الموجز فی أصول الفقه

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پدیدآور : الموجز فی اصول الفقه / تالیف جعفر سبحانی.

مشخصات نشر : قم : موسسه الامام الصادق علیه السلام، 1426ق.= 1384.

مشخصات ظاهری : 248 ص.

موضوع : اصول فقه شیعه

رده بندی کنگره:BP159/8/س2م8 1384

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:3066980

توضیح : کتاب «الموجز فی اصول الفقه»، یکی از آثار و تالیفات آیت الله شیخ جعفر سبحانی است که به زبان عربی نوشته شده است. این کتاب، در حوزه های علمیه به عنوان متن درسی تدریس می شود و جایگاه ویژه خود را پیدا کرده است. در این اثر، مهم ترین مسائل اصولی به گونه موجز مورد بحث قرار می گیرد. مقصود مؤلف از تالیف این کتاب، آشنا کردن مبتدیان، با مسائل اصول فقه است.

کتاب، مشتمل بر یک مقدمه و هشت مقصد است که در خلال این مباحث،تقریبا تمام رئوس مطالب علم اصول به گونه ای موجز بیان گردیده است.

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمین ، والصّلاة والسّلام علی سیّد الأنبیاء والمرسلین محمّد وآله الطیّبین الطاهرین.

أمّا بعد : فهذا کتاب وجیز فی أصول الفقه یستعرض أهمّ المسائل الأصولیّة الّتی تعدّ أسسا لاستنباط الأحکام الشرعیة من مصادرها المعیّنة.

وقد وضعته للمبتدئین فی هذا الفن ، والغرض من وراء ذلک ، إیقافهم علی أمّهات المسائل من دون إیجاز مخلّ ، ولا إطناب مملّ.

لقد کان کتاب المعالم الذی ألّفه الشیخ حسن بن زین الدین العاملی - قدّس الله سرّهما - هو الدراج فی الحوزات العلمیة لهذا الغرض ، وقد أدّی - بحق - رسالته فی العصور السالفة.

غیر أنّه لمّا طرحت بعد تألیفه ، أبحاث أصولیة جدیدة لم یتعرض لها هذا الکتاب، اقتضت الحاجة إلی تألیف کتاب آخر یضمّ فی طیّاته الأبحاث الأصولیة الجدیدة بعبارات واضحة ، ومتلائمة مع اللغة العلمیة الدارجة فی الحوزة مع تطبیقات تساعده بشکل أفضل علی فهم المسائل الأصولیة فی مختلف الأبواب والإشارة إلی مواضعها فی الکتب الفقهیة.

ص: 5

ولقد استعرضت فیه ما هو المشهور لدی المتأخرین من أصحابنا الأصولیین إلاّ شیئا نادرا ، وربما کان المختار عندی غیره ، لکن لم أشر إلیه لتوخّی الإیجاز ، وصیانة الذهن عن التشویش.

کما ترکت الخوض فی البحوث المطروحة فی الدراسات العلیا ، وربما أشرت إلی بعض عناوینها فی الهامش ، وأسمیته ب «الموجز فی أصول الفقه» إیعازا إلی أنّ الکتاب صورة موجزة للمسائل الأصولیة المطروحة.

والنهج السائد فی الکتب الدراسیة هو الاقتصار علی أقلّ العبارات بتعابیر وافیة بالمراد وخالیة عن التعقید وإیکال التفصیل والشرح إلی الأستاذ وإلاّ یخرج عن کونه متنا دراسیا. ورائدنا فی تنظیم المقاصد والمباحث هو الکتب المتداولة فی الأصول ، نظیر الفرائد والکفایة وتقریرات الأعاظم - قدّس الله أسرارهم -.

والأمل أن یکون الکتاب وافیا بالغایة المنشودة ، واقعا مورد الرضا ونسأل الله سبحانه أن یوفقنا لما فیه الخیر والرشاد.

المؤلّف

ص: 6

الفهرس العام لهذا الکتاب

1- المقدمة تتضمّن اثنی عشر أمرا.

2- المقصد الأوّل فی الأوامر وفیه تسعة فصول.

3- المقصد الثانی فی النواهی وفیه ستة فصول.

4- المقصد الثالث فی المفاهیم وفیه خمسة أمور وستة فصول.

5- المقصد الرابع فی العموم والخصوص وفیه ثمانیة فصول.

6- المقصد الخامس فی المطلق والمقید والمجمل والمبین وفیه ستة فصول.

7- المقصد السادس فی الحجج والأمارات وفیه مقامان.

8- المقصد السابع فی الأصول العملیة وفیه فصول أربعة.

9- المقصد الثامن فی تعارض الأدلّة وفیه أمور أربعة وفصلان.

وقبل الخوض فی المباحث الأصولیّة نذکر أمورا کمقدّمة للکتاب :

ص: 7

المقدّمة

اشارة

و فیها أمور :

الأمر الأوّل : تعریف علم الأصول وموضوعه وغایته.

الأمر الثانی : تقسیم المباحث الأصولیة إلی لفظیة وعقلیة.

الأمر الثالث : الوضع وأقسامه الأربعة وتقسیمه أیضا إلی شخصی ونوعی.

الأمر الرابع : تقسیم الدلالة إلی تصوریة وتصدیقیة.

الأمر الخامس : الحقیقة والمجاز.

الأمر السادس : علامات الحقیقة والمجاز.

الأمر السابع : الأصول اللفظیة.

الأمر الثامن : الاشتراک والترادف وإمکانهما ووقوعهما.

الأمر التاسع : استعمال المشترک فی أکثر من معنی.

الأمر العاشر : الحقیقة الشرعیة والمتشرعیة.

الأمر الحادی عشر : أنّ أسماء العبادات والمعاملات موضوعة للصحیح أو للأعم.

الأمر الثانی عشر : المشتق وأنّه موضوع للمتلبس بالمبدإ أو للأعم.

ص: 8

الأمر الأوّل : تعریف علم الأصول

وموضوعه وغایته

إنّ لفظة أصول الفقه تشتمل علی کلمتین تدلاّن علی أنّ هنا أصولا وقواعد یتّکل الفقه علیها ، فلا بدّ من تعریف الفقه أوّلا ، ثمّ تعریف أصوله ثانیا.

الفقه - علی ما هو المعروف فی تعریفه - : هو العلم بالأحکام الشرعیة الفرعیة عن أدلّتها التفصیلیة.

فخرج بقید «الشرعیة» العقلیة ، وب «الفرعیة» الاعتقادیة والمسائل الأصولیة وب «التفصیلیة» علم المقلّد بالأحکام ، فإنّه وإن کان عالما بالأحکام ، لکنّه لا عن دلیل تفصیلی ، بل بتبع دلیل إجمالی وهو حجّیة رأی المجتهد فی حقّه فی عامة الأحکام ، وأمّا المجتهد فهو عالم بکلّ حکم عن دلیله الخاص.

الأصول وإلیک بیان أمور ثلاثة فیه :

1- تعریفه : هو علم یبحث فیه عن القواعد التی یتوصّل بها إلی استنباط الأحکام الشرعیة عن الأدلّة.

وعلی ذلک فعلم أصول الفقه من مبادئ الفقه ، ویتکفّل بیان کیفیّة إقامة الدلیل علی الحکم الشرعی.

2- موضوعه : کلّ شیء یصلح لأن یکون حجّة فی الفقه ومن شأنه أن یقع فی طریق الاستنباط.

فإنّه لیس کلّ قاعدة علمیة تصلح لأن تکون حجّة فی الفقه ، فلیس لمسائل العلوم الطبیعیة ولا الریاضیة ، هذه الصلاحیة ، وإنّما هی لعدید من المسائل ،

ص: 9

کظواهر الکتاب وخبر الواحد ، والشهرة الفتوائیة ، إلی غیر ذلک.

3- غایته : القدرة علی استنباط الأحکام الشرعیة عن أدلّتها والعثور علی أمور یحتج بها فی الفقه علی الأحکام الشرعیة.

ومما ذکرنا یعلم وجه الحاجة إلی أصول الفقه ، فإنّ الحاجة إلیه کالحاجة إلی علم المنطق ، فکما أنّ المنطق یرسم النهج الصحیح فی کیفیة إقامة البرهان ، فهکذا الحال فی علم الأصول ؛ فإنّه یبیّن کیفیة إقامة الدلیل علی الحکم الشرعی.

الأمر الثانی : تقسیم مباحثه

تنقسم المباحث الأصولیة إلی أربعة أنواع :

الأوّل : المباحث اللفظیة ویقع البحث فیها عن مدالیل الألفاظ وظواهرها التی تقع فی طریق الاستنباط نظیر ظهور صیغة الأمر فی الوجوب.

الثانی : المباحث العقلیة ویقع البحث فیها عن الأحکام العقلیة الکلیة التی تقع فی طریق الاستنباط نظیر البحث عن وجود الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب مقدمته.

الثالث : مباحث الحجج والأمارات کالبحث عن حجّیة خبر الواحد.

الرابع : مباحث الأصول العملیة ، وهی تبحث عن مرجع المجتهد عند فقد الدلیل علی الحکم الشرعی.

ویمکن تقسیمها بملاک آخر وهو تقسیمها إلی مباحث لفظیّة ، وعقلیّة وهذا هو الرائج بین المتأخّرین ورتّبنا کتابنا علی ترتیب مباحث الکفایة.

الأمر الثالث : الوضع

إنّ دلالة الألفاظ علی معانیها دلالة لفظیة وضعیة والوضع قد عرّف بوجوه

ص: 10

أوضحها :

جعل اللفظ فی مقابل المعنی وتعیینه للدلالة علیه.

وربما یعرّف : انّه نحو اختصاص للّفظ بالمعنی وارتباط خاص بینهما ناشئ من تخصیصه به تارة ، ویسمّی بالوضع التعیینی ، وکثرة استعماله فیه أخری ویسمّی بالوضع التعیّنی.

والفرق بین التعریفین واضح ، فإنّ الأوّل لا یشمل إلاّ التعیینی بخلاف الثانی فانّه أعمّ منه ومن التعیّنی.

أقسام الوضع

ثمّ إنّ للوضع - فی مقام التصوّر - أقساما أربعة :

1- الوضع الخاص والموضوع له الخاص.

2- الوضع العام والموضوع له العام.

3- الوضع العام والموضوع له الخاص.

4- الوضع الخاص والموضوع له العام.

ثمّ إنّ المیزان فی کون الوضع خاصّا أو عامّا هو کون المعنی الملحوظ حین الوضع جزئیا أو کلّیا.

فإن کان الملحوظ خاصّا ووضع اللفظ بازائه ، فهو من القسم الأوّل ، کوضع الأعلام الشخصیة.

وإن کان الملحوظ عامّا ووضع اللفظ بازائه ، فهو من القسم الثانی ، کأسماء الأجناس.

وإن کان الملحوظ عامّا ولم یوضع اللفظ بازائه بل وضع لمصادیق ذلک

ص: 11

العام ، فهو من القسم الثالث ، کالأدوات والحروف علی ما هو المشهور ، فالواضع علی هذا القول تصوّر مفهومی الابتداء والانتهاء الکلیّین ثمّ وضع لفظة «من» و «إلی» لمصادیقهما الجزئیة التی یعبّر عنها بالمعانی الحرفیة.

وإن کان الملحوظ خاصّا ، ووضع اللفظ للجامع بین هذا الخاص والفرد الآخر ، فهو من القسم الرابع.

المعروف إمکان الأوّلین ووقوعهما فی عالم الوضع ، وإمکان الثالث ، وإنّما البحث فی وقوعه. وقد عرفت أنّ الوضع فی الحروف من هذا القبیل.

إنّما الکلام فی إمکان الرابع فضلا عن وقوعه ، فالمشهور استحالة الرابع فیقع الکلام فیما هو الفرق بین الثالث حیث قیل بإمکانه ، والرابع حیث قیل بامتناعه.

وجهه : انّ الملحوظ العام فی القسم الثالث له قابلیة الحکایة عن مصادیقه وجزئیاته، فللواضع أن یتصوّر مفهوم الابتداء والانتهاء ویضع اللّفظ لمصادیقهما التی تحکی عنها مفاهیمهما.

وهذا بخلاف الرابع فإنّ الملحوظ لأجل تشخّصه بخصوصیات یکون خاصّا ، لیست له قابلیة الحکایة عن الجامع بین الأفراد ، حتی یوضع اللّفظ بازائه.

وبالجملة العام یصلح لأن یکون مرآة لمصادیقه الواقعة تحته ، ولکن الخاص لأجل تضیّقه وتقیّده لا یصلح أن یکون مرآة للجامع بینه وبین فرد آخر.

تقسیم الوضع بحسب اللفظ الموضوع

ثمّ إنّ ما مرّ کان تقسیما للوضع حسب المعنی ، وثمة تقسیم آخر له حسب اللفظ الموضوع إلی شخصی ونوعی.

فإذا کان اللفظ الموضوع متصوّرا بشخصه ، فیکون الوضع شخصیّا کتصوّر

ص: 12

لفظ زید بشخصه ؛ وأمّا إذا کان متصوّرا بوجهه وعنوانه ، فیکون الوضع نوعیّا ، کهیئة الفعل الماضی التی هی موضوعة لانتساب الفعل إلی الفاعل فی الزمان الماضی ، ولکن الموضوع لیس الهیئة الشخصیة فی ضرب أو نصر مثلا ، بل مطلق هیئة «فعل» ، فی أیّ مادة من المواد تحقّقت ، وبذلک یعلم أنّ وضع الهیئة فی الفاعل والمفعول والمفعال هو نوعی لا شخصی.

الأمر الرابع : تقسیم الدلالة إلی تصوّریة وتصدیقیّة

تنقسم دلالة اللّفظ إلی تصوّریة وتصدیقیّة.

فالدلالة التصوّریة : هی عبارة عن انتقال الذهن إلی معنی اللّفظ بمجرّد سماعه وإن لم یقصده اللاّفظ ، کما إذا سمعه من الساهی أو النائم.

وأمّا الدلالة التصدیقیّة : فهی دلالة اللّفظ علی أنّ المعنی مراد للمتکلّم ومقصود له.

فالدلالة الأولی تحصل بالعلم باللغة ، وأمّا الثانیة فتتوقف علی أمور :

أ. أن یکون المتکلم عالما باللغة.

ب. أن یکون فی مقام البیان والإفادة.

ج. أن یکون جادّا لا هازلا.

د. أن لا ینصب قرینة علی خلاف المعنی الحقیقی.

ص: 13

الأمر الخامس : الحقیقة والمجاز

الاستعمال الحقیقی : هو إطلاق اللّفظ وإرادة ما وضع له ، کإطلاق الأسد وإرادة الحیوان المفترس.

وأمّا المجاز : فهو استعمال اللّفظ فی غیر ما وضع له ، مع وجود علقة بین الموضوع له والمستعمل فیه بأحد العلائق المسوّغة ، کإطلاق الأسد وإرادة الرجل الشجاع.

ثمّ إذا کانت العلقة هی المشابهة بین المعنیین فیطلق علیه الاستعارة ، وإلاّ فیطلق علیه المجاز المرسل کإطلاق الجزء وإرادة الکلّ کإطلاق العین والرقبة وإرادة الإنسان.

هذا هو التعریف المشهور للمجاز ، وهناک نظر آخر موافق للتحقیق ، وحاصله : إنّ اللّفظ - سواء کان استعماله حقیقیّا أو مجازیّا - یستعمل فیما وضع له ، غیر أنّ اللّفظ فی الأوّل مستعمل فی الموضوع له من دون أی ادّعاء ومناسبة ، وفی الثانی مستعمل فی الموضوع له لغایة ادّعاء انّ المورد من مصادیق الموضوع له ، کما فی قول الشاعر :

لدی أسد شاکی السلاح مقذّف***له لبد أظفاره لم تقلّم (1)

فاستعمل لفظ الأسد - حسب الوجدان - فی نفس المعنی الحقیقی لکن بادّعاء انّ المورد- - أی الرجل الشجاع - من مصادیقه وأفراده حتّی أثبت له آثار الأسد من اللبد والأظفار، وهذا هو خیرة أستاذنا السید الإمام الخمینی قدس سره. (2)

ص: 14


1- البیت لزهیر بن أبی سلمی ، وهو فی دیوانه ص 24 ؛ ولسان العرب ج 9 ، ص 277 ، قذف.
2- تهذیب الأصول : 1 / 44.

والحاصل : أنّه لو کان تفهیم المعنی الموضوع له هو الغایة من وراء الکلام ، فالاستعمال حقیقی ، وإن کان مقدّمة ومرآة لتفهیم فرد ادّعائی ولو بالقرینة فالاستعمال مجازی.

الأمر السادس : علامات الحقیقة و المجاز

إذا استعمل المتکلم لفظا فی معنی معیّن ، فلو علم أنّه موضوع له ، سمّی هذا الاستعمال حقیقیّا ، وأمّا إذا شکّ فی المستعمل فیه وأنّه هل هو الموضوع له أو لا؟ فهناک علامات تمیّز بها الحقیقة عن المجاز.

1- التبادر :

هو انسباق المعنی إلی الفهم من نفس اللّفظ مجرّدا عن کلّ قرینة ، وهذا یدلّ علی أنّ المستعمل فیه معنی حقیقیّ ، إذا لیس لحضور المعنی فی الذهن سبب سوی أحد أمرین ، إمّا القرینة ، أو الوضع ، والأوّل منتف قطعا کما هو المفروض ، فیثبت الثانی.

2- صحّة الحمل والسلب :

إنّ صحّة الحمل دلیل علی أنّ الموضوع الوارد فی الکلام قد وضع للمحمول کما أنّ صحّة السلب دلیل علی عدم وضعه له.

توضیحه : أنّ الحمل علی قسمین :

الأوّل : الحمل الأوّلی الذاتی ، وهو ما إذا کان المحمول نفس الموضوع مفهوما بأن یکون ما یفهم من أحدهما نفس ما یفهم من الآخر ، مع اختلاف بینهما

ص: 15

فی الإجمال والتفصیل کما إذا قلنا : الأسد حیوان مفترس ، والإنسان حیوان ناطق.

الثانی : الحمل الشائع الصناعی ، وهو ما إذا کان الموضوع مغایرا للمحمول فی المفهوم ، ومتحدا معه فی الخارج ، کما إذا قلنا : زید إنسان ، فما یفهم من أحدهما غیر ما یفهم من الآخر غیر أنّهما متحقّقان بوجود واحد فی الخارج.

إذا اتّضح ما تلوناه علیک ، فاعلم أنّ المقصود من أنّ صحّة الحمل أو صحّة السلب علامة للحقیقة والمجاز هو القسم الأوّل ، فصحّة الحمل والهوهویة تکشف عن وحدة المفهوم والمعنی وهو عبارة أخری عن وضع أحدهما للآخر ، کما أنّ صحّة السلب تکشف عن خلاف ذلک ، مثلا إذا صحّ حمل الحیوان المفترس علی الأسد بالحمل الأوّلی یکشف عن أنّ المحمول نفس الموضوع مفهوما ، وهو عبارة أخری عن وضع أحدهما للآخر ، کما أنّه إذا صحّ سلب الحیوان الناطق عن الأسد بالحمل الأوّلی کما إذا قیل : الأسد لیس حیوانا ناطقا یکشف عن التغایر المفهومی بینهما ، وهو یلازم عدم وضع أحدهما للآخر.

3- الاطّراد :

هی العلامة الثالثة لتمییز الحقیقة عن المجاز وتوضیح ذلک : إذا اطّرد استعمال لفظ فی أفراد کلیّ بحیثیة خاصّة ، کاستعمال «رجل» باعتبار الرجولیة ، فی زید وعمرو وبکر ، مع القطع بعدم کونه موضوعا لکلّ واحد علی حدة ، یستکشف منه وجود جامع بین الأفراد قد وضع اللّفظ بازائه.

فالجاهل باللغة إذا أراد الوقوف علی معانی اللغات الأجنبیة من أهل اللغة ، فلیس له سبیل إلاّ الاستماع إلی محاوراتهم ، فإذا رأی أنّ لفظا خاصّا یستعمل مع محمولات عدیدة فی معنی معیّن ، کما إذا قال الفقیه : الماء طاهر ومطهّر ، وقال الکیمیائی : الماء رطب سیال ، وقال الفیزیائی : الماء لا لون له ، یقف علی أنّ اللّفظ

ص: 16

موضوع لما استعمل فیه ، لأنّ المصحّح له إمّا الوضع أو العلاقة ، والثانی لا اطّراد فیه ، فیتعیّن الأوّل.

ولنذکر مثالا آخر: إنّ آیة الخمس ، أعنی قوله سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبی وَالْیَتامی وَالْمَساکِینِ وَابْنِ السَّبِیلِ)(الأنفال/41) توجب إخراج الخمس عن الغنیمة.

فهل الکلمة (الغنیمة) موضوعة للغنائم المأخوذة فی الحرب ، أو تعمّ کلّ فائدة یحوزها الإنسان من طرق شتی؟

یستکشف الثانی عن طریق الاطّراد فی الاستعمال ، فإذا تتبعنا الکتاب والسنّة نجد اطّراد استعمالها فی کلّ ما یحوزه الإنسان من أیّ طریق کان.

قال سبحانه : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَیاةِ الدُّنْیا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ کَثِیرَةٌ) (النساء / 94)، والمراد مطلق النّعم والرزق.

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم فی مورد الزکاة : «اللهمّ اجعلها مغنما» (1) ، وفی مسند أحمد : «غنیمة مجالس الذکر الجنة» ، وفی وصف شهر رمضان : غنم المؤمن.

فهذه الاستعمالات الکثیرة المطّردة ، تکشف عن وضعها للمعنی الأعم.

وهذا هو الطریق المألوف فی اقتناص مفاهیم اللغات ومعانیها وفی تفسیر لغات القرآن، ومشکلات السنّة ، وعلیه قاطبة المحقّقین ، ویطلق علی هذا النوع من تفسیر القرآن ، التفسیر البیانی.

ص: 17


1- للوقوف علی مصادر الروایات علیک بمراجعة الاعتصام بالکتاب والسنّة ، ص 92.

4- تنصیص أهل اللغة

المراد من تنصیص أهل اللغة هو تنصیص مدوّنی معاجم اللغة العربیة ، فإنّ مدوّنی اللغة الأوائل کالخلیل بن أحمد الفراهیدی (ت 170 ه) مؤلّف کتاب «العین»، والجوهری (ت 398 ه) مؤلّف الصحاح قد دوّنوا کثیرا من معانی الألفاظ من ألسن القبائل العربیة وسکّان البادیة ، فتنصیص مثل هؤلاء یکون مفیدا للاطمئنان بالموضوع له.

هذا وسیأتی (1) تفصیل الکلام فی حجّیة قول اللغوی فانتظر.

الأمر السابع : الأصول اللفظیة

إنّ الشکّ فی الکلام یتصوّر علی نحوین :

أ. الشکّ فی المعنی الموضوع له ، کالشکّ فی أنّ الصعید هل وضع للتراب أو لمطلق وجه الأرض؟

ب. الشکّ فی مراد المتکلّم بعد العلم بالمعنی الموضوع له.

أمّا النحو الأوّل من الشکّ فقد مرّ الکلام فیه فی الأمر السادس ، وعلمت أنّ هناک علامات یمیز بها المعنی الحقیقی عن المجازی.

وأمّا النحو الثانی من الشکّ فقد عقد له هذا الأمر ، فنقول : إنّ الشکّ فی المراد علی أقسام ، وفی کلّ قسم أصل یجب علی الفقیه تطبیق العمل علیه ، وإلیک الإشارة إلی أقسام الشکّ والأصول التی یعمل بها :

ص: 18


1- لاحظ صفحة 175 من هذا الکتاب.

1- أصالة الحقیقة

إذا شکّ فی إرادة المعنی الحقیقی أو المجازی من اللفظ ، بأن لم یعلم وجود القرینة علی إرادة المعنی المجازیّ مع احتمال وجودها ، کما إذا شک فی أنّ المتکلم هل أراد من الأسد فی قوله : رأیت أسدا ، الحیوان المفترس أو الجندی الشجاع؟ فعندئذ یعالج الشکّ عند العقلاء بضابطة خاصة ، وهی الأخذ بالمعنی الحقیقی ما لم یدلّ دلیل علی المعنی المجازی ، وهذا ما یعبّر عنه بأصالة الحقیقة.

2- أصالة العموم

إذا ورد عام فی الکلام کما إذا قال المولی : أکرم العلماء وشکّ فی ورود التخصیص علیه وإخراج بعض أفراده کالفاسق ، فالأصل هو الأخذ بالعموم وترک احتمال التخصیص ، وهذا ما یعبّر عنه بأصالة العموم.

3- أصالة الإطلاق

إذا ورد مطلق وشک فی کونه تمام الموضوع أو بعضه ، کما قال سبحانه : (أَحَلَّ اللهُ الْبَیْعَ) (البقرة / 275) واحتمل انّ المراد هو البیع بالصیغة دون مطلقه ، فالمرجع عندئذ هو الأخذ بالإطلاق وإلغاء احتمال التقیید ، وهذا ما یعبّر عنه بأصالة الإطلاق.

4- أصالة عدم التقدیر

إذا ورد کلام واحتمل فیه تقدیر لفظ خاصّ ، فالمرجع عند العقلاء هو عدم التقدیر إلاّ أن تدلّ علیه قرینة ، کما فی قوله سبحانه : (وَسْئَلِ الْقَرْیَةَ الَّتِی کُنَّا فِیها) (یوسف/82) والتقدیر أهل القریة ، وهذا ما یعبّر عنه بأصالة عدم التقدیر.

ص: 19

5- أصالة الظهور

إذا کان اللفظ ظاهرا فی معنی خاص دون أن یکون نصّا فیه بحیث لا یحتمل معه الخلاف ، فالأصل الثابت عند العقلاء هو الأخذ بظهور الکلام وإلغاء احتمال الخلاف،وهذا ما یعبّر عنه بأصالة الظهور.

ثمّ إنّ الأصول السابقة مصادیق لأصالة الظهور.

وهذه الأصول ممّا یعتمد علیها العقلاء فی محاوراتهم ولم یردع عنها الشارع فهی حجّة.

الأمر الثامن : الاشتراک والترادف

الاشتراک عبارة عن کون اللفظ الواحد موضوعا لمعنیین أو أکثر بالوضع التعیینی أو التعیّنی.

ویقابله الترادف ، وهو وضع اللفظین أو الأکثر لمعنی واحد کذلک.

واختلفوا فی إمکان الاشتراک أوّلا ووقوعه بعد تسلیم إمکانه ثانیا فذهب الأکثر إلی الإمکان ، لأنّ أدلّ دلیل علیه هو وقوعه ، فلفظة العین تستعمل فی الباکیة والجاریة ، وفی الذهب والفضة.

ومردّ الاشتراک إلی اختلاف القبائل العربیة القاطنة فی أطراف الجزیرة فی التعبیر عن معنی الألفاظ ، فقد کانت تلزم الحاجة طائفة إلی التعبیر عن معنی بلفظ ، وتلزم أخری التعبیر بذلک اللّفظ عن معنی آخر ، ولمّا قام علماء اللغة بجمع لغات العرب ظهر الاشتراک اللفظی.

وربّما یکون مردّه إلی استعمال اللّفظ فی معناه المجازی بکثرة إلی أن یصبح الثانی معنی حقیقیا ، کلفظ الغائط ، فهو موضوع للمکان الذی یضع فیه الإنسان ،

ص: 20

ثمّ کنّی به عن فضلة الإنسان ، إلی أن صار حقیقة فیها مع عدم هجر المعنی الأوّل.

نعم ربّما یذکر أهل اللغة للفظ واحد معانی عدیدة ، ولکنّها ربما تکون من قبیل المصادیق المختلفة لمعنی واحد ، وهذا کثیر الوقوع فی المعاجم. (1)

وقد اشتمل القرآن علی اللّفظ المشترک ، کالنجم المشترک بین الکوکب والنبات الذی لا ساق له ، قال سبحانه : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوی) (النجم / 1).

وقال سبحانه : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ یَسْجُدانِ) (الرحمن / 6).

هذا کلّه فی المشترک اللفظی.

وأمّا المشترک المعنوی ، فهو عبارة عن وضع اللّفظ لمعنی جامع یکون له مصادیق مختلفة ، کالشجر الذی له أنواع کثیرة.

تنبیه

إنّ فهم المعنی المجازیّ بحاجة إلی قرینة ، کقولک «یرمی» أو «فی الحمام» فی «رأیت أسدا یرمی أو فی الحمّام» کما أنّ تعیین المعنی المراد من بین المعانی المتعددة للّفظ المشترک یحتاج إلی قرینة کقولنا : «باکیة» أو «جاریة» فی عین باکیة ، أو عین جاریة، لکن قرینة المجاز قرینة صارفة ومعیّنة ، وقرینة اللفظ المشترک قرینة معیّنة فقط ، والأولی آیة المجازیة دون الثانیة.

ص: 21


1- ذکر الفیروزآبادی فی کتاب «القاموس المحیط» للقضاء معانی متعددة کالحکم ، الصنع ، الحتم ، البیان ، الموت ، الإتمام وبلوغ النهایة ، العهد ، الإیصاء ، الأداء مع أنّ الجمیع مصادیق مختلفة لمعنی فارد ، ولذلک أرجعها صاحب المقاییس إلی أصل واحد ، فلاحظ.

الأمر التاسع : استعمال المشترک فی أکثر من معنی

إذا ثبت وجود اللّفظ المشترک ، یقع الکلام حینئذ فی جواز استعماله فی أکثر من معنی واحد فی استعمال واحد ، بمعنی أن یکون کل من المعنیین مرادا باستقلاله ، کما إذا قال : اشتریت العین ، واستعمل العین فی الذهب والفضة.

فخرج ما إذا استعمله فی معنی جامع صادق علی کلا المعنیین ، کما إذا استعمل العین فی «المسمّی بالعین» فإنّ الذهب والفضة داخلان تحت هذا العنوان ، فهذا النوع من الاستعمال لیس من قبیل استعمال المشترک فی أکثر من معنی.

إذا علمت ذلک ، فاعلم أنّه اختلف فی جواز استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی واحد علی أقوال أربعة :

أ. الجواز مطلقا.

ب. المنع مطلقا.

ج. التفصیل بین المفرد وغیره والتجویز فی الثانی.

د. التفصیل بین الإثبات والنفی والتجویز فی الثانی.

والحق جوازه مطلقا ، وأدلّ دلیل علی إمکانه وقوعه ، ویجد المتتبع فی کلمات الأدباء نماذج من هذا النوع فی الاستعمال : یقول الشاعر فی مدح النبی صلی الله علیه و آله و سلّم :

المرتمی فی الدجی ، والمبتلی بعمی***و المشتکی ظمأ والمبتغی دینا

یأتون سدّته من کلّ ناحیة***ویستفیدون من نعمائه عینا

فاستخدم الشاعر لفظ «العین» فی الشمس ، والبصر ، والماء الجاری والذهب ؛ حیث إنّ المرتمی فی الدجی ، یطلب الضیاء ؛ والمبتلی بالعمی ، یطلب العین الباصرة ؛ والإنسان الظمآن یرید الماء ؛ والمستدین یطلب الذهب.

ص: 22

الأمر العاشر : الحقیقة الشرعیة

ذهب أکثر الأصولیین إلی أنّ ألفاظ العبادات کالصلاة والصوم والزکاة والحج کانت عند العرب قبل الإسلام مستعملة فی معانیها اللغویة علی وجه الحقیقة ، أعنی : الدعاء ، والإمساک ، والنمو ، والقصد ، وهذا ما یعبّر عنه بالحقیقة اللغویة.

وإلی أنّ تلک الألفاظ فی عصر الصادقین علیهما السلام وقبلهما بقلیل ، کانت ظاهرة فی المعانی الشرعیة الخاصة بحیث کلّما أطلقت الصلاة والصوم والزکاة تتبادر منها معانیها الشرعیة.

إنّما الاختلاف فی أنّه کیف صارت هذه الألفاظ حقیقة فی المعانی الشرعیة فی عصر الصادقین علیهما السلام وقبلهما بقلیل؟ فهنا قولان :

أ. ثبوت الحقیقة الشرعیة فی عصر النبوّة.

ب. ثبوت الحقیقة المتشرّعیة بعد عصر النبوة.

أمّا الأوّل : فحاصله : أنّ تلک الألفاظ نقلت فی عصر النبی صلی الله علیه و آله و سلّم من معانیها اللغویة إلی معانیها الشرعیة بالوضع التعیینی أو التعیّنی حتی صارت حقائق شرعیة فی تلک المعانی فی عصره ، لأنّ تلک الألفاظ کانت کثیرة التداول بین المسلمین لا سیّما الصلاة التی یؤدّونها کلّ یوم خمس مرّات ویسمعونها کرارا من فوق المآذن.

ومن البعید أن لا تصبح حقائق فی معانیها المستحدثة فی وقت لیس بقلیل.

وأما الثانی فحاصله : أنّ صیرورة تلک الألفاظ حقائق شرعیة علی لسان

ص: 23

النبی صلی الله علیه و آله و سلّم تتوقف علی الوضع وهو إمّا تعیینی أو تعیّنی ، والأوّل بعید جدا ، وإلاّ نقل إلینا، والثانی یتوقف علی کثرة الاستعمال التی هی بحاجة إلی وقت طویل ، وأین هذا من قصر مدّة عصر النبوّة؟!

یلاحظ علیه : أنّ عصر النبوّة استغرق 23 عاما ، وهی فترة لیست قصیرة لحصول الوضع التعیّنی علی لسانه ، وإنکاره مکابرة.

ثمرة البحث

وأمّا ثمرة البحث بین القولین ، فتظهر فی الألفاظ الواردة علی لسان النبی صلی الله علیه و آله و سلّم بلا قرینة ، فتحمل علی الحقیقة الشرعیة بناء علی ثبوتها وعلی الحقیقة اللغویة بناء علی إنکارها.

والظاهر انتفاء الثمرة مطلقا ، لعدم الشکّ فی معانی الألفاظ الواردة فی الکتاب والسنّة لکی یتوقف فهم معانیها علی ثبوت الحقیقة الشرعیة أو نفیها إلاّ نادرا.

الأمر الحادی عشر : الصحیح والأعم

هل أسماء العبادات والمعاملات موضوعة للصحیح منهما ، أو لأعمّ منه؟

تطلق الصحّة فی اللغة تارة علی ما یقابل المرض ، فیقال : صحیح وسقیم.

وأخری علی ما یقابل العیب ، فیقال : صحیح ومعیب.

وأمّا الصحة اصطلاحا فی العبادات فقد عرّفت تارة بمطابقة المأتی به للمأمور به ، وأخری بما یوجب سقوط الإعادة والقضاء ، ویقابلها الفساد. وأمّا فی المعاملات فقد عرّفت بما یترتّب علیه الأثر المطلوب منها ، کالملکیة فی البیع ، والزوجیة فی النکاح وهکذا.

ص: 24

والمراد من وضع العبادات للصحیح هو أنّ ألفاظ العبادات وضعت لما تمّت أجزاؤها وکملت شروطها ، أو لأعمّ منه ومن الناقص.

المعروف هو القول الأوّل ، واستدلّ له بوجوه (1) مسطورة فی الکتب الأصولیة أوضحها : إنّ الصلاة ماهیة اعتباریة جعلها الشارع لآثار خاصّة وردت فی الکتاب والسنّة ، منها : کونها ناهیة عن الفحشاء والمنکر ، أو معراج المؤمن ، وغیرهما ، وهذه الآثار إنّما تترتب علی الصحیح لا علی الأعمّ منه ، وهذا (أی ترتّب الأثر علی الصحیح) ممّا یبعث الواضع إلی أن یضع الألفاظ لما یحصّل أغراضه ویؤمّن أهدافه ، ولیس هو إلاّ الصحیح. لأنّ الوضع للأعمّ الذی لا یترتّب علیه الأثر ، أمر لغو.

استدلّ القائل بالأعم بوجوه أوضحها صحّة تقسیم الصلاة إلی الصحیحة والفاسدة.

وأجیب عنه بأنّ غایة ما یفیده هذا التقسیم هو استعمال الصلاة فی کلّ من الصحیح والفاسد ، والاستعمال أعمّ من الحقیقة.

وأمّا المعاملات فهنا تصویران :

الأوّل : أنّ ألفاظ العقود ، کالبیع والنکاح ؛ والإیقاعات ، کالطلاق والعتق، موضوعة للأسباب التی تسبّب الملکیة والزوجیة والفراق والحریة ، ونعنی بالسبب إنشاء العقد والإیقاع، کالإیجاب والقبول فی العقود ، والإیجاب فقط کما فی الإیقاع.

وعلیه یأتی النزاع فی أنّ ألفاظها هل هی موضوعة للصحیحة التامّة الأجزاء

ص: 25


1- التبادر وصحّة الحمل وصحّة السلب عن الأعمّ وغیرها.

والشرائط المؤثرة فی المسبب ، أو لأعمّ من التام والناقص غیر المؤثر فی المسبب؟

الثانی : أن تکون الألفاظ موضوعة للمسببات ، أی ما یحصل بالأسباب کالملکیة والزوجیة والفراق والحریة ، وبما أنّ المسببات من الأمور البسیطة ، التی یدور أمرها بین الوجود والعدم ، فلا یأتی علی هذا الفرض ، النزاع السابق لأنّ الملکیة إمّا موجودة وإمّا معدومة کما أنّ الزوجیة إمّا متحقّقة أو غیر متحقّقة ، ولا تتصوّر فیهما ملکیة أو زوجة فاسدة.

الأمر الثانی عشر : هل المشتق حقیقة فی خصوص المتلبس بالمبدإ بالفعل أو أعمّ منه وممّا انقضی عنه المبدأ

إنّه اتّفقت کلمتهم علی أنّ المشتق حقیقة فی المتلبّس بالمبدإ بالفعل ومجاز فیما یتلبّس به فی المستقبل ، واختلفوا فیما انقضی عنه التلبّس ، مثلا إذا ورد النهی عن التوضّؤ بالماء المسخّن بالشمس ، فتارة یکون الماء موصوفا بالمبدإ بالفعل ، وأخری یکون موصوفا به فی المستقبل ، وثالثة کان موصوفا به لکنّه زال وبرد الماء ، فإطلاق المشتق علی الأوّل حقیقة، ودلیل الکراهة شامل له ، کما أنّ إطلاقه علی الثانی مجاز لا یشمله دلیلها ، وأمّا الثالث فکونه حقیقة أو مجازا وبالتالی شمول دلیلها له وعدمه مبنیّ علی تحدید مفهوم المشتق ، فلو قلنا بأنّه موضوع للمتلبّس بالمبدإ بالفعل یکون الإطلاق مجازیا والدلیل غیر شامل له ، ولو قلنا بأنّه موضوع لما تلبّس به ولو آناً ما فیکون الإطلاق حقیقیّا والدلیل شاملا له.

والمشهور انّه موضوع للمتلبس بالفعل.

وقبل الخوض فی المقصود نقدم أمورا :

ص: 26

1- الفرق بین المشتق النحویّ والأصولی

المشتق عند النحاة یقابل الجامد ، فیشمل الماضی والمضارع والأمر والنهی واسم الفاعل ومصادر أبواب المزید.

وأمّا المشتق عند الأصولیّین ، فهو عبارة عمّا یحمل علی الذات باعتبار اتصافها بالمبدإ واتحادها معه بنحو من الاتحاد ، ولا تزول الذات بزواله فخرجت الأفعال قاطبة والمصادر لعدم صحّة حملهما علی الذوات علی نحو الهوهویة ، والأوصاف التی تزول الذات بزوالها کالناطق فلم یندرج فیه إلاّ اسم الفاعل والمفعول وأسماء الزمان والمکان والآلات والصفات المشبهة وصیغ المبالغة وأفعل التفضیل ویشمل حتی الزوجة والرق والحر لوجود الملاک المذکور فی جمیعها ، فإذن النسبة بین المشتق النحوی والمشتق الأصولی عموم وخصوص من وجه. (1)

2- اختلاف أنحاء التلبّسات حسب اختلاف المبادئ

ربّما یفصل بین المشتقات فیتوهم انّ بعضها حقیقة فی المتلبس وبعضها فی الأعمّ ، نظیر الکاتب والمجتهد والمثمر ، فما یکون المبدأ فیه حرفة أو ملکة أو قوّة تصدق فیه هذه الثلاثة وإن زال التلبّس ، فهی موضوعة للأعم بشهادة صدقها مع عدم تلبّسها بالکتابة والاجتهاد والإثمار بخلاف غیرها ممّا کان المبدأ فیه أمرا فعلیا ، کالأبیض والأسود.

ص: 27


1- فیجتمعان فی أسماء الفاعلین والمفعولین وأمثالهما ، ویفترقان فی الفعل الماضی والمضارع ، فیطلق علیهما المشتق النحوی دون الأصولی ؛ وفی الجوامد کالزوج والرق ، فیطلق علیهما المشتق الأصولی دون النحوی.

یلاحظ علیه : أنّ المبدأ یؤخذ تارة علی نحو الفعلیة کقائم ، وأخری علی نحو الحرفة کتاجر ، وثالثة علی نحو الصناعة کنجّار ، ورابعة علی نحو القوّة کقولنا : شجرة مثمرة ، وخامسة علی نحو الملکة کمجتهد.

فإذا اختلفت المبادئ جوهرا ومفهوما لاختلفت أنحاء التلبّسات بتبعها أیضا ، وعندئذ یختلف بقاء المبدأ حسب اختلاف المبادئ ، ففی القسم الأوّل یشترط فی صدق التلبّس تلبّس الذات بالمبدإ فعلا ، وفی القسم الثانی والثالث یکفی عدم إعراضه عن حرفته وصناعته وإن لم یکن ممارسا بالفعل ، وفی الرابع یکفی کونه متلبّسا بقوة الإثمار وإن لم یثمر فعلا، وفی الخامس یکفی حصول الملکة وإن لم یمارس فعلا ، فالکلّ داخل تحت المتلبّس بالمبدإ بالفعل، وبذلک علم أنّ اختلاف المبادئ یوجب اختلاف طول زمان التلبّس وقصره ولا یوجب تفصیلا فی المسألة.

فما تخیّله القائل مصداقا لما انقضی عنه المبدأ ، فإنّما هو من مصادیق المتلبّس ومنشأ التخیّل هو أخذ المبدأ فی الجمیع علی نسق واحد ، وقد عرفت أنّ المبادئ علی أنحاء.

إذا عرفت ما ذکرنا فاعلم أنّ مرجع النزاع إلی سعة المفاهیم وضیقها وأنّ الموضوع له هل هو خصوص الذات المتلبّسة بالمبدإ أو أعمّ من تلک الذات المنقضی عنها المبدأ فعلی القول بالأخصّ ، یکون مصداقه منحصرا فی الذات المتلبّسة ، وعلی القول بالأعمّ یکون مصداقه أعمّ من هذه وممّا انقضی عنها المبدأ.

* * *

استدلّ المشهور علی أنّ المشتق موضوع للمتلبّس بالمبدإ بالفعل بأمرین :

1- التبادر ، إنّ المتبادر من المشتق هو المتلبس بالمبدإ بالفعل ، فلو قیل :

ص: 28

صلّ خلف العادل ، أو أدّب الفاسق ، أو قیل : لا یصلین أحدکم خلف المجذوم والأبرص والمجنون ، أو لا یؤم الأعرابی المهاجرین ؛ لا یفهم منه إلاّ المتلبّس بالمبدإ فی حال الاقتداء.

2- صحّة السلب عمّن انقضی عنه المبدأ ، فلا یقال لمن هو قاعد بالفعل انّه قائم إذا زال عنه القیام ، ولا لمن هو جاهل بالفعل ، انّه عالم إذا نسی علمه. وأمّا القائلون بالأعم فاستدلّوا بوجهین :

الأوّل : صدق أسماء الحرف کالنجار علی من انقضی عنه المبدأ ، مثل أسماء الملکات کالمجتهد.

وقد عرفت الجواب عنه وأنّ الجمیع من قبیل المتلبّس بالمبدإ لا الزائل عنه المبدأ.

الثانی : لو تلبس بالمبدإ فی الزمان الماضی یصح أن یقال انّه ضارب باعتبار تلبّسه به فی ذلک الزمان.

یلاحظ علیه : أنّ اجراء المشتق علی الموضوع فی المثال المذکور یتصوّر علی وجهین :

أ. أن یکون زمان التلبّس بالمبدإ فی الخارج متحدا مع زمان النسبة الکلامیة ، کأن یقول زید ضارب أمس ، حاکیا عن تلبّسه بالمبدإ فی ذلک الزمان ، فهو حقیقة ومعدود من قبیل المتلبّس لأنّ المراد کونه ضاربا فی ذلک الظرف.

ب. أن یکون زمان التلبّس بالمبدإ فی الخارج مختلفا مع زمان النسبة الکلامیة ، کأن یقول : زید - باعتبار تلبّسه بالمبدإ أمس - ضارب الآن ، فالجری مجاز ومن قبیل ما انقضی عنه المبدأ.

ص: 29

تطبیق

1- قال رجل لعلیّ بن الحسین علیهما السلام : أین یتوضأ الغرباء؟ قال : «تتّقی شطوط الأنهار ، والطرق النافذة ، وتحت الأشجار المثمرة». (1)

فعلی القول بالوضع للمتلبس بالمبدإ یختص الحکم بما إذا کانت مثمرة فعلا ، بخلاف القول بأعم من المتلبس وغیره فیشمل الشجرة المثمرة ولو بالقوة کما إذا فقدت قوّة الإثمار لأجل طول عمرها.

2- عن أبی عبد الله علیه السلام فی المرأة ماتت ولیس معها امرأة تغسلها ، قال : «یدخل زوجها یده تحت قمیصها فیغسلها إلی المرافق». (2)

فلو قلنا بأنّ المشتق حقیقة فی المنقضی أیضا ، فیجوز للزوج المطلّق تغسیلها عند فقد المماثل وإلاّ فلا.

إذا وقفت علی تلک الأمور ، فاعلم أنّ کتابنا هذا مرتّب علی مقاصد ، وکلّ مقصد یتضمن فصولا :

ص: 30


1- الوسائل : 1 ، الباب 15 من أبواب أحکام الخلوة ، الحدیث 1.
2- الوسائل : 2 ، الباب 24 من أبواب غسل المیت ، الحدیث 8.

المقصد الأوّل : فی الأوامر

اشارة

وفیه فصول :

الفصل الأوّل : فی مادة الأمر.

الفصل الثانی : فی هیئة الأمر.

الفصل الثالث : فی إجزاء امتثال الأمر الواقعی والظاهری.

الفصل الرابع : مقدمة الواجب وتقسیماتها.

الفصل الخامس : فی تقسیمات الواجب.

الفصل السادس : اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه.

الفصل السابع : إذا نسخ الوجوب فهل یبقی الجواز.

الفصل الثامن : الأمر بالأمر بفعل ، أمر بذلک الفعل.

الفصل التاسع : الأمر بالشیء بعد الأمر به تأکید أو تأسیس.

ص: 31

الفصل الأوّل : فی مادّة الأمر

وفیه مباحث :

المبحث الأوّل : لفظ الأمر مشترک لفظی

إنّ لفظ الأمر مشترک لفظی بین معنیین هما :

الطلب والفعل ، وإلیهما یرجع سائر المعانی التی ذکرها أهل اللغة.

لا خلاف بین الجمیع فی صحّة استعماله فی الطلب کقوله سبحانه : (فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ) (النور / 63).

وإنّما الخلاف فی المعنی الثانی ، والظاهر صحّة استعماله فی الفعل لوروده فی القرآن. کقوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ کُلَّهُ لِلَّهِ یُخْفُونَ فِی أَنْفُسِهِمْ ما لا یُبْدُونَ لَکَ)(آل عمران / 154) ، : (وَقُضِیَ الْأَمْرُ وَإِلَی اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (البقرة / 210) و (وَشاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ) (آل عمران / 159).

ثمّ الأمر إن کان بمعنی الطلب - أی طلب الفعل من الغیر - فیجمع علی أوامر ، کما أنّه إذا کان بمعنی الفعل فیجمع علی أمور والاختلاف فی صیغة الجمع دلیل علی أنّه موضوع لمعنیین مختلفین.

ص: 32

المبحث الثانی : اعتبار العلوّ والاستعلاء فی صدق مادّة الأمر بمعنی الطلب

اختلف الأصولیون فی اعتبار العلو والاستعلاء فی صدق الأمر بمعنی الطلب علی أقوال:

1- یعتبر فی صدق مادة الأمر وجود العلوّ فی الآمر دون الاستعلاء ، لکفایة صدور الطلب من العالی وإن کان مستخفضا لجناحه عند العقلاء ، وهوخیرة المحقّق الخراسانی قدس سره

2- یعتبر فی صدق مادة الأمر کلا الأمرین ، فلا یعدّ کلام المولی مع عبده أمرا إذا کان علی طریق الاستدعاء ، وهو خیرة السید الإمام الخمینی قدس سره.

3- یعتبر فی صدق مادة الأمر أحد الأمرین : العلو أو الاستعلاء ، أمّا کفایة العلو فلما تقدّم فی دلیل القول الأوّل ، وأمّا کفایة الاستعلاء ، فلأنّه یصحّ تقبیح الطالب السافل المستعلی ، ممّن هو أعلی منه وتوبیخه بمثل «إنّک لم تأمرنی؟».

4- لا یعتبر فی صدق مادة الأمر واحد منهما ، وهو خیرة المحقّق البروجردی قدس سره.

الظاهر هو القول الثانی ، فإنّ لفظ الأمر فی اللغة العربیة معادل للفظ «فرمان» فی اللغة الفارسیة ، وهو یتضمن علوّ صاحبه ، ولذلک یذم إذا أمر ولم یکن عالیا.

وأمّا اعتبار الاستعلاء فلعدم صدقه إذا کان بصورة الاستدعاء ، ویشهد له قول بریرة(1) لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «تأمرنی یا رسول الله؟ قال : إنّما أنا شافع» فلو کان

ص: 33


1- روی أحمد بن حنبل فی مسنده عن ابن عباس : لما خیّرت بریرة (بعد ما أعتقت وخیّرت بین البقاء مع زوجها أو الانفصال عنه) رأیت زوجها یتبعها فی سکک المدینة ودموعه تسیل علی لحیته ، فکلّم العباس لیکلّم فیه النبی صلی الله علیه و آله و سلّم لبریرة انّه زوجک ، فقالت : تأمرنی یا رسول الله؟ قال : «إنّما أنا شافع» ، قال : فخیّرها فاختارت نفسها. (مسند أحمد : 1 / 215).

مجرد العلو کافیا لما انفک طلبه من کونه أمرا.

المبحث الثالث : فی دلالة مادة الأمر علی الوجوب

إذا طلب المولی من عبده شیئا بلفظ الأمر کأن یقول : آمرک بکذا ، فهل یدل کلامه علی الوجوب أو لا؟

الظاهر هو الأوّل ، لأنّ السامع ینتقل من سماع لفظ الأمر إلی لزوم الامتثال الذی یعبّر عنه بالوجوب ، ویؤیّد هذا الانسباق والتبادر بالآیات التالیة :

1- قوله سبحانه : (فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ) (النور / 63) حیث هدّد سبحانه علی مخالفة الأمر ، والتهدید دلیل الوجوب.

2- قوله سبحانه : (ما مَنَعَکَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ) (الأعراف / 12) حیث ذمّ سبحانه إبلیس لمخالفة الأمر ، والذم آیة الوجوب.

3- قوله تعالی : (عَلَیْها مَلائِکَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا یَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ)(التحریم/6) حیث سمّی سبحانه مخالفة الأمر عصیانا ، والوصف بالعصیان دلیل الوجوب.

مضافا إلی ما ورد فی قوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «لو لا أن أشقّ علی أمّتی لأمرتهم بالسواک».(1)ولزوم المشقّة آیة کونه مفیدا للوجوب إذ لا مشقّة فی الاستحباب.

ص: 34


1- وسائل الشیعة ، کتاب الطهارة ، أبواب السواک ، الباب 3 ، الحدیث 4.

الفصل الثانی : فی هیئة الأمر

اشارة

و فیه مباحث :

المبحث الأوّل : فی بیان مفاد الهیئة

اختلفت کلمة الأصولیین فی معنی هیئة افعل علی أقوال منها :

1- انّها موضوعة للوجوب.

2- انّها موضوعة للندب.

3- انّها موضوعة للجامع بین الوجوب والندب ، أی الطلب إلی غیر ذلک.

والحقّ انّها موضوعة لإنشاء البعث إلی إیجاد متعلّقه ویدلّ علیه التبادر والانسباق ، فقول المولی لعبده : اذهب إلی السوق واشتر اللحم عبارة أخری عن بعثه إلی الذهاب وشراء اللحم.

ثمّ إنّ بعث العبد إلی الفعل قد یکون بالإشارة بالید ، کما إذا أشار المولی بیده إلی خروج العبد وترکه المجلس ، وأخری بلفظ الأمر کقوله : اخرج ، فهیئة افعل فی الصورة الثانیة قائمة مقام الإشارة بالید ، فکما أنّ الإشارة بالید تفید البعث إلی المطلوب ، فهکذا القائم مقامها من صیغة افعل ، وإنّما الاختلاف فی کیفیة الدلالة ،

ص: 35

فدلالة الهیئة علی إنشاء البعث لفظیة بخلاف دلالة الأولی.

سؤال : انّ هیئة افعل وإن کانت تستعمل فی البعث کقوله سبحانه : (وَأَقِیمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّکاةَ) (البقرة / 43) أو قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة /1) ولکن ربما تستعمل فی غیر البعث أیضا :کالتعجیز مثل قوله سبحانه : (وَإِنْ کُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلی عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (البقرة / 23).

والتمنّی کقول الشاعر :

ألا أیّها اللیل الطویل ألا انجلی

بصبح وما الإصباح منک بأمثل

إلی غیر ذلک من المعانی المختلفة المغایرة للبعث. فیلزم أن تکون الهیئة مشترکة بین المعانی المختلفة من البعث والتعجیز والتمنّی.

الجواب : انّ هیئة افعل قد استعملت فی جمیع الموارد فی البعث إلی المتعلّق والاختلاف إنّما هو فی الدواعی ، فتارة یکون الداعی من وراء البعث هو إیجاد المتعلّق فی الخارج ، وأخری یکون الداعی هو التعجیز ، وثالثة التمنی ، ورابعة هو الإنذار کقوله : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللهُ عَمَلَکُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة / 105) إلی غیر ذلک من الدواعی ، ففی جمیع الموارد یکون المستعمل فیه واحدا وإنّما الاختلاف فی الدواعی من وراء إنشائه.

ونظیر ذلک ، الاستفهام فقد یکون الداعی هو طلب الفهم ، وأخری أخذ الإقرار مثل قوله : (هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ) (الزمر / 9).

والمستعمل فیه فی الجمیع واحد وهو إنشاء طلب الفهم.

ص: 36

المبحث الثانی : دلالة هیئة الأمر علی الوجوب

قد عرفت أنّ هیئة افعل موضوعة لإنشاء البعث وأنّها لیست موضوعة للوجوب ولا للندب ، وإنّهما خارجان عن مدلول الهیئة - ومع ذلک - هناک بحث آخر ، وهو أنّه لا إشکال فی لزوم امتثال أمر المولی إذا علم أنّه یطلب علی وجه اللزوم إنّما الکلام فیما إذا لم یعلم فهل یجب امتثاله أو لا؟ الحقّ هو الأوّل.

لأنّ العقل یحکم بلزوم تحصیل المؤمّن فی دائرة المولویة والعبودیة ولا یصحّ ترک المأمور به بمجرّد احتمال أن یکون الطلب طلبا ندبیا وهذا ما یعبّر عنه فی سیرة العقلاء بأنّ ترک المأمور به لا بدّ أن یستند إلی عذر قاطع ، فخرجنا بالنتیجة التالیة :

1- انّ المدلول المطابقی لهیئة افعل هو إنشاء البعث.

2- الوجوب ولزوم الامتثال مدلول التزامی لها بحکم العقل.

المبحث الثالث : استفادة الوجوب من أسالیب أخری

إنّ للقرآن والسنّة أسالیب أخری فی بیان الوجوب والإلزام غیر صیغة الأمر ، فتارة یعبّر عنه بلفظ الفرض والکتابة مثل قوله سبحانه : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَکُمْ تَحِلَّةَ أَیْمانِکُمْ)(التحریم / 2) ، وقال : (کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ) (البقرة / 182) ، وقال : (إِنَّ الصَّلاةَ کانَتْ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ کِتاباً مَوْقُوتاً) (النساء / 103).

وأخری یجعل الفعل فی عهدة المکلّف قال : (وَلِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً) (آل عمران / 97).

وثالثة یخبر عن وجود شیء فی المستقبل مشعرا بالبعث الناشئ عن إرادة

ص: 37

أکیدة ، قال سبحانه : (وَالْوالِداتُ یُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَیْنِ کامِلَیْنِ) (البقرة / 233).

وأمّا السنّة فقد تظافرت الروایات عن أئمّة أهل البیت فی أبواب الطهارة والصلاة وغیرهما کقولهم : «یغتسل» ، «یعید الصلاة» أو «یستقبل القبلة» فالجمل الخبریة فی هذه الموارد وإن استعملت فی معناها الحقیقی ، أعنی : الإخبار عن وجود الشیء فی المستقبل ، لکن بداعی الطلب والبعث. وقد عرفت أنّ بعث المولی لا یترک بلا دلیل.

المبحث الرابع : الأمر عقیب الحظر

إذا ورد الأمر عقیب الحظر فهل یحمل الأمر علی الوجوب أو لا؟

فمثلا قال سبحانه : (أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما یُتْلی عَلَیْکُمْ غَیْرَ مُحِلِّی الصَّیْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).

ثمّ قال : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ...) (المائدة / 1 و 2).

فقد اختلف الأصولیون فی مدلول هیئة الأمر عقیب الحظر علی أقوال :

أ. ظاهرة فی الوجوب.

ب. ظاهرة فی الإباحة.

ج. فاقدة للظهور.

والثالث هو الأقوی ، لأنّ تقدّم الحظر یصلح لأن یکون قرینة علی أنّ الأمر الوارد بعده لرفع الحظر لا للإیجاب ، فتکون النتیجة هی الإباحة ، کما یحتمل أنّ المتکلم لم یعتمد علی تلک القرینة وأطلق الأمر لغایة الإیجاب ، فتکون النتیجة هی الوجوب ، ولأجل الاحتمالین یکون الکلام مجملا.

ص: 38

نعم إذا قامت القرینة علی أنّ المراد هو رفع الحظر فهو أمر آخر خارج عن البحث.

المبحث الخامس : المرّة والتکرار

إذا دلّ الدلیل علی أنّ المولی یطلب الفعل مرّة واحدة کقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ) (آل عمران / 97) ، أو دلّ الدلیل علی لزوم التکرار کقوله سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ) (البقرة / 185) فیتبع مدلوله.

وأمّا إذا لم یتبیّن واحد من الأمرین ، فهل تدلّ علی المرّة أو علی التکرار أو لا تدلّ علی واحد منهما؟

الحقّ هو الثالث ، لأنّ الدلیل إمّا هو هیئة الأمر أو مادته ، فالهیئة وضعت لنفس البعث ، والمادّة وضعت لصرف الطبیعة ، فلیس هناک ما یدلّ علی المرّة والتکرار واستفادتهما من اللفظ بحاجة إلی دلیل.

المبحث السادس : الفور والتراخی

اختلف الأصولیون فی دلالة هیئة الأمر علی الفور أو التراخی علی أقوال :

1- انّها تدلّ علی الفور.

2- انّها تدلّ علی التراخی.

3- انّها لا تدلّ علی واحد منهما.

والحقّ هو القول الثالث لما تقدّم فی المرّة والتکرار من أنّ الهیئة وضعت للبعث ، والمادة وضعت لصرف الطبیعة ، فلیس هناک ما یدلّ علی واحد منهما.

ص: 39

استدل القائل بالفور بآیتین :

1- قوله سبحانه : (وَسارِعُوا إِلی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِینَ) (آل عمران / 133).

وجه الاستدلال : ان المغفرة فعل لله تعالی ، فلا معنی لمسارعة العبد إلیها ، فیکون المراد هو المسارعة إلی أسباب المغفرة ومنها فعل المأمور به.

یلاحظ علیه : بأنّ أسباب المغفرة لا تنحصر بالواجبات إذ المستحبات أیضا من أسبابها ، وعندئذ لا یمکن أن تکون المسارعة واجبة مع کون أصل العمل مستحبا.

2- قوله سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلکِنْ لِیَبْلُوَکُمْ فِی ما آتاکُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ) (المائدة / 48).

فظاهر الآیة وجوب الاستباق نحو الخیر والإتیان بالفرائض - الذی هو من أوضح مصادیقه - فورا.

یلاحظ علیه : أنّ مفاد الآیة بعث العباد نحو العمل بالخیر بأن یتسابق کلّ علی الآخر مثل قوله سبحانه : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) (یوسف / 25) ولا صلة للآیة بوجوب مبادرة کلّ مکلّف إلی ما وجب علیه وإن لم یکن فی مظنة السبق.

ص: 40

الفصل الثالث : فی الإجزاء

تصدیر

لا نزاع فی أنّ المکلّف إذا امتثل ما أمر به مولاه علی الوجه المطلوب - أی جامعا لما هو معتبر فیه من الأجزاء أو الشرائط - یعدّ ممتثلا لذلک الأمر ومسقطا له من دون حاجة إلی امتثال ثان.

دلیل ذلک : انّ الهیئة تدلّ علی البعث أو الطلب ، والمادة تدلّ علی الطبیعة وهی توجد بوجود فرد واحد ، فإذا امتثل المکلّف ما أمر به بإیجاد مصداق واحد منه فقد امتثل ما أمر به ولا یبقی لبقاء الأمر بعد الامتثال وجه.

وإنّما النزاع فی إجزاء الأمر الواقعی الاضطراری عن الاختیاری وإجزاء الأمر الظاهری عن الواقعی وهاهنا مبحثان :

المبحث الأوّل : إجزاء الأمر الواقعی الاضطراری عن الاختیاریّ

الصلوات الیومیة واجبة بالطهارة المائیة قال سبحانه : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ ...) (المائدة / 6).

وربما یکون المکلّف غیر واجد للماء فجعلت الطهارة الترابیة مکان الطهارة المائیة لأجل الاضطرار ، قال سبحانه : (وَإِنْ کُنْتُمْ مَرْضی أَوْ عَلی سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ

ص: 41

مِنْکُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً) (المائدة / 6).

فالصلاة بالطهارة المائیة فرد اختیاری والأمر به أمر واقعی أوّلی ، کما أنّ الصلاة بالطهارة الترابیة فرد اضطراریّ والأمر به أمر واقعی ثانوی ، فیقع الکلام فی أنّ المکلّف إذا امتثل المأمور به فی حال الاضطرار علی الوجه المطلوب ، فهل یسقط الأمر الواقعی الأوّلی بمعنی أنّه لو تمکّن من الماء بعد إقامة الصلاة بالتیمم ، لا تجب علیه الإعادة ولا القضاء ، أو لا یسقط؟ أمّا سقوط أمر نفسه فقد علمت أنّ امتثال أمر کلّ شیء مسقط له.

ثمّ إنّ للمسألة صورتین :

تارة یکون العذر غیر مستوعب ، کما إذا کان المکلّف فاقدا للماء فی بعض أجزاء الوقت وقلنا بجواز البدار فصلّی متیمّما ثمّ صار واجدا له.

وأخری یکون العذر مستوعبا ، کما إذا کان فاقدا للماء فی جمیع الوقت فصلّی متیمّما ، ثمّ ارتفع العذر بعد خروج الوقت.

فالکلام فی القسم الأوّل فی وجوب الإعادة فی الوقت ، والقضاء خارجه ، کما أنّ الکلام فی الثانی فی وجوب القضاء.

والدلیل علی الإجزاء أنّه إذا کان المتکلم فی مقام البیان لما یجب علی المکلّف عند الاضطرار ، ولم یذکر إلاّ الإتیان بالفرد الاضطراری من دون إشارة إلی إعادته أو قضائه بعد رفع العذر ، فظاهر ذلک هو الإجزاء فمثلا : انّ ظاهر قوله سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً) (المائدة / 6) ، وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «یا أبا ذر

ص: 42

یکفیک الصعید عشر سنین». (1) وقول الصادق علیه السلام فی روایة أخری : «إنّ ربّ الماء ربّ الصعید فقد فعل أحد الطهورین». (2) هو الإجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء ، وإلاّ لوجب علیه البیان فلا بدّ فی إیجاب الإتیان به ثانیا من دلالة دلیل بالخصوص.

ولو افترضنا عدم کون المتکلّم فی مقام البیان فی دلیل البدل وکونه ساکتا عن الإعادة والقضاء ، فمقتضی الأصل أیضا هو البراءة وسیأتی تفصیله.

المبحث الثانی : فی إجزاء الأمر الظاهری عن الأمر الواقعی

الکلام فی إجزاء امتثال الأمر الظاهری عن امتثال الأمر الواقعی یتوقف علی توضیح الأمر الظاهری أوّلا ، ثمّ البحث عن الإجزاء ثانیا.

ینقسم الحکم عند الأصولیین إلی واقعی وظاهری.

أمّا الحکم الواقعی : فهو الحکم الثابت للشیء بما هو هو أی من غیر لحاظ کون المکلّف جاهلا بالواقع أو شاکّا فیه ، کوجوب الصلاة والصوم والزکاة وغیرها من الأحکام القطعیة.

وأمّا الحکم الظاهری ، فهو الحکم الثابت للشیء عند عدم العلم بالحکم الواقعی ، وهذا کالأحکام الثابتة بالأمارات والأصول. (3)

إذا عرفت ذلک یقع الکلام فی أنّ العمل بالأمارة أو الأصول هل یقتضی الإجزاء عن امتثال الأمر الواقعی أو لا؟

فمثلا إذا دلّ خبر الواحد علی کفایة التسبیحة الواحدة فی الرکعتین

ص: 43


1- الوسائل : ج 2 ، الباب 14 من أبواب التیمم ، الحدیث 12 و 15.
2- الوسائل : ج 2 ، الباب 14 من أبواب التیمم ، الحدیث 12 و 15.
3- ما ذکر فی المتن أحد الاصطلاحین فی الحکم الظاهری ، وربما یخصّ الظاهری بالحکم الثابت بالأصول العملیة، ویعطف الحکم الثابت بالأمارات ، إلی الحکم الواقعی.

الأخیرتین ، أو دلّ علی عدم وجوب السورة الکاملة ، أو عدم وجوب الجلوس بعد السجدة الثانیة ، فطبّق العمل علی وفق الأمارة ثمّ تبیّن خطؤها ، فهل یجزی عن الإعادة فی الوقت والقضاء خارجه أو لا؟

أو إذا صلّی فی ثوب مستصحب الطهارة ثمّ تبیّن أنّه نجس ، فهل یجزی عن الإعادة فی الوقت والقضاء بعده أو لا؟

فیه أقوال ثالثها الإجزاء مطلقا من غیر فرق بین کون الامتثال بالأمارة أو الأصل.

ص: 44

الفصل الرابع : فی مقدّمة الواجب

تعریف المقدّمة

«ما یتوصل بها إلی شیء آخر علی وجه لولاها لما أمکن تحصیله» من غیر فرق بین کون المقدّمة منحصرة ، أو غیر منحصرة ، غایة الأمر أنّها لو کانت منحصرة لانحصر رفع الاستحالة بها ، وإن کانت غیر منحصرة لانحصر رفع الاستحالة فی الإتیان بها أو بغیرها ، وقد وقع الخلاف فی وجوب مقدمة الواجب شرعا بعد اتفاق العقلاء علی وجوبها عقلا ، وقبل الدخول فی صلب الموضوع نذکر أقسام المقدّمة :

فنقول : إنّ للمقدّمة تقسیمات مختلفة :

الأوّل : تقسیمها إلی داخلیة وخارجیة

المقدّمة الداخلیة : وهی جزء المرکب ، أو کلّ ما یتوقف علیه المرکّب ولیس له وجود مستقل خارج عن وجود المرکّب کالصلاة فانّ کلّ جزء منها مقدّمة داخلیّة باعتبار أنّ المرکّب متوقّف فی وجوده علی أجزائه ، فکلّ جزء فی نفسه مقدّمة لوجود المرکّب ، وإنّما سمّیت داخلیة لأنّ الجزء داخل فی قوام المرکّب ، فالحمد أو الرکوع بالنسبة إلی الصلاة مقدّمة داخلیة.

ص: 45

المقدّمة الخارجیة : وهی کلّ ما یتوقف علیه الشیء وله وجود مستقل خارج عن وجود الشیء ، کالوضوء بالنسبة إلی الصلاة.

الثانی : تقسیمها إلی عقلیة وشرعیة وعادیة

المقدّمة العقلیة : ما یکون توقّف ذی المقدّمة علیه عقلا ، کتوقف الحج علی قطع المسافة.

المقدّمة الشرعیة : ما یکون توقّف ذی المقدّمة علیه شرعا ، کتوقّف الصلاة علی الطهارة.

المقدّمة العادیة : ما یکون توقّف ذی المقدّمة علیه عادة ، کتوقّف الصعود إلی السطح علی نصب السلّم.

الثالث : تقسیمها إلی مقدّمة الوجود والصحّة والوجوب والعلم

الملاک فی هذا التقسیم غیر الملاک فی التقسیمین الماضیین ، فانّ الملاک فی التقسیم الأوّل هو تقسیم المقدّمة بلحاظ نفسها وفی الثانی تقسیمها بلحاظ حاکمها وهو إمّا العقل أو الشرع أو العادة وفی التقسیم الثالث تقسیمها باعتبار ذیها وإلیک البیان.

مقدّمة الوجود : هی ما یتوقف وجود ذی المقدمة علیها کتوقف المسبب علی سببه.

مقدّمة الصحّة : هی ما تتوقف صحّة ذی المقدّمة علیها کتوقف صحّة العقد الفضولی علی إجازة المالک.

مقدّمة الوجوب : هی ما یتوقف وجوب ذی المقدمة علیها کتوقف وجوب الحجّ علی الاستطاعة.

ص: 46

مقدّمة العلم : هی ما یتوقّف العلم بتحقّق ذی المقدمة علیها ، کتوقّف العلم بالصلاة إلی القبلة ، علی الصلاة إلی الجهات الأربع.

والنزاع فی وجوب المقدّمة وعدمه إنّما هو فی القسمین الأوّلین أی مقدّمة الوجود والصحّة ، وأمّا مقدّمة الوجوب فهی خارجة عن محطّ النزاع ، لأنّها لو لا المقدّمة لما وصف الواجب بالوجوب ، فکیف تجب المقدّمة بالوجوب الناشئ من قبل الواجب ، المشروط وجوبه بها؟

وأمّا المقدّمة العلمیة فلا شکّ فی خروجها عن محطّ النزاع ، فإنّها واجبة عقلا لا غیر، ولو ورد فی الشرع الأمر بالصلاة إلی الجهات الأربع ، فهو إرشاد إلی حکم العقل.

الرابع : تقسیمها إلی السبب والشرط والمعدّ والمانع

ملاک هذا التقسیم هو اختلاف کیفیة تأثیر کلّ فی ذیها ، غیر أنّ تأثیر کلّ یغایر نحو تأثیر الآخر ، وإلیک تعاریفها.

السبب : ما یکون منه وجود المسبب وهذا ما یطلق علیه المقتضی ، کالدلوک فانّه سبب لوجوب الصلاة ، وشغل ذمة المکلّف بها لقوله سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ) (الإسراء / 78).

الشرط : ما یکون مصححا إمّا لفاعلیة الفاعل ، أو لقابلیة القابل ، وهذا کمجاورة النار للقطن ، أو کجفاف الحطب شرط احتراقه بالنار. ومثاله الشرعی کون الطهارة شرطا لصحّة الصلاة ، والاستطاعة المالیة شرطا لوجوب الحج.

المعدّ : ما یقرّب العلّة إلی المعلول کارتقاء السلّم ، فإنّ الصعود إلی کلّ درجة ، معدّ للصعود إلی الدرجة الأخری.

ص: 47

المانع : ما یکون وجوده مانعا عن تأثیر المقتضی ، کالقتل حیث جعله الشارع مانعا من المیراث ، والحدث مانعا من صحّة الصلاة.

الخامس : تقسیمها إلی مفوّتة وغیر مفوّتة

المقدّمة المفوّتة : عبارة عن المقدّمة التی یحکم العقل بوجوب الإتیان بها قبل وجوب ذیها علی وجه لو لم یأت بها قبله لما تمکّن من الإتیان بالواجب فی وقته ، کقطع المسافة للحجّ قبل حلول أیّامه بناء علی تأخر وجوب الحجّ إلی أن یحین وقته ، فبما أنّ ترک قطع المسافة فی وقته یوجب فوت الواجب ، یعبّر عنه بالمقدّمة المفوّتة.

ومثله الاغتسال عن الجنابة للصوم قبل الفجر ، فإنّ الصوم یجب بطلوع الفجر، ولکن یلزم الإتیان بالغسل قبله وإلاّ لفسد الصوم ، ویکون ترکه مفوّتا للواجب.

السادس : تقسیمها إلی مقدّمة عبادیة وغیرها

إنّ الغالب علی المقدّمة هی کونها أمرا غیر عبادی ، کتطهیر الثوب للصلاة ، وقطع المسافة إلی الحجّ ، وربما تکون عبادة ، ومقدّمة لعبادة أخری بحیث لا تقع مقدّمة إلاّ إذا وقعت علی وجه عبادی ، ومثالها منحصر فی الطهارات الثلاث (الوضوء والغسل والتیمم).

الأقوال فی المسألة

اختلفت کلمة الأصولیین فی حکم المقدمة علی أقوال :

1- وجوبها مطلقا وهو المشهور.

ص: 48

2- عدم وجوبها کذلک.

3- القول بالتفصیل. (1)

والمختار عندنا : عدم وجوب المقدّمة أساسا ، فیصحّ القول بالتفصیل کالسالبة بانتفاء الموضوع ، لأنّها علی فرض وجوبها ، وإلیک بیان المختار.

وجوب المقدّمة بین اللغویة وعدم الحاجة

إنّ الغرض من الإیجاب هو جعل الداعی فی ضمیر المکلّف للانبعاث نحو الفعل ، والأمر المقدّمی فاقد لتلک الغایة ، فهو إمّا غیر باعث ، أو غیر محتاج إلیه.

أمّا الأوّل ، فهو فیما إذا لم یکن الأمر بذی المقدّمة باعثا نحو المطلوب النفسی ، فعند ذلک یکون الأمر بالمقدّمة أمرا لغوا لعدم الفائدة فی الإتیان بها.

وأمّا الثانی ، فهو فیما إذا کان الأمر بذیها باعثا للمکلّف نحو المطلوب ، فیکفی ذلک فی بعث المکلّف نحو المقدّمة أیضا ، ویکون الأمر بالمقدّمة أمرا غیر محتاج إلیه.

والحاصل : أنّ الأمر المقدّمی یدور أمره بین عدم الباعثیة إذا لم یکن المکلّف بصدد الإتیان بذیها ، وعدم الحاجة إلیه إذا کان بصدد الإتیان بذیها ، وإذا کان الحال کذلک فتشریع مثله قبیح لا یصدر عن الحکیم.

ص: 49


1- 1- التفصیل بین المقتضی (السبب) والشرط فیجب الأوّل دون الثانی. 2- التفصیل بین الشرط الشرعی کالطهارة للصلاة فیجب والشرط العقلی کالاستطاعة لوجوب الحجّ فلا یجب. 3- التفصیل بین المقدمة الموصلة فتجب وغیر الموصلة فلا تجب إلی غیر ذلک من التفاصیل.

الفصل الخامس : فی تقسیمات الواجب

اشارة

للواجب تقسیمات مختلفة نشیر إلیها إجمالا ، ثمّ نأخذ بالبحث عنها تفصیلا :

1- تقسیم الواجب إلی مطلق ومشروط.

2- تقسیم الواجب إلی المؤقّت وغیر المؤقّت.

3- تقسیم الواجب إلی نفسیّ وغیریّ.

4- تقسیم الواجب إلی أصلی وتبعی.

5- تقسیم الواجب إلی عینیّ وکفائیّ.

6- تقسیم الواجب إلی تعیینی وتخییری.

7- تقسیم الواجب إلی التعبدیّ والتوصّلی.

* * *

1. تقسیم الواجب إلی مطلق و مشروط

إذا قیس وجوب الواجب إلی شیء آخر خارج عنه ، فهو لا یخرج عن أحد نحوین :

ص: 50

إمّا أن یکون وجوب الواجب غیر متوقّف علی تحقّق ذلک الشیء ، کوجوب الحجّ بالنسبة إلی قطع المسافة ، فالحجّ واجب سواء قطع المسافة أم لا.

وإمّا أن یکون وجوبه متوقّفا علی تحقّق ذلک الشیء ، بمعنی انّه لو لا حصوله لما تعلّق الوجوب بالواجب ، کالاستطاعة الشرعیّة (1) بالنسبة إلی الحجّ ، فلولاها لما تعلّق الوجوب بالحجّ.

ومن هنا یعلم أنّه یمکن أن یکون وجوب الواجب بالنسبة إلی شیء مطلقا ، وبالنسبة إلی شیء آخر مشروطا کوجوب الصلاة ، بل عامة التکالیف بالنسبة إلی البلوغ والقدرة والعقل ، فإنّ الصبی والعاجز والمجنون غیر مکلّفین بشیء وقد رفع عنهم القلم ، فوجوب الصلاة مشروط بالنسبة إلی هذه الأمور الثلاثة ، ولکنّه فی الوقت نفسه غیر مشروط بالنسبة إلی الطهارة الحدثیة والخبثیة ، فالصلاة واجبة سواء کان المکلّف متطهرا أم لا.

وبذلک یظهر أنّ الإطلاق والاشتراط من الأمور النسبیة ، فقد یکون الوجوب بالنسبة إلی شیء مطلقا وإلی شیء آخر مشروطا.

2. تقسیم الواجب إلی المؤقّت و غیر المؤقّت

اشارة

والمؤقّت إلی الموسّع والمضیّق.

الواجب غیر المؤقت : ما لا یکون للزمان فیه مدخلیة وإن کان الفعل لا یخلو عن زمان (2) ، کإکرام العالم وإطعام الفقیر.

ص: 51


1- خرجت الاستطاعة العقلیة کالحجّ متسکّعا فلا یجب معها الحجّ.
2- وکم فرق بین عدم انفکاک الفعل عن الزمان ، ومدخلیته فی الموضوع کسائر الأجزاء ، وغیر المؤقت من قبیل القسم الأوّل دون الثانی.

ثمّ إنّ غیر المؤقت ینقسم إلی فوری : وهو ما لا یجوز تأخیره عن أوّل أزمنة إمکانه ، کإزالة النجاسة عن المسجد ، وردّ السّلام ، والأمر بالمعروف.

وغیر فوری : وهو ما یجوز تأخیره عن أوّل أزمنة إمکانه ، کقضاء الصلاة الفائتة ، وأداء الزکاة ، والخمس.

الواجب المؤقّت : ما یکون للزمان فیه مدخلیة ، وله أقسام ثلاثة :

أ. أن یکون الزمان المعیّن لإتیان الواجب مساویا لزمان الواجب ، کالصوم ، وهو المسمّی بالمضیّق.

ب. أن یکون الزمان المعیّن لإتیان الواجب أوسع من زمان الواجب ، کالصلوات الیومیة ، ویعبّر عنه بالموسّع.

ج. أن یکون الزمان المعیّن لإتیان الواجب أضیق من زمان الواجب ، وهو مجرّد تصور، ولکنّه محال لاستلزامه التکلیف بما لا یطاق.

تتمة : هل القضاء تابع للأداء؟

إذا فات الواجب المؤقّت فی ظرفه من دون فرق بین کونه مضیّقا أو موسّعا ، فقیل یدلّ نفس الدلیل الأوّل علی وجوب الإتیان خارج الوقت فیجب القضاء ویعبّر عنه بأنّ القضاء تابع للأداء ، وقیل بعدم الدلالة فلا یجب القضاء إلاّ بأمر جدید. ویختص محلّ النزاع فیما إذا لم یکن هناک دلیل یدلّ علی أحد الطرفین فمقتضی القاعدة سقوط الأمر المؤقّت بانقضاء وقته وعدم وجوب الإتیان به خارج الوقت لأنّه من قبیل الشکّ فی التکلیف الزائد وسیأتی أنّ الأصل عند الشک فی التکلیف البراءة.

ص: 52

3. تقسیم الواجب إلی النفسی و الغیری

الواجب النفسی : هو ما وجب لنفسه کالصلاة.

والواجب الغیری : ما وجب لغیره کالوضوء بالنسبة إلی الصلاة.

4. تقسیم الواجب إلی أصلی و تبعی

إذا کان الوجوب مفاد خطاب مستقل ومدلولا بالدلالة المطابقیة ، فالواجب أصلی سواء کان نفسیا کما فی قوله سبحانه : (وَأَقِیمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّکاةَ) (النور / 56)،أم غیریا کما فی قوله سبحانه : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ) (المائدة / 6).

وأمّا إذا کان بیان وجوب الشیء من توابع ما قصدت إفادته ، کما إذا قال :اشتر اللحم ، الدال ضمنا علی وجوب المشی إلی السوق ، فالواجب تبعی لم یسق الکلام إلی بیانه إلاّ تبعا.

5. تقسیم الواجب إلی العینی و الکفائی

الواجب العینی : هو ما تعلّق فیه الأمر بکلّ مکلّف ولا یسقط عنه بفعل الغیر ، کالفرائض الیومیة.

الواجب الکفائی : هو ما تعلّق فیه الأمر بعامّة المکلّفین لکن علی نحو لو قام به بعضهم سقط عن الآخرین کتجهیز المیت والصلاة علیه.

6. تقسیم الواجب إلی التعیینی و التخییری

الواجب التعیینی : هو ما لا یکون له عدل ، کالفرائض الیومیة.

الواجب التخییری : هو ما یکون له عدل ، کخصال کفّارة الإفطار العمدی

ص: 53

فی صوم شهر رمضان ، حیث إنّ المکلّف مخیر بین أمور ثلاثة : صوم شهرین متتابعین ، إطعام ستین مسکینا ، وعتق رقبة.

7. تقسیم الواجب إلی التوصّلی و التعبّدی

الواجب التوصّلی : هو ما یتحقّق امتثاله بمجرّد الإتیان بالمأمور به بأی نحو اتفق من دون حاجة إلی قصد القربة ، کدفن المیت وتطهیر المسجد ، وأداء الدین ، وردّ السلام.

الواجب التعبّدی : هو ما لا یتحقق امتثاله بمجرّد الإتیان بالمأمور به بل لا بدّ من الإتیان به متقربا إلی الله سبحانه ، کالصلاة والصوم والحجّ.

ثمّ إنّ قصد القربة یحصل بأحد أمور ثلاثة :

أ : الإتیان بقصد امتثال أمره سبحانه.

ب : الإتیان لله تبارک وتعالی مع صرف النظر عن الآخر.

ج : الإتیان بداعی محبوبیة الفعل له تعالی دون سائر الدواعی النفسانیة.

ثمّ إنّه إذا شکّ فی کون واجب توصّلیا أم تعبّدیا ، نفسیا أم غیریا ، عینیا أم کفائیا،تعیینیا أم تخییریا ، فمقتضی القاعدة کونه توصلیا لا تعبّدیا ، نفسیا لا غیریا ، عینیا لا کفائیا ، تعیینیا لا تخییریا ، والتفصیل موکول إلی الدراسات العلیا.

ص: 54

الفصل السادس : فی اقتضاء الأمر بالشیء ، النهی عن ضدّه

الضد العامّ و الخاص

اختلف الأصولیون فی أنّ الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه أو لا؟ علی أقوال ، وقبل الورود فی الموضوع نقول : الضدّ هو مطلق المعاند والمنافی ، وقسّم الأصولیون الضدّ إلی ضدّ عام وضدّ خاص.

والضدّ العام : هو ترک المأمور به.

والضدّ الخاص : هو مطلق المعاند الوجودی.

وعلی هذا تنحلّ المسألة فی عنوان البحث إلی مسألتین موضوع إحداهما الضدّ العام ، وموضوع الأخری الضدّ الخاص.

فیقال فی تحدید المسألة الأولی : هل الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه العام أو لا؟ مثلا إذا قال المولی : صلّ صلاة الظهر ، فهل هو نهی عن ترکها؟ کأن یقول : «لا تترک الصلاة» فترک الصلاة ضدّ عام للصلاة بمعنی انّه نقیض لها والأمر بها نهی عن ترکها.(1)

کما یقال فی تحدید المسألة الثانیة : إنّ الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن

ص: 55


1- کما أنّ ترک الصلاة ضدّ عام لها ، کذلک الصلاة أیضا ضد عام لترکها ؛ وعلی هذا فالضد العام هو النقیض ، ونقیض کلّ شیء إمّا رفعه أو مرفوعه ، فترک الصلاة رفع والصلاة مرفوع وکلّ ، نقیض للآخر وضدّ عام له.

ضدّه الخاص أو لا؟ فإذا قال المولی : أزل النجاسة عن المسجد ، فهل الأمر بالإزالة لأجل کونها واجبا فوریّا بمنزلة النهی عن کلّ فعل وجودی یعاندها ، کالصلاة فی المسجد؟ فکأنّه قال : أزل النجاسة ولا تصلّ فی المسجد عند الابتلاء بالإزالة.

المسألة الأولی : الضدّ العام

إنّ للقائلین باقتضاء الأمر بالشیء النهی عن الضدّ العام أقوالا :

الأوّل : الاقتضاء علی نحو العینیة وانّ الأمر بالشیء عین النهی عن ضدّه العام ، فیدلّ الأمر علیه حینئذ بالدلالة المطابقیة ، فسواء قلت : صلّ أو قلت : لا تترک الصلاة ، فهما بمعنی واحد.

الثانی : الاقتضاء علی نحو الجزئیة وانّ النهی عن الترک جزء لمدلول الأمر بالشیء ، لأنّ الوجوب الذی هو مدلول مطابقی للأمر ینحلّ إلی طلب الشیء والمنع من الترک ، فیکون المنع من الترک الذی هو نفس النهی عن الضدّ العام ، جزءا تحلیلیا للوجوب.

الثالث : الاقتضاء علی نحو الدلالة الالتزامیة ، فالأمر بالشیء یلازم النهی عن الضدّ عقلا.

ومختار المحقّقین عدم الدلالة مطلقا.

المسألة الثانیة : الضدّ الخاص

استدلّ القائلون بالاقتضاء بالدلیل التالی وهو مرکّب من أمور ثلاثة :

أ. انّ الأمر بالشیء کالإزالة مستلزم للنهی عن ضده العام وهو ترک الإزالة علی القول به فی البحث السابق.

ص: 56

ب. انّ الاشتغال بکل فعل وجودی (الضد الخاص) کالصلاة والأکل ملازم للضد العام ، کترک الإزالة حیث إنّهما یجتمعان.

ج. المتلازمان متساویان فی الحکم ، فإذا کان ترک الإزالة منهیا عنه - حسب المقدّمة الأولی - فالضد الملازم له کالصلاة یکون مثله فی الحکم أی منهیّا عنه.

فینتج أنّ الأمر بالشیء کالإزالة مستلزم للنهی عن الضد الخاص.

یلاحظ علیه : أوّلا : بمنع المقدّمة الأولی لما عرفت من أنّ الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضده العام ، وأنّ مثل هذا النهی المولوی أمر لغو لا یحتاج إلیه.

ثانیا : بمنع المقدّمة الثالثة أی لا یجب أن یکون أحد المتلازمین محکوما بحکم المتلازم الآخر فلو کان ترک الإزالة حراما لا یجب أن یکون ملازمه ، أعنی : الصلاة حراما ، بل یمکن أن لا یکون محکوما بحکم أبدا فی هذا الظرف ، وهذا کاستقبال الکعبة الملازم لاستدبار الجدی ، فوجوب الاستقبال لا یلازم وجوب استدبار الجدی. نعم یجب أن لا یکون الملازم محکوما بحکم یضادّ حکم الملازم ، کأن یکون الاستقبال واجبا واستدبار الجدی حراما ، وفی المقام أن یکون ترک الإزالة محرما والصلاة واجبة.

الثمرة الفقهیة للمسألة :

تظهر الثمرة الفقهیة للمسألة فی بطلان العبادة إذا ثبت الاقتضاء ، فإذا کان الضد عبادة کالصلاة ، وقلنا بتعلّق النهی بها تقع فاسدة ، لأنّ النهی یقتضی الفساد ، فلو اشتغل بالصلاة حین الأمر بالإزالة تقع صلاته فاسدة أو اشتغل بها ، حین طلب الدائن دینه.

ص: 57

الفصل السابع : فی نسخ الوجوب و بقاء الجواز

(1)

إذا نسخ الوجوب فهل یبقی الجواز أو لا؟ ولنقدم مثالا من الکتاب العزیز.

فرض الله سبحانه علی المؤمنین - إذا أرادوا النجوی مع النبی صلی الله علیه و آله و سلّم- تقدیم صدقة،قال سبحانه : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا ناجَیْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقَةً ذلِکَ خَیْرٌ لَکُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ) (المجادلة / 12).

فلمّا نزلت الآیة کفّ کثیر من الناس عن النجوی ، بل کفّوا عن المسألة ، فلم یناجه أحد إلاّ علی بن أبی طالب علیه السلام (2) ، ثم نسخت الآیة بما بعدها ، وقال سبحانه : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَیْکُمْ فَأَقِیمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّکاةَ وَأَطِیعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِیرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (المجادلة / 13).

فوقع الکلام فی بقاء جواز تقدیم الصدقة إذا ناجی أحد مع الرسول صلی الله علیه و آله و سلّم فهناک قولان :

ص: 58


1- سیوافیک تفسیر النسخ فی المقصد الرابع وإجماله رفع الحکم الثابت بدلیل شرعی.
2- الطبرسی : مجمع البیان : 5 / 245 فی تفسیر سورة المجادلة.

الأوّل : ما اختاره العلاّمة فی «التهذیب» من الدلالة علی بقاء الجواز.

الثانی : عدم الدلالة علی الجواز ، بل یرجع إلی الحکم الذی کان قبل الأمر. وهو خیرة صاحب المعالم.

استدل للقول الأوّل بأنّ المنسوخ لما دلّ علی الوجوب ، أعنی قوله : (فَقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقَةً) فقد دلّ علی أمور ثلاثة :

1- کون تقدیم الصدقة جائزا.

2- کونه أمرا راجحا.

3- کونه أمرا لازما.

والقدر المتیقّن من دلیل الناسخ هو رفع خصوص الإلزام ، وأمّا ما عداه کالجواز وکالرجحان فیؤخذ من دلیل المنسوخ ، نظیره ما إذا دلّ دلیل علی وجوب شیء ودلّ دلیل آخر علی عدم وجوبه ، کما إذا ورد أکرم زیدا وورد أیضا لا بأس بترک إکرامه فیحکم بأظهریة الدلیل الثانی علی الأوّل علی بقاء الجواز والرجحان.

یلاحظ علیه : أنّه لیس للأمر إلاّ ظهور واحد وهو البعث نحو المأمور به ، وأمّا الوجوب فإنّما یستفاد من أمر آخر ، وهو کون البعث تمام الموضوع لوجوب الطاعة والالتزام بالعمل عند العقلاء ، فإذا دلّ الناسخ علی أنّ المولی رفع الید عن بعثه ، فقد دلّ علی رفع الید عن مدلول المنسوخ فلا معنی للالتزام ببقاء الجواز أو الرجحان إذ لیس له إلاّ ظهور واحد ، وهو البعث نحو المطلوب لا ظهورات متعدّدة حتی یترک المنسوخ (اللزوم) ویؤخذ بالباقی (الجواز والرجحان).

وبعبارة أخری : الجواز والرجحان من لوازم البعث إلی الفعل ، فإذا نسخ الملزوم فلا وجه لبقاء اللازم.

ص: 59

الفصل الثامن : فی الأمر بالأمر بفعل ، أمر بذلک الفعل

إذا أمر المولی فردا لیأمر فردا آخر بفعل ، فهل الأمر الصادر من المولی أمر بذلک الفعل أیضا أو لا؟ ولإیضاح الحال نذکر مثالا : إنّ الشارع أمر الأولیاء لیأمروا صبیانهم بالصلاة ، روی بسند صحیح عن أبی عبد الله علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال : «إنّا نأمر صبیاننا بالصلاة إذا کانوا بنی خمس سنین ، فمروا صبیانکم بالصلاة إذا کانوا بنی سبع» (1) ففی هذا الحدیث أمر الإمام الأولیاء بأمر صبیانهم بالصلاة.

فعندئذ یقع الکلام فی أنّ أمر الإمام یتحدّد بالأمر بالأولیاء ، أو یتجاوز عنه إلی الأمر بالصلاة أیضا.

فمحصّل الکلام : أنّه لا شک أنّ الصبیان مأمورون بإقامة الصلاة إنّما الکلام فی أنّهم مأمورون من جانب الأولیاء فقط ، أو هم مأمورون من جانب الشارع أیضا.

وتظهر الثمرة فی مجالین :

الأوّل : شرعیة عبادات الصبیان ، فلو کان الأمر بالأمر ، أمرا بذلک الفعل تکون عبادات الصبیان شرعیة وإلاّ تکون تمرینیّة.

ص: 60


1- الوسائل : 3 / الباب 3 ، من أعداد الفرائض ، الحدیث 5.

الثانی : صحّة البیع ولزومه فیما إذا أمر الوالد ولده الأکبر بأن یأمر ولده الأصغر ببیع متاعه ، فنسی الواسطة إبلاغ أمر الوالد واطّلع الأصغر من طریق آخر علی أمر الوالد فباع المبیع.

فإن قلنا بأنّ الأمر بالأمر بفعل ، أمر بنفس ذلک الفعل یکون بیعه صحیحا ولازما ، وإن قلنا بخلافه یکون بیعه فضولیا غیر لازم.

الظاهر أنّ الأمر بالأمر بالفعل أمر بذلک أیضا ، لأنّ المتبادر فی هذه الموارد تعلّق غرض المولی بنفس الفعل وکان أمر المأمور الأوّل طریقا للوصول إلی نفس الفعل من دون دخالة لأمر المأمور الأوّل.

الفصل التاسع : فی الأمر بالشیء بعد الأمر به

هل الأمر بالشیء بعد الأمر به قبل امتثاله ظاهر فی التأکید أو التأسیس ، فمثلا إذا أمر المولی بشیء ثم أمر به قبل امتثال الأمر الأوّل فهل هو ظاهر فی التأکید ، أو ظاهر فی التأسیس؟

للمسألة صور :

أ. إذا قیّد متعلّق الأمر الثانی بشیء یدلّ علی التعدّد والکثرة کما إذا قال : صلّ ، ثم قال : صلّ صلاة أخری.

ب. إذا ذکر لکل حکم سبب خاص ، کما إذا قال : إذا نمت فتوضّأ ، وإذا مسست میّتا فتوضّأ.

ج. إذا ذکر السبب ، لواحد من الحکمین دون الآخر ، کما إذا قال : توضأ ، ثم قال : إذا بلت فتوضأ.

ص: 61

د. أن یکون الحکم خالیا عن ذکر السبب فی کلا الأمرین.

لا إشکال فی أنّ الأمر فی الصورة الأولی للتأسیس لا للتأکید لأن الأمر الثانی صریح فی التعدّد.

وأمّا الصورة الثانیة ، فهی کالصورة الأولی ظاهرة فی تأسیس إیجاب ، وراء إیجاب آخر.

نعم یقع الکلام فی إمکان التداخل بأن یمتثل کلا الوجوبین المتعدّدین بوضوء واحد وعدمه ، فهو مبنی علی تداخل المسببات وعدمه ، فعلی الأوّل یکفی وضوء واحد ولا یکفی علی الثانی وسیأتی الکلام فیه فی باب المفاهیم ، فیختص محل البحث بالصورتین الأخیرتین.

ولعل القول بالإجمال وعدم ظهور الکلام فی واحد من التأکید والتأسیس أولی ، لأنّ الهیئتین تدلاّن علی تعدّد البعث وهو أعم من التأکید والتأسیس. وما یقال من أنّ التأسیس أولی من التأکید ، لا یثبت به الظهور العرفی.

تم الکلام فی المقصد الأوّل

والحمد لله

ص: 62

المقصد الثانی : فی النواهی

اشارة

وفیه فصول :

الفصل الأوّل : فی مادة النهی وصیغته.

الفصل الثانی : فی جواز اجتماع الأمر والنهی فی عنوان واحد.

الفصل الثالث : فی اقتضاء النهی للفساد.

ص: 63

الفصل الأوّل : فی مادة النهی و صیغته

النهی هو الزجر عن الشیء ، قال سبحانه : (أَرَأَیْتَ الَّذِی یَنْهی * عَبْداً إِذا صَلَّی) (العلق / 9 - 10).

ویعتبر فیه العلو والاستعلاء. ویتبادر من مادة النهی ، الحرمة بمعنی لزوم الامتثال علی وفق النهی. والدلیل علیه قوله سبحانه : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) (النساء/61). وقوله سبحانه : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ کُونُوا قِرَدَةً خاسِئِینَ) (الأعراف / 166). وقوله سبحانه : (وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر / 7) وقد مرّ نظیر هذه المباحث فی مادة الأمر فلا نطیل.

وأمّا صیغة النهی فالمشهور بین الأصولیین أنّها کالأمر فی الدلالة علی الطلب غیر أنّ متعلّق الطلب فی أحدهما هو الوجود ، أعنی : نفس الفعل ؛ وفی الآخر العدم ، أعنی : ترک الفعل.

ولکن الحق أنّ الهیئة فی الأوامر وضعت للبعث إلی الفعل ، وفی النواهی وضعت للزجر، وهما إمّا بالجوارح کالإشارة بالرأس والید أو باللفظ والکتابة.

وعلی ضوء ذلک فالأمر والنهی متّحدان من حیث المتعلّق حیث إنّ کلاّ منهما یتعلّق بالطبیعة من حیث هی هی ، مختلفان من حیث الحقیقة والمبادئ والآثار.

ص: 64

أمّا الاختلاف من حیث الحقیقة ، فالأمر بعث إنشائی والنهی زجر کذلک.

وأمّا من حیث المبادئ فمبدأ الأمر هو التصدیق بالمصلحة والاشتیاق إلیها ، ومبدأ النهی هو التصدیق بالمفسدة والانزجار عنها.

وأمّا من حیث الآثار فإنّ الإتیان بمتعلّق الأمر إطاعة توجب المثوبة ، والإتیان بمتعلّق النهی معصیة توجب العقوبة.

ظهور الصیغة فی التحریم

قد علمت أنّ هیئة لا تفعل موضوعة للزجر ، کما أنّ هیئة افعل موضوعة للبعث،وأمّا الوجوب والحرمة فلیسا من مدالیل الألفاظ وإنّما ینتزعان من مبادئ الأمر والنهی فلو کان البعث ناشئا من إرادة شدیدة أو کان الزجر صادرا عن کراهة کذلک ینتزع منهما الوجوب أو الحرمة وأمّا إذا کانا ناشئین من إرادة ضعیفة أو کراهة کذلک ، فینتزع منهما الندب والکراهة.

ومع انّ الوجوب والحرمة لیسا من المدالیل اللفظیة إلاّ انّ الأمر أو النهی إذا لم یقترنا بما یدلّ علی ضعف الإرادة أو الکراهة ینتزع منهما الوجوب والحرمة بحکم العقل علی أنّ بعث المولی أو زجره لا یترک بلا امتثال ، واحتمال أنّهما ناشئان من إرادة أو کراهة ضعیفة لا یعتمد علیه ما لم یدلّ علیه دلیل.

وبعبارة أخری : العقل یلزم بتحصیل المؤمّن فی دائرة المولویة والعبودیة ولا یتحقق إلاّ بالإتیان بالفعل فی الأمر وترکه فی النهی.

النهی والدلالة علی المرّة والتکرار

إنّ النهی کالأمر لا یدلّ علی المرة ولا التکرار ، لأنّ المادة وضعت للطبیعة الصرفة ، والهیئة وضعت للزجر ، فأین الدال علی المرة والتکرار؟!

ص: 65

نعم لمّا کان المطلوب هو ترک الطبیعة المنهی عنها ، ولا یحصل الترک إلاّ بترک جمیع أفرادها یحکم العقل بالاجتناب عن جمیع محققات الطبیعة ، وهذا غیر دلالة اللفظ علی التکرار.

ومنه یظهر عدم دلالته علی الفور والتراخی بنفس الدلیل.

الفصل الثانی : اجتماع الأمر و النهی فی شیء واحد بعنوانین

اشارة

اختلفت کلمات الأصولیین فی جواز اجتماع الأمر والنهی فی شیء واحد ، وقبل بیان أدلّة المجوّز والمانع نذکر أمورا :

الأمر الأوّل : فی أنواع الاجتماع

إنّ للاجتماع أنحاء ثلاثة :

ألف : الاجتماع الآمری : فهو عبارة عمّا إذا اتحد الآمر والناهی أوّلا والمأمور والمنهیّ (المکلّف) ثانیا ، والمأمور به والمنهی عنه (المکلّف به) ثالثا مع وحدة زمان امتثال الأمر والنهی فیکون التکلیف عندئذ محالا ، کما إذا قال : صل فی ساعة کذا ولا تصل فیها،ویعبّر عن هذا النوع ، بالاجتماع الآمری ، لأنّ الآمر هو الذی حاول الجمع بین الأمر والنهی فی شیء واحد.

ب : الاجتماع المأموری : هو عبارة عمّا إذا اتحد الآمر والناهی ، والمأمور والمنهی ولکن اختلف المأمور به والمنهی عنه ، کما إذا خاطب الشارع المکلّف بقوله : صل ، ولا تغصب ، فالمأمور به غیر المنهی عنه ، بل هما ماهیّتان مختلفتان

ص: 66

غیر أنّ المکلّف بسوء اختیاره جمعهما فی مورد واحد علی وجه یکون المورد مصداقا لعنوانین ومجمعا لهما.

ج الاجتماع الموردی : وهو عبارة عمّا إذا لم یکن الفعل مصداقا لکل من العنوانین بل یکون هنا فعلان تقارنا وتجاورا فی وقت واحد یکون أحدهما مصداقا لعنوان الواجب وثانیهما مصداقا لعنوان الحرام ، مثل النظر إلی الأجنبیة فی أثناء الصلاة ، فلیس النظر مطابقا لعنوان الصلاة ولا الصلاة مطابقا لعنوان النظر إلی الأجنبیة ولا ینطبقان علی فعل واحد ، بل المکلّف یقوم بعملین مختلفین متقارنین فی زمان واحد ، کما إذا صلّی ونظر إلی الأجنبیة.

تنبیه : إذا عرفت هذا فاعلم انّ النزاع فی الاجتماع المأموری لا الآمری والموردی.

الأمر الثانی : ما هو المراد من الواحد فی العنوان؟

المراد من الواحد فی العنوان هو الواحد وجودا بأن یتعلّق الأمر بشیء والنهی بشیء آخر ، ولکن اتحد المتعلّقان فی الوجود والتحقّق ، کالصلاة المأمور بها والغصب المنهی عنه المتحدین فی الوجود عند إقامة الصلاة فی الدار المغصوبة.

فخرج بقید الاتحاد فی الوجود أمران :

الأوّل : الاجتماع الموردی ، کما إذا صلّی مع النظر إلی الأجنبیة ولیس وجود الصلاة نفس النظر إلی الأجنبیة ، بل لکلّ تحقّق وتشخّص ووجود خاص.

الثانی : الأمر بالسجود لله والنهی عن السجود للأوثان ، فالمتعلّقان مختلفان مفهوما ومصداقا.

الأمر الثالث : الأقوال فی المسألة

إنّ القول بجواز الاجتماع هو مذهب أکثر الأشاعرة ، والفضل بن شاذان من

ص: 67

قدمائنا ، وهو الظاهر من کلام السید المرتضی فی الذریعة ، وإلیه ذهب فحول المتأخّرین من أصحابنا کالمحقّق الأردبیلی وسلطان العلماء والمحقّق الخوانساری وولده والفاضل المدقّق الشیروانی والسید الفاضل صدر الدین وغیرهم ، واختاره من مشایخنا : السید المحقّق البروجردی والسید الإمام الخمینی - قدّس الله أسرارهم - ویظهر من المحدّث الکلینی رضاه بذلک حیث نقل کلام الفضل بن شاذان فی کتابه ولم یعقبه بشیء من الرد والقبول ، بل یظهر من کلام الفضل بن شاذان (ت 260 ه) انّ ذلک من مسلّمات الشیعة. (1)

وأمّا القول بالامتناع ، فقد اختاره المحقّق الخراسانی فی الکفایة وأقام برهانه.

إذا عرفت ذلک ، فلنذکر دلیل القولین علی سبیل الاختصار وقد استدلوا علی القول بالجواز بوجوه منها : أنّ الأمر لا یتعلّق إلاّ بما هو الدخیل فی الغرض دون ما یلازمه من الخصوصیات غیر الدخیلة ، ومثله النهی لا یتعلّق إلاّ بما هو المبغوض دون اللوازم والخصوصیات.

وعلی ضوء ذلک فما هو المأمور به هو الحیثیة الصلاتیة وإن اقترنت مع الغصب فی مقام الإیجاد ، والمنهی عنه هو الحیثیة الغصبیة وان اقترنت مع الصلاة فی الوجود والتحقّق.

وعلی هذا فالوجوب تعلّق بعنوان الصلاة ولا یسری الحکم إلی غیرها من المشخّصات الاتفاقیة کالغصب ، کما أنّ الحرمة متعلّقة بنفس عنوان الغصب ولا تسری إلی مشخصاته الاتفاقیة ، أعنی : الصلاة ، فالحکمان ثابتان علی العنوان لا یتجاوزانه وبالتالی لیس هناک اجتماع.

ص: 68


1- لاحظ القوانین ، ج 1 ص 140.

والذی یؤید جواز الاجتماع هو عدم ورود نص علی عدم جواز الصلاة فی المغصوب وبطلانها مع عموم الابتلاء به ، فإنّ ابتلاء الناس بالأموال المغصوبة فی زمان الدولتین الأمویة والعباسیة لم یکن أقل من زماننا خصوصا مع القول بحرمة ما کانوا یغنمونه من الغنائم فی تلک الأزمان ، حیث إنّ الجهاد الابتدائی حرام بلا إذن الإمام علیه السلام علی القول المشهور ، فالغنائم ملک لمقام الإمامة ، ومع ذلک لم یصلنا نهی فی ذلک المورد ، ولو کان لوصل ، والمنقول عن ابن شاذان هو الجواز ، وهذا یکشف عن صحة اجتماع الأمر والنهی إذا کان المتعلّقان متصادقین علی عنوان واحد.

استدلّ القائل بالامتناع بوجوه أتقنها وأوجزها ما أفاده المحقّق الخراسانی بترتیب مقدّمات نذکر المهم منها :

المقدّمة الأولی : انّ الأحکام الخمسة متضادة ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بین البعث فی زمان ، والزجر عنه فی ذلک الزمان ، فاجتماع الأمر والنهی فی زمان واحد من قبیل التکلیف المحال.

المقدّمة الثانیة : أنّ متعلّق الأحکام هو فعل المکلّف وما یصدر عنه فی الخارج لا ما هو اسمه وعنوانه ، وإنّما یؤخذ العنوان فی متعلّق الأحکام للإشارة إلی مصادیقها وأفرادها الحقیقیة.

ثم استنتج وقال : إنّ المجمع حیث کان واحدا وجودا وذاتا یکون تعلّق الأمر والنهی به محالا وإن کان التعلّق به بعنوانین لما عرفت من أنّ المتعلّق الواقعی للتکلیف هو فعل المکلّف بحقیقته وواقعیته لا عناوینه وأسمائه.

یلاحظ علی ذلک : - بعد تسلیم المقدّمة الأولی - بما قرّر فی محلّه من أنّ المتعلّق للتکالیف لیس هو الهویة الخارجیة ، لأنّه یستحیل أن یتعلّق البعث والزجر بها ، وذلک لأنّ التعلّق إمّا قبل تحقّقها فی الخارج ، أو بعده ، فعلی الأوّل فلا موضوع

ص: 69

حتی یتعلّق به الأحکام بل مرجع ذلک إلی تعلّق الحکم بالعناوین ، وعلی الثانی یلزم تحصیل الحاصل وطلب الموجود.

ثمرة النزاع : انّ القائل بجواز الاجتماع یذهب إلی حصول الامتثال والعصیان بعمل واحد ، فهو یتحفّظ علی کلا الحکمین بلا تقدیم أحدهما علی الآخر ، وأما القائل بالامتناع، فهو یقدّم من الحکمین ما هو الأهم ، فربما کان الأهم هو الوجوب فتکون حرمة الغصب إنشائیة ، وربما ینعکس فیکون الترک أهم من الإتیان بالواجب.

الفصل الثالث : فی اقتضاء النهی للفساد

اشارة

هذه المسألة من المسائل المهمة فی علم الأصول التی یترتب علیها استنباط مسائل فقهیة کثیرة ویقع الکلام فی مقامین :

المقام الأوّل : فی العبادات

وقبل البحث فیها نذکر أمورا :

الأوّل : المقصود من العبادة فی عنوان البحث ما لا یسقط أمرها علی فرض تعلّقه بها إلاّ إذا أتی بها علی وجه قربی ، فخرجت التوصلیات من التعریف ، لأنّها أمور یسقط أمرها ولو لم یأت بها کذلک.

الثانی : انّ المراد من الصحة فی العبادات هو کون المأتی به مطابقا للمأمور به أو سقوط الإعادة والقضاء کما عرفت (1).

ص: 70


1- عند البحث عن وضع أسماء العبادات للصحیح أو للأعم ، ص 24.

الثالث : انّ النهی ینقسم إلی تحریمی وتنزیهی ، وإلی نفسی وغیری ، وإلی مولوی وإرشادی.

والظاهر دخول الجمیع تحت عنوان البحث. (1)

إذا عرفت ذلک فلندخل فی صلب الموضوع ، فنقول : إذا تعلّق النهی بنفس العبادة،فلا شک فی اقتضائه للفساد ، کما فی قوله صلی الله علیه و آله و سلّم: «دعی الصلاة أیام أقرائک» (2) لأنّ الصحة عبارة عن مطابقة المأتی به للمأمور به ، ومع تعلّق النهی بنفس العبادة لا یتعلّق بها الأمر لاستلزامه اجتماع الأمر والنهی فی متعلّق واحد ، فلا یصدق کون المأتی به مطابقا للمأمور به لعدم الأمر ، وبالتالی لا یکون مسقطا للإعادة والقضاء.

وبعبارة أخری : انّ الصحة إمّا لأجل وجود الأمر ، أو لوجود الملاک (المحبوبیة) وکلا الأمرین منتفیان ، أمّا الأوّل فلامتناع اجتماع الأمر والنهی فی شیء واحد تحت عنوان واحد، وأمّا الثانی فلأنّ النهی یکشف عن المبغوضیة فلا یکون المبغوض مقرّبا.

وهذه هی الضابطة فی دلالة النهی علی الفساد وعدمها ، ففی کل مورد لا یجتمع ملاک النهی (المبغوضیة) مع ملاک الصحّة (الأمر والمحبوبیة) یحکم علیها بالفساد. (3)

ص: 71


1- قد یکون النهی رشادا إلی قلّة الثواب کما فی قوله : «لا صلاة لجار المسجد إلاّ فی المسجد» [الوسائل : 3 ، الباب 2 من أبواب لباس المصلّی ، الحدیث 7] فانّه لا یستلزم الفساد وبالتالی لا یدخل فی النزاع.
2- المتقی الهندی : کنز العمال : 6 / 42 و 262.
3- وأمّا إذا لم تکن صحة الشیء رهن الأمر أو المحبوبیة بل دائرا مدار کونه جامعا للأجزاء والشرائط - کما فی باب المعاملات - فلا یکشف ملاک النهی - أعنی : المبغوضیة - عن الفساد وبذلک (أی عدم تأثیر المبغوضیة) یفترق باب المعاملات عن العبادات حیث لا یحکم علی المعاملات بالفساد مع تعلّق النهی النفسی بها کما سیوافیک.

المقام الثانی : فی المعاملات

ولإیضاح الحال نذکر أمورا :

الأوّل : المراد من المعاملات فی عنوان البحث ما لا یعتبر فیها قصد القربة ، کالعقود والإیقاعات.

الثانی : انّ المراد من الصحیح فی المعاملات ما یترتب علیها الأثر المطلوب منها کالملکیة فی البیع والزوجیة فی النکاح.

الثالث : إذا تعلّق النهی المولوی التحریمی أو التنزیهی بالمعاملة بما هو فعل مباشریّ ، کالعقد الصادر عن المحرم فی حال الإحرام بأن یکون المبغوض صدور عقد النکاح فی هذه الحالة ، من دون أن یکون نفس العمل بما هو هو مبغوضا ومزجورا عنه ، فالظاهر عدم اقتضائه الفساد ، لأنّ غایة النهی هی مبغوضیة نفس العمل (العقد) فی هذه الحالة وهی لا تلازم الفساد ولیس العقد أمرا عبادیا حتّی لا یجتمع مع النهی.

نعم إذا کان النهی إرشادا إلی فساد المعاملة کما فی قوله تعالی : (وَلا تَنْکِحُوا ما نَکَحَ آباؤُکُمْ مِنَ النِّساءِ) (النساء / 22) فلا کلام فی الدلالة علی الفساد.

تنبیه : انّ الفرق بین هذه المسألة والمسألة السابقة - أعنی : مسألة اجتماع الأمر والنهی - واضح لوجهین :

1- انّ المسألتین مختلفتان موضوعا ومحمولا فلا قدر مشترک بینهما حتی تبحث فی الجهة المائزة ، لأنّ عنوان البحث فی المسألة السابقة هو :

هل یجوز تعلّق الأمر والنهی بشیئین مختلفین فی مقام التعلّق ، ومتحدین فی مقام الإیجاد أو لا؟ کما أنّ عنوان البحث فی هذا المقام هو :

ص: 72

هل هناک ملازمة بین النهی عن العبادة وفسادها أو لا؟

فالمسألتان مختلفتان موضوعا ومحمولا ، ومع هذا الاختلاف ، فالبحث عن الجهة المائزة ساقط.

2- انّ المسألة السابقة تبتنی علی وجود الأمر والنهی ، ولکن هذه المسألة تبتنی علی وجود النهی فقط سواء أکان هناک أمر کما فی باب العبادات ، أم لا کما فی باب المعاملات ، فوجود الأمر فی المسألة السابقة یعدّ من مقوماتها دون هذه المسألة.

تطبیقات :

لقد مضی أنّ مسألة النهی فی العبادات والمعاملات من المسائل المهمة ، لذا استوجب الحال بأن نستعرض تطبیقات لهذه المسألة :

1- الصلاة فی خاتم الذهب :

روی عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام : لا یلبس الرجل الذهب ولا یصلّی فیه. (1)

قال شیخ مشایخنا العلاّمة الحائری : قد دلّت طائفة من الأخبار علی اعتبار عدم کون لباس المصلّی من الذهب للرجال ، والنهی فی تلک الأخبار قد تعلّق بالصلاة فی الذهب ، والنهی المتعلّق بالعبادة یقتضی الفساد کما حرّر فی محلّه. (2)

2- تفریق الزکاة بین الفقراء مع طلب الإمام :

لو طلب الإمام الزکاة ، ولکن المالک فرّقها بین الفقراء دون أن یدفعها إلی

ص: 73


1- الوسائل : ج 3 ، الباب 30 من أبواب لباس المصلّی ، الحدیث 4.
2- الحائری : الصلاة : 57.

الإمام ، فهل یجزی مع النهی الصادر من الإمام أو لا؟ (1)

3- لو تضرّر باستعمال الماء :

لو تضرّر باستعمال الماء فی الوضوء ینتقل فرضه إلی التیمم ، فإن استعمل الماء وحاله هذا فهل یبطل الوضوء أو لا؟ (2)

4- التیمّم بالتراب أو الحجر المغصوبین :

إذا تیمّم بالتراب أو بالحجر المغصوبین أی الممنوع من التصرف فیه شرعا ، فهل یفسد تیمّمه أو لا؟ (3)

5- الاکتفاء بالأذان المنهیّ عنه :

إذا تغنّی بالأذان ، أو أذّنت المرأة متخضعة ، أو أذّن فی المسجد وهو جنب ، فهل یصح الأذان منهم ویکتفی به أو لا؟ (4)

6- حرمة الاستمرار فی الصلاة :

إذا وجب قطع الصلاة لأجل صیانة النفس والمال المحترمین من الغرق والحرق ، ومع ذلک استمرّ فی الصلاة فهل تبطل صلاته أو لا؟ (5)

7- النهی عن التکفیر فی الصلاة :

قد ورد النهی عن التکفیر فی الصلاة - أی قبض الید الیسری بالیمنی - کما

ص: 74


1- الجواهر : 15 / 421.
2- الجواهر : 5 / 111.
3- الجواهر : 5 / 135.
4- الجواهر : 9 / 53 - 59.
5- الجواهر : 11 / 123.

ورد النهی عن إقامة النوافل جماعة فی لیالی شهر رمضان (صلاة التراویح) فهل تبطل الصلاة أو لا؟

8- صوم یوم الشک بنیّة رمضان :

إذا صام آخر یوم من شهر شعبان بنیّة رمضان ، فهل یصح صومه أو لا؟ (1)

9- القران بین الحج والعمرة :

لو قارن بین الحج والعمرة بنیة واحدة ، فهل یبطل عمله لأجل النهی عن القران کما لو نوی صلاتین بنیة واحدة أو لا؟ (2)

10- شرط اللزوم فی المضاربة :

إذا شرط اللزوم فی المضاربة ، فهل تبطل المضاربة للنهی عن شرط اللزوم المنکشف عن طریق الإجماع أو لا؟ (3)

تمّ الکلام فی المقصد الثانی

والحمد لله

ص: 75


1- الجواهر : 12 / 328.
2- الجواهر : 17 / 207.
3- مبانی العروة الوثقی ، کتاب المضاربة ، ص 13.

ص: 76

المقصد الثالث : فی المفاهیم

اشارة

وفیه أمور :

الأمر الأوّل : تعریف المفهوم والمنطوق.

الأمر الثانی : تقسیم المدلول المنطوقی إلی صریح وغیر صریح.

الأمر الثالث : النزاع فی باب المفاهیم صغروی.

الأمر الرابع : تقسیم المفهوم إلی موافق ومخالف.

الأمر الخامس : أقسام مفهوم المخالف.

الأوّل : مفهوم الشرط.

الثانی : مفهوم الوصف.

الثالث : مفهوم الغایة.

الرابع : مفهوم الحصر.

الخامس : مفهوم العدد.

السادس : مفهوم اللقب.

ص: 77

الأمر الأوّل : تعریف المفهوم والمنطوق :

إنّ مدالیل الجمل علی قسمین :

قسم یصفه العرف بأنّ المتکلّم نطق به ، وقسم یفهم من کلامه ولکن لا یوصف بأنّ المتکلّم نطق به ، ولأجل اختلاف المدلولین فی الظهور والخفاء لیس للمتکلّم إنکار المدلول الأوّل بخلاف المدلول الثانی ، فإذا قال المتکلّم ، إذا جاءک زید فأکرمه فإنّ هنا مدلولین.

أحدهما : وجوب الإکرام عند المجیء ، وهذا ممّا نطق به المتکلّم ولیس له الفرار منه ، ولا إنکاره.

والآخر : عدم وجوب الإکرام عند عدم المجیء ، وهذا یفهم من الکلام وبإمکان المتکلّم التخلّص عنه بنحو من الأنحاء.

فالأوّل مدلول منطوقی ، والثانی مدلول مفهومی ، ولعل ما ذکرناه هو مراد الحاجبی من تعریفه للمنطوق والمفهوم بقوله : المنطوق : ما دلّ علیه اللّفظ فی محل النطق.

والمفهوم : ما دلّ علیه اللّفظ فی غیر محل النطق. (1)

والحاصل انّ ما دل علیه اللفظ فی حد ذاته علی وجه یکون اللفظ حاملا لذلک المعنی وقالبا له فهو منطوق.

وما دلّ علیه اللّفظ علی وجه لم یکن اللّفظ حاملا وقالبا للمعنی ولکن دلّ علیه باعتبار من الاعتبارات فهو مفهوم.

ص: 78


1- الحاجبی : منتهی السؤل والأمل : 147 ، واختصره المؤلف واشتهر بالمختصر الحاجبی وشرحه العضدی ، وکلاهما مطبوعان.

الأمر الثانی : تقسیم المدلول المنطوقی إلی صریح وغیر صریح :

تنقسم المدالیل المنطوقیة إلی قسمین : صریح وغیر صریح. فالصریح ، هو المدلول المطابقی ؛ وأمّا غیر الصریح ، فهو المدلول التضمنی والالتزامی.

ثم إنّ الالتزامی علی ثلاثة أقسام :

أ. المدلول علیه بدلالة الاقتضاء.

ب. المدلول علیه بدلالة التنبیه.

ج. المدلول علیه بدلالة الإشارة.

أمّا الأوّل فهو ما یتوقف علیه صدق الکلام أو صحته عقلا أو شرعا، کقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «رفع عن أمّتی تسعة : الخطأ والنسیان» فإنّ المراد رفع المؤاخذة عنها أو نحوها وإلاّ کان الکلام کاذبا.

وقوله تعالی : (وَسْئَلِ الْقَرْیَةَ الَّتِی کُنَّا فِیها) (یوسف / 82) فلو لم یقدّر الأهل لما صحّ الکلام عقلا.

وقول القائل : اعتق عبدک عنّی علی ألف ، فإنّ معناه ملّکه لی علی ألف ثم اعتقه ، إذ لا یصح العتق شرعا إلاّ فی ملک.

وأمّا الثانی ، فهو ما لا یتوقف علیه صدق الکلام ولا صحته عقلا وشرعا ، ولکن کان مقترنا بشیء لو لم یکن ذلک الشیء علة له ، لبعد الاقتران وفقد الربط بین الجملتین فیفهم منه التعلیل فالمدلول ، هو علّیة ذلک الشیء ، لحکم الشارع کقوله : «بطل البیع» لمن قال له : «بعت السمک فی النهر» فیعلم منه اشتراط القدرة علی التسلیم فی البیع.

وأمّا الثالث ، فهو لازم الکلام وإن لم یکن المتکلّم قاصدا له مثل دلالة قوله

ص: 79

سبحانه : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (الأحقاف / 15) إذا انضم إلی قوله تعالی : (وَالْوالِداتُ یُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَیْنِ کامِلَیْنِ) (البقرة / 233) علی کون أقل الحمل ستة أشهر ، فإنّ المقصود فی الآیة الأولی بیان ما تتحمّله الأم من آلام ومشاقّ ، وفی الثانیة بیان أکثر مدة الرضاع ، غیر أنّ لازم هذین المدلولین مدلول ثالث ، وهو أنّ أقل الحمل ستة أشهر.

الأمر الثالث : النزاع فی باب المفاهیم صغروی :

إنّ النزاع فی باب المفاهیم صغروی لا کبروی وأنّ مدار البحث هو مثلا أنّه هل للقضایا الشرطیة مفهوم أو لا؟

وأمّا علی فرض الدلالة والفهم العرفی فلا إشکال فی حجیته.

وبعبارة أخری : النزاع فی أصل ظهور الجملة فی المفهوم وعدم ظهورها ، فمعنی النزاع فی مفهوم الجملة الشرطیة (إذا سلّم أکرمه) هو أنّ الجملة الشرطیة مع قطع النظر عن القرائن الخاصة هل تدل علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط ، وهل هی ظاهرة فی ذلک أو لا؟

وأمّا بعد ثبوت دلالتها علی المفهوم أو ظهورها فیه فلا نزاع فی حجیته ، ومن خلال هذا البیان یظهر وجود التسامح فی قولهم مفهوم الشرط حجة أو لا ، فإنّ ظاهره أنّ وجود المفهوم مفروغ عنه وانّما الکلام فی حجیته ، مع أنّ حقیقة النزاع فی وجود أصل المفهوم.

الأمر الرابع : تقسیم المفهوم إلی مخالف وموافق :

إنّ الحکم المدلول علیه عن طریق المفهوم إذا کان موافقا فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق فهو مفهوم موافق ، کما فی قوله سبحانه : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)

ص: 80

(الإسراء / 23) فحرمة التأفیف تدل بالأولویة علی حرمة الشتم وربما یسمّی لحن الخطاب.

وأمّا لو کان الحکم فی المفهوم مخالفا فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق فهو مفهوم مخالف.

الأمر الخامس : أقسام مفهوم المخالف

اشارة

اعلم أنّ الموارد التی وقعت محل النزاع من مفهوم المخالف عبارة عما یلی :

1- مفهوم الشرط.

2- مفهوم الوصف.

3- مفهوم الغایة.

4- مفهوم الحصر.

5- مفهوم العدد.

6- مفهوم اللقب.

وإلیک التفصیل :

ص: 81

الأوّل : مفهوم الشرط

اشارة

واعلم أنّ النزاع فی وجود المفهوم فی القضایا الشرطیة إنّما هو فیما إذا عدّ القید شیئا زائدا علی الموضوع وتکون الجملة مشتملة علی موضوع ، ومحمول ، وشرط ، فیقع النزاع حینئذ فی دلالة القضیة الشرطیة علی انتفاء المحمول عن الموضوع ، عند انتفاء الشرط وعدمها مثل قوله علیه السلام : «إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجّسه شیء» فهناک موضوع وهو الماء ، ومحمول وهو العاصمیة (لم ینجسه) وشیء آخر باسم الشرط ، أعنی : الکریة ، فعند انتفاء الشرط یبقی الموضوع (الماء) بحاله بخلاف القضایا التی یعد الشرط فیها محقّقا للموضوع من دون تفکیک بین الشرط والموضوع بل یکون ارتفاع الشرط ملازما لارتفاع الموضوع ، فهی خارجة عن محل النزاع ، کقوله : إن رزقت ولدا فاختنه ، فهذه القضایا فاقدة للمفهوم. فإنّ الرزق هنا لیس شیئا زائدا علی نفس الولد.

إنّ دلالة الجملة الشرطیة علی المفهوم (أی انتفاء الجزاء لدی انتفاء الشرط) لا تتمّ إلاّ إذا ثبتت الأمور الثلاثة التالیة :

1- وجود الملازمة بین الجزاء والشرط فی القضیة بأن لا یکون من قبیل التقارن الاتّفاقی بصورة جزئیة ، کخروج زید من المجلس مقارنا مع دخول عمرو فیه ، فإنّ التقارن من باب الاتفاق ، ولأجل ذلک یحصل الانفکاک بینهما کثیرا.

2- أن یکون التلازم من باب الترتب أی ترتب التالی علی المقدّم ، بأن یکون الشرط علة للجزاء ، فخرج ما إذا لم یکن هناک هذا النحو من الترتّب کما إذا قال : إن طال اللیل قصر النهار ، أو إذا قصر النهار طال اللیل ، فلیس بینهما ترتب لکونهما معلولین لعلة ثالثة.

3- أن یکون الترتب علّیا انحصاریا ، ومعنی الانحصار عدم وجود علّة

ص: 82

أخری تقوم مقام الشرط.

فالقائل بالمفهوم لا محیص له إلاّ من إثبات هذه الأمور الثلاثة ، ویکفی للقائل بالعدم منع واحد منها.

ثمّ إنّ دلالة الجملة الشرطیة علی هذه الأمور الثلاثة بأحد الوجوه التالیة :

1- الوضع : ادّعاء وضع الهیئة علی ما یلازم هذه الأمور الثلاثة : الملازمة ، الترتب ، الانحصار.

2- الانصراف (1) : ادّعاء انصراف الجملة الشرطیة فی ذهن المخاطب إلی هذه الأمور.

3- الإطلاق : ادّعاء أنّ المتکلّم کان فی مقام بیان العلل ولم یذکر إلاّ واحدا منها ، فیعلم انحصارها فتثبت الملازمة والترتب بوجه أولی.

أمّا إثباتها بالطریق الأوّل أی بالدلالة الوضعیة ، فالحق دلالة الجملة الشرطیة علی الأمرین : الملازمة والترتب ، وذلک لأنّ المتبادر من هیئة الجملة الشرطیة هو أنّ فرض وجود الشرط وتقدیر حصوله ، یتلوه حصول الجزاء وتحقّقه وهذا مما لا یمکن إنکاره ، وهو نفس القول بالملازمة والترتب.

وأمّا إثبات الأمر الثالث ، وهو انّ العلّیة بنحو الانحصار بالدلالة الوضعیة ، فهو غیر ثابت ، لأنّ تقسیم العلّة إلی المنحصرة وغیر المنحصرة من المفاهیم الفلسفیة البعیدة عن الأذهان العامة فمن البعید ، أن ینتقل الواضع إلی التقسیم ، ثم یضع الهیئة الشرطیة علی قسم خاص منها وهی المنحصرة.

ص: 83


1- إذا کان اللّفظ موضوعا لحقیقة ذات أنواع کالحیوان أو ذات أصناف کالماء فتبادر منه - عند الاستعمال - نوع أو صنف إلی الذهن دون الأنواع والأصناف الأخری ، یقال : اللفظ منصرف إلی کذا ، مثلا إذا قیل : «لا تصل فی ما لا یؤکل لحمه» یکون منصرفا إلی غیر الإنسان.

وأمّا إثبات الانحصار بالانصراف فهو أیضا بعید ، لأنّ الانصراف رهن أحد أمرین :

1- کثرة الاستعمال فی العلة المنحصرة.

2- کون العلة منحصرة أکمل من کونها غیر منحصرة.

وکلا الأمرین منتفیان لکثرة الاستعمال فی غیر المنحصرة ، وکون العلّة المنحصرة لیست بأکمل فی العلیّة من غیرها.

وأمّا إثبات الانحصار بالإطلاق وهو کون المتکلّم فی مقام البیان فهذا یتصوّر علی وجهین :

تارة یکون فی مقام بیان خصوصیات نفس السبب الوارد فی الجملة الشرطیة وما له من جزء وشرط ومانع من دون نظر إلی وجود سبب آخر ، وأخری یکون فی مقام بیان ما هو المؤثر فی الجزاء ، فعلی الأوّل یکون مقتضی الإطلاق انّ ما جاء بعد حرف الشرط هو تمام الموضوع ولیس له جزء أو شرط آخر ولا یتفرع علیه المفهوم ، بل أقصاه أنّ ما وقع بعد حرف الشرط تمام الموضوع للجزاء وأمّا أنّه لا یخلفه شیء آخر فلا یمکن دفعه لأنّه لیس فی مقام البیان.

وعلی الثانی أی إذا کان بصدد بیان ما هو المؤثر فی الجزاء علی وجه الإطلاق ، فإذا ذکر سببا واحدا وسکت عن غیره ، فالسکوت یکون دالا علی عدم وجود سبب آخر قائم مقامه.

والحاصل : أنّه لو أحرز کون المتکلّم فی مقام تحدید الأسباب ومع ذلک اقتصر علی ذکر سبب واحد یستکشف أنّه لیس للجزاء سبب إلاّ ما جاء فی کلامه فیحکم علی السبب بأنّه علة منحصرة ، وهذا بخلاف ما إذا لم یکن فی مقام بیان الأسباب کلّها فإنّ مقتضی الإطلاق أنّ ما وقع تحت الشرط تمام الموضوع ولیس له

ص: 84

جزء آخر غیر مذکور ، وأمّا أنّه لیس للجزاء سبب آخر یقوم مقام السبب الأوّل فلا یدلّ علیه.

تطبیقات

إنّ للقول بدلالة الجملة الشرطیة علی المفهوم ثمرات فقهیة لا تحصی ، وربما یستظهر من خلال الروایات أنّ القول بالدلالة کان أمرا مسلما بین الإمام والراوی ، وإلیک تلک الروایات :

1- روی أبو بصیر قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الشاة تذبح فلا تتحرک،ویهراق منها دم کثیر عبیط ، فقال : «لا تأکل ، إنّ علیا کان یقول : إذا رکضت الرجل أو طرفت العین فکل». (1)

تری أنّ الإمام علیه السلام یستدلّ علی الحکم الذی أفتی به بقوله : «لا تأکل» بکلام علی علیه السلام ، ولا یکون دلیلا علیه إلاّ إذا کان له مفهوم ، وهو إذا لم ترکض الرجل ولم تطرف العین (کما هو مفروض الروایة) فلا تأکل.

2- روی الحلبی ، عن أبی عبد الله علیه السلام قال : «کان أمیر المؤمنین یضمّن القصار والصائغ احتیاطا للناس ، وکان أبی یتطوّل علیه إذا کان مأمونا». (2)

فالروایة علی القول بالمفهوم دالة علی تضمینه إذا لم یکن مأمونا. (3)

3- روی علی بن جعفر فی کتاب مسائله وقرب الإسناد : أنّه سأل أخاه عن حمل المسلمین إلی المشرکین التجارة ، فقال : «إذا لم یحملوا سلاحا فلا بأس». (4)

ص: 85


1- الوسائل : 16 / 264 ، الباب 12 من أبواب الذبائح ، الحدیث 1.
2- الوسائل : 13 / 272 ، الباب 29 من أبواب أحکام الإجارة ، الحدیث 4.
3- مبانی العروة : کتاب المضاربة : 17.
4- الجواهر : 22 / 28.

دلّت الروایة علی القول بالمفهوم علی حرمة التجارة مع المشرک إذا حملوا سلاحا من دون فرق بین زمان الحرب والهدنة.

4- روی معاویة بن عمار عن أبی عبد الله علیه السلام : «إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجسه شیء».

دلّت الروایة لاشتمالها علی المفهوم علی انفعال القلیل بالملاقاة ، وإلاّ کان تعلیق عدم الانفعال بالکرّیة أمرا لغوا. (1)

5- روی عبد الله بن جعفر عن أبی محمد علیه السلام قوله : ویجوز للرجل أن یصلّی ومعه فارة مسک ، فکتب : «لا بأس به إذا کان ذکیا».

فلو قلنا بالمفهوم لدلّ علی المنع عن حمل المیتة وإن کان جزءا صغیرا. (2)

6- روی محمد بن مسلم عن أبی عبد الله علیه السلام ، قلت له : الأمة تغطی رأسها، فقال: «لا ، ولا علی أم الولد أن تغطی رأسها إذا لم یکن لها ولد».

دلّ بمفهومه علی وجوب تغطیة الرأس مع الولد. (3)

7- روی الحلبی عن الصادق علیه السلام قال : «لا بأس بأن یقرأ الرجل فی الفریضة بفاتحة الکتاب فی الرکعتین الأولتین إذا ما أعجلت به حاجة أو تخوّف شیئا».

دلّ بمفهومه علی وجوب السورة بعد الحمد فی غیر مورد الشرط. (4)

8- روی ابن مسلم ، عن أبی عبد الله علیه السلام : «لا بأس أن یتکلّم إذا فرغ الإمام من الخطبة یوم الجمعة ما بینه وبین أن تقام الصلاة».

استدلّ بها صاحب الجواهر علی حرمة الکلام فی أثناء الخطبة. (5)

9- روی علی بن فضل الواسطی ، عن الرضا علیه السلام قال : کتبت إلیه إذا انکسفت الشمس أو القمر وأنا راکب لا أقدر علی النزول ، فکتب إلیّ : «صل علی

ص: 86


1- الجواهر : 1 / 106.
2- الجواهر : 6 / 132.
3- الجواهر : 8 / 222.
4- الجواهر : 9 / 334.
5- الجواهر : 11 / 294.

مرکبک الذی أنت علیه». أی صلّ علی مرکبک إذا لم تقدر علی النزول. استدلّ بها علی عدم جواز إقامة صلاة الآیات علی ظهر الدابة إلاّ مع الضرورة. (1)

10- روی معاویة بن وهب بعد أن سأله عن السریة یبعثها الإمام علیه السلام فیصیبون غنائم کیف تقسم؟ قال : «إن قاتلوا علیها مع أمیر أمّره الإمام علیه السلام ، أخرج منها الخمس لله تعالی وللرسول ، وقسّم بینهم ثلاثة أخماس».

استدلّ بأنّه إذا کان هناک حرب بغیر إذنه ، فلا یعدّ ما أصابوه من الغنائم بل من الأنفال. (2)

وینبغی التنبیه علی أمرین :

التنبیه الأوّل : إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء

إذا کان الشرط متعدّدا والجزاء واحدا کما لو قال : إذا خفی الأذان فقصّر ، وإذا خفی الجدران فقصّر ، فعلی القول بظهور الجملة الشرطیة فی المفهوم ، تقع المعارضة بین منطوق أحدهما ومفهوم الآخر ، فلو افترضنا أنّ المسافر بلغ إلی حدّ لا یسمع أذان البلد ولکن یری جدرانه فیقصّر حسب منطوق الجملة الأولی ویتمّ حسب مفهوم الجملة الثانیة ، کما أنّه إذا بلغ إلی حد یسمع الأذان ولا یری الجدران فیتم حسب مفهوم الجملة الأولی ویقصّر حسب منطوق الجملة الثانیة ، فالتعارض بین منطوق إحداهما ومفهوم الأخری.

وبما انّک عرفت أنّ استفادة المفهوم مبنی علی کون الشرط علّة تامة أوّلا ، ومنحصرة ثانیا یرتفع التعارض بالتصرف فی أحد ذینک الأمرین ، فتفقد الجملة الشرطیة مفهومها ، وعندئذ لا یبقی للمعارضة إلاّ طرف واحد وهو منطوق الآخر ، وإلیک بیان کلا التصرفین :

ص: 87


1- الجواهر : 11 / 477.
2- الجواهر : 11 / 294.

أمّا الأوّل : أی التصرف فی السببیّة التامة فبأن تکون الجملة الثانیة قرینة علی أنّ خفاء الأذان لیست سببا تاما للقصر ، وانّما السبب التام هو خفاء کلا الأمرین من الأذان والجدران ، فتکون النتیجة بعد التصرف هو إذا خفی الجدران والأذان معا فقصر.

وأمّا الثانی : وهو التصرّف فی انحصاریة الشرط فبأن یکون کل منهما سببا مستقلا لا سببا منحصرا ، فتکون النتیجة هی استقلال کل واحد فی إیجاب القصر ، فکأنّه قال : إذا خفی الأذان أو الجدران فقصّر.

والفرق بین التصرفین واضح ، فإنّ مرجع التصرف فی الأوّل إلی نفی السببیة المستقلّة عن کل منهما وجعلهما سببا واحدا ، کما أنّ مرجعه فی الثانی إلی سلب الانحصار بعد تسلیم سببیّة کل منهما مستقلا.

فعلی الأوّل لا یقصر إلاّ إذا خفی کلاهما وعلی الثانی یقصر مع خفاء کل منهما.

وعلی کلا التقدیرین یرتفع التعارض لزوال المفهوم بکل من التصرفین ، لأنّ المفهوم فرع کون الشرط سببا تاما ومنحصرا ، والمفروض أنّه إمّا غیر تام ، أو غیر منحصر.

إلاّ أنّه وقع الکلام فی تقدیم أحد التصرفین علی الآخر ، والظاهر هو التصرف فی ظهور کلّ من الشرطین فی الانحصار فیکون کل منهما مستقلا فی التأثیر ، فإذا انفرد أحدهما کان له التأثیر فی ثبوت الحکم ، وإذا حصلا معا فإن کان حصولهما بالتعاقب کان التأثیر للسابق وإن تقارنا کان الأثر لهما معا ویکونان کالسبب الواحد.

وانّما قلنا برجحان التصرف فی الانحصار علی التصرف فی السببیة التامة ، لأجل أنّ التصرف فی الانحصار مما لا بدّ منه سواء تعلّق التصرف برفع الانحصار

ص: 88

أو تعلّق التصرف برفع السببیة التامة ، فالانحصار قطعیّ الزوال ومتیقن الارتفاع ، وأمّا السببیة التامة فمشکوک الارتفاع فلا ترفع الید عنه إلاّ بدلیل.

التنبیه الثانی : فی تداخل الأسباب و المسببات و عدمه

(1)

إذا تعدّد السبب واتحد الجزاء کما إذا قال : إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ ، فیقع الکلام فی تداخل الأسباب أوّلا ، وتداخل المسببات ثانیا.

والمراد من تداخل الأسباب وعدمه هو أنّ السببین هل یقتضیان وجوبا واحدا فیتداخلان فی التأثیر ، أو یقتضیان وجوبین فلا یتداخلان.

والمراد من تداخل المسبّبات وعدمه هو أنّ الإتیان بالطبیعة مرّة هل یکفی فی امتثال کلا الوجوبین أو لا بدّ من الإتیان بها مرّتین.

ولا یخفی انّ البحث فی خصوص تداخل المسببات وعدمه مبنی علی ثبوت عدم التداخل فی الأسباب کما أنّ البحث فی التداخل مطلقا یجری إذا أمکن تکرار الجزاء کالوضوء وإلاّ فیسقط البحث کقتل زید لکونه محاربا ومرتدا فطریا فإنّ القتل غیر قابل للتکرار ، فلا معنی للبحث عن التداخل سببا أو مسببا.

إذا عرفت ذلک یقع الکلام فی موضعین :

الأوّل : حکم الأسباب من حیث التداخل وعدمه ، والمتبادر عرفا من القضیتین : إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ هو عدم التداخل بمعنی انّ کلّ شرط علّة لحدوث الجزاء ، أعنی : الوجوب مطلقا ، سواء وجد الآخر معه أم قبله أم بعده أم لم یوجد ، ولیس لعدم تداخل الأسباب معنی إلاّ تعدد الوجوب.

الثانی : حکم المسببات من حیث التداخل وعدمه أی کفایة وضوء واحد

ص: 89


1- یکفی فی عقد هذا البحث القول بکون کل شرط سببا تاما ، لا سببا منحصرا ، فلیس البحث مبنیا علی اشتمال القضیة الشرطیة علی المفهوم ، فلاحظ.

وعدمه فالظاهر عدم ظهور القضیة فی أحد الطرفین ، فتصل النوبة إلی الأصل العملیّ وهو الأصل عدم سقوط الواجبات المتعددة بفعل واحد ولو کان ذلک بقصد امتثال الجمیع فی غیر ما دلّ الدلیل علی سقوطها به ، وبعبارة أخری :الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیة وهی رهن تعدّد الامتثال.

نعم دلّ الدلیل علی سقوط أغسال متعددة بغسل الجنابة أو بغسل واحد نوی به سقوط الجمیع.

فخرجنا بهذه النتیجة : انّ مقتضی الأصل العملی هو عدم سقوط الواجبات المتعدّدة ما لم یدلّ دلیل بالخصوص علی سقوطها.

تطبیقات

1- إذا وجبت علیه الزکاة ، فهل یجوز دفعها إلی واجب النفقة إذا کان فقیرا من جهة الإنفاق؟ قال فی الجواهر : لا یجوز ، لکونه لیس إیتاء للزکاة لأصالة عدم تداخل الأسباب.

2- إذا اجتمع للمستحق سببان یستحق بهما الزکاة ، کالفقر والجهاد فی سبیل الله جاز أن یعطی لکل سبب نصیبا ، لاندراجه حینئذ فی الصنفین مثلا ، فیستحق بکل منهما.

3- إذا وقعت نجاسات مختلفة فی البئر لکل نصیب خاص من النزح ، فهل یجب نزح کل ما قدّر أو لا؟

4- إذا تغیّرت أوصاف ماء البئر ، ومع ذلک وقعت فیه نجاسات لها نصیب من النزح ، فهل یکفی نزح الجمیع أو یجب معه نزح ما هو المقدّر؟

ص: 90

الثانی : مفهوم الوصف

ولإیضاح الحال نذکر أمورا :

الأوّل : المراد من الوصف فی عنوان المسألة لیس خصوص الوصف النحوی بل الأصولی ، فیعم الحال والتمییز ممّا یصلح أن یقع قیدا لمتعلق التکلیف أو لنفسه.

الثانی : یشترط فی الوصف أن یکون أخصّ من الموصوف مطلقا حتی یصح فرض بقاء الموضوع مع انتفاء الوصف کالإنسان العادل ، فخرج منه ما إذا کانا متساویین ، کالإنسان المتعجب وما إذا کان أعم منه مطلقا ، کالإنسان الماشی.

وأمّا إذا کان أعم منه من وجه کما فی الغنم السائمة زکاة فانّ بین الغنم والسائمة عموم وخصوص من وجه ، فیفترق الوصف عن الموضوع فی الغنم المعلوفة ، والموضوع عن الوصف فی الإبل السائمة ویجتمعان فی الغنم السائمة ، فهل هو داخل فی النزاع أو لا؟

الظاهر دخوله فی النزاع إذا کان الافتراق من جانب الوصف بأن یکون الموضوع باقیا والوصف غیر باق کالغنم المعلوفة ، وأمّا إذا ارتفع الموضوع ، سواء کان الوصف باقیا، کالإبل السائمة ، أو کان هو أیضا مرتفعا کالإبل المعلوفة فلا یدلّ علی شیء فی حقهما.

الثالث : انّ النزاع فی ثبوت مفهوم الوصف وعدمه لا ینافی اتفاقهم علی أنّ الأصل فی القیود (1) أن تکون احترازیة وذلک :

ص: 91


1- أقول : إنّ القیود الواردة فی الکلام علی أقسام خمسة : 1- القید الزائد کقولک : الإنسان الضاحک ناطق. 2- القید التوضیحی : وهو القید الذی یدلّ علیه الکلام وإن لم یذکر کقوله سبحانه : وَلا تُکْرِهُوا فَتَیاتِکُمْ عَلَی الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً (النور / 33). 3- القید الغالبی : وهو القید الوارد مورد الغالب ، ومع ذلک لا مدخلیة له فی الحکم ، کقوله سبحانه : وَرَبائِبُکُمُ اللاَّتِی فِی حُجُورِکُمْ مِنْ نِسائِکُمُ اللاَّتِی دَخَلْتُمْ بِهِنَ (النساء / 22) فکونهن فی حجور الأزواج قید غالبی. 4- القید الاحترازی : وهو القید الذی له مدخلیة فی الحکم ولا یحکم علی الموضوع بحکم إلاّ معه کالدخول فی الآیة المتقدّمة فانّ الدخول بالأم شرط لحرمة الربیبة ، فلو لم یدخل بها وطلّقها یتوقّف فی الحکم. 5- القید المفهومی : أو القید ذات المفهوم ، وهو ما یدلّ علی ثبوت الحکم عند وجوده وعدمه عند انتفائه ، وهذا النوع من القید یثبت أکثر ممّا یثبته القید الاحترازی ، فإنّ الثانی یثبت الحکم فی مورد القید ویسکت عن وجوده وعدمه فی غیر مورده ، ولکن القید المفهومی یثبت الحکم فی مورده وینفیه عن غیره.

لأنّ معنی کون القید احترازیا لیس إلاّ ثبوت الحکم فی مورد القید ، فإذا قال : أکرم الرجال طوال القامة ، معناه ثبوت الحکم مع وجود الأمرین : الرجال والطوال.

وأمّا نفی الحکم عن الرجال القصار فلا یدل علیه کون القید احترازیا ، بل یتوقف فی الحکم بالثبوت أو العدم ، بخلاف القول بالمفهوم ، فإنّ لازمه نفی الحکم فی غیر مورد الوصف والفرق بین الأمرین واضح ، فکون القید احترازیا یلازم السکوت فی غیر مورد الوصف ، والقول بالمفهوم یلازم نقض السکوت والحکم بعدم الحکم فی غیر مورد الوصف.

إذا عرفت ذلک ، فاعلم أنّ الحقّ عدم دلالة الوصف علی المفهوم ، لأنّ أقصی ما یدلّ علیه القید هو کونه قیدا احترازیا بالمعنی الذی مرّ علیک ، وأمّا الزائد علیه أی الانتفاء لدی الانتفاء فلا دلیل علیه.

ص: 92

نعم ربما تدلّ القرائن علی ثبوت المفهوم للقضیة الوصفیة - وراء کونه احترازیا - مثل ما حکی أنّ أبا عبیدة قد فهم من قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم: «لیّ الواجد یحلّ عرضه وعقوبته»: أنّ لیّ غیر الواجد لا یحلّ. (1)

نعم خرجت عن تلک الضابطة العقود والإیقاعات المتداولة بین الناس حتی الأقاریر والوصایا ، فإنّها لو اشتملت علی قید ووصف لأفاد المفهوم ، فمثلا لو قال : «داری هذه وقف للسادة الفقراء» فمعناه خروج السادة الأغنیاء عن الخطاب.

الثالث : مفهوم الغایة

إذا ورد التقیید بالغایة مثل قوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ) (المائدة / 6) فقد اختلف الأصولیّون فیه من جهتین :

الجهة الأولی : فی دخول الغایة «المرفق» فی المنطوق أی فی حکم المغیّی (وجوب الغسل) وعدمه.

الجهة الثانیة : فی مفهوم الغایة ، وهو موضوع البحث فی المقام فقد اختلفوا فی أنّ التقیید بالغایة هل یدلّ علی انتفاء سنخ الحکم عمّا وراء الغایة (العضد) ومن الغایة نفسها (المرفق) إذا قلنا فی النزاع الأوّل بعدم دخولها فی المغیّی أو لا؟

أمّا الجهة الأولی ففیها أقوال :

أ. خروجها مطلقا ، وهو خیرة المحقّق الخراسانی والسید الإمام الخمینی قدّس الله سرّهما.

ص: 93


1- واللیّ : «المطل» والواجد : الغنی ، وإحلال عرضه : عقوبته وحبسه.

ب. دخولها مطلقا.

ج. التفصیل بین ما إذا کان ما قبل الغایة وما بعدها متحدین فی الجنس ، فتدخل کما فی قوله سبحانه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ) (المائدة / 6) فیجب غسل المرفق ، وبین ما لم یکن کذلک فلا یدخل کما فی قوله تعالی : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّیامَ إِلَی اللَّیْلِ) (البقرة / 187) فإنّ اللیل (الغایة) یغایر المغیّی. فانّ جنس النهار عرفا هو النور، وجنس الآخر هو الظلمة فهما مختلفان جنسا ، واشتراکهما فی الزمان صحیح لکنّه أمر عقلیّ.

د. عدم الدلالة علی شیء وإنّما یتبع فی الحکم ، القرائن الدالّة علی واحد منهما.

وقبل بیان المختار نشیر إلی أمرین :

الأوّل : انّ البحث فی دخول الغایة فی حکم المغیّی إنّما یتصوّر فیما إذا کان هناک قدر مشترک أمکن تصویره تارة داخلا فی حکمه وأخری داخلا فی حکم ما بعد الغایة ، کالمرفق فانّه یصلح أن یکون محکوما بحکم المغیّی (الأیدی) ومحکوما بحکم ما بعد الغایة (العضد) وأمّا إذا لم یکن کذلک فلا ، کما إذا قال : اضربه إلی خمس ضربات ، فالضربة السادسة هی بعد الغایة ولیس هنا حدّ مشترک صالح لأن یکون محکوما بحکم المغیّی أو محکوما بحکم ما بعد الغایة ، وبذلک یظهر أنّه لو کانت الغایة ، غایة للحکم لا یتصوّر فیه ذلک النزاع ، کما إذا قال : «کلّ شیء حلال حتی تعلم أنّه حرام» فانّه لا یمکن أن یکون العلم بالحرام داخلا فی حکم المغیّی ، إذ لیس بعد العلم بالحظر رخصة.

الثانی : إذا کانت أداة الغایة هی لفظ «حتی» فالنزاع فی دخول الغایة فی حکم المغیّی وعدمه إنّما یتصوّر إذا کانت خافضة کما فی قوله : «أکلت السمکة

ص: 94

حتی رأسها ، ومثل قوله سبحانه : (کُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ) (البقرة / 187).

وأمّا العاطفة فهی خارجة عن البحث ، لأنّ الغایة فیها داخلة تحت حکم المغیّی قطعا، کما إذا قال : مات الناس حتی الأنبیاء ، فإنّ معناه أنّ الأنبیاء ماتوا أیضا ، والغرض من ذکر الغایة هو بیان أنّه إذا کان الفرد الفائق علی سائر أفراد المغیّی ، محکوما بالموت فکیف حال الآخرین ، ونظیره القول المعروف : مات کلّ أب حتی آدم.

إذا عرفت ذلک فالحقّ هو القول الأوّل ، أی عدم دخول الغایة فی حکم المغیّی أخذا بالتبادر فی مثل المقام ، قال سبحانه : (تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَالرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِیَ حَتَّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر / 4 و 5) فإنّ المتبادر منه أنّ النزول أو السلام إلی مطلع الفجر لا فیه نفسه ولا بعده ، وکقول القائل : قرأت القرآن إلی سورة الإسراء ، فإنّ المتبادر خروج الإسراء عن إخباره بالقراءة ، فإن تمّ ما ذکرنا من التبادر فهو ، وإلاّ فالقول الرابع هو الأقوی من أنّه لا ظهور لنفس التقیید بالغایة فی دخولها فی المغیّی ولا فی عدمه.

الجهة الثانیة : فی مفهوم الغایة والظاهر دلالة الجملة علی ارتفاع الحکم عمّا بعد الغایة وحتی عن الغایة أیضا إذا قلنا بعدم دخولها فی حکم المغیّی ، لأنّ المتفاهم العرفی فی أمثال المقام هو تحدید الواجب وتبیین ما هو الوظیفة فی مقام التوضّؤ ، ویؤید ما ذکرنا تبادر المفهوم فی أکثر الآیات الواردة فیها حتی الخافضة کقوله سبحانه : (کُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ) (البقرة / 187) وقال : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّی لا تَکُونَ فِتْنَةٌ) (البقرة / 193) فانّ المتبادر منها هو حصر الحکم إلی حدّ الغایة وسریان خلافه إلی ما بعدها.

ص: 95

الرابع : مفهوم الحصر

المشهور أنّ للحصر أدوات منها :

1- إلاّ الاستثنائیة.

2- إنّما.

3- بل الإضرابیة.

4- توسط ضمیر الفصل بین المبتدأ والخبر.

5- تعریف المسند إلیه باللاّم.

6- تقدیم ما حقّه التأخیر.

وإلیک الکلام فی کلّ واحد منها :

1- إلاّ الاستثنائیة

هل الاستثناء مطلقا أو بعد النفی یدلّ علی الحصر أی حصر الخروج فی المستثنی وعدم خروج فرد آخر عن المستثنی منه؟ فیه خلاف. الظاهر هو الدلالة علیه ، ویکفی فی ذلک التبادر القطعی بحیث لو دلّ دلیل آخر علی خروج فرد غیره لعدّ مخالفا لظاهر الدلیل، فلو قال : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس : الطهور والقبلة والوقت والرکوع والسجود» (1) ثمّ قال فی دلیل آخر بوجوب الإعادة فی غیر هذه الخمسة لعدّ مخالفا للمفهوم المستفاد من القضیة الأولی ولا بدّ من علاج التعارض بوجه.

2- کلمة «إنّما»

استدلّ علی إفادتها للحصر بوجهین :

ص: 96


1- الوسائل : الجزء 4 ، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة ، الحدیث 4.

أ. التبادر من موارد استعمالها.

ب. تصریح اللغویین کالأزهری وغیره علی أنّها تفید الحصر. (1)

والتتبع فی الآیات الکریمة یرشدنا إلی کونها مفیدة للحصر ، أی حصر الحکم فی الموضوع ، وأحیانا حصر الموضوع فی الحکم أمّا الأوّل فکقوله سبحانه :

1- (إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَیُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَهُمْ راکِعُونَ) (المائدة / 55).

2- (إِنَّما حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِیرِ) (البقرة / 173).

3- (لا یَنْهاکُمُ اللهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَلَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ) (...إِنَّما یَنْهاکُمُ اللهُ عَنِ الَّذِینَ قاتَلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَأَخْرَجُوکُمْ) (الممتحنة / 8 - 9).

أمّا الثانی فکقوله تعالی : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) (الرعد / 7) فهو صلی الله علیه و آله و سلّم بالنسبة إلی قومه منذر ، ولیس علیهم بمصیطر.

إلی غیر ذلک من الآیات المسوقة بالحصر.

3- «بل الإضرابیة»

إنّ الإضراب علی وجوه :

أ. ما کان لأجل أنّ المضرب عنه إنّما أوتی به غفلة أو سبقه به لسانه ، فیضرب بها عنه إلی ما قصد بیانه کما إذا قال : جاءنی زید بل عمرو ، إذا التفت إلی أنّ ما أتی به أوّلا صدر عنه غفلة فلا تدلّ علی الحصر.

ب. ما کان لأجل التأکید فیکون ذکر المضرب عنه کالتوطئة والتمهید لذکر

ص: 97


1- مطارح الأنظار : 122.

المضرب إلیه فلا تدلّ علی الحصر ، فکأنّه أتی بالمضرب إلیه ابتداء کقوله سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَکَّی* وَذَکَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّی* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَیاةَ الدُّنْیا) (الأعلی / 14 - 16).

ج. ما کان فی مقام الردع وإبطال ما جاء أوّلا ، فتدلّ علی الحصر ، قال سبحانه : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ) (الأنبیاء / 26) والمعنی بل هم عباد فقط.

ونحوه قوله سبحانه : (أَمْ یَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَکْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ کارِهُونَ) (المؤمنون / 70).

والآیة تدلّ علی حصر ما جاء به فی الحقّ.

4- توسیط ضمیر الفصل بین المبتدأ والخبر

مثل قولک : «زید هو القائم» ، وقول الصادق علیه السلام «الکافور هو الحنوط».

5- تعریف المسند إلیه باللاّم

إذا دخلت اللام علی المسند إلیه وکانت لام الجنس أو لام الاستغراق دون العهد،فهو یفید الحصر ، کقوله سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وکقولک : الکاتب زید ، ومثله الفتی علیّ.

6- تقدیم ما حقّه التأخیر

هناک هیئات غیر الأدوات تدلّ علی الحصر ، مثل تقدیم المفعول علی الفعل ، نحو قوله : (إِیَّاکَ نَعْبُدُ وَإِیَّاکَ نَسْتَعِینُ) (الحمد / 5).

ص: 98

تطبیقات

1- لو حصل التغیّر بملاقاة النجاسة لماء الکر أو الجاری فی غیر صفاته الثلاث :اللون والطعم والرائحة ، کالحرارة والرقة والخفة ، فهل ینجس الماء أو لا؟

الظاهر هو الثانی ، للحصر المستفاد من الاستثناء بعد النفی ، أعنی قوله : «خلق الله الماء طهورا لا ینجّسه شیء إلاّ ما غیّر لونه أو طعمه أو ریحه». (1)

2- لو ضمّ إلی نیة التقرّب فی الوضوء ریاء.

قال المرتضی بالصحّة مع عدم الثواب ، والمشهور هو البطلان لقوله سبحانه : (وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ) (البیّنة / 4) والمراد من الدین هو الطاعة ،والحصر قاض بأنّ العمل الفاقد للإخلاص لم یتعلّق به أمر فکیف یکون صحیحا؟ (2)

3- یجب أن یحنّط مساجد المیت السبعة بالحنوط ، وهو الطیب المانع عن فساد البدن ، وظاهر الأدلّة حصر الحنوط بالکافور ، لقول الصادق علیه السلام : «إنّما الحنوط بالکافور» ، وقوله : «الکافور هو الحنوط». (3)

ص: 99


1- الجواهر : 1 / 83.
2- الجواهر : 2 / 96 - 97.
3- الجواهر : 4 / 176.

الخامس : مفهوم العدد

إنّ العدد المأخوذ قیدا للموضوع یتصوّر ثبوتا علی أقسام أربعة :

1- یؤخذ علی نحو لا بشرط فی جانبی الزیادة والنقیصة ، کقوله سبحانه : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِینَ مَرَّةً فَلَنْ یَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (التوبة / 80) فالاستغفار لهم ما دام کونهم منافقین لا یفید قلّ أو کثر.

2- یؤخذ بشرط لا فی کلا الجانبین ، کأعداد الفرائض.

3- یؤخذ بشرط لا فی جانب النقیصة دون الزیادة ، کما هو الحال فی مسألة الکرّ حیث یجب أن یکون ثلاثة أشبار ونصف طولا ، وعرضا وعمقا ولا یکفی الناقص کما لا یضرّ الزائد.

4- عکس الصورة الثالثة بأن یؤخذ بشرط لا فی جانب الزیادة دون النقیصة ، کالفصل بین المصلّین فی الجماعة ، فیجوز الفصل بالخطوة دون الزائد.

هذا التقسیم راجع إلی مقام الثبوت ، وأمّا مقام الإثبات فالظاهر أو المنصرف إلیه أنّه بصدد التحدید قلّة وکثرة فیدلّ علی المفهوم فی جانب التحدید إلاّ إذا دلّ الدلیل علی خلافه ، مثل قوله : (الزَّانِیَةُ وَالزَّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (النور / 2) وظاهر الآیة التحدید فی کلا الجانبین.

وربما تشهد القرینة علی أنّه بصدد التحدید فی جانب النقیصة دون الزیادة ، کقوله سبحانه : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِیدَیْنِ مِنْ رِجالِکُمْ) (البقرة / 282). ومثله ما ورد فی عدد الغسلات من إصابة البول وملاقاة الخنزیر.

وربما ینعکس فیؤخذ التحدید فی جانب الزیادة ، ککون ما تراه المرأة من

ص: 100

الدم حیضا فی عشرة أیّام بشرط أن لا تتجاوز العشرة.

کلّ ذلک یعلم بالقرینة وإلاّ فیحمل علی التحدید فی کلا الجانبین : الزیادة والنقیصة.

تطبیقات

1- هل تکره قراءة أزید من سبع آیات علی الجنب؟ قیل : نعم ، لمفهوم موثقة سماعة سألته عن الجنب هل یقرأ القرآن؟ قال : «ما بینه وبین سبع آیات». (1)

2- یسقط خیار الحیوان بانقضاء المدة ، وهی ثلاثة أیّام. (2)

3- یستحبّ إرغام الأنف فی حال السجود ولا یجب لمفهوم ما دلّ علی أنّ السجود علی سبعة أعظم أو أعضاء. (3)

4- لا تنعقد الجمعة بأقل من خمسة ، لقوله علیه السلام : «لا تکون الخطبة والجمعة وصلاة رکعتین علی أقلّ من خمسة رهط : الإمام وأربعة» فیکون مفهومه - لو قلنا بأنّ للعدد مفهوما - انعقادها بالخمسة. (4)

ص: 101


1- الجواهر : 3 / 69 - 71.
2- الجواهر : 23 / 23.
3- الجواهر : 10 / 174.
4- الجواهر : 11 / 199.

السادس : مفهوم اللقب

المقصود باللقب کلّ اسم - سواء کان مشتقا أو جامدا - وقع موضوعا للحکم کالفقیر فی قولهم : أطعم الفقیر ، وکالسارق والسارقة فی قوله تعالی : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) (المائدة : 38) ومعنی مفهوم اللقب نفی الحکم عمّا لا یتناوله عموم الاسم، وبما أنّک عرفت عدم دلالة الوصف علی المفهوم ، فعدم دلالة اللقب علیه أولی ، بل غایة ما یفهم من اللقب عدم دلالة الکلام علی ثبوته فی غیر ما یشمله عموم الاسم وأمّا دلالته علی العدم فلا ، فمثلا إذا قلنا إنّ محمّدا رسول الله ، فمفاده ثبوت الرسالة للنبی صلی الله علیه و آله و سلّم ولا یدلّ علی رسالة غیره نفیا وإثباتا

تطبیق

روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم نهی أن یکفّن الرجال فی ثیاب الحریر ، فلو قلنا بمفهوم اللقب لدلّ علی جواز تکفین المرأة به وإلاّ فلا. (1)

تمّ الکلام فی المقصد الثالث

والحمد لله ربّ العالمین

ص: 102


1- الجواهر : 4 / 170.

المقصد الرابع : العموم و الخصوص

اشارة

وفیه فصول :

الفصل الأوّل : فی ألفاظ العموم.

الفصل الثانی : هل العام بعد التخصیص حقیقة أو مجاز؟

الفصل الثالث : حجّیة العام المخصص فی الباقی.

الفصل الرابع : التمسک بالعام قبل الفحص عن المخصص.

الفصل الخامس : فی تخصیص العام بالمفهوم.

الفصل السادس : فی تخصیص الکتاب بخبر الواحد.

الفصل السابع : تعقیب الاستثناء للجمل المتعدّدة.

الفصل الثامن : فی النسخ والتخصیص.

ص: 103

تمهید

تعریف العام : العام من المفاهیم الواضحة الغنیة عن التعریف ، ولکن عرّفه الأصولیّون بتعاریف عدیدة وناقشوا فیها بعدم الانعکاس تارة وعدم الاطراد أخری ، ولنقتصر علی تعریف واحد وهو : شمول الحکم لجمیع أفراد مدخوله ، ویقابله الخاص.

تقسیم العام : ینقسم العام إلی أقسام ثلاثة :

أ. العام الاستغراقی : وهو لحاظ کلّ فرد فرد من أفراد العام بحیاله واستقلاله ، واللّفظ الموضوع له هو لفظ «کل».

ب. العام المجموعی : وهو لحاظ الأفراد بصورة مجتمعة ، واللّفظ الدالّ علیه هو لفظ «المجموع» کقولک : أکرم مجموع العلماء.

ج. العام البدلی : وهو لحاظ فرد من أفراد العام لا بعینه ، واللّفظ الدالّ علیه لفظ «أیّ» کقولک : أطعم أیّ فقیر شئت.

وعلی ذلک فالعام مع قطع النظر عن الحکم یلاحظ علی أقسام ثلاثة ولکلّ لفظ خاص یعرب عنه.

ولکن الأوفق بالنسبة إلی تعریف العام المذکور هو ما ربما یقال (1) انّ التقسیم إنّما هو بلحاظ تعلّق الحکم ، فمثلا : العام الاستغراقی هو أن یکون الحکم شاملا لکلّ فرد فرد ، فیکون کلّ فرد وحده موضوعا للحکم.

والعام المجموعی هو أن یکون الحکم ثابتا للمجموع بما هو مجموع ، فیکون المجموع موضوعا واحدا.

والعام البدلی هو أن یکون الحکم لواحد من الأفراد علی البدل ، فیکون فرد واحد علی البدل موضوعا للحکم.

إذا عرفت ذلک ، فیقع الکلام فی فصول :

ص: 104


1- القائل هو المحقّق الخراسانی.

الفصل الأوّل : ألفاظ العموم

لا شکّ انّ للعموم ألفاظا دالّة علیه إمّا بالدلالة اللفظیة الوضعیة ، أو بالإطلاق وبمقتضی مقدّمات الحکمة. (1)

أمّا الدالّ بالوضع علیه فألفاظ مفردة مثل : کلّ ، جمیع ، تمام ، أیّ ، دائما.

والألفاظ الأربعة الأول تفید العموم فی الأفراد ، واللفظ الأخیر یفید العموم فی الأزمان، فقولک : أکرم زیدا فی یوم الجمعة دائما ، یفید شمول الحکم لکلّ جمعة. ونظیر «دائما» لفظة «أبدا» قال سبحانه : (وَلا أَنْ تَنْکِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) (الأحزاب / 54).

إنّما الکلام فی الألفاظ الّتی یستفاد منها العموم بمقتضی الإطلاق ، ومقدّمات الحکمة وهی ثلاثة :

1- النکرة الواقعة فی سیاق النفی

المعروف انّ «لا» النافیة الداخلة علی النکرة نحو : «لا رجل فی الدار» تفید العموم ، لأنّها لنفی الجنس وهو لا ینعدم إلاّ بانعدام جمیع الأفراد ، أو بعبارة أخری

ص: 105


1- سیأتی تفسیرها مفصلا فی مبحث المطلق والمقید وإجماله أن یکون المتکلّم فی مقام البیان ، ولم یأت فی کلامه بقرینة دالّة علی الخصوص ، فیحکم علیه بالعموم.

تدلّ علی عموم السلب لجمیع أفراد النکرة عقلا (1) ، لأنّ عدم الطبیعة إنّما یکون بعدم جمیع أفرادها.

2- الجمع المحلّی باللاّم

من أدوات العموم الجمع المحلّی باللاّم کقوله سبحانه : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة / 1) وقول القائل : جمع الأمیر الصاغة.

3- المفرد المحلّی باللام

قد عدّ من ألفاظ العموم ، المفرد المحلّی باللاّم ، کقوله سبحانه : (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِی خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِینَ آمَنُوا) (العصر / 1 - 3). وذلک بدلیل ورود الاستثناء علیه.

ص: 106


1- المراد من العقل هو العقل العرفی ، لا العقل الفلسفی وإلاّ فحسب التحلیل الفلسفی أنّ للطبیعة وجودات حسب تعدّد أفرادها ، وأعداما حسب انعدام أفرادها.

الفصل الثانی : هل العام بعد التخصیص حقیقة أو مجاز؟

إذا خصّ العام وأرید به الباقی فهل هو مجاز أو لا؟ فهنا أقوال :

أ. انّه مجاز مطلقا ، وهو خیرة الشیخ الطوسی والمحقّق والعلاّمة الحلّی فی أحد قولیه.

ب. انّه حقیقة مطلقا ، وهو خیرة المحقّق الخراسانی ومن تبعه.

ج. التفصیل بین التخصیص بمخصص متصل (والمراد منه ما إذا کان المخصص متصلا بالکلام وجزءا منه) کالشرط والصفة والاستثناء والغایة فحقیقة ، وبین التخصیص بمخصص منفصل (والمراد ما إذا کان منفصلا ولا یعدّ جزء منه) من سمع أو عقل فمجاز،وهو القول الثانی للعلاّمة اختاره فی التهذیب. والحقّ انّه حقیقة سواء کان المخصص متصلا أو منفصلا.

أمّا الأوّل : أی إذا کان المخصص متصلا بالعام ، ففی مثل قولک : «أکرم کلّ عالم عادل» الوصف مخصص متصل للعام ، وهو «کلّ عالم» غیر أنّ کلّ لفظة من هذه الجملة مستعملة فی معناها ، فلفظة «کل» استعملت فی استغراق المدخول سواء کان المدخول مطلقا کالعالم ، أم مقیدا کالعالم العادل ، کما أنّ لفظة «عالم» مستعملة فی معناها سواء کان عادلا أم غیر عادل ، ومثله اللّفظ الثالث ، أعنی :

ص: 107

عادل ، فالجمیع مستعمل فی معناه اللغوی من باب تعدّد الدال والمدلول.

فدلالة الجملة المذکورة علی إکرام خصوص العالم العادل ، لیس من باب استعمال «العالم» فی العالم العادل ، لما قلنا من انّ کلّ لفظ استعمل فی معناه بل هی من باب تعدد الدال والمدلول ، ونتیجة دلالة کلّ لفظ علی معناه.

نعم لا ینعقد الظهور لکلّ واحد من هذه الألفاظ إلاّ بعد فراغ المتکلّم عن کلّ قید یتصل به ، ولذلک لا ینعقد للکلام المذکور ظهور إلاّ فی الخصوص.

وأمّا الثانی : أی المخصص المنفصل کما إذا قال المتکلّم : «أکرم العلماء» ثمّ قال فی کلام مستقل : «لا تکرم العالم الفاسق» ، فالتحقیق أنّ التخصیص لا یوجب المجازیة فی العام.

ووجهه : أنّ للمتکلّم إرادتین :

الأولی : الإرادة الاستعمالیة وهی إطلاق اللّفظ وإرادة معناه ، ویشترک فیها کلّ من یتکلم عن شعور وإرادة من غیر فرق بین الهازل والممتحن وذی الجدّ.

ثمّ إنّ له وراء تلک الإرادة إرادة أخری ، وهی ما یعبّر عنها بالإرادة الجدیة ، فتارة لا تتعلّق الإرادة الجدیة بنفس ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالیة ، کما فی الأوامر الامتحانیة والصادرة عن هزل.

وأخری تتعلّق الأولی بنفس ما تعلّقت به الثانیة بلا استثناء وتخصیص ، کما فی العام غیر المخصص.

وثالثة تتعلق الإرادة الجدیة ببعض ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالیة ، کما فی العام المخصص ، وعند ذاک یشیر إلی ذلک البعض بدلیل مستقل. ویکشف المخصص عن تضیق الإرادة الجدیة من رأس دون الإرادة الاستعمالیة.

وعلی ضوء ذلک یکفی للمقنّن أن یلقی کلامه بصورة عامة ، ویقول : أکرم

ص: 108

کلّ عالم ، ویستعمل الجملة فی معناها الحقیقی (من دون أن یستعملها فی معنی مضیق) ثم یشیر بدلیل مستقل إلی ما لم تتعلّق به إرادته الجدیة کالفاسق مثلا.

وأکثر المخصصات الواردة فی الشرع من هذا القبیل حیث نجد أنّه سبحانه یقول : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِیَ مِنَ الرِّبا إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ) (البقرة / 278). ثمّ یرخّص فی السنّة الشریفة ویخصّص حرمة الربا بغیر الوالد والولد ، والزوج والزوجة.

ص: 109

الفصل الثالث : حجّیة العام المخصّص فی الباقی

إذا ورد عام وتبعه التخصیص ثمّ شککنا فی ورود تخصیص آخر علیه غیر ما علم،فهل یکون العام حجّة فیما شک خروجه عنه أو لا؟ وهذا ما یعبّر عنه فی الکتب الأصولیة ب «هل العام المخصص حجّة فی الباقی أو لا؟» : مثلا إذا ورد النص بحرمة الربا ، ثمّ علمنا بخروج الربا بین الوالد والولد عن تحت العموم وشککنا فی خروج سائر الأقربین کالأخ والأخت ، فهل العام (حرمة الربا) حجّة فی المشکوک أو لا؟

والمختار حجّیته فی المشکوک لأنّ العام المخصّص مستعمل فی معناه الحقیقی بالإرادة الاستعمالیة ، وإن ورد علیه التخصیص فإنّما یخصص الإرادة الجدیة ، وإلاّ فالإرادة الاستعمالیة باقیة علی حالها لا تمس کرامتها.

والأصل العقلائی هو تطابق الإرادة الاستعمالیة مع الإرادة الجدیة إلاّ ما علم فیه عدم التطابق.

وهذه (أی حجّیة العام المخصص فی الباقی) هی الثمرة للفصل السابق فی کون العام المخصص حقیقة فی الباقی ولیس مجازا.

ص: 110

الفصل الرابع : التمسّک بالعام قبل الفحص عن المخصص

إنّ دیدن العقلاء فی المحاورات العرفیة هو الإتیان بکلّ ما له دخل فی کلامهم ومقاصدهم من دون فرق بین القضایا الجزئیة أو الکلیة ، ولذا یتمسّک بظواهر کلامهم من دون أیّ تربص.

وأمّا الخطابات القانونیة التی ترجع إلی جعل القوانین وسنّ السّنن سواء کانت دولیة أو إقلیمیة ، فقد جرت سیرة العقلاء علی خلاف ذلک ، فتراهم یذکرون العام والمطلق فی باب ، والمخصص والمقید فی باب آخر ، کما أنّهم یذکرون العموم والمطلق فی زمان ، وبعد فترة یذکرون المخصّص والمقیّد فی زمان آخر.

وقد سلک التشریع الإسلامی هذا النحو فتجد ورود العموم فی القرآن أو کلام النبیصلی الله علیه و آله و سلّموالمخصص والمقید فی کلام الأوصیاء مثلا وما هذا شأنه لا یصحّ فیه عند العقلاء التمسک بالعموم قبل الفحص عن مخصصاته أو بالمطلق قبل الفحص عن مقیداته.

ص: 111

الفصل الخامس : تخصیص العام بالمفهوم

إذا کان هناک دلیل عام ودلیل آخر له مفهوم ، فهل یقدّم المفهوم علی العام أو لا؟

وإنّما عقدوا هذا البحث - مع اتّفاقهم علی تقدیم المخصص علی العام - لأجل تصوّر أنّ الدلالة المفهومیة (وإن کانت أخص) أضعف من الدلالة المنطوقیة (العموم) ، ولأجل ذلک بحثوا فی انّ المفهوم هل یقدم مع ضعفه علی العام أو لا؟ ویقع الکلام فی مبحثین :

الأوّل : تخصیص العام بالمفهوم الموافق.

الثانی : تخصیص العام بالمفهوم المخالف.

المبحث الأوّل : تخصیص العام بالمفهوم الموافق

قد نقل الاتفاق علی جواز التخصیص بالمفهوم الموافق فمثلا إذا قال : اضرب من فی الدار ، ثمّ قال : ولا تقل للوالدین أف. فالدلیل الثانی یدلّ علی حرمة ضرب الوالدین أیضا إذا کانا فی الدار فیخصص العام بهذا المفهوم.

ص: 112

المبحث الثانی : هل یخصص العام بالمفهوم المخالف؟

إذا ورد عام کقوله : «الماء کلّه طاهر» فهل یخصص هذا العام بمفهوم المخالف فی قوله : «إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجسه شیء» ، أم لا؟

فیه أقوال والتفصیل یطلب من الدراسات العلیا والظاهر أنّه إذا لم تکن قوّة لأحد الدلیلین فی نظر العرف علی الآخر یعود الکلام مجملا ، وأمّا إذا کان أحدهما أظهر من الآخر فیقدّم الأظهر.

الفصل السادس : تخصیص الکتاب بخبر الواحد

اتّفق الأصولیّون علی جواز تخصیص الکتاب بالکتاب وتخصیصه بالخبر المتواتر.

واختلفوا فی جواز تخصیص الکتاب بخبر الواحد علی أقوال ثلاثة :

القول الأوّل : عدم الجواز مطلقا. وهو خیرة السید المرتضی فی «الذریعة» ، والشیخ الطوسی فی «العدّة» ، والمحقّق فی «المعارج».

القول الثانی : الجواز مطلقا ، وهو خیرة المتأخّرین.

القول الثالث : التفصیل بین تخصیص الکتاب بمخصص قطعی قبل خبر الواحد فیجوز به أیضا ، وعدمه فلا یجوز به.

استدلّ المتأخّرون علی جواز تخصیص الکتاب بخبر الواحد بوجهین :

ص: 113

الوجه الأوّل : جریان سیرة الأصحاب علی العمل بأخبار الآحاد فی قبال عمومات الکتاب واحتمال أن یکون ذلک بواسطة القرائن المفیدة للعلم بعید جدّا ، فمثلا خصصت آیة المیراث : (یُوصِیکُمُ اللهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ) (النساء / 11) بالسنّة کقوله : لا میراث للقاتل. (1)

وخصصت آیة حلیة النساء ، أعنی قوله : (أُحِلَّ لَکُمْ ما وَراءَ ذلِکُمْ)(النساء /24) بما ورد فی السنّة من أنّ المرأة لا تزوّج علی عمّتها وخالتها. (2)

وخصصت آیة حرمة الربا بما دلّ علی الجواز بین الولد والوالد ، والزوج والزوجة.

الوجه الثانی : إذا لم نقل بجواز تخصیص الکتاب بخبر الواحد لزم إلغاء الخبر بالمرّة إذ ما من حکم مروی بخبر الواحد إلاّ بخلافه عموم الکتاب ولو بمثل عمومات الحلّ ، ولا یخلو الوجه الثانی عن إغراق ، لأنّ کثیرا من الآیات الواردة حول الصلاة والزکاة والصوم وغیرها واردة فی مقام أصل التشریع ، ولأجل ذلک تحتاج إلی البیان ، وخبر الواحد بعد ثبوت حجیته یکون مبیّنا لمجملاته وموضحا لمبهماته ولا یعدّ مثل ذلک مخالفا للقرآن ومعارضا له،بل یکون فی خدمة القرآن والغایة المهمة من وراء حجّیة خبر الواحد هو ذلک.

ثمّ لو قلنا بجواز تخصیص القرآن بخبر الواحد لا نجیز نسخه به ، لأنّ الکتاب قطعی الثبوت وخبر الواحد ظنّی الصدور ، فکیف یسوغ نسخ القطعی بالظنّی خصوصا إذا کان النسخ کلیا لا جزئیا ، أی رافعا للحکم من رأسه.

ص: 114


1- الوسائل : 17 ، الباب 7 من أبواب موانع الإرث ، الحدیث 1.
2- الوسائل : 14 ، الباب 30 من أبواب ما یحرم بالمصاهرة ونحوها.

الفصل السابع : تعقیب الاستثناء للجمل المتعدّدة

إذا تعقّب الاستثناء جملا متعدّدة ، کقوله سبحانه : (وَالَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ یَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِینَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِینَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِکَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ) (النور / 4 - 5) ففی رجوع الاستثناء إلی الجمیع أو إلی الجملة الأخیرة أقوال :

أ. ظهور الکلام فی رجوعه إلی جمیع الجمل ، لأنّ تخصیصه بالأخیرة فقط بحاجة إلی دلیل.

ب. ظهور الکلام فی رجوع الاستثناء إلی الجملة الأخیرة لکونها أقرب.

ج. عدم ظهور الکلام فی واحد منهما وإن کان رجوعه إلی الأخیرة متیقّنا علی کلّ حال ، لکن الرجوع إلیها شیء وظهوره فیها شیء آخر.

لا شکّ فی إمکان رجوع الاستثناء إلی خصوص الأخیرة أو الجمیع ، وإنّما الکلام فی انعقاد الظهور لواحد منهما عند العقلاء ، فالاستثناء کما یحتمل رجوعه إلی الأخیرة کذلک یحتمل رجوعه إلی الجمیع ، والتعیین بحاجة إلی دلیل قاطع ، وما ذکر من الدلائل للقولین لا یخرج عن کونها قرائن ظنیة ، غیر مثبتة للظهور.

ص: 115

الفصل الثامن : النسخ و التخصیص

النسخ فی اللغة : هو الإزالة. وفی الاصطلاح : رفع الحکم الشرعی بدلیل شرعی متأخّر علی وجه لولاه لکان ثابتا.

وبذلک علم أنّ النسخ تخصیص فی الأزمان ، أی مانع عن استمرار الحکم ، لا عن أصل ثبوته ولنذکر مثالا : قال سبحانه : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا ناجَیْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقَةً ذلِکَ خَیْرٌ لَکُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ)(المجادلة/12) فرض الله سبحانه علی المؤمنین إذا أرادوا مناجاة الرسول أن یقدّموا قبله صدقة.

ثمّ لمّا نهوا عن المناجاة حتی یتصدّقوا ، ضنّ کثیر منهم من التصدق حتی کفّوا عن المسألة فلم یناجه إلاّ علی بن أبی طالب علیه السلام بعد ما تصدّق.

ثمّ نسخت الآیة بما بعدها ، قال سبحانه : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَیْکُمْ فَأَقِیمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّکاةَ وَأَطِیعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِیرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (المجادلة / 13).

إنّ النسخ فی القرآن الکریم نادر جدّا ، ولم نعثر علی النسخ فی الکتاب

ص: 116

إلاّ فی آیتین إحداهما ما عرفت والثانیة قوله سبحانه : (وَالَّذِینَ یُتَوَفَّوْنَ مِنْکُمْ وَیَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِیَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَی الْحَوْلِ غَیْرَ إِخْراجٍ) (البقرة / 240).

واللاّم فی الحول إشارة إلی الحول المعهود بین العرب قبل الإسلام حیث کانت النساء یعتددن إلی حول ، وقد أمضاه القرآن کبعض ما أمضاه من السنن الرائجة فیه لمصلحة هو أعلم بها.

ثمّ نسخت بقوله سبحانه : (وَالَّذِینَ یُتَوَفَّوْنَ مِنْکُمْ وَیَذَرُونَ أَزْواجاً یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (البقرة / 234).

وبذلک یعلم أنّه یشترط فی النسخ وقوع العمل بالمنسوخ فترة ، ثمّ ورود الناسخ بعده وإلی هذا یشیر کلام الأصولیین حیث یقولون یشترط فی النسخ حضور العمل.

إنّ النسخ فی القوانین العرفیة (1) یلازم البداء (2) ، أی ظهور ما خفی لهم من المصالح والمفاسد ، وهذا بخلاف النسخ فی الأحکام الشرعیة ، فإنّ علمه سبحانه محیط لا یعزب عن علمه مثقال ذرة فی الأرض ولا فی السماء ، فالله سبحانه یعلم مبدأ الحکم وغایته غیر أنّ المصلحة اقتضت إظهار الحکم بلا غایة لکنّه فی الواقع مغیّا.

فقد خرجنا بهذه النتیجة أنّ النسخ فی الأحکام العرفیة رفع للحکم واقعا ، ولکنه فی الأحکام الإلهیة دفع لها وبیان للأمد الذی کانت مغیّا به منذ تشریعها ولا مانع من إظهار الحکم غیر مغیّا ، وهو فی الواقع محدّد لمصلحة فی نفس

ص: 117


1- المراد ما تقابل الأحکام الإلهیة. فالقوانین المجعولة بید الإنسان تسمّی فی اصطلاح الحقوقیین قوانین وضعیة.
2- البداء بهذا المعنی محال علی الله دون الإنسان.

الإظهار.

هذا هو النسخ ، وأمّا حدّ التخصیص ، فهو إخراج فرد أو عنوان عن کونه محکوما بحکم العام من أوّل الأمر حسب الإرادة الجدیة ، وإن شمله حسب الإرادة الاستعمالیّة ، فهو تخصیص فی الأفراد لا فی الأزمان مقابل النسخ الذی عرفت أنّه هو تخصیص فیها ، ولأجل ذلک یشترط فی التخصیص وروده قبل حضور وقت العمل بالعام ، وإلاّ فلو عمل بالعام ثمّ ورد التخصیص یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة وهو قبیح علی الحکیم ، فلا محیص من وروده قبل العمل بالعام لو کان مخصّصا ، نعم لو کان ناسخا لحکم العام فی مورده یجب تأخیره عن وقت حضور العمل بالعام.

تمّ الکلام فی المقصد الرابع

والحمد لله

ص: 118

المقصد الخامس : فی المطلق و المقید و المجمل و المبین

اشارة

وفیه فصول :

الفصل الأوّل : فی تعریف المطلق والمقیّد.

الفصل الثانی : فی ألفاظ المطلق.

الفصل الثالث : فی أنّ المطلق بعد التقیید لیس مجازا.

الفصل الرابع : فی مقدمات الحکمة.

الفصل الخامس : فی المطلق والمقیّد المتنافیین.

الفصل السادس : فی المجمل والمبین والمحکم والمتشابه.

ص: 119

الفصل الأوّل : تعریف المطلق

عرّف المطلق : بأنّه ما دلّ علی شائع فی جنسه ، والمقیّد علی خلافه.

والمراد من الموصول فی قولهم «ما دلّ» هو اللفظ ، والمراد من الشائع هو المتوفّر وجوده من ذلک الجنس.

ثمّ إنّ ظاهر التعریف أنّ الإطلاق والتقیید عارضان للّفظ بما هو هو سواء تعلّق به الحکم أو لا ، فهنا لفظ مطلق ، ولفظ مقیّد.

ولکن هذا النوع من البحث یناسب البحوث الأدبیة ، والذی یهمّ الأصولی الذی هو بصدد تأسیس قواعد تکون مقدّمة للاستنباط هو تعریف المطلق والمقید بلحاظ تعلّق الحکم بالموضوع ، فنقول : المطلق : عبارة عن کون اللفظ بما له من المعنی ، تمام الموضوع للحکم ، بلا لحاظ حیثیة أخری ، فبما أنّه مرسل عن القید فی مقام الموضوعیة للحکم فهو مطلق.

وإن شئت قلت : إنّ الإطلاق والتقیید وصفان عارضان للموضوع باعتبار تعلّق الحکم به ، فلو کان اللفظ فی مقام الموضوعیة مرسلا عن القید والحیثیة الزائدة کان مطلقا وإلاّ کان مقیّدا.

فالرقبة فی «أعتق رقبة» مطلق لکونها تمام الموضوع للحکم ومرسلة عن

ص: 120

القید فی موضوعیّتها ، وتخالفه رقبة فی قولنا «أعتق رقبة مؤمنة» فهی مقیّدة بالإیمان لعدم کونها تمام الموضوع وعدم إرسالها عن القید.

وبذلک یظهر أنّه لا یشترط فی المطلق أن یکون مفهوما کلیّا ، بل یمکن أن یکون جزئیا حقیقیا ومرسلا عن التقید بحالة خاصة ، فإذا قال : أکرم زیدا فزید مطلق ، لأنّه تمام الموضوع للوجوب ومرسل عن القید ، بخلاف ما إذا قال : أکرم زیدا إذا سلّم ، فهو مقید بحالة خاصة ، أعنی : «إذا سلّم» ، فإطلاق الکلی - فی مقام الموضوعیة للحکم - باعتبار الأفراد ، وإطلاق الجزئی فی ذلک المقام بالنسبة إلی الحالات.

ویترتب علی ما ذکرنا أمور :

الأوّل : لا یشترط فی المطلق أن یکون أمرا شائعا فی جنسه بل یجوز أن یکون جزئیا ذا أحوال ، فلو کان موضوعا للحکم بلا قید فهو مطلق وإلاّ فهو مقیّد فمثلا إذا شکّ فی جواز الطواف بالبیت مع خلو البیت عن الستر ، فیصح له التمسّک بقوله سبحانه : (وَلْیَطَّوَّفُوا بِالْبَیْتِ الْعَتِیقِ) (الحج / 29) إذ لو کان الستر شرطا للصحّة کان علیه البیان إذا کانت الآیة فی ذلک المقام.

الثانی : إنّ الإطلاق والتقیید من الأمور الإضافیة ، فیمکن أن یکون الموضوع مطلقا من جهة ومقیدا من جهة أخری ، کما إذا قال : أطعم إنسانا جالسا فی المسجد ، فهو مطلق من جهة کون الموضوع هو الإنسان لا الإنسان العالم ، ومقیّد من جهة تقیید مکانه بالمسجد.

الثالث : یظهر من التعریف المشهور أنّ الإطلاق من المدالیل اللفظیة کالعموم ، والحقّ أنّ الإطلاق من المدالیل العقلیة ، فإذا کان المتکلّم حکیما غیر ناقض لغرضه وجعل الشیء بلا قید موضوعا للحکم کشف ذلک انّه تمام

ص: 121

الموضوع وإلاّ لکان ناقضا لغرضه وهو ینافی کونه حکیما.

الرابع : إذا کانت حقیقة الإطلاق دائرة مدار کون اللفظ تمام الموضوع من دون اشتراط أن یکون الموضوع اسم الجنس أو النکرة أو معرفا باللام ، فنحن فی غنی عن إفاضة القول فی حقائق تلک الأسماء.

نعم من فسّر الإطلاق بالشیوع أو نظیره فلا محیص له عن التکلّم فی حقائق تلک الأسماء ، وحیث إنّها ذکرت فی الکتب الأصولیة نشیر إلیها علی سبیل الإجمال.

الفصل الثانی : ألفاظ المطلق

1- اسم الجنس

کان الرأی السائد بین الأصولیّین قبل سلطان العلماء انّ المطلق کاسم الجنس موضوع للماهیة بقید الإطلاق والسریان والشیوع علی نحو کان الشیوع بین الأفراد والحالات من مدالیل اللّفظ ، فالرقبة فی (أعتق رقبة) موضوعة للرقبة المطلقة علی وجه یکون الإطلاق قیدا ، نظیر المفعول المطلق.

ولکن صار الرأی السائد بعد تحقیق سلطان العلماء هو أنّه موضوع للماهیة المعرّاة عن کلّ قید حتی الإطلاق نظیر مطلق المفعول.

وعلی ذلک فأسماء الأجناس کأسد وإنسان وبقر کلّها موضوعة للماهیة المعرّاة عن کلّ قید.

ص: 122

2- علم الجنس

إنّ فی لغة العرب أسماء ترادف أسماء الأجناس ، لکن تعامل معها معاملة المعرفة بخلاف أسماء الأجناس فیعامل معها معاملة النکرة ، فهناک فرق بین ثعلب وثعالة ، وأسد وأسامة ، حیث یقع الثانی منهما مبتدأ وذا حال بخلاف الأوّلین ، وهذا ما دعاهم إلی تسمیة ذلک بعلم الجنس.

3- المعرّف بالألف واللام

اللام تنقسم إلی : لام الجنس ولام الاستغراق ، ولام العهد. ولام الاستغراق تنقسم إلی : استغراق الأفراد ، واستغراق خصائصها. ولام العهد تنقسم إلی : ذهنی ، وذکریّ ، وحضوری.

فصارت الأقسام ستة والمقصود منه هاهنا المحلی بلام الجنس مثل قولهم : التمرة خیر من جرادة.

4- النکرة

اختلفت کلمة الأصولیّین فی أنّ النکرة هل وضعت للفرد المردّد بین الأفراد ، أو موضوعة للطبیعة المقیّدة بالوحدة؟

والتحقیق هو الثانی ، لأنّها عبارة عن اسم الجنس الذی دخل علیه التنوین ، فاسم الجنس یدلّ علی الطبیعة والتنوین یدلّ علی الوحدة.

وأمّا القول بأنّها موضوعة للفرد المردّد بین الأفراد ، فغیر تام ، إذ لازم ذلک أن لا یصحّ امتثاله إذا وقع متعلّقا للحکم ، لأنّ الفرد الممتثل به ، فرد متعیّن مع أنّ المأمور به هو الفرد المردّد ، فإذا قال : جئنی بإنسان ، فأیّ إنسان أتیت به فهو هو ولیس مردّدا بینه وبین غیره.

ص: 123

الفصل الثالث : فی أنّ تقیید المطلق لا یوجب المجازیة

اختلفت کلمة الأصولیّین فی أنّ تقیید المطلق یستلزم المجازیة أو لا علی أقوال ، نذکر منها قولین :

الأوّل : انّه یستلزم المجازیة مطلقا سواء کان القید متصلا أم منفصلا ، وهو المشهور قبل سلطان العلماء.

الثانی : إنّه لا یستلزم المجازیة مطلقا ، وهو خیرة سلطان العلماء.

حجة القول الأوّل هو أنّ مقوّم الإطلاق هو الشیوع والسریان ، وقد قیل فی تعریفه ما دلّ علی شائع فی جنسه وبالتقیید یزول الشمول والسریان فینتج المجازیة.

وحجّة القول الثانی : انّ المطلق موضوع للحقیقة المعرّاة من کلّ قید حتی الشیوع والسریان ، فالتقیید لا یحدث أیّ تصرف فی المطلق.

والحقّ انّ التقیید لا یوجب مجازیة المطلق ، سواء کان المطلق موضوعا للشائع ، أو لنفس الماهیة المعراة عن کلّ قید کما مرّ من أنّ تخصیص العام بالتخصیص المتصل والمنفصل، لا یستلزم مجازیته.

لأنّ کل لفظ مستعمل فی معناه ، فلو قلنا بأنّ المطلق موضوع للشائع فی جنسه ، فهو مستعمل فی معناه ، وتقییده بقید لا یوجب استعماله فی غیر ما وضع له ، لما عرفت من تعدّد الدالّ والمدلول ، فلاحظ.

ص: 124

الفصل الرابع : مقدّمات الحکمة

الاحتجاج بالإطلاق لا یتم إلاّ بعد تمامیة مقدّمات الحکمة الحاکمة علی أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحکم ، وهذا هو السرّ لحاجة المطلق إلی تلک المقدّمات.

فنقول : إنّ مقدّمات الحکمة عبارة عن :

1- کون المتکلّم فی مقام بیان تمام مراده لا فی مقام الإهمال ولا الإجمال.

2- انتفاء ما یوجب التقیید. وإن شئت قلت : عدم نصب القرینة علی القید.

3- انتفاء القدر المتیقن فی مقام التخاطب.

أمّا المقدّمة الأولی : فالمتکلّم قد یکون فی مقام بیان أصل الحکم من دون نظر إلی الخصوصیات والشرائط ، مثل قوله تعالی : (أُحِلَّ لَکُمُ الطَّیِّباتُ) (المائدة / 5) وقوله : (أُحِلَّ لَکُمْ صَیْدُ الْبَحْرِ) (المائدة / 96) وقول الفقیه : الغنم حلال ، فالجمیع فی مقام بیان أصل الحکم لا فی مقام بیان خصوصیاته ، فلا یصحّ التمسک بأمثال هذه الإطلاقات عند الشکّ فی الجزئیة والشرطیة.

وقد یکون فی مقام بیان کلّ ما له دخل فی الموضوع من الأجزاء والشرائط ، فإذا سکت عن بیان جزئیة شیء أو شرطیته نستکشف انّه غیر دخیل فی الموضوع.

ص: 125

وعلی ذلک إنّما یصحّ التمسّک فی نفی الجزئیة والشرطیة بالإطلاقات الواردة لبیان الموضوع بأجزائه وشرائطه دون ما کان فی مقام الإجمال والإهمال ، فإن ترک بیان ما هو الدخیل فی الغرض قبیح فی الأوّل دون الثانی.

مثل قوله سبحانه : (فَکُلُوا مِمَّا أَمْسَکْنَ عَلَیْکُمْ وَاذْکُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَیْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِیعُ الْحِسابِ) (المائدة / 4).

فالآیة بصدد بیان أنّ ما أمسکه الکلب بحکم المذکّی إذا ذکر اسم الله علیه ولیس بمیتة ، فهی فی مقام بیان حلیّة ما یصیده الکلب وإن مات الصید قبل أن یصل إلیه الصائد.

وهل یصحّ التمسّک بإطلاق قوله : (فَکُلُوا) علی طهارة موضع عضّه وجواز أکله بدون غسله وتطهیره ، أو لا؟

الظاهر ، لا لأنّ الآیة بصدد بیان حلّیته وحرمته لا طهارته ونجاسته ، فقوله تعالی : (فَکُلُوا) لرفع شبهة حرمة الأکل ، لأجل عدم ذبحه بالشرائط الخاصة ، لا بصدد بیان طهارته من أجل عضّه.

وأمّا المقدّمة الثانیة أی انتفاء ما یوجب التقیید ، والمراد منه عدم وجود قرینة علی التقیید لا متصلة ولا منفصلة ، لأنّه مع القرینة المتصلة لا ینعقد للکلام ظهور إلاّ فی المقید ومع المنفصلة وإن کان ینعقد للکلام ظهور فی الإطلاق ولکن یسقط عن الحجّیة بالقرینة المنفصلة.

وأمّا المقدّمة الثالثة ، أی انتفاء القدر المتیقن فی مقام التخاطب والمحاورة ، فمرجعه إلی أنّ وجود القدر المتیقن فی مقام المحاورة بمنزلة القرینة الحالیة المتصلة ، فلا ینعقد للکلام ظهور فی الإطلاق.

تتمیم : الأصل فی کلّ متکلّم أن یکون فی مقام البیان ، فلو شکّ أنّ المتکلّم

ص: 126

فی مقام بیان تمام مراده ، فالأصل کونه کذلک إلاّ أن یدلّ دلیل علی خلافه کما أنّه یمکن أن یکون للکلام جهات مختلفة ، کأن یکون واردا فی مقام البیان من جهة وفی مقام الإهمال من جهة أخری ، کما فی الآیة السابقة ، فقد کان فی مقام البیان من جهة الحلیة لا فی مقام بیان طهارة موضع العض.

الفصل الخامس : المطلق و المقید المتنافیان

إذا ورد مطلق کقول الطبیب : إذا استیقظت من النوم اشرب لبنا ، وورد مقیّد مناف له کقوله فی کلام آخر : إذا استیقظت من النوم اشرب لبنا حلوا. فهذان الحکمان متنافیان،لأنّ الأوّل یدلّ علی کفایة شرب مطلق اللبن بخلاف الثانی فإنّه یخصه بالحلو منه.

فعلاج هذا التنافی یحصل بأحد أمرین :

أ. التصرف فی المطلق بحمله علی المقید فیصیر اللازم هو شرب اللبن الحلو.

ب. التصرف فی المقید مثل حمله علی الاستحباب.

والرائج فی الخطابات الشرعیة هو حمل المطلق علی المقید لا حمل المقید علی الاستحباب ، وقد عرفت وجهه من أنّ التشریع تمّ تدریجا ومثله یقتضی جعل الثانی متمما للأوّل.

ثمّ إنّ إحراز التنافی فرع إحراز وحدة الحکم ، وإلاّ فلا یحصل التنافی کما إذا اختلف سبب الحکمین مثلا إذا قال : إذا استیقظت من النوم فاشرب لبنا حلوا ، وإذا أکلت فاشرب لبنا ، فالحکمان غیر متنافیین لاختلافهما فی السبب.

ص: 127

فعلی الفقیه فی مقام التقیید إحراز وحدة الحکم عن طریق إحراز وحدة السبب وغیرها، وإلاّ فلا داعی لحمل المطلق علی المقید لتعدّد الحکمین.

الفصل السادس : المجمل و المبین

عرّف المجمل بأنّه ما لم تتضح دلالته ، ویقابله المبین.

والمقصود من المجمل ما جهل فیه مراد المتکلّم إذا کان لفظا ، أو جهل فیه مراد الفاعل إذا کان فعلا. وعلیه قال المحقّقون : إنّ فعل المعصوم کما لو صلی مع جلسة الاستراحة یدلّ علی أصل الجواز ولا یدلّ علی الوجوب أو الاستحباب بخصوصهما.

ثمّ إنّ لإجمال الکلام أسبابا کثیرة منها :

1- إجمال مفرداته کالید الواردة فی آیة السرقة ، قال سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) (المائدة / 38) فانّ الید تطلق علی الکف إلی أصول الأصابع ، وعلی الکف إلی الزند ، وعلیه إلی المرفق ، وعلیه إلی المنکب ، فالآیة مجملة ، فتعیین واحد من تلک المصادیق بحاجة إلی دلیل.

2- الإجمال فی متعلّق الحکم المحذوف کما فی کلّ مورد تعلّق الحکم بالأعیان کقوله سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِیرِ وَما أُهِلَّ لِغَیْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّیَةُ وَالنَّطِیحَةُ وَما أَکَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَکَّیْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَی النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِکُمْ فِسْقٌ) (المائدة / 3). فهل المحرم أکلها ، أو بیعها ، أو الانتفاع منها بکل طریق؟

ص: 128

3- تردّد الکلام بین الادّعاء والحقیقة کما فی قوله : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب» وقوله : «لا صلاة إلاّ بطهور» فهل المراد نفی الصلاة بتاتا ، أو نفی صحّتها ، أو کمالها تنزیلا للموجود بمنزلة المعدوم؟

ویمکن أن یکون بعض ما ذکرنا مجملا عند فقیه ومبیّنا عند فقیه آخر ، وبذلک یظهر أنّ المجمل والمبین من الأوصاف الإضافیة.

تمّ الکلام فی المقصد الخامس

والحمد لله ربّ العالمین

ص: 129

ص: 130

المقصد السادس : فی الحجج و الأمارات

اشارة

وفیه مقامان :

المقام الأوّل : القطع وأحکامه وفیه فصول :

الفصل الأوّل : فی حجّیة القطع.

الفصل الثانی : فی التجرّی وأحکامه.

الفصل الثالث : تقسیم القطع إلی طریقی وموضوعی.

الفصل الرابع : فی قطع القطّاع.

الفصل الخامس : فی أنّ المعلوم إجمالا کالمعلوم تفصیلا.

الفصل السادس : فی حجّیة العقل.

الفصل السابع : فی حجّیة العرف والسیرة.

المقام الثانی : الظنون المعتبرة وإمکان التعبد بها وفیه فصول :

الفصل الأوّل : حجّیة ظواهر الکتاب.

الفصل الثانی : حجّیة الشهرة الفتوائیة.

الفصل الثالث : حجّیة السنّة المحکیة بخبر الواحد.

الفصل الرابع : حجّیة الإجماع المنقول بخبر الواحد.

الفصل الخامس : حجّیة قول اللغوی.

ص: 131

ص: 132

وهذا المقصد من أهم المقاصد فی علم الأصول ، فإنّ المستنبط یبذل الجهد للعثور علی ما هو حجّة بینه وبین ربّه ، فیثاب إن أصاب الواقع ، ویعذّر إن أخطأه.

وقد یعبّر عن هذا البحث بمصادر الفقه وأدلّته ، وهی عندنا منحصرة فی أربعة:الکتاب ، السنّة ، الإجماع ، والعقل. وهی معتبرة عند کلا الفریقین مع اختلاف بینهم فی سعة حجیّة العقل. غیر انّ أهل السنّة یفترقون عن الشیعة فی القول بحجیة أمور أخری مذکورة فی کتبهم.

وقبل الخوض فی المقصود نذکر تقسیم المکلّف حسب الحالات ، فنقول :

تقسیم المکلّف باعتبار الحالات

إنّ المکلّف الملتفت إلی الحکم الشرعی له حالات ثلاث :

الأولی : القطع بالحکم الشرعی الواقعی.

الثانیة : الظن به.

الثالثة : الشکّ فیه.

فإن حصل له القطع ، فیلزمه العمل به لاستقلال العقل بذلک ، فیثاب عند

ص: 133

الموافقة ، ویعذّر عند المخالفة شأن کلّ حجّة.

وإن حصل له الظن بالحکم الواقعی ، فإن قام الدلیل القطعی علی حجّیة ذلک الظن کخبر الواحد یجب العمل به ، فإنّ الطریق إلی الحکم الشرعی وإن کان ظنیا کما هو المفروض ، لکن إذا قام الدلیل القطعی من جانب الشارع علی حجّیة ذلک الطریق ، یکون هذا الطریق علمیّا وحجّة شرعیة.

وإن لم یقم ، فهو بحکم الشاک ، ووظیفته العمل بالأصول العملیة التی هی حجّة عند عدم الدلیل.

فیقع الکلام فی مقامات ثلاثة :

الأوّل : فی القطع وأحکامه.

الثانی : فی الظنون المعتبرة.

الثالث : فی الأصول العملیة.

غیر انّ البحث عن الأصول العملیة یأتی فی المقصد السابع ، فینحصر الکلام فی المقصد السادس بالقطع والظن.

ص: 134

المقام الأوّل : القطع و أحکامه

اشارة

وفیه فصول :

الفصل الأوّل : حجّیة القطع

لا شکّ فی وجوب متابعة القطع والعمل علی وفقه ما دام موجودا ، لأنّه بنفسه طریق إلی الواقع ، وهو حجّة عقلیة ، وهی عبارة عمّا یحتج به المولی علی العبد وبالعکس ، وبعبارة أخری ما یکون قاطعا للعذر إذا أصاب ومعذّرا إذا أخطأ ، والقطع بهذا المعنی حجّة ، حیث یستقل به العقل ویبعث القاطع إلی العمل وفقه ویحذّره عن المخالفة ، وما هذا شأنه ، فهو حجّة بالذات ، غنیّ عن جعل الحجّیة له ، لأنّ جعل الحجّیة للقطع یتم إمّا بدلیل قطعی أو بدلیل ظنی ، وعلی الأوّل ینقل الکلام إلی ذلک الدلیل القطعی ، ویقال : ما هو الدلیل علی حجّیته ، وهکذا فیتسلسل ، وعلی الثانی یلزم أن یکون القطع أسوأ حالا من الظن ، ولذلک یجب أن ینتهی الأمر فی باب الحجج إلی ما هو حجّة بالذات ، أعنی : القطع ، وقد تبیّن فی محله «أنّ کلّ ما هو بالعرض لا بد وأن ینتهی إلی ما بالذات».

فتبیّن أنّ للقطع خصائص ثلاث :

1- کاشفیته عن الواقع ولو عند القاطع.

ص: 135

2- منجّزیته عند الإصابة للحکم الواقعی بحیث لو أطاع یثاب ولو عصی یعاقب.

3- معذّریته عند عدم الإصابة ، فیعذّر القاطع إذا أخطأ فی قطعه وبان خلافه.

ثمّ اعلم أنّ المراد بالحجّة هنا لیس الحجّة الأصولیة وهی عبارة عمّا لا یستقل العقل بالاحتجاج به غیر أنّ الشارع أو الموالی العرفیّة یعتبرونه حجّة فی باب الأحکام والموضوعات لمصالح ، فتکون حجّیته عرضیّة مجعولة کخبر الثقة ، لأنّ القطع غنیّ عن إفاضة الحجّیة علیه، وذلک لاستقلال العقل بکونه حجّة فی مقام الاحتجاج ومعه لا حاجة إلی جعل الحجّیة له.

ص: 136

الفصل الثانی : التجرّی

التجرّی فی اللغة إظهار الجرأة ، فإذا کان المتجرّی علیه هو المولی فیتحقق التجرّی بالإقدام علی خلاف ما دلّ الدلیل علی وجوبه أو حرمته ، وفی الاصطلاح هو الإقدام علی خلاف ما قطع به أو قام الدلیل المعتبر علیه بشرط أن یکون مخالفا للواقع ، کما إذا أذعن بوجوب شیء أو حرمته ، فترک الأوّل وارتکب الثانی ، فبان خلافهما وانّه لم یکن واجبا أو حراما.

ویقابله الانقیاد فی الاصطلاح ، فهو عبارة عمّا إذا أذعن بوجوب شیء أو حرمته ، فعمل بالأوّل وترک الثانی ، فبان خلافهما.

والکلام فی التجرّی یقع فی موضعین :

الموضع الأوّل : فی حکم نفس التجرّی

وفیه أقوال :

منها : استحقاق العقاب.

ومنها : عدم استحقاق العقاب.

ومنها : استحقاق العقاب إلاّ إذا اعتقد تحریم واجب غیر مشروط بقصد القربة وأتی به ، فلا یبعد عدم استحقاق العقاب ، وهو خیرة صاحب الفصول.

ص: 137

والصواب هو القول الثانی أی عدم استحقاق العقاب.

ولیعلم أنّ موضوع البحث هو مخالفة الحجّة العقلیة ، لأجل غلبة الهوی علی العقل والشقاء علی السعادة. وربما یرتکبه الإنسان مع استیلاء الخوف علیه. وأمّا ضمّ عناوین أخر علیه من الهتک والتمرّد ورفع علم الطغیان فجمیعها أجنبیة عن المقام ، فلا شکّ فی استحقاق العقاب إذا عدّ عمله مصداقا للهتک ورمزا للطغیان وإظهارا للجرأة إلی غیر ذلک من العناوین المقبّحة.

نعم انّ التجرّی یکشف عن ضعف الإیمان ، فیستحق اللوم والذم لا العقاب.

الموضع الثانی : فی حکم الفعل المتجرّی به (1)

والکلام فیه تارة من حیث کونه قبیحا وأخری من جهة الحرمة الشرعیة.

أمّا الأوّل ، فهو منتف قطعا ، لأنّ الحسن والقبح یعرضان علی الشیء بالملاک الواقعی فیه ، والمفروض أنّ الفعل المتجرّی به هو شرب الماء وهو فاقد لملاک القبح.

وأمّا الثانی ، فلا دلیل علی الحرمة ، لأنّ الحرام هو شرب الخمر ، والمفروض أنّه شرب الماء ولیس هناک دلیل یدلّ علی أنّ شرب ما یقطع الشارب بکونه خمرا حرام ، وذلک لأنّ الحرمة تتعلّق بواقع الموضوعات لا الموضوع المقطوع به فبذلک ظهر عدم حرمة التجرّی ولا المتجرّی به.

غایة الأمر أنّ الفاعل یستحق الذم ، لأنّ عمله یکشف عن سوء سریرته.

ص: 138


1- الفرق بین التجرّی والمتجرّی به انّ الأوّل ینتزع من مخالفة المکلّف الحجّة العقلیة والشرعیة ، بخلاف الثانی فانّه عبارة عن نفس العمل الخارجی کشرب الماء الذی یتحقّق به مخالفة الحجّة.

الفصل الثالث : تقسیم القطع إلی طریقی و موضوعی

إذا کان الحکم مترتبا علی الواقع بلا مدخلیة للعلم والقطع فیه ، فالقطع طریقی کحرمة الخمر والقمار ، ولا دور للقطع حینئذ سوی تنجیز الواقع عند الإصابة والتعذیر عند الخطأ.

وأمّا إذا أخذ القطع فی موضوع الحکم الشرعی بحیث یکون الواقع بقید القطع موضوعا للحکم ، فیعبّر عنه بالقطع الموضوعی ، کما إذا افترضنا أنّ الشارع حرّم الخمر بقید القطع بحیث لولاه لما کان الخمر محکوما بالحرمة.

ثمّ إنّه لیس للشارع أیّ تصرف فی القطع الطریقی فهو حجّة مطلقا. وأمّا القطع المأخوذ فی الموضوع ، فبما أنّ لکلّ مقنن ، التصرف فی موضوع حکمه بالسعة والضیق، فللشارع أیضا حقّ التصرف فیه ، فتارة تقتضی المصلحة ، اتخاذ مطلق القطع فی الموضوع سواء حصل من الأسباب العادیة أم من غیرها کما فی المثال الثالث الآتی فی التطبیقات، وأخری تقتضی جعل قسم منه فی الموضوع کالحاصل من الأسباب العادیة ، وعدم الاعتداد بالقطع الحاصل من غیرها کما فی المثال الثانی من التطبیقات.

ص: 139

تطبیقات

1- انّ قول العدلین أو الشاهد الواحد فیما یعتبر مع الیمین إنّما یکون حجّة فی القضاء إذا استند إلی الحس لا إلی الحدس فلو قطعت البیّنة أو الشاهد عن غیر طریق الحس فقطعهما حجّة لهما ولا یصحّ للقاضی الحکم استنادا إلی شهادتهما لأنّ المعتبر فی الشهادة هو حصول القطع للبیّنة أو الشاهد من طریق الحس.

فالقطع بالنسبة إلی خصوص البیّنة أو الشاهد قطع طریقی محض لا یمکن التصرف فیه ولکن قطعهما بالنسبة إلی القاضی قطع موضوعی وقد تصرّف الشارع فی الموضوع وجعل القسم الخاص موضوعا للحکم (القضاء) لا مطلق القطع وکم له من نظیر.

2- إذا حصل الیقین للمجتهد من غیر الکتاب والسنّة والإجماع والعقل ، کالرمل والجفر فقطعه بالحکم حجّة لنفسه دون المقلد وذلک لما ذکرناه فی قطع الشاهد أو البیّنة بالنسبة إلی القاضی.

3- الحکم بوجوب التیمّم لمن أحرز کون استعمال الماء مضرا والحکم بوجوب التعجیل لمن أحرز ضیق الوقت فالقطع فیهما موضوعی ، فلو انکشف الخلاف وأنّ الماء لم یکن مضرا ولا الوقت ضیقا لما ضرّ بالعمل ، لأنّ کشف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلی متعلّق القطع لا بالنسبة إلی الموضوع المترتب علیه الحکم.

ص: 140

الفصل الرابع : قطع القطّاع

یطلق القطّاع ویراد منه تارة من یحصل له القطع کثیرا من الأسباب التی لو أتیحت لغیره لحصل له أیضا ، وأخری من یحصل له القطع کثیرا من الأسباب التی لا یحصل منها القطع لغالب الناس. وحصول القطع بالمعنی الأوّل زین وآیة للذکاء ، وبالمعنی الثانی شین وآیة الاختلال الفکری ، ومحل البحث هو القسم الثانی.

ثمّ إنّ الوسواسی فی مورد النجاسات ، من قبیل القطّاع یحصل له القطع بها کثیرا من أسباب غیر عادیة کما أنّه فی مورد الخروج عن عهدة التکالیف أیضا وسواسی لکن بمعنی لا یحصل له الیقین بسهولة.

إذا عرفت ذلک ، فاعلم أنّه حکی عن الشیخ الأکبر (1) عدم الاعتناء بقطع القطاع ، وتحقیق کلامه یتوقف علی البحث فی مقامین :

الأوّل : ما إذا کان القطع طریقیا.

الثانی : ما إذا کان القطع موضوعیا.

أمّا الأوّل : فالظاهر کون قطعه حجّة علیه ولا یتصوّر نهیه عن العمل به لاستلزام النهی وجود حکمین متناقضین عنده فی الشریعة ، حیث یقول : الدم نجس وفی الوقت نفسه ینهاه عن العمل بقطعه بأنّ هذا دم.

ص: 141


1- الشیخ جعفر النجفی المعروف ب «کاشف الغطاء» المتوفّی (1228 ه).

نعم لو أراد عدم کفایته فی الحکم بصحّة العمل عند انکشاف الخلاف ، کما إذا قطع بدخول الوقت وتبیّن عدم دخوله فیحکم علیه بالبطلان فله وجه ، ولکن لا فرق عندئذ بین القطاع وغیره.

وأمّا الثانی : أی القطع الموضوعی فبما أنّ القطع جزء الموضوع ، فللمقنّن التصرف فی موضوع حکمه ، فیصح له جعل مطلق القطع جزءا للموضوع ، کما یصحّ جعل القطع الخاص جزءا له ، أی ما یحصل من الأسباب العادیّة دون قطع القطّاع کالقطع الحاصل للشاهد أو القاضی أو المجتهد بالنسبة إلی الغیر. فلو کان الشاهد أو القاضی أو المجتهد قطاعا فلا یعتد بقطعه ، لأنّ المأخوذ فی العمل بقطع الشاهد أو القاضی أو المجتهد هو القطع الحاصل من الأسباب العادیة لا من غیرها.

هذا کلّه حول القطّاع ، أمّا الظنّان فیمکن للشارع سلب الاعتبار عنه ، من غیر فرق بین کونه طریقا إلی متعلّقه ، أو مأخوذا فی الموضوع والفرق بینه وبین القطع واضح ، لأنّ حجّیة الظن لیست ذاتیة له ، وإنّما هی باعتبار الشارع وجعله إیّاه حجّة فی مجال الطاعة والمعصیة ، وعلیه یصحّ له نهی الظنّان عن العمل بظنّه من غیر فرق بین کونه طریقیا أو موضوعیا.

وأمّا الشکّاک ففی کلّ مورد لا یعتدّ بالشکّ العادی لا یعتنی بشکّ الشکّاک بطریق أولی کالشک بعد المحل ، وأمّا المورد الذی یعتنی بالشک العادی فیه ویکون موضوعا للأثر، فلا یعتنی بشک الشکّاک أیضا ، کما فی عدد الرکعتین الأخیرتین فلو شکّ بین الثلاث والأربع ، وکان شکّه متعارفا یجب علیه صلاة الاحتیاط بعد البناء علی الأکثر وأمّا الشکّاک ، فلا یعتنی بشکّه ولا یترتب علیه الأثر بشهادة قوله : «لا شکّ لکثیر الشکّ» فلو اعتدّ به لم یبق فرق بین الشکّاک وغیره.

ص: 142

الفصل الخامس : هل المعلوم إجمالا کالمعلوم تفصیلا؟

العلم ینقسم إلی : تفصیلی کالعلم بوجود النجاسة فی الإناء المعیّن ، وإجمالی ، کالعلم بوجود النجاسة فی أحد الإناءین لا بعینه.

فاعلم أنّهم اختلفوا فی أنّ العلم الإجمالی هل هو کالعلم التفصیلی بالتکلیف أو لا؟ فالبحث یقع فی منجّزیة العلم الإجمالی وکفایة الامتثال الإجمالی.

أمّا منجّزیة العلم الإجمالی فالحقّ أنّ العلم الإجمالی بوجود التکلیف الذی لا یرضی المولی بترکه منجّز للواقع ، ومعنی التنجیز هو وجوب الخروج عن عهدة التکلیف عقلا ، فلو علم وجدانا بوجوب أحد الفعلین أو حرمة أحدهما ، یجب علیه الإتیان بهما فی الأوّل وترکهما فی الثانی ولا تکفی الموافقة الاحتمالیة بفعل واحد أو ترک واحد منهما.

وبهذا ظهر أنّ العلم الإجمالی کالعلم التفصیلی فی لزوم الموافقة القطعیة (وعدم کفایة الموافقة الاحتمالیة) وحرمة المخالفة القطعیة کما سیأتی فی أصالة الاحتیاط.

وأمّا کفایة الامتثال الإجمالی مع التمکّن من الامتثال التفصیلی ، فله صور :

الصورة الأولی : کفایة الامتثال الإجمالی فی التوصلیات ، کما إذا علم بوجوب

ص: 143

مواراة أحد المیّتین فیواریهما من دون استعلام حال واحد منهما ، ومثله التردّد فی وقوع الإنشاء بلفظ النکاح ، أو بلفظ الزواج ، فینشئ بکلام اللفظین.

الصورة الثانیة : کفایة الامتثال الإجمالی فی التعبدیّات فیما إذا لم یستلزم التکرار ، کما إذا تردّد الواجب بین غسل الجنابة وغسل مسّ المیت ، فیغتسل امتثالا للأمر الواقعی احتیاطا مع التمکّن من تحصیل العلم التفصیلی أو الظن التفصیلی الذی دلّ الدلیل علی کونه حجّة ، والحقّ جوازه فلا یجب علیه التفحّص عن الواجب وانّه هل غسل الجنابة أو مسّ المیت وإن تمکن منه ، لأنّ الصحّة فی العبادات رهن إتیان الفعل لأمره سبحانه والمفروض أنّه إنّما أتی به امتثالا لأمره الواقعی.

الصورة الثالثة : کفایة الامتثال الإجمالی فی التعبدیات فیما إذا استلزم التکرار ، کما إذا تردّد أمر القبلة بین جهتین ، أو تردّد الواجب بین الظهر والجمعة مع إمکان التعیین بالاجتهاد أو التقلید فترکهما وامتثل الأمر الواقعی عن طریق تکرار العمل.

فالظاهر أنّ حقیقة الطاعة هو الانبعاث عن أمر المولی بحیث یکون الداعی والمحرّک هو أمره والمفروض أنّ الداعی إلی الإتیان بکلّ واحد من الطرفین هو بعث المولی المقطوع به ، ولو لا بعثه لما قام بالإتیان بواحد من الطرفین.

نعم لا یعلم تعلّق الوجوب بالواحد المعیّن ، ولکن الداعی للإتیان بکلّ واحد هو أمر المولی فی البین واحتمال انطباقه علی کلّ واحد ، ویکفی هذا المقدار فی حصول الطاعة.

وبذلک ظهر أنّ الاحتیاط فی عرض الدلیل التفصیلی : الاجتهاد والتقلید.

ولذلک قالوا : یجب علی کلّ مکلّف فی عباداته ومعاملاته وعادیاته أن یکون

ص: 144

مجتهدا أو مقلّدا أو محتاطا. (1)

فقد خرجنا بنتیجتین :

1- العلم الإجمالی کالعلم التفصیلی فی منجّزیة التکلیف ومعذّریته.

2- کفایة الامتثال الإجمالی عن الامتثال التفصیلی مطلقا سواء تمکّن من التفصیلی أم لا.

ثمّ إنّ العلم بالتکلیف قد یراد به العلم الوجدانی بالتکلیف الذی لا یرضی المولی بترکه أبدا ، کما إذا علم بکون أحد الشخصین محقون الدم دون الآخر ، وأخری یراد به العلم بقیام الحجّة الشرعیة علی التکلیف ، کما إذا قامت الأمارة علی حرمة العصیر العنبی إذا غلی ، وتردّد المغلی بین إناءین وشمل إطلاق الأمارة المعلوم بالإجمال.

والکلام فی المقام إنّما هو فی الصورة الأولی أی العلم الوجدانی ، لا ما إذا قامت الحجّة علی الحرمة وتردّدت بین الأمرین ، فانّ البحث عن هذا القسم موکول إلی مبحث الاحتیاط من الأصول العملیة.

ص: 145


1- العروة الوثقی : فصل التقلید ، المسألة الأولی ، ص 90.

الفصل السادس : حجّیة العقل

حجّیة العقل فی مجالات خاصة :

إنّ العقل أحد الحجج الأربع والذی اتّفق أصحابنا إلاّ قلیلا منهم علی حجّیته ، ولأجل إیضاح الحال نقدّم أمورا :

الأوّل : الإدراک العقلی ینقسم إلی إدراک نظری وإدراک عملی ، فالأوّل إدراک ما ینبغی أن یعلم ، کإدراک العقل وجود الصانع وصفاته وأفعاله وغیر ذلک ، والثانی إدراک ما ینبغی أن یعمل ، کإدراکه حسن العدل وقبح الظلم ووجوب ردّ الودیعة وترک الخیانة فیها.

الثانی : انّ الاستدلال لا یتم إلاّ بالاستقراء أو التمثیل أو القیاس المنطقی.

والاستقراء الناقص لا یحتج به ، لأنّه لا یفید إلاّ الظنّ ولم یدلّ دلیل علی حجّیة مثله، وأمّا الاستقراء الکامل فلا یعدّ دلیلا لأنّه علوم جزئیة تفصیلیة تصبّ فی قالب قضیة کلیّة عند الانتهاء من الاستقراء دون أن یکون هناک معلوم یستدل به علی المجهول. وبعبارة أخری یصل المستقرئ إلی النتیجة فی ضمن الاستقراء وعند الانتهاء من دون أن یکون هنا استدلال.

وأمّا التمثیل ، فهو عبارة عن القیاس الأصولی الذی لا نقول به.

فتعیّن أن تکون الحجّة هی القیاس المنطقی ، وهو علی أقسام ثلاثة :

أ. أن تکون الصغری والکبری شرعیّتین وهذا ما یسمّی بالدلیل الشرعی.

ص: 146

ب. أن تکون کلتاهما عقلیّتین ، کإدراک العقل حسن العدل (الصغری) وحکمه بالملازمة بین حسنه عقلا ووجوبه شرعا (الکبری) وهذا ما یعبّر عنه بالمستقلاّت العقلیة ، أو التحسین والتقبیح العقلیین. (1)

ج. أن تکون الصغری شرعیة والکبری عقلیة کما قد یقال : «الوضوء ممّا یتوقف علیه الواجب (الصلاة)» وهذه مقدّمة شرعیة «وکلّ ما یتوقف علیه الواجب فهو واجب عقلا» وهذه مقدمة عقلیة فینتج : فالوضوء واجب عقلا.

وهذا ما یعبر عنه بغیر المستقلات العقلیة نعم یعلم وجوب الوضوء شرعا بالملازمة بین حکمی العقل والشرع.

الثالث : عرّف الدلیل العقلی بأنّه حکم یتوصّل به إلی حکم شرعی ، مثلا إذا حکم العقل بأنّ الإتیان بالمأمور به علی ما هو علیه موجب لحصول الامتثال یستدل به علی أنّه فی الشرع أیضا کذلک ، فیترتّب علیه براءة الذمّة عن الإعادة والقضاء ، أو إذا حکم العقل عند التزاحم بلزوم تقدیم الأهم کحفظ النفس المحترمة علی المهم کالتصرف فی مال الغیر بلا إذنه ، فیستدل به علی الحکم الشرعی وهو وجوب إنقاذ الغریق ، وجواز التصرف فی مال الغیر ، کلّ ذلک توصل بالحکم العقلی للاهتداء إلی الحکم الشرعی.

إذا عرفت ذلک ، فیقع البحث فی حجّیة العقل فی مقامین :

المقام الأوّل : استکشاف حکم الشرع عند استقلاله بالحکم بالنظر إلی ذات الموضوع، فنقول : إذا استقل العقل بالحکم علی الموضوع عند دراسته بما هو هو من غیر التفات إلی ما وراء الموضوع من المصالح والمفاسد ، فهل یکون ذلک دلیلا

ص: 147


1- فی مقابل الأشاعرة الذین لا یعترفون بهما إلاّ عن طریق الشرع ، فالحسن عندهم ما حسّنه الشارع وهکذا القبیح.

علی کون الحکم عند الشارع کذلک أیضا أو لا؟ فذهب الأصولیّون إلی وجود الملازمة بین الحکمین ، وما ذلک إلاّ لأنّ العقل یدرک حکما عاما غیر مقیّد بشیء.

مثلا إذا أدرک العقل (حسن العدل) فقد أدرک انّه حسن مطلقا ، أی سواء کان الفاعل واجب الوجود أم ممکن الوجود ، وسواء کان الفعل فی الدنیا أم فی الآخرة ، وسواء کان مقرونا بالمصلحة أم لا ، فمثل هذا الحکم العقلی المدرک یلازم کون الحکم الشرعی أیضا کذلک وإلاّ لما کان المدرک عاما شاملا لجمیع تلک الخصوصیات. وبذلک تتضح الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع فی المستقلاّت العقلیة.

هذا کلّه فی المستقلات العقلیة وبه یظهر حکم غیر المستقلاّت العقلیة ، فمثلا إذا أدرک العقل الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب مقدّمته ، أو وجوب الشیء وحرمة ضدّه ، یکشف ذلک انّ الحکم عند الشرع کذلک ، لأنّ الحکم المدرک بالعقل حکم عام غیر مقیّد بشیء من القیود ، فکما أنّ العقل یدرک الملازمة بین الأربعة والزوجیة بلا قید فیکون حکما صادقا فی جمیع الأزمان والأحوال ، فکذلک یدرک الملازمة بین الوجوبین أو بین الوجوب والحرمة ، فالقول بعدم کشفه عن حکم الشارع کذلک ، ینافی إطلاق حکم العقل وعدم تقیّده بشیء.

وبذلک یتّضح أنّ ادّعاء الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع یرجع إلی أنّ الحکم المدرک بالعقل حکم مطلق غیر مقید بشیء ، فیعمّ حکم الشارع أیضا.

المقام الثانی : حکم الشرع عند استقلال العقل بالحکم بالنظر إلی المصالح والمفاسد فی الموضوع لا بالنظر إلی ذات الموضوع.

فنقول : إذا أدرک العقل المصلحة أو المفسدة فی شیء وکان إدراکه مستندا إلی المصلحة أو المفسدة العامتین اللّتین یستوی فی إدراکهما جمیع العقلاء ، ففی مثله یصحّ استنباط الحکم الشرعی من الحکم العقلی کلزوم الاجتناب عن السمّ

ص: 148

المهلک ، وضرورة إقامة الحکومة ، وغیرهما.

نعم لو أدرک المصلحة أو المفسدة ولم یکن إدراکه إدراکا نوعیا یستوی فیه جمیع العقلاء ، بل إدراکا شخصیا حصل له بالسبر والتقسیم ، فلا سبیل للعقل بأن یحکم بالملازمة فیه ، وذلک لأنّ الأحکام الشرعیة المولویة وإن کانت لا تنفک عن المصالح أو المفاسد ، ولکن أنّی للعقل أن یدرکها کما هی علیها.

وبذلک یعلم أنّه لا یمکن للفقیه أن یجعل ما أدرکه شخصیّا من المصالح والمفاسد ذریعة لاستکشاف الحکم الشرعی ، بل یجب علیه الرجوع إلی سائر الأدلّة.

تطبیقات

یترتب ثمرات کثیرة علی حجّیة العقل نستعرض قسما منها :

1- وجوب المقدّمة علی القول بالملازمة بین وجوب الشیء ووجوب مقدّمته.

2- حرمة ضدّ الواجب علی القول بالملازمة بین الأمر بالشیء والنهی عن ضدّه.

3- بطلان العبادة علی القول بامتناع اجتماع الأمر والنهی وتقدیم النهی علی الأمر وصحّتها فی هذه الصورة علی القول بتقدیم الأمر وصحّتها مطلقا علی القول بجواز الاجتماع.

4- فساد العبادة إذا تعلّق النهی بها أو أجزائها أو شرائطها أو أوصافها.

5- الإتیان بالمأمور به مجز عن الإعادة والقضاء لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال علی تفصیل مرّ فی محلّه.

6- وجوب تقدیم الأهم علی المهم إذا دار الأمر بینهما لقبح العکس.

ص: 149

الفصل السابع : فی حجّیة العرف و السیرة

إنّ العرف له دور فی مجال الاستنباط أوّلا ، وفصل الخصومات ثانیا ، حتی قیل فی حقّه ، «العادة شریعة محکمة» أو «الثابت بالعرف کالثابت بالنص» (1) ولا بدّ للفقیه من تحدید دوره وتبیین مکانته حتی یتبین مدی صدق القولین.

أقول : العرف عبارة عن کلّ ما اعتاده الناس وساروا علیه ، من فعل شاع بینهم ، أو قول تعارفوا علیه ، ولا شکّ انّ العرف هو المرجع إذا لم یکن هناک نص من الشارع (علی تفصیل سیوافیک) وإلاّ فهو ساقط عن الاعتبار. وتتلخص مرجعیة العرف فی الأمور الأربعة التالیة :

1- استکشاف الجواز تکلیفا أو وضعا

یستکشف الحکم الشرعیّ من السیرة بشرطین :

الف : أن لا تصادم النص الشرعی.

ب : أن تکون متصلة بعصر المعصوم.

توضیحه : إنّ السیرة ، علی قسمین :

تارة تصادم الکتاب والسنّة وتعارضهما ، کاختلاط النساء بالرجال فی الأفراح والأعراس وشرب المسکرات فیها والمعاملات الربویة ، فلا شکّ انّ هذه

ص: 150


1- رسائل ابن عابدین : 2 / 113 ، فی رسالة نشر العرف التی فرغ منها عام 1243 ه.

السیرة باطلة لا یرتضیها الإسلام ولا یحتج بها إلاّ الجاهل.

وأخری لا تصادم الدلیل الشرعی وفی الوقت نفسه لا یدعمها الدلیل ، فهذا النوع من السیر إن اتصلت بزمان المعصوم وکانت بمرأی ومسمع منه ومع ذلک سکت عنها تکون حجّة علی الأجیال الآتیة ، کالعقود المعاطاتیة من البیع والإجارة وکوقف الأشجار والأبنیة من دون وقف العقار.

وبذلک یعلم أنّ السیر الحادثة بین المسلمین بعد رحیل المعصوم لا یصح الاحتجاج بها وإن راجت بینهم کالأمثلة التالیة :

1- عقد التأمین : وهو عقد رائج بین العقلاء ، علیه یدور رحی الحیاة العصریة،فموافقة العرف لها لیست دلیلا علی مشروعیتها ، بل یجب التماس دلیل آخر علیها.

2- عقد حقّ الامتیاز : قد شاع بین الناس شراء الامتیازات کامتیاز الکهرباء والهاتف والماء وغیر ذلک التی تعدّ من متطلّبات الحیاة العصریة ، فیدفع حصة من المال بغیة شرائها وراء ما یدفع فی کلّ حین عند الاستفادة والانتفاع بها ، وحیث إنّ هذه السیرة استحدثت ولم تکن من قبل ، فلا تکون دلیلا علی جوازها ، فلا بدّ من طلب دلیل آخر.

3- بیع السرقفلیة : قد شاع بین الناس انّ المستأجر إذا استأجر مکانا ومکث فیه مدّة یثبت له حق الأولویة وربما یأخذ فی مقابله شیئا باسم «السرقفلیة» حین التخلیة ، وترک المکان للغیر.

2- تبیین المفاهیم

ألف : إذا وقع البیع والإجارة وما شابههما موضوعا للحکم الشرعی ثمّ شکّ

ص: 151

فی مدخلیة شیء أو مانعیته فی صدق الموضوع شرعا ، فالصدق العرفی دلیل علی أنّه هو الموضوع عند الشرع. إذ لو کان المعتبر غیر البیع بمعناه العرفی لما صحّ من الشارع إهماله مع تبادر غیره وکمال اهتمامه ببیان الجزئیات من المندوبات والمکروهات إذ یکون ترکه إغراء بالجهل وهو لا یجوز.

ب : لو افترضنا الإجمال فی مفهوم الغبن أو العیب فی المبیع فیحال فی صدقهما إلی العرف.

قال المحقّق الأردبیلی : قد تقرّر فی الشرع انّ ما لم یثبت له الوضع الشرعی یحال إلی العرف جریا علی العادة المعهودة من رد الناس إلی عرفهم. (1)

ج : لو افترضنا الإجمال فی حدّ الغناء فالمرجع هو العرف ، فکلّ ما یسمّی بالغناء عرفا فهو حرام وإن لم یشتمل علی الترجیع ولا علی الطرب.

یقول صاحب مفتاح الکرامة : المستفاد من قواعدهم حمل الألفاظ الواردة فی الأخبار علی عرفهم ، فما علم حاله فی عرفهم جری الحکم بذلک علیه ، وما لم یعلم یرجع فیه إلی العرف العام کما بیّن فی الأصول. (2)

یقول الإمام الخمینی رحمه الله : أمّا الرجوع إلی العرف فی تشخیص الموضوع والعنوان فصحیح لا محیص عنه إذا کان الموضوع مأخوذا فی دلیل لفظی أو معقد الإجماع. (3)

3- تشخیص المصادیق

قد اتّخذ الشرع مفاهیم کثیرة وجعلها موضوعا لأحکام ، ولکن ربما یعرض

ص: 152


1- مجمع الفائدة والبرهان : 8 / 304.
2- مفتاح الکرامة : 4 / 229.
3- الإمام الخمینی : البیع : 1 / 331.

الإجمال علی مصادیقها ویتردّد بین کون الشیء مصداقا لها أو لا.

وهذا کالوطن والصعید والمفازة والمعدن والأرض الموات إلی غیر ذلک من الموضوعات التی ربما یشک الفقیه فی مصادیقها ، فیکون العرف هو المرجع فی تطبیقها علی موردها.

4- حلّ الإجمالات فی ظلّ الأعراف الخاصة

إنّ لکلّ قوم وبلد أعرافا خاصة بهم یتعاملون فی إطارها ویتفقون علی ضوئها فی کافة العقود والإیقاعات ، فهذه الأعراف تشکّل قرینة حالیة لحل کثیر من الإجمالات المتوهمة فی أقوالهم وأفعالهم ، ولنقدّم نماذج منها :

ألف : إذا باع اللحم ثمّ اختلفا فی مفهومه ، فالمرجع هو المتبادر فی عرف المتبایعین وهو اللحم الأحمر دون اللحم الأبیض کلحم السمک.

ب : إذا أوصی الوالد بشیء لولده ، فالمرجع فی تفسیر الولد وانّه هو الذکر والأنثی أو الذکر فقط هو العرف.

ج : إذا اختلفت البلدان فی بیع شیء بالکیل أو الوزن أو بالعدّ ، فالمتبع هو العرف الرائج فی بلد البیع.

قال المحقّق الأردبیلی : کلّما لم یثبت فیه الکیل ولا الوزن ولا عدمهما فی عهدهصلی الله علیه و آله و سلّم فحکمه حکم البلدان ، فإن اتّفق البلدان فالحکم واضح ، وإن اختلفا ففی بلد الکیل أو الوزن یکون ربویا تحرم الزیادة وفی غیره لا یکون ربویا فیجوز التفاضل. (1)

ص: 153


1- مجمع الفائدة والبرهان : 8 ، کتاب المتاجر ، مبحث الربا ، 477.

المقام الثانی : أحکام الظن المعتبر

اشارة

ویقع البحث فی موضعین :

الأوّل : إمکان التعبّد بالظن.

الثانی : وقوعه بعد ثبوت إمکانه.

الموضع الأوّل : فی إمکان التعبّد بالظن

والمراد منه هو الإمکان الوقوعی : أی ما لا یترتب علی وقوعه مفسدة فالبحث فی أنّه هل تترتب علی التعبد بالظن مفسدة أو لا؟

فالقائلون بعدم جواز العمل بالظن ذهبوا إلی الامتناع وقوعا ، کما أنّ القائلین بجواز التعبّد ذهبوا إلی إمکانه کذلک.

ثمّ إنّ القائلین بامتناع التعبد - منهم ابن قبة الرازی (1) - استدلّوا بوجوه مذکورة فی المطولات. ولکن أدلّ دلیل علی إمکان الشیء وقوعه فی الشریعة الإسلامیة کما سیتضح فیما بعد.

ص: 154


1- هو محمد بن عبد الرحمن بن قبّة الرازی المتکلّم الکبیر المعاصر لأبی القاسم البلخی المتوفّی عام (317 ه) وقد توفّی ابن قبة قبله وله کتاب الانصاف فی الإمامة. ترجمه النجاشی فی رجاله برقم 1024.

الموضع الثانی : فی وقوع التعبد بالظن بعد ثبوت إمکانه

وقبل الدخول فی صلب الموضوع لا بدّ أن نبیّن ما هو الأصل فی العمل بالظن حتی یکون هو المرجع عند الشکّ ، فما ثبت خروجه عن ذلک الأصل نأخذ به ، وما لم یثبت نتمسک فیه بالأصل فنقول : إنّ القاعدة الأوّلیة فی العمل بالظن هی الحرمة وعدم الحجّیة إلاّ ما خرج بالدلیل.

والدلیل علیه أنّ العمل بالظن عبارة عن صحّة إسناد مؤدّاه إلی الشارع فی مقام العمل، ومن المعلوم أنّ إسناد المؤدّی إلی الشارع إنّما یصحّ فی حالة الإذعان بأنّه حکم الشارع وإلاّ یکون الإسناد تشریعا دلّت علی حرمته الأدلّة الأربعة (1) ، ولیس التشریع إلاّ إسناد ما لم یعلم أنّه من الدین إلی الدین.

قال سبحانه : (قُلْ أَرَأَیْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَکُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللهِ تَفْتَرُونَ) (یونس / 59).

فالآیة تدلّ علی أنّ الإسناد إلی الله یجب أن یکون مقرونا بالإذن منه سبحانه وفی غیر هذه الصورة یعد افتراء سواء کان الإذن مشکوک الوجود کما فی المقام أم مقطوع العدم،والآیة تعم کلا القسمین. والمفروض أنّ العامل بالظن شاکّ فی إذنه سبحانه ومع ذلک ینسبه إلیه.

ثمّ إنّ الأصولیین ذکروا خروج بعض الظنون عن هذا الأصل. منها :

1- ظواهر الکتاب.

2- الشهرة الفتوائیة.

ص: 155


1- الکتاب والسنّة والإجماع والعقل کما أوضحه الشیخ الأعظم فی الفرائد ، واقتصرنا فی المتن علی الکتاب العزیز.

3- خبر الواحد.

4- الإجماع المنقول بخبر الواحد.

5- قول اللغوی.

الفصل الأوّل : حجّیة ظواهر الکتاب

اتّفق العقلاء علی أنّ ظاهر کلام کل متکلّم إذا کان جادّا لا هزالا ، حجّة وکاشف عن مراده ، ولأجل ذلک یؤخذ بإقراره واعترافه فی المحاکم ، وینفّذ وصایاه ، ویحتج برسائله وکتاباته.

وآیات الکتاب الکریم إذا لم تکن مجملة ولا متشابهة ، لها ظواهر کسائر الظواهر، یحتج بها کما یحتج بسائر الظواهر ، قال سبحانه (وَلَقَدْ یَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّکْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّکِرٍ) (القمر / 17) وفی الوقت نفسه أمر بالتدبّر ، وقال : (أَفَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلی قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمد / 24) کلّ هذا یعرب عن کون ظواهر الکتاب کسائر الظواهر ، حجّة ألقیت للإفادة والاستفادة والاحتجاج والاستدلال.

نعم إنّ الاحتجاج بکلام المتکلّم یتوقّف علی ثبوت أمور :

الأوّل : ثبوت صدوره من المتکلّم.

الثانی : ثبوت جهة صدوره وأنّه لم یکن هازلا مثلا.

الثالث : ثبوت ظهور مفرداته وجمله.

الرابع : حجّیة ظهور کلامه وکونه متبعا فی کشف المراد.

ص: 156

والأوّل ثابت بالتواتر والثانی بالضرورة حیث إنّه سبحانه أجلّ من أن یکون هازلا. والمفروض ثبوت ظهور مفرداته ومرکّباته وجمله بطریق من الطرق السابقة وهو التبادر وصحّة الحمل والسلب والإطراد. ولم یبق إلاّ الأمر الرابع وهو حجّیة ظهور کلامه ، والکتاب الکریم کتاب هدایة وبرنامج لسعادة الإنسان والمجتمع ، فلازم ذلک أن تکون ظواهره حجّة کسائر الظواهر ، وعلی ذلک فما ذهب إلیه الأخباریون بحجیّة کلّ ظاهر إلاّ ظاهر الکتاب ممّا لا وجه له بل هو دعوی تقشعرّ منها الجلود ، وترتعد منها الفرائص ، إذ کیف توصف حجّة الله الکبری ، والثقل الأعظم ، بعدم الحجّیة مع أنّ الکتاب هو المعجزة الکبری للنبیّ صلی الله علیه و آله و سلّم أفیمکن أن یکون معجزا ولا یحتج بظواهره ومفاهیمه مع أنّ الإعجاز قائم علی اللفظ والمعنی معا؟!

واعلم أنّه لیس المراد من حجّیة ظواهر القرآن هو استکشاف مراده سبحانه من دون مراجعة إلی ما یحکم به العقل فی موردها ، أو من دون مراجعة إلی الآیات الأخری التی تصلح لأن تکون قرینة علی المراد ، أو من دون مراجعة إلی الأحادیث النبویة وروایات العترة الطاهرة فی إیضاح مجملاته وتخصیص عموماته وتقیید مطلقاته.

فالاستبداد فی فهم القرآن مع غض النظر عمّا ورد حوله من سائر الحجج ضلال لا شکّ فیه ، کیف؟ والله سبحانه یقول : (وَأَنْزَلْنا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ) (النحل / 44) فجعل النبی مبیّنا للقرآن وأمر الناس بالتفکّر فیه،فللرسول سهم فی إفهام القرآن کما أنّ لتفکّر الناس وإمعان النظر فیه سهما آخر،وبهذین الجناحین یحلّق الإنسان فی سماء معارفه ، ویستفید من حکمه وقوانینه.

وبذلک تقف علی مفاد الأخبار المندّدة بفعل فقهاء العامة کأبی حنیفة و

ص: 157

قتادة ، فإنّهم کانوا یستبدون بنفس القرآن من دون الرجوع إلی حدیث العترة الطاهرة فی مجملاته ومبهماته وعموماته ومطلقاته. فالاستبداد بالقرآن شیء ، والاحتجاج بالقرآن بعد الرجوع إلی الأحادیث شیء آخر ، والأوّل هو الممنوع والثانی هو الذی جری علیه أصحابنا - رضوان الله علیهم -.

ثمّ إنّ الأصولیین جعلوا مطلق الظواهر من الظنون وقالوا باعتبارها وخروجها عن تحت الضابطة السالفة الذکر بدلیل خاص ، وهو بناء العقلاء علی حجّیة ظواهر کلام کلّ متکلّم، ولکن دقة النظر تقتضی أن تکون الظواهر من القطعیات بالنسبة إلی المراد الاستعمالی لا الظنیّات.

لأنّ السیر فی المحاورات العرفیة یرشدنا إلی أنّها من الأمارات القطعیة علی المراد الاستعمالی بشهادة انّ المتعلّم یستدل بظاهر کلام المعلّم علی مراده. وما یدور بین البائع والمشتری من المفاهیم لا توصف بالظنیة ، وما یتفوّه به الطبیب یتلقّاه المریض أمرا واضحا لا سترة فیه کما أنّ ما یتلقّاه السائل من جواب المجیب یسکن إلیه دون أیّ تردد.

فإذا کانت هذه حال محاوراتنا العرفیة فی حیاتنا الدنیویّة ، فلتکن ظواهر الکتاب والسنّة کذلک فلما ذا نجعلها ظنیّة الدلالة؟!

نعم المطلوب من کونها قطعیة الدلالة هو دلالتها بالقطع علی المراد الاستعمالی لا المراد الجدی ، لأنّ الموضوع علی عاتق الکلام هو کشفه عمّا یدل علیه اللفظ بالوضع وما یکشف عنه اللفظ الموضوع هو المراد الاستعمالی ، والمفروض أنّ الظواهر کفیلة لإثبات هذا المعنی فلا وجه لجعلها ظنیّة الدلالة. وأمّا المراد الجدّی فإنّما یعلم بالأصل العقلائی ، أعنی:أصالة تطابق الإرادة الاستعمالیة مع الجدّیة.

والذی صار سببا لعدّ الظواهر ظنّیة هو تطرّق احتمالات عدیدة إلی کلام المتکلّم ، أعنی :

ص: 158

1- احتمال کون المتکلّم هازلا ، 2. أو کونه مورّیا فی مقاله ، 3. أو ملقیا علی وجه التقیة، 4. أو کون المراد الجدّی غیر المراد الاستعمالی من حیث السعة والضیق بورود التخصیص أو التقیید علیه. فلأجل وجود تلک الاحتمالات جعلوا الظواهر من الظنون.

یلاحظ علیه : بالنقض أوّلا : لأنّ أکثر هذه الأمور موجودة فی النص أیضا مع أنّهم جعلوه من القطعیات ، والحلّ ثانیا بأنّ نفی هذه الاحتمالات لیس علی عاتق الظواهر حتی تصیر لأجل عدم التمکّن من دفعها ظنیة ، بل لا صلة لها بها وإنّما الدافع لتلک الاحتمالات هو الأصول العقلائیة الدالّة علی أنّ الأصل فی کلام المتکلّم کونه جادّا ، لا هازلا ولا مورّیا ولا ملقیا علی وجه التقیة ، کما أنّ الأصل هو تطابق الإرادة الاستعمالیة مع الإرادة الجدیة ، ما لم یدل دلیل علی خلافه کما فی مورد التخصیص والتقیید.

فالوظیفة الملقاة علی عهدة الظواهر هی إحضار المراد الاستعمالی فی ذهن المخاطب وهی تحضره علی وجه القطع والبت بلا تردد وشک. وأمّا سائر الاحتمالات فلیست هی المسئولة عن نفیها حتی توصف لأجلها بالظنیة علی أنّ أکثر هذه الاحتمالات بل جمیعها منتفیة فی المحاورات العرفیة وإنّما هی شکوک علمیّة مغفولة للعقلاء.

فخرجنا بالنتیجة التالیة :

إنّ دلالة القرآن والسنّة وکذا دلالة کلام کلّ متکلّم علی مراده من الأمور القطعیة شریطة أن تکون ظاهرة لا مجملة ، محکمة لا متشابهة. ویکون المراد من قطعیتها ، کونها قطعیة الدلالة علی المراد الاستعمالی.

نعم الفرق بین الظاهر والنص ، هو انّ الأوّل قابل للتأویل إذا دلّت علیه القرینة ، بخلاف النصّ فلا یقبل التأویل ویعدّ التأویل تناقضا.

ص: 159

الفصل الثانی : الشهرة الفتوائیّة

(1)

من الظنون التی قد خرجت عن أصل حرمة العمل بالظن ، الشهرة الفتوائیة بین القدماء من الفقهاء وهی :

عبارة عن اشتهار الفتوی فی مسألة لم ترد فیها روایة معتبرة فمثلا إذا اتّفق القدماء من الفقهاء علی حکم فی مورد ، ولم نجد فیه نصا من أئمّة أهل البیت علیهم السلام یقع الکلام فی حجّیة تلک الشهرة الفتوائیة.

والظاهر (وفاقا لبعض الأعلام) حجّیة مثل هذه الشهرة ، لأنّها تکشف عن وجود نص معتبر وصل إلیهم ولم یصل إلینا حتی دعاهم إلی الإفتاء علی ضوئه ، إذ من البعید أن یفتی أقطاب الفقه بشیء بلا مستند شرعی ودلیل معتدّ به ، وقد حکی سید مشایخنا المحقّق البروجردی فی درسه الشریف أنّ فی الفقه الإمامی أربعمائة مسألة تلقّاها الأصحاب قدیما وحدیثا بالقبول ولیس لها دلیل إلاّ الشهرة الفتوائیة بین القدماء بحیث لو حذفنا الشهرة عن عداد الأدلّة ، لأصبحت تلک المسائل فتاوی فارغة مجرّدة عن الدلیل.

ص: 160


1- وهنا - وراء الشهرة الفتوائیة - شهرة روائیة ، وشهرة عملیة أوضحنا حالهما فی «الوسیط» الجزء الثانی فلاحظ.

الفصل الثالث : حجّیة السنّة المحکیة بخبر الواحد

اشارة

السنّة فی مصطلح فقهاء أهل السنّة هی قول النبی صلی الله علیه و آله و سلّم أو فعله أو تقریره، والمعصوم من أئمّة أهل البیت علیهم السلام یجری قوله وفعله وتقریره عندنا مجری قول النبی صلی الله

علیه وآله وسلم وفعله وتقریره ، ولأجل ذلک تطلق السنّة عند الإمامیة علی قول المعصوم وفعله وتقریره دون أن تختص بالنبی صلی الله علیه و آله و سلّم.

ولیس أئمّة أهل البیت علیهم السلام من قبیل الرواة وإن کانوا یروون عن جدهم علیهم السلام ، بل هم المنصوبون من الله تعالی علی لسان النبی صلی الله علیه و آله و سلّم بتبلیغ الأحکام الواقعیة ، فقد رزقوا من جانبه سبحانه علما لصالح الأمّة کما رزق مصاحب النبی موسی علیهما السلام علما کذلک من دون أن یکون نبیا ، قال سبحانه : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الکهف / 65). فعندهم علم الشریعة وإن لم یکونوا أنبیاء ولا رسلا.

ثمّ إنّ الخبر الحاکی للسنّة إمّا خبر متواتر ، أو خبر واحد. ثمّ إنّ الخبر الواحد إمّا منقول بطرق متعددة من دون أن یبلغ حدّ التواتر فهو مستفیض وإلاّ فغیر مستفیض.

ولا شکّ فی أنّ الخبر المتواتر یفید العلم ولا کلام فی حجّیته وإنّما الکلام فی حجّیة الخبر الواحد أعم من المستفیض وغیره. فقد اختلفت کلمة أصحابنا فی ذلک :

ص: 161

أ. ذهب الشیخ المفید والسید المرتضی والقاضی ابن البراج والطبرسی وابن إدریس إلی عدم جواز العمل بالخبر الواحد فی الشریعة.

ب. وذهب الشیخ الطوسی (1) وقاطبة المتأخّرین إلی حجّیته.

والمقصود فی المقام إثبات حجّیته بالخصوص وفی الجملة مقابل السلب الکلّی ، وأمّا البحث عن سعة حجّیته سنشیر (2) إلیها بعد الفراغ عن الأدلّة.

وقد استدلّوا علی حجّیته بالأدلّة الأربعة :

1. الاستدلال بالکتاب العزیز
اشارة

استدلّوا علی حجّیة خبر الواحد بآیات :

1. آیة النبأ

قال سبحانه : (إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ) (الحجرات / 6). (3)

وقبل تقریر الاستدلال نشرح ألفاظ الآیة :

1- التبیّن یستعمل لازما ومتعدیا ، فعلی الأوّل فهو بمعنی الظهور ، قال سبحانه : (حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ) (البقرة / 187).

وعلی الثانی فهو بمعنی طلب التثبت کقوله سبحانه : (إِذا ضَرَبْتُمْ فِی سَبِیلِ اللهِ

ص: 162


1- لاحظ عدة الأصول : 1 / 338 من الطبعة الحدیثة.
2- راجع ص 168 قوله : لکن الإمعان فیها ...
3- قال الطبرسی : نزلت الآیة فی الولید بن عقبة ، بعثه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم فی جبایة صدقات بنی المصطلق ، فخرجوا یتلقّونه فرحا به - وکانت بینه وبینهم عداوة فی الجاهلیة - فظنّ انّهم همّوا بقتله ، فرجع إلی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم وقال : إنّهم منعوا صدقاتهم - وکان الأمر بخلافه - فغضب النبی صلی الله علیه و آله و سلّم وهمّ أن یغزوهم ، فنزلت الآیة. لاحظ مجمع البیان : 5 / 132.

فَتَبَیَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقی إِلَیْکُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (النساء / 94) ومعناه فی المقام تبیّنوا صدق الخبر وکذبه.

2- قوله : (أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) علّة للتثبّت ، والمقصود خشیة أن تصیبوا قوما بجهالة أو لئلاّ تصیبوا قوما بجهالة.

3- الجهالة مأخوذة من الجهل ، وهی الفعل الخارج عن إطار الحکمة والتعقّل.

وأمّا کیفیة الاستدلال ، فتارة یستدل بمفهوم الشرط ، وأخری بمفهوم الوصف. وربما یحصل الخلط بینهما ، ففی تقریر الاستدلال بمفهوم الشرط ینصبّ البحث ، علی الشرط أی مجیء المخبر بالنبإ ، دون عنوان الفاسق ، بخلاف الاستدلال بمفهوم الوصف حیث ینصبّ البحث علی عنوان الفاسق مقابل العادل ففی إمکان الباحث جعل لفظ آخر مکان الفاسق عند تقریر الاستدلال بمفهوم الشرط لأجل صیانة الفکر عن الخلط ، فنقول :

الأوّل : الاستدلال بمفهوم الشرط

إنّ الموضوع هو نبأ الفاسق ، والشرط هو المجیء ، والجزاء هو التبیّن والتثبّت ، فکأنّه سبحانه قال : نبأ الفاسق - إن جاء به - فتبیّنه.

ویکون مفهومه : نبأ الفاسق - إن لم یجئ به - فلا یجب التبیّن عنه.

لکنّ للشرط (عدم مجیء الفاسق) مصداقین :

أ. عدم مجیء الفاسق والعادل فیکون عدم التبیّن لأجل عدم النبأ فیکون من قبیل السالبة بانتفاء الموضوع.

ب. مجیء العادل به فلا یتبیّن أیضا فیکون عدم التبیّن من قبیل السالبة بانتفاء المحمول. أی النبأ موجود والمنفی هو المحمول ، أعنی : التثبّت.

ص: 163

یلاحظ علی الاستدلال : أنّ المفهوم عبارة عن سلب الحکم عن الموضوع الوارد فی القضیة ، لا سلبه عن موضوع آخر ، لم یرد فیها ، فالموضوع فی المنطوق هو «نبأ الفاسق» فیجب أن یتوارد التثبّت منطوقا وعدم التثبّت مفهوما علی ذلک الموضوع لا علی موضوع آخر کنبإ العادل ، وعندئذ ینحصر مفهومه فی المصداق الأوّل ویکون من قبیل السالبة بانتفاء الموضوع.

وإن شئت قلت : إنّ الموضوع هو نبأ الفاسق فعند وجود الشرط ، أعنی : المجیء بالنبإ ، یتثبّت عنده ، وعند عدم المجیء به لا یتثبّت لعدم الموضوع ، فخبر العادل لم یکن مذکورا فی المنطوق حتی یحکم علیه بشیء فی المفهوم.

الثانی : الاستدلال بمفهوم الوصف

وطریقة الاستدلال به واضحة لأنّه سبحانه علّق وجوب التبیّن علی کون المخبر فاسقا، وهو یدل علی عدم وجوب التبیّن فی خبر العادل ، مثل : «فی الغنم السائمة زکاة» الدالّ علی عدمها فی المعلوفة.

وإذا لم یجب التثبت عند إخبار العادل ، فإمّا أن یجب القبول وهو المطلوب أو الردّ فیلزم أن یکون خبر العادل أسوأ حالا من خبر الفاسق ، لأنّ خبر الفاسق یتبیّن عنه فیعمل به عند ظهور الصحّة ، وأمّا خبر العادل فیترک ، ولا یعمل به مطلقا.

یلاحظ علیه : بما مرّ من عدم دلالة الجملة الوصفیة علی المفهوم.

ص: 164

2. آیة النفر

قال سبحانه : (وَما کانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ) (التوبة / 122).

تشیر الآیة إلی السیرة المستمرة بین العقلاء من تقسیم العمل بین الأفراد ، إذ لو لا ذلک لاختلّ النظام ، ولا تشذ عن ذلک مسألة الإنذار والتعلیم والتعلّم ، فلا یمکن أن ینفر المؤمنون کافة لتحصیل أحکام الشریعة ، ولکن لما ذا لا ینفر من کلّ فرقة منهم طائفة لتعلّم الشریعة حتی ینذروا قومهم عند الرجوع إلیهم؟

وجه الاستدلال : انّه سبحانه أوجب الحذر علی القوم عند رجوع الطائفة التی تعلّمت الشریعة والمراد من الحذر هو الحذر العملی ، أی ترتیب الأثر علی قول المنذر. ثمّ إنّ إنذاره کما یتحقّق بصورة التواتر یتحقّق أیضا بصورة إنذار بعضهم البعض ، فلو کان التواتر أو حصول العلم شرطا فی تحقّق الإنذار وبالتالی فی وجوب الحذر لأشارت إلیه الآیة، وإطلاقها یقتضی حجّیة قول المنذر سواء أنذر إنذارا جماعیا أو فردیا ، وسواء أفادا العلم أم لا.

یلاحظ علی الاستدلال : أنّ الآیة بصدد بیان أنّه لا یمکن نفر القوم برمّتهم ، بل یجب نفر طائفة منهم ، وأمّا کیفیة الإنذار وانّه هل یجب أن یکون جماعیا أو فردیا فلیست الآیة بصدد بیانها حتی یتمسّک بإطلاقها ، وقد مرّ فی مبحث المطلق والمقید انّه یشترط فی صحّة التمسّک بالإطلاق کون المتکلّم فی مقام البیان.

ویشهد علی ذلک انّ الآیة لم تذکر الشرط اللازم ، أعنی : الوثاقة والعدالة ، فکیف توصف بأنّها فی مقام البیان؟!

ص: 165

3. آیة الکتمان

قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَالْهُدی مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِی الْکِتابِ أُولئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللهُ وَیَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) (البقرة / 159).

وکیفیة الاستدلال بها هو انّ وجوب الإظهار وتحریم الکتمان یستلزم وجوب القبول وإلاّ لغی وجوب الإظهار ، نظیر قوله سبحانه : (وَلا یَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ یَکْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِی أَرْحامِهِنَ) (البقرة / 228) فانّ حرمة کتمانهنّ لما فی أرحامهن یقتضی وجوب قبول قولهن وإلاّ لغی التحریم.

یلاحظ علی الاستدلال : أنّ الآیة فی مقام إیجاب البیان علی علماء أهل الکتاب لما أنزل الله سبحانه من البیّنات والهدی ، ومن المعلوم أنّ إیجاب البیان بلا قبول أصلا یستلزم کونه لغوا. أمّا إذا کان القبول مشروطا بالتعدد أو بحصول الاطمئنان أو العلم القطعی فلا تلزم اللغویة ، ولیست الآیة فی مقام البیان من هذه الناحیة کآیة النفر حتی یتمسک بإطلاقها.

4. آیة السؤال

قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِی إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل / 43).

وجه الاستدلال علی نحو ما مضی فی آیة الکتمان حیث إنّ إیجاب السؤال یلازم القبول وإلاّ تلزم اللغویة.

یلاحظ علیه : أنّما تلزم اللغویة إذا لم یقبل قولهم مطلقا ، وأمّا علی القول بقبول قولهم عند حصول العلم به فلا تلزم ، ولیست الآیة فی مقام البیان من هذه الناحیة حتی یتمسّک بإطلاقها ، بل الآیة ناظرة إلی قاعدة عقلائیة مطّردة وهی رجوع الجاهل إلی العالم.

ص: 166

2. الاستدلال بالروایات المتواترة

استدلّ القائلون بحجّیة خبر الواحد بروایات ادّعی فی الوسائل تواترها یستفاد منها اعتبار خبر الواحد إجمالا ، وهی علی طوائف نذکر أهمّها : (1)

وهی الأخبار الإرجاعیّة إلی آحاد الرواة الثقات من أصحابهم بحیث یظهر من تلک الطائفة انّ الکبری (العمل بقول الثقة) کانت أمرا مفروغا منه ، وکان الحوار فیها بین الإمام والراوی حول تشخیص الصغری وانّ الراوی هل هو ثقة أو لا؟ وإلیک بعض ما یدلّ علی ذلک :

1- روی الصدوق عن أبان بن عثمان أنّ أبا عبد الله علیه السلام قال له : «إنّ أبان بن تغلب قد روی عنّی روایات کثیرة ، فما رواه لک فاروه عنّی». (2)

2- عن أبی بصیر قال : إنّ أبا عبد الله علیه السلام قال له فی حدیث : «لو لا زرارة ونظراؤه ، لظننت انّ أحادیث أبی ستذهب». (3)

3- عن یونس بن عمّار انّ أبا عبد الله علیه السلام قال له فی حدیث : «أمّا ما رواه زرارة عن أبی جعفر علیه السلام ، فلا یجوز لک أن تردّه». (4)

ص: 167


1- ذکرها الشیخ الأنصاری فی فرائده ، وهی خمس طوائف نشیر إلیها علی سبیل الإجمال : الطائفة الأولی : ما ورد فی الخبرین المتعارضین من الأخذ بالمرجّحات کالأعدل والأصدق والمشهور ثمّ التخییر. الطائفة الثانیة : ما ورد فی إرجاع آحاد الرواة إلی آحاد أصحاب الأئمّة علی وجه یظهر فیه عدم الفرق فی الإرجاع بین الفتوی والروایة. الطائفة الثالثة : ما دلّ علی الرجوع إلی الرواة الثقات ، وهذا ما أشرنا إلیه فی المتن. الطائفة : الرابعة : ما دلّ علی الترغیب فی الروایة والحث علیها وکتابتها وإبلاغها. الطائفة الخامسة : ما دلّ علی ذم الکذب علیهم والتحذیر من الکذّابین. ولو لا أنّ خبر الواحد حجّة لما کان لهذه الأخبار موضوع. (2 و 4). الوسائل : 18 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 8 ، 16 ، 17.

4- عن المفضل بن عمر ، انّ أبا عبد الله علیه السلام قال للفیض بن المختار فی حدیث : «فإذا أردت حدیثنا ، فعلیک بهذا الجالس» وأومأ إلی رجل من أصحابه ، فسألت أصحابنا عنه ، فقالوا : زرارة بن أعین. (1)

5- روی القاسم بن علی التوقیع الشریف الصادر عن صاحب الزمان علیه السلام انّه لا عذر لأحد من موالینا فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا. (2)

إلی غیر ذلک من الأحادیث التی تورث الیقین بأنّ حجّیة قول الثقة کان أمرا مفروغا منه بینهم ولو کان هناک کلام ، فإنّما کان فی الراوی.

أنت إذا استقرأت الروایات التی جمعها الشیخ الحرّ العاملی فی الباب الثامن من أبواب صفات القاضی والذی بعده ، تقف علی اتّفاق أصحاب الأئمّة علی حجّیة الخبر الواحد الذی یرویه الثقة ، وهو ملموس من خلال روایات البابین. (3)

ثمّ إنّ ظواهر ما نقلناه من الروایات تدلّ علی حجّیة «قول الثقة» فلو کان المخبر ثقة ، فخبره حجّة وإلاّ فلا وإن دلّت القرائن علی صدوره من المعصوم.

لکن الإمعان فیها وفی السیرة العقلائیة - التی یأتی ذکرها - یعرب عن أنّ العنایة بوثاقة الراوی فی الموضوع لکونها طریقا إلی الاطمئنان بصدوره من المعصوم ، ولذلک لو کان الراوی ثقة ولکن دلّت القرائن المفیدة علی خطئه واشتباهه ، لما اعتبره العقلاء حجّة ، وهذه تشکّل قرینة علی أنّ العبرة فی الواقع بالوثوق بالصدور لا علی وثاقة الراوی ، والاعتماد علیها لأجل استلزامها الوثوق بالصدور غالبا.

ص: 168


1- الوسائل : 18 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 19.
2- الوسائل : 18 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 40.
3- الوسائل : 18 ، الباب 8 و 9 من أبواب صفات القاضی ، ص 52 - 89.

فتکون النتیجة حجّیة الخبر الموثوق بصدوره سواء کان المخبر ثقة أو لا ، نعم الأمارة العامة علی الوثوق بالصدور ، هو کون الراوی ثقة ، وبذلک تتسع دائرة الحجّیة ، فلاحظ.

3. الاستدلال بالإجماع

نقل غیر واحد من علمائنا کالشیخ الطوسی (385 - 460 ه) ومن تأخّر عنه إلی یومنا هذا إجماع علماء الإمامیة علی حجّیة خبر الواحد إذا کان ثقة مأمونا فی نقله وإن لم یفد خبره العلم ، وفی مقابل ذلک حکی جماعة أخری منهم - أستاذ الشیخ - السید المرتضی رحمه الله إجماع الإمامیة علی عدم الحجّیة.

سؤال : إذا کان العمل بخبر الواحد أمرا مجمعا علیه کما ادّعاه الشیخ فلما ذا أبدی السید رحمه الله خلافه؟ وکیف یمکن الجمع بین هذین الإجماعین المنقولین؟

الجواب : انّ الشیخ التفت إلی هذا السؤال وأجاب عنه بما حاصله : انّ مورد إجماع السید خبر الواحد الذی یرویه مخالفوهم فی الاعتقاد ویختصون بطریقه ومورد الإجماع الذی ادّعاه هو ما یکون راویه من الإمامیة وطریق الخبر أصحابهم فارتفع التعارض.

4. الاستدلال بالسیرة العقلائیة

إذا تصفّحت حال العقلاء فی سلوکهم ، تقف علی أنّهم مطبقون علی العمل بخبر الثقة فی جمیع الأزمان والأدوار ، ویتضح ذلک بملاحظة أمرین :

الأوّل : انّ تحصیل العلم القطعی عن طریق الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن فی أکثر الموضوعات أمر صعب.

الثانی : حصول الاطمئنان بخبر الثقة عند العرف علی وجه یفید سکونا

ص: 169

للنفس ، خصوصا إذا کان عدلا ، ولو کانت السیرة أمرا غیر مرضیّ للشارع کان علیه الردع.

ولم یکن عمل المسلمین بخبر الثقة إلاّ استلهاما من تلک السیرة العقلائیة التی ارتکزت فی نفوسهم.

والحاصل : انّه لو کان العمل بأخبار الآحاد الثقات أمرا مرفوضا ، لکان علی الشارع أن ینهی عنه وینبه الغافل ویفهم الجاهل. فإذا لم یردع کشف ذلک عن رضاه بتلک السیرة وموافقته لها.

فالاستدلال بسیرة العقلاء علی حجّیة خبر الواحد من أفضل الأدلّة التی لا سبیل للنقاش فیها ، فانّ ثبوت تلک السیرة وکشفها عن رضا الشارع ممّا لا شکّ فیه.

سؤال : ربما یقال انّ الآیات الناهیة عن اتّباع الظن کافیة فی ردع تلک السیرة کقوله سبحانه : (إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ یَخْرُصُونَ) (الأنعام / 116) وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَیُسَمُّونَ الْمَلائِکَةَ تَسْمِیَةَ الْأُنْثی * وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً) (النجم / 27 - 28).

والجواب : انّ المراد من الظن فی الآیات الناهیة ترجیح أحد الطرفین استنادا إلی الخرص والتخمین کما قال سبحانه : (إِنْ هُمْ إِلاَّ یَخْرُصُونَ) ویشهد بذلک مورد الآیة من تسمیة الملائکة أنثی ، فکانوا یرجّحون أحد الطرفین بأمارات ظنیة وتخمینات باطلة ، فلا یستندون فی قضائهم لا إلی الحس ولا إلی العقل بل إلی الهوی والخیال ، وأین هذا من قول الثقة أو الخبر الموثوق بصدوره الذی یرجع إلی الحس وتدور علیه رحی الحیاة ویجلب الاطمئنان والثبات؟!

ص: 170

الفصل الرابع : الکلام فی الإجماع

الإجماع فی اللغة هو الاتّفاق ، قال سبحانه : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ یَجْعَلُوهُ فِی غَیابَتِ الْجُبِ) (یوسف / 15). وأمّا فی الاصطلاح اتفاق علماء عصر واحد علی حکم شرعیّ. فإذا أحرزه المجتهد یسمّی إجماعا محصّلا وإذا أحرزه مجتهد ونقله إلی الآخرین یکون إجماعا منقولا بالنسبة إلیهم فیقع الکلام فی مقامین :

المقام الأوّل : الإجماع المحصل عند السنّة والشیعة

اتّفق الأصولیون علی حجّیة الإجماع علی وجه الإجمال ، ولکنّه عند أهل السنّة یعدّ من مصادر التشریع.

وأمّا الشیعة ، فتقول بانحصار الدلیل فی الکتاب والسنّة والعقل ، وأمّا الاتّفاق فلا یضفی عندهم علی الحکم صبغة الشرعیّة ولا یؤثر فی ذلک أبدا غایة الأمر انّ المستند لو کان معلوما فالإجماع مدرکی ولیس بکاشف لا عن قول المعصوم ولا عن دلیل معتبر لم یصل إلینا، لا یزید اتّفاقهم شیئا. وأمّا إذا کان المستند غیر معلوم ، فربما یکشف إجماعهم عن قول المعصوم واتّفاقه معهم ، کما إذا اتّفق الإجماع فی عصر حضور المعصوم ، وربما یکشف عن وجود دلیل معتبر وصل إلی المجمعین ولم یصل إلینا ، کما إذا اتفق فی الغیبة الصغری وأوائل الکبری إذ من البعید أن یتّفق المجتهدون علی حکم بلا مستند شرعی. وعلی کلا التقدیرین

ص: 171

فالإجماع بما هو هو لیس بحجّة ، وإنّما هو کاشف عن الحجّة ، وسیوافیک تفصیله.

حجّیة الإجماع المحصل عند الإمامیة

قد عرفت أنّ الأمّة مع قطع النظر عن الإمام المعصوم غیر معصومة من الخطأ فی الأحکام ، وأقصی ما یمکن أن یقال إنّ الإجماع یکشف عن قول المعصوم أو الحجّة الشرعیة التی اعتمدت علیها الأمّة ، والثانی أمر معقول ومقبول فی عصر الغیبة غیر أنّ کشف اتّفاقهم عن الدلیل یتصوّر علی وجوه ذکرها الأصولیون فی کتبهم. (1)

أوجهها : أنّ اتّفاق الأمّة مع کثرة اختلافهم فی أکثر المسائل یعرب عن أنّ الاتّفاق کان مستندا إلی دلیل قطعی لا عن اختراع للرأی من تلقاء أنفسهم نظیر اتّفاق سائر ذوی الآراء والمذاهب.

وبعبارة أخری : أنّ فتوی کلّ فقیه وإن کانت تفید الظن ولو بأدنی مرتبة إلاّ أنّها تتقوّی بفتوی فقیه ثان ، فثالث إلی أن یحصل الیقین بأنّ فتوی الجمیع کانت مستندة إلی الحجّة ، إذ من البعید أن یتطرّق الخطأ إلی فتوی هؤلاء.

وبالجملة ملاحظة إطباقهم فی الإفتاء علی عدم العمل إلاّ بالنصوص دون المقاییس یورث القطع بوجود حجّة فی البین وصلت إلیهم ولم تصل إلینا. (2)

ص: 172


1- لاحظ «کشف القناع عن وجه حجّیة الإجماع» للعلاّمة التستری ، فقد ذکر فیه اثنی عشر طریقا إلی کشف الإجماع عن الدلیل ، ونقلها المحقّق الآشتیانی فی تعلیقته علی الفرائد لاحظ ص 122 - 125.
2- وعلی ذلک یکون الإجماع المحصل من الأدلة المفیدة للقطع بوجود الحجة ، الخارج عن تحت الظنون موضوعا وتخصّصا ، وقد تناولناه بالبحث للإشارة إلی الأدلّة الأربعة ، والمناسب للبحث فی المقام هو الإجماع المنقول بالخبر الواحد.

المقام الثانی : الإجماع المنقول بخبر الواحد

والمراد هو الاتّفاق الذی لم یحصّله الفقیه بنفسه وإنّما ینقله غیره من الفقهاء واختلفوا فی حجّیته علی أقوال :

القول الأوّل : إنّه حجّة مطلقا ، لأنّ المفروض أنّ الناقل ثقة وینقل الحجّة أی الاتّفاق الملازم لوجود دلیل معتبر فتشمله أدلّة حجّیة خبر الواحد.

القول الثانی : إنّه لیس بحجّة مطلقا ، وذلک لأنّ خبر الواحد حجّة فیما إذا کان المخبر به أمرا حسّیا أو کانت مقدّماته القریبة أمورا حسّیة ، کالإخبار بالعدالة النفسانیة إذا شاهد منه التورّع عن المحرّمات ، أو الإخبار بالشجاعة إذا شاهد قتاله مع الأبطال ، وأمّا إذا کان المخبر به أمرا حدسیا محضا لا حسّیا ولم تکن له مقدّمات قریبة من الحسّ ، فخبر الواحد لیس بحجّة.

فالناقل للإجماع ینقل أقوال العلماء وهی فی أنفسها لیست حکما شرعیا ولا موضوعا ذا أثر شرعی ، وأمّا الحجّة ، أعنی : رأی المعصوم ، فإنّما ینقله عن حدس لا عن حس بزعم انّ اتّفاق هؤلاء یلازم رأی المعصوم ، وخبر الواحد حجّة فی مورد الحسیّات لا الحدسیات إلاّ ما خرج بالدلیل کقول المقوّم فی أرش المعیب

یلاحظ علیه : أنّه إذا کانت هناک ملازمة بین أقوال العلماء والحجّة الشرعیة ، فلما ذا لا یکون نقل السبب الحسی دلیلا علی وجود المسبب وقد تقدّم انّ نقل الأمور الحدسیة إذا استند الناقل فی نقلها إلی أسباب حسیة ، هو حجّة کما فی وصف الرجل بالعدالة والشجاعة.

وأمّا عدم حجّیة خبر الواحد فی الأمور الحدسیة ، فإنّما یراد منه الحدسیّ المحض کتنبّؤات المنجمین لا فی مثل المقام الذی یرجع واقعه إلی الاستدلال بالسبب الحسّی علی وجود المسبب.

ص: 173

القول الثالث : إنّه لیس بحجّة إلاّ إذا کان ناقل الإجماع معروفا بالتتبّع علی وجه علم أنّه قد وقف علی آراء العلماء المتقدّمین والمتأخّرین علی نحو یکون ما استحصله من الآراء ملازما عادة للدلیل المعتبر أو لقول المعصوم.

غیر أنّ الذی یوهن الإجماعات المنقولة فی الکتب الفقهیة ، وجود التساهل فی نقل الإجماع ، فربما یدّعون الإجماع بعد الوقوف علی آراء محدودة غیر ملازمة لوجود دلیل معتبر ، بل ربما یدّعون الإجماع لوجود الخبر.

نعم لو کان الناقل واسع الباع محیطا بالکتب والآراء ، باذلا جهوده فی تحصیل الأقوال فی المسألة وکانت نفس المسألة من المسائل المعنونة فی العصور المتقدّمة ، فربما یکشف تتبعه عن وجود دلیل معتبر.

ص: 174

الفصل الخامس : حجّیة قول اللغوی

إنّ لإثبات الظهور طرقا ذکرناها فی محلّها (1) بقی الکلام فی حجّیة قول اللغوی فی إثباته وتعیین الموضوع له ، وقد استدلّ جمع من العلماء علی حجّیة قول اللغوی بأنّ الرجوع إلی قول اللغوی من باب الرجوع إلی أهل الخبرة ، ولا إشکال فی حجّیة قول أهل الخبرة فیما هم خبرة فیه.

أشکل علیه : بأنّ الکبری - وهی حجّیة قول أهل الخبرة - مسلّمة ، إنّما الکلام فی الصغری وهی کون اللغوی خبیرا فی تعیین الموضوع له عن غیره ، وبالتالی فی تعیین المعنی الحقیقی عن المجازی ، مع أنّ دیدن اللغویین فی کتبهم ذکر المعانی التی شاع استعمال اللفظ فیها ، سواء کان معنی حقیقیا أم مجازیا.

ولکن یمکن أن یقال : أنّ أکثر المعاجم اللغویة وإن کانت علی ما وصفت ، ولکن بعضها ألّف لغایة تمییز المعنی الأصلی عن المعنی الذی استعمل فیه بمناسبة بینه وبین المعنی الأصلی ، وهذا کالمقاییس لمحمد بن فارس بن زکریا (المتوفّی 395 ه) فقد قام ببراعة خاصة بعرض أصول المعانی وتمییزها عن فروعها ومشتقاتها ، ومثله کتاب أساس البلاغة للزمخشری (المتوفّی 538 ه).

ومن سبر فی الأدب العربی یجد أنّ سیرة المسلمین قد انعقدت علی الرجوع

ص: 175


1- راجع مقدّمة الکتاب ، بحث علائم الحقیقة والمجاز.

إلی الخبرة من أهل اللغة فی معانی الألفاظ الّذین یعرفون أصول المعانی عن فروعها وحقائقها عن مجازاتها. وقد کان ابن عباس مرجعا کبیرا فی تفسیر لغات القرآن.

علی أنّ الإنسان إذا ألف بالمعاجم الموجودة ، استطاع أن یمیز المعانی الأصلیة عن المعانی الفرعیة المشتقة منها ، ولا یتم ذلک إلاّ مع قریحة أدبیة وأنس باللغة والأدب. نعم تکون الحجة عند ذلک هی قطعه ویقینه لا قول اللغویّ.

* * *

إلی هنا انتهینا من دراسة الحجج الشرعیة الأربعة : - الکتاب والسنّة والإجماع والعقل - وهی أدلّة اجتهادیة تتکفّل لبیان الأحکام الشرعیة الواقعیة.

ص: 176

المقصد السابع : الأصول العملیة

اشارة

وفیه فصول :

الفصل الأوّل : فی أصالة البراءة.

الفصل الثانی : فی أصالة التخییر.

الفصل الثالث : فی أصالة الاحتیاط.

الفصل الرابع : فی أصالة الاستصحاب.

ص: 177

قد عرفت أنّ المکلّف الملتفت إلی الحکم الشرعی تحصل له إمّا القطع أو الظن أو الشکّ ، وقد فرغنا عن حکم القطع والظنّ والآن نبحث عن حکم الشکّ.

ولا یخفی أنّ المستنبط إنّما ینتهی إلی «الأصول العملیة» إذا لم یکن هناک دلیل قطعی ، کالخبر المتواتر ؛ أو دلیل علمی ، کالظنون المعتبرة التی دلّ علی حجّیتها الدلیل القطعی ، وتسمّی بالأمارات والأدلّة الاجتهادیة ، کما تسمّی الأصول العملیة بالأدلّة الفقاهیة.

وبذلک تقف علی ترتیب الأدلّة فی مقام الاستنباط ، فالمفید للیقین هو الدلیل المقدّم علی کلّ دلیل ، یعقّبه الدلیل الاجتهادی ، ثمّ الأصل العملی.

إنّ الأصول العملیة المعتبرة وإن کانت کثیرة ، لکن أکثرها مختص بباب دون باب ، کأصل الطهارة المختص بباب الطهارة ، أو أصل الحلّیة المختص بباب الشک فی خصوص الحلال والحرام ، أو أصالة الصحّة المختصة بعمل صدر عن الشخص وشکّ فی صحّته وفساده ، وأمّا الأصول العملیة العامة التی یتمسک بها المستنبط فی جمیع أبواب الفقه فهی أربعة تعرف ببیان مجاریها.

لأنّ الشکّ إمّا أن تلاحظ فیه الحالة السابقة أو لا ، وعلی الثانی إمّا أن یکون الشکّ فی أصل التکلیف أو لا ، وعلی الثانی إمّا أن یمکن الاحتیاط أو لا ،

ص: 178

فالأوّل مجری الاستصحاب ، والثانی مجری البراءة ، والثالث مجری الاحتیاط ، والرابع مجری التخییر.

توضیحه

1- إذا شکّ المکلّف فی حکم أو موضوع کان علی یقین منه فی السابق ، کما إذا کان علی طهارة ثمّ شکّ فی ارتفاعها ، فبما أنّ الحالة السابقة ملحوظة غیر ملغاة تکون مجری الاستصحاب علی الشروط المقرّرة فی محلّها.

2- إذا لم تکن الحالة السابقة ملحوظة ، وتعلّق الشکّ بأصل التکلیف کما إذا شکّ فی حرمة التدخین ؛ فهی مجری البراءة.

3- إذا لم تکن الحالة السابقة ملحوظة ، وعلم بأصل التکلیف ولکن شکّ فی متعلّقه، وکان الاحتیاط ممکنا ، کما إذا علم بوجوب الصلاة یوم الجمعة وتردّدت بین الظهر والجمعة، أو علم بوجود النجاسة وتردّد بین الإناءین ؛ فهی مجری الاحتیاط.

4- إذا لم تکن الحالة السابقة ملحوظة ، وعلم بأصل التکلیف ، وکان الاحتیاط غیر ممکن ، کما إذا علم انّ أحد الفعلین واجب والآخر محرّم (1) واشتبه أحدهما بالآخر فهو مجری التخییر فیجب إتیان أحدهما وترک الآخر مخیّرا.

ولنقدم البحث عن البراءة أوّلا ، ثمّ التخییر ، ثمّ الاحتیاط ، ثمّ الاستصحاب ، حفظا للنهج الدارج فی الکتب الأصولیة.

ص: 179


1- حیث إنّ نوع التکلیف معلوم والمتعلّق مجهول ، فخرج ما إذا کان نوع التکلیف مجهولا فهو من قبیل الشکّ فی التکلیف ومع ذلک فهو مجری التخییر کما إذا دار أمر فعل بین الوجوب والحرمة. لاحظ الفرائد : 298 طبعة رحمة الله.

الفصل الأوّل : أصالة البراءة

اشارة

قد تقدّم انّ مجری أصالة البراءة هو الشکّ فی أصل التکلیف وهو علی أقسام : لأنّ الشکّ تارة یتعلّق بالحکم ، أی یکون أصل الحکم مشکوکا ، کالشک فی حکم التدخین هل هو حرام أو لا؟ ویسمی بالشّبهة الحکمیة.

وأخری یتعلّق بالموضوع بمعنی أنّ الحکم معلوم ، ولکن تعلّق الشکّ بمصادیق الموضوع، کالمائع المردّد بین کونه خمرا أو خلا. ویسمّی بالشبهة الموضوعیة.

ثمّ إنّ منشأ الشک فی الشبهة الحکمیة إمّا فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّین.

ومنشأ الشک فی الشبهة الموضوعیة خلط الأمور الخارجیة.

والشبهة بقسمیها تنقسم إلی : تحریمیة ووجوبیة : أمّا التحریمیة ، فالمراد منها هی ما إذا احتملت حرمة الشیء مع العلم بأنّه غیر واجب ، فیدور أمره بین الحرمة ، والإباحة ، أو الکراهة ، أو الاستحباب ؛ کالتدخین الدائر أمره بین الحرمة والإباحة.

وأمّا الوجوبیة ، فالمراد منها هی ما إذا احتمل وجوبه مع العلم بأنّه غیر

ص: 180

محرّم ، فیدور أمره بین الوجوب ، والاستحباب ؛ أو الإباحة ، أو الکراهة ، کالدعاء عند رؤیة الهلال الدائر أمره بین الوجوب والاستحباب.

وعلی ذلک یقع الکلام فی مقامین :

المقام الأوّل : الشبهة التحریمیة

اشارة

وفیها مسائل أربع :

أ. الشبهة الحکمیة التحریمیة لأجل فقدان النص.

ب. الشبهة الحکمیة التحریمیة لأجل إجمال النص.

ج. الشبهة الحکمیة التحریمیة لأجل تعارض النصّین.

د. الشبهة الموضوعیة التحریمیة لأجل خلط الأمور الخارجیة.

وإلیک الکلام فی هذه المسائل ، الواحدة تلو الأخری.

المسألة الأولی : فی الشبهة الحکمیة التحریمیة لأجل فقدان النص
اشارة

إذا شکّ فی حرمة شیء لأجل عدم النصّ علیها فی الشریعة فقد ذهب الأصولیّون إلی البراءة والأخباریون إلی الاحتیاط.

أدلّة الأصولیین علی وجوب البرائة فی الشبهة الحکمیة التحریمیّة

واستدلّ الأصولیّون بالکتاب والسنّة والعقل نذکر المهمّ منها :

1- التعذیب فرع البیان

قال سبحانه : (مَنِ اهْتَدی فَإِنَّما یَهْتَدِی لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْری وَما کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء / 15).

وبعث الرسول کنایة عن البیان الواصل إلی المکلّف ، لأنّه لو بعث الرسول ولم یکن هناک بیان ، أو کان هناک بیان ولم یصل إلی المکلّف ، لما صحّ التعذیب ولقبح عقابه ، فالدافع لقبح العقاب هو البیان الواصل بمعنی وجوده فی مظانّه

ص: 181

علی وجه لو تفحّص عنه المکلّف لعثر علیه.

والمفروض أنّ المجتهد تفحص فی مظانّ الحکم ولم یعثر علی شیء یدلّ علی الحرمة ، فینطبق علیه مفاد الآیة ، وهو أنّ التعذیب فرع البیان الواصل والمفروض عدم البیان فیکون التعذیب مثله.

2- حدیث الرفع

روی الصدوق بسند صحیح عن أبی عبد الله علیه السلام ، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «رفع عن أمّتی تسعة : الخطأ ، والنسیان ، وما أکرهوا علیه ، وما لا یعلمون ، وما لا یطیقون ، وما اضطروا إلیه ، والحسد ، والطیرة ، والتفکّر فی الوسوسة فی الخلق ما لم ینطق بشفة». (1)

تقریر الاستدلال یتوقف علی ذکر أمرین :

الأوّل : انّ لفظة «ما» فی قوله : «ما لا یعلمون» موصولة تعمّ الحکم والموضوع المجهولین ، لوضوح انّه إذا جهل المکلّف بحکم التدخین ، أو جهل بکون المائع الفلانی خلا أو خمرا صدق علی کلّ منهما انّه من «ما لا یعلمون» فیکون الحدیث عاما حجّة فی الشبهة الحکمیة والموضوعیة معا.

الثانی : انّ الرفع ینقسم إلی تکوینی - وهو واضح - وتشریعی ، والمراد منه نسبة الرفع إلی الشیء بالعنایة والمجاز ، باعتبار رفع آثاره کقوله علیه السلام : «لا شکّ لکثیر الشکّ» ومن المعلوم أنّ المرفوع لیس هو نفس «الشک» لوجوده ، وإنّما المرفوع هو آثاره وهذا صار سببا لنسبة الرفع إلی ذاته ، ونظیره حدیث الرفع ، فانّ نسبة الرفع إلی الأمور التسعة نسبة ادّعائیة بشهادة وجود الخطأ والنسیان وما عطف علیه فی الحدیث ، بکثرة بین الأمّة ، ولکن لمّا کانت الموضوعات المذکورة

ص: 182


1- الخصال ، باب التسعة ، الحدیث 9 ، ص 417.

مسلوبة الآثار صحّت نسبة الرفع إلی ذاتها باعتبار عدم آثارها.

فحینئذ یقع الکلام فی تعیین ما هو الأثر المسلوب الذی صار مصحّحا لنسبة الرفع إلیها ، أهو جمیع الآثار کما هو الظاهر أو خصوص المؤاخذة أو الأثر المناسب لکلّ واحد من تلک الفقرات ، کالمضرّة فی الطیرة ، والکفر فی الوسوسة والمؤاخذة فی أکثرها؟ وعلی جمیع الوجوه والأقوال فالمؤاخذة مرتفعة وهو معنی البراءة.

نعم ، انّ مقتضی الحدیث هو رفع کلّ أثر مترتب علی المجهول إلاّ إذا دلّ الدلیل علی عدم رفعه ، کنجاسة الملاقی فیما إذا شرب المائع المشکوک فبان انّه خمر ، فلا ترتفع نجاسة کلّ ما لاقی الخمر بضرورة الفقه علی عدم ارتفاع مثل هذه الآثار الوضعیّة.

اختصاص الحدیث بما یکون الرفع منّة علی الأمّة

إنّ حدیث الرفع ، حدیث منّة وامتنان کما یعرب عنه قوله : «رفع عن أمّتی» أی دون سائر الأمم ، وعلی ذلک یختص الرفع بالأثر الذی یکون فی رفعه منّة علی الأمّة (لا الفرد الخاص) ، فلا یعم ما لا یکون رفعه منّة لهم ، کما فی الموارد التالیة :

1- إذا أتلف مال الغیر عن جهل ونسیان ، فهو ضامن ، لأنّ الحکم بعدم الغرامة علی خلاف المنّة.

2- إذا أکره الحاکم المحتکر فی عام المجاعة علی البیع ، فالبیع المکره یقع صحیحا ولا یعمّه قوله : «وما أکرهوا علیه» لأنّ شموله للمقام والحکم برفع الصحة وببطلان البیع علی خلاف المنّة.

3- إذا أکره الحاکم المدیون علی قضاء دینه وکان متمکّنا ، فلا یعمّه

ص: 183

قوله : «وما أکرهوا» لأنّ شموله علی خلاف الامتنان.

3- مرسلة الصدوق

روی الصدوق مرسلا فی «الفقیه» وقال : قال الصادق علیه السلام : «کلّ شیء مطلق حتّی یرد فیه نهی». (1)

فقد دلّ الحدیث علی أنّ الأصل فی کلّ شیء هو الإطلاق حتی یرد فیه النهی بعنوانه، کأن یقول : الخمر حرام ، أو الرشوة حرام ، فما لم یرد النهی عن الشیء بعنوانه یکون محکوما بالإطلاق والإرسال ، وبما أنّ التدخین مثلا لم یرد فیه النهی فهو مطلق.

4- الاستدلال بالعقل

إنّ صحّة احتجاج الآمر علی المأمور من آثار التکلیف الواصل ولا یصحّ الاحتجاج بالتکلیف غیر الواصل أبدا بل یعدّ العذاب معه ظلما وقبیحا من المولی الحکیم ، وهذا ممّا یستقل به العقل ، ویعد العقاب بلا بیان واصل أمرا قبیحا لا یصدر عن الحکیم.

وقیاس الاستدلال بالشکل التالی :

العقاب علی محتمل التکلیف عقاب بلا بیان - بعد الفحص التام وعدم العثور علیه.

والعقاب بلا بیان یمتنع صدوره عن المولی الحکیم.

فینتج : العقاب علی محتمل التکلیف یمتنع صدوره من المولی الحکیم.

التعارض بین القاعدتین

سؤال : ثمة قاعدة عقلیة أخری هی علی طرف النقیض من هذه القاعدة

ص: 184


1- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 60.

العقلیة ، وهی :

أنّ العقل یفرّق بین الضرر الدنیوی المحتمل فلا یحکم بوجوب دفعه إلاّ إذا کان خطیرا لا یتحمّل. وأمّا الضرر الأخروی الذی هو کنایة عن العقاب الأخروی فیؤکّد العقل علی وجوب دفعه ویستقلّ به ، فلا یرخّص استعمال شیء فیه احتمال العقوبة الأخرویة ، ولو احتمالا ضعیفا ، وعلی ذلک فیمکن للقائل بالاحتیاط أن یعارض القاعدة الأولی بقاعدة أخری ، وهی قاعدة «وجوب دفع الضرر المحتمل» بالبیان التالی :

احتمال الحرمة - فی مورد الشبهة البدویة - یلازم احتمال الضرر الأخروی ، وهو بدوره واجب الدفع وإن کان احتماله ضعیفا ، وعندئذ یحکم العقل بلزوم الاحتیاط بترک ارتکاب محتمل الضرر لذلک المحذور.

وإن أردت صبّه فی قالب القیاس المنطقی المؤلف من الصغری والکبری فتقول : الشبهة البدویة التحریمیة فیها ضرر أخرویّ محتمل ، وکلّ ما فیه ضرر أخرویّ محتمل یلزم ترکه.

فینتج : الشبهة البدویة التحریمیة یلزم ترکها ، فینتج لزوم الاحتیاط ، وعندئذ یقع التعارض بین القاعدتین العقلیتین ، فمن جانب یحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان فیرخّص بالارتکاب ، ومن جانب آخر یحکم بلزوم دفع الضرر الأخروی المحتمل فیمنع من الارتکاب.

الجواب

إنّ الصغری فی القاعدة الثانیة غیر محرزة ، إذ المراد من الصغری هو احتمال الضرر (العقاب) فی ارتکاب الشبهة البدویة ، فیجب أن یکون لاحتماله مناشئ

ص: 185

عقلائیة ، والمفروض انتفاؤها جمیعا ، لأنّ احتمال العقاب ناشئ من الأمور التالیة :

1- صدور البیان عن المولی ووصوله إلی العبد.

2- التمسک بالبراءة قبل الفحص الکافی.

3- کون العقاب بلا بیان أمرا غیر قبیح.

4- کون المولی شخصا غیر حکیم أو غیر عادل.

وکلّها منتفیة فی المقام ، فاحتمال العقاب الذی هو الصغری فی القاعدة الثانیة غیر موجود ، ومع انتفائه کیف یمکن الاحتجاج بالکبری وحدها؟ مع أنّ الاحتجاج لا یتمّ إلاّ مع إحراز الصغری.

أدلّة الأخباریین علی وجوب الاحتیاط فی الشبهة الحکمیة التحریمیّة

استدلّ الأخباریون بأدلة ثلاثة : الکتاب والسنّة والعقل فلندرس کلّ واحد تلو الآخر:

الف : الاستدلال بالکتاب

الآیات الآمرة بالتقوی بقدر الوسع والطاقة ، قال سبحانه : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران / 102). (1)

وجه الاستدلال : أنّ اجتناب محتمل الحرمة یعدّ من التقوی ، وکلّ ما یعدّ منها فهو واجب بحکم انّ الأمر فی (اتَّقُوا اللهَ) دالّ علی الوجوب ، فینتج أنّ اجتناب محتمل الحرمة واجب.

ص: 186


1- ولاحظ أیضا الآیة السادسة عشر من سورة التغابن.

یلاحظ علیه : أنّ کلیّة الکبری ممنوعة ، أی لیس کلّ ما یعدّ من التقوی فهو واجب،وذلک لأنّ التقوی تستعمل تارة فی مقابل الفجور ولا شکّ فی وجوب مثلها بعامة مراتبها ، مثل قوله : (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِینَ کَالْفُجَّارِ) (ص / 28) وقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (الشمس / 8) وقد تطلق ویراد منها ما یعم القیام بکلّ مرغوب فیه من الواجب والمستحب ، والتحرّز عن کلّ مرغوب عنه من حرام ومکروه مثل قوله سبحانه : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوی) (البقرة / 197) ففی مثل ذلک تکون التقوی واجبة ، لکن ببعض مراتبها لا بکلّ مراتبها ، ویحمل الأمر فی (تَزَوَّدُوا) علی الاستحباب کالآیة التی استدلّ بها فی المقام.

ب : الاستدلال بالسنّة

استدلّ الأخباریون بطوائف من الروایات :

الأولی : حرمة الإفتاء بلا علم

دلّت طائفة من الروایات علی حرمة القول والإفتاء بغیر علم ، أو الإفتاء بما لم یدلّ دلیل علی حجّیته کالقیاس والاستحسان ، کصحیحة هشام بن سالم ، قال :قلت لأبی عبدالله علیه السلام : ما حقّ الله علی خلقه؟ قال : «أن یقولوا ما یعلمون ، ویکفّوا عمّا لا یعلمون، فإذا فعلوا ذلک فقد أدّوا إلی الله حقّه». (1)

وبهذا المضمون روایات کثیرة فی نفس الباب.

یلاحظ علیه : أنّ المستفاد من الروایات هو انّ الإفتاء بعدم الحرمة الواقعیة

ص: 187


1- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 2 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 4 ، وبهذا المضمون الحدیث 19 و 54 ومثله ما دلّ علی لزوم الکف عمّا لا یعلم ، کالحدیث 4 و 32.

فی مورد الشبهة یعدّ قولا بلا علم ، وهذا ممّا یحترز عنه الأصولیّون.

وأمّا القول بعدم المنع ظاهرا ، حتی یعلم الواقع مستندا إلی الأدلّة الشرعیّة والعقلیة ، فلیس قولا بلا علم وهو نفس ما یقصده الأصولی.

الثانیة : ما ورد من الأمر بالاحتیاط قبل الفحص

روی عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجلین أصابا صیدا وهما محرمان ، الجزاء بینهما ، أو علی کلّ واحد منهما جزاء؟ قال : «لا ، بل علیهما أن یجزی کلّ واحد منهما الصید» ، قلت : إنّ بعض أصحابنا سألنی عن ذلک فلم أدر ما علیه؟ فقال : «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعلیکم بالاحتیاط حتی تسألوا عنه فتعلموا».(1)

یلاحظ علیه : إنّ هذه الروایة ناظرة إلی الاحتیاط قبل الفحص ، وهی خارجة عن مورد الکلام ، وإنّما الکلام فیما إذا فحص عن دلیل الحرمة فی مظانه ولم یعثر علی شیء.

الثالثة : لزوم الوقوف عند الشبهة

هناک روایات تدلّ علی لزوم الوقوف عند الشبهة ، وأنّه خیر من الاقتحام فی الهلکة ، وإلیک بعض ما یدلّ علی ذلک :

1- روی داود بن فرقد ، عن أبی شیبة ، عن أحدهما علیهما السلام قال : «الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة». (2)

ص: 188


1- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 1 ، وبهذا المضمون الحدیث 3 و 23 و 29 و 31 و 43.
2- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 13.

2- روی مسعدة بن زیاد ، عن جعفر علیه السلام ، عن آبائه ، عن النبی صلی الله علیه و آله و سلّم أنّه قال : «لا تجامعوا فی النکاح علی الشبهة ، وقفوا عند الشبهة ، فإنّ الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة». (1)

3- روی فی «الذکری» ، قال : قال النبی صلی الله علیه و آله و سلّم : «دع ما یریبک إلی ما لا یریبک». (2)

یلاحظ علی الاستدلال بهذه الطائفة من الأحادیث أنّها إمّا راجعة إلی الشبهة المحصورة التی یعلم بوجود الحرمة فیها وذلک بقرینة «الهلکة» ، کما فی الحدیث الأوّل.

أو راجعة إلی الشبهة الموضوعیّة ، التی لم یقل أحد بالاحتیاط فیها کما فی الحدیث الثانی ، أو محمولة علی الاستحباب کما فی الحدیث الأخیر.

الرابعة : حدیث التثلیث

إنّ أقوی حجّة للأخباریین هو حدیث التثلیث الوارد فی کلام النبی صلی الله علیه و آله و سلّم والوصی علیه السلام ، رواه عمر بن حنظلة عن أبی عبد الله علیه السلام ، فی حدیث قال : «إنّما الأمور ثلاثة:أمر بیّن رشده فیتّبع ، وأمر بیّن غیّه فیجتنب ، وأمر مشکل یردّ علمه إلی الله ورسوله».

قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «حلال بیّن ، وحرام بیّن ، وشبهات بین ذلک ، فمن ترک الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتکب المحرمات وهلک من حیث لا یعلم».

ثمّ قال فی آخر الحدیث : «فإنّ الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی

ص: 189


1- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 15.
2- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 63.

الهلکات».

إنّ مورد التثلیث الوارد فی کلام الوصیّ هو الشبهات الحکمیّة ، وحاصل التثلیث أنّ ما یبتلی به المکلّف إمّا بیّن رشده فیتّبع ، وإمّا بیّن غیّه فیجتنب ، وامّا الأمر المشکل فلا یفتی بما لا یعلم حتی یرجع حکمه إلی الله.

والجواب انّ التثلیث فی کلام الوصیّ ینسجم مع الطائفة الأولی من حرمة الإفتاء بغیرعلم.

وأمّا التثلیث فی کلام الرسول ، فموردها الشبهات الموضوعیّة التی یقطع بوجود الحرام فیها ، وهی تنطبق علی الشبهة المحصورة ، حیث إنّ ظاهر الحدیث أنّ هناک حلالا بیّنا ، وحراما بیّنا ، وشبهات بین ذلک ، علی وجه لو ترک الشبهات نجا من المحرمات ، ولو أخذ بها ارتکب المحرمات ، وهلک من حیث لا یعلم وما هذا شأنه فهو خارج عن الشبهة البدویّة التی هی محل النزاع ، ومنطبق علی الشبهة المحصورة.

وإن شئت قلت : إنّ الروایة ظاهرة فیما إذا کانت الهلکة محرزة مع قطع النظر عن حدیث التثلیث ، وکان اجتناب الشبهة أو اقترافها ملازما لاجتناب المحرمات واقترافها ، حتی یصحّ أن یقال : «فمن ترک الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتکب المحرمات» وما هذا شأنه لا ینطبق إلاّ علی الشبهة المحصورة لا الشبهة البدویة التی لا علم فیها أصلا بالمحرمات.

وأنت إذا استقصیت روایات الباب تقف علی أنّ أکثرها لا مساس لها بمورد البراءة ، وما لها مساس محمول إمّا علی الاستحباب ، أو التورّع الکثیر.

ج : الاستدلال بالعقل

نعلم إجمالا - قبل مراجعة الأدلّة - بوجود محرمات کثیرة فی الشریعة التی

ص: 190

یجب الخروج عن عهدتها بمقتضی قوله سبحانه : (وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر/ 7).

وبعد مراجعة الأدلّة نقف علی وجود محرمات فی الشریعة بیّنها الکتاب والسنّة، ولکن نحتمل وجود محرمات أخری بیّنها الشارع ولم تصل إلینا ، فمقتضی منجزیّة العلم الإجمالی ، هو الاجتناب عن کلّ ما نحتمل حرمته إذا لم یکن هناک دلیل علی حلّیته ، حتی نعلم بالخروج عن عهدة التکلیف القطعی ، شأن کلّ شبهة محصورة.

یلاحظ علیه : أنّ العلم الإجمالی إنّما ینجّز إذا بقی علی حاله ، وأمّا إذا انحلّ إلی علم تفصیلی وشک بدوی ، فلا یکون منجزا ویکون المشکوک موردا للبراءة ، مثلا إذا علم بغصبیة أحد المالین مع احتمال غصبیتهما معا ، فإذا قامت البیّنة علی غصبیّة أحدهما المعیّن، انحلّ العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی بالحرمة وهو ما قامت البیّنة علی غصبیته ، وشک بدوی وهو المال الآخر الذی یحتمل أیضا غصبیّته.

ومثله المقام إذ فیه علمان :

أحدهما : العلم الإجمالی بوجود محرمات فی الشریعة والتی أشیر إلیها فی الآیة المتقدمة.

ثانیهما : العلم التفصیلی بمحرمات واردة فی الطرق والأمارات والأصول المثبتة للتکلیف کاستصحاب الحرمة ، علی وجه لو عزلنا موارد العلم التفصیلی عن موارد العلم الإجمالی ، لما کان فیها علم بالمحرّمات بل تکون الحرمة أمرا محتملا تقع مجری للبراءة.

وعلی ضوء ما ذکرنا ، فالعلم الإجمالی بالمحرمات المتیقنة ینحلّ إلی علم تفصیلی بمحرمات ثبتت بالطرق والأمارات ، وإلی شک بدوی محتمل الحرمة ، وفی

ص: 191

مثل ذلک ینتفی العلم الإجمالی فلا یکون مؤثرا ، وتکون البراءة هی الحاکمة فی مورد الشبهات.

المسألة الثانیة : الشبهة الحکمیة التحریمیة لإجمال النصّ

إذا تردّد الغناء المحرّم بین کونه مطلق الترجیع أو الترجیع المطرب ، فیکون الترجیع المطرب قطعیّ الحرمة ، والترجیع بلا طرب مشکوک الحکم فیکون مجری للبراءة.

ومثله النهی المجرّد عن القرینة إذا قلنا باشتراکه بین الحرمة والکراهة.

والحکم فی هذه المسألة حکم ما ذکر فی المسألة الأولی ، من البراءة عن الحرمة والأدلّة المذکورة من الطرفین جاریة فی المقام إشکالا وجوابا.

المسألة الثالثة : الشبهة الحکمیة التحریمیة لتعارض النصّین

إذا دلّ دلیل علی الحرمة ودلیل آخر علی الإباحة ، ولم یکن لأحدهما مرجّح ، فلا یجب الاحتیاط بالأخذ بجانب الحرمة لعدم الدلیل علیه ، نعم ورد الاحتیاط فی روایة وردت فی «عوالی اللآلی» نقلها عن العلاّمة ، رفعها إلی زرارة عن مولانا أبی جعفر علیه السلام انّه قال فی الخبرین المتعارضین : «فخذ بما فیه الحائطة لدینک واترک الآخر» (1) والروایة ضعیفة السند لا یحتج بها.

المسألة الرابعة : الشبهة الموضوعیّة التحریمیّة

إذا دار الأمر بین کون شیء حراما أو مباحا لأجل الاشتباه فی بعض الأمور الخارجیّة، کما إذا شکّ فی حرمة شرب مائع أو إباحته للتردّد فی أنّه خلّ أو خمر ، فالظاهر عدم الخلاف فی أنّ مقتضی الأصل الإباحة ، للأخبار الکثیرة فی ذلک ،

ص: 192


1- عوالی اللآلی : 4 / 133 برقم 229.

مثل قوله علیه السلام : کلّ شیء لک حلال حتی تعلم أنّه حرام بعینه فتدعه. (1)

ویمکن الاستدلال علی البراءة بالدلیل العقلی ، وهو أنّ الاحتجاج لا یتمّ بالعلم بالکبری وحده وهو انّ الخمر حرام ما لم ینضم إلیه العلم بالصغری ، ففی المقام ، الکبری محرزة ، دون الصغری ، فلا یحتج بالکبری المجرّدة علی العبد.

المقام الثانی : الشکّ فی الشبهة الوجوبیة

إذا شکّ فی وجوب شیء وعدمه ، ففیها أیضا مسائل أربع :

أ. الشبهة الحکمیة الوجوبیة لأجل فقدان النصّ ، کالدعاء عند رؤیة الهلال ، أو الاستهلال فی شهر رمضان.

ب. الشبهة الحکمیة الوجوبیة لأجل إجمال النصّ ، کاشتراک لفظ الأمر بین الوجوب والاستحباب.

ج. الشبهة الحکمیة الوجوبیة لأجل تعارض النصّین ، کما فی الخبرین المتعارضین ، أحدهما یأمر ، والآخر یبیح ، ولم یکن لأحدهما مرجح.

د. الشبهة الموضوعیة لأجل الاشتباه فی بعض الأمور الخارجیة ، کما إذا تردّدت الفائتة بین صلاة أو صلاتین.

والحکم فی الجمیع البراءة وعدم وجوب الاحتیاط ، إجماعا.

ص: 193


1- الوسائل : الجزء 12 ، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به ، الحدیث 4.

الفصل الثانی : أصالة التخییر

اشارة

إذا دار الأمر بین وجوب شیء وحرمته ، فهنا مسائل أربع :

المسألة الأولی : دوران الأمر بین المحذورین لفقدان النص

وذلک کدفن الکافر لو تردّد حکمه بین الوجوب والحرمة ولم یکن دلیل معتبر فی البین.

لا شکّ انّ المکلّف مخیّر بین الفعل والترک تخییرا تکوینیا علی وجه لیس بإمکانه المخالفة القطعیة ، لامتناع الجمع بین الفعل والترک مع وحدة زمان العمل ، ولا الموافقة القطعیة لنفس السبب. وأمّا من حیث الحکم الظاهری فالمقام محکوم بالبراءة عقلا وشرعا.

أمّا جریان البراءة العقلیة ، فلأنّ موضوعها هو عدم البیان الوافی ، والمراد من الوافی ما لو اقتصر علیه المکلّف لکفی فی نظر العقلاء ، ویقال انّه أدّی الوظیفة فی مقام البیان،ولکنّ الحکم المردّد بین الوجوب والحرمة لیس بیانا وافیا لدی العقلاء حتی یصحّ للمتکلّم السکوت علیه ، فیکون من مصادیق ، قبح العقاب بلا بیان.

وأمّا جریان البراءة الشرعیة فلانّ موضوعها هو الجهل بالحکم الواقعی والمفروض وجود الجهل ، والعلم بالإلزام الجامع بین الوجوب والحرمة لیس علما

ص: 194

بالحکم الواقعی ، فیشمله قوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «رفع عن أمّتی ما لا یعلمون».

المسألة الثانیة : دوران الأمر بین المحذورین لإجمال النص

إذا دار الأمر بین الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدلیل ، کالأمر المردّد بین الإیجاب والتهدید فالحکم فیه کالحکم فی المسألة السابقة.

المسألة الثالثة : دوران الأمر بین المحذورین لتعارض النصّین

لو دار الأمر بین الوجوب والحرمة من جهة تعارض الأدلّة ، فالحکم هو التخییر شرعا- أی الأخذ بأحد الدلیلین بحکم الشرع - لإطلاق أدلّته.

روی الحسن بن الجهم ، عن الرضا علیه السلام : قلت : یجیئنا الرجلان - وکلاهما ثقة - بحدیثین مختلفین ، ولا نعلم أیّهما الحق ، قال : «فإذا لم تعلم فموسع علیک بأیّهما أخذت». (1)

أضف إلی ذلک أنّ بعض روایات التخییر وردت فی دوران الأمر بین المحذورین. (2)

المسألة الرابعة : دوران الأمر بین المحذورین فی الشبهة الموضوعیة

إذا وجب إکرام العادل وحرم إکرام الفاسق ، واشتبه حال زید من حیث الفسق والعدالة ، فالحکم فیه کالحکم فی المسألة الأولی طابق النعل بالنعل.

ثمّ إذا دار الأمر بین المحذورین وکانت الواقعة واحدة ، فلا شکّ أنّه مخیّر عقلا بین الأمرین ، مع جریان البراءة عن کلا الحکمین فی الظاهر ، أمّا لو کانت لها

ص: 195


1- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 5.
2- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 5 و 42.

أفراد فی طول الزمان ، کما إذا تردّد (إکرام زید فی کلّ جمعة إلی شهر) بین الوجوب والحرمة، فیقع الکلام فی أنّ التخییر العملی هل هو حکم استمراری ، فله أن یختار فی الجمعة الثانیة غیر ما اختاره فی الجمعة الأولی ، وإن استلزم ذلک ، المخالفة القطعیة ، أو لا، بل التخییر ابتدائی فلا یجوز له أن یکرمه فی الجمعة الأولی دون الثانیة؟

الظاهر عدم کونه استمراریّا ، لأنّه لا فرق فی تنجیز العلم الإجمالی وحرمة المخالفة بین کون الواقعة دفعیة أو تدریجیة ، فکما تحرم المخالفة العملیة الدفعیة کذلک تحرم التدریجیة أیضا ، فإنّه یعلم بأنّه لو أکرم زیدا فی الجمعة الأولی وترک إکرامه فی الجمعة الثانیة ، فقد ارتکب مبغوضا للشارع.

فالمانع هو تنجیز العلم الإجمالی مطلقا فی الدفعیات والتدریجیات ، وعدم الفرق بینهما لحکم العقل بلزوم إطاعة المولی وحرمة المخالفة حسب الإمکان والاستطاعة.

فتلخص انّ الحکم بالتخییر عند دوران الأمر بین المحذورین لا یکون حجّة علی جواز المخالفة القطعیة ، وهذه ضابطة کلیة تجب مراعاتها.

ص: 196

الفصل الثالث : أصالة الاحتیاط

اشارة

هذا هو الأصل الثالث من الأصول العملیة ویعبّر عنه بأصالة الاشتغال أیضا ومجراه هو الشکّ فی المکلّف به مع العلم بأصل التکلیف وإمکان الاحتیاط.

ثمّ الشبهة تنقسم إلی تحریمیة ووجوبیة ، فیقع الکلام فی مقامین :

المقام الأوّل : الشبهة التحریمیة

اشارة

مقتضی التقسیم السابق فی الشکّ فی التکلیف یقتضی أن یکون هنا أیضا مسائل أربع ، لأنّ الشبهة إمّا حکمیة ، أو موضوعیة ، ومنشأ الشکّ فی الحکمیة إمّا فقدان النص،أو إجماله ، أو تعارض النصین ، ولکن کلّ ذلک فروض نظریة لا واقع لها فی الفقه فالتی لها تطبیقات عملیة ملموسة فی الفقه هی المسألة الرابعة ، أی الشبهة التحریمیة الموضوعیة ، وأمّا المسائل الثلاث الحکمیة ، فلیست لها تطبیقات عملیة ، ولذلک نکتفی بالمسألة الرابعة.

ثمّ إنّ الشبهة الموضوعیة التحریمیة من الشکّ فی المکلّف به تنقسم إلی قسمین ، لأنّ الحرام المشتبه بغیره ، إمّا مشتبه فی أمور محصورة ، کما لو دار الحرام بین

ص: 197

أمرین أو أمور محصورة ، وتسمّی بالشبهة المحصورة ؛ وإمّا مشتبه فی أمور غیر محصورة ، وتسمی بالشبهة غیر المحصورة ، فإلیک دراسة حکم کلا القسمین.

حکم الشبهة المحصورة

إذا قامت الأمارة علی حرمة شیء وشمل إطلاق الدلیل مورد العلم الإجمالی ، کما إذا قال : اجتنب عن النجس ، وکان مقتضی إطلاقه شموله للنجس المعلوم إجمالا أیضا ، فالکلام فی جواز المخالفة القطعیة أو الاحتمالیة یقع فی موردین :

الأوّل : مقتضی القاعدة الأوّلیة.

الثانی : مقتضی القاعدة الثانویة.

أمّا الأوّل فمقتضی القاعدة هو حرمة المخالفة القطعیة والاحتمالیة معا بمعنی انّه لا یجوز ارتکاب جمیع الأطراف (المخالفة القطعیة) أو بعضها (الاحتمالیة) والدلیل علی ذلک وجود المقتضی وعدم المانع.

أمّا الأوّل فلأنّ إطلاق قول الشارع مثلا اجتنب عن الخمر یشمل الخمر المعین والخمر المردد بین الإناءین أو أزید.

وأمّا الثانی فلانّ العقل لا یمنع من تعلق التکلیف عموما أو خصوصا بالاجتناب عن الحرام المشتبه بین أمرین کما لا یمنع عن العقاب علی مخالفة هذا التکلیف.

وعلی ضوء ذلک ، فالاشتغال القطعی بالحرمة (وجود المقتضی) وعدم المانع عن تنجز التکلیف ، یقتضی البراءة الیقینیة بالاجتناب عن کلتا المخالفتین : القطعیة والاحتمالیة.

هذا کلّه حول القاعدة الأوّلیة ، وأمّا القاعدة الثانویة بمعنی ورود الترخیص

ص: 198

من الشارع فی ارتکاب الجمیع أو البعض أو عدم وروده ، فالتتبع فی الروایات یقضی بعدم وروده مطلقا بعضا أو کلا ، بل ورد التأکید علی الاجتناب عن جمیع الأطراف وإلیک بعض ما ورد :

1- روی سماعة ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل معه اناءان فیهما ماء وقع فی أحدهما قذر لا یدری أیّهما هو ولیس یقدر علی ماء غیره ، قال : یهریقهما ویتیمم. (1)

2- روی زرارة ، قال : قلت له : إنّی قد علمت انّه قد أصابه (الدم) ولم أدر أین هو فاغسله؟ قال : تغسل من ثوبک الناحیة التی تری انّه قد أصابها حتّی تکون علی یقین من طهارتک. (2)

الاستدلال علی جواز الترخیص

وربما یستدلّ علی جواز الترخیص ببعض الروایات منها : کلّ شیء هو لک حلال حتی تعلم أنّه حرام بعینه.

وجه الاستدلال : أنّ قوله : «بعینه» تأکید للضمیر فی قوله : «إنّه» فیکون المعنی حتی تعلم أنّه بعینه حرام ، فیکون مفاده أنّ محتمل الحرمة ما لم یتعیّن انّه بعینه حرام ، فهو حلال ، فیعم العلم الإجمالی والشبهة البدویة.

الجواب : انّ تلک الفقرة لیست روایة مستقلة ، بل هی جزء من روایة مسعدة ابن صدقة ، عن أبی عبد الله علیه السلام قال : سمعته ، یقول : «کلّ شیء هو لک حلال حتی تعلم أنّه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسک ، وذلک مثل الثوب یکون علیک

ص: 199


1- الوسائل : الجزء 1 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 82.
2- التهذیب : 1 / 421 ، الحدیث 1335.

قد اشتریته وهو سرقة ، والمملوک عندک لعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبیع قهرا ، أو امرأة تحتک وهی أختک أو رضیعتک ، والأشیاء کلّها علی هذا حتی یستبین لک غیر ذلک ، أو تقوم به البیّنة». (1)

والأمثلة الواردة فی ذلک الحدیث کلّها من الشبهة البدویة ، وهذا یوجب انصراف إطلاق الحدیث إلی مواردها ، وعدم عمومیته لموارد العلم الإجمالی ، ولو کان الحدیث عاما لکلا الموردین لکان له علیه السلام الإتیان بمثال لصورة العلم الإجمالی.

الشبهة غیر المحصورة

اتّفق الأصولیّون علی عدم تنجیز العلم الإجمالی فی أطراف الشبهة التحریمیة الموضوعیة غیر المحصورة ، ولا بدّ من تحدید الموضوع (غیر المحصورة) أوّلا ، ثمّ بیان حکمها ثانیا.

أمّا الأوّل فبیانه انّه ربّما تبلغ أطراف الشبهة إلی حدّ یوجب ضعف احتمال کون الحرام فی طرف خاص بحیث لا یعتنی به العقلاء ، ویتعاملون معه معاملة الشکّ البدوی ، فلو أخبر أحد باحتراق بیت فی بلد أو اغتیال إنسان فیه ، وللسامع فیه بیت أو ولد لا یعتدّ بذلک الخبر.

وأمّا حکمها ، فلو علم المکلّف علما وجدانیّا بوجود تکلیف قطعی أو احتمالی بین الأطراف علی وجه لا یرضی المولی بمخالفته علی فرض وجوده ، فلا یجوز الترخیص لا فی کلّها ولا فی بعضها ، ولکن الکلام فی مقام آخر ، وهو انّه إذا دلّ الدلیل الشرعی علی حرمة الشیء وکان مقتضی إطلاق الدلیل حرمته مطلقا ، وإن کانت غیر محصورة ، فهل هناک دلیل أقوی یقدّم علی ذلک الإطلاق؟

ص: 200


1- الوسائل : 12 ، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به ، الحدیث 4.

وقد استدلّ القوم علی وجود دلیل یقدّم علی الإطلاق بوجوه نذکر بعضها :

الأوّل : انّ الموافقة القطعیة فی الشبهة غیر المحصورة أمر موجب للعسر والحرج ، ومعه لا یکون التکلیف فعلیا ، فیجوز ارتکاب الأطراف جمیعها أو بعضها.

الثانی : الروایات الواردة حول الجبن وغیرها المحمولة علی الشبهة غیر المحصورة ، الدالة علی عدم وجوب الاجتناب ، منها :

1- روی إسحاق بن عمّار عن الرجل یشتری من العامل وهو یظلم ، قال : «یشتری منه ما لم یعلم أنّه ظلم فیه أحدا». (1)

2- ما رواه عبد الرحمن بن أبی عبد الله ، قال : سألته عن الرجل أیشتری من العامل وهو یظلم؟ فقال : «یشتری منه». (2)

وقد وردت روایات فی أخذ جوائز الظالم. (3)

إلی غیر ذلک من الروایات المورثة للیقین بعدم وجوب الموافقة القطعیة.

تنبیه

إذا کان المردّد فی الشبهة غیر المحصورة أفرادا کثیرة نسبة مجموعها إلی المشتبهات کنسبة الشیء إلی الأمور المحصورة ، کما إذا علم بوجود مائة شاة محرّمة فی ضمن ألف شاة ، فإنّ نسبة المائة إلی الألف نسبة الواحد إلی العشرة ، وهذا ما یسمّی بشبهة الکثیر فی الکثیر ، فالعلم الإجمالی هنا منجز ، والعقلاء یتعاملون معه معاملة الشبهة المحصورة ، ولا یعد احتمال الحرمة فی کلّ طرف احتمالا ضئیلا.

ص: 201


1- الوسائل : 12 ، الباب 53 من أبواب ما یکتسب به ، الحدیث 2 و 3 ، ولاحظ الباب 52 من أبواب ما یکتسب به ، الحدیث 1 و 3.
2- الوسائل : 12 ، الباب 53 من أبواب ما یکتسب به ، الحدیث 2 و 3 ، ولاحظ الباب 52 من أبواب ما یکتسب به ، الحدیث 1 و 3.
3- لاحظ الوسائل : 12 ، الباب 51 من أبواب ما یکتسب به ، الحدیث 1.

المقام الثانی : الشبهة الوجوبیة

اشارة

إنّ الشبهة الوجوبیة فی المکلّف به تنقسم إلی قسمین ، تارة یکون الشک مردّدا بین المتباینین کتردّد الأمر بین وجوب الظهر أو الجمعة ، وأخری بین الأقل والأکثر کتردّد الواجب بین الصلاة مع السورة أو بدونها ، وبذلک یقع الکلام فی موضعین.

الموضع الأوّل : الشبهة الوجوبیة الدائرة بین متباینین

إذا دار الواجب بین أمرین متباینین ، فمنشأ الشک إمّا فقدان النص أو إجماله ، أو تعارض النصّین ، أو الشبهة الموضوعیة ، فهناک مسائل أربع : وإلیک البحث فیها بوجه موجز :

1- إذا تردّد الواجب بغیره لأجل فقدان النصّ ، کتردّده بین الظهر والجمعة.

2- إذا تردّد الواجب بغیره لأجل إجمال النص بأن یتعلّق التکلیف الوجوبی بأمر مجمل، کقوله تعالی : (حافِظُوا عَلَی الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطی) (البقرة / 238) حیث إنّ الصلاة الوسطی مردّدة بین عدّة منها.

3- إذا تردّد الواجب بغیره لأجل تعارض النصّین وتکافؤهما ، کما إذا دار الأمر بین القصر والإتمام.

4- إذا تردّد الواجب بغیره من جهة اشتباه الموضوع ، کما فی صورة اشتباه الفائتة بین العصر والمغرب.

إنّ الخلاف فی هذه المسائل کالخلاف فی الشبهة التحریمیة ، والمختار هو المختار طابق النعل بالنعل ، فیجب الاحتیاط فی الأولی والثانیة والرابعة ، وأمّا الثالثة ، فالمشهور فیها التخییر ، لأخبار التخییر السلیمة عن المعارض.

ص: 202

الموضع الثانی : الشبهة الوجوبیة الدائرة بین الأقل و الأکثر
اشارة

إنّ الأقل والأکثر ینقسمان إلی استقلالیین وارتباطیین والفرق بینهما ، هو انّ وجوب الأقل وامتثاله فی الاستقلالی یغایر وجوب الأکثر - علی فرض وجوبه - وامتثاله ، فلکل وجوب وامتثال ، کالدین المردّد بین الدینار والدینارین ، والظاهر وجوب امتثال الأقل ، وعدم لزوم امتثال الأکثر لعدم ثبوت وجوبه ، بخلاف الأقل فی الارتباطی فانّه علی فرض وجوب الأکثر یکون واجبا بنفس وجوب الأکثر فلهما وجوب واحد وامتثال فارد ، ولذلک اختلفوا فی جواز الاقتصار بالأقل ، أو لزوم الإتیان بالأکثر.

ونقتصر بالبحث هنا علی الأقل والأکثر الارتباطیین ، ویبحث عنه ضمن مسائل أربع:

المسألة الأولی : دوران الأمر بین الأقل والأکثر لأجل فقدان النص

إذا شککنا فی جزئیة السورة ، أو جلسة الاستراحة ، أو شرطیة إباحة ثوب المصلّی فیکون الواجب مردّدا بین الأقل کالصلاة بلا سورة وبلا جلسة الاستراحة ... ، أو الأکثر کالصلاة مع السورة ومع جلسة الاستراحة ، فهل الإتیان بالأکثر مجری للبراءة ، أو مجری للاحتیاط؟ والمختار هو البراءة.

واعلم أنّه یعتمد فی تقریر البراءة العقلیة علی مسألة قبح العقاب بلا بیان ، فیقال فی المقام انّ الجزء المشکوک لم یرد فی وجوبه بیان ، فلو ترکه العبد وکان واجبا فی الواقع فالعقاب علی ترکه عقاب بلا بیان وهو قبیح علی الحکیم.

کما أنّه یعتمد فی تقریر البراءة الشرعیة لأجل رفع الوجوب الشرعی ، علی حدیث الرفع ، فیقال انّ وجوب الأکثر بعد «مما لا یعلمون» وکلّ ما کان کذلک فهو مرفوع.

ص: 203

استدلال القائلین بالاحتیاط

إنّ الاشتغال الیقینی یستدعی البراءة الیقینیة ، فذمّة المکلّف مشغولة بالواجب المردّد بین الأقل والأکثر ، ولا یحصل الیقین بالبراءة إلاّ بالإتیان بالأکثر نظیر ما إذا دار أمر الصلاة الفائتة بین إحدی الصلاتین : المغرب أو العشاء ، فیجب الإتیان بالأقل والأکثر کما یجب الإتیان بکلتا الصلاتین.

یلاحظ علیه : وجود الفرق بین المشبّه (دوران الواجب بین الأقل والأکثر) والمشبّه به (دوران الواجب بین المتباینین) فانّ العلم الإجمالی فی الثانی باق علی حاله حیث إنّ الواجب مردد بین شیئین مختلفین غیر متداخلین کصلاتی المغرب والعشاء.

وهذا بخلاف المقام فانّ التردید زائل بأدنی تأمّل حیث یعلم وجوب الأقل علی کلّ حال ، بنحو لا یقبل التردید ، وإنّما الشک فی وجوب الزائد أی السورة ، ففی مثله یکون وجوب الأقل معلوما علی کلّ حال ، ووجوب الزائد مشکوکا من رأس ، فیأخذ بالمتیقن وتجری البراءة فی المشکوک.

ومن ذلک یعلم أنّ عدّ الشکّ فی الأقل والأکثر الارتباطیین من باب العلم الإجمالی إنّما هو بظاهر الحال وبدء الأمر ، وأمّا بالنسبة إلی حقیقة الأمر فوجوب الزائد داخل فی الشبهة البدویة التی اتفق الأخباری والأصولی علی جریان البراءة فیها.

المسألة الثانیة : دوران الأمر بین الأقل والأکثر لأجل إجمال النص

إذا دار الواجب بین الأقل والأکثر لأجل إجمال النصّ ، کما إذا علّق الوجوب فی الدلیل اللفظی بلفظ مردّد معناه بین مرکبین یدخل أقلّهما تحت الأکثر بحیث یکون إتیان الأکثر إتیانا للأقل ، ولا عکس ، کما إذا دلّ الدلیل علی غسل

ص: 204

ظاهر البدن ، فیشک فی أنّ الجزء الفلانی کداخل الأذن من الظاهر أو من الباطن ، والحکم فیه کالحکم فی السابق ، ونزید هنا بیانا :

إنّ الملاک فی جریان البراءة الشرعیة هو رفع الکلفة المشکوکة ، فکلّ شیء فیه کلفة زائدة وراء الکلفة الموجودة فی الأقل ، یقع مجری للبراءة الشرعیة.

المسألة الثالثة : دوران الأمر بین الأقل والأکثر لأجل تعارض النصّین

إذا تعارض نصّان متکافئان فی جزئیة شیء ، کأن یدل أحد الدلیلین علی جزئیة السورة ، والآخر علی عدمها ، ولم یکن لأحدهما مرجح ، فالحکم فیه هو التخییر ، لما عرفت من تضافر الروایات العدیدة علی التخییر عند التعارض.

المسألة الرابعة : دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الشبهة الموضوعیة

إذا شکّ فی جزئیة شیء للمأمور به من جهة الشبهة فی الموضوع الخارجی ، کما إذا أمر بمفهوم مبیّن مردّد مصداقه بین الأقل والأکثر ، وهذا کما إذا أمر المولی بإکرام العلماء علی نحو العام المجموعی بحیث تکون للجمیع إطاعة واحدة وعصیان واحد ، فالشکّ فی کون زید عالما أو غیر عالم شکّ فی کون الواجب هو الأقل أو الأکثر ومنشأ الشکّ هو خلط الأمور الخارجیة وبما انّ عنوان المجموع ، عنوان طریقی إلی الواجب ففی الحقیقة یتردّد الواجب بین الأقل والأکثر فتجری البراءة.

حکم الشکّ فی المانعیة و القاطعیة

المراد من المانع ما اعتبره الشارع بما أنّ وجوده مخلّ بتأثیر الأجزاء فی الغرض

ص: 205

المطلوب کنجاسة الثوب فی حال الصلاة.

والمراد من القاطع ما اعتبره الشارع بما انّه قاطع للهیئة الاستمراریة کالفعل الماحی للصورة الصلاتیة.

فإذا شککنا فی مانعیة شیء أو قاطعیته ، فمرجع الشک إلی اعتبار أمر زائد علی الواجب - وراء ما علم اعتباره ، فیحصل هنا علم تفصیلی ، بوجوب الأجزاء وشک بدوی فی مانعیة شیء أو قاطعیته - فالأصل عدم اعتبارهما إلی أن یعلم خلافه ، فالشکّ فیهما کالشکّ فی جزئیة شیء أو شرطیته فی أنّ المرجع فی الجمیع هو البراءة.

والحمد لله ربّ العالمین

ص: 206

الفصل الرابع : الاستصحاب

اشارة

لإیضاح الحال نذکر أمورا :

الأوّل : تعریف الاستصحاب

و هو فی اللغة أخذ الشیء مصاحبا أو طلب صحبته ، وفی الاصطلاح «إبقاء ما کان علی ما کان» مثلا إذا کان المکلف متیقنا بأنّه متطهّر من الحدث ، ولکن بعد فترة شک فی حصول حدث ناقض طهارته ، فیبنی علی بقائها ، وأنّه بعد متطهر ، فتکون النتیجة : «إبقاء ما کان علی ما کان» ویختلف عن الأصول الثلاثة السابقة باختلاف المجری ، فانّ مجری الأصول الثلاثة هو الشکّ فی الشیء من دون لحاظ الحالة السابقة ، إمّا لعدمها أو لعدم لحاظها ، وهذا بخلاف الاستصحاب فانّ مجراه هو لحاظ الحالة السابقة.

الثانی : أرکان الاستصحاب

إنّ الاستصحاب یتقوم بأمور منها :

1- الیقین بالحالة السابقة والشکّ (1) فی بقائها.

2- اجتماع الیقین والشکّ فی زمان واحد عند المستصحب ، أی فعلیة الیقین فی ظرف الشکّ.

3- تعدد زمان المتیقن والمشکوک.

ص: 207


1- المراد بالشکّ هو اللاحجّة فیعم الظن غیر المعتبر والاحتمال المساوی والوهم.

4- سبق زمان المتیقّن علی زمان المشکوک.

5- وحدة متعلّق الیقین والشکّ.

الثالث : تطبیقات

ألف : استصحاب الکریة إذا کان الماء مسبوقا بها فیترتب علیه عدم نجاسة الماء بالملاقاة بالنجس.

ب : استصحاب عدم الکریة إذا کان الماء مسبوقا به فیترتّب علیه نجاسة الماء بالملاقاة بالنجس.

ج : استصحاب حیاة زید فیترتب علیه حرمة قسمة أمواله وبقاء علقة الزوجیة بینه وبین زوجته.

الرابع : الفرق بین الاستصحاب و قاعدة الیقین

وهناک قاعدة أخری تسمّی فی مصطلح الأصولیین بقاعدة الیقین، وهذا کما إذا تیقّن بعدالة زید یوم الجمعة ثم طرأ علیه الشکّ یوم السبت فی عدالة زید فی نفس یوم الجمعة (لا السبت) وممّا ذکرنا یظهر انّه تختلف عن الاستصحاب فی الأمرین التالیین :

أ. عدم فعلیة الیقین لزواله بالشک.

ب. وحدة متعلّقی الیقین والشکّ جوهرا وزمانا.

والمعروف بین الأصحاب انّ الاستصحاب حجّة دون قاعدة الیقین. وانّ روایات الباب منطبقة علی الأوّل دون الثانیة کما سیوافیک.

ص: 208

أدلّة حجّیة الاستصحاب

اشارة

اختلف الأصولیون فی کیفیّة حجّیة الاستصحاب ، فذهب القدماء إلی أنّه حجّة من باب الظن ، واستدلوا علیه بالوجوه التالیة :

1- بناء العقلاء علی العمل علی وفق الحالة السابقة ، ولم یثبت الردع عنه من جانب الشارع.

یلاحظ علیه - مضافا إلی عدم کلّیتها ، فانّ العقلاء لا یعملون فی الأمور الخطیرة علی وفق الاستصحاب وإن أفاد الظن - : أنّه یکفی فی الردع ما دلّ من الکتاب والسنّة علی النهی عن اتّباع غیر العلم ، وقد مرّت تلک الآیات عند البحث عن حجّیة خبر الواحد.

2- ما استند إلیه العضدی فی شرح المختصر ، فقال : إنّ استصحاب الحال :انّ الحکم الفلانی قد کان ولم یظن عدمه ، وکلّ ما کان کذلک فهو مظنون البقاء.

یلاحظ علیه : أوّلا : بمنع کلیة الکبری ، لمنع إفادة الاستصحاب الظن فی کلّ مورد ، وثانیا سلّمنا لکن الأصل فی الظنون عدم الحجّیة إلاّ أن یدلّ دلیل قاطع علیها.

3- الاستدلال بالإجماع ، قال العلاّمة : الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء علی أنّه متی حصل حکم ، ثمّ وقع الشکّ فی طروء ما یزیله ، وجب الحکم علی ما کان أوّلا ، ولو لا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لکان ترجیحا لأحد طرفی الممکن من غیر مرجّح.

یلاحظ علیه : عدم حجّیة الإجماع المنقول ، خصوصا إذا علم مستند المجمعین. أضف إلی ذلک مخالفة عدّة من الفقهاء مع الاستصحاب.

وأمّا المتأخرون فقد استدلّوا بالأخبار ، وأوّل من استدلّ بها الشیخ الجلیل

ص: 209

الحسین بن عبد الصمد والد الشیخ بهاء الدین العاملی (918 - 984 ه) فی کتابه المعروف ب «العقد الطهماسبی» وهی عدّة روایات :

1. صحیحة زرارة الأولی

روی الشیخ الطوسی بإسناده ، عن الحسین بن سعید عن حمّاد ، عن حریز ، عن زرارة قال : قلت له : الرجل ینام وهو علی وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان علیه الوضوء؟ فقال : «یا زرارة : قد تنام العین ولا ینام القلب والأذن ، فإذا نامت العین والأذن والقلب وجب الوضوء».

قلت : فإن حرّک علی جنبه شیء ولم یعلم به؟ قال : «لا ، حتی یستیقن أنّه قد نام، حتی یجیء من ذلک أمر بیّن ، وإلاّ فإنّه علی یقین من وضوئه ، ولا تنقض الیقین أبدا بالشکّ ، وإنّما تنقضه بیقین آخر». (1)

وجه الدلالة : أنّ المورد وإن کان هو الوضوء ، لکن قوله : «ولا تنقض الیقین أبدا بالشکّ» إلی آخره ظاهر فی أنّه قضیة کلّیة طبّقت علی مورد الوضوء ، فلا فرق بین الشکّ فی الوضوء وغیره. وانّ اللاّم فی قوله : «الیقین» لام الجنس لا العهد ، ویدلّک علی هذا ، أنّ التعلیل بأمر ارتکازیّ وهو عدم نقض مطلق الیقین بالشک ، لا خصوص الیقین بالوضوء.

2. صحیحة زرارة الثانیة

روی الشیخ فی التهذیب (2) عن زرارة روایة مفصّلة تشتمل علی أسئلة وأجوبة ، ونحن ننقل مقاطع منها :

أصاب ثوبی دم رعاف ، أو غیره ، أو شیء من منی ، فعلّمت أثره إلی أن

ص: 210


1- الوسائل : 1 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، الحدیث 1.
2- رواه عن زرارة بنفس السند السابق.

أصیب له الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ونسیت أنّ بثوبی شیئا وصلّیت ثمّ إنّی ذکرت بعد ذلک.

قال : «تعید الصلاة وتغسله».

قلت : فإنّی لم أکن رأیت موضعه ، وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته فلم أقدر علیه ، فلما صلّیت وجدته؟

قال : «تغسله وتعید».

قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتیقن ذلک ، فنظرت فلم أر شیئا ، ثمّ صلّیت فرأیت فیه؟

قال : «تغسله ولا تعید الصلاة» ، قلت : لم ذلک؟

قال : «لأنّک کنت علی یقین من طهارتک ثمّ شککت ، فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک أبدا». (1)

وجه الاستدلال : یرکّز الراوی فی سؤاله الثالث علی أنّه ظن - قبل الدخول فی الصلاة- بإصابة الدم بثوبه ولکن لم یتیقن ذلک فنظر فلم یر شیئا فصلّی فلما فرغ عنها رأی الدم - الذی ظن به قبل الصلاة - فأجاب الإمام علیه السلام بأنّه یغسل ثوبه للصلوات الأخری ولکن لا یعید ما صلّی. فسأل الراوی عن سببه مع أنّه صلّی فی الثوب النجس ، کالصورتین الأولیین فأجاب علیه السلام : بوجود الفرق ، وهو علمه السابق بنجاسة ثوبه فی الصورتین فدخل فی الصلاة بلا مسوّغ شرعی ، وشکّه فیها بعد الإذعان بطهارته فی الصورة الثالثة فدخل فیها بمجوز شرعی وهو عدم نقض الیقین بالطهارة ، بالشک فی النجاسة ومنه یعلم أنّ ظرف الاستصحاب هو قبیل الدخول فیها.

ص: 211


1- الوسائل : 2 ، الباب 41 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1 ، وقد ترکنا نقل الأسئلة الباقیة للاختصار.

ثم إنّ للاستصحاب دورا فقط فی إحراز الصغری : أعنی : طهارة الثوب ، ویترتب علیه أمر الشارع بجواز الصلاة فیه ، ومن المعلوم أنّ امتثال الأمر الشرعی واقعیا کان أو ظاهریا مسقط للتکلیف ، کما مرّ فی مبحث الاجزاء.

3. حدیث الأربعمائة

(1)

روی أبو بصیر ، ومحمد بن مسلم ، عن أبی عبد الله ، عن آبائه ، عن أمیر المؤمنینعلیه السلام ، أنّه قال : «من کان علی یقین ثمّ شکّ فلیمض علی یقینه ، فانّ الشکّ لا ینقض الیقین». (2)

والروایة صالحة للاستدلال بها علی حجیة قاعدة الیقین إذا کان متعلّق الیقین والشک واحدا ذاتا وزمانا ، بأن یکون مفادها ، من کان علی یقین (من عدالة زید یوم الجمعة) ثم شک (فی عدالته فی نفس ذلک الیوم وبالتالی شک فی صحة الطلاق الذی طلق عنده) فلیمض علی یقینه.

کما هی صالحة للاستدلال بها علی حجیة الاستصحاب إذا کان متعلّق الشک غیر متعلّق الیقین زمانا ففی المثال : إذا أیقن بعدالته یوم الجمعة وشک فی بقائها یوم السبت فلیمض علی یقینه (مثلا لیطلق عنده).

لکنّها فی الاستصحاب أظهر لوجهین :

1- انّ الصحاح السابقة تشکل قرینة منفصلة علی تفسیر هذه الروایة فتحمل إلی ما حملت علیه الروایات السابقة.

2- انّ التعلیل فی الحدیث تعلیل بأمر ارتکازی وهو موجود فی الاستصحاب دون قاعدة الیقین لفعلیة الیقین فی الأوّل دون الآخر.

ص: 212


1- المراد من حدیث الأربعمائة ، الحدیث الذی علّم فیه أمیر المؤمنین علیه السلام أصحابه أربعمائة کلمة تصلح للمسلم فی دینه ودنیاه ، رواه الصدوق بسند صحیح ، عن أبی بصیر ، ومحمد بن مسلم ، فی کتاب الخصال فی أبواب المائة وما فوقها. لاحظ ص 619.
2- الوسائل : 7 ، باب 3 من أبواب أحکام شهر رمضان ، الحدیث 13.

فی تنبیهات الاستصحاب

التنبیه الأوّل : فی فعلیة الشک

یشترط فی الاستصحاب فعلیة الشکّ فلا یفید الشکّ التقدیریّ ، فلو تیقن الحدث من دون أن یشکّ ثمّ غفل وصلّی ثمّ التفت بعدها فشکّ فی طهارته من حدثه السابق فلا یجری الاستصحاب ، لأنّ الیقین بالحدث وإن کان موجودا قبل الصلاة لکنّه لم یشک لغفلته ، ولأجل عدم جریانه یحکم علیه بصحّة الصلاة أخذا بقاعدة الفراغ ، لاحتمال أنّه توضّأ قبل الصلاة ، وهذا المقدار من الاحتمال کاف لجریان قاعدة الفراغ ، ولکن یجب علیه التوضّؤ بالنسبة إلی سائر الصلوات ، لأنّ قاعدة الفراغ لا تثبت إلاّ صحّة الصلاة السابقة ، وأمّا الصلوات الآتیة فهی رهن إحراز الطهارة.

وهذا بخلاف ما إذا کان علی یقین من الحدث ثمّ شکّ فی وضوئه ومع ذلک غفل وصلّی والتفت بعدها فالصلاة محکومة بالبطلان لتمامیّة أرکان الاستصحاب وإن احتمل انّه توضّأ بعد الغفلة.

التنبیه الثانی : فی استصحاب الکلّی

المراد من استصحاب الکلّی هو استصحاب الجامع بین الفردین ، کاستصحاب الإنسان المشترک بین زید وعمرو ، وکاستصحاب الطلب الجامع بین الوجوب والندب ، وله أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل من استصحاب الکلّی

إذا علم بتحقّق الکلّی فی ضمن فرد ثمّ شکّ فی بقائه وارتفاعه ، فلا محالة

ص: 213

یشک فی بقاء الکلّی وارتفاعه ، فإذا علم بوجود زید فی الدار فقد علم بوجود الإنسان فیها، فإذا شکّ فی بقائه فیها یجری هناک استصحابان :

أ. استصحاب بقاء الفرد - أعنی : زیدا -.

ب. استصحاب بقاء الکلّی - أعنی : الإنسان -.

وهکذا إذا صار محدثا بالحدث الأکبر - أعنی : الجنابة - وشکّ فی ارتفاعها بالرافع فیجوز له استصحاب الجنابة ، فیترتب علیه جمیع آثار الجنابة کحرمة المکث فی المساجد وعبور المسجدین الشریفین.

کما یجوز استصحاب الکلّی ، أی أصل الحدث الجامع بین الجنابة وسائر الأحداث، فیترتب علیه أثر نفس الحدث الجامع کحرمة مس کتابة القرآن.

القسم الثانی من استصحاب الکلّی

إذا علم إجمالا أنّ فی الدار حیوانا مردّدا بین قصیر العمر کالبق ، وطویله کالفیل ، فقد علم تفصیلا بوجود حیوان فیها - وإن کانت المشخّصات مجهولة ثمّ مضی زمان یقطع بانتفاء الفرد القصیر فیشکّ فی بقاء الحیوان فی الدار - فلا یصحّ استصحاب الفرد مثل البقّ أو الفیل ، لعدم الحالة المتیقّنة للفرد ، لافتراض کون المشخّصات مجهولة ، ولکن یصحّ استصحاب الکلی.

ومثاله من الأمور الشرعیة ما إذا کان متطهّرا وخرج بلل مردّد بین البول والمنی ، فعندئذ حصل له علم تفصیلی بالحدث الکلیّ. ثمّ إذا توضّأ بعده فلو کان البلل بولا ارتفع الحدث الأصغر قطعا ، ولو کان منیّا فهو باق ، وعندئذ لا یقطع بارتفاع الحدث الجامع لاحتمال کون الحادث هو المنی.

فلا یجوز استصحاب أیّ فرد من أفراد الحدث لعدم العلم بالحالة السابقة ، لکن یصحّ استصحاب الجامع أی مطلق الحدث الجامع بین الأصغر والأکبر.

ص: 214

القسم الثالث من استصحاب الکلّی

إذا تحقّق الکلّی (الإنسان) فی الدار فی ضمن فرد کزید ، ثمّ علم بخروجه من الدار قطعا ، ولکن یحتمل مصاحبة عمرو معه عند ما کان زید فی الدار ، أو دخوله فیها مقارنا مع خروجه.

ففی هذا المقام لا یجری استصحاب الفرد أصلا ، لأنّ الفرد الأوّل مقطوع الارتفاع والفرد الثانی مشکوک الحدوث من رأس ، ولکن یجری استصحاب الکلّی أی وجود الإنسان فی الدار الذی هو الجامع بین الفردین.

مثاله فی الأحکام الشرعیة ما إذا علمنا بکون الشخص کثیر الشک وعلمنا أیضا ارتفاع کثرة شکه إجمالا ، ولکن احتملنا ارتفاعها من رأس أو انقلابها إلی مرتبة ضعیفة ، فلا یجوز استصحاب المرتبة الشدیدة لأنّها قطعیة الارتفاع ، ولا المرتبة الضعیفة لأنّها مشکوکة الحدوث ، لکن یمکن استصحاب الجامع بین المرتبتین وهو کونه کثیر الشکّ غیر مقید بالشدة والضعف.

التنبیه الثالث : عدم حجّیة الأصل المثبت

یشترط فی الاستصحاب أن یکون المستصحب إمّا حکما شرعیّا کاستصحاب أحد الأحکام الشرعیة - کلیّة أو جزئیة - أو موضوعا لحکم شرعی کاستصحاب حیاة زید ، فانّها موضوعة لأحکام کثیرة ، مثل بقاء علقة الزوجیة وحرمة تقسیم أمواله ، إلی غیر ذلک من الآثار الشرعیّة.

فلو افترضنا أنّ زیدا غاب وله من العمر اثنا عشر عاما ، فشککنا فی حیاته بعد مضیّ ثلاثة أعوام من غیبته ، فلا یصحّ استصحاب حیاته لغایة إثبات أثره العقلی - بلوغه - حتی یترتب علیه آثاره الشرعیّة من وجوب الإنفاق من ماله علی والدیه فالمراد من الأصل المثبت هو إجراء الاستصحاب لإثبات الأثر العقلی أو

ص: 215

العادی للمستصحب.

ذهب المحقّقون إلی عدم صحّته لأنّ الآثار العقلیة وإن کانت أثرا لنفس المتیقّن، ولکنّها لیست آثارا شرعیّة ، بل آثار تکوینیة غیر خاضعة للجعل والاعتبار ، والآثار الشرعیة المترتبة علی تلک الأمور العادیة والعقلیة وإن کانت خاضعة للجعل لکنّها لیست آثارا للمتیقّن (الحیاة) الذی أمرنا الشارع بإبقائه وتنزیل مشکوکه منزلة المتیقّن.

وإلیک مثالا آخر :

مثلا إذا تعبّدنا الشارع بإبقاء شهر رمضان ، أو عدم رؤیة هلال شوال فی یوم الشک فإذا ضمّ هذا التعبد إلی العلم القطعی بمضیّ تسعة وعشرین یوما من أوّل الشهر قبل هذا الیوم ، یلازمه الأثر العادی وهو کون الیوم التالی هو عید الفطر ، فهل یترتب علی ذلک الأثر العادی - الملازم للاستصحاب - الأثر الشرعی من صحّة صلاة الفطر ولزوم إخراج الفطرة بعد الهلال ونحوهما؟

فالتحقیق : انّه لا یترتب علی الاستصحاب ، الأثر العادی حتی یترتب علیه الأثر الشرعی ، لأنّ الذی تعبدنا الشارع بإبقائه هو بقاء شهر رمضان أو عدم رؤیة هلال شوال ، فلصیانة تعبد الشارع عن اللغویة یترتب کل أثر شرعی علی هذین المستصحبین ، لا الأثر العادی ، لأنّه غیر خاضع للجعل والاعتبار ، فإنّ الأمور التکوینیة تدور مدار الواقع.

وأمّا الآثار الشرعیّة المرتبة علی ذلک الأثر العادی ، فهی وإن کانت خاضعة للجعل والاعتبار ، لکنّها لیست أثرا مترتبا علی ما تعبدنا الشارع بإبقائه وهو کون الیوم شهر رمضان أو عدم کونه من شوال.

نعم استثنی بعض المحقّقین من الأصل المثبت موارد تطلب من الدراسات العلیا.

ص: 216

التنبیه الرابع : تقدّم الأصل السببی علی المسببی

إذا کان فی المقام أصلان متعارضان ، غیر أنّ الشک فی أحدهما مسبب عن الشکّ فی الآخر ، مثلا إذا کان ماء قلیل مستصحب الطهارة ، وثوب متنجس قطعا ، فغسل الثوب بهذا الماء ، فهنا یجری بعد الغسل استصحابان :

أ. استصحاب طهارة الماء الذی به غسل الثوب النجس ، ومقتضاه طهارة الثوب المغسول به.

ب. استصحاب نجاسة الثوب وبقائها حتی بعد الغسل.

وعندئذ یقدّم الاستصحاب الأوّل علی الاستصحاب الثانی ، لأنّ الشکّ فی بقاء النجاسة فی الثوب - بعد الغسل - ناشئ عن الشکّ فی طهارة الماء الذی غسل به ، فإذا تعبدنا الشارع ببقاء طهارة الماء ظاهرا یکون معناه ترتیب ما للماء الطاهر الواقعی من الآثار علی مستصحب الطهارة ، ومن جملة آثاره طهارة الثوب المغسول به ، فالتعبد ببقاء الأصل السببی یرفع الشک ، فی جانب الأصل المسببی بمعنی انّ النجاسة هناک مرتفعة غیر باقیة فیکون الأصل السببی مقدّما علی الأصل المسببی.

ویمکن أن یقال إنّ الأصل السببی - استصحاب طهارة الماء - ینقّح موضوع الدلیل الاجتهادی ، فیکون الدلیل الاجتهادیّ مقدّما علی الأصل المسببی ، لأنّ استصحاب طهارة الماء یثبت موضوعا ، وهو أنّ هذا الماء طاهر ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر دلّ الدلیل الاجتهادی أنّ کلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر ، فبضم الصغری إلی الکبری لا یبقی شکّ فی طهارة الثوب وارتفاع نجاسته.

ص: 217

التنبیه الخامس : تقدّم الاستصحاب علی سائر الأصول

یقدّم الاستصحاب علی سائر الأصول ، لأنّ التعبّد ببقاء الیقین السابق وجعله حجّة فی الآن اللاحق یوجب ارتفاع موضوعات الأصول ، أو حصول غایاتها ، وإلیک البیان :

أ. إنّ موضوع البراءة العقلیة هو عدم البیان ، فإذا کان الشیء مستصحب الحرمة أو الوجوب ، فالأمر بالتعبّد بإبقاء الیقین السابق بیان من الشارع ، فلا یبقی موضوع للبراءة العقلیة.

ب. کما أنّ موضوع البراءة الشرعیة هو «ما لا یعلمون» والمراد من العلم هو الحجّة الشرعیّة ، والاستصحاب کما قرّرناه حجّة شرعیّة علی بقاء الوجوب والحرمة فی الأزمنة اللاحقة ، فیرتفع موضوع البراءة الشرعیة.

ج. إنّ موضوع التخییر هو تساوی الطرفین من حیث الاحتمال ، والاستصحاب بحکم الشرع هادم لذلک التساوی.

د. إنّ موضوع الاشتغال هو احتمال العقاب فی الفعل أو الترک ، والاستصحاب بما أنّه حجّة مؤمّنة ، فالاستصحاب بالنسبة إلی هذه الأصول رافع لموضوعها. وإن شئت فسمّه واردا علیها.

وربّما یکون الاستصحاب موجبا لحصول غایة الأصل کما هو الحال فی أصالتی الطهارة والحلیّة ، فإنّ الغایة فی قوله علیه السلام : «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» ، وفی قوله علیه السلام : «کلّ شیء حلال حتی تعلم أنّه حرام» وإن کان هو العلم ، لکن المراد منه هو الحجّة ، وبما انّ الاستصحاب حجّة ، فمع جریانه تحصل الغایة ، فلا یبقی للقاعدة مجال.

تمّ الکلام فی الأصول العملیة ،

ویلیه البحث فی تعارض الأدلّة الشرعیة إن شاء الله

والحمد لله ربّ العالمین

ص: 218

المقصد الثامن : فی تعارض الأدلّة الشرعیة

اشارة

وفیه فصلان :

الفصل الأوّل : فی التعارض غیر المستقر.

الفصل الثانی : فی التعارض المستقر.

خاتمة المطاف : فی التعارض علی نحو العموم والخصوص من وجه.

ص: 219

یعدّ البحث عن تعارض الأدلّة الشرعیة ، وکیفیّة علاجها ، من أهمّ المسائل الأصولیّة، وذلک لانّه قلّما یتفق فی باب أن لا توجد فیه حجّتان متعارضتان ، علی نحو لا مناص للمستنبط من علاجهما بالقواعد المذکورة فی باب تعارض الأدلّة ولأجل تلک الأهمیّة أفردوا له مقصدا.

إنّ التعارض من العرض وهو فی اللغة بمعنی الإراءة قال سبحانه : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی الْمَلائِکَةِ) (البقرة / 31).

وامّا اصطلاحا فقد عرّف بتنافی مدلولی الدلیلین علی وجه التناقض کما إذا قال:یحرم العصیر العنبی قبل التثلیث ، وقال أیضا : لا یحرم ، أو التضاد کما إذا قال : تستحب صلاة الضحی وقال أیضا «تحرم».

ثمّ إنّ التعارض بین الدلیلین تارة یکون أمرا زائلا بالتأمل واللازم فیه هو الجمع بین الدلیلین ، وأخری یکون باقیا غیر زائل فالمرجع فیه ، هو الترجیح أوّلا ثمّ التخییر ثانیا. فصار ذلک سببا لعقد فصلین یتکفّلان لبیان حکم القسمین فنقول :

ص: 220

الفصل الأوّل : فی الجمع بین الدلیلین أو التعارض غیر المستقر

إذا کان التعارض بین الخبرین تعارضا غیر مستقر ، یزول بالتأمّل بحیث لا یعدّ التکلّم بهذا النحو علی خلاف الأسالیب المعروفة بین المقنّنین وعلماء الحقوق ، بل کان دارجا بینهم، فیقدّم فیه الجمع علی التخییر أو الترجیح أو التساقط وهذا هو المراد من قول الأصولیّین : «الجمع مهما أمکن أولی من الطرح» ومقصودهم هو الجمع المطلوب عند أهل الحقوق والقانون بحیث یعد أحد الدلیلین قرینة علی التصرف فی الآخر ، وهذا ما یعبّر عنه بالجمع العرفی ، أو الجمع مع الشاهد فی مقابل الجمع التبرّعی الذی یجمع بین الدلیلین بلا شاهد وقرینة ، ولأجل ذلک یکون الجمع الأوّل مقبولا والآخر مرفوضا.

وقد بذل الأصولیّون جهودهم فی إعطاء ضوابط الجمع المقبول وحصروها فی العناوین التالیة :

1- التخصّص ، 2. الورود ، 3. الحکومة ، 4. التخصیص ، 5. تقدیم الأظهر علی الظاهر.

وإلیک تعریف تلک العناوین :

1- التخصّص : هو خروج موضوع أحد الدلیلین عن موضوع الدلیل الآخر

ص: 221

حقیقة وتکوینا ، کقولنا : «الخمر حرام» و «الخل حلال» فالمحمولان وإن کانا متنافیین ، ولکن التنافی بینهما بدویّ یزول بالنظر إلی تغایر الموضوعین.

2- الورود : هو رفع أحد الدلیلین موضوع الدلیل الآخر حقیقة ، لکن بعنایة من الشارع بحیث لولاها لما کان له هذا الشأن کتقدّم الأمارة علی الأصول العملیة.

توضیحه : انّ لکلّ من الأصول العملیة موضوعا خاصّا.

مثلا موضوع البراءة العقلیة هو عدم البیان ، وموضوع الاشتغال هو احتمال العقاب، وموضوع التخییر هو عدم المرجّح ، فإذا قام الدلیل القطعی علی حجّیة الأمارة ارتفع بذلک موضوع الأصل ، فتکون الأمارة بیانا لمورد الشک (فی أصل البراءة) ، ورافعا لاحتمال العقاب (فی أصالة الاشتغال) ، ومرجحا لأحد الطرفین علی الآخر (فی أصالة التخییر). کلّ ذلک بفضل جعل الشارع الحجّیة للأمارة.

وهذا هو المراد من قولنا : «لکن بعنایة الشارع» إذ لولاها لکانت الأمارة فی عرض الأصول لعدم افادتها العلم کالأصول ، لکن لما افیضت علیها الحجیة من جانب الشارع ، صارت تهدد کیان الأصول لکونها بیانا من الشارع ، ومؤمّنا للعقاب و ... وبذلک یظهر ورود الأمارة علی أصالتی الطهارة والحلّیة ، لأنّهما مغیاة بعدم العلم ، والمراد منه هو الحجّة الشرعیة، فالأمارة بما أنّها حجّة شرعیة ، دالة علی حصول الغایة فی قوله علیه السلام : «کلّ شیء طاهر حتی تعلم أنّه قذر» أو قوله علیه السلام : «کلّ شیء حلال حتی تعلم أنّه حرام».

3- الحکومة : أن یکون أحد الدلیلین ناظرا إلی الدلیل الآخر ومفسرا له ، فیقدّم علی الآخر بحکم انّ له تلک الخصوصیة ویسمّی الناظر بالحاکم ، والمنظور إلیه بالمحکوم ، ویتلخّص النظر فی الأقسام التالیة :

ص: 222

أ : التصرف فی عقد الوضع بتوسیعه ، قال سبحانه : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ) (المائدة / 6) فالمتبادر من الصلاة هی الاعمال المعهودة ، فإذا ضمّ إلیه قوله علیه السلام : «الطواف بالبیت صلاة» یکون حاکما علی الآیة بتوسیع موضوعها ببیان انّ الطواف علی البیت من مصادیق الصلاة فیشترط فیه ما یشترط فی الصلاة.

ومثله قوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «لا صلاة إلاّ بطهور» الظاهرة فی شرطیة الطهارة المائیة ، فکأنّه قال : «الطهور شرط للصلاة» فإذا قال : التراب أحد الطهورین ، فقد وسّع الموضوع (الطهور) إلی الطهارة الترابیة أیضا ، وهذا النوع من التصرّف فی عقد الوضع لا یتم إلاّ ادّعاء ، کادّعاء انّ الطواف أو التیمّم صلاة أو طهور.

ب : التصرّف فی عقد الوضع بتضییقه ، ویتحقّق ذلک بنفی الموضوع لغایة نفی حکمه کما إذا قال : «لا شکّ لکثیر الشک» ، أو قال : «لا شکّ للإمام مع حفظ المأموم» ، أو بالعکس ، وذلک بعد العلم بانّ للشاک أحکاما معینة فی الشریعة فهی حاکمة علی أحکام الشاکّ ، متصرفة فی موضوعها بادّعاء عدم وجود الشک فی تلک الموارد الثلاثة ، والغایة هی رفع الحکم برفع الموضوع ادّعاء.

مع أنّ هذه الأمثلة أشبه بالتخصیص ، ولکن الذی یمیّزها عن التخصیص هو أنّ لسانها لسان النظارة إلی الدلیل الآخر.

ج : التصرّف فی عقد الحمل أو متعلّقه بتوسیعه ، فإذا قال : ثوب المصلی یلزم أن یکون طاهرا وقال : «کلّ شیء طاهر حتی تعلم أنّه قذر» فقد وسّع متعلّق الحکم إلی الطهارة الثابتة حتی بالأصل.

د : التصرّف فی عقد الحمل بتضییقه ، وهذا کقوله سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج / 78) فإنّها بحکم نظرها إلی الأحکام الشرعیة المترتبة علی العناوین الأوّلیة تضیق محمولاتها ویخصصها بغیر صورة الحرج ، ومثله

ص: 223

قوله : «لا ضرر ولا ضرار» بالنسبة إلی سائر الأحکام فوجوب الوضوء محدد بعدم الحرج والضرر.

والحاصل : أنّ مقوم الحکومة اتخاذ الدلیل لنفسه موقف الشرح والتبیین ، فتکون النتیجة إمّا تصرّفا فی عقد الوضع ، أو الحمل إمّا بالتوسیع أو بالتضییق. ولکن التعارض ورفعه بالحکومة مختص بصورة التضییق لا التوسیع ولیس فیها أیّ تعارض حتی تعالج بالحکومة بخلاف صورة التضییق فالتعارض محقّق لکن یقدم الحاکم علی المحکوم فی عرف أهل التقنین فلاحظ.

4- التخصیص : عبارة عن إخراج بعض أفراد العام عن الحکم المحمول علیه مع التحفّظ علی الموضوع کما إذا قال : أکرم العلماء ، ثمّ قال : لا تکرم العالم الفاسد ، فهو یشارک الحکومة فی بعض أقسامه (القسم الرابع) لکنّه یفارقه بأنّ لسان التخصیص هو رفع الحکم عن بعض أفراد الموضوع ابتداء من دون أن یکون لسانه ، لسان النظارة ، بخلاف الحکومة فإنّ لسانها لسان النظر إمّا إلی المحمول أو إلی الموضوع ، ولذلک ربما یقال بأنّه لو لم یرد من الشارع حکم فی المحکوم لم یکن للدلیل الحاکم مجال.

5- تقدیم الأظهر علی الظاهر ، إذا عدّ أحد الدلیلین قرینة علی التصرّف فی الآخر یقدم ما یصلح للقرینیة علی الآخر وإن لم یدخل تحت العناوین السابقة ، وهذا ما یسمّی بتقدیم الأظهر علی الظاهر ولأجل التعرّف علی الأظهر والظاهر نذکر أمثلة :

أ : دوران الأمر بین تخصیص العام وتقیید المطلق

إذا دار الأمر بین تخصیص العام وتقیید المطلق ، کما إذا قال المولی : أکرم العلماء ، ثمّ قال : لا تکرم الفاسق ، فدار أمر العالم الفاسق بین دخوله تحت الحکم

ص: 224

الأوّل أو الثانی ، فقد اختار الشیخ الأعظم الأنصاریّ تقدیم العام علی المطلق ، ولزوم التصرّف فی الثانی بتقیید المطلق به ، فتکون النتیجة وجوب إکرام العالم الفاسق ، وما هذا إلاّ لأنّ دلالة العام علی الشمول أظهر من دلالة المطلق علیه.

ب : إذا کان لأحد الدلیلین قدر متیقّن

إذا کان لأحد الدلیلین قدر متیقّن ، مع تساویهما فی الظهور اللفظی وکونهما بصیغة العموم کما إذا قال : أکرم العلماء ثمّ قال : لا تکرم الفسّاق ، فبین الدلیلین عموم وخصوص من وجه ، فیتعارضان فی مجمع العنوانین : أعنی : العالم الفاسق ، فیجب إکرامه علی الأوّل ویحرم علی الثانی ولکن علمنا من حال المتکلّم أنّه یبغض العالم الفاسق ، فهو قرینة علی تقدیم عموم النهی علی عموم الأمر ، فیکون مجمع العنوانین (العالم الفاسق) محرّم الإکرام.

ج : دوران الأمر بین التقیید والحمل علی الاستحباب

إذا قال الشارع إذا أفطرت فاعتق رقبة ، ثمّ ورد بعد مدّة إذا أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة، فیدور الأمر بین حمل المطلق علی المقید ، أو حمل الأمر المتعلّق بالمقیّد علی الاستحباب ، فربما یقدّم الأوّل علی الثانی لشیوع التقیید ، وربما یرجح العکس لشیوع استعمال الأوامر علی لسان الشارع فی الاستحباب. وقد مرّ تفصیله فی المقصد الخامس عند البحث فی المطلق والمقیّد.

ویدلّ علی هذا النوع من الجمع طائفة من الروایات منها :

ما روی داود بن فرقد ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معانی کلامنا ، انّ الکلمة لتنصرف علی وجوه لو شاء إنسان لصرف کلامه حیث یشاء». (1)

ص: 225


1- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 27.

وهذا الحدیث یحث علی التأمّل والتدبّر فی الأحادیث المرویة ، حتی لا یتسرّع السامع باتّهامها بالتعارض بمجرد السماع ، دون التدبّر فی أطرافها.

فتلخّص أنّ التنافی غیر المستقر یرتفع بأحد الأمور الخمسة التی أشرنا إلیها ، بقی الکلام فی التنافی المستقر وهو الذی نبحث عنه فی الفصل التالی.

الفصل الثانی : التعارض المستقر أو إعمال الترجیح و التخییر

اشارة

إذا کان هناک بین الدلیلین تناف وتدافع فی المدلول علی وجه لا یمکن الجمع بینهما جمعا عرفیا مقبولا عند أهل التقنین ، فیقع البحث فی أمور :

الأوّل : ما هی القاعدة الأوّلیة عند التعارض؟

لا شکّ أنّ الأخبار حجّة من باب الطریقیة بمعنی أنّها الموصلة إلی الواقع فی کثیر من الأحیان ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ دلیل حجیة قول الثقة منحصرة فی السیرة العقلائیة عند المحقّقین ، وبما أنّ السیرة دلیل لبّی یؤخذ بالقدر المتیقّن منه لعدم وجود لسان لفظی لها حتی یؤخذ بإطلاقه ، والقدر المتیقّن من السیرة فی مورد حجّیة قول الثقة هی صورة عدم التعارض ، فتکون القاعدة الأوّلیة هی سقوط الخبرین المتعارضین عن الحجّیة. لما مضی من أنّ الشکّ فی الحجّیة یساوق القطع بعدمها.

ص: 226

الثانی : ما هی القاعدة الثانویة عند التعارض؟

اشارة

قد وقفت علی أنّ مقتضی القاعدة الأوّلیة فی الخبرین المتعارضین هو التساقط ، فلو ثبت شیء علی خلاف تلک القاعدة نأخذ به ، وإلاّ فهی محکّمة.

فنقول : إنّ الخبرین المتعارضین علی صورتین :

أ : الخبران المتکافئان اللّذان لا مزیّة لأحدهما توجب ترجیحه علی الآخر.

ب : الخبران المتعارضان اللّذان فی أحدهما مزیّة توجب ترجیحه علی الآخر.

وإلیک الکلام فی کلا القسمین :

الصورة الأولی : الخبران المتعارضان المتکافئان

إذا ورد خبران متعارضان متکافئان من دون مزیة لأحدهما علی الآخر (1) فقد استفاضت الروایات علی التخییر بینهما ، فمنها :

1- ما روی الطبرسی فی «الاحتجاج» عن الحسن بن الجهم (2) قال : قلت له تجیئنا الأحادیث عنکم مختلفة ، فقال : «ما جاءک عنّا فقس علی کتاب الله عزّ وجلّ وأحادیثنا ، فإن کان یشبههما فهو منّا ، وإن لم یکن یشبههما فلیس منّا» ، قلت : یجیئنا الرجلان وکلاهما ثقة بحدیثین مختلفین ولا نعلم أیّهما الحق؟ قال : «فإذا لم تعلم فموسّع علیک بأیّهما أخذت». (3)

2- ما رواه الشیخ فی «التهذیب» ، عن علی بن مهزیار قال : قرأت فی کتاب

ص: 227


1- سیوافیک أنّ أخبار التخییر محمولة علی صورة التکافؤ.
2- الحسن بن الجهم بن بکیر بن أعین الشیبانی ، ترجمه النجاشی برقم 108 ، وقال : ثقة ، روی عن أبی الحسن والرضا علیهما السلام.
3- الوسائل : 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 40.

لعبد الله بن محمد ، إلی أبی الحسن علیه السلام : اختلف أصحابنا فی روایاتهم عن أبی عبد الله علیه السلام فی رکعتی الفجر فی السفر ، فروی بعضهم : صلّها فی المحمل ، وروی بعضهم لا تصلّها إلاّ علی الأرض ، فقال علیه السلام : «موسّع علیک بأیّة عملت». (1)

والروایة بقرینة قوله : «موسّع علیک بأیّة عملت» ناظرة إلی الأخبار المتعارضة ، نعم موردها هی الأمور المستحبّة ، والتخییر فی المستحبات لا یکون دلیلا علی التخییر فی الواجبات ، لأنّ للأولی مراتب مختلفة فی الفضیلة ، فیصح التخییر بین درجاتها ، وهذا بخلاف الواجبات ، فإنّ أحد الطرفین تعلّق به الأمر دون الآخر.

هل التخییر بدوی أو استمراری؟

إذا ورد خبران متعارضان متکافئان ، فهل التخییر بینهما بدوی أو استمراری بمعنی أنّه له اختیار غیر ما اختاره فی الواقعة الأولی؟ والحقّ أنّه بدوی ، وقد سبق بیانه فی مبحث الاشتغال ، وذکرنا فیه أنّ المخالفة القطعیة العملیة للعلم الإجمالی قبیح وحرام ، من غیر فرق بین أن تکون المخالفة دفعیة أو تدریجیة ، فإذا أخذ بأحد الخبرین فی واقعة ، والخبر الآخر فی واقعة أخری ، فقد علم بالمخالفة العملیة امّا بعمله هذا أو بما سبق.

ما هو مرجع الروایات الآمرة بالتوقّف؟

هناک روایات تأمر بالتوقف والصبر إلی لقاء الإمام ، أو من یخبر بحقیقة الحال من بطانة علومهم علیهم السلام ومعها کیف یکون التکلیف هو التخییر بین الخبرین المختلفین؟

ص: 228


1- الوسائل : 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 44.

روی الکلینی ، عن سماعة ، عن أبی عبد الله علیه السلام قال : سألته عن رجل اختلف علیه رجلان من أهل دینه فی أمر کلاهما یرویه ، أحدهما یأمر بأخذه ، والآخر ینهاه عنه ، کیف یصنع؟ قال : «یرجئه حتی یلقی من یخبره فهو فی سعة حتی یلقاه». (1)

وفی مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة حینما انتهی السائل إلی مساواة الخبرین فی المرجّحات قال : «إذا کان ذلک فارجئه حتی تلقی إمامک ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات». (2)

والأوّل یأمر بالتوقّف منذ بدء الأمر ، والآخر یأمر به بعد مساواتهما فی المرجحات ، وعلی کلّ تقدیر ینفیان التخییر.

والجواب : أنّ هذا القسم من الروایات محمول علی صورة التمکن من لقاء الإمام ، أو من لقاء بطانة علومهم ، ویشهد لهذا الجمع نفس الحدیثین ، ففی الأوّل : «یرجئه حتی یلقی من یخبره» أی یخبره بحقیقة الحال وما هو الصحیح من الخبرین ، وفی الثانی : «فارجئه حتی تلقی إمامک» ومن لاحظ الروایات الآمرة بالتوقّف یلمس ذلک ، فإنّ من الرواة من کان یتمکن من لقاء الإمام والسماع منه ، ومنهم من لم یکن متمکنّا من لقائه علیه السلام إلاّ ببذل مؤن ، وقطع مسافة بعیدة ، فالأمر بالتوقّف راجع إلی المتمکّن ، والأمر بالتخییر إلی الثانی.

الصورة الثانیة : الخبران المتعارضان غیر المتکافئین
اشارة

إذا کان هناک خبران ، أو أخبار متعارضة ، ویکون لأحدهما ترجیح علی الآخر ؛ فیقع الکلام فی الأمور الثلاثة :

ص: 229


1- الوسائل : 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 5 ، 1. ولاحظ الحدیث 42 و 36 من هذا الباب.
2- الوسائل : 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 5 ، 1. ولاحظ الحدیث 42 و 36 من هذا الباب.

1- التعرّف علی هذه المرجّحات.

2- هل الأخذ بذی المزیّة واجب أو راجح؟

3- هل یقتصر علی المنصوص من المرجّحات أو یتعدی غیره؟

ولنتناول البحث فی کل واحد منها.

الأمر الأوّل : فی بیان المرجّحات الخبریة
اشارة

نستعرض فی هذا الأمر المرجّحات الخبریة - عندنا - أو ما قیل إنّها من المرجّحات الخبریة وهی أمور :

أ. الترجیح بصفات الراوی

قد ورد الترجیح بصفات الراوی ، مثل الأعدلیّة والأفقهیة والأصدقیة والأورعیة ، فی غیر واحد من الروایات التی نذکر بعضها.

روی الکلینی بسند صحیح ، عن عمر بن حنظلة (1) قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین ، أو میراث ، فتحاکما إلی السلطان ، وإلی القضاة أیحل ذلک؟ قال : «من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت ، وما یحکم له فإنّما یأخذ سحتا ، وإن کان حقا ثابتا له ، لأنّه أخذه بحکم الطاغوت ، وما أمر الله أن یکفر به ، قال الله تعالی : (یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ)(2)».

قلت : فکیف یصنعان؟ قال : «ینظران من کان منکم ممن قد روی حدیثنا

ص: 230


1- عمر بن حنظلة وإن لم یوثق فی المصادر الرجالیّة ، لکن الأصحاب تلقّوا روایته هذه بالقبول و- لذا - سمّیت بالمقبولة ، واعتمدوا علیها فی باب القضاء ، والحدیث مفصّل ذکرناه فی مقاطع أربعة فلا تغفل.
2- النساء / 60.

ونظر فی حلالنا وحرامنا ، وعرف أحکامنا ، فلیرضوا به حکما ، فإنّی قد جعلته علیکم حاکما ، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه ، فإنّما استخف بحکم الله وعلینا ردّ ، والراد علینا ، راد علی الله وهو علی حدّ الشرک بالله».

قلت : فإن کان کلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضیا أن یکونا الناظرین فی حقهما ، واختلفا فیما حکما ، وکلاهما اختلفا فی حدیثکم ، فقال : «الحکم ما حکم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما فی الحدیث وأورعهما ، ولا یلتفت إلی ما حکم به الآخر». (1)

إنّ هذا القسم من الترجیح قد ورد فی غیر واحد من الروایات (2) لکن الجمیع راجع إلی ترجیح حکم أحد القاضیین علی حکم القاضی الآخر ، ومن المحتمل جدا اختصاص الترجیح به لمورد الحکومة ، حتی یرتفع النزاع وتفصل الخصومة ، ولا دلیل علی التعدی منه إلی غیره ، وذلک لأنّه لمّا کان إیقاف الواقعة وعدم صدور الحکم ، غیر خال من المفسدة ، أمر الإمام بإعمال المرجحات حتی یرتفع النزاع.

نعم ورد الترجیح بصفات الراوی فی مورد تعارض الخبرین ، فیما رواه ابن أبی جمهور الاحسائی ، عن العلاّمة ، مرفوعا إلی زرارة ، لکن الروایة فاقدة للسند ، یرویها ابن أبی جمهور الاحسائی (المتوفّی حوالی سنة 900 ه) ، عن العلاّمة (المتوفّی عام 726 ه)، عن زرارة (المتوفّی عام 150 ه) ، ومثل هذا الحدیث لا یصحّ الاحتجاج به أبدا ، ولأجل ذلک، لم نعتمد علیها. وعلی ذلک لیس هنا دلیل صالح لوجوب الترجیح بصفات الراوی.

ص: 231


1- الکافی : 1 / 68 ، ط دار الکتب الإسلامیة.
2- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 20 روایة داود بن الحصین و 45 ، روایة موسی بن أکیل.
ب : الترجیح بالشهرة العملیّة

قد ورد الترجیح بالشهرة العملیة ، أی عمل جلّ الأصحاب بإحدی الروایتین ، دون الروایة الأخری ، فی المقبولة السابقة ، فقد طرح عمر بن حنظلة مساواة الراویین فی الصفات قائلا : «فقلت : إنّهما عدلان مرضیّان عند أصحابنا لا یفضّل واحد منهما علی الآخر، قال : فقال : ینظر إلی ما کان من روایتهم عنّا - فی ذلک الذی حکما به - المجمع علیه عند أصحابک فیؤخذ به من حکمنا ، ویترک الشاذ النادر الذی لیس بمشهور عند أصحابک ، فانّ المجمع علیه لا ریب فیه.

إنّما الأمور ثلاثة : أمر بیّن رشده فیتبع ، وأمر بیّن غیّه فیجتنب ، وأمر مشکل یرد علمه إلی الله وإلی رسوله». (1)

یلاحظ علی الاستدلال بأنّه : یحتمل جدا اختصاص الترجیح بالشهرة العملیة بمورد القضاء وفصل الخصومة الذی لا یصحّ فیه إیقاف الحکم فیرجّح أحد الراویین علی الآخر بملاحظة مصدره ، وأمّا لزوم الترجیح بها أیضا فی تعارض الخبرین فی مقام الإفتاء ، فغیر ظاهر من الحدیث ، لا یثبته ولا ینفیه ، إلا إذا قیل بإلغاء الخصوصیة بین المقامین عرفا.

ج : الترجیح بموافقة الکتاب

إنّ الإمعان فی المقبولة یثبت انّ صدر الحدیث بصدد بیان مرجحات القضاء ، لکن السائل لمّا وقف علی أنّ الإمام علیه السلام یقدّم رأی أحد القاضیین علی

ص: 232


1- الکافی : 1 / 68.

الآخر بحجّة أنّ مستند أحدهما هو الخبر المجمع علیه ، بدا له أن یسأله عن تعارض الخبرین ومرجّحاتهما مع قطع النظر عن کونهما مصدرا للقضاء وقال : فإن کان الخبران عنکم مشهورین قد رواهما الثقات عنکم؟

قال : «ینظر فما وافق حکمه حکم الکتاب والسنّة (وخالف العامة) فیؤخذ به ، ویترک ما خالف حکمه حکم الکتاب والسنّة (ووافق العامة)». (1)

ویدلّ علی الترجیح بموافقة الکتاب والسنّة غیر واحد من الروایات : روی عبد الرحمن بن أبی عبد الله ، قال : قال الصادق علیه السلام : «إذا ورد علیکم حدیثان مختلفان ، فاعرضوهما علی کتاب الله ، فما وافق کتاب الله فخذوه ، وما خالف کتاب الله فردّوه». (2)

ثمّ إنّه لیس المراد من مخالفة الکتاب هو المخالفة بالتناقض والتباین الکلّی ، لأنّ عدم حجیة المباین الصریح معلوم لا یحتاج إلی البیان أوّلا ، ولا یضعه الوضّاعون ثانیا ، لأنّه یواجه من أوّل الأمر بالنقد والرد بأنّه کذب موضوع علی لسان الإمام.

فإذن المراد من مخالفة الکتاب هو المخالفة بمثل العموم والخصوص ، فلو کان أحد الخبرین موافقا لعموم الکتاب والآخر مخالفا له بنحو التخصیص یؤخذ بالأوّل دون الثانی ، وإن کان المخالف (الخاص) حجّة یخصص به الکتاب إذا لم یکن مبتلی بالمعارض.

ص: 233


1- أخذنا الروایة من کتاب الکافی : 1 / 67 ، الحدیث 10 ، لأنّ صاحب الوسائل جزّأها علی عدّة أبواب.
2- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 29 ؛ ولاحظ أیضا الحدیث 21 و 20 من هذا الباب.
د : الترجیح بمخالفة العامة

روی عمر بن حنظلة ، قال : قلت : جعلت فداک أرأیت إن کان الفقیهان عرفا حکمه من الکتاب والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرین موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأی الخبرین یؤخذ؟ قال : «ما خالف العامة ففیه الرشاد».

فقلت : جعلت فداک فإن وافقهما الخبران جمیعا ، قال : «ینظر إلی ما هم إلیه أمیل - حکّامهم وقضاتهم - فیترک ویؤخذ بالآخر». (1)

ویدلّ علیه أیضا ما رواه عبد الرحمن بن أبی عبد الله (البصری) قال : قال الصادقعلیه السلام : «فإن لم تجدوهما فی کتاب الله فاعرضوهما علی أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه». (2)

کلّ ذلک یکشف عن صدور الموافق تقیّة دون المخالف.

وجه الإفتاء بالتقیة

إنّ أئمّة أهل البیت علیهم السلام کانوا یفتون بالتقیة خوفا من شرّ السلطان أوّلا ، وفقهاء السلطة ثانیا ، والمحافظة علی نفوس شیعتهم ثالثا ، وکان العامل الثالث من أکثر الدواعی إلی الإفتاء بها ، وکفانا فی ذلک ما جمعه المحدّث البحرانی فی هذا الصدد ، فی مقدّمة حدائقه. (3)

إنّ الرواة کانوا علی علم بأنّ الإمام ربما یفتی فی مکاتیبه بالتقیّة بشهادة ما

ص: 234


1- مضی مصدر الروایة.
2- الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 29 ؛ لاحظ الحدیث 21 ، 30 ، 31 ، 34 ، 40 ، 42 ، 48 من ذلک الباب.
3- الحدائق : 1 / 5 - 8.

رواه الصدوق باسناده عن یحیی بن أبی عمران أنّه قال : کتبت إلی أبی جعفر الثانی علیه السلام فی السنجاب والفنک والخز ، وقلت : جعلت فداک أحب أن لا تجیبنی بالتقیة فی ذلک ، فکتب إلیّ بخطّه : «صلّ فیها». (1)

لم یکن للإمام بد ، من إعمالها لصیانة دمه ودم شیعته حتی نری أنّه ربما کان یذم أخلص شیعته ، کزرارة فی غیر واحد من المحافل حتی لا یؤخذ ویضرب عنقه بحجّة أنّه من شیعة أبی عبد الله الصادق علیه السلام.

وکانت بطانة علومه وخاصة شیعته یمیزون الحکم الصادر عن تقیة ، عن الحکم الصادر لبیان الواقع عند ما کانت تصل إلیهم أجوبة الإمام ، فإن کان علی وجه التقیة یقولون لمن جاء به : «أعطاک من جراب النورة» وعند ما کان یفتی بالحکم الواقعی یقولون: «أعطاک من عین صافیة».

الأمر الثانی : الأخذ بالمرجحات لازم

لا شک انّ من رجع إلی لسان الروایات یقف علی لزوم العمل بالمرجحات ، ولا یمکن حملها علی الاستحباب إذ کیف یمکن حمل الأمر فی قوله علیه السلام : «ما وافق کتاب الله فخذوه، وما خالف کتاب الله فردّوه» علی الاستحباب ، وقد سبق أنّ الأمر حجّة من المولی علی العبد ، فلیس له ترک العمل إلاّ بحجّة أخری.

وأمّا ما هو ترتیب العمل بالمرجحات ، فهل یقدّم الترجیح بموافقة الکتاب علی الترجیح بمخالفة العامة أو لا؟

الجواب : انّ المستفاد من روایة عبد الرحمن بن أبی عبد الله هو تقدیم

ص: 235


1- الوسائل : الجزء 3 ، الباب 3 من أبواب لباس المصلّی ، الحدیث 6.

الترجیح بالأوّل علی الثانی وقد مضی نصها. (1)

الأمر الثالث : التعدّی من المنصوص إلی غیر المنصوص

قد عرفت أنّ المنصوص من المرجحات لا یتجاوز الاثنین «موافقة الکتاب ومخالفة العامة» ، وهل یجب الاقتصار علیهما ، والرجوع فی غیرهما إلی أخبار التخییر ، أو یجوز التعدّی من المنصوص إلی غیره ، فیعمل بکل خبر ذی مزیة ، ولا تصل النوبة إلی أخبار التخییر إلاّ بعد تساوی الخبرین فی کلّ مزیّة توجب أقربیة أحدهما إلی الواقع؟

الحقّ هو الأوّل : لأنّ إطلاق أخبار التخییر یفرض علینا التخییر فی مطلق المتعارضین، سواء کانا متکافئین أم غیر متکافئین ، خرجنا عن إطلاقها بروایات الترجیح ، وأمّا فی غیر موردها فالمحکّم هو أخبار التخییر ، فلو کان فی أحد الطرفین مزیّة غیر منصوصة ، فالتخییر هو المحکّم.

* * *

النتائج المحصلة

قد خرجنا من هذا البحث الضافی فی هذا المقصد بالنتائج التالیة :

1- إذا کان التنافی بین الخبرین أمرا غیر مستقرّ ، یزول بالتدبّر ، فهو خارج عن باب التعارض ، وداخل فی باب الجمع الدلالیّ بین الخبرین.

2- أنّ القاعدة الأوّلیة فی الخبرین المتعارضین اللّذین یکون التنافی بینهما أمرا مستقرا ، هو التساقط والرجوع إلی دلیل آخر ، کالعمومات والإطلاقات إن وجدت ،

ص: 236


1- لاحظ صفحة 233 من هذا الکتاب.

وإلاّ فالأصل العملی ، لکن خرجنا عن تلک القاعدة بأخبار التخییر.

3- انّ مقتضی أخبار التخییر وإن کان هو التخییر بین الخبرین مطلقا ، سواء کان هناک ترجیح أو لا ، لکن خرجنا عن مقتضی تلک الأخبار بلزوم إعمال المرجحات المنصوصة فقط دون غیرها. وهی منحصرة فی موافقة الکتاب ومخالفة العامة والأوّل مقدم علی الثانی.

خاتمة المطاف : التعارض علی نحو العموم والخصوص من وجه

إنّ التنافی بین الدلیلین إذا کان بنحو العموم والخصوص المطلق ، أو المطلق والمقیّد، فقد علمت أنّه من أقسام التعارض غیر المستقر وانّه داخل فی قاعدة الجمع ، وانّ المرجع هناک هو الجمع بینهما ، بتخصیص العام وتقیید المطلق.

وإذا کان التنافی بینهما بنحو التباین الکلی فالمرجع هو الترجیح ، ثمّ التخییر ، کما إذا ورد فی الخبر : «ثمن العذرة سحت» وفی الخبر الآخر : «لا بأس بثمن العذرة».

بقی الکلام فیما إذا کان التعارض بین الدلیلین علی نحو العموم والخصوص من وجه، کما إذا قال : «أکرم العلماء» ، ثمّ قال : «لا تکرم الفسّاق» فیکون العالم الفاسق مجمع العنوانین فیجب إکرامه باعتبار کونه عالما ، ویحرم باعتبار کونه فاسقا ، فما هی الوظیفة؟

وکما إذا ورد دلیل یدلّ بإطلاقه علی نجاسة عذرة کلّ ما لا یؤکل لحمه ، وورد

ص: 237

دلیل آخر یدلّ بإطلاقه علی طهارة عذرة کلّ طائر ، فیکون الطائر غیر المأکول مجمع العنوانین ، فهل یحکم بنجاسة عذرته بحکم الدلیل الأوّل ، أو بطهارته بحکم الدلیل الثانی؟

لا شکّ فی انصراف روایات التخییر عن المقام ، لأنّ المتبادر من قوله فی روایة الحسن بن الجهم «یجیئنا الرجلان - وکلاهما ثقة - بحدیثین مختلفین» هو اختلافهما فی تمام المدلول لا فی بعضه ، ولذلک کان منصرفا عمّا إذا کان التنافی بنحو العموم والخصوص المطلق.

فیکون المرجع هو روایات الترجیح ، فلو کان حکم أحد الدلیلین فی مورد الاجتماع موافقا للکتاب ، دون غیره ، أو مخالفا للعامّة ، فیؤخذ به دون الآخر.

نعم یعمل بهما فی موردی الافتراق ولا محذور فی ذلک لإمکان أن یکون الإمام فی مقام بیان الحکم الواقعی بالنسبة إلی أصل الحکم لا بالنسبة إلی إطلاقه ، ولیس الخبر کشهادة الشاهد حیث لا یجوز الأخذ ببعض مدلولها دون بعض.

تمّ الکلام بحمد الله فی تعارض الأدلّة

وقع الفراغ من تحریر هذا الکتاب ، ولاح بدر تمامه بید مؤلّفه جعفر السبحانی

ابن الفقیه الشیخ محمد حسین الخیابانی التبریزی - قدّس الله سرّه -

یوم الأحد الثامن من شهر رجب المرجب

من شهور عام 1418 من الهجرة النبویة

علی هاجرها وآله ألف صلاة وتحیة.

ص: 238

فهرس المحتویات

مقدمة المؤلف................................................................. 8

المقدمة وفیها أمور............................................................. 8

الأمر الأوّل : تعریف علم الأصول وموضوعه وغایته............................... 9

الأمر الثانی : تقسیم مباحثه إلی لفظیة وعقلیة................................... 10

الأمر الثالث : فی الوضع وأقسامه الأربعة....................................... 10

الأمر الرابع : تقسیم الدلالة إلی تصوّریة وتصدیقیّة............................... 13

الأمر الخامس : فی الحقیقة والمجاز.............................................. 14

الأمر السادس : علامات الحقیقة والمجاز........................................ 15

الأمر السابع : الأصول اللفظیة................................................ 18

الأمر الثامن : فی الاشتراک والترادف........................................... 20

الأمر التاسع : فی استعمال المشترک فی أکثر من معنی............................ 22

الأمر العاشر : فی الحقیقة الشرعیة............................................. 23

الأمر الحادی عشر : الصحیح والأعم.......................................... 24

الأمر الثانی عشر :فی المشتق وفیه أمور......................................... 26

ص: 239

المقصد الأوّل فی الأوامر وفیه فصول

الفصل الأوّل فی مادّة الأمر وفیه مباحث....................................... 32

الفصل الثانی فی هیئة الأمر وفیه مباحث........................................ 35

المبحث الأوّل : فی بیان مفاد الهیئة............................................ 35

المبحث الثانی : فی دلالة هیئة الأمر علی الوجوب............................... 37

المبحث الثالث : فی استفادة الوجوب من أسالیب أخری......................... 37

المبحث الرابع : فی الأمر عقیب الحظر......................................... 38

المبحث الخامس : فی المرّة والتکرار............................................. 39

المبحث السادس : الفور والتراخی............................................. 39

الفصل الثالث فی لإجزاء وفیه مباحث.......................................... 41

المبحث الأوّل : إجزاء الأمر الواقعی الاضطراری عن الاختیاریّ.......................

المبحث الثانی : فی إجزاء الأمر الظاهری عن الأمر الواقعی........................ 43

الفصل الرابع مقدّمة الواجب.................................................. 45

تقسیمها المقدمة إلی داخلیة وخارجیة.......................................... 45

تقسیمها إلی عقلیة وشرعیة وعادیة............................................. 46

تقسیمها إلی مقدّمة الوجود والصحّة والوجوب والعلم............................ 46

الرابع : تقسیمها إلی السبب والشرط والمعدّ والمانع............................... 47

تقسیمها إلی مفوّتة وغیر مفوّتة................................................ 48

ص: 240

تقسیمها إلی مقدّمة عبادیة وغیرها............................................. 48

الفصل الخامس فی تقسیمات الواجب.......................................... 50

1- تقسیم الواجب إلی مطلق ومشروط......................................... 50

2- تقسیم الواجب إلی المؤقّت وغیر المؤقّت..................................... 51

3- تقسیم الواجب إلی النفسی والغیری........................................ 53

4- تقسیم الواجب إلی أصلی وتبعی........................................... 53

5- تقسیم الواجب إلی العینی والکفائی......................................... 53

6- تقسیم الواجب إلی التعیینی والتخییری....................................... 53

7- تقسیم الواجب إلی التوصّلی والتعبّدی...................................... 54

الفصل السادس اقتضاء الأمر بالشیء ، النهی عن ضدّه......................... 55

الضدّ العام والخاص وفیه مسألتان.............................................. 56

المسألة الأولی: الضد العام.................................................... 56

المسألة الثانیة : الضد الخاص................................................. 56

الثمرة الفقهیة للمسألة........................................................ 57

الفصل السابع فی نسخ الوجوب وبقاء الجواز.................................... 58

الفصل الثامن فی الأمر بالأمر بفعل ، أمر بذلک الفعل........................... 60

الفصل التاسع فی الأمربالشیء بعد الأمر به................................... 61

ص: 241

المقصد الثانی فی النواهی وفیه فصول

الفصل الأوّل فی مادة النهی وصیغته........................................... 64

الفصل الثانی جواز اجتماع الأمر والنهی واحد وفیه أمور......................... 66

الأمرالأول : فی أن للاجتماع أقسام ثلاثة....................................... 66

الأمر الثانی : ما هو المراد من الواحد فی العنوان؟................................ 67

الأمر الثالث : الأقوال فی المسألة.............................................. 67

الفصل الثالث فی اقتضاء النهی للفساد وفیه مقامان............................. 70

المقام الأوّل : فی العبادات.................................................... 70

المقام الثانی : فی المعاملات................................................... 72

المقصد الثالث فی المفاهیم وفیه أمور

الأمر الأوّل : تعریف المفهوم والمنطوق.......................................... 78

الأمر الثانی : تقسیم المدلول المنطوقی إلی صریح وغیر صریح...................... 79

الأمر الثالث : النزاع فی باب المفاهیم صغروی................................... 80

الأمر الرابع : تقسیم المفهوم إلی مخالف وموافق.................................. 80

الأمر الخامس : أقسام مفهوم المخالف......................................... 81

الأوّل : مفهوم الشرط........................................................ 82

تبیهان

التنبیه الأول : فی تعدّد الشرط واتّحد الجزاء...................................... 87

ص: 242

التنبیه الثانی : فی تداخل الأسباب والمسببات.................................... 89

الثانی : فی مفهوم الوصف.................................................... 91

الثالث : فی مفهوم الغایة ، وفیه جهتان........................................ 93

الجهة الأولی : فی دخول الغایة فی حکم المنطوق................................ 93

الجهة الثانیة : فی مفهوم الغایة وانتفاء ستخ الحکم عمّا وراءها.................... 95

الرابع : مفهوم الحصر........................................................ 96

فی أدوات الحصر............................................................ 96

الخامس : مفهوم العدد..................................................... 100

السادس : مفهوم اللقب.................................................... 102

المقصد الرابع العموم والخصوص وفیه فصول

الفصل الأوّل ألفاظ العموم.................................................. 105

الفصل الثانی فی انّ العام بعد التخصیص حقیقة............................... 107

الفصل الثالث فی إنّ العام المخصص حجّة فی الباقی........................... 110

الفصل الرابع فی التمسّک بالعام قبل الفحص عن المخصص..................... 111

الفصل الخامس فی تخصیص العام بالمفهوم..................................... 112

الفصل السادس : تخصیص الکتاب بخبر الواحد............................... 113

الفصل السابع : فی تعقیب الاستثناء للجمل المتعدّدة........................... 115

ص: 243

الفصل الثامن : فی النسخ والتخصیص....................................... 116

المقصد الخامس فی المطلق والمقید والمجمل والمبین وفیه فصول

الفصل الأوّل : فی تعریف المطلق............................................. 120

الفصل الثانی : فی ألفاظ المطلق.............................................. 122

الفصل الثالث : فی أنّ المطلق بعد التقیید لیس المجازیة.......................... 124

الفصل الرابع : فی مقدمات الحکمة.......................................... 125

الفصل الخامس : فی المطلق والمقید المتنافیان................................... 127

الفصل السادس : فی المجمل والمبین وتعریفهما.................................. 128

المقصد السادس فی الحجج والأمارات وفیه مقامان

المقام الأوّل : فی القطع وأحکامه وفیه فصول.................................. 135

الفصل الأوّل : فی حجیة القطع............................................. 135

الفصل الثانی : التجرّی..................................................... 137

الفصل الثالث تقسیم القطع إلی طریقی وموضوعی............................. 139

الفصل الرابع فی قطع القطّاع................................................ 141

الفصل الخامس فی لمعلوم إجمالا کالمعلوم تفصیلا............................... 143

الفصل السادس : حجیة العقل.............................................. 146

الفصل السابع : العرف والسیرة.............................................. 150

المقام الثانی : أحکام الظن المعتبر............................................ 154

ص: 244

الفصل الأوّل : فی حجّیة ظواهر الکتاب..................................... 156

الفصل الثانی : الشهرة الفتوائیّة.............................................. 160

الفصل الثالث : حجّیة السنّة المحکیة بخبر الواحد.............................. 161

أ. الاستدلال علی حجّیة خبر الواحد بالکتاب................................ 162

1- الاستدلال بآیة النبأ..................................................... 162

2- الاستدلال بآیة النفر.................................................... 165

3- الاستدلال بآیة الکتمان................................................. 166

4- الاستدلال بآیة السؤال.................................................. 166

ب. الاستدلال علی حجّیة خبرالواحد بالسنة................................ 167

ج. الاستدلال علی حجّیة خبر الواحد بالإجماع............................... 169

د. الاستدلال علی حجّیة خبر الواحدبالسیرة العقلائیة......................... 169

الفصل الرابع فی حجیّة الإجماع المحصل والمنقول بخبرالواحد...................... 171

الفصل الخامس فی حجّیة قول اللغوی........................................ 175

المقصد السابع الأصول العملیة وفیه فصول

الفصل الأوّل فی أصالة البراءة وفیه مقامان.................................... 180

المقام الأوّل : فی الشبهة الحکمیة التحریمیة بمسائل أربع......................... 181

المسألة الأولی : فی الشبهة الحکمیة التحریمیة لأجل فقدان النص................. 181

المسألة الثانیة : فی الشبهة الحکمیة التحریمیة لإجمال النص...................... 192

ص: 245

المسألة الثالثة : فی الشبهة الحکمیة التحریمیة لتعارض النصّین.................... 192

المسألة الرابعة : فی الشبهة الموضوعیة التحریمیة................................. 192

المقام الثانی : الشکّ فی الشبهة الوجوبیة...................................... 193

الفصل الثانی فی أصالة التخییر بمسائلها الأربع................................. 194

المسألة الأولی : فی دوران الأمر بین المحذورین لفقدان النص...................... 194

المسألة الثانیة : فی دوران الأمر بین المحذورین لإجمال النص...................... 195

المسألة الثالثة : فی دوران الأمر بین المحذورین لتعارض النصین.................... 195

المسألة الرابعة : فی دوران الأمر بین المحذورین فی الشبهة الموضوعیة............... 195

الفصل الثالث : فی أصالة الاحتیاط ، وفیه مقامان............................. 197

المقام الأوّل : الشبهة التحریمیة............................................... 197

أ. حکم الشبهة الموضوعیة التحریمیة المحصورة.................................. 198

ب. حکم الشبهة الموضوعیة التحریمیة غیر المحصورة............................. 200

المقام الثانی : فی الشبهة الوجوبیة ، وفیه موضعان.............................. 202

الموضع الأوّل : الشبهة الوجوبیة الدائرة بین متباینین بمسائلها الأربع............... 202

الموضع الثانی : الشبهة الوجوبیة الدائرة بین الأقل والأکثر بمسائلها الأربع.......... 203

المسألة الأولی : دوران الأمر بین الأقل والأکثر لأجل فقدان النص............... 203

المسألة الثانیة : دوران الأمر بین الأقل والأکثر لأجل إجمال النص................ 204

ص: 246

المسألة الثالثة : دوران الأمر بین الأقل والأکثر لأجل تعارض النصین............. 205

المسألة الرابعة : دوران الأمر بین الأقل والأکثر للخلط بین الأمورالخارجیة......... 205

حکم الشکّ فی المانعیة والقاطعیة............................................ 205

الفصل الرابع فی الاستصحاب ، وفیه أمور.................................... 207

الأمرالأول : فی تعریف الاستصحاب......................................... 207

الأمرالثانی : ارکات الاستصحاب............................................ 208

الأمرالثالث : تطبیقات..................................................... 208

الأمرالرابع : الفرق بین الاستصحاب وقاعدة الیقین............................. 208

أدلّة حجّیة الاستصحاب................................................... 209

صحیحة زرارة الأولی....................................................... 210

صحیحة زرارة الثانیة........................................................ 210

حدیث الأربعمائة.......................................................... 212

التنبیه الأوّل : فی شرطیة فعلیة الشک......................................... 213

التنبیه الثانی : فی استصحاب الکلّی بأقسامه الثلاثة............................ 213

التنبیه الثالث : عدم حجّیة الأصل المثبت..................................... 215

التنبیه الرابع : تقدّم الأصل السببی علی المسببی................................ 217

المقصد الثامن : فی تعارض الأدلّة الشرعیة وفیه فصلان

ص: 247

الفصل الأوّل فی التعارض غیر المستقر........................................ 221

1- التخصّص............................................................. 221

2- الورود................................................................. 222

3- الحکومة............................................................... 222

4- التخصیص............................................................ 224

5- تقدیم الأظهرعلی الظاهر................................................ 224

الفصل الثانی : التعارض المستقر، وفیه أمور................................... 226

الأمرالأوّل : ما هی القاعدة الأوّلیة عند التعارض؟............................. 226

الأمرالثانی : ما هی القاعدة الثانویة عند التعارض؟............................. 227

الصورة الأولی : الخبران المتعارضان المتکافئان................................... 227

الصورة الثانیة : الخبران المتعارضان غیر المتکافئین وفیه أمور...................... 229

1- فی بیان المرجّحات الخبریة................................................ 230

أ. الترجیح بصفات الراوی.................................................. 230

ب : الترجیح بالشهرة العملیّة............................................... 232

ج : الترجیح بموافقة الکتاب................................................ 232

د : الترجیح بمخالفة العامة.................................................. 234

2- الأخذ بالمرجحات لازم.................................................. 235

3- التعدّی من المنصوص إلی غیر المنصوص................................... 236

خاتمة المطاف التعارض علی نحو العموم والخصوص من وجه..................... 237

ص: 248

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.