عمدة المقال في كفر اهل الضلال

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: كركي عاملي، حسن بن علي، قرن 10ق.

عنوان واسم المؤلف: عمدة المقال في كفر اهل الضلال/الحسن بن علي بن الحسين بن عبدالعال الكركي

ابحاث: مهدي الرجائي.

تفاصيل المنشور: قم: مكتبة آيةاللّه العظمی المرعشي النجفي الكبری قدس سره، 1387.

خصائص المظهر:230 ص

ISBN: 978-964-8179-55-2

حالة الاستماع: فيپا

ملاحظة: العربية.

الموضوع: التصوف - الدفاعات والردود.

الموضوع: أهل السنة - الدفاعات والردود.

المعرف المضاف: رجائي، مهدي، 1336 - ، ابحاث.

ترتيب الكونجرس:BP295/2/ك4ع8 1387

تصنيف ديوي:297/86

رقم الببليوغرافيا الوطنية:1120016

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

ص :1

اشارة

للعلامه المحقق

الشيخ حسن بن علي الكركي العاملي

من اعلام الرن العاشر

تحقيق: السيد مهدي الرجائي

ص: 2

مقدمة المحققّ

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام علی أشرف الأنبياء والمرسلين، محمّد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم علی أعدائهم و مبغضيهم و منكري فضائلهم إلي قيام يوم الدين.

إنّ من أخطر ما أفرزه الخلاف الذي حدث بين المسلمين عقيب رحلة النبي المصطفی صلی اللّه عليه و آله الی الرفيق الأعلی، ظاهرة النصب والعداوة لأهل البيت النبوي في المجتمع الاسلامي.

و تكمن خطورتها في أنّها اتّخذت أبعاداً مختلفة جرّت علی المسلمين البلاء والويلات، وانسحبت علی معالم الدين و تعاليمه، حتّی أفقدها روحها و نضارتها و حكمتها، فأصبحت مجرّد طقوس رتيبة فارغة من المحتوی، و لم يعد لها أثر علی العقيدة والسلوك إلاّ بصورة عكسية، الأمر الذي تمخض عنه أن أصبحت الاُمّة الواحدة فرقاً وأحزاباً، كلّ فرقة تری أنّ الحقّ معها فيما تنتهجه من تصوّرات و أساليب، وانّ الباطل في خلاف ذلك.

و أصبح كلّ حزب يتصيّد علی الآخر نقاط ضعفه ليدينه بها، و يرمي خصمه بالكفر و المروق و الالحاد، في الوقت الذي ينضوي الجميع فيه تحت مبدأ واحد، و يستقون معارفهم من منبع واحد، و يسعون نحو هدف واحد.

والذي يبدو من خلال دراسة واقع الظروف النفسية والاجتماعية لتلك الحقبة

ص:3

من الزمن، أنّ هذا التصدّع في بناء المجتمع المسلم و ما آلت اليه الأحوال لم يكن ليحدث بصورة اتّفاقية عفوية، بل كان هناك تخطيط مسبق رسمت خطوطه العريضة في زمان النبي صلی اللّه عليه و آله، ولعلّ في قوله تعالی «أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلی أَعْقابِكُمْ» (1) ما يؤكّد ذلك.

و يشهد له ما ذكره المؤرّخون من مختلف الحوادث، و منها المحاولة التي استهدفت شخص النبي صلی اللّه عليه و آله بعد منصرفه من غزوة تبوك(2).

علی أنّ الآية الشريفة أفادت و بصورة قاطعة أنّ الانقلاب واقع لا محالة، سواء رحل النبي صلی اللّه عليه و آله عن الدنيا موتاً أو قتلاً، و لقد تحقّق ذلك الانقلاب الذي حمل معه المآسي و الآلام، ولا زالت الاُمّة تعاني من ويلاتها، فإنّه أعقبها تمزّقاً و تشتّتاً في شتّي الميادين.

الأساس في الخلاف

و تبدأ الحكاية بعلي عليه السلام، و تنتهي بشيعة علي عليه السلام. و انّما قلنا إنّها تبدأ بعلي عليه السلام، فلأنّ منشأ الخلاف و أساسه هو الخلافة بعد الرسول صلی اللّه عليه و آله، فهل أنّ الامامة منصب إلهي لا يختلف عن النبوّة إلاّ في صورة التعيين و كيفيته بالمباشرة أو بالواسطة؟ بمعني أنّ تعيين النبي صلی اللّه عليه و آله عن طريق الوحي، و أمّا تعيين الامام فعن طريق النبي صلی اللّه عليه و آله، و كلا الأمرين يرجعان بالمآل إلی اللّه تعالی، أو أنّ الامامة زعامة مدنية يرجع فيها الاختيار و التعيين إلی الناس أنفسهم؟ و علی هذا فهل أنّ الأحقّ بهذا

ص:4


1- آل عمران: 144.
2- راجع تفاصيل هذا الحدث: بحار الأنوار 185:21-252 باب غزوة تبوك و قصّة العقبة.

المنصب هو علي بن أبي طالب عليه السلام أو أنّه أبو بكر؟

ذلك هو أساس القضية و محورها، و عليه دارت رحی الخلاف بين المسلمين، و هو النواة الاُولی لحدوث الصراع فيما بينهم، و كان من نتيجته هذا الانقسام في الصفّ الاسلامي، الذي لا زالت جراحاته تنزّ إلي يوم الناس هذا.

فقد قال الشيعة استناداً إلي النصوص القرآنية والروايات الصريحة: إنّ خليفة الرسول هو علي بن أبي طالب عليه السلام، و من بعده الأئمّة الأحد عشر من ذرّية الرسول صلی اللّه عليه و آله، و قد أخذت الأدلّة بأعناقهم، فأصرّوا علی موقفهم، واحتجّوا علی مدّعاهم، و أقاموا براهينهم، و عرفوا بالشيعة الامامية، أو بالشيعة الاثنی عشرية.

و قال غير الشيعة: إنّ الخليفة بعد الرسول صلی اللّه عليه و آله هو أبوبكر بن أبي قحافة، و أنكروا النصّ علی الامامة، و إنّ النبي صلی اللّه عليه و آله لم يعيّن خليفة من بعده، بل أوكل الأمر إلي الاُمّة لتختار لها حاكماً، فوقع اختيارها علی أبي بكر، و حاولوا التشكيك في دلالة كلّ النصوص التي احتجّ بها الشيعة.

و اتّسعت دائرة الخلاف شيئاً فشيئاً لتطال المسائل الأصلية و الفرعية، حتّی بلغت حدّ التباين بين الطرفين، و أخذت تزداد اتّساعاً بمرور الأيّام، و تتعمّق هوّة الخلاف.

و علی إثر ذلك افترقت الاُمّة إلی مذاهب و آراء، كلّ منها يری أنّه أصاب الحقّ و الحقيقة، و غيره علی خلاف الحقّ و الحقيقة، و كان في ذلك تصديق لما أنبأ به النبي صلی اللّه عليه و آله في الحديث المشهور ستفترق امّتي... الخ(1).

و من الطبيعي أن يكون لكلّ من هذه المذاهب و الآراء أنصار و مؤيّدون، و كانت

ص:5


1- راجع: بحار الأنوار 3:28.

المساجلات بين الأطراف المتنازعة، و محورها الأساس الامامة و الامام بعد الرسول صلي اللّه عليه و آله.

و علی هو المبتلی المبتلی به، و دواعی ابتلائه والابتلاء به متكاثرة، و قد اقترنت به حياته و بعد مماته، فهو رجل الدار يوم الانذار، و طالما كرّر النبي صلی اللّه عليه و آله وأكثر النصّ عليه بذلك - صلّی اللّه عليهما وآلهما - و من ذلك يوم الغدير ذلك اليوم المشهود، إذن فقد اختصّ بخلافة النبي الأعظم والوصاية علی الاُمّة من بعده، وفات بذلك علی الطامعين ما يأملون، و هو بطل المواقف، أسد الحرب، و حيدرة الوغی، و كاشف الكرب، و الجيش كلّه عدّة و عدداً.

إذن فهو العلم الفرد، و هو المخصوص - و من السماء - بالاقتران بفاطمة سيّدة النساء أجمعين، اُريد هو و رُغِب فيه هو، و انصرف وجه رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله عن سواه، و هو المستأثر بأوسمة السموّ و شارات الامتياز من اللّه في كتابه، و من رسوله في قوله و عمله، فهو منه بمنزلة هارون من موسی إلاّ أنّه لا نبي بعده، و هو أخوه، و كلاهما من الآخر «علي منّي و أنا منه» و هو نفسه كما عبّر اللّه في قرآنه، و هو المفرد في مناجاته، و الوحيد في فتح بابه إلی مسجده الأعظم، والموصوف البأنّه مع القرآن و القرآن معه، و مع الحقّ و الحقّ معه، إذن هو حائز الملكات، و نائل الامتيازات الإلهية والنبوية(1).

و إذا كان علي عليه السلام بهذه المثابة، و لم تكن نظرة الناس إليه، كما رآه بها القرآن و الرسول، فمن الطبيعي أن تبرز كوامن النفوس و خفايا بعض القلوب، فتولّد العداء و طفح لعلي و آل علي و شيعتهم، فكانت بذرة النصب و البغضاء لعلي عليه السلام و شيعته.

ص:6


1- راجع: النصب و النواصب ص 21.

و سواء كان النصب مبدأ سياسياً كما قيل، أو أعمّ كما هو الصحيح، فقد اتّخذت المسألة منحی خطيراً، و مؤثراً علی العقيدة والسلوك.

الأسباب والدوافع

و لعلّ البعض يتساءل و يقول: إذا كانت مسألة الامامة والامام بعد الرسول صلی اللّه عليه و آله ممّا وقع فيها الخلاف بين المسلمين، فلا تعدو أن تكون كأيّ مسألة اخری تختلف فيه الآراء والأنظار، والاختلاف سنّة كونية من سنن الحياة، و من الطبيعي جدّاً أن تتعدّد الآراء و تختلف النظرات نقضاً و إبراماً وسعة و ضيقاً، و مثلها مثل سائر المسائل الكلامية الاُخری التي وقعت موقع الجدل، و الحوار بين العلماء والمفكّرين، و ليس هناك ما يدعو إلی النصب و العداء، و ما يترتّب علی ذلك من آثار.

وللإجابة عن هذا التساؤل و ما ينبثق عنه من تساؤلات اُخری يحسن بنا أن نذكر تمهيداً يهيّئنا لذكر الأسباب و الدوافع، و نوجز ما نودّ قوله في أمرين:

الأوّل: أنّ موضوع الامامة والخلافة بعد الرسول صلی اللّه عليه و آله - كما هي في عقيدة الشيعة الامامية - من المواضيع ذات الخطورة؛ لأنّها تشكّل دعامة من دعائم الدين، و ركيزة يعتمد عليها أساس الارتباط به، و ما يتفرّع عليه من تطبيق عملي لمعطياته و أحكامه و تعاليمه، و ليست هي مجرّد زعامة مدنية و حكم إداري، بل هي امتداد للنبوّة بجميع معطياتها، و انّ الامام هو القائم مقام الرسول صلی اللّه عليه و آله في جميع ما يقوم به الرسول صلی اللّه عليه و آله من أدوار في التشريع والتنظيم والتطبيق، و علی مختلف الأصعدة و الشؤون الفردية و الاجتماعية، دينية كانت أو دنيوية أو اخروية و لا يستثنی من ذلك إلاّ ما يختصّ به مقام النبوّة.

ثمّ إنّ النصوص الواردة في موضوع الامامة و الامام تحدّد الاتّجاه تحديداً

ص:7

لامجال فيه للاختيار.

و بعبارة اُخری: إنّ الانتماء الحقيقي للدين لا يتمّ إلاّ بالرضا و التسليم بجميع ما يميله من تعاليم و أحكام، و لابدّ فيها من الاستناد إلی هذا المنبع دون سواه.

و يترتّب علی هذا أثر خطير، و هو أنّ كلّ من جانب هذا الأمر أو خالفه، فهو ليس علی شيء، و تلك نتيجة طبيعية أكّدت عليها النصوص، و خصوصاً في مسألة الامامة.

و لا شكّ أنّ هذه المقولة تركت أثراً بالغاً في النفوس سلباً و ايجاباً، و اختلفت ردّة الفعل شدّة و ضعفاً و قبولاً و رفضاً.

الثاني: أنّ الضرورة الزمنية التي قام فيها الرسول صلی اللّه عليه و آله بدور التبليغ لإخراج الناس من الظلمات إلی النور قد بلغت ثلاثاً و عشرين عاماً، و قد تخلّلتها مصادمات و حروب ضارية اضطرّ إليها الرسول صلی اللّه عليه و آله لحماية دعوته والدفاع عنها، حتّی تمكّن صلی اللّه عليه و آله من إخضاع معارضيه إلي حدّ ما، و لا أقلّ من تمكّنه من السيطرة علی الرقعة التي كانت تحت نفوذه، و دخل الناس في دين اللّه أفواجاً.

و لكن كانت قناعات الناس في ارتباطهم بهذا الدين، و انعكاس التديّن علی سلوكهم متفاوتة، و ذلك لاختلاف قابلياتهم و استعداداتهم، فمنهم من بلغ حدّاً من القناعة و الايمان، بحيث رسخ الدين في قلبه، فلا يرقی إليه شكّ أو شبهة. و منهم دون ذلك، و منهم من هو حديث العهد بهذا الدين، و منهم من أسلم طمعاً، و منهم من رأي نفسه مضطرّاً للدخول في هذا الدين، و منهم من أسلم نفاقاً، و منهم غير ذلك.

و قد تحدّث القرآن الكريم في العديد من الآيات عن هذه النماذج المختلفة، فقال تعالی : «قُلْ اُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ * اَلَّذِينَ

ص:8

يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النّارِ * اَلصّابِرِينَ وَ الصّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» (1).

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ» (2) «إِنَّ اللّهَ اشْتَری مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ» (3).

«وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» (4) «وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» (5) «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (6) «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» (7).

«اَلْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ

ص:9


1- سورة آل عمران: 15-17.
2- سورة آل عمران: 7.
3- سورة التوبة: 111.
4- سورة البقرة: 8.
5- سورة آل عمران: 119.
6- سورة الحجرات: 14.
7- سورة الحجرات: 4.

عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (1) «وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَی النِّفاقِ...» (2) «وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنی وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (3) «وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ» (4) «وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ» (5) «لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ» (6).

إلی كثير من الآيات البينات، و تفيدنا بعض هذه الآيات أنّ رواسب الجاهلية ما زالت في نفوس بعضهم من دون أن يكون لانتمائه للدين قدرة علي اقتلاع جذور الماضي من نفسه.

و إذا أحطنا خبراً بهذين الأمرين أمكننا ذلك من بيان أسباب النصب والعوامل التي أدّت إلی بغض علی و بنيه و شيعته، و هي عدّة امور:

الأوّل: الانحراف الذاتي.

إنّ ممّا ابتلی به الاسلام و رسوله صلی اللّه عليه و آله في مطلع الدعوة قضية النفاق و المنافقين، و كان المنافقون يشكلون حجر العثرة في مسار الاسلام، و كانوا أشدّ خطراً علی

ص:10


1- سورة التوبة: 97-98.
2- سورة التوبة: 101.
3- سورة التوبة: 107.
4- سورة التوبة: 58.
5- سورة التوبة: 61.
6- سورة التوبة: 48.

الاسلام من اليهود و المشركين، و قد لعب النفاق دوره الخبيث في محاولة تفتيت البنية الداخلية التي شيّدها النبي صلی اللّه عليه و آله للاسلام، و سعوا إلي زعزعة الاُسس التي وضعها النبي صلی اللّه عليه و آله لبناء المجتمع الاسلامي المتكامل.

ولكن و إن كان النفاق اُسلوباً حباناً في التعامل مع الأحداث و لا يكشف عن هويته إلاّ أنّ الرصد الإلهي قد كشف عن الكثير من مؤامرات المنافقين، كما أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قد أحبط الكثير من تدبيراتهم الكيدية، و كان الوحي الإلهي في تتابع مستمرّ لإفشال خططهم و فضح أساليبهم.

و قد اعتمد النبي صلی اللّه عليه و آله عدّة طرق للكشف عن هوية النفاق والمنافقين، و في بعض الآيات المتقدّمة ما يلقی الضوء علي بعض تلك الطرق.

و من أهمّ الأساليب التي اتّخذها النبي صلی اللّه عليه و آله أن جعل حبّ علي عليه السلام و بغضه مقياسين لمعرفة المؤمن و المنافق، و ذلك لأنّ علياً عليه السلام يمثّل الاستقامة بأكمل معانيها، و يجسّد الفطرة السليمة بأظهر صورها، فكان حبّه أمارة علی الاستقامة، وكان بغضه أمارة علی الانحراف والنفاق، و يوضح لنا هذا المعني كم غير قليل من النصوص، نكتفي بالاشارة إلی بعضها، و كلّها مروية عن النبي صلی اللّه عليه و آله و بعبارات مختلفة إلاّ أنّها تحمل مضموناً واحداً، و منها:

لا يحبّ علياً إلاّ مؤمن، ولا يبغضه إلاّ منافق(1).

لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق(2).

ص:11


1- كنز العمّال 622:11 برقم: 33029.
2- كنز العمّال 622:11 برقم: 23028.

لا يبغض علياً مؤمن، و لا يحبّه منافق(1).

يا علي طوبی لمن أحبّك و صدق فيك، و ويل لمن أبغضك وكذب فيك(2).

ثلاث من كنّ فيه فليس منّي ولا أنا منه: بغض علي، ونصب أهل بيتي، ومن قال الايمان كلام(3).

عن أبي سعيد الخدري، قال: كنّا لنعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب(4).

عن المساور الحميري عن امّه، قالت: دخلت علی امّ سلمة فسمعتها تقول: كان رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله يقول: لا يحبّ علياً منافق، و لا يبغضه مؤمن(5).

إلی غير ذلك من النصوص الصريحة في هذا المعنی.

هذا و هناك علامات اُخری ذات صلة بما نحن فيه من بيان الانحراف الذاتي، و قد جعل فيها علی و أولاده عليهم السلام مقياساً لمعرفته، ومنها:

ما حدّث به عبادة بن الصامت: كنّا نبور أولادنا بحبّ علي بن أبي طالب عليه السلام، فاذا رأينا أحدهم لا يحبّ علي بن أبي طالب، علمنا أنّه ليس منّا و أنّه لغير رشده(6).

ص:12


1- كنز العمّال 622:11 برقم: 32027.
2- كنز العمّال 622:11-623 برقم: 33030.
3- كنز العمّال 623:11 برقم: 33031.
4- الجامع الصحيح للترمذي 653:5 برقم: 3717.
5- نفس المصدر.
6- كتاب النصب والنواصب للشيخ المعلّم ص 101.

قال الحافظ الجزري: و هذا حديث مشهور من قديم و إلی اليوم أنّه ما يبغض علياً عليه السلام إلاّ ولد الزنا(1).

و منها: ما أخرجه الحافظ ابن مردويه بسنده، عن أحمد، قال: سمعت الشافعي يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: قال أنس بن مالك: ما كنّا لنعرف الرجل لغير أبيه إلاّ ببغض علي بن أبي طالب(2).

و منها: ما رواه أبوبكر بن أبي قحافة، قال: رأيت رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله خيّم خيمة وهو متّكيء علی قوس عربية، و في الخيمة علي و فاطمة و الحسن و الحسين، فقال:

معاشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم، ولي لمن والاهم، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ طيّب المولد، و لا يبغضهم إلاّ شقيّ الجدّ رديء المولد(3).

و ممّا يناسب ذكره كقضية خارجية تصديقاً لهذه النصوص، ما أورده صاحب كتاب النصب و النواصب من أحوال دلف بن القاسم بن عيسی العجلي، وأنّه كان ينتقص علي بن أبي طالب عليه السلام، و يضع منه و من شيعته، و ينسبهم إلی الجهل، و أنّه قال يوماً - وهو في مجلس أبيه و لم يكن أبوه حاضراً - : إنّهم يزعمون أن لا ينتقص علياً أحد إلاّ كان لغير رشده، و أنتم تعلمون غيرة الأمير - يعني أباه - و أنّه لا يتهيّأ الطعن علی أحد من حرمه، و أنا أبغض علياً.

فما كان أوشك من أن خرج أبودلف، فلمّا رأيناه قمنا له، فقال: قد سمعت ما

ص:13


1- باختصار عن نفس المصدر ص 101.
2- النصب والنواصب ص 101.
3- باختصار عن نفس المصدر ص 101.

قاله دلف، و الحديث لا يكذب، و الخبر الوارد في هذا المعنی لا يختلف، هو واللّه لزنية وحيضة، و ذلك أنّي كنت عليلاً، فبعثت إليّ اُختی جارية لها كنت بها معجباً، فلم أتمالك أن وقعت عليها و كانت حائضاً، فعلقت به، فلمّا ظهر حملها و هبتها لي، فبلغ من عداوة دلف هذا لأبيه و نصبه و مخالفته له؛ لأنّ الغالب علی أبيه التشيّع والميل إلی علي أن شنع عليه بعد وفاته و هو ما حدّث به...(1).

و يكفينا ذلك شاهداً علی أنّ الانحراف الذاتي أحد أسباب النصب والعداء لعلي عليه السلام، علی أنّه قد ذكرت عدّة علامات اخری تكشف عن الانحراف، و المقياس فيها علي عليه السلام و من شاء فليراجع(2).

الثاني: الحسد.

كان علي عليه السلام ربيب الوحي، و رفيق النبوّة، و كان كما تحدّث عن نفسه حول صلته برسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: و قد علمتم موضعي من رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله بالقرابة القريبة، و المنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلي صدره، و يكنفني إلی فراشه، و يمسّني جسده، و يشمّني عرفه، و كان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه، و ما وجد لي كذبة في قول، و لا خطلة في فعل... و لقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل إثر اُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، و يأمرني بالاقتداء به، و لقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء و لا يراه غيري، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله و خديجة و أنا ثالثهما، أری نور الوحي، و أشمّ ريح النبوّة(3).

ص:14


1- كتاب النصب والنواصب ص 316-317.
2- نفس المصدر ص 317.
3- نهج البلاغة ص 300 رقم الخطبة: 192.

و أضف الی ذلك الكمالات الشخصية الاُخری - و قد تقدّم بعض خصائصه فيما نقلناه من كتاب النصب و النواصب - و العنايات الإلهية الخاصّة، والتي أهلته و هيّأته ليكون الشخص التالي لرسول اللّه صلي اللّه عليه و آله في جميع ما يتفاوت فيه أبناء البشر، وكان النبي صلي اللّه عليه و آله لا يألو جهداً في التنويه والكشف عن مواطن العظمة في شخصية ابن أبي طالب.

و كان عليه السلام يزداد رفعة و سبقاً و شأناً و جلالاً كلّما ازدادت الأيّام مروراً، فإذا علمنا أنّه لم يكن أكبر القوم سنّاً آنذاك بل كان في عمر الشباب، فمن الطبيعي أنّ ذلك يضجر بعض النفوس المريضة، فتضمر له الحسد والنصب والعداء، و قد ورد في الحديث عن النبي صلی اللّه عليه و آله: من حسد علياً فقد حسدني، و من حسدني فقد كفر(1).

الثالث: الحقد الدفين.

و عرف علي عليه السلام بالشجاعة و الفروسية، و كانت شجاعته عليه السلام حديث الركبان و مضرب الأمثال، و كانت القبائل تفتخر بأنّ أحد أبنائها بارز علياً في ميدان القتال.

و قد وصفته سيّدة النساء عليها السلام في خطبتها في مسجد أبيها صلی اللّه عليه و آله، فقالت: كلّما أو قدوا ناراً للحرب أطفأها اللّه، أو نجم قرن للشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه و ابن عمّه في لهواتها، فلا ينكفيء حتّی يطأ صماخها بأخمصه، و يخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات اللّه، مجتهداً في أمر اللّه، قريباً من رسول اللّه، سيّداً في أولياء اللّه، مشمّراً ناصحاً مجدّاً كادحاً، لا تأخذه في اللّه لومة لائم(2).

ص:15


1- كنز العمّال 626:11 برقم: 333050.
2- فاطمة صوت الحقّ الإلهي للشيخ المعلّم ص 65-66.

و يقول ابن أبي الحديد: و أمّا الشجاعة فإنّه أنسي الناس فيها ذكر من كان قبله، و محا اسم من يأتي بعده، و مقاماته في الحروب مشهورة، يضرب بها الأمثال إلی يوم القيامة، و هو الشجاع الذي ما فرّ قطّ، و لا ارتاع من كتيبة، و لا بارز أحداً إلاّ قتله، و لا ضرب ضربة قطّ فاحتاجت الاُولي إلي ثانيه. وفي الحديث «كانت ضرباته وتراً».

و لمّا دعا معاوية إلي المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفك، فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلاّ اليوم، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن و أنت تعلم أنّه الشجاع المطرق، أراك طمعت في إمارة الشام بعدي. وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، فأمّا قتلاه فافتخار رهطهم بأنّه عليه السلام قتلهم أظهر و أكثر، قالت اُخت عمرو بن عبدودّ ترثيه:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله *** بكيته أبداً ما دمت في الأبد

لكنّ قاتله من لا نظير له *** وكان يدعی أبوه بيضة البلد

و انتبه يوماً معاوية، فرأی عبد اللّه بن الزبير جالساً تحت رجليه علی سريره، فقعد فقال له عبداللّه يداعبه: يا أميرالمؤمنين لو شئت أن أفتك بك لفعلت، فقال: لقد شجعت بعدنا يا أبابكر، فقال: و ما الذي تنكره من شجاعتي و قد وقفت في الصفّ إزاء علي بن أبي طالب، قال: لا جرم إنّه قتلك و أباك بيسري يديه و بقيت اليمني فارغة يطلب من يقتله بها.

و جملة الأمر: أنّ كلّ شجاع في الدنيا إليه ينتهي، و باسمه ينادي في مشارق الأرض و مغاربها(1).

ص:16


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20:1-21.

و لقد تغنّي الشعراء بشجاعة أبي الحسن، و منهم ابن أبي الحديد المعتزلي في علوياته السبع، و قد كتبت بعض الأبيات من قصيدته العينية علی ضريح أميرالمؤمنين عليه السلام، و منها قوله يخاطب علياً عليه السلام:

يا هازم الأحزاب لا يثنيه عن *** خوض الحمام مدجج و مدرّع

يا قالع الباب الذي عن هزّه *** عجزت أكفّ أربعون و أربع

أأقول فيك سميدع كلاّ و لا *** حاشا لمثلك أن يقال سميدع

و يقول جدّنا المرحوم آية اللّه السيّد محمّد جمال الهاشمي الكلپايكاني في إحدي قصائده:

و لك المواقف لاذ في أمجادها *** بدر و حلق في علاها خيبر

لاسيف إلاّ ذو الفقار و لا فتئ *** إلاّك وحي في جلالك يؤثر

يا شعر صه إنّ المقام مقدّس *** فاصمت فصمتك من مقالك أشعر(1)

و لكن هذه الشجاعة التي وظّفها أميرالمؤمنين عليه السلام في نصرة النبي صلی اللّه عليه و آله ویدعوته، و یجدّل من خلالها أبطال الشرك و یعتاة الكفّار، تركت القلوب تغلي عليه، وأضبّت الصدور علی حقده، و حمّلوا علياً عليه السلام المسؤولية، و اعتبر الموتورن ذلك ديناً عليه، و لابدّ له أن يؤدّيه من نفسه و بنيه و شيعته، فكان النصب و العداء.

و قد أشارت إلی ذلك سيّدة النساء عليها السلام في خطبتها الثانية في نساء المهاجرين و الأنصار، فقالت: و ما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا واللّه منه نكير سيفه، و قلّة مبالاته بحتفه، و شدّة و طأته، و نكال وقعته، و تنمّره في ذات اللّه(2).

ص:17


1- مع النبي صلی اللّه عليه و آله وآله عليهم السلام، ديوان آية اللّه السيّد محمّد جمال الهاشمي ص 49.
2- فاطمة صوت الحقّ الألهي ص 253.

و ذكر شرّاح الخطبة الشقشقية عند قوله عليه السلام «فصغی رجل لضغنه» أنّ المراد به سعد بن أبي وقّاص، و كان في نفسه شيء من علي عليه السلام من قبل أخواله؛ لأنّ اُمّه حمقة بنت سفيان بن امية بن عبد شمس، و لعلي عليه السلام في قتل صناديدهم ما هو معروف مشهور(1).

الرابع: الطمع في الحطام.

و من الناس فئة لا يعنيها إلاّ الكسب المادّي، و إن جرّهم إلی ارتكاب أكبر الجرائم و أبشعها، فكم من عرض هتك و دم حرام سفك، و کم من حقيقة شوّهت، و فكرة صحيحة دلست، من أجل حفنة من دراهم، و تلك جناية كبری علی الانسانية ذهب ضحيتها كثير من الحقائق و الكرامات، و حلّت محلّها الأباطيل و الخرافات، و كان ذلك أحد الأسباب التي جعلت للنصب طريقاً إلی بعض النفوس.

يروي ابن أبي الحديد عن شيخه أبي جعفر، أنّه قال: وقد روي أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتّی يروي أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلی ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ * وَ إِذا تَوَلّی سَعی فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ» (2) و انّ الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، و هي قوله تعالی «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ» (3) فلم يقبل، فبذل له

ص:18


1- كتاب النصب والنواصب ص 328.
2- سورة البقرة: 204-205.
3- سورة البقرة: 207.

مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل وروي ذلك(1).

الخامس: الجهل.

يری المؤلّف أنّ الحقائق الدينيّة قد تعرّضت للتشويه و التغيير و التبديل بعد وفاة الرسول صلی اللّه عليه و آله من قبل القائمين علی الحكم، و هذه النظرة حقيقة تؤكّدها الشواهد التارخية التي تناولت الحديث عن الأحكام و ملابساتها، و أصبح الاجتهاد في مقابل النصّ سمة من سمات الخلفاء، حيث كانوا يخالفون النصّ القرآني و ما جاء به النبي صلی اللّه عليه و آله بشكل صريح، و جاء من بعدهم من حاول التبرير و التوجيه، فإذا أعياهم ذلك تمسّكوا بمقولة «اجتهد فأخطأ».

و قد استمرّ العمل علی هذا المنهج إلاّ في الفترة الوجيزة التي تولّي فيها أميرالمؤمنين الامام عليه السلام زمام الاُمور، فإنّه حاول جاهداً أن يعيد الاُمّة إلی رشدها، فكان يستند في حكمه و قضائه إلی كتاب اللّه و سنّة رسوله صلی اللّه عليه و آله.

و ينبّه علی خطأ الاُسلوب المتّبع لدي السابقين بما يحمل في طيّاته من مسخ و تشويه لحقائق الدين و أحكامه.

و قد ترتّب علی ذلك - كما يری المؤلّف - أنّ ما وصل إلی الناس من الدين و تعاليمه لم يكن هو المطلوب، فتربّت الاُمّة علي الجهالات و الحقائق المقلوبة، و توارثت ذلك الأجيال، و لا سيّما في الأطراف النائية عن مركز الحكم و الادارة، فكان ذلك أحد الأسباب الداعية للنصب دون معرفة بحقيقة الاُمور.

و قد اشتهر عن بعض بقاع الأرض في تلك الأزمنة النصب و العداء

ص:19


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 73:4.

لأميرالمؤمنين عليه السلام و بنيه و شيعته، كالأندلس و البصرة و حمص و غيرها(1).

السادس: الإعلام المضادّ.

و ثمّة سبب آخر لا يقلّ أهمّية عن الأسباب المتقدّمة، و هو سبب مستقلّ بالنسبة إلی فئة من الناس، و هو متمّم للسبب السابق بالسنبة إلی فئة اخري، و هو التضليل و التجهيل عن طريق نشر الأكاذيب مدحاً و قدحاً، و قد كان للحملات المسعورة التي رأسها معاوية بن أبي سفيان أثر كبير في تشويه صورة التاريخ الاسلامي، و مسخ حقائقه، كما أنّ للمتزلّفين و ذوي المطامع و الوضّاعين أثراً في إفساد العقول و النفوس علی مختلف الأصعدة و المستويات، و تربّت أجيال و أجيال علی ذلك.

و قد ساعد عليه ما فرضته سياسة الشيخين من منع تدوين الحديث، و التشدّد في المنع حتّی بلغ الأمر إلی فرض الحصار علی الصحابة، و عدم السماح لهم بمغادرة المدينة، الأمر الذي أدّی إلی خنق الحقائق و إماتتها شيئاً فشيئاً، و توجيه أفكار الناس نحو مسار واحد محدّد أرادته سياسة القائمين علی الأمر، و ذلك أمر مثير و خطير، و يحمل أكثر من تساؤل.

و نشأ الناس يعتقدون بالأكاذيب علی أنّها حقائق، و اكتسبوا العداء و النصب من خلال ما تلقّوه، و تربّوا عليه من ضلالات(2).

يقول سليم بن قيس في كتابه: و كتب معاوية إلی قضاته و ولاته في جميع الأرضين و الأمصار: أن لا تجيزوا لأحد من شيعة علي و لا من أهل بيته الذين يرون فضله، و يتحدّثون بمناقبه شهادة.

ص:20


1- راجع: كتاب النصب و النواصب ص 229-244.
2- راجع: كتاب الغدير للشيخ الأميني 208:5-378.

و كتب إلی عمّاله: انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبّيه و أهل بيته و أهل ولايته الذين يرون فضله، و يتحدّثون بمناقبه، فادنوا مجالسهم و أكرموهم و قرّبوهم، و اكتبوا إليّ بما يروي كلّ واحد منهم باسمه و اسم أبيه و ممّن هو، ففعلوا ذلك حتّی أكثروا في عثمان الحديث.

ثمّ كتب إلی عمّاله: أنّ الحديث قد كثر في عثمان، و فشا في كلّ مصر و من كلّ ناحية، فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوهم إلی الرواية في أبي بكر و عمر، فانّ فضلهما و سوابقهما أحبّ إليّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أهل هذا البيت.

ثمّ كتب نسخة جمع فيها ما روي فيهم من المناقب و الفضائل، و أنفذها إلی عمّاله و أمرهم بقراءتها علی المنابر، و في كلّ كورة و في كلّ مسجد، و أمرهم أن ينفذوا إلی معلّمي الكتاتيب أن يعلّموها صبيانهم حتّي يرووها و يتعلّموها كما يتعلّموا القرآن، حتّی علّموها بناتهم و نسائهم و خدمهم و حشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه(1).

هذه هي مجموعة الأسباب والدوافع، و لعلّ هناك أسباباً اخری يقف عليها الباحث، و ينبغي أن نشير إلی أنّ هذه الأسباب قد تتداخل فيجتمع في شخص واحد أكثر من دافع لبغض علي عليه السلام.

و من الغريب أن يجعل عمر بن الخطّاب ذلك أحد المبرّرات لتنحية علي عليه السلام عن الخلافة، مع اعترافه بأهليّته لها و جدارته بها، و قد جاء ذلك في حواره مع ابن عبّاس، و قد واجهه ابن عبّاس بالحقيقة المرّة.

روي الجويني في فرائد السمطين بسنده عن نبيط بن شريط،، قال: خرجت مع

ص:21


1- سليم بن قيس الهلالي ص 204-205.

علي بن أبي طالب عليه السلام و معنا عبداللّه بن عبّاس، فلمّا صرنا إلی بعض حيطان الأنصار وجدنا عمر جالساً ينكت في الأرض، فقال له علي بن أبي طالب: يا أميرالمؤمنين! ما الذي أجلسك وحدك هاهنا؟ قال: لأمر همّني، قال علي: أفتريد أحدنا؟ قال عمر: إن كان عبداللّه.

قال: فتخلّف معه عبداللّه بن عبّاس، و مضيت مع علي، و أبطأ علينا ابن عبّاس ثمّ لحق بنا، فقال له علي عليه السلام: ما و راؤك؟ قال: يا أباالحسن اعجوبة من عجائب أميرالمؤمنين، أخبرك بها واكتم عليّ!!! قال: فهلمّ.

قال: لمّا أن ولّيت قال عمر و هو ينظر إلی أثرك: آه آه آه، فقلت: ممّ تأوّه أميرالمؤمنين؟ قال: من أجل صاحبك يابن عبّاس، و قد اعطی ما لم يعطه أحد من آل النبي صلی اللّه عليه و آله!!! ولولا ثلاث هنّ فيه ما كان لهذا الأمر من أحد سواه!!! قلت: و ما هنّ يا أميرالمؤمنين؟ قال: كثرة دعابته، و بغض قريش له، و صغر سنّه!!! قال: فما رددت عليه؟

قال: داخلني ما يدخل ابن العمّ لابن عمّه!!! فقلت: يا أميرالمؤمنين أمّا كثرة دعابته فقد كان النبي صلی اللّه عليه و آله يداعب فلا يقول إلاّ حقّاً، و أين أنت حيث كان رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله يقول و نحن حوله صبيان و كهول و شيوخ و شبّان، و يقول للصبي: سناقاً سناقاً، ولكلّ ما يعلمه اللّه يشتمل علي قلبه.

و أمّا بغض قريش له، فواللّه ما يبالي ببغضهم له بعد أن جاهدهم في اللّه حين أظهر اللّه دينه، فقصم أقرآنها و كسر آلهتها، و أثكل نساءها، لامه من لامه.

و أمّا صغر سنّه، فقد علمت أنّ اللّه حيث أنزل عليه «بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ» (1)

ص:22


1- سورة التوبة: 1.

فوجّه النبي صلی اللّه عليه و آله صاحبه ليبلّغ عنه، فأمره اللّه أن لا يبلّغ عنه إلاّ رجل من أهله، فوجّهه به، فهل استصغر اللّه سنّه؟!! فقال عمر لابن عبّاس رضي اللّه عنه: أمسك علي و أكتم، فان سمعتها من غيرك لم أنم بين لابتيها(1).

و جاء في هامش هذه الحكاية: و روي الزبير بن بكّار في الموفقيات، عن عبداللّه بن عبّاس، قال: إنّي لاُماشي عمر بن الخطّاب في سكّة من سكك المدينة، إذ قال لي: يابن عبّاس ما أري صاحبك إلاّ مظلوماً!!! فقلت في نفسي: واللّه لا يسبقني بها، فقلت: يا أميرالمؤمنين فاردد إليه ظلامته، فانتزع يده من يدي و مضی يهمهم ساعة، ثمّ وقف فلحقته، فقال: يابن عبّاس ما أظنّهم منعهم عنه إلاّ أنّه استصغره قومه!!! فقلت في نفسي: هذه شرّ من الاُولی، فقلت: واللّه ما استصغره اللّه و رسوله حين أمره أن يأخذ براءة من صاحبك، قال: فأعرض عنّي وأسرع، فرجعت عنه(2).

و إذا أضفنا إلی هذا أنّ القائمين علي الأمر قد دعموا هذا الجانب العدائي لأهل البيت عليهم السلام و لا سيّما لعلي عليه السلام، فكان سبّ علي عليه السلام يعلن علی المنابر طيلة الحكم الأموي، و الترصّد لشيعته بالقتل أو التشديد، و لم يكن الحكم العبّاسي بأحسن حالاً إلي الشيعة و أئمّتهم من بني امية.

و هكذا كان حال الشيعة ابان سلاطين بني عثمان، يتبيّن مدی الفظاعة والمعاناة التي نالها الشيعة عبر تاريخهم المظلوم، و لا ذنب لهم إلاّ أنّهم والوا علياً عليه السلام و أخلصوا في الولاء.

ص:23


1- فرائد السمطين 334:1-336 ح 258.
2- نفس المصدر ص 336.

مظلومية الشيعة

و أصبح التشيّع نبزاً لمن ينتمي إلی أهل البيت عليهم السلام في معتقده و مسلكه، و كانت الفتن تحاك و تلحم ضدّ الشيعة و التشيّع عبر التاريخ، و اشتدّت المحنة علی الشيعة في زمان معاوية بن أبي سفيان و ما تلاه من العصور، فكانت تشنّ الغارات علی بلاد الشيعة، فتقتل رجالها، و تسبي نساؤها، كما فعل بسر بن أرطاة في اليمن، و غيره في غيرها(1).

و توالت الأحداث المؤلمة علی الشيعة و أئمّتهم، و كان الظالمون يوغلون في سفك دمائهم، و كانت سلسلة المؤامرات والابادة تشتدّ و تضعف بين حين و آخر، حتّی استولي علی الأمر سلاطين بني عثمان، فاستصدروا الفتاوی من قضاة الجور في ابادة الشيعة، و أوعزوا إلی ولاتهم علی الأطراف بسحقهم، وراح عشرات الآلاف من الشيعة ضحايا النصب والعدوان(2).

ولا نريد الافاضة في الحديث عن مظلومية الشيعة، فانّه حديث ذو شؤون وشجون يخرجنا عمّا نحن بصدده، وللحديث عنها مجال آخر.

علماء الشيعة

و لكن هذه الحملات المسعورة الغاشمة لم تكن توهن الشيعة في عقيدتها، أو تفتّ في عضدها، بل أثبتوا للتاريخ أنّهم فوق الأحقاد والضغائن، و لم يكن رائدهم إلاّ الحقّ، و كان من ورائهم علماؤهم الذين حملوا الأمانة بيقين لا يعرف الشكّ،

ص:24


1- لاحظ: الغدير في الكتاب والسنّة 17:11-20، والنصب والنواصب ص 287-289.
2- النصب والنواصب ص 571-574.

و بصلابة لا تعرف الخنوع، بعيدين عن الدنيا و زخارفها، تاركين أبناء الدنيا، يتصارعون علی حطامها، و كانوا علي منهاج أئمّتهم علي و أبنائه عليهم السلام.

و من الشواهد علی ما ندّعيه ما ذكره الرجاليون في أحوال محمّد بن أبي عمير - الراوي المشهور - أنّه حبس في أيّام الرشيد، فقيل: ليلي القضاء، و قيل: إنّه ولي بعد ذلك، و قيل: بل ليدلّ علی مواضع الشيعة وأصحاب موسی بن جعفر عليهما السلام، و روي أنّه ضرب أسواطاً بلغت منه، فكاد أن يقرّ لعظيم الألم، فسمع محمّد بن يونس بن عبدالرحمن و هو يقول: اتّق اللّه يا محمّد بن أبي عمير، فصبر ففرّج اللّه. و روي أنّه حبسه المأمون حتّي ولاّه قضاء بعض البلاد(1).

و في رواية الفضل بن شاذان: سعي بمحمّد بن أبي عمير - و اسم أبي عمير زياد - إلی السلطان أنّه يعرف أسامي عامّة الشيعة بالعراق، فأمر السلطان أن يسمّيهم، فامتنع و علّق بين القفازين - العقارين - و ضرب مائة سوط، قال الفضل:

فسمعت ابن أبي عمير يقول: لمّا ضربت فبلغ الضرب مائة سوط أبلغ الضرب الألم إليّ، فكدت أن اسمّي، فسمعت نداء محمّد بن يونس بن عبدالرحمن يقول: يا محمّد بن أبي عمير اذكر موقفك بين يدي اللّه، فتقوّيت بقوله، فصبرت و لم أخبر و الحمد للّه، قال الفضل: فاُضرّ به في هذا الشأن أكثر من مائة ألف درهم(2).

و هكذا كانوا يتوارثون العزّة و الكرامة و الاباء حتّی حفظوا تعاليم أهل البيت عليهم السلام و صانوها، و قد جعلوا من أنفسهم درعاً حصينة لحمايتها، الأمر الذي جعل للشيعة خطّاً فكرياً مميّزاً في شتّی المعارف الدينية، و منهلها في ذلك الثقلان

ص:25


1- معجم رجال الحديث 291:15 الطبعة الخامسة.
2- نفس المصدر ص 294.

كتاب اللّه و عترة رسوله صلی اللّه عليه و آله.

و في طليعة علماء الشيعة و محقّقيها، و ممّن حملوا الأمانة بإخلاص، مؤلّف هذا الكتاب القيّم، الشيخ الفاضل المحقّق الحسن ابن العالم المحقّق الشهير علي بن عبدالعال الكركي العاملي، و يكفي في التعريف بمقامه و مقام والده، أنّهما خدما الشيعة و أهلها بأعمالهما و آثارهما الباقية، و لوالده المحقّق الكركي قدّس اللّه أسراره دور واسع في نشر معارف الشيعة و حقائقها، فجزاهما اللّه عن الاسلام و أهله خير جزاء المحسنين.

حياة المؤلّف

علی الرغم من تتبّع التراجم والمعاجم الرجالية، لم أعثر علی ترجمة مبسوطة لمؤلّف الكتاب الشيخ حسن الكركي العاملي، وأمّا ترجمته المختصرة، فهي:

اسمه ونسبه

هو العلاّمة المحقّق الشيخ حسن ابن المحقّق الشهير الشيخ علي بن الشيخ حسين بن عبدالعال الكركي العاملي.

قال السيد الأميني في الأعيان: والمترجم هو ولد المحقّق الكركي الشهير، و أبوه وإن اشتهر بالشيخ علي بن عبدالعالي إلاّ أنّ ذلك من باب النسبة إلی الجدّ، و إلاّ فهو علي بن حسين بن عبدالعالي.

قال الفاضل الأفندي: والكركي - بفتح الكاف والراء المهملة المفتوحة والكاف أخيراً - نسبة إلی كرك من بلاد البلقا في ديار الشام من الاقليم الثالث الحقيقي، و الا قليم السادس العرفي.

قال في تقويم البلدان: هو بلد مسوّر بالشام، و له حصن عالي المكان، و هو أحد المعاقل بالشام التي ترام، و علی بعض مرحلة منه مؤتة و بها قبر جعفر الطيّار

ص:26

و أصحابه، و تحت الكرك وادٍ فيه حمام و بساتين كثيرة و فواكهها مفضّلة من المشمش و الرمان و الكمثری و غير ذلك، و هو علي أطراف الشام من جهة الحجاز، و بين الكرك والشوبك نحو ثلاث مراحل، و يعرف الكرك بكرك نوح، و لعلّه ممّا بناه نوح عليه السلام. و الشوبك - بفتح الشين المعجمة و سكون الواو وباء موحّدة مفتوحة و في آخره كاف - بلدة صغيرة بالشام كثير البساتين، و غالب أهلها نصاری(1).

و قال السيد الأميني: الكركي نسيبة إلی كرك نوح، و صاحب الرياض لبعده عن هذه البلاد ظنّ أنّه نسبة إلی كرك الشوبك(2).

الاطراء عليه

قال الفاضل الافندي: فاضل، عالم، فقيه، متكلّم، عظيم الشأن، و هو ابن الشيخ علي الكركي المشهور و خال السيّد الداماد، و كان من علماء دولة السلطان شاه طهماسب الصفوي.

ثمّ قال: و لم أجده في أمل الآمل، و هو غريب؛ لأنّه مع شهرة اسمه قد أورده نفسه في رسالة الاثنی عشرية في الردّ علی الصوفية، و نسب إليه كتاب عمدة المقال في كفر أهل الضلال، و ينقل عنه. و توهّم كونه قدس سره سبط الشيخ علی المذكور، فيكون بعينه صاحب رسالة اللمعة في الجمعة و غيرها من الرسائل الذي عندنا بعض مؤلّفاته، باطل كما سيظهر(3).

و ذكره السيّد حسن الصدر في تكملته بنحو ما ذكره صاحب الرياض مع

ص:27


1- رياض العلماء 261:1.
2- أعيان الشيعة 186:5.
3- رياض العلماء 260:1.

اختصار كلامه(1).

آثاره القيّمة

1 - البلغة في وجوب صلاة الجمعة مع إذن الامام عليه السلام. قال السيّد حسن الصدر:

رتّبها علی مقدّمة و مقالة و خاتمة، فرغ منها سنة ستّ و سبعين و تسعمائة(2).

و قال المحقّق الطهراني: أوّله الحمد للّه الذي أحقّ الحقّ بفضله العميم، و أبطل الباطل بلطفه الجسيم. مشتمل علی مقدّمة و مقالة وخاتمة، فرغ منه في أوّل شعبان سنة (966) رأيته ضمن مجموعة من رسائل الجمعة كلّها بخطّ واحد، دوّنها كاتبها الشيخ محمّد بن الحسن بن محمّد الأصفهاني، و فرغ من بعضها سنة (1009) و من بعضها سنة (1010) و هي عند المحدّث المعاصر الشيخ عبّاس القمّي(3).

أقول: و في التكملة: فرغ من كتابتها سنة (976)، و لعلّ ما في الذريعة صحيح، واللّه العالم.

2 - شرح الارشاد. قال الفاضل الأفندي: و قد نسب السيّد الداماد في حواشي شارع النجاة إلی خاله كتاب شرح الارشاد و ينقل عنه بعض الفتاوي، و لعلّ مراده به هو هذا الشيخ أو أخوه الشيخ عبدالعالي بن الشيخ علي، فلاحظ .

3 - عمدة المقال في كفر أهل الضلال، سيأتي البحث عنه.

4 - مناقب أهل البيت و مثالب أعدائهم و كفرهم، نسبه إلی نفسه في مقدّمة كتابه عمدة المقال.

ص:28


1- تكملة أمل الآمل ص 154.
2- تكملة أمل الآمل ص 155.
3- الذريعة 146:3.

5 - المنهاج القويم في التسليم، قال الفاضل الأفندي: عندنا منه نسخة، و هي مختصرة في تحقيق مسألة التسليم في الصلاة، قد ألّفها في مشهد الرضا عليه السلام سنة أربع و ستّين و تسعمائة.

حول الكتاب

هو كتاب عمدة المقال في كفر أهل الضلال، قال الفاضل الأفندي: تعرّض فيه لتكفير أهل الضلال و تنجيسهم، و لقدح الصوفية، و عندنا منه نسخة، و قد ألّفه باسم السلطان شاه طهماسب الصفوي، و فرغ من تأليفه في مشهد الرضا عليه السلام سنة اثنين و سبعين و تسعمائة.

و نقل عن هذا الكتاب العلاّمة مطهّر بن محمّد المقدادي في كتابه سلوة الشيعة في الردّ علی الصوفية، ألّفها سنة (1060) ه(1).

و نقل عنه أيضاً العلاّمة عبدالمطّلب بن يحيی الطالقاني في رسالته خلاصة الفوائد(2).

و نقل عنه أيضاً العلاّمة الشيخ حرّ العاملي في كتابه الاثنا عشرية في الردّ علی الصوفية(3).

و قال المحقّق الطهراني: عمدة المقال في كفر أهل الضلال، يعني المتصوّفة من العامّة، للشيخ حسن ابن الشيخ علي المحقّق الكركي، حكي فيه عن كتاب والده

ص:29


1- راجع: الروضة النضرة، طبقات أعلام الشيعة في القرن الحادي عشر ص 568.
2- رسالة خلاصة الفوائد ص 317 المطبوعة في مقدّمة كتاب كفاية المهتدي للعلاّمة الأمير لوحي الموسوي السبزواري.
3- الاثنا عشرية في الردّ علی الصوفية ص 50-51.

الموسوم المطاعن المجرمية، و تعرّض فيه لتكفير أهل الخلاف والبدع المتصوّفة وتنجيسهم الخ(1).

أقول: صاحب الذريعة لم ير الكتاب، و زعم أنّ الكتاب في الردّ علی الصوفية، بل هو في إثبات كفر المخالفين و المعاندين لأهل البيت عليهم السلام، و استطرف في بعض أبحاثه لكفر الصوفية، كما لا يخفي علی المراجع.

و قابلت الكتاب علي نسختين نفيستين:

إحداهما: نسخة العلاّمة الفاضل الأفندي، وهي النسخة المشار إليها في الرياض في ترجمته.

و الاُخري: نسخة الفاضل أبي الصمصام حسام الدين ذوالفقار بن الحاج علي سلطان القهپائي، وهو المعروف بصاحب المكتبة الثمينة النفيسة، ويذكر صاحب الرياض في رياضه وفوائده عن بعض الكتب الموجودة في مكتبته.

والنسختان محفوظتان في مكتبة آية اللّه العظمی المرعشي النجفي قدّس سرّه برقم: 13007 و 13037.

و آليت جهدي في تحقيق الكتاب و مقابلته مع النسختين النفيستين، و استخراج المصادر من الآيات و الروايات و الأقوال، و أسأل اللّه تبارك و تعالی أن يتقبّل منّا بلطفه الكريم، و يجعله ذخراً ليوم لا ينفع مال و لا بنون، والحمد للّه ربّ العالمين.

15 - ذي الحجّة الحرام - 1427 ه ق السيّد مهدي الرجائي

ص:30


1- الذريعة 341:15.

الصفحه الاولي من النسختين المخطوطتين

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي نهج لعباده سبيل الرشاد، ففرض عليهم موالاة أوليائه، والبراءة من أعدائه، وسيلة إلی الفوز بالنعيم المقيم في المعاد، والصلاة والسلام علی سيّد الأنام وآله المنزّهين عن الآثام، صلاة تترادف عليهم ترادف الليالي والأيّام.

أمّا بعد فيقول العبد الضعيف المحتاج إلی رحمة اللّه الملك المتعال الحسن بن علي بن عبدالعال: إنّي كنت قد ألّفت في سالف الزمان كتاباً ضمّنته شيئاً من مناقب أهل بيت النبوّة الأتقياء البررة الذين أوجب اللّه مودّتهم، و مثالب أعدائهم الكفرة الفجرة الذين ألزم محادّتهم، و البراءة منهم، و من المنتمين إليهم، و المعتقدين إمامتهم؛ لدخولهم في زمرة الكافرين بإنكارهم كثيراً من ضروريات الدين، كما شهدت به الآيات القرآنية و الأخبار المتواترة النبوية، و قد أوردت جملة منها في ذلك الكتاب. ثمّ إنّه قد سألني بعض ذوي الألباب أفردها في رسالة علي وجه الإلزام لهم، فامتثلت مسؤوله المهمّ، والتزمت في كلّ دليل بإيراد ما يقضی.

الصفحة الاُولی من نسخة العلاّمة الأفندي صاحب الرياض

ص:31

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي نهج لعباده سبيل الرشاد، ففرض عليهم موالاة أوليائه، والبراءة من أعدائه، وسيلة إلی الفوز بالنعيم المقيم في المعاد، والصلاة والسلام علی سيّد الأنام وآله المنزّهين عن الآثام، صلاة تترادف عليهم ترادف الليالي والأيّام.

أمّا بعد فيقول العبد الضعيف المحتاج إلی رحمة اللّه الملك المتعال الحسن بن علي بن عبدالعال: إنّي كنت قد ألّفت في سالف الزمان كتاباً ضمّنته شيئاً من مناقب أهل بيت النبوّة الأتقياء البررة الذين أوجب اللّه مودّتهم، ومثالب أعدائهم الكفرة الفجرة الذين ألزم محادّتهم، والبراءة منهم، ومن المنتمين إليهم، والمعتقدين إمامتهم؛ لدخولهم في زمرة الكافرين بإنكارهم كثيراً من ضروريات الدين، كما شهدت به الآيات القرآنية والأخبار المتواترة النبوية، وقد أوردت جملة منها في ذلك الكتاب. ثمّ إنّه قد سألني بعض ذوي الألباب أفردها في رسالة علی وجه الإلزام لهم، فامتثلت مسؤوله المهمّ، والتزمت في كلّ دليل بإيراد ما يقضی.

الصفحة الاُولی من نسخة العلاّمة ذيالفقار القهپائي

ص:32

عمدة المقال: في كفر أهل الضلال

اشارة

للعلامه المحقق

الشيخ حسن بن علي الكركي العاملي

من اعلام الرن العاشر

تحقيق: السيد مهدي الرجائي

ص: 33

ص: 34

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي نهج لعباده سبيل الرشاد، ففرض عليهم موالاة أوليائه، والبراءة من أعدائه، وسيلة إلی الفوز بالنعيم المقيم في المعاد، والصلاة والسلام علی سيّد الأنام وآله المنزّهين عن الآثام، صلاة تترادف عليهم ترادف الليالي والأيّام.

أمّا بعد فيقول العبد الضعيف المحتاج إلی رحمة اللّه الملك المتعال الحسن بن علي بن عبدالعال: إنّي كنت قد ألّفت في سالف الزمان كتاباً ضمّنته شيئاً من مناقب أهل بيت النبوّة الأتقياء البررة الذين أوجب اللّه مودّتهم، و مثالب أعدائهم الكفرة الفجرة الذين ألزم محادّتهم، والبراءة منهم، و من المنتمين إليهم، والمعتقدين إمامتهم؛ لدخولهم في زمرة الكافرين بإنكارهم كثيراً من ضروريات الدين، كما شهدت به الآيات القرآنية والأخبار المتواترة النبوية، و قد أوردت جملة منها في ذلك الكتاب.

ثمّ إنّه قد سألني بعض ذوي الألباب أفردها في رسالة علي وجه الإلزام لهم، فامتثلت مسؤوله المهمّ، والتزمت في كلّ دليل بإيراد ما يقضي بكفرهم، ممّا نقلوه في كتبهم، و أثبتوه في مصنّفاتهم، إقامة لكمال الحجّة عليهم.

و لمّا كان التوفيق بإنشائها ببركات السلطان الأعظم، مالك ملوك العرب والعجم، خليفة اللّه في العالم، أعني: المؤيّد من عند اللّه بالدولة القاهرة العادلة

ص:35

الباهرة العالية العلية العلوية الشاهية الصفوية الموسوية، أمدّها اللّه تعالی بألطافه الربّانية، وأيّدها بتأييداته الغيبية، و ذلّل لها رقاب الملوك والحكّام، و قرن أيّامها بالخلود و الدوام، بالنبي و عترته الرضية المرضية، أحببت أن أجعلها تحفة لحضرته الزكية، و قصدت بها مع ذلك التقرّب إلی اللّه تعالی وإلی نبيه المصطفی وأهل بيته أئمّة الهدیي والعروة الوثقی، عليه و علیهم أفضل الصلاة وأكمل الثناء، و امتثال مسؤول من ذكرت من الأولياء، و سمّيتها ب «عمدة المقال في كفر أهل الضلال».

أقول و باللّه التوفيق والعصمة من الزيغ في المقال: لا ريب في كفرهم لوجوه كثيرة:

ذكر وجوه كفر اهل الضلال

أحدها: تكذيبهم ما شهد به العقل والنقل من عصمة الأنبياء عليهم السلام

الذين هم معادن وحي اللّه و حفظة شرعه، من كبائر الذنوب و صغايرها، عمداً و سهواً، قبل النبوّة و بعدها، وكذا أئمّة الهدی عليهم جميعاً السلام، بل تقبيح ذكرهم و إساءة سمعتهم بأُمور لو عرضت علی أعداء الإسلام من أهل الملل المنسوخة لشهدوا بتنزّههم عنها، و سأُشير إلی بعضها روايةً عن الحميدي و غيره مع الكلام عليه إن شاء اللّه تعالی.

و لهذا أجمعت الإمامية علی القول بعدم تجويز وقوع شيء من الذنوب منهم في حال من الأحوال لعصمتهم، فضلاً عن القول بعدم و قوعها منهم لعدالتهم، وإلّا لزم إخلال اللّه سبحانه بلطف الطمأنينة والوثوق بأقوالهم، فتنتفي فائدة بعثتهم؛ للعلم الضروري بأنّ تجويز و قوعها عليهم يقتضي عدم الأمن منهم علی الإقدام علی الذنوب، فلا تسكن النفوس إلی قبول أقوالهم، سكونها إلی من لا تجوز و قوعها عليه، بل تنفر بحكم العادة عن قبولها، و إن وقع منهم قبل النبوّة؛ لقضاء الضرورة

ص:36

بأنّ من عهد منه كبيرة و إن تاب و خرج عن استحقاق الذمّ و العقاب، أو صغيرة و إن وقعت مكفّرة، لا طمأنينة إلی قوله، كما أشرنا إليه، و إن تفاوت ارتفاعها بتفاوت الذنوب.

و بما قرّرناه اتّضح أنّ التنفير لا يتوقّف علی لحوق الذمّ والعقاب، كما زعمه أهل البدعة، و إلّا لما وجد التنفير في بعض المباحات الخسيسة والخُلق والهيئات البشعة المنظر، والكبائر الواقعة منهم عمداً قبل البعثة، لزوال الأمرين بالتوبة، و اللازم باطل قطعاً.

علی أنّ المذنب ظالم، فلا ينال عهد النبوّة، و إن وقع منه الذنب قبلها، كما لا ينال عهد الإمامة و إن وقع منه متقدّماً علی إمامته؛ لقوله تعالی: «لا يَنالُ عَهْدِی الظّالِمِينَ» (1).

و قد اتّفق محقّقوا الاُصوليين علی أنّه لا يشترط في المشتقّ بقاء أصله، و أيضاً بطلان القول بالإحباط يقتضی أن لا تؤثّر التوبة في سقوط العقاب، بل يسقطه اللّه تعالی عندها تفضّلاً، و ذلك يستلزم وجود التنفير ولو علی القول بتوقّفه علی لحوقه، كما زعمه الخصم، و ليس فعل الصغيرة كترك النافلة؛ لأنّها ليست منفرة من حيث قلّ الثواب معها، بل من حيث إنّها معصية، ولأنّها تنقص ثواباً مستحقّاً، بخلاف ترك النافلة.

و من ذلك تبيّن بطلان ما ذهب إليه أهل الضلالة من تجويز الصغائر عليهم

ص:37


1- سورة البقرة: 124، وقد تعرّض الأصحاب في كتبهم الكلامية و تفاسيرهم لهذه الآية الشريفة، فراجع كتب الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والسيّد المرتض قدّس اللّه أسرارهم.

عمداً، كإمام الحرمين من الأشاعرة(1)، وأبي هاشم(2) من المعتزلة، و منهم من قيّدها بغير المنفرة، و أبوعلي(3) و أتباعه قالوا: الذنوب إنّما يقدمون عليها تأويلاً، كما في آدم عليه السلام، فإنّه نهي عن جنس الشجرة، فتناول لظنّه أنّ النهي عن العين، فلم يقدم علی المعصية مع العلم بأنّها معصية، أو لصرفه النهي عن ظاهره لدليل عنده.

و فيه تنزيه له عن معصية، و إضافة معصيتين إليه؛ لأنّه بزعمهم مخطی في التناول من الشجرة، و في عدم التأمّل لمقتضي النهي.

و أصحاب الحديث و الحشوية جوّزوا عليهم الكبائر قبل البعثة، و جوّزها بعضهم بعدها سوی الكذب فيما يتعلّق بأداء الشريعة، و بعضهم جوّزه أيضاً بعدها بشرط الاستسرار، و بعضهم مطلقاً.

و آخرون جوّزوا عليهم الكفر لاعتقادهم وقوع المعصية منهم، وكلّ معصية عندهم كفر. و آخرون مع منعهم هذا الاعتقاد جوّزوا عليهم إظهار الكفر تقية خوفاً من الهلاك، و هو يقتضي تركهم إظهار الدعوة؛ لأنّ الضعف في وقتها أتمّ، فيكون

ص:38


1- هو أبوالحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبداللّه بن موسی بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسی الأشعري، و يعرف بأبي الحسن الأشعري إمام الأشاعرة، كان مولده بالبصرة، و نشؤوه ببغداد، وإليه تنسب الطائفة الأشعرية، توفّي سنة (334) و دفن بين الكرخ و باب البصرة، و له مقالات كثيرة في الكلام، تعرّض لها أرباب الكلام في كتبهم.
2- هو أبوهاشم عبدالسلام بن محمّد الجبائي، و له مقالات علی مذهب الاعتزال، والكتب الكلامية مشحونة بذكر مقالاته و مذهبه واعتقاده.
3- هو أبوعلي محمّد بن عبدالوهّاب بن سلاّم بن خالد بن حمران بن أبان الجبّائي، كان من رؤساء المعتزلة، و ممّن يذكر مقالاته في كتب الكلام، توفّي سنة (303).

أولي بالتقية، و ذلك يؤدّي إلي إخفاء الدين بالكلّية.

أمّا الأئمّة، فنقل السيّد المرتضي في تنزيه الأنبياء إتّفاقهم علی جواز تعمّدهم الكبيرة، و قولهم بأنّ وقوعها من الإمام يفسد إمامته و يوجب عزله والاستبدال به(1).

و قال العلّامة في التذكرة: الأظهر عند الشافعية عدم انعزاله بالفسق لتجويزهم إمامة الفاسق(2).

فإذا كان الفسق لا يمنع من الابتداء، فأولی أن لا يمنع من الاستدامة، و لهم الويل ممّا يصفون.

فإن قالوا: إذا كانوا منزّهين عن الخطأ والعصيان، فما تأويل قوله تعالی: «حَتّي إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا» (3) وكذا الآيات الواردة في خصوص(4) كلّ نبي المقتضية بظاهرها وقوع المعاصي منهم.

قلنا: أمّا الآية المذكورة، فروي الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام، أنّه قال في تفسيرها «حَتّی إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» من قومهم، فظنّوا أنَّ الرسل قد كذبوا جاءهم نصرنا(5).

و أمّا الآيات التي ظاهرها وقوع المعاصي منهم، فيجب تأويلها بما لا يخالف ما

ص:39


1- تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضی ص 3.
2- تذكرة الفقهاء 279:4.
3- سورة يوسف: 110.
4- في «ف»: حضور.
5- عيون أخبار الرضا عليه السلام 202:1.

نطقت به الأدلّة القاطعة و البراهين الساطعة من عصمتهم، و إن أصرّوا علي العدم.

و قد رووا أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله نسب آدم و موسی عليهما السلام إلی ما يقوله المجبّرة من أنّه لا فعل إلّا اللّه، حيث روي منهم الحميدي في الجمع بين الصحيحين أنّه عليه السلام قال: إنّ موسی قال له: أنت الذي أشقيت الناس و أخرجتهم من الجنّة: قال: فوجدته قدّره لي قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، فألزمه الحجّة(1).

ص:40


1- رواه مسلم في صحيحه باسناده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: احتجّ آدم وموسی، فقال: يا آدم أنت أبونا خيّبتنا و أخرجتنا من الجنّة، فقال له آدم: أنت موسی اصطفاك اللّه بكلامه و خطّ لك بيده، أتلومني علی أمر قدّره اللّه علی قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فقال النبي صلی اللّه عليه و آله: فحجّ آدم موسی، فحجّ آدم موسی وروي أيضاً باسناده عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، قال: تحاجّ آدم و موسی، فحجّ آدم موسی، فقال له موسی: أنت آدم الذي أغويت الناس و أخرجتهم من الجنّة، فقال آدم: أنت الذي أعطاه اللّه علم كلّ شيء، واصطفاه علی الناس برسالته؟ قال: نعم، قال: فتلومني علی أمر قدّر علی قبل أن اخلق.وروي أيضاً باسناده، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، قال: احتجّ آدم وموسی عليهما السلام عند ربّهما، فحجّ آدم موسی، قال موسی: أنت آدم الذي خلقك اللّه بيده، و نفخ فيك من روحه، و أسجد لك ملائكته، و أسكنك في جنّته، ثمّ أهبطت الناس بخطيئتك إلی الأرض؟ فقال آدم: أنت موسی الذي اصطفاك اللّه برسالته و بكلامه، و أعطاك الألواح فيها تبيان كلّ شيء، و قرّبك نجياً، فبكم وجدت اللّه كتب التوراة قبل أن اخلق؟ قال موسی: بأربعين عاماً، قال آدم، فهل وجدت فيها «وَ عَصی آدَمُ رَبَّهُ فَغَوي» قال: نعم، قال: أفتلومني علی أن عملت عملاً كتبه اللّه علی أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله فحجّ آدم موسی. صحيح مسلم 2042:4 - 2044كتاب القدر باب حجاج ادم و موسی عليه السلام الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 325 عن اجمع بين الصحيحين للحميدي

و هو من عظيم الافتراء عليه؛ لأنّ أهل بيته الذين أمر اللّه تعالی بالتمسّك بهم أنكروا مدلوله، و نصّوا علی أنّ جدّهم المصطفی صلی اللّه عليه و آله يكفّر من يقول بمقتضاه، مع أنّه لا يخلو من تدافع؛ لأنّه إذا كان هو الفاعل وحده، فكيف يتمّ هذا الانكار والجواب؟ وإخبار النبي صلی اللّه عليه و آله بأنّه حجّة بذلك، وإنّما يكون علی قولهم قد حجّ اللّه نفسه.

وكذا روي في كتابه المذكور أنّه عليه السلام قال: إنّ نبياً من الأنبياء قرصته نملة، فأمر بقرية النمل فاُحرقت(1).

و إنّه أقرّ عائشة علی اللعب، و جاريتين علی غنائهما عندها ناهياً أبابكر حين زجرهما، فانصرفتا لمّا نهاهما عمر(2).

ص:41


1- رواه مسلم في صحيحه باسناده، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله أنّ نملة قرصت نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فاُحرقت، فأوحی اللّه إليه: أفي أنّ قرصتك نملة أهلكت امّة من الاُمم تسبّح.وروی أيضاً باسناده، عن أبي هريرة، أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال: نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فاُخرج من تحتها، ثمّ أمر بها فاُحرقت، فأوحی اللّه إليه: فهلاّ نملة واحدة. صحيح مسلم 1759:4، كتاب السلام، باب النهي عن قتل النمل، الطرائف ص 363.
2- روی مسلم في صحيحه باسناده، عن عائشة، قالت: دخل علی أبوبكر و عندي جاريتان من جواري الأنصار تغنّيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت: و ليستا بمغنيتين فقال ابوبكر: ابمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلی الله عليه و اله و سلم و ذالك في يوم عيد فقال رسول الله صلی الله عليه و اله و سلم: يا ابابكر ان لكل قوم عيداً و هذا عيدنا. و روی ايضا باسناده عن عائشه قالت: ان ابابكر دخل عليها و عندها جاريتان في ايّام مني تغنيان و تضربان و رسول الله صلی اللّه عليه و آله مسجي بثوبه فانتهر هما ابوبكر فكشف رسول الله صلی الله عليه و اله وسلم عنه و قال دعهما يا ابابكر فانها ايام عيد و قالت رايت رسول الله صلی الله عليه و اله و سلم يسترني بردائه و انا انظر الی الحبشه و هم يلعبون و انا جاريه فاقدروا قدر الجاريه العريه الحديثه السسن الی غيرهما فراجع: صحيح مسلم 2: 607 -610؛ كتاب صلاه العيدين باب الرخصه في اللعب اطرائب ص 364.

و إنّه أقرّ بعض الحبشة علی اللعب عنده حتّي نهي عمر لمّا رماهم بالحصا طلباً لكفّهم(1).

وإنّه صلّی بالناس جنباً، ثمّ أعادها بعد الذكر(2).

ص:42


1- رواه مسلم في صحيحه باسناده، عن أبي هريرة، قال: بينهما الحبشة يلعبون عند رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله بحرابهم، إذ دخل عمر بن الخطّاب، فأهوي إلي الحصباء يحصبهم بها، فقال له رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: دعهم يا عمر. صحيح مسلم 610:2 برقم: 893، كتاب صلاة العيدين.
2- رواه مسلم في صحيحه باسناده، عن أبي هريرة، قال: اقيمت الصلاة، فقمنا فعدّلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، فأتي رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله حتّي إذا قام في مصلاّه قبل أن يكبّر ذكر فانصرف، و قال لنا: مكانكم، فلم نزل قياماً ننتظره حتّی خرج إلينا و قد اغتسل ينطف رأسه ماءً، فكبّر فصلّی بنا.وروی أيضاً عن أبي هريرة، قال: اقيمت الصلاة وصفّ الناس صفوفهم، وخرج رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله فقام مقامه، فأومأ إليهم بيده أن مكانكم، فخرج و قد اغتسل و رأسه ينطف الماء ، فصلی بهم ،صحيح مسلم 1: 422--423 ، كتاب المساجد و مواضع الصلاه باب متي يقوم الناس للصلاه

و إنّه صلّی العصر ركعتين، و دخل حجرته، ثمّ خرج لبعض حوائجه، فأذكره بعض أصحابه، فأتمّها(1).

و إنّه فاتته صلاة المغرب يوم الخندق، فقضاها بعد أن أيقظه عمر لمّا استيقظ قبله(2).

ص:43


1- رواه مسلم في صحيحه باسناده، عن أبي هريرة، قال: صلّی بنا رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله إحدی صلاتي العشي إمّا الظهر و إمّا العصر، فسلّم في ركعتين، ثمّ أتی جذعاً في قبلة المسجد، فاستند إليها مغضباً، و في القوم أبوبكر و عمر، فهابا أن يتكلّما، و خرج سرعان الناس قصرت الصلاة، فقام ذواليدين فقال: يا رسول اللّه أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي صلی اللّه عليه و آله يميناً و شمالاً، فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق لم تصلّ إلاّ ركعتين، فصلّی ركعتين و سلّم، ثمّ كبّر ثمّ سجد، ثمّ كبّر فرفع، ثمّ كبّر و سجد، ثمّ كبّر و رفع.و روی أيضاً باسناده، عن عمران بن حصين، أنّ رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله صلّی العصر فسلّم في ثلاث ركعات، ثمّ دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له: الخرباق، و كان في يديه طول، فقال: يا رسول اللّه فذكر له صنيعه، و خرج غضبان يجرّ رداءه حتّی انتهی إلی الناس، فقال: أصدق هذا؟ قالوا: نعم، فصلّی ركعة، ثمّ سلّم، ثمّ سجد سجدتين، ثمّ سلّم. صحيح مسلم 403:1-405، كتاب المساجد و مواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، الطرائف ص 364-365.
2- رواه مسلم في صحيحه باسناده، عن عمران بن حصين، قال: كنت مع نبي اللّه صلی اللّه عليه و آله في مسير له، فأدلجنا ليلتنا، حتّي إذا كان في وجه الصبح عرّسنا، فغلبتنا اعيننا حتي بزغت الشمس قال فكان اول من استيقظ منا ابوبكر و كننا نوقظ نبي الله من من منامه اذا نام حتی يستيقظ ثم يستيقظ عمر فقام عند نبي الله فجعل يكبر و يرفع صوته بالتكبير حتی استيقظ رسول الله فلما رفع راسه و راي الشمس قد بزغت قالك ارتحلو فسار بنا الحديث. و روی ايضاً باسناده عن عمران بن حصين قال: كنا مع رسول الله فی سفر، فسرينا ليله حتی اذا كان من اخر الليل قبيل الصبح و قعنا تلك الوقعه التي لا وقعه عند المسافر احلی منها فما ايقضنا الا حر الشمس الی ان قال: فلما استيقظ عمر بن الخطاب و راي ما اصاب الناس و كان اجوف جليد فكبر و رفع صوته بالتكبيير حتی استيقظ رسول الله لشده صوته بالتكبير فلما استيقظ رسول الله شكوا اليه الذي اصابهم فقال رسول الله لا ضير ارتحلو صحيح مسلم 1: 474- 476، كتاب المساجد و مواضع الصلاه، باب قضا الصلاه الفائته الطرائف ص 367.

و إنّ الخلق يوم القيامة يأتون آدم للشفاعة، فيعتذر إليهم، فيأتون إبراهيم، فيعتذر إليهم بأنّ ربّي غضب علی غضباً لم يغضب قبله و لن يغضب بعده مثله، وإنّي كذبت ثلاث كذبات، نفسي نفسي إذهبوا إلي غيري(1).

ص:44


1- رواه مسلم في صحيحه باسناده، عن أبي هريرة، قال: اتي رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله يوماً بلحم، فرفع إليه الذراع و كانت تعجبه، فنهس منها نهسة، فقال: أنا سيّد الناس يوم القيامة، و هل تدرون بم ذاك؟ يجمه اللّه يوم القيامة الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، و ينفذهم البصر، و تدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون و ما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلی ربّكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيقولون: يا آدم أنت أبوالبشر خلقك اللّه بيده و نفخ فيك من روحه، وامر الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَی رَبِّكَ، أَلَا تَرَي إِلَی مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَی إِلَی مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَی غَيْرِي،الی اخر الحديث صحيح مسلم 1: 180-187. كتاب الايمان باب ادنی اهل الجنه منزله فيها الطرائف ص 361.

و إنّ موسی لطم ملك الموت حتّی قلع عينه لمّا جاء لقبض روحه(1).

و إنّ زيد بن عمرو بن نفيل لقي النبي صلی اللّه عليه و آله قبل أن يوحی إليه، فقدّم إليه سفرة فيها لحم، فأبي زيد أن يأكل منها، معتذراً بأنّي لا آكل ممّا تذبحون علی أنصابكم، و لا ممّا لا يذكر اسم اللّه عليه(2).

ص:45


1- رواه مسلم في صحيحه باسناده، عن أبي هريرة، قال: ارسل ملك الموت إلی موسی عليه السلام، فلمّا جاءه صكّه ففقأ عينه، فرجع إلی ربّه، فقال: أرسلتني إلی عبد لا يريد الموت، قال: فردّ اللّه إليه عينه، وقال: ارجع إليه. الحديث.و روي أيضاً باسناده، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، قال: جاء ملك الموت إلی موسی عليه السلام، فقاله له: أجب ربّك، قال: فلطم موسی عليه السلام عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلی اللّه تعالي فقال: إنّك أرسلتني إلی عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني، قال: فردّ اللّه إليه عينه، وقال: ارجع إلی عبدي. الحديث. صحيح مسلم 1842:4-1843، كتاب الفضائل، باب فضائل موسی عليه السلام، الطرائف ص 360.
2- رواه البخاري في صحيحه باسناده، عن سالم، أنّه سمع عبداللّه يحدّث عن رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله أنّه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، و ذاك قبل أن ينزل علی رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله الوحي، فقدّم إليه رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله سفرة فيها لحم، فأبي أن يأكل منها، ثمّ قال: إنّي لا آكل ممّا تذبحون علی أنصابكم، و لا آكل إلاّ ممّا ذكر اسم اللّه عليه.صحيح البخاري 225:6، كتاب الذبائح، باب ما ذبح علی النصب والأصنام.

فلينظر العاقل المنصف إلی هؤلاء الكفرة الفجرة كيف صحّحوا هذه الأحاديث الباطلة التي نصبوا(1) فيها رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله إلی عبادة الأصنام، والأكل ممّا ذبح علی الأنصاب، والتهاون بالصلاة، والتقرير علی اللعب والغناء، والنهي عن الزجر عنه، و ذمّ الأنبياء عليهم السلام والطعن فيهم، و نحو ذلك من المعاصي، و ضمّنوها عدم أهليتهم للشفاعة لما هم عليه من الذنوب، مع ما و رد أنّ المؤمن يشفع في مثل ربيعة و مضر(2).

فكيف هم وروی أيضاً الغزالي في إحياء العلوم(3): إنّهم لم يتخلّصوا من الوساوس الشيطانية، وإنّ النبي صلی اللّه عليه و آله أقرّ الجواز علی الغناء واللعب، وأمرهم بالكفّ عن ذلك لمّا جاء عمر، ثمّ بالعود إليه لمّا انصرف معلّلاً بأنّه رجل لا يحبّ سماع الباطل.

و إنّه كان يسابق عائشة، فسبقته يوماً، و سبقها في بعض الأيّام، فقال: هذا بذاك(4).

إلی غير ذلك من أخبارهم التي لم يقصدوا باختلاقها إلّامجرّد مدح أئمّة كفرهم، و رؤساء نحلتهم، و عدم قدح وقوع المعاصي منهم في إمامتهم، و أعرضوا عن استلزامها انتفاء الوثوق بأقوالهم وعدم وجوب طاعتهم، المقتضی لانتفاء فائدة بعثتهم، و سقوط منزلتهم، المانع من حصول الانقياد إليهم، وانحطاط

ص:46


1- كذا في النسختين، ولعلّ الصحيح: نسبوا.
2- من لا يحضره الفقيه 411:4، بحار الأنوار 300:7.
3- الطرائف ص 364 عنه.
4- إحياء العلوم للغزلي 44:2، الطرائف ص 290.

درجاتهم عن أقلّ العوام؛ لأنّ صدور الذنب عنهم أفحش، و ردّ شهادتهم لقوله تعالی: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» (1) فينتفي عموم شهادتهم علی الوحي، و وجوب الانكار عليهم، والتبرّي منهم؛ لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عموماً، و بطلان القول بالإحباط.

و من هذا التعليل يستفاد بطلان اعتذارهم عن ذلك، بأنّ لزومه إنّما يتأتّي أن لو صدر عنهم الذنب بعد الوحي، و نحن لا نقول به، و إن التزمنا بصدوره عنهم بعده قيّدناه بالصغائر، و ذلك لما تقدّم أنّ منهم من قال بصدوره عنهم بعده علي الاطلاق، و أيضاً إذا لم تحبط الحسنة السيّئة بقيت المؤاخذة عليها و إن صدرت قبله، و كذا انتفاء الوثوق لازم علی كلّ تقدير حتّي لو كانت صغيرة.

و بعد فما تقدّم آنفاً من مثل رواية الغزالي و الحميدي تقتضي إصرار النبي صلی اللّه عليه و آله علی الغناء واللعب، و قد ورد النصّ المستفيض عنه عليه السلام بأنّ الإصرار علی الصغيرة كبيرة(2). و في رواية اخری للحميدي زيادة جواز الكفر عليه قبل البعثة.

فقد صحّحوا القول بتعمّده الكبيرة بتصحيح مثل هذه الرواية المنكرة، و يلزمهم أن يقولوا بجواز سبّه؛ لأنّ الكبيرة يلزمها ذلك ببديهة العقل وضرورته، و عدم عموم رئاسته في امور الدين و الدنيا بأسرها، فيحتاج في البعض إلی مرشد، بل ذهبت المعتزلة إلی انتفاء إيمان فاعلها و كفره.

و قد تضمّنت رواية الحميدي المتقدّمة إخبار النبي صلی اللّه عليه و آله بالتزام آدم و موسی عليهما السلام بما يقوله المجبّرة من أنّ العبد لا اختيار له، مع أنّهم رووا في كتبهم أنّه حكم بكفر

ص:47


1- سورة الحجرات: 6.
2- اصول الكافي 288:2-290.

من هذا معتقده، فيلزمهم القول بأنّه نسب إليهما الكفر، والالتزام بجواز سبّ أنبياء اللّه و رسله عليهم السلام، و هو من أقبح الكفر و أشنعه، بدليل إجماع المسلمين علی أنّه يجب علی سامعه قتل من صدر منه في الحال من غير افتقارٍ إلی إذن الإمام، و إن افتقر القتل للكفر بالارتداد ونحوه إلي إذنه.

أمّا أئمّة الهدی عليهم السلام، فيلزمهم أيضاً القول بجواز سبّهم؛ لاتّفاق كلمتهم علی أنّ الإمام يجوز عليه تعمّد الكبائر فضلاً عن الصغائر، كما تقدّم نقله عن السيّد المرتضی لأنّه لا يشترط عندهم عصمته، بل يكفي عدالته التي يجوز معها وقوع الذنب، و ليست منزلته أعلی من منزلة النبي ليلتزموا بامتناع وقوع الذنب منه لا من النبي.

فقد تقدّم أيضاً أنّ الأظهر عند الشافعية عدم انعزاله بالفسق، و حجّتهم أنّ الغرض منه حفظ نظام الوجود، و لهذا جوّزوا إمامين في إقليمين، و قالوا: بأنّه لو بايع جمع من الأعيان شخصاً، بل واحد نافذ الحكم، بل لو تغلّب علی الإمام العدل متغلّب و قهره، إنعقدت إمامته عندهم، وصار خليفة رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله بزعمهم، و إن كان من شرار الخلق، و انعزل الأوّل و صارت مقاصد الشرع بيد الثاني.

و هو مردود، بل الغرض منها حفظ الشرع الشريف من الخطأ، و علّة الحاجة إليها عدم عصمة الخلق، فلو لم يكن معصوماً لم يحصل غرض الحكيم جلّ اسمه، لكن اللازم باطل، فالملزوم مثله.

الوجه الثاني: عدم إقرارهم بعموم إمامة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام

لزعمهم أنّ خليفتهم الأوّل والثاني والثالث ليسوا من جملة رعيته، و لا من المأمورين بطاعته، بل هو أمير علي من سواهم.

ص:48

مع أنّهم رووا في صحاحهم بعدّة طرق أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله أمر سائر الصحابة بأن يسلّموا عليه بامرة المؤمنين(1). وأنّه كان من جملتهم صنمي قريش.

و روی أحمد بن حنبل في مسنده، و ابن مردويه في مناقبه، و كانا من رؤساء علمائهم أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله لمّا نصّ علی علي عليه السلام يوم الغدير بقوله «من كنت مولاه فعلي مولاه» لقيه عمر بن الخطّاب، فقال له: هنيئاً لك يابن أبي طالب أصبحت مولی كلّ مؤمن ومؤمنة(2).

و في بعض روايات ابن المغازلي الشافعي أنّه قال بعد هذه التهنئة: أصبحت مولاي ومولی كلّ مؤمن ومؤمنة(3).

و ممّن روی هذه التهنئة من متأخّري علمائهم البغوي في المصابيح، و أورده في المشكاة.

و لا ريب أنّ هذه التهنئة من رئيسهم المسورة بكلّ تقتضي الجزم بأن يراد بالمولی الأولی بالتصرّف، لمن نظر بعين الإنصاف إلی أوّل الحديث وآخره، و كيفية ما جري من نزول النبي صلی اللّه عليه و آله بالحاج العظيم الذي يقرب من ستّين ألف نفس في غدير خمّ لمّا رجع من حجّة الوداع، و ندائه باجتماعهم في وقت الظهيرة الشديد الحرّ، ليبلّغ إليهم ما انزل إليه من ربّه، ممّا بشّره بعصمته من القتل علي

ص:49


1- راجع إلی مصادر الحديث: إحقاق الحق 18:4-24 و 27 و 101 و 245 و 275-277 و 279 و 284 و 288 و 344، و 222:15-223 وغيرها.
2- مسند أحمد بن حنبل 368:4، مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه ص 120-122، الطرائف ص 146 عنهما.
3- المناقب لابن المغازلي ص 19.

تبليغه.

إذ لا يمكن و الحال هذه أن يكون غرضه من ذلك التبليغ الذي صدّره بالاستفهام التقريري بقوله «ألست أولي منكم بأنفسكم» ليكون حجّة علی الكلّ إلي يوم القيامة، و تعقّبه نزول «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» إرادة إعلامهم أنّ علياً عليه السلام ناصرهم أو جارهم و نحوه، ممّا لا ينكره الولي والعدوّ، بل ما تقدّم ذكره.

و يؤيّده أيضاً إنشاد الشعراء ذلك بأبلغ وجه بحضرة النبي صلی اللّه عليه و آله.

فمن ذلك: قول حسّان بن ثابت في قصيدته بعد أن استأذنه، فأذن له بقوله: قل علی بركة اللّه تعالي:

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخمّ واسمع بالنبي مناديا

بأنّي مولاكم نعم و وليكم *** فقالوا و لم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا و أنت ولينا *** ولن تجدنّ منّا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا علي فإنّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهاديا(1)

و نحوه أنشد غيره بحضرته من غير أن ينكر عليهم، ولو كان لنقل؛ لتوفّر الدواعي علی نقله، لكن جمع من المخالفين عاندوا في صرف هذه اللفظة إلی غير ذلك من المعاني التسعة(2) لمّا تعذّر عليهم الطعن في سند الحديث المذكور؛ لبلوغه

ص:50


1- الطرائف ص 146، مقتل الخوارزمي ص 47، المناقب لابن المغازلي ص 80، المناقب لابن مردويه ص 121، الغدير للعلاّمة الأميني 35:2، إحقاق الحقّ 275:6.
2- قال ابن الأثير في نهايته: قد تكرّر ذكر المولی في الحديث، و هو اسم يقع علي جماعة كثيرة، فهو الربّ، والمالك، والسيّد، والمنعم، والمعتق، والناصر، والمحبّ، و التابع و لجار و ابن اعم العقيد و الصه و لعبد و المعتق و المنعم عله قل: و منه احديث من كنت مولا فعلي مولاه يحتمل عليا كثر الاسماء المذكور. النهايه لابن الاثير 225:5

حدّ التواتر.

فقد نقله من علمائنا: السيّد المرتضي(1)، والشيخ أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي(2).

ص:51


1- قال الشريف الأجلّ المرتضی علم الهدی في الشافي 260:2: الوجه المعتمدفي الاستدلال بخبر الغدير علی النصّ هو ما نرتّبه، فنقول: إنّ النبي صلی اللّه عليه و آله استخرج من امّته بذلك المقام الاقرار بفرض طاعته، و وجوب التصرّف بين أمره و نهيه، بقوله صلی اللّه عليه و آله «ألست أولي بكم منكم بأنفسكم؟» و هذا القول و إن كان مخرجه مخرج الاستفهام، فالمراد به التقرير، و هو جارٍ مجري قوله تعالی «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ» فلمّا أجابوه بالاعتراف والاقرار، رفع بيد أميرالمؤمنين عليه السلام و قال عاطفاً علي ما تقدّم: فمن كنت مولاه فهذا مولاه. و في روايات اخری: فعلي مولاه، اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. فأتي عليه السلام بجملة يحتمل لفظها معني الجملة الاُولی التي قدّمها، و إن كان محتملاً لغيره، فوجب أن يريد بها المعني المتقدّم الذي قرّرهم به علی مقتضي استعمال أهل اللغة، و عرّفهم في خطابهم، وإذا ثبت أنّه صلی اللّه عليه و آله أراد ما ذكرناه من ايجابه كون أميرالمؤمنين عليه السلام أولي بالامامة من أنفسهم، فقد أوجب له الامامة؛ لأنّه لا يكون أولی بهم من أنفسهم إلاّ فيما يقتضي فرض طاعته عليهم، و نفوذ أمره ونهيه فيهم، ولن يكون كذلك إلاّ من كان إماماً.
2- رواه في عدّة مواضع من أماليه، روي باسناده عن سهم بن الحصين الأسدي، قال: قدمت إلی مكّة أنا وعبداللّه بن علقمة، وكان عبداللّه بن علقمة سبّابة لعلي عليه السلام دهراً قال : فقالت له: هَلْ لَكَ فِي هَذَا- يَعْنِي أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ- نُحْدِثُ بِهِ عَهْداً قَالَ: نَعَمْ، فَأَتَيْنَاهُ فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتَ لِعَلِيٍّ مَنْقَبَةً قَالَ: نَعَمْ إِذَا حَدَّثْتُكَ فَسَلْ عَنْهَا الْمُهَاجِرِينَ وَ قُرَيْشاً، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّی اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قَامَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ، فَأَبْلَغَ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَ لَسْتُ أَوْلي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ قَالُوا: بَلَي. قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: ادْنُ يَا عَلِيُّ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّی اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يَدَيْهِ حَتَّي نَظَرْتُ إِلَي بَيَاضِ آبَاطِهِمَا قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلْقَمَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّی اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: نَعَمْ، وَ أَشَارَ إِلَي أُذُنَيْهِ وَ صَدْرِهِ، قَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَ وَعَاهُ قَلْبِي.

و محمّد بن جرير الطبري(1)، و محمّد بن سعيد بن عقدة(2)، ونحوهم بعدّة

ص:52


1- قال السيّد ابن طاووس في الطرائف ص 142: و قد روي الحديث في ذلك محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ من خمس و سبعين طريقاً، و أفرد له كتاباً سمّاه حديث الولاية.
2- قال السيّد ابن طاووس في الطرائف ص 139: و ممّن صنّف في حديث الغدير أبوالعبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد الهمداني الحافظ المعروف بابن عقدة، وهو ثقة عند أرباب المذاهب، و جعل ذلك كتاباً محرّراً سمّاه حديث الولاية، و ذكر الأخبار عن النبي صلی اللّه عليه و آله بذلك، وأسماء الرواة من الصحابة، ثمّ ذكر تسمية من روی حديث الغدير من الصحابه يتجاوز عددهم عن المائه فراجع ابْنُ الصَّلْتِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُقْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُوسَی، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّی اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ. الامالي للشيخ الطوسي ص 343 برقم ك 704.

أسانيد.

و من رؤساء العامّة: أحمد بن حنبل في مسنده(1)، وابنه عبداللّه أيضاً في مسنده(2)، وابن المغازلي في مناقبه(3)، والثعلبي في تفسيره(4)، والحميدي في

ص:53


1- راجع: مسند أحمد بن حنبل 84:1 و 152 و 281:4 و 368 و 370 و 372 و 347:5 و 366 و 419.
2- راجع: فضائل الصحابة لعبداللّه بن أحمد بن حنبل عن أبيه: 586:2 برقم: 992 و 596:2 برقم: 1016 و 597:2 برقم: 1017 و 599:2 برقم: 1022 و 610:2 برقم: 1042 و 682:2 برقم: 1167.
3- راجع: مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي ص 16-27، قال: قال أبوالقاسم الفضل بن محمّد: هذا حديث صحيح عن رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، وقد روي حديث غدير خمّ عن رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله نحو من مائة نفس منهم العشرة، و هو حديث ثابت لا أعرف له علّة، تفرّد علي عليه السلام بهذه الفضيلة، ليس يشركه فيها أحد.
4- الكشف والبيان في تفسير القران للثعلبي، ذكره ذيل آية «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» و راجع: الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 151-152، والعمدة لابن البطريق الحلّي ص 99-101.

الجمع بين الصحيحين(1).

و رزين العبدري في الجمع بين الصحاح الستّة(2)، و غيرهم بطرق متعدّدة وأسانيد متبدّدة.

و قد صنّف الفريقان في صحّة اسناده إليه عليه السلام كتباً(3).

و قال الفقيه أبوجعفر محمّد بن شهرآشوب رحمه اللّه: سمعت أباعلي العطّار الهمداني يقول: أروي هذا الحديث علی مأتي و خمسين طريقاً، قال: وقال جدّي شهرآشوب: سمعت أباعلي الجويني يتعجّب ويقول: شاهدت مجلّداً ببغداد في يد صحّاف فيه روايات هذا الحديث مكتوباً عليه المجلّدة الثامنة والعشرون من طرق قوله عليه السلام «من كنت مولاه فعلي مولاه» ويتلوها المجلّدة التاسعة والعشرون(4).

ولا يخفي أنّه من أسرار آية الولاية التي قرن فيها ولايته بولاية اللّه و رسوله، و من أسرار آية المباهلة أيضاً، و هي قوله تعالی: «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ» (5) الآية، وذلك لأنّه جلّ اسمه لمّا قرن فيها بين نفس النبي صلی اللّه عليه و آله ونفس علي عليه السلام، و جمعها بضمير مضاف إلی رسوله، أثبت

ص:54


1- رواه عنه في العمدة ص 102.
2- رواه عنه في العمدة ص 103، والطرائف ص 153.
3- راجع: الطرائف للسيّد ابن طاووس 139-142، المناقب لابن شهرآشوب 25:3-26. ويكفيك ما صنّفه العلاّمة الأميني من كتابه القيّم الغدير، فراجع.
4- الصراط المستقيم للعلاّمة البياضي 301:1 عنه.
5- سورة آل عمران: 61.

الرسول صلی اللّه عليه و آله بهذا الحديث لنفس علي عليه السلام ما هو ثابت لنفسه علی المؤمنين من عموم أولوية التصرّف.

و هذا ممّا أشار إليه بعض رؤسائهم، وإن جادلوا في الحقّ بعد ما تبيّن لهم، حتّی بدّلوا ما سمعوه، و جحدوا ما علموه، و أنكروا ما ثبت في أعناقهم من حقّ أميرالمؤمنين وأبنائه المعصومين - صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين - و اختاروا مخالفته، و طرح وصايا النبي صلی اللّه عليه و آله بإيثار غيره ممّن قصد محاربته، كعمر الذي تهدّده لمّا تخلّف عن بيعة أبي بكر بالمحاربة، و تحريق البيت، بل جمع الحطب عنده وأتی بالقبس لذلك، كما رواه نقلة الأخبار ورواة السير والآثار، كالواقدي(1)، وابن عبدربّه(2) وغيرهما.

و في بعضها: أنّ أبابكر قال لعمر عند تخلّفه و تخلّف العبّاس: إن أبيا فقاتلهما، فجاء عمر و بيده قبس يريد تحريق البيت عليهم، فلقيته فاطمة عليها السلام، فقالت له: يابن الخطّاب أجئت لتحرق ديارنا؟ قال: نعم(3).

ونحوه روي مصنّف كتاب المحاسن وانفاس والجواهر(4).

وفي التجريد: إنّه أضرم فيه النار وفيه فاطمة وجماعة من بني هاشم(5).

و هذا لا يقصر عن المحاربة، مع أنّ محاربته كما أنّها علی حدّ محاربة النبي صلی اللّه عليه و آله

ص:55


1- الامامة والسياسة للواقدي 19:1.
2- العقد الفريد 63:3 طبع مصر.
3- الطرائف ص 239.
4- الطرائف ص 239 عنه.
5- تجريد الاعتقاد للعلاّمة خواجه نصيرالدين الطوسي ص 250.

في إيجابها الكفر؛ لحديث «حربك حربي، وأنا حرب لمن حاربك، سِلم لمن سالمك»(1) فكذا مخالفته؛ لأنّ حقيقة إمامته ضرورية، و خلافته بغير فصل جلية، و حقوق النبوّة و الإمامة مشتركة، إلّا أنّها للنبي بالأصالة وللإمام بالنيابة، كما هو مبيّن في الكتب الكلامية.

و علومه لدنّية لا اجتهادية كعلوم الرسل و الأنبياء، بدليل قوله عليه السلام: ما عدا الاُمور الخمسة التي تفرّد اللّه بعلمها، وقد تضمّنها قوله تعالی: «إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ» (2) الآية قد أعلم اللّه به نبيّه، والنبي أعلمني به(3).

فلو لم يلزم من مخالفتها الكفر لتساوي ما استفيد من الاجتهاد والوحي في عدم لزوم الكفر بمخالفته، و هو باطل كما بيّن في موضعه.

و بذلوا جهدهم في التنقّص(4) لقدره، حتّی أنّهم قالوا لفرط حسن خلقه: إنّ له دعابة(5)، وإنّه أوّل صبي آمن باللّه.

و ليس فيه من التنقّص ما توهّموه، فإنّ اللّه تعالي قال عن يحيي: «وَ آتَيْناهُ

ص:56


1- راجع: إحقاق الحق ّ 440:6-441 و 161:9-174 و 411:18-413.
2- سورة لقمان: 34.
3- لم أعثر علي نص ّ هذا المنقول في الأحاديث، نعم مضمونه متواتر جدّا في كتب الفريقين.
4- في «ف»: التنقيص.
5- قال الامام أميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: عجبا لا بن النابغة يزعم لأهل الشام أن ّ في دعابة و أنّي امرؤ تلعابة. نهج البلاغة ص 115 برقم: 84. و في ارشاد القلوب: فالتفت إليه عمر، فقال: فيه دعابة لا تدعه حتّی تورده فلا تصدره. راجع: بحار الأنوار 164:29.

اَلْحُكْمَ صَبِيًّا» (1) وأيضاً حكي القرآن عن عيسی عليه السلام أنّه قال وهو في المهد: «إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً» (2).

فإذا كان إيتاهما الحكم والكتاب في الطفولية معتبراً لزم بالضرورة الحكم باعتبار إيمانه في الطفولية لمساواته الأنبياء؛ لقول النبي صلی اللّه عليه و آله له: أنت منّي بمنزلة هارون من موسی إلّاأنّه لا نبي بعدي(3).

و لأنّ المهدي عليه السلام من ولده يصلّي عيسی عليه السلام خلفه، كما رواه أبوداود و غيره ممّن ستقف علی أسمائهم(4)، فيكون أفضل من عيسی عليه السلام؛ لأنّه أفضل من المهدي عليه السلام.

وكيف لا؟ وقد اختاره النبي صلی اللّه عليه و آله في صغر سنّه عندما دعا قريشاً في أوّل أمره إلی الإسلام، و طلب المؤازرة، فلم يؤازره منهم إلّاهو، فقال له: أنت أخي و وليي في الدنيا والآخرة(5).

و كيف لم يستحقروا إيمان أبي بكر الذي عبد الأصنام أربعين سنة، و لم يُسلم إسلاماً حقيقياً، بدليل أنّه لم يتّبعه أبوه وابنه، مع أنّ علاقة الاُبوّة شعبة من السلطنة، بل مدحوه بأنّه إيمان كهل، واستحقروا إيمان علي عليه السلام مع إحاطتهم علماً بأنّه هو

ص:57


1- سورة مريم: 12.
2- سورة مريم: 30-31.
3- صحيح البخاري 129:5، صحيح مسلم 1870:4، مسند أحمد بن حنبل 32:3 و 56 و 74 و 88 و 94 و 338، ذخائر العقبی للطبري ص 79، المناقب لابن المغازلي ص 33-34، الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 51-54.
4- راجع: إحقاق الحقّ 198:13-199.
5- المناقب لابن المغازلي ص 37، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ ص 38، الطرائف ص 64.

المراد في الآية بنفس النبي صلی اللّه عليه و آله، والمكنّي عنه بباب مدينة العلم والحكمة، ولم يشرك باللّه طرفة عين، ولم يسجد لصنم أصلاً، بل هو الذي تولّی تكسير الأصنام لمّا صعد علی كتف النبي صلی اللّه عليه و آله، كما تواترت به روايات الخاصّ و العامّ.

و حرّفوا الآيات النازلة في حقّه، حتّی أنّه لا يكاد يوجد آية نازلة فيه أو رواية عن النبي صلی اللّه عليه و آله كذلك إلّاعمّموها له ولغيره، أو صرفوها عنه بالكلّية، وأنكروا الوصية إليه من النبي صلی اللّه عليه و آله، بل زعموا أنّه مات بغير وصية، كما زعموا أنّ علياً عليه السلام قال - لمّا قيل له: ما توصي؟ -: ما أوصي رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله حتّي أوصي.

مع أنّهم رووا في صحاحهم أنّه قال: من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية(1).و ما ذلك بأدون من سبّ الكفّار له.

و في صحيح البخاري بإسناده إلی ابن شهاب عنه عليه السلام، قال: ما حقّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه أن يبيت ثلاث ليالي إلّاووصية عنده مكتوبة(2). وروی أيضاً نحو ذلك بعدّة أسانيد(3).

والوصية في الدين أعظم؛ لأنّه بعث للإرشاد إليه، بل حصر اللّه أحواله في الإنذار بقوله «إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ» (4) فكيف لا ينصّ علی من ينوبه في حفظه بعده.

ص:58


1- الطرائف ص 382 عنهم.
2- صحيح مسلم 1249:3.
3- روی البخاري باسناده عن عبداللّه بن عمر، أنّ رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله قال: ما حقّ امريء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ و وصيته مكتوبة عنده. صحيح البخاري 185:3-186، كتاب الوصايا.
4- سورة فاطر: 23.

بل كيف تقبل العقول أن يقول من البرّ ما لا يفعل، و لا يساوي سائر الأنبياء عليهم السلام في امتثال هذا البرّ، فإنّا ما سمعنا أنّ أحداً منهم مات بغير وصية، بل كلّ واحد منهم عيّن من يقوم بعده مقامه.

فكيف وصفوا سيّد الأنبياء و خاتمهم بتركها؟ وقد شهد بوجوبها كافّة الأنبياء و عقول العقلاء، مع أنّ اللّه تعالی قد أمره بالاقتداء بهداهم، بقوله عزّوجلّ «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» (1) و اعترافهم بأنّ موته ما وقع فجأة، بل عن مرض تقدّمه، و علمهم بأنّه أحوج إليها منهم؛ لأنّه خاتمهم، والمؤتمن علی كتبهم، والناسخ لشرائعهم.

فقد كان الواجب عليهم أن يتلقّوا الأحاديث المتضمّنة أنّه أوصی بهم، وعيّن لهم من يقوم بعده مقامه، بالقبول، ويفرحوا بها؛ لموافقتها للعقول السليمة والأديان المستقيمة.

و قد روي الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث الخامس والخمسين من إفراد مسلم، عن عبداللّه بن عمر، قال أمر النبي صلی اللّه عليه و آله في غزاة مؤتة زيد بن حارثة، و قال إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبداللّه بن رواحة(2).

وذلك لئلّا يقع الاختلاف بينهم، و ينتشر أمرهم في غزاة واحدة، فكيف يجوز

ص:59


1- سورة الأنعام: 90.
2- رواه البخاري في صحيحه، باسناده عن عبداللّه بن عمر، قال: أمّر رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله في غزوة موتة زيد بن حارثة، فقال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبداللّه بن رواحة، قال عبداللّه: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلي، ووجدنا ما في جسده بضعاً و تسعين من طعنة و رمية. صحيح البخاري 87:5، باب غزوة مؤتة من أرض الشام، الطرائف ص 382.

في عصمته و مزيد شفقته علی امّته، كما ورد في التنزيل: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (1).

و في الأثر: أنا لكم مثل الوالد لولده. أنا و علی أبوا هذه الاُمّة(2). أن يتركهم بغير وصية، مع أنّ اللّه تعالي قد عرّفه ما يحدث فيهم من الاختلاف العظيم بعده، لقد أساؤوا الظنّ به، ولقد تجرّأوا علی خالقهم جلّ جلاله بأن نسبوا إلي نبيه صلی اللّه عليه و آله الموت ميتة جاهلية، بزعمهم أنّه لم يوص إلی أحد بالخلافة بعده.

علی أنّ ذلك يناقض ما رووه في صحاحهم متواتراً أنّه أوصی بالثقلين بعده كتاب اللّه والعترة(3)، فإنّه نصّ في ثبوت الوصية لعلي عليه السلام بالخلافة بعده، وكذا آية الولاية(4)، وحديث الغدير المتواتر(5)، وحديث المنزلة المتواتر(6).

ومثله قوله عليه السلام: أنت أخي و وصيي وخليفتي من بعدي وقاضي دِيني بكسر

ص:60


1- سورة التوبة: 128.
2- بحار الأنوار 95:16 و 364، الصراط المستقيم للبياضي 242:1.
3- مسند أحمد بن حنبل 181:5، صحيح مسلم 1873:4، الطرائف ص 113-116، وهو حديث متواتر جدّاً رواه جمع من الفريقين في كتبهم.
4- وهي قوله تعالی «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» سورة المائدة: 55، راجع: الطرائف ص 47-49.
5- راجع: الطرائف ص 139-153، و تقدّم بعض الكلام حوله.
6- وهو قول الرسول صلی اللّه عليه و آله لعلي عليه السلام: أنت منّي بمنزلة هارون من موسی. راجع: صحيح البخاري 129:5، صحيح مسلم 1870:4، مسند أحمد بن حنبل 32:3 و 56 و 74 و 88 و 94 و 338، ذخائر العقبي للطبري ص 79، المناقب لابن المغازلي ص 33-34، الطرائف ص 51-54.

الدال(1).

و قوله عليه السلام: علي وصيي في عترتي وأهل بيتي واُمّتي من بعدي. رواه ابن مردويه في مناقبه(2).

وقوله عليه السلام: لا يبلّغ عنّي إلّا أنا أو رجل منّي(3).

وقوله عليه السلام للصحابة: سلّموا عليه بامرة المؤمنين، واسمعوا له وأطيعوا(4).

وقوله عليه السلام: علي منّي وأنا منه(5).

وقوله عليه السلام: علي منّي مثل رأسي من بدني(6).

وقوله عليه السلام: الناس من أشجار شتّي، وأنا و علی من شجرة واحدة(7).

وقوله عليه السلام: إنّه يقاتل علی تأويل القرآن، كما قاتلت علی تنزيله(8).

وقوله عليه السلام: من كنت وليه فعلي وليه، ومن كنت إمامه فعلي إمامه(9).

ص:61


1- راجع: إحقاق الحقّ 192:4 و 339 و 385 و 581:6-591.
2- المناقب لابن مردويه ص 102-103.
3- راجع: إحقاق الحقّ 427:3 و 76:5 و 411:22-435.
4- راجع: إحقاق الحقّ 61:4-62 و 384 و 144:15 و 208.
5- راجع: إحقاق الحقّ 37:4 و 210 و 274:5-317 و 416:6 و 447 و 586 و 448 و 136:16-167 و 94:15-98.
6- المناقب لابن مردويه ص 107، المناقب للخوارزمي ص 144.
7- راجع: إحقاق الحقّ 255:5-265 و 180:7-183 و 150:9-158 و 120:16-132 و 184:17-187، المناقب للخوارزمي ص 143.
8- راجع: إحقاق الحقّ 322:4 و 53:5 و 24:6-38.
9- راجع: إحقاق الحقّ 437:4 و 369:6-380 و 325:17.

و قوله عليه السلام: هو ولي كلّ مؤمن و مؤمنة بعدي(1).

و قوله عليه السلام: هو مع الحقّ والحقّ معه، لن يفترقا حتّی يردا علی الحوض(2).

وقوله عليه السلام: هو مع القرآن والقرآن معه(3).

و قوله عليه السلام: أتاني جبرئيل و قد نشر جناحيه، فإذا مكتوب علی أحدهما: لا إله إلّا اللّه، محمّد النبي. و علی الآخر: لا إله إلّااللّه، علي الوصي. رواه الخطيب الخوارزمي(4).

و قوله عليه السلام: كنت أنا و علی نوراً بين يدي اللّه تعالی قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق اللّه آدم قسّم ذلك النور جزأين: فجزء أنا، و جزء علي.

رواه أحمد بن حنبل في مسنده (5).

و رواه أيضاً ابن شيرويه(6)، و ابن المغازلي، و قالا فيه: فلمّا خلق اللّه آدم ركّب ذلك النور في صلبه، فلم يزل في شيء واحد حتّی افترقا في صلب عبدالمطّلب، ففيّ النبوّة، و في علی الخلافة(7).

و رواه أيضاً ابن المغازلي بسند آخر، وقال في آخره: حتّي قسّمها جزأين،

ص:62


1- راجع: إحقاق الحقّ 79:4 و 99 و 121 و 135-139 و 277 و 330-331.
2- راجع: إحقاق الحقّ 28:5 و 43 و 77 و 623-638 و 384:16-397.
3- راجع: إحقاق الحقّ 639:5-645 و 354:9 و 28:15 و 398:16-401.
4- المناقب للخوارزمي ص 148 ح 172.
5- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 662:2.
6- فردوس الأخبار لابن شيرويه الديلمي 333:3.
7- المناقب لابن المغازلي ص 88 برقم: 130.

فجعل جزءً في صلب عبداللّه، وجزءً في صلب أبي طالب، فأخرجني نبياً، وأخرج علياً وصياً(1). إلي غير ذلك من النصوص القاطعة.

مثل ما رواه أحمد بن حنبل، عن أنس بن مالك، قال: قلنا لسلمان: سل النبي صلی اللّه عليه و آله من وصيه؟ فقال له سلمان: من وصيك يا رسول اللّه؟ فقال عليه السلام: وصيي و وارثي يقضي ديني و ينجز عداتي علي بن أبي طالب(2).

و ورد بأسانيد متعدّدة تبلغ التواتر استخلافه علی المدينة في غزاة تبوك(3) التي أثبت له فيها المنزلة، وعدم عزله إلی زمان وفاته، فيعمّ الأزمان والاُمور؛ إذ لا قائل بالفرق، بل الحاجة إلي الخليفة بعد الوفاة أشدّ منه حال الغيبة.

و قد روي الحافظ محمّد بن موسی الشيرازي في تفسيره المستخرج من التفاسير الاثني عشر أنّ الخلافة من اللّه تعالی وقعت في القرآن لثلاثة: لآدم عليه السلام لقوله تعالی: «وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (4)ولداود عليه السلام لقوله تعالی: «يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ» (5)ولعلي عليه السلام لقوله تعالی: «وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا

ص:63


1- المناقب لابن المغازلي ص 89 برقم: 132.
2- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 615:2 برقم: 1052، الطرائف ص 22 عنه، والعمدة لابن البطريق ص 76 عنه.
3- مسند أحمد بن حنبل 174:1 و 177 و 179 و 182 و 32:3، الطرائف ص 51-53، العمدة لابن البطريق ص 126-136.
4- سورة البقرة: 30.
5- سورة ص: 26.

اِسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» (1) قال: يعني آدم و داود عليهما السلام(2).

و روي أيضاً في تفسير قوله تعالی: «وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» (3) بإسناده إلی أنس بن مالك، قال: سألت رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله عن الآية، فقال: إنّ اللّه تعالی خلق آدم من طين، ثم ّ قال: «وَ يَخْتارُ» إن ّ اللّه تعالی اختارني و أهل بيتي علی جميع الخلق، فانتجبنا، فجعلني الرسول، و جعل عليا الوصي، ثم ّ قال: «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» يعني: ما جعلت للعباد أن يختاروا، و لكن أختار من أشاء، فأنا و أهل بيتي صفوة اللّه و خيرته من خلقه(4).

و نقل صاحب كشف الغمّة من كتاب المناقب للخطيب الخوارزمي بإسناداه، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: كنت مع رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله و قد أصحر، أي: خرج إلی الصحراء، فتنفّس الصعداء، فقلت: يا رسول اللّه ما لك تنفّس؟ قال: نعيت إلی نفسي، قلت: استخلف، قال: من؟ قلت: أبابكر، فسكت، ثم ّ تنفّس، فقلت: ما لي أراك تنفّس يا رسول اللّه؟ قال: نعيت إلی نفسي، فقلت: استخلف، قال: من؟ قلت: عمر بن الخطّاب، فسكت، ثم ّ تنفّس، فقلت: ما لي أراك تنفّس يا رسول اللّه؟ فقال: نعيت إلی نفسي، قلت: استخلف، قال: من؟ قلت: علي بن أبي طالب، قال: أوّه و لن تفعلوا أبدا، لئن فعلتموه ليدخلنّكم الجنّة(5).

ص:64


1- سورة النور: 55.
2- الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 95-96 عنه.
3- سورة القصص: 67.
4- الطرائف ص 97 عنه.
5- المناقب للخطيب الخوارزمي ص 114 ح 124.

و فيه مزيد تحريص علی تسليم الأمر بعده إليه، و علي كراهية و لا ية المتقدّمين عليه.

و روی الصدوق محمّد بن بابويه في الأمالي، عن يحيی بن سعيد، عن الصادق عليه السلام في قول اللّه عزّوجل ّ: «وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ» (1) قال: يستنبؤك يا محمّد أهل مكّة عن علي بن أبي طالب إمام هو؟ قل إي و ربّي إنّه لحق ّ(2).

و الأخبار في هذا الباب من الفريقين أكثر من أن تحصی، حتّي أنّه صنّف علماؤنا كتابا كثيرة في النصوص، كالسيّد المرتضي(3)، و الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان(4)، و أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي(5)، و أمثالهم(6).

و أورد السيّد الجليل علي بن طاووس في الطرائف: أنّه رأي مجلّدا فيه مناقب

ص:65


1- سورة يونس: 53.
2- الأما لي للشيخ الصدوق ص 771 برقم: 1047.
3- له كتب قيّمة في اثبات الامامة، و من أجلّها كتاب الشافي في اثبات الامامة والخلافة لأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
4- له كتب كثيرة، بل جل ّ آثاره في نصرة مذهب الشيعة، و إثبات خلافة مولانا و مولی الكونين أسد اللّه الغالب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ككتاب الافصاح و غيره.
5- له آثار قيّمة في تأييد المذهب، و من أجل ّ كتبه القيّمة، كتاب تلخيص الشافي، و الأمالي، و غيرهما.
6- كالعلاّمة الجليل ناصر المذهب و حامي الشيعة و مروّج آثار الأئمّة الطاهرين، الشيخ محمّدباقر المجلسي قدّس سرّه، صاحب كتاب بحار الأنوار.

أهل البيت عليهم السلام، تأليف أحمد بن حنبل، قد صرّح فيها النبي صلی اللّه عليه و آله بالنص ّ علی علي عليه السلام بالخلافة علی الناس، قال: و ليس فيها شبهة عند ذوي الإنصاف(1).

و أورد بعض المؤرّخين أن ّ المأمون العبّاسي جمع أربعين رجلا من علماء المخالفين لأهل البيت عليهم السلام، و ناظرهم و وثّقهم في الإنصاف، و أثبت عليهم الحجّة بأن ّ علياً عليه السلام وصي رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله و خليفته، و المستحق ّ للقيام مقامه في امّته، و أورد نصوصا كثيرة علی ذلك قد نقلها المسلمون، و تفصيلها في مناظراته، فاعترف له الأربعون بذلك(2)، و له في ذلك أبيات كثيرة منها:

أُلام علي شكر الوصي أبي الحسن *** وذلك عندي من عجائب ذي المنن

خليفة خير الخلق و الأوّل الذي *** أعان رسول اللّه في السرّ و العلن(3)

و أمّا مناظرات آل أبي طالب و علماء شيعتهم في مجالس الملوك و الوزراء و مقالاتهم في ذلك، فأمر لا يقدر الإنسان أن يحصر تفصيله(4).

و قد اقتصرنا نحن هنا علی إيراد شيء ممّا اشترك في نقله الفريقان، تحصيلا لكمال الحجّة عليهم، و إبطالا لما زعموه من أنّه مات بغير وصية، و تحقيقا لكون ارتكابهم هذه المناقضات ليس إلّالإثبات خلافة أئمّتهم؛ لأنّه لمّا لم يمكناهم دعوي الوصية بها لهم أنكروا الوصية بها أصلا و رأسا، و جعلوا مدارها علی

ص:66


1- الطرائف ص 137 المطبوع بتحقيقي سنة (1399) ه.
2- أورد المناظرة برمّتها الشيخ الصدوق الثقة الثبت محمّد ابن بابويه القمّي في كتابه القيّم عيون أخبار الرضا عليه السلام 185:2-200.
3- الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 275، تذكرة الخواص ص 357.
4- الطرائف ص 30.

الإجماع علي البيعة ليتم ّ لهم ما قصدوه، و لن يتم ّ لهم ذلك أبدا؛ لأن الإجماع ممنوع؛ لتخلّف علي عليه السلام و سائر بني هاشم عن بيعة أبي بكر، و إظهاره عدم الرضا بها، كما تضمّنته الخطبة الشقشقية(1)، و غيرها.

و من ذلك قوله عليه السلام: و ا عجباه أتكون الخلافة بالصحابة، و لا تكون بالصحابة و القرابة(2). و يروي له في هذا المعني شعر :

فإن كنت بالشوري ملكت اُمورهم *** فكيف بهذا و المشيرون غيّب

و إن كنت بالقربي حججت خصيمهم *** فغيراك أولي بالنبي و أقرب(3)

و هذا الذي نظمه مدلول كلامه الذي رواه المفيد في حديثه لمعاوية في جواب كتاب قال فيه: إن ّ رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله قبضه اللّه تعالی و نحن أهل بيته أحق ّ الناس به، فقلنا: لا يعدل الناس عنّا، و لا يبخسونا حقّنا، فما أوعينا إلّاوالأنصار قد جاءت إلی سقيفة بني ساعدة يطلبون هذا الأمر، فصار إليهم أبوابكر و عمر في من تبعهما، فاحتجّ أبوابكر عليهم بأن ّ قريشا أولي بمقام رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله منهم؛ لأنّه من قريش، و توصّل بذلك الأمر دون الأنصار، فإن كان الحجّة لأبي بكر بقريش، فنحن أحق ّ الناس برسول اللّه صلی اللّه عليه و آله ممّن تقدّمنا؛ لأنّا أقرب قريش كلّها إليه، و إن لم يكن لنا حق ّ مع القرابة، فالأنصار علی دعواهم(4).

و هو صريح في أنّه كان كارها لو لاية التيمي، مكرها علی البيعة التي ألجأه إليها

ص:67


1- نهج البلاغة ص 48 رقم الخطبة: 3.
2- في النهج: و اعجباه أتكون الخلافة بالصحابة و القرابة؟
3- نهج البلاغة ص 502-503 رقم الحديث: 190.
4- الفصول المختارة ص 287.

وتهدّده بالمحاربة و تحريق البيت إن امتنع منها.

و يزيده بيانا قوله عليه السلام لمّا بايع: بارك اللّه فيما ساءني و سرّكم(1).

و ما ذكره ابن عبد ربّه في المجلّد الرابع من كتاب العقد من حديث كتاب معاوية إلی علي عليه السلام وجوابه له، و في جملة الجواب ما هذا لفظه: و ذكرت أبطائي عن الخلفاء، و حسدي إيّاهم، و البغي عليهم، فأمّا البغي فمعاذ اللّه أن يكون، و أمّا الكراهية لهم فواللّه ما أعتذر إلي الناس من ذلك(2).

و من كلامه في نهج البلاغة، لمّا كتب إليه معاوية ثانية علي أنّه لم يبايع طوعا:

و قلت: إنّي اقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّي ابايع، و لعمر اللّه لقد أردت أن تذم ّ فمدحت، و أن تفضح فافتضحت، و ما علی المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه، و لامرتابا بيقينه(3).

و هو صريح في أنّهم أكرهواه علی هذه البيعة، و جملة ما أوردناه يدل ّ علی تواتر هذا القدر المشترك، و كذا أكرهوا عليها سائر بني هاشم، كما يدل ّ عليه ما ذكره البخاري و مسلم في صحيحيهما من أن ّ بني هاشم كافّة كانوا في الخلافة تبعا لعلي عليه السلام، و مجمعين علي استحقاق تقدّمه عليهم، و أنّه ما بايع أحد منهم أبابكر حتّی اضطرّ إلي البيعة كرها، أو لعدم الناصر له، و كذا غيرهم بايعوا كرها(4).

ص:68


1- شرح نهج البلاغة لا بن أبي الحديد 225:12، بحار الأنوار 364:28.
2- العقد الفريد 214:2، الطرائف ص 423 عنه.
3- نهج البلاغة ص 387-388 رقم الرسالة: 28.
4- روی مسلم في صحيحه، باسناداه عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَی أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَفَدَكٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَالِ»، وَإِنِّي وَاللهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَي أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَی فَاطِمَةَ شَيْئًا. فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَی أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، قَالَ: فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّي تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَيْلًا، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ، وَ صَلَّی عَلَيْهَا عَلِيٌّ، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وِجْهَةٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِی وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الْأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إِلَی أَبِي بَكْرٍ أَنِ ائْتِنَا وَلَا يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ، كَرَاهِيَةَ مَحْضَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: وَاللهِ، لَا تَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَ مَا عَسَاهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي؟ إِنِّي وَاللهِ لَآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُوبَكْرٍ، الحديث. صحيح مسلم3: 1380 برقم: 1759 كتاب الجهاد والسير. اقول: و في هذا الحديث ما لا يغني الباحث عنه في اثبات الخلافه و الامامه لامير المومنين علي بن ابي طالب عليه السلام و بطلان خلافه من تقدمه و صريح في عدم مبايعه امير المومنين عليه السلام و اصحابه في تلك المده و ان فاطمه الصديقه الشهيده سلام الله عليها ماتت و كانت واجده اي: غاضبه عليهما و ما بايعت حتي ماتت و من راجع الروايات الكثيره المتواتره من الفريقين من قول الرسول صلی الله عليه و اله انه قال لفاطمه عليها السلام ان الله يرضي لرضاها و يغضب لغضبها و الروايات الكثيره الوارده في فضل فاطمه الزهرا عليها السلام. لو تاملها المنصف لا يشك في كفر من اذاها و يكفي في تحقق اذاها انها اوصت ان تدفن ليلا و لا تحضر جنازتها من اذاها.

فقد روي ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: أن ّ عمر خرج شاهرا سيفه،

ص:69

يطلبها من كل ّ أحد شاء أ و لم يشأ، و أنّه قصد قتل سعد بن عبادة لمّا امتنع منها، و وقع في صدر المقداد، و كسر سيف الزبير بالحجر(1).

و ذلك آية الاكراه، فأين الإجماع؟ علی أنّه ليس أصلا في الدلالة، فلا بدّ من استناداه إلی دليل، و إلّا كان خطأ.

و ذلك الدليل: إمّا عقلي، و هو منتف؛ ضرورة إذ ليس في العقل ما يدل ّ علی إمامة أبي بكر قطعا.

أو نقلي، و هو منتف أيضا علی آرائهم؛ لزعمهم موت النبي صلی اللّه عليه و آله بغير وصية، و اعترأ فهم بأنّه لم يسمع منه لفظ يقتضي تفويض أمرها إلی اختيار الامّة، بل القرآن يناويهم «وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَ تَعالی عَمّا يُشْرِكُونَ» (2)«وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَي اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (3) فنبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّوا لا يعلمون.

و أيضاً فقد بيّنا ثبوت النصّ المتواتر علی إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام، فلو أجمعوا علي خلافه كان خطأً؛ لأنّه إجماع علی خلاف النصّ.

ص:70


1- قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 174:1: وعمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر، و رقم المخالفين فيها، فكسر سيف الزبير لمّا جرّده، و دفع في صدر المقداد، و وطيء في السقيفة سعد بن عبادة، و قال: اقتلوا سعداً، قتل اللّه سعداً، وحطّم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة: أنا جذيلها المحكّك، و غذيقها المرجّب، و توعّد من لجأ إلي دار فاطمة عليها السلام من الهاشميين، وأخرجهم منها، و لولاه لم يثبت لأبي بكر أمر، ولا قامت له قائمة.
2- سورة القصص: 68.
3- سورة الأحزاب: 36.

و أيضاً فإنّ هؤلاء الذين نشأ منهم الإجماع كانوا متّفقين علی أنّ الخلافة ليستحقّها غير أبي بكر، و أنّه لم يكن عندهم في منزلة من يصلح لها و لا يشاور فيها، بدليل أنّهم شرعوا فيها، و جری حديث عقدها لبعض من حضر منهم، و لا بعثوا إليه يحضرونه، و لا استشاروه، بل حضر هو بنفسه مع عمر.

و أيضاً فقد قالت الأنصار عند اجتماعهم في السقيفة مع المهاجرين: منّا أمير و منكم أمير(1). و الضرورة قاضية بأنّه لا يجوز أن يكون لهم في وقت واحد إلّا إمام واحد، و سيأتي ما ينبّه عليه، فيجب أن يكون المجتمعون في السقيفة الذين قالوا ذلك ضالّين.

و لهذا لمّا رأي بعضهم ذلك مع ما رأوا من الدلائل التي لا يمكن معها إنكار الوصية بها، إدّعوا حصولها له، و احتجّوا بذلك بما افتروه من حديث الخلّة و نحوه، و لم يتفطّنوا إلی أنّ ذلك مردود بأُمور:

الأوّل: طلبه الإقالة منها بقوله «أقيلوني فلست بخيركم و علی فيكم»(2) فلو كانت بنصّ الرسول صلی اللّه عليه و آله لكان ذلك منه لغواً؛ إذ لا مقيل منها حينئذ.

الثاني: قوله عند موته «ليتني سألت رسول اللّه هل للأنصار في هذا الأمر حقّ»(3) و «ليتني في ظلّة بني ساعدة كنت ضربت علی يد أحد الرجلين، فكان هو

ص:71


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 24:2 و 3:6.
2- بحار الأنوار 518:29 و 495:30 و 504، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 169:1، الطرائف ص 402 و 496.
3- بحار الأنوار 380:28 و 122:30 و 134، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 45:2 و 262:12 و 164:17.

الأمير وأنا الوزير»(1).

الثالث: قول عمر «إن لم أستخلف فإنّ رسول اللّه لم يستخلف» رواه الحميدي(2).

الرابع: قوله أيضاً «كانت بيعة أبي بكر فلتة»(3) أي: فجأة، بمعني أنّها لم تكن عن تدبّر ولا تروٍّ.

الخامس: إتّفاقهم جميعاً علي أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله مات بغير وصية.

السادس: إختلافهم في أمر الخلافة عند حلولهم سقيفة بني ساعدة لعقد الرأي، و ظفرهم بالفرصة لاشتغال علي عليه السلام و سائر بني هاشم بمصيبة النبي صلی اللّه عليه و آله، فعمر استخلف أبابكر، والمهاجرون قالوا: نحن أحقّ بالأمر لأنّ الرسول منّا، والأنصار قالوا: نحن آويناه ونصرناه، فمنّا أمير و منكم أمير، إلي أن خصمهم أبوبكر بحديث «الأئمّة من قريش» فلو نُصّ عليه لخصمهم بالنصّ.

السابع: ما تقدّم من النصوص علی إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام التي بلغت حدّ التواتر، وربما نزّلها بعضهم علی ثبوت خلافته بعد خلافة أبي بكر و أخويه، وهو مردود بأنّ الجماعة غير علي عليه السلام لا يصلحون لها؛ لظلمهم بتقدّم خلافهم، و قد قال اللّه تعالی: «لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ» (4) والمشتقّ لا يشترط في صدقه بقاء أصله،

ص:72


1- بحار الأنوار 137:30، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 164:17.
2- بحار الأنوار 363:31، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 189:12.
3- بحار الأنوار 443:30318:27 و 49:32، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 31:9 و 224:13 و 164:17 و 21:20، الطرائف ص 237.
4- سورة البقرة: 124.

كما تقرّر في موضعه.

و روی ابن المغازلي الشافعي في مناقبه، عن ابن مسعود، قال: قال النبي صلی اللّه عليه و آله: انتهت الدعوة إلی و إلی علي، و لم يسجد أحدنا لصنم قطّ، فاتّخذني نبياً، و اتّخذ علياً وصياً(1).

و مثله روي الخطيب الخوارزمي في مناقبه(2).

و مقتضي ذلك أنّ الدعوة لم تنته إلی غيرهما ممّن ليس من ذرّيتهما.

و أيضاً العصمة التي هي شرط في الإمام لا توجد في غيره من هؤلاء باتّفاق الكلّ، و لهذا اشترطوا التنصيص عليه؛ لأنّها أمر خفي لا يمكن الاطّلاع عليه إلّا بالنصّ.

و بعض حشويتهم يحتجّ علي الواسطة بأنّ علياً قد قتل من المحاربين للّه ولرسوله عدداً كثيراً، فتقديمه يوجب ارتداد كثير من الناس؛ لما في قلوبهم عليه من الغوايل، فوجب تقديم غيره ليؤمن وقوع هذه الحالة.

و هو احتجاج مردود؛ لأنّ اللّه تبارك و تعالی أرسل الرسل عليهم السلام إلي من يعلم أنّهم يكفرون، و كلّف قوماً وعلم أنّهم يضلّون إذا كلّفهم، ومعلوم أنّ ضلالهم من أنفسهم، فوجب أن يفرض تقديم صاحب الحقّ بعد الرسول صلی اللّه عليه و آله، فمن لم يرض كان ضلاله من نفسه.

علی أنّ قولهم ثبوت الخلافة لأبي بكر يناقض ما رووه من قوله «ولّيتكم

ص:73


1- مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام لابن المغازلي الشافعي ص 277.
2- إحقاق الحقّ 89:4 عنه.

و لست بخيركم»(1).

و قوله «إنّ لي شيطاناً يعتريني»(2).

و قول عمر «كانت بيعة أبي بكر فلتة وقي اللّه المسلمين شرّها، فمن عاد إلي مثلها فاقتلوه»(3).

فإنّ رؤساءهم إن كذبوا في ذلك، فلا إمامة لكذّاب.

و إن صدقوا، فمن لم يكن بخير الناس وكان له شيطان يعتريه وكانت بيعته فلتة يجب القتل علی فعلها مثلها كيف تصحّ خلافته.

و إذا بطلت خلافته، كيف تصحّ خلافة العدوي المبتنية علی خلافته؟ كابتناء خلافة الأموي علی خلافة العدوي.

و قد أشار إلي ذلك أميرالمؤمنين عليه السلام بقوله في الخطبة الشقشقية: فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته(4).

و روی الثقة أبو عبداللّه الحسين في كتابه الموسوم بالاعتبار في إبطال الاختيار، بإسناده إلی أبان بن عثمان، قال: قال الصادق عليه السلام: إنّ اثني عشر رجلاً

ص:74


1- بحار الأنوار 201:28 و 291:30، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 169:1 و 55:2 و 159:17.
2- بحار الأنوار 291:30 و 497، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18:6 و 155:17 و 157 و 159.
3- بحار الأنوار 443:30 و 49:32، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 31:9 و 224:13 و 164:17 و 21:20، الطرائف ص 237.
4- نهج البلاغة ص 48: رقم الخطبة: 3.

من المهاجرين والأنصار كأبي ذرّ وسلمان و المقداد و عمّار و خالد بن سعيد و بريدة و قيس بن سعد و أبي الهيثم و سهل بن حنيف و ذي الشهادتين و اُبي بن كعب و أبي أيّوب الأنصاري، أنكروا علي أبي بكر قيامه بالأمر، و شهدوا بأنّ الخلافة حقّ علي عليه السلام، و أنّه ظالم له باستيلائه عليها و هو علی منبر رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، فاُفحم علي المنبر لا يستطيع جواباً.

فقام إليه عمر، فقال: أنزل عنها يالكّع إذا كنت لا تقوم بحجّة فلِمَ أقمت نفسك هذا المقام؟ واللّه لقد هممت أن أخلعها عنك وأجعلها في سالم مولی أبي حذيفة، ثمّ أخذه بيده وانطلق إلی منزله، و بقوا ثلاثة أيّام لا يدخلون مسجد رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، فلمّا كان اليوم الثالث جاءهم خالد بن الوليد، فقال: ما جلوسكم؟ فقد طمعت واللّه فيه بنو هاشم.

ثمّ جاءهم سالم و معه ألف رجل، و جاءهم معاذ و معه أيضاً ألف رجل، فخرجوا شاهري سيوفهم يقدمهم عمر حتّي و قفوا بمسجد رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، و أميرالمؤمنين عليه السلام جالس في نفر من أصحابه، فقال عمر: يا أصحاب علی لأن ذهب رجل منكم يتكلّم بالذي تكلّم به بالأمس لآخذنّ الذي فيه عيناه.

فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص رضي اللّه عنه، فقال يابن صهّاك الحبشية أبأسيافكم تهدّدونا أم بجمعكم تفزعونا؟ و اللّه إنّ أسيافنا أحدّ من أسيافكم، و إنّا لأكثر منكم و إن كنّا قليلين؛ فإنّ حجّة اللّه فينا، و اللّه لولا أنّي أعلم أنّ طاعة إمامي أولي بي لشهرتُ سيفي وجاهدتكم إلی أن أُبلي عذري، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: اجلس ياخالد، فقد عرف اللّه مقامك، وشكر لك فعلك، فجلس.

و قام سلمان الفارسي رضي اللّه عنه، فقال: اللّه أكبر اللّه أكبر، سمعت رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله و إلّا فصمّتا، و هو يقول: بينا أخي و ابن عمّي جالس في مسجدي في نفر من أصحابه إذ

ص:75

يثب إليه جماعة من كلاب النار يريدون قتله وقتل من معه، فلست أشكّ إلّاأنّكم هم، فهمّ به عمر، فوثب إليه أميرالمؤمنين عليه السلام وأخذ بجامع ثوبه، وقال: يابن صهّاك لولا كتاب من اللّه سبق وعهد من رسول اللّه تقدّم لأريتك أيّنا أقلّ جنداً وأضعف ناصراً، ثمّ التفت إلي أصحابه، فقال لهم: انصرفوا رحمكم اللّه، فواللّه لا دخلت هذا المسجد إلّاكما دخله أخواي موسی وهارون عليهما السلام، إذ قال له أصحابه: اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون. قال أبان: قال الصادق عليه السلام: واللّه ما دخله عليه السلام إلّا كما قال(1).

و رووا في كتبهم: أنّ أبابكر لمّا جلس للبيعة قال له بريدة: أنسيت التسليم علی علي بامرة المؤمنين؟ فقال: أذكره، فقال بريدة: فهل ينبغي لأحد أن يتأمّر علی أميرالمؤمنين؟ فقال عمر: إنّ الخلافة والنبوّة لا يجتمعان في بيت واحد، فقال له بريدة: قد قال اللّه تعالی: «أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» (2) و هي الخلافة، فسكت(3).

و الذي يكذب ما زعمه، وأنّه كان منه عصبية و عداوة لأهل البيت عليهم السلام استصلاحه علياً عليه السلام للإمامة يوم الشوري، لنصّه في ذلك علي ستّة هو منهم.

و كذا ما ذكره ابن الأثير الجزري في حديث طويل أنّه قال لابن عبّاس: إنّ قريشاً كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة، فتنجّحوا علي قومكم نجحاً،

ص:76


1- الاحتجاج للطبرسي 186:1-201، بحار الأنوار 189:28-202.
2- سورة النساء: 54.
3- المناقب لابن شهرآشوب 53:3-54.

فاختارت قريش لأنفسها، فأصابت و وفّقت(1).

و ذلك لدلالة هذا القول منه علی أنّ ما فعلته قريش في العدول بالأمر عنهم لم يكن إلّاحسداً و بغياً و تنافساً في الدنيا، مع ما في قوله «فأصابت و وفّقت» من الدلالة علی الرضا التامّ بما فعلوه، و أنّه هو الحقّ و الصواب بزعمه.

ولا غرو فإنّه هو الذي أسّس عليهم أساس الظلم و الجور، و هو الذي منع النبي صلی اللّه عليه و آله في مرض موته من الكتاب الذي أراد أن يجدّد فيه النصّ علی أميرالمؤمنين عليه السلام بالخلافة، بأقبح ظلم وأفحشه.

حتّی أنّه روی الحميدي وغيره أنّه لمّا أراد أن يكتب الكتاب، قال: إنّ الرجل ليهجر(2).

و مثله ما رواه صاحب المشكاة والمصباح أنّه قال: قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب اللّه(3).

و روی أيضاً عن سليمان بن أبي مسلم الأحول قال ابن عبّاس: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثمّ بكی حتّی بلّ دمعه الحصی، قلت: يابن عبّاس و ما يوم الخميس؟ قال: اشتدّ برسول اللّه صلی اللّه عليه و آله وجعه، فقال: إيتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً، فتنازعوا، فقال: قوموا عنّي ولا ينبغي عندي تنازع، فقالوا: ما شأنه أهجر استفهموه(4).

ص:77


1- الكامل لابن الأثير 10:2-15.
2- مسند أحمد بن حنبل 346:3.
3- صحيح مسلم 1257:3-1259، صحيح البخاري 127:5.
4- صحيح مسلم 1259:3، صحيح البخاري 37:1، الطرائف ص 433.

و الهجر من المريض لا يكون إلّابمعني الهذيان، و يكفي في كفر عمر منعه الرسول صلی اللّه عليه و آله من الكتاب بهذا القول الفضيع، و زعمه أنّه أعرف منه في تدبير الاُمّة و حفظ الشريعة، حيث قال: حسبنا كتاب ربّنا، و إيقاعه حسرة في قلبه بالمنع.

و العجب من أوليائه كيف حملوا لفظة «يهجر» الواقعة في كلامه علی المهاجرة؟! مع مخالفته للقياس و مقتضي الحال جزماً، خوفاً من الطعن عليه، و لم يحملوا الآيات الواردة بوقوع ما نهي اللّه عنه من الأنبياء علی خلاف ظواهرها، و هو ما نهي اللّه عنه تنزيهاً، مع قيام الأدلّة القاطعة علي عصمتهم دونه.

و كيف استدلّوا علی إمامة أبي بكر بتقديم النبي صلی اللّه عليه و آله إيّاه في مرض موته؟! فجعلوا ذلك نصّاً منه في وجوب اتّباعه، و جعلوا أمره بالكتاب الذي نصّ علی أن فيه هدي الاُمّة هذياناً، إن هم إلّا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً.

و كيف استدلّوا علی خلافة عمر أنّ أبابكر نصّ عليه بها؟! مع أنّ ذلك إنّما وقع في مرض موته، فهل كان أبوبكر أكمل من النبي صلی اللّه عليه و آله حتّي لا يحمل كلامه علی الهذيان دون كلام النبي المعصوم من الزلل والنقصان، ولكنّهم - لعنهم اللّه - يقولون علي اللّه الكذب، ويكتمون الحقّ وهم يعلمون، و ما أحسن ما قيل في هذا المعني شعراً:

أوصی النبي فقال قائلهم *** قد ضلّ يهجر سيّد البشر

و أری أبابكر أصاب فلم يهجر *** و قد أوصی إلی عمر(1)

لكنّه احتال في تلبيس الأمر علی الأنام؛ لأنّه عرف منه إرادة تجديد النصّ علی علي عليه السلام، فقال ذلك ليحول بينه و بين ما أراده من ذلك، و لهذا تخلّف هو

ص:78


1- كشف الغمّة للأربلي 156:1.

و أخواه عن جيش اسامة الذي جهّزه النبي صلی اللّه عليه و آله في ذلك المرض، و كرّر أمر الصحابة بتنفيذه، و أكّد عدم تخلّفهم عنه، حتّی أنّه لعن من تخلّف عنه أوّلاً، و نصّ عليه و علی قرينيه ثانياً؛ لئلّا يتواثبوا علي الخلافة بعده، و ذلك لغلبة ظنّهم بموته، و خوف فوت ما أضمروه من المخالفة لعلي عليه السلام، وادّعاء الأمر من دونه(1).

ص:79


1- روی ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 52:6: باسناده عن عبداللّه بن عبدالرحمن، أنّ رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله في مرض موته أمّر اسامة بن زيد بن حارثة علی جيش فيه جلّة المهاجرين والأنصار، منهم أبوبكر و عمر وأبوعبيدة بن الجرّاح، و عبدالرحمن بن عوف، و طلحة و الزبير، و أمره أن يغير علی مؤتة حيث قتل أبوه زيد، و أن يغزو وادي فلسطين، فتثاقل اسامة و تثاقل الجيش بتثاقله.و جعل رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله في مرضه يثقل ويخفّ، و يؤكّد القول في تنفيذ ذلك البعث، حتّی قال له اسامة: بأبي أنت و اُمّي أتأذن لي أن أمكث أيّاماً حتّی يشفيك اللّه تعالی، فقال: اخرج و سر علی بركة اللّه، فقال: يا رسول اللّه إنّ أنا خرجت و أنت علی هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة منك، فقال: سر علی النصر والعافية، فقال: يا رسول اللّه إنّي أكره أن أسأل عنك الركبان، فقال: أنفد لما أمرتك به.ثمّ اغمي علی رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، وقام اسامة فتجهّز للخروج، فلمّا أفاق رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله سأل عن اسامة والبعث، فاُخبر أنّهم يتجهّزون، فجعل يقول: أنفذوا بعث اسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه، و كرّر ذلك، فخرج اسامة واللواء علی رأسه والصحابة بين يديه، حتّی إذا كان بالجرف نزل و معه أبوبكر و عمر و أكثر المهاجرين، و من الأنصار اسيد بن حضير، و بشير بن سعد، و غيرهم من الوجوه، فجاءه رسول امّ أيمن يقول له: ادخل فإنّ رسول اللّه يموت، فقام من فوره، فدخل المدينة واللواء معه، فجاء به حتّي ركزه بباب رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، و رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله قد مات في تلك الساعة. و راجع: بحار الأنوار 427:30.

و ربما اعتذر بعض رؤسائهم - كأبي هاشم في الجامع الصغير - عن تخلّفهم عن ذلك الجيش، بأنّ تجهيزه إيّاه لم يكن بوحی من اللّه بل باجتهاده، فجاز مخالفته فيه بعد موته، بدليل إمساك اسامة عن المسير، و قوله «لم أكن لأسأل عنك الركب» و تخلّف صنمي قريش عنه(1).

و هو مردود بصريح قوله تعالی: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوي * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحی» (2) علی أنّ مخالفة هؤلاء له كيف يكون دليلاً علی جواز مخالفته؟

و أيضاً مخالفتهم له كانت في حياته، فلو كانت دليلاً علی ذلك لجواز مخالفته في حياته و بعد موته، فأيّ وقت يجب القبول منه؟ و فيه من تجويز الخطأ عليه ما هو قذف بالنسبة إليه، وما هو بأدون من سبّ الكفّار له.

و لا يبعد ذلك من قوم يجعلون لخطأ فقهائهم أجراً، ويقولون: إذا وقع من الرسول ما ظاهره الخطأ عفي اللّه عنه، فيجعلون رتبته أدني من رتبتهم، ويلتزمون بالطعن عليه، ولا يلتزمون بالطعن علی عمر لمخالفته النبي صلی اللّه عليه و آله في تخلّفه عن جيش اسامة لغدر أضمره.

و الذي يؤكّد ما قلناه من أنّه هو الذي منعه من الكتاب، ما رواه الحميدي عن جابر، قال: دعا رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله بصحيفة عند موته، فأراد أن يكتب لهم كتاباً لا يضلّون بعده، فكثر اللغط، وتكلّم عمر، فرفضها رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله(3).

ص:80


1- الطرائف للسيد ابن طاووس ص 449 عن الجامع الصغير لأبي هاشم المعتزلي.
2- سورة النجم: 3-4.
3- مسند أحمد بن حنبل 346:3، صحيح مسلم 1259:3، صحيح البخاري 37:1، الطرائف ص 431-432.

و من أنّ منعه من الكتاب ليحول بينه و بين ما أراده من ذلك، ما نقله عبدالحميد بن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن تاريخ بغداد لأحمد بن أبي طاهر، أنّ ابن عبّاس قال: دخلت علی عمر في أوّل خلافته، وقد القي له صاع من تمر علی خصفة، فدعاني للأكل، فأكلت تمرة واحدة، و أقبل يأكل حتّی أتي عليه، ثمّ شرب من جرّة كان عنده، و استلقي علی مرفقه، و طفق يحمد اللّه، يكرّر ذلك.

ثمّ قال: من أين جئت يا عبداللّه؟ فقلت: من المسجد، قال: كيف خلّفت إبن عمّك؟ فظننته يعني عبداللّه بن جعفر، فقلت: خلّفته يلعب مع أترابه، فقال: لم أعن ذاك، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت، فقلت: خلّفته يمتح بالقرب(1) علی نخيلات له و هو يتلو القرآن، فقال: يا عبداللّه عليك دماء البدن إن كتمتنيها أبقي في نفسه شيء من الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أيزعم أنّ رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله جعلها له؟ قلت: نعم وأزيدك أنّي سألت أبي عمّا يدّعيه، فقال: صدق.

فقال عمر: لقد كان من رسول اللّه ذرء من قول لا يثبت حجّة و لا يقطع عذراً، و قد كان يزيغ(2) في أمره وقتاً ما، و لقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعت من ذلك إشفاقاً و حفيظةً علی الإسلام، و ربّ هذه البنية لا يجتمع عليه قريش أبداً، و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول اللّه أنّي علمت ما في نفسه، فأمسك، فأبي اللّه إلّاإمضاء ما حتّم(3).

و فيه زيادات أقلّها تقتضي كفره، مثل ردّه علی الرسول صلی اللّه عليه و آله زاعماً بأنّه علم من

ص:81


1- في الشرح: الغرب. بمعني الدلو.
2- في الشرح: يربع.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 20:12-21.

الإسلام و صلاحه ما لا يعلمه، و استحقاره قدر علي عليه السلام باستصغاره، و نسبة الزعم إليه الذي هو مظنّة الكذب، و صدور ما لا يثبت حجّة و لا يقطع عذراً من النبي صلی اللّه عليه و آله في حقّه.

و روی ابن عبد ربّه في المجلّد الرابع من كتاب العقد، عن ابن عبّاس، قال: إنّي ماشيت عمر بن الخطّاب يوماً، فقال لي: ما منع قومكم منكم و أنتم أهل البيت خاصّة؟ قلت: لا أدري، قال: لكنّي أدري، إنّكم فضّلتموه بالنبوّة، فقالوا: إن فضّلونا بالخلافة مع النبوّة لم يبقوا لنا شيئاً، و إنّ أفضل النصيبين بأيديكم، بل ما أخالها إلّا مجتمعة فيكم، وإن تركت علی رغم أنف قريش(1).

و هو صريح في أنّ الخلافة حقّ علي عليه السلام، وأنّه ظالم له بتقدّمه عليه.

و أورد علي بن عيسي الأربلي في كشف الغمّة، من الموقفيات للزبير بن بكّار الزبيري، و هو من المشهورين بالتسنّن، قال: حدّث الزبير، عن رجاله، عن ابن عبّاس، قال: إنّي لاُماشي عمر بن الخطّاب في سكّة من سكك المدينة، إذ قال لي: يابن عبّاس ما أظنّ صاحبك إلّامظلوماً، قلت في نفسي: واللّه لا يسبقني بها، فقلت: يا أمير المؤمنين فاردد ظلامته، فانتزع يده من يدي و مضی و هو يهمهم ساعة، فلحقته، فقال: يابن عبّاس ما أظنّهم منعهم منه إلّا استصغروه، فقلت في نفسي: هذه واللّه شرّ من الاُولی، فقلت: واللّه ما استصغره اللّه حين أمره أن يأخذ سورة براءة من صاحبك، قال: فأعرض عنّي(2).

و كيف يحلّ لمن يخاف المعاد أن يقول عن علي عليه السلام إنّهم استصغروه؟ و من

ص:82


1- العقد الفريد 214:2، الطرائف ص 423.
2- كشف الغمّة 419:1.

هؤلاء المستصغرون الذين عناهم عمر ليس إلّا هو و أتباعه، فإنّه أوّل من بايع أبابكر، و عدل بالأمر عن علي عليه السلام، وألقح الفتنة، مع اعترافه بأنّه مظلوم في العدول بالأمر عنه، و هو إقرار علی نفسه بالظلم.

و نقل السيّد الجليل علي بن طاووس في الطرائف أنّه وجد في خزانة الكتب بالرباط المعروف بتربة الأخلاطية بالجانب الغربي من بغداد، في ورقة ملحقة بآخر كتاب أعلام رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، تأليف المأمون العبّاسي، و تاريخ الكتاب المذكور شوّال سنة إحدی و خمسين و مائتين: إنّه نزلت بعمر نازلة عظيمة عجز عنها المهاجرون لمّا سألهم عنها، فسأل عنها أميرالمؤمنين عليه السلام، فأصدر إليه جوابها، فلوي عمر يده و قال: أما واللّه لقد أرادك الحقّ ولكن أبي قومك، فقال له: يا أباحفص حفظ عليك من هنا و من هنا، إنّ يوم الفصل كان ميقاتاً، فانصرف و قد أظلم وجهه، فكأنّما ينظر من ليل(1).

و فيه تهدّد له بيوم القيامة، و إقرار منه بأنّه مظلوم، وأنّه يعلم ذلك، و لا يسهل عليه تسليم الخلافة إليه ميلاً إلي الرئاسة.

و أورد ابن عبد ربّه في كتاب العقد و بعض أرباب التواريخ، أنّ طلحة قال له:

ولّيته - يعني: أبابكر - أمس و ولّاك اليوم(2). ولم ينكر ذلك عليه، فكأنّه إجماع منهم علی أنّه السبب في هذه الولاية.

و أيضاً روي في الكتاب المقدّم ذكره، و كذا المبرّد في الكامل عن عبدالرحمن بن عوف، أنّه قال: دخلت علی أبي بكر في علّته التي مات فيها، فقلت: أراك متأذّياً

ص:83


1- الطرائف ص 424.
2- العقد الفريد 208:2 طبع الأزهرية بمصر، الطرائف ص 402.

يا خليفة رسول اللّه؟ فقال: إنّي علي ذلك لشديد الوجع، و لما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشدّ عليَّ من وجعي، إنّي ولّيت اموركم خيركم في نفسي، فكلّكم ورم أنفه. أي: امتلأ من ذلك غيضاً(1).

و هو بصريحه يقتضي اعترافه بأنّ سائر الصحابة كانوا كارهين لهذه الولاية، مع أنّها تقتضي الطعن عليه بأنّه خالف الرسول صلی اللّه عليه و آله في الاستخلاف؛ لأنّه بزعمهم لم يستخلف، و في تولية من عزله؛ لأنّه هذا اللعين الذي ولّاه لم يولّه عملاً سوی أنّه بعثه في خيبر، فرجع منهزماً، وولّاه أمر الصدقات، فشكاه العبّاس إليه فعزله.

و قد أورد فخرالدين الرازي في المحصول في باب إنّ إجماع الصحابة حجّة:

أنّه قد ورد النصّ المستفيض بأنّ الحقّ يدور مع علي عليه السلام كيف ما دار.

و إذا دار الحقّ معه، فقد ثبت بالإجماع أنّه امتنع عن بيعة الأوّل بلا خلاف: فإمّا أن لا يكون الحقّ معه في تلك الحالة، و ذلك باطل للخبر الصادق بأنّ الحقّ دائر معه. و إمّا أن يكون الحقّ معه في تلك الحالة، و هو المطلوب، و هو صريح في أنّه الإمام بلا فصل لمن خلا قلبه من داء العناد و الجهل.

و قد بيّنا أنّ الحديث الغدير كذلك، بل كثير ممّا تقدّم من النصوص يحذو حذوهما، و ربما أنكر بعضهم دلالة بعضها علی المطلوب، و ذلك غير قادح، فإنّه لا يشترط في البديهي أن يتطابق الناس علي الاعتراف به، فقد أنكر قوم البديهيات، و لا في المتواتر إتّفاق المخبرين علی صحّته، فإنّ اليهود يطعنون علی أشياء من متواترات شرعنا، علی أنّ منكريها لا يخرجون عن أمرين: العناد، أو الشبهة المانعة من اعتقاد موجبها.

ص:84


1- الكامل للمبرّد ص 15-17، الطرائف ص 401.

و لهذا شرط السيّد المرتضی عدم سبق نقيض الخبر إلی اعتقاد السامع بشبهة أو تقليد.

و من عمدة شبههم علی هذه النصوص أنّها لو صدرت من النبي صلی اللّه عليه و آله لما توقّف الصحابة في العمل لموجبها، و لما اختلفوا عند حلولهم سقيفة بني ساعدة في تعيين الإمام؛ لأنّهم بذلوا مهجهم و ذخائرهم، و قتلوا أقاربهم و عشائرهم في نصرته، و إقامة شريعته، و انقياد أمره، و اتّباع طريقته، فكيف يخالفوه قبل أن يدفنوه، ولا يتّبعوا من نصّ عليه فيها.

ولا ريب أنّ هذه الشبهة عند المنصف من أوهن الشبه، فإنّ أكثرهم خالفوه في حياته، و فارقوه في عدّة من غزواته، و كان يسيؤون المصاحبة له بمحضره، و يتركون الموافقة له في حالتي رضاه و غضبه، و يفارقونه و هو في الصلاة إذا رأوا تجارة أو لهواً(1)، و يخالفونه في فرائض كانت مشهورة في زمانه، و كان يكرّرها عليهم، كالأذان و الوضوء، و تفصيل الصلاة و غيرها من الفرائض، و منهم من كان يعيبه بأنّه لم يعدل في قسمة الصدقات.

و روی الحميدي في الجمع بين الصحيحين أنّ عمر قال: قسّم رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله قسماً، فقلت: واللّه لغير هؤلاء كان أحقّ به منهم(2).

و روی الحافظ محمّد بن موسی الشيرازي في تفسيره: إنّ أبابكر و عمر لم يمتثلا أمره علی التعيين بقتل من أخبر بأنّ وجوده سبب لافتراق الاُمّة، و بلوغ

ص:85


1- إشارة إلی قوله تعالي في سورة الجمعة «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ».
2- صحيح مسلم 730:3، الطرائف ص 465.

فرقها إلي ثلاث وسبعين، معتذراً أحدهما بأنّه رآه راكعاً، والآخر بأنّه رآه ساجداً، وقد نهي النبي صلی اللّه عليه و آله عن قتل المصلّين(1).

ص:86


1- روی الحافظ الشيرازي من تفاسير أهل العامّة، باسناده عن أنس بن مالك، قال: كنّا جلوساً عند النبي صلی اللّه عليه و آله، فتذاكرنا رجلاً يصلّي ويصوم ويتصدّق ويزكّي، فقال لنا رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: لا أعرفه، فقلنا: يا رسول اللّه إنّه يعبد اللّه ويسبّحه ويقدّسه ويوحّده، فقال: لا أعرفه، فبينما نحن في ذكر الرجل إذا طلع علينا، فقلنا: هو هذا، فنظر إليه رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله وقال لأبي بكر: خذ سيفي هذا و اذهب إلی هذا الرجل و اضرب عنقه، فإنّه أوّل من رأيته من حزب الشيطان، فدخل أبوبكر المسجد، فرآه راكعاً، فقال: واللّه لا أقتله، فإنّ رسول اللّه نهانا عن قتل المصلّين، فرجع أبوبكر، فقال: يا رسول اللّه إنّي رأيت الرجل راكعاً وإنّك نهيتنا عن قتل المصلّين.فقال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: اجلس يا أبابكر فلست بصاحبه، قم يا عمر وخذ سيفي من أبي بكر وادخل المسجد فاضرب عنقه، قال: فأخذت السيف من يد أبي بكر و دخلت المسجد، فرأيت الرجل ساجداً، فقلت: واللّه لا أقتله فقد استأذنه من هو خير منّي، فرجعت إلی رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، فقلت: يا رسول اللّه إنّي رأيت الرجل ساجداً.فقال: يا عمر اجلس فلست بصاحبه، قم يا علي فإنّك قاتله إن وجدته فاقتله، فإنّك إن قتلته لم يقع الضلال والاختلاف بين امّتي أبداً.قال علي عليه السلام: فأخذت السيف ودخلت المسجد فلم أره، فرجعت إلي رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله وقلت: ما رأيته، فقال: يا أباالحسن إنّ امّة موسی افترقت علی أحد وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار، وإنّ امّة عيسی افترقت علی اثنين وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار، و إنّ امّتي ستفترق علی ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار.

فإذا كان هذا حالهم في مخالفته في حياته في مثل ذلك، فكيف يستبعد مخالفتهم له بعد مماته في طلب الملك والخلافة والجاه والمال، و قد انقطعت مشاهدتهم له وحياؤهم منه.

و قد أشار إلی ذلك أميرالمؤمنين عليه السلام بقوله: حتّي إذا قبض رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله رجع قوم علی الأعقاب، و غالتهم السُبل، و اتّكلوا علی الولائج، و وصلوا غير الرحم، و هجروا السبب الذي امروا بمودّته، و نقلوا البناء عن رصّ أساسه، فبنوه في غير موضعه، معادن كلّ خطيئة، وأبواب كلّ ضارب [في غمرة](1) قد ماروا في الحيرة، وذهلوا عن(2) السكرة، علی سنّةٍ من آل فرعون: من منقطع إلي دار الدنيا راكنٍ، أو مفارق للدين مباينٍ(3).

فما هم واللّه إلّاالذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً(4)، وقد كانوا يتساهلون عن معرفة شريعته، و يشتغلون عن ذلك بالبيع

ص:87


1- الزيادة من النهج.
2- في النهج: في.
3- نهج البلاغة ص 209 رقم الخطبة: 150.
4- إشارة إلی قوله تعالی «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً * اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» سور الكهف: 103-104.

و الشراء.

يدلّ علی ذلك ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين أنّ عمر قال عن أمر الاستئذان: إنّه خفي علی هذا، ألهاني عنه الصفق في الأسواق(1).

و روي أيضاً أنّه سأل أباواقد الليثي عمّا قرأ به الرسول صلی اللّه عليه و آله في يوم العيد(2).

و امتداد(3) جهله لمثل ذلك في هذه الأعصر المتطاولة ينبيء عن كمال غفلته عمّا هو الدين.

ص:88


1- رواه مسلم في صحيحه، باسناده عن عبيد بن عمير، أنّ أباموسي استأذن علی عمر ثلاثاً، فكأنّه وجده مشغولاً، فرجع، فقال عمر: ألم تسمع صوت عبداللّه بن قيس ائذوا له، فدعي له، فقال: ما حملك علی ما صنعت؟ قال: إنّا كنّا نؤمر بهذا، قال: لتقيمنّ علی هذا بيّنة أو لأفعلنّ، فخرج فانطلق إلی مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد لك علی هذا إلاّ أصغرنا، فقام أبوسعيد فقال: كنّا نؤمر بهذا، فقال عمر: خفي علی هذا من أمر رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، ألهاني عنه الصفق بالأسواق. صحيح مسلم 1696:3، صحيح البخاري 130:7، الطرائف ص 476.
2- رواه مسلم في صحيحه في باب ما يقرأ به في صلاة العيدين، باسناده عن عبيداللّه بن عبداللّه، أنّ عمر بن الخطّاب سأل أباواقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله في الأضحي والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما ب «ق * وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» واقتربت الساعة وانشقّ القمر.وروی أيضاً باسناده عن عبيداللّه بن عبداللّه بن عتبة، عن أبي و اقد الليثي، قال: سألني عمر بن الخطّاب: عمّا قرأ به رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله في يوم العيد؟ فقلت، باقتربت الساعة، والقرآن المجيد. صحيح مسلم 607:2، الطرائف ص 475.
3- في «ف»: والامتداد.

و من جملة شبههم علی حديث يوم الغدير التي أوردها صاحب المواقف أنّ بعض أصحاب الحديث كالبخاري و مسلم لم ينقلوه، و أنّ علياً عليه السلام لم يكن في ذلك اليوم مع النبي صلی اللّه عليه و آله، بل كان باليمن.

و هي مردودة بأنّ عدم نقل البعض له لا يدلّ علی العدم، و التواتر مداره علی حصول العلم لا علی إيراد الجميع متعلّقه.

و روی معاوية بن عمّار، عن الصادق عليه السلام، أنّ علياً عليه السلام قدم من اليمن والنبي صلی اللّه عليه و آله بمكّة(1). وحديث يوم الغدير كان بعد الرجوع من مكّة، و روايات الحديث ناطقة بأنّ النبي صلی اللّه عليه و آله في ذلك اليوم أخذ بيد علي عليه السلام، و في بعضها بضبعيه قائلاً الحديث.

و ذلك ناطق بحضوره ذلك اليوم عنده.

و ممّن أورد ذلك من رؤسائهم أحمد بن حنبل في مسنده(2)، وابن مردويه في مناقبه(3)، و أبونعيم الأصفهاني في كتابه(4)، والثعلبي في تفسيره(5)، و علي بن عيسی الأربلي في كشف الغمّة(6)، وغيرهم، بعدّة أسانيد، لكن الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد.

و قد شابهوا اليهود والنصاری بإنكارهم ما تواتر بين الفريقين من النصّ علی

ص:89


1- بحار الأنوار 608:30.
2- مسند أحمد بن حنبل 84:1 و 370:4 و 372 و 281
3- المناقب لابن مردويه ص 121.
4- حلية الأولياء 64:1.
5- الطرائف ص 152 عنه.
6- كشف الغمّة 290:1.

أميرالمؤمنين عليه السلام بالخلافة يوم الغدير، وأهملوا الموظّف ذلك اليوم، كما أنكر اليهود والنصاری ما تواتر من النصّ من موسی و عيسی عليهما السلام علی نبوّة خاتم النبيين، و أهملوا الموظّف في يوم مبعثه عناداً للمسلمين.

و كما أنّ اولئك آذوا رسول ربّ العالمين، فكذا هؤلاء آذوا أميرالمؤمنين عليه السلام بالاستصغار لقدره، والانكار لحقّه.

فما أقربهم ممّا رواه أحمد بن حنبل في مسنده، من قول النبي صلی اللّه عليه و آله من آذی علياً بعث يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً(1).

و قد روّينا بالأسانيد المعتبرة أنّه قال له: من آذی شعرة منك فقد آذاني، و من آذاني فقد آذی اللّه(2). و قال اللّه تعالی: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ» (3).

و أوردنا فيما تقدّم أنّهم زعموا عدم عموم إمامته، فما أشبههم بالعيسوية(4)،

ص:90


1- مسند أحمد بن حنبل 483:3، الطرائف ص 75.
2- راجع: إحقاق الحقّ 391:6-392 و 596:16 و 541:21.
3- سورة الأحزاب: 57.
4- قال الشهرستاني في الملل والنحل 215:1: العيسوية نسبوا إلی أبي عيسي اسحاق بن يعقوب الأصفهاني، وقيل: اسمه عوفيد ألوهيم، أي: عابد اللّه، كان في زمن المنصور، وابتداء دعوته في زمن آخر ملوك بني امية مروان بن محمّد الحمار، فأتبعه كثير من اليهود، وادّعوا له آيات ومعجزات، وزعموا أنّه لمّا حورب خطّ علی أصحابه خطّاً بعود آس، وقال: أقيموا في هذا الخطّ، فليس ينالكم عدوّ بسلاح، فكان العدوّ يحملون عليهم حتّي إذا بلغوا الخطّ رجعوا عنهم خوفاً من طلسم عزيمة ربما وضعها. ثم إن أبا عيسی خرج من الخط وحده علی فرسه فقاتل و قتل من المسلمين كثيرا. و ذهب إلی أصحاب موسی بن عمران الذين هم وراء النهر المرمل ليسمعهم كلام اللّه. و قيل: إنه لما حارب أصحاب المنصور بالري قتل و قتل أصحابه. زعم أبو عيسی أنه نبي، و أنه رسول المسيح المنتظر. و زعم أن للمسيح خمسة من الرسل يأتون قبله واحدا بعد واحد. و زعم أن اللّه تعالی كلمه، و كلفه أن يخلص بني إسرائيل من أيدي الأمم العاصين، و الملوك الظالمين. و زعم أن المسيح أفضل ولد آدم؛ و أنه أعلی منزلة من الأنبياء الماضين، و إذ هو رسوله فهو أفضل الكل أيضا. و كان يوجب تصديق المسيح؛ و يعظم دعوة الداعي، و يزعم أيضا أن الداعي هو المسيح. و حرم في كتابه الذبائح كلها، و نهي عن أكل كل ذي روح علی الإطلاق طيرا كان أو بهيمة. و أوجب عشر صلوات، و أمر أصحابه بإقامتها و ذكر أوقاتها، و خالف اليهود في كثير من أحكام الشريعة الكثيرة المذكورة في التوراة.

وهم فرقة من اليهود ينسبون إلی رأس لهم اسمه أبو عيسي الأصفهاني، فإنّهم زعموا أيضاً عدم عموم رسالة نبينا صلی اللّه عليه و آله، بل زعموا أنّه مرسل إلی العرب خاصّة، فكانت مرتبتهما سيّان، و عاقبتهما أسوأ العاقبة.

الوجه الثالث: عدم إقرارهم بإمامة الأئمّة الأحدعشر المعصومين من أبنائه عليهم السلام

التي تواترت بها النصوص النبوية، ونطقت بها الكتب السماوية، وذلك لصرفهم لها عنهم، زاعمين أنّ الحسن بن علي عليهما السلام صالح معاوية اللعين علی الخلافة، فانتقلت إليه بالصلح، ثمّ من بعده إلی علوج بني اميّة الأرجاس، و طواغيت بني العبّاس.

ص:91

و هو خطأ، فإنّ كلام سبط المصطفی عليه السلام في هذا الباب الذي اشترك في نقله الفريقان، صريح في أنّه اضطرّ إلی المسالمة، و إظهار البيعة، دفعاً لسورة النزاع، و حقناً لدماء الاُمّة.

و من ذلك: قوله - لمّا طالبه معاوية بأن يتكلّم علی الناس، و يعلمهم ما عنده في هذا الباب، بعد أن حمد اللّه و أثنی عليه، و صلّی علی نبيه عليه السلام -: إنّ أكيس الكيس التقي، و أحمق الحمق الفجور، أيّها الناس إنّكم لو طلبتم من جابلق إلی جابرس رجلاً جدّه رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله ما وجدتموه غيري و غير أخي الحسين، و إنّ اللّه قد هداكم بأوّلنا محمّد صلی اللّه عليه و آله، و إنّ معاوية نازعني حقّاً هو لي دونه، فتركته لصلاح الاُمّة، و حقن دمائها، و قد بايعتموني علی أن تسالموا من سالمت، و قد رأيت أن اسالمه، و رأيت أنّ ما حقن الدماء خير من سفكها، و أردت صلاحكم، و أن يكون ما صنعت حجّة علی من كان يتمنّي هذا الأمر، وإن أدری لعلّه فتنة لكم ومتاع إلی حين(1).

و هو صريح في ما ذكرنا من اضطراره إلی المسالمة، ولا حجّة في ذلك عليه، كما لا حجّة في مثله علی أبيه لمّا اكره علی بيعة المتقدّمين عليه.

علی أنّ أكثرهم و افقونا في أنّ خلع الإمام نفسه من الإمامة لا يؤثّر في خروجه منها و إن وقع اختياراً، كما حكاه السيّد المرتضی، بدليل أنّ أبابكر طلب الإقالة، و لو تمكّن من خلع نفسه لما افتقر إلی طلبها، فكيف يؤثّر في ذلك إذا وقع إلجاءً كما هنا.

و كذا وافقونا في أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله صالح سهيل بن عمرو و كفّار قريش، و كتب كتاب الصلح، فلم يمضوه حتّی محی إسمه من ذكر الرسالة، و هو أبلغ من ذكر سبطه

ص:92


1- بحار الأنوار 30:44.

لمعاوية.

و كذا وافقونا في أنّ علياً عليه السلام لمّا دعاه معاوية إلی عدوله عن التسمية بامرة المؤمنين، أجابه علی مضض، و اقتصر علی الاسم المضاف إلی الأب.

و أيضاً فقد صحّ أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال مشيراً إلی الحسنين عليهما السلام: هذان إبناي إمامان قاما أم قعدا(1).

و من ثَمّ وافقنا شرذمة منهم في القول بأنّ الإمام الحقّ بعد علی ابنه الحسن عليهما السلام، و إن خالفونا في الإقرار بثبوت الإمامة للاثنی عشر بأسرهم و التصديق بذلك، المتوقّف علی العلم بأنّ كلّ من ادّعی الإمامة غيرهم ظالم متعدّ مفترٍ، و الإقرار بأنّه من جملة رعية الإمام الحقّ تحقيقاً لعموم إمامته.

و من ثَمّ لم يلقّبوا بالاثنی عشرية، بل اختصّت الفرقة المحقّة بهذا الاسم؛ لحصرهم لها في هذا العدد الذي انحصر فيه نقباء بني إسرائيل وأسباطهم، و ساعات الليل والنهار، وأحرف الإقرار بالوحدانية و الرسالة، و منازل القمر، و درجات الشرف المتصاعد من نبينا صلی اللّه عليه و آله إلی النضر بن كنانة الذي هو مردّ كلّ قرشي، و في هؤلاء الأطهار لوجوه:

أحدها: أنّ العصمة شرط في الإمام، بدليل العقل والنقل، و هي منتفية عن غيرهم باتّفاق الخصم، فتنحصر الإمامة فيهم قضيةً للشرط.

الثاني: أنّ اشتراطها فيه يقتضي اعتبار النصّ عليه من النبي صلی اللّه عليه و آله، أو من إمام تقدّمه؛ لأنّها أمر خفي لا يمكن الاطّلاع عليه إلّا من الوحي، فلو لم يكن منصوصاً عليه لزم تكليف ما لا يطاق، و لا ريب أنّ النصّ علی غيرهم مفقود وفاقاً، فلو لم

ص:93


1- راجع: إحقاق الحقّ 216:19 و 48:26.

تنحصر الإمامة فيهم لزم أن لا تكون العصمة شرطاً فيه، هذا خلف.

الثالث: أنّ الكمالات النفسانية، كالعلم و الشجاعة و السخاوة و حسن الخُلق، و البدنية كمزيد القوّة و شدّه البأس، موجودة في كلّ واحد منهم باتّفاق المخالف والمؤالف، فكلّ واحد منهم كما هو كامل في نفسه كذا هو مكمّل لغيره، و ذلك يدلّ علی استحقاقه للرئاسة العامّة؛ لأنّه أفضل أهل زمانه، و يقبح عقلاً و سمعاً تقديم المفضول علی الفاضل فضلاً عن إثبات الحقّ له، كما يقبح تقديم المساوي علی نظيره لانتفاء المرجّح، فيجب أن يكون كلّ واحد منهم إماماً، و هذا برهان لمّي.

الرابع: أنّهم من جنس الرسول صلی اللّه عليه و آله، و الإمام لا يجوز أن يكون من غير جنسه؛ لعلل رواها الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام(1)، بإسناده عنه عليه السلام، منها: أنّه لمّا كان الإمام مفترض الطاعة، لم يكن بدّ من دلالة تدلّ عليه و يتميّز بها من غيره، و هي القرابة المشهورة، والوصية الظاهرة، ليعرف من غيره، و يهتدي إليه بعينه.

و منها: أنّه لو جاز في غير جنس الرسول، لكان قد فضل من ليس برسول علی الرسل؛ إذ جعل أولاد الرسل أتباعاً لأعدائه، كأبي جهل و ابن أبي معيط؛ لأنّه قد يجوز بزعمه أن ينتقل ذلك في أولادهم إذا كانوا مؤمنين، فيصير أولاد الرسول تابعين، و أولاد أعداء اللّه وأعداء رسوله متبوعين، فكان الرسول أولی بهذه الفضيلة من غيره و أحقّ.

و منها: أنّ الخلق إذا أقرّوا للرسول بالرسالة، و أذعنوا له بالطاعة، لم ينكر أحد منهم عن أن يتبع ولده، و يطيع ذرّيته، و لم يتعاظم ذلك في أعين(2) الناس، وإذا

ص:94


1- كذا، و الصحيح علل الشرائع للشيخ الصدوق أيضاً.
2- في العلل: أنفس.

كان ذلك في غير جنس الرسول لكان كلّ واحد منهم في نفسه أنّه أولی به من غيره، و دخلهم من ذلك الكبر، و لم تسمح أنفسهم بالطاعة لمن هو عندهم، فكان يكون في ذلك داعية لهم إلی الفساد والنفاق والاختلاف(1).

الخامس: النقل المتواتر من الشيعة خلفاً عن سلف بالنصّ من النبي صلی اللّه عليه و آله عليهم بأسمائهم، و من كلّ واحد منهم علی الآخر بصريح القول، و لا فرق بين من ادّعی عليهم الكذب فيما تواتروا به من ذلك، و من معجزات الرسول صلی اللّه عليه و آله، و من نصّه علي أميرالمؤمنين عليه السلام.

و قد صنّفوا في ذلك كتباً متعدّدة، و نقل المخالفون ذلك من طرق كثيرة تزيد علی ألف حديث، كما ذكره العلّامة في كتاب مقصد الواصلين(2) تارةً علي الإجمال، و تارةً علی التفصيل.

فالذي علی الإجمال مثل ما رواه البخاري في صحيحه بعدّة أسانيد، أنّه عليه السلام قال: يكون بعدي إثناعشر خليفة كلّهم من قريش(3).

و مثله روی مسلم في صحيحه(4) بعدّة أسانيد أيضاً، و كذا العبدري في الجمع بين الصحاح الستّة في باب «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ» (5) بإسناده إلی النبي صلی اللّه عليه و آله،

ص:95


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق ص 254-255.
2- لم أعثر علی هذا الكتاب.
3- صحيح البخاري 127:8.
4- صحيح مسلم 1452:3-1454.
5- سورة الحجرات: 13.

قال: هذا الأمر لا ينقضي حتّی يمضي فيهم اثني عشر خليفة كلّهم من قريش(1).

و قريب منه روي الثعلبي في تفسيره(2)، وأبوداود في صحيحه(3).

و روی الحميدي في الجمع بين الصحيحين لهذه الأحاديث من طريق عبدالملك بن عمير، و طريق شعبة، و طريق سماك بن حرب، و طريق عدي بن حاتم، و طريق عامر الشعبي، و طريق حصين بن عبدالرحمن، و جميعها تتضمّن أنّ عدّتهم اثنی عشر خليفة، و اثنی عشر أميراً، كلّهم من قريش(4).

و روی صاحب الكشّاف بإسناد طويل تركته اختصاراً، أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال:

فاطمة مهجة قلبي، و ابناها ثمرة فؤادي، و بعلها نور بصري، والأئمّة من ولدها امناء ربّي، حبل ممدود بينه و بين خلقه، من اعصتم به نجا، و من تخلّف عنه هوي(5).

والذي علی التفصيل مثل ما رواه أخطب خوارزم موفّق بن أحمد في مناقبه من الأخبار التي تتضمّن الشهادة للشيعة بتعيينهم علی ما يقولونه من عددهم و نسبتهم و أسمائهم.

فمن ذلك: ما رواه بإسناده، عن أبي سليمان راعي رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، قال: سمعته يقول: إنّ اللّه عزّوجلّ قال لي ليلة المعراج: يا محمّد إنّي اطّلعت إلی الأرض

ص:96


1- الطرائف ص 171 عنه.
2- العمدة لابن البطريق ص 419 عنه.
3- صحيح أبي داود السجستاني 106:4.
4- العمدة لابن البطريق ص 419-421، والطرائف ص 171 عنه.
5- راجع: إحقاق الحقّ 288:4 و 199:9 و 209.

اطّلاعة فاخترتك منها، فشققت لك إسماً من أسمائي، فلا اذكر في موضع إلّا ذكرت معي، فأنا المحمود و أنت محمّد، ثمّ اطّلعت ثانية فاخترت علياً، و شققت له إسماً من أسمائي، فأنا الأعلی و هو علي.

يا محمّد إنّي خلقتك وخلقت علياً و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ولده من نوري(1)، و عرضت ولايتكم علی أهل السماوات و الأرض، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، و من جحدها كان عندي من الكافرين.

يا محمّد لو أنّ عبداً من عبادي عبدني حتّی ينقطع، أو يصير كالشنّ البالي، ثمّ أتاني جاحداً لولايتكم، ما غفرت له حتی يقرّ بولايتكم.

يا محمّد تحبّ أن تراهم؟ قلت: نعم يا ربّ، فقال لي: إلتفت عن يمين العرش، فالتفت فإذا أنا بعلي، و فاطمة، و الحسن، و الحسين، و علي بن الحسين، و محمّد بن علي، و جعفر بن محمّد، و موسي بن جعفر، و علي بن موسي، و محمّد بن علي، و علي بن محمّد، و الحسن بن علي، و لمهدي في ضحضاح من نور، قياماً يصلّون و هو في وسطهم - يعني: المهدي - كأنّه كوكب درّي.

فقال: يا محمّد هؤلاء الحجج، وهو الثائر من عترتك، و عزّتي و جلالي إنّه الحجّة لأوليائي، و المنتقم من أعدائي(2).

و بإسناده، عن سلمان المحمّدي، قال: دخلت علی النبي صلي اللّه عليه و آله و إذاً الحسين عليه السلام علی فخذه، و هو يقبّل عينيه، و يلثم فاه، و يقول: أنت سيّد ابن سيّد أبو السادة، أنت

ص:97


1- في المقتل: من ولده من سنخ نور من نوري.
2- مقتل الحسين عليه السلام للخطيب الخوارزمي ص 95-96، الطرائف ص 173 عن المناقب. و الحديث غير موجود في مناقب الخوارزمي بل في مقتله.

إمام ابن إمام أبو الأئمّة، أنت حجّة ابن حجّة أبو الحجج، تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم(1). إلي غير ذلك.

و مثله روي الترمذي في صحيحه: إنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال له: هذا ولدي إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمّة تسعة تاسعهم قائمهم(2).

بل روی نحوه جمع كثير من علمائهم، بل أورد السيّد الجليل علی بن طاووس في الطرائف أنّه رأي لعلمائهم عدّة مصنّفات في هذا المعني، كالكتاب الموسوم بمقتضب الأثر في إمامة الاثنی عشر(3)، والكتاب الموسوم بتاريخ آل رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله لنصر بن علي الجهضمي(4). و إن لم يتركوا عادات كفرهم في إنكار إمامتهم .

و روی خلق كثير منهم ما لا يحصی من الأخبار في ظهور المهدي و إمامته، و النداء باسمه في السماء عند ظهوره، و أنّه من ولد فاطمة عليها السلام، و من أبناء الحسين بن علي عليهما السلام، و ذكر كنيته، و اسم نوّاب غيبته، و سيرته، و حال دولته، و مدّة حكومته، و نزول عيسی بن مريم من السماء لنصرته وائتمامه به(5).

ص:98


1- مقتل الخوارزمي ص 146، الطرائف ص 174.
2- راجع: صحيح الترمذي 614:5-620.
3- للمحدّث الجليل الشيخ أحمد بن محمّد بن عبيداللّه بن عياش الجوهري، المتوفّي سنة (401) ه، وكتابه هذا مطبوع، و هو من الكتب القيمة.
4- الطرائف ص 172 و 175.
5- وقد جمع الأخبار الواردة من طريق المخالفين في الامام المهدي عجّل اللّه تعالی فرجه الشريف، و ما يتعلّق به، العلاّمة السيّد المرعشي النجفي في ملحقات إحقاق الحقّ، المجلّد ثالث عشر.

و من الراوين لذلك العبدري في الجمع بين الصحاح الستّة، و ابن شيرويه الديلمي في الفردوس(1)، و أبي داود في صحيحه(2)، وابن المغازلي في مناقبه، وغيرهم ممّن لا نطوّل الكتاب بذكره(3).

بل أورد السيّد المشار إليه في الطرائف: أنّهم صنّفوا في هذا الباب كتباً، مثل

ص:99


1- روي في كتاب الفردوس، عن حذيفة بن اليمان: المهدي رجل من ولدي، وجهه كالقمر الدرّي، اللون لون عربي، والجسم جسم إسرائيلي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، يرضي بخلافته أهل السماء و الأرض، والطير في الجوّ، يملك عشرين سنة.و روی أيضاً عن ابن عبّاس: المهدي طاووس أهل الجنّة.و روی أيضاً عن علي بن أبي طالب عليه السلام: المهدي منّا أهل البيت، يصلحه اللّه عزّوجلّ في ليلة.و روی أيضاً عن امّ سلمة: المهدي من ولد فاطمة. فردوس الأخبار 496:4-497 برقم: 6940-6943.
2- روي أبو داود في سننه باسناده، عن أبي الطفيل، عن علي عليه السلام، عن النبي صلی اللّه عليه و آله قال: لو لم لم يبق من الدهر إلاّ يوم لبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً.و روي أيضاً باسناده، عن امّ سلمة، قالت: سمعت رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة.و روي أيضاً باسناده، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: المهدي منّي أجلي الجبهة، أقني الأنف، يملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت جوراً و ظلماً، يملك سبع سنين. سنن أبي داود السجستاني 107:4 برقم: 4283-4285.
3- راجع: الطرائف ص 175-178.

كتاب المخفي في مناقب المهدي، يشتمل علی مائة و عشرة أحاديث، وكتاب ذكر المهدي و نعوته و حقيقة مخرجه و ثبوته لأبي نعيم الحافظ، يشتمل علی أحاديث كثيرة كلّها من طرقهم(1). و فيه يقول الشاعر:

الخضر يحجبه و عيسی خلفه *** وقت الصلاة وفضله لا يسبق

فهناك يؤخذ ثار آل محمّد *** اللّه أكبر كم دماء تهرق

لكن في رواية الترمذي بإسناده عن رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله زيادة هي موافقة اسم أبيه لاسم أبيه أيضاً(2). و من هنا حصل لهم شبهة في أنّ المراد به ما أجمع عليه علماؤنا، و جوّزوا تجدّد من هو بهذه الأوصاف في المستقبل من الزمان، وخلوّ بعض الأزمنة من الإمام.

و الذي يقال في دفع شبهتهم(3) أنّ صاحب الزمان جدّه الأعلی الحسين بن علي عليهما السلام، و قد كانت كنيته أبا عبداللّه، فأطلق عليه السلام علی الكنية لفظة الاسم و علی الجدّ لفظة الأب، فكأنّه قال: يوافق كنية جدّه اسم أبي.

علی أنّه يمكن أن تكون هذه الزيادة من جملة مفترياتهم كي يتوصّلوا بذلك إلی إثبات مطلوبهم من إنكار وجوده الآن، و كيف يستبعد ذلك منهم؟ و هم منكرون لثبوت الإمامة لهذا العدد و لهؤلاء الأطهار الذين تواترت النصوص بإمامتهم.

ص:100


1- الطرائف ص 179.
2- صحيح الترمذي 505:4.
3- هذه بعد تمهيد مقدّمتين: إحداهما جواز إطلاق الأب علی الجدّ. الثانية إطلاق لفظة الاسم علی الكنية؛ لوقوعهما في لغة العرب كثيراً. و يزيده بياناً ما رواه البخاري و مسلم في صحيحهما من أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله سمّي علياً أبا تراب.

بل ربما إذا سئلوا هل وردت رواية في ثبوت إمامتهم؟ أصرّوا بأجمعهم علی العدم، ولو سلّموا و رودها حكموا بأنّها شاذّة، مع أنّها واردة فيما أشرنا إليه من كتبهم التي عليها يعوّلون فضلاً عن كتب أحاديث الخاصّة، فبأيّ حديث بعده يؤمنون.

و قد روی الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام، بإسناده عنه عليه السلام، قال: لا يكون القائم إلّاإمام ابن إمام، و وصي ابن وصي(1).

و روی في كتاب الغيبة بإسناده، عن أبي بصير، و أبان بن تغلب، عن الصادق عليه السلام قال: إنّهم لاستبعاد غيبة الثاني عشر اختلفوا في المذاهب، فمن قائل يهذي بأنّه لم يلد، و قائل يقول: إنّه ولد و مات، و قائل يكفر بأنّ حادي عشرنا كان عقيماً، و قائل يمرق إنّه يتعدّی إلی ثالث عشر و صاعداً، و قائل يعصی اللّه بقوله إنّ روح المهدي تنطق في هيكل غيره(2).

و بإسناده، عن صفوان بن مهران، عنه عليه السلام، قال: من أقرّ بجميع الأئمّة و جحد المهدي، كان كمن أقرّ بجميع الأنبياء و جحد محمّداً صلی اللّه عليه و آله نبوّته، فقيل: يابن رسول اللّه فمن المهدي من ولدك؟ قال: الخامس من ولد السابع، يغيب عنكم شخصه، ولا يحلّ لكم تسميته(3).

و مثله روی عن عبداللّه بن أبي يعفور، عنه عليه السلام(4).

ص:101


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 131:2 ح 13.
2- كمال الدين للشيخ الصدوق ص 354-355.
3- كمال الدين ص 333 ح 1 و ص 411 ح 5.
4- كمال الدين ص 411 ح 4.

و عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني(1).

و عن ابن مسكان عنه عليه السلام: من أنكر واحداً من الأحياء، فقد أنكر الأموات(2).

و عن غياث بن إبرهيم عنه عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: من أنكر القائم من ولدي في زمان غيبته مات ميتة جاهلية(3).

و عن محمّد بن الفضيل، عن الرضا عليه السلام: إنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال لعلي عليه السلام: أنت و الأئمّة من ولدك بعدي حجج اللّه علی خلقه، و أعلامه في بريته، من أنكر واحداً منكم فقد أنكرني، و من عصی واحداً منكم فقد عصاني، و من جفا واحداً منكم فقد جفاني(4).

و عن الأعمش، عن الصادق عليه السلام، قال: من مات ولم يعرفهم مات ميتة جاهلية(5).

إلی غير ذلك ممّا يشهد بكفر من مات علی هذه الحالة.

و قد روی أيضاً في غير هذا الكتاب ما ينطق بذلك.

فمن ذلك: ما رواه في عيون أخبار الرضا عليه السلام، عن يحيی بن أبي القاسم، عن الصادق عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله: الأئمّة بعدي اثناعشر، أوّلهم علي بن

ص:102


1- كمال الدين ص 412 ح 8.
2- كمال الدين ص 410 ح 1 و ح 2.
3- كمال الدين ص 412-413 ح 12.
4- كمال الدين ص 413 ح 13.
5- عيون أخبار الرضا عليه السلام 122:2، كمال الدين ص 413.

أبي طالب، و آخرهم المهدي(1)، هم خلفائي و أوليائي و أوصيائي، و حجج اللّه علي امّتي بعدي، المقرّ بهم مؤمن، و المنكر لهم كافر(2).

و روی أيضاً أنّ في حديث اللوح: ألا و من جحد واحداً منهم فقد جحد نعمتي(3).

و إنّ الصحيفة التي هي بإملاء رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله و خطّ علي عليه السلام ناطقة بإمامتهم(4).

و إنّ اليهودي أخبر بأنّ كون عدّة خلفائه اثني عشر بخطّ هارون و إملاء موسی عليهما السلام(5).

و في التوراة: و أمّا إسماعيل فقد أجبت دعاءك فيه، و عظّمته جدّاً جدّاً، و سيلد اثنا عشر عظيماً(6).

و في تفسير السدّي: كان فيما أوحي اللّه إلی إبراهيم عن إسماعيل: إنّي ناشر ذرّيته، و جاعلهم ثقلاً علی من كفر بي، و جاعل منهم نبياً عظيماً، و مظهره علي الأديان، و جاعل من ذرّيته اثناعشر عظيماً(7).

و ذلك كاشف للمراد من تلك العدّة، و منبّه علي أنّهم هم المعنيون بها، و أنّهم أحقّ

ص:103


1- في العيون: القائم.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 59:1 ح 28.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 43:1.
4- عيون أخبار الرضا 45:1 ح 3.
5- عيون أخبار الرضا عليه السلام 53:1-54.
6- الغيبة للمحدّث الجليل النعماني ص 108.
7- الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 172 عنه.

بالإمامة وأهلها.

و روی الصدوق في الأمالي وفي كتاب الغيبة والنبوّة: أنّهم هم المعنيون بالكلمات في قوله تعالي: «وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» (1)و قد اشتملت روايته علی أنّه أراد أتمّهنّ إلي القائم اثناعشر إماماً(2).

و مثله روی من العامّة ابن المغازلي الشافعي في مناقبه(3).

و روی مجاهد عن أبي جعفر عليه السلام، قال: نحن المعنيون بالناس في قوله تعالي:

«أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» (4) وفي بعض الروايات: آل إبراهيم هم آل محمّد(5).

و يؤيّده ما رواه السدّي في تفسير قوله تعالی: «وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ» (6) إلي يوم يبعثون، إنّ عقبه آل محمّد عليه و عليهم السلام(7).

و روی غيره أنّ الكلمة الباقية هي الإمامة إلی يوم القيامة، و لا يرد أنّ إنكار إمامتهم لو اقتضي الكفر، فما الوجه في كون مثل الواقفية من فرق الشيعة، مع

ص:104


1- سورة البقرة: 124.
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 126.
3- المناقب لابن المغازلي ص 276.
4- سورة النساء: 54.
5- راجع: إحقاق الحق 366:14-368.
6- سورة الزخرف: 28.
7- راجع: إحقاق الحقّ 573:3 و 306:13 و 401:28.

إنكارهم إمامة الثامن و من بعده من الأئمّة لزعمهم أنّ الكاظم عليه السلام حيّ، و ذلك لإقرارهم بإمامة أميرالمؤمنين عليه السلام بغير فصل، و اعتقادهم ظلم المتقدّمين عليه، و غصبهم حقّه.

الوجه الرابع: عدم التزامهم بما القرآن المجيد والسنّة المطهّرة: مشحونان بوجوبه

بل بكونه علامة الإيمان، و عدمه علامة الكفر و النفاق و الخسران، و هو ولاية أئمّة الهدي الذين هم أهل بيت النبوّة الأصفياء البررة، و البراءة من أعدائهم الكفرة الفجرة، قاصدين بذلك إطفاء أنوارهم، و يأبي اللّه إلّاأن يتمّ نوره.

ألا تري أنّهم مالوا إلی أعدائهم، حتّی اعتقدوا أنّهم أحقّ، و جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحقّ، و افتروا علی الرسول الناطق بالصدق أنّه قال: لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبابكر خليلاً. و أنّه قال: لولم ابعث لبعثت يا عمر. و أنّه قال: ما أبطيء عنّي الوحي إلّاظننته سينزل علی عمر. و أنّه أتاه جبرئيل ليسأله هل هو راض عن اللّه كرضي اللّه عنه. و نحو ذلك(1).

و هو من عظيم الافتراء عليه، فإنّه ليس في أبي بكر باتّفاق المسلمين صفة كمال يقتضي ذلك من علم، أو دين، أو فقه، أو زهادة، أو عبادة، أو حسن بلاء في الدين.

نعم ربما ادّعی بعض المتوقّحين منهم أنّه أنفق علی رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله ماله، و ردّه بعض محدّثيهم، و ادّعی أنّه مكذوب(2).

ص:105


1- ذكر هذه الافتراءات والجواب عنها، العلاّمة الأميني في الغدير، فراجع.
2- راجع: الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 405.

و روی أنّه لمّا أراد الهجرة اشتري منه بعيراً و دفع إليه الثمن فأخذه، قال: فمن لم ينفعه في مثل هذا اليوم متی يكون نفعه له بعد انتشار الأمر، و كثرة الغنائم، و ظهور المسلمين.

و علی تقدير الصحّة و التسليم، فهل يكون ذلك صالحاً لأن يتّخذه اللّه خليلاً و رافعاً لعيب عبادته الأصنام، و تعفير وجهه لها من دون اللّه تعالی قبل البعثة إلی أمد شابّ فيه قرنه، و ابيضّ فرده.

و قد روی أنّ أباه سئل عن استخلاف الناس له، فقال: لأنّه أكبر سنّاً، فقال: أنا أكبر منه.

و كيف يجوز في عصمته النبي صلی اللّه عليه و آله أن يقول في عمر ما تقدّم ذكره، واللّه عزّوجلّ يقول: «وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسی وَ عِيسَی ابْنِ مَرْيَمَ» (1) فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه مبعوثاً؟ و من أخذ ميثاقه مؤخّراً، و هو طعن المأمون العبّاسي في هذه الرواية.

و يكذب رواية الخلّة المذكورة ما تواتر بين الفريقين من أنّه آخی بين صنمي قريش و بين سائر الأشكال و الأمثال من الصحابة، و أخّر علياً عليه السلام فقال له: آخيت بينهم و تركتني، فقال: ما أخّرتك إلّالنفسي، ثمّ إنّه آخاه.

روی ذلك أحمد بن حنبل في مسنده(2)، والبلاذري في تاريخه، و الثعلبي في

ص:106


1- سورة الأحزاب: 7.
2- روی أحمد بن حنبل في مسنده، باسناده عن سعيد بن المسيّب، أنّرسول اللّه صلی اللّه عليه و آله آخا بين الصحابة، فبقي رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله وأبوبكر و عمر و علي عليه السلام، فاخی بين ابي بكر و عم و قال لعلي عليه السلام انت اخي و انا اخوك فضائل الصحابه لابن حنبل2: 597 برقم: 10.19. و روی ايضا باسناد عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَی بَيْنَ النَّاسِ وَتَرَكَ عَلِيًّا حَتَّی بَقِيَ آخِرَهُمْ لَا يَرَی لَهُ أَخًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آخَيْتَ بَيْنَ النَّاسِ وَتَرَكْتَنِي؟ قَالَ: " وَلِمَ تَرَانِي تَرَكْتُكَ؟ إِنَّمَا تَرَكْتُكَ لِنَفْسِي، أَنْتَ أَخِی، وَأَنَا أَخُوكَ، فَإِنْ ذَاكَرَكَ أَحَدٌ فَقُلْ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو رَسُولِهِ، لَا يَدَّعِيهَا بَعْدُ إِلَّا كَذَّابٌ ".

تفسيريه، و غيرهم بعدّة أسانيد(1).

و هو يستلزم أن يكون هو خليله لا من زعموه.

و كذا افتروا عليه أنّه قال: ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين علی رجل أفضل من أبي بكر. و أنّه قال عنه و عن عمر: هما سيّدا كهول أهل الجنّة.

مع أنّه ليس في الجنّة كهل، فإن زعموا عود شبابهما، فقد ثبت بالتواتر أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال: الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة من الأوّلين والآخرين، وأبوهما خير منهما(2).

و قال: علی خير البشر من أبي فقد كفر. و هو مروي في مناقب ابن مردويه بعدّة أسانيد(3).

ص:107


1- الطرائف ص 63-65، العمدة لابن البطريق ص 166-171 عنهم.
2- الجامع الصحيح للترمذي 614:5، المناقب لابن شاذان ص 19، الطرائف ص 201.
3- المناقب لابن مردويه ص 109-110.

و في مناقب الخوارزمي(1): عن أبي ذرّ الغفاري: من ناصب علياً الخلافة بعدي، فهو كافر وقد حارب اللّه و رسوله، و من شكّ في علي فهو كافر(2).

و «مَن» من أدوات العموم، ولفظة «بعدي» تقتضي عموم البعدية في كلّ وقت، و من ثَمّ كان نصّاً في وجوب البراءة منهم؛ لصرفهم الخلافة عنه، و من رؤسائهم الذين غصبوا حقّه، و تأمّروا عليه بعده، و كذّبوا بولايته، التي هم عنها في القبور والبعث والنشور من المسؤولين، و زيّن لهم الشيطان أعمالهم، فصدّهم عن سبيل و كانوا مستبصرين.

و يزيده بياناً ما رواه الثقة ابن شاذان في مناقبه من قوله عليه السلام: ولاية علي لا تقبل إلّا بالبراءة من أعدائه وأعداء الأئمّة من ولده(3).

و في مناقب أخطب خوارزم قال عليه السلام: لا يقبل اللّه إيمان عبد إلّابولايته و البراءة

ص:108


1- كذا، والصحيح: ابن المغازلي.
2- المناقب لابن المغازلي ص 46 برقم: 68.
3- المناقب لابن شاذان ص 28 المنقبة التاسعة، روي باسناده عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: قال لي رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: يا علي أنت أميرالمؤمنين و إمام المتّقين، يا علي أنت سيّد الوصيين و وارث علم النبيين و خير الصدّيقين و أفضل السابقين، يا علي أنت زوج سيّدة نساء العالمين و خليفة خير المرسلين، يا علي أنت مولي المؤمنين، يا علي أنت الحجّة بعدي علی الناس أجمعين، استوجب الجنّة من تولاّك، و استحقّ النار من عاداك، يا علي و الذي بعثني بالنبوّة و اصطفاني علی جميع البرية لو أنّ عبداً عبد اللّه ألف عام ما قبل اللّه ذلك منه إلاّ بولايتك و ولاية الأئمّة من ولدك، و إنّ ولايتك لا تقبل إلاّ بالبراءة من أعدائك و أعداء الأئمّة من ولدك، بذلك أخبرني جبرئيل عليه السلام، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.

من أعدائه(1).

و روی الثقة محمّد بن يعقوب الكليني بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبداللّه عليه السلام في تفسير قوله تعالي: «وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقي» (2) قال: يعني من أشرك بولاية أميرالمؤمنين عليه السلام غيره و لم يؤمن بآيات ربّه و ترك الأئمّة معاندة، فلم يتّبع آثارهم و لم يتولّهم(3).

و بإسناده عن عبدالرحمن بن كثير، عن أبي عبداللّه عليه السلام في تفسير قوله تعالی:

«آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ» (4) قال: بما جاء به محمّد صلی اللّه عليه و آله و لم يخلطوها بولاية فلان و فلان، فهو الملبّس بالظلم(5).

قلت: أراد بمن كنّي عنهم أبابكر و عمر و عثمان، و لم يصرّح بأسمائهم للتقية.

وقد روي السيّد المرتضی في تأويل قوله تعالی: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ

ص:109


1- روی الخوارزمي في مناقبه ص 67 باسناداه عن علي بن أبي طالب عليه السلام، عن النبي صلی اللّه عليه و آله أنّه قال لعلي عليه السلام: يا علي لو أن ّ عبدا عبد اللّه عزّوجل ّ مثل ما قام نوح في قومه، و كان له مثل احد ذهبا فأنفقه في سبيل اللّه، و مدّ في عمره حتّی حجّ ألف عام علي قدميه، ثم ّ قتل بين الصفا و المروة مظلوما، ثم ّ لم يوالك يا علي، لم يشم ّ رائحة الجنّة و لم يدخلها.و راجع: بحار الأنوار 196:38 و 198، جامع الأخبار ص 14.
2- سورة طه: 127.
3- اصول الكافي 436:1.
4- سورة الأنعام: 82.
5- اصول الكافي 413:1 ح 3.

عَمَلُكَ» (1) أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله لمّا نصّ علی أميرالمؤمنين عليه السلام بالإمامة، جاءه قوم من قريش، فقالوا له: يا رسول اللّه الناس قريبوا عهد بجاهلية و شرك، ولا يرضون أن تكون النبوّة فيك والإمامة في ابن عمّك، فلو عدلت بها إلی غيره لكان أولي.

فقال لهم: ما فعلت ذلك برأيي فأتخيّر فيه، لكن اللّه تعالي أمرني به و فرضه عليَّ.

فقالوا له: فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف علی ربّك، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تسكن الناس إليه ليقيم لك أمرك ولا تخالف الناس عليك، فنزلت الآية. والمعني فيها لئن أشركت في الخلافة مع أميرالمؤمنين عليه السلام ليحبطنّ عملك(2).

و في هذه الأحاديث أتمّ تصريح في إثبات المطلوب من هذه الآيات، فأيّ آيات اللّه ينكرون.

و روی شيخ الطائفة أبوجعفر الطوسي رحمه اللّه في التهذيب، عن إسماعيل الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل يحبّ أميرالمؤمنين عليه السلام ولا يبرأ من عدوّه، ويقول:

هو أحبّ إلی ممّن خالفه، فقال: هذا مخلّط، و هو عدوّ، لا تصلّ خلفه و لا كرامة إلّا أن تتّقيه(3).

و قال عدّة لسان العرب يقتضي ذلك أيضاً قال الشاعر:

تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني *** صديقك إنّ الرأي عنك لعازب(4)

ص:110


1- سورة الزمر: 65.
2- تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضی ص 120، بحار الأنوار 71:17 و 159:37.
3- تهذيب الأحكام 28:3 ح 97.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 107:16 و 15:20.

وفي التنزيل: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» (1)«وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ» (2)«وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» (3).

و قد روي أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله كان يقول: اللّهمّ لا تجعل لفاسق عندي نعمة، فإنّي قد وجدت فيما أوجبت «لا تَجِدُ قَوْماً» الآية(4).

و بعد، فإنّ المشركين لم يكتف الشارع بإسلامهم و اعتقادهم الإلهية و نطقهم بها حتّی نفوها عن كلّ من سواه، و إنّ الكتابي إذا أسلم يطالب مع التلفّظ بكلمتي الشهادة بالبراءة من كلّ دين يخالف دين الإسلام و لو كان من العيسوية، طولب مع التلفّظ بكلمتي الشهادة بالإقرار بعموم الرسالة، و ذلك كلّه دليل قاطع علي أنّ مودّة العدوّ خروج عن ولاية الولی.

فمخالفونا خارجون عن ولاية أهل البيت عليهم السلام التي هي ركن الإسلام بعدم البراءة ممّن أشرنا إليه من رؤساء أعدائهم، الحاصلة بكلّ من المعاداة و المجانبة و القطيعة، و كذا اللعن، و إن دلّ عليها التزاماً؛ لقول علي عليه السلام: فأمّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة و لكم نجاة، و أمّا البراءة فلا تتبرّؤوا منّي، فإنّي ولدت علی الفطرة، و سبقت إلي الإسلام والهجرة(5).

و ظاهره عدم جواز البراءة منه تقية، و يحمل النهي علي الكراهية جمعاً بين

ص:111


1- سورة الممتحنة: 1.
2- سورة التوبة: 23.
3- سورة المائدة: 51.
4- مجموعة ورّام 235:2.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 54:4، بحار الأنوار 325:39.

الأدلّة.

نعم يشترط مع الاقتصار عليه أن يقصد به والبراءة من أعدائه وأعداء الطيبين من أبنائه، و يكفي في حصولها معرفة صنف أعدائهم، كما يكفي معرفة صنف من ادّعی النبوّة: إمّا إستقلالاً، أو مع نبينا صلی اللّه عليه و آله، و البراءة منه باعتبار هذه الدعوی الباطلة و اعتقاد كفره، و إلّا لم يكن معتقداً بعموم رسالة نبينا صلی اللّه عليه و آله.

و لا تجب معرفة عين من ادّعی النبوّة و الإمامة و البراءة منه، بل تجب البراءة من هذا الصنف، و لو عرفهم بأعيانهم وتبرّأ منهم لكان آكد و أقوی، و هذا كما في كلمة التوحيد سواء.

و اعلم أنّه يشترط في حصول ولاية الأئمّة المعصومين عليهم السلام أمران آخران:

الأوّل: مودّة شيعتهم؛ لما رواه الصدوق في الأمالي، عن ابن عبّاس، قال: قال النبي صلی اللّه عليه و آله لعلي عليه السلام: شيعتك خلقوا من فضل طينتنا، فمن أحبّهم فقد أحبّنا، و من أبغضهم فقد أبغضنا، و من عاداهم فقد عادانا، و من ودهم فقد ودّنا(1).

و هو صريح في المطلوب.

و كذا قال الصادق عليه السلام في رواية عبداللّه بن سنان: لا تجد رجلاً يقول: أنا أبغض محمّداً و آل محمّد، و لكن الناصب من نصب لكم و هو يعلم أنّكم تتولّونا(2) وأنّكم من شيعتنا(3).

الثاني: أن لا تبلغ ولايتهم إلی حدّ الإفراط، بحيث يعتقد المكلّف الوهية

ص:112


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 66 برقم: 32.
2- في النسختين: توالونا.
3- علل الشرائع للشيخ الصدوق ص 601 ح 60.

أحدهم، فإنّه لا ريب أنّ من بلغ اعتقاده إلی هذا الحدّ يكون كافراً باتّفاق الخاصّة و العامّة، و يعبّرون عن هذا النوع بالغالي، و به نطق قوله تعالی: «وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (1) وقد صحّ عن علي عليه السلام أنّه قال: يهلك فيّ رجلان: محبّ غال، ومبغض قال(2).

و قد صرّح صاحب كشف الغمّة بأنّ من علامة بغضه تفضيل غيره عليه(3).

و ذلك شاهد باتّصافهم ببغضه، والنصّ القاطع ناطق بأنّ بغضه نفاق.

هذا مع أنّ تفضيل الفاسق عليه في قوّة البراءة منه، و البراءة منه كفر.

و لعمري قد كذّبوا الآيات النازلة في حقّه و حقّ الطيبين من أبنائه، و بذلوا جهدهم في إبعادهم عن حقوقهم، و إخفائهم لمناقبهم، حتّی أنّهم يتردّدون فيما هو مشاهد بالأبصار من إبرائهم الأعمی و الأصمّ والمقعد من العمی والصمّ و الإقعاد، و أنكروا زيارة قبورهم، و عابوا شيعتهم علی ارتدادهم لزيارتها، مع ما رووه في صحاحهم من مشروعية زيارة القبور.

فمن ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه في المجلّد الثالث، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلی اللّه عليه و آله، قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها(4).

ص:113


1- سورة آل عمران: 80.
2- نهج البلاغة ص 489 برقم: 117، و ص 558 برقم: 469.
3- راجع: كشف الغمّة 90:1.
4- عوالي اللآلي 61:2 برقم: 163، سنن ابن ماجة 500:1 ح 1571، صحيح مسلم 672:2، مستدرك الحاكم 375:1، مصابيح السنّة للبغوي 568:1 برقم: 1239، سنن النسائي 89:4، منهج الرشاد ص 144.

فكيف حسن من قوم يروون عنه عليه السلام الأمر بزيارة كافّة القبور، ثمّ ينكرون علی من زار قبور علماء أهل بيته، وهم بضعة من لحمه، و علامة ذلك انقطاعهم عن قبورهم، و تردّدهم إلي قبور رؤساء نحلتهم.

و لو تتبّع أحد تقريرهم و تحريرهم، يجدهم لا يصلّون عليهم عقيب الصلاة عليه، حتّی أنّ علماء الشافعية زعموا أنّ الصلاة عليهم غير جائزة إلّاتبعاً؛ لزعمهم أنّ جوازها مقصور علی الأنبياء والملائكة.

و أطلق أئمّة الحنفية، و منهم الزمخشري في الكشّاف(1) المنع منها، مصرّحين بأنّ العلّة فيه مجرّد العناد للشيعة القائلين بجوازها مطلقاً، مع أنّهم يعلمون علماً قطعياً أنّ اللّه تعالي لا يقبل صلاة أحد إلّابالصلاة عليهم أجمعين «فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَي الْكافِرِينَ» (2).

و قد روی البخاري و مسلم في صحيحهما، و كذا الحميدي في الجمع بين الصحيحين، والثعلبی في تفسيره و غيرهم، أنّ كيفية الصلاة عليهم أن يقولوا: اللّهمّ

ص:114


1- قال الزمخشري في الكشّاف 273:3: فإن قلت: فما تقول في الصلاة عليغيره؟ قلت: القياس جواز الصلاة علی كلّ مؤمن؛ لقوله تعالي «هُوَ الَّذِي يُصَلِّی عَلَيْكُمْ» وقوله تعالی «وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» وقوله صلی اللّه عليه و آله «اللّهمّ صلّ علي آل أبي أوفي» ولكن للعلماء تفصيلاً في ذلك، وهو أنّها إن كانت علی سبيل التبع، كقولك «صلّی اللّه علي النبي وآله» فلا كلام فيها، وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو، فمكروه؛ لأنّ ذلك صار شعاراً لذكر رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، ولأنّه يؤدّي إلي الاتّهام بالرفض.
2- سورة البقرة: 89.

صلّ علي محمّد وآل محمّد(1).

و هذا من أدلّ دليل علی أنّ الصلاة عليه لا تحصل بمجرّدها، و ديدنهم عنه اتّباع الصلاة عليهم بها الفصل بلفظة «علی» غير ملتفتين إلی أنّه نهي عنه الشرع القويم، ميلاً إلی ما زعموه من تحقّق الفصل بالأجانب، و يحسبونه هيّناً و هو عند اللّه عظيم.

و جعلوا يوم قتل الحسين عليه السلام يوم عيد و سرور و فرح و تجمّل بالثياب الفاخرة و نحو ذلك، مع ما رووه أنّ السماء مطرت دماً ذلك اليوم(2)، وأنّ الحمرة التي مع الشفق لم تكن قبل قتله(3)، وأنّ من دمعت عيناه لقتله دمعة أو قطرة بوّأه اللّه الجنّة(4)، وأنّ تربته شفاء من كلّ داء(5)، إلي غير ذلك.

و كذا تظاهروا بعداوة أبي طالب عمّ الرسول صلی اللّه عليه و آله لأبيه و اُمّه، حتّي زعموا أنّه نزل فيه: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ» (6) وإن أنكره منهم أبوالمجد ابن الواعظ(7) في كتاب أسباب نزول القرآن، حيث قال ما هذا لفظه: قال الحسن بن الفضل(8) في قوله تعالی: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ» كيف يقال: إنّها نزلت في أبي طالب؟ و هذه

ص:115


1- صحيح مسلم 305:1، صحيح البخاري 27:6، الطرائف ص 160-162.
2- ذخائر العقبي ص 145، مقتل الخوارزمي ص 89:2، الطرائف ص 203.
3- تفسير الطبري 74:25، مقتل الحسين للخوارزمي 90:2، ينابيع المودّة ص 322، الطرائف ص 203 ح 294.
4- ذخائر العقبي ص 19، الطرائف ص 203 ح 291.
5- كامل الزيارات ص 460، باب ما يستحبّ من طين قبر الحسين عليه السلام وانّه شفاء.
6- سورة القصص: 56.
7- في الطرائف: رشادة الواعظ الواسطی.
8- في الطرائف: مفضّل.

السورة آخر ما نزل من القرآن بالمدينة، و أبوطالب مات في عنفوان الإسلام و النبي صلی اللّه عليه و آله بمكّة، و إنّها هذه الآية نزلت في الحارث بن نعمان بن عبدمناف، و كان النبي صلی اللّه عليه و آله يحبّ إسلامه، فقال له يوماً: إنّا لنعلم أنّك علی الحقّ، و إنّ الذي جئت به حقّ، ولكن يمنعنا من اتّباعك أنّ العرب تتخطّفنا من أرضنا لكثرتهم وقلّتنا، ولا طاقة لنا بهم، فنزلت الآية(1).

و روی الحميدي في الجمع بين الصحيحين عدّة أخبار في أبي طالب أنّه كان للنبي صلی اللّه عليه و آله ناصراً ومعيناً(2).

و روی الثعلبي في تفسيره: أنّه قال لعلي عليه السلام: يا بني ما هذا الذي أنت عليه؟ قال:

يا أبت آمنت باللّه و رسوله، و صدّقته فيما جاء به، وصلّيت معه للّه، فقال له: أما أنّ محمّداً لا يدعو إلّا إلی خير فألزمه(3).

و روی أيضاً في تفسير قوله تعالی : «وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ» (4)عن ابن عبّاس، قال: اجتمعت قريش إلی أبي طالب، و قالوا له: سلّم إلينا محمّداً، فقد سبّ آلهتنا، و هذه أبناؤنا بين يديك تبنّ بأيّهم شئت، ثمّ دعوا بعمارة بن الوليد و كان مستحسناً، فقال لهم: هل رأيتم ناقة حنّت إلی غير فصيلها؟ لا كان ذلك أبداً، فدخل علی النبي صلی اللّه عليه و آله فرآه كئيباً وقد علم مقالة قريش، فقال: يا محمّد لا تحزن، ثمّ قال شعراً:

ص:116


1- الطرائف ص 306 عنه.
2- الطرائف ص 300، و العمدة لابن البطريق ص 411.
3- العمدة لابن البطريق ص 414 عنه.
4- سورة الأنعام: 26.

و اللّه لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتّی اوسّد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر وقرّ بذاك منك عيونا

و دعوتني وذكرت أنّك ناصحي *** ولقد نصحت وكنت قبل أمينا

و ذكرت ديناً قد علمت بأنّه *** من خير أديان البرية دينا

قال: و قد اتّفق علی صحّة هذه الأبيات عنه: مقاتل، و عبداللّه بن عبّاس، والقاسم بن محصرة(1)، وعطاء بن دينار(2).

و في قصيدة يحضّ أخاه حمزة علی اتّباع النبي صلی اللّه عليه و آله، والصبر علی طاعته، منها:

صبراً أبا يعلي علی دين أحمد *** وكن مظهر للدين وفّقت صابرا

و في أبيات يحضّ أيضاً ولده علی ذلك، و هي:

إنّ علياً و جعفراً ثقتي *** عند ملمّ(3) الزمان و الكرب

و اللّه لا أخذل النبي و لا *** يخذله من بني ذو حسب

لا تخذلا وانصرا ابن عمّكما *** أخي لاُمّي من بينهم وأبي(4)

و قال في وصيته وقد حضرته الوفاة:

اُوصی بنصر النبي الخير مشهده ***علياً ابني وشيخ القوم عبّاسا

و حمزة الأسد الحامي حقيقته *** وجعفراً أن يذودا دونه الناسا

ص:117


1- في الطرائف: محيصرة، وفي العمدة: محيضرة.
2- الطرائف ص 301-302، العمدة لابن البطريق ص 415 عنه.
3- في الطرائف: اخترام.
4- الطرائف ص 305-306، والغدير للعلاّمة الأميني 356:7.

كونوا فديً لكم امّي و ما ولدت *** في نصر أحمد دون الناس أتراسا(1)

إلی غير ذلك ممّا هو موجود في قصائده و وصاياه و خطبه، و قد صرّح الثقة أبو علي الطبرسي بأنّها في المعني تقرب من مجلّد علی أنّه لم ينأ عنه قطّ بل كان يقرب منه و يخالطه و يقوم بنصرته، فلا يكون معيّناً بقوله «وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ» كما زعموه(2). و فيه يقول ابن أبي الحديد:

و لولا أبوطالب و ابنه *** لما مثل الدين شخصاً فقاما

فذاك بمكّة آوی و حامی *** و هذا بيثرب خاض(3) الحماما

تكفّل عبدمناف بأمر *** و أودی فكان علي تماما

فقل في ثبير مضی بعدما *** قضا ما قضاه و أبقي شماما

فللّه ذا فاتحاً للّهدي *** وللّه ذا للمعالي ختاما

و ما ضرّ مجد أبي طالب *** جهول لغا أو بصير تعاما

كما لا يضرّ أباه الصباح *** من ظنّ ضوء النهار الظلاما(4)

هذا و أمثاله ممّا هو مسطور في كتبهم شاهد بإيمانه، و من ثمّ اجتمعت الشيعة علی ذلك، و لهم فيه مصنّفات، و إجماعهم حجّة، كما تقرّر في موضعه.

علی أنّ المعهود عند أهل الخلاف الاكتفاء في إيمان الكافر بأدني خبر واحد، فكيف و قد ثبت إيمان من أشرنا إليه بمثل ما أوردناه من الحجج، شهد اللّه أنّ ما

ص:118


1- مجمع البيان 288:2، بحار الأنوار 90:35 و 175.
2- مجمع البيان لأبي علي الطبرسي 288:2.
3- في الشرح: جسّ.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 84:14.

حملهم علی إنكاره إلّامجرّد العداوة لبني هاشم الذين قد اصطفي اللّه منهم محمّداً و عترته، بعد أن اصطفاهم علی سائر قريش المصطفين علی سائر العرب، و إن بذلوا معهم العداوة أيضاً، كما بذلوها مع بني هاشم مضادّة للعترة الطاهرة.

حتّی أنّه روي منهم الحميدي في الجمع بين الصحيحين، في الحديث الخامس و العشرين بعد المائتين، من مسند أبي هريرة، قال: قال النبي صلی اللّه عليه و آله: يهلك الناس هذا الحيّ من قريش، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: لو أنّ الناس اعتزلوهم(1).

و روی أيضاً أنّ عمر قال: لو كان سالماً مولي أبي حذيفة حيّاً لما تخالجتني فيه الشكوك(2). مع أنّه ما كان من قريش اتّفاقاً.

و من ثَمّ كان ذلك مناقضاً لما رووه بعدّة أسانيد من قول النبي صلی اللّه عليه و آله: الناس تبع لقريش(3).

و روي أيضاً في مسند عبداللّه بن عمر، في الحديث التاسع و الستّين بعد المائة عنه عليه السلام، أنّه قال: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان(4).

و قد قدّمنا رواية البخاري و مسلم في صحيحيهما أنّه عليه السلام قال: يكون بعدي اثنی عشر خليفة كلّهم من قريش(5).

ص:119


1- صحيح البخاري 199:4، صحيح مسلم 2236:4، العمدة لابن البطريق ص 456، الطرائف ص 169.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 49:9.
3- صحيح مسلم 1451:4.
4- صحيح مسلم 1452:3، صحيح البخاري 105:8، الطرائف ص 168-169.
5- صحيح البخاري 81:9، صحيح مسلم 1452:3، الطرائف ص 170.

و في صحيح الحميدي: أنّ أبابكر قال - محتجّاً علي الأنصار لمّا قالوا: منّا أمير ومنكم أمير -: الأئمّة من قريش(1).

و في مسند أحمد بن حنبل: أنّ جبرئيل قال: يا محمّد قلبت الأرض مشارقها و مغاربها، فلم أجد اناساً خيراً من بني هاشم(2).

و روی الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام، بإسناده عنه عليه السلام، قال: قال النبي صلی اللّه عليه و آله: بغض علی كفر، و بغض بني هاشم نفاق(3).

و لكن افتروا عليه أنّه أمر باعتزالهم تفصّياً من اعتبار شهادتهم في أنّ أهل بيته أحقّ بالأمر بعده، و حذراً من اقتضاء عدم مشاورتهم أو مراسلتهم حال اجتماعهم لإجالة الرأي، قدحاً في عقد البيعة، و صرفاً للأمر عن عترته الطاهرة التي هي عمدتهم إلی رئيسهم التيمي الجاهل، بكثير من امور الدين و مواقع الشرع، كالكلالة، و ميراث الجدّة، الشاكّ عند موته في استحقاقه للإمامة، ثمّ إلي العدوي الفظّ الغليظ الجافي العنيد، الذي أمرُ عداوته لأهل الكساء أشهر من أن يخفي.

ثمّ إلی علوج بني امية الأرجاس، وطواغيت بني العبّاس، و لم يكتفوا بذلك حتّی أحبّوا أبامسلم المروزي الزنديق، لما علموا أنّه كان سبباً لاستيلاء فراعنة بني العبّاس علی الأئمّة المعصومين عليهم السلام، الذين هم حجج اللّه علی الناس، كما كان عمر سبباً لتسلّط زنادقة بني امية الأركاس عليهم.

ص:120


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 86:12.
2- فضائل الصحابة لابن حنبل 628:2 برقم: 1073، ذخائر العقبي للطبري ص 14، الطرائف لابن طاووس ص 400، والعمدة لابن البطرق ص 273.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 60:2 ح 239.

و لفرط حبّهم له افتروا علی علي عليه السلام فيه ما افتروا في حرب الصفّين، مع أنّهم نسبوه إلي الشيعة، و لقد أشار والدي رحمه اللّه بكفره في كتابه الموسوم ب «مطاعن المجرمية» و أورد فيه شيئاً كثيراً ممّا يدلّ علی شدّة عداوته للعترة الطاهرة، و روی بإسناده حديثاً صحيحاً في طعنه.

ثمّ سمّوا ظلمة بني العبّاس ورثة رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، و التزموا لذلك بالقول بالتعصيب، و هو توريث العمّ، أو ابن العمّ مع البنت أو البنات ما زاد علي سهامهنّ، ولا يردّون عليهنّ شيئاً.

و طرحوا آية اولي الأرحام(1) الدالّة علي ترتّب الأقارب في الارث، و نحوها من الآيات والأخبار الناطقة بأنّه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو انثی لأحد سهم إلّا للأبوين والزوج أو الزوجة، و احتجّوا بما حكاه القرآن المجيد عن زكريا أنّه سأل ولياً(2)، ولولا التعصيب لم يخصّ السؤال به، بل قال: وليّاً أو وليّة.

و بما رووه عن طاووس، عن ابن عبّاس، عن النبي صلی اللّه عليه و آله، أنّه قال: ألحقوا بالأموال الفرائض، فما أبقت الفريضة فلأولي عصبة ذكر(3).

و هو احتجاج باطل؛ فإنّ تخصيص السؤال بالذكر في الحكاية المذكورة لأنّه

ص:121


1- قوله تعالی «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ» الأنفال: 75.
2- سورة مريم: 5.
3- راجع: سنن الترمذي 418:4 ح 2098، سنن الدارمي 368:2، سنن الدارقطني 70:4 و 71 ح 10 و 12 و 13، مسند أحمد بن حنبل 292:1، صحيح البخاري 190:8، كنز العمّال 7:11-8 برقم: 3091 و 3092، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي 261:9.

أحبّ الی طباع البشر من الاُنثي، و لأنّه طلب الارث و القيام بأعباء النبوّة معاً، و لا شكّ أنّ ذلك غير متصوّر في النساء؛ لأنّهنّ ناقصات حظّ و عقل و دين.

علی أنّه يجوز أن يكون أراد بالولي الجنس بحيث يشتمل الاُنثي.

و الحديث مطعون في سنده، و قد رووا عن طاووس خلافه، و أنّه تبرّأ منه، و ذكر أنّه لم يروه، و إنّما هو شيء ألقاه الشيطان علی ألسنتهم، فكيف يتمّ لهم القول بما هذا مستنده؟ و كيف يتحصّل لهم ثمرته؟ من صرف أمر الخلافة عن بني فاطمة الذين هم أبناء رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله و من ذرّيته، كما أنّ عيسی عليه السلام من ذرّية الأنبياء عليهم السلام بسبب امّه مريم.

و لهذا لو نشر لم تحل له كريمة أحدهم إلی بني العبّاس الذي ليس له من القرابة ما لأبي طالب، فإنّه عمّ الرسول صلی اللّه عليه و آله لأبيه، و أبوطالب و عبداللّه لأب و اُمّ، و من ثَمّ كان علياً عليه السلام أقرب من العبّاس؛ لأنّ القرابة ثابتة له من الأبوين، مع انفراده بالعصمة و الأفضلية و الهجرة.

و كيف يكون العبّاس إماماً؟ و قد طلب أن يبايع لعلي عليه السلام حتّی أنّه قال له: امدد يدك حتّي ابايعك ليقول الناس: بايع عمّ رسول اللّه لابن عمّه، فلا يختلف فيك اثنان(1).

و ادّعوا أنّه كان بينهما منازعة في الميراث(2).

و رووا أنّهما اختلفا في بغلة رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله و سيفه و عمامته، فحكم بها أبوبكر لأميرالمؤمنين عليه السلام، و يكذّبه سؤاله منه أن يمدّ يده ليبايعه، و كونه معه كنفس واحدة،

ص:122


1- الصوارم المهرقة ص 109.
2- صحيح مسلم 1378:3 و 1382، صحيح البخاري 146:8-147.

و لهذا تأخّر معه عن بيعة أبي بكر ستّة أشهر(1)، إلي أن بلغ من إكراههما قصد عمر تحريق بيوتهما بالنار(2).

و قد روي ابن سعد و هو من أعيان المخالفين في كتابه الموسوم بالطبقات، أنّ علياً عليه السلام هو الذي غسله و تولّی أمره لمّا مات(3).

و أمّا ولده، فقد كانوا من خواصّه في حروبه و ولاياته و أسراره و احتجاجاته، و قد بلغ اختصاصه بعبداللّه بن العبّاس إلی أن كان يوزّع ليالي إفطاره عنده و عند الحسنين عليهما السلام، رواه أخطب خوارزم موفّق بن أحمد في مناقبه(4).

فأين موضع الاختلاف بينهم؟ و حضوره معه عند طلبه الميراث من أبي بكر إزالة لحجّة أبي بكر في حجّية الارث، و كذا حضوره مع فاطمة عليها السلام عند طلبها الميراث من أبي بكر قطعاً، لحجّته في أنّ العمّ يرث مع البنت.

و يدلّ عليه ما رواه البخاري و مسلم في صحيحيهما أنّه لمّا سلّم عمر إلی علي و العبّاس صدقات النبي صلی اللّه عليه و آله التي بالمدينة، و كانا قد طلباها بالميراث - و لعلّ أبابكر و أتباعه سمّوها صدقات - دفعها العبّاس إلی علي عليه السلام خاصّة، فكانت في يده، ثمّ لمّا توفّي كانت في يد ولده(5).

فهل يخفي علي عاقل عارف مع هذا أنّ العبّاس إنّما كان يطلب الميراث

ص:123


1- صحيح مسلم 1380:3، صحيح البخاري 139:5، الطرائف ص 238.
2- الطرائف ص 239.
3- الطبقات الكبری لابن سعد ص 277.
4- المناقب للخوارزمي ص 392 برقم: 410.
5- صحيح البخاري 209:4-210.

مساعدة لعلي عليه السلام و قطعاً لحجّة أبي بكر.

و ربما تري بعضهم يقول: إنّ علياً عليه السلام غلب العبّاس علی الصدقات، و هذا لا يخفي أنّه غير صحيح؛ لاستمرار يد علي عليه السلام علی تلك الصدقات، وترك منازعة بني العبّاس لهم، مع أنّ العبّاس ما كان ضعيفاً عن منازعته، ولا كان أولاده ضعفاء عن منازعة أولاده، ولعلّهم أرادوا أن يجعلوا بينهما خلافاً ليعتذروا لأبي بكر و عمر في مخالفة بني هاشم لهما.

و لو قدّرنا أنّه كان بين بعض بني هاشم خلاف في الظاهر في أمر يختصّ أحوالهم: إمّا لشبهة، أو لغيرها، أليس قد كانوا مع ذلك كلّه مجمعين علی أنّ أبابكر و عمر ظالمان لهم، كما نطقت به كتب السير و التواريخ، مع ما في ذلك من إثباتهم ولاية الحكم لرئيسهم المذكور، كما أثبتوها لباقي رؤسائهم و أئمّة ضلالهم، و صرفوها عن أوصياء الرسول عليه السلام.

و ما اكتفوا بذلك حتّی أقدموا علی إضرار من ذكر شيئاً من مناقبهم بأنواع من الضرر، و علی المبالغة في إبراز ما افتروه علی سيّد البشر، من الارزار علی عترته الغرر، و وجوب الطاعة لأعدائهم القادمين علی المنكر، و علی إطراح وصاياه المؤكّدة في أهل بيته، التي نطقت بها كتب التواريخ و السير، و ما تخفي صدورهم أكبر، كما هو ديدن النواصب المعلنين بالبغضاء لسادات المحشر.

الوجه الخامس: شدّة توغّلهم في العناد في الدين

حيث تولّوا قوماً غضب اللّه عليهم و أدرجهم في سلك الكافرين، و اعتقدوا إمامتهم، و أوجبوا علی الناس متابعتهم، و أخلصوا طاعتهم، و بذلوا جهدهم في تسديدهم، و اختلقوا علی الرسول الصادق عليه السلام في فضلهم، مثل ما تقدّم من

ص:124

الأحاديث التي لو تأمّلها المنصف علم أنّها مكذوبة بلا مرية، و لم يخشوا من أن يكونوا من أهل هذه الآية: «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» (1)بالآخرة.

و لم يكتفوا بذلك حتّی سمّوهم بأسماء متضمّنة للثناء، بعيدة عنهم بُعد الأرض من السماء، فسمّوا أبابكر ب «الصديق» و عمر ب «الفاروق» و عثمان ب «ذي النورين» لزعمهم أنّه تزوّج بابنتي رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله واحدة بعد موت الاُخري، و ما كانتا إلّاربيبتين، و قد قصروا هذه الأسماء علی هؤلاء الذين تاهوا في ظلمة الخلاف، و غرقوا في بحر الضلالة.

و كذا سمّوهم بخلفاء رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله من غير أن ينصّ عليهم، بل زوراً و بهتاناً؛ لزعمهم أنّه مات بغير وصية، و إنّما توصّل أبوبكر إلي الخلافة من عمر.

و قد روي الحميدي في الجمع بين الصحيحين أنّهم خاطبوه أوّلاً يا خليفة اللّه، فاختار هو أن يقال: يا خليفة رسول اللّه(2). و كان الصواب بناءً علی ما تقدّم أن يخاطبوه: يا خليفة عمر؛ لأنّه هو الذي استخلفه.

و يرشد إليه ما رووه في كتبهم أنّ اسامة قال له: قد كنت بالأمس أميراً عليك، فمن أمّرك اليوم عليَّ. يشير بذلك إلی أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله جهّز اسامة في جيش وأمّره عليه، و أمر أبابكر بالخروج معه.

علی أنّه لو جاز أن يكون كلّ من كان بعد الرسول داخلاً في شيء من اموره يسمّي خليفة، لزم أن يسمّي كلّ أمير وقاض و صاحب ولاية أمير رسول اللّه، و قاضي رسول اللّه، و والی رسول اللّه، و بطلان اللازم دليل بطلان الملزوم، شهد اللّه

ص:125


1- سورة النحل: 105.
2- الطرائف ص 404 عنه.

أنّهم ما سمّوهم بذلك إلّا عناداً للعترة الطاهرة.

كما أفرطوا في تعظيم عائشة لما هي عليه من حربهم و استحلال دمائهم، و بالغوا لهذه العلّة في ستر فضائحهم، حتّی منعوا من النظر في أحوال الصحابة.

و من تصفّح ما جری بينهم، حذراً من الإحاطة بما انتحلوه من الكفر، و أقدموا عليه من البغي، و من تتبّع ما هو مذكور من مطاعنهم، تفصّياً من اشتهار مطاعن من سمّيناه من أئمّة كفرهم.

بل زعموا أنّهم بأجمعهم علی الإيمان والعدالة، كما ذكره أبو إسماعيل عبداللّه بن محمّد الأنصاري الهروي في كتاب الاعتقاد، بقوله: الصحابة كلّهم عدول رجالهم ونساؤهم(1).

و حكاه الغزالي في إحياء العلوم بقوله: واعتقاد السنّة تزكية جميع الصحابة(2).

و منعوا من التعرّض لأحد منهم بلعن و غيره، و أوجبوا تأويل ما حصل الاطّلاع علي وقوعه منه ممّا يخالف الشرع و ينفر العقول و إن خالف المنقول.

و ليت شعري كيف لم يرتكبوا هذا النهج من التأويل مع أنبياء اللّه و أوليائه المنوّرين لأرضه و سمائه، بل أعرضوا هناك عن التأويلات و إن كانت قريبة من الظاهر، و لم يستبعدوا وقوع المعاصي منهم.

بل أوردوا في صحاحهم إقدامهم علی ذنوب عظيمة و عيوب ذميمة، غير ملتفتين إلی استلزامه ذمّهم، و الطعن فيهم، و النفور منهم، و استبعدوا وقوعها من الصحابة المقطوع بعدم عصمتهم، وبالغوا في تعظيمهم، حتّی جعلوا السابّ

ص:126


1- الطرائف ص 374 عنه.
2- إحياء العلوم 93:1.

لأحدهم فاسقاً بل كافراً، و أوجبوا تأديبه بل قتله.

بل منعوا من الانكار عليهم، و إن وقف المكلّف علی شيء من زلّاتهم، مع إحاطتهم علماً بعموم أدلّة وجوب إنكار المنكر علی من صدر منه و إن كان صحابياً، و اللفظ يجب التمسّك بعمومه إلي أن يثبت المخصّص، و الفرض انتفاؤه في صورة النزاع.

هذا مع أنّه لا يجوز في عصمة النبي صلی اللّه عليه و آله أن ينهي عن الانكار علی عاصٍ و زجره و زجر متابعيه؛ لأنّ ذلك مفوّت للغرض من نصبه ضرورة.

فإن احتجّوا علی مطلوبهم بما رووه عن عمر بن الخطّاب أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال:

سألت ربّي اختلاف أصحابي من بعدي، فأوحی إلیّ: أنّ أصحابك عندي كالنجوم في السماء، بعضها أقوي من بعض، و لكلّ نور، فمن أخذ بشيء ممّا هم عليه فهو عندي علی هديً(1).

قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم(2).

قلنا: أوّلاً نمنع صحّة السند، فإنّه لا يجوز في حكمة اللّه سبحانه أن يقول عن جماعة يجوز عليهم الخطأ والجهل بل قد وقع من أكثرهم: إنّ من أخذ بشيء ممّا هم عليه من الاختلاف علی هديً، وهل هذا إلّاإغراء بالقبيح، وأمر بالجهل المحال عليه تعالی.

و ثانياً: أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال في عدّة أحاديث: إنّه سيكون بعده امور منكرة، و اُمراء ضلال لا يستنّون بسنّة، و يستأثرون بالفيء، وإنّ جماعة من أصحابه يردون علی

ص:127


1- كنز العمّال 181:1 برقم: 917.
2- الطرائف ص 523.

أعقابهم، و يؤمر بهم يوم القيامة ذات الشمال، و ما ذلك إلّالما نهجوه من الضلال.

و روی البخاري و مسلم في صحيحيهما أنّ النبی صلي اللّه عليه و آله: قال سيجاء برجال من امّتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح عيسی بن مريم: و كنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم، و أنت علي كلّ شيء شهيد، فيقال لي: إنّهم لم يزالوا مرتدّين علی أعقابهم منذ فارقتهم(1).

و أكثر الحميدي في الجمع بين الصحيحين المسانيد في ذلك بعبارات شتّي و المدلول واحد، و هو وقوع الارتداد منهم بعده(2).

و ثالثاً: أنّ التقييد بقوله «من بعدي» لا يخلو: إمّا أن يكون مقصوداً، أو لا. فإن كان الأوّل - أي: لا يكون اختلافهم في حياته هديً - فذلك بيّن البطلان؛ لأنّهم في حياته مسدّدين بنظره، فإذا لم يكن اختلافهم حينئذ علی هديً، فكيف يكونون كذلك من بعده؟ و إن كان الثاني، فهو معلوم البطلان أيضاً؛ لأنّ اختلاف مسطح بن أثاثة و خاطب بن أبي بلتعة الذي بعث إلی قريش يخبرهم بخبر النبي صلی اللّه عليه و آله، و فرار أبي بكر و عمر و غيرهما من الزحف و أمثال ذلك لا يكون هديً.

فإن قالوا: ليس المراد ذلك، بل المراد اختلافهم في الدين.

قلنا: اختلافهم فيه لا يخلو: إمّا أن يكون في أحكامه الاُصولية، أو الفروعية.

فإن كان الأوّل، فلا شكّ أنّ الاختلاف فيه لا يكون هديً، لا من الصحابة ولا من غيرهم. وإن كان الثاني، فإمّا أن يكون مع أهلية الاجتهاد أو مطلقا، فإنّ من

ص:128


1- صحيح مسلم 2195:4 كتاب الجنّة، الطرائف ص 376.
2- راجع: الطرائف ص 376-377 عنه.

الصحابة من لم يسمع من الأحكام إلّاقليلاً، ولا علم له بشيء من وجوه الاستنباط، ككثير من الأعراب أهل البادية، ونحوهم من المهاجرين من الأطراف، لا ريب في بطلان الثاني.

ثمّ مع الاجتهاد هل تعتبر العدالة أو لا بل يكون هديً مطلقاً؟ لا ريب في بطلان الثاني أيضاً؛ لقوله تعالی: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ» (1) حينئذ فكيف يستقيم قوله «فمن أخذ بشيء ممّا هم عليه» و قوله «فبأيّهم اقتديتم اهتديتم» علی عمومه، و إذا لم يكن له عموم فأيّ نفع له فيما أرادوه، و مع ذلك كلّه فإنّ المصيب من المجتهدين واحد، و المخطيء و إن لم يكن عليه جناح فيما اجتهد فيه إلّاأنّه يصدق عليه أنّه علی غير هديً في ذلك القول.

و كذا إن احتجّوا أيضاً علی ذلك بما اختلقوه من قول النبي صلی اللّه عليه و آله «لو أنفق أحدكم ملأ الأرض ذهباً لما نال مدي أحدهم»(2) وقوله «خير القرون قرني، ثمّ من بعدهم الأقرب فالأقرب»(3).

عارضناه بما تقدّم من الأخبار علی أنّ تفضيل القرن المتقدّم علي الذي يليه مخالف لحقائق النظر، خارج من العدل والحكمة، غير مطابق للواقع؛ لأنّه قد كان في الأعصر المتقدّمة من الفراعنة ما ليس في عصرنا، ولأنّ نبينا صلی اللّه عليه و آله أفضل ممّن تقدّمه من الأنبياء، و اُمّته أفضل ممّن تقدّمها من الاُمم، فطرد هذه العلّة يقتضي

ص:129


1- سورة الحجرات: 6.
2- كنز العمّال 538:11-539 برقم: 32521 و 32522، الجمل للشيخ المفيدص 55، كشف الغمة 256:2.
3- كنز العمّال 534:11-535، الصوارم المهرقة ص 113.

أفضلية القرن المتأخّر.

فإنّ قالوا: أفضلية المتقدّم لمشاهدتهم الرسول صلی اللّه عليه و آله و مجاهدتهم معه، و كذلك من شاهدهم بعده من التابعين.

قلنا: ذلك قد يرجع إلی تقدّم الخلقة، و هي من فعل اللّه تعالی، فلا حمد للمتقدّم في تقدّم خلقته؛ إذ لا صنع له في ذلك، و لا فعل يحمد عليه و لا يذمّ منه.

فإن قالوا: فما الوجه في قوله تعالی: «وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (1).

قلنا: التسابق لا يجوز في الحكمة أن يقع في الإيمان إلّابين أهل العصر المخلوقين بالفعل، لا بين من خلق ومن لم يخلق.

فإن قالوا: قوله تعالی: «وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ» (2) يقتضي إيجاب اللّه علی من جاء من بعد الاستغفار لمن تقدّم.

قلنا: بل لا؛ لأنّه إخبار منه سبحانه لا إيجاب.

و كذا إن احتجّوا بما رووه أيضاً من قوله عليه السلام «اقتدوا باللذين من بعدي أبوبكر وعمر»(3) عارضناه بما تقدّمت روايتهم له من قوله عليه السلام «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»(4).

ص:130


1- سورة الواقعة: 10-11.
2- سورة الحشر: 10.
3- الصوارم المهرقة ص 99-100 و 121.
4- راجع: شرح نهج البلاغة 11:20 و 23 و 28، والصوارم المهرقة ص 3، و الطرائف ص 523.

علی أنّه قد وقع الاختلاف العظيم بين الرجلين، فإنّ أبابكر سبي أهل الردّة و ردّهم عمر، وأشار عمر إلي أبي بكر بعزل خالد وبقتله بمالك بن نويرة، فأبي عليه.

و حرّم عمر المتعتين ولم يفعله أبوبكر، و وضع عمر ديوان العطية دون أبي بكر، إلی غير ذلك(1)، فبأيّهما يقتدي بزعم أهل الغي والعمی.

و هو طعن المأمون في هذه الرواية، كما أورده الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام، ثمّ قال: في هذا فصل لم يذكره المأمون لخصمه، و هو أنّهم لم يرووا أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر، و إنّما رووا أبوبكر و عمر، ومنهم من روي أبابكر وعمر، فلو كانت الرواية صحيحة لكان معني قوله بالنصب اقتدوا باللذين من بعدي كتاب اللّه وعترتي يا أبابكر و عمر، ومعني قوله بالرفع اقتدوا أيّها الناس و أبوبكر و عمر باللذين من بعدي كتاب اللّه والعترة(2).

و كذا إن احتجّوا بما رووه من قوله «لا تؤذوني في أصحابي»(3) وقوله «لا تمسّ النار من رآني ولا من رأي من رآني»(4) وقوله «كفّوا عن مساوي أصحابي»(5) ونحو ذلك(6)، رددناه بأسره.

ص:131


1- راجع: عيون أخبار الرضا عليه السلام 186:2.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 186:2.
3- كنز العمّال 540:11 برقم: 32530.
4- كنز العمّال 536:11 برقم: 32505.
5- كنز العمّال 541:11 برقم: 32535.
6- راجع: كنز العمّال 525:11-543.

أمّا الحديث الأوّل، فإنّه إن كان المراد أنّ إيذاهم بحقٍّ إيذاء له، فهذا لا يليق بما بعث لأجله من وجوب إنكار المنكر. و إن كان المراد أنّ إيذاهم بباطل إيذاء له، فأيّ خصوصية لهم في ذلك، فإنّ سائر الاُمّة كذلك.

و أمّا الثاني، فلشموله مثل عبداللّه بن أبي سلول، و الحكم بن أبي العاص طريد الرسول و عدوّه و رأس المنافقين، و ولده مروان، و معاوية بن أبي سفيان الذي اضطرّ إلی إظهار الإسلام قبل موت النبي صلی اللّه عليه و آله بستّة أشهر لمّا لم يبق إلّاالإسلام أو السيف، و حاله و حال أبيه و اُمّه و أخيه و جدّه و خاله في عداوة النبي صلی اللّه عليه و آله و المبالغة في تنقّصه، و التحريص علی حربه، و تخريب الأحزاب عليه، قد نطقت به كتب السير و الآثار، و بلغ في الوضوح إلی مرتبة وجود النهار.

و قد حارب علياً عليه السلام ثمانية عشر شهراً، و أمر بتغيير الأحاديث الواردة في حقّه و حقّ الطيبين من أبنائه، و تهدّد من روی حديثاً في فضلهم، و قتل علي ذلك تارةً، و بذل الرشا علی رواية ضدّه اخري، و قد كان ديدنه اختلاق الأحاديث الشنيعة في حقّه و نسبتها إلی النبي صلي اللّه عليه و آله، و استشهاد جماعة من ذوي الحقد عليها.

حتّی أنّه شهد له علی بعض مفترياته أربعمائة من الصحابة، و أسّس سبّه، و أعلن به علی رؤوس المنابر، و استمرّ في الأموية إلی ثمانين سنة، فرفعه منهم عمر بن عبدالعزيز.

و كذا يزيد اللعين قاتل سيّدنا الحسين عليه السلام، و عبيداللّه قاتل الهرمزان، و أمثال هؤلاء من الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم، بل نعارضهم بقتلة عثمان، كمحمّد بن أبي بكر، و مالك الأشتر، و ربيع بن خيثم و أتباعهم، فإنّهم بين صحابي رأي النبي صلی اللّه عليه و آله و تابعي رأي من رآه، فإذا كانوا لا تمسّهم النار بقوله صلي اللّه عليه و آله، فلأيّ شيء يطعنون عليهم وينالون منهم؟ وكيف لم يحفظوه في هؤلاء الأصحاب و تركوا

ص:132

إيذاءه فيهم؟ بل كيف أدخلوا أنفسهم في قتل عثمان و ما جری بينه و بينهم؟ مع أنّهم ينهون عن الخوض فيما جری بين الصحابة.

بل كيف لم تمتثل الصحابة قول النبي صلی اللّه عليه و آله و ترك بعضهم إيذاء بعضٍ؟ حتّی فعل عثمان بعبداللّه بن مسعود و عمّار بن ياسر و أبي ذرّ ما فعل من أتمّ الإيذاء مع جلالة أقدارهم، و هم كانوا يسبّونه و ينالون منه.

و أيضاً فكيف يتمشّي ذلك؟ و قد روی أنّ علياً عليه السلام كان يقنت في الصلاة المفروضة بلعن معاوية وعمرو بن العاص و أبي موسی و أبي الأعور السلمي(1).

و روی أهل السنّة أنّ الحسن بن علي عليهم السلام لعن معاوية و أصحابه. و أنّ عائشة لعنت عثمان و لعنها، و حلفت أن لا تكلّمه، و خرجت غضبي عليه إلی مكّة، وهي التي كانت من المؤلبين علی قتله بقولها: اقتلوا نعثلاً قتل اللّه نعثلاً(2). وقالت: إنّه غيّر سنّة رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله.

و روي أصحابنا أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كان يقنت في بعض نوافله بلعن صنمي قريش(3).

ص:133


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 98:15، بحار الأنوار 176:42.
2- شرح نهج البلاغة 214:6 و 17:20 و 21.
3- رواه العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار 260:85 عن البلد الأمين وجنّة الأمان ص 551-552، للشيخ الجليل الكفعمي، قال: هذا الدعاء رفيع الشأن عظيم المنزلة، ورواه عبداللّه بن عبّاس، عن علي عليه السلام أنّه كان يقنت به، وقال: إنّ الداعي به كالرامي مع النبي صلی اللّه عليه و آله في بدر واُحد وحنين بألف ألف سهم.الدعاء: اللّهمّ اللعن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وإفكيها، وابنتيهما اللَّذَيْنِ خَالَفَا أَمْرَكَ وَ أَنْكَرَا وَحْيَكَ وَ جَحَدَا إِنْعَامَكَ وَ عَصَيَا رَسُولَكَ وَ قَلَبَا دِينَكَ وَ حَرَّفَا كِتَابَكَ وَ أَحَبَّا أَعْدَاءَكَ وَ جَحَدَا آلَاءَكَ وَ عَطَّلَا أَحْكَامَكَ وَ أَبْطَلَا فَرَائِضَكَ وَ أَلْحَدَا فِي آيَاتِكَ وَ عَادَيَا أَوْلِيَاءَكَ وَ وَالَيَا أَعْدَاءَكَ وَ خَرَّبَا بِلَادَكَ وَ أَفْسَدَا عِبَادَكَ. للَّهُمَّ الْعَنْهُمَا وَ أَتْبَاعَهُمَا وَ أَوْلِيَاءَهُمَا وَ أَشْيَاعَهُمَا وَ مُحِبِّيهِمَا فَقَدْ أَخْرَبَا بَيْتَ النُّبُوَّةِ وَ رَدَمَا بَابَهُ وَ نَقَضَا سَقْفَهُ وَ أَلْحَقَا سَمَاءَهُ بِأَرْضِهِ وَ عَالِيَهُ بِسَافِلِهِ وَ ظَاهِرَهُ بِبَاطِنِهِ وَ اسْتَأْصَلَا أَهْلَهُ وَ أَبَادَا أَنْصَارَهُ وَ قَتَلَا أَطْفَالَهُ وَ أَخْلَيَا مِنْبَرَهُ مِنْ وَصِيِّهِ وَ وَارِثِ عِلْمِهِ وَ جَحَدَا إِمَامَتَهُ وَ أَشْرَكَا بِرَبِّهِمَا فَعَظُمَ ذَنْبُهُمَا وَ خَلَّدَهُمَا فِي سَقَرَ وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا سَقَرُ لٰا تُبْقِي وَ لٰا تَذَرُ. اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ بِعَدَدِ كُلِّ مُنْكَرٍ أَتَوْهُ وَ حَقٍّ أَخْفَوْهُ وَ مِنْبَرٍ عَلَوْهُ وَ مُؤْمِنٍ أَرْجَوْهُ وَ مُنَافِقٍ وَلَّوْهُ وَ وَلِيٍّ آذَوْهُ وَ طَرِيدٍ آوَوْهُ وَ صَادِقٍ طَرَدُوهُ وَ كَافِرٍ نَصَرُوهُ وَ إِمَامٍ قَهَرُوهُ وَ فَرْضٍ غَيَّرُوهُ وَ أَثَرٍ أَنْكَرُوهُ وَ شَرٍّ آثَرُوهُ وَ دَمٍ أَرَاقَوْهُ وَ خَيْرٍ بَدَّلُوهُ وَ كُفْرٍ نَصَبُوهُ وَ إِرْثٍ غَصَبُوهُ وَ فَيْ ءٍ اقْتَطَعُوهُ وَ سُحْتٍ أَكَلُوهُ وَ خُمُسٍ اسْتَحَلُّوهُ وَ بَاطِلٍ أَسَّسُوهُ وَ جَوْرٍ بَسَطُوهُ وَ نِفَاقٍ أَسَرُوهُ وَ غَدْرٍ أَضْمَرُوهُ وَ ظِلٍّ نَشَرُوهُ وَ وَعْدٍ أَخْلَفُوهُ وَ أَمَانٍ خَانُوهُ وَ عَهْدٍ نَقَضُوهُ وَ حَلَالٍ حَرَمُوهُ وَ حَرَامٍ أَحَلُّوهُ وَ بَطْنٍ فَتَقُوهُ وَ جَنِينٍ أَسْقَطُوهُ وَ ضِلْعٍ دَقُّوهُ وَ صَكٍّ مَزَّقُوهُ وَ شَمْلٍ بَدَّدُوهُ وَ عَزِيزٍ أَذَلُّوهُ وَ ذَلِيلٍ أَعَزُّوهُ وَ حَقٍّ مَنَعُوهُ وَ كَذِبٍ دَلَّسُوهُ وَ حُكْمٍ قَلَبُوهُ اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ حَرَّفُوهَا وَ فَرِيضَةٍ تَرَكُوهَا وَ سُنَّةٍ غَيَّرُوهَا وَ رُسُومٍ مَنَعُوهَا وَ أَحْكَامٍ عَطَّلُوهَا وَ بَيْعَةٍ نَكَسُوهَا وَ دَعْوَي أَبْطَلُوهَا وَ بَيِّنَةٍ أَنْكَرُوهَا وَ حِيلَةٍ أَحْدَثُوهَا وَ خِيَانَةٍ أَوْرَدُوهَا وَ عَقَبَةٍ ارْتَقَوْهَا وَ دِبَابٍ دَحْرَجُوهَا وَ أَزْيَافٍ لَزِمُوهَا وَ شَهَادَاتٍ كَتَمُوهَا وَ وَصِيَّةٍ ضَيَّعُوهَا اللَّهُمَّ الْعَنْهُمَا فِي مَكْنُونِ السِّرِّ وَ ظَاهِرِ الْعَلَانِيَةِ لَعْناً كَثِيراً أَبَداً دَائِماً دَائِباً سَرْمَداً لَا انْقِطَاعَ لِأَمَدِهِ وَ لَا نَفَادَ لِعَدَدِهِ لَعْناً يَغْدُو أَوَّلُهُ وَ لَا يَرُوحُ آخِرُهُ لَهُمْ وَ لِأَعْوَانِهِمْ وَ أَنْصَارِهِمْ وَ مُحِبِّيهِمْ وَ مَوَالِيهِمْ وَ الْمُسَلِّمِينَ لَهُمْ وَ الْمَائِلِينَ إِلَيْهِمْ وَ النَّاهِضِينَ بِاحْتِجَاجِهِمْ وَ الْمُقْتَدِينَ بِكَلَامِهِمْ وَ الْمُصَدِّقِينَ بِأَحْكَامِهِمْ. ثُمَّ يقُول: اللَّهُمَّ عَذِّبْهُمْ عَذَاباً يَسْتَغِيثُ مِنْهُ أَهْلُ النَّارِ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، اربع مرّات، ثم قال الكفعمي عليه الرحمه: هذا الدعا من غوامض الاسرار و كرائم الاذكار و كان امير المومنين عليه السلام يواظب في ليله و نهاره و اوقات اُسحاره.

ص:134

و روی الشيخ في التهذيب: أنّ الصادق عليه السلام كان ينصرف من الصلاة بلعن أربعة من الرجال منهم صنمي قريش(1).

و في ذلك دلالة علی جلالة قدر اللعن و علوّ منزلته.

و قد روی أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال: لعن اللّه الكاذب و لو كان مازحاً(2).

و ما رووه من قوله عليه السلام «لا تكونوا لعّانين»(3) فالمراد به إن صحّ النهي عن المبالغة فيه، و الافراط في ارتكابه، بحيث يلعنون كلّ أحد، كما يدلّ عليه هذه الصيغة الموضوعة للمبالغة.

و أمّا الثالث، فإنّه يقتضي أن يكون لهم مساوي، وحينئذ نقول: كيف يجوز أن

ص:135


1- تهذيب الأحكام 321:2 برقم: 1313، روي بإسناده عن الحسين بن ثوير، و أبي سلمة السراج، قالا: سمعنا أبا عبداللّه عليه السلام و هو يلعن في دبر كلّ مكتوبة أربعة من الرجال، و أربعاً من النساء: التيمي، و العدوي، و فعلان، و معاوية و يسمّيهم، و فلانة، و فلانة، و هند، و اُمّ الحكم اخت معاوية. و رواه المحدّث الجليل الثقة الكليني في فروع الكافي 342:3 ح 10.
2- كنز العمّال 624:3.
3- كنز العمّال 76:16 برقم: 43994.

يكون المساوي هداية و الهداية مساوياً؟ علی أنّ الكتاب العزيز حكي وقوع أكبر الكبائر من كثير منهم، و هو الفرار من الزحف في يوم حنين(1)، و إنّ منهم من كان يلمز النبي صلی اللّه عليه و آله في قسمة الصدقات(2)، أي: يعيبه علی وجه المنابزة، ومنهم من كان يتركه وهو قائم في الصلاة لمجرّد الميل إلی اللّهو و التجارة(3).

و كذا السنّة المطهّرة ناطقة بأنّه أمر علياً عليه السلام بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين منهم(4)، و بأنّ امّته ستفترق إلي ثلاث و سبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار(5).

و بعد فقد أطبقوا علي أنّ في عصره منافقين كانوا يدّعون ظاهراً من الأصحاب، أشار اللّه سبحانه إليهم بقوله عزّوجلّ «وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ

ص:136


1- قوله تعالی «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» سورة التوبة: 25.
2- قوله تعالی «وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ» سورة التوبة: 58.
3- قوله تعالی «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ» سورة الجمعة: 11.
4- كنز العمّال 110:13 برقم: 36361، رواه عن ابن مسعود، قال: خرج رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، فأتي منزل امّ سلمة، فجاء علي، فقال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: يا امّ سلمة هذا واللّه قاتل القاسطين والناكثين والمارقين من بعدي.
5- راجع: بحار الأنوار 12:28-14.

بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» (1) وقوله «وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَي النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ» (2) و قوله «فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» (3).

و نحو ذلك من الآيات الدالّة علی و قوع النفاق و غيره من المعاصي منهم، فلا يمكناهم القول بأنّهم بأجمعهم علی الإيمان و العدالة.

علی أنّها إذا ثبت في زمان لا يمتنع زوالها، بل لا يمتنع زوال الإسلام، كما في صاحب موسی عليه السلام الذي أعلم اللّه تعالی أمره لنبيّه بقوله: «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ * وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَی الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ» (4) و كان قد اوتي بعض كتب اللّه. و قيل: كان يعرف الاسم الأعظم، ثم ّ إنّه كفر بآيات اللّه.

و إذا كان كذلك، فلا بدّ من تتبّع أحوالهم، و تتبّع أحوالهم إنّما يحصل بتتبّع أفعالهم و أقوالهم، كما في تخريق عمر كتاب الزهراء عليها السلام(5).

ص:137


1- سورة محمّد صلی اللّه عليه و آله: 30.
2- سورة التوبة: 101.
3- سورة المعارج: 36-37.
4- سورة الأعراف: 175-176.
5- روي العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار 157:29، عن مصباح الأنوار، باسناداه عن أبي جعفر عليه السلام، قال: دخلت فاطمة عليها السلام بنت محمّد صلی اللّه عليه و آله علی أبي بكر، فسألته فدكا، قال: النبي لا يورّث، فقالت: قد قال اللّه تعالی «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» فلمّا حاجّته أمر أن يكتب لها، و شهد علي بن أبي طالب عليه السلام و ام ّ أيمن، قال: فخرجت فاطمة عليها السلام،فاستقبلها عمر فقال: من اين جئت يا بنت رسول الله ؟قال: من عند ابي بكر من شان فداك قد كتب لي بها فقال: عمر: هاتي الكتاب فاعطته فبق فيه و محاه عجل الله جزاء فاستقبلها علي عليه السلام فقال: مالك يا بنت رسول الله غضبي ؟ فذكرت له ما صنع عمر فقال: ما ركبوا منّي و من ابيك اعظم من هذا الحديث.

و قوله علی المنبر: متعتان كانتا علی عهد رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله أنا أنهي عنهما و اعاقب عليهما(1). مضيفا التحريم و النهي إلی نفسه، بعد تصريحه بأنّها كانت علی عهد الرسول صلی اللّه عليه و آله.

و كما في إلقاء عثمان كتاب اللّه العزيز في النار، و قوله: إن ّ فيه لحنا ستقيمه العرب بألسنتهم، فاستأذنوه لتغييره، فقال: دعوه فإنّه لا يحلّل حراما و لا يحرّم حلالا، رواه الثعلبي في تفسيره(2).

و روي السدّي أنّه أراد أن يتهوّد، و طلحة أراد أن يتنصّر، لمّا اصيب النبي صلی اللّه عليه و آله باحد(3).

و قيل لزيد بن أرقم: بأيّ شيء كفّرتم عثمان؟ فقال: بثلاث جعل المال دولة بين الأغنياء، و جعل المهاجرين من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله بمنزلة من حارب اللّه، و عمل بغير كتاب اللّه(4).

و كان عمّار يقول دائما: ثلاثة يشهدون علی عثمان بالكفر، أنا رابعهم، و من لم

ص:138


1- شرح نهج البلاغة لا بن أبي الحديد 251:12، الصوارم المهرقة ص 8 و 212، بحار الأنوار 630:30.
2- الطرائف ص 490-491 عنه.
3- الطرائف ص 494 عنه.
4- شرح نهج البلاغة لا بن أبي الحديد 50:3.

يحكم بما أنزل اللّه فاولئك هم الكافرون(1).

و قد عرفت أنّهم منعوا من النظر في أحوالهم كي لا يحصل الظفر بمثل هذه المطاعن علی أئمّة كفرهم، الذين زعموا أنّهم شفعاؤهم عند اللّه، مع ما شهدوا عليهم من الضلال و النفاق، و الرذائل الخلقية، و غيرها.

ألا تری إلی ما رواه منهم ابن السائب الكلبي في كتاب المثالب: ان ّ جدّ الثاني كان قد تولّد من زنا نفيل بن هشام و عبدالعزّي بن رباح بأمة هاشم بن عبدمناف المسمّاة بصهّاك الحبشية(2).

و روی الحنبلي في نهاية الطلب: انّه كان قبل الإسلام نخّاس الحمير(3).

و روی ابن عبد ربّه في كتاب العقد: ان ّ امرأة من قريش لقيته خارجا و يده علی المعلّي بن الجارود، فنادته، فوقف لها، فقالت: كنّا نعرفك مرّة عميرا، و مرّة عمر، ثم ّ صارت بعد ذلك لك الإمرة، فاتّق اللّه و احذره(4).

و إن ّ عمرو بن العاص لمّا و لّاه ذم ّ زمانا قبل فيه الولاية من قبله لخاسة ما كان هو و أبوه عليه من حمل الحطب(5).

و روی القاسم بن سلام: إن ّ أباه كان سرّاقا، و قطع في السراقة.

و في كتب السير: إن ّ أبابكر كان في الجاهلية معلّما للصبيان، و في الإسلام كان

ص:139


1- شرح نهج البلاغة لا بن أبي الحديد 50:3، بحار الأنوار 195:31.
2- الطرائف ص 469 عنه.
3- الطرائف ص 468 عنه.
4- العقد الفريد 201:2، الطرائف ص 468 عنه.
5- الطرائف ص 467.

خيّاطا، و لمّا و لي أمر المسلمين منعه الناس من الخياطة، فقال: إنّي أحتاج إلی القوّة، فجعلوا له في كل ّ يوم ثلاثة دراهم من بيت المال(1).

و في كتاب المثالب، إن ّ أب عثمان و هو عفّان كان يضرب بالدفّ و يلعب به(2).

و إن ّمعاوية كان لأربعة(3)، فكيف ساقوا الإمامة فيه، ثم ّ في سائر الشجرة الملعونة، أعني: الأموية الذين سنّوا سب ّ علي عليه السلام علی رؤس المنابر ألف شهر، حتّي صار ذلك دينا يدينون به، و يعتقدونه من سنّة النبي صلی اللّه عليه و آله.

و حكی السيّد الجليل علي بن طاووس في كتاب الطرائف أن ّ خطيبا منهم بعد انصرافه عن موضع الصلاة كان يهمهم في نفسه، فقيل له: أيّ شيء تذكر؟ فقال: نسيت سب ّ علی في الخطبة فأقضيه.

و كانوا يكنّون عن أنفسهم بأهل السنّة و الجماعة، يعنون أنّهم من أهل سنّة سب علي عليه السلام و جماعة بني اميّة، ثم ّ لمّا شنع عليهم محبّوا أهل البيت عليهم السلام في زمن بني العبّاس دلّسوا و قالوا: مرادنا بأهل السنّة سنّة النبي صلی اللّه عليه و آله و الجماعة جماعة الصحابة.

قال: و يطلقون عليهم هذا الاسم إلي الآن، و أكثرهم جاهلون بوجه تسميتهم به.

و نقل عن الكرابيسي أنّه قال: أوّل من أحدث هذه التسمية يزيد - لعنه اللّه - لمّا دخل عليه رأس الحسين عليه السلام، و كان من دخل من ذلك الباب سمّي سنّيا(4).

و كذا أورد أن ّ صاحب كتاب الزواجر، قال: إن ّ معاوية سمّي ذلك العام عام

ص:140


1- بحار الأنوار 518:30.
2- الطرائف ص 499.
3- الطرائف ص 501.
4- الطرائف ص 205 عنه.

السنّة(1).

و إن ّ ابن عبد ربّه في كتاب العقد، قال: إنّه لمّا صالح الحسن عليه السلام معاوية سمّي معاوية ذلك العام عام الجماعة(2).

فقد ثبت بشهادة علمائهم أن ّ هذا أصل تسميتهم التي كنّوا بها عن أنفسهم، لبئس ما قدّمت لهم أيديهم أن سخط اللّه عليهم و في العذاب هم خالدون.

و قد أورد النسّابون أن ّ عبد شمس بن عبد مناف أخا هاشم بن عبد مناف قد ربّي عبدا له روميا، يقال له: امية، و تبنّاه، فنسب إليه.

و فيه دلالة صريحة علی أنّه لم يكن ابنه حقيقة، كما جاء في الشعر:

و ما عبد شمس والد لا مية *** و لكن بعد الالتقاط به انتما

و علی أن ّ أصل بني امية من الروم، فكيف ساقوا الإمامة فيهم؟ مع ما رووه في صحاحهم أن ّ الأئمّة من قريش(3).

و أيضا فقد قال اللّه تعالی في إبعادهم: «وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» (4) فإنّه قد ذكر جمع من المفسّرين أن ّ المراد بالشجرة بنو امية، و الرؤيا التي رآها النبي صلی اللّه عليه و آله التي قال اللّه تعالی في شأنها: «وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ» (5)

ص:141


1- الطرائف ص 205 عنه.
2- الطرائف ص 205 عنه.
3- صحيح البخاري 127:8 و 81:9، مسند أحمد بن حنيل 92:5، صحيح مسلم 1452:3-1454، سنن أبي داود السجستاني 150:4.
4- سورة الاسراء: 60.
5- سورة الاسراء: 60.

المراد بها ما روي أن ّ النبي صلی اللّه عليه و آله رأي قردة تنزو علی منبره، فساءه ذلك و اغتم ّ، و اوّل ذلك بأن ّ بني امية يتداولون منبره(1).

و روی صاحب كتاب الحاوية، عن ابن مسعود، أنّه قال: لكل ّ شيء آفة، و آفة الدين بنو امية(2).

و روينا عن الحسين بن علي عليهم السلام، أنّه قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: الخلافة محرّمة علی آل أبي سفيان(3).

و في روآية الواقدي، عن أبي ذرّ الغفاري: إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال اللّه دولا، و عباد اللّه خولا، و دين اللّه دخلا(4).

و في روآية لمسلم أن ّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال: يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي، و لا يستنّون بسنّتي، و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان، قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول اللّه؟ قال: تسمع و تطيع الأمير و إن ضرب عنقك و أخذ مالك، فاسمع و أطع. رواه في المشكاة(5).

و روي صاحب كشف الغمّة في سياق أخبار عن أبي محمّد الفحّام، أن ّ النبي صلی اللّه عليه و آله

ص:142


1- مجمع البيان لأبي علي الطبرسي 424:3.
2- كنز العمّال 364:11 برقم: 31755، و فيه: لكل ّ امّة آفة، و آفة هذه الامّة بنو امية.
3- بحار الأنوار 249:33.
4- شرح نهج البلاغة لا بن أبي الحديد 56:3 و 258:8 و 220:9، مسند أحمد بن حنبل 80:3، العمدة لا بن البطريق ص 471-472.
5- صحيح مسلم 1476:3 ح 52 كتاب الإمارة.

قال لعلي عليه السلام: اتّق الضغائن التي في صدور من لا يظهرها إلّابعد موتي، اولئك يلعنهم اللّه و يلعنهم اللاعنون، ثم ّ بكي النبي صلی اللّه عليه و آله، فقيل: مم ّ بكاؤك(1) يا رسول اللّه؟ فقال: أخبرني جبرئيل عليه السلام أنّهم يظلمونه و يمنعونه حقّه، و يقاتلونه و يقتلون ولده، و يظلمونهم بعده(2). و قريب من ذلك مروي في مناقب ابن مردويه(3).

و لا ريب أن ّ منعه حقّه كان في زمان أبي بكر و عمر و عثمان؛ لأنّه كان ممنوعا من كل ّ شيء حينئذ، كما يرشد إليه كلامه في الخطبة الشقشقية(4) التي رواها جماعة من أهل السنّة، منهم الحسن بن عبد اللّه بن مسعود العسكري في كتاب معاني الأخبار، و ابن عبد ربّه في كتاب العقد، و فيها من التوجّعات و التألّمات ما يقطع نياط قلب الصبور، و يوجب عظائم الامور، و من كشف القبائح التبسها اولئك الأغتام، ما هو بيّن لذوي البصائر و الأفهام.

و قد أورد له شيخ الطائفة أبوجعفر الطوسي في مصباحه(5) خطبة جليلة، قد كشف فيها ما جری من المتقدّمين عليه بالخلافة و ظلمهم له، ثم ّ جری علی ذلك من تأخّر عنهم، فقاتله معاوية و قتل ولده اقتداء بفعلهم، و جريا علی ظلمهم.

و إلی ذلك أشار دعبل الخزاعي في قصيدته:

ص:143


1- في الكشف: تبكي.
2- كشف الغمّة 398:1.
3- الطرائف ص 521-522.
4- نهج البلاغة ص 48 رقم الخطبة: 3.
5- مصباح المتهجّد ص 752-758

و ما سهلت تلك المذاهب فيهم *** علی الناس إلّابيعة الفلتات(1)

و لقد كان أشدّهم له عداوة خليفتهم الثاني، و هو الذي بايع أبابكر، و ألزم الناس له بالبيعة، و طلب عليا عليه السلام إليها، و تهدّده بالمحاربة و تحريق البيت إن امتنع منها، بل جمع الحطب عند بيته و أتي بالقبس لتحريقه، كما تقدّمت روايته عن الواقدي و غيره، و نسي ما قدّمت يداه.

و لا التفت إلی قول اللّه «من عادي أوليائي فقد بارزني بالمحاربة، و من حارب أهل بيت نبيي فقد حل ّ عليه عذابي، و من تولّی غيرهم فقد حل ّ عليه غضبي، و من أعان(2) غيرهم فقد آذاني، و من آذاني فله النار» رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام، بإسناداه عن النبي صلی اللّه عليه و آله، عن جبرئيل عليه السلام(3).

و لا رجع إلی ما يقتضيه العقل من أن ّ هذا الامتناع و إن وقع من أدنياء القوم لا يسوغ عقوبته بالتحريق، و إن أوصی الرسول صلی اللّه عليه و آله بالخلافة لمن طلبت بيعته، فكيف إذا كان الأمر علی خلاف ذلك، و كان الامتناع ممّن جعل اللّه مودّته، و مودّة المعصومين من أبنائه المكني عنهم في الآية بالقربي أجرا علی تبليغ الرسول رسالته(4).

و أفردهم بهذه المرتبة عن آل كل ّ نبي، فإنّه قد حكی القرآن المجيد علی

ص:144


1- الصوارم المهرقة ص 201 و 226، بحار الأنوار 246:49.
2- في العيون: أعزّ.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 68:2 ح 315.
4- قوله تعالي «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي» سورة الشوري: 23.

الأنبياء أنّهم لم يسألوا العباد أجراً علی التبليغ(1)، ونبيّنا صلی اللّه عليه و آله سأل الأجر علی مودّة قرباه؛ لما علم أنّهم لا يرتدّون من الدين ولا يرجعون إلی ضلال أبداً، و تكرّر منه الوصية فيهم بقوله: «اُذكّركم اللّه في أهل بيتي»(2) وقوله: «اُنظروا كيف تخلفوني فيهما»(3) يعني: الكتاب العزيز، و العترة الطاهرة. و نحو ذلك.

ص:145


1- قوله تعالی «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْري لِلْعالَمِينَ» سورة الأنعام: 90.
2- رواه مسلم في صحيحه 1873:4 باب فضائل علي عليه السلام، باسناده إلی يزيد بن حيّان، قال: انطلقت أنا و حصين بن سبرة و عمر بن مسلم إلی زيد بن أرقم، فلمّا جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله و سمعت حديثه، و غزوت معه، و صلّيت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، قال: يابن أخي و اللّه لقد كبرت سنّي، و قدم عهدي، و نسيت بعض الذي كنت أعی من رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، فما حدّثتكم فاقبلوا، و ما لا فلا تكلّفونيه، ثمّ قال: قام رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله يوماً فينا خطيباً بماء يدعی خمّاً بين مكّة و المدينة، فحمد اللّه و أثني عليه، و وعظ وذكر، ثمّ قال: أمّا بعد ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فاُجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين، أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدي و النور، فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به، فحثّ علی كتاب اللّه و رغّب فيه، ثمّ قال: و أهل بيتي، اذكّركم اللّه في أهل بيتي، اذكّركم اللّه في أهل بيتي، اذكّركم اللّه في أهل بيتي. الحديث.
3- رواه ابن المغازلي الشافعي في مناقبه ص 235، باسناده، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: أوشك أن ادعی فاُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه عزّوجلّ، وعترتي أهل بيتي، فانظروا ماذا تخلفوني فيهما. ورواه أحمد في مسنده 14:3 و 26 و 95 و 17:3، والطبقات الكبري 194:2 طبع مصر.

و بعد فإنّ هذا الامتناع كيف استوجب هذه العقوبة؟ مع أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله الذي هو أشرف الأنبياء لم يقهر أهل الذمّة علی الانقياد إلي شريعته التي هي أتمّ الشرائع، بل رضي منهم بالجزية.

و كيف استجاز الصحابة ذلك؟ مع أنّ مسألة الإمامة بزعمهم ليست من اصول العقائد، بل هي ممّا يتعلّق بمصالح العباد في امور الدنيا.

و هلّا قصد خليفتهم الثاني تحريق بيوت الأنصار و غيرهم لمّا امتنعوا من البيعة، كما قصد تحريق بيت علي عليه السلام، لكن قد كان ديدنه معه تدقيق النظر في إيذائه، وطرح وصايا الرسول صلی اللّه عليه و آله فيه، و دفع الإمامة عنه مهما أمكن، كما ينبيء عنه صنيعه في الشوري وغيرها، و كذا مع سائر العترة الطاهرة.

و يوضحه - مع ما تقدّم - ما ذكره البلاذري في تاريخه، قال: لمّا قتل الحسين بن علي عليهما السلام كتب عبداللّه بن عمر إلی يزيد لعنه اللّه: أمّا بعد فقد عظمت الرزية، و جلّت المصيبة، و حدث في الإسلام حدث عظيم، و لا يوم كيوم الحسين.

فكتب إليه يزيد: أمّا بعد يا أحمق، فإنّا جئنا إلی بيوت متجدّدة(1)، و فرش ممهّدة، و وسائد منضّدة، فقاتلنا عنها، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا، وإن يكن لغيرنا فأبوك سنّ هذا و ابتزّ واستأثر بالحقّ علی أهله(2).

و إنّما أهمل منازعته و منازعة صاحبيه و مقاتلتهم دفعاً للضرر لفقد الأنصار و الأولياء؛ إذ لم يكن معتزلاً معه وموافقاً له إلّابنو هاشم خاصّة، و الباقون مختلفون في الآراء، و هو السبب في صبر الأنبياء و الأوصياء عن منازعة الفراعنة

ص:146


1- في الطرائف: متّخذة، و في البحار: منجدة.
2- الطرائف ص 247 ح 348، بحار الأنوار 328:45.

و الملوك، أو للخوف من ارتداد القوم عن الدين و خروجهم عن الإسلام، و نبذهم شعار الشريعة.

كما رواه أخطب خوارزم موفّق بن أحمد الخوارزمي، و ابن مردويه، عن عامر بن واثلة، قال: كنت علی الباب يوم الشوري، فارتفعت الأصوات بينهم، فسمعت علياً يقول: بايع الناس أبابكر و أنا أولی بالأمر منه و أحقّ، فسمعت و أطعت مخافة أن يرجع القوم كفّاراً يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثمّ بايع أبوبكر لعمر و أنا واللّه أولی بالأمر منه، فسمعت و أطعت مخافة أن يرجع القوم كفّاراً، ثمّ أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان، إذاً لا أسمع و لا أطيع(1).

و روي ابن عبد ربّه أنّه عليه السلام كان يتألّم من الصحابة كثيراً في عدّة مواطن علی رؤوس المنابر، وأنّ أوّل ما خطب عقيب مبايعة الناس له أن قال - بعد إشارات ظاهرة وباطنة بالتألّم ممّن تقدّمه و ممّن و افقهم - ما هذا لفظه: قد كانت امور ملتم فيها عن الحقّ ميلاً كثيراً لم تكونوا فيها محمودين، أما إنّي لو شأت أن أقول لقلت، عفی اللّه عمّا سلف، سبق الرجلان، و قام الثالث كالغراب همّته بطنه، ويله لو قصّ جناحاه و قطع رأسه لكان خيراً له، انظروا فإن أنكرتم فانكروا، و إن عرفتم فاعرفوا، ألا إنّ أبرار عترتي، و أطايب أرومتي، أحلم الناس صغاراً، و أعلمهم كباراً، ألا و إنّا من أهل بيت من علم اللّه عَلِمنا، و بحكم اللّه حكمنا، و من قول صادق سمعنا، فإن تتبّعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، معنا راية الحقّ، من تبعها لحق، و من تخلّف عنها غرق، ألا و بنا عزّة كلّ مؤمن، و بنا تخلع ربقة الذلّ من أعناقهم،

ص:147


1- المناقب للخوارزمي ص 313-314، المناقب لابن مردويه ص 130.

و بنا فتح، و بنا يختم(1).

و لا ريب أنّه قد أبان في ذلك التألّم من اولئك، بل ما كان يخطب خطبة ولا يقف موقفاً إلّاويتظلّم فيه منهم، وإن اختلفت الألفاظ، فالقدر المشترك بينها متواتر لا محالة.

و من كلام له عليه السلام: اللّهمّ إنّي أستعديك علی قريش، فإنّهم قطعوا رحمي، وأكفؤوا إنائي، وأجمعوا علی منازعتي، حقّاً كنت أولی به من غيري، وقالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحقّ أن تمنعه، فاصبر مغموماً، أو مت متأسّفاً، فنظرت فإذا ليس لي رافد، ولا ذابّ، ولا مساعد، إلّاأهل بيتي، فضننت بهم عن المنية، فأغضيت علی القذي، وجرعت ريقي علی الشجي، وصبرت من كظم الغيظ علی أمرّ من العلقم، وآلم للقلب من وخز الشفار(2).

و فيه تصريح وكذا في الخطبة الشقشقية بأنّه لو وجد ناصراً ومعيناً علی حربهم لحاربهم، كما حارب أهل البصرة وصفّين؛ لأنّه وجد عليهم أنصاراً و أعواناً يكثر عددهم، و يرجي النصرة و الظفر بمثلهم؛ لأنّ الشبهة في فعلهم و بغيهم كانت زائلة عن جميع الأماثل و ذوي البصائر، و لم يشتبه أمرهم إلّ اعلی أغتام وطغام لا اعتبار بهم، و لا فكرة في نصرة مثلهم، فتعيّن النهوض في قتالهم للسبب المذكور، دون قتال المتقدّمين عليه.

لأنّ الجمهور والعدد الكثير والجمّ الغفير كانوا علي موالاتهم وتعظيمهم

ص:148


1- العقد الفريد 133:2، الطرائف ص 417، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 275:1، بحار الأنوار 636:29.
2- نهج البلاغة ص 336 رقم الكلام: 217.

و تصويبهم في أقوالهم و أفعالهم، فبعض للشبهة، و بعض للانحراف عن علي عليه السلام، و المحبّة لخروج الأمر منه، و إن عرفوا فضله و سابقته و مكانته من الرسول صلی اللّه عليه و آله؛ لأنّه قد كان قتل من آبائهم و أجدادهم و أخوالهم و أقربائهم المحادّين للّه و لرسوله عدداً كثيراً، و لم يتّفق حصول مثله من غيره؛ لأنّه كان له في الجهاد بين يدي رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله ما لم يكن مثله لغيره، و بعض لطلب الدنيا و الميل إلی الرئاسة الموجبة لاجتماع سواد العامّة عليهم و كثرتهم حولهم، علی أنّ من حارب معه في هذه الحروب إلّاالقليل كانوا قائلين بإمامة المتقدّمين عليه.

فكيف يستنصر عليهم بقوم هذه صفتهم؟ و حضوره مجالسهم لينهي عن بعض ما يجری فيها، و دخوله في آرائهم ليرشدهم إلی بعض ما شذّ عنهم، و صلاته خلفهم إن كانت فلإظهار الاقتداء بهم مجرّداً عن النية، حذراً من مجاهرتهم و منابذتهم، و أخذه عطاياهم لتسويغ الشريعة تناول ما أخذه الجائر قهراً، و نكاحه سبيهم لم يقع منه، و الحنيفة امّ محمّد لم يستبحها بالسبي، بل نكحها و مهرها، كما رواه البلاذري و غيره.

و تزويجه ابنته امّ كلثوم من عمر لم يقع إلّابعد توعّد و تهدّد و مراجعة و منازعة و كلام طويل مأثور أشفق من شروق الحال، و ظهور ما لا يزال يخفيه منها(1).

ص:149


1- روي المحدّث الجليل الثقة الكليني في فروع الكافي 346:5، باسناده، عن زرارة، عن أبي عبداللّه عليه السلام في تزويج امّ كلثوم، فقال: إنّ ذلك فرج غصبناه.وروي أيضاً باسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: لمّا خطب إليه، قال له أميرالمؤمنين: إنّها صبية، قال: فلقي العبّاس، فقال له: مالي أبي بأس؟ قال: و ما ذلك؟قال: خطبت الی ابن اخيك فردني، اما والله لاعورن زمزم، و لا ادع لكم مكرمه الا هدمتها و لا قيمن عليه شاهدين بانه سرق و لاقطعن يمينه فاتا العباس فاخبره و ساله ان يجعل الامر اليه فجعله اليه.

و دخوله في الشوری ليتمكّن من الاحتجاج علی القوم بفضائله ومناقبه، والأخبار الدالّة علی النصّ علی إمامته.

و روی القطب الراوندي في المنهاج، أنّه عليه السلام قال: دخلت في الشوري تكذيباً لقول عمر «إنّ الخلافة والنبوّة لا يجتمعان في بيت واحد»(1).

و في الحديث المتقدّم الذي أورد صاحب كشف الغمّة أنّ الزبير بن بكّار رواه عن رجاله، أنّ ابن عبّاس قال: إنّ عمر قال لي: بلغني أنّك تقول إنّما صرفوها يعني قريشاً عنّا حسداً و بغياً و ظلماً، فقلت: أمّا قولك ظلماً، فقد تبيّن للجاهل و الحليم.

و أمّا قولك حسداً فإنّ آدم حُسد و نحن أولاده المحسودون، فقال: هيهات هيهات أبت واللّه قلوبكم يا بني هاشم إلّا حسداً لا يزول، فقلت: مهلاً يا أمير المؤمنين لا تصف قلوب قوم أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً بالحسد والغشّ، فإنّ قلب رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله من قلوب بني هاشم(2).

ص:150


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 128:1، قال في حديث الشوری: قال عمر للناس: كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف، فقال العبّاس لعلي عليه السلام: ذهب الأمر منّا، والرجل يريد أن يكون الأمر لعثمان، فقال علي عليه السلام: أنا أعلم ذلك، ولكنّني أدخل معهم في الشوری؛ لأنّ عمر قد استأهلني الآن للامامة وكان من قبل يقول: إنّ رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله قال: إنّ النبوّة والامامة لا يجتمعان في بيت، و إنّي لأدخل في ذلك ليظهر أنّه كذّب نفسه بما روي أوّلاً.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 53:12-55، بحار الأنوار 72:31.

و في ذلك تكفير له بوجه لطيف، وكفي بابن عبّاس شاهداً علی كفره.

و بما تقدّم من مثل تحريمه المتعة مع اعترافه بأنّها كانت علی عهد الرسول صلی اللّه عليه و آله، و تخريقه الكتاب الذي كتبه أبوبكر لسيّدة النساء عليها السلام في ردّ فدك مصرّحاً بكفره(1).

و قد نقل صاحب كشف الغمّة من كتاب السقيفة لأبي بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري خطبة لها عليها السلام ناطقة أيضاً بكفره و كفر من أمّره، و هو أبوبكر و أتباعهما.

منها: فلمّا اختار اللّه لنبيّه صلی اللّه عليه و آله دار أنبيائه، و أتمّ له(2) ما وعده، ظهرت حسيكة النفاق، و سمل جلباب الإسلام، فنطق كاظم، و نبغ خامل، وهدر فينق الكفر، يخطر في عرصاتكم، فأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فوجدكم لدعائه مستجيبين، و للغرّة فيه ملاحظين، و استنهضكم فوجدكم خفافاً، و أحمشكم فوجدكم غضاباً، هذا والعهد قريب، و الكلم رحيب، و الجرح لمّا يندمل، فوسمتم غير إبلكم، و أوردتموها شرباً ليس لكم، و الرسول لمّا يقبر بدار، أزعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا، و إنّ جهنمّ لمحيطة بالكافرين.

فهيهات منكم، و كيف بكم، و أنّي تؤفكون، و كتاب اللّه عزّوجلّ بين أظهركم، قائمة فرائضه، واضحة دلائله، نيّرة شرائعه، زواجره واضحة، و أوامره لائحة، أرغبة عنه تريدون، أو بغيره تحكمون، بئس للظالمين بدلاً، و من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين(3).

ص:151


1- تقدّم نقل الحديث مفصّلاً.
2- في الكشف: عليه.
3- كشف الغمّة 486:1-487.

و منها: ثمّ أنتم أوّلاً تزعمون أن لا إرث لي، أفعلي عمد تركتم كتاب اللّه ونبذتموه وراء ظهوركم، يقول اللّه عزّوجلّ: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» (1)مع ما اقتصّ من خبر يحيي وزكريا، إذ قال: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» (2) وقال تبارك وتعالي:

«يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» (3).

فزعمتم أن لا حظّ لي ولا إرث لي من أبي، أفحكم اللّه بآية أخرج أبي منها، أم تقولون: إنّ أهل ملّتين لا يتوارثان، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من اللّه حكماً لقوم يوقنون.

إيهاً معاشر المسلمة أبتزّ ارثية، أاللّه أن ترث أباك و لا أرث أبي، لقد جئتم شيئاً فرياً، فدونكها مرحولة مخطومة مذمومة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم اللّه، و الموعد القيامة، و عند الساعة يخسر المبطلون ما توعدون، و لكلّ نبأ مستقرّ و سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يحلّ عليه عذاب مقيم.

قال: ثمّ التفتت إلي قبر أبيها متمثّلة بقول هند ابنة أثاثة:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة *** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واختلّ قومك لمّا غبت وانقلبوا(4)

و في هذه الخطبة من هذا النمط ما أعرضنا عنه إيثاراً للاختصار، واكتفاءً في

ص:152


1- سورة النحل: 16.
2- سورة مريم: 6.
3- سورة النساء: 11.
4- كشف الغمّة 488:1-489.

الدلالة علی المطلوب بهذا المقدار.

وروی الغزالي في الإحياء: أنّ عمر كان يسأل حذيفة عن نفسه، وأنّه هل ذكر في المنافقين(1). ولولا أنّه يعلم من نفسه ما يليق بهذه الحال ما سأل عنها. علی أنّه قيل: إنّ حذيفة قال له: أنت أعلم بنفسك(2). وهو كالصريح في ضلاله، فإنّه لو علم إسلامه لما أبهمه خوفاً من سطوته.

و كذا ما رواه الحميدي في صحيحه من أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله أمره بسماع ما أخبره به جابر بن عبداللّه الأنصاري من وقوع البركة في النخل المنتقل إليه بالميراث، بحيث قضي منه دَينه، و بقي منه بقية ببركة دعاء النبي صلی اللّه عليه و آله له بالبركة(3). فإنّه كالصريح في أنّه اطّلع علی سريرته، من أنّه كان شاكّاً في نبوّته، وأراد إثبات الحجّة عليه في إظهار المعجزة الدالّة علی النبوّة.

و يؤيّده ما رواه المحدّثون من أنّه كان يلحظ التوراة لاستخراج الأحكام، حتّی رآه الرسول صلی اللّه عليه و آله يوماً، فغضب عليه و قال له: لو كان موسی حياً لما وسعه إلّا اتّباعي(4). و ذلك لأنّه لو كان معتقداً لنبوّته لمنع الحياء من الإقدام علی استخراج الأحكام من ملّة نبي غيره.

و روی الثعلبي في تفسيره: في حديث الصلح بين سهيل بن عمرو و بين

ص:153


1- إحياء علوم الدين 124:1.
2- الطرائف ص 470.
3- صحيح البخاري 84:3 كتاب الاستقراض، الطرائف ص 446.
4- بحار الأنوار 361:30 و 361، عوالي اللآلي 121:4.

النبي صلی اللّه عليه و آله، أنّه قال: ما شككت إلّايومئذ(1).

و الضرورة قاضية بأنّه لم يقع من النبي صلی اللّه عليه و آله ما يقتضي شكّه لو كان علی بصيرة في إسلامه ومعرفة لنبوّة النبي صلی اللّه عليه و آله.

و روی الثقة أبوعلي الطبرسي في تفسير قوله تعالی: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» (2) إنّه أقرّ علي نفسه بأنّه حديث عهد بجاهلية وشرك(3).

و روی مسلم في صحيحه أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله فضّل هجرة أسماء بنت عميس علی هجرته (4)، و ما ذلك إلّالإبطانه الكفر.

و قد حكم بغير ما أنزل اللّه في مواضع كثيرة، سيأتي بيان بعضها في الوجه التاسع إن شاء اللّه تعالی «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» (5).

هذا و قد ورد عن أئمّة الهدی أنّهم قالوا: من شكّ في كفر أعدائنا و الجاحدين لنا فهو كافر، رواه الصدوق في اعتقاداته عن مولانا الصادق عليه السلام(6).

و هو من أدلّ دليل علی المدّعی، و هو كفر أهل البدعة لمن أبصر و وعي.

ص:154


1- الطرائف ص 441 عن تفسير الثعلبي، بحار الأنوار 564:30.
2- سورة المائدة: 101.
3- مجمع البيان 250:2.
4- صحيح مسلم 1946:4 برقم: 2502، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس.
5- سورة المائدة: 44.
6- وسائل الشيعة 345:28 عن رسالة الاعتقادات.

الوجه السادس: خروجهم عن طاعة الإمام الحقّ

جرياً علی ما نهجه سلفهم، و هم أهل النهروان مع علي عليه السلام، الذين احتجّوا عليه بالتحكيم و نحوه، و الجامع بينهم و بين البغاة بغضه، بالاستصغار لقدره، و تفضيل غيره عليه، و منعهم تسليم الحقّ إليه، و قبولهم ما يتضمّن مدح أعدائه، وما فيه مثلبة له، و إنكارهم الوصية إليه بالخلافة من النبي صلی اللّه عليه و آله، و صرفهم الآيات الدالّة علی أفضليته، و وجوب طاعته، إلی غيره، أو حملها علی وجه يندرج فيه غيره، إلی غير ذلك من علامات الخروج.

و لم يتفطّنوا إلی أنّ إنكار المراد من تأويله كفر كإنكار تنزيله، و لهذا قاتل أميرالمؤمنين عليه السلام أهل النهروان، و قد أعلمه النبي صلی اللّه عليه و آله بأنّه سيقاتلهم علي ذلك بقوله «إنّك ستقاتل علی تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله»(1).

و في الحقيقة الخروج من جملة أقسام النصب، كما سيأتي بيانه عن قريب.

و من ثَمّ كان هذا الوجه قريباً ممّا تقدّمه، إلّا أنّا أردنا في إفراده عنه بيان صحّة اتّصافهم بالخروج و النصب معاً، كاتّصاف رؤسائهم بذلك.

و قد سئل السيّد الرضي الموسوي - قدّس اللّه روحه - و هو حدث السنّ، فقيل:

ما النصب في عمر امتحاناً عن إعرابه، فأجاب بغض علي عليه السلام(2).

ص:155


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 277:2 و 206:3 و 42:14، الطرائف ص 70، العمدة لابن البطريق: 225-226 و 286.
2- قال ابن خلّكان في و فيات الأعيان 416:4 في ترجمة الشريف الرضي: و ذكر بوالفتح ابن جني النحوي في بعض مجامعي ان الشريف الرضي احضر الی ابن السيرافي النحوي و هو طفل جدا لم يبلغ عمره عشر سنين فلقنه النحو و قعد معه يوما في حلقه فذاكره بشي من الاعراب علی عاده التعليم فقال له: اذا قلنا رايت عمر فما علامه النصب ي عمر؟ فقال له الرضي: بغض علی فعجب السيرافي والحاضرون من حده خاطره راجع: الكوواكب المشرقه 3: 248 و 250.

و لنعم ما أجاب، فإنّ ذلك لشدّة عداوته له، و استقلاله بالأمر دونه عليه الصلاة و السلام.

و أورد الشهيد في البيان ما هذا لفظه: والناصبي خارجي(1). و هو بظاهره يقتضي أن يكون كلّ ناصب خارجياً.

و ذكر المقداد في التنقيح في تفسير الناصب وجوهاً خمسة:

أحدها: أنّه الخارجي الذي قال في علي عليه السلام ما قال.

الثاني: أنّه الذي ينسب إلی أحد الأئمّة المعصومين عليهم السلام ما يثلم العدالة.

الثالث: من إذا سمع فضيلة لعلي عليه السلام أو لغيره من المعصومين عليهم السلام أنكرها.

الرابع: من اعتقد أفضلية غير علي عليه السلام.

الخامس: من إذا سمع النصّ علی علي عليه السلام، أو بلغه متواتراً و بطريق يعتقد صحّته أنكره.

ثمّ قال: والحقّ صدق النصب علی الجميع. أمّا من يعتقد إمامة غيره للإجماع أو لمصلحة ولم يكن من أحد هذه الأقسام الخمسة، فليس بناصب.

قلت: هذا الفرض نادر، فإنّ الغالب عدم انفكاك من هذا شأنه من فرق

ص:156


1- البيان ص 39.

المخالفين عن بعض هذه الأقسام، و ربما استجمعها بعضهم، و من ثمّ كان أغلبهم متّسماً بسمة النصب، و إن تفاوت بالشدّة و الضعف.

و من تتبّع أقوالهم و أفعالهم، مثل منعهم أهل البيت عليهم السلام من خمسهم، و جعل مصرفه الصلاح و الكراع للمجاهدين، و بذل جهدهم في تسديد أعداء أئمّة الدين، و نحو ذلك ممّا أسلفناه، ينكشف له صحّة ما قلناه، و لهذا لم يجعلوهم في حلّ في حقوقهم، بل قصروا إباحتها علی شيعتهم، معلّلين ذلك بطيب ولادتهم.

الوجه السابع: خلودهم في النار كالخلود الثابت لسائر الكفّار

لما تواتر من الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم صلوات من ربّهم ورحمة دائمة بدوام الليل والنهار، الواردة بطريق الخاصّة والعامّة، المتضمّنة لكون من أبغض الأئمّة الذين هم أهل بيت النبوّة لا يشمّ رائحة الجنّة.

فمن ذلك: ما رواه من العامّة الخطيب الخوارزمي في مناقبه: إنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال:

يا علي لو أنّ عبداً عبد اللّه ألف عام علی قدميه، ثمّ قتل بين الصفا والمروة مظلوماً، ثمّ لم يوالك، لم يشمّ رائحة الجنّة ولم يدخلها(1).

ص:157


1- المناقب للخوارزمي ص 67-68 ح 40. والحديث فيه هكذا: عن النبي صلی اللّه عليه و آله أنّه قال لعلي عليه السلام: يا علی لو أنّ عبداً عبد اللّه عزّوجلّ مثل ما قام نوح في قومه، وكان له مثل احد ذهباً، فأنفقه في سبيل اللّه، و مدّ في عمره حتّی حجّ ألف عام علی قدميه، ثمّ قتل بين الصفا والمروة مظلوماً، ثمّ لم يوالك يا علي، لم يشمّ رائحة الجنّة ولم يدخلها. و رواه الديلمي في فردوس الأخبار 419:3.

و مثله روی أحمد بن مردويه في مناقبه(1).

و في رواية: وإنّ رائحتها لتشمّ من مسيرة خمسمائة عام(2).

وجه الاستدلال: أنّه قد تقرّر في فنّ الاُصول أنّ النكرة إذا وقعت في سياق النفي أفادت العموم، فأفادت الرواية أنّ مبغضه لا يدخلها أصلاً.

و السرّ في ذلك أنّ ولايته عليه السلام، وكذا ولاية المعصومين من أبنائه عليهم السلام، بل ولاية شيعتهم - كما تقدّم مروياً - جزء الإيمان الذي لا يقبل شيء من الأعمال بدونه.

و يزيده بياناً ما رواه الديلمي في الفردوس: عن أبي ذرّ الغفاري، عن النبي صلی اللّه عليه و آله قال: حبّ علی إيمان و بغضه نفاق(3).

و مثله روی أحمد بن حنبل في مسنده(4).

و روی ابن مردويه في مناقبه في تفسير قوله تعالی: «وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» (5) أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال: يعرف المنافقين ببغضهم علياً عليه السلام(6).

فقد أقسم اللّه سبحانه بأنّ نبيه صلی اللّه عليه و آله يعرف المنافقين ببغضهم إيّاه.

و يؤيّده النصوص المروية عنه عليه السلام الناطقة بأنّ بغضه علامة النفاق، كما أنّ حبّه

ص:158


1- مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه ص 73 ح 49.
2- من لا يحضره الفقيه 444:3.
3- الفردوس للديلمي 226:2-227.
4- راجع: بحار الأنوار 112:27 و 92:37 و 293:39 و 76:40 وغيرها.
5- سورة محمّد صلی اللّه عليه و آله: 30.
6- مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه ص 320.

علامة الإيمان(1).

و قد ورد النصّ المستفيض بين الشيعة والنصبة أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال: يا علي لا يحبّك إلّامؤمن، ولا يبغضك إلّاولد زنية أو حيضة(2).

و روي السيّد الجليل علي بن طاووس في كتاب ربيع الشيعة(3)، عن ابن عبّاس، قال: قال النبي صلی اللّه عليه و آله: إذا كان يوم القيامة دُعي الناس كلّهم بأسماء امّهاتهم ما خلا شيعتنا، فإنّهم يدعون بأسماء آبائهم لطيب مواليدهم(4).

و روی الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام: إنّ رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله تلا هذه الآية «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» (5) فقال: أصحاب الجنّة من أطاعني، وسلّم لعلي بن أبي طالب بعدي، و أقرّ بولايته. و أصحاب النار من سخط الولاية، و نقض العهد، و قاتله بعدي(6).

و روی الديلمي في الفردوس: عن عمر بن الخطّاب، قال: حبّ علی براءة من النار(7).

و عن معاذ قال: قال النبي صلی اللّه عليه و آله: حبّ علی حسنة لا تضرّ معها سيّئة، و بغضه سيّئة

ص:159


1- راجع: إحقاق الحقّ 237:7-246.
2- بحار الأنوار 287:39 و 301 و 104:78.
3- وهو بعينه كتاب إعلام الوري بأعلام الهدي، لأبي علي الطبرسي، من أعلام القرن السادس، و قد سري هذا الوهم إلي جمع من الأعلام.
4- إعلام الوري ص 165.
5- سورة الحشر: 20.
6- عيون أخبار الرضا عليه السلام 280:1 ح 22.
7- فردوس الأخبار 226:2 برقم: 2545.

لا تنفع معها حسنة(1).

وجه ذلك: أنّ حبّه إيمان وبغضه نفاق، لما تقدّم آنفاً في الأخبار، فاستحقّ محبّه الثواب الدائم، فإن قارن هذه المحبّة سيّئة استحقّ بها عقاباً منقطعاً، وكلّ شيء قلّ ضرره بالإضافة إلی ما كثر، جاز أن يقال: إنّه غير ضارّ، فحبّه عليه السلام لمّا كان سبباً لصحّة العقيدة المانعة من الخلود، صدق أنّ السيّئة لا تضرّ كلّ الضرر، وبغضه لمّا كان سبباً لإفسادها الموجب للخلود، أفسد حسنته علی تقدير الموت علي هذه السيّئة الرديئة.

و أيضاً يرشد الی ما تقدّم من خلودهم في النار، ما صحّ من أنّ شفاعة النبي صلی اللّه عليه و آله لا يكون لأهل الشكّ و الجحود، و يؤيّده قوله تعالی: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضی» (2).

و روی الخطيب الخوارزمي في مناقبه، عن ابن عبّاس، قال: قال النبي صلی اللّه عليه و آله: مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا، و من تخلّف عنها هلك. و في رواية: غرق.

و في رواية ثالثة: زخّ في النار(3).

و هو نصّ في أنّ الفرقة الناجية هم شيعتهم المتمسّكون بهم، وهم الاثناعشرية الذين صار علمهم أنّهم شيعتهم من بين سائر البرية.

ص:160


1- فردوس الأخبار 227:2 برقم: 2547، و رواه الخوارزمي في مناقبه ص 76.
2- سورة الأنبياء: 28.
3- رواه ابن المغازلي الشافعي في مناقبه ص 132-134، والهيتمي في الصواعق ص 234، والخطيب في تاريخه 91:12، وابن كثير في تفسيره 115:9، والحاكم في مستدركه 150:3 و 343:2، وإحقاق الحقّ 270:9-293.

و الذي يكشف عن ذلك ويوضحه: ما رواه محمّد بن موسی الشيرازي في تفسيره، أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال: ستفترق امّتي علی ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية، والباقون في النار، ثمّ وصف الفرقة الناجية بمن استمسك بعلي وأصحابه(1).

فإذا كان المتمسّكون بهم هم الناجون، فخصماؤهم هم الهالكون، وذلك نصّ صريح في أنّ أهل البدعة حصب جهنّم هم لها واردون.

هذا مع أنّ جمعاً من علماء الدين حكوا علی ما تقدّم من خلودهم في النار إجماع المحصّلين، و قد تقرّر في الاُصول أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة، كالمنقول بالتواتر عند المحقّقين.

و لا يرد أنّ الخلود قد يوجد بدون الكفر، والكفر بدون الخلود.

أمّا الأوّل، فكالفاسق علی رأي الوعيدية. و أيضاً فقد نقل العلّامة مفتي الفرق في شرح التجريد الموسوم بكشف المراد عن القائلين من الإمامية بإسلام المخالفين ثلاثة أقوال:

أحدها: أنّهم يخلدون في النار؛ لعدم استحقاقهم الجنّة.

الثاني: أنّهم يخرجون من النار؛ لعدم الكفر الموجب للخلود.

الثالث: أنّهم يخرجون من النار لما تقدّم آنفاً، ولا يدخلون الجنّة لعدم الإيمان المقتضی لاستحقاق الثواب(2).

و أمّا الثاني، فكالكافر الذي بالغ في الاجتهاد و لم يصل إلی الحقّ، علی رأي الجاحظ و العنبري، فإنّه عندهما معذور؛ لقوله تعالی : «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ

ص:161


1- الطرائف ص 430 عن تفسير الشيرازي.
2- كشف المراد في شرح التجريد للعلاّمة الحلّي ص 398.

مِنْ حَرَجٍ» (1) فعندهما الخلود مختصّ بالكافر المعاند.

و ذلك لأنّه يجاب عن الأوّل: بأنّ الحقّ أنّ الفاسق عذابه منقطع لإيمانه، وخلود المخالفين علی القول بإسلامهم ضعيف.

و عن الثاني: بأنّ العقلاء أطبقوا علی استحالة الفرض المذكور؛ لأنّ المكلّف إذا بالغ في الاجتهاد: فإمّا أن يصل إلی الحقّ، أو يموت علی الطلب، و هما ناجيان، ويستحيل عندنا أداء الاجتهاد إلی الكفر، وإن كان ذلك غير مستحيل علی رأي فريقهما، كما يرشد إليه قولهم بعدم كفر الباغي، وانتفاء كون البغي إسم ذمّ، بل هو اسم من اجتهد فأخطأ، و قولهم بأنّ محاربة عائشة لعلي عليه السلام كانت بالاجتهاد، و إنّها مأجورة علی ذلك و إن أخطأت فيه، فجعلوا الاجتهاد معارضاً لقول النبي صلی اللّه عليه و آله «حربك حربي» الشاهد بكفرها.

و كذا جعلوه وسيلة إلی عدم كفر رؤساء نحلتهم، مع ما صدر منهم من مخالفة صريح الكتاب الشريف، وتغيير الشرع المنيف.

الوجه الثامن: قولهم بأنّ مسألة الإمامة فرعية

لا يجب البحث عنها، ولا طلب الحقّ فيها، بل يكفي فيها التقليد، ولهذا لا يكفر مخالفها، بل ولا يفسق بزعمهم.

و إنّما التزموا بذلك لتحصيل الغفلة عمّا اقترحوه من ثبوت الإمامة بالاختيار دون النصّ، و لئلّا يحصل الظفر بما انتحله أئمّة كفرهم، و ما اختلقوه في فضلهم من الأحاديث التي أسندوها إلی النبي صلی اللّه عليه و آله، و لم يتفطّنوا إلی مناقضه ذلك.

ص:162


1- سورة الحجّ: 78.

لتصريحهم بأنّ حقوق النبوّة - من حماية بيضة الإسلام، و حفظ الشرع، و نصب الألوية و الرايات في جهاد الكفّار و البغاة، و الانتصاف للمظلوم، و إنفاذ المعروف، و إزالة المنكر، و غير ذلك من توابع منصب النبوّة - ثابتة لها؛ لأنّها خلافة عنها.

و لما رووه في كتبهم، كالحميدي في صحيحه، أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال: من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية(1). وهو نصّ صريح في أنّ الإمامة من الاُصول؛ للعلم الضروري بأنّ الجاهل بشيء من الفروع وإن كان واجباً لا تكون ميتته جاهلية؛ إذ لا يقدح ذلك في إسلامه.

و ليس المراد من إمام زمانه القرآن المجيد كما زعموا، و إلّا لكان تعلّمه واجباً علی الأعيان، و إضافة الإمام إلی الزمان، و هو يقتضي اختصاص أهل كلّ زمان بإمام تجب عليهم معرفته.

و يزيده بياناً ما تقدّم روايته عن الأعمش في الوجه الثالث، و كذا ظاهر قوله تعالی: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (2) فإنّ معناه يوم يدعی كلّ قوم بإمام زمانهم وكتاب اللّه وسنّة نبيّهم. رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام(3).

و قوله سبحانه: «وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» (4) و قوله تبارك اسمه: «وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ» (5) فإنّه عامّ في سائر الاُمم، وعمومه يقتضي أنّ كلّ زمان حصلت فيه

ص:163


1- الصوارم المهرقة ص 89 و 263 عن الجمع بين الصحيحين للحميدي.
2- سورة الإسراء: 71.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 33:2 ح 61.
4- سورة الرعد: 7.
5- سورة فاطر: 24.

امّة مكلّفة بدين لابدّ لها من نذير، فالنذر في أزمنة الأنبياء عليهم السلام هم، وفي غيرها الأئمّة صلوات اللّه عليهم أجمعين.

هذا، و ما نزل من قوله عزّوجلّ: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» (1) بعد أن أمر نبيّه صلی اللّه عليه و آله بالنصّ علی علي عليه السلام بالخلافة يوم غدير خمّ، ناطق أيضاً بأنّ الإمامة عن تمام الدين، فتكون من الاُصول؛ إذ الفروع لا يصحّ الإخبار باكتمالها لتجدّدها بتجدّد الأفكار، وتلاحقها بتلاحق الأنظار.

و ذلك مع ما تقدّم شاهد علی أنّ من مات منهم مات ميتة جاهلية، حيث لم يعرفوا إمام زمانهم، و لم يوجبوا علی المكلّفين معرفته عقلاً، و أنّهم لفي شكّ منه مريب، مع إحاطتهم علماً بأنّ عدم وجوب معرفته يؤدّي إلی الشكّ في عدل اللّه سبحانه، و أنّه ممّن يجوز أن يخلّ بشرائط التكليف، ولا يزيح علّة المكلّفين فيما كلّفهم.

و العجب كيف جوّزوا خلوّ العصر من الإمام، و الحنابلة منهم منعوا من خلوّه من المجتهد، محتجّين بأنّه لو جاز خلوّه منه لزم تعطيل الشريعة و اندراس الأحكام، و هو ممتنع، و لم يتفطّنوا إلی أنّ لزوم ذلك علي تقدير خلوّه من الإمام أظهر، فإنّ المجتهد لانتفاء عصمته قد يحصل بسببه تطرّق الزيادة والنقصان إلي الشريعة.

و قد أشرنا فيما تقدّم إلی أنّ صحاح أخبارهم شاهدة بإمامة أئمّتنا الاثني عشر، و أنّ الصلاة علی النبي صلی اللّه عليه و آله لا تحصل إلّابالصلاة معه علی آله، وليس الآل إلّاهم باتّفاق أهل النظر.

و قد ذهب جميع أصحاب الشافعي إلی أنّ الصلاة علی نبينا صلی اللّه عليه و آله فرض و ركن

ص:164


1- سورة المائدة: 3.

من أركان الصلاة، و أكثرهم أجري الصلاة علی آله مجري الصلاة عليه، وإن ذهب الأقلّ منهم إلی اختصاص هذا الحكم بالصلاة عليه، ذلك دليل قاطع و برهان ساطع علی أنّ المعرفة بهم كالمعرفة باللّه و رسوله في أنّها إيمان وإسلام، و أنّ الجهل بهم و الشكّ فيهم كالجهل بهما و الشكّ فيهما، في أنّه كفر و خروج من الإيمان.

و لا ريب أنّ إجماعهم حجّة، بدليل أنّ المعصوم الذي قد دلّت العقول علی وجوبه في كلّ زمان في جملتهم.

و كذا يدلّ علی القطع بذلك اقتران طاعتهم بطاعة اللّه و رسوله في قوله تعالی:

«أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (1) وذلك لأنّه يفيد أنّ طاعتهم كطاعتهما.

و لمّا كانت الطاعة متوقّفة علی المعرفة، كانت معرفتهم من الاُصول كمعرفتهما، و هذه منزلة ليست لأحد من البشر إلّالنبينا صلی اللّه عليه و آله و بعده لأميرالمؤمنين و المعصومين من أبنائه عليهم السلام، المكنّي عنهم باُولی الأمر؛ لأنّ المعرفة بنبوّة من تقدّمه من الأنبياء من آدم إلی عيسی عليهم السلام غير واجبة علينا، لكن معرفتهم لورود القرآن بنبوّتهم، وإلّا فلا وجه لوجوبها؛ إذ لا تعلّق لها بشيء من أحوال تكاليفنا.

و قد أثبت اللّه سبحانه لآل نبينا صلی اللّه عليه و آله من المزية ما لم يثبته لآل سائر النبيين في قوله عزّوجلّ: «سَلامٌ عَلی إِلْياسِينَ» (2) و في غير هذه الآية لم يسلّم علی أحد إلّا علی الأنبياء عليهم السلام، و ما ذلك إلّالأنّه أعطاهم من الفضل ما لم يبلغ أحد كنه و صفه، إلّامن عَقَله و منحهم العصمة، كما منحها أنبياؤه و ملائكته.

ص:165


1- سورة النساء: 59.
2- سورة الصافّات: 130.

و قد بيّنا آنفاً أنّ أكثر الشافعية موافقون لما أجمع عليه علماؤنا؛ لإجرائهم الصلاة عليهم مجري الصلاة عليه في الوجوب و الركنية التي هي فرع المعرفة بهم، كما أنّ الطاعة كذلك، وإن رفض الشاذّ منهم وجوب المعرفة والصلاة والطاعة، وكذا باقي أرباب المذاهب الأربعة.

و كذا رفضوا باعتقادهم حسن تقديم المفضول علي الفاضل؛ لأنّ الغرض من الإمامة بزعمهم حفظ نظام الوجود، كما تقدّم مع الكلام عليه ما دلّت عليه الأدلّة العقلية من قبحه، وكذا النقلية، مثل قوله تعالی: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدی فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (1) أراد به شدّة الانكار المذكور أوّلاً و آخراً؛ لامتناع التعجّب في شأنه سبحانه؛ لأنّه من توابع الأجسام.

و كذا قوله عزّوجلّ: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» (2) وقوله جلّ اسمه: «إِنَّما يَخْشَی اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (3) و نحو ذلك.

و بعضهم لم يعتقدوا حسن ذلك، لكن جعلوا مدار الأفضلية علی تقليد السلف، واحتجّ لهم صاحب المواقف بعدم دلالة العقل بالاستقلال عليها، و عدم الاكتفاء بالظنّ في ثبوتها؛ إذ هي مسألة علمية يطلب فيها اليقين، والنصوص مع تعارضها لا تفيد القطع، فلم يبق إلّاالتقليد.

و هو خطأ؛ للمنع من عدم استقلال العقل بالدلالة عليها، و من عدم إفادة النصوص للقطع بها؛ لتواترها بأنّ علياً عليه السلام أفضل من سائر الصحابة بمزايا لا

ص:166


1- سورة يونس: 35.
2- سورة الزمر: 9.
3- سورة فاطر: 28.

تحصي كثرة.

لأنّه كان أكثرهم جهاداً، بل لم يكن لغيره موقفاً و لا مشهداً معروفاً، وأقدمهم إيماناً، بل ما أشرك أصلاً، و أقربهم بالنبي عهداً، و أجزلهم علماً، و أكملهم حلماً، و أسدّهم رأياً، و أشدّهم ذكاءً و فطنة، و أشجعهم قلباً، و اسخاهم كفّاً، و أقواهم حدساً، و أغزرهم عبادة، و أرجحهم زهادة، و أحسنهم خُلقاً، و أطلقهم وجهاً، و أفصحهم لساناً، حتّی قيل: إنّ كلامه فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق؛ لتضمّنه بلاغة و حكمة بالغة.

و أحفظهم للكتاب العزيز، و أسبقهم له جمعاً، و أتمّهم حرصاً علی إقامة حدود اللّه تعالی، و لإخباره بالغيب، و استجابة دعائه، و ظهور المعجزات عنه، و كثرة الانتفاع به، و اختصاصه بالقرابة و الاُخوّة، و وجوب المحبّة و النصرة، و مساواة الأنبياء، و خبر الطائر والمنزلة و الغدير و غيرها.

و ما كان قطّ باللّه مشركاً، و لا لمنكر مرتكباً، و لا في طاعة اللّه و رسوله مقصّراً، و لا عن درجات السبق إلی الفضائل متأخّراً، بل كان في سائر الكمالات متميّزاً.

و أيّ عقل لا يحكم بأنّه أعظم ثواباً، و أزيد كرامة عند اللّه عزّوجلّ، ممّن تستّر يوم بدر في العريش خوفاً، و عبد الأصنام أربعين سنة، و ما صدّق للّه حديثاً، و لا كفی النبي صلی اللّه عليه و آله مخوفاً، بل كان عن كلّ فضيلة متأخّراً، و في رأيه و علمه ضعيفاً، و إلی غيره فيه فقيراً، حتّي يلتجأ هؤلاء الكفرة في ثبوت الأفضلية إلی التقليد الذي قد حكي القرآن المجيد عن الكفّار إيثارهم له بقولهم: «إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلی أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلي آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» (1) مع أنّه لا يثمر اليقين المفروض اعتباره في هذه

ص:167


1- سورة الزخرف: 23.

المسألة.

و أيضاً لو اكتفي به عن النظر، لزم انتشار الشرّ و الفساد؛ لتكثّر المدّعين، و اختلاف الأهواء، كما في زمن معاوية و نحوه، بل ربما امتنع التقليد لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح، مع الاختلاف، علی أنّ الأفضلية عند اللّه سبحانه بهذا المعني لا يثبت إلّابالعصمة والنصّ الجلي، وهما مختصّان بعلي عليه السلام.

وأنشد ابن أبي الحديد في قصيدته اللامية:

و خلافة ما أن لها لو لم تكن *** منصوصة عن جيد مجدك معدل(1)

يقول لعلي عليه السلام: لو لم يكن عليك نصّ بالخلافة لما جاز العدول بها عنك، فكيف و قد حصل النصّ، و ذلك لأنّه أفضل الخلق، و تقديم المفضول علی الفاضل قبيح، ثمّ إنّه جعل كعبه الذي يباشر به الأرض عالياً علی غيره في قوله:

عجباً لقوم أخّروك وكعبك *** العالي وخدّ سواك أضرع أسفل(2)

و علّل فعل القوم الذين أخّروه بالحسد في قوله:

إن تُمِس محسوداً فسؤددك الذي *** أعطيت محسود المحل مبجّل

و قد روي الثعلبي في تفسيره: بإسناده أنّ أحمد بن حنبل كان يقول: ما لأحد من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله ما لعلي من الفضائل(3).

و روی الصدوق في الأمالي: عن جابر بن عبداللّه الأنصاري، قال: قال

ص:168


1- الصراط المستقيم للبياضي 215:1.
2- الصراط المستقيم للبياضي 215:1.
3- بناء المقالة الفاطمية ص 163، شواهد التنزيل 26:1 و 27، الطرائف ص 136 عن تفسير الثعلبي، والمناقب للخوارزمي ص 34.

النبي صلی اللّه عليه و آله: من فضّل أحداً من أصحابي علي علی فهو كافر(1).

و روی البغوي في الصحاح: عن أبي الحمراء، قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: من أراد أن ينظر إلی آدم في علمه، وإلی نوح في فهمه، وإلی يحيی بن زكريا في زهده، وإلي موسی بن عمران في بطشه، فلينظر إلي علي بن أبي طالب(2).

و روی البيهقي بإسناده الی رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، قال: من أراد أن ينظر إلی آدم في علمه، و إلی نوح في تقواه، و إلی إبراهيم في خلّته، و إلی موسی في هيبته، و إلی عيسی في عبادته، فلينظر إلي علي بن أبي طالب(3).

و روی الكليني في الكافي: عن الفضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول: في علی سنّة ألف نبي(4).

و في ذلك دلالة علی أنّه أفضل من الأنبياء حتّی من اولي العزم؛ لأنّه اجتمع فيه ما لم يجتمع في كلّ واحد منهم، يؤيّده آية المباهلة(5)، فمن الصحابة أولي، و من رام حصر الأخبار الواردة في هذا المدّعی فقد طلب محالاً.

و كيف لا؟ و قد روي أخطب خوارزم، عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله:

لو أنّ الغياض أقلام، والبحر مداد، والجنّ حسّاب، و الإنس كتّاب، ما أحصوا

ص:169


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 753 برقم: 1013 و ص 771 برقم: 1045. في الأمالي في الموضعين: فقد كفر.
2- الصوارم المهرقة ص 276، بحار الأنوار 38:39، بناء المقالة ص 170.
3- الصوارم المهرقة ص 276.
4- اصول الكافي 222:1 ح 4، بصائر الدرجات ص 114، بحار الأنوار 38:39.
5- سورة آل عمران: 61.

فضائل علي بن أبي طالب(1).

فإن منعوا تواترها، فلا أقلّ من تواتر القدر المشترك بينها.

و منهم: من فصّل هنا، فقال: تقديم الفاضل إن أمن معه من ثوران الفتنة فهو حسن، وإلّا فهو قبيح، محافظة علی النظام.

و الذي يقتضيه الأدلّة القطعية حسن تقديمه مطلقاً، مع أنّ الاعتناء بمحافظته علی الشرع الشريف أبلغ، فكيف حسن منهم هذا التفصيل المذكور والحالة هذه؟ وكيف جوّزوا جهل الإمام؟ مع كونه قدوة في بعض ما يقتدي به، بل في أكثره لا فيه بأسره، وإن لزمهم القول بجوازه، وسوّغوا احتمال إصراره علی المنكرات في الباطن مع عموم ولايته، واشترطوا في القاضي الذي ولايته خاصّة العلم والعدالة، و جعلوا هذا العدل رعيّة لهذا الفاسق و محكوماً عليه بحكمه، إنّ هذا لشيء تشهد العقول السليمة بنفيه.

الوجه التاسع: تغييرهم للشريعة ورفضهم إيّاها معاندة للشيعة

كما رفض الكفّار الملّة القويمة للمعاندة الشنيعة، فقد صرّح الغزالي في إحياء العلوم بأنّ تسطيح القبور هو المستحبّ، لكن عدلنا عنه إلی التسنيم لمّا صار شعاراً للشيعة(2).

ص:170


1- المناقب للخطيب الخوارزمي ص 32.
2- قال العلاّمة في نهج الحقّ وكشف الصدق ص 451: ذهبت الامامية إلی أنّ السنّة تسطيح القبور، وبه قال الشافعي وأصحابه، إلاّ أنّهم قالوا: المستحبّ التسطيح لكن لما صار شعار الرافضه عدلنا عنه الی التسنيم قاله الغزالي و هل حل لمن يومن بالله واليوم الاخر ان يغير الشرع لاجل عمل بعض المسلمين و هلا ترككو الصلاه لان الرافضه يفعلونها

و الذي يكشف عن الحكم بأنّه هو المسنون من طرقهم، ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين، من أنّ فضالة قال: سمعت رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله يأمر به، وأنّ علياً عليه السلام قال للأسدي: ألا أبعثك علی ما بعثني عليه رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله لا تدع تمثالاً إلّا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلّاسوّيته(1).

وكذا ما أورده الطبري في تاريخه من أنّ قبر النبي صلی اللّه عليه و آله كان مسطّحاً، وكذا قبر ابنه إبراهيم(2).

و صرّح الزمخشري في الكشّاف في تفسير قوله تعالی: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّی عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ» (3): إنّه يجوز بمقتضي هذه الآية أن يصلّی علي آحاد المسلمين وكذا بمقتضي قوله سبحانه: «اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ * أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ» (4) لكن لمّا اتّخذته الشيعة شعاراً منعناه(5).

و مثله صرّح مصنّف الهداية من الحنفية في العدول من التختّم باليمين إلی

ص:171


1- صحيح مسلم 666:2، الطرائف ص 552 عنه.
2- تاريخ الطبري 49:4، الطرائف ص 553 عنه.
3- سورة الأحزاب: 43.
4- سورة البقرة: 156.
5- الكشّاف 273:3.

اليسار(1)، مع أنّها محلّ الأقذار.

و نقل السيّد الجليل علي بن طاووس في الطرائف عن أبي عبداللّه السلامي أنّ أوّل من أبدع ذلك معاوية(2).

و عن الثعلبي في شأن عمرو بن العاص مثل ذلك، و قد قيل في ذلك شعر:

سنّ التختّم في اليمين محمّد *** للقائلين بدعوة الإخلاص

وسعي ابن هند في إزالة رسمه *** وأعانه في ذلك ابن العاص(3)

و كذا رفضوا المتعة عناداً لهم، فهلّا رفضوا سائر ما يعملون من العبادات، ويعتقدون من الاعتقادات عناداً لهم، كما رفضوا النصوص الناطقة بالنهي عن القياس و الاستحسان عناداً لهم أيضاً، إلي غير ذلك ممّا جنحوا إليه، مع اعترافهم بأنّه بدعة، كاستحبابهم إخفات البسملة، مع أنّ المعروف من الدين إنّما هو الجهر بها.

و ممّن صرّح بها منهم فخرالدين الرازي، فإنّه قال في تفسيره: إنّ علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بها، وهو معلوم بالضرورة من دينه، فلمّا وصلت الدولة إلی بني امية بالغوا في المنع من الجهر بها، سعياً في إبطال آثار علي عليه السلام، و من اقتدي بعلي في دينه فقد اهتدي؛ لقول النبي صلی اللّه عليه و آله: اللّهمّ أدر الحقّ مع علی حيث ما دار(4). إنتهي كلامه.

ص:172


1- راجع: الطرائف ص 531-533.
2- الطرائف ص 532 عنه.
3- الطرائف ص 532-533 عنه.
4- التفسير الكبير للفخر الرازي 204:1-205.

و قد روی شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي في مصباحه: عن أبي محمّد العسكري عليه السلام أنّ ذلك من علامات المؤمن، و كذا التختّم باليمين، وتعفير الجبين، و زيارة الأربعين، و صلاة الإحدي و خمسين(1).

والمراد علی النهج الذي رتّبه فقهاء أهل البيت عليهم السلام؛ لأنّ فقهاء العامّة لا يعرفون ذلك الترتيب.

و قد سمّوا الطلاق يميناً، وأقدموا علی الجماعة في التراويح، وعلی التثويب في أذان الصبح، تبعاً لرئيسهم الذي أبدع ذلك، وهو خليفتهم الثاني.

و ممّن روي أنّه أبدعه الحميدي في الجمع بين الصحيحين(2).

و روي أيضاً أنّه زاد فيه في مسند عبداللّه بن عبّاس، في الحديث الرابع من إفراد مسلم، قال: كان الطلاق علی عهد رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر الثلاث واحدة، فقال عمر: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم(3).

و روی أيضاً في مسند أبي هريرة من المتّفق علی صحّته، عن عبدالرحمن بن عبدالباري، قال: خرجت مع عمر ليلاً في رمضان إلی المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرّقون، يصلّي الرجل لنفسه، و يصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط، ثمّ قال: لو جمعت هؤلاء علی رأي واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم علي ابي بن كعب، قال:

ثمّ خرجت معه ليلة اخري، والناس يصلّون بصلاة قارئهم، فقال: بدعة و نعمت

ص:173


1- مصباح المتهجّد ص 788.
2- صحيح مسلم 287:1 و 289، الطرائف ص 477.
3- صحيح مسلم 1099:2، مسند أحمد بن حنبل 314:1، الطرائف ص 463.

البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون إليها يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله(1).

فلينظر العاقل وينصف هل يحلّ لأحد أن يبتدع بدعة ويستحسنها؟ أم هل يسوغ لمسلم أن يوافقه علی ما أبدعه؟ مع تصريحه بأنّه بدعة، كما اقتدي به في ذلك وأمثاله من اعتقد إمامته من المخالفين، و استمرّت هذه البدع منهم إلی يومنا هذا، و لو ردّوا عنها كرهته نفوسهم و نفرت قلوبهم، كذكر الخلفاء في خطبهم.

مع أنّه حكی من علمائنا العلّامة في منهاج الكرامة الإجماع علی أنّ ذلك لم يكن في زمن النبي صلی اللّه عليه و آله، و لا في زمن أحد من الصحابة والتابعين، ولا في زمن بني امية، و لا في زمن صدور ولاية العبّاسيين، بل هو شيء أحدثه المنصور لمّا وقع بينه و بين العلويين خلاف، فقال: واللّه لأرغمنّ أنفي واُنوفهم، ولأرفعنّ عليهم بني تيم وعدي، فذكر الصحابة في خطبته، و استمرّت هذه البدعة إلي هذا الزمان، كسائر بدعهم المتقدّمة، و لم يحذروا من عاقبة إقدامهم عليها.

مع ما رووه و منهم الحميدي في صحيحه من قول النبي صلی اللّه عليه و آله: كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة مصيرها إلی النار(2).

و روی الحميدي أيضاً في صحيحه، أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله: قال من أحدث في ديننا ليس

ص:174


1- موطّأ مالك 104:1-105، صحيح البخاري 252:2، الطرائف ص 455.
2- الطرائف ص 455 عنه، و رواه مسلم في صحيحه 592:2 في كتاب الجمعة، باسناده عن جابر بن عبداللّه، عن رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، إلی أن قال: وشرّ الاُمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة.

منه فهو ردّ(1).

و في التنزيل: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» (2)و في موضع آخر منه: «فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (3) وفي آخر:

«فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ» (4) و ذلك دليل قاطع و برهان ساطع علی أنّهم كرهوا ما أنزل اللّه، و لم يعتبروا فيما اتّخذوه ديناً متابعة الكتاب و السنّة، و لم يتحرّوا كونه مثمر للنجاة في الدار الآخرة، جرياً علی ما انتحله الكفرة الفجرة.

الوجه العاشر: مكابرتهم في الضروريات ومعاندتهم في الأوّليات

و دخولهم تحت فرق السوفسطائية، و ارتكابهم الأحكام التي لا يرتضيها لنفسه ذو عقل وروية، فإنّ الحنبلية و الظاهرية جوّزوا ما تشهد بعدمه الضرورة، كالقول بجسمية اللّه تعالی، و بأنّه خلق آدم علی صورته، و بجواز رؤيته للّه حيث قالوا: إنّه يجلس علی العرش، و يفضل عنه من كلّ جانب ستّة أشبار بشبره(5).

ولم يتفطّنوا إلی أنّ المكان من آيات الحدوث، ولا إلی قوله تعالی: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» (6) وقوله: «لَنْ تَرانِي» (7) للأبد.

ص:175


1- الطرائف ص 456 عنه، ورواه مسلم في صحيحه 1343:3 و 1344.
2- سورة المائدة: 44.
3- سورة المائدة: 47.
4- سورة المائدة: 45.
5- راجع: الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 345.
6- سورة الأنعام: 103.
7- سورة الأعراف: 143.

و لقد تمادي أكثرهم، فقالوا: إنّه تعالی تجوز عليه المصافحة، و إنّ المخلصين من المؤمنين يعانقونه في الدنيا.

و حكی الكعبي عن بعضهم أنّه كان يجوّز رؤيته في الدنيا، و أن يزورهم و يزورونه.

و حكی عن داود الظاهري أنّه قال: إعفوني عن الفرج و اللحية، و اسألوني عمّا و راء ذلك، و قال: إنّ معبوده جسم ذو لحم و دم و جوارح و أعضاء.

و حكی أنّه قال: إنّه أجوف من أعلاه إلی صدره، مصمت ما سوی ذلك، و له شعر قطط.

و ذهب بعضهم إلی أنّه ينزل كلّ ليلة جمعة إلی سماء الدنيا، و يشتغل بالنداء: هل من تائب؟ هل من مستغفر فأتوب عليه و أغفر له؟ و إنّه بكی علی طوفان نوح حتّی رمدت عيناه فعادته الملائكة، رواه محمّد بن عمر الرازي في كتابه نهاية العقول(1).

و أورد في كتاب تأسيس التقديس: إنّهم يروون أنّه ينزل كلّ ليلة جمعة علی كثيب من كافور(2).

و روی الحميدي في الجمع بين الصحيحين من المتّفق عليه، عن أبي هريرة: أنّ ابن آدم يقول: يا ربّ لا تجعلني أشقی خلقك، فضحك اللّه منه، ثمّ أذن له في

ص:176


1- الطرائف ص 349، نهج الحقّ للعلاّمة ص 55.
2- الطرائف ص 349 عنه.

دخول الجنّة(1).

و نحو ذلك ممّا لا يجوز أن يضاف إلی عاقل، فكيف إلی اللّه سبحانه و تعالی عمّا يصفون.

مثل ما رواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري، أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه يأتي من يعبده من برّ أو فاجر في أدنی صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنظرون تتبع كلّ امّة ما كان تعبد؟ قالوا: يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنّا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ باللّه منك لا نشرك باللّه شيئاً. مرّتين أو ثلاثاً الحديث(2).

و هو مع اقتضائه ما تقدّم في كلامهم من جسميته تعالی، يقتضی أيضاً الإنكار عليه يوم القيامة و التعوّذ منه، و ما هذا إلّاإلحاد و كفر.

و روی سليمان بن مقاتل في كتاب الأسماء في حديث رفعه و أسنده، قال: قيل:

يا رسول اللّه ممّ ربّنا؟ قال: من ماء رواء لا من أرض و لا سماء، خلق خيلاً فأجراها، فعرقت، فخلق نفسه من عرقها(3).

و هو يقتضي وصفه بوصف شنيع تكاد السماوات يتفطّرن منه و تنشقّ الأرض و تخرّ الجبال هدّاً(4).

ص:177


1- الطرائف ص 351 عنه.
2- الطرائف ص 348-349 عن الجمع بين الصحيحين، ورواه مسلم في صحيحه 168:1-169.
3- الطرائف ص 353 عن كتاب الأسماء لابن مقاتل.
4- إشارة إلی قوله تعالی في سورة مريم: 90.

و العجب أنّهم يقولون في أوّل الحديث: إنّ اللّه خلق خيلاً، ثمّ يقولون في آخره:

إنّه خلق نفسه من عرقها. ليت شعري من خلق الخيل التي أجراها، فإن كان موجوداً قبل خلق الخيل، فأيّ شيء خلق من عرقها؟ و إن كان غير موجود، فكيف يصحّ في العقول أن يخلق المعدوم خيلاً أو شيئاً؟.

والصوفية(1) جوّزوا اتّحاده و حلوله في أبدان العارفين، كما قال العلّامة -

ص:178


1- جاء في هامش نسخة «ق»: أقول وأنا المقرّ بالتقصير في كلّ باب عبدالرشيدبن نورالدين الشوشتري عفی اللّه عنهما عمّا لا يرضی لعباده من المؤمنين وباللّه التوفيق: إن وجّه أحد من المتعصّبين كلام هؤلاء الأجلّاء من الفرقة الناجية والطائفة المحقّة في ما أورده في ذمّ الصوفية و فيما نسبوا إليهم من المذاهب المذمومة الواهية السخيفة بأنّ مرادهم من «الصوفية» هم الذين نسبوا إليهم هذه المذاهب السخيفة والمزخرفات الواهية الشبيهة بمقالات السوفسطائية لا مطلق الصوفية وأهل العرفان.و ليس فيه دليل علی ذمّ كلّ الصوفية و فساد عقيدتهم كلّهم، و أنّهم علی خلاف ما عليه الطائفة المحقّة والفرقة الناجية الاثناعشرية اعتقاداً وأعمالاً، و في غاية الظهور أنّه يوجد في كلّ طائفة فرقة ما ينسب إليها من الفسق والفجور من العقائد الفاسدة، وهذا لا يوجب القدح في كلّ من كان من أهل تلك الطائفة والفرقة.قلت: نحن نعلم علماً قطعياً عادياً بأنّ أمثال هؤلاء الأجلّاء من مشاهير العلماء المتديّنين إذا صنّفوا كتاباً، وألّفوا ما كان للمتعلّمين مرجعاً ومآباً، إنّما ألّفوه لإرشاد المسترشدين، و اهتداء المهتدين علی الدين المبين، فلو كان مرادهم قدّس اللّه أرواحهم بعض الصوفية دون بعض، لوجب عليهم أن يقولوا من الصوفية من ذهب إلی كذا وكذا من المذاهب الباطلة، ومنهم من عمل تلك الأفعال الشنيعة القبيحة، لا القول الصوفيه ذهبوا الی كذا وكذا. و هل في هذا القول سوي اضلال من نظر الی تاليفاتهم من المتعلمين فضلاً عن ان يكون ارشاداً للمسترشدين و كان اغراء ُ بالقبيح و تحريصاً للمكلفين الانثی عشريين بان يعتقدوا فساد عقيده الصوفيه كلهم اجمعين و الحال كان منهم من هو علی الحق و علی منهج ائمتنا الهادين المهديين صلوات الله عليهم اجمعين. علی انه قد تقرر عند اهل اللسان في علم المعاني و ابيان ان المعرف باللام حيث لا قرينه علی العهد الذهني و الخاجي اريد به الجنس و الحقيقه في ضمن اي فرد كانن الا اذا دلت قرينه علی اراده الحقيقه في ضمن فرد ما كقولهم«الرجل خير من المراه و لا قرينه هنا اصلا. كما لا يخفی علی اولی الالباب لامقاليه و لا حاليه، بل القرينه الحاليه في امثال هذه المقامات اله علی الاستغراق و عموم الافراد. و قد تقرر ايضاً في موضعه ان ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يفيد عموم المقال و ما ذكر من الاحوال فقد ظهر لك انه متی ما ذكرت الصوفيه معرفا باللام و لم تكن قرينه علی العهد كان حملها علی البعض دون البعض من شنيع الاعمال والاقوال. و يرشدك الی ما ذكرنا من اراده العموم في تلك الكلمه و ما نسب الی من سمي بها من سوء العقيده و شناعه الحال ما ذكره رئيس المحدثين ثقه الاسلام محمد بن يعقوب الكليني قدس الله روحه_ في كتاب الكافي. الذي الفه لارشاد المسترشدين من قوله: باب دخول الصوفيه علی ابي عبدالله عليه السلام و احتجاجهم عليه فيما ينهون الناس عنه من طلب الرزق واكتفائه_قدس الله روحه_ بذكر روايه سفيان الثوري ومن تبعه و ما صدر عنهم من سوء الادب بالنسيه الی امام الزمان و اعتراضهم عليه. و ايرادهم الحجج والادله علی ابي عبدالله عليه السلام فيما هنو عليه من الدين المبين و تمسكهم بالايات المتشابهات و المنسوخات و الزم ابي عبدالله عليه السلام اياهم بالايات البينات و الاثار الواضحات و لم يهتدوا و لم يرجعوا الی الحق و انما رجعوا عن مجلسه مخذولين خاسرين. و غير خفي علی اولی الالباب انه لو كان في زمن رئيس المحدثين ثقه الاسلام احد ممن يسمي بالصوفيه علی الحق من مذهب الطائفه المحقه الاثنی عشريه لما اكتفي بذكر ذلك و لما قال باب دخول الصوفيه و انما قال باب دخول بعض الصوفيه. و كان عليه ان يذكر بعد ذكر هولاء البعض من الصوفيه بعضا اخر منهم ممن كان علی الحق و علی منهج ائمتنا عليهم الصلاه و السلام. و كيف لا؟ و لو كان بعض منهم علی الحق و لم يذكره و اكتفي بذكر هولاء لما كان كتابه ارشاد للمسترشدين بل كان فيه مما هو اضلال للمهتدين ممن هو علي الطريق المستقيم والله يهدي من يشاء الی صراط المستقيم.

ص:179

رحمه اللّه تعالی - في كتاب نهج الحقّ: حتّی تمادي بعضهم، وقال: إنّه سبحانه نفس الوجود، و كلّ موجود فهو اللّه تعالی(1). إنتهي.

و إنّا نقول: إنّ الذين يميلون إلی طريقتهم الباطلة يتعصّبون لهم ويسمّونهم الأولياء، ولعمري أنّهم رؤساء الكفرة الفجرة، و عظماء الزنادقة و الملاحدة، و كان من رؤوس هذه الطائفة الضالّة المضلّة الحسين بن منصور الحلّاج، و أبويزيد البسطامي.

و قد نقل والدي - رحمه اللّه تعالی - عن الثقات الإمامية في كتابه الموسوم

ص:180


1- نهج الحق و كشف الصدق للعلاّمة الحلّي ص 57.

بمطاعن المجرمية(1) في طعنهما أخباراً كثيرة.

و قد أورده العلّامة في نهج الحقّ(2): أنّه شاهد جماعة منهم في حضرة مولانا الحسين عليه السلام و قد صلّوا المغرب سوي شخص واحد منهم، كان جالساً لم يصلّ، ثمّ صلّوا بعد ساعة العشاء سوي ذلك الشخص، فسأل بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص، فقال: و ما حاجة هذا إلی الصلاة و قد وصل، فلا يجعل(3) بينه و بين اللّه حاجباً، و الصلاه حاجب بين العبد و الربّ، و هل هذا إلّاخلق الأوّلين(4). إنتهي.

و لقد صنّف الشيخ المفيد - قدّس اللّه سرّه - كتاباً مبسوطاً مشتملاً علی الدلائل العقلية و النقلية في ردّهم وبطلانهم وكفرهم و طغيانهم.

و أبوهاشم و أتباعه قالوا: إنّه يخالف ما عداه بصفة الإلهية، و إنّ ذاته مساوية لغيرها من الذوات. و يلزمهم أن تكون مشاركة لها في اللوازم، و هل هذا إلّاعين الكفر و الإلحاد؛ لقضاء الضرورة بأنّها مخالفة لغيرها في نحو القدم و الوجوب.

و الكرامية جعلوه محلاًّ للحوادث، و قالوا: إنّه في جهة فوق. و ذلك يستلزم وراء الحدوث و الاحتياج إلی تلك الجهة أن يكون جسماً أو جسمانياً، فما أشبههم باليهود و النصاري الذين قد غلب عليهم دين التشبيه و مذهب التجسيم، كما جاء في التنزيل: «وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصاري نَحْنُ أَبْناءُ اللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ» (5)«وَ قالَتِ الْيَهُودُ

ص:181


1- لم أعثر علی هذا الكتاب.
2- الكتاب المذكور - خ ل.
3- في النهج: أيجوز أن يجعل.
4- نهج الحق ّ و كشف الصدق ص 58-59.
5- سورة المائدة: 18.

عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَ قالَتِ النَّصاري الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ» إلی قوله سبحانه:

«سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ» (1).

و قد روی الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام: إنّ من شبّه اللّه تعالی بخلقه فهو مشرك، و من نسب إليه ما نهي عنه فهو كافر(2).

و نقل السيّد الجليل علي بن طاووس في الطرائف عن جماعة من الحنفية القول بثبوت الجواهر و الأعراض في العدم، و قال: إنّه يقتضي موافقتهم للفلاسفة في قدم العالم؛ لأنّ الثبوت يرادف الوجود ضرورة، و للمجبرة أيضاً في أنّ أفعالنا و حركاتنا وسكناتنا ليست منّا، بل رجحانهم علی الفريقين في سوء الاعتقاد؛ لأّن الفلاسفة قالوا بأنّ الهيولي مشاركة للّه تعالی في القدم، و أنّه سبحانه يصوّر منها الصور، و القائل من الحنفية بثبوت الجواهر و الأعراض في العدم قائلون بقدمها(3).

و علی ما تقدّم من عدم الفرق بين الثبوت و الوجود يلزمهم أن لا يكون شيء منهما أثراً للّه تعالی، و هو يقتضي انتفاء مؤثّريته في العالم.

و أمّا المجبّرة، فقالوا: بأنّ العباد مقهورون، و مثبتوا الجواهر و الأعراض في العدم إنّ سموّ الحركات و السكنات التي تقع منها شيئاً، كما هو معلوم بالوجدان، يلزمهم بناءً علی ما زعموه من أنّها ثابتة في العدم قديمة أن لا تكون من اللّه تعالی و لا منّا، و إن لم يسمّوها شيئاً يلزمهم أيضاً أن لا تكون الأفعال مخلوقة للّه تعالي

ص:182


1- سورة التوبة: 30.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 114:1 ح 1
3- الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 357، المطبوع بتحقيقي سنة (1399) ه.

و لا للعبد.

و الأشعرية جعلوه سبحانه مفتقراً في كونه عالماً و قادراً و حيّاً و غير ذلك إلی معني هو العلم و القدرة والحياة، و نحوها من الصفات، فجعلوه ناقصاً في ذاته كاملاً بغيره، حتّی كفّرهم شيخهم فخرالدين الرازي و قال: إنّ النصاري كفروا بقولهم إنّ القدماء ثلاثة، و الأشعرية أثبتوا قدماء تسعة.

والذي يدلّ علی لزوم كفرهم في ذلك من السمع، ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام، عن الحسين بن خالد، قال: سمعته يقول: لم يزل اللّه تعالی عليماً قادراً حيّاً قديماً سميعاً بصيراً، فقلت له: يابن رسول اللّه إنّ قوماً يقولون: لم يزل اللّه عالماً بعلم، و قادراً بقدرة، و حيّاً بحياة، و قديماً بقدم، و سميعاً بسمع، و بصيراً ببصر، فقال عليه السلام: من قال ذلك ودان به، فقد اتّخذ مع اللّه آلهة اخری، و ليس من و لايتنا علی شيء، ثمّ قال عليه السلام: لم يزل اللّه عليماً قادراً حياً قديماً سميعاً بصيراً لذاته، تعالی اللّه عمّا يقول المشركون و المشبّهون علوّاً كبيراً(1).

و كذا جوّزوا رؤيته بالبصر مع تجرّده عن الجهات و الأمكنة، و قالوا بإدراك المعدومات، و بالإدراك مع عدم شرائطه من سلامة الحاسّة و المقابلة أو حكمها، و عدم الشفّافية، و عدم الحجاب، و عدم القرب والبُعد المفرطين، و تعمل الرأي للإدراك، و وقوع الضوء عليه.

و بعدم وجوب الادراك مع تحقّق شرائطه، و بعدم بقاء العرض، بل ولا الجوهر آنين، و بقصر حسن الأشياء و قبحها، و وجوب معرفة اللّه و عدله و حكمته علی السمع، و بجواز تكليفه بما لا يطاق، و باستناد العبث، و إرادة ما نهي عنه، و كراهة ما

ص:183


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 119:1 ح 10.

أراده و الكفر و المعاصي و القبائح بأسرها إليه تعالی، و بعدم الرضا بما قضاه و قدّره من المعاصي، و بأنّ أفعاله وقعت لا لغرض و حكمة.

و هو يقتضي القول بأشياء منكرة، كالقول بكذب مدّعي النبوّة إذا قال: إنّ اللّه تعالی خلق المعجز علی يدي لأجل تصديقي، و هو مستلزم لإبطال الثواب و العقاب، و تكذيب الأنبياء و الرسل صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و التسوية بينهم و بين مسيلمة اللعين في ادّعاء الرسالة كذباً.

و حينئذ فتبطل فائدة بعثة الأنبياء، و تنتفي مصالح التكليف بأسرها.

و لا ريب أنّ القائل بذلك من أشدّ الناس كفراً، و لهذا قد جعل مولانا الصادق عليه السلام النواصب شرّاً من اليهود و النصاري(1)؛ لأنّهم إنّما أنكروا نبوّة نبيّنا صلی اللّه عليه و آله دون نبوّة من تقدّمه من الأنبياء، بخلاف النواصب فإنّهم قد اتّصفوا بما يلزم منه إنكار نبوّتهم بأسرهم، كما أشرنا إليه آنفاً.

و كذا بما يلزم منه إنكار الإمامة التي هي بالنسبة إلی النبوّة لطف عامّ، و كذا بالنسبة إلی الرسالة بطريق أولی؛ لأنّه لا يجوز في حكمة الإلهية خلوّ زمان من الأزمنة من إمام حيّ، أمّا من نبي حيّ فلا شكّ فيه؛ لاتّفاق المسلمين قاطبة علی أنّ نبينا خاتم الرسل و الأنبياء، و المنكر لذلك كافر بلا إمراء، و لأنّ رئاسة أئمّتنا الإثنی عشر كرئاسته في كونها علی كافّة البشر، و من ثمّ لم تثبت الإمامة في العصر الواحد إلّا لواحد منهم، فتكون أعمّ لطفاً من رئاسة باقي الأنبياء و الرسل الذين قد اتّفق بعثة بعضهم إلی قوم مخصوصين، و جاز تعدّدهم في العصر الواحد.

و لشهادة القرآن بأنّ نبينا صلي اللّه عليه و آله بعث علي فترة من الرسل، فيجوز خلوّ بعض

ص:184


1- عوالي اللئالي 11:4.

الفترات بين الرسل من الرسل. أمّا خلوّها من الأنبياء و الأوصياء، فلا يجوز، كما لا يجوز خلوّ زمان من الأزمنة بعد نبينا من الإمام.

والسرّ في ذلك: أنّ الرسل مبعوثون بشرائع الملّة و تجديدها و نسخ بعضها، و ليس الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام كذلك؛ لأنّهم لا ينسخ بهم شريعة، و لا يجدّد بهم ملّة، و إنّما المقصود منهم أن ينبّهوا العباد ممّا أغفلوه، و يبيّنوا لهم ما جهلوه حسماً لحججهم علی اللّه تعالي.

فقد اتّضح الوجه في هذا المطلوب، و هو أنّ الإمامة لطف عامّ بالنسبة إلی النبوّة و الرسالة، و إنكار اللطف العامّ شرّ من إنكار اللطف الخاصّ ضرورة، فإذا استحال منه سبحانه عدم إرسال الرسل، استحال عدم نصب الإمام المعصوم من باب مفهوم الموافقة، كتحريم التأفيف الدالّ علی تحريم الضرب.

و أمّا بيان الوجه في إنكارهم لطف الإمامة، فلأنّهم لم يوجبوا نصب الإمام علی اللّه تعالی عقلاً، بل أوجبوه علی الناس، المعتزلة عقلاً، و الأشاعرة سمعاً.

و لهذا ذهبوا إلی أنّ مسألة الإمامة فرعية، و قالوا: إنّ نصبه إنّما يكون لطفاً إذا خلا عن المفاسد كلّها، و هو ممنوع؛ لما في نصبه من إثارة الفتن، و قيام الحروب، و لأنّ الإتيان بالطاعة و ترك المعصية مع عدمه أكثر ثواباً؛ لكونهما أقرب إلي الإخلاص؛ لانتفاء احتمال كونهما من خوفه، و لاحتمال كونهما لا للحسن و القبح أيضاً بل من خوفه، و ذلك مفسدة، و لجواز اشتمال نصبه علی مفسدة لا نعلمها، فلا يصحّ الحكم بالوجوب، و عدم العلم لا يدلّ علي العدم.

قلنا: الجواب عن الأوّل: بأنّ الضرورة قاضية بأنّ إثارة الفتن علی تقدير عدمه أكثر، فإنّ كلّ عاقل يجد من نفسه أنّ الناس إذا لم يكن لهم رئيس مرشد قاهر يردع الظالم عن ظلمه، و ينتصف للمظلوم ممّن ظلمه، حصل اختلال نظامهم، و إذا

ص:185

كان لهم من هو بهذه المثابة كانوا إلی الصلاح أقرب و من الفساد أبعد، خصوصاً إذا كان معصوماً منصوصاً عليه من اللّه تعالی، و لهذا وجب عليه سبحانه عصمته و تعيينه بالنصّ، كما وجب أصل تعيينه.

و لا يقدح في وجوب التنصيص عليه العناد من الجمهور للمنصوص عليه، و تفويض أمرهم إلی غيره؛ إذ لا يلزم من وجوب الشيء العمل به علی من وجب عليه، كما لا يقدح في عدم اتّباع الكفّار للنبي ترك البعثة والحروب علی أداء الواجبات، و ترك المعاصي ليست مفسدة، و إلّا لامتنعت من النبي صلی اللّه عليه و آله.

و عن الثاني: بأنّه وارد في كلّ لطف، فلو تمّ لزم عدم وجوب الألطاف، و اللازم باطل، فكذا الملزوم.

و عن الثالث: بأنّ ذلك يقتضي قبح الإمامة مطلقاً، سواء وجبت بالعقل، أو من اللّه تعالی، وذلك باطل اتّفاقاً.

ثمّ نقول: المكلّف إمّا مطيع أو عاص، و وجه اللطف في الأوّل تقريبه إلی فعل الطاعة، و امّا الثاني فلا نسلّم أنّ ترك المعصية لا لكونها معصية قبيح، بل القبيح هو ذلك الاعتقاد، و هو كون الترك لا لكونها معصية، و وجه اللطف فيه حصول الاستعداد الشديد ليثبت التذكير و التكرير الموجب لفعل الطاعة لكونها طاعة، ولترك المعصية لكونها معصية.

و عن الرابع: بأنّ المفاسد محصورة معلومة؛ لأنّا مكلّفون باجتنابها، والتكليف بغير المعلوم قبيح، و هي منتفية عن الإمام.

فإن قالوا: إنّما نعلم المفاسد المشتملة عليها أفعالنا، أمّا التي تشتمل عليها أفعال غيرنا التي لا نقدر عليها، فلا يجب معرفتها، و الإمامة عندكم ليست من فعلنا، بل من فعل اللّه تعالی، و لهذا اشترطتم في الإمام العصمة؛ لأنّ المطّلع علی السرائر

ص:186

ليس إلّا هو، فلا يقدر غيره أن يميّز المعصوم من غيره حتّی ينصبه إماماً، و من ذلك يلزم أن لا يجب العلم بالمفسدة التي تشتمل عليها.

قلنا: لو كانت الإمامة مشتملة علی مفسدة لما أوجبها اللّه تعالی علی المكلّفين، ولما وجب علی الناس طاعة الإمام، ولنهي اللّه عزّوجلّ عن نصبه، و التالي باطل قطعاً، فالمقدّم مثله، و منهم من أوجب نصبه مع الخوف و ظهور الفتن لا مع الأمن لعدم الحاجة إليه، و منهم من عكس، فإنّه ربما كان نصبه سبباً لزيادة الفتن.

و الحقّ الوجوب مطلقاً؛ لعموم الأدلّة؛ إذ مع الأمن و الإنصاف يجوز الخطأ، و يحتاج إلی حفظ الشرع و إقامة الحدود، و مع ظهور الفتن الخطأ واقع، و حينئذ يكون المكلّف أحوج إلی اللطف، و الخوارج لم يوجبوها مطلقاً، محتجّين بأنّه يجوز أن يتناصف الناس و لا يحتاجون إلی إمام، و هو تقدير لأمر لم يحصل، و لو قيل لهم: في أيّ وقت حصل التناصف بين الناس، ما أمكنتهم الإشارة إلی وقت قطّ.

فإن قالوا: هذه الاُمّة معصومة؛ لقول النبي صلی اللّه عليه و آله «لا يجتمع امّتي علی ضلالة»(1)وفي رواية «علی خطأ»(2) فلا يحتاج إلی الإمامة؛ لانتفاء المحوج إليها، و هو جواز الضلالة علی الاُمّة.

قلنا أوّلاً(3): يجب إثبات صحّة هذا الحديث، وقولهم بتواتر معناه ممنوع.

و ثانياً: نقول بموجبه؛ لأنّ الإمام موجود في كلّ عصر بينهم، و هو معصوم من

ص:187


1- الطرائف ص 526، بحار الأنوار 225:2 و 20:5 و 68.
2- بناء المقالة الفاطمية ص 370.
3- في «ف»: الأوّل.

الضلالة، فامتنع اجتماعهم عليها؛ لأنّه من الاُمّة، و حينئذ فلا دلالة فيه علی عصمتهم من دونه.

و ثالثاً: أنّه بعد التسليم غير قادح في المدّعي؛ لأنّه يكفي في عدم اجتماعهم عليها بقاء واحد علی النهج، فلابدّ للباقين من رئيس قاهر.

فإن قالوا: يلزم عدم عموم الإمامة، و الضرورة قاضية بعمومها، و لهذا لم يجز وجود إمامين أو أكثر في عصر واحد، مع أنّ عصمة الإمام لمّا لم تكن مؤدّية إلی إلجاء الخلق إلی الصلاح، ربما أدّي التعدّد إلی المنازعة الموجبة لاختلال أمر النظام، وإلی اختلاف الفعل والتدبير المقتضي لاختلاف الخلق والتشاجر والفساد، وإلی عموم المعصية لأهل الأرض، فإنّه لا يكون أحد مطيعاً لأحدهما إلّاهو عاصٍ للآخر، وإلی تعطيل الحقوق والأحكام؛ لأنّ لأحد الخصمين أن يدعو إلی غير ما يدعو إليه صاحبه، وليس أحدهما أولی بأن يتّبع من الآخر، إلي غير ذلك.

قلنا: لا يلزم ذلك؛ لأنّ هذا الفرد يجوز أن يضلّ في واقعة و يبقي علی النهج غيره، فلابدّ للجميع من إمام.

فإن قالوا: لو كان نصبه من اللّه تعالی لعلمت الصحابة ذلك، و لم يعوّلوا علی نصبه من عند أنفسهم، والواقع خلافه، وذلك يقتضي وجوب نصبه علی الخلق.

قلنا: لا نسلّم كونهم غير عالمين بذلك، و لهذا فوّضوا أمر الخلافة إلی من نصبه اللّه تعالی خليفة عن نبيه صلی اللّه عليه و آله و هو علی عليه السلام، و لم يفوّضها أحد منهم إلی من تصدّوا لنصبه إلّا المنافقين منهم، كخليفتهم الثاني الذي نصب الأوّل يوم السقيفة حال اشتغال بني هاشم و غيرهم من الصحابة بمصيبة النبي صلی اللّه عليه و آله خليفة عنه برضا أربعة:

أبوعبيدة، و سالم مولي حذيفة، و أسيد بن حضير، و بشير بن سعد، و حينئذ فلا يرد علی المطلوب مؤاخذة.

ص:188

و بعد، فإنّ وجوب نصبه علی الخلق يقتضي أنّهم إذا لم يتّفقوا لم يحصل انعقاد الإمامة، بل تجب إعادة النظر مرّة بعد اخری، و قد لا يثمر شيء من ذلك اتّفاقهم لاختلاف الآراء غالباً، و هو يبطل تعليقها علی رأي الاُمّة، و إلّا لزم تعذّر نصب الإمام، أو جواز عمل كلّ فريق برأيه، فيكون منصوب كلّ فريق إماماً عليهم خاصّة، فيلزم من تعليقها علی رأيهم أن لا تكون كذلك، هذا خلف.

و قد أشار مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام إلی المطلوب بقوله: لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة: إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلّا تبطل حجج اللّه تعالی وبيّناته(1).

و روی المفيد في كتاب العيون و المحاسن، و كذا الطبرسي في كتاب الاحتجاج:

أنّ هشام بن الحكم قال لعمرو بن عبيد وكان يری عدم وجوب نصب الإمام: إنّ اللّه جعل القلب إماماً لشكّ الجوارح، فلم يترك الجوارح حتّي جعل لها إماماً يصحّ لها الصحيح وينفي عنها ما شكّت فيه، فلا يجوز أن يترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم و شكّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم و حيرتهم، وقد أقسم الصادق عليه السلام باللّه عندما عرضه عليه هشام أنّه لفي صحف إبراهيم عليه السلام(2).

و روی الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام عدّة أخبار تتضمّن أنّ الأرض لو

ص:189


1- نهج البلاغة ص 497 رقم الحديث: 147.
2- الاحتجاج للشيخ الطبرسي 285:1، ورواه المحدّث الجليل الكليني في الكافي 169:1 ح 3، والشيخ الصدوق في علل الشرائع ص 193، و كمال الدين ص 207، والعلاّمة المجلسي في البحار 6:23، وغيرهم.

بقيت بغير إمام لساخت بأهلها(1).

والسرّ في ذلك كونهم ألطافاً لا يصحّ التكليف إلّابهم، ولا يقوم غيرهم مقامهم. و روي في الأمالي، عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله لعلي عليه السلام: مثلك و مثل الأئمّة من ولدك مثل النجوم، كلّما غاب نجم طلع نجم إلي يوم القيامة(2).

ص:190


1- روی الشيخ الجليل الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام 272:1 باسناده عن محمّد بن الفضل، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: قلت له: تكون الأرض و لا إمام فيها؟ فقال عليه السلام: لا إذاً لساخت بأهلها.و روی أيضاً باسناده عن أحمد بن عمر، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: قلت له: هل تبقی الأرض بغير إمام؟ فقال: لا، قلت: فإنّا نروي عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: لا تبقی إلاّ أن يسخط اللّه علي العباد؟ فقال: لا تبقی إذاً لساخت.وروی أيضاً باسناده عن سليمان بن جعفر الحميري، قال: سألت الرضا عليه السلام فقلت: تخلو الأرض من حجّة؟ فقال عليه السلام: لوخلت الأرض طرفة عين من حجّة لساخت بأهلها.
2- رواه الشيخ الصدوق في أماليه ص 342 برقم: 408، باسناده، عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله لعلي بن أبي طالب عليه السلام: يا علي أنا مدينة الحكمة وأنت بابها، ولن يؤتي المدينة إلاّ من قبل الباب، و كذب من زعم أنّه يحبّني و يبغضك، لأنّك منّي وأنا منك، لحمك من لحمي، و دمك من دمي، و روحك من روحي، و سريرتك سريرتي، و علانيتك علانيتي، و أنت إمام امّتي و خليفتي عليها بعدي، سعد من أطاعك، و شقي من عصاك، و ربح من تولاّك، و خسر من عاداك، و فاز من لزمك، و هلك من فارقك، مثلك و مثل الأئمّة من ولدك بعدي مثل سفينة نوح من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق، و مثلكم مثل النجوم، كلّما غاب نجم طلع نجم إلی يوم القيامة. و رواه أيضاً في كمال الدين ص 241.

وفي قوله تعالی: «وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» (1) دليل علی أنّه لا تخلو الأرض من هداة في كلّ عصر و زمان و وقت و أوان، و قد ورد في أخبار الفريقين أنّ الهادي في الآية إشارة إلی علي عليه السلام، و كذا إلي أبنائه المعصومين إلی المهدي(2).

فإن قالوا: غيبته تمنع من كون وجوب نصبه لطفاً؛ لأنّ الغرض منه إقامة الدين، و إرشاد الضالّين، و تقويم العاصين.

قلنا: مجرّد وجوده لطف؛ لما فيه من حفظ الشرع من الزيادة والنقصان، مع أنّ العاصي إذا جوّز ظهوره في سائر الأزمنة ربما امتنع من معصيته، و إن كان تصرّفه لطفاً آخر، و مجرّد الحكم بخلقه و إيجاده في وقت ما لا يكفي في هذا المعني، لا لأنّه خوف من المعدوم ليجاب بأنّه خوف من موجود مترتّب، كما أنّ خوف الأوّل من ظهور مترقّب، بل لأنّ حفظ الشرع الشريف يفتقر إلی وجوده، ولا يكفي فيه ترقّب ظهوره.

علی أنّا نعارضهم بالنبي صلی اللّه عليه و آله، فإنّه كان في مكّة مدّة طويلة لم يظهر نبوّته في

ص:191


1- سورة الرعد: 7.
2- رواه في الطرائف ص 79، عن تفسير الثعلبي، في تفسير قوله تعالی «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» عن ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت هذه الآية ضرب رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله يده علي صدره، و قال أنا المنذر وأومأ بيده إلی صدر علي عليه السلام، فقال: و أنت الهادي، يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي.و روی الشيخ الثقة الكليني في اصول الكافي 191:1-192، باسناده عن بريد العجلي، عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه عزّوجلّ «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» فقال: رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله المنذر، ولكلّ زمان منّا هاد يهديهم إلی ما جاء به نبي اللّه صلی اللّه عليه و آله، ثمّ الهداة من بعده علي، ثمّ الأوصياء واحد بعد واحد.

الأرض، و لم يدعی إليه قريش، بل كان ممنوعاً بينهم، و في يوم الغار هل قام الدين بين الخلق؟ و هل حصل في نصبه لطف للمكلّفين؟ و مهما أجابوا به عن ذلك فهو جوابنا هنا.

فإن قالوا: كيف جاز في الحكمة الإلهية إخلاله تعالی بلطف التصرّف؟ أم كيف جاز علی الإمام و أنتم تقولون بعصمته إخلاله به؟

قلنا: الإخلال به إنّما هو من رعيته لقصدهم إيّاه بالقتل و نحوه من أنواع الضرر، و لا يجب في الحكمة أن ينزل ملائكة من السماء ينصرونه، أو يرسل معه عساكر من الجنّ ليقيم الدين بين الخلق؛ لأنّ مراده منهم الطاعة، لا علی وجه الإلجاء، بل باختيارهم، و لهذا إذا صارت المعرفة ضرورية لا يقبل الإيمان حينئذ، كما في المحتضر و أشراط الساعة.

و حاصله: أنّ اللطف إنّما يجب إذا لم يناف التكليف، و قد اتّفق هنا منافاته له، و إن كانوا زاعمين أنّ العبد لا اختيار له، و أنّه لا فاعل في الوجود سوي اللّه سبحانه، و إليه ذهب من رؤساء علمائهم فخرالدين الرازي في الأربعين(1)، و الغزالي في إحياء علوم الدين.

و إذا كان كذلك، فقد صدق عليهم ما قاله الخوارزمي في الفائق(2): إنّ شيوخنا كفّروهم. و حكي قاضي القضاة عن أبي علی الجبائي: المجبّر كافر، و من شكّ في كفره فهو كافر(3).

ص:192


1- الأربعين للرازي ص 237، الطرائف ص 335 عنه.
2- و هو غير الفائق في غريب الحديث للزمخشري.
3- الطرائف للسيد ابن طاووس ص 313 عن الفائق للخوارزمي.

و به ينطق قول مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام و قد سئل أكان مسيرك(1) الی الشام بقضاء اللّه وقدره؟ قال: ويحك لعلّك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حاتماً، ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، و سقط الوعد والوعيد، إنّ اللّه سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، و كلّف يسيراً، و لم يكلّف عسيراً، و أعطی علی القليل كثيراً، و لم يعص مغلوباً، و لم يطع مكرهاً، و لم يرسل الأنبياء لعباً و عبثاً، ذلك(2)ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار(3).

و أيضاً إليه يرشد ما أجاب به أربعة من العلماء الحجّاج بن يوسف، و قد بعث إليهم يسأل كلّ واحد منهم عمّا صحّ عنده في القضاء و القدر، فكتب إليه أحدهم: أحسن ما صحّ عندي في ذلك ما قاله أميرالمؤمنين عليه السلام وقد سئل عنه: أيدلّك علی الطريق، و يسدّ عليك المضيق، إنّ ذلك بالعقل لا يليق.

و كتب إليه الآخر: أحسن ما صحّ عندي فيه، ما قاله أميرالمؤمنين عليه السلام و قد سئل عنه: أتظنّ أنّ الذي نهاك دهاك، و إنّما دهاك أسفلك و أعلاك، واللّه بريء من ذلك.

و كتب إليه الثالث: أحسن ما صحّ عندي فيه ما رويته عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه سئل عنه، فقال: كلّما حمدت اللّه عليه فهو منه، و ما استغفرت اللّه منه فهو منك.

و كتب إليه الرابع: أحسن ما صحّ عندي فيه ما رويته عن أميرالمؤمنين عليه السلام و قد سئل عنه: لو كان الوزر محتوماً لكان الموزر في القضاء مظلوماً. فلمّا نظر إليها

ص:193


1- في النهج: مسيرنا.
2- في النهج: لعباً، و لم ينزل الكتاب للعباد عبثاً، و لا خلق السماوات والأرض و ما بينهما باطلاً، ذلك.
3- نهج البلاغة ص 481 رقم الحديث: 78.

قال: لقد أخذوها من عين صافية(1). يعني: إنّها لم تختلف معنيً، وإنّما اختلف لفظاً.

و قد سأل أبوحنيفة مولانا الكاظم عليه السلام، فقال: المعصية ممّن؟ قال عليه السلام: المعصية إمّا من العبد، أو من ربّه تعالی، أو منهما. فإن كانت من اللّه تعالی، فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده الضعيف، و يأخذه بما لم يفعله. و إن كانت المعصية منهما، فهو شريكه، و القوي أولی بإنصاف عبده الضعيف. و إن كانت المعصية من العبد، فعليه وقع الأمر، وإليه توجّه المدح والذمّ، و هو أحقّ بالثواب والعقاب، و وجبت له الجنّة والنار. فقال أبوحنيفة: ذرّية بعضها من بعض واللّه سميع عليم(2).

و قد نظم بعضهم هذا المعني في شعر، فقال:

لم تخل أفعالنا اللاتي نذمّ بها *** إحدی ثلاث خلال حين نأتيها

إمّا تفرّد بارينا بصنعتها *** فيسقط اللوم عنّا حين ننشيها(3)

أو كان يشركنا فيها فيلحقه *** ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أولم يكن لإلهي في جنايتها *** ذنب فما الذنب إلّا ذنب جانيها(4)

و قد روی الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام أنّه قال: من زعم أنّ اللّه تعالی يجبر عباده علي المعاصي، أو يكلّفهم ما لا يطيقون، فلا تأكلوا ذبيحته، و لا تقبلوا

ص:194


1- الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 329-330.
2- الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 328.
3- في الطرائف: نبديها.
4- الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 328.

شهادته، و لا تصلّوا و راءه، و لا تعطوه من الزكاة شيئاً(1).

و إنّ يزيد(2) بن عمير بن معاوية سأله عن معني ما روي عن الصادق عليه السلام «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» فقال عليه السلام: هو وجود السبيل إلی إتيان ما امروا به و ترك ما نهوا عنه(3)، و من زعم أنّ اللّه تعالی يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر، و من زعم أنّه فوّض أمر الخلق والرزق إلی حججه عليهم السلام، فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، و بالتفويض مشرك(4).

و لمّا رأي فريق منهم قبح هذه المقالة، إلتجأوا إلی القول بأنّ اللّه تعالی يخلق الأعمال والعبد يكتسبها منه، مع أنّ ذلك لا يصلح سبباً للخروج منها، فإنّ الموجب للأعمال عندهم ليس هو الكسب بل اللّه تعالی، ولأنّه يقال لهم: هل يقدر العبد علی ترك الكسب، فإن قالوا: نعم، فقد قالوا بالاختيار و حصل الوفاق، و إن قالوا: لا، فقد ساووا المجبّرة في تصريحهم بأنّ العباد مقهورون.

علی أنّ المفهوم عند العقلاء من الجبر أنّه ما طريء علی الاختيار، فإن كانوا لا فعل لهم حقيقة انتفي عنهم الاختيار أصلاً و رأساً.

و كيف كان فقد صرّح المعتزلة بأنّ الأشعرية هم القدرية، و هو الظاهر، فإنّهم هم القائلون بأنّ الأشياء بتقدير اللّه و مشيئته، و المتبادر نسبة الشخص إلی ما يثبته لا إلی ما ينفيه.

ص:195


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 124:1 ح 16.
2- في العيون: بريد، و في هامشه والبحار: يزيد.
3- في النسختين: إتيان ما نهوا عنه و ترك ما أُمروا به.
4- عيون أخبار الرضا عليه السلام 124:1 ح 17.

و أيضاً روی الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام، بإسناده إلی الصادق عليه السلام، قال:

إنّ علياً عليه السلام جعل الجبرية هم قدرية هذه الاُمّة و مجوسها(1).

و روی الخوارزمي في الفائق و كان من رؤساء المعتزلة: أنّ رجلاً قدم علی النبي صلی اللّه عليه و آله، فقال له: أخبرني بأعجب شيء رأيت؟ فقال: رأيت قوماً ينكحون امّهاتهم و بناتهم و أخواتهم، فإذا قيل لهم: لِمَ تفعلون ذلك؟ قالوا: قضاه اللّه علينا و قدره، فقال عليه السلام: سيكون في امّتي أقوام يقولون مثل مقالتهم، اولئك مجوس امّتي(2).

و كذا روي أنّه عليه السلام قال: يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي، ثمّ يقولون: إنّ اللّه قدّرها عليهم، الرادّ عليهم كالشاهر سيفه في سبيل اللّه(3).

و الأشعرية أيضاً صرّحوا بأنّ المعتزلة هم القدرية؛ لمبالغتهم في نفي القول بأنّ أفعالنا بتقدير اللّه و مشيئته، أو لإثباتهم للعبد قدرة الإيجاد.

و ردّه التفتازاني في شرح المقاصد: بأنّه لو كان كذلك لكان المناسب القُدري بضمّ القاف.

و لا يخفي أنّه يلزم من هذا التصريح من الفريقين شهادة كلّ فريق علی الفريق الآخر بالكفر؛ لأنّ القدرية صنف من الكفّار، بدليل قول النبي صلی اللّه عليه و آله: القدرية مجوس هذه الاُمّة(4).

ص:196


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 139:1 ح 38، الطرائف ص 327.
2- الطرائف ص 344 عنه.
3- الطرائف ص 344 عنه.
4- كنز العمّال 119:1 برقم: 566 و ص 137 برقم: 646.

و روی الصدوق في عقاب الأعمال عنه عليه السلام، قال: صنفان من أُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية(1).

و في حديث آخر صحّحه التفتازاني و غيره عنه عليه السلام: لعنت القدرية علی لسان سبعين نبياً(2).

والأخبار في هذا المعنی لا تحصی كثرة(3).

و بعد، فإنّ المعتزلة زعموا عجز اللّه سبحانه عن بعض الممكنات، كمثل مقدور العبد أو عينه، وعدم علمه بالجزئي الزماني إلّابعد وقوعه، و قد تقدّمهم إليه من الحكماء أرسطو و ابن سينا، و هو يقتضي كفر معتقده، كما أورده العلّامة في مقصد الواصلين(4) وغيره، بل صرّح التفتازاني بأنّه لا نزاع في كفر من هذا معتقده.

و روی الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام، عن الحسين بن بشّار، عنه عليه السلام، قال: سألته أيعلم اللّه الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف يكون؟ فقال: إنّ اللّه تعالی هو العالم بالأشياء قبل كونها، قال اللّه عزّوجلّ: «إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (5) وقال عن أهل(6) النار: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ

ص:197


1- عقاب الأعمال ص 252-253 ح 3.
2- كنز العمّال 119:1 برقم: 563.
3- راجع كنز العمّال 118:1-140.
4- مقصد الواصلين في اصول الدين للعلاّمة الحلّي، ذكره في رجاله خلاصة الأقوال، و لم أعثر علی هذا الكتاب.
5- سورة الجاثية: 29.
6- في العيون: لأهل.

لَكاذِبُونَ» (1) (2).

و أيضاً قالوا: الجنّة والنار ليستا مخلوقتان الآن، وإنّما يخلقان يوم الجزاء، وقد ورد في التنزيل: «اَلنّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ» (3).

وفي الحديث: من أنكر خلق الجنّة والنار، فقد كذّب النبي صلی اللّه عليه و آله وكذّبنا، وليس من ولايتنا علی شيء، ويخلد في نار جهنّم، قال اللّه عزّوجلّ: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» (4)(5).

و أيضاً أثبتوا المعاني القديمة بزعم الأشعرية أحوالاً حادثة هي علل في الصفات، و وافقوهم في وقوع المعاصي من الأنبياء و الأوصياء عليهم أفضل الصلوات و التسليمات.

فقد وضح بحمد اللّه سبحانه أنّ مذاهب هذه الفرق الهالكة في المعقول و المنقول مخالفة لمحكم القرآن و نصّ الرسول، جارية علی ما انتحله كلّ كافر جهول.

الوجه الحادي عشر: قولهم بعدم اعتبار إجماع أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وعصمهم من دنس الإنس وإهمالهم الرواية عنهم

حتّی أنّه لا يكاد يوجد في كتبهم جزء من مائة جزء مروياً عنهم، بل الرواية

ص:198


1- سورة الأنعام: 28.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 118:1 ح 8.
3- سورة غافر: 46.
4- سورة الرحمن: 43-44.
5- عيون أخبار الرضا عليه السلام 116:1 ح 3.

عنهم كالغراب الأعصم، مع اتّفاق الفريقين علی فضلهم و علمهم و زهدهم وتقاهم، و تقدّمهم علی غيرهم في أنواع الفضائل.

و أين هذا الذي تخيّلوه ممّا تظافرت به الأخبار، و رواه من العامّة الترمذي، و هو قول النبي صلی اللّه عليه و آله: إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه، و عترتي أهل بيتي، إنّهما لن يفترقا حتّی يردا عليَّ الحوض(1).

و مثله روي مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم، قال: قام فينا رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله خطيباً، فحمد اللّه و أثنی عليه، ثمّ قال:

أمّا بعد أيّها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فاُجيبه، و إنّي تارك فيكم الثقلين، أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدی و النور، فتمسّكوا به وحثّوا فيه و رغّبوا فيه، ثمّ قال: وأهل بيتي اذكّركم اللّه في أهل بيتي ثلاثاً(2).

ص:199


1- رواه الترمذي في صحيحه 622:5 برقم: 3788، باسناده عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلی الأرض، وعترتي أهل بيتي، و لن يتفرّقا حتّی يردا علی الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.
2- رواه مسلم في صحيحه 1873:4 باب فضائل علي عليه السلام، باسناده إلی يزيد بن حيّان، قال: انطلقت أنا و حصين بن سبرة و عمر بن مسلم إلی زيد بن أرقم، فلمّا جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله وسمعت حديثه، و غزوت معه، و صلّيت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، قال: يابن أخي واللّه لقد كبرت سنّي، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعی من رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، فما حدّثتكم فاقبلوا، و ما لا فلا تكلفونيه ثم قال: قام رسول الله صلی الله عليه يوماً فينا خطيباً بماء يدعی خمّاً بين مكه و المدينه فحمد الله و انتي علی و وعظو ذكر ثم قال: اما الا ايها الناس فانمنا انا بشر يوشك ان ياتي رسول ربي فاجيب و انا تارك فيكم ثقلين اولهما كتاب الله فيه الهدی و النور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث علی كتاب الله و رغب فيه ثم قال: و اهل بيتي اذكركم الله في اهل بيتي اذكركم الله في اهل بيتي اذكركم الله في اهل بيتي الحديث.

و مثله روي الثعلبي في تفسيره «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» (1) و باسناده قال: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: أيّها الناس إنّي تركت فيكم الثقلين خليفتين، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض - أو قال: إلي الأرض - وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّي يردا علی الحوض(2).

و كذا روی غيرهم من علمائهم قريباً من ذلك، فإن زعموا أنّ حجّية قولهم موقوفة علی انضمام الكتاب إليه كما في عكسه، فهو خطأ، و إلّا لم يكن لهم مزية؛ لأنّ من عداهم بهذه المثابة، فكان قولهم وحده حجّة، و هو المطلوب.

وإن زعموا عدم تواتر هذا الحديث، كذّبناهم(3) بأنّهم قد أكثروا مسانيده بعبارات شتّي، ولا ريب أنّ القدر المشترك بينها وهو وجوب التمسّك بهم متواتر، علی أنّه قد جاء بمعناه عدّة أحاديث، مثل ما تقدّم من قول النبي صلی اللّه عليه و آله: مثل أهل

ص:200


1- سورة آل عمران: 103.
2- الطرائف للسيّد ابن طاووس ص 121-122 عن تفسير الثعلبي.
3- في الأصل: كذّبناه.

بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك(1).

و قوله: النجوم أمان أهل السماء وأهل بيتي أمان لاُمّتي(2).

و قد روی محمّد بن موسی الشيرازي في تفسيره، أنّ المأمور بالسؤال منهم في قوله تعالی: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» (3) هم أهل البيت: محمّد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام، هم أهل العلم و العقل و البيان، و هم أهل بيت النبوّة، و معدن الرسالة، و مختلف الملائكة، و اللّه ما سمّی المؤمن مؤمناً إلّاكرامة لأميرالمؤمنين.

و نقل أنّ سفيان الثوري رواه عن السدّی(4).

و روی الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام، بإسناده عنه عليه السلام أنّه قال: الذكر رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله، بدليل قوله عزّوجلّ «قَدْ أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً» (5)ونحن أهله، فاسألونا إن كنتم لا تعلمون(6).

و روی الثعلبي في تفسير قوله تعالی: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا

ص:201


1- رواه ابن المغازلي الشافعي في مناقبه ص 132-134، والهيتمي في الصواعق ص 234، والخطيب في تاريخه 91:12، وابن كثير في تفسيره 115:9، و الحاكم في مستدركه 150:3 و 343:2، والطرائف ص 132، وإحقاق الحقّ 270:9-293.
2- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 671:2 ح 1145، ذخائر العقبی ص 17، الطرائف ص 131، العمدة لابن البطريق ص 308 ح 510.
3- سورة الأنبياء: 7.
4- الطرائف ص 93-64 عن تفسير الشيرازي، و إحقاق الحقّ 482:3.
5- سورة الطلاق: 10.
6- عيون أخبار الرضا عليه السلام 239:1.

تَفَرَّقُوا» (1) عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: نحن حبل اللّه الذي أمر بالاعتصام به، و نهي عن التفرّق عنه(2).

و الأحاديث في هذا المعني أكثر من أن تحصی. و في الحديث الأوّل تصريح بأنّ العترة هم أهل البيت عليهم السلام، و لا ريب أن ّ العترة علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام، و في اختصاصهم بالدعاء إلی المباهلة ما يشعر بأنّهم هم المقصودون و المعنيون، و غيرهم محذوف عن درجة الاعتبار، بل كأنّه لا غير هناك.

و كذا قوله عليه السلام «أنا حرب لمن حاربهم، و سلم لمن سالمهم»(3) و قوله لعلي عليه السلام «من آذي شعائرة منك فقد آذاني»(4) و قوله لفاطمة عليها السلام «يؤذيني ما يؤذيها»(5).

و غير ذلك ممّا هو كثير دال ّ علی العصمة، و إلّا كان إغراء بالجهل و لأهل بيته بالظلم، فإن ّ من يجوّز عليه الخطأ كيف يجوّز للنبي صلی اللّه عليه و آله أن يجعل مطلق إيذائه إيذاء له، فقد يكون الإيذاء له بحق ّ علی ذلك التقدير، و قد تكون محاربته حقّا، فلا يجوز في حكمة النبي صلی اللّه عليه و آله أن يطلق مثل هذا القول إلّاوقد علم أن ّ اللّه قد لطف بهم لطفا لا يقارفون معه ذنبا و لا يرتكبون قبيحا.

ص:202


1- سورة آل عمران: 103.
2- الصراط المستقيم للبياضي 286:1 عن الثعلبي، و العمدة ص 303.
3- راجع: إحقاق الحق ّ 440:6-441 و 161:9-174 و 411:18-413.
4- راجع: إحقاق الحق ّ 391:6-392 و 596:16 و 541:21.
5- صحيح مسلم 1903:4، شرح نهج البلاغة 64:4 و 193:9، الطرائف ص 262، العمدة: ص 385.

و روی الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام، عن علي بن إبراهيم، أن الصادق عليه السلام قال: إن ّ أميرالمؤمنين عليه السلام قال: الأئمّة بأجمعهم هم المعنيون(1) بالعترة، لكنّهم يرومون إبعاد الناس عن الانقياد إليهم، و امتثال أقوالهم، و الاعتناء بما أجمعوا عليه، و ألسنتهم ينطق بروآية خلافه؛ لأن ّ اللّه تعالی يأبی إلّا أن يعلی كلمته، و يتم ّ نوره، و ينصر حجّته، و هكذا وعد فقال: «وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» (2) و قال: «إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» (3) يعني بالذين آمنوا الأئمّة الهداة و أتباعهم العارفين بهم، و الآخذين عنهم ينصرهم بالحجّة علی مخالفيهم.

و من العجيب إيثار مخالفيهم الروآية عن رؤسائهم علی الروآية عنهم، مع اشتهار النقل و النقلة عنهم علی حد يزيد أضعافا كثيرة علی النقلة عن كل ّ واحد من رؤسائهم.

فقد أورد العلماء في كتب الرجال أن ّ مولانا الصادق عليه السلام كتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنّف لأربعمائة مصنّف، و دوّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من العراق و الحجاز و الشام و خراسان، و كذا عن مولانا الباقر عليه السلام، و رجال باقي الأئمّة معروفون مشهورون أولوا مصنّفات مشتهرة(4)، و مباحث متكثّرة، و قد ذكر

ص:203


1- بحار الأنوار 281:5 و 329 و 334:23، شواهد التنزيل: 272:1.
2- سورة العنكبوت: 69.
3- سورة غافر: 51.
4- راجع: معالم العلماء لا بن شهرآشوب ص 3.

كثير منهم العامّة في رجالهم، و نسبوا إلی التمسّك بأهل البيت عليهم السلام(1).

فالإنصاف يقتضي الجزم بنسبة ما نقل عنهم إليهم، و عدالتهم الثابتة بالاتّفاق يقتضي حجّية إجماعهم.

و كيف جعلوا إجماع الصحابة، بل إجماع أهل المدينة، بل مذهب الصحابي الذي ليس بمعصوم، حجّة؟ و لم يجعلوا إجماعهم حجّة، مع دلالة العقل علی عصمتهم، فإن ّ الإمام إذا لم يكن معصوما لزم الدور أو التسلسل، و إفحامه و سقوط منزلته، فلا يحصل الانقياد إليه و وجوب متابعته و ضدّها و الانكار عليه و انحطاط درجته عن أقل ّ العوام؛ لأنّه قد راعي اللّه مصلحتهم بنصب إمام أرشدهم دونه، و عدم الوثوق بقوله، فينتفي الغرض من نصبه، و الوثوق بتواتر المخبرين عن النبي ينفي كون الإمام هو الحافظ لاقتضائه كون الحافظ هو المجموع لا الإمام وحده، هذا خلف.

و لا يرد أنّه لا يلزم من جواز المعصية و قوعها؛ لأنّه يقال: غير المعصوم لا ينفك ّ منها و إن تفاوت الناس في ذلك، علی أنّ مجرّد تجويز ذلك عليه مفوّت للغرض

ص:204


1- روی مسلم في صحيحه 20:1 باسناداه عن الجرّاح بن مليح، قال: سمعت جابرا يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر، عن النبي صلی اللّه عليه و آله كلّها.و روی باسناداه عن زهير قال: قال جابر أو سمعت جابرا يقول: إن ّ عندي لخمسين ألف حديث، ما حدّثت منها بشيء، قال: ثم ّ حدّث يوما بحديث، فقال: هذا من الخمسين ألفا.أقول: جابر الجعفي كان من أجلاّء الرواة و ثقاتهم، و مخالفونا يطرحون أحاديثه لقوله بالرجعة، و هي رجوع الأمر إلی أئمّتنا في آخر الزمان.

من نصبه، فإن ّ القائل بعدم العصمة قائل بجواز خطائه، و هذا الجواز لا يخص ّ بوقت دون آخر، فيلزم أن لا يجب نصبه في الجملة، و هو باطل إجماعا.

فقد اتّضح من ذلك أنّه لا تكفي العدالة كما في المجتهد، و النقل دال ّ علی ذلك أيضا، كآية التطهير، و هي قوله تعالی: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (1).

لقضاء الضرورة بأن ّ المراد الارادة التي يتبعها إذهابه؛ إذ الا رادة المحضة ينفيها الحصر المستفاد من «إنّما» لوجودها منه تعالی لكافّة الناس؛ إذ لا يرضی لعباده الكفر، و لا يريد منهم إلّاالطاعات، و لذلك خلقهم، و كالحديث المتقدّم الشاهد بعدم ضلالة من تمسّك بهم، و بملازمتهم الكتاب العزيز، لا يفارقونه إلی حين و رود حوضه.

و أيضا فمزيد معرفتهم بالأحكام لا ستفادتها من الوحي، و هم مهبطه، و شدّة ملازمتهم للنبي صلی اللّه عليه و آله، و كثرة معاشرتهم له، قاض باطّلاعهم علی أفعاله كاطّلاعه علی أفعالهم، و عظيم حرصه علی تكميلهم بالمعارف و العلوم، كما يومي ء إليه قول أميرالمؤمنين عليه السلام: علّمني رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله ألف باب من العلم، فانفتح من كل ّ باب ألف باب(2). مبعد لهم عن الخطأ.

فكيف لا يكون إجماعهم حجّة؟ و أيّ أذي أشدّ من الإلتزام بعدم حجّية إجماعهم؟ و أيّ رزية في الإسلام أعظم من تجويز تخطئتهم؟ و قد حكموا بانعقاد الإجماع بدون موافقة شيعتهم و سمّوهم رفضة، وعدّوهم من أهل البدع، بل من

ص:205


1- سورة الأحزاب: 33.
2- اصول الكافي 238:1 و 295 و 296، الطرائف ص 136.

الذين هم أسوأ حالا منهم؛ لزعمهم أنّهم رفضوا الحق ّ، و أن ّ قولهم خارج عن مقالة المسلمين، و لهذا تجدهم يقولون في كثير من تقريراتهم و تحريراتهم كمتن طوالع الأنوار و غيره: و خالفت الشيعة إجماع المسلمين، و فيه إشارة إلی حكمهم بتكفيرهم.

فما أشبههم بالأباضية من الخوارج القائلين بتكفير من خالفهم من أهل القبلة، و قد اتّفقت كلمتهم علی ذمّهم؛ لطعنهم علی جماعة من الصحابة شهدوا عليهم بالكفر، كما تقدّم بيانه، و علی عدم قبول روايتهم مع اعتمادهم في صحاحهم علی من رووا الطعن فيه، كعائشة التي ارتدّت عن الدين بحربها لعلي عليه السلام يوم الجمل، و أبي هريرة المشهور بالأكاذيب في الدين، و الوليد بن عتبة المتظاهر بشرب الخمر و الفسوق، و أنس بن مالك منكر شهادة يوم الغدير و نحوهم، بل قبولهم شهادة المبتدع إذا لم تكن بدعته مكفّرة له، مع أن ّ الروآية أوسع، ضرورة أنّه قد احتيط في الشهادة ما لم يحتط في الروآية بمثله.

علی أن ّ ما ذكروه لا يصلح أن يكون منشأ لذلك، فإن ّ من تتبّع كتب السير و التواريخ يجد ذمّهم أيضا جماعة من الصحابة، بل ذم ّ الصحابة بعضهم بعضا، بل ذم ّ أرباب مذاهبهم الأربعة كثيرا من أعيان الصحابة، بل جماعة من الأنبياء، فكان يجب بناء علی ما ذكروه ترك العمل بأخبار الكل ّ.

و كذا لا يصلح أن يكون منشأه عدم مداومتهم علی الجمعة و الجماعة؛ لأنّهم قد رووا عن رئيسهم ما لك أنّه كان في آخر عمره تاركا لها، رواه القاضي أبوالعبّاس أحمد بن محمّد الجرجاني في كتاب مختصر المعارف(1)، و الغزالي في إحياء

ص:206


1- ذكره السيّد ابن طاووس في الطرائف ص 188، قال: فمن ذلك ما رواه القاضي ابوالعباس احمد بن محمد الجرجاني في كتاب مختصر المعارف و نقلت روايته ذلك من نسخه عتيقه صحيحه تاريخ كتابتها في جمادي الاولی سنه ثلاث و عشرين و خمساته قال في اواخرها عند ذكر اخر التابعين ما هذا الفظه مالك بن انس بن ابي عامر من حمير وعداده من بني تيم بن مره من قريش قال الواقدي: كان مالك ياتي المسجد ويشهد صلاه الجمعه والجنائز و يعود المرضي و يقضی الحقوق و يجلس في المسجد و يجتمع اليه اصحابه ثم ترك الجلوس في المسجد كان يصلي ثم ينصرف الی منزله ثم ترك ذلك كله فلم يكن يصلی الصلاه في المسجد و لا الجمعه و لا ياتي احدا يعزيه و لا يقضی له حقا واحتمل الناس له ذلك حتي مات عليه و كان ربما كلم في ذلك فيقول: ليس كل احد يقدر ان يتكلم بعذره.

العلوم في كتاب العزلة منه و كتاب الحلال و الحرام(1).

و روی أيضا في كتاب الحلال و الحرام أن ّ أحمد بن حنبل قيل له: ما حجّتك في ترك الخروج إلی الصلاة؟ فقال: حجّتي الحسن البصري، و إبراهيم التيمي(2).

فهلّا كان للشيعة أيضا اسوة عند الحنابلة إذا اقتدوا في ذلك برئيسهم المذكور، فكان ذلك لا يوجب طرح أخبارهم كما اعتقدوه.

و كذا لا يصلح أن يكون منشأه انفرادهم بمذاهب عن الباقين؛ إذ ما من أحد من فقهاء الأمصار إلّاوهو ذاهب إلی مذاهب تفرّد بها، و مخالفوه كلّهم علی خلافها.

فكيف جازت الشناعة علی الشيعة بالمذاهب التي انفردوا بها؟ و ما الفرق بين ما انفردت به الشيعة من المذاهب التي لا موافق لهم فيها و بين ما انفرد به أبوحنيفة و الشافعي؟

ص:207


1- راجع: إحياء علوم الدين 222:2، و الطرائف ص 189.
2- إحياء علوم الدين للغزالي 152:2، الطرائف ص 189.

فإن قالوا: الفرق بين الأمرين أن ّ كل ّ مذهب تفرّد به أبوحنيفة، فله موافق فيه من فقهاأ أهل الكوفة، أو من السلف، و ليس كذلك الشيعة.

قلنا: ليس كل ّ مذهب تفرّد به أحد الرجلين نعلم أن ّ أهل الكوفة أو أهل الحجاز أو السلف قائلون به، و إن ادّعی صحّته لكثرة الذاهبين إليه، فالشيعة أحق ّبالاتّباع فيما انفردوا به؛ لأنّهم ألزم للأدب مع اللّه عزّوجل ّ و أنبيائه و رسله و أوليائه، و أكثر تنزّها عن الشبهات، و أشدّ ملازمة علی ملازمة التقوي و العبادات.

حتّی أن ّجماعة منهم كانت بطون أكفّهم قد صارت كقمعات البعير لكثرة صلاتهم، و كانوا يعرفون بالمتّقين، و منهم من كانت مثل ركبة البعير، كعلي بن مهزيار، و أمثال هؤلاء، و أقرب إلي الاحتياط في كثير من الأحكام، كما هو معلوم بالاستقراء، و أعرف بالشريعة؛ لأن ّ خواص ّ كل ّ نبي لم يزالوا أعرف بشريعته و أقرب إلی الحق ّ من أكثر امّته؛ لأنّهم أخذوا مذاهبهم عن معدن العصمة.

و مع هذا فقد كانوا يصفونهم بالهدآية و الورع و الأمانة، و لم يصدر منهم تعصّب في خلاف الحق ّ، كما صدر من غيرهم، هذا.

و قد وردت النصوص النبوية(1) بأنّهم هم المعنيون بالفرقة الناجية، و هذا هو المعيار عند ذوي البصائر و الأبصار، فإن ّ مجرّد كثرة الذاهبين إلی قول لا يصلح أن يكون دليلا علی حقّيته، و إلّا لزم أن لا يكون النبي أحق ّبالاتّباع في ابتداء بعثته، و بطلان اللازم دليل بطلان الملزوم.

و لقد أنصف العضدي و كان من أجلّاء علمائهم بما أورده في شرحه لمختصر الاصول، بعد ذكر القياس و احتجاج الشيعة علی منعه بإجماع العترة علي عدم

ص:208


1- الطرائف ص 429-430.

حجّيته، و إيراد اعتراض لمخالفيهم بمنع إجماع العترة علی ذلك، من أن هذا المنع غير مسموع؛ لأنّهم أعلم بمذاهب أئمّتهم، و نقلهم عنهم مقبول.

و قد روی من العامّة مجاهد، عن زادان، عن علي عليه السلام، قال في قوله تعالی:

«وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» (1): هم أنا و شيعتي و أنّهم الناجون من هذه الامّة(2).

فكيف لم يلتفتوا إلی خلافهم فيما انفردوا به، و لم يعتقدوا أنّهم أحق ّبالأمر، و لم يعتبروا إجماع علمائهم في إجماع العلماء، و إجماع عامّتهم في إجماع الامّة، بل حصروا المذاهب في أقوال أربعة ليسوا من الصحابة، و لا من الذين لقوا الصحابة، بل تجدّدوا في عصر المنصور العبّاسي، هم: النعمان بن ثابت المكنّي بأبي حنيفة، و مالك، و محمّد بن إدريس الشافعي، و أحمد بن حنبل، مع أن ّ كثير من الناس كان أفضل منهم.

و اعتقدوا صواب الكل ّ مع عظيم اختلافهم؛ إذ كان مدار مذاهبهم علی الرأي و القياس و الاستحسان، و لذلك أقدموا علی إحداثهم أقوالا تنكرها العقول، و لم يرد بها المنقول.

و ليت شعائري إن كان معتقدهم أن ّ الشريعة ما كانت كاملة في حياة الرسول صلی اللّه عليه و آله، و إنّما تمّموها بعد و فاته، فذلك يخالف صريح قوله تعالی: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ

ص:209


1- سورة الأعراف: 181.
2- كشف الغمّة للأربلي 321:1، المناقب لابن شهرآشوب 72:3، بحار الأنوار 146:24، وغيرها.

دِينِكُمْ» (1) و إن اعتقدوا أنّها كانت تامّة، فما السبب في و قوع هذا الاختلاف الفاحش منهم؟

و كيف اختاروا الانتساب إليهم علی الانتساب إلي نبيّنا و أهل بيته الأصفياء عليهم أفضل الصلاة و الثناء؟ و جعلوا مذاهبهم بأسمائهم دون إسم أحد من عترته، أو إسم أحد من صحابته، مع ما كان لهم في إيثار العكس من الشرف و القرب إلی تعظيم(2) نبوّته و إظهار حرمته.

و منعوا الناس قاطبة من الاجتهاد إلّابما يوافق رأي أحد هؤلاء الذين لم يوافقوا الشيعة في تسمية مذهبهم باسم مولانا جعفر الصادق عليه السلام، و في عدّ أنفسهم جعفرية تارة، و اثناعشرية تارة اخری.

مع أن ّ المنع المذكور منهم في الحقيقة راجع إلی التقليد المذموم في عدّة مواضع من القرآن المجيد، تعليلا(3) بأنّه من شبهة كل ّ كافر عنيد، فالويل لهم من نار الوعيد، يقول لجهنّم: «هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» (4).

و ما ذلك إلّا مثل قول الظاهرية بأن ّ إجماع الصحابة حجّة دون إجماع غيرهم، فكما أن ّ هؤلاء عدلوا عن عموم أدلّة حجّية الإجماع، فكذا اولئك عدلوا عن عموم قوله تعالی: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ

ص:210


1- سورة المائدة: 3.
2- في «ف»: لتعظيم.
3- في «ف»: معلّلا.
4- سورة ق: 30.

إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (1) و عن عموم ما تظافرت به روآيات الفريقين.

و ممّن رواه من العامّة الحميدي، و هو قول النبي صلی اللّه عليه و آله: من اجتهد فأصاب فله أجران، و من اجتهد فأخطأ فله أجر واحد(2).

و عن عموم وجوب الاجتهاد: إمّا عينا، أو كفاية، و الأصل عدم التقييد بما يوافق رأي أحد هؤلاء الذين قد كفّر بعضهم بعضا، كما ينطق به قول الشافعي في مسنده: إن ّ أباحنيفة استتيب من الكفر مرّتين، فكيف يجوز لمسلم الإصغاء إلی شيء من أقوالهم الباطلة طرفة عين؟

الوجه الثاني عشر: الآيات الكريمة الدالّة علي اتّحاد مفهوم الإيمان و الإسلام

و هي كثيرة جدّا، كقوله تعالی: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» (3) و قوله سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ» (4) لدلالته علی انحصار الدين المعتبر في الإسلام، فلو غايره الإيمان مفهوما لما كان دينا مقبولا و لا معتبرا، لكن التالي باطل إجماعا، فالمقدّم مثله.

و كذا قوله جل ّ ثناؤه: «فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (5) فإنّه لو لا اتّحاد مفهوم اللفظين المذكورين لم يستقم

ص:211


1- سورة التوبة: 122.
2- الصراط المستقيم 236:3، عوالي اللئالي 63:4.
3- سورة آل عمران: 85.
4- سورة آل عمران: 19.
5- سورة الذاريات: 35-36.

الاستثناء الموضوع للمتّصل حقيقة و للمنقطع مجازا، و قد اعترف الزمخشري في الكشّاف بأن ّ في هذه الآية دلالة علی ذلك دلالة ظاهرة(1).

و كذا قوله جل ّ و علا: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَی الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» (2) فإنّه لو لا اتّحاد مفهوما، بأن يكون مفهوم الإسلام أعم ّ؛ إذ لا قائل بالعكس قطعا، لكان الأنسب الامتنان علی المسلمين بالإسلام؛ لما تقرّر في الاصول أن ّ الامتنان بالأعم ّ أولي.

و كذا قوله جل ّ ذكره: «وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ» (3) فإنّه قد وقع الكفر مقابلا للايمان، و ذلك يقتضي الاتّحاد المذكور.

و كذا قوله عزّوجل ّ: «يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» (4)«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (5) فإنّه لو لا الاتّحاد المذكور لكان هنا قسم آخر، لكن التالي باطل؛ لأن ّ ظاهر التقسيم ينفيه، و لأنّه في معرض الامتنان، فلو كان لذكره.

و نحو ذلك قوله تبارك اسمه: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (6)إلي غير

ص:212


1- الكشّاف للزمخشري 19:4، قال: و فيه دليل علی أن ّ الايمان و الاسلام واحد، و أنّهما صفتا مدح.
2- سورة النساء: 141.
3- سورة البقرة: 108.
4- سورة النساء: 1.
5- سورة التغابن: 2.
6- سورة الشوری: 7.

ذلك من الآيات الدلّة علی المدّعی، و هي أكثر من أن تحصی.

علی أنّه قد ثبت أن ّ الكفر ملّة واحدة، فيكون الإسلام أيضا ملّة واحدة، و من ثم نقل الإجماع علی الاتّحاد المذكور، نقله من علمائنا الثقة أبوعلي الطبرسي في مجمع البيان، و من علمائهم فخرالدين الرازي في تفسيره الكبير، و كذا غيرهما.

و إليه يلوح تعريف بعض الأجلّاء الماهرين، كنصير الملّة و الدين محمّد بن الحسن الطوسي في التجريد: الكفر يعدم(1) الإيمان: إمّا مع الضدّ، أو بدونه(2).

و صرّح في قواعد العقائد بأن ّ الإسلام أعم ّ من الإيمان في الحكم، مساو له في الحقيقة(3). و وافقه علی هذا الشهيد محمّد بن مكّي في الذكري(4)، و علی ما في التجريد مصنّف تلخيص المعاني و البيان، و التفتازاني في شرحيه المطوّل و مختصره، و غيرهما.

نعم خالف في ذلك بعض الحشوية و بعض المعتزلة، متمسّكين بإثبات أحدهما و نفي الآخر في قوله تعالی: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا» (5) و بعطف أحدهما علی الآخر في قوله سبحانه: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» (6) و قوله عزّوجل ّ: «وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً

ص:213


1- في التجريد: عدم.
2- تجريد الاعتقاد ص 309.
3- قواعد العقائد للخواجه نصيرالدين الطوسي ص 466.
4- ذكري الشيعة 388:4.
5- سورة الحجرات: 14.
6- سورة الأحزاب: 35.

وَ تَسْلِيماً» (1) و نحو ذلك.

و الجواب عن الاولی : أن ّ المراد بالإسلام فيها معناه اللغوي و هو الانقياد، و لمّا حصل من المنافقين الانقياد في الظاهر حصل منهم الإسلام ظاهرا، فكان التقدير: قل لم تسلموا في الباطن، و لكن قولوا أسلمنا في الظاهر.

و أولوية تأويل هذه الآية بذلك علی تأويل الآيات المتقدّمة به متحقّقة؛ إذ لا يمكن حمل الآيات الاول علی الوضع اللغوي؛ لما تقدّم من اشتمال بعضها علی عدم اعتبار دين سوي دين الإسلام، فلو حمل الإسلام علی الوضع اللغوي، لزم أن لا يعتبر الإسلام بالعرف الشرعي، و ليس كذلك إجماعا.

و لا يمكن إرادة الوضع اللغوي، ليرد أنّه لا محذور في أن لا يعتبر الإسلام بالعرف الشرعي إذا كان المراد منها الإسلام بالوضع اللغوي؛ لثبوت نقله شرعا، و المنقول إليه هو المتبادر قطعا، و وقوع النزاع في وجود الحقيقة الشرعية إن كان في عدم النقل شرعا، أو في ثبوته، و إرادة المنقول إليه لغة فهو مكابرة، و إن كان في عدّ المنقول إليه منجازا، فذلك لا ينافي كونه حقيقة شرعية بمقتضي وجود الخواص ّ.

و عن الثانية و الثالثة: أن ّ تغاير المفهوم في الجملة كاف في العطف، مع أنّه قد يكون للتفسير، كما في قوله تعالی: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ» (2).

إذا تقرّر هذا، فنقول: لمّا انتفي الإيمان عن كل ّ من خالف الحق ّ الشريف الذي أشرنا إليه، إنتفی عنهم الإسلام لا محالة، بناء علی قول الأكثر، بل المجمع عليه،

ص:214


1- سورة الأحزاب: 22.
2- سورة البقرة: 157.

و لهذا ذهب إلی الحكم بكفرهم جمع كثير من الفضلاء، و جم ّ غفير من العلماء.

و ممّن ادّعی كثرة الذاهبين إليه العلّامة في كتاب أنوار الملكوت في شرح الياقوت في الكلام(1).

و لنصرّح بأسمائهم، و نورد عباراتهم الناطقة بذلك إيضاحا للمرام.

فنقول: ممّن صرّح به السيّد المرتضی علم اللّه قدّس اللّه روحه.

و قد أشار والدي - طيّب اللّه مضجعه - إلی إيثار هذا القول في غير موضع من رسالته الموسومة ب «نفحات اللاهوت في لعن الجبت و الطاغوت» ثم ّ إنّه بعد أن نقل بدعهم و بدع رؤساء نحلتهم الموجبة لكفرهم و مروقهم من الدين، قال في آخرها: فما أحقّهم بمقالة سيّدنا الشريف المرتضی - رضوان اللّه عليه - و قد حكم بتكفير كل ّ من خالف الحق ّ الذي أشرنا إليه(2).

و هو مذهب الشيخ الجليل محمّد بن إدريس، فإنّه قال في السرائر في باب السؤر: الكافر من خالف المؤمن(3).

و الشيخ السعيد أبو عبد اللّه المفيد، فإنّه قال في المقنعة: و لا يجوز لأحد من أهل الإيمان أن يغسّل مخالفا للحق ّفي الولاية، و لا يصلّی عليه، إلّاأن تدعوه ضرورة إلی ذلك من جهة التقاة، فيغسّله تغسيل أهل الخلاف، و لا يترك معه الجريدة، و إذا صلّی عليه لعنه في صلاته، و لا يدع له فيها(4).

ص:215


1- أنوار الملكوت في شرح الياقوت ص 202.
2- نفحات اللاهوت للمحقّق الكركي ص 137 طبع مكتبة نينوي.
3- السرائر 84:1.
4- المقنعة للشيخ المفيد ص 85.

و احتجّ له الشيخ أبوجعفر الطوسي في تهذيب الأحكام الذي هو بمنزلة الشرح للكتاب المذكور، بأن ّ المخالف لأهل الحق ّ كافر، فيجب أن يكون حكمه حكم الكفّار إلّافيما خرج بالدليل، و إذا كان غسل الكافر لا يجوز، فيجب أن يكون غسل المخالف أيضا غير جائز، و أمّا الصلاة عليه، فتكون علی حدّ ما كان يصلّي النبي صلی اللّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السلام علی المنافقين(1).

و قال التقي أبوالصلاح الحلبي: لا تجوز الصلاة علی المخالف لجبر، أو تشبيه، أو اعتزال، أو خارجية، أو إنكار إمامة، إلّالتقاة، فإن فعل لعنه بعد الرابعة و انصرف(2).

و قال ابن إدريس: لا تجب الصلاة إلّا علی المعتقد للحق ّ و من بحكمه كابن ست سنين و المستضعف، محتجّا بكفر غير المحق ّ(3). فإذا مراده بعدم الوجوب عدم الجواز، إطلاقا للخاص ّ علی العام ّ، بقرينة أن ّ هذه الصلاة متي جازت علی من ذكر وجبت.

و منع الشيخ في المبسوط من الصلاة علی الباغي لكفره(4)، و إن أوجبها عليه في الخلاف(5)، محتجّا بالعمومات. و شرط سلّار بن عبدالعزيز الديلمي في الغسل

ص:216


1- تهذيب الأحكام 335:1.
2- الكافي لأبي الصلاح الحلبي ص 157.
3- السرائر 356:1، قال: و يعضده القرآن، و هو قوله تعالی «وَ لا تُصَلِّ عَلی أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ» يعني الكفّار، و المخالف للحق ّ كافر بلا خلاف بيننا.
4- المبسوط 182:1، قال: قتيل أهل البغي لا يغسّل و لا يصلّی عليه لأنّه كافر.
5- الخلاف 714:1 مسألة 524، و الظاهر منه عدم الوجوب، قال: إذا قتل رجل من اهل العدل رجلا من اهل البغي فانه لا يغسل و لا يصلی عليه و به قال ابوحنيفه و قال الشافعي يغسل و يصلی عليه و دليلنا علی ذلك انه قد ثبت انه كافر بادله ليس هذا موضع ذكرها و لا يصلی علی كافر بلا خلاف.

اعتقاد الميّت للحق ّ(1)، و يلزمه مثل ذلك في الصلاة.

و قال علی بن الجنيد: يصلّی علی سائر أهل القبلة ممّن لم يخرج منها بقول أو فعل. و هو يقتضي كفر المخالفين الخارجين منها بأحد الأمرين.

و قال الشهيد في الألفية: فمن لم يعتقد ما ذكرناه و لم يأخذ كما و صفناه فلا صلاة له(2). و هو يقتضی أيضا كفر المخالفين؛ لأن ّ اعتقادهم لا يوافق ما ذكر من اعتقاد الإمامية، و لعدم أخذهم بالوصف المذكور؛ لما تقدّم من حصرهم الاجتهاد في الأربعة المذكورين، و منع غيرهم منه إلّابما يوافق رأي أحدهم، و هو في الحقيقة راجع إلي التقليد.

ألا تري أنّهم أهملوا اعتبار قول من خالفهم، حتّي أنّهم لم يعدّونه من قبيل الخطأ المسامح به في الاجتهاد، مع ما رووا في صحاحهم أن ّ من اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، و «من» من أدوات العموم، و مع ما تقرّر لديهم من المنع من ما تقليد الأموات.

و أيضا ذهبوا إلی أن ّ كل ّ مجتهد مصيب.

و أيضا ذهب منهم بعض معتزلة بغداد إلی المنع من التقليد في فروع الشريعة كاصولها، و أوجبوا الاجتهاد علی الأعيان، فلو جعلوا لغيرهم الاجتهاد بما يؤدّي

ص:217


1- المراسم لسلاّر الديلمي ص 45.
2- الرسالة الألفية ص 162، المطبوعة في مجموعة رسائل الشهيد الأوّل.

إليه رأيه لحكموا بجوازه و صوابه إذا أدّي رأيه إلی خلاف آرائهم.

و قد نقل في الدروس عن الحسن بن أبي عقيل المنع من الصدقة علی غير المؤمن و لو كانت ندبا، و إن جوّزها هو علی غير الناصب(1). و لا خلاف أن الزكاة الواجبة لا يجوز دفعها إلی المخالف و إن لم يكن ناصبا.

و نقل المقداد بن عبد اللّه السيوري في التنقيح عن أكثر علمائنا المنع في نيابة الجّ عن المخالف عدا الأب، و عن ابن إدريس المنع مطلقا، و عن الشهيد الجواز في غير الناصب(2).

و حجّتهم القول بكفره، و استثناء الأب؛ لقوله تعالی: «وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» (3).

و نقل العلّامة في المختلف عن أبي الصلاح المنع من ذبيحة جاحد النصّ. و عن ابن البرّاج المنع من ذبيحة غير أهل الحقّ. و عن ابن حمزة اشتراط أن يكون مؤمناً أو في حكمه؛ لقول أبي الحسن عليه السلام لزكريا بن آدم: إنّي أنهاك عن ذبيحة من كان علی خلاف الذي أنت عليه وأصحابك إلّافي وقت الضرورة. و هو مذهب ابن إدريس(4).

و عليه نزّل قول الشيخ في النهاية: ولا يتولّي الذباحة إلّا أهل الحقّ، فإن تولّاها

ص:218


1- الدروس 255:1، طبع جماعة المدرّسين.
2- تنقيح الرائع للفاضل المقداد 425:1.
3- سورة لقمان: 15.
4- مختلف الشيعة 300:8.

غيرهم وكان ممّن لا يعرف بعداوة آل محمّد صلی اللّه عليه و آله لم يكن بأس بأكل ذبيحته(1).

وذلك لأنّه قال(2): إنّ مراده ب «غيرهم» المستضعفين الذين لا منّا و لا من مخالفينا، و صحيح أنّهم غيرنا(3).

و قد قصّر جمع من علمائنا المنع علی ذبيحة الناصب، و كذا علي اصطياده، و اُصول المذهب تقتضي العموم.

و نقل أيضاً في المختلف عن المفيد: إنّ المؤمن يرث أهل البدع من المعتزلة و المرجئة و الخوارج و الحشوية، و لا ترث هذه الفرق أحداً من أهل الإيمان، كما يرث المسلم الكافر، و لا يرث الكافر أحداً من أهل الإسلام(4).

و الحاصل أنّ الأكثر قد ساووا بين المخالف و الكافر في سائر فروع الشريعة إلّا فيما أخرجه الدليل، و من ذلك زيادة علی ما تقدّم تحريم نكاح المخالف المؤمنة كالكافر، و المنع من حفظ كتب أهل الخلاف كالتوراة والإنجيل، و وجوب الهجرة من بلد أهل الخلاف كبلد الشرك، و عدم صحّة تغسيل المخالف المؤمن كالكافر، و كون التكبيرات عليه أربعاً كالمنافق إلّاأن يريد لعنه فيكبّر الخامسة.

و عدم قضائه العبادات إلّا الزكاة، فإنّه يعيدها إذا استبصر؛ لأنّها بمنزلة الدين و قد دفعه إلی غير مستحقّه، بخلاف باقي العبادات، فإنّها حقّ اللّه تعالی و قد أسقطها عنه، و نحو ذلك كثير.

ص:219


1- النهاية للشيخ الطوسي ص 582.
2- أي: ابن إدريس الحلّي.
3- السرائر 106:3.
4- مختلف الشيعة 58:9.

و إن ضعف وجه المساواة هنا، فإنّ الكافر لا يستدرك الزكاة، و إن دفعها إلی أهل نحلته، بل وإن لم يدفعها إلی أحد أصلاً؛ لعموم قوله تعالی: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» (1) وقول النبي صلی اللّه عليه و آله: الإسلام يجبّ ما قبله(2).

لكن لمّا كانت أحكام الكفّار في الأصل مختلفة، فإنّ منهم من يقرّ علی كفره وتؤخذ منه الجزية، و منهم من ليس بهذه المثابة، جاز أن يكون منهم من لا تسقط عنه الزكاة إذا دفعها إلی أهل ملّته؛ لأنّ الشرع لا ينكر فيه مثل هذا النوع من الاختلاف، و قد اتّفقت كلمتهم علی أنّ الناصب كافر؛ لتظافر النصوص بذلك.

فمن ذلك: ما رواه الشيخ في التهذيب، عن المعلّي بن خنيس، قال: قال أبوعبداللّه عليه السلام: خذ مال الناصب حيث ما وجدته و ادفع إلينا الخمس(3).

و عن إسحاق بن عمّار، قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: مال الناصب و كلّ شيء يملكه حلال لك إلّاامرأته، فإنّ نكاح أهل الشرك جائز، و ذلك أنّ رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله قال: لا تسبّوا أهل الشرك، فإنّ لكلّ قوم نكاحاً، و لولا أنّا نخاف عليكم أن يقتل رجل منكم برجل منهم، و رجل منكم خير من ألف رجل منهم و مائة ألف منهم، لأمرناكم بالقتل لهم، و لكن ذلك(4) إلي الإمام(5).

و هذا الحديث فيه إيماء إلي أنّ الناصب مشرك.

ص:220


1- سورة الأنفال: 38.
2- عوالي اللئالي 224:2.
3- تهذيب الأحكام 122:4-123 برقم: 350 و 351.
4- في النسختين: ذلك الأمر.
5- تهذيب الأحكام 387:6 برقم: 1154.

و يزيده بياناً ما رواه علی بن إسماعيل الميثمي، عن ربعي، عن الفضيل، عن أبي جعفر عليه السلام قال: دخل رجل محظور عظيم البطن، فجلس معه علی سريره، فحيّا و رحّب به، فلمّا قام قال: هذا من الخوارج فما هو؟ قلت: مشرك، فقال مشرك واللّه إي واللّه مشرك(1).

قلت: السرّ في تسمية مثله مشركاً كونه أضاف ما أنكره من الدين إلی غير اللّه عزّوجلّ، وهذا هو الشرك بعينه.

و إليه يرشد قول الجوهري و غيره من أئمّة اللغة: الشرك هو الكفر باللّه سبحانه(2).

و قد تقدّم في الوجه السادس أنّ أغلبهم نصبة، و ليس صلاتهم إلی القبلة، و لا إظهارهم كلمتي الشهادة موجبين لإسلامهم أصلاً؛ لوقوعهما ممّن يحذو حذوهم في إنكار ما علم كونه من الدين ضرورة.

نعم إنّما يوجبانه مع التصديق بجميع ما جاء به النبي صلی اللّه عليه و آله مع الإقرار باللسان، و الضرورة قاضية بوقوع خلافه منهم كما أوضحناه، و قوله عليه السلام: امرت أن اقاتل الناس حتّی يقولوا لا إله إلّااللّه، محمّد رسول اللّه، فإذا قالوا ذلك حقنوا دماءهم(3). منزل علی ما إذا لم يحصل منهم إنكار شيء من ضرورياته، بدليل أنّ النبي صلی اللّه عليه و آله لم يقبلهما من مشرك إلّامع الإقرار بحكم الكتاب والسنّة واعتقاد ما فيه.

و كذا ما ورد من كون الميزان الذي يوضعان فيه لا يخف، منزل علی ما إذا كانتا

ص:221


1- اصول الكافي 387:2 ح 14.
2- صحاح اللغة للجوهري 1593:4.
3- عوالي اللئالي 153:1.

مقبولتين، أي: مخلصاً بهما بشرائطهما.

و يؤيّده ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام، عن إسحاق بن راهويه، عنه عليه السلام، قال: من قال لا إله إلّااللّه دخل الجنّة، ثمّ سكت قليلاً و قال: بشروطها، و أنا من شروطها(1).

يريد عليه السلام بذلك الإقرار له بأنّه إمام من قبل اللّه عزّوجلّ علی العباد مفترض الطاعة عليهم.

و عن أبي الحسين بن أحمد، عن أبيه، عن جدّه، قال: سمعته عليه السلام يقول: لا إله إلّا اللّه اسمي، من قاله مخلصاً من قبله دخل حصني، و من دخل حصني أمن من عذابي(2). يريد بالإخلاص أنّه يحجزه هذا القول عمّا حرّم اللّه عزّوجلّ.

و روي في الأمالي، عن علي بن بلال، عن الرضا عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليه السلام، عن النبي صلي اللّه عليه و آله، عن جبرئيل، عن ميكائيل، عن إسرافيل، عن اللوح، عن القلم، قال: يقول اللّه عزّوجلّ: ولاية علي بن أبي طالب حصني، فمن دخل حصني أمن ناري(3).

و روی ابن المغازلي الشافعي في مناقبه، عن ابن عبّاس، قال: كنت عند النبي صلی اللّه عليه و آله إذ أقبل علي عليه السلام غضبان، فقال له النبي صلی اللّه عليه و آله: ما أغضبك؟ فقال: آذوني فيك بنو عمّك، فقام رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله مغضباً: فقال: أيّها الناس من آذي علياً فقد آذاني، إنّ علياً أوّلكم إيماناً، و أوفاكم بعهد اللّه، أيّها الناس من آذي علياً بعث يوم القيامة

ص:222


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 135:2 ح 4.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 137:2 ح 2.
3- الأمالي للشيخ الصدوق ص 306 برقم: 350.

يهودياً أو نصرانياً، فقال جابر: يا رسول اللّه و إن شهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّك محمّد رسول اللّه؟ فقال: يا جابر كلمة يحتجزون بها عن سفك دمائهم و أموالهم، و عن إعطاء الجزية عن يد و هم صاغرون(1).

و هو ناطق بأنّ إيذاءه يوجب الدخول في زمرة الكافرين من اليهود والنصاري.

و قد أوضحنا فيما تقدّم أنّ ديدنهم إيذاءه في مثل تفضيلهم غيره عليه، و منهم حقّه، و استصغارهم قدره، و احتقارهم إيمانه بأنّه إيمان صبي، و عيبهم إيّاه بأنّ له دعابة(2).

و أوّل من نسب الدعابة إليه عمر بن الخطّاب، ثمّ انتشر ذلك في أفواه أعدائه، كمعاوية بن هند، و عمرو ابن النابغة، حتّي قال عليه السلام عجباً لابن النابغة يزعم لأهل الشام أنّ فيّ دعابة، و أنّي امرء تلعابة، اعافس و اُمارس، لقد قال باطلاً، و نطق آثماً(3).

ثمّ نسبها إليه هؤلاء الفرقة المضلّون، و أيّ إيذاء أشدّ من العيب و التنقّص لو كانوا يعلمون، و افتروا علی الرسول صلی اللّه عليه و آله عدّة أخبار تتضمّن تصريحه بذمّه.

فمن ذلك: ما رواه الكرابيسي من أنّه خطب بنت أبي جهل، فبلغ فاطمة عليها السلام فشكته إليه سلام اللّه عليه، فقام علی المنبر قائلاً: إنّ علياً آذاني يخطب بنت عدوّ اللّه ليجمع بينها و بين فاطمة. الحديث(4). واللّه يشهد أنّهم لكاذبون.

ص:223


1- المناقب لابن المغازلي ص 52 برقم: 76.
2- الدعابة: المزاح.
3- نهج البلاغة ص 115 رقم الخطبة: 115.
4- الصراط المستقيم 293:2، تنزيه الأنبياء ص 167.

و كيف سوّغوا لأنفسهم قبول مثل هذه الرواية المنكرة المشتملة علی إنكار ما الشريعة واردة بإباحته علی من لم يعهد منه خلاف له في أمر من الاُمور، سيّما من هذا الراوي المشهور بالتظاهر بعداوته و مناصبته، والإزراء علی فضائله و مآثره، قد رووا في صحاحهم أنّ رؤساءهم كانوا علی نهجهم في التنقّص لقدره.

فمن ذلك: ما رواه البخاري و مسلم في صحيحهما، من قول عمر لعلي عليه السلام و العبّاس، ما هذا لفظه: فلمّا توفّي رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله قال أبوبكر: أنا ولي اللّه، فجئتما أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك، و هذا يطلب ميراث امرأته من أبيها، فقال أبوبكر: قال رسول اللّه صلی اللّه عليه و آله: لا نورّث ما تركناه صدقة، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً، واللّه يعلم أنّه لصادق بارّ راشد تابع للحقّ، ثمّ توفّي أبوبكر، فقلت: أنا ولي اللّه و ولي أبي بكر، فرأيتماني كاذباً غادراً خائناً، و اللّه يعلم أنّي لصادق بارّ تابع للحقّ(1).

و ذلك لتضمّنها إقرارهم علی رؤسائهم بتنزيلهم إيّاه منزلة آحاد الرعية الذين يلزمهم التحاكم إلی الرئيس، و الإشارة إليه بلفظ «هذا» كما يشير به أحدنا إلي مثله.

و كذا تضمّنت إقرارهم علی رئيسهم العدوي باستخفافه لقدر النبي صلی اللّه عليه و آله؛ لأنّه كنّي عنه بابن الأخ وبالأب، مع أنّ اللّه تعالی إنّما كان يخاطبه بصفاته، مثل يا أيّها المزمّل تعظيماً لشأنه، و نادي غيره من الأنبياء بأسمائهم، و لم يذكره باسمه إلّافي أربعة مواطن شهد له فيها بالرسالة، لضرورة تعيينه بالاسم إظهاراً لمرتبته، و بياناً لمزيته.

ص:224


1- صحيح مسلم 1378:3 كتاب الجهاد، الطرائف ص 270-271.

و كذا تضمّنت اعترافهم باستخفافه لقدر سيّدة نساء العالمين و سيّدة نساء أهل الجنّة؛ لأنّه كنّي عنها بالمرأة.

و بتزكيته لنفسه كالعدوي، مع أنّ اللّه تعالی نهي عن تزكية النفس بقوله: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» (1) و بأنّ علياً عليه السلام و العبّاس كان اعتقادهما فيهما الكذب و الغدر والخيانة، وقد تضمّن القرآن المجيد: «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّهِ» (2) ونطق بأنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّاناً أثيماً(3).

و قد مضی تحقير عمر إيّاه بقوله لابن عبّاس «كيف خلّفت بني عمّك»(4) وقوله «ما منعهم منه إلّااستصغروه»(5) ونحو ذلك.

و وقع أيضاً من أبي بكر إيذاؤه بنحو تكذيب شهادته و شهادة ابنيه الحسنين عليه و عليهما السلام لفاطمة بأنّ النبي صلی اللّه عليه و آله أنحلها فدكاً، مع أنّهم بتقدّمهم عليه كذّبوا بولايته، و بأنّ الحقّ له، و بأنّه المنصوص عليه بالخلافة بلا فصل، كما كذّب بها أولياءهم أيضاً بتقديمهم لهم عليه، و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلماً و علوّاً، وذلك من أعظم الاستخفاف به.

و كذا كذّبوا النصوص الناطقة بأنّه نصّ علی واحد واحد من أبنائه المعصومين عليهم السلام؛ لأنّهم رووا أنّه مات بغير وصية، و أنّه قال: ما أوصی رسول اللّه

ص:225


1- سورة النجم: 32.
2- سورة النحل: 105.
3- سورة النساء: 107.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 20:12-21.
5- كشف الغمّة 419:1.

حتّي أوصی، مع أنّهم رووا أنّه من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية(1).

و في هذا و أمثاله من الدلالة علی حرصهم علی الطعن عليه، و مبالغتهم في إيذائه، اقتفاءٌ بأثر رؤساء نحلتهم ما هو كافٍ في لزوم كفرهم و إلحادهم و عتوّهم و عنادهم.

و لهذا كان ما ذهب إليه الأكثر هو الراجح عندي، و عليه اعوّل، و به أفتي، و هل جهلتهم كعلمائهم في هذا الحكم ينبغي ذلك كما في جهلة الكفّار؛ لتركهم النظر في حجج اللّه حتّی يعلموا، كما رغب سائر الكفّار عن ذلك بإيثارهم تقليد الآباء، و لأنّ الجهل ليس عذراً في الدين، و إلّا لأمكن التأويل لمن تكلّم بكلمة الكفر بإمكان غفلته عمّا هو الدين، و لكان منكر وجوب الصلاة إذا ادّعی عدم الاطّلاع علی وجوبها تقبّل دعواه، و لو كان ممّن نشأ بين المسلمين، و لكان ذلك عذراً لكلّ من فعل ما يوجب حدّاً أو تعزيراً، و بطلانه ضروري.

قال فخرالدين الرازي في المحصول في باب عدم قبول رواية المبتدع المحكوم بكفره و هو لا يعلم أنّه كافر: أقصي ما في الباب أن يقال: هذا الكافر جاهل بكونه كافراً، لكنّه لا يصلح عذراً؛ لأنّه كافر ضمّ إلی كفره جهل آخر، و ذلك لا يوصف برجحان حاله علی الكافر الأصلی، علی أنّه لو كان الجهل عذراً في أُصول الشريعة لكان في فروعها كذلك بطريق أولی، و قد نصّوا علی العدم إلّافيما استثني، كالجهر و الإخفات، والقصر والتمام.

و حيث بلغ الكلام إلی هذا المقام، و حصل نيل المرام، فلنحبس عنان البراعة علی هذا المقدار، حامدين للّه سبحانه علی نعمه الغزّار، مصلّين علي أشرف أنبيائه

ص:226


1- الطرائف ص 382 عنهم.

و خاتمهم محمّد و آله الأطهار.

و فرغ من تسويدها مؤلّفها الفقير إلی اللّه المتعالي حسن بن علي بن عبدالعالي بلّغه اللّه ما يؤمله، بمشهد ثامن أئمّة الهدی سبط النبي المصطفی و ابن الوصي المرتضی علي بن موسي الرضا عليه من اللّه أفضل التحية والثناء، في غرّة شهر ذي القعدة من شهور سنة اثنين و سبعين و تسعمائة من الهجرة النبوية علی من شرّفت بنسبتها إليه أطائب الصلاة و السلام و التحية.

و جاء في آخر نسخة الفاضل الأفندي: و قد تمّ اكتتاب هذه الرسالة الشريفة في أوائل شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة سبع و خمسين وألف من الهجرة النبوية المصطفوية عليه و آله الصلاة و التحية، و الحمد للّه علی إتمامه.

و تمّ استنساخ هذا الكتاب تحقيقاً و تصحيحاً وتعليقاً عليه في يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الثاني سنة (1427) ه علی يد العبد الفقير السيّد مهدي الرجائي عفي عنه في بلدة قم المقدّسة حرم أهل البيت و عشّ آل محمّد عليهم السلام.

ص:227

ص:228

فهرس الكتاب

مقدّمة المحقّق ... 3

الأساس في الخلاف ... 4

الأسباب و الدوافع ... 7

الانحراف الذاني ... 10

الحسد ... 14

الحقد الدفين ... 15

الطمع في الحطام ... 18

الجهل ... 19

الإعلام المضادّ ... 20

مظلومية الشيعة ... 24

علماء الشيعة ... 24

حياة المؤلّف، اسمه ونسبه ... 26

الإطراء عليه ... 27

آثاره القيمة ... 28

حول الكتاب ... 29

ص:229

الصفحة الاُولی من النسختين المخطوطتين ... 31

عمدة المقال في كفر أهل الضلال ... 33

مقدّمة المؤلّف ... 35

ذكر وجوه كفر أهل الضلال ... 36

تكذيبهم ما شهد به العقل والنقل من عصمة الأنبياء عليهم السلام ... 36

عدم إقرارهم بعموم إمامة مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام ... 48

عدم إقرارهم بإمامة الأئمّة الأحد عشر المعصومين من أبنائه عليهم السلام ... 91

عدم التزامهم بما القران المجيد والسنّة المطهّرة مشحونان بوجوبه ... 105

شدّة توغّلهم في العناد في الدين ... 124

خروجهم عن طاعة الإمام الحقّ ... 155

خلودهم في النار كالخلود الثابت لسائر الكفّار ... 157

قولهم بأنّ مسألة الإمامة فرعية ... 162

تغييرهم للشريعة ورفضهم إيّاها معاندة للشيعة ... 170

مكابرتهم في الضروريات ومعاندتهم في الأوّليات ... 175

قولهم بعدم اعتبار اجماع أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وعصمهم من دنس الإنس وإهمالهم الرواية عنهم ... 198

الآيات الكريمة الدالّة علي اتّحاد مفهوم الإيمان والاسلام ... 211

فهرس الكتاب ... 229

ص:230

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.