الحسین الوسیط. دراسة تحلیلیّة بنیویّة لواقعة کربلاء

اشارة

مصدر الفهرسة: IQ – KaPLI ara IQ –KaPLI rda

رقم الاستدعاء: BP41.5 .H35 2017

المؤلف الشخصی: هایلین، تورستن، مؤلف.

العنوان: الحسین الوسیط. دراسة تحلیلیّة بنیویّة لواقعة کربلاء.

بیان المسؤولیة: تألیف: تورستن هایلین، ترجمة: بدر الشاهین، عبد الله الشاهین؛ تحقیق: رائد علی، محمد صالح.

بیانات الطبعة: الطبعة الأولی.

بیانات النشر : النجف، العراق : العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة، مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة، 2017 م/ 1438 للهجرة.

الوصف المادی: 408 صفحة ؛ 24 سم.

سلسلة النشر: مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة.

تبصرة ببلیوغرافیة: یحتوی علی هوامش، لائحة المصادر الصفحات (369-404).

تبصرة عامة: یحتوی علی ملاحق.

موضوع شخصی: ابن جریر الطبری، محمّد بن جریر بن یزید (224-310) للهجرة - تاریخ الطبری.

موضوع شخصی: الحسین بن علی الشهید(علیه السّلام)، الإمام الثالث، 4-61 للهجرة - والمستشرقین.

موضوع شخصی: الحسین بن علی الشهید(علیه السّلام)، الإمام الثالث، 4-61 للهجرة - واقعة کربلاء، 61 للهجرة.

مصطلح موضوعی: واقعة کربلاء، 61 للهجرة - دراسة حالة.

مصطلح موضوعی: واقعة کربلاء، 61 للهجرة - أسباب ونتائج.

مؤلف إضافی: الشاهین، بدر، مترجم.

مؤلف إضافی: الشاهین، عبد الله، مترجم.

مؤلف إضافی: علی، رائد ، محقق.

مؤلف إضافی: صالح، محمد، محقق.

اسم هیئة إضافی: العتبة الحسینیة المقدسة. قسم الشؤون الفکریة والثقافیة. مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة - جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق ببغداد (4320) لسنة (2017م)

ص: 1

اشارة

صورة

ص: 2

صورة

صورة

ص: 3

صورة

ص: 4

صورة

ص: 5

هویة الکتاب

عنوان الکتاب: الحسین الوسیط ، دراسة تحلیلیّة بنبویّة لواقعة کربلاء

المؤلف : تورستن هایلین

ترجمة: بدر الشاهدین ، عبدالله الشاهین

تحقیق: رائد علی، محمد صالح

الإشراف العلمی: اللجنة العلمیة فی مؤسسة وارث الأنبیاء

الإخراج الفنی: حسین المالکی

الطبعة : الأولی

المطبعة : دار المؤمن

سنة الطبع : 1440ه 2018م

عدد النسخ: 1000

ص: 6

مقدّمة المؤسسة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ

إنّ العلم والمعرفة مصدر الإشعاع الذی یهدی الإنسان إلی الطریق القویم، ومن خلالهما یمکنه أن یصل إلی غایته الحقیقیة وسعادته الأبدیة المنشودة، فبهما یتمیّز الحقّ من الباطل، وبهما تُحدد اختیارات الإنسان الصحیحة، وعلی ضوئهما یسیر فی سبل الهدایة وطریق الرشاد الذی خُلق من أجله، بل علی أساس العلم والمعرفة فضّله الله عز وجل علی سائر المخلوقات، واحتج علیهم بقوله: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ کُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی الْمَلَائِکَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ »(1)، فبالعلم یرتقی المرء وبالجهل یتسافل، وقد جاء فی الأثر «العلمُ نورٌ»(2)، کما بالعلم والمعرفة تتفاوت مقامات البشر ویتفوّق بعضهم علی بعض عند الله عز وجل، إذ « یَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَالَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ »(3)، وبهما تسعد المجتمعات، وبهما الإعمار والازدهار، وبهما الخیر کلّ الخیر.

ص: 7


1- البقرة: آیة31.
2- الریشهری، محمّد، العلم والحکمة فی الکتاب والسنّة: ص36، نقلاً عن قرّة العیون للفیض الکاشانی: ص 438.
3- المجادلة: آیة11.

ومن أجل العلم والمعرفة کانت التضحیات الکبیرة التی قدّمها الأنبیاء والأئمة والأولیاء(علیهم السّلام) ، تضحیات جسام کان هدفها منع الجهل والظلام والانحراف،تضحیات کانت غایتها إیصال المجتمع الإنسانی إلی مبتغاه وهدفه، إلی کماله، إلی حیث یجب أن یصل ویکون، فکان العلم والمعرفة هدف الأنبیاء المنشود لمجتمعاتهم، وتوسّلوا إلی الله عز وجل بغیة إرسال الرسل التی تعلّم المجتمعات فقالوا: «وَابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آیَاتِکَ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَیُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ »(1)، و«لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِنْ کَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلَالٍ مُبِینٍ » (2)، ما یعنی أنّ دون العلم والمعرفة هو الضلال المبین والخسران العظیم.

بل هو دعاؤهم(علیهم السّلام) ومبتغاهم من الله عز وجل لأنفسهم أیضاً، إذ طلبوا منه تعالی بقولهم: «وَاملأ قُلُوبَنا بِالْعِلْمِ وَالمَعْرفَةِ»(3).

وبالعلم والمعرفة لا بدّ أن تُثمّن تلک التضحیات، وتُقدّس تلک الشخصیات التی ضحّت بکلّ شیء من أجل الحقّ والحقیقة، من أجل أن نکون علی علم وبصیرة، من أجل أن یصل إلینا النور الإلهی، من أجل أن لا یسود الجهل والظلام.

فهذه هی سیرة الأنبیاء والأئمة(علیهم السّلام) سیرة الجهاد والنضال والتضحیة والإیثار لأجل نشر العلم والمعرفة فی مجتمعاتهم، تلک السیرة الحافلة بالعلم والمعرفة فی کلّ

ص: 8


1- البقرة: آیة129.
2- آل عمران: آیة164.
3- الکفعمی، إبراهیم، المصباح: ص280.

جانب من جوانبها، والتی ینهل منها علماؤنا فی التصدّی لحلّ مشاکل مجتمعاتهم علی مرّ العصور والأزمنة والأمکنة، وفی کافّة المجالات وشؤون البشر.

وهذه القاعدة التی أسسنا لها لا یُستثنی منها أیّ نبی أو وصی، فلکلّ منهم(علیهم السّلام) سیرته العطرة التی ینهل منها البشر للهدایة والصلاح، إلّا أنّه یتفاوت الأمر بین أفرادهم من حیث الشدّة والضعف، وهو أمر عائد إلی المهام التی أنیطت بهم(علیهم السّلام) ، کما أخبر عز وجل بذلک فی قوله: «تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَی بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ »(1)، فسیرة النبی الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لیست کبقیة سیر الأنبیاء، کما أنّ سیرة الأئمة(علیهم السّلام) لیست کبقیة سیر الأوصیاء السابقین، کما أنّ التفاوت فی سیر الأئمة(علیهم السّلام) فیما بینهم مما لا شک فیه، کما فی تفضیل أصحاب الکساء علی بقیة الأئمة(علیهم السّلام) .

والإمام الحسین(علیه السّلام) تلک الشخصیة القمّة فی العلم والمعرفة والجهاد والتضحیة والإیثار، أحد أصحاب الکساء الخمسة التی دلّت النصوص علی فضلهم ومنزلتهم علی سائر المخلوقات، الإمام الحسین(علیه السّلام) الذی قدّم کلّ شیء من أجل بقاء النور الربانی، الذی یأبی الله أن ینطفئ، الإمام الحسین(علیه السّلام) الذی بتضحیته تعلّمنا وعرفنا، فبقینا.

فمن سیرة هذه الشخصیة العظیمة التی ملأت أرکان الوجود تعلَّم الإنسان القیم المثلی التی بها حیاته الکریمة، کالإباء والتحمّل والصبر فی سبیل الوقوف بوجه الظلم، وغیرها من القیم المعرفیة والعملیة، التی کرَّس علماؤنا الأعلام جهودهم وأفنوا أعمارهم من أجل إیصالها إلی مجتمعات کانت ولا زالت بأمس

ص: 9


1- البقرة: آیة253.

الحاجة إلی هذه القیم، وتلک الجهود التی بُذلت من قبل الأعلام جدیرة بالثناء والتقدیر؛ إذ بذلوا ما بوسعهم وأفنوا أغلی أوقاتهم وزهرة أعمارهم لأجل هذا الهدف النبیل.

إلّا أنّ هذا لا یعنی سدّ أبواب البحث والتنقیب فی الکنوز المعرفیة التی ترکها(علیه السّلام) للأجیال اللاحقة - فضلاً عن الجوانب المعرفیة فی حیاة سائر المعصومین(علیهم السّلام) - إذ بقی منها من الجوانب ما لم یُسلّط الضوء علیه بالمقدار المطلوب، وهی لیست بالقلیل، بل لا نجانب الحقیقة فیما لو قلنا: بل هی أکثر مما تناولته أقلام علمائنا بکثیر، فلا بدّ لها أن تُعرَف لیُعرَّف، بل لا بدّ من العمل علی البحث فیها ودراستها من زوایا متعددة، لتکون منهجاً للحیاة، وهذا ما یزید من مسؤولیة المهتمین بالشأن الدینی، ویحتّم علیهم تحمّل أعباء التصدّی لهذه المهمّة الجسیمة؛ استکمالاً للجهود المبارکة التی قدّمها علماء الدین ومراجع الطائفة الحقّة.

ومن هذا المنطلق؛ بادرت الأمانة العامة للعتبة الحسینیة المقدّسة لتخصیص سهم وافر من جهودها ومشاریعها الفکریة والعلمیة حول شخصیة الإمام الحسین(علیه السّلام) ونهضته المبارکة؛ إذ إنّها المعنیّة بالدرجة الأولی والأساس بمسک هذا الملف التخصصی، فعمدت إلی زرع بذرة ضمن أروقتها القدسیة، فکانت نتیجة هذه البذرة المبارکة إنشاء مؤسّسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصّصیة فی النهضة الحسینیة، التابعة للعتبة الحسینیة المقدّسة، حیث أخذت علی عاتقها مهمّة تسلیط الضوء - بالبحث والتحقیق العلمیین - علی شخصیة الإمام الحسین(علیه السّلام) ونهضته المبارکة وسیرته العطرة، وکلماته الهادیة، وفق خطة مبرمجة وآلیة متقنة، تمّت دراستها وعرضها علی المختصین فی هذا الشأن؛ لیتمّ اعتمادها والعمل علیها ضمن مجموعة

ص: 10

من المشاریع العلمیة التخصصیة، فکان کلّ مشروع من تلک المشاریع متکفّلاً بجانب من الجوانب المهمّة فی النهضة الحسینیة المقدّسة.

کما لیس لنا أن ندّعی - ولم یدّعِ غیرنا من قبل - الإلمام والإحاطة بتمام جوانب شخصیة الإمام العظیم ونهضته المبارکة، إلّا أنّنا قد أخذنا علی أنفسنا بذل قصاری جهدنا، وتقدیم ما بوسعنا من إمکانات فی سبیل خدمة سیّد الشهداء(علیه السّلام)، وإیصال أهدافه السامیة إلی الأجیال اللاحقة.

المشاریع العلمیة فی المؤسسة

اشارة

بعد الدراسة المتواصلة التی قامت بها مؤسَّسة وارث الأنبیاء حول المشاریع العلمیة فی المجال الحسینی، تمّ الوقوف علی مجموعة کبیرة من المشاریع التی لم یُسلَّط الضوء علیها کما یُراد لها، وهی مشاریع کثیرة وکبیرة فی نفس الوقت، ولکلٍّ منها أهمیته القصوی، ووفقاً لجدول الأولویات المعتمد فی المؤسَّسة تمّ اختیار المشاریع العلمیّة الأکثر أهمیّة، والتی یُعتبر العمل علیها إسهاماً فی تحقیق نقلة نوعیة للتراث والفکر الحسینی، وهذه المشاریع هی:

الأوّل: قسم التألیف والتحقیق

اشارة

إنّ العمل فی هذا القسم علی مستویین:

أ - التألیف

ویُعنَی هذا القسم بالکتابة فی العناوین الحسینیة التی لم یتمّ تناولها بالبحث والتنقیب، أو التی لم تُعطَ حقّها من ذلک. کما یتمُّ استقبال النتاجات القیِّمة التی أُلِّفت من قبل العلماء والباحثین فی هذا القسم؛ لیتمَّ إخضاعها للتحکیم العلمی، وبعد إبداء الملاحظات العلمیة وإجراء التعدیلات اللازمة بالتوافق مع مؤلِّفیها یتمّ طباعتها ونشرها.

ص: 11

ب - التحقیق

والعمل فیه قائم علی جمع وتحقیق وتنظیم التراث المکتوب عن مقتل الإمام الحسین(علیه السّلام)، ویشمل جمیع الکتب فی هذا المجال، سواء التی کانت بکتابٍ مستقلٍّ أو ضمن کتاب، تحت عنوان: (موسوعة المقاتل الحسینیّة). وکذا العمل جارٍ فی هذا القسم علی رصد المخطوطات الحسینیة التی لم تُطبع إلی الآن؛ لیتمَّ جمعها وتحقیقها، ثمّ طباعتها ونشرها. کما ویتمُّ استقبال الکتب التی تمّ تحقیقها خارج المؤسَّسة،لغرض طباعتها ونشرها، وذلک بعد إخضاعها للتقییم العلمی من قبل اللجنة العلمیة فی المؤسَّسة، وبعد إدخال التعدیلات اللازمة علیها وتأیید صلاحیتها للنشر تقوم المؤسَّسة بطباعتها.

الثانی: مجلّة الإصلاح الحسینی

وهی مجلّة فصلیة متخصّصة فی النهضة الحسینیة، تهتمّ بنشر معالم وآفاق الفکر الحسینی، وتسلِّط الضوء علی تاریخ النهضة الحسینیة وتراثها، وکذلک إبراز الجوانب الإنسانیة، والاجتماعیة والفقهیة والأدبیة فی تلک النهضة المبارکة، وقد قطعت شوطاً کبیراً فی مجالها، واحتلّت الصدارة بین المجلات العلمیة الرصینة فی مجالها، وأسهمت فی إثراء واقعنا الفکری بالبحوث العلمیة الرصینة.

الثالث: قسم ردّ الشُّبُهات عن النهضة الحسینیة

إنّ العمل فی هذا القسم قائم علی جمع الشُّبُهات المثارة حول الإمام الحسین(علیه السّلام) ونهضته المبارکة، وذلک من خلال تتبع مظانّ تلک الشُّبُهات من کتب قدیمة أو حدیثة، ومقالات وبحوث وندوات وبرامج تلفزیونیة وما إلی ذلک، ثُمَّ یتمُّ فرزها وتبویبها وعنونتها ضمن جدول موضوعی، ثمّ یتمُّ الردُّ علیها بأُسلوب علمیّ تحقیقی فی عدَّة مستویات.

ص: 12

الرابع: الموسوعة العلمیة من کلمات الإمام الحسین(علیه السّلام)

وهی موسوعة علمیة تخصصیة مستخرَجة من کلمات الإمام الحسین(علیه السّلام) فی مختلف العلوم وفروع المعرفة، ویکون ذلک من خلال جمع کلمات الإمام الحسین(علیه السّلام) من المصادر المعتبرة، ثمّ تبویبها حسب التخصّصات العلمیة مع بیان لتلک الکلمات، ثمّ وضعها بین یدی ذوی الاختصاص؛ لیستخرجوا نظریات علمیّة ممازجة بین کلمات الإمام(علیه السّلام) والواقع العلمی.

الخامس: قسم دائرة معارف الإمام الحسین(علیه السّلام) أو (الموسوعة الألفبائیة الحسینیة)

وهی موسوعة تشتمل علی کلّ ما یرتبط بالإمام الحسین(علیه السّلام) ونهضته المبارکة من أحداث، ووقائع، ومفاهیم، ورؤی، وأعلام وبلدان وأماکن، وکتب، وغیر ذلک، مرتّبة حسب حروف الألف باء، وکما هو معمول به فی دوائر المعارف والموسوعات، وعلی شکل مقالات علمیّة رصینة، تُراعَی فیها کلّ شروط المقالة العلمیّة، مکتوبة بلغةٍ عصریة وأُسلوبٍ حدیث.

السادس: قسم الرسائل والأطاریح الجامعیة

إنّ العمل فی هذا القسم یتمحور حول أمرین: الأوّل: حول إحصاء الرسائل والأطاریح الجامعیة التی کُتبتْ حول النهضة الحسینیة، ومتابعتها من قبل لجنة علمیة متخصّصة؛ لرفع النواقص العلمیة، وتهیئتها للطباعة والنشر، الثانی: حول إعداد موضوعات حسینیّة من قبل اللجنة العلمیة فی هذا القسم، تصلح لکتابة رسائل وأطاریح جامعیة، تکون بمتناول طلّاب الدراسات العلیا.

السابع: قسم الترجمة

یقوم هذا القسم بمتابعة التراث المکتوب حول الإمام الحسین(علیه السّلام) ونهضته المبارکة باللغات غیر العربیة لنقله إلی العربیة، ویکون ذلک من خلال تأیید

ص: 13

صلاحیته للترجمة، ثمَّ ترجمته أو الإشراف علی ترجمته إذا کانت الترجمة خارج القسم.

الثامن: قسم الرَّصَد والإحصاء

یتمُّ فی هذا القسم رصد جمیع القضایا الحسینیّة المطروحة فی جمیع الوسائل المتّبعة فی نشر العلم والثقافة، کالفضائیات، والمواقع الإلکترونیة، والکتب، والمجلات والنشریات، وغیرها؛ ممّا یعطی رؤیة واضحة حول أهمّ الأُمور المرتبطة بالقضیة الحسینیة بمختلف أبعادها، وهذا بدوره یکون مؤثّراً جدّاً فی رسم السیاسات العامّة للمؤسّسة، ورفد بقیّة الأقسام فیها، وکذا بقیة المؤسّسات والمراکز العلمیة فی شتّی المجالات.

التاسع: قسم المؤتمرات والندوات العلمیة

ویتمّ العمل فی هذا القسم علی إقامة مؤتمرات وملتقیات وندوات علمیّة فکریة متخصّصة فی النهضة الحسینیة، لغرض الإفادة من الأقلام الرائدة والإمکانات الواعدة، لیتمّ طرحها فی جوٍّ علمیّ بمحضر الأساتذة والباحثین والمحقّقین من ذوی الاختصاص، کما تتمّ دعوة العلماء والمفکِّرین؛ لطرح أفکارهم ورؤاهم القیِّمة علی الکوادر العلمیة فی المؤسَّسة، وکذا سائر الباحثین والمحققین وکلّ من لدیه اهتمام بالشأن الحسینی، للاستفادة من طرق قراءتهم للنصوص الحسینیة وفق الأدوات الاستنباطیة المعتمَدة لدیهم.

العاشر: قسم المکتبة الحسینیة التخصصیة

وهی مکتبة حسینیة تخصّصیة تجمع التراث الحسینی المخطوط والمطبوع، أنشأتها مؤسَّسة وارث الأنبیاء، وهی تجمع آلاف الکتب المهمّة فی مجال تخصُّصها.

ص: 14

الحادی عشر: قسم الموقع الإلکترونی

وهو موقع إلکترونی متخصِّص بنشر نتاجات وفعالیات مؤسَّسة وارث الأنبیاء، فهو یقوم بنشر وعرض کتبها ومجلاتها التی تصدرها، وکذا الندوات والمؤتمرات التی تقیمها، وکذا یسلِّط الضوء علی أخبار المؤسَّسة، ومجمل فعالیاتها العلمیة والإعلامیة.

الثانی عشر: القسم النسوی

یعمل هذا القسم ومن خلال کادر علمی متخصص علی تفعیل دور المرأة المسلمة فی النهضة الحسینیة، وبأقلام علمیة نسویة فی الجانب الدینی والأکادیمی، کما یعمل علی تأهیل الباحثات والکاتبات ضمن ورشات عمل تدریبیة، وفق الأسالیب المعاصرة فی التألیف والکتابة.

الثالث عشر: القسم الفنی

إنّ العمل فی هذا القسم قائم علی طباعة وإخراج النتاجات الحسینیة التی تصدر عن المؤسَّسة، وفقاً للبرامج الإلکترونیة المتطوِّرة، وذلک من خلال کادر فنیّ متخصِّص، کما ویعمل علی تصمیم الأغلفة وواجهات الصفحات الإلکترونیة، ومن مهامِّ هذا القسم أیضاً العمل علی برمجة الإعلانات المرئیة والمسموعة وغیرهما، وسائر الأمور الفنیّة الأخری التی تحتاجها کافّة الأقسام.

وهناک مشاریع أُخری سیتمّ العمل علیها إن شاء الله تعالی.

الحسین الوسیط.. دراسة تحلیلیّة بنیویّة لواقعة کربلاء

تطرّق المؤلّف فی هذا الکتاب إلی نظریة مهمّة فی باب اللغة، وهی النظریة البنیویة، وقد طبّقها علی نص الطبری التاریخی المتعلّق بمقتل الإمام الحسین(علیه السّلام).

ومع أنّه یوجد اختلاف فی تحدید المعنی الدقیق لهذه النظریة إلّا أنّه یمکن أن یقال: إنّ المعنی العام لهذه النظریة هو دراسة الألفاظ فی سیاقها الترکیبی مع بعضها

ص: 15

البعض، فإنّ کلّ لفظ بمفرده لا یؤدّی المعنی المطلوب، وإنّما یکون له ذلک المعنی المقصود للمتکلّم فیما إذا لوحظت علاقته مع ترکیبه العام الذی وقع فیه، مع عدم ملاحظة العناصر الخارجیة التی لها تأثیر علی النص المنقول، وقد رکّز الباحث دراسته حول رؤیة العالِم الفرنسی (کلود لیفی شتراوس) لهذه النظریة، حیث إنّه یری ضرورة وجود نظرة کلیة للعالم تحقق نظاماً ذهنیاً واقعیاً، فالبنیویة تبحث عن الطرق التی تصنّف وتنظّم العالم، وهی علی مستویات متعددة(1).

وفی المستوی الثالث من تلک المستویات یتم تنظیم عناصر الأسطورة بطریقة یکون لها معنی، فإنّ مفردات الأسطورة لا یکون لها معنی إلّا إذا قیست بالعناصر الأخری منها.

من هذا المستوی یدخل (شتراوس) فی بحث الأسطورة ومعانیها وحقیقتها وأبعادها، وواقعیة نظریتها.

«فالفکر الأسطوری حینما یواجه مشکلة خاصّة فإنّه ینظر إلیها کما ینظر إلی جمیع المشاکل الأخری دون أدنی فرق، ثمّ یبدأ حالاً باستخدام شیفرات عدیدة لحلّ تلک المشکلة»(2).

ومن المصطلحات التی استخدمها (شتراوس) فی بحث الأسطورة هو مصطلح الوسیط، وهو یعنی الواسطة التی تکون بین المتضادات التی تکون فی الواقع لتقلیلها والحدّ منها، باعتبار أنّ الأسطورة وظیفتها «تقلیل التناقضات الحاصلة فی الواقع»(3).

ص: 16


1- سیبیّن المؤلّف هذا المعنی فی الفصل الثانی من هذا الباب، تحت عنوان: البنیة والتحلیل البنیوی.
2- اُنظر تفصیل الکلام حول هذا الموضوع: الفصل الثانی من هذا الکتاب: ص143.
3- الفصل الثانی من هذا الکتاب: ص162.

وقد طبّق المؤلّف هذه الرؤیة علی الإمام الحسین(علیه السّلام) من خلال نص الطبری فی تاریخه، فقد وضع جداول للأمور المتضادة التی نقلها النص، ثمّ خرج بنتیجة: «وعلی هذا فإنّی أری أنّ صورة الحسین عند الطبری هو ذلک الشخص - ولیس أیّ شخص، بل هو زعیم أهل البیت - المستعد للتضحیة بنفسه من أجل رسالة سامیة وهی السبیل إلی الله. وهکذا یصبح الحسین قدوة وأسوة لجمیع المسلمین الذین یرجون الآخرة ولا یرجون الدنیا. وبهذا فقد حقق الحسین الحیاة الحقیقیة بموته، فبتقدیمه الدم إذاً یتقاسم الحیاة والموت، ویمکن أن یعتبر کیاناً بین المتضادین: سفک الدم وحفظ الدم»(1).

ویعتبر هذا النوع من البحث - وإن کان لا یخلو من الملاحظات العلمیة - أمراً جدیداً فی البحوث الحسینیة من خلال النصوص التاریخیة التی نقلت تلک الواقعة الألیمة، وهی جواهر لا بدّ من استخراجها وترویجها وهی ملک لجمیع الإنسانیة، فنهضة الحسین(علیه السّلام) هی نهضة السماء، وهبة السماء لجمیع البشر.

وفی الختام نتقدّم بالشکر الجزیل للأخ بدر شاهین والأخ عبد الله شاهین علی ما قاما به من ترجمة هذا الکتاب المهم فی بابه، وکذا الشکر للشیخ رائد علی والشیخ الدکتور محمّد الحلفی لما قاما به من تحقیق وتدقیق للکتاب. نسأل الله أن یوفّقنا فی أعمالنا إنّه سمیعٌ مجیبٌ.

اللجنة العلمیة فی مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة

ص: 17


1- الفصل الثالث من هذا الکتاب: ص305.

ص: 18

کلمة التحقیق

لیس من السهل العمل علی مثل هذا الکتاب القیّم وتحقیقه، فإنه ورغم أهمّیته البالغة وطباعته فی العقد السابق من الزمن، إلّا أنّنا واجهنا فیه بعض المعوقات والتحدّیات التی صعّبت المهمّة، وکان منها عمق الأفکار التی اشتمل علیها الکتاب، خصوصاً وأنّها تبتنی علی نظریة یکتنفها التعقید والغموض نوعاً ما، یُضاف إلیها ما سبّبته الترجمة من إبهام وإیهام فی مراد الکاتب؛ إذ تمّت علی مرحلتین:

أُولاهما: من السویدیة إلی الإنجلیزیة.

وثانیتهما: من الإنجلیزیة إلی العربیة، علاوةً علی ذلک وجدنا المؤلّف قد اعتمد نسختین لتاریخ الطبری إحداهما بالعربیة، والأُخری مترجمة عنها، فاقتضی منّا ذلک جهداً مضاعفاً حتی نبلغ المعنی المقصود، ونخرج بالفهم الصحیح، فکثیراً ما تدارسنا بعض العبارات مع المترجم؛ لیقدّم لنا المعنی الأکثر انسجاماً ودلالات الألفاظ والفکرة المطروحة خلالها. ولکی نُخرج الکتاب بأحسن حلّة قمنا بعدّة أُمور، منها:

1- العمل علی إخراج الکتاب سالماً من الأخطاء اللغویة والنحویة والإملائیة، وإضفاء المسحة العربیة علی عباراته وتراکیبه بالمقدار الممکن.

2- الإشارة إلی بعض النکات الهامّة التی غابت عن الکاتب ولم یتناولها، أو وقع فی خطأ أثناء بیانها. ولعلّ وقوع ذلک نتیجةً للترجمة إلی الإنجلیزیة من اللغة التی دُوّن بها الکتاب.

ص: 19

3- توضیح الحقّ فی بعض القضایا والمسائل التی طرحها الکاتب خلال بحثه بشکل مجمل، أو بنحوٍ یولّد شبهة عند القارئ.

4- بیان بعض الأُمور الغامضة فی نصّ الکتاب وتوضیحها للقارئ بالمقدار المناسب.

5- ذکر الاسم اللاتینی لکلّ شخصیة أجنبیة مذکورة فی الکتاب.

6- قمنا بتعریف الشخصیات البارزة والمؤثّرة التی جاء ذکرها فی الکتاب؛ لزیادة النفع والفائدة.

7- حتی لا یقع لبس فی حاشیة الکتاب بین هوامش المؤلّف وما أضافته لجنة التحقیق لذلک وضعت علامة .

8- تمّت إضافة نبذة حول الاستشراق وتاریخه ونتاجه، وبالخصوص فیما یتعلق بالتشیع؛ لأنّ هذا الکتاب یشکّل جانباً من ذلک التراث، کما أُضیف بعدها تعریفاً مختصراً للنظریة البُنویّة؛ لاعتماد مادة الکتاب علیها بشکلٍ أساسی.

9- حاولنا ذکر روایة الطبری لأحداث کربلاء بالنصّ من تاریخ الطبری، والذی تمّ التعبیر عنه ب-(النصّ المعتمد)، ووضعنا کلّ مقطع بحسب تقطیع الکاتب للنصّ فی بدایة کلّ قسم من أقسام الفصل الثالث، مضافاً إلی مضمون تلک المقاطع الذی نقله الکاتب نفسه للأمانة العلمیة؛ باعتبار أنّ الکاتب لم یأت بالنصوص واکتفی بالنقل بالمضمون.

10- لم یکن الکتاب مقسّماً بالنحو الحالی، أی علی شکل مدخل وفصول، ولکنّنا قمنا بتقسیمه کذلک تسهیلاً للقارئ، وحتی یکون أوقع فی النفس وأنفع، فابتدأ الکتاب بمدخل یناقش فیه الکاتب مسألة الأُسطورة وصناعتها والدراسات عنها، وعلاقة ذلک بواقعة کربلاء والبحوث السابقة والحدیثة التی أُجریت بذلک

ص: 20

الخصوص. وبعد المدخل جاء الدور للفصل الأوّل، وقد بحث فیه عن الطبری وروایته، ومجموعة من الموضوعات ذات الصلة بهذا العنوان، واختصّ الفصل الثانی بالنظریة البنویة بکلّ معالمها وما دار حولها من مناقشات، وأمّا الفصل الثالث فتضمّن تطبیقاً لتلک النظریة بشکل علمی علی وقعة کربلاء، من خلال روایة الطبری لها، وخصّص الفصل الرابع للاستنتاجات والتوقّعات المستقبلیة.

11- أضفنا عنوانین جدیدین:

الأوّل: الملاحق.

والثانی: المصادر؛ لیندرج تحته مصادر الکتاب ومصادر التحقیق.

لجنة التحقیق

ص: 21

ص: 22

الاستشراق

اشارة

لم ترد کلمة (الاستشراق) (Orientalism) المشتقّة من مادة (ش ر ق) فی أیّ من المعاجم العربیة القدیمة، وربّما کان المعجم العربی الوحید الذی یشیر إلی واحد من مشتقّاتها هو معجم (متن اللغة) للشیخ أحمد رضا الذی یورد فعلها (استشرق)، ویتبعه بشرحه له قائلاً: هو طلب علوم الشرق ولغاتهم، واصفاً الکلمة بأنّها: (مولدة عصریة) تُطلق علی مَن یعنی بذلک من علماء الفرنجة، وفعل (استشرق) العربی مشتّق من کلمة (الاستشراق) المترجمة لکلمة Orientalism)(1).

واستشراق علی وزن استفعال، ویعنی طلب الشیء، ویُراد به هنا طلب علوم الشرق ولغاته، ویُقال لمَن یقوم بذلک: مستشرق، وجمعه: مستشرقون، ولما ینجزونه استشراقاً.

والاستشراق عند علماء الغرب عُرّف بتعاریف عدّة أبرزها ما جاء عن:

1- المستشرق الألمانی (رودی بارت) (Rudi Paret) بأنّه: «علم الشرق، أو علم العالم الشرقی»(2).

ص: 23


1- اُنظر: الموسوعة العربیة، المجلد2، الحضارة العربیة، مصطلح الاستشراق،ص 166.
2- رودی بارت (Rudi Paret)، الدراسات العربیة والإسلامیة فی الجامعات الألمانیة، (المستشرقون الألمان منذ تیودور نولدکه Theodornoldeke)، ترجمة مصطفی ماهر: ص11.

2- المستشرق الإنجلیزی (آربری) (Arthur John Arberry) حیث اعتمد تعریف قاموس أکسفورد الذی یعرّف المستشرق بأنّه: «مَن تبحّر فی لغات الشرق وآدابه»(1).

3- المستشرق الفرنسی (مکسیم رودنسون) (Maxime Rodinson) الذی أشار إلی أنّ مصطلح الاستشراق ظهر فی اللغة الفرنسیة عام 1799، بینما ظهر فی اللغة الإنجلیزیة عام 1838م، وأنّ الاستشراق إنّما ظهر للحاجة إلی: «إیجاد فرع متخصص من فروع المعرفة لدراسة الشرق»(2).

وللاستشراق عند علماء العرب تعاریف عدّة، من أبرزها ما جاء عن الأُستاذ (أحمد حسن الزیات) إذ قال: «یُراد بالاستشراق الیوم: دراسة الغربیین لتاریخ الشرق وأُممه، ولغاته وآدابه وعلومه، وعاداته ومعتقداته، وأساطیره، ولکنّه فی العصور الوسیطة کان یقصد به دراسة العربیة لصلتها بالدین، ودراسة العربیة لعلاقتها بالعلم، إذ بینما کان الشرق من أدناه إلی أقصاه مغموراً بما تشعّه منائر بغداد والقاهرة من أضواء المدنیة والعلم، کان الغرب من بحره إلی محیطه غارقاً فی غیاهب من الجهل الکثیف»(3).

ص: 24


1- أ.ج آریری، المستشرقون البریطانیون، ترجمة محمد الرسوقی النویهی: ص8 .
2- جوزیف شاختی (Joseph Franz Schacht) وکلیفورد بوزورث (Clifford Edmund Bosworth)، (مکسیم رودنسون، الصورة الغربیة والدراسات الغربیة الإسلامیة فی تراث الإسلام - القسم الأوّل) ترجمة محمد زهیر السمهوری، سلسلة عالم المعرفة، الکویت أغسطس 1978م. (عن موقع مرکز المدینة المنورة لدراسات وبحوث الاستشراق).
3- الزیات، أحمد حسن، تاریخ الأدب العربی: ص512، ط25.

نبذة حول حرکة الاستشراق

لنشأة الاستشراق وانطلاق نشاطه العلمی آراء متعدّدة ومختلفة، فقد اختلفت وجهات النظر فی تحدید الفترة التاریخیة لبدء الغرب بحرکة الاستشراق، ولم تتّفق الآراء حول فترة زمنیة محدّدة لبدایة هذه الظاهرة؛ ممّا جعل من الصعب تحدید تاریخ معین لانطلاقة نشاط الغرب بدراسة ثقافة الشرق، وعلی الرغم من وجود آراء تذکر بأنّ الغرب یعتبر صدور قرار (فیینا الکنسی) عام 1312 م، بإنشاء عدد من کراسی اللغة العربیة فی عدد من الجامعات الأُوروبیة هی بدایة الاستشراق(1)، إلّا أنّ هناک باحثین أُوربیین لا یؤیدون هذا الرأی، ولا یعتمدون هذا التاریخ کبدایة للاستشراق(2)، ولذلک جاءت الآراء مختلفة لتحدید نقطة بدایة انطلاق الاستشراق؛ فمنهم من یؤرّخ لبدایة الاستشراق منذ مطلع القرن الحادی عشر المیلادی(3)، بینما یعتقد (رودی بارت)(4) (Rudi Paret): أنّ الدراسات الإسلامیة والعربیة فی أُوروبا تعود إلی القرن الثانی عشر، حیث کانت أوّل ترجمة لمعانی القرآن الکریم إلی اللغات اللاتینیة، وفی القرن نفسه جاء أوّل قاموس لاتینی عربی. ومن مؤرّخی الغرب مَن یعتبر عام 610م هو بدایة للاستشراق، ودلیله فی هذا: أنّ الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قد أرسل رسلاً إلی الروم یدعوهم إلی الإسلام، وبذلک تعرّف الرومان علی الإسلام.

والبعض یری أنّ القرن السابع المیلادی فی عام 711م هی بدایة الاستشراق

ص: 25


1- اُنظر:الخربوطلی، علی حسن، الاستشراق فی التاریخ الإسلامی: ص20.
2- مرکز المدینة المنورة لدراسات وبحوث الاستشراق www.Madinacenter.com.
3- اُنظر:عبد الله، سهام ربیع، الموسوعة السیاسیة للشباب: ج22، ص11.
4- اُنظر:المصدر السابق.

حینما فتحت الأندلس، وأقام المسلمون فیها صرحاً للحضارة، ممّا حرّض الغرب علی الهجرة إلی الأندلس؛ لینهلوا من هذه الحضارة العظیمة، فقد اتّخذ إقبال الغرب علی الحضارة الإسلامیة صبغة علمیة، ممّا یعتبر استشراقاً علی أُسس علمیة، حیث درّس فی الأندلس عدداً من القساوسة، ومنهم القسّ جربرت الذی ترأس (البابویة) فی روما عام (999- 1003م) باسم (سلفستر) الثانی (Sylvester Ii)، وأسّس مدرستین عربیتین فی روما وفی رامیس، ومن الذین وفدوا إلی الأندلس أیضاً (بطرس المحترم) رئیس دیر کحلونی، الذی قام هو وجماعة من المتجرمین فی أسبانیا بالعمل من أجل الحصول علی معرفة علمیة عن الدین الإسلامی(1)، ومن الباحثین من یری أنّ القرن العاشر المیلادی یعدّ مرحلة أُولی لبدایة الاستشراق، وقد تبنّی هذا التاریخ الدکتور (نجیب العقیقی)، الذی یقول: من الخطأ الاعتقاد بأنّ أوروبا لم تعرف الاستشراق قبل الحروب الصلیبیة؛ لأنّ الاستشراق عُرف منذ القرن العاشر المیلادی، وما کانت الحملات الصلیبیة إلّا نتیجة لمقدّمة وهی الاستشراق، ویلتزم بهذا الرأی أیضاً (جورجی زیدان)، فیعید الاستشراق إلی القرن العاشر المیلادی، لمّا أراد الأفرنج الاطّلاع علی ما فی اللغة العربیة من علوم طبیعیة وفلسفیة وطبّیة، فقاموا بترجمة الکثیر من الکتب إلی اللاتینیة(2).

ویری قسمٌ من الباحثین أنّ الحروب الصلیبیة (1096- 1274م) هی المبرّر أو هی بدایة الاستشراق، حیث انطلقت هذه الحروب بدافع دینی، وکانت تهدف احتلال الشرق الإسلامی، وإقامة عاصمة مسیحیة فی القدس، ویؤکّد هذا الرأی

ص: 26


1- اُنظر:النمر، عبد المنعم، الثقافة الإسلامیة بین الغزو والاستغراب: ص147.
2- اُنظر: عبد الله، سهام ربیع، الموسوعة السیاسیة للشباب: ج22، ص14- 15.

الباحث الغربی (غاردنر) بأنّ الحملات الصلیبیة لمّا فشلت فی انتزاع القدس من المسلمین، والقضاء علی الإسلام تحوّل الغزو العسکری إلی غزو فکری عن طریق الاستشراق.

وکذلک یری الباحث الغربی (کیرک) (Kirk) أنّ الحروب الصلیبیة فتحت أذهان الغرب علی حضارة الشرق الأوسط، تلک الحضارة التی کانت تفوق بکثیر حضارة الغرب، فاتّجه الغرب إلی غزو الشرق فکریاً، بعد عجزه عن تحقیق أهدافه من خلال الغزو العسکری(1).

«أنّه لا جدوی من الحروب للتغلّب علی المسلمین؛ لأنّ التزامهم بالإسلام یدفعهم للجهاد والتضحیة فی سبیل الله للدفاع عن بلادهم، والمسلمون قادرون دوماً علی الانطلاق من عقیدتهم إلی الجهاد، ولا بدّ من سبیل آخر لمحاربتهم، وهو تغییر الفکر الإسلامی، وترویض المسلمین عن طریق الغزو الفکری، وذلک أن یدرس علماء الغرب الحضارة الإسلامیة؛ لیأخذوا منها سلاحاً جدیداً یغزون به الفکر الإسلامی. وهذا الکلام یشعر بأنّ الاستشراق قد تبلور إبّان الحروب الصلیبیة نتیجة لفشل هذه الحروب، واکتسب دعماً رسمیاً من الغرب»(2).

والجدیر ذکره أنّ الغرب، وأثناء حربه الصلیبیة، قد استفاد من الشرق؛ ممّا دفعه للاهتمام أکثر به، والتوغّل فیه، ومعرفة الکثیر عنه، وهذا ما أقرّ به (امرتون) الباحث الغربی بقوله: «إنّ حیاة أُوروبا اغتنت خلال الحروب الصلیبیة؛ لأنّها اقتبست من حیاة المسلمین ألواناً من الفکر والمعرفة، وکان ذلک دافعاً للغرب؛ لیواصلوا

ص: 27


1- اُنظر: الاستشراق النشأة والدوافع، مجلة الاجتهاد، العدد 98، عام 1400ه-.
2- زقزوف، محمود حمدی، الاستشراق والخلفیة الفکریة للصراع الحضاری: ص28.

صلتهم بالشرق عن طریق دراسات العلم والمعرفة، حتی أصبحوا مستشرقین، ومن خلال تلک الآراء المتعدّدة التی تحاول التأریخ لبدایات الاستشراق»(1)، فإنّه یمکن الاستنتاج بأنّ الظاهرة الاستشراقیة تمتدّ بجذورها إلی ما یقرب من ألف عام، إلّا أنّ مفهوم الاستشراق لم یظهر فی أُوربا إلّا فی نهایة القرن الثامن عشر، فقد أُدرج مفهوم الاستشراق فی قاموس الأکادیمیة الفرنسیة عام 1838م، وظهر مفهوم (مستشرق) فی إنجلترا عام 1779م، وفی فرنسا عام 1799م.

وفی نهایة القرن الثامن عشر وبالتحدید عام 1795م، أُنشئت فی باریس مدرسة اللغات الشرقیة، وبدأت حرکة الاستشراق فی فرنسا تتخذ طابعاً علمیّاً علی ید (سلفستر دی ساس) (Lsaac Silvestre De Sacy)، الذی أصبح إمام المستشرقین الأُوروبیین فی عصره. وهناک مَن یعتبر الحملة الفرنسیة علی مصر وغیرها من بلاد الشرق عام 1798م هی البدایة الحقیقیة للاستشراق؛ لأنّ هذه الحملة عندما جاءت إلی مصر کان فی رکابها عدد کبیر من المستشرقین، الذین قاموا بدراسات مختلفة تمّ نشرها فی کتاب (وصف مصر).

ویعدّ القرنان التاسع عشر والعشرون بمثابة عصر الازدهار الحقیقی للحرکة الاستشراقیة، فعندما تخلّص الاستشراق من سیطرة اللاهوت أصبح الاستشراق علماً قائماً بنفسه، هدفه دراسة اللغات الشرقیة وآدابها، وبرزت نزعة علمیة تتّجه إلی دراسة الآداب والعقائد الشرقیة لذاتها، مستهدفةً المعرفة وحدها. ویری (رودی بارت) (Rudi Paret) فی هذا الصدد أنّ الاستشراق تشکّل کعلم فی القرن التاسع عشر، وذلک عندما بدأ الغرب یعمل علی التخلّص من الصور

ص: 28


1- المصدر السابق: ص28.

الذهنیة النمطیة المشوّهة عن الآخر الإسلامی، والانصراف عن الآراء المسبقة عن الإسلام والمسلمین، وعن کلّ لون من ألوان الانعکاس الذاتی، والاعتراف لعالم الشرق بکیانه الخاص الذی تحکمه نظمه الخاصّة، وعندما اجتهدوا فی نقل صورة موضوعیة له ما استطاعوا إلی ذلک سبیلاً.

وفی الربع الأخیر من القرن التاسع عشر عُقدَ أوّل مؤتمر للمستشرقین فی باریس عام 1873م، وتتالی عقد المؤتمرات التی تُلقی فیها الدراسات عن الشرق وأدیانه وحضاراته، وما تزال تُعقد حتی هذه الأیام، وفی نهایة القرن التاسع عشر، أصبحت الدراسات الإسلامیة تخصّصاً قائماً بذاته داخل الحرکة الاستشراقیة العامّة، وکان کثیر من علماء الإسلامیات والشؤون العربیة فی ذلک الوقت مثل (نولدکه) (Theodor Noldeke) و(جولد تسیهر وفلهاوزن)، مشهورین فی الوقت نفسه، بوصفهم علماء فی السامیات علی وجه العموم، أو متخصّصین فی الدراسات العبریة، أو دراسة الکتاب المقدس(1).

الاهتمام بالتراث الإسلامی

استغرقت الدراسات الاستشراقیة حول الإسلام مساحة واسعة من التراث، فعلی الصعید الاجتماعی کانت لهم دراسات ورحلات استکشافیة لتقالید وعادات الشعوب الإسلامیة، وعلی الصعید الأدبی لقد اهتمّوا بدراسة الأدب العربی فی جامعاتهم ومعاهدهم، وهذه الدراسات کانت تُقدّم کدراسات وتقاریر للأنظمة السیاسیة الأُوربیة فی إدارة سیاستها فی المستعمرات، فکان التأریخ الإسلامی من

ص: 29


1- اُنظر: رودی بارت (Rudi Paret)، الدراسات العربیة والإسلامیة فی الجامعات الألمانیة، (المستشرقون الألمان منذ تیودور نولدکه heodornoldeke)،ترجمة مصطفی ماهر.

المساحات المهمّة فی التراث الإسلامی التی تناولها الاستشراق دراسةً وتحقیقاً، فکتب أساتذة الاستشراق ومفکّروه حول التأریخ الإسلامی بشکل واسع، فقد وضع المستشرق الهولندی (دی خویه) (Johanna De Goge) العدید من الکتب الجغرافیة والتأریخیة، معتمداً علی مخطوطات مکتبة لیدن، حیث حقّق کتاب البلدان للیعقوبی، وهو کتاب الجغرافیة الاقتصادیة، وکتاب فتوح البلدان الصغیر للبلاذری الذی نشره فی لیدن عام 1870م، وکتاب تاریخ الرسل والملوک للطبری، وقد نُشر أوّل مرّة من قبل (دی خویه) بالتعاون مع عدد من المستشرقین فی 15 جلداً، وأُضیفت له مقدّمة وفهرس فی لیدن عام 1901م، وقام بوضع تقاویم للتاریخ والجغرافیة الشرقیین فی لیدن عام 1862م فی ثلاثة مجلدات.

ویعدّ المستشرق الألمانی (Johan Jakob Reiske) المتوفی 1774م، أوّل مَن اهتمّ بالتراث الإسلامی، فقد حقّق عدداً من المصادر القدیمة مثل: تاریخ أبی الفداء، وتاریخ حمزة الأصفهانی، وتعتبر تحقیقاته وترجماته الحجر الأساس فی الدراسات العربیة(1).

وبدأ اهتمام المستشرقین الألمان بدراسة الحضارة الإسلامیة - منذ الحملات الصلیبیة الثانیة عام 1147م - بترجمة الکتب العربیة، فکانت أوّل ترجمة للقرآن بین عامی 1141- 1143م، إلی اللغة اللاتینیة، وقام بذلک (هرمان الدلماشی) (Hermann Von Dalmatien = Hermann De Dalmatie) وهو راهب ألمانی، وساهم معه فی هذه الترجمة، المستشرق (روبرت روتین) (Robert De Retina) وهو راهب

ص: 30


1- اُنظر: ستیفان لیدرما، مقالة مدیر معهد الدراسات الاستشراقیة فی لبنان، مجلة التسامح نحو خطاب إسلامی متوازن، العدد 27، عام 2009.

إنجلیزی، واشترک معهم راهب عربی أسبانی، وقیل: رجل مسلم اسمه محمّد، ونُشرت هذه بعد أربعة قرون(1)).

ودأب المستشرق الألمانی (رایسکه) (Johann Jakob Reiske) علی دراسة وتحقیق الأدب العربی، ویعدّ أبرز مَن أسّس الدراسات العربیة فی ألمانیا، وأمضی جلّ حیاته فی دراسة العربیة والحضارة الإسلامیة، ویعتقد بأنّ مجیء النبی محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وانتصار الإسلام، من أحداث التاریخ التی لیس للعقل أن یدرک مداها، ویری فی ذلک برهاناً ودلیلاً علی تدبیر قوّة إلهیة(2). وللاستشراق اهتمام بالتاریخ الإسلامی بشکل عام، من حیث دراسة حیاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وکلّ ما یتعلق بحیاته وشخصه ونبوته وغزواته، حیث کَتَب المستشرق الإنجلیزی (سیر توماس أرنولد) (Thomas Walker Arnold) کتابه (الدعوة إلی الإسلام)، فقدّم الکاتب عرضاً تحلیلیاً لتأریخ الإسلام، وصوّر انتشاره منذ البعثة وحتی القرن التاسع عشر، ویعدّ من الکتب التی اتّسمت بالموضوعیة والإنصاف، حیث یرفض الکاتب فکرة أو مقولة انتشار الإسلام بالسیف والخوف.

ثمّ وضع المستشرق الأمیرکی جورج کتابه (دراسات إسلامیة) الذی بَحَث فیه ظهور الإسلام، الدولة العربیة والحروب الصلیبیة، الإسلام فی الأندلس، الإسلام والتطوّر، الإسلام فی التاریخ الحدیث. وکان للمستشرق البلجیکی (أبیل أرمان) (A.Abel) دراسات وتحقیقات کثیرة حول الإسلام وتأریخه، وحول شخص النبی الکریم محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) منها: الطابع الاجتماعی لأصل تکریم محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی الإسلام

ص: 31


1- اُنظر: العقیقی، نجیب، المستشرقون: ج1، ص124.
2- اُنظر: بدوی، أحمد، موسوعة المستشرقین: ص205.

(منوعات سمیت)، التبادلات السیاسیة آداب الآخرة فی الإسلام، الدراسات الإسلامیة فی بروکسل وجاند، المعونة الاجتماعیة فی الإسلام.

وبحث المستشرق الأمیرکی (أدامز تشارلز) (Charles Adams)، أیضاً فی مختلف مجالات التراث الإسلامی، والتاریخ الإسلامی، فقدّم بحوثاً متعدّدة حول التاریخ الإسلامی، منها: تاریخ الدیانات ودراسة الإسلام، المفاهیم الدینیة الأخلاقیة فی القرآن، وله مقالات علمیة فی دوائر المعارف، منها دائرة معارف الکتب العالمیة، تحت عناوین عدّة، وهی: الخلیفة، الحج، الإسلام، القرآن، محمد. وفی دائرة المعارف البریطانیة له المقالات التالیة: سلمان الفارسی، المعتزلة.

أمّا المستشرق البریطانی (أربری) وهو من المستشرقین المتطبّعین باللغة العربیة، ویجید اللغة الفارسیة، ویرأس قسم الدراسات الشرقیة، والأفریقیة عام 1946م فی جامعة لندن، فقد کتب کتباً عدّة منها: تراث الإسلام، موقف الإسلام من الحرب، الإسلام الیوم، الجزیرة العربیة قبل الإسلام، وفهرس المخطوطات العربیة والفارسیة فی مکتبة مدرسة الدراسات الشرقیة والأفریقیة، وقد ترجم معانی القرآن إلی الإنجلیزیة فی جزأین، وطُبع فی نیویورک عام 1900م، وطُبع مرّة ثانیة فی لندن عام 1959م.

وللمستشرق الدنمارکی فرانس بوهل (Frantz Buhl) دراسات موسّعة حول التراث الإسلامی والقرآن والتاریخ، وعن حیاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فله کتاب (حیاة محمد) فی اللغة الدنمارکیة، اعتمد فیه علی المصادر العربیة وأبحاث العلماء والمحدّثین، وصدّره بمقدّمة عن بلاد العرب، ثمّ أضاف إلی کتابه ذیلاً عن دعوة النبی محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إلی الإسلام.

ص: 32

وللمستشرق الفرنسی (درمنجم)(Dermenghem) مؤلّفات اختصّت بالإسلام وتاریخه، حیث وضع کتابه التاریخی الشهیر: (حیاة محمد)، ویعدّ أفضل کتاب للمستشرقین حول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وکتاب (محمد والسنة الإسلامیة).

وکتب المستشرق الإیطالی (دلا فید لیفی) (Della Vida ،Glevi) أبحاثاً حول النبی والتأریخ الإسلامی، فله تحقیق حول کتاب: أنساب الأشراف للبلاذری، ودراسة حول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأصل الإسلام، وفهرس المخطوطات العربیة الإسلامیة فی مکتبة الفاتیکان. وکتب فی دائرة المعارف الإسلامیة حول الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وفی دائرة المعارف الإیطالیة کتب حول العباسیین وبغداد.

ومن نماذج اهتمام الاستشراق وباحثیه فی التراث الإسلامی، المعاجم التی وُضعت فی ذلک، حیث ألفّ المستشرق النمساوی (زامبور) أو (زامباور فون) (Zambaur،E.Von): معجم الأنساب والأُسرات الحاکمة فی التاریخ الإسلامی، وهو معجم تناول التاریخ الإسلامی منذ صدر الإسلام حتی عام 1927م، وقد تبنّت جامعة الدول العربیة ترجمته، وقام بمهمّة الترجمة الدکتور زکی محمد حسن، وطُبع فی مطبعة جامعة القاهرة.

وکان للمستشرق المعروف لامنسی (Lammens) - وهو بلجیکی المولد فرنسی الجنسیة وممَّن عُرف بتعصبّه تجاه التاریخ الإسلامی - عدّة کتب ومقالات، تطّرق فیها للتاریخ الإسلامی وأحوال رجاله، ومن مؤلّفاته: سنّ محمد وتاریخ السیرة، الجزیرة العربیة قبل الهجرة، خصائص محمد بحسب القرآن، مهد الإسلام والجزیرة العربیة الغربیة قبل الإسلام، فاطمة وبنات محمد.

وللمستشرق الإسبانی (بوش فیلا) (Bosch Villa) مؤلّفات فی التراث الإسلامی، منها: خطاب حول الآداب الإسلامیة القدیمة، کتاب المسلمون

ص: 33

جغرافیاً، وهو کتاب بحث فی: (التاریخ، المساحة، الإعمار، الکثافة السکانیة، التاریخ الثقافی والدینی، وثائق ومسکوکات...)، وکتب فی دائرة المعارف الإسلامیة مقالات منها: من أجل مفهوم جدید لتأریخ الإسلام.

کانت هذه نبذة مختصرة عن نتاج المستشرقین حول التراث الإسلامی عموماً بما یتناسب وحجم تحقیقنا حول هذا الکتاب، وبعد هذه الإطلالة السریعة، نعرض نتاجات الاستشراق حول التشیّع، علی نحو الاختصار؛ حیث لا یتسع المقام لأکثر من هذا.

نتائج المستشرقین حول التشیع

بدأت أقلام الاستشراق تتّجه نحو الکتابة والتحقیق فی المذاهب والفرق الإسلامیة، وکان التشیع من بین المذاهب الإسلامیة التی تناولها الجهد العلمی الاستشراقی، مع ما فی الکتابات من ملاحظات، إمّا حول رؤیة الکاتب ونظرته تجاه التشیع، أو عدم اطّلاعه الکامل عن التشیع، وهنا نقدّم عرضاً لأهمّ ما کُتِب حول التشیّع فی مختلف المواضیع بأقلام الاستشراق قدیماً وحدیثاً، ففی عام 1874م کتب المستشرق (جولد زیهر) (Goldziher): آداب الجدل عند الشیعة، وبحوث حول الشیعة، والصحیفة السجادیة فی المجلّة الشرقیة الألمانیة.

وکتب المستشرق الألمانی (هور فیتش جوزیف) (Horovitz،J) فی تاریخ الشیعة، وأصل التشیّع وأخباره وحوادثه، وترجم إلی الألمانیة القصائد الهاشمیات للکمیت.

وکذلک للمستشرق (أبیل أرمان) (A.Abel) بحوث فی إمامة الشیعة، وللمستشرق الأمیرکی (أدامز تشارلز) جوزیف عدّة کتابات حول التشیّع، فقد کتب حول الشیخ الطوسی بحثاً تحت عنوان: الشیخ الطوسی ومساهمته فی نظریة الشیعة لأُصول الفقه.

ص: 34

وکتب المستشرق (بوهل) حول تاریخ الشیعة، فوضع کتابه نهضة الشیعیین فی الدولة الأُمویة وکتاب: علی مدعیاً وخلیفة.

ووضع المستشرق البریطانی (دونا لدسون) (Donaldson) أبحاثاً تطرّق فیها إلی عقائد الشیعة، تحت عنوان: عقیدة الشیعة فی الإمامة، عام 1931م، وعقیدة الشیعة، عام 1933م.

وتناول (زوبرنایم) (Sobernheim) التشیع من خلال أبحاثه، فقدّم دراسة عن الشیعة، وکتب حول الشیعة فی حلب.

وقدّم المستشرق الألمانی (سبر نجر) (Spren Ger) بحثاً إحصائیاً فهرس فیه کتب الشیخ الطوسی. وممّن کتب فی عقائد الشیعة المستشرق (ج. فایدا) (Vadja،G)، فقد کتب حول: إمامة الشیعة.

ومن المستشرقین المعاصرین الذین کتبوا حول التشیّع: المستشرق الألمانی (هنز هالم)، حیث کان له کتاب: التشیّع، بَحَث فیه کلمة الشیعة اصطلاحاً، وتطرّق فیه إلی خلافة الإمام علی، حیث یقول: إنّ الشیعة تعتبر أنّ هذا الأمر قد جاء متأخراً جدّاً؛ حیث إنّ النبی قد صرّح من قبل بأنّ الإمام علیاً خلیفته وإمام الأُمّة.

وللمستشرق (اندره نیومن) (Andrew J. Newman) کتاب تحت عنوان: عصر تکّون التشیع الإمامی الاثنا عشری، یتناول فیه التشیّع فی بغداد فی القرن الثالث، وأبرز مدارس الحدیث فی بغداد وقم.

وکتاب: الشیعة فی العالم صحوة المتبعدین واستراتیجیتهم (لفرنسوا تویال)، تضمّن إضافة لتطرّقه لعقائد الشیعة، إحصاءات لتواجد وعدد الشیعة فی العالم، وفرقهم.

ص: 35

ونکتفی بهذا القدر من عرض ما جاءت به أقلام المستشرقین حول التشیع طلباً للاختصار؛ لأنّنا لو استغرقنا بالحدیث حول مؤلّفات وأبحاث الاستشراق حول الشیعة سنحتاج إلی مجلّد أو عدّة مجلدات، وأخیراً نودّ الإشارة إلی مسألة علمیة مهمّة، وهی أنّ ما کتبه الغرب عن مذهب أهل البیت، کانت تشوبه الإخفاقات؛ لأسباب عدیدة، منها: عدم الاطّلاع بشکل کامل علی مصادر الفکر والفقه المعتمدة لدی المذهب، ومنها أسباب مرحلیة کما لو کتبت فی مرحلة تحمل طبیعة العداء والتبشیر. ونرید القول: إنّ عالمنا الیوم أصبح الاطلاع فیه من أیسر الأُمور، فمن الواجب العلمی أن یطلب الکاتب الغربی المصدر الأصیل لفکر أهل البیت سواء المکتوب منه أو من خلال المفکرین البارزین؛ کی یعطی نتاجه العلمی ثماراً علمیّة واقعیة بعیدة عن الإجحاف.

نافذةٌ علی البنیویّة

شغلت دراسة اللغة المفکّرین والباحثین منذ زمنٍ طویلٍ، کما نالت دراسة الأدب الذی اتّخذ من اللغة صورةً له حظّاً أوفر من العنایة والاهتمام، وبما أنّ الدارسین للأدب ینطلقون من تصوّراتٍ مختلفة، ویحملون أیدیولوجیات متعدّدة؛ فقد تعدّدت المناهج وتنوّعت. ومن بین هذه المناهج (المنهج البنیوی) الذی کانت نشأته فی الغرب، وأرسی (فردیناند دی سوسیر) (Ferdinand De Saussure) دعائمه کمنهجٍ یدرس اللغة(1)، ثمّ استفاد منه النقّاد واستثمروا مبادءه فی دراسة الأدب.

ص: 36


1- قروم، حنان، مصطلحات الحداثة وما قبلها، ص49.

ولإیضاح الفکرة نقول: لفظة (بِنْیَویَّة) من حیث اللغة اشتُقّت من کلمة (بِنیة)، ویسقطها البنیویون علی کلِّ ظاهرة إنسانیة کانت أم أدبیة. ولأجل دراستها یجب تحلیلها أو تفکیکها إلی عناصرها المؤلّفة منها، دون النظر إلی أیّة عوامل خارجیّة عنها.

اختلف النقّادُ فی بیان مفهومِ البنیویةِ، وأوردوا له تعریفاتٍ مختلفةً، لکنّها علی العموم وفی معناها الشامل: طریقةُ بحثٍ فی الواقعِ، لا فی الأشیاءِ الفردیةِ بل فی العلاقاتِ بینَها.

ومن أبرز ما قرّره (دی سوسیر) مبدأ: (اعتباطیّة الرمز اللغوی)، وهو یعنی: أنّ أشکال التواصل الإنسانی ما هی إلّا أنظمة تتکوَّن من مجموعةٍ من العلاقات التعسّفیّة، أی: العلاقات التی لا ترتبط ارتباطاً طبیعیّاً أو منطقیّاً أو وظیفیّاً بمدلولات العالم الطبیعی، وأنّ کلّ نظامٍ لغوی یعتمد علی مبدأ لا معقول من اعتباطیّة الرمز وتعسّفه، أی تماماً کما یعتبط العقل الجمعی - عند دورکایم - فیفرض علی الناس ما هو خارج عن ذواتهم، ومن هنا انبعثت فکرة (السیمولوجیا) أی: علم الدلالة، أو العلامة والإیحاء، وتطوّرت فیما بعد.

ولقد آمن روّاد النقد البنیوی بأهمّیة تحلیل العلاقة بین (لغة) الأثر و(الأثر) نفسه؛ للکشف عن معانیه الخفیّة، والتخلّی عن الفهم الإجمالی المباشر الذی یمارسه السواد الأعظم من النقّاد التقلیدیین. وعلی ذلک فإنّ تحلیل النصّ بنیویّاً یتحقّق بارتیاد عالم (الأثر) للنصّ، علی ضوء طبیعة لغته الرمزیّة، والتخلّی عن واقعه وعناصر خیالاته.

ص: 37

وتعنی البنیویّة عند (جورج لوکاش) (Georg Lukacs): استخدام اللغة بطریقة جدیدة بحیث یثیر لدینا وعیاً باللغة من حیث هی لغة، ومن خلال هذا الوعی یتجدّد الوعی بدلالات اللغة، هذا الوعی الذی تطمسه العادة والرتابة. وهذا ما یراه الکثیرون. وأمّا (لیفی شتراوس) (Levi Strauss) فقد ذهب إلی أنّ البنیویة یمکن تطبیقُها فی أی نوعٍ من الدراسات، وقد حدّد البنیةَ بأنّها: «نسقٌ یتألفُ من عناصرَ یکونُ من شأنِ أیِّ تحولٍ یعرضُ للواحدِ منها أن یُحدثَ تحوّلاً فی باقی العناصرِ الأُخری»(1).

وکان النقّاد العرب - شأن نظرائهم البنیویین الغربیین - یعدّون النصّ بنیةً مغلقةً علی ذاتِها ولا یسمحون بتغیّرٍ یقع خارج علاقاتهِ ونظامه الداخلی، فکان لهم فی تعریفها أرآء:

منهم مَن عرِّف المنهج البنیوی بأنّه: الولوج إلی بنیة النصّ الدلالیّة من خلال بنیته الترکیبیّة. ومنهم مَن یری أنّ المنهج البنیوی یعتمد فی دراسة الأدب علی النظر فی العمل الأدبی فی حدّ ذاته، بوصفه بناءً متکاملاً بعیداً عن أیَّة عوامل أُخری، فأصحاب هذا المنهج یعکفون من خلال اللغة علی استخلاص الوحدات الوظیفیة الأساسیة التی تحرّک العمل الأدبی(2).

ومنهم مَن یعتقد أنّ المنهج البنیوی منهجٌ فکری یقوم علی البحثِ عن العلاقات التی تُعطی العناصر المتّحدة قیمةً، ووصفها فی مجموعٍ منتظم ممّا یجعل من الممکن إدراک هذه المجموعات فی أوضاعها الدالّة.

ص: 38


1- المصاروة، ثامر إبراهیم محمد، البنیویة فی النقد العربی الحدیث،ص16-13.
2- المصدر السابق: ص12-10.

ومنهم مَن یعتبر البنیویة طریقة وصفیّة فی قراءة النصّ الأدبی تستند إلی خطوتین أساسیّتین هما: التفکیک والترکیب، کما أنّها لا تهتمّ بالمضمون المباشر، بل ترکّز علی شکل المضمون وعناصره وبناه التی تشکّل نسقیّة النصّ فی اختلافاته وتآلفاته، ویعنی هذا أنّ النصَّ عبارةٌ عن لعبة الاختلافات ونسق من العناصر البنیویّة التی تتفاعل فیما بینها وظیفیّاً داخل نظام ثابت من العلاقات والظواهر التی تتطلّب الرصد المحاید، والتحلیل من خلال الهدم والبناء، أو تفکیک النصّ الأدبی إلی تفصیلاته الشکلیّة وإعادة ترکیبها، من أجل معرفة میکانیزمات النصّ ومولّداته البنیویّة العمیقة؛ لفهم طریقة بناء النصّ الأدبی.

وهنا یمکن القول: إنّ البنیویّة جاءت لتکون منهجاً ونشاطاً وقراءةً وتصوّراً فلسفیّاً یقصی الخارج والتاریخ والإنسان، وکلّ ما هو مرجعی وواقعی، ویرکّز فقط علی ما هو لغوی، ویستقرئ الدوالّ الداخلیّة للنصّ دون الانفتاح علی الظروف السیاقیّة الخارجیّة التی لعلّها قد أفرزت هذا النصّ من قریبٍ أو من بعید.

ص: 39

ص: 40

تقدیم وشکر

حینما شرعتُ بکتابة هذه الأُطروحة، کان فی ذهنی أنّها ستکون محلّ اهتمام مجموعتین من القرّاء، علاوةً علی أُولئک الذین یُعنون بتاریخ الأدیان عموماً، فالمجموعة الأُولی من القرّاء تشمل أُولئک الذین لهم اهتمام خاصّ بتاریخ الإسلام فی أوائل ظهوره، وخاصّةً المعنیین بتاریخ واقعة کربلاء، وما تحمله هذه الواقعة من تأویلات.

والمجموعة الثانیة من القرّاء تشتمل علی المهتمّین بالنظریّة البنیویّة(1) التی أوجدها لیفی شتراوس(2)، وإمکانیة تطبیقها علی أنماط جدیدة من البحوث.

ومع الشروع بالعمل، بدأت أُدرک أنّ هذین الاهتمامین وللأسف لا یکادان یجتمعان أو یتقاربان عند نفس الشخص، ولهذا السبب أدرکت أنّه من الواجب علیَّ أن أبذل قصاری جهدی واهتمامی فی شرح وتوضیح الأُمور، ولو أنّ هذه الشروح قد تبدو لأوّل وهلةٍ غیر ضروریّة فی نظر بعض القرّاء. کما أرجو من القارئ الذی یملُّ من قراءة فقرةٍ ما فی هذا الکتاب أن یتحوّل إلی فقرةٍ أخری تکون أکثر تشویقاً من سابقتها.

استفاداتی من العربیّة کانت وفقاً للطریقة الأنجلوسکوئیة(3)، وأمّا استشهادی

ص: 41


1- سیأتی بحث هذه النظریة بشکل مفصل.
2- کلود لیفی شتراوس عالم انثروبولوجی فرنسی وأحد أعمدة الفکر البنیوی وتنسب له النظریة البنیویة.
3- وتبتنی علی الرجوع إلی العرف.

من القرآن، فاعتمدت فیه علی ترجمة (آربری) (Arberry)، والتواریخ المتعلّقة بالتاریخ المبکر والتقلیدی للإسلام فی عصره الأوّل جاء ذکرها علی نحوین:

الأوّل: حسب التقویم الإسلامی.

الثانی: حسب التقویم المسیحی (المیلادی)

وعلی هذا، فإنّ سنة وفاة النبیّ محمّد جاءت هکذا: (11/632) وأمّا فی الحالات الأُخری فقد تمّ ذکر التواریخ المسیحیّة فقط.

وطوال السنوات الکثیرة التی احتجتها لکتابة هذا العمل بشکلٍ أو بآخر، ساهم عدد من الناس فی إظهار الکتاب علی ما هو علیه الآن، فأخذ بعضهم علی عاتقه مهمّة تدریسی فی مختلف مراحل دراستی لنیل شهادة الدکتوراه بأمانة ودقّة، وأذکر منهم المرحوم البروفسور (یان بیرجمان)(Prof. Jan Bergman)، من قسم اللاهوت فی جامعة أوبسالا، والبروفسور (إینار ثوماسن)(Prof. Einar homassen)، من قسم الدراسات الکلاسیکیّة والروسیّة وتاریخ الأدیان فی جامعة بیرجن (University Of Bergen)، والبروفسور (جدمار أنیر) (Prof. Gudmar Aneer)، من قسم العلوم الإنسانیّة واللغات فی جامعة دالارنا (Dalarna University College)، والبروفسور (هاکان ردفنج) (Prof. Håkan Rydving)، من قسم الدراسات الکلاسیکیّة والروسیّة وتاریخ الأدیان فی جامعة بیرجن، ومن ثمَّ البروفسور (ماتیاس جاردل) (Prof. Mattias Gardell)، من قسم اللاهوت فی جامعة أوبسالا (Uppsala University). وإنّی لممتنٌّ جدّاً للنقد البنّاء والمساعدة والتشجیع الذی تلقیتُه من هؤلاء جمیعاً.

ولا أنسی الدکتور تشارلز أمجد علیّ) (Dr. Charles Amjad-Ali)، مدیر مرکز الدراسات المسیحیّة فی راولبندی فی الباکستان، الذی جعلنی أدرک أنّ الشیعة لیست فرقة ضالة فی الإسلام، وإنّما هی تأویل تطبیقی مزدهر لتعالیم الإسلام المتوارَثة،

ص: 42

وإنّها حقّاً تستحقّ الدراسة.

کما قام عدد من الأساتذة بالقراءة والتعلیق علی النسخ الأولیّة للمقالة، تمّت بعد ذلک إعادة کتابتها بشکلٍ موسّع ومفصّل لتصبح علی ما هی علیه الیوم (وهی هذا الکتاب)، وهؤلاء الأساتذة هم: الدکتور (کلایس هلجرن) (Dr. Claes Hallgren)، من قسم الثقافة والإعلام فی جامعة دالارنا (Dalarna University College)، والدکتورة ()()(جودیث یوزیفسن) (Dr. Judith Josephson)، من قسم اللغات الشرقیّة والأفریقیّة فی جامعة جوتبورغ (Göteborg University)، والدکتورة (أولریکا مورتنسن) (Dr. Ulrika Mårtensson)، من قسم علم الآثار والدراسات الدینیّة فی الجامعة النرویجیّة للعلوم والتکنولوجیا فی تروندهیم (Norwegian University Of Science And Technology، Trondheim)، والدکتورة (کارین سبور) (Dr. Karin Sporre)، من قسم إعداد المعلّمین فی السوید والعلوم الاجتماعیّة فی جامعة أومیو (Umeå Univer).

کما قرأ هذه الأُطروحة البروفسور )لیف ستنبورغ (Prof. Leif Stenberg)، من مرکز اللاهوت والدراسات الدینیّة فی جامعة لوند (Lund University)، وکتب عنها ملاحظات قیّمة من أوّل مسوّدة للمخطوطة الکاملة، من وجهة نظر أُستاذٍ متخصّصٍ فی الدراسات الإسلامیّة، وذلک من خلال حلقة دراسیّة أُقیمت فی جامعة أوبسالا.

کما أشمل بشکری الجزیل الدکتور لوسیان سکوبلا (Dr. Lucien Scubla)، من مرکز بحوث نظریّة المعرفة التطبیقیّة فی مدرسة العلوم التطبیقیّة فی باریس؛ إذ قام مشکوراً بقراءة المخطوطة کاملة، والتعلیق علیها من وجهة نظر أُستاذٍ فی النظریّة البنیویّة.

ص: 43

کما أعاننی السید یوجین رابی (Mr. Eugene Rapi) علی تقویم النصّ الإنجلیزی للصفحتین الأُولیین من الکتاب؛ إذ إنّنی قد کتبته باللغة السویدیّة منذ سنین طویلة، ثمّ تُرجم إلی الإنجلیزیّة.

وممّا یُؤسف له أنّه لم تسنح لی الفرصة لمراجعة وتدقیق ما عدا ذلک من النص الإنجلیزی؛ ولهذا فإنّ القرّاء المتقنین اللغة الإنجلیزیّة سوف یضعون أیدیهم علی أغلاط کثیرة، ممّا یدعونی للاعتذار إلیهم عن ذلک.

أمّا أصدقائی وزملائی فی قسم الدراسات الدینیّة فی جامعة دالارنا، فلم یتوقّف دعمهم لی، وکانوا دائماً مصدر تأییدٍ لی، وخاصّةً فی السنتین الأخیرتین حین دخل هذا العمل فی مرحلةٍ جدیدة.

وبالتالی، فإنّی أُقدم شکری الجزیل (للدکتور تورستن بلومکفیست) (Dr. Torsten Blomkvist)، والبروفسور لیسیلوت فریسک (Prof. Liselotte Frisk)، والدکتور

یوهانا جوستافسون لوندبیرغ (Dr. Johanna Gustafsson Lundberg)، والسیّد

میخائیل تویفیو (Mr. Michael Toivio)، والسیّدة هانا تروتسیغ،(Ms. Hanna Trotzig) والسیّدة جل تورنیجرن (Ms. Gull Törnegren)، والسیّدة لینا أوهمان هالینغ (Ms. Lena Åhman Halling). کما أبدی کثیرٌ من زملائی دعمهم لی من أقسام أُخری من جامعة دارلانا، وهم أکثر من أن آتی علی ذکر أسمائهم هنا؛ لذا فأنا أُقدم لهم جمیعاً شکری وامتنانی.

مدینة فالون (Falun)

کانون الثانی/2007

تورستن هایلین (Torsten Hylén)

ص: 44

مدخل: واقعة کربلاء فی هذا العصر

اشارة

صورة

ص: 45

ص: 46

مدخل واقعة کربلاء فی هذا العصر

مواقف سیارات الأُجرة فی مرکز مدینة هاثی - فی راولبندی فی الباکستان - وتقاطع الفیل فی سوق سدّار، فی هذا المکان تتلاقی ثلاثة طرق ضیّقة، حیث تری ساحة مفتوحة بین البیوت، وفی وسط التقاطع کانت هناک جزرة وسطیة مظلّلة، لطالما ظننتُ أنّها قد أُعدّت لکی یقف تحتها شرطی المرور من أجل أن یقوم بعمله لتنظیم المرور، ولکنّنی لم أرَ قطّ أنّها استخدمت لهذا الغرض!

أمّا الآن، فقد وُضع میکروفون هناک ومکبرات للصوت علی سقف المظلّة، ترجّلتُ من سیارتی، ووقع نظری علی بعض الأصدقاء الذین وضعوا مصاطب لهم فی مکان، حیث تطلّ إحدی تلک الطرقات الضیّقة علی الساحة، ثمّ حیَّونی وقدّموا لی کرسیّاً لأجلس علیه، وکان الجو السائد ینمُّ عن ترقُّبٍ لحدثٍ ما، وما کان التوتر الظاهر علی وجوه المجتمعین هناک لیخفی علی أحد.

وبدا أنّ العدد الکبیر من الشرطه الذین کان بعضهم متسلّحاً بکلِّ أنواع الأسلحة، قد أُمروا بالوقوف علی جمیع جوانب الساحة، وقد کانوا علی أُهبة الاستعداد لمواجهة أیِّ عملٍ قد یعکّر صفو النظام هناک.

ثمَّ سألت صدیقی نعمان، وهو من المسلمین السنَّة: لأیِّ سببٍ کان هو وعائلته یقفون بجوار المصطبة التی أعدّوها وزینوها بأکواب الماء، کی یقدّموها مجاناً خلال ذلک المهرجان الشیعی الخالص؟!

فأجابنی بأنْ سرد علیَّ قصّة الإمام الحسین حفید النبیّ محمّد، وکیف هاجمته وحاصرته قوات الخلیفة یزید فی صحراء کربلاء فی العراق، حیث حُرموا من الماء.

ص: 47

وهکذا فلقد أَصبح من السُنّة - أی: عقیدة مقدَّسة یجب اتّباعُها - أن یکفَّروا عن ذنبهم هذا ببذل الماء(1) للذین یحیون ذکری مقتل الحسین وأنصارِه. ثمَّ علمتُ بعد ذلک أنّ الحسین هو شخص مقدّس عند أهل السُنّة أیضاً وخاصّةً فی جنوب آسیا.

الیوم کان التاسع من المحرّم، ولقد کانت هذه أوّل مرّة لی أحضر فیها وأشاهد تلک الشعائر الشیعیّة التی لطالما قرأت عنها، وعلی بُعد بضع مئات من الأمتار بالقرب من المسجد الشیعی، رأیت أنا وأصدقائی رایاتٍ سوداء وحمراء مرفوعة، وکان یتبعها موکب منظّم، ثمّ سمعنا أصواتاً متناسقة، فتحرّکنا أنا وصدیقی نعمان للأمام، لنری أنّ مصدر تلک الأصوات کان مجموعة کبیرة من الرجال الذین کانوا یضربون بأیدیهم علی صدورهم الحاسرة، علی إیقاع رجال آخرین کانوا یُنشدون قصائد فی رثاء الإمام الحسین(علیه السّلام)، ثمَّ تشکّلت حلقة من الناس بالقرب منّا، وکان الذین یحیطون بهذه الحلقة ینشدون بصوت واحد متناغم: (یا حسین، یا حسین).

ثمَّ رأینا فی وسط تلک الحلقة شابَّین متقابلین، لم یتجاوز عمرها العاشرة أو الثانیة عشرة، ولم یرتدیا قمصاناً، یمسکون بأیدیهما سوطین صُنعا من سلاسل تنتهی بشفراتٍ حادة، وکلّما ازدادت صیحات الجمع الذی کان یطوقهم حِدةً، بدأ الفَتَیان بضرب بدنیهما بالسلاسل التی فی أیدیهم حتی تسیل الدماء من ظهریهما،

ص: 48


1- إنّ ظاهرة بذل الماء فی المراسم الحسینیّة عند الشیعة لا تنطلق من فکرة التکفیر عن الذنب؛ لأنّ الأجیال التی تحیی الذکری لم تکن حاضرة فی واقعة کربلاء، حتی یُقال: إنّها ارتکبت ذنباً وترید أن تکفّر عنه ببذل الماء.إضافة إلی أنهم یبذلون الطعام وکل غال ونفیس من أجل إحیاء ذکری الحسین(علیه السّلام)، فهذه الظواهر تجسد أهداف وأخلاق الإمام الحسین(علیه السّلام) التی قام بنهضته لأجلها، وتکشف عن مدی اللؤم الذی تکتنفه شخصیة أعدائه، وبعدهم عن المبادئ الإنسانیة. (المحقق).

وما أن تمرّ نصف دقیقة أو أکثر بقلیل حتّی یفقد الفتیان القدرة علی تحمّل أیّة ضربات أُخر، ویتوقفان عن جلد نفسیهما بتلک السلاسل مع خفّة شدّة الصیحات حولیهما.

وبعد ذلک بقلیل، تشتد مرّة أخری حدّة صیحات: (یا حسین، یا حسین)، ویبدأ الفتیان بالضرب مرّة أُخری، ولا تتوقّف نظرة أحدهما للآخر، وکأنّ أحدهما یرید أن یستبین إن کان الآخر سیتوقف أوّلاً قبل صاحبه(1).

ثمّ غادرت أنا ونعمان المکان وعدنا إلی تلک المصطبة، حیث کان أصدقائی قد شرعوا بتوزیع المیاه، وعصیر اللیمون فی أکواب صغیرة صُنعت من الفخار؛ کی یرووا ظمأ المارَّة.

وبعد هنیهة، اقترب الجمع منّا أکثر وتوقّف فی مرکز ساحة (هاثی)، فجلس عدد کبیر منهم هناک، بینما تقدّم عدد آخر من المصطبة کی یشربوا.

ولقد وقع نظری علی عدد من الرجال بدت ظهورهم حمراء وکأنّها قطع من الدماء بسبب ضرب أنفسهم بتلک السلاسل، إذ أُصیب اثنان أو ثلاثة منهم بالإغماء بسبب نقص الدم، فأُسرع بهم إلی مشفی کان قریباً من مکان الحدث، ثمَّ بدأ رجل بإلقاء کلمة من جهاز مکبر الصوت فی مرکز الازدحام المروری، ثمّ جاء رجل آخر فأنشد قصیدة فی رثاء الحسین، کانت کلماته تدور حول مأساة کربلاء، ثمّ تقدّم مُلاّ - خطیب دینی - لیلقی خطبة، ورغم أنّنی لم أفهم ما کان یقوله ذلک الخطیب، ولکن الجمع المحتشد کانوا بین فینة وأُخری یرفعون أصواتهم بالنداء: (یا

ص: 49


1- هذا المظهر وغیره من المظاهر الأُخری التی لم تبرز عند عموم الشیعة، واقتصرت عند بعض البلدان، إنّما تعدّ من تقالید تلک الشعوب لا من الشعائر التی لها مستند شرعی متّفق علیه عند الشیعة؛ لذلک یقوم بها بعض الشیعة دون بعض. (المحقق).

علیّ) أو (یا حسین)، وفی مکانٍ ما خلف تلک الساحة کانت النساء یبکین.

وکان الجو متوتراً، وقد فهمت الآن کیف یکون من السهل أن تُعبّأ الجماهیر من خلال الرمزیّة الفعّالة الموجودة بشکلٍ ملحوظ فی قصّة کربلاء، وهو عین ما حدث عند انطلاق الثورة الإیرانیّة فی العام (1979-1980م)، عندما أُعطی الشاه دور یزید الخلیفة الفاسد، والشعب أخذ دور الحسین، وبهذا أصبحت الشهادة وسیلة شرعیّة فی الکفاح ضدّ النظام الفاسد الذی کان یحکم البلاد(1).

ثم استغرقت خطبة المُلاّ ما یقارب النصف ساعة، ثمّ بدأت الجموع بالتفرّق حال انتهاء الخطبة، ولم یستمر بالتجمهر سوی قسم من تلک الجموع، بینما عاد الأکثریّة إلی بیوتهم.

وفی آخر صفوف تلک الجموع وقع نظری فجأة علی حصان أبیض، قد تمّ تزیینه بشکلٍ جمیل، فبدأ أصدقائی بتفسیر ذلک المنظر لی بالقول: إنّ الحصان یمثّل ذا الجناح، وهو الجواد الذی کان الحسین یمتطیه فی معرکة کربلاء، ثمَّ اجتمع عدد کبیر من الناس حول ذلک الحصان، وکان أکثر المجتمعین من النسوة کان الحصان مغطیً بقطعة قماش أبیض مضرّجة بالدماء، وتعلوه أکالیل من الزهور والورود، کما رُفعت علی سرجه عصاً طویلة تنتهی بتمثال یشبه الید مصنوع من المعدن، والأصابع فی تلک الید المعدنیة تمثّل أفراد العائلة المقدّسة الخمسة، أهل بیت محمّد، وهم: (محمّد، وعلیّ، وفاطمة، والحسن، والحسین).

فالنسوة اللائی اجتمعنَ حول الحصان کنّ یدعین ویبکین، بینما کان هناک عدد

ص: 50


1- کانت ثورة الإمام الحسین(علیه السّلام) علی مرّ التاریخ ملحمةً ونبراساً لکثیر من الثورات التی تنهض ضدّ الحکومات الظالمة، والثورة الإسلامیة فی إیران فی هذا العصر واحدة منها، والجدیر بالذکر أنّ أحداثها کانت متزامنة مع ذکری شهادة الإمام الحسین(علیه السّلام).

کبیر من الناس یعطون الصدقات لمستحقّیها(1) الذین أحاطوا بالحصان.

وقد قِیل لی: إنّ الله یستجیب لتلک الدعوات التی تُتلی عند ذی الجناح(2) أکثر من غیرها التی تُتلی فی أماکن أُخری، ثمّ تحرّک الحصان وتحرّک الجمع معه، وعدنا نحن إلی جوار تلک المنصّة التی جُمعت وخلا المکان من الناس عند حلول الظلام.

وفی الیوم التالی، سوف یعاد نصب تلک المنصّة مرّةً أخری؛ لکی یقدّم الطعام للحشود التی ستجتمع هناک بعدد أکبر؛ لأنّ الیوم التالی سیصادف ذکری مقتل الحسین.

لقد أثّرت بی کثیراً هذه الحادثة التی شهدتُها فی راولبندی فی شهر حزیران من العام (1993م)، إذ أصبحت مفتتناً بتلک النوبة الجنونیّة، وبذلک التفانی والإخلاص اللذین أظهرهما أُولئک الناس، إلّا أننی لم أشعر بالارتیاح لمنظر الدماء والألم الذی ظهر هناک(3).

فإنّ ما تعلّمته وشاهدته فی الباکستان من قبل - وحتی ما تعلّمته أکثر بعد حضوری شعائر محرّم من العام (1993م) - قد جعلنی أُدرک مدی العمق والتأصُّل

ص: 51


1- المقصود به النذر لله والهدایا التی یقدّمها الناس فی هذه المناسبة لقضاء حوائجهم.
2- إنّ مثل هذه المراسم هی بالحقیقة تصویر فنّی ینقل المشاهد بمشاعره إلی تلک الأحداث، فیجعله أکثر حماساً وأکثر انفعالاً وتفاعلاً مع قضیة الحسین(علیه السّلام)، أمّا استجابة الدعاء إلی جانب (ذی الجناح) فهو اعتقاد عامّی (أی لیس له مستند شرعی)، نعم وردت أخبار بأنّ الدعاء مستجاب یوم عاشوراء. (المحقق).
3- أمّا الاستنتاج الذی توصّلت إلیه حین مراقبتی للأجسام التی کانت متأثرة بضربات السیاط، فهو أنّ تلک الطقوس لا بدّ أن تکون موجعة جدّاً. ولکن الواقع کما یقول فیرنون شوبل الذی قام بدراسةٍ لطقوس الشیعة فی الباکستان معتمداً علی ملاحظاته الشخصیّة، وعلی عددٍ من المقابلات التی أجراها، حیث اتّفق معظم المشارکین بتلک الطقوس علی أنّ تلک الممارسات لا تسبب أیَّ ألمٍ جسدیٍّ لهم. اُنظر: کتاب الأداء الدینی (Religious Performance) لکاتبه فیرنون شوبل: ص146.

الذی خلَّفَتْهُ قصّة الحسین وموته فی کربلاء فی النظرة العالمیّة للمسلمین الشیعة، وفی ضمائر الشیعة أنفسهم؛ إذ إنّ هذه القصّة أنشأت أُنموذجاً مرکزیّاً یحمله کلُّ شیعیٍّ معه، سواء أکان رجلاً أم امرأة، وهو أُنموذج لرموز وقصص وطقوس ومواقف وقیم لا ترتبط بالحسین وشهادته فقط، وإنّما ترتبط بکلِّ أفراد آل النبیّ ومعاناتهم.

وهکذا، فإنّ لتلک المراسیم والشعائر التی أتینا علی ذکرها آنفاً، جذورَها التی استمرت لعقود بعد موت النبیّ محمّد فی السنة الحادیة عشرة للهجرة (632 میلادیّة)، ولم یتوقف سرد قصّة مأساة کربلاء بین المسلمین أبداً رغم اختلاف انتماءاتهم المذهبیّة، وإن کانت تُروی بصورة خاصّة بین المسلمین الشیعة، وقد سطّرتها الکتب فی نُسخ لا تُعدّ ولا تُحصی منذ فجر الإسلام إلی یومنا هذا.

من أقدم أشکال سرد هذه المأساة، وأطولها وأکثرها استرسالاً وتفصیلاً ما کتبه الطبری المتوفّی سنة (310 ه- /923م)، وهو فقیه ومتکلّم ومؤرِّخ لا ینتمی إلی الطائفة الشیعیّة؛ وعلیه نعتمد فی استقصائنا لهذه المأساة فی الرسالة التی بین یدی القارئ(1).

ص: 52


1- حین یرد اسم (مأساة کربلاء) فی کتابی هذا، فإنّی أعنی بها قصّة مقتل الحسین کما نعرّفها نحن بشکلها العام، وکما نروی أیّة قصّةٍ مأساویّة أُخری، أی أنّنا نفهم منها بأنّها قصّة لها بدایتها، وحبکتها المرکزیّة، ونهایتها المأساویّة، وقد رویت هذه المأساة مراراً وتکراراً بأشکال تتفاوت فی السرد والتفاصیل، فمثلاً: رواها أبو مخنف، والطبری، وآخرون کُثر. وقد یفهم بعض الناس من مأساة کربلاء بأنّها تأسیس لنظرتهم لمثل هذه الحکایات، ما یوافق النظرة العامّة لمثیلاتها عالمیّاً، وبذلک ینظرون إلیها علی أنّها تمثّل حالة أطلقتُ علیها فی هذا الکتاب اسم (أُسطورة)، کما ستأتی علی تفاصیلها قریباً فی أحد فصول هذا الکتاب. أمّا بالنسبة للآخرین منّا، فإنّ هذه القصّة لیست أکثر من مجرّد قصّة، مع کونها قصّة مثیرة ومأساویّة بحقٍّ، وتستحقّ أن تنال بجدارة وصف مأساة مشوّقة (دراما). للاطّلاع أکثر علی ما تعنیه کلمة (دراما) وعلی استخدام هذا المصطلح، نحیل القارئ إلی کتاب: الفکر الإسلامی السیاسی الحدیث (Modern Islamic Political Thought) للکاتب عنایت (Enayat): ص181-190.

ومن أجل القرّاء الذین لیست لدیهم فکرة عن تاریخ الإسلام، سوف نعرض فیما یلی نبذة مختصرةً عن خلفیة أحداث مأساة کربلاء کما ترد فی الکتب الدراسیة الحدیثة التی تتحدّث عن الإسلام:

حین تُوفی (النبیّ محمّد) فی السنة الحادیة عشرة للهجرة (632 للمیلاد)، لم یکن له ولد ذکر لیرثه، فقالت جماعة من أتباعه - الذین عُرفوا فیما بعد(1) بالشیعة أو (شیعة علیٍّ)، والتی تعنی (أتباع أو حزب علیٍّ)-: إنّ النبیّ فی حقیقة الأمر قد أوصی إلی ابن عمّه وصهره علیّ أن یکون الإمام والقائد علی المسملین بعد وفاة النبیّ. وفی الحقیقة، فإنّ الشیعة یؤکدون بأنّ مَن اختار علیّاً لهذا المنصب هو الله؛ لذا کان علیٌّ یحمل مهمّة الهدی الإلهی بنفسه، وبهذا فهو أولی الناس أو هو الشخص الوحید المناسب لمهمّة قیادة وهدایة المجتمع المسلم أو الأُمّة الإسلامیّة، فقد کان معصوماً من قبل الله ولم یرتکب ذنباً أو خطأً أبداً، علاوةً علی ذلک، کان علیٌّ زوج فاطمة بنت محمّد، وکان من الطبیعی أن یرث(2) ابناه الحسن والحسین مهمّة القیادة الربانیّة من أبویهما معاً. (اُنظر إلی الشکل 1،1).

ص: 53


1- عرفوا بالشیعة فی عهد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ولیس فیما بعد. اُنظر: کاشف الغطاء، محمد حسین، أصل الشیعة وأُصولها: ص184. الخراسانی، طالب بن علی، نشأة التشیّع: ص24. الصدر، محمد باقر، نشأة التشیّع والشیعة: ص21. الطباطبائی، محمد حسین، الشیعة فی الإسلام: ص15. (المحقق).
2- الوراثة التی تقول بها الشیعة هی وراثة بالتنصیب والمقام لا بالنسب، ولا بدّ للمتّصف بها أن یمتلک مؤهّلات تؤهّله لهذا المقام الإلهی. اُنظر: شریعتی، علی، الأمّة والإمامة: ص150-152. السند، محمد، الإمامة الإلهیّة: ج1، ص206. (المحقق).

جدول عبدالمطلب

عبدالله

محمد

فاطمه

ابوطالب

(1)امام علی

(2) الحسن

(3) الحسین

(4) علیّ زین العابدین

(5) محمد باقر

لأسماء المکتوبة باللون الأسود الغامق تمثّل أهل بیت النبیّ المباشرین.

الأرقام تمثّل تسلسل الأئمة عند الشیعة الإمامیّة.

الشکل 1،1: آل بیت النبیّ محمّد

ص: 54

أمّا الجماعة الأُخری التی سُمّیت فیما بعد بالسنَّة(1)، فإنّها ادّعت أنّ قیادة الأُمّة الإسلامیّة لیس بالضرورة أن تکون فی آل محمّد؛ لذا فقد اختاروا لهذا المنصب رجلاً کبیراً فی السن، وذا خبرة اسمه أبو بکر، وقد أصبح فعلاً قائد المسلمین، ثمَّ استولی علی السلطة بعد ذلک الأُمویون، وهم من أبناء الطبقة العلیا من بیوت مکّة.

ومع مرور الزمن ازداد التوتر بین تلک الجماعتین، وبعد مرور ما یقرب من خمسین عاماً علی وفاة النبیّ، انطلق الحسین الابن الأصغر لعلیٍّ نحو الکوفة فی العراق، حیث کانت هذه المدینة منذ أمدٍ لیس بالقصیر حصناً حصیناً للشیعة.

ولکن السلطات الحاکمة الأُمویّة اعتبرت حرکة الحسین هذه عملاً تمرّدیاً، وفی کربلاء عند نهر الفرات قام جیش کبیر العدّة والعدد بأمرٍ من الخلیفة یزید بمحاصرة الحسین ومنعه من ورود نهر الفرات، کما منعوا عنه کلَّ موارد المیاه هناک. ولقد کانت حقیقة مرّة للحسین حین علم أنّ کثیراً من أهل الکوفة الذین کانوا قد بایعوه قد أظهروا الخیانة له، وجاءوا لیقفوا ضدّه مع جیش الخلیفة.

وفی بادئ الأمر حاول الحسین أن یتفاوض مع جیش الخلیفة، ولکن الشروط

ص: 55


1- توجد ثلاثة آراء فی منشأ التسمیة لهذا المصطلح: الأول: إنّ لقب (أهل السنّة) کان ابتداءً وصفاً لمجموعة من العلماء المشتغلین بتدوین الحدیث، وعندما برز الإمام أحمد بن حنبل، أخذ یوسّع استخدام لقب (أهل السنّة)؛ لیشمل الأتباع والمقلّدین لمذهبه والعوام المؤیّدین لمنهج أهل الحدیث. الثانی: لمّا أمر معاویة بلعن الإمام علیّ(علیه السّلام) علی المنابر زعم أنّ ذلک سنّة یُثاب فاعلها، وسُمّی ذلک العام (عام السنّة). ولمّا قتل علیٌّ(علیه السّلام) وتصالح الحسن(علیه السّلام) مع معاویة، قام معاویة بتسمیة ذلک العام (عام الجماعة)، فأصبح کلّ مَن یعتقد بإمامة معاویة یقول نحن (أهل السنّة والجماعة) . الثالث: قال ابن تیمیة: فلفظ أهل السنّة یُراد به إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة - یقصد أبا بکر وعمر وعثمان - فیدخل فی ذلک جمیع الطوائف إلاّ الرافضة - یقصد الشیعة - اُنظر: القاسم، أسعد، أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة: ص251-252. (المحقق).

الصعبة التی اشترطها حاکم الکوفة للهدنة کان من المستحیل علی الحسین أن یقبلها، فلم یکن له بدیل عن القتال حتّی الموت؛ لذا وفی الیوم العاشر من المحرّم سنة إحدی وستین للهجرة - الموافق للعاشر من تشرین الأوّل سنة (680) للمیلاد - هاجم جیش الخلیفة ذو الأربعة آلاف مقاتل الحسینَ ومجموعته الصغیرة، والتی کانت مکوّنة من حوالی مائة شخص أو أکثر قلیلاً من الرجال والنساء والأطفال(1).

أمّا تفاصیل المعرکة، والموقف المیؤوس منه لتلک المجموعة الصغیرة وعطشهم واستبسالهم فی القتال، والمواقف الجبانة والوحشیّة لأعدائهم الذین قتلوا حتّی الأطفال الصغار وروّعوا النساء، فتجدها مفصّلةً بإسهاب فی الروایات المختلفة التی روت تلک المعرکة.

وفی النهایة حتّی الحسین نفسه سقط قتیلاً، واحتُزَّ رأسه وأُحضر إلی الخلیفة فی دمشق (2).

ومن حینها والحسین وأصحابه یتربعون علی قمّة أروع نماذج الاستشهاد عند المسلمین الشیعة، وهکذا أصبح الحزن علی ما حلّ بالحسین وجماعته بکربلاء، والخزی

ص: 56


1- الکلام حول عدد أفراد العسکرین فیه اختلافٌ کثیر، وتحدید عدد معیّن لا یخلو من صعوبة، وإلیک أقوال المؤرِّخین: أ- عدد أفراد معسکر الإمام الحسین(علیه السّلام): 82، 114، 145، 170، 600، 1000، وغیر ذلک. ب - عدد أفراد معسکر عمر بن سعد: 4000، 4500، 20000، 22000، 28000، 30000، 31000، 35000. اُنظر: الری شهری، محمد، الصحیح من مقتل سیّد الشهداء وأصحابه: ص652-654. (المحقق).
2- یمکن للقارئ أن یطّلع علی خلاصة شاملة للقصّة الکاملة کما رواها الطبری فی الملحق الأوّل لهذا الکتاب.

الذی لحق بأهل الکوفة لخیانتهم سیّدهم(1) السمة الأبرز لهذه الجماعة من المسلمین.

ص: 57


1- لم تکن حاضرة الکوفة تتکون من طائفة ولاقومیة ولا عشیرة ولاطبقة اجتماعیة واحدة، ولا من تیار ولا خط سیاسی واحد، وهذا یعکسه تنوع مواقف أهلها بین من ینصر الحق ومن ینصر الباطل، ومن یقف متفرجاً، والذی ینمّ عن اختلاف فی الولاء ونمط التفکیر وطریقته، فکان منهم ذوی آراء ووجهات نظر ومنهم من یتحرک وراء المنافع والمصالح المادیة، وألقی هذا التعقید فی ترکیبة المجتمع الکوفی بظلاله فی دعوة الإمام الحسین(علیه السّلام) ونصرته ورفض یزید وبنی أمیة، فلم تقتصر الکتب المرسلة للإمام علی الشیعة منهم، فقد کتب له حتی بعض الخوارج وبعض المتلونین وأصحاب المصالح أمثال الحجاج بن أبجر وشبث بن ربعی وغیرهما، ولو نلقی نظرة فاحصة للمجتمع الکوفی، تاریخیاً سنجده یتشکل فی تلک الفترة من عدة فئات کبیرة: فئة الخوارج، وفئة الحمراء وهم العبید الذین کانوا یشکلون قسماً کبیراً من شرطة الوالی وجنده، وفئة الأُمویین وفئة الشیعة وهی أقل الفئات، وعامة الناس الذی یمیلون مع القوی اینما حلّ. ورغم هذا التنوع إلا أن الطابع العام للمجتمع الکوفی محبة أهل البیت(علیهم السّلام) ؛ لأنهم شهدوا حکم أمیر المؤمنین(علیه السّلام) لهم، وبعده الحسن المجتبی(علیه السّلام)، وفی سنة (50) هجریة أی فی إمارة زیاد بن أبیه جعل الأقسام العسکریة فی الکوفة علی غرار ما کان فی البصرة، حیث أصبحت الأسباع أربعة: الربع الأول : أهل العالیة. والربع الثانی: تمیم وهمدان. والربع الثالث: ربیعة وبکر وکندة. والربع الرابع : مذحج وأسد. وفی هذا النظام العسکری الجدید حاول ابن زیاد تحقیق أهداف سیاسیة کدمج همدان، وهی القبیلة الشیعیة مع تمیم التی تبغض همدان، وعلی هذا استقر التقسیم العسکری فی الکوفة، وکان له رؤساء مشهورون یعرفون برؤساء الأرباع، وهم علی استعداد دائم للإستجابة عند دعوتها ، وسوقها لمیادین القتال، خوضاً لمعرکة جدیدة أو إمداد لجیش یطلب الإغاثة، وکان للمقاتلین عطاؤهم الخاص، ورواتبهم من بیت المال . . . والشیعة کانوا نسبة قلیلة وسط الغالبیة المتعاطفة مع الإمام علی وبنیه(علیهم السّلام) ، فلم تکن الکوفة شیعیة بأسرها أو نصفها یوم جاءها الإمام الحسن(علیه السّلام)، أو یوم غادرها. فکان غالبیة أهل الکوفة یرفضون حکم بنی أمیة جملة وتفصیلاً، ولکن یقتضی الثبات علی المبادئ ومقارعة حکومة ظالمة عاملها مستهتر بالدماء والحقوق مثل ابن زیاد درجة عالیة من الوعی والإیمان، وهذا یفسر السبب الذی جعل ابن زیاد یعمد إلی القوة والقهر فی سبیل حشد العسکر لمقاتلة الإمام الحسین(علیه السّلام)، وتطویقه المدینة بالحرس حتی یمنعهم من الفرار أو اللحاق بالإمام(علیه السّلام)، علاوة علی ما ذکرته بعض الکتب من کثرة من سجنهم من معارضی بنی أمیة وخصوصاً الشیعة ورجالاتها من أمثال میثم التمار والمختار الثقفی وغیرهم. اُنظر: کتاب تأمل فی نهضة عاشوراء، لرسول جعفریان، حیث بحث هذا الموضوع بشکل علمی مفصل. (المحقق).

عکس

الشکل 1.2: خارطة توضّح مسیر الحسین والموضع الذی حدثت فیه مأساة کربلاء.

ص: 58

ففی الأیّام الأولی لشهر محرّم من کلِّ عامٍ، تُحیی ذکری هذه المأساة من خلال طقوسٍ وشعائر تغصّ بها المدن والقری، حیث یلطم أهالیها علی صدورهم ویضربون أنفسهم بسلاسل وما یشبهها کالسیاط، وفی بعض الأحیان یتجاوزون هذا الحدّ لیضربوا أنفسهم بسکاکین وسیوف، وکلُّ هذه الطقوس هی محاولة للتعبیر عن أسفهم علی مقتل الحسین وولائهم لآل بیت النبیّ.

وفی کلِّ أنحاء العالم - حیث یتواجد الشیعة - لا تقتصر مراسیم إحیاء الأفکار والقیم المستوحاة من مأساة کربلاء، وتردید الأحداث التی جرت هناک علی شعائر محرّم، بل تتجاوزها لتشمل أوقاتاً وأشکالاً أُخری کثیرة(1)، ففی المجتمع الباکستانی، یعدّ من أظهر علامات الحضور الشیعی - علاوةً علی الممارسات الشعائریّة المذکورة آنفاً حسب ما لاحظت بنفسی - هو الوجه السیاسی للقیم المستوحاة من هذه المأساة التی لا یخفیها هؤلاء الشیعة.

وعلی سبیل المثال، ینظر شیعة الباکستان - الذین یمثّلون حوالی ثلاثین بالمائة من سکان هذا البلد - إلی المضایقات والاضطهاد الذی یتعرّضون له علی أیدی بعض الجماعات المتشدّدة التی تناهض التشیّع علی أنّها معاناة یجب تحمّلها فی سبیل الحسین وأهل بیته المقدّسین(2).

ص: 59


1- للاطّلاع علی صورة شاملة للشیعة فی العالم المعاصر، اُنظر کتاب: الفضاء المقدّس (Sacred Space) لکاتبه کول (Cole).
2- تحمّل المعاناة لا یعنی القبول بمعناه السلبی، بل التعایش معها؛ لأنّها أمرٌ واقع، الشر یعادی الخیر دائماً وما دام الإنسان یری نفسه فی جهة الخیر فلا یتوقّع أن یترکه الشر یعیش کیفما أراد، مضافاً إلی أنّ لمبادئ التی ثار لأجلها الإمام الحسین(علیه السّلام) لا تنسجم بأیّ شکل من الأشکال مع الخنوع والخضوع والذلّة، وإنمّا تنسجم مع العزّة والکرامة والدفاع عن المبادئ. (المحقق).

وتبدو مُثُل الشیعة أکثر وضوحاً فی تفاصیل أُخری صغیرة، فلقد شاهدت أنا بنفسی أکثر من مرّة لافتات صغیرة معلّقة فی المحال والعیادات الطبیّة مکتوبٌ علیها باللغة الإنجلیزیّة: (عِش حیاتک کعلِیٍّ، ومُتْ کالحسین)، ومن المظاهر الجلیّة الأُخری التی تعبّر عن ولاء هؤلاء الناس للعائلة المقدّسة هو کتابة أسمائهم بخطٍّ حسن علی الصور أو علی الجدران مباشرة، وتسمیة أبنائهم بتلک الأسماء.

إنّ مشاهداتی الشخصیّة لأهمّیة مأساة کربلاء تدعمها دراسات أکادیمیّة عدیدة، حیث اتّفق کاتبوها علی أنّ حادثة کربلاء لم تکن مسألة حیاة أو موت فی هذه الدنیا فحسب، وإنّما لها أبعاد کونیّة واسعة إلی أبعد حدٍّ، یقول فیرنون شوبل (Vernon Schubel) الذی قام بدراسة میدانیّة فی کراتشی عام (1983): «یعتقد الشیعة فی کلِّ أنحاء العالم أنّ حادثة کربلاء إنّما هی واحدة من الأحداث الحاسمة فی تاریخ العالم»(1)، کما تؤکد دراسات کُتبت عن المذهب الشیعی بأنّ الأفعال الشعائریّة التی یُراد منها إظهار التضامن والولاء للعائلة المقدّسة، إنّما یقوم بها أصحابها من أجل الثواب الذی یضمن لهم نجاتهم، فإنّ الله قد أعطی الحسین وأهل بیته - بما فیهم الأئمّة من بعده - القدرة علی الشفاعة للمؤمنین یوم القیامة؛ وذلک بسبب ثباتهم وصبرهم علی ما عانوه فی کربلاء(2)؛ ولهذا السبب تُرجی النجاة من الله بحقّهم (3).

ص: 60


1- سکوبلا، الأداء الدینی (Religiouse Perfoymance): ص31.
2- الشفاعة مقام ودرجة أعطاها الله تعالی للنبیّ وآله(علیهم السّلام) ؛ لعلوّ درجتهم، ولکونهم أُناساً مصطفین، لا لأنّهم استُشهدوا فی سبیل الله، نعم إنّ للشهادة مقاماً عالیاً، لکنّهم بدون الشهادة أیضاً لهم مقام الشفاعة. (المحقق).
3- اُنظر: أیوب، المعاناة الافتدائیة: ص197- 205؛ بوکر (Bowker)، مشاکل المعاناة: ص131-133.

ومنذ العصور الأُولی، کان یُعتقد أنّ الأئمّة الاثنی عشر یملکون معرفة تفوق معرفة الناس العادیین(1)، قد هدوا من خلالها المؤمنین علی مرِّ العصور(2).

فضلاً عن ذلک، فإنّ لشهادة الحسین أثرها لیس علی الذین عاشوا بعد استشهاده فحسب، وإنّما تؤکد کتب التاریخ التی کتبها الشیعة ومجموعاتهم الروائیّة بأنّ آدم - وهو أوّل إنسان عاش علی هذا الکوکب - قد تأثّر کثیراً حینما سمع باسم الحسین لأوّل مرّة، وحین سأل عن سبب هذا الشعور الذی انتابه، أخبره ملَکٌ بقصّة مقتل الحسین التی ستحدث فی المستقبل البعید، وقد رُویت قصص کثیرة مشابهة عن الوقع المؤلم الذی ترکته قصّة مقتل الحسین علی أنبیاء عاشوا قبل الإسلام(3).

الأُسطورة وصناعتها وکتابة التاریخ

حینما عدت إلی أبسالا بعد بضع سنین من مشاهدتی لشعائر محرّم فی راولبندی، حضرت سلسلة من حلقات دراسیّة حول مفهوم الأُسطورة، نظّمها الأُستاذ الراحل (یان بیرجمان) وطلاب الدکتوراه الذین کانوا تحت إشرافه، وقد طُلب منّا نحن الطلبة أن نکتب مقالةً حول هذا المفهوم من وجهة نظر العادات والتقالید

ص: 61


1- لم یکن هذا الاعتقاد السائد فی تلک العصور محض دعوی، بل لمَسه المسلمون فی حیاتهم، ومن خلال قربهم منهم، وقد دلّت علیه الآیات والروایات الصریحة. (المحقق).
2- اُنظر: Divine Guide، (الهدایة الإلهیّة) أمیر معزّی.
3- اُنظر: أیوب، المعاناة الافتدائیة: ص27- 28. للتعرّف علی المظاهر العبادیّة والشعائریّة لاعتقادات الشیعة فی مختلف الثقافات والبیئات التی عاشوا فیها. والإسلام الشیعی (Shi’a Islam) للکاتب هالم، والأداء الدینی، للکاتب شوبل، والتشیّع الحی (Living Shi’ism) للکاتب ثورفییل (Thurfjell).

التی درسها کلُّ واحدٍ منّا(1).

وفی ذلک الوقت أدرکت أنّ مفهوم الأُسطورة یکاد ینعدم فی الإسلام، وحین شرعت بالبحث بشکلٍ نظامی عن مصادر تُعنی بموضوع الأُسطورة فی الإسلام، تأکّد لی ما کنت أعتقد به سالفاً من أنّ الأُسطورة لیس لها مکان فی الإسلام(2).

وفی نفس الوقت خامرنی شعور قوی، بأنّ قصصاً مثل قصّة مقتل الحسین فی کربلاء تلعب دوراً مهماً، ولها وزنها عند المسلمین الشیعة أکثر ممّا تلعبه تلک القصص التی نطلق علیها اسم (أُسطورة) عند باقی الأُمم؛ لذا لماذا لا یُطلق اسم (أُسطورة) علی هذا النوع من القصص فی الإسلام؟

هنالک علی الأقل سببان - فیما أعتقد - من نفور أساتذة الأدیان الغربیین(3) من استخدام مصطلح (أُسطورة) فی کلِّ ما یخصّ الإسلام:

السبب الأوّل: هو أنّ لمؤرِّخی الدِّین طریقتهم المتوارثة الخاصّة بهم فی تعریف الأُسطورة، وبالرغم من عدم وجود تعریف محدّد للأُسطورة یتّفق علیه کلُّ المعنیین بها، أو علی الأقل مؤرِّخو الأدیان، فإنّ هناک مقتضیات ضمنیّة یمکن أن یُقال: إنّها وصلت إلی مستوی قریب من الإجماع فیما بینهم، إذ یُجمعون علی أنّ الأُسطورة

ص: 62


1- وقد طُبعت تلک المقالات فی مطبعة سندکفیست وسفالاستوج تحت عنوان: الأُسطورة وصناعتها (Myter Och Mytteorier).
2- علی سبیل المثال، فی دلیل المراجع (ببلیوغرافیا) فی کتاب نظریّات الأُسطورة (Theories Of Myth) لکاتبه سینکویج (Sienkewicz) حول نظریّات الأُسطورة، وقد احتوت علی أکثر من خمسمائة مادّة، تجد فیها خمسة مواضع لها علاقة بالإسلام، بینما لا تجد مادّة واحدة تخصّ الأُسطورة فی الإسلام فی موسوعة الأساطیر (Mythologies) التی کتبها بونیفوی (Bonnefoy).
3- أینما ذُکرت لفظة (غرب) أو (غربیین) فی هذا الکتاب، فإنّی لا أقصد منطقة جغرافیّة أو اتجاهاً سیاسیّاً ما، وإنّما أقصد من هذه اللفظة العرف الأکادیمی العلمانی الذی تطوّر فی أُوروبا وأمیرکا فی القرنین الأخیرین، علی أنّه موجود أیضاً فی أجزاء أُخری من العالم.

یجب أن تُعرَّف علی أنّها: ضربٌ من الروایة یمتاز عن غیره من الضروب، کالسیرة والحکایة الشعبیّة (1). علی أنّ هذا التمایز لا یستخدم إلّا نادراً فی تاریخ الأدیان المعاصر، ولکنّه ما زال یُخلِّف تأثیراً یُذکر، ونفس هذا التأثیر یمکن أن یُلاحظ فی علوم أُخری غیر تاریخ الأدیان.

ولکی نمیّز بین الأنواع المختلفة من (الحکایات النثریّة)(2)، کان من الطبیعی أن نعمد إلی معاییر نصنّف من خلالها شکل ومضمون کلٍّ من تلک الأنواع، ومعاییر أُخری تبیّن موقف تلک الأنواع المختلفة من القصّة بمفهومها العام.

وخیر مثال هو جدول المعاییر الذی وضعه و(یلیم باسکوم)(William Bascom)، وقام بتصنیف تلک الأنواع علی ضوئه حسب المعاییر المذکورة فی الجدول أدناه:

الجدول 1.1: ثلاثة أنواع من الحکایة النثریّة کما صنّفها ویلیم باسکوم:

النوع :الأُسطورة،السیرة،الحکایة الشعبیة

الاعتقاد:حقیقة،حقیقة،خیال

الزمان:الماضی البعید،الماضی القریب،جمیع الأزمنة

المکان:أماکن مختلفة من العالم القدیم والحدیث،العالم الحدیث،جمیع الأماکن

الموقف العام:مقدّس،دنیوی ومقدّس،دنیوی

الشخصیات الرئیسة:کائنات غیر بشریّة،کائنات بشریّة،کائنات بشریّة وغیر بشریّة

ص: 63


1- هناک أسماء أُخری تستخدم کثیراً للتعبیر عن الحکایة الشعبیّة؛ لذا حصل تداخل کبیر فی تأکید هذا النوع من القصص بینها وبین الأنواع الأُخری التی تقع ضمنها. اُنظر: ویلیم باسکوم، أشکال الفولکلور (Forms Of Folklore): ص 7.
2- استخدم هذا المصطلح الکاتب: ویلیم باسکوم.

وبالاعتماد علی المعاییر التی رسمها ویلیم باسکوم فی جدوله، تُصنَّف مأساة کربلاء علی أنّها سیرة أکثر منها أُسطورة، بالرغم من أنّها تُعدّ حقیقة ومقدّسة، ولو بالنسبة للشیعة، فمن المفترض أن تکون حقیقة تاریخیة لا تقتصر علی الماضی البعید أو علی غیر عالمنا، ثمّ إنّ أبطال هذه القصّة هم بشر، وإن کان للربِّ دور فعّال وممیّز فی أحداثها، ولو من خلف الکوالیس.

ونفس الشیء یمکن أن یُقال عن معظم القصص التی تروی أحداثاً وقعت فی الإسلام، کما فی قصّة حیاة وسیرة محمّد، والأحداث التی تلت وفاته واستمرت لعقود من الزمن.

أمّا السبب الثانی فی عدم تصنیف القصص التی تروی أحداثاً جوهریّة فی تاریخ الإسلام علی أنّها قصص أُسطوریّة، فهو أنّ الأساطیر یُنظر إلیها علی کونها قصصاً خرافیّة لا تمتّ إلی الواقع بصلة، فإنّ التفریق بین الأُسطورة بما هی قصّة زائفة، والقصّة بما هی کلمات أو حکایات صحیحة ومعقولة، یعود إلی أفلاطون (Plato)، ومنذ ذلک الحین وهذا الفرق واضح ومفهوم فی المجتمع الغربی ککلٍّ(1).

وقد أصبح هذا التصنیف أداةً للتمییز بین الحقیقة والخیال فی الغرب، کما تمّ تطبیقه والاستفادة منه بنجاحٍ کبیر للتمییز بین العلم - أی المنطق - والمفاهیم الأُخری کالخرافات أو الأساطیر الدینیّة - أی الأُسطورة بمعناها الأعمّ - وحیث إنّ التاریخ حسب هذا التصنیف یدخل تحت مسمّی العلم، فقد أصبح نقیضاً

ص: 64


1- اُنظر: لینکولن، تنظیر الأُسطورة (Theorizing Myth): ص 37-42. مکوتشیون، الأُسطورة (Myth): ص191. وکلا الکاتبین یؤکّدان أنّ الفرق بین الأُسطورة والقصّة الذی وضعه أفلاطون (Plato) لم یکن متداولاً ومعروفاً فی المجتمع الإغریقی قبل أفلاطون (Plato).

للأُسطورة، وإن کان لهذا التمییز عواقبه علی تصنیف التاریخ الإسلامی.

وحتی سبعینیات القرن الماضی، کان معظم العلماء الغربیین المختصّین بالإسلام وتاریخه لا یعترضون علی النظرة الإسلامیّة التی تقول بأنّ کتابات المؤرِّخین المسلمین، بما فیها سِیَر النبیّ محمّد، وعدد کبیر من الأحادیث المرویة عنه، والتصانیف التاریخیّة التی کتبها مؤرِّخون کبار، کالبلاذری (المتوفیّ سنة 279 ه-/892 م) والطبری، کلُّ هذه الکتابات قد نقلت حقائق أساسیّة عن الأحداث التی وقعت فعلاً فی عصر ظهور الإسلام والعصور التی تلته(1).

وحیث إنّ المادّة الأساسیّة لهذا الکتاب تختصّ بالتاریخ، وإن کان علیَّ أن أعترف بأنّنی فی نقل کثیرٍ من الأحداث اعتمدت علی تاریخ متحیّز وغیر منصف، فإنّ من غیر الممکن أن نعتبر تلک الأحداث نوعاً من الأساطیر، ویؤیّد هذه الحقیقة العقیدة الإسلامیّة التی تقول بأنّ بعضاً من تلک المصادر التاریخیّة اعتمدت کلیّاً علی الوحی - وخاصّةً أحادیث النبیّ وسیرته - کما اعتمدت وبشکلٍ أساسی علی التمییز القاطع بین خرافات عصر ما قبل الإسلام - المعروف بالعصر الجاهلی - وبین حقیقة الإسلام التی نقلها النبیّ(2).

وبالطبع فإنّ التفریق بین الحقیقة الموحاة والأُسطورة لیس شیئاً انفرد به الإسلام، وإنّما یمکن أن نراه فی جمیع الأدیان الأُخری ومنقولاتها، فبالإضافة إلی

ص: 65


1- علی أنّ هناک بعض الاستثناءات لهذه النظرة، خصوصاً فی بدایة القرن العشرین، کما ستری فی الفصل الثانی من هذا الکتاب، حینما نتناول بتفصیلٍ أکثر التاریخَ الإسلامی، وکیف تعامل معه العلماء الغربیون.
2- اُنظر: نیوفیرث (Neuwirth)، الأساطیر (Myths): ص477. ستتکویتش (Stetkevych)، محمد والغصن الذهبی (Muhammad And The Golden Bough): ص3.

التمییز بین التاریخ والأُسطورة الذی أسّسته الدراسات الغربیّة الأکادیمیّة، فإنّ للدِّین أیضاً تقسیماً مماثلاً یبیّن الفرق بین الحقیقة المستوحاة من الوحی الإلهی والقصص المستوحاة من مصادر أُخری، والتی أُصطلح علیها اسم الأُسطورة من وجهة نظر سیاقات تحلیلیّة متعدّدة.

أمّا بالنسبة إلی الإسلام، فإنّ کلا القسمین قد عملا معاً ضدّ کلّ ما یمکن أن یطلق علیه اسم (أُسطورة)، کمفهوم ینطبق علی قصص بالغة الأهمّیة تمّ توارثها من العصور المؤسّسة لأحداث تلک القصص. (اُنظر: الجدول 1،2).

الأکادیمیّة

الدِّین

زیف أو باطل

أُسطورة

أُسطورة

حقیقة

التاریخ

الوحی الإلهی

الجدول 1،2: الأُسطورة ونقیضاتها فی الفکر الدِّینی التقلیدی وفی الفکر الأکادیمی الغربی.

وفی نظری، تکمن المشکلة فی أنّ کثیراً من القصص التی لها خلفیة تاریخیّة داخل المواریث الدینیّة تؤدّی وظیفتها المؤثرة علی حیاة المؤمنین بها، وبسبب تلک الآثار تکتسب تلک المواریث صفة الأُسطوریّة أکثر من صفة کونها سِیَراً أو أحداثاً تاریخیّة صرفة لا تتعدّی أهمّیتها ذلک، ولا تُعتبر نقلاً لأحداث وقعت بالفعل فی الماضی.

وهذا یسری أیضاً علی مأساة کربلاء، وعلی قصص أُخری مماثلة حدثت فی بدایات ظهور الإسلام، وهذه القصص ومثیلاتها هی الأساس فی تشکیل النظرة العالمیّة عن الإسلام، کما تُعطی السبب فی ممارسة الطقوس وأُسلوب الحیاة الذی یتّخذه المؤمنون فی تلک القصص، بنفس الطریقة التی تعطیه القصص الشعبیّة عند المجتمعات الأُخری والتی نُطلق علیها اسم أُسطورة.

ص: 66

ومن الصعب أن نجد اصطلاحاً آخر یمکن أن ینقل بدقّة الأثر الذی تترکه تلک القصص علی المسلمین المؤمنین؛ لذا فإنّی أُفضّل أن أقترح استخدام التصنیف التحلیلی للأُسطورة علی أنّها قصة لها أثر ووظیفة معینة، لا أنّها قصة من نوع أدبی.

وحینما تناولت الأُسطورة بالبحث فی مواضع أُخری، اعتمدت علی مقالةٍ کتبها أُستاذ فنلندی متخصّص بالقصص الشعبیّة وعلم الأدیان المقارن، وهو الأُستاذ (لاوری هونکو) (Lauri Honko)، وهو یبحث فی موضوع الأُسطورة(1)، فإنّ التعریف الذی یقترحه هذا الأُستاذ طویل وغیر مجدٍ، ولکنّه مبنی علی أربعة معاییر، قد اعتمدت علیها کأُسس لتقدیم تعریفی الخاصّ بالأُسطورة(2)، وتلک المعاییر هی:

الأوّل: الأُسطورة هی من النوع الروائی؛ إذ إنّها متّصلة ببعضها لفظیّاً، إلّا أنّه یمکن التعبیر عنها بطرقٍ أُخری، کما فی القصص المأساویّة، والفنّ... إلخ.

الثانی: محتوی الأساطیر یتفاوت بین أُسطورة وأُخری، ولکنّه یروی أحداثاً إبداعیّة أو حاسمة حدثت فی أوّل الزمان؛ لهذا السبب فإنّ تصویر أحداث حدثت فی بدایة نشأة الکون یکون عنصراً أساسیّاً فی کتابة الأساطیر.

یقول الکاتب (هونکو) وهو یصوّر مدی أهمّیة هذه النقطة فی کتابة الأساطیر: کما هو واضح، لیس بالضرورة أن یکون محتوی کلِّ الأساطیر هو تصویرات لبدایة

ص: 67


1- اُنظر المقالة الموسومة: (قصّة کربلاء، مأساة أم أُسطورة؟) (Är Kerbala – Dramat En Myt?)، للکاتب هایلین، معتمداً فی کتابتها علی کتاب کتبه لاوری هونکو (Lauri Honko) بعنوان: معضلة تعریف الأُسطورة (The Problem Of Defining Myth).
2- اُنظر: لاوری هونکو (Lauri Honko)، معضلة تعریف الأُسطورة: ص49-51.

نشأة الکون، إذا ما استخدمنا کلمة (بدایة نشأة الکون) بمعناها اللغوی المقیّد، ولو أنّ أهمّ ما فی الأمر - فیما یبدو لی أنا علی الأقلّ حین استخدامی لهذا المصطلح - هو التطابق البنیوی بین الأساطیر التی تروی أحداث بدایة نشأة الکون، وقصص أُخری تروی أصل العالم والوجود، والتی تنظر إلیها المجتمعات علی أنّها الأساس فی تحدید هویّة هذا العالم.

وبمعنیً آخر، فإنّ مصطلح بدایة نشأة الکون فی هذا المعنی یضمّ تحته جمیع أشکال القصص التی تروی کیف بدأ العالم، وکیف بدأت رحلتنا فیه کبشر، وکیف أنّ الأغراض التی نرمی إلی الوصول إلیها إنّما هی أغراض حتمیّة، وکیف أنّ مبادئنا المقدّسة هی تابعة لنوامیس طبیعیّة لا یمکن القفز علیها أو تجاهلها؟

وعلی أساس هذه الفکرة، فإنّ السورة السادسة والتسعین من القرآن أی: سورة العلق، أوّل ما نزل من القرآن، وولادة المسیح، وحیاة لینین، وموت جیفارا، وخطابات ماو، کلّها أشیاء مادّیة یمکن أن تترکب تحت ظروف معیّنة بطریقةٍ تشبه أساطیر الزمن الغابر وبدایة نشأة الکون(1).

الثالث: تمثّل الوظیفة التی تؤدّیها الأساطیر أمثلةً تُحتذی ونماذجَ قائمة، ویمکن تلخیص هذه النقطة التی طرحها (هونکو) بالتعریف ذی الحدّین الذی قدّمه الکاتب کلیفورد جیتز (Clifford Geertz) حول مفهوم النموذج، إذ یقول: «تارةً تکون الأساطیر نماذج جامدة عن العالم فی نشأته الأولی، وتارةً أخری تکون نماذج للسلوک الإنسانی»(2).

ص: 68


1- اُنظر: لاوری هونکو (Lauri Honko)، معضلة تعریف الأُسطورة: ص50-51.
2- کلیفورد جیتز (Clifford Geertz)، تفسیر الثقافات (Interpretation Of Cultures): ص 93-94.

الرابع: سیاق الکلام فی الأساطیر عادةً یکون شعائریّاً بتکراره لحوادث حدثت فی زمانٍ ما، ولکن أحداثه مرتبطة بما یحدث فی الزمن الحالی.

یمکن تطبیق المعیار الأوّل والأخیر بسهولة علی مأساة کربلاء؛ إذ إنّ هذه المأساة فی شکلها الأساسی هی روایة لأحداث، ولو أنّها کثیراً ما تُروی بشکل درامی یتجلی فیه الفن والشعر، کما أنّها متصلة بشکلٍ عمیق بعددٍ من الشعائر والطقوس یأتی علی رأسها شعائر إحیاء ذکری عاشوراء کما وصفتها فی الصفحات الأُولی لهذا الکتاب، وهناک شعائر أُخری تتمّ ممارستها أسبوعیّاً وشهریّاً وسنویّاً تختلف باختلاف الثقافات الشیعیّة المتنوّعة، ومع ذلک، فإنّها جمیعاً تشترک فی نفس العناصر الأساسیّة، وهی إحیاء معاناة ومقتل الحسین وأهل بیته فی کربلاء (1).

حتّی وإن سلّمنا أنّ المعیار الأوّل والرابع من تلک المعاییر التی وضعها (هونکو) منطبقة علی مأساة کربلاء، فإنّ من غیر الواضح أن ندّعی أنّ المعیار الثانی ینطبق علی هذه المأساة.

ویبدو أنّ من المستحیل أن نقف علی حقائق ثابتة تاریخیّاً جرت فی معرکة کربلاء(2)، فإنّ معظم الکتّاب الغربیین یتفقون علی أنّ هذه الحادثة لیست أکثر من

ص: 69


1- والجدیر بالذکر أنّ المعیار الرابع الذی عرضه هونکو کإحدی النقاط المشترکة بین الأساطیر لا تکون ضروریّة؛ لأنّ سیاق الأسطورة بشکلها العام یمثّل شعیرةً أو طقساً دینیّاً. اُنظر: لاوری هونکو (Lauri Honko)، معضلة تعریف الأُسطورة: ص51. وفی هذا العصر لا تجد کثیراً من المختصّین بتاریخ الأدیان یناقشون حقیقة أنّ الأُسطورة والشعیرة الدِّینیّة لا یمکن الفصل بینهما، وإن کانت حلقة الوصل بین الاثنین عادةً ما تکون قویة جدّاً، مع ذلک نجد کثیراً من الأساطیر خالیة من أیّة إشارة تتعلّق بالشعائر الدینیّة، کما نجد کثیراً من الشعائر الدینیّة لا ترتبط إطلاقاً بأیّة أُسطورة.
2- لا أعرف ما هو وجه الاستحالة فی أن یقف الکاتب أو أیُّ باحثٍ علی حقائق ثابتة تاریخیّاً لحادثة کربلاء، وهذا الکلام یتردّد عند کثیر من المستشرقین.

حدث تاریخی صغیر فی خِضم الأحداث الکبیرة التی حدثت فی القرن الأوّل من ظهور الإسلام، إذ یصف أحد هؤلاء الکتّاب حادثة کربلاء علی أنّها: «عملیة سیاسیّة روتینیّة»، بالنسبة للسلطات الأُمویّة الحاکمة آنذاک (1)، کما یصفها آخر کما یلی: «لا یبدو أنّ حادثة کربلاء رمت بثقلها علی الأُمویین؛ إذ لم یحسبوا لها حساباً کبیراً، فإنّ قوّة الحسین وتأثیره کان قلیلاً، إذ تمت السیطرة علیه بسهولة تامّة إذا ما قُورن بالاضطرابات الأُخری التی حدثت فی ذلک الوقت»(2).(3).

وفی الاصطلاح التاریخی، لا یمکن التعبیر عن الحادثة بالمصیریّة أو الحاسمة فی تاریخ العالم أو فی المجتمع الإسلامی، حتی وإن درسناها علی ضوء المفهوم الموسّع الذی طرحه هونکو لمصطلحی (مصیری) و(حاسم) فیما اقتبسنا منه آنفاً.

ولم تأخذ هذه الحادثة تلک الهالة الکبیرة إلّا بعد وقوعها بزمنٍ طویل، وبعد استمرار روایتها عبر الأجیال وإعطائها تفسیرات ذات أبعاد عدیدة؛ إذ أصبحت بعد ذلک قصّة مؤثّرة ومثالاً للبطولة وعبرةً وأُنموذجاً للمعاناة التی یتعرّض لها الصالحون(4).

ص: 70


1- اُنظر: شعبان، التاریخ الإسلامی: ص91.
2- هاوتینج (Hawting)، السلالة الأُولی: ص50- 51.
3- کیف لم یحسبوا لها حساباً کبیراً، ألم یکن الجیش الأُموی الذی أعدّته الدولة یعبّر عن الحسبان الکبیر؟! فهو علی الصحیح من النقل التاریخی کان (30000) فی قبال 72 نفراً من أنصار الحسین(علیه السّلام).
4- هذا الکلام بعید عن الواقع؛ وذلک لأنّ حادثة کربلاء أخذ یتردّد صداها بعد فترة وجیز من وقوعها، فلقد خرجت عن کونها واقعة وحسب، إذا ألقت بظلالها علی المجتمع الإسلامی، وأخذت النهضة النکریة ضدّ الأُمویین تتعالی وتنجح الثورات علی الأرض؛ ومن ذلک الیوم وضع الإمام الحسین(علیه السّلام) معالم ثورته ومبادئها، فلم تکن بحاجة إلی تغییرات وأبعاد لتضفی علیها الهالة الکبیرة. وإطلالة سریعة علی حال أهل الکوفة عندما أُدخلت السبایا إلی المدینة تکفی لإثبات ذلک، مضافاً إلی ما جری فی الشام وفی الطریق إلیها.

وهکذا، لا یمکن أن ننظر إلیها کقصّةٍ تحمل أماراتٍ عن نشأة الکون - وهو ما یمیّز الأُسطورة عن باقی أشکال القصص الشعبیّة - إلاّ بعد أن نجعلها تتوافق مع المعیار الثالث، أی بعد أن ننظر إلی قصّة کربلاء علی أنّها تمثّل أُنموذجاً وعبرة.

ولعلَّ الکاتب (روسل مکوتشیون) (Mccutcheon) قد أشار إلی عملیة تفسیر حدثٍ ما إلی أُنموذج وعبرة حین عرَّف الأُسطورة علی أنّها: «تحویل حدث یومی عابر إلی حدث استثنائی غیر عادی»(1).

والحقُّ یقال: إنّ هونکو نفسه، کما فی مقالته المقتبسة أعلاه، یدمج المعیار الثالث للأُسطورة مع المعیار الثانی، وبذلک فهو یجعل المعیار الثالث غیر ضروری بشکلٍ أو بآخر، فما یجعل من القصّة أن تأخذ شکل الأُسطورة هو ما تؤدّیه من وظیفة ترتبط بحکایات نشأة الکون أکثر ممّا تحتویه هذه القصّة من أسطر حول مادّة نشأة الکون.

وفی هذا الکتاب، فإنّی ساستخدم صفة (تأسیسی)؛ لکی أعبّر عن هذا الدمج بین تمرکز الأُسطورة حول أحداث تتعلّق بنشأة الکون، وبین تقدیمها أنموذجاً شعبیّاً أو عبرة تُستخلص منها دروس معیّنة (2).

ویمکن للمرء أن یقول الشیء ذاته عن کثیر من القصص التی تروی أحداثاً وقعت فی صدر الإسلام، أو أحداثاً وقعت للدیانة المسیحیّة، أو حتی تلک القصص الأُخری التی تحمل بصمات عن (نشأة الکون)، أو عن (بطولات تصلح

ص: 71


1- مکوتشیون، الأُسطورة: ص200.
2- صفة (تأسیسی) مقتبسة من کتاب: الأُسطورة فی التاریخ، لکاتبه السویدی بیرجمان، حیث استخدم فی کتابه هذا لفظة (Grundläggande) السویدیّة، والتی تقابل لفظة (تأسیسی) التی ستقابلک فی هذا الکتاب. وقد تحاورت مع الکاتب شخصیّاً فی العاشر من آذار من عام (1999م)، وتناقشت معه حول هذه النقطة واستخدامی لها کمقابل للفظة التی استخدمها هو فی کتابه المذکور.

لأن تکون نموذجاً ومثالاً یُقتدی به)، کما یقول هونکو؛ لهذا السبب سوف أعتمد فی کتابی هذا علی التعریف التالی للأُسطورة: هی: حکایة تأسیسیّة للنظرة العالمیّة حول شیءٍ ما أو لهویّة مجموعةٍ ما من البشر.

إحدی المیزات الواضحة لهذا التعریف هی: إنّ الأُسطورة بهذا التعریف تشمل کلَّ أنواع القصص التی لها أهمّیة بالغة عند الناس، بحیث یمکن أن تمثّل دوراً تأسیسیّاً فی معتقداتهم، وهی بذلک لا تفرّق بین أن تکون تلک القصّة صحیحة وثابتة تاریخیّاً أو لا، بمعنی: أنّ أحداث تلک القصّة قد لا یمکن إثبات وقوعها بالفعل بالطرق العلمیّة؛ وهذا یعنی أنّ التفرّع بین الأُسطورة والتاریخ یفقد أهمّیته؛ إذ یمکن لروایة ثابتة تاریخیّاً أن تکون أُسطورة، ویمکن لأُسطورةٍ ما أن تکون حدثاً قد سجّل التاریخ وقوعه الفعلی رسمیّاً(1).

وعلی الرغم من أنّ التاریخ الرسمی یُفترض أن یمثّل (حقائق موضوعیة وموثّقة)(2)، إلاّ أنَّ کلَّ هذه الحقائق تکون خاضعة لما یفهمه المؤرِّخ الأکادیمی وما یثیر اهتمامه منها.

یقول الکاتب البریطانی سیث کونین - وهو متخصّص بعلم الإنسان (الأنثروبولوجیا) عموماً، وباحث فی علم الأساطیر العبریّة خصوصاً -: «إنّ

ص: 72


1- أحاول فی هذا الکتاب جاهداً أن أفرِّق بین: التاریخ (بمعناه العام الذی یرمز إلی أحداث حدثت فعلاً فی الماضی)، والتاریخ الأکادیمی (وأعنی به الأحداث التی أیّدت الدراسات الأکادیمیّة وقوعها فعلاً فی الماضی)، والتاریخ الرسمی (وأعنی به نظرتنا لأحداث حدثت فی الماضی وکیفیة روایتنا لها). ونفس هذه المصطلحات تراها فی کتب أُخری ککتاب: ما وراء الهندوس والمسلمین (Beyond Hindu And Muslims)، للکاتب جوتشاک: ص83.
2- اُنظر: سیث کونین (Seth Kunin)، نفکر بما نأکل (We Think What We Eat): ص20.

الثنائیّة: (أُسطورة/تاریخ) لا تکون ذات أهمّیة فی کثیر من الأحیان؛ لأنَّ کلَّ الأوصاف التی تقال عن حدث معیّن إنّما هی مصاغة بشکلٍ مکلَّف واصطناعی؛ إذ إنّها تعزل لحظات معیّنة من أحداث قصّةٍ ما، وتقدمها حسب ما یقتضیه تطوّر الزمن. وإنّنا وإن کنّا لا ننفی حدوث واقعةٍ ما فی الماضی، إلّا أنّنا ننفی إمکانیة تکرار ما حدث فی الماضی بشکلٍ لا یکون لراویه أیّة یدٍ فی إعادة صیاغته أو بنائه لیحاکی الحاضر.

إنّ کلاً من الأساطیر والأحداث التاریخیّة، لا بدّ أن تکون روایات قد صِیغت بشکلٍ متقن جدّاً؛ لکی تتناسب مع الأذواق والعالم الحاضر، فهی - أی الأساطیر والأحداث التاریخیّة - إذن متطابقة من حیث الوظیفة التی تؤدّیها، والفرق یکمن فی المحتوی فقط؛ إذ إنّ الأساطیر تنقل أحداثاً قد تکون خیالیّة، وقد لا تکون کذلک - أی أنّ الأساطیر یمکن أن تتضمّن أحداثاً وقعت فعلاً فی التاریخ - بینما ینقل التاریخ أحداثاً یُفهم منها أنّها حقیقیّة»(1).

ص: 73


1- سیث کونین (Seth Kunin)، نفکر بما نأکل (We Think What We Eat): ص21. لاحظ أنّ الکاتب لا یفرّق بین التاریخ والتاریخ الرسمی. وشبیه من کلام الکاتب ما قاله بیتر جوتشاک (Pete Gottschalk)، وإنْ کان هذا الکاتب قد استخدم مصطلح: "الذاکرة الجماعیّة" للتعبیر عن الأُسطورة. اُنظر کتابه: ما وراء الهندوس والمسلمین: ص83-90. اُنظر أیضاً: لیفی شتراوس، العقل الوحشی (The Savage Mind): ص256-264. فی سیاقٍ آخر، حاولت أن أطبّق هذا النوع من التفکیر علی الأفراد. فقلت: إنّ الذاکرة الشخصیّة ما هی إلّا عملیة انتقائیّة حالُها حال التاریخ الرسمی، أی أنّ قبول حدثٍ ما کحقیقة أو کخیال یعتمد علی ذوق الشخص، کما ذکرتُ أنّ التاریخ الرسمی الذی نصنعه نحن بالاعتماد علی ماضینا الشخصی یؤدّی نفس الوظیفة التی یؤدّیها التاریخ الرسمی بشکله العام، وتؤدیها الأُسطورة. اُنظر: هایلین، کلمات فی نظریّات تاریخ الأدیان: ص14. وبالنسبة لی علی الأقل، أری أنّ الطرح الذی قدّمه کونین مثیر جدّاً للاهتمام؛ إذ إنّه یفکر بنفس الطریقة التی فکرت أنا بها فی هذا المجال. اُنظر کتابه: نفکر بما نأکل: ص22. وبهذا، فإنّی لا أری التعریف الذی قاله لینکولن للأُسطورة علی أنّها «طریقة تفکیر بنحوٍ روائی) کافیاً؛ لأنّ تعریفه هذا یُفهم منه علی أنّ الأُسطورة دائماً ما تکون مبتنیة علی فکر جماعی. اُنظر کتابه: تنظیر الأُسطورة: ص147، فإنّ هذا التعریف یعتبر إحدی التقییدات التی تعرقل مفهوم جوتشاک عن (الذاکرة الجماعیّة).

یعطی مجتمعنا أفضلیة وامتیازاً للحقائق علی الأشیاء غیر الحقیقیة، ولکن فی مجتمعات أُخر، یکون الأمر بالعکس تماماً؛ لذا یقول (کونین): إنّ الفرق بین التاریخ الرسمی بما هو نقل لحقائق حدثت فعلاً، وبین الأُسطورة بما هی سرد لوقائع قد تکون زائفة، یعتمد بالأساس علی نظرة یکون العرق فیها هو الأساس فی الحکم علی الأشیاء، وبقولٍ آخر: الفرق بین التاریخ الرسمی والأُسطورة یعتمد علی الطریقة التی ینظر إلیها مجتمعنا إلی العالم ویفهمه من خلالها(1).

وأنا أُوافق تماماً علی آراء کونین فی هذا الأمر، وأُضیف: حتی وإن لم تکن أحداث التاریخ الرسمی دائماً تأسیسیّة، فإنّ الأساطیر تکون تأسیسیّة دائماً، کما أری أنّ التوافق بینی وبین کونین فی رؤیتنا للأُسطورة والتاریخ سببه هو حقیقة أنّ کلینا تعامل مع الأُسطورة من خلال مجتمعات تعتمد اعتماداً کلیّاً علی التاریخ فی وعیها.

والنتیجة هی: إنّ الأسطورة تعنی اصطناع العالم الذی نعیش فیه، ولکنها رغم ذلک مصطنعة، وقد تکون خارج هذا العالم الذی نعیش فیه؛ لأنّنا عادةً ما نستجیب لما نشاهده من تجارب شخصیّة علی أساس اصطناع وتحویر الأساطیر.

ص: 74


1- اُنظر: کونین، نفکر بما نأکل: ص21. یشیر الکاتب إلی حاجة کثیر من المتدیّنین فی مجتمعنا إلی برهنة عقائدهم کوقائع حدثت فعلاً فی التاریخ؛ وذلک بسبب القول العلمی الرائج فی مجتمعنا من أنّ (لابدّ للدِّین من أن یکون شرعیّاً من خلال التجارب التی یُنظر علی کونها موضوعیّةً ولا یکون مبتنیاً علی الإیمان فقط). اُنظر: کونین، نفکر بما نأکل: ص22.

یقول (روسل مکوتشیون) (Russel Mccutcheon) - وهو عالم أدیان أمیرکی-: إنّ «محور دراسة الأُسطورة یجب أن یُنقل من دراسة الأساطیر علی أنّها شیء متحجّر غیر قابل للتغییر، أو علی أنّها قصص تروی ما هو مقدّس، أو علی أنّها تروی أحداثاً غیر مألوفة، إلی دراسة صناعة الأساطیر کعملیة مستقلة، وکنوعٍ من الجدال الاجتماعی، وکأُسلوب معالجة، وکخطّة متقنة تکون طبیعیّة مائة بالمائة، وتکون إحدی الوسائل التی لا یمکن الاستغناء عنها فی بناء الهویّة الذاتیّة» (1).

إنّ هذا التغییر فی مفهوم الأُسطورة یتناسب تماماً مع الفکرة القائلة: إنّ جمیع الأحداث التاریخیّة العادیّة وکلَّ ما هو موجود فی محیط جماعةٍ ما یمکن أن یُستخدم کأُسطورة.

کلود (لیفی شتراوس) (Claude Lévi-Strauss) - العالم الفرنسی المتخصِّص بعلم الإنسان والبنیویّة - قد أطلق علی عملیة التغییر هذه اسم (Bricolage) أی: الترکیب الآنی، وهی کلمة یصعب ترجمتها إلی اللغة الإنجلیزیة؛ إذ إنّها مشتقة من الجذر الفرنسی (Bricoleur)، وهو اسم یُطلق علی نوع من الرجال الذین یُستخدمون لإنجاز ضروب مختلفة من الأعمال، کما یُطلق علی الحرفیین الماهرین الذین لهم القدرة علی إصلاح وترمیم کلّ ما یرونه أمامهم، مستخدمین أیّة وسیلة تکون فی متناولهم. فالمرکّب الآنی هو: «الرجل الماهر الذی یصلح لإنجاز أنواع مختلفة من الأعمال... ویکون عَاَلم أدواته مغلقاً، وقواعد لعبته هی أن یستخدم کلّ ما یراه متاحاً أمامه»(2).

ص: 75


1- مکوتشیون، الأُسطورة: ص200.
2- اُنظر: لیفی شتراوس، العقل الوحشی: ص17.

کما یقول (لیفی شتراوس) بأنّ الأساطیر یتمّ بناؤها بضروب مختلفة من العناصر الموجودة والمهمّة فی نظر مجتمع معیّن، سواء أکانت أحداثاً تاریخیّة - کما هو الحال غالباً فی المجتمعات المتأثّرة بتاریخها - أم تفاصیل عن المحیط الطبیعی لمجتمعٍ ما، أو علائم اجتماعیّة أو اقتصادیّة داخل ثقافة المجتمع، أو کلّ ما یتوفر ویکون فی المتناول (1)، فالأساطیر تعابیر أو مظاهر سیقت بشکلٍ روائی للتراکیب التحتیّة الملازمة لمجتمعٍ أو حضارةٍ ما، فی حین أنّ التراکیب عادةً ما تکون ثابتة بدرجة أو أُخری، وتکون الأساطیر متغیّرة أو (متحوّلة) کما اصطلح علیها شتراوس؛ بسبب عملیة الترکیب الآنی المذکورة آنفاً (2).

ینظر (لیفی شتراوس) إلی الترکیب الآنی علی أنّه عملیة جماعیّة ومجهولة المصدر، وتصدر عن اللاوعی ولکن بشکلٍ متفاوت.

أمّا بالنسبة (لمکوتشیون)، فإنّه یری أنّ صناعة الأُسطورة هی أیضاً عملیة یقوم بأدائها مجموعة معیّنة من الأفراد أو المجامیع. ونفس النظرة یحملها (بروس لینکولن) (Lincoln) - وهو کاتب أمیرکی متخصِّص بعلم الأدیان - وعلی الرغم من أنّه یکّن ل-(لیفی شتراوس) غایة الاحترام، إلّا أنّه یختلف معه فی هذه النقطة

ص: 76


1- ناقش الکاتب لیفی شتراوس مفهوم الترکیب الآنی بشکلٍ مسهب فی کتابه: العقل الوحشی: ص 16-33. کما ناقش فی نفس الکتاب مسألة (فکرة أُسطوریة خاصّة): وهی أمر معقّد لا أستطیع أن أخوض فیه فی هذا الکتاب، فأکتفی بالقول: إنّ التفکیر الأُسطوری - کما یقول شتراوس - لا یکون عادةً میزة وخاصّیة یتمتّع بها الناس البدائیون، ولکنّها مسألة نمارسها کلّنا. للاطلاع علی مثال استثنائی للترکیب الآنی - وهو مفهوم (الوحش الأشقر) الذی اخترعه نیتشه - اُنظر: لینکولن، تنظیر الأُسطورة: ص101-120، وستری فیما یأتی شرحاً لمفهوم (الوحش الأشقر) الذی طرحه نیتشه کمثال لما أسمیناه الترکیب الآنی.
2- للاطلاع أکثر علی نظریّة البنیویّة کما یراها لیفی شتراوس، راجع الفصل الثالث من هذا الکتاب.

بالذات، إذ یری أنّ الغرض الرئیس من الأُسطورة هو تصنیف العالم الذی نعیش فیه، وهو جانبٌ أثار اهتمام (لیفی شتراوس) کثیراً، ولکنّه مع ذلک لم یناقش الجوانب الأُخری السیاسیّة التی تخصّ علم التصنیف (أی دراسة المبادئ العامّة للتصنیف العلمی).

وعلی عکس (لیفی شتراوس یری لینکولن)، إنّ علم التصنیف لا یکون عادةً عملیة محایدة؛ لأنّ النظام الموضوع لکلِّ ما یجری تصنیفه - بما فی ذلک المواضع التی تُعامل علی أنّها إشارات ضمنیّة، والأنظمة التی یتمّ من خلالها تصنیف المجامیع البشریّة - عادةً ما یکون متسلسلاً هرمیّاً أو طبقیّاً.

ویضیف (لینکولن): «لذا، فأنا أمیل إلی القول بأنّ علم التصنیف عندما یتمّ ترمیزه بشکلٍ أُسطوری، فإنَّ الروایات تتضمّن فی طیّاتها نظام تمییز محتمل فی شکلٍ جذّاب یبقی فی الذاکرة، بالإضافة إلی ذلک، هذه الروایات تعطی صفة الحیادیّة والشرعیّة للأُسطورة، وهکذا لا تکون الأُسطورة نظام تصنیف فحسب، بل هی آیدیولوجیّة علی شکلٍ روائی»(1).

ثمّ یؤکد الکاتب (لینکولن) بأنّ رؤیة الأُسطورة بهذا المنظار، یتطلّب منّا أن نأخذ بنظر الاعتبار دور الرواة الذین کثیراً ما یغیّرون فی روایة الأُسطورة، ویُحدثون تغییرات فی تصنیف الروایة؛ لکی یظهروا للعیان النقاط التی یریدون من المستمعین الترکیز علیها(2).

ص: 77


1- لینکولن، تنظیر الأُسطورة: ص147.
2- ثمّ یعطی الکاتب أمثلة علی عملیة التغییر هذه، فیبیّن الفرق بین التسلسل الطبقی للشعوب الذی یطرحه بیندار (Pindar) وإمبیدوکلیز (Empedocles) وأفلاطون (Plato)، کلٌّ حسب نظرته. اُنظر: المصدر السابق: ص151-159.

وبالأخذ بنظر الاعتبار تقیید المعنی الذی یقترحه (لینکولن) علی نظریّة (لیفی شتراوس) حول الأُسطورة والتحوّل الأُسطوری، وجدت أنّها تجذب الانتباه إلی خواص عملیة بناء الأُسطورة، ولهذا السبب سوف أستخدمها فی تحلیلی لمأساة کربلاء حسب ما نقلها الطبری.

وقبل البدء بهذا العمل، علیَّ أن ألفت نظر القارئ إلی أنّ هناک تصادماً بین استخدامی لمصطلح (أُسطورة) وبین استخدام لیفی شتراوس لنفس الکلمة، بینما یکون تعریفی للأُسطورة مبنیاً علی الوظیفة التی تؤدّیها الروایة، فإنّ (لیفی شتراوس) یستخدم المعاییر البنویّة والوظیفیّة من أجل تصنیف قصّةٍ ما (أو حتی مجموعة من القصص) کأُسطورة (1)، بَیْدَ أنّ هذا لا یعنی أنّنی أنفی وجود التراکیب فی الأساطیر، ولکننی علی العکس من ذلک، کما أسعی لإثباته فی هذه الدراسة، أری أنّ الأساطیر فی معظمها - إن لم تکن کلّها - تکون ذات تراکیب مبنیّة بشکلٍ مُتقن، ویبقی الفرق الوحید بین استخدام (لیفی شتراوس) لمصطلح الأُسطورة واستخدامی أنا لنفس المصطلح هو: أنّی أضع الوظیفة التی تؤدّیها الأُسطورة فی المقام الأوّل، ما یجعل مفهوم شتراوس للأُسطورة یبدو أوسع من مفهومی لها، وهکذا تدخل کثیر من القصص تحت مسمّی الأُسطورة حسب مفهوم شتراوس بخلاف ما هی علیه حسب مفهومی لها.

الغرض من هذه الدراسة وفحواها

سوف أقوم فی هذه الدراسة بتحلیلٍ لقصّة مقتل الحسین بن علیّ - أی مأساة

ص: 78


1- للتعرّف أکثر علی مفهوم البنیویّة ورأی لیفی شتراوس بالأُسطورة، راجع الفصل الثالث من هذا الکتاب.

کربلاء - کما رواها محمّد بن جریر الطبری، المؤرِّخ واللاهوتّی(1) المسلم، المتوفّی سنة (310ه- /923م).

ومن خلال هذه الدراسة، سوف أنظر إلی هذه القصّة علی أنّها أُسطورة حسب المعنی الذی ذکرته للأُسطورة فی القسم السابق من الکتاب، وسوف یکون تحلیلی لها مبنیاً علی النظریّة البنیویّة وعلی منهج (کلود لیفی شتراوس) (Claude Lévi-Strauss) کما طوّره علماء من قبیل: ألی (کونغاس ماراندا) (E. Köngäs Maranda)، و(بییر ماراندا) (P. Maranda)، أس.مارکوس، أل. سکوبلا، بالإضافة إلی آخرین(2)، راجیاً فی عملی هذا تحقیق هدفین اثنین:

أوّلهما: تقدیم مفهوم أعمق لمأساة کربلاء کقصّةٍ تأسیسیّة فی نظر الطبری، وربّما للصورة الذاتیّة للمجتمع الإسلامی فی عصره، ولکی أفهم بشکلٍ صحیح مغزی هذه المأساة بالنسبة للطبری وعصره، کان علیَّ أن أعمل مقارنة بین هذه القصّة کما رواها الطبری، وبین مرویاتها من طرقٍ أُخر، ولکن هذا لم یکن ممکناً لی فی ضمن

ص: 79


1- اللاهوت: اللفظ افرنجی مکوّن من مقطعین یونانیین: Theos بمعنی الله، Logos بمعنی علم، أی علم الله وصفاته وعلاقته بالعالم، وأفلاطون (Plato) أوّل من استخدم هذا المصطلح، ویقصد به أحادیث الشعراء. واللاهوت فی أوسع معانیه هو فرعٌ من الفلسفة، ولکن معناه الشائع أنّه تنظیر لدینٍ معیّن، فیقال: لاهوت مسیحی أو یهودی أو إسلامی. وهو من هذه الزاویة الضیّقة یصبح تاریخیّاً وجدالیّاً ودفاعیّاً. وعلم اللاهوت عند المسیحیین هو علم الکلام عند المسلمین، وموضوعه البحث عن وجود الله وذاته وصفاته. اُنظر: المعجم الفلسفی: ص536. (المحقق).
2- اُنظر: نماذج بنیویّة (Structural Models)، للکاتبین ماراندا (Maranda)وماراندا (Maranda)، والصیغة القانونیّة (Canonic Formula)، للکاتب مارکوس، و«Hesiod»و«Lire Levi-Strauss»، للکاتب سکوبلا.

الإطارات المعتمد علیها فی هذا الکتاب؛ لذا علینا أن نعتبر هذه الدراسة کخطوة أُولی فی هذا المضمار، مع استجلاب استقصاءات أُخری مأخوذة من المرویات الأُخری لهذه القصّة ومقارنتها بما سنقوم بدراسته فی هذا الکتاب.

وثانیهما: أن أستقصی مدی وکیفیة تطبیق نظریّة البنیویّة عند شتراوس علی ما وصلتنا من روایات تعود إلی الفترة الأُولی لظهور الإسلام، وکما سأبیّن فیما بعد، فإنّه لا نکاد نجد - فی أیٍّ من الدراسات التی وصلتنا باللغة العربیّة - أیَّ شکلٍ مطابق لما قد نطلق علیه تسمیة البنیویّة. وأکثر من ذلک، فمنذ أن تلاشی الاهتمام بکتابات لیفی شتراوس ونظریّاته فی أواخر السبعینیات من القرن الماضی، لم یعد مناسباً أن نطبّق أدواته النظریّة والمنهجیّة علی دراسة تاریخ الأدیان، وإن تمّ تطویر أفکاره والتعلیق علیها فی العقدین الأخیرین، ما حدا بی إلی الاعتقاد الجازم بأنّ تاریخ الأدیان بما هو فرع من الدراسات الأکادیمیّة کان من الممکن أن نعید إدماجه فی ضمن مجموعة نظریّات وأسالیب البنیویّة التی تبنّاها شتراوس.

دراسات مسبقة: الأُسطورة فی الإسلام

بالرغم من أنّ من النادر أن نجد منفذاً للأُسطورة فی الإسلام، إلاّ أنّ دراسات قلیلة فی السنوات السابقة قد ناقشت مفهوم الأُسطورة فی الإسلام، ولو بشکلٍ نظری فقط، وفیما یلی سأتعرّض ولو بشکلٍ ملخّص لبعض من أُولئک الکتّاب الذین ناقشوا هذا الموضوع:

إحدی أکثر المناقشات توسّعاً حول موضوع الأُسطورة فی الإسلام هی تلک التی کتبتها (أنجلیکا نیوویرث) (Angelika Neuwirth)، الألمانیّة التی رکّزت جلَّ

ص: 80

اهتمامها علی موضوع الأُسطورة فی القرآن الکریم خصوصاً، ففی إحدی مقالاتها التی ساهمت فی إصدار موسوعة القرآن الکریم(1) المطبوعة حدیثاً، تفصّل الکاتبة بین الأُسطورة والخرافة فی القرآن الکریم(2)، فتقدّم تعریفاً للأُسطورة علی أنّها: «روایات تساهم فی تفسیر ووصف العالم المکتشَف عن طریق إظهار نماذج ذات طراز بدائی»، والتی عادةً ما تؤطَّر بشکل نصوصٍ عن نشأة الکون، أو عن ظواهر خارقة للعادة، تصلح لأن تخلق معانی مشخّصة وتعطی نصائح وتوجیهات.

أمّا الخرافات، فتعریف الکاتبة لها أنّها: «قصص خیالیّة تمجّد التقوی التی یبدیها أشخاص یصلحون لأن یُتَّخذوا أُسوة حسنة» (3).

ومن عدّة نواحٍ، تحاکی هذه التعریفات التصنیفات التقلیدیّة التی سبق أن أسّس لها (باسکوم)، کما هو مبیّن فی الجدول السابق (1-1)، إذ لم یتوضّح لی جلیّاً ما تقصده (نیوویرث) بقولها: (نماذج ذات طراز بدائی)، ولکن حسب المجال الذی تعمل فیه، یبدو أنّها تشیر إلی معانٍ طُرحت فی الکتاب المقدّس المکتوب باللغة العبریّة کما فی العهد الجدید کذلک، علاوةً علی الموروثات العربیّة القدیمة - ولو بشکلٍ أقل - التی تؤدّی وظیفة نماذج لتأکید الهویّة، وللهدایة التی تجسّدت فی المیثولوجیا الإسلامیّة، وهذه (الضروب من الروایات التی تتمیّز بکونها تؤخذ علی شکلها التأویلی الأوّلی) لیست موجودة فی القرآن فحسب، بل یمکن رؤیتها فی أشکال الأدب العربی الأُخری(4)، ففی القرآن تمّ إزالة الشکل الأُسطوری لتلک

ص: 81


1- Encyclopedia Of The Qur'an.
2- اُنظر: نیوویرث، الأساطیر (Myths).
3- المصدر السابق: ص447.
4- المصدر السابق: 477.

الشخصیات التی تُتَّخذ کنماذج یُحتذی بها، أی أُخرجت من شکلها التاریخی والروائی، ثمّ أُعید بناؤها حسب إطار إسلامی بحت.

ثمّ تسجّل (الکاتبة نیوویرث) قائمة بعدد من تلک الأساطیر والخرافات المذکورة فی القرآن، قبل أن تحاول أن تبرهن أنّ هناک روایة قرآنیّة واحدة، یمکن أن ینظر إلیها علی أنّها من أساطیر التاریخ(1)، وهی قصّة خروج أو هجرة موسی التی قدّمت عِبرةً ومثالاً یُحتذی به للنبیّ محمّد والمسلمین الأوائل(2).

أمّا أحد أهمّ العبر ذات الطراز البدائی التی تکرّر ذکرها فی القرآن فی مناسبات کثیرة، فهی مسألة إهلاک الأُمم السابقة التی لم تؤمن بأنبیائها ولم تُطِعهم، وهی تسمّی قصص العقوبات. ففی نظر نیوویرث هذه القصص إنّما هی استعارة وإعادة تشکیل لقصّة برج بابل المذکورة فی التوراة والإنجیل، إلّا أنّ القرآن یری بأنّ هذه القصّة حدثت مراراً وتکراراً فی التاریخ، لا فی مناسبة فریدة فی زمن معیّن قبل تاریخ الإنسانیّة، کما هو الحال فی روایتها فی التوراة والإنجیل.

أمّا الغرض من ذکر قصص العقوبات الإلهیّة تلک، فهو لإعطاء معنی لذلک الوضع المحفوف بالمخاطر الذی واجه النبیّ والمسلمین الأوائل، حینما استهزأ بهم وثنیو مکّة واضطهدوهم؛ «لذا، فإنّ الوضع الراهن اکتسب معنیً أبعد، تطلّب أن یتمّ التأکید علیه من خلال إعطائه بُعداً له صلةٌ بأمثلة مشابهة حدثت فی التاریخ البعید، وإن کان بعض تلک الأمثلة حدثت فی أماکن أُخری بعیدة عن وطن أُولئک الذین تعرّضوا لهذا الاستهزاء والاضطهاد»(3).

ص: 82


1- اُنظر: المصدر السابق: ص487-488.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص488-490.
3- المصدر السابق: ص 489.

وفی مقالةٍ أُخری، تصِف (نیوویرث) سورة الرحمن (رقم55) بأنّها أُسطوریّة؛ وذلک: (أنّها تذکر الأفعال الفردیّة لخلق السماوات والأرض، کما تبیّن أنّ إنشاء الأرض ورفع السماوات قد تمّا بشکلٍ نظامی ودقیق)، ثمّ تحذّر السورة الثقلین - أی: الإنس، والجان - أنّهما إن حاولا تخطّی الحدود الإلهیّة، فإنّهما سیواجهان العقوبة فی الآخرة (1)، وهنا أیضاً یمکننا رؤیة آثار من النظرة التقلیدیّة للأُسطورة، حیث یعاد سرد أحداث ما جری قبل التاریخ؛ إذ بمشارکة کائنات غیر البشر أمکن الاستفادة من عناصر أُخری من عناصر تصنیف الأُسطورة.

أمّا أهم ما یواجه الکاتبة (نیوویرث) من مشاکل فی مناقشتها هذه للأُسطورة فی القرآن برأیی، فهو أنّها تذبذبت بین رأیین حول الأُسطورة المبنیة علی الأُسلوب الأدبی، وهما: الرأی القائل بأنّ الأُسطورة تؤدّی وظیفة معیّنة. والرأی الآخر القائل بأنّ الأُسطورة ما هی إلّا تقلید عند الشعوب. فتارةً تقول الکاتبة بأنّ تلک الأساطیر هی: (روایات تُلقی بشکلٍ تأویلی خاصّ)، أی أنّها قصص تزوِّد متلقیها بنماذج مقصود منها أخذ العبرة من شخصیات من الأزمنة الغابرة، (وهذا ما نعنی به العنصر الوظیفی للأُسطورة).

وتارةً أخری تتحدّث الکاتبة عن قصص تعود لطبقات معیّنة، ثمّ تفصل بین الأُسطورة والخرافة، بأنّ کلاً منهما یمثّل ضرباً محدّداً من ضروب العمل الأدبی (2)، ولکنّها مع ذلک تشیر إلی أمرٍ مهم، حین تذکر أنّ مواضیع من قصص سابقة تمّ

ص: 83


1- اُنظر: نیوویرث، زیارة أُخری إلی الترکیب الأدبی للقرآن (Qur'anic Literary Structure Revisited): ص392-393. وص407-408.
2- اُنظر علی سبیل المثال: نیوویرث، الأساطیر (Myths): ص477.

إعادة استخدامها وإعادة نسجها؛ لکی تتلائم مع المثال القرآنی، وهذا ما اعتبره ضرباً من الترکیب الآنی عند المسلمین الأوائل.

وهناک دراسة أُخری مثیرة للاهتمام حول موضوع الأُسطورة فی القرآن وفی أدب ما بعد القرآن، وقد قام کاتبها (یاروسلاف

ستیکیفیتش)(Jaroslav Stetkevych) ببحث کیفیة انتقال ودمج نمط الأُسطورة فی فترة ما قبل الإسلام - وهی فترة ازدهار الأدب - إلی الأُسطورة الإسلامیّة (1)، ویبدو من کتابه أنّ هذا الکاتب یحمل نفس الفکرة عن الأُسطورة التی تحملها الکاتبة (نیوویرث)، وإن لم یتطرّق أبداً إلی تعریف واضح المعالم لمفهوم الأُسطورة.

أمّا الکتاب الذی بین یدیک، فهو تاریخ لفترة ما بعد القرآن عموماً، ولفترة الطبری خصوصاً، والذی سوف أُرکّز جلَّ اهتمامی علیه فی هذا الکتاب.

هناک کاتبان اثنان علی وجه الخصوص قد ناقشا مفهوم الأُسطورة فی کتب التاریخ الإسلامی عموماً وکتابات الطبری خصوصاً، وهما:

البروفسور فی التاریخ الإسلامی، (ر. ستیفن همفریز) (R. Stephen Humphreys)، وهو أُستاذ أمیرکی.

والبروفسور فی التراث والحضارة العربیّة، (کلود جیلوت) (Claude Gilliot)، وهو أُستاذ فرنسی.

بَیْدَ أنّ کلاهما لم یقدّم أیَّ تعریفٍ لمفهوم الأُسطورة، بل ناقشا هذا المفهوم علی أنّه موجود فی تراکیب الروایات التاریخیّة، ولیس ضرباً خاصّاً من ضروب الأدب.

أمّا (همفریز)، فیقول: إنَّ تفسیر التاریخ فی الروایات التی أرّخت للعصر

ص: 84


1- اُنظر: ستیکیفیتش، محمّد والغصن الذهبی (Muhammad And The Golden Bough).

الإسلامی الأوّل قد تأثر إلی حدٍّ کبیر بالقرآن (1)، وقد کان لزاماً علی مؤرِّخی تلک الفترة أن یتعاملوا مع صدمة العنف والاختلافات التی عصفت بالمسلمین الأوائل، ما حدا بأُولئک المؤرِّخین أن ینظروا إلی تلک الخلافات من منظار القرآن(2).

ویضیف همفریز بأنّ هذه النقطة تبدو جلیّة؛ وذلک أوّلاً: من خلال حقیقة أنّ جمیع المؤرِّخین لتلک الفترة قد آمنوا بأنّ ظهور الإسلام والقرآن کان بدایة لعصرٍ جدید فی تاریخ العالم ککلٍّ.

وثانیاً: لأنَّ کلَّ أولئک المؤرِّخین قد رووا فعلیّاً نفس الأحداث المفصلیّة التی جرت فی بدایات ظهور الإسلام، والتی تبدو ملائمة لخلق أُنموذج بنیوی یمکن أن نراه أیضاً بشکلٍ جلیٍّ فی القرآن، حیث یلاحظ فی هذا الأُنموذج وجود ثلاثة مفاهیم، وهی:

1- المیثاق (أی الوعد الإلهی بالنجاة حین یلتزم کلُّ الناس بطاعة وعبادة الإله دون سواه).

2- الخیانة (أی عجز البشر عن إیفائهم بواجباتهم تجاه المیثاق الإلهی وإنکار بعضهم للنبیّین).

3- الخلاص «أی إیمان بعض المجتمعات بالنبیّین وتجدیدهم للمیثاق أو العهد الذی قطعوه علی أنفسهم تجاه الإله» (3)؛ لذا «فإنّ البحث عن الروح التی أثارتها جدلیّة الکتاب المقدّس والعِبر المستوحاة من التاریخ، قد تبلورت فی شکل أُسطورة یؤمن بها

ص: 85


1- اُنظر: همفریز، الأُسطورة القرآنیّة (Qur’anic Myth).
2- سیأتی تفصیل شافٍ لهذه النقطة فی الفصل الثانی من هذا الکتاب.
3- اُنظر: همفریز، الأُسطورة القرآنیّة (Qur’anic Myth): ص276-278.

جمیع البشر تقریباً؛ وبذا یمکن لنا أن نسمّیها أُسطورة المیثاق، والخیانة، والخلاص»(1).

ثمّ یحاول (همفریز) أن یبرهن بأنَّ هذه الأُسطورة تُعطی مثالاً یُحتذی به، تُفسَّر علی أساسها جمیع أحداث التاریخ عند کلِّ المؤرِّخین الإسلامیین علی مرِّ التاریخ حتی القرن العاشر؛ إذ یعتقد کلُّ أولئک المؤرِّخین بأنّ المیثاق الذی أخذه الله علی الأُمّة الإسلامیّة - وهو آخر المواثیق الإلهیّة مع البشر - قد تمّ نقضه؛ ما جعل الأُمّة الإسلامیّة تغرق فی الاختلاف فیما بینها؛ لذا کان من المهمّ أن نستقصی أسباب وعوامل حدوث هذا النقض للمیثاق الإلهی، وکیف یمکن أن نستجلب الخلاص الإلهی إن أمکن (2).

وقد وجّه البروفسور الإسرائیلی فی الدراسات التاریخیة (بواز شوشان) (Boaz Shoshan) نقداً لفکرة همفریز هذه، یتلخّص فی أنّ الآخر قد أسّس فکرته علی قراءات لتاریخ أحداث العصر الأوّل للإسلام أکثر ممّا هی علیه فی الواقع.

ویضیف شوشان (Shoshan) بأنّ مفهوم (المیثاق الإلهی) لم یُعطَ أهمّیة قصوی فی القرآن ولا فی التاریخ المتأخّر بالخصوص، کما ادّعی همفریز(3)، بالرغم من أنّ مفهوم (المیثاق) فی أضیق معانیه قد لا یکون بالوضوح الذی بیَّنه همفریز، إلّا أنّنی أری أنّ المدالیل والأفکار التی یعبّر عنها هذا المصطلح - أی العلاقة الجیّدة بین الربِّ والإنسان، والتی تشمل مجموعة من المسؤولیات المتبادلة بین الاثنین - لا یمکن نکران وجودها بشکلٍ أو بآخر فی القرآن وفی الکتابات التی أرّخت العصر

ص: 86


1- المصدر السابق: ص278.
2- اُنظر: المصدر السابق.
3- اُنظر: شوشان، الشعر (Poetics): ص86-90.

الأوّل للإسلام؛ لذا فإنّنی أتّفق مع (همفریز) علی أنّ الأُنموذج الذی وصفه یمکن رؤیته فی تلک النصوص، أی القرآن والکتابات المؤرِّخة للحقبة الأُولی للإسلام (1).

یذکر الکاتب الفرنسی (کلود جیلیو) أنّ هناک مرکّباً من التناقضات والوسطیّة المزدوجة فی کتابات الطبری، مثلما هی موجودة فی العهد القدیم(2)، ویضیف بأنّ الطبری یستخدم هذا النوع من الترکیب فی کتاباته التاریخیّة والتفسیریّة؛ لکی ینقل إلی القارئ رسالته الأخلاقیّة، وهی التأکید علی إحیاء عقائد السلف، فإنّ المفتاح التفسیری والشبکة التأویلیّة التی ینظر من خلالها الطبری لأحداث التاریخ، هو التناقض البنیوی بین التسلیم لله من جهة، والتمرّد ضدّ القوانین الإلهیّة من جهةٍ أُخری (3).

ثمّ یؤکد الکاتب أنّه لیس هناک حاجة لاستخدام نوع خاص من الروایة، والذی نطلق علیه عادةً (أُسطورة) من أجل نقل رسالة الطبری الأُسطوریّة، فإنّ تراکیب (الأُسطورة الذهنیّة) - والتی من خلالها فقط یمکن لی أن أفهم المقصود

ص: 87


1- اُنظر أیضاً: وانسبرو، المحیط الطائفی (Sectarian Milieu): ص87-89. ولو أنّ همفریز یختلف مع وانسبرو حول فکرة (الحنین إلی الوطن) المذکورة فی کتاب الأساطیر القرآنیّة. وفی هذا السیاق، لا یستخدم الکاتب (فان أس) فی کتابه (Erwählungsberuβtsein): ج1، ص8، مفهوم المیثاق، ولکننی أری أنّه یوافق علی الرأی القائل بأنّ هذا المصطلح هو أفضل ما نعبّر به عن حسِّ الانتخابات الذی کان موجوداً فی العصر الأوّل للإسلام! أمّا فیما یخصّ مفهوم المیثاق عند الطبری، فإنّ ما کتبه همفریز عن هذا الموضوع قد تبعَته به إلی حدٍّ ما الکاتبة اولریکا مورتنسون فی کتابها: (المقالة (Discourse)): ص310-318.
2- اُنظر کتاب: الأُسطورة (Mythe)، للکاتب جیلیو، ففی مقالته فی ذلک الکتاب یبدو الکاتب متأثراً بشکلٍ جلیٍّ بلیفی شتراوس، کما بیَّن ذلک بشکلٍ تفصیلی العالم البریطانی المتخصّص بعلم الإنسان (الانثروبولوجیا) إدموند لیتش (ص264-265 من الکتاب المذکور أعلاه)، إذ إنّ مصطلح (التناقضات والوسطیّة المزدوجة) هو من نتاج لیفی شتراوس، کما سنبّین هذا فیما یلی من الکتاب.
3- اُنظر: جیلیو، الأُسطورة (Mythe): ص244-245.

بالتناقض والوسطیّة - یمکن تحقیقها فی قصةٍ ما أو فی روایةٍ تاریخیّة، کما هو الحال فیما نحن بصدد مناقشته(1).

ثمّ تحدّث (همفریز) و(جیلوت) عن ترکیبة الأُسطورة - ولو أنّ همفریز لم یستخدم کلمة (ترکیب) ولکنه تحدّث عن (نماذج) أو (أمثلة) - أکثر ممّا ناقشا مسألة الأُسطورة فی شکل روایةٍ تاریخیّة، وهذا «الترکیب» یمکن رؤیته متحقّقاً فی قصص مختلفة؛ لذا فإنّ مفهومهما للأُسطورة قد یبدو أقرب لمفهوم (لیفی شتراوس) لها ممّا أفهمه أنا عنها، فإنّنی أعتبر نفس تلک القصص التی تُروی من العصر الأوّل للإسلام أساطیراً، ولکن لسببٍ آخر یختلف عمّا علّله الآخرون، وهو أنّ تلک القصص هی مواد تأسیسیّة للمسلمین فی عصر ظهورها، ولکن النقطة الأهمّ هی أنّ همفریز وجیلوت قد أشارا إلی أنّ من الممکن أنّ نحلّل بنیویّاً الکتابات التی أرّخت العصر الأوّل للإسلام؛ لکی نحصل علی فهم أفضل للنظرة العالمیّة والهویّة للمسلمین الذین عاشوا فی عصور الإسلام الأُولی.

دراسات حدیثة حول مأساة کربلاء

مع أنّ عدداً من الدراسات الحدیثة قد کُتبت حول حادثة مقتل الحسین بن علیٍّ فی کربلاء وأهمّیتها فی الإسلام، إلّا أنّ من المستغرب أن نری أنّ عدداً قلیلاً من مثیلات تلک الدراسات قد کُتبت حول أحداث مأساة کربلاء علی شکل متون.

فی هذا القسم من الکتاب سوف أُلقی نظرةً عامّة، ولکن بشکلٍ مختصر علی مجموعة من الدراسات التی کتبت حول مأساة کربلاء علی شکل أحداث - وإن کان هناک عدد أکبر من هذه الدراسات یمکن أن نختار من بینها - ثمّ أُناقش

ص: 88


1- اُنظر: المصدر السابق: ص256.

دراستین کُتبتا حول هذه المأساة علی شکل متون علی حدِّ علمی.

إنّ معظم الدراسات التی ذکرت تاریخ مأساة کربلاء قد ناقشت هذه الحادثة علی ضوء العلاقة بینها وبین نشوء التشیّع، وإنّ بعض تلک الدراسات قد استفادت من عدد من المصادر کانت حصة الأسد منها لما رواه أبو مخنف کما رواه الطبری عنه، وأکثر الدراسات من هذا النوع ما هی إلّا صیاغة جدیدة لقصّة کربلاء بتفاصیل مطوّلة أحیاناً ومختصرة أحیاناً أُخری، دون التطرّق إلی أیِّ نقدٍ أو تقییمٍ لأحداثها، ثمّ تنتهی تلک الدراسات بتعلیقات علی الأحداث تعتمد علی وجهة نظر مؤلِّفیها الذین تتباین آراؤهم کثیراً.

قبل أکثر من مائة عام، کتب (جولیوس ولهاوزن) (Julius Wellhausen) فصلاً عن الحسین ومعرکة کربلاء فی کتابه (The Religio- Political Factions Inearly Islam)(الطوائف الدینیّة السیاسیّة فی العصر الأوّل للإسلام)(1)، حیث قام بتلخیص روایة (مقتل أبی مخنف) کما هی فی کتاب الطبری، ثمّ کتب تعلیقة علی أُسلوب أبی مخنف، وکیفیة استفادته من مصادر روایته، وذلک بعد أن بحث - بشیءٍ من التفصیل - العناصر النفسیّة والوجدانیّة لأبطال القصّة.

وفی کتابه هذا لا یخفی ترکیز (ولهاوزن) علی دور السیاسة المتسلطة فی القصّة، فهو یری أنّ الحسین أنانی وضعیف، وقد کان یعیش فی دنیا الخیال، ولکنّه لم یستطِع تحقیق شیءٍ من أحلامه تلک حینما قام بتلک المحاولة الهشّة للاستیلاء علی السلطة (کطفلٍ یمدّ یده لیتناول القمر!)(2).

ص: 89


1- اُنظر: ص105-120. من الکتاب المذکور.
2- اُنظر: ص116، من الکتاب المذکور.

کلُّ عواطف (ولهاوزن) کانت مع حاکم العراق آنذاک عبیدالله بن زیاد، المسؤول بشکل مباشر عن مقتل الحسین، «بوسائل قلیلة، ولکن بنیّة صادقة وعزم کبیر، استطاع الحاکم أن یصل إلی حلِّ هذه المعضلة الکبیرة... فقد قام بواجبه، ولکنّه تخطی کلَّ الحدود بشکلٍ افتقد إلی الحکمة»(1)؛ لذا حین التقی الخصمان لم یکن إلّا ما کان متوقعاً: «کقِدرٍ مصنوع من الطین - یعنی الحسین - یتصادم مع عبیدالله، الرجل الحدیدی!»(2).

إنّ مثل هذا الموقف الذی لا یُبدی أیَّ تعاطفٍ مع الحسین لا نجده عادةً فی کتابات المؤلِّفین المتأخّرین (3).

أمّا الکاتبة (لورا فاشیا فاغلیری) (Laura Veccia Vaglieri)، فقد قامت بإلقاء نظرة شاملة غایة فی الروعة حول هذه القصّة فی مقالتها حول الحسین، المنشورة فی الطبعة الثانیة من (Encyclopedia Of Islam)(موسوعة الإسلام)(4)، إذ تناقش المقالة شخصیة الحسین أکثر ممّا تسرد أحداث کربلاء، ونظراً لکون جمیع المصادر عن الحسین ترکّز علی هذه الحادثة بشکلٍ کبیر، فإنّ جزءاً کبیراً من المقالة یتمرکز حول معرکة کربلاء.

تبدأ الکاتبة بسرد قصّة معرکة کربلاء، ثمّ تناقش أُسطورة الحسین، أی: المعجزات والعجائب التی جرت علی یدیه(5)، ثمّ تختم مقالتها بتفنید ما کتبه

ص: 90


1- اُنظر: ص115 من الکتاب.
2- اُنظر: ص116 من الکتاب.
3- اُنظر کتاب: الحسین، للکاتب لیمینز، الذی طبعه بعد کتاب ولهاوزن بفترة یسیرة.
4- اُنظر مقالة: (الحسین بن علیّ بن أبی طالب)، ل- (لورا فاشیا فاغلیری).
5- المصدر السابق: ص612-614.

(ولهاوزن) وأمثاله حول القصّة.

وفی نهایة المطاف تشیر الکاتبة إلی خطب الحسین کما روتها المصادر، لتصل إلی نتیجة مفادها: إنّ الحسین رجل قادته عقیدته - بتأسیس نظام حاکم یلبّی متطلبات الإسلام الحقیقی - إلی اتخاذ هذا الموقف، بالرغم «من أنّه قرّر بصلابةٍ لا تلین أن یصنع نهایته بیده، کما هو الحال مع کلِّ نهایات الأبطال الدینیین الملتزمین»(1).

أمّا کتاب محمود(2) أیوب: (المعاناة الفدائیّة فی الإسلام)، فقد یکون من أکثر المصادر تأثیراً علی نظرة الکتّاب الغربیین للعاطفة الشیعیّة، مع أنّ الغرض الرئیس من کتابه هو وصف وتحلیل المظاهر العبادیّة لشعیرة عاشوراء - أی: التحضیرات الأخیرة لمأساة کربلاء - إلّا أنّ الکاتب لا یغفل مسألة الأبعاد التاریخیّة لشخصیة الحسین وأحداث کربلاء، ودون التطرّق إلی أدنی عاطفة فی تحلیلاته لشخصیة الحسین، یصف الکاتب هذا الشخص بأنّه «رجل تقوی وعقیدة، ومکارم أخلاق، وزهد وابتعاد عن هذه الدنیا»(3). ثمّ یخلص إلی القول بأنّ دراسة دقیقة للمصادر تؤکد النظرة القائلة بأنّ الحسین کان محقّاً فی ثورته ضدّ (اغتصاب السلطة غیر المشروع... یزید)؛ لأنَّه کان منافیاً لمُثُل الإسلام (4).

وعلی الرغم من أنّ محمّد أیوب کان حذراً فی القول بأنّ عوامل سیاسیّة کان لها دورها فی مأساة کربلاء، إلاّ أنّه حاول أن یبرهن أنّ هذه العوامل وحدها لا یمکنها تفسیر ما فعله الحسین، إذ - بالإضافة إلی تلک العوامل الخارجیّة - یقرّر الکاتب

ص: 91


1- المصدر السابق: ص614.
2- الکاتب اسمه محمّد أیوب ولیس محمود. (المحقق).
3- اُنظر: ص93، من الکتاب المذکور.
4- اُنظر: المصدر السابق.

ثلاثة دوافع أدّت إلی استشهاد الحسین، وهی: «مثالیّة سیرة وسلوک الحسین، وإیمانه أنّ مصیره الذی سیلقاه قد کان رُسِم له مسبقاً، وحقیقة أنّه لم یکن أمامه سوی خیارین: إمّا أن یستسلم وإمّا أن یُقتل»(1).

وفی نفس الفصل من الکتاب، حاول الکاتب أن یفهم الحسین کشخص وعاطفة أکثر من نظرته للمصادر التی ذکرت مأساة کربلاء علی أنّها صورة لما أوَّلَه جیل متأخّر لحادثة حدثت فی السابق (2).

وفی فصول أُخری من کتابه، حاول أیوب أن یعطینا دراسة بدیعة تدلّ علی براعته الأکادیمیّة عن التفسیرات العبادیّة المتأخّرة لمأساة کربلاء.

أمّا أُطروحة رسالة الدکتوراه التی کتبتها (ماریا ماسی داکاکه) (Maria Massi Dakake) التی حملت عنوان (Loylty، Love، And Faith) (الولاء والحبّ والإیمان)(3)، فهی دراسة من نوعٍ آخر عن هذا الموضوع، فقد تتبّعت الکاتبة فی أُطروحتها هذه تطوّر الهویّة الطائفیّة الشیعیّة، کما حاولت أن تبرهن بأنّ حادثة کربلاء لم تکن نقطة تحوّل من حرکة سیاسیّة إلی حرکة دینیّة بحتة، کما وُصفت فی کثیر من الدراسات (4).

ثمّ تستنتج الکاتبة بأنّ الحرکة الشیعیّة کان لها أبعادها الدینیّة منذ البدایة؛ وبهذا تؤیّد الکاتبة هذه الفرضیّة حین تقوم بدراسةٍ لاستخدام کلمة (الولایة) وهو

ص: 92


1- اُنظر: ص103، من الکتاب المذکور.
2- وهذا التصوّر نفسه ینطبق علی ما کتبه السید حسین محمّد جعفری عن الحسین ومأساة کربلاء فی کتابه (Origins) (الأُصول): ص174-221.
3- اُنظر: أُطروحة (الولاء والحبّ والإیمان) للکاتبة ماریا داکاکه. وأغتنم هذه الفرصة لأعبّر عن امتنانی للأُستاذة لیندا کلارک من مونتریال التی جذبت انتباهی إلی هذه الأُطروحة.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص14-16.

مصطلح دینی سیاسی ذو دلالات کثیرة، ولکن أسهل تفسیر له هو القول بأنّه یعنی السلطة والولاء.

بالرغم من أنّ هذا المصطلح استُخدم کثیراً فی الحکایات التی روت الحرب الأهلیّة الأُولی فی الإسلام - أی حینما هوجمت سلطة علیٍّ، والد الحسین - إلّا أنّها غابت تماماً فی الروایات التی روت قضیة کربلاء، إذ استُخدمت فی هذه الروایات کلمة (النُّصرة)، والتی تعنی الدعم والمساندة للحسین کبدیل لمصطلح الولایة، ولو أنّ کلمة النصرة ما هی إلّا مرادف لمصطلح الولایة کلّما استخدمت فی هذا السیاق، والفرق الوحید بین الکلمتین هو أنّ کلمة (نصرة) خلت من أیِّ معنیً طائفی أو إعجازی، أو سلطة مطلقة ولو بشکلٍ باطنی غیر معلن، وهو ما تدلّ علیه کلمة ولایة(1).

لم تکن النقطة الأهمّ فی جمیع الروایات التی تحدّثت عن الحسین فی مأساة کربلاء هی موضوع شرعیّة سلطته کما کان الحال مع أبیه علیٍّ، ولکن تلک الروایات رکّزت علی انتهاک حرمة الحسین وکونه رمزاً للهدایة (2).

والحقیقة أنّ أُطروحة (داکاکه) تختلف اختلافاً کلیّاً عن جمیع ما کُتب عن هذا الموضوع ممّا ذکرناه آنفاً، ونقطة الاختلاف هی: أنّ أطروحتها ترکزّت علی مفاهیم جاءت فی الروایات التی أرّخت للإسلام، أکثر ممّا ترکّزت علی القصص التی روت تلک الحادثة، ما یفتح الباب للکاتبة؛ لکی تنفصل بشکلٍ سلیم عن محتوی النصوص التی روت الحادثة، وتجد بدیلاً آخر وهو استقصاء الجانب التاریخی فی حادثة کربلاء.

ص: 93


1- اُنظر: المصدر السابق: ص118-119.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص109، وص118.

فقد حاولت الکاتبة استنطاق «الجدال الذی یحیط بثورة الحسین التی أخفقت، کما جاء فی کتب التاریخ الشهیرة»(1).

ولکن ما زالت هناک مشکلة، وهی: أنّ الکاتبة لم تتعرّض لوضعیة المصادر التی روت الحادثة، ولکنها ناقشت ما ذکرته تلک المصادر علی أنّه حقائق تاریخیّة لا مجال للشکِّ فیها، فالکاتبة بدت وکأنّها تؤمن سلفاً بأنَّ أیَّ خطابٍ أو رسالةٍ دوَّنَها المصدر التاریخی لا بدّ أن تکون قد نُقلت کما کُتبت أو قیلت بالضبط، (أی أنّ الکاتبة لا تدع مجالاً للشکِّ فی نقل مُتون تلک الخطب والرسائل) (2).

وهذا ما جعل من الصعب علی الکاتبة أن تفصل نفسها عن شخصیة الحسین وعن أفکاره، حینما تتحدّث فی مواطن متفرّقة من الأُطروحة عن دوافع قیام الحسین والأفکار التی کان یحملها(3).

وبالترکیز علی مأساة کربلاء کحادثة تاریخیّة، فقد قرأ هؤلاء الکتّاب وغیرهم المصادر التی روت المأساة علی أنّها حقائق حدثت فعلاً فی التاریخ، ولکن بشکلٍ یتفاوت فیه مدی مصداقیتها حسب نظر کلٍّ من أُولئک الکُتّاب، مع أنّنی لا أُنکر أن ما روته تلک المصادر واقعیّاً إلی حدٍّ ما، إلّا أنّ مثل هذا النهج یتطلّب منّا أن نناقش بشکلٍ أعمق کون تلک المصادر حوت نصوصاً تمّ استقصاؤها بدقّة.

ص: 94


1- المصدر السابق: ص109.
2- اُنظر علی سبیل المثال: تعلیقة الکاتبة علی خطبة أحد أصحاب الحسین فی کربلاء (ص114 من الأُطروحة المذکورة)، ومقارنتها بین رسالتین أرسلهما الحسین إلی شیعة الکوفة وأشراف البصرة: (ص115-116 من الأُطروحة).
3- مثلاً، تذکر الکاتبة فی (ص115) من أُطروحتها بأنّه لم یحمل الحسین ولا أحد من أصحابه فکرة استبدادیّة: أنّ للحسین وحده الحقّ فی تولّی السلطة الدینیّة السیاسیّة.

علاوةً علی ذلک، فإننی أری أنّ من المستحیل أن نجد شیئاً أبعد من الخصائص الرئیسة لأیّة حادثةٍ تاریخیّةٍ فی مثل تلک النصوص؛ لذا فقد تبقی العواطف والأفکار والدوافع الشخصیّة لأبطال الحادثة مخفیّةً عنّا للأبد.

أمّا التحلیل الأمثل الذی وقع نظری علیه لحادثة کربلاء من ناحیة النصِّ، فقد وجدته فی کتاب (بواز شوشان) (Boaz Shoshan) الموسوم (Poetics Of Islamc Historiography) (أشعار التاریخ الإسلامی)(1)، فی القسم الثانی من الکتاب، یضرب (شوشان) (Shoshan) أربعة أمثلة علی طریقة الطبری فی الکتابة: أحدها: أُسلوبه فی سرد مأساة کربلاء، فیری الکاتب فی قصّة مقتل الحسین مأساة بکلِّ أبعاد المأساة، إذ تتکون من قضیتین رئیسیتین مختلفتین، بمعنی أنّ القصّة بشکلها المعقّد تؤدّی بالتالی إلی نتیجة مأساویة واحدة، ففی أحد جوانبها یقرّر الحسین أن یرضَ بقضاء الله، لیسیر إلی الکوفة ولا یستمع إلی نصائح أصحابه - الذین أشاروا علیه عدم المسیر - وفی الجانب الآخر، یحاول أن یفلت من مصیره بعد أن یُدرک أنَّه مهدّدٌ بالقتل (2).

وبهذه الطریقة، یخلص (شوشان) (Shoshan) إلی القول بأنّ مأساة کربلاء تبدو قریبة جدّاً من تعریف المأساة إلاّ فی جانبٍ واحد، وهو عنصر الثقة المفرطة بالنفس(3)، ولکنّنی لا أتفق مع تأویل (شوشان) (Shoshan) الخاصّ به لقصّة مأساة کربلاء، کما سیتّضح ذلک فی تحلیلی الخاصّ لنصوص هذه المأساة الذی سیأتی

ص: 95


1- اُنظر: شوشان، أشعار التاریخ الإسلامی: ص233-252.
2- اُنظر: المصدر السابق ص235-236، وص245.
3- المصدر السابق: ص252.

لاحقاً فی هذا الکتاب، ولو أنّ طریقته فی فهم نصوص هذه المأساة أقرب لی من الطریقة التی سلکها کُتّاب آخرون ممَّن ذکرتُهم سابقاً؛ إذ إنّی فی هذا الکتاب سوف أخطو خطوة أکثر، وأقوم بتحلیل القصّة علی أنّها أُسطورة، بمعنی أنّها قصّة تأسیسیّة - أی تؤسّس لمذهبٍ معیّن وطریقة فهم خاصّة - ولیست مجرّد نصّ تاریخی.

والفرق بین الاثنین هو: أنّنی أبحث عن تراکیب عمیقة وأساسیّة یمکن إیصالها إلی المتلقّی من خلال محتوی وترکیب القصّة الروائی (1).

ص: 96


1- سأقوم فی فصول قادمة من الکتاب بمناقشة المستویات المختلفة للترکیب بشکلٍ عام.

الفصل الأول: الطبری وروایته

اشارة

صورة

صورة

ص: 97

ص: 98

الطبری وسیاق روایته

نشوء علم الکلام والسیاسة فی الإسلام

سأحاول فی هذا القسم من الکتاب أن أرسم صورة للنظرة المحتملة لنشوء الأُمّة الإسلامیّة فی القرون الثلاثة الأُولی من ظهورها، والحقیقة هی أنّنا لا نعرف إلّا القلیل عن التطوّر التاریخی المعقّد لهذه الأُمّة فی تلک الحقبة؛ إذ بالرغم من وجود مجموعة هائلة من الأدب الذی یؤرِّخ لتلک الحقبة محفوظاً لدینا من خلال کتابات کُتبت فی القرون التی تلتها، إلّا أنّنا لا نکاد نری شیئاً من ذلک الأدب یعود للحقبة من القرن الأوّل إلی الثانی الإسلامی - أی القرن السابع إلی الثامن المیلادی - ولا نری إلّا النزر الیسیر من الأدب المکتوب فی القرن الثالث الإسلامی - التاسع المیلادی - وإن وُجد فهو لا یمثّل شکلاً ینمّ عن التقدّم فی تلک الفترة(1).

وکلُّ ما تبقّی لدینا الیوم من تلک الحقبة هی نُسخٌ محقّقة ومنظّمة، وتصانیف تعود للقرن الثانی الهجری، ولکی نبسط القول قلیلاً، نقول بأنّ المصادر التی تروی عن العقود الأُولی للحضارة الإسلامیّة ما هی إلّا کتابات کُتبت فی القرن الثالث

ص: 99


1- لقد کُتب الشیء الکثیر عن هذا الموضوع، فمثلاً یمکن للقارئ أن یرجع إلی مقدّمة حول هذا الموضوع کتبها همفریز فی کتابه: التاریخ الإسلامی (Islamic History). کما کتب روزنتهال دراسة مستوفیة عن هذا الموضوع فی کتابه: تاریخ کتابة التاریخ الإسلامی (Ahistory Of Muslim Historiography). إضافةً إلی ذلک، هناک کتب کثیرة کُتبت حول هذا الموضوع ولکن من زوایا مختلفة، مثل کتاب: المرویات (Narratives) للکاتب دونور، وکتاب: الروایة التاریخیّة العربیّة فی عهدها الأوّل (Early Arabic Historical Tradition) للکاتبَین نوث وکونراد، وکتاب: التأریخ الإسلامی (Islamic Historiography) للکاتب روبنسون، وکتاب: نحو نظریّة (Toward Atheory) للکاتب وولدمان، وکلُّ هذه الکتب قد حوت مصادر یمکن الرجوع إلیها.

الهجری، وفیها کتب ربّما تکون قد صُنِّفت قبل قرن من ذلک التاریخ، ولکنها جُمِعت أو حُقِّقت بعد ذلک.

وتلک المصادر تعتمد فیما روت علی نُقولٍ شفاهیة، قد قال قائلوها إنّهم سمعوها من أُناس رأوا تلک الأحداث رأی العین (1)، علی أنّنا لا نجد دلیلاً توثیقیّاً أو آثاریّاً مرویّاً فی کتابات تاریخیّة لغیر المسلمین یؤیّد ما نُقل فی تلک المصادر، حتی أنّ تاریخ القرآن الذی یتناقله الکُتّاب المسلمون لم یزل موضع تساؤل وشکّ عند الأکادیمیین الغربیین، وقد کثر هذا التساؤل فی العقود الأخیرة، بالرغم من عدم وجود إجماع علی وصول بدیل عن ذلک التاریخ إلی أیدینا، ولیس من المعلوم أنّنا نستطیع أن نستفید من ذلک التاریخ کمصدر لمعرفة تاریخ رسالة محمّد أو عقیدة معاصریه (2).

وهذه الحقیقة تجعلنا نطرح کمّاً کبیراً من التساؤلات حول قیمة التاریخ العربی کمصدر لتاریخ الحقبة الأُولی للإسلام.

أمّا الأکادیمیّة الغربیّة، فقد اتّخذت مواقف متباینة حول هذا الموضوع، فقد اعتبر بعضها تلک النصوص الواصلة إلینا من الحقبة الأُولی للإسلام مصادر یمکن الوثوق بها، بینما اعتبرها بعضٌ آخر کتابات یعتریها شکّ مطلق وتساؤل حول إمکانیة ترمیمها وإعادة بنائها أم لا(3).

ص: 100


1- کمثال علی عملیة النقل هذه اُنظر مناقشاتی لمصادر الطبری فیما یلی من فصول هذا الکتاب.
2- وأهمّ ما کُتب حول هذا الموضوع، وإن کان عملاً تقلیدیّاً، فهو کتاب: دراسات قرآنیّة (Qur'anic Studies)، للکاتب وانسبرو، یمکن للقارئ أن یقارن ذلک بما کتبه دونر فی کتابه (المرویات): ص35-63.
3- اُنظر: دونر، المرویات (Narratives): ص5-31، من أجل التعرّف علی دراسةٍ لرموز المناهج، ومن ضمنها مقالة نقدیّة لأکثر المواطن المشکوک بها فی هذا السیاق.

ولیس البحث الحالی مناسباً لعرض مناقشة وافیة لوضعیة مصادر التاریخ الإسلامی، ولکن ما سنتلوه علیک من ملاحظات حول تلک المصادر قد یجذب نظرک إلی نقطةٍ مهمة، وهی: أنَّ الخلاصة التاریخیة حول تطوّر الإسلام فی القرون الأُولی أمرٌ نظری، مثله مثل أیّة عملیة ترمیم(1).

ویمکن رؤیة صورةٍ للدولة التی قامت فی المدینة - حیث کانت للنبیّ الذی یتلقی هداه من الله السلطة المطلقة - فی مصادر التاریخ الإسلامی منذ عهوده الأُولی(2)، ومن تلک المصادر علمنا أنّ سیرة محمّد بدأت هناک، إذ لم تکن أیّة دولة فی وسط الجزیرة العربیّة، ولکن کان هناک نظام القرابة - أی العوائل والعشائر

ص: 101


1- یبدو من غیر الممکن لنا فی هذه الأسطر أن نذکر کلَّ ما کُتب حول تطوّر الفکر الإسلامی السیاسی والدِّینی فی مرحلته المبکرة؛ لذا سأحاول أن أستجلب نزراً یسیراً من الکتابات فی هذا المضمار، والتی کان لها أهمّیة مباشرة بصلب الموضوع علی حسب نظری حینما کتبت هذا الفصل، لمعرفة تلک المصادر بتفاصیلها یرجی مراجعة فهرس المصادر فی نهایة الکتاب. أمّا إحدی أحدث الدراسات العلمیّة الشاملة حول نشوء الفکر السیاسی فی المرحلة الأُولی للإسلام، فهو کتاب: الفکر السیاسی الإسلامی فی القرون الوسطی (Medieval Islamic Political Thought) لکاتبته باتریشا کرون. ولا یقلّ أهمّیة عن الکتاب السابق کتابُ: علم الکلام والمجتمع فی القرنین الثانی والثالث للهجرة (Theologie Und Gesellschaft Im 2. Und 3. Jahrhundert Hidschra)، الذی کتبه جوزف فان أس (Josef Van Ess)، حیث نجد فی المجلد الرابع من هذا الکتاب الضخم نظرة عامّة موضوعیّة لنشوء وتطوّر علم الکلام والنظریّة السیاسیّة، وقد قام الکاتب بکتابة مقالة موجزة باللغة الإنجلیزیّة للقسم الذی یتحدّث عن علم السیاسة من کتابه: (الأفکار السیاسیّة فی الفکر الدینی للحقبة الأُولی للإسلام)، کما استفدتُ کثیراً فی کتابة هذا الفصل من کتاب: من المجتمع القبلی إلی الدولة المرکزیّة: تحلیل للأحداث والنوادر فی فترة تکوین الإسلام للکاتبة إیلالانداو تاسیرون، کما تحتوی جمیع تلک المصادر علی مصادر أکثر تمّت مراجعتها حین کتابتها.
2- لمعرفة وافیة عن مصطلح (الدولة) المستخدم فی هذا السیاق، یرجی مراجعة کتاب: کرون،الفکر السیاسی: ص3-4.

والقبائل - إذ کانت کلُّ مجموعةٍ تضمن مصالح أفرادها.

وقد أوَّل علماء معاصرون نشوء مجتمع إسلامی فی المدینة کمحاولة لتفتیت التکتّلات القبلیة وإبدالها ب- (قبیلة واحدة عظیمة تضمّ کلَّ المؤمنین)(1). وهکذا جاءت الأوامر الإلهیّة التی تلقّاها النبیّ من الله، وبلّغها بدوره إلی المسلمین؛ لتحلّ محلّ العادات والتقالید القبلیة، إذ إنّ المعنی المألوف لکون المرء مؤمناً هو أن یعترف بقیادة محمّد(2).

ولم یکن کلُّ أفراد الأُمّة یحملون نفس الفکرة عن کیفیة الحکم وإدارة أُمور مجتمعهم، ومع ازدیاد عدد المسلمین ازدادت الحاجة إلی تطبیق الأوامر الإلهیة علی المؤمنین العاصین، وبذلک کثرت والسائل لتطبیقها.

وقد ذکرت مصادر تاریخیّة متأخّرة عن تلک الفترة بأنّ مشیئة الله بدت ظاهرة للعیان من خلال حیاة ونجاح الأُمّة الإسلامیّة، وأنّ محمّداً - وهو الواسطة بین الله والناس - کان القائد السیاسی والمرشد الدِّینی لهذا المجتمع، وتلک الصفتان اجتمعتا معاً فی شخصه، إذ یصفه القرآن بالأُسوة الحسنة التی یجب علی الجمیع أن یقتدی بها فی کلِّ نواحی الحیاة؛ لأنّه مسدَّد من الربّ (3)، وفی کثیر من مواضع القرآن یؤمر الناس بإطاعة الله والرسول(4).

ص: 102


1- اُنظر: کرون، الفکر السیاسی: ص13. واُنظر علی سبیل المثال: لانداو تاسیرون، من المجتمع القبلی: ص182.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص185-187.
3- القرآن: 33 [الأحزاب]: آیة21.
4- القرآن: 3 [آل عمران]: آیة132. و4[النساء]: آیة59. ومواضع أُخری. ومن أجل الإطّلاع علی تفسیر جدیر بالقبول للدور السیاسی لمحمّدٍ کما جاء فی تلک المصادر، یُرجی الرجوع إلی: کیستر (Kister)،مفاهیم السلطة: ص84-85.

من وجهة نظر القرآن، ینقسم الناس إلی ثلاث فئات؛ فمنهم من آمن بالرسول واتبعه علی هدًی، وهؤلاء موعودون بالخلود فی نعیم الآخرة، ومنهم من نأی عن الرسول وصدّ عنه جهاراً نهاراً، وهؤلاء محکومون بدخول النار، والقسم الثالث، وهم الذین أعلنوا ولاءهم له بألسنتهم ولکن أفعالهم تقول عکس ذلک، یُسمَّون بالمنافقین فی القرآن، وهؤلاء عادةً ما یُعتبرون من المؤمنین(1)، ولکنّهم علی جرف الرِّدَّة عن الدِّین(2).

وهکذا، لم یکن المجتمع المسلم تحت قیادة محمّدٍ متّحداً سیاسیّاً فحسب، حسب ما تذکره تلک المصادر القدیمة، بل کان الشغل الشاغل لأفراد ذلک المجتمع هو إیجاد السبیل إلی النجاة وإلی الآخرة.

أمّا أُولئک الذین عاشوا مع النبیّ فی فترة حیاته، فقد أُطلق علیهم فیما بعد اسم (الصحابة)(3)، ولأنّهم شارکوه فی حیاته وتبعوه، فقد کان یُنظر إلیهم بعد وفاة النبیّ علی أنّهم أقدس الأشخاص، والتالون له فی کونهم الأُسوة الحسنة التی یجب

ص: 103


1- المنافق لیس بمؤمن، وبصریح القرآن أنّهم من أهل النار، بل هم فی أسفل درکٍ من الجحیم، حیث قال تعالی: «إِنَّ الْمُنَافِقِینَ فِی الدَّرْکِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» النساء: آیة145. (المحقق).
2- علی سبیل المثال، اُنظر: القرآن: 3 [آل عمران]: آیة166-167. للاطّلاع علی دراسة ممتازة حول مفهوم النفاق فی القرآن، إرجع إلی: ایزوتسو (Izutsu)، المفاهیم: ص178-183. فان أس، علم الکلام والمجتمع فی القرنین الثانی والثالث للهجرة، المجلد الرابع: ص679-680.
3- الصحابة: مصطلحٌ أطلقه المسلمون المتأخّرون عن عصر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی المعاصرین له، ولکنّه عاش السعة والضیق، وتدخّلت الأیادی العابثة لتسحبه حتی یغطی مَن أُرید إعطاؤه هذه السمة؛ من أجل تصحیح أفعاله المشینة وشرعنتها، فجعلوا الصحابی هو کلّ مَن لقی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأظهر الإسلام ولو ساعة من النهار ومات بعد ذلک، وأُلحق بهم مَن أُمّروا فی الفتوح بعد وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وهذا ما لا یرتضیه الشیعة؛ فهم یرون الصحابی مَن آمن بالرسول وحفظ عنه ما بلّغ به عن الله، وعلم أمر الله ونهیه، وتفقّه فی الدین وأقامه.(المحقق).

أن تُتّبع(1)، فقد کانوا متّحدِین فی أیّام حیاته تحت رایته فی الإیمان، وقد جاهدوا معه ضدّ الهجمات التی تعرّض لها المجتمع المسلم.

ولکن بعد وفاة محمّدٍ، لم یستطِع المسلمون أبداً تحقیق الوحدة بصورتها المتکاملة التی کانت علیها فی أیّام الحکومة التی أسّسها النبیّ فی المدینة. تروی المصادر کیف أنّه فی خلال عقدین من الزمان - بعد رحیل النبیّ - ظهرت طوائفٌ مختلفة ومخالفة لبعضها البعض، تحمل کلٌّ منها عقیدتها الخاصّة بها فی تطبیق الإسلام علی الواقع، وقد تصارعت تلک الطوائف علی السلطة السیاسیّة؛ لغرض تطبیق وجهة نظرها عن الدِّین والسیاسة، فکان کلٌّ من تلک الطوائف یدّعی أنّه الأحقّ، وأنّ أفراده یمثّلون المؤمنین الحقیقیین، وقد استخدموا کلَّ أسالیب الحسم والصلابة؛ لکی یتمکّنوا - حسب ادّعائهم - من تطبیق إرادة الله؛ إذ إنّهم آمنوا أنّ الهدایة الإلهیّة لم توجد إلّا فیهم ومعهم.

أمّا مفهوم إمام الأُمّة، فقد کان الأساس فی کلِّ شیءٍ، تقول (باتریشا کرون) (Patricia Crone) بأنّ دور الإمام کان شبیهاً بدور قائد القافلة فی الصحراء، إذ أُنیطت به مهمّتان أساسیتان، وهما:

أنّه یمنح الأُمّة وجودها؛ إذ بدونه لیس هناک وجود لأیّة قافلة، وإنّما یکون أفراد تلک القافلة مجرّد مسافرین مبعثرین هنا وهناک یحاولون عبور الصحراء بلا قائد.

والمهمّة الثانیة هی أنّ القائد یُوصل تلک القافلة إلی مقصدها؛ لأنّ الإمام

ص: 104


1- اُنظر: فان أس، علم الکلام والمجتمع فی القرنین الثانی والثالث للهجرة، المجلد الرابع: ص696-700.

الحقیقی نفسه کان یتلقّی الهدایة مباشرة من الله.

وتضیف الکاتبة: «الإمام یفهم کلَّ الأُمور أکثر من أیِّ أحدٍ آخر؛ لأنّه أفضل أهل زمانه، وقد اتّبعه الجمیع من أجل ما یتمیّز به من فضیلة تفوق کلّ ما یتمیّز به الآخرون، أمّا إرشاداته وهدایته، فهی شرعیّة ابتداءً - أی أنّه یبیّن ما هو حقّ وما هو باطل - لأنّه بالعیش فی ظلِّ تطبیق أحکام الله وحده یستطیع الناس الوصول إلی النجاة.

وقد یُکره الإمام بعض المخالفین علی الالتزام بأوامر الله ونواهیه کیلا یضلّوا، وهذا نوع آخر من الهدایة الممنوحة له؛ لأنّ من ضلَّ عن الصراط القویم فقد خسر، وإذا ما تفرّقت تلک القافلة، فإنّ ذلک یعنی هلاک الجمیع... مَن سار مع الإمام فقد نجا، ومن تخلّف فقد هلک»(1).

لا ریب أنّ محمداً، یُعتبر أوّل الأئمّة، وقد سار کلُّ أفراد الأُمّة التی أنشأها فی المدینة علی الصراط المستقیم نحو النجاة حینما اتبعوه، لهذا السبب فإنّ الصراع علی السلطة الذی ظهر بین أصحابه بُعید وفاته مثَّل صدمة لا دواء لها، إذ یتساءل الجمیع: إن لم یستطع أصحاب النبیّ أن یفلحوا فی تدبّر أمرهم من بعده، فمَن ذا الذی یستطیع ذلک؟!

تترکّز معظم النصوص التاریخیّة المذکورة فی تلک المصادر(2) التی أرّخت لتلک الفترة علی الخلیفتین الثالث والرابع، وهما: عثمان الأُموی، وعلیّ الهاشمی، ابن عمّ النبیّ وزوج ابنته، وبالرغم من أنّهما کانا یُصنّفان کصحابة للنبیّ، إلّا أنّ التقسیم فی

ص: 105


1- اُنظر کتاب: باتریشا کرون، الفکر السیاسی: ص22.
2- عند مراجعة تلک المصادر التاریخیة ستجدها دُوّنت فی فترة من خلافة الأُمویین وسیطرتهم علی مفاصل الحیاة فی الأُمّة الإسلامیة. (المحقق).

أشدّ حالاته یبدأ منهما، فقد أُخبرنا أنّه حینما أتُّهم عثمان بالحکم الفاسد، وقُتِلُ فی عام (36ه-/656م)، اتُّهم علیٌّ بأنّ له یداً فی قتله، أو أنّه لم یفعل ما کان بوسعه أن یفعل من ملاحقة القتلة والتنکیل بهم، وانتهی الأمر إلی نشوب حرب فی صفّین بین معاویة زعیم الأُمویین وأنصاره من جهة، وعلیّ والموالین له(1) من الجهة الأُخری.

ثمّ حدثت انشقاقات أُخری، وقد وصل الأمر حین اغتیل علیٌّ فی الکوفة سنة (40ه-/661 م)(2)، أنّ معارکاً ومناوشاتٍ حدثت بین أربعة أحزاب علی الأقلّ، یدّعی کلٌّ منهم أنّه الأحقّ فی تولّی الحکم علی المسلمین(3).

وتسمّی هذه الحقبة من الاضطرابات بالفتنة الأُولی، إذ تعنی کلمة (فتنة) اختبار، أو امتحان، أو إغراء، وبذا فإنّ مصطلح الفتنة یعنی: إنّ الله قد امتحن المسلمین عن طریق هذه الانشقاقات، لیمیّز المؤمن الحقیقی من المنافق أو الکافر(4).

أمّا الفتنة الثانیة، فقد بدأت فی العام (61ه-/680م) مع معرکة کربلاء، واستمرت بنشوب سلسلة من الصراعات المتفاوتة فی حجمها حتی العام (74ه-/692م)، ثمّ تبع ذلک فترة من السلام النسبی حتی حدوث الفتنة الثالثة

ص: 106


1- کان یُمثّل الإمام علی(علیه السّلام) فی تلک الفترة الخلیفة الشرعی بحسب النصّ الإلهی کما هو عند الشیعة، وبحسب الإجماع والانتخاب عند العامّة علی اختلاف نظریاتهم، فکان موقف الإمام هو موقف جمیع المسلمین والأُمّة الإسلامیة ضد معاویة وأتباعة فقط. (المحقق).
2- الأصحّ فی التعبیر أن یقول فی مسجد الکوفة؛ إذ تواترت الأخبار بأنّ ضربة أمیر المؤمنین(علیه السّلام) وقعت فی مسجد الکوفة المعروف والمشهور، والذی ذُکرت له فضائل جمّة. (المحقق).
3- لم یکن المجتمع الإسلامی مقسماً علی شکل أحزاب سیاسیة یومئذٍ، وعندما قُتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام) لم یکن فی العالم الإسلامی إلا الخط الهاشمی والخلافة الحقیقیة المتمثّلة بالإمام الحسن(علیه السّلام)، والخط الأُموی المخالف للخلافة الإسلامیة والمتمثّل بمعاویة وأتباعة من الأُمویین وغیرهم. (المحقق).
4- سنأتی علی تحلیل أکثر تفصیلاً لمفهوم الفتنة فی الفصل الخامس من هذا الکتاب.

التی بلغت أوجها فی الفترة ما بین عامی (127ه- - 135ه- / 744م - 752م)، و(135ه-/752م)، وأدّت إلی سقوط الحکم الأُموی، وظهور الحکم العبّاسی.

تقول الکاتبة (إیلا لانداو تاسیرون) (Ella Landau-Tasseron) ملخّصةً بدقة التفاعل المعقّد للعوامل التی ساهمت فی تلک الانقسامات فی المجتمع الإسلامی الأوّل: «کان المجتمع القبلی فی فترة ما قبل الإسلام متجانساً وبعیداً عن المرکزیّة فی القیادة أکثر ممّا کان علیه المجتمع الإسلامی، إذ کان مقسّماً إلی مجامیع متوازیة تحکمها الأنساب، وقد جاء الإسلام لیُحدث تطوّرات بعیدة المدی فی جمیع نواحی الحیاة الروحیّة والسیاسیّة والاجتماعیّة والمادیّة، وقد أدّت تلک التطوّرات - إلی جانب أشیاء أُخری - إلی النمو المعقّد لخطوط الانقسام التی تفرّقت لیس إلی مجامیع قبلیة فحسب، بل إلی زُمَر قبلیة کقیس والیمان، ومجامیع دینیّة سیاسیّة، کالشیعة(1) والخوارج والقادریة والمرجئة، وإلی أقالیم کأهل الشام ضد أهل العراق وأهل الحجاز، وإلی طبقات اجتماعیّة کالعسکر والمدنیین، وإلی مجامیع عرقیة کالعرب والموالی.

وکلُّ هذه الخطوط تتقاطع مع بعضها البعض، وتشکّل مجامیع متصارعة فیما بینها، ولم یکن بوسع الخلیفة - أو ربّما لم یشأ - أن یصبح فی منأی من تلک الصراعات»(2).

وعلی الرغم من کلِّ شیءٍ، کانت فکرة خلق أُمّة مختارة ومهدیة من قبل الله مهمة جدّاً، کما جاءت فکرة الأُمّة المختارة هذه لتفتح طریقاً إلی الابتعاد عن التقالید

ص: 107


1- لیس الشیعة مجموعة (دینیة سیاسیة) طارئة علی المجتمع الإسلامی، بل هی مذهب إسلامی ممتدّ بامتداد الدین الإسلامی، وله أُسسه العقائدیة والفقهیة المنشقّة من الدین الحنیف، وذو منهج علمی عریق یرسم معالمه أئمة أهل البیت(علیهم السّلام) ، الذین أخذوا علومهم واحد عن واحد عن رسول الله.(المحقق).
2- إیلا لانداو تاسیرون (Ella Landau-Tasseron)، من المجتمع القبلی: ص213.

البالیة وعن الیهودیّة والمسیحیّة بالدرجة الأساس.

کما أنّ حسّ الاختیار هذا استلزم وحدة المسلمین، فقد ذکر القرآن بأنّ الاختلاف والافتراق کان أحد خصائص المجتمعات الهالکة (1)، إذ کیف یمکن لأُمّةٍ أن تکون شعب الله المختار لو أنّها کانت متمزّقة کالمسیحیین؟ لذا کان تمزّق المسلمین - ومن أوضح صوره اغتیال الخلیفة الثالث والخلیفة الرابع والحروب الأهلیّة(2) التی نشبت بین المسلمین - من أشدّ القروح إیلاماً، ما حدا بکُتّاب التاریخ الذین جاؤوا فیما بعد أن یولوا هذا الأمر جلّ اهتمامهم.

والحقیقة - کما یقول (فان أس) (Van Ess) - أنّ تلک الأحداث الجسیمة أعطت الدافع لبروز العدید من الاتجاهات الفکریّة ذات الأهمّیة فی التاریخ، والتی لم تزل آثارها محفوظة فی نصوص التاریخ الإسلامی.

ویضیف الکاتب: «لا بدّ أن یکون أحدٌ ما مسؤولاً عن تلک الاختلافات، هذا ما اعتقده الناس، لذا سارع کلٌّ منهم إلی إبراء ساحته، وهذا ما أدّی إلی ظهور کتابة تاریخ تلک الأحداث، ما جعلنا نضع أیدینا علی رسائل کثیرة کُتبت عن معرکة الجمل وصفّین، وعن یوم السقیفة قبلهما، وهکذا بدأ المؤرِّخون یتساءلون: کیف یجب علیهم

ص: 108


1- اُنظر: فان أس، علم الکلام والمجتمع فی القرنین الثانی والثالث للهجرة: ج1، ص7-16، وج4، ص696، وکتابه: الأفکار السیاسیّة: ص154.
2- لم تکن فی تلک الفترة أیّ حروب أهلیة، أمّا فی زمن عثمان فإنما کانت هناک ثورة من قبل المسلمین، وبلغت ذروتها حتی انتهت بقتل المسبب الذی أدّی إلی قیام المسلمین - ومنهم الصحابة - بالثورة علیه. وأمّا فی زمن الإمام علی(علیه السّلام)، فلم تکن هناک حروب أهلیة، بل حروب للدولة مع الخارجین عنها والمخالفین لها، کلٌّ بحسب غایاته ونوایاه، ولو صحّت هذه الشخصیة فکانت الأولی أن یُوصف بها عهد الخلیفة الأوّل. (المحقق).

کمسلمین حقیقیین أن یتجاوزوا تلکم الخلافات، ویتقدّموا بدل أن یتقهقروا؟ وهذا ما أدّی إلی نشوء النظریّة السیاسیّة.

أمّا مسألة معرفة أو التغاضی عن المجرم الحقیقی الذی کان السبب وراء کلّ إدخال تلک الخلافات، فقد کانت معضلة دینیّة، وهذا ما أدّی إلی توریط علم الکلام فی الموضوع.

أمّا أکثر الأُمور الملفتة للانتباه فی هذا السیاق أنّ تلک العناصر الثلاثة - أی: التاریخ، وعلم الکلام، والفکر السیاسی - إنّما ظهرت فی نفس الوقت وبشکلٍ مبکّر؛ ما جعلها لا تنفک عن مسألة البحث عن الهویّة التی کانت الشغل الشاغل للأُمّة الإسلامیّة فی أوّل نشوئها واستمرّت حتی یومنا هذا.

أمّا النقطة الحیویة فی تفسیر الأحداث، فهی أنّ أُولئک الصحابة الذین تقاتلوا وقتل بعضهم بعضاً فی أحداث الفتنة الأُولی أصبحوا شیئاً فشیئاً مثلاً یُحتذی به للأجیال التی جاءت بعدهم، ولکن تبقی الحقیقة أنّ أُولئک الصحابة قد ارتکبوا إثماً، فکیف یمکن أن نتعامل مع هذه الحقیقة؟!»(1).

کما وضّحت سلفاً، فإنّ أساتذة معاصرین - من قبیل: ستیفن همفریز، وکلاود جیلوت، وآخرین - یرون أنّ الانشقاق فی الأُمّة الإسلامیّة مهدّ لنشوء فکرة نقض الأُمّة الإسلامیّة العهد أو المیثاق مع الله، وهو موضوع غایة فی الأهمّیة فی تاریخ

ص: 109


1- فان أس، الأفکار السیاسیّة: ص154. (یوم السقیفة) یشیر إلی حادثة انتخاب أبی بکر للخلافة بعد موت محمّد تحت سقیفة تابعة لإحدی قبائل المدینة. للاطّلاع علی وجهات نظر مقاربة لما ذُکر حول أصل التاریخ الإسلامی، اُنظر: دونر، المرویات: ص112-122، وص276-280. واُنظر: خالدی (طریف خالدی)، الفکر التاریخی العربی: ص14.

الإسلام الأوّل، إذ یشارک هؤلاء الأساتذة الکاتب (فان أس) (Van Ess) الرأی فی أنّ أحد أهمّ أهداف کتابة التاریخ کان لمعرفة کیفیة وأسباب حدوث هذه الخیانة - للعهد الإلهی - وکیفیة النجاة من عواقبها إن أمکن.

وهکذا تشیر تلک المصادر - أی مصادر تاریخ الإسلام فی فترته الأُولی - إلی أنّ کثیراً من المسلمین فی القرون الأُولی لظهور الإسلام أبدوا غایة القلق من تلک الاختلافات بین المؤمنین، وسعوا إلی إیجاد طریقةٍ ما إلی الإصلاح بینهم، فمثلاً، تقول فرقة المرجئة: إنّه طالما لا نمتلک معرفة کافیة عن عثمان وعلیّ، فإنّ علینا أن نرجئ - أی نفوّض - الحکم فی هذه القضیة إلی الله وإلی الیوم الآخر؛ کی یتبیّن مَن منهم کان علی الحقِّ ومَن کان علی الباطل.

ثمّ توسعت هذه الفکرة لاحقاً لتأخذ شکلاً آخر، مفاده: هو أنّ علینا أن نکفّ عن اتّهام أیِّ أحدٍ بالکفر طالما کان ذلک الشخص مسلماً، کما طُرحت فی الوقت ذاته أفکار إصلاحیّة أُخری، وتطوّرت تلک الأفکار لتشمل دوائر أُخری.

وفی نفس الوقت تطوّرت هذه الفکرة واستحوذت علی الکثیر؛ لینتهی بها المطاف إلی الاعتقاد بأنّ الخلفاء الأربعة الأوائل الذین کانوا من صحابة النبیّ کانوا جمیعاً علی نفس المستوی، ویجب أن یُعتبروا (خلفاء راشدین) أی مهدیین من قبل الله، ومعنی هذه الفکرة هو أنّ الحکّام الذین جاؤوا بعد أُولئک الخلفاء الراشدین لم یکونوا من الضروری أتقیاء ومسلمین نموذجیین، ولکن الحقیقة هو أنّ معظمهم کانوا عکس ذلک، کما تؤکّد تلک المصادر.

وفکرة أنّه لیس من الضروری أن یکون الخلیفة أفضل المؤمنین جعلت کثیراً من الناس یسألون: کیف یمکن العیش تحت حکم رجلٍ آثم؟ إذ إنّ فکرة أنّ الواجب علی المسلمین أن یؤدّبوا مَن وُجد آثماً هی فکرة قرآنیّة، والکثیر من أهل

ص: 110

الدِّین یرون أنّ من الواجب علی کلِّ فردٍ أن ینهی عن المنکر وإن کان صادراً من الخلیفة؛ إذ إنّ واجب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر یجب ألّا یُعطّل، وأن یکون ساری المفعول فی کلِّ الأحوال (1).

ویقول الحدیث: إنّ هذا الأمر یجب أن یُقام بالید، أی بالقوّة، أو باللسان، أی بالکلام التأدیبی، أو بالقلب، أی بالاعتراض داخلیاً علی المنکر (2).

وقد اختلفت الطوائف الإسلامیّة القدیمة حول هذه المسألة کثیراً، فقد أفتی بعضهم بالقتال (الید) ضد الحاکم الآثم، وأفتی بعضٌ آخر بتوبیخه بالکلام (اللسان) أو السکوت علیه وإبداء عدم الرضا (القلب).

وهناک أمثلة کثیرة فی تاریخ الفترة الأُولی للإسلام علی اللجوء إلی مسألة قتال الحاکم الآثم، ولکن مع مرور الزمن استحوذت فکرة اللسان والقلب علی فکرة الید، ثمّ انتهی الأمر إلی غلبة هذه الفکرة فی الفکر الشرعی والسیاسی للمسلمین(3) .(4).

ص: 111


1- اُنظر: فان إس، علم الکلام والمجتمع: ج4، ص696-700، وکتابه: الأفکار السیاسیّة: ص154-155.
2- وقد جاء هذا الأمر أکثر من مرّة فی القرآن، کما فی: 3 [آل عمران]: آیة104، و9 [التوبة]: آیة71، و31 [لقمان]: آیة17. للاطّلاع علی مصادر أکثر، راجع کتاب: الأمر بالمعروف (Commanding Right)، للکاتب کوک، إذ إنّ کتابه هذا یعتبر رسالة علمیّة تنطق عن دراسة موسّعة لمفهوم الأمر بالمعروف.
3- نعم تغلبت هذه الفکرة علی الفکر الشرعی والسیاسی لأغلب المسلمین لا جمیعهم، حیث أُرید لها ذلک؛ إذ سعی حکام الجور للحفاظ علی حکمهم بواسطة وعّاظ السلاطین والنفعیین لیقوموا بشرعنة هذه الفکرة ومن ثم هیمنتها. (المحقق).
4- اُنظر: المصدر السابق: ص477-479. للاطّلاع علی مقالة شاملة حول المفاهیم الفقهیّة للثورة وقمعها، اُنظر: أحکام البغاة، لأبی الفضل (خالد أبو الفضل).

ومع ازدیاد المجتمع المسلم تعقیداً، أصبح من غیر الممکن أن نری وظیفتی الهدایة الإلهیّة والسلطة السیاسیّة مجتمعتین فی نفس الشخص.

أمّا آخر محاولة جادّة قام بها مَن یتمتع بسلطة الخلیفة لإبقاء وظیفة الهدایة الدینیّة تحت رعایته، فقد کانت فی الزمن الذی یسمّی زمن المحنة، أی التحقیق التعسّفی، الذی حرّض علیه الخلیفة المأمون فی العام (214ه-/829م)، فقد أثار الخلیفة مسألة کلامیّة خلافیّة حول خلق القرآن، وأمر جمیع مَن کان یشغل منصباً قضائیّاً أو لاهوتیّاً أن یوافقه علی اعتقاده القائل بأنّ القرآن مخلوق ولیس قدیماً.

یمکننا أن نفسّر هذه (المحنة) علی أنّها حرکة ضد حزب علماء الدِّین والفقهاء، الذین یُطلق علیهم اسم (أصحاب الحدیث)، الذین مارسوا بالفعل أدوارهم فی هدایة الناس فی القضایا الکلامیّة والفقهیّة، فآمن أصحاب الحدیث بأنّ القرآن لم یکن مخلوقاً. والحقیقة أنّ أهمّیة هذا الإجراء من قبل الخلیفة لا تکمن کثیراً فی المعتقد نفسه، ولکنّها محاولة لفرضه علی الناس من أجل تقویة سلطة الخلیفة الدِّینیة.

وقد کانت (المحنة) فلتة، وبعد مضی عشرین عاماً انتهت تماماً، أمّا منصب طبقة العلماء کسلطة دینیّة، فقد حُفظت وضعفت سلطة الخلیفة أکثر وأکثر فی العقدین التالیین، وأصبحت طبقة (العلماء) أکثر أهمّیةً من ذی قبل (1).

وعلی أیّة حالٍ، یجب أن لا نُسیء فهم الفصل بین السلطة السیاسیّة والسلطة الدِّینیّة، وذلک لسببین:

أوّلهما: لم یکن هناک فاصل واضح بین السلطتین.

ص: 112


1- اُنظر: کرون، الفکر السیاسی: ص131-132.

وثانیهما: کلاهما لم یبرحا أن یکونا من الله.

تقول الکاتبة کرون: «إذا ما تکلّمنا عن الإسلام فی عصوره الوسطی، فإنّ هذا الإنقسام یعتبر تغییراً فی نمط تطبیق حکومة الله علی الأرض، ولیس عملیة لإفراغ الحکومة من مفهومها الدِّینی، فهی تعنی أنّه لم یعد هناک رجل معیّن فوّض الله إلیه کامل سلطته؛ إذ إنّ العلماء قد أخذوا علی عاتقهم مهمّة هدایة البشر، وتُرِک نائب الله مع الدور القسری الذی تحوّل آخر الأمر إلی الملوک. وکان هذا الفصل بین السلطة والدِّین مشابهاً لما حصل فی أوروبا فی قرونها الوسطی، حیث احتفظ الإله ب- (سیفه) فی ید مؤسّسة معیّنة، و(کتابه) فی مؤسّسة أُخری، وفی کلا الحالتین فإنّ السیف والکتاب لم یبرحا للإله، وکلُّ ما فی الأمر هو أنّ الإله لم یعُد یُعطی الاثنین - أی السیف والکتاب - لنفس الشخص»(1).

تعطی الکاتبة (کرون) صورة توضیحیّة لعملیة الفصل بین ممالک الأُمّة الإسلامیّة برسم ثلاث دوائر تمثّل الدولة - أی السلطة السیاسیة - والأُمّة والدِّین،

ص: 113


1- المصدر السابق: ص394-395. واُنظر أیضاً: الصفحات: 132-133. یمکن ملاحظة هذه الفکرة ولکن بشکلٍ أکثر نضوجاً فی کتاب: خلیفة الله (God’s Caliph)، للکاتبین کرون وهیندز، خصوصاً فی الفصلین الرابع والخامس. أمّا النقد الذی وُجِّه إلی الوصف الذی ذکره الکاتبان فی کتابهما المزبور، فهو أنّهما لم یأخذا فی نظر الاعتبار أنّ التوتر بین علماء الدِّین والسلطة السیاسیّة فی هذا الجزء من العالم قدیم، وأنّ سبب هذا التوتر هو تفضیل الجانب الملکی للحکّام علی علماء الدِّین. اُنظر کتاب: مراجعة ل- (خلیفة الله (Review Of God’s Caliph)، للکاتب کالدر. واُنظر أیضاً: أولریکا مورتنسون، الحدیث: ص302، مع مصادر أُخری. والنقطة التی أودّ أن أطرحها هنا هی: إنّ أشکال السلطتین الدِّینیّة والسیاسیّة التی کانت واحدة فی أقدم أشکال الحکم فی الإسلام انفصلت شیئاً فشیئاً فیما بعد، ولا یمکن لأحد أن یعترض علی هذه النقطة علی حدِّ درایتی بالموضوع.

فتتّحد تلک الدوائر مبدئیاً فی دائرة واحدة تمثّل ما کان علیه المجتمع الإسلامی حینما حکمه النبیّ فی المدینة، حیث کانت تلک الحقول الثلاثة متطابقة تماماً وبشکلٍ متکامل، ثمّ تفرقت هذه الدوائر تدریجیّاً وأصبحت دائرتا الدولة والدِّین - والذی أصبّ جلّ اهتمامی علیه فی هذه المقالة - وصارتا بمعزل عن بعضهما البعض بشکلٍ فعلی، وهو ما کان علیه الحال فی نهایة حقبة الحکم الإسلامی التقلیدی(1).

وفی زمان الطبری - أی أواخر القرن الثالث، وبدایة القرن الرابع الهجریین - القرنین التاسع والعاشر المیلادیین - لم یزل هناک تداخل بین السلطتین السیاسیّة والدِّینیّة، أی الدولة والدِّین. اُنظر إلی الشکل التالی:

ReIigion،stat

شکل 2،1: الفصل التدریجی للدین عن الدولة.

قدّمت فی الفقرات السابقة رسماً توضیحیّاً عن التطوّر الذی حصل للأغلبیّة المسلمة التی أُطلق علیها فیما بعد اسم (السُنّة)، وهو مختصر لتسمیة أهل السنّة والجماعة.

ص: 114


1- اُنظر: کرون، الفکر السیاسی: ص396. أمّا المجتمع المدنی المسلم، فقد بقی متّحداً دینیّاً، ولکن هذا الموضوع لیس ما نطمح أن نناقشه فی هذه المقالة.

أمّا الجماعة الأُخری التی استمرّت فی البقاء فی إزاء هذه الجماعة فهم (الشیعة)، وهم لا یعیرون أیَّ اهتمامٍ لخلافة الخلفاء الراشدین الأربعة؛ إذ إنّهم یؤمنون بأنّ قیادة المسلمین إنّما هی امتیاز لأهل بیت النبیّ، سواء کان ذلک فی معنی ضیّق أم واسع؛ لذا فلا أحد من أُولئک الخلفاء الأربعة کان شرعیّاً سوی علیّ، إذ کان ابن عمّ محمّد وزوج ابنته(1)، أمّا الثلاثة الآخرون، فقد کانوا غاصبین للخلافة.

التصق الشیعة بفکرة أنّ القیادتین السیاسیّة والدینیّة لا یمکن أن یفترقا، إذ إنّهما متحدتان فی شخصٍ واحد، وهو (الإمام) الذی انتجبه وهداه الله(2)، ولکن الشیعة لم یحصلوا علی سلطة سیاسیّة حقیقیّة لا فی الزمان ولا المکان الذی یدور موضوع هذا الکتاب حوله، وبهذا لم تُختبر نظریّاتهم حول الحکم والسلطة السیاسیّة عملیاً، ولم تدخل عالم السیاسة کواقع.

والخلاصة: إنّ العملیة التی أتیت علی ذکرها فی الأسطر السابقة معقّدة جدّاً، ولم أذکر منها إلّا النزر الیسیر من مراحل تطوّرها، ولأغراض تفیدنا فی تحلیلنا لهذه العملیة سوف أذکر بالخصوص مُرکّبین متقاربین جدّاً ومتداخلین مع بعضهما البعض، یمکن أن نستفید منهما فی عرض التطوّر الذی حصل للفکر السیاسی الدِّینی فی القرون الثلاثة الأُولی لظهور الإسلام، وسوف نوضِّح کلاً من هذین المرکّبین عن طریق حرکتین: طردیة وجاذبة - أی مندفعة نحو المرکز أو بعیداً عن المرکز:

ص: 115


1- الوجه الشرعی لخلافة الإمام علی(علیه السّلام) لیس لأنّه ابن عم النبی وزوج ابنته، بل للنصوص الشرعیة الکثیرة الواردة عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وسیرته. (المحقق).
2- حینما أقصد بکلمة (إمام) المفهوم الشیعی لها، فإنّی أضع الکلمة بین تنصیصین. أمّا إذا وجدتها بدون تنصیصین، فاعلم أنّ مرادی منها معناها العام، وهو القائد.

أوّلهما: انقسام المجتمع المسلم إلی مجامیع، یدّعی کلٌّ منها أنّ رؤیتها للإسلام هی الأصحّ، وأنّها النموذج الأمثل لحرکة کثیر من الکلامیین، وأنّها تمثّل الحکومة المرکزیّة التی ترید أن تحقّق الوحدة السیاسیّة والدِّینیّة للمسلمین.

وثانیهما: هو الانفصال التدریجی للسلطة الواحدة التی کان علیها المسلمون فی بادئ الأمر، إلی مساحة کبیرة من السلطات السیاسیّة والدِّینیّة والحرکات المعارضة، التی تمثّلها سلطة الخلیفة من أجل الحفاظ علی وحدة تلک السلطات.

ولکن صورة المجتمع المسلم الموحد ومؤسّساته السیاسیّة والدِّینیّة، التی لم تتحقّق فی الواقع إلّا علی ید النبیّ محمّد فی المدینة، کانت عامل إلهام للفکر السیاسی الإسلامی، واستمرت کذلک حتی فی زمن الطبری علی الأقل، إذ نراها واضحة فی المصادر التی اعتمد علیها هذا المؤرِّخ.

الطبری وتاریخه

یُنسب أبو جعفر محمّد بن جریر الطبری إلی إقلیم طبرستان علی الساحل الجنوبی لبحر قزوین، حیث کانت لأسرته قطعة من الأرض هناک، وهی محل ولادته فی العام (225ه-/839م) (1)، ومنذ نعومة أظفاره کان ناضجاً عقلیّاً أکثر من أقرانه فی الدروس التی کان یتلقّاها، (وقد أُخبرنا بأنّه حفظ القرآن عن ظهر قلب فی سنِّ السابعة، وأمَّ المسلمین فی الصلاة فی سنِّ الثامنة)، وفی سنِّ الثانیة عشرة أُرسل الطبری من مدینته آمل التی تقع شمال مدینة الری الإیرانیة - قرب

ص: 116


1- اعتمدت بشکلٍ أساسی فی ترجمتی للطبری علی کتاب: مقدمة عامّة (General Introduction)، للکاتب روزنتهال، کما اقتطفت بعض التفاصیل من مصادر أُخری.

طهران حالیاً - لیکمل دراسته، وبعد مضی خمس سنوات سافر إلی بغداد لطلب العلم.

وفی السنوات الخمسة عشرة التی تلت ذلک درس الطبری فی بغداد، وقام برحلتین مدرسیتین طویلتین علی الأقل، انتقل فی إحداهما إلی جنوب العراق، والأُخری إلی سوریا وفلسطین ومصر. وقد التقی وتتلمذ علی ید عدد من العلماء البارزین فی مختلف صنوف العلم، حیث دوّن ملاحظات من المحاضرات التی کان یتلقّاها من أساتذته، مثله مثل أیِّ طالب علمٍ آخر، وقد أشار فی کتاباته إلی کثیر من أُولئک الأساتذة (1).

وأثناء مکوثه فی بغداد عمل کأُستاذ لابن وزیر الخلیفة المتوکل عبیدالله بن یحیی ابن خاقان، وحین عودته إلی بغداد من مصر (حوالی سنة 256 م/870 م) وضع حدّاً لدراسته، وأمضی ما بقی من سنی عمره فی التعلیم والکتابة، وإنّه لم یتوقف أبداً عن طلب العلم.

من المحتمل أنّ الطبری لم یتزوج أبداً ولم یکن له عقب، أمّا وفاته فکانت فی العام (310ه-/923م) فی بیته فی بغداد.

وکلُّ مَن عاصره من العلماء کان یأخذ قسطاً وافراً من علم الحدیث، والفقه، والدراسات القرآنیّة، والتاریخ حیث کان یعنی بجمع معلومات عن سیرة عدد من الشخصیات، وبالرغم من أنّ اهتمام الطبری العلمی کان منصبّاً علی الفقه، إلّا أنّ مساهماته الکبیرة فی کلِّ میادین العلم لا تُنکر.

کما کان مهتماً کثیراً بالفلسفة العربیّة، وکانت له معرفة ببعض اللغات الأُخری

ص: 117


1- اُنظر: روزنتهال، مقدمة عامّة: ص52-53.

غیر الفارسیّة، التی لا بدّ أنّه کان یُتقنها بحکم مسقط رأسه.

علاوةً علی ذلک، کان الطبری مولعاً بالطب، فقد درس هذا العلم وإن لم یمارسه کطبیب محترف، إلّا أنّه کان یعطی نصائح طبیة لأصدقائه وتلامذته بین الحین والآخر، وقد أُخبرنا بأنّ کتاب (فردوس الحکمة) الذی کتبه علیّ بن ربّن، وهو خلاصة وافیة فی علم الطب، کان واحداً من الکتب المفضّلة لدی الطبری.

وقد دخل الطبری فی صراع مع مفکّرین آخرین، مثله مثل کلِّ عالمٍ ذی استقامة ومنزلة رفیعة، وقد کان صِدامه مع الحنابلة - وهم أتباع العالم الکبیر أحمد ابن حنبل المتوفّی سنة (241ه-/855م) - مشهوراً جدّاً، إلّا أنّ جذور ومنهج هذا الصِدام لم تکن معروفة، ولکن المعروف هو أنّ الحنابلة لطالما هدّدوا الطبری ودخلوا معه فی دوامة العنف، ومهما یکن سبب هذا الصِدام، فإنّ المهم فی الموضوع هو أنّ الطبری کان یجلّ ابن حنبل کثیراً.

أمّا سبب توجّهه إلی بغداد فی سنٍّ مبکرة، فیقال إنّه أراد الحضور عند هذا العالم الکبیر، ولکن ابن حنبل توفی قبل وصول الطبری إلی بغداد، أضِف إلی ذلک أنّ الطبری کان کثیراً ما یستشهد بما رواه ابن حنبل، واعتبره مرجعاً کبیراً فی باب علم الحدیث.

إذن؛ لم یکن الصِدام مع ابن حنبل نفسه، ولکنّه کان مع بعض أتباعه الذین جاؤوا بعده، وقد یکون هذا الصِدام حول مسائل فی الفقه والإدارة، وأنّ الحنابلة سعوا لتأسیس مدرسة فی الفقه لهم (1).

وعلی الرغم من إعجاب الطبری بابن حنبل کأُستاذ فی علم الحدیث، إلّا أنّه لم

ص: 118


1- اُنظر: مورتنسون، العهد الجدید الحقیقی (True New Testament): ص64.

یکن یری أنّه ذو علم واسع بالفقه، ما حدا بأتباع ابن حنبل أن یحملوا الظغینة ضد الطبری(1).

وفی خضّم هذا الصراع شُیّع فی الأوساط أنّ الطبری کان شیعیّاً، وکانت هذه التهمة فی ذلک الوقت کافیة لتشویه سمعة أیِّ خصمٍ، ولکن لا نری أیّة إشارة إلی هذا التوجّه فی أیٍّ من کتب الطبری، والعکس هو الصحیح؛ إذ إنّ الطبری کان یدافع عن الرأی القائل بأنّ الخلفاء الأربعة الراشدین متساوون فی المنزلة، ومن الواضح أنّ الطبری کان یدعم رأی أهل السنّة فیما یخصّ علم الکلام والفقه(2).

یقول المؤرِّخ الأمریکی (مارشال هودجسون) (Marshall Hodgson) فیما یخصّ الشؤون السیاسیّة المعاصرة، بأنّ جلّ اهتمام الطبری کان مرکّزاً علی تحویل المجتمع المسلم من خلال إصلاحات شرعیّة أکثر من ثورة مسلّحة. ویضیف الکاتب: «کان الطبری یمثّل مجموعة من المسلمین(3) الذین آمنوا بأنّ الحلَّ لمسألة تحقیق أهداف الإسلام العلیا لا یمکن أن یوجد فی التمرّد المسلّح (ضد الحکّام)، علی أمل أن یتسلّم السلطة حاکمٌ عادل، وإن کان هذا الأمل ضعیفاً بحدِّ ذاته... ولکن یجب علی المجتمع أن یتکاتف حتی وإن کان ثمن هذا التکاتف هو الرضوخ للحاکم، ومن ثَمّ یجب علی المجتمع أن یفضح کلَّ العیوب اللاأخلاقیّة لأُولئک الحکّام وأن یبطلها فعلیّاً.

ص: 119


1- اُنظر: روزنتهال، مقدمة عامّة: ص70.
2- اُنظر: سوردیل (Sourdel)، إعلان العقیدة (Proffesion De Foi): ص181، وص190. واُنظر أیضاً: جیلیو، التفسیر (Exégèse): الفصل الثامن.
3- یقصد بالمسلمین هنا العلماء المتشرّعین، ارجع إلی الصفحات السابقة من هذا الکتاب لمعرفة المزید حول هذا المصطلح، ومن أجل الاطّلاع علی وجهات نظر العلماء المتشرّعین حول السیاسة، اُنظر: هودجسون، المغامرة (Venture)، المجلد الأوّل: ص348-350.

إذن، الحلّ لهذه المعضلة یکمن فی العمل علی الإرتقاء بأفراد المجتمع الإسلامی؛ للوصول إلی مرحلة من الوضوح والوحدة علی أُسس شرعیّة، ما یضمن لهم حیاة کریمة لا یستطیع إنکارها أیُّ حاکمٍ مهما کان متسلّطاً، وإن تمکّن هؤلاء المسلمون من إرساء القواعد لأحکام یعترف بها الجمیع ویطبّقها، فإنّ ماهیّة الحاکم وأُسلوب حکمه لن یکون ضروریّاً»(1).

وبالنظر إلی هذه الرؤیة التی یحملها الطبری عن الثورة علی الحاکم نقول: بأنّ مهمته فی التعامل التاریخی لمسألة القیام المسلّح ضد الحاکم الجائر الذی أشعله الحسین - حفید النبیّ محمّد، والمثل الأعلی للإسلام الحقیقی – لا بدّ أنّها کانت مهمّة شاقة للطبری؛ إذ إنّها تعارض ما یحمله من فکرة حول الثورة علی الحاکم). وهذا هو الغرض من هذا الکتاب؛ إذ إنّ مهمتنا هی أن نحلّل کیفیة تعامل الطبری مع هذا الحدث.

لقد کان الطبری مکثاراً فی الکتابة، وقد دوّن له الکاتب (جیلوت) سبعة وعشرین کتاباً(2)، بَیْدَ أننا لم نعثر علی معظمها، والبعض الآخر لم نعثر إلّا علی جزء

ص: 120


1- مقتبس من: مؤرِّخان مسلمان لفترة ما قبل الحداثة (Two Pre-Modern Muslim Historians)، للکاتب هودجسون: ص55. ویوضّح هودجسون نظرته هذه بأمثلة توضیحیّة یدرس من خلالها قضیة مقتل الخلیفة الثالث عثمان. ومن أجل الاطّلاع علی نتائج مشابهة مستلة من دراسة لحرب الجمل، اُنظر: روبرتس (Roberts)، التاریخ الإسلامی فی مراحله الأُولی (Early Islamic Historiography): ص279-281.
2- یوضِّح الکاتبان جیلیو وروزنتهال بأنّ هناک التباساً کبیراً حول کمیّة ما کتبه الطبری، فقد استغرقت کتابته لکتبه الرئیسیّة المعروفة سنین طویلة، وأنّ بعضاً من أجزاءٍ من کتبه قد تمّ تداولها قبل أن ینتهی من کتابة الکتاب بأکمله، علاوةً علی ذلک، فإنّ قسماً کبیراً من کتبه تُعرف الآن بعناوین غیر ما وضعه هو لها، للاطّلاع علی دراسة هذه المسألة وجدول بما کتبه الطبری، اُنظر: جیلیو، التفسیر: ص39-68. روزنتهال، مقدمة عامّة: ص80 -134.

أو أجزاء منها محفوظة علی شکل أجزاء مبعثرة.

ومن بین کتبه الکثیرة، لم یبقَ منها کاملاً إلّا تفسیره للقرآن المتعدّد المجلدات، والذی یحمل عنوان (جامع البیان عن تأویل آی القرآن)(1)، والمشهور باسم (تفسیر الطبری)، وکتابه الآخر الذی یضاهی بضخامته کتب التاریخ العالمیّة والذی یحمل عنوان (تاریخ الرسل والملوک) والمشهور باسم (تاریخ الطبری)(2).

أمّا کتابه فی الفقه والذی یحمل عنوان (اختلاف علماء الأمصار فی أحکام شرائع الإسلام)(3) فلم یصلنا منه إلّا أجزاء معدودة، أمّا باقی کتبه الفقهیّة، فلم یبقَ منها محفوظاً إلّا النزر الیسیر.

وقد اشتهر الطبری عند معاصریه باطلاعه الواسع فی المسائل الفقهیّة والکلامیّة، وبالرغم من أنّ (تاریخه) نال شهرة واسعة فی وقته، إلّا أنّه لم یحظَ بتلک الأهمّیة البالغة إلّا بعد مرور قرون علی وفاة کاتبه(4).

السمات العامّة للتاریخ الإسلامی فی مراحله الأُولی

یشاطر کتاب (تاریخ الطبری) عدداً من السمات المشترکة لجمیع ما کُتب عن

ص: 121


1- اُنظر: المصدر السابق: ص105.
2- ویحمل هذا الکتاب عناوین أُخری کثیرة، وکلُّ تلک العناوین التی استخدمها الطبری نفسه، بدت وکأنّها تشیر إلی صنفین من الرسل والحکّام. وسوف نأتی علی تأویل لما تعنیه هذه الحقیقة فی الصفحات القادمة من هذا الکتاب.
3- اُنظر: روزنتهال، مقدمة عامّة: ص101.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص135-140.

التاریخ الإسلامی فی ذلک الوقت، وسوف أناقش الآن سمتین عامّتین - بشکلٍ مختصر - ممّا امتازت به الکتب التی أرّخت للإسلام فی ذلک الوقت:

أمّا السمة الأبرز لکتب التاریخ العربیّة التی کتبت فی ذلک العص-ر، فهی اعتمادها علی الأخبار، وهی تقاریر مستقلة تتباین فی طولها من سطرٍ واحد إلی عدّة صفحات للخبر الواحد، وعادةً ما یتقدّمها إسناد، وهو سلسلة من الرواة تنتهی عند شاهد عیان قد عاصر الحدث الذی تنقله تلک الأخبار، وکثیراً ما تکون تلک الأخبار مرتّبة، لکی یکون الحدث الذی ینقله الخبر متسلسلاً، وفی بعض تلک الأخبار وخاصّةً عند الطبری، توضع روایات متعدّدة تروی نفس الحدث - وقد تکون مختلفة قلیلاً عن بعضها البعض - معاً لکی تکون متمّمة لبعضها البعض، وقد نری فی بعض الأخبار روایات متضاربة عن نفس الحدث توضع واحدة تلو الأُخری(1).

والإشارة المستمرة للسند عند نقل أیٍّ من تلک الأخبار قد جعلت بعض الأکادیمیین الغربیین التقلیدیین یتّهمون التاریخ الإسلامی بالتقلیدیّة والسعی للمحافظة علی شکله القدیم، ما یقلّل من شأن دَور المصنِّف فی تصنیفه لذلک الکتاب، وضیاع سماته الفردیّة فی الکتابة(2).

والحقیقة أنّ الکاتبة (أولریکا مورتنسون) (Ulrika Mårtensson) قد حاولت ببراعة البرهنة علی أنّ الإسناد فی الکتب التی أرّخت للإسلام، ککتاب الطبری،

ص: 122


1- للاطّلاع علی أمثلة من تلک الأخبار. اُنظر إلی موضوع: (نصّ المصادر) المذکور فی الملحق الثانی من هذا الکتاب.
2- اُنظر: أولریکا مورتنسون، الحدیث: ص292-293.

یلعب نفس الدور الذی تلعبه الهوامش فی الکتب التقلیدیّة الأکادیمیّة المعاصرة. وحین یذکر الطبری أخباراً متضاربة عن نفس الحدث، فإنّه یرید أن یبیّن بأنّ شهود العیان الذین نقلوا تلک الحادثة قد فهموها بأشکال مختلفة، کما یرید الطبری أن یکشف عن حقیقة أنّ رواة حادثةٍ ما لهم بصماتهم الشخصیّة فی نقل تلک الحادثة.

ثمّ تضیف الکاتبة (مورتنسون): «والخبر الذی ینقل بشکله التقلیدی - أی ذکر السند قبل الحدث - ینقل لنا الآراء الشخصیّة للمؤرِّخ الذی یسطّره فی کتابه، کما تظهر الدراسات حول نقل الطبری لأحداث تاریخیّة معیّنة، کالفتنة الثانیة، ومقتل عثمان بن عفّان، وحرب الجمل، فإنّ آراء الطبری الشخصیّة قد وجدت لها سبیلاً فی طریقته لعرض تسلسل الحدث وتطوّره، کما یمکن رؤیة آرائه الشخصیّة فی تعلیقاته علی الأحداث المتناثرة هنا وهناک»(1).

سآتی قریباً علی ذکر تنقیحات الطبری المذکورة فی کتابه.

أمّا السمة الأُخری التی تشترک فیها جمیع الکتب التاریخیّة المکتوبة باللغة العربیّة، فهی سمة الدِّین، فإنّ جمیع الکتب التی أرّخت للإسلام والتی کُتبت فی مرحلةٍ مبکرة من ظهوره مبنیة أساساً علی نظرة دینیّة، وهذا یعنی أنّ تلک الکتب تنظر إلی أنّ العالم بأجمعه خاضع لحکم الله، وأنّ التطوّر التاریخی ما هو إلّا تعبیر عن العلاقة بین الله والإنسان.

وهذه السمة - أی سمة التأثّر بالدِّین - هی محلّ إجماع مطبق، یتفق علیه جمیع

ص: 123


1- المصدر السابق: ص297.

الکتّاب المعاصرین(1)، ولو أنّ هناک اختلافاً فی الرأی حول مدی تأثیر سمة الدِّین علی کتابات التاریخ التی کتبها المؤرِّخون المسلمون، فقد أوضح الکاتب (همفریز) بأنّ بعض الکتّاب - من قبیل (فرانز روزنتهال) (Franz Rosenthal)، وجون وانزبرو - ینظرون إلی کتابة التاریخ الإسلامی علی أنّه جامد ومتحجّر بالأساس، وأنّه غیر مثمر، ومنجرّ نحو نظرة مبنیة علی أنّ التاریخ لیس إلّا الاشتیاق إلی الماضی، بمعنی أنّ المؤرِّخین المسلمین ینظرون إلی العقود الأُولی لظهور الإسلام علی أنّها العصر الذهبی، وینظرون إلی العصر الذی یعیشون فیه علی أنّه لیس إلّا إحدی الانتکاسات التی تلت ذلک العصر الذهبی(2).

ومن ناحیةٍ أُخری، فإنّ (همفریز) نفسه بالإضافة إلی کتّاب آخرین - مثل هودجسون وجیلوت - یرون بأنّ الأُنموذج الدِّینی فی تلک الکتابات مثمر جدّاً، ویعبّر عن برنامج ملیء بالنشاط والحیویّة؛ إذ إنّه یهدف إلی إحیاء نظام أخلاقی بدائی(3).

بعض الدراسات المعاصرة ل-(تاریخ الطبری)

بالرغم من أنّ عدداً من الدراسات قد نُشرت فی العقود الأخیرة حول موضوع کتابة التاریخ الإسلامی عموماً، إلّا أنّه لم تظهر أعمال کثیرة حول تاریخ

ص: 124


1- وقد ناقشت الکاتبة أولریکا مورتنسون هذه المسألة فی کتابها الحوار: ص297-300.
2- اُنظر: همفریز، الأُسطورة القرآنیّة: ص281. والکاتب نفسه یُرجع القارئ إلی: روزنتهال، التأثیر (Influence): ص39-40، وکتاب: الوسط الطائفی، الفصل العاشر.
3- أولریکا مورتنسون، الحوار: ص298. واُنظر أیضاً: جیلیو، الأُسطورة: ص244-245. همفریز، الأُسطورة القرآنیّة: ص281.

الطبری بالخصوص، وأهمّ حدث فی دراسة تاریخ الطبری التی ظهرت مؤخّراً هی ترجمة کاملة للکتاب إلی اللغة الإنجلیزیّة، وقد ظهرت بین عامی (1985 و1999م) فی ثلاثة وثمانین مجلّداً، یتکون کلُّ مجلّدٍ منها علی ما یقارب المائتی صفحة، وقد قام بالترجمة عددٌ من الأساتذة الأفذاذ المختصّین باللغة العربیّة وتاریخ الإسلام، ویشتمل کلُّ مجلّدٍ علی مقدّمة کتبها المترجم، وهوامش علی طول متن الکتاب، وقد کتب مقدّمة عامّة لکلِّ العمل بأجمعه الأُستاذ (فرانز روزنتهال) (Franz Rosenthal) المذکور سالفاً(1).

ویتضمّن الکثیر من تلکم المقدّمات أفکاراً قیّمة عن الکتاب، ولکن لا یمکن اعتبار تلک المقدّمات دراسات منظّمة للکتاب ککلِّ (اُنظر کمثال: (مقدمة عامّة) التی کتبها (روزنتهال) (Rosenthal)، فهی لا تتعدّی کونها ترجمة لحیاة الطبری متبوعة بقائمة بأعماله).

ومهما یکن من أمر، فإنّی أودّ مناقشة ثلاث دراسات کُتبت حدیثاً عن تاریخ الطبری:

أُولاها: دراسة مثیرة للاهتمام حول کتابة تاریخ العصر العبّاسی، کتبها (طیّب الهبری)، وهو أُستاذ أمیرکی متخصّص بالدراسات العربیّة والشرق الأدنی(2)، وعلی الرغم من أنّ الکاتب الهبری لا یذکر فی أیِّ موضعٍ من کتابه صراحةً أنّه سیعتمد فی دراسته علی التاریخ الذی کتبه الطبری، إلّا أنّه فی قسم کبیر من کتابه - وخاصّةً فی الأقسام التی یناقش فیها، ویحلّل تاریخ الخلیفة هارون الرشید وابنیه

ص: 125


1- اُنظر: روزنتهال، (مقدمة عامّة).
2- اُنظر: طیّب الهبری، التفسیر الجدید (Reinterpreting).

الأمین والمأمون وحفیده المتوکل - یعتمد اعتماداً کلیّاً علی کتاب (تاریخ الطبری).

أمّا النقطة الأبرز والأهمّ فیما یخصّ هذه الدراسة التی بین یدیک، فهی المنهج الذی تبعه الهبری فی کتابه، إذ إنّه یحاول أن یبرهن بأنّ الغرض من الکتابة عند الطبری ومؤرِّخین آخرین فیما یخصّ العبّاسیین «لم یکن نقل الحقائق بالأساس، وإنّما کان لکتابة تعلیقات علی قضایا سیاسیّة ودینیّة واجتماعیّة وثقافیّة معیّنة، والتی قد تکون قد استُلَّت من سلسلة أحداث حقیقیّة ومثیرة للخلاف حدثت فعلاً فی الحیاة الواقعیة»(1).

وبعملهم هذا لقد استفاد المؤرِّخون من عدد من «ضروب أُسلوبیة معقّدة، الغرض منها التعبیر عن آرائهم الشخصیّة»(2)، کاستخدامهم لأُسلوب المجاز والتلمیح والسخریة...إلخ، وبما إنّ نصوصهم لطالما استخدمت أو أعطت إیحاءات إلی نماذج یمکن أن نراها فی الأساطیر وقصص الزمن الغابر، (کقصص من أیّام الأسلام الأُولی ومن القرآن، أو حتّی من الکتاب المقدّس)، فإنّ ترجمة وتأویل تلک النصوص «یستلزم مهمّة مزدوجة فی تعقّب المعنی المقصود من النصِّ، وتأسیس سلاسل وصل عبر العصور والمناطق وطرق التفکیر المختلفة»(3).

فإنّ کتاب الهبری لم یتطرّق أبداً إلی مفاهیم (لیفی شتراوس) البنیویّة، ولم یقصد الکاتب أیّاً من تلک المفاهیم فی کتابه فیما أری، ألّا أنّ من المغری أن نطبّق بعضاً من تلک المفاهیم علی المنهج الذی سنصفه لاحقاً فی هذا الکتاب؛ لذا فإنّی سأفسّر مصطلحه (مهمّة مزدوجة) المذکور أعلاه علی أنّه تطبیق مفهوم بناء الجملة - کما فی

ص: 126


1- طیّب الهبری، التفسیر الجدید: ص31.
2- المصدر السابق: ص14.
3- المصدر السابق: ص15. اُنظر أیضاً کتاب الوحدة، للکاتب نفسه.

استخدامه لجملة (تعقّب المعنی المقصود) المذکورة أعلاه - ومفهوم المثال - کما فی استخدامه لعبارة (تأسیس سلاسل وصل عبر العصور…) إلخ، المذکورة أعلاه أیضاً - وهی مفاهیم تعود إلی البنیویّة (1).

أمّا مصطلحات (قلب (انقلاب)، عکس (تعاکس)، تحویل (تحوّل)، ارتکاس...) و(إضعاف المتناقضات)(2)، و(الإسهاب)(3)، فهی مفاهیم بنیویّة أُخری ترتبط بوصف العملیة الروائیّة للطبری حسب ما یقول الهبری.

والمشکلة فی کتاب (الهبری) تکمن فی افتقار کتابه إلی منهجیّة منظّمة ومفصّلة أکثر من العبارات المبعثرة فی متن کتابه هنا وهناک.

وهذه العبارات نراها فی بعض الأحایین طبیعیّة جدّاً، ومن الصعب أن نجد لها شیئاً یدعمها فی الکتاب، إلّا أن نرجع إلی دراسات أُخری کُتبت فی نفس الموضوع، وفی أحیان أُخر نری أنّ عبارة: (أُخری) تعود إلی نفس الفقرة القصیرة من الموضوع المناقَش، إذ یصبح من الصعب أن نفهم کیف أمکن للکاتب أن یطبّق تلک العبارة علی دراسة الطبری؟

ومن المؤسف له أنّ هذا الأمر یفتح الباب لسوء تفسیر والدراسة التی قام بها الهبری وسوء فهمها، وإن کانت دراسة رائعة؛ إذ إنّ الأُسلوب البنیوی لفهم

ص: 127


1- المصدر السابق: ص 166-167.
2- یتطرّق الهبری إلی الحدیث عن (عملیة تأکید وقلب وتغییر فی وضع اللغة المجازیّة)، ثمّ یضرب مثالاً مثیراً للاهتمام عن هذه العملیة. ص90 من الکتاب المزبور.
3- یقول الهبری فی: ص56 من الکتاب: لم یتمّ نقل الرسالة الرئیسیّة المقصودة من نقل تلک الأخبار بصراحة ولا مرّة واحدة، ولکن تعابیر مجازیّة تعبّر عنها قد ذُکرت فی تلک النصوص مراراً وتکراراً وبطرقٍ مختلفة…. اُنظر أیضاً: ص90 من نفس الکتاب.

التاریخ العربی لم یزَل غریباً جدّاً، وإنّ وجهة النظر البنیویّة وأدواتها النظریّة الأساسیّة قد تکون غیر معروفة لمعظم مؤرِّخی الإسلام.

أمّا المشکلة الأُخری فی کتاب (الهبری)، والتی أشار إلیها کثیر من الذین راجعوا کتابه، فتکمن فی نقطة المغادرة، أی أنّ المؤرِّخین المسلمین فی ذلک العصر - بما فیهم الطبری - لم یکونوا ینوون نقل الحقائق التاریخیّة، وإنّما کان جلُّ اهتمامهم هو کتابة تعلیقات علی قضایا ذلک العصر.

وقد ظهر أنّ الهبری لم یکن ثابتاً علی هذه النقطة، ولکنّه کان کثیراً ما یحاول إعادة صیاغة التاریخ من خلال النصوص التی درسها(1).

أضف إلی ذلک أنّ هذه النقطة لطالما تعرّضت للنقد، فمثلاً یقول الکاتب (کیت لانغ) (Kate Lang) فی مراجعة وافیه للکتاب: إنّ الهبری «قد وضع ازدواجیة لیس لها أدنی ضرورة، وقد أقحم نفسه فی مهمّة مستحیلة، وهی مهمّة الفصل بین الحقیقة والخیال...»(2)، وحقیقة أنّ المؤرِّخین استفادوا من حادثةٍ ما لنقل رسالة أخلاقیّة لا یمکن أنّ تثبت أنّ تلک الحادثة لم تکن تاریخیّة.

أمّا بواز (شوشان) (Boaz Shoshan) - وهو الذی کتب الدراسة الثانیة حول تاریخ الطبری، والتی أودّ أن أتکلم عنها فی الأسطر التالیة - فیری أنّ الطبری کان ینوی فعلاً نقل الحقیقة التاریخیّة، ولطالما ادّعی تصریحاً وتلمیحاً بأنّ عمله هو إظهار الحقیقة من کلِّ واقعةٍ تاریخیّة(3).

ص: 128


1- اُنظر علی سبیل المثال: لانغ، مراجعة لکتاب الهبری. شوشان، الشعر: ص3-6.
2- شوشان، الشعر: ص107.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص7-9.

ویخصِّص الکاتب فصلاً کاملاً لذکر الأدوات المختلفة التی یستخدمها الطبری، ومصادره لإعطاء الانطباع بأنّ واقعة تاریخیّةً ما إنّما هی حقیقیّة وواقعیّة(1).

وهذا لا یمنع بأیِّ شکلٍ من الأشکال بأن یکون (صوت وید) الطبری متورطین، أو لهما دور فی المسألة، وأنّه إنّما ینقل رسالة أخلاقیّة عن طریق اختیاره للمادّة، وترتیب سرد الأحداث (2).

وأنا أتفق تماماً مع رأی (شوشان) (Shoshan) حول نیّة الطبری فی نقل محاکاة الأحداث، أو إعادة إبراز الحقائق التاریخیّة کما وقعت، ولکنّی أیضاً مقتنع بأنّ فی تاریخ الطبری - کما فی کثیر من الروایات التاریخیّة والدِّینیّة - ترکیباً أعمق، یجب أن یتمّ تحلیله عن طریق مناهج تشابه تلک التی استخدمها الهبری فی کتابه، ولکن بشکلٍ أکثر تنظیماً وتنظیراً.

وقد أهمل (شوشان) (Shoshan) التراکیب الأعمق لمأساة کربلاء، ففی دراسته لنصوص هذه المأساة فاته أن یشیر إلی نقاط أساسیّة تتعلق بهذه القصّة، کما سنناقشه فیما بعد.

وهکذا، فإنّ (الهبری) و(شوشان) (Shoshan) یناقشان تاریخ الطبری کنصٍّ أکثر من کونه سجلاً لأحداث تاریخیّة، ولکنّهما یختلفان اختلافاً کلیّاً فی مناقشتیهما للموضوع، وأنا أری أنّهما یکملان بعضهما الآخر أکثر ممّا یختلفان، بالرغم من أنّ جدالهما مخالف لأحدهما الآخر.

ص: 129


1- اُنظر: المصدر السابق: الفصل الأوّل.
2- اُنظر: المصدر السابق: الفصلان الثالث والرابع.

فضلاً عن ذلک، یقول شوشان (Shoshan) بأنّ تاریخ الطبری لا یمثّل نموذجاً کلامیّاً أو سیاسیّاً واحداً فحسب، بل یمثّل نماذج عدّة (1).

أمّا الدراسة الثالثة التی أودّ أن أذکرها ها هنا، فهی للکاتبة السویدیة (أولریکا مورتنسون) (Ulrika Mårtensson) المتخصِّصة بتاریخ الأدیان، إذ تؤکد الکاتبة فی دراستها هذه أنّ الطبری کتب تاریخه من أجل أن یدافع عن نظام دینی سیاسی خاصّ، وهو حکومة الخلیفة المرکزیّة التی تخضع لمعاییر التشریع الإلهی فی علاقته برعیته، ما یجعل هذا النوع من الحکومة متمیّزاً عن السلطة اللامرکزیّة، حیث یمکن بسهولة أن تکون الید العلیا فیها للاستبداد السلطوی والإداری(2).

وفی هذا السیاق میّز الطبری بین الدِّین والدولة، وقرّر بأنّ وظیفة الدِّین هی تزوید الدولة بالهدایة الأخلاقیّة.

وتضیف (مورتنسون) بأنّ مفهوم المیثاق - أو العهد - هو مفهوم مرکزی عند الطبری؛ إذ إنّه یعبّر عن العلاقة الصحیّة بین میدان الدِّین ومیدان الدولة، فالمیثاق هو عقد بین الله والإنسان، أمّا الأنبیاء من آدم إلی محمّد، فهم وسطاء ینقلون أوامر الدِّین إلی الإنسان.

ثمّ تشیر الکاتبة إلی أنّ الطبری ینظر إلی أنّ أشخاصاً قلائل من الماضی جمعوا

ص: 130


1- المصدر السابق یذکر هنا کتاب الشعر، للکاتب شوشان: ص107.
2- اُنظر: أولریکا مورتنسون، الحدیث (Discourse): ص306، وص331. وتتبع الکاتبة - حسب نظرتها هذه - التأویلات التی قدّمها هودجسون وهمفریز من بین کتّاب آخرین یحملون نفس الرأی، ولکنّها تتخطاهم متقدّمة علیهم بشکلٍ ملحوظ. وقد مرَّ بک آراء هودجسون وهمفریز فی صفحات سابقة من هذا الکتاب.

بین النبوّة والملک علی أنّهم استثناء للقاعدة، وهم داود، وسلیمان، والنبیّ محمّد، والخلفاء الراشدون الأربعة(1))(2).

وفی أوقات أُخری، کما فی العصر الذی عاش فیه الطبری، «یتقاسم السلطة مؤسّستان هما: الدِّین، والدولة، مع الهدایة النبویّة عن طریق العلماء الذین یتولَّون رئاسة المؤسّسة الدِّینیّة»(3).

وتری الکاتبة بأنّ (تاریخ الطبری) هو تاریخ لکلا المؤسّستین: الدِّین والدولة اللتین یمثّلهما الأنبیاء والملوک علی التوالی، وهذا هو بالضبط ما یشیر إلیه عنوان کتاب الطبری: تاریخ الأنبیاء والملوک(4)، وهذا الفهم للتاریخ الذی دوَّنه الطبری یدعم تقسیم (قوانین) الدِّین والسلطة، الذی هو موضوع الفصل القادم من الکتاب.

ص: 131


1- لا یخفی ما فی هذا الکلام من التهافت فالنبوة لم تکن فی الخلفاء الأربعة، نعم بالنسبة للإمام علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)، فهو وصی النبی الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ولم یکن نبیاً، وإن کانت الوصایة امتداداً للنبوة ولأهدافها. وأمّا بالنسبة للخلفاء الثلاثة الأوائل، فهم أبعد ما یکون عن النبوة، حیث إن الأول یقول للأمة الإسلامیة: ألا وإن لی شیطاناً یعترینی. والثانی لطالما قال للإمام علی بن أبی طالب أمیر المؤمنین(علیه السّلام) حینما یخرجه من المآزق: لا بقیت لمعضلة لیس لها أبو الحسن، والثالث وصل الأمر فی عهده أن یضرب مَن یقول الحق، وسلم أُمور الدولة لعشیرته بنی أُمیّة حتی ثار علیه المسلمون وقتل. (المحقق).
2- اُنظر: أولریکا مورتنسون، الحدیث (Discourse): ص308-309.
3- المصدر السابق: ص309.
4- وقع الکاتب هنا فی خطأ؛ لأن عنوان الکتاب هو تاریخ الأمم والملوک، لا الأنبیاء والملوک. (المحقق).

ص: 132

الفصل الثانی: البِنیة والتحلیل البنیوی

اشارة

صورة

ص: 133

ص: 134

ما هی البنیویّة؟

ما هی البنیویّة؟(1)

إنّ الطریقة التی یستخدم بها البنیویون لفظة (بِنیة أو ترکیب) موحّدة بینهم، أی أنّهم جمیعاً یستخدمون هذه اللفظة لتدلّ علی معنًی واحد عندهم، وتدلّ اللفظة عادةً علی العلاقات بین عناصرٍ ظاهرةٍ ما فی الطبیعة، أو فی حضارةٍ ما(2).

إذن؛ التحلیل البنیوی یترکّز علی العلاقات بین العناصر أکثر ممّا ینصبّ علی العناصر نفسها، فإنَّ کلَّ عنصرٍ بحدٍّ ذاته خالٍ من أیِّ معنیً ولو بشکلٍ متفاوت، إلّا إذا تمّ ربطه بعناصر أُخری، کما فی الحروف الأبجدیّة التی لا تُضمّ إلی بعضها، أو فی الکلمات المجرّدة إذا لم توضع جنب بعضها فی جملةٍ ما، فالعناصر تصبح ذات معنی إذا رُبطت بعناصر أُخری، بحیث یکون مجموع العناصر تابعاً لنفس النظام، یمکن أن نری التراکیب فی کلِّ مکانٍ حولنا، کما فی عالم الطبیعة - فی کلِّ شیءٍ، ابتداءً من الجزیئات وانتهاءً بالمجرّات - وفی «عالم ما وراء الطبیعة بما فی ذلک الأفکار واللغات... کعلم النحو، وعلم بناء الجملة، والألحان، والوزن الشعری، والسلوک، والطقوس، وأنظمة التصنیف الرمزی، وعلم الکونیات الدینی»(3).

ص: 135


1- للاطّلاع بشکل أوسع راجع: البنیویّة بین النشأة والتأسیس (دراسة نظریّة)، إعداد: ثامر إبراهیم محمّد المصادرة.
2- اُنظر علی سبیل المثال: کوز، البنیویّة (Structuralism): ص1. ینزن، البنیة (Structure): ص314-316. کونین، منطق السفاح (Logic Of Incest): ص20.
3- ینزن، البنیّة (Structure): ص315.

أمّا الفیلسوف البنیوی الأمیرکی (بیتر کوز) (Peter Caws)، فإنّه یشیر إلی أنّه فی نوع التراکیب التی تتمّ دراستها فی العلوم الاجتماعیّة والإنسانیّة، فإنّ (العوامل السببیة... دائماً تتضمن النوایا البشریة)، وهذا ما یمیّزها عن تلک التراکیب الموجودة فی الطبیعة(1)؛ لهذا السبب یری الکاتب أنّ التراکیب التی هی من صنع الإنسان تشترک فی صفتین اثنتین:

أُولاهما: إنَّ کلَّ تلک التراکیب ذات معنی، وبذلک تکون تلک التراکیب بحدِّ ذاتها واضحة جلیّة، ویمکن إدراکها بالعقل، کما أنّ بإمکانها أن تجعل العالم الذی نعیش فیه مدرَکاً بالعقل.

وثانیهما: إنّ تلک التراکیب التی یصوغها الإنسان هی تراکیب مؤثرة أو مهمّة، بمعنی أنّها ضروریّة ومرغوب فیها من قِبل أُولئک الذین صاغوها وتعاملوا معها، «وتکمن جذور تلک الأهمیّة فی بنیة الحاجات الأحیائیّة - البیولوجیّة - وأنّها تقع ضمن تلبیة عقلانیّة لتلک الحاجات، وهذه التلبیة تتطلب تقدیم المعنی علی کلِّ شیءٍ سواه»(2)؛ لذا فإنّ البنیویّة ضمن العلوم الاجتماعیّة والإنسانیّة عادةً ما تبحث فی قضایا تعود إلی أعمق شؤون الوجود الإنسانی.

فإنّ الطریقة التی تبنی بها عقولنا هذا العالم هی طریقة لا شعوریّة وغیر مقصودة إلی حدٍّ کبیر(3)؛ إذ إنّنا فی کثیر من الأحیان لا ندرک کیف نربط تجاربنا

ص: 136


1- اُنظر: بیتر کوز، البنیویّة: ص1. وللاطّلاع علی فروق مماثلة لما ذکره الکاتب ارجع إلی: بتیتو، التکوّن التشکلی (Morphogenesis)،: ص20-21.
2- بیتر کوز، البنیویّة: ص184. واُنظر أیضاً الصفحات: 1 و145، وخاصّةً: 183- 184.
3- اُنظر: سیث کونین، نفکر بما نأکل: ص7-14.

ببعضها البعض، وحینما نرید أن نعبّر عن أنفسنا، سواء عن طریق الکلام، أو کتابة نصوص، أو تلحین قطعة موسیقیّة، أو إبداء فنٍّ ما، أو فی الطریقة التی ننظم بها مجتمعنا، فإنّ تلک التراکیب التی نصوغها بلا وعی هی التی تحدّد کیف نفعل تلک الأشیاء، ولو جزئیاً علی الأقل.

ولطالما قیل عن البنیویّة کحرکةٍ أنّها بدأت عند ظهور کتاب دروس فی علم اللغة العام (Course De Linguistique Générale) ل-(فیردناند دی سوسیر) (Ferdinand De Saussure) (عام 1916م)(1)، ولکن جذور البنیویّة تعود إلی زمن قبل ذلک، (والحقیقة أنّ الکاتب (بتیتو) (Petitot) یعزو ظهور البنیویّة إلی (إمانیویل کانت) (Immanuel Kant)، المتوفّی عام 1804م، أمّا الکاتب (لیتش) (Leach)، فإنّه یعزو ظهورها إلی مرحلة قبل ذلک بکثیر علی ید (جیامباتیستا فیکو) (Giambattista Vico)، المتوفّی سنة 1744م (2).

ثمّ تطوّرت البنیویّة ونحت مناحی مختلفة؛ ما جعل من الصعب علی أحد أن یتکلّم عن حرکة بنیویّة واحدة، ولعلَّ تصویر الکاتب (ایرنست کاسیرر) (Ernst Cassirer) للبنیویّة علی أنّها (تعبیر عن نزعة عامّة فی الفکر…)(3) التی أطلقها عام (1945م) لم یزل الوصف الأنسب لهذه الحرکة.

ص: 137


1- وقد تُرجم هذا الکتاب إلی اللغة الإنجلیزیّة عدّة مرّات وبتراجم مختلفة، ولقد اعتمدت علی ترجمة روی هاریس فی اقتباسی من الکتاب المذکور، اُنظر: دو سوسیر، الطریق (أو الطریقة).
2- اُنظر: لیتش، البنیویّة (Structuralism): ص 55. بتیتو، التکوّن التشکلی: ص28-29.
3- اُنظر: ایرنست کاسیرر، البنیویّة فی علم اللغة الحدیث (Structuralism In Modern Linguistics): ص120، کما هو موجود فی کتاب: البنیویّة، للکاتب کوز: ص11.

وهکذا، فإنّ البنیویّة بمعنی طریقة تفکیر یمکن رؤیتها فی علوم مختلفة، کعلم الأحیاء والریاضیات وعلم النفس وعلم اللغة وعلم الاجتماع وعلم الإنسان والأدب (1).

وفی هذه الدراسة التی بین یدیک سنصبّ اهتمامنا علی الجانب الإنسانی - الانثروبولوجی - من البنیویّة عموماً، وعلی بنیویّة (کلود لیفی شتراوس) (Claude Lévi-Strauss) علی وجه الخصوص(2).

ولد (لیفی شتراوس) فی فرنسا عام (1908م)، ونشأ وسط عائلة فرنسیّة تهتمّ بالموسیقی والرسم، ودرس القانون والفلسفة فی جامعة السوربون(3)، وبعد تخرجّه ببضع سنوات حظی بموقع فی جامعة ساوباولو فی البرازیل، ورغم أنّه لم تکن له سابق دراسة فی حقول علم الإنسان وعلم الأعراق الوصفی، إلّا أنّه صبّ جلّ اهتمامه علی هذین العلمین، وأخذ بدراستهما بشکلٍ شخصی، وقد قام بجولتین میدانیتین أثناء إقامته فی البرازیل، ولم تفلح إلّا واحدة منهما فی تکوین مادّة تمّ الترویج لها.

ص: 138


1- اُنظر: بیتر کوز، البنیویّة: ص11- 55. بتیتو، التکوّن التشکلی: ص21-51.
2- للاطّلاع علی ملخّص عن وجهات النظر المختلفة حول تطبیق البنیویّة علی علم الإنسان (الأنثروبولوجیا)، وعلی دراسة الأدیان - بما فیها الدراسة التی کتبها لیفی شتراوس - ارجع علی سبیل المثال إلی کتاب: البنیة، للکاتب ینزن. وکتاب: البنیویّة، للکاتب لیتش. وکلّما یأتی الذکر فی الأسطر القادمة من الکتاب علی البنیویّة، فإنّی أقصد بها بنیویّة لیفی شتراوس، إلّا إذا کان هناک ما یدلّ علی غیر ذلک.
3- اعتمدت فی کتابة هذه الأسطر بشکلٍ رئیسی علی الفصل الأوّل من کتاب: لیفی شتراوس الیوم (Lévi-Strauss Today)، للکاتب دلییجه (Deliège).

وعند عودته إلی فرنسا نشبت الحرب العالمیّة الثانیة، وتمّ احتلال باریس، واضطر إلی الفرار إلی الولایات المتحدة؛ لأنّه کان من أصل یهودی، وفی نیویورک بدأ بدراسة علم الإنسان بجدّ، وتعرّف إلی أحد أبرز علماء اللغة البنیویّین، وهو (رومان جاکوبسون) (Roman Jakobson)، الذی أدخله إلی حقل علم اللغة والبنیویّة، وعند عودته إلی فرنسا بعد انتهاء الحرب قدّم ودافع عن أُطروحته الموسومة (التراکیب الأولیّة للقرابة: Les Structures Élémentaires De La Parenté)، والتی طُبعت فیما بعد فی شکل کتاب، وقد تلقاه القرّاء بشغفٍ کبیر، وأصبحت البنیویّة علی ید لیفی شتراوس تمثّل آخر صرعة فی باب الفکر والنزعات الفکریّة.

وبعد أن أصدر عدداً من الکتب بما فیها کتاب (الزهرة المتوحشة: La Pansée Sauvage) الذی طُبع فی عام (1962م)، بدأ لیفی شتراوس بإصدار تحفته الأدبیّة، وهی سلسلة کتابه ذی الأربعة مجلّدات الذی یحمل عنوان (علم الأساطیر: Mythologiques) فی الفترة بین عامی (1964 و1971م)، ویناقش الکتاب مئات من الأساطیر الأمیرکیّة، وفی العام (1973م) انتُخب (لیفی شتراوس) عضواً فی الأکادیمیّة الفرنسیّة.

لا بدّ لنا من الاعتراف بأنّ أعمال (لیفی شتراوس) صعبة الفهم والإدراک، وقد کانت البنیویّة منذ سبعینیات القرن الماضی قدیمة الطراز، ولم تکن مطابقة للنزعات الفکریّة السائدة آنذاک، ولم تحظَ کتابات (لیفی شتراوس) بإعادة تقییم ونظر إلّا بشکلٍ بطیء جدّاً؛ ما جعل أفکاره غیر معروفة فی الأوساط الأدبیّة.

إنّ عدداً کبیراً من المقالات التی کُتبت کمقدّمات لطریقة تفکیر (لیفی

ص: 139

شتراوس) لم تهمل دقائق تفاصیل نظریّاته فحسب، بل زادت علی ذلک بأنّها أساءت فهم أساسیات تلک النظریّات(1).

وبافتراض أنّ (لیفی شتراوس) لیس معروفاً بالقیاس إلی کتّاب آخرین عند معظم المؤرِّخین المسلمین - ولو أنّ الحقّ یحتّم علینا أن نقول بأنّه لیس معروفاً عند معظم المؤرِّخین فی العالم، وعلی الأقل خارج العالم المتحدّث بالفرنسیّة - فإنّ هذه المقدّمة إلی طریقة تفکیره ومناهجه ستکون مطوّلة ومسهبة إلی حدٍّ بعید.

ص: 140


1- أفضل مقالة کُتبت کمقدّمة لطریقة تفکیر لیفی شتراوس بشکلٍ عام، وکمقدمة لرأیه حول الأساطیر، تلک التی کتبها سبیربر (Sperber) تحت عنوان: البنیویّة (Le Structuralisme). وممّا یُؤسف له أنّنی لم اطّلع علی تلک المقدّمة إلّا بعد فوات الأوان، وإلّا کنت اقتبست کثیراً من سطورها فی هذا الکتاب. أمّا المقدّمة الأُخری حول هذا الموضوع، والتی هی أشمل من سابقتها إلّا أنّها أقلّ أصالة، فهی تلک التی کتبها هیناف (Hénaff) فی کتابه المعنون: (کلود لیفی شتراوس) باللغة الإنجلیزیّة، کما یحتوی هذا الکتاب علی قائمة موسّعة نوعاً ما بالکتب والمقالات التی کتبها لیفی شتراوس. أمّا النسخة الأصلیّة من الکتاب التی کُتبت باللغة الفرنسیّة، فتمتاز باحتوائها علی خلاصات بأهمّ کتبه ومقالاته التی کتبها حتی تاریخ طبع کتاب: (هیناف (Hénaff)) فی عام (1991م). أمّا کتاب (لیفی شتراوس الیوم) الذی کتبه دلییجه (Deliège)، فهو یستحقّ القراءة کمقدّمة أولیّة لطریقة تفکیر لیفی شتراوس، إلّا أنّ مؤلّف الکتاب فاته أن یتطرّق إلی نقاط مهمّة فی طریقة تفکیر لیفی شتراوس، کما أنّه مرّ علی بعض الجوانب الأُخری من شخصیته الفکریّة مرور الکرام، ولم یبدِ تعاطفاً بالمستوی الذی یبدو لی عادلاً. وعند الحدیث عن المقدّمات التی کُتبت حول لیفی شتراوس - علی الرغم من أنّ بعضها قد تبدو أحیاناً تقنیة صرفة - لا یمکننا تغافل تلک التی ذکرها الکاتب سکوبلا فی القسم الأوّل من کتابه: إقرأ لیفی شتراوس (Lire Lévi-Strauss)، ولو أنّ الکتاب یعالج مسألة طریقة تفکیر لیفی شتراوس من زاویة واحدة معیّنة، وهی مسألة (الصیغة القانونیّة). ولا یفوتنا أن نذکر أن کتاب: المفردات (Vocabulaire)، للکاتب مانیغلییر (Maniglier) مفید جدّاً فی أیّة دراسة تخصّ لیفی شتراوس، بالرغم من أنّ هذا الکتاب وحده لیس کافیاً فی هذا المجال.

وبالرغم من أنّ کثیراً من أعماله التی کتبها فی أوّل انطلاقته الفکریّة کانت مخصّصة لمسألة التراکیب التی تستخدم للتعبیر عن القرابة النسَبیّة، وعن الطوطمیّة - وتعنی الاعتقاد بوجود صلة خفیة بین جماعةٍ ما وکائن أقوی منهم - إلّا أنّ أفکاره وکتاباته عن الأُسطورة هی ما جذب انتباهی فی کتابی هذا؛ لذا سوف أناقش فیما تبقی من هذا الفصل أفکاره، وکیفیة تطبیقها علی تحلیلی لمأساة کربلاء.

وفیما یلی من أسطر، سأحاول الترکیز علی طریقة تفکیر (لیفی شتراوس)، علی أنّنی ساستعین أحیاناً بما ذکره کُتّاب آخرون من تفسیرات لتلک الطریقة، وبعد أن ذکرت السمات الأساسیّة لطریقة التفکیر تلک، سأنتقل الآن لذکر بعض التفسیرات التی أشار إلیها علماء آخرون لبعض الجوانب المهمّة فی نظریّات (لیفی شتراوس)، وبالخصوص نظریّته المسمّاة (الصیغة القانونیّة)، وهذا ما سیجرّنی إلی الحدیث عن القضیة المنهجیّة لکیفیة تحلیل النصّ، الذی هو محور کتابی هذا فی القسم الأخیر من هذا الفصل.

المفاهیم الأساسیّة فی بنیویّة لیفی شتراوس

من أجل مسایرة العالم الذی نعیش فیه، لا بدّ لجمیع البشر أن یهتمّوا بطریقةٍ تساهم فی تنظیمه ذهنیّاً، أی لا بدّ لهم أن یوجدوا معانی من التدفّق المستمرّ للإدراکات الحسّیّة التی تغزو عقولهم بلا توقّف، ثمّ إنّه من المهمّ لأکثرنا أن ننظر إلی عالمنا بشکله التام المترابط، دون النظر إلی جانبٍ ما وإغفال الجوانب الأُخری؛ إذ یجب أن ننظر إلی جمیع تفاصیله علی أنّها مرتبطة ارتباطاً لا انفصال فیه بشکلٍ أو بآخر، وإلّا فلن نتمکّن أن نفهم أیّاً من تلک التفاصیل، وهذا ینطبق علی الشعوب التی نحن بصدد دراسة أساطیرها وسلوکها، کما ینطبق علی العالم الذی یسعی إلی شرح تلک الأساطیر.

ص: 141

یقول (لیفی شتراوس): «مع وجود هذا التشویش واللانظام فی الممارسات الاجتماعیّة أو الصور المختلفة التی تمثّل الأدیان، هل سنستمر فی البحث عن تفسیرات جزئیّة تختلف مع اختلاف القضیة التی نحن بصددها، أو علینا أن نحاول اکتشاف نظام تحتی أساسی وبنیة عمیقة، نستطیع من خلال آثارها أن نحلّل ونفسّر هذا التنوّع، وأن نتغلّب علی التنافر الحاصل فیها؟»(1).

یحاول البنیویون أن یرسموا خارطة طریق لکیفیة إیجاد هذا التنظیم الذهنی فی الواقع، أو علی الأقلّ لما یجب أن یبدو علیه فی الثقافات المختلفة، وهذا یعنی أنّ البنیویّة تبحث کثیراً فی الطرق التی نستطیع بها تصنیف وتنظیم عالمنا، وقد مرَّ بک أنّ الحاجة إلی التصنیف لطالما اعتُبرت حاجة أحیائیّة (بایولوجیة أو حیاتیة) بالأساس.

وبالرغم من أنّ (لیفی شتراوس)فی أحیان کثیرة ألمح إلی أنّ التراکیب کلّها تعود فی الأصل إلی جذور بیولوجیة (أحیائیّة)، إلّا أنّه لم یتطرّق إلی هذا الموضوع علی شکل أفکار متناسقة ومتماسکة إلّا نادراً (2).

وفی رأیه أنّ المستویات الأُخری للتراکیب أسهل فی التحلیل إذا ما قِیست بمستوی تحلیلها علی أُسس بیولوجیّة، وفی مناقشته لهذه النقطة یقول (سیث کونین): إنّ (لیفی شتراوس)یتعامل مع التراکیب علی مستویات مختلفة، ولأسباب

ص: 142


1- لیفی شتراوس وأریبون، المحادثات (Conversations): ص141.
2- اُنظر علی سبیل المثال کتابه: الرجل العاری (The Naked Man): ص684-693. وفی نهایة هذا المقطع من الکتاب یصف المؤلِّف بحثه السابق حول العلاقة بین علم الأحیاء والبنیویّة بأنّها (غیر مقیّدة بمساحةٍ ما من التفکیر، وأنّها استغراقیّة فی العقلانیّة، ومشبعة بالارتباک والخطل...).

تحلیلیّة، وهذا ما یجعل الأمر مناسباً لأنْ یُستخدم کنموذج لأربعة مستویات مختلفة، ثلاثة منها تخصّ الترکیب الأساسی (S1-S2)، والآخر یخصّ المستوی الروائی(N)(1).

أمّا المستوی الأوّل الأعمق (S1)، فإنّه یخصّ الترکیب البیولوجی للدماغ؛ لذا فهو مستوی کلّی، أی یشمل الجمیع، ولطالما قیل بأنّ الترکیب علی هذا المستوی هو مزدوج فی طبیعته، ولکن من المستحیل أن یکون معقّداً أکثر من ذلک، وفی وصفه لهذا المستوی من الترکیب یشبِّه (کونین) هذا المستوی بالقطعات الداخلیّة أو الأساسیّة التی یتکون منها جهاز الحاسوب. والحقیقة هی أنّ تحلیل المستوی الأوّل الأعمق للتراکیب لم یکن الغرض الأسمی الذی یقصده البنیویون.

أمّا المستوی الثانی (S2)، «فإنّه یُفهم علی أنّ حضارةً ما، أو ربّما مجموعة حضارات، حین أعطت ذلک الترکیب شکلاً ما، لم تفعل ما فعلت وهی علی درایة بما تفعل، بل إنّها أعطته ذلک الشکل بلا وعی منها، ونعنی بمجموعة الحضارات تلک المجموعة التی تربط عدداً من الحضارات ببعضها البعض بشکل أقلّ إحکاماً من الروابط التی تربط حضارة بعینها»(2).

فالمستویان (S1-S2) یعنیان: «النقلة من القوّة البیولوجیّة للترکیب إلی الصورة

ص: 143


1- اُنظر: سیث کونین، نفکر بما نأکل: ص7-14. واُنظر أیضاً کتابه الآخر: منطق السفاح: ص12-13، ولو أنّ الکاتب فی هذا الکتاب یبحث فی المستویات الثلاثة الأُولی للتراکیب الأساسیّة، ثمّ یؤکد بأنّ هذا التصنیف هو تحلیلی بحت، وأنّ مستویات التراکیب لا یمکن فی الواقع تمییزها عن بعضها البعض.
2- سیث کونین، نفکّر بما نأکل: ص11.

الواقعیّة الحضاریّة لترکیب أو تراکیب معیّنة»(1)، والترکیب بهذا المعنی مثالی جدّاً، وخالٍ من أیِّ محتویً معیّن، بل إنّ الشکل الذی تأخذه الأنواع المختلفة للموجودات یتکوّن فی هذا المستوی من التراکیب (أی یتحدّد کون هذا النوع ثنائیّاً أو ثلاثیّاً)، کما یتحدّد فی هذا المستوی أیضاً النمط الذی ترتبط فیه تلک الأنواع المختلفة مع بعضها البعض.

ولکی یوضِّح الصورة أکثر، استخدم (کونین) التشابه بین هذه العملیة والمستوی الأساسی فی عملیة برمجة جهاز الحاسوب، کلغة آلیّة.

أمّا المستوی الثالث للتراکیب (S3)، فهو الحضارة والسیاق الخاصّ بها، وهذا المستوی أقلّ مثالیّة من سابقه، إذ یتمّ فی هذا المستوی من التراکیب تنظیم عناصر الأُسطورة والطقوس بطریقةٍ تمنحها معنی، وهو المعنی الذی تمّ تحدیده فی المستوی الأوّل للتراکیب (1S).

ویضیف (کونین) بأنّ وحدات قیاس الأُسطورة، ووحدات قیاس الشعیرة - أی أصغر العناصر فی بناء الأُسطورة والشعیرة - التی أوجدها (لیفی شتراوس) موجودة فی هذا المستوی، وحیث إنّ هذه الوحدات لا تحمل أیَّ معنیً لوحدها، فإنّها تکتسب معانیها من خلال علاقتها بالعناصر الأُخری التی هی من سنخها.

ثمّ إنَّ هذا المستوی «هو نظیر المستوی الذی تنصبّ فیه المعلومات الخاصّة لجهاز حاسوبٍ ما، ثمّ تُستخدم هذه المعلومات أو تُنظّم علی أساس البرمجة المجرّدة التی وُضعت سالفاً فی جهاز الحاسوب، وبإضافة أیّة معلومة جدیدة فإنَّ البرمجة هی التی تحدّد أنسب طریقة لتنظیمها داخل الجهاز»(2).

ص: 144


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص18.

وفی المستوی الأخیر للتراکیب - وهو المستوی الروائی (ر) - یتمّ إعادة ترتیب وحدات الأُسطورة والشعیرة؛ لتأخذ شکل روایة أو شعیرة، وهذه الروایة تعتمد فی شکلها کثیراً علی السیاق الحضاری والتاریخی للأُسطورة، ثمّ تتغیّر تلک الروایات والشعائر وتنتقل من حالةٍ إلی أُخری، مع التحوّل المکانی والزمانی الذی یطرأ علی تلک الأُسطورة والشعیرة، فإنّ المستوی الروائی للتراکیب هو مستوی واعٍ، بخلاف مستویات التراکیب الأساسیّة.

ویقوم (کونین) بعمل مقارنة بین هذا المستوی الروائی، وبین الناتج الذی یظهر علی شاشة جهاز الحاسوب، کلعبةٍ ما أو وثیقة مکتوبة.

وقد استخدم (لیفی شتراوس) عدّة مرّات مصطلحات مثل: (درع)، و(رمز)، و(رسالة)(1)، وفی هذا الکتاب سوف استخدم هذه المصطلحات کنظائر تطابق فی معناها مستویات الترکیب (S1)، و(2S)، و(3S) و(ر) التی استخدمها (کونین).

تعتبر الأساطیر التی هی من نتاج الإنسان إحدی أکثر الحقول التی استخدم الإنسان فیها ترکیبات متقنة جدّاً؛ للتعبیر عنها (وهذا ما یجعل دراستها سهلة المنال)(2).

یقول (لیفی شتراوس): إنّ الغرض الرئیس من الأساطیر هو «لبیان السبب الذی جعل الأشیاء التی اختلفت عن بعضها البعض منذ البدایة تبدو بالشکل الذی

ص: 145


1- اُنظر کتاب: لیفی شتراوس، النیء والمطبوخ: ص19. وسوف نُعطی تفاصیل أکثر لمفهوم (الشفرة) فی الأسطر القادمة من الکتاب.
2- أمّا المجالات الأُخری التی استخدم الإنسان للتعبیر عنها تراکیب متقنة، فهی تلک التی وصف فیها الإنسان صلة القرابة وتلک التی استخدمها فی تسجیل الأحداث التاریخیّة، وهذا یجری علی کثیر من الحضارات، علی حدّ قول کونین.

هی علیه، والسبب الذی یجعلها لا تنفک عمّا هی علیه؛ وذلک لأنّ الأشیاء إذا تغیّرت فی عالمٍ واحد، فإنّ النظام الکلّی للعالم سوف ینقلب رأساً علی عقب؛ بسبب التشاکل بین کلِّ العوالم»(1).

إذن؛ فالأساطیر تساعدنا علی إیجاد تراکیب نعبّر بها عن عالمنا الذی نعیش فیه، کما تساعدنا علی إیجاد تفسیرات لهذا العالم، ولکن الحیاة - کما یعلم الجمیع - لا تسمح لنا بسهولة لأن نجد لها تراکیب نعبّر بها عنها؛ إذ إنّ هناک دائماً أُموراً شاذّة، وحالات استثنائیّة تقف بین أصنافها وبین أیّ تغیّرٍ قد یطرأ علی فئاتها، وکثیراً ما تخلق تلک الأُمور الشاذة معضلات کبیرة تتحدّی الطبیعة الاجتماعیّة والوجودیّة لأیِّ مجتمعٍ.

والأساطیر هی التی تتعامل مع المشاکل التی یوجدها هذا الصراع، الذی سببه وجود تلک الاستثناءات والحالات الشاذة؛ إذ إنّ الأساطیر هی ما یقف فی وجه تلک الحالات؛ لکی تجد حلولاً للتناقضات بین المثال والواقع.

والحقیقة أنّ تلک الصراعات لیس لها تفسیر؛ لأنّها غیر متأصّلة فی الوجود الإنسانی وفی المجتمع، ولکن تلک الأساطیر تنقل تلک المشاکل إلی مساحات تبدو أقلّ خطراً علی المجتمع(2).

ص: 146


1- اُنظر: لیفی شتراوس وأریبون، المحادثات: ص140.
2- هذه هی إحدی الأفکار الرئیسة عن لیفی شتراوس، وقد عبّر عنها فی کثیر من کتاباته. اُنظر مثلاً کتابه: الأنثروبولوجیا البنیویّة (Structural Anthropology): ص216، وص229. وکتابه: النیء والمطبوخ: ص5 (وفی هذا الکتاب یقتبس الکاتب من کتاب: الأشکال الأولیّة (Les Formes Elémentaires)، للکاتب دوکهایم (Durkheim): ص 190). واُنظر أیضاً کتابه: الرجل العاری: ص694-695. وکتابه: الخزّاف الغیور (The Jealous Potter): ص171.

ففی الأساطیر إذن یصبح الصراع مشابهاً للتضادات الأُخری التی «وإن کانت لا تستطیع أبداً حلّ التناقض الأساس بین الأشیاء، ولکنها تجعله یتکرّر ویعیش إلی الأبد فی مجالٍ أضیق وأصغر...»(1).

أمّا أوضح تعبیر استخدمه (لیفی شتراوس) للتعبیر عن هذه الفکرة، فنجده فی (محادثاته) مع الصحفی (دیدییه أریبون) (Didier Eribon)، إذ یناقش الکاتبان فی حادثةٍ واحدة تأکید سجموند فروید (Sigmund Freud) الأحادی الجانب علی الجنس - أی التأکید علی الشؤون الجنسیّة الذی ینفرد به (فروید) - ثمّ یعلّق (أریبون) (Eribon) علی تحلیل محتوی الأُسطورة الذی ذکره (لیفی شتراوس): قائلاً: أمّا فی الأساطیر التی قمتُ بتحلیلها، فإنّ المرء قد یصبح مغرماً بوجود الجنس الطاغی، وبسلسلة أعمال العنف التی تصاحبه.

یجیب (لیفی شتراوس): نحن نلاحظ ذلک؛ لأنّ هذا الجانب قد شغل مساحة واسعة فی نظام القیم والحیاة الاجتماعیّة الذی تبنّیناه، ولکن لاحظ أنّ الأُسطورة لا تتعامل أبداً مع المشکلة العائدة إلی الجنس من نفسها - أی بدون عوامل خارجیّة - مجرّدة عن کلِّ القضایا الأُخری المتعلّقة بها، فالأُسطورة تسعی لبیان أنّ هذه المشکلة هی أساساً نظیرة المشاکل الأُخری التی یتحدّث عنها الناس فیما یخصّ الأجسام السماویّة، وتعاقب اللیل والنهار، وتعاقب فصول السنة، والتنظیم الاجتماعی، والعلاقات السیاسیّة بین المجموعات المتجاورة... فالفکر الأُسطوری حینما یواجه مشکلة خاصّة فإنّه ینظر إلیها کما ینظر إلی جمیع المشاکل الأخری دون أدنی فرق، ثمّ یبدأ حالاً باستخدام شیفرات عدیدة لحلِّ تلک المشکلة.

ص: 147


1- لیفی شتراوس، الرجل العاری: ص694.

یقول (أریبون) (Eribon): إذن هذا تفسیر یأتی عن طریق استخدام وسائل المشاکل المتعاقبة.

یجیب (لیفی شتراوس): إنّ الذی یعطی انطباعاً بأنّ تلک المشاکل یمکن حلّها - دون الوصول إلی حلٍّ لأیٍّ منها - هو التشابه بینها کلّها؛ لأنّ هذا یجعل المرء علی درایة بأنّ الصعوبة الکامنة فی قضیةٍ ما لا یمکن أن نراها فی القضایا الأُخری، أو علی الأقل لا تکون فی القضایا الأُخری بنفس المستوی الذی توجد علیه فی هذه القضیة، ونبرّر نحن ذلک قلیلاً بنفس التبریر الذی نستخدمه حینما نُسأل عن تفسیر لقضیةٍ ما، فإنّنا نجیب: هذا التفسیر ممکن فقط عندما تکون المسألة کذا وکذا... أو هذه القضیة شبیهة بقضیة کذا وکذا... والحقیقة أنّ جوابنا هذا هو ضربٌ من الکسل الذی أُصبنا به، ولکنّ الفکر الأُسطوری یستخدم هذا الإجراء استخداماً مطواعاً ونظامیّاً، ما یجعله یحلّ محلّ البرهان (1).

فالأساطیر إذن لا تتحاشی الصراعات، وإنّما فی الواقع تحدّدها بدّقة، ولکن الغرض الحقیقی للأساطیر یظهر بالعملیة التی تقوم بها الأساطیر، وهی عملیة نقل المشکلة من جوانب مختلفة فی الحیاة إلی صورة ضبابیة غیر واضحة عن الصراع الحقیقی، هذا ما یقوله (لیفی شتراوس).

والسؤال الآن هو کیف تتصرّف الأُسطورة فی التعامل مع هذه المشاکل والصراعات؟

استخدم (لیفی شتراوس) فی الجملة المقتبسة السابقة مصطلح (شیفرات)، عند حدیثه عن جوانب الحیاة المختلفة، وتُستخدم تلک الشیفرات لإیصال الرسالة التی

ص: 148


1- اُنظر: لیفی شتراوس وأریبون، المحادثات: ص140.

ترید الأُسطورة إیصالها.

والواقع أنّ مفهوم الرمز لیس خالیاً تماماً من الإشکالات، ولکنّنی سأؤجّل البحث فیه إلی قسم آخر من هذا الکتاب، ویکفینا ها هنا أن نعترف بأنّ الرمز هو (فئة أو صنف من المصطلحات...) یرتبط بجانبٍ من جوانب الحیاة (1).

یفترض (لیفی شتراوس) فی إحدی فرضیاته الرئیسة أنّ ترکیباً واحداً معیّناً فی الأُسطورة یتمّ التعبیر عنه من خلال رموز مختلفة، ویمکن ترجمة أیٍّ من تلک الرموز إلی رمزٍ آخر(2).

وعلی حدِّ علمی، فإنّ أوّل استخدام لمصطلح (رمز) عند (لیفی شتراوس)نراه فی مقالته المشهورة حول أُسطورة أسدیوال، وهی إحدی أساطیر الهنود (السیمشینیین) الذین یقطنون الساحل الغربی الکندی.

وفی عرض هذه الأُسطورة یتمّ استخدام أربع شیفرات مختلفة - ولکن (لیفی شتراوس) فی تلک المقالة استبدل لفظة (مستوی) بلفظة (رمز) عدّة مرّات وبالعکس، ولو أنّ اللفظتین کانتا تدلّان علی نفس المفهوم - لتوصیل الرسالة المبتغاة من الأُسطورة: فرسالة جغرافیّة، وأُخری اقتصادیّة، وثالثة اجتماعیّة، ورابعة کونیّة، (وکلُّ واحدٍ من تلک المستویات الأربعة - بالإضافة إلی الرموز المناسبة لکلٍّ منها - یُنظر إلیه علی أنّه عملیة تحویل فی الترکیب المنطقی الأساسی المشترک بین جمیع تلک المستویات)(3). ولکن لا یمکن ل- (العقل الفطری) أن یمیّز بین تلک الرموز؛

ص: 149


1- اُنظر: لیفی شتراوس، الخزّاف الغیور: ص193.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص171.
3- اُنظر: لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا البنیویّة: ج2، ص146.

لذا حین تتحدّث الأُسطورة عن الصراع والخلاف بین السماء والعالم التحتی - ونرمز إلی هذا الصراع ب-(الرمز الکونی) - وقُلل الجبال والودیان، أی الرمز الجغرافی، والصید فی الجبال وصید البحر، أی الرمز الاقتصادی، فإنّنا نرید بذلک أن نعبّر عن الصراع بین العالی والمنخفض، وهذه هی الرسالة التی ترید الأُسطورة أن تنقلها.

إنّ المشکلة الحقیقیّة هی أنّ الأُسطورة تحاول أن تبقَ متماسکة من خلال جمیع تلک الرموز المختلفة، وهذه المشکلة تقع فی جانب مختلف کلیّاً عن الجوانب التی تعالجها الأُسطورة، وهو جانب التنظیم الاجتماعی للهنود السیمشینیین عموماً، وجانب عادات الزواج عندهم علی وجه الخصوص.

یقول (لیفی شتراوس): إنّ الهنود السیمشینیین کانوا یحملون فکرة أنّ الزواج بین اثنین ینتسبون إلی أحدهم الآخر من جهة الأُمّ یحلّ عدداً کبیراً من الصراعات حول السلطة والملکیّة، التی عادةً ما تحدث بین مجامیع ینتمون إلی نفس القبیلة، ولکن التجربة أظهرت بأنّه لم یکن من السهل أن یتمّ التغلب علی تلک التشنجات بین مجامیع کهذه، فالصراع الذی تسعی الأُسطورة إلی إیجاد حلٍّ له یکمن بین خلق مجتمع مسالم وعادل، ولا یمکن أن یطبّق فیه السلام والعدل إلّا من خلال تزویج أُولئک الذین تربطهم صلة قرابة عن طریق الأُمّ بعضهم ببعض، وبین حقیقة أنّ تلک المؤسّسة الاجتماعیّة التی تحکم تلک القبائل لن تؤثّر فیها النتیجة المتوخّاة من تلک الزیجات، ورغم ذلک تفشل الأُسطورة فی إیجاد حلٍّ للصراع، ولکنّها تنجح فی نقل جوانبه الأُخری الجغرافیّة والکونیّة والاقتصادیّة.

یقول (لیفی شتراوس): «إنَّ کلَّ المفارقات اللفظیّة - أی العبارات الموهمة للتناقض - التی یعیها العقل الفطری فی أکثر الجوانب اختلافاً کالجانب الجغرافی والاقتصادی

ص: 150

والاجتماعی وحتی الکونی، تستوعبها تلک المعضلة الأقل وضوحاً والأکثر توهیماً بحقٍّ، وهی معضلة الزواج بین الأقارب من جهة الأُمّ، والتی حاولت ولکنّها فشلت فی حلِّ المشکلة، ولقد اعترفت أساطیرنا بهذا الفشل، وهنا تکمن وظیفة تلک الأساطیر»(1).

وفی هذا السیاق یبدو من غیر الممکن أن نغوص أکثر فی المشکلة التی تسعی أُسطورة أسدیوال إلی التمسّک بها، والنقطة التی نودّ إلفات النظر إلیها ها هنا هی: أنّ الرسالة التی تودّ الأساطیر إیصالها إلی المتلقی - کما یقول (لیفی شتراوس)- قد تمّ بالفعل تبلیغها من خلال رموز مختلفة، ولکنها کلّها تعبّر عن نفس الترکیب الأساسی.

إنَّ الانتقالة بین رمزٍ وآخر قد تمّ من خلال استخدام أُسلوب الاستعارة (المجاز)، والاستعارة - حسب مذهب (لیفی شتراوس) - هی: مصطلح یعود إلی رمز معیّن یتمّ استبداله بمصطلح من رمزٍ آخر (2). وبهذا تکون الاستعارات هی العلاقات المبنیة علی وجه التشابه بین عنصرین یقعان جنباً إلی جنب.

وفی أُسطورة أسدیوال یمثّل اللفظان (شرق) و(غرب) استعارتین تعبّران عن القرابة من جهة الأُمّ والقرابة من جهة الأب علی التوالی، وهما لفظان مأخوذان من الرمز الجغرافی فی الأُسطورة، لیکونا بدیلین عن الرمز الاجتماعی فیها، وهکذا فقد

ص: 151


1- لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا البنیویّة: ج2، ص170.
2- اُنظر علی سبیل المثال کتاب: العقل المتوحش: ص212. وکتاب: الخزّاف الغیور: ص 20. وهذه إحدی الطرق التی یستخدم فیها مصطلح الاستعارة، ولکنّه یستخدم نفس المصطلح فی معنیً آخر، ویقصد به الرموز نفسها لا مصطلحات معیّنة داخل تلک الرموز، تستخدم للتعبیر مجازاً عن العلاقات بین الأشیاء. اُنظر: لیفی شتراوس، الخزّاف الغیور: ص193-194. واُنظر أیضاً: مانیغلییر، المفردات (Maniglier): ص30. وسیأتی المزید عن هذا الموضوع.

تمّ إیجاد علاقة استعاریّة بین ذلکما الرمزین الجغرافی والاجتماعی(1).

ولکی نوضِّح الأمر أکثر، نقول: إنَّ التشابه بین اللفظین فی داخل الرمز الجغرافی ونفس اللفظین فی داخل الرمز الاجتماعی، قد تمّ تلقیهما علی الشکل الذی أُرید لهما أن یعنیاه، ففی الغرب وفی المجتمع الذی تربط أفراده علاقات نسبیّة من جهة الأب یکون الطعام متوفراً بغزارة، ولکن فی الشرق وفی المجتمع الذی تربط أفراده علاقات نسبیّة من جهة الأُمّ لا یکون هناک طعام کافٍ عادةً (سوف أعود إلی شرح هذه النقطة بکشل موسّع فی مناسبة أُخری من الکتاب).

حینما یتحدّث (إدموند لیتش) (Edmund Leach) - وهو بریطانی متخصّص بعلم الإنسان (الأنثروبولوجیا) - عن الاستعارة، فهو یعتبرها تعابیر اعتباطیّة - أی لا تخضع لقاعدة أو مبدأ - تربط بین أصناف أو رموز معیّنة (2)، فمثلاً هناک علاقة استعاریّة بین الأفعی (رمز حیوانی) وبین الشرّ (رمز غیبی).

فی العالم الغربی وعلی العکس من ذلک، نری أنّ الأفاعی فی الهند کثیراً ما تعتبر مظاهر للأرواح الخیِّرة.

بالطبع إنّ الأفاعی بحدِّ ذاتها لیست خیرة ولا شریرة، ولکن الأساطیر العائدة لتلک المنطقتین الحضاریتین ربطت قیمتا الخیر والشرّ بذلک الحیوان بشکلٍ اعتباطی علی الغالب.

کما أنّ الاستعارات تعابیر تقلیدیّة - کما یقول (لیتش) (Leach) - إذ إنَّ أیَّ شخصٍ من الشطر الغربی للحضارة الإنسانیّة لیس له أدنی فکرة عمّا یرمز إلیه هذا

ص: 152


1- اُنظر: لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا البنیویّة: ج2، ص162-163، وص173.
2- اُنظر: إدموند لیتش، الثقافة والتواصل: ص11-12.

الحیوان فی الحضارة الهندیّة، فإنّه سیری تقدیس الأفعی فی الهند أمراً لا ینمّ عن عقلٍ سلیم.

والنوع الآخر من العلاقة فی التراکیب اللغویّة هو الکنایة - أی استخدام کلمة تشیر إلی إحدی صفات کلمة أُخری فی محلِّ تلک الکلمة - والتی یمکن أن نعرّفها علی أنّها علاقة انتقال أو قرب، وأکثر شکل شائع للکنایة هو ما نسمّیه المجاز المرسل - أی ذکر الجزء وإرادة الکلّ، أو العکس - کما فی قطع خصلة من الشعر للدلالة علی الشخص الذی قطعت تلک الخصلة من شعره، أو حینما یمثّل التاج ملوکیة ملکٍ ما، ولکن توجد علاقات ترکیبیّة أخری فی اللغة، کالعلاقة المسمّاة ب- (علاقة السبب والنتیجة)(1).

یقول (لیتش) (Leach): لکی نمیّز بین الکنایة والاستعارة، والتی هی علاقة اعتباطیّة، نقول بأنّ العلاقات الکنائیّة یعتقد بأنّها باطنیّة (أی ناشئة من نفس الترکیب)، وهذا أمر جلیّ وطبیعی فی النصوص الصادرة من حضارات تستخدم علاقات کنائیّة کهذه فی أسالیبها، ولکن الأمر لن یبدو طبیعیّاً لمَن یأتی من حضارات أُخری تُخِضع الأشیاء لتصنیف مخالف لتصنیف الحضارة الأُولی لها.

والآن یجب القول: إنّ التمییز بین الاستعارة والکنایة لیس واضحاً، خلاف ما قد یبدو علیه للوهلة الأُولی، فإنَّ أیَّ ترابط اعتباطی تکرّر استخدامه مرّات ومرّات یبدو أن ترابطه جوهری(2).

ص: 153


1- یستخدم لیفی شتراوس مفهومی الاستعارة والکنایة متأثراً باللغوی البنیوی رومان جاکوبسون (Roman Jakobson). للاطّلاع علی منهج جاکوبسون فی استخدام هذین المفهومین، اُنظر: جاکوبسون وهیل، أُصول اللغة (Fundamentals Of Language): ص67-96.
2- اُنظر: إدموند لیتش، الثقافة والتواصل: ص20.

وهناک مصطلحان آخران قریبان جدّاً ومرتبطان بالاستعارة والکنایة، وهما: صیغ التصریف، وبناء الجملة، وهما مستعاران من علم اللغة البنیوی، کما هو الحال فی الاستعارة والکنایة.

یقول (لیفی شتراوس) فی أواخر صفحات کتابه (الخزاف الغیور): «نعلم جمیعاً بأنّ معنی أیّة کلمةٍ یشوبه الشکّ حین نرید أن نحدّد ما یُقصد منه، ویتحدّد معنی أیّة کلمةٍ إمّا عن طریق الکلمات التی تسبقها، أو التی تلیها فی الجملة، وإمّا عن طریق الکلمات التی تصلح أن تکون بدیلاً عنها لنقل نفس الفکرة التی ترمی إلیها تلک الکلمة، ویسمّی علماء اللغة السلسلة من الکلمات من النوع الأوّل بالسلسلة المنتظمة، وهی منطوقة فی وقتها، أمّا النوع الثانی (الکلمات البدیلة) فتسمّی بالمجامیع الصرفیّة، وتتکوّن من کلمات قد تتبدّل بأُخری فی اللحظة التی یراها المتکلّم أنسب من التی استخدمها سابقاً فی نفس السیاق»(1).

ولنضرب مثالاً بسیطاً: نجد سلسلة منتظمة فی جملة من قبیل: (کان لدی ماری حمَل صغیر)، فإنّ کلمات هذه الجملة تُنطق بالتسلسل واحدةً تلو الأُخری، ویعتمد معنی هذه الجملة علی الترتیب السلیم لکلماتها، فإذا ما تغیّر ترتیب نفس الکلمات فقد تعطی الجملة معنیً آخر، کما لو قلنا: (کان لدی حمل صغیر ماری)، أو (کان لدی صغیر حمل ماری)، وقد لا تعطی الجملة أیَّ معنیً إذا ما تغیّر ترتیب الکلمات رأساً علی عقب، مثل: (حمل لدی صغیر ماری کان).

کما أنّ من الممکن أن نحافظ علی نفس ترتیب الجملة، ولکن نختار کلمات مرادفة للکلمات المستخدمة فی الجملة، فنصنع جملاً عدّة من قبیل:

ص: 154


1- لیفی شتراوس، الخزّاف الغیور: ص205.

کان لدی ماری حمل صغیر .

کان لدی الفتاة حمل صغیر .

امتلکت ماری حملاً صغیراً .

کان لدی ماری نعجة حدیثة الولادة .

کان لدی ماری خروف فی أوّل سنی عمره .

وطالما الکلمات تبقی فی مکانها الصحیح فی الجملة، فإنّنا نستطیع أن نستبدلها بکلماتٍ أُخر تحمل نفس الدلالة اللفظیّة، ویبقی الأمر منوطاً بالمتکلّم؛ إذ یمکن له أن یستخدم إمّا کلمة (ماری) أو معادلها وهو (الفتاة)، فإنَّ کلا اللفظین یصنعان مجموعة صرفیّة، کما یمکن أن تنشأ مجموعة صرفیّة أُخری من أحد اللفظین: (کان لدی)، أو (امتلکت)، کما یمکن استخدام ألفاظ أُخری لها نفس الدلالة، مثل (حازت)، ویمکن توضیح هذه الفکرة من خلال الجدول التالی:

ماری

کان عندها

حملٌ

صغیر

الفتاة

امتلکت

نعجة حدیثة

الولادة

صغیرة

جدول 3/1: الترتیب الصرفی للجمل

وبعمل تغییرات فی معظم کلمات الجملة یمکننا أن نصل إلی هذه الجملة: (إنَّ الفتاة امتلکت نعجة حدیثة الولادة) وهی جملة مفیدة ومفهومة، وهی تؤدّی نفس الغرض، وتنقل نفس المعنی المرجو نقله من الجملة الأُولی المأخوذة من أنشودة شهیرة.

ولکن نفس المعنی قد لا تنقله الجملة البدیلة، ففی بعض الحالات تکون الألفاظ البدیلة لیست معادلة لألفاظ الجملة الأصلیّة، فلفظة (ماری) تشیر إلی فتاة بعینها، ولکن لفظة (الفتاة) قد تشیر إلی أیّة بنت أو امرأة، وسیأتی شرح مفصّل أکثر

ص: 155

لهذه المسألة فی هذا القسم من الکتاب.

یستخدم (لیفی شتراوس) مفهومی الاستعارة والکنایة فی ضوء هذین الاصطلاحین، فیقول فی کتابه (الخزّاف الغیور): ص 205: «إنَّ استخدام الاستعارة یعنی أنّنا ننقل کلمة أو عبارة من سلسلة منتظمة (إعرابیّاً) أو (صرفیّاً) معیّنة ونضعها فی سلسلة نظامیّة أُخری».

وتشیر عبارة أُخری له ذکرها فی نفس الکتاب إلی أنّ السلاسل النظامیّة هی دلالات علی الرموز التی ذکرناها مسبقاً فی هذا الکتاب، والاستعارات لا تنقل المعنی من مصطلحٍ إلی آخر، ولکنها تنقل المعنی من رمزٍ إلی رمزٍ آخر(1)وهکذا، فی حین أنّ الروابط الاستعاریّة تکون مصاحبات لغویّة بین رموز مختلفة، فإنَّ الکنایات روابط تستخدم فی نفس الرمز.

ومن ناحیةٍ أُخری یستخدم (لیفی شتراوس) اصطلاح السلسلة المنتظمة لیشیر إلی الأساطیر باعتبارها قصصاً مرویّة، وفی هذه الحالة تکون المجموعة الصرفیّة عدداً من الأساطیر المرتبطة بعضها بالبعض الآخر، أو تکون أجزاءً من نفس الأُسطورة، والتی تعبّر عن نفس الترکیب ولکن بتغییرات مختلفة(2).

وفی کلا الحالتین یبدو من الواضح أنّ (لیفی شتراوس) یعتبر الفکر الأُسطوری من سنخ الأشکال اللغویّة المترابطة والقابلة للتبادل، ولکن حینما یکون المعنی المضمور فی الصیغ الصرفیّة ملفوظاً، فحینها لا بدّ من أن یتمّ التعبیر عنه عن طریق

ص: 156


1- اُنظر: لیفی شترواس، الخزّاف الغیور: ص193.
2- اُنظر: لیفی شتراوس، النیء والمطبوخ: ص307.

سلسلة منتظمة، أی یأخذ شکل قصّة أو روایة، وفی هذه السلسلة المنتظمة یتمّ الربط بین المفاهیم من خلال الاستعارات والکنایات؛ لذا تکون الاستعارات والکنایات متحدّة دائماً فی الأساطیر (وفی کلِّ مقالةٍ أیضاً)، ویعتمد المعنی الواقعی لکلِّ أُسطورة علی التنقلات بین الأشکال الصرفیّة والتسلسل المنتظم لنصوصها.

ومع انتشار وإعادة إلقاء الأُسطورة تحدث تغییرات جدیدة فی نصوصها، وبالرغم من بقاء النمط الترکیبی الأساسی للأُسطورة دون تغییر - وهو (الدرع) فی اصطلاح (لیفی شتراوس) - فإنَّ الرموز المستخدمة فی نصوص تلک الأُسطورة قد تتغیّر، وقد یتمّ قلب الأدوار الملعوبة فی الأُسطورة، وقد تُضاف أو تُحذف بعض العناصر منها، وتقل حدّة الصراعات داخل أحداث الأُسطورة... إلخ.

والخلاصة: إنّ عدداً من العناصر التی یسمّیها (لیفی شتراوس) تنقّلات داخل الأُسطورة قد تجد لها مکاناً، ولأنّها مرتبطة واحدة بالأُخری فإنّها تخلق سلسلة من التنقّلات أو (مجموعة تنقّلیة)(1).

وکمثال علی هذه العملیة یمکننا أن نتصوّر کیف جرت وانتشرت (أُسطورة أسدیوال)، فإنّ النظرة العالمیّة للهنود السیمشینیین اشتملت علی عدد من الأفکار عن محیطهم الجغرافی، والطرق المختلفة لحصولهم علی ما یقتاتون به، وتفکیرهم عن الکون، والقوی العلیا الخفیّة التی أثّرت فی حیاتهم، والصورة عن تکوین مجتمعهم، وکیف یمکن فهم ترکیبة ذلک المجتمع، کما أنّ تلک الأُسطورة نقلت لنا فکرة عن المشاکل الأساسیّة فی مجتمعهم.

ص: 157


1- اُنظر: لیفی شتراوس، الرجل العاری: ص675.

والحقیقة أنَّ کلَّ تلک الأفکار تداخلیة بمعنی أنّها ترتبط ارتباطاً لصیقاً واحدة بالأُخری، وقد حملتها معاً فی وقتٍ واحدٍ، وربطت هذه الأفکار معاً شبکة من العلاقات، وهی مجموعة صرفیّة من الصعب إدراکها.

ولکن حین أراد الهنود السیمشینیون التعبیر عن معضلة التعارض بین أُسلوب الحیاة المثالی وما کان علیه أُسلوب حیاتهم بالواقع، کان لا بدّ لهم من أن یرتّبوا تلک الأفکار علی شکل سلسلة منتظمة، وفی هذه الحالة وبسبب أنّهم نظروا إلی مشکلتهم تلک علی أنّها صعبة للغایة وملیئة بالمخاطر، فقد أخذت تلک السلسلة شکل قصّة، نسمّیها نحن المحلّلین للحضارات: (أُسطورة)، بالأخذ بنظر الاعتبار شکلها الخارجی (1)؛ ونظراً لأنّ هذه الأُسطورة قد تمّ تداولها من قبل مختلف أصناف الناس؛ لذا تباینت النصوص التی نقلتها بتباین مستویات أُولئک الناس، فقد ظهرت نسخ مختلفة من تلک الأُسطورة، ولکن جمع تلک النسخ المختلفة اشترکت فی نفس الترکیب الأساسی للقصّة، وهذا ما یهمّ لیفی شترواس.

وقد جمع بعض المتخصّصین بعلم الإنسان قلیلاً من تلک النسخ المختلفة لأُسطورة أسدیوال، وقد کتب (لیفی شتراوس) کتابات تحلیلیّة عن تلک النسخ، وقد تشابکت عناصر من الرموز الجغرافیّة والاقتصادیّة والکونیّة والاجتماعیّة فی هذه الأُسطورة (أو المجموعة من الأساطیر) من خلال علاقات استعاریّة، ما جعل اتجاهاتها الجغرافیّة - علی سبیل المثال - ترمز إلی منظمات اجتماعیّة معیّنة، حیث یرمز

ص: 158


1- لقد استخدمتُ فی هذه الجملة کلمة (أُسطورة) لأعبّر بها عن معنی أوسع ممّا ذکرته فی تعریفی لها فی بدایة هذا الکتاب.

الشرق فی الأُسطورة إلی سکن الزوجین فی بیت أهل الزوج، ویرمز الغرب إلی سکن الزوجین فی بیت أهل الزوجة، فالعلاقة إذن بین الاتجاهات الجغرافیّة فی القصّة والمنظمات الاجتماعیّة هی تشبیه تقلیدی، یمکن أن نرسمه علی الشکل التالی:

الشرق: الغرب: السکن فی بیت أهل الزوج: السکن فی بیت أهل الزوجة

وهذا الشکل یمکن أن نقرأه کما یلی: (إنَّ نسبة الشرق إلی الغرب هی نفس نسبة سکن الزوجین عند أهل الزوج إلی سکن الزوجین عند أهل الزوجة)، والهدف من تشبیهٍ کهذا فی أُسطورةٍ ما هو إنشاء علاقات بین رمزین، وهما فی حالتنا هذه الرمز الجغرافی والرمز الاجتماعی، وبقولٍ آخر: تحویل الاستعارات إلی کنایات وتحویل الکنایات إلی استعارات، وقد تمّ الربط بین الشرق والغرب بشکلٍ کنائی، إذ إنّهما من نفس الرمز، ونفس الشیء ینطبق علی أشکال السکن الأُخری بالنسبة للأزواج الجدد.

وإذا نظرنا إلی المسألة من وجهة نظر تخصّ ترکیب الأُسطورة، فإنّا سنجد رابطاً آخر بین الشرق ومسألة سکن الزوجین عند بیت أهل الزوج، وبین الغرب ومسألة سکنهم عند بیت أهل الزوجة، مع الأخذ بنظر الاعتبار «أنّ ما کانت فی السابق علاقات استعاریّة أصبحت روابط کنائیّة، وما کانت فی السابق علاقات کنائیّة أصبحت علاقات استعاریّة...»(1) (اُنظر: الشکل 3/1).

ص: 159


1- موسکو، الصیغة القانونیّة للأُسطورة واللاأُسطورة: ص132-133، والذی منه تمّ تعدیل الشکل (المذکور).

الشکل 3/1: التغییر بین الاستعارة والکنایة، حسبما یراه الکاتب موسکو (Mosko)

والأساطیر زاخرة بمثل تلک التشبیهات، کما یقول (لیفی شتراوس)، والتحوّلات من الاستعارة إلی الکنایة وبالعکس تضیف أهمّیة إلی بعض المفاهیم، وبذلک تعمل علی ربط مساحات من الحیاة بعضها بالبعض الآخر؛ وذلک «لأنّ العقل یعمل حسب التناقض فی المنهج الدیکارتی، أی أنّه یرفض أن یحوّل الصعوبة أو المشکلة إلی أجزاء صغیرة، ولا یقبل بأیِّ حالٍ من الأحوال نصف الحلول، یبحث عن تفسیرات تحیط بکلیّة الظاهرة ولیس بجزء منها، وحینما تواجه الأُسطورة أیّة مشکلة فإنّها تتعامل معها علی أنّها شبیهة بالمشاکل الأُخری التی توجد فی أبعاد أُخری من الحیاة، کالبعد الکونی والطبیعی والأخلاقی والفقهی والاجتماعی… إلخ، ویحاول أن یعالج کلَّ تلک الأبعاد فی نفس الوقت وبشکلٍ مباشر»(1).

ص: 160


1- لیفی شتراوس وأریبون، المحادثات: ص139.

وفی عملیة إنشاء ارتباطات جدیدة بین مجالات الحیاة غیر المترابطة، فإنّ التنقّلات بین الاستعارة والکنایة تخلق تغییراً فی نظام التصنیف الخاصّ بمجموعة أو حضارة معیّنة، ثمّ إنَّ هذه التنقلات کثیراً ما تستخدم لمناقشة الأسباب التی تقف وراء اعتبار تصنیف معیّن أنسب من الآخر؛ لتظهر علاقة ما بین کیانین بالتی قد تبدو اعتباطیّة وبعیدة الإحتمال هی فی الواقع حقیقیة وطبیعیّة، ویقول (إدموند لیتش) (Edmund Leach): إنّنا نستخدم تلک التنقلات بین الاستعارة والکنایة؛ «لکی نُثبت بأنّ التعبیر المجازی الذی یبدو فاقداً للمعنی سیکون ذا معنی إذا حوّلناه إلی تعبیر کنائی، وبالعکس»(1).

کما یؤکّد (لیفی شتراوس) أنّ هذه الحرکة التنقلیّة موجودة فی کثیر من الأساطیر، ثمّ یحاول أن یعطی الشرعیّة لتلک العملیات المنطقیّة البعیدة الاحتمال التی ینتجها العقل، والتی یکون وجودها مصاحباً لبعضها البعض - والذی یسمّیها (لیفی شتراوس) ب- (الاستدلال ذو الاحتمال الخارق للطبیعة) - وذلک عن طریق جعل تلک العملیات تبدو وکأنّها طبیعیّة ومبنیّة علی تجارب تتحصّل عن طریق الملاحظة، والتی یسمّیها هو ب- (الاستدلال التجریبی)(2).

وبعد ذکر هذه النقطة یوضِّح (لیفی شتراوس) بأنّ التغییر من استدلال خارق للطبیعة إلی استدلال تجریبی، هو لیس نفس التحویل بین الاستعارة والکنایة، ولکنّه من الطبیعی أن یکون أکثر تعقیداً من ذلک؛ إذ إنّ الاستعارة والکنایة کلاهما

ص: 161


1- إدموند لیتش، الثقافة والتواصل: ص22.
2- اُنظر: لیفی شتراوس، استدلال الکُرکی (Deduction Of The Crane). وکتاب: الخزّاف الغیور: ص58.

یتمّ توظیفهما فی الاستدلال التجریبی(1).

أمّا النقطة التی أودّ أن أُثیرها هنا، فهی أنّ الأساطیر مهما یکن المنهج الذی تستخدمه تحاول أن تخلق ارتباطات بعیدة الاحتمال واعتباطیّة ومبهمة، وتجعلها تبدو طبیعیّة جوهریّة وواضحة المعالم.

ففی مأساة کربلاء تظهر هذه النقطة بأجلی صورة کما سیمرّ علیک فی هذا الکتاب، ومحاولة التغییر من علاقة بعیدة الاحتمال إلی علاقة طبیعیة، عادةً ما تتمّ من خلال تنقلات بسیطة بین الاستعارة والکنایة.

ثمّ إنّ المثال المطروح حول الانتقال من الاستعارة إلی الکنایة وبالعکس فیما یخصّ أُسطورة أسدیوال، وقد لفت نظری مفهوم مهم آخر من مفاهیم (لیفی شتراوس)، وهو مفهوم التعارض، ویجب أن لا نفهم هذه الکلمة بمفهومها السلبی؛ إذ إنّها بالواقع اصطلاح محاید یشیر فی أغلب استخداماته إلی أیّة علاقةٍ بین مفهومین، یقول لیفی شتراوس: «یعمل الفکر الأُسطوری من خلال وسائل تعارض ورموز، ولکن نظریّة التعارض المزدوج - التی اتُّهِمت باستخدامها بشکلٍ مفرط - تدخل بشکلٍ طارئ علی تحلیل الأُسطورة، بصفتها القاسم المشترک الأصغر للقیم المتبادلة التی تنشأ من المقارنة والتشبیه، وهکذا فقد تبدو التعارضات المزدوجة بأشکال متنوّعة کثیرة من المشروطات - أی متوقّفة علی شروط معیّنة - من قبیل التماثلات، والتی تکون علی أشکال مختلفة، والتناقضات، والتعارضات، والقیم النسبیّة، والعبارات المجازیّة، والأفکار المجازیّة، وما شابهها، کلُّ تلک الضروب المختلفة من التعارض تعود إلی الأنواع الغریبة من أشکال الکلام، أضف إلی ذلک أنّها لا تأتی أبداً

ص: 162


1- اُنظر: المصدر السابق: ص19-20.

بشکلٍ مجرّد؛ أی لا تأخذ شکلاً نظریّاً، ولکنها تأخذ شکلاً تطبیقیّاً من ضمن الرموز...»(1).

وقد لا یبدو غریباً فی المثال المذکور سالفاً والمأخوذ من أُسطورة أسدیوال أنّ الاتجاهین الجغرافیین أو طریقتی السکن - أی السکن عند أهل الزوج أو أهل الزوجة - تعارض إحداهما الأُخری، فقد رأینا أنّ الرابط الذی یربط العناصر المأخوذة من الرموز الجغرافیّة والاجتماعیّة مأخوذ أصلاً من رمز ثالث وهو الرمز الاقتصادی التقنی، وهو ما تشیر إلیه الأُسطورة علی أنّه الشرق، والسکن عند أهل الزوج، إذ یشیر هذا الرمز إلی وفرة الطعام بغزارة، ولکن فی الغرب - أی فی السکن عند أهل الزوجة - توجد المجاعة.

ففی هذه الأُسطورة یتعارض السکن عند أهل الزوج بالسکن عند أهل الزوجة فیما یتعلّق بوفرة مؤونة الطعام، کما هو الحال فی الفرق بین الشرق والغرب.

والنقطة التی أودّ أن أُشیر إلیها هنا هو أنّ التعارضات التی تکتسب أهمّیة تکون دائماً تعارضات فیما یتعلّق بموضوع معیّن؛ لذا فیمکن للمرء أن یلعب أدواراً عدّة فی الحیاة، فیمکنه أن یصبح زوجاً وأباً ومعلّماً ولاعب کرة قدم هاویاً... إلخ.

فحینما یتعلّق الأمر بعلاقة ذلک المرء مع زوجته، فهذا لا یمتّ بأیّة صلةٍ بکونه لاعب کرة قدم مهاجماً أو مدافعاً، وعندما یکون الحدیث عن قاعة الصف، فهذا ممّا لیس له علاقة بکون ذلک المعلّم متزوجاً أو أعزباً... إلخ.

ص: 163


1- لیفی شتراوس، حکایة الوشق (The Story Of Lynx): ص185. واُنظر: کوز، البنیویة: ص86-89.

وحینما یتعلّق الأمر بالحیاة الأُسریّة، فما یخطر علی الذهن هو الأدوار المنزلیّة التی یلعبها الإنسان بصفته زوجاً أو أباً... إلخ، والتعارض یکون بینه وبین زوجته بصفته الزوج، کما یکون التعارض بینه وبین أطفاله بصفته الأب.

أمّا فی ساحة کرة القدم، فتکون الاحتمالات کثیرة فیما یخصّ الدور الذی یلعبه اللاعب، إذ قد أن یکون مهاجماً أو مدافعاً... إلخ، والتعارض بینه وبین أعضاء الفریق الآخرین یمکن أن یأخذ شکل کونه رجلاً خلوقاً فی غرفة تبدیل الملابس، ویمکن أن یأخذ شکل کونه مهاجماً فی الفریق، کما یمکن أن تأخذ أشکالاً أُخری، ککونه بطل الفریق إذا کان الأفضل بینهم، والتعارض بینه وبین الفرق الأُخری، هو أنّه یعتبر خطراً علی تلک الفرق التی تواجه فریقه.

وحین یحلّل (لیفی شتراوس) الأساطیر فإنّه کثیراً ما یتکلّم عن (اصطلاحات) تکون مؤهلة للقیام بأکثر من وظیفة؛ إذ یمکن لتلک الاصطلاحات أن تکون ممثلة بأشخاص - أی أناساً معینین أو حیوانات أو آلهة... إلخ - أو أشیاء... إلخ: بمعنی أی موضوع قادر علی التمثیل، وقادر علی أن یلعب دوراً ما فی الأُسطورة(1).

أمّا الوظیفة التی نتحدّث عنها فتأخذ أدواراً مختلفة، أو سمات تحملها وتعبّر عنها تلک الاصطلاحات، ویواجهنا فی الأُسطورة عدد من الشخصیات - أی الاصطلاحات - وکلّها یمکن أن یکون لها أدوار عدیدة، أی وظائف.

وقد نُوقش مفهوما (اصطلاح) و(وظیفة) عند (لیفی شتراوس)(2) من قبل الأُستاذ الرومانی سولومون مارکوس (Solomon Marcus) - وهو متخصّص فی الریاضیات ونظریّة وظائف الإشارات والعلامات - الذی یقول: «تولِّد کلُّ

ص: 164


1- اُنظر: ماراندا، نماذج بنیویّة: ص32.
2- اُنظر: مارکوس، الصیغة القانونیّة.

شخصیةٍ میداناً من السمات الدلالیّة، ولکن قلیلاً من تلک الشخصیات أو واحدة یمکن أن تخلق دوراً، فإذا لم تحدّد الاصطلاحات بالوظائف فإنّها لن تکون أکثر من عناصر عائمة، وهذا یعنی أنّ الشخصیات بمجرّدها إذا کانت لا تمثّل أیَّ دورٍ، فإنّها تصوّریّة وکیانات خیالیّة لیس لها وجود علی أرض الواقع»(1).

لا یمکننا من بین الأدوار الکثیرة المحتملة، أن نعرف الدور الذی یمکن أن یتحقّق فی الواقع فی السیاق الذی بین أیدینا إلّا من خلال معرفة التعارض بینه وبین شخصیة أُخری تلعب دوراً مختلفاً.

یضرب الکاتب (مارکوس) مثالاً مأخوذاً من کتاب (الخزاف الغیور) للکاتب لیفی شتراوس، ففی هذا الکتاب ینشأ الترابط بین الأساطیر من خلال تعارض المرأة وطائر السبد من جهة، برجال آخرین من جهةٍ أُخری، یقول (مارکوس): «لذا حینما یکون التعارض بین امرأة وطائر، فإنّنا سنختار تلک السمات الدلالیّة للمرأة التی تکون أوثق صلة بالموضوع فی تعریفنا لذلک الاختلاف والتعارض بینها وبین ذلک الطائر، ولکن حین یکون التعارض بین امرأة ورجل، فإنّنا سنختار السمات الدلالیّة التی تبیّن التعارض بین المرأة والرجل؛ لذا فإنّ سمة الإنسانیّة هی الأنسب فی الحالة الأُولی، بینما سمات أُخری مثل الغیرة تکون هی الأوثق صلةً بالموضوع»(2).

وعلی هذا یمکن أن نعرّف التعارضات المزدوجة بأنّها (أکثر مرکبات البنیة

ص: 165


1- المصدر السابق: ص143، وقد اقتبس الکاتب فی هذه الفقرة جملة مأخوذة من کتاب: نماذج بنیویّة، للکاتبة ماراندا: ص34. وإذا رجعنا إلی الجملة التی ضربناها مثالاً فی الصفحات السابقة: (کان لدی ماری حمل صغیر)، فإنّ الفقرة أعلاه توضّح لنا السبب فی عدم إمکانیة استبدال اسم العلم (ماری) بالاسم (الفتاة) بسهولة؛ وذلک لأنّ الاسم هذا - أی الفتاة - یحمل سمات دلالیّة أکثر ممّا یحملها اسم العلم (ماری).
2- مارکوس، الصیغة القانونیّة: ص143.

أصالةً)، وهذا التعریف الذی یعود للکاتب (کوز) (Caws) هو حقّاً تعریف رائد ودقیق(1).

وسنعود إلی مناقشة أوسع لمفهومی (الاصطلاح) و(الوظیفة) لاحقاً، ولکن یبدو أنّ علینا الآن أن نقدّم مصطلحاً آخر مهماً من المصطلحات التی استخدمها (لیفی شتراوس) للتعبیر عن طریقة تفکیره، وهو مصطلح (الواسطة)، وقد علمنا أنّ وظیفة الأُسطورة علی رأی (لیفی شتراوس) هی تقلیل التناقضات الحاصلة فی الواقع، إذ لا یمکن بأیِّ حالٍ من الأحوال أن نضع حدّاً للصراعات فی الأُسطورة، ولکن یمکننا أن نتعامل معها علی أساس تشبیهها بمجالات أُخری من الحیاة، حیث یمکن لنا من خلال تلک المجالات أن نتعامل مع الصراعات بشکلٍ أسهل.

ویلعب الوسطاء دوراً مهماً فی هذه العملیة التی یناقشها (لیفی شتراوس) فی مقالته الرئیسة المسمّاة: (الدراسة البنیویّة للأُسطورة)؛ إذ یشیر إلی حقیقة أنّ (المخادع) فی الأساطیر الأمیرکیّة لطالما یتعامل معه محلّلو الأساطیر علی أنّه شخصیة مشکلة ومشکوک فیها.

ثمّ یتساءل (لیفی شتراوس): لماذا یُعطی هذا الدور فی أغلب الأحیان إلی القیوط(2) أو الغراب الأسود؟

ویجیب عن هذا التساؤل عن طریق ضرب مثال من أساطیر (الهنود البویبلو)

ص: 166


1- اُنظر: کوز، البنیویّة: ص87.
2- القیوط: حیوان یُعرف بالذئب البری، وکذلک ذئب السهول، أو ذئب المروج، أو الذئب الواوی، وکذلک یُعرف بعوائه الغریب المخیف، الذی یُسمع عادةً فی فترة المساء واللیل، أو فی الصباح الباکر؛ لأنّه یعیش فی السهول المفتوحة فی شمال أمیرکا من کوستریکا إلی آلاسکا، وکذلک یعیش فی بعض أجزاء أمیرکا الوسطی، ویعیش فی کندا والمکسیک. موقع ویکیبیدیا - الموسوعة الحرة. (المحقق).

(Pueblo Indians)(1)، فیقول: «دائماً ما یتمّ استبدال اصطلاحین متعارضین لا یتوسطهم أیّة واسطة باصطلاحین آخرین مقابلین لهما، شریطة أن یکون بینهما واسطة، ثمّ یأتی ثالوث آخر لیستبدل الاصطلاحین الآخرین وواسطتهما وهکذا؛ فیصبح لنا مرکّب وسطی یأخذ الشکل المطروح فی الجدول التالی:

الزوج الأوّلی

الثالوث الأوّل

الثالوث

الثانی

الحیاة

الزراعة

الحیوانات المقتاتة

علی العشب

الحیوانات

المقتاتة علی الجیف (کالغراب

والقیوط)

الحیوانات

المفترسة

لصید

الحرب

الموت

الجدول 3/2: ترکیبة أساطیر الهنود البویبلو کما یراها (لیفی شتراوس)

ص: 167


1- البویبلو: وهم شعوب أمیرکیة أصلیة، ترکّزت فیما یُعرف الآن بمنطقة الأرکان الأربعة فی الولایات المتحدة، التی تضم جنوب یوتا، وشمال أریزونا، وشمال غرب نیومکسیکو، وجنوب کولورادو، حیث کانوا یعیشون فی مجموعة من الهیا کل، بما فی ذلک منازل الحفر، ومساکن محضورة فی الأجراف. موقع ویکیبیدیا الموسوعة الحرة. (المحقق).

...ویولّد کلُّ اصطلاح الاصطلاح الذی یأتی بعده عن طریق عملیة مزدوجة من التعارض والواسطة»(1).

یُظهر الجدول السابق بأنّ التعارض الرئیس عند الهنود البویبلو هو تعارض الموت والحیاة، وهذا التعارض - کما یری (لیفی شتراوس) - هو فی الحقیقة التعارض الرئیس عند کلّ الجنس البشری ککل(2)، والذی هو تعارض أخطر وأصعب من أن یتمّ التعامل معه، وقد تمّ استبداله بالتعارض (الأضعف)، بین (الزراعة) التی هی سبب الحیاة و(الحرب) التی هی سبب الموت.

إنّ هذا التعارض أضعف من التعارض بین الحیاة والموت؛ لأنّه یکون تحت سیطرة الإنسان إلی حدٍّ معیّن علی الأقلّ، ولکن یتمّ إدخال الصید بین هذین القطبین فی هذا التعارض الجدید کواسطة؛ لأنّه یشاطر القطبین المتعارضین فی صفاتهما، حیث إنّ الزراعة توفر الطعام - أی الحیاة - بینما تسبّب الحروب الموت، وفی حالة الزراعة والصید یُنشیء أحد الاصطلاحات المحوریّة والواسطة تعارضاً جدیداً، حیث تدخل الحیوانات التی تقتات علی العشب کواسطة، فبالرغم من أنّ هذه الحیوانات تأکل النبات فقط ولا تقتل ما تقتات علیه، ولکنّها عرضة للاصطیاد.

وفی الجهة المقابلة لتلک الحیوانات التی تقتات علی النبات تقف الحیوانات المفترسة، ثمّ تدخل واسطة جدیدة بین هذین النوعین من الحیوانات، وهی الحیوانات التی تقتات علی الجیف، السباع التی تأکل جیف الحیوانات المیتة ولکنها

ص: 168


1- لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا البنیویّة: ص224-225.
2- اُنظر: لیفی شتراوس، الرجل العاری: ص694.

لا تسبب الموت لما تأکل، تماماً مثل الحیوانات المقتاتة علی العشب. وهنا یدخل حیوانا القیوط والغراب - وهما حیوانان یقتاتان علی الجیف - إلی المشهد، وحسب ما یری (لیفی شتراوس): «فإنّ المخادع یلعب دور الواسطة، ولأنّ وظیفته فی التوسط تشغل موقعاً یقع فی الوسط بین اصطلاحین محوریین؛ فلا بدّ له من أن یستبقی شیئاً من تلک الازدواجیّة، أی تکون شخصیته غامضة ومریبة»(1).

إنّ وظیفة الواسطة هی إنشاء جسر بین الأشیاء المتعارضة، ولکن تلک الواسطة أیضاً - وفی حالات کثیرة - تعمل علی تأکید المسافة بین تلک الأشیاء المتعارضة، أی أنّها تبیّن بأنّ من الاستحالة لتلک الأشیاء المتعارضة أن تنتصر، أو یجب أن یُسمح لها بالانتصار. ولنأخذ مثالاً مشوّقاً علی الوظیفة المزدوجة للواسطة من إحدی أساطیر منطقة الأمازون، وفی هذه الأُسطورة تسافر الشمس والقمر فی زورق، وهذا الزورق یستلزم أن یقوده شخصان، یجلس أحدهما فی مقدّمته لیجذف، والآخر الذی یوجّه الزورق یجلس فی مؤخّرته، وکلا الشخصین لا بدّ من وجودهما فی الزورق، ولا یمکن لهما أن یقتربا أو یبتعدا عن بعضهما البعض؛ إذ لا بدّ لهما من المحافظة علی مرکزهما فی الزورق.

وتقول الأُسطورة: إنّه إذا اقتربت الشمس والقمر من بعضهما البعض فی ذلک الزورق، فإنّ العالم سیحترق (بسبب حرارة الشمس)، أو یتعفّن (بسبب الماء الذی یرافق القمر)، أو یحترق ویتعفّن فی نفس الوقت، وإذا ابتعدت الشمس والقمر أکثر من اللازم، فإنّ تعاقب اللیل والنهار سیتعرّض للخطر، مّما یسبب تشوّشاً واضطراباً فی نظام الکون، ومع بقاء الشمس والقمر فی الزورق (وهو الواسطة فی

ص: 169


1- لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا البنیویّة: ص266.

هذه الأُسطورة)، فإنّ المسافة بینهما ستحقّق التکامل فی الکون(1).

والمثال الآخر علی الدور المزدوج الذی یلعبه الواسطة هو القبّعة فی بعض الأساطیر، والتی تؤدّی نفس الدور الذی یلعبه الضباب فی أساطیر أُخری، یقول (لیفی شتراوس): «نری فی فکر الهنود الأمیرکیین - وربّما فی فکر أقوام آخرین فی العالم - أنّ القبعة تؤدی وظیفة واسطة بین العالی والمنخفض، والسماء والأرض، والعالم الخارجی والجسد، فهی تلعب دور الوساطة بین هذین القطبین؛ إذ إنّهما إمّا أن یتّحدا وإمّا أن یتفرّقا إلی مسافات مختلفة، وکما قلت فیما مضی، فهذا هو أیضاً الدور الذی یلعبه الضباب، والذی یکون تارةً فاصلاً وتارةً أُخری رابطاً بالتناوب بین العالی والمنخفض وبین السماء والأرض، فهو اصطلاح توسطی یوحِّد الطرفین ویجعلهما غیر متمیّزین عن بعضهما البعض، أو یدخل بینهما لکی یمنع اقتراب أحدهما من الآخر»(2).

ویتحدّث (لیفی شتراوس) أکثر من مرّة - علی الأقل - عن وظیفتی الربط والفصل التی یؤدّیها أُولئک الذین یلعبون دور الوسائط فی الأساطیر، باعتبارهم وسائط إیجابیّة وسلبیّة علی التوالی (3).

ص: 170


1- اُنظر: لیفی شتراوس، أصل آداب المائدة (The Origin Of Table Manners): ص181-182.
2- لیفی شتراوس، حکایة الوشق: ص8. وقد اقتبس جزءاً من الفقرة من کتابه الرجل العاری: ص398 (وفی النسخة الإنجلیزیّة من الکتاب هناک إشارة إلی الرجوع إلی کتاب النیء والمطبوخ، للیفی شتراوس: ص293، وهی فقرة تتناول نفس الموضوع، ولکنّها لا تحتوی علی الجزء المقتبس فی هذه الفقرة).
3- اُنظر: لیفی شتراوس، أصل آداب المائدة: ص398. من أجل الاطّلاع أکثر علی الوظائف والأسالیب التی تؤدّیها الوسائط فی الأساطیر، ارجع إلی: هیناف (Hénaff)، کلود لیفی شتراوس: ص166-167. کونین، نفکر بما نأکل: ص15-16. واقرأ لیفی شتراوس: ص33-39، ومواطن أُخری من الکتاب.

الصیغة القانونیّة وتطبیقاتها

یقول (لیفی شتراوس): إنّ الأساطیر تتحوّل حسب نمطٍ خاصٍّ، والذی یسمّیه هو (علاقة قانونیّة)، ویمکن إیجاز هذه العلاقة فی صیغة (معادلة) ظهرت أوّلاً فی إحدی مقالاته تحت عنوان (الدراسة البنیویّة للأُسطورة) فی عام (1955م)، وتکرّرت فی فترات متباعدة جدّاً لحین نشر بعض مقالاته فی علم الإنسان (الأنثروبولوجیا) والأُسطورة Anthropology And Myth) عام (1984م)، الخزّاف الغیور (The Jealous Potter) عام (1985م)، وأعماله الأخیرة، حیث استخدم هذه الصیغة بصورة صریحة(1).

وعلی الرغم من أنّ هذه الصیغة غائبة تماماً فی کتابه (المیثولوجیا) (علم الأساطیر) (Mythologiques)، فقد بیّن مرّات عدیدة أنّها کانت علی قدرٍ کبیر من

ص: 171


1- اُنظر: لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا البنیویّة Lévi-Strauss، Structural) Anthropology): ص228. عبارة "علاقة قانونیّة" جاءت فی الأصل الفرنسی للمقالة، وقد حُذِفت کلمة قانونیّة (Canonical) من الترجمة الإنجلیزیّة. وبما أنّها تأتی متکرّرة فی أعماله اللاحقة، فقد تمّ ترجمتها إلی الإنجلیزیّة علی کلِّ حالٍ (راجع علی سبیل المثال: لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا والأُسطورة: ص4). أفضل دراسة - إلی حدٍّ بعید - حول الصیغة ومتغیّراتها فی أعمال لیفی شتراوس، ومن بین المعلّقین علیها هو کتاب سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس (Scubla، Lire Lévi-Strauss). هناک مقالة جیّدة تتعامل مع هذه الصیغة من المنظار الشکلی بصورة أساسیّة، لمارکوس بعنوان: الصیغة القانونیّة (Marcus، Canonic Formula). وهناک مقالة مهمّة جدّاً، علی الرغم من أنّها فنیّة (تقَنیّة) إلی حدٍّ بعید، هی مقالة بتیتو: مقدّمة إلی التشکّل الدینامیکی (Petitot، Approche Morphodynamique). وهناک مجموعة منتخبة من المقالات حول الصیغة القانونیّة من وجهات نظر مختلفة فی کتاب ماراندا: الانعطاف المزدوج (Maranda، Ed.، Double Twist) الذی یتضمّن خلاصة بالإنجلیزیّة حول المیزات المهمّة لکتاب سکوبلا المذکور أعلاه.

الأهمّیة له فی کلِّ أجزاء کتابه مع الأساطیر التی قام بتحلیلها فی تلک الکتب(1). هنا تکون الصیغة کالتالی: Fx(A): Fy(B): : Fx(B): Fa-1(Y) قدّم (لیفی شتراوس) هذا التعلیق الغامض حول هذه الصیغة، عندما ظهرت أول مرّة بالقول: «هنا، مع إعطاء طرفین أو عنصرین هما: (A وB)، ووظیفتین هما: (X وY) لهذین الطرفین؛ یُفترض وجود علاقة من التکافؤ بین موقفین یُعَرَّفان علی التوالی بتضادّ الأطراف والعلاقات تحت شرطین: الأوّل: استبدال أحد الأطراف بنقیضه (فی الصیغة أعلاه، A وA-1).

الثانی: تضادّ بین قیمة الوظیفة وقیمة الطرف لعنصرین (A وY) فی الصیغة أعلاه»(2).

فی هذه الفقرة، ظهرت (الأطراف) و(الوظائف) الواردة أعلاه لأوّل مرّة، حسب (لیفی شتراوس) یکون الجزء الحاسم من المعادلة هو العنصر الرابع (Y)Fa-1)، حیث الطرف (A) قد استبدل بنقیضه (A-1)، والطرف والوظیفة (A وY) (أو بالأحری قیمتاهما) قد غیّرا مکانیهما، والآن، ماذا یعنی ذلک؟

المشکلة الأساسیّة فی الصیغة القانونیّة هی أنّ مؤلّفها لم یوضّح بصورة صریحة أبداً معناها، ولم یُعطِ مثالاً خالیاً من الغموض، لیبیّن کیفیّة استخدام هذه الصیغة، أو کیف ینبغی أن تُطبّق فی الحالات الأُخری، وبالرغم من مظهر الصیغة الریاضی،

ص: 172


1- اُنظر: لیفی شتراوس، من العسل إلی الرماد (Lévi-Strauss، From Honey To Ashes): ص249. لیفی شتراوس: الأنثروبولوجیا والأسطورة: ص4-5.
2- لیفی شتراوس، الأنثروبولجیا البنیویّة: ص228.

إلّا أنّ (لیفی شتراوس) (Lévi-Strauss) قد صرّح لمرّاتٍ عدیدة بألّا تُقرأَ علی أنّها معادلة ریاضیّة، ولکن «کشکل أو صورة: کتصمیم بیانی والذی یمکن، کما أعتقد، أن ییسّر الإدراک البدهی لسلسلة من العلاقات»(1).

وکما بیّنت ردود الأفعال علی هذه الصیغة، فإنّها لیست بتلک السهولة حتی تُفهَم بالبدیهة من قبل أغلب القرّاء، کما یقول المؤلّف، ولا لأُولئک الذین اتّخذوا موقفاً سلبیّاً تجاهها، ولا لأُولئک الذین مالوا إلیها إیجابیّاً(2).

التفسیر الأکثر وضوحاً لهذه الصیغة، والذی قدّمه (لیفی شتراوس) نفسه، هو استخدامه العملی لهذه الصیغة فی تحلیله لسلسلة أساطیر (جیفارو) (Jivaro) فی (الخزّاف الغیور) (The Jealous Potter)، وفیما یلی خلاصة للأُسطورة الرئیسیّة فی هذا الکتاب:

«کان للشمس(3) والقمر نفس الزوجة، وتسمّی أوهو (Aôho) (وتعنی طائر السُّبَد)(4)، الشمس الحارّة القویّة ضحکت من القمر البارد الضعیف، غضب القمر

ص: 173


1- لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا والأُسطورة،ص4. راجع کذلک: لیفی شتراوس، الرجل العاری (The Naked Man): ص634. وألی کونغاس ماراندا وبییر ماراندا، النماذج البنیویّة (Maranda And Maranda، Structural Models): ص28.
2- لمطالعة مناقشة شاملة حول استقبال الصیغة، راجع: سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس. یعلّق سکوبلا علی ملاحظة لیفی شتراوس المقتبسة فی الجملة السابقة بالقول: (سنکون أکثر مَیلاً للنظر - بعین الاعتبار - لتلک الصیغة کبیان مختص-ر بحاجة إلی فکّ رموزها، وربّما تحتوی بالفعل بداخلها أکثر ممّا کان المؤلّف عالماً بما وضع فیها). سکوبلا، هسیود (Scubla، “Hesiod”): ص152، ملاحظة14.
3- تأتی الشمس فی النصّ الأصلی بصیغة المذکّر (المترجم).
4- السُّبَد: طائر إذا قُطر علی ظهره قطرةٌ من ماء جری ... وقیل: السُّبَد طائر مثل العُقاب. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج7، ص107. (المحقق).

وصعد إلی السماء علی شجرة الکرم، وهو ینفخ علی الشمس لیدفعها بعیداً، تسلّقت أوهو خلف القمر، وأخذت سلّةً من الطین کالذی تستخدمه النساء فی صناعة الخزف، قطع القمر الکرمة فسقطت أوهو إلی الأرض، تناثر الطین علی جمیع الأرض، حیث یمکن للرجال العثور علیه، وتحوّلت أوهو إلی طائر السُّبَد، وبعد ذلک تسلّقت الشمس الکَرمة، ولکنّ الشمس والقمر أخذا یتهرّبان من بعضهما البعض، ولم یُرَیا معاً أبداً، من أجل هذا، أصبح رجال الجیفارو (Jivaro) غیورین من أحدهما الآخر وتقاتلوا علی النساء»(1).

وعند تحلیله هذه الأُسطورة مع عددٍ آخر من أساطیر مختلفة، یتساءل (لیفی شتراوس): «ما هی العلاقة بین السُّبّد، الذی یمثّل هنا طائراً غَیوراً أو سبباً للغیرة، وبین النساء اللاتی یأتین هنا لبیان أصل صناعة الخزف؟»(2).

وإحدی الأفکار الرئیسیّة فی هذه الأُسطورة هی الغیرة الزوجیّة، وزیادةً علی ذلک، فإنّ صناعة الخزف تعتبر فی الغالب بأنّها (فنّ الغیرة)، لیس فقط فی ثقافة ال-(جیفارو) (Jivaro)، بل فی جمیع أنحاء العالم.

إنّ فرض الشکل علی الشیء عدیم الشکل هو ممارسة السیطرة علیه؛ أی فرض الثقافة علی الطبیعة وامتلاکها، بالإضافة إلی ذلک، فإنّ التقنیات المتّبعة فی صناعة الخزف مرهفة إلی حدٍّ بعید، وهی بذاتها محاطة ب- (مواقف وطقوس الإقصاء والتی تکون (الغیرة) معادلها الروائی)، وترتبط صناعة الخزف بین الکثیر من الهنود الحمر فی قارّة أمیرکا بالمرأة، التی تکون لها - خصوصاً أثناء فترة حملها - هیأة کالآنیة،

ص: 174


1- لیفی شتراوس، الخزّاف الغیور (The Jealous Potter): ص14-15.
2- المصدر السابق: ص57.

ودورها یکون کالحاویة(1).

ویرتبط طائر السُّبَد بالغیرة؛ ففمه الکبیر یوحی بمشاعر الجشع، وطباعه اللیلیّة وصوته الحزین الموحش، وحقیقة أنّه لا یبنی عشّاً ولا یعیش مع قرین، کلُّ ذلک یبیّن انطوائیّته (أفکار کلّها توحی بنزعة (الغیرة)).

وقد استُغِلّت نزعة الغیرة فی طائر السُّبَد فی کثیرٍ من الأساطیر فی کلِّ أنحاء القارّتین الأمیرکیتین(2)؛ ولهذا یقول (لیفی شتراوس): إنّ هناک علاقة بین المرأة وصناعة الخزف، بین المرأة والغیرة، وبین السُّبد والغیرة.

ولکن ماهو الارتباط بین السّبد وصناعة الخزف؛ أو بعبارةٍ أخری: لماذا یأتی السُّبد فی الأساطیر عند الحدیث عن أُصول صناعة الخزف؟ وللجواب علی هذا السؤال، یستخدم (لیفی شتراوس)الصیغة القانونیّة.

إلی الآن، تمّ تحدید طرفین (المرأة والسّبد) ووظیفتین (الخزافة والغیرة)، وطبقاً للصیغة القانونیّة تکون العلاقة بین هذه الأطراف والوظائف کالتالی:

Fj (G): Fa(W) : : Fj(W): Fg-1(P(

حیث G=طائر السّبد، W=المرأة، J=الغیرة، P=الخزافة.

«بعبارةٍ أخری: وظیفة غیرة السُّبد بالنسبة لوظیفة خزافة المرأة هی کوظیفة غیرة المرأة بالنسبة لوظیفة السّبد المعکوس للخزّاف»(3).

العلاقات الثلاث الأُولی فی المعادلة قد تمّ تعیینها بالفعل، فهناک ترابط بین

ص: 175


1- اُنظر: لیفی شتراوس، الخزّاف الغیور: ص180-181.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص34-47، وص59-69.
3- المصدر السابق: ص57.

السُّبد والغیرة، وبین المرأة والخزافة، وبین المرأة والغیرة. وبما أنّ الأساطیر عادةً تتّبع أُسلوب التحوّل کما فی المعادلة، فإنّه یجب أن تکون هناک العلاقة الرابعة، کما یقول (لیفی شتراوس)، علی الرغم من أنّها لا توجد فی أساطیر ال-(جیفارو) (Jivaro).

وأمّا فی الأساطیر الأُخری لسکان أمیرکا الجنوبیّة، فهناک طائر - والذی هو علی عکس طائر السُّبد - طائر الفرّان (Ovenbird) الذی یعیش فی تآلفٍ مع قرینٍ آخر، ویقوم بأفعاله الیومیّة فی النهار، وله صوت بهیج، ویبنی أعشاشاً جمیلة من الطین.

وخلاصة القول: إنّ لهذا الطائر صفات هی علی العکس تماماً من صفات طائر السُّبد، والواقع - کما یقول (لیفی شتراوس) - هناک أساطیر کثیرة منتشرة بین الشعوب المجاورة لشعب الجیفارو (Jivaro) تحتوی علی طائر الفرّان، وهی (النقیض لأساطیر طائر السُّبَد)(1).

علی أنّ هذا النوع من التحوّل أو (الانعطاف المزدوج: Double Twist)

- المتمثّل بالعنصر الرابع فی المعادلة - یحدث عندما تتجاوز الأُسطورة أحد الحدود، مثلاً أحد حدود اللغة أو الحدّ الثقافی، أو حتّی (حسب ما یتبنّاه فی أحد تحلیلاته ل-(فنّ عمارة الساعة الرملیّة)) التحوّل من مادّة بناءٍ إلی أُخری، هو مسألة غالباً ما طرحها (لیفی شتراوس)(2).

ص: 176


1- اُنظر: المصدر السابق: ص58. لقراءة دراسة شاملة فی تحلیل هذه الأُسطورة یرجی مراجعة: سکوبلا، إقرأ لیفی شتراوس (Scubla، Lire Lévi-Strauss): ص99-104.
2- اُنظر: لیفی شتراوس، تنظیمات الساعة الرملیّة (Hourglass Configurations)، لمشاهدة مثال فی مجال الأُسطورة، راجع علی سبیل المثال: لیفی شتراوس، حکایة الوشق (The Story Of Lynx): ص99-101.

بالإضافة إلی ذلک، فقد ادّعی - فی بعض أمثلته علی الأقلّ - أنّ بعض الأساطیر المتحوّلة بهذه الطریقة تشکّل (نوعاً من مجموعة تحوّلات...)، مع أنّه أحیاناً یطبّق المعادلة علی العلاقة بین الأُسطورة والطقوس، وحتّی علی فنّ العمارة کما بینّا سابقاً(1).

ومع ذلک، فالحقیقة هی أنّه بالرغم من الاستعمال المتکرّر للصیغة القانونیّة فی مؤلَّفات (لیفی شتراوس) اللاحقة، فإنّ کثیراً من خواصّها بقیت خافیة فی ضبابٍ کثیف. عالم الأنثروبولوجیا الفرنسی (لوسیه سکوبلا) (Lucien Scubla) قد حدّد بعضاً من أهمّ تلک العقبات ذات الصلة بالموضوع، ومنها(2):

الأُولی: لم یتمّ تعریف مجال تطبیق المعادلة بصورةٍ وافیة، وتنطبق هذه المشکلة علی نوع المواضیع المستخدمة (الأساطیر، الطقوس، العلاقة بین الأُسطورة والطقس، فنّ العمارة، إلخ)، وکذلک علی شمولیّة تطبیقها (فهل هی - مثلاً - قانون عام کقانون الجاذبیّة لنیوتن، أو عامل منطقی یربط أساطیر من ثقافاتٍ متجاورة ببعضها؟

الثانیة: یستخدم (لیفی شتراوس)هذه المعادلة بصورةٍ خصوصیّة (فردیّة) فقط،

ص: 177


1- اُنظر: لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا البنیویّة (Structural Anthropology): ص228. راجع أیضاً: لیفی شتراوس، من العسل إلی الرماد (From Honey To Ashes): ص248-249. ولیفی شتراوس، حکایة الوشق: ص104. حول تطبیقات العلاقة بین الأُسطورة والطقوس، راجع: لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا والأُسطورة (Anthropology And Myth): ص113-117، وحول تطبیقها علی مجموعة من الطقوس ذات الصلة، راجع: لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا والأُسطورة: ص190.
2- اُنظر: سکوبلا، هسیود (Hesiod): ص124-125. توجد دراسة شاملة لهذه العقبات وعقبات أُخری لها علاقة بالموضوع فی کتاب: سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص115-121.

وأمّا تطبیقها العام فلم یتمّ التطرّق له أبداً، وفی کلِّ مرّةٍ یقوم بتطبیق هذه الصیغة یتمّ استخدام جزء صغیر من المادّة (الموضوع) الموجودة، ولم یَرِدْ أبداً بیان السبب فی اختیار هذا الجزء من بین کلِّ المعلومات الموجودة، وفضلاً عن ذلک، فإنّ عدّة صیغ مختلفة للمعادلة تأتی دون أن تُعطی الأسباب فی تفضیل إحداها علی الأُخری.

الثالثة: لا یمکن لأی من تطبیقات المعادلة أن یکون مُقنِعاً من حیث إنّه «یؤسّس علاقة غیر قابلة للجدل بین الصیغة القانونیّة والموادّ التجریبیّة التی یُفترَض أن تکون مرتبطة بها»(1).

علی أیّة حالٍ، الحقیقة التی تقول: إنّ الصیغة بقیت تُلهِم (لیفی شتراوس) فی کلِّ أعماله حول الأُسطورة، وأنّها تواترت فی الثمانینیّات بعد غیابٍ عن النشر لحوالی عقدین من الزمان - مع أنّ (لیفی شتراوس)یؤکّد أنّها کانت تُلهِمه باستمرار- تصبح ذات قیمة عند إلقاء نظرةٍ أدقّ علیها، ورؤیةٍ ما إذا کان یمکنها أن تضیف إدراکاً أعمق إلی تفکیره، وفیما إذا کان یمکنها أن تقدّم لی عوناً ما فی تحلیلی لأحداث کربلاء.

علاوةً علی ذلک، فقد حدثت عدّة محاولات ناجحة لتأویل وتطبیق هذه الصیغة بطریقة أکثر عموماً بعد (نهضتها) عند نشر محاضراته عام (1984م)(2)، و(الخزّاف الغیور) فی العام الذی تلاه.

أخذت معظم تلک التأویلات نقطة انطلاقتها فی الدراسة من سنة (1971م)،

ص: 178


1- سکوبلا، هسیود: ص125.
2- اُنظر: لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا والأُسطورة.

بواسطة عالِمَی الأنثروبولوجیا ألی (کونغاس ماراندا) (Elli Köngäs Maranda) وبییر ماراندا (Pierre Maranda)، حیث قاما بتطبیقها لیس علی الأساطیر ولکن علی أنواعٍ من الحکایات والأحجیات الفولکلوریّة الأقل تعقیداً(1).

بدأ هذان الشخصان، من خلال المقارنة مع القیاس التخطیطی المشترَک الذی یوجد فی صیغتین هما: (القیاس المستمر)، A: B: : B: C (حیث علاقة A إلی B ک- علاقة Bإلی C)، و(القیاس المنقطع) A: B: : C: D (حیث A إلی B ک- C إلی D)- ببیان أنّ الصیغة القانونیّة یمکنها أن «تقنّن الانعطافات (التغیّرات الغریبة) فی الأساطیر....»(2)، إضافةً لذلک، «فإنّ صیغة لیفی شتراوس: (Fx(a):Fy (b) : : Fx (b) : fa-1 (y(

ینبغی أن تُفهَم علی أنّها التشبیه لعملیّة وساطة، حیث إنّ بعض الأدوار الدینامیکیّة (الفاعلة) فیها تُجَسَّد بصورةٍ أکثر دقةً ممّا فی النموذج البسیط للقیاس»(3).

فی التأویل الذی قدّمته (ألی کونغاس ماراندا) (E. Köngäs Maranda) و(بییر ماراندا) (P. Maranda)، تبدأ الصیغة ببیان تناقضٍ بین الأطراف (A) المقیّدة بالوظیفة (X) و(B) المقیّدة بالوظیفة (Y) فی الجانب الأیسر من المعادلة. أمّا فی الجانب الأیمن، فإنّ (B) یستولی علی الوظیفة (X)، «وهکذا، فإنّ (B) مخصّص بالتناوب لکلتی الوظیفتین؛ وبهذا یمکنه أن یکون وسیطاً بین المتناقضات»(4).

ص: 179


1- ألی کونغاس ماراندا وبییر وماراندا، نماذج بنیویّة (Maranda And Maranda، Structural Models).
2- المصدر السابق: ص26.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

وبتحدیدٍ أکثر، فإنّ العنصر (A) غالباً ما یخصَّص بالوظیفة السالبة (X)، وبهذا یصبح الشخصیّة السیّئة، أو الوغد فی القصّة.

وفی الجانب الآخر، فإنّ العنصر (B) مخصّص بالوظیفة الإیجابیّة (Y)، وبهذا یصبح البطل باتّخاذ الوظیفة السلبیّة (X)، وتوجیهها ضد الوغد (A)، ستصبح (B) الوسیط فی القصّة.

ومن الممکن التحوّل بین الوظیفتین، وتوجیه الوظیفة السلبیّة ضدّ الشخصیّة السیّئة، هذه العملیّة (تقود إلی (نصر) أکثر کمالاً وتبدأ من (تدمیر) العنصر (A)، ویقیناً سترسّخ القیمة الإیجابیّة (Y) للمحصّلة النهائیّة...لنقُل مجازاً: إنّ قلب الخسارة (إلی نقیضها) التی تبیّن التأثیر الحقیقی للقوّة السلبیّة لیس فقط خسارة عدیمة القیمة أو تعویضاً للخسارة، بل هو کسب، ولذلک -Fa(y-) (Fx(B (1).

ویمکن القول بعبارةٍ أُخری: إنّ انتصار الخیر (Y) علی الشرّ (X) یعطی (Y) قوّةً أعظم بکثیرٍ ممّا کانت لها قبل الصراع بین (A) و(B). بهذا تبیّن الصیغة عملیّةً تکون فیها العناصر الثلاثة الأُولی مؤدّیةً إلی النتیجة المُبیَّنة فی العنصر الرابع، والنتیجة أعظم من البدایة.

وفیما یلی رسم توضیحی للعملیّة فی المخطط 3: 2، والذی یبیّن الطریق من العنصر الأوّل للصیغة القانونیّة حتّی العنصر الأخیر، من خلال وساطة (B) الذی یؤدی بالقیمة السلبیّة (X) إلی الفناء، ویقود القیمة الإیجابیّة (Y) إلی التقدّم.

ص: 180


1- اُنظر: ألی کونغاس ماراندا وبییر وماراندا، نماذج بنیویّة: ص26-27.

المخطط 3: 2، (النموذخ البصری) الذی طرحته ألی کونغاس ماراندا (E. Köngäs Maranda) وبییر ماراندا (P. Maranda) فی تأویلهما للصیغة القانونیّة.

یعلّق (سکوبلا) علی هذا التأویل للصیغة القانونیّة بالقول: «مع أنّه یتطلّب التوضیح، إلّا أنّ تأویل (ألی کونغاس ماراندا) (E. Köngäs Maranda) و(بییر ماراندا) (P. Maranda) هو الأکثر إقناعاً فی مبدئه من حیث إنّه مؤسَّس علی عبارات نظریّة، والتی هی إمّا صریحة وإمّا ضمنیّة فی کتابات (لیفی شتراوس)، والتی طُرِحت بذلک لتکتسب درجةً من الانسجام خالیةً من الریبة، ویبیّن هذا التأویل الصلة القریبة بین النصّ الأساس لسنة (1955م)، والنموذج البصری للتحوّلات الأُسطوریّة التی یذکرها (لیفی شتراوس) فی نهایة دراسته ل- (قصّة أسدیوال) (The Story Of Asdiwal)....»(1).

وفی الوقت نفسه، هناک فرق واضح بین استخدام (لیفی شتراوس)للصیغة

ص: 181


1- سکوبلا، هسیود: ص138. راجع أیضاً کتاب سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص141-142. "النصّ الأساس" المشار إلیه فی الفقرة المقتبَسة هو هذه المقالة: الدراسة البنیویّة للأُسطورة (The Structural Study Of Myth) من کتاب لیفی شتراوس: الأنثروبولوجیا البنیویّة: ص206-231. استخدام لیفی شتراوس ل-"النموذج البصری" المشار إلیه یوجد فی کتابه: الأنثروبولوجیا البنیویّة: 2، ص 188.

القانونیّة وتأویلها الذی قدّمته (ألی کونغاس) و(بییر ماراندا) (P. Maranda)؛ إذ یعتقد الأوّل أنّها تصف دورةً من التحوّلات بین عددٍ من الأساطیر (وهذا یصدق أیضاً علی تطبیق (النموذج البصری) فی (قصّة أسدیوال))، بینما الآخران یطبّقانها علی التحوّلات التی تحدث ضمن الأُسطورة الواحدة.

ویعتقد ) سکوبلا - علی أیّة حالٍ - أنّ (لیفی شتراوس) لیس واضحاً فی هذه المسألة، علاوةً علی ذلک، یبدو أنّها نفس آلیّة التمییز المستخدَمة من جهة لخلق وتأیید الاختلاف الضروری ضمن الأُسطورة الواحدة أو الثقافة الواحدة، ومن جهةٍ أُخری لیؤکّد التباین الکافی بین الثقافات أو المجتمعات من خلال أساطیرها الخاصّة بها، حسب سکوبلا، فإنّ هذا سیوضّح السبب الذی یجعل الصیغة قابلة للتطبیق علی الحالتین کلتیهما(1).

ویعتقد سولومون مارکوس (Solomon Marcus) أیضاً أنّ الصیغة قابلة للتطبیق ضمن الأُسطورة الواحدة، وبین الأساطیر المختلفة علی حدٍّ سواء، وهو یری أنّ الصیغة ینبغی أن تُقرأ علی أنّها (قصّة أساسیّة)(2)، حیث یمکن القول: إنّ الأُسطورة مختزَلة إلی شکلها المجرّد إلی أبعد حدٍّ، حیث تعتمد عناصرها الواحد علی الآخر، ویجب أن تأتی فی التسلسل الصحیح حتّی تکون ذات معنی(3). من جهةٍ أُخری یقول: إنّ هناک أوقاتاً یختلف فیها تسلسل الأُسطورة عن ذلک المفترَض فی الصیغة القانونیّة.

ص: 182


1- اُنظر: سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص142.
2- اُنظر: مارکوس، الصیغة القانونیّة (Marcus، “Canonic Formula”): ص151.
3- ا ُنظر: مارکوس، الصیغة القانونیّة: ص136-137.

«ویحدث هذا فی الغالب عندما تدخل نسخ مختلفة لأُسطورةٍ ما بصورةٍ مؤثّرة فی التحلیل - یبدو إلی حدٍّ بعید أنّ (لیفی شتراوس) هو الأُستاذ الوحید فی هذا المشروع - ...، وفی مقابل تحذیر (لیفی شتراوس) من تأویل الصیغة القانونیّة بشأن جمیع النسخ المختلفة للأُسطورة، فإنّ أکثر تطبیقات الصیغة القانونیّة المقترَحة مرتبطة إلی حدٍّ بعید بنسخ مستقلّة بذاتها، کما أنَّ الانتقال من بُعدین إلی ثلاثة أبعاد - (الحکایة)، (الاکتشاف البنیوی) [لأفکار الأُسطورة]، (مجموعة النسخ) - یبدو صعباً...»(1).

وفی الحقیقة، فإنّ (لیفی شتراوس) نفسه قد أقرّ فی تعلیقٍ له علی مقالة مارکوس بأنّ استخدامه للصیغة القانونیّة یتضمّن خاصیّة التغیّرات اللغویّة مع مرور الزمن، والنسخة الأخیرة فی مجموعة التحوّلات والتی یمثّلها العنصر الرابع فی الصیغة تتّصل بحادثةٍ حدثت فی وقتها، متجاوزاً حدود اللغة أو الثقافة، إلخ. ولهذا یقول: «ربّما یدرک أحدنا تغیّرات اللغة عبر أحد طریقین: إمّا کما هو مکتوب فی الفترة الزمنیّة الداخلیّة لروایةٍ معیّنة (Le Temps Du Récit)، أو من نصوص عدّة روایات مترابطة فی فترة زمنیّة خارجیّة Le Temps Historique)»(2).

وبالرغم من تأکید (لیفی شتراوس) أنّه لم تکن لدیه نوایا تخصّ الریاضیّات فی صیغته، فقد تولّی بعض علماء الریاضیّات تأویلها مع الوصول إلی نتائج إیجابیّة جدّاً، وأکّد جمیعهم عدم تناسقها والممیّزات الأساسیّة فی تأویل ألی کونغاس وبییر

ص: 183


1- المصدر السابق: ص153-154. الأقواس المربّعة وردت فی الأصل.
2- لیفی شتراوس فی رسالةٍ إلی مارکوس مقتبسة فی (کتاب) ماراندا، الخاتمة (Conclusion): ص314. راجع أیضاً تعلیقة لیفی شتراوس علی مقالات ماراندا، الانعطاف المزدوج (Double Twist): ص313.

ماراندا P. Maranda)(1).

سوف لن أدخل فی مناقشة التحلیلات الریاضیّة للصیغة القانونیّة؛ فهذا لیس من تخصّصی، ولکن سأتحوّل عوضاً عن ذلک إلی تأویل لوسیه سکوبلا (Lucien Scubla)، باعتباره أحد علماء الأنثروبولوجیا، حیث یبدأ من قراءة ألی کونغاس وبییر ماراندا (P. Maranda) للصیغة القانونیّة، ویتوسّع فیها کثیراً فی ضوء نظریّة تغیّر البنیة (Morphogenetic Theory) التی أوجدها رینیه توم (René Thom)، وطوّرها جان بیتیتوJean Petitot)(2).

ص: 184


1- سولومون مارکوس، وهو نفسه عالم ریاضیّات معروف، یدّعی أنّ لیفی شتراوس هو واحد من علماء الاجتماع القلائل الذین فهموا أنّ "علماء الریاضیّات المعاصرین لم تعد تسیطر علیهم فکرة المقادیر کما فی الماضی، ولکن فکرة البنیة...." (مارکوس، "الصیغة القانونیّةCanonic Formula": ص118). الریاضی الفرنسی جان بیتیتو (Jean Petitot)، الذی هو أحد تلامیذ رینیه توم (René Thom) مؤسّس نظریّة الفاجعة (Catastrophe) فی الریاضیّات، قد ناقش الصیغة من خلال هذه النظریّة (بیتیتو، "مقدّمة إلی التشکّل الدینامیکی (Approche Morphodynamique)"). عند العمل من منظار نظریّة المجموعة، أثبت الریاضی الأمیرکی جاک مورافا (Jack Morava) أنّ الصیغة القانونیّة تمثّل مجموعة رباعیّة من نظام الثمانیة التی هی مجموعة ریاضیّة غیر تبادلیّة (Non-Commutative)، بالمقارنة مع مجموعة کْلَیْن (Klein) (والذی یستخدمها لیفی شتراوس أحیاناً). یقول مورافا: إنّ السبب فی الدرجة الأُولی وراء عدم إعطائها قیمة من قِبَل الریاضیّین سابقاً هو أنّ علماء الأنثروبولوجیا وعلماء الریاضیّات کانت لدیهم صعوبات فی فهم بعضهما الآخر. (مورافا، حول الصیغة القانونیّة للیفی شتراوس (On The Canonical Formula Of C. Lévi-Strauss). (مقالة إلکترونیّة)، (Arxiv.Org، 11 June 2003) (اقتُبِست فی 17 نیسان 2006)؛ توجد علی الموقع: (http: //Arxiv.Org/PS_Cach/Math/Pdf/O3O6/0306174.Pdf.) وأنا ممتنّ للوسیه سکوبلا علی هذا المصدر.
2- لمطالعة خلاصة عن نظریّة "الفاجعة" (Catastrophe Theory) لرینیه توم (René Thom) وتطبیقاتها علی البنیویّة، یُرجی مراجعة کتاب: بیتیتو، التشکّل (التخلّق) (Morphogenesis). لمشاهدة تطبیق مباشر لهذه النظریّة علی الصیغة القانونیّة، یرجی مراجعة کتاب: بیتیتو، مقدّمة إلی التشکّل الدینامیکی (Approche Morphodynamique). لمطالعة خلاصة وتقییم لعمل بیتیتو، یرجی مراجعة: سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص201-293.

حسب سکوبلا إذاً الصیغة تصف الطریقة التی تتطوّر بها الأساطیر - کما سنری لاحقاً - وکیف یتمّ ذلک فی علاقتها مع الطقوس(1). ویقول کذلک: إنّ الصیغة لا تبیّن الوساطة الإیجابیّة فقط، بل الوساطة السلبیّة أیضاً، أی التفریق بین الوحدة الأصلیّة المتّصلة بالإضافة إلی ضمّ وحدتین متباینتین، وعملیّة التفریق هذه - بالطبع - نموذجیّة لجمیع الأساطیر المتعلّقة بنشأة الکون، التی تصف الطریق منذ وحدة الکون المتباین قبل تفرّقه حتی وقتنا الحاضر، وبعد تحلیل اثنین من أساطیر البورورو (Bororo) (2)، یستنتج (لیفی شتراوس) ما یلی:

«یبدو أنّ الأُسطورتین معاً، تشیران إلی ثلاثة میادین کلُّ واحدٍ منها کان فی الأصل متّصلاً، ولکن عدم الاتّصال یجب أن یُقدَّم من أجل أن تکون لکلِّ واحدٍ منها فکرة ما، فی کلِّ واحدةٍ من الحالات یتمّ القطع بواسطة: الحذف الجذری (The Radical Elimination) لمقطعٍ معیّن من الوحدة المتّصلة»(3).

(الحذف الجذری) الذی یتحدّث عنه (لیفی شتراوس) فی هذا المقطع قد تمّ توضیحه شکلیّاً حسب سکوبلا بالتحوّل التالی: A-A-1.

ص: 185


1- اعتمد هذا البحث حول تأویل سکوبلا للصیغة القانونیّة علی کتاب سکوبلا: اقرأ لیفی شتراوس: ص139-161، وص185-197. وکتابه: هسیود.
2- البورورو: هم قوم من الهنود الحمر فی أمیرکا الجنوبیّة، یعیشون فی منطقة محدودة من البرازیل. (المحقق).
3- لیفی شتراوس، النیّء والمطبوخ (The Raw And The Cooked): ص52.

یحدث هذا فی الأساطیر عادةً عندما یتمّ إعدام مخلوق شرّیر بقسوة(1)، علاوةً علی ذلک، الفقرة من Fy(B) إلی Fx(X) ینبغی - کما یقول سکوبلا - ألّا تُبیَّن کثیراً فی مصطلحات الوساطة، کما فی عدم التباین أو العدوی.

بعبارةٍ أُخری: یمکن وصف هذه العملیّة کانتقالة من تضادٍ بین خاصّیتین متمیّزتین (X) و(Y)، یحملهما عاملان مختلفان (A) و(B) إلی تلوُّثٍ عابر ل- (B) بواسطة (X)، ویمکن رسم هذا کما یلی:

Fx(A)/Fy(B) ®Fx(A) وFx(B)

أو کما یلی ببساطة، لو ذُکِرت الوظائف فقط:

X/Y ® X.

هذه العملیّة (یمکن أن تُلغی وتُعکَس بحذف طرف غیر مرغوب فیه (أی العملیّة A®A-1))((2).

یقترح سکوبلا نسخة مبسّطة للصیغة القانونیّة التی یجب أن تُقرأ بحالتین، کمعادلة استاتیکیّة(3)):

A: B: : M: X

وکعملیّة:

A/B® M® X

ص: 186


1- اُنظر: سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص143.
2- اُنظر: سکوبلا، هسیود،ص139. راجع أیضاً: سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص143.
3- المعادلة الاستاتیکیّة تعنی المعادلة التفاضلیة فی علم الریاضیات. (المحقق).

حیث العناصر فی أقصی الیسار، A/B، تشیر إلی التضادّ الثنائی بین العنصرین A وB، کما هی محدّدة بالوظیفتین X وY. العنصر الثالث: M، یشیر إلی الوساطة أو عدم التشکّل، حیث B قد استولی علی الوظیفة X للحظةٍ ما، والعنصر الرابع: X بالنسبة للنتیجة، یحتوی علی تشکّل بینما تمّ حذف: A وترقیة: Y(1).

النسخة الاستاتیکیّة للصیغة یمکن أن تُقرَأ کنوعٍ من القیاس، حیث تکون کما یلی: (حیث إنّ A مناقِضة ل- B؛ لذا تکون M مناقِضة ل- X)، والتی تبیّن «النزعتین المتعارضتین تجاه التشکُّل وعدم التشکُّل دائماً عند العمل فی الفکر الإنسانی والمجتمعات الإنسانیّة»(2).

إحدی النقاط المهمّة فی تأویل سکوبلا هی أنّ العنصر الرابع فی الصیغة لا یمثِّل النهایة الکلیّة لعملیّة التشکّل، بل نتیجة دورة واحدة من التحوّل، والتی بدورها تولِّد دورةً جدیدة من التحوُّلات. وهذا یمکن أن یوضع فی مخططٍ کالتالی:

التباینات (A/B) ¬ عدم التشکّل (M) ¬النهایة المتشکّلة (X)

حیث X تصبح نقطة البدایة لدورة جدیدة من التبدُّلٍ الأساسی:

ص: 187


1- اُنظر: سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص143؛ سکوبلا، هسیود: ص139. من المهمّ ملاحظة أنّ حرف ال- (X) الکبیر فی المعادلة لا یشیر إلی الوظیفة (X) فی نسخة لیفی شتراوس من الصیغة القانونیّة، ویستخدم سکوبلا العلامة (X) فی نسخته المبسّطة "من أجل أن یعطی تأثیراً تصویریّاً للنموذج البصری للانعطاف المزدوج؛ لأنّ هذا العنصر یخصّ بصورة أساسیّة المجهول. اُنظر: سکوبلا، هسیود: ص141.
2- سکوبلا، هسیود: ص141.

یواصل سکوبلا قوله: «لو افترضنا أنّ کلَّ حکایةٍ أُسطوریّة تمیل إلی وصف جزءٍ ثابت من الناحیة البنیویّة من هذه العملیّة الدوریّة، عندئذٍ یمکننا أن نفهم أنّ المجموعة الکاملة لهذه الحکایات ربّما تبدو علی أنّها قد رُکِّبت من نسخٍ مختلفةٍ لنفس الأُسطورة الواحدة، وأنّ تلک النسخ المختلفة ربّما بدورها قد تمّ ترتیبها - کما وضعها (لیفی شتراوس) فی استعمالٍ غیر تقلیدی فی القاموس الریاضی - فی سلسلةٍ تکوّن نوعاً من مجموعة التحوّلات الأساسیّة، والنسختان اللتان وضعتا فی الطرفین المتباعدین باعتبارهما متماثلتین، مع أنّ علاقة إحداهما متعاکسة مع الأخری»(1).

ینبغی أن تُعرَض الصیغة القانونیّة کالتالی:

La Loi Génétique Du Myth، Et… Le Modèle D’un Processus Orphodynamique.(2)

قد أُوّلت هذه العبارة لتعنی أنّ الصیغة تصف:

أوّلاً: العملیّة التی تُصاغ بها الأساطیر. ثانیاً: البنیة العمیقة لهذه القصص.

بل یذهب سکوبلا أبعد من ذلک، ویربطها بنظریّة التشکُّل (Morphogenetic Theory) للطقوس فی علاقتها مع الأساطیر. التضحیة (تقدیم القرابین) هی: - حسب ما یقول - نوع من الطقوس التی یتمّ فیها (المحو الجذری) للشیء غیر المرغوب فیه (الشرّ)، ویقدِّم مثالاً علی ذلک بمناقشة الصلة بین الأُسطورة

ص: 188


1- المصدر السابق: ص140-141، بالاقتباس من: لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا البنیویّة: ص223. راجع کذلک: سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص191-192.
2- سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص190.

والطقوس فی الیونان القدیم، حیث الأُسطورة الهسیودیّة(1) حول السلالات (الأعراق)، التی یمکن أن تُؤَوَّل بأنّها ترتبط بطقوس کبش الفداء Pharmacos)(2)، خلال هذه الطقوس ینقلب المجتمع عن بکرة أبیه رأساً علی عقب، وتُنتهَک کلُّ القواعد الاجتماعیّة، وفوق ذلک، یفرّغ الملک جمیع الصفات السیّئة الموجودة فی شخصیّته فی رجلٍ یصبح صورته السلبیّة المعکوسة (کما فی المرآة)، وهو کبش الفداء؛ وبهذا یصبح الأخیر النقیض للملک الطیّب، والذی یُفترَض أن یکون الحاکم فی العصر الذهبی فی أُسطورة السلالات لهسیود، أی النقیض الحقیقی للملک (فی الصیغة القانونیّة المتمثّل ب- A-1، أو کما فی تأویل سکوبلا، King-1). عند انتهاء الطقوس، یُنفی کبش الفداء أو یُقتَل، وبهذا یتمّ تطهیر المجتمع وتمییز المزیج الخطر للفضیلة (Dikè) والرذیلة (Hubris)، الذی یکون سائداً حتی ذلک الحین، ویُستتَبُّ النظام ثانیةً، ویُعاد تنصیب الملک الشرعی مرّةً أُخری.

وفی هذا السیاق، ینبغی أن یُقرأ نموذج سکوبلا کالتالی: ابتداءً، الرذیلة (Hubris) والفضیلة (Dikè) تناقض إحداهما الأُخری (A/B)، کلّما یتطوّر المجتمع تختلط الرذیلة والفضیلة (M)؛ لتُنتِج موقفاً خطیراً، حیث لا یمکن الفصل بین

ص: 189


1- نسبة إلی هسیود، وهو من أوائل الشعراء الإغریق المعروفین، عاش فی القرن الثامن قبل المیلاد. (المحقق).
2- اُنظر: سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص154-161. سکوبلا، هسیود. لسوء الحظ أنّ هذه المناقشة طویلة جدّاً ومعقّدة، حیث لا یمکن تلخیصها بصورة وافیة، وهنا أعطینا خلاصة قصیرة فقط لا یمکنها أن تفی بحقّها.

الخیر والشرّ، وهنا یتطلّب التمییز بینهما (X)، وبینما تمّ التلمیح فقط لذلک فی أُسطورة السلالات لهسیود، ففی طقوس ال- (Pharmacos) یتحمّل کبش الفداء لوحده جمیع الصفات السیّئة للمجتمع (X)، ثمّ یُقتل أو یُنفی، وبهذا یُعاد تنظیم المجتمع مرّةً أُخری، «الطریق معکوس فی الصیغة من العنصر الرابع إلی العنصر الأوّل»(1)).

إذاً؛ حسب سکوبلا، تُظهِر الصیغة القانونیّة کیف أنّ الأُسطورة والطقوس مرتبطة إحداهما بالأُخری، وبالمقارنة مع مارکوس، الذی یری أنّ الصیغة (القانونیّة) هی: «قصّة أساسیّة قادرة أن تستولی علی مجموعة کاملة من القصص المستقلّة»، و«قائمة علی مستویً آخر من التجرّد والعمومیّة، غیر النُسخ المختلفة المستقلّة للأسطورة»(2). یقول سکوبلا: إنّه فی مسألة أُسطورة السلالات لهسیود، علی الأقلّ،

L’application Do La Formule Canonique…Est Donc Bien Plus Qu’une Anscription Sténographique De Son Contenu، Elle Le Rattache Au Ritual Royal Et Met Au Jour Le Mécanisme Victimaire Qui Leur Est Sous-Jacent.(3)

ص: 190


1- سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص158-161. سکوبلا، هسیود: ص146-150.
2- مارکوس، الصیغة القانونیّة: ص151.
3- سکوبلا، حول اثنین من التطبیقات (Sur Deux Applications). أُقدّم شکری للوسیه سکوبلا علی إعطائی هذه المقالة غیر المنشورة، والسماح لی بالاقتباس منها.

یتحقّق هذا الارتباط بین الأُسطورة والطقوس، والذی وجده سکوبلا ضمنیّاً فی کثیر من کتابات (لیفی شتراوس) المتأخّرة، علی الرغم من تأکیداته الشدیدة فی الکثیر من أعماله المبکّرة علی وجوب الفصل بین الأُسطورة والطقوس، هو - فی نظری - واحد من أهمّ الجوانب الممتعة فی تأویل سکوبلا للصیغة القانونیّة.

فی هذا الکتاب، سأتعامل بصورة أساسیّة مع الجانب الأُسطوری فی أحداث کربلاء، وسأتطرّق بصورة عابرة فقط إلی ارتباطها مع شعائر عاشوراء، أو کما تسمّی شعائر محرّم، وتطبیق نموذج سکوبلا علی هذا المرکّب من الأُسطورة والطقوس(1).

آراء منهجیّة أُخری

قبل الدخول فی المنهج المتّبَع فی هذه الدراسة، هناک مسألتان فی منهج (لیفی شتراوس) الذی ینبغی أن نتوسّع فی بحثه:

المسألة الأُولی: رأینا فیما سبق أنّ فکرة (لیفی شتراوس) هی أنّ الأُسطورة بیان نحوی (إعرابی) للبنیة الذی یمکن أن یُکتشَف فقط عندما یُعاد ترتیبه فی صیغةٍ صرفیّة، فی مقالةٍ تحت عنوان: الدراسة البنیویّة للأُسطورة، إذ یوضّح منهجه کالتالی:

(لِنَقُل، علی سبیل المثال، أننا کنّا فی مقابل سلسلة من هذا النوع: 1، 2، 4، 7، 8، 2، 3، 4، 6، 8، 1، 4، 5، 7، 8، 1، 2، 4، 5، 7، 3، 4، 5، 6، 8...، والواجب هو وضع کلِّ الواحدات (أو أعداد الواحد) معاً، وکذلک الاثنینات، والثلاثات، وهکذا؛ والنتیجة سیتکوّن هذا الجدول:

ص: 191


1- راجع الصفحات التالیة.

1

2

4

7

8

2

3

4

6

8

1

4

5

7

8

1

2

4

5

7

3

4

5

6

8(1)

الفرضیّة هی: أنّ کلَّ الواحدات (تُظهِر میزةً مشترکة واحدة)(2)، وکلَّ الاثنینات میزةً أُخری، وهکذا عند وضعها معاً، وتحلیل کلِّ واحدٍ من الأعمدة من خلال علاقته مع الأعمدة الأُخری، یمکن فهم معنی الأُسطورة بصورةٍ أفضل.

وکما بیّنت سابقاً، لم یعتبر (لیفی شتراوس) الأساطیر کقصص مستقلّة، بل إنّها تشکّل مجموعاتٍ من التحوّلات، و«لو أنّ أسطورةً ما مکوّنة من جمیع نسخها المختلفة، فینبغی علی التحلیل البنیوی أن یأخذها جمیعاً بالحسبان» (3)، وألّا یُطبَّق أُسلوب إعادة ترتیب النظام النحوی فی نظامٍ صرفی علی کلِّ نسخةٍ منفردة من الأُسطورة فقط، ولکن علی جمیع النسخ المختلفة التی تتطلّب مقارنتها الواحدة مع الأُخری من أجل الوصول إلی المعنی(4).

ص: 192


1- لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا البنیویّة: ص213 (الحذف فی الأصل).
2- اُنظر: المصدر السابق: ص215.
3- المصدر السابق: ص217.
4- اُنظر علی سبیل المثال: تحلیل أُسطورة أسْدیوال. لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا البنیویّة2: ص146-197).

یری (لیفی شتراوس) أنّه لا توجد هناک نسخة موثوقة أو حقیقیّة للأُسطورة التی یمکن أن یبدأ بها الشخص تحلیله، فمن الناحیة النظریّة - علی الأقلّ - یمکن لکلِّ نسخةٍ أن تشکّل نقطة مناسبة للشروع؛ لأنّه فی النهایة سیکون علی الشخص مواجهة جمیع الأساطیر فی مجموعة التحوّلات بأیِّ حالٍ، ویستخدم (لیفی شتراوس) مصطلح (الأُسطورة المفتاحیّة (الحاسمة)) أو (الأُسطورة المرجعیّة)؛ لیشیر إلی الأُسطورة الأُولی التی یتمّ تحلیلها(1).

المسألة الثانیة التی ینبغی التأکید علیها هی: إنّ التحلیل البنیوی لا یحدث فی الفراغ أبداً، فبناء الأُسطورة یحکی شیئاً عن الثقافة التی تحیا فیها الأُسطورة، وهو بالتالی تعبیر عن کیفیّة رؤیة أهل تلک الثقافة لعالَمهم؛ لهذا السبب یقول (لیفی شتراوس): إنّ علی التحلیل البنیوی دائماً الأخذ بعین الاعتبار الوصف الأثَنی (Ethnography)(2) وتاریخ ذلک الشعب، فهو عند تحلیله أساطیر شعبٍ ما، یشیر باستمرار إلی معتقدات ذلک الشعب وعاداته واقتصاده وبنیته الاجتماعیّة، وحتّی عادات وأشکال الحیوانات والنباتات التی یحتکّ بها ذلک الشعب؛ فمن أجل معرفة السبب وراء استخدام هذا الحیوان أو النبات فی الأُسطورة بدلاً من ذاک، وما هی خصائص ظاهرةٍ کونیّة معیّنة تجعل ذلک الشعب ینظر لها من خلال ارتباطها بعادةٍ معیّنة عنده، أو بالنسبة لحیوانٍ بعینه، علی الشخص أن یعرف جیّداً

ص: 193


1- اُنظر: لیفی شتراوس، الأنثروبولوجیا البنیویّة: ص218. لیفی شتراوس، النیّء والمطبوخ: ص1-6. اُنظر أیضاً: لیفی شتراوس وأریبون، محادثات (Lévi-Strauss And Eribon، Conversations): ص134-135.
2- فرع من الأنثروبولوجیا (علم الأعراق أو الأجناس البشریّة). (المحقق).

الوصف الأثنی [علم الأعراق] (1) لذلک الشعب والتاریخ الطبیعی لبیئته(2).

وفی هذه الدراسة سأخرق إحدی القواعد الأساسیّة فی بنیویّة (لیفی شتراوس)، وهی: اعتبار الأُسطورة کوحدة کاملة لنُسَخها المختلفة وتحلیلها جمیعاً. وأقوم فی هذه الدراسة بدلاً عن ذلک بتحلیل نسخة واحدة فقط من أحداث کربلاء، فهناک فقرة ل-(لیفی شتراوس) یمکن أن تُؤخذ کتبریر لهذا المنهج، یقول فیها:

(کلُّ سلسلةٍ نحویّة، باعتبارها مجرّدة فی نفسها، یجب أن یُنظَر إلیها علی أنّها بدون معنیً... ومن أجل التغلّب علی هذه المشکلة، یمکننا فقط أن نلجأ إلی إجرائین:

الإجراء الأوّل: یکمن فی تقسیم السلسلة النحویّة إلی أجزاء متطابقة وفی إثبات أنّها تشکّل نُسَخاً مختلفة لفکرةٍ واحدةٍ بعینها (اُنظر: (الدراسة البنیویّة للأسطورة) و(قصّة أسدیوال).

أمّا الإجراء الآخر، والذی هو تتمّة للأوّل، فیکمن فی مطابقة السلسلة النحویّة بأکملها - بعبارةٍ أُخری، أُسطورة کاملة - مع أساطیر أُخری أو أجزاء من تلک الأساطیر. ویتبع هذا إذاً أنّه فی الحالین کلیهما نقوم باستبدال سلسلة نحویّة (ترکیبیّة) بأُخری صرفیّة (بکاملها)؛ الفرق یکمن فی أن الحالة الأُولی [تُشتَقّ فیها]

ص: 194


1- بین المعقوفتین من المحقّق.
2- کتابات لیفی شتراوس ملیئة جدّاً بهذه التوصیفات، حیث من السهولة أن تفتح أیّاً من کتبه کیفما اتّفق، لتأتی علی وصفٍ من تلک الأوصاف، ولکن علی سبیل المثال راجع کتابه: النیّء والمطبوخ: ص3، والأنثروبولوجیا البنیویّة: ص2، ص147-149.

المجموعة الصرفیّة برمّتها من السلسلة، وأمّا فی الحالة الثانیة تکون السلسلة هی التی تُدمَج فیها. ولکن فیما إذا کان الکلُّ مرکّباً من أجزاء السلسلة، أو أنّ السلسلة نفسها داخلة کجزء، فإنّ القاعدة ستبقی هی نفسها.

السلسلتان النحویّتان (أو المرکّبتان) أو الجزءان من نفس السلسلة، اللذان لا یحتویان معنیً محدّداً إن تمّت ملاحظتهما بمعزلٍ عن الآخر، یکتسبان - ببساطة - معنیً من حقیقة أنّهما قطبان متناقضان، وحیث إنّ المعنی یصبح واضحاً فی اللحظة المناسبة عندما یتشکّل الاثنان، فهو [کما لو أنّه] لم یکن موجوداً من قبل، خافیاً ولکنّه موجود، کبعض البقایا غیر الفاعلة فی کلِّ أُسطورةٍ أو جزء من أُسطورة عند اعتبارها منفصلة عن الأُخری.

ویکمن المعنی کلیّاً فی العلاقة الدینامیکیّة التی تخلق بصورة متزامنة عدّة أساطیر أو أجزاء من نفس الأُسطورة، وکنتیجة لذلک تکتسب هذه الأساطیر أو أجزاء من الأساطیر وجوداً منطقیّاً، وتحقّق إنجازاً معاً کأزواج متناقضة لمجموعةٍ واحدة بعینها من التحوّلات)(1).

وفی هذه الفقرة، یتحدّث (لیفی شتراوس) عن إجراءین فی تحلیل الأساطیر:

الأوّل: من خلال تحلیل سلاسل متعاقبة مختلفة (من الأحداث أو المشاهد) لأُسطورة واحدة بعینها.

ص: 195


1- اُنظر: لیفی شتراوس، النیء والمطبوخ: ص307، والأنثروبولوجیا البنیویّة: ص206-231، ونفس المصدر، ج2، ص146-197. وما بین الأقواس الکبیرة فی النصِّ تبیّن أننی قد قمت بتعدیلات طفیفة فی الترجمة؛ لتناسب بصورة أفضل ما أعتقد أنّه المقصود فی النصّ الأصلی فی الفرنسیّة. راجع: لیفی شتراوس (Lévi-Strauss، Le Cru Et Le Cuit) ، النیء والمطبوخ: ص313. وبالإجمال، تعطی هذه الفقرة دلالتها فی النصّ الفرنسی أفضل ممّا هی فی الترجمة الإنجلیزیّة.

والآخر: من خلال تحلیل سلسلة من الأساطیر المرتبطة فیما بینها.

وفی هذه الفقرة، علی الرغم من أنّ هذین الإجراءین یکمّلان ویدعمان أحدهما الآخر، لایستبعد المؤلّف - علی الأقلّ - استخدام الإجراء الأوّل فقط.

وفی الحقیقة، کما یُظهِر سیاق النصّ المُقتبَس - وکذلک تحلیلات أُخری ل(لیفی شتراوس) - أنّ الإجراء الأوّل هو شرط ضروری للإجراء الثانی. ومن أجل مقارنة عدّة أساطیر مع بعضها البعض، ینبغی أوّلاً تحلیل واحدة منها حسب حسناتها الخاصّة بها، وکخطوة أُولی فی التحلیل، ینبغی (اشتقاق) (وهی فی الفرنسیّة Extrait De) المجموع الصرفی الذی تُدمَج فیه الأساطیر من الأُسطورة الأُولی، إذ یجب أن توضع الأُسطورة الأُولی - بأیّة حالٍ - فی وحدة صرفیّة کاملة «حیث إنّ الأساطیر فی هذه المرحلة لم تُهیّأ بعد، ویجب أن یُبحث عنها خارج المجال الأُسطوری، وهذا یکون فی التوصیف الأثنی»(1).

والتحلیل المستمر لعدّة أساطیر مرتبطة ببعضها سیجعل شبکة العلاقات متینة (فی حین یملأ الثغرات هنا وهناک)(2)، أمّا التحلیل الذی قمت به فی هذه الدراسة، فیمکن أن یُعتبَر دراسةً رائدة مهمة وضروریّة لمقارنة مستقبلیّة بین النسخ المختلفة لأحداث کربلاء.

روایة أحداث کربلاء فی نسخة الطبری قد أخذت صفحات طویلة جدّاً من الکتاب، ففی طبعة لَیْدِن (Leiden) لتاریخ الطبری تمتدّ الروایة لحوالی 175

ص: 196


1- لیفی شتراوس، من العسل إلی الرماد: ص356.
2- اُنظر: لیفی شتراوس، أصل آداب المائدة (The Origin Of Table Manners): ص187.

صفحة، وفی ترجمة هاوارد (Howard) الإنجلیزیّة أخذت نفس الطول تقریباً(1)؛ ولهذا فإنّ طول القصّة یجعل من الصعوبة إعطاء تحلیل بنیوی شامل للمتن بکامله.

وبالقیاس مع مقالة (لیفی شتراوس) (الأُسطورة المفتاحیّة (الأساس))، أو (الأُسطورة المرجعیّة)، أعددت دراسة معمّقة حول جزء واحد من المتن، والذی جعلته تحت عنوان (النصّ المرجعی)، وهو یشتمل علی ثمان صفحات (عشرة فی الترجمة)(2)، من أجل مطابقة الرموز والمتضادّات والتحوّلات التی تکوّن البنیة، ومع أخذ هذه الخواصّ البنیویّة فی الحسبان، فقد أعددت دراسة خاطفة جدّاً عن القصّة بکاملها.

لم یکن اختیار (النصّ المرجعی) اعتباطیّاً تماماً، مع أنّ أجزاء کثیرة أُخری من القصّة یمکن أن تکون قد اختیرت (هکذا)، علی أنّی قد بیّنت هنا أسبابی الرئیسیّة فی اختیار هذه الفقرة دون سواها، وینبغی ملاحظة أنّ بعض تلک الأسباب کان فی البدایة مبنیّاً علی أساس بدیهتی الذاتیّة أکثر ممّا هو علی أساس المعاییر الموضوعیّة:

السبب الأوّل: هو أنّ الفقرة المنتخبة ک- (نصّ مرجعی) تحتلّ موقعاً مرکزیّاً فی القصّة ککلّ، فقد جاءت فی وسط الروایة، وهی تقدِّم لحظةً جدیدة فی حبکة القصّة: المواجهة البدنیّة بین الحسین وأهل الکوفة الغَدَرة.

السبب الثانی: هو أنّنی أعتقد أنّ الخُطَب الأربع التی ألقاها الحسین - حسب ما جاء فی النصّ - ذات أهمّیة مرکزیّة بالنسبة للرسالة الموجودة فی القصّة، ففی هذه

ص: 197


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری (Tabari، Ta’rikh): ج2، ص216-390. Tabari، History: ج19، ص1-183.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری (Tabari، Ta’rikh): ج2، ص295-304. Tabari، History: ج19، ص91-99.

المواعظ وسیاقها کانت قد اتّضحت مواقف الحسین والأشخاص الذین حوله (أصحابه وأعدائه).

وحجّتی الثالثة: هی أنّنی شککت فیما إذا کانت أفعال الحسین المثیرة للدهشة نوعاً ما - سقایته لأعدائه وإمامتهم فی الصلاة - ذات أهمّیة بنیویّة.

وأخیراً، فإنّ هذا النصّ هو واحد من أطول الأخبار(1) فی القصّة کلّها، مع أنّ فیه نقطتین مقحمتین؛ ولهذا سیجعله ذلک جزءاً محدّداً، ومستقلاً بذاته نوعاً ما فی القصّة ککلّ.

ومهما یکن، فإنّ التحلیل سیُظهِر التلمیحات التی ثبتت صحّتها، وبالإضافة لذلک فإنّ (النصّ المرجعی) یحتلّ موقعاً مهمّاً فی البنیة الروائیّة للقصّة مجموعها.

کدراسة رائدة، فإنّ هذا التحلیل أوّلی (غیر نهائی) فی کثیر من الوجوه، وبالرغم من أنّ استخدام الأشکال البیانیّة والمعادلات شبه الریاضیّة یمکن أن یعطیه نَفَساً من الواقعیّة، التی تشبه شیئاً من العلوم الطبیعیّة (الشیء الذی غالباً ما یُتّهَم به (لیفی شتراوس) نفسه)، إلّاّ أنّ الأمر لیس کذلک، والتحلیل البنیوی ل-(لیفی شتراوس) هو عملیّة اقتراح فرضیّات ومحاولة تطبیقها، وکأیِّ محاولةٍ ضمن حقل الإنسانیّات فهی تعتمد کثیراً علی وجهة النظر المنتخبة وسیاق المحلّل، وسأعود إلی هذه المسألة عمّا قریب(2).

ص: 198


1- حول هذا المفهوم، راجع: ص58 أعلاه.
2- هناک بحث حول النتائج الأولیّة للتحلیل البنیوی یوجد فی کتاب لیفی شتراوس، النیء والمطبوخ: ص5. یناقش المؤلّف فی مقدّمة الکتاب المعادلات شبه الریاضیّة، ویؤکّد أنّه لم یکن الغرض منها إثبات أیِّ شیءٍ، وإنّما هی مجرّد توضیحات مبسّطة للبُنْیات المعقّدة. اُنظر: لیفی شتراوس، النیء والمطبوخ: ص30-31.

الرموز

مفهوم الرموز - الذی ناقشته سابقاً - مسألة جدلیّة، یکون البتّ فیها صعباً فی کثیر من الوجوه، ولکنّها لا تزال ذات أهمّیة فی کتابات (لیفی شتراوس)، وقد استخدمتُها کثیراً فی هذه الدراسة.

لو کان الرمز(أو مجموعة الرموز) (فئة أو صنف من المصطلحات) کما یعتقد لیفی شتراوس(1)، فهو مهمّ کأداة لتصنیف العالَم الفکری للفرد، ولهذا یکون مهمّاً للمحلّل البنیوی الذی یرید أن یرسم ملامح النظرة العالمیّة لشعبٍ ما.

وفی الجانب الآخر، یستخدم (لیفی شتراوس) المصطلح فی وجوه مختلفة حیث یبدو أحیاناً أنّ أحدها یناقض الآخر.

وبالنسبة للوسیه سکوبلا (Lucien Scubla)، فإنّ مفهوم الرمز (أو مجموعة الرموز) فی کتابات (لیفی شتراوس) ملتبس وغیر مترابط(2)، فهل الرموز هی خاصیّات ملازمة للأُسطورة، أو أنّها تصنیفات تحلیلیّة یستخدمها الباحث الذی یحقّق فیها؟ یستخدم (لیفی شتراوس) المفهوم فی الجانبین کلیهما، فی واحدٍ من نصوصه المتأخّرة، یقول: «الفکرة الأسطوریّة تعمل خلال وسائل التضادّ والرموز... التضادّات الثنائیّة... لا تقدّم أنفسها أبداً فی هیأةٍ مجرّدة، وإن جاز التعبیر فی حالةٍ نقیّة، بل بالأحری تکتسب خاصیّةً متماسکة ضمن رموزٍ تُستعمل لصیاغة الرسائل، التی هی نفسها یمکن أن تُترجَم إلی مصطلحاتٍ لرموزٍ أُخری، ویمکن بدورها أن تتحوّل إلی رسائل تتعلّق بنظامها الخاص بها، والمُستلَمة عِبْر قنوات الرموز المختلفة، هذه

ص: 199


1- اُنظر: لیفی شتراوس، الخزّاف الغیور: ص193.
2- اُنظر: سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص259.

الرموز نفسها متباینة، حیث یمکن أن تکون: مکانیّة، زمانیّة، کونیّة، جنسیّة، اجتماعیّة، اقتصادیّة، بلاغیّة، وهکذا.

من الوجهة النظریّة - علی الأقل - عددها غیر محدود، حیث إنّ الرموز هی أدوات تُصاغ لإشباع متطلّبات التحلیل، فیما بعد فقط یمکن أن تتحقّق الدرجة التی تتطابق فیها (الرموز) مع الواقع، ولکن علینا أن نعترف أنّه فی المراحل الأُولی للبحث، یکون اختیار وتعریف المحاور التی أُقیمت علیها التناقضات، واختیار وتعریف الرموز التی تکون قابلة للتطبیق علیها مدیناً إلی حدٍّ بعید لذاتیّة المحلّل، وهکذا یکون لها طابع تأثُّری» (1).

هذه الفقرة علی درجة من الأهمّیة؛ لأنّها أوّلاً تبیّن أنّ التحلیل البنیوی بالنسبة ل-(لیفی شتراوس) نفسه هو محاولة ذاتیّة، کما ذکرتُ أعلاه، ولکنّها تبیّن أیضاً - حسب ما أری - أنّ الرموز تُستخدَم فی الأساطیر کفئات وأصناف من المصطلحات التی ترتبط بعالَمٍ خاص من الحیاة(2)، وأنّها (أدوات تُصاغ لإشباع حاجات المحلّل).

وهکذا فإنّ تحلیل الأساطیر یمضی قُدماً خلال نوعٍ من المجال التأویلی (هرمنیوطیقا)، حیث إنّ المحلّل - ومن خلال القراءات الأُولی للأُسطورة، فی ضوء المعرفة الأثنیّة التی یملکها عن ثقافة البیئة التی تُستخدم فیها الأُسطورة - یفترض رموزاً معیّنة.

ومن خلال دراسة عدد أکبر من الأساطیر، والتعمّق أکثر فی الوصف الأثنی (العِرقی)، یتمّ تعزیز وتنقیح الفرضیّات المبکّرة حول الرموز، وبالشروع من هذه التنقیحات یتمّ إعداد دراسات جدیدة.

ص: 200


1- لیفی شتراوس، حکایة الوشق: ص185-186.
2- اُنظر: لیفی شتراوس، الخزّاف الغیور: ص171-172.

باتّباع هذا الإجراء، قمت بتعریف الرموز فی (النصّ المرجعی) کالتالی:

الرمز المکانی: والذی یشیر إلی الأوضاع الطبیعیّة (الفیزیائیّة) النسبیّة للناس والأشیاء فی المحلّة المتقاربة، یتحدّث (لیفی شتراوس) أحیاناً عن الرمز الجغرافی، ولکنّی وجدت هذا التعبیر غیر مقنعٍ فی هذه الحال، حیث إنّ معظم المتضادّات المکانیّة فی النصّ تحدث فی مسافات قصیرة (أو مساحات صغیرة).

الرمز الزمانی: والذی یشیر إلی خصائص الزمن کساعات النهار المختلفة فی بیان رسالته.

الرمز الإجتماعی: والذی یشیر إلی العلاقات الموجودة، أو تلک التی یُسعی إلیها، کإظهار العداوة أو المودّة أو المقامات الاجتماعیّة بین الناس.

الرمز النَسَبی (المتعلّق بالأنساب): والذی یشیر إلی براهین موجودة فی أنساب (سلالات) الناس أصحاب الشأن، ففی ثقافة العرب قبل الإسلام کان علم الأنساب علی درجة عالیة من الأهمّیة، وکثیراً ما کان یُلتجَأ إلی مناقب الأسلاف لتعزیز ادّعاء الأفضلیّة - لیس الأفضلیّة السیاسیّة فقط - لشخص علی شخصٍ آخر(1).

من أهمّ الخطوات القویّة المبکّرة للإسلام کانت محاولة تقییم الناس لیس علی أساس أنسابهم، بل علی أساس التقوی، فقد فشل هذا المجهود بعض الشیء، ومع أنّ التقوی أصبحت هی المعیار الأساسی، إلّا أنّ الأنساب بقیت ذات أهمّیة بالغة(2)،

ص: 201


1- اُنظر: دونَر، الروایات (Donner، Narratives): ص104-111. نوث وکونراد، العُرف التاریخی العربی القدیم (Noth And Conrad، Early Arabic Historical Tradition): ص37-38.
2- اُنظر: إلاد، أُمّة المؤمنین (Elad، “Community Of Believers”): ص245-254.

ویمکن أن یُری هذا علی أنّه مسألة خاصّة فی الرمز الاجتماعی، ولکنّه ذو أهمّیة کبیرة فی النصّ، حیث اخترته لأتعامل معه فی التحلیل علی أنّه رمز متمیّز.

الرمز الاقتصادی: والذی یشیر إلی توزیع الموجودات المادّیّة کالماء والقوّة الطبیعیّة.

رمز اللباس: والذی یشیر بطبیعة الحال إلی الرسالة التی یوصلها لباس الشخص.

الرمز اللغوی: والذی یشیر إلی الطریقة التی تُستخدَم فیها اللغة.

وجدت فی الرمزین الأخیرین کثیراً من الإشکال یصعب البتّ فیه بسهولة، وهما بحاجة إلی کثیرٍ من الدراسة أکثر من الرموز السابقة، فهما یشیران إلی تفاعُلٍ معقّد بین الدِّین والسیاسة، فقد وجدنا أنّ أغلب الدراسات القدیمة والتقلیدیّة فی الإسلام تتعلّق بمسائل کالشرعیّة السیاسیّة، وطبیعة الحکم، ودور الحاکم، والتی کان لها أُسس فکریّة، وتَستخدم لغةً مفعمةً بالإشارات إلی الدِّین، ومناقشة مسألة الحسین وحقّه (أو عدم حقّه) فی تحدّی سلطة الخلیفة یزید ووالیه ابن زیاد لم تکن استثناءً بالتأکید، ففی القصّة التی تمّ تحلیلها هنا، وکذلک معظم التاریخ الإسلامی المدوّن تأتی لغة الدِّین ولغة السیاسة فی بعض الأوقات متداخلة إلی حدٍّ بعید، بحیث یکون من الصعب الفصل بینهما، وکما قلت سابقاً، یشکّل الدِّین والسیاسة من الناحیة الفکریّة مجالین مختلفین فی الحیاة، بالنسبة للطبری علی الأقلّ.

علی أیّة حالٍ، عند تصنیف هذین الرمزین تردّدْتُ فی استخدام مصطلحی (الدِّین) و(السیاسة)؛ حیث الجوانب التی یُستخدم فیها هذان المصطلحان الیوم فی الثقافة الغربیّة علی العموم ضیّقة جدّاً، وأمّا فی الدراسة الأکادیمیّة ل- (تاریخ الأدیان) و(علم السیاسة) فهی واسعة جدّاً.

ص: 202

وفی المجتمع العلمانی الحدیث یشیر مصطلح (الدِّین) عادةً إلی محیطٍ خاصّ له علاقة محدودة، أو لیس له علاقة أصلاً بالسیاسة، والتی هی مسألة عامّة فالاثنان (الدِّین والسیاسة) منفصلان، (أو ینبغی أن یکونا منفصلین) تماماً، وفی المجال الأکادیمی لتاریخ الأدیان من جانبٍ آخر یمکن أن یُطبَّق مفهوم الدِّین علی کلِّ شیءٍ تقریباً، کلّما دخل فی الأمر الاعتقاد بما یعبّر عنه مؤرّخو الأدیان ب- (القدرة المتعالیة (فوق کلِّ شیءٍ))، وفی أغلب الأحیان تدخل الأبعاد السیاسیة للدِّین فی هذه التعاریف، وتصبح السیاسة منغمسة فی هذا الموضوع.

وعلی غرار هذا، وضمن حقل العلوم السیاسیّة، غالباً ما یصبح مفهوم السیاسة واسعاً إلی الحدٍّ الذی یکون تطبیقه بعید المنال؛ لأجل هذا الغرض علی الأقلّ(1)، ولیس الأمر أنّنی أرفض هذه التعاریف الواسعة بذاتها، ولکنّها فی السیاق الحالی غیر قابلة للتطبیق؛ ومن هنا، فالمفهومان بالعربیّة (دین) و(دولة (السیاسة)) واسعان جدّاً بالنسبة لی، وتداخلهما الواسع یجعل من الصعب التمییز بینهما فی التحلیل؛ لهذا السبب قررت أن أستخدم مصطلحی (رمز التقوی) و(رمز السلطة) بدلاً عنهما.

کلمة (التقوی(یمکن ترجمتها ب-(الخوف من الله)، (تذکُّر الله والیوم الآخر)، أو ببساطة (الخشوع (لله))(2)، یتضمّن هذا الرمز تعابیر حول التقوی وکذلک حول

ص: 203


1- علی سبیل المثال، یعرّف مانفْرَد هالبرن السیاسة بأنّها: «کلُّ ما یمکننا فعله ونحتاج أن نفعله معاً». هالْبَرن، الاختیار من بین الطرق (“Choosing Between Ways”): ص8.
2- الترجمة الثانیة المقترحة مأخوذة من دونَر، الروایات: ص99. لمطالعة موسّعة حول استعمال القرآن لهذه المفردة المهمّة والمتعدّدة الوجوه، راجع: ألکساندر، الخوف (Alexander، “Fear”)، والأحدث منه: أولانْدَر، الخوف من الله (Ohlander، “Fear Of God”).

عدمها (العقوق)، ویتضمّن کذلک التجلّیات المادّیّة للإیمان، کالشعائر العبادیّة، والأعمال الصالحة عموماً، التی یمکن القول عنها إنّها مشرّعة من الله.

وأخیراً رمز السلطة، الذی یشیر إلی أقوالٍ حول الحکومة الدنیویّة، وتعابیر حول الولاء السیاسی للشخص الذی یتبنّی الدعاوی السیاسیّة، وهذه ترتبط کثیراً بالمفهوم العربی ل- (البیعة)، وهو مصطلح جاء فی النصّ الوارد فی هذه الدراسة، ویعنی: إعلان الولاء لشخصٍ آخر علی أنّه السلطة(1).

نعم، حسب ما سیُظهِر التحلیل، هناک تداخلٌ کبیر بین هذین الرمزین: (التقوی والسلطة)، وأحد الأمثلة علی ذلک هو أنّ الحسین عندما اتّهم الحکّام فی ذلک الوقت بسوء الحکم؛ لأنّهم لم یتّبعوا شرع الله الذی جاء فی القرآن والسنّة، ففی هکذا حال، سأتحدّث عن الرمزین متضافرین معاً.

ص: 204


1- راجع: تایان، البیعة (Tyan، “Bay’a”).

الفصل الثالث: البِنیة فی روایة الطبری حول أحداث کربلاء

اشارة

صورة

صورة

ص: 205

ص: 206

إطلالة علی مصادر الطبری

بالتأکید لم یکن الطبری الرجل الأوّل الذی روی أحداث کربلاء، فإنّ نسخته هی تجمیع لعددٍ من الکتابات التی سبقته فی الموضوع، وبسبب استعماله المستفیض للإسناد (الرواة)، فمن الممکن أن نتقصّی مصادره إلی حدٍّ ما علی الأقل.

فی هذا الفصل، سأقدّم خلاصة قصیرة حول المصادر التی اعتمدها بمقدار ما هی معروفة لدینا الیوم.

قصّة مقتل الحسین فی کربلاء تخصّ نوعاً من الأدب العربی، غالباً ما یُشار إلیه بأدب (المقتل)(1). کلمة (مَقاتل) هی صیغة الجمع لکلمة (مَقتل(، والتی تعنی فی هذا السیاق) الموت القاسی غیر الطبیعی)، (القتل العمد) و(الاغتیال)(2).

لقد تطوّر هذا الأدب بصورة رئیسیّة فی الدوائر الشیعیّة، ولعب دوراً مهمّاً فی صیاغة الهویّة الشیعیّة کجماعة مظلومة ومضطهَدة.

علی أیّة حالٍ، هنالک أیضاً أعمال کُتبت حول مقاتل أناس من غیر الشیعة، کالخلیفة الثالث عثمان مثلاً.

یُعرِّف (سِباستیان غونثر) (Sebastian Günther) أربع مراحل فی تطوّر أدب المَقاتل:

المرحلة الأُولی: هی مرحلة ما قبل الکتابة فی قصص الموت العنیف لأشخاص

ص: 207


1- هناک خلاصة وافیة جدّاً تجدها فی: المَقاتل،لغونثر (Günther، “Maqatil”). والفقرة التالیة اعتمدت علی هذه المقالة.
2- اُنظر: غونتر، المَقاتل: ص192، ملاحظة (1).

مشاهیر تناقلتها الألسن شفهیّاً فی (الأخبار)(1)، عند نهایة القرن الأوّل الهجری (السابع المیلادی)، وبدایة القرن الثانی الهجری (الثامن المیلادی)، بدأ بعض الأشخاص المهتمّین بالتاریخ بتجمیع تلک الأخبار.

فی المرحلة الثانیة والتی تمتد من النصف الأوّل من القرن الثانی الهجری (الثامن المیلادی) حتّی بدایة القرن الثالث الهجری (التاسع المیلادی) حیث دُوِّنَت موادّ حول مَقاتل خاصّة علی سبیل المثال، مقتل علیّ والحسین، إمّا علی شکل (أدوات للتذکُّر) یستفید منها العلماء فی حلقات الدرس، وإمّا علی شکل ملاحظات یدوّنها الطلاب من تلک الدروس، مع أنّ قسماً منها قد حقّق بعض الانتشار وورد فی الفهارس القدیمة، إلّا أنّها لم تکن (کُتباً) فی إطار الأعمال الأدبیّة.

یستخدم غونثر المصطلح الإغریقی (Hypomnêmata) فی وصف هذا النوع من الأعمال(2). فی هذه الفترة، تمّ إصدار أوّل کتب المَقاتل بمعنی التألیف والنشر.

أمّا المرحلة الثالثة، فتُواصل مسیرها من منتصف القرن الثانی الهجری (الثامن المیلادی) حتّی بدایة القرن الرابع الهجری (العاشر المیلادی). فی هذه المرحلة دخلت موادّ المَقاتل فی أعمال کبیرة کتاریخ الطبری، ومجموعات خاصّة بهذا الموضوع مثل (کتاب مقاتل الطالبیّین) لأبی الفرج الإصفهانی.

ص: 208


1- حول مفهوم "الأخبار"، راجع: ص58 أعلاه.
2- اُنظر: غونثر، المقاتل: ص197. من أجل التیسیر، استخدمت مصطلحات مثل "کتاب" و"نشر" مع أنّ هذه المصطلحات تنطوی علی مفارقة تاریخیّة. إنّ تدوین وتوزیع الأعمال الأدبیّة المستنسَخة یدویّاً کان یختلف کثیراً - بطبیعة الحال - عن مهنة النشر فی هذه الأیّام. للمطالعة حول هذا الموضوع مع إشارات أُخری، راجع: غونثر، المقاتل: ص197-199.

فی المرحلة الرابعة - والتی تبدأ من منتصف القرن الرابع الهجری (العاشر المیلادی) - توقّف نشر أدب المَقاتل فی اللغة العربیّة، ولکنّه انتعش فی أدب اللغات الأُخری، کالترکیّة والفارسیّة بأشکالٍ أُخری.

وبهذا یبدو واضحاً أنّ الطبری کان لدیه الکثیر من المواد لیختار من بینها عندما کتب عن مقتل الحسین، فالکتب المعروفة عندنا منذ القرون الأُولی للإسلام لیست أقلّ من تسعة عشر مؤلَّفاً تحت عنوان (کتاب مقتل الحسین)(1)، أشهر هذه الکتب والذی رجع إلیه بصورة أساسیّة جمیع المؤرّخین، ومنهم الطبری فی نهایات القرن الثالث الهجری (التاسع المیلادی)، وبدایات القرن الرابع الهجری (العاشر المیلادی) هو کتاب لوط بن یحیی الأزدی المعروف بأبی مخنف (الولادة سنة 70 للهجرة /689 للمیلاد)، و(الوفاة سنة 157ه-/775م).

ومن المحتمل أن یکون أبو مخنف قد عاش فی الکوفة معظم حیاته، وکان من الکُتّاب الغزیری الإنتاج فی أدب المَقاتل، وکتب حول مَقاتل العلویین وغیرهم(2)، ویبدو أنّه حصل علی معظم معلوماته حول أحداث کربلاء عن طریق تجمیع الأخبار السماعیّة، ولکن من المحتمل أنّه استفاد من المواد المدوّنة أیضاً(3).

والجدیر بالذکر أنّ کتاب أبی مخنف الأصلی مفقودٌ لدینا، وعلی أیّة حالٍ، تمّ اقتباس هذا الکتاب بصورة واسعة جدّاً من قِبَل هشام بن محمّد الکلبی (الولادة

ص: 209


1- اُنظر: غونثر، المقاتل: ص199.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص201-203. لمشاهدة قائمة مؤلَّفاته راجع: سزغین، أبو مخنف (Sezgin، Abu Mikhnaf): ص99-116.
3- اُنظر: سزغین، أبو مخنف: ص66-97.

سنة 120ه-/737م)، و(الوفاة سنة 204ه-/819م)، والذی ألّف کتاباً یحمل نفس العنوان (کتاب مقتل الحسین). فی هذا الکتاب یستخدم الکلبی معلومات کثیرة من کتاب أبی مخنف، ویبدو أنّه یقتبس فقرات طویلة منه بأمانة، کما أنّه یستفید من مواد کثیرة من مؤلَّفات أُخری أیضاً، وکلُّ هذا یعنی أنّ ابن الکلبی کان قد عالج ونقّح مواده، ومع أنّ الفقرات التی اقتبسها من أبی مخنف قد استنسخها بدقّة، لکن یبدو أنّه قد نقلها من هنا إلی هنا لتناسب نسخته الخاصّة به من القصّة.

اعتمد الطبری کتاب ابن الکلبی کمصدر رئیسی (حوالی أکثر من 90% من روایته کان من هذا المصدر)، وبذلک یکون قد أخذ الکثیر من مواد أبی مخنف من هذا الباب(1).

وهناک مصدر آخر اعتمده الطبری فی روایته عن أحداث کربلاء (حوالی 5% من مادّته) وهو المحدّث الشیعی عمّار بن معاویة الدهنی(2) (المتوفّی سنة 133ه-/750م)، والذی بدوره أخذ معلوماته من الإمام الخامس للشیعة أبو جعفر محمّد الباقر (حفید الحسین المتوفّی سنة 114ه-/732-733م)، اُنظر: (المخطّط 1: 1).

تُقدّم هذه المادّة القصّة کاملةً ولکن بإیجاز، ولم یُشَر إلیها فی أیِّ مکانٍ علی أنّها کتاب، وأنا أظنّ أنّها من نوع ال- (Hypomnêma) الذی وصفها غونثر(3).

ص: 210


1- فی الحدیث الذی یلی عن مصادر الطبری قد اعتمدت کثیراً علی هاوارد، مقدمة المترجم، X-Xi (10- 11)، وهاوارد، الحسین الشهید (Howard، Husayn The Martyr).
2- لم یکن تشیعه من المسلمات فقد وقع خلاف فی ذلک، وقام السید الخوئی فی معجمه بمناقشة الوجوه المطروحة لاثبات تشیعه. راجع: معجم رجال الحدیث، ج13، ص269. (المحقق).
3- اُنظر: هاوارد، الحسین الشهید: ص125، ملاحظة (3).

ویمکن أن یُقال الشیء نفسه عن مصدر الطبری الثالث، وهی روایة قصیرة عن القصّة الکاملة بواسطة المحدّث الکوفی الحسین بن عبدالرحمن (المتوفّی سنة 136ه-/753-754م).

وهناک مصادر أُخری تضیف بعض التفاصیل، ولکنّها لا تعطی القصّة کاملةً. راجع: المخطّط 4: 1 لتشاهد مجمل مصادر النقل.

هناک نقطتان یجب مناقشتهما قبل المضی قدماً إلی القصّة نفسها وتحلیلها:

النقطة الأُولی: مع أنّ سلاسل النقل المفصّلة قد تمّ بیانها فی کثیرٍ من الحالات، إلّا أنّه لیس من الواضح مطلقاً أنّها صحیحة، فغالباً ما یکون الإسناد ملفّقاً، وخصوصاً فی النصوص الشرعیّة، وکذلک فی النصوص التاریخیّة؛ من أجل إعطاء خبرٍ ما معنیً آخر فی أذهان القرّاء غیر ذلک الذی یدلّ علیه حقّاً، ولهذا - علی سبیل المثال - فإنّ (هاوارد) (Howard) یشکّک فی صحة الروایة المنسوبة لعمّار الدُهنی(1)، بما أنّ سند الدُهنی هو الإمام الخامس الباقر، فربّما تکون الروایة قداعتُبِرت علی هذا الأساس بأنّها الروایة الشیعیّة الرسمیّة والأکثر وثاقةً - کما یقول (هاوارد) (Howard) - مع ذلک یشکّک هاوارد بأنّها لا ترجع إلی الإمام الباقر، ولم تأتِ من الدُهنی الشیعی المذهب، وحسب تأویله، فإنّ النسخة المنسوبة للدُهنی تقلّل من شأن الحسین، ولا یمکنها إعطاء تفاصیل مهمّة عن المعرکة، کما هو متوقَّع من الروایة الرسمیّة ومن مصدر قریب جدّاً من الحسین کحفیده.

مهما یکن، فالنقطة التی أودّ طرحها هنا هی أنّه من الممکن، ومن الضروری

ص: 211


1- اُنظر: هاوارد، الحسین الشهید: ص127-131.

حقّاً، أن ننتبه کثیراً بخصوص سلاسل النقل الواردة فی الروایات التاریخیّة.

أمّا النقطة الثانیة التی أُرید أن أناقشها، فهی تنقیح المادّة التی کانت متوفّرة لدی الکتّاب عند تدوین نُسَخهم المختلفة لروایة أحداث کربلاء، (وکذلک الحوادث المختلفة فی تاریخ الإسلام، بطبیعة الحال)، لقد تطرّقت لهذا بالفعل عند مناقشتی لابن الکلبی فیما سبق، ویصدق هذا علی الطبری أیضاً، ومن النُسَخ المختلفة للمؤلّفین الذین اعتمدوا روایة ابن الکلبی یبدو واضحاً أنّهم استخدموا هذه الروایة بصورة انتقائیّة، وأعادوا ترتیبها من جدید، ولیس المجال هنا لدراسة کیف کان الطبری قد استخدم مادّته، ولکنّنی سأُعطی مثالاً واحداً فقط له صلة بالتحلیل التالی، فی آخر روایته حول أحداث کربلاء، یورد الطبری قصیدةً لعبید الله بن الحرّ الجعفی، وهو من أشراف العرب وشعرائهم المعروفین. ابن الحرّ هذا مذکور أیضاً فی خبرٍ قبل المعرکة، حیث یحکی الخبر کیف التقی به الحسین وطلب منه أن یلتحق به فی مواجهة أهل الکوفة، غیر أنّ ابن الحرّ رفض ذلک، وقرّر أن یبقی علی الحیاد(1). وبعد ذلک فی آخر خبرٍ من قصّة الطبری، یُروی أنّ ابن الحرّ زار کربلاء وقبور القتلی، وأنشد قصیدةً یعرض فیها ندمه علی عدم نصرة الحسین، ابن فاطمة وسبط الرسول، وعدم الدفاع عنه ضدّ جیش والی الکوفة.

فی نسخةٍ أُخری من روایة ابن الکلبی التی وُجدت فی أربع مخطوطات مترجمة بواسطة (فردیناند ووستنفِلْد) (Ferdinand Wüstenfeld) سنة (1883م)، لم تکن

ص: 212


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص305-306. تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص100-101.

القصیدة فی آخر القصّة، ولکن کانت هناک قصیدة مختلفة وبنفس المعنی، لها صلة باللقاء الأوّل بین الحسین وابن الحرّ(1)، مع أنّه من الصعب إثبات ذلک، إلّا أنّنی أُسلّم جدلاً أنّ الطبری نفسه کان قد نقل القصیدة إلی مکانها التی هی فیه فی نسخته، وبإضافة الخبر إلی نهایة القصّة - وهو خارج السیاق تماماً - یکون الطبری قد أعطاه أهمّیة أکبر بکثیر ممّا سیکون له لو ترکه فی مکانه فی وسط القصّة، وهذا أُسلوب فنّی بارع یستخدمه فی غیر مکانٍ لینقل بمهارة بعض آرائه حول مسألة معیّنة(2).

بالإضافة إلی ذلک، فهو یستخدم أیضاً أسالیب فنیّة أُخری فی نقل أفکاره الخاصّة. اُنظر: (الملحق3) حول بعض الأمثلة لهذه الأسالیب.

تحلیل النصّ المعتمد (المرجعی)

اشارة

فیما یلی یأتی تحلیلٌ للنصّ الذی کان مرجعنا فی الموضوع، ومن أجل التحلیل وتیسیر الرجوع إلی المصدر، قمت بتقسیم النصّ إلی فصول وفروع، حیث ابتدأتُ تحلیل کلِّ فصلٍ بإیراد خلاصة عن النصِّ المذکور فیه، ولمشاهدة النصّ الکامل یُرجی مراجعة الملحق (2). أُشیر إلی النصِّ الوارد فی التحلیل برقم الفصل، متبوعاً برقم القسم المتفرّع عنه فی الملحق؛ حیث 1: 4 یشیر إلی القسم الرابع من الفصل الأوّل فی الملحق (2).

ص: 213


1- ووستنفِلد، مقتل الحسین (Wüstenfeld، Tod Des Husein): ص57-58. هذا الموضع مُشار إلیه أیضاً فی أنساب الأشراف للبلاذری: ص174.
2- اُنظر: هودسون، اثنان من المؤرّخین المسلمین القدماء (Hodgson، Two Pre-Modern Muslim Historians): ص57. اُنظر: هَمفْریز، الأسطورة القرآنیّة (Humphreys، “Qur’anic Myth): ص275. اُنظر: شوشان، رسالة فی الشعر (Shoshan، Poetics): الفصل4.

المخطّط 4: 1، رسم تخطیطی لمصادر نسخة الطبری حول أحداث کربلاء

ص: 214

القسم الأوّل

«بعد توقّفهم لیلاً وهم فی طریقهم من مکّة إلی الکوفة، أمر الحسین أصحابه لیستقوا الماء، ثمّ أتمّوا السیر. عند الظهیرة رأوا ما ظنّوا أولاً أنّه واحة نخیل، ولکن تبیّن لهم أنّه جیشٌ یحثُّ الخطی نحوهم، ومن أجل أن لا یحیط بهم الأعداء، أمر الحسین أصحابه أن یلجؤوا إلی ذی حسم.

وصل الجیش الذی کان قوامه ألف رجل یقوده الحرّ بن یزید التمیمی، وکانوا علی أُهبة القتال، عند ذلک أمر الحسین أصحابه بسقایة العدو وخیوله، وکان علیّ بن الطعّان المحاربی - وهو من جیش الحُرّ - قد وصل متأخراً، فسقاه الحسین بنفسه»(1).

ص: 215


1- باعتبار أنَّ المؤلِّف اعتمد علی نسخة الطبری المترجمة؛ ارتأینا أن نضع ما یقابلها من النصِّ العربی لنسخة الطبری، مع الإشارة إلی مکان الاختلاف إن وجد. (المحقق). «أقبل الحسین حتی نزل شراف، فلمّا کان فی السَّحَر أمر فتیانه فاستقوا من الماء، فأکثروا ثمّ ساروا منها، فرسموا صدر یومهم حتّی انتصف النهار، ثمّ إنّ رجلاً قال: الله أکبر. فقال الحسین: الله أکبر، ما کبرت؟ قال: رأیت النخل. فقال له الأسدیان: إنّ هذا المکان ما رأینا به نخلة قط. قالا: فقال لنا الحسین: فما تریانه رأی؟ قلنا: نراه رأی هوادی الخیل. فقال: وأنا والله أری ذلک. فقال الحسین: أما لنا ملجأ نلجأ إلیه نجعله فی ظهورنا ونستقبل القوم من وجهٍ واحد؟ فقلنا له: بلی، هذا ذو حسم إلی جنبک تمیل إلیه عن یسارک، فإن سبقت القوم إلیه فهو کما ترید. قال: فأخذ إلیه ذات الیسار، قال: وملنا معه فما کان بأسرع من أن طلعت علینا هوادی الخیل، فتبینّاها وعدلنا، فلما رأونا وقد عدلنا عن الطریق عدلوا إلینا کأنّ أسنّتهم الیعاسیب، وکأنّ رایاتهم أجنحة الطیر. قال: فاستبقنا إلی ذی حسم فسبقناهم إلیه، فنزل الحسین فأمر بأبنیته فضُربت، وجاء القوم - وهم ألف فارس - مع الحُرّ بن یزید التمیمی الیربوعی حتی وقف هو وخیله مقابل الحسین فی حَرِّ الظهیرة، والحسین وأصحابه معتمّون متقلِّدو أسیافهم، فقال الحسین لفتیانه: اسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشّفوا الخیل ترشیفاً. فقام فتیانه فرشفوا الخیل ترشیفاً، فقام فتیة وسقوا القوم من الماء حتی أرووهم، وأقبلوا یملؤون القصاع والأتوار والطساس من الماء، ثمّ یدنونها من الفرس، فإذا عبّ فیه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه، وسقوا آخر حتی سقوا الخیل کلّها. قال هشام: حدّثنی لقیط، عن علیّ بن الطعان المحاربی: کنت مع الحُرّ بن یزید، فجئت فی آخر مَن جاء من أصحابه، فلما رأی الحسین ما بی وبفرسی من العطش قال: أنِخ الراویة، والراویة عندی السقاء، ثمّ قال: ابن أخی أنِخ الجمل فأنَخته. فقال: اشرب. فجعلت کلّما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسین: اخنث السقاء - أی اعطفه - قال: فجعلت لا أدری کیف أفعل، قال: فقام الحسین فخنثه، فشربت وسقیت فرسی».

من أوضح المتضادّات فی الفصل الأوّل هو التضادّ المکانی، حیث کان الحسین وأصحابه من الناحیة البدنیة فی مقابل الحرّ وجیشه، کان ذلک منذ اللحظة التی عرف أحدهما الآخر من بعد، ویتّضح جلیّاً من هذه العبارة: «وجاءَ القومُ وهم ألفُ فارسٍ مع الحُرّ بن یزید التمیمی الیربوعی حتّی وقفَ هو وخیلُه مقابلَ الحسینِ فی حَرّ الظهیرة»(1: 4)(1)؛ وعلیه فإنّ الرمز المکانی یفرض صورة الخصومة بین الفریقین، ولکنّ الخصومة البدنیّة قد هُزِمت نوعاً ما عندما قدّم الحسین الماء لعدوّه.

ما ورد فی الرمز المکانی یؤکد التضادّ الاجتماعی وهو الخصومة بین الفریقین، فی هذا الفصل یوصَفُ الحرّ ورجاله بأنّهم أهل ظلمٍ وجور، بینما کان الحسین وأصحابه یدافعون عن أنفسهم ضدّ ذلک الجور، یحاول الحسین اللجوء إلی ذی حسم؛ حیث یمکنه حمایة نفسه بسهولة هناک.

ومن جهةٍ أُخری، یذکر النصّ أنّ الحسین کان قد نصب خیامه قبل وصول العدو، ومن الملفت للنظر ذِکرُ هذا؛ حیث الأخبار فیه تبدو مستفیضة، ومن خلال الأسطر السابقة، یُظهِر المشهد الذی یمکن تصوّره، أنّ الحسین وأصحابه کانوا للتوّ قد وصلوا وادی ذی حسم، قبل أن یعترض سبیلهم فرسان الکوفة، ومن المستبعد أن یکون الوقت قد أمهلهم لنصب الخیام؛ إذاً هل کان ذلک من الأهمّیة بحالٍ کی

ص: 216


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص296، و(Tabari، History): ج19، ص92.

یُذکرَ هنا؟

أحد الوجوه التی یمکن تأویل الخبر بها هو: أنّه عندما نصب الحسین خیامه صار بهذا زعیم مخیّم فی الصحراء؛ لذا یمکن اعتباره صاحب دار ضیافة یستقبل ضیوفه فی هذا المخیّم. ویمکن تعزیز هذا التأویل بتقدیم الحسین الماء لجیش الکوفة. حسب النصّ کان الحسین من جهةٍ متهیّئاً للدفاع، ومن جهةٍ أُخری کان یرغب بمداراة جیش الکوفة، وقد قام فعلاً بضیافتهم.

وبعبارةٍ أخری: فإنّ تضادّ الخصومة قد ضعفَ بعد حرکة الحسین البدنیّة والاجتماعیّة باجتیاز حدود العداوة.

فی هذا الفصل، جاء التأکید علی الخصومة بین الفریقین ضمن رمز (اللباس)، فقد ارتدی الحسین ورجاله لباس الحرب (1: 4).

فی الرمز الزمانی کان هناک تضادّ أیضاً: وهو بین الفجر والظهر. الفجر هو وقت جلب الماء، وأمّا الظهر فهو وقت الحَرّ والعطش، یظهر الحسین عند الفجر، ویظهر الحُرّ عند الظهر.

فی الرمز الاقتصادی، کان التضّاد بین امتلاک الماء وعدم امتلاکه؛ فی الصباح وقبل مواصلة المسیر یأمر الحسین أصحابه بجلب الماء (1: 1).

هذا الکلام - عند ملاحظته بدقّة - لم یکن ضروریّاً فی تطوّر القصّة، إنْ لم یکن ذا أهمّیةٍ فیما بعد، وأهمّیته تبرز عندما یلتقی الحسین وأصحابه بالعدو یکون معهم الماء، وعندما یصل الحُرّ ورجاله یکونون عطاشی هم ورواحلهم، وهذا یعنی أنّهم یفتقدون الماء فیأمر الحسین أصحابه بسقایتهم (1: 4)، وتتجسّد هذه الفکرة عندما

ص: 217

یقوم الحسین بنفسه بسقایة علیّ بن الطعّان المُحاربی(1)، الذی یصل متأخّراً بعد القوم وقد أخذ العطش منه مأخذه (1: 5).

إضافةً إلی ذلک، فإنّ أوّل رجل من أصحاب الحسین الذی اکتشف کتیبة العدوّ توهّم أنّ ما رآه کان مجموعة من النخیل (1: 1-2)، فقد توحی أشجار النخیل بوجود واحة فی الصحراء ممّا یعطی احتمال العثور علی الماء فیها، عندما ثبت أنّهم فرسان العدو الذین وصلوا إلی ذی حسم، تحوّل تخیّل العدو إلی صورة من الحَرّ والعطش، هذه الصلة بین العطش - حَرّ الظهیرة - وکتیبة العدوّ تظهر فی الرمز اللغوی بوضع اسم الحُرّ بجانب کلمة الحَرّ (1: 4) فی الکتابة المجرّدة من الحرکات الإعرابیّة (والتی هی أمر عادی فی الکتابة العربیّة)، تبدو هاتان الکلمتان کأنّهما واحدة: حر، وبالتأکید لم یکن صدفةً وضع (حَرّ الظهیرة) بجانب اسم (الحُرّ)، (وإلّا فهو خارج عن المطلوب)؛ وبهذا فقد اقترن الحُرّ ورجاله بالحَرّ والعطش، والحسین بالماء وإرواء العطش.

ولا یزال هناک تضادّ آخر فی الرمز الاقتصادی فی النصِّ: بین امتلاک وعدم امتلاک القوّة العسکریّة، وهنا یکون التوزیع معکوساً، فالحُرّ ورجاله یمتلکون قوّةً عسکریّة کبیرة (ألف رجل مدجّج بالسلاح)، بینما جماعة الحسین أقلّ من ذلک بکثیر.

فیما نلاحظ فی القصّة حول علیّ بن الطعّان (1: 5)، وجود تضادّ أیضاً بین جهل هذا الرجل بالکلمات التی استخدمها الحسین وکیفیّة استعمال القربة من

ص: 218


1- ینبغی اعتبار ابن الطعّان رمزاً لکتیبة العدوّ بأجمعها؛ حیث یمکن استنتاج ذلک من معنی اسمه: "الطعّان المحاربی".

جهةٍ، وبین علم الحسین من جهةٍ أُخری. مرةً أُخری یتقاسم الحسین ما یملک، وفی هذه الحال یتقاسم المعرفة حول کیفیّة الحصول علی الماء.

یأتی الحُرّ وابن الطعّان هنا فی کنایةٍ عن کتیبة الکوفیین، الأوّل (باعتبار الحُرّ قائد الکتیبة)، والآخَر هو آخِر من یصل من الجند، الحُرّ هو القائد وابن الطعّان هو المقاتل؛ وبهذا فإنّ الصفات التی یوصف بها هذان الرجلان یمکن أن تنطبق علی کتیبة العدوّ بأکملها: فقدان الماء وفقدان العلم، سوی امتلاک القوّة المادیّة.

فی الجدول 4: 1، تمّ ذکر بعض المتضادّات المهمّة فی هذا الفصل من بناء الروایة، حیث افترض أنّ توزیع الماء ینسجم مع توزیع المعرفة، وتقدیم الحسین للماء کتقدیمه لها، وسأُناقش هذا بشیءٍ من التفصیل لاحقاً.

الرموز

المتضادّات

الرمز المکانی

الحسین وجماعته

الحُرّ وجماعته

الرمز الاجتماعی

دفاع

جور

الرمز الزمانی

الفجر

الظهیرة

الرمز الاقتصادی

ماء

بلا ماء

فقدان القوّة العسکریّة

امتلاک القوّة العسکریّة

علم

جهل

الجدول 4: 1، متضادّات مهمّة فی الفصل الأوّل

ص: 219

القسم الثانی

السبب وراء مهمّة الحُرّ هو أنّ عبیدَالله بن زیاد - والی الکوفة - قد وضع قوّة عسکریّة کبیرة فی القادسیّة للبحث عن الحسین، وکان قد أرسل قبلها الحُرّ لمقابلة الحسین.

الفصل الثانی هو مجرّد ملاحظة قصیرة تعترض مجری الروایة من أجل بیان سبب قدوم الحُرّ، ویبیّن النصُّ فی هذا الفصل أنّ الخصومة بین الحُرّ والحسین لیست فقط بین هذین الرجلین ومَن معهما، ولکن وراء الحُرّ هناک والی الکوفة، وعلی رأسهما معاً الخلیفة یزید بن معاویة، فقد أمر یزیدُ والیَ الکوفة (ابنَ زیاد) أن یفعل کلَّ ما یراه لازماً لصدّ الحسین، فالعدوّ الحقیقی للحسین لیس الحُرّ بقدر ما علیه أسیاده (ابن زیاد وبنو أُمیّة)، وستتّضح أهمّیة هذا کلّما تقدّمت القصّة شیئاً شیئاً.

فی هذا الفصل، یبیّن النصّ کذلک التوزیع غیر المتعادل للقوّة، فیقف خلف الحُرّ لیس الألف فارس الذین کانوا معه فقط، بل جیش الإمبراطوریّة (الأُمویّة) بکامله، مقابل تلک الجماعة القلیلة مع الحسین.

فی الوقت نفسه، یبیّن هذا الفصل الأهمّیة السیاسیّة الکبری التی یعلّقها الخلیفة علی الحسین وقدومه إلی الکوفة؛ وبهذا یکون التضادّ الاجتماعی الموجود فی الفصل الأوّل قد انعکس، ففی هذا الفصل یُنظَر إلی حرکة الحسین نحو الکوفة من المنظار الأُموی، حیث یکون الحسین هو الباغی، بینما الأُمویّون الذین یمثّلهم والی الکوفة هنا هم المدافعون عن أنفسهم.

ص: 220

القسم الثالث

عندما دنا وقت صلاة الظهر، خرج الحسین من خیمته مؤتزاً منتعلاً وعلیه عباءة، خطب فی الناس قائلاً: إنّه إنّما قدِم لأنّ أهل الکوفة قد کتبوا له وناشدوه أن یکون قائداً (إماماً) لهم، وإنّه عازم علی أن یُنجز هذا أو یرجع إذا شاؤوا. فلزم أهل الکوفة الصمت حیال ذلک، ولکنّهم رضوا أن یأتمّوا به فی الصلاة. بعد الصلاة عاد الفریقان إلی مواضعهما(1).

فی الفصل الثالث، یأتی مجری الروایة من الفصل الأوّل مرّةً أُخری، هناک حادثتان محوریّتان فی هذا الفصل:

الأُولی: اجتماع الفریقین معاً فی الصلاة (3: 3).

والأُخری: الخطبة التی ألقاها الحسین (3: 2).

ص: 221


1- وهذا نصّ ماجاء فی تاریخ الطبری: «...وکانَ مجئُ الحُرّ بن یزید ومسیرُه إلی الحسینِ من القادسیّة، وذلک أنّ عبیدَالله بن زیاد لمّا بلغَهُ إقبالُ الحسینِ، بعثَ الحصینَ بن نمیر التمیمی وکانَ علی شرطه، فأمرَهُ أنْ ینزلَ القادسیّةَ، وأنْ یضعَ المسالحَ فینظّم ما بینّ القطقطانة إلی خفّان، وقَدِم الحُرّ بن یزید بین یدیه فی هذه الألف من القادسیّة فیستقبل حسیناً. قالَ: فلمْ یزلْ موافقاً حسیناً حتّی حضرت الصلاةُ (صلاةُ الظهر)، فأَمرَ الحسینُ الحجّاج بن مسروق الجعفی أنْ یؤذِّن فأذَّنَ، فلمّا حضرت الإقامةُ خرجَ الحسینُ فی إزارٍ ورداءٍ ونعلین، فحمدَ الله وأثنی علیه ثمّ قال: أیّها الناس، إنّها معذرةٌ إلی الله (عزوجل) وإلیکم، إنّی لم آتکم حتّی أتتنی کتبُکم، وقدِمت علیَّ رسلُکم أنْ أقدِم علینا، فإنّه لیسَ لنا إمام، لعلّ الله یجمعُنا بکَ علی الهدی. فإنْ کنتُم علی ذلک فقد جئتُکم، فإنْ تعطونی ما أطمئنُّ إلیهِ من عهودِکم ومواثیقِکم أقدم مصرَکُم، وإنْ لم تفعلوا وکنتُم لمقدمی کارهین، انصرفتُ عنکم إلی المکانِ الذی أقبلتُ منه إلیکم. قالَ: فسکتوا عنهُ، وقال للمؤذِّن: أقمْ فأقامَ الصلاةَ. فقالَ الحسینُ(علیه السّلام) للحُرّ: أتریدُ أنْ تصلّیَ بأصحابِک؟ قال: لا، بل تصلّی أنتَ ونصلّی بصلاتِک. قال فصلّی بهم الحسینُ. ثمّ إنّه دخلَ واجتمعَ إلیهِ أصحابُه وانصرفَ الحُرّ إلی مکانِه الذی کان بهِ، فدخلَ خیمةً قد ضُربت لهُ فاجتمعَ إلیهِ جماعةٌ من أصحابِه وعادَ أصحابُه إلی صفّهم...».

مسألة اجتماع الفریقین معاً فی الصلاة ذات أهمّیة کبیرة - علی الأقلّ أبعد من معناها الظاهر فی رمز التقوی بإقامة أحد الفروض الدِّینیة - من جهتین:

الأُولی: هی أنّ الفریقین اجتمعا معاً ثمّ افترقا مرّةً أُخری فی الرمز المکانی، فی هذا الفصل یتّضح لنا بروز الرمز المکانی، ففی البدایة والنهایة یبدو التضادّ المکانی واضحاً؛ فی البدایة کان خبر التعارض بین الحُرّ والحسین الذی أخذ مجراه فی القصّة من الفصل الأوّل (3: 1)، وفی النهایة أنّهما رجعا إلی مواضعهما السابقة بعد أداء الصلاة معاً (3: 4).

والثانیة: ما تضمّنته الصلاة وما حدث مباشرةً قبلها وبعدها، ویرتبط هذا المشهد برمز السلطة وبرمز التقوی، عندما صلّی الفریقان معاً، فهذا یعنی أنّهم یعتبرون أحدهم الآخر أُخوة فی الدِّین، وبهذا فهم أُمّة واحدة، ما کان یدلُّ علی کون الفرد واحداً من الأُمّة فی عصر الإسلام الأوّل هو مشارکته فی صلاة الجماعة، حیث کانت الصلاة واحدةً من أهمّ الوسائل التی تُظهر ولاء الفرد السیاسی لجهةٍ ما، إمّا بصلاته وإمّا عدم صلاته خلف أمیرٍ ما(1).

فی هذه الحال ومهما کان الأمر، فإنّ فعل أهل الکوفة بیّن بوضوح أنّهم لم یکونوا یرضون بالحسین أمیراً سیاسیّاً علیهم، فصلاتهم خلفه تعنی أنّهم کانوا

ص: 222


1- ذکرنا أمثلة علی ذلک مرّات عدیدة فیما سبق من القصّة. اُنظر علی سبیل المثال: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص234، وص260، ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص24-25، وص53. ولمطالعة عامّة حول کون الصلاة رمزاً للوحدة والهویّة، راجع: فان أس، تی جی (Van Ess، TG): ج1، ص17-19، وکذلک: کِستَر، مفاهیم السلطة (Kister، “Concepts Of Authority”): ص122.

یقرّون بأفضلیّته من الناحیة الروحیّة، ولکنّ فعلهم قبل وبعد الصلاة یبیّن أنّهم لم یکونوا یعترفون بإمرته السیاسیّة علیهم، رضاهم بالحسین إماماً فی الصلاة کان مظهراً للوحدة الدِّینیّة ولیس الوحدة السیاسیّة؛ وهنا فإنّ فعل الصلاة - والذی عادةً یُظهر رمز التقوی ورمز السلطة - یصبح مظهراً للتقوی فقط. بطبیعة الحالٍ لا تزال الصلاة فعلاً سیاسیّاً من حیث إنّ الجماعةَ تبیّن من خلالها هویّتها الجماعیّة، ولکنّها لیست فعلاً تجسّدت من خلاله إمرة الحسین السیاسیّة، فقد بدا ذلک واضحاً من خلال موقف أهل الکوفة تجاه خطبته.

وهناک - علاوةً علی ذلک - متضادّان آخران فی الرمز المکانی:

الأوّل: بین بقاء الحسین فی مکّة وقدومه نحو الکوفة.

والثانی: بین اقتراحه أن یواصل المسیر نحو الکوفة أو الرجوع إلی الحجاز (3: 2).

هذه المتضادّات عادة ترتبط بالتعارض بین دعوة أهل الکوفة ورفضهم له، وهی أفعال لها احتمالات سیاسیّة ودینیّة معاً، ففی خطبته ذکّرهم الحسین بدعوتهم الملحّة له بالقدوم کقائد دینی وسیاسی معاً؛ ورفضهم له الآن یَظهرُ من خلال صمتهم بعد خطبته فیهم فی دعوة أهل الکوفة للحسین، ورفضهم له بعد ذلک تَظهرُ رموز التقوی والسلطة واضحةً هنا.

عندما خاطب الحسین أهل الکوفة فقد خیَّرهم بین تعهّدهم بنصرته - حسب دعوتهم له - وبین عدم فعل ذلک، فإن قبلوه فسوف یُقدِم علیهم، وإن رفضوه سیعود من حیث أتی، فلو حصل الأمر فسیکون من نتائج قدوم الحسین إلی الکوفة هو أنّ أهلها سیکون لهم إمامة جماعة وهدی من خلاله، وحیث إنّ فکرة الإمام لها معنًی خاص عند الشیعة، فإنّها فی هذا السیاق تُستخدم دائماً فی المعنی العام للقائد

ص: 223

السیاسی والفقیه الأعلم(1).

ومن الأهمّیة بمکان ملاحظة أنّ المفهوم هنا یرتبط إلی حدٍّ بعید بالجماعة (الوحدة) والهدی، وهی المفاهیم التی تفید ضمناً أن یکون الفرد واحداً من الأُمّة الإسلامیّة الدینیّة والسیاسیّة التی قد اختیرت من قِبَلِ الله، وهذا بدوره یدلّ ضمناً علی النجاة والحیاة الأبدیّة(2).

وما قدّمه الحسین فی هذه الخطبة هو الحیاة الروحیّة من خلال الهدِّایة السیاسیّة والدِّینیّة نحو الوحدة فی المجتمع المسلم، فقد قدّم لهم شیئاً لم یکونوا یملکونه، والذی کانوا قد بیّنوا فیما سبق أنّهم بحاجةٍ مُلِحّةٍ إلیه، لقد أوّلْتُ عرض الإمامة هذا علی أنّه تشابه ضمن الرمز الاقتصادی مع بذله الماء فی الفصل (4: 1 – 5)، حیث إنّ الإمامة والماء کلاهما یدلاّن علی خصائص مختلفة فی الحیاة: مادّیة وروحیّة؛ وبالتالی فإنّ کثیراً من المتضادّات الواردة فی الفصل الثالث جاءت ترجمتها ضمن الرمز المکانی. الحرکات المکانیّة یمکن رسمها کما فی المخطط 4: 2.

وهناک نقطة أُخری تستحقّ الاهتمام، وهی اللباس الذی کان یرتدیه الحسین عندما خرج من خیمته: إزار، وعباءة، ونعلان. علی قدر ما أستطیع أن أتصوّره أنا فإنّ هذا اللباس کان بصورة خاصّة یُرتدی فی حالتین: عند الحجّ إلی مکّة، وککفن

ص: 224


1- اُنظر: دکاکی، الولاء (Dakake، “Loyalty”): ص113-114. وحول الإمام بأنّه الأَوْلی من الناحیة الشرعیّة (غیر القائد السیاسی) راجع: کالدَر، الأهمّیة (Calder، “Significance”).
2- حول أهمّیة الوحدة فی المجتمع الإسلامی الأوّل، راجع: فان أس، تی جی: ج1، ص7-19. حول دور الإمام کمصدر للوحدة والهدایة، راجع: کرون وهِنْدز، خلیفة الله (Crone And Hinds، God’s Caliph): ص31-42، وکالْدَر، الأهمّیة: خصوصاً ص263.

یُکفّن به المیت عند دفنه(1). فی الحالة الأُولی، یبیّن هذا أنّ الشخص الذی یرتدی هذا اللباس یکون فی حالة إحرام، وفی هذه الحالة یکون القتل محرّماً علیه، ویکون المُحرِم نفسه ذا قدسیّة، ولا یجوز انتهاک حرمته(2). أمّا فی حالة المیت یکون للّباس - مع التغسیل والتطییب بالحنوط - أهمّیة نقله إلی حالة الطهارة الروحیّة. المقصود من هذا هو إعداد المیت للقاء ربّه عند الحساب، وأن یکون جاهزاً لدخول الجنّة(3).

حسب ما فهمت، فإنّ هذا النوع من اللباس لم یکن مرتبطاً بالصلاة العادیّة، مع أنّ المؤمن أثناء الصلاة یدخل مؤقّتاً فی حالة الإحرام(4).

التعلیق علی لباس الحسین یشیر إلی اتّجاهین حسب تأویلی أنا:

فمن جهةٍ یبیّنُ أنّ الحسین - کمُحرِم - یرید تحقیق السلام، ولا یجوز انتهاک حُرمته (وإنْ لم یکن فی حالة إحرام فعلاً). وفی هذا الخصوص، یبدو ذلک فی تعارضٍ تامّ مع ذکر لباس الحرب الذی کان یرتدیه هو وأصحابه فی الفصل 1: 4.

ص: 225


1- حول لباس الحج، یمکن مراجعة أیّة دراسة تمهیدیّة عن الإسلام، أو مراجعة: وَنسِنک وجومییر، الإحرام (Wensinck And Jomier، “Ihram”). وحول الإزار والرداء ککفن للموتی، راجع: غروتَر، مراسم تشییع الجنائز (Grütter، “Bestattungsbräuche”): ج2، ص83 -84. شکراً ل- (جون ناواس) من جامعة لوفن (John Nawas، Leuven University) الذی أرشدنی لهذه المقالة. وفی هذه العبارة وما بعدها استخدمت زمن الفعل الماضی عند الحدیث عن أهمّیة لباس الحج والتکفین. نفس المعنی یتعلّق بلباس هذه الأیّام علی أیّة حالٍ.
2- تأویل اللباس هذا بیّنه هاوارد فی ترجمته لتاریخ الطبری: ص93، الهامش330، مشیراً إلی کتاب وَنسِنک وجومییر (الإحرام).
3- اُنظر: غروتَر، مراسم تشییع الجنائز (Bestattungsbräuche): خصوصاً ج1، ص 161-162، وص168-170، وج2، ص79-87.
4- اُنظر: وَنسِنک، الإحرام.

المخطّط 4: 2، التحرّکات المکانیّة فی الفصل الثالث

وتؤیّد هذا التأویل بقوّة مواضع عدیدة فی النصّ المعتمد - خصوصاً فی محاورة الحسین مع الحُرّ فی الفصل الخامس والفصل الثامن - وکذلک علی امتداد القصّة التی یظهر فیها ضمناً أنّ الحسین کان یرید السلام، أو عند ذکر حُرمته(1).

ومن الجهة الأُخری، یبیّن لباسه أنّه کان مستعدّاً للموت، نعم کان یحدث أن یتوقّع المقاتلون المسلمون القتل فی المیدان - أی یمضون شهداء - وکانوا یرتدون

ص: 226


1- سأعود مرّةً أُخری إلی مسألة حُرمة الحسین.

أکفانهم فی المعرکة(1). وفی هذا الخصوص یشیر لباس الحسین إلی ما سیأتی فی النصّ المعتمد، بینما فی الفصل 7: 1، یتحدّث الحسین عن الشهادة کشیءٍ یتوق إلیه عند جوابه علی تحذیر الحُرّ له (الفصل الثامن). وهذا یتوافق أیضاً مع مشهدٍ سیأتی لاحقاً فی القصّة، حیث فی اللیلة التی سبقت المعرکة یُعِدّ الحسین وأصحابه أنفسهم للموت بالغُسل بماءٍ فیه حنوط، وهو المعتاد عند تحضیر المیت للدفن(2). یمکن

ترسیم دلالة لباس الحسین کما یلی فی المخطّط 4: 3.

ص: 227


1- اُنظر: غروتر، مراسم تشییع الجنائز (Bestattungsbräuche): ج2، ص79. هذا التأویل کان قد اقترحه لی أیضاً بروفسور جولیه میسمی خلال رسالة عبر البرید الإلکترونی فی جواب علی سؤال فی قائمة الحوارات H-MIDEAST-MEDIEVAL@H-NET.MSU.EDU، فی 5/5/2005م.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص327، تاریخ الطبری (Tabari، History): ص19، ج121. حول هذا الإجراء عموماً، راجع: غروتر، مراسم تشییع الجنائز (Bestattungsbräuche): ج1، ص161-170.

القسم الرابع

عندما حضر وقت صلاة الظهر، أمرَ الحسینُ أصحابَه بالتهیّؤ للرحیل، ثمّ أمّ الفریقین فی الصلاة، وخطب فیهم خطبةً ثانیة، هذه المرّة تحدّث عن أحقیّة أهل البیت فی الحکم ممّا لیس لبنی أُمیّة، مرّةً أُخری بیّن الحسین أنّه مستعدّ لترک أهل الکوفة وشأنهم إنْ هم انصرفوا عمّا کانوا قد أکّدوه فی کتبهم إلیه.

بعد الخطبة وعندما استفسر الحُرّ عن تلک الرسائل، عرض الحسین خرجین ملیئین بالرسائل التی کانت قد وردت إلیه من أهل الکوفة، قال الحُرّ: إنّه مأمور بجلب الحسین إلی الوالی ابن زیاد فی الکوفة، ولکنّ الحسین أبی أن یذهب معه(1).

فی الفصلِ الرابِع، قام الحسینُ بحرکةٍ جدیدة لاختراق حدود الخصومة؛ أوّلاً بإمامتهِ للحرِّ وأصحابِه فی الصلاة، وثانیاً بالتحدّثِ والنُصحِ لهم. البنیة الإخباریّة فی کلامِ الحسینِ هنا فی غایة الوضوح (اُنظر المخطّط 4: 4). وهنا یمکن القول: إنّ هذا الکلامَ یشتملُ علی جملتین شَرطیّتین: واحدة فی بدایة الکلام (1C فی المخطّط

ص: 228


1- «فلمّا کان وقت العصر أمرَ الحسینُ أصحابَه أن یتهیّئوا للرحیلِ ففعلوا، ثمّ خرجَ فأمرَ منادیه فنادی بالعصر وأقامَه، وصلّی الحسینُ بالقومِ جمیعاً، ثمّ سلّم وانصرفَ إلیهم بوجهه، فحمدَ اللهَ وأثنی علیهِ ثمّ قال: أمّا بعد، أیّها الناس، فإنّکم إن تتّقوا اللهّ وتعرِفوا الحقَّ لأهله یکنْ أرضی لله، ونحنُ أهلُ البیتِ أولی بولایةِ هذا الأمرِ علیکم من هؤلاء المدّعینَ ما لیس لهم، والسائرین فیکم بالجورِ والعدوان، فإن أنتم کرِهتمونا وجهلتم حقّنا وکان رأیُکم غیرَ ما أتتنی به کتبُکم، وقدِمَت علیّ بهِ رسلُکم، انصرفت عنکم. فقالَ لهُ الحرّ: إنّا واللهِ لا ندری ما هذه الکتبُ والرسلُ التی تَذکُر. فأمرَ الحسینُ (رضی الله عنه) بإخراج کتُبِهم، فأُخرِجَت فی خرجین مملوءین، فنثرَهما بینَ أیدیهم، فقال الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذین کتبوا إلیک، وقد أُمِرنا إذا نحنُ لقِیناک ألا نفارقَک حتّی نقدمک الکوفةَ علی عبیدِ الله بن زیاد. فقالَ له الحسین: الموتُ أدنی إلیک من ذلک».

4: 4) والأُخری فی نهایته (2C فی المخطّط نفسه)، وکلتاهما تبدآنِ بأداة الشرط (إنْ)، وتتحدّثُ هذه العبارات عمّا سیحدث فیما لو رضیَ أهلُ الکوفة بالحسین أو صدّوه.

(1C)إن تتّقوا اللهّ وتعرِفوا الحقَّ لأهله یکنْ أرضی لله.

(S)ونحنُ أهلُ البیتِ أولی بولایةِ هذا الأمرِ علیکم من

هؤلاء المدّعینَ ما لیس لهم، والسائرین فیکم بالجور والعدوان.

(2C) فإن أنتم کرِهتمونا وجهلتم حقّنا، وکان رأیُکم غیرَ

ما أتتنی به کتبُکم، وقدِمَت علیّ بهِ رسلُکم، انصرفت عنکم.

المخطّط 4: 4 خطبة الحسین الثانیة

C1،C2: جُملتان شَرطیّتان،S: جملة إخباریّة.

توجَدُ بین الجملتین الشَرطیّتین جملةٌ إخباریّة بیَّنَ فیها الحسینُ فضائلَ أهلِ بیتِه ورذائلَ أُولئک القوم، والذی ینبغی هنا أن یُفهَمَ من: (هؤلاء المدّعین) أنّهم تلک الحکومة القائمة وهم بنو أُمیّة. وهنا البنیة المتوازیة فی الخطبة واضحه جدّاً؛ حیثُ إنَّ حرف الجرّ (مِن) فی العربیّة یأتی کمحورٍ یُرتکَزُ علیه.

یتحدّث النصّ الذی یأتی قبل هذه الجملة عن اتّخاذ الحسین قائداً، بینما الذی یلیها ینوِّهُ باتّخاذ أُولئکَ المدّعین قادةً. العبارة الرئیسیّة (S) هنا تبیِّنُ:

أوّلاً: تضادّ الحسین الذی هو واحدٌ من أهل البیت - ومصطلحُ (أهل البیت)

ص: 229

هنا یجبُ أن یُحمَل علی أنّهم (آلُ محمّدٍ)(1) - مع هؤلاء المدّعین (بنی أُمیّة).

وثانیّاً: أنَّ أهلَ البیتِ هم أصحابُ الحقّ فی الخلافة، بینما أُولئک القوم هم من المدّعین الذین یجلبون الجورَ والطغیان؛ وعلیه فهناک تَعارُضان فی هذه العبارةِ الرئیسیّة:

الأوّل فی رمز النسب: أهل البیت / أُولئک المدّعین (بنی أُمیّة)(2).

والآخر فی رمز السلطة: حکومة شرعیّة / حکومة غیر شرعیّة.

تُظهِرُ العبارةُ بشکلٍ جلیّ مقایسةً واضحة کما یلی:

أهل البیت: حکومة شرعیّة : : بنو أُمیّة: حکومة غیر شرعیّة. وبنظرة أکثر عمقاً إلی الجملتین الشَرطیتین 1C و2C، تظهر بوضوح البنیة الموجودة فی الجدول 4: 2. یُظهر القسم الأعلی من الجدول الجملة الشرطیّة الأُولی 1C؛ والقسم الأسفل یُظهر الجملة الشرطیّة الثانیة 2C. وترتیبها بهذا الشکل یبیّن بوضوح أنّ التعارضات والتحوّلات بین الرموز المختلفة تتعاضد لإعطاء الرسالة التی یرغب الحسین فی إیصالها، وعندما یُقرأ الجدول أفقیّاً تکون العبارات الموجودة فی کلِّ واحدةٍ من الجُمل منسجمةً مع بعضها البعض، حیث تکون فی 1C:

تقوی الله Ξ معرفة الحقّ لأهله Ξ رضا الله(3).

ص: 230


1- راجع: الملحق 2، حاشیة9.
2- فی المعادلات المستخدمة فی هذا النصّ یجب أن یُقرأ الخط المائل (/) کما یلی: "فی تضادٍّ مع".
3- فی المعادلات المستخدمة فی هذا النصّ ینبغی أن یقرأ الرمز Ξ کما یلی: "ینسجم مع".

وفی 2C:

بغض أهل البیت Ξ جهل حقوقهم أو تقلّب الآراء Ξ انصراف الحسین.

[جدول 4: 2، الترتیب الصرفی للجُمل الشرطیّة.]

العمود1

العمود2

العمود3

العمود4

C1

إنْ

تتّقوا الله

(رمز التقوی)

وتعرِفوا الحقَّ لأهله

(رمز السلطة)

یکنْ أرضی لله

(رمز التقوی)

C2

إنْ

کرهتمونا

(رمز السلطة)

وجهلتم حقّنا وکان

رأیُکم غیرَ ما أتتنی به کتبُکم

(رمز السلطة)

انصرفت عنکم

(رمز المکان)

ملاحظة: 1C و2C جملتان شَرطیّتان (اُنظر: المخطّط 4: 4)

فی 1C هذا یعنی أنّ ما تمّ بیانه فی رمز التقوی فی العبارة الأُولی (تتّقوا الله) تمّ بیانه فی رمز السلطة فی العبارة الثانیة (تعرفوا الحقّ لأهله)، ومرّة أُخری فی رمز التقوی (أرضی لله).

وبعبارةٍ أُخری: تمّ تحوّل رمز التقوی إلی رمز السلطة، ومن ثمّ إرجاعه إلی رمز التقوی مّرةً أخری فی 2C، هناک تحوّل مشابه فی العبارتین الأولیتین من الجملة اللتین هما فی رمز السلطة، والعبارة الثالثة التی هی فی رمز المکان، عند القراءة عمودیّاً یبیّن الجدول (4: 2) أنّ التحوّل المجازی بین رمز التقوی ورمز السلطة یأتی فی العمود (2)، وآخر بین رمز السلطة ورمز المکان فی العمود (4)، فی الوقت

ص: 231

نفسه جاءت قِیَم العبارات سلبیّة؛ حیث جاء ما کان موجباً فی 1C سلبیّاً فی 2C:

تقوی الله (+) ¬ بغض أهل البیت (-)(1) فی العمود 2.

رضا الله (+) ¬ انصراف الحسین (-) فی العمود 4.

فی العمود 3 لیس هناک تحوّل، حیث إنّ العبارتین کلتیهما فی رمز السلطة.

علی أیّة حالٍ، هناک نفی لیجعل العبارتین متضادّتین:

معرفة الحقّ لأهله (+) / جهل حقّ أهل البیت وانقلاب الرأی (-)

وفی خلاصةٍ لذلک، فإنّ أهل الکوفة قد أُعطیَ لهم الخیار مرّةً أُخری لقبول أو رفض الحسین کقائد سیاسی، وفی هذه المرّة لم تکن الحجّة التی قدّمها الحسین لأجل اختیاره هی فقط دعوة أهل الکوفة له (للقدوم)، فقد کان الأبرز فی خطبته هذه هو الاحتجاج بالنسب والتقوی، الحسین من أهل البیت، ولهذا فیه أمر إلهیّ لتقلّد الحکم، فلو کان أهل الکوفة یتّقون الله - وهو شرط لا بدّ من توفّره فی کلِّ مسلمٍ - لکان من الواجب علیهم الرضا بالحسین قائداً سیاسیّاً لهم، وکان هذا سیُرضی الله(2)، فإن کان اختیارهم أن یرفضوه، کان سینصرف عنهم، وهذا یتضمّن علامةً لغضب الله.

عندما خطب الحسین، أخبره الحُرّ أنّه لا یعرف شیئاً عن کتب القوم التی تحدّث عنها، وعندها جاء الحسین بخرجین ملیئین بالرسائل، ولکنّ الحُر ّ أنکر أنّهم، (هو ورجاله) کانوا قد کتبوها.

ص: 232


1- فی المعادلات الواردة فی هذا النصّ ینبغی أن یُقرأ السهم (¬) کما یلی: "متحوّل إلی". علامتا الزائد (+)، والناقص (-)، تدلاّن علی أنّ الحالة لها قیمة موجبة أو سلبیّة.
2- المطالعة حول فکرة "التقوی" فی القرآن، یرجی مراجعة کتاب: أولاندَر، تقوی الله.

حتی الآن لم یکن هناک فرق بین الجماعات المختلفة من أهل الکوفة، ولکن هنا أصبح واضحاً أنّ هناک فروقاً بینهم، فضلاً عن ذلک، فأنّ مسألة إشارة الحُرّ إلی أسیاده، وأنّه مأمور بأخذ الحسین إلی الکوفة کانت أوّل تلمیح إلی أنّه لم یکن راضیاً بما عُهِدَ إلیه، فلم یأتِ إلی هناک طوعاً أبداً ولکنّه کان مأموراً بذلک، ومن جهةٍ أُخری، قال الحسین للحُرّ بنحوٍ قاطع إنّه لا یرید الذهاب إلی الکوفة أسیراً.

القسم الخامس

عندما ذهب الحسین وأصحابه؛ لینصرفوا حال الحُرّ ورجاله بینهم وبین طریقهم، شتم(1) الحسینُ الحُرَّ، ولکنّ الحُرّ أبی أن یردّ الشتم؛ إجلالاً للحسین وأُمّه، أراد الحُرّ أن یأخذ الحسین إلی ابن زیاد فی الکوفة، فبدأ النزاع بینهما. أخیراً توصّلوا إلی تسویة بأن یسلکَ الحسینُ طریقاً ثالثاً لا یأخذه إلی الکوفة ولا یردّه إلی المدینة، بینما یتبعه الحُرّ ورجاله، کان الحُرّ یرجو الله أن یغنیه عبء الأمر(2).

ص: 233


1- ما قاله الإمام(علیه السّلام) للحر هو عبارة «ثکلتک أُمّک!»، ولم یعدّها أحد من اللغویین من ألفاظ السبّ والشتم؛ لأن معنی الثکل یدّل علی فقدان الحبیب، ویختص بفقدان الولد عند بعض أهل اللغة ، ویستعمل کذلک فی فقدان المرأة زوجها، وفی فقدان الرجل والمرأة ولدهما. اُنظر: فی العین (ج5،ص349) والصحاح(ج4، ص1674) وبذلک تندرج هذه العبارة تحت عنوان الدعاء لا الشتم والسُّباب. وعلیه فتعبیر الکاتب غیر دقیق؛ إذ نسب للإمام قیامه بشتم مَن سیصبح من أنصاره بعد حین. (المحقق).
2- «فلمّا ذهبوا لینصرفوا، حالَ القومُ بینهم وبین الانصراف، فقال الحسینُ للحُرِّ: ثکلَتْکَ أُمُّک! ما تُرید؟ قالَ: أما والله، لو غیرُک من العربِ یقولُها لی وهو علی مثلِ الحالِ التّی أنتَ علیها ما ترکتُ ذِکرَ أُمِّه بالثکل أنْ أقوله کائناً من کان، ولکنْ - والله - ما لی إلی ذِکرِ أُمِّکَ من سبیلٍ إلّا بأحسن ما یُقدر علیه. فقالَ له الحسینُ: فما تُرید؟ قال الحرّ: أُریدُ واللهِ أن أنطلقَ بک إلی عبیدِالله بن زیاد. قال له الحسین: إذن والله لا أتبعُک. فقالَ لهُ الحُرّ: إذن والله لا أدعک. فترادّا القولَ ثلاثَ مرّاتٍ، ولما کثُرَ الکلامُ بینَهما قالَ لهُ الحرّ: إنّی لم أُومر بقتالِکَ، وإنّما أُمرتُ ألّا أفارقَک حتّی أقدمک الکوفةَ، فإذا أَبَیتَ فخُذْ طریقاً لا تُدخلُکَ الکوفةَ ولا تردُّکَ إلی المدینة، تکون بینی وبینَک نصَفاً حتّی أکتُبَ إلی ابنِ زیاد، وتکتُبَ أنتَ إلی یزید بن معاویة إن أَردتَ أن تکتبَ إلیهِ أو إلی عبیدِالله بنِ زیاد إن شِئتَ، فلعلّ الله إلی ذاک أن یأتیَ بأمرٍ یرزقنی فیه العافیةَ من أن أُبتَلی بشیءٍ من أمرِک».

ازدادَ التضادّ المکانی واتّسعَت فجوته بین الحسینِ والحرِّ عندما منعَ الحرُّ الحسینَ وأصحابَه من مواصلةِ السیر إلی حیث أرادوا، فی تلک اللحظة،لم یُذکَرْ إلی أین ینوی الحسین السیر، إلی الکوفة أم العودة إلی الحجاز، ولیس الأمر المهم هنا إلی أیّة جهةٍ کان ینوی السیر، ولکنّ الحقیقة هی أنّه قد مُنِعُ من مواصلة السیر، وأنّ تسویة الأمر بین الخصمین تدلُّ علی أنّه کان هناک خیارٌ ثالث.

یمکن أن یُطبَّق رمز النسب فی النزاع بین الرجلین، فقد شتمَ(1) الحسینُ الحُرَّ من خلال أُمّه (ثکلتک أُمّک)(2)، ولکنّ الحُرّ أبی أن یردّ الشتم ویذکر أمَّ الحسین بسوء؛ حیث إنّه لم یکن بوسعه سوی ذکرأم الحسین بخیر (5: 2).

الحجّة التی تُفهَمُ ضمناً هنا هی أنّ أُمّ الحسین کانت ابنة النبیّ؛ ولهذا یجب ألّا تُشتَم أبداً، فقد کانت فوق جمیع نساء العرب قاطبةً، ویبدو واضحاً أنّ الحُرّ کان یجّلّ أهلَ البیت کثیراً، فی هذا الموقف أری بیاناً آخر حول حُرمة الحسین بسبب نسبه.

یعطی هذا الموقف دلیلاً آخر علی أنَّ الحُرّ کان یرغب فی تسویةٍ، ولیس قتالٍ مع الحسین، وکذلک فی تفسیر عبارته الأخیرة فی هذا الفصل، حیث کان یرجو الله أن یغنیه عبء هذا الأمر (4-5: 3).

ص: 234


1- تقدم أن قول الإمام الحسین (علیه السّلام) لیس من الشتم، بل دعاء بالهلاک وفقدان الأُمّ لولدها؛ لفعلٍ سیئ یقوم به أو قول کذلک.(المحقق).
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص299. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص94.

یبیّن الحّر هنا بکلِّ وضوحٍ تردّده فی الأمر، وولاءه المتزلزل لبنی أُمیّة.

فی الرمز الاجتماعی یظهر الحسین والحُرّ مرّةً أُخری أنّهما متعارضان مع أحدهما الآخر، فلا یزال الحُرّ یمتلک دوراً رسمیّاً، حیث یتصرّف حسب أوامر ابن زیاد، بینما الحسین - فی نظرهم - متمرّد یجب أن یُقبَض علیه.

وعندما یزداد النزاع حدّةً، ویوشک أن یجرّهم للقتال، یقترح الحُرّ تسویةً تتضمّن هدنةً مؤقّتة، بینما ینتظر هو أوامر جدیدة، ویُحسم أمر القتال.

بهذا تنسجم بنیة رمز المکان مع بنیة الرمز الاجتماعی. فی الرمز المکانی والاجتماعی معاً، یُحدث الحُرّ تحوّلاً یتلاءم إلی حدٍّ بعید مع أولویّات النسب فی رأیه.

القسم السادس

بعد ذلک جاءت الخطبة الثالثة التی ألقاها الحسین فی البیضة، ومضمونها: إنّ الواجب علی کلِّ مؤمنٍ تقویم سلاطین الجور والإثم، وإنّ الحکومة القائمة فاسدة، وکونه سبط النبیّ فهو بهذا أحقّ من غیره بوضع الأُمور فی مواضعها. قال: لو وفی أهل الکوفة بعهودهم لأصابوا رشداً، وإن لم یفعلوا فلیس ذلک غریباً علیهم، فقد فعلوه فیما مضی مع أهله؛ وبهذا ما کانوا لینکثوا عهودهم فقط،بل آخرتهم کذلک(1).

ص: 235


1- «...إنَّ الحسینَ خطبَ أصحابَه وأصحابَ الحُرّ بالبیضةِ، فحمدَ الله وأثنی علیهِ، ثمّ قال: أیُّها الناس، إنّ رسولَ الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال: مَن رأی سلطاناً جائراً، مستحلاً لحُرَم الله، ناکثاً لعهدِ الله، مخالفاً لسُنّةِ رسولِ الله، یعملُ فی عبادِ الله بالإثمِ والعدوان، فلم یغیّر علیه بفعلٍ ولا قولٍ، کان حقّاً علی اللهِ أن یُدخله مدخله. ألا وإنَّ هؤلاءِ قد لزموا طاعةَ الشیطانِ، وترکوا طاعةَ الرحمانِ، وأظهروا الفسادَ، وعطّلوا الحدودَ، واستأثروا بالفیءِ، وأحلّوا حرامَ الله، وحرَّموا حلالَه، وأنا أحقُّ من غیری. قد أتتنی کتبُکم وقدمت علیّ رسلُکم ببیعتکم أنّکم لا تسلمونی ولا تخذلونی، فإنْ تممتم علی بیعتِکم تصیبوا رشدَکم، فأنا الحسینُ بنُ علیّ وابنُ فاطمةَ بنتِ رسولِ الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )، نفسی مع أنفسِکم، وأهلی مع أهلیکم، فلکم فیّ أسوةٌ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدَکم وخلعتم بیعتی من أعناقِکم، فلعمری ما هی لکم بنُکرٍ، لقد فعلتموها بأبی وأخی وابنِ عمّی مسلم، والمغرور مَن اغترّ بکم، فحظّکم أخطأتم ونصیبَکم ضیّعتم، ومَن نکثَ فإنّما ینکثُ علی نفسِه، وسیغنی الله عنکم، والسلامُ علیکم ورحمةُ الله وبرکاتُه».

أکثر التضادّ وضوحاً فی الفصل السادس لیس بین الحُرّ والحسین، بل ذلک الذی کان بین بنی أُمیّة والحسین، عندما یصف الحسینُ الأُمویّین بأبلغ لغةٍ ممکنةٍ فی خطبته بما یلی: «ألا وإنَّ هؤلاءِ قد لزموا طاعةَ الشیطانِ وترکوا طاعةَ الرحمان...»، فهو یذکر اثنتین فقط من التُهَم ضدّهم (6: 2). وفی المقابل، یصف الحسینُ نفسه من خلال نسبه مع النبیّ، ومن هنا یُدرَکُ ضمناً صلاحه واستقامته (6: 3).

مع هذا، یبدو لی أنّ الأُمویّین لم یکونوا هم الغرض الرئیسی من هذه الخطبة، فقد کان دورهم بالأحری إعطاء الصبغة الشرعیّة لثورة الحسین وقیادته لأهل الکوفة، من حیث إنّ السلطة کانت فاسدة، فکان من واجب الحسین إصلاحها (6: 3)؛ ومن هنا کان الحسینُ فی حاجةٍ لنصرة أهل الکوفة الذین کانوا قد بایعوه، ولو أنّهم التزموا بتلک البیعة کانوا سیحرزون النصح والوفاء من الحسین وأهل بیته، والمشکلة هی أنّهم لم یکونوا محلّ ثقة أبداً، والذی کان یجب أن یُتَوقّع منهم هو الخیانة، وهذا ما قاموا به من قبل تجاه أهل البیت. فی الحقیقة، قال الحسین: إنّه من الحمق الاغترار بهم، وهکذا بامتناعهم عن نصرة الحسین کانوا قد ضیّعوا نصیبهم من ثواب الآخرة، الذی کانوا سینالونه لو أنّهم نصروا الحسین (6: 4)(1).

ص: 236


1- لیس من الواضح جدّاً أنّ هذه الکلمات: «فحظّکم أخطأتم ونصیبَکم ضیّعتم». (الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص300. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History)، ج19، ص 96) تشیر إلی الآخرة. وفی هذا الخصوص قد حذوت حذو أیّوب. اُنظر: معاناة الخلاص (Ayoub، Redemptive Suffering: ): ص107.

استفاد الحسین کذلک من النبیّ فی إعطاء الشرعیّة لدعواه؛ أوّلاً: تبدأ الخطبة بحدیث نبوی، والذی یلمّح إلی حقِّ الحسین بإصلاح الحکومة القائمة.

وثانیاً: نوّه الحسین بمقامه أنّه حفید محمّد، وبهذا یکون وریث النبیّ الذی یستطیع الهدایة إلی طریق (الرشاد)، ویکون (الأُسوة) کما کان النبیّ نفسه کذلک(1).

وثالثاً: یستشهدُ بنصٍّ من القرآن، یخصّ فی الأصل محمّداً، ویطبّقه علی نفسه وأهلِ بیته: «إِنَّ الَّذِینَ یُبَایِعُونَکَ إِنَّمَا یُبَایِعُونَ اللَّهَ یَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَیْدِیهِمْ فَمَنْ نَکَثَ فَإِنَّمَا یَنْکُثُ عَلَی نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَی بِمَا عَاهَدَ عَلَیْهُ اللَّهَ فَسَیُؤْتِیهِ أَجْرًا عَظِیمًا » (2).

حسب الاتجاه السائد فی التفسیر المتعارف بین المسلمین، تتحدّث هذه الآیة عن صلح الحدیبیة، حیث جدّد محمّدٌ البیعة فی حال العسرة مع أصحابِه بوضع أیدیهم فوق بعض(3)، المسألة فی الآیة المذکورة هی أنّه عندما وضع محمّدٌ وأصحابُه أیدیهم فوق أیدی بعض، وضع الله یده فوق أیدیهم، وبهذا تمّت بیعة الولاء لله ولمحمّد معاً، وقد أخذ الطبری بهذا التأویل فی تفسیره لهذه الآیة(4)؛ وبهذا یکون الشخص الذی تمّت له البیعة هو محمّد، ومبایعة محمّد هی مبایعة الله. هناک تحوّل بین رمز السلطة (الولاء لمحمّد) ورمز التقوی (الولاء لله).

ص: 237


1- سورة الأحزاب، الآیة: 21«لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کَانَ یَرْجُو اللَّهَ وَالْیَوْمَ الْآخِرَ وَذَکَرَ اللَّهَ کَثِیرًا »، فیما سیأتی لاحقاً فی القصّة، یذکّر الحسین بوظیفة النبی ودوره فی حیاة المؤمنین. اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص300. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص 118.
2- سورة الفتح: آیة10.
3- حول مفهوم البیعة راجع: تایان، البیعة (Tyan، “Bay’a”).
4- اُنظر: ابن إسحاق، حیاة محمّد: ص505-506. الطبری، محمد بن جریر، جامع البیان عن تأویل آی القرآن: مجلّد13، ج26، ص99-100.

الکلمات المقتبسة، والتی جعَلْتُها بین قوسین کبیرین، هی کلمات مقتبسة حرفیّاً من خطبة الحسین.

بحسب الطبری ومعظم أُولئک الذین یقرأون هذا النصّ، فإنّ هذا المقطع القرآنی والموقف فی الحدیبیّة یجب أن یکون قد أتی إلی أذهانهم. جعل الحسین العلاقة المجازیّة بینه وبین النبیّ أمراً واقعاً، وأخذ علی عاتقه هو وأهل بیته الدور الذی کان یقوم به النبیّ نفسه، ما یُفهَم ضمناً هنا هو أنّ مبایعة الحسین هی مبایعة الله، ویمکن وصف هذا من خلال هذه المعادلة:

الولاء ل- محمّد = الولاء ل- الحسین (رمز السلطة) ¬ الولاء لله (رمز التقوی)

(العلاقة المجازیّة فی رمز النسب)

فکلُّ مَن یعطی هذه البیعة سیکسب (أجراً عظیماً) من الله، ومن ینکث إنّما (ینکث علی نفسه)، حسب الطبری، تشیر هذه الکلمات الأخیرة إلی خسارة الجنّة(1).

فی هذا الفصل، إذن هناک عدّة تحوّلات بین رمز السلطة ورمز التقوی، علی سبیل المثال، فی هذا القیاس:

الوفاء ببیعة الحسین: نکث بیعة الحسین: : الوفاء ببیعة الله: نکث بیعة الله.

یکون القسم الأیمن ضمن رمز السلطة، بینما القسم الأیسر ضمن رمز التقوی، ویمکن الاحتجاج أنّ العلاقة بین القسم الأیمن والقسم الأیسر هی أکثر من مجرّد قیاس.

ص: 238


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، جامع البیان عن تأویل آی القرآن: مجلّد13، ج26، ص100.

ما یجول فی بال القارئ الذی یتعاطف مع الحسین وأمره، هو أنّ العهد السیاسی مع الحسین لیس (ک-) عهد مع الله، بل هو عهد مع الله حقیقةً. مهما یکن، فإنّ هذا القیاس - کما أفترض - هو مثال آخر علی کیفیّة تحوُّل المجاز إلی کنایة، من خلال التحوّلات بین الرموز التی وُضِعت لتبدو أنّها متماثلة.

یمکن رسم العملیّة البنیویّة فی هذا الفصل کما یلی:

الوفاء بالعهد مع الحسین (رمز السلطة) ¬ الوفاء بالعهد مع الله (رمز التقوی)

نقض العهد مع الحسین (رمز السلطة) ¬ نقض العهد مع الله (رمز التقوی)

والعهد مع الله هنا إشارة إلی المیثاق الإلهی مع البشر الذی ذُکر کثیراً فی القرآن، وتناوله أهل التفسیر والکلام بالبحث والدرس کثیراً(1).

وهکذا، فإنّ الوفاء بالعهد مع الله أو نقضه یعنی الإسلام أو الکفر، ومع أنّ الحسین لم یتّهم أحداً صراحةً بالخروج عن الإسلام، إلّا أنّه کان قریباً جدّاً من هذا المعنی فی خطبته.

الاحتجاج الأساسی فی هذا الفصل إذن هو: أنّ الانتخاب بین الخیارات المطروحة أمام أهل الکوفة کان أمراً فی غایة الأهمّیة، فالقرار السیاسی الذی سیتّخذونه سیکون إمّا مع أهل بیت النبیّ وإما ضدّهم؛ لهذا - حیث یمکن هکذا

ص: 239


1- حول هذا الموضوع راجع علی سبیل المثال: فان أس، تی جی (Van Ess، TG)، مجلد4، ص592-594. وانسبْرو، دراسات قرآنیّة (Wansbrough، Quranic Studies): ص8-12.

ادّعاء - سیکون هذا القرار کذلک مع الله أو ضدّه، وبتبعه ستکون هناک عواقب أُخرویّة لکلِّ شخصٍ. بیان هذا الاحتجاج فی المخطّط 4: 5.

المخطّط 4: 5، خیارات أهل الکوفة طبقاً للفصل السادس

القسم السابع

تُروی خطبة رابعة قد خطبها الحسین فی ذی حُسُم أیضاً، وفیها یلتاع الحسین من تغیّر وسوئها، والمؤمنین یرغبون فی لقاء الله، والشهادةُ خیرٌ من الحیاة مع (الظالمین)، قام أحد أصحابه متکلّماً بلسان بقیّة الرجال، مؤکّداً ولاءهم للحسین والموت من أجله(1).

ص: 240


1- «...قام حسینٌ بذی حُسُم، فحمدَ الله وأثنی علیهِ، ثمّ قالَ: إنّهُ قد نزلَ من الأمرِ ما قد ترون، وإنَّ الدنیا قد تغیّرتْ وتنکّرتْ وأدبرَ معروفُها، واستمرّت جذاء، فلم یبقَ منها إلّا صبابة کصبابةِ الإناء، وخسیس عیشٍ کالمرعی الوبیل، ألا ترونَ أنَّ الحقَّ لا یُعملُ بهِ، وأنَّ الباطلَ لا یُتناهی عنه، لیرغب المؤمنُ فی لقاءِ الله محقّاً، فإنّی لا أری الموتَ إلّا شهادةً، ولا الحیاةَ مع الظالمینَ إلّا برماً. قالَ: فقامَ زهیرُ بنُ القینِ البجلی، فقالَ لأصحابِه: أتتکلّمونَ أم أتکلّم؟ قالوا: لا، بل تکلّم. فحمدَ الله فأثنی علیه، ثمَّ قال: قد سمعنا - هداکَ الله یا بنَ رسولِ الله - مقالتَک، والله، لو کانت الدنیا لنا باقیةً وکنّا فیها مُخلّدین إلّا أنَّ فراقَها فی نصرِک ومواساتِک لآثرنا الخروجَ معکَ علی الإقامةِ فیها».

فی الخِطَب السابقة کان کلام الحسین موجّهاً لأهل الکوفة، غیر أنّه فی هذه الخطبة کان کلامُه لأصحابه، بالرغم من أنّ هذا لم یُذکر صراحةً.

تختلف هذه الخطبة تماماً عن سابقاتها، حیث إنّه فی الخطب السابقة کان هناک خیاران، ولکنّ الخیارات الآن مطروحة أمام الحسین وأصحابه ولیس أهل الکوفة، وخیاراته المفضّلة واضحة، ومطلب الحسین هو: هل للحیاة قیمة فی هذه الدنیا الفاسدة، أم علی المرء أن یتمنّی لقاء الله؟ فرضیّاً هناک خیار للعیش فی هذه الدنیا، ولکن لیس هناک من شکٍّ أنّ الخیار الوحید الذی یرضی به الحسین هو (لقاء الله)، ولیس الموتُ غیرَ مرغوب فیه؛ بل فی الحقیقة هو الشهادة (7: 1) مع کلّ ثمارها فی الآخرة، وهذا ما تضمّنته هذه الخطبة(1). فی مشهد اللقاء بین المؤمن وربّه یندمج رمز المکان مع رمز التقوی.

أیّد أصحابُ الحسین هذه الکلمات، حیث أدرکوا أنّه قالها بهدایة من الله، فهم أیضاً قد اختاروا ما اختاره الحسین، وفضّلوا نصرته والموت دونه علی الخلود فی تلک الدنیا، ففی حدیثهم عن نصرته، وقف أصحاب الحسین فی تضادّ مع أهل الکوفة الذین لفّهم الصمت بعد الخطبة الأُولی (3: 2)، والذین لم یقرّوا أنّهم کانوا قد کتبوا الکتب بعد الخطبة الثانیة (4: 3)، والذین وُصفوا بأنّهم مخادعون وأهل غدر فی الخطبة الثالثة (6: 3).

ص: 241


1- کثیر من أهل القلم المعاصرین تناولوا فکرة الشهادة فی الإسلام فی کتاباتهم. راجع - علی سبیل المثال -: کولبرغ، الشهید (Kohlberg، “Shahid”) مع فهرسة. بالرغم من أنّ الحسین قد أصبح النموذخ الأعلی للشهادة فی الإسلام، فهذه أوّل مرّة تأتی کلمة (الشهادة) لتشیر إلی الحسین فی هذه القصّة، حسب ما کان باستطاعتی أن أجدها.

القسم الثامن

تستمرّ الرحلة، ویحاولُ الحُرّ إقناع الحسین إنْ هو واصل المسیر فإنّه سیُقتل، ویردّ الحسین قائلاً: إنْ هو قُتل فذلک سیکون وبالاً علی الحُرّ، ویذکرُ له قصّة أخی الأوس الذی کان فی طریقه لنصرة النبیّ، وعندما حذّروه أنّه ربّما سیُقتلُ، أنشدهم شعراً قال فیه: إنّ الموت لیس عاراً علی المرء المسلم الذی یقتل دفاعاً عن الحقّ وینأی بنفسه عمّن لعنهم الله(1)).

فی القسم الثامن، تعود الروایة إلی حیث انتهت فی القسم السادس، سار الفریقان مرّةً أُخری بجانب بعضهما الآخر، ومن الواضح أنّ الحُرّ کان خائفاً علی الحسین، فقد حاول أن یحذّره من القتل إن اختار القتال، وکان هذا التحذیر علامةً أُخری علی أنّ الحُرّ کان حریصاً علی الحسین وکان یرید له الخیر، وقابل الحسینُ تحذیرَ الحُرّ باحتجاجین:

الأوّل: إنّ قتله سیکون بلاءً علی الحُرّ ورجاله (8: 1)، ما یُفهم ضمناً فی رمز النسب أنّ الحسین له حُرمة باعتباره سبط النبیّ.

ص: 242


1- «...وأقبلَ الحُرّ یُسایره وهو یقولُ له: یا حسین، إنّی أُذَکّرُک الله فی نفسِک، فإنّی أشهدُ لئن قاتلتَ لتُقتلنّ، ولئن قوتلتَ لتَهلِکنّ فیما أری. فقالَ له الحسینُ: أَفبالموتِ تخوِّفُنی، وهل یعدو بکم الخطب أن تقتلونی؟ ما أدری ما أقولُ لکَ، ولکنْ أقولُ کما قالَ أخو الأوسِ لابنِ عمّه ولقیَهُ وهو یریدُ نُصرةَ رسولِ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فقالَ لهُ: أین تذهبُ فإنّک مقتول، فقالَ: سأمضی وما بالموتِ عارٌ علی الفتی إذا ما نوی حقّاً وجاهدَ مسلما وآسی الرجالَ الصالحینَ بنفسِهِ وفارقَ مثبوراً یغشّ ویرغما».

والثانی: إنّ الحسینَ لا یُخوَّف بالموت، وکما تقول القصیدة: فلیس هناک عارٌ فی موت المسلم الذی یجاهد فی سبیل المعروف بنیّةٍ صالحة، وینصر أهل الحقّ بروحه (8: 2).

یؤکّد هذا القسم الفکرة التی جاءت فی القسم السابع، وهی: إنّ الموت بالنسبة للمسلم الصالح لیس شیئاً یُخاف منه، ففی هذین القسمین، یُنظَر إلی الموت علی أنّه شهادة، أی موت الجسد المؤدی إلی الحیاة الروحیّة، هذا التحوّل - علی أیّة حالٍ - مشروط بالوضع الدِّینی لذلک الشخص، وهو یحصل للمؤمن أو المسلم الحقیقی.

القسم التاسع

واصلوا السیرَ، ولکن کلٌّ فی ناحیةٍ حتّی وصلوا عُذیب الهجانات(1)، عند ذلک جاء أربعةُ رجالٍ من الکوفة؛ لیلتحقوا بالحسین، وکان معهم دلیلهم الطرمّاح بن عَدی الذی أنشد قصیدةً فی مدح الحسین، وحاول الحُرّ منع هؤلاء الرجال الأربعة من الالتحاق بالحسین، ولکن عندما أظهر الحسین نیّته بالقتال من أجل هؤلاء الرجال وحقّهم فی الالتحاق به، کفّ الحُرّ عن ذلک(2).

ص: 243


1- العُذیب بالتصغیر وادی بنی تمیم، وهو حد السواد - أی العراق - وکانت فیه مسلحة للفرس، وبینه وبین القادسیة ستّ أمیال، وکانت خیل النعمان ملک الحیرة ترعی فیه، فقیل عذیب الهجانات جمع الهجین بمعنی "ذی الدم الخلیط". (المحقق).
2- «...فلمّا سمعَ ذلکَ منهُ الحُرّ تنحّی عنهُ، وکانَ یسیرُ بأصحابِهِ فی ناحیةٍ، وحسینٌ فی ناحیةٍ أُخری، حتّی انتهوا إلی عذیبِ الهجانات، وکانَ بها هجائنُ النعمانِ ترعی هنالک، فإذا هم بأربعةِ نفر قد أقبلوا من الکوفةِ علی رواحلِهم، یجنبون فرساً لنافعِ بنِ هلال یقالُ له الکامل، ومعهم دلیلُهم الطرمّاح بن عدی علی فرسِهِ وهو یقول: یا ناقتی لا تذعری من زجری بخیر رکبان وخیر سفر الماجد الحرّ رحیب الصدر وشمّری قبل طلوعِ الفجر حتی تحلی بکریم النجر أتی به الله لخیر أمر ثمت أبقاه بقاء الدهر فلمّا انتهوا إلی الحسینِ أنشدوهُ هذهِ الأبیاتَ، فقال: أما والله، إنّی لأرجو أن یکونَ خیراً ما أرادَ الله بنا قُتلنا أم ظفرنا. قالَ: وأقبلَ إلیهم الحُرّ بنُ یزید، فقال: إنَّ هؤلاءِ النفر الذینَ من أهلِ الکوفةِ لیسوا ممَّن أقبلَ معکَ، وأنا حابسُهم أو رادّهم. فقالَ لهُ الحسین: لأمنعنّهم ممّا أمنعُ منهُ نفسی، إنّما هؤلاءِ أنصاری وأعوانی، وقد کنتَ أعطیتنی ألّا تعرضَ لی بشیءٍ حتّی یأتیکَ کتابٌ من ابنِ زیاد. فقالَ: أجل لکن لم یأتوا معک. قالَ: هُم أصحابی وهُم بمنزلةِ مَنْ جاءَ معی، فإن تممت علی ما کانَ بینی وبینک وإلّا ناجزتُک. قالَ: فکفَّ عنهم الحُرّ».

یظهر فی قسم التاسع، الرمز المکانی والرمز الاجتماعی بوضوح، استمرّ التضادّ المکانی بین الحسین والحُرّ؛ فمن ترکیب الجملة الأُولی الغامض نوعاً ما «فلمّا سمعَ ذلکَ منهُ الحُرّ تنحّی عنهُ، وکانَ یسیرُ بأصحابه فی ناحیةٍ وحسینٌ فی ناحیةٍ أُخری» یجب أن یُفهم بأنّهم کانوا یسیرون بفریقین منفصلین عن بعضهما، وتأکّد هذا التضادّ بمحاولة الحُرّ منع الرجال الأربعة القادمین من الکوفة من الالتحاق بالحسین، ولکن ما زال الحُرّ غیر مستعدّ لقتال الحسین.

وقف الرجال الأربعة القادمون من الکوفة - للالتحاق بالحسین - فی تضادٍّ شدید مع أهل الکوفة الذین کانوا قد دعوه ولکنّهم خذلوه الآن.

أمّا تهدید الحسین للحُرّ وأنّه سیدافع عن هؤلاء الرجال ولو کلّفه ذلک حیاته (9: 3)، فإنّه یوافق کلامه فی القسم السادس؛ حیث تعهّد بالوفاء - حتّی مع الموت - لأُولئک الذین نصروه (6: 3).

ص: 244

ویوجد فی قصیدة الطرمّاح رمز النسب ورمز التقوی، حیث جاء فی القصیدة أنّ الحسین من نسبٍ شریف، وفیه کلُّ الفضائل التی یقتضیها هذا الأمر، وأنّه أیضاً مبعوث بأمرٍ إلهیٍّ (9: 2).

القسم العاشر

اشارة

سأل الحسین الرجال الأربعة حول أوضاع الکوفة، فأخبروه أنّ أشرافها تمّت رشوتهم والتحقوا بابن زیاد، وأمّا سائر الناس فعمّا قریب سیصنعون مثل ذلک، وأمّا رسولُ الحسینِ قیسُ بنُ مُسهِر الصیداوی فقتله ابن زیاد، فبکی الحسین عند سماعه هذا، وتلا آیةً من القرآن تتحدّث عن موت المؤمنین،ثمّ دعا الله وسأله أن یرزقهم جمیعاً الجنّة(1).

مرّةً أُخری یأتی رمز السلطة ورمز التقوی فی هذا القسم الأکثر بروزاً بین الرموز الأُخری، فی رمز السلطة یظهر غدر أشراف الکوفة، وتقلّب عوامّها مقابل الولاء التام لرسول الحسین قیس بن مُسهِر، والتضادّ نفسه یبقی بین ولاء أُولئک الرجال الأربعة القادمین من الکوفة، وبین سائر أهلها الذین بقوا فیها، کما فی

ص: 245


1- «ثمَّ قالَ لهمُ الحسینُ: أخبرونی خبرَ الناسِ وراءکم. فقالَ لهُ مجمعُ بنُ عبدِالله العائذی - وهو أحدُ النفرِ الأربعة الذین جاؤوه -: أمّا أشرافُ الناسِ، فقد أُعظمت رشوتُهم ومُلئت غرائرُهم، یُستمالُ ودُّهم ویُستخلصُ بهِ نصیحتُهم، فهم ألبٌ واحدٌ علیکَ، وأمّا سائرُ الناسِ بعد، فإنَّ أفئدتَهم تهوی إلیکَ وسیوفَهم غداً مشهورةٌ علیک. قالَ: أخبرونی فهل لکم برسولی إلیکم؟ قالوا: مَن هو؟ قال: قیس بن مسهر الصیداوی. فقالوا: نعم، أخذهُ الحصینُ بنُ تمیم، فبعثَ بهِ إلی ابنِ زیادٍ، فأمرَهُ ابنُ زیادٍ أنْ یلعنَک ویلعنَ أباک، فصلّی علیکَ وعلی أبیکَ، ولعنَ ابنَ زیادٍ وأباهُ، ودعا إلی نُصرتِک وأخبرَهم بقدومک، فأمرَ بهِ ابنُ زیادٍ فأُلقیَ من طمارِ القصرِ. فترقرقتْ عینا حسینٍ(علیه السّلام)، ولم یملک دمعَهُ، ثمَّ قال: «مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَی نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِیلًا ». اللهمّ اجعلْ لنا ولهم الجنّةَ نزلاً، واجمع بیننا وبینهم فی مُستقرٍّ من رحمتِک ورغائب مذخورِ ثوابِک».

کلمات الحسین هذه: «أخبرونی خبرَ الناس وراءکم» (10: 1) هنا یتحوّل رمز المکان إلی رمز السلطة:

ترک أهل الکوفة وراءهم (رمز المکان) ¬ الالتحاق بالحسین (رمز السلطة)

التحوّل بین رمز السلطة ورمز التقوی یظهر فی ذلک المشهد، عندما حاول ابن زیاد أن یجعل قیساً یلعن الحسین وأباه، لیسلم من القتل (10: 2)، فقد فعل قیسٌ عکس ذلک، حیث صلّی علی الحسین وأبیه، ولعن ابن زیادٍ وأباه. وهکذا:

بیان الولاء للشخص (رمز السلطة) ¬ الصلاة علی ذلک الشخص (رمز التقوی)

وهناک تحوّلٌ مشابه جاء فی القیاس المتضمّن فی الآیة التی تلاها الحسین ودعائه بعدها، فقد تلا الحسین جزءاً من (الآیة 23) من سورة الأحزاب، وسیاق هذه السورة یشیر إلی معرکة الخندق أو (الأحزاب)، عندما هاجم الکفّار النبیَّ وأصحابه فی المدینة(1). تمام الآیة وبدایة الآیة التی تلیها کما یلی: «مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَی نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِیلًا *«لِیَجْزِیَ اللَّهُ الصَّادِقِینَ بِصِدْقِهِمْ وَیُعَذِّبَ الْمُنَافِقِینَ » (2).

استشهد الحسین بجزءٍ من هذه الآیة، وسیاق الآیة یمیّز المؤمنین الخلّص من المنافقین الذین أعلنوا إسلامهم أمام النبیّ وخذلوه عند الشدّة، وهذا تطبیق لجزءٍ من القرآن - والذی یشیر فی الأصل إلی النبیّ محمّدٍ - علی الحسین، وهو شبیه لما ورد فی القسم 6: 4.

ص: 246


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، جامع البیان عن تأویل آی القرآن: مجلد11، جزء21، ص152-153، (القرآن: 33 [الأحزاب]: آیة9).
2- القرآن الکریم، سورة الأحزاب: آیة23-24.

الولاء ل- محمّد = الولاء ل- الحسین (رمز السلطة) ¬ الولاء لله (رمز التقوی)

(العلاقة المجازیّة فی رمز النسب)

والولاء لله بدوره یقود إلی الجنّة.

الشیء الأخیر الذی أودّ الإشارة إلیه هو بکاء الحسین علی رسوله الذی قُتل، وهکذا ینتهی هذا الخبر الطویل، الذی أسمیته (النصّ المعتمد)، بذرف الحسین للماء (الدموع) تماماً کما بدأ بجلب الماء وإعطائه للآخرین، وسأعود إلی رمزیّة الماء فی موضع آخر.

خواص بنیویّة بارزة فی (النصّ المعتمد)

فی البحث السابق(1) أوردتُ المتضادّات والتحوّلات بین الرموز التی جاءت فی کلِّ أقسام (النصّ المعتمد)، وفی هذا البحث أودّ أن أنظر بشکل کلّی إلی (النصِّ المعتمد) من زاویة أهمّ الرموز المستخدمة فیه.

أربعة رموز بارزة تکرّرت کثیراً واستُخدمت أکثر من غیرها، وهی: رمز المکان، رمز السلطة، رمز التقوی، ورمز النسب. بالرغم من غلبة رمز المکان فی النصِّ، إلّا أنّه من الواضح أنّ الرموز الثلاثة الأُخری ذات أهمّیة بالغة أیضاً، فإنّ دور رمز المکان - وکذلک الرموز الأُخری التی لم تُذکر هنا - بصورة أساسیّة هو التشدید علی الرسالة التی یحاول النصّ إظهارها من خلال الرموز الثلاثة

ص: 247


1- ویقصد به بحث تحلیل النص المعتمد، ویأتی بحسب تقسیم الکتاب البحث الثانی من الفصل الرابع. (المحقق).

الأساسیّة. إنّ رمز المکان رمز مساعد، وهذا یعنی أنّ الأُمور المکانیّة لیست حاسمةً

فی المسائل المطروحة فی النصّ، ولکنّها توجّه الروایة لتواصل مسیرها، وتجلب الأنظار نحو الأحداث المهمّة، والعملیّات والقیم من خلال التحوّلات، وبنحو أساسی التحوّلات بین هذا الرمز ورمز السلطة والرمز الاجتماعی، فقد استُخدمت بهذه الصورة فی القسم الأوّل والثانی والثالث (راجع تحلیل هذه الأقسام قیما تقدّم) فی المخطّط 4: 3.

تمّ تلخیص الحرکات الواردة فی الأقسام السابقة علی حدٍّ سواء مع الخیارات التی عرضها الحسین لأهل الکوفة، من القسم الرابع إلی العاشر، وأصبح واضحاً أنّ أیّاً من خیارات الحسین لم یتحقّق، فقد أراد الحُرّ أن یأخذ الحسین إلی الکوفة أسیراً ولیس إماماً، وعندما امتنع الحسین بدأت المفاوضات علی حلٍّ وسطٍ بین الطرفین، لیأخذ الفریقان طریقاً ثالثاً لا یؤدّی بهما إلی الکوفة، ولا یعود بهما ثانیةً إلی الحجاز.

یبیّن النصّ بصراحة أنّ الفریقیین لم یسیرا علی أنّهما جماعة متحدة، وإنّما فریقان منفصلان (ومتخاصمان) (9: 1). فی القسم العاشر یُستَخدم رمز المکان لیؤکّد انشقاق الرجال الأربعة الذین التحقوا بالحسین عن أهل الکوفة (10: 1).

فی مکانین یتحوّل رمز المکان مباشرةً إلی رمز التقوی، فی القسم الرابع، البنیة فی کلام الحسین تربط حضوره برضا الله بصورة مباشرة (4: 2)، وفی القسم السابع طلبُ الحسین للحقّ ورغبتُه فی ترک بَرَمِ الحیاة تحت حکم الظلمة یجعله یتوق للقاء الله.

مهما یکن فإنّه من خلال رمز السلطة ورمز التقوی ورمز النسب یتمّ تبلیغ الرسالة، ویتّضحُ أنّ هذه الرموز هی الأکثر أهمّیة فی النصّ، وفی ثنایا النصّ کلّه یقوم الحسین بکلِّ ما فی وسعه لإقناع أهل الکوفة أنّ قرابته من محمّدٍ تستلزم سلطته السیاسیّة علیهم، وأنّ الولاء السیاسی للحسین هو أمرٌ أساسی للمؤمن مثل الولاء

ص: 248

لمحمّد، وجاء هذا بشکلٍ صریح جدّاً فی الخطبة الواردة فی القسم 4: 2؛ حیث إنّ الحسین - کواحدٍ من (أهل البیت) - له الحقّ فی الحکم، وإنّ الإقرار بهذا من أفعال التقوی، وتأتی عبارة أُخری مشابهة لهذه فی القسم 3-4: 6، ولکن بکلمات مختلفة.

وفی هذا القسم تأتی العلاقة بین الرموز مدعومة باستشهاد من القرآن، ومن خلال التضمین فی المعنی تتکوّن نفس العلاقة بین رمز النسب ورمز السلطة ورمز التقوی فی القسم 10: 2. وهنا أیضاً یتمّ الاستشهاد بنَصٍّ من القرآن.

الحجّة التی یلقیها الحسین حسب النصّ هی نوع من القیاس یحوّل المجاز إلی کنایة، أی یجعل العلاقة الاعتباطیّة (تبدو اعتباطیّة للشخص الغریب علی الأقل) بین الحسین (الولاء السیاسی) والتقوی تبدو طبیعیّة تماماً (والتی هی بطبیعة الحال للحسین وأصحابه)، وتتکوّن هذه العلاقة من خلال قرابته من النبیّ محمّدٍ.

کما رأینا سابقاً، یعتبر المسلمون فی زمن الطبری أنّ الولاء السیاسی عند الجیل الأوّل من المسلمین تجاه شخص النبیّ هو واحد من أفعال التقوی الأساسیّة، فأُولئک الذین رفضوه کقائد سیاسی وروحی لم یکونوا مسلمین حقّاً، وأُولئک الذین رضوا بألسنتهم فقط وُصفوا بأنّهم منافقون. هناک إشارتان قرآنیتان فی (النصِّ المعتمد) (الآیة 10 من سورة الفتح فی القسم 6: 4، والآیة 23 من سورة الأحزاب فی 10: 2) تلمّحان إلی هذه الفکرة، بأنّ علاقة:

الولاء لمحمّد (رمز السلطة) = الولاء لله (رمز التقوی)

معروفة وواضحة تماماً عند جمیع المسلمین، ولکن مشکلة الحسین هی: إنّ هذه العلاقة لم یتمّ عزوها إلیه طبیعیّاً من قِبَل جمیع (أو أغلب) المسلمین، ویری الحسین أنّ الولاء الذی یُمنح لمحمّدٍ ینبغی أن یُمنح له هو أیضاً؛ حیث إنّه الرجل الأقرب نَسَباً لمحمّدٍ. وبالنتیجة یحاول بیان هذا القیاس الثلاثی:

ص: 249

ولاء أهل الکوفة: سلطة الحسین: : الحسین سبطاً: محمّد جَدّاً

رمز السلطة رمز النسب

نبوّة محمّد: جبروت الله

رمز التقوی

وهذا یعنی أنّ ولاء أهل الکوفة لسلطة الحسین هی کعلاقة النسب بین الحسین ومحمّد، والتی هی کنبوّة محمّد بالنسبة لجبروت الله.

وبعبارةٍ أُخری: من حیث إنّ محمّداً قد تسلّم سلطته من خلال علاقته مع الله، فإنّ الحسین قد تسلّم سلطته علی أهل الکوفة من خلال علاقته مع محمّد. ومهما یکن فإنّه فی الخُطَب الواردة فی (النصِّ المعتمد) لا یشیر الحسین کثیراً إلی سلطته علی أنّها سلطة أهل البیت جمیعاً، والذی هو علی رأسهم الآن (4: 2، 6: 3).

وهذه المعادلة یمکن تبسیطها کالتالی:

ولاء أهل الکوفة: سلطة أهل البیت: : ولاء أهل البیت: جبروت الله

هنا تظهر أهمّیة التحوّل بین المجاز والکنایة بصورة واضحة، حیث یمکن کتابة القیاس نفسه بالطریقة التالیة:

ولاء أهل الکوفة: ولاء أهل البیت: : سلطة أهل البیت: جبروت الله

فی المثال الأوّل الکنایة هی العلاقة السیاسیّة بین أهل الکوفة وأهل البیت من جهة، وبین أهل البیت وبین الله من الجهة الأُخری، حیث - مَجازاً - یرتبط الولاء السیاسی لأهل الکوفة تجاه أهل البیت بتقوی أهل البیت فی الطاعة التامّة لله، والسلطة السیاسیّة لأهل البیت ترتبط مع الجبروت الإلهی.

ص: 250

فی المعادلة الثانیة لهذا القیاس، ابتُدعت (أصناف) أو (رموز) جدیدة، وحدث تحوّل بین الکنایة والمجاز، وبتعبیرٍ آخر: العلاقة الکنائیّة ضمن رمز السلطة ورمزالتقوی علی التوالی فی نفس الوقت تُظهر التطابق بین السلطة الإلهیّة والسلطة السیاسیّة من جهة، وبین تسلیم الإنسان لله وولاء المحکوم للحاکم من جهةٍ أُخری. (اُنظر: المخطّط 4: 6).

المخطّط 4: 6، التحوّل بین المجاز والکنایة]

تأثیر هذا القیاس یتقوّی بوعود الله بالثواب لأُولئک الذین یقرّون بالعلاقة الواردة فیه، ووعیده بالعقاب لأُولئک الذین ینکرونها.

فی الخطبة الثانیة الواردة فی (النصِّ المعتمد) یَعِد الحسین صراحةً برضا الله عن أهل الکوفة إنْ هم رضوا به (بالحسین) (4: 2)، وفی أماکن أُخری یشیر إلی عقوبة الله - علی سبیل المثال - عند توسیع الوصیّة بالولاء لمحمّد لتشمل جمیع أهل البیت، وخصوصاً الحسین نفسه، فإنّ الثواب والعقاب الإلهیین الذَین وعد الله بهما فی القرآن یمکن أن ینطبقا علی معاصریه (کما جاء فی القسم 3-4: 6، وبالخصوص فی الآیة التی استشهد بها من القرآن).

وخلاصة لذلک: فإنّ العلاقة بین رمز السلطة ورمز النسب ورمز التقوی الواردة فی (النصّ المعتمد) تُظهر أنّ رمز التقوی له الأسبقیّة علی الرمزین الآخرین؛

ص: 251

فوجهة النظر السیاسیّة لشخصٍ ما تحدّد علاقة ذلک الشخص مع الله - وهی العلاقة الأکثر أهمّیة لأیِّ إنسانٍ کان، وفی هذا الخصوص هناک اثنان من المتضادّات

الواضحة فی هذا النصّ: ثواب الله (الجنّة)/عقاب الله و الإسلام / الکفر

فی هذین المتضادّین تضادّ (الثواب/ العقاب) یجب أن یُری بأنّه أقوی من تضادّ (الإسلام / الکفر)؛ حیث إنّ الأوّل یخصّ الحیاة الأبدیّة، بینما الآخر یتعلّق بالحیاة علی الأرض، وهی محدودة الأمد(1). وطالما یعیش الإنسان فی هذه الدنیا، فمن المحتمل أنّه یغیّر مجری حیاته، إمّا نحو الأفضل ویصبح مسلماً صالحاً، وإمّا ینحرف ویرتدّ عن الطریق القویم، ولکن بعد الموت لیس هناک من رجعة، فما عمله المرء فقد عمله، وسیلقی هناک عواقب حیاته الدنیویّة.

من المهمّ ملاحظة أنّ مفهوم الکفر - علی أیّة حالٍ - لا یوجد فعلاً فی هذا النصّ، مع أنّ الحسین - کما فی الروایة فی القسم (6: 2) - یتقرّب کثیراً من هذه المسألة، إلّا أنّه لم یتّهم أبداً بنی أُمیّة أو أهل الکوفة بالکفر فعلاً، بل بالعکس، فقد أدّی الصلاة معهم (3: 3؛ 4: 1)، وهذا الفعل یبیّن أنّهم من دِینٍ واحد وأُمّةٍ واحدة، وبدلاً

ص: 252


1- مسألة الخلود فی جهنّم أو النار کعقاب قد تناولها علماء الکلام المسلمون بالبحث کثیراً. اُنظر: فان أس، تی جی (Van Ess، TG): ج4، ص545-549. حدّاد وسمیث، فهم الموت (Haddad And Smith، Understanding Of Death): ص93-95. وهذا البحث کلامی، وفکرة العقاب غیر الدائم فی الآخرة غیر موجودة فی هذا النصّ.

من إنکار إیمانهم یُضَمِّنُ الحسینُ فی کلامه ما یُشعِرُ أنّهم منافقون، وهی صفة تُطلق علی أُولئک الذین یُظهرون الإسلام، ولکنّهم منحرفون عن الحقّ وأقرب إلی الکفر؛ وبهذا

فإنّ مفهوم النفاق یمکن أن یکون الوسیط بین الإسلام والکفر.

وهناک تضادّ ثالث فی رمز التقوی یوجد فی النصّ، وهو:

الرشد/ الانحراف

هذا التضادّ یخصّ المسلمین کأفراد؛ وبذلک فهو أضعف من تضادّ الإسلام/الکفر، وهی تصنیفات یمکن تطبیقها علی البشر جمیعاً؛ والرشد هو الوضع الصحیح للمؤمن، بینما الانحراف یعادل النفاق، وبین قطبی هذا التضادّ من الممکن الدخول فی وضع وسیط: وهو الهدی الذی یقود من الانحراف إلی الرشد، ومن ثمّ إلی الإسلام (الإیمان)، وفی النهایة إلی ثواب الله، کما هو مذکور أعلاه.

هناک أیضاً فَرْقٌ بین التضادّ الأوّل (ثواب الله / عقاب الله) والذی یتعلّق بالآخرة، والمتضادّات التالیة التی تخصّ الحیاة علی الأرض، وهکذا فإنّ هناک تضادّ رابع ضمن رمز التقوی:

الدنیا / الآخرة والذی یقابل التضادّ التالی: الحیاة المادّیّة / الموت المادّی

یمکن رسم هذه المتضادّات المذکورة أعلاه کما فی الجدول (4: 3)، حیث وُضعت المتضادّات الثلاثة الأُولی علی المحور العمودی، بینما الرابع علی المحور الأفقی - (الشکل 4: 3) أحادی الجهة، لیبیّن الجزء الرئیسی للبنیة الأساسیّة فی علم الکلام الإسلامی، والذی لم یکن فی النصِّ الذی قمنا بتحلیله هنا وحسب، بل یعمل کقطبٍ

ص: 253

أساسی فی رسالة القرآن، ومن ثَمّ فی معظم الفکر الکلامی والتاریخی للإسلام(1).

الجدول 4: 3، المتضادّات الأساسیّة فی رمز التقوی

الآخرة

الموت

المادّی

الدنیا

الحیاة المادیّة

ثواب الله (الجنة)

الإسلام

الرشد

الهدی

الانحراف

النفاق

الکفر

عقاب الله

ملاحظة: الحقل المظلّل یشیر إلی الحیاة بعد الموت

ص: 254


1- لا أدّعی أنّ هذه صورة کاملة عن البنیة الإسلامیّة الأساسیّة، فمن الممکن دراستها بالتفصیل أکثر وأکثر. وتصنیفات أُخری - کالضلالة القرآنیّة مثلاً - ربّما یمکن إدخالها ضمن البنیة العامّة، فهذا الاصطلاح یختلف عن "الانحراف" المستعمل فی المخطّط، من حیث إنّ الضلالة تُستعمل کنقیض للهدایة، وبهذا تکون قریبة أو حتّی مرادفة للکفر فی القرآن وعلم التفسیر. (تورونتو، ضال Toronto، Astray). بینما مصطلح "الانحراف" هو من استنتاجی الشخصی، من خلال أوصاف أعداء الحسین من المسلمین حسب ما ورد فی "النصِّ المعتمد". زیادة علی ذلک أنّ المصطلحات فی هذا النموذج یمکن أن تحل محلّ مصطلحاتٍ أُخری.

فی اصطلاحات (لیفی شتراوس) ستکون هذه البنیة الأساسیّة هی (قلب المحرّک) الإسلامی(1)، ولیس من المفاجأة - بطبیعة الحال - أن تصوغ هذه البنیة أحداث کربلاء کما جاءت فی تاریخ الطبری مکتسبةً المقام اللاهوتی ومنزلة مؤلّفها، والمسألة هی أنّه طبقاً للنصّ المعتمد، یملأ الحسین المصطلحات لمتضادّات (هذه الدنیا) (وهی المصطلحات الواردة فی الحقول غیر المظلّلة فی یسار الجدول 4: 3)، ووساطاتها مع المضمون السیاسی الخاصّ؛ ولذا تأتی هذه المتضادّات فی رسائل الحسین متماثلة مع مفاهیم متعارضة ضمن رموز مختلفة، أهم تعارض سیاسی والذی - کما سأناقشه عمّا قریب - یتطابق مع التعارض الثالث فی الجدول (4: 3)، أی:

الرشد / الانحراف (رمز التقوی)

هو: الوفاء بالعهد مع الحسین / نقض عهد الحسین (رمز السلطة)

الوضع الوسط بین هذه الأقطاب المتعارضة هو الموقف الثالث تجاه الحسین، والذی ورد فی النصّ: وهو التردّد والشکّ عند الحُرّ(2)؛ ولهذا هناک علاقة مجازیّة بین المصطلحات المحوریّة فی المتضادّات، حیث إنّ: الرشد: الانحراف: : الوفاء بعهد الحسین: نقض عهد الحسین ولکن لیس هناک علاقة مباشرة بین المصطلحات الوسیطة (الهدی)

ص: 255


1- اُنظر: لیفی شتراوس، النیء والمطبوخ: ص 199.
2- لم یدخل الحُرّ أبداً فی عهدٍ مع الحسین، ولذلک لم یکن لدیه شیء لینقضه، فلو کان ینبغی إدخاله فی هذه القافلة من المتضادّات والوساطة - والذی أعتقد أنّه کذلک - عندها ربّما سیکون التعارض واضحاً بصورة أفضل فی هذه المصطلحات: فی عنقه بیعة / لیس فی عنقه بیعة وهذا - علی أیّة حالٍ - لم یکن یبیّن بوضوح رسالة الغدر، والتی کانت مهمّة جدّاً فی "النصِّ المعتمد"، ومناقشة موقف الحُرّ ستتطوّر شیئاً فشیئاً فی القسم التالی.

و((الازدواجیّة (أو التأرجح فی الموقف) تجاه الحسین)). وحیث إنّ الأُولی تتعلّق بعملیة الوحی (من خلال الحسین فی هذه الحال)، فإن الثانیة تتحدّث عن موقف أفراد مسلمین تجاه هذا الوحی.

هذا التضادّ فی الرمز السیاسی مشتقّ من تضادٍّ أقوی فی رمز التقوی، کما کنت قد بیّنت ذلک فی تحلیل القسم السادس سابقاً:

الوفاء بعهد الله / نقض عهد الله (رمز التقوی)

وهنا مفهوم الوسط هو نفسه فی الجدول (4: 3)، أی (النفاق).

فی الجدول (4: 4)، تمّ عرض المضمون الدِّینی - السیاسی للبنیة الموجودة فی (النصّ المعتمد).

الجدول (4: 4) المتضادّات الأساسیّة فی رمز التقوی ورمز السلطة

الآخرة

الموت المادّی

الدنیا

الحیاة المادّیّة

ثواب الله (الجنّة)

الوفاء بعهد الله

الوفاء بعهد الحسین الهدی

نقض عهد الحسین

النفاق

نقض عهد الله

عقاب الله

ملاحظة: الحقل المظلّل یشیر إلی الحیاة بعد الموت

إلی هنا أکون قد ناقشت کلمات الحسین فی (النصِّ المعتمد)، وفیما یلی، سأقوم

ص: 256

بتحلیل ثلاثة من الأعمال التی قام بها حسب ما جاء فی النصِّ نفسه، تلک الأعمال التی تکمّل الکلمات، وتدعم الرسالة التی یرید إیصالها إلی أهل الکوفة، وبطبیعة الحال من المستحیل فصل الأعمال کلیّاً عن الکلمات، ولذلک سیکون علیّ أن أعود إلی أقواله أیضاً، ولکنّ الترکیز فی الصفحات التالیة سیکون «ما فعله أکثر ممّا قاله».

فعله الأوّل الذی سنقوم بتحلیله هو جوده بالماء (کما جاء فی القسم الأوّل)، وفعله الثانی هو ارتداؤه اللباس الخاص عند مخاطبته أهل الکوفة (فی القسم الثالث)، وفعله الثالث هو إمامته للفریقین الخصمین فی الصلاة (فی القسم الثالث کذلک).

فی القسم الأوّل، تقول الروایة: إنّ الحسین قدّم الماء لجنود العدو العطاشی، وأرشد الجاهل علیّ بن الطعّان کیف یشرب الماء من القربة (1: 5). الماء فی العربیّة وفی الثقافة الإسلامیّة - الأوسع نطاقاً - له دلالة علی الحیاة المادیّة والثواب الإلهی فی الآخرة، بینما انعدام الماء والحَرّ والعطش هی نقیض ذلک، وهناک أوصاف کثیرة للجنّة والنار فی القرآن والحدیث هی أمثلة علی ذلک(1).

ص: 257


1- لمراجعة أوصاف الجنّة والنار فی الفکر التقلیدی للمسلمین یرجی مطالعة: حدّاد وسمیث، فهم الموت (Haddad And Smith، Understanding Of Death): ص84-90. الماء والخصب المرتبط به هو أیضاً رمز فارسی للمَلَکیّة. فی الأجزاء الأُولی من تاریخ الطبری والذی یتعامل فیها مع تاریخ الساسانیّین، یروی الطبری کیف أنّ حکم الملِک الصالح یجلب الماء للأنهار والسواقی، وکیف یصیر الماء غزیراً، وربّما یکون فی هذا أیضاً نتائج لصورة الحسین کقائد سیاسی کما أشارت إلی ذلک أُلریکا مارتنسون (Ulrika Mårtensson). راجع: مارتنسون، العهد الجدید الحقیقی (True New Testament): ص100-102. مارتنسون، النصّ (Discourse)": ص326-327. وکذلک: الهبری، إعادة التأویل (El-Hibri، Reinterpreting): ص91-93. لمطالعةٍ لنفس الموضوع فی أجزاء أُخری من تاریخ الطبری.

ولوکانت هذه الحادثة قد دُوِّنت علی انفراد، لربّما لم یکن لها معنی أکثر من أن تُظهِر أنّ الحسین أدرک الحاجة الجسدیّة لأُولئک الرجال العطاشی فی جیش الحُرّ فحسب، إنّما ذلک الفعل نفسه لم یکن الحسین قد أظهر من خلاله مشاعره النبیلة فقط، بل أظهر کذلک أنّه لم یکن یرید القتال.

فی جمیع القصّة یکون للماء - باعتباره رمزاً للحیاة - کلّ تلک الأهمّیة، بحیث صار من الصعب التصدیق أنّ له دلالة مختلفة فی هذا القسم؛ لأنّه یحتل تلک المکانة البارزة(1)، ولهذا السبب أری أنّ مشهد الحسین وهو یسقی الماء للرجال العطاشی والدوابّ هو شیء رمزی - ضمن الرمز الاقتصادی - یرمز إلی قدرته الکامنة کسبیل للهدایة والحیاة الأبدیّة من الله للبشر.

هذا التأویل تدعمه بشدّة حقیقة أنّ سقایة الماء المذکورة هنا تتلاءم بنیویّاً مع عدد من الشواهد خلال (النصّ المعتمد) من أوّله إلی آخره، عندما یقدّم الحسین أفضالاً مختلفة کثیرة، والتی تفضی إلی الحیاة الأبدیّة، ففی القسم (3: 2)، یقدّم الحسینُ وُجودَهُ (رمز المکان)، والذی یعنی الإمامة، وبضمنها الوحدة والهدایة لأهل الکوفة فیما لو کانوا موالین له، وفی الحال نفسه - فی مقابل ولائهم له - یعِد بالرشد وولاء أهل بیته ونفسه کنموذج ینبغی اتّباعه (5: 3).

وخلاصة القول: عندما یقدّم الحسین الماء یقدّم معه الإرشاد والهدایة حول کیفیّة الاستفادة منه، وهذا یقود إلی الحیاة المادیّة، وبصورة مشابهة عندما یقدّم نفسه

ص: 258


1- سأناقش عمّا قریب رمز الماء خلال القصّة کلّها.

کإمامٍ ومثالٍ یُحتذی، فهذا یعنی أیضاً الهدایة، الوحدة، الرشد(1)... إلی آخره، وهذا یعنی الحیاة فی الآخرة.

فی الرمز الاقتصادی یکون التضادّ المقابل لتقدیم الحسین للماء هو - بطبیعة الحال - فقدان الماء عند أهل الکوفة، کما ورد فی القسم الأوّل، المتلازم مع الحَرّ والعطش، و(بالاستنتاج) الموت الجسدی فی النهایة.

فی رمز المکان، یتطابق هذا مع غیاب الحسین، وفی رمز السلطة ورمز التقوی یتطابق مع انعدام الإمامة، وبالاستنتاج إلی الفرقة والانحراف عن الحقّ، والذی یؤدّی فی النهایة إلی غضب الله وعقابه.

یُظهِر مشهد الحسین وهو یسقی الماء لأهل الکوفة العطاشی أنّ الحسین فی موضع اقتدارٍ کبیر، وأهمّیة ذلک الواضحة جدّاً هی أنّه یبیّن رغبة الحسین فی حفظ الحیاة المادیّة لإخوانه فی الدِّین، ولکنّه أیضاً کنایة عن الهدایة إلی الحیاة الأبدیّة الحقیقیّة والتی کان الحسین قادراً علی تقدیمها لهم، وهنا یأتی القیاس التالی (اُنظر أیضاً: الجدول 4: 5):

الفعل الآخر المثیر للجدل الذی ینبغی تحلیله، هو ارتداء الحسین للإزار والرداء والنعلین أثناء خطبته الأُولی، والصلاة التی تلتها (3: 1). فی التحلیل الذی جاء فی القسم الثالث فیما سبق، لقد افترضتُ أنّ هذا اللباس یحمل رسالة مزدوجة:

تقدیم الماء: الحیاة المادّیّة: : الهدایة: الحیاة الأبدیّة.

ص: 259


1- کلمة "الرشد" لها دلالات قویّة علی الهدایة، وهکذا ترجمها هاوارد (علی سبیل المثال فی: تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص96).

الجدول 4: 5، المقام البنیوی لإعطاء الحسین الماء لأهل الکوفة

الآخرة

الموت

المادّی

فقدان الماء

الدنیا

الحیاة

المادّیّة

امتلاک الماء

الوفاء بعهد الله

امتلاک الماء

الحسین یعطی الماء

فقدان الماء، العطش

النفاق

نقض عهد الله

عقاب الله

ملاحظة: الحقل المظلّل یشیر إلی الحیاة بعد الموت

أوّلاً: إنّ الحسین فی إحرام، والذی یمکن الاستنتاج منه أنّه لا عنف ولا انتهاک للحرمات من جهة.

ومن جهةٍ أُخری: إنّه یستبق الموت ومواراته الثری کشهید.

والفکرة الأساسیّة فی هذین المفهومین هی أنّ الشخص الذی یرتدی هذا اللباس إنّما یفعل ذلک کعلامة علی الطهارة الروحیّة، تلک الطهارة التی تجعله

ص: 260

مستعدّاً للقاء الله(1).

والشیء الذی یجلب الانتباه فی هذا النصِّ هو أنّ الحسین کان مرتدیاً هذا اللباس فی غیر محلّه المتعارف علیه فی الحج أو - أقلّ تعارفاً نوعاً ما - فی المعرکة، وارتداؤه هذا اللباس یبیّن اعتقاده أنّ هناک استمراراً بین الحیاة والموت؛ إنْ کان حیّاً أو میتاً فهو قریب من الله، وهکذا - فی معنیً ما - أن ّالتضادّ علی المحور الأفقی فی المخطّطات المدرجة لیس حقیقیّاً بالنسبة إلیه، فقربه من الله یجعله منیعاً لا تُنتَهک حرمته حیّاً، ویفتح الطریق له إلی الجنّة میتاً.

وکما أوردتُ أعلاه، فقد تبیّن فی عدّة أماکن أنّ علاقة الحسین مع الله هی فعلٌ ناتجٌ من علاقته النسَبیّة مع النبیّ، وسیأتی بیان أهمّیة لباس الحسین فی المخطّط (4: 7).

المخطّط 4: 7. أهمّیة لباس الحسین (فی القسم الثالث)

ص: 261


1- الإحرام: هو حالة من القدسیّة أوسع من الطهارة، ولکنّه یتضمّن الطهارة. للمطالعة حول مفهوم الإحرام راجع: وِنْسِنْک، الإحرام. ونسنک وجومییر، الإحرام. وحول فکرة طهارة الشهید راجع: غروتَر، مراسیم تشییع الجنائز: ج1، ص161-162. کولبیرغ، الشهید: ص204.

بالإضافة لذلک - وحیث إنّ الحسین یعطی الحجج فی خطبه - فإنّ التحوّل بین رمز التقوی ورمز النسب یسبّب التحوّل إلی رمز السلطة؛ فبسبب قدسیّة الحسین یجب أن یُعطی السلطة السیاسیّة، وهنا یکون الولاء له من أفعال التقوی.

علی أیّة حالٍ، إنْ کان أهل الکوفة قد ترکوا الوفاء بعهدهم وانتهی الأمر إلی مقتل الحسین، فلم یکن هذا شیئاً یَخاف منه الحسین، فإنّه سیموت شهیداً ویذهب للقاء الله.

فی الفکر اللاهوتی الإسلامی، تکون العلاقات بین مفاهیم الحیاة، الموت، الدنیا، والآخرة متشابکة بإحکام، یبدأ (حدّاد وسمیث) بحثاً حول هذه المسألة بالقول: «فی القرآن تأتی (الدنیا) و(الآخرة) بمعنی: (الآن) و(فیما بعد)، وفی تجانبهما المعنوی علی وجه التخصیص بالسلبی والإیجابی»(1).

الحیاة فی هذه الدنیا قد خلقها الله للجنس البشری؛ لیحیا ویتمتّع فیها، ولهذا فهی مقدّسة وطیّبة وممتعة؛ وعلی هذا فمن واجب الإنسان أن یُظهر شکره لله وینفّذ إرادته، وبالخصوص فإنّ سلب أرواح الناس غیر جائز إلّا فی حالاتٍ خاصّة(2)، فی هذا المعنی تکون الحیاة الدنیا إیجابیّة، ولکن عند مقارنتها بالآخرة تصبح الدنیا مفهوماً معنویّاً، حیث بمقارنتها مع الآخرة تکون سلبیّةً نسبیّاً، وعندما یعطی الإنسان جلّ اهتمامه لهذه الدنیا وینسی الآخرة سیفقد التبصّر فیما هو مهمّ حقّاً وسینال عقاب الله، وفی هذا الخصوص فإنّ الدنیا هی المیدان الذی یمتحن الله فیه

ص: 262


1- حدّاد وسمیث، فهم الموت: ص6. قد اعتمدتُ فی البحث الآتی عن الحیاة والموت علی هذا الکتاب بصورة أساسیّة، وکذلک علی کتاب: أرنالدیز، الحیاة (Arnaldez، Hayat)، وکتاب: نتون، الحیاة (Netton، Life).
2- راجع علی سبیل المثال: القرآن، سورة الإسراء: آیة33.

البشر ویهدیهم. وطالما یعیش الإنسان فی هذه الدنیا، فهناک احتمال التغیّر فی سیرة حیاته، ولکن بعد الموت لیس هناک من شیء یمکنه تحسین سجل المرء أمام الله، «فالدنیا بذاتها لا یمکن ردّها - وثواب الآخرة لأُولئک الذین لا یغفلون عن واجباتهم فی هذه الدنیا - ولکن بصیرة المرء یجب أن تترکّز علی ما سیأتی»(1).

فی أحد الأمثلة القرآنیّة، تُشبَّه الحیاة فی الدنیا بالمطر الذی ینعش الأرض، ولکن عندما یظنّ الناس أنّ الأرض وما تعطی تحت إرادتهم وفی أیدیهم، سیدمّر الله کلَّ ما ینبت فیها (القرآن، سورة یونس، الآیة 24)(2). فالحیاة فی هذه الدنیا سریعة الزوال، ومَن ینأی عن الصواب ویلهث وراء ملذّات الدنیا الزائلة، ستؤول حیاته إلی الموت الذی لا ینتظره فیه سوی العذاب الألیم فی نار جهنّم، وأمّا بالنسبة لمَن لا یعبأ بغیر الآخرة، فلن یخیفه الموت بشیءٍ؛ حیث إنّ عاقبته ستکون ثواب الله وهی الحیاة الحقیقیّة.

توضّح عدة فقرات فی (النصِّ المعتمد) هذه الآراء حول الحیاة والموت فی الدنیا والآخرة، وأوضح ما یکون ربّما جاء فی القسم الثامن حیث یحاول الحُرّ تحذیر الحسین من أنّه سیُقتل إنْ واصل السیر لما أراد، ویجیب الحسین أنّه لیس هناک من عارٍ فی الموت من أجل الإسلام، ومن الواضح جدّاً أنّ الحُرّ کان رأیه خاطئاً والحسین علی صواب.

ویذهب الحسین أبعد من ذلک فی خطبته فی القسم السابع، حیث یتحدّث عن الدنیا الفاسدة وعن رغبته فی لقاء الله؛ أی الموت المادّی، وفی هذا السیاق یأتی ذکر

ص: 263


1- حدّاد وسمیث، فهم الموت: ص7.
2- جاءت مناقشة هذا الموضوع فی کتاب: أرنالدیز، الحیاة (Hayat)، ونِتون، الحیاة (Life).

مفهوم الشهادة علی أنّه موت المؤمن الحقیقی(1)، إنّها ضدّ هذا السیاق؛ حیث یجب رؤیة فعل الحسین بإعطاء الماء لجیش الکوفة تماماً کما أنّ الماء المرسَل من الله - حسب المثال القرآنی السالف الذکر - یعزّز الحیاة المادیّة، فکذلک الماء الذی قدّمه الحسین (لأهل الکوفة)، ومثلها مثل جمیع أنواع الحیاة علی الأرض، فإنّها حیاة لن تدوم.

علی أیّة حالٍ، إنّ الماء الذی وزّعه الحسین علی القوم هو کنایةً عن الهدایة التی کان سیقدّمها لجمیع أُولئک المخلصین له، تلک الهدایة التی ستجلب الحیاة الأبدیّة(2).

وبنفس الصورة، فإنّ اللباس الذی کان یرتدیه الحسین (فی القسم الثالث) یأخذ جزءاً من أهمّیته من خلال أفکار الحیاة والموت التی ناقشناها فیما سبق؛ فالطاهر روحیّاً قریب من الله، سواءً کان من الناحیة المادّیّة حیّاً أم میتاً.

سأتکلّم باختصار فقط عن آخر حدث مهم جاء فی (النصِّ المعتمد)، وهو عندما أَمَّ الحسین أهل الکوفة مع أصحابه فی الصلاة فی ذی حُسُم (3: 3)، إذ لهذا الفعل بعدان:

الأوّل: بالصلاة معاً، حیث اعترف الفریقان المتخاصمان بأحدهما الآخر بأنّهم مسلمون.

ص: 264


1- فی العادة أنّ کون الشخص الذی یموت مؤمناً لا یکون شرطاً کافیاً لتصنیف هذا الموت بأنّه الشهادة، فهناک خصائص أُخری لازمة، کالموت أثناء القتال النظامی من أجل الإسلام. راجع: کولبیرغ، (الشهید). هذه الشروط لم تُذکَر هنا صراحةً إلّا أنّها قد تکون ذُکِرت ضمناً.
2- من الملفت ملاحظة أنّ الآیات التی تأتی مباشرةً بعد هذا المثل القرآنی الذی ناقشناه، تذکر مقطعاً یتحدّث عن الهدایة الإلهیّة، والحساب الأخیر، والعاقبة النهائیّة (القرآن، سورة یونس، آیة25-30). ولا یمکننا أن نعلم إن کان الطبری أو غیره ممَّن کتبوا عن أحداث کربلاء هل مرّ ببالهم هذا المقطع عند کتابتهم ذلک؟! ولکنّ العلاقات البنیویّة لافتة للنظر.

والثانی: الذی من خلاله اعترف الجمیع بالحسین إماماً، ولو بالمعنی المحدود من حیث کونه الأسمی منزلةً من الناحیة الروحیّة، ولهذا یصلح أن یؤمّهم فی الصلاة، مع أنّ أهل الکوفة لم یرضوا به قائداً سیاسیّاً. وسأعود لهذا فی بحث آخر.

الوسطّیة فی النصِّ المعتمد

فی (النصِّ المرجعی أو المعتمد) إقناع أهل الکوفة بقبوله قائداً سیاسیّاً وروحیّاً لهم، أیْ إماماً لهم (الأقسام 3: 2؛ 4: 2؛ 6)، وحجّته الأساسیّة هی أنّه کان أبرز رجلٍ من آل النبیّ، وأنّ الولاء للنبیّ محمّد تستوجب الولاء له نفسه، وهذا من أفعال التقوی التی تستوجب رضا الله وثوابه.

کما کنت قد بیّنت من قبل أنّ النصّ یسجّل ثلاثة مواقفٍ مختلفة تجاه الحسین أبداها الناس من حوله، أوضحها کان رفض جیش الکوفة له کلیّاً، وکان هناک أیضاً رد فعلٍ معاکس وهو الولاء الراسخ الذی أظهره أصحابه. والموقف الثالث هو موقف الحُرّ قائد الکتیبة العسکریّة لأهل الکوفة، والذی کان متردّداً تجاه الحسین.

موقف أهل الکوفة یبدو واضحاً جدّاً فی رمز المکان، حیث ورد فی الروایة أنّهم سیطروا علی موضعٍ مقابل الحسین (1: 4؛ 3: 1؛ 4؛ 5: 1)، وظهر کذلک من خلال صمتهم بعد خطبة الحسین الأُولی (3: 2). وبالإضافة لذلک یخبرنا النصّ أنّ نظرة الحسین تجاه أهل الکوفة بدأت تصبح متشائمة کلّما تقدّمت القصّة للأمام.

فی الأقسام الأُولی یخبرنا النصّ أنّ الحسین حاول أن یُظهر نیّته الطیّبة تجاههم مع حذره واحترازه، فسقاهم الماء، وارتدی لباساً یُظهر أنّ نیّاته کانت سلمیّة، وکانت خطبته الأُولی (3: 2) صریحة جدّاً معهم.

الخطبة الثانیة (4: 2) کانت أکثر صراحةً من الأُولی، وفیها تلمیحات إلی أنّ موقفهم السیاسی له أهمّیة من الناحیة الدِّینیّة.

ص: 265

فی الخطبة الثالثة (القسم السادس)، کان الحسین هجومیّاً تماماً ضدّ بنی أًمیّة، ووصف أهل الکوفة بأنّهم أهل غدر علی حافّة اللعن، وکانت الضربة الأخیرة ضدّ آمال الحسین بکسب ثقة أهل الکوفة (فی القسم العاشر) عندما جاء الرجال الأربعة من الکوفة، وأخبروه بغدر الناس هناک.

أمّا فی مقابل تقلّب أهل الکوفة کان هناک ثبات أصحاب الحسین الذین کانوا مستعدّین للتضحیة بأرواحهم دفاعاً عنه، وکان هذا واضحاً فی (النصِّ المعتمد) فی القسمین السابع والعاشر.

ففی القسم السابع أکّد أصحاب الحسین أنّهم مستعدّون للموت من أجله (7: 2)، وفی العاشر برز ولاء سفیر الحسین الثانی إلی الکوفة قیس بن مسهر، الذی قدّم حیاته من أجل ولائه، فی مقابل أهل الکوفة الذین اشتراهم الوالی.

والموقف الثالث تجاه الحسین کان موقف الحُرّ الذی قد عیّنه رئیس شرطة الکوفة قائداً علی طلیعة الجیش، وتلقّی أوامر بجلب الحسین إلی الکوفة (2؛ 4: 3؛ 5: 3)، مهما کان فإنّ الحُرّ کان کارهاً لفرض أوامره بالقوّة، واستخدام العنف ضدّ الحسین (5: 3؛ 4؛ 9: 3). وکما قدّمتُ من قبل فقد کان من الواضح أنّ الحُرّ اتّخذ هذا الموقف بسبب إجلاله لأهل البیت (5: 2).

نستطیع القول: إنّ الوسطیّة بین تضادّین یمکن أن توجد عندما یکون هناک عنصر ثالث بین أقطاب التضادّ، ذلک العنصر الذی یشترک فی المیزات ذات الصلة بأقطاب التضادّ؛ والوسطیّة التی تسمح بالتحوّل بین المتضادّات تکون إیجابیّة،والتی تُبقی طرفی المتضادّات منفصلین بصورة تامّة تکون سلبیّة(1).

ص: 266


1- راجع الصفحات السابقة.

وفی (النصِّ المعتمد) - کما أری - هناک أمثلة واضحة علی الوسطیّة، أحدها:

تقدیم الحسین للماء (1: 4؛ 5)، حیث هناک متضادّان: الحسین لیس عطشاناً ومعه الماء، بینما أهل الکوفة عطاشی ولیس معهم ماء.

عندما قدّم الحسین الماء لأهل الکوفة، فقد قلّت مؤونته من الماء وازدادت مؤونة أهل الکوفة، وعندها یمکن القول: إنّ أهل الکوفة صار عندهم ماء والحسین لیس معه ماء، وهکذا فإنّ إعطاءه الماء یشارک فی خصائص المتضادّین کلیهما، ویمکن القول بأنّه من أفعال الوساطة، فالغایة بألّا یبقَ أحدٌ عطشاناً قد تحقّقت هنا؛ وعلیه فالوساطة هنا إیجابیّة، وهی ضمن الرمز الاقتصادی.

وکما افترضت فیما سبق، فإنّ الأهمّیة الحقیقیّة لهذه الوساطة توجد فی معناها المجازی والذی یظهر فی رمز التقوی، وفی هذا الرمز یکون إعطاء الحسین للماء صورةً لقدرته علی الهدایة من الموت الروحی إلی الحیاة الروحیّة؛ وفی الاصطلاحات البنیویّة، الوصل (التجسیر) بین الفئات أو الأصناف، تأتی هذه الوساطة صریحةً فی خطب الحسین من القسم الأوّل حتّی السادس.

وفی (النصِّ المعتمد) یتوسّط الحسین بین المتضادّات علی المحور العمودی فی الجدول (4: 3)، والجدول (4: 4) المتقدّمین، وعلی سبیل المثال (الانحراف/ الرشد) و(نقض العهد/الوفاء بالعهد).

کان الحسین وسیطاً؛ من حیث إنّه شارک فی خصائص المتضادّین کلیهما: فقد قام بعملٍ رآه علماء الکلام المسلمون بأنّه مشْکِلٌ جدّاً؛ حیث إنّه حرّض علی الثورة،

ولکنّه أیضاً یمتلک علاقةً خاصّة مع الله بفضل کونه سبط النبیّ؛ وبهذا فهو یشارک فی الخیر والشرِّ، وهو أهلٌ لأن یتوسّط بین النقیضین، بالإضافة إلی ذلک یجعل الحسین الانتقال من الفئة السلبیّة: (الانحراف، ونقض العهد مع الله، والموت

ص: 267

الروحی، و...) إلی الفئة الإیجابیّة ک- (الرشد، الوفاء بالعهد، الحیاة الروحیّة) أمراً ممکناً من خلال هدایته. وهکذا تظهر وساطته إیجابیّة بکلِّ وضوحٍ فی هذا المجال.

ولکنّ الحسین - کما أری - مثال نموذجی للوسیط حیث یکون التقسیم الثنائی بین الوساطة الإیجابیّة والسلبیّة غیر قابلٍ للتطبیق، فعند الملاحظة من منظارٍ واحد یکون دور الحسین فی الوساطة إیجابیّاً، أی یجعل الفئات معاً أو یسمح بالانتقال فیما بینها، ومن منظارٍ آخر یکون سلبیّاً حیث یُبقی أقطاب التضادّ منفصلة عن بعضها، ولا یأتی الاعتراض بأنّ جلب أقطاب التضادّ معاً بعید عن شخص الحسین، بل بالعکس، فقد علمنا أنّه أجبر الناس علی الاختیار بین الرضا به أو رفضه کإمامٍ دینی وسیاسی، وهنا یکون الاختیار بین الحیاة الأبدیّة أو الموت الأبدی، وقد بقی التصنیفان منفصلین عن بعضهما تماماً، إلّا فی الحسین نفسه.

ما وراء (النصّ المعتمد) المواقف تجاه الحسین
اشارة

فی الأبحاث القادمة أرید أن أترک (النصّ المعتمد) جانباً، وألقی نظرة دقیقة علی بقیّة أحداث کربلاء فی ضوء النتائج والتحلیلات السابقة(1)، وسأتعقب بُنی الرموز المهمّة للنص المعتمد فی بقیّة القصّة، وأستطیع القول: إنّ بعضها - علی الأقلّ - ستتکرّر علی نطاقٍ واسع، ومن أجل تسهیل البحث عن تلک البُنی، سأتحرّی النصَّ من خلال ثلاث رؤی مختلفة توجد فیه، وهی:

الأُولی: المواقف تجاه الحسین لدی الناس من حوله.

الثانیة: صورة الحسین المنقولة فی القصّة.

ص: 268


1- للاطّلاع علی خلاصة للقصّة، یرجی مراجعة الملحق (1).

الثالثة: الماء والدم.

مع أنّنی أدرک أنّ هناک رؤی أُخری یمکن اختیارها، ولکنّنی علی ثقة أنّ هذه الثلاث ستفی بالمیزات المهمّة للقصّة. وتتشابک هذه الرؤی ممّا سیؤدی إلی ظهور بعض المکرّرات، ولکنّنی سأحاول أن أجعلها قلیلة ومختصرة حدّ الإمکان.

فی البحث السابق رأینا أنّ المواقف تجاه الحسین لدی الناس من حوله ذات موضوع مهمّ فی (النصّ المعتمد)، والشیء نفسه یجب أن یُقال حول القصّة علی نطاقٍ واسع، غیر أنّه بسبب اختصار (النصّ) فقد ظهرت المواقف ساکنة تماماً: الرفض، والولاء، والریبة، ولکن القصة عندما تُقرأ برمّتها یصبح من الواضح أنّ المشاعر تجاه الحسین تتغیّر مع مرور الوقت.

هنا، یمکن ترتیب خصوم الحسین فی فئتین: أُولئک الذین دعوه إلی الکوفة وبعد ذلک غدروا به وترکوه بغیر عون، بل اصطفوا للقتال ضدّه؛ و(أعداء الشیعة المعلَنین، وموظفی الحکم الأُموی ومؤیّدیه)(1)، ومن أوضح الأمثلة علی تغیّر المواقف هو المجموعة الأُولی، أُولئک الذین دعوا الحسین لیأتی إلی الکوفة، ویقودهم فی ثورةٍ ضدّ والیها، ولکنّهم - وبسبب ضغوط السلطة - نکصوا علی أعقابهم تماماً، بل إنّ بعض وجهاء القبائل الذین وقّعوا رسائل الدعوة بأنفسهم

التحقوا بأعداء الحسین فیما بعد(2).

ص: 269


1- اُنظر: ولهاوزن، النزاعات الدینیّة السیاسیّة (Wellhausen، Religio-Political Factions): ص114-115.
2- حول بعض هؤلاء الرجال، راجع ملاحظات هاوارد فی ترجمة لتاریخ الطبری: ص23- 26. وحول إعادة بناء التاریخ عن دور أشراف الکوفة فی زمن الخلیفتین الراشدین عمر وعلیّ، راجع: هِندز، دراسات (Hinds، Studies): ص1- 28.

إنّ غَدْر هؤلاء الأشخاص کان من أبرز التحوّلات والمواقف المشینة بکلِّ ما للکلمة من معنی، فقد رأینا فی (النصّ المعتمد) کیف نبّههم الحسین، ولکن فیما قبْل (النصّ) هناک تلمیحات کثیرة إلی عدم جدارة أهل الکوفة بالثقة، وعدم إمکان الاعتماد علیهم، وقد تمّ تحذیر الحسین من أن یضع حیاته فی أیدیهم(1).

وهکذا فی النصف الثانی من القصّة حیث یَتّهم الحسینُ وأصحابه أهلَ الکوفة مباشرةً بالغدر، ویحذّرونهم من العقاب الإلهی الذی سیستوجبه فعلهم(2)، وعلی الرغم من ذلک لم یتُب أحدٌ من أهل الغدر ویلتحق بالحسین للقتال معه(3).

إنّ ترک (الطبری) تلک الاتّهامات من غیر جواب (ماعدا جواباً أو جوابین من أهل الکوفة قبل أن تبدأ المعرکة بقلیل)، ولم یقدّم أحادیث تعارضها لَدلیلٌ واضح علی أنّه یؤیّدها، وفی الحقیقة لم یکن هناک شیء إیجابی یُقال عن أهل الکوفة الذین غدروا بالحسین.

أمّا أهل المجموعة الثانیة - عمّال الحکم الأُموی - فهناک فرق فی حیث وصف اثنان من الشخصیّات الأساسیّة فی هذه المجموعة- وهما: الوالی عبیدالله بن زیاد، ومستشاره شمر بن ذی الجوشن - بشیءٍ قلیل من الإیجابیّة، إنْ لم نقل لا شیء؛ إذ

ص: 270


1- اُنظر: علی سبیل المثال: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص221، وص232-233، وص272- 276، وص277- 278. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص8، وص22-23، وص65-69، وص71.
2- اُنظر: علی سبیل المثال: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص328-331، وص334-335، وص352. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص122- 126، وص128-129، وص146-147.
3- قیل: إنّ هناک مَن ترک جیش عمر بن سعد والتحق بالحسین(علیه السّلام)، وهو عمرو بن خبیة بن قیس التمیمی، وقِیل هناک غیره.(المحقق).

یوصف ابن زیاد بأنّه قائد عدیم الرحمة مستعدٌّ لفعل أیِّ شیءٍ من أجل فرض إرادته علی أهل الکوفة وعلی الحسین، أصله المبهَم غالباً ما یُشار إلیه فی مقابل ذلک النسب السامی للحسین(1)، وبجانب ذلک تُنسب إلیه المسؤولیّة الأُولی فی قتل الحسین.

أمّا من الجانب الدینی فیُوصف علی الأقل أنّه کان یؤدّی فرائضه الدِّینیّة، وإنْ لم یکن تقیّاً، وفی الحقیقة الخطأ الوحید الذی یمکن أن یُنسب إلیه علی وجه الیقین هو عجزه عن إدراک حرمة آل النبیّ، وواحدة من شناعاته هی اتّهامه بنکته ثغر الحسین بقضیبه(2)، وفی مناسبةٍ أُخری قال عن الحسین أمام الملأ: «الکذّاب

ابن الکذّاب...»؛ وبهذا قد سبّ الحسین وأباه علیّاً(3)، وإنّ موقفه تجاه أهل البیت کان خطأً کبیراً جداً، وستکون لی فرصة للعودة إلیه(4).

أمّا صورة شمر بن ذی الجوشن، فقد رُسمت من غیر أیِّ تلطیفٍ لصفاته، فإلی جانب قساوته وبغضه للحسین، فقد وُصف بأنّه کان فاسداً فی دینه(5)، وهو الذی

ص: 271


1- عبیدالله هو ابن زیاد ابن أبیه، وسمّی زیاد بذلک؛ لأنّه لم یُعرف أبوه، فأُمّه سمیّة کانت مشهورةً بالبغاء، ومن هنا غالباً ما یُشار إلی زیاد بابن سمیّة. راجع: هاسون، (زیاد ابن أبیه) (Hasson، Ziyad B. Abihi).
2- اُنظر: علی سبیل المثال: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص370-371. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص165. وسأُناقش هذا عمّا قریب.
3- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص373. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص167.
4- حول تقییم ولهاوزن الإیجابی لابن زیاد راجع: ص38.
5- راجع: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص362. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص157، حیث اتّهمه الحسین بأنّه لا دین ولا إیمان له، ولم یردّ الشمر هذه التهمة عن نفسه.

أقنع ابن زیاد بمواصلة القتال ضدّ الحسین، مع أنّ هناک تسویة للصلح کانت فی متناول الید(1)، وفی معرکة کربلاء أُعطی القیادة علی میسرة جیش الکوفة، ولکنّ وحشیته المفرطة ضدّ النساء والأطفال فی مخیّم الحسین جعلت حتّی من کان تحت إمرته یزدری به(2). ومع أنّ الحسین لم یُقتَل علی یدیه(3)، إلّا أنّه قاد الحملة الأخیرة ضدّه وحرّض الجنود علی قتله(4).

أمّا الخلیفة یزید، فقد رُسِمت شخصیّته بطریقة متضاربة کثیراً، فی أخبارٍ کثیرة

ص: 272


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص315. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص109-110.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص346-347. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص141.
3- ذُکرت ستّة آراء فیمَن قتل الإمام الحسین(علیه السّلام): أ- شمر بن ذی الجوشن. ب - سنان بن أنس. ج - مشارکة سنان وخولیّ. د - مشارکة شمر وسنان. ه- - مشارکة خولیّ وسنان وشمر. ورجلٌ من مَذْحِج. اُنظر: الری شهری، محمد، الصحیح من مقتل سیّد الشهداء(علیه السّلام) وأصحابه: ص913-917. والذی تشهد علیه بعض القرائن هو أنّ الذی أجهز علی الإمام الحسین(علیه السّلام) هو شمر بن ذی الجوشن، ومن هذه القرائن: ما رُوی من أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) رأی کأنّ کلباً أبقع ولغ فی دمه، فأوّله بأنّ رجلاً یقتل الحسین ابن بنته، وکان الشمر یوم قتل الحسین أبرصاً. راجع: الدمیری، محمد بن موسی، حیاة الحیوان: ج1، ص93. (المحقق).
4- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص362-363، وص365-366. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص157-158، وص160.

یناقض أحدها الآخر. فمن جهةٍ أنّه اتّخذ موقفاً صارماً من الحسین الذی رفض مبایعته، حیث إنّه عندما رأی والی الکوفة النعمان بن بشیر لیّناً مع أُولئک الذین کان لهم هویً علوی، عزله واستخلفه بابن زیاد العنید الذی أُطلِقت یداه لإسکات الکوفة(1).

وبعد المعرکة، وعندما عادت الأضواء علی یزید مرّةً أُخری، جاءت أخبار کثیرة تقول: إنّ یزید اعتبر الحسین نفسه المسؤول عن مقتله(2)، ففی أحد الأخبار حاجج یزیدٌ دفاعاً عن نفسه بما یلی(3)):

«أتدری بِمَ کان الحسین مخطئاً؟! کان یقول دائماً: أبی علیٌّ خیرٌ من أبیه (معاویة)، وأُمّی فاطمة خیرٌ من أُمّه، وجدّی رسول الله خیرٌ من جدّه، وأنا خیرٌ منه وأنا أحقّ بهذا

الأمر منه... فأمّا قوله: إنّ جدّه خیرٌ من جدی، فلعمری، لا أحد یؤمن بالله والیوم الآخر یری لرسول الله عِدلاً أو نِدّاً فینا، ولکنّه أخطأ لقصور فهمه، فهو لم یقرأ: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِکَ الْمُلْکِ تُؤْتِی الْمُلْکَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْکَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ

ص: 273


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص239-240، ص270-271. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص30-31، 63-64.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص374-383. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص169-176.
3- وهذا هو النص: «...أتدرونَ مِن أینَ أُتی هذا؟ قالَ: أبی علیٌّ خیرٌ مِن أبیهِ، وأُمّی فاطمةٌ خیرٌ مِن أُمّه، وجدّی رسولُ الله خیرٌ مِن جدِّه، وأنا خیرٌ منه وأحقُّ بهذا الأمرِ منه. فأمّا قولُه: أبوهُ خیرٌ من أبی. فقد حاجّ أبی أباه وعلِم الناسُ أیّهما حُکم له، وأمّا قولُه أُمّی خیرٌ مِن أُمّه، فلعمری فاطمةُ ابنةُ رسولِ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) خیرٌ من أُمّی، وأمّا قولُه جدّی خیرٌ مِن جدِّه، فلعمری ما أحد یؤمنُ بالله والیومِ الآخرِ یری لرسولِ الله فینا عِدْلاً ولا نِدّاً، ولکنّه إنّما أُتی من قِبَلِ فقهه ولم یقرأ: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِکَ الْمُلْکِ تُؤْتِی الْمُلْکَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْکَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِیَدِکَ الْخَیْرُ إِنَّکَ عَلَی کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ ».

وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِیَدِکَ الْخَیْرُ إِنَّکَ عَلَی کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ »(1).

المسألة فی احتجاج یزید هی: إنّ النسب لیس حجّة فی صالح أیِّ مقامٍ سیاسی، فإنّ الله یؤتی الملک لمَن یشاء، وینزع الملک ممَّن یشاء، فالتقوی تتضمّن إجلال النبیّ ولیس من الضرورة الإقرار بحقِّ آله فی الحکم السیاسی، والتقوی من وجهة النظر الأُمویّة تتضمّن أیضاً الرضا بالحاکم الذی أعطاه الله الحکم.

إذن، بالنسبة لیزید والموالین له، لیس هناک ارتباط بین رمز النسب من جهة ورمز التقوی ورمز السلطة من جهةٍ أُخری؛ وبهذا یکون القیاس المطروح أعلاه کما یلی:

ولاء المؤمنین: سلطة أهل البیت: : ولاء أهل البیت: سموّ الله.

والذی هو الأساس فی احتجاج الحسین، ولکن لا یؤمن به بنو أُمیّة ولا أنصارهم.

ومن الجهة الأُخری تقول الأخبار: إنّ یزید نعی قتل الحسین، فقد ورد فی أحد الأخبار أنّ رسول ابن زیاد جاء بخبر المعرکة مع رأس الحسین إلی یزید، ویمضی الخبر هکذا: «فدمعت عینُ یزید وقال: قد کنتُ أرضی من طاعتِکم بدونِ قتلِ الحسین، لعنَ الله ابنَ سمیّة، أما والله لو أنّی صاحبُه لعفوتُ عنه، فرحِمَ الله الحسین»(2).

ص: 274


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص380-381. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص174. مستشهداً بالقرآن: آل عمران: آیة26. اُنظر کذلک: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص376، وص380. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص170. حول تقییم الوضع العام للأُمویّین فی هذه المسألة، راجع: شارون، التطوّر (Sharon، “Development): خصوصاً ص135-136.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص375. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص169. ترجمة هاوارد. عبارات أُخری کهذه یمکن مشاهدتها فی تاریخ الطبری: ج2، ص375-376، وص378-379، وص382. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص169-170، وص172، وص175-176.

هذه العبارة وعبارات مشابهة أُخری تدعم الرأی الذی یقول: إنّ الحسین کان سیُترَک حُرّاً، أو یُترک حُرّاً علی الأقل لو کان قد سُمِح له بإعطاء البیعة مباشرةً للخلیفة ولیس للوالی، وهی التسویة التی کان الحسین قد اقترحها قبل المعرکة(1))(2).

وکذلک عامَلَ یزید مَن بقی حیّاً من أهل الحسین معاملةً حسنة، علی الرغم من بعض المنازعات المؤکّدة(3)، فقد أعاد لهم ما سُلِبَ منهم، وزوّدهم بما یحتاجونه قبل إعادتهم إلی المدینة.

لقد صوّر (الطبری) یزید فی عدة مواضع بأنّه ذلک الحاکم الذی اتّخذ خطوات مناسِبة ضدّ أحد رعایاه المتمرّدین الذی کان - رغم ذلک - یحبّه ویجلّه، غیر أنّه ظهر تناقض یزید تجاه مقتل الحسین فی بیت من الشعر أنشده عندما جاءه خبر مقتل الحسین، حیث ورد هذا الشعر بما لایقلّ عن أربعة أخبار مختلفة خلال القصّة:

نفلِّق هاماً من رجالٍ أعزةٍ

علینا وهم کانوا أعقَّ وأظلما(4).

ص: 275


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص313-316. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص108-110.
2- سبق وأن علّقنا علی ذلک. (المحقق).
3- النزاع بین یزید وزینب - أُخت الحسین - مذکور فی تاریخ الطبری، اُنظر: ج2، ص377-378. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص171.
4- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص282، وص376، وص380، وص382. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص76، وص170، وص174، وص176.

هناک لمحة من الدهاء فی النصِّ، والتی تجعلنی أعتقد أنّ نظرة (الطبری) حول (یزید) لم تکن محایدة؛ ففی مناسبتین، ذکرت الأخبار عن یزید أنّه أهان رأس (الحسین) بعصاه کما فعل (ابن زیاد) تماماً(1).

الترتیب (الصحفی)لهذه الأخبار یُظهِر أنّ الطبری کان یعتبرها مهمّة، وأراد أن ینقل الرسالة التی تقول: إنّ حرمة الحسین قد استخفّ بها یزید بالرغم من الأخبار التی تحدّثت عن إظهار حزنه، وبالإضافة إلی ذلک فقد جاء فی أحد الأخبار التی تتحدّث عن المعاملة الحسنة من یزید تجاه مَن بقی حیّاً من عائلة الحسین أنّ (سکینة بنت الحسین) قالت: «ما رأیت رجلاً کافراً بالله خیراً من یزید بن معاویة»(2).

تأتی هذه العبارة فی وسط روایة إیجابیّة - نوعاً ما - عن یزید تجعلها مثیرة للانتباه؛ إذ کان من السهل علی الطبری أن یترک هذه الروایة أو یقتطع منها کلمات سکینة، ولکنّه اختار ألّا یفعل ذلک.

ولا أُرید هنا افتراض أنّ (الطبری) یدّعی حقّاً کفر یزید، ولکنّ الصورة غیر الواقعیة عن کون یزید مسلماً ورعاً صادقاً قد کشفتها کلمات سکینة بشکل واضح.

ولهذا فإنّ نظرتی عن هذه التعابیر فی وصف الطبری لیزید - وبالرغم من أنّ یزید أبدی حزنه علی مقتل الحسین - بأنّها مسحة من النفاق تبدو من خلال ترتیب

ص: 276


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص282-283، وص382-383. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص76، وص176.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص381. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص175. ترجمة هاوارد.

الطبری لهذه الأخبار(1).

کان من السهل علی یزید أن یکون محسناً مع عائلة الحسین بعد ما أصبح المُطالِبُ بالخلافة فی حیز العدم.

علی أیّة حالٍ، لم یضع الطبری الوضع السیاسی لیزید محلّ استفهامٍ أبداً، فقد کان صامتاً بالنسبة لهذا الأمر بصورةٍ لافتة.

أمّا أنا، فقد أوّلت کلام الطبری علی أنه یعتبر یزیداً حاکماً شرعیّاً، ولو لم یکن حاکماً صالحاً.

أمّا بالنسبة لمجموعة عمّال بنی أُمیّة، فیجب الحساب لاثنین من القادة المُعَدّین للطوارئ، والذین أُرسِلا لاعتراض الحسین، وهم الحُرّ بن یزید وعمر بن سعد، وکلٌّ منهما کان متردّداً فی الخروج ضدّ الحسین، وقد ناقشنا کراهة الحُرّ لذلک من قبل. وأمّا عمر فکان قد تسلّم للتوّ منصباً لیصبح والیاً علی الریّ، عندما أمره عبیدالله بن زیاد - والی الکوفة - بقیادة الجیش ضدّ الحسین، وعندما تردّد فی ذلک هدّده عبیدالله بعدم تسلیمه ذلک المنصب، وعندها قرّر عمر إطاعة الأمر والخروج ضدّ الحسین، ومهما یکن فقد فعل ابنُ سعدٍ ذلک خلافاً لما نصحه به مَن کان حوله، فقد قال له ابن أُخته: «أنشدُک الله یا خال، أن تسیرَ إلی الحسینِ فتأثم بربّک وتقطع رحمک، فواللهِ، لئنْ تخرجَ مِن دنیاک ومالِکَ وسلطانِ الأرضِ کلّها - لو کان لک - خیرٌ لکَ مِن أنْ تلقی الله بدمِ الحسین»(2).

ص: 277


1- لمطالعة أکثر شمولیة حول الترتیب (الصحفی) للأخبار التی تروی أحداث ما بعد المعرکة، وما تضمّنتها من معانٍ، یُرجی مراجعة الملحق: 3.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص308-309. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص104. ترجمة هاوارد.

قبل المعرکة کان عمر بن سعد مستعدّاً لقبول التسویّة التی عرضها علیه الحسین، ولکنّ عبیدالله - الذی حرّضه الشمر بن ذی الجوشن - رفض کلَّ تلک التسویات، وفی النهایة نفّذ عمر بن سعد أوامر الوالی، وأمَرَ جنوده بقتل الحسین، وقطع رأسه والتمثیل بجثّته، وکان ابنُ سعدٍ مغتمّاً لذلک کثیراً، فعندما أوشک أن یُجهَز عل الحسین، کانت زینب أُخت الحسین تراقبه، وقد روت فیما بعد: «فکأنّی أنظرُ إلی دموعِ عمر وهی تسیلُ علی خدّیهِ ولحیتهِ، وصرفَ بوجههِ عنّی»(1))، وفی أواخر روایة الطبری أراد عمر بن سعد تبرئة نفسه من قتل الحسین، حیث حاول أن یُثبت أنّه إنّما فعل ما فعل تبعاً لأوامر ابن زیاد(2).

وعلی العکس من ذلک أدرک الحُرّ عظمة الموقف من أجل دینه وأُخراه، فعندما أوشکت الحرب أن تبدأ اعتزل جیش الکوفة والتحق بالحسین. یروی أنّه أخذ یتحرّک قلیلاً قلیلاً؛ لیصل إلی موضع یستطیع فیه العدْوَ بجواده نحو مخیّم الحسین، سأله رجلٌ لمّا ارتاب من تقلّب أحواله، فأجاب الحُرّ: «إنّی والله، أُخیّرُ نفسی بینَ الجَنّةِ والنار، وواللهِ، لا أختارُ علی الجنّةِ شیئاً ولو قُطّعتُ وحُرّقت»(3). وعندما وصل الحُرّ إلی الحسین، قال له الحسین: «أنتَ الحُرُّ کما سمّتْک أمُّک، أنتَ الحُرُّ إن شاءَ اللهُ فی

ص: 278


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص365. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص160. ترجمة هاوارد.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص385. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص178. لمطالعة شاهد آخر علی ذلک یظهر عمر بن سعد فیه لوعته، راجع: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص319. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص114.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص333. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص127. ترجمة هاوارد.

الدنیا والآخرة»(1).

وهذه هی الحادثة الثانیة فی القصّة قد استُخدمت فیها التوریة حول اسم الحُرّ، فی (النصِّ المعتمد) (القسم الأوّل)، وُضعَ اسمُ الحُرّ وکلمة الحَرّ جنباً إلی جنب، فهناک ارتبط اسم الحُرّ بالموت الذی یمثّله الحَرّ والعطش، وفی الحالة الثانیة، استُعمل المعنی الحرفی لاسم الحُرّ، وبهذا تمّ تصویر الحُرّ علی أنّه الانتقال من حَرّ الموت إلی حُرّیة الحیاة مع الله فی الآخرة(2)، ویمکن بیان هذا الانتقال من خلال المخطّط التالی:

الحُرّ Ξ حَرّ Ξ موت

الحُرّ Ξ حُرّیّة Ξ حیاة

وخلاصة القول: إنّ العاقبة غیر سارّةٍ لخصوم الحسین الذین لم یتوبوا، ویختتم الطبری الفصل الرئیسی فی روایته بخبرین حول الصوت الغریب الذی یُسمَع فی المدینة منشداً أبیاتاً من الشعر تقول:

أیّها القاتلونَ جهلاً حسینا

کلُّ أهلِ السماءِ یدعو علیکم

قد لُعِنتم علی لسانِ (ابن) داود

أبشروا بالعذابِ والتنکیلِ

من نبیٍّ ومرسَلٍ وقبیلِ

وموسی وصاحبِ الإنجیلِ

ص: 279


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص334. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص128. ترجمة هاوارد.
2- لم یکن الحُرّ هو الرجل الوحید الذی ترک الجیش الأُموی والتحق بالحسین، فقد ذکر الطبری أنّ یزید ابن زیاد بن المهاصر الذی کان واحداً من الذین جاؤوا مع عمر بن سعد للقتال ضدّ الحسین، ولکنّه التحق بعد ذلک بالحسین. (اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص356. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص150). المجال الذی أُعطی للحُرّ فی مسألة تغییر الولاء کبیر جدّاً وغیر قابل للمقارنة، ربّما بسبب مکانته فی أهل الکوفة وبلائه فی المعرکة.

وبإعادة ترتیب الروایة، ووضع هذه الأخبار فی نهایة أحد الفصول المهمّة، یکون الطبری قد أضفی علیها أهمّیةً کبیرة. وتجدُر الإشارة إلی أنّه ما کانت هذه الأخبار ستکون ضروریّةً إنْ کان الغرض الوحید للقصّة هو الإخبار عن حادثةٍ تاریخیّةٍ ما، ولکنّ غرض الطبری کان معنویّاً، وهذا الخبر جنباً إلی جنب مع الخبر الأخیر فی القصّة - والذی سأعود إلیه لاحقاً - مدعوماً بالبنیة ککلٍّ یظهر لنا کثیراً من آرائه الشخصیّة حول المسألة، وهی: أنّ أُولئک الذین اشترکوا فی قتل الحسین قد ارتکبوا جریمةً ضدّ الله وسیلقون العقاب علیها، أمّا الآن فلیس هناک شیء خاصّ حول هذا، فالرأی الذی یری أنّ قتل الحسین - وهو سبط الرسول - کان فاجعةً وإثماً فی حقّ الله، کان مُجمَعاً علیه بین مؤرّخی الإسلام الأوائل(1)، وحیث إنّ الآراء تختلف، فقد فعلوا ذلک أساساً لبیان من هو الذی یستحقّ اللوم علی ذلک.

لقد کان الطبری شدید الحرص فی حکمه، ولکن - کما افترضتُ من قبل - من المحتمل أنّه بیّن میوله فی هذه المسألة من خلال کتابه الذی تصرّف فی ترتیبه.

وفی المقارنة مع خصوم الحسین، وخصوصاً أهل الکوفة مع تقلّب مواقفهم نحوه، هناک أنصاره الذین ثبتوا معه، فقد کان فی هذه المجموعة أهل بیته وأنصاره الذین تبعوه من مکّة، وبعض الذین التحقوا به فی الطریق (وأبرزهم زهیر بن القین الذی مرّ بتحوّلٍ حَواریٍّ فی لقائه مع الحسین)، وبعض الذین ترکوا الکوفة

ص: 280


1- اُنظر: فتشیا فاغلییری، الحسین بن علیّ بن أبی طالب (Veccia Vaglieri، Husayn B. Ali B. Abi Talib): ص 614. راجع کذلک: دکاکی، الولاء (Dakake، Loyalty): ص110.

لیلتحقوا به(1).

ومن الذین ترکوا الکوفة کان أُولئک الرجال الأربعة الذین التحقوا به کما فی (النصّ المعتمد)(9: 2)، مع أسماء قِلّة من الرجال الذین التحقوا بمسلم بن عقیل فی الکوفة، ومن ثَّ قاتلوا مع الحسین فی أرض المعرکة، وإنْ لم یُذکر شیء عن زمان التحاقهم به(2)، ولا تختلف صورة أنصار الحسین کثیراً عن تلک التی جاءت فی (النصِّ المعتمد)؛ فقد وُصفوا عموماً بالولاء للحسین ورسالته حتّی الموت، وبالشجاعة والتقوی، وبأنّهم موعودون بالجنّة بعد الموت(3).

ومن خلال هذا التقییم للخصائص الأساسیّة فی القصّة یمکن تمییز ثلاثة مواقف - علی الأقل - تجاه الحسین: موقف الأکثریّة من أتباع بنی أُمیّة وهو علی درجاتٍ مختلفة

ص: 281


1- حول زهیر بن القین وتحوّله، راجع: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص290-291. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص85-86.
2- کان من أبرزهم مسلم بن عوسجة. (اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص 249، وص343. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص42، وص137)، عابس ابن أبی شبیب الشاکری (اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص237-238، ص353-354. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص29، ص147-148)، وأبو ثمامة الصائدی (اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص149، وص350. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص42، وص144).
3- من المؤسف حقّاً أنّ النساء فی القصّة - بالرغم من دورهنّ الثانوی باستثناء واحدة أو اثنتین - کانت مواقفهنّ جمیعاً إیجابیّة تجاه الحسین. فلم تُذکر ولا واحدة فی جمیع أحداث کربلاء بأنّها کانت تعارض الحسین، أو حرکته، بل بالعکس، فقد رأینا نساءً قد أنّبن رجالهنّ علی التحاقهم بالمعسکر المقابل للحسین. اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص339-340، وص59، وص369. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص134، وص153-154، وص163-164. دراسة القصّة من منظور الجنس (ذکراً أو أنثی) ربّما ستعطی نتائج ممتعة جدّاً، ولکن هذا بعید عن غرض هذا البحث.

سلبیّاً إمّا تجاه الحسین وإمّا تجاه رسالته، وموقف أنصاره وهو غایة الولاء المطلق، وأخیراً مواقف أهل الکوفة، وزهیر بن القین والقائدَیْن (فی جیش الکوفة) التی تغیّرت إلی هذه الجهة أو تلک أثناء القصّة، وقبل النظر فی الأفکار البنیویّة لهذه المواقف، علیَّ أن أُناقش اثنین من خصائص شخصیة الحسین ودوره فی القصّة:

[الخصیصة الأُولی]: ما وراء (النصّ المعتمد): صورة الحسین ودوره

[الخصیصة الأُولی](1): ما وراء (النصّ المعتمد): صورة الحسین ودوره

فی البحث السابق تعاملت مع الأشخاص الذین کانوا حول الحسین، وممّا لا شکّ فیه أنّ الشخصیّة المرکزیّة فی القصّة هو الحسین نفسه، لقد قمت بتحلیل دور الحسین فی (النصِّ المعتمد)، ولکن فی بقیّة القصّة یأتی مقامه الخاصّ ودوره بتفصیلٍ أوسع بمرات.

فی الجزء الذی یسبق النص المعتمد، اعتُبر الحسینُ شخصیّةً سیاسیّةً بارزة، فقد کان الخلیفة الجدید متلهّفاً لأخذ البیعة منه، ومن جهةٍ أُخری کان المنافس الحقیقی الوحید للحسین علی السلطة السیاسیّة. وعبدالله بن الزبیر قد أدرک أنّه ما دام الحسین موجوداً فلن یستطیع هو الحصول علی السیادة السیاسیّة لنفسه أبداً(2).

وکما فی (النصِّ المعتمد)، فإنّ دعوی الحسین للسیادة السیاسیّة مبنیّة علی أساس سمو نسبه وفضائله الدینیّة، والعلاقة بین رمز السلطة ورمز التقوی ورمز النسب توجد فی أماکن عدیدة، ولکنّها تظهر بصورةٍ واضحةٍ أکثر من أیِّ مکانٍ آخر، من

ص: 282


1- بین المعقوفتین من المحقّق.
2- حول محاولة یزید أخذ البیعة من الحسین، راجع: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص216-223. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص2-10. وحول موقف ابن الزبیر تجاه الحسین، راجع مثلاً : الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص233، وص274. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص23، وص67.

خلال الرسائل المتبادلة بین الحسین وبین أهل الکوفة والبصرة قبل حرکته نحو الکوفة. وجاء فی إحدی الرسائل التی بعثها إلیه أهل الکوفة یدعونه فیها للقدوم إلیهم مایلی: «إنّهُ لیسَ علینا إمامٌ فأَقبِلْ لعلَّ الله أنْ یجمعَنا بکَ علی الحقّ»(1). وفی ردّه علیهم کتب الحسین: «...ومقالة جُلّکم إنّهُ لیسَ علینا إمامٌ فأقبِلْ لعلّ الله أن یجمعَنا بکَ علی الهدی والحقّ...»(2). وعندما جاءت الإشارة إلی نفس الرسالة فی خطبة الحسین فی ذی حُسُم ((النصّ المعتمد) القسم (3: 2))، وردت کلمة (الهدی) فقط.

واستعمال هذه الکلمات یُذَکّر بالأمثلة الکثیرة فی القرآن، حیث استُخدم هذان المفهومان منفصلین عن بعضهما أو معاً کما فی الآیات الثلاث التی تتحدّث عن إرسال الله للرسول (محمّد): « بِالْهُدَی وَدِینِ الْحَقِّ»(3) فی القرآن، وفی تفسیر الطبری تشیر کلمة (الهدی) عادةً إلی الوحی الإلهی، وغالباً ما تأتی مرادفةً للقرآن(4).

وهنا یُشار إلی الهدی، الذی یذهب إلی ما وراء القرآن، غیر أنّه بالتأکید لیس ضدّه، کما جاء فی العبارات الأخیرة من رسالة أهل الکوفة، حیث یُنعَت الحسین بأنّه الإمام الذی یهدی، کما بیّنّا فی التحلیل الوارد فی القسم الثالث، فنادراً ما یکون فی هذا إشارةً إلی فکرة الشیعة حول الإمام المعصوم وهدایته المبنیة علی أساس العلم

ص: 283


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص234. تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص24. ترجمة هاوارد.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص235. تاریخ الطبری (Tabari، History): ج 19، ص26. ترجمة هاوارد.
3- القرآن: سورة التوبة: آیة33. سورة الفتح: آیة28. سورة الصفّ: آیة9.
4- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، جامع البیان عن تأویل آی القرآن: ج6، قسم10، ص150، وج13، قسم26، ص141، وج14، قسم28، ص112. حول الآیات المشار إلیها فی الملاحظة السابقة. راجع کذلک: إیزوتسو (Izutsu)، المفاهیم (Izutsu، Concepts): ص193-195.

اللدُنی، بل یجب أن تُفهم عموماً بأنّها الهدایة التی یمکن أن یعطیها الإمام بعنوانه الفقیه الأعلم، تلک الهدایة التی تؤدّی إلی الحقّ، وهذه الکلمة تأتی غالباً لتکون مرادفةً للإسلام(1).

وفی عباراته الأخیرة من رسالته إلی أهل الکوفة، یذکر الحسین واجبات الإمام قائلاً: «فلعمری، ما الإمام إلاّ العاملُ بالکتابِ، والآخذُ بالقسطِ، والدائنُ بالحقِّ، والحابسُ نفسَهُ علی ذاتِ الله» (2)، وتشیر هذه العبارة ضمنیّاً إلی عجز السلطة القائمة عن تحقیق المتطلّبات الأساسیّة للحکومة الإسلامیّة، وکذا تشیر إلی قدرة الحسین علی أن یأخذ علی عاتقه قیادة الأُمّة.

فی رسالةٍ أُخری کتبها الحسین إلی أشراف البصرة تأتی أتمّ حجّة علی حقّ الحسین فی الحکم خلال القصّة بأکملها؛ لذا رأیتُ أن أستشهد بالرسالة بأکملها:

«أمّا بعد، فإنّ الله اصطفی محمّداً علی خلقه، وأکرمَهُ بنبوّته، واختارَهُ لرسالتِه، ثمّ قبضَهُ الله إلیه، وقد نصحَ لعبادِهِ وبلّغَ ما أُرسِلَ بهِ، وکنّا أهلَه وأولیاءَه وأوصیاءَه وورثتَه، وأحقَّ الناسِ بمقامِه فی الناسِ، فاستأثرَ علینا قومُنا بذلک، فرَضِینا وکرِهنا الفرقةَ، وأحببنا العافیةَ، ونحنُ نعلمُ أنّا أحقُّ بذلکَ الحقّ المستحقّ علینا ممَّن تولاّه، وقد

ص: 284


1- اُنظر: کرون، الفکر السیاسی Crone، Political Thought)): ص21-23. للمطالعة حول مصطلح الإمام بعنوان الفقیه الأفضل یُرجی مراجعة: کالْدَر، الأهمّیّة (Calder، Significance). وحول مفهوم "الحق" کمرادفٍ للإسلام فی القرآن، یرجی مراجعة: إیزوتسو (Izutsu)، المفاهیم: ص89، ص97-101. حول رأی الطبری فی مفهوم "الحق"، راجع: الطبری، محمد بن جریر، جامع البیان عن تأویل آی القرآن: ج6، قسم10، ص150، وج13، قسم26، ص141، وج14، قسم28، ص112 .
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص235. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص26. ترجمة هاوارد.

أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فّرَحِمَهم الله وغفرَ لنا ولهم، وقد بعثتُ رسولی إلیکم بهذا الکتابِ، وأنا أدعوکُم إلی کتابِ الله وسُنّةِ نبیّهِ، فإنّ السُنّةّ قد أُمیتت وإنّ البِدعةَ قد أُحییت، وإن تسمعوا قولی وتطیعوا أمری أهدِکُم سبیلَ الرشادِ، والسلامُ علیکم ورحمة الله»(1).

فی هذه الرسالة یوجد نفس البنیة للهدایة الإلهیّة التی تمّ تعریفها فی (النصِّ المعتمد)وهو التالی: (الله)، (محمّد)، (الحسین)، (الناس). وهنا تأتی رموز النسب السلطة التقوی متشابکة جدّاً فی علاقاتها مرّةً أُخری.

وتمثّل هذه الرسالة محاولةً أُخری لجعل العلاقة المجازیّة بین الرموز علاقةً کنائیّة، وهذه العلاقة الخاصّة بین الرموز، والتی تبدو لکثیرٍ من الناس بعیدة الاحتمال تصبح ممکنة.

فی الجزء الذی یلی (النصّ المعتمد) من القصّة هناک صفات مشرّفة تُنسب إلی الحسین من قِبَل أصحابه وأعدائه ومن قِبَله هو نفسه. ستکفینا بعض الأمثلة القلیلة

علی ذلک: حسب أصحابه فإنّ الله قد طهّره وهداه؛ لأنّه من أهل بیت النبیّ(2)،

ص: 285


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص240. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص32. ترجمة هاوارد. جاء الانطباع فی ترجمة هاوارد أنّ "کتاب الله" و"سُنّةَ نبیّه" مترادفان فی النصّ العربی یوجد حرف "الواو" بین مصدری الوحی هذین، وبهذا علی الترجمة أن تدرج العبارة هکذا: "کتاب الله وسُنّة نبیّه".
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص318-319. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص113. اُنظر: کلمات زینب حول الحسین وبقیّة أفراد العائلة بعد المعرکة فی تاریخ الطبری: ج2، ص371. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص165.

وإنّهم یرون ذلک واجباً تجاهه وتجاه الله، وإنّ الموت من أجله لنعمةٌ حقّاً(1))، ویُسمّی (هادیاً مهدیّا)(2)، وکان الأعداء یخافون قتله، حیث «کلّما انتهی إلیهِ رجلٌ مِن الناسِ انصرفَ عنهَ، وکرِهَ أنْ یتولّی قتلَهُ وعظیمَ إثمهِ علیه»(3).

وعندما یتحدّث الحسین عن نفسه، یتقصّی نسبه وصولاً إلی النبیّ محمّد، ویستشهد بالحدیث النبوی عن أخیه وعنه بأنّهما: «سیّدا شباب أهل الجنّة»(4).

بعد (النصّ المعتمد)، هناک بعض الدعاوی الصریحة من الحسین حول السلطة السیاسیّة، ویبدو أنّه - خصوصاً عندما انقلب أهل الکوفة علیه، وکان یعوزه الأنصار لتحقیق رسالته - استخدم الاحتجاج بالنسب؛ لإثبات حرمته أکثر من حقّه فی السلطة السیاسیّة(5).

ص: 286


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص322-323، وص352. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص116-117، وص146.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص350. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص145. لقب "الهادی المهدی" کان یُستخدم أیضاً لخلفاء بنی أُمیّة وبنی العبّاس. اُنظر: کرون وهِنْدْز، خلیفة الله (Crone And Hinds، God’s Caliph): ص36-37، ص80-81. شارون، التطوّر (Sharon، “Development): ص139، ملاحظة47.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص359. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص153، ترجمة هاوارد.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص239. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص124، ملاحظة414، ترجمة هاوارد.
5- قال ذلک هوجسون فی کتابه: کیف أصبح الشیعة الأوائل متعصّبین؟ (Hodgson، “How Did The Early Shia Become Sectarian?): ص11. راجع کذلک: دکاکی، الولاء: ص107-118، دراسة حول أحداث کربلاء، حیث یرکّز المؤلِّف فیها علی حرمة الحسین، ولم یعتمد دکاکی علی الطبری فقط، وإنّما اعتمد علی مصادر أُخری أیضاً.

فی الحقیقة، إنّ فکرة حُرمة الحسین - بسبب نسبه مع النبیّ - کانت فی غایة الأهمّیة فی القصة، وبقدر ما أتاحت لی ملاحظاتی، فإنّ کلمة (حُرمة) - والتی تتضمّن معنی القدسیّة وعدم جواز الانتهاک - قد جاءت ثلاث مرّات خلال القصّة فی الإشارة إلی (أهل البیت) عموماً، وإلی الحسین خصوصاً، ومن أمثلة ذلک هو کلام الحسین فی خطبته الأخیرة أمام أهل الکوفة قبل المعرکة بقلیل، حیث قال: «أمّا بعد، فانسبونی فانظروا مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلی أنفسکم وعاتبوها، فانظروا هل یحلُّ لکم قتلی وانتهاکُ حرمتی؟! ألستُ ابن بنت نبیِّکم، وابن وصیِّه، وابنِ عمِّه، وأوّل المؤمنین بالله، والمصدِّق لرسوله بما جاءَ به من عند ربِّه؟!»(1).

فی حالات کثیرة أُخری لم تأتِ کلمة (حرمة)، ولکنّ المعنی موجود بوضوح(2)، ویبدو أنّ اهتمام الحُرّ بالحسین کان فقط بسبب نسبه(3) (راجع تحلیل القسم الخامس والثامن والتاسع من (النصّ المعتمد))، فبعد انصرافه إلی الحسین عنّف أهل الکوفة قائلاً: «...وحلأتموه ونساءَه وصبیتَه وأصحابَه عن ماءِ الفراتِ

ص: 287


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص329. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص123. ترجمة هاوارد. الموضعان الآخران اللذان وردت فیهما کلمة "حرمة" فی: تاریخ الطبری: ج2، ص 290، وص357. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص85، وص151.
2- راجع: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص219، وص308-309، وص385. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص5-6، وص104، وص178-179، ومواضع أُخری متفرّقة.
3- ما یبدو من کلام الحر مع أهل الکوفة خلاف هذا، فدافعه إنسانی ودینی، وتصاعد هذا الدافع عندما کان مَن وقع علیهم الظلم هم أهل بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ویؤیّد هذا مواقفه مع الإمام الحسین(علیه السّلام) أثناء الطریق. (المحقق).

الجاری، الذی یشربُه الیهودیُّ والمجوسیُّ والنصرانیُّ، وتمرغُ فیهِ خنازیرُ السوادِ وکلابُه، وها هم أولاءِ قد صرعَهم العطشُ، بئسما خَلفتم محمّداً فی ذریّتِهِ، لا سقاکُمُ الله یومَ الظمأ إنْ لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم علیهِ، من یومِکم هذا فی ساعتِکم هذهِ»(1).

وهذا مثال واحدٌ فقط من بین أمثلةٍ کثیرة فی النصّ تدلُّ ضمناً علی حرمة الحسین، ومن الملفت أنّ هناک عدداً من أنصار بنی أُمیّة أنفسهم کانوا یعتقدون بحرمة الحسین کما أورد الطبری.

فیما سبق قد ناقشت المواقف المتناقضة للخلیفة یزید بن معاویة، والقائد الأعلی لجیش الکوفة عمر بن سعد، وتلک المشاعر التی أظهرها والی المدینة الولید بن عتبة بن أبی سفیان عندما أخفق فی أخذ البیعة من الحسین للخلیفة الجدید(2).

أمّا المثال الآخر، فهو ذلک المقطع من الروایة الذی یذکر أنّ الرجال فی جیش الکوفة کانوا یهابون قتل الحسین عند نهایة المعرکة فی کربلاء، ویذکر الطبری أنّه کان هناک تأخیر کثیر فی المعرکة، حیث ینقل الخبر أنّه «مکثَ الحسینُ طویلاً من النهارِ، کلّما انتهی إلیهِ رجلٌ من الناسِ انصرفَ عنهُ وکرِهَ أن یتولّی قتلَه وعظیمَ إثمِهِ علیه»(3).

ص: 288


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص334-335. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص129، ترجمة هاوارد.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص218-219. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص4-6.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص359. تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص153، ترجمة هاوارد. راجع کذلک: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص344، وص364، وص365-366. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص139، وص159، وص160. نفس الموقف اتّخذوه تجاه ولد الحسین علیّ الأکبر حیث قیل: إنّ «أهل الکوفة کانوا یخشون قتله». الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص357. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص151.

وهکذا فإنّ انتهاک حرمة الحسین یُعَدّ إثماً عظیماً فی حقّ الله، وتتشکّل فکرة حرمة الحسین من خلال التقاء رمز التقوی ورمز النسب، وذلک الالتقاء الذی یبدو أنّ معظم الناس من حوله - الأصحاب والأعداء - قد أقرّوا به.

وفی مقابل جمیع تلک الصفات النبیلة التی وُصف بها الحسین، فقد اعتبر هو وأصحابه أن نصرته وتقدیم العون له من الواجبات(1)، وفی جمیع الأمثلة کان لهذه النصرة مسحة سیاسیّة؛ فنصرة الحسین تعنی إعانته علی تحقیق هدفه السیاسی، وکما بیّنتُ فیما سبق، فإنّ هناک مدوَّنات قلیلة فقط حول دعاوی سیاسیّة من الحسین بعد (النصّ المعتمد) مقارنةً مع الجزء الذی یسبقه، ومن الجهة الأُخری فإنّ التلمیح إلی حرمته - بالرغم من أنّها لیست قلیلة فی القسم الأوّل من القصّة - یزداد فی النصف الثانی من أحداث کربلاء(2).

وفی (النصّ المعتمد) تأتی هاتان الدعوتان معاً؛ حیث إنّ واحدة من أقوی حجج الحسین حول السلطة السیاسیّة سلستها التی تنطلق من الله وتنتقل عبر النبیّ محمّد إلی سبطه الحسین؛ وبهذا یأتی (النصّ) کنقطة التقاطع بین خطّین: أحدهما یمثّل الدعاوی السیاسیّة، والآخر یمثّل دعاوی الحرمة، کما فی المخطّط 4: 8.

ص: 289


1- تری دکاکی أنّ دعوة الحسین لنصرته هی موضوع فی غایة الأهمّیة فی القصّة. اُنظر: دکاکی، الولاء: ص118-120.
2- اُنظر: دکاکی، الولاء: ص117- 118.

المخطّط 4: 8، توزیع الدعاوی بالسلطة السیاسیّة للحسین، مع الإشارات إلی حرمته.

ودعوی أنّ للحسین منزلة خاصّة فی علاقته مع الله، یؤیّدها عدد من المعجزات ذکرها الطبری، فقد رأی الحسین التنبؤ بموته فی المنام مرّتین: فی الأُولی یری رجلاً علی جوادٍ ینعی له نفسه، وفی الثانیة یقول له النبیّ: «إنّک قادمٌ إلینا»(1). ومع أنّ هذا لیس غریباً جدّاً، إلّا أنّ الرؤیا التی یظهر فیها النبیّ یجب أن تُعتبر نعمةً خاصّة، تُمنح فقط لأُولئک الذین هم فی أعلی درجات التقوی.

وأمّا الأمثلة الثلاثة التی یلعن فیها الحسین جیش العدو، فهی أکثر أهمّیةً ممّا سواها، ففی الحالة الأُولی یهزأ أحد الرجال بالحسین؛ لعدم استطاعته جلب الماء،

ص: 290


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص306، وص318. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص101، وص112.

وفی الحالة الأخیرة یمنعه رجلٌ آخر عندما یحاول الوصول إلی النهر لجلب الماء.

فی الحالتین؛ یلعن الحسین الرجلین، وبالنتیجة یصیبهما الله بظمأٍ لا یُصبَر علیه إلی آخر ما بقی من حیاتهما(1).

فی الحالة الثانیة یستهزأ أحدهم بالحسین بأنّه سیذهب إلی جهنّم، عندها یلعنه الحسین فسقط الرجل من علی فرسه، ویبقی معلّقاً من إحدی قدمیه فی الرکاب.

فی إحدی نسخ هذه القصّة، یقول الطبری: «...ونفرَ الفرسُ، فأخذ یمرُّ بهِ فیضرب برأسِه کلَّ حجرٍ وکلَّ شجرةٍ حتی مات»(2). ومسألة نقل الطبری هذه الأخبار - حیث ذکر الخبر الأخیر فی ثلاث روایات مختلفة - فیها دلالةٌ علی اعتقاده أنّ الحسین کان شخصیّةً استثنائیّةً إلی حدٍّ بعید، وسأعود إلی هذه المسألة فی بحثٍ لاحق.

کما أشرت من قبل، فإنّ مسألة انقسام أُمّة المسلمین تبدو من کبری القضایا التی تناولها المؤرِّخون المسلمون الأوائل، ولعلّها المسألة التی أطلقت العنان لکتابة التاریخ الإسلامی، وهی أیضاً من القضایا الأساسیّة التی تعامل معها الطبری فی روایته لأحداث کربلاء، فإنّ المعضلة التی کان علی المؤرِّخین التعامل معها عند التأمّل فی أحداث کربلاء هی أنّ سبط النبیّ محمّد الذی یتصف بجمیع الصفات السامیة هو الذی من أجله انقسمت الأُمّة - بحسب إحدی وجهات النظر - فهو الشخص الذی (سبّب) الفرقة بثورته ضدّ الحکم القائم، «وإن کان ذلک الحکم

ص: 291


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص312، وص361-362. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص107، وص156-157.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص337. تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص131، ترجمة هاوارد.

- ربّما - غیر شرعی» (1) .(2).

[الخصیصة الثانیة]: ماوراء النص المعتمد الماء والدم

[الخصیصة الثانیة](3): ماوراء النص المعتمد الماء والدم

کما رأینا فیما سبق، فإنّ مفهوم الحیاة ومفهوم الموت بمعنییهما المادّی والروحی کانا بمنتهی الأهمّیة والحسم فی (النصّ)، فقد کان الماء واحداً من الرموز المحوریّة للحیاة فی ذلک الجزء من القصّة، ولا یمکن لأحدٍ قد قرأ أحداث کربلاء فی نسخة الطبری - أو أیّة نسخةٍ أُخری - أن ینکرَ أنّ الماء کان واحداً من المواضیع المحوریّة طوال القصّة، وفی کلِّ مکانٍ تقریباً کانت له علاقة بالحیاة والموت، والحادثة الأُولی التی أصبح فیها الماء مهمّاً هو الخبر الذی یتحدّث عن ابن عمّ الحسین ورسوله إلی الکوفة مسلم بن عقیل، الذی تاه فی الصحراء فی طریقه إلی الکوفة، فقد مات دلیله من العطش ونجا هو بشقّ الأنفس(4)، ومن خلال هذه الحادثة تظهر العلاقة بین

ص: 292


1- کیف أصبح یزید هو الحاکم "الرسمی" فی ذلک الوقت مسألة مفتوحة للنقاش، ولکن من الواضح تماماً أنّه فی زمن الطبری - حوالی 200 سنة بعد یزید - کان یزید یُعتبر الحاکم الحقیقی، وکلُّ مَن کان یعترض علی حکمه تعامل معه کتّاب التاریخ علی أنّه متمرّد. حول هذه المسألة، راجع: هاوتِنغ، السلالة الحاکمة الأُولی (Hawting، First Dynasty): ص46-57. هوجسون، المغامرة (Hodgson، Venture): ج1، ص217-223، خصوصاً ص221، الملاحظة7. وشرعیّة خلافة یزید هی مسألة أُخری اختلف علیها المؤرّخون المسلمون تبعاً لخلفیّاتهم الفکریّة (الآیدیولوجیّة). ولمطالعة الآراء المختلفة حول یزید، راجع: لِنْدْسَی، النموذج الخلافی (نسبةً للخلافة) والأخلاقی (Lindsay، “Caliphal And Moral Exemplar”).
2- لا یخفی أن التاریخ کتب فی تلک الفترة بید المقربین من الخلافة الأُمویة، وإذا کان الحال هذا فما بالک ماذا یکتبون وماذا یکتمون؟! (المحقق).
3- بین المعقوفتین من المحقّق.
4- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص236-237. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص28. نسخة مختصرة عن هذه الحادثة توجد فی تاریخ الطبری: ج2، ص228. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص17.

الماء والحیاة بوضوح.

وبعد (النصّ المعتمد) مباشرةً یقول الخبر: إنّ الحُرّ تسلّم رسالةً من عبیدالله بن زیاد، یأمره فیها بإیقاف الحسین فی مکانٍ مکشوف، حیث لا یمکنه الدفاع عن نفسه أو الوصول إلی الماء(1). وکانت تلک بدایة الیأس للحسین وأصحابه حیث مُنع عنهم الماء، وبدأ الظمأ یأخذ منهم مأخذه حتّی نهایة المعرکة.

وأحداث کثیرة وردت فی بقیّة القصّة لها علاقة بالنزاع علی الماء ونتائجه، ففی حادثة مشهورة أرسل الحسین مجموعةً صغیرة بقیادة أخیه العبّاس؛ لاختراق خطوط العدوّ والوصول إلی الماء لملء القِرَب، ولکنّ العدو حاول منعهم(2). ومنعُ أهل البیت وأنصارهم من الحصول علی الماء یُعدّ عملاً منکراً وفی منتهی الفظاعة.

وذکرت قبل صفحات أنّ الحسین لعن رجالاً کانوا قد سخروا منه لعدم حصوله علی الماء، أو أُولئک الذین منعوه من الوصول إلی الماء، وفیما یلی واحد من تلک الأحداث:

«ونازلَه عبدُ الله بن أبی حُصین الأزدی وعداده فی بجیلة فقال: یا حسین، ألا تنظر إلی الماء کأنّه کبدُ السماء؟ واللهِ لا تذوقُ منه قطرةً حتّی تموت عطشاً. فقال حسین: اللّهمّ اقتله عطشاً ولا تغفر لهُ أبداً. قال حمید بن مسلم: والله، لَعِدتُه بعدَ ذلک فی مرضِه، فوالله الذی لا إلهَ إلّا هو، لقد رأیتُه یشربُ حتّی یبغر، ثمّ یقیء، ثمّ یعودُ فیشرب حتّی یبغر فما یروی، فما زالَ ذلک دأبه حتّی لفظَ غصّتَه، یعنی نفسَه»(3).

ص: 293


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص307. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج 19، ص102-103.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص312-313. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص107-108.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص312. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص107، ترجمة هاوارد. هناک لعنٌ آخر مثل هذا مع عواقبه ورد فی تاریخ الطبری: ج2، ص361-362. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص156-157.

والغرض بکلِّ وضوحٍ من هذه الحادثة هو أنّ الله یتعاطف مع الحسین، ویعاقب أُولئک الذین منعوا الماء عنه، بالإضافة إلی ذلک وکما ذکرت، أنّ الحر عندما ترک أهل الکوفة والتحق بالحسین عنّفهم بشدّة - وقد کان واحداً منهم قبل هذا - بسبب منعهم الماء عن الحسین وأصحابه(1). وزبدة کلام الحُرّ: هی أنّ فعلهم کان قبیحاً بغیضاً، فإنّ الکفّار والخنازیر والکلاب تشرب من ماء ذلک النهر ویُمنع عنه أهل البیت.

منع الماء هذا واحدٌ من أفعال الحقد ویقابله ذرف الماء (الدموع) بسبب العاطفة، عند البکاء علی الحسین وأصحابه الأوفیاء ونهایتهم القاسیة، وکنت قد ذکرت أنّه عندما سمع الحسین بنهایة مبعوثه قیس بن مسهر «ترقرقتْ عینا حسینٍ ولم یملکْ دمعَه»(2).

وکم بکی أناسٌ کثیرون علی مصیر الحسین! مسلم نفسه عندما أُلقی القبض علیه بکی علی الحسین وأهل بیته(3)). وعندما ترک الحسین مکّة متّجهاً إلی الکوفة، سمع أخوه محمّد بن الحنفیّة بخبر الرحیل، وهو یتوضّأ فی طست. یقول الراوی:

ص: 294


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص334-335. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص129.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص303. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص99، ترجمة هاوارد. راجع تحلیل "النصّ المعتمد"، القسم العاشر.
3- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص263. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص55-56.

«فبکی حتّی سمعتُ وَکْفَ دموعِهِ فی الطست»(1).

وفیما بعد وأثناء المعرکة بکی اثنان من أتباع الحسین الصغار؛ لأنّهما لم یستطیعا الدفاع عنه کما ینبغی(2). وکذلک قائد جیش بنی أُمیّة عمر بن سعد عندما دنا مقتل الحسین بکی، حتّی أنّ الراوی کان یری «دموعَ عمر، وهی تسیلُ علی خدّیهِ ولحیتِه...»(3). وبعد مقتله أُذرِفت دموع کثیرة علیه، حتّی من الخلیفة یزید(4).

ما ینطبعُ فی الذهن من تعاطف الله مع الحسین تُعزِّزه قصیدة عبیدالله بن الحُرّ الجعفی، والتی تستخلص القصّة بأکملها، إذ یلتاع ابن الحُرّ فی هذه القصیدة بشدّة؛ لأنّه لم ینصر الحسین بن فاطمة وسبط النبیّ، ویدافع عنه أمام جیش والی الکوفة. فیما یلی بیتان من القصیدة:

سقی الله أرواحَ الذین تأزّروا وقفتُ

علی نصرهِ سقیاً من الغیثِ دائمة

علی أجداثِهم ومجالهم

فکادَ الحشا ینفضُّ والعینُ ساجمة(5).

ص: 295


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص288. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص83، ترجمة هاوارد.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص352. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج 19، ص146.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص365. تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص160، ترجمة هاوارد.
4- اُنظر مثلاً: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص283، وص287، وص370-371، وص375، وص378. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص77، وص81، وص165، وص169، وص172. فی الملحق3، أظنّ أنّ الطبری قد نظر إلی دموع یزید بارتیاب.
5- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص389. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص182.

الموازاة بین المطر والدموع فی هذین البیتین واضحة، وتظهر کنایةً عامّة تقریباً: إنّ المطر هو دموع السماء. وبهذا تشیر القصیدة إلی العلاقة بین الماء والدموع، وتجعلنی واثقاً أنّ هذا التضادّ (منع الماء/ ذرف الماء (الدموع)) هو جزءٌ من بنیة القصّة. علاوةً علی ذلک - وحیث إنّ منع الماء هو تعبیر عن الرغبة فی (وهو حقّاً یفضی إلی) الموت (للآخرین) - فإنّ ذرف الماء (فی هیأة الدموع) هو تعبیر عن لوعة الموت وابتغاء الحیاة (للآخرین). وهکذا یکون:

منع الماء: الموت: : ذرف الماء (الدموع): الحیاة

والآن حیث إنّ منع الماء فی السیاق الحالی هو من أفعال الشرِّ، فإنّه لیس فقط یؤدّی إلی الموت المادّی للصالحین، بل یؤدّی إلی الموت الروحی لذلک الشخص الذی یمنع الماء، بالضبط کما أنّ ذرف الدموع یعبّر عن الرغبة فی الحیاة المادیّة لأُولئک الذین قُتلوا ظلماً، ویعطی الحیاة الأبدیّة للباکی (اُنظر: الجدول 4: 6).

الجدول 4: 6. أهمیّة منع وذرف الماء

عاقبة المفعول به

عاقبة الفاعل

ذرف الماء

الحیاة المادیّة (کرغبة)

الحیاة الروحیّة

منع الماء

الموت المادی

الموت الروحی

ملاحظة: (الفاعل) هو الشخص الذی یمنع أو یذرف الماء، و(المفعول به) هو الشخص الذی یُوجَّه إلیه الفعل.

وفی اثنتین من الفقرات الملفتة للانتباه ذُکِر الماء والدم جنباً إلی جنب بصورةٍ أظهرت أنّ هذین السائلین متشابکان معاً بشدّة فی القصّة:

الحادثة الأُولی: کانت عندما قبض شرطة ابن زیاد علی مسلم بن عقیل، ففی القتال الذی سبق الأسر، جُرح مسلم بالسیف فی فمه، وجُرحت شفتاه وسقط

ص: 296

اثنان من أسنانه(1)، وعندما أُحضِر فیما بعد إلی قصر الوالی طلب الماء فی أوّل الأمر امتنع الرجل عن إحضار الماء، إلّا أنّ رجلاً آخر أرسل أحد الصبیة لإحضار الماء لمسلم، وعندما أراد مسلم أن یشرب سال الدم من فمه إلی القدح وتنجّس الماء، وحدث هذا مرّتین، وفی المرّة الثالثة عندما مُلیء القدح بالماء وأراد مسلم أن یشرب سقطت ثنیّاته فیه، فقال مسلم: «الحمدُ لله، لو کانَ لی من الرزقِ المقسومِ شربتُه»، یعنی أنّ الله لم یشأ لمسلم أن یشرب ذلک الماء(2)، وکان الحکم بالموت قد قُضی علیه مسبقاً، وصارت مسؤولیّة تنفیذه فی ید الجلادین؛ وبهذا جاء سفک دمه - کما فی الروایة - مع امتناع الماء(3).

وهناک حدث آخر له نفس الدافع قرب نهایة المعرکة فی کربلاء، وجاء فی روایتین مختلفتین، الروایة الثانیة کما یلی:

«...أنّ حسیناً حینَ غلبَ علی عسکرِه العطشُ، رکِبَ المسنّاةَ یریدُ الفرات. قالَ: فقالَ رجلٌ من بنی أبان بن دارم: ویلکُم! حولوا بینَهُ وبینَ الماء، لا تتامّ إلیه شیعتُه. قال: وضربَ فرسَه وأتبعه الناسُ حتّی حالوا بینَهُ وبینَ الفرات. فقال الحسینُ: اللّهمَّ

ص: 297


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص261. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص54-55.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص265. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص58.
3- سنری لاحقاً أنّ ابن زیاد أمر له بماء فسقی بخزفة، ثمّ قال له: «إنّه لم یمنعنا أن نسقیک فیها إلّا کراهة أن تحرم بالشرب فیها ثمّ نقتلک، ولذلک سقیناک فی هذا». الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص267. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص60، ترجمة هاوارد. وهذه حالة خاصّة حیث لم یُفضِ فیها الماء إلی الحیاة.

اظمِه. قال: وینتزعُ الأبانی بسهمٍ، فأثبتَه فی حنکِ الحسین، قال: فانتزعَ الحسینُ السهمَ، ثمّ بسطَ کفّیهِ فامتلأتا دماً، ثمّ قال الحسینُ: اللّهُمَّ إنّی أشکو إلیکَ ما یُفعلُ بابنِ بنتِ نبیّک»(1).

الروایة الأُولی تختلف قلیلاً، ولکن محاولة الحسین للحصول علی الماء وإصابته بسهمٍ فی فمه هی نفسها(2).

وفی هاتین الروایتین تحوّل الماء الذی کان یلتمسه الحسین إلی دمٍ کما حدث فی قصّة مسلم بن عقیل التی ذکرناها سابقاً، وفی الحالتین مع الحسین ومسلم یحدث هذا التحوّل مباشرةً قبل مقتلهما، والتشابه بین هذین الحدثین یبیّن علاقةً بنیویّة بین الدم والماء تستحقّ البحث عن کثب.

وفی تحلیل موضوع الماء أعلاه، افترضت أنّ ذرف الماء (بصورة دموع) یرمز إلی الحیاة، بینما منْع الماء یعنی الموت. أمّا بالنسبة للدم فإنّه یرمز إلی شیءٍ آخر، حیث سفک الدم - بطبیعة الحال - هو صورة للقتل، بینما الامتناع عن سفک الدم یعنی حفظ الحیاة.

وهناک عدد من الفقرات فی القصّة تشیر إلی هذا المعنی، وربّما یکون المثال الأوّل علی سفک الدم البریء - والذی هو واحد من أشهر الأحداث فی واقعة کربلاء - هو قتل ولد الحسین الرضیع.

ص: 298


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص361-362. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص156-157، ترجمة هاوارد.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر،تاریخ الطبری: ج2، ص361. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص156.

وتمضی القصّة بالقول: إنّه بعد سنین عدیدة من المعرکة، قال أبو جعفر - الإمام الخامس للشیعة(1) - لرجلٍ من بنی أسد أنّ قبیلته مشترکة بدم أهله. سأل الرجل: لِمَ؟ فقال أبو جعفر: «أُتیَ الحسینُ بصبیٍّ لهُ فهو فی حجرِهِ إذ رماهُ أحدُکم یا بنی أسد بسهمٍ فذبحهُ، فتلقّی الحسینُ دمَهُ فلمّا ملأَ کفّیهِ صبّهُ فی الأرضِ، ثمّ قال: ربِّ إنْ تکُ حبستَ عنّا النصرَ من السماءِ؛ فاجعلْ ذلکَ لما هو خیرٌ، وانتقمْ لنا من هؤلاءِ الظالمین»(2).

ولا شکّ أنّ جمیع مقاتل أصحاب الحسین التی وردت فی قصّة واقعة کربلاء هی أمثلة علی سفک دماءٍ بریئة، وسأتکلّم کثیراً عن هذا قریباً.

وهناک عدّة مقاطع ثبت فیها أنّ الحسین وأصحابه أحجموا عن سفک الدم، ورأینا أنّ مسلم بن عقیل قد سنحت له الفرصة ذات مَرّة أن یقتل والی الکوفة ابن زیاد خلسةً، ولکنّه امتنع عن فعل ذلک، حدث هذا عندما مرض أحد الوجهاء - وهو شریک بن الأعور - فی بیت هانئ بن عروة (حیث کان یقیم مسلم)، جاء عبیدالله بن زیاد لعیادة شریک، حیث کان یُجلُّه کثیراً، (مع أنّ هوی شریک کان مع أهل بیت النبیّ وسبیلهم)، وکان شریک ومسلم قد اتّفقا علی أن یختبئ مسلم ویثب علی الوالی ابن زیاد لیقتله، بعد أن یجلس عند فراش شریک، ولکن مسلم فی مخبئه عندما جاء ابن زیاد: «...خشیَ [شریک] أن یفوتَهُ [ابن زیاد] فأخذَ یقول: ما

ص: 299


1- اسمه محمّد الباقر (وفاته حوالی سنة (735 م/116 ه-)). راجع المخطّط 1: 1.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص360. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص254، ترجمة هاوارد. توجد نسخة أُخری فی تاریخ الطبری: ج2، ص 283. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص75.

تنتظرون بسلمی أن تحیّوها؟! اسقنیها وإنْ کانت فیها نفسی. فقال ذلک مرّتین أو ثلاثاً...ثمّ إنّه [ابن زیاد] قامَ فانصرفَ، فخرجَ مسلمٌ فقالَ له شریک: ما منَعَک من قتلِه؟ فقال: خصلتان، أمّا إحداهُما فکراهةُ هانئ أن یُقتل فی دارِهِ، وأمّا الأُخری فحدیثٌ حدّثه الناسُ عن النبیّ (صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إنّ الإیمانَ قیدُ الفتکِ، ولا یفتکُ مؤمن. فقالَ هانئ: أما واللهِ، لو قتلتَه لقتلتَ فاسقاً فاجراً کافراً غادراً، ولکنْ کرهتُ أنْ یُقتَلَ فی داری»(1).

وهکذا، بالنسبة لمسلم فإنّ عفّة النفس خیرٌ بکثیر من الکسب القصیر الأمد بقتل شرّ أعدائه، فلو کان قد اختار الخیار الآخر، لکان من المحتمل أن ینقذ حیاة هانئ وحیاته هو، وفی آخر الأمر حیاة الحسین، ولکن ذلک کان سیکون عملاً آثماً بعیداً عن العدالة وطهارة النفس، التی تلیق بالمؤمن القویم.

واختیار مسلم الصحیح هذا قد أکّده الحسین فیما بعد بصورة غیر مباشرة، حیث فعل الفعل نفسه.

ویروی الطبری حادثةً وقعت قبل بدء المعرکة بلحظات، فقد أمکنت الفرصة أحد أصحاب الحسین من قتل الآثم شمر بن ذی الجوشن فاستأذن الحسین لأجل ذلک، ولکنّ الحسین لم یأذن له، حیث کان یکره أن یکون البادئ بالقتال(2).

ص: 300


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص248-249. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History)، ج 19، ص41، ترجمة هاوارد. توجد روایة أُخری فی تاریخ الطبری: ج2، ص244. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص37. فی هذه الروایة هناک تأکید علی موضوع الماء، ولکنّ الحدیث النبوی غیر موجود.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص328. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص122. اتّخذ الحسین الموقف نفسه عندما ألحّ علیه أحد أصحابه لقتال کتیبة الحُرّ التی کانت قلیلةً نوعاً ما قبل أن یصل جیش عمر بن سعد، ولکنّ الحسین أبی ذلک؛ لأنّه لا یرید أن یکون البادئ بقتال. اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص307-308. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص103.

وکانت مواقف مسلم والحسین محاولةً لتجنّب سفک دماء المسلمین ولحفظ حیاتهم، وإنْ کانوا أشدّ الناس فسقاً. ومن الواضح أنّ الذنب فی بدء القتال یقع علی جیش الکوفة، فعندما استنفدت کلُّ الطرق لحلّ النزاع، وأرغمَ الشمرُ عمرَ بن سعد علی بدء القتال، رمی ابن سعد - وکان القائد علی الجیش - سهماً نحو مخیّم الحسین منادیاً بأعلی صوته: «اشهدوا أنّی أوّلُ مَن رمی»، وبهذا بدأت المعرکة رسمیّاً(1).

وعندما بدأ أهل الکوفة القتال، کان قتال الحسین وأصحابه دفاعاً عن النفس ولا یتحمّلون أیَّ ذنبٍ فی ذلک، ومن الملفت أنّه فی کلِّ مرّةٍ جاء ذکر الدم فی القصّة - مع استثناءٍ واحد ممکن فقط - قصد به دم الحسین وأنصاره، مع أنّ کثیراً من الأعداء قد قُتلوا فی المعرکة، إلّا أنّ شیئاً لم یُذکر عن دمهم(2). ویبیّن هذا - کما أعتقد - أنّه وإنْ کان جماعة الحسین قد قَتَلوا من الطرف الآخر، إلّا أنّهم لم یُطلقوا العنان

ص: 301


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص335. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص129، ترجمة هاوارد.
2- اُنظر مثلاً: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص253، (هانئ بن عروة)، وص351، (نافع بن هلال)، وص359، (الحسین)، وص370، (جثمان الحسین). ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص45، وص145، وص153-154، وص164. الاستثناء الممکن هو عندما خاطب الحسین أهلَ الکوفة قبل مقتله بقلیل، قائلاً: «أما والله، أن لو قد قتلتمونی لقد ألقی الله بأسکم بینکم وسفک دماءکم». الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص365. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص160، ترجمة هاوارد.

لأنفسهم فی سفک دمٍ حرام.

والمشهد الإجمالی إذن هو: إنّ الحسین وأصحابه عدول، وقد حفظوا کمالهم کمسلمین خُلَّص؛ بامتناعهم عن سفک الدم ظلماً وجوراً.

وأمّا فی الجهة الأُخری، فإنّ أتباع بنی أُمیّة وأهل الکوفة قد سفکوا الدم الحرام(1). وبعبارةٍ أُخری: فإنّ الحسین قد صان الدم، ولکنّ بنی أُمیّة وأهل الکوفة قد سفکوه.

وهکذا تکون العلاقة بین الدم والماء وظیفةً لکیفیّة توزیعهما، فإنّ الحیاة یسبّبها إفاضة الماء وصیانة الدم، بینما الموت علی العکس من ذلک، یسبّبه منع الماء وسفک الدم؛ وبهذا یمکن القول: إنّ الرمز الاقتصادی هنا یعمل علی مستویین، فالکیفیّة التی یتمّ فیها توزیع الماء والدم ترتبط ب-(توزیع) الحیاة والموت.

الحسین وسیطاً

لقد افترضت فیما سبق أنّ تقدیم الحسین للماء فی (النصِّ المعتمد) کان عملاً یتوسّط بین الحیاة والموت فی معناهما المادّی؛ وبهذا یکون کنایةً عن الوساطة بین الحیاة الروحیّة والموت الروحی، ولتوسیع هذا النقاش أکثر نقول: إنّ (إعطاءه) الماء یتوسط بین الموت الذی یسببه منع الماء والحیاة التی یسبّبها (سکب) الماء. ویشترک إعطاء الماء فی العنصرین المتضادّین للحیاة والموت، فقد عالج حقّاً عطش أهل الکوفة وقادهم من الموت إلی الحیاة، وبإعطاء الحسین بعضاً من الماء الذی کان معه یکون قد

ص: 302


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص266. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص59. اُنظر کذلک: البحث حول مفهوم (الحرمة) فی الأبحاث السابقة.

فقدَ بعضاً من مؤونته العزیزة جدّاً، وبما أنّ الماء یندر فی الصحراء، فقد أوشک الحسین بنفسه علی الموت، ویظهر النموذج نفسه إنْ أُخذ فعل (إعطاء الماء) علی أنّه کنایة عن الهدایة، وبتقدیم الهدایة قدّم الحسین الحیاة (الروحیّة) لأهل الکوفة، ولکنّه فی الوقت نفسه تحدّی السلطات السیاسیّة التی سبّبت موته (المادّی).

وعندما یأتی الأمر إلی الدم یکون التضادّ متماثلاً ولکنّه معکوس؛ حیث إنّ صیانته تحفظ الحیاة وإراقته تسبب الموت، ولکن هل هناک عنصر وسیط یتوافق مع ما یخصّ إعطاء الماء؟ أنا أعتقد أنّه یوجد، ومن أجل الاحتجاج سأقوم بانعطافة قصیرة. یقول (بوز شوشان) (Shoshan) فی هذه القصّة: إنّ هناک شدٌّ واضح بین الفعل البشری والقضاء الإلهی، بین المسؤولیّة الشخصیّة وتقدیر الله للأحداث(1)؛ لذا - علی سبیل المثال - فإنّ رحلة الحسین نحو الهلاک(2) کانت علی الأغلب محتومةً ولا یمکن اجتنابها، فلقد أُشیر علی الحسین فی بعض الأحیان بالعودة، ولکنّه رفض قائلاً: إنّ الله قد قضی وقدّر ذلک الطریق له(3)، وفی أحیانٍ أخری ذُکِرَ أنّ القرار بالخروج کان قراره هو(4)، وعندما التقی بکتیبة أهل الکوفة بقیادة الحُرّ عرض علی

ص: 303


1- شوشان، دراسة فی الشعر (Shoshan، Poetics): ص233-252. یوجد هذا البحث کذلک فی: أیوب، معاناة الخلاص (Ayoub، Redemptive Suffeing): ص120-121.
2- ما یقصده هنا المعنی اللغوی الشائع للهلاک وهو الموت. اُنظر: ابن فارس، أحمد، معجم مقاییس اللغة: ج6،ص62.
3- اُنظر مثلاً: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص273-274، وص277-278، وص294. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص66-67، وص71، وص90.
4- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص275، وص293، وص304. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص68، وص88، وص100.

أهل الکوفة خیار العودة إلی الحجاز إنْ لم یکونوا یریدونه إماماً علیهم(1)، (النصّ المعتمد، القسم الثالث والرابع).

وبنفس الطریقة عندما کانت المعرکة علی وشک الوقوع، نقلت الأخبار أنّ الحسین حاول جاهداً أنْ یجد مخرجاً، ولکن عندما بدا أنّ ما سیقع لا بدّ منه، عزّی نفسه(2) بأنّ ما سیحدث هو أمر الله، وأنّ الله سیمنحه هو والذین سیُقتَلون معه مکاناً فی الجنّة(3).

وبالإشارة إلی هذا الشدّ، یعتبر (بوز شوشان) (Shoshan) القصّة بأنّها مأساة - علی روایتین مختلفتین - ولکنّهما تعملان معاً أحیاناً، وکذلک تعملان ضدّ بعضهما البعض لخلق ذلک التأثیر المأساوی)(4)، ویبدو أنّ ما یراه (شوشان) (Shoshan)

ص: 304


1- ما ورد فی النصوص هو الانصراف عن أهل الکوفة، وذلک فی المفاوضات مع عمر بن سعد. حیث کتب الإمام الحسین لعمر بن سعد بعدما وصلته رسالته: «کتب إلیّ أهل مصرکم هذا أن أقدم فأمّا إذا کرهتمونی فإنّی أنصرف عنکم».
2- هذا الکلام یصحّ إذا کان الشخص الثائر إنساناً عادیاً، ووضع خطة لبلوغ أهدافه ولکن الریاح کانت تجری عکس حرکته، وبدّدت کلّ خططه، أمّا الإمام الحسین فالأمر مختلف بالنسبة له؛ إذ إنّه - ومنذ بدایة ثورته - کان علی یقین من النتائج، ویعلم من البدایة أن ما سیقع کیفما کان هو من أمر الله وتقدیره، فهو(علیه السّلام) ومن خلال خطبته عندما أراد الخروج من مکة کشف عن النهایة التی أسماها الفتح.(المحقق).
3- حول تجنّب الحسین المعرکة بعِزٍّ، راجع: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص310، ص313-314، وص328-331. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص106، وص108-109، وص123-125. وحول الرأی الذی یقول: إنّ ما حدث کان مقدّراً من الله، وسیؤدّی إلی أفضل ما سیکون، راجع مثلاً: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص306، وص318، وص352-353، وص360. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص101، وص112، وص147، وص154.
4- اُنظر: شوشان، دراسة فی الشعر: ص235-236.

مبنیّاً علی سوء فهمه لفکرة الطبری حول التسلیم لإرادة الله، فهو یقول: «ما لدینا هنا هو قصّة لاهوتیّة، وهی المأساة التی لا یمکن اجتنابها، والّتی هی نتیجة التسلیم لإرادة الله، وما تؤدّی إلیه الروایات فی التاریخ هو قصّة مسلمٍ تقیٍّ فی أقصی غایة التقوی، والذی بالرغم من (النصیحة الخالصة) من محبّیه بعدم رکوب مغامرته، وبالرغم من علمه المسبق بالنهایة المفجعة القریبة الحدوث، إلّا أنّه عازم علی المضی فی طریق الهلاک الذی یوجّهه (قضاء الله) وقدرته المطلقة»(1).

بعد ذلک یقول (شوشان) (Shoshan): إنّ الطبری جعل القصّة أکثر تعقیداً بذکر «روایات...تصوّر

الحسین بأنّه قلیل العزم»(2)، والذی یعنی به محاولات الحسین للتفاوض مع عمر بن سعد، وسعیه لتأجیل المعرکة حتّی الیوم التالی، وخطابه الأخیر لأهل الکوفة قبل المعرکة بقلیل، والذی ناشدهم فیه بعدم قتله(3).(4).

فإنّ التسلیم لإرادة الله لا یعنی الجلوس مکتوف الأیدی بانتظار القضاء والقدر، لیأخذ مجراه دون تحریک ساکن، بل یعنی اتّباع سبیل الله حتّی النهایة مع

ص: 305


1- اُنظر: شوشان، دراسة فی الشعر: ص245.
2- شوشان، دراسة فی الشعر: ص245.
3- اُنظر: شوشان، دراسة فی الشعر: ص245-249، مشیراً إلی تاریخ الطبری: ج2، ص309-314، وص320، وص328-331. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص104-109، وص114، وص122-125.
4- لا بدّ أن نعرف المغزی من وراء مناشدات الإمام الحسین(علیه السّلام) هذه علی فرض صحّة صدورها، وإنّما هی لیجنب أعداءه نار جهنم، وحتی لا تصبّ علیهم ویلات الدنیا والآخرة؛ وحتی یُلقی علیهم الحجّة لیحیا مَن حیِیَ عن بینة، ویموت مَن مات عن بینه؛ لأنّهم یقدمون علی أکبر جریمة فی الإسلام، الأمر الذی یقتضی أن تتناسب الحجّة مع عظمتها، والمتأمّل فی سیرة الإمام الحسین(علیه السّلام) مع أعدائه هؤلاء سیعرف أنّ الإمام الحسین کان یمثّل الرحمة الإلهیة لهم، ولکنّهم قست قلوبهم وعُمیت أبصارهم، فسوّدوا صفحات التاریخ بجریمتهم النکراء.(المحقق).

القیام بما یعتقده المرء أنّه الشیء الصحیح، ولکنّه یعنی القبول بالقضاء والقدر علی أنّه أفضل ما یمکن حصوله. وحسب قراءتی لأحداث کربلاء، فلیس هناک شاطئان کما یعتقد (شوشان) (Shoshan). وحسب ما جاء فی النصّ فإنّ عزم الحسین علی الذهاب إلی الکوفة کان تبعاً لإرادة الله، مهما کلّف الثمن ومهما کانت النتیجة، فهو لم یکن متردّداً فی هذا الأمر أبداً، ضمن هذا الطموح العام کان الذهاب إلی الکوفة وعرض قیادته علی أهلها مجرّد هدف جزئی فقط، فعندما أدرک أنّ هذه الخطّة قد فشلت بسبب خیانة أهل الکوفة، حاول کلَّ ما فی وسعة للإبقاء علی حیاته والحفاظ علی وحدة المسلمین(1) (وهذا أیضاً لم یکن ضدّ إرادة الله)؛ ولهذا کان مستعدّاً للعودة إلی الحجاز أو أی مکان آخر، أو حتّی إعطاء البیعة للخلیفة یزید(2)، ولکن

ص: 306


1- هذا تفسیر خاطئ لما سیحدث بعد مقتل الإمام الحسین(علیه السّلام)؛ لأنّه کان یری دمه هو الذی سیعید الإسلام إلی حقیقته، وحتی یتمیّز الإسلام الصحیح القائم علی الکتاب وسنة الرسول من ذلک الإسلام المنحرف، الذی أصابته عدوی الیهودیة والمسیحیة، وصار یقلب المفاهیم ویغیّرها، إلی درجة أن یکون خلیفة المسلمین أفسقهم، وهم لا یغیّرون علیه بفعلٍ ولا قول.(المحقق).
2- استعداد الإمام الحسین(علیه السّلام) لإعطاء البیعة لیزید لیس له أیُّ مستند تاریخی، بل بالعکس، کلُّ الخطابات التی صدرت من الإمام (علیه السّلام) قبیل وأثناء المعرکة تدلّ علی عکس هذا الادّعاء، وأذکر شاهدین علی ذلک: الأوّل: فی المدینة المنوّرة حیث قال الإمام(علیه السّلام): «ویزید رجلٌ فاسقٌ، شاربٌ للخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلنٌ للفسق، ومثلی لا یبایع مثله...». ابن طاووس، علی بن موسی، اللهوف فی قتلی الطفوف: ص17. الثانی: فی طریق الإمام(علیه السّلام) من مکّة إلی کربلاء، عند ملاقاته الحرّ فی منطقة البیضة، حیث قال الإمام(علیه السّلام): «وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشیطان، وترکوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفیء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غیّر...». الطبری، محمد ابن جریر، تاریخ الطبری: ج4، ص304. السبب الذی أعطاه النصّ واضحٌ جدّاً، ومتوافق مع خطابات الإمام الحسین(علیه السّلام) الأُخری. (المحقق).

لیس لوالی الکوفة عبیدالله بن زیاد(1).

وعندما أدرک أنّه لا طریق للخروج من هذا الأمر حیّاً، بقی یعمل ما یعتقد أنّه الشیء الصحیح الذی ینبغی عمله، فقد دافع عن نفسه بما أُوتی من قوّة، وتوکّل علی الله لأنّ ما سیحصل فی النهایة فهو لا یخرج عن حکمة الله.

ویوجد فی القصّة قبل المعرکة واحدٌ من الأمثلة الواضحة علی الثقة التامّة للحسین وأهل بیته بالله، وذلک عندما ارتحلت الجماعة خفق الحسین برأسه مرّتین، وکلّما انتبه تلا هذه الآیة: « إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ »(2) سأله ابنه علیٌّ عن سبب ذلک، فأجاب الحسین أنّه رأی فی المنام رجلاً ینعی إلیه أنفسهم. قال علیٌّ: «یا أبتِ، لا أراکَ الله سوءاً، ألسنا علی الحقّ؟ قالَ: بلی، والذی إلیه مرجعُ العباد. قالَ: یا أبتِ إذاً لا نبالی نموتُ محقّین. فقالَ له: جزاکَ الله من ولدٍ خیرَ ما جزی ولداً عن والدهِ»(3).

وهناک أمثلةٌ کثیرة من هذا النوع فی الأجزاء الأُخری من القصّة(4).

وعلی هذا، فإنّی أری أنّ صورة الحسین عند الطبری هو ذلک الشخص - ولیس أیّ شخصٍ، بل هو زعیم أهل البیت - المستعدّ للتضحیة بنفسه من أجل رسالةٍ

ص: 307


1- السبب الذی یقدّمه النصّ حول رفض الحسین إعطاء البیعة لابن زیاد لیس واضحاً کلّ الوضوح، مع أنّ هناک تلمیح فیه إلی خشیة الحسین فیما لو أنّه سلّم نفسه إلی ابن زیاد، فإنّه سیُقتَل بمهانة لا تلیق بسبط النبیّ، کما فُعِل مع ابن عمّه مسلم من قبل. اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص330. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص125.
2- القرآن، سورة البقرة: آیة156.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص306. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص101، ترجمة هاوارد.
4- اُنظر مثلاً: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص324، وص342، وص360، وص363. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص118، وص137، وص154، وص158، وأماکن أُخری متفرّقة.

سامیة، وهی السبیل إلی الله(1). وهکذا یصبح الحسینُ قدوةً وأُسوةً(2) لجمیع المسلمین الذین یرجون الآخرة ولا یرجون هذه الدنیا.

وبهذا فقد حقّق الحسین الحیاة الحقیقیّة بموته، فبتقدیمه الدم إذاً یتقاسم الحیاة والموت، ویمکن أن یُعتبر کیاناً وسطاً بین المتضادَّیْن: سفک الدم وحفظ الدم(3)، فالتساوق بین بنیة الماء وبنیة الدم واضح؛ ومع أنّ التضادّ معکوس، إلّا أنّ مفهوم الوساطة هو نفسه (اُنظر: الجدول 3: 4).

الجدول (4: 7) بنیة الماء والدم فی القصّة

حیاة

موت

الماء

سکب

منع

معطی

الدم

منع (حفظ)

سفک

تتناسب هذه البنیة کثیراً مع البنیة الإسلامیّة الأساسیّة الواردة أعلاه (اُنظر: الجدول 4: 8).

ص: 308


1- هذه هی الفکرة التی ضربت جذورها إلی حدٍّ کبیر فی التشیّع فیما بعد. راجع مثلاً: أیّوب، معاناة الخلاص: ص120-122. هالْم، الإسلام الشیعی (Halm، Shia Islam): ص16، وص30-32. جافری، الأُصول (Jafri، Origins): ص200-204.
2- کما لاحظنا فیما سبق (فی تحلیل "النصّ المعتمد" القسم السادس)، أنّ الحسین استخدم هذه الکلمة حول نفسه.
3- من وجهة نظر إسلامیّة صارمة، فإنّ الحسین لا یمکنه تقدیم دمه باختیاره؛ حیث إنّ حیاته المادیّة لیست ملکه هو، بل هی لله وحده، وعلی هذا تکون تلک رغبة الحسین فی الاستسلام لإرادة الله الذی یعطی ویأخذ الحیاة حسب ما یراه الأصلح، وهکذا أعتبر أنا "تقدیم الحسین لدمه" مثل ذلک.

الجدول (4: 8) الماء والدم فی البنیة الأکبر فی القصّة.

الآخرة

الموت

المادّی

الدنیا

الحیاة المادّیّة

امتلاک الماء

ثواب الله (الجنّة)

الإسلام

صب الماء/ منع

الدم

إعطاء الماء/

الدم

سفک الدم/ منع

الماء

النفاق

الکفر

عقاب الله

ملاحظة: الحقل المظلّل یشیر إلی الحیاة بعد الموت(1).

أتّفقُ تماماً مع (شوشان) (Shoshan) من حیث إنّ ما لدینا هنا هو قصّة لاهوتیّة، (ولکن ما بعد ذلک فیما کتبه الطبری لیس لاهوتیّاً)، ولکنّنی أختلف معه من حیث إنّنی لست مستعدّاً مباشرةً أن أُسمّیها مأساة، فمن منظور أدبی وإنسانی محض، ربّما تکون قصّة مأساویّة، ولکن من المنظور اللاهوتی حسب ما یدّعیه

ص: 309


1- فی التعلیق علی الجدول (4: 8)، ینبغی القول بالرغم من الإشارة أحیاناً إلی کفر بنی أُمیّة وأهل الکوفة، إلّا إنّه من الصعب التوقّع من الطبری أن یعتبرهم خارجین عن الإسلام، فإنّ انقسام الأُمّة کان أمراً واقعاً، ولم یکن هناک شکّ حول مَن اعتبرهم الطبری علی الحقّ، ومع هذا لم یذهب بعیداً، بأن ینکر إیمان خصوم الحسین؛ ولهذا ما زلتُ أری أنّ من المناسب وضع ثالوث التضادّ والوساطة للماء والدم بین "الإسلام" و"النفاق" ولیس بین "الإسلام" و"الکفر".

(شوشان) (Shoshan) فهی لیست مأساویّةً بتمامها.

إنّ القصّة بالتأکید تفجع القلب، من حیث إنّ انقسام الأُمّة هو تدمیر للصورة الذاتیّة للإسلام فی عصره الأوّل، والتنکّر لسبط النبی یقرب من التنکّر للنبیّ نفسه.

وباختصارٍ: فإنّه فی روایة الطبری تصبح أحداث کربلاء قصّةً لأزمة حقیقیّة فی الأُمّة الإسلامیّة فی عصرها الأوّل، ولکن مع هذا ما تزال قصّة الحسین تعطی الأمل؛ لأنّها تشیر إلی قضیّة فی غایة الأهمّیة، وهی الاستسلام التام لله والذی یؤدّی إلی الحیاة الحقیقیّة، وإنْ کانت الحیاة فی هذه الدنیا بؤساً وشقاءً والموت المادّی قریباً.

لقد جاء بیان هذا فی أماکن کثیرة، وبدلالةٍ خاصّة فی (النصّ المعتمد)، القسم السابع، حیث قال الحسین لأحد أصحابه: «إنّه قد نزلَ من الأمرِ ما قد ترون، وإنّ الدنیا قد تغیّرت وتنکّرت وأدبرَ معروفُها، واستمرَّت جدّاً فلم یبقَ منها إلّا صبابةٌ کصبابةِ الإناءِ، وخسیسُ عیشٍ کالمرعی الوبیل، ألا ترونَ أنّ الحقّ لا یُعملُ بهِ وأنّ الباطلَ لا یُتناهی عنه، لِیرغبَ المؤمنُ فی لقاءِ الله محقّاً، فإنّی لا أری الموتَ إلّا شهادةً ولا الحیاةَ مع الظالمینَ إلّا برماً»(1).

وهذا هو الموضع الوحید فی القصّة کلّها الذی جاءت فیه کلمة (الشهادة) لتخصّ الحسین، والفکرة هی أنّ اتّباع سبیل الله إلی الحدّ الذی یکلّف المرء حیاته، فیه مناشدة لوجدان کلِّ أحدٍ یرغب فی تنفیذ إرادة الله، ویحضّه علی فعل الشیء نفسه.

إنّ أکثر الأمثلة صلةً بالموضوع من بین الأشخاص الذین فهموا رسالة الحسین هو الحُرّ، الذی أخذ التحدّی فی غایة الجدّ، وأعدّ نفسه لترک حیاته الدنیویّة؛ لینال

ص: 310


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص300-301. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص96.

الحیاة الحقیقیّة الأبدیّة، فقد ذهب من الحَرّ إلی الحُرّیّة، وفیما بعد سار فی رکبه آخرون، کان أشهرهم التوّابون، سأتحدّث عن هذه الحرکة باختصارٍ فیما بعد.

ومن وجهة النظر هذه، فإنّ موقف الحسین یحقّق ذلک النوع من الوساطة الذی کان قد صوّرته (ألیّ کونغاس ماراندا) (E. Köngäs Maranda) و(بییر ماراندا) (P. Maranda) فی کتابهم (النموذج البصری)(1).

التضاد الرئیسی - إذن - سیکون الحیاة والموت فی خواصّهما الروحیّة (فی الجدول (4: 8)، تمثّلت فی مفهوم (ثواب الله) و(عقاب الله))، حیث الأوّل یتعلّق بالحسین والثانی بأهل الکوفة والأُمویّین.

إذن؛ قام الحسین بتمرّدٍ وسبّب انقساماً فی الأُمّة، والذی یمکن أن یُعتبر نقضاً لعهد الله (أی الموت الروحی)، وبهذا یموت موتاً مادّیاً، ویصبح مرتبطاً بالحیاة والموت کلیهما، ویقود هذا إلی التحوّل - أو حسب الاصطلاحات البنیویّة (الانقلاب Inversion) - لدی واحدٍ من أهل الکوفة (الحُرّ). هذا التحوّل من الموت إلی الحیاة لدی الحُرّ یبیّن أنّ الحیاة تتغلّب علی الموت.

وجوهر القصّة - کما تمّ تأویله هنا - یمکن رسمه فی الصیغة القانونیّة ل-(لیفی شتراوس) کالتالی:

Fd(K): Fl(H): : Fd(H): Fk-1(L(

حیث الوظائف D=الموت (Death)؛ L =الحیاة (Life)، والعناصر K=أهل الکوفة (Kufans)؛ H=الحسین؛ K-1=الکوفی المتحوّل وهو الحُرّ.

ص: 311


1- اُنظر: المخطّط 3: 2.

وبعبارةٍ أُخری - تبعاً ل-(ألی کونغاس ماراندا) (E. Köngäs Maranda) و(بییر ماراندا)P. Maranda) (1) -: فإنّ أهل الکوفة باختصاصهم بوظیفة الموت فی تضادّ مع الحسین المخصّص بوظیفة الحیاة، فالحسین - إذن - یتّخذ الوظیفة السلبیّة للموت، وهی العملیّة التی تؤدّی إلی النصر بمنتهی الکمال، باعتبارها تنشأ من الانهیار الأخلاقی لأهل الکوفة وتحوُّلِ واحدٍ منهم، وهکذا وبدون شکٍّ تؤسّس الحیاة کمحصّلة نهائیّة.

وهنا یجب التذکیر بأنّنی فی هذا التحلیل قمتُ بالترکیز علی الحُرّ کممثّل عن جمیع أُولئک الذین أدرکوا جدّیّة الأمر ثمّ تحوّلوا؛ حیث إنّ قضیّته هی الأکثر وضوحاً فی هذا النصّ، ویمکن اختیار آخرین کزُهیر بن القین مثلاً، فالحاصل من العملیّة هو أنّ الحیاة الروحیّة لأُولئک الذین تحوّلوا إلی طریق الله أعظم من مقتل الحسین، ذلک الموت المادّی لیس إلّا، فالنصر المعنوی للحسین هو دلیلٌ علی أنّ (تمرّده) لم یکن موجّهاً ضدّ إرادة الله، فهو لم یحارب الله أو الإسلام، وإنّما حارب تلک السلطات التی کانت تهدّد بتقویض الأخلاق وتدمیر الدِّین.

وعلی هذا ففی القصّة بأکملها - ولیس (النصّ المعتمد) فقط - کانت وظیفة الحسین کوسیط إیجابیّة وسلبیّة معاً، فبرفضه الخضوع للسلطات الفاسدة الجائرة أبقی علی فئتی الحیاة والموت منفصلتین، وبترک نفسه (ملوّثاً) بالموت - علی الأقلّ بمعناه المادّی، وربّما معناه الروحی أیضاً؛ من حیث إنّه سبّب انقساماً فی الأُمّة - فقد ضمّ الفئتین فی نفسه معاً.

وإضافةً لذلک قام الحسین مقام الأُسوة والقدوة لکلِّ المسلمین، تارکاً لهم المجال لیعْبُروا من الموت إلی الحیاة.

ص: 312


1- اُنظر: الصفحة أعلاه.

بعد کربلاء

لقد ذکرت واحدة من نتائج واقعة کربلاء، وهی حرکة (التوّابین)، وقصّة هذه الحرکة رواها الطبری أیضاً نقلاً عن هشام بن الکلبی، الذی یبدو أنّه اقتبس معظم أثر أبی مخنف (کتاب سُلیمان بن صُرَد)(1). وباختصارٍ تخبرنا القصّة بما یلی:

بعد أربع سنوات من مقتل الحسین، تلاوم أهل الکوفة من شیعته لعدم التحاقهم به فی کربلاء، وندموا ندماً شدیداً؛ لتخاذلهم عن نصرته، ورأوا أنّ ذنبهم کذنب الیهود بما عصوا الله عندما صنعوا لهم عجلاً من ذهب، ففی خطبةٍ ملتهبة، قال زعیمهم سلیمان بن صُرَد: «أمَّا بعدُ، فإنِّی والله، لخائِفٌ ألّا یکونَ آخرنا إلی هذا الدَّهر الَّذِی نکدت فیه المعیشة، وعظُمت فیه الرّزیَّة، وشَمِل فیه الجورُ أولی الفضلِ من هذهِ الشیعة، لما هو خیر؛ إنَّا کنَّا نمدّ أعناقنا إلی قدوم آل نبیِّنا، ونمنِّیهم النَّصرَ، ونحثّهم علی القُدوم، فلمَّا قدِموا ونَیْنا وعَجزنا، وادَّهنَّا وتَربَّصنا، وانْتَظرنا ما یکون حَتَّی قُتل فینا وَلَدُ نبیِّنا، وسُلالَتُه، وعُصارتُه، وبَضعةٌ من لَحْمه ودَمِه، إذ جعل یَسْتَصرِخُ فلا یُصرَخ، ویسألُ النَّصَف فلا یُعطاه، اتَّخذه الفاسقون غَرَضاً للنَّبل، ودرَّیة للرّماح حَتَّی أقصدوه، وعدَوْا علیه فسَلبوه.

ألا انْهَضوا فقد سخِط ربُّکم، ولا ترجعوا إلی الحلائِل والأبناء حَتَّی یَرضَی الله. والله، ما أظنُّه راضیّاً دون أن تناجِزوا مَن قتله، أو تُبیروا.

ص: 313


1- هاوتنغ، مقدّمة المترجم (Hawting،”Translator’s Foreword)، Xvi-Xvii. القصّة مرویّة فی تاریخ الطبری: ج2، ص497-513، وص538-578. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج20، ص80-97، وص124-160. لمطالعة دراسات وتعلیقات عن حرکة التوابین، راجع: دَنی، "التوّابون" (Denny، “Tawawabun”). هالم، الإسلام الشیعی: ص16-20. فی مقالة رائعة، یری جی. آر. هاوتنغ (G. R. Hawting) أنّ حرکة التوّابین هی الرابط الذی یربط مقتل الحسین مع "یوم الغفران" عند الیهود. (هاوتنغ، "التوّابون").

ألا لا تهابوا الموت، فوالله، ما هابه امرؤ قطُّ إلّا ذلّ، کونوا کالأُلَی من بنی إسرائیل، إذ قال لهم نبیِّهم: « إِنَّکُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَکُمْ بِاتِّخَاذِکُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَی بَارِئِکُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ ذَلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ عِنْدَ بَارِئِکُمْ »، فما فعَل القومُ؟ جَثَوا علی الرُّکب والله، ومدّوا الأعناق، ورضُوا بالقَضاء حَتَّی حینَ علموا أنَّه لا ینجیهم من عظیم الذَّنب إلّا الصبر علی القتل. فکیف بکم لو قد دُعیتم إلی مثْل ما دُعِی القوم إلیه!!»(1).

رفض التوّابون فکرة قتل أنفسهم جماعةً؛ حیث إنّ هذا محرّم فی القرآن، ولکنّهم اتّفقوا علی عملٍ یبلغ ذلک، وهو أنْ یأخذوا أسلحتهم ویخرجوا لقتال جیش بنی أُمیّة؛ أنْ یقتلوا قتَلَةَ الحسین أو یموتوا فی هذا السبیل، وعندما أعدّوا أنفسهم للخروج من الکوفة، ظهر (4000) رجل فقط من بین (16000) رجل کانوا قد تعاهدوا علی هذا الأمر، وما زال هذا العدد یتناقص مع مضی الزحف، ونزلوا فی کربلاء، وأمضوا هناک یوماً ولیلةً فی الصلاة والبکاء والندم والتوبة قبل أن یستأنفوا زحفهم.

وعند عین الوردة شمال العراق، لقوا جیش الشام، وقُتلوا عن آخرهم سنة (64ه- /685م) إلّا قلّة قلیلة منهم سلموا من القتل، وقد مُلئوا خزیاً وعاراً من

ص: 314


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص500. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج20، ص83-84، مستشهداً بالقرآن، سورة البقرة، آیة54. ترجمة هاوتنغ. هذه الآیة حسب تفاسیر المسلمین التقلیدیّة (بضمنها تفسیر الطبری، راجع: الطبری، محمد بن جریر، جامع البیان عن تأویل آی القرآن: ج1، القسم الأوّل، ص407-412) تشیر إلی العجل الذی صنعه الیهود من الذهب. أمر موسی - وهو فی غضبه - بنی إسرائیل أن یقتل أحدهم الآخر؛ لأجل الاستغفار من ذنبهم، وقد فعلوا ذلک بإرادتهم حتّی منعهم الله من ذلک. لمطالعة ذلک فی الکتاب المقدّس، والذی فیه أنّ اللاویین (من أبناء لاوی ابن النبیّ یعقوب) هم الذین أُمروا بقتل المذنبین منهم، راجع مثال: 32، ص25-29. لمطالعة نظائر أُخری عند الیهود، راجع: هاوتنغ، التوّابون.

أنّهم لم یُقتَلوا فی المعرکة.

حسب (هاینز هالْم) (Heinz Halm)، فإنّ (التضحیة بالنفس التی قام بها التوّابون فی سنة (684 - 685م/64 - 65ه-) قد دخلت ضمن مراسیم عاشوراء)، وهی الشعائر التی سنحت لی الفرصة أنْ أشهدها فی باکستان، وقد تحدّثت عنها فی الفصل التمهیدی لهذه الدراسة(1).

یقول هالْم (Halm): إنّ هذه الشعیرة لیست من شعائر الحِداد - کما یُعتقَدُ فی الغالب - وإنّما هی شعیرة للتوبة(2).

ویمضی قائلاً: «هذا الفعل من الشعائر - إسالة الشخص لدمه بجلد نفسه أو ضرب جبینه بالسیف - هو بدیلٌ عمّا یتضمّنه ذلک العمل حقیقةً - الموت المکفِّر عن الذنب - وفی الوقت نفسه یضمن للفاعل حسن العاقبة، وهی العتق من ذلک الذنب التاریخی»(3).

والتحلیل البنیوی لقصّة التوّابین وشعائر عاشوراء - أو کما تُسمّی فی شبه القارّة الهند وباکستانیّة (شعائر محرّم) - فی ضوء ما یوجد فی التحلیل أعلاه بعیدٌ جداً عن مجال هذه الدراسة التی بین أیدینا، ولکنّنی سأعود باختصارٍ إلی تأویل (لوسییه سکوبلا) لصیغة (لیفی شتراوس) القانونیّة، وأری أنّ نموذجه ربّما یکون ذا صلة بدراسة تطوّر تلک الشعیرة.

ص: 315


1- اُنظر: هالم، الإسلام الشیعی: ص20.
2- اُنظر: هالم، الإسلام الشیعی: ص19.
3- هالم، الإسلام الشیعی: ص20. اُنظر کذلک: هاوتنغ، التوّابون.

دعونا أوّلاً نذکّر بذلک النموذج(1): یری سکوبلا أنّ الصیغة القانونیّة یمکن تبسیطها وکتابتها فی صورتین: واحدة تبیّن الوساطة بأُسلوب ستاتیکی (ساکن، غیر متغیّر):

A: B: : M: X

والأُخری تبیّنها کعملیّة:

A/B® M ®X

فی الحالتین کلتیهما، (A وB) یشیران إلی التضادّ بین المتضادّین، (A) Fx)فی أحداث کربلاء، هو موت أهل الکوفة)، و(B)Fy) (حیاة الحسین) فی الشکل الأصلی للصیغة، حیث (M) یمثّل الوساطة أو عدم التمایز (عدم التحوّل)، وحیث الطرف (B) یتبنّی آنیّاً الوظیفة (X) (التبنّی الآنی للموت الروحی والمعاناة الحقیقیّة لموت الحسین المادّی). العنصر الرابع (X) أخیراً یمثّل الحصیلة، وهی تحوّلٌ یُزال فیه الطرف (A)، وترتقی الوظیفة (Y) (الکوفی المیت)، وهو الحُرّ یُؤخذ إلی الحیاة الروحیّة وتلک الحیاة تکتسب النصر).

وهنا ینبغی ملاحظة أنّه لیس قتل الحسین هو الذی یشکّل (الإزالة الجذریّة) للطرف (A)1- A®A أی العملیّة التی کان (سکوبلا) قد أوّلها علی أنّها (قتل مخلوق خبیث)(2). وقد تمّ بیان هذه العملیّة فی تحوّل الحُرّ، حیث کان مقتل الحسین وساطیّاً؛ وسبّب التحوّل بین الفئات، والذی کانت نتیجته الأُولی هی (الإزالة الجذریّة) للحُرّ (القدیم).

ص: 316


1- راجع الصفحات المتقدمة.
2- اُنظر: سکوبلا، اقرأ لیفی شتراوس: ص143. ترجمتی (مؤلّف البحث).

وکما یفترض سکوبلا فإنّ عملیّة الوساطة بأکملها یمکن أن تُعتبَر کحلقة تحوّل، حیث لا یکون (X) النتیجة النهائیّة فقط، بل کذلک نقطة البدایة لحلقة جدیدة.

فی ضوء هذا، نستطیع رؤیة حرکة التوّابین علی أنّها الحلقة التالیة، وکلُّ حدثٍ من شعائر محرّم علی أنّها حلقات متتابعة.

وفی قصّة التوّابین، مرّةً أُخری نجد التفرّع الثنائی بین الحیاة الروحیّة والموت الروحی، أو کما جاء فی رسالةٍ من سلیمان بن صُرَد إلی بعض الشیعة: التفرّع الثنائی بین الدنیا والآخرة(1).

وتبدو هذه الثنائیّة کشعور بالندم فی أعماق کلِّ واحدٍ من التوّابین، فقد کان ینبغی علیهم الترکیز علی الآخرة واختیار الحیاة، ولکنّهم بدلاً من ذلک ونتیجةً للجبن والغایات الدنیویّة(2) اختاروا طریقاً یقودهم فی النهایة إلی الموت، وظهرت هذه اللوعة بوضوح فی الهجوم الانتحاری علی جیش الأُمویّین، ذلک الفعل الذی کان الهدف منه هو (قتل هوی النفس)، والذی انتهی بالموت المادّی الفعلی لمعظم المشارکین فیه.

والموت المادّی کان بالضبط ما أراده التوّابون، حیث یعنی أنّ ترکیزهم الحقیقی

ص: 317


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص502-504. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج20، ص85-87.
2- لا یمکن تفسیر هذه العملیة بالجبن وطلب غایات دنیویة؛ لأنّ الجبن أو طلب الدنیا لیس من شأنهما الدفع إلی الموت وترک ما یطلبونه؛ إذ فی هذا مخالفةٌ لأمر بدیهی.(المحقق).

کان علی الآخرة، وأنّ الحیاة الروحیّة کانت الثواب الذی سینالونه، وکانت الوساطة فی هذه القصّة - ال- (M) فی نموذج (سکوبلا) - هی الشعور بالندم والتوبة، حیث تمتزج الحیاة بالموت؛ والنتیجة ال- (X) فی نموذج سکوبلا هی (إلغاء) الهوی الدنیوی للتوّابین، والفوز بالحیاة الحقیقیّة فی الآخرة.

ویمکن اعتبار شعائر عاشوراء أو محرّم التی تُقام فی کلِّ عامٍ علی أنّها الشکل المصغَّر لعمل التوّابین، وهنا قد استُبدِل الصراع الانتحاری الفعلی ضدّ قوی الشرّ مکان الأعمال الشفهیّة والبدنیّة للتوبة، ولکنّها عادةً لا تؤدّی إلی الموت الجسدی. وکما أشار إلیه (هالم) (Halm)، فإنّ الأخیر بالتأکید لم یکن مجهولاً بما فیه الکفایة، کما أثبتته الثورة الإیرانیّة والحرب العراقیّة الإیرانیّة التی لحقتها(1).

ص: 318


1- راجع: هالم، الإسلام الشیعی: ص20، وص134-137، وص150. مرّةً أُخری أودّ أن أؤکّد أنّ تطبیق نموذج سکوبلا علی روایة التوّابین وشعائر عاشوراء هو مؤقّت فقط، ومن أجل إثبات ذلک تصبح الحاجة ماسّة إلی تحلیلات شاملة للنصّ والشعائر.

الفصل الرابع: استنتاجات وتوقّعات مستقبلیّة

اشارة

صورة

ص: 319

صورة

ص: 320

الطبری وأحداث کربلاء

حسب روایة الطبری، فإنّ کُلاً من الفریقین المتخاصمین فی أحداث کربلاء - الحسین وبنی أُمیّة - یدّعی - علی وجه الحصر - أنّ قواعد الإسلام الصحیح تُثبت وترسّخ من خلال سلطته وحکمه هو، وبالنسبة للحسین فإنّ عدداً من الخطب المنسوبة إلیه قد تمّت مناقشتها خلال التحلیل المتقدّم، وجاء ذکر احتجاجه أنّه صاحب الحقّ فی السلطة السیاسیّة؛ بسبب قرابته من النبیّ محمّد. کذلک - وبطریقة مشابهة - إدّعی بنو أُمیّة وأتباعهم أنّهم أصحاب الحقّ فی الحکم دون سواهم، والأکثر وضوحاً منها طلب یزید البیعة من أُولئک الرجال الذین اعتبرهم أنداده السیاسیّین، وقد ناقشنا حجّته أنّ هذا المنصب قد أعطاه الله له فیما سبق، بالإضافة لذلک فإنّ الفریقین کلیهما اتّهم أحدهما الآخر بشقّ عصا الأُمّة.

فإنّ خطورة انقسام أُمّة المسلمین جاءت علی لسانٍ أحد أصحاب الحسین الخُلّص، وهو زهیر بن القین الذی خاطب أهل الکوفة - عندما کانت الحرب علی وشک الوقوع - قائلاً: «یا أهلَ الکوفة، نذارِ لکم من عذابِ اللهِ نذار! إنَّ حقّاً علی المسلمِ نصیحةَ أخیهِ المسلم، ونحنُ حتّی الآن إخوةٌ وعلی دینٍ واحدٍ وملّةٍ واحدة ما لم یقع بیننا وبینکم السیفُ، وأنتم للنصیحةِ منّا أهلٌ، فإذا وقعَ السیفُ انقطعت العصمةُ، وکنّا أُمّةً وأنتم أُمّة، إنَّ الله قد ابتلانا وإیّاکم بذریّةِ نبیّهِ محمّدٍ؛ لینظرَ ما نحنُ وأنتم عاملون...»(1).

ص: 321


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص331. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص125-126. ترجمة هاوارد. للمطالعة حول تحذیر عبید الله. وإنْ طُرح فی اصطلاحات سیاسیّة أکثر وبتکلّفٍ، راجع: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص254. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص47.

سیأتی إکمال موضوع انقسام الأُمّة بعد صفحات قلیلة.

لقد رأینا عندما بدأ عمر بن سعد - قائد جیش الکوفة - المعرکة (رسمیّاً) بإطلاقه أوّل سهم. إنّ المعرکة قد بدأت ولیس هناک من عودة، ویظهر انقسام الأُمّة فی أخبار الصلاة أیضاً.

وفی القسم الثالث والرابع من (النصِّ المعتمد) أَمَّ الحسین أصحابه وأهل الکوفة فی الصلاة جماعةً، ممّا أظهر أنّ الجمیع کانوا من دِینٍ واحد وأُمّة واحدة، (مع أنّهم سیاسیّاً من معسکرین مختلفین).

علی أیّة حالٍ، فقد رأَیْنا خلال المعرکة أنّه لیس فقط صلّی أصحاب الحسین منقسمین، بل إنّهم أُجبروا علی أداء صلاة الخوف، فقد أدّوا الصلاة بالتعاقب، حیث صلّی أوّلاً فریقٌ منهم وفریقٌ آخر یحمیهم ضدّ أهل الکوفة، ثمّ تبادل الفریقان الدور(1). وهذا بیانٌ واضح علی أنّ أهل الکوفة لم یعودوا یعتبرونهم مسلمین، إن لم یکن من ناحیة الرأی فمن الناحیة العملیّة علی الأقل.

کانت وحدة المسلمین تُعتبر آیةً لتلک المنزلة الرفیعة لهذه الأُمّة المختارة التی التزمت مع الله بمیثاق یتضمّن طاعتهم لأحکامه مقابل کسب رضاه، ومن هنا فإنّ تفرّق الأُمّة یُعتبر انتهاکاً لهذا المیثاق الإلهی؛ لهذا کانت أحداث کربلاء مهمّةً جدّاً للمؤرّخین الأوائل؛ وذلک لأنّها أوّلاً کانت مظهراً من مظاهر الفتنة، والحرب

ص: 322


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص350. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص144.

الأهلیّة وتفتّت الأُمّة، وثانیاً لأنّها تربط نقض المیثاق الإلهی إلی حدٍّ بعید مع خیانة المعاهدة السیاسیّة، أی العهد بین الحسین وأهل الکوفة. فالأخیرة تُعتبر توضیحاً للأُولی.

والحقیقة أنّ هذا التأویل یخصّ الحسین وأصحابه ولیس بنی أُمیّة وأعوانهم، والطبری نفسه لم یفصح صراحةً عن قصده، فعند ترتیب مادّة الطبری یبرز بوضوح أنّ التأویل حول الحسین وأصحابه هو الأکثر صحّةً، ومن الواضح أنّ روایة الطبری حول أحداث کربلاء تُروی من وجهة نظرهم ولیس من وجهة نظر الأُمویین.

کان الصراع الداخلی حول السلطة فی الأُمّة الإسلامیّة فی العقود الأُولی موضوعاً مهمّاً للمؤرّخین المسلمین الأوائل، وله تأثیر علی الأُمّة الإسلامیّة حتّی یومنا هذا، وفی الاصطلاح العام کانت تلک النزاعات تسمّی (فتنة)(1).

(عبد القادر تایوب) - أُستاذ الدراسات الدینیّة من جنوب أفریقیا - یتحدّث عن کیفیّة استخدام هذا المفهوم طوال تاریخ الإسلام قائلاً: «کمصطلح أساسی فی النظام الإدراکی الرمزی للأدب الإسلامی، ترسم الفتنة طریقاً دینیّاً محافظاً إلی قضایا سیاسیّة أو اجتماعیّة»(2)، إنّ القوی التی ترید عرقلة التغییر السیاسی أو الاجتماعی، تشیر إلی هذا المفهوم من أجل أن تهوّل الصراعات والنزاعات السیاسیّة.

ص: 323


1- حول موضوع کتابة التاریخ الإسلامی المبکّر، راجع: دونَر، الروایات (Donner، Narratives): ص184-190. نوث وکونراد، العُرف التاریخی العربی المبکّر (Noth And Conrad، Early Arabic Historicaltradition): ص33-35. للمطالعة حول هذا المفهوم فی المناظرات السیاسیّة المعاصرة، راجع مثلاً: اسبوسیتو وفول، الإسلام والدیمقراطیّة (Esposito And Voll، Islam And Democracy): ص41-43.
2- تایوب، عبد القادر، تفسیر الطبری للفتنة (Tayob، “Tabari’s Exegesis Of Fitna”): ص158.

ویری تایوب أنّ الطبری بشکلٍ عادی لم تکن لدیه هذه النظرة السلبیّة حول الفتنة، بل کانت - حسب رأیه - تستدعی أُموراً کالاختبار والابتلاء، أو حتّی التمحیص، «وعلی هذا فإنّ الأشکال المختلفة للفتنة - کمحلّ اختبار - تعطی فرصةً للمرء؛ لتمیّزه علی أنّه مؤمن ثابت الإیمان، وفی هذه الحال لا یمکن اجتناب الفتنة ولا ینبغی اجتنابها»(1).

فی القول المنسوب إلی زهیر بن القین الوارد أعلاه، لم یأتِ ذکر مصطلح (الفتنة)، ولکنّ زُهیراً قال: إنّ الله قد (ابتلی) الأُمّة من خلال الحسین، والتی اعتبرها الطبری - حسب تایوب - مرادفةً للفتنة بقلیل أو کثیر.

وحسب قراءتی لأحداث کربلاء فی روایة الطبری، فإنّ الرسالة الأساسیّة للقصّة تقع فی (الدلالات الدِّینیّة - السیاسیّة) لرحلة الحسین نحو الکوفة، والمواقف التی اتخّذها مختلف الناس تجاهه. فعندما تحدّی الحسینُ السلطةَ الأُمویّة الفاسدة، أجبر الناس علی أن یختاروا بین أن یکونوا مسلمین حقّاً، أو یکونوا (منافقین) بین أن یحیوا حیاة حقیقیّة برجاء الآخرة، أو حیاةً مشوّهة برجاء الدنیا ولذّاتها.

فکان فعلُ الحسین ک- (صبّ الماء)، حیث أبقی الفئات المتضادّة منفصلةً عن بعضها، ولکنّه أیضاً هدی جمیع أُولئک الذین رضوا به إماماً إلی الصراط المستقیم، وبهذا سمح للانتقال بین الفئات، وهذه الطریقة نفسها التی غالباً ما أوّل بها المسلمون من أهل السُنّة هذه القصّة(2).

ص: 324


1- تایوب، عبد القادر، تفسیر الطبری للفتنة: ص169.
2- اُنظر: فیتشیا فاغلییری، الحسین بن علیّ بن أبی طالب: ص614. فیرنون شوبیل (Vernon Schubel) بیّن أنّ المسلمین السُنّة - فی دول جنوب آسیا فی الزمن المعاصر - یحتفلون کذلک بمقتل الحسین، ولکنْ بطریقة بهیجة تختلف تماماً عن الشیعة؛ لأنّهم یؤکّدون علی عنصر الانتصار علی الشرّ فی مقتل الحسین. اُنظر: سکوبلا، الأداء الدِّینی (Scubla، Religious Performance): ص135-136.

أمّا الشیعة، فقد ذهبوا إلی أبعد من ذلک، حیث یعتقدون أنّ الطاعة المطلقة للحسین کإمام وهادٍ فقط هی التی تقود إلی النجاة.

تطبیق البنیویّة علی دراسة التاریخ الإسلامی

مع أنّنی أعتبر هذا العمل کدراسة رائدة تفتح الباب أمام مقارنات مع نسخ (روایات) أُخری للقصّة نفسها، کما بیّنت ذلک فی المقدّمة، فإنّ النتائج المتأتّیة من التحلیلات السابقة جعلتنی واثقاً أنّ دراسة النصوص التاریخیّة المدوّنة فی القرون الأُولی للإسلام یمکنها الاستفادة من الأدوات النظریّة والمنهجیّة (المتعلّقة بعلم المنهج) لکلود (لیفی شتراوس) (Claude Lévi-Strauss).

وبعض النتائج کانت نوعاً ما قابلة للتنبّؤ بها، کالبنیة الأساسیّة للتصنیفات الإسلامیّة؛ البنیة الواردة فی المخطّط المرسوم فی الجدول (4: 3) المتقدّم کانت مفاجئة جدّاً (علی الرغم من أنّ ترتیب الفئات المختلفة بهذه الطریقة هی من ابتکار (لیفی شتراوس) بلا ریب).

النتائج الأُخری مثل العلاقة بین الماء والدم، وکذلک دور الحسین کوسیط، کان من الصعب التوصّل إلیها - کما أعتقد - من دون التحلیلات البنیویّة، وربّما کان الأمر الأکثر أهمّیة هو طبیعة الاحتجاجات الواردة فی النصّ التی عرضتها

التحلیلات البنیویّة.

ورسالة (الطبری) (الدِّینیّة - السیاسیّة) فی روایته حول أحداث کربلاء، قد

ص: 325

أُبلِغت من خلال إثبات أنّ نظاماً واحداً للتصنیف هو أفضل وأکثر صواباً من الآخر فی عین الله، فقد فعل ذلک من خلال التغییر الذی ربما یعتبره الکثیرون استنتاجات مستبعدة إلی حقائق واقعیّة واضحة، وهو التغییر الذی یتحقّق فی التحوّل من المجاز إلی الکنایة وعملیّات أُخری، ویمکن رسم هذه العملیّة بواسطة نسخة یمکن استخراجها علی العموم من نموذج لیفی شتراوس، والذی استخدمتُه کثیراً فی التحلیلات السابقة للنصِّ.

الجدول (5: 1)، نموذج (لیفی شتراوس) حول الوساطة، المطبّق علی دراسة التاریخ الإسلامی بصورة عامّة.

الآخرة

الموت المادی

الحیاة المادّیة

الدنیا

ثواب الله (الجنّة)

الإسلام

A

M

B

النفاق

الکفر

عقاب الله

ملاحظة: الحقل المظلّل یمثّل الحیاة بعد الموت.

ص: 326

وفی النسخ المختلفة لهذا النموذج التی رأیناها فی الفصل السابق، کانت محتویات الحقلین فی أقصی الیسار ثابتة (غیر متغیّرة) نسبیّاً؛ ومحتویات الحقل الثالث هی التی تتغیّر فی الغالب. بنیة الحقل الثالث قد بقیت بدون تغییر بطرفین متضادّین وطرف وسیط بینهما (فی الجدول (5: 1)، المتضادّان یمثّلهما A وB، والطرف الوسیط یمثّله M)، وتتغیّر هذه الأطراف حسب الرسالة التی یرید المؤلّف إبلاغها، فقد رأینا کیف تغیّرت بین رمز التقوی (الجدول 4: 3)، رمز السلطة (الجدول 4: 4)، والرمز الاقتصادی (الجدول 4: 5 و4: 8).

وفی القول عموماً، سیصبح هذا ملفتاً بصورة خاصّة عندما نتأمّل الأبعاد (الدِّینیّة – السیاسیّة) لرسالة یتضمّنها نصٌّ ما من عصر الإسلام الأوّل، وهنا أودّ أن استخلص الاستنتاجات المستنبطة من هذا النموذج، وافترض أنّ ظاهرة إقحام أطراف سیاسیّة مختلفة فی البنیة الإسلامیّة الأساسیّة لا یشکّل شیئاً خاصّاً للنصِّ الحالی.

وفی الحقیقة إنّ التاریخ الإسلامی بأکمله یمکن رؤیته علی أنّه مبنیٌ علی نفس المحرّک الذی تکسوه محتویات سیاسیّة وکلامیّة مختلفة، ومن أجل الاحتجاج لذلک، والنجاح فی إیصال فکرةٍ دینیّة سیاسیّة معیّنة فی بیئة

الحضارة الإسلامیّة حدیثة النشوء، فإنّ الدفاع عن آیدیولوجیّة کهذه سیجعلها تتلاءم مع المحرّک الإسلامی (وهذا - بالطبع - هو الحال حتّی فی أیّامنا هذه)، وفی هذا المعنی یمکن القول: إنّ هذه البنیة الأساسیّة هی نفسها التی تجعل أحد النصوص التاریخیّة إسلامیّاً.

واحدة من الفوائد الکبیرة لمثل هذه الدراسة البنیویّة - حسب ما أعتقد - أنّها تبیّن کیف أنّ أُسطورةً ما، تبرهنُ علی أنّ العوالم المختلفة الموضّحة من خلال الرموز لیست منفصلة فی الواقع، تنتمی جمیعاً إلی بعضها الآخر، محاولةً إیجاد کنایة من

ص: 327

المَجاز، تظهر الحقیقة لتصنع کلّلً، وإنْ کانَ هذا الکلّ متحوّلاً، ولکنّه - وهذا مهم - یتحوّل فی الطریقة التی یُظهرها (مؤلّف) الأُسطورة، سواء کان شخصاً واحداً أو مجموعة أشخاص، وهذا یعنی أنّ الأُسطورة ینبغی علیها أن تُظهِر عدم تعلّق عناصر معینة بالعالم المثالی للأُسطورة، أو یجب أنْ تُظْهَر تناقضها معه، أو تهدّد النظام الذی تدافع عنه.

ومن خلال عملیة البناء من کلِّ ما یتوفّر من عناصر فی متناول الید (Bricolage)، أعطی کتّاب مختلفون - إنْ کانوا مجموعةً أو شخصاً بمفرده - لنفس الحدث معنیً مختلفاً.

ماذا بعد؟

کما افترضت سابقاً، فإنّ التحلیل الوارد هنا حول روایة الطبری لأحداث کربلاء یحتاج إلی دراسات للروایات الأُخری للقصّة نفسها، وأَنْ تتمّ المقارنة معها، وربّما تظهر إلی السطح تحوّلات بنیویّة مهمّة عندما لا تُدرس التطوّرات الداخلیّة فقط، بل حتّی تلک التی بین النسخ المختلفة للأُسطورة نفسها.

وفرضیّة (لیفی شتراوس) تری أنّ (التحوّل الثنائی) - الموضّح من خلال الصیغة القانونیّة - یحدث عندما تجتاز أُسطورةٌ ما نوعاً من الحدود، کخطٍّ لغویٍّ أو آیدیولوجی علی سبیل المثال، ویمکن اختباره من خلال مقارنة الروایات السنیّة لأحداث کربلاء مع الروایات الشیعیّة، والنسخ العربیّة مع النسخ الفارسیّة، أو فی لغات أُخری.

وهناک قصص أُخری رواها الطبری، ینبغی أیضاً أن تکون موضوعاً للتحلیل البنیوی، وأن تُقارَن مع نتائج الدراسة الحالیّة، وبهذه الطریقة یمکن لشبکة العلاقات بین الرموز التی رُسمت فی المخطّطات هنا أن تُؤیَّد أو تُنقَض، وستُنسَج خیوط الشبکة علی الأرجح بصورةٍ أکثر إحکاماً بواسطة العلاقات المکتشفة مؤخّراً.

ص: 328

ولقد ذکرت کذلک الحاجة إلی تحلیل إضافی لأحداث کربلاء بخصوص حرکة التوّابین ومراسم عاشوراء، وتطبیق تأویل (سکوبلا) لصیغة (لیفی شتراوس) القانونیّة علی هذا المرکّب من الشعائر والأُسطورة.

إنّ مسألة الأُصول الإسلامیّة الإضافیّة ومشاعر الشیعة وطقوسهم غالباً ما کانت عرضةً للنقاش، واعتقد أنّ التحلیلات البنیویّة للمیثولوجیا (مجموعة الأساطیر أو علم الأساطیر) غیر الإسلامیّة - الیهودیّة، المسیحیّة، الإیرانیّة، والأساطیر القدیمة لبلاد ما بین النهرین - ومقارنة بُنْیات هذه المجامیع من الأساطیر هی الطریق للوصول إلی جوابٍ لهذه المسألة.

إضافةً إلی ذلک، فإنّ هناک حاجة لمزید من الدراسات لهذه النسخة التی قمنا بدراستها هنا، فإنّ إحدی الخصائص المهمّة فی روایة الطبری حول أحداث کربلاء، التی ترکتُها عن قصدٍ بسبب أبعادها الواسعة، هی مسألة المَلَکیّة فی الإسلام فیما یتعلّق بالحسین، وکما بیّن کثیر من الباحثین، فإنّ الماء هو صورة للمَلَکیّة فی العصر الأوّل للإسلام، وربّما سیکون من المفید جدّاً دراسة فکرة المَلَکیّة بخصوص رمزیّة الماء فی القصّة؛ ورفض الماء من الحسین هو رفض السلطة السیاسیّة(1) منه أیضاً(2).

ص: 329


1- هذا بحسب تحلیل المؤلف ودراسته البنیویة، إذ هناک عدة آراء حول فلسفة وأسباب النهضة الحسینیة ومنها إقامة الحکومة الإسلامیة حتی یتسنی إیصال کل حق لصاحبه والعمل بالشریعة الإسلامیة. (المحقق).
2- حول موضوع الماء کصورة للمَلَکیّة فی عصر الإسلام الأوّل، راجع: الهبری، إعادة التأویل (El-Hibri، Reinterpreting): ص91-92. مارتنسون، العهد الجدید الصحیح (Mårtensson، True New Testament): ص100-102. مارتنسون، النصّ (Discourse): ص326-327. رِنْغْرَن، الخصائص الدِّینیّة للخلافة (Ringgren، “Religious Aspects Of The Caliphate”): ص740.

وتستمر الأساطیر بالتغییر - فمحتویاتها، ووظائفها، و... - بسرعةٍ أبطأ، بنیتها تتکیّف مع المواقف الجدیدة، وهذه حقیقةٌ تجعل تحلیلها مُحبِطاً واستفزازیّاً معاً: مُحبِطاً؛ لأنّ تحلیل أُسطورةٍ ما لا ینتهی أبداً، واستفزازیّاً؛ لأنّه یُظهر قابلیّة البشر علی التکیّف مع الظروف الجدیدة.

وفی (التمهید) لکتابه الأوّل حول الأساطیر، یقول لیفی شتراوس: «إنّ دراسة الأُسطورة یثیر مشکلةً منهجیّة، من حیث لا یمکن تنفیذها حسب المبدأ الدیکارتی حول تجزئة العقبة (المعضلة) إلی أجزاء کثیرة بقدر ما هو ضروری من أجل إیجاد الحلّ، ولیس هناک نهایة حقیقیّة للتحلیل الأُسطوری، ولیس هناک وحدة مبطّنة حتّی یمکن إدراکها عندما تکون عملیّة التجزئة قد تمّت، والأفکار الرئیسیّة (فی قصّةٍ أو ما شابه) یمکن أن تتجزّأ إلی ما لا نهایة، وفی اللحظة التی تعتقدُ أنّک قد فکّکتها وجزّأتها، تدرکُ أنّها تبدأ بالتشابک معاً مرّةً أُخری استجابةً لعملیّة الترابطات غیر المتوقّعة»(1).

ولم ینتهِ التحلیل البنیوی لأحداث کربلاء، بل بالعکس، فقد حثّنی علی الاستمرار فی التحلیل البنیوی ل- (الأُسطورة الإسلامیّة) (فی المعنی الذی یتبنّاه (لیفی شتراوس) لجمیع نسخها المختلفة مأخوذةً معاً)، وهی القصص التی قد صاغت والمستمرة فی صیاغة النظرة العالمیّة، وهویّة آلاف الملایین من المسلمین فی کلِّ العصور علی امتداد العالم کلّه.

وأخیراً، لو تحصّل للآخرین نفس الحافز خلال قراءتهم لهذا الکتاب، فسأکون فی غایة الرضا.

ص: 330


1- لیفی شتراوس، النیء والمطبوخ: ص5.

الملاحق

اشارة

ص: 331

صورة

ص: 332

الملحق (1)خلاصة لأحداث کربلاء عند الطبری

اشارة

فیما یلی خلاصة لأحداث کربلاء من روایة الطبری، والمراد هو إعطاء خلاصة عامّة واضحة للقرّاء الذین لیس لدیهم اطّلاع علی القصّة، ولکن لا یمکن استخدامها لغرض تحلیل النصّ، وکنت قد اعتمدت روایة هشام بن الکلبی

- والتی هی المصدر الرئیسی عند الطبری - وبیّنت فقط أین تتلاءم مع المصادر الأُخری، وقدّمت ملخّصاً قصیراً عن محتویاتها. وحیث إنّ عدة أخبار مختلفة جاءت حول الموضوع نفسه فی روایة ابن الکلبی، فقد أَهملتُ الاختلافات، وقمت بتلخیص الخطّ العام للقصّة فقط، والأرقام بین الأقواس تشیر إلی الصفحات فی طبعة لَیْدِن (Leiden) لتاریخ الطبری(1)، وهذه الصفحات جاءت أیضاً فی هوامش الترجمة الإنجلیزیّة(2)، وأرقام الصفحات یجب أن تُری فقط علی أنّها مجرّد بیان لمکان وجود بعض الأجزاء الخاصّة فی النصِّ، حیث إنّ الأخبار غالباً ما تتداخل فی بعضها، وبعض الحوادث الخاصّة ربّما تُروی مرّتین فی أماکن مختلفة.

(216 - 223) ابن الکلبی

عند وفاة الخلیفة الأُموی معاویة فی دمشق فی شهر رجب سنة ستین هجری/ أبریل - نیسان سنة 680م، أصبح ابنه یزید الحاکم الجدید، وأرسل یزید مباشرةً رسالةً إلی عامله علی المدینة الولید، یخبره فیها بموت أبیه، ویأمره بأخذ البیعة من

ص: 333


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2.
2- اُنظر: ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19.

أهمّ الرجال فی الجانب السیاسی: الحسین بن علی، عبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبیر، الذین لم یبایع أیٌّ منهم یزیداً، وخرج ابن الزبیر والحسین لیلاً إلی مکّة.

(223-227) تبع ذلک فصلٌ حول عبدالله بن الزبیر الذی قاتله أخوه عمرو ابن الزبیر، ولکنّ عبدالله انتصر علی أخیه، ولیس لهذا علاقة بأحداث کربلاء، ولکنّ الطبری حسب الترتیب التحلیلی له وضع هذا الجزء هنا فی السنة التی حدث فیها.

(227-232) عمّار الدُهنی

هذا هو الجزء الأوّل من روایة الدُهنی المختصرة عمّا حدث للحسین وأصحابه، ویتحدّث هذا الجزء عن الدعوات التی أرسلها أهل الکوفة إلی الحسین، وإیفاد الحسین مسلم بن عقیل رسولاً له إلی أهل الکوفة، وغدر أهل الکوفة بمسلم، وإعدام مسلم ومضیّفه هانئ بن عُروة علی ید الوالی عبیدالله بن زیاد.

(232 - 272) ابن الکلبی

نفس الروایة تأتی فی نسخة ابن الکلبی، ولکن بشکلٍ أکثر شمولیّةً بکثیر.

(232 - 236) یغادر الحسین المدینة خلسةً إلی مکّة، وفی طریقه یلتقی رجلاً ینصحه بالبقاء فی مکّة وعدم الذهاب إلی الکوفة. وفی مکّة تتعاظم شعبیّته بین الناس عموماً إلّا عند ابن الزبیر، الذی یُدرک أنّه لا أحد سیرغب إلیه ما دام الحسین موجوداً.

فی الوقت نفسه تقرّر جماعة من أهل الکوفة کتابة رسائل دعوة إلی الحسین، تطلب منه القدوم إلیهم وقیادتهم فی ثورة ضدّ والی الکوفة آنذاک النعمان بن بشیر، فبعثوا إلیه عدداً من الرُّسل یحملون معهم الرسائل والدعوات الشفهیّة، وأجابهم الحسین أنّه سیُرسل إلیهم ابن عّمه مسلم بن عقیل ممثّلاً عنه؛ لیری فیما إذا کان

ص: 334

الحال کما کتبوا إلیه، فإنْ کان الأمر کذلک، سیقدم إلیهم بأسرع ما یمکن.

(236- 238) بعث الحسین مسلماً الذی تاه فی الصحراء فی طریقه إلی الکوفة، وقد مات دلیلاه من العطش، واستطاع مسلم أن یجد الماء عند آخر لحظة، واعتبر مسلم تلک الحادثة کنذیر نحسٍ أمام مهمّته، فکتب إلی الحسین طالباً منه أن یعفیه من تلک المهمّة(1)، ورفض الحسین ذلک، فسار مسلم حتّی وصل الکوفة، ومکث فی بیت المختار بن أبی عبید، وبدأ عددٌ کبیرٌ من الناس بزیارته وإعلان ولائهم للحسین أمامه.

(238-241) والی الکوفة النعمان بن بشیر حذّر الناس جهاراً من القیام،

ص: 335


1- بالرغم من أنّ هذه القصة قد ذُکرت فی مصادر تاریخیة مختلفة، ونقلها الکاتب هنا معتمداً علی تاریخ الطبری؛ إلّا أنّ القصة یمکن أن تکون من الدسّ المراد به الخدش فی رموز ثورة الحسین(علیه السّلام)، وشخصیات أهل البیت(علیهم السّلام) ؛ وذلک لما سنذکره من ملاحظات: 1- إنّ مسلم بن عقیل عاش فی ظلّ ثقافة أهل البیت(علیهم السّلام) التی لا تؤمن بالخرافة، بل هی ثقافة الإیمان بإرادة الله والتوکّل علیه. 2- إنّ الحسین(علیه السّلام) قد اختار مَن یمثّله فی مسؤولیةٍ عُظمی؛ فیجب أن یکون مَن اختاره عمیق الإیمان وعلی بصیرة من أمره، لا أن یتردّد فی مواجهة خطّ الموت بسبب العطش. 3- إنّ الحسین(علیه السّلام) قد وصف مسلماً بأنه ثقته فی ذلک، فی رسالته إلی أهل الکوفة قائلاً: «وقد بعثت إلیکم أخی، وابن عمّی، وثقتی من أهل بیتی». (الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج4، ص263)، فالذی یختاره من بین أهل بیته لا بدّ أن یکون صلباً فی هدفه. 4- شجاعة مسلم حین ملاقاته جیش ابن زیاد فی الکوفة تتناقض تماماً مع ما نُسب إلیه من تردّد فی أداء الرسالة، حیث أعلن عدم خوفه من الموت مرتجزاً: أقسمت لا أُقتل إلّا حراً وإن رأیتُ الموت شیئاً نکراً الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج4، ص280. فالذی لدیه هکذا روح جهادیة وتمسّک بمبادئة، لا یراوده التردّد أو یترک مسؤولیته بسبب العطش. (المحقق).

ولکنّ بعض الوجهاء کانوا یعتبرونه متساهلاً کثیراً مع الشیعة، فکتبوا إلی یزید وأخبروه بذلک الحال، فقرّر یزید أن یتخلّص من النعمان ویعطی ولایة الکوفة إلی والی البصرة آنذاک عبیدالله بن زیاد.

وفی الوقت ذاته کتب الحسین رسالةً إلی أشراف البصرة دعاهم فیها لیلتحقوا به ضدّ بنی أُمیّة، وعلم ابن زیاد بتلک الرسالة قبل مغادرته إلی الکوفة بیومٍ واحد، فقتل رسول الحسین، وحذّر أهل البصرة أشدّ التحذیر من أن یورّطوا أنفسهم بأیِّ تمرّدٍ.

(241 - 249) غادر ابن زیاد إلی الکوفة ودخلها متنکّراً، فظنّ الناس أنّه الحسین فحیّوه مبتهجین بقدومه، فاغتمّ ابن زیاد کثیراً، فذهب إلی القصر وطرد النعمان بن بشیر، ودعا فی الحال إلی الصلاة جامعة، فخطب محذّراً الناس من أیّة خیانةٍ ضدّه أو ضدّ الخلیفة، وأمرَ ابنُ زیاد القادةَ فی الکوفة أن یقدّموا له التقاریر عن کافّة الغرباء ومثیری المشاکل فیها، وأرسل خادماً، لیعمل فی الخفاء ویجمع الأخبار عن أتباع الحسین فی الکوفة.

ثمّ إنّه بسبب کثرة الزائرین عُلِم مکان مسلم بن عقیل، فانتقل إلی بیت هانئ ابن عُروة الذی استقبله علی کُره، وکان شریک بن الأعور یمکث فی بیت هانئ أیضاً، وهو رجل صاحب نفوذ وسلطة، وکان موالیاً للحسین وأهل بیته، ولکنّه ما زال یحظی بالکرامة عند ابن زیاد.

مرض شریک أثناء وجوده فی دار هانئ، فأعلن ابن زیاد أنّه سیذهب لعیادته، واتّفق شریک ومسلم للإیقاع بابن زیاد، فعندما یأتی ابن زیاد سیطلب شریک الماء - حیث کانت هذه هی العلامة لمسلم، الذی کان مختبئاً - لیثب علی والی الکوفة ابن زیاد ویقتله، وعندما حان الوقت لم یقتل مسلم ابنَ زیاد علی الرغم من أنّ شریکاً

ص: 336

قد طلب الماء، وبرّر مسلمٌ فعله هذا مشیراً إلی حدیثٍ للنبیّ یقول فیه: «إنّ الإیمان قید الفتک، فلا یفتک مؤمن»، وبعد ذلک بأیّام مات شریک من مرضه.

(249- 254) عَلِمَ ابن زیاد من خلال جواسیسه أنّ مسلماً فی دار هانئ، فاستدعی هانئاً وبدأ باستجوابه، وعندما عرف هانئ الجواسیس أقرّ بذلک ولکنّه أبی أن یسلّم مسلم بن عقیل إلی ابن زیاد، بل إنّه هدّد ابن زیاد أنّ عشیرته سوف تأتی لتخلّصه، وضرب ابن زیاد هانئاً علی وجهه بعصاه وحبسه، کانت عشیرة هانئ خارج أبواب القصر قد احتشدت تتساءل عمّا حدث لهانئ، ولکن هدأ روعهم لمّا علموا أنّه ما زال حیّاً.

(255 - 259) علم مسلم بما حدث لهانئ، فحشد جمیع الرجال الذین أعلنوا ولاءهم للحسین، وتحرّک الجمع نحو القصر لإنقاذ هانئ، وتزاید عدد الذین تجمّعوا خارج القصر طوال العصر، وکان موقف ابن زیاد متزلزلاً ومحفوفاً بالمخاطر، وقد حشد أشراف الکوفة حوله، وأمرهم برشوة الناس وتهدیدهم حتّی ینصرفوا، فجعلوا الناس یصدّقون أنّ جیشاً من أهل الشام من طرف الخلیفة قادمٌ إلیهم.

وبدأ الناس بالتفرّق، وعندما حلّ اللیل لم یبقَ مع مسلم سوی ثلاثین رجلاً، فترکوا القصر وعادوا، وحتّی هؤلاء تملّصوا، وبعد برهة بقی مسلمٌ وحیداً، ولم یکن مسلم یعرف أزقّة الکوفة ولم یکن لدیه مکان یلجأ إلیه، فطاف فی الأزقّة هنا وهناک حتّی وصل دار امرأةٍ عجوز وطلب منها الماء، وأجارته تلک المرأة وخبأته فی حجرة متروکة، وبعد حین وصل ابنها إلی البیت، وعلم أنّ مسلماً کان مختبئاً فی الدار.

(259-264) فی ذلک الوقت أدرک ابن زیاد وأشراف الکوفة الذین کانوا فی

ص: 337

القصر أنّه لم یبقَ أحدٌ من الناس فی الظلام خارج القصر، وأنّ الخطر قد زال عندئذٍ، واستدعی ابن زیاد وجهاء الکوفة لصلاة المغرب، وطلب من الجمیع البحث عن مسلم، وأمر قائد الشرطة - الحصین بن تمیم - أن یحرّض الناس علی البحث عنه، وعند الصباح کشف ابن تلک المرأة التی آوت مسلماً عن مکان اختباء مسلم لابن زیاد، الذی أرسل فریقاً للقبض علیه.

عندما وصل أُولئک الرجال إلی البیت الذی کان یختبئ فیه مسلم، رفض مسلم تسلیم نفسه إلیهم ودافع عن نفسه بسیفه بکلِّ ما أُوتی من قوّة، فجُرح فی وجهه، واستسلم أخیراً عندما أعطاه الأمان - قائد تلک المجموعة من الجنود - محمّد بن الأشعث.

وکان مسلم قد أرسل رسالةً إلی الحسین یخبره أنّ الأمور مواتیةً له؛ لکی یأتی إلی الکوفة، ولکنّه الآن طلب من ابن الأشعث أن یرسل رسالةً أُخری إلی الحسین یخبره فیها بما حصل، ویناشده العودة إلی مکّة، وأرسل ابن الأشعث رسولاً وجد الحسین فی طریقه بین مکّة والکوفة.

(264-272) جیء بمسلمٍ إلی القصر وکان عطشاناً، فطلب شربةً من ماء، وفی المرّة الأُولی رفضوا أن یأتوا له بالماء، ولکن بعد ذلک جاؤوا له بقدح من ماء، وعندما أراد أن یشرب سال الدم من فمه إلی القدح وتنجّس الماء، وتحاجّ هو وابن زیاد، ثمّ أمر به ابن زیاد أن یُؤخذ إلی أعلی القصر ویُقطع رأسه هناک، ثمّ رُمی الرأس والجسد من أعلی القصر لیقعا وسط السوق.

وبعد مسلم قُتل هانئ، وهو الرجل الثانی الذی شارک فی ذلک التمرّد، وکتب ابن زیاد إلی الخلیفة یخبره بما حدث، فأجاب یزید أنّه راضٍ کثیراً بما فعل ابن زیاد وحذّره أنّ الحسین قادمٌ نحو الکوفة وأمره أن یمنعه.

ص: 338

(272-281) فی الوقت ذاته کان الحسین یعدّ العدّة للحرکة نحو الکوفة، فحذّره عدد من الناس - من بینهم بعض أقاربه - من الذهاب إلی الکوفة؛ إذ إنّ أهلها متقلّبون فی ولائهم، فالرجل الوحید الذی أیّد الحسین فی ذلک کان ابن الزبیر، الذی أدرک أنّه بذلک سیتخلّص من منافسه، وفی طریقه إلی الکوفة هاجم الحسین قافلةً کانت تحمل البضائع إلی الخلیفة یزید، وقد قابل کذلک أُناساً قادمین من الکوفة (من بینهم الشاعر المعروف الفرزدق)، الذین حذّروه أیضاً من دخول الکوفة، وجاءته کذلک رسائل من أهل مکّة تنصحه بعدم الذهاب إلی الکوفة، وأجاب الحسین علی ذلک کلّه بأنّه ما دام یثق بالله، ویتبع إرادته فلن یخشَ شیئاً أبداً وإن کلّفه حیاته.

(281-283) عمّار الدُهنی

یأتی بعد ذلک القسم الثانی من روایة الدُهنی، والذی یروی بقیّة القصّة بعباراتٍ مختصرة: اعترضت کتائب أهل الکوفة الحسین الذی حاول التفاوض معهم، ولکنّه لم یُوفّق فی ذلک، وحصلت الحرب وقُتل فیها الحسین وجمیع الرجال والأولاد من أهل بیته وأصحابه، وأُرسِل مَن بقی حیّاً من أهل بیته إلی ابن زیاد فی الکوفة، ومن ثَمّ إلی یزید فی الشام، حیث تعامل معهم یزید بالحسنی(1) وسمح لهم بالعودة إلی المدینة.

ص: 339


1- لم یتعامل معهم بالحسنی ویشهد علی ذلک کیفیة تعامله معهم حین وصولهم للشام بل أخذهم أسری مقیدین یحیط بهم الجند خیر دلیل علی نوایا یزید، وما أظهره من تغییر إنما کان عن اضطرار وخوف من انقلاب الأمور . (المحقق).

(283-287) الحسین بن عبد الرحمان

تأتی القصّة مرّةً أُخری بصورةٍ مختصرة بدءاً من دعوة أهل الکوفة، مروراً بمهمّة مسلم بن عقیل وقتله، وحرکة الحسین إلی الکوفة، والمعرکة فی کربلاء وما جری بعدها لمن بقی حیّاً علی ید ابن زیاد فی الکوفة ویزید فی الشام.

(287-288) الحارث بن محمّد

تأتی بعد ذلک خمسة أخبار مرویة عن الحارث (المتوفّی سنة282ه-/895-896م)(1). أربعة من تلک الأخبار تتحدّث عن تاریخ مقتل الحسین، والخامس یقول: إنّ رأس الحسین کان أوّل رأس یُرفع علی الرمح.

(288-390) ابن الکلبی

(288-289) یستمرّ الحسین فی مسیره نحو الکوفة، بینما یضع الحصین بن تمیم - قائد شرطة الکوفة - الحرّاس حول الکوفة، ویبعث الحسینُ قیسَ بن مُسهر الصیداوی برسالةٍ إلی قومه فی الکوفة یخبرهم أنّه قادمٌ فی طریقه إلیهم، ویحثّهم علی أن یکونوا مهیَّئین لوصوله، وتقبض شرطة الکوفة علی قیس، وتأتی به إلی ابن زیاد الذی یأمره بلعن الحسین أمام الملأ من أعلی القصر، ولکنّ قیساً یُجلّ الحسین ویلعن ابن زیاد، فیأمر ابن زیاد أزلامه برمی قیس من أعلی القصر فیموت.

(289-291) فی طریقه إلی الکوفة التقی الحسین رجلاً حذّره من الذهاب إلی الکوفة، ولکنّ الحسین أصرّ علی المضی فی طریقه، وکان یسیر فی الطریق نفسه رجلٌ

ص: 340


1- اُنظر: ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص82، الملاحظة279.

مع جماعةٍ من أصحابه، یُقال له: زهیر بن القین، وهو من أتباع بنی أُمیّة(1)، وکان یکره أن یشارک الحسین فی موارد الماء، وعندما یتوقّف الحسین یسیر ابن القین، وعندما یسیر الحسین یتوقّف ابن القین، وفی إحدی اللیالی اضطرّ ابن القین للتوقّف قرب مخیّم الحسین، فأرسل الحسین رسولاً یدعو زهیراً لزیارته، وطلبت منه امرأته أن یذهب فلبّی لها ذلک، وعندما رجع کانت أحواله قد تغیّرت، فقد عزم علی الالتحاق بالحسین، وحیث إنّه أدرک أنّ الالتحاق بالحسین فیه حتفه، فقد طلّق زوجته لتملک زمام أمرها إنْ هو قُتِل، وقد أجاز لأصحابه کذلک أن ینصرفوا، وبعدها أصبح واحداً من أخلص أصحاب الحسین.

(291-294) خرج رجلان من بنی أسد من مکّة بعد خروج الحسین ببضعة أیّام، وحاولا اللحاق به والانضمام إلیه، وفی طریقهما التقیا برجلٍ قادمٍ من الکوفة وسألاه عن الأوضاع هناک، فأخبرهم بمقتل مسلم وهانئ، وبعد ذلک وصل الأسدیان إلی معسکر الحسین، وأخبراه بما سمعا، وحاولا إقناعه بعدم مواصلة السیر، ولکنّ إخوة مسلم أرادوا الثأر لأخیهم، وقالوا إنّهم سیواصلون المسیر مهما کان، وعندها قرّر الحسین مواصلة المسیر، وقد وصلت الحسینَ أخبارٌ أُخری عن مبعوثه الآخر - عبدالله بن یقطر - حیث أُلقی القبض علیه وقُتل هو الآخر، وعند سماعه أخبار الکوفة أدرک الحسین مدی الخطورة التی سترافق مسیرته، فأعطی

ص: 341


1- وهذا الأمر موضع بحثٍ ونقاش، بین مَن قال: إنّه عثمانی الهوی. وبین مَن یری خلاف کذلک. وبین هذا وذلک لم یکن هناک مَن یری أنّه من أتباع بنی أُمیّة؛ فمجرّد المیل لبنی أُمیّة لا یجعله من أتباعهم. (المحقق).

الإذن لکلّ مَن کان معه بالانصراف، وانصرف عنه بعض الأعراب الذین کانوا قد التحقوا به فی الطریق، ولقی الحسین بعد ذلک رجلاً آخر قادماً من الکوفة حذّره من مواصلة السیر، إلّا أنّ الحسین أصرَّ علی موقفه، حیث کان علی یقینٍ أنّها إرادة الله.

(295-304) النصّ المعتمد.

لمراجعة النصّ کاملاً، اُنظر الملحق (2).

استطاع الحسین وأصحابه رؤیة طلائع کتائب الکوفة عن بُعد، فحاولوا أن یجدوا مکاناً لا یمکن محاصرتهم فیه، ولذلک سارعوا إلی وادٍ یُسمَّی (ذا حُسُم)، ووصلت قوّة العدو بعد حین، وکان قائدها الحُرّ بن یزید التمیمی الیربوعی، وعندما تقابل الفریقان أمر الحسین فتیانه بسقایة رجال العدو العطاشی ورواحلهم، وفی ذی حُسُم صلّی رجال العدوّ مرّتین مع أصحاب الحسین جماعةً بإمامة الحسین، وخطب الحسین بجیش الکوفة مرّتین محاولاً إقناعهم بنصرته، وعندما حاول الحسین وأصحابه الانصراف منعهم الحُرّ وجنوده، فقد قال الحُرّ: إنّه مأمور بأخذ الحسین إلی الکوفة، وتنازع الحسین والحُرّ، وتوصّلا أخیراً إلی توافقٍ بینهما: أنْ یسلک الحسین طریقاً ثالثاً لا إلی الکوفة ولا إلی المدینة، بینما یکتب الحُرّ إلی ابن زیاد وینتظر منه أوامر أُخری.

وقد ذُکِرت خطبة ثالثة کان الحسین قد خطبها فی أهل الکوفة، وکذلک بیّن لأصحابه: بإنّ الموت خیرٌ من الحیاة مع الظالمین، واستعدّ الفریقان للرحیل مرّةً أُخری.

قال الحُرّ: إنّه لا یرغب فی قتال سبط النبیّ، وحثّ الحسین علی الاستسلام، وإلّا فأنّه سیُقتل، فقال الحسین: إنّه لا یخشی الموت ما دام یعمل بإرادة الله. وبعد

ص: 342

حین جاء أربعة رجال مع دلیلهم الطرمّاح بن عدی قادمین من الکوفة أرادوا الالتحاق بالحسین، فمنعهم الحُرّ ورجاله، ولکن بعد حدیثٍ دارَ بینهم سمحوا لهم بالالتحاق بالحسین وأصحابه، وأخبر هؤلاء الرجال الأربعة الحسین بما حصل لآخر مبعوث له وهو قیس بن مسهر، وأخبروه أنّ جمیع أهل الکوفة قد انصرفوا عنه، أو أنّهم سینصرفون عاجلاً.

(304-308) طلب الطرمّاح من الحسین أن یذهب معه إلی حصن قبیلته، حیث سیکون فی مأمن من بنی أُمیّة، ولکنّ الحسین رفض ذلک، وواصلوا المسیر حتّی وصلوا إلی مخیّم عبیدالله بن الحُرّ الجعفی، وهو من أشراف الکوفة وکان شاعراً، وسأل الحسینُ ابنَ الحُرّ أن یلتحق به ولکنّه أبی، حیث کان قد ترک الکوفة لیبقَ علی الحیاد فی النزاع بین والی الکوفة والحسین، وأثناء المسیر أخذت الحسین غفوة، فرأی أنّ رجلاً علی جواد ینعی له نفسه، وعندما أخبر ابنه علیّاً بهذا، قال له ابنه: إنّهم ما داموا علی الحقّ فلن یخشوا الموت، وتسلّم الحُرّ - قائد کتیبة الکوفة - أوامر من ابن زیاد بأنّ علیه أن یوقف الحسین فی مکان حیث لا یستطیع فیه الوصول إلی الماء، وقد توقّفوا غیر بعید من الفرات.

(308-313) فی الغد، وصلت قوّة من الکوفة فی أربعة آلاف رجل یقودهم عمر بن سعد، والتحقوا بجماعة الحُرّ، وقبل ذلک کان ابن سعد قد أُعطی ولایة الری، وعندما اقترب الحسین من الکوفة أمر ابنُ زیاد عمرَ بن سعد بالخروج علی الحسین قبل الذهاب إلی الری، وکان ابن سعد متردّداً فی ذلک، حیث لم یکن یرغب بقتال سبط النبیّ، ولکنّ ابن زیاد هدّده بعزله من ولایة الری، فقرّر ابن سعد أن یسمع لابن زیاد رغم نصیحة بعض أهله له.

وعندما وصل ابن سعد ورجاله إلی الحسین أخبره الحسین بأنّه مستعدّ

ص: 343

للعودة(1)، فنقل ابن سعد ذلک إلی ابن زیاد، ولکنّ ابن زیاد أبی أن یقبل ذلک، وطلب أن یُعطی الحسینُ البیعةَ للخلیفة یزید.

وفی الوقت ذاته، أمر ابن زیاد ألّا یُسمح للحسین وأصحابه بالحصول علی الماء أبداً، وسخر رجلٌ من الحسین لعدم حصوله علی الماء، فدعا علیه الحسین، فبقی الرجل إلی آخر حیاته یشکو العطش.

وأرسل الحسین بعض أصحابه تحت إمرة أخیه العبّاس؛ لجلب الماء من النهر، وقد نجحوا بعض الشیء.

(313-317) أراد الحسین التفاوض مع عمر بن سعد، فالتقیا لیلاً فی مکانٍ لا یسمعهما فیه أحد، وعرض الحسین خیارات ثلاثة: إمّا أن یُسمح له بالعودة، وإمّا یذهب بنفسه إلی الخلیفة یزید بن معاویة، وإمّا یُسمح له بالذهاب إلی مکانٍ منعزل بعید(2).

ص: 344


1- ما یذکر هنا هو بحسب ما ورد فی هذه الروایات وحسب. (المحقق).
2- هذا الأمر هو فریة من قِبل بنی أُمیّة لتشویه الثورة الحسینیة؛ وذلک لعدّة أُمور: 1- أنّ الطبری نفسه یصرّح بأنّ الحادثة شاعت بین الناس وجاءت من ظنونهم ولم تکن عن علم، حیث قال: «وتحدّث الناس فیما بینهم ظناً یظنونه أنّ حسیناً قال لعمر بن سعد... فتحدّث الناس بذلک وشاع فیهم من غیر أن یکونوا سمعوا من ذلک شیئاً ولا علموه». الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج4، ص312-313. 2- إنّ الطبری یذکر شاهد عیان ینفی هذه الحادثة، وهو عقبة بن سمعان - وهو مولی للرباب بنت امرئ القیس، وهی أُمّ سکینة بنت الحسین(علیه السّلام) - حیث نقل عنه الطبری قوله: «صحبت حسیناً فخرجت معه من المدینة إلی مکة، ومن مکة إلی العراق، ولم أُفارقه حتی قُتل... ما أعطاهم ما یتذاکر الناس وما یزعمون ... ولکنّه قال: دعونی أذهب فی هذه الأرض العریضة حتی ننظر ما یصیر أمر الناس». الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج4، ص313. وما یؤیّد أنّ هذه القضیة إنّما هی فرّیة هو اختلاف المؤرِّخین فیها من عدّة أُمور: أ- نقلها کان عن الإمام الحسین(علیه السّلام)، أم عن الناس. ب - الخیارات التی ذُکرت بین ثلاثة وخیار واحد. ج - فی أثناء اللقاء کانا وحدهما (الإمام الحسین(علیه السّلام) وعمر بن سعد)، أم کان معهما غیرهما.(المحقق).

وحسب روایة أُخری، اقترح الحسین فقط أن ینصرف ولا یذهب إلی الکوفة(1)، فکتب ابن سعد إلی ابن زیاد بما عرض علیه الحسین، ولکنّ ابن زیاد لم یکن لیقبل إلّا أن یذهب الحسین إلی یزید لمبایعته، فأصرّ علیه مستشاره شمر بن ذی الجوشن بأنّ ذلک سیکون دلیل ضعفٍ فی الوالی، وعلیه أن یأمر أن یأتی الحسین، لیعرض البیعة لیزید أمام ابن زیاد نفسه.

وأذعن ابن زیاد وکتب إلی عمر بن سعد أنّ علی الحسین أن یأتی إلی الکوفة، ویُعطی البیعة للخلیفة أمام ابن زیاد، وإنْ رفضَ الحسین هذا کان واجباً علی عمر ابن سعد أن یقاتله ویقتله ویحتزّ رأسه، ویجعل الخیل تطأ جسده، فإنْ رفض ابن سعد قتال الحسین، عندئذٍ یجب علیه تسلیم إمرة الجیش إلی شمر بن ذی الجوشن، وأوصل الشمر بنفسه هذه الرسالة إلی ابن سعد، وأعطی الشمر الأمان لثلاثة من أُخوة الحسین الذین یمتّون إلیه بنسب، ولکنّهم رفضوا ذلک الأمان قائلین: إنّ أمان الله أعظم.

(317-327) کان الحسین جالساً أمام خیمته، فغفا غفوةً، فرأی فی المنام أنّ النبیّ قال له: «إنّک قادمٌ إلینا»، وفی الوقت ذاته کان جیش الکوفة یقترب وکان متأهّباً للقتال، وسألهم الحسین أن یؤخّروا القتال إلی الیوم التالی لعلّه یدرس الموقف أکثر مع أصحابه أثناء اللیل، فرضوا بتأخیر القتال.

ص: 345


1- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص182. (المحقق).

تحدّث الحسین مع أصحابه وخیّرهم أن ینصرفوا تحت الظلام، فلم ینصرف عنه إلّا رجلان، وأمّا بقیّة أصحابه فقد جدّدوا له العهد، وسمع علیُّ بن الحسین - الذی کان مریضاً تطبّبه عمّته زینب - أباه ینشد قصیدةً حول مقتلهم، وبدأت زینب تبکی وتقطّع ثیابها(1)، فهدّأ الحسین روعها قائلاً لها: إنّهم سیذهبون إلی الجنّة.

وطوال اللیل وحتّی الصباح کان الحسین وأصحابه یُصَلّون ویُعِدّون أنفسهم للقتال، وقد جعلوا الخیام قریبةً من بعضها، واتّخذوا لأنفسهم مواضع لتکون الخیام خلف ظهورهم، وملأوا خندقاً خلف الخیام بالقصب والحطب؛ لیضرموا به النار، فیحموها إنْ هم هُوجموا من الخلف، وأذابوا مسکاً فی إناءٍ من ماء ومسحوا به أنفسهم استعداداً للموت، وعند الصباح رفع الحسین نسخةً من القرآن أمامه، ورکب هو وأصحابه جمیعاً للقاء العدوّ.

(327-332) عندما رأی جیش الکوفة الحطب یشتعل خلف الخیام، سخر الشمر من الحسین سائلاً إیّاه إن کان تعجّل الذهاب إلی نار جهنّم، فأراد أحد أصحاب الحسین أن یرمیه بسهمٍ، فمنعه الحسین؛ لأنّه کان یکره أن یکون هو البادئ بقتال.

فجلس الحسین علی جواده وتحدّث إلی أهل الکوفة قائلاً: إنّ علیهم ألّا یقتلوه من أجل حرمته وحرمة أهل بیته، ولحبّ رسول الله له ولأخیه، وکذلک سأل بعض مَن کان فی جیش الکوفة عن الرسائل التی کانوا قد بعثوها إلیه، ودَعَوه فیها

ص: 346


1- ورد فی بعض المصادر عبارة: (شقّت جیبها)، ولکن فی بعض المصادر کما فی: (مناقب آل أبی طالب: ج3، ص249) ذکر أنّ الحسین(علیه السّلام) قد أوصی أن لا یشقّوا علیه جیباً، ولا یخمشوا وجهاً، ولم یذکر أنّ زینب(علیهاالسّلام) شقّت جیبها.(المحقق).

للقدوم إلیهم، وطلب منهم أن یترکوه یعود من حیث أتی.

وأخیراً سلّم نفسه إلی الله واستعاذ به، وتحدّث بعد ذلک زهیر بن القین، وحثّ أهل الکوفة علی تجنّب القتال، حیث لا ینبغی للمسلم قتال أخیه المسلم، وقال: إنْ ضربَ السیف ستتفرّق الأُمّة، وإنّ الله جعل الحسین لیبتلی به الأُمّة ویمتحن إیمانها، ونصحهم بترک الطاغیة ابن زیاد والخلیفة یزید، حیث إنّهما لن یجلبا سوی الشرّ، وسألهم أن یترکوا الحسین لیذهب إلی یزید علی الأقل، ثمّ بدأ النزاع بین الشمر وزهیر بن القین.

(332-335) عندما تحرّک الجیش نحو الحسین، عزل الحُرّ نفسه عن الحشود، وقال لرجل بجانبه، کان قد سأله عن فعله هذا، أنّه یخیّر نفسه بین الجنّة والنار، ثمّ انطلق نحو الحسین الذی استقبله مرحّباً به، وخاطب الحُرّ أهل الکوفة قائلاً: إنّهم شرّ ما فعلوا مع الحسین، حیث دعوه ثمّ غدروا به، والآن قد منعوه الماء الذی یشرب منه الکفّار والخنازیر، ثمّ دعا عمر بن سعد باللواء ورمی سهماً، وبهذا بدأت المعرکة (رسمیّاً).

(335-338) کان عبدالله بن عمیر الکلبی وزوجته أُمّ وهب بنت عبد قد التحقا من الکوفة بالحسین فی أوّل الأمر، وعندما بدأ القتال تقدّم رجلان من جیش الکوفة، ودعوا أصحاب الحسین للمبارزة، فبرز عبدالله بن عمیر وقتلهما، ثمّ هرعت أُمّ وهب لنصرة زوجها وبیدها عمود الخیمة، ولکنّها مُنعت من ذلک وأُعیدت مع النساء. وکان کلّما حمل العدوّ جثا أصحاب الحسین علی رکبهم مسدّدین رماحهم نحو صدور الجیاد، وبهذا کانوا یصدّون الحملات، وسخر رجل من أهل الکوفة من الحسین، فدعا علیه الحسین أن یبعثه الله إلی جهنّم، فسقط الرجل من علی جواده، وعلقت رجله بالرکاب فأسرع به الجواد، وضرب رأسه کلَّ حجرٍ

ص: 347

ومدرٍ وهلک.

(338-356) فی أوّل المعرکة کان القتال رجلاً لرجل، ولکن أدرک قادة جیش الکوفة أنّ أصحاب الحسین کانوا یَقتلون من جیش الکوفة أکثر بکثیر ممّا یُقتَل منهم، ولذلک منعوا کلَّ مبارزةٍ فردیّة، وبعد ذلک وسّع أهل الکوفة من حملاتهم.

ومن الواضح أنّ قصّة المعرکة لم تُرو بترتیب زمنی دقیق، ولکنّ أجزاءها جُمِعت فوق بعضها بنفس المضمون(1)، وجاءت روایة مَقاتِل بعض أصحاب الحسین البارزین بالتفصیل، وکذلک کلماتهم مع الحسین ومع العدو بالإضافة إلی أدعیتهم، وبعد مقتل أصحاب الحسین جاءت الروایة عن مقتل أهل بیته.

(356-361) کان أوّل من قُتل من أهل الحسین ولده علیّ الأکبر(2)، وکان یحمل علی أهل الکوفة الذین کانوا یخشون قتله، ولکنّهم حملوا علیه أخیراً وقتلوه، فبکاه الحسین وأُخته زینب کثیراً، ثمّ قُتل عبدالله بن مسلم بن عقیل بسهمین، وصُرع ابن أخٍ للحسین فاستنجد بعمّه الذی انطلق لنجدته، ولکنّ الخیل وطأته فمات، وکان معظم مقاتلی العدو یخشون أن یکون دم الحسین فی عنقهم، ولذلک کانوا یتجنّبون مهاجمته، ولکنّ رجلاً قد ضربه بالسیف علی رأسه فجرحه فأثّر به

ص: 348


1- اُنظر: الروایة حول مقتل یزید بن زیاد بن المحاصر أبو الشعثاء الکندی، التی تظهر بارزة فی الأحداث، والتی فیها ملاحظة تقول: إنّه کان من الأوائل الذین قُتلوا فی المعرکة، (الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص355-356. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص149-150.
2- یُقال إنّه کان للحسین ولدان باسم علیّ: علیّ الأکبر، وعلیّ الأصغر. کان علیّ الأصغر مریضاً أثناء المعرکة ولم یستطع المشارکة فی القتال، وکان واحداً من الذکور القلائل من أهل الحسین الذین بقوا أحیاءً بعد المعرکة، وقد أصبح الإمام الرابع من أئمّة الشیعة باسم علیّ زین العابدین. (راجع المخطّط 1: 1).

ذلک، ثمّ جاء الحسین بطفل رضیع یحمله فی حجره فجاءه سهم فذبحه، ثمّ قُتل إخوة الحسین وابن أخیه.

(361-366) کان الحسین عطشاناً فحاول الوصول إلی الماء، ولکنّ رجلاً من أهل الکوفة رماه بسهم وقع فی حلقه فتدفّق منه الدم، فدعا الحسین علی الرجل فبقی عطشاناً لا یروی مهما شرب من الماء، ثمّ حمل الشمر وبعض رجاله علی الحسین، فبرز صبیٌّ من أهل الحسین للدفاع عنه فقُطعت ذراعه، ودافع الحسین دفاع الأبطال وکان العدو خائفاً من قتله، ثمّ هاجمته جماعة فخضبّوه بالجراح، ثمّ ضربه سنان بن أنس بن عمرو ضربةً قتلته.

وکان ذلک القسم من الروایة حول مَن بقی حیّاً من أهل الحسین أمام ابن زیاد فی الکوفة ویزید فی الشام قسماً معقّداً، وقد رُوی فی صورةٍ معیّنة؛ لیعطی رسالةً خاصّة، وقد جاء هنا بصورة مختصرة، وسیأتی تحلیله فی الملحق (3).

(366-374) استُلب ما کان علی جسد الحسین، ثمّ تحوّل الناس إلی خیم النساء وسلبوهنّ کلَّ شیءٍ، وأراد الشمر قتل علیّ الأصغر، ولکنّ عمر بن سعد منعه من ذلک، وکذلک منع استلاب خیم النساء، إلّا أنّ ما سُلِب لم یُعَد، ووطأت الخیل جسد الحسین، وأُخِذ رأسه إلی ابن زیاد، وکذلک جاؤوا بأهل الحسین إلی الکوفة أمام ابن زیاد، ونکت ابن زیاد ثغر الحسین بقضیبه، فقام إلیه رجل وقال: إنّه قد رأی رسول الله یرشف ثنایاه، وتحاجّت زینب مع ابن زیاد حول إرادة الله فی قتل الحسین ومَن معه، ثمّ هدّد ابن زیاد بقتل علیّ الأصغر، إلّا أنّ زینب حالت دون ذلک فبقی حیّاً، ودعا ابن زیاد جمیع أهل الکوفة للصلاة جامعة، ثمّ قال: إنّ الحسین (الکذّاب وابن الکذّاب) قد قُتل، فقام شیخ ضریر من الشیعة قائلاً: إنّ ابن

ص: 349

زیاد هو الکذّاب، فأراد ابن زیاد قتله، فهبّت عشیرته فحمته وأخذته بعیداً، لکنّ ابن زیاد تمکّن فیما بعد منه، فأخذه وقتله.

(374-383) أُخذ رأس الحسین إلی الخلیفة یزید فی الشام، ثمّ جاؤوا بمَن بقی من أهل الحسین، وأظهر یزید حزنه وندمه علی قتل الحسین، ولکنّه قال أیضاً: إنّ الذنب کان ذنب الحسین نفسه. وتقول إحدی الروایات: إنّ یزید نکت ثغر الحسین بقضیبه. وتعامل یزید مع أهل الحسین بالحسنی(1)، مع أنّه تجادل مع زینب وعلیّ، وبعد ذلک أرسلهم إلی المدینة یتبعهم موکب شایعهم باحترام.

(383-385) یحتوی هذا الفصل أربعة أخبارٍ مختلفة حول الأحداث التی تلَت مقتل الحسین، وحسب الخبر الأوّل أرسل ابن زیاد رسولاً إلی المدینة یُعلن مقتل الحسین.

أمّا الخبر الثانی، فیقول: إنّ عبدالله بن جعفر - ابن عمّ الحسین - قد أُخبر بمقتل أبنائه فأظهر حزنه، لکنّه کان فخوراً؛ لأنّهم قُتلوا دفاعاً عن الحسین.

والخبر الثالث جاء فیه أنّ ابن زیاد سأل عمر بن سعد عن الکتاب الذی أمره فیه بقیادة الجیش ضدّ الحسین، فرفض ابن سعد أن یعطیه إیّاه، وقال: إنّه قد بعثه إلی مکانٍ آخر کدلیلٍ علی أنّه لم یخرج لقتال الحسین من تلقاء نفسه.

وأمّا الخبر الرابع، فیحکی عن صوت غریب سُمع فی المدینة ینشد قصیدةَ شؤم تُدین أُولئک الذین قتلوا الحسین.

ص: 350


1- لا یخفی التناقض فی هذه الروایات، الذی یکشف عن حالة من تمییع الوقائع وتغییب الحقائق.(المحقق).

(386-388) أسماء الهاشمیین الذین قُتلوا فی المعرکة.

(388-390) أراد ابن زیاد من أحد أشراف الکوفة وهو عبیدالله بن الحُرّ الجعفی أن یُعلن ولاءه التامّ له، ولکنّ ابن الحُرّ رفض وفرّ، وبعد ذلک وصل إلی الکوفة ودعا الله أن یغفر له عدم نصرته للحسین، ثُمّ أنشد قصیدةً یمدح فیها أنصار الحسین ویذمّ خصومه.

ص: 351

ص: 352

الملحق (2) النصّ المعتمد

اشارة

فیما یلی یأتی (النصّ المعتمد) بأکمله، ولقد ترجمته شخصیّاً، وقد اعتمدت فیها إلی حدٍّ بعید علی ترجمة هاوارد (Howard) فی (تاریخ الطبری) (The History Of Al-Tabari)(1).

القسم الأوّل

1- (295) عن هشام عن أبی مخنف قال: حدّثنی أبو جناب، عن عدی بن حرملة، عن عبدالله بن سلیم والمذری بن المشمعل الأسدیین، قالا: أقبلَ الحسینُ(علیه السّلام)(2) حتّی نزلَ شِراف، فلمّا کانَ فی السحرِ أمرَ فتیانَه فاستقوا من الماءِ فأکثروا، ثمّ ساروا منها فرسموا صدرَ یومِهم حتّی انتصفَ النهار.

2- (296) ثمّ إنَّ رجلاً قالَ: الله أکبر، فقالَ الحسینُ: «الله أکبر ما کبّرت؟». قال: رأیتُ النخلَ، فقالَ لهُ الأسدیان: إنَّ هذا المکان ما رأینا بهِ نخلةً قط. قالا: فقالَ لنا الحسینُ: «فما تریانه رأی؟». قلنا: نراه رأیَ هوادی الخیل، فقال: «وأنا والله، أری ذلک». فقال الحسینُ: «أما لنا ملجأٌ نلجأُ إلیه نجعله فی ظهورِنا، ونستقبل القومَ من وجهٍ واحد؟». فقُلنا له: بلی، هذا ذو حُسُم إلی جنبِک تمیلُ إلیهِ عن یسارِک، فإنْ سبقتَ القومَ إلیهِ فهو کما ترید.

3- قالا فأخذَ إلیهِ ذاتَ الیسار، قالا: ومِلنا معهُ فما کانَ بأسرع من أنْ طلعَتْ

ص: 353


1- ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص91-99.
2- کلمة (علیه السلام) هنا من المؤلِّف.(المحقق).

علینا هوادیُ الخیلِ، فتبیّنّاها وعدنا، فلمّا رأونا وقد عَدَلْنا عن الطریقِ، عَدَلوا إلینا کأنّ أسنّتهم الیعاسیب، وکأنّ رایاتهم أجنحة الطیر، قالَ: فاستبقنا إلی ذی حُسُم فسبقناهم إلیه، فنزلَ الحسینُ وأمرَ بأبنتیهِ فضُرِبت.

4- وجاءَ القومُ وهم ألفُ فارسٍ معَ الحُرّ بنِ یزید التمیمی الیربوعی، حتّی وقفَ هو وخیلُه مقابلَ الحسینِ فی حَرّ الظهیرةِ، والحسینُ وأصحابُه مُعْتَمّون متقلّدو أسیافهم، فقالَ الحسینُ لفتیانِهِ: «اسقوا القومَ وأَرووهم من الماء، ورشِّفوا الخیلَ ترشیفاً»، فقامَ فتیانُه فرشَّفوا الخیلَ ترشیفاً، فقامَ فتیةٌ وسقوا القومَ من الماءِ حتّی أَرووهم، وأَقبَلوا یملؤونَ القصاعَ والأتوارَ والطساسَ من الماءِ ثُمّ یدنونها من الفرسِ، فإذا عبّ فیه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه وسقوا آخرَ، حتّی سقوا الخیلَ کلَّها.

5- قال هشام: حدَّثَنی لقیط عن علیّ بنِ الطعّان المُحاربی(1): کنتُ معَ الحُرّ بنِ یزید، فجئتُ فی آخر مَن جاءَ من أصحابِه، فلمّا رأی الحسینُ ما بی وبفَرَسی من العطشِ، قالَ: «أَنِخ الراویة»، والراویة عندی السقاء. ثُمّ قال: «یا بن أخ، أنخ الجمل». فأَنختُه فقال: «اشرب». فجعلتُ کلّما شربتُ سالَ الماءُ من السِقاءِ، فقالَ الحسینُ: «اخنث السقاء ». أی اعطفه. قال: فجعلتُ لا أدری کیفَ أفعلُ. قال: فقامَ الحسینُ، فخنثه فشربتُ وسقیتُ فرسی.

ص: 354


1- من المحتمل أن یکون هذا الجزء مقحماً فی نصِّ أبی مخنف؛ إذ لا یوجد فی إسناده أبو مخنف، ولا یوجد فی بعض النسخ الأُخری کالبلاذری. اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی،(أنساب الأشراف): ص169-170.

القسم الثانی

1- وکانَ مجیءُ الحُرِّ بنِ یزید ومسیرُه إلی الحسینِ مِن القادسیّةِ، وذلک أنَّ عبیدَ الله بنَ زیاد لمّا بَلغَهُ إقبالُ الحسینِ بعثَ الحصینَ بنَ تمیمٍ(1) التمیمی وکانَ علی شُرَطِهِ، فأمرَهُ أنْ ینزلَ القادسیّةَ وأنْ یضعَ المَسالحَ فینظم ما بین القَطْقَطانة إلی خفّان، وقدم الحُرّ بن یزید بین یدیهِ فی هذهِ الألفِ من القادسیّة فیستقبل حسیناً.

القسم الثالث

1- فلم یزلْ موافقاً حسیناً حتّی حضرت الصلاةُ صلاةُ الظهرِ، فأمرَ الحسینُ الحجّاجَ بنَ مسروق الجعفی أنْ یُؤَذِّنَ فأذّنَ، فلمّا حضرت الإقامةُ خرجَ الحسینُ فی إزارٍ ورداءٍ ونعلین، فحمدَ الله وأثنی علیه، ثمّ قال:

2- أیُّها الناس، إنّها معذرةٌ إلی الله (عزوجل) وإلیکم. إنّی لم آتِکُم حتّی أتتنی کتبُکم، وقدِمت علیّ رسلُکم أنْ أقدِم علینا فإنّهُ لیسَ لنا إمامٌ، لعلّ الله یجمعُنا بکَ علی الهُدی، فإنْ کنتُم علی ذلکَ فقد جئتُکُم، فإنْ تُعطونی ما أَطمئنُّ إلیهِ من عهودِکم ومواثیقِکم أَقدِمُ مصرَکم، وإنْ لم تفعلوا وکنتُم لمقدمی کارهین انصرفتُ عنکم إلی المکانِ الذی أقبلتُ منهُ إلیکُم.

3- فسکتوا عنهُ وقالوا للمؤذّن: أقم، فأقامَ الصلاة. فقالَ الحسینُ(علیه السّلام) للحُرّ: أتریدُ أنْ تصلّیَ بأصحابِک؟ قال: لا، بل تصلّی أنتَ ونُصلّی بصلاتِک. قال فصلّی بهم الحسین.

4- ثُمّ إنّه دخلَ واجتمعَ إلیهِ أصحابُه، وانصرفَ الحُرّ إلی مکانِه الذی کانَ بهِ،

ص: 355


1- فی نصِّ الطبری یوجد هنا (نمیر)، ولکن صُحّح هذا فی (Addenda And Emendanda DCLIV) من طبعة لَیْدِن. قارن مع نسخة المفید. اُنظر: المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ص207.

فدخلَ خیمةً قد ضُربت لهُ فاجتمعَ إلیهِ جماعةٌ من أصحابِه، وعادَ أصحابُه إلی صفّهم الذی کانوا فیهِ، فأعادوه ثمّ أخذَ کلُّ رجلٍ منهم بعنانِ دابّتهِ وجلسَ فی ظلِّها.

القسم الرابع

1- فلمّا کانَ وقتَ العصرِ أمرَ الحسینُ أن یتهیّؤوا للرحیلِ، ثمّ إنّه خرجَ فأمرَ منادیَهُ فنادی بالعصرِ وأقامَ، فاستقدمَ الحسینُ فصلّی بالقومِ، ثمّ سلَّم وانصرفَ إلی القومِ بوجههِ، فحَمِدَ الله وأثنی علیهِ، ثمّ قال:

2- أمّا بعدُ أیّها الناس، فإنّکم إنْ تتّقوا وتعرِفوا الحقَّ لأهلِهِ یکُنْ أرضی لله، ونحنُ أهلَ البیتِ أولی بولایةِ هذا الأمرِ علیکم مِن هؤلاءِ المُدَّعینَ ما لیسَ لهم، والسائرینَ فیکُم بالجورِ والعدوانِ، وإنْ أنتم کرِهتمونا وجَهِلتُم حقَّنا، وکانَ رأیُکُم غیرَ ما أتتنی کتبُکم وقدِمتْ بهِ علیَّ رسلُکم انصرفتُ عنکم.

3- فقالَ لهُ الحُرُّ بنُ یزید: إنّا والله، ما ندری ما هذهِ الکتبُ التی تذکر. فقالَ الحسینُ: یا عقبة بن سمعان أخرج الخرجینِ اللذینِ فیهما کتبُهم إلیّ. فأخرجَ خرجینِ مملوءینِ صُحُفاً، فنشرَها بین أیدیهم. فقالَ الحُرُّ: فإنّا لسنا مِن هؤلاءِ الذینَ کتبوا إلیکَ، وقد أُمِرنا إذا نحنُ لقیناکَ ألّا نفارقَک حتّی نُقدِمک علی عبیدِ الله بن زیاد. فقالَ لهُ الحسینُ: الموتُ أدنی إلیکَ مِن ذلک. ثمّ قالَ لأصحابِه: قوموا فارکبوا، فرَکِبوا وانتظروا حتّی رَکِبت نساؤهُم.

القسم الخامس

1- فقالَ لأصحابِه انصرفوا بنا، فلمّا ذهبوا لینصرفوا حالَ القومُ بینَهُم وبینَ الانصراف.

2- قالَ الحسینُ للحُرّ: ثکَلَتکَ أُمُّک، ما ترید؟ قالَ: أما والله، لو غیرُک مِن العربِ

ص: 356

یقولُها لی وهو علی مثلِ الحالِ التی أنتَ علیها ما ترکتُ ذکرَ أُمِّه بالثکلِ، أنْ أقولَه کائناً مَن کانَ، ولکنْ والله، ما لی إلی ذکرِ أُمِّک مِن سبیلٍ إلّا بأحسن ما یُقدَرُ علیه.

3- فقالَ لهُ الحسین: فما ترید؟ قالَ الحُرّ: أُریدُ - والله - أنْ أنطلقَ بکَ إلی عبیدِالله ابنِ زیاد. قالَ لهُ الحسینُ: إذَنْ - والله - لا أتبعُک. فقالَ لهُ الحُر: إذَنْ - والله - لا أدعُک. فترادّا القولَ ثلاثَ مراتٍ، ولمّا کثُرَ الکلامُ بینَهُما، قالَ لهُ الحُرّ: إنّی لم أومرْ بقتالِکَ، وإنَّما أُمِرتُ ألّا أُفارقَکَ حتّی أُقدِمَکَ الکوفةَ، فإذا أَبیتَ فخُذْ طریقاً لا تُدخلُکَ الکوفةَ ولا تردُّکَ إلی المدینةِ تکونُ بینی وبینَک نَصَفاً حتّی أَکتُبَ إلی ابنِ زیادٍ وتَکتُبَ أنتَ إلی یزید بنِ معاویة إنْ أردتَ أنْ تکتبَ إلیهِ، أو إلی عبیدِالله بنِ زیاد إنْ شئت، فلعلّ الله إلی ذاکَ أنْ یأتیَ بأمرٍ یرزقُنی فیهِ العافیةَ مِن أنْ أُبتَلی بشیءٍ مِن أمرِک.

4- قالَ: فخذ هاهنا. فتیاسرَ عن طریقِ العُذَیبِ والقادسیّة وبینَهُ وبینَ العُذیبِ ثمانیةٌ وثلاثونَ میلاً، ثمّ إنَّ الحسینَ سارَ فی أصحابِه والحُرُّ یُسایرُه.

القسم السادس

1- قالَ أبو مخنفٍ: عن عُقبة بنِ أبی العیزار(1)، أنَّ الحسینَ خطبَ أصحابَهُ

ص: 357


1- الجزء الذی یشتمل علی القسمین السادس والسابع قد حُشِر بکلِّ تأکیدٍ فی النصِّ الأصلی، بالرغم من أنّ له إسناداً یتّصل بأبی مخنف؛ وذلک لأسباب: أوّلاً: إنّه یبدأ بإسنادٍ جدید فیه الراوی عقبة بن أبی العیزار، والذی لا یوجد فی أیِّ مکانٍ آخر من القصّة. ثانیاً: إنّه یقطع تسلسل الروایة بین نهایة القسم الخامس وبدایة الثامن. ثالثاً: یقدّم بصورة مفاجئة مکاناً جدیداً وهو البیضة. رابعاً: عدم وجوده فی النسخ المهمّة کروایة المفید علی سبیل المثال. اُنظر: المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ص208.

وأصحابَ الحُرّ بالبیضةِ، فحَمِدَ الله وأثنی علیه، ثمّ قال: أیُّها الناسُ، إنَّ رسولَ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال: مَن رأی سلطاناً جائراً، مُستَحِلّاً لحُرَمِ الله، ناکثاً لعهدِ الله، مُخالِفاً لسُنَّةِ رسولِ الله، یعملُ فی عبادِ الله بالإثمِ والعدوانِ، فلم یُغیِّرْ(1) علیهِ بفعلٍ ولا قولٍ، کانَ حقّاً علی اللهِ أنْ یُدخِلَهُ مدخلَه.

2- ألا وإنَّ هؤلاءِ قد لزِموا طاعةَ الشیطانِ، وترکوا طاعةَ الرحمانِ، وأظهروا الفسادَ، وعطَّلوا الحدودَ، واستأثروا بالفیءِ، وأَحلّوا حرامَ اللهِ وحرَّموا حلالَه.

3- وأنا أحقُّ مَن غَیَّر. قد أتتنی کتبُکم وقدِمَتْ علیَّ رسلُکم ببیعتِکم أنَّکم لا تُسلِّمونی ولا تَخذُلونی، فإنْ تممتُم علی بیعتِکم تُصیبوا رشدَکُم، فأنا الحسینُ بنُ علیّ، وابنُ فاطمةَ بنتِ رسولِ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، نفسی معَ أنفسِکم، وأهلی مع أهلیکُم، فلکُم فیَّ أُسوة.

4- وإنْ لم تفعلوا ونقَضتُم عهدَکُم وخَلَعتُم بیعَتی مِن أعناقِکم، فلَعَمْری ما هی لکُم بنُکرٍ، لقد فعلتُموها بأبی وأخی وابنِ عمّی مسلم، والمغرورُ مَن اغترَّ بکُم، فحظَّکم أخطأتُم ونصیبَکُم ضیَّعتُم، ومَن نکثَ فإنّما ینکثُ علی نفسِهِ وسیُغنی الله عنکُم، والسلامُ علیکُم ورحمةُ اللهِ وبرکاتُه.

ص: 358


1- جاءت کلمة "یعیّر" فی النصّ هنا وبعد بضعة أسطر أیضاً، وبعد سطرین من ذلک کلمة "عیّر". (اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص300، السطر الثامن والسطر الحادی عشر). وهذه الکلمة أضعف کثیراً من کلمة "غیّرَ" والتی تُستعمل عادةً فی السیاقات المشابهة (اُنظر: کوک، الأمر بالمعروف (Cook، Commanding Right): ص34-35)، ویستعملها البلاذری فی المکان نفسه. یری کوک أنّ الکلمة هنا ینبغی أن تکون "غیَّرَ". (اُنظر: کوک، الأمر بالمعروف: ص231، ملاحظة26)، وأنا أختار هذه الکلمة.

القسم السابع

1- وقالَ عقبةُ بنُ أبی العیزار: قامَ حسینٌ(علیه السّلام))(1) بذی حُسُمٍ، فحَمِدَ الله وأثنی علیهِ، ثمّ قال: إنّهُ قد نزلَ مِن الأمرِ ما قد ترَوْنَ، وإنَّ الدُنیا قد تغیَّرت وتنکَّرت وأدبرَ معروفُها واستمرَّت جدّاً، فلم یبقَ مِنها إلّا صُبابةٌ کصُبابةِ الإناءِ، وخسیسُ عیشٍ کالمرعی الوبیل. ألا ترَوْنَ أنَّ الحقَّ لا یُعمَلُ بهِ وأنَّ الباطلَ لا یُتَناهی عنهُ، لِیرغَبَ المؤمنُ فی لقاءِ اللهِ مُحِقّاً، فإنّی لا أری الموتَ إلّا شهادةً، ولا الحیاةَ معَ الظالمینَ إلّا بَرَما.

2- فقامَ زُهیرُ بنُ القینِ البَجَلی، فقالَ لأصحابِه: تتکلّمون أم أتکلّم؟ قالوا: لا، بل تکلَّم. فحَمِدَ الله فأثنی علیه، ثُمّ قال: قد سمعنا - هَداکَ الله یا بنَ رسولِ الله - مَقالتَک، واللهِ، لو کانتِ الدُنیا لنا باقیةً، وکُنّا فیها مُخَلَّدینَ إلّا أنَّ فراقَها فی نَصرِکَ ومُواساتِکَ لآثَرنا الخروجَ معکَ علی الإقامةِ فیها. قالَ فدعا لهُ الحسینُ، ثُمَّ قالَ لهُ خیراً.

القسم الثامن

1- وأقبلَ الحُرُّ یُسایرُهُ وهو یقولُ له: یا حسینُ، إنّی أُذَکِّرُک الله فی نفسِک، فإنّی أَشهدُ لئِنْ قاتلتَ لتُقْتَلَنَّ، ولئِنْ قوتِلتَ لتَهلِکَنَّ فیما أری. فقالَ له الحسینُ: أفبالموتِ تُخوِّفُنی؟! وهل یَعدو بِکُم الخطبُ أنْ تَقتُلونی؟ ما أدری ما اُقولُ لکَ، ولکنْ أقولُ کَما قالَ أخو الأَوْسِ لابنِ عمِّهِ ولقیهُ وهوَ یُریدُ نصرةَ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فقالَ لهُ: أینَ تذهبُ فإنَّکَ مَقتولٌ.

ص: 359


1- علیه السلام من المؤلِّف ولیس من المحقّق.

2- فقال:

سأمضی وما بالموتِ عارٌ علی الفتی

إذا ما نوی حقّاًوجاهدَ مُسلما

وآسی الرجالَ الصالحینَ بنفسِهِ

وفارَقَ مثبوراً یغشّ ویُرغما

قال: فلمّا سمِعَ ذلکَ مِنهُ الحُرّ تَنحَّی عنهُ.

القسم التاسع

1- وکانَ یسیرُ بأصحابِهِ فی ناحیةٍ وحسینٌ فی ناحیة أُخری حتّی انتهوا إلی عُذَیبِ الهِجانات، وکانَ بها هَجائنُ النُعمانِ ترعی هُنالک.

2- فإذا هُم بأربعةِ نفرٍ قد أقبلوا مِن الکوفةِ علی رواحِلِهم یجنبون فرساً لنافع ابنِ هِلال، یُقالُ لهُ: الکامل، ومعَهُم دلیلُهم الطّرِمّاحُ بنُ عدی علی فرسِهِ وهو یقول:

یا ناقتی لا تذعَری من زجری

وشَمِّری قبلَ طلوعِ الفجرِ

بخیرِ رُکبانٍ وخیرِ سفرِ

حتّی تحلّی بکریمِ النجرِ

الماجدِ الحُرّ رحیبِ الصدرِ

أتی بهِ الله لخیرِ أمرِ

ثمّتَ أبقاهُ بقاءَ الدهرِ

قال فلمّا انتهوا إلی الحسینِ أنشَدوهُ هذهِ الأبیات فقال: أما والله، إنّی لأرجو أنْ یکونَ خیراً ما أرادَ الله بِنا قُتِلنا أم ظَفَرنا.

3- قال وأقبلَ إلیهم الحُرّ بنُ یزید فقال: إنَّ هؤلاءِ النفر الذینَ مِن أهلِ الکوفةِ لیسوا ممَّن أقبلَ معَکَ وأنا حابِسُهم أو رادُّهم. فقالَ لهُ الحسینُ: لأَمنَعنَّهُم ممّا أمنعُ مِنهُ نفسی. إنّما هؤلاءِ أَنصاری وأَعوانی، وقد کنتَ أعطیتَنی ألّا تعرضَ لی بشیءٍ حتّی یأتیکَ کتابٌ مِن ابنِ زیادٍ. فقال: أجَل، لکنْ لم یأتوا معَک. قال: هُم أصحابی

ص: 360

وهُم بمنزلةِ مَن جاءَ معی، فإنْ تممتَ علی ما کانَ بینی وبینَک وإلّا ناجزتُک. قالَ: فکَفَّ عنهُم الحُرّ.

القسم العاشر

1- ثُمَّ قالَ لهُم الحسینُ: أخبرونی خبرَ الناسِ وراءَکُم. فقالَ لهُ مجمعُ بنُ عبدِالله العائذی - وهو أحدُ النفرِ الأربعة الذینَ جاؤوه -: أمّا أشرافُ الناسِ فقد أُعظِمَت رشوتُهم ومُلِئَت غرائرُهم، یُستَمالُ ودُّهم ویُستخلَصُ بهِ نصیحتُهم، فهُم ألبٌ واحدٌ علیکَ، وأمّا سائرُ الناس فإنَّ أفئدتَهم تهوی إلیکَ، وسیوفَهم غداً مشهورةٌ علیک.

2- قالَ: أخبرونی، فهل لکُم برسولی إلیکُم؟ قالوا: مَن هو؟ قال: قیسُ بنُ مُسهِر الصیداوی. فقالوا: نعم أخذَهُ الحصینُ بنُ تمیم فبعثَ به إلی ابنِ زیادٍ، فأمرَهُ ابنُ زیادٍ أنْ یلعنَکَ ویلعنَ أباک، فصلَّی علیکَ وعلی أبیکَ، ولعنَ ابنَ زیادٍ وأباه، ودعا إلی نُصرَتِک وأخبرَهُم بقدومِکَ، فأمرَ بهِ ابنُ زیادٍ فأُلقِیَ من طمارِ القصر. فترَقرَقَت عینا حسینٍ ولم یملِکْ دمعَهُ، ثُمَّ قال: مِنهُم مَن قضی نحبَهُ ومِنهُم مَن یَنتَظرُ وما بدَّلوا تبدیلاً. الّلهُمَّ اجعلْ لنا ولهُم الجَنَّةَ نُزُلاً، واجمَعْ بینَنا وبینَهُم فی مُستَقَرٍّ مِن رحمتِکَ، ورغائب مذخورِ ثوابِک.

ص: 361

ص: 362

الملحق (3) موقف یزید من مقتل الحسین

فی مقدّمة ترجمته للجزء الذی یحتوی علی أحداث کربلاء من تاریخ الطبری، یقول آیان کَیْ أَیْ هاوارد (Ian K. A. Howard): «إنّ النص غالباً ما یصوّر الخلیفة یزید بن معاویة فی صورةٍ إیجابیّة، ویحاول نقل اللوم فی قتل الحسین من یزید إلی والی الکوفة عبیدالله بن زیاد»(1).

ویورِد هاوارد (Howard) أیضاً أخباراً علی العکس من ذلک، یتبع هاوارد (Howard) فی هذا بواز شوشان (Boaz Shoshan) ویقول: «إنّ هناک نمطاً واضحاً فی النصِّ لصالح یزید، ولکنّه یختلف قلیلاً عن هاوارد (Howard)؛ من حیث إنّه یختار التغاضی عن بعض الأخبار المتناقضة التی یوردها هاوارد (Howard)، وعندما لا یستطیع تجاهل تلک الأخبار، فإنّه یتعامل معها علی أنّها شاذّة قلیلاً أو کثیراً عن النصِّ»(2).

یعتبر شوشان (Shoshan) أنّ هذه هی واحدة من الأمثلة العرضیّة، حیث یکشف فیها الطبری عن أفکاره السیاسیّة.

أمّا أُلریکا مارتنسون، فإنّها تتبنّی نفس الرأی عندما تقول: «إنّ یزید یوصف بأنّه رجل دولة نبیل وعادل فیما یخصّ أوامر القرآن وحقوقه (حقوق یزید) الدستوریّة، وقد حزن لفقدان الحسین کحُزنِ مَن بقی حیّاً من عائلة الحسین»(3).

ص: 363


1- هاوارد، مقدّمة المترجم (Xi-Xiv): ص11-14.
2- شوشان، رسالة فی الشعر: ص100-102، خصوصاً الملاحظة84.
3- مارتنسون، أُلریکا (العهد الجدید الصحیح): ص77.

وأنا لا أجد صعوبة فی اتّباع هؤلاء المحقّقین الثلاثة فیما افترضوا، من أنّ بعض الأخبار کانت موافقةً للخطّ الأُموی، ولکنّنی غیر مستعدّ لأن أذهب بعیداً، کما فعل شوشان (Shoshan)، وأطرح ذلک علی أنّه من سیاسة الطبری نفسه، ولا أعتقد أنّ الطبری یرغب بتصویر یزید بهذه التعابیر الإیجابیّة کما تری مارتنسون، بل بالعکس، فأنا أری أنّ المؤرّخ هنا یعطی صورةً ملطّخة عن یزید علی الأقل، إنْ لم تکن سلبیّةً برمّتها؛ وذلک لعدم احترامه حرمة الحسین.

لقد جاء بیان بعض الدلائل علی رأیی هذا فیما سبق. هنا سأناقش فقط ترتیب الروایات التی تخصّ الجزء الذی وردت فیه إهانة رأس الحسین؛ لکی أؤیّد أدلّتی فی هذا المقطع.

هناک أربع روایات حول هذه الحادثة، فقد نقلت لنا الأخبار باختصار أنّه عندما جاؤوا برأس الحسین أمام والی الکوفة عبیدالله بن زیاد - فی روایتین -، أو أمام الخلیفة یزید - فی الروایتین الأخریین -، بدأ الوالی أو الخلیفة بنکت ثغر الحسین بقضیبه، فی ثلاثٍ من الروایات قام شیخٌ ممَّن شهدوا ذلک، فعنّف الوالی أو الخلیفة قائلاً إنّه قد شهد رسول الله وهو یقبّل تلک الشفاه. هنا یجب تفسیر هذا العمل بأنّه بلا شکٍّ إهانة للحسین واستخفاف بحرمته، ومن خلال کلمات ذلک الشیخ - وهو من صحابة رسول الله - یُفهم أنّ ذلک العمل کان إهانة لرسول الله نفسه.

الموقف الأوّل فی هذه الحادثة یأتی فی خبر عمّار الدهنی - المروی عن الإمام

ص: 364

الخامس عند الشیعة، وهو حفید الحسین، محمّد الباقر - قبل منتصف القصّة(1). فی هذه الحال کان یزید هو مَن أهان رأس الحسین، وهو ینشد هذا البیت:

یفلقنَ هاماً مِن رجالٍ أحبّةٍ إلینا

وهُم کانوا أعقَّ وأظلما

فقام إلیه أبو برزة الأسلمی - وهو من صحابة رسول الله - وعنّفه علی ذلک.

الموقف الثانی یُروی عن الحصین بن عبد الرحمان بعد بضع صفحات من ذلک، وقبل منتصف القصّة أیضاً(2). وهنا کان ابن زیاد هو مَن أهان رأس الحسین بقضیبه، معلّقاً أنّ شعر الحسین قد شاب.

الموقف الثالث والرابع للحادثة یأتیان فی الروایة الطویلة لهشام بن الکلبی فی أواخر القصّة تقریباً(3). وکلا الروایتین عن أبی مخنف، فی الأُولی کان والی الکوفة هو مَن أهان رأس الحسین، وفی الثانیة کان الخلیفة هو مَن أهان الرأس، وهو ینشد الشعر المذکور أعلاه، ففی الحالتین یقع اللوم علی الحاکم، والرجل الذی أنّب ابن زیاد علی فعلته تلک یُقال أنّه زید ابن أرقم، بینما الرجل الذی اعترض علی یزید هو أبو برزة، کما فی روایة عمّار الدهنی (اُنظر الجدول التالی).

ترتیب الروایات الأربعة حول ما فعلوا برأس الحسین کما فی تاریخ الطبری.

ص: 365


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص282-283. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص76. لمطالعة کاملة عن أحداث کربلاء فی روایة الطبری، راجع الملحق 1.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر،تاریخ الطبری: ج2، ص286. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص81.
3- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج2، ص370-371، ص382-383. ترجمة تاریخ الطبری (Tabari، History): ج19، ص165، وص176.

المکان

الراوی

المعتدی

المعنِّف (المعترض)

282-283

عمّارالدهنی

- الإمام الباقر

یزید بن معاویة

أبو برزة الأسلمی

286

الحسین بن عبدالرحمان

عبیدالله بن زیاد

370-371

هشام بن الکلبی - أبو مخنف

عبیدالله بن زیاد

زید بن أرقم

382-383

هشام بن الکلبی - أبو مخنف

یزید بن معاویة

أبو برزة الأسلمی

ملاحظة: أرقام الصفحات فی العمود الأیمن تشیر إلی تاریخ الطبری: ج2.

کما بیّن عددٌ من المحقّقین، فإنّ ترتیب الروایات ذات المضامین المتناقضة هو وسیلة مهمّة عند الطبری فی عرض آرائه الشخصیّة بنجاح، وإنّ الروایات المختلفة التی تقدّم وتختم خبراً ما، لها أهمّیة خاصّة فی هذا الخصوص(1)، ففی هذه الحال جاء ترتیب هذه الروایات الأربعة، بحیث یکون یزید هو المعتدی فی الروایة الأُولی والروایة الأخیرة، بینما یکون ابن زیاد هو المعتدی فی الروایتین اللتین فی الوسط، بالإضافة إلی ذلک ففی إحدی الروایات لم یُعنَّف ابن زیاد من قِبَل أحد صحابة رسول الله. أنا لست متأکّداً من أنّ بالإمکان القول: إنّ الطبری ألقی اللوم علی أحدهما أکثر من الآخر.

وعلی أیّة حالٍ، فإنّ أخْذ ذلک فی الحسبان مع الصورة التی ظهرت فی الأجزاء الأُخری من الروایة حول ما حدث بعد مقتل الحسین، یُعطی الانطباع أنّ بکاء یزید علی مقتل الحسین لم یکن سوی دموع التماسیح.

ص: 366


1- راجع: هوجسون، اثنان من المؤرّخین المسلمین ما قبل الحداثة (Two Pre-Modern Muslim Historians): ص56-57. همفریز، الأُسطورة القرآنیّة: ص275. توجد دراسة مطوّلة حول أُسلوب الطبری هذا فی (رسالة فی الشعر لشوشان): ص120-131.

الملحق (4) نبذة عن تورستن هایلین (Torsten Hylén)

اشارة

ولد عام 1956م، وحصل علی الدکتوراه من جامعة أوبسالا (Uppsala University) فی سنة 2007م. عمل فی جامعة دالارنا (Dalarna University) فی مجال تاریخ الأدیان کمحاضر مساعد منذ 1996م ، وکمحاضر أول منذ 2007م.

تتعلّق بحوثه بصورة رئیسة بتاریخ الإسلام المبکّر، مع الترکیز علی فترة نشوء التشیّع، ولکنّه کتب أیضاً حول القضایا النظریة فی تاریخ الأدیان والتعلیم الدینی، وفی الوقت الحاضر، یعکف علی مشروعین یموّلهما مجلس البحوث السویدی؛ أحدهما بعنوان: (الثأر أو الشهادة! قصة التوّابین کقرینة علی التطوّر المبکّر للتشیّع)، والآخر - بالمشارکة مع خمسة باحثین آخرین من مختلف الجامعات الإسکندنافیة - حول تطوّر علم الإلهیّات عند الشیعة خلال العقود الماضیة، وعنوانه: (سلطة التفاوض فی الفکر الشیعی المعاصر وممارساته).

من نتاجه العلمی

* معانی جدیدة للطقوس القدیمة: نشوء طقوس العزاء فی الإسلام الشیعی، 2014. مقالة:

)قال:New Meanings To Old Rituals The Emergence Of Mourning Rituals In Shiʿite Islam).

* واقعة کربلاء فی المفاوضات الشیعیة المعاصرة حول السلطة:

(The Karbala Drama In Contemporary Shi'ite Negotiations About Authority).

* مفاهیم مغلقة ومفتوحة فی الدین: مشکلة الماهویة فی التعلیم حول الأدیان، جزء من کتاب دراسی بعنوان: الآلهة، 2014م:

(Closed And Open Concepts Of Religion : The Problem Of

ص: 367

Essentialism In Teaching About Religion

*(التحوّل) و(الدین): مفهومان معضلان فی دراسة الإسلام فی أفریقیا، 2013م:

(Conversion' And 'Religion' : Two Troublesome Concepts In The Study Of Islam In Africa).

* الثأر أو الشهادة! قصة التوّابین کقرینة علی التطوّر المبکر للتشیّع،2012م:

(Revenge Or Martyrdom! : The Story Of The Penitents As A Link To The Early Development Of Shi'ism).

* الماهیویّة فی التعلیم الدینی؛ بعض التأملات حول المشاکل التعلیمیة، 2012م:

(Essentialism In Religious Education : Some Reflections On A Didactical Problem).

* الصلاة جهراً أم فی إخفاتاً؟ التداخل المفاهیمی والعواطف فی تحلیل الطقوس، الدین، والظاهرة البشریة: المؤتمر العالمی العشرون الذی عقدته الجمعیة الدولیة لتاریخ الأدیان فی عام 2011م، مقالة:

(Praying Aloud Or In Silence? : On Conceptual Blending And Emotions In The Analysis Of Rituals).

* قراءة بنیویة لواقعة کربلاء، 2007م:

(A Structuralist Reading Of The Karbala Drama).

ص: 368

المصادر

أولاً: مصادر الکتاب

Abou El Fadl، Khaled. "Ahkarn Al-Bughat: Irregular-1 Warfare And The Law Of Rebellion In Islam." In Cross، Crescent And Sword: The Justifi­cation

And Limitation Of War In Western And Islamic Tradition، Edited By James Turner Johnson And John

Kelsay، 149-176. New York: Greenwood

Press، 1990.

خالد أبو الفضل، "أحکام البغاة، الحرب غیر المنظّمة وقانون التمرّد فی الإسلام فی: الصلیب، الهلال، والسیف، تبریر الحرب وتقییدها فی العُرف الغربی والإسلامی، إعداد جیمس ترْنَر جونسون وجون کلْسی، 149- 176. نیویورک: مطبعة غرینوود، 1990م.

Alexander، Scott C.

"Fear." In Eq

سکوت سی، ألکساندر، "الخوف".

Amir-Moezzi، Mohammad Ali. The Divine Guide In Early Shiism: The

Sources Of Esotericism In Islam.

Translated By David Streight. Al­bany:

State University Of New York Press، 1994.

محمّد علی أمیر معزّی، "الهدایة الإلهیّة فی التشیّع الأول: مصادر "الروحیّات فی الإسلام"، ترجمة: دیفید سترَیْت. ألبانی، مطبعة جامعة ولایة نیویورک، 1994م.

Arnaldez، Roger.

"Hayat." In E/2.

روجر أرنالدیز، "الحیاة".

ص: 369

Ayoub، Mahmoud. Redemptive Suffering In Islam: A Study Of

Devotional Aspects Of Ashura' In Twelver

Shiism. The Hague: Mouton، 1978.

محمود أیّوب، "معاناة التکفیر (عن الذنب) فی الإسلام، دراسة للخواص التعبّدیّة لعاشوراء عند الشیعة الاثنی عشریّة"، لاهای: موتون، 1978م.

Baladhuri، Ahmad B. Yahya Al- (D.

279/8920. Ansab Al-Ashraf. Edited By Muhammad Baqir Al-Mahmudi. Vol. 3. Beirut: Dar Al-Ta’aruf

Li-L­matbu’at، 1977.

أحمد بن یحیی البلاذری (المتوفّی سنة 279 ه-/892 م)، أنساب الأشراف، تحقیق: محمد باقر المحمودی، بیروت: دار التعارف للمطبوعات، 1977م.

Bascom، William.

"The Forms Of Folklore: Prose Narratives." In Sacred Narratives: Readings In The Theory Of Myth، Edited By Alan Dundes، 6-29. Berkeley: University Of California

Press، 1984.

ویلیم باسکوم، "أشکال الفولکلور، روایات النثر" فی "الروایات المقدّسة، قراءات فی نظریة الأُسطورة"، إعداد: آلان دوندس، 6- 29. بیرکلی، مطبعة جامعة کالیفورنیا، 1984م.

Bergman، Jan. "Myt

Och Historia: Historien Om Myten

Och Myten Om Hi­storien." Svensk Teologisk Kvartalsskrift، No. 52 (1976): 29-39.

جان بیرغمان، "الأُسطورة والتاریخ، تاریخ الأُسطورة وأُسطورة التاریخ"، مجلة اللاهوت الفصلیة السویدیة، العدد (52) (1976م): 29-39.

ص: 370

Bonnefoy، Yves، Ed. Mythologies: A Restructured Translation Of Dictionnaire Des Mythologies Et Des Religions Des Societes Traditionelles

Et Du Monde Antique. 2 Vols. Prepared Under The Di­rection Of Wendy Doniger. Chicago: University Of Chicago Press، 1991.

إیفیز بونفوی، "علم الأساطیر، ترجمة مجدّدة ل- "قاموس الأساطیر والأدیان للمجتمعات التقلیدیّة والعالم القدیم"، مجلدان، أُعِدّ تحت إشراف وندی دونیغر، شیکاغو، مطبعة جامعة شیکاغو، 1991م.

Bowker، John. Problems Of Suffering In

The Religions Of The World. Cam­bridge: Cambridge University Press، 1970.

جون بوکر، "مشاکل المعاناة فی أدیان العالم"، کامبردج، مطبعة جامعة کامبریدج، 1970م.

Calder، Norman.

"The Significance Of The Term Imam In Early Islamic Jurisprudence." Zeitschrift Für Die Geschichte Der Arabisch­islamischen

Wisseschaften 1 (1984): 253-264.

نورمان کالدر، "أهمیة مصطلح الإمام فی الفقه الإسلامی المبکر"، مجلة تاریخ العلوم العربیة والإسلامیّة، (1984م). ص 253-264.

---.Review Of God's Caliph: Religious Authority In The First Centuries Of Islam By P. Crone And M. Hinds. Journal

Of Semitic Studies 32 (1987) :

375-378.

--- إستعراض ل- "خلیفة الله، السلطة الدینیة فی القرون الأُولی للإسلام"، بقلم: بی. کرون وأم. هیندز، مجلة الدراسات السامیة العدد (32) (1987م).

ص: 371

375-378.

Cassirer، Ernst.

"Structuralism In Modern Linguistics." Word 1، No. 2 (1945): 99-120.

إرنست کاسِرر، "البنیویة فی علم اللغة الحدیث"، الکلمة الأُولی، العدد (2) (1945م). 99-120.

Caws، Peter. Structuralism: A Philosophy For The Human Sciences. 2: Nd Ed. Amherst: Humanity Books، 2000.

بیتر کاوز، "البنیویة: فلسفة للعلوم الإنسانیّة"، الطبعة الثانیة، أمهرست، هیومانِتی بُکْس (کتب الإنسانیة)، 2000م.

Cobb، Paul M. Review Of

Reinterpreting Islamic Historiography By

Tayeb El-Hibri. Journal Of The American Oriental Society 121،

No. 1(2001) : 109 -110.

باول أم. کوب، إستعراض ل- "إعادة تفسیر التأریخ الإسلامی"، الطیب الهبری، مجلة المجتمع الشرقی الأمریکی، العدد (1) (2001م). 109 -110.

Cole، Juan. Sacred Space And Holy War:

The Politics، Culture And History Of Shiite

Islam. London: I.B. Tauris،

2002.

خْوان کول، "الفضاء المقدّس والحرب المقدّسة: سیاسة وثقافة وتاریخ الإسلام الشیعی". لندن: آی. بی. توریس، 2002م.

Cook، Michael. Commanding Right And Forbidding Wrong In Islamic Thought. Cambridge: Cambridge University

Press، 2000.

مایکل کوک، "الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فی الفکر الإسلامی"،

کامبردج: مطبعة جامعة کامبریدج، 2000م.

ص: 372

Crone، Patricia. Medieval Islamic Political Thought. Edinburgh: Edinburgh University Press، 2004.

باتریشیا کرون، "الفکر السیاسی الإسلامی فی العصور الوسطی"، ادنبرة: مطبعة جامعة أدنبرة، 2004م.

Crone، Patricia، And Martin

Hinds. God's Caliph: Religious

Authority In The First Centuries Of Islam. Cambridge: Cambridge

University Press، 1986.

باتریشیا کرون ومارتن هیندز، "خلیفة الله، السلطة الدینیة فی القرون الأولی للإسلام"، کامبردج، مطبعة جامعة کامبریدج، 1986م.

Dakake، Maria Massi.

"Loyalty، Love And Faith: Defending The Boundaries Of The Early Shiite Community." Phd

Thesis، Princeton University، 2000.

ماریا ماسی داکاکی، "الولاء والحب والإیمان، الدفاع عن حدود الطائفة الشیعیّة فی العصر الأوّل". أطروحة دکتوراه، جامعة برینستون، 2000م.

Deliege، Robert. Levi-Strauss Today: An

Introduction To Structural Anthropology.

Translated By Nora Scott. Oxford:

Berg، 2004.

روبرت دالییج، "لیفی شتراوس الیوم، مدخل إلی الأنثروبولوجیا البنیویّة"، ترجمة نورا سکوت. أکسفورد: بیرغ، 2004م.

Denny، Frederick

Mathewson. "Tawwabun."

In E/2.

فریدریک ماثیوسون دَنی، "التوابون".

Donner، Fred M. Narratives

Of Islamic Origins: The Beginnings

ص: 373

Of Islamic Historical Writing. Princeton:

Darwin، 1998.

فْرَد أم. دونر، "روایات من أصول إسلامیة: بدایات الکتابة التاریخیة الإسلامیة"، برینستون: داروین، 1998م.

Durkheim، Émile. Les

Formes Élémentaires De La Vie

Religieuse. Paris: Li­brairie Felix Alcan، 1925.

إمیل دورکهایم، "الأشکال الأولیّة للحیاة الدینیّة"، باریس، مکتبة فیلیکس الکان، 1925م.

E.J. Brill's First

Encyclopedia Of Islam. Edited By

W.Th. Houtsma، Et Al. Leiden: E.J. Brill، 1913-1936. Reprint، 1993.

"موسوعة الإسلام الأولی ل- إی. جَی. بریل". إعداد: دبلیو. تی أج. هوتسما وآخرین. لَیْدِن: إی. جَی. بریل، 1913- 1936م. طبعة ثانیة سنة 1993م .

El-Hibri، Tayeb. Reinterpreting

Islamic Historiography: Harun Al-Rashid

And The Narrative Of The Abbasid Cailpahte. Cambridge: Cam­bridge

University Press، 1999.

الطیّب الهبری، "إعادة تفسیر التأریخ الإسلامی، هارون الرشید وقصّة الخلافة العباسیّة"، کامبریدج، مطبعة جامعة کامبریدج، 1999م.

---. "The Unity Of

Tabari's Chronicle." Al-Usur Al-Wusta: The Bulle­tin Of Middle East

Medievalists 11، No. 1 (1999): 1-3.

--- "وحدة تاریخ الطبری". العصور الوسطی، نشرة المتخصّصین فی تاریخ

القرون الوسطی للشرق الأوسط 11، العدد (1) (1999م). 1-3.

Elad، Amikam. "Community

Of Believers Of 'Holy Men' And 'Saints' Or Community Of Muslims? The Rise And

Development

ص: 374

Of Early Muslim Historiography." Review Of Narratives Of Islamic

Origins By Fred M. Donner. Journal Of Semitic Studies 47، No. 1 (2002): 241-308.

إلعاد أمیکام، "أُمّة المؤمنین من"القدّیسین" و"الأولیاء" أو أمّة المسلمین؟ نشأة وتطوّر التأریخ الأسلامی الأوّل". استعراض ل- "روایات من أُصول إسلامیة"، من قِبَل فْرَد أم. دونر، مجلة الدراسات السامیة 47، العدد (1) (2002م). 241-308.

Enayat، Hamid. Modern

Islamic Political Thought: The Response Of The Shii And Sunni Muslims To

The Twentieth Century. London: Macmillan، 1982.

حامد عنایات، "الفکر السیاسی الإسلامی المعاصر: تجاوب المسلمین الشیعة والسنة مع القرن العشرین"، لندن: ماکمیلان، 1982م.

Encyclopedia Of Islam. Edited By C.E.

Bosworth، Et Al. 2nd Ed. 10 Vols. Leiden:

Brill، 1960-2002.

"موسوعة الإسلام"، إعداد: سی. إی. بوسوورث وآخرین، الطبعة الثانیة، 10 مجلدات. لَیْدِن، بریل، 1960 - 2002م.

Encyclopedia Of The Qur'an.

Edited By Jane Dammen Mcauliffe. 6 Vols. Leiden: Brill، 2001-2006.

"موسوعة القرآن الکریم"، إعداد: جین دامن مکولیف، 6 مجلدات. لیدن:

بریل، 2001 – 2006م.

Esposito، John L.،

And John 0. Voll. Islam And Democracy. Oxford: Ox­ford University Press،

1996.

ص: 375

جون أل. اسبوزیتو وجون أُو. فول، "الإسلام والدیمقراطیة"، أکسفورد: مطبعة جامعة أکسفورد، 1996م.

Van Ess، Josef. Theologie

Und Gesellschaft Im 2. Und 3. Jahrhundert Hidschra: Eine Geschichte Des

Religiösen Denkens Im Frühen Islam. 6 Vols. Berlin: De Gruyter، 1991-1997.

جوزیف فان أس، "اللاهوت والمجتمع فی القرن الثانی والثالث الهجری: تاریخ الفکر الدینی فی الإسلام المبکّر"، 6 مجلدات. برلین، دی غرویتر، 1991 – 1997م.

---. "Political

Ideas In Early Islamic Religious Thought." British Journal Of Middle Eastern

Studies 28، No. 2 (2001).

--- "الأفکار السیاسیة فی الفکر الدینی الإسلامی المبکر"، المجلة البریطانیة للدراسات الشرق أوسطیّة 28، العدد (2) (2001م).

Fadel، Muhammad

Hossam. "Chastisement And Punishment." In EQ

محمد حسام فاضل، "العقاب والحساب".

Geertz، Clifford. The

Interpretation Of Cultures: Selected Essays. London: Fontana، 1993.

کلیفورد غیرتز، "تفسیر الثقافات: مقالات مختارة"، لندن، فونتانا، 1993م.

Gilliot، Claude. Exégèse، Langue Et Theologie En Islam:

L'exégèse Coranique

De Tabari. Paris: Vrin، 1990.

کلود جیلیوت، "التفسیر واللغة وعلم الکلام فی الإسلام، تفسیر القرآن للطبری"، باریس: فْرین،1990م.

ص: 376

---."Mythe،

Récit، Histoire Du Salut Dans Le Commentaire Coranique De Tabari."Joumal

Asiatique 282، No. 2 (1994): 237-270.

--- "الأُسطورة والقصّة وتاریخ التحیّة (أو تاریخ الخلاص) فی تفسیر الطبری"، المجلة الآسیویّة 282، العدد (2) (1994م): 237-270.

Gottschalk، Peter. Beyond

Hindu And Muslim: Multiple Identity In Narratives From Village India. Oxford:

Oxford University Press، 2000.

بیتر غوتشوک، "ماوراء الهندوسی والمسلم، هویة متعدّدة فی روایات من قریة الهند"، أکسفورد: مطبعة جامعة أکسفورد، 2000م.

Grater، Irene. "Arabische

Bestattungsbräuche In Frühislamischer Zeit."Der Islam 31-32 (1953-57).

آیرین غروتر،"تشییع الجنائز فی عصر الإسلام الأول"، الإسلام، 31-32 (1953- 1957م).

Günther، Sebastian.

"Maqatil Literature In Medieval Islam." Journal Of Arabic

Literature 25، No. 3 (1994): 192-212.

سباستیان غونتر، " أدب المقاتل فی إسلام العصور الوسطی"، مجلة الأدب العربی 5، رقم 3 (1994م). 192-212.

Haddad، Yvonne Yazbeck، And Jane I. Smith. The

Islamic Understanding

Of Death And Resurrection. 2nd Ed. Oxford: Oxford University Press، 2002.

إیفون یزبک حداد وجین آی. سمیث، "الفهم الإسلامی للموت والقیامة"،

ص: 377

الطبعة الثانیة، أوکسفورد: مطبعة جامعة أکسفورد، 2002م.

Halm، Heinz. Shi’a

Islam: From Religion To Revolution. Translated By Allison Brown. Princeton:

Marcus Wiener Publishers، 1997.

هاینز هالم، "الإسلام الشیعی، من الدین إلی الثورة"، ترجمة: ألیسون براون. برینستون، مارکوس فینر للنشر، 1997م.

Halpern، Manfred.

"Choosing Between Ways Of Life And Death And Be­tween Forms Of Democracy:

An Archetypal Analysis." Alternatives 12، No. 1 (1987): 5-35.

مانفرید هالبیرن، "الإختیار بین طرق الحیاة والموت وبین أشکال الدیمقراطیة: تحلیل نموذجی"، (مجلة) البدائل 12، العدد (1) (1987م). 5-35.

Hasson، I. "Ziyad

B. Abihi." In E/2.

آی. حسون، "زیاد ابن أبیه".

Hawting، Gerald R.

"Translator's Foreword." In The History Of Al-Tabari. Vol. 20: The

Collapse Of Sufyanid Authority And The Coming Of The Marwanids. Translated

And Annotated By G. R. Hawting، Xi­xviii. New York: State University Of New

York Press، 1989.

جیرالد آر. هاوتنغ، "مقدمة المترجم"، فی "تاریخ الطبری"، المجلد 20، سقوط السلطة السفیانیة ومجیء المروانیین. ترجمة وتعلیق: جیرالد آر. هاوتنغ، نیویورک، مطبعة جامعة ولایة نیویورک، 1989م.

ص: 378

---. "The

Tawwabun، Atonement And ‘Asura’." Jerusalem Studies In Arabic And Islam

17 (1994): 166-181.

---"التوّابون، التکفیر (عن الذنب) وعاشوراء"، القدس للدراسات فی اللغة العربیة والإسلام 17، (1994م). 166-181.

---. The First

Dynasty Of Islam: The Umayyad Caliphate AD 661­750. 2nd Ed. London: Routledge،

2000.

--- الأُسرة الحاکمة الأُولی فی الإسلام: الخلافة الأُمویة (661-750م)، الطبعة الثانیة، لندن، روتلیدج، 2000م.

Henaff، Marcel.

Claude Levi-Strauss. Paris: Pierre Belfond، 1991.

مارسیل هناف، "کلود لیفی ستراوس"، باریس: بییر بلفوند،1991م.

---. Claude Levi-Strauss

And The Making Of Structural Anthropology. Translated By Mary Baker. Minneapolis:

University Of Minnesota Press، 1998.

--- "کلود لیفی ستراوس وابتداع الأنثروبولوجیا البنیویة"، ترجمة: ماری بیکر، مینیابولیس: مطبعة جامعة ولایة مینیسوتا، 1998م.

Hinds، Martin. Studies

In Early Islamic History. Princeton: Darwin Press، 1996.

مارتن هیندز، "دراسات فی التاریخ الإسلامی المبکر"، برینستون، مطبعة داروین، 1996م.

Hodgson، Marshall G.

"How Did The Early Shia Become Sectarian?"Jour­nal Of The American

Oriental Society75 (1955): 1-13.

ص: 379

مارشال جی. هوجسون، "کیف اصبح الشیعة الأوائل طائفیین؟" مجلة المجتمع الأمریکی الشرقی، (1955م).1-13.

---. "Two Pre-Modern

Muslim Historians: Pitfalls And Opportunities In Presenting Them To Moderns."

In Towards World Community، Edited By John Nef، 53-68. The Hague: Junk،

1968.

--- "اثنان من المؤرّخین المسلمین ما قبل العصر الحدیث، العقبات والفرص فی تقدیمهم إلی أهل العصر الحدیث"، فی "نحو مجتمع عالمی"، إعداد: جون نَف، 53-68. لاهای: جانک، 1968م.

---. The Venture Of Islam:

Conscience And Civilization In A World Civilization. 3 Vols. Vol. 1. The

Classical Age Of Islam. Chicago: University Of Chicago Press، 1974.

---"جرأة الإسلام، الضمیر والحضارة فی حضارة عالمیّة"، 3 مجلدات، المجلد رقم1، العصر الکلاسیکی للإسلام. شیکاغو: مطبعة جامعة شیکاغو، 1974م.

Honko، Lauri. "The Problem Of Defining Myth." In Sacred Narrative: Readings In The Theory Of Myth، Edited By Alan Dundes، 41-52. Berkeley: University Of California Press،1984.

لوری هونکو، "مشکلة تعریف الأُسطورة" فی "الروایة المقدّسة"، "قراءات فی نظریة الأُسطورة"،إعداد: آلان دوندیز، 41-52. بیرکلی، مطبعة جامعة کالیفورنیا، 1984م.

Howard، I.K.A. "Husayn

The Martyr: A Commentary On The

ص: 380

Accounts Of The Martyrdom In Arabic

Sources." Al-Serat 12، Spring And Au­tumn، 1986. Special Issue: Papers

From The Imam Husayn Confer­ence، London July 1984. (1986): 124-142.

آی. کَی. أی. هوارد، "الحسین الشهید، تعلیق علی روایات الاستشهاد فی المصادر العربیة". الطراط 12، ربیع وخریف 1986م. عدد خاصّ: مقالات من مؤتمر الإمام الحسین، لندن، یولیو 1984م، (1986م)، 124-142.

---. "Translator's

Foreword." In The History Of Al-Tabari Vol. 19: The Caliphate Of Yazid

B. Mu’awiyah. Translated And Annotated By I.K.A. Howard، Ix—Xvi. New York:

State University Of New York Press، 1990.

--- "مقدمة المترجم فی تاریخ الطبری، المجلد 19، خلافة یزید بن معاویة"، ترجمة وتعلیق: آی. کَی. أی. هوارد، نیویورک، مطبعة جامعة ولایة نیویورک، 1990م.

Humphreys، R. Stephen. "Qur'anic Myth And Narrative Structure In Early Islamic Historiography." In Tradition And Innovation In Late An­tiquity، Edited By F.M. Clover And R.S. Humphreys، 271-290. Madison: University Of Wisconsin Press،1989.

آر. ستیفن همفریز، "الأُسطورة القرآنیة والبنیة الروائیّة فی کتابة التاریخ الإسلامی المبکر"، فی "التقلید والتجدید فی العصور القدیمة المتأخرة"،إعداد: أف. أم. کلوفر وآر. أس. همفریز، 271-290. مادیسون : مطبعة جامعة ویسکونسن، 1989م.

ص: 381

---. Islamic History:

A Framework For Inquiry Revised Ed. Princeton NJ.: Princeton University

Press، 1991.

--- "التاریخ الإسلامی إطار للتحقیق"، طبعة منقّحة، برینستون، نیوجیرسی، مطبعة جامعة برینستون، 1991م.

Hylen، Torsten.

"Några Begrepp Och Teorier I Religionshistoria." Unpub­lished Textbook

Material Used At Courses In Religious Studies At Högskolan Dalarna 1997-2004.

تورستن هایلین، "بعض المفاهیم والنظریات الدینیة التاریخی"، مواد کتاب مدرسی غیر منشورة، تستخدم خلال الدروس فی الدراسات الدینیة فی جامعة دالارنا (السوید)، 1997 – 2004م.

---."Är Kerbala-Dramat

En Myt?" In Myter Och Mytteorier: Religions­historiska Diskussioner

Och Teoretiska Ansatser، Edited By O. Sund­qvist And A. Svalastog، 55-71. Uppsala:

Religionshistoriska Avdel­ningen، Teologiska Institutionen، Uppsala

Universitet، 1997.

--- "هل أحداث کربلاء أُسطورة؟ الأساطیر ونظریة الأُسطورة: مناقشات دینیةتاریخیة، ومناهج نظریّة"، إعداد: أو. سنکفیست وأی. سفالاستوغ،

55-71، أُوبسالا، قسم تاریخ الأدیان، معهد اللاهوت، جامعة أوبسالا، 1997م.

Ibn Ishag، Muhammad. The

Life Of Muhammad: A Translation Of Ishaq's “Siat Rasul Allah”: Edited And

Translated By Alfred Guillaume. Oxford: Oxford University Press، 1955.

ص: 382

محمد بن إسحاق، "حیاة محمد، ترجمة کتاب "سیرة رسول الله" لابن اسحق"، ترجمة وإعداد: ألفرید جیلوم، أُوکسفورد: مطبعة جامعة أکسفورد، 1955م.

Izutsu، Toshihiko. Ethico-Religious

Concepts In The Qur'an. 2nd Ed. Montreal Kingston: Mcgill-Queen's

University Press، 2002.

توشیهیکو إیزوتسو، "المفاهیم الدینیة - الأخلاقیّة فی القرآن"، الطبعة الثانیة، مونتریال وکینغستون، مطبعة جامعة ماکغیل کوینز، 2002م.

Jafri، Syed Husain

Mohammad. The Origins And Early Development Of Shia Islam. Oxford: Oxford

University Press، 2000 (1979).

سیّد حسین محمد جعفری، "الأُصول والتطوّر المبکر للإسلام الشیعی"، أکسفورد: مطبعة جامعة أکسفورد ، 2000 (1979م).

Jakobson، Roman، And Morris

Halle. Fundamentals Of Language. 2nd Ed. Berlin: Mouton De Gruyter، 1971.

رومان جاکوبسون وموریس هالی، "أُصول اللغة"، الطبعة الثانیة، برلین، موتون دی غرویتر، 1971م.

Jensen، Jeppe Sinding.

"Structure." In Guide To The Study Of Religion، Ed­ited By W. Braun

And R. Mccutcheon، 314-333. London: Cassell،2000.

سِندنغ جَبی ینزِن، "البنیة" فی "الدلیل لدراسة الدین"، إعداد: دبلیو. براون وآر. ماک کوتشون، 314-333، لندن، کاسِل، 2000م.

Khalidi، Tarif. Arabic

Historical Thought In The Classical Period. Cam­bridge: Cambridge

University Press، 1994.

ص: 383

طریف الخالدی، "الفکر التاریخی العربی فی العصر الکلاسیکی"، کامبردج، مطبعة جامعة کامبریدج، 1994م.

Kister، M.J. "Social

And Religious Concepts Of Authority In Islam."Jerusa­lem Studies In Arabic

And Islam 18 (1994): 84-127.

أَم. جَی. کِستر، "المفاهیم الاجتماعیة والدینیة للسلطة فی الإسلام"، القدس للدراسات فی اللغة العربیة والإسلام 18، (1994م): 84-127.

Kohlberg، Etan.

"Shahid." In E/2.

ایتان کولبَرْغ، "الشهید".

Kunin، Seth Daniel. The

Logic Of Incest: A Structuralist Analysis Of He‑ Brew Mythology. Sheffield:

Sheffield Academic Press، 1995.

سَیت دانیال کونین، "منطق سِفاح القربی، تحلیل بنیوی للأساطیر العبریّة"، شیفیلد: مطبعة شیفیلد الأکادیمیّة، 1995م.

---. We Think What We Eat: Neo-Structuralist Analysis

Of Israelite Food

Rules And Other Cultural And Textual Practices. London: T T Clark

International، 2004.

---"نفکّر بما نأکل، تحلیل علی أساس البنیویّة الجدیدة لقواعد الأطعمة الإسرائیلیّة وغیرها من الممارسات الثقافیة والمتعلّقة بالنصوص"، لندن، تی أند تی کلارک الدولیّة، 2004م.

Lammens، Henri.

"Al-Husain." In Ei .

هنری لامنس، "الحسین".

Landau-Tasseron، Ella.

"From Tribal Society To Centralized

ص: 384

Polity: An Interpretation Of Events

And Anecdotes In The Formative Period Of Islam." Jerusalem Studies In

Arabic And Islam 24 (2000): 180-216. Lane، Edward W. Arabic-English

Lexicon. Revised Ed. 2 Vols. Cambridge: Islamic Texts Society، 1984 (1863-93).

إیلا لانداو تاسیرون، "من المجتمع القبلی إلی الدولة المرکزیة، تفسیر الأحداث والحکایات فی فترة نشوء الإسلام"، القدس للدراسات فی اللغة العربیة والإسلام 24 (2000م)، 180-.216. دبلیو. إدوارد لَیْن، قاموس عربی - إنجلیزی، طبعة منقّحة، مجلدان. کامبریدج- جمعیّة المتون الإسلامیة، 1984م، (1863-1893).

Lang، Kate. Review Of

Reinterpreting Islamic Historiography By Tayeb El­-Hibri. Journal Of Near

Eastern Studies 62، No. 2 (2003): 111-112.

کَیْت لانغ، استعراض ل- "إعادة تأویل التاریخ الإسلامی" للطیّب الهبری،مجلة دراسات الشرق الأدنی 62، العدد (2) (2003م)، 111-112.

Leach، Edmund. Culture

And Communication: The Logic By Which Sym­bols Are Connected. An

Introduction To The Use Of Structuralist Analysis In Social Anthropology. Cambridge:

Cambridge Univer­sity Press، 1976.

إدموند لیتش، "الثقافة والارتباطات: المنطق الذی تترابط به الرموز. مقدمة إلی استخدام التحلیل البنیوی فی الأنثروبولوجیا الاجتماعیة"، کامبردج، مطبعة جامعة کامبریدج، 1976م.

ص: 385

---.

"Structuralism." In Er، 1987.

---"البنیویة"، 1987.

Levi-Strauss، Claude.

Anthropologie Structurale. Paris: Plon، 1958.

کلود لیفی ستروس، "الأنثروبولوجیا البنیویّة"، باریس، بلون، 1958م.

---. Structural

Anthropology. Translated By Claire Jacobson And Brooke Grundfest Schoepf. New

York: Basicbooks، 1963.

---"الأنثروبولوجیا البنیویة"، ترجمة: کلیر جاکوبسون وبروک غراندفست شیف، نیویورک، بَیْسِک بُکْس (الکتب الأساسیّة)، 1936م.

---. Le Cru Et Le

Cuit. Vol 1 Of Mythologiques. Paris: Plon، 1964.

---"النیء والمطبوخ"، المجلد الأوّل من المیثولوجیا (علم الأساطیر)، باریس: بلون، 1964م.

---. The Savage Mind.

Chicago: University Of Chicago Press، 1966.

---"العقل المتوحّش"، شیکاغو، مطبعة جامعة شیکاغو، 1966م.

---. The Raw And The Cooked.

Vol. 1 Of Introduction To A Science Of Mythology. Translated By John

Weightman And Doreen Weightman. New York: Harper Row، 1969.

--- "النیئ والمطبوخ"، المجلد الأوّل من "مقدمة إلی علم الأساطیر"، ترجمة: جون ویتمان ودورین ویتمان، نیویورک، هاربر ورو، 1969م.

---. "The Deduction Of The Crane." In Structural Analysis Of

ص: 386

Oral Tradition،

Edited By Elli Kongas Maranda And Pierre Maranda، 3­21. Philadelphia: University

Of Pennsylvania Press، 1971.

--- "اقتطاع الرافعة" فی "التحلیل البنیوی للعُرف الشفوی"، إعداد: إیلی کونغاس ماراندا وبییر ماراندا، 213، فیلادلفیا، مطبعة جامعة بنسلفانیا، 1971م.

---. From Honey To Ashes.

Vol. 2 Of Introduction To A Science Of My­thology. Translated By John

Weightman And Doreen Weightman. New York: Harper Row، 1973.

--- "من العسل إلی الرماد"، المجلد (2) من مقدمة إلی علم الأساطیر"، ترجمة: جون ویتمان ودورین ویتمان، نیویورک، هاربر ورو، 1973م.

---. Structural Anthropology، Volume 2. Translated By MoniqueLayton. Chicago: University

Of Chicago Press، 1976.

--- "الأنثروبولوجیا البنیویة"، المجلد (2)، ترجمة: مونیک لایتون، شیکاغو: مطبعة جامعة شیکاغو، 1976م.

---. The Origin Of Table

Manners. Vol. 3 Of Introduction To A Science Of Mythology Translated By John

Weightman And Doreen Weightman. New York: Harper And Row، 1978.

--- "أصل آداب المائدة"، المجلد (3) من "مقدمة إلی علم الأساطیر"، ترجمة: جون ویتمان ودورین ویتمان، نیویورک، هاربر ورو، 1978م.

---. The Naked Man. Vol.

4 Of Introduction To A Science Of Mythol­ogy. Translated By John Weightman

And Doreen

ص: 387

Weightman. New York: Harper And Row، 1981.

--- "الرجل العاری"، المجلد (4) من "مقدمة إلی علم الأساطیر"، ترجمة: جون ویتمان ودورین ویتمان، نیویورک، هاربر ورو، 1981م.

---. Anthropology And

Myth. Translated By Roy Willis. Oxford: Blackwell، 1987.

---"الأنثروبولوجیا والأُسطورة"، ترجمة: روی ویلیس، أُوکسفورد، بْلاکْوَل، 1987م.

---. The Jealous

Potter. Translated by Benedicte Chorier. Chicago: University of Chicago Press، 1988.

--- "الخزّاف الغیور"، ترجمة: کورییه بَنِدیکت، شیکاغو، مطبعة جامعة شیکاغو، 1988م.

---. The Story Of Lynx.

Translated By Catherine Tihanyi. Chicago: University Of Chicago Press،

1995.

--- "قصة الوشق"، ترجمة: کاثرین تیهانیی، شیکاغو، مطبعة جامعة شیکاغو، 1995م.

---. "Hourglass

Configurations." In The Double Twist، Edited By Pi­erre Maranda،

15-32. Toronto: University Of Toronto Press، 2001.

--- "تنظیمات الساعة الرملیة" فی "الانعطاف المزدوج"، إعداد: بییر ماراندا، 15-32، تورونتو، مطبعة جامعة تورونتو، 2001م.

Levi-Strauss، Claude،

And Didier Eribon. Conversations With Claude Levi-Strauss. Translated By Paula

Wissing. Chicago:

ص: 388

University Of Chi­cago Press، 1991.

کلود لیفی ستراوس ودیدییه إریبون، "محادثات مع کلود لیفی ستراوس"، ترجمة: باولا ویسنغ، شیکاغو، مطبعة جامعة شیکاغو، 1991م.

Lincoln، Bruce. Theorizing

Myth: Narrative، Ideology And Scholarship. Chicago: University Of Chicago

Press، 1999.

بروس (لینکولن)، "تنظیر الخرافة، الروایة، الإیدیولوجیا، والمعرفة"، شیکاغو، مطبعة جامعة شیکاغو، 1999م.

Lindsay، James E.

"Caliphal And Moral Exemplar? 'Ali Ibn Asakir's Portrait Of Yazid B. Mu’awiya."

Der Islam 74، No. 2 (1997): 250-278.

جیمس إی. لیندسای، "النموذج الخلافتی (نسبة إلی الخلافة) والأخلاقی"،

صورة یزید عند علی بن عساکر، الإسلام 74، رقم 2 (1997م): 250-278.

Maniglier، Patrice. Le

Vocabulaire De Lévi-Strauss. Paris: Ellipses، 2002.

باتریس مانغلییه، "معجم لیفی ستروس"، باریس، إلیبسیس، 2002 م.

Maranda، Elli Kongas،

And Pierre Maranda. Structural Models In Folklore And Transformational

Essays. The Hague: Mouton، 1971.

إیلی کونغاس ماراندا وبییر ماراندا، "النماذج البنیویّة فی الفلکلور ومقالات التحوّل"، لاهای، موتون، 1971م.

Maranda، Pierre.

"Conclusion." In The Double Twist، Edited By

ص: 389

Pierre Maranda،

313-316. Toronto: University Of Toronto Pess، 2001.

بییر ماراندا، "الخاتمة" فی "الانعطاف المزدوج"، إعداد: بییر ماراندا، 313-316، تورونتو، مطبعة جامعة تورونتو، 2001م.

---، Ed. The Double

Twist: From Ethnography To Morphodynamics. Toronto: University Of Toronto،

2001.

--- "الانعطاف المزدوج: من الاثنوغرافیا (وصف السلالات البشریّة) إلی دینامیکیّة التشکّل(0مورفودینامیک)"، تورونتو، جامعة تورونتو، 2001م.

Marcus، Solomon.

"The Logical And Semiotic Status Of The Canonic Formula Of Myth."

Semiotica 116، No. 2-4 (1997): 115-188.

سولومون مارکوس، "الوضع المنطقی والرمزی (المتعلّق بالرموز والعلامات) للصیغة القانونیّة للأُسطورة"، السیمیائیّة (Semiotica)، 116، رقم 2-4 (1997م): 115-188.

Mårtensson، Ulrika. "The True

New Testament: Sealing The Heart's Cove­nant In Al-Tabari's Ta'rikh Al-Rusul

Wal-Muluk." Phd Thesis، Upp­sala University، 2001.

أولریکا مارتنسون، "العهد الجدید الصحیح، ختم عهد القلب فی" تاریخ الرسل والملوک" للطبری"، أُطروحة دکتوراه، جامعة أوبسالا، 2001م.

2. ---. "Discourse And Historical Analysis: The Case Of Al-Tabari's His­tory Of The Messengers And The Kings." Journal Of Islamic Studies 16، No. 3

(2005): 287-331.

ص: 390

--- "خطاب وتحلیل تاریخی: واقع تاریخ الرسل والملوک للطبری"، مجلة الدراسات الإسلامیة 16، العدد (3)، (2005م)، 287-331.

101. Mccutcheon، Russel T. "Myth." In Guide To The Study Of Religion، Edited By W. Braun And R.T. Mccutcheon، 190-208. London: Cassell، 2000.

تی. روسَل ماک کوتشون، "الخرافة"، فی "دلیل إلی دراسة الدین"، إعداد: دبلیو. براون وتی. آر. ماک کوتشون، 190- 208، لندن، کاسِل، 2000م.

102. Monnot، G. "Salat Al-Khawf." In E/2.

جی. مونو، "صلاة الخوف".

Morava، Jack، On The Canonical Formula Of C. Levi-Strauss [Electronic Article] (Arxiv.Org، 11 June 2003); Available From: Http: //Arxiv.Org/PS_Cache/Math/Pdf/0306/0306174.Pdf (Accessed 17 April 2006).

جاک مورافا، "حول الصیغة القانونیّة ل- کلود لیفی ستراوس"، [مقالة إلکترونیّة]، Arxiv.Org)، [11یونیو، 2003م](؛ موجودة علی هذا الموقع:

(Http: //Arxiv.Org/PS_Cache/Math/Pdf/0306/0306174.Pdf(.

(أُخذت فی 17 أبریل 2006م).

104. Mosko، Mark S. "The Canonic Formula Of Myth And Nonmyth." Ameri­can Ethnologist 18، No. 1 (1991): 126-151.

مارک أس. موسکو، "الصیغة القانونیّة للأُسطورة وغیر الأُسطورة"، (مجلة) الأثنولوجی الأمیرکی 18، العدد (1) (1991م)، 126-151.

105. Mufid، Muhammad B. Muhammad B. Al-Nu’man Al- (D.

ص: 391

413/1022). Al-­Irshad. Edited By Kazim Al-Musawi Al-Miyamiwi. Tehran: Dar Al­-Kutub Al-Islamiyya، 1962.

محمد بن محمد بن النعمان المفید (المتوفی 413 / 1022)، "الإرشاد"، إعداد: کاظم الموسوی المیاموی، طهران: دار الکتب الإسلامیة، 1962م.

106. Netton، Ian Richard. "Life." In Eq

آیان ریتشارد نَتون، "الحیاة".

107.Neuwirth، Angelika. "Qur'anic Literary Structure Revisited: Surat Al-­Rahman Between Mythic Account And Decodation Of Myth." In Story-Telling In The Framework Of Non-Fictional Arabic Literature، Edited By Stefan Leder، 388- 420. Wiesbaden: Harrasowitz، 1998.

أنجلیکا نیویرث، "إعادة النظر فی البنیة الأدبیة القرآنیة، سورة الرحمن بین الروایة الأُسطوریّة وتأویل الأُسطورة"، فی "حکایة القصص فی إطار الأدب العربی غیر الخیالی"، إعداد: ستیفان لَدَر، 388-420، فیسبادن، هاراسوفیتس، 1998م.

108. ---. "Myths And Legends In The Qur'an." In EQ

--- "الخرافات والأساطیر فی القرآن الکریم".

109. Noth، Albrecht، And Lawrence Conrad، I. The Early Arabic Historical Tra­dition: A Source-Critical Study. Translated By Michael Bonner. Princeton، NJ.: Darwin، 1994.

ألبریشت نوث وآی. لورنس کونراد، "التقالید التاریخیة العربیة المبکرة، دراسة نقدیة مرجعیّة"، ترجمة: مایکل بونَر. برنستون، نیوجیرسی، داروین، 1994م.

ص: 392

110. Ohlander، Erik S. "Fear Of God (Taqwa) In The Qur'an: Some Notes On Semantic Shift And Thematic Context." Journal Of Semitic Studies 50، No. 1 (2005): 137-152.

أریک أس. أولاندَر، "التقوی فی القرآن، بعض الملاحظات علی التحوّل الدلالی والسیاق الموضوعی"، مجلة الدراسات السامیة 50، العدد (1) (2005م)، 137-152.

111. Petitot، Jean. "Approche Morphodynamique De La Formule Canonique Du Mythe." L'Homme 106-107 (1988): 24-50.

جان بیتیتو، "مقدّمة فی التشکّل الدینامیکی إلی الصیغة القانونیّة للأُسطورة"،

الرجل، 106- 107 (1988م)، 24-50.

112. ---. Morphogenesis Of Meaning. Translated By Franson Manjali. Bern: Peter Lang، 2004.

--- "تَشکُّل المعنی"، ترجمة: فرانسون مانجالی، بَیرْن، بیتر لانغ، 2004م.

113. Ringgren، Helmer. "Some Religious Aspects Of The Caliphate." In Contri­butions To The Central Theme Of The Viiith International Congress For The History Of Religions (Rome، April .1955)، 737-748. Rome: Brill، 1955.

هیلمَر رِنغْرَن، "بعض الجوانب الدینیة للخلافة" فی "مقالات فی الموضوع الرئیسی للمؤتمر الدولی الثامن لتاریخ الأدیان"، (روما، أبریل/نیسان/1955م)، 737-748، روما: بریل، 1955م.

114. Roberts، Joseph B. "Early Islamic Historiography: Ideology And Methodol­ogy." Phd Thesis، Ohio State University، 1986.

ص: 393

بی. جوزیف روبرتس، "کتابة التاریخ الإسلامی المبکر، الآیدیولوجیّة والمنهجیّة" أُطروحة دکتوراه، جامعة ولایة أوهایو، 1986م.

115. Robinson، C.F. Islamic Historiography. Cambridge: Cambridge University Press، 2003.

سی. أف. روبنسون، "التأریخ الإسلامی"، کامبردج، مطبعة جامعة کامبریدج، 2003م.

Rosenthal، Franz "The Influence Of The Biblical Tradition On Muslim His­toriography." In Historians Of The

116. Middle East، Edited By B. Lewis And P.M. Holt، 35-45. London: Oxford University Press، 1962.

فرانز روزنتال، "تأثیر التقالید الإنجیلیّة فی کتابة تأریخ المسلمین" فی "مؤرّخی الشرق الأوسط"، إعداد: بی. لویس وبی. أم. هولت، 35 -45 . لندن، مطبعة جامعة أکسفورد، 1962م.

117. ---. A History Of Muslim Historiography. 2nd Ed. Leiden: Brill، 1968.

--- "تاریخ کتابة تأریخ المسلمین"، الطبعة الثانیة، لَیْدِن، بریل، 1968م.

118. ---. "General Introduction." In The History Of Al-Tabari. Vol. 1: Gen­eral Introduction And From The Creation To The Flood. Translated And Annotated By F. Rosenthal، Vol. I، 1-154. New York: State University Of New York، 1989.

--- "مقدمة عامّة" فی "تاریخ الطبری ج1، مقدمة عامّة ومن الخلق إلی الطوفان"، ترجمة وتعلیق أف. روزنتال، المجلد الأوّل، 1-154، نیویورک،

ص: 394

جامعة ولایة نیویورک، 1989م.

119. De Saussure، Ferdinand. Course In General Linguistics. Translated By Roy Harris. London: Duckworth، 1916 (1983).

فردیناند دی سوسیر، "دورة فی علم اللغة العام"، ترجمة: روی هاریس، لندن، داکْویرث، 1916، (1983م).

120. Schubel، Vernon James. Religious Performance In Contemporary Islam: Shi’i Devotional Rituals In South Asia. Columbia: University Of South Carolina Press، 1993.

فیرنون جیمس شوبیل، "السلوک الدینی فی الإسلام المعاصر، شعائر الشیعة التعبّدیّة فی جنوب آسیا"، کولومبیا، مطبعة جامعة ولایة کارولینا الجنوبیة، 1993م.

121. Scubla، Lucien. Lire Lévi-Strauss: Le Déploiement D'une Intuition. Paris: Odile Jacob، 1998.

لوسییه سکوبلا، "إقرأ لیفی ستراوس، انتشار الحدس (البدیهة)"، باریس، أودیل جاکوب، 1998م.

122. ---. "Hesiod، The Three Functions، And The Canonical Formula Of Myth." In The Double Twist، Edited By Pierre Maranda، 123-155. Toronto: University Of Toronto Press، 2001.

--- "هیسیود، الوظائف الثلاث، والصیغة القانونیّة للأُسطورة" فی "الانعطاف المزدوج"، إعداد: بییر ماراندا، 123-155. تورنتو، مطبعة جامعة تورنتو، 2001م.

123. ---. "Sur Deux Applications De La Formule Canonique À Des

ص: 395

Mythes De l'Antiquité Grecque." Unpublished Paper Delivered At Colloque Homo، Budapest، November 24-26، 2003.

---"حول اثنین من تطبیقات الصیغة القانونیّة علی الأساطیر الیونانیّة القدیمة"، مقالة غیر منشورة قُدِّمت فی مؤتمر هومو، بودابست، 24- 26 نوفمبر 2003م.

124. Sezgin، Ursula. Abu Mikhnaf: Ein Beitrag Zur Historiography Der Umaiyadischen Zeit. Leiden: Brill، 1971.

أورسولا سزکین، "أبو مخنف: محاولة لکتابة التاریخ فی العص-ر الأُموی"،

لیدن: بریل، 1971م.

125. Shaban، M.A. Islamic History: A New Interpretation. Vol. 1: A.D. 600-750 (A.H. 132). Cambridge: Cambridge University Press، 1971.

أم. أی. شعبان، "التاریخ الإسلامی: تفسیر جدید"، المجلد الأوّل: 600-750 میلادی (132هجری)، کامبردج، مطبعة جامعة کامبریدج، 1971م.

126. Sharon، Moshe. "The Development Of The Debate Around The Legitimacy Of Authority In Early Islam." Jerusalem Studies In Arabic And Is­lam 5 (1984): 121-141.

موشیه شارون، "تطوّر النقاش حول شرعیّة السلطة فی عصر الإسلام المبکر"، القدس للدراسات فی اللغة العربیة والإسلام (5)، (1984م)، 121-141.

127. ---"Ahl Al-Bayt — People Of The House." Jerusalem Studies In Arabic And Islam 8 (1986): 169-184.

ص: 396

---"أهل البیت"، القدس للدراسات فی اللغة العربیة والإسلام (8)، (1986)، 169-184.

128. ---. "The Umayyads As Ahl Al-Bayt."Jerusalem Studies In Arabic And Islam 14 (1991): 115-152.

--- "الأُمویّون علی أنّهم أهل البیت"، القدس للدراسات فی اللغة العربیة والإسلام (14)، (1991م)، 115-152.

129. Shoshan، Boaz. Poetics Of Islamic Historiography: Deconstructing Tabari’s History. Leiden: Brill، 2004.

بواز شوشان، "أدب الشعر فی التأریخ الإسلامی، تفکیک تاریخ الطبری"، لیدن، بریل، 2004م.

130. Sienkewicz، Thomas J. Theories Of Myth: An Annotated Bibliography. London: Scarecrow، 1997.

جَیْ. توماس سینکفیتش، "نظریات الأساطیر: بیبلیوغرافیا (قائمة بالمراجع) مع التعلیق"، لندن، سْکَیرکْرو (الفزاعة)، 1997م.

131. Sourdel، Dominique. "Une Profession De Foi De L'historien Al-Tabari." Revue Des Études Islamiques 26 (1968): 177-199.

دومینیک سوردَل، "مهنة الأمانة للمؤرّخ الطبری"، استعراض لدراسات إسلامیّة (26)، (1978م)، 177- 199.

132. Sperber، Dan. Le Structuralisme En Anthropologie. 2nd Ed. Paris: Éditions Du Seuil، 1972.

دان سبیربر، "البنیویّة فی الأنثروبولوجیا (علم الإنسان)"، الطبعة الثانیة، باریس، إصدارات دو سُوِی، 1972م.

ص: 397

133. Stetkevych، Jaroslay. Muhammad And The Golden Bough: Reconstructing Arabian Myth. Bloomington: Indiana University Press، 1996.

یاروسلاف سْتَتکیفیتش، "محمد والفرع الذهبی، إعادة بناء الأُسطورة العربیّة" بلومینغتون، مطبعة جامعة إندیانا، 1996م.

Sundqvist، Olof، And Anna Lydia Svalastog، Eds. Myter Och Mytteorier: Religionshistoriska Diskussioner Och Teoretiska

134. Ansatser. Uppsala: Religionshistoriska Avdelningen. Teologiska Institutionen. Uppsala Universitet، 1997.

أولوف سنکفست وآنا لیدیا سفالاستوغ، "الأساطیر ونظریة الأُسطورة، مناقشات فی التاریخ الدینی والنهج النظری"، أوبسالا، قسم تاریخ الأدیان، معهد اللاهوت، جامعة أوبسالا، 1997م.

135. Tabari، Muhammad B. Jarir Al- (D. 310/923). Ta"Rikh Al-Rusul Wa-‘L-Muluk. Edited By M. J. De Goeje، Et Al. Leiden: Brill، 1881-1883.

محمد بن جریر الطبری، (ت 310ه- /923م)، "تاریخ الرُسُل والملوک"، إعداد: أَم. جَی. دو غوجه وآخرین، لیدن، بریل، 1881-1883م.

136. ---. The History Of Al-Tabari. An Annotated Translation. Edited By Ehsan Yar-Shater. 38 Vols. Albany: State University Of New York Press، 1985-1999.

--- "تاریخ الطبری"، ترجمة تحتوی تعلیقات وهوامش، إعداد: إحسان یارشاطر، (38) مجلّداً. ألبانی، مطبعة جامعة ولایة نیویورک، 1985

ص: 398

- 1999م.

137. ---. The History Of Al-Tabari. Vol. 1: General Introduction And From The Creation To The Flood. Translated And Annotated By F. Rosen­thal. Albany: State University Of New York Press، 1989.

--- "تاریخ الطبری"، المجلد (1)، مقدمة عامّة ومن الخلق إلی الطوفان، ترجمة وتعلیق: أف. روزنتال. ألبانی، مطبعة جامعة ولایة نیویورک، 1989م.

138. ---. The History Of Al-Tabari. Vol. 5: The Sasanids، The Byzantines، The Lakhmids، And Yemen. Translated And Annotated By C.E. Bos­worth. Albany: State University Of New York Press، 1999.

--- "تاریخ الطبری"، المجلد (5)، الساسانیّون، البیزنطیّون، اللخمیّون، والیمن. ترجمة وتعلیق: سی. إی. بوسوورث، ألبانی، مطبعة جامعة ولایة نیویورک، 1999م.

139. ---. The History Of Al-Tabari. Vol. 19: The Caliphate Of Yazid B. Mu’awiyah. Translated And Annotated By I.K.A. Howard. Albany: State University Of New York Press، 1990.

--- "تاریخ الطبری"، المجلد (19)، خلافة یزید بن معاویة. ترجمة وتعلیق: آی. کَی. أَی. هاوارد، ألبانی: مطبعة جامعة ولایة نیویورک، 1990م.

140. ---. The History Of Al-Tabari: Vol. 20: The Collapse Of Sufyanid Au­thority And The Coming Of The Marwanids. Translated And Anno­tated By G.R. Hawting. Albany: State

ص: 399

University Of New York Press، 1989.

--- "تاریخ الطبری"، المجلد (20)، إنهیار السلطة السفیانیّة ومجیء المروانیّین. ترجمة وتعلیق: جِی. آر. هاوتِنغ، ألبانی: مطبعة جامعة ولایة نیویورک، 1989م.

141. ---. Jami’ Al-Bayan An Ta'wil Ãy Al-Qur'an. 15 Vols. Beirut: Dar Al-Fikr، 1995.

--- "جامع البیان عن تأویل آی القرآن"، (15) مجلداً، بیروت: دار الفکر،1995.

142. Tayob، Abdulkader. "An Analytical Survey Of Al-Tabari's Exegesis Of The Cultural Symbolic Construct Of Fitna." In Approaches To The Qur'an، Edited By G.R. Hawting And A.A. Shareef، 157-172. New York: Routledge، 1993.

عبد القادر تایوب، "دراسة استقصائیة تحلیلیة لتفسیر الطبری للبنیة الثقافیة الرمزیة لل- "الفتنة" فی "مداخل إلی القرآن"، إعداد: جِی. آر. هاوتِنغ وأَی. أَی. شریف، 157 - 172، نیویورک، روتلیدج ، 1993م.

143. Thurfjell، David. "Living Shiism: Instances Of Ritualisation Among Islamist Men In Contemporary Iran." Phd Thesis، Uppsala University، 2003.

دیفید ثَرْفْجل، "التشیّع الحی، أمثلة علی ممارسة الشعائر بین الرجال الاسلامیین فی إیران المعاصرة"، أُطروحة دکتوراه، جامعة أوبسالا، 2003م.

144. Toronto، James A. "Astray." In Eq

أَی. جیمس تورونتو، "ضال".

ص: 400

145. Tyan، E. "Bay’a." In E/2.

إی. تایان، "البیعة".

146. Waldman، Marilyn Robinson. Toward A Theory Of Historical Narrative: A Case Study In Perso-Islamicate Historiography. Columbus: Ohio State University Press، 1980.

مارلین روبنسون والدمان، "نحو نظریة الروایة التاریخیة: دراسة الحالة فی التاریخ الفارسی الإسلامیکانی (العلمانی). کولومبوس، مطبعة جامعة ولایة أوهایو، 1980م.

147. Wansbrough، John. Quranic Studies: Sources And Methods Of Scriptural Interpretation. Oxford: Oxford University Press، 1977.

جون وانسبرو، "دراسات قرآنیة، مصادر وطرق تأویل النصوص المقدّسة"، أکسفورد: مطبعة جامعة أکسفورد، 1977م.

148. ---. The Sectarian Milieu: Content And Composition Of Islamic Salvation History. Oxford: Oxford University Press، 1978.

--- "البیئة الطائفیّة: محتوی وترکیب تاریخ الخلاص الإسلامی"، أکسفورد، مطبعة جامعة أکسفورد، 1978م.

149. Veccia Vaglieri، Laura. "Husayn B. 'Ali B. Abi Talib." In EI2.

لورا فیشیا فاغلییری، "الحسین بن علی بن أبی طالب".

150. Wellhausen، Julius. The Religio-Political Factions In Early Islam. Translated By R.C. Ostle And S.M. Walzer. Amsterdam: North-Holland Publishing Company، 1975 (1901).

ص: 401

یولیوس ولهاوزِن، "الطوائف الدینیة السیاسیة فی الإسلام المبکر"، ترجمة: آر. سی. أوسل وأس. أم. والزَر. أمستردام: شرکة شمال هولندا للنشر، 1975 (1901م).

151. Wensinck، A.J. " Iḥram." In Hi.

أَی. جَی. فنسِنک، "الإحرام".

152. Wensinck، A.J.، And J. Jomier. "Iḥram." In EI2.

أَی. جَی. فنسِنک وجَی. جومییه، "الإحرام".

153. Wüstenfeld، Friedrich. Der Tod Des Husein Ben Ali Und Die Rache. Göt­tingen: Der Dietrichen Buchhandlung، 1883.

ووستِنفَلد، فریدریش "مقتل الحسین بن علی والإنتقام"، غوتنجن، مکتبة دایتریشن (فتّاحة الأقفال)،1883م.

ص: 402

ثانیاً: مصادر التحقیق

1. أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة، أسعد وحید القاسم (معاصر)، الناشر الغدیر للطباعة والنش-ر والتوزیع، بیروت - لبنان، 1418ه-/1997م.

2. أصل الشیعة وأُصولها، الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء (ت1373ه-)، تحقیق علاء جعفر، ، الناشر مؤسسة الإمام علی(علیه السّلام)، 1415ه-.

3. الإمامة الإلهیة، تقریر بحث الشیخ محمد السند (معاصر)، الناشر دار الأمیرة، الطبعة الأُولی، 1427ه-/2006م.

4. الأُمة والإمامة، د. علی شریعتی (ت1395ه-)، مراجعة: حسین علی شعیب، الطبعة الثانیة، ضمن سلسلة الآثار الکاملة/21، الناشر: دار الأمیر.

5. أنساب الأشراف، أحمد بن یحیی البلاذری (ت279ه-)، تحقیق الدکتور محمد حمیدالله، الناشر مطابع دار المعارف بمصر، 1959م.

6. تاریخ الطبری، محمد بن جریر الطبری (ت310ه-) ، قُوبلت هذه النسخة علی النسخة المطبوعة بمطبعة (بریل) بمدینة لندن فی سنة (1879م)، الناشر: مؤسسة الأعلمی، بیروت - لبنان.

7. الشیعة فی الإسلام، السیّد محمد حسین الطباطبائی (ت1402ه-)، ترجمة جعفر بهاء الدین، الناشر بیت الکاتب، 1999م.

ص: 403

8. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربیة، إسماعیل بن حماد الجوهری، الطبعة الرابعة، دار العلم للملایین، بیروت، 1987م.

9. الصحیح من مقتل سیّد الشهداء(علیه السّلام) وأصحابه، محمد الریّ شهری (معاصر)، الطبعة: الأُولی ، الناشر دار الحدیث للطباعة والنشر، 1432ه-.

10. العین، الخلیل بن أحمد الفراهیدی، مؤسسة دار الهجرة الطبعة الثانیة، إیران،1409 ه .

11. لسان العرب، ابن منظور الأفریقی المصری (ت711ه-)، الطبعة الرابعة، الناشر دار صادر للطباعة والنشر، بیروت - لبنان، 2005م.

12. المعجم الفلسفی، مراد وهبة (معاصر)، الناشر دار قباء الحدیثة، القاهرة، 2007م.

13. معجم مقاییس اللغة، احمد بن فارس، مکتب الاعلام الاسلامی، قم ، 1404ه- .

14. نشأة التشیّع والشیعة، السیّد محمد باقر الصدر (ت1400ه-)، تحقیق وتعلیق: عبد الجبار شرارة، الناشر: مرکز الغدیر للدراسات الإسلامیّة، 1417/1997م.

15. نشأة التشیّع، السیّد طالب الخرسان (معاصر)، الناشر انتشارات الشریف الرضی، 1412/1991م.

ص: 404

فهرس الموضوعات

مقدّمة المؤسسة. 7

کلمة التحقیق.. 19

الاستشراق.. 23

نبذة حول حرکة الاستشراق.. 25

الاهتمام بالتراث الإسلامی.. 29

نتائج المستشرقین حول التشیع.. 34

نافذةٌ علی البنیویّة. 36

تقدیم وشکر. 41

مدخل: واقعة کربلاء فی هذا العصر.... 47

الأُسطورة وصناعتها وکتابة التاریخ.. 61

الغرض من هذه الدراسة وفحواها. 78

دراسات مسبقة: الأُسطورة فی الإسلام. 80

دراسات حدیثة حول مأساة کربلاء. 88

ص: 405

الفصل الأول

الطبری وروایته

الطبری وسیاق روایته. 99

نشوء علم الکلام والسیاسة فی الإسلام. 99

السمات العامّة للتاریخ الإسلامی فی مراحله الأُولی.. 121

بعض الدراسات المعاصرة ل-(تاریخ الطبری). 124

الفصل الثانی

البِنیة والتحلیل البنیوی

ما هی البنیویّة؟. 135

المفاهیم الأساسیّة فی بنیویّة لیفی شتراوس... 141

الصیغة القانونیّة وتطبیقاتها. 171

آراء منهجیّة أُخری.. 191

الرموز. 199

الفصل الثالث

البِنیة فی روایة الطبری

حول أحداث کربلاء

إطلالة علی مصادر الطبری.. 207

تحلیل النصّ المعتمد (المرجعی). 213

ص: 406

القسم الأوّل.. 214

القسم الثانی.. 220

القسم الثالث... 221

القسم الرابع.. 228

القسم الخامس... 233

القسم السادس... 235

القسم السابع.. 240

القسم الثامن.. 242

القسم التاسع.. 243

القسم العاشر... 245

الوسطّیة فی النصِّ المعتمد. 265

ما وراء "النصّ المعتمد" المواقف تجاه الحسین.. 268

[الخصیصة الأُولی]: ما وراء "النصّ المعتمد": صورة الحسین ودوره. 282

[الخصیصة الثانیة]: ماوراء النص المعتمد الماء والدم. 292

الحسین وسیطاً. 302

بعد کربلاء. 313

الفصل الرابع

استنتاجات وتوقّعات مستقبلیّة

الطبری وأحداث کربلاء. 321

تطبیق البنیویّة علی دراسة التاریخ الإسلامی.. 325

ماذا بعد؟. 328

ص: 407

الملاحق

الملحق (1). 333

خلاصة لأحداث کربلاء عند الطبری.. 333

الملحق (2) النصّ المعتمد. 353

القسم الأوّل.. 353

القسم الثانی.. 355

القسم الثالث... 355

القسم الرابع.. 356

القسم الخامس... 356

القسم السادس... 357

القسم السابع.. 359

القسم الثامن.. 359

القسم التاسع.. 360

القسم العاشر... 361

الملحق (3) موقف یزید من مقتل الحسین.. 362

الملحق (4) نبذة عن تورستن هایلین.. 367

من نتاجه العلمی.. 367

المصادر. 369

أولاً: مصادر الکتاب.. 369

ثانیاً: مصادر التحقیق. 403

فهرس الموضوعات 405

ص: 408

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.