثلاثة منهم متّفق علیهم، وواحد ذکره بعضهم، وهم علی النحو التالی:

1 - أریحا بن أصحمة

أرسله والده إلی رسول الله مع ستّین من رجالات الحبشة ومعه کتاب إلی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولکن شاءت الأقدار أن یقبض الله أرواحهم قبل وصولهم إلی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، حیث عصفت بهم الریح وهم علی السفینة فغرقوا جمیعاً.

یقول ابن حجر: (أرمی ویُقال أرهی ویُقال أریحا بن أصحمة بن أبحر، ولد النجاشی، قال أبو موسی: ذکر الإمام أبو القاسم إسماعیل، یعنی شیخه التیمی فی المغازی، أنه فی السنة السابعة کتب النبی إلی الملوک وبعث إلیهم الرسل، فذکر القصّة، وبعث إلی النجاشی عمرو بن أمیّة قال: فکتب إلیه النجاشی الجواب بالإیمان، وفی کتابه: إنی بعثت إلیک ابنی أرمی بن أصحمة... إلی أن یقول: قال: فخرج ابنه فی ستّین نفساً من الحبشة، فی سفینة فی البحر فغرقوا کلّهم، وهکذا ذکرها أبو موسی عن شیخه بلا إسناد، لکن سمّاه أریحا، والله أعلم)(1).

ص:167


1- (1) الإصابة: ج 1، ص 336، ح 438.
2 - عبد الله بن أصحمة بن أبحر النجاشی

ولد فی أیام وجود الصحابة بأرض الحبشة، یقول ابن حجر: (عبد الله بن أصحمة النجاشی، ولد النجاشی، ذکر الزبیر بن بکّار أن أسماء بنت عمیس أرضعته مع ولدها عبد الله بن جعفر حتی فطم)(1).

وینقل السهیلی بأنّ سبب تسمیة النجاشی ولده عبد الله، هو تسمیة جعفر ولده عبد الله، حیث یقول:

(وکان جعفر قد ولد بأرض الحبشة محمداً وعوناً وعبد الله، وکان النجاشی قد ولد له مولود یوم ولد عبد الله، فأرسل إلی جعفر یسأله کیف أسمیت ابنک؟ فقال: أسمیته عبد الله، فسمّی النجاشی ابنه عبد الله، وأرضعته أسماء بنت عمیس امرأة جعفر مع ابنها عبد الله، فکانا یتواصلان بتلک الأخوّة)(2).

ویا لها من أخوّة جمعت بین قلوب لا یمکن لها أن تجتمع إلاّ من خلال الإیمان بالله سبحانه وتعالی، ونبیه صلی الله علیه و آله و سلم، ولقد أشار القرآن الکریم إلی هذه الأخوّة الإیمانیة دون الأخوّة النسبیة؛ لأنّ الأخوّة النسبیة قد تکون مع الإیمان وقد لا تکون، بینما لا تجد فی الأخوّة الإیمانیة إلا الله والرسالة والإسلام والدین.

3 - والد الشهید الکربلائی (أبو نیزر)
اشارة

ترجم له ابن حجر فی الإصابة بقوله:

(بکسر أوله وسکون التحتانیة المثنّاة وفتح الزای المنقوطة بعدها مهملة، ذکره الذهبی مستدرکاً وقال: یقال إنه ولد النجاشی، جاء وأسلم، وکان مع النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی مؤنته)(3).

وقد ورد فی وقت إسلامه وکیفیته، أنّ أباه النجاشی لمّا صنع ما صنع به، حیث باعوه إلی تاجر؛ یذکر السهیلی فی کتابه الروض الأنف، بأنّ التاجر کان

ص:168


1- (1) الإصابة: ج 5، ص 63، ح 6315.
2- (2) الروض الأنف للسهیلی: ج 4، ص 80.
3- (3) الإصابة لابن حجر: ج 7، ح 10654.

عربیاً من بنی حمزة، فأخذه معه إلی مکّة، وعاش هناک مدة من الزمن لیس بالقلیلة(1) ، وعلی ما یبدو أنّ ولادة أبی نیزر کانت هناک.

ویبدو لی أنّ هذه الروایة التی یذکرها السهیلی هی الأقرب إلی الأحداث التاریخیة التی ذکرها المؤرّخون عن الحبشة وملکها النجاشی، وما جری علیه، حیث إنّنا من خلال هذه الروایة نستطیع أن نضمن مضیّ مدة لیست بالقلیلة علی تسلّم عمّ النجاشی الحکم ومقتله بالصاعقة، ومجیء أولاده وحکمهم بعد أبیهم، ومضی مدّة علی حکمهم، حتی مرج أمر الحبشة وماج، وأیقن الناس أنّ الأمر لا یمکن أن یستمرّ أکثر من ذلک، وأخذوا یبحثون عن النجاشی إلی أن وجدوه فی مکّة، ثمّ أخذوه وتوّجوه ملکاً علیهم.

هذه الروایة ربّما تکون هی الأقرب إلی الواقع بحسب ما تقدم من الأحداث، بخلاف تلک التی ذکروها، والتی تقول بأنّ التاجر حینما أخذ النجاشی وأرکبه فی السفینة، سقطت الصاعقة علی عمّه وفی عشیّة نفس الیوم هاجت السحابة فقتلته، ومرج أمر الحبشة، وتبعوا التاجر حتی أخذوا منه النجاشی.

وحیث إنّ هناک أحداثاً مهمة قد وقعت، فمن غیر المعقول أن تکون قد وقعت دون مضی مدّة زمنیة، ومن ثم فنحن نمیل إلی أنّ النجاشی قد ولد له أبو نیزر وهو لا یزال فی مکّة مولیً لبنی حمزة، کما ذکر هو بنفسه ذلک، ونرجّح کذلک أنّ أبا نیزر لم یرجع مع أبیه إلی الحبشة عندما جاءه الطلب، وظلّ هناک إلی أن سطع نور الإسلام وبانت معالمه، وحصلت الهجرة الشریفة للحبشة، ودخل

ص:169


1- (1) الروض الأنف: ج 2 ص 80.

النجاشی فی الإسلام، عندها، وفی تلک الحقبة، وجد علی بن أبی طالب أبا نیزر فی مکّة مولیً عند بنی حمزة کما کان أبوه، أو ربّما عند آخرین، فعرفه وأعتقه ردّاً للجمیل الذی صنعه أبوه مع المسلمین فی الحبشة.

وفی روایة یونس عن ابن إسحاق أنّ أبا نیزر مولی علی بن أبی طالب، کان ابناً للنجاشی نفسه، وأنّ علیاً وجده عند تاجر بمکّة، فاشتراه منه وأعتقه، مکافأة لما صنع أبوه مع المسلمین، وذکروا أن الحبشة مرج علیها أمرها بعد النجاشی، وأنّهم أرسلوا وفداً منهم إلی أبی نیزر وهو مع علی بن أبی طالب لیملّکوه ویتوّجوه ولم یختلفوا علیه، فأبی وقال: ما کنت أطلب الملک بعد أن منّ الله علیّ بالإسلام(1).

وفی روایة ثانیة، أنّه قدم علی أبی نیزر بن النجاشی - وکان علی أعتقه - ناس من الحبشة، فأقاموا عنده شهراً ینحر لهم علی بن أبی طالب ویضع لهم الطعام، فقالوا له: إن أمر الحبشة قد مرج علیهم، فانطلق معنا نملّکک علیهم، وإنّک ابن من قد علمت، فقال: أما إذا أکرمنی الله بالإسلام، ما کنت لأفعل، فلمّا أیسوا منه رجعوا وترکوه(2).

ویا له من موقف کریم یعجز البیان عن مدحه أن یعرض الملک والسلطان علی إنسان فیرفضه، لا لشیء إلا لأجل الإسلام، حیث لا یرید ملکاً وسلطاناً ما دام قلبه عامراً بحبّ الله ونبیّه وأهل البیت علیهم السلام وهذا إن دلّ علی شیء فإنّما یدلّ علی سعة اطلاعه ومعرفته بحقیقة هذه الدنیا الفانیة، وعمق بصیرته فیها، فأصبحت لا تساوی شیئاً عنده، وهذه هی سیرة الصالحین والأبرار.

ص:170


1- (1) انظر: معجم البلدان: ج 4، ص 175.
2- (2) انظر: المغازی والسیر: ص 221.
عین أبی نیزر والبغیبغة

ولقد قدّر علی ذلک فی والد الشهید، فربّاه وعلّمه، وأعطاه کرامة من کراماته التی بقیت حتی یومک هذا، حیث فجر عیناً وأسماها بعین أبی نیزر، وسلّمها إلیه یعمل فیها وکالة عن الإمام أمیر المؤمنین بل وکان مسؤولاً حتی عن مواردها المالیة التی لم تکن قلیلة، فقد أشار المؤرّخون إلیها, وإلی البغیبغة وهم یتحدّثون عن صدقات علی علیه السلام فی المدینة وینبع، إشارة إلی أهمّیتها المالیة، والتی کانت تصل سنویاً إلی أربعین ألف دینار، کما تحدث هو علیه السلام عنها بقوله:

«وإنّی لأربط الحجر علی بطنی من الجوع، وإنّ صدقة مالی لتبلغ أربعین ألف دینار»(1).

یقول أبو نیزر کما ینقل ذلک جملة من المؤرخین:

(جاءنی علی بن أبی طالب وأنا أقوم بالضیعتین، عین أبی نیزر والبغیبغة، فقال: هل عندک من طعام؟ فقلت: عندنا طعام لا أرضاه لک، قرعُ من قرع الضیعة صنعته بإهالة سنخة(2) ، فقال: علیّ به، فقام إلی الربیع - وهو الجدول - فغسل یده فأصاب من ذلک شیئاً، ثمّ رجع إلی الربیع فغسل یده بالرمل حتی أنقاها، ثمّ ضم یدیه کل واحدة إلی أختها، ثمّ شرب بها حساً من الربیع، ثم قال: یا أبا نیزر، إن الأکف أنظف الآنیة. ثمّ مسح من ذلک الماء علی بطنه، ثمّ قال: َن أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثمّ أخذ المعول وانحدر إلی العین، فأقبل یضرب فیها، وأبطأ علیه

ص:171


1- (1) الصحیح من السیرة: ج 8 ص 253، محمد بن سلیمان؛ مناقب أمیر المؤمنین: ج 2 ص 66؛ حلیة الأولیاء: ج 1 ص 86؛ السیرة الحلبیة: ج 2 ص 473.
2- (2) یعنی بسمن غیر جیّد، لسان العرب: ج 3 ص 27.

الماء، فخرج وقد تفضخت جبهته عرقاً، فاستشف العرق من جبینه، ثمّ أخذ المعول وعاد إلی العین فأقبل یضرب فیها وجعل یهمهم، فانثالت کأنّها عنق جزور، فخرج مسرعاً فقال:

أشهد الله أنّها صدقة، علیّ بدواة وصحیفة.

قال أبو نیزر: فعجلت بها إلیه، فکتب:

«بسم الله الرحمن الرحیم، هذا ما تصدق به عبد الله علی أمیر المؤمنین؛ تصدق بالضیعتین المعروفتین بعین أبی نیزر والبغیبغة، علی فقراء أهل المدینة وابن السبیل، لیقی الله وجهی حرّ النار یوم القیامة، ولا تباعا ولا توهبا حتی یرثهما الله وهو خیر الوارثین، إلا أن یحتاج إلیهما الحسن أو الحسین فهما طلق(1) ، لهما لیس لأحد غیرهما)(2).

وفی روایة أخری ذکر فیها أمیر المؤمنین أبا نیزر بالاسم، وأنّه عامل فی هذا الوقف، وهو حر فی نفس الوقت. یقول العلامة النوری فی مستدرک الوسائل:

(وعن أمیر المؤمنین أنّه أوصی بأوقاف أوقفها من أمواله ذکرها فی کتاب وصیته، کان فیما ذکره منه:

«هذا ما أوصی به وقضی فی ماله أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب

ص:172


1- (1) طلق: حلال.
2- (2) مناقب أمیر المؤمنین لمحمد بن سلیمان: ج 2 ص 81، الإصابة: ج 7 ح 10654؛ المغانم المطابة فی معالم طابة للفیروز آبادی: ج 3 ص 968.

ابتغاء وجه الله به... غیر أن رباحاً وأبا نیزر وجبیراً عتقاء لیس لأحد علیهم سبیل، وهم موالی یعملون فی المال خمس حجج، وفیه نفقتهم ورزقهم ورزق أهالیهم»)(1).

یقول السید محسن الأمین، بعد أن یورد خبر أبی نیزر وخبر وصیّة وقف أمیر المؤمنین:

(قال محمد بن هشام: فرکب الحسین دین فحمل إلیه معاویة بعین أبی نیزر مائتی ألف دینار، فأبی أن یبیع وقال:

إنّما تصدق بها أبی لیقی بها وجهه حر النار، ولست بائعها بشیء.

قال: وتحدّث الزبیریون أنّ معاویة کتب إلی مروان وهو والی المدینة، وذکر ما مضمونه أنّه کتب إلیه یخطب أم کلثوم بنت عبد الله بن جعفر علی ابنه یزید، وأن یرغب له فی الصداق، فقرأ الکتاب علی عبد الله فقال: إنّ خالها الحسین بینبع، ولیس ممّن یقتات علیه بأمر ما. انتظرنی إلی أن یقدم، وکانت أمّها زینب بنت علی بن أبی طالب علیه السلام، فلمّا قدم الحسین ذکر له ذلک عبد الله، فدخل إلی الجاریة فقال: یا بنیة، إنّ ابن عمّک القاسم بن محمد بن جعفر أحقّ بک، ولعلّک ترغبین فی کثرة الصداق، وقد نحلتک البغیبغات، فلمّا حضر القوم للإملاک تکلم مروان، فذکر معاویة وما قصده من صلة الرحم وجمع الکلمة، فتکلم الحسین فزوّجها من القاسم بن محمد، فقال مروان: أغدراً یا حسین! فقال:

أنت بدأت، خطب أبو محمد عائشة بنت عثمان بن عفّان، واجتمعنا

ص:173


1- (1) مستدرک الوسائل للعلامة النوری: ج 14 ح 16089.

لذلک، فزوجتها من عبد الله بن الزبیر.

فقال مروان: ما کان ذلک، فالتفت الحسین إلی محمد بن حاطب فقال: أنشدک الله، أکان ذلک؟ قال: اللّهمّ نعم. قال: فلم تزل هذه الضیعة فی ید بنی جعفر من ناحیة أم کلثوم یتوارثونها، حتی ملک المأمون، فذکر ذلک له فقال:

کلا، هذا وقف علی بن أبی طالب علیه السلام.

فانتزعها من أیدیهم وعوضهم عنها وردّها إلی ما کانت علیه)(1).

وفی خبر آخر نقله ابن شهر آشوب، ما مختصره:

(عن عبد الملک بن عمیر والحکم والعباس قالوا: خطب الحسن علیه السلام عائشة بنت عثمان، فقال مروان: أزوجها عبد الله بن الزبیر، فلمّا قبض الحسن ومضت أیام من وفاته، کتب معاویة إلی مروان، وهو عامله علی الحجاز، یأمره أن یخطب أم کلثوم بنت عبد الله بن جعفر لابنه یزید، فأخبر مروان عبد الله بذلک فقال: إنّ أمرها لیس لی إنّما هو إلی سیدنا الحسین وهو خالها، فأخبر الحسین بذلک فقال: أستخیر الله تعالی؛ اللّهمّ وفّق لهذه الجاریة رضاک من آل محمد، فلما اجتمع الناس فی المسجد، أقبل مروان حتی جلس إلی الحسین وقال: إن أمیر المؤمنین معاویة أمرنی أن أخطب أم کلثوم لابنه یزید، وأن أجعل مهرها حکم أبیها بالغاً ما بلغ، وأن الحسین قال له: لعمری لو أردنا ذلک ما عدونا سنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فی بناته ونسائه وأهل بیته، وهو اثنتا عشرة أوقیة، یکون أربعمائة وثمانین درهماً. ثم ذکر حواراً دار بینهما ثم قال الحسین:

ص:174


1- (1) السید محسن الأمین فی کتابه فی رحاب أهل البیت تحت عنوان: عین أبی نیزر والبغیبغة.

«اشهدوا أنی قد زوجت أم کلثوم من ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر علی أربعمائة وثمانین درهماً، وقد نحلتها ضیعتی بالمدینة، أو قال أرضی بالعقیق، وأن غلتها فی السنة ثمانیة آلاف دینار»)(1).

وفی الإصابة، نقلاً عن المبرد فی الکامل، وهو یتحدّث عن أبی نیزر وضیعته أنّه کان یقوم بضیعة علی فی ینبع، تسمی أحداهما البغیبغة والأخری عین أبی نیزر(2).

ومن کلّ ما تقدم یتبین أن جلالة الرجل وقربه من أمیر المؤمنین، وأمانته، جعله یحظی بثقة الإمام علی علیه السلام فیفوض إلیه أمر أهم ضیعتین یملکهما الإمام، والتی دفع معاویة فی واحدة منهما وهی عین أبی نیزر، قرابة الربع ملیون دینار، وفی نفس الوقت أکرمه مرة أخری بأن خصه بحدیث الوقف الذی تقدم، والذی اعتمده فیه دون بقیة أصحابه ومعتمدیه، ولا شک أن مثل هذا یدلل علی أنه صاحب منزلة ومقام کریم عند الإمام علیه السلام.

ولقد علق السید محسن الأمین، بعد ذکره لروایة أبی نیزر المتقدمة، بنقاط مهمة فیها العظة والعبرة، أحببت إیرادها کما ذکرها (رض) فیما یخص قصة مجیئه إلی أبی نیزر فی ضیعته والتماسه الطعام منه، وهی:

1 - غایة زهده بأکله القرع المطبوخ بالودک المتغیر الرائحة، ولعله کان بغیر خبز، وهی واحدة من کثیر مما یدل علی غایة زهده.

ص:175


1- (1) انظر: فی رحاب أهل البیت: ج 1 باب عین أبی نیزر والبغیبغة للسید محسن الأمین.
2- (2) المصدر السابق.

2 - استحباب غسل الیدین قبل الأکل.

3 - استحباب غسل الیدین بعده.

4 - قوله: من أدخله بطنه النار فأبعده الله، موعظة بالغة، فأکل الحرام الذی هو لذة ساعة ثم یصیر عذرة، إذا کان یوجب دخول النار لا یفعله عاقل.

5 - الحث علی العمل والکد بضربه بالمعول حتی تفضخ جبینه عرقاً، واستئنافه الضرب حتی استنبط الماء الغزیر.

6 - تأکد استحباب الوقف فی سبیل الخیر.

7 - استحباب المسارعة إلی فعل الخیر، فلذلک بادر إلی الوقف بدون مهلة.

8 - استحباب الکتابة للوقف وغیره، فلذلک بادر إلی طلب الدواة.

9 - المراد بالصدقة هنا الوقف، وقد سمی الوقف صدق جاریة، أی دائمة.

10 - إنّ الوقف یجوز اشتراط الرجوع فیه عند الحاجة ولا یفسد بذلک، لقوله: إلا أن یحتاج إلیهما الحسن أو الحسین فهما طلق لهما إلخ، فجعل ذلک لهما دون باقی ولده، إلا أن الحسین لما فیه من سمو النفس وشرف الطبع لم یرض أن یبیع عین أبی نیزر من معاویة بمائتی ألف دینار، التی تقرب من مائة ألف لیرة عثمانیة ذهباً، وقد رکبه الدین، لتبقی هذه المکرمة وثوابها لأبیه، وإن رخص له فی بیعها عند الحاجة وقال:

إنّما تصدق بها أبی لیقی بها وجهه حرّ النار، ولست بائعها بشیء.

ص:176

تفدیک نفسی أبا عبد الله، وأی عمل عمله أبوک یخشی منه لفح النار لوجهه؟! ویمکن أن یرید بقوله: إلاّ أن یحتاج إلیهما الحسن والحسین، الأعم من الحاجة إلی البیع أو إلی غلّتها، فلهما أخذها ولا یلزمهما التصدق بها علی الفقراء وابن السبیل(1).

ویبدو أن المدة التی عاشها أبو نیزر مع علی علیه السلام لم تکن قلیلة، حیث ینقل السید محسن الأمین بأن علیاً اشتراه من تاجر وهو صغیر وأعتقه، ثم جاء به إلی النبی صلی الله علیه و آله و سلم فأسلم، وبقی عنده إلی وفاته، فانتقل إلی بیت علی، فصار مع فاطمة وولد هاشم، ثم جعله فی الضیعتین(2).

وأزید علی کلامه قدس سره: وتزوج فی أیام علی علیه السلام، وأنجب الشهید الکربلائی، وتربی هو الآخر فی أحضان الإمامة والطهر والولاء لمحمد وآل محمد.

ویبدو من خلال الروایات أنّ أبا نیزر لم یکن أسود کما هو حال أهل الحبشة ومن ینسب إلیها، بل کان صاحب بشرة بیضاء، جمیل المنظر. یقول ابن إسحاق فی سیرته: (قال: حدّثنی والدی إسحاق بن یسار قال: رأیت أبا نیزر ابن النجاشی، فما رأیت رجلاً قط عربیاً ولا أعجمیاً أعظم ولا أطول ولا أوسم منه...، ثم یقول: فقلت لأبی: أکان أبا نیزر أسود کسواد الحبشة؟ فقال: لو رأیته لقلت رجل من العرب)(3).

ص:177


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) انظر: فی رحاب أهل البیت للسید أمین تحت عنوان عین أبی نیزر والبغیبغة.
3- (3) سیرة ابن إسحاق: ج 2، حدیث الهجرة الأولی إلی الحبشة.

الشهید فی کربلاء

لقد أبت غیرة الرجل المؤمن الصادق فی إیمانه أن یسکن إلی الدعة والراحة کما سکن إلی ذلک الکثیر، وهو الذی عاش فی أحضان أهل البیت علیهم السلام الذین لم ینقل التاریخ عن واحد منهم أنّه هادن ظالماً أو مالأ مستکبراً، معاذ الله، هذه الأحضان التی زرعت حب الإسلام فی نفسه وعقله وقلبه، کما زرعته فی قلب أبیه، حتی وصل هذا الحب إلی درجة عرضت علیه تیجان الملوک فرفضها، فضلاً عن أصالة الأسرة التی ینتمی إلیها الشهید نصر، حیث عرفت فی الجاهلیة قبل الإسلام، وفی الظلام قبل النور، بأنّها کانت ملجأ المظلومین والمحرومین، حیث کانت تنشر العدل فی ربوع الأرض، فلقد کان جدّه ملکاً عادلاً لا یظلم عنده أحد.

أقول: لقد أبت کلّ هذه المعانی السامیة التی جسّدها شهید کربلاء، أن یبقی ینظر إلی الظلم الأموی نازلاً علی رؤوس المسلمین ولا یحرک ساکناً، أن یری الحق یصرف عن أهله ولا یرفع صوته بالرفض، فضلاً عن القلب والید، ولذا کان أول المبادرین إلی الذهاب مع رکب الشهادة، من أجل أن یسیر علی نهج جده وأبیه فی نصرة الإسلام والدفاع عن أهله، ویشترک فی جمع الأصحاب فی تلک الملحمة الإلهیة العظمی، وقبل أن یبدأ القتال تحرک الحسین علیه السلام علی اتجاهین أساسیین:

1 - الاتجاه الأول: تعبئة الصفوف وتهیئة عسکره ومن معه للحرب.

2 - حدیثه مع جیش عمر بن سعد وموعظته لهم بأن ینزلوا عن غیهم

ص:178

وطغیانهم، والذی أدی إلی استجابة ذوی البصائر والإیمان منهم، وبینما الحسین کذلک وإذا بالسهام أخذت تتری علی مخیم أبی عبد الله الحسین علیه السلام، وإذا بصوت عمر بن سعد(1): اشهدوا لی عند الأمیر عبید الله بن زیاد أنّی أوّل مَن رمی، ثمّ رمی الناس من حوله.

وبدأت الحملة الأولی، وکان لنصر بن أبی نیزر حصة الأسد فی حصد رؤوس الکفر والفسوق، حیث قاتل فارساً فکان یصول ویجول فی أوساط المعرکة، إلی أن عقرت فرسه وسقط إلی الأرض شهیداً مضمّخاً بدمه (رض).

وقد عانقت روحه الحور العین مهللة ومکبرة، فرحاً بهذا الفوز العظیم، فخرج من الدنیا متشحاً بحلة النصرة لسید الشهداء علیه السلام، یقول السید الزنجانی فی وسیلة الدارین: وکان فارساً شجاعاً، فلما کان یوم العاشر من المحرم وشب القتال، استقدم أمام الحسین، فقاتل حتی عقرت فرسه، ثم قتل فی أول القتال من الحملة الأولی(2). فسقط شهیداً إلی جانب جمع من الشهداء الأبرار، فسلام علیکم بما صبرتم فنعم عقبی الدار.

ص:179


1- (1) وسیلة الدارین: 199.
2- (2) انظر: إبصار العین: ص 72.

الشهید مسلم بن کثیر الأزدی الأعرج علیه السلام

اشارة

یحمل الحدیث عن هذه الشخصیة جملة من النقاط المهمة التی لم یشارکه فیها غیره من شهداء کربلاء، وهذا ما سیتبین لنا من خلال الحدیث عنه، ولکننا وقبل أن نلج فی سیرته وحیاته، نود أن نسلط الأضواء علی کلمات الأعلام فی حقه (رض).

کلمات العلماء فی الشهید

1 - قال المحقق السماوی: «مسلم بن کثیر الأعرج الأزدی - أزدشنؤة - الکوفی، کان تابعیاً کوفیاً، صحب أمیر المؤمنین وأصیبت رجله فی بعض حروبه»(1).

2 - وقال النمازی: «مسلم بن کثیر الأعرج من أصحاب رسول الله وأمیر المؤمنین صلی الله علیه و آله و سلم، وتشرف بشهادة الطف فی الحملة الأولی»(2).

3 - وقال الزنجانی: وقال العسقلانی فی الإصابة: «هو أسلم بن کثیر بن قلیب

ص:180


1- (1) إبصار العین: ص 185.
2- (2) مستدرکات علم الرجال، للنمازی: ج 7 ص 415 ح 14919.

الصدفی الأزدی الکوفی، له إدراک مع النبی صلی الله علیه و آله و سلم، وذکره ابن یونس وقال: شهد فتح مصر فی زمان عمر بن الخطاب»(1).

4 - قال السید الخوئی:

«مسلم بن کثیر الأعرج من أصحاب الحسین، رجال الشیخ. وعده ابن شهر آشوب من المقتولین فی الحملة الأولی، وقد نسب التسلیم إلیه فی زیارتی الناحیة والرجبیة»(2).

5 - قال الشهید المحلی، صاحب الحدائق الوردیة، وهو یتحدث عمن قتل مع الحسین: «

ومن الأزد مسلم بن کثیر

»(3).

الاختلاف فی اسم الشهید الکربلائی

وبهذا تبین أن الشهید قد اختلف فی اسمه، حیث ذهب الأکثر، کما هو واضح، إلی أنه مسلم(4).

وقال بعضهم هو أسلم(5) ، وهناک من ذهب إلی أن اسمه هو سلیمان بن کثیر الأزدی(6) وکناد بن کثیر(7).

ص:181


1- (1) وسیلة الدارین: ص 106.
2- (2) معجم رجال الحدیث، للخوئی: ج 19 ص 167.
3- (3) الحدائق الوردیة: ص 26.
4- (4) کالمحقق السماوی فی إبصار العین، والنمازی فی المستدرکات، والخوئی فی المعجم.
5- (5) کما ذهب إلی ذلک الزنجانی فی وسیلة الدارین، وآخرون ولکنهم قلة.
6- (6) کما ذکره الشیخ شمس الدین فی أنصار الحسین: ص 109.
7- (7) المصدر السابق.

وقد ورد فی زیارة الناحیة التی أوردهاالسید ابن طاووس «السلام علی مسلم ابن کثیرالأزدی»(1).

وفی الرجبیة «السلام علی سلیمان بن کثیر»(2).

صحبة الشهید لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم

واختلفوا فی صحبة الشهید لرسول الله، حیث ذهب الزنجانی والنمازی(3) ، إلی أنه من أصحاب الرسول، بینما ذهب آخرون إلی أنه تابعی کبیر(4).

الاختلاف فی اسم والد الشهید

کما اختلفوا فی اسم أبیه حیث ذهب الأکثر إلی أنه کثیر بن قلیب الأزدی.

وذهب بعضهم إلی أنه کثیر بن مرة الأزدی(5).

وقال بعضهم: هو کثیر بن أبی کثیر، وقد مال ابن الأثیر(6) ، إلی أنه هو نفسه کثیر بن قلیب، حیث إن اسمه قلیب، وأما أبو کثیر فکنیته.

ولکنهم اتفقوا علی أن والد الشهید الکربلائی شهد فتح مصر ثم سکن فیها، واتفقوا علی صحبته لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

ص:182


1- (1) الإقبال: ص 577.
2- (2) البحار: ج 101 ص 340-341؛ وصاحب الحدائق.
3- (3) المصدر نفسه: رقم 2.
4- (4) إبصار العین: ص 185.
5- (5) تهذیب التهذیب، حرف الکاف: ص 759.
6- (6) الإصابة: ج 5 ح 7489.

والد الشهید

اشارة

تحدثت کتب التاریخ والحدیث عن والد الشهید الکربلائی وذکرته فی مجالات مختلفة، حیث عُدّ راویاً ثقة لأحادیث رسول الله، حیث تؤخذ منه أحکام الشریعة ومفاهیم الدین، وسنذکر بعد قلیل ما رواه هذا الصحابی الجلیل، وما یحمل فی طیّاته من عظة وعبرة لنا جمیعاً، کما ذکر المؤرخون والد الشهید فی قصص الجهاد والبطولة فی ساحات الدفاع عن الإسلام والمسلمین، حیث ضرب مثلاً أعلی فی الشجاعة والبسالة، لاسیما فی الغزوات الإسلامیة أیام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والفتوحات التی جرت بعده صلی الله علیه و آله و سلم، حیث أشار کل من ترجم لهذا الصحابی إلی أنه ممن شهد جملة من المعارک المهمة، خصوصاً فتح مصر ومعرکة ذات الصورای وغیرها، یقول ابن حجر: کثیر بن قلیب الصدفی الأعرج، ذکره ابن یونس وقال: شهد فتح مصر(1).

والد الشهید فی فتح مصر

ولقد کان للأزد عموماً مشارکات واضحة وأیادٍ بیضاء فی هذه الفتوحات، لاسیما والد الشهید، والدلیل علی ذلک ما ذکرته الروایات فی أسماء الصحابة والتابعین، من الأزد الذین کانوا فی هذا الفتح، ومنهم جنادة بن أبی أمیة الأزدی، وعبادة بن الصامت، وابن حوالة الأزدی، وأبو فاطمة الأزدی، ومالک بن سلسلة الأزدی، ووالد الشهید کثیر الأزدی وآخرون، بل إن الروایات لتذکر أن هناک أسماء مهمة للغایة فی مثل هذه المعارک، أعنی فتح مصر، لاسیما معرکة بهنسا،

ص:183


1- (1) الإصابة: ج 5 ح 7489، حج ح 10378.

وهی مدینة المنیة المشهورة فی مصر حالیاً، حیث یذکر الواقدی وآخرون أن هناک مجموعة ممن ینتمون إلی بیت النبی صلی الله علیه و آله و سلم شارکوا فی هذه المعارک، مثل الفضل بن العباس، وجعفر بن عقیل وهو أحد شهداء کربلاء من آل عقیل، ومسلم ابن عقیل شهید الکوفة، وعبد الله بن جعفر(1) ، ولکن المؤرخین یذکرون فی الوقت نفسه أن قائد هذه المعارک هو عمرو بن العاص، حیث نصّبه عمر بن الخطاب علی مصر لفتحها، وأمدَّه بما یحتاجه من الرجال. یقول الطبری وهو یتحدث عن أحداث سنة عشرین وما جری فیها من المغازی: ففی هذه السنة فتحت مصر فی قول ابن إسحاق... أن عمر حین فرغ من الشام کلها کتب إلی عمرو بن العاص أن یسیر إلی مصر فی جنده، فخرج حتی فتح باب ألیون فی سنة عشرین(2).

هل کانت هذه الفتوحات شرعیة؟

وهنا ینقدح فی الذهن سؤال مهم حول هذه الفتوحات التی جرت، فهل کانت فتوحات شرعیة؟ وهل جاءت موافقة لمقاییس الدین وأحکام الشریعة؟

وکیف یا تری قبل هؤلاء الأجلاء من الصحابة والتابعین، ومن لهم سابقة فی الجهاد والعلم والمعرفة، بل وحتی القرابة من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أن ینضووا تحت لواء هذا الرجل الذی أقلَّ ما یمکن أن یقال عنه هو أن النبی صلی الله علیه و آله و سلم لعنه وقال:

«اللهم إن عمرو بن العاص هجانی وهو یعلم أنی لست بشاعر،

ص:184


1- (1) فتوح الشام: ج 1 ص 5.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 2 ص 512.

فاهجه اللهم والعنه عدد ما هجانی(1)!

وإذا ما أردنا أن نوسع دائرة السؤال فنقول: کیف نفسر اشتراک الحسن والحسین(2) ومالک الأشتر وسلمان وعمار فی هذه التفوحات، والتی ربما وطدت أرکان الظالمین؟

وإذا کان الجواب هو أنهم تحرکوا علی أساس حفظ بیضة الإسلام، فلم لم یشترک الإمام أمیر المؤمنین فی تلک المعارک لحفظ بیضة الإسلام کذلک؟

وقبل أن ندخل فی الجواب عن هذا السؤال المهم الذی ربما یختلج فی صدر کل مؤمن موال لأهل البیت علیهم السلام، ویودّ لو أنه یجد جواباً شافیاً له، یجمع بین ما نعتقده من أن المتقدم علی أمیر المؤمنین هو غاصب وظالم ولا تجوز معاونته، وبین الواقع الذی ینقله التاریخ لنا من انضواء هؤلاء الأجلاء المشار إلیهم تحت ألویة الظالمین.

أود الإشارة إلی أنی قد بذلت لیالی طوالاً أفکر فی هذه الإجابة، وکلما بانت لی معالم معیّنة أزالتها أخری بما تحمل فی طیاتها من متناقضات لا تجتمع مع سابقتها، فقرأت الکثیر فی هذا المجال، وسألت من العلماء من استطعت أن أجد إلیه سبیلاً، ولم أجد شیئاً یمکن أن یشفی غلیل السائلین، وهنا ومن هذه النقطة بالذات بدأت أفکر وأقول فی نفسی: لم یا تری لا نجمع بین هذه الأجوبة، فنأخذ منها ما یمکن قبوله، ونضیف إلیه ما نعتقده من صلاح هؤلاء الأجلاء وزهدهم وتجردهم وحکمتهم ونظرهم البعید، فنخرج بإجابة تکون أکثر قدرةً

ص:185


1- (1) میزان الاعتدال للذهبی: ج 3 ص 318، استدلال ابن العربی فی أحکام القرآن: ج 1 ص 75.
2- (2) حیاة الإمام الحسین للقرشی، نقلاً عن الطبری: 1 ص 175؛ الکامل لابن الأثیر: ج 3 ص 109.

علی فهم الواقع التاریخی، وفی نفس الوقت تنسجم مع ما نحمل من عقیدة فی ضلال وانحراف من خرج عن خط الولایة الإلهیة، فجاءت الإجابة عبارة عن مجموعة من النقاط وهی:

1 - لقد کان أئمة أهل البیت علیهم السلام من حیث المبدأ یؤمنون بأن الفتوحات الإسلامیة أمر مهم، وأن نشر الإسلام وتبلیغه واجب علی کل مسلم ومسلمة، ولکن السؤال الذی یطرح فی هذا المجال هو: هل أن المراد من الفتوحات الإسلامیة هو نفس تلک الفتوحات؟ وبعبارة أخری، هل أن الهدف من ورائها هو فتح الأراضی وضمها إلی أرض الإسلام وزیادة عدد المسلمین بالاسم فقط؟ أو أن الهدف الحقیقی یکمن فی إیصال مبادئ الإسلام وقیمه الحقیقیة إلی الناس، ودعوتهم للإیمان بها والتحرک علی أساسها، بحیث یتحول الإنسان تحولاً جذریاً من شخص لا یعرف إلا نفسه، إلی شخص آخر یهتم بأمور المسلمین، بل والناس، ویشعر بآلامهم ومحنهم، سواء کانوا قریبین أم بعیدین عنه، وهذا ما لم یتحقق من خلال الفتوحات الشکلیة التی قام بها حکام الجور. وإذا کان هذا هو منطق القرآن الذی یقول:

«اَلَّذِی خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَیاةَ لِیَبْلُوَکُمْ أَیُّکُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً1» ، ویقول:«یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ 2» .

ص:186

حیث یعتنی بالنوع دون الکم، فإن أئمة أهل البیت علیهم السلام أولی باتباع القرآن لأنهم حملة القرآن، وهم أعرف به من غیرهم.

2 - ولکننا فی ذات الوقت لا نقول هذا الکلام علی نحو مطلق، فهناک من الحروب والفتوح ما کان مهماً بحد ذاته، بغض النظر عن الاعتبارات الأخری، بل کانت کل الظروف والأحوال المحیطة بالإسلام والمسلمین آنذاک تدعو إلیها، فکانت أشبه بالحروب الدفاعیة التی خاضها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فی حیاته، وهذه الفتوحات دعا إلیها أئمة أهل البیت علیهم السلام وشارکوا فیها، ودعوا أتباعهم وأشیاعهم إلیها.

وربما فی هذا القسم بالذات دون غیره وردت تلک الروایات من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم للتبشیر فی فتح بعض المناطق دون غیرها، حیث خصت بالاسم، کما وردت نفس هذه الروایات فی باب الملاحم والفتن فیما یجری آخر الزمان وقبیل خروج الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف، ومنها قول النبی صلی الله علیه و آله و سلم: «إنکم ستفتحون مصر...، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلی أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً»(1).

إن مشارکة الأئمة علیهم السلام وأتباعهم فی أمثال هذه الحروب له مغزی آخر یعود إلی الخوف علی الإسلام، من حیث أن القائمین علی هذه الحروب والفتوح لو ترکوا وشأنهم فستحدث أشیاء منکرة کثیرة، فکانت مشارکتهم مشارکة رسالیة لا عسکریة، ولذا لا تجد لهم قصصاً واضحة وکبیرة فی الشجاعة یشار إلیها بالبنان، وإن أبلوا بلاء حسناً، لأنّ الهدف الأساس إنما هو منع الانحراف ما استطاعوا إلی ذلک سبیلاً. ولهذا فإن حرمة العمل تحت رایة الظالمین وإعانتهم

ص:187


1- (1) شرح صحیح مسلم، للنووی: ج 16 ص 97.

تسقط فی مثل هذا المورد، من باب تقدیم الأهم علی المهم.

4 - إن عدم إذن الإمام بالغزو دلیل علی عدم مشروعیته، مما یترتب علیه عدم حلیة التصرف بالغنیمة، کما فی قول الإمام الصادق علیه السلام:

«إذا غزا قوم بغیر إذن فغنموا کانت الغنیمة کلها للإمام علیه السلام وإذا غزوا بإذن الإمام کان للإمام الخمس»(1).

والتی یقول عنها المحقق: ومضمون هذه الروایة مشهور عند الأصحاب مع کونها مرسلة، وجهالة بعض رجال سندها(2).

مع روایات والد الشهید

أولاً: مع موعظة والد الشهید

لقد منَّ الله علی والد الشهید الکربلائی أن هیّأ له أصحاباً کانوا غایة فی الالتزام بتعالیم الشریعة واتباع السنن النبویة، فکانوا مصداقاً لأولئک الذین دعانا الله للاقتداء بهم والسیر علی نهجهم، ومن هؤلاء الذین ترکوا بصمات واضحة علی حیاة والد الشهید فضلاً عن الشهید نفسه، هو الصحابی الجلیل أبو فاطمة الأزدی، هذا الرجل الذی کان کثیر الأزدی ملازماً له ولا یکاد یبتعد عنه إلا ضمن دائرة الضرورة، فکان ملازماً له ملازمة الظل للشخص، ولم یکن لأبی فاطمة الأزدی أن یعطی کل هذا الأثر لو لا صدقه، فالذی یصاحبه ویماشیه ویجالسه یلمس ویری صدقه فی دینه، فکان العالم العامل بحق، وکان إذا سمع موعظة عمل بها وما کان

ص:188


1- (1) التهذیب، حقل الأنفال: ص 133 ح 373.
2- (2) قاطعة اللجاج فی تحقیق حل الخراج: ص 56.

لیأمر إلا بما أتاه هو أولاً ولا ینهی عن شیء إلا وقد نهی نفسه أولاً، فقد عُرف الرجل عند الخاص والعام بکثرة سجوده، وتعفیره لخدیه علی الأرض، حتی أن ابن حجر ینقل فی الإصابة وهو یتحدث عن أبی فاطمة الأزدی قائلاً: وقد اسودت جبهته ورکبتاه من کثر السجود(1).

وما کل هذا إلا لأنه سمع من النبی روایة نقلها لنا والد الشهید الکربلائی حول أهمیة السجود وفضله ومنزلته عند الله سبحانه وتعالی، حیث ینقل ابن سعد فی الطبقات قال: حدثنا بن لهیعة عن الحارث بن یزید الحضرمی، عن الکثیر الأعرج (والد الشهید الکربلائی) عن أبی فاطمة، وهو من أصحاب رسول الله قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أکثروا من بعدی من السجود، فإنه ما أحد یسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة فی الجنة، وحط عنه بها خطیئة»(2).

وهذه الروایة من والد الشهید الکربلائی، درس لنا جمیعاً فی أن نعی حقیقة السجود وما یترتب علیه من آثار، بل ربما یکون ذلک مفتاحاً لمعرفة أسرار کلمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والتی ینقلها العام والخاص فی آخر جمعة من شهر شعبان حینما یقول: «ألا وإن أظهرکم مثقلة فخففوا عنها بکثرة السجود»(3). بل لقد ورد فی بعض الروایات أن کثرة السجود تعین الإنسان علی دخول الجنة، فقد ورد فی الخبر أن قوماً أتوا رسول الله فقالوا: یا رسول الله اضمن لنا علی ربک الجنة؟ فقال

ص:189


1- (1) الإصابة: ج 7 ح 10378 أبو فاطمة الأزدی.
2- (2) الطبقات الکبری لابن سعد: ج 7 أبو فاطمة الأزدی.
3- (3) کتاب الأربعین للشیخ البهائی: ح 9.

لهم الرسول: «علی أن تعینونی بطول السجود»(1).

وفی روایة أخری وقد سأل أحدهم عن رفقته فی الجنة فقال صلی الله علیه و آله و سلم: «إذا أردت أن یحشرک الله معی فأطل السجود بین یدی الواحد القهار»(2).

ولا شک أن المراد من السجود هو أن یقترن بسجود روحی قلبی باطنی حقیقی لله سبحانه وتعالی، یقول أمیر المؤمنین علیه السلام: «السجود الجسمانی، هو وضع عتائق الوجوه علی التراب، واستقبال الأرض بالراحتین والکعبین وأطراف القدمین، مع خشوع القلب وإخلاص النیة»(3).

ثانیاً: لا یجب الوضوء مما مست النار

ینقل ابن الأثیر فی أسد الغابة(4) روایة عن والد الشهید الکربلائی قائلاً:

«روی ابن وهب، عن حیاة بن شریح قال: سألت عقبة بن مسلم، عن الوضوء مما مست النار فقال: إن کُثیراً (والد الشهید الکربلائی) وکان من أصحاب رسول الله یقول: کنا عند النبی صلی الله علیه و آله و سلم فوضع الطعام لنا فأکلنا، ثم أقیمت الصلاة، فصلینا ولم یتوضأ».

هذه الروایة التی أوردها والد الشهید وأمثالها، وردت فی کتب المسلمین، ویبدو من خلال مراجعة کتب الفقه والحدیث أن هناک رأیین فقهیین، کل منهما مستند إلی مجموعة من الروایات، رأی یری الوضوء مما مسته النار، یعنی لو أن

ص:190


1- (1) أمالی الطوسی: ج 2 ص 277.
2- (2) عیون أخبار الرضا: ج 2 ص 7.
3- (3) غرر الحکم: ص 2210.
4- (4) أسد الغابة (حرف الکاف) کثیر الأزدی.

إنساناً أکل لحماً مطبوخاً بالنار، لابد له أن یتوضأ بعده، لأن والحال هذه سیکون واحداً من مبطلات الوضوء ونواقضه، ومن هذه الروایات التی استدلوا بها علی رأیهم روایة جابر عن النبی، حینما سأله: أتتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت(1).

وأما الرأی الآخر، وهو الذی لا یوجب الوضوء من لحم الغنم، ویستدل علیه بروایات، منها نفس الروایة المتقدمة عن جابر؛ لقوله صلی الله علیه و آله و سلم:

«إن شئت وروایة البراء حینما سأله عن لحوم الغنم أیتوضأ منها؟ قال: لا یتوضأ»(2).

وهناک من استدل علی أن أکل ما مسته النار ناقض للوضوء، إذا کان ما مسته النار لحم الإبل لا مطلق اللحم، وقد ذهب إلی هذا الرأی أحمد بن حنبل، وابن حزم من الظاهریة(3) ، والغریب المضحک فی نفس الوقت أن من جملة استدلالات من ذهب إلی هذا الرأی هو قوله: إن النبی صلی الله علیه و آله و سلم کان یخطب ذات یوم، فخرج من أحدهم ریح، فاستحیا أن یقوم بین الناس وکان قد أکل لحم جزور، فقال رسول الله: من أکل لحم جزور فلیتوضأ، فقام جماعة کانوا أکلوا من لحمه فتوضؤوا. وقد رد الألبانی هذه القصة، وأنه لا أصل لها(4) ، وهناک من المسلمین من لم یر هذا الرأی، لا فی لحم الغنم ولا فی لحم الإبل ولا بما مسته النار مطلقاً، فقد ورد فی موسوعة الفقه المقارن قوله:

ص:191


1- (1) صحیح مسلم: ص 360.
2- (2) صحیح أبی داود: ص 184.
3- (3) موسوعة الفقه المقارن: ج 1 ص 204.
4- (4) الألبانی فی السلسلة الضعیفة: ج 3 ص 268.

یری الحنابلة وابن حزم من الظاهریة، أن الوضوء ینتقض بأکل لحم الجزور، أی الإبل فعلی من أکل منه أن یتوضأ، ویری الأحناف والمالکیة والزیدیة والإمامیة، والشافعیة فی المعول علیه عندهم أنه لا ینتقض الوضوء بأکله(1).

ومن هنا نعرف أن روایة والد الشهید جاءت موافقة لرأی الإمامیة بالإطلاق الذی تحمله، حیث لم تشر إلی أی لحم کان، مما یدل علی أن کل ما مسته النار لا یجب فیه الوضوء.

الشهید مع أمیر المؤمنین

لقد وقف الشهید الکربلائی موقفاً ثابتاً راسخاً إلی جانب الإمام أمیر المؤمنین، فی مرحلة تعتدّ من أشد المراحل حراجة، وهی المرحلة التی تسلم فیها أمیر المؤمنین الخلافة، حیث انتفض علیه من باع آخرته بدنیاه وغرته الحیاة الدنیا.

أمّ سلمة وقیمة من ثبت مع علی فی الجمل

ولقد أشارت أم سلمة، هذه المرأة العظیمة، إلی هذا الأمر وإفرازاته، وخصوصاً حرب الجمل، کما یروی البغدادی فی تاریخه قائلاً:

عن أبی ثابت مولی أبی ذر قال: دخلت علی أم سلمة فرأیتها تبکی تذکر علیاً، وقالت: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم یقول:

«علی مع الحق والحق مع علی، ولن یفترقا حتی یردا علی الحوض

ص:192


1- (1) موسوعة الفقه المقارن: ج 1 ص 204.

یوم القیامة»(1).

ویبدو أن هذا الأمر من أم سلمة کان فی حرب الجمل، لأن نفس أبی ثابت یقول: التفتت إلی أم سلمة وقالت: یا أبا ثابت، أین طار عقلک حین طارت القلوب مطیرها؟ قال: تبع علیاً، قالت: وفقت، والذی نفسی بیده لقد سمعت رسول الله یقول:

«علی مع الحق والقرآن والقرآن والحق مع علی، ولن یفترقا حتی یردا علی الحوض»(2).

ولا شک أن هذه الکلمات من أم سلمة لتکشف وبشکل واضح عن صعوبة تلک المرحلة وخطورتها، وقیمة من ثبت فیها إلی جانب الحق والقرآن، کما قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولقد بین أمیر المؤمنین هذه المرحلة بطریقته الخاصة، والتی أشار فیها إلی أمر له ألوان متعددة من الفتنة، فی قوله:

«دعونی والتمسوا غیری، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت علیه العقول»(3).

ولأجل أهمیة هذه المرحلة، بل أهمیة حرب الجمل وما جری فیها، استدل المسلمون جمیعاً، سنتهم وشیعتهم، علی أحکام البغاة فیها، لأنها کانت الحرب الأولی فی الإسلام بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم(4) ، ویکفی فی عظم هذه الحرب أنها أسالت دماء عشرات الآلاف. یقول ابن عبد ربه: قتل یوم الجمل من جیش عائشة

ص:193


1- (1) تاریخ بغداد: ج 14، حدیث رقم: 7643.
2- (2) ربیع الأبرار للزمخشری: ج 1 ص 828.
3- (3) نهج البلاغة: خطبة رقم 88 محمد عبدة.
4- (4) فیض الغدیر: ج 6 ص 474.

عشرون ألفاً، ومن أصحاب علی خمسمائة(1).

ویقول الطبری وهو یتحدث عن هول هذه المعرکة وما جری فیها.

لما کان یوم الجمل ترامینا بالنبل حتی فنیت، وتطاعنا بالرماح حتی تشبکت فی صدورنا وصدورهم، حتی لو سیرت علیها الخیل لسارت...، ولقد کانت الرؤوس تندر عن الکواهل، والأیدی تطیح عن المعاصم، وأقتاب البطون تندلق من الأجواف، وکانت حصیلة هذه الحرب من الأیدی المقطوعة، والعیون المفقوءة، ما لم یحص عددها»(2).

فإذا عرفت کل هذا، عرفت قیمة من ثبت مع علی علیه السلام، وعرفت ولاءه ومعرفته به، ولقد أبدی شهیدنا الکربلائی شجاعة متمیزة فی هذه الحرب العظیمة، حتی أصیبت إحدی رجلیه فی هذه الحرب، فصار بعدها یعرج.

یقول السید الزنجانی: وقال أحمد بن داود الدینوری فی کتابه الأخبار الطوال: أسلم بن کثیر، أصیبت أحدی رجلیه فی حرب الجمل، ورماه عمرو بن ظبة التمیمی بسهم علی ساقه فجرحه(3).

ویقول السماوی فی نفس الخبر، وهو یتحدث عن الشهید: صحب أمیر المؤمنین، وأصیبت رجله فی بعض حروبه(4).

ومع کل ما جری وحصل، خرج الشهید ثابتاً فی إیمانه وولائه لأهل

ص:194


1- (1) العقد الفرید: ج 4 ص 226.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 5 ص 218.
3- (3) وسیلة الدارین: ص 106.
4- (4) إبصار العین: ص 143.

البیت علیهم السلام، لاسیما الإمام أمیر المؤمنین، وإذا سألتنی عن الدلیل، فأقول بأن أعظم دلیل قدمه الشهید هو وقوفه عملیاً إلی جانب الحسین علیه السلام فی حرب محسومة النتائج، حیث الشهادة لا غیر، وهذا لعمری دلیل ما بعده دلیل، علی صدق الولاء وثبات العقیدة ورسوخ الإیمان، فی نفس الشهید الکربلائی، مع الإمام أمیر المؤمنین فی حرب الجمل وغیرها من الحروب التی خاضها، والتی کان یتمنی فی کل واحدة منها الشهادة بین یدیه.

لقد کانت الحروب التی خاضها الشهید، لاسیما الجمل، کونها أول حرب خاضها المسلمون فی دائرة الإسلام، الدور الأکبر فی وضوح الرؤیة.

فرز الأبطال، وبعبارة أخری أقول: إن من نجح فی الثبات فی حرب الجمل نجح فی غیرها، ومن سقط فیها سقط فی غیرها، ولقد کان للشهید الکربلائی فی حرب الجمل دور متمیز، أهَّلَه فیما بعد لأن یدخل مدرسة کربلاء، والتی لم یدخل إلیها إلا من امتحن الله قلبه ولذا نجد الحسین علیه السلام یصفی أصحابه بین الفینة والأخری، حتی استقر العدد علی ما استقر علیه فی کربلاء، وذهب الآخرون:

«فَأَمَّا الزَّبَدُ فَیَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمّا ما یَنْفَعُ النّاسَ فَیَمْکُثُ فِی الْأَرْضِ 1» .

فمکث فی کربلاء الذی ینفع الناس، وذهب الزبد جفاءً، وفی ذلک أعظم الدروس وأبلغ العبر:

«کَذلِکَ یَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ 2» .

ص:195

الشهید الکربلائی جریحاً أعرج فی حرب الجمل

اشارة

تقدم فیما سبق، أن الشهید الکربلائی کان قد سقط جریحاً فی معرکة الجمل، بعد أن أصیب برجله، والتی صار بعدها أعرج، ویبدو أن عرجه لم یکن بسیطاً حتی أخذ الناس یعرفونه به، وحتی من کتب عنه صار یقرن النسب مع صفة العرج، فیقول: الأزدی الأعرج.

العرج عذر شرعی

وعذر الأعرج فی عدم الذهاب إلی الجهاد ورد صریحاً فی القرآن الکریم، بل والنص فیه لا یحتمل التأویل، یقول الله سبحانه وتعالی:

«لَیْسَ عَلَی الْأَعْمی حَرَجٌ وَ لا عَلَی الْأَعْرَجِ حَرَجٌ 1» .

یقول ابن کثیر فی تفسیره، وهو یتحدث عن الآیة الکریمة: «ثم بین الله تعالی الأعذار التی لا حرج علی من قعد معها عن القتال، فذکر منها ما هو لازم للشخص لا ینفک عنه، وهو الضعف فی الترکیب الذی لا یستطیع معه الجلاد فی الجهاد، ومنه العمی والعرج ونحوهما، ولهذا بدأ به»(1).

یقول الشیخ الطبرسی فی مجمع البیان، فی تفسیر نفس الآیة: وثالثها - إن المعنی، لیس علی الأعمی والأعرج والمریض، ضیق ولا إثم فی ترک الجهاد والتخلف عنه(2).

ص:196


1- (2) تفسیر ابن کثیر: ج 2 ص 381.
2- (3) مجمع البیان، تفسیر الآیة: 61 من سورة النور.

فإذا عرفت هذا، واطلعت علی آراء المسلمین، بسنتهم وشیعتهم، وثبت لک أن العرج واحد من الأعذار التی یسقط معها التکلیف بالجهاد، وهو عذر مقبول عند الله، ولا حرج ولا إثم علیه، کما ذکر سابقاً، علمت عظمة الموقف الذی وقفه الشهید فی کربلاء، حیث کان بإمکانه أن یتخلف عن الجهاد، ویکون تخلفه تخلفاً شرعیاً مأذوناً فیه، ولکنه أبی إلا الجهاد والوقوف إلی جانب الحسین علیه السلام، وعدم الأخذ بهذه الرخصة التی ربما تمنعه من الوصول إلی درجات عالیة کان یتمنی أن یصل إلیها فی حروبه وغزواته السابقة، فیکون موقف الشهید أشبه ما یکون بموقف الصحابی الشهید عمرو بن الجموح، والذی تنقل کتب التاریخ أنه کان شدید العرج، وکان له بنون أربعة مثل الأسود، یشهدون مع رسول الله المشاهد کلها، فلما کان یوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله عذرک عن الجهاد، فأتی رسول الله فقال: إن بنی یریدون حبسی عن هذا الوجه والخروج معک فیه، فوالله إنی لأرجو أن أطأ بعرجتی هذه فی الجنة، فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أما أنت فقد عذرک الله تعالی، فلا جهاد علیک» وقال لبنیه: «ما علیکم ألا تمنعوه، لعل الله أن یرزقه الشهادة»، فخرج وهو یقول، مستقبل القبلة: «اللهم لا تردنی إلی أهلی خائباً، فقتل شهیداً(1). وفی بعض الروایات أنه جاء إلی رسول الله وقال له: یا رسول الله، أرأیت إن أنا قاتلت فی سبیل الله حتی أقتل، أمشی برجلی هذه صحیحة فی الجنة؟ وکانت رجله عرجاء، فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «نعم»، فخرج إلی القتال فقتل، هو وابن أخیه ومولی لهم، فوضعهم رسول الله فی قبر واحد وترحم علیهم(2).

ص:197


1- (1) سیرة ابن هشام: ج 2 ص 90.
2- (2) الإصابة لابن حجر: ح 5801.

الشهید مسلم والشهید عمرو بن الجموح

وکان الشهید الکربلائی فی توجهه وتفکیره کما کان علیه عمرو بن الجموح، فأبی أن یرکب هذا القدر ویفوته بذلک خلود عظیم فی قلوب المؤمنین إلی یوم القیامة، فضلاً عن الآخرة ونعیمها، فقرر أن یطأ بعرجته الجنة، ولکنها هذه المرة إلی جانب الحسین علیه السلام، تقول الروایات، إنه وصل إلی الحسین فی الیوم الثانی من المحرم، سنة 61 ه -(1) ،بعد أن وقف إلی جانب مسلم بن عقیل فی حرکته التی قام بها فی الکوفة، وکأنی به وقد وصل إلیه وهو یعرج، فتلقاه الحسین واستقبله وضمه إلی صدره، وقدر له کل الجهد الذی بذله من أجل الوصول إلیه، وهو بهذه الحالة التی یصعب معها السیر الطبیعی فضلاً عن الحرکة السریعة التی تقتضیها ظروف الکوفة وأحوالها فی ذلک الظرف الخاص.

الشهید فی کربلاء

وبدأت الحرب، ووقف مسلم بن کثیر مع إخوته فی العقیدة والمبدأ والموالاة لأهل البیت علیهم السلام، الرافضین للظلم الأموی السفیانی، وقفوا وقفة رجل واحد، لم ترعهم کل تلک الآلاف التی وقفت أمامهم وهم مدججون بالأسلحة وبدأت رشقات السهام من کل تلک الآلاف صوب أنصار الحسین، وهم ثابتون کالجبال لم یتزلزلوا، وأغلب الظن أنهم کانوا ینتظرونها بفارغ الصبر، شوقاً إلی الحور العین وإلی الجنان ومرافقة النبیین، حیث جاءتهم هذه السهام وکانت رسل القوم إلیهم، کما قال الحسین علیه السلام بعد أن رأی أصحابه یتساقطون ما بین شهید وجریح.

ص:198


1- (1) الزنجانی فی وسیلة الدارین: ص 106.

یقول أسعد وحید القاسم فی کتابه أزمة الخلافة والإمامة: وهکذا فقد کان اشتباک الطرفین فی العاشر من المحرم، بعد أن تقدم عمر بن سعد نحو معسکر الحسین، ورمی بسهم وقال: اشهدوا لی عند الأمیر أنی أول من رمی، ثم لحقه فی ذلک رجاله، فلم یبق من أصحاب الحسین أحد إلا أصیب من سهامهم، فقال الحسین لأصحابه:

«قوموا رحمکم الله إلی الموت الذی لابد منه، فإنّ هذه السهام رسل القوم إلیکم».

فحملوا حملة واحدة أدت إلی استشهاد العدید منهم(1).

وکان من بین أولئک الذین سقطوا علی رمضاء کربلاء، الأعرج الذی أبی إلا الجهاد بین یدی سید الشهداء، مسلم بن کثیر الأزدی فسلام علیک أیها المجاهد الناصر، المحب لله ولرسوله، والمدافع عن حرمات الرسالة ومقدسات الوحی، والسلام علیک سیدی وعلی قدمک العرجاء التی رفعت ذکرک فی الذاکرین، حیث أصبت فیها فی الجمل، ووقفت بها أمام الحسین مدافعاً، سلام علیک وعلی روحک وبدنک ورحمة الله وبرکاته.

ص:199


1- (1) کتاب أزمة الخلافة والإمامة، لأسعد وحید القاسم: ص 135-136.

الشهید أبو رزین علیه السلام

اشارة

(شهید الحرکة الحسینیة الأول)

بین یدی الشهید

إن مما لا شک فیه ولا ریب، أنّ من سقطوا أمام الحسین یوم العاشر من المحرّم أو قبل ذلک فی الکوفة مع مسلم بن عقیل علیه السلام، أو حتی فی البصرة، لم یکونوا مجرّد شهداء سقطوا مضرجین بدمائهم فی سبیل إعلاء دین الله سبحانه وتعالی (وإن کان هذا الأمر عظیماً فی حدِّ ذاته)، إنما کان کل واحد منهم فی الوقت نفسه یحمل فی نفسه الشریفة وعقله النیّر وقلبه الإیمانی، مشروعاً إسلامیاً متکاملاً فی کل الأبعاد والاتجاهات ألا وهو مشروع الحسین علیه السلام الذی حمله لهذه الأمة المنکوبة والتی ترزح تحت نیر الظلم والجور من قبل حکام بنی أمیة ومن والاهم. ومن هنا نجد أن فی شهداء کربلاء من کان مفسراً للقرآن ومن شیوخ الإقراء فی مسجد الکوفة، وهناک الفقیه العارف وهناک الحامل للحدیث

ص:200

والراوی له، فضلاً عن التقوی والأخلاق ومجمع الکمالات والفضائل التی تحلّوا بها. ولقد أشار الإمام الصادق علیه السلام إلی بعض جوانب العظمة فیهم بقوله فی زیارته لهم:

«السلام علی الأرواح المنیخة بقبر أبی عبد الله الحسین علیه السلام السلام علیکم یا طاهرین من الدنس. السلام علیکم یا مهدیون، السلام علیکم یا أبرار الله السلام علیکم وعلی الملائکة الحافین بقبورکم أجمعین، جمعنا الله وإیّاکم فی مستقر رحمته وتحت عرشه إنّه أرحم الراحمین»(1). ولا ریب أن من جملة هؤلاء الشهداء الذی شُملوا بهذا الفضل العظیم والذکر الکریم هو الشهید أبو رُزین، الذی کان أول المضحین والفدائیین فی حرکة الحسین علیه السلام، کما سیأتی بیانه بعد ذلک إن شاء الله تعالی.

الاختلاف فی اسم الشهید وأسم ابیه وفی مولاه

ربما یکون الاختلاف الشدید الوارد فی اسم هذا الشهید الکربلائی واسم ابیه وحتی کنیته ومولاه، هو واحداً من جملة الأمور الممیزّة له «عن غیره من الشهداء، فلم أجد بحسب تتبعی من کان فی شهداء الطف أو من یلحق بهم ممن سقط فی الکوفة أو البصرة من ورد فیه مثل هذا الاختلاف الشدید، وحتی یکون القارئ علی علم واطلاع بما کتب ویکتب عن هذا الشهید الکربلائی سوف أضع بین یدیک ما کتبه العلماء فی هذا المجال:

ص:201


1- (1) مفاتیح الجنان: زیارة الحسین فی النصف من رجب: ص 648.

الاختلاف فی اسم الشهید

1 - إن اسم الشهید هو «أسلم أو سلیم» کما أشار إلی ذلک الشیخ الطوسی فی رجاله بقوله: «سلیم مولی الحسین علیه السلام، قتل معه»(1) والشیخ شمس الدین بقوله: «أسلم... مولی الحسین علیه السلام» ثم یرجِّح الشیخ شمس الدین رحمه الله أن أسلم غیر سلیمان وان کان کلٌّ منهما مولی للحسین وان کلاً منهما نال الشهادة أیضاً إلا ان الأول نالها بین یدی الحسین والثانی نالها بعیداً عنه فی البصرة، یقول: «نرجِّحُ ان الذی قتل فی کربلاء اسمه أسلم ولیس سُلیمان أو سُلیماً. ذکره الشیخ فی الرِّجال، ولم ینص علی مقتله. وذکره السید الأمین فی أعیان الشیعة فی جدوله، وفی المقتل قال: "وخرج غلام ترکی کان للحسین اسمه أسلم" وذکر سیّدنا الاستاذ فی معجم رجال الحدیث، ومن المؤکد أن هذا هو مراد الذین عبروا ب - "ثمّ خرج غلام ترکی کان للحسین" دون أن یذکروا اسمه. وأمّا سُلیمان فقد کان مولی للحسین أیضاً. وکان رسولاً إلی أهل البصرة...»(2).

سلیمان مولی الحسین لیس أسماً شاذاً

تحدث الشیخ محمد مهدی شمس الدین فی کتابه القیّم أنصار الحسین علیه السلام، حول ورود الاسماء الشاذة فی الزیارة الرجبیة لاسیما اسم (سلیمان) الذی ورد فی هذه الزیارة خمس مرات مع أنه لم یکن اسماً عربیاً شائعاً فی تلک الحقبة ومن ثمّ تکون مثل هذه الظاهرة سبباً من أسباب التشکیک فی دقة مؤلف

ص:202


1- (1) رجال الشیخ الطوسی: ص 74.
2- (2) أنصار الحسین للشیخ شمس الدین: ص 81 / مؤسسة دار الکتاب الإسلامی.

هذه الزیارة أو دقة مصادره التی أخذ منها، ولکنه فی نفس الوقت لا ینفی وجود أسماءٍ قلیلة یمکن أن یتسمی بها کسلیمان مولی الحسین علیه السلام الذی ورد لمرة واحدة فی الزیارة الناحیة والذی یتناسب مع الحالة الثقافیة السائدة آنذاک، یقول الشیخ شمس الدین رحمه الله تعالی: «فإن هذا الاسم «سلیمان» لم یکن شائعاً بین المسلمین العرب بین رجال النصف الأول من القرن الأول الهجری ویمکن التأکد من ذلک بملاحظة فهارس أعلام تاریخ الطبری مثلاً، واستقراء هذا الاسم فی الرِّجال الذین ذکرهم رواة الطبری فی أحداث الفترة التی نبحث عنها، وسنجد حینئذ أن هذا الاسم محدود الانتشار جداً، وکذلک الحال بالنسبة إلی کتاب صفین لنصر بن مزاحم الذی اشتمل فهرست کتابه علی تسعة رجال بهذا الاسم لیس فیهم أربعة رجال معاصرین للحقبة التأریخیة التی وقعت فیها ثورة کربلاء. وسبب ذلک أن الاسماء تتصل بالتکوین الثقافی والوضع الحضاری للأمة وهی من السمات الثقافیة التی لا تتغیر بسرعة، بل تتغیر ببط ء شدید، والتغیّر یتم نتیجة لتغیر المفاهیم الثقافیة عند الامة، هذه المفاهیم التی تحمل الأمة علی ان تستجیب فی عاداتها وتقالیدها وأسمائها ومئات من مظاهر حیاتها البسیطة والمعقدة.

وقد واجه العرب هذا التغییر الثقافی الشامل حین دخلوا فی الإسلام وکان من جملة عناصر العالم الثقافی الجدید الذی دخلوا فی اسماء جدیدة وردت فی القرآن الکریم، وفی سنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تتناسب مع الفکرة العامة للمعتقد الإسلامی أو تتصل بالتأریخ القدیم للإسلام فی الصیغ السابقة علی هذه الصیغة الخاتمة التی أرسل بها خاتم النبیین محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وقد کان هذا اللون الثانی من

ص:203

الاسماء الإسلامیة موجوداً فی الصیغ الشائعة للتوراة والانجیل، ولکن لم یکن للعرب کما نعلم صلة بهذین الکتابین علی نحو تکون لهم مفاهیم ثقافیة تختلف عن مفاهیمهم الثقافیة فی العهد الجاهلی، ولذا دخلوا فی عالم الإسلام الثقافی وهم یحملون اسماءً جاهلیة وقد سَمّوا ابناءهم بأسماء جاهلیة، اللهم إلا الجیل الذی ولد بعد الإسلام من آباء عاشوا فی مراکز الإسلام الکبری فی المدینة وغیرها فقد حمل القلیل من أفراده أسماءً تتصل بالاساس العقیدی للإسلام (عبد الله، عُبید الله، عبد الرحمن) وبقی أکثر أفراد هذا الجیل یحملون أسماءً جاهلیة أو تتصل بالجاهلیة بشکل أو بآخر»(1).

ویستمر الشیخ شمس الدین رحمه الله تعالی فی بحثه القیم الذی سلطنا علی جانب منه إلی النتیجة التالیة: «وعلی ضوء ما تقدم: إذا أخذنا فی الاعتبار أنّه فی سنة ستین للهجرة کان جمهور المسلمین العرب یتکون من الجیل الثانی فی الإسلام مع بقایا من الجیل الأول یتضح لنا أنه لم تکن قد سنحت الفرصة أمام الأسماء الجدیدة لتنتشر وتحل محل الأسماء القدیمة، علی الخصوص الاسماء ذات المنشأ غیر العربی کما هو الشأن بالنسبة إلی (سلیمان) وعلی العکس من المسلمین العرب فإن هذا النوع من الاسماء کان شائعاً إلی حدٍّ ما بین المسلمین غیر العرب (الموالی) والمتأثرین منهم بالثقافة الیونانیة أو المنتمین إلی العالم الیونانی البیزنطی بشکل خاص، وذلک لان الاسماء التی وردت فی القرآن الکریم والسنة کانت مألوفة لدیهم فی عالمهم الثقافی القدیم، وقد اشتملت الزیارة

ص:204


1- (1) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 219-220.

المنسوبة إلی الناحیة علی اسم (سلیمان) مرة واحدة ولکنه ورد فیها اسم لأحد الموالی وهو (سلیمان مولی الحسین) وبهذا تکون الزیارة المنسوبة إلی الناحیة متوافقة من هذه الجهة مع الظاهرة الثقافیة الاسمیة السائدة فی تلک الفترة المبحوث عنها، ویکون اسم سلیمان مولی الحسین فیها متوافقاً مع طبیعة الاشیاء، ولیس اسماً شاذاً کما هو الشأن فی (سلیمان) الذی ورد اسماً لخمسة أشخاص یفترض أنهم من العرب فی الزیارة الرجبیة، ونلاحظ هنا بهذه المناسبة ان الزیارة الرجبیة لم تشتمل علی اسم (سلیمان مولی الحسین)»(1).

2 - ان اسم الشهید هو «سلیمان» کما ذهب إلی ذلک جُلّ المؤرخین ومن تحدث عن الشهید (رض) یقول الطبری وهو یتحدث عن ارسال الحسین للشهید إلی البصرة وتسلیم ابن الجارود له لابن زیاد: «فلما قرأ الکتاب قدّم الرسولُ سلیمان وضرب عنقه وصعد المنبر...»(2).

3 - أن اسم الشهید هو «ذراع (زراع) السدوسی»، کما یذهب إلی ذلک ابن نما فی مثیر الاحزان والبحرانی فی العوالم والمجلسی فی البحار عنهما. ومما جاء فی هذا الرأی: «وکتب علیه السلام إلی وجوه البصرة منهم: الاحنف بن قیس، وقیس بن الهیثم، والمنذر بن الجارود، ویزید بن مسعود النهشلی، وبعث الکتاب مع زراع «ذراع» السدوسی وقیل مع سلیمان المکنی بأبی زرین فیه «إنی أدعوکم إلی الله وإلی نبیه، فإن السنة قد امیتت فإن تجیبوا دعوتی وتطیعوا أمری اهدکم

ص:205


1- (1) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 221-222.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 3 ص 280، العلاّمة المامقانی فی تنقیح المقال: ج 2 ص 5، مقتل أبی مخنف: 104 والمحقق السماوی إبصار العین: ص 94 وآخرون.

سبیل الرشاد»(1).

4 - أن اسم الشهید هو «مسعود»، کما یمکن ان یفهم ذلک من حدیثٍ لابن حجر وهو یتحدث عنه ذلک الشخص الذی قتله عبید الله بن زیاد فی سنة 60 للهجرة، والذی کانت طریقة قتله وکیفیتها تتشابه بشکل کبیر جداً مع طریقة شهادة رسول الحسین إلی البصرة سلیمان (رض). حیث ضربت عنقه ورمی برأسه وجسده من علی منارة المسجد الجامع، وهذا ما لم یجر ویحصل إلا لرسول الحسین علیه السلام لاسیما فی تلک الحقبة التی سبقت خروج ابن زیاد من البصرة إلی الکوفة، یقول ابن حجر وهو یترجم له: «أبو رزین، مسعود بن مالک الاسدی مولاهم وقیل مولی علی اسمه عبید نزل الکوفة، وروی عن ابن أُمّ مکتوم، وعلی ابن أبی طالب وأبی موسی الاشعری، وأبی هریرة وغیرهم. وعنه ابنه عبد الله، واسماعیل بن أبی خالد، وعطاء بن السائب والاعمش ومنصور بن أبی عائشة ومغیرة بن مقسم وآخرین. قال أبو حاتم: یقال إنه شهد صفین مع علی وذکره البخاری فی الطهارة من صحیحه تعلیقاً علی فعله. وأسند له فی الادب المفرد، وأخرج له مسلم والاربعة من روایته عن الصحابة، وذکره ابن شاهین فی الصحابة، وتعقبه أبو موسی وقال لا صحبة له ولا إدراک. ثم ساق الحدیث ان طریق عاصم ابن ابی وائل، قال: ألا تعجب من أبی رزین قد هرم، وإنما کان غلاماً علی عهد عمر وأنا رجل. وقال غیره کان أکبر من أبی وائل وکان عالماً فهماً کذا وقع بخط المزی فی التهذیب، وتعقبه مغلطاً بأن قوله فهماً بالفاء غلط وإنما هو بالباء

ص:206


1- (1) مثیر الاحزان لابن نما: ص 12، العوالم (عوالم الإمام الحسین) للبحرانی: ج 17 ص 189، المجلسی فی البحار: ج 44 / ص 340.

المکسورة. کذا ذکره البخاری فی التاریخ عن یحیی القطان عن أبی بکر. قال: کان أبو رُزین أکبر من أبی وائل. قال یحیی وکان عالماً قهماً. ووثقه أبو زرعة والعجلی وغیرهما قلت له روایة عن معاذ بن جبل وهی مرسلة، وانکر أبو الحسن ابن القطان ان یکون أدرک ابن أُمّ مکتوم، وقال شعبة فی ما حکاه ابن أبی حاتم عنه فی المراسیل، لم یسمع من ابن مسعود، قیل قتله عبید الله بن زیاد بعد سنة ستین...»(1).

ویقول المزی وهو یتحدث عن نفس الرجل وطریقة قتله: «مسعود بن مالک، أبو رزین الاسدی، اسد بن خزیمة، مولی أبی وائل الاسدی الکوفی، روی عن: رزین جبیش الاسدی، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، وعلی بن أبی طالب وعمرو بن أُمّ مکتوم الاعمی والفضیل بن عزوان ومصرع أبی یحیی ومعاذ ابن جبل وأبی موسی الاشعری وأبی هریرة. روی عنه: إسماعیل بن أبی خالد واسماعیل بن سمیع والزبیر بن عدی وسلیمان الاعمش وعاصم بن أبی النجود وابنه عبد الله بن أبی رزین الاسدی وعبید بن مهران المکتب وعطاء بن السائب وعلقمة بن مرشد وغالب أبو الهذیل ومغیرة بن مقسم الظبی ومنصور بن المعتمر وموسی بن أبی عائشة وأبو صفیة شیخ لعبد العزیز بن صهیب. قال عبد الرحمن بن أبی حاتم وسئل أبو زرعة عن أبی رزین، فقال: اسمه مسعود کوفی ثقة، وقال أبو حاتم: یقال: شهد صفین مع علی. وقال غیره: کان أکبر من أبی وائل وکان عالماً فهماً. وقال أبو بکر بن عیاش عن عاصم: قال لی أبو وائل: ألا تعجب من أبی

ص:207


1- (1) الاصابة لابن حجر: ج 7 ص 261.

رزین قد هرم وإنّما کان غلاماً علی عهد عمر وأنا رجل. وذکر ابن حبان فی کتاب الثقات، وقال أبو بکر بن أبی داود: أبو رزین الاسدی یقال اسمه عبید ضربت عنقه بالبصرة علی منارة مسجد الجامع ورمی برأسه. روی عن علی، یقال انه مولی علی، وأبو رزین آخر أسدی روی عن سعید بن جبیر اسمه مسعود بن مالک وذکر عبد العزیز بن صهیب عن أبی صفیة ان أبا رزین قتله عبید الله بن زیاد)(1) ، وقد ذکر کلاً من هذین النصین المتقدمین زهیر بن علی الحکیم فی کتابه: «مقتل أبی عبد الله الحسین من موروث أهل الخلاف»(2). وهو یتحدث عن جرائم عبید الله بن زیاد وما صنعه فی هذه الأمة.

5 - أن اسم الشهید هو عبید، وهذا ما یمکن ان یتلمسه القارئ فیما یلی من النصوص، فقد ذکر المزی فی تهذیب الکمال: «قال أبو بکر بن داود: أبو رزین الاسدی یقال: اسمه عبید ضربت عنقه بالبصرة علی منارة مسجد الجامع ورمی برأسه»(3) ، ویقول ابن حجر فی تهذیب التهذیب: «مسعود بن مالک أبو رزین الاسدی، اسد خزیمة مولی أبی وائل الاسدی الکوفی، روی عن معاذ بن جبل وابن مسعود وعمرو بن أُمّ کلثوم(4) وعلی بن أبی طالب وأبی موسی الاشعری وأبی هریرة وابن عباس ومصدع بن یحیی والفضل بن بندار وغیرهم. وعنه ابنه عبد الله واسماعیل بن أبی خالد وعاصم بن أبی النجود وعطاء بن السائب

ص:208


1- (1) تهذیب الکمال للمزی: ج 27 ص 477-480.
2- (2) مقتل أبی عبد الله الحسین لزهیر بن علی الحکیم: ج 2 ص 360-361.
3- (3) تهذیب الکمال للمزی: ج 27 ص 477.
4- (4) المراد به کما هو واضح عمرو ابن ام مکتوم.

والاعمش ومنصور وموسی بن أبی عائشة واسماعیل بن سمیع ومغیرة بن مقسم والزبیر بن عدی وعلقمة بن مرثد وغیرهم. قال ابن أبی حاتم: سئل أبو زرعة عن أبی رزین فقال اسمه مسعود کوفی ثقة.

وقال أبو حاتم: شهد صفین مع علی وقال یحیی کان اکبر من أبی وائل وکان عالماً فهماً. وقال أبو بکر بن عیاش عن عاصم قال لی أبو وائل ألا تعجب من أبی رزین قد هرم وإنما کان غلاماً علی عهد عمر وأنا رجل، وقع ذکره فی البخاری فی الحیض من صحیحه وذکره ابن حبان فی الثقات وذکر عبد العزیز بن صهیب عن أبی صفیة "المراد به هو أبو حمزة الثمالی" ان ابن زیاد قتل أبا رزین وقال أبو بکر بن أبی داود: أبو رزین الاسدی وقال اسمه عبید ضربت عنقه فی البصرة، روی عن علی ویقال انه مولاه وابو رزین آخر أسدی، روی عن سعید بن جبیر اسمه مسعود بن مالک، واما الحاکم أبو احمد فی الکنی فقد جعلهما واحداً اسمه مسعود بن مالک وذلک وهم.

قلت بالغ البرقانی فیما حکاه عن الخطیب عنه فی الردّ علی من زعم أنهما واحد وسبب الاشتباه مع اتفاقهما فی الاسم واسم الاب والنسبة والقبیلة والبلد أن الأعمش روی عن کل منهما. فتلخص أن أبا رزین مختلف فی اسمه، والاصح انه مسعود بن مالک ومختلف فی ولائه أیضاً، وأمّا الروای عن سعید بن جبیر فهو أصغر منه بکثیر، ولکنه شارکه فی الاصح فی اسمه والله تعالی أعلم. ولکن الذی ظهر لی أن أبا رزین المسمی بمسعود بن مالک آخر تأخر إلی حدود التسعین من الهجرة والله أعلم وقد أرخ ابن قانع وفاته سنة خمس وثمانین وقال خلیفة بن

ص:209

خیاط: مات بعد الجماجم(1)»(2) ، وهناک نص آخر لابن حجر فی تقریب التهذیب یشیر فیه بشکل واضح إلی أن المقتول هو عبید ولیس مسعود المتقدم فی نص الاصابة: «مسعود ابن مالک الاسدی الکوفی، مقبول من السادسة، مسعود بن مالک أبو رزین الاسدی الکوفی ثقة فاضل من الثانیة مات سنة خمس وثمانین وهو غیر أبی رزین عبید الذی قتله عبید الله بن زیاد بالبصرة ووهم من خلطهما»(3).

الاختلاف فی اسم والد الشهید

حیث ذهب بعضهم إلی أنه "رزین" کما یشیر إلی ذلک السماوی فی إبصار العین بقوله «سلیمان بن رزین مولی الحسین بن علی بن أبی طالب»(4) ، بینما یذهب آخرون إلی أن أبا رزین هی کنیة أبیه وعلیه یکون اسم الشهید (سلیمان ابن أبی رزین).

إشارة إلی من یهمه الأمر: وبمناسبة الاختلاف فی اسم والد الشهید والکنیة التی اختلف فیها انها للشهید الکربلائی أُمّ لوالده، أود أن أشیر ولو علی نحو الاجمال إلی مسألة مهمة فی هذا المجال وهی: أن الکنیة قد تستخدم أحیاناً للإیهام علی الخصم أو العدو خصوصاً إذا کانت الظروف التی یمرّ بها الفرد تقتضی لوناً من الوان التقیة، وقد استعملت نفس هذه الکنی للتمویه علی الخلافة

ص:210


1- (1) المراد بها معرکة دیر الجماجم التی وقعت بین ما کان یعرف بالقرار والفقهاء فی الکوفة بقیادة ابن الاشعث والحجاج بن أبی یوسف الثقفی سنة 83 ه -.
2- (2) تهذیب التهذیب البن حجر: ج 10 ص 10.
3- (3) تقریب التهذیب لابن حجر: ج 2 ص 167.
4- (4) إبصار العین للسماوی: ص 94.

لاسیما فی زمن بنی أمیة ومن جاء بعدهم فیما إذا کان النقل عن الامام علی بن أبی طالب حیث تم الاتفاق علی استعمال کنیة (أبی زینب)(1) لدفع ضرر الملاحقة من قبل السلطات الظالمة آنذاک، وهذا أمر یمکن ان یکون الواقع الذی نعیش فیه شاهداً علیه حیث نجد أن الاشخاص الذین یعیشون حالة المعارضة أو المواجهة مع الأنظمة الطاغوتیة تستعمل فی الأعم الاغلب مثل هذه الکنی للتمویه علیها ولهذا قد یکون مثل هذا الامر جری مع رسول الامام الحسین علیه السلام إلی البصرة، حیث تم التمویه علیه باستعمال مثل هذه الکنیة لاسیما وهو نازل علی مصرٍ المتولی علیه هو عبید الله بن زیاد الذی عرف بعدائه السافر لکل ما یمت لأهل البیت بصلة، وخصوصاً إذا علمنا ان العرب قد تستعمل الکنی للتستر والمواراة یقول ابن منظور: «وفی حدیث بعضهم: رأیت علجاً یوم القادسیة وقد تکنی وتحجی أی تستر، من کنی عنه إذا وری»(2).

یقول السید محمد رضا الحسینی فی بحثه حول حقیقة الکنی ومیزاتها: «(قال ابن الأثیر بلغنی أن سبب الکنی فی العرب کان: أن ملکاً من ملوکهم الأول ولد له ولد توسّم فیه أمارات النجابة فشغف به فلما نشأ وترعرع وصلح لأن یؤدّب أدب الملوک أحبّ أن یفرد له موضعاً بعیداً من العمارة یکون فیه مقیماً یتخلق أخلاق مؤدبیه ولا یعاشر من یضیع علیه بعض زمانه، فبنی له فی البریة منزلاً ونقله إلیه، ورتّب له من یؤدبه بأنواع الآداب العلمیة والملکیة وأقام له ما یحتاج من أمر دنیاه

ص:211


1- (1) قواعد الحدیث للسید محی الدین الموسوی الغریفی/ ص 133 / مطبعة الأداب / النجف.
2- (2) لسان العرب لابن منظور: ج 13 ص 124.

ثم أضاف إلیه من هو من أقرانه وأقرابه من أولاد بنی عمه لیواسوه ویتأدبوا بآدابه بموافقتهم له علیه، وکان الملک علی رأس کل سنة یمضی إلی ولده ویستصحب معه من أصحابه من له عند ولده ولد لیبصروا أولادهم، فکانوا معه إذا وصلوا الیهم سأل ابن الملک عن اولئک الذی جاءوا مع أبیه لیعرفهم بأعیانهم فیقال له "هذا أبو فلان وهذا أبو فلان" یعنون آباء الصبیان فکان یعرفهم بأضافتهم إلی أبنائهم فمن هنالک ظهرت الکنی فی العرب ثم انتشرت حتی صاروا یکنون کل إنسانٍ باسم ابنه) واحتمل الاخ الفاضل السید حیدر شرف الدین أبو رضا: أنّ یکون اصل استعمال الکنیة عند العرب لإخفاء أسمائهم لأنهم کانوا أمة قبلیّة تعیش حالات الحروب والغارات، فربّما اتخذوا الکنی فی بدایاتها لیخفوا وراءها شخصیاتهم المعروفة عادة بالاسماء ثم تبلورت إلی أداة معبرة عن الاشخاص وتمیزت بخصوصیات أخری. ویؤید هذا الاحتمال ان اللغویین فسروا الکنیة بالستر»(1).

وعلی کل حال فالمسألة تحتاج إلی مزید من البحث والدراسة ولکنها مجرّد أشارة إلی من یهمه الأمر.

اختلاف الشهید فی ولائه

اشارة

الذی یرجع إلی المصادر التی تحدثت عن الشهید (رض) یجد أن هناک انقساماً واضحاً فی ولائه (رض)، فقد مال صاحب منتهی المقال أنه مولی الحسن دون الحسین علیه السلام بقوله:

ص:212


1- (1) بحث فی الکنیة، حقیقتها ومیزاتها وأثرها فی الحضارة والعلوم الإسلامیة للسید محمد رضا الحسینی/ مجلة تراثنا العدد 17 / ص 9-10.

«سلیمان مولی الحسین قتل معه "سین" وفی نسخة مولی الحسن وفی رجال ابن داود اعتمد الاول انتهی. أقول وکذا... ولکن فی نسختین عندی من رجال الشیخ مولی الحسن ولعله الصحیح ولو کان مولی الحسین لقال: مولاه کما فی نظائره»(1).

إضافة إلی أن سلام الإمام المهدی کان علی سلیمان مولی الحسن دون الحسین علیه السلام کما یشیر إلی ذلک المشهدی فی مزاره(2). وقد ذکره ابن حبّان فی الثقات مولی للحسن بقوله:

«وقتل فی ذلک الیوم سلیمان مولی الحسن»(3) وآخرون.

بینما مال آخرون إلی أنه مولی الحسین علیه السلام وهم الأکثر علی ما أعلم منهم الشیخ الطوسی فی رجاله(4) والقندوزی فی ینابیع المودة(5) والمامقانی فی تنقیح المقال(6) وآخرین. نعم وقع هناک اضطراب عندهم فی مکان قتله وکیفیته، حیث ذکر البعض، کالقندوزی فی ینابیع المودة أنه قتل معه مبارزة یوم عاشوراء وکذلک ابن حبان فی الثقات وآخرین، بینما ذهب الأکثر إلی أن مکان قتله کان فی البصرة وعلی ید سلیمان بن عوف الحضرمی علی ما هو المشهور.

ص:213


1- (1) منتهی المقال: ج 3 ص 402.
2- (2) انظر المزار للمشهدی: ج 1 ص 451.
3- (3) الثقات لابن حبّان: ج 3 ص 310.
4- (4) رجال الشیخ الطوسی: ج 4 ص 18.
5- (5) ینابیع المودة للقندوزی: ج 3 ص 76.
6- (6) تنقیح المقال: ج 2 ص 5.

وعلی ما ذکره هؤلاء الأعلام نکون أمام احتمالین أساسین فی المقام وهما:

الاحتمال الأول

ان نفترض وجود شخصین کلٌ منهما اسمه «سلیمان» احدهما مولی للحسن قتل مع الحسین علیه السلام فی کربلاء، والآخر مولی للحسین علیه السلام قتل فی البصرة کما تقدم، وربما یکون ما یذکره القندوزی فی ینابیعه وابن حبان فی ثقاته وغیرهما من شهادة سلیمان مولی الحسن مع الحسین مبارزة یوم عاشوراء وکذلک ما ذکره الآخرون من شهادة سلیمان مولی الحسین فی البصرة شاهداً مهماً علی هذا الاحتمال.

الاحتمال الثانی

أن نفترض ان کلاً من الاسمین إنما یشیران فی الواقع إلی شخصیة واحدة لاغیر، غایة ما فی الأمر أنه کان یطلق علیه مولی للحسن أیام الحسن، وبعد شهادته علیه السلام صار مولی للحسین لاسیما إذا علمنا أن الشهید «سلیمان» کانت أُمّه «کبشة» خادمة فی بیت أُمّ أسحاق بنت طلحة التیمی التی کانت زوجة للإمام الحسن علیه السلام کما یشیر إلی ذلک عبد العزیز الطبطبائی رحمه الله فی تحقیقه لکتاب ترجمة الإمام الحسن من الطبقات الکبری لابن سعد، ثم بعد شهادة الإمام الحسن علیه السلام تزوجها الإمام الحسین علیه السلام فلربما لأجل ذلک اشتبه علی الرواة والمؤرخین أمره فنسبه بعضهم إلی الحسن والآخرون إلی الحسین وهو فی کلتا هاتین النسبتین صحیح. وعلیه فمن رأی شهادته مع الإمام الحسین فی کربلاء

ص:214

فلأجل أنه یقطع بخروجه مع الإمام من المدینة فی رکبه المبارک، ومن رأی شهادته فی البصرة فلأجل أنه یقطع بارسال الإمام له فی مکة إلی أهل البصرة وشهادته علی ید عبید الله بن زیاد.

والدة الشهید الکربلائی

تقدم قبل قلیل أن والدة الشهید، سلیمان «هی کبشة» التی اشتراها الإمام الحسین علیه السلام بألف درهم(1) ، وکانت فی بیت أُمّ اسحاق بنت طلحة بن عبید الله التیمیّة زوجة الحسین علیه السلام. وقد عرفت هذه المرأة بالعفة والصلاح والفضل والفلاح وأنها من ربات البر والاحسان والمتشرفات بالعشق والولاء للدین ولشریعة سید المرسلین لاسیما أهل بیته الطیبین الطاهرین، حیث لم تکتفِ هذه المرأة بتقدیم فلذة کبدها وعزیز قلبها «سلیمان» فداءً لهذا الدین وحباً لأبی عبد الله الحسین علیه السلام، حتی شارکت بنات الرسالة ومخدرات الوحی بکل ما ألمّ ونزل بهنّ من المصائب والمصاعب والأحزان والرزایا وهی صابرة محتسبة ذلک کله فی سبیل الله سبحانه وتعالی، ولئن کانت بعض نساء الأنصار قد فارقن الحوراء زینب فی الکوفة حینما أقبلت القبائل تأخذ من الخربة (اللاتی نزلن بها) مَنْ لها فیها أمرأة مخدّرة کما ینقل لنا التأریخ ذلک، فإن هذه المرأة قد تحملت المحن والأحزان من کربلاء مروراً بالکوفة وانتهاءً بالشام ثم رجوعاً الی العراق وانتهاءً

ص:215


1- (1) أو أن یکون الإمام الحسن هو الذی اشتراها فی حیاته وعاشت فی بیت زوجته ام اسحاق قبل انتقالها إلی الإمام الحسین علیه السلام علی اختلاف الروایات ثم بعد ذلک تزوجها والد الشهید الکربلائی (رزین أو أبو رزین) علی ما تقدم.

بالمدینة حیث بیتها الذی عاشت وتزوجت وانجبت فیه.

ورحم الله الشاعر حیث یقول:

قُمْ حَیّ هذی النیِّرات حَیّ الحسانَ الخیراتِ واخَفَظْ جَبینک هَیَبةً للخُدّر المتُخفّراتِ

زینُ المقاصرً والحِجَال وزینِ محرابِ الصلاةِ هذا مقامُ الامهاتِ فَهَلْ قَدّرتَ الأمهاتِ

للصالحاتِ عقائلُ الوادی هویً فی الصالحاتِ اللهُ أنبتهنَّ فی طاعاتهِ خیرَ النبات

فأتینَ أطیبَ ما أتی زهرُ المناقبِ والصفاتِ (1)

الشهید سلیمان سفیر الحسین إلی البصرة

کما أرسل الحسین علیه السلام رسوله وسفیره إلی الکوفة مسلم بن عقیل علیه السلام، فقد أرسل الحسین علیه السلام الشهید سلیمان إلی البصرة، وحتی نعی حرکة هذا الشهید ومهمته التی قام بها، علینا أن نسلط الأضواء علی جملة من النقاط:

النقطة الأولی: معنی السفیر والسفارة: یقول صاحب البصائر والذخائر: «السفارة: المشی فی الصلح، وکأنها ما غمر الحال بین المتنابذین المتباینین... یقول الشاعر:

وما أدع السفارة بین قومی وما للملک فی الدنیا بقاءٌ

ولا أمشی بغشٍ ما مشیتُ وکیف بقاءُ ملکٍ فیه موتُ (2)

والسفیر: «هومن یحمل شیئاً ممن یرسله إلی المرسل إلیه ومنه قوله: "بأیدی

ص:216


1- (1) أبیات من الشعر لأحمد شوقی: الشوقیات (1/85-87) تقدیم حسین هیکل، دار الکتب العلمیة / بیروت.
2- (2) البصائر والذخائر لأبی حیان التوحیدی: ج 96/1.

سفرة"(1) ، أی کتبة من الملائکة»(2).

ویقول القرطبی فی تفسیره: «والسفیر: الرسول والمصلح بین القوم والجمع سفراء مثل فقیه وفقهاء»(3).

رسول واحد أُمّ رسولان إلی البصرة

المشهور بین المؤرخین أن الحسین علیه السلام أرسل رسالة واحدة إلی رؤساء الاخماس فی البصرة مع مولاه سلیمان وقد رتب المحققون علی ذلک أن کل من کتب إلیهم الإمام کانوا من رؤوس الأخماس، یقول الشیخ محمد السماوی وهو یتحدث عن جواب یزید بن سعود النهشلی للحسین علیه السلام: «أقول إن الذی ذکره أهل السیر أن الحسین علیه السلام کتب إلی مسعود بن عمرو الازدی، وهذا الخبر - یعنی جواب یزید النهشلی للحسین - یقتضی أنه کتب إلی یزید بن مسعود التمیمی النهشلی، ولم أعرفه فلعله کان من أشراف تمیم بعد الاحنف»(4).

بینما یذهب آخرون إلی ان الإمام الحسین علیه السلام کان قد کتب کتاباً ووجهه إلی أکثر من جهة فی البصرة، فقد ذکر الطبری فی تاریخه بشکل واضح وصریح أن الحسین علیه السلام أرسل نسخاً من کتابه إلی أشراف أهل البصرة - وهی جهة

ص:217


1- (1) عبس: 15.
2- (2) بحار الأنوار: ج 88 ص 302 نقلاً عن البیضاوی
3- (3) تفسیر القرطبی: ج 19 ص 187.
4- (4) کیف یمکن أن نقبل ان یزید النهشلی کان من رؤوس الاخماس لاسیما علی تمیم بعد الاحنف ابن قیس والاحنف نفسه زعیم هذه القبیلة مخاطب بهذه الرسالة وموجود مع یزید النهشلی فی نفس الاجتماع وسیأتی مزید توضیح بعد ذلک.

وعنوان مستقل بشکل کامل عن رؤوساء الاخماس - یقول الطبری: «وکتب بنسخة إلی رؤوس الاخماس وإلی الاشراف»(1) ، وربما مثل هذا المعنی هو الذی یفسر لنا سر اختلاف لسان الکتاب الذی وجهه الإمام الحسین علیه السلام إلی البصرة فی بعض الروایات.

فقد ورد عن الطبری قوله: «قال أبو مخنف: حدثنی الصقعب بن زهیر، عن أبی عثمان النهدی قال: کتب الحسین مع مولی لهم یقال له سلیمان، وکتب بنسخة إلی رؤوس الاخماس وإلی الاشراف، إلی مالک بن مسمع البکری وإلی الاحنف ابن قیس وإلی المنذر بن الجارود وإلی مسعود بن عمرو وإلی قیس بن الهیثم وإلی عمرو بن عبید الله بن معمر. فجاءت منه نسخة واحدة إلی جمیع أشرافها:" أما بعد فإن الله اصطفی محمداً علی خلقه وأکرمه بنبوّته واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إلیه، وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به، وکنّا أهله وأولیاءه وأوصیاءه وورثته وأحقّ الناس بمقامه فی الناس، فاستأثر علینا قومنا بذلک فرضینا وکرهنا الفرقة وأحیینا العافیة ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلک الحق المستحقّ علینا ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله وغفر لنا ولهم(2) ، وقد بعثت رسولی إلیکم، وأنا أدعوکم إلی کتاب الله وسنة نبیه، فإنّ السنّة قد أمیتت وإن البدعة قد أحییت، وإن تسملوا قولی وتطیعوا أمری أهدکم سبیل الرشاد والسلام علیکم

ص:218


1- (1) تاریخ الطبری: ج 3 ص 280.
2- (2) لا یشک أحد فی أن هذه العبارة مدخولة من قبل بعض المؤرخین علی أصل متن الرسالة، فلم ترد کلمة مدح علی لسان واحد من أئمة أهل ابیت لأحد منهم ناهیک بأن الإمام علیاً لم یبایع إلا کرها واضطراراً وکما یقول الحسین علیه السلام منعاً للفتنة وللفرقة.

ورحمة الله وبرکاته»(1).

وقد نقل الدینوری فی الأخبار والطوال وغیره نصاً آخر هو: «سلام علیکم، أما بعد فإنی ادعوکم إلی إحیاء معالم الحق، وإماتة البدع فإن تجیبوا تهتدوا سبل الرشاد والسلام»(2) ، وهناک نصوص أخری ذکرتها لنا المتون التأریخیة ربما لا تختلف کثیراً عن النصین السابقین، حتی أن الخوارزمی ینقل فی مقتله أن الحسین علیه السلام أرسل إلی رؤساء أهل البصرة لکل واحدٍ کتاباً ثم ذکر ستة أسماء منهم علی نحو المثال لا الحصر یقول: «وقد کان الحسین علیه السلام کتب إلی رؤساء أهل البصرة مثل الاحنف بن قیس والمنذر بن الجارود وقیس بن الهیثم ومسعود ابن عمرو بن عبید بن معمر یدعوهم إلی کتاب الله وسنة رسوله...»(3) ، فضلاً عن أن یزید بن مسعود النهشلی کان من جملة الشخصیات الحاضرة مع رؤساء الأخماس ولم یکن منها ما یدلل ان الحسین علیه السلام کان قد راسل هذا الرجل بشکل منفصل، وقد صرّح هو بنفسه عن هذا الکتاب ومضمونه عندما دعا قومه إلی نصرة الحسین علیه السلام ثم کتب إلی الحسین بقوله:

«أما بعد فقد وصل إلیّ کتابک وفهمت ما ندبتنی إلیه...».

وسیأتی مزید من الحدیث عن هذا الرجل وحرکته (رض). إذن نحن امام حقیقة ذکرتها لنا الکتب التأریخیة أن الحسین علیه السلام کتب أکثر من کتاب إلی أهل

ص:219


1- (1) تاریخ الطبری: ج 3 ص 280.
2- (2) الدینوری فی الا خبار الطوال: ص 233.
3- (3) مقتل الحسین للخوارزمی: ج 1 ص 199.

البصرة وهنا لابد من أن نسأل سؤالاً ربما یأتی إلی ذهن کل من یقرأ ویسمع بهذه الکتب وهو: هل الذی أوصل هذه الرسائل کلها رسول واحد؟ أو ان هناک أکثر من رسول؟ المشهور کما قدمنا یذهب إلی أنه رسول واحد وهو الشهید سلیمان، قام بهذه المهمة بشکل کامل حیث ذهب إلی الجمیع وأوصل لکل واحدٍ کتابه، حتی إذا وصل الأمر إلی ابن الجارود أخذه مع الکتاب إلی ابن زیاد، وهناک من یذهب کما یشیر إلی ذلک ابن نما والسید الأمین فی الاعیان فی أحد قولیه الذی یتبناه ان الحسین بعث رسولین إلی البصرة أحدهما الشهید سلیمان والثانی هو ذراع أو زراع السدوسی(1) وهذا الرأی وان کان أقرب إلی الواقع والی عدد الکتب التی بعثت إلی البصرة، ولکنه فی نفس الوقت یحتاج إلی دلیل من التأریخ یَدلّ علیه ولا دلیل فی هذا المجال. فقد بذلت جهد لیس بالقلیل فی تتبع المصادر الرجالیة والتاریخیة والحدیثیة وغیرها، علّنی أجد شیئاً ولو یسیراً حول هذه الشخصیة، ولکن وللأسف الشدید لم أقع علی ایة معلومة وان کانت بسیطة عنه، فنبقی نحن وما ذکرته لنا المصادر التاریخیة الکثیرة والمتعددة ان رسول الحسین إلی البصرة هو سلیمان مولاه دون غیره، مع بقاء احتمال التعدد قائماً.

مضامین رسالة الإمام إلی البصرة

لقد تضمنت رسالة الإمام مجموعة من النقاط المهمة یمکن اجمالها فیما یلی:

أولاً: أشار الإمام إلی أهمیة هذا الدین ومن بعث به رحمة للعالمین سیدنا

ص:220


1- (1) انظر مثیر الاحزان لابن نما: ص 17، أعیان الشیعة للسید الامین: ج 1 ص 590.

محمد صلی الله علیه و آله و سلم بقوله:

«أمام بعد، فإن الله اصفطی محمداً علی جمیع خلقه واکرمه بنبوته واختاره لرسالته».

ثانیاً: أن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وبأمر من السماء لم یخرج من هذه الدنیا إلا بعد أن بلغ ونصح لأمته فیما یعود علیهم بالخیر فی حاضرهم ومستقبلهم یقول:

«ثم قبضه الله إلیه مکرماً وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به».

وکان مما بلغه هو قول الله عز وجل:

«یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْکافِرِینَ 1» .

وقد ذکرت المصادر الإسلامیة عند الفریقین أنها نزلت فی إمامة علی بن أبی طالب علیه السلام(1) ، ناهیک عن ذلک بما ذکر حول حدیث الغدیر وتنصیب أمیر المؤمنین إماماً وخلیفة علی هذه الأمة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

ثالثاً: أن أهل البیت علیهم السلام هم أحق بهذا الأمر من غیرهم فهم أهله وأصفیاؤه، ولکنهم فی نفس الوقت قبلوا بما جری (من اغتصاب حقهم وإزالتهم عن مراتبهم) حقناً لدماء المسلمین وکراهیة للفتنة وطلباً للعافیة (المراد عافیة الأمة ولیس العافیة الشخصیة) وحتی لا یفهم هذا بأنه تنازل عن الحق أکده بعد ذلک بقوله:

ص:221


1- (2) وقد ذکر مصادر القوم بشکل مفصل العلّامة الأمینی فی الغدیر: ج 1 ص 214 فلیراجع.

«ونحن نعلم بأنا أحقَّ بذلک الحق المستحق علینا ممن تولاه».

رابعاً: عدم تناول الإمام لذکر الأسماء التی تولت علی هذه الأمة من غیر أهل البیت علیه السلام، وذلک لعلم الإمام أنه یراسل قوماً لا یرتجی الاستجابة منهم بشکل واضح هذا من جانب، ومن جانب آخر أن الأساس عند الإمام الحسین وأئمة أهل البیت هو المضمون لا الاسم، فالأسماء قد تذهب وتأتی ولکن الأساس فی الأمر هو المضمون والذی أشار إلیه بقوله «فإن السنة قد أمیتت والبدعة قد أحییت».

خامساً: أشار علیه السلام إلی أنه القادر علی أن یدعوهم إلی کتاب الله وسنة نبیه صلی الله علیه و آله و سلم دون سواه، وکأنه یرید أن یشیر إلی إمامته وأهمیتها، کما أشار إلی ذلک فی حدیثه إلی أهل الکوفة بقوله: «لعمری ما الإمام إلا الحاکم بالکتاب، القائم بالقسط، الدائن بدین الحق الحابس نفسه علی ذات الله»(1).

معنی رؤوس الاخماس فی البصرة

اشارة

وهم عبارة عن خمسة أحیاء وزّعَت وقُسِّمت البصرة علی أساسها عند إنشائها أول مرة، وفی کل حی من أحیائها الخمسة لتسکن قبیلة من القبائل العربیة المعروفة وهی الأزد وتمیم وبکر وعبد القیس وأهل العالیة. وکان لکل قسم من هذه الأخماس رأس یتم اختیاره حسب القبیلة أو القبائل المنطویة تحته علی حسب ما یمتلکه من خصائص وصفات تؤهله لقیادتها. تقول الأستاذة رباب جبار السودانی فی کتابها، جبهة البصرة: «وکان هؤلاء الرؤساء سلطة عسکریة وإداریة

ص:222


1- (1) الارشاد للشیخ المفید: ج 2 ص 39.

ومالیة کبیرة مستمدة من مراکزهم وصفاتهم الشخصیة والاجتماعیة ومن الواجبات الملقاة علی عاتقهم، فکانوا فی أوقات السلم ینظرون فی شؤون قبیلتهم ویحکمون فی الخلافات التی تحدث بین أفراد القبیلة، کما أنهم یوزعون العطاء علیهم بعد أخذه من الدولة، وهم المسؤولون عن تصرفات قبائلهم مسؤولیة مباشرة، اتجاه الوالی، وکان هؤلاء الرؤساء تابعین للوالی وخاضعین بأعتباره ممثل الخلیفة، وکان هؤلاء الرؤساء کثیراً ما یشارکون فی الوفادات التی ترسل إلی الخلیفة، وخیر مثال علی ذلک الاحنف بن قیس رئیس قبیلة تمیم الذی کان کثیراً ما یشارک فی الوفود المرسلة إلی مرکز الخلافة سواء فی الفترة الراشدیة أو الأمویة، فقد وفد علی کلٍ من الخلیفة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ووفد کذلک علی معاویة بن أبی سفیان بما أن رؤساء القبائل کانوا یقودون الحملات العسکریة الکبیرة والمنظمة وکانوا خلالها یتمتعون بسلطات إداریة وعسکریة واسعة، فقد شارک الاحنف بن قیس فی قیادة الحملات الموجهة لفتح خراسان وغیرها من الاقالیم الفارسیة، کما أن هؤلاء الرؤساء کانوا یقودون بعض العملیات العسکریة الصغیرة من تلقاء أنفسهم کما حدث أیام معرکة الجمل عندما انقسم رؤساء قبائل البصرة بین الخلیفة علی وعائشة وطلحة والزبیر، حیث انظم رؤساء قبائل الازد وضبة إلی عائشة وطلحة بینما التزم رؤساء قبیلتی بکر بن وائل وعبد القیس إلی جانب الإمام علی.

هذا وکان لرؤساء الاخماس دور کبیر جداً فی الأزمات السیاسیة فقد خرج رؤساء الاخماس من البصرة إلی الکوفة وعسکروا فی مکان یدعی النخلیة مع

ص:223

عبد الله بن عباس والی البصرة حیث کان خالد بن المعمر السدوسی علی قبیلة بکر بن وائل والاحنف بن قیس علی تمیم وضبة الرباب، وعمرو بن مرجوم العبدی علی عبد القیس وصبرة بن شیماه علی الازد وشریک بن الاعور الحارثی علی أهل العالیة مؤیدین ومعلنین ولاء أهل البصرة للخلیفة علی بن أبی طالب فی حربه ضد معاویة بن أبی سفیان قبل بدء معرکة صفین»(1) من هنا نعرف سر مراسلة الامام الحسین لهم وسیأتی مزید من التوضیح حول هذا الموضوع فی فقرة فلسفة مراسلة الحسین لرؤساء الاخماس من هم رؤساء الاخماس والاشراف الذین راسلهم الحسین: وحتی نعی ردّ رؤوس أخماس البصرة وأشرافها علی رسالة الامام الحسین ورسوله بل وتسلیمه مع الرسالة إلی ابن زیاد لذبحه علینا ان نسلط الاضواء علی تاریخهم لاسیما التعلق بأهل البیت ولو علی نحو الإجمال:

1 - المنذر بن الجارود

هو المنذر بن الجارود بن عمرو بن خنیس العبدی ولد فی عهد رسول الله وشهد الجمل مع علی ثم ولّاه أمیر المؤمنین علی إمرة اصطخر ثم بلغه عنه ما ساءه منه(2) فکتب إلیه بکتاب شدید اللهجة ثم عزله: «أما بعد فإن صلاح أبیک غرّنی منک وظننت أنک تتبع هدیه وتسلک سبیله فإذا انت فیما رقی إلیک عنک لا تدع هواک انقیاداً ولا تبقی لآخرتک عتاداً، أتعمر دنیاک بخراب آخرتک؟ وتصل عشیرتک بقطیعة دینک؟ ولئن کان ما بلغنی عنک حقاً لجمل أهلک وشسع نعلک خیر منک

ص:224


1- (1) کتاب جبهة البصرة للاستاذة رباب جبار السودانی: ص 100-102.
2- (2) انظر الاصابة لابن حجر ترجمة رقم: 8336.

ومن کان بصفتک فلیس بأهل ان یسدّ به ثغر أو ینفذ به أمر أو یعلی له قدر أو یشرک فی أمانه أو یؤمن علی جبایة فأقبل إلیّ حین یصل إلیک کتابی هذا إن شاء الله»(1) ، وقال علیه السلام فی المنذر بن الجارود أیضاً: «إنّه لنظّارٌ فی عطفیه، مختالٌ فی بُردَیْه، تفّال فی شِراکیْه»(2) ویقول السیدمحمد باقر الصدر (رض) فی المنذر هذا وخیانته لرسول الحسین علیه السلام: «إذ یبعث احدهم برسول الحسین علیه السلام إلی عبید الله بن زیاد وکان وقتئذٍ والیاً علی البصرة، صدّقوا: أنّ هذا الشخص الذی قام بهذا العمل هو من شیعة علی بن أبی طالب، ولم یکن عثمانیاً بل کان علویاً، ولکنه کان علویّاً فقد کل مضمونه، فقد کل معناه، فقد کل إرادته، أخذ الرسول مع الرسالة إلی عبید الله بن زیاد لکن لاحبّاً لعبید الله بن زیاد ولا إیماناً بخط عبید الله بن زیاد، بل حفاظاً علی نفسه وابتعاداً بنفسه عن أقلّ مواطن الخطر، خشیة ان یطّلع علیه فی یوم ما عبید الله بن زیاد علی أن ابن رسول الله کتب إلیه یستصرخه وهو لم یکشف هذه الورقة للسلطة الحاکمة وقتئذٍ، فیتخذ هذا نقطة ضعف علیه، فلکی یبتعد عن اقل نقاط الضعف ولکی یوفّر له کلّ عوامل السلامة وکل ضمانات البقاء الذلیل أخذ رسول الإمام والرسالة وقدّمهما بین یدی عبید الله بن زیاد فأمر عبید الله بن زیاد بالرسول فقتل»(3) ، ویکفی هذا الرجل خاتمة سوء وعاقبة شرٍ نالها أن صار فی رکاب عبید الله بن زیاد حتی ولاّه ثغیر الهند فمات فیها سنة 61 ه -..

ص:225


1- (1) بحار الانوار: ج 33 ص 506.
2- (2) بحار الأنوار: ج 33 ص 506.
3- (3) الحسین یکتب قصته الأخیرة بقلم السید محمد باقر الصدر وتقریرات السید کاظم الحائری وتحقیق وتعلیق صادق جعفر الرزاق ص 62 ص 63.
2 - الأحنف بن قیس

«یکنی أبا بحر، واسمه الضحاک بن قیس. وقیل صخر بن قیس بن معاویة بن حصین بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبید بن الحارث بن عمرو بن کعب بن سعد بن زید مناة بن تمیم، وأمه من باهلة، کان قد أدرک النبی صلی الله علیه و آله و سلم ولم یره، وتوفی فی الکوفة فی إمارة مصعب بن الزبیر سنة سبع وستین، ومشی مصعب فی جنازته»(1) ویقول عنه السید محمد باقر الصدر: «الأحنف بن قیس الذی عاش مع خط جهاد الإمام علیّ وعاش مع حیاة الإمام علی عن قرب، وتربی علی یدیه، ماذا کان جوابه لابن الإمام علی؟ أمره بالتصبّر والتریّث وقال له فی رسالة أجاب بها علی رسالته، ولا یستخفنک الذین لا یوقنون، معّرضاً بالکلمات التی کان الإمام الحسین علیه الصلاة والسلام یتلقّاها من شیعته. وفی الواقع کانت رسالة الأحنف تعبّر عن أخلاقیة الأمّة المهزومة فإن الأمة فی حال تعرّضها للهزیمة النفسیة، وفی حالة فقدانها لإرادتها وعدم شعورها بوجودها کأمّة تنشأ لدیها بالتدریج اخلاقیة معیّنة هی أخلاقیة الهزیمة. هذه الهزیمة تصبح قوة کبیرة جداً بید صانعی هذه الهزیمة لابقاء هذه الهزیمة وإقرارها وتعمیقها وتوسیعها ویصبح العمل الشجاع تهوراً والتفکیر فی شؤون المسلمین استعجالاً ویصبح الاهتمام بما یقع علی الإسلام والمسلمین من مصائب وکوارث نوعاً من الخفّة، واللاتعقّل نوعاً من العجلة، وقلة الأناة نوعاً من التسرّع فی العمل أو فی التفکیر»(2).

ص:226


1- (1) الاستیعاب لابن عبد الله: ج 1 ص 145.
2- (2) الحسین یکتب قصته الأخیرة بقلم الشهید محمد باقر الصدر وتقریرات السید کاظم الحائری وتحقیق وتعلیق صادق جعفر الرزاق: ص 63-64.
3 - مالک بن مسمع البکری الجحدری

کان علی بنی بکر بن وائل فی البصرة، ثم أوی مروان بن الحکم یوم الهزیمة. وحفظ لهم بنو مروان ذلک بعد وانتفعوا به عندهم وشرفوهم بذلک، کان رأیه مائلاً إلی بنی أمیة وکان یأمر الناس بعد واقعة الطف وقتل الحسین بتجدید البیعة لیزید، وبعد هلاکه بایع ابن مرجانة، وکان مع مصعب بن الزبیر فی حرب المختار(1) وما إلی ذلک من تاریخ أسود ضد أهل البیت علیهم السلام.

4 - مسعود بن عمرو بن عدی الأزدی

«قائد الازد یوم البصرة فی جیش عائشة والزبیر وطلحة، وأجار ابن مرجانة لما نابذه الناس ومنع عنه، فمکث تسعین یوماً بعد موت یزید، ثم خرج إلی الشام وبعث مسعود مع ابن زیاد مئة من الأزد علیهم قرة بن عمرو بن قیس حتی قدموا به إلی الشام، واستخلف حین توجه إلی الشام مسعود بن عمرو علی البصرة»(2).

5 - قیس بن الهیثم السلمی

«استخلفه عبد الله بن عامر علی خراسان مع ابن عمّه عبد الله بن خازم، فلما خرج منها عبد الله بن عامر جمع قارن أربعین ألفاً من هراة وقهستان وطیس وبادغیس فأخرج ابن خازم عهداً من ابن عامر انه هو امیر خراسان إن کانت

ص:227


1- (1) انظر: کتاب الغارات / هامش صفحة 266 (والهامش للمرحوم عبد الزهراء الخطیب)، کتاب وقعة الطف لأبی مخنف تحقیق الشیخ محمد هادی الیوسفی/ مؤسسة النشر الإسلامی/ قم (هامش صفحة 104).
2- (2) المصدر نفسه: ص 106.

حرب وکان قد اقتلعه عمداً خلاه والبلاد، وأتی البصرة فکانت الفتنة علی عثمان، واستنصر عثمان بأهل البصرة من عبد الله بن عامر فاستنصرهم ابن عامر فقام قیس ابن الهیثم فخطب وحرّض الناس علی نصر عثمان فسارع الناس إلی ذلک وأتاهم قتل عثمان فرجعوا.

ولی خراسان خلیفة عن عبد الرحمن بن زیاد أی بعد مقتل الحسین من قبل یزید بن معاویة حینما أراد عبد الرحمن القدوم علی یزید فعزله یزید فانعزل قیس ابن الهیثم، وکان علی الشرطة والمقاتلة فی البصرة لابن الزبیر، وکان علی خمس أهل العالیة مع مصعب بن الزبیر لمقاتلة المختار، وکان یحذّر أهل العراق من الغدر بمصعب»(1).

6 - عمر (عمرو) بن عبید الله بن معمر التیمّی

ولی البصرة من قبل عبد الله بن الزبیر یقول صاحب المنتظم: «وفی هذه السنة حج عبد الله بن الزبیر وکان عامله علی المدینة أخوه عبید الله بن الزبیر، وعلی الکوفة عبید الله بن یزید الخطمیّ وعلی قضائها سعید بن عمران، وأبی شریح ان یقضی فیها، وقال: لا أقضی فی الفتنة، وکان علی البصرة عمر بن عبید الله بن معمر التیمی....»(2) ، وکان علی میسَرة مصعب بن الزبیر فی حربه مع المختار، ویقول ابن أعثم: «فعندما أمر مصعب عسکره وأصحابه أن یعسکروا عند الجسر الأعظم ثم خرج وخرج الناس معه من البصرة، وجعل علی کل قبیلة من

ص:228


1- (1) المصدر نفسه: 106.
2- (2) المنتظم: ج 6 ص 31.

قبائل العرب رئیساً یقتدون به وبرأیه وینتهون إلی أمره، فعلی قریش وأحلافها عمر بن عبید الله بن معمر التیمیّ...»(1) ، «وکانت عائشة بنت طلحة عند عبید الله بن عبد الرحمن بن أبی بکر ثم عند مصعب، ثم تزوج عائشة بنت طلحة عمر بن عبید الله ابن معمر التیمیّ، وأم عائشة هی أُمّ کلثوم بنت أبی بکر»(2) «ومات وعمره ستون سنة»(3).

7 - یزید بن مسعود النهشلی

یبدو أن هذه الشخصیة مع کلّ ما تمتلکه من منزلة اجتماعیة فی قبیلته وبقیة القبائل الأخری فضلاً عن العمق التأریخی له ولأبناء اسرته لم یتحدث عنه المؤرخون کثیراً بل ولا حتی عن أبیه مسعود، بل لم یذکر أحدٌ أنه کان من سکان البصرة، حیث ینقل البلاذری فی ترجمته ما نصه: «یزید بن مسعود بن خالد کان سیّداً بالبادیة ولم یهاجر إلی البصرة وکان یکنی أبا خالد وأبا جیداء جمیعاً وفیه یقول سجیم بن وثیل:

ومن آل مسعود علی الباب مدره إلی القوم قالوا یا یزید بن خالد»(4)

نعم، یذکر المؤرخون أن أخوة یزید بن مسعود وأبناءهم کانوا یعیشون فی البصرة ولهم فیها مواقف کثیرة، منهم نعیم بن مسعود النهشلی الذی ولاّه زیاد

ص:229


1- (1) الفتوح لابن أعثم: ح 6 ص 285.
2- (2) أنساب الاشراف: ج 7 ص 20.
3- (3) الکامل فی التأریخ: ج 4 ص 477.
4- (4) أنساب الاشراف للبلاذری: ج 12 ص 124.

فساودوا أبجرد(1) و «نعیم بن الثولاء بن نعیم بن مسعود الذی تولی شرطة سلیمان ابن علی واسماعیل بن علی بالبصرة والثولاء الذی قتله أمیر البصرة فی الفتنة»(2) ، ولو لم یُنقل عن أخی یزید النهشلی (نعیم) من المواقف المشینة والتصاغر أمام الزبیرین والأمویین بشکل ملفت للنظر حتی لقد نقل التأریخ عنه قوله لعبد الملک ابن مروان بشکل صریح وواضح أنه کان زبیریاً ثم أصبح الآن مروانیاً یقول: «ثم تکلم نعیم بن مسعود فقال یا أمیر المؤمنین إنّا کنا أمس زبیریین فقد اصبحنا مروانیین فأقلل العتاب وأکرم الغلبة وأقلّ بعفوک المغفرة»(3) فضلاً عن توجهه مع مصعب بن الزبیر لحرب وقتال المختار(4) لأمکن القول أن نعیماً هذا هو الذی راسله الحسین علیه السلام وعلیه فلا یتبقی أمام القارئ والسامع لمواقفه إلا ان یرفض مثل هذا الاحتمال رفضاً قاطعاً ویبقی اسم یزید علی ما نقل فی کتب المؤرخین هو الاسم الاساس الذی تدور علیه رحی الولاء فی البصرة وان لم یتکلم عنه التأریخ کثیراً، فطالما ظلم التأریخ أناساً کثیرین فلم یسلط الاضواء علیهم إلّا قلیلا ویبقی ان نشیر ان هذا الرجل کانت له أخت فی منتهی الولاء والمحبة لعلی بن أبی طالب علیه السلام حیث کانت تقول:

«مازلت أحب أن یکون بینی وبینه سبب منذ رأیته قام مقام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم»(5).

ص:230


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) المصدر السابق.
3- (3) الطبقات لأبن سعد: ج 5 ص 88.
4- (4) أنساب الاشراف: ج 7 ص 229.
5- (5) أنساب الاشراف للبلاذری: ج 12 ص 124.

وقد استجاب الله لها فتزوجها أمیر المؤمنین فأولدت منه ولدین أحدهما اسمه «عبد الله» استشهد مع الحسین فی کربلاء والثانی اسمه «عمر» أغتیل فی لیلة الحرب بین المختار ومصعب بن الزبیر علی احسن الأقوال(1).

جواب رؤوس أخماس البصرة ووجهائها علی رسالة الإمام

ربما لا یحتاج الإنسان إلی کثیر عناء للقول بأن التأریخ لم ینقل لنا من ردود أفعالهم إلی ما قدمناه قبل قلیل، من أخذ رسول الحسین ورسالته إلی ابن زیاد من قبل المنذر بن الجارود، وکتابة الاحنف بن قیس إلی الحسین بقوله:

«اصبر إن وعد الله حق ولا یستخفنک الذین لا یوقنون».

وما سوف یأتی بعد ذلک بشیء من التفصیل حول جواب یزید بن مسعود النهشلی وموقفه المشرّف مع الإمام الحسین علیه السلام

ویبدو لی أن مثل هذا الجواب کان متوقعاً من الحسین علیه السلام فهو یعلم جیداً أن الجو العام فی الکوفة لیس إلی جانبه لاسیما من قبل زعماء القبائل فیها، فهو لم ینسَ موقفهم مع أبیه أمیر المؤمنین حینما تمردوا علیه وأووا من تمرّد فی ما عُرِفَ بعد ذلک بفتنة الجمل.

فالحسین لم یکن یحسب أبداً أن تجتمع لدیه آلاف الرسائل عن أهل البصرة کما اجتمع لدیه من رسائل أهل الکوفة. یقول الشیخ محمد مهدی شمس الدین: «کان هذا موقف قیادات البصرة من الثورة، وإذا کان هذا الموقف یبدو طبیعیاً إلی حدّ کبیر من رجال لا یریدون ان یفرطوا بمراکزهم فی الدولة

ص:231


1- (1) مراقد المعارف للشیخ محمد حرز الدین: ج 2 ص 107.

والمجتمع...»(1) ثم یضیف فی مکان آخر من بحثه: «نحن نعلم ان معظم سکان البصرة کان من ربیعة ومضر، من عرب الشمال وان معظم سکان الکوفة من قبائل الیمن، من عرب الجنوب، وقد رأینا فی فصل سابق ان عرب الجنوب یکوّنون العدد الأکبر من ثوار کربلاء. نرجّح أن تکون جمیع هذه العوامل قد اشترکت فی صیاغة موقف البصرة من الثورة. لقد کان زعماء البصرة یفکرون بلا شک فی مرکزهم فی الدولة والمجتمع، وطالما تنازع البصریون مع الکوفیین حول حق الفتح لهذا البلد أو ذاک. وکانوا یفکرون بأن أیّ نجاح للثورة فإنما هو نجاح للکوفة التی ستکون قاعدة للدولة.

وکان الکوفیون أکثر وعیاً لضرورة التّغییر للثقافة التی نشأوا فی ظلّها فی عهد الإمام علیّ علیه السلام ونتیجة لشعورهم بالتقصیر فی القیام بواجبهم فی الدفاع عن حکومة الإمام علی علیه السلام ونهجه السیاسی، هذا التقصیر الذی أدی إلی انتصار معاویة وانتقامه من الکوفة "وهنا نلاحظ ان کثرة عرب الجنوب فی الثورة تعود إلی کونهم أکثر وعیّاً بسبب کونهم فی الکوفة، کانوا أکثر اتصالاً بالإمام وتأثراً بأفکاره وتعالیمه لا إلی أسباب تتصل بالعوامل القبلیة" ،وکان جمهور القبائل البصریة التی اشترکت فی معرکة الجمل ضد الإمام علیّ علیه السلام یذکره قتلاه، ویتجاوب مع مشاعره التی تبعثها هذه الذکری»(2) ، لقد أدرک الإمام الحسین علیه السلام هذه الحقائق التأریخیة وما ترکته فی نفوس البصریین ومن ثم لم یکن یتوقع ان تکون هناک استجابة واضحة وبینّة کالتی حصلت وجرت فی الکوفة.

وهنا لابد لنا من الإجابة علی سؤال طالما انقدح وینقدح فی ذهن کل قارئ ومستمع لما سبق ذکره، والسؤال هو: لماذا راسل الحسین علیه السلام

ص:232


1- (1) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 264 / طبعة دار الکتاب الإسلامی/ تحقیق سامی الغریری.
2- (2) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 267 / طبعة دار الکتاب الإسلامی/ تحقیق سامی الغریری.

أهل البصرة وهو یعلم مسبقاً موقفهم منه ومن دعوته؟ وبعبارة أخری: ما هی دواعی مراسلة الحسین لأهل البصرة؟

أسباب ودواعی مراسلة الحسین لأخماس البصرة ووجهائها

یقول الشیخ نجم الدین الطبسی فی کتابه القیّم، «الرکب الحسینی» وهو یتحدث عن نفس هذا الموضوع: «فإذا کان جلُّ رؤساء الاخماس فی البصرة وأشرافها بین متباعد عن أهل البیت، مجانب لهم، وبین متردد متذبذب فی حبه إیّاهم وموقفه منهم، وبین متربّص خائن طامع فی دنیا أعدائهم، فما هو السر فی کتابة الإمام إلی مثل هؤلاء؟ لعلّ مجموعة من الاسباب التالیة هی التی دعت الإمام إلی کتابة هذه الرسالة إلی رؤساء الأخماس والأشراف فی البصرة:

1 - کانت مخاطبة القبائل فی ذلک الوقت لا تتم ولا تثمر إلا من خلال رؤسائها وأشرافها ذلک لأن أفراد کل قبیلة کانوا لا یتجاوزون رؤساءهم وأشرافهم فی اتخاذ أی موقف وقرار، والمتأمّل فی خطبة یزید بن مسعود النهشلی فی بنی تمیم وبنی حنظلة وبنی سعد وردّهم علیه یری هذه الحقیقة واضحة جلیّة.

ص:233

2 - إلقاء الحجة علی جمیع أهل البصرة بما فیهم رؤساؤهم وأشراف قبائلهم، خصوصاً ان البصرة برغم سیطرة ابن زیاد علیها - ما یزید علی خمس سنین حتی ذلک الوقت - لم تکن قد انغلقت لصالح الامویین کما هو حال مدن الشام إذ کان فیها اشراف ورؤساء یعرفون حقانیة أهل البیت وأفئدتهم تهوی إلیهم کما کان فی البصرة معارضة شیعیة لها اجتماعاتها ومنتدیاتها السریة. إذن ففی مبادرة الإمام فی الکتابة إلی کلّ هؤلاء القاء للحجة علیهم وقطع العذر بالقول أنهم لم ینصروا ابن بنت رسول الله لأنهم لم یعلموا بقیامه ونهضته.

3 - من ثمرات هذه الرسالة إعلام البصریین الراغبین فی نصرته بأمر نصرته بأمر نهضة، وتعبئتهم لذلک من خلال أشرافهم الموالین لأهل البیت کمثل یزید بن مسعود النهشلی وأمثاله»(1).

ومن هنا نحن نعتقد بأن مهمة رسول الإمام الحسین إلی البصرة لم تقتصر علی رؤساء الاخماس بل شملت کل طبقات المجتمع والنوادی والمجالس الرئیسیة فیها لاسیما مجالس ونوادی الموالین لأهل البیت علیهم السلام، وربما کان من جملة الحضور فی بیت ماریة العبدیّة مع شخصیات الشیعة الموالیة فی داخل البصرة، بل ربما التقی فی وقت ما مع من خرج من شهداء کربلاء والتحق بالحسین مبکراً. ومما یزید الأمر وضوحاً هو ما سوف نتحدث عنه بشکل تفصیلی فی فقرة (الشهادة) من أن الشهید سلیمان قد تم إلقاء القبض علیه فی بیت احد الشیعة الموالین، داخل البصرة، مما یؤکد حقیقة سعة مهمة هذا الشهید (رض).

ص:234


1- (1) الرکب الحسینی (الإمام الحسین فی مکة المکرمة) للشیخ الطبسی: ج 2 ص 363-364.

یزید بن مسعود النهشلی والمواقف المشرفة

لا یسع الإنسان وهو یقرأ ویتأمل فی موقف هذا الرجل مع رسالة الحسین علیه السلام، بل والمواقف التی صدرت منه قبل ذلک إلاّ وتشرئبّ عنقه إلی السماء فخراً واعتزازاً أن یوجد فی تأریخنا الإسلامی مثل هؤلاء الرجال الابدال الذی طلقوا الدنیا وعافوها من أجل الدین ونصرة المظلومین. ولئن کان هذا الموقف بل والمواقف المتقدمة علیه قد کشفت عن معدن هذا الإنسان الأصیل فإنها کشفت فی نفس الوقت عن مکانته وسمو کعبه بین قومه وأبناء عشیرته بل وحتی بین القبائل الأخری لاسیما حینما عبروا عنه بأنه «فقرة الظهر ورأس الفخر حللت فی الشرف وسطاً وتقدمت فرطا»، یقول المؤرخون أن یزید بن مسعود النهشلی بمجرد أن وصلت إلیه رسالة الإمام الحسین علیه السلام ورسوله الکریم رحب بهما أیّما ترحیب وجمع بنی تمیم وبنی حنظلة وبنی سعد وقال لهم: «یا بنی تمیم کیف ترون موضعی فیکم وحسبی فیکم؟ فقالوا: أنت فقرة الظهر ورأس الفخر حللت فی الشرف وسطاً وتقدمت فرطا قال: قد جمعتکم لأمرٍ أشاورکم فیه وأستعین بکم علیه قالوا: والله إنّا نمنحک النصیحة ونجهد لک الرأی فقل نسمع. فقال: إن معاویة قد مات، فأهون به والله هالکاً ومفقوداً، ألا وإنّه قد انکسر باب الجور والإثم، وتضعضعت أرکان الظلم، وقد کان أحدث بیعة عقد بها أمراً وظن أنه قد أحکمه، وهیهات الذی أراد، اجتهد ففشل، وشاور فخذل، وقد قام ابنه یزید شارب الخمور، ورأس الفجور، یدّعی الخلافة علی المسلمین، ویتأمر علیهم بغیر رضاً منهم مع قصر حلم وقلّة علم، لا یعرف من الحقِّ موطئ قدمه، فأقسم بالله

ص:235

قسماً جدورا، لجهاده علی الدین أفضل من جهاد المشرکین. وهذا الحسین بن علی، ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ذو الشرف الأصیل والرأی الأثیل، له فضل لا یوصف وعلم لا ینزف، وهو أولی بهذا الأمر لسابقته وسنه وقدمه وقرابته، یعطف علی الصغیر ویحنو علی الکبیر فأکرم به راعی رعیّة وإمام قوم وجبت لله به الحجة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ، ولا تسکعوا فی وهدة الباطل، فقد کان صخر بن قیس(1) انخذل بکم یوم الجمل فاغسُلوها بخروجکم إلی ابن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ونصرته، والله لا یقصر أحدٌ عن نصرته إلا أورثه الله الذلّ فی ولده والقلة فی عشیرته، وها أنا قد لبست للحرب لامتها وادّرعت لها بدرعها، من لم یقتل یمت ومن یهرب لم یفت، فاحسنوا رحمکم الله ردّ الجواب. فتکلمت بنو حنظلة فقالوا یا أبا خالد نحن نبل کنانتک وفرسان عشیرتک. إن رمیت بنا أصبت وإن غزوت بنا فتحت لا تخوض والله غمرة إلا خضناها، ولا تلقی والله شدة إلا لقیناها، ننصرک والله بأسیافنا ونقیک بأبداننا فانهض لما شئت، وتکلمت بنو سعد بن زید فقالوا: یا أبا خالد إن أبغض الإشیاء الینا خلافک والخروج عن رأیک وقد کان صخر بن قیس أمرنا بترک القتال. فحمدنا أمرنا وبقی عزّنا فینا، فأمهلنا نراجع المشورة ونأتک برأینا. وتکلمت بنو عامر بن تمیم فقالوا: یا أبا خالد نحن بنو أبیک وحلفاؤوک، لا نرضی ان غضبت ولا نقطن إن ظعنت، والأمر الیک فادعنا نجبک ومُرْنا نطعک والأمر الیک اذا شئت، فقال والله یا بنی أسد لئن فعلتموها لا یرفع الله السیف عنکم ابدا، ولا یزال السیف فیکم»(2) ، وقبل ان نسترسل فی

ص:236


1- (1) المراد به: الاحنف بن قیس/ راجع سیر أعلام النبلاء: ج 4 ص 85، واسد الغابة: ج 1: ص 55.
2- (2) اللهوف فی قتلی الطفوف: ص 28.

الحدیث عن مواقف هذا الرجل الأصیل أود أن اشیر ولو علی نحو السرعة إلی بعض النقاط المهمة التی تضمنها کلامه مع قومه:

نقاط مهمة فی خطبة یزید النهشلی

(ألف) لقد تحدث یزید بن مسعود النهشلی عن هلاک معاویة وارتیاحهم من هلاکه بشکل یکشف ان القائل والمستمع کلیهما ممن لا یرتضی معاویة ولا یمیل إلیه، وما ذاک إلا لعظم الظلم الذی حلّ ونزل فی البصرة واهلها جمیعاً علی السواء من قبل ولاته الجائرین، فقد نقل الطبری فی تاریخه وفی حوادث سنة 50 للهجرة عن محمد بن سلیم: «قال: سألت أنس بن سیرین، هل کان سمرة(1) قتل احداً؟ قال: وهل یقدّر من قتله سمرة بن جندب، واستخلفه زیاد علی الصبرة وأتی الکوفة فجاء وقد قتل ثمانیة آلاف من الناس فقال له: ألا تخاف ان تکون قد قتلت بریئاً؟ قال: لو قتلت مثلهم ما خشیت»(2) فضلاً عما صنعه زیاد بن أبیه من جرائم، «قال الحسن البصری: بلغ الحسن بن علی ان زیاداً یتتبع شیعة علی بالبصرة فیقتلهم فدعا علیه»، أمّا ولده عبید الله بن زیاد فحدث ولا حرج فالحدیث عنه یطول، فقد ملئت به کتب المؤرخین.

(باء) رفضه لبیعة یزید وبیان خسته وخلوه من کل خلقٍ حسن، فهو شارب

ص:237


1- (1) هو سمرة بن جندب، یقول عنه ابن الأثیر: «سکن البصرة وکان زیاد یستخلفه علیها إذا صار إلی الکوفة ویستخلفه علی الکوفة إذا صار إلی البصرة فکان یکون فی کل واحدة منهما ستة اشهر..» اسد الغابة: ج 2 ص 354.
2- (2) تأریخ الطبری: ج 3 ص 176.

للخمر معلن بالفسق والفجور ومن یکن حاله هکذا کیف یمکن أن یقبله المسلمون لهم حاکماً وخلیفة یحکم باسم الله ویتبع هدیه ویطبق دینه.

(جیم) دعاهم إلی نصرة الإمام الحسین علیه السلام صاحب المآثر والمفاخر والحائز علی الدرجات العلی فی سُلّم الکمال والعلم والإیمان والنسب وما شاکل ذلک من صفات العز وصفات الفخر، وقد أبدی استعداده الکامل أمامهم فی الالتحاق به والشهادة بین یدیه وهذه تعبئة کاملة وافیة وشاملة لهم، لاسیما بعد ان رفع إشکالاتهم وغسل صدورهم من أدران الماضی واخفاقاته لاسیما فی حرب الجمل مع أمیر المؤمنین من خلال غسلها بنصرة الحسین والذبِّ عنه والتضحیة بین یدیه.

ولما رآهم قد زاد شوقهم للحسین وخفقت قلوبهم للرحیل إلیه، کتب إلی الحسین علیه السلام کتاباً فی منتهی الروعة وتضمن کلماتٍ فی غایة الدقة حتی لقد ذکر فی طیّات حدیثه أنهم أصبحوا أشدّ شوقاً من الأبل الظماء إلی مورد الماء المعین.

قال یزید بن مسعود النهشلی فی رسالته للحسین علیه السلام: «أما بعد: فقد وصل إلیّ کتابک وفهمت ما ندبتنی إلیه، ودعوتنی إلیه من الأخذ بحظی من طاعتک والفوز بنصیبی من نصرتک، وان الله لم یخلِ الارض من عامل بخیر ودلیل علی سبیل نجاة وأنتم حجة الله علی خلقه وودیعته فی أرضه تفرعتم من زیتونة أحمدیة هو أصلها وأنتم فرعها فأقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذللت لک أعناق بنی تمیم وترکتهم أشد تتابعاً فی طاعتک من الإبل الظماء لورود الماء یوم خمسها، وقد ذللت لک رقاب بنی

ص:238

سعد وغسلت درن قلوبها بماء سحابة مزن حین استهل برقها فلمع»(1) فلما قرأ الحسین الکتاب قال: «آمنک الله یوم الخوف وأعزّک وأرواک یوم العطش الأکبر»(2) ، ویذکر المؤرخون أن الذی أوصل هذا الکتاب إلی الإمام الحسین علیه السلام هو أحد شهداء کربلاء واسمه «الحجاج بن بدر التمیمی السعدی»(3) ویبدو أنه کان من جملة الحضور الذین تحدث معهم یزید بن مسعود النهشلی، فانتدبه إلی هذه المهمة المقدسة فذهب وبقی مع الحسین واستشهد بین یدیه.

اجتماع الشیعة فی دار ماریة بنت منقذ العبدی

یبدو أن رسول الحسین علیه السلام إلی البصرة قد تحرک بشکل کبیر وعلی مختلف الصُعد، حیث تمخضت عن تلک التحرکات مجموعة من الاجتماعات ذکر المؤرخون بعضها وغفلوا أوتغافلوا عن البعض الآخر. ومن هذه الاجتماعات التی عقدت مبکراً فی البصرة وقبل القاء القبض علی رسول الحسین «سلیمان» بل وحتی قبل انعقاد المؤتمر الکبیر لرؤساء أخماس البصرة ووجهائها هو اجتماع شیعة أهل البیت فی دار المرأة الصالحة «ماریة بنت منقذ العبدی» والتی یقول عنها المامقانی: «عن أبی مخارق الراسبی قال: اجتمع ناسٌ من الشیعة بالبصرة فی منزل امرأة من عبد القیس یقال لها ماریة ابنة سعد أو منقذ أیّاما وکانت تتشیّع وکان منزلها لهم مألفاً یتحدثون فیه»(4) ، وکان من جملة المجتمعین یزید بن ثبیط

ص:239


1- (1) اللهوف: ص 110، مثیر الاحزان: ص 27-29.
2- (2) المصدر السابق.
3- (3) انظر: أعیان الشیعة: ج 4 ص 564، ومستدرکات علم الرجال: ج 2 ص 306.
4- (4) تنقیح المقال للعلامة المامقانی: ج 3 ص 82

العبدی (رض) الذی حظر الاجتماع مع ابنائه العشرة والذی قال لهم أولاً: «أیّکم یخرج معی متقدماً؟ فانتدب له إثنان هما: عبد الله وعبید الله. فقال لأصحابه فی بیت ماریة: إنّی قد أزمعت علی الخروج وهاأنا خارج، فمن یخرج معی؟ فقالوا: إنّا نخاف اصحاب ابن زیاد(1) ، فقال إنی والله لو قد استوت اخفافها بالجُدَد(2) لهان علیّ طلب من طلبنی ثم خرج وإبناه وصحبه عامر ومولاه وسیف بن مالک والادهم بن أمیة وقوی فی الطریق حتی أنتهی إلی الحسین علیه السلام وهو بالأبطح من مکّة فاستراح فی رحلة ثم خرج إلی الإمام الحسین إلی منزله...»(3).

موانع التحاق شیعة البصرة بالحسین علیه السلام

لم یکن فی البصرة عدد قلیل من الشیعة، بل کان فیها الآلاف من الموالین لأهل البیت علیهم السلام، ومن ثم فکان ینبغی ان تخرج اعداد کبیرة لنصرة الحسین علیه السلام، ومع عدم خروجهم تکون هناک علامة استفهام کبری عن أسباب وموانع عدم الالتحاق بالحسین علیه السلام والتی أقدّر أنها یمکن ان تتلخص بمجموعة من النقاط المهمة وهی:

1 - وجود نظام مستبد ظالم فی البصرة، کان قد تتبع شیعة أهل البیت علیهم السلام ونکلّ بهم، حتی أمتلأت بهم السجون والمقابر ولمدّة طویلة من الزمن، وللمثال أذکر أن سمرة بن جندب کان یقتل فی ستة أشهر فقط وهی مدّة ولایته علی

ص:240


1- (1) تاریخ الطبری: ج 3 ص 278.
2- (2) الجُدَدَ: الارض الصلبة المستویة، راجع بحار الانوار: ج 32 ص 262
3- (3) إبصار العین: ص 189-190.

البصرة من قبل زیاد ما یقارب ثمانیة آلاف رجل، ولاشک ولا ریب أن جُلّ هؤلاء - ان لم یکونوا کلهم - کانوا من شیعة أهل البیت ومثل هذه السیاسة کانت متبعة حتی قبل زیاد بن سمیة ثم ازدادت فی زمن زیاد، وبلغت ذروتها فی زمن ولده المشؤوم عبید الله بن زیاد، ومن ثم أحکم ابن زیاد قبضته علی البصرة بشکل، کامل، فلم تحصل فیها أیة اضطرابات تذکر بخلاف الکوفة التی کانت تحت إمرة رجل ضعیف فی إدارته أو أنه یتضاعف وقد قال کلمته المشهورة: إنی لا أقاتل من لم یقاتلنی وهو النعمان بن بشیر الانصاری وان قلت لی فکیف استطاع إذن مجموعة من البصریین الخروج لنصرة الحسین علیه السلام؟ أقول: بأن خروج هذه الثلة المؤمنة کان مبکراً حیث استطاعوا ان یصلوا إلی الحسین علیه السلام وهو فی مکة لم یخرج إلی الطرق وهذا یعنی أنهم وصلوا إلی الحسین فی وقت لم یحصل فیه الانقلاب فی داخل الکوفة ولم یصل فیه بعد ابن زیاد إلیها، ومع کل ذلک فقد قال بعضهم ممن کانوا قد اجتمعوا بالشهداء البصریین قبل خروجهم «إنا نخاف ابن زیاد» مما یفید أن ظلم وجور ابن زیاد وصل إلی درجة صارت الناس تخاف منه حتی وان لم یکن هناک شیء یذکر فی البصرة فکیف الحال بعد ذلک عندما أغلقت الطرق وسُکِّرت بشکل کامل لاسیما بعد ان خطب خطبته التی توعد فیها أهل البصرة بالموت والثبور إذا أحسّ منهم أیة حالة تمرّد أو إرادة نصرة للحسین علیه السلام.

2 - ان الحسین علیه السلام لم یأمر شیعته فی البصرة بالالتحاق به علی نحو الوجوب، وإنما کانت عبارة عن دعوة لنصرة الحق والوقوف إلی جانبه وترک

ص:241

الباطل وعدم الرکون إلیه وقبل هذا الامر وان کان مهماً ولکنه یختلف من حیث الآثار الدینیة والدنیویة عن إیجاب الحسین علیه السلام مثل هذا الأمر علیه، ویبدو أن الحسین علیه السلام لم یتخذ هذا الأمر مع أهل البصرة فحسب بل کان هذا الأمر قد اتخذه حتی مع أهل الکوفة وقبل ذلک فی مکة والمدینة، فلم یکن الحسین علیه السلام یخاطب من یراه ویدعوه بلغة الوجوب لنصرته بل کانت جُلّ خطابات الحسین علیه السلام وکلماته لمن رآه ودعاه علی مستوی الفرد والمجامیع عبارة عن «من لحق بنا استشهد ومن لم یلحق بنا لم یدرک الفتح» ألا ترون إلی الحق لا یعمل به والی الباطل لا یتناهی عنه فلیرغب المؤمن فی لقاء ربه محقّاً...» وما شاکل ذلک من هذه العبائر الشریفة، وهی وان کانت لها آثار عظیمة فی نفس القارئ والسامع لها، ولکنها بلا شک لا تقل فی آثارها إلی الدرجة التی یمکن أن یصل لها الإنسان فیما إذا کانت هناک حالة إیجاب واضحة وصریحة من قبل الإمام فی ضرورة نصرته علیه السلام، بل إن المتتبع لسیرة سید الشهداء مع من تکلم معهم لنصرته وأبوا ذلک إمّا لخوفهم علی أنفسهم أو لإسباب أخری کان ینصحهم بعدم القرب من کربلاء ومن منطقة البلاء التی تنتظر الحسین وأهل بیته وأصحابه، وبعبارة أخری نصحهم بعدم سماع واعیتهم، بل إننا نجد ان مثل هذا الأمر اتخذه الحسین حتی مع اصحابه الملتحقین به حینما قال لهم ارجعوا فأنتم فی حلّ من بیعتی لیس علیکم منی ذمام ولکنهم أبوا إلا الشهادة بین یدیه، وعلیه فإن الأمر مع شیعة البصرة کان ضمن هذا السیاق وهذا المنهج الحسینی ولا ریب ان الأمر ربما یختلف بشکل واضح فی درجة التفاعل مع الحرکة الحسینیة لو کانت هناک حالة

ص:242

وجوب فی نصرة الحسین بدلاً من الدعوة إلی نصرته والوقوف إلی جانبه بشکل عام، ومع کل ذلک فقد فاز بذلک مجموعة من الشهداء ممّن لا یرون الخوف والذعر والفزع والاغراء معوِّقات للخروج إلی نصرة الحسین، کما قال یزید بن ثبیط العبدی لمن معه ذلک بشکل واضح وصریح: «إنی لو استوت أخفافها بالجُدد لهان علیّ طلب من طلبنی».

3 - ربما حاول البعض جاهداً کیزید بن مسعود النهشلی بعد وصول رسالة الإمام الحسین علیه السلام إلیه أن یبذل قصاری جهده أن لا یکون خروجه بمفرده أو بمجموعة قلیلة لا تتناسب مع مقام الشیعة والموالین فی داخل الکوفة، ولهذا بذل جهداً کبیراً من أجل دعوة القبائل التی عرفت بالولاء والمیل إلی أهل البیت علیهم السلام ودعاها إلی نصرة الحسین علیه السلام، وقد جرت فی تلک الجلسات التی لا شک أنها استمرت لأوقات طویلة وبشکل سری للغایة تحت سلطان بنی أمیة وعیون ابن زیاد، مناقشة مجموعة من الإشکالات التی کانت قد حصلت فی السابق سواء فی حرب الجمل أو غیرها، وقد استطاع هذا الرجل الموالی من استئصال کل حالة شک وریبة وغلّ کانت تنتاب قلوبهم ومشاعرهم حتی وصل إلی درجة کتب فیها الی الحسین علیه السلام بکلمات تکشف عن مدی هذا الجهد الکبیر الذی بذله والوقت الذی یمکن للإنسان ان یتلمسه ویقرأه فی ثنیات هذا العمل حیث قال: «فقد ذللت لک أعناق بنی تمیم وترکتهم أشدّ تتابعاً لک من الإبل الظماء یوم خمسها لورود الماء وقد ذللت رقاب بنی سعد وغسلت لک درن صدورها بماء سحابة مُزن حین استهل برفعها فلمع» وهذه الکلمات التی ذکرها

ص:243

هذا الرجل الموالی، «ذللت.. وغسلت درن صدورها..» لاشک أنها احتاجت مدّة طویلة من الزمن ومن ثم ما إن حصل الاتفاق علی النصرة ومضت مرحلة الإعداد للسلاح والخروج حتی جاء خبر شهادة الحسین وهم فی طریق الوصول إلیه، ولقد نقل التأریخ ان العدد بلغ اثنی عشر ألف رجل مقاتل.

4 - وإضافة لکل ما تقدم فإننا لا نجانب الحقیقة إذا ما قلنا بأن الهوان والشلل النفسی الذی أصاب الأمة نتیجة سیاسة القتل والارهاب قد أتت ثمارها بشکل واضح علی قطاعات کبیرة من الناس فی البصرة لاسیما الموالین منهم، وربما یمکن للإنسان ان یتلمس مثل هذا الأمر بخروج عبید الله بن زیاد من البصرة مع خمسائة رجل جلهم من الشیعة إلی جهة الکوفة وکان علی رأس هذه المجموعة عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم القرشی الهاشمی وشریک بن الاعور واللذان کانا من شیعة علیّ والموالین له، وقد بدت آثار عدم قبولهم للذهاب فی هذا الوجه مع ابن زیاد من خلال تساقطهم فی الطریق بمرض وغیره لعلهم یستطیعون بذلک ان یؤخروا ابن زیاد عن الدخول إلی الکوفة قبل الحسین علیه السلام،

هل یکفی التساقط فی طریق الکوفة ؟

یقول الشیخ الطبسی معلقاً علی هذا الأمر: «تری هل کان هذا التساقط أفضل الوسائل لتعویق ابن زیاد ومنعه من دخول الکوفة قبل الإمام؟ وإذا کان شُریک ومن معه من الشیعة یعرفون الدور الخطیر الذی سیقوم به ابن زیاد لاستباق حرکة الاحداث فی الکوفة وإدارتها لصالح یزید، أفلم یکن من الراجح ان یقتلوا ابن

ص:244

زیاد بأیّ صورة سراً أُمّ علناً وإن أدی ذلک إلی قتل أحدٍ منهم أو جمیعهم بعد ذلک ترجیحاً لمصلحة الإسلام العلیا؟ أُمّ أننا هنا أیضاً امام صورة أخری من صور الوهن والشلل النفسی الذی أصابَ الأمة وتفشی فیها، فأصاب هؤلاء أیضاً فرأوا ان أقصی ما یمکنهم المبادرة إلیه هو التساقط فی الطریق فقط متمنین للإمام ان ینصره الله علی أن لا تتعرض دنیاهم لأیّ ضرر أو خطر. إننا لا نشک فی أخلاص شریک وأمثال شریک من شیعة علیّ ولکننا نعجب من اقتصارهم علی التفکیر فی التساقط فقط، وعدم تدبیرهم لخطة یتخلصون بها من ابن زیاد ویخلّصون الأمة منه فی ثنایا الطریق من البصرة إلی الکوفة، وربما کان قتل ابن زیاد بتدبیر خفی غامض فی لیلة ظلماء فی هذه المرحلة أیسر بکثیر من حیث الاعتبارات العرفیة والتبعات من قتلهِ فی بیت هانئ بن عروة علی ضوء الخطة التی اقترحها شریک نفسه یومذاک. نقول هذا کله بحسب الموازین والحسابات الظاهریة ونعلم ان إرادة الله وتقدیراته شیء آخر»(1).

وقت شهادة سلیمان

لقد استمرت حرکة الشهید سلیمان فی البصرة بشکل متواصل ودؤوب لیلاً ونهاراً، متنقلاً بین المجالس والبیوت شارحاً ومبیّناً وداعیاً ومستصرخاً أهل البصرة لاسیما الموالین منهم کما تقدم، لنصرة الحسین علیه السلام والوقوف إلی جانبه فی حرکته ضد سلطان بنی أمیة وأعوانهم لاسیما فی الکوفة والبصرة، وأقدّر أن هذه المدة لم تکن بالمدة القلیلة، حیث امتدت إلی أکثر من شهرین علی أقلّ التقادیر،

ص:245


1- (1) الرکب الحسینی (الإمام الحسین إلی مکة): ج 2 ص 372-373.

أبتدأت من بعثة الحسین علیه السلام له فی مکة بعد وصوله إلیها فی شعبان واستمرت إلی یوم شهادته والذی نحتمل أنه کان فی آخر ذی القعدة أو أول ذی الحجة، یقول الخوارزمی فی مقتله: إن شهادة سلیمان کانت فی نفس یوم رحیل وسفر ابن زیاد إلی الکوفة: «فضرب عنقه صبراً ثم أمر بصلبه ثم صعد المنبر وقال: ان یزید ولّانی الکوفة وانا سائر إلیها»(1) ، ومن المعلوم ان سفر ابن زیاد إلی الکوفة کان فی أول ذی الحجة، بینما یقول السید ابن طاووس: ان الأمر حصل فی عشیة یوم سفره: «فأخذ عبید الله الرسول فقتله، ثم بات تلک اللیلة فلما أصبح استناب علیهم أخاه...»(2).

کیفیة الشهادة

روی الخوارزمی فی مقتله وغیره ان الشهید سلیمان مولی الحسین قتل صبراً ثم صلب، وعلی روایة ابن حجر المتقدمة والمزی أن ابن زیاد رمی جسده من فوق المسجد الجامع أو من أعلی المنارة إلی الأرض، ومن ثم جری علی الشهید من القتل ما جری علی سفیر الحسین إلی الکوفة مسلم بن عقیل علیه السلام. یقول الخوارزمی: «فکل من قرأ کتاب الحسین کتمه إلا المنذر بن الجارود فإنه خشی أن یکون هذا الکتاب دسیساً من ابن زیاد، وکانت بحریة بنت المنذر بن الجارود تحت عبید الله بن زیاد، فأتی ابن زیاد وأخبره فغضب وقال: َنْ رسول الحسین إلی أهل البصرة؟ فقال المنذر: رسوله إلیهم مولی یقال له سلیمان قال: فعلیّ به

ص:246


1- (1) مقتل الحسین للخوارزمی: ص 288.
2- (2) اللهوف فی قتلی الطفوف لابن طاووس: ص 29.

فأتی به وکان مختفیاً عند بعض الشیعة(1) بالبصرة فلما رآه ابن زیاد لم یکلمه بشیء دون أن قدّمه فضرب عنقه صبراً ثم أمر بصلبه ثم صعد علی المنبر»(2) وخطبهم خطبتهُ المشهورة التی توعد فیها أهل البصرة وان یأخذ البریء بغیره قائلاً: «أما بعد فوالله ما تقرن بی الصعبة ولا یقعقع لی بالشنان، وإنی لنکلٌ لمن عادانی، وسمّ لمن حاربنی أنصف القارة من راماها، یا اهل البصرة إن أمیر المؤمنین ولّانی الکوفة وأنا غادٍ إلیها الغداة، وقد استخلفت علیکم عثمان بن زیاد ابن أبی سفیان، وإیاکم والخلاف والأرجاف فوالذی لا إله غیره لئن بلغنی عن رجل منکم خلاف لأقتلنه وعریفه وولیه ولآخذن الأدنی بالأقصی حتی تستمعوا لی ولا یکون فیکم مخالف ولا مشاق، أنا ابن زیاد، أشبهته من بین مَنْ وطئ الحصی ولم ینتزعنی شبه خال ولا ابن عم»(3).

ص:247


1- (1) تسلیة المجالس وزینة المجالس، محمد بن أبی طالب الحسینی الکرکی: ج 2 ص 176.
2- (2) اللهوف فی قتلی الطفوف: ص 110.
3- (3) تاریخ الطبری: ج 5 ص 358.

مصادر الکتاب

1. القرآن الکریم.

2. إبصار العین فی أنصار الحسین للشیخ محمد السماوی/مطبعة حرس الثورة الاسلامیة سنة 1419 ه -.

3. إبصار العین فی أنصار الحسین للشیخ محمد السماوی/مطبعة حرس الثورة الاسلامیة سنة 1419 ه -.

4. ابن کثیر (البدایة والنهایة)، مطبعة السعادة، الطبعة الأولی سنة 1351 ه -.

5. ابن ماجة فی سننه، طبعة المکتبة العلمیة فی بیروت.

6. اتحاف الأعیان - سیف بن طمود البطاشی، مکتب المستشار الخاص لجلالة السلطان - طبعة 1419.

7. إتحاف الجماعة بما جاء فی الفتن وأشراط الساعة لابن حمود النویجری/سنة النشر 1976 م.

8. إثباة الهداة للحر العاملی / المطبعة العلمیة / قم.

9. إثبات الوصیة للمسعودی/المطبعة الحیدریة / النجف.

10. الاحتجاج للشیخ الطبرسی، مکتبة النعمان - النجف سنة 1386 ه -.

11. أحکام الذمة لابن قیم الجوزی، مطبعة المدنی، القاهرة، تحقیق جمیل غازی، سنة 1997 م.

12. أحکام القرآن، لأبن عربی.

13. الإحکام فی أصول الأحکام، لابن حزم الأندلسی، دار الحدیث - القاهرة - طبعة مصر 1929.

ص:248

14. الأخبار الطوال للدینوری/دار احیاء التراث/سنة 1960 ه -.

15. اختیار معرفة الرجال للشیخ الطوسی/المطبعة الحیدریة / النجف/الطبعة الاولی.

16. الاخلاف بین الطبع والتطبع/فیصل بن عبده قائد الحاشدی.

17. أخلاق الإمام الحسین، لعبد العظیم المهتدی البحرانی، انتشارات الشریف الرضی.

18. الآداب الشرعیة لابن مفلح/تحقیق شعیب الأرنؤط/مؤسسة الرسالة / بیروت / الطبعة الاولی.

19. أدب الطف أو شعراء الحسین/مؤسسة التاریخ / بیروت / 1422 ه - / الطبعة الأولی.

20. الإرشاد للشیخ المفید/مؤسسة آل البیت لتحقیق التراث/سنة 1414 ه -.

21. أزمة الخلافة والإمامة، أسعد وحید القاسم.

22. الاستیعاب لابن عبد البر/دار الجیل / بیروت / سنة 1412 ه -.

23. أسد الغابة لأبن الاثیر/دار الکتاب العربی.

24. أسرار الشهادة للدربندی/منشورات الأعلمی / بیروت.

25. إشعار الشعراء للأعلم الشنتمری.

26. الاصابة فی معرفة الصحابة لابن حجر/مطبعة السعادة بمصر / سنة 1328 ه -.

27. الأصول الشرعیة للسید عبد الله شبر، مکتبة المفید، 1404 ه -، قم.

28. الأصول العامة للسید محمد تقی الحکیم، تحقیق وفی الشناوة، الطبعة الثانیة، مؤسسة آل البیت.

29. أصول الکافی لمحمد بن یعقوب الکلینی/مطبعة النجف 1376 ه -.

30. أضواء علی الثورة الحسینیة للسید محمد صادق الصدر / بیروت / الطبعة الأولی.

31. أعلام الوری بإعلام الهدی للطبرسی/مؤسسة آل البیت علیهم السلام / قم.

32. الأعلام للزرکلی/دار العلم للملایین/الطبعة الخامسة عشر/سنة 2002 م.

33. أعیان الشیعة للسید محسن الأمین/مطبعة الانصاف/بیروت 1380 ه -.

34. الافصاح للشیخ المفید/تحقیق محمد رضوان العرقسوسی/ الطبعة الأولی.

35. إقبال الأعمال للسید ابن طاووس، تحقیق جواد القیومی الاصفهانی سنة 1414 ه - الطبعة الأولی.

ص:249

36. الإکلیل فی أنساب أهل الیمن للهمدانی، المطبعة السلفیة سنة 1368 ه -.

37. الاکمال لابن هاکولا، طبعة دائرة المعارف العثمانیة - الهند سنة 1963 م.

38. أمالی الشیخ الصدوق/الطبعة الاولی 1417 ه - /مؤسسة البعثة.

39. أمالی الشیخ الطوسی، أبی جعفر محمد بن الحسن الطوسی - تحقیق محمد صادق بحر العلوم، سنة النشر 1981 م.

40. أمالی الشیخ المفید، تحقیق علی أکبر غفاری، طبعة جامعة المدرسین قم 1403 ه -.

41. الإمام الحسین سماته وسیرته، للسید محمد رضا الجلالی/دار المعروف / قم.

42. الإمامة والسیاسة، لابن قتیبة.

43. أنساب الأشراف، أحمد بن یحیی البلاذری، تحقیق سهیل زکار وریاض زرکلی، دار الفکر، 1417 ه -.

44. الأنساب للبلاذری/مؤسسة الأعلمی/ 1974 م/تحقیق محمد باقر المحمودی.

45. الأنساب للسمعانی، طبعة محمد أمین، بیروت، الطبعة الثانیة 1400 ه -.

46. أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین /ط 2 /الدار الإسلامیة/سنة 1401 ه -.

47. الأنوار النعمانیة للسید نعمة الله الجزائری، الطبعة الأولی، 1429 - دار الکوفة.

48. أهل البیت سماتهم وحقوقهم للشیخ جعفر السبحانی / مؤسسة الامام الصادق علیه السلام / قم.

49. إیضاح الاشتباه للعلامة الحسن بن یوسف بن المطهر، مؤسسة النشر الإسلامی، تحقیق محمد الحسون.

50. بحار الأنوار للعلامة المجلسی/الطبعة الثانیة/مؤسسة الوفاء.

51. البحر الزخار، یحیی بن المرتضی، مطبعة السعادة، القاهرة.

52. بحر الفوائد، للکلابازی.

53. البدایة والنهایة لابن کثیر/تحقیق علی شیری/دار إحیاء التراث / 1408 ه -.

54. البصائر والذخائر، لأبی حیّان التوحیدی.

55. بضائع التابوت فی نتف من تاریخ حضرموت، علوی بن طاهر الحداد، 1382 ه -.

56. بطل العلقمی/عبدالواحد المظفر/المطبعة الحیدریة / النجف.

ص:250

57. بغیة الطلب فی تاریخ حلب لابن الندیم.

58. بغیة النبلاء بتاریخ کربلاء للسید عبدالحسین آل طعمة.

59. بنور فاطمة اهتدیت علیهما السلام عبد المنعم حسن علیهما السلام دار الخلیج العربی علیهما السلام الطبعة الثانیة

60. تاج العروس من جواهر القاموس للزبیدی / طبعة الکویت.

61. تاریخ السنة النبویة/صائب عبدالحمید.

62. تاریخ الشیعة للعلامة المظفر/مطبعة الزهراء علیها السلام / النجف.

63. تاریخ الطبری، أبو جعفر محمد بن جریر الطبری، مطبعة الاستقامة، القاهرة 1939 ه -.

64. تاریخ الفقه الإسلامی وأدواره للشیخ سبحانی، الطبعة الأولی سنة 1432 ه -.

65. التاریخ الکبیر ابن أبی خیثمة طبعة دار الفارق، طبعة دار الوطن، تحقیق اسماحین حسن حسین.

66. التاریخ الکبیر للبخاری/المکتبة الاسلامیة / دیاربکر / ترکیا.

67. تاریخ الکوفة للسید البراقی/تحقیق ماجد أحمد العطیة/المکتبة الحیدریة/ 1424 ه -.

68. تاریخ المدینة المنورة، لأبی زید عمر بن شبّة النُمیری، تحقیق محمد علی دندل، بیروت، 1417 ه -.

69. تاریخ النیاحة علی الإمام الحسین، للسید الشهرستانی.

70. تاریخ بغداد للبغدادی، مطبعة السعادة - مصر عام 1349 ه -.

71. تاریخ دمشق لابن عساکر/دار الفکر - بیروت/ 1415 ه -.

72. التحریر والتنویر لابن عاشور (تفسیر القرآن) /دار سحنون.

73. تحفة الأحوذی بشرح سنن الترمذی، للمبار کفوری، دار إحیاء التراث بیروت.

74. التحفة السنیة للفیض الکاشانی، مکتبة الحضرة الرضویة - مشهد / إیران.

75. تذکرة الخواص لابن الجوزی، المطعبة الحیدریة، النجف 1383 ه -.

76. تراث کربلاء لسلمان هادی طعمة/مؤسسة الأعلمی / بیروت.

77. ترجمة الإمام الحسین لابن عساکر/تحقیق محمد باقر المحمودی/ مجمع إحیاء الثقافة الإسلامیة/ 1414 ه -.

78. ترجمة الإمام الحسین لابن عساکر/تحقیق محمد باقر المحمودی/مجمع إحیاء الثقافة

ص:251

الإسلامیة/ 1414 ه -.

79. تسلیة المجالس وزینة المجالس لمحمد بن أبی طالب/تحقیق فارس حسون کریم.

80. تعجیل المنفعة لابن حجر، مطبعة مجلسی دائرة المعارف النظامیة، سنة 1907 دار الکتاب العربی.

81. تفسیر الآلوسی/دار إحیاء التراث / بیروت.

82. تفسیر الأمثل للشیخ مکارم الشیرازی/دار إحیاء التراث / بیروت/الطبعة الأولی 2002 م.

83. تفسیر البغوی/تحقیق خالد عبدالرحمن العک/دار المعرفة / بیروت.

84. تفسیر الدر المنثور للسیوطی، تحقیق عبد الله بن عبد المحسن الترکی، طبعة مرکز هجر.

85. تفسیر الرازی الکبیر، طبعة دار الفکر، القاهرة سنة 1980 م.

86. تفسیر الصافی المولی محسن الفیض الکاشانی، الطبعة الثانیة، 1416 ه -.

87. تفسیر الطبری/دار السلام للطباعة والنشر/الطبعة الأولی / القاهرة.

88. تفسیر القرطبی/مطبعة دار الکتاب / القاهرة 1968 م.

89. تفسیر الماوردی/طبعة وزارة الأوقاف / الکویت.

90. تفسیر المیزان للسید محمد حسین الطباطبائی/انتشارات إسراء.

91. تفسیر نور الثقلین للعلامة الشیخ عبد علی جمعة العروسی الحویزی، الطبعة الثانیة 1383 تصحیح هاشم المحلاتی.

92. تقریب التهذیب لابن حجر العسقلانی، دار الفکر بیروت سنة 1984.

93. التمهید لما فی الموطأ من المعانی والأسانید، تحقیق محمد بن عبد القادر سنة النشر 1999 م.

94. تنبیه الغالفین بأحادیث سید المرسلین، للسمرقندی.

95. تنقیح المقال للمامقانی/المطبعة المرتضویة / النجف/سنة 1352 ه -.

96. تهذیب التهذیب لابن حجر/دار الفکر/سنة 1404 ه -.

97. تهذیب الکمال للمزی/مؤسسة الرسالة/سنة 1406 ه -.

98. تهذیب تاریخ الإسلام لابن عساکر، مطبعة النرقی، الطبعة الأولی، دمشق 1349 ه -.

ص:252

99. الثقات لابن حبان/دار الفکر/الطبعة الاولی/سنة 1975 م.

100. ثمرات الأعواد للسید علی الهاشمی.

101. ثواب الأعمال، الطبعة الثانیة، 1984 م.

102. ثورة الإمام الحسین علیه السلام للشیخ محمد مهدی شمس الدین/طبعة الاندلس / بیروت.

103. الثورة الحسینیة دورها ومعطیاتها، للسید الحسین بن التقی آل بحر العلوم.

104. جامع الأحادیث للشیخ اسماعیل الملایری، الطبعة العلمیة، قم 1399 ه -.

105. الجامع للترمذی/مطبعة فخر المطابع بدهلی.

106. الجرح والتعدیل لابن أبی حاتم، الطبعة الأولی، مجلس دائرة المعارف العثمانیة - الهند 1952.

107. جمهرة الأمثال، لأبی هلال العسکری، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم وعبد المجید مطامش، دار الفکر بیروت.

108. جمهرة أنساب العرب لابن حزم/تحقیق عبدالسلام هارون/دار المعارف.

109. جمهرة خطب العرب/أحمد زکی صفوت/الطبعة الثانیة.

110. الجوهر المنظم فی زیارة القبر النبوی الشریف المکرم للإمام ابن حجر الهیثمی، دار جوامع الکلم - القاهرة.

111. الحاکم فی المستدرک/إشراف یوسف عبدالرحمن المرعشلی/طبعة مزیدة بفهرس الأحادیث.

112. حاوی الأقوال للشیخ عبدالنبی الجزائری/تحقیق مؤسسة الهدایة لإحیاء التراث.

113. حبیب بن مظاهر للمظفری/النجف العلمیة، 1370 ه -.

114. الحسین یکتب قصته الأخیرة الشهید محمد باقر الصدر / تحقیق صادق جعفر الروّازق، مکتبة الشهید الصدر سنة 2006 م، النجف.

115. حلیة الأبرار للسید هاشم البحرانی، الطبعة الثانیة سنة 1969، مطبعة النعمان، النجف.

116. حلیة الأولیاء لابن نعیم الأصبهانی/دار الکتب العلمیة / بیروت.

117. حوار مع الشیخ صالح بن عبدالله الدرویش للشیخ جعفر السبحانی / مؤسسة الإمام

ص:253

الصادق علیه السلام / قم.

118. حیاة الحیوان للدمیری، مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1378 ه -.

119. خزانة الأدب للبغدادی/دار الکتب العلمیة / بیروت/سنة 1998 م.

120. خصائص النسائی، الطبعة الأولی - الکویت 1986 م.

121. الخطط المقریزیة، تقی الدین المقریزی، دار صادر - بیروت.

122. خلاصة الأقوال للعلامة الحلی/مؤسسة نشر الفقاهة/سنة 1417 ه -.

123. دائرة المعارف، محمد حسین الأعلمی، مؤسسة الأعلمی، الطبعة الثانی، بیروت.

124. الدر المنضود للسید الکلبایکانی/دار القرآن الکریم/سنة 1412 ه -.

125. الدروس. للشهید الأول.

126. دلائل الإمامة لأبی جعفر الطبری/مؤسسة البعثة/سنة 1413 ه -.

127. دلائل النبوة للحافظ أبی نعیم/دار المعرفة / بیروت.

128. دیوان الإمام علی، تحقیق محمد عبد المنعم الخفاجی، دار ابن الزیتون.

129. دیوان السید حیدر الحلی، منشورات الأعلمی بیروت، تحقیق علی الخاقانی.

130. ربیع الأبرار للزمخشری، مؤسسة الأعلمی، سنة 1992.

131. رجال ابن داود/منشورات المطبعة الحیدریة / النجف الأشرف/ 1392 ه -.

132. رجال الشیخ الطوسی/مؤسسة النشر التابعة لجماعة مدرسی قم/سنة 1415 ه -.

133. رجال الکشی/مؤسسة آل البیت علیهم السلام / قم.

134. رجال المامقانی، الطبعة الحجریة،

135. رجال النجاشی لأبی العبس أحمد بن علی النجاشی الأسدی، طبعة مؤسسة النشر الإسلامی.

136. رجال النراقی، أحمد بن محمد بن خالد البرقی، طبعة إیران - مطبعة دانشکاه سنة 1383 ه -.

137. رسالة التقریب بین المذاهب، العدد 5 مقال بعنوان «حدیث الثقلین للشیخ محمد واعظ زادة الخراسانی.

138. الرکب الحسینی من المدینة الی المدینة/طبعة ممثلیة السید الخامنئی / قم.

ص:254

139. الروض المعطار فی خبر الأقطار/محمد عبدالمنعم الحمیری/مؤسسة ناشر الثقافیة.

140. روضة الواعظین للفتال النیسابوری/منشورات الشریف الرضی/تقدیم السید محمد مهدی حسن الخرسان.

141. ریاض الأحزان للمولی محمد هاشم بن محمد حسین.

142. ریاض الشریعة لذبیح الله محلاتی.

143. زاد المعاد لابن القیم، تحقیق الأرناؤوط، طبعة مؤسسة الرسالة سنة 1994 م.

144. زید الشهید للعلامة المقرم، مطبعة القضاء، النجف، 1958 م.

145. سلسلة الأحادیث الصحیحة للألبانی/المکتب الإسلامی / بیروت.

146. سلسلة الأرکان الأربعة للشیخ محمد جواد الفقیه.

147. سلسلة القبائل العربیة فی العراق، للشیخ علی الکورانی.

148. سنن ابن ماجة/طبعة دار الجیل/بیروت.

149. سنن أبی داود، تحقیق عزت مجید الدعاس، الطبعة الأولی، 1388 ه -، طبعة حمص.

150. سنن البیهقی الکبری، طبعة مجلس دائرة المعارف النظامیة بالهند وطبعة سنة 1344 ه -.

151. سنن الترمذی/دار الفکر/تحقیق عبدالوهاب عبداللطیف/سنة 1403 ه -.

152. سنن الدارمی، تحقیق عبد الله هاشم یمانی، القاهرة 1386 ه -.

153. سنن النسائی أحمد بن شعیب أبو عبد الرحمن النسائی، مکتب المطبوعات الإسلامیة - حلب 1406.

154. سیر أعلام النبلاء، للإمام شمس الدین محمد بن أحمد بن عثمان الذهبی، مؤسسة الرسالة، ط 11.

155. سیرة ابن هشام، مطبعة المدنی - مصر، الطبعة الثانیة 1383 ه -.

156. شجرة طوبی للشیخ محمد مهدی الحائری، الطبعة الخامسة، لسنة 1385، المکتبة الحیدریة.

157. شرائع الإسلام، المحقق الحلی.

158. شرح إحقاق الحق للسید المرعشی/تحقیق محمود المرعشی/الطبعة الأولی 1976 ه -.

159. شرح النووی علی صحیح مسلم/المطبعة البهیة / مصر.

ص:255

160. شرح مقامات الحریری للشیریسی.

161. شرح نهج البلاغة للإمام أمیر المؤمنین علیه السلام/فخر الدین أبو حامد عبدالحمید بن هبة الدین أبی الحدید المعتزلی/تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم/طبعة شرکة الحلبی/ 1958 م/اعیدت الطبعة فی إیران.

162. شرح نهج البلاغة للإمام أمیر المؤمنین، فخر الدین أبو حامد عبد الحمید بن هبة الله بن أبی الحدید المدائنی، طبعة 1958 م، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم.

163. شواهد التنزیل للحسکانی، الطبعة الأولی - بیروت - تحقیق المحمودی.

164. الشیعة الإمامیة للسیدة نبیلة عبد المنعم داود، طبعة أولی، بیروت، 1994 م.

165. الصحابی المقداد بن الأسود - محمد علی أسیر، الطبعة الأولی، دار الاصالة، 1982 م.

166. صحیح ابن حبان/مؤسسة الرسالة/سنة 1414 ه -.

167. صحیح البخاری/دار الفکر للطباعة والنشر/سنة 1401 ه -.

168. صحیح الترمذی/مطبعة الصادی / مصر / الطبعة الأولی.

169. صحیح الجامع للألبانی، مطبعة الکتب الإسلامی، 1408.

170. صحیح مسلم/دار الفکر / بیروت/طبعة مصححة ومقابلة علی عدّة مخطوطات.

171. صحیفة الإمام الرضا، تحقیق مهدی نجف، منشورات المؤتمر العالمی للإمام الرضا علیه السلام مشهد - إیران - الطعبة الأولی 1406 ه -.

172. الصحیفة السجادیة للإمام زین العابدین علیه السلام.

173. الصراط المستقیم/علی بن یونس العاملی/تحقیق محمد الباقر البهبودی/المکتبة الرضویة/ سنة 1384 ه -.

174. صلح الإمام الحسن، للشیخ العلاّمة یاسین آل راضی، وتقدیم: العلاّمة السید عبد الحسین شرف الدین العاملی.

175. الصواعق المحرقة لابن حجر، طبعة دار الطباعة المحمدیة 1375 ه -.

176. الصواعق المرسلة/لابن قیم الجوزیة/مطبعة الإمام.

177. الضعفاء الکبیر لأبی جعفر محمد بن عمرو العقیلی، طبعة دار الکتب العلمیة - بیروت 1404 ه -.

ص:256

178. الطبقات لابن سعد، بیروت، دار إحیاء التراث، الطبعة الأولی سنة 1955 م.

179. طفولة مبکرة لأطفالنا للشیخ بوخضر/الناشر مؤسسة الفکر الإسلامی/هولندا.

180. العباس رائد الکرامة للشیخ باقر شریف القرشی/المطبعة الأولی/سنة 1377 ه -.

181. عجائب الآثار للشیخ الجبرتی/محقق عن طبعة بولاق.

182. العرفان الإسلامی للسید محمد تقی المدرسی.

183. عقد الدرر فی أحوال الإمام المنتظر/دار الکتب العلمیة / بیروت/ 1403 ه -.

184. العقد الفرید لابن عبد ربه الأندلسی/المطبعة العامرة / مصر/عام 1316 ه -.

185. علل الشرائع للشیخ الصدوق، أبی جعفر محمد بن علی بن الحسین بن مسوی بن بابویة القمی، طبعة إیران.

186. علو الهمة لمحمد إسماعیل المقدم/مکتبة الکوثر.

187. علی خطا الحسین/للدکتور أحمد راسم النفیس/مرکز الغدیر للدراسات الإسلامیة / سنة 1418 ه -.

188. عمدة الطالب لابن عنبة، تحقیق محمد حسن آل الطاقانی، الطبعة الثانیة، سنة 1961 م منشورات المطبعة الحیدریة.

189. عمدة القاری فی شرح صحیح البخاری، طبعة دار الکتب بیروت الطبعة الأولی 1415 ه -.

190. العوالم (الإمام الحسین) للشیخ عبدالله البحرانی/مدرسة الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف /سنة 1407 ه -.

191. عوالی اللآلی، لابن أبی مهور.

192. عوائد الأیام للمولی أحمد النراقی/مرکز الأبحاث والدراسات الإسلامیة.

193. عیون أخبار الرضا، منشورات الشریف الرضی، الطبعة الأولی - ثم إیران.

194. عیون التواریخ، مخطوطة دار الکتب.

195. الغیبة للنعمانی، تحقیق علی أکبرغفاری، منشورات مکتبة الصدوق - طهران 1397 ه -.

196. فتح الباری لابن حجر، تحقیق عبد الله بن باز - محمد فؤاد عبد الباقی، الطبعة السلفیة.

197. فتح القدیر للمناوی، شرح الجامع الصغیر للسیوطی، دار عالم الکتب، طبعة وزارة

ص:257

الشؤون الإسلامیة.

198. فتوح البلدان للبلاذری، أحمد بن یحیی بن جابر، طبعة الموسوعات مصر، سنة 1319 ه -.

199. فتوح الشام للواقدی - مطبعة مصطفی البابی الحلی، تحقیق عبد الله عامر، بیروت 1970.

200. فرسان الهیجاء/لذبیح الله المحلاتی/الطبعة الأولی سنة 1386 ه -.

201. الفصول المهمة للسید عبدالحسین شرف الدین/مؤسسة البعثة/الطبعة الأولی.

202. فضائل الأشهر الثلاثة للشیخ الصدوق.

203. فضائل التسمیة لابن بکیر، تحقیق مجدی فتحی السید، الطبعة الاولی سنة 1411 ه -.

204. فضل الکوفة ومساجدها للمشهدی/دار المرتضی / بیروت/تحقیق محمد سعید الطریحی.

205. فقه الإمام جعفر الصادق لمحمد جواد مغنیة، دار الجدید، سنة 1992.

206. الفقه للمغتربین للسید السیستانی.

207. الفهرست لابن الندیم، محمد بن إسحاق، المطبعة الرحمانیة، القاهرة، 1928 م.

208. الفوائد الرجالیة للسید محمد مهدی بحر العلوم/مکتبة العلمین / النجف.

209. فی رحاب عاشوراء للشیخ محمد مهدی الآصفی/مؤسسة نشر الفقاهة.

210. فیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی / أحمد عبدالسلام / دار الکتب العلمیة/ 1415 ه -.

211. قاموس الرجال للتستری/منشورات مرکز نشر الکتاب / طهران / 1382 ه -.

212. القرطبی لأحکام القرآن، مطبعة دار الکتب، القاهرة 1968.

213. قصة کربلاء لعلی نظری منفرد/دار المحجة البیضاء/بیروت 1422 ه -.

214. قصص الأنبیاء للسید الجزائری/منشورات الشریف الرضی / قم.

215. قضایا النهضة الحسینیة، فوزی آل سیف، دار مجیء الحسین علیه السلام، الطبعة الأولی سنة 2002 م.

216. القول السدید فی شأن الحر الشهید، لأیة الله العظمی الخراسانی.

ص:258

217. الکافی للشیخ الکلینی/دار الکتب الإسلامیة/سنة 1363 شمسی.

218. کامل الزیارات، لأبن قولویه، منشورات صدوق، صححه وعلق علیه بهرام جعفری.

219. الکامل فی التاریخ لابن الأثیر/المطبعة الأزهریة - مصر/الطبعة الأولی.

220. الکامل للمبرد، تحقیق محمد أحمد الوالی، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1997 م.

221. کتاب (کتاب وعتاب) للشیخ قیس العطار.

222. کتاب الاختصاص، للشیخ المفید ط 2 سنة 1993 دار المفید للطباعة والنشر.

223. کتاب الأربعین لابن عساکر/تحقیق محمد مطیع/دار الفکر المعاصر سنة 1992 م.

224. کتاب الأشتقاق لابن درید، تحقیق عبد السلام هارون، دار الجیل بیروت ط - 1 (1991 م).

225. کتاب الاعتصام للإمام الشاطی/تحقیق مشهور حسن سلمان/الطبعة الأولی/ سنة 1428 ه -.

226. کتاب الأغانی لأبی فرج الأصفهانی/طبعة دار الکتب المصریة.

227. کتاب الاکتفاء بما تضمنه من مغازی رسول الله والثلاثة الخلفاء تحقیق: محمد کمال الدین علی، دار الکتب بیروت.

228. کتاب الأوسط للطبرانی، دار الحرمین - تحقیق الشیخ طارق عوض الله لعام 1415 ه -.

229. کتاب البرصان والعرجان للجاحظ، تحقیق عبد السلام هارون، مکتبة المجلس.

230. کتاب التنبیه والإشراق للمسعودی / دار صعب / بیروت.

231. کتاب التوبة. للسید کمال الحیدری.

232. کتاب الحج للسید السیستانی.

233. کتاب الحیوان للجاحظ/مطبعة التقدم/مصر.

234. کتاب الخرائج والجرائح للقطب الراوندی/مؤسسة الإمام المهدی/الطبعة الأولی / سنة 1409 ه -.

235. کتاب الخصائص الکبری للسیوطی/دار الکتب العلمیة.

236. کتاب الدعاء للشیخ محمد مهدی الآصفی.

237. کتاب الدمعة الساکبة فی أحوال النبی والعترة الطاهرة لمحمد باقر البهبهانی، طبعة الکویت وبیروت.

238. کتاب الرجال لابن داود.

ص:259

239. کتاب الصحبة والصحابة للشیخ فرحان المالکی/طبعة مزیدة ومنقحة ومضمنة عدة أبحاث جدیدة.

240. کتاب الصحوة للاستاذ علی البیاتی.

241. کتاب العباس، عبد الرزاق المقرّم.

242. کتاب الغدیر للأمینی، دار الکتاب العربی، بیروت، 1403 ه -.

243. کتاب الفتن للمروزی، مکتبة التوحید القاهرة، الطبعة الأولی 1412 ه -.

244. کتاب الفتوح لابن أعثم/تحقیق علی شیری/ط 1 /دار الأضواء/ 1411 ه -.

245. کتاب الفرج بعد الشدة للقاضی التنوخی/الطبعة الثانیة/سنة 1364 ه -.

246. کتاب المجالسة وجواهر العلم للدینوری،

247. کتاب المراثی للسید الأمین، تحقیق حسن الأمین، دار بیروت للطابعة والنشر 1959.

248. کتاب المغازی، للواقدی، عالم الکتب للطباعة والنشر، سنة 2006 م.

249. کتاب المقدّمة للشیخ المفید/مؤسسة النشر الإسلامی/سنة 1410 ه -.

250. کتاب ترجمة الإمام الحسین من کتاب الفضائل لابن حنبل، مؤسسة الرسالة، بیروت ط 1، 1403 ه -.

251. کتاب صلح الإمام الحسن للسید عبد الحسن شرف الدین.

252. کتاب مسلم بن عقیل للمقرم، مؤسسة البعثة، قسم الدراسات الإسلامیة.

253. کتاب مصارع الشهداء ومقاتل السعداء، للشیخ سلمان آل عصفور، مجمع إیحاء الثقافة الإسلامیة.

254. کتاب معرفة الإمام للسید محمد حسین الحسینی الطهرانی/الطبعة الأولی / المطبعة الحیدریة.

255. کتاب وانحدر الجمل من السقیفة لنبیل فیاض، طبعة صیف - 1999 م.

256. کتاب وقعة صفین لنصر بن مزاحم/مطبعة المدنی/مصر/سنة 1383 ه -.

257. کربلاء الثورة والمأساة أحمد حسین یعقوب، دار الغدیر سنة 1418 ه -- بیروت.

258. کفایة الأحکام، للمحقق السبزواری، مطبعة مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسین فی قم.

ص:260

259. کفایة الطالب فی مناقب علی بن أبی طالب، للکنجی، الطبعة الحیدریة.

260. کلمات الإمام الحسین علیه السلام، للشیخ محمود شریفی، الطبعة الأولی 1415 ه -.

261. کنز العمال للهندی/تحقیق الشیخ بکری همیانی والشیخ صفوة/مؤسسة الرسالة. 262. الکنی والألقاب للشیخ عباس القمی/مکتبة الصدر/تقدیم محمد هادی الأمینی. 263. لب الألباب فی معرفة الأنساب للسیوطی، دار صادر.

264. لسان العرب لابن منظور/مطبعة دار الفکر /ط 1 /سنة 1410 ه -. 265. اللهوف فی قتلی الطفوف للسید ابن طاوس/المطبعة الحیدریة.

266. لواعج الأشجان للسید محسن الأمین/مطبعة العرفان / سیدا/سنة 1331 ه -. 267. لیلة عاشوراء فی الحدیث والأدب للشیخ عبدالله الحسن.

268. مائة قاعدة فقهیة للسید المصطفوی/مؤسسة النشر الاسلامی. 269. مثیر الأحزان لابن نما الحلی، المطبعة الحیدریة، النجف سنة 1369 ه -.

270. المجالس الحسینیة للشیخ محمد جواد مغنیة، دار التیار الجدید، بیروت، 2003 م. 271. المجالس السنیة للسید محسن الأمین/الطبعة الخامسة سنة 1394 ه -.

272. المجالس الفاخرة فی مآتم العترة الطاهرة للسید عبدالحسین شرف الدین/ إنتشارات کوثر.

273. مجلة النبأ، شهر صفر 1422 آذار آیار

2001.274. مجلة تراثنا تحقیق السید محمد رضا الجلالی، العدد 2، سنة 1405 ه -. 275. مجمع الأمثال للمیدانی/تحقیق محمد محیی الدین عبدالحمید.

276. مجمع البیان للشیخ الطبرسی/مؤسسة الأعلمی للمطبوعات/تقدیم السید محسن الأمین /سنة 1415 ه -. 277. مجمع البیان للطبرسی، مطبعة العرفان، صیدا، 1333 ه -.

278. مجمع الزوائد للهیثمی، طبعة دار الریان سنة 1407 ه -. 279. مجمع المصائب للشیخ محمد النداوی، المکتبة الحیدریة، الطبعة الأولی سنة 1425 ه -.

280. مجموع الفتاوی لابن تیمیة، دار الوفاء - تحقیق عامر الجزار، الطبعة الثالثة 1426 ه -.

281. المحاسن والمساوئ للبیهقی، طبعة فردریک شوالی سنة 1902.

ص:261

282. المحصول فی علم الأصول للرازی/دراسة وتحقیق د. طه جابر فیاض العلوانی.

283. المحلی لابن حزم، تحقیق أحمد شاکر، مطبعة دار الجبل.

284. مختصر تاریخ دمشق لابن منظور/دار الفکر / دمشق/الطبعة الأولی.

285. مختصر تاریخ دول الإسلام للذهبی، مؤسسة الأعلمی بیروت سنة 1405 ه -.

286. مدینة المعاجز للسید هاشم البحرانی/مؤسسة المعارف/سنة 1413 ه -.

287. مرآة الجنان للیافعی، طبعة حیدر آباد عام 1334 ه -، مؤسسة الأعلمی بیروت سنة 1390 ه -. 288. المرأة العظیمة للشیخ حسن الصفار دار الانتشار العربی، الطبعة الأولی سنة 2000 م.

289. مرآة العقول فی شرح أخبار آل الرسول للعلامة المجلسی/دار الکتب الإسلامیة - طهران / الطبعة الثانیة.

290. مرقاة المفاتیح شرح مشکاة المصابیح لعلی القاری/طبعة باکستان.

291. مروج الذهب للمسعودی، القاهرة، المطبعة البهیة 1346 ه -.

292. المزار الکبیر لابن المشهدی، مخطوط مکتبة المرعشی النجفی، قم.

293. المزار للشهید الأول/مؤسسة الإمام الهادی/سنة 1410 ه -.

294. مزارات أهل البیت وتاریخها، للسید محمد حسین الجلالی.

295. مستدرک سفینة البحار للشیخ علی النمازی الشاهرودی / مؤسسة النشر الإسلامی/ 1418 ه -.

296. المستدرک علی الصحیحین وبذیله تلخیص المستدرک للذهبی.

297. مستدرکات علم الرجال للنمازی/ط 1 /مطبعة شفق/ طهران / 1412 ه -.

298. المستطرف فی کل فن مستظرف لشهاب الدین الأبشیهی، مؤسسة المختار سنة

2010.299. مستند الشیعة فی أحکام الشریعة للمولی أحمد بن محمد مهدی النراقی/مؤسسة آل البیت/ 1417 ه -.

300. مسند أحمد ابن حنبل، طبعة الرسالة الطبعة الأولی سنة 1421 ه -.

301. مسند الإمام أحمد بن حنبل/دار صادر / بیروت.

302. مسند الشهاب للشهاب القضاعی/مؤسسة الرسالة / بیروت.

303. مشکاة الأنوار للطوسی، المطبعة الحیدریة 1385 ه -، الطبعة الثانیة.

ص:262

304. مصباح المتهجد للشیخ الطوسی، مطبعة دار الخلافة طهران سنة 1318.

305. المصنف لابن أبی شیبة، الطبعة الأولی سنة 1409 ه -، مکتبة الرشد.

306. معالم السبطین للمازندرانی/مکتبة القرشی/ 1356 ه -.

307. معالم الفتن سعید أیوب/طبعة دار الاعتصام مصر.

308. معالم المدرستین/للسید مرتضی العسکری/مؤسسة النعمان/ سنة 1410 ه -.

309. معالی السبطین للمازندرانی، محمد مهدی المازندرانی، بتبریز، مکتبة القرشی 1356 ه -.

310. معانی الأخبار للشیخ الصدوق/إنتشارات جماعة مدرسی قم.

311. معجم أحادیث المهدی علیه السلام/مؤسسة المعارف الإسلامیة/إشراف الشیخ علی الکورانی/سنة 1411 ه -.

312. معجم البلدان، یاقوت الحموی، مطبعة دار السعادة - القاهرة 1323 ه -.

313. المعجم الصغیر للطبرانی/دار الفکر/الطبعة الأولی 1997 م.

314. المعجم الکبیر للطبرانی/دار إحیاء التراث/الطبعة الثانیة/تحقیق حمدی عبدالمجید السلفی.

315. معجم رجال الحدیث للسید الخوئی/طبعة منقحة ومزیدة/سنة الطبعة 1413 ه -. 316. معجم قبائل العرب لعمر کحالة/مؤسسة الرسالة/بیروت / (ط 5) 1405 ه -.

317. معجم ما استعجم للبکری، تحقیق مصطفی السقا، مکتبة المجلسی.

318. معرفة الثقات/مکتبة الدار بالمدینة المنورة.

319. معرفة المعاد للسید محمد حسین الطهرانی.

320. المغازی للواقدی/مطبعة اکسفورد.

321. المغنی لابن قدامة، مکتبة القاهرة، سنة 1968 ه -. 322. مفاتیح الجنان، للشیخ عباس القمی، الطبعة الخامسة، مکتبة الفیروز آبادی، 1412 ه -.

323. مفتاح النجا فی نُزُل الأبرار للبدخشی.

324. مفتاح دار السعادة لابن قیّم الجوزیة/الطبعة الحجریة / مصر.

325. مفردات الراغب الاصفهانی ط 1418 ه -، دار العلم دمشق.

326. مقاتل الطالبیین، علی بن الحسین بن محمد بن أحمد الهیثم المعروف بالأصبهانی،

ص:263

المطبعة الحیدریة، النجف، 1965 م -.

327. مقتل أبی مخنف/تحقیق الشیخ الیوسفی/مؤسسة النشر الإسلامی.

328. مقتل الإمام الحسین، للشیخ العلاّمة کاشف الغطاء، تحقیق: هادی الهلالی، انتشارات الشریف الرضی/ 1419 ه -.

329. مقتل الحسین علیه السلام للمقرم/الطبعة الحیدریة / النجف. 330. مقتل الحسین لأبی مخنف، مؤسسة دار النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

331. مقتل الحسین للخوارزمی/تحقیق الشیخ محمد السماوی/الطبعة الأولی / النجف.

332. مقتل الحسین للمقرم، دار الکتاب الإسلامی، بیروت الطبعة الخامسة، سنة 1979 م.

333. مقتل الحسین، لأیة الله العظمی الشیخ الطبسی.

334. مقتل الفضیل بن الزبیر/تحقیق محمّد رضا الجلالی / مجلة تراثنا / العدد 2 / سنة 1405 ه -.

335. المقتنی فی سرد الکنی لابن فایماز الترکمانی، تحقیق أیمن صالح شعبان، دار الکتب العلمیة

1997.336. مقدمة ابن خلدون/الطبعة الأمیریة / سنة 1321 ه -.

337. مقدمة ناشر کتاب اللمعة الدمشقیة للشهید الأول، منشورات دار الفکر، قم إیران، 1411 ه -.

338. الملل والنحل للشهرستانی، المطبعة الأمیریة - القاهرة سنة 1317 ه -.

339. من قضایا الثورة الحسینیة، للشیخ فوزی آل سیف.

340. من لا یحضره الفقیه، لأبی جعفر محمد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی، تحقیق السید حسین الخرسان، دار الکتب الإسلامیة.

341. المناقب لابن المغازلی، طبعة دار مکتبة الحیاة.

342. المناقب لابن شهر آشوب، مطعبة انتشارات علامة، المطبعة العلمیة فی قم. 343. منهاج السنة، لأبن تیمیة.

344. منهاج الصالحین للسید السیستانی.

ص:264

345. موسوعة الرکب الحسینی، مرکز الدراسات الإسلامیة لممثلیة الولی الفقیه، ط 2 سنة 1425 ه -.

346. الموسوعة الشوقیة، للشاعر أحمد شوقی.

347. موسوعة طبقات الفقهاء للشیخ جعفر السبحانی/مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام / إیران.

348. الموطأ لابن مالک/مطبعة الاستقامة / مصر.

349. میزان الاعتدال للذهبی، دار الکتب العلمیة سنة

1995.350. میزان الحکمة محمد محمدی الری شهری، دار الحدیث، الطبعة الأولی 1421 ه -.

351. نشأة النحو للشیخ الطنطاوی/دار المعارف / مصر/الطبعة الثانیة.

352. النصرة فی شیعة البصرة، نزار المنصوری، مکتبة مدبولی، 2004 م.

353. نفس المهموم للشیخ عباس القمی، الطبعة الأولی، مطبعة شریعت 1421 ه -. 354. نقد الرجال للتفریشی/تحقیق ونشر مؤسسة آل البیت لإحیاء التراث.

355. نهایة الأرب للنویری، شهاب الدین أحمد بن عبد الوهاب النویری، القاهرة - مطبعة دار الکتب.

356. نهج البلاغة بشرح محمد عبده/مطبعة الاستقامة.

357. نهج البلاغة شرح ابن أبی الحدید المعتزلی (طبعة مصر الأولی).

358. نور الأبصار فی مناقب آل النبی المختار للشیخ سید الشبلنجی/مطبعة بولاق / مصر/ 1290 ه -.

359. الوافی بالوفیات للصفدی/دار إحیاء التراث/سنة 1420 ه -.

360. وسائل الشیعة للحر العاملی/مؤسسة آل البیت/سنة 1414 ه -.

361. وسیلة الدارین فی أنصار الحسین للسید الزنجانی، الطبعة الثالثة، 1990 م. 362. وقفة صفین لنصر بن مزاحم، الطبعة الأولی عام 1365 ه -، تحقیق هارون.

363. ینابیع المودة للقندوزی/تحقیق سید علی أشرف الحسینی.

ص:265

المحتویات

مقدمة الجزء الثالث 5

الشهید زهیر بن القین البجلی علیه السلام

بین یدی الشهید 9

أقوال العلماء فیه 10

القبیلة التی ینتمی إلیها الشهید 11

زهیر بن القین وسحرة موسی 12

الشخصیة الأولی 15

أمّا الشخصیة الثانیة 16

زهیر بن القین والاستماع إلی الحق 17

زهیر بن القین والفتوحات الإسلامیة 20

معرکة باب الأبواب 22

بدایات المعرکة 23

وقفة لابدّ منها 25

غزوة بلنجر 26

حدیث بَلَنْجَر 28

عثمانیّ الهوی 31

ص:266

1 - مدن ومواقع معیّنة من العالم الإسلامی 31

2 - مجامیع من الناس أفراداً وجماعات 32

زهیر بن القین عثمانیّ الهوی 33

سؤال وجواب 34

الرأی الأوّل 35

عظات وعبر 37

1 - عثمانیّ غیر معاند 37

2 - زهیر بن القین (رض) والقرار الشجاع 42

القرارات المصیریة 46

3 - والعاقبة للمتقین 48

أعمال زهیر بن القین والعاقبة الحسنة 49

أ - عدم إرادة العلوّ والفساد فی الأرض 49

ب - التقوی 51

ج - القلب السلیم 52

د - ولا تستبدل به غیری 53

درس من حیاة الشهید 56

الاستبدال سنّة قرآنیة 57

أسباب الاستبدال 58

1 - تخلّی الأمّة أفراداً وجماعات عن المسؤولیات الملقاة علیهم 59

2 - التخلّی عن الإنفاق 59

3 - الارتداد عن الدین 60

زهیر بن القین والموالاة لأهل البیت علیهم السلام 62

أ - عزرة بن قیس یمنع الاهتداء بأصحاب الحسین علیه السلام 68

ب - عزرة بن قیس یکتب للحسین ثمّ یکذّبه یوم عاشوراء 69

کذب عزرة بن قیس 70

عزرة بن قیس والشهادة علی حجر 71

ص:267

ثانیاً: مواقف زهیر بن القین 73

الموقف الأول 73

الموقف الثانی 74

الموقف الثالث 76

الموقف الرابع 78

الموقف الخامس 80

الموقف السادس 85

الموقف السابع 86

ثالثاً: الشهید زهیر بن القین ومؤمن آل فرعون 87

مَن هو مؤمن آل فرعون؟ 87

أوجه التشابه بین زهیر ومؤمن آل فرعون 88

1 - علی مستوی الخطبة والکلام 89

2 - علی مستوی الزوجة والأقرباء 90

3 - علی مستوی کتمان الإیمان 92

4 - علی مستوی الشهادة 92

النقطة الأولی: أحادیث أئمّة أهل البیت علیهم السلام والتقیّة فی الکوفة 94

النقطة الثانیة: معاویة وسیاسة البطش مع الشیعة فی الکوفة 99

النقطة الثالثة: قلّة أتباع أهل البیت علیهم السلام فی الکوفة 102

النقطة الرابعة: منهج أهل البیت علیهم السلام فی کتمان وسرّیة أمرهم 104

رابعاً: زهیر بن القین یروی زواج علی علیه السلام من أمّ البنین 106

ولنا علی هذه الروایة مجموعة من النقاط 107

خامساً: زوجة الشهید زهیر وغلامه وتکفین الحسین علیه السلام 110

الحسین علیه السلام یخبر الشهید زهیر بمقتله علیه السلام 115

وکان کما أخبر الحسین علیه السلام 115

شهادة زهیر بن القین 116

وقت الشهادة 117

وداع زهیر للحسین علیه السلام وشهادته 118

الحسین علیه السلام یؤبّن الشهید زهیراً 120

ص:268

الشهید أنس بن الحارث بن نبیه الکاهلی علیه السلام

المقدمة 121

أولاً: العدل 121

ثانیاً: التسلیم لله 122

بین یدی الشهید أنس (رض) 124

أقوال العلماء فی حق الشهید أنس (رض) 125

قبیلة الشهید الکربلائی (کاهل) 126

مسکن قبیلة بنی کاهل 128

مسجد بنی کاهل فی الکوفة 129

الاختلاف فی اسم الشهید 130

والد الشهید 131

جد الشهید الکربلائی 132

ابن نما الحلی واسم الشهید أنس 133

تجنّی الذهبی علی الشهید أنس 134

رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یخبر أنساً بمقتل الحسین علیه السلام 134

الشهید عمار بن یاسر والشهید أنس بن الحارث ووحدة الموقف 138

الشهید أنس من أهل الصُفّة 140

ما معنی الصُفّة؟ 140

صفات أهل الصُفّة 141

فهم علی أساس ما ذکره القرآن 142

الشهید أنس والهمة العالیة 144

الشهید والعمر الطویل 148

ص:269

لقاء الشهید أنس بالحسین علیه السلام 150

الرأی الأول 150

الرأی الثانی 151

کلمة لابد منها 151

الرأی الثالث 153

الشهادة فی کربلاء 153

رثاء الشهید أنس 154

الشهید نصر بن أبی نیزر النجاشی علیه السلام

أقوال العلماء فیه 155

جدّ الشهید 156

النجاشی 156

مع ابن عم الشهید 165

أعمام الشهید الکربلائی 166

1 - أریحا بن أصحمة 167

2 - عبد الله بن أصحمة بن أبحر النجاشی 167

3 - والد الشهید الکربلائی (أبو نیزر) 168

عین أبی نیزر والبغیبغة 171

الشهید فی کربلاء 178

الشهید مسلم بن کثیر الأزدی الأعرج علیه السلام

کلمات العلماء فی الشهید 180

الاختلاف فی اسم الشهید الکربلائی 181

صحبة الشهید لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم 182

ص:270

الاختلاف فی اسم والد الشهید 182

والد الشهید 183

والد الشهید فی فتح مصر 183

هل کانت هذه الفتوحات شرعیة؟ 184

مع روایات والد الشهید 188

أولاً: مع موعظة والد الشهید 188

ثانیاً: لا یجب الوضوء مما مست النار 190

الشهید مع أمیر المؤمنین 192

أمّ سلمة وقیمة من ثبت مع علی فی الجمل 192

الشهید الکربلائی جریحاً أعرج فی حرب الجمل 196

العرج عذر شرعی 196

الشهید مسلم والشهید عمرو بن الجموح 198

الشهید فی کربلاء 198

الشهید أبو رزین علیه السلام

بین یدی الشهید 200

الاختلاف فی اسم الشهید وأسم ابیه وفی مولاه 201

الاختلاف فی اسم الشهید 202

سلیمان مولی الحسین لیس أسماً شاذاً 202

الاختلاف فی اسم والد الشهید 210

اختلاف الشهید فی ولائه 212

الاحتمال الأول 214

الاحتمال الثانی 214

ص:271

والدة الشهید الکربلائی 215

الشهید سلیمان سفیر الحسین إلی البصرة 216

رسول واحد أُمّ رسولان إلی البصرة 217

مضامین رسالة الإمام إلی البصرة 220

معنی رؤوس الاخماس فی البصرة 222

1 - المنذر بن الجارود 224

2 - الأحنف بن قیس 226

3 - مالک بن مسمع البکری الجحدری 227

4 - مسعود بن عمرو بن عدی الأزدی 227

5 - قیس بن الهیثم السلمی 227

6 - عمر (عمرو) بن عبید الله بن معمر التیمّی 228

7 - یزید بن مسعود النهشلی 229

جواب رؤوس أخماس البصرة ووجهائها علی رسالة الإمام 231

أسباب ودواعی مراسلة الحسین لأخماس البصرة ووجهائها 233

یزید بن مسعود النهشلی والمواقف المشرفة 235

نقاط مهمة فی خطبة یزید النهشلی 237

اجتماع الشیعة فی دار ماریة بنت منقذ العبدی 239

موانع التحاق شیعة البصرة بالحسین علیه السلام 240

هل یکفی التساقط فی طریق الکوفة؟ 244

وقت شهادة سلیمان 245

کیفیة الشهادة 246

ص:272

المجلد 4

اشارة

سرشناسه:صمیانی، حیدر، 1336 -

عنوان و نام پدیدآور:موسوعه فی ظلال شهداء الطف/ تالیف حیدر الصمیانی.

مشخصات نشر: کربلای معلی - قم - العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة 1434

مشخصات ظاهری:4ج.

شابک:978-964-538-250-4

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

یادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه: ص. [359] - 376؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع:حسین بن علی (ع)، امام سوم، 4 - 61ق.

موضوع:واقعه کربلا، 61ق.

رده بندی کنگره:BP41/5/ص8م8 1390

رده بندی دیویی:297/9534

شماره کتابشناسی ملی:2463263

ص :1

هویة الکتاب

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق - وزارة الثقافة العراقیة لسنة 339:2013

الصمیانی، حیدر

موسوعة فی ظلال شهداء الطف / تألیف حیدر الصمیانی؛ [تقدیم محمد علی الحلو]. الطبعة الأولی. - کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة 1434 ق. Í 2013 م.

4 ج. - (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة؛ 121).

المصادر. 9789933489717: ISBN

1. الحسین بن علی (علیه السلام)، الإمام الثالث، 61 4 ه -. أصحاب السیرة. 2. الحسین بن علی (علیه السلام)، الإمام الثالث، 61 4 ه -. أصحاب صفات. 3. واقعة کربلاء، 61 ه -. شهداء. 4. التاریخ الإسلامی العصر الأموی شبهات وردود. ألف. الحلو، محمد علی، 1957 -، مقدم. ب. العنوان

BP 193.13..A3.S269 2013

تمت الفهرسة قبل النشر فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة

ص:2

تألیف

الشیخ حیدر الصمیانی

الجُزءُ الرَّابِعْ

ص:3

جمیع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1434 ه -- 2013 م

العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسینیة المقدسة

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - هاتف: 326499

الموقع الالکترونی: imamhussain-lib.com

البرید الالکترونی: info@imamhussain-lib.com

ص:4

مقدمة الجزء الرابع

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام علی أشرف الأنبیاء والمرسلین حبیبنا وحبیب إله العالمین أبی القاسم محمد وعلی أهل بیته الطیبین الطاهرین.

أما بعد:

یقف المرءُ ذاهلاً حائراً خاشعاً أمام مفهوم الشهادة والشهید متسائلاً کیف یمکن أن یصل الإنسان إلی درجةٍ من الاعتقاد یتحول فیها الموت فی نظره الی أنس وفرح وسرور بینما یراه الآخرون عدماً؟

کیف یمکن أن تتحول السیوف والرصاص فی نظر الإنسان من ألم وعذاب الی لذة فی لقاء الله سبحانه وتعالی لا تعدلها لذة؟

وإذا ما أردنا أن نجد الجواب الشافی لمثل هذه التساؤلات علینا أن نرجع إلی کتاب الله عز وجل حتی نری کیف تحدث الله عز وجل عن هذه الفئة التی خرجت من الدنیا وهی تعیش أعلی درجات الراحة والاطمئنان حتی وصفها الله

ص:5

عز وجل بقوله:

«یا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * اِرْجِعِی إِلی رَبِّکِ راضِیَةً مَرْضِیَّةً 1» .

ومن أبرز مصادیق هذه النفوس المطمئنة هی نفوس الشهداء.

لقد تحدث القرآن الکریم عن هذه النفوس المطمئنة بأنها لم تکن لتصل الی هذا الرقی السامی إلا بعد أن حققوا مقدمات کثیرة انتصروا فیها علی کل ما یمت الی الدنیا بصلة ولم یکن لهم همٌّ سوی الله وخدمة دینه وشریعته.

فهم الذین وفوا بعهد الله ولم ینقضوا میثاقه کما قال تعالی:

«مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً2» .

وهم المطیعون لله ولرسوله کما قال تعالی:

«وَ مَنْ یُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِکَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ وَ الصِّدِّیقِینَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِینَ وَ حَسُنَ أُولئِکَ رَفِیقاً3» .

حیث بیّن سبحانه وتعالی منزلة الشهداء إذ جعلها برفقة النبیین والصدیقین لأن الشهداء أدی بهم حرصهم علی الطاعة والتزام أوامر الشریعة الی إظهار الحق

ص:6

وبذل المهج فی سبیل ذلک.

وهم المؤمنون بالله ورسوله کما قال تعالی:

«وَ الَّذِینَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِکَ هُمُ الصِّدِّیقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ 1» .

وهم الشارون بأنفسهم وأموالهم الجنّة کما قال تعالی:

«إِنَّ اللّهَ اشْتَری مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَیَقْتُلُونَ وَ یُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِیلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفی بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بایَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ 2» .

ولأجل ذلک کله لم تکن الشهادة فی سبیل الله مطلباً سهلاً یمکن أن یناله کل أحد بل لا یصل إلیها إلا من امتحن الله قلبه للإیمان وعلم منه الصدق والعزم والإخلاص فی الوصول إلیها. ومن هنا جاءت هذه الآیة الکریمة لتشیر الی هذا المعنی العظیم والسر الکبیر الذی یقف وراء وصول البعض الی هذه المنزلة دون الآخرین ««وَ لِیَعْلَمَ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَ یَتَّخِذَ مِنْکُمْ شُهَداءَ»3» ومن عاصر الشهداء وقرأ عنهم ارهاصات الارتقاء والصعود والاعتلاء علی کرسی الشهادة لیعلم وبشکل قاطع أنهم کانوا فی أعلی درجات الراحة والاستقرار بل والاستبشار

ص:7

««وَ یَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِینَ لَمْ یَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ»1» .

ولقد کانت ساحة کربلاء تمثل بحق صورة واضحة وصریحة لهذا المفهوم الإسلامی العظیم بکل معانیه السامیة، فقد کان أصحاب الحسین علیه السلام یقبلون علی السیوف وهم یعیشون الفرح والسرور والأنس، بل کان بعضهم شدید الشوق الی طعنات السیوف وضربات الرماح حتی قال قائلهم «والله ما بیننا وبین الحور العین إلا أن نحمل علی هؤلاء فیمیلون علینا بأسیافهم ولوددت أن مالوا بها الساعة»(1).

ولعل واحدة من جملة النقاط المهمة التی میزت أصحاب الحسین علیه السلام عن سواهم من الاصحاب مهما علت درجاتهم وعظمت مقاماتهم هو ثباتهم مع الحسین فی معرکة لیس فیها إلا الموت وإزهاق النفوس فلم یکونوا یأملون أن یحققوا نصراً مادیاً علی أعدائهم، بینما لم تتوفر مثل هذه السمة حتی مع أصحاب رسول الله، فقد قاتلوا إلی جانبه علیهما السلام وفدوه بالمال والنفس ولکنهم کانوا فی نفس الوقت یأملون إحدی الحسنیین إما النصر أو الشهادة کما قال تعالی:

«قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَی الْحُسْنَیَیْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِکُمْ أَنْ یُصِیبَکُمُ اللّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَیْدِینا فَتَرَبَّصُوا إِنّا مَعَکُمْ مُتَرَبِّصُونَ 3» .

ص:8


1- (2) ابن کثیر فی البدایة والنهایة: 178/8.

بل لم توجد هذه الصفة ولن توجد حتی مع أصحاب الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف مع جلال قدرهم وعلو منزلتهم فإنهم سوف یقاتلون مع الإمام علیه السلام وهم یأملون فی إنشاء الدولة الإسلامیة الإلهیة العالمیة التی تنعم فیها الناس بالأمن والراحة والطمأنینة.

وبهذا وغیره استحقت هذه الفئة الطاهرة هذا الوسام الحسینی العظیم بقوله فی حقهم لیلة العاشر من المحرم:

«ما رأیت أصحاباً أوفی وأبّر من أصحابی».

وقول الإمام الصادق علیه السلام فی زیارته لهم:

«هنیئاً لکم ما أُعطیتم وهنیئاً لکم ما به حُبیتم فلقد بکتکم الملائکة وحفتّکم وسکنت معسکرکم وحلّت مصارعکم وقدّسَت وصفّت بأجنحتها علیکم، لیس لها عنکم فراق إلی یوم التلاق ویوم المحشر ویوم المنشر طافت علیکم رحمة من الله وبلغتم بها شرف الدنیا والآخرة...»(1).

وعلی أساس هذا المعنی المتقدم جاءت هذه الموسوعة للحدیث عنهم والتفیّؤ فی ظلال حیاتهم التی أسمیناها «موسوعة فی ظلال شهداء الطف» وقد خرج منها إلی النور ثلاثة أجزاء، وها هو الجزء الرابع یخرج وهو معطر بأریج أسمائهم الطاهرة ونسیم حیاتهم الزاهرة، وقد تضمن هذا الجزء مجموعة من الشهداء (زهیر بن سلیم الأزدی الغامدی والشهید عمار بن أبی سلامة الدالانی

ص:9


1- (1) کامل الزیارات: 257، منشورات صدوق صححه وعلق علیه بهرام جعفر.

والشهید شعیب بن جراد الوحیدی والشهید نعیم بن عجلان الأنصاری والشهید الحرّ بن یزید الریاحی رحمه الله).

ونحن إذ نقدم هذا الجزء الرابع إلی القراء الکرام، ندعوه سبحانه وتعالی أن یوفقنا لإکمال الأجزاء الأخری وأن یتقبل ذلک منا بأحسن قبوله وأن یحشرنا فی ظلهم وأن لا یحرمنا من شفاعتهم إنه أرحم الراحمین.

حیدر الصمیانی

یوم الخمیس الموافق 19 من شهر رجب الأصبّ 1434 ه -

ص:10

الشهید زهیر بن سلیم الازدی الغامدی رحمه الله

بین یدی الشهید

لقد تحولت کربلاء بفعل العناصر القیمة التی امتلکتها من حدثٍ تأریخی حصل سنة 61 ه -، إلی واقعة حیاتیة یعیشها کل واحد منا، حتی أصبحت کل أرض کربلاء وکل یوم عاشوراء، کما یقول السید الخمینی رحمه الله، لقد رسمت هذه الواقعة (علی عظم مصائبها وشدة البلاء بها) لوحة سماویة إنسانیة قلّ مثیلها، حیث طرزها رجال عرفوا بالصدق والإخلاص والعزة والکرامة والإباء وما شاکل ذلک من الصفات.

وکان من هؤلاء الرجال، الشهید زهیر بن سلیم الازدی الغامدی رحمه الله، الذی تمیَّز بالصحبة لرسول الله علیهما السلام، وکان مشهوداً له فی وعیه وبصیرته، وفی قوته وشجاعته، کان له موقف مُمّیز فی حرب القادسیة، له ولأولاده وإخوته بصمات واضحة مشهودة فی نصرة الإمام أمیر المؤمنین وأهل البیت علیهم السلام، بل کان بعضهم من الرواة الثقات الذین رووا عنهم أصحاب المسانید عند الفریقین، کما سیأتی فی طیّات الحدیث عن هذا الشهید الکربلائی.

ص:11

أقوال العلماء فی الشهید زهیر بن سلیم الأزدی

1 - قال الإمام المهدی علیه السلام فی زیارة الناحیة:

«السلام علی زهیر بن سلیم الازدی»(1).

2 - قال صاحب الحدائق الوردیة: «وقُتل من الأزد:.. وزهیر بن سلیم...»(2).

3 - قال السید الأمین: «زهیر بن سلیم الأزدی عَدَّه ابن شهراشوب فی المناقب من المقتولین مع الحسین علیه السلام فی الحملة الأولی»(3).

4 - قال الفضل بن العباس بن ربیعة بن الحرث بن عبد المطلب من قصیدته التی ینعی بها علی بنی أمیة أفعالهم:

أرجعوا عامراً وردوا زهیراً ثم عثمان فارجعوا غارمینا

وأرجعوا الحر وابن قینٍ وقوماً قتلوا حین جاوروا صفینا

أین عمرو وأین بشر وقتلی منهم بالعراء ما یدفوننا(4)

5 - قال البلاذری: «وبدا فی جمع عظیم من أهل المدائن، فاقتتلوا، وعانق زهیر بن سلیم الأزدی النخیرخان فسقط إلی الأرض، فاخذ زهیر خنجراً کان فی وسط النخیرخان فشق بطنه فقتله»(5).

ص:12


1- (1) بحار الأنوار: 72/45.
2- (2) الحدائق الوردیة فی مناقب الزیدیة للشهید حمید بن أحمد بن محمد المحلی 26:1.
3- (3) أعیان الشیعة للسید الأمین 70:7.
4- (4) عنی بعامر (العبدی) وبزهیر (الشهید زهیر بن سلیم الأزدی) وبعثمان (أخا الحسین) وبالحر (الریاحی) وبابن القین (زهیراً) وبعمرو (العبدی) وببشر (الحضرمی).
5- (5) فتوح البلدان للبلاذری 322:2.

6 - قال الشیخ محمد مهدی شمس الدین:

«زهیر بن سلیم الأزدی، وذکر فی الزیارة، وذکره ابن شهراشوب فی عداد قتلی الحملة الأولی، رجحنا اتحاده مع زهیر بن بشر الخثعمی»(1).

7 - قال ابن حجر: «کتب النبی علیهما السلام إلی أبی ضبیان الأزدی بن غامد یدعوه ویدعو قومه، فأجاب فی نفرٍ من قومه منهم مخنف وعبد الله وزهیر (الشهید الکربلائی) بنو سلیم وعبد شمس بن عفیف بن زهیر...»(2).

قبیلة الشهید الکربلائی «غامد»

اشارة

لا شک أن هناک مجموعة من الأسباب التی یعیشها الإنسان، وتترک آثارها فیه إیجاباً أو سلباً، وواحدة من أهم هذه الأسباب، هی البیئة التی یعیشها وینمو ویدرج فیها، لاسیما ونحن نعلم بأن الأخلاق التی یحملها الإنسان فی حیاته بعضها فطری (أی أودعها الله عز وجل فی فطرته) وبعضها مکتسب، حیث یکتسبها الإنسان من خلال البیئة التی یعیشها والبیت الذی ینشأ فیه، ومن هنا قالوا إن الإنسان ابن بیئته بمعنی أنه إن تربی فی بیئة تعتز بالخیر والفضیلة والأخلاق الحسنة، فسوف یخرج مثل هذا الإنسان وهو یعتز بها، ولو عاش فی بیئة موبوءة بالشرور والسموم الأخلاقیة والفکریة، فلا شک ان مثل هذا الإنسان سوف یخرج وهو متأثر بها بشکل کبیر، فالإنسان یؤثر ویتأثر، یقول النبی علیهما السلام وهو یتحدث عن هذا الأمر المهم:

ص:13


1- (1) . أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین / 117-118.
2- (2) . الاصابة لابن حجر 511:1(1229).

«کلُ مولود یولد علی الفطرة، فأبواه یهودانه أو ینصرانه أو یمجسانه»(1).

ویقول الشاعر العراقی معروف الرصافی فی قصیدته التائیة الرائعة، وهو یتحدث عن هذا الجانب:

هی الأخلاق تنبت کالنبات إذا سقیت بماء المکرماتِ

تقوم إن تعهّدها المربی علی ساقِ الفضیلةِ مثمراتِ (2)

وحتی یکون القارئ العزیز علی إلمام بالبیئة التی عاشها الشهید الکربلائی رحمه الله، ومدی تأثیرها فیه، نحاول ان نسلط الأضواء علی القبیلة التی ینتمی إلیها، من خلال الحدیث عن إسلامها، ومواقفها، وما أرفدت الإسلام به من رجال، کان لهم دور کبیر فی مجالات الحیاة المختلفة کما سیأتی.

«غامد»: یقول أرباب اللغة إن لفظة «غامد» مأخوذة من الغمد وهو جفن السیف، وجمعه أغماد وغمود وهو الغمدان(3).

وفی الحدیث عن رسول الله أنه علیهما السلام قال:

«ما من أحدٍ یدخل الجنة بعمله، قالوا ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن یتغمدنی الله برحمته»(4).

ص:14


1- (1) . رواه البخاری / 1385.
2- (2) . دیوان معروف الرصافی 349:2.
3- (3) . لسان العرب لابن منظور 80:11 (مادة غمد).
4- (4) . صحیح مسلم کتاب صفة القیامة، رقم (2816).

قال العجّاج: یغمد الأعداء جوناً مردساً.

قال: یعنی أنه یُلقی نفسه علیهم ویرکبهم ویغشیهم، قال: ولا أحسب هذا مأخوذاً إلا من غمد السیف وهو غلافه(1).

وغامد: حی من الیمن، قال:

ألا هل أتاها علی نأیها بما فضحت قومها غامدةْ؟(2)

حمله علی القبیلة(3).

وغامد: هو الجد الأعلی لقبیلة غامد واسمه: عمر بن عبد الله بن کعب بن الحارث بن کعب بن عبد الله بن مالک بن نصر بن الأزد(4).

وقد اختلف فی سبب تسمیته بهذا اللقب دون غیره إلی آراء مختلفة منها:

1 - یقول ابن الکلبی:

«سُمی غامداً لأنه تغمد أمراً کان بینه وبین عشیرته فستره فسماه ملک من ملوک حمیر غامداً؛ وأنشد لغامد:

تغمدتُ أمراً کان بین عشیرتی فسمانی القیل الحضوری(5) غامدا(6)

ص:15


1- (1) . لسان العرب لابن منظور 80:11 (مادة غمد).
2- (2) . لسان العرب لابن منظور 80:11 (مادة غمد).
3- (3) . المصدر نفسه.
4- (4) . شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلی 85:2.
5- (5) . الحضور: قبیلة من حمیر وقیل هو من غمود البئر لسان العرب 80:11.
6- (6) . لسان العرب 80:11 مادة (غمد).

2 - یقول الأصمعی:

«لیس اشتقاق غامد مما قال ابن الکلبی، إنما هو من قولهم غمدَتِ البئر غمداً إذا کثر ماؤها. وقال أبو عبیده: غمدَتِ البئر إذا قلَّ ماؤها.

وقال ابن الإعرابی: القبیلة غامدة بالهاء؛ وأنشد:

ألا هل أتاها علی نأیها بما فضحت قومها غامدةْ؟(1)

إسلام غامد

لقد ذکر المؤرخون أن لغامدٍ ثلاث وفادات إلی رسول الله علیهما السلام أعلنت هذه القبیلة من خلالها إسلامها له علیهما السلام، وإیمانها بما جاء به، إحداها کانت فی مکة (أی قبل الهجرة النبویة) والأُخرَیَیْنِ فی المدینة (أی بعد الهجرة النبویة)، کما سیأتی بعد ذلک.

الشهید الکربلائی والوفادة الأولی فی مکة

اشارة

نقل ابن سعد فی طبقاته الکبری عن لوط بن یحیی الأزدی (صاحب مقتل الحسین المشهور بمقتل أبی مخنف) قال:

«کتب النبی علیهما السلام إلی أبی ظبیان الأزدی من غامد، یدعوه ویدعو قومه إلی الإسلام، فأجابه فی نفر من قومه بمکة، منهم مخنف وعبد الله وزهیر (الشهید الکربلائی) بنو سلیم وعبد شمس بن عفیف بن زهیر هؤلاء بمکة»(2).

ص:16


1- (1) . لسان العرب لابن منظور 80:11 (مادة غمد).
2- (2) . الطبقات الکبری لابن سعد 279:1-280.

ولاشک أن وفود الشهید الکربلائی إلی رسول الله علیهما السلام، وهو فی مکة، وإعلان إسلامه عنده، فیه دلالة واضحة علی مجموعة من النقاط الأساسیة وهی:

أولاً: صدق الشهید فیما اعتقد من الإیمان فی هذا الدین

فلم یکن یحمل فی قلبه وراء کل هذه الرحلة الطویلة من المدینة إلی مکة واللقاء برسول الله إلا دافع الإیمان بالله سبحانه وتعالی وبرسوله الکریم علیهما السلام، وبعبارة أخری أن إیمان هذا الشهید بالإسلام کان خالصاً من کل شوائب الدنیا وزخارفها، حیث لم تکن توجد حتی وقت مجیء الشهید ولقائه برسول الله علیهما السلام، أی مؤشرات فی الأفق تدعو إلی احتمال اتساع الإسلام وانتشاره، ومن ثمّ الحصول علی بعض المکاسب من خلاله.

وثانیا: وعیه ونفاذ بصیرته

وقد تجلی مثل هذا الوعی وهذه البصیرة، فی تخطیه کل الحواجز والمعوقات التی وضعتها قریش فی طریق الاتصال برسول الله، والاستماع له، حیث أشاعت من خلال رجالها، جملة من الأکاذیب لإبعاد الناس عنه علیهما السلام، حیث أشاعت أنه «ساحر» و «مجنون» «وکذاب أشر» وما شاکل ذلک من التعابیر.

بل لقد وضعت بعض رجالها علی منافذ مکة وحدودها لإرجاع کل من یرید الوصول إلی رسول الله علیهما السلام، وقد سجل القرآن الکریم مثل هذا العمل فی آیاته حیث یقول:

ص:17

«وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّکُمْ قالُوا أَساطِیرُ الْأَوَّلِینَ 1» .

لقد تخطی الشهید الکربلائی مع الثلة المؤمنة من إخوته وأبناء قومه، کل هذه الحواجز المادیة والمعنویة - إن صح التعبیر - من أجل أن یصل إلی واقع الحال ومن ثم یأخذ قراره بنفسه، من دون أن یکون إمّعة تتبع کل ناعق من دون دلیل.

وهذا بتقدیری درسٌ مهم علینا أن نعیه بشکل کامل، حتی لا نکون طریقاً یمکن أن یعبر من خلاله أصحاب المطامع الشخصیة والأهواء الدنیویة.

ثالثاً: سبقه فی الدخول إلی الإسلام

وقد أبان الله عز وجل فی کتابه الکریم، فضل السابقین فی الدخول إلی رحاب هذا الدین، حیث یقول:

«وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِکَ الْمُقَرَّبُونَ 2» .

وقوله:

«وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِینَ وَ الْأَنْصارِ3» .

وقد روی المجلسی فی بحاره عن أبی عمرو الزبیری، عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«قلت: له: إن للإیمان درجات ومنازل یتفاضل المؤمنون فیها عند

ص:18

الله؟ قال: نعم، قلت: صفه لی رحمک الله حتی أفهمه: قال: إن الله سبق المؤمنین کما یسبق بین الخیل یوم الرهان، ثم فضلهم علی درجاتهم فی السبق إلیه، فجعل کل امرئ منهم علی درجة سبقه لا ینقصه فیها من حقه ولا یتقدم مسبوق سابقاً، ولا مفضولٍ فاضلا، تفاضل بذلک أوائل هذه الأمة أواخرها ولو لم یکن للسابق إلی الإیمان فضل علی المسبوق إذاً للحق آخر هذه الأمة أولها، نعم، ولتقدموهم إذا لم یکن لمن سبق إلی الإیمان الفضل علی من أبطأ عنه، ولکن بدرجات الإیمان قدم الله السابقین من هو أکثر عملاً من الأولین وأکثرهم صلاة وصوما وحجاً وزکاةً وجهاداً وإنفاقاً، ولو لم یکن سوابق یفضل بها المؤمنون بعضهم بعضا عند الله لکان الآخرون بکثرة العمل مقدمین علی الأولین، ولکن أبی الله عز وجل أن یدرک آخر درجات الإیمان أولها ویقدم فیها من أخّر الله، أو یؤخر فیها من قدّم الله...»(1).

غامد والوفادة الثانیة فی المدینة

یُنقل عن علقمة بن یزید بن سوید الازدی قوله: حدثنی أبی، عن جدی، قال:

«وفدت إلی رسول الله علیهما السلام سابع سبعة عن قومی، فلما دخلنا علیه وکلمناه، فأعجبه ما رأی من سمتنا وزینا فقال: ما أنتم؟ قلنا: مؤمنون، فتبسم رسول الله علیهما السلام

ص:19


1- (1) ) بحار الأنوار للعلامة المجلسی 308:22.

فقال: إن لکل قول حقیقة، فما حقیقة قولکم وإیمانکم؟ قلنا خمس عشرة خصلة: خمسٌ منها أمرتنا بها رسُلک ان نؤمن بها، وخمس أمرتنا رُسُلک أن نعمل بها، وخمسٌ تخلقنا بها فی الجاهلیة، ونحن علیها إلا أن تکره منها شیئاً، قال رسول الله علیهما السلام: وما الخمس التی أمرتکم رسلی أن تؤمنوا بها؟ قلنا: أمرتنا ان نؤمن بالله، وملائکته، وکتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، قال: وما الخمس التی أمرتکم رسلی أن تعملوا بها؟ قلنا: أمرتنا رسُلک أن نقول لا إله إلا الله ونقیم الصلاة، ونؤتی الزکاة، ونصوم رمضان، ونحج البیت من استطاع إلیه سبیلا، قال: وما الخمس التی تخلقتم بها فی الجاهلیة؟ قلنا: الشکر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والصدق فی مواطن اللقاء، والصبر عند شماتة الأعداء، وإکرام الضیف فقال رسول الله: علماء حکماء، کادوا من صدقهم ان یکونوا أنبیاء»(1).

غامد والوفادة الثالثة فی المدینة

قال: الواقدی:

«وقدم علی رسول الله علیهما السلام وفد غامد سنة عشر وهم عشرة، فنزلوا ببقیع الغرقد، وهو یومئذ أثل وطرفاء، ثم انطلقوا إلی رسول الله علیهما السلام، وخلفوا عند رحلهم أحدثهم سناً، فنام عنه وأتی السارق، فسرق عیبة لأحدهم فیها أثواب له، وانتهی القوم إلی رسول الله علیهما السلام، فسلموا علیه وأقروا له بالإسلام، وکتب لهم کتاباً فیه شرائع من شرائع الإسلام، وقال لهم من خلفتم فی رحالکم؟ قالوا: أحدنا یا رسول الله قال: فإنه قد نام عن متاعکم حتی أتی آت فأخذ عیبة أحدکم، فقال أحد

ص:20


1- (1) . الاربعین لأبی سعد النیسابوری/ رقم الحدیث 42.

القوم: یا رسول الله ما لأحدٍ من القوم عیبة غیری، فقال رسول الله علیهما السلام: فقد أخذت وردت إلی موضعها فخرج القوم سراعاً، حتی أتوا رحلهم فوجدوا صاحبهم، فسألوه عما أخبرهم رسول الله علیهما السلام، قال فزعت من نومی، ففقدت العیبة، فقمت فی طلبها، فإذا رجل قد کان قاعداً فلما رآنی، فثار یعدو منی فانتهیت إلی حیث انتهی فإذا أثر حفر، وإذا هو قد غیب العیبة، فاستخرجتها، فقالوا: نشهد أنه رسول الله علیهما السلام، فإنه قد أخبرنا بأخذها، وأنها قد رُدّت، فرجعوا إلی النبی علیهما السلام فأخبروه وجاء الغلام الذی خلفوه فأسلم وأمر النبی أبی بن کعب، فعلمهم قرآنا، وأجازهم کما کان یجیز الوفود وانصرفوا»(1).

مواقف غامد

ما إن دخلت غامد إلی الإسلام حتی تحولت إلی خیر سند فی انتشار الدعوة الإسلامیة، والحفاظ علی المکتسبات المحمدیة، حیث عرف عنها الشجاعة والإقدام فی الحروب کما سیتبین لک ذلک بشکل واضح ونحن نستعرض أبطال هذه القبیلة، ومنجزاتهم، لاسیما أعوان الشهید الکربلائی وأولاده وأبناء عمومته.

فضلاً عما تمیزت به هذه القبیلة بکثرة من خرّجت من العلماء والأدباء والمؤرخین الذین أرفدوا المکتبة الإسلامیة بعشرات المؤلفات مازالت إلی یومک هذا محل استفادة الأمة الإسلامیة جمعاء، وهنا أردت أن أشیر إلی بعض هذه

ص:21


1- (1) . ابن سعد فی الطبقات 345:1

الشخصیات علی نحو المثال لا الحصر وهم:

1 - الخلیل بن أحمد الفراهیدی صاحب کتاب العین.

2 - جابر بن حیان العالم فی الکیمیاء والفلک والهندسة وغیرها.

3 - ابن منظور صاحب کتاب لسان العرب.

4 - إبراهیم نفطویه وهو أحد علماء اللغة الکبار.

5 - المبّرد صاحب کتاب الکامل فی اللغة والأدب.

6 - أبو مخنف صاحب کتاب مقتل الحسین علیه السلام.

وآخرون قد یطول الحدیث عنهم، لهم أیادٍ بیضاء علی مختلف الجوانب والصُعد.

أسرة الشهید الکربلائی

تمیزت الأسرة التی ینتمی إلیها الشهید زهیر بن سلیم الازدی، بأنها کانت منجبة للأبطال، والأبدال ممن لا تأخذهم فی الله لومة لائم، یأمرون بالمعروف وینهون عن المنکر مهما کلفهم الأمر، ولا یخشون السلطات، بل کان السلطان یخشی صولتهم، حتی قضوا کلهم شهداء فی ساحات الوغی دفاعاً عن الدین وعن قادته علیهم السلام، الذین أمرنا الله باتباعهم، والسیر علی أساس منهجهم، وها نحن ذاکروهم مبتدئین بالإخوة والأولاد ثم الذین یلونهم ثم الأمثل فالأمثل.

ص:22

مع إخوة الشهید

1 - مخنف بن سلیم الازدی
اشارة

وقد عرف عن هذا الرجل صلابته وقوته فی ذات الله والدفاع عن أولیاء الله، لاسیما علی بن أبی طالب علیه السلام، حتی عُدَّ من جملة خواصه.

یقول السید مصطفی التفریشی فی ترجمته له:

«عربی، کوفی، من أصحاب علی علیه السلام، رجال الشیخ، وفی رجال ابن داود: أنه من خواصه علیه السلام»(1).

ویقول ابن الأثیر: «مخنف بن سلیم بن عوف بن ثعلبة بن عامر بن ذهل بن مازن بن ذبیان بن ثعلبة بن الدؤل بن سعد مناة بن غامد الازدی الغامدی، له صحبة.

روی عنه أبو رملة، واسمه عامر.

یعد فی الکوفیین، وکان نقیب الازد بالکوفة وقیل انه بصری، واستعمله علی بن أبی طالب کرم الله وجهه علی مدینة أصفهان، وشهد معه صفین، وکان معه رایة الازد»(2).

ویقول ابن حجر:

«له صحبة وحدیثه فی کتب السنن الأربعة من طریق عبد الله بن عون عن

ص:23


1- (1) . نقد الرجال للتفریشی 358:4.
2- (2) . اسد الغابة لابن الاثیر 497:2.

عامر بن أبی رملة عن مخنف بن سلیم قال: کنا وقوفاً مع رسول الله علیهما السلام بعرفات، فقال: «أیها الناس إن علی أهل کل بیت فی کل عام أضحاة وعتیرة، أتدرون ما العتیرة؟ هی التی یقول، الناس: إنها الرجبیة»(1).(2)

موقفه فی صفین

قد مضی علیک قبل قلیل بأن مخنفاً کانت معه رایة الازد کلها فی معرکة صفین، ولقد کان هذا الرجل عند حسن ظن إمامه به، فقد أبلی فی هذه المعرکة بلاءً حسناً.

ولقد روی عنه بعضهم موقفاً فی صفین أرادوا من خلاله الحطّ من منزلته.

فقد روی عن أبی مخنف أنه قال:

«حدثنی الحارث بن حصیرة الأزدی، عن أشیاخ من النمر من الأزد، أن مخنف بن سلیم الغامدی لما ندبت الأزد للأزد، حمد الله واثنی علیه ثم قال: إن من الخطأ الجلیل، والبلاء العظیم، أنا صُرفنا إلی قومنا وصرفوا إلینا، والله ما هی إلا أیدینا نقطعها بأیدینا، وما هی إلا أجنحتنا نجذها بأسیافنا، فإن نحن لم نؤاس جماعتنا، ولم نناصح صاحبنا کفرنا، وإن نحن فعلنا فعزّنا أبحنا ونارنا أخمدنا»(3).

حیث ذهب - حسب ما أعلم - کل من ترجم وکتب عن هذا الرجل إلی القول بأنّه ضَعُفَ وعاش الوهن فی إیمانه، حتی أوصلها بعضهم إلی أکثر من

ص:24


1- (1) . أخرجه جمال الدین الزیلعی فی «نصب الرایة فی تخریج أحادیث الهدایة» 80/6.
2- (2) . الاصابة لابن حجر 74/3.
3- (3) . وقعة صفین لنصر بن مزاحم / / 262.

ذلک، من خلال الطعن فی اعتقاده فی أمیر المؤمنین والطاعة له.

وهذا بتقدیری ظلم کبیر غیر مبرر البتة اتجاه هذا الإنسان الواعی والمجاهد والمدافع عن أهل البیت.

وأغلب الظن - وهذا ما تمیل إلیه نفسی - أن مخنف بن سلیم الأزدی أراد بکلماته المتقدمة جملة من النقاط التی لیس فیها ما یسیء إلیه من قریبٍ أو بعید وهی:

1 - أراد أن یبین أهمیة من یقاتلهم بالنسبة إلیه، فهو منهم وهم منه، لأنهم أبناء جلدته وقبیلته، وهذا فی حد ذاته أمر طبیعی لا ضیر فیه، فلیس غریباً أو معیباً علی الإنسان أن ینفعل ویتفاعل مع من ینتمی إلیهم وینتمون إلیه، فقد خلق الله الإنسان مفطوراً إلی المیل والرغبة إلی أبناء جنسه عموما، فضلاً عن الأهل، والأقرباء، والأصدقاء، وما شاکل ذلک، نعم، العیب کل العیب فی أن یکون هذا المیل وهذه الرغبة مع من تقدم، هی المعیار فی معرفة الحق والباطل، وبعبارة أخری، أن تکون هذه الأمور المتقدمة هی المرجع دون الدین ومفاهیمه وقیمه، لاسیما إذا تعارضا عنده، حیث لا یجوز للإنسان المسلم أن یوالی الباطل أو أن یعین الظلم، حتی ولو سقط فیهما أحب الناس إلیه.

ویبدو أن هذا المفهوم الإسلامی کان مختمراً فی ذهن مخنف بن سلیم، مع عظم البلاء وشدته علیه، حین یقول «فإن نحن لم نواسِ جماعتنا، ولم ننصح صاحبنا کفرنا»(1) مما یعنی أن الصورة کانت واضحة عنده غایة الوضوح، حیث

ص:25


1- (1) . وقعة صفین لنصر بن مزاحم: 262

کان یعتقد أن الخروج علی علی علیه السلام، والقتال ضده، یمثل الکفر، ومن ثم سینطلق قتاله معهم (فی حال وقوعه) علی أساس هذا المعتقد إن لم یرعووا ویذعنوا إلی الحق، وهذا ما حصل حیث قاتلهم قتال الأبطال المعتقدین ضلالهم إلی أن سقط شهیداً فی صفین(1) بین یدی أمیر المؤمنین.

2 - ثم إن الذی ذکره مخنف یمثل منهج الإسلام فی التعامل مع المعارضین له، حیث یری الإسلام بأن الطریقة المثلی فی التعامل معهم هی الحسنی والجدال بالتی هی أحسن والدعوة إلی الله بالحکمة والموعظة الحسنة، وهذا یمثل أصلاً أساسیاً مهماً فی الإسلام، حیث لا یجیز الإسلام استعمال القوة إلا بعد أن تغلق کل الطرق السلمیة لحلّ المشکلة، وحتی مع استعمال القوة فإنها تکون فی حدود مقدار الضرورة والوصول إلی الهدف، وکما یقول القرآن الکریم:

«فَقاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّهِ» .

فالغرض من القتال هو أن تفیء وترجع الفئة الباغیة إلی رشدها وطاعتها، وعند بلوغ هذا الهدف لا یجوز استعمال السلاح ولو للحظة واحدة.

وعلیه فإذا کان الأصل فی التعامل مع الآخر هو الحوار الهادئ والجدال بالأحسن، فینبغی علی الإنسان أن یدعو الله أن یهیئ له وللطرف الآخر أسباب الوقوف علی ما یحقن الدماء والأرواح وهذا ما وصفه علی علیه السلام فی حدیثه مع

ص:26


1- (1) . یری بعضهم ان مخنفاً استشهد فی معرکة الجمل، کما یذهب إلی ذلک الطبری 500:4، وهناک من یری أنه قتل مع التوابین فی سنة 64 ه کما فی تقریب التهذیب لابن حجر وهو ما لا یتفق مع إجماع من تحدث عن زمن شهادته (رض).

أصحابه بقوله:

«اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بیننا وبینهم واهدهم حتی یعرف الحق من جهله ویرعوی عن الغی والعدوان من لهج به»(1) وهو عین ما صنعه مخنف بن سلیم قبل بدایة المعرکة حیث قال فی جواب من قاطعه: والله ما میلنا الرأی بین أمرین قط أیهما نأتی وأیهما ندع فی الجاهلیة ولا بعد ما أسلمنا - إلا اخترت أعسرهما وأنکدهما، اللهم فأن نعافی أحبّ إلینا من أن نبتلی، فأعطِ کل أمریء منا ما سألک(2).

3 - وحتی لو قلنا بأن فی کلامه وهناً (وهو غیر مؤکد)، أفلا یمکن أن تشفع له مکانته عند علی علیه السلام، واعتماده علیه فی أکثر من موقف، حیث عُیّن والیاً من قبله علی أصفهان وهمدان(3).

وکتب إلیه بجملة من التعلیمات الرائعة الملیئة بالوعظ والتذکیر(4).

أقول ألا یکفی کل هذا التاریخ الملیء بالبطولات والبسالة فی الدفاع عن علیّ علیه السلام، حتی درجة الشهادة بین یدیه، فی تأویل کلماته هذه بشکل لا یخدش من إیمانه وعقیدته وتفانیه فی سبیل الدفاع عن الإسلام وأهله.

ص:27


1- (1) . بهج الصباغة فی شرح نهج البلاغة 520:13.
2- (2) . وقعة صفین لنصر بن مزاحم: 262.
3- (3) . وقعة صفین لنصر بن مزاحم: 105، اسد الغابة 123:5، الاستیعاب 30:4.
4- (4) . دعائم الإسلام 259:1.
2 - الصقعب بن سلیم الازدی

وهو الأخ الآخر للشهید الکربلائی، وهو ثانی من تسلم رایة الازد فی معرکة الجمل فی جیش علی بن أبی طالب، وقد عرفت عنه البطولة والشجاعة بشکل واضح لاسیما فی هذه المعرکة إلی ان سقط شهیداً مضرجاً بدمائه فیها.

یقول البلاذری فی أنساب الأشراف:

«ثم قال علی علیه السلام لابن الحنفیة ومعه الرایة: أقدم، فزحف برایته نحو الجمل، وأمر علی الأشتر أن یحمل فحمل وحمل الناس، فقتل هلال بن وکیع التمیمی واشتد القتال، فضرب مخنف بن سلیم علی رأسه فسقط، وأخذ الرایة منه الصقعب بن سلیم أخوه فقتل»(1).

3 - عبد الله بن سلیم الازدی

«وهو الذی حمل رایة الازد بعد مقتل کلٍ من أخویه فی معرکة الجمل، وقد أبلی بلاءً حسناً إلی أن سقط شهیداً فیها، علی طریق إخوانه، وکان من الصحابة الکبار حیث وفد علی رسول الله علیهما السلام فی مکة وأعلنوا إسلامهم عنده»(2).

4 - عبد شمس بن سلیم الازدی

ذکرهُ الطبری فی کتابه «المنتخب من ذیل المذیّل» بقوله:

«أسلم مخنف وصحب النبی علیهما السلام، وهو بیت الأزد بالکوفة، وکان لهُ إخوة

ص:28


1- (1) . أنساب الأشراف للبلاذری: 249.
2- (2) . انظر: الإصابة لابن حجر 511:1(1229).

ثلاثة یقال لأحدهم عبد شمس قتل یوم النخیلة»(1).

یقول المبرّد وهو یتحدث عن هذا الیوم: «بعد أن فارق جماعة من الخوارج عبد الله بن وهب، ولجأ بعضهم یوم النهروان إلی رایة أبی أیوب الانصاری، والبعض الذی تخلف منهم بالکوفة لم یخرجوا إلی النهروان. اجتمع هؤلاء کلهم وتواصوا فیما بینهم، وتعاضدوا وتأسفوا علی خذلانهم أصحابهم بالنهروان، وکان خطیبهم یومئذ المستورد، من بنی سعد بن زید بن مناة، وخرجوا إلی النخیلة، فوجه إلیهم علی بن أبی طالب علیه السلام ابن عمه عبد الله ابن العباس داعیاً فقالوا له یابن عباس إذا کان علی علیه السلام علی حق لم یشک فیک، وحکم مضطراً، فما باله حیث ظفر لم یسب فقال لهم ابن عباس قد سمعتم الجواب فی التحکیم، فأما قولکم فی السباء أفکنتم سابین أمکم عائشة، فوضعوا أصابعهم فی آذانهم وقالوا أمسک عنا، غرّب لسانک یا بن عباس فإنه طلق ذلق غواص علی موضع الحجة، قال: وأبوا إلا الانشقاق، فلما رأی ابن عباس ذلک رجع إلی أمیر المؤمنین علیه السلام وأخبره.

قال: ولما أراد علی علیه السلام المسیر إلیهم، جاء عفیف بن قیس، وقال یا أمیر المؤمنین، لا تخرج فی هذه الساعة، فإنها ساعة نحسٍ لعدوک علیک فقال له علیه السلام توکلت علی الله وحده، وعصیت رأی کلّ متکهن، أنت تزعم أنک تعرف وقت الظفر من وقت الخذلان.

«إِنِّی تَوَکَّلْتُ عَلَی اللّهِ رَبِّی وَ رَبِّکُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ»

ص:29


1- (1) . المنتخب من ذیل المذیّل للطبری: 47.

«بِناصِیَتِها إِنَّ رَبِّی عَلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ 1» .

ثم سار إلیهم فطحنهم جمیعاً لم یفلت منهم إلا خمسة منهم المستورد بن جوین الطائی»(1).

وکان من جملة الشهداء الذین سقطوا فی هذه المعرکة من أصحاب علی علیه السلام، هو أخو الشهید الکربلائی عبد شمس بن سلیم الازدی.

أحفاد الشهید الکربلائی

اشارة

قد یستغرب القارئ للوهلة الأولی، من ذکر الأحفاد قبل الأولاد بالنسبة للشهید الکربلائی، ولکن مثل هذا الاستغراب قد یتلاشی بعد أن تعرف أن المعلومات عن أبناء الشهید معدومة بالکامل، فقد بذلت وقتاً طویلاً، فی تتبع أیّ أثرٍ فی مختلف المصادر الإسلامیة عند الفریقین، فلم أجد أیّة إشارة یمکن أن تهدی إلی اسم من أسماء أبنائه، ولکن فی الوقت الذی لم تذکر الکتب وصفحاتها معلومة عن أبناء الشهید، فقد حفلت نفس هذه المصادر بالحدیث عن أحفادٍ أجلاء له (کما سیأتی)، ولهذا أستطیع أن أزعم أن هذه الأسرة التی تمتعت بکل هذا العطاء، والتضحیة، لله ولرسوله ولائمة أهل البیت علیهم السلام (ابتداءً من الإخوّة الذین ضرجوا جمیعاً بدمائهم بین یدی الإمام أمیر المؤمنین، وانتهاء بالأحفاد الذین قدموا خدمات جلیلة للإسلام والمسلمین) لا یمکن ان یشذ عنها أولاد الشهید الکربلائی، ولهذا تمیل النفس أنهم کانوا علی سر أبیهم ومنهجهِ

ص:30


1- (2) . الکامل للمبرّد 148:2-149

وثباتهِ، وکما یقول الشاعر فی عدیّ بن حاتم الطائی:

شابهَ حاتماً عدیّ فی الکَرَم ومَنْ یشابهْ أبَهُ فما ظلَمْ

1 - الصقعب بن زهیر بن عبد الله بن زهیر بن سلیم الازدی الکوفی
اشارة

(1)

کان راویاً جلیل القدر، ثقة، ذکره العلماء عند المدرستین بالإشادة.

قال ابن ماکولا فی تهذیب الکمال: «الصقعب بن زهیر بن عبد الله بن زهیر ابن سلیم الأزدی: روی عن زید بن اسلم، وعبد الرحمن بن الاسود بن یزید، وعطاء بن أبی رباح، وعمرو بن شعیب، ومحمد بن مخنف بن سلیم الازدی، والمهاجر بن صیفی العدوی أو العذری.

روی عنه: جریر بن حازم، وحماد بن زید، وعباد بن عباد المهلبی، وعبد الله ابن محمد بن ربیعة القدامی، وابن اخته أبو مخنف لوط بن یحیی الأزدی ونسبه، وابو اسماعیل محمد بن عبد الله الأزدی البصری صاحب «فتوح الشام».

قال أبو زرعة: ثقة، وقال أبو حاتم: شیخ لیس بالمشهور، وذکره ابن حبان فی کتاب الثقات»(2).

وروی له البخاری روایة فی وصیة نوح لابنه، حیث قال: «عن الصقعب بن زهیر، عن زید بن أسلم عن عطاء بن یسار عن عبد الله بن عمر قال رسول الله علیهما السلام:

ص:31


1- (1) . الصقعب هو راوی روایة الرسالة التی بعثها الإمام الحسین إلی أهل البصرة مع أبی رزین (رض) الرکب الحسینی 30:2.
2- (2) . تهذیب الکمال لابن ماکولا 219:13-220.

«ان نبی الله نوح علیه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه: إنی قاص علیک الوصیة آمرک باثنین وأنهاک عن اثنتین، آمرک بلا إله إلا الله فإنّ السموات السبع والارضین السبّع لو وُضع فی کفةٍ ووُضعتْ لا إله إلا الله فی کفةٍ رجَحَتْ بهنّ لا إله إلا الله ولو أن السّموات السَّبع والارضین السَّبع کُنَّ حلقة مبهمة قصمتهنَّ لا إله إلا الله وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة کلّ شیءٍ وبها یرزق الخلق وأنهاک عن الشرک والکبْر قال: قلت أو قیل: یا رسول الله هذا الشرک قد عرفناه فما الکبْر؟ قال: أن یکون لأحدنا نعلان حسنتان لهما شراکان حسنان؟ قال: لا قال: هو أن یکون لأحدنا حُلَّة یلبسهما؟ قال: لا قال: الکبْر هو أن یکون لأحدنا دابة یرکبها؟ قال: لا قال: أفهو أن یکون لأحدنا أصحاب یجلسون إلیه؟ قال: لا قیل: یا رسول الله فما الکبر؟ قال: سفه الحق وغمص الناس»(1).

روایة حفید الشهید الکربلائی فی معاویة

روی الطبری فی تاریخه عن أبی مخنف قال:

«عن الصقعب بن زهیر (حفید الشهید الکربلائی) عن الحسن (البصری) قال: أربع خصالٍ کن فی معاویة لو لم یکن فیه منهن إلا واحدة لکانت موبقة، إنتزاؤه علی هذه الأمة بالسفهاء حتی ابتزها أمرها بغیر مشورة منهم، وفیهم بقایا الصحابة وذوو الفضیلة، واستخلافه ابنه بعده سکیراً خمیراً یلبس الحریر ویضرب بالطنابیر، وادعائه زیاداً وقد قال رسول الله علیهما السلام: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله

ص:32


1- (1) . رواه البخاری فی، الأدب المفرد: 548، مسند أحمد 169:2-170.

حجراً، ویلاً له من حجر وأصحاب حجر مرتین»(1).

2 - العلاء بن زهیر بن عبد الله بن زهیر بن سلیم

قال عنه ابن حجر:

«العلاء بن زهیر بن عبد الله الازدی أبو زهیر الکوفی ثقة من السادسة وقال الرازی فی الجرح والتعدیل: العلاء بن زهیر أبو زهیر الأزدی أخو الصقعب بن زهیر، روی عن وبرة، روی عنه وکیع، وأبو نعیم سمعت أبی یقول ذلک، حدثنا عبد الرحمن قال ذکره أبی عن إسحاق بن منصور عن یحیی بن معین أنه قال: العلاء بن زهیر الازدی ثقة»(2).

3 - زهیر بن عبد الله بن زهیر بن سلیم الأزدی

هو والد العلاء الذی تقدم قبل قلیل، وقد ذکره ولده فی روایة نقلها ابن سعد فی الطبقات الکبری، والتی یتبین لک من خلالها العلاقة الحمیمة بین حفید الشهید الکربلائی وبین إبراهیم بن مالک الاشتر، وهذا یقوی ما ذکرناه قبل ذلک أن أولاد الشهید کانوا علی سر أبیهم ومنهجیته فی الدفاع عن أهل البیت علیهم السلام، یقول ابن سعد:

«أخبرنا محمد بن ربیعة الکلابی، عن العلاء بن زهیر الأزدی، قال:

قدم إبراهیم علی أبی (حفید الشهید الکربلائی الأول) وهو علی حلوان،

ص:33


1- (1) . تاریخ الطبری 208:4.
2- (2) . الجرح والتعدیل للرازی 355:6.

فحمله علی برذون وکساه أثواباً، وأعطاه الف درهم فقبله»(1).

مع ابن أخی الشهید الکربلائی محمد بن مخنف بن سلیم الأزدی

وقد عرفت عن هذا الشاب الشجاعة فی أجمل صورها وأشکالها وهو فی مقتبل العمر، حیث خاض الأهوال وجندل الأبطال وهو لم یبلغ العشرین من عمره، ینقل الطبری عن الکلبی عن أبی مخنف قال:

«حدثنی أبی یحیی بن سعید، عن عمه محمد بن مخنف، قال: کنت مع أبی مخنف بن سلیم یومئذ وأنا ابن سبع عشرة سنة»(2).

أبو مخنف لوط بن یحیی من أحفاد أخی الشهید الکربلائی

وهو غنی عن التعریف من المصادر المهمة التی یعتمدها المؤرخون والمحققون فی دراسة واقعة کربلاء وما جری فیها.

یقول الشیخ النجاشی فی رجاله:

«لوط بن یحیی بن سعید بن مخنف بن سالم الأزدی الغامدی، أبو مخنف، شیخ أصحاب الأخبار بالکوفة ووجههم»(3).

ولقد کان أبوه یحیی من أصحاب علی علیه السلام.

یقول الشیخ الطوسی:

ص:34


1- (1) . الطبقات الکبری لابن سعد رقم الحدیث (8010).
2- (2) . تاریخ الطبری 246:4.
3- (3) . رجال النجاشی 224.

«والصحیح أن اباه (یعنی والد أبی مخنف) کان من أصحاب علی علیه السلام»(1).

من هنا نجد بعض الأقلام فی عمق التأریخ والی یومک هذا تتهم هذا الرجل بالرفض والتشیع والمغالاة، وما ذاک إلا لما یحمله أبو مخنف من تراث الموالاة لأهل البیت علیهم السلام سواء علی مستوی جده أو أبیه أو أخیه، أو أعمامه أو أبناء عمومته، الذین سَخَّروا دماءهم وأقلامهم فی سبیل أهل البیت والدفاع عن مظلومیتهم.

مع ابن عم الشهید الکربلائی جندب بن زهیر بن الحارث الأزدی

قال المامقانی وهو یترجم ل - (جندب بن زهیر الازدی):

«من أشراف الازد، ومن ذوی البصائر، والنافذین فی عقیدته، والمهاجرین من وطنه حمایة عن الحق، وممن ثبت علی بیعته لخلیفة رسول رب العالمین علیهما السلام طیلة حیاته، وممن جاهد الناکثین فی حرب الجمل، والقاسطین فی حرب صفین، حتی قضی شهیداً بین یدی سید الوصیین علیه السلام مدافعاً عن ولی الله، ذاباً عن دین الله، مناصحاً لا تأخذه فی الله لومة لائم»(2).

وهو القائل یوم صفین: «والله لو کنّا آباءهم ولدناهم، أو کانوا آباءنا ولدونا، ثم خرجوا عن جماعتنا وطعنوا علی إمامنا، ووازروا الظالمین الحاکمین بغیر الحق، علی أهل ملتنا ودیننا، افترقنا بعد أن اجتمعنا، حتی یرجعوا عمّا هم علیه، ویدخلوا فیما ندعوهم إلیه، أو تکثر القتلی بیننا وبینهم»(3).

ص:35


1- (1) . الفهرست للشیخ الطوسی: 155.
2- (2) . تنقیح المقال للمامقانی 279:16.
3- (3) . وقعة صفین لنصر بن مزاحم: 363.

وروی من وجوه أن النبی علیهما السلام کان فی مسیرة له، فبینما هو یسیر إذ هوّم فجعل یقول:

«زید وما زید! جندب وما جندب! فسئل عن ذلک فقال: «رجلاً من أمتی، أما أحدهما فتسبقه یده، أو قال: بعض جسده إلی الجنة، ثم یتبعه سائر جسده.

وأما الآخر فیضرب ضربة یفرق بها بین الحق والباطل».

وأما جندب الخیر الذی أخبر عنه النبی علیهما السلام فهو: جندب بن زهیر، ویسمی (جندب الخیر) الأزدی العامری، قاتل الساحر، یکنّی أبا عبد الله، له صحبة، روی عن النبی علیهما السلام:

«حد الساحر ضربة بالسیف»(1).

وقد تحقق هذا الحد علی ید جندب فی قتله للساحر الذی أخذ یؤثر فی الناس بسحره، ابن لهیعة، عن أبی الأسود، أن الولید کان بالعراق، فلعب بین یدیه ساحر، فکان یضرب رأس الرجل، ثم یصیح به، فیقوم خارجاً، فیرتد إلیه رأسه، فقال الناس: سبحان الله.

وعن أبی مخنف لوط، عن خاله، عن رجل، قال: «جاء ساحر من بابل، فاخذ یری الناس الأعاجیب، یریهم حبلاً فی المسجد وعلیه فیل یمشی، ویری حماراً یشتد حتی یجیء فیدخل فی فمه ویخرج من دبره، کان یضرب عنق

ص:36


1- (1) . کتاب الصحوة للاستاذ صباح علی البیاتی: 174-175.

الرجل، فیقع رأسه، ثم یقول له: قم فیعود حیاً، فرأی جندب بن کعب(1) ذلک، فأخذ سیفاً، وأتی والناس مجتمعون علی الساحر، فدنا منه، فضربه، فأذری رأسه وقال: أحیِ نفسک»(2).

الشهید الکربلائی فی فتح المدائن

لقد کان للشهید زهیر بن سلیم الازدی مشارکة واضحة المعالم فی فتح المدائن، بل یستطیع الإنسان أن یقول بأن مشارکة الشهید کانت فریدة من نوعها کما سیأتی بعد ذلک، ولکن وقبل أن نلج فی هذا الأمر، نحاول أن نسلط الأضواء علی «فتح المدائن» وما جری وحصل فیها.

یقول ابن الأثیر فی تاریخه المعروف بالکامل:

«ذکر فتح المدائن التی فیها إیوان کسری:

وکان فتحها فی صفر أیضاً سنة ست عشرة، قیل: وأقام سعد ببهرسیر أیاماً من صفر، فأتاه علج فدله علی مخاضة تخاض إلی صلب الفرس، فأبی وتردد عن ذلک، وقحمهم المد، وکانت السنة کثیرة المدود، ودجلة تقذف بالزبد، فأتاه علج فقال ما یقیمک؟ لا یأتی علیک ثلاثة حتی یذهب یزدجرد بکل شیء فی المدائن، فهیجه ذلک علی العبور، ورأوا رؤیا: أن خیول المسلمین اقتحمت دجلة فعبرت، فعزم سعد لتأویل الرؤیا، فجمع الناس فحمد الله واثنی علیه ثم قال: إن عدوکم قد

ص:37


1- (1) . اختلف فی قاتل الساحر فقیل: جندب بن زهیر وقیل جندب بن کعب/ تنقیح المقال للمامقانی 273:16.
2- (2) . سیر أعلام النبلاء للذهبی 176:3-177.

اعتصم منکم بهذا البحر، فلا تحفلون إلیه معه، ویخلصون إلیکم إذ شاءوا فی سفنهم فیناوشونکم، ولیس وراءکم شیء تخافون أن تؤتوا منه، قد کفاکم أهل الأیام وعطلوا ثغورهم، وقد رأیت من الرأی ان تجاهدوا العدو قبل ان تحصدکم الدنیا، ألا إنی قد عزمت علی قطع هذا البحر إلیهم، فقالوا جمیعاً: عزم الله لنا ولک علی الرشد فافعل»(1).

ویقول الدینوری فی الأخبار الطوال: «ثم زحف الفریقان بعضهم إلی بعض، وقد صف العجم ثلاثة عشر صفاً، بعضاً خلف بعض، وصف العرب ثلاثة صفوف، فرشقهم العجم بالنشاب حتی فشت فیهم الجراحات، فلما رأی قیس بن هبیرة ذلک، قال لخالد بن عرفطة، وکان أمیر الأمراء: أیها الأمیر، إنا قد صرنا لهؤلاء القوم غرضا فاحمل علیهم بالناس حملة واحدة، فتطاعن الناس بالرماح ملیاً، ثم افیضوا إلی السیوف.

وکان زید بن عبد الله النخعی صاحب الحملة الأولی، فکان أول قتیل، فأخذ الرایة أخوه أرطأة، فقتل، ثم حملت بجیلة، وعلیها جریر بن عبد الله، وحملت الازد، وثار القتام، واشتد القتال، فانهزمت العجم حتی لحقوا برستم، وترجل رستم، وترجل معه الاساورة والمرازبة وعظماء الفرس، وحملوا، فجال المسلمون جولة وکلم أبو محجن أُمّ ولد سعد، فقال أطلقینی من قیدی، ولک علیّ عهد الله إن لم أقتل أن أرجع إلی محبسی هذا، وقیدی، ففعلت، وحملته علی فرس لسعد أبلق، فانتهی إلی القوم مما یلی الأزد، وبجیلة، مما یلی المیمنة فجعل

ص:38


1- (1) الکامل فی التأریخ: 511/2-512

یحمل ویکشف العجم، وقد کانوا کثروا علی بجیلة، فجعل سعد یعجب ولا یدری من هو؟ ویعرف الفرس، وبعث سعد، جریر بن عبد الله، وکان معه لواء بجیلة، والی الاشعث بن قیس، ومعه لواء کندة، وإلی رؤساء القبائل: أن احملوا علی القوم من ناحیة المیمنة علی القلب، فحمل الناس علیهم من کل وجه، وانتقضت تعبیة الفرس، وقتل رستم، وولت العجم هاربة، وانصرف إلی محبسه أبو محجن، وُطِلبَ رستم فی المعرکة فاصیب بین القتلی، وبه مائة جراحة، ما بین طعنة وضربة ولم یدر من قتله، ویقال: بل ارتطم فی نهر القادسیة، فغرق، وانتهت هزیمة العجم إلی دیر کعب، فنزلوا هناک، فاستقبلهم النخارجان، وقد وجهه یزدجرد مدداً، فوقف بدیر کعب، فکان لا یمر به أحد من الفل إلا حبسه قبله.

ثم عبی القوم وکتبوا کتائبهم وأوقفوهم مواقفهم حتی وافتهم العرب»(1).

موقف الشهید الکربلائی

بطولة متمیزة

یستکمل الدینوری فی حدیثه عن المعرکة فیقول:

«وبرز النخارجان فنادی مرد ومرد(2)! أی رجل ورجل، فخرج زهیر بن سلیم (الشهید الکربلائی) أخو مخنف بن سلیم الازدی، وکان النخارجان سمیناً بدیناً جسیماً، وزهیر رجلاً مربوعاً شدید العضدین والساعدین، فرمی النخارجان

ص:39


1- (1) الاخبار الطوال للدینوری: / 122-123.
2- (2) نفس المصدر: / 123.

نفسه عن دابته علیه، فاعترکا، فصرعه النخارجان، وجلس علی صدره، واستلَّ خنجره لیذبحه، فوقعت إبهام النخارجان فی فم زهیر، فمضغها، واسترخی النخارجان، وانقلب علیه زهیر، وأخذ خنجره وأدخل یده تحت ثیابه فبعجه وقتله.

وکان برذون النخارجان مدرباً، فلم یبرح، فرکبه زهیر وقد سلبه سواریه ودرعه وقباءه ومنطقته فأتی به سعداً فاغنمه إیاه وأمره سعد أن یتزیّا بزیه، ودخل علی سعد، فکان زهیر بن سلیم أول من لبس من العرب السوارین(1).

یا له من موقف عظیم، تشرئبّ له الأعناق، وتهفو له النفوس، وتنحنی له هامات الأبطال إجلالاً وإکباراً، لقد مَثّل الشهید (فی قتاله للنخارجان) المسلمین جمیعاً فی رباطة الجأش، وقوة الإیمان والعقیدة، والشوق إلی لقاء الله وثوابه.

فتصور معی عزیزی القارئ بطلاً مجرباً وعسکریاً محنکاً وبدیناً جسیماً یبعثهُ یزدجرد (ملک بلاد فارس کلها) مع مئات من الآلاف الطیِّعة بین یدیه، فیقف هو وکل ذلک الجیش أمام المسلمین، ثم یخرج بین الصفین ویصیح بأعلی صوته ألا من رجل لرجل، والجمیع یسمعون، فلا یخرج إلیه إلا الشهید الکربلائی، یقف أماه (وهو غیر آبه بکل ما یراه من جیوشٍ وآلات عسکریةٍ وقائدٍ خَبَرَ الحروب کثیراً) یتقدم لقتاله وعیون مئات الآلاف من المسلمین تنظر إلیه، فلا تمضِ إلا مدّة وجیزة من الزمن إلاّ ویرجع الشهید إلی المسلمین وهو یکبِّر ویُحمّد ویمجّد الله علی نصره الذی بدأت معالمه تبین، وآفاقه تتضح، بعد أن جندل قائدهم، وقتل

ص:40


1- (1) . الأخبار الطوال للدینوری / 123.

کبیرهم، رجع وقد تقَلّد أساوره(1) (لا حباً فی لبس الأسوار) وإنما هی فرحة النصر، الذی طرب لها قلبه، وانشرحت بسببها أساریره، فهنیئاً لک هذه الشجاعة، وهذا التوفیق الإلهی بأن جعلک سبب النصر، ومفتاح الفخر.

«إِنَّ الْفَضْلَ بِیَدِ اللّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِیمٌ 2» .

محاولة سرقة هذه البطولة من الشهید الکربلائی

اشارة

لیس غریباً أن تمتد الأیادی المأجورة والأقلام الرخیصة، من أجل سرقة هذه الأمجاد وأمثالها من أتباع أهل البیت علیهم السلام، وموالیهم.

حیث یذکر الطبری وهو یتحدث عن حوادث السنة الخامسة عشرة من تاریخه عن سیف عن النضر أن الذی برز من المسلمین للقتال هو أبو نباتة وان الذی قتل هو شهریار دهقان الباب حیث کان مقیماً هناک یقول:

«فلما التقوا بأکناف کوثی(2) خرج شهریار فنادی ألا رجل! ألا فارس منکم شدید عظیم یخرج حتی أنکل به؟! فقال زهیر لقد أردت أن أبارزک فأمّا إذا سمعت قولک فإنی لا أخرج إلیک إلا عبداً، فإن أقمت له قتلک إن شاء الله ببغیک، وإن فررت منه فإنّما فررت من عبد وکایده، ثم أمر أبا نباتة نائل بن جعشم الاعرجی، وکان من شجعان بنی تمیم، فخرج إلیه ومع کل واحد منهما الرمح

ص:41


1- (1) . السوار: حلیة کالطوق تلبسه المرأة، وکان الفرس یتحلون بالسوار یومذاک.
2- (3) . کوثی: من أرض بابل بالعراق.

وکلاهما وثیق الخلق، إلا أن الشهریار مثل الجمل، فلما رأی نائلاً ألقی الرمح لیعتنقه، وألقی نائل الخنجر وأراد حلّ أزرار درعه فوقعت إبهامه بفی نائل، فحطم عظمها، ورأی منه فتوراً، فثاوره فجلد به الأرض، ثم قعد علی صدره، وأخذ خنجره فکشف درعه عن بطنه، فطعن فی بطنه وجنبه حتی مات، فأخذ فرسه وسواریه وسلبه وانکشف أصحابه فذهبوا فی البلاد، أقام زهرة(1) بکوثی حتی قدم علیه سعد، فأتی به سعد، فقال سعد عزمت یا نائل بن جعشم لما لبست سواریه، وقباءه، ودرعه، ولترکبن برذونه، وغنَّمه ذلک کله، فانطلق فتدَّرع سلبه، ثم أتاه فی سلاحه علی دابته فقال: اخلع سواریک إلا أن تری حرباً فتلبسهما، فکان أول رجل من المسلمین سُوِّر بالعراق»(2).

وقد ردّ السید مرتضی العسکری فی کتابه القیم «خمسون ومائة صحابی مختلق» علی هذا التحریف بشکل موسّع لا مجال لذکره هنا، حیث ناقشها متناً وسنداً وانتهی إلی النتائج التالیة:

«حرّف سیف (الراوی) هذا الخبر وجعل اسم البطل الفارسی فیه (شهریار) بدل من (النخارجان).

وجعل قاتله وسالبه البطل المختلق (أبا نباتة) ومن شجعان تمیم بدلاً من (زهیر بن سلیم) الازدی السبائی ومن شیعة الإمام علی علیه السلام.

ص:42


1- (1) . المراد به زهرة بن جویة قیل أنه قتل بالقادسیة والاشهر أنه قتل أیام الحجاج کما فی اسد الغابة 206:2.
2- (2) . خمسون ومائة صحابی مختلق: 2 باب صحابة لهم أدارک/ نائل أبو نباتة.

اختلق سیف أبا نباتة من عدنان ثمّ من تمیم، أی من أبناء قبیلته خاصة لیکون هو الذی یغنم سلب هذا الرئیس الفارسی کما جعل القعقاع التمیمی یغنم أسلحة ملوک الأرض.

جعل سیف أبا نباتة التمیمی أول من لبس السوار فی العراق، کما جعل أول من قدم أرض فارس لقتالهم (حرملة) و (سلمی) التمیمیین، وکذلک جعل الأولویة فی مواقف آخری لتمیم.

سلب سیف هذه المکرمة من هذا السبائی (الشهید الکربلائی) وألبسها من اختلقه من تمیم کما فعل نظیر ذلک مع سبائیین آخرین مثل عمار بن یاسر.

وأضیف إلی ما ذکره العلامة مرتضی العسکری رحمه الله تعالی، قول أبی الربیع سلیمان بن موسی الکلاعی الأندلسی فی کتابه «الاکتفاء بما تضمنه من مغازی رسول الله والثلاثة الخلفاء».

«وسیأتی بعد أخبار زهرة بن الجویة(1) وآثاره فی الوقائع التی لاشک فی کونها بعد هذه ما یوهن خبر قتله المذکور آنفاً، والأولی بحسب هذا إن شاء الله أن یکون غیر زهرة هو صاحب القصة إذ قد ذکر المدائنی أن هاشم بن عتبة(2) قال لزهیر بن سلیم الأزدی قال ویقال لغیره ورأی فی درعه فصماً: إنی

ص:43


1- (1) . یبدو أن هناک من یذهب إلی أن صاحب هذه الفضیلة هو زهرة، وعلیه تکون فی المسألة ثلاثة آراء.
2- (2) . هاشم بن عتبة المعروف بالمرقال ابن أخی سعد بن أبی وقاص، ومن خیرة أصحاب علی علیه السلام.

لا آمن أن تصیبک نشابة فی هذا الموضع فلو سردته قال لئن ترکت، نشابة الفارسی جسدی کله إلا هذا الموضع إنی إذاً لسعید ثم ذکره نحو ما تقدم والله العالم»(1).

ردُّ توهم

قد یتوهم البعض وهو یقرأ ما جری فی واقعة کربلاء من أحداث، أن هناک ولداً للشهید الکربلائی، اسمه عبد الله، کان إلی جانب معسکر عبید الله بن زیاد یقول الطبری وهو یتحدث عن قادة الجیش الذی وقف أمام الحسین بکربلاء وقواده:

«حدثنی فضل عن خدیج الکندی، عن محمد بن بشر، عن عمرو الحضرمی قال: لمّا خرج عمر بن سعد بالناس، کان علی ربع أهل المدینة یومئذ عبد الله بن زهیر بن سلیم الازدی، وعلی أربع مذحج واسد...»(2).

وقد ورد فی مثیر الأحزان أنه:

«عبد الله بن زهیر بن سلیم بن مخنف العامری»(3).

ومثل هذا التوهم لیس له واقع البتّة، حیث لم تتحدث عن هذا القائد العسکری المصادر الرجالیة وغیرها مطلقاً، ومن ثم یکون فی عداد المجهولین،

ص:44


1- (1) کتاب «الاکتفاء بما تضمنه من مغازی رسول الله والثلاثة الخلفاء» / تحقیق د. محمد کمال الدین علی 239:4 / عالم الکتب - بیروت 1417 ه..
2- (2) . تاریخ الطبری: 317:3.
3- (3) . مثیر الأحزان لابن نما: 39.

قال الطبرانی:

«یزید، مولی عبد الله بن زهیر بن سلیم الازدی من الرابعة فما دونها، لو لم اعرفه، ولم اعرف مولاه، ولم أجد لهما تراجم»(1).

فضلاً عن عدم وجود أی فعلٍ، واضحٍ منقول عنه فی یوم عاشوراء سلباً أو إیجاباً کما هو حال القیادات الأخری کشبث بن ربعی والشمر وعمرو بن الحجاج الزبیبی وغیرهم، مما یدلل علی أنها شخصیة مصطنعة لا وجود لها، ربما أرید من خلالها الإساءة إلی الشهید الکربلائی والی أسرته المؤمنة المجاهدة.

بینما تجد فی قبال هذه المجهولیة لهذا الرجل، معلومیة الشهید الکربلائی عند علماء الرجال وغیرهم، نسباً ومواقفَ کما مرّ علیک فی أکثر من مناسبة، بل ومعلومیة الأحفاد فضلا عن الأبناء، فکیف یمکن (والحال هذه) أن یتوهم فی کونه ولداً للشهید الکربلائی، معاذ الله، فالبلد الطیب وکما یقول القرآن الکریم:

«یَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِی خَبُثَ لا یَخْرُجُ إِلاّ نَکِداً کَذلِکَ نُصَرِّفُ الْآیاتِ لِقَوْمٍ یَشْکُرُونَ 2» .

الوصول إلی کربلاء

نقل صاحب الحدائق(2) وإبصار العین(3): أن زهیر بن سلیم الأزدی جاء

ص:45


1- (1) . المعجم الصغیر للطبرانی 658:2(5165).
2- (3) . کتاب الحدائق الوردیة الشهید حمید بن أحمد بن محمد المحلی نقلاً عن وسیلة الدارین: 139.
3- (4) . إبصار العین فی أنصار الحسین للشیخ السماوی: 186.

إلی الحسین علیه السلام، فی اللیلة العاشرة عندما رأی تصمیم القوم علی قتله فانضم إلی أصحابه الأزدیین الذین کانوا مع الحسین.

وهذه الروایة علی فرض صحتها وتمامیتها لا یمکن أن تحمل علی إطلاقها، ومن ثم یفهم القارئ والسامع لها أن الشهید زهیر بن سلیم الأزدی، کان قد خرج فی جیش عمر بن سعد، حاله حال الکثیرین ممن خرجوا لحرب الحسین علیه السلام وقتاله، ثم بعد ذلک انتقل إلی جهة الحسین علیه السلام، فإنّ هذا لا یمکن ان یقبل مع الشهید لاسیما وهو المعروف بثباته وولائه مع أهل البیت منذ نعومة أظفاره، بل وثبات إخوانه وأولاده وأحفاده.

وعلیه.. فلیس کل من خرج مع الجیش أراد قتل الحسین علیه السلام ضرورة، مَثَلُهُ بالضبط کمثل عمر بن سعد وشمر بن ذی الجوشن وشبث بن ربعی وآخرین، بل إنّ فی الجیش أفراداً قلّوا أو کثروا حاولوا أن یجعلوا من الخروج مع الجیش طریقاً سهلة آمنة للوصول إلی الحسین علیه السلام والشهادة بین یدیه، بعد أن سُکّرت الطرق بالرجال من کل الجهادت وحتی تکون الصورة واضحة أکثر عند القارئ العزیز سوف أحاول أن أضع بین یدیه بعض الجماعات التی خرجت فی ذلک الجیش وخلفیاتها حتی تری مکان الشهید فیما بینهم رضوان الله تعالی علیه.

طبیعة الجیش الذی حارب الحسین: یمکن للإنسان أن یقسم ذلک الجیش الذی حارب الحسین علیه السلام إلی ثلاثة أقسام رئیسیة:

القسم الأول: وهم المتقربون إلی الله بقتل الحسین: حیث جاءوا إلی کربلاء وهم علی علمٍ ویقین أن الأمر سینتهی إلی قتل الحسین علیه السلام، ومع ذلک

ص:46

کانوا یعتقدون ان قتله (معاذ الله) طاعة لله سبحانه وتعالی وتقرباً إلیه، ویبدو لی أن الطابع العام لهذا الجیش کان من هذا القسم، والدلیل علی ذلک مجموعة الشعارات التی أخذت تنطلق من حناجر قادة هذا الجیش وقاعدتهِ کقولهم: یاخیل الله ارکبی وبالجنة أبشری ودوسی صدر الحسین علیه السلام وقول رجل منهم للحسین «ألا تری یا حسین إلی ماء الفرات یلوح کأنه بطون الحیّات، والله لا تذوق منه قطرة حتی ترد الحامیة فتشرب من حمیمها»(1) وقول ابن حوزة «یا حسین أبشر فقد تعجلت النار فی الدنیا قبل الآخرة»(2) وقولهم «أحرقوا بیوت الظالمین»(3) وما شاکل ذلک من الشعارات التی رفعوها ظلماً وعدواناً، کما رفعتها قبل ذلک الخوارج فی قتالهم علی بن أبی طالب علیه السلام، إلی أن ضرب فی مسجد الکوفة ومنادیهم ینادی «الحکم لله»(4).

القسم الثانی: طلاّب الدنیا وعبّادها: وهذا القسم کان یمثل جماعة لیست بالقلیلة فی ذلک الجیش، حیث کانت تعرف الحق وتمیزه عن الباطل، ولکن الذی حال بینهما وبین العمل علی وفق هذه المعرفة، هو حبها لهذه الدنیا وعبادتهم لها، وهم المعنیون بقول سید الشهداء «الناس عبید الدنیا والدین لعق علی ألسنتهم

ص:47


1- (1) . اللهوف فی قتلی الطفوف لابن طاوس: / 177.
2- (2) . البحار للمجلسی 301:45.
3- (3) . التاریخ للمظفری: 228.
4- (4) . مقاتل الطالبیین لأبی الفرج الاصفهانی: 21.

یحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محّصُوا بالبلاء قلّ الدیّانون»(1).

وقد عرفهم معاویة، وتعامل معهم علی وفق هذه المعرفة. یقول العلامة الأمینی وهو یتحدث عن وفد المغیرة بن شعبة الذی أرسله إلی الشام من الکوفة لتأیید فکرته فی تعیین یزید من بعده خلیفة للمسلمین: «وسار المغیرة حتی قدم الکوفة وذاکر من یثق إلیه ومن یعلم أنه شیعة لبنی أمیة أمر یزید فأجابوا إلی بیعته فأوفد منهم عشرة ویقال أکثر من عشرة، وأعطاهم ثلاثین ألف درهم وجعل علیهم ابنه موسی بن المغیرة، وقدموا علی معاویة فزینوا له بیعة یزید ودعوهُ إلی عقدها، فقال معاویة: لا تعجلوا بإظهار هذا وکونوا علی رأیکم، ثم قال لموسی: بکم اشتری من هؤلاء دینهم؟ قال: بثلاثین ألفاً قال: لقد هان علیهم دینهم(2). نفس هذه الجماعات تحوّلت إلی أداة طیّعة بید یزید وعبید الله بن زیاد، بعد ما لوّحا لهم بالمال والمناصب والاغراءات الأخری، ومن أمثلة هؤلاء فی الجیش هو خولی بن یزید الأصبحی أو سنان (علی اختلاف الروایات) حیث أدخل رأس الحسین علی عبید الله بن زیاد وهو یقول:

املأ رکابی فضةً أو ذهبا إنی قتلت السید المحجبا

قتلت خیر الناس أماً وأبا وخیرهم إذ ینسبون نسبا(3)

وقول مسروق بن وائل الحضرمی: کنت فی أول الخیل لعلّی أصیب رأس

ص:48


1- (1) . بحار الأنوار للعلامة المجلسی 382:44.
2- (2) . حیاة معاویة بن أبی سفیان للعلامة الأمینی: 92.
3- (3) . بحار الأنوار للعلامة المجلسی 322:44.

الحسین فأحظی به عند ابن زیاد، فلما رأیت ما صنع بابن حوزة....(1).

القسم الثالث: المکرهون: وهؤلاء خرجوا خوفاً من ابن زیاد، أن یبطش بهم بعد ما أعلن عن النفیر العام إلی داخل الکوفة، واخذت الشرطة تفتش عن کل من لا یرید الخروج لحرب الحسین علیه السلام، وهذه الفئة هم الذی عناهم الفرزدق بقوله «قلوبهم معک وسیوفهم علیک»(2) ، ولا شک أن هؤلاء وإن کانوا مُکرهین إلا أنهم محاسبون علی عملهم ومستحقون للعذاب، فإنهم خذلوا الحق من جانب وأکثروا سواد الباطل من جانب آخر، ولذلک تجد أن الإمام الصادق علیه السلام قد لعن هذه الفئة بشکل واضح فی زیارته الشریفة للإمام الحسین بقوله: ولعن الله أمة أسرجت وألجمت وتنقبت(3) (وهی المکرهة الخائفة من الفضیحة).

نعم هناک فی هذا القسم من کانوا مکرهین کغیرهم، ولکنهم کانوا مختلفین تماماً فی حیثیة هذا الإکراه حیث رأوا بأن أفضل السبل للوصول إلی الحسین علیه السلام هو بالخروج معهم فی هذا الجیش، والتظاهر بالتأیید لهم مع کراهیة الخروج الآثم والملعون والمطرود من رحمة الله تعالی لهم بخلاف کراهیة غیرهم من أصحاب هذا القسم حیث کانوا مکرهین ولکنهم فی نهایة المطاف قاتلوا وقَتَلَوا وقُتّلوا.

وبعد هذه الإطلالة السریعة علی جیش بنی أمیة نعرف ان الشهید زهیر بن سلیم الأزدی إنما هو فی القسم الثالث وفی خصوص المجموعة الثانیة منه لا الأولی، وأمّا

ص:49


1- (1) . مقتل الحسین للسید المقرم: 282.
2- (2) . أزمة الخلافة والإمامة/ أسعد وحید القاسم: 133.
3- (3) . مفاتیح الجنان/ زیارة وارث.

ما ذکره العلماء فی تأخیر هذا الالتحاق للشهید الکربلائی حتی اللیلة العاشرة من المحرّم، فإن مثل هذا الأمر ربما یعود إلی شدة العیون والجواسیس المبثوثة فی هذا الجیش لقتل کل من یرید الالتحاق بالحسین علیه السلام، لاسیما بعد ان حصلت حالات الالتحاق لمجموعة من الأفراد قدّرتها بعض الروایات ب - (32) رجلاً(1) فقط فی لیلة العاشر من المحرّم، فضلاً عن حالات الالتحاق الفردیة والتی کانت قد بدأت منذ نزول الحسین فی کربلاء فی الیوم الثانی من محرّم عام 61 ه -.

وعلیه فقد کانت الظروف کلها لا تسمح للانتقال خلال الحقبة المتقدمة، لاسیما لشخصٍ ذی منزلةٍ اجتماعیة ودینیة کبیرة کزهیر بن سلیم الأزدی حتی إذا ما جاءت لیلة العاشر وسنحت فرصة الفرار من هذا الجیش، فرَّ بشکل سریع والتحق بالحسین علیه السلام.

الشهادة بین یدی الحسین علیه السلام: وصل الشهید إلی إبی عبد الله الحسین علیه السلام لیلة العاشر من المحرّم، وهو علیه السلام یقرأ القرآن، وکأنی به وقد وقف علی باب خیمته مسلماً علیه، قام إلیه الحسین مرحباً به ومهنئاً له علی هذا القدوم وبعد أن تزود من النظر إلی وجه الإمام علیه السلام، مال إلی انصار أبی عبد الله مسلماً علیهم، لاسیما الازدیین منهم، ثم اکمل معهم تهجدهم وعبادتهم التی کانوا علیها، استعداداً للقاء الله تعالی.

وما إن جاء الصباح حتی صفهم الحسین علیه السلام للحرب فکانوا کالبنیان المرصوص الذی مدحه القرآن بقوله:

ص:50


1- (1) . اللهوف فی قتلی الطفوف، والمجلسی فی البحار: 394/44.

«إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الَّذِینَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِهِ صَفًّا کَأَنَّهُمْ بُنْیانٌ مَرْصُوصٌ 1» .

صفهم الحسین علیه السلام للحرب فکانوا کالدرع الحصین للدین وللحسین علیه السلام حتی لم یسمحوا لأنفسهم ان یصاب سیدهم وإمامهم بأی سوءٍ أو أذی وهم أحیاء ینظرون إلیه وبینما هم وقوف کالسد المنیع، وقد منعهم الحسین ان یبدأوا القوم بالقتال إذ نادی عمر بن سعد «اشهدوا لی عند الأمیر عبید الله بن زیاد أنی أول من رمی ثم رمی الناس من بعده»(1) فجاءت السهام علی أصحاب الحسین علیه السلام کأنها زخات المطر لکثرتها ثم هجموا علیهم هجوماً واسعاً ومن جمیع الجهات، فصمدوا لهم وأوقعوا فیهم خسائر کبیرة مع کثرة العدد وتنوّع السلاح، ولکنها فی نفس الوقت خلّفت أکثر من (50) صریعاً من أصحاب الحسین علیه السلام، عندها ناداهم الحسین «قوموا إلی الموت الذی لابد منه فإنّ هذه السهام رسُلُ القوم إلیکم»(2) ، فقاموا وکان الحسین قد دعاهم إلی مأدبة لذیذة (وقد کانت لذیذة حقاً عندهم) لأنهم سیستقبلون فیها رضا الله ونعیمه.

ولقد کان من جملة من سقط شهیداً فی هذه الحملة التی عرفت (بالحملة الأولی) الشهید زهیر بن سلیم الازدی.

سقط إلی الارض بعد ان أعطی کل ما یملک لله عز وجل منذ دخوله إلی

ص:51


1- (2) . مثیر الأحزان لابن نما: 31.
2- (3) . اللهوف فی قتلی الطفوف للسید ابن طاوس: 56.

دین الإسلام وإلی یوم العاشر من المحرم، فاستحق الوسام العظیم من الإمام المهدی فی زیارته المبارکة بقوله «السلام علی زهیر بن سلیم الازدی»(1).

ص:52


1- (1) . بحار الأنوار للعلامة المجلسی 72:45.

الشهید عمّار بن أبی سلامة الدالانی رحمه الله

اشارة

صحابی جلیل من أصحاب رسول الله علیهما السلام، صاحب وعی وبصیرة کبیرة، وکان هو وقومه مضرب المثل فی الشجاعة، باع کلّ شیء من أجل الحسین، قادته معرفته بالحسین إلی أن یبذل الغالی والنفیس؛ والمال والولد العزیز، للوصول إلی ساحة کربلاء والوقوف أمام أولئک الطغاة، حتی سفک فی سبیل الله دمه الطاهر، وهذه میزة یمتاز بها شهداء کربلاء بشکل عام، وخصوصاً الشهید الدالانی.

منزلة أصحاب الحسین الاجتماعیة والزهد فی الدنیا ومع الناس

اشارة

لاسیما إذا ما علمنا أنّهم جمیعاً لم یکونوا یعیشون فی زوایا المجتمع وعلی هامش الحیاة، بل کانوا یعیشون فی القلب، بل إنّهم کانوا من أصحاب النفوذ الاجتماعی والدینی، ولهذا کانت مهامّهم الدنیویة أکبر من غیرهم، وینبغی علی هذا الأساس أن یکونوا متعلّقین بالدنیا أکثر، ولکنّهم لم یلتفتوا إلی ذلک کلّه، وعدّوه أمراً حقیراً وثانویاً أمام نصرة المبدأ وأمام الوقوف إلی جانب الحقّ وإن استلزم ذلک التضحیة بکلّ الامتیازات السابقة.

ص:53

فی حین أنّ الناس الآخرین والذین کانوا یعیشون معهم، سقطوا فی هذا الامتحان، فتراهم آثروا حیاتهم الدنیا، وأموالهم وأولادهم ومناصبهم، علی الوقوف إلی جانب المبدأ، وهذه هی مشکلة الناس دائماً قدیماً وحدیثاً.

وهی نفس المشکلة التی واجهت الناس فی موقفهم تجاه الحسین، إنّها لم تکن مشکلة قلّة وعی وبصیرة سیاسیة، کما یحاول أن یصوّرها البعض، ولا أنّها مشکلة عدم معرفة بالحسین ولا بیزید، أبداً؛ لقد کانوا یعرفون الحسین حقّ المعرفة:

أملأ رکابی فضّة أو ذَهَبا إنّی قتلت السیّدَ المحجّبا

قتلتُ خَیرَ الناس أُمّاً وأبا(1)

نعم، کانوا یعرفون الحسین.

ومن لا یعرف الشمس فی رابعة النهار ولا القمر فی لیلة کماله وتمامه ولکنّ هذه المعرفة کانت معرفة سطحیة لم تصل إلی العمق، لم تصل إلی القلب، إنّها لقلقة لسان، إنّها بعبارة أخری معرفة نسب دون المضمون.

ومن جملة آثار هذه المعرفة البسیطة أنّها تسقط أمام أی إغراء دنیوی یوجّه إلیها، وتنهار أمام أیّ خوف یلوح به أمامها، ولا یصمد صاحبها حتی تراه بعد ذلک فی رکاب الظلمة أو هو من الظلمة.

ص:54


1- (1) ینابیع المودّة للقندوزی: 424/2.
مشکلة الناس مع الحسین علیه السلام

مشکلة الناس فی موقفهم تجاه الحسین هی الدنیا بکلّ ما تحمل من أبعاد؛ شخص یخاف علی نفسه وآخر یخاف علی أسرته وآخر یخاف علی ابنه وذاک یخاف علی منصبه وهذا یخاف علی أمواله، هذا من جانب ومن جانب آخر هناک الأموال والمناصب والذهب والفضّة، والتی وعدهم بها یزید بن معاویة وعبید الله ابن زیاد، ولهذا یقول بعض العلماء: نحن نحمد الله عزّ وجلّ ونشکره أنّنا لم نکن حاضرین یوم عاشوراء، لأنّنا اذا لم نکن من أهل الزهد وکنا نلهث وراء هذه الدنیا ولا نلتفت إلی حرماتها وحدودها التی دعانا الله إلی أن نقف عندها، کما هو شأن الکثیر الکثیر منّا وللأسف الشدید.

أقول لو کنّا علی هذه الشاکلة فی کربلاء لکنّا إلی جانب عمر بن سعد (معاذ الله) ولنصرنا یزید وعبید الله بن زیاد، ولترکنا نصرة ابن رسول الله، خوفاً من أن نترک هذه الدنیا، کما قالها بشکل صریح عبید الله بن الحرّ الجعفی: «سیدی، إنّ نفسی لا تسمح لی بالموت»(1).

نعم، لکان لنا موقف أقلّه أن یکون هو موقف عبید الله بن الحرّ. ولهذا نسأل الله أن لا یعرّضنا إلی امتحان کهذا، وإلی فتنة کبیرة لا نکون قادرین علی الخروج منها منتصرین، بینما تجد فی قبال هذا کلّه، ذلک المثل الأعلی والقدوة الأسمی فی من سار مع الحسین، حیث کان الحسین أحبّ إلیهم من کلّ شیء أحبّ الیهم من النفس والمال والولد والزوجة والشهرة والمنصب، وکلّ المفردات التی ربّما

ص:55


1- (1) الإرشاد للشیخ المفید: / 226.

یسقط، وسقط فیها الکثیرون، قدّموا نفوسهم قرابین بین یدی الحسین، فصاروا مصداقاً لامتثال أمر الله تعالی وما حذّرهم منه فی قوله:

«قُلْ إِنْ کانَ آباؤُکُمْ وَ أَبْناؤُکُمْ وَ إِخْوانُکُمْ وَ أَزْواجُکُمْ وَ عَشِیرَتُکُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ کَسادَها وَ مَساکِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَیْکُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّی یَأْتِیَ اللّهُ بِأَمْرِهِ 1» .

فکان هم الذین قدّموا الدین والإسلام والإمام علی کلّ المفردات التی ذکرتها الآیة الکریمة، ففازوا وسعدوا، یقول الشاعر:

بأبی مَنْ شَروا لقاءَ حُسَینٍ بفِراقِ النُّفوسِ والأرواحِ (1)

وأی نفوس هی؟ إنها النفوس الکبیرة، کَمَنْ نتحدث عنه، وهو الشهید عمّار ابن أبی سلامة الدالانی، الذی کان من أجلاء أصحاب رسول الله، والذی ناهز عمره، أو عبر السبعین عاماً، والذی سیتبیّن لنا من خلال الحدیث عنه کم کان یحمل من الولاء والإیمان الصادق والإخلاص للحسین علیه السلام.

أقوال العلماء فیه

1. ابن حجر العسقلانی فی الإصابة: «عمّار بن أبی سلامة بن عبد الله بن عمران بن رأس بن دالان الهمدانی، ثمّ الدالانی، له إدراک، وکان قد شهد مع

ص:56


1- (2) مجمع المصائب: 285/1.

علی علیه السلام مشاهده، وقتل مع الحسین بن علی بالطفّ. ذکره ابن الکلبی».(1)

2. الشیخ السماوی، فی إبصار العین: «هو عمّار بن أبی سلامة بن عبد الله بن عمران بن رأس دالان، أبو سلامة الهمدانی الدالانی، وبنو دالان بطن من همدان».(2)

3. الإکلیل للهمدانی: «ودالان بطن من همدان، منهم بنو عُرار بضمّ العین وعُرار بن رأس بن دالان».(3)

4. وسیلة الدارین: «عمارة بن أبی سلامة الدالانی الهمدانی من أصحاب الحسین، قتل معه فی کربلاء».(4)

5. ابن الأثیر فی الکامل: «کان عمارة بن أبی سلامة الدالانی من خواصّ أمیر المؤمنین، ومن المجاهدین بین یدیه فی حروبه الثلاثة».(5)

أسرة الشهید (بنو دالان فتیان الصباح)

إنّ الشهید الکربلائی یرجع کما تقدّم إلی بنی دالان والذین هم بطن من همدان وقد عُرِفت بنو دالان بین العرب بأنهم فتیان الصباح والذین یقول فیهم الراجز:

ص:57


1- (1) الإصابة: 5 / ح 6466.
2- (2) إبصار العین: / 104.
3- (3) الإکیل فی أنساب حِمْیَر: 10-87-101.
4- (4) وسیلة الدارین: 172.
5- (5) عن وسیلة الدارین: 172.

حَیّاکمُ اللهُ وحیّا شاکرا قوماً یُغَذّون الدخیلَ باکرا

ویؤْثِرونَ الضیفَ والمُجاورا(1)

وقد سکن بنو دالان فی الأصل بالیمن علی أساس أنّهم یرجعون إلی همدان، وهی من سکنة الیمن، ثمّ بعد ذلک انتقلوا إلی الکوفة، وعُدّوا من أهلها کما یؤکّد علی ذلک الدارقطنی والسمعانی فی کتاب الأنساب(2).

بنو دالان والمآثر الاخلاقیة

اشارة

وقد تمیّزت دالان وأبناؤها بالشجاعة والکرم وإقراء الضیف، وسائر الخصال والمآثر الأخلاقیة، ولقد کان لبعضهم أیادٍ واضحة وآثار بادیة فی هذا المجال، کعبد الله بن عُرار الدالانی وأخوه الأصمّ اللَّذین، عُرفا بأنّهما فارسا همدان، وکذلک مالک بن الحریم الدالانی شاعر همدان وفارسها وصاحب المغازی فیها، وهو مفزع الخیل، کما عُرِفَ بأنّه أحد وصّافی الخیل عند العرب، فضلاً عن شعره الذی اشتهر به والتی من جملة أشعاره المیمیة الرائعة والتی یقول فیها:

متی یَطلبِ المجدَ المُمَنَّعُ بالقنا یَعشْ ماجداً أو تخترمْهُ المخارمُ

متی تَجْمَعِ القلبَ الذکیَّ وصارماً وأنفاً حمیّاً تجتنبْکَ المظالمُ

وکنتُ أذا قومٌ غزونی غَزَوتُهمْ فهل أنا فی ذا یا آل همدان ظالمُ (3)

ص:58


1- (1) الإکلیل فی أنساب حِمْیَر: 17.
2- (2) الأنساب للسمعانی: 45/2.
3- (3) مقاتل الطالبیین: / 129.

وهو یشیر من خلال هذه الأبیات إلی أن الحقوق لا تسترّد إلا بالقوة، لأنّ الطرف الثانی لا یعرف إلّا القوة، وقد یقول أحدهم إنّ هذا المنطق هو منطق جاهلی مرفوض! کلا، إنّه منطق إسلامی إنسانی عقلائی سویّ.

ألیس کلنا یقرأ قول الله تعالی:

«أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَیْلِ 1» .

وکذلک قوله تعالی:

«وَ لَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الْأَلْبابِ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ 2» .

وهکذا فی آیات أخری، فضلاً عن الروایات الشریفة حیث دعت کلّها إلی أن یکون الإنسان المؤمن فطناً کیّساً محتاطاً مُعدّاً بکلّ الوسائل التی من شأنها أن تحفظ دینه ودمه وعرضه وماله ووطنه من الضیاع.

ولکنّه مع ذلک کان یدعو من جهة أخری إلی استعمال منطق السلم والحوار والدعوة إلی الله بالتی هی أحسن، کما فی قوله تعالی:

«إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ 3» .

وقوله تعالی:

«اُدْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ 4» .

ص:59

ففی الوقت الذی یوصی فیه القرآن الکریم باستعمال القوة والقسوة مع الکافرین.

«أَشِدّاءُ عَلَی الْکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ 1» .

یوصی کذلک بالحلم واللین والصبر والاستیعاب للآخر.

ولکن کلّ فی مکانه وزمانه؛ فاللیّن والصبر والحلم والأناة مع من یعرفها ویتفاعل معها ویتأثر بها، ولکن هناک مَنْ لا یفهم إلاّ منطق القوة وإلّا السیف والعصا. وهذا المنهج هو منهج العقلاء فی کلّ الدنیا وحتی فی عالم التربیة تجده واضحاً شاخصاً. بل إنّه المنهج الذی یتعامل به کلّ إنسان فی بیته مع أولاده، حیث یستعمل اللین مرّة والقوة مرّة من أجل الحفاظ علیهم.

ما کره قوم حرّ السیوف إلا ذلوا

یُنقل کما فی تاریخ دمشق(1) ، «أنّ زکریا بن أبی زائدة یقول: حججت ثمّ أتیت المدینة فدخلت علی زید ابن الإمام زین العابدین، وما إن دخلت علیه حتی سمعته یتمثل بهذه الأبیات لمالک بن الحریم الدالانی، وکان قد جاء لتوّه من هشام ابن عبد الملک، والذی أسمعه کلمات نابیة وقاسیة فی ذلک اللّقاء الذی یُنقل أنّه قال له: «أنت المؤهِّل نفسک للخلافة الراجی لها، وما أنت وذاک لا أمّ لک، وإنّما

ص:60


1- (2) زید الشهید: 47.

أنت ابن أمة»، فخرج من عنده وهو یقول: «ما کره قوم حرّ السیوف إلاّ ذلوا».(1)

مسجد بنی دالان فی الکوفة

ولقد کان لبنی دالان من الشهرة بین المسلمین فی الکوفة بدرجة کبیرة، حتی أنّهم بنوا مسجداً لهم عُرف فیما بعد بمسجد بنی دالان، ولم یکن هذا الأمر لیحصل فی الأعمّ الأغلب لولا ثقلهم الاجتماعی الکبیر، وینقل أنّ إمام المسجد الذی کان یُصلی فیه هو أخو الشهید الکربلائی، وهو حمزة (أبو أیّوب) بن أبی سلمة أو سلامة الدالانی.(2)

بل کان فیهم العلماء والفقهاء والرواة، ومنهم علی سبیل المثال لا الحصر أبو خالد یزید بن عبد الرحمن بن أبی سلمة الدالانی، وهو من أولاد عمّ الشهید الکربلائی، وهکذا الکثیر من أسرته الذین عرفوا أو تمیّزوا فی میادین مختلفة.

والد الشهید أبو سلامة

اشارة

وأمّا أبوه أبو سلمة، أو أبو سلامة الدالانی، فینقل السمعانی(3) أنّه کان من الصحابة ومن الموالین لأمیر المؤمنین، وممّن وقف إلی جانبه فی حروبه الثلاثة، وینقل عنه موقف مهم وفی غایة الدقة وهو ذاهب إلی حرب الجمل مع الإمام

ص:61


1- (1) نفس المصدر.
2- (2) التاریخ الکبیر للبخاری، باب حمزة: / 187.
3- (3) کتاب الأنساب: 450/2.

أمیر المؤمنین، حیث ینقل صاحب کتاب الکامل(1) قائلاً: «ثمّ خطب علیٌّ خطبة، ثمّ قام الیه الأعور المنقری فسأله عن اقدامهم علی أهل البصرة؟ فقال: «علی الإصلاح وإطفاء النائرة لعلّ الله یجمع شمل هذه الأمة بنا ویضع حربهم» قال: فإن لم یجیبونا؟ قال: «ترکناهم ما ترکونا» قال: فإن لم یترکونا؟ قال: «دفعناهم عن أنفسنا» یقول: ثمّ قام الیه أبو سلامة الدالانی (والد الشهید الکربلائی) فقال: یا أمیر المؤمنین، أتری لهؤلاء القوم حجّة فیما طلبوا من هذا الدم إن أرادوا الله بذلک؟ فقال: «نعم»، ثمّ قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلینا غداً؟ قال: «إنّی لأرجو أن لا یقتل منّا ومنهم أحد نقّی قلبه لله إلاّ أدخله الله الجنّة».

ولنا حول هذه الروایة مجموعة من النقاط لابدّ من ذکرها

أولاً: الروایة وردت بطریق وبشکل آخر، عن عمّار بن أبی سلامة ولیس أبو سلامة، وسوف أذکرها فیما بعد.

ثانیاً: یبدو من خلال النصّ أنّ الإمام فی حدیثه إن صحّت الروایة والنسبة إلی والد الشهید الکربلائی - معه ناظر إلی تلک الجماعات المضلَّلة تحت تأثیر الدعایات الکاذبة والمغرضة، من أجل المطالبة بدم عثمان، والتی سقط فیها قوم وتحوّلوا إلی مطیّة رکبها جماعة من الناس ممّن کانوا یسعون إلی تحقیق أهداف شخصیة، من قبیل طلحة والزبیر ومروان وغیرهم.

ومن هنا نفهم کم بذلت الماکنة الإعلامیة الأمویة آنذاک من جهود من

ص:62


1- (1) ابن کثیر: فی ذکر مسیر علی إلی البصرة.

أجل بث تضلیلات وأکاذیب لتهییج الرأی العامّ علی الإمام أمیر المؤمنین، والتی ذهب ضحیّتها بعض الناس ممّن کانوا یعیشون الإخلاص فی علاقتهم بالله تعالی، کزهیر بن القین، إلی أن هداه الله وتبیّن له الحقّ من الباطل، وإلا فالرجل کان متأثّرا قبل هذه الحقبة بتلک الشعارات.

مذهب أهل البیت وشیعتهم مظلومون عبر التأریخ

والشیء بالشیء یذکر، فإنّ مذهب أهل البیت وشیعتهم عُرفوا عبر التأریخ - وهذا ما تؤکّد علیه العشرات بل المئات من القرائن -، بأنّهم کانوا أکثر الفئات اضطهاداً وملاحقة من قبل الحکومات المتعاقبة ولم یُعطوا حتی ولو جزءاً من حقوقهم، وعاشوا حالهم حال الأقلیات فی بلدانٍ هم أکثریة فیها. ولم تصدر من أئمّة أهل البیت ولا علمائهم ولا شیعتهم ما یدعو إلی تکفیر الطرف الثانی واستباحة الأموال والأنفس لهم، کما صنعوا هم مع الشیعة، ومع ذلک تجد أنّ ماکنة الإعلام التی بذلت الجهود الکبیرة حاولت أن تصوّر بأنّ الشیعة هم من یخشی منهم علی أهل السنّة ولیس العکس، وإن کنت أنا أؤمن أن لیس کلّ السنّة من یرضی بما یقوله هؤلاء الطائفیّون، ولکن ومع ذلک کلّه نجد أنّ الإعلام کان له دور کبیر فی تحویل المظلوم إلی ظالم والظالم إلی مظلوم.

وهذا نفسه ما جری مع علی بن أبی طالب ذلک العملاق الذی کان ینبغی إن حصل خلاف حول شخصٍ بعد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أن لا یحصل فیه، وذلک لغناه عن التعریف، ولکثرة الروایات والأحادیث المتواترة التی تتحدّث عنه وعن فضله ومواقفه وخدماته وعلمه وعبادته وزهده وورعه، ولکن مع ذلک لم

ص:63

یسلم من هذا الإعلام المضلّل، وبخاصة ذلک الإعلام المسموم الذی سعی له معاویة، بحیث سخّر الرواة والمحدّثین ممّن عرفوا عبر التاریخ بأنّهم من وعاظ السلاطین.

سخّرهم معاویة لتزویر الحقائق وخلط الأوراق وتضلیل الأمة الاسلامیة، وإنّه إنّما أراد بذلک کلّه تشویه وجه الحقیقة بدعوی الأخذ بثأر عثمان، مع أنّ معاویة وآل أبی سفیان وبنی أمیة أنفسهم هم السبب الحقیقی وراء مقتل الخلیفة، وما جری علیه وعلی الأمة الإسلامیة بسببه من مآسٍ وویلات.

وعلی أیّة حال فإنّ أمیر المؤمنین علیه السلام کان ناظراً فی حدیثه مع أبی سلامة الدالانی إلی هذه الجماعات المضلّلة، والتی کان أمیر المؤمنین یرجو أن ترعوی عن غیّها، والتی یشعر أنّه لو حاورها وترک له المجال فی ذلک لأقنعها عن غیّها، ولهذا یقول: «إنّی لأرجو أن لا یقتل منّا ومنهم أحد نقّی قلبه لله إلاّ أدخله الله الجنّة» علی أساس أنّه فی واقعه جاء مخلصاً من دون مصالح، ولکنّه مضلّل بسبب الإعلام (مع إیمان الإمام علیه السلام بأنّ الخلیفة الثالث عثمان کان مستحقّاً للعزل وللسجن وللمعاقبة، ولکنه ربّما کان لا یعتقد أنّ الأمور یجب أن تصل إلی القتل.

ولکنّ الأمة کانت غاضبة وثائرة نتیجة هذه الأفعال التی صدرت منه، والتی خرج فیها حتی علی أبسط الأعراف والتقالید، ومن ثم کانت ردّة الفعل قویة أدّت إلی أن تصل الأمور إلی ما وصلت الیه، مع أنّ الذین قاموا بهذا العمل لم یکونوا من شذّاذ الأمة کما یحاول أن یصوّرها بعضهم وهو یتحدث عن هذه الفتنة وملابساتها، بل کانوا من أصحاب رسول الله علیهما السلام ومن أهل السوابق الإیمانیة

ص:64

والجهادیة(1).

ولکنّهم رأوا بأنّ هذا الأمر قد خرج عن حدّه، ولا یمکن أن یستمر إلی غیر نهایة، وهم یرون الخلیفة یتمادی فی ظلمه وجوره، غیر آبه لما یصنعه بنو أمیة من حوله، فکانت النتیجة بهذه الفظاعة، ولهذا کان الإمام یؤمن بأنّ الحدود تدرأ بالشبهات کما هو رأی الإسلام، وبما أنّ هؤلاء کانوا جادّین فی الإصلاح، وکانت الأبواب کلّها مغلقة بوجههم، وخصوصاً بعد تحرّک الإمام أمیر المؤمنین، وعدم وفاء الخلیفة الثالث بوعوده إلیه، فکان الإمام یری أنّ هؤلاء لا یمکن أن یطبّق علیهم الحکم، ومن ثم لا یمکن أن تقع علیهم العقوبة.

وإن کانت هناک روایات تشیر إلی أنّ الإمام أمیر المؤمنین کان یری أنّه لو یتمّ تأخیر الأمر مدّة وجیزة من الزمن ریثما تهدأ الأمور ویستطیع أن یتحرّک ویطالب بالتحقیق فی هذه القضیة(2) التی توجد لها ملابسات خاصّة جداً لا یمکن أن یُبتّ فیها بشکل سریع من دون دراسة متأنیة للأحداث.

هذا کلّه اذا قبلنا روایة الکامل فی التاریخ، ولکنّنا نقول إنّ هناک روایات أخری تؤکّد علی أنّ الذی تحدّث مع الإمام علی علیه السلام لم یکن الأب، بل هو الشهید الکربلائی نفسه، وهو ذاهب مع الإمام أمیر المؤمنین إلی حرب الجمل،

ص:65


1- (1) للمزید راجع کتاب: یوم انحدر الجمل من السقیفة، لنبیل فیّاض: 80 وما بعدها.
2- (2) یقول نبیل فیاض فی کتابه «یوم انحدر الجمل من السقیفة»: ولکن نقطة الضعف فی موقف علی کانت علاقته بمحمد بن أبی بکر الذی أشارت أصابع الاتهام الیه فی قضیة عثمان لکن ربما استعمال عائشة وصحبها الفتنة فی الجمل لم یترک له مجالاً لیبحث دقیقاً فی مسألة قتل الخلیفة: 10.

حیث ینقل أبو جعفر الطبری وهو یتحدّث عن عمّار بن أبی سلامة الدالانی «وکان من أصحاب علی والمجاهدین بین یدیه فی حروبه الثلاث، وهو الذی سأل أمیر المؤمنین عندما سار من ذی قار إلی البصرة، فقال یا أمیر المؤمنین، إذا قدمت علیهم فماذا تصنع؟ فقال: «أدعوهم إلی الله وطاعته، فإن أبوا قاتلتهم»، فقال أبو سلامة»(1) - وهنا یظهر الوعی والفهم والبصیرة، حیث أجابه الشهید الکربلائی: «إذن لا یغلب داعی الحقّ، وفی روایة "داعی الله"»(2).

وهذا معنی ومفهوم إسلامی عظیم وکبیر، وهو أنّ الحقّ لا یمکن أن یغلب، وأنّ داعی الله سیبقی هو المنتصر علی کلّ الأحوال، وهذا مفهوم قرآنی تحدّث عنه الکتاب العزیز فی أکثر من موضع، من أجل ترسیخه فی قلوب المسلمین وعقولهم، یقول تعالی:

«إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ یَوْمَ یَقُومُ الْأَشْهادُ3» .

وإنّ کلّ عربی لَیعلم جیّداً کم فی هذه الآیة الکریمة من تأکیدات من قبل الله عزّ وجلّ، من نون مشدّدة، ومن لام للتوکید، ومن حدیث عن النصر فی الآخرة وکذلک فی هذه الدنیا، من أجل أن یستشعر العبد المؤمن أنّه فی عین الله، وأنّ الله حافظه وناصره وراعیه، ولن یخلف الله وعده أبداً.

ص:66


1- (1) یبدو أن الطبری اختصاراً قال أبو سلامة، وإلاّ فالمتحدث عنه هو عمّار بن أبی سلامة الدالانی.
2- (2) موسوعة الرکب الحسینی: 177/4.

ومن ثم فإذا کانت هناک ظروف بالغة الصعوبة یمرّ بها العبد المؤمن، أو الأمّة المؤمنة، فإنّ النتیجة سوف تکون فی صالحهم والنصر سیکون حلیفهم، شرط ان یکونوا من أهل الحقّ ومن الدعاة إلیه، یقول القرآن الکریم:

«وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ 1» .

تأکیداً لما ذکرناه آنفاً.

وأظنّ أنّ هذه الآیة الکریمة هی التی علی أساسها قال عمّار بن یاسر وهو یقاتل إلی جانب علی بن أبی طالب فی صفّین، حیث کان شادّاً وسطه بقطعة قماش إذ کان شیخاً کبیراً وقد ناهز التسعین عاماً، وکان یقول فی قتاله: «والله لو هزمونا إلی سعفات هجر لسلمت أنّنا علی الحقّ وأنّهم علی الباطل»(1) ، وکان عمّار یرید أن یقول بعبارة أخری: بل حتی لو لم انتصر مادّیاً فإنّ مفهوم الحقّ الذی أحمله والدعوة إلی الله التی خرجت من أجلها لن تنکسر، ولن تغلب، ومن ثم سأبقی أنا المنتصر دائماً مهما کانت الظروف والأحوال.

الشهید عمار بن یاسر والشهید الکربلائی عمار بن أبی سلامة الدالانی

اشارة

وما أشبه عمّار بن یاسر فی کلمته، بعمار بن أبی سلامة! والذی کذلک بلغ من العمر عتیّاً، حیث یقول:«إذن لن یغلب داعی الحقّ» ولهذا تری هذا الرجل وقف إلی جانب علی بن أبی طالب لإیمانه بأنّ «علیّاً مع الحقّ، والحقّ مع

ص:67


1- (2) تاریخ ابن الأثیر: 308/3.

علی» (1). کما قال رسول الله علیهما السلام. وقد أبدی عمّار فی وقوفه إلی جانب علی علیه السلام شجاعة منقطعة النظیر، حتی أنّ صاحب الإکلیل فی أنساب حمیر(2) ینقل عن الشهید الکربلائی مواقفَ فی أعلی درجات الشجاعة، بحیث تحولت فیما بعد إلی مثل یحتذی به، کما فی الروایة التی یذکرها وهو یتحدّث عن معیوف بن یحیی الذی کان سیّد أهل الشام دهره کلّه، وقد أنقذ هارون الرشید وهو یومئذ ولی عهد، بعد أن مرّ هارون بأرض الروم، وقد جاز فی وادٍ لا منفذ له ولا مخرج إلّا باب واحدة، وکانت الروم علی تلک الباب واذا بمعیوف بن یحیی یقاتل کلّ تلک الجماعات لوحده ویخرج هارون الرشید سالما من أیدیهم، وقد حفظها هارون له وشکرها، حیث ولّاه علی فلسطین بعد أن صار خلیفة.

شجاعة متمیزة للشهید الدالانی

ثمّ یقول صاحب الإکلیل: «ویشابه هذا الرجل فی الشجاعة والموقف عمّار بن أبی سلامة الدالانی (الشهید الکربلائی) الذی خرج إلی الحسین من الکوفة لمّا بلغه مقدم الحسین علیه السلام، وکان عبید الله بن زیاد قد جهّز کلّ أهل الکوفة للخروج، وجعل زحر بن قیس الجعفی فی خمسمائة فارس وأمره أن یقیم بجسر الصراة(3) ، یمنع من أن یخرج أحد من أهل الکوفة، فمرّ به عمّار، فقال زحر له: قد عرفت حیث ترید فارجع، واذا بالشهید الکربلائی یحمل علیه

ص:68


1- (1) الغدیر: 252/3.
2- (2) الإکلیل، للهمدانی: 40-41.
3- (3) یبدو أنّه کان قریباً من بابل کما فی بعض المصادر.

وعلی أصحابه ویهزمهم ویعبر الجسر، وما منهم من أحد استطاع أن یدنو منه ولا یطمح أن ینظر إلیه».

والملفت للنظر أنّ صاحب الإکلیل ذکر الشهید الکربلائی بین موقفین متمیّزین فی الشجاعة؛ الأول کان مع معیوف بن یحیی المتقدّم، ثم قال:«ومثل عمّار فی موقفه مثل موقف أبی میسرة، حیث کان من علیة أصحاب علی ومن فرسانه المعدودین، حیث وجّهه فی بعض الثغور کطلیعة وحده، فلقیته طلیعة العدّو وهم خمسة وعشرون فارساً، فشدّ علیهم وشدّوا علیه، فقتل بعضاً وهزم بعضاً، ثمّ عاد فسألوه عن حالهم، فما کاد یقرّ بقتلهم، احتقاراً لما صنع»(1).

فذکر عمّار بن أبی سلامة الدالانی بین هذین الموقفین لیدل دلاله قاطعة وکبیرة علی أنّه کان یحمل مستوی من الشجاعة عالیاً جداً، حیث ما کان یخشی فی الله لومة لائم، بل إنّه ما کان یری أمامه إلّا مجموعات من الناس صغیرة مع کثرتهم، وربّما إلی ذلک تشیر الآیة الکریمة:

«یُقَلِّلُکُمْ فِی أَعْیُنِهِمْ 2» .

ولهذا لم تستطع هذه الأقزام الوقوف أمام هذا البطل العظیم الذی أرعبها إیمانه وشدّة بأسه، بحیث إنّها لم تستطع أن تنظر الیه وهو یعبر جسر الصراة

ص:69


1- (1) الإکلیل فی أنساب حمیر: 41.

متوجهاً إلی سیّد الشهداء، وممّا یزید فی العجب - ولا عجب مع کربلاء البطولة والفداء - أنّ الرجل کان فی ذلک الیوم کبیراً فی السنّ قد ناهز أو عبر السبعین من عمره، لأن ابن حجر وهو یتحدّث عنه فی کتاب الاصابة یقول: «له إدراک لصحبة رسول الله، وشهد مع علی حروبه کلها»(1).

وهذا یدلّ علی أنّ عمره الشریف أیّام رسول الله کان علی أقل التقادیر 15 سنة، فیکون فی واقعة الطفّ ناهز السبعین عاماً، فهو إذن رجل کبیر قد أنهکته الحروب والعبادة والطاعة لله تبارک وتعالی، ومع ذلک یأتی ویُعرِّض نفسه لکلّ تلک الظروف القاسیة، ویختم حیاته بالشهادة فی سبیل الله سبحانه وتعالی.

درس کبیر من حیاة الشهید

وهذا درس لنا جمیعاً لکی لا یقول کبیرنا، فضلاً عن الصغیر، إنّی کبیر فی السنّ ولا أحتمل بذل الجهد ومن ثم أرید أن أخلد إلی الراحة وإلی النوم وإلی الابتعاد عمّا یؤذی النفس والجسد، کما هو حال الکثیر منا حینما یشعر أنّه قد هرم وکبر، ومن ثم یعطی لنفسه العذر فی أن یتقاعس عن القیام بمسؤولیّاته الدینیة.

بینما نجد فی کربلاء صور الفتوة الإسلامیة الحقیقة، وهی الصورة التی یرسمها لنا القرآن الکریم عن شیخ الأنبیاء إبراهیم، حیث یقول عنه:

«وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً2» .

ص:70


1- (1) الاصابة: 5 ح 6466.

والمعروف أنّ الإمامة مسؤولیة کبری، لا ینهض بأعبائها إلّا من هو لها أهل، وأنّ إبراهیم آنذاک کان شیخاً کبیراً، وهذا دلیل علی فتوّته ونشاطه رغم کبر سنّه، والتعبیر القرآنی «ابتلی» له دلالة واضحة علی حجم تلک المسؤولیة الکبری.

والملفت للنظر أنّ کربلاء تمیّزت بجملة من الشخصیّات الإسلامیة المسنّة أمثال حبیب ومسلم بن عوسجة، وأنس بن الحرث بن کاهل الاسدی، وشوذب، وآخرین، وهذا بحدّ ذاته یحتاج إلی بحث مستقلّ عن ظاهرة الشیخوخة الشابّة والفتیّة فی کربلاء، حتی ننهل منها الدروس فی زمن کسل فیه شبابنا وخلدوا إلی النوم والدعة، فضلاً عن الکهول.(1)

الوصول إلی کربلاء

وبعد کلّ هذه الرحلة الشاقّة والمکلفة، وصل الشهید عمّار بن أبی سلامة الدالانی إلی کربلاء(2) ، وصل وقلبه ینبض إلی لهفة اللقاء مع محبوبه، کما ینبض کلّ قلب عاشقٍ بحرکة زائدة عندما یرید أن یلقی من یحبّ.

وکأنّی به حینما وصل إلی کربلاء ورأی الحسین، جلس بین یدیه کما یجلس الطفل بین یدی أبیه، وکما یجلس التلمیذ بین یدی معلّمه، والدمعة فی عینیه تبدی ما یخفیه قلبه من شکرٍ لله تعالی علی نعمة اللقاء بالحسین وفرحة الدفاع عنه.

ص:71


1- (1) ستکون هناک أکثر من إشارة إلی هذا الموضوع ونحن نتحدث عن کهول الشهداء فی کربلاء.
2- (2) وسیلة الدارین: 172.

وکان الشهید - کما تذکر الروایات - مستعجلاً للشهادة، وفعلاً فقد وقف کالأسد مع إخوته وأحبّته من أنصار الحسین، فیما یعبّر عنه بالحملة الأولی، حیث نادی شمر بأصحابه احملوا علیهم حملة رجل واحد وافنوهم عن آخرهم، فتفرقوا یمیناً وشمالاً وجعلوا یرشقونهم بالنبل والسهام، کما ینقل أبو مخنف فی مقتله، فصار أصحاب الحسین بین شهید وجریح، وکان من جملة من سقط علی ثری الطفّ، عمّار بن سلامة الدالانی(1) ، حیث خرّ إلی الأرض کالأسد الجریح، فسلام علیه یوم ولد ویوم استشهد ویوم یبعث حیّاً، یقول السیّد هاشم الکعبی فی رثاء هؤلاء الثلّة، أبیاتاً ینقلها الأمین فی مراثیه، وهی أربعون بیتاً، منها:(2)

فوارسُ مِنْ عَلْیا قریشٍ وهاشمٍ لهم سالفٌ فی المجد یُروی ویُنقَلُ

فوارسُ إذْ نادی الصریخ تری لهمْ مکاناً بمستنِّ الوغی لیس یُجهلُ

إلی أن ثووا تحت العجاج تَلُفُّهُمْ ثیابٌ علاء منها قنیٌّ وأنصلُ

فظلَّ وحیداً واحدُ العصر فی الوغی نصیراه فیها سمهریٌّ ومنصَلُ

ص:72


1- (1) إبصار العین/ 133-134؛ وسیلة الدارین 172.
2- (2) السیّد الأمین، المراثی: 256.

الشهید شبیب بن جراد الوحیدی رحمه الله

اشارة

لم أجد حسب تتبّعی خلافاً فی اسم الشهید أو اسم أبیه، أو فی نسبه، فقد ذُکر فی معظم المصادر التی تحدّثت عنه، تحت هذا الاسم «شبیب بن جراد الوحیدی» وقد یضاف إلیه الکلابی، وهذا ما لا یغیّر من الأمر شیئاً کما هو واضح، لأنّ الوحیدی ینتهی فی نسبه إلی کلاب، وقبل أن نلج فی حیاة هذا الشهید، نذکر ما قاله العلماء فیه.

أقوال العلماء فیه

1 - قال ابن حجر فی الإصابة، وهو یتحدث عن أبیه: «جراد بن طهیة بن ربیعة بن الوحید بن کعب بن عامر بن کلاب الکلابی الوحیدی، مخضرم، أدرک الجاهلیة والإسلام، وکان ابنه شبیب مع الحسین بن علی لمّا قتل، وذکره المرزبانی»(1).

2 - قال صاحب الحدائق الوردیة «کان شبیب بطلاً من أبطال الکوفة، وکان من الشیعة، ومن أصحاب أمیر المؤمنین، له ذکر فی المغازی والحروب، خصوصاً

ص:73


1- (1) الإصابة: ج 1 ح 1278.

یوم صفّین»(1).

3 - قال النمازی: «شبیب بن جراد الکلابی الوحیدی، من أصحاب أمیر المؤمنین، ومن شجعان الکوفة، وله ذکر فی المغازی والحروب، لا سیّما صفّین، وبایع مسلماً وکان یأخذ البیعة له...»(2).

4 - وقال الزنجانی «فلمّا علم شبیب بن جراد بمقاتلة القوم مع الحسین بن علی، مال إلیه وأتاه لیلة العاشر، وانضمّ إلی العبّاس وإخوته، لأنّ أُمّ البنین من عشیرته»(3).

5 - قال ابن ماکولا(4) «شبیب بن جراد بن طهیة بن ربیعة بن الوحید بن کعب ابن عامر بن کلاب، شاعر شهد القادسیة».

والد الشهید: تحدّث المؤرّخون وأصحاب السیر، عن والد الشهید الکربلائی، حیث عَدُّوهُ من الصحابة الکبار.

یقول ابن حجر وهو یتحدّث عنه: «مخضرم، أدرک الجاهلیة والإسلام »(5).

ویبدو أنّه وفد فیمن وفد من قومه إلی رسول الله علیهما السلام، وأسلم علی یدیه،

ص:74


1- (1) وسیلة الدارین: ص 156، وقد راجعت الحدائق الوردیة فلم أجد الاسم والموجود «شبیب بن عبد الله من بین نفیل بن وارم» الحدائق الوردیة: / 25.
2- (2) النمازی فی المستدرکات فی علم الرجال: 198/3-199 ح 6808.
3- (3) وسیلة الدارین للسید الزنجانی: / 156.
4- (4) إکمال الکمال لابن ماکولا: 174/2.
5- (5) الإصابة: 1278/1.

ووقف بعد ذلک إلی جانبه فی حروبه وغزواته، بل وحتی فی تبلیغه رسالة السماء، وقد حفظ فیما حفظ من رسول الله لهذه الأمّة وصیّته لأمیر المؤمنین بالخلافة والوصایة، فعرف منذ اللحظات الأولی لإسلامه موالیاً ومشایعاً لعلی بن أبی طالب، ولأجل علوّ قدمه فی الولایة، وثبات إیمانه بالإمامة، ذکره السید عبد الحسین شرف الدین فی کتابه الفصول المهمّة وهو یتحدّث عن الأصحاب الذین عرفوا بتشیعهم وولائهم لأمیر المؤمنین وأهل البیت بشکل عام، حیث یقول:«جراد بن طهیة الوحیدی، وهو والد شبیب بن جراد، الشهید یوم الطفّ مع سیّد الشهداء علیه السلام»(1).

وقفة إلی من یهمه الأمر

وهنا لابّد لنا من وقفة نسجل فیها رسالة إلی من یهمّه الأمر، من أولئک الذین یتحاملون علی مذهب أهل البیت، یحدوهم فی ذلک الجهل إن أحسنّا الظنّ بهم، حیث یروّجون أنّ الشیعة ینالون من الصحابة ویسبّونهم، وتجدهم لا یکتبون کتاباً إلّا ویذکرون هذه الفریة، ولا یرتقون منبراً إعلامیاً إلّا ویشنّعون بها علیهم لدی عامّة الناس، خصوصاً البسطاء السذّج من الناس، لأنّه الوسط الأفضل لانتشار مثل هذه الأفکار، حیث لا متابعة للحدیث ولا تدقیق فی الکلام ولا مراجعة للمصادر، وهکذا، حتی صار المسلمون فی معظمهم، إلاّ من رحم ربّک، ینظرون إلینا وکأنّنا أناس لا نعرف للصحبة قدراً ولا للقرب من رسول الله منزلاً، مع أنّ

ص:75


1- (1) الفصول المهمة للسید شرف الدین: / 192.

کلّ هذا محض افتراء، لا أساس له من الصحّة، کیف یمکن أن یکون ذلک والقرآن الکریم یقول فی محکم آیاته:

«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِینَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَی الْکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ تَراهُمْ رُکَّعاً سُجَّداً یَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً سِیماهُمْ فِی وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ1» .

نعم، غایة ما فی الأمر أننّا لا نذهب إلی أنّ کلّ من صحب النبی علیهما السلام وجب احترامه وتقدیره، وکان محلّا لأخذ أحکام الدین والدنیا منه، کما هو نفس مقیاسنا فی التعامل مع أصحاب أئمّة أهل البیت علیهم السلام وهذالعمرک هو منطق العقل، فمن ثبتت صحبته وعمل بما تملیه علیه تلک الصحبة من التزامات، فهو ثقة عندنا، ونأخذ منه تعالیم الدین، کان ما یدّعیه هؤلاء صحیحاً، ما بالنا نقدّر سلمان وأبا ذرّ والمقداد وآخرین، وقد ذکر السیّد عبد الحسین شرف الدین، مجموعة کبیرة من الصحابة الذی عُرفوا بتشّیعهم وولائهم، فی کتابه القیّم «الفصول المهمّة»(1).

یقول السیّد شرف الدین: «ولم یبق سوی مسألة الصحابة رضی الله عنهم، فإنّها المسألة الوحیدة والمعوقة الشدیدة، وذلک أنّ بعض الغلاة من الفرق التی یطلق علیها لفظة الشیعة کالکلامیة، یتحاملون علی الصحابة کافة رضی الله عنهم، وینالون من جمیع السلف، فیتصوّر الجاهل أنّ ذلک رأی مطلق الشیعة، وتوهّم أنّه مذهب الجمیع، فیرمی الصالح بحجر الطالح، ویأخذ البریء بذنب المسیء، کما

ص:76


1- (2) الفصول المهمّة للسیّد عبد الحسین شرف الدین: / 191.

هو الشأن فیمن یختلط علیه الحابل بالنابل، ولو عرف رأی الإمامیة فی هذه المسألة، ووقف علی کلامهم فیها، لعلم أنّه أوسط الآراء، إذ لم یفرّطوا تفریط الغلاة ولا أفرطوا إفراط الجمهور، وکیف یجوز علیهم ما یقوله الجاهلون، أو یمکن فی حقّهم ما یتوهّمه الغافلون، بعد اقتدائهم فی التشیع بکبراء الصحابة، کما یعلمه الخبیر (بالاستیعاب والإصابة وأسد الغابة) وإلیک إکمالاً للفائدة وإتماماً للغرض، بعض ما یحضرنی من أسماء الشیعة من أصحاب رسول الله علیهما السلام، لتعلم أنّا بهم اقتدینا، وبهدیهم اهتدینا، وسأفرد لهم إن وفق الله، کتاباً یوضّح للناس تشیّعهم، ویحتوی علی تفاصیل شؤونهم، ولعلّ بعض أهل النشاط من حملة العلم وسدنته، یسبقنی إلی تألیف ذلک الکتاب، فیکون لی الشرف إذا خدمته بذکر أسماء بعضهم فی هذا الباب، وها هی علی ترتیب حروف الهجاء»(1).

ثمّ یشرع بذکر الأسماء، والتی من جملتها والد الشهید، جراد بن طهیة الوحیدی.

القرابة من أُمّ البنین

ذکر الزنجانی وغیره، کما تقدّم، أنّ الشهید الکربلائی والسیّدة فاطمة بنت حزام، المعروفة «بأمّ البنین» کلیهما یرجعان إلی عشیرة واحدة، وقد رجعت إلی کتب الأنساب من أجل أن أتبیّن درجة القرابة بینهما، وفی أیّ من الآباء والأجداد یلتقیان؟ وقد رجعت فیما رجعت إلیه مؤلّف عمدة الطالب فی أنساب آل أبی طالب، لابن

ص:77


1- (1) الفصول المهمّة للسیّد عبد الحسین شرف الدین: / 189-190.

عنبة، فوجدته یتحدّث عن أُمّ البنین ونسبها وأولادهما، وذکر فی هذا المجال: «أُمّ البنین، فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربیعة بن الوحید بن کعب بن عامر بن کلاب بن ربیعة بن عامر بن صعصعة بن معاویة بن بکر بن هوازن»(1).

وقد تقدّم فی نفس الوقت نسب الشهید الکربلائی، حیث یقول ابن حجر فی إصابته بأنّه: «جراد بن طهیة بن ربیعة بن الوحید بن کعب بن عامر بن کلاب الکلابی الوحیدی... وکان ابنه شبیب مع الحسین...»(2).

فتبیّن لنا بعد ذلک أنّ کلّا ً منهما یرجع إلی کلاب، وهی القبیلة التی عرفت بالأصول العربیة الأصیلة، وهی القبیلة ذات المکانة والقوة فی التأریخ، مع افتخار العرب بها، واعترافها لها بالسیادة، بل إنّ أضدادها وحسّادها شهدوا لها بذلک قبل الآخرین، وإلیها ینتمی عدد غفیر من النوابغ والشعراء والزعماء والعلماء، بل وأهل الفضل والأخلاق وسائر الصفات الحسنة، کالکرم والشجاعة وإقراء الضیف وإنصاف المظلوم، وما شاکل ذلک من خصائص العُلا والمجد، ولذلک کلّه اتّصفت أُمّ البنین بکلّ هذه الصفات، حیث کانت بدرجة کبیرة من العزّ والکرم والعطاء والشجاعة والفصاحة، بل ینقل لنا التاریخ أنّه کان لأمّ البنین درس فی المدینة، کانت تحضره النساء، تُقَدَمُ فیه صنوف العلم والمعرفة، ممّا کان یعود به علیها أمیرُ المؤمنین علیه السلام.

والشهیدُ الکربلائی کان یتمتّع بنفس تلک الخصائص والصفات، وکان من

ص:78


1- (1) عمدة الطالب لابن عنبة: / 357.
2- (2) الإصابة: 1278/1.

أبرزها صفة الشجاعة التی کانت مضرب الأمثال، حتی أنّ من شجاعته وفروسیّته التی عرف واشتهر بها، فصار التأریخ یذکرها له ممجّداً بل ویذکر حتی فرسه. یقول ابن الأعرابی(1): «شبیب بن جراد، أحد بنی الوحید، فرسه الشموس، قال (الشهید):

نَصَبْبُ لهم صَدْرَ الشَّموس وقد أری مکانَ الفِرار لو أُریدُ فِرارا

إذا أعرضوا أرمیهمُ عن شریجةٍ أریتُ حراماً درهماً وصحارا»

وکیف لا یکون کذلک، وفی قومه وآبائه ملاعب الأسنّة، أبو براء الذی لم یعرف فی العرب مثله فی الشجاعة، ولهذا یقول لبید الشاعر، للنعمان بن المنذر لأنّه من نفس هذه القبیلة، ومشمول بهذا الإباء.

بعد أن رأی خصماً له وعدوّاً إلی جانب النعمان:

یا واهبَ الخیرِ الجزیلِ مِن سِعه نحنُ بنو أُمّ البنین الأربعة

ونحن خیر عامر بن صَعْصَعَةْ المُطْعِمونَ الجَفْنَةَ المُدَعْدَعَة

الضاربونَ الهامَ وَسْطَ الخیضعة إلیکَ جاوزنا بلاداً مُسْبعة

یُخبِرْکَ عن هذا خبیرٌ فاسمعه مهلاً أبَیْتَ اللعنَ لا تأکلْ معه

فتأثّر النعمان من الربیع وأمضاه عن مسامرته وقال:

شرّدْ برحلکَ عنّی حیث شِئْتَ، ولا تُکثِرْ علیّ ودع عنکَ الأقاویلا

ص:79


1- (1) أسماء خیل العرب وفرسانها، لابن الأعرابی المتوفّی سنة 231، لسان العرب لابن منظور، مادّة «شمس».

قد قیلَ ذلک إن حقّاً وإن کذباً فما اعتذارک من شیءٍ إذا قیلا(1)

ولأهمّیة أبناء عامر وشدّتهم، ذکرهم رسول الله علیهما السلام وقال: «اللهمّ اکفنی عامراً واهدٍ بنی عامر»(2). ویذکر الصحابی عقبة بن عامر الجهنی عن أبیه قوله: «أتینا رسول الله علیهما السلام فی الأبطح، فی قبّة له حمراء، فقال: من أنتم؟ قلنا: بنو عامر، قال: (مرحباً أنتم منّی)»(3). وللمثال فقط یذکر المؤرّخون أنّ واحداً من أبناء عامر ابن صعصعة، هو جیّاش بن قیس، الذی شهد معرکة الیرموک، ویُنقل عنه أنّه قتل بیده ألف نصرانی، وقطعت رجله یومئذ(4).

وهنا تنکشف لنا أسرار الشجاعة المتمیّزة لأبی الفضل العبّاس، وسرّ اختیار (أُمّ البنین) من هذه القبیلة دون سواها، وینکشف لنا سرّ تلک الشجاعة الفائقة والمتمیّزة التی یحملها الشهید الکربلائی، حتی وصلت إلی درجة صار أصحاب السیر والتراجم یقولون عنه بأنّه کان «بطلا من أبطال الکوفة ومن شجعانها، وله ذکر فی المغازی والحروب»(5).

وقفة لابّد منها

وهنا لابّد لنا من وقفة أمام هذه الشجاعة المتمیزة وهذه الفتوّة النادرة لهذا

ص:80


1- (1) کتاب أمّ البنین لسلمان هادی طعمة: / 25-26.
2- (2) المصنّف لأبی شیبة: ج 7 ما جاء فی بنی عامر، حدیث رقم 3.
3- (3) کنز العمال للمتّقی الهندی: 92/14 ح 38025.
4- (4) کتاب الشعور بالعور، لأبی الصفا صلاح الدین الصفدی: تسلسل 88.
5- (5) النمازی فی المستدرکات: 198/3 دد 199.

الشهید، بل ولکلّ شهداء کربلاء، لأنّی وحسب تتبّعی ومراجعتی لما کتبه العلماء فی أنصار الحسین علیه السلام لم أجد أحداً منهم إلاّ وقد وصف بأنّه کان من الأبطال والأبدال والشجعان، ومن تشهد له ساحات الوغی ومعارک العزّ والشرف، بالأمجاد والبطولات، حتی صغیرهم کان بمنتهی الشجاعة، وهنا قد تنقدح فی الذهن شبهة ناشئة عن توهّم المبالغة، بمعنی أننا نوافق علی أنّ فی کربلاء شجاعة متمیّزة ومشهودة، ولکن هذه الصفة لا یمکن أن تشمل کلّ فرد منهم، بل ربّما تحمل علی الأعمّ الأغلب ولیس الجمیع، وبعبارة أخری أنّ من الطبیعی أن یقال: إنّ بعضهم تمیّز بالشجاعة والبطولة، أمّا أن یکون ذلک منطبقاً علی الجمیع، فهذا ما یحتاج إلی دلیل وبرهان وهذا ما سوف نتعرض له فی بحثنا القادم.

أسباب الشجاعة المتمیزة

1 - إیمان راسخ وخبرة فی الحروب

حتی نجیب علی هذه الشهبة ینبغی علینا أن نرجع إلی الجبهة المقابلة لهم، ألا وهی عدوّهم، ونری ماذا قالوا عنهم؟

حینما نزل عابس إلی ساحة المعرکة ورآه الربیع بن تمیم الهمدانی، صاح بأعلی صوته: «أیّها الناس، هذا أسد الأسود، هذا ابن أبی شبیب، لا یتعرّضِ إلیه أحد منکم»(1).

وهکذا حینما نزل الحرّ إلی ساحة المعرکة وعقرت فرسه، یصفه أحدهم

ص:81


1- (1) إبصار العین: / 100.

«کأنّه اللیث والسیف فی یده»(1).

وخیر ما یمکن أن یُستشهد به فی هذا المجال، هو قول عمرو بن الحجّاج للناس بعد أن رأی القتل نازل بالجند: «یا حمقی، أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستمیتین، لا یبرز منکم الیهم أحد إلّا قتلوه علی قلّتهم»(2).

«وقیل لرجل شهد یوم الطفّ مع عمر بن سعد: ویحکم، أقتلتم الذرّیة الطاهرة لرسول الله، فقال: عضضت بالجندل، إنّک لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علینا عصابة أیدیها فی مقابض سیوفها کالأسود الضاریة، تحطم الفرسان یمیناً وشمالاً، وتلقی أنفسها علی الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب بالمال، ولا یحول حائل بینها وبین حیاض المنیة أو الاستیلاء علی الملک، فلو کففنا عنها رویداً لأتت علی نفوس العسکر بحوافیرها، فما کنّا فاعلین لا أُمّ لک»(3).

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنّ الکوفة کانت مرکزاً للتجمّع العسکری فی زمن الفتوحات، وحتی بعد الفتوحات، من قبیل الحروب التی حصلت فی زمن الإمام أمیر المؤمنین، وظلّت الکوفة لعقود من الزمن هی الثکنة العسکریة الأساسیة للعالم الإسلامی، بحیث لو أنّ أیّ خطر حصل فی أیّ مکان

ص:82


1- (1) إبصار العین: 161.
2- (2) تاریخ الطبری: 249/6.
3- (3) کتاب العباس علیه السلام: / 168 لعبد الرزاق المقرّم.

من العالم الإسلامی واحتیج إلی معونة عسکریة، فالأنظار تتوجّه إلی الکوفة للإمداد.

یقول الشیخ حسین الکورانی فی کتابه حوادث الکوفة: «اتّخذت الکوفة بلداً ومصراً عام 17 للهجرة، بعد أن خاضت الجیوش الإسلامیة جولات حامیة الوطیس، أحرزت فیها انتصارات تاریخیة علی القطبین اللذین کانا القوّتین الأعظم علی المستوی العالمی آنذاک، وهما الروم والفرس، وقد أسّست هذه الانتصارات لجولات الحسم النهائی لمعادلة القوّة، لا فی هذه المنطقة فحسب، بل علی مستوی العالم کلّه، وکان تحصین هذه الانتصارات والاستعداد لما یلیها، یحتّم إقامة الجیش فی موقع یمکّنه التعامل مع الهدفین بیسر، فکانت الکوفة»(1).

ورغم وجود قوّات عسکریة فی مناطق العالم الإسلامی بلا شکّ، ولکن بقیت الکوفة هی الأساس فی إعداد الجیوش، بل وحتی فی الاحتیاط، ولهذا عبّر عنها بأنّها کوفة الجند(2).

واختتمها معاویة بوصیة لابنه یزید: «وانظر أهل العراق، فإن سألوک أن تعزل عنهم کلّ یوم عاملاً فافعل، فإنّ عزل عامل أحبّ الیّ من أن تشهر علیک مائة ألف سیف»(3).

ص:83


1- (1) تاریخ الطبری: 144/3، معجم البلدان للحموی: 490/4. نقلاً عن کتاب حوادث الکوفة للشیخ حسین الکورانی.
2- (2) معجم البلدان للحموی: 491/4.
3- (3) تاریخ الطبری: 238/4.

والحدیث عن العراق لا شکّ أنّه یقصد به الکوفة کما هو واضح، وهی شهادة من عدو الکوفة اللدود، معاویة لأهلها بأنّهم من الشجاعة والبطولة بمکان، ومع کلّ هذا وذاک، فقد سکنها العدید من الصحابة والتابعین ممّن عرفوا بالجهاد، کعمّار بن یاسر، وقرضة بن کعب، وسلمان وعمرو بن الحمق، وحجر بن عدی وآخرین.

2 - إراءة الحسین علیه السلام لأصحابه الجنّة

وهناک من العلماء من یذکر دواعی أُخری للشجاعة المنفردة لأنصار الحسین إضافة إلی ما ذکرناه، منها إراءة الحسین لهم منازلهم فی الجنّة بإذن الله سبحانه وتعالی، حیث ینقل لنا التاریخ عن الإمام زین العابدین علیه السلام قوله:

«کنت عند أبی فی اللیلة التی قتل فی صبیحتها، فقال لأصحابه هذا اللیل فاتّخذوه جنّة، فإنّ القوم إنّما یریدوننی، ولو قتلونی لم یلتفتوا إلیکم، وأنتم فی حلٍّ وسعة، فقالوا: والله لا یکون هذا أبداً فقال: إنّکم تقتلون غداً کلّکم ولا یفلت منکم رجل، قالوا: الحمدُ لله الذی شرّفنا بالقتل معک، ثمّ دعا فقال لهم: ارفعوا رؤوسکم وانظروا، فجعلوا ینظرون إلی موضعهم ومنازلهم فی الجنّة وهو یقول لهم: هذا منزلک یا فلان، فکان الرجل یستقبل الرماح والسیوف بصدره ووجهه لیصل إلی منزلته من الجنة»(1).

فإذا کان هذا الخبر وأمثاله صحیحاً، فمن الطبیعی أن یتفانی بالتضحیة من یُری مثل ذلک. ولا شک أنّ مثل هذا الخبر ومثل هذه الإراءة الحسینیة من خلال

ص:84


1- (1) بحار الأنوار: 298/44.

الکرامة الربانیة، لها دخل فی اندفاع الشهداء نحو الشهادة، ولکن مثل هذا الأمر یعدّ نتیجة ترتّبت علی مقدّمات سابقة علیها، کان لها الأثر الأکبر فی الوصول إلی ما وصلوا إلیه من السموّ والتجرّد، وبعبارة أخری نقول: مع تسلیمنا لهذا الأمر، وقبولنا لهذا التفسیر الذی ذکر فی روایة الإمام زین العابدین علیه السلام، ولکنّنا نری فی الوقت نفسه أنّ هناک جملة من النقاط لابدّ من طرحها حول هذه الروایة حتی تکتمل الصورة أمامنا.

مناقشة هذا الرأی

1 - إنّ هذه الإراءة التی أراها الحسین لأصحابه والمنازل التی أطلعهم علیها وهم لا یزالون فی هذا الدنیا، لابدّ أن یکونوا قد استحقّوها بمحض اختیارهم وسعیهم، بمعنی أنّهم قد بذلوا الکثیر من أجلها، وقدّموا العظیم فی سبیلها، وجاهدوا أنفسهم طویلاً وانتصروا علیها، ثمّ جاءت هذه المکرمة الإلهیة، جزاءً لهم علی ذلک وحتی نقرّب المعنی نذکر هذا المثال فنقول: إنّ إبراهیم علیه السلام حینما أعطاه الله عزّ وجلّ - الإمامة فی آخر عمره، إنّما کان ذلک کلّه نتیجة مروره بجملة من الاختبارات والابتلاءات الإلهیة، وخروجه منها منتصراً. یقول القرآن الکریم:

«وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً1» .

وفی تفسیر نور الثقلین، فی تفسیر هذه الآیة الکریمة، عن الإمام الصادق

ص:85

علیه السلام أنّه قال:

«إنّه ما ابتلاه الله به فی نومه، من ذبح إسماعیل أبی العرب، فأتّمها إبراهیم وعزم علیها، وسلم لأمر الله، فلمّا عزم، قال الله تعالی ثواباً له لما صدق وعمل بما أمره الله»(1).

2 - ثمّ إن الحسین علیه السلام لم یکشف ذلک لهم لیلة العاشر إلاّ بعدَ أنْ اطمأنّ إلی ثباتهم وإصرارهم علی القتل معه، بل إنّهم کانوا یستشعرون السعادة والراحة فی ذلک، یقول الحسین علیه السلام لأخته زینب، وقد سألته عن أصحابه وأنّها تخاف أن یسلموه عند الوثبة واصطکاک الأسنّة، فقال الحسین علیه السلام لها کلمات فی حقّهم، لو لم یقل سیّد الشهداء غیرها لکفاهم عزّاً وفخراً لا یدانیه فخر، قال علیه السلام:

«والله لقد بلوتهم فما وجدت فیهم إلاّ الأشوس الأقعس، یستأنسون بالمنیّة دونی استئناس الطفل إلی محالب أُمّه»(2).

فالذی جری لیلة العاشر من إرادتهم منازلهم فی الجنّة، سبقه اختبار وبلاء کبیران من قبل الحسین علیه السلام، حتی اطمأنّ من ثباتهم وصدقهم وتوطین أنفسهم علی الشهادة معه.

3 - ثمّ إنّ کلّ من التحق مع الحسین من الشهداء، من أهل الکوفة وغیرها، کان قد شقّ کلّ الجسور التی تربط فیما بینه وبین الناس الذی یعیشون معه، أیّاً کانوا؛ زوجة أُمّ أولاداً أُمّ إخواناً أُمّ عشیرةً أُمّ غیرهم، بل قد قطعوا کلّ ارتباط لهم بهذه

ص:86


1- (1) تفسیر نور الثقلین: 120/1.
2- (2) تاریخ النیاحة علی الإمام الحسین، للسیّد صالح الشهرستانی: / 49.

الدنیا وزینتها وزبرجها، لأنّهم یعلمون أنّها الشهادة الحتمیة لا غیر، ولهذا کانوا یقاتلون قتال من لا یرجو الحیاة، وقد أدرک عدّوهم هذه الحقیقة حینما صاح: «قوم مستمیتین»، ولذلک فلا نجانب الصواب إذا قلنا إنّهم کانوا واثقین من الشهادة قبل لیلة العاشر، وفی لیلة العاشر شاءت إرادة الله أن یریهم آثار أعمالهم وجهادهم وصبرهم قبل شهادتهم، لطفاً منه ورحمة، فالممنوع هو العقاب قبل الجنایة لا الثواب.

الشهید من ارکان البیعة فی الکوفة

اشارة

الشهید فی الکوفة مع مسلم: ذکر کلّ من کتب عن الشهید، أنّه کان من أرکان البیعة التی کانت تؤخذ من الناس للحسین علیه السلام عن طریق مسلم بن عقیل علیه السلام، یقول النمازی فی مستدرکاته: «بایع مسلماً، وکان یأخذ البیعة له»(1).

فکان دوره دور حبیب وعابس ومسلم بن عوسجة، وغیرهم من أرکان ثورة مسلم فی داخل الکوفة، وهنا قد یسأل سائل فیقول: ما معنی هذه البیعة التی تؤخذ من الناس للإمام الحسین علیه السلام؟ وهل إمامة الحسین علیه السلام لا تنعقد إلا بالبیعة؟ أو أنّ هناک أمراً آخر أراده الحسین من بیعة أهل الکوفة له؟

والجواب علی هذا السؤال المهم یقتضی منّا أن نتحدّث عن فلسفة البیعة فی الإسلام بشکل عامّ وأهدافها، وبما أنّ کتابنا هذا لیس مخصّصاً لمثل هذه المواضیع بشکل مستقلّ وإنما تذکر عرضاً بحسب المناسبة، لذا نحاول أن نسلطّ

ص:87


1- (1) النمازی فی المستدرکات فی علم الرجال: 198/3 ح 6808.

الأضواء بشکل سریع علی أهمّ النقاط المتعلّقة بموضوع البیعة فی الإسلام، فنقول:

1 - إنّ أصل الإمامة لأهل البیت علیهم السلام لا تأخذ شرعیّتها مطلقاً من الناس، سواء أتمّ هذا الأمر بواسطة البیعة أُمّ غیرها، وإنّما شرعیة الإمامة تأتی من قبل الله عزّ وجلّ.

نعم، البیعة التی تؤخذ من قبل الناس إنّما هی التزام قانونی، یلزم من خلاله الإنسان المسلم نفسه بالعمل علی وفق ما تملیه علیه هذه البیعة، إضافةً إلی الالتزام الشرعی الأول، ألا وهو النصّ الشرعی علی إمامته علیه السلام، والبیعة بهذا الاعتبار القانونی والإقرار الظاهری بالالتزام، إنّما تؤخذ من الأمّة إذا کان الإمام مطلق الید، قادراً علی تنفیذ أحکام الشریعة؛ إمّا بجلوسه علی کرسی الخلافة، أو سعیه فی الوصول إلی کرسی الخلافة، حیث یحتاج فی کلٍّ من هاتین الحالتین إلی دعم سیاسی من قبل الأمّة للوصول إلی الهدف المقصود، ألا وهو تطبیق الشریعة الإسلامیة.

ولذلک نجد أنّ هذه البیعة احتاجها أئمّة أهل البیت عندما امتلکوا قیادة الدولة، کأمیر المؤمنین علیه السلام ومن بعده الإمام الحسن علیه السلام، أی فی أثناء تصدّیهم الفعلی للحکومة عند ثوراتهم ضدّ الغاصبین، واحتاجوها کذلک قبل القیام بهذه الثورات عندما توفّرت إمکانیة النهوض بالأمّة وإن لم یتسلّموا مقالید الحکم کالحسین علیه السلام، حیث أخذ البیعة قبل ثورته، عندما بعث ابن عمّه مسلم بن عقیل إلی الکوفة، وأمّا بقیة أئمّة أهل البیت علیه السلام فلم یحتاجوا إلی شیء من هذا أبداً، لأنّهم لهم یتقلّدوا حکما، کأمیر المؤمنین علیه السلام، ولم تکن ظروفهم تسمح لهم بالثورة، کالحسین علیه السلام، ومن ثم لم یأخذوا البیعة من أحد.

نعم، ورد فی بعض الروایات أنّ الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف حینما یخرج، سوف

ص:88

یقوم فی مکّة بین الرکن والمقام، ویأخذ البیعة من الناس(1).

یقول الشیخ محمد واعظ زاده الخراسانی: «إنّ منصب الحکومة فی الإسلام هو منصب إلهی لشخص النبی علیهما السلام والوصی من بعده، وتستلزم البیعة، والطاعة نافذة عند البیعة، أی إنّ البیعة التی یأخذها الرسول علیهما السلام ومن بعده الأئمّة علیهم السلام ما هی إلاّ التزام وإقرار ظاهری بما جاء به الرسول، ولا تعنی البیعة شرعیة ولایة الرسول علیهم»(2).

2 - وأمّا بیعة الحسین علیه السلام التی أخذها من أهل الکوفة، فکانت تعنی إلقاء الحجّة علیهم، أی إنّهم قد ألزموا أنفسهم بالتزام قانونی یؤدّون من خلاله الطاعة للإمام الحسین علیه السلام، ومن ثم تکون الحجّة علیهم أشدّ واللوم آکد، ولا یمکن لهم ان یعتذروا عن عدم القیام بهذا التکلیف بأنّنا لم نسمع أو لم نقرأ أو لم نُدع، أو ما شاکل ذلک من الأعذار، التی ربّما یتمسّک بها الکثیر من الناس للتملّص من عهدة التکلیف الشرعی، وهذه بعبارة أخری، واحدة من مصادیق الآیة الکریمة:

«قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ 3» .

فکان بالامکان الاکتفاء بالحجّة لوحدها، ولکنّ الله أبی إلاّ البالغة التی لا اعتذار بعدها أبداً.

ص:89


1- (1) جامع الأحادیث: 204/1.
2- (2) رسالة التقریب بین المذاهب، العدد 5 مقال بعنوان: حدیث الثقلین، للشیخ محمد واعظ زادة الخراسانی: / 13.

یقول الشیخ الطبرسی، وهو یتحدّث عن هذه الآیة الکریمة: «والحجّة، البیّنة الصحیحة المصحّحة للأحکام، وهی التی تقصد إلی الحکم بشهادته، مأخوذة من حجَّ إذا قصد، والبالغة هی التی تبلغ قطع عذر المحجوج، بأن تزیل کلّ لبس وشبهة عمّن نظر فیها واستدلّ بها، وإنّما کانت حجّة الله صحیحة بالغة، لأنّه لا یحتجّ إلاّ بالحقّ، وبما یؤدّی إلی العلم»(1).

وهذا بعینه الذی أراده الحسین من بیعة أهل الکوفة له.

ردّ إشکال: ورد عن بعضهم، وهو یتحدّث عن الشهید الکربلائی، قوله: «وکان یأخذ البیعة من الناس إلی الحسین علیه السلام، فلمّا تخاذل الناس عن مسلم بن عقیل خرج فیمن خرج مع عمر بن سعد، حتی أتی کربلاء»(2).

ویقول آخر: «فلمّا جاء الشمر یکاتب ابن زیاد، وأیقن بالحرب، لحق بالحسین لیلة عاشوراء، وانضمّ إلی أبی الفضل العباس»(3).

وبقلیل تأمّل فی هذین النصّین، نخرج بنتیجة ربّما تکون غیر منسجمة مع بعضها، حیث إنّ النصّ الذی یقول إنّ الشهید کان ممّن یأخذ البیعة من الناس للحسین، یشیر وبشکل واضح إلی أنّ الشهید لم یکن شخصیةً مجهولة أو هامشیةً علی الساحة الکوفیة، وإنّما کان واضحاً مشخّصاً وذا منزلةٍ اجتماعیة کبیرة، وکان معروفاً بالولاء لأهل البیت علیهم السلام، ممّا ترتب علیه اعتماد سفیر الحسین وثقته،

ص:90


1- (1) تفسیر الطبرسی: تفسیر الآیة: 149 من سورة الأنعام.
2- (2) وسیلة الدارین: / 156.
3- (3) مستدرکات علم الرجال للنمازی: 198/3 ح 6808.

والمفضّل من أهل بیته، علیه، فی أخذ البیعة وترتیبها، مع کبار المسؤولین الذین اعتمد علیهم مسلم بن عقیل علیه السلام، وبتقدیری أنّ هؤلاء بعملهم هذا، وظهورهم علی الساحة بهذا الوضوح والجلاء، أمام ظالم لا یعرف للإنسان حرمة، صار کلّ واحد منهم یعاهد نفسه علی أن یکون مشروع شهادة، إن عاجلاً مع مسلم بن عقیل، أو آجلاً مع الحسین، ولابدّ لمن کانت مهمّته کهذه، رغم تلک الظروف الصعبة أن یکون قد تمتّع بالدرجات العالیة من الوعی والبصیرة بحرکة الحسین من جانب، وبالنظام الأموی الظالم والمجتمع الکوفی من جانب آخر، فإذا کان الأمر کذلک، فلا یمکن بعد هذا ان نقبل بمقولة من یقول إنّ الصورة عنده لم تکن واضحة، بحیث یخرج فیمن خرج مع جیش عمر بن سعد، ویبقی مع الجیش إلی لیلة العاشر من المحرّم، ولا ینتهی الأمر إلی هذا الحد، بل یبقی لحین مجیء کتاب ابن زیاد الأخیر، والذی بعثه إلی عمر بن سعد بواسطة شمر بن ذی الجوشن، لکی ینکشف له الأمر، فیتیقن أنّ القوم مصمّمون علی القتال، وعندها ینتقل إلی معسکر الحسین علیه السلام.

وبتقدیری أنّ هناک أمراً فی البین مفقوداً، أو کما یعبّر عنه بالحلقة المفقودة، وإلاّ فإذا کان الشهید - کما یحاول البعض تأویله أراد من خلال خروجه مع جیش ابن سعد، أن یصل إلی الحسین، أقول إذا کان الأمر کذلک، فلم لم یلتحق بالحسین بمجرّد وصولهم إلیه، کما حصل بالفعل مع بعض الشهداء الذی التحقوا بالحسین، کأبی الشعثاء الکندی(1) وأمثاله؟! ولماذا تأخّر حتی لیلة العاشر من

ص:91


1- (1) ذکرنا فی الجزء الأول من هذه الموسوعة فی التحاق أبی الشعثاء رأیین وقد ملنا إلی أنه التحق بالحسین قبل وصوله إلی کربلاء فلیراجع.

المحرّم؟! مع أنّ الانتقال لم یتمّ إلاّ بعد حصول الیقین فی قلبه بأنّ القوم عازمون علی حرب الحسین وقتاله؟! مع أنّنا نقرأ فی أحداث الکوفة وما جری فیها، أنّ معظم الشخصیّات الکبری المعروفة والمشهورة والتی اشترکت فی ثورة مسلم بن عقیل، إمّا أنّها استشهدت بعد الخذلان الذی کان من قبل الناس، من أمثال الشهید عبد الأعلی بن یزید الکلبی وآخرین(1) ، وإمّا خرجوا من الکوفة والتحقوا بالحسین، أمثال حبیب وعمّار الدالاتی وآخرین، وإمّا أنّهم جعلوا الخروج مع جیش ابن سعد طریقاً للوصول إلی الحسین، بعد أن قدّموا الدلائل علی صدقهم وتوبتهم ممّا جری وحصل، وبمجرد الوصول إلی کربلاء انتقلوا إلیه سریعاً. وعلیه فلا تمیل النفس إلی أنّ الشهید قد انتظر إلی لیلة العاشر. وأمّا ما ذُکر فربّما یُحمل علی أنّه کان یرید اللحاق بالحسین، ولکنه لم یجد السبل میسّرة، خصوصاً علی من هم علی شاکلته، حیث العیون علیهم تکون أکثر، والمراقبة أشدّ، ونحن إنّما نقول هذا اعتماداً علی المعطیات التی قدّمتها لنا کتب التأریخ، وإلاّ فالواقع لا یعلم به إلاّ عالم الغیب والشهادة.

فی أیّ یوم قتل الحسین

ورد فی طیّات الحدیث عن الشهید شبیب بن جراد، وأنّه بقی إلی عشیة الخمیس، لتسعٍ مضین من المحرّم، کما تقدّم الإشارة إلیه، وأنّ یوم الطفّ کان یوم الجمعة، وربّما یکون هذا الرأی هو الرأی الأقرب إلی الواقع، خصوصاً وإنّ جملة من

ص:92


1- (1) أنصار الحسین: / 122.

الروایات تشیر إلی أنّه کان یوم الجمعة دون بقیة الأیّام. ینقل ابن عساکر فی تاریخه ما نصّه: «أخبرنا أبو القاسم زاهر بن طاهر، أنبأنا أبو بکر البیهقی، أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو اسحاق إبراهیم بن محمد بن یحیی، أنبأنا محمد بن إسحاق الثقفی، أنبأنا أبو الأشعث، أنبأنا زهیر بن العلاء، أنبأنا سعید بن أبی عروبة، عن قتادة قال: قتل الحسین بن علی یوم الجمعة، یوم عاشوراء، لعشر مضین من المحرّم، لسنة إحدی وستّین، وهو ابن أربع وخمسین سنة وستّة أشهر ونصف»(1).

قتل الحسین علیه السلام یوم الجمعة

وبینما انا اقلب الروایات والکتب فی هذا الموضوع إذ وقع فی یدی کتاب أدب الطف، للسیّد جواد شبر، حیث أشار من خلال جملة من النقاط، إلی أنّ یوم مقتل الحسین کان فی یوم الجمعة وإتماماً للفائدة أذکر نصّ کلماته کما هی: «أقول: ممّا توصّلنا إلیه فی بحثنا ودراستنا، أنّ الیوم الذی قتل فیه الحسین علیه السلام هو یوم الجمعة، عاشر محرّم الحرام، ولنا علی ذلک أکثر من دلیل:

1 - إنّ الحسین نزل کربلاء یوم الثانی من المحرّم، وکان یوم الخمیس، کما نصّ علی ذلک جملة من المؤرّخین، بل کلّهم، وقتل یوم العاشر فیکون الجمعة هو یوم قتله.

2 - صرّح المؤرّخون أنّ الحسین قد خرج من مکّة یوم الثلاثاء، یوم الثامن من ذی الحجّة، فیکون یوم الثلاثین هو یوم الأربعاء، وهو أول یوم من محرّم، لأنّ

ص:93


1- (1) تاریخ ابن عساکر، ترجمة الإمام الحسین: / 423.

شهر ذی الحجّة کان ناقصاً.

3 - روی الشیخ المفید فی الإرشاد، وسائر أرباب المقاتل، أنّ عمر بن سعد، نهض لحرب الحسین عشیة یوم الخمیس، لتسع مضین من محرّم، ونادی: یا خیل الله ارکبی وبالجنّة أبشری، والحسین جالس أمام بیته، محتبیاً بسیفه، إذ خفض برأسه علی رکبتیه، فسمعت أخته الضجّة، فدنت من أخیها فقالت: یا أخی، أما تسمع الأصوات قد اقتربت، إلی أن طلب الحسین منهم تأجیله لیلة واحدة، وهی لیلة الجمعة، فیکون صباح الجمعة هو یوم الواقعة.

4 - ذکر أرباب المقاتل، أنّ ابن سعد کتب إلی ابن زیاد یوم الثامن من محرّم، وهو یوم الأربعاء، فعلی هذا یکون مقتله یوم الجمعة.

5 - جاء فی کثیر من أخبار أهل البیت علیهم السلام فی ظهور مهدی آل محمد «أنّه یظهر یوم الجمعة، یوم مقتل الحسین».

6 - ذکر الخوارزمی(1) «وذکر السیّد الإمام أبو طالب، أنّ الصحیح فی یوم عاشوراء الذی قتل فیه الحسین وأصحابه، رضی الله عنهم، أنّه کان یوم الجمعة سنة إحدی وستین. وقال السیّد الأمین فی لواعج الأشجان: وأصبح ابن سعد فی ذلک الیوم، وهو یوم الجمعة أو یوم السبت، فعبّأ أصحابه. وقال الشیخ عبّاس القمّی، فی نفس المهموم: قتل الحسین یوم الجمعة، العاشر من محرّم سنة إحدی وستّین من الهجرة، بعد صلاة الظهر منه، وسنّه یومئذ ثمان وخمسون سنة، وقیل إنّ مقتله کان یوم السبت، وقیل یوم الإثنین، والأول أصحّ. وقال أبو الفرج

ص:94


1- (1) مقتل الخوارزمی: 47/2.

الأصفهانی: وأمّا ما تقوله العامّة من أنّه قتل یوم الإثنین فباطل، وهو شیء قالوه بلا روایة، وکان أول المحرّم الذی قتل فیه هو یوم الأربعاء، أخرجنا ذلک بالحساب الهندی.

وإذا کان کذلک، فلیس یجوز أن یکون الیوم العاشر من المحرّم یوم الإثنین، وهذا دلیل صحیح تنضاف إلیه الروایة»(1).

شهادته

هکذا هی حیاة الأبطال وأصحاب المبادئ، لا یرتضون لأنفسهم أبداً أن یخرجوا من الدنیا کما یخرج الکثیر من الناس، بل کان بعضهم یعیب علی نفسه أن تقضی وهی علی الفراش، کما قال علی بن أبی طالب علیه السلام:

«لألفُ ضربةٍ بالسیف أهونُ علیّ من میتةٍ علی فراش»(2).

أو تلک الأبیات التی یذکرها بعضهم منسوبة إلی الحسین علیه السلام، حیث یقول فیها:

وإن کانتِ الدنیا تُعَدَّ نفیسةً فدارُ ثواب اللهِ أعلی وأنبلُ

وإن کانتِ الأبدان للموتِ أُنشئتْ فَقَتْلُ امرئ بالسیف فی الله أفضلُ

وإن کانتِ الأموالُ للتّرکِ جَمْعُها فما بالُ مَتْروکٍ به المرءُ یبخلُ (3)

وهکذا هی سیرة الرجال الثابتین علی دینهم وعقیدتهم، المدافعین عنها

ص:95


1- (1) أدب الطفّ: 115/7.
2- (2) وسائل الشیعة: 14/15.
3- (3) الأنوار البهیة: / 46.

بکلّ غالٍ ونفیس، وإذا کانت هناک أمثلة یمکن أن تضرب فی هذه المیادین، فإنّ میدان کربلاء قد جمع من تشرئبّ لهم الأعناق، وتذکرهم الأجیال جیلاً بعد جیل، هؤلاء شهیدنا الکربلائی شبیب بن جراد الوحیدی، هذا الرجل الذی کانت شهادته فی الحملة الأولی. یقول السیّد الزنجانی: تقدّم أمام الحسین، وقاتل حتی قتل مبارزة، وقتل فی الحملة الأولی مع من قتل من أصحاب الحسین علیه السلام(1).

ص:96


1- (1) وسیلة الدارین: / 157.

الشهید نعیم بن عجلان الأنصاری رحمه الله

بین یدی الشهید

واحدة من أهمّ الخصائص التی تمیّز بها أصحاب الحسین علیه السلام، هی أنّهم وصلوا إلی مرتبة عظیمةٍ ربّما لم یصل إلیها حتی حواریّو رسول الله علیهما السلام وأمیر المؤمنین علیه السلام، فما أشدّ الفرق بین أناس یتسابقون فی تقدیم أرواحهم لإمامهم لا یتخلف عن ذلک أحد، وبین من ینتهز الفرصة من أجل الفرار من الزحف، والصواب ان عملیة الموازنة بین أصحاب الحسین علیه السلام، وهم أهل السوابق الإیمانیة العالیة وبین سائر أصحاب رسول الله علیهما السلام موازنة غیر صحیحة وغیر دقیقة، لما بینهم من البون البعید وانعدام الکفء، ولکن المناسب، أن نجعل الموازنة بینهم وبین القمم الإیمانیة العالیة من أصحاب رسول الله علیهما السلام، کسلمان وأبی ذر والمقداد وعمّار، وهذه الموازنة هی الموازنة الصحیحة، وعند ذلک یمکن ان نقول أیّهما أفضل؟ ومع کل ذلک، لم أجد بحسب تتبعی أحداً قال غیر هذا(1) ، أی إنّ حواریّی الحسین علیه السلام أفضل من حواریّی رسول الله وأمیر المؤمنین صلوات

ص:97


1- (1) المراد فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام، وبعض علماء أهل السنة.

الله وسلامه علیهم، والسبب فی ذلک یعود فی الواقع إلی أمرین مهمیّن وهما:

1 - کلمة الإمام الحسین علیه السلام، وهو الإمام المعصوم الذی قال عنه رسول الله علیهما السلام وعن أخیه:

«الحسن والحسین إمامان قاما أو قعدا»(1).

حیث قال سلام الله علیه:

«إنی لا أعلم أصحاباً أوفی ولا خیراً من أصحابی»(2).

2 - ما ورد فی زیارة الأئمة لهم، وخصوصاً الإمام الصادق علیه السلام حیث یقول: «بأبی أنتم وأمّی»(3) ، وهذه الدرجة والمنزلة من الخطاب، علی لسان الإمام المعصوم، لم تصدر بحقّ أحد من الناس کائناً من کان، مهما عظم أمره وعلا خطره، عدا الأئمة أنفسهم، وتجدر الإشارة هنا أنّ الإمام لا یرید بهذه العبارة أباه وأمّه علی نحو الدلالة المتطابقیة، بل المقصود هو أن یضفی علیهم درجة من الشرف لم یحصل علیها أحد من الناس.

وقد یعترض أحدٌ ویقول: إنّ هذه الکلمات قد وردت فی زیارات الأئمة، والزیارات بشکل عام لم تثبت حتی یمکن أن یُستدلّ بها!

فأقول: إذا کانت الزیارات عموماً غیر مقطوع فی سندها ومتنها من قبل

ص:98


1- (1) رواه الناصر فی ینابیع النصیحة: / 237، ومجد الدین فی التحف: / 22، الخزّاز فی کفایة الأثر: / 117.
2- (2) معالم المدرستین: 90/3.
3- (3) مفاتیح الجنان للشیخ عباس القمّی زیارة وارث: / 430.

العلماء، فإنّ زیارة وارث من الوثاقة بدرجة عالیة(1).

ولو ترکنا کل ذلک ونظرنا نظرة مجرّدة إلی ما قام به هؤلاء من تضحیات، مقارنة بتضحیات الآخرین من أصحاب رسول الله وأمیر المؤمنین من الحوارییّن خاصة کما قدّمنا لرأینا الفرق واضحاً، فقد نقل التاریخ صوراً من التضحیات لم نرَ مثلها أبداً، سواءٌ أکان ذلک فی لیلة عاشوراء، أم فی یومها، وسواء أکانوا صرعی مضرجین بدمائهم أُمّ أصحّاء، وسواءٌ أکانوا رجالاً أُمّ نساءً، کهولاً أُمّ أطفالاً، ففی لیلة عاشوراء یقول زهیر بن القین: (لوددت أنّی قتلت ثمّ نشرت ثمّ قتلت، حتی أقتل ألف قتلة، وأن الله یدفع بذلک القتل عنک وعن أنفس هؤلاء الفتیة من أهل بیتک)(2) ، وفی یوم عاشوراء جاء إلیه الغفاریان وهما یبکیان ویقولان للحسین: (سیدی ما علی أنفسنا نبکی، ولکن نبکی علیک)(3) وهما ذاهبان إلی الموت والشهادة، بل إننا نجد هذا اللون من العطاء والعشق للحسین علیه السلام عند الصرعی المضرّجین بدمائهم، وهذا ما نلمسه فی قول مسلم بن عوسجة لحبیب بن مظهِّر وهو علی الأرض صریعاً مفارقاً لهذه الدنیا بعد أن قدم الغالی والنفیس من أجل الحسین: (أوصیک بهذا الغریب أن تموت دونه)(4).

فقال الحسین وقد سمع هذه الکلمات من مسلم: «رحمک الله یا مسلم،

ص:99


1- (1) راجع مصباح المتهجد للتعرّف علی فضلها: / 723.
2- (2) بحار الأنوار: 316/44.
3- (3) معالم المدرستین: 115/3.
4- (4) وسیلة الدارین: / 188.

أوصیت بنا حیاً ومیتاً»(1) ، هذا المعنی وغیره، یصعب علینا أن نجد له مثیلاً فی تأریخ حواریّی رسول الله علیهما السلام أو حواریّی أمیر المؤمنین أو حواریّی الإمام الحسن علی نحو الموجبة الکلیة مع عظمتهم وعظمة جهادهم وعطائهم، وواحد من أولئک الشهداء الذین وصلوا إلی هذه المرتبة العظیمة والمنزلة الشریفة وقول الإمام الصادق: «بأبی أنتم وأمی»، هو الشهید نعیم بن عجلان الانصاری، هذا الرجل الذی وصفه الشیخ السماوی والمامقانی والسید محسن الأمین وغیرهم أنه کان من الشجعان ومن الشعراء، وله ذکر وسمعة فی معارک الإسلام ومعارک الإمام أمیر المؤمنین کما سیتبین لنا ذلک واضحاً فی طیّات الحدیث عنه.

أقوال العلماء فی الشهید الکربلائی

1 - قال السید الزنجانی: «وبقی نعیم فی الکوفة، فلمّا ورد الحسین علیه السلام إلی العراق خرج إلیه وصار معه، فلمّا کان الیوم العاشر تقدّم إلی القتال، وقتل فی الحملة الأولی»(2).

2 - قال النمازی الشاهرودی: «نعیم بن عجلان بن النعمان بن عامر بن زریق الانصاری الزرقی الخزرجی هو وأخواه النضر والنعمان، أدرکوا النبی علیهما السلام، وهم من أصحاب أمیر المؤمنین، ولهم فی صفیّن مواقف، وکانوا شجعاناً شعراء»(3).

3 - قال التستری: «عدّه الشیخ فی رجاله فی أصحاب الحسین علیه السلام، وسُلّم

ص:100


1- (1) وسیلة الدارین: / 189.
2- (2) وسیلة الدارین: / 200.
3- (3) مستدرکات علم الرجال للنمازی الشاهرودی: 86/8.

علیه فی الناحیة والرجبیة»(1).

4 - قال السید الخوئی: «من أصحاب الحسین... وعدّه ابن شهراشوب من المقتولین فی الحملة الأولی»(2).

أسرة الشهید «بنو زریق»

قبیلة عربیة کبیرة، وهی من القبائل الیمنیة الأصلیة التی نزحت من أرض الجزیرة العربیة إلی الحجاز.

یقول ابن حزم فی جمهرة أنساب العرب: (ولد زریق بن عبد حارثة بن مالک بن غضب: عامر، فولد عامر: زریق، بطن وبیاضة، بطن)(3) ، ویقول عمر کحالة فی معجم قبائل العرب: (زریق بن عامر: بطن من الخزرج، من الأزد، من القحطانیة، وهم: بنو زریق بن عامر بن زریق بن عبد حارثة بن مالک بن غضب بن جشم بن الخزرج.

ینسب إلیهم سکة بن زریق بالمدینة)(4).

ولقد تمیزت هذه القبیلة بجملة من الخصال الحمیدة والأخلاق الفاضلة حتی مدحتها الشعراء وتحدثت عن مآثرها الأدباء، یقول ابن الزبیر مادحاً بنی زریق:

ص:101


1- (1) قاموس الرجال للتستری: 397/8.
2- (2) معجم رجال الحدیث للسید الخوئی: 191/2.
3- (3) جمهرة أنساب العرب لابن حزم: / 358.
4- (4) معجم قبائل العرب: 471/2.

إمّا تصبنی المنایا وهی لاحقةٌ وکلُّ جنبٍ له قد حمّ مضطجعُ

فقد جزیت بنی حزمٍ بظلمهمُ وقد جزیت زریقاً بالذی صنعوا

قومٌ أبی طبعُ الأخلاق أوّلهم فهم علی ذاک من أخلاقهم طبعوا

وإنْ أناس ونوا عن کل مَکرمةٍ وضاق باعهم عن وسعهم وسعوا

إنّی رأیت غداة السّوق محضرهم إذ نحن ننظر ما یتلی ونستمعُ (1)

وقد وردت هذه الأبیات فی حادثة نقلها الاصفهانی فی کتاب الاغانی بقوله: «ان ابن حزم لمّا جلد الاحوص ووقفه علی البلس لیضربه جاءه بنو زریق فدفعوا عنه واحتملوه من أعلی البلس فقال فی ذلک ابن الزبیر»(2).

ثم ذکر الابیات المتقدمة، وقد خرّجت هذه القبیلة العدید من المجاهدین والعلماء لاسیما فی الصدر الأول للاسلام، حینما کان یَعز الناصر والمعین، فقد کانت من أولی القبائل التی التقت رسول الله علیهما السلام فی مکة ودعته إلی الهجرة إلی یثرب لحمایته والوقوف إلی جانبه فی نشر دین الله عز وجل فی الأرض.

وإذا أردنا أن نعطی مثالاً لهذه الأسرة الممیّزة فهو رافع بن مالک بن العجلان الانصاری (ابن عم الشهید الکربلائی)، یقول ابن الأثیر وهو یتحدث تفاصیل لقائه برسول الله علیهما السلام: (فلما أراد الله إظهار دینه وإنجاز وعده خرج رسول الله علیهما السلام فی الموسم الذی لقی فیه النفر من الانصار، فعرض نفسه علی القبائل کما کان یفعله، فبینما هو عند العقبة لقی رهطا من الخزرج فدعاهم إلی الله وعرض علیهم

ص:102


1- (1) کتاب الأغانی: 420/4.
2- (2) کتاب الأغانی: 420/4.

الإسلام، وقد کانت یهود معهم ببلادهم وکان هؤلاء أهل أوثان، فکانوا إذا کان بینهم شرّ تقول الیهود: إنّ نبیاً یبعث الآن نتبعه ونقتلکم معه قتل عاد وثمود، فقال أولئک النفر بعضهم لبعض: هذا والله النبی الذی توعدکم به الیهود، فأجابوه وصدّقوه وقالوا له: إن بین قومنا شراً، وعسی الله ان یجمعهم بک.

فإن اجتمعوا علیک فلا رجل أعزّ منک، ثمّ انصرفوا عنه وکانوا سبعة نفر من الخزرج: أسعد بن زرارة بن عدس أبو أمامة، وعوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء کلاهما من بنی النجار، ورافع بن مالک بن عجلان (ابن عم الشهید الکربلائی) وعامر بن عبد حارثة بن ثعلبة بن غنم کلاهما من بنی زریق... فلما قدموا المدینة ذکروا لهم النبی علیهما السلام ودعوهم إلی الإسلام حتی فشا فیهم.

حتی إذا کان العام المقبل وافی الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً فلقوه بالعقبة وهی العقبة الأولی فبایعوه بیعة النساء وهم أسعد بن زرارة وعوف ومعاذ ابن الحارث، ورافع بن مالک بن عجلان.... وبعث علیهما السلام معهم مصعب بن عمیر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الله وأمره ان یقرئهم القرآن ویعلّمهم الإسلام)(1).

مسجد بنی زریق

إنه لفخر عظیم أن یوجد لبیت أو قبیلة مسجدٌ یتلی فیه کتاب الله لیلاً ونهاراً ویعبد فیه الله سراً وجهراً، لاسیما إذا کان مثل هذا المسجد فی مدینة مقدّسة کمدینة رسول الله علیهما السلام، نعم لقد کان لقبیلة الشهید الکربلائی شرف إنشاء مسجد

ص:103


1- (1) الکامل فی التأریخ: 95/2 دد 96 دد 97.

عرف بمسجد بنی زریق وکان مسجداً یقرأ فیه القرآن.

روی الزبیر بن بکار فی أخبار المدینة عن عمر بن حنظلة أن مسجد بنی زریق أول مسجدٍ قرئ فیه القرآن، وأن رافع بن مالک (ابن عم الشهید الکربلائی) لما لقی رسول الله علیهما السلام بالعقبة أعطاه ما أنزل علیه فی العشر السنین التی خلت، فقدم به رافع المدینة، ثم جمع قومه فقرأ علیهم فی موضعه)(1).

وعن یحیی بن عبد الله بن رفاعة قال: «توضأ رسول الله فیه أی فی مسجد بنی زریق - وعجب من اعتدال قبلته»(2) وبالمناسبة قد یسأل أحد ویقول: هل یجوز ان تنسب المساجد لغیر الله؟

یقول ابن عربی فی أحکام القرآن: (ان المساجد وإن کانت لله ملکاً وتشریفاً فإنها قد تنسب إلی غیره تعریفاً فیقال مسجد فلان، وفی صحیح الحدیث أن النبی سابق بین الخیل التی أضمرت من الحیفاء وأمدها ثنیة الوداع، وسابق بین الخیل التی لم تضمر من الثنیة إلی مسجد بنی زریق)(3).

إخوة الشهید الکربلائی

اشارة

لقد کان لإخوة الشهید (رض)، وللشهید نفسه مواقف بمنتهی العظمة والروعة فی نصرة الإسلام ونبیه علیهما السلام، حیث کانوا من السابقین فی الدخول إلی

ص:104


1- (1) ابن حجر فی الإصابة: 444/2.
2- (2) تاریخ المدینة المنورة لأبی زید عمر بن شبة النمیری البصرة: 154/1(294) تحقیق محمد علی دندل بیروت 1417 ه دد..
3- (3) أحکام القرآن لابن عربی: 321/4.

الإسلام والوقوف إلی جانب السماء فی نشره وإیصال صوته إلی کل الناس، وبعد النبی علیهما السلام، وقفوا إلی جانب الإمامة المتمثلة فی الإمام أمیر المؤمنین حیث قدّموا جمیعهم کل غالٍ ونفیس من أجل حقه التی قدمته له السماء، ودافعوا عنه منذ اللحظات الأولی التی حاولت الأمة فیها ابتزاز حقه وانتهاک حرمته.

النعمان بن العجلان الانصاری

لقد تمیّز أخو الشهید (النعمان) بجملة من الممیزات والمواقف التی نحاول أن نسلط الاضواء علی بعضها تباعاً:

1 - یقول ابن أبی الحدید المعتزلی فی شرح نهج البلاغة وهو یتحدث عن أحداث السقیفة وما تلتها من منازعات وحوادث کثیرة: (ثم اجتمعت جماعة من قریش وفیهم ناس من الانصار وأخلاط من المهاجرین وذلک بعد انصراف الانصار عن رأیها وسکون الفتنة، فاتفق ذلک عند قدوم عمرو بن العاص من سفرٍ کان فیه فجاء إلیهم، فأفاضوا فی ذکر یوم السقیفة وسعدٍ ودعواه الأمر، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنا من الأنصار عظیمة، ولمّا دفع الله عنهم أعظم، کادوا والله أن یحلوا حبل الإسلام کما قاتلوا علیه ویخرجوا منه من أدخلوا فیه، والله لئن کانوا سمعوا قول رسول الله: الأئمة من قریش، ثم ادعوها لقد هلکوا وأهلکوا، وإن کانوا لم یسمعوها فما هم کالمهاجرین ولا کأبی بکر، ولا المدینة کمکة، ولقد قاتلونا أمس فغلبونا علی البدء، ولو قاتلناهم الیوم لغلبناهم علی العافیة، فلم یجبه أحد وانصرف إلی منزله وقد ظفر فقال:

ألا قل لأوس إذا جئتها قل إذا ما جئت للخزرج

ص:105

تمنیتم الملک فی یثرب فأنزلت القدر لم تنضجِ

وأخرجتم الأمر قبل التمام وأعجب بذا المعجل المخدجِ

تریدون نتج الحیال العشار ولم تلقحوه فلم ینتجِ

عجبت لسعدٍ وأصحابه ولو لم یهیْجوه لم یهتجِ

رجا الخزرجی رجاء السراب وقد یخلف المرء ما یرتجی

فکان کمنحٍ علی کفه بکفٍّ یقطعها أهوجِ

فلما بلغ الأنصار مقالته وشعره بعثوا إلی لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان (أخو الشهید الکربلائی) وکان رجلاً أحمر قصیراً تزدریه العیون وکان سیّداً فخما فأتی عمراً وهو فی جماعة من قریشٍ فقال: والله یا عمرو ما کرهتم من حربنا إلا ما کرهنا من حربکم، وما کان الله لیخرجکم من الإسلام بمن أدخلکم فیه... ثم قال أبیاتاً من الشعر:

فقل لقریشٍ نحن أصحاب مکة ویوم حنین والفوارس فی بدرِ

وأصحاب أحدٍ والنضیر وخیبرٍ ونحن رجعنا من قریظة بالذکر

ویوم بأرض الشام أدخل جعفر وزید وعبد الله فی علقٍ یجری

وفی کل یومٍ ینکر الکلب أهله نطاعن فیه بالمثقفة السمرِ

ونضربُ فی نقعِ العجاجةِ أرؤساً ببیضٍ کأمثال البروقِ من الأمر

وکان هواناً فی علیٍّ وإنّه لأهل لها یا عمرو من حیث لا تدری

فذاک بعون الله یدعو إلی الهدی وینهی عن الفحشاء والبغی والنکرِ

وصیّ النبی المصطفی وابن عمه وقاتل فرسان الضلالة والکفرِ

ص:106

وهذا بحمد الله یهدی من العمی ویفتح آذاناً ثقلْنَ من الوقرِ(1)

ولا شک ولا ریب أن هذا الموقف من أخی الشهید الکربلائی، لیکشف وبشکل واضح أن هناک جماعة من أصحاب رسول الله علیهما السلام، وقفوا أمام مشروع السقیفة وما انتجت من خیاراتٍ، حاولوا أن یلزموا الأمة بها، فقام جماعة ممّن سمعوا قول رسول الله علیهما السلام أمثال النعمان وسلمان وأبی ذر وعمار والمقداد وآخرین(2) ، فوقفوا أمامه وعارضوه.

ادعاء ابن تیمیّة

یقول ابن تیمیة وهو یتحدث عن خلافة أبی بکر وعمر وما جری قبلها وبعدها: (أنّ الائمة لم تعترض علی خلافة الشیخین، ولم ینقل لنا التأریخ خلافاً ومعارضةً فی ذلک، بل لم یکن هناک نزاع أصلاً فی أن الفضل لمن؟ هل هو لأبی بکرٍ أمْ لعمر أمْ لعلی؟ بل إن التأریخ لینقل لنا (وما زال الحدیث لابن تیمیّة) أنّ التسلیم لخلافة أبی بکر وعمر حتی من قبل الشیعة الاوائل، نعم، النزاع والخلاف حصل فی خلافة عثمان.

ویستدلّ ابن تیمیّة علی زعمه بقول أبی القاسم البلخی حیث یقول: «سأل سائل شریک بن عبد الله بن أبی نمر فقال: أیّهما أفضل، أبو بکر أُمّ علی؟ فقال له:

ص:107


1- (1) شرح ابن أبی الحدید المعتزلی: 29/6-31.
2- (2) وان لم تکن المصادر لتسعفنا حتی نستلهم مواقف الشهید الکربلائی مع أخوته النعمان والنضر فی تلک الحقبة، فإننا لاشک یمکن ان نقرأ مواقفه وصموده وولاءه من خلال صمود وولاء ومواقف إخوته التی هزّت الظالمین والناکثین والمارقین والقاسطین.

أبو بکر، فقال السائل: أتقول هذا وأنت شیعی؟ فقال: نعم إنما الشیعی من قال هذا، والله لقد رقی علیّ هذه الاعواد فقال: ألا إنّ خیر هذه الأمّة بعد نبیها أبو بکر، ثمّ عمر)(1).

وهذا الحدیث واضح البطلان، لأنّه لا یوجد شیعی فی شرق الارض وغربها، فی سهلها وجبلها، ومنذ الصدر الأول للاسلام وإلی یومک هذا، یقول مثل مقالة هذا الإنسان مطلقاً، کیف یمکن له ان یقول مثل هذا الکلام، وهو یقرأ ویسمع أحادیث رسول الله علیهما السلام التی ذکرها المسلمون ونقلوها جیلاً عن جیل «أنّ علیاً أقضاکم بعدی»(2) و «أنا مدینة العلم وعلی بابها»(3) وغیرها من هذه الأحادیث الکثیرة.

ثمّ إن الرجل الذی نقل عنه ابن تیمیّة لم یکن شیعیاً، بل عرف بأنّه کان معتزلیاً، یقول الخطیب البغدادی فی ترجمته: (عبد الله بن أحمد بن محمود أبو القاسم البلخی، من متکلمی المعتزلة البغدادیین، صنّف فی الکلام کتباً کثیرة وأقام ببغداد مدة طویلة وانتشرت بها کتبه، ثمّ عاد إلی بلخ فأقام بها إلی حین وفاته)(4) ، ویقول ابن خلکان: (العالم المشهور کان رأس طائفة من المعتزلة یقال لهم «الکعبیّة»)(5) ، ویقول ابن حجر فی لسان المیزان: (عبد الله بن أحمد بن محمود البلخی أبو القاسم الکعبی، من أکابر المعتزلة وله تصانیف فی الطعن علی

ص:108


1- (1) منهاج السنة لابن تیمیّة: 13/1 دد 14.
2- (2) کتاب مقام الإمام علی لنجم الدین العسکری: / 28.
3- (3) المستدرک علی الصحیحین: 126/3.
4- (4) تاریخ بغداد للخطیب البغدادی: 384/9.
5- (5) عیون التواریخ: 106/7 مخطوطة دار الکتب.

المحدِّثین تدلّ علی کثر اطّلاعه وتعصّبه)(1).

فاذا کان حال أبی القاسم البلخی ذلک فکیف یحتج علی مدرسة أهل البیت وعلمائها بقول عالمٍ خارجٍ عنها ولا یؤمن بأفکارها وعقائدها لاسیما المتعلقة بأهل البیت علیهم السلام وإمامتهم التی هی الفاصل والمائز الحقیقی بینها وبین غیرها.

وعلی کل حال، فبعکس ما أراد أن یستدل به ابن تیمیّة، فقد وردت الأحادیث الکثیرة فی مصادر الفریقین والتی تؤکد وجود حالة إنکار عند جمع من صحابة رسول الله المقُدَّمین فی سوح الجهاد والدفاع عن الاسلام، کما تقدم بعضها فیما یتعلق بأخی الشهید الکربلائی (رض) النعمان بن عجلان الانصاری، وللاستیناس أکثر بهذه الحقیقة التأریخیة اذکر هنا روایة مهمة نقلها لنا الطبرسی فی کتاب الاحتجاج عن الامام الصادق علیه السلام، أوردها لأهمیة ما جری لاسیما فی تلک الحقبة الحرجة التی أعقبت وتلت رسول الله علیهما السلام، تقول الروایة إن (أبان بن تغلب سأل الامام الصادق علیه السلام بقوله جعلت فداک، هل هناک من أصحاب رسول الله من أنکر علی أبی بکر فعله وجلوسه علی کرسی الخلافة؟ فقال الامام الصادق علیه السلام «نعم، کان الذی انکر علیه اثنا عشر رجلاً، فلمّا صعد أبو بکر المنبر، تشاوروا فیما بینهم، فقال بعض البعض: والله لنأتینّه ولننزعنه عن منبر رسول الله علیهما السلام، وقال آخرون: انطلقوا بنا إلی أمیر المؤمنین لنأخذ رأیة، فلمّا جاءوا إلیه قالوا، یا أمیر المؤمنین، لقد ترکت حقّاً أنت أحقّ به وأولی من غیرک، لأنّا سمعنا رسول الله یقول: «علیّ مع الحقّ والحقّ مع علیّ» فجئناک لنستشیرک ولنأخذ رأیک،

ص:109


1- (1) لسان المیزان: 252/3.

فقال الامام: انطلقوا بأجمعکم إلی الرجل، فعرّفوه، ما سمعتم من قول نبیکم، لیکون ذلک أوکد للحجّة وأبلغ فی العذر وأبعد لهم من رسول الله علیهما السلام إذا وردوا علیه)(1).

وینقل البرقی فی رجاله تفاصیل هذه الحوارات التی جرت والاحادیث التی احتج بها هؤلاء علی أبی بکر، أذکرها هنا لأهمیة هذه الاحادیث من جهة ولتکون واضحة بیّنة عند کل قاصٍ ودانٍ ان علیاً لم یتنازل عن حقه وما ترک المطالبة فیه أو الاحتجاج علیه لاسیما فی تلک الحقبة الحرجة التی أعقبت وفاة رسول الله وما تلتها من مواقف وإحداث مهمة.

یقول البرقی فی رجاله: (وکان أول من تکلم یوم الجمعة خالد بن سعید بن العاص، وقال: یا أبا بکر أذکرک قول رسول الله علیهما السلام یوم قریظة «یا معشر قریش أحفظوا وصیّتی، إن علیاً إمامکم بعدی، بذلک أنبأنی جبرئیل عن ربّی عزّ ذکره، ألا إنکم إن لم تؤتوه أمورکم اختلفتم، وتولی علیکم شرارکم، ألا إنّ أهل بیتی هم الوارثون لی والقائمون من أمتّی، اللهم من أطاعهم فثبّته، ومن نصرهم فانصره، ومن خالف أمری وأقام إماماً لم أقمه وترک إماماً أقمته ونصبته، فاحرمه جنتک والعنه، علی لسان أنبیائک، أتعرف هذا یا أبا بکر؟ قال: لا، ثم قال له عمر: أسکت فلست من أهل المشورة، فقال: بل أنت اسکت یابن الخطّاب، فإنک تنطق بلسان غیرک، وتفوه بغیر فیک، وإنّک لجبان فی الحرب، ما وجدنا لک فی قریش فخراً، ثم قام أبو ذر فقال: یا معشر قریش، قد علم خیارکم أنّ رسول الله علیهما السلام قال: «هذا

ص:110


1- (1) الاحتجاج للطبرسی: 97/1.

الأمر لعلیّ من بعدی ولولده من بعده فلم تترکون قوله؟ وتخالفون أمره؟ أنسیتم أُمّ تناسیتم، أو ضللتم واتبعتم الدنیا الفانیة، رغبة عن نعمة الآخرة، حذو من کان قبلکم، حذو النعل بالنعل والقُذّة بالقُذّة، فعَمّا قلیل ترون غبَّ رأیکم وترون وبال أمرکم وما الله یرید ظلماً للعباد، ثمّ قام سلمان فقال: یا أبا بکر إلی من تسند أمرک إذ الموت نزل بک؟ وإلی من تفزع إذا سُئلت عن أحکام هذه الأمة وانت لا تعلم؟ أتکون إماماً لمن هو أعلم منک؟ قدّم من قدّمه الله، وقدّمه رسوله فی حیاته، وأوعزْ إلیه قبل وقت وفاته، أنسیت قوله وما تقدّم من وصیّتة؟! إنّه لا ینفعک إلاّ عملک ولا تحصل إلاّ علی ما تقدّم، فإن رجعت نجوت، فقد سمعت وسمعنا، وأنکرت وأقررنا، فترد ونرد وما الله یرید ظلماً للعباد.

ثمّ قام المقداد فقال: یا أبا بکر، ارجع عن غیّک ویسِّر عسرک بیسرک والزم بیتک وأردد الأمر إلی حیث جعله الله ورسوله، وسلّم الحق إلی صاحبه، فإنّ ذلک أسلم فی آجلک وعاجلک، فقد نصحت وبذلک ما عندی والسلام.

ثمّ قام بریدة الاسلمیّ فقال: یا أبا بکر أنسیت أُمّ تناسیت؟ أُمّ خادعتک نفسک؟ فإنّ الله خادعک، ألم تعلم أنّ رسول الله أمرنا فسلمنا علیه بإمرة المؤمنین والرسول فینا؟ فالله فی نفسک، أدرکها قبل أن لا تدرکها، وابعدها من هلکها، وردَّ هذا الأمر إلی من هو أحقّ منک، ولا تتماد فی غیّک فتهلک بطغیانک، وما الله بغافل عمّا قصدت، إلّا أننا ننصح لک الهدی ولن نهدی من نحب ولکنّ الله یهدی من یشاء، ثمّ قام عمّار بن یاسر فقال: یا أبا بکر لا تجعل لنفسک حق غیرک، فقد أمرک من عصی رسول الله وأنت تجازی بعملک، فانصح لنفسک أودَعْ، فکل نفس بما

ص:111

کسبت رهینة.

ثم قام قیس بن سعد بن عبادة فقال یا معشر قریش، قد علم خیارکم أنّ أهل بیت نبیکم أحقّ بمکانه فی سبقِ سابقةٍ وحسنِ عناءٍ، وقد جعل الله هذا الأمر لعلیٍّ بمحضرٍ منک وسماع أذنیک، فلا ترجعوا ضلالاً فتنقلبوا خاسرین، ثمّ قام خزیمة بن ثابت ذو الشهادتین فقال: ألست تعلم یا أبا بکر أنّ رسول الله قبل شهادتی وحدی؟ قال بلی قال: فإنّی أشهد بما سمعته عنه، وهو قوله: «إمامکم بعدی علیّ لأنّه الأنصح لأمتی.

والعالم فیهم»، ثم قام أبو الهیثم بن التیهان فقال: أنا أشهد أنّ رسول الله أقام علیاً فقال: «إن أهل بیتی یتقدّمونکم، فلا تتقدموا علیهم» وفی قوله کفایة.

ثمّ قام سهل بن حنیف فقال: أشهد علی رسول الله أنّه قال: «أهل بیتی فرق بین الحق والباطل، وهم الأئمة یقتدی بهم أمتی» وتکلم أبی فقال: أشهد أنّی سمعت رسول الله یقول: «علیّ بن أبی طالب إمامکم بعدی، وهو الناصح لأمتّی».

ثم قام أبو أیوب الانصاری فقال: أتقوا الله وردّوا الأمر إلی أهل بیت نبیکم، فقد سمعتم ما سمعنا «أنّ القائم مقام نبینا بعده علیّ بن أبی طالب» وأنه لا یبلغ عنه إلا هو، ولا ینصح لأمته غیره.

قال فنزل أبو بکر من المنبر، فلمّا کان یوم الجمعة المقبل، سلّ عمر سیفه ثمّ قال: لا أسمع رجلاً یقول مثل مقالته تلک إلّا ضربت عنقه، ثمّ مضی هو وسالم ومعاذ بن جبل وابو عبیدة، شاهرین سیوفهم حتی أخرجوا أبا بکر وأصعدوه

ص:112

المنبر»(1).

وهکذا فإن هناک الکثیر من الروایات التی تتحدث عن مواقف الصحابة فی الصدر الأول من الإسلام، فی رفض مقررات السقیفة ولکنها العصبیة التی أبت ان تجتمع فی هاشم النبوة والإمامة، ولقد کان لإخوة الشهید الکربلائی وأسرته دور مهم فی هذه الحقبة الحرجة التی مرّ بها الإسلام وفی نفس الوقت کان اختباراً حقیقیاً للإیمان الذی حملوه فی نفوسهم إزاء إمامة أهل البیت علیهم السلام «لیمیز الله الخبیث من الطیب ویجعل الخبیث بعضه فوق بعض»(2).

النعمان بن عجلان یشهد لعلی علیه السلام فی الرحبة

ینقل المؤرخون بطرق مختلفة ان علیاً علیه السلام ناشد الناس فی رحبة الکوفة فی أن رسول الله علیهما السلام قدم علیاً علی غیره ورفع یدیه حتی قال: من کنت مولاه فهذا علی مولاه، وکان ذلک بعد ما وصله علیه السلام من اتهام الناس له فیما یرویه فی ذلک عن رسول الله علیهما السلام، روی ابن الأثیر فی اسد الغابة (عن الحافظ ابن عقدة عن محمد بن إسماعیل بن اسحاق الراشدی وحدثنا محمد بن خلف النمیری، حدثنا علی بن الحسن العبدی عن الاصبغ قال: نشد علی علیه السلام الناس فی الرحبة من سمع النبی علیهما السلام یوم غدیر خم ما قال إلا قام، ولا یقوم إلا من سمع رسول الله علیهما السلام یقول فقام بضعة عشر رجلاً فیهم أبو أیوب الانصاری وأبو عمرة بن عمرو بن محض وابو زینب بن عوف الانصاری وسهل بن حنیف

ص:113


1- (1) کتاب رجال السید البرقی: / 63 دد 66 تحت عنوان أسماء المنکرین علی أبی بکر.
2- (2) الانفال: 37

وخزیمة بن ثابت وعبد لله بن ثابت الانصاری وحبشی بن جنادة السلولی وعبید بن عازب الانصاری والنعمان بن عجلان الانصاری (أخو الشهید الکربلائی) وثابت بن ودیعة وابو فضالة الانصاری وعبد الرحمن بن عبد ربه الانصاری فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله علیهما السلام یقول: «الا من کنت مولاه فعلی مولاه، اللهم وآل من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وابغض من أبغضه وأعن من أعانه»(1)(2).

موقف النعمان بن عجلان فی صفین

لقد کان لأخی الشهید الکربلائی موقفٌ متمیزٌ فی معرکة صفین، وفی دفاعه عن حق أمیر المؤمنین علیه السلام، یقول نصر بن مزاحم فی کتابه (وقعة صفین) وهو یتحدث عن مآثر هذا الرجل وما قدمه فی ذلک الیوم: (وقال النعمان بن عجلان الانصاری یوم صفین:

سائلْ بصفین عنا عند وقعتنا وکیف کنا غداة المحک نبتدرُ

واسأل غداة لقینا الأزد قاطبةً یوم البصیرة لمّا استجمعت مضرُ

لو لا الإله وقوم قد عرفتهم فیهم عفاف وما یأتی به القدرُ

لما تداعت لهم بالمصر داعیة إلّا الکلابُ وإلّا الشاء والحمرُ

ص:114


1- (1) اسد الغابة لابن الأثیر: 205/5/307/3.
2- (2) وبتقدیری أن هذه الاسماء التی ذکرت هی بحسب ما رآه الراوی لا سیما فی مسجد کبیر کمسجد الکوفة، ومن هنا نجد سرّ اختلاف أعدادهم عند المؤرخین فی الحدیث عن مناشدة الرحبة، ومن ثم أقدّر ان الشهید الکربلائی کان من جملة الشاهدین لأنه کان کأخویه صحابیین کما تقدم.

کم مقعصٍ قد ترکناه بمقفرةٍ تعوی السباع لدیه وهو منعفرُ

ما إن تراه ولا یبکی علانیة إلی القیامة حتی تنفخ الصورُ(1)

النضر بن عجلان الانصاری

وهذا هو الأخ الثانی للشهید الکربلائی والذی کان من الموالین الذائبین فی خط أهل البیت حتی ذکرت المصادر التاریخیة عنه بأن له مواقف وسمعة فی معارک العز والشرف لاسیما معرکة صفین إلی جنب الإمام أمیر المؤمنین، فضلاً عن شعره الذی کان یهز فیه عروش الظالمین والغاصبین لحق أهل البیت لاسیما معاویة ومن یعیش فی فلک معاویة، ومن شعره الذی ذکره نصر بن مزاحم فی صفین قوله:

قد کنت عن صفین فیما قد خلا وجنود صفین لعمری غافلا

قد کنت حقاً لا أحاذر فتنةً ولقد أکون بذاک حقاً جاهلاً

فرأیت فی جمهور ذلک معظماً ولقیت من لهوات ذاک عیاطلا

کیف التفرق؟ والوصی إمامنا لا کیف إلاّ حیرة وتخاذلا

لا تعتبنّ عقولکم لا خیر فی من لم یکن عند البلایا غافلا

وذروا معاویة الغویّ وتابعوا دین الوصیّ تصادفوه عاجلا(2)

مواقف الشهید ومظلومیة التأریخ

لا یمکن لأی منصفٍ سوی یقرأ التأریخ بشکل دقیق ویمر بسیرة أسرة

ص:115


1- (1) وقعة صفین لنصر بن مزاحم: / 380-381.
2- (2) وقعة صفین: / 365.

الشهید وبطولاتهم فی الدفاع عن حومة الدین وعترة سید النبیین، لاسیما أخویه (النعمان - النضر) إّلا ویخرج بنتیجة مفادها أن هذا البیت الذی أنجب أبطالاً وفرساناً وشعراء کانوا یعبرون عنهم بلسان الأنصار وشعرائهم، لابد أن یسجِّل لأخیهم الشهید الکربلائی مواقف تتناسب مع عطاء إخوته وأسرته بل وحتی أبناء عمومته صدی بن عجلان الانصاری الذی کان مع الإمام أمیر المؤمنین فی صفین ثمّ أخذ غیلة إلی معاویة، فحبس فی الشام حتی لا یرجع إلی علی علیه السلام إلی أن مات فی حمص سنة 86 ه -(1) ،خصوصاً وقد نقل التأریخ أن الشهید الکربلائی کان صحابیاً کإخوته، عاصر رسول الله کما عاصروه وعاش غزواته وحروبه کما عاشوه، کما عاشوا جمعیاً محنة الإمامة من بعده علیهما السلام، لاسیما فی حیاة الإمام أمیر المؤمنین والإمام الحسن علیهما السلام، ولکن وللأسف الشدید، لا نجد فی صفحات التأریخ التی سطرّها لنا من کتَبَهُ إلاّ کلماتٍ بسیطة فی حق الشهید الکربلائی (رض) والتی لا تتناسب مطلقاً مع عظمة الولاء الذی یحمله فی نفسه، ومن ثم ما ورد لا یسمن ولا یغنی من جوع، وبعقیدتی أن هذا الأمر لم یکن عفویاً من دون أسباب تکمن خلفه، وبعبارة أخری لیس من العقل ان یقبل الإنسان أن تملأ کتب التأریخ بأسماء المغنین والراقصات ولیالی لهو ولعب الملوک والسلاطین وندماء الخمر والرذیلة وبتفاصیل دقیقة تشمئز منها الطباع السویة ویُحجبُ أصحاب السوابق الإیمانیة والجهادیة عن ذکر مواقفهم وأعمالهم التی تشرئبّ لها أعناق

ص:116


1- (1) کتاب الفتوح لابن اعثم: 350/2.

المؤمنین، ولکنها الأیادی الخبیثة الظالمة الآثمة التی أرادت ان یُسَدل الستار عن أصحاب الولاء الإیمانیّ لأهل البیت لاسیما الحسین علیه السلام، الذی فجّر فی حرکته أعظم ثورة عرفتها البشریة حتی أصبحت کربلاء برموزها وأشخاصها حاضرة فی الحیاة فی کل یوم ومتواجدة فی کل مکان، ومن هنا یمکن للإنسان ان یضع یده علی أسباب انعدام المعلومات وقلتها عن أبدال کربلاء، وحتی تلک المعلومات التی تسربت رغما عن التأریخ وأیادیه الآثمة إنما کانت بفعل قوة هذه الشخصیات وعلو منزلتها ومکانتها الاجتماعیة والعلمیة والجهادیة، وهی کالشمس لا یمکن ان تحجب بالکامل حتی ولو وضعت أمامها ألوانٌ من الحجب، وإلاّ إذا کان حال إخوة الشهید الکربلائی نضالاً وجهاداً ومواقف أبتدأت منذ زمن رسول الله وبعده فی أحلک الظروف والأحوال واستمرت مع امامة الإمام علی والحسن فی أشد ما مرّا فیهما، فلم لا یکون لأخیهم الکربلائی شیء من هذه المواقف یمکن ان یجسّده التأریخ فی طیّات صفحاته؟ لماذا لایوجد له فی طول هذه الحقبة الطویلة من المسیرة الإسلامیة والإیمانیة شیء؟ مع أنی أقطع أنه کان یملک من الخزین الحرکی والجهادی والعلمی والأدبی ما یمکن أن یکون مقدمة لنیل وسام الشهادة بین یدی الحسین علیه السلام فی یوم عاشوراء.

وما کنت أدری أنی سوف أکتب حول هذا الموضوع أبداً، بل وما دار فی خلدی وأنا أکتب هذه الصفحات حوله (رض) أن أشیر إلی شیء من ذلک أبداً، ولکنها الحسرة التی ألمّت بقلبی، والألم الذی أخذ یعتصر فی صدری، وأنا أقرأ

ص:117

سیرة آبائه وأجداده وإخوانه وأبناء عمومته، فأجدهم فی أعلی علیین ولا أجد ما یمکن أن یسدّ رمقی حول الشهید نعیم (رض).

الشهید نعیم بن عجلان فی کربلاء

لاشک أن لحرکة الآباء والإخوة والمقّربین للإنسان، آثاراً کبیرة فی بناء شخصیته ونوع ثقافته، بل وحتی مواقفه إنّما تکون إفرازاً طبیعیاً لتلک المؤثرات، ومن هنا نعرف سرّ هذا العطاء الکبیر للشهید الکربلائی فی موقفه مع الحسین علیه السلام وترکه لکل غالٍ ونفیس، وتوجهه إلی معرکة محسومة النتائج سلفاً، ونتیقن أنّه لیس سوی الولاء والعشق لأهل بیت الرحمة، والذی تعلّمه من إخوته، واکتسبه بشکل طبیعی من مواقف اسرته، التی ضربت مثلاً أعلی فی هذا المجال، أقول: إذا کان الأمر کذلک، فلیس غریباً أن یقف الشهید مثل هذا الموقف، خصوصاً بعدما استشهد أخواه، حیث ظلّ یراقب الاحداث إلی ان جاء الحسین إلی کربلاء، فخرج إلیه مع صعوبة التحرّک فی تلک الضروف وشدة المراقبة، ولکنه مع ذلک استطاع الوصول إلی الحسین علیه السلام، ولمّا جاء الیوم العاشر من المحرّم، تقدّم بین یدی أبی عبد الله الحسین، وقاتل قتال الإبطال، إلی أن سقط علی الأرض شهیداً(1) ، فلحق بأخویه فاستحق بذلک سلام الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف فی زیارة الناحیة المنسوبة إلیه بقوله: «السلام علی نعیم بن عجلان الانصاری ورحمة الله وبرکاته»(2).

ص:118


1- (1) إبصار العین: / 102.
2- (2) بحار الأنوار: 70/45.

الشهید الحُرّ بن یزید الریاحی رحمه الله

بین یدی الشهید

ربما کانت واحدة من جملة المظلومیات البارزة والواضحة لکل ذی عینین فی معرکة کربلاء هی قلة المعلومات المتوفرة لدینا عن شهداء هذه المعرکة والمشترکین فیها رضی الله عنهم، مع أنّهم لم یکونوا هامشیین فی الحیاة بل کانوا بدرجة فی التمیّز کبیرة جداً حتی أن الحسین علیه السلام قال عنهم بشکل واضح وصریح:«ما رأیت أصحاباً أوفی وأبرّ من أصحابی»، ولئن کان الحسین علیه السلام وهو المعصوم قد مدحهم بهذا الشکل الرائع، فإن فی جیش عمر بن سعد من ذکر نفس هذه الکلمة ولکن بطریقة أخری وبشکل آخر، وللمثال أذکر ما قاله کعب ابن جابر بن عمرو الأزدی لأخته أو لزوجته (النوار) علی اختلاف الروایات حینما لامته علی قتله وقتاله للحسین علیه السلام، فذکر لها أبیاتاً من الشعر جواباً منها:

سلی تخبری عنی وانت ذمیمة غداة حسین والرماح شوارعُ

ولم ترَ عینی قبلهم فی زمانهم ولا بعدهم فی الناس إذ أنا یانعُ

ص:119

وقد صیروا للطعن والضرب حُسّرا ونازلوا لو أن ذلک نافعُ (1)

ومع کل هذا التمیّز وهذا المدح أهمل التأریخ ذکرهم ولم یسلط الأضواء علیهم بما یستحقون، لکن ومع کل هذا الإغفال المتعمّد من قبل التأریخ ظلت کربلاء علی ما نقل عنها من النزر الیسیر عن موقفهم وحیاتهم مدرسة للاجیال علی کافة المستویات والاتجاهات فالمرأة تأخذ الدرس من کربلاء والشیخ الکبیر یأخذ الدرس من کربلاء وهکذا الشاب والطفل ولقد کانت من جملة هذه الشخصیات العظیمة فی کربلاء الشهید الحر بن یزید الریاحی هذا الرجل الذی کان وسیبقی مثالاً (کما سیأتی بعد ذلک) للتوبة الصادقة والرجوع الحقیقی إلی الله سبحانه وتعالی والتی شاءت إرادته إلی ان یختم له بخاتمة السعادة فی الدنیا والفوز بالأخری ولعمری إن هذا لهو الفوز المبین.

أقوال العلماء فی الشهید

1 - قال الشیخ السماوی: (کان الحر شریفاً فی قومه جاهلیة وإسلاما(2).

2 - قال الشیخ المامقانی: «ان موقف بطلنا العظیم یوم عاشوراء ودفاعه عن سید شباب أهل الجنة حتی لفظ نفسه الاخیر لا یدع مجالاً للبحث عن وثاقته وجلالته وعظیم منزلته عند الله سبحانه وتعالی فهو ثقة جلیل»(3).

3 - قال الزرکلی: «الحرّ... قائد من أشراف تمیم أرسله الحصین بن نمیر فی

ص:120


1- (1) مقتل الحسین لأبی مخنف: 129.
2- (2) أبصار العین: / 203.
3- (3) تنقیح المقال: 176/18.

ألف فارس لاعتراض الحسین علیه السلام فی قصده الکوفة، فالنظر به، ولما أقبلت خیل الکوفة ترید الحسین وأصحابه أبی الحرّ أن یکون فیهم فانصرف إلی الحسین وقاتل بین یدیه قتالاً عجیباً حتی قتل (163)»(1).

4 - قال الشیخ علی النمازی الشاهرودی: «من شهداء کربلاء مع الحسین وقضایاه مشهورة ومتشرف بسلام الناحیة المقدسة والرجبیة»(2).

5 - قال الشیخ الاحمدی المیانجی: «فاستقدم الحر أمام أصحابه ثم قال: أیها القوم ألا تقبلون من الحسین خصلة من هذه الخصال التی عرضها علیکم فیعافیکم الله من حربه وقتاله قالوا هذا الأمیر عمر بن سعد فکلِّمْه، فکلَّمَه بمثل ما کلمه قبل وبمثل ما کلم به أصحابه قال عمر: قد صرحت لو وجدت إلی ذلک سبیلاً لفعلت»(3).

قبیلة الشهید الکربلائی

اشارة

قبیلة تمیم من القبائل العدنانیة وتنتسب إلی تمیم بن مر بن أدّ بن طابخة بن إیاس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، واطایحة لقب واسمه عمرو، ولتمیم أخوة أربعة: ثعلبة وبنوه یدعون بنی ظاعنة نسبةً إلی أمهم وبکر بن مر وبنوه یدعون بالشعراء، وأراشة بن مر، والغوث بن مر، وقد التحق أبناؤهما بالیمن، وتمیم خامس إخوته ولکن نباهته جعلته یبرز علیهم وتعلو سعته وسمعة ابنائه بین

ص:121


1- (1) الأعلام للزرکلی: 181/2.
2- (2) مستدرکات علم الرجال: 324/2.
3- (3) مواقف الشیعة للأحمدی المیانجی: 296/2.

القبائل»(1).

وقد امتازت هذه القبیلة بکثرة عددها، فهی أکبر القبائل العربیة عدداً، وبطونها کثیرة قدیماً وحدیثا، ومن أشهر بطونها:

1 - بنو سعد بن زید بن مناة بن تمیم بن مر ومنهم الأحنف بن قیس.

2 - بنو مجاشع بن دارم بن مالک بن حنظلة بن مالک بن زید مناة بن تمیم ومنهم الأصبغ بن نباتة.

3 - بنو مازن بن عمرو بن تمیم، ومن أشهرهم: أبو عمرو بن العلاء المازنی النحوی البصری.

4 - بنو عطارد بن عوف بن کعب بن سعد بن زید مناة بن تمیم.

5 - بنو یربوع بن مالک بن حنظلة بن زید مناة بن تمیم ومنهم مالک بن نویرة.

6 - بنو أسید بن عمر بن تمیم بن مر ومنهم أکثم بن صیفی.

7 - بنو الهجیم بن عمرو بن تمیم ومنهم جابر بن سلیم أحد أصحاب رسول الله.

8 - بنو الأعرج (الحارث أو الحرث) بن کعب بن سعد بن زید مناة بن تمیم ومنهم الأسلع بن شریک خادم رسول الله علیهما السلام.

9 - بنو طلعیة بن مالک بن حنظلة بن زید مناة ومنهم القعقاع بن عمرو التمیمی.

ص:122


1- (1) سلسلة القبائل العربیة فی العراق للشیخ علی الکورانی: 5/4.

10 - بنو ریاح (وهی بطن الشهید الکربلائی والذی یرجع الیها الحر) بن یربوع بن حنظلة بن مالک بن زید مناة بن تمیم ومنهم: معقل بن قیس الریاحی والحر بن یزید الریاحی(1).

موقف تمیم من أهل البیت علیهم السلام

کل من قرأ مواقف هذه القبیلة وتمعن بها جیداً فإنه لیخرج بنتیجة مفادها أنها کانت من جملة أهمّ القبائل التی والت آل البیت ودافعت عنهم بکل ما تملک، لا سیما بعد دخولها الإسلام وإخلاصها فیه، وربما یکون حدیث خصال الخیر ومحاسن الأخلاق وثبات العقیدة والإیمان، راجعاً إلی هذا کله. یقول الإمام الرضا علیه السلام:

«قال إن رسول الله علیهما السلام کان یحب أربع قبائل: کان یحب الأنصار، وعبد القیس، وأسلم وبنی تمیم وکان یبغض: بنی أمیة وبنی حنیفة وبنی ثقیف وبنی هذیل»(2).

ولقد تجلی موقف هذه القبیلة من أهل البیت بعد وفاة رسول الله علیهما السلام مباشرة، کما حصل مع مالک بن نویرة التمیمی.

حیث ینقل الفضل بن شاذان القمی/ ص 75 «قال البراء بن عازب، بینما رسول الله علیهما السلام جالس فی أصحابه إذ أتاه وافد من بنی تمیم مالک بن نویرة فقال یا

ص:123


1- (1) سلسلة القبائل العربیة فی العراق للشیخ علی الکورانی: 8/4-9.
2- (2) الخصال: / 227.

رسول الله علمنی الإیمان فقال رسول الله تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریک له وإنی رسول الله وتصلی الخمس وتصوم رمضان وتؤدی الزکاة وتحج البیت وتوالی وصیی هذا من بعدی وأشار إلی علی علیه السلام بیده، ولا تسفک دما ولا تسرق ولا تخون... فلما توفی رسول الله ورجع بنو تمیم إلی المدینة ومعهم مالک بن نویرة فخرج لینظر من قام مقام رسول الله فدخل یوم الجمعة وابو بکر علی المنبر یخطب بالناس فنظر الیه وقال أخو تیم؟ قالوا نعم قال: فما فعل وصی رسول الله الذی أمرنی بموالاته؟ قالوا یا إعرابی الأمر یحدث بعده الأمر قال بالله ما حدث شیء، وإنکم خنتم الله ورسوله ثم تقدم إلی أبی بکر وقال من أرقاک هذا المنبر ووصی رسول الله جالس فقال أبو بکر أخرجوا الأعرابی البوال علی عقبیه من مسجد رسول الله فقام إلیه قنفذ بن عمر وخالد بن الولید فلم یزالا یلکزان عنقه حتی أخرجاه فرکب راحلته وأنشأ یقول:

أطعنا رسول الله ما کان بیننا فیا قوم ما شأنی وشأن أبی بکر

إذا مات بکر قام عمروٌ مقامه فتلک وبیت الله قاصمة الظهر

یدب ویغشاه العشار کأنما یجاهد جماً أو یقوم علی قبر

فلو قام فینا من قریش عصابة أقمنا ولکن القیام علی جمر

قال: فلما استتم الأمر لأبی بکر وجه خالد بن الولید وقال له: قد علمت ما قاله مالک علی رؤوس الأشهاد (ولست آمن أن یفتق علینا فتقاً لا یلتئم فاقتله. فحین أتاه خالد، رکب جواده وکان فارساً یعد بألف، فخاف خالد منه فأمنه وأعطاه المواثیق ثم غدر به بعد أن القی سلاحه فقتله وأعرس بامرأته فی لیلته

ص:124

وجعل رأسه فی قدر فیها لحم جزور لولیمة عرسه وبات ینزو علیها نزو الحمار).

واستمرت هذه النصرة مع أمیر المؤمنین فی حروبه الثلاث لا سیما الجمل حیث أبلی بنو تمیم بلاءً حسناً.

وقف تمیم البصرة مع علیّ علیه السلام فی الجمل
اشارة

ینقل المؤرخون مواقفَ لتمیم فی البصرة ربما لا ینسجم بعضها مع ما قدّمناه من ولاء صادق وإیمان عمیق بأحقیة أهل البیت علیهم السلام لاسیما الإمام أمیر المؤمنین، وربما ینقدح فی الذهن نتیجة هذا کله.

سؤال مهم هو

ما هی الاسباب التی دعت هذه القبیلة إلی مثل هذه المواقف فی البصرة؟ وربما یستطیع الإنسان أن یقول بأن الظروف الخاصة التی مرت بها البصرة والضغوط النفسیة التی تعرض لها أهل البصرة بل وحتی المضایقات الاجتماعیة وغیرها والتی مارستها رؤوس الحرکة المناوئة لعلی علیه السلام کطلحة والزبیر وعائشة لاسیما عبر قادة البطون المهمة أعان علی مثل هذا الأمر.

حتی أن الأحنف بن قیس ونتیجة لکثرة الدعایات والتضلیل الذی اتبعته هذه الجماعة ضد علیّ وأتباعه فی البصرة، دعا جماعته والقریبین منه من بنی تمیم أن لا یسقطوا فی هذه الدعایات ومن ثم لا ینضمّوا إلی جیش عائشة والناکثین، وقد طلب من الإمام أمیر المؤمنین ان یأذن له فی ان ینحاز بأربعة

ص:125

آلاف منهم إلی وادی السباع(1).

ومن هنا قالوا: «تمیم الکوفة کلها مع الإمام أما تمیم البصرة فانقسمت إلی ثلاث فرق: فرقة معه وهم بنو یربوع وفرقة لازمت الحیاد مع الاحنف بن قیس وهم بنو سعد وکانوا الأکثریة، وبنو عمرو بن حنظلة صاروا إلی جانب حرب الجمل»(2).

وحتی مع مواقفهم السلبیة التی صدرت من بعضهم فی حرب الجمل لم یرض أمیر المؤمنین ان یساءَ إلیهم من أی أحد حتی لو کان حبر الأمة عبد الله بن عباس حیث کتب الیه بقوله: «وقد بلغنی تنمرک لبنی تمیم وغلظتک علیهم وان بنی تمیم لم یغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر وإنهم لم یسبقوا بوغم فی جاهلیة ولا إسلام، وإن لهم بنا رحماً ماسة وقرابة خاصة، نحن مأجورون علی صلتها وهم مأزورون علی قطیعتها فارجع أبا العباس رحمک الله فیما جری علی لسانک ویدک من خیر وشر فإنا شریکان فی ذلک وکن عند صالح ظنی بک ولا یفیلن رأیی فیک والسلام»(3).

موقف تمیم البصرة من حرکة الحسین

کتب الحسین إلی رؤوس أصحاب البصرة وأشرافها وکان من جملة من کاتبه الحسین هو یزید النهشلی حیث جمع قومه من بنی أسد وبنی حنظلة وبنی

ص:126


1- (1) انظر شرح النهج: 320/9.
2- (2) سلسلة القبائل العربیة: ح 42/4.
3- (3) نهج البلاغة: 18/3.

سعد وبنی عامر وخطبهم فقال: «یا بنی تمیم کیف ترون موضعی فیکم وحسبی منکم؟ فقالوا: بخ بخ أنت والله فقرة الظهر ورأس الفخر حللت فی الشرق وسطا وتقدمت فیه فرطا ثم قال فإنی قد جمعتکم لأمر أرید أن أشاورکم فیه وأستعین بکم علیه فقالوا إنما والله نمنحک النصحیة ونجهد لک الرأی فقل حتی نسمع فقال: «إن معاویة قد هلک فأهونْ به هالکاً ومفقوداً... وهذا الحسین بن علی بن أبی طالب علیه السلام وابن رسول الله ذو الشرف الأصیل والرأی الأمثل له فضل لا یوصف وعلم لا ینزف وهو أولی بهذا الأمر... ثم کتب إلی الحسین «أما بعد فقد وصل إلیّ کتابک وفهمت ما ندبتنی إلیه ودعوتنی له من الأخذ بحظّی بطاعتک والفوز بنصیبی من نصرک وإن الله لم یخل الأرض من عامل علیها بخیر أو دلیل علی سبیل نجاة وانتم حجة الله علی خلقه وودیعته فی أرضه تفرعتم من زیتونة محمدیة هو أصلها وانتم فرعها فأقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذللت لک کل أعناق بنی تمیم وترکتهم أشد تتابعاً فی طاعتک من الإبل الظماء یوم خمسها لورود الماء»(1).

وهذا یعنی ضمناً أن بنی تمیم کانت متعطشة لنصرة الحسین والدفاع عنه ولو لا المسالح الکثیرة التی امتلأت بها الطرق بین الکوفة والبصرة تحسباً لخروج البصریین إلی کربلاء لرأیت الآلاف یحدقون بأبی عبد الله الحسین یفدونه بالمال والنفس ولتغیرت المعادلة بالکامل ولکن الأمر لله من قبل ومن بعد وهو العزیز الحکیم.

ص:127


1- (1) الملهوف فی قتلی الطفوف: / 111

أسماء الشهداء من بنی تمیم فی کربلاء

اشارة

1 - الحر بن یزید الریاحی 2 - الحجاج بن یزید السعدی. 3 - سعد بن حنظلة التمیمی 4 - شبیب بن عبد الله النهشلی 5 - عمرو بن ضبیعة التمیمی.

أسم الشهید

لم أعثر علی حسب ما بذلت من الجهد أن هناک اختلافاً فی اسم الشهید الکربلائی، فقد ذکره الجمیع بلفظ (الحر) کما عند المجلسی ج 98 / ص 272 والطبری ج 4 / ص 321 وابو مخنف ص 114 والقندوزی فی ینابیع المودة ج 3 / ص 63 ووسیلة الدارین ص 127 وآخرین، نعم ذکر بعضهم (جریر بن یزید الریاحی) بقوله: (عدّه الإمام الصادق من الشهداء کما فی الرجبیة المنسوبة إلیه)(1).

واستقرب بعضهم انه تصحیف للحر بن یزید الریاحی.

والد الشهید الکربلائی

یقول البلاذری وهو یتحدث عن رجالات بنی تمیم وریاح وبطولاتهم: ومن ولده (یزید بن قعنب بن عتاب کان فارساً) وکیف لا یکون فارساً وقد ورثها کابراً عن کابر.

جد الشهید الکربلائی

یقول البلاذری: «ومنهم قعنب بن عتاب بن الحارث بن عمرو بن همام بن

ص:128


1- (1) مستدرکات علم الرجال للشاهرودی النمازی: 129/2.

ریاح وکان فارساً، وفیه یقول جریر:

جیئوا بمثل قعنب والعلهان یوم تسدّی الحکم بن مروان

وقعنب قاتل بجیر بن عبد الله بن سلمة القشیری یوم المروّت».

جد الحر وردافة الملوک

یقول الاستاذ جواد علی فی کتابه، المفصّل فی تاریخ العرب قبل الإسلام (وذکر أن ردافة الملوک کانت من العرب فی بنی عتبا بن هرمی بن ریاح بن یربوع فورثها بنوهم کابراً عن کابر حتی قام الإسلام، وهی أن یثنی بصاحبها فی الشراب، وإن غاب الملک خلفه فی المجلس ویقال: إن أرداف الملوک فی الجاهلیة بمنزلة الوزراء فی الإسلام والردافة کالوزارة قال لبید من قصیدته:

وشهدت أنجیة الأفاقة عالیاً کعبی وأرداف الملوک شهود)

ثم یقول (وکانت الردافة فی الجاهلیة لبنی یربوع خصصها ملوک الحیرة بهم ولم یعطوها لأحدٍ غیرهم حتی انهم کانوا مثل بنی یربوع من تمیم، ولابد وأن یکون لهذا التخصیص سبب اذ لایعقل أن یکون جاء إلی بنی یربوع عفواً، فهو فضل وتفضل، وقضیة التفضیل والتقدیم قضیة حساسة جداً ویحسب لها ألف حساب عند العرب لما لها من مس بالمنازل وبکرامة القبائل والسادات وقد ذهبت أرواح بسبب تقدیم ملک سیدَ قبیلةٍ علی سیدٍ آخرَ فی موضع جلوسه منه أن جعله اقرب الیه منه وفی جهته الیمنی لان له فی هذا التقدیم علی عرفهم إیثاراً لمن قدم وتفضیلاً له علی بقیة الحضور فهل یعقل اذن أن یکون ملوک الحیرة قد أعطوا الردافة لبنی یربوع عفواً).

ص:129

أبناء عم الشهید الکربلائی

وهم کثیر واخص بالذکر منهم:

1 - (الأبرد بن قرة بن نعیم بن قعنب بن عتاب وکان سیداً)(1).

2 - الشاعر الأخوص المعروف (زید بن عمر بن قیس بن عتاب بن هرمی الریاحی الیربوعی التمیمی المعروف بالأخوص: شاعر فارس وهو القائل:

وکنت إذا ما باب ملک قرعته قرعت بآباءٍ ذوی شرف ضخمِ (2)

لقاء الحسین علیه السلام بالحر الریاحی

اشارة

لقد تحدّث الکثیر من المؤرخین وغیرهم عن هذا اللقاء وما جری فیه من مواقف وأحداث مهمة، وسنحاول ان نسلّط الأضواء علی هذا اللقاء بشیء من التفصیل من خلال النقاط التالیة:

النقطة الأولی: وادی السباع
اشارة

(3)

مکان التقاء الحسین بالحرّ: تختلف الروایات التی تحدثت عن مکان هذا اللقاء إلی خمسة أقوال أساسیة وهی علی النحو التالی:

القول الأول

أن اللقاء حصل فی منطقة وادی السباع کما یذهب إلی ذلک ابن قتیبة فی

ص:130


1- (1) جمهرة انساب العرب: / 228.
2- (2) الاعلام للزرکلی: 60/3.
3- (3) وادی فی الطریق من الکوفة إلی المدینة.

الإمامة والسیاسة حین یقول: (فلقیه الجیش علی خیولهم بوادی السباع، فلقوهم ولیس معهم ماء فقالوا: یا بن رسول الله أسقنا قال: فأخرج لکل فارس صحفة من ماء فسقاهم بقدر ما یمسک رمقهم)(1).

القول الثانی

ذو حسم(2) کما یذهب إلی ذلک الشیخ المفید فی الإرشاد حیث یقول: (قال علیه السلام: ما لنا ملجأ فنلجأ إلیه فنجعله فی ظهرونا ونستقبل القوم بوجه واحد، فقلنا بلی هذا ذو حسمی إلی جنبک، نمیل إلیه عن یسارک فإن سبقت إلیه فهو کما ترید، فأخذ إلیه ذات الیسار وملنا معه، فما کان بأسرع من أن طلعت علینا هوادی الخیل فتبیناها.... وجاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر بن یزید التمیمی حتی وقف هو وخیله مقابل الحسین علیه السلام)(3).

القول الثالث: القادسیة

(4)

کما یذهب إلی ذلک المسعودی فی مروج الذهب حیث یقول: (فلما بلغ الحسین القادسیة لقیه الحر بن یزید التمیمی فقال له: أین ترید یا بن رسول الله؟ قال: أرید هذا المصر)(5).

ص:131


1- (1) الإمامة والسیاسة لابن قتیبة: 11//2.
2- (2) ذو حُسُم بضمتین أو بضم ففتح وهو اسم جبل کبیر علی مرحلتین من الکوفة.
3- (3) الارشاد للشیخ المفید: 78/2.
4- (4) موضع بین الکوفة والمدینة بینه وبین الکوفة (15) فرسخاً.
5- (5) مروج الذهب للمسعودی: 61/3
القول الرابع: زبالة

(1)

کما یذهب إلی ذلک الولاشرذی فی کتابه البدء والتاریخ حیث یقول: (ولما بلغ الحسین قتل مسلم بن عقیل همّ بالرجوع إلی المدینة فبعث الیه عبید الله بن زیاد الحر بن یزید التمیمی فی ألف فارس فلقی الحسین فی زبالة فقال الحسین علیه السلام: لم آتکم حتی انتهت إلیّ کتبکم)(2).

القول الخامس: الرهیمة

(3)

کما یذهب إلی ذلک المجلسی فی بحاره حیث یقول: (وبلغ عبید الله بن زیاد لعنه الله الخبر وأن الحسین علیه السلام قد نزل الرهیمة فأسری إلیه حر بن یزید فی ألف فارس)(4).

النقطة الثانیة: وقت إرسال الحر الریاحی إلی الحسین علیه السلام
اشارة

یظهر خلال الروایات أن إرسال الحر إلی الحسین علیه السلام لم یکن إلا بعد استتباب الأمور بید عبید الله بن زیاد فی الکوفة وإجهاضه لحرکة مسلم بن عقیل وقتله مع جملة من أصحابه والمجاهدین بین یدیه أمثال هانی بن عروة المرادی، وبعد قتل کل من سفیریّ الإمام الحسین علیه السلام، عبد الله بن یقطر وقیس بن مُسهّر

ص:132


1- (1) قریة عامرة تقع بعد الشقوق بقلیل للوارد من مکة إلی الکوفة.
2- (2) البدء والتاریخ للولاش رذی: 11/6.
3- (3) الرهیمة: وهی ضیعة قرب الکوفة، بینها وبین خفیة ثلاثة أمیال وبعدها القطیفة مقربا معجم البلدان للحموی: 109/3.
4- (4) البحار للمجلسی: 314//44.

الصیداوی (رض)، وبعد أن وصل إلیه أن الحسین فی طریقه إلی العراق والی الکوفة تحدیداً، یقول ابن عساکر وهو یتحدث عن الزبیر بن الأروح التمیمی: «ثم إنّ عبید الله بن زیاد لما قتل مسلماً وهانئاً بعث برؤوسهما مع هانئ بن أبی حبة الوادعی والزبیر بن الأروح التمیمی إلی یزید بن معاویة.... وکتب یزید بن معاویة: أما بعد فإنک لن تعدو أن کنت کما أحب، عملت عمل الخادم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش وقد أغنیب وکتبت وصدقت ظنی بک ورأیی فیک وقد دعوت رسولیک فسألتهما وناجیتهما فوجدتهما فی رأیهما وفضلهما کما ذکرت، فاستوص بهما خیرا، وإنه قد بلغنی أن الحسین قد توجه نحو العراق، فضع المناخر والمسالح واحترس»(1).

وعلی هذا الأساس قام ابن زیاد بجملة من الأعمال الاحترازیة التی حاول من خلالها تأمین الکوفة من أن یصل إلیها الحسین علیه السلام ومن ثم قد تجری الریاح بما لا تشتهی السفن. یقول هبة الدین الحسینی الشهرستانی:(فجائز أن یأتیها الحسین بجنود لا قبل له بها، أو أن یتمرکز بالقادسیة فتلتف حوله قبائل بادیة الشام وعشائر الفرات - ما بین الکوفة والبصرة - أو یحدث من اقترابه دوی ینعکس صداه فی داخل الکوفة فیستفز الحسیات والنفسیات فیثورون علیه ویستخرجون من سجونه وجوه الشیعة ورؤوس القبائل، فلا یمسی ابن زیاد إلا قتیلاً أو أسیراً، وعلی أن یتهدم کل ما بناه ولا یعود علیه التسامح إلا بالخسران، وعلیه اندفع ابن زیاد بجمع قواه إلی تأمین

ص:133


1- (1) تاریخ ابن عساکر: 306/18 (دار الفکر للطباعة) المحقق عمرو بن غرامة العمری 1415 ه..

الخارج بعد تعزیز الامن فی الداخل) (1) ، ومن هنا تراه قام بجملة من الأعمال الاستباقیة - إن صح التعبیر - والتی کانت واحدة منها فرض المناخر والمسالح علی مسافات بعیدة خارج الکوفة سواءٌ من جهة المدینة أو من جهة البصرة، وقد وکّلَ ابن زیاد فی هذا الأمر جماعة منهم الحصین بن نمیر أو تمیم. یقول النویری فی نهایة الأرب:«ولمّا بلغ ابن زیاد مسیر الحسین علیه السلام من مکة بعث الحصین ابن نمیر (تمیم) التمیمی صاحب شرطته، فنزل القادسیة، ونظم الخیل ما بین القادسیة إلی خفّان(2) ، وما بین القادسیة إلی القطقطانة (3) والی جبل لعلع(4))(5) ، وهی منطقة کما تری واسعة جداً وتقدر بأکثر من 400 کم لاسیما إذا أضفنا إلیها ما ذکره المؤرخون بقولهم: (وکان عبید الله بن زیاد: أمر، فأخذ ما بین واقعة إلی طریق الشام والی طریق البصرة فلا یدعون أحداً یلج ولا أحداً یخرج) (6) ویقول آخرون: (ثمّ إن ابن زیاد وجه الحصین بن نمیر (تمیم)، وکان علی شرطته فی أربعة آلاف فارس من أهل الکوفة،

ص:134


1- (1) نهضة الحسین هبة الدین الشهرستانی: / 111.
2- (2) نهایة الأرب للنویری: 412/2.
3- (3) القطقطانة: موضع قرب الکوفة من جهة البرّیة بالطف به کان سجن النعمان بن المنذر. معجم البلدان: 416/3.
4- (4) لعلع: منزل بین البصرة والکوفة. معجم البلدان: 23/4.
5- (5) تاریخ الطبری: 401/5.
6- (6) أنساب الاشراف للبلاذری: 170/3.

وأمره ان یقیم فی القادسیة إلی القطقطانة، فیمنع من أراد النفوذ من ناحیة الکوفة إلی الحجاز إلا من کان حاجاً أو معتمراً أو من لا یتهم بممالاة الحسین) (1) ، ومن ثم تکون المنطقة مسکرة بالکامل بالجنود والمفارز ومن هنا نعرف سر سقوط کل من سفیریّ الحسین علیه السلام قیس بن مسهر الصیداوی وعبد الله بن یقطر (رض) بید الحصین بن تمیم، وعلی کل حال فقط تمرکز الحصین فی القادسیة وصار یراقب المنطقة کلها من خلال الدوریات الثابتة والمتحرکة.

روایتان فی إرسال الحر الریاحی: الأولی: یقول الخوارزمی: (وکان مجیء الحر بن یزید من القادسیة، وکان عبید الله بن زیاد بعث الحصین بن تمیم وأمره أن ینزل القادسیة، ویقوم الحر بین یدیه فی ألف فارس)(2) وعلیه یکون الحصین هو الذی بعث الحر إلی الحسین.

الثانیة: أن الذی أرسله إلی الحسین هو ابن زیاد نفسه، وهذا ما یمکن للانسان أن یتلمسه فی روایة ابن نما حیث یقول: (إنّ الحر لمّا أخرجه ابن زیاد إلی الحسین وخرج من القصر نودی من خلفه أبشر یا حر بالجنة، قال فالتفت فلم أرَ أحداً، فقال فی نفسه: والله ما هذه بشارة وأنا أسیر إلی حرب الحسین علیه السلام، وما کان یحدث نفسه بالجنة فلما صار إلی الحسین علیه السلام قصّ علیه الخبر فقال له

ص:135


1- (1) الاخبار الطوال للدینوری: 243.
2- (2) مقتل الخوارزمی: 228/1.

الحسین علیه السلام: "لقد أصبت أجراً وخیراً")(1).

وثمرة هذا الخلاف

ستأتی بعد ذلک ونحن ندرس شخصیة الحر ونحلل مواقفه التی صدرت منه سواءٌ قبل التحاقه بالحسین أو بعده، وأنه لم یکن من المقربین لابن زیاد بل ولا یُعُّد من جملة خواصه کشمر بن ذی الجوشن وغیره، وإن واحداً من الأدلة التی سوف نسوقها هی الروایة المشهورة بأن الحصین هو الذی أرسل الحر إلی الحسین ولیس عبید الله بن زیاد، وإن کان الأمر فیهما واحداً إلا أنه ومما لاشک ولاریب فیه ان ارسال ابن زیاد له تعنی إضافة إلی اداء المهمة قربه وخصوصیته منه.

ردّ السید الأمین علی اشتباه ابن عساکر

قال السید الأمین فی أعیان الشیعة: «قال ابن الأثیر: کان مجیء الحر من القادسیة، أرسله الحصین بن تمیم فی ألف کان بینه وبین القادسیة ثلاثة أمیال فلقیه الحر بن یزید التمیمی فقال له: إرجع فإنی لم أدع لک خلفی خیاراً، وأخبره الخبر فهمَّ أن یرجع وکان معه أخوة مسلم فقالوا: والله لا نرجع حتی نصیب ثأرنا أو نقتل فساروا»(2) ؟

یقول السید الأمین معلقاً: «وهذا اشتباه أن الحر جاء لیمنع الحسین من دخول الکوفة وقد منعه من الرجوع ولم یذکر أحد انه اشار علیه بالرجوع، والحسین بلغه

ص:136


1- (1) مثیر الأحزان لابن نما: 95.
2- (2) أعیان الشیعة للسید الأمین: 611/4.

قتل مسلم قبل ذلک»(1).

النقطة الثالثة: وقائع ما حدث فی هذا اللقاء

یقول الشیخ المفید وغیره عن وقائع هذا اللقاء وما حصل فیه: «ثمّ سار علیه السلام من بطن العقبة حتی نزل شراف، فلما کان فی السحر أمر فتیانه فاستقوا من الماء فأکثروا، ثمّ سار منها حتی انتصف النهار، فبینما هو یسیر إذ کبّر رجل من أصحابه فقال له الحسین: الله أکبر، لم کبرت؟ قال: رأیت النخل، فقال له جماعة من أصحابه: والله إن هذا المکان ما رأینا به نخلة قط، فقال الحسین علیه السلام: فما ترونه؟ قالوا: نراه والله آذان الخیل قال: أنا والله أری ذلک ثم قال علیه السلام: ما لنا ملجأ نلجأ إلیه فنجعله فی ظهورنا، ونستقبل القوم بوجد واحد؟ فقلنا: بلی، هذا ذو حمی إلی جنبک، تمیل الیه عن یسارک، فإن سبقت الیه فهو کما ترید، فأخذ إلیه ذات الیسار وملنا معه، فما کان بأسرع من ان طلعت علینا هوادی الخیل، فتبیناها وعدلنا، فلما رأونا عدلنا عن الطریق عدلوا إلینا کأن اسنتهم الیعاسیب، وکأنّ رایاتهم أجنحة الطیر، فاستبقنا إلی ذی حسمی فسبقناهم إلیه، وأمر الحسین علیه السلام بأبنیته فضربت. وجاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر بن یزید التمیمی حتی وقف هو وخیله مقابل الحسین علیه السلام فی حر الظهیرة، والحسین وأصحابه معتمون متقلدو أسیافهم فقال الحسین علیه السلام لفتیانه: أسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشفوا الخیل ترشیفا ففعلوا وأقبلوا یملؤون القصاع والقصاص من الماء ثم یدنونها من الفرس، فإذا عبَّ فیها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقوا آخر، حتی سقوها کلها.

ص:137


1- (1) المصدر السابق.

فقال علی بن الطعان المحاربی: کنت مع الحر یومئذ فجئت فی آخر من جاء من أصحابه، - فلما رأی الحسین علیه السلام ما بی وبفرسی من العطش قال:" لم تخل الروایة "والروایة عندی السقاء، ثم قال:" یابن أخی أنخ الجمل "فانخته فقال: اشرب فجعلت کلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسین علیه السلام: أخنث السقاء أی اعطفه، فلم أدر کیف أفعل فقال فخنثه فشربت وسقیت فرسی.

وکان مجیء الحر بن یزید من القادسیة، وکان عبید الله بن زیاد بعث الحصین بن نمیر (تمیم) وأمره ان ینزل القادسیة، وتقدّم الحر بین یدیه فی الف فارس یستقبل لهم حسیناً، فلم یزل الحر مواقفاً للحسین علیه السلام حتی حضرت صلاة الظهر، وأمر الحسین الحجاج بن مسروق ان یؤذن، فلما حضرت الإقامة خرج الحسین علیه السلام فی إزار ورداء ونعلین فحمد الله وأثنی علیه ثم قال:

«أیها الناس، إنی لم آتکم حتی أتتنی کتبکم وقدمت علیّ رسلکم: أن أقدم علینا فإنه لیس لنا إمام، لعلّ الله أن یجمعنا بک علی الهدی والحق فإن کنتم علی ذلک فقد جئتکم فأعطونی ما أطمئن إلیه من عهودکم ومواثیقکم، وإن لم تفعلوا وکنتم لمقدمی کارهین انصرفت عنکم إلی المکان الذی جئت منه إلیکم، فسکتوا عنه ولم یتکلم أحد منهم بکلمة، فقال المؤذن: أقم فأقام الصلاة فقال للحر: أترید ان نصلی بأصحابک؟ قال: لا، بل تصلی ونصلی بصلاتک، فصلّی بهم الحسین بن علیثم دخل فإجتمع إلیه أصحابه وانصرف الحر إلی مکانه الذی کان فیه، فدخل خیمة قد ضربت له واجتمع إلیه جماعة من أصحابه، وعاد الباقون إلی صفهم الذی کانوا فیه فأعادوه، ثم أخذ کل رجل منهم بعنان دابته وجلس فی

ص:138

ظلها، فلما کان وقت العصر، أمر الحسین بن علی علیه السلام أن یتهیأوا للرحیل ففعلوا، ثم أمر منادیه فنادی بالعصر وأقام، فاستقام الحسین علیه السلام فصلی بالقوم ثم سلم وانصرف الیهم بوجهه فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: أما بعد أیها الناس فإنکم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله یکن أرضی لله عنکم، ونحن أهل بیت محمد، وأولی بولایة هذا الأمر علیکم من هؤلاء المدّعین ما لیس لهم، والسائرین فیکم بالجور والعدوان، وإن أبیتم إلا کراهیة لنا والجهل بحقنا، فکان رأیکم الآن غیر ما أتتنی به کتبکم وقدمت به علی رسلکم انصرفت عنکم فقال الحر: أنا والله ما أدری ما هذه الکتب والرسل التی تذکر، فقال الحسین لبعض اصحابه: یا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجین اللذین فیهما کتبهم إلیّ، فأخرج خرجین مملوءین صحفاً فنثرت بین یدیه، فقال له الحر: إنا لسنا من هؤلاء الذین کتبوا إلیک، وقد أمرنا إذا نحن لقیناک، أن لا نفارقک حتی نقدمک الکوفة علی عبید الله فقال الحسین علیه السلام: الموت أدنی إلیک من ذلک ثم قال لأصحابه: قوموا فارکبوا فرکبوا وانتظر حتی رکب نساؤهم، فقال لأصحابه: انصرفوا فلما ذهبوا لینصرفوا حال القوم بینهم وبین الانصراف فقال الحسین علیه السلام للحر: ثکلتک أمک، ما ترید؟

فقال له الحر: أما لو غیرک من العرب یقولها لی وهوعلی مثل الحال التی أنت علیها، ما ترکت ذکر أمه بالثکل کائناً من کان، ولکن والله مالی إلی ذکر إمک من سبیل إلا بأحسن ما یُقدر علیه، فقال له الحسین: فما ترید؟ قال: أرید أن أنطلق بک إلی الأمیر عبید الله بن زیاد، قال: إذا والله لا أتبعک قال: إذا والله لا أدعک. فترادا القول ثلاث مرات، فلما کثر الکلام بینهما قال له الحر: إنی لم أؤمر

ص:139

بقتالک، إنما أمرت أن لا أفارقک حتی أقدمک الکوفة، فإذا أبیت فخذ طریقاً لا یدخلک الکوفة ولا یردک إلی المدینة، تکون بینی وبینک نصفاً، حتی أکتب إلی الأمیر، وتکتب إلی یزید او إلی عبید الله فلعلّ الله إلی ذلک أن یأتی بأمرٍ یرزقنی فیه العافیة من أن أبتلی بشیء من أمرک، فخذ ها هنا، فتیاسر عن طریق العذیب والقادسیة، وسار الحسین علیه السلام وسار الحر فی أصحابه یسایره وهو یقول له: یا حسین إنی أذکرک الله فی نفسک، فإنی أشهد لئن قاتلت لتقتلن، فقال له الحسین: أفبالموت تخوفنی؟ وهل یعدو بکم الخطب ان تقتلونی؟ وسأقول کما قال أخو الأوس لابن عمه وهو یرید نصرة رسول الله علیهما السلام فخوفه ابن عمه وقال: أین تذهب؟ فإنک مقتول فقال:

سأمضی فما بالموت عار علی الفتی إذا ما ثوی حقاً وجاهد مسلماً

وآسی الرجال الصالحین بنفسه وفارق مثبوراً وباعد مجرما

فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم کفی بک ذلاً أن تعیش وتُر غما(1)

فلما سمع ذلک الحر تنحّی عنه فکان یسیر بأصحابه ناحیة والحسین علیه السلام فی ناحیة أخری).

النقطة الرابعة: مواقف تستحق التأمل فی النص المتقدم
اشارة

لقد حمل النص المتقدم نقاطاً مهمةً ومواقف تستحق النظر والتأمل کثیراً وها نحن نحاول أن نسلط الأضواء علی أهمها وهی کالتالی:

ص:140


1- (1) الثورة الحسینیة جذورها ومعطیاتها للسید الحسین التقی آل بحر العلوم: 478 2.
أولاً: الحسین علیه السلام یسقی من قتله عطشاناً

لیس غریباً علی الإنسان أن یحسن إلی أهله وأقربائه وأحبته، بل ولیس غریباً أن یحسن الإنسان حتی لأولئک الذین یظهرون له المحبة فی ألسنتهم ویبطنون البغض والکراهیة له فی قلوبهم - لاسیما والإنسان المسلم مأمورٌ ومکلف من قبل الله عز وجل ووفق تعالیم الشریعة أن یتعامل مع الناس علی أساس الظاهر ولا یجوز له ان یتعداه إلی ما فی نفوسهم ونوایاهم - ولکن الغریب والمثیر للدهشة والعجب فی نفس الوقت هو أن یحسن الإنسان إلی من یرفعون السیف فی وجهه یریدون بذلک قتله وتقطیع أشلاء جسده! الغریب ان یبکی الإنسان علی من یریدون سفک دمه الطاهر - کما حصل مع الحسین علیه السلام - رأفة ورحمة وشفقةً علیهم لأنهم سیدخلون النار بسببه أو بعبارة أصح بسبب قتلهم إیاه! ولکنه الإسلام بکل ما یحمل من خلقٍ سامٍ ومبادئ حقة وإنصاف للغیر حتی ولو کان عدواً! ألم یقل القرآن الکریم:

«وَ لا یَجْرِمَنَّکُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلی أَلاّ تَعْدِلُوا1» .

ألم یقل رسول الله علیهما السلام لعلیّ بأن (خیر أخلاق الدنیا والآخرة أن تصل من قطعک وتعطی من حرمک وتعفو عمن ظلمک)(1).

إنه المحکّ الذی تظهر فیه حقائق الناس ومعادنهم ونفائس نفوسهم وخسائسها، فهناک من یسقطه هوی نفسه وحقده وحسده وأنانیته أمام خصمه

ص:141


1- (2) المصنف لابن أبی شیبة: رقم الحدیث 37154.

وعدوه، وهناک من یتعالی علی کل جراحاته وآلامه فیتعامل مع خصمه کما لو کان أحبَّ الناس إلیه.

لقد جسّد الحسین علیه السلام فی حرکته الشریفة مع الحر وجیشه أعلی درجات المثل العالیة والأخلاق النبیلة وسعة الصدر المنقطعة النظیر والتی لا یمکن لها أن تصدر إلا من هذه البیوت الطاهرة دون سواها مهما عظمت وجلّت فی أعین الناس. وإن من الملفت حقاً فی النص المتقدم هو سقی الحسین علیه السلام لعلی بن الطعان المحاربی وهو الذی کان من شدة عطشه غیر قادر علی أن یشرب الماء حیث قام إلیه الإمام بنفسه الشریفة وسقاه وجواده، یقول الشیخ التوستری فی باب سقی الماء: (والظاهر أنه مستحب حتی مع الکفار فی حال العطش وللبهائم، وواجب فی بعض الأوقات وأجره أول أجر یعطی یوم القیامة، وقد تحققت بالإمام الحسین أنواع السقی کلها، حتی سقی المخالفین له والسقی لدوابهم بنفسه النفیسة)(1) ، ولقد ورث الحسین علیه السلام هذا النوع العالی من الخلق الرفیع من أبیه أمیر المؤمنین الذی قال لأصحابه وهم یقاتلون عدوهم معاویة بعد أن سیطروا علی مصدر الماء (دعوهم فإن الماء لا یمنع) ومن ثم یکون الحسین بحرکته هذه قد ورث النفاسة من أبیه علی، ویزید بحرکته تلک قد ورث الخساسة من أبیه معاویة وشتان ما بین النفاسة والخساسة.

وأخیراً أنقل ما رواه ابن خلکان (قال الشیخ نصر الله بن مجلی مشارف الصناعة بالمخزن وکان من ثقات أهل السنة: رأیت فی المنام علی بن أبی طالب

ص:142


1- (1) الخصائص الحسینیة للتستری: / 33.

فقلت له یا أمیر المؤمنین تفتحون مکة فتقولون: من دخل دار أبی سفیان فهو آمن، ثمّ یتم علی ولدک الحسین فی یوم الطف ما تمّ، فقال أما سمعت بأبیات ابن الصیفی فی هذا، فقلت لا فقال اسمعها منه ثمّ استیقظت فبادرت إلی دار (حیص بیص) فخرج الی فذکرت له الرؤیا فشهق وأجهش بالبکاء وحلف بالله إن کانت خرجت من فمی أو خطی إلی أحدٍ وإن کنت نظمتها إلا فی لیلتی هذه ثمّ أنشدنی الأبیات:

ملکنا فکان العفو منا سجیة ولما ملکتم سال بالدم أبطحُ

وحلّلْتم قتل الاساری وطالما فککنا أسیراً منکم کاد یذبحُ

وفی یوم بدرٍ مذ أسرنا رحالکم غدونا علی الأسری نعفّ ونصفحُ

فحسبکم هذا التفاوت بیننا فکلّ إناءٍ بالذی فیه ینضحُ (1)

ثانیاً: الحرُ یصلّی خلف الحسین مأموماً
اشارة

لاشک ولاریب أن الحر لم یکن مضطراً ولا مجبراً للصلاة خلف الحسین علیه السلام، فضلاً عن دعوی من کان معه من الجند للصلاة خلفه، وإذا لم یکن الحر کذلک فلابد من السؤال عن معنی هذه الصلاة وعن الدوافع الکامنة وراءها؟ علماً أن الحر کان یعلم قبل غیره أن مثل هذه الصلاة سوف تکلفه کثیراً فیما لو اطلع ابن زیاد علیها وهو یقطع انه سوف یطلع علیها إن آجلاً أو عاجلاً. ولهذا أعتقد ان هناک دافعین أساسیین للحر فی الصلاة خلف

ص:143


1- (1) أدب الطف: 208/3.

الحسین علیه السلام.

1 - معرفة الحر بالحسین علیه السلام

وما یمثله فی المجتمع الإسلامی من امتداد دینی وإسلامی کبیر، إضافة إلی امتداده النسبی المبارک لصاحب الرسالة الخاتمة علیهما السلام. ومن ثم کان یعتقد أن الصلاة خلف الحسین علیه السلام هی خیر موضوع، وقربان کل تقی ولهذا بمجرد أن عرضت علیه من قبل الحسین علیه السلام قبلها.

2 - تواضع الحر أمام الحسین علیه السلام

وهذا الأمر یمکن للإنسان ان یتلمسه بشکل واضح لاسیما إذا عاشها فی خیاله وتصوّرها فی بصیرته، حیث ینزل قائد کبیر محنّک له امتداده الاجتماعی والقبلی فی الکوفة - وهو قادم علی رأس الف رجل - من کل هذه العزّة الظاهریة والسلطنة المادیة من أجل الصلاة خلف أبی عبد الله الحسین، لاسیما إذا عرفنا - وهذا أمر شاهد ومحسوس - أن الإنسان فی مواقف کهذه تأخذه الأنفة والعزة والکرامة من أن یتواضع إلی شخص بعث بالأساس من أجل التضییق علیه.

ثالثاً: خطبتا الحسین علیه السلام فی ذی حسم

لقد نقل المؤرخون أن الحسین علیه السلام خطب فی ذی حسم خطبتین واحدة بعد صلاة الظهر والأخری بعد صلاة العصر، فقد نقل الدینوری فی الأخبار الطوال وغیره خبر الخطبة الأولی بقوله: (ثم جلسوا جمیعاً فی ظل خیولهم وأعنتها فی أیدیهم حتی إذا حضرت الظهر قال الحسین للحر: أتصلی معنا، أم تصلی بأصحابک وأصلی بأصحابی؟ قال الحر: بل نصلی جمیعاً بصلاتک، فتقدم الحسین

ص:144

فصلی بهم جمیعاً، فلما انفتل من صلاته حوّل وجهه إلی القوم، ثم قال:

الخطبة الأولی: (أیها الناس، معذرة إلی الله، ثم إلیکم، إنی لم آتکم حتی أتتنی کتبکم، وقدمت علیّ رسلکم، فإن أعطیتمونی ما اطمئن إلیه من عهودکم ومواثیقکم، دخلنا معکم مصرکم، وإن تکن الأخری انصرفت من حیث جئت فاسکت القوم فلم یردوا علیه)(1) وفی روایة أخری (حتی حضرت الصلاة: صلاة الظهر، فأمر الحسین الحجاج بن مسروق الجعفی أن یؤذن فأذن، فلما حضرت الإقامة خرج الحسین فی إزار ورداء ونعلین، فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: أیها الناس، إنها معذرة إلی الله عز وجل وإلیکم: إنی لم آتکم حتی أتتنی کتبکم وقدمت علیّ رسلکم، أن أقدم علینا فإنه لیس لنا إمام، لعل الله یجمعنا بک علی الهدی، فإن کنتم علی ذلک فقد جئتکم، فإن تعطونی ما أطمئن إلیه من عهودکم ومواثیقکم أقدم مصرکم، وإن لم تفعلوا وکنتم لمقدمی کارهین انصرفت عنکم إلی المکان الذی أقبلت منه إلیکم قال: فسکتوا)(2).

رد شبهة أن الحسین علیه السلام أراد الرجوع من حیث أتی

کل من یقرأ النص المتقدم ترد علی ذهنه مجموعة من الأسئلة والشبهات حول قول الإمام الحسین علیه السلام انصرفت عنکم إلی مکان من الأرض، فهل فکر الحسین علیه السلام حقاً فی الرجوع إلی مدینة جده وهو القائل ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنما خرجت لطلب الإصلاح فی أمة جدی علیه السلام، أرید أن

ص:145


1- (1) الأخبار الطوال للدینوری: / 347.
2- (2) تاریخ الطبری: 400/5، العبرات للمحمودی: 389/1.

آمر بالمعروف وأنهی عن المنکر وأسیر بسیرة جدی وأبی علی بن أبی طالب، فمن قبلنی بقبول الحق فالله أولی بالحق، ومن ردّ علی أصبر حتی یحکم الله وهو خیر الحاکمین»(1) ؟ وفهل تم الإصلاح علی یدی الإمام علیه السلام حتی یرجع من حیث أتی؟ وإذا کان خروج الإمام علی یزید وأتباعه یُعَدُ تکلیفاً شرعیاً علی الإمام الحسین علیه السلام، فهل یجوز له أن یتنازل عن هذا التکلیف؟ ثم وبغض النظر عن کل ما تقدم، ألا یمکن أن تستثمر السلطة الأمویة مثل هذا التنازل والنکول لصالحها من خلال الإشاعة أن الحسین إنما خرج من أجل الوصول إلی الحکم وإلی مطامع هذه الدنیا وزبرجها (معاذ الله) ولیس من أجل إقامة العدل والإصلاح کما ذکرهما الإمام علیه السلام؟

وبعد ذلک کله ألم یکن الحسین علیه السلام معصوماً ومسدداً من قبل السماء؟ وهذا ما یعتقده المسلمون جمیعاً بنص آیة التطهیر ونص حدیث النبی علیهما السلام أنه إمام قام أو قعد، وعلیه فکیف یدخل الحسین علیه السلام مدخلاً غیر متأکد منه ومن عواقبه وآثاره حتی إذا ما وصل إلی مرحلة من مراحل مسیرته یسأل الناس أن یستمر أو أن یرجع من حیث أتی؟ وإلی ما شاء الله تعالی من هذه الأسئلة الکثیرة التی تعلق فی ذهن القارئ والسامع للنص المتقدم.

خامساً: هل کان الحر صادقاً مع الحسین علیه السلام

ربما لا یجد الإنسان المتأمل فی النص المتقدم بداً من أن یسأل هذا السؤال، بل تجد أن مثل هذا السؤال یأخذ بعنق الباحث والقارئ باتجاهه لا إرادیاً.

ص:146


1- (1) مقتل الخوارزمی: 189/1.

فهل کان الحر صادقاً مع الحسین علیه السلام فیما ذکره له، کما فی قوله، إنا لسنا من هؤلاء الذین کتبوا إلیک وقوله: «إنا والله لا ندری ما هذه الکتب والرسل التی تذکر»؟

وربما یهون الخطب مع العبارة الأولی «إنا لسنا من هؤلاء الذین کتبوا إلیک» حیث یمکن حمل کلامه علی أنه لم یکن معتقداً بهذا العمل، أو لا أقل ضرورته، أو حتی أسلوبه وطریقته، ومن ثم تحیّد جانباً إلی حین انجلاء الأوضاع بشکل واضح، وعلیه فلم یصدر منه فی تلک الحقبة أی لون من التفاعل مع هذه الرسائل لا بشکل صریح من خلال مراسلة الحسین علیه السلام من یراسلون ولا من خلال حضور الاجتماعات التی کانت تعقد بشکل سری قبل مجیء مسلم بن عقیل إلی الکوفة، ولا فی تلک التی کانت تعقد بشکل علنی بعد مجیئه علیه السلام.

ومن ثم یکون الحر صادقاً فیما ادعی وذکر للحسین علیه السلام، علماً أن الحر لم یکن راضیاً علی فعال بنی أمیة ولا بأزلامهم فی الکوفة مع أهل البیت علیه السلام وشیعتهم لا سیما الحسین علیه السلام وأهل بیته وأصحابه وهذا ما یتلمسه الإنسان بشکل واضح عندما یقرأ خطبة الحر علیه السلام یوم العاشر من المحرم والتی أبدی فیها جملة من النقاط المهمة التی سوف نُسلّط الأضواء علیها لاحقا إن شاء الله تعالی.

وهذه نقطة مهمة بتقدیری فی فهم شخصیة الحر وفهم سر الانقلاب السریع الذی جری وحصل فی حیاته، ومن دون فهم هذه النقطة لا یمکن لنا ان نعی الصور المتناقضة فی شخصیته کما یوردها لنا المؤرخون.

أقول إن الخطب ربما یهون مع العبارة الأولی، ولکن الخطب کل الخطب

ص:147

فی العبارة الثانیة وهی قوله:«انا والله لا ندری ما هذه الکتب والرسل التی تذکر» فهل یمکن أن یعقل أن إنساناً بمستوی الحر وشخصیته فی الکوفة لا یعلم بما جری وحصل فیها من تنکّر وکرهٍ لبنی أمیّة من أعلی قیادتها إلی أدناها؟

وإذا کان الأمر یمکن لنا أن نتفهمه فی عدم علمه فی تلک المراسلات التی حصلت بین الحسین علیه السلام وشیعته بشکل سری قبل هلاک معاویة، فإن الأمر یکاد یصعب فهمه ویتعسر کثیراً فی عدم معرفة الحر بالمراسلات التی جرت بین أهل الکوفة وبین الحسین علیه السلام والتی لم یشترک فیها شیعته فحسب بل کتب للحسین کل أجناس الکوفة وتواجّهاتها والتی وصل الأمر فیها إلی درجة من الوضوح والانکشاف بحیث شکل ثقلاً عبر جملة من شخصیاتها الفاسدة والمنحرفة فکتبت فی أنساب الأشراف:«وکتب إلیه أشراف أهل الکوفة شبث بن ربعی الیربوعی ومحمد بن عمیر بن عطارد بن حاجب التمیمی وحجار بن أجبر العجلی، ویزید بن الحارث بن یزید بن رویم الشیبانی، وعزرة بن قیس الأحمسی، وعمرو بن الحجاج الزبیدی «أمّا بعد فقد أخضرّ الجناب وأینعت الثمار وطمت الجمام فإذا شئت فأقدم علینا فإنما تقدم علی جند لک مجندة والسلام»(1).

بل إن الأمر قد وصل إلی درجة صار أتباع بنی أمیة وعیونهم فی الکوفة یرقبون الأحداث بالکوفة بشکل وثیق حتی کتب بعضهم إلی یزید فی ضرورة

ص:148


1- (1) أشراف الأنساب: 370/3.

معالجة الأمر بسرعة وإلا خرت الکوفة من بین یدیه. یقول السید الأمین:«فکتب عبد الله بن مسلم إلی یزید یخبره بقدوم مسلم بن عقیل الکوفة ومبایعة الناس له ویقول إن کان لک فی الکوفة حاجة فابعث إلیها رجلاً قویاً ینفذ أمرک ویعمل مثل عملک فی عدوک فإن النعمان بن بشیر رجل ضعیف أو هو یتضعف وکتب إلیه عمارة بن الولید بن عقبة بنحو ذلک فدعا یزید سرجون مولی معاویة...»(1).

وعلیه فقد أصبح الأمر بدرجة من العلن والشهرة کبیرة جداً، فکیف والحال هذه أن لا یعلم الحر الریاحی أو یطلع علی أقلّ التقادیر علی بعض مجریات هذه الأحداث؟ لاسیما إذا علمنا أن الحر الریاحی لم یکن بالشخصیة المهملة والمجهولة فی داخل الکوفة بل کان «شریفاً فی قومه جاهلیة وإسلاماً» وکان فی الکوفة رئیساً»(2) ، کما یشیر إلی ذلک غیر واحد من المؤرخین(3) وعلیه، فإن من تکن هذه شخصیته یصعب علی الإنسان أن یتصور أنها یمکن أن تتجاهل من طرف مسلم بن عقیل ومن معه وهم الخبراء بالکوفة وحیثیاتها لاسیما القبلیة منها.

ویمکن أن یوجه کلام الحر الریاحی مع الحسین علیه السلام المتقدم، وذلک بأن

ص:149


1- (1) لواعج الأشجان للسید محسن الأمین.
2- (2) إبصار العین فی أنصار الحسین للشیخ محمد السماوی: / 115 دد 116 (طبعة قم بصیری).
3- (3) یکفی أنه کان شیخ بنی ریاح وشخصیتها المبرّزة التی أبت عشیرته أن یقطع رأسه بقولها لا والله لا یکون ذلک وأیدینا علی مقابض سیوفنا فلما رأی ابن زیاد ذلک قال دونکم الرجل.

نقول: «أن الکوفة کانت کبیرة مترامیة الأطراف کما یشهد علی ذلک من تحدث عنها لاسیما فی تلک الفترة کانت الکوفة واسعة کبیرة، تتصل قراها وجباناتها إلی الفرات الأصلی وقری العذار فهی تبلغ ستة عشر میلاً وثلثی میل»(1). ویقول «أحد حدودها خندق الکوفة المعروف بکری سعد والحد الآخر القاضی الذی هو بقرب القائم إلی أن یصل قریباً من القریة المعروفة الیوم بالشنافیة والحد الآخر الفرات الذی هو ممتد من الدیوانیة إلی الحسکة إلی القریة المعروفة الیوم ب - (أبو قواریر) وهی منزل الرماحیة والحد الرابع قری العذار التی هی من نواحی الحلة السیفیة»(2).

فإذا کان أمر الکوفة ومساحتها بما ذکر سابقاً فیمکن أن یکون الحر الریاحی متواجداً فی تلک الحقبة التی حصلت فیها الأحداث فی بعض حدودها فی مهمة عسکریة ومن ثم أنقطعت أخبار الکوفة عنه لاسیما ونحن نعلم أن الاتصالات لم تکن سهلة کما هی الآن. ومن ثم یکون الحر صادقاً فیما یدعی من عدم المعرفة بما جری وحصل کاملاً.

ویمکن أن یُحمل کلامه علی أنه ربما علم بوجود حرکة فی الکوفة إلا أنه لم یکن قد اطلع علی تفاصیل هذه الحرکة وإنه کانت هناک مراسلات بینهما وبین الحسین، لاسیما وهو قائد عسکری بعید عن الساحة ذات العلاقة بهذه الحرکة بشکل مباشر.

ص:150


1- (1) تاریخ الکوفة للسید البرقی: / 155 (تحقیق ماجد بن أحمد العطیة).
2- (2) تاریخ الکوفة للسید البرقی: / 156.

وبتقدیری أن ما ذکر لا یعدو کونه تخریجاً وتأویلاً لکلمة الحر الریاحی وتوجیهاً لها بالشکل الذی لا یخدش شخصیة الحر، وربما تکون مثل هذه الکلمة من زیادة الراوی التی أراد بها التقلیل من شخصیة الحر فی الکوفة من خلال تصویره بالساذج البسیط الذی یعیش فی وسط مهم تحصل منه ألوان من الأحداث الکبری ولا یحدّث نفسه بالاطلاع علیها أو التأثر بها سلباً أو إیجاباً(1).

ومن الملفت للنظر وهذا ما یدعو للتأمل کثیراً أن الحر الریاحی لم یکن له أی أثر سلبی مهما قلّ أو صغر فی مدّة وجود مسلم بن عقیل فی الکوفة وما تلاها، مع أنه کان فی تلک الحقبة فی رکاب بنی أمیة کما هو المدّعی والمنقول تاریخیاً.

فکیف یمکن أن یقبل أحد أن مثل هذه الشخصیة التی یقول عنها أحدهم «والله لو قیل لی من أشجع أهل الکوفة لما عدوتک»(2) ، یمکن أن یتغافل عنها الطرفان المتصارعان فی الکوفة فی تلک الحقبة أعنی الجهة الموالیة للحسین المتمثلة فی مسلم بن عقیل وأصحابه المخلصین البررة، والجهة المعارضة والمناوئة للحسین المتمثلة فی شمر وابن الاشعث ومن معهما

ص:151


1- (1) ومما یؤید ما ذهبنا إلیه ما أشار إلیه غیر واحد من المؤرخین کالدینوری فی الأخبار الطوال حیث ذکر قول الحر «لسنا ممن کتب إلیک شیئاً من هذه الکتب» دون العبارة الأخری «إنا والله لا ندری».
2- (2) الثورة الحسینیة لسماحة آیة العظمی السید الحسین بن التقی آل بحر العلوم: 597/2.

من الکفرة الفجرة.

ومضافاً لکل ما تقدم، کیف یمکن ان تنسجم مثل هذه الکذبة إن کانت حقاً من الحر لاسیما مع سید شباب أهل الجنة وفی ذلک الظرف الخاص الذی لا یعلم عظمته إلا ربُّ العالمین، مع کل هذه الهدایة التی حصل علیها الحر إلی الحق والتوفیق للشهادة بین یدیّ إمام مفترض الطاعة أُعدت شهادته ومن معه قبل یومها لیومها؟، کیف ینسجم کل هذا لاسیما وقد وری عن حفید الحسین علیه السلام إلامام الباقر قوله لابی النعمان: «لا تکذب علینا کذبة فتسلب الحنیفیة»(1) ؟

سادساً: إشفاق الحر علی الحسین علیه السلام
اشارة

وهذا ما یتلمسه الإنسان بشکل واضح فی قوله:«یا حسین أذکرک الله فی نفسک فإنی أشهد لئن قاتلت لتقتلن»(2) ومن ثم یکون الحر من أولئک المشفقین الذین وقفوا أمام الحسین خوفاً علی حیاته وحباً فی بقائه علیه السلام، وهذه نقطة تحسب للحر لا علیه، وذلک أن من وقف أمام الحسین علیه السلام معترضاً یمکن أن یصنفوا إلی قسمین:

القسم الأول

وهم أولئک المشفقون علی حیاته الشریفة لعلمهم بأهمیتها علی الساحة

ص:152


1- (1) الحنیفیة: هی الخروج عن الجادة وطریق الهدایة الموصل إلی الله سبحانه وتعالی.
2- (2) الارشاد للشیخ المفید: 82/2.

الإسلامیة بل وغیرها أیضاً ومن هؤلاء الذی ینضوون تحت هذا القسم عبد الله بن عباس الذی قال للحسین علیه السلام:«یا بن عم، إنّی أتصبر ولا أصبر، إنّی أتخوف علیک فی هذا الوجه الهلاک والاستئصال»(1).

وقول عبد الله بن جعفر:«فإنی أنشدک الله أن تخرج عن مکة فإنّی خائف علیک من هذا الأمر»(2).

القسم الثانی

وهم أولئک الذی وقفوا أمام الحسین علیه السلام ولکنهم لم یریدوا بقاءه واستمراره سواءٌ فی مکة کما حصل مع عبد الله بن الزبیر الذی قال للحسین علیه السلام:«أما لو کان لی بها مثل شیعتک ما عدلت بها»(3) أو مطلقاً کما فی رسالة عمرة بنت عبد الرحمن حیث «کتبت إلی الحسین علیه السلام تعظّم علیه ما یرید أن یصنع وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة وتخبره أنه إنما یساق إلی مصرعه»(4).

ولقد بانت معالم إشفاق الحر علی الحسین والخوف من مواجتهه (کما ظهر فیما تقدم فی أول هذا البحث) فی عدة موارد منها قول الحر «إنی أؤمر

ص:153


1- (1) مع الرکب الحسینی للشیخ نجم الدین الطبسی: 230/2.
2- (2) المصدر نفسه: 230/2.
3- (3) مع الرکب الحسینی: 281/3.
4- (4) مع الرکب الحسینی: 324/3 نقلاً عن ابن عساکر فی تاریخ دمشق.

بقتالک»(1) وقوله: «فلعل الله أن یأتی بأمرٍ یرزقنی فیه العافیة من أن أُبتلی بشیء من أمرک»(2) ، بل لقد بان هذا الإشفاق فی أعلی صوره وأشکاله حینما وصل إلی الحر رسول عبید الله بن زیاد الذی أمره أن یجعجع بالحسین وأن لا یرجع رسوله حتی یری تنفیذه لهذا الأمر، نجده علی العکس کان یتعامل بمنتهی الشفقة والتساهل والاحترام والأدب وهذا ما سوف نقف علیه بعد ذلک بشکل تفصیلی.

وأما کلمة الحر للحسین «لئن قاتلت لتقتلن» فلنا معها وقفة أخری عندما نصل إلی أحداث یوم العاشر من المحرم وقول الحر لعمر بن سعد «أمقاتل أنت هذا الرجل؟»(3) لنبیّن هل تنسجم هاتان العبارتان أم لا؟.

فائدة أخلاقیة

وختاماً وقبل أن ننتقل إلی المرحلة اللاحقة فی لقاء الحسین للحر، أود أن أشیر إلی فائدة أخلاقیة حواها هذا اللقاء وأشار إلیها العلامة عبد العظیم المهتدی البحرانی:

«فی هذا الموقف للإمام الحسین علیه السلام تری وضوحه فی حجته القاضیة إلی هدایة الإنسان ومنطقه الرامی إلی الحل السلمی وفی الوقت نفسه لا یستسلم لحجة مخالفته الواهیة ومنطقه الباطل بل یعارضه بصرامة وإباء، ثم یحاوره حتی یصل إلی نقطة الوفاق ضمن ما یمکن الوصول إلیه بعزّة وکرامة، حقاً إلی إدارة هذا

ص:154


1- (1) الاخبار الطوال: / 243.
2- (2) البدایة والنهایة: 173/8.
3- (3) الثورة الحسینیة لسماحة آیة الله العظمی السید الحسین بن التقی آل بحر العلوم: 596/2.

الموقف فی النصیحة والغضب المقدس ثم الوفاق دون مذلة قوامها الأخلاق المبتنیة علی العقل والعزّة والحکمة»(1).

ثم یشیر بعد ذلک إلی بعض الدروس الأخلاقیة التی یستفیدها الإنسان المسلم وهو یقرأ هذا النصّ المتقدم.

«1 - قدِّمْ نصائحک لعدوک ولا تیأس فی کسبه أو کسب أمثاله فیما بعد.

2 - أحیاناً یکون الغضب نافعاً ومقدساً إذا کان بهدف رسالی.

3 - التماشی والمفاوضة مع العدو للوصول إلی حلّ وسط أمر جید»(2).

سابعا: مقالة الحسین علیه السلام للحرّ الریاحی: ثکلتک أمک، هل تناسب مقام العصمة؟

تحت هذا العنوان المصاغ بصیغة السؤال ذکر الشیخ فوزی آل فوزی آل سیف فی کتابهِ عن قضایا النهضة الحسینیة ذکر جواباً علی هذا السؤال الذی طرحه بقوله:«أصل الحادثة کما نقلها المؤرخون جرت لما التقی الحر بن یزید الریاحی مع الإمام الحسین علیه السلام فی الطریق إلی کربلاء... والثکل یعنی فقد الولد، ویبدو أن قسماً من الکلمات تتأثر فی معناها المتبادر إلی الذهن

ص:155


1- (1) أخلاق الإمام الحسین لعبد العظیم المهتدی البحرانی: / 185، انتشارات الشریف الرضی.
2- (2) أخلاق الإمام الحسین للشیخ العلامة عبد العظیم المهتدی البحرانی: 185 انتشارات الشریف الرضی.

العام بالزمان، فقد یکون لفظاً عندنا الیوم مستنکراً بینما هو فی زمان آخر لیس بتلک الصورة من الاستنکار ومن ذلک الکلمة المذکورة أو قولهم: قاتله الله فإنّها الیوم کلمات مستنکرة بینما لم تکن کذلک فی الزمان السابق وإلی ذلک أشار ابن الأثیر فی کتابه النهایة فقال: یجوز أن یکون من الألفاظ التی تجری علی ألسنة العرب ولا یراد بها الدعاء کقولهم تربت یداک وقاتلک الله، ونحن نلتقی فی سیرة النبی علیهما السلام مع أصحابه فی هذه الکلمات، کما نقل عنه فی روایات الجمهور، ففی مسند أبی داود الطیالسی روی عن رسول الله علیهما السلام فی حدیثه مع معاذ:... فقال یا رسول الله قولک أوَ لا أدلک علی أملک ذلک کله؟ فأشار رسول الله علیهما السلام بیده إلی لسانه فقلت یا رسول الله وإنّا لنؤاخذ بما نتکلم بألسنتنا؟ فقال رسول الله علیهما السلام: «ثکلتک أمک یا معاذ! وهل یکب الناس علی مناخرهم فی النار إلا حصائد ألسنتهم؟» (1).

بل نجد بعضهم یدعو علی نفسه بذلک، کما نقل ابن قتیبة فی غریب الحدیث أنّ عمر بن الخطاب سار مع رسول الله لیلاً فسأله عن شیء فلم یجبه ثمَّ سأله فلم یجبه ثمَّ سأله فلم یجبه، فقال عمر: ثکلتک أمک یا عمر نزرت رسول الله علیهما السلام مراراً لا یجیبک (أی ألححت علیه)... هذه الشواهد وهی غیض من فیض تشیر إلی أن هذه الکلمة فی ذلک الوقت لم تکن تعطی المعنی الذی یتبادر إلی

ص:156


1- (1) عذیب الهجانات: هی التی کانت هجائن النعمان بن المنذر ترعی بها کما یشیر إلی ذلک البلاذری فی أنساب الأشراف: 382/3 طبعة دار الفکر للطباعة والنشر.

الذهن الیوم، بل حتی لو فرضنا أن هذه الکلمات کانت تعنی الدعاء الجدّی والحقیقی علی الطرف المقابل بأن تثکله أمه وأن یموت، فلا مانع من الالتزام بها فی مورد مخاطبة الإمام الحسین علیه السلام مع الحرّ الریاحی، فإن الحر - إلی ذلک الوقت - کان باغیاً علی إمام زمانه ومضیّقاً علیه مسیره، وهذا یعنی إعلان الحرب علیه، ولو قُتل فی تلک الحال لکان مصیره إلی النار دون ریب، وکان حینئذ علی مَنْ یناصر الحسین علیه السلام ان یشهر سیفه فی وجه الحرّ ویقاتله ویقتله إن استمر، فلا مانع من الالتزام بهذا المعنی»(1).

ثامناً: معرفة الحرّ الریاحی بحق أهل البیت علیهم السلام لاسیما الزهراء علیها السلام

وقد بانت هذه المعرفة من خلال المواقف والکلمات التی نقلها التاریخ عنه کقوله للحسین علیه السلام بعد أن قال له ثکلتک أمک یا حرّ؟ «أما والله لو غیرک من العرب یقولها لی، وهو علی مثل الحال التی أنت علیها ما ترکت ذکر أمه بالثکل أن أقول، کائناً من کان، ولکن ما لی إلی ذکر أمّک من سبیل إلّا بأحسن ما یقدر علیه» وقوله: «وأنا أعلم أنه لا یوافی القیامة أحد من هذه الأمة إلاّ وهو یرجو شفاعة جدک محمد علیهما السلام وأنا خائف إن أنا قاتلتک أن أخسر الدنیا والآخرة».

والمتأمل فی ما ذکر سابقاً لا یشک أن الحرّ کان واقفاً بشکل واضح علی مکانة أهل البیت علیهم السلام وأهمیة تقدیم المودة والحب والولاء والطاعة والامتثال لهم فیما یریدون ویأمرون وینهون، لاسیما فی حدیثه عن الزهراء التی أبی إلاّ أن

ص:157


1- (1) من قضایا الثورة الحسینیة للشیخ فوزی آل سیف: 35/1-38.

تذکر بأحسن ما یقدر علیه الإنسان وما ذاک إلاّ لأنّه یعی منزلتها وقربها من رسول الله علیهما السلام.

فضلاً عن الحسین الذی یعتقد بشکل یقینی أن من ینصب له العداء ویؤذیه فإنه سیلاقی فی الآخرة عذاباً عظیماً فضلاً عن ذاک الذی یقاتله ویسفک دمه الطاهر فإنه سوف لا یری فی دنیاه وآخرته إلاّ الخسران المبین، وفی قبال ذلک فإن من یرید النجاة والفوز بالجنّة والعیش فی القصور ومع الحور علیه أن یرجو شفاعة جده المصطفی علیهما السلام من خلال تقدیم الولاء والطاعة لحفیده علیه السلام.

وما ذکرته لیس مبالغة بل هو المتبادر من خلال اللفظ الذی ذکره الحرّ، والذی أعتقد جازماً أنّها کانت من جملة أسباب الهدایة والعقبی الحسنة التی وصل إلیها، وسوف نتکلم عن هذا الأمر بشکل تفصیلی عند حدیثنا عن الأسباب الکامنة وراء هذه النقلة النوعیة.

تاسعاً: الحر یلین مع الحسین علیه السلام وابن زیاد یأمره بالجعجعة

لقد قرأنا فی النص المتقدم کیف بعث عبید الله بن زیاد إلی الحرّ الریاحی یأمره أن یجعجع بالحسین وبلغة شدیدة ملؤها الحقد والبغضاء علی أهل البیت علیهم السلام، حتی جاء فیه:«فلا تنزله إلاّ بالعراء فی غیر حصن وعلی غیر ماء»، وبتقدیری أن هذه اللهجة من ابن زیاد وبالطریقة التی بعث فیها الکتاب والرسول الذی اختاره فیها بل وحتی بقاءه وملازمته للحر حتی انفاذ أمره لیوحی للإنسان بشکل واضح أن ابن زیاد لم یکن راضیاً عما یفعله الحر مع الحسین علیه السلام من اللین والتسامح، بل والصلاة خلفه هو وما معه ومن یمکن ان تترکه هذه

ص:158

الصلاة علی نفوس جنوده ومشاعرهم، بل إننی أذهب إلی ان نفس جماعة الحر وجیشه الذی جاء معه لم یکن بعض أفراده راضین عن الحر وما یصنع، ومن ثم قرروا ان یوصلوا الخبر فی ذلک إلی ابن زیاد وعلی وجه السرعة حتی یری رأیه فیه، وفعلاً وصلت الأخبار إلی ابن زیاد واستشاط غضباً لأجل ذلک وقرر ان یبعث برسالة شدیدة اللهجة قاسیة الکلمة مختصرة الالفاظ مع شخص مجرم سفاح لا یری لله ولا لرسوله ولا للمؤمن حرمة ألا وهو مالک بن النسر البدی الکندی(1).

وما ذاک إلا حینما وصل إلیه وتناهی إلی سمعه عن صنیع الحر مع الحسین علیه السلام، وإلّا ما معنی أن یبقی الرسول ملازماً للحر حتی إنفاذ أمره. ومع کل ذلک نجد ان الحر لم یعبأ بابن زیاد وبأمره وبرسوله وإذا به یخبر الحسین علیه السلام مباشرة بما فی ذلک الکتاب، بل إننا نجد من خلال ما قدمه التاریخ من معطیات حول هذه الحادثة أن الحر لم یصنع بعد هذه الرسالة شیئاً من الضیق والتضییق علی الحسین ومن معه اللهم إلّا ما ذکرته بعض الروایات من قوله للحسین:«فإنی أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ فقال له الحسین: أفبالموت تخوّفنی؟ وهل یعدو بکم الخطب ان تقتلونی، وسأقول لک کما قال أخو الاوس لابن عمه حین

ص:159


1- (1) یکفی فی اجرام هذا اللعین أنه ضرب الحسین بالسیف علی رأسه وهو جریح مطروح علی الارض وکان علیه برنس فألقی البرنس واعتمّ بالقلنسوة ومع ذلک لم یترکه حتی جاء مرة أخری وسلب برنس الحسین علیه السلام بعد شهادته، ولهذا حینما خرج المختار وطلب قتلة الحسین علیه السلام والقی القبض علیه قال له أنت صاحب برنس الحسین ثمّ أمر بقتله (مجلة تراثنا السنة السابعة عشر 1422 العددان 2 و 396/3).

لقیه، وهو یرید نصرة رسول الله علیهما السلام فخوفه ابن عمّه وقال له: این ترید فإنک مقتول، فقال:

سأمضی وما بالموت عار علی الفتی إذا ما نوی حقاً وجاهد مسلماً

وواسی الرجال المصلحین بنفسه وخالف مثبوراً وفارق مجرماً

فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم کفی بک ذلاً إن تعیش وتُرغماً

فلما سمع الحرّ ذلک من الحسین، تنحی عنه، وأخذ یسیر بأصحابه فی ناحیة والحسین واصحابه فی ناحیة»(1).

نعم ربما کانت هناک بعض المضایقات التی حصلت من قبله مع الحسین کاعتراض رکبه وعدم السماح له بالمسیر، وما شاکل ذلک والتی عدّها الحرّ جعجعة وإرعاباً للنساء یوم أراد الانتقال إلی صف الحسین تائباً ومستغفراً مما جناه بحقهم.

وصول الحسین علیه السلام والحرّ الریاحی إلی عذیب الهجانات

(2)

تقول الروایة: وأخذ الحسین یسیر فی أصحابه فی ناحیة والحر وأصحابه فی ناحیة أخری إلی أن انتهوا إلی عذیب الهجانات «فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الکوفة لنصر الحسین علیه السلام ومعهم غلام لنافع بن هلال الجملی وهو یجنب فرساً لنافع یقال له «الکامل»، ومعهم دلیلهم الطرماح بن عدی الطائی، وکان قد اختار

ص:160


1- (1) الثورة الحسینیة لسماحة آیة الله العظمی السید الحسین بن التقی آل بحر العلوم: 478/2 دد 479.
2- (2) عذیب الهجانات: هی التی کانت بها هجائن النعمان بن المنذر ترعی بها کما یشیر إلی ذلک البلاذری فی أنساب الاشراف: 382/3 طبعة دار الفکر دد بیروت دد.

لأهل الحیرة فی الکوفة، فلما رأوا الحسین من بعید أخذ الطرماح یحدو بأصحابه ویقول:

یا ناقتی لا تذعری من زجرِ وشمّری قبل طلوع الفجرِ

بخیر رکبان وخیر سفرِ حتی تحلی بکریم النحرِ

الماجد الحر الرحیب الصدر أتی به الله لخیر أمرِ

ثمت أبقاه بقاء الدهر(1)

فلما انتهوا إلی الحسین ورآهم الحرّ، أراد حبسهم أو ردّهم إلی الکوفة فقال له الحسین لأمنعنهم مما أمنع منه نفسی، إنما هؤلاء أنصاری وهم بمنزلة من جاء معی وقد کنت أعطیتنی ألا تتعرض لی بشیء حتی یأتیک کتاب من ابن زیاد فإن بقیت علی ما کان بینی وبینک وإلا ناجزتک(2) فکفّ الحرّ منهم، فالتحقوا بالحسین علیه السلام ثمّ سألهم عن خبر الناس فی الکوفة فقال مجمع بن عبد الله العائذی وهو أحدهم: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم(3) ، لیستمال ودّهم، وتستخلص نصائحهم فهم إلبٌ واحد علیک، وأما سائر الناس فقلوبهم معک وسیوفهم مشهورة علیک، ثمّ سألهم الحسین علیه السلام عن رسوله إلی الکوفة قیس بن مسِّهر الصیداوی قالوا: أخذه الحسین بن نمیر، فبعث به إلی ابن زیاد فقتله

ص:161


1- (1) هکذا فی عموم کتب السیر والمقاتل وفی بعضها کمقتل الخوارزمی أن هذا الحد وبالرجز من الطرماح کان قبل مضایقة الحر للحسین لا بعده.
2- (2) المناجزة یعنی المقاتلة وناجزه یعنی قاتله وبارزه.
3- (3) الغرائر الکیس حتی قیل: غرائر فیهن رزم من دقیق، لسان العرب: 422/5.

وأخبروه بکیفیة قتله فترقرقت عیناه ولم یملک دمعته، ثمّ قال:

«فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً1» .

اللهم اجعل لنا ولهم نُزُلاً واجمع بیننا وبینهم فی مستقرّ رحمتک ورغائب مذخور ثوابک. ثمّ تقدم الطرماح أمام الحسین وقال له: إنی لأنظر فما أری معک کثیر أحد ولو لم یقاتلک إلاّ هؤلاء الذین أراهم ملازمیک لکفی بهم، وقد رأیت قبل خروجی إلیک بیوم ظهر الکوفة وفیه من الناس ما لم تر عینای فی صعید واحد جمعاً أکثر منه فسألت عنهم؟ فقیل: اجتمعوا لیعرضوا ثم یسرّحون إلی الحسین. فأنشدک الله إن قدّرت علی أن لا تقدم علیهم شبراً إلاّ فعلت، فإن أردت أن تنزل بلداً یمنعک الله به حتی تری رأیک ویستبین لک ما أنت صانع، فسر حتی أنزلک جبلنا الذی یُدعی (اجا) فهو جبل امتنعنا به من ملوک غسان وحمیر والنعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر، والله ما إن دخل علینا ذل قط فأسیر معک حتی أنزلک القریة ثمّ تبعث إلی الرجال ممن ب - «آجاو سلمی» من طیّ، فوالله لا یأتی إلیک عشرة أیام حتی تأتیک طیّ رجالاً ورکباناً ثمّ أقم فینا ما بدا لک، فإن هاج هیج فأنا زعیم لک بعشرین ألف طائیّ یضربون بین یدیک بأسیافهم فوالله لا یوصل إلیک أبداً وفیهم عین تطرف فقال له الحسین: جزاک الله وقومک خیراً، إنّه کان بیننا وبین هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه علی الانصراف ولا ندری: علامَ تنصرف بنا وبهم الأمور فی عافیة. ثمّ سایره الطرماح وودعه، وقال له: دفع الله عنک شر الجن والإنس ووعده أن یوصل المیرة والنفقة إلی أهلها ثم یلحق به

ص:162

ویعود إلی نصره فقال الحسین: إن کنت فاعلاً فعجّل رحمک الله، قال الطرماح: فلمّا بلغت أهلی وضعت عندهم ما یصلحهم وأوصیت وأخبرتهم بما أرید وأقبلت أجد السیر فی الطریق حتی دنوت من عذیب الهجانات استقبلنی سماعة بن بدر، فنعی الحسین إلیّ فرجعت إلی أهلی بأسف وحرمان»(1).

وقد تضمن النص التأریخی المتقدم مجموعة من النقاط المهمة التی لابد من تسلیط الضوء علیها من أجل فهمها أولاً ورفع الاشکالات التی تورد علیها ثانیاً.

نقاط مهمة تضمنها النص المتقدم

من هم الأربعة الذین التحقوا بالحسین علیه السلام

اختلفت المصادر فی هؤلاء الأربعة الذین التحقوا بالحسین علیه السلام فی منطقة عذیب ویمکن تقسیمها إلی أربعة أقسام هی:

1 - وهم نافع بن هلال المرادی وعمر بن خالد الصیداوی وسعد مولاه ومجمع بن عبد الله العائذی وقد أشار إلی هؤلاء الأربعة بعض المؤرخین کالبلاذری فی أنساب الاشراف بقوله:«... وإذا هم بأربعة نفر مقبلین من الکوفة علی رواحلهم یجنبون فرساً لنافع بن هلال یقال له الکامل وکان الاربعة النفر: نافع بن هلال المرادی، وعمرو بن خالد الصیداوی، وسعد

ص:163


1- (1) الثورة الحسینیة لسماحة آیة الله العظمی السید حسین بن التقی آل بحر العلوم: 479/2-481.

مولاه، ومجمع بن عبد الله العائذی...»(1).

2 - وهم نافع بن هلال المذحجی وعمرو الصیداوی وسعید بن أبی ذر الغفاری وعبد الله المذحجی وقد أشار إلی هؤلاء الأربعة البعض: «فبینما الحسین فی المسیر فإذا هم بأربعة نفر نافع بن هلال المذحجی وعمرو الصیداوی وسعید بن أبی ذر الغفاری، وعبد الله المذحجی(2) فأقبلوا إلی الحسین..»(3).

3 - وهم هلال بن نافع الجملی وعمرو بن خالد ومعهما اثنان.

وقد أشار إلی هؤلاء ابن نما وغیره بقوله: «فبینما الحسین فی الطریق إذ طلع علیه رکب أقبلوا من الکوفة فإذا فیهم هلال بن نافع(4) وعمرو بن خالد من فسألهم عن خبر الناس...»(5).

4 - وهم عمر بن الصیداوی، ومجمع العائذی، وجنادة بن الحارث السلمانی، ومعهم غلام لنافع بن هلال الجملی.

وقد أشار إلی هؤلاء بعض المؤرخین بقوله: «فإذا هم بأربعة نفر قد أبلوا(6)

ص:164


1- (1) انساب الاشراف للبلاذری: 382/3.
2- (2) یبدو أن المراد به «مجمع بن عبید الله (عبد الله) المذحجی العائذی» وذکر عبید المذحجی فقط أو قد سقط.
3- (3) وسیلة الدارین للسید الزنجانی / 66، مقتل أبی مخنف / 45 دد 47 القندوزی فی ینابیع المودة 60/3.
4- (4) ما ذکره اشتباه والصحیح نافع بن هلال.
5- (5) نفس المهموم للقمی: / 192 دد 193.
6- (6) کلمة فی غایة الأهمیة تبین لنا وبشکل واضح حال هؤلاء وأمثالهم فی الکوفة وما صنعه ابن زیاد فیها وحولها.

من الکوفة لنصرة الحسین علی رواحلهم وهم عمرو بن خالد الصیداوی، ومجمع العائذی وابنه، وجنادة بن الحارث السلمانی، ومعهم غلام لنافع بن هلال الجملی وهو یجنب فرساً لنافع یقال له (الکامل) وکان نافع خرج إلی الحسین قبلهم فلقیه فی الطریق وأوصی أن یتبع بفرسه المسمی بالکامل ومعهم دلیلهم الطرماح بن عدی الطائی علی فرسه...»(1).

وإذاً فقد ذکرت هذه الروایات الأربعة مجموعة من الأسماء وهی:

1 - نافع بن هلال المرادی.

2 - عمرو بن خالد الصیداوی.

3 - مجمع بن عبد الله العائذی.

4 - ابن مجمع بن عبد الله العائذی.

5 - جنادة بن الحرث السلمانی.

6 - سعید بن أبی ذر الغفاری.

7 - سعید بن مولی (مولی) عمرو بن خالد الصیداوی.

8 - غلام لنافع بن هلال المرادی.

ولابد لنا فی قبال هذا العدد من دراسة لهذه الأسماء من أجل ترشیح أسماءٍ أربعة أشارت الروایات کلها إلی أنهم التحقوا بالحسین علیه السلام فی منطقة عذیب الهجانات وبتقدیری أن الأسماء الأربعة المرشحة هی.

ص:165


1- (1) أعیان الشیعة للسید محسن الأمین: 597/1.

1 - عمرو بن خالد الصیداوی.

2 - مجمع بن عبد الله العائذی ونحتمل أن یکون معه ولده کما أشارت إلی ذلک بعض الروایات.

3 - جنادة بن الحارث السلمانی.

4 - سعد مولی عمرو بن خالد الصیداوی.

ومما یرجح هذه الشریحة دون غیرها ما أشارت إلیه بعض الروایات من أن نفس هذه المجموعة الملتحقة بالحسین فی عذیب الهجانات ظلت إلی جانبه إلی یوم العاشر وقررت النزول بنفس أفرادها إلی ساحة المعرکة حتی قضوا شهداء بأجمعهم فی مکان واحد، یقول أبو مخنف فی مقتله بعد ذکره لخبر التحاقهم بالحسین:«ولمّا التحم القتال بین الحسین وأهل الکوفة شدّ هؤلاء (یعنی الأربعة المتقدمة) مقدمین بأسیافهم فی أول القتال علی الناس، فلمّا وغلوا عطف علیهم الناس فأخذوا بحوزتهم، وقطعوهم من أصحابهم، فلما نظر الحسین إلی ذلک ندب إلیهم أخاه العباس، فنهد إلیهم وحمل علی القوم وحده یضرب منهم بسیفه قدما حتی خلص إلیهم واستنقذهم فجاءوا وقد جرحوا، فلما کانوا فی أثناء الطریق والعباس یسوقهم رأوا القوم قد أتوا إلیهم لیقطعوا علیهم الطریق فانسلوا من العباس وشدوا علی القوم بأسیافهم شدّة واحدة علی ما بهم من الجراحات، وقاتلوا حتی قتلوا فی مکان

ص:166

واحد» (1).

وأمّا ما ذکرته الروایات عن وجود سعید بن أبی ذر الغفاری فإنّ القرائن القبلیة والبعدیة لهذا الالتحاق (وأعنی بها الروایات التی تحدثت عمن التحق بالحسین ومن قتل بین یدیه لم تشر من قریب أو بعید لهذا الاسم الشریف علی أن الأمر یحتاج إلی بحث دقیق ربما نوقف إلیه فیما بعد) ومن ثم وحسب هذه المعطیات التی بین أیدینا نری أننا ملزمون بطرح هذا الاسم علی جلالته.

وأمّا بالنسبة إلی نافع بن هلال المرادی.

فإن الروایات قد اختلفت فی مکان التحاقه حیث أشارت أکثرها إلی أنه کان فی عذیب الهجانات کما تقدم وهناک من ذهب إلی أنّه التحق قبل ذلک فی منطقة أخری قبل العذیب وأوصی أن تلحق به فرسه کما صرّح بذلک السید الأمین فی أعیانه، ونحن نمیل إلی ما ذهب إلیه السید الأمین باعتبار أن هذه المجموعة کانت قد تحرکت منذ الخروج من الکوفة بشکل جماعی حتی الشهادة فی کربلاء ولم ینقل أن الشهید نافع بن هلال کان أحد أفرادها عندما نزلت للمعرکة، بل المنقول أن الشهید نافعاً کانت له حملة مفردة علی القوم (بعد أن نفدت سهامه ونباله) قتل فیها جماعة منهم ثم أخذ أسیراً ثم قدّمه شمر للقتل فقتل(2).

وإلاّ إذا کان ملتحقاً مع من التحق فی عذیب الهجانات فما معنی إیصائه

ص:167


1- (1) الطبری فی تاریخه: 330/3 نقلاً عن أبی مخنف فی مقتله.
2- (2) انظر الثورة الحسینیة لسماحة آیة الله العظمی حسین بن التقی آل بحر العلوم: 626/2 دد 227.

القوم ان یلحقوا معهم فرسه فکان ینبغی هو الذی یجنبُ فرسه لا کما قالت الروایة یجنبون فرساً لنافع، فإن معنی أن یجنب الشخص فرساً أو بعیراً أن یقوده بیده لا بید غیره.

وإمّا بالنسبة إلی غلام نافع بن هلال الجملی فإننا نمیل إلی أنّه کان موجوداً مع الأربعة إلاّ أن نفسیة الراوی وعقلیته القبلیة کانت تأبی أن تحسب إلاّ الأفراد دون الموالی، وهذه قضیة مهمة تواجهنا فی کربلاء کثیراً لاسیما فی حساب أعداد الشهداء أشار إلی ذلک المرحوم الشیخ محمد مهدی شمس الدین فی کتابه «أنصار الحسین» بقوله:«هذه العقلیة تصورها نصوص شعریة کثیرة وحکایات حفلت بها کتب الأدب العربی القدیم... فقد جاء أعرابی من بنی العنبر فقال ان أبی مات وترکنی واخاً لی وخط خطیّن فی الأرض ثم قال وهجیناً (أخ أمّه أمة) وخط خطاً ناحیة فکیف تقسم المال؟ فقال سوار أها هنا وارث غیرکم؟ قال: لا قال: المال بینکم الثلاثة قال: فقال الأعرابی: یأخذ الهجین کما آخذ وکما یأخذ أخی قال: أجل فغضب الأعرابی ثم أقبل علی سوار فقال: تعلم والله إنک قلیل الخالات بالدّهناء... ولذا فلیس غریباً ألا یحسب الشهداء من الموالی فی کربلاء فی سنة ستین للهجرة»(1).

ونفس الکلام المتقدم فی غلام نافع بن هلال یأتی فی سعد مولی عمرو بن خالد حیث نعتقد أنه حینما عبرت الروایة بأربعة نفر تقصد الأحرار فقط دون الموالی وهما اثنان.

ص:168


1- (1) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: / 62.

موقف الحر الریاحی من التحاق الأربعة بالحسین علیه السلام

ما إن لاحت علائم الأربعة بینهم وبین الحسین علیه السلام، کموقفٍ لابد منه فی ظرف کهذا وفی مهمة کهذه جاء وکلّف بها وخلفه ألف عین تنظر إلیه وإلی ما یفعل، وهنا وتحت هذه الظروف الخاصة منع الحر الأربعة من الوصول الحسین علیه السلام، وإذا بالحسین - بأبی هو وأمی - یقف أمام الحر وخلفه جیشه ویفتح ذراعیه أمام أصحابه الأربعة الملتحقین به مانعاً لهم من الرجوع الی الحر وجیشه، قائلاً للحر: أنهم أنصاری وهم بمنزلة منجاء معی، ولم ینقل التاریخ - بکل روایته التی نقلها المؤرخون - ان الحر أجاب الحسین علیه السلام ببنت شفه إلی الحرّ بینت شفة، بل تقول الروایة فکفّ عنهم وترکهم. والنقاط التی أشار إلیها الإمام تتضمن ما یلی:

1 - عبر عنهم الحسین بأنهم نفسه الشریفة ومن ثم سوف یمنع عنهم کل ما یمنع منه نفسه الشریفة المبارکة، ویا لها من کرامة عظیمة أن یصیر الإنسان نفس الحسین التی یحملها بین جنبیه، بکل ما تحمل هذه النفس الکبیرة من معانی السمو والرفعة والإباء والشجاعة والکرامة. ولا أقول بعدها إلا قول الإمام الصادق علیه السلام فی زیارته لهم:

«بأبی أنتم وأمی طبتهم فنعم عقبی الدار»(1).

2 - إنهم أنصاری وهم بمنزلة من جاء معی. وهذه کرامة أخری لهم من الحسین علیه السلام یسجلها للتاریخ کما سجلها عیسی بن مریم لطائفة من أُمته من الحواریین بقوله:

ص:169


1- (1) زیارة وارث (مفاتیح الجنان للشیخ عباس القمی).

«من أنصاری إلی الله قال الحواریون نحن أنصار الله»(1).

وهنیئاً للإنسان أن یکون ناصراً لله وللدین ولحملته ومن هنا عبر الإمام الصادق فی زیارته لهم بقوله:

«السلام علیکم یا أنصار أبی عبد الله الحسین»(2).

3 - وقد أعطیتنی عهوداً ومواثیق ألا تتعرض إلی بشیء إلا بعد أن یأتیک کتاب ابن زیاد ومن ثم نبقی علی ما کنا علیه. وهذا النص ربما یبین لنا ضمناً أن الحر لم یقم بعمل مؤذٍ بشکل کبیر للحسین علیه السلام ومن معه طیلة المدّة السابقة، وهذا ما أشرنا إلیه قبل قلیل فی فقرة، «الحر یلین وابن زیاد یأمره بالجعجعة بالحسین علیه السلام».

4 - أما مع إصرار الحرّ علی موقفه وعدم الالتزام بما تکلم به یعنی ذلک أن الحسین سوف یری نفسه ملزماً فی الدفاع عن أصحابه وأنصاره الذین ترکوا کل شیء فی الدنیا وتعرضوا لکل مکروه حتی وصفت بعض الروایات حالهم حین مجیئهم أنّهم «أبلوا»(3) من أجل الخروج من الکوفة وبعد الخروج منها وعلیه سوف ینتهی الأمر إلی مقاتلة الحسین للحر وأصحابه ولهذا عبر عن ذلک بقوله «وإلاّ ناجزتک» وکان الحسین جاداً فی ذلک غیر هازل فلمّا رأی الحر ذلک فی الحسین کفَّ عنهم فالتحقوا بالحسین علیه السلام.

ص:170


1- (1) الصف/ 14.
2- (2) زیارة وارث (مفاتیح الجنان للشیخ عباس القمی).
3- (3) کما أشار إلی ذلک السید الأمین فی أعیانه: 597/1.

الحسین علیه السلام یسأل الأربعة عن الکوفة ؟

اشارة

بمجرد أن وصلوا جهة الحسین وبعد أن ضموا الحسین إلی صدورهم وضمهم إلی صدره، سألهم الإمام عن خبر الناس فی الکوفة؟ وهنا یتقدم أحدهم وهو مجمع بن عبد الله العائذی ویقول للحسین علیه السلام: «أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم لیستمال ودّهم وتستخلص نصائحهم منهم إلبٌ واحدٌ علیک، وأمّا سائر الناس فقلوبهم معک وسیوفهم مشهورة علیک».

وفی هذا النص المتقدم للشهید الکربلائی نقاط مهمة لابد من التعرض لها:

أولاً: من هم أشراف الکوفة؟

یبدو أن هذا المصطلح المتداول فی کتب التأریخ «بأشراف الکوفة» لم یکن سوی لفظة وضعت فی غیر معناها فی الأعّم الأغلب، ولم یکن سوی أسم علی غیر مسمی فی کثیر من الأحیان، فإن من یسمع أو یقرأ بکلمة الشرف أو الشریف أولاً أو ما شاکل ذلک یتبادر إلی ذهنه أولئک الجماعات التی تجعل من مالها وسلطانها وجاهها ومنزلتها بل وحتی دمها ونفسها فی خدمة الناس وتقدیم الخیر إلیهم ومن ثم حُقَّ لهؤلاء أن یطلق علیهم مثل هذا الاسم تمشیاً مع مسماهُ الموجود عندهم. ومثل هؤلاء فی الأعم الأغلب لم تکن أعدادهم کما یبدو من معطیات الکوفة وأهلها ومن صنعوه بالکثیر، بل کان الأکثر منهم یستعملون کل إمکاناتهم المادیة والاجتماعیة فی غیر هذا الطریق، فحینما یرجع الإنسان إلی التأریخ ویقرأ ما بین سطوره وما سجّله هؤلاء (الذین یزعم أنهم من الاشراف) من جرائم واعتداءات علی حقوق الناس المالیة والأدبیة وما مالأوا فیه السلطات

ص:171

الظالمة وقدّموا لهم من خدمات فی سبیل إخماد حرکة الثوار المصلحین فی کل زمان سواء فی بنی أمیة أو بنی العباس، بل وفی غیر ذلک من حالات الفساد والانحراف والمحاربة الواضحة ولرسوله وللمؤمنین، یجد وبشکل واضح أنهم لم یکونوا سوی عبءٍ ثقیلٍ سیئٍ علی الکوفة وتأریخها حتی صارت الکوفة بسبب هؤلاء ومن یلوذ بهم محط طعن وذم «وتشکیک» فی النوایا والحرکات والإرادات التی تبدیها وتقدمها وتتعهدها للثوار والمصلحین.

ولئن کان رسول الله علیهما السلام قد أشار فی بعض أحادیثه الشریفة المبارکة إلی المرأة الحسناء فی منبت السوء وعبر عنها بخضراء الدمن(1) وحذّر منها أشد التحذیر لما یوجد فیها من صفات السوء والرذیلة المسقطة فی مستنقع الانحراف والمعاصی، والتی لا یرافق الإنسان ولا یتبادر إلی عینه منها إلاّ الجمال والحسن الظاهریین ومن ثم یمکن أن یخدع بهذا الظاهر عن ذاک الباطن فإن أشراف الکوفة کانوا مصداقاً واضحاً وبارزاً فی هذا الاسم وهذه الصفة التی أطلقها رسول الله علیهما السلام، فهم کخضراء الدمن ظاهرهم حسن جمیل من خلال ما یدعون لأنفسهم من عناصر الشرف والرجولة والمنزلة الاجتماعیة وما شاکل ذلک ولکنهم فی نفس الوقت فی منبت سوء وأرض بوار لا یخرج منه إلّا ما یعود بالضرر علی الناس والمجتمع الذی یعیشون فیه.

وحتی یمکن أن یصل الإنسان إلی قناعات أکثر عن مدی انتهازیة هؤلاء وعدم ثباتهم فی المواطن الحساسة والمبدئیة وقدرتهم علی المیل مع کل أحد

ص:172


1- (1) الکافی للکلینی: 232/5.

من أجل المال والمنصب والجاه مرة ومن أجل الخوف والقتل والتعذیب مرة أخری سوف أضع بین یدیه جملة من الشواهد التاریخیة.

1 - نقل العلامة المامقانی فی کتابه تنقیح المقال نقلاً عن الطبری وأبی مخنف عن عبد الله بن عاصم عن الضحاک بن عبد الله الشرقی قال: فلما أمسی الحسین وأصحابه قاموا اللیل کله یصلون ویستغفرون ویدعون ویتضرعون، قال: فتمر بنا خیل لهم تحرسنا وأن حسیناً یقرأ «ولا یحسبن الذین کفروا إنما نملی لهم خیر لأنفسهم إنّما نملی لهم لیزدادوا إثماً ولهم عذاب مهین، ما کان الله لیذر المؤمنین علی ما أنتم علیه حتی یمیز الخبیث من الطیب»(1) فسمعها رجل من تلک الخیل التی کانت تحرسنا فقال: نحن وربّ الکعبة الطیّبون، میزنا منکم فقال: فعرفته، فقلت لبریر بن خضیر تدری من هذا؟ قال: لا قلت: هذا أبو حرب السبیعی عبد الله بن شهر - وکان مضحاکاً بطلاً وکان شریفاً شجاعاً فاتکا وکان سعید بن قیس ربّما حبسه فی جنایة فقال له بریر بن خضیر یا فاسق أنت یجعلک الله فی الطیبین فقال له: من أنت؟ قال: أنا بریر بن خضیر قال: إنا لله عزّ علیّ هلاک والله هلکت والله یا بریر قال: یا أبا الحرب هل لک أن تتوب إلی الله من ذنوبک العظام فوالله لنحن الطیبون ولکنکم لأنتم الخبیثون قال: وأنا علی ذلک من الشاهدین»(2).

2 - دورهم فی إخماد حرکة المختار الطالب بثأر الحسین وأهل بیته وأصحابه، یقول المؤرخ الطبری: لقد جاء مصعب بن الزبیر أشراف الناس من أهل

ص:173


1- (1) الانفال/ 37.
2- (2) تنقیح المقال للعلامة المامقانی: 158/12.

الکوفة ودخلوا علی مصعب وأخبروه بوثوب عبیدهم وموالیهم علیهم وسألوه النصرة لهم والسیر معهم إلی المختار»(1).

3 - ویقول صاحب کتاب الغارات بسنده: «وکان أشراف أهل الکوفة غاشّین لعلی علیه السلام وکان هواهم مع معاویة، وذلک أن علیاً کان لا یعطی أحداً من الفیء أکثر من حقه وکان معاویة بن أبی سفیان جعل الشرف فی العطاء الفی درهم»(2).

4 - ویقول العلامة الشیخ راضی آل یاسین وهو یتحدث عن شهادة أشراف الکوفة علی صحیفة کفر حجر وأصحابه: «ودعا زیاد حواشیه الطیّعة الذین کانوا یبادلونه الذمم بالنعم أمثال عمر بن سعد والمنذر بن الزبیر وشمر بن ذی الجوشن العامری وإسماعیل وإسحاق أبنی طلحة فی عبد الله وخالد بن عرفطة وشبث بن ربعی وحجار بن أبجر وعمرو بن الحجاج وزجر بن قیس... ودرزان أخری من هذه النماذج التی طلقت المروءة ثلاثاً وکانوا سبعین رجلاً عدَّهم الطبری فی تاریخه واحداً واحداً، وحاز من بینهم أبا بردة بن أبی موسی الأشعری لأنه کان أضعفهم عنده أو لأنه کان أقواهم عند معاویة وقال له اکتب:

«بسم الله الرحمن الرحیم، هذا ما شهد علیه أبو بردة بن أبی موسی الاشعری لله رب العالمین، أشهد أن حجر بن عدی خلع الطاعة وفارق الجماعة ولعن الخلیفة ودعا إلی الحرب وجمع إلیه الجموع یدعوهم إلی نکث البیعة وکفر بالله

ص:174


1- (1) تاریخ الطبری: 94/6 عن أبی مخنف.
2- (2) الغارات للثقفی: 29 / ط طهران 44-45.

عز وجل کفرة صلعاء»(1).

5 - سلیمان بن صرد الخزاعی یحذِّّر الموالین من أشراف الکوفة.. حینما قال لهم: «رویداً لا تعجلوا، إنی قد نظرت فیما تذکرون فرأیت أن قتلة الحسین هم أشراف أهل الکوفة وهم المطالبون بدمه، وحتی علموا ما تریدون وعلموا أنهم المطلوبون کانوا أشد علیکم»(2).

وهکذا إذا ما أردنا أن نستعرض الشواهد فقد یطول بنا المقام، ومن ثم تکون کلمة الشهید مجمع بن عبد الله العائذی للحسین: «أما أشراف الناس (یقصدهم أشراف أهل الکوفة) فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم لیستمال ودهم، وتستخلص نصائحهم فهم إلب واحدٌ علیک» ضمن هذا السیاق الذی کانوا یتعاملون به مع الأبرار والمصلحین ومع الفجار والفاسدین کلما مالت الکفة مع جهة مالوا لها رائدهم - کما تقدم - المال والجاه والمنزلة والخوف والوعید والإرهاب والتشدید، فکلما لوُحَت لأبصارهم الدراهم والدنانیر مالوا، وکلما رأوا السیوف تلمع أمام ناظرهم وأیقنوا الموت ترکوا کل التزاماتهم. وقد أحسن ابن زیاد فی التعامل معهم فی هذه الحقبة بالذات وهو المحتاج إلی منزلتهم الاجتماعیة الفارغة من المحتوی من أجل التأثیر علی الناس، فأعطاهم کل ما یریدون حتی ملأ الغرائر وأعظم الرشاوی فکانوا طیّعین إلیه کیده الأثیمة التی

ص:175


1- (1) صلح الإمام الحسن للشیخ العلامة یاسین آل راضی وتقدیم العلامة السید عبد الحسین شرف الدین: / 331.
2- (2) ابن کثیر: 53/7.

یصول بها ویجول.

ومن کانت هذه حاله لا یمکن لنا أن نتصوره فی دائرة أهل البیت والموالین لهم، لاسیّما بعد ما تقدم من الشواهد وقول الثقفی فی غاراته:«أنهم کانوا غاشیّن لعلی وهواهم مع معاویة»، نعم فان الشیعة الحقیقین هم أولئک الذین عرفوا بالإیمان والدین کحجر بن عدی وسلیمان بن صرد الخزاعی وهانیء بن عروة وأمثال هؤلاء الابدال الذین ما حادوا ولا نادوا عن الطریق المستقیم مع کل الاغراءات التی قدمت والتهدیدات التی تقدمت إلیهم، وعلیه فلا یمکن أن یأتی جاهل لا یعی أی طرفیه أطول لیتهم الشیعة بأنهم کانوا قتلة الحسین لأنهم کانوا فی الکوفة وهاهم أشراف الکوفة یغدرون ویخرجون لحرب الحسین وقتاله. وقد تقدم بأن أشراف الکوفة الذین خرجوا لهذه الحرب لم یکونوا إلا جماعة تعتقد بالمال رباً وبالجاه والدنیا نبیاً والتقرب إلی الظالمین لقاء ودهم منهجاً وطریقا. أما أشراف الکوفة من الموالین فکانوا فی تلک الحقبة بالذات ما بین سجین وقتیل ومطارد من جهة إلی جهة ومع ذلک استطاع جمع منهم من الوصول إلی الحسین والوقوف إلی جانبه والشهادة بین یدیه. وأمّا قول الشهید مجمع بن عبد الله العائذی للحسین علیه السلام:

«وأمّا سائر الناس فقلوبهم معک وسیوفهم مشهورة علیک».

فإنما یشیر بذلک إلی تلک الجماعات التی کانت تعیش فی الکوفة صحبة لعلی علیه السلام ولأهل بیته دون أن تعتقد بعصمتهم وبإمامتهم وأنهم منصوبون من قبل الله تعالی لا تجوز مخالفتهم ومثل هؤلاء فی الکوفة لیسوا بالقلیلین بل کانوا

ص:176

یشکلون عدداً کبیرا، وکانت عقیدتهم بعلی علیه السلام کعقیدتهم فی غیره بأنه خلیفة وأمیر المؤمنین لا غیر ولهذا خرجوا واعترضوا علیه ولا شک ولا ریب أن هؤلاء لیسوا من الشیعة الإمامیة الذین تحدثت الروایات عن وجودهم فی الکوفة وهم المناصرون لأهل البیت فی ألسنتهم وأیدیهم وقلوبهم حقاً، وأنهم المعتقدون بهم مرجعاً وموئلاً فی کل شؤون حیاتهم الدینیة والدنیویة لا یحیدون عنها قید أنملة، ولقد أشارت جملة من الروایات الواردة عن الرسول الأعظم علیهما السلام والأئمة الطاهرین من أهل البیت علیهم السلام، منها هذه الروایة التی ینقلها الکافی عن أبی حمزة قال:

«قال أبو جعفر علیه السلام: إنّما یعبد الله من یعرف الله فأمّا من لا یعرف الله فإنما یعبده هکذا خلالاً، قلت جعلت فداک فما معرفة الله؟ قال: تصدیق الله عز وجل وتصدیق رسوله علیه السلام وموالاة علی والاتمام به وبأئمة الهدی علیهم السلام والبراءة إلی الله عز وجل من عدوهم، هکذا یُعرف الله»(1).

وعلیه، فسائر الناس فی الکوفة کانوا یحملون الحب فی نفوسهم لأهل البیت دون التبری من أعدائهم ومن ثم لم تکن عقیدتهم بهم بتلک الدرجة التی تدعوهم إلی الصبر علی کل المکاره من أجلها، ومن هنا نجد الشهید الکربلائی وصفهم بهذه الکلمة «قلوبهم معک وسیوفهم مشهورة علیک» فالقلوب نتیجة المحبة والمودة العامة مقبلة علی الحسین، وأما علی مستوی الموقف الخارجی فهو الذی یرتبط بمقدار ما یمکن أن تترکه من أثر کبیر فی حیاتهم ومستقبل

ص:177


1- (1) الکافی: 180/1.

وجودهم ومن ثم یمکن أن یتنازلوا عنها فیما إذا کانت الأخطار أکبر مما یقدرون والشدائد أعظم مما یتصورون.

نعم، وحتی لا نجانب الحقیقة ونکون موضوعیین فی طرحنا، علینا أن نقبل بوجود جماعة من الموالین فی الکوفة قرروا الخروج من تکلیف الوقوف إلی جانب الحسین ونصرته، خوفاً من القتل والهلاک، ومن ثم قدروا أن البقاء فی الکوفة یعنی الذهاب لحرب الحسین وقتاله وهذا مما لا یریدونه ولا یتمنونه الوصول إلیه، فخرج بعضهم متخفیاً فی الطرقات وفی غیرها وهم لاشک فئة لیست بکبیرة فی الکوفة بل هم فئة قلیلة من أمثال عبید الله بن الحر الجعفی وغیره.

والإقرار بوجود هذه الجماعات والمتخاذلة من الموالین والهاربین من أجل عدم الانضمام إلی جیش عمر بن سعد، شیء، والقول بأن الشیعة کانوا من الخارجین فی الجیش المحارب للحسین والقاتلین له شیء آخر، لا یمکن للباحث المنصف أن یجمع بینهما بأی شکل من الأشکال.

وخلاصة القول أن سائر الناس فی الکوفة التی قصدها الشهید الکربلائی إنما هم المحبون دون الموالین لأهل البیت علیه السلام.

الحسین علیه السلام یسأل عن رسوله قیس بن مُسهِّر الصیداوی

اشارة

وما إن وصل الأربعة إلی الحسین علیه السلام حتی سألهم وعلی وجه السرعة متلهفاً لمعرفة الجواب عن حال رسوله إلی الکوفة قیس بن مُسِّهر الصداوی وإذا بهم یخبرونه بمقتله وموقفه البطولی مع ابن زیاد، وقد تحدث عن بعض تفاصیل هذا الموقف بعضهم بقوله «ولمّا وصل إلی القادسیة قبض علیه الحصین بن

ص:178

نمیر التمیمی فسأله عبید الله بن زیاد عن الکتاب فقال له: خرقته قال: ولم؟ قال قیس: لئلا تعلم ما فیه، قال: إلی من؟ قال: قوم لا أعرف أسماءهم قال عبید الله بن زیاد: إن لم تخبرنی فاصعد المنبر وسب الکذاب بن الکذاب یعنی به الحسین، فصعد المنبر وقال: أیّها الناس.

إنّ الحسین بن علی خیر خلف الله وابن فاطمة بنت رسول الله وأنا رسوله إلیکم وقد فارقته بالحجز من بطن الرمّة فأجیبوه، ثم لعن عبید الله ابن زیاد وأباه ولعن یزید بن معاویة وأباه وصلی علی أمیر المؤمنین، فأمر ابن زیاد بالصعود به فوق القصر، فأصعد القصر ورمی به من أعلی فتقطع فمات» (1).

فلما سمع الحسین علیه السلام ذلک دمعت عیناه وترحم علیه بآیات من کتاب الله ودعاءٍ جلیل یکشف عن عظم محبة الحسین لأنصاره وأصحابه المخلصین فی الدفاع عنه والذود عن حرمته، وکان تأبیناً ثبت فی الحسین إیمان الشهید وثباته علیه وإنه من رجال القرآن الکریم بقوله تعالی:

«مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً2» .

فضلاً عن الدعاء بأن یجمع الله بینه وبین شیعته أمثال الشهید الکربلائی قیس

ص:179


1- (1) مثیر الأحزان لابن نما: 30، الارشاد للشیخ المفید: 70/2، وسیلة الدارین: 182.

ابن مسهِّر الصداوی فی مستقر رحمة الله ومذخور ثوابه.

من هو الطرمّاح؟

هو واحد من الصفوة المخلصة الموالیة لأهل البیت والتی نذرت نفسها فی الذود عنهم والدفاع عن حرمتهم، ابتداءً من أمیر المؤمنین وانتهاءً بالحسین علیه السلام الذی سقط بن یدیه مع القتلی ثم حمله قومه فبرئ وبقی علی ثبات دینه وشدة یقینه إلی ان خرج من الدنیا مرفوع الرأس.

یقول العلامة المامقانی فی تنقیح المقال مترجماً له: «طرماح بن عدی بن جبلة بن عدی بن ربیعة بن معاویة بن الحارث بن معاویة بن ثور بن مرتع بن معاویة بن عفیر بن عدی بن الحارث بن مرة بن أود بن زید بن یشجب... بعثه أمیر المؤمنین إلی معاویة، وکان من الموالین المخلصین لأهل البیت، لازم السبط الشهید الحسین علیه السلام واشترک فی واقعة الطف، وسقط بین القتلی، وکان به رمق فأتاه قومه وحملوه وداووه، فبرئ وعوفی وبقی علی حبه وإخلاصه للعترة الطاهرة إلی أن مات، وهو غیر الطرماح بن الحکیم بن نفر بن حجر الطائی المتوفی نحو 125 ه -»(1).

وقد وقع الاختلاف عند من کتب عنه فی شهادته مع الحسین علیه السلام أم لا، فذهب الأکثر إلی عدم شهادته، بینما ذهب آخرون إلی أنه التحق بالحسین علیه السلام وسقط بین القتلی وإن لم یستشهد کما تقدم، والغریب فی الأمر أن علماء مدرسة أهل البیت علیه السلام أخذوا بما قاله الطبری فی تاریخه علی نحو القطع والیقین ورفضوا

ص:180


1- (1) تنقیح المقال للعلامة المامقانی: 302/2.

کل ما عداه من التی تدعو إلی وجوده فی عاشوراء، لاسیما وقد نص الشیخ الطوسی وهو شیخ الطائفة علی اسمه أنه من أصحاب الحسین علیه السلام(1) وسوف یأتی بعد ذلک فی طیّات هذه الموسوعة حدیث مفصّل عن هذا الشهید وعن الأدلة التی تثبت وجوده، بل وما صنعه من المآثر والمفاخر یوم عاشوراء بین یدی أبی عبد الله الحسین علیه السلام.

من هو الطرماح؟ ربما یصعب علی الإنسان کثیراً إذا قیل له عرّف المشهور الواضح والبیِّن لم یطلع علی تاریخه الفذّ ومواقفه الشجاعة فی نصرة أمیر المؤمنین والدفاع عن مظلومیته والتی تسالمت فی کتب التاریخ نقلاً عند المخالف والموالف. یقول العلامة المامقانی: «الطِّرِمّاح بن عدی بکسر الطاء والراء المهملتین وتشدید المیم بعدها ألف وحاء مهملة، عدّه الشیخ قدس سره فی رجاله تارة من أصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام قائلاً.

«الطرماح بن عدی رسوله إلی معاویة وأخری من أصحاب الحسین وهو فی غایة الجلالة والنبالة»(2).

ویقول النمازی:

«من أصحاب أمیر المؤمنین والحسین صلوات الله علیهم فی غایة الجلالة والنبالة، وهو رسول أمیر المؤمنین إلی معاویة، وله کلمات شریفة ظریفة فصیحة

ص:181


1- (1) رجال الطوسی: / 46.
2- (2) تنقیح المقال للعلاّمة المامقانی: 109/2.

بلیغة مع معاویة بحیث أظلم الدنیا فی عینیه»(1).

اقتراح الطرماح علی الحسین علیه السلام

ولقد ذکر غیر واحد من المؤرخین - کما تقدم - أن الطرماح تقدم إلی الحسین علیه السلام وقال له: «والله إنی لأنظر، فما أری معک کثیر أحد، ولو لم یقاتلک إلاّ هؤلاء الذین آراهم ملازمیک - یعنی جماعة الحر - لکفی بهم. ولقد رأیت قبل خروجی إلیک بیومٍ ظهر الکوفة، وفیه من الناس ما لم ترَ عینای فی صعید واحد جمیعاً أکثر منه، فسألت عنهم؟ فقیل: اجمتعوا لیعرضوا ثم یسرحون إلی الحسین....»(2).

ونحن إذ نقرأ هذا النص التاریخی (لا سیما وقد أجمع الکثیرون علی ذکره) فإن صور ذلک المشهد الخاص الذی انطلق فیه النص المتقدم تراها تترأی إلی اذهاننا المرّة بعد الأخری خصوصاً إذا ما عشنا خصوصیة الظرف وحساسیة الاحداث، ومسایرة الحر وجیشه الرکب الحسین علیه السلام، فضلاً عن العیون المبثوثة هنا وهناک لالتقاط أنفاس من یتفاعلون مع حرکة الحسین علیه السلام فضلاً عن مواقفهم.

وفی ظل ذلک کله ینبری أمام الحسین علیه السلام شخص لم یُعرف عنه منذ ولائه واتباعه لأهل البیت أنه هاون أو داهن فی دینه واعتقاده أمام أعتی الظالمین بدءاً من معاویة وما هم دونه فی الظلم والجور، ینبری أمام الحسین من دون ریبة ووجل ثم یقترح علیه ما تقدم وهو القتل والسجن والتهجیر والترویح. خصوصاً

ص:182


1- (1) مستدرکات علم الرجال: 294/4.
2- (2) الثورة الحسینیة جذورها ومعطیاتها للسید الحسین بن التقی آل بحر العلوم: 480/2 دد 481.

إذا أضفنا إلی کل ما مضی انه لم یکن مجبراً به تقدیم مثل هذا الاقتراح، ومن هنا نفهم أهمیة من قائله وأهمیة الظرف الذی قیل فیه. ولکن السؤال الذی یبقی شاخصاً وعالقاً فی الذهن بعد قراءة هذا النص والتأمل فیه هو أسباب عدم قبول الحسین علیه السلام له والاستفادة من وسائل کهذه یمکن للحسین ان یوظفها فی حرکته التی خرج من أجلها؟

أسباب عدم قبول الحسین لاقتراح الطرماح؟

ویمکن لنا أن نضع أیدینا علی بعض تلک الأسباب التی یمکن للإنسان استلهامها من النص بما یلی:

1 - ما ذکره الحسین علیه السلام نفسه للطرماح والتی أشار فیها إلی العهود والمواثیق التی جرت بین الحسین علیه السلام وأهل الکوفة والتی أمّلهم الحسین بقدومه إلیهم لاسیما بعد إرساله مسلم بن عقیل وإخباره باجتماع الکوفة علی بیعته، ومن هنا تراه یقول له:«إنه قد کان بیننا وبین هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه علی الانصراف ولا ندری علام تتصرف بنا وبهم الأمور فی عاقبة»(1).

2 - خوف الحسین علیه السلام من تحوّل القضیة التی خرج من أجلها إلی قضیة قبلیة مرتبطة بقبائل طی وغیرها، وهو الحریص أشد الحرص علی ربط حرکته بالإسلام، ولهذا تراه قال منذ الیوم الأول لخروجه «إنما خرجت لطلب

ص:183


1- (1) الثورة الحسینیة جذورها ومعطیاتها للسید الحسین بن التقی آل بحر العلوم: 481/2.

الإصلاح... أرید أن آمر بالمعروف وأنهی عن المنکر..» (1).

3 - قبول الحسین علیه السلام لهذا الاقتراح یعنی مزیداً من الوقت أولاً للوصول إلی الجبلین أولاً ثم اختیار الناس وإعدادهم لخروج الثلة المؤمنة الواعیة والمخلصة من هؤلاء العشرین ألفاً الذین ذکرهم الطرماح، لأنه لیس کل من حمل السلاح عاش الإخلاص والوعی فی حرکته، ومن ثم کل ذلک یحتاج إلی وقت، وهذا ما لیس یوسع الحسین علیه السلام الصبر علیه وذلک لتسارع الأحداث فی الکوفة بشکل خاص والعالم الإسلامی بشکل عام.

4 - حرص الحسین علیه السلام منذ الیوم الأول لخروجه أن تکون المواجهة بینه وبین بنی أمیة فی مصر وبلدٍ مهمٍ وفی منطقة مفتوحة من الأرض وفی ضوء النهار وهذا ما لا یمکن للحسین الوصول إلیه من خلال الذهاب إلی هذه المنطقة التی اقترحها الطرماح علیه والواقعة بین جبلی آجا وسلمی.

5 - ولو کان الحسین یقبل مثل هذا الاقتراح من الطرماح لکان قبله قبل ذلک من ابن عمه ابن عباس وهو مازال فی المدینة ومکة والتی أشار فیها علی الحسین بالذهاب إلی الیمن لوجود شیعة له فیها ولأبیه أمیر المؤمنین(2).

من هنا نجد أن الحسین علیه السلام قدَّر للطرماح هذا الاقتراح وجزاه خیراً بقوله:

«جزاک الله وقومک خیراً».

ص:184


1- (1) مقتل الخوارزمی: 189/1.
2- (2) أنظر الطبری فی تاریخه: 294/3.
الطرماح بعد الاقتراح

وإن کنت لا أرغب فی بیان هذا الأمر تفصیلاً هنا لخروجه عن مجال البحث، ولکن أود الإشارة إلیه علی وجه السرعة والاجمال لأهمیته، تارکین بقیة التفاصیل إلی مناسبة أخری فی طیّات هذه الموسوعة.

یذهب مشهور المؤرخین والمحدثین إلی أن الطرماح بعد أن قدّمَ هذا الاقتراح علی الحسین ورفضه، ودّعه معتذراً بقوله: «دفع الله عنک شر الجن والانس، إنّی قد أمَرت لأهلی من الکوفة میرة ومعی نفقة لهم، فآتیهم فأضع ذلک فیهم، ثم أقبل إلیک إن شاء الله، فإن الحقک فوالله لأکونن من انصارک، قال: فإن کنت فاعلاً فعجّل رحمک الله، قال: فعلمت أنه مستوحش إلی الرجال حتی یسألنی التعجیل، قال: فلمّا بلغت أهلی ووضعت عندهم ما یصلحهم، وأوصیت فأخذ أهلی یقولون: إنّک لتصنع مرّتک هذه شیئاً ما کنت تصنعه قبل الیوم فأخبرتهم بما أرید، وأقبلت فی طریق بنی ثُعَل حتی إذا دنوت من عذیب الهجانات، استقبلنی سماعة بن بدر فنعاه إلیّ فرجعت»(1).

وعلی أساس ما تقدم یذهب المشهور إلی أن الطرماح لم یلتحق برکب الحسین ویذهب معه إلی کربلاء وفضلاً عن الشهادة بین یدیه.

ومع احترامی الشدید للمشهور والدلیل الذی اعتمدوه، فإنّی أری أن هناک جملة من النقاط التی تدعوا الباحث إلی إعادة النظر فی هذا الموضوع، ومن ثم المیل علی أساسها إلی أن الطرماح لم یترک الحسین علیه السلام بل استمر معه إلی

ص:185


1- (1) الثورة الحسینیة جذورها ومعطیاتها للسید التقی آل بحر العلوم: 481/2.

کربلاء وجاهد بین یدیه حتی سقط بین یدیه والدماء تشخب منه.

ولا أرید هنا أن افصّل القول حول هذا الموضوع فإن له بحثاً مستقلاً سوف نتعرض له فی طیّات هذه الموسوعة، ولکنی أود الإشارة بشکل عام إلی أهم هذه النقاط وبشکل سریع وهی:

1 - عَدُّ الشیخ الطوسی له من شهداء الطف(1) والملتحقین بالحسین علیه السلام، ولا شک أن الشیخ الطوسی لا یتبنّی رأیاً إلاّ وهو واثق منه لاسیما وهو یتعلق بجماعة من الشهداء لهم من الفضل ما لا یخفی.

2 - تاریخ الرجل الجهادی فی الدفاع عن أهل البیت والتی تعرض فیه إلی أنواع من التنکیل والتعذیب سواء فی زمن معاویة أو حتی قبله وبعده، وما نقله التاریخ من الصور الکثیرة فی هذا المجال خیر شاهد علی ذلک، وقبل هذا التاریخ وعدم الخوف من الموت فی أحلک الظروف والأحوال لتؤکد عدم قبول الروایة القائلة بترکه للحسین علیه السلام خصوصاً فی قضیة بسیطة یمکن له أن یوکل فی قضائها إلی آخرین.

3 - نفس الروایة التی تعتمد فی الدلیل علی ترک الطرماح للحسین علیه السلام وعدم اللحاق به، لتؤکد بشکل واضح أنه بقی مع الحسین بل کان هو السائر بین یدیه والحسین یتبعه بقول المجلسی فی بحاره:«ثم أقبل الحسین علیه السلام علی أصحابه وقال هل فیکم أحد یعرف الطریق علی غیر الجادة؟ فقال الطرماح: نعم یا بن رسول الله أنا أخبر الطریق. فقال الحسین علیه السلام: سر بین

ص:186


1- (1) رجال الطوسی: 102.

أیدینا فسار الطرماح واتبعه الحسین وأصحابه وجعل الطرماح یرتجز ویقول:

یا ناقتی لا تذعری من زجری وامضی بنا قبل طلوع الفجر..»(1)

وعلی کل حال فالموضوع یستحق البحث والتحقیق وإنما أردت فی هذا المقام مجرد الاشارة إلی هذا الأمر حتی یعیش القارئ أفق القبول للرأی والرأی الآخر ویبقی الأمر فی دائرة النقاش العلمی الذی یدور مدار الدلیل قبولاً ورفضاً.

الحسین یصل مع الحر إلی قصر بنی مقاتل

ویبقی الحر مسایراً للحسین ومن معه من دون أن تصدر من الحر أی مضایقة للحسین علیه السلام ملفتة للنظر غیر ما تقدمت الاشارة إلیه سابقاً بل إننا نری أن الحر ترک للحسین علیه السلام فی قصر بنی مقاتل حریة الدعوة والتبلیغ للالتحاق به لمن شاء بعد أن کان مانعاً من الالتحاق بالحسین علیه السلام، وهذه نقطة مهمة فی حرکة الحر ومسایرته یمکن أن تجتمع مع بقیة النقاط الأخری فی إعطاء الخلفیات التی دعت الحر بعد ذلک إلی موقف الشرف والرجولة وهذا ما نتمنی أن نسلط الاضواء علیه بعد ذلک بشکل مستقل.

یقول ابن أعثم وهو یتحدث عن مسایرة الحر للحسین فی قصر بنی مقاتل وما جری فیها:

«سار الحسین حتی نزل فی قصر بنی مقاتل، فإذا هو بفسطاط مضروب

ص:187


1- (1) أعیان الشیعة: 597/1.

ورمح منصوب وسیف معلق وفرس واقف علی مذوده، فقال الحسین: لمن هذا الفسطاط؟ فقیل: لرجل یقال له عبید الله بن الحر الجعفی، قال: فأرسل الحسین برجل من أصحابه یقال له: الحجاج بن مسروق الجعفی. فأقبل حتی دخل علیه فسطاطه فسلّم علیه فرد علیه السلام، ثمّ قال: ما وراءک؟ فقال الحجاج: والله ورائی یا بن الحر، والله قد أهدی الله إلیک کرامة إن قبلتها قال: وما ذاک؟ فقال: هذا الحسین بن علی علیه السلام یدعوک إلی نصرته، فإن قاتلت بین یدیه أجرت، وإن مت فإنک استشهدت، فقال له عبید الله: والله ما خرجت من الکوفة إلاّ مخافة أن یدخلها الحسین بن علی وانا فیها، فلا أنصره لأنه لیس فی الکوفة شیعة ولا أنصار إلاّ وقد مالوا إلی الدنیا إلاّ من عصم الله منهم فارجع إلیه وخبّره بذاک، فأقبل الحجاج إلی الحسین فخبّره بذلک، فقام الحسین علیه السلام، ثم صار إلیه فی جماعة من إخوانه، فلمّا دخل وسلم وثب عبید الله بن الحر من صدر المجلس، وجلس الحسین فمحمد الله وأثنی علیه ثمّ قال: أما بعد یا بن الحر فإن مصرکم هذه کتبوا إلیّ وخیّرونی أنهم مجتمعون علی نصرتی وأن یقوموا دونی ویقاتلوا عدوی، وأنهم سألونی القدوم علیهم، فقدمت ولست أدری القوم علی ما زعموا لأنهم قد أعانوا علی قتل ابن عمی مسلم بن عقیل وشیعته. وأجمعوا علی ابن مرجانة عبید الله بن زیاد یبایعنی لیزید بن معاویة، وأنت یا بن الحر فاعلم أن الله عز وجل مؤاخذک بما کسبت واسلفت من الذنوب فی الأیام الخالیة، وأنا ادعوک فی وقتی هذا إلی توبة تغسل بها ما علیک من الذنوب، وأدعوک إلی نصرتنا أهل البیت، فإن أعطینا حقنا حمدنا الله علی ذلک وقبلناه، وأن منعنا حقنا ورکبنا بالظلم کنت من

ص:188

أعوانی علی طلب الحق. فقال عبید الله بن الحر: والله یا بن بنت رسول الله. لو کان لک بالکوفة أعوان یقاتلون معک لکنت أشدهم علی عدوک، ولکن رأیت شیعتک بالکوفة وقد لزموا منازلهم خوفاً من بنی أمیة، ومن سیوفهم، فأنشدک بالله أن تطلب منی هذه المنزلة وأنا أواسیک بکل ما أقدر علیه وهذه فرسی ملجمة، والله ما طلبت علیها شیئاً إلاّ أذقته حیاض الموت، ولا طلبت وأنا علیها فلُحقت، وخذ سیفی هذا فوالله ما ضربت به إلا قطعت فقال له الحسین: یابن الحر ما جئناک لفرسک وسیفک إنما أتیناک لنسألک النصرة، فإن کنت قد بخلت علینا بنفسک فلا حاجة لنا فی شیء من مالک، ولم أکن بالذی أتخذ المضلین عضداً لأنی سمعت رسول الله علیهما السلام وهو یقول: من سمع داعیة أهل بیتی، ولم ینصرهم علی حقهم إلاّ أکبه الله علی وجهه فی النار، ثم سار الحسین من عنده ورجع إلی رحله»(1). ولم یکن هذا اللقاء هو الأول والأخیر بل نقل التاریخ لنا صوراً أخری من اللقاءات فی هذا المکان بالذات (أعنی قصر بنی مقاتل)، هذا والحر وجیشه قد ترکوا للحسین علیه السلام أن یصنع کل ما یرید ویدعو کل من یحب من دون أی مضایقات. روی الطبری قال: قال أبو مخنف: حدّثنا عبد الله بن عاصم عن الضحاک بن عبد الله المشرقی، قال: قدمت ومالک بن النضر الأرحبی علی الحسین علیه السلام فسلّمنا علیه، ثم جلسنا إلیه، فرد علینا السلام، ورحبّ بنا، وسألنا عما جئنا له، فقلنا: جئنا نسلم علیک، وندعو الله لک بالعافیة، ونحدث بک عهداً، ونخبرک خبر الناس، وإنّا نحدثک أنهم قد جمعوا علی حربک... فقال الحسین: حسبی الله ونعم الوکیل قال:

ص:189


1- (1) الفتوح لابن أعثم: 83/5.

فتذاممنا وسلمنا علیه ودعونا الله له قال: فما یمنعکما من نصرتی؟ فقال مالک بن النضر: علیّ دین، ولی عیال. فقلت له: إن علیّ دیناً، وإن لی عیالاً، ولکنک إن جعلتنی فی حلّ من الانصراف إذا لم أجد مقاتلاً، قاتلت عنک ما کان لک نافعاً، وعنک دافعاً، فقال علیه السلام: فأنت فی حلٍّ فأقمت معه»(1).

أدراک الحر لحقیقة النهضة الحسینیة

لقد کانت هذه المرافقة - الموفقة إن صحّ التعبیر - للحرّ مع الحسین قد کشفت له الکثیر من الغموض وأجلت له العدید من الحقائق وأبانت إلی حدٍّ بعید الوجه الناصع والمشرق لحقیقة النهضة الحسینیة المبارکة. فها هو الحرُّ یسیر مع الحسین ویراقب بدقة مراقبة الانسان لنفسه، ومن ثم رأی وسمع کیف أن الحسین علیه السلام رفض الرجال الذین قدّموا دنیاهم علی آخرتهم وهو المحتاج إلی الناصر والمعین بأشد درجاته وصوره. بل إن الحرّ وهو یراقب کل ذلک عَلِمَ أن الحسین علیه السلام لا یطلب من الناس سوی مهجهم وأفئدتهم. وبتقدیری کان الحرُّ یستقبل کل ذلک ویدرسه ویتفحص فیه کلمة کلمة، وموقفاً موقفاً ویجمع النتائج بعضها علی البعض الآخر منتظراً فی ذلک ساعة الصفر التی یمکن ان یعلن فیها أمام الملأ ما توصل إلیه من نتائج وما اهتدی له من الحقائق، بخلاف غیره الذین مرت بهم الاحداث وکانوا مخاطبین بها مباشرة ومع کل ذلک خطفتهم الدنیا بزبرجها من أن یتعظوا، وهالهم أن یترکوها فسقطوا. فکان الحرُّ مصداقاً للآیة الکریمة:

ص:190


1- (1) تاریخ الطبری: 514/5 تحقیق محمد ابو الفضل إبراهیم.

«تِلْکَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ 1» .

وکانوا مصداقاً للآیة الکریمة:

«قُلْ إِنْ کانَ آباؤُکُمْ وَ أَبْناؤُکُمْ وَ إِخْوانُکُمْ وَ أَزْواجُکُمْ وَ عَشِیرَتُکُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ کَسادَها وَ مَساکِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَیْکُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّی یَأْتِیَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفاسِقِینَ 2» .

وصول الحسین والحرُّ إلی کربلاء

وهکذا سار الرکب علی وفق الاتفاق من قصر بنی مقاتل وصل إلی منطقة، طلب فیها الحسین منه أن یترکه ینزل فیها أو قریباً منها، یقول الشیخ محمد السماوی فی أبصار العین:«قال له الحسین: دعنا ننزل فی هذه القریة (یعنی نینوی)، أو هذه (یعنی الغاضریة)، أو هذه (یعنی شفیة)...»(1).

کان الحرُّ قد رفض هذا الطلب أولاً، ولکنه سرعان ما استجاب إلی رغبة الحسین علیه السلام فی النزول فی نفس هذه المنطقة أو المناطق التی أشار إلیها، یقول السید ابن طاوس وغیره: «لما وصل الرکب الحسینی إلی أرض کربلاء هنالک

ص:191


1- (3) إبصار العین فی أنصار الحسین للشیخ محمد السماوی: / 163.

وقف جواد الحسین علیه السلام، فسأل ما یقال لهذه الأرض؟ قالوا: أرض الغاضریة، قال علیه السلام: فهل لها اسم غیر هذا؟ قالوا: سُمِّیت نینوی، قال علیه السلام: هل لها اسم غیر هذا؟ قالوا: تسمی بشاطئ الفرات، قال علیه السلام: هل لها اسم غیر هذا؟ قالوا: تسمی کربلاء، فتنفس الصعداء وبکی بکاء شدیداً، وقال علیه السلام: اللهم إنی أعوذ بک من الکرب والبلاء ثم قال علیه السلام: قفوا ولا ترحلوا منها، فهاهنا والله قتل رجالنا، وهاهنا والله ذبحُ أطفالنا، وهاهنا والله تزار قبورنا، وبهذه التربة وعدنی جدی رسول الله علیهما السلام ولا خلف لقوله»(1).

وبوصول الحسین علیه السلام والحرّ إلی کربلاء وذلک فی الثانی من محرم عام 61 ه -، تکون المهمة التی أوکلت إلی الحرِّ قد انتهت، وبقی الحرُّ مراقباً للأحداث من الثانی من محرم حتی العاشر منه، لاسیما المراسلات واللقاءات التی حصلت فی تلک الحقبة بین الحسین علیه السلام وبین عمر بن سعد فیما عرف بعد ذلک بأیّام الهدنة أو المهادنة والتی استمرت قرابة السبعة أو الثمانیة أیّام، کان الحرُّ فی هذه المدّة کما کان قبل ذلک، شدید التأمل فیما یجری من مواقف، لاسیما فیما یعرضه الحسین علیه السلام من خصال علی القوم وکیفیة مقابلتهم لکل ذلک بکلمتین لا غیر «الذلة فی قبول النزول علی حکم یزید وعبید الله بن زیاد أو القتل والترویع له ولأهل بیته وأصحابه وحتی نسائه» ولقد أشار الحسین علیه السلام إلی ذلک بأعظم تعبیر وأبلغ صورة حینما قال:«ألا وإن الدّعی ابن الدعی قد رکز بین اثنتین بین السلّة والذلة وهیهات منا الذلة یأبی الله لنا ذلک ورسوله والمؤمنون،

ص:192


1- (1) اللهوف للسید ابن طاوس: / 139، معالی السبطین للمازندرانی: 285/1.

وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمیة ونفوس أبیة من أن نؤثر طاعة اللئام، علی مصارع الکرام...» (1).

وقد صار الحرُّ یخاطب نفسه وهو یسمع کل هذا ویشاهد کل ذاک، أن الحسین علیه السلام لا یمکن له بأی حال من الأحوال أن ینزل - معاذ الله تعالی - إلی رغبة هذه الجماعات الظالمة، ومن ثم یضع یده الشریفة الطاهرة بید یزید الفسق والفجور، اللهم إلاّ أن یجتمع الحق والباطل فی بوتقة واحدة ویلتقی الخیر والشر فی مبدأ واحد، وإذا کان کل ذلک لا یجری ولن یجری أبداً، إذن فلابد من موقف یظهر فیه الحرُّ مکنون ما انطوت علیه سریرته، ویعلن حقیقة المشاعر التی یحملها اتجاه الحسین وحرکته بعد أن کتمها طلیة الحقبة السابقة، والأصحّ - کما أعتقد - حاول کتمها بقدر ما یستطیع حتی یتبین الخیط الأبیض من الخیط الأسود(2) ، مما یجری من أحداث متسارعة تتطلب رأیاً صائباً وعزماً راسخاً وقراراً شجاعاً وتحملاً للمسؤولیة مهما عظمت وجلت حتی ولو أدت إلی أن تسفک الدماء وتزهق الأرواح فی هذا الطریق.

مواقف الحرُّ الریاحی فی یوم عاشوراء

اشارة

لم یکن یوم عاشوراء یوماً عادیاً متکوناً من أربع وعشرین ساعة، کما هی بقیة الأیام التی تعیشها ویعیشها الکثیرون من الناس، بل کان یوم عاشوراء یوماً

ص:193


1- (1) مقتل الخوارزمی: 7/2.
2- (2) مضمون الآیة الکریمة:«کُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» البقرة 187.

ممتداً مع الزمن ومستمراً مع الحیاة بل خالداً ما بقی للخلود مفهوم وللبقاء واقع، وما کل ذلک إلاّ لما تضمنه هذا الیوم العظیم من مواقف وأحداث عقم الدهر أن یأتی بمثلها أبداً، بل ومثل رجالها الذین سطروها وصنعوها یوم العاشر من المحرّم، وکان من بین أولئک الرجال (الحر بن زید الریاحی) والتی کانت له من مواقف العزّ والشرف الکثیر والتی نحاول أن نسلط الأضواء علیها تباعاً وهی:

أولاً: توبة الحرّ الریاحی وانتقاله للحسین علیه السلام

لقد أجمع المؤرخون بکل أطیافهم وتوجهاتهم أن الحرّ بن یزید الریاحی تاب إلی الله عز وجل یوم العاشر من المحرّم وتحول إلی معسکر أبی عبد الله، وقد فرح الحسین علیه السلام بذلک کثیراً، یقول الطبری وهو یروی لنا قصة هذه التوبة وتفاصیل هذا التحوّل: «قال أبو مخنف: عن أبی جناب الکلبی عن عَدی بن حرملة، قال: ثمَّ إنّ الحرّ بن یزید لمّا زحف عمر بن سعد قال له: أصلحک الله، أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إی والله قتالاً أیسره أن تسقط الرؤوس وتطیح الأیدی، قال: أفما لکم فی واحدة من الخصال التی عرض علیکم رضاً؟. قال عمر ابن سعد: أما والله لو الأمر إلیّ لفعلت ولکن أمیرک قد أبی ذلک. فأقبل حتی وقف من الناس موقفاً، ومعه رجل من قومه یقال له: قرّة بن قیس فقال: یا قرّة هل سقیت فرسک الیوم؟ قال: لا، قال: أما ترید أن تسقیه؟ قال: فظننت والله إنه یرید أن یتنحی فلا یشهد القتال، وکره أن أراه حین یصنع ذلک، فیخاف أن أرفعه علیه، فقلت له: لم أسقه، وأنا منطلق فساقیه.

ص:194

قال: ماعتزلت ذلک المکان الذی کان فیه، فوالله لو أنّه أطلعنی علی الذی یرید لخرجت معه إلی الحسین، قال: فأخذ یدنو من حسین قلیلاً قلیلاً فقال له رجل من قومه یقال له: المهاجر بن أوس، ما ترید یا بن یزید؟ أترید أن تحمل؟ فسکت وأخذه مثل العُرَواء(1). فقال له: یا بن یزید، والله إنّ أمرک غریب، والله ما رأیت منک فی موقف قطّ مثل شیء أراه الآن، ولو قیل لی: من أشجع أهل الکوفة رجلاً ما عدوتک، فما هذا الذی أراه منک؟ قال: إنی أخیّر نفسی بین الجنّة والنار، ووالله لا أختار علی الجنّة شیئاً ولو قُطعت وحُرّقت، ثمّ ضرب فرسه ولحق بالحسین علیه السلام، فقال له: جعلنی الله فداک یا بن رسول الله، أنا صاحبک الذی حبستک عن الرجوع، وسایرتک فی الطریق، وجعجعت بک فی هذا المکان، والله الذی لا إله إلاّ هو ما ظننت أن القوم یردّون علیک ما عرضت علیهم أبداً، ولا یبلغون منک هذه المنزلة، فقلت فی نفسی: لا أبالی أن أطیع القوم فی بعض أمرهم، ولا یرون أنی خرجت من طاعتهم، وأمّا هم فسیقبلون من حسین هذه الخصال التی یعرض علیهم، ووالله لو ظننت أنهم لا یقبلونها منک ما رکبتها منک وإنی قد جئتک تائباً مما کان منی إلی ربیّ، ومواسیاً لک بنفسی حتی أموت بین یدیک، أفتری ذلک لی؟ قال: نعم، یتوب الله علیک، وغفر لک، ما اسمک؟ قال: أنا

ص:195


1- (1) قال ابن منظور فی لسان العرب: قال الأصمعی: إذا أخذت المحموم قرة ووجد مس الحمی فتلک العرواء، وقد عری الرجل دد علی ما لم یُسَم فاعله دد فهو معرو، وإن کانت نافضاً قیل نفضته، فهو منفوض، وإن عرق منها فهی الرحضاء، وقال ابن شمیل: العرواء قل یأخذ الإنسان من الحمی ورعدة، وأعری إذا حم العرواء ویقال حم عرواء وحم العرواء» لسان العرب: 128/10 (مادة عرا).

الحرّ بن یزید قال: أنت الحرُّ کما سمتک أمک، أنت الحرُّ فی الدنیا والآخرة، أنزل قال: أنا لک فارساً خیر منی راجلاً، أقاتلهم علی فرسی ساعة، وإلی النزول من یصیر آخر أمری قال الحسین: فاصنع یرحمک الله ما بدا لک، فاستقدم أمام أصحابه ثم قال: أیها القوم ألا تقبلون من حسین خصلة من هذه الخصال التی عرض علیکم...»(1).

ویروی ابن نما فی مثیر الأحزان وصول الحرّ إلی الحسین وما ذکره له فی ذلک الوقت بقوله: «ورویت بإسنادی أنه (یعنی الحرّ) قال للحسین علیه السلام لمّا وجهنی عبید الله إلیک، خرجت من القصر فنودیت من خلفی: أبشر یا حرّ بخیر، فالتفت فلم أر أحداً فقلت: والله ما هذه بشارة وأنا أسیر إلی الحسین، وما أحدّث نفسی باتباعک، فقال علیه السلام لقد أصبت أجراً وخیراً»(2).

سؤال: أکانت توبة الحرّ قبل المعرکة أم فی أثنائها؟

لا شک ولاریب ان عملیة الانتقال من معسکر عمر بن سعد الی معسکر الحسین علیه السلام یمثل فی نفسه فضیلة وفخرا للمنتقل, ولاسیما وان انتقالة کهذه تعنی الموت بأقسی صوره واشکاله. ومن ثم سواءٌ کانت توبة الحر قبل المعرکة ام فی اثنائها فانها تبقی توبة عظیمة تمثل درسا کبیرا لکل المؤمنین فی کل زمان ومکان, ومع کل ذلک فقد ذهب فریق من العلماء الی ان توبته کانت بعد نشوب المعرکة وفریق آخر أنها کانت قبل ذلک, کما سنناقش ذلک مفصلا.

ص:196


1- (1) مقتل أبی مخنف: 122.
2- (2) إبصار العین فی أنصار الحسین: 115 (الطبعة النجفیة)
توبة الحر فی أثناء الحرب

یری فریق من العلماء أنّ توبة الحر وانتقاله الی الحسین جاءت بعد استغاثات الحسین واستنصاراته(1), یقول السید ابن طاوس فی کتابه الملهوف:«فتقدم عمر بن سعد فرمی نحو عسکر الحسین علیه السلام بسهم وقال اشهدوا لی عند الامیر انی اول من رمی, واقبلت السهام من القوم کأنها المطر, فقال علیه السلام لاصحابه: ((قوموا رحمکم الله الی الموت الذی لابد منه, فان هذه رسل القوم الیکم)), فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة حتی قتل من أصحاب الحسین جماعة, قال: فعندها ضرب الحسین علی لحیته وجعل یقول: ((اشتد غضب الله تعالی علی الیهود اذجعلوا له ولدا, واشتد غضب الله علی النصاری اذ جعلوه ثالث ثلاثة, واشتد غضبه علی المجوس إذعبدوا الشمس والقمر دونه, واشتد غضبه علی قوم اتفقت کلمتهم علی قتل ابن بنت نبیهم, اما والله لا أجیبهم الی شیء مما یریدون حتی القی الله وأنا مخضّبٌ بدمی)).... الی ان یقول: ((أما من مغیث یغیثنا لوجه الله؟ أما من ذاب یذب عن حرم رسول الله؟», قال: فإذا الحرّ بن یزید قد أقبل علی عمر بن سعد, فقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟...»(2) .

ویقول الامام الکبیر محمد حسین کاشف الغطاء فی مقتله: ((فأول توبة

ص:197


1- (1) اللهوف فی قتلی الطفوف: 43 دد 44.
2- (2) کتاب مصارع الشهداء ومقاتل السعداء: 116.

الحر قبل نشوء الحرب: هناک الاکثر وهم الذین یذهبون الی توبة الحر کانت قبل الحرب وسقوط الشهداء فقد ذکر الطبری فی تاریخه وغیره: ((ان الحر بن یزید لما زحف عمر بن سعد قال له: اصلحک الله أمقاتل انت هذا الرجل.....»(1).

ویقول الشیخ المفید: فلما رأی الحرّ بن یزید ان القوم قد صمموا علی قتال الحسین علیه السلام قال لعمر بن سعد: أی عمر مقاتل انت هذا الرجل؟... »(2) .

مرجحات القول الثانی

توجد حسب عقیدتی من الادلة مایمکن للباحث ان یمیل إلی القول الثانی دون الأول:

1 - نص اکثر المؤرخین القول بأن سؤال الحر لعمر بن سعد کان بعد قول: فلما زحف القوم الی المعسکر الحسینی أو فلما علم بتصمیم القوم علی القتال, ولا یکون ذلک إلا قبل الحرب.

2 - سؤال الحر لعمر بن سعد, أمقاتل انت هذا الرجل؟ مما یعنی أن الحرب لم تکن قد بدأت ولو کانت الحرب قد بدأت لا یکون لمثل هذا السؤال داعٍ بل یکون لغواً.

3 - قول الحر للحسین علیه السلام: والله الذی لا إله إلاّ هو ما ظننت ان القوم یردّون علیک ماعرضت علیهم ابدا, ولا یبلغون منک هذه المنزلة...)), ولم یشر الحر فی

ص:198


1- (1) تاریخ الطبری: 469/5.
2- (2) إرشاد المفید: 249 ط الحجریة.

کلامه الی قتال, غایة ماکان فی ان القوم لم یقبلوا من الحسین فهذا ما لم یکن یظنه, ولو کان القتال قد بدأ فعلاً وقتل من قتل من اصحاب الحسین علیه السلام لکان فی کلامه المتقدم مع الحسین تناقض کبیر.

4 - الطلب من الحسین علیه السلام أن یکون أول قتیل بین یدیه, مما یعنی انه إلی ذلک الوقت لم یکن قد سقط من أصحاب أبی عبد الله الحسین أی قتیل ولا یفهم هذا إلا مع عدم نشوب الحرب.

أسباب توبة الحرِّ وانتقاله إلی الحسین علیه السلام

لم تکن هذه التوبة ولیدة یوم العاشر من المحرم فحسب، بل کانت بحسب اعتقادی نتیجة لما قبل یوم العاشر والتی یمکن إجمالها فی ثلاثة أسباب رئیسیة وهی:

1 - احترامه لأهل البیت بشکل عام وللسیدة الزهراء بشکل خاص کان سبباً من أسباب هذا التوثیق، فقد نقل التأریخ أن الإمام الحسین علیه السلام حینما قال له: ثکلتک أمک، أجابه قائلاً: «أما والله لو غیرک من العرب یقولها لی، وهو علی مثل الحال التی أنت علیها ما ترکت ذکر أمّه بالثکل أن أقوله، کائنا من کان، ولکن والله مالی إلی ذکر أمّک من سبیل إلاّ بأحسن ما یُقدر علیه»(1).

وإن کشف لنا مثل هذا الأمر عن شیء، فإنما یکشف عن مدی تأثیر حب أهل البیت علیهم السلام لاسیما السیدة الزهراء علی هدایة الإنسان والتوفیق له فی دنیاه

ص:199


1- (1) الرکب الحسینی: 249/3.

وآخرته، فهو الحب الذی یقی من المنعطفات الخطیرة ویضمن الاختیار الصحیح والسلیم، وعلیه فنحن نعتقد أن من یفرط فی حب أهل البیت إنما یفرط فی واقع الأمر فی مستقبله وحاضره. قال رسول الله علیهما السلام:«من أراد التوکل علی الله فلیحب أهل بیتی ومن أراد الحکمة فلیحب أهل بیتی فوالله ما أحبهم أحد إلاّ ربح الدنیا والآخرة»(1) ، ویقول الإمام الصادق علیه السلام:«من أحبنا أهل البیت وحُقّق حبه فی قلبه، جرت ینابیع الحکمة علی لسانه وجُدد الإیمان فی قلبه»(2) ، ویقول الإمام الباقر علیه السلام:«لا یحبنا عبد ویتولانا حتی یطهّر الله قلبه ولا یطهّر الله قلب عبد حتی یسلّم لنا ویکون سلماً لنا، فإذا کان سلماً لنا سلّمه الله من شدید الحساب، وآمنه من فزع یوم القیامة الأکبر»(3).

2 - صلاة الحرِّ خلف الإمام الحسین علیه السلام هو ومن معه من الجیش، کاشفة عن معرفة بالحسین علیه السلام وما یمثله من ثقل إیمانیّ کبیر علی الساحة الإسلامیة، ومما لا شک ولا ریب فیه، أن صلاة الإنسان لربه هی أهم شیء یمکن أن یتقرب به إلی الله سبحانه وتعالی ومن هنا ینبغی للمؤمن أن یحتاط فیها وفی إقامتها بالشکل المطلوب شرعاً، فقد ورد «أنها قربان کل تقی»(4)«وخیر

ص:200


1- (1) ینابیع المودة للقندوزی: 233/2.
2- (2) المحاسن للبرقی: 134/1 دد 167.
3- (3) الکافی للکلینی: 194/1.
4- (4) تنبیه الغافلین بأحادیث سید المرسلین للسمرقندی: رقم الحدیث: 385.

موضوع» (1) وما شاکل ذلک، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن صلاة الجماعة والصلاة خلف إمام یعنی جعلک إیاه واسطة بینک وبین الله فی قبول هذه الصلاة، ومن هنا ورد ضرورة عدم الصلاة إلاّ خلف الإنسان الجامع للشرائط، وعلی أساس کل هذا إن الحرَّ بصلاته هذه خلف الحسین کان یرید أن یقول بأن الصلاة المقطوع بصحتها وقبولها هی الصلاة خلف هذا الإمام الهمام، وهذه نقطة مهمة ترکت آثارها فی حیاة الحرِّ ومستقبله، بخلاف أولئک الذین کانوا یعتقدون ببطلان صلاة الحسین وعدم صحتها وذلک حینما خاطبوه یوم العاشر من المحرم وهو قائم یصلی فی وسط المعرکة «أنها لا تقبل»(2).

3 - الأصل الکریم الذی یرجع إلیه الحرّ الریاحی والذی أشار إلیه هو یوم العاشر من المحرم فی أرجوزته.

إنّی أنا الحرُّ ومأوی الضیف(3)

ومن المعروف قرآنیاً وروائیاً وتاریخیاً أن الإنسان قد یکون متصفاً بصفة معینة کریمة فتکون مصدراً للخیر والبرکة، فها هی مریم بنت عمران أحصنت فرجها (أی تحلت بالعفة) وإذا بهذه الصفة صارت بعد ذلک «جَعَلْناها وَ ابْنَها آیَةً لِلْعالَمِینَ 4» ، وذلک موسی بن عمران سقی الماء إلی المرأتین ورجع واتکأ علی جذع الشجرة وإذا بهذا العمل یعطی أثره حتی صار إلی شعیب

ص:201


1- (1) بحر الفوائد للکلابازی: رقم الحدیث 139.
2- (2) تاریخ الطبری: 326/3.
3- (3) بحار الأنوار: 13/45.

وتزوج من ابنته(1) وهکذا الکثیر فی القرآن وفی الروایات الأکثر والواقع یشهد علی ذلک.

ولم یکن الحرُّ معروفاً فی الکوفة إلاّ بکل خصال الخیر والفضل والکرامة حتی صار بیته مأوی للضیوف ومصدراً لنشر المعروف، وإذا بکل هذه الخصال تعطی أثرها فی توبته وحسن خاتمته، وصدق الله تعالی حیث یقول:

«وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِینَ 2» .

خصائص وممیزات توبة الحر الریاحی

اشارة

لقد تمتع الحرّ بجملة من الخصائص والمیزات نسلط الأضواء علی بعضها لما فیها من العظة والدرس لنا:

1 - إخلاص الحر الریاحی

وهذه میزة مهمة یجب أن تتوفر فی کل عمل یعمله الإنسان، فهی بمنزلة الأساس للبنیان أو بمنزلة الروح من الجسد، فکما أن البناء لا یستقر مهما عظم إلا إذا کان الاساس قویاً سلیماً فکذلک العمل لا یستقر ولا یستقیم إلا مع الاخلاص، وإلا مع الاخلاص بدون خبرة ولا یتأمل حسنه وفضله إلاّ مع الاخلاص. ولقد أشار القرآن الکریم إلی عظمة هذا الامر وآثاره الکبیرة بقوله فی سورة التوبة:

«أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْیانَهُ عَلی تَقْوی مِنَ اللّهِ وَ رِضْوانٍ خَیْرٌ أَمْ مَنْ»

ص:202


1- (1) إشارة إلی مضمون الآیات الکریمة فی سورة القصص: 23 دد 28.

«أَسَّسَ بُنْیانَهُ عَلی شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِی نارِ جَهَنَّمَ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ 1» .

وعلی أساس ذلک فقد یأتی الإنسان بأعمال جلیلة القدر ظاهراً ولکنها لا تساوی عند الله جناح بعوضة، والعکس صحیح أی أن یأتی الإنسان بأعمال صغیرة ظاهرة من الناحیة المادیة زماناً ومکاناً ولکنها عند الله عظیمة وجلیلة، یقول الله تعالی وهو یتحدث عن یوم القیامة وما یقدمه بعضهم من أعمال کبیرة جلیلة ظاهراً ولکنها خالیة من الاخلاص وابتغاء رضوان الله تعالی:«وقدمنا إلی ما علموا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً» ویا لها من خسارة کبیرة فادحة فی ذلک الیوم الذی یکون فیه الإنسان فقیراً إلی أبسط الأعمال من أجل الحصول علی الحسنات والدرجات إما لنجاته من النار أو لرفع الدرجات داخل الجنة وإذا بأعماله تنثر أمامه فی الهواء هباءً منثوراً لأنها خلَتْ من أهم عنصر فیها ومقوم لها ألا وهو الإخلاص.

ولقد عاش الحرُّ الریاحی إخلاصاً فی عمله یوم عاشوراء (بل وحتی قبل عاشوراء بالشکل الذی کان یُعَدُّ مقدمة لإخلاصه الکبیر فی یوم عاشوراء)، إخلاصاً فاق عند الله أعمال الملایین من البشر، إخلاصاً لم یجد الحرُّ معه شیئاً غیر الله تعالی والحسین علیه السلام ونصرة الدین، تلاشت معه کل الدنیا بکل ما تحمل من زخارف وزبارج وبهارج ومال ومنزلة وجاه وما إلی ذاک من ملذات هذه الدنیا وزینتها، ومن ثم صفا عمله من کل ما یمکن أن یشین به فذهب إلی الله خالصاً

ص:203

مخلصاً فاستحق بذلک کل الثناء والمدح والإطراء.

2 - تفکّره فی عواقب الأمور

لقد فکر الحرُّ فی کل الاتجاهات ونظر فی کل الاحتمالات والسبل فلم یجد إلا اتجاهاً واحداً وسبیلا وتراً لا غیر هو الوصول إلی رضا الله والجنة وغیره لا محیص من أنه سینتهی إلی النار. ولو لم یفکر الحرُّ بل ویطیل الفکر والتفکر فیما یمکن أن ینتهی إلیه أمره لما انتهی إلی ما انتهی إلیه من المنزلة الرفیعة والمرتبة الشریفة، ومن هنا ندرک معنی تلک الروایات التی جاءت حاثّة علی التفکر حتی علی مستوی الساعة، حیث یمکن للساعة إذا ما فکر فیها الإنسان تفکیراً عمیقاً طویلاً أن تتحول إلی عمر بکامله بکل ما تحمل هذه الکلمة من معنی، فربّ إنسانٍ یعیش الستین من عمره والسبعین ولکنها لا تمثل قیمة عند الله لأنها مرت علیه مرور الکرام کما تمر اللیالی والأیام علی الذباب والحشرات من دون الاستفادة منها فی تطویر حیاتها وتحسین عملها بل هی هی کما خلقت وکما جبلت علیه، وهناک من یعیش الستین والسبعین من السنین ولکنه یملک ساعات فیها تمثل بالنسبة إلیه العمر کله لعظیم ما فکّر فیها وتدبّر، فی الحدیث عن آثار التفکر عند الإنسان فی فضله لعدد الأیام والسنین وربما کان السبب فی اختلاف ألسنة الروایات.

منطلقاً من درجة التفکر وعمقه علی الإنسان نفسه، فهناک من کان عمق تفکیره یعدل عند الله قیام لیلة واحدة فقط کما فی الحدیث الشریف عن الإمام الصادق علیه السلام لمّا سأله الحسن الصقیل:«تفکر ساعة خیر من قیام لیلة؟ قال:

ص:204

نعم: قال رسول الله علیهما السلام: تفکر ساعة خیر من قیام لیلة، قلت کیف یتفکر؟ قال: یمرّ بالدور الخربة فیقول: أین بانوک؟ أین ساکنوک؟ مالک لا تتکلمین» (1).

وهناک من یکون عمق تفکیره وتفکره بدرجة أکبر حتی لیعدل بذلک عند الله عبادة سنة کاملة فقد ورد فی الحدیث:«تفکر ساعة خیر من عبادة سنة»(2) ، وهناک من یرقی فی تفکره بدرجة أکبر حتی تصل درجة ساعة التفکر عنده کما فی الحدیث إلی ستین سنة حیث ورد:«تفکر ساعة خیر من عبادة ستین سنة»(3) ، وهناک من تصل ساعة تفکره إلی السبعین عاماً کما فی الروایة التی ینقلها العلامة النوری الطبرسی فی مستدرک الوسائل:«تفکر ساعة خیر من عبادة سبعین سنة»(4) ، وهناک من یرتقی بها بأن تجعل ساعة تفکیره تعدل ألف سنة کما فی الحدیث:«تفکّر ساعة خیر من عبادة ألف سنة»(5).

وکأن هذه الأحادیث ترید أن توصل رسالة مهمة إلینا (فهمها الحرُّ الریاحی وتحرک علی أساسها) مفادها: علی الإنسان أن لا یتهاون بأی ساعة من ساعات حیاته فربما فیها یکون خلوده، وربما بها ینجز الإنسان عملاً یکون به نفع البشریة

ص:205


1- (1) میزان الحکمة للری شهری: 2465/3، طبعة دار الحدیث الأولی.
2- (2) بحار الأنوار للعلامة المجلسی: 327/71.
3- (3) بحار الأنوار للعلامة المجلسی: 293/69.
4- (4) مستدرک الوسائل للعلامة النوری: 105/2.
5- (5) بحار الأنوار للعلامة المجلسی: 326/71.

علی مدی الحیاة فتکون الساعة ممتدة به طلیة هذه المدّة وخالدة ما خلدت الحیاة ومادام النفع مستمراً، ولقد أجاد امیر الشعراء أحمد شوقی فی قصیدته الرائعة حیث یقول فیها:

دقات قلب المرء قائلة له إن الحیاة دقائق وثوان

فارفع لنفسک بعد موتک ذکرها فالذکر للإنسان عمر ثانی(1)

فها هو إسحاق نیوتن عندما سأل نفسه سؤالاً فی ساعة من ساعات فراغه وهو مستلقٍ علی ظهره تحت شجرة یعیش التأمل والتفکر فسقطت التفاحة علی رأسه فقال: لماذا سقطت التفاحة علی رأسی ولم تسقط علی الأرض بشکل عمودی؟ ولم تنحرف یمیناً أو شمالاً؟ لماذا لم ترتفع إلی أعلی؟ ومن خلال هذه الأسئلة وصل إلی نظریة الجاذبیة الأرضیة التی استطاع الإنسان من خلالها أن یتخطی حاجز الغطاء ویکتشف الکواکب والمجرّات وما شاکل ذلک، کل ذلک من خلال ساعة تفکر واحدة استطاع ان یخلد فی سجل العلماء الخالدین طیلة المئات من السنین، ولا أراک أیها المؤمن إذا ما قارنت ساعة الحرِّ الریاحی وقیمتها فی نفس الوقت وآثارها علیه بل وعلی الحیاة من خلال وصولها إلی درجة القدرة والاسوة والدرس التی یسیر علیها الأحرار فی کل زمان ومکان إلا أن تقول هی تعدل عند الله الدهر کله والحیاة کلها لعظم خطرها وجزیل عطائها.

ص:206


1- (1) الأبیات قالها أحمد شوقی فی رثاء مصطفی کامل؛ أنظر الموسوعة الشرقیة: 356/5.
3 - الآخرة أحب إلیه من الدنیا
اشارة

لقد تحدث القرآن الکریم عن الحیاة الدنیا من شتی الزوایا والاتجاهات وتحدث عن الآخرة بجملة من الخصائص والصفات وقارن بینهما من أجل أخذ العظة والدرس، ولبیان أیُّهما أحق بالعمل، وأولی بالجهد والأمل، ولقد أشار الله عز وجل إلی حقیقة الدنیا بقوله:«اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِینَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَیْنَکُمْ وَتَکَاثُرٌ فِی الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ کَمَثَلِ غَیْثٍ أَعْجَبَ الْکُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ یَکُونُ حُطَامًا»(1) ، فی آیة أخری:

«مَثَلُ الْحَیاةِ الدُّنْیا کَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا یَأْکُلُ النّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتّی إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّیَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَیْها أَتاها أَمْرُنا لَیْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِیداً کَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ کَذلِکَ نُفَصِّلُ الْآیاتِ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ 2» .

وتحدث عن الآخرة وأعطاها أبعاداًَ وصفاتٍ مهمة غیر موجودة فی الحیاة الدنیا کقوله:

«وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِیَ دارُ الْقَرارِ3» ،«إِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِیَ»

ص:207


1- (1) الحدید/ 20.

«اَلْحَیَوانُ لَوْ کانُوا یَعْلَمُونَ 1» ،«وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعی لَها سَعْیَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِکَ کانَ سَعْیُهُمْ مَشْکُوراً2» .

وما إلی ذاک من الآیات المبارکة. ولا یفهم من ذلک أن الدینا مذمومة مطلقاً، ولو کانت کذلک لما خلقها الله سبحانه، بل هی الطریق والسبیل للوصول إلی الآخرة ورضوان الله، فهی مزرعة الآخرة کما قال رسول الله علیهما السلام(1) ، ولکنها فی الوقت نفسه قد تتحول إلی صادٍ عن سبیل الله والتوجه إلی الآخرة بما تملک من عوامل جذب وشدٍ إلیها کالجاه والمال والولد والزوجة والسلطة وما شاکل ذلک من شهوات وزینة، وعلی أساس ذلک یمکن أن نقسم الناس أمام الدنیا والآخرة إلی قسمین رئیسیین (لاسیّما أوقات الشدة والبلاء والتی لابد أن یختار الإنسان فیها أحدهما)، وهما:

1 - القسم الأول

أولئک الذین یقدمون الدنیا علی الآخرة، ولاشک أن هؤلاء سوف یضعون کلّ القیم والمبادئ تحت أقدامهم عندما تقف أمام دنیاهم.

2 - القسم الثانی

أولئک الذین یقدمون الآخرة علی الدنیا مهما کانت الاغراءات وعظمت

ص:208


1- (3) عوالی اللآلی لابن أبی جمهور: 267/1.

التهدیدات بل وحتی لو سُلّط السیف علی رقابهم، فلن یهنوا ولن یضعفوا بل یقاوموا ویثبتوا ویخرجون من الدنیا وشعارهم «الآخرة أحب إلینا مما تدعوننا إلیه»، وقد خلّد الله سبحانه وتعالی هؤلاء لا لشیء إلا لأجل مواقفهم هذه، وأشار إلی بعضهم فی القرآن الکریم کنبی الله یوسف علیه السلام الذی تعرض إلی ألوان من الإغراءات الکبیرة والتهدیدات الشدیدة علی أن یتنازل عن دینه وینزل إلی مستوی ما تطلبه شهوته وغریزته فأبی واستعصم وقال:

«رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَیَّ مِمّا یَدْعُونَنِی إِلَیْهِ 1» .

ولقد عاش الحرُّ الریاحی هذا المنطق الیوسفی وإذا به یختار الآخرة علی الدنیا فی ساعة شدیدة تجلّت أمامه الدنیا بکل ما تحمل من مال وجاه وزوجة وأولاد وو... وتجلت الآخرة بکل ما تحمل من نعیم دائم لا یزال وعذاب سرمدی لا یقبل الأفول وإذا به یختار الآخرة علی الدنیا ولو أدی ذلک إلی أن یقطع جسده قطعة قطعة حیث یقول:«إنی أخیّر نفسی بین الجنة والنار، ووالله لا أختار علی الجنّة شیئاً ولو قُطّعت وحُرّقت».

مواعظ ودروس فی توبة الحرّ الریاحی

إلهی أنا تائب فهل تری لی من توبة

إنها الکلمة التی قالها الحرُّ الریاحی وهو مطأطئٌ برأسه الشریف أمام الحسین علیه السلام فی ساعة انتقاله من معسکر الکفر والضلال إلی معسکر الإیمان

ص:209

والهدایة، قالها الحرُّ والدموع تنهمل علی وجنتیه والقلب یخفق والأضلاع ترتجف والأرجل ترتعش کل ذلک خوفاً وحیاءً من الله عز وجل أولاً ومن الحسین علیه السلام ثانیاً، وما إن أجابه الحسین علیه السلام بقوله:«نعم إن تبت تاب الله علیک»(1) حتی سکن کل ذلک، وأیقن الحیاة الابدیة والسرمدیة فی الجنّة بل والخلود والبقاء حتی فی دار الدنیا ما بقی اللیل والنهار والشمس والقمر. وهذا درس لنا جمیعاً، أن لا نیأس من رحمة الله تعالی مهما ارتکبنا من ذنوب ومعاصٍ وابتعدنا عن ساحة القدس بالآمال والأمانی، فباب التوبة مفتوح أمام أحدنا مهما طال فی عمره ودقّ فی عظمه، فقد نقل الإمام جعفر الصادق علیه السلام عن جده رسول الله علیهما السلام قوله: قال رسول الله علیهما السلام:

«من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته، ثمّ قال إن السنة لکثیرة، من تاب قبل موته بشهرٍ قبل الله توتبه، ثمّ قال: إن الشهر لکثیر، من تاب قبل موته بیوم قبل الله توبته، ثمّ قال: إن یوماً لکثیر، من تاب قبل أن یعاین قبل الله توبته»(2).

وعن الإمام الباقر علیه السلام قال:

«إن آدم علیه السلام قال: یا ربّ سلطت علیّ الشیطان وأجریته منی مجری الدم فاقبل لی شیئاً فقال: یا آدم جعلت لک أن من همّ من ذریتک بسیئة لم تکتب علیه، فإن عملها کتبت علیه سیئة، ومن همّ منهم

ص:210


1- (1) الثورة الحسینیة جذورها ومعطیاتها للسید الحسین التقی آل بحر العلوم: 598/2.
2- (2) کتاب التوبة للسید کمال الحیدری: نقلا عن الکافی من الأصول: 440/2.

بحسنة فإن لم یعملها کتبت له حسنة، فإن هو عملها کتبت له عشراً قال: یا ربّ زدنی، قال جعلت لک أن من عمل منهم سیئة ثمّ استغفر له غفرت له.

قال: یا ربّ زدنی قال: جعلت لهم التوبة، أو قال: بسطت لهم التوبة حتی تبلغ النفس هذه قال: یا رب حسبی»(1).

ومن هنا نجد أن الإمام زین العابدین فی صحیفته السجادیة المبارکة یقول:

«إلهی أنت الذی فتحت لعبادک باباً إلی عفوک سمّیته التوبة فقلت توبوا إلی الله توبة نصوحاً فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه؟»(2).

وعلی أساس ذلک فباب التوبة مفتوح یدخله کل أحد مهما ارتکب من ذنوب فها هو القرآن الکریم یتحدث عن إخوة یوسف الذین أجرموا فی حق أخیهم بل وأبیهم وعرّضوهما إلی ألوان من الأذی مدّة طویلة من الزمن حتی أبیضت عین یعقوب من الحزن والبکاء علی یوسف، ومع کل ما تقدم منهم بمجرد أن عادوا إلی الله عودة حقیقیة وعاشوا الندم علی ما مضی والعزم علی الترک فیما بقی قبل الله ذلک منهم، یقول القرآن الکریم وهو یتحدث عن ساعة

ص:211


1- (1) المصدر السابق: نقلاً عن الکافی بالأصول: 440/2 (الحدیث الأول).
2- (2) مناجاة التائبین للإمام زین العادین: مفاتیح الجنان للشیخ عباس القمی: / 209 منشورات الفیروز آبادی.

الاعتراف والانکسار أمام أخیهم وأبیهم وأمام الله سبحانه وتعالی:

«قالُوا أَ إِنَّکَ لَأَنْتَ یُوسُفُ قالَ أَنَا یُوسُفُ وَ هذا أَخِی قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَیْنا إِنَّهُ مَنْ یَتَّقِ وَ یَصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لا یُضِیعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِینَ * قالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَکَ اللّهُ عَلَیْنا وَ إِنْ کُنّا لَخاطِئِینَ * قالَ لا تَثْرِیبَ عَلَیْکُمُ الْیَوْمَ یَغْفِرُ اللّهُ لَکُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِینَ» *...«قالُوا یا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا کُنّا خاطِئِینَ * قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَکُمْ رَبِّی إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ 1» .

وبعد کل ما تقدم من آیات وروایات لا یبقی أمام الإنسان المذنب إذا اراد التوبة إلا اتخاذ قرارها وترتیب آثارها سواء أکانت علی نفسه فی أداء ما بینه وبین الله من حقوق وواجبات، أو کانت مع غیر الله من خلال أداء حقوقه المادیة والادبیة. وعلی الإنسان ان لا یؤخر التوبة بل علیه المبادرة إلی ذلک وهو المعبّرُ عنه فی کتب العلماء لوجوب التوبة الفوری»، یقول السید کمال الحیدری فی کتابه القیم التوبة:«لا ریب فی وجوب التوبة علی الفور فإن الذنوب بمنزلة السموم المضرة بالبدن، وکما یجب علی شارب السمّ المبادرة إلی العلاج تلافیاً لبدنه المشرف علی الهلاک کذلک یجب علی صاحب الذنوب التی لا یخلو منها إنسان لم یعصمه الله تعالی المبادرة إلی ترکها والتوبة منها، ومن أهمل المبادرة إلی العقوبة وسوّفها من وقت إلی وقت فهو بین خطرین عظیمین، إن سلم من واحد فلعلّه لا یسلم من الآخر، أن یعاجله

ص:212

الأجل فلا ینتبه من غفلته إلا وقد حضر الموت وفات وقت التدارک وانسدّت أبواب التلاقی.... أن تتراکم ظلمات المعاصی علی قلبه إلی أن تصیر رینا وطبعاً فلا تقبل المحو...» (1).

فها هو الحرُّ ما إن جمع کل المعطیات التی تدلل علی أحقیة الحسین ومظلومیته حتی قرر العود والانتقال والرجوع إلی الله سبحانه وتعالی ولم یؤجل ذلک بل بادر إلیه سریعاً وقرر أن یحصل علی مصداق واضح وصریح لتوبته لا یقبل الطعن أمام الله أولاً وأمام الحسین ثانیاً وأمام نفسه ثالثاً وهذا المصداق الواضح لصدق توبته وخلوصها هو طلبه من الحسین أن یقاتل بین یدیه وأن یکون أول قتیل یضرج بدمه من أجله علیه السلام، ولم یکن مثل هذا الأمر ملزماً للحرّ بل یکفی أن یتوب ویستغفر الله ویقبل الحسین علیه السلام منه ذلک، ولکنه أبی إلا السمو فی التوبة وإلا العلو فی طلب المغفرة، حتی یکون عظة ودرساً خالداً عبر الأجیال مفاده أیها الإنسان لا تنسَ ان تطلب التوبة فی کل وقت حتی ولو بلغت من العمر عتیاً قائلاً إلهی أنا تائب فهل تری لی من توبة؟».

بین قرار الحرِّ الریاحی وقرار عمر بن سعد

هناک لحظات وفرص تمر فی عمر الإنسان تجعله فی أعلی علّیین أو قد تسقطه فی أسفل سافلین، وقد دعا العقل والشرع والمنطق إلی استثمار مثل هذه اللحظات والفرص بما یحفظ دین الإنسان وکرامته فی الدنیا والآخرة یقول أمیر

ص:213


1- (1) کتاب التوبة للسید کمال الحیدری: / 56/55.

المؤمنین:«انتهزوا فرص الخیر فإنها تمرّ مر السحاب»(1) ، ولقد مرّت مثل هذه الفرصة فی أفضل وأحسن صورها وأشکالها علی کل من الحرّ الریاحی وعمر بن سعد فکان قرار کل واحد منهما اتجاها وقراراً یختلف عن الآخر اختلافاً عظیماً کاختلاف اللیل والنهار حیث أورد قرار أحدهما الخلود والذکر الجمیل فی هذه الدنیا فضلاً عن نعیم الآخرة الدائم بجوار الأنبیاء والمرسلین والأئمة المعصومین وحسن أولئک رفیقاً، بینما أورد قرار الآخر الخزی فی هذه الدنیا واللعن علی لسان الصالحین والاحرار فیها فضلاً عن عذاب الآخرة ونارها التی لا تبقی علی من تضرع إلیها ولا تقدر علی التخفیف عمن خشع لها واستسلم إلیها، ولقد مرّت مثل هذه الفرصة الخاصة علی عمر بن سعد فی أکثر من مناسبة، فقد نقل التأریخ أن عبید الله بن زیاد جمع أصحابه فقال:«أیها الناس من منکم یتولی قتال الحسین بولایة أیّ بلد شاء؟ فلم یجبه أحد، فالتفت إلی عمر بن سعد بن أبی وقاص، وکان ابن زیاد قبل ذلک بأیّام قد عقد له وولاّه الرّی وتستر وأمره بحرب الدّیلم وأعطاه عهده وأخّرَه من أجل شغله بأمر الحسین علیه السلام، وقال له: یا بن سعد أنت لهذا الأمر، فإذا فرغت سرت إلی عملک إن شاء الله، فقال عمر إن رأیت أیها الأمیر أن تعفینی عن قتال الحسین فعلت منعماً فقال عبید الله: فإنا قد أعفیناک فاردد إلینا عهدنا الذی کتبناه لک، واجلس فی منزلک حتی نبعث غیرک فقال عمر بن سعد:

ص:214


1- (1) میزان الحکمة للری شهری: 2398/3.

فأمهلنی أیها الأمیر الیوم حتی أنظر فی أمری قال: فقد أمهلناک» (1) وکان باعتقادی مثل هذا الامهال لعمر بن سعد یمثل فرصة عظیمة إذا کانت قد أحسن استثمارها ومن ثم یأخذ قراره الصائب بعد التأمل فی آثار هذا الفعل الشنیع فی دینه ودنیاه، ولکن انظر کیف أضاع الفرصة التی اتیحت له بشکل غریب حیث ذهب إلی فراشه وظل لیله یتقلب یمیناً وشمالاً وقد تجلی أمامه ملک الری وما یعنیه الملک إلیه، وعذاب النار کنتیجة حتمیة لقتال وقتل الحسین علیه السلام وإذا به یقول:

فوالله ما أدری وإنی لحائر أفکر فی أمری علی خطرینِ

أأترک ملک الری والری منیتی أم أرجع مأثوماً بقتل حسین

حسین ابن عمی والحوادث جمة لعمری ولی فی الری قرة عین

إن إله العرش یغفر زلتی ولو کنت فیها أظلم الثقلینِ

ألا إنما الدنیا بخیر معجّل وما عاقل باع الوجود بدینِ

یقولون إن الله خالق جنة ونار وتعذیب وغلِّ یدینِ

فإن صدقوا فیما یقولون إننی أتوب إلی الرحمن من سنتین

وإن کذبوا فزنا بدنیا عظیمة وملک عقیم دائم الحجلین

وإذا به ینتهی إلی قرار أسخط الله به وأرضی الظلمة وأعوانهم یزید وعبید الله بن زیاد حیث قال لابن زیاد:«فإنی سائر إلیه غداً إن شاء الله، فجزّاه عبید الله خیراً وسرا عنه غضبه ووصله وأعطاه وضم إلیه أربعة آلاف فارس»(2).

ص:215


1- (1) تسلیة المجالس وزینة المجالس: 255/2.
2- (2) مقتل الحسین للخوارزمی: 239/1.

ولقد شاءت إرادة الله تعالی أن یجعل الحجة علی هذا المجرم الظالم فی أعلی درجاتها، فهیّأ له فرصة أخری للنجاة، وذلک لیلة العاشر من المحرّم وقبل ساعات من بدء القتال یوم عاشوراء، وذلک من خلال اللقاء الذی جمعه مع الحسین فی خیمة واحدة، وقد نقل الخوارزمی تفاصیل هذه الفرصة الذهبیة حیث یقول:«أرسل الحسین إلی ابن سعد إنی أرید أن أکلمک فالقنی اللیلة بین عسکری وعسکرک فخرج إلیه عمر بن سعد فی عشرین فارساً والحسین فی مثل ذلک ولمّا التقیا أمر الحسین أصحابه فتنحّوا عنه وبقی معه أخوه العباس وابنه علی الأکبر، وأمر ابن سعد أصحابه فتنحّوا عنه وبقی معه ابنه حفص وغلام له یقال له: لاحق، فقال الحسین لابن سعد: ویحک أما تتقی الله الذی إلیه معادک أتقاتلنی وأنا ابن من علمت، یا هذا ذر هؤلاء القوم وکن معی فإنه أقرب لک من الجنّة، فقال عمر بن سعد: أخاف أن یهدم داری، فقال الحسین علیه السلام: أنا أبنیها لک، فقال: أخاف أن تؤخذ ضیعتی فقال الحسین علیه السلام أنا أخلف علیک خیراً منها من مالی بالحجاز، فقال: لی عیال أخاف علیهم فقال: أنا أضمن سلامتهم قال: ثمّ سکت فلم یجبه عن ذلک، فانصرف عنه الحسین وهو یقول: مالک ذبحک الله علی فراشک سریعاً عاجلاً ولا غفر لک یوم حشرک ونشرک، فوالله إنی لأرجو أن لا تأکل من بر العراق إلاّ یسیراً، فقال له عمر: یا أبا عبد الله فی

ص:216

الشعیر عوض عن البر» (1).

فاختار النار وترک الجنة وفوّت علیه الفرصة وکان مصداقاً لقول أمیر المؤمنین الذی کان یدعو إلی اغتنام فرص کهذه بقوله: «أیها الناس الآن، الآن من قبل الندم، ومن قبل أن تقول نفس یا حسرتی علی ما فرطت فی جنب الله وإن کنت لمن الخاسرین، أو تقول لو أن الله هدانی لکنت من المتقین، أو تقول حین تری العذاب لو أن لی کرة فأکون من المحسنین»(2).

ووقف الحرّ (رض) فی الطرف المقابل لهذه المعادلة، حیث أبی الانصیاع إلی صوت السلطة والملک والشهوة والجاه والمنزلة وما إلی ذاک، وقبل أن ینصاع إلی لغة العقل والمنطق والدین حیث قرر اختیار الموت بعزة وکرامة علی حیاة فیها خزی الدنیا والآخرة، فکان الحرُّ فی موقفه وقراره الشجاع هذا یشابه إلی حدّ بعید موقف نبی الله یوسف وقراره الشجاع، حینما رفض کل أشکال النعیم والعزّ وألوان الدلال والفخر المادی المصاحب لمعصیة الله والمتعرض لسخطه وقبل بأشد ألوان العذاب والأذی حتی ولو أدی ذلک إلی الموت ما دام فی طاعة الله ورضاه، فهنیئاً للحرّ الریاحی قراره الشجاع هذا وما ترتب علیه من خلود فی قلوب المؤمنین، وتعساً لعمر بن سعد قراره المشؤوم الذی أورثه اللعنة والسبّة فی قلوب الصالحین وألسنتهم، فضلاً عن الخزی و «العذاب یوم القیامة ولَعذاب الآخرة أشد وأبقی»(3).

ص:217


1- (1) المصدر السابق: 245/1.
2- (2) میزان الحکمة للری شهری: 2398/3.
3- (3) طه/ 127.

الطعن فی توبة الحرّ الریاحی وردّ المامقانی علیه

لیس غریباً أن یشکک المشککون فی کل صغیرة وکبیرة من أحداث واقعة الطف، لا سیّما فیما یتعلق برجال هذه الثورة ورموزها، متصورین ان مثل هذه التشکیکات یمکن أن تؤثر علی جلالتهم وعلو منزلتهم، والحقیقة التی یؤیدها الواقع والتاریخ وما کتب عنهم، إنهم لا یزدادون - رغم کل هذا - إلاّ ألقاً وتوهجاً فی سماء الدنیا لینیروا للأحرار دروبهم. ولقد کانت من جملة هذه التخرصات والتشکیکات الباطلة ما نقله العلامة الجزائری فی الأنوار النعمانیة عن أحدهم قوله:«بأن خروجه علیه علیه السلام متیقن، وما ورد فی عفوه علیه السلام عنه وقبول توبته خبر واحد»(1).

ولقد أجاد العلامة المامقانی فی ردّ هذا الزعم الباطل بقوله: «لا أتصور جهالة کجهالة هذا الطاعن، إلاّ جهالة من قال: إنّ خبر الغار درایة، وخبر الغدیر روایة، والروایة لا تعارض الدرایة، فإن تلک وأمثالها من القضایا التی برهان فسادها معها، وکیف یمکن المناقشة فی توبة من باع دنیاه بآخرته، بعد ظهور مغلوبیة سیّده، وربح أعداء الله تعالی، ولا یُعقل من سیّد الکرماء صلوات الله علیه، أن لا یقبل توبة مثل هذا الرجل الذی فداه بمهجته، وأیتم أطفاله، وأرمل عیاله لمحبته علیه السلام، هذا مع أنّ خروجه لم یکن لمحاربة الحسین علیه السلام لیقع الکلام فی توبته وقبولها وقد روی ابن جریر الطبری وغیره من المؤرخین أنّه قال للحسین علیه السلام معتذراً عن خروجه: إنی کنت قلت فی نفس: لا أبالی أن أصافح

ص:218


1- (1) الأنوار النعمانیة: 265/3.

القوم فی بعض أمورهم ولا یظنون إنی خرجت عن طاعتهم، وأمّا هم فسیقبلون من الحسین علیه السلام ما یعرضه علیهم - یعنی رجوعه من حیث أتی - ووالله، لو أنّی ظننتهم أنهم لا یقبلون ما خرجت معهم، ولا ارتکبت ما ارتکبتُ، فهذا یدل علی اعتقاده أن خروجه وتخلفه سواء فی أن کلاً منهما لا یترتب علیه جریمة الاشتراک بقتل الحسین علیه السلام، سوی أن التخلف لما کان فیه دلالة علی الخروج عن طاعتهم، آثر الخروج معهم، مصانعة لهم مع سلامة آخرته، ولما رأی أنها لم تسلم له، تقدم إلی الحسین علیه السلام عند أول حملة من القوم، وقتل من قتل بها ولذلک یقول له: ائذن لی أن أکون أوّل قتیل بین یدیک»(1).

وسیأتی فی ذلک مزید من الکلام عند دفن الحرِّ علیه السلام وما یتعلق بشؤون قبره (رض) وما تحدث بعضهم حول بُعد قبره عن قبور الشهداء، ما یتعلق بنفس هذه الفکرة المتقدمة والتی سقط فیها بعضهم إمّا جهلاً أو اشتباهاً وغفلة أعاذنا الله وإیاکم منها ومن اشتباهها إنه أرحم الراحمین.

وکذا أجاد العلامة محی الدین المامقانی فی مقام ردّه علی هذه الشبهة بتعلیقته علی هامش تنقیح المقال بقوله:«فهل یسع لأحد التشکیک فی جلالة الحرّ بن یزید وسمو مقامه وتفانیه فی سبیل إمام زمانه؟» وما نقله المحدث الجزائری رحمه الله تعالی فی الأنوار النعمانیة(2) ، عن رجل مجهول، فمن واهی، وفضول الکلام، وهلاّ یُسأل هذا المتوهم بأنه إذا کانت خرافة ارتداده بهذه

ص:219


1- (1) تنقیح المقال للعلامة المامقانی: 168/18 دد 169 دد 175.
2- (2) الأنوار النعمانیة: ج 3، ص 263.

الصورة التی ذکرها، وأن توبة المرتد الفطری لا تقبل، لأنه خرج علی إمام زمانه، فکیف قبله الإمام الحسین، أرواحنا فداه وأنزله المنزلة اللائقة به، بقوله: «أنت الحرّ کما سمتک أمک، أنت الحرّ فی الدنیا والآخرة»، ثم من أین ثبت عند هذا المعترض المجهول بأنه خرج علی إمام زمانه، وهو الذی قال للحسین علیه السلام: «والله الذی لا إله إلاّ هو ما ظننت أن القوم یردّون علیک ما عرضت علیهم أبداً ولا یبلغون منک هذه المنزلة، إلی أن قال: وإنی قد جئتک تائباً مما کان منی إلی ربی ومواسیاً لک بنفسی حتی أموت بین یدیک، أفتری ذلک لی من توبة؟ قال علیه السلام: نعم یتوب الله علیک، ویغفر لک».

ومع هذا التصریح منه بأنه لم یخرج مقاتلاً، ولم یظن أنهم یبلغون من الحسین علیه السلام هذا المبلغ واستعلام أنه إذا سفک دمه فی نصرته، وقاتل عدوه من أجله، هل یکفی فی توبته؟ والصفح عما صدر منه، وتصریح الإمام علیه السلام بأنه یتوب الله علیه ویغفر له ذنبه، هل یسوغ لمسلمٍ التشکیک فی ذلک؟ أمّا اسطورة أن خروجه درایة وتوبته روایة.. فمما تضحک الثکلی، حیث إن خروجه وتوبته وشهادته، کلها روایة. فإذا ساغ القول بأن توبته روایة، والروایة لا تقاوم الدرایة جاز القول بأن خروجه ومنعه للإمام علیه السلام وتوبته وشهادته کلها روایة، ولا أدری ما أقول لمثل هؤلاء الشذاذ ممن یسبغون علی أنفسهم وأقوالهم صفة التحقیق، أعاذنا الله من الانحراف الفکری والشذوذ فی التشخیص وعلی کل حال لا ینبغی التأمل فی وثاقة هذا الشهید الجلیل، وعلو مقامه رضوان الله تعالی علیه(1).

ص:220


1- (1) تعلیقة العلامة محی الدین المامقانی علی کتاب تنقیح المقال علی هامش: 172/18-173.

لطیفة فی توبة الحرّ الریاحی للشیخ محمد مهدی الحائری

ذکر الشیخ محمد مهدی الحائری فی کتابه شجرة طوبی کلاماً لطیفاً له علاقة بتوبة الحرّ الریاحی هذا نصه: «فی تفسیر النیشابوری فی تفسیر هذه الآیة:

«هُوَ یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ 1» .

قیل علامة التوبة هجران إخوان السوء وقرناء الشر، ومجانبة البقعة التی باشر فیها الذنوب والخطایا، وأن یبدل بالإخوان إخوانا، وبالأخدان أخدانا، وبالبقعة بقعة، ثم یکثر الندامة والبکاء علی ما سلف منه، والأسف علی ما ضیع من عمره وأیامه، ولا یفارقه حسرة علی ما فرطه وأهمله فی البطلان، ویری نفسه مستحقة لکل عذاب وسخط.

هذه الأمور علامات تدل علی حقیقة التوبة، وأنا لا أعلم تائباً قد تاب إلی الله ووجد فیه جمیع هذه الأمور إلا رجلاً واحداً، وهو الحرّ بن یزید الریاحی، لأنه لما تاب ظهر منه العلائم المذکورة، هجران إخوان السوء، وهم أهل الکوفة، وقرناء الشرّ هم یزید وعمر بن سعد وعبید الله بن زیاد وأمثاله، وترک البقعة والبلد وهجرها، واختار کربلاء، وبدّل بالإخوان إخوانا، وبالأخدان أخدانا، وهم سیدنا ومولانا الحسین علیه السلام وأصحابه وأهل بیته، وبکی وأکثر الندامة علی ما سلف منه وهو یناجی ربه ویقول: اللهم إلیک إنیب فتب علیّ فقد أرعبت قلوب أولیائک وأولاد نبیک... الخ»(1).

ص:221


1- (2) شجرة طوبی للشیخ محمد مهدی الحائری: 436/2.

خطبة الحرّ الریاحی فی أهل الکوفة

اشارة

ما إن وصل الحرّ الریاحی إلی الحسین علیه السلام تائباً وراجعاً إلی الله، حتی استأذن الحسین علیه السلام أن یکلم القوم لعلهم یرتدعون عما هم علیه من الغی والعدوان، فأذن له(1) فتقدم نحو القوم ثمّ قال:«یا أهل الکوفة (2) لأمکم الهبل والعیر(3) ، إذ دعوتم هذا العبد الصالح حتی إذا أتاکم أسلمتموه وزعمتم أنکم قاتلو أنفسکم دونه، ثمّ عدوتم علیه لتقتلوه، وأمسکتم بنفسه، وأخذتم بکظمه(4) ، وأحطتم به من کل جانب، ومنعتموه من التوجه إلی بلاد الله العریضة، حتی یأمن هو وأهل بیته، فصار کالأسیر فی أیدیکم، لا یملک لنفسه نفعاً ولا یدفع عنها ضراً، وملأتموه(5) ، ونساءه وصبیته وأصحابه عن ماء الفرات الجاری، الذی تشربه الیهود والنصاری والمجوس، وتمرغ فیه خنازیر السواد(6) وکلابها، وهاهم قد صرعهم العطش، بئس ما خلفتم محمداً فی ذریته، لاسقاکم

ص:222


1- (1) باعتقادی أن إذن الحسین علیه السلام للحرّ فی أن یکلّم القوم مباشرة بعد توبته جاء لعدة اعتبارات منها اکتشاف الحسین علیه السلام صدق توبته وإخلاصه فیها، ومنها وجوده الاجتماعی الکبیر فی الکوفة ومنها أنه کان قائداً کبیراً فی الجیش فیکون أدعی للتأثیر علیهم، وهذا بحث مهم ربما نتعرض له فی طیّات هذه الموسوعة عند الحدیث عن خطب وکلمات أصحاب الحسین مع أهل الکوفة.
2- (2) وفی بعض الروایات: قال: معاشر الناس أسرار الشهادة الدربندی: / 278.
3- (3) الهبل بالتحریک الثکل والفقد، والعیر بالتحریک الموت.
4- (4) کظمه: یعنی مخرج نفسه.
5- (5) ملأتموه: أی طردتموه عن الماء.
6- (6) السواد: کنایة عن شدة تکاتف الاشجار ولا تصلها الشمس وفیها تتکاثر الخنازیر وغیرها.

الله یوم الظمأ، إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم علیه من یومکم هذا وساعتکم هذه»(1).

وجاء فی نصٍّ: «فاستقدم أمام أصحابه ثم قال أیها القوم ألا تقبلون من حسینٍ خصلة من هذه الخصال التی عرض علیکم فیعافیکم الله من حربه وقتاله، قالوا هذا الأمیر عمر بن سعد فکلمه، فکلمه بمثل ما کلمه من قبل وبمثل ما کلم به أصحابه قال عمر: قد حرصت لوجدت إلی ذلک سبیلاً فعلت فقال یا أهل الکوفة لأمکم الهبل والعیر...»(2).

وقد ورد فی البدایة والنهایة لابن کثیر زیادة مقصودة حین قال: «ثمّ تقدم بین یدی أصحاب الحسین علیه السلام فخاطب عمر بن سعد فقال: ویحکم ألا تقبلون من ابن بنت رسول الله علیهما السلام ما یعرض علیکم من الخصال الثلاث واحدة منها؟ فقال: لو کان ذلک إلی قبلت ثم قال یا أهل الکوفة...»(3).

بعض ما تضمنته خطبة الحرّ الریاحی من نقاط
اشارة

1 - حدیثه مع عمر بن سعد للمرة الثانیة کما تقدم:«قالوا هذا الأمیر عمر ابن سعد فکلمه، فکلمه...» إقامة الحجة علیه ومن جهة أخری إسماع من معه من أهل الکوفة، والإشارة إلی أنهم مُصّرون علی قتله رغم کل العروض السابقة التی تقدمت إلیهم من قبله علیه السلام.

ص:223


1- (1) الثورة الحسینیة للسید الحسین بن التقی آل بحر العلوم: 598/2.
2- (2) تاریخ الطبری: 427/5.
3- (3) ابن کثیر فی البدایة والنهایة: 180/8.

2 - قوله:«یا أهل الکوفة، لأمکم الهبل والعیر» أی لکم الحزن والثکل والموت، وإنما أشار إلی الثکل لأجل الإشارة إلی أنکم لا تعون ما تقولون وتفعلون، کما لا تعی الثکلی الفاقدة لأعزّ أبنائها قولها وفعلها. وکأنکم بوقفتکم هذه لا تفهمون ما سوف یترتب علیکم من آثار فی الدنیا والآخرة.

3 - قوله: «أدعوتم هذا العبد الصالح» حیث وصف الحسین علیه السلام بالعبد الصالح، وهی صفة سامیة المراتب عالیة المناقب، یقول السید عبد الرزاق المقرم فی کتابه العباس علیه السلام: «إنّها حلقة الوصل بین المولی والعبد، وأفضل حالات أیّ فاضل، حیث یجد نفسه الطرف الرابط لموجد کیانه جل وعلا، وإن من أکمل مراتب الوجود فیما إذا التأم الوصل بین المنتهی والمبدأ بنحو الصلة، وهذا لا یکون إلاّ إذا بلغ العبد أرقی مراتب الإنسانیة التی تلحقه بعالم البساطة وتنتهی به إلی صقع التجرّد... إلی أن یقول ولولا أن هذه الصفة من أسمی الصفات التی یتصف بها العبد لما خصّ الله تعالی أنبیاءه بها فقال سبحانه:

«إِنِّی عَبْدُ اللّهِ آتانِیَ الْکِتابَ وَ جَعَلَنِی نَبِیًّا1»2» .

وقد أطلق هذا الوصف علی جملة من أئمة أهل البیت کالإمام أمیر المؤمنین والرضا علیه السلام والمهدی وکذلک أطلق علی الإمام الحسین علیه السلام لاسیما فی زیارة الإمام الصادق له فی النصف من شهر شعبان حیث یقول:«الحمدُ لله العلی العظیم، والسلام علیک أیّها العبد الصالح الزکی، أودعک شهادة منی

ص:224

لک تقربنی إلیک فی یوم شفاعتک» (1).

4 - قوله:«أدعوتم هذا العبد الصالح حتی إذا أتاکم أسلمتموه...» حیث ذکر أهل الکوفة بکتبهم ومواثیقهم التی قطعوها مع الحسین علیه السلام، وهذه النقطة بالذات کان الحرُّ قد أخذها من الحسین فی أول لقائه به حینما وضع أمامه خرجین من الرسائل والکتب، والتی تقدّر بأکثر من اثنی عشر الف کتاب، وهذا إن دلّ علی شیء فإنما یدل علی أن الحرّ کان فی تلک الحقبة التی عاشها مع الحسین علیه السلام، یدرس ویتأمل ویراقب بشکل دقیق فی کل حرکات الحسین وسکناته.

5 - قوله:«ومنعتموه فی التوجه إلی بلاد الله العریضة...» وهذا ما أشار إلیه الحسین علیه السلام فی أکثر من مناسبة فی أنه جاء الکوفة بطلب من أهلها، فإذا لم یفوا له بذلک، ونکلوا عما کانوا قد أعلنوه قبل ذلک، فإنّه مستعد للرجوع من حیث جاء، أو أن یذهب إلی أیّ منطقة أخری یحصل فیها الحسین علیه السلام علی مأمنه، وهذه النقطة وإن کان الحسین علیه السلام قد أشار إلیها مراراً فی کلماته کقوله:«فإذا کرهتمونی فدعونی أنصرف عنکم إلی مأمنی من الأرض»(2) ، ولکنه إنما أراد أن یتحدث بهذه الطریقة وبهذا الأسلوب لاسیّما أمام من وقف أمامه وعاهده ثمّ تخلف عنه من أهل الکوفة، بأن بنی أمیّة جادّون فی قتله، حتی ولو طلبت الرجوع من حیث أتیت، بل وحتی لو ذهبت إلی منطقة أخری یمکن أن آمن

ص:225


1- (1) مفاتیح الجنان للشیخ عباس القمی: زیارة الحسین فی النصف من شهر شعبان.
2- (2) الثورة الحسینیة للسید الحسین بن النقی آل بحر العلوم: 583/2.

فیها، فانا مقتول علی کل حال، ومثل هذا المعنی المهم الذی أشار إلیه الحسین علیه السلام تمت دراسته والتأمل فیه من قبل بعض أفراد الجیش الکوفی، وکان من جملة هذه الشخصیات المهمة التی حظیت بهذه الدراسة لکلمات الحسین علیه السلام بتأمّل هو الحرُّ الریاحی وهذه نقطة مهمة وأساسیة جدیرة بالتأمل والدرس فی حیاة الحرّ الریاحی یمکن لنا من خلالها أن نعرف موقف هذا الرجل من أهل البیت حتی قبل واقعة الطف، بل وفی زمن الإمام أمیر المؤمنین والإمام الحسن، حین کانت طریقته معهم فی التعامل علی أساس هذا الحق، وما کلمته التی قالها للحسین فی حق الزهراء إلا شاهد آخر علی هذا الحب الکبیر لهم علیهم السلام.

6 - قوله:«وحلأتموه ونساءه وصبیته وأصحابه عن ماء الفرات الجاری...» أشار بذلک أن الحسین یستحق من الأمة کل جمیل وإحسان وخیر وبرکة، لما قدم لهذه الأمة من علم نافع وسلوک خیّر جامع، فضلاً عن کونه من أهل البیت علیه السلام وأصحاب الکساء والذین وجبت مودتهم علی الأمة وأحد الخمسة الذین بأهل بهم رسول الله علیهما السلام، وما إلی ذلک، ومن ثم من کان هذا حاله لا یمنع عنه الماء حتی یقضی عطشاناً ظمآناً، ویترک الماء لتشرب منه الیهود والنصاری وتلغ فیه الکلاب والخنازیر.

7 - قوله:«بئسما خلفتم محمداً فی ذریته...» أشار به أهل البیت علیه السلام، المنطلق من حق رسول الله علیهما السلام علی هذه الأمة، حیث نقل المسلمون فی طرق العامة والخاصة أن النبی علیهما السلام قال:«أذکرکم الله فی أهل بیتی أذکرکم الله فی

ص:226

أهل بیتی أذکرکم الله فی أهل بیتی» (1) ، فضلاً عن مئات الأحادیث التی وردت فی التوصیة بهم ورعایتهم وأنهم الأجر الذی طلبه رسول الله علیهما السلام من حمل رسالته، حیث یقول القرآن الکریم:

«قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی 2» .

8 - قوله:«لاسقاکم الله یوم الظمأ...» أشار به ضمناً إلی أنّ من نصب العداوة والبغصاء إلی أهل البیت علیه السلام لا ینفعه عمله حتی ولو کان قائماً لیله صائماً نهاره علی أساس أن الطرف الآخر کان یدعی أنه من المصلین والصائمین - ومن ثم سیکون مصیره إلی النار وبئس الورد المورود، وما قوله:«لاسقاکم الله یوم الظمأ» إلاّ إشارة إلی واحدة من هذه المقدمات التی سوف یصلون بها إلی النار.

9 - أود أن أشیر إلی ما ذکرته بعض المصادر من أن الحرَّ الریاحی قال لعمر ابن سعد:«فما لکم فیما عرضه علیکم من الخصال الثلاث...» فإن کان المراد بهذه الخصال الثلاث ما ذکره الطبری عن الحسین علیه السلام أنه قال:«اختاروا منی خصالاً ثلاثاً أمّا أرجع إلی المکان الذی أقبلت منه، وأمّا أن أضع یدی فی ید یزید بن معاویة فیری فیما بینی وبینه رأیه، وأمّا أن تسیرونی إلی ثغر من ثغور المسلمین شئتم فأکون رجلاً من أهله لی ما لهم وعلیّ ما

ص:227


1- (1) صحیح مسلم: 134/12.

علیهم» (1) ، فإن مثل هذه العبارة لا یمکن قبولها بأی حال من الأحوال، لوجود نصوصٍ کثیرة شهدت بها کتب الفریقین واضحة وصریحة تردّ علی هذه المزاعم کقول الإمام الحسین یوم عاشوراء:«لا والله لا أعطیهم بیدی إعطاء الذلیل ولا أقرّ لهم إقرار العبید»(2) ، وهل هناک ذلٌّ أعظم من هذا الذلّ الذی تنظمه هذه العروض المنکرة والمزعومة کذباً وزوراً علی لسان الحسین علیه السلام.

وما دسّ مثل هذه الکلمات فی بعض أحادیث الحسین وخطبه أو حتی فی بعض خطب أصحابه إلا لإسقاط شخصیة الحسین علیه السلام (معاذ الله) إضافة إلی التمویه الذی أراد بنو أمیة نشره بین الناس من أن الذی رفض عروض الحسین علیه السلام وقتله لیس إلا عبید الله بن زیاد، ولا علاقة لیزید وبنی أمیة فی ذلک، ولا یخفی أن مثل هذا الأمر تحرکت علیه ماکنة الإعلام الأمویة کما لا یخفی فی کتب التأریخ کثیر ویمکن جمع هذه الآراء إلی خمسة رئیسیة وهی:

أولا: إن الشهید الأول هو علی بن الحسین الملقب بعلی الأکبر

وقد تبنی جملة من العلماء هذا الرأی استناداً إلی قول الإما م المهدی فی زیارته:«السلام علیک یا أول قتیل من نسل خیر سلیل»(3) ، ویقول ابن إدریس:«وهو أول قتیل فی الوقعة یوم الطف من آل أبی طالب»(4) ، ویقول

ص:228


1- (1) تاریخ الطبری: 313/4.
2- (2) تاریخ الطبری: 322/4.
3- (3) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: 148.
4- (4) بحار الأنوار: 274/98.

الشیخ عباس القمی:«وما ذکرناه هو الأصح عندنا کما اختاره الطبری والجزری والاصبهانی والدینوری والشیخ المفید والسید ابن طاووس وغیر هؤلاء»(1). ولاشک ولاریب لمن یقرأ النصوص المتقدمة لاسیما زیارة الإمام یقطع أن المراد من الأولویة هنا لیست فی خصوص المعرکة بکاملها، وإنما المراد هو الأول فی الشهادة من بیت خیر سلیل، نعم اختلفوا فی خیر سلیل من یکون؟ فذهب بعضهم أنه الحسین علیه السلام فیکون علی الأکبر هو الشهید الأول من نسل الحسین، وذهب آخرون أن خیر سلیل هو الرسول علیهما السلام، فیکون علی الأکبر أول المستشهدین من آل رسول الله علیهما السلام.

ثانیاً: أن الشهید الأول هو مسلم بن عقیل علیه السلام

کما یذهب إلی ذلک بعضهم مستنداً إلی أن شهادته علیه السلام کانت البذرة المبارکة الأولی فی سلسلة الشهادة المبارکة للحسین ومن معه فی طفِّ کربلاء.

ثالثاً: أن الشهید الأول هو مسلم بن عوسجة

وقد تبنی هذا الرأی جملة من المؤخین والباحثین، کالطبری فی تاریخه حیث یقول: «فقد حمل عمرو بن الحجاج علی معسکر الحسین فی میمنة عمر بن سعد من نحو الفرات، فاضطربوا ساعةً، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدی أوّل أصحاب الحسین..»(2) ، فضلاً عن زیارة الإمام المهدی له بقوله: علیه السلام: «وکنت

ص:229


1- (1) نفس المهموم: 167.
2- (2) تاریخ الطبری: 333/4.

أوّل من شری نفسه وأوّل شهید من شهداء الله قضی نحبه...»(1).

رابعاً: أن الشهید الأول هو سلیمان بن رزین (أبو رزین)

وهو رسول الحسین إلی البصرة وکانت شهادته سابقة زماناً شهادة رسول الحسین إلی الکوفة، وقد جری علیه من القتل والإلقاء من قصر الإمارة فی البصرة ما جری علی المولی مسلم بن عقیل، ومن هنا ذهب جماعة إلی أنه هو الشهید الأول فی السلسلة الطاهرة لشهداء کربلاء.

خامساً: أن الشهید الأول هو ابو الشعثاء الکندی

حیث أفاد ابن الأثیر فی کتاب الکامل ما نصه: «وجثا أبو الشعثاء الکندی وهو یزید بن أبی زیاد بین یدی الحسین علیه السلام فرمی بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وکلما رمی یقول له الحسین: «اللهم فسدّد رمیته واجعل ثوابه الجنّة» فقاتل بین یدیه وکان أوّل من قتل»(2).

وبیدو أن هذا النص الذی نقله ابن الأثیر هو عینه فی تاریخ الطبری من دون حرف الجر (من) وعلیه یکون أبو الشعثاء هو من أوائل من قتل ولیس أوّل من قتل.

سادساً: أن الشهید الأول هو الحرّ بن یزید الریاحی

وذهب جماعة إلی هذا الرأی مستدلین بقوله للحسین علیه السلام: «فإذا کنت أوّل من خرج علیک فأذن لی أن أکون أول قتیل بین یدیک لعلّی أکون ممن یصافح

ص:230


1- (1) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: 151.
2- (2) الکامل فی التاریخ: 73/4.

جدک محمداً غداً یوم القیامة»(1).

وقد اختلفوا فی (أوّل قتیل)، فذهب السید ابن طاوس أنه أراد أوّل قتیل من حین قوله(2) ، وذهب العلامة المجلسی فی البحار إلی أنه أوّل قتیل من المبارزین(3).

وعلیه فنحن نمیل إلی أن شهادة الحرّ کانت علی النحو الترتیبی التالی:

1 - توبة الحرّ وخطبته وانتقاله إلی الحسین.

2 - الحملة الأولی التی بدأت مباشرة بعد توبة الحرّ خوفاً من انتقال آخرین، وقد ذهب ما یقرب من الخمسین صریعاً من أصحاب الحسین فیها وقد اشتبه بعضهم فتصور أن توبة الحرّ جاءت بعدها وبعد مصرع جماعة ممن أصحاب الحسین، والصحیح أنها جاءت سریعة ومقاربة جداً لتوبة الحر فحصل الالتباس.

3 - ثم حصول المبارزة الفردیة والتی تمنی الحرُّ فیها أن یکون أوّل المستشهدین.

4 - نزول جماعة من أنصار الحسین إلی المبارزة مبتدئة بالشهید الأول مسلم ابن عوسجة علی المشهور.

5 - وبعد شهادة جماعة منهم حبیب وبریر بن خضیر وعبد الله بن عمیر الکلبی، تقدم الحرُّ إلی ساحة المعرکة فقاتل إلی أن قتل کما سیأتی.

ص:231


1- (1) اللهوف فی قتلی الطفوف للسید ابن طاوس: / 61.
2- (2) اللهوف فی قتلی الطفوف للسید ابن طاوس: / 61.
3- (3) انظر البحار للعلامة المجلسی.

النقطة الثانیة: نصُّ مبارزة الحرّ الریاحی ومصرعه:

وقد وردت نصوص کثیرة فی ذلک بعضها مختصر کما عند السید ابن طاوس وأبی مخنف(1) وبعضها موسع کما عند العلامة المجلسی فی بحاره(2) ، وسوف أقتصر علی نصّ ذکره العلاّمة بحر العلوم:«وخرج من بعده: الحرُّ بن یزید الریاحی، ومعه زهیر بن القین یحمی ظهره فکان إذا شدَّ أحدهما استلحم للشّد الآخر واستنقذه، ففعلا کذلک ساعة والحرُّ یرتجز ویقول:

آلیت لا أقتل حتی أقتلا ولن أصابَ الیوم إلا مقبلا

أضربُهُم بالسیف ضرباً مُفصِلا لا ناکلاً عنهم ولا مُهلّلا

فبینما هما یقاتلان، وان فرسَ الحرّ لمضروب علی أذنه وحاجبیه والدماء تسیل منه، إذا التفت الحُصین بن نمیر إلی یزید بن سفیان التمیمی، وکان التمیمی هذا یتهدد الحرّ بالقتل حین خروجه إلی جهة الحسین(3) ، فقال له: یا یزید هذا الحرّ الذی کنت تتمنی قتله، فهل لک به؟ قال: نعم، وخرج علیه یطلب المبارزة، فما أسرع من أن قتله الحرّ، ثم رمی لعین من القوم فرس الحرّ بسهم فعقره، فشب به الفرس، فوثب الحرّ من علی ظهره کأنه لیث وبیده السیف فجعل یقاتل راجلاً وهو یقول:

ص:232


1- (1) اللهوف لابن طاوس: 62، مقتل أبی مخنف: 265 دد 266 تحقیق الشیخ الیوسفی.
2- (2) بحار الأنوار للعلامة المجلسی: 14/45 دد 15.
3- (3) قال الطبری فی تاریخه: «قال رجل من بنی تمیم من بنی شقرة وهم بنو الحارث بن تمیم یقال له یزید ابن سفیان أما والله لو أنی رأیت الحرّ بن یزید حین خرج لاتبعته السنان»: 330/40.

إن تعقروا بی فأنا ابنُ الحرِّ أشجع من ذی لبَدةٍ هِزَبرِ

ولستُ بالخوّار عند الکرِّ لکننی الثابتُ عن الفرّ

وجعل یُقاتل حتی قَتَل نیفاً وأربعین رجلاً کما عن ابن شهراشوب. ثم لم یزل یقاتل راجلاً، وهو یرتجز ویقول:

إنی أنا الحرُّ ومأوی الضیفِ أضرب فی أعناقکم بالسیف

عن خیر من حلَّ بوادی الخَیفِ أضربکم ولا أری من حَیفِ

ثمّ شدّت علیه رجّالة فصرعته»(1).

ویتحدث العلامة کاشف الغطاء عن بطولة الحرِّ وشجاعته فی ساحة المعرکة قائلاً: «وبقی الحرُّ یدیر رحی الحرب وحده یحصد الرؤوس ویخمد النفوس، حتی قتل فی حملته الأخیرة ثمانین فارساً من أبطالهم، ففجّ العسکر وصعب علیهم أمره، فنادی ابن سعد بالرماة والنبّالة فأحدقوا به من کل جانب حتی صار درعه کالقنفذ، هنالک اتقدت نار الغیرة فی کانون فؤاده، ووقف وقفة المستمیت فنزل عن فرسه وعقرها لأنها لم تستطع الاقتحام من کثرة السهام وأخذ یکرّ علیهم راجلاً إلی أن سقط علی الأرض وبه رمق.... فجعل الحسین یمسح الدم والتراب عن وجهه وهو یقول: ما أخطأت أمّک إذ سمتک حرّاً، أنت الحرُّ فی الدنیا والحرُّ فی الآخرة، ثمّ استعبر»(2).

وفی نص آخر: «ذکر صاحب روضة الأحباب أنه لما ارتجز الحرّ سمع

ص:233


1- (1) مقتل الحسین للسید بحر العلوم: / 430 دد 431.
2- (2) مقتل الإمام الحسین للشیخ العلامة کاشف الغطاء: / 45/44.

أرجوزته أخوه مصعب وکان فی عسکر ابن سعد فحمل علی الحرّ وزعم العسکر أنه حمل علی أخیه فلمّا وصل إلیه رحب به وقال: یا أخی لقد أرشدتنی وهدیتنی وإنی جئت تائباً فأتی به الحر إلی الحسین وتاب واستتاب وصار فی صفوف أصحاب الحسین ثم رجع الحرّ وارتجز وطلب المبارزة فثقل ذلک علی ابن سعد لعنة الله علیه فدعا بصفوان بن حنظلة وکان مشهوراً بالشجاعة والشهامة ما بین الاقران وقال له: أبرز إلی الحرّ وانصحه أولاً لعله یرجع الینا فإن أبی فاقتله، فبرز صفوان شاکیاً سلاحه فلما دنا من الحرّ أخذ فی نصحه وقال: عدلت عن إمام زمانک یزید إلی الحسین فقال: یا صفوان کنت رجلاً عاقلاً وإنّنی لأعجب من کلامک، أتشیر علیَّ أن أترک الحسین وأکون مع یزید شارب الخمور ابن الزنا؟ فغضب صفوان وحمل علی الحرّ وطعنه بالرمح فاتقاه الحرّ وطعنه فی صدره طعنة خرجت من وراء ظهره، وکان لصفوان إخوة ثلاث فحملوا علی الحرّ فی طلب الثأثر، فاستلب الحرّ واحداً منهم من منطقته وأرداه من علی ظهر جواده إلی الأرض فهشم أضلاعه وعظامه، ثم حمل علی الآخر بالسیف وسقی الأرض من دمه، وحمل علی الثالث فانهزم ولحقه الحرّ فاستلبه برمحه وألحقه بأخوته ثم وقف فی مکان وطلب المبارزة»(1).

الحسین یمشی إلی مصرع الحرِّ الریاحی

لقد کرّم الحسین علیه السلام وقلّد أصحابه أوسمة من العزّ والشرف نتیجة لما قدموه من تفانٍ وإخلاص فی سبیل الله منقطع النظیر ولقد تنوّعت هذه الأوسمة حسب المواقف، لقد کانت من جملة الوان هذا التکریم الحسینی لأصحابه مشیه

ص:234


1- (1) معالی السبطین للشیخ محمد مهدی الحائری: 339/2 دد 340.

إلی بعضهم وتأبینهم بکلمات مقدسة شریفة، یقول الشیخ محمد السماوی فی کتابه أبصار العین:«مشی الحسین علیه السلام یوم الطف إلی سبعة نفر من أحبته وأنصاره بعد ما قتلوا وهم:... الحر بن یزید، فإنه لما قتل مشی إلیه الحسین وقال: أنت کما سمتک أمّک»(1).

ویقول الشیخ الصدوق فی أمالیه: «فبرز [أی الحرّ] وهو یقول:

أضرب فی أعناقکم بالسیف ذ عن خیر من حلَّ بلاد الخیفِ

فقتل منهم ثمانیة عشر رجلاً، ثمّ قتل، فأتاه الحسین علیه السلام ودمه یشخب فقال: بخٍ بخٍ یا حرّ أنت کما سُمّیت فی الدنیا والآخرة، ثمَّ أنشأ الحسین علیه السلام یقول:

لنعم الحرّ حرّ بنی ریاح ونعم الحرّ مختلف الرماح(2)(3)

العدو یشهد أن الحرَّ الریاحی من الصالحین

یقول العلاّمة مرتضی العسکری فی کتابه معالم المدرستین: «وکان أیوب ابن مشرح الخیوانی یقول: أنا والله عقرت بالحرّ بن یزید فرسه، حشأته سهماً فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وکبا، فوثب عنه الحرّ کأنه لیث والسیف فی یده وهو یقول:

ص:235


1- (1) إبصار العین فی أنصار الحسین للشیخ محمد السماوی: / 226.
2- (2) أمالی الشیخ الصدوق: / 223.
3- (3) بعضهم یری أن هذه الأبیات لعلی بن الحسین علیه السلام وآخرون أنها لأحد أصحاب الحسین، مقتل الحسین للعلامة السید بحر العلوم: / 431.

إن تعقروا بی فأنا ابن الحرِّ أشجع من ذی لبدٍ هِزبْرِ

قال: فما رأیت أحداً قطّ یفری فریه، قال: فقال له اشیاخ من الحی: أنت قتلته؟ قال: لا والله ما أنا قتلته، ولکن قتله غیری، وما أحبُّ أنی قتلته، فقال له أبو الوداک ولمَ؟ قال: إنه کان زعموا من الصالحین فوالله لئن کان ذلک إثماً، لأن ألقی الله بألم الجراحة والمواقف أحبُّ إلی من أن ألقاه بإثم قتل أحد منهم، فقال له أبو الوداک: ما أراک إلا ستلقی الله بإثم قتلهم أجمین، أرأیت لو أنک رمیت ذا، فعقرت ذا ورمیت آخر، ووقفت موقفاً، وکررت علیهم وحرضت أصحابک وکثرت أصحابک، وحمل علیک فکرهت أن تفرَّ، وفعل آخر من أصحابک کفعلک وآخر وآخر، کان هذا وأصحابه یقتلون، أنتم شرکاء کلکم فی دمائهم، فقال له: یا أبا الوداک إنک لتقنطنا من رحمة الله، إن کنت ولی حسابنا یوم القیامة فلا غفر الله لک إن غفرت لنا قال: هو ما أقول لک»(1).

التحق الحرُّ الریاحی وحده أم معه آخرون

اشارة

تحت هذا العنوان أو ما یقرب منه درس العلماء مجموعة من الروایات التاریخیة التی أشارت إلی التحاق جماعة مع الحرّ إلی الحسین علیه السلام وشهادتهم بین یدیه.

ومن هؤلاء الذین ذکرتهم الروایات:

ص:236


1- (1) معالم المدرستین: 105/3.
بکیر بن الحر الریاحی

ولقد کانت لهذا الولد الصالح - کما سیأتی - مواقف مشرّفة وبطولات واضحة فی الدفاع عن الحسین علیه السلام والذود عنه، وممن أشار إلی هذا الشهید، آیة الله العظمی الشیخ الطبسی رحمه الله تعالی فی مقتله المسمی (مقتل الحسین) حیث یقول:«نعم، قال الحرُّ فادع لنا، فرفع الحسین یده إلی السماء وقال: (اللهم إنّی أسئلک أن ترضی عنهما فأنّی راضٍ عنهما»(1).

ویقول الدربندی فی أسرار الشهادة: «فأقبل الحرُّ علی ولده وقال: یا بنی لا صبر لی علی النار ولا علی غضب الجبار ولا یکون خصمی غداً محمد المختار، یا بنی سر بنا إلی الحسین علیه السلام نقاتل بین یدیه فلعلّ الله أن یکتبنا مع الشهداء فنفوز بالشهادة، فقال له: لست مخالفک یا أبتاه فیما تأمرنی به»(2).

ونقل الشیخ محمد مهدی الحائری فی معالم المدرستین الحدیث عن بکیر ابن الحرّ الریاحی بقوله:

«ورأیت فی بعض الکتب القدیمة بالأسانید المعتبرة أن الحرّ لما جاء إلی الحسین کان ولده بکیر معه وقال کن علی أثری فأتی إلی الحسین واعتذر وقال: هل من توبة؟ قال: نعم یتوب الله علیک ففرح وقال الحسین من هذا الغلام؟ قال سیدی هذا ولدی وهو یرید أن ینصرک فقال جزاک الله عنی خیراً ثم قال له: أنزل یا حرّ قال: أنا لک فارساً خیر منی راجلاً ثم قال لولده أبرز إلی القوم بارک الله فیک

ص:237


1- (1) مقتل الحسین لآیة الله العظمی الشیخ الطبسی: / 347.
2- (2) أسرار الشهادة للدربندی: / 315.

فإنی فی أثرک فدنا بکیر من الحسین وقبل یدیه ورجلیه وودعه وبرز بین الصفین فقال له الحرّ: أحمل یا بنی علی الذی ظاهرنا من القوم الظالمین ثم حمل علی القوم ولم یزل یقاتل حتی قتل سبعین مبارزاً ورجع إلی أبیه وقال: هل شربة من الماء أتقوّی بها علی أعداء الله وأعداء رسوله؟ فقال: أصبر یا بنی قلیلاً وارجع فقاتل فرجع بکیر ولم یزل یقاتل حتی قتل خلقاً کثیراً ثم استشهد وقتل رضوان الله علیه، فلمّا نظر الحر إلیه قتیلاً، قال: الحمد لله الذی مَنّ علیک بالشهادة بین یدی ابن بنت رسول الله».

علی بن الحرّ الریاحی

ذکره العلامة کاشف الغطاء فی مقتله المسمی «مقتل الحسین» بقوله: «فحمل (أی الحرّ الریاحی) حملة اللیوث المغضبة، فلم یحصر عدد من قتله أبوه الحرّ قال: الحمدُ لله الذی رزقک الشهادة»(1).

ویقول ابو مخنف عن هذا الشهید: «ثمّ إن الحرّ قال لولده: احمل یا بنی علی القوم الظالمین فحمل الغلام علی القوم فلم یزل یقاتل حتی قتل سبعین فارساً ثمّ قتل (رحمه الله) قال: فلمّا رآه أبوه مقتولاً فرح بذلک فرحاً شدیداً وقال: الحمدُ لله الذی رزقک الشهادة بین یدی مولانا الحسین علیه السلام ثم تقدم الحرُّ (رحمه الله) إلی الحسین علیه السلام وقال: یا مولای أرید أن تأذن لی بالبراز... الخ»(2).

ص:238


1- (1) مقتل الحسین للعلامة کاشف الغطاء: / 31.
2- (2) مقتل أبی مخنف: / 120 دد مکتبة الألفین.
حجر بن الحرّ الریاحی

وقد أشار إلیه إجمالاً الشیخ الطبسی فی مقتل الحسین بقوله: «وفی بعض الکتب أنه کان للحرّ أبناء ثلاث استشهدوا فی کربلاء حجر وبکیر وعلی، وعن أبی إسحاق أن حجراً کان أمیراً علی ألفین موکلاً بالفرات، وعن بعض کان أمیراً علی أربعة آلاف»(1). وقد أشار إلیه بشکل تفصیلی الاسفرایینی فی کتابه نور العین فی مشهد الحسین بقوله: «ثمّ إن عمر بن سعد دعا بحجر بن الحر(2) وعقد له رایة علی الفی فارس وأمره أن ینزل علی مشرعة الغاضریات ویمنع الحسین وأصحابه من شرب ماء الفرات، ودعا بابن ربعی وعقد له رایة علی أربعة آلاف فارس وأمره أن ینزل به المشرعة الأخری ویمنع الحسین وأصحابه من شرب الماء فساروا جمیعاً ونزلوا علی الشوارع واختلفوا بالحسین وضیقوا علیه»(3).

إلی أن یقول: «فبرز من عسکر ابن سعد فارس وأتی إلی الحسین وقال یا أبا عبد الله أعلم أنی حجر بن الحرّ وأرید أن استشهد بین یدیک وبرز إلی قوم ابن سعد وحمل فیهم ولم یزل یقاتل حتی قتل منهم مائة وعشرین فارساً ثم قتل

ص:239


1- (1) مقتل الحسین لآیة الله العظمی الطبسی: / 347.
2- (2) یبدو من خلال هذه الروایة أن حجراً هذا کانت له قیادة عسکریة مهمة فی جیش عمر بن سعد ولکنه لم یکن یعیش الولایة لبنی أمیة وأتباعهم فی الکوفة کما علیه بقیة القادة العسکریین فی الجیش لذا بمجرد أن جاءت الفرصة المناسبة للهدایة والتوبة أناب ورجع إلی الله مع أبیه الحرّ الریاحی کما سیأتی فی طیّات الروایة.
3- (3) نور العین فی مشهد الحسین للاسفرایینی: / 34 دد / 35.

رحمه الله، فلما نظر إلیه أبوه فرح فرحاً شدیداً وقال: الحمدُ لله الذی استشهد ولدی قدام الحسین علیه السلام ثم أتی إلی الحسین وقال: یا مولای ولدی استشهد بین یدیک وأنا تابع فقال الحسین: اصبر حتی آتی بابنک، وحمل علی القوم ولم یزل یقاتل فیهم حتی قتل منهم ثمانمائة وحمل حجراً وأتی به إلی خیمة الحریم ووضعه فقال له الحرّ: إئذن لی بالبراز فقال له: ابرز شکر الله فعلک فبرز وهو یقول هذه السجعات:

إنّی أنا الحرُّ ومقری الضیف أشرب أعناقکم بالسیفِ

عن خیر من حلَّ بلاد الخیفِ أضربکم ولا أری من خوفِ

ثم حمل علی عسکر ابن سعد ولم یزل یقاتل فیهم حتی قتل منهم خمسمائة فلما نظر ابن سعد إلی فعله قال: ویلکم من هذا؟ فقالوا له: الحرّ بن یزید هو وولده عصوا علینا وصاروا إلی نصرة الحسین علیه السلام فقال: علیه برماة النبل، فأقبل علیه سبعمائة رامٍ وجعلوا یرشقونه بالسهام..... الخ»(1).

مصعب بن یزید الریاحی

وقد أشار إلیه العلامة کاشف الغطاء فی کتابه مقتل الإمام الحسین بقوله: «وکان مصعب أخا الحرّ حینئذٍ فی عسکر ابن سعد فلمّا رأی حملات الحرّ وتکالب القوم علیه، وشهادة ابن أخیه کرَّ علی الحرّ بفرسه، فحسبوه قد حمل علی أخیه لیقاتله، فلما وصل إلیه عانقه وبکی، وجاء به إلی الحسین علیه السلام فتاب وأناب

ص:240


1- (1) نور العین فی مشهد الحسین للاسفرایینی: / 36 دد / 37.

ورجع إلی المیدان فقاتل حتی قتل»(1) ، کما أشار إلیه السید الزنجانی فی وسیلة الدارین بقوله: «مصعب بن یزید الریاحی، کان مع أخیه الحرّ بن یزید الریاحی من عسکر عمر بن سعد، ولما رجع الحرّ إلی الحسین وأنشد أرجوزته سمع مصعب ابن یزید الریاحی، وبرز إلی المیدان وأصحاب عمر بن سعد ظنوا أنه یرید أن یحمل علی أصحاب الحسین، فلما قرب من أصحاب الحسین علیه السلام ورأی أخاه الحرّ، قال: مرحباً بک یا حر هدیتنی هداک الله، ولما قتل الحرُّ استأذن من الحسین وحمل علی القوم فقاتل حتی قتل رضوان الله علیه»(2).

عروة (قرّة) غلام الحرّ الریاحی

اشارة

ذکره العلاّمة کاشف الغطاء فی مقتل الحسین بقوله: «وکان للحرّ غلام اسمه عروة تخلّف فی جیش ابن سعد، فلمّا رأی شهادة مولاه وابنه وأخیه، وتفانیهم فی الحرب، أخذه مثل الجنون والحیرة لا بالإیمان والغیرة، فجعل یضارب ویقاتل فی وسط عسکر ابن سعد. وقیل: إنه قتل مَنْ عن یمینه ویساره حتی أتی الحسین علیه السلام فاستأذنه، فأذن له فقاتل حتی قتل. وهناک استعرت نار الحرب وألقت بأمراسها وعضّت بأضراسها»(3) ، کما ذکره السید الزنجانی فی وسیلة الدارین بقوله: «ذکر صاحب الحوادث ج 2 ص 360 أن عروة مولی الحرّ لمّا رأی سیده الحرّ قد قتل، خرج من عسکر عمر بن سعد إلی جانب الحسین

ص:241


1- (1) مقتل الإمام الحسین للعلاّمة کاشف الغطاء: / 31 دد / 32.
2- (2) وسیلة الدارین فی أنصار الحسین للسید الزنجانی: / 192.
3- (3) مقتل الحسین العلاّمة کاشف الغطاء: / 45.

واستأذن فأذن له، فقاتل من القوم جماعة حتی قتل رضوان الله علیه»(1).

رأی العلاّمة شمس الدین

ذکر العلاّمة شمس الدین فی کتابه (أنصار الحسین) أنّه لم یثبت لدیه التحاق أحد ممن تقدم ذکرهم وهذه عبارته: «تتحدث بعض المراجع ذات القیمة الثانویة عن أنّ ولاء الحُرّ للثورة، وتحوله إلی صفوفها أثرّ علی موقف ابنه (علیّ بن الحرّ)، وأخیه (مصعب بن یزید)، وغلامه (عُروة)، ولم یثبت لدینا ذلک»(2).

جوابنا علی رأی العلاّمة شمس الدین

ومع شدید احترامنا وتقدیرنا للعلاّمة المرحوم شمس الدین وما یکتبه مما یُعَدُّ بحقٍ مصدراً علمیاً لکثیر من طلاب العلم وباحثیه، ولکننا لا نوافقه الرأی فی هذه المسألة وذلک لأمرین أساسیین.

أولاً: أن معلومات التحاق المتقدم ذکرهم وردت فی مصادر علمیة مهمة کمقتل أبی مخنف الذی یُعَدُّ واحداً من أهم المصادر التی اعتمدها الطبری وغیره مع ما فیه من الهنات التی ذکرها بعض المحققین، تقول السیدة نبیلة عبد المنعم داود فی رسالتها فی الماجستیر وهی تتحدث عن مصادر التاریخ ومقتل أبی مخنف تحدیداً: «ففی مقتل الحسین یعطینا صورة واضحة عن الحوادث التی

ص:242


1- (1) وسیلة الدارین للسید الزنجانی: / 179.
2- (2) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: 94.

جرت منذ خروج الحسین من المدینة حتی مقتله، وتبدو فیها میول أبی مخنف الشیعیة والعراقیة وهذا ما نلاحظه فی حدیثه عن المختار، ومعلوماته ذات قیمة لأنها أصبحت مادة للمؤرخین فیما بعد وبالأخص البلاذری والطبری» (1) ، إضافة إلی مصادر أخری کمقتل الخوارزمی ونور العین للاسفرایینی وغیرها، وبغض النظر عن کل ذلک فقد أوردها مجموعة من مراجعنا الذی عرفوا بالتحقیق والتدقیق وأنهم لا یریدون إلا ما یوثقون بصحته کالشیخ محمد حسین آل کاشف الغطاء فی مقتله المعروف بمقتل الحسین والعلاّمة الشیخ الطبسی فی مقتل الحسین علیه السلام. ومع کل هذا وذاک فقد أورد السید ابراهیم الزنجانی فی وسیلة الدارین خبر التحاق ولد الحرّ مع أبیه إلی الحسین علیه السلام، لا نقلاً عن آخرین وإنما قال:«ورأیت فی بعض الکتب القدیمة بالأسانید المعتبرة أن الحرّ لما جاء إلی الحسین کان ولده بکیر معه...».

ثانیا: وبغض النظر عن کل ما تقدم من الروایات والمصادر التی تحدثت عن التحاق عدد من أولاد الحرّ وأقربائه به، نقول: ألم یکن الحرُّ الریاحی رئیساً مهماً من رؤساء القبائل العربیة فی داخل المجتمع الکوفی؟ ألم یکن الحرُّ الریاحی قائداً عسکریاً مهماً وکبیراً فی جیش عمر بن سعد؟ ألم یکن الحرُّ الریاحی شخصیة مرموقة فی داخل المجتمع الکوفی؟ وعلی أساس ذلک.. ألا تترک انتقالةٌ لمثل هذه الشخصیة (لاسیّما فی ظل ظرفٍ خاصٍ کالظرف الذی کان یعیشه الإمام الحسین علیه السلام ومن معه) آثاراً علی القریبین منه نسباً؟ فإذا کان

ص:243


1- (1) الشیعة الإمامیة للسیدة نبیلة عبد المنعم داود: / 9. الطبعة الأولی بیروت 1994 م.

قرة بن قیس التمیمی (الریاحی) بعد أن رأی بعینه انتقال الحرّ إلی الحسین علیه السلام وبکاءه بین یدیه تائباً وعائداً إلی الله قال: فوالله لو أطلعنی علی الذی یرید لخرجت معه إلی الحسین. إذن فما لک بالذین یعیشون معه لیل نهار من أبنائه وإخوته الذین کانوا قد تخلقوا بأخلاق الحرّ الریاحی الفاضلة، وتنشقوا عبیر المحبة الصادقة والعشق الکبیر الذی کان یبدیهما أبوهم أتجاه أهل البیت والسیدة الزهراء کما هو واضح من سیرة الحرّ مع الحسین علیه السلام، ألا یکون ذلک الانتقال الذی یصنعه هذا الأب والأخ والزعیم والقائد إلی جیش الحق والهدایة سبباً فی أن یفکر أبناؤه وأخوته والمنتسبون إلیه فی ماهیة هذه الانتقالة واسبابها، ومن ثم یلتحقون معه. نقول هذا کله إذا لم یکن الحرُّ قد رتب هذا الأمر مع أبنائه والمتعلقین به من أحبته فإن الرجل الصالح یرجو لنفسه الصلاح ولغیره کیف إذا کانوا أهل بیته، والذین یری نفسه مستمراً فیهم استناداً إلی قول الله تعالی:

«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَکُمْ وَ أَهْلِیکُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ 1» .

لفت نظر: یقول العلاّمة الشیخ محی الدین المامقانی فی هامشه علی تنقیح المقال للعلاّمة عبد الله المامقانی:«من الأخطاء التی وقعت فی ترجمة الحرّ بن یزید فی مقتل أبی مخنف قوله:

وقال الحرّ بن یزید:

یقول أمیر غادر وابن غادر ألا کنت قاتلت الشهید ابن فاطمة

ص:244

مع أن ابن الأثیر فی وقائع سنة 68 من تاریخه الکامل ج 4 ص 288-289، فی ذکر خبر عبید الله بن الحرّ الجعفی، قال وأتی [عبید الله بن الحرّ] منزل أحمد بن زیاد الطائی فاجتمع إلیه أصحابه، ثم خرج حتی أتی کربلاء فنظر إلی مصارع الحسین علیه السلام ومن قتل معه فاستغفر لهم ثم مضی إلی المدائن وقال فی ذلک:

یقول أمیر غادر وابن غادر ألا کنت قاتلت الشهید ابن فاطمة

ونفس علی خذلانه واعتزاله وبیعة هذا الناکث العهد لائمه

فیا ندمی أن لا أکون نصرته ألا کل نفس لاتشددّ نادمه

وإنّی لأنّی لم أکن من حماته لذو حسرةٍ أن لا تفارق لازمه

سقی الله أرواح الذین تبادروا إلی نصرهِ سحباً من الغیث دائمه

وقفت علی أجداثهم ومحالهم فکاد الحشی ینقض والعین ساجمه

لعمری لقد کانوا مصالیت فی الوغی سراعاً إلی الهیجا حماة خضارمه

تأسّوا علی نصر ابن بنت نبیهم بأسیافهم أساد غیل ضراغمه

فإن یقتلوا فی کل نفس بقیّة علی الارض قد أضحت لذلک واجمه

وما أن رأی الرّاؤون أفضل منهم لدی الموت سادات وزهر قماقمه

یقتّلهم ظلماً ویرجو ودادنا فدع خطّةً لیست لنا بملائمه

لعمری لقد راغمتمونا بقتلهم فکم ناقمٍ منّا علیکم وناقمه

أهمّ مراراً أن أسیر بجحفل إلی فئة زاغت عن الحق ظالمه

فکفّوا وإلاّ زدتکم فی کتائب أشد علیکم من زحوفِ الدیالمه

ص:245

وقد غیّر فی مقتل أبی مخنف بعض الأبیات وأسقط أبیاتاً وإضافة الی ذکر ابن الأثیر هذه الأبیات لعبید الله بن الحرّ الجعفی، فإن مضمون الأبیات تأبی الانتساب الی الحرّ بن یزید.

وقوله: فیاندمی أن لا أکون نصرته.

وقوله: وقفت علی أجداثهم ومحالهم.

وقوله: أهمُّ مراراً أن أسیر بجحفلٍ.

شواهد صدق بأنها لغیر الحرُّ بن یزید»(1).

أقطع رأس الحرّ الریاحی أم لا؟

اشارة

اختلفت الروایات فی قطع رأس الحرّ الریاحی من عدمه وتبعاً لذلک انقسمت آراء العلماء فی هذه المسألة الی قسمین وهما:

القسم الأول: القائلون بقطع الرأس الشریف

تذهب بعض الروایات الی أن رأس الحرّ الریاحی قطع مع بقیة الرؤوس الأخری وحمل علی أطراف الرماح وأخذ مع السبایا الی الشام ینقل الشیخ محمد مهدی الحائری فی معالی السبطین أن رأس الحرّ قطع بعد قتله مباشرة ورمی به نحو الحسین علیه السلام، حیث یقول: «وفی روایة أنه کان یقاتل أشد القتال فصاح عمر بن سعد یا ویلکم أرشقوه بالنبل فجعلوا یرشقونه بالنبل حتی صار درعه کالقنفذ وأخذوه أسیراً واحتزوا رأسه ورموا به بین یدی الحسین علیه السلام فأخذه الحسین

ص:246


1- (1) تنقیح المقال للعلاّمة المامقانی: 174/18-175.

ومسح الدم عن وجهه وثنایاه..»(1). ثم یستمر فی حدیثه ویقول:«وفی بعض کتب المقاتل جاءوا برأس الحرّ یحمله شمر بن ذی الجوشن حین ورودهم فی دمشق الشام وفی أذنه رقعة مکتوبة...»(2) ، ویضیف السید محمد هادی الخراسانی فی کتابه القیّم القول السدید بشأن الحرّ الشهید:«قال أبو مخنف: قال سهل: ودخل الناس من باب الخیزران، فدخلت فی جملتهم وإذا قد أقبل ثمانیة عشر رأساً، وإذا بالسبایا علی المطایا من غیر غطاء، ورأس الحسین بید شمر... إلی قوله: وأقبل من بعده رأس الحرّ بن یزید الریاحی رضی الله عنه وأقبل من بعده رأس العباس علیه السلام یحمله قشعم الجعفی لعنه الله وأقبل من بعده رأس عوف یحمله سنان بن أنس لعنه الله وأقبلت الرؤوس علی إثرهم.

أقول: تری أن رأس الحرّ لم یفارق رأس الإمام علیه السلام وتقدم علی سائر الرؤوس حتی بنی هاشم.

فهذا رأس قمر العشیرة، فما أدری کیف یکون ذلک؟ ولا یکون إلا من جهة أن الحرّ کان یخجل من المخدرات فکان یتباعد، وحیث إنّهن مکشفات لایدنو منهن إلا رؤوس بنی هاشم»(3).

ص:247


1- (1) معالی السبطین للشیخ محمد مهدی الحائری: 339/2.
2- (2) المصدر نفسه.
3- (3) القول السدید فی شأن الحرّ الشهید لآیة الله العظمی الخراسانی: 140.

ویقول الشیخ محمد مهدی شمس الدین فی کتابه أنصار الحسین وضمن بحث مهم وقیم فی الدلالات السیاسیة لقطع الرؤوس: «ویأتی قطع الرؤوس وحملها من بلد إلی بلد والطواف بها فی المدن وخاصّة الکوفة جزء من هذه الخطة العامة، ولتبدید إمکانات الثورة وتحطیم المناعة النفسیة لدی المعارضة وإفهامها بأن الثورة قد انتهت بالقضاء علیها ولقطع الطریق علی الشائعات بالأدلة المادیة الملموسة وهی رؤوس الثائرین عملاً انتقامیاً، وهذا یفسِّر لنا لماذا لم تقطع جمیع الرؤوس فی الکوفة وکربلاء... لقد خضع قطع الرؤوس لعملیة انتقاء، فقطعت رؤوس الشخصیات البارزة التی تحظی بولاء شعبی فی نطاق قبائلها او مدنها والتی یحطم قتلها قاعدتها الشعبیة ویشتت جمهورها ویفقده فاعلیته... وکذلک الحال فی رؤوس شهداء کربلاء فإن الموالی والرجال العادیین لم تکن رؤوسهم تعنی شیئاً بالنسبة إلی الناقمین علی الحکم الأموی. إن الذی یشل القدرة الثوریة ویسبب الهزیمة النفسیة لدی الجماهیر هو أن تری زعماءها وقادتها قد قتلوا، ورفع الدلیل المادی علی قتلهم وهو رؤوسهم علی أطراف الرماح...»(1)(2) ، وهذاما یمکن أن یفهم منه ضمناً أن الحرّ الریاحی قطع رأسه

ص:248


1- (1) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: 286 دد 288 مؤسسة دار الکتاب ط 1416 1 ه دد..
2- (2) وإن کنا لا نوافق الشیخ المرحوم شمس الدین علی ما یذهب إلیه، حیث أن قطع الرؤوس وحملها علی أطراف الرماح لأی فرد کان فی المجتمع لها دلالات نفسیة عظیمة علی نفس الرائی، ومن ثم تکون هذه الدلالات النفسیة جاریة مع کل واحد من شهداء کربلاء أیّاً کان مرکزه الاجتماعی فی داخل الکوفة، نعم تعظم هذه الدلالات النفسیة مع الشخصیات الاجتماعیة والقبائلیة بشکل أکبر، وعلیه یمکن لجریمة قطع الرؤوس الشریفة أن تعطی لنا إضافة إلی الدلالات السیاسیة دلالة واضحة لعدد الشهداء الذین کانوا إلی جانب الحسین یوم عاشوراء کما أشرنا إلی ذلک فی الجزء الأول من هذه الموسوعة فی بحثنا حول عدد أنصار الحسین والشهداء بین یدیه.

لأنه کان من جملة شخصیات الکوفة وزعمائها البارزین.

القسم الثانی: القائلون بعدم قطع رأس الحرّ الریاحی

ویذهب المشهورمن العلماء الی أن رأس الحرّ الریاحی لم یقطع کبقیة الرؤوس یقول السید محسن الأمین: «ودفنت بنو تمیم الحرّ الریاحی التمیمی علی نحو میل من مدفن الحسین علیه السلام حیث قبره الآن اعتناءً به، ویقال إنهم منعوا من قطع رأسه وحملوه من مصرعه ودفنوه هناک»(1).

ویقول الشیخ محمد السماوی: «الفائدة الثانیة: قطعت فی الطف رؤوس أحبة الحسین وأنصاره جمیعاً بعد قتلهم وحملت مع السبایا إلا رأسین رأس عبد الله بن الحسین علیه السلام الرضیع، فإن الروایة جاءت أن أباه الحسین علیه السلام حفر له بعد قتله بجفن سیفه ودفنه، ورأس الحرّ الریاحی فإن بنی تمیم منعت من قطع رأسه وأبعدت جسده عن القتلی»(2).

ویضیف السید عبد الرزاق المقرم بأن الحرّ الریاحی لم یقطع رأسه ولم یرضَّ جسده حیث یقول فی کتابه، مقتل الحسین: «وأمر ابن سعد بالرؤوس

ص:249


1- (1) المجالس السنیة للسید محسن الأمین: 128/1.
2- (2) إبصار العین فی أنصار الحسین للشیخ محمد السماوی: 220.

فقطعت واقتسمتها القبائل لتتقرب إلی ابن زیاد، فجاءت کندة بثلاثة عشر وصاحبهم قیس بن الأشعث، وجاءت هوازن باثنی عشر وصاحبهم شمر بن ذی الجوشن، وجاءت تمیم بسبعة عشر، وبنو أسد بستة عشر، ومذحج بسبعة، وجاء آخرون بباقی الرؤوس، ومنعت عشیرة الحرّ الریاحی من قطع رأسه ورضّ جسده»(1) ، ثم یقول بعد صفحات قلیلة: «وأما الحرّ الریاحی فأبعدته عشیرته إلی حیث مرقده الآن وقیل: إن أمه کانت حاضرة فلمّا رأت ما یصنع بالاجساد حملت الحرّ إلی هذا المکان»(2).

ومما یؤید أن رأس الحرّ لم یقطع ما یذکره العلماء فی کتبهم عن قصة الشاه إسماعیل ونبشه قبر الحرِّ ورؤیته له کهیئته لمّا قتل ورأسه علی بدنه کما سیأتی تفصیل ذلک وما یتعلق فیه بشکل مستقل.

قصة الشاه إسماعیل الصفوی مع قبر الحرّ الریاحی

ذکر کثیر من العلماء فی کتبهم هذه القصة حتی عُدَّت من جملة القصص المشهورة بینهم، بل إن شهرتها وصلت إلی درجة کبیرة حتی صار الخطباء والمحدثون ینقلونها من علی المنابر فأخذتها عامة الناس وصاروا یتداولونها فیما بینهم کشیء مسلّم عندهم.

ومن أشار إلی هذه القصة، العلاّمة السید محمد حسین الحسینی

ص:250


1- (1) مقتل الحسین للسید عبد الرزاق المقرم: 303 دد 304.
2- (2) المصدر نفسه: 321.

الطهرانی ونعمة الله الجزائری والعلامة المامقانی(1) وآخرون وحاصلها: «أن الشاه إسماعیل لمّا ملک بغداد أتی إلی مشهد الحسین علیه السلام وسمع من بعض الطعن علی الحرّ، أتی إلی قبره وأمر بنبشه فنبشوه فرآه نائماً کهیئته لمّا قتل ورأوا علی رأسه عصابة مشدود بها رأسه فأراد الشاه نوّر الله مضجعه أخذ تلک العصابة لما نقل فی کتب السیر والتواریخ أن تلک العصابة هی دسمال الحسین علیه السلام شدّ به رأس الحرّ لمّا أصیب فی تلک الواقعة، ودفن علی تلک الهئیة، فلمّا حلوا تلک العصابة جری الدم من رأسه حتی امتلأ منه القبر، فلمّا شدّوا علیه تلک العصابة انقطع الدم، فلمّا حلّوها جری الدم.. وکلما أرادوا أن یعالجوا قطع الدم بغیر تلک العصابة لم یمکنهم، فتبین لهم حسن حاله فأمر فبنی علی قبره بناء وعیّن خادماً یخدم قبره»(2).

تعلقات بالقصة المذکورة

1 - تشیر هذه القصة إلی أن مسألة النقاش حول توبة الحرّ الریاحی ومقبولیتها عند الحسین علیه السلام قد أخذت مأخذها بدرجة کبیرة عند العلماء، حتی وصل خبرها إلی مسامع الشاه إسماعیل الصفوی الذی حاول أن یقطع مثل هذا النقاش من خلال الکشف عن القبر الشریف والمشاهدة المحسوسة والملموسة

ص:251


1- (1) ذکر القصة السید محمد حسین الطهرانی فی کتابه معرفة المعاد / المجلد الثالث / القسم الخامس / آداب التکفین والدفن، والسید نعمة الله الجزائری فی الأنوار النعمانیة: 265/3، والعلاّمة المامقانی فی تنقیح المقال: 168/18.
2- (2) تنقیح المقال للعلاّمة المامقانی: 168/18.

لما یمکن أن یجدوه فی داخل القبر، وفعلاً تم فتح القبر وعندها تبین للجمیع حسن حاله وصلاحه.

ومما یؤید أن النقاش فی هذه المسألة أخذ أبعاداً کبیرة ما یذکره سلمان هادی طعمة فی کتابه تراث کربلاء:«وسمع الشیخ محمد القزوینی قول أحد الشعراء المتقدمین فی الحرّ:

أشر للحرّ من بُعدٍ وسلمْ فإنّ الحرّ تکفیه الإشارة

فقال ردّاً علیه:

زر الحرّ الشهید ولا تؤخّر ولا تسمع مقالة مَنْ ینادی

زیارته علی الشهدا وقدّمْ أشر للحرّ من بُعدٍ وسلّمْ

وقال فی المعنی نفسه:

إذا ما جئت مغنی الطفِّ بادر فَزُرْ مغناه عن قُرب وأنشد

لمثوی الحرّ ویحک بالرواحِ لنعم الحرُّ حرّ بنی ریاح(1)

2 - إن هذه القصة تُعَدُّ واحدة من الأدلة التی یسوقها العلماء فی الإشارة إلی أن الارض لا تأکل أجساد الشهداء والصالحین وشبیهة بهذه القصة ما ورد عن شهداء أحد فی زمن معاویة حینما أراد إجراء عین علی طریق مقابر الشهداء فأخرجوا من مقابرهم بعد أربعین عاماً لینّة أجسادهم وحملوا علی أعناق الرجال کأنهم قوم نیام(2) وفی نفس هذا السیاق ینقل السید الخوئی فی معجم رجاله عن

ص:252


1- (1) تراث کربلاء لسلمان هادی طعمة: / 115 دد 116.
2- (2) أنظر: صفوة الصفوة لابن الجوزی: 147/1، النوادر للحکیم الترمذی: / 227.

الأخوند صاحب الکفایة بأنهم وجدوه بعد دفن ابنته بجنبه بعد أربعین عاماً وقد هُدِمَ الجدار الذی یحمی قبره فوجد مسجی علی ترتبته کأنه دفن من یومه(1).

وهکذا الکثیر من القصص فی هذا الجانب والتی یمکن الاستفادة منها بأن أجساد الشهداء والعلماء الذین قضت مهجهم فی سبیل نصرة الدین لا تبلی ولا یأکلها التراب والدیدان کما هو الآن فی أجساد غیرهم ولیس ذلک إلا تکرمة لهم، ومن ذلک تعرف بطریق أولی عدم بلاء أجساد الأنبیاء لأن الإنبیاء هم العلل والأسباب فی وصول الشهداء والعلماء والصالحین لما وصلوا إلیه، فیکونون مشمولین بهذه الکرامة بطریق أولی.

الحرّ الریاحی ومرقده

اشارة

أما مدفنه فیوجد فیه رأیان:

الرأی الأول: إن الذی تولی دفن الحرّ الریاحی مع باقی الشهداء هو الإمام زین العابدین علیه السلام مع مساعدة بنی أسد له، جاء فی دائرة المعارف للأعلمی: «لمّا فرغ الأسدیون من دفن الاجساد فی کربلاء قال لهم الإمام زین العادین علیه السلام: هلُمّ نواری جثة الحرّ الریاحی، فتمشی وهم خلفه حتی وقف علیه فقال: أما أنت فقد قبل الله توبتک وزاد فی سعادتک ببذلک نفسک أمام ابن رسول الله علیهما السلام»(2).

الرأی الثانی: أن الذی تولی دفنه هم بنو تمیم، یقول الشیخ محمد السماوی:

ص:253


1- (1) أنظر: معجم رجال الحدیث للسید الخوئی: 5/18.
2- (2) الدکتور لبیب بیضون فی موسوعة کربلاء: 287/2.

«الفائدة الأولی... ودفنت بنو أسد حبیباً عند رأس الحسین علیه السلام حیث قبره الآن اعتناءً بشأنه، ودفنت بنو تمیم الحرّ بن یزید الریاحی علی نحو میل من الحسین علیه السلام حیث قبره الآن اعتناءً به أیضاً»(1) ، وبنفس هذه الکلمات تکلم العلاّمة الأمین فی أعیانه(2).

أما مرقده

فیتحدث عنه محمد حسین الحسینی الجلالی فی کتابه مزارات أهل البیت وتأریخها: «مرقد الحرّ فی غربی کربلاء یبعد عن المدینة سبعة کیلو مترات جاءت الإشارة إلیه فی کثیر من المصادر منها (موجز تاریخ البلدان العراقیة) للحسنی ص 67 یقول: وهی علی بعد ثلاثة أمیال من غرب کربلاء مرقد الحرّ بن یزید الریاحی الزعیم العراقی الذی جاهد مع الحسین ضد جیش یزید بن معاویة وقبره بدیع تعلوه قبة من الکاشی الملون ویزوره أکثر الذین یزورون کربلاء کما یقصده أکثر الأهالی للنزهة والرفاهیة لما یحیط بالمزار من البساتین وعلی باب قبة القبر کتابة نصها (قد عُمِّر هذا المکان بهمة حسین خان شجاع السلطان فی محرّم الرابع عشر 1325 ه -. وکان أول من شیّد هذا القبر الشاه إسماعیل الصفوی یوم دخل بغداد وحکمها)، ویری الزائر لدی دخوله عند باب الإیوان قد عُمِّر بسعی الحاج السید عبد الحسین کلیدار فی عام 1330 ه -، وفی الجانب الآخر أیضاً المکان قد عُمِّر بهمة حسین شجاع السلطان فی عام 1330 ه -، وعلی الباب الرئیسی

ص:254


1- (1) إبصار العین فی أنصار الحسین للشیخ محمد السماوی: / 219.
2- (2) أعیان الشیعة للسید محسن الأمین: 613/1.

للصحن من شعر الشیخ رؤوف الغزالی مطلعه:

بباب الحرِّ قد لذنا جمیعاً لسیل الدمع حزناً للیاحی

وقد یتبرع فی عصرنا الحاج حسن الوکیل من التجار الأخیار بمد الکهرباء من کربلاء إلی مدینة الحرّ فی عام 1963»(1).

ویبدو من کلمات بعض العلماء ان قبر الحرّ الریاحی کان شاخصاً وممیزاً فی عصور متقدمة جداً، یقول الشهید الأول قدس سره الشریف فی کتابه الدروس بعد ذکره لفضائل زیارة الحسین علیه السلام: «وإذا زاره فلیزر ولده علی بن الحسین وهو الأکبر علی الأصح، ولیزر الشهداء وأخاه العباس والحر بن یزید...»(2) ، وبما أن الشهید الأول عاش ما بین 734-786 ه -(3) ،فیکون قبر الحرّ الریاحی شاخصاً ممیزاً حتی قبل 700 سنة تقریباً، یزار ویقصد من قبل المؤمنین للتبرک وقضاء الحوائج.

رأی السید إبراهیم الزنجانی فی بعد قبر الحرّ الریاحی: ذکر السید الزنجانی فی کتابه وسیلة الدارین فی أنصار الحسین وهو یتحدث عن السبب الکامن وراء بعد قبر الحرّ الریاحی عن قبور الشهداء ما نصه:«السر فی بعد قبر الحرّ عن الشهداء وعن قبر الحسین علیه السلام: أولاً: ارتکابه المعصیة وهی سد الطریق للحسین علیه السلام ولو تاب ولکن أثره الوضعی یبقی. وثانیاً: أنه لما نادی ابن

ص:255


1- (1) قرارات أهل البیت وتأریخها للسید محمد حسین الحسینی الجلالی: / 50-/51.
2- (2) الدروس للشهید الأول: 11/2.
3- (3) مقدمة ناشر کتاب اللمعة الدمشقیة للشهید الأول: / 6 منشورات دار الفکر / قم/ إیران/ 1411 ه دد.

سعد بنداء رضّوا الجسد الشریف اجتمعوا بنو ریاح وقالوا: إن جسد شیخنا ورئیسنا فی القتلی ولأن عصی الأمیر ساعة واحدة فلقد أطاعه طول عمره، فقال عمر بن سعد: احملوا جسد شیخکم فحملوا بنو ریاح وعشیرة الحرّ جسده ودفنوه هناک وما أحلی العشیرة! أسفی علی من فنیت عشیرته ولم یبقَ له من یمنع جسده عن الترضّ حین انتدب عشرة من أولاد زنا وداسوا بحوافر خیولهم صدر الحسین...» (1).

جوابنا علی ما ذکره السید الزنجانی رحمه الله

مع کامل تقدیرنا وعظیم شکرنا لما بذله العلاّمة الزنجانی فی کتابه القیّم (وسیلة الدارین) وما فیه من آراء ووجهات نظر، ولکن تبقی للقضیة العلمیة فی الحوار والمناقشة دورها فی قبول وعدم قبول الأفکار والآراء ضمن دائرة الأدلة المتوفرة لدی الباحث والتی تأخذ بعنقه فی اعتناق هذا الرأی دون سواه وتلک الفکرة دون ما عداها، وعلی أساس ذلک فإن ما ذکره السید الزنجانی فی خصوص مدفن الحرّ الریاحی وفلسفة بُعد قبره عن قبور الشهداء فی کربلاء لا نوافق علیه وذلک لأمرین أساسین وهما:

أولاً: أننا لا نوافق علی أن الآثار التی تترتب علی التوبة تقتصر علی رفع العقوبة الأخرویة فقط، بل وتشمل کذلک حتی الآثار الوضعیة المترتبة علی الذنوب والمعاصی التی تاب العبدُ منها، بل إننا نجد کما فی بعض الروایات ان الله

ص:256


1- (1) المازندرانی فی معالم السبطین: 369/1.

عز وجل رأفة ورحمة بعبده لا یکتب علیه الذنب مباشرة ومن ثم لا تترتب علیه العقوبة الأُخوریة بعد ارتکابه له، بل یُنتظر علیه فإن تاب لم یکتب علیه الذنب أصلاً، أمّا لو لم یتب کتب علیه حینئذ.

فقد روی الحرّ العاملی فی وسائل الشیعة عن: «فضیل بن عثمان المرادی قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: قال رسول الله علیهما السلام: أربع من کن فیه لم یهلک علی الله بعدهنّ إلاّ هالک: یهمُّ العبدُ بالحسنة فیعملها فإن هو لم یعملها کتب الله له حسنة بحسن نیته، وإن هو عملها کتب الله له عشراً، ویَهمُّ بالسیئة أن یعملها فإن لم یعملها لم یکتب علیه شیء، وإن هو عملها أجّل سبع ساعات وقال: صاحب الحسنات لصاحب السیئات، وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسی أن یتبعها بحسنةٍ تمحوها فإن الله عز وجل یقول:

«إِنَّ الْحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئاتِ 1»2» .

وعلیه، فإن کانت العقوبة الأخرویة أو ما یُعبر عنه بالأثر التکلیفی لا یترتب بسرعة ویرتفع بمجرد التوبة، فمن باب أولی أن لا یترتب علی ذلک الأثر الوضعی بسرعة ویرتفع کذلک بمجرد التوبة، فلیس کل من أذنب حرم من التوفیق لصلاة اللیل والرزق وما شاکل ذلک بسرعة، بل یُنتظر علیه کما تقدم، فإن لم یَتُب بقی وإن تاب ارتفع. وخیر شاهد علی ذلک قول الله تعالی فی سورة الاحقاق:

«وَ وَصَّیْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَیْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ کُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ»

ص:257

«کُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتّی إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِینَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِی أَنْ أَشْکُرَ نِعْمَتَکَ الَّتِی أَنْعَمْتَ عَلَیَّ وَ عَلی والِدَیَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِی فِی ذُرِّیَّتِی إِنِّی تُبْتُ إِلَیْکَ وَ إِنِّی مِنَ الْمُسْلِمِینَ * أُولئِکَ الَّذِینَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَیِّئاتِهِمْ فِی أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِی کانُوا یُوعَدُونَ 1» .

حیث أشار الله سبحانه وتعالی فی طیّات هاتین الآیتین إلی الآثار المهمة التی یمکن أن تترتب علی التوبة الصادقة فی مجموعة من الطلبات التی ذکرها ذلک الإنسان التائب إلی الله، والتی کانت تتمثل بالتجاوز عن الماضی بکل ما یمت إلیه بصلة(1) والتعامل معه علی أساس أفضل ما صدر منه من الأعمال وتحویل السیئات إلی الحسنات إضافة إلی الآثار المهمة الأخری کالتوفیق إلی الطاعة وإصلاح الذریة وما شاکل ذلک وهی أمور لاشک وضعیة تترتب علی صدق التائب وقبول التوبة من الله عز وجل.

وعلی أساس ما تقدم لا یمکن لنا أن نتصور أن الله عز وجل یتعامل مع الحرّ الریاحی مع عظیم ما قدّم یوم عاشوراء ببقاء الآثار الوضعیة لمرحلة ما قبل الشهادة والتوبة إلی ما بعدها وهو القائل فی کتابه الکریم:

ص:258


1- (2) هذا کله إذا لم یکن الماضی متعلقاً بحقوق أدبیة أو مادیة إلی الناس وإلا فلابد من إرجاعها أو التسامح منهم.

«إِنَّ الْحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئاتِ 1» .

ثانیا: أننا إن سلّمنا أن الحرّ عصی الحسین علیه السلام وخالفه کما تنص علی ذلک الروایات التأریخیة، فإننا لا نسلِّم أنها کانت معصیة مطویة علی نوایا شرّیرة وسیئة کالتی حملها عمر بن سعد وشمر وشبث بن ربعی وأمثالهم، بل کانت علی أکثر التقادیر معصیة محفوفة بالخوف والاشفاق علی الحسین علیه السلام من أن ینتهی إلی القتل علی یدی یزید وعبید الله بن زیاد.

وقد صرّح الحرّ بها بشکل صریح من خلال قوله للحسین:«وأنا أنشدک الله فی نفسک»(1). وما صلاة الحرّ الریاحی خلف الحسین وترکه الحسین یدعو من یشاء من الناس خلال مسیرته کابن الجعفی وأمثاله من دون أی مضایقات وما شاکل ذلک إلا دلیلٌ علی مثل هذه النوایا الحسنة التی یحملها الحرّ تجاه الحسین علیه السلام.

بل إننا نجد أن الحر یصرح للحسین بعد أن ترک القوم والتحق به بأنه کان مصانعاً لهم غیر مؤمنٍ بهم حیث یقول:«فقلت فی نفسی لا أبالی أن أصانع القوم فی بعض أمرهم ولا یظنون أنی خرجت من طاعتهم...»(2).

ولا یفهم من کلامی أنی أقلل من شأن المعصیة والمخالفة للمعصوم معاذ الله تعالی، ولکنی بصدد التفریق بین معصیة جاءت مُلبیة لسوء السریرة التی

ص:259


1- (2) تسلیة المجالس وزینة المجالس: 247/2.
2- (3) إبصار العین للشیخ محمد السماوی: 145.

یحملها صاحبها عن علم وبصیرة بالنتائج التی سوف ینتهی إلیها، وبین معصیة خالیة من هذه السریرة السیئة ولم تکن عن علم وسبق إصرار وترصد کما یقال.

وعلیه ففی الوقت الذی نحاول أن ندافع عن الحرّ الریاحی من خلال ردّ مجموعة من الاتهامات التی وُجهت إلیه لاسیما المتعلقة منها بحرکة الحسین علیه السلام، لا نرید أن نرفع عنه کل المسؤولیة التی یمکن أن یتحملها تجاه الحسین علیه السلام وحرکته منطلقین فی ذلک من خلال قوله تعالی:

«وَ لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْیاءَهُمْ 1» .

ونحن إنّما نقول هذا استناداً إلی المعطیات التاریخیة وإلا فالواقع لا یعلم به إلا من یعلم السر وأخفی.

ص:260

دیباجة خاتمة فی الحرّ الریاحی

کل إنسان فینا یبحث عن السعادة وینشدها منذ صغره حتی آخر یوم من عمره ولکننا نختلف فی کنه هذه السعادة وحقیقتها، فبعض یراها فی المال وبعض یراها فی الشهوات والمحرمات وبعض آخر یراها فی السفر والملذات وهکذا.

وکل هؤلاء فی الواقع لم یعرفوا السعادة علی حقیقتها فإن السعادة هی أن یعیش الإنسان حراً غیر مکبل بقیود الطاعة والذل لغیر الله، أن یکون عبداً خالصاً ومخلصاً لله سبحانه وتعالی.

وعلیه فالسعید هو ذلک الذی یمسی ویصبح ولیس فی قلبه غیر الله، السعید هو الذی أقر الله عینه بالطاعة له وأسرّه بالباقیات الصالحات، السعید هو الذی یخرج من الدنیا وهو ثابت صامد شجاع لا یخاف فی الله لومة لائم بل لا یخاف فی الله حتی وإن قُطّع فی سبیله.

ولقد کان الحر سعیداً بکل ما تحمل من معنی بشهادة الحسین له بها، ولذا أبی أن یخرج من الدنیا إلاّ مرفوع الرأس، عالی الهمة، قوی الجنان ثابتاً علی الإیمان لا ینحنی إلا لله سبحانه وتعالی وأولیائه الذین أمرنا باتباعهم فهنیئاً للحر

ص:261

هذه الخاتمة الطیبة السعیدة.

فسلام علیک وأنت تأتی لهذه الدنیا حاملاً بذرة الإیمان وقبول الحق وسلام علیک وأنت تخرج من الدنیا وقد نبتت هذه البذرة حتی صارت شجرة باسقة عظیمة ککلمة طیبة أصلها ثابت وفرعها فی السماء تؤتی أکلها بإذن ربها.

وسلام علیک وأنت تبعث مع الحسین شهیداً مخضباً بدمائک مع الشهداء من أهل بیته وأصحابه وأنتم تطوفون حوله کما یطوف الفراش حول الضوء فی لیلة ظلماء.

سلام علیک أیها البطل الذی کان وما زال وسیبقی رمزاً یقول فی کل زمان ومکان.

«تِلْکَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ 1» .

وختاماً أذیّل هذه الخاتمة بأبیات جمیلة فی رثاء الحر الریاحی لسلمان هادی طمعة فی کتابه دیوان المدح والرثاء فی محمد وآل بیته النجباء

صمدت للهول، فمااحری ان تکسر القید و لاتشری

سللت سیف الحق مستبسلا لمن سقاک العلقم المرا

قاتلت جیش ابن زیاد فلم تخش قرا عامنه او قهرا

وخضت کالاسود فی جحفل حربا ضرو سامالها اخری

کتائب الضلال مزقتها فنلت حمدالله و الشکرا

ص:262

جعجعت بالحسین فی حینه خیّرته ان یدرک الامرا

اما الی (الکوفة) مسراه او یسلک دربا آخراً و عرا

لکن رفضت العیش فی ذلة فتبت کی تفوز بالاخری

وسرت فی رکب بنی هاشم مناصرا فی المحنة الکبری

کتبت سفر البطولاتهم لتعلن الحق لناجهرا

امک قد سمتک حراً کما کنت لدی الجلی فتی حرا

ما صدک الاجحاف غب السری ولم تبایع ظالما قسرا

حسبک ان تکون لیث الوغی و بالحسین تطلب الاجرا

قد بلغ المجد مناک الذی به تنال الشفع و الوترا

طاب مدیح فیک حتی غدا ذکراک ما بین الوری تتری(1)

جنات عدن حازها منزلا من قد سما فوق السماقدرا

غیر عجیب ان بکت مقلة لبعض ما اعطیته ذخرا

تلتمس النصر و صرح الالی و ترفض الذل الذی استشری

ص:263


1- (1) دیوان المدح والرثاء فی محمد وآله النجباء: 135.

مصادر الکتاب

1. القرآن الکریم.

2. إبصار العین فی أنصار الحسین للشیخ محمد السماوی/مطبعة حرس الثورة الاسلامیة سنة 1419 ه -.

3. إبصار العین فی أنصار الحسین للشیخ محمد السماوی/مطبعة حرس الثورة الاسلامیة سنة 1419 ه -.

4. ابن کثیر (البدایة والنهایة)، مطبعة السعادة، الطبعة الأولی سنة 1351 ه -.

5. ابن ماجة فی سننه، طبعة المکتبة العلمیة فی بیروت.

6. اتحاف الأعیان - سیف بن طمود البطاشی، مکتب المستشار الخاص لجلالة السلطان - طبعة 1419.

7. إتحاف الجماعة بما جاء فی الفتن وأشراط الساعة لابن حمود النویجری/سنة النشر 1976 م.

8. إثباة الهداة للحر العاملی / المطبعة العلمیة / قم.

9. إثبات الوصیة للمسعودی/المطبعة الحیدریة / النجف.

10. الاحتجاج للشیخ الطبرسی، مکتبة النعمان - النجف سنة 1386 ه -.

11. أحکام الذمة لابن قیم الجوزی، مطبعة المدنی، القاهرة، تحقیق جمیل غازی، سنة 1997 م.

12. أحکام القرآن، لأبن عربی.

13. الإحکام فی أصول الأحکام، لابن حزم الأندلسی، دار الحدیث - القاهرة - طبعة مصر 1929.

14. الأخبار الطوال للدینوری/دار احیاء التراث/سنة 1960 ه -.

15. اختیار معرفة الرجال للشیخ الطوسی/المطبعة الحیدریة / النجف/الطبعة الاولی.

16. الاخلاف بین الطبع والتطبع/فیصل بن عبده قائد الحاشدی.

17. أخلاق الإمام الحسین، لعبد العظیم المهتدی البحرانی، انتشارات الشریف الرضی.

18. الآداب الشرعیة لابن مفلح/تحقیق شعیب الأرنؤط/مؤسسة الرسالة / بیروت / الطبعة الاولی.

ص:264

19. أدب الطف أو شعراء الحسین/مؤسسة التاریخ / بیروت / 1422 ه - / الطبعة الأولی.

20. الإرشاد للشیخ المفید/مؤسسة آل البیت لتحقیق التراث/سنة 1414 ه -.

21. أزمة الخلافة والإمامة، أسعد وحید القاسم.

22. الاستیعاب لابن عبد البر/دار الجیل / بیروت / سنة 1412 ه -.

23. أسد الغابة لأبن الاثیر/دار الکتاب العربی.

24. أسرار الشهادة للدربندی/منشورات الأعلمی / بیروت.

25. إشعار الشعراء للأعلم الشنتمری.

26. الاصابة فی معرفة الصحابة لابن حجر/مطبعة السعادة بمصر / سنة 1328 ه -.

27. الأصول الشرعیة للسید عبد الله شبر، مکتبة المفید، 1404 ه -، قم.

28. الأصول العامة للسید محمد تقی الحکیم، تحقیق وفی الشناوة، الطبعة الثانیة، مؤسسة آل البیت.

29. أصول الکافی لمحمد بن یعقوب الکلینی/مطبعة النجف 1376 ه -.

30. أضواء علی الثورة الحسینیة للسید محمد صادق الصدر / بیروت / الطبعة الأولی.

31. أعلام الوری بإعلام الهدی للطبرسی/مؤسسة آل البیت علیهم السلام / قم.

32. الأعلام للزرکلی/دار العلم للملایین/الطبعة الخامسة عشر/سنة 2002 م.

33. أعیان الشیعة للسید محسن الأمین/مطبعة الانصاف/بیروت 1380 ه -.

34. الافصاح للشیخ المفید/تحقیق محمد رضوان العرقسوسی/ الطبعة الأولی.

35. إقبال الأعمال للسید ابن طاووس، تحقیق جواد القیومی الاصفهانی سنة 1414 ه - الطبعة الأولی.

36. الإکلیل فی أنساب أهل الیمن للهمدانی، المطبعة السلفیة سنة 1368 ه -.

37. الاکمال لابن هاکولا، طبعة دائرة المعارف العثمانیة - الهند سنة 1963 م.

38. أمالی الشیخ الصدوق/الطبعة الاولی 1417 ه - /مؤسسة البعثة.

39. أمالی الشیخ الطوسی، أبی جعفر محمد بن الحسن الطوسی - تحقیق محمد صادق بحر العلوم، سنة النشر 1981 م.

40. أمالی الشیخ المفید، تحقیق علی أکبر غفاری، طبعة جامعة المدرسین قم 1403 ه -.

41. الإمام الحسین سماته وسیرته، للسید محمد رضا الجلالی/دار المعروف / قم.

42. الإمامة والسیاسة، لابن قتیبة.

43. أنساب الأشراف، أحمد بن یحیی البلاذری، تحقیق سهیل زکار وریاض زرکلی، دار الفکر، 1417 ه -.

44. الأنساب للبلاذری/مؤسسة الأعلمی/ 1974 م/تحقیق محمد باقر المحمودی.

ص:265

45. الأنساب للسمعانی، طبعة محمد أمین، بیروت، الطبعة الثانیة 1400 ه -.

46. أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین /ط 2 /الدار الإسلامیة/سنة 1401 ه -.

47. الأنوار النعمانیة للسید نعمة الله الجزائری، الطبعة الأولی، 1429 - دار الکوفة.

48. أهل البیت سماتهم وحقوقهم للشیخ جعفر السبحانی / مؤسسة الامام الصادق علیه السلام / قم.

49. إیضاح الاشتباه للعلامة الحسن بن یوسف بن المطهر، مؤسسة النشر الإسلامی، تحقیق محمد الحسون.

50. بحار الأنوار للعلامة المجلسی/الطبعة الثانیة/مؤسسة الوفاء.

51. البحر الزخار، یحیی بن المرتضی، مطبعة السعادة، القاهرة.

52. بحر الفوائد، للکلابازی.

53. البدایة والنهایة لابن کثیر/تحقیق علی شیری/دار إحیاء التراث / 1408 ه -.

54. البصائر والذخائر، لأبی حیّان التوحیدی.

55. بضائع التابوت فی نتف من تاریخ حضرموت، علوی بن طاهر الحداد، 1382 ه -.

56. بطل العلقمی/عبدالواحد المظفر/المطبعة الحیدریة / النجف.

57. بغیة الطلب فی تاریخ حلب لابن الندیم.

58. بغیة النبلاء بتاریخ کربلاء للسید عبدالحسین آل طعمة.

59. بنور فاطمة اهتدیت علیهما السلام عبد المنعم حسن علیهما السلام دار الخلیج العربی علیهما السلام الطبعة الثانیة

60. تاج العروس من جواهر القاموس للزبیدی / طبعة الکویت.

61. تاریخ السنة النبویة/صائب عبدالحمید.

62. تاریخ الشیعة للعلامة المظفر/مطبعة الزهراء علیها السلام / النجف.

63. تاریخ الطبری، أبو جعفر محمد بن جریر الطبری، مطبعة الاستقامة، القاهرة 1939 ه -.

64. تاریخ الفقه الإسلامی وأدواره للشیخ سبحانی، الطبعة الأولی سنة 1432 ه -.

65. التاریخ الکبیر ابن أبی خیثمة طبعة دار الفارق، طبعة دار الوطن، تحقیق اسماحین حسن حسین.

66. التاریخ الکبیر للبخاری/المکتبة الاسلامیة / دیاربکر / ترکیا.

67. تاریخ الکوفة للسید البراقی/تحقیق ماجد أحمد العطیة/المکتبة الحیدریة/ 1424 ه -.

68. تاریخ المدینة المنورة، لأبی زید عمر بن شبّة النُمیری، تحقیق محمد علی دندل، بیروت، 1417 ه -.

ص:266

69. تاریخ النیاحة علی الإمام الحسین، للسید الشهرستانی.

70. تاریخ بغداد للبغدادی، مطبعة السعادة - مصر عام 1349 ه -.

71. تاریخ دمشق لابن عساکر/دار الفکر - بیروت/ 1415 ه -.

72. التحریر والتنویر لابن عاشور (تفسیر القرآن) /دار سحنون.

73. تحفة الأحوذی بشرح سنن الترمذی، للمبار کفوری، دار إحیاء التراث بیروت.

74. التحفة السنیة للفیض الکاشانی، مکتبة الحضرة الرضویة - مشهد / إیران.

75. تذکرة الخواص لابن الجوزی، المطعبة الحیدریة، النجف 1383 ه -.

76. تراث کربلاء لسلمان هادی طعمة/مؤسسة الأعلمی / بیروت.

77. ترجمة الإمام الحسین لابن عساکر/تحقیق محمد باقر المحمودی/ مجمع إحیاء الثقافة الإسلامیة/ 1414 ه -.

78. ترجمة الإمام الحسین لابن عساکر/تحقیق محمد باقر المحمودی/مجمع إحیاء الثقافة الإسلامیة/ 1414 ه -.

79. تسلیة المجالس وزینة المجالس لمحمد بن أبی طالب/تحقیق فارس حسون کریم.

80. تعجیل المنفعة لابن حجر، مطبعة مجلسی دائرة المعارف النظامیة، سنة 1907 دار الکتاب العربی.

81. تفسیر الآلوسی/دار إحیاء التراث / بیروت.

82. تفسیر الأمثل للشیخ مکارم الشیرازی/دار إحیاء التراث / بیروت/الطبعة الأولی 2002 م.

83. تفسیر البغوی/تحقیق خالد عبدالرحمن العک/دار المعرفة / بیروت.

84. تفسیر الدر المنثور للسیوطی، تحقیق عبد الله بن عبد المحسن الترکی، طبعة مرکز هجر.

85. تفسیر الرازی الکبیر، طبعة دار الفکر، القاهرة سنة 1980 م.

86. تفسیر الصافی المولی محسن الفیض الکاشانی، الطبعة الثانیة، 1416 ه -.

87. تفسیر الطبری/دار السلام للطباعة والنشر/الطبعة الأولی / القاهرة.

88. تفسیر القرطبی/مطبعة دار الکتاب / القاهرة 1968 م.

89. تفسیر الماوردی/طبعة وزارة الأوقاف / الکویت.

90. تفسیر المیزان للسید محمد حسین الطباطبائی/انتشارات إسراء.

91. تفسیر نور الثقلین للعلامة الشیخ عبد علی جمعة العروسی الحویزی، الطبعة الثانیة 1383 تصحیح هاشم المحلاتی.

92. تقریب التهذیب لابن حجر العسقلانی، دار الفکر بیروت سنة 1984.

ص:267

93. التمهید لما فی الموطأ من المعانی والأسانید، تحقیق محمد بن عبد القادر سنة النشر 1999 م.

94. تنبیه الغالفین بأحادیث سید المرسلین، للسمرقندی.

95. تنقیح المقال للمامقانی/المطبعة المرتضویة / النجف/سنة 1352 ه -.

96. تهذیب التهذیب لابن حجر/دار الفکر/سنة 1404 ه -.

97. تهذیب الکمال للمزی/مؤسسة الرسالة/سنة 1406 ه -.

98. تهذیب تاریخ الإسلام لابن عساکر، مطبعة النرقی، الطبعة الأولی، دمشق 1349 ه -.

99. الثقات لابن حبان/دار الفکر/الطبعة الاولی/سنة 1975 م.

100. ثمرات الأعواد للسید علی الهاشمی.

101. ثواب الأعمال، الطبعة الثانیة، 1984 م.

102. ثورة الإمام الحسین علیه السلام للشیخ محمد مهدی شمس الدین/طبعة الاندلس / بیروت.

103. الثورة الحسینیة دورها ومعطیاتها، للسید الحسین بن التقی آل بحر العلوم.

104. جامع الأحادیث للشیخ اسماعیل الملایری، الطبعة العلمیة، قم 1399 ه -.

105. الجامع للترمذی/مطبعة فخر المطابع بدهلی.

106. الجرح والتعدیل لابن أبی حاتم، الطبعة الأولی، مجلس دائرة المعارف العثمانیة - الهند 1952.

107. جمهرة الأمثال، لأبی هلال العسکری، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم وعبد المجید مطامش، دار الفکر بیروت.

108. جمهرة أنساب العرب لابن حزم/تحقیق عبدالسلام هارون/دار المعارف.

109. جمهرة خطب العرب/أحمد زکی صفوت/الطبعة الثانیة.

110. الجوهر المنظم فی زیارة القبر النبوی الشریف المکرم للإمام ابن حجر الهیثمی، دار جوامع الکلم - القاهرة.

111. الحاکم فی المستدرک/إشراف یوسف عبدالرحمن المرعشلی/طبعة مزیدة بفهرس الأحادیث.

112. حاوی الأقوال للشیخ عبدالنبی الجزائری/تحقیق مؤسسة الهدایة لإحیاء التراث.

113. حبیب بن مظاهر للمظفری/النجف العلمیة، 1370 ه -.

114. الحسین یکتب قصته الأخیرة الشهید محمد باقر الصدر / تحقیق صادق جعفر الروّازق، مکتبة الشهید الصدر سنة 2006 م، النجف.

115. حلیة الأبرار للسید هاشم البحرانی، الطبعة الثانیة سنة 1969، مطبعة النعمان، النجف.

116. حلیة الأولیاء لابن نعیم الأصبهانی/دار الکتب العلمیة / بیروت.

ص:268

117. حوار مع الشیخ صالح بن عبدالله الدرویش للشیخ جعفر السبحانی / مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام / قم.

118. حیاة الحیوان للدمیری، مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1378 ه -.

119. خزانة الأدب للبغدادی/دار الکتب العلمیة / بیروت/سنة 1998 م.

120. خصائص النسائی، الطبعة الأولی - الکویت 1986 م.

121. الخطط المقریزیة، تقی الدین المقریزی، دار صادر - بیروت.

122. خلاصة الأقوال للعلامة الحلی/مؤسسة نشر الفقاهة/سنة 1417 ه -.

123. دائرة المعارف، محمد حسین الأعلمی، مؤسسة الأعلمی، الطبعة الثانی، بیروت.

124. الدر المنضود للسید الکلبایکانی/دار القرآن الکریم/سنة 1412 ه -.

125. الدروس. للشهید الأول.

126. دلائل الإمامة لأبی جعفر الطبری/مؤسسة البعثة/سنة 1413 ه -.

127. دلائل النبوة للحافظ أبی نعیم/دار المعرفة / بیروت.

128. دیوان الإمام علی، تحقیق محمد عبد المنعم الخفاجی، دار ابن الزیتون.

129. دیوان السید حیدر الحلی، منشورات الأعلمی بیروت، تحقیق علی الخاقانی.

130. ربیع الأبرار للزمخشری، مؤسسة الأعلمی، سنة 1992.

131. رجال ابن داود/منشورات المطبعة الحیدریة / النجف الأشرف/ 1392 ه -.

132. رجال الشیخ الطوسی/مؤسسة النشر التابعة لجماعة مدرسی قم/سنة 1415 ه -.

133. رجال الکشی/مؤسسة آل البیت علیهم السلام / قم.

134. رجال المامقانی، الطبعة الحجریة،

135. رجال النجاشی لأبی العبس أحمد بن علی النجاشی الأسدی، طبعة مؤسسة النشر الإسلامی.

136. رجال النراقی، أحمد بن محمد بن خالد البرقی، طبعة إیران - مطبعة دانشکاه سنة 1383 ه -.

137. رسالة التقریب بین المذاهب، العدد 5 مقال بعنوان «حدیث الثقلین للشیخ محمد واعظ زادة الخراسانی.

138. الرکب الحسینی من المدینة الی المدینة/طبعة ممثلیة السید الخامنئی / قم.

139. الروض المعطار فی خبر الأقطار/محمد عبدالمنعم الحمیری/مؤسسة ناشر الثقافیة.

140. روضة الواعظین للفتال النیسابوری/منشورات الشریف الرضی/تقدیم السید محمد مهدی حسن الخرسان.

141. ریاض الأحزان للمولی محمد هاشم بن محمد حسین.

142. ریاض الشریعة لذبیح الله محلاتی.

143. زاد المعاد لابن القیم، تحقیق الأرناؤوط، طبعة مؤسسة الرسالة سنة 1994 م.

ص:269

144. زید الشهید للعلامة المقرم، مطبعة القضاء، النجف، 1958 م.

145. سلسلة الأحادیث الصحیحة للألبانی/المکتب الإسلامی / بیروت.

146. سلسلة الأرکان الأربعة للشیخ محمد جواد الفقیه.

147. سلسلة القبائل العربیة فی العراق، للشیخ علی الکورانی.

148. سنن ابن ماجة/طبعة دار الجیل/بیروت.

149. سنن أبی داود، تحقیق عزت مجید الدعاس، الطبعة الأولی، 1388 ه -، طبعة حمص.

150. سنن البیهقی الکبری، طبعة مجلس دائرة المعارف النظامیة بالهند وطبعة سنة 1344 ه -.

151. سنن الترمذی/دار الفکر/تحقیق عبدالوهاب عبداللطیف/سنة 1403 ه -.

152. سنن الدارمی، تحقیق عبد الله هاشم یمانی، القاهرة 1386 ه -.

153. سنن النسائی أحمد بن شعیب أبو عبد الرحمن النسائی، مکتب المطبوعات الإسلامیة - حلب 1406.

154. سیر أعلام النبلاء، للإمام شمس الدین محمد بن أحمد بن عثمان الذهبی، مؤسسة الرسالة، ط 11.

155. سیرة ابن هشام، مطبعة المدنی - مصر، الطبعة الثانیة 1383 ه -.

156. شجرة طوبی للشیخ محمد مهدی الحائری، الطبعة الخامسة، لسنة 1385، المکتبة الحیدریة.

157. شرائع الإسلام، المحقق الحلی.

158. شرح إحقاق الحق للسید المرعشی/تحقیق محمود المرعشی/الطبعة الأولی 1976 ه -.

159. شرح النووی علی صحیح مسلم/المطبعة البهیة / مصر.

160. شرح مقامات الحریری للشیریسی.

161. شرح نهج البلاغة للإمام أمیر المؤمنین علیه السلام/فخر الدین أبو حامد عبدالحمید بن هبة الدین أبی الحدید المعتزلی/تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم/طبعة شرکة الحلبی/ 1958 م/اعیدت الطبعة فی إیران.

162. شرح نهج البلاغة للإمام أمیر المؤمنین، فخر الدین أبو حامد عبد الحمید بن هبة الله بن أبی الحدید المدائنی، طبعة 1958 م، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم.

163. شواهد التنزیل للحسکانی، الطبعة الأولی - بیروت - تحقیق المحمودی.

164. الشیعة الإمامیة للسیدة نبیلة عبد المنعم داود، طبعة أولی، بیروت، 1994 م.

165. الصحابی المقداد بن الأسود - محمد علی أسیر، الطبعة الأولی، دار الاصالة، 1982 م.

166. صحیح ابن حبان/مؤسسة الرسالة/سنة 1414 ه -.

ص:270

167. صحیح البخاری/دار الفکر للطباعة والنشر/سنة 1401 ه -.

168. صحیح الترمذی/مطبعة الصادی / مصر / الطبعة الأولی.

169. صحیح الجامع للألبانی، مطبعة الکتب الإسلامی، 1408.

170. صحیح مسلم/دار الفکر / بیروت/طبعة مصححة ومقابلة علی عدّة مخطوطات.

171. صحیفة الإمام الرضا، تحقیق مهدی نجف، منشورات المؤتمر العالمی للإمام الرضا علیه السلام مشهد - إیران - الطعبة الأولی 1406 ه -.

172. الصحیفة السجادیة للإمام زین العابدین علیه السلام.

173. الصراط المستقیم/علی بن یونس العاملی/تحقیق محمد الباقر البهبودی/المکتبة الرضویة/ سنة 1384 ه -.

174. صلح الإمام الحسن، للشیخ العلاّمة یاسین آل راضی، وتقدیم: العلاّمة السید عبد الحسین شرف الدین العاملی.

175. الصواعق المحرقة لابن حجر، طبعة دار الطباعة المحمدیة 1375 ه -.

176. الصواعق المرسلة/لابن قیم الجوزیة/مطبعة الإمام.

177. الضعفاء الکبیر لأبی جعفر محمد بن عمرو العقیلی، طبعة دار الکتب العلمیة - بیروت 1404 ه -.

178. الطبقات لابن سعد، بیروت، دار إحیاء التراث، الطبعة الأولی سنة 1955 م.

179. طفولة مبکرة لأطفالنا للشیخ بوخضر/الناشر مؤسسة الفکر الإسلامی/هولندا.

180. العباس رائد الکرامة للشیخ باقر شریف القرشی/المطبعة الأولی/سنة 1377 ه -.

181. عجائب الآثار للشیخ الجبرتی/محقق عن طبعة بولاق.

182. العرفان الإسلامی للسید محمد تقی المدرسی.

183. عقد الدرر فی أحوال الإمام المنتظر/دار الکتب العلمیة / بیروت/ 1403 ه -.

184. العقد الفرید لابن عبد ربه الأندلسی/المطبعة العامرة / مصر/عام 1316 ه -.

185. علل الشرائع للشیخ الصدوق، أبی جعفر محمد بن علی بن الحسین بن مسوی بن بابویة القمی، طبعة إیران.

186. علو الهمة لمحمد إسماعیل المقدم/مکتبة الکوثر.

187. علی خطا الحسین/للدکتور أحمد راسم النفیس/مرکز الغدیر للدراسات الإسلامیة / سنة 1418 ه -.

188. عمدة الطالب لابن عنبة، تحقیق محمد حسن آل الطاقانی، الطبعة الثانیة، سنة 1961 م منشورات المطبعة الحیدریة.

189. عمدة القاری فی شرح صحیح البخاری، طبعة دار الکتب بیروت الطبعة الأولی 1415 ه -.

ص:271

190. العوالم (الإمام الحسین) للشیخ عبدالله البحرانی/مدرسة الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف /سنة 1407 ه -.

191. عوالی اللآلی، لابن أبی مهور.

192. عوائد الأیام للمولی أحمد النراقی/مرکز الأبحاث والدراسات الإسلامیة.

193. عیون أخبار الرضا، منشورات الشریف الرضی، الطبعة الأولی - ثم إیران.

194. عیون التواریخ، مخطوطة دار الکتب.

195. الغیبة للنعمانی، تحقیق علی أکبرغفاری، منشورات مکتبة الصدوق - طهران 1397 ه -.

196. فتح الباری لابن حجر، تحقیق عبد الله بن باز - محمد فؤاد عبد الباقی، الطبعة السلفیة.

197. فتح القدیر للمناوی، شرح الجامع الصغیر للسیوطی، دار عالم الکتب، طبعة وزارة الشؤون الإسلامیة.

198. فتوح البلدان للبلاذری، أحمد بن یحیی بن جابر، طبعة الموسوعات مصر، سنة 1319 ه -.

199. فتوح الشام للواقدی - مطبعة مصطفی البابی الحلی، تحقیق عبد الله عامر، بیروت 1970.

200. فرسان الهیجاء/لذبیح الله المحلاتی/الطبعة الأولی سنة 1386 ه -.

201. الفصول المهمة للسید عبدالحسین شرف الدین/مؤسسة البعثة/الطبعة الأولی.

202. فضائل الأشهر الثلاثة للشیخ الصدوق.

203. فضائل التسمیة لابن بکیر، تحقیق مجدی فتحی السید، الطبعة الاولی سنة 1411 ه -.

204. فضل الکوفة ومساجدها للمشهدی/دار المرتضی / بیروت/تحقیق محمد سعید الطریحی.

205. فقه الإمام جعفر الصادق لمحمد جواد مغنیة، دار الجدید، سنة 1992.

206. الفقه للمغتربین للسید السیستانی.

207. الفهرست لابن الندیم، محمد بن إسحاق، المطبعة الرحمانیة، القاهرة، 1928 م.

208. الفوائد الرجالیة للسید محمد مهدی بحر العلوم/مکتبة العلمین / النجف.

209. فی رحاب عاشوراء للشیخ محمد مهدی الآصفی/مؤسسة نشر الفقاهة.

210. فیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی/أحمد عبدالسلام/دار الکتب العلمیة / 1415 ه -.

211. قاموس الرجال للتستری/منشورات مرکز نشر الکتاب / طهران / 1382 ه -.

212. القرطبی لأحکام القرآن، مطبعة دار الکتب، القاهرة 1968.

213. قصة کربلاء لعلی نظری منفرد/دار المحجة البیضاء/بیروت 1422 ه -.

214. قصص الأنبیاء للسید الجزائری/منشورات الشریف الرضی / قم.

ص:272

215. قضایا النهضة الحسینیة، فوزی آل سیف، دار مجیء الحسین علیه السلام، الطبعة الأولی سنة 2002 م.

216. القول السدید فی شأن الحر الشهید، لأیة الله العظمی الخراسانی.

217. الکافی للشیخ الکلینی/دار الکتب الإسلامیة/سنة 1363 شمسی.

218. کامل الزیارات، لأبن قولویه، منشورات صدوق، صححه وعلق علیه بهرام جعفری.

219. الکامل فی التاریخ لابن الأثیر/المطبعة الأزهریة - مصر/الطبعة الأولی.

220. الکامل للمبرد، تحقیق محمد أحمد الوالی، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1997 م.

221. کتاب (کتاب وعتاب) للشیخ قیس العطار.

222. کتاب الاختصاص، للشیخ المفید ط 2 سنة 1993 دار المفید للطباعة والنشر.

223. کتاب الأربعین لابن عساکر/تحقیق محمد مطیع/دار الفکر المعاصر سنة 1992 م.

224. کتاب الأشتقاق لابن درید، تحقیق عبد السلام هارون، دار الجیل بیروت ط - 1 (1991 م).

225. کتاب الاعتصام للإمام الشاطی/تحقیق مشهور حسن سلمان/الطبعة الأولی/ سنة 1428 ه -.

226. کتاب الأغانی لأبی فرج الأصفهانی/طبعة دار الکتب المصریة.

227. کتاب الاکتفاء بما تضمنه من مغازی رسول الله والثلاثة الخلفاء تحقیق: محمد کمال الدین علی، دار الکتب بیروت.

228. کتاب الأوسط للطبرانی، دار الحرمین - تحقیق الشیخ طارق عوض الله لعام 1415 ه -.

229. کتاب البرصان والعرجان للجاحظ، تحقیق عبد السلام هارون، مکتبة المجلس.

230. کتاب التنبیه والإشراق للمسعودی / دار صعب / بیروت.

231. کتاب التوبة. للسید کمال الحیدری.

232. کتاب الحج للسید السیستانی.

233. کتاب الحیوان للجاحظ/مطبعة التقدم/مصر.

234. کتاب الخرائج والجرائح للقطب الراوندی/مؤسسة الإمام المهدی/الطبعة الأولی / سنة 1409 ه -.

235. کتاب الخصائص الکبری للسیوطی/دار الکتب العلمیة.

236. کتاب الدعاء للشیخ محمد مهدی الآصفی.

237. کتاب الدمعة الساکبة فی أحوال النبی والعترة الطاهرة لمحمد باقر البهبهانی، طبعة الکویت وبیروت.

238. کتاب الرجال لابن داود.

239. کتاب الصحبة والصحابة للشیخ فرحان المالکی/طبعة مزیدة ومنقحة ومضمنة عدة أبحاث جدیدة.

ص:273

240. کتاب الصحوة للاستاذ علی البیاتی.

241. کتاب العباس، عبد الرزاق المقرّم.

242. کتاب الغدیر للأمینی، دار الکتاب العربی، بیروت، 1403 ه -.

243. کتاب الفتن للمروزی، مکتبة التوحید القاهرة، الطبعة الأولی 1412 ه -.

244. کتاب الفتوح لابن أعثم/تحقیق علی شیری/ط 1 /دار الأضواء/ 1411 ه -.

245. کتاب الفرج بعد الشدة للقاضی التنوخی/الطبعة الثانیة/سنة 1364 ه -.

246. کتاب المجالسة وجواهر العلم للدینوری،

247. کتاب المراثی للسید الأمین، تحقیق حسن الأمین، دار بیروت للطابعة والنشر 1959.

248. کتاب المغازی، للواقدی، عالم الکتب للطباعة والنشر، سنة 2006 م.

249. کتاب المقدّمة للشیخ المفید/مؤسسة النشر الإسلامی/سنة 1410 ه -.

250. کتاب ترجمة الإمام الحسین من کتاب الفضائل لابن حنبل، مؤسسة الرسالة، بیروت ط 1، 1403 ه -.

251. کتاب صلح الإمام الحسن للسید عبد الحسن شرف الدین.

252. کتاب مسلم بن عقیل للمقرم، مؤسسة البعثة، قسم الدراسات الإسلامیة.

253. کتاب مصارع الشهداء ومقاتل السعداء، للشیخ سلمان آل عصفور، مجمع إیحاء الثقافة الإسلامیة.

254. کتاب معرفة الإمام للسید محمد حسین الحسینی الطهرانی/الطبعة الأولی / المطبعة الحیدریة.

255. کتاب وانحدر الجمل من السقیفة لنبیل فیاض، طبعة صیف - 1999 م.

256. کتاب وقعة صفین لنصر بن مزاحم/مطبعة المدنی/مصر/سنة 1383 ه -.

257. کربلاء الثورة والمأساة أحمد حسین یعقوب، دار الغدیر سنة 1418 ه -- بیروت.

258. کفایة الأحکام، للمحقق السبزواری، مطبعة مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسین فی قم.

259. کفایة الطالب فی مناقب علی بن أبی طالب، للکنجی، الطبعة الحیدریة.

260. کلمات الإمام الحسین علیه السلام، للشیخ محمود شریفی، الطبعة الأولی 1415 ه -.

261. کنز العمال للهندی/تحقیق الشیخ بکری همیانی والشیخ صفوة/مؤسسة الرسالة.

262. الکنی والألقاب للشیخ عباس القمی/مکتبة الصدر/تقدیم محمد هادی الأمینی.

263. لب الألباب فی معرفة الأنساب للسیوطی، دار صادر.

264. لسان العرب لابن منظور/مطبعة دار الفکر /ط 1 /سنة 1410 ه -.

ص:274

265. اللهوف فی قتلی الطفوف للسید ابن طاوس/المطبعة الحیدریة.

266. لواعج الأشجان للسید محسن الأمین/مطبعة العرفان / سیدا/سنة 1331 ه -.

267. لیلة عاشوراء فی الحدیث والأدب للشیخ عبدالله الحسن.

268. مائة قاعدة فقهیة للسید المصطفوی/مؤسسة النشر الاسلامی.

269. مثیر الأحزان لابن نما الحلی، المطبعة الحیدریة، النجف سنة 1369 ه -.

270. المجالس الحسینیة للشیخ محمد جواد مغنیة، دار التیار الجدید، بیروت، 2003 م.

271. المجالس السنیة للسید محسن الأمین/الطبعة الخامسة سنة 1394 ه -.

272. المجالس الفاخرة فی مآتم العترة الطاهرة للسید عبدالحسین شرف الدین/ إنتشارات کوثر.

273. مجلة النبأ، شهر صفر 1422 آذار آیار 2001.

274. مجلة تراثنا تحقیق السید محمد رضا الجلالی، العدد 2، سنة 1405 ه -.

275. مجمع الأمثال للمیدانی/تحقیق محمد محیی الدین عبدالحمید.

276. مجمع البیان للشیخ الطبرسی/مؤسسة الأعلمی للمطبوعات/تقدیم السید محسن الأمین /سنة 1415 ه -.

277. مجمع البیان للطبرسی، مطبعة العرفان، صیدا، 1333 ه -.

278. مجمع الزوائد للهیثمی، طبعة دار الریان سنة 1407 ه -.

279. مجمع المصائب للشیخ محمد النداوی، المکتبة الحیدریة، الطبعة الأولی سنة 1425 ه -.

280. مجموع الفتاوی لابن تیمیة، دار الوفاء - تحقیق عامر الجزار، الطبعة الثالثة 1426 ه -.

281. المحاسن والمساوئ للبیهقی، طبعة فردریک شوالی سنة 1902.

282. المحصول فی علم الأصول للرازی/دراسة وتحقیق د. طه جابر فیاض العلوانی.

283. المحلی لابن حزم، تحقیق أحمد شاکر، مطبعة دار الجبل.

284. مختصر تاریخ دمشق لابن منظور/دار الفکر / دمشق/الطبعة الأولی.

285. مختصر تاریخ دول الإسلام للذهبی، مؤسسة الأعلمی بیروت سنة 1405 ه -.

286. مدینة المعاجز للسید هاشم البحرانی/مؤسسة المعارف/سنة 1413 ه -.

287. مرآة الجنان للیافعی، طبعة حیدر آباد عام 1334 ه -، مؤسسة الأعلمی بیروت سنة 1390 ه -.

288. المرأة العظیمة للشیخ حسن الصفار دار الانتشار العربی، الطبعة الأولی سنة 2000 م.

289. مرآة العقول فی شرح أخبار آل الرسول للعلامة المجلسی/دار الکتب الإسلامیة - طهران / الطبعة الثانیة.

290. مرقاة المفاتیح شرح مشکاة المصابیح لعلی القاری/طبعة باکستان.

291. مروج الذهب للمسعودی، القاهرة، المطبعة البهیة 1346 ه -.

ص:275

292. المزار الکبیر لابن المشهدی، مخطوط مکتبة المرعشی النجفی، قم.

293. المزار للشهید الأول/مؤسسة الإمام الهادی/سنة 1410 ه -.

294. مزارات أهل البیت وتاریخها، للسید محمد حسین الجلالی.

295. مستدرک سفینة البحار للشیخ علی النمازی الشاهرودی/مؤسسة النشر الإسلامی/ 1418 ه -.

296. المستدرک علی الصحیحین وبذیله تلخیص المستدرک للذهبی.

297. مستدرکات علم الرجال للنمازی/ط 1 /مطبعة شفق/ طهران / 1412 ه -.

298. المستطرف فی کل فن مستظرف لشهاب الدین الأبشیهی، مؤسسة المختار سنة 2010.

299. مستند الشیعة فی أحکام الشریعة للمولی أحمد بن محمد مهدی النراقی/مؤسسة آل البیت/ 1417 ه -.

300. مسند أحمد ابن حنبل، طبعة الرسالة الطبعة الأولی سنة 1421 ه -.

301. مسند الإمام أحمد بن حنبل/دار صادر / بیروت.

302. مسند الشهاب للشهاب القضاعی/مؤسسة الرسالة / بیروت.

303. مشکاة الأنوار للطوسی، المطبعة الحیدریة 1385 ه -، الطبعة الثانیة.

304. مصباح المتهجد للشیخ الطوسی، مطبعة دار الخلافة طهران سنة 1318.

305. المصنف لابن أبی شیبة، الطبعة الأولی سنة 1409 ه -، مکتبة الرشد.

306. معالم السبطین للمازندرانی/مکتبة القرشی/ 1356 ه -.

307. معالم الفتن سعید أیوب/طبعة دار الاعتصام مصر.

308. معالم المدرستین/للسید مرتضی العسکری/مؤسسة النعمان/ سنة 1410 ه -.

309. معالی السبطین للمازندرانی، محمد مهدی المازندرانی، بتبریز، مکتبة القرشی 1356 ه -.

310. معانی الأخبار للشیخ الصدوق/إنتشارات جماعة مدرسی قم.

311. معجم أحادیث المهدی علیه السلام/مؤسسة المعارف الإسلامیة/إشراف الشیخ علی الکورانی/سنة 1411 ه -.

312. معجم البلدان، یاقوت الحموی، مطبعة دار السعادة - القاهرة 1323 ه -.

313. المعجم الصغیر للطبرانی/دار الفکر/الطبعة الأولی 1997 م.

314. المعجم الکبیر للطبرانی/دار إحیاء التراث/الطبعة الثانیة/تحقیق حمدی عبدالمجید السلفی.

315. معجم رجال الحدیث للسید الخوئی/طبعة منقحة ومزیدة/سنة الطبعة 1413 ه -.

316. معجم قبائل العرب لعمر کحالة/مؤسسة الرسالة/بیروت / (ط 5) 1405 ه -.

ص:276

317. معجم ما استعجم للبکری، تحقیق مصطفی السقا، مکتبة المجلسی.

318. معرفة الثقات/مکتبة الدار بالمدینة المنورة.

319. معرفة المعاد للسید محمد حسین الطهرانی.

320. المغازی للواقدی/مطبعة اکسفورد.

321. المغنی لابن قدامة، مکتبة القاهرة، سنة 1968 ه -.

322. مفاتیح الجنان، للشیخ عباس القمی، الطبعة الخامسة، مکتبة الفیروز آبادی، 1412 ه -.

323. مفتاح النجا فی نُزُل الأبرار للبدخشی.

324. مفتاح دار السعادة لابن قیّم الجوزیة/الطبعة الحجریة / مصر.

325. مفردات الراغب الاصفهانی ط 1418 ه -، دار العلم دمشق.

326. مقاتل الطالبیین، علی بن الحسین بن محمد بن أحمد الهیثم المعروف بالأصبهانی، المطبعة الحیدریة، النجف، 1965 م -.

327. مقتل أبی مخنف/تحقیق الشیخ الیوسفی/مؤسسة النشر الإسلامی.

328. مقتل الإمام الحسین، للشیخ العلاّمة کاشف الغطاء، تحقیق: هادی الهلالی، انتشارات الشریف الرضی/ 1419 ه -.

329. مقتل الحسین علیه السلام للمقرم/الطبعة الحیدریة / النجف.

330. مقتل الحسین لأبی مخنف، مؤسسة دار النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

331. مقتل الحسین للخوارزمی/تحقیق الشیخ محمد السماوی/الطبعة الأولی / النجف.

332. مقتل الحسین للمقرم، دار الکتاب الإسلامی، بیروت الطبعة الخامسة، سنة 1979 م.

333. مقتل الحسین، لأیة الله العظمی الشیخ الطبسی.

334. مقتل الفضیل بن الزبیر/تحقیق محمّد رضا الجلالی / مجلة تراثنا / العدد 2 / سنة 1405 ه -.

335. المقتنی فی سرد الکنی لابن فایماز الترکمانی، تحقیق أیمن صالح شعبان، دار الکتب العلمیة 1997.

336. مقدمة ابن خلدون/الطبعة الأمیریة / سنة 1321 ه -.

337. مقدمة ناشر کتاب اللمعة الدمشقیة للشهید الأول، منشورات دار الفکر، قم إیران، 1411 ه -.

338. الملل والنحل للشهرستانی، المطبعة الأمیریة - القاهرة سنة 1317 ه -.

339. من قضایا الثورة الحسینیة، للشیخ فوزی آل سیف.

340. من لا یحضره الفقیه، لأبی جعفر محمد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی، تحقیق السید حسین الخرسان، دار الکتب الإسلامیة.

ص:277

341. المناقب لابن المغازلی، طبعة دار مکتبة الحیاة.

342. المناقب لابن شهر آشوب، مطعبة انتشارات علامة، المطبعة العلمیة فی قم.

343. منهاج السنة، لأبن تیمیة.

344. منهاج الصالحین للسید السیستانی.

345. موسوعة الرکب الحسینی، مرکز الدراسات الإسلامیة لممثلیة الولی الفقیه، ط 2 سنة 1425 ه -.

346. الموسوعة الشوقیة، للشاعر أحمد شوقی.

347. موسوعة طبقات الفقهاء للشیخ جعفر السبحانی/مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام / إیران.

348. الموطأ لابن مالک/مطبعة الاستقامة / مصر.

349. میزان الاعتدال للذهبی، دار الکتب العلمیة سنة 1995.

350. میزان الحکمة محمد محمدی الری شهری، دار الحدیث، الطبعة الأولی 1421 ه -.

351. نشأة النحو للشیخ الطنطاوی/دار المعارف / مصر/الطبعة الثانیة.

352. النصرة فی شیعة البصرة، نزار المنصوری، مکتبة مدبولی، 2004 م.

353. نفس المهموم للشیخ عباس القمی، الطبعة الأولی، مطبعة شریعت 1421 ه -.

354. نقد الرجال للتفریشی/تحقیق ونشر مؤسسة آل البیت لإحیاء التراث.

355. نهایة الأرب للنویری، شهاب الدین أحمد بن عبد الوهاب النویری، القاهرة - مطبعة دار الکتب.

356. نهج البلاغة بشرح محمد عبده/مطبعة الاستقامة.

357. نهج البلاغة شرح ابن أبی الحدید المعتزلی (طبعة مصر الأولی).

358. نور الأبصار فی مناقب آل النبی المختار للشیخ سید الشبلنجی/مطبعة بولاق / مصر/ 1290 ه -.

359. الوافی بالوفیات للصفدی/دار إحیاء التراث/سنة 1420 ه -.

360. وسائل الشیعة للحر العاملی/مؤسسة آل البیت/سنة 1414 ه -.

361. وسیلة الدارین فی أنصار الحسین للسید الزنجانی، الطبعة الثالثة، 1990 م.

362. وقفة صفین لنصر بن مزاحم، الطبعة الأولی عام 1365 ه -، تحقیق هارون.

363. ینابیع المودة للقندوزی/تحقیق سید علی أشرف الحسینی.

ص:278

المحتویات

مقدمة الجزء الرابع 5

الشهید زهیر بن سلیم الازدی الغامدی رحمه الله

بین یدی الشهید 11

أقوال العلماء فی الشهید زهیر بن سلیم الأزدی 12

قبیلة الشهید الکربلائی «غامد» 13

إسلام غامد 16

الشهید الکربلائی والوفادة الأولی فی مکة 16

أولاً: صدق الشهید فیما اعتقد من الإیمان فی هذا الدین 17

وثانیا: وعیه ونفاذ بصیرته 17

ثالثاً: سبقه فی الدخول إلی الإسلام 18

غامد والوفادة الثانیة فی المدینة 19

غامد والوفادة الثالثة فی المدینة 20

مواقف غامد 21

ص:279

أسرة الشهید الکربلائی 22

مع إخوة الشهید 23

1 - مخنف بن سلیم الازدی 23

موقفه فی صفین 24

2 - الصقعب بن سلیم الازدی 28

3 - عبد الله بن سلیم الازدی 28

4 - عبد شمس بن سلیم الازدی 28

أحفاد الشهید الکربلائی 30

1 - الصقعب بن زهیر بن عبد الله بن زهیر بن سلیم الازدی الکوفی 31

روایة حفید الشهید الکربلائی فی معاویة 32

2 - العلاء بن زهیر بن عبد الله بن زهیر بن سلیم 33

3 - زهیر بن عبد الله بن زهیر بن سلیم الأزدی 33

مع ابن أخی الشهید الکربلائی محمد بن مخنف بن سلیم الأزدی 34

أبو مخنف لوط بن یحیی من أحفاد أخی الشهید الکربلائی 34

مع ابن عم الشهید الکربلائی جندب بن زهیر بن الحارث الأزدی 35

الشهید الکربلائی فی فتح المدائن 37

موقف الشهید الکربلائی 39

بطولة متمیزة 39

محاولة سرقة هذه البطولة من الشهید الکربلائی 41

ردُّ توهم 44

الوصول إلی کربلاء 45

الشهید عمّار بن أبی سلامة الدالانی رحمه الله

منزلة أصحاب الحسین الاجتماعیة والزهد فی الدنیا ومع الناس 53

ص:280

مشکلة الناس مع الحسین علیه السلام 55

أقوال العلماء فیه 56

أسرة الشهید (بنو دالان فتیان الصباح) 57

بنو دالان والمآثر الاخلاقیة 58

ما کره قوم حرّ السیوف إلا ذلوا 60

مسجد بنی دالان فی الکوفة 61

والد الشهید أبو سلامة 61

ولنا حول هذه الروایة مجموعة من النقاط لابدّ من ذکرها 62

مذهب أهل البیت وشیعتهم مظلومون عبر التأریخ 63

الشهید عمار بن یاسر والشهید الکربلائی عمار بن أبی سلامة الدالانی 67

شجاعة متمیزة للشهید الدالانی 68

درس کبیر من حیاة الشهید 70

الوصول إلی کربلاء 71

الشهید شبیب بن جراد الوحیدی رحمه الله

أقوال العلماء فیه 73

وقفة إلی من یهمه الأمر 75

القرابة من أُمّ البنین 77

وقفة لابّد منها 80

أسباب الشجاعة المتمیزة 81

1 - إیمان راسخ وخبرة فی الحروب 81

2 - إراءة الحسین علیه السلام لأصحابه الجنّة 84

مناقشة هذا الرأی 85

الشهید من ارکان البیعة فی الکوفة 87

فی أیّ یوم قتل الحسین 92

قتل الحسین علیه السلام یوم الجمعة 93

ص:281

شهادته 94

الشهید نعیم بن عجلان الأنصاری رحمه الله

بین یدی الشهید 97

أقوال العلماء فی الشهید الکربلائی 100

أسرة الشهید «بنو زریق» 101

مسجد بنی زریق 103

إخوة الشهید الکربلائی 104

النعمان بن العجلان الانصاری 105

ادعاء ابن تیمیّة 107

النعمان بن عجلان یشهد لعلی علیه السلام فی الرحبة 113

موقف النعمان بن عجلان فی صفین 114

النضر بن عجلان الانصاری 115

مواقف الشهید ومظلومیة التأریخ 115

الشهید نعیم بن عجلان فی کربلاء 118

الشهید الحُرّ بن یزید الریاحی رحمه الله

بین یدی الشهید 119

أقوال العلماء فی الشهید 120

قبیلة الشهید الکربلائی 121

موقف تمیم من أهل البیت علیهم السلام 123

وقف تمیم البصرة مع علیّ علیه السلام فی الجمل 125

سؤال مهم هو 125

موقف تمیم البصرة من حرکة الحسین 126

أسماء الشهداء من بنی تمیم فی کربلاء 127

أسم الشهید 128

ص:282

والد الشهید الکربلائی 128

جد الشهید الکربلائی 128

جد الحر وردافة الملوک 129

أبناء عم الشهید الکربلائی 129

لقاء الحسین علیه السلام بالحر الریاحی 130

النقطة الأولی: وادی السباع 130

القول الأول 130

القول الثانی 131

القول الثالث: القادسیة 131

القول الرابع: زبالة 131

القول الخامس: الرهیمة 132

النقطة الثانیة: وقت إرسال الحر الریاحی إلی الحسین علیه السلام 132

وثمرة هذا الخلاف 135

ردّ السید الأمین علی اشتباه ابن عساکر 136

النقطة الثالثة: وقائع ما حدث فی هذا اللقاء 136

النقطة الرابعة: مواقف تستحق التأمل فی النص المتقدم 140

أولاً: الحسین علیه السلام یسقی من قتله عطشاناً 140

ثانیاً: الحرُ یصلّی خلف الحسین مأموماً 143

1 - معرفة الحر بالحسین علیه السلام 143

2 - تواضع الحر أمام الحسین علیه السلام 144

ثالثاً: خطبتا الحسین علیه السلام فی ذی حسم 144

رد شبهة أن الحسین علیه السلام أراد الرجوع من حیث أتی 145

خامساً: هل کان الحر صادقاً مع الحسین علیه السلام 146

سادساً: إشفاق الحر علی الحسین علیه السلام 152

القسم الأول 152

القسم الثانی 152

فائدة أخلاقیة 154

سابعا: مقالة الحسین علیه السلام للحرّ الریاحی: ثکلتک أمک، هل تناسب مقام

ص:283

العصمة؟ 155

ثامناً: معرفة الحرّ الریاحی بحق أهل البیت علیهم السلام لاسیما الزهراء علیها السلام 156

تاسعاً: الحر یلین مع الحسین علیه السلام وابن زیاد یأمره بالجعجعة 158

وصول الحسین علیه السلام والحرّ الریاحی إلی عذیب الهجانات 160

نقاط مهمة تضمنها النص المتقدم 162

من هم الأربعة الذین التحقوا بالحسین علیه السلام 162

موقف الحر الریاحی من التحاق الأربعة بالحسین علیه السلام 168

الحسین علیه السلام یسأل الأربعة عن الکوفة؟ 170

أولاً: من هم أشراف الکوفة؟ 170

الحسین علیه السلام یسأل عن رسوله قیس بن مُسهِّر الصیداوی 177

من هو الطرمّاح؟ 179

اقتراح الطرماح علی الحسین علیه السلام 181

أسباب عدم قبول الحسین لاقتراح الطرماح؟ 182

الطرماح بعد الاقتراح 183

الحسین یصل مع الحر إلی قصر بنی مقاتل 186

أدراک الحر لحقیقة النهضة الحسینیة 189

وصول الحسین والحرُّ إلی کربلاء 190

مواقف الحرُّ الریاحی فی یوم عاشوراء 192

أولاً: توبة الحرّ الریاحی وانتقاله للحسین علیه السلام 193

توبة الحر أثناء الحرب 195

مرجحات القول الثانی 197

أسباب توبة الحرِّ وانتقاله إلی الحسین علیه السلام 198

خصائص وممیزات توبة الحر الریاحی 201

ص:284

1 - إخلاص الحر الریاحی 201

2 - تفکّره فی عواقب الأمور 202

3 - الآخرة أحب إلیه من الدنیا 205

1 - القسم الأول 207

2 - القسم الثانی 207

مواعظ ودروس فی توبة الحرّ الریاحی 208

إلهی أنا تائب فهل تری لی من توبة 208

بین قرار الحرِّ الریاحی وقرار عمر بن سعد 212

الطعن فی توبة الحرّ الریاحی وردّ المامقانی علیه 216

لطیفة فی توبة الحرّ الریاحی للشیخ محمد مهدی الحائری 219

خطبة الحرّ الریاحی فی أهل الکوفة 220

بعض ما تضمنته خطبة الحرّ الریاحی من نقاط 221

أولا: إن الشهید الأول هو علی بن الحسین الملقب بعلی الأکبر 226

ثانیاً: أن الشهید الأول هو مسلم بن عقیل علیه السلام 227

ثالثاً: أن الشهید الأول هو مسلم بن عوسجة 227

رابعاً: أن الشهید الأول هو سلیمان بن رزین (أبو رزین) 227

خامساً: أن الشهید الأول هو ابو الشعثاء الکندی 228

سادساً: أن الشهید الأول هو الحرّ بن یزید الریاحی 228

الحسین یمشی إلی مصرع الحرِّ الریاحی 232

العدو یشهد أن الحرَّ الریاحی من الصالحین 233

التحق الحرُّ الریاحی وحده أم معه آخرون 234

بکیر بن الحر الریاحی 234

علی بن الحرّ الریاحی 236

حجر بن الحرّ الریاحی 236

مصعب بن یزید الریاحی 238

ص:285

عروة (قرّة) غلام الحرّ الریاحی 239

رأی العلاّمة شمس الدین 239

جوابنا علی رأی العلاّمة شمس الدین 240

أ قطع رأس الحرّ الریاحی أم لا؟ 244

القسم الأول: القائلون بقطع الرأس الشریف 244

القسم الثانی: القائلون بعدم قطع رأس الحرّ الریاحی 246

قصة الشاه إسماعیل الصفوی مع قبر الحرّ الریاحی 248

تعلقات بالقصة المذکورة 249

الحرّ الریاحی ومرقده 250

أما مرقده 251

جوابنا علی ما ذکره السید الزنجانی رحمه الله 253

دیباجة خاتمة فی الحرّ الریاحی 259

مصادر الکتاب 263

ص:286

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.