النثر الفنی فی ثورة التوابین وامارة المختار الثقفی

اشارة

عنوان الکتاب : النثر الفنِّی فی ثورة التوّابین وإمارة المختار الثقفی

المؤلف: د. هاشم جبّار الرزاق

الإشراف العلمی: اللجنة فی مؤسسة وارث الأنبیاء

بیانات النشر : النجف، العراق: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة، مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة، 2016/1437 للهجرة.

الإخراج الفنی: حسین المالکی

الطبعة : الأولی

سنة الطبع : 1437ه 2016م

عدد النسخ: 1000

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

الإهداء..

إِلی مَن اصطفاهُ اللهُ تعالی، وجعلهُ حبیباً لهُ، رسولنا الأکرم محمّد بن عبد الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )...

وإلی وصیِّه المرتضی(علیه السّلام) وعترته الطَّاهرة أُقدِّم هذا المجهود.

ص: 7

ص: 8

(شکر وعرفان)

أتقدّم بالشّکر والعرفان لکلّ من مدَّ لی ید العون والمساعدة، وأفاض علیّ بتوجیه أو نصیحة، وأخصّ بالذکر:

* أساتذتی الأجلاء فی قسم اللغة العربیة - کلیة الآداب لتوجیهاتهم المستمرة.

* أصدقائی: الدکتور عبد الحسن عباس الجمل، والدکتور محمد هادی البعاج، والأستاذ التربوی حسام جلیل الکوفی.

* السَّید الجلیل الأُستاذ حامد المؤمن.

* زملائی فی السنة التحضیریة لطالما شددتم أزری. * العاملین فی مکتبات النجف الأشرف: مکتبة الروضة الحیدریّة المقدّسة، ومکتبة الإمام الحکیم العامَّة، ومکتبة کلیة الآداب، والمکتبة الأدبیَّة المختصَّة. وأصحاب المکتبات الخاصَّة ممَّن أعانَنِی، جزاهم الله جمیعاً عنی خیر الجزاء.

ص: 9

ص: 10

مقدمة المؤسسة

إنّ نشر المعرفة، وبیان الحقیقة، وإثبات المعلومة الصحیحة، غایاتٌ سامیة وأهدافٌ متعالیة، وهی من أهمّ وظائف النُّخب والشخصیات العلمیة، التی أخذت علی عاتقها تنفیذ هذه الوظیفة المقدّسة.

من هنا؛ قامت الأمانة العامة للعتبة الحسینیة المقدسة بإنشاء المؤسّسات والمراکز العلمیة والتحقیقیة؛ لإثراء الواقع بالمعلومة النقیة؛ لتنشئة مجتمعٍ واعٍ متحضّر، یسیر وفق خطوات وضوابط ومرتکزات واضحة ومطمئنة.

وممّا لا شکّ فیه أنّ القضیة الحسینیة - والنهضة المبارکة القدسیة - تتصدّر أولویات البحث العلمی، وضرورة التنقیب والتتبّع فی الجزئیات المتنوّعة والمتعدّدة، والتی تحتاج إلی الدراسة بشکلٍ تخصّص-ی علمی، ووفق أسالیب متنوّعة ودقیقة، ولأجل هذه الأهداف والغایات تأسّست مؤسّسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصّصیة فی النهضة الحسینیة، وهی مؤسّسة علمیّة متخصّصة فی دراسة النهضة الحسینیة من جمیع أبعادها: التاریخیة، والفقهیة، والعقائدیة، والسیاسیة، والاجتماعیة، والتربویة، والتبلیغیّة، وغیرها من الجوانب العدیدة المرتبطة بهذه النهضة العظیمة، وکذلک تتکفّل بدراسة سائر ما یرتبط بالإمام الحسین(علیه السّلام).

وانطلاقاً من الإحساس بالمسؤولیة العظیمة الملقاة علی عاتق هذه المؤسّسة المبارکة؛ کونها مختصّة بأحد أهمّ القضایا الدینیة، بل والإنسانیة، فقد قامت بالعمل علی مجموعة من المشاریع العلمیة التخصّصیة، التی من شأنها أن تُعطی نقلة نوعیة للتراث،

ص: 11

والفکر، والثقافة الحسینیة، ومن تلک المشاریع:

1- قسم التألیف والتحقیق: والعمل فیه جارٍ علی مستویین: أ- التألیف: والعمل فیه قائم علی تألیف کتبٍ حول الموضوعات الحسینیة المهمّة، التی لم یتمّ تناولها بالبحث والتنقیب، أو التی لم تُعطَ حقّها من ذلک. کما ویتمّ استقبال الکتب الحسینیة المؤلَّفة خارج المؤسّسة، ومتابعتها علمیّاً وفنّیاً من قبل اللجنة العلمیة، وبعد إجراء التعدیلات والإصلاحات اللازمة یتمّ طباعتها ونشرها.

ب - التحقیق: والعمل فیه جارٍ علی جمع وتحقیق التراث المکتوب عن الإمام الحسین(علیه السّلام) ونهضته المبارکة، سواء المقاتل منها، أو التاریخ، أو السیرة، أو غیرها، وسواء التی کانت بکتابٍ مستقل أو ضمن کتاب، تحت عنوان: (الموسوعة الحسینیّة التحقیقیّة). وکذا العمل جارٍ فی هذا القسم علی متابعة المخطوطات الحسینیة التی لم تُطبع إلی الآن؛ لجمعها وتحقیقها، ثمّ طباعتها ونشرها. کما ویتم استقبال الکتب التی تم تحقیقها خارج المؤسّسة، لغرض طباعتها ونش-رها، وذلک بعد مراجعتها وتقییمها وإدخال التعدیلات الّلازمة علیها وتأیید صلاحیتها للنش-ر من قبل اللجنة العلمیة فی المؤسّسة.

2- مجلّة الإصلاح الحسینی: وهی مجلّة فصلیة متخصّصة فی النهضة الحسینیة، تهتمّ بنش-ر معالم وآفاق الفکر الحسینی، وتسلیط الضوء علی تاریخ النهضة الحسینیة وتراثها، وکذلک إبراز الجوانب الإنسانیة، والاجتماعیة، والفقهیة، والأدبیة، فی تلک النهضة المبارکة.

3- قسم ردّ الشبهات عن النهضة الحسینیة: ویتمّ فیه جمع الشبهات المثارة حول الإمام الحسین(علیه السّلام) ونهضته المبارکة، ثمّ فرزها وتبویبها، ثمّ الرد علیها بشکل علمی تحقیقی.

ص: 12

4- الموسوعة العلمیة من کلمات الإمام الحسین(علیه السّلام): وهی موسوعة تجمع کلمات الإمام الحسین(علیه السّلام) فی مختلف العلوم وفروع المعرفة، ثمّ تبویبها حسب التخصّصات العلمیة، ووضعها بین یدی ذوی الاختصاص؛ لیستخرجوا نظریات علمیّة ممازجة بین کلمات الإمام(علیه السّلام) والواقع العلمی.

5- قسم دائرة معارف الإمام الحسین(علیه السّلام): وهی موسوعة تشتمل علی کلّ ما یرتبط بالنهضة الحسینیة من أحداث، ووقائع، ومفاهیم، ورؤی، وأسماء أعلام وأماکن، وکتب، وغیر ذلک من الأُمور، مرتّبة حسب حروف الألف باء، کما هو معمول به فی دوائر المعارف والموسوعات، وعلی شکل مقالات علمیّة رصینة، تُراعی فیها کلّ شروط المقالة العلمیّة، ومکتوبةٌ بلغةٍ عص-ریة وأُسلوبٍ سلس.

6- قسم الرسائل الجامعیة: والعمل فیه جارٍ علی إحصاء الرسائل الجامعیة التی کُتبتْ حول النهضة الحسینیة، ومتابعتها من قبل لجنة علمیة متخصّصة؛ لرفع النواقص العلمیة، وتهیئتها للطباعة والنشر، کما ویتمّ إعداد موضوعات حسینیّة تصلح لکتابة رسائل وأطاریح جامعیة تکون بمتناول طلّاب الدراسات العلیا.

7- قسم الترجمة: والعمل فیه جارٍ علی ترجمة التراث الحسینی باللغات الأُخری إلی اللغة العربیّة.

8 - قسم الرصد: ویتمّ فیه رصد جمیع القضایا الحسینیّة المطروحة فی الفضائیات، والمواقع الإلکترونیة، والکتب، والمجلات والنشریات، وغیرها؛ ممّا یعطی رؤیة واضحة حول أهمّ الأُمور المرتبطة بالقضیة الحسینیة بمختلف أبعادها، وهذا بدوره یکون مؤثّراً جدّاً فی رسم السیاسات العامّة للمؤسّسة، ورفد بقیّة الأقسام فیها، وکذا بقیة المؤسّسات والمراکز العلمیة بمختلف المعلومات.

9- قسم الندوات: ویتمّ من خلاله إقامة ندوات علمیّة تخصّصیة فی النهضة

ص: 13

الحسینیة، یحض-رها الباحثون، والمحقّقون، وذوو الاختصاص.

10 - قسم المکتبة الحسینیة التخصّصیة: حیث قامت المؤسّسة بإنشاء مکتبة حسینیّة تخصّصیة تجمع التراث الحسینی المطبوع.

وهناک مشاریع أُخری سیتمّ العمل علیها قریباً إن شاء الله تعالی.

وتأسیساً علی ما سبق توضیحه حرصت المؤسّسة علی فتح أبوابها لاستقبال الکتب الحسینیة التخصّصیّة، ومتابعتها متابعة علمیّة وفنّیة من قبل اللجنة العلمیة المشرفة فی المؤسّسة، وفی هذا السیاق قدَّم فضیلة الدکتور هاشم جبار الزرفی دراسة علمیة مختصّة، تحت عنوان (النَّثر الفنِّی فی ثورة التَّوَّابین وإمارة المختار الثقفی، دراسة لغویَّة أُسلوبیَّة)، وقد بذل المؤلّف جهداً مشکوراً فی تتبّعه وتنظیمه لکلمات وخطب تلک الحقبة الزمنیة المضطربة والحساسة، ومن ثَمّ دراستها من جهة أدبیّة لغویّة أسلوبیّة؛ فکانت حصیلة ذلک الجهد هذا الکتاب القیّم الماثل بین یدیک عزیزی القارئ.

وفی الختام نتمنّی للمؤلِّف دوام السداد والتوفیق لخدمة القضیة الحسینیة، ونسأل الله تعالی أن یبارک لنا فی أعمالنا، إنّه سمیعٌ مجیبٌ.

اللجنة العلمیة فی مؤسّسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة

ص: 14

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ

الحمدُ لله ربِّ العالمین، والصَّلاةُ والسلام علی أشرف الأنبیاء والمرسلین محمّد بن عبد الله المصطفی الأمین، وعلی آله الطیبین الطاهرین وصحبه المنتجبین، وبعدُ:

فإنّ مجال دراسة العربیة واسعٌ ممتدٌّ للبحث والتأمّل؛ وذلک لخصُوبتها وحیویَّتها، وقد اخترت الدراسة اللغویّة والأُسلوبیّة مُنطلقاً لی منها فی هذه الرسالة؛ لاستیعاب التحلیل بمستویاتها کافّة: صوتاً، وبنیةً، وترکیباً، ودلالةً، استیعاباً موضوعیاً، فکانت الدراسة مُنْصَبّة علی النثر الفنّی فی ثورة التوّابین وإمارة المختار الثقفی؛ لأنّ النثر فی هاتین الحِقبتین لم یُدرس فی رسالة أکادیمیة أو أُطروحة علمیة علی هذا النحو، فضلاً عن أنّ هذا النثر کان یحمل فی طیاته نتاجاً خصباً من خُطب ورسائل، وعهود ووصایا کانت قد قیلت فی مرحلة تاریخیة، رافقتها ظروف السیاسة، التی ربَّما لا تسمح بصیاغة العمل جمالیاً، وهو ممَّا تعنی به الدراسة الأُسلوبیة، لکن البحث وجد غیر ذلک، إذ تمیّزت معظم هذه النصوص النثریّة بصیاغة وإجادة، من حیث استعمال الأصوات والصیغ والتراکیب استعمالاً فنیاً مؤثّراً.

وقد جاء البحث مقسَّماً علی أربعة فصول هی هیاکل البحث مسبوقة بتمهید عنوانه: (النثر بین الموضوع والأداء)، ضمّ عرضین کان الأوَّل: تعریفاً للنثر الفنی

ص: 15

ووظیفته، وجاء العرض الثانی: تنظیریاً للدراسة الأُسلوبیّة، إذ تناولت فیه تعریفات موجزة للأُسلوب والأُسلوبیّة من القدماء والمُحدَثین، ثمَّ عرَّجت علی مسوّغات دراسة النثر الفنّی أُسلوبیّاً، مُبَیّناً امتلاکه السمة الفنیة التی تجعله ینضوی فی فضاءات هذه الدراسة.

أمّا الفصل الأوّل، فقد کان بعنوان: (أنماط النثر الفنی ومواردها فی ثورة التوّابین وإمارة المختار)، وضمّ مبحثین، تناول الأوّل: أنماط النثر الفنّی من العصر الجاهلی مروراً بعصر صدر الإسلام إلی ثورة التوّابین وإمارة المختار، وکان هذا المبحث قد تناول تطوّر الخطابة والرسائل والعهود والوصایا بإیجاز فی تلکم العصور؛ لیُسلّط الضوء علی التّطور الذی وصل إلیه النثر، والمستوی الفنّی الذی کان علیه فی حُقبة التوّابین وإمارة المختار. أمّا المبحث الثانی: فقد تناول موارد ذلک النثر الفنی مبیناً أنّه کان ینهل من ثلاثة موارد هی: القرآن الکریم، ونثر الرسول محمّد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ونثر الإمام علی(علیه السّلام).

أمّا الفصل الثانی، فقد کشف عن النثر من حیث قیمته وإیحاءاته، فکان بعنوان (القیم الإیقاعیة للمستوی الصوتی)، فجاء مقسّماً علی مبحثین: تناول الأوّل: أهمّ الوسائل التی توفّر تلکم القیم الإیقاعیة، کالجناس بأنواعه بحسب ورودها فی نثر الحِقبتین، وهی: الناقص، والمضارع، واللّاحق، والاشتقاق، والمعکوس، والمحرّف، والمصحّف، وکذلک السّجع بنوعیة المتوازی والمطرّف، وتداخل کلُّ منها فی النص الواحد، فضلاً عن تداخل کلّ من الجناس والسجع لیؤلف الإیقاع الموسیقی، وصولاً إلی الموازنة، إذ کان المسوّغ عنده لدراسة الجانب الإیقاعی للنص؛ هو لکونه أحد أرکان الأُسلوبیّة الصوتیّة، أمّا الرکن الثانی من أرکان هذه الأُسلوبیّة هو الإیحاء الدلالی للصوت (المحاکاة الصوتیَّة)، وهو ما ضمّه المبحث الثانی من هذا الفصل، الذی کان

ص: 16

بعنوان: التناسب المعنوی للإیحاء الصوتی، وهو ما کشفتُ فیه عن خاصیّة بعض الأصوات الأُسلوبیّة بإیحائها الدلالی بالحدث ومحاکاة ذلک من خلال جرسها ونغمها الموحی، سواء علی مستوی الصوت فی اللفظة المفردة، أم علی مستوی الأصوات المتکررة، وکانت الدلالة الإیحائیة للصوت فی کلّ ذلک منظوراً فیها إلی السیاق العام الذی یضمّه.

وکان الفصل الثالث وثیق الصلة بذلک النثر وآلیاته، فجاء بعنوان: (المستوی اللفظی)، درست فیه التوظیف الأُسلوبی والفنی للّفظة من خلال اختیارها، وقد قمت بتقسیمه علی ثلاثة مباحث: تناول الأوّل: الاختیار والفصاحة، درست فیه القیم الجمالیة الممیّزة للألفاظ مقتصراً علی تباعد مخارج الأصوات، وطول اللفظة وقص-رها، وخِفّة أصواتها وأُلفة استعمالها. وتناول الثانی: الاستعمال والقصد لمِا یؤدّیه من آثار أُسلوبیّة ومعنویّة فی النص النثری عندها، تناولت استعمال الاسم کاستعمال اسم الفاعل، واسم المفعول، والمصدر، والصفة المشبهة، وصیغ المبالغة، وکذلک استعمال الفعل کاستعمال الفعل الماضی بنوعیه المجرَّد والمزید، کذلک استعمال الفعل المبنی للمجهول، وکانت تلک الدراسة مقتص-رة فقط علی الاستعمال الدلالی لتلک الصیغ اللفظیّة التی جاءت متکرّرة فی النصوص النثریّة؛ ذلک أنّ استعمال صیغة اللفظة مع تکرارها یُعدُّ مهیمناً أُسلوبیّاً ینبغی التوقف عنده ودراسته. وتناول المبحث الثالث: العدول سواء کان علی صعید اللفظ المفرد کالاستعارة والمجاز المُرسل، أم علی صعید الألفاظ المرکّبة کالکنایة، والمجاز العقلی.

أمَّا الفصل الرابع، فقد جاء متناولاً دلالاته وتراکیبه، وکان بعنوان: (دلالات المستوی الترکیبی وخصائصه)، تناولت فیه مبحثین کان الأوَّل: معنیّاً بدراسة الأنماط البنائیّة للأسالیب اللغویّة، فقسّمها علی أسالیب خبریّة ضمَّت النفی والقص-ر، وعلی أسالیب إنشائیّة ضمَّت الأمر والنهی والاستفهام والنداء، وما تؤدّیه تلکم الأسالیب

ص: 17

من دلالات حقیقیّة، وأُخری مجازیّة لها صلة کبیرة بالطاقة الشعوریّة الخاصّة بالمتکلّم، ثمَّ کان القسم الثالث لأسالیب جمعت بین الخبر والإنشاء، أَلا وهی: أُسلوب الش-رط والقَسَم، ثمّ یأتی المبحث الثانی: تناولت فیه الخصائص المعنویة للتراکیب، إذ ضمّ مباحث الفصل والوصل، والتقدیم والتأخیر، والتعریف والتنکیر، والحذف والذکر.

وکان المنهج المتّبع فی هذه الفصول هو منهج علم الأُسلوب أو الأُسلوبیة بوصفها علماً لدراسة الأُسلوب، وهی علم وصفی حدیث یستعین بتحلیله للنص الأدبی بتقنیات منهجیة مستمدة من علوم ومناهج مختلفة کعلم اللغة والبلاغة، والدلالة والإحصاء وغیرها.

ثمَّ خلُص البحث إلی خاتمة بیّنت أهمّ النتائج التی توصّلت إلیها.

وکانت قائمة المصادر والمراجع التی نهل منها البحث حاضنة لمظانّ کثیرة ومتنوّعة، منها الأدبیّة والأُسلوبیّة والبلاغیّة واللغویّة، وهی التی تطلّبها موضوع البحث.

وأخیراً، فلا أنسی جهود أُستاذی الفاضل الأُستاذ الدکتور مشکور کاظم العوَّادی الذی کان له فضل اختیار الموضوع والإشراف علیه، صابراً وراعیاً بالبحث والباحث طوال مدَّة البحث، علی ما رافقها من صعوبات استطاع أن یقوّمها من خلال عنایته الکبیرة وإشرافه الدقیق، وقد لمستُ فیه من الرعایة والنصح والتوجیه ما لا یسعنی ذکره وشکره، وفقه الله لخدمة لغة القرآن الکریم وطلبة العلم.

وحَسْب المرء أن یسعی، فإن وفّقت فلی فضل السعی، وإن أخطأت فهو من نفس-ی، فلله الکمال وحده، وله الحمد فی الدنیا والآخرة.

والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته

الباحث

ص: 18

التمهید النثر بین الموضوع والأداء

اشارة

ص: 19

ص: 20

أوَّلاً: مفهوم النثر الفنی

النثر فی اللغة:

مصدر للفعل نثر، بمعنی: فرّق، ویأتی النّثار بمعنی النثر، وهو الفتات المتناثرة من المائدة. جاء فی القاموس المحیط: «نثر الشیء نثرهُ وینثره نثراً ونثاراً: رماه متفرّقاً. کنثره فانتثرَ وتنثّر وتناثر. والنّثارة بالضّم والنثر بالتحریک: ما تناثر منه، أو الأُولی تخصُّ ما یُنتثر من المائدة فیُؤکل للثواب»(1)، ویُورِد لنا صاحب أساس البلاغة لفظة (نثر) لدلالة معنویة أُخری تدلُّ علی کثرة الکلام قائلاً: «رجل نثر: مهذار ومذیاع للإسرار»(2)، ثمّ دخلت هذه اللفظة البیئة الثقافیة الأدبیّة بهذا المعنی، أی بمعنی الکثیر والمتفرّق من الکلام، ثمّ بعدها أخذت تقتص-ر علی الکلام الأدبی الذی یرتفع علی الکلام العادی فی التعبیر والمعنی(3).

وقد أخذ النُقّاد والأدباء یستعملونها فی هذا المفهوم، فعرّفه الدکتور شوقی ضیف بأنّه: «الکلام الذی لم ینظَّم فی أوزان وقوافٍ، وهو علی ضربین: أمّا الضرب الأوّل: فهو النثر العادی الذی یقال فی لغة التخاطب، ولیست لهذا الضرب قیمة أدبیّة إلّا ما یجری فیه أحیاناً من أمثال وحِکم. وأمّا الض-رب الثانی: فهو النثر الذی یرتفع فیه أصحابه إلی لغة

ص: 21


1- الفیروز آبادی، محمد بن یعقوب، القاموس المحیط: ج2، ص1، مادة (نثر).
2- الزمخشری، محمود بن عمر، أساس البلاغة: ج2، ص248، مادة (نثر).
3- اُنظر: عباس، عرفة حلمی، نقد النثر: النظریة والتطبیق: قراءة فی نتاج ابن الأثیر النقدی والإبداعی: ص212.

فیها فن ومهارة وبلاغة، وهذا الض-رب هو الذی یُعْنی النقاد فی اللغات المختلفة ببحثه ودرسه وبیان ما مرّ به من أحداث وأطوار، وما یمتاز به فی کلّ طور من صفات وخصائص، وهو یتفرّع إلی جدولین کبیرین، هما الخطابة والکتابة الفنیّة، ویُسمّیهما بعض الباحثین باسم النثر الفنی»(1).

ولهذا النثر الفنی وظیفتان مهمّتان هما: اللّذة، والإفادة، وقد جمع بعض النقّاد بینهما، وقد ذهب بعضهم إلی التفریق بینهما، وذهب فریق ثالث إلی جانب الإفادة وحدها(2).

وإنَّ جمع اللّذة والإفادة یُعدُّ الأقرب إلی طبیعة الأدب «ونظرةً إلی وظیفة أشکال النثر الفنی التی عرضها التراث الأدبی، من الخطابة والرسالة والمقامة، نجدها دائرة فی إطار نفع المجتمع وخدمته، بإسهامها فی التعبیر عن جوانبه الاجتماعیّة والدینیّة، والسیاسیّة والثقافیّة، وإلی جانب هذه الوظیفة، فقد وفت الکتابة بأشکالها المتعدَّدة بالحاجات الجمالیة التی تحقَّق المتعة»(3).

ومن هذه الإبانة الدلالیة الموجزة لمفهوم النثر ووظیفته، سوف یمضی البحث لتتبع أنماط النثر الفنی خُطباً ورسائل وعهوداً ووصایا بأطوارها ومراحلها منذ العصر الجاهلی إلی ثورة التوّابین وإمارة المختار الثقفی؛ لتسلیط الضوء علی مدی الرقی الفنی الذی وصل إلیه النثر فی هاتین الحِقبتین بما استطاع إلی ذلک سبیلاً.

ص: 22


1- ضیف، شوقی، الفن ومذاهبه فی النثر العربی: ص15.
2- اُنظر: عبد الغنی، عز الدین إسماعیل، الأدب وفنونه: دراسة ونقد: ص7 وما بعدها. عبد المطلب، محمد، النقد الأدبی: ص46 وما بعدها.
3- عباس، عرفة حلمی، نقد النثر: النظریة والتطبیق: قراءة فی نتاج ابن الأثیر النقدی والإبداعی: ص217.

إذ کان النثر الفنی فی هاتین الحِقبتین ذا قصدیّة عالیة من ناحیة الأُسلوب والأفکار، إذ وظّفه الخُطباء والمترسّلون من أجل دعوتهم، فکان الخطیب أو المترسّل یستعین بکلّ قدراته اللغویّة والأُسلوبیّة وملکاته البیانیّة والبلاغیّة، من أجل التّأثیر فی السامعین، والأخذ بجوامع قلوبهم، فکان نتاجهم الأدبی یرتقی بحقٍّ إلی النَّمط العالی فی الأداء، وهو ضرب یستحقّ أَنْ یُدرس دراسةً أُسلوبیّةً من خلال تحلیل وظائف أصواته وأبنیته وتراکیبه؛ لأنَّ وظیفة الأُسلوبیّة دراسة الاختیارات اللغویّة الخاصّة التی یستعملها المُنشئ فی النص، والتی یتمیّز بها عن غیره من المنشئین(1).

لذا کان من المهمّ أن یُقدّم البحث مدخلاً تنظیریّاً لزاویة تناوله فی دراسته لنثر هاتین الحِقبتین للوقوف علی مهیمناتها الأُسلوبیّة عن کثب.

ثانیاً: مدخل تنظیری للأُسلوبیَّة

الأُسلوبیة لفظة غربیَّة، ظهرت خلال القرن التاسع عشر، لکنَّها لم تصل إلی معنی محدّد إلّا فی السنوات الأُولی من القرن العش-رین، حیث استقر مفهومها: بأنَّها طریقة لدراسة العمل الأدبی من حیث أُسلوبه؛ أی: النموذج الخاص الذی تُصاغ فیه اللغة وتستعمل(2)، وقد دخلت هذه اللفظة فی المیدان النقدی العربی الحدیث، من ترجمة کلمة(stylistics)، وهی تعنی الأُسلوبیة تارةً، وعلم الأُسلوب تارةً أُخری(3).

ویُعدُّ الأُسلوب مادةَ الأُسلوبیة الخام (موضوعها)(4)، وعلیه؛ یجب معرفة ماهیّة الأُسلوب - بوصفه مادة الأُسلوبیة الخام - من معرفة جذره اللّغوی، فقد جاء فی معجم

ص: 23


1- اُنظر: مانویل، فیتور، تر: الدکتور سلیمان العطار، الأُسلوبیة: علم وتاریخ: ص133.
2- اُنظر: المصدر السابق. درویش، أحمد، الأُسلوب والأُسلوبیة: مدخل فی المصطلح وحقول البحث ومناهجه: ص60.
3- اُنظر: المسدی، عبد السلام، الأُسلوب والأُسلوبیة: نحو بدیل السنی فی نقد الأدب: ص32، وص34. عیاد، محمد، الأُسلوبیة الحدیثة: محاولة تعریف: ص123.
4- اُنظر: شریم، جوزیف میشال، دلیل الدراسات الأُسلوبیة: ص37 - 38.

لسان العرب لابن منظور (ت711ه-): «ویقال للسطر مِن النخیل: أُسلوب. وکلّ طریق ممّتد، فهو أُسلوب... والأُسلوب الطریق، والوجه، والمذهب، یقال: أنتم فی أُسلوب سوء، ویُجمع أسالیب... والأُسلوب، بالضَّم: الفن، یقال: أخذ فلانٌ فی أسالیب من القول، أی: أَفانین منه»(1).

وإذا ما جئنا إلی تعریفات الأُسلوب فی الاصطلاح؛ نجد أنّ القدماء من علماء العربیة حاولوا أنْ یحدّدوا مفهوماً للأُسلوب، فعرّفه عبد القاهر الجرجانی (ت471ه-) بأنّه: «الضرب من النظم والطریقة فیه»(2)، إذ هو مستمدٌّ من نظریته؛ لأنّه طریقة من نظم الکلام الذی «یُستعمل فی الدلالة علی المعنی أو احتواء المضمون، وعندها یتحقّق القصد»(3).

أمّا من العرب المُحدَثین، فقد عرّفه أحمد الشّایب بأنّه: «طریقة الکتابة أو طریقة الإنشاء، أو طریقة اختیار الألفاظ وتألیفها للتَّعبیر بها عن المعانی، قصد الإیضاح والتأثیر، أو الض-رب من النّظم والطریقة فیه»(4)، وذهب سعد مصلوح إلی أنّ الأُسلوب: «یمکن تعریفه بأنَّه اختیار Choice)) أو انتقاء Selection)) یقوم به المنشئ لسمات لغویة معیّنة، بغرض التعبیر عن موقف معیَّن. ویدلُّ هذا الاختیار أو الانتقاء علی إیثار المنشئ وتفضیله لهذه السمات علی سمات أُخری بدیلة. ومجموع الاختیارات الخاصة بمنشئ معیَّن هی التی تشکل أُسلوبه الذی یمتاز به عن غیره من المنشئین»(5).

ص: 24


1- ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج6، ص319، مادة (سلب). اُنظر: الزبیدی، مرتضی، تاج العروس من جواهر القاموس: ج2، ص82، مادة (سلب).
2- الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص469.
3- العوادی، مشکور کاظم، المعنی الحرکی فی بدائع الإمام علی(علیه السّلام): ص9.
4- الشایب، أحمد، الأُسلوب: دراسة بلاغیة تحلیلیة لأُصول الأسالیب الأدبیة: ص44.
5- مصلوح، سعد، الأُسلوب: دراسة لغویة إحصائیة: ص37- 38.

وإذا ما جئنا إلی تعریف الأُسلوب فی الدراسات الغربیة، نجد أنّ هناک عدّة تعریفات متنوّعة، بسبب تعدّد المدارس، والاتجاهات، ووجهات النظر، فالأُسلوب عند بییر غیرو (Piere Guiraud): «طریقة للتعبیر عن الفکر بوساطة اللّغة»(1)، أو« هو وجه للملفوظ، ینتج عن اختیار أدوات التعبیر، وتحدّده طبیعة المتکلِّم أو الکاتب ومقاصده»(2).

أمَّا لیو سبیتزر (Leo Spitzer)، فقد انطلق من «قولة بیفون ((Buffon(1788) الشهیرة (الأُسلوب هو الرَّجل) لیحدّد من خلال الأُسلوب نفسیة الکاتب ومیوله ونزعاته، والترکیبة النفسیة التی جعلت أدواته اللغویة تتشکَّل بهذه الطریقة أو تلک» (3).

وکان فیلی ساندیرس (Willy Sanders) قد ساق مجموعة کبیرة من التعریفات حول الأُسلوب وکلّها مختلفة، بلغت ثمانی وعشرین تعریفا(4)، وواضح أنّ هذا التعدّد فی تعریف الأُسلوب، یُظهر صعوبة الإمساک بحدود معیّنة لماهیته، وعندها فقد تعدَّدت مفهوماته أیضاً عند الکُتّاب، بل عند الکاتب الواحد تبعاً لزاویة النظر والرؤیة التی یقف عندها(5).

وبعد هذا الموجز لتعریفات الأُسلوب، نلحظ أنَّ الأُسلوب هو موضوع الأُسلوبیة، أیْ مادتها الخام، یقول جوزیف میشال: «الأُسلوبیة هی تحلیلٌ لغویٌّ موضوعه الأُسلوب وشرطه الموضوعیَّة» (6)؛ لذا کانت «بوصفها منهجاً نقدیّاً من أنجع المناهج القادرة علی دراسة أُسلوب المتکلّم أو الباحث عن طریق دراسة العناصر التی یلجأ إلیها» (7).

ص: 25


1- غیرو، بییر، الأُسلوب والأُسلوبیة: ص6.
2- المصدر السابق: ص88.
3- حوله، عبد الله، الأُسلوبیة الذاتیة أو النشوئیة: ص85.
4- اُنظر: ساندیرس، فیلی، نحو نظریة أُسلوبیة لسانیة: ص 28 - 47.
5- اُنظر: أبو جناح، صاحب، دراسات فی نظریة النحو العربی وتطبیقاتها: ص275.
6- شریم، جوزیف میشال، دلیل الدراسات الأُسلوبیة: ص37- 38.
7- الجمیلی، عدنان جاسم، الآیات القرآنیة المتعلّقة بالرسول محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): دراسة بلاغیة أُسلوبیة: ص16.

ولمّا کان مفهوم الأُسلوب هو مفهومٌ واسعٌ کما تقدّم، فکذلک تکون الأُسلوبیة هی الأُخری مفهوماً واسعاً، وبما أنَّ الواقع الأُسلوبی فی جمیع مستویاته هو واقع لغوی، فإنّنا نجد مثل هذه التعریفات تحاول ربط الأُسلوبیة بالمادة اللغویة؛ لذا رأی شارل بالی (Gharles Bally) - وهو من أبرز مؤسّس-ی الأُسلوبیة - أنَّ الأُسلوبیة تدرس «وقائع التَّعبیر اللغوی من ناحیة مضامینها الوجدانیَّة، أی إنَّها تدرس تعبیر الوقائع للحساسیّة المعبَّر عنها لغویّاً» (1)، أی إن أُسلوبیة بالی هی: «نظامٌ لغویُّ بشکل صارم، ومرامیها مقصاة عن المشاکل الناجمة عن الوظیفة الجمالیة للغة... أی نظام مکرَّس لدراسة عناصر التنوعات الطبیعیَّة ذات القیمة التعبیریَّة العاطفیَّة»(2).

وعرّفها بییر غیرو - وهو أحد اللسانیین المُحدَثین - أنّها: «دراسة للتعبیر اللسانی» (3) أو هی: «دراسة للمتغیرات اللسانیة إزاء المعیار القاعدی»(4).

وأطلقها رومان یاکوبسن (Roman Jakobson) علی الدرس اللّسانی الذی یعنی بالجانب اللغوی فی النصوص الجمیلة(5)، وهو یری أنّ الأُسلوبیة «فنٌ من أفنان شجرة اللّسانیات»(6).

وهناک وجهة نظرٍ أُخری تری أنَّ الأُسلوبیة تتجسد فی دائرة البلاغة، کقول غیرو: «إنَّ الأُسلوبیة بلاغة حدیثة ذات شکل مضاعف: إنَّها علم التعبیر، وهی نقدٌ للأسالیب الفردیة» (7).

ص: 26


1- غیرو، بییر، الأُسلوب والأُسلوبیة: ص34. اُنظر: حوله، عبد الله، الأُسلوبیة الذاتیة أو النشوئیة: ص83.
2- مانویل، فیتور، الأُسلوبیة: علم وتاریخ: ص 133- 134
3- غیرو، بییر، الأُسلوب والأُسلوبیة: ص6.
4- المصدر السابق: ص8.
5- اُنظر: الضالع، محمد صالح، الأُسلوبیة الصوتیة: ص12.
6- المسدی، عبد السلام، الأُسلوبیة والأُسلوب: نحو بدیل السنی فی نقد الأدب: ص40.
7- غیرو، بییر، الأُسلوب والأُسلوبیة: ص5.

وقد أورد الدکتور عبد السلام المسدّی تعریفاً للأُسلوبیة ضمن هذا الإطار بقوله إنَّ: «غایة الحدث الأدبی تکمن فی تجاوز الإبلاغ إلی الإثارة، وتأتی الأُسلوبیة فی هذا المقام لتتحدَّث بدراسة الخصائص اللغویَّة التی بها یتحول الخطاب عن سیاقه الإخباری إلی وظیفته التأثیریة الجمالیة»(1).

وبعد هذه الإبانة الدلالیة للأُسلوبیة عن طریق علاقتها بالمادة اللغویة (التی هی فرع من اللسانیات) والبلاغة، وکلاهما مرتبط بالآخر، یتّضح أن الأُسلوبیة هی منهج وممارسة تطمح للموضوعیة وتتحری کشف الأبعاد الدلالیة للنص، ومیزاته الجمالیة التأثیریة، بواسطة صیاغته اللغویة، وتشکیلاته البلاغیة(2).

ویعدّ العمل الأدبی اختیاراً لأحدی الموضوعات الخاصّة بالحیاة، فیکون حقلاً خصباً للإبداع، وعندئذٍ یستعین الأدیب (المبدع) بکلّ ملکاته اللّغویة، وأدواته فی صیاغة العمل جمالیّاً، وعندها «تأتی الصیاغة الجمالیّة - بهذا المعنی ومن خلال هذا المفهوم - بهدف نقل التجربة وتوصیلها من ناحیةٍ، وإفراغ انفعالات الأدیب تجاه موضوعه من ناحیةٍ أُخری»(3).

إنّ صیاغة العمل جمالیّاً هی التی سوّغت لهذه الدراسة أنْ تحمل سمة (النثر الفنی)، فصفة الفنیة هی التی جعلتها تخوض فی نثر التوّابین وإمارة المختار الثقفی، ونختار منها ما هو ذو سمة أدبیّة عالیة، نستطیع أن نضعها تحت المجهر الأُسلوبی المتخلّق، والوقوف عند الخصوصیات التی یشملها النص الأدبی(4)، وذلک بتعرّف

ص: 27


1- المسدی، عبد السلام، الأُسلوبیة والنقد الأدبی: منتخبات من تعریف الأُسلوب وعلم الأُسلوب: ص40.
2- اُنظر: کرم، إیاد کمر، شعر زهیر بن أبی سلمی: دراسة أُسلوبیة: ص3.
3- خلیف، می یوسف، النثر الفنی بین صدر الإسلام والعصر الأُموی: دراسة تحلیلیة: ص16.
4- اُنظر: المسعودی، زینة عبد الجبار، الرسائل الفنیة فی العصر العباسی حتی نهایة القرن الرابع الهجری: ص19.

القیم الجمالیة التی تنبعث منه من خلال دراسة الجانب الفنی للأُسلوب.

إنّ الصیاغة الفنیة للأُسلوب فی حقیقتها «تبتدئ من اللفظة، وإنَّ مهارة الفنّان تکمن فی قدرته علی اختیار اللفظة المؤثّرة بجرسها وظلالها ومعناها، حین تأتی فی مکانها المناسب من التّعبیر، لِتُربَط مع لفظةٍ أُخری»(1)، ولمّا کانت الأُسلوبیة تُعنی بدراسة النص ووصف طریقة تلک الصیاغة الفنیة، فذلک عن طریق تحلیلها لغویّاً بهدف الکشف عن الأبعاد النفسیة والقیَم الجمالیة؛ للوصول إلی أعماق فکر المنتج من خلال تحلیل نصّه، فمِن هنا تُعدُّ الدراسة الأُسلوبیة مدخلاً مناسباً یمکن الباحث من دراسة النصوص الأدبیة، دراسة شدیدة القرب من طبیعتها اللغویة(2)، أی: إنّها تُنیر للباحث طریقاً یلتمس فیه هداه إلی تحلیل النص الأدبی الذی هو نصٌّ لغوی، قدیماً کان أم حدیثاً؛ لأنّه یتکوَّن من ألفاظ وهی تتشکل فی ملمح لغوی، وعلیه فکلُّ نصّ أدبی إذا ما أراد الباحث تحلیله وجب دراسته من خلال مستویات التحلیل اللغوی، وهی: تحلیل الأصوات، وتحلیل الألفاظ، وتحلیل التراکیب(3)، «وبهذا المعنی فإنَّ علم الأُسلوب [الأُسلوبیة] یمکن أنْ ینقسم إلی مستویات علم اللّغة نفسها. ولو تقبَّلنا الرأی القائل بحص-ر مستویات التَّحلیل اللغوی فی ثلاثة هی: الصوتی، والمعجمی [البنائی]، والنَّحوی، لأصبح بوسع التَّحلیل الأُسلوبی أن یتدرَّج علی النَّمط نفسه»(4)، وهذا ما سیتناوله البحث من خلال تحلیل النصوص النثریة بتتبع مستویاتها الأُسلوبیة إنْ شاء الله(سبحانه وتعالی).

ص: 28


1- عباس، عرفة حلمی، نقد النثر: النظریة والتطبیق: قراءة فی نتاج ابن الأثیر النقدی والإبداعی: ص558.
2- اُنظر: داوُد، أمانی سلیمان، الأمثال العربیة القدیمة: دراسة أُسلوبیة سردیة حضاریة: ص33.
3- اُنظر: الراجحی، عبده، علم اللغة والنقد الأدبی: علم الأُسلوب: ص119.
4- فضل، صلاح، علم الأُسلوب وصلته بعلم اللغة: ص56. اُنظر: الدسوقی، محمد، البنیة اللغویة فی النص الشعری: درس تطبیقی فی ضوء علم الأُسلوب: ص4.

الفصل الأوَّل: أنماط النَّثر الفنِّی ومواردها فی ثورة التوّابین وإمارة المختار

اشارة

ص: 29

ص: 30

المبحث الأوَّل :أنماط النثر الفنَّی فی ثورة التوّابین وإمارة المختار

أولاً: الخطابة

1- الخطابة بین الجاهلیة وصدر الإسلام

لا تتوافر بین أیدی الباحثین نصوص وثیقة من الخطابة الجاهلیة؛ وذلک لبُعد «المسافة بین العصر الذی قیلت فیه وعصور تدوینها»(1)، فالأُمیّة کانت غالبةً علی العرب فی ذلک العص-ر، «ولم تکن الکتابة شائعةً فیه إلّا فی بیئات محدودة، ولغایات تجاریَّة علی الأغلب»(2).

ونحن لا نُرید فی هذا المقام أن نُثبت مدی صحّة الخُطب الواردة عن الجاهلیین أو زیفها، فهذه المسألة مثار جدل بین الباحثین، فقد حاول أحدهم إنکارها وإنکار ازدهارها(3).

ویری بعض آخر أنَّ قِلَّة النصوص الجاهلیة لیست ذریعة لنکرانها، وإن لم تکن نصوص وثیقة، فنشأتها نشأة طبیعیة عند جمیع الأُمم(4).

ص: 31


1- شوقی ضیف، أحمد، العصر الجاهلی: ص410.
2- النص، إحسان، الخطابة العربیة فی عصرها الذهبی: ص7. اُنظر: نبوی، عبد العزیز، دراسات فی الأدب الجاهلی: ص301.
3- حسین، طه، فی الأدب الجاهلی: ص332.
4- اُنظر: شوقی ضیف، أحمد، العصر الجاهلی: ص410. النص، إحسان، الخطابة العربیة فی عصرها الذهبی: ص7.

وعموماً، فقد عنی العرب فی الجاهلیة بأمر الخطابة عنایةً ملحوظةً، فکان لها عندهم شأنٌ عظیم، فقد أوردوها «فی منافراتهم ومفاخراتهم، وفی النُّصح والإرشاد، وفی الحثّ علی قتال الأعداء، وفی الدعوة إلی السِّلم وحقن الدماء، وفی مناسباتهم الاجتماعیة المختلفة، کالزواج والأصهار إلی الأشراف، وکانوا یخُطبون فی الأسواق والمحافل العظام، والوفادة علی الملوک والأُمراء»(1).

وقد کانت منزلة الخطیب تفوق منزلة الشاعر فی العص-ر الجاهلی، فقد قال الجاحظ (ت255ه-): «قال أبو عمرو بن العلاء: کان الشَّاعر فی الجاهلیَّة یُقدَّم علی الخطیب، لفرط حاجتهم إلی الشِّعر الذی یُقَیِّد علیهم مآثرهم ویفخِّم شأنهم، ویُهوِّل علی عدوِّهم ومَن غزاهم، ویُهیْبُ مِن فرسانهم... فلمَّا کَثُرَ الشِّعر والشعراء، واتَّخذوا الشِّعر مکسبةً ورحلوا إلی السُّوقةِ، وتسرَّعوا إلی أعراض النَّاس، صار الخطیب عندهم فوق الشَّاعر»(2).

وقد حفظ لنا کتاب (البیان والتبیین) طائفةً کبیرةً من خُطباء الجاهلیة الفصحاء، من أمثال قیس بن الشماس، وثابت ابنه خطیب الرسول(علیه السّلام)، وسعد بن الربیع، وابنه عمار الطائی، وغیرهم الکثیر(3).

فالخطابة کانت موجودة فعلاً فی العصر الجاهلی، والدلیل علی ذلک هو النضج الفنی الذی کانت علیه الخطابة فی العصر الإسلامی، فلیس من المعقول أن یکون ذلک النضج الکبیر من غیر أن یکون هناک من ممهدات مهدت له مسبقاً.

إذاً؛ ازدهرت الخطابة فی العصر الجاهلی، وقد ساعد علی ذلک الازدهار عوامل، منها: کثرة «المنازعات والخصومات بینهم، والدعوة إلی الحرب مرَّة وإلی السِّلم مرَّة

ص: 32


1- ضیف، شوقی، أحمد، الفن ومذاهبه فی النثر العربی: ص27 - 28. اُنظر: شلق، علی، مراحل تطور النثر العربی فی نماذجه: ج1، ص130.
2- الجاحظ، عمرو بن بحر، البیان والتبیین: ج1، ص241.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص349 وما بعدها.

أُخری. وقد اتخذوا من مجالسهم فی مضارب خیامهم ومِن أسواقهم، ومن ساحات الأُمراء ووفاداتهم علیهم، میادین لإظهار براعتهم وتفننهم فی المقال وَحوْک الکلام»(1).

وکانت دالّة علی أغراض مختلفة، فدارت معانیها بحسب هذه الأغراض، فقد أوردوها فی المنافرات والمفاخرات، والأَحساب والأنساب، والمآثر والمناقب، وکذلک المصاهرة أو الوفادة علی الأمراء، أو النصح والإرشاد(2)؛ لتکون بحق مرآة تُظهر صورة المجتمع الجاهلی، ولذلک نجد العنایة الملحوظة منهم «نظراً إلی أنَّها تعبیر عن مجتمعاتهم فی سلمهم وحربهم، وقضایا عیشهم»(3).

کذلک شاع فی الجاهلیة ضربٌ من الخطابة هو(سجع الکُهَّان) الذی کان یتعمَّده بعض الجاهلیین الذین یدَّعون «التنبُّؤ ومعرفة المغیَّبات، وأنَّها تنطق عن آلهتهم بما سُخِّر لها مِن الجن» (4).

وقد انقرض هذا الضرب من الخطابة بظهور الإسلام؛ لأنَّ وجوده کان مرتبطاً بالدیانة الوثنیّة، وکان ممَّا «وعته صدور العرب یومئذٍ، ثمَّ أهملوه ولکنَّهم لم ینسوا أُسلوبه، فلمَّا کانت الدولة الأُمویة أو العباسیة حملت الحماسة بعضهم علی أنطاق الکهَّان بأقوالٍ هی من قبیل الدعایة الدینیة، أو الحزبیة»(5).

وهکذا أزالت أدبیات الإسلام کلّ لون من ألوان الخطابة الجاهلیة، بما فیها خُطب المفاخرات، والمنافرات، والخصومات، وسجع الکُهّان؛ لینذر بتحول مهمّ فی فنّ الخطابة الذی أصبح مسایراً للحیاة الاجتماعیة فی عصر صدر الإسلام.

ص: 33


1- شوقی ضیف، أحمد، العصر الجاهلی: ص410.
2- اُنظر: المصدر السابق. منّاع، هاشم صالح، النثر فی العصر الجاهلی: ص42.
3- شلق، علی، مراحل تطور النثر العربی فی نماذجه: ص1، ص130.
4- شوقی ضیف، أحمد، الفن ومذاهبه فی النثر العربی: ص38.
5- المقدسی، أنیس، تطور الأسالیب النثریة فی الأدب العربی: ص16.

فلمَّا جاء الإسلام أولی المسلمون وفی مقدّمتهم الرسول الکریم محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) الخطابة عنایةً خاصّةً، لمِا لها من سمات وخصائص تجعلها خیر وسیلةٍ من وسائل الدعوة إلی الإسلام؛ لأنَّها کانت تستوعب أُسلوب المناظرة، والمناقشة، والمحاججة، والإقناع، وهذه کلّها مهمّة فی البیان والإبلاغ.

ولمّا هاجر الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إلی المدینة، أصبحت الخطابة من وسائل بیان التش-ریعات الإلهیة، والوعظ والإرشاد وتنظیم حیاة المسلمین، وعندها أصاب الخطابة فی هذا العص-ر تطوّرٌ وازدهارٌ، مقارنةً بحالها فی عصر ما قبل الإسلام؛ إذ حدث تغیّر وتحوّل فی هیکلها وأسالیبها ومعانیها.

وقد تلمّس الباحثون الأسباب التی أدت إلی تطور الخطابة وازدهارها فی هذا العص-ر، فوجدوها تکمن فی عدّة أسباب، منها: أنَّ الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) «اتَّخذها بعد الهجرة أداة لإیضاح تعالیم الإسلام ووعظ المسلمین»(1)، وکذلک إنَّها أصبحت فرضاً مکتوباً فی صلاة الجُمَع والعیدین، وفی مواسم الحجّ «وبذلک عَرَفَ العرب ضرباً منظَّماً من الخطابة الدینیَّة، لم یکونوا یعرفونه فی الجاهلیَّة»(2).

کذلک کان لوجود القرآن الکریم الأثر الکبیر الذی أدَّی «إلی تطوُّر الخطابة وارتقائها فی العصر الإسلامی، وفی العصور التی تلته»(3).

أمّا سمات التطور التی أصابت الخطابة فی هذا العصر، فتکمن فی خصائصها التی تمیّزت بها، وکانت من أهمّ تلکم الخصائص اشتمال الخطابة علی الوحدة الموضوعیة التی کان النثر الجاهلی یفتقد إلیها.

کما قضی الإسلام علی کلّ لونٍ من ألوان الخطابة الجاهلیة ممَّا لا یتَّفق وروح

ص: 34


1- النص، إحسان، الخطابة العربیة فی عصرها الذهبی: ص29 -30.
2- ضیف، شوقی، الفن ومذاهبه فی النثر العربی: ص52.
3- النص، إحسان، الخطابة العربیة فی عصرها الذهبی: ص32.

الإسلام، کالقضاء علی (سجع الکُهّان) إلّا ما جاء عفواً من دون تکلّف، وکذلک نلحظ اختفاء خُطب المنافرات والمفاخرات التی کانت تُثیر الضغائن والأحقاد، فأبدلها بمعانی الخطابة الإسلامیة التی دارت فی معانی القرآن الکریم، وفی معانٍ جدیدةٍ لم یکن یألفها العرب من قبلُ، فکان الخطیب یبدأ خُطبته بالتحمید والثناء علی الله(سبحانه وتعالی)، والصلاة علی رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )(1)، ویعقبها بعبارة (أمَّا بعدُ)، ثمَّ ینتقل إلی الغرض من خُطبته، ولعلَّ هذه العبارة کانت مستمدَّة من خُطب العصر الجاهلی(2)، فیمکن عدَّها تقلیداً فنیّاً. ولقد أثّر القرآن الکریم فی أدب صدر الإسلام بصورةٍ عامّةٍ من خُطب ورسائل؛ لذلک کان المنهل العذب الذی ترتوی الخطابة منه، وعندها اغترف الخُطباء من معینه فوشّحوا کلامهم بلآلئ آیاته، فأخذوا یقتبسونها اقتباساً ویحاکونها من حیث الأُسلوب، أو من حیث الأفکار والمعانی، وهذا بحدّ ذاته تطوّر کبیر لم یألف العرب قبل الإسلام مثله؛ لأنَّ الأُسلوب القرآنی «قد امتاز بأجمل طابعٍ، وأحکم صورةٍ، وأروع سمت، بما تهیأ له من حکم عالیة، ومعانٍ سامیة، وحسن ارتباط بین المعانی، وعذوبة محببة فی الألفاظ، ویکفی فیه أنَّه أُسلوب ربِّ العالمین، وخالق الخلق أجمعین، جلّت قدرته»(3).

وهکذا أثّر القرآن الکریم فی أدب صدر الإسلام بصورةٍ عامّةٍ من شعر ونثر، وبذلک فإنَّ کلّ «تغییر حدث فی الأدب، إنّما کان مصدره الأوَّل القرآن الکریم الذی کان وحدة مصدر ثقافة المسلمین الدینیّة والعقلیّة، والاجتماعیة والأدبیة، وهو الذی أحال خشونة الطباع عذوبةً وسلاسة، وبدّل وحشیَّة الألسنة سهولةً ووضوحاً وبلاغةً»(4)، کما أنَّه أثَّر فی أدب العصور الأُخری التی تلته.

ص: 35


1- اُنظر: الزیات، أحمد حسن، تاریخ الأدب العربی: ص128.
2- اُنظر: طلیمات، غازی، والأشقر، عرفان، الأدب الجاهلی، قضایاه، أغراضه، أعلامه، فنونه: ص684.
3- الخفاجی، محمد عبد المنعم، الحیاة الأدبیة فی عصر صدر الإسلام: ص58.
4- المصدر السابق: ص44.
2- الخطابة فی ثورة التوّابین وإمارة المختار

ازدهرت الخطابة فی العص-ر الأُموی، ازدهاراً واسعاً، وکان وراء هذا الازدهار عدَّة أسباب مختلفة، «منها: السیاسی، ومنها الدینی، ومنها العقلی»(1)، إلی جانب الحریة التی کان یتمتع بها الخطیب فی هذا العصر(2)، فکان الخُطباء یخطبون فی مختلف الموضوعات من دون تخوَّف أو تحرَّج.

أمّا الأسباب الثلاثة - السیاسی، والدینی، والعقلی - التی أدت إلی ازدهار الخطابة وتطورها، فالسبب الدینی یتمثل فی أنّ العص-ر شهد تأسیس المدارس الدینیة فی مختلف البلدان الإسلامیة، لیتعلَّم الناس فیها أُصول دینهم وفروعه، وکان العلماء القائمون علیها کثیراً ما یتحاورون فی وجهات نظرهم(3)، ولم تلبث حتی تمخَّضت عن ذلک الجدال فِرق متعدِّدة ومذاهب مختلفة، «فکان ذلک باعثاً علی ظهور المناظرات، وهی فرعٌ مهمٌّ من فروع الخطابة»(4).

وأمَّا السبب العقلی، فمردّه إلی عناصر الثقافات الأجنبیة، التی أخذ العقل العربی ینهل منها منذ هذا العصر؛ ممّا فتق فیه الحجاج والجدل(5).

أمَّا السبب الأهم الذی أدی إلی ازدهار الخطابة علی نحو ملحوظ، فهو السبب السیاسی المتمثل بکثرة الأحزاب السیاسیة التی عارضت الدولة الأُمویة؛ ممّا أسفر ذلک عن توالی الثورات ضدَّ هذه الدولة.

فکان هناک الحزب العلوی الذی یری أنّ الخلافة هی حقٌّ مطلق فی أهل بیت

ص: 36


1- ضیف، شوقی، الفن ومذاهبه فی النثر العربی: ص63.
2- اُنظر: الحوفی، أحمد محمد، أدب السیاسة فی العصر الأُموی: ص363 وما بعدها.
3- اُنظر: الجاحظ، عمرو بن بحر، البیان والتبیین: ج1، ص243.
4- ضیف، شوقی، الفن ومذاهبه فی النثر العربی: ص65.
5- اُنظر: المصدر السابق: ص65- 66.

الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وهم ورثتها الشرعیون، وهناک الحزب الزبیری الذی یری أنَّ الخلافة تقع فی قریش، ویجب أن تکون فی أحد أبناء أکبر الصحابة، وصاروا یدعون لابن الزبیر، فی حین ظهرت جماعة أُخری تری أنَّ الخلافة حقٌّ مطلق لعامّة المسلمین، فهی لا تقتصر علی فئةٍ دون أُخری، وهذه الجماعة هم الخوارج، وظهر غیر هذه الجماعات کثیرٌ ممَّن عارض الأُمویین.

ومن الطبیعی أنْ یکون لکلّ فرقةٍ من هذه الفرق شعراء أو خُطباء یدافعون عن قضیَّتهم، ویدحضون آراء خصومهم، بل «لیس هناک حزب ولا ثورة - کبیرة أو صغیرة - إلّا وخُطباء کثیرون ینبرون للترویج لهذا الحزب، أو تلک الثورة»(1).

وإذا کانت حُقبتا التوّابین والمختار تقع ضمن هذا العص-ر، فإنَّ السبب السیاسی الذی ذکرناه هو الذی أدی إلی ظهور النثر بصورةٍ عامّةٍ من خُطب ورسائل، بل إنَّ النثر الفنی فیهما هو ولید التحولات السیاسیة التی شهدتها تلکم الحقبتان، والعص-ر الأُموی بصورةٍ عامَّةٍ.

أمَّا ثورة التوّابین، فإنَّ البحث قد عرض لأسباب ظهورها، وهی الممارسة القمعیة للأُمویین تجاه آل بیت الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وإقدامهم علی قتل الإمام الحسین(علیه السّلام) وأهل بیته، بصورة وحشیَّة یندی لها جبین التاریخ، فشعرت هذه الجماعة بعد مقتله(علیه السّلام) بالندم والملامة؛ لأنَّهم «کانوا دعوه للخروج إلیهم، ووعدوه المناصرة والبیعة، فتخاذلوا ولم یوفوا بوعودهم، فلاحظ بعضهم أنَّ هناک شبهاً عظیماً بینهم وبین توابی بنی إسرائیل، فتدبَّروا أمرهم وأخذوا یُهیئون لحرکة بها یتوبون، وبدأت حرکتهم سریَّة فجمعوا الأنصار معتمدین بما لهم من قدرة علی الإقناع والبیان، فقد کان فی زعمائهم الخطیب والشاعر والدَّاعیة»(2).

ص: 37


1- شوقی ضیف، أحمد، العصر الإسلامی: ص410.
2- العوادی، مشکور، خطب التوابین بعد استشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام): المغزی والأُسلوب: ص13.

وقد تجمع هؤلاء القوم وألقی کلّ واحدٍ منهم خُطبةً عندها خیّم طابع الندم علیها، ولم تقتصر هذه الخُطب علی الذی قال هؤلاء فی حال تجمعهم، بل کانت الخُطب التی أوردتها الکتب المؤرخة لهذه الحُقبة موزَّعة علی طولها منذ التقائهم واجتماعهم إلی ساعة استشهادهم، ومن الطبیعی أن یکون للطرف الآخر (النقیض) خُطب أیضاً، فکانت تلک الخُطب موزّعة بین التوّابین ومناوئیهم علی وفق تدرجها الزمنی، وعلی النحو الآتی:

الفریق الأوّل: (التوّابون وأنصارُهم)، وهم:

المسیب بن نجبة الفزاری، من رؤوس التوّابین خُطبتان

رفاعة بن شداد البجلی، من رؤوس التوّابین خُطبة واحدة

سلیمان بن صُرَد الخزاعی، من رؤوس التوّابین خمس خُطب

عبد الله بن وال التمیمی، من رؤوس التوّابین

خُطبة واحدة

عبد الله بن سعد بن نفیل، من رؤوس التوّابین

خُطبة واحدة

خالد بن سعد بن نفیل، مناصر خُطبة واحدة

سعد بن حذیفة بن الیمان، مناصر خُطبة واحدة

عبد الله بن الحنظل الطائی، مناصر خُطبة واحدة

عبید الله بن عبد الله المری، مناصر خُطبة واحدة

صخیر بن حذیفة بن هلال، مناصر

خُطبة واحدة

الفریق الثانی: (المناوئون)، وهم:

عبد الله بن یزید، الوالی الزبیری علی الکوفة

خُطبتان

إبراهیم بن محمد بن طلحة، الوالی الزبیری علی خراج الکوفة خُطبة واحدة

عبد الملک بن مروان، خلیفة أُموی فی الشام

خُطبة واحدة

ص: 38

ومن الجدیر بالذکر أنَّ الخُطب الخاصّة بالتوّابین تتراوح بین الطّول والقص-ر، بحسب الحاجة والمقام، فقد یطول بعضها لحاجة الخطیب إلی التفصیل والتماس الحجج وضرب الأمثال، حتی یتمَّ له إقناع الجمهور، وهذا واضح فی خُطبتی عبید الله المری، والمسیب بن نجبة الفزاری، وخُطبة ابن صُرَد الأُولی(1)،وقد تقصر الخُطب کثیراً حتی تکاد تکون رأیاً من الآراء یبدیه الخطیب فی أمر یعرضه لأصحابه، وهذا کما فی خُطبة ابن صُرَد الخامسة أو خُطبة عبد الله بن الحنظل الطائی التی لم تتجاوز بضع کلمات(2).

أمَّا الخطابة فی إمارة المختار الثقفی، فبلغت اثنتین وعشرین خُطبةً، وهی کذلک موزَّعة بین المختار ومناصریه من جهة، ومناوئیه من جهة أُخری، کالآتی:

المختار الثقفی عشر خُطب

عبد الرحمن بن شریح، مناصر ثلاث خُطب

محمد بن الحنفیة، مناصر خُطبتان

یزید بن أنس، مناصر خُطبة واحدة

إبراهیم الأشتر، مناصر خُطبتان

المناوئون:

عبد الله بن مطیع، الوالی الزبیری علی الکوفة

ثلاث خُطب

مصعب بن الزبیر، الوالی الزبیری علی البصرة

خُطبة واحدة

ص: 39


1- اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص58، وص64.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص62، وص68.

ثانیاً: الرسائل الفنیة

1- الرسائل الفنیة بین الجاهلیة وعصر صدر الإسلام

لا توجد بین أیدی الباحثین وثائق صحیحة تدلُّ علی أنَّ الجاهلیین عرفوا الرسائل الأدبیة وتداولوها، وهذا لا یعنی أنَّهم لم یعرفوا الکتابة ف- «الکتابة - رسماً وخطَّاً - کانت معروفة لدی العرب فی الشمال قبل الإسلام، وهی لا ترقی إلی ما قبل مئة وخمسین عاماً، فوجودها مقرون بوجود الشعر؛ إذ إنَّهما جناحان لطائر الکلمة»(1).

فالکتابة معروفة آنذاک إلّا أنَّ صعوبة وسائلها جعلتهم لا یعتمدونها فی الأغراض الأدبیة والنثریة والشعریة، «ومن ثَمَّ استخدموها فقط فی الأغراض السیاسیة والتجاریَة»(2)، وکانت رسائلهم «یغلب فیها الإرسال وتتَّصف بالإیجاز والوضوح والصدق»(3).

وإذا ما وصلنا إلی العصر الإسلامی، فإنَّنا نجد أنَّ الرسائل قد لقیت حظّاً من الاهتمام من لدُن الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) والخلفاء الراشدین، فقد کان الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یکاتب الملوک والأمراء بکثیر من الرسائل، ویدعوهم فیها إلی الإسلام الحنیف(4)، وکان کثیراً ما یکتب عهود الأمان والمعاهدات بینه وبین المشرکین أو غیرهم من الدیانات الأُخری، وکان(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی معظم هذه الرسائل أو العهود لا یعتنی بتحبیر أو تزویق فنّی، بل کان یؤدی غرضاً سیاسیاً فی صورة موجزة من غیر تکلّف أو صنعة(5)، وهی بذلک قد خلت من السجع والبدیع اللفظی، وکانت «أقرب إلی لغة المحادثة والتخاطب»(6).

ص: 40


1- شلق، علی، مراحل تطور النثر العربی فی نماذجه: ج1، ص120.
2- شوقی ضیف، أحمد، العصر الجاهلی: ص398.
3- الیازجی، کمال، الأسالیب الأدبیة فی النثر العربی القدیم: ص23.
4- الشایب، الأُسلوب: دراسة بلاغیّة تحلیلیّة لأُصول الأسالیب الأدبیّة: ص113.
5- اُنظر: شوقی ضیف، أحمد، الفن ومذاهبه فی النثر العربی: ص97 - 98.
6- المقدسی، أنیس، تطور الأسالیب النثریة فی الأدب العربی: ص36.

وکذلک الحال فی عهد الخلفاء الراشدین؛ إذ لم یعتنوا فی رسائلهم أیَّ ضربٍ من ضروب التزیین والتنمیق، فهی کالرسائل التی عهدناها فی حیاة الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) رسائل «أدَّت دورها فی بساطةٍ ویُسرِ علی المستوی اللّغوی دون صنعةٍ ولا غموض ٍ ولا کهانةٍ ولا لبسٍ»(1)، فقد کان حسبهم أنْ یؤدّوا الغرض فی لغة جزلة متینة، «ولقد کانت المُکاتبات فی أواخر العهد الراشدی خاصّةً، مرحلة ممهِّدة لتطوُّر أدب الرسائل فی هذا العصر[العصر الأُموی]، لما اتَّسمت به من ومضات فنیّة رائعة، إذ کانت الفیض الذی ینهل من معینه کثیر من المترسِّلین فی العص-ر الأُموی»(2).

2- الرسائل الفنیّة فی ثورة التوّابین وإمارة المختار

تمیَّزت الرسائل فی العصر الأُموی بکثیرٍ من الخصائص الأُسلوبیة والسمات الفنیة، وهذه الخصائص والسمات کانت امتداداً لرسائل عصر صدر الإسلام، فقد توافقت فی شکلها العام من حیث البناء، ومن حیث بعض الأسالیب الفنیة(3)، ولکن سمات التطور والإنضاج الفنی ما لبثت أنْ طرأت علی کثیر من تلک الرسائل فیما بعد.

وکانت هناک العدید من العوامل التی أدَّت إلی هذا التطور الفنی، منها: تشعُّب مواضیع الرسائل وتنوّع أغراضها، وتولّی الکُتّاب إنشاء رسائلهم بأُسلوبهم وما عُرفوا به من الفصاحة، وکان الکُتّاب قد حظوا بالمکانة الرفیعة من الخلفاء؛ الأمر الذی جعلهم یتنافسون فیما بینهم فی الافتنان بأسالیب الکتابة.

وکان لأُسلوب القرآن الکریم فی نفوس هؤلاء أثره البالغ، فصار القرآن الکریم المعین الذی تنهل الرسائل منه کثیراً من معانیها وصورها(4).

ص: 41


1- خلیف، می یوسف، النثر الفنی بین صدر الإسلام والعصر الأُموی: دراسة تحلیلیة: ص37.
2- رضا، غانم جواد، الرسائل الفنیة فی العصر الإسلامی: إلی نهایة العصر الأُموی: ص312.
3- اُنظر: رضا، غانم جواد، الرسائل الفنیة فی العصر الإسلامی: إلی نهایة العصر الأُموی: ص312.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص313 - 314.

فأدَّت کلُّ هذه العوامل إلی تطوّر فن الرسائل فی هذا العصر، وعندها تمیَّزت تلک الرسائل بعدَّة خصائص أُسلوبیة من الضروری الإشارة إلیها؛ لأنّ هذه الخصائص هی عینها - فی الغالب - خصائص فنّ المراسلة فی حِقبتی التوّابین والمختار - موضوع الدراسة - وهذه الخصائص هی(1):

1- شیوع استعمال السجع وتعمّده أحیاناً، وهذا الملمح مهمٌّ جدّاً فی رسائل هذا العص-ر؛ لأنَّه یدلُّ علی إنضاجها وتطوّرها، وقد اتضح ذلک کثیراً فی المکاتبات الفنیة الرسمیة وغیر الرسمیة، إذ حرص بعض المترسلین علی تعمّد استعمال حلیة السجع لمِا یحقّقه من تنغیم وإیقاع فی رسائلهم، وکان خیر مَن یُمثّل هذا الجانب المختار بن أبی عبید؛ لأنَّه قصد ذلک قصداً فی مکاتباته وخُطبه.

2- اتّشاح الرسائل بغریب اللفظ، وهی من السمات الأُسلوبیة التی تمیَّزت بها رسائل هذا العصر، بل هی ظاهرة دلَّت علی التأنّق والإعداد لرسائل العصر الأُموی، وتتمثَّل هذه المیزة الأُسلوبیة کثیراً فی بعض رسائل المختار الثقفی.

3- الإیقاع والتنغیم الموسیقی، إذ حرص المنشئون علی إظهار عناصر الإیقاع وألوان التنغیم الصوتی؛ کی یجعلوا نثرهم بالموقع الذی تهشُّ إلیه النفس، فعمدوا إلی تحقیق هذه الغایة باستعمال صیغ معیّنه، والجنوح إلی التوازن والترادف وغیرها، وهذا واضح فی معظم رسائل هاتین الحِقبتین، کما فی رسالة ابن صُرَد إلی سعد بن حذیفة بن الیمان، ورسالة المختار إلی الأحنف بن قیس(2).

ص: 42


1- اُنظر: الخصائص فی الرسائل الفنیة فی العصر الإسلامی: إلی نهایة العصر الأُموی: ص316، وص327.
2- الأحنف بن قیس بن معاویة بن حصین، أبو بحر التمیمی، کان سیّداً مُطاعاً، أسلم فی حیاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، حدَّث عن الإمام علی(علیه السّلام) وأبی ذر الغفاری والعباس بن عبد المطلب وغیرهم، توفی سنة (76ه-) فی إمرة مصعب بن الزبیر علی العراق. اُنظر: الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج1، ص1038- 1041.

4 - الجنوح إلی الإطناب وبسط المعانی وتفریعها، وهذا ما تمثَّل فی رسالة سلمان بن صُرَد إلی سعد بن حذیفة.

5 - استعمال التحمیدات فی فصول الرسائل - ویُقصد بالتحمیدات: إظهار الثَّناء والحمد لله(سبحانه وتعالی) - وهی ظاهرة فنّیة مُتأتیة من العصر الإسلامی، بل سمة واضحة فی جمیع الرسائل التی احتوتها هاتان الحِقبتان، وهکذا تکون الرسائل التی وصلت إلینا من هاتین الحِقبتین غیر مختلفة فی طابعها عن خصائص الرسائل فی العصر الأُموی؛ فالرسائل التی وصلت إلینا من حِقبة التوّابین خمس رسائل، وهی علی النحو الآتی:

سلیمان بن صرد الخزاعی رسالتان

سعد بن حذیفة بن الیمان رسالة واحدة

المثنی بن محزبة العبدی رسالة واحدة

عبد الله بن یزید رسالة واحدة

أمّا حِقبة المختار الثقفی، فقد أُثر عنها ثمانی عشرة رسالة، بحسب ما روتها کتب التاریخ، وکانت هذه الرسائل موزَّعة بین المختار، ومناصریه ومناوئیه، وهذه الرسائل قد توزَّعت بحسب تدرَّجها الزمنی علی النحو الآتی:

المختار بن أبی عبید الثقفی

اثنتا عش-رة رسالة

محمد بن الحنفیة

ثلاث رسائل

عبد الرحمن بن سعید بن قیس(1)

رسالة واحدة

ص: 43


1- وهو عبد الرحمن بن سعید بن قیس، أحد عمَّال المختار علی الموصل، قام بمساندة جیش المختار الذی بعثه بقیادة یزید بن أنس لقتال جیش عبید الله بن زیاد. اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص39.

عبد الله بن الزبیر

رسالة واحدة

عبد الله بن عمر

رسالة واحدة

وقد تفاوتت هذه الرسائل کذلک من حیث الطول والقُصر، فقد تکون الرسالة قصیرة جدّاً کما فی رسالة المختار إلی عبد الله بن عمر(1)، ورسالة الأخیر إلی عبد الله بن یزید وإبراهیم بن طلحة(2)، وکذلک رسالة عبد الرحمن بن سعید إلی المختار، وردّ المختار علیه(3)).

ولعلَّ هذا القصر فی هذه الرسائل مردَّه إلی الحال غیر المستقرة، والظروف القلقة المحیطة بکلّ من المرسِل والمرسَل إلیه.

ولا یقف قصر بعض هذه الرسائل عند هذا الحدِّ، بل قد تقتص-ر کثیراً حتی تتحوَّل إلی إشارة خاطفة أو رأی من الآراء أو توجیه یوجّهه المرسِل، کما فی رسالة المختار إلی عبد الرحمن بن سعید التی لم تتجاوز بعضاً من الکلمات(4).

ثالثاً: العهود والوصایا فی ثورة التوّابین وإمارة المختار

تعرّف العهود بأنَّها: «تکالیف تجیء فی صَفِّ المبایعات، ومرابط المواثیق، یُقصد بها ضمان القول بالاتفاق، والتَّعاون، والنّصرة، أو التَّهادُن»(5).

ولقد وُجِدَت العهود فی العصر الجاهلی علی شکل نوع من التحالف بین القبائل(6)، لکن لقلَّة الکتابة والتدوین کان أکثرها یبقی عالقاً فی بال الأطراف المتعاقدة، فلمّا جاء

ص: 44


1- اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص122.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص122.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص127.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص128.
5- شلق، علی، مراحل تطور النثر العربی فی نماذجه: ج1، ص189.
6- اُنظر: حب الله، علی، المقدّمة فی نقد النثر العربی: مشروع رؤیة جدیدة فی تقنیات البحث والکتابة: ص60.

الإسلام کانت هذه العهود قد دُوّنت؛ لأنَّ الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کان قد أقام دولةً مستقرَّةً کَثُر فیها التدوین، وأصبحت الحیاة تتطلَّب ذلک(1).

ثمّ استمرَّت کتابة العهود فی العصر الأُموی - عصر التوّابین وإمارة المختار الثقفی - ولم تخرج عما کانت علیه فی عصر قبل الإسلام أو الإسلامی، ولقد وصل إلینا من هذه العهود، الدُّعاء الذی «ردَّدته جماعات التوّابین یوم الوقوف علی قبر الحسین قبل ملاقاة العدوّ، ِفکان ذلک کالعهد قطعه التوّابون علی أنفسهم، فیه یُشْهِدُون الله علی أنّهم خرجوا ثأراً للحسین، وتوبةً من عظیم جرمهم»(2).

ومنه الکلام الذی ردَّده المختار الثقفی علی قبر الإمام الحسین(علیه السّلام)، وهو أیضاً کالعهد الذی قطعه متوعّداً بالثأر لدمه(علیه السّلام)(3)، ویتمیز هذان العهدان بکونهما قد جاءا شفاهاً، یضمن القائلان قولهم بالنُّصرة للأمام الحسین(علیه السّلام)، والأخذ بثأره من قاتلیه، یرافق ذلک الشعور بالنَّدم علی قتله، والتباکی المثیر للأشجان، والاستشعار بعدم جدوی الحیاة، والاستعداد للشهادة.

أمَّا العهد الذی قطعه المختار بالأمان لعمر بن سعد بن أبی وقاص، فقد جاء مکتوباً، ولم یخرج هذا العهد عن کتب العهد المعروفة فی الإسلام(4).

أمَّا الوصایا، فقد جاء أغلبها فی هاتین الحِقبتین ضمن الخُطب والرسائل، وفیها یبدو الخطیب أو المترسِّل، موصیاً واعظاً، وهذا یشابه ما کانت علیه بعض خُطب الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کخُطبته فی حَجَّة الوداع التی اشتملت علی مجموعة من الوصایا،

ص: 45


1- اُنظر: شلق، علی، مراحل تطور النثر العربی فی نماذجه: ج1، ص189.
2- ابن العربی، محسن، أثر حرکة التوابین فی الأدب: خُطب زعمائها ورسائلهم: ص268. اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص589.
3- اُنظر: الخوارزمی، محمد بن أحمد، مقتل الحسین: ج2، ص187.
4- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر تاریخ الأُمم والملوک: ج 6، ص60- 61.

ومن هذه الخُطب والرسائل التی جاءت مفعمة بالوصایا هی بعض خُطب سلیمان بن صُرَد، ورسالة عبد الله بن یزید إلی ابن صُرَد، وخُطبة یزید بن أنس فی أصحابه، وخُطبة إبراهیم بن الأشتر(1).

ولقد أُثرت أربع وصایا خالصة، أی لم تقع ضمن خُطبة أو رسالة، وهی: وصیّتان للمختار إلی إبراهیم الأشتر(2)، ووصیَّة المختار إلی یزید بن أنس(3)، ووصیَّة لیزید بن أنس لأصحابه(4).

ص: 46


1- اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص60-61. جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص118- 119.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص21، وص82.
3- اُنظر: المصدر السابق: ج 6، ص40.
4- اُنظر: المصدر السابق: ج 6، ص41.

المبحث الثانی :موارد النثر الفنی فی ثورة التوّابین وإمارة المختار

اشارة

کان الناثرون فی هاتین الحِقبتین قد اغترفوا من موارد عدّة واعتمدوها فی نثرهم، ولعلّ أکثرها بروزاً ثلاثة موارد رئیسة هی:

- القرآن الکریم.

- نثر الرسول محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

- نثر الإمام علی بن أبی طالب(علیه السّلام).

أوّلاً: القرآن الکریم

اشارة

یُعدُّ القرآن الکریم المورد العذب الذی ینهل منه الأُدباء والکُتّاب والشعراء، بل مصدر ثقافة المسلمین الدینیة والعقلیة والاجتماعیة والأدبیة ؛ ذلک لأنَّه «أحال خشونة الطباع عذوبةً وسلاسةً، وبدَّل حوشیَّة الألسنة سهولةً ووضوحاً وبلاغةً، وأورث العرب دقَّةً فی التفکیر، وقوَّةً فی التَّعبیر، وجمالاً فی التَّصویر، ورقَّةً فی الأُسلوب، وروعةً فی الحجَّة»(1).

ومنذ أن نزل فی أُمَّة العرب بهرهم بیانه وأُسلوبه، وأَخذ بألبابهم بحسن وقع جرسه، وأسَّر نفوسهم بجمال لفظه وبراعة صوره وروعة أدائه، ثمّ کان شغف العلماء

ص: 47


1- الخفاجی، محمد عبد المنعم، الحیاة الأدبیة فی عصر صدر الإسلام: ص44.

والمفکّرین کشف السّر الذی یحمله إعجازه، فأینعت الآراء والأفکار.

وکان أحسن ممَّن وصف هذا الکتاب العظیم سیّد البلغاء وربیب مدرسة القرآن والنبوة، أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام)، إذ وصفه فی خُطبة له بقوله: «ثمّ أنزل علیه الکتاب نوراً لا تُطفأ مصابیحه، وسراجاً لا یخبو توقّده، وبحراً لا یُدرک قعره، ومنهاجاً لا یضلُّ نهجه، وشعاعاً لا یظلم ضوؤه، وفرقاناً لا یخمد برهانه...، جعله الله ریّاً لعطش العلماء، وربیعاً لقلوب الفقهاء... وبرهانا لمَن تکلَّم به، وشاهداً لمَن خاصم به، وفلجاً لَمن حاجّ به... وعلماً لَمن وعی، وحدیثاً لمَن روی، وحُکماً لمَن قضی»(1).

إذاً؛ فمنذُ أن نزل القرآن الکریم علی قلب الرسول الأمین محمّد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، کان له الأثر البالغ فی النثر العربی، إذ «أصبح معیناً للأُدباء ینهلون منه ویقتبسون، ویسعون إلی محاکاة أُسلوبه، وکان أثره فی النثر أبرز منه فی الشعر»(2).

وکان أثره واضحاً فی خُطب ورسائل العص-ر الأُموی، سواء من حیث الأُسلوب والصیاغة، أو من حیث الأفکار والمعانی؛ وذلک لأنَّ کثرة الأحزاب السیاسیة واختلاف منازعاتها واتجاهاتها، إنَّما کانت مرتبطة بالدین أشدّ الارتباط فی هذا العص-ر، وادعاء کلّ فرقةٍ أنَّ هدفها نصرة الدین وإعلاء کلمته، ومن هنا کانت الخُطب والرسائل وغیرها من الفنون النثریة مزدحمة بالأفکار الإسلامیة، والمعانی القرآنیة فی هذا العصر(3).

استحوذ هذا الکتاب السماوی علی أداء الخُطباء والمترسلین؛ لأنَّ أُسلوبه «جمع الجزالة والسّلاسة والقوَّة والعذوبة، ضمَّ البلاغة من أطرافها فهو السّحر السَّاحر، والنّور

ص: 48


1- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ص377 - 378.
2- النص، إحسان، الخطابة العربیة فی عصرها الذهبی: ص41.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص42.

الباهر، والحقّ السّاطع، والصّدق المبین»(1)، فأخذوا یحاکون أُسلوبه، ویترسَّمون خطاه، ویقتبسون من آیاته لیزیّنوا بها نتاجهم الأدبی، فیضیفوا علیه طابع الجزالة والرصانة والرونق والبهاء.

أمَّا الخُطباء، فقد کانوا یکثرون الاقتباس منه «والمهارة فی وضع الآیات بالمواضع الملائمة لها من الخُطبة... وإنَّما عمد الخُطباء إلی الاقتباس؛ لأنّهم متذوّقون لبلاغة القرآن، فهم یجدون فی هذه الآیات تعبیراً صادقاً عمَّا یُریدون أن یقولوا»(2).

وقد ذکر الجاحظ أنَّ الخُطباء «کانوا یستحسنون أن یکون فی الخُطب یوم الحفل، وفی الکلام یوم الجمع آیٍ من القرآن؛ فإنَّ ذلک ممّا یُورث الکلام البهاء والوقار، والرقَّة، وسلس الموقع»(3)، وذکر أنَّ الخُطبة التی تخلو من آیات القرآن قد سُمّیت بالشوهاء(4).

أمّا الرسائل، فلم تکن أقلّ شأناً آنذاک من الخُطب فی تأثرها بالقرآن الکریم واحتذاء أُسلوبه، وترسُّم معانیه، فقد برع المترسّلون فی مُکاتباتهم بالنصوص القرآنیة، تأکیداً لِما یسوقه الکاتب من آراء أو تقویة لحجَّة ما(5)، وکانت هذه السمة الأُسلوبیة فی فن الترسُّل هی امتداد لمِا عهده فن الترسُّل فی عصر صدر الإسلام والخلفاء الراشدین؛ إذ إنَّ الکُتّاب قد «تأثَّروا بالقرآن الکریم الذی ترک آثاراً واضحةً فی توجهات بلاغة العربی وفصاحته، فکان الاقتباس من آی الذکر الحکیم، وکان الصدور عن الحس الدینی العام، وکان التأثّر الواضح ببلاغته فی تجنّب الغریب الوحشی مع الحرص علی وضوح المقصد والإقناع»(6).

ص: 49


1- الخفاجی، محمد عبد المنعم، الحیاة الأدبیة فی عصر صدر الإسلام: ص59.
2- الحوفی، أحمد محمد، أدب السیاسة فی العصر الأُموی: ص353.
3- الجاحظ، عمرو بن بحر، البیان والتبیین: ج1، ص118.
4- اُنظر: المصدر السابق: ج2، ص6.
5- اُنظر: رضا، غانم جواد، الرسائل الفنیة فی العصر الإسلامی: إلی نهایة العصر الأُموی: ص315.
6- خلیف، می یوسف، النثر الفنی بین صدر الإسلام والعصر الأموی: دراسة تحلیلیة: ص65- 66.

وعموماً، فقد کان تأثیر القرآن الکریم متبلوراً فی طرائق المترسّلین؛ إذ کان هذا واضحاً فی رسائل أصحاب المذاهب ورؤساء النِحل الدینیة، حتی أضحی القرآن الکریم معیناً تنهل منه الرسائل کثیراً من معانیها، وتستمد من فیضه ذلک العطاء الخصْب(1).

وکان العامل السیاسی المتمثّل بکثرة الأحزاب السیاسیة من العوامل المهمَّة فی کثرة التّراسلات الفنیة، وإنَّ هذه الأحزاب السیاسیة قد ارتبطت ارتباطاً مباشراً بالدین؛ ذلک أنَّ کلّ حزب یدّعی أنَّه ناصرٌ له، فکان تأثیر القرآن عندها واضحاً فی تلک الرسائل، کما کان هذا واضحاً فی الخُطب.

وإذا کانت ثورة التوّابین وإمارة المختار الثقفی إنَّما قامتا علی اعتبار سیاسی عقائدی، فإنَّ غایتها الأُولی والأخیرة هی التمسُّک بقیم القرآن والسُّنة النبویة وإرجاع الحقِّ إلی أهله الشرعیین، ومن هذا المنطلق کان القرآن الکریم هو المصدر الأوَّل من مصادر نثر هاتین الحِقبتین، فأخذ الخُطباء والمترسّلون فیهما یقتبسون من آیاته، ویحتذون أُسلوبه، تأییداً لفکرةٍ، أو دحضاً لرأی، أو تزییناً وتنمیقاً لأُسلوب، وسوف یعرض البحث أنماط التأثیر القرآنی فی خُطب هاتین الحِقبتین ورسائلهما.

1- الاقتباس القرآنی

الاقتباس فی اللغة مأخوذ من القبس، وهو: «شعلة من نار تقتبسها مِن مُعْظَم، واقتباسها الأخذ منها. وقوله تعالی: « بِشِهَابٍ قَبَسٍ » (2)... وفی حدیث علیٍّ رضوان الله علیه: حتی أوْرِی قبساً لِقابسِ، أی أظهر نوراً من الحقّ لطالبه... واقتبست منه علماً أیضاً، أی استفدته»(3).

ص: 50


1- اُنظر: رضا، غانم جواد، الرسائل الفنیة فی العصر الإسلامی: إلی نهایة العصر الأُموی: ص314.
2- النمل: آیة7.
3- ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج11، ص11، مادة (قبس).

وفی الاصطلاح، فقد عرَّفه القلقشندی (ت821ه-): «هو أن یُضمَّن الکلام شیئاً من القرآن، ولا ینبَّه علیه»(1)، ویجب أنْ لا یذکر فیه: قال الله أو نحوه، فإنَّ ذلک حینئذٍ لا یکون اقتباساً(2)، وقد خُصَّ الاقتباس (بالقرآن الکریم) تمیُّزاً له عن سائر الکلام(3).

والاقتباس من التعابیر الجاهزة التی یستعملها الناثر داخل الترکیب، وهی تؤدی سمة جمالیة ومعنویة داخل الأُسلوب، فهی من الناحیة الجمالیة تُضفی علی الصورة ألواناً، ومن الناحیة المعنویة تُضفی علی الدلالة عمقاً وتأصیلاً(4).

وقد ورد الاقتباس بکثرة فی خُطب ورسائل الحِقبتین حتی أصبح میزة أُسلوبیة فنیة تشترک فیها معظم تلکم الخُطب والرسائل، من ذلک ما جاء فی خُطبة سلیمان بن صُرَد بقوله: «أُثْنی علی الله خَیْراً، وأحمد آلاءَه وبلاءَهَ، وأشهدُ أنْ لا إله إلّا الله، وأنّ محُمّداً رسولُه، أمَّا بعدُ، فإنّی والله لخائفٌ إلّا یکون آخِرُنا إلی هذا الدَّهر الذی نَکِدَت فیه المَعیشة، وَعَظُمَت فیه الرَّزیة، وشَمِلَ فیه الجَورُ أولی الفضل مِن هذه الشیعة... ولا ترجعوا إلی الحلائل والأبناء حتی یرضی الله... کونوا کالأولی مِن بنی إسرائیلَ إذْ قال لهم نبیّهم: « إِنَّکُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَکُمْ بِاتِّخَاذِکُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَی بَارِئِکُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ ذَلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ عِنْدَ بَارِئِکُمْ »، فما فَعلَ القوم؟ جَثَوا علی الرُکبْ والله، ومدُّوا الأعناق ورَضُوا بالقضاء حتی حین عَلمُوا أنَّه لا یُنجِیهم مِن عظیمِ الذَّنب إلا الصَّبرَ علی القتل، فکیفَ بِکُم لو قدْ دُعیتُ-م إلی مِثلِ ما دُعِیَ الق-وم إلیه؟ اش-حَذوا الس-یوف، ورکّبوا الأسنَّة، «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَیْلِ »(5).

ص: 51


1- القلقشندی، أحمد بن علی، صبح الأعشی فی صناعة الإنشا: ج1، ص237.
2- اُنظر: ابن معصوم، علی بن أحمد، أنوار الربیع فی أنواع البدیع: ج2، ص217.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص222.
4- اُنظر: الدسوقی، محمد، البنیة اللغویة فی النص الشعری: درس تطبیقی فی ضوء علم الأُسلوب: ص161.
5- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص545. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص60 - 61.

إنَّ فی هذه الخُطبة اقتباسین قرآنیین:

الأوَّل کان لآیة من سورة البقرة، من قوله(سبحانه وتعالی): «وَإِذْ قَالَ مُوسَی لِقَوْمِهِ یَا قَوْمِ إِنَّکُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَکُمْ بِاتِّخَاذِکُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَی بَارِئِکُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ ذَلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ عِنْدَ بَارِئِکُمْ فَتَابَ عَلَیْکُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِیمُ » (1)، إذ أراد الخطیب أن یستثمر من قصَّة النبی موسی(علیه السّلام) مع قومه، فکان غرضه أن یُشبّه قومه ونفسه بأصحاب موسی(علیه السّلام)، ومن هنا سَمّوا أنفسهم بالتوّابین؛ لأنَّهم تابوا من عظیم جرمهم، حینما دعوا الحسین(علیه السّلام) ولم ینصروه.

والاقتباس الثانی کان من سورة الأنفال من قوله(سبحانه وتعالی):«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّکُمْ وَآخَرِینَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ یَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَیْءٍ فِی سَبِیلِ اللَّهِ یُوَفَّ إِلَیْکُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ »(2).

وأراد بهذا الاقتباس أیضاً أن یشحذ الهمم قبل شحذ السیوف وترکیب الأسنّة، لعلمه بتأثیر الأُسلوب القرآنی، فهو أقوی وأعمق فی النفوس، کیف لا وقد «بهر العرب رونقه، وخلب ألبابهم جرسه ووقعه، وملک نفوسهم ما فیه من جمال اللّفظ، وبراعة الصورة، وسمو البیان، وروعة الأداء»(3).

إنَّ هذا الأداء البدیعی فی اقتباس الآیات الکریمة، والمهارة فی إحکام وضعها موضعاً ملائماً فی الکلام، لهو دلیلٌ واضحٌ علی ملکة الخطیب وإلمامه بالمضمونات القرآنیّة، حتی نجدها قد ملأت قلبه، وانسابت علی لسانه انسیاباً.

ولم یکن ابن صُرَد یعْمد إلی الاقتباس القرآنی فی خُطبه فقط، وإنَّما نجد هذا واضحاً

ص: 52


1- البقرة: آیة54.
2- الأنفال: آیة60.
3- الخفاجی، محمد عبد المنعم، الحیاة الأدبیة فی عصر صدر الإسلام: ص54.

فی رسائله، فمن ذلک ما جاء فی رسالته التی بعث بها إلی سعد بن حذیفة بن الیمان التی جاء فیها: «إنَّ أولیاءَ الله مِنْ إخوانِکُم وشیعةِ آل نبیّکم، نظروا لأنفسِهِم فیما ابتُلوا به مِن أمر ابنِ بِنتِ نَبیّهم... وبعینِ الله ما یَعْمَلون، وإلی الله ما یَرْجعُون، « وَسَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ یَنْقَلِبُونَ »(1).

فالمهارة الفائقة للخطیب تکمن فی وضع الآیة: « وَسَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ یَنْقَلِبُونَ » (2) مع ما سبقها من کلام له فواصل مماثلة لفاصلة الآیة المنتهیة (بالواو والنون)، وذلک کی یحقِّق الانسجام الصوتی بین العبارات، حتی تنساب متتابعة، من دون تعقید أو تلکّؤ.

ویمکن تفسیر کثرة الاقتباسات وتأثر المنشئ وشغفه بأُسلوب القرآن الکریم، بأنَّه کان صحابیاً(3) صحب الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وتأثر به وبدعوته الإسلامیة، فکان لا بدَّ من أن یترک ذلک أثراً وظلالاً علی هذا الرجل، ومن الطبیعی أنّ تکون آیات القرآن الکریم ومعانیه ماثلة فی ذهنه ووجدانه، وهذا ینمُّ عن استیعابه وتذوّقه للنص القرآنی، فإذا ما أراد شیئاً من القرآن لم یتکلّفه، بل یأتیه متی ما أراده.

وممَّا جاء من الاقتباس القرآنی أیضاً کان فی خُطبة محمد بن الحنفیة حین قدِمَ علیه عبد الرحمن بن شریح یسأله عن مصداق دعوة المختار الثقفی، فجاء فی الخُطبة: «فأمّا ما ذکرتُم ممّا خَصَّصنا الله بهِ مِنْ فَضلٍ، فإنَّ الله یؤتیهِ مَنْ یشاء واللهُ ذو الفضلِ العَظیم، فللهِ الحَمدُ، وأمَّا ما ذکرتُم مِنْ مصیبتنا بحُسینٍ، فإنَّ ذلک کانَ فی الذّکرِ الحکیم، وهیَ ملحمةٌ کُتِبَتْ علیه، وکرامةٌ أهْداها الله لهُ، رَفَعَ بما کان مِنها درجاتِ قومٍ عندهُ، ووضع بها آخرین،

ص: 53


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص556.
2- الشعراء: آیة227.
3- اُنظر: الزرکلی، خیر الدین، الأعلام: ج3، ص127.

وکان أمرُ الله مفعولاً، وکانَ أمرُ الله قَدَرَاً مَقْدُورَاً...»(1).

فنجد أنَّ الاقتباس القرآنی قد وقع مرَّتین: الأوَّل: فی قوله: (فإنَّ الله یؤتیه مَن یشاء والله ذو الفضل العظیم). وهو مأخوذ من قوله(سبحانه وتعالی): «ذَلِکَ فَضْلُ اللَّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ » (2).

وأمّا الاقتباس الثانی نجده فی قوله: (وکان أمر الله مفعولاً، وکان أمر الله قدراً مقدوراً)، وهو من قوله(سبحانه وتعالی): « وَکَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا »*مَا کَانَ عَلَی النَّبِیِّ مِنْ حَرَجٍ فِیمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِی الَّذِینَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَکَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا » (3).

فنجد أنَّ هذا النص بما احتوی من اقتباسات قرآنیة، قد کشف لنا عن جانب من جوانب تمرُّس الخطیب، وتمکُّنه فی الاختیار والتوزیع، وذلک من خلال انتقاء اقتباسین متفرّقین یحملان دلالة متقاربة، یتحدَّث الأوَّل منها عن إیتاء الله(سبحانه وتعالی) فضله علی مَن یشاء من عباده الصالحین، ویعنی به فضل آل البیت من ناحیة أنَّ الله(سبحانه وتعالی) شرَّفهم بمنزلتهم من النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وفضله العظیم.

وتحدَّث الثانی عن إتیان الکرامة والفضل للإمام الحسین(علیه السّلام)، واستشهاده من أجل إحیاء دین الله القویم، فکان أمرُ الله(سبحانه وتعالی) الذی قضاه علیه مفعولاً، ویقول الدکتور محمد أبو موسی: «وقوله: « وَکَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا »قولٌ صِیْغَ علی طریقة التَّ-وکید، فهو کقولهم: لیلٌ ألیَل، ویومٌ أیوَم، وظلٌ ظلیل، فهو توکید لنفاذ ما قدَّره الله وقضاه، وحین تقارن بین قوله فی الآیة السابقة: « وَکَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا »، وقوله هنا: « وَکَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا »، تلحظ أنَّ الفاصلة الثانیة أوکد من الأُولی؛ وذلک لأنَّ ما قرَّرته آیة الفاصلة

ص: 54


1- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص79.
2- الحدید: آیة21.
3- الأحزاب: آیة37 - 38.

الثانیة أشمل وأکثر للأعباء والصعاب التی یواجهها النبیّون وأهل البلاغ؛ لأنَّها تشمل کلُّ ما یتّصل بذلک من أذًی، وعناء، فناسبها التَّوکید الذی یُقرّر أنَّ ذلک قدر هؤلاء، وأنَّهم منتهون إلی الفوز حتماً»(1).

ومن هذا التحلیل الذی قال به الدکتور أبو موسی یتَّضح لنا، أنَّ الخطیب کان حاذقاً فی انتقائه لهذه الآیات المبارکة، وإیداعها فی خُطبتهِ إیداعاً موفَّقاً، وما یتأتَّی ذلک إلّا لَمن وعی آیات القرآن تأمُّلاً وتدبُّراً.

ومن الاقتباسات القرآنیة ما جاء فی رسالة عبد الله بن یزید إلی ابن صُرَدْ طالباً منه الرجوع هو وأصحابه عن قتال الجیش الأُموی بقوله: «بِسْمِ الله الرَّحمن الرَّحیم، مِنْ عَبْدِ اللهِ بن یَزیدَ إلی سلیمانَ بن صُرَدْ ومَنْ مَعَهُ مِنَ المسلمین، سلامٌ علیکم، أمَّا بعدُ، فإنَّ کتابی هذا إلیکم کتابُ ناصح ٍذی إرعاء... یا قومنا لا تُطْمِعُوا عدوّکُم فی أهل بلادکم، فإنّکم خیارٌ کلّکم... یا قومنا: «إِنَّهُمْ إِنْ یَظْهَرُوا عَلَیْکُمْ یَرْجُمُوکُمْ أَوْ یُعِیدُوکُمْ فِی مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا »، یا قومنا إنَّ أیدینا وأیدکم الیوم واحدة...»(2).

فالاقتباس واضح من قوله(سبحانه وتعالی):«إِنَّهُمْ إِنْ یَظْهَرُوا عَلَیْکُمْ یَرْجُمُوکُمْ أَوْ یُعِیدُوکُمْ فِی مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا » (3).

وکان اختیاره فی هذا الموضع مقصوداً فیه؛ لأنَّه یحتوی علی أداة (یا)، فجاء متلائماً مع ما سبقه، أو جاء بعده من جمل تصدَّرت بأداة النداء ما جعل درج الکلام واحداً متناسقاً فی العبارة، فلم یکن متکلَّفاً ثقیلاً، بل جاء عن فطرة وطبع سلیم، فنسق العبارة مع الاقتباس القرآنی جاء منساباً علی لسانه وتمازج مع خاطره، وما کان ذلک إلّا عن

ص: 55


1- أبو موسی، محمد، من أسرار التعبیر القرآنی: دراسة تحلیلیة لسورة الأحزاب: ص349.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص591 - 592.
3- الکهف: آیة20.

تأثر بالقرآن الکریم الذی «هو روح الفطرة اللغویّة فیهم... إذ هو وجه الکمال اللغویّ الذی عرف أرواحهم، واطّلع علی قلوبهم»(1).

وجاء أیضاً فی خُطبة مصعب بن الزبیر الذی ألقاها حین قدم إلی البص-رة لقتال المختار، وقد اعتمد فیها علی القرآن وحده، وعندها جاء باختیار الآیات المعبّرة، فقال: ««بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ*طسم *تِلْکَ آیَاتُ الْکِتَابِ الْمُبِینِ *«نَتْلُو عَلَیْکَ مِنْ نَبَإِ مُوسَی وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ *«إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِی الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِیَعًا یَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَیَسْتَحْیِی نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ کَانَ مِنَ الْمُفْسِدِینَ » وأشار بی-ده نح-و الش-ام:«وَنُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِینَ ». وأشار بیده نحو الحجاز: «وَنُمَکِّنَ لَهُمْ فِی الْأَرْضِ وَنُرِیَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا » ) . وأشار بیده نحو العراق »(2).

فقد ورد الاقتباس فی صدر النص واستمر حتی توّزع علی أسیقته کاملة حتی خاتمته، وإنَّما کان کذلک حتی یُضفی علی کلامه طابع الفخامة والجزالة والرونق؛ لکی یشدَّ المتلقَّی إلیه ویدعوه إلی التواصل الفکری مع تراکیبه اللغویة والقرآنیة المکوّنة للنص، ولاسیّما إذا کانت الفقرات اللاحقة للنص المقتبس هی کیان دلالی واحد؛ کونه مقتبساً من سورة واحدة، وبآیاتها المتتالیة المتناسقة، وقد أراد الخطیب من هذا الاقتباس أیضاً أنْ یُشبّه «بنی أُمیة بفرعون فی الطُّغیان والاعتداء علی حقِّ الحیاة، وتکهَّن بأنَّ الزبیریین الذین یُنَکِّل بهم بنو أُمیة هم الذین سینزعون الملک منهم ویرثونهم، وبأنَّ العراق سیکون مقرَّ ملکهم، وبأنَّ بنی أُمیة سیصطلون من نار الزبیریّین ما کانوا یخشونه»(3).

ص: 56


1- الرافعی، مصطفی صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبویة: ص134.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص93. القصص: آیة1- 6.
3- الحوفی، أحمد محمد، أدب السیاسة فی العصر الأُموی: ص356.

ومن هنا یتَّضح لنا - ومن خلال الأمثلة المذکورة - أنَّ الاقتباس القرآنی کان مقصوداً من الخُطباء والمترسِّلین؛ لیؤدّی أغراضاً بعینها هی کامنة، وعندها کانوا ماهرین فی وضع الآیات بالمواضع الملائمة لها من الخُطب والرسائل.

2- الاستشهاد بالآیات القرآنیَّة

یختلف الاستشهاد بالآیات القرآنیة عن الاقتباس القرآنی، بأنَّ الأخیر تُذکر الآیة ولا یُذکر أنَّها من القرآن، فی حین أنَّ الاستشهاد یکون بقول المتکلّم: (قال الله) أو نحو ذلک، وقد أشار ابن معصوم المدنی (ت1120ه-) أنَّه لا یکون الأخذ من القرآن اقتباساً إذا قال المتکلّم: (قال الله) أو غیره(1)، فإذا لم یکن الأخذ علی هذه الشاکلة اقتباساً؛ فلم یبقَ إلّا أن یکون استشهاداً بالآیات القرآنیة، وقد ورد مثل هذا الاستشهاد فی خُطبة المسیَّب بن نجبة الفزاری بقوله: «أمَّا بعدُ، فإنّا قدْ ابتُلینا بطولِ العُمر، والتَّعرُّض لأنواع الفِتن، فنرغبُ إلی رَبّنا ألّا یَجعلنا مِمَّن یقولُ لَهُ غداً:« أَوَلَمْ نُعَمِّرْکُمْ مَا یَتَذَکَّرُ فِیهِ مَنْ تَذَکَّرَ وَجَاءَکُمُ النَّذِیرُ » (2).

فقد استشهد الخطیب بآی الذّکر الحکیم من قوله(سبحانه وتعالی): «وَهُمْ یَصْطَرِخُونَ فِیهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَیْرَ الَّذِی کُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْکُمْ مَا یَتَذَکَّرُ فِیهِ مَنْ تَذَکَّرَ وَجَاءَکُمُ النَّذِیرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِینَ مِنْ نَصِیرٍ »(3).

فکان هذا الاستشهاد تنبیهاً للسامع بما تحمل هذه الآیة من مضمونات دلالیة، وتذکیره بذلک الموقف الصعب الذی یقف فیه العباد أمام ربهم؛ لیسألهم عما أقدموا علیه، وهنا أورده حتی یأخذ المتلقی مراجعة نفسه ومحاسبتها، بما بدر عنها من قصور أو تقصیر، وإذا ما عرفنا أنَّ الخطیب کان یُفرغ زفرات همومه وندمه علی خذلانه - هو

ص: 57


1- اُنظر: ابن معصوم، علی بن أحمد، أنوار الربیع فی أنواع البدیع: ج2، ص217.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص552.
3- فاطر: آیة37.

وأضرابه - وتقصیرهم تجاه قضیة الإمام الحسین(علیه السّلام) یتبیَّن لنا سبب ذلک الاستشهاد بهذه الآیة الکریمة من دون سواها؛ لأنَّه فی معرض الدعاء مع ربّه ألّا یجعله یوم القیامة فی ذلک الموقف الذی یُسأل عنه العباد فی تقصیرهم.

وکان یری فی قتل قاتلی الحسین(علیه السّلام) والموالین لهم أو القتل فی سبیل ذلک هی السبیل الوحیدة التی تدرأ عنهم ذلک السؤال یوم القیامة، والرضوان من الله حین قال: «لا والله، لا عُذْرَ دُون أنْ تَقْتُلُوا قاتِلَه والموالینَ علیه أو تُقْتَلُوا فی طلَبِ ذلک، فعسی ربّنا أن یَرضَی عَنَّا عِنْدَ ذلک» (1).

وممّا جاء من الآیات القرآنیة علی سبیل الاستشهاد کان فی رسالة سلیمان بن صُرَد إلی عبد الله بن یزید، فقال: « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحیم، للأمیر عبد الله بن یزید مِنْ سلیمان ابِنْ صُرَدْ ومَنْ معَهُ من المؤمِنین، سلامٌ علیک، أمَّا بعدُ: فقد قرأنا کتابَکَ، وفَهِمْنا ما نَویت، فَنِعَ-م والله الوالی... إنَّا سَ-مْعنا الله عزَّ وَجَلَّ یقولُ فی کتابِه: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَی مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَیَقْتُلُونَ وَیُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِیلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَی بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بَایَعْتُمْ بِهِ وَذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ »*«التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاکِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِینَ »(2).

فقد استشهد المرسِل بهاتین الآیتین الطویلتین إلی حدٍّ ما، وفی ذلک دلیلٌ علی إلمامه بالنص القرآنی، وحفظه آیاته، وکان هذا شأن ابن صُرَد فیما یرتجله من خُطب أو ما یحبّره من رسائل.

ص: 58


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص553. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص51.
2- صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص119- 120. التوبة: آیة111- 112.

ومن هذا الاستشهاد تتحقّق وظیفته الأُسلوبیة، ففی الوقت الذی یحقّق فیه وظیفة دلالیة، فإنَّه یحمل وظیفة نفسیة من خلال إقناع المتلقی بمشروعیة قضیتهم التی عقدوا العزم علیها وصمَّموا لتأدیتها، وکان ذلک من خلال هذا الاستشهاد القرآنی، وبهذه الآیات التی یتحدّث فیها الله(سبحانه وتعالی) عن الجهاد، الذی سنّه علی المسلمین دفاعاً عن الحقّ فی مواجهة الباطل.

3- محاکاة أُسلوب القرآن الکریم

من صور التأثیر القرآنی محاکاة أُسلوبه واستعارة عبارته وألفاظه وطرائق تعبیره، واستلهام معانیه، وکان هذا شائعاً فی خُطب ورسائل الحِقبتین، وهو دلیلٌ علی إعجاب الخُطباء والمترسّلین بأُسلوب القرآن الکریم ورغبتهم بمحاکاته، «ولا یتهیّأ ذلک إلّا لمَن کانت آیات القرآن تنساب علی لسانه انسیاباً، وترسخ معانیه فی ذهنه»(1)، وعندها نجد أنَّ محاکاة أُسلوبه «مظهر آخر من مظاهر التّأثّر القرآنی، فقد بلغ من إعجاب الأُدباء بهذا الأُسلوب أن نهجوا نهجه فی بعض عباراتهم؛ إذ توخّوا محاکاة ألفاظه وتعابیره وطریقة أَدائِه»(2)، وکانت تلک المحاکاة علی نمطین:

الأوَّل: یعتمد علی ألفاظ القرآن کما هی، مع تصرُّف یسیر فی صیاغتها، أی أنّ الخطیب أو المترسّل یأتی ببعض الآیات الکریمة من النص القرآنی، ویتصرَّف ببعض ألفاظها، تحویلاً إلی تراکیب جدیدة تکون معزَّزة دلالیاً بتوظیف المعانی القرآنیة بألفاظها المنقولة من النص.

الثَّانی: یعتمد علی معانی النص القرآنی من دون صیاغته، أی: یقوم الخطیب أو

ص: 59


1- بیوض، حسین، الرسائل السیاسیة فی العصر العباسی الأوّل: ص185.
2- النص، إحسان، الخطابة العربیة فی عصرها الذهبی: ص199.

المترسّل علی استمداد واستیحاء المعانی القرآنیة، وإفراغها فی بُنی ترکیبیة جدیدة ذات دلالات قائمة علی المعانی المستلة من ذلک النص(1).

ولقد کان بعض الخُطباء والمترسّلین« یستمدُّون من القرآن الکریم بعض المعانی، یجرونها علی ألسنتهم عامدین؛ لیفخّموا بها أقوالهم، ویجتذبوا نفوس سامعیهم، أو غیر عامدین أن یقتبسوا هذه المعانی، وإنَّما جرت علی ألسنتهم؛ لأنَّهم حفاظ قد فهموا ما حفظوا»(2).

وممّا جاء علی النمط الأوَّل کان فی قول یزید بن أنس الأسدی فی خُطبةٍ له، محرضاً أصحاب المختار لملاقاة جند ابن مطیع الوالی الزبیری، فقال: «یا مَعْشَ-رَ الشّیعة، قد کُنْتُمْ تُقْتَلون وتُقطَّعْ أیدیکُم وأرجلُکُم، وتُسْمَل أعینکم، وتُرفَعون علی جذوعِ النخلِ فی حُبِّ أهل بیت نبیّکم؛ وأنتم مقیمون فی بیوتکم، وطاعة عدوّکم...»(3).

فواضح أنَّ أُسلوبه کان مستمداً من أُسلوب القرآن الکریم، ومن الآیة الکریمة لقوله(سبحانه وتعالی): «قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَکُمْ إِنَّهُ لَکَبِیرُکُمُ الَّذِی عَلَّمَکُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَیْدِیَکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّکُمْ فِی جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَیُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَی »(4).

وبهذا الاحتذاء الأُسلوبی للآیة یؤکد الخطیب مدی الظّلم الذی لحق بمعش-ر الشیعة من ولاة ذلک العصر، الذین نکَّلوا بهم وساموهم سوء العذاب، وهو بهذا یجتذب إلیه أذهان السامعین؛ لکی یلتفتوا لعظم الخطر المُحدق بهم، لو أنَّهم أدرکهم

ص: 60


1- اُنظر: حسین، إدریس طارق، المناجیات وأدعیة الأیّام عند الأمام زین العابدین(علیه السّلام): دراسة أُسلوبیة: ص158- 159.
2- الحوفی، أحمد محمد، أدب السیاسة فی العصر الأُموی: ص357.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص26.
4- طه: الآیة71.

أصحاب ابن مطیع، فالاستعداد لهم أولی، لکی لا تعود الصورة المأساویّة مرَّة أُخری، ولم یجد الخطیب سبیلاً من إیصال الدَّلالات وتکریسها إلّا باحتذاء الأُسلوب القرآنی، الذی یتمیَّز بالإبانة الموجزة المحکمة فی قوَّة المنطق، وصدق الحجَّة وبلوغ الهدف.

وجاء النمط الثانی من محاکاة الأُسلوب القرآنی، وهو استمداد معانیه وإفراغها فی بُنی ترکیبیة جدیدة بقول المختار فی خُطبة لهُ حین شیَّع ابن الأشتر لقتال عبید الله بن زیاد: «إنْ اسْتَقَمْتُمْ فَبِنَصْرِالله، وإنْ حُصْتُمْ حِیْصَةً فإنِّی أجدُ فی مُحْکَمِ الکِتَابِ، وفی الیقینِ والصوابِ، أنَّ اللهَ مؤیّدکم بملائکةٍ غِضَابٍ»(1).

وواضح أنَّه أراد أن یثبِّت فؤاد ابن الأشتر وأصحابه، ویُطمئنهم بأنَّ الله(سبحانه وتعالی) ناصرهم ومؤیّدهم بملائکة غضاب، فلم یجد بُدَّاً من أن ینهل من معانی الآیة الکریمة من قوله(سبحانه وتعالی): «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِینَ أَلَنْ یَکْفِیَکُمْ أَنْ یُمِدَّکُمْ رَبُّکُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِکَةِ مُنْزَلِینَ »*بَلَی إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَیَأْتُوکُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا یُمْدِدْکُمْ رَبُّکُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِکَةِ مُسَوِّمِینَ » (2).

فالارتشاف من معانی القرآن الکریم وتوظیفها فی هذا الموقف، کان له أثره البالغ فی نفسیة السامع لثبات عقیدته علی المجاهدة والصبر.

وجاء فی رسالة المختار التی بعث بها إلی محمّد بن الحنفیة، قوله: « بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحیم، للمهدیّ محمَّد بن علیّ مِن المختار بن أَبی عُبَید، سلامٌ علیکَ یا أیُّها المهدیّ... فإنَّ الله بَعَثَنی نِقْمَةً علی أعدائِکم، فهم بیْنَ قتیلٍ وأسیرٍ... وقدْ بعثتُ إلیکَ برأسِ عمر بن سعد وابنه، وقدْ قتلنا مَنْ شَرَکَ فی دمِ الحسین وأهلِ بیته... ولَنْ یُعجزَ الله مَن بَقی، ولسْتُ

ص: 61


1- المبرد، محمد بن یزید، الکامل فی اللغة والأدب: ص666. الحیصة: الهروب. اُنظر: ابن منظور، محمد ابن مکرم، لسان العرب: ج3، ص418، مادة (حیص).
2- آل عمران: آیة124- 125.

بِمُنْجِمٍ عَنْهم حتی لا یبلغْنی أنَّ علی أدیمِ الأرض مِنْهم أرمِیّاً»(1).

فقوله: «ولنْ یعجز الله مَن بَقی، ولست بمُنجِمٍ عنهم حتی لا یبلغنی أنَّ علی أدیم الأرض منهم أرمیاً»، فهو مس-تمد فی معناه من قوله(سبحانه وتعالی) علی لس-ان نوح(علیه السّلام): «وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَی الْأَرْضِ مِنَ الْکَافِرِینَ دَیَّارًا (26)» (2).

ومِمَّا تقدَّم نجد أنّ المختار قد صاغ ضروباً متفرّقة من معانی الآیات القرآنیة، وذلک بما ینسجم مع مقتضیات المقام والحال التی هو فی صدَدِها، وهو بهذا یکشف عن براعته فی الإفادة من تلک المعانی القرآنیة العالیة وتسخیرها بالکیفیة التی یُرید، وإنَّ تلک الإفادة من المعانی، والسعی إلی تکریسها لهو مظهر من مظاهر التأثیر الکبیر من الخُطباء والمترسّلین فی هذا العصر ببدیع أُسلوب القرآن الکریم ونَظْمه وقوَّة معانیه «فهو یداور المعانی، ویُریغُ الأسالیب، ویخاطب الرّوح بمنطقها من ألوان الکلام لا من حروفه، وهو

یتألَّف النَّاس بهذه الخصوصیّة فیه، حتی ینتهی بهم ممَّا یفهمون إلی ما یجب أن یفهموا»(3).

وقد جاء اجتماع النمطین معاً من محاکاة النص القرآنی فی رسالة سلیمان بن صُرَد فی قوله: «فَاصْبِرُوا رَحِمَکُمُ اللهُ علی البأساءِ والضرَّاءِ وحینَ البأسِ، وتوبوا إلی اللهِ عن قریب... إنَّ التقوی أفضلُ الزَّادِ فی الدّنیا، وما سِوَی ذلکَ یبورُ ویَفْنَی...، أحیانا الله وإیّاکم حیاةً طیّبةً، وأجارنا وإیَّاکم مِنَ النَّار...»(4).

ص: 62


1- صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص129- 130. ومنجم: مقلع. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج14، ص61، مادة (نجم). وأرمیَّاً: أحداً. اُنظر: ابن درید، محمد بن الحسن، جمهرة اللغة: ج2، ص484.
2- نوح: آیة26. اُنظر: الحوفی، أحمد محمد، أدب السیاسة فی العصر الأُموی: ص421.
3- الرافعی، مصطفی صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبویة: ص148.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ص556 -557. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص115 - 116.

فقد استمدَّ ابن صُرَد ضروباً مختلفة من آی الذَّکر الحکیم، ووشَّح بها أُسلوبه لیُضفی علیه حُلّة بدیعیة تجتذب إلیها أسماع المتلقّین، فهو تارةً یعتمد علی آیات قرآنیة فی ألفاظها تص-رّفاً جزئیاً کما فی قوله: «فاصبروا رحمکم الله علی البأساء وَالضَّ-رَّاءِ وحین البأس»، وهو مأخوذ من قوله(سبحانه وتعالی): « الزَّکَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِینَ فِی الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِینَ الْبَأْسِ أُولَئِکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَأُولَئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ » (1). وتارةً یعتمد علی معانی النص القرآنی من دون صیاغته، فیُفرغها فی بُنی جدیدة تحمل دلالات النص القرآنی المعتمد، کمثل قوله: «إنَّ التقوی أفضل الزاد فی الدنیا»، وهذا المعنی م-أخوذ من قوله (سبحانه وتعالی): « وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی وَاتَّقُونِ یَا أُولِی الْأَلْبَابِ » (2)، أمَّا قوله: «أحیانا الله وإیّاکم حیاة طیّبة»، فهو معنی مستمدٌّ ضمناَ من قوله(سبحانه وتعالی): «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثَی وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیَاةً طَیِّبَةً وَلَنَجْزِیَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ » (3).

فقد اعتمد ابنُ صُرَدْ علی ألفاظ ومعانی آیات متفرّقة من القرآن الکریم، فأحکم رصفها وتسخیرها حتی یُضفی علی أُسلوبه طابع الجزالة والرصانة؛ وذلک لیُمیل نحوه الأسماع، ویصرف إلیه الأنظار، ویأخذ بمجامع القلوب، ونجد أنَّ هذا التنویع فی التقاط أکبر عدد ممکن من الآیات دلالة واضحة علی تأثر المنشئ بآیات القرآن الکریم.

ثانیاً: نثر الرسول محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

اشارة

وهو ما أُثِرَ عن النبی الأکرم محمّد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) من خُطب ورسائل وعهود ووصایا، وما

ص: 63


1- البقرة: آیة177.
2- البقرة: آیة197.
3- النحل: آیة97.

صاحب ذلک من أقوال وآثار وأفکار إسلامیة، ومعانٍ قرآنیة، لم یکن العرب فی الجاهلیة قد ألفوا مثلها فی أدبهم.

فالأدب فی عصر النبوة کان ینتمی بجمیع أنواعه «إلی الإسلام، ویستمدُّ جمیع أُصوله منه، ویتأثّر به وحده فی کلِّ شیء، فی ألفاظه وأسالیبه، فی معانیه وأخیلته، فی صوره ومرائیه، فی أفکاره وثقافته، فهو أدبٌ یستمدُّ أفکارهُ وقیمهُ من الإسلام، ویُنسج علی منوال القرآن الکریم»(1).

فالقرآن کان المصدر الأوَّل فی کلّ تغییر علی الأدب العربی، وکان الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أوّل من اقتبس من آی الذکر الحکیم فی خُطبه ورسائله، بل حتی فی حدیثه العام، فقد کان یستمد معانیه منه، ویتمثَّل أُسلوبه لیدعم بها قوله، ولیزیده قوَّة ووضوحاً، فقد کان(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لا یستعین بخلابة ولا تزویق، إذ برئت ألفاظه من الأغراب والتعقید والاستکراه(2)، بل امتازت بسهولتها ووضوح معناها، وبلوغه المرام بأقص-ر السُّبل وأیس-رها، بعیداً عن الصناعة اللفظیة والتکلُّف، مع المیل إلی الإیجاز(3).

لقد أثَّر نثر المصطفی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی الأدب الذی جاء بعده، فسار الخلفاء الراشدون علی نهجه فی خُطبهم ورسائلهم، وبعد ذلک تأثَّرت الخُطب والرسائل فی العص-ر الأُموی به، فکان یَستمدُّ هذا الأدب جمیع مقوماته من الإسلام والقرآن.

والذی یهمُّ البحث هو تأثر النثر الفنّی فی حِقبتی التوّابین وإمارة المختار - موضوع الدراسة - بالفکر الإسلامی الذی رسمه الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی نثره، ومدی استفادة

ص: 64


1- الخفاجی، محمد عبد المنعم، الحیاة الأدبیة فی عصر صدر الإسلام: ص15.
2- اُنظر: ضیف، شوقی، الفن ومذاهبه فی النثر العربی: ص57.
3- اُنظر: معروف، نایف، الأدب الإسلامی فی عهد النبوة وخلافة الراشدین: ص26.

الخُطباء والمترسّلین فی هاتین الحِقبتین منه.

وبعد القراءة المتأنیة فی خُطب ورسائل الحِقبتین، وُجِدَ أنَّها قد تأثَّرت بشیء غیر قلیل من نثر الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فقد نهل الخُطباء والمترسّلون من موارد سُنَّته التی سنَّها فی أدبه، وتمثَّلوا روحها بکلّ ما تحمله فی تضاعیفها من أحادیث أو بناء فنّی کان یلتزمه الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وسیکون الحدیث عن المورد الأوَّل الذی استقی منه هؤلاء الخُطباء والمترسّلون من سُنَّة المصطفی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ألا وهو أحادیثه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

1 - الحدیث النَّبوی الشَّریف

کان الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أبلغ العرب لساناً، وأفصحهم بیاناً، وأصدقهم لهجةً، وأعذبهم أُسلوباً، وأروعهم حکمةً، وکان(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أفصح العرب فکانت بلاغته فی منزلتها بلاغة الذکر الحکیم، وهی البلاغة التی سجدت الأفکار لفصولها، وحسرت العقل دون غایاتها(1).

فقد عاش الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وتنقَّل فی أخلص القبائل منطقاً وأعذبهم بیاناً، فقد ولد فی بنی هاشم، ونشأ فی قریش، واسترضع فی بنی سعد، فکانت فصاحته «أشبه بالإلهام والفیض، فلم یعانِها ولم یتکلّفها ولم یرتض لها، وإنّما أسلست له الألفاظ وأُسْمِحَت له المعانی، فلم یند فی لسانه لفظ، ولم یضطرب فی أُسلوبه عبارة»(2).

وقال الجاحظ واصفاً کلامه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «وهو الکلام الذی قلَّ عددُ حروفه، وکثر عدد معانیه، وجلَّ عن الصنعة، ونزه عن التکلّف... واستعمل المبسوط فی موضع البسط، والمقصور فی موضع القص-ر، وهَجَر الغریب الوحشی، ورغب عن الهجین السّوقی، فلم

ص: 65


1- اُنظر: الخفاجی، محمد عبد المنعم، الحیاة الأدبیة فی عصر صدر الإسلام: ص101.
2- الزیات، أحمد حسن، تاریخ الأدب العربی الزیات: ص131.

ینطق إلّا عن میراث حکمة، ولم یتکلَّم إلّا بکلام قد حُفَّ بالعصمة، وشیّد بالتأیید، ویُسّرَ بالتوفیق... ثمّ لم یَسْمع الناس بکلام قطُّ أعمّ نفعاً، ولا أقصد لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أکرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح معنًی، ولا أبین فی فحوًی من کلامه صلّی الله علیه وسلّم کثیراً»(1)، ومن الطبیعی أن یکون الخُطباء والمترسّلون قد تأثروا بکلامه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؛ فاخذوا یحاکون أُسلوبه، وینهلون من معانیه، وربَّما کان المنشِئون یفعلون ذلک لیؤکّدوا صِحَّة مذهبهم وسلامة رأیهم، فکان واحدهم «یبنی کلامه علی أصل لا یزلزل، ویسوق مقاصده إلی سبیل لا یضلُّ عنه، فإنَّ الدلیل علی المقصد إذا أُسند إلی النص قویت فیه الحجَّة، وسلَّم له الخصم، وأذعن له المعاند، والفصاحة والبلاغة إذا طلبت غایتها فإنَّها بعد کتاب الله فی کلام مَن أُوتی جوامع الکلم»(2).

ومِمّا جاء علی سبیل التأثر بالحدیث النبوی الشریف واقتداء أُسلوبه، والأخذ بمعانیه فی خُطبة عبد الله بن یزید: «إنَّ المسلمَ أخو المسلمِ لا یخونه، ولا یغشُّه، وأنتم إخوانُنا، وأهلُ بلدنا، وأحبُّ أهلِ مصْر خَلَقَهُ اللهُ إلینا، فلا تُفْجِعونا بأنفُسکم، ولا تُنْقِصوا عدَدنا بخروجِکُم من جماعَتِنا»(3).

فقوله: «إنَّ المسلم أخو المسلم لا یخونه ولا یغشُّه» مأخوذ مِن قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «المسلم أخو المسلم...»(4)، أو من قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «المسلم أخو المسلم لا یخذله ولا یخونه ولا یسلمه فی مصیبة نزلت به»(5)، وکذلک مِن قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی حدیث له عن أبی موسی الأشعری: «مَنْ

ص: 66


1- الجاحظ، عمرو بن بحر، البیان والتبیین: ج2، ص16- 18.
2- القلقشندی، أحمد بن علی، صبح الأعشی فی صناعة الإنشا: ج1، ص243- 244.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص587.
4- البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج3، ص267. اُنظر: الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر: ج17، ص316.
5- الهیثمی، علی بن أبی الکرم، مجمع الزوائد: ج 8، ص339.

غشَّنا فلیس مِنَّا»(1)، أو قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «مَنْ غشَّ المسلمین فلیس مِنْهم»(2).

فقد ذکر الخطیب فی کلامه هذه الأحادیث الشریفة ضمناً، فکأنَّه قد وعی أحادیث رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، والتقط منها ما یناسب الموضوع الذی هو فی صدده، وما هذا إلّا دلیل علی المعرفة المستقصیة من الخطیب، بالأحادیث والقدرة علی الإفادة منها فی الوقت المناسب.

وعموما فقد أراد الخطیب بهذا لفت تنبّه السامع مع الحثّ علی التمسک بالأخلاق الحمیدة التی یجب أن یتحلَّی بها المسلم، والتی أکَّدها بالجمع من معانی أحادیث المصطفی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی عدم خیانة المسلم أو غشّه، ثمّ قرن هذا الإخبار ب-(إنَّ) المؤکدة لترسیخ الخبر فی ذهن السامع، ولیبدی الخطیب عندها - أی: بهذه المعانی الش-ریفة - صدق نیَّته فی عدم غشّ التوّابین أو خیانتهم.

ونجد عند سلیمان بن صُرَد ترسُّماً لمعانی الحدیث الشریف واقتباساً لصورته فی خُطبته التی ألقاها أمام الثائرین، فقال: «فإنَّ الجهادَ سنامُ العَمَل... جَعَلنا الله وإیّاکم مِنَ

العباد الصَّالحیَن، المجاهدیَن الصَّابرین علی الَّلأواء...»(3).

ویمضی ابن صُرَد هنا فی الحثّ علی الجهاد وتزیینه فی قلوب الثائرین، مستعیناً بحدیث رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) حینما أخبر معاذ بن جبل بقوله: «إنْ شِئْتَ أنبأتک برأسِ الأمرِ وَعَمودِهِ وَذرْوَةِ سَنَامهِ. قال: قلت: أجل یا رسولَ الله. قال: أمَّا رَأسُ الأمرِ فالإسلام، وأمَّا عمودهُ فالصلاة، وأما ذَرْوَةُ سَنامهِ فالجِهاد»(4).

ص: 67


1- النیسابوری، مسلم بن الحجاج، صحیح مسلم: ص57.
2- الهیثمی، علی بن أبی الکرم، مجمع الزوائد: ج4، ص140.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص588. واللأواء: الشدَّة. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج12، ص371، مادة (لوی).
4- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک: ج2، ص86. اُنظر: ابن ماجه، محمد بن یزید، سنن ابن ماجة: ج4، ص383.

فقد اقتبس ابنُ صُرَد من هذا الحدیث جملته الأخیرة (الجهاد سنام العمل)، وهذا ما یناسب موضوع خُطبته، وکان اقتباساً موفقاً فی موضعه، والقول الذی ساقه ابنُ صُرَد عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، إنَّما هو (استعارة) تدلُّ علی رفعة الجهاد وعلّوه، وبهذا یقول الش-ریف الرضی (ت406ه-): «وجعل الجهاد ذروة سنامه؛ لأنَّه یعدُّ الرأس أعلی مشارفه، وأرفع مراتبه، وبه یُشاد بناؤه، ویقام لواؤه، ویُقْمَع أعداؤه»(1).

وبهذا الاقتباس یکون ابن صُرَد قد وصَّل مقاصده بدلیلٍ مفحمٍ من الحدیث؛ وذلک لیحثَّ السامع علی التفانی من أجل مجاهدة الظالمین، ولمَّا کان الجهاد أرفع الأعمال وأشرفها؛ بدلیل قول الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فعلیه سرعة انجازه وعدم التوانی عنه.

وممَّا جاء علی سبیل الاحتذاء الأُسلوبی لأقوال الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، واستثمار معانیها فی الحال المناسبة ما جاء فی خُطبة المختار الثقفی:

«إنّی إنَّما أعملُ علی مثالٍ قد مثل لی، وأمرٍ قَد بُیّنَ لی، فیه عزُّ ولِیّکُمْ، وقَتْلُ عَدوّکُم،وشِفاءُ صدورِکم، فاسمعوا منّی قولی، وأطیعوا أمری، ثمّ أبشروا وتباشروا، فإنّی لکم بکلّ ما تأملون خیر زعیم»(2).

فقوله: «إنّی لکم بکلّ ما تأملون خیر زعیم»، والزَّعیم هنا بمعنی الکفیل(3)، فکأنّما یُرید المختار أن یقول: إنّی سأحقّق هذه الغایة، وأنتقم من الظالمین، وأنا خیر کفیل بهذا. وهذا یذکّرنا بقول رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «أنا زعیمٌ - والزعیم الحمیل - لمَن آمن وأسلم وجاهد فی سبیل الله ببیتٍ فی رَبَض الجَنة، وببیتٍ فی وَسَط الجنة، وأنا زعیم لمَن آمن ببیتٍ فی وسط الجنة، وأنا زعیم لَمن آمن وأسلم وهاجر ببیتٍ فی ربض الجنة، وببیتٍ فی وسط

ص: 68


1- الشریف الرضی، محمد بن الحسین، المجازات النبویة: ص375. اُنظر: الشکعة، مصطفی، البیان المحمّدی: ص757.
2- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج 2، ص75.
3- اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج6، ص48، مادة (زعم).

الجنة، وببیت فی أعلی الجنة...»(1).

وهنا استعان المختار بلفظة (زعیم) التی أوردها الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی حدیثه بصورةٍ متکرَّرةٍ، کی یحقّق قصده منها فی إیصاله للمعانی والأفکار؛ لأنَّ «ألفاظ الحدیث الش-ریف مألوفة ترتاح إلیها الأسماع، ویستسیغها فی النطق اللسان، ترقُّ فی موضع اللین، وتجزل حین یقتض-ی الأمر الجزالة، تراعی مقتضی الحال، فتؤدّی وظیفتها الدلالیّة واللفظیّة بکفاءة عالیة ونسیج فرید»(2).

وهکذا تأثّر المنشِئون فی هاتین الحِقبتین بأحادیث الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فاقتبسوا منها، وأفادوا من معانیها؛ لیزیدوا من قوّة أُسلوبهم جمالاً وإحکاماً.

2- خُطب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ورسائله
اشارة

وقد أخذ أغلب الخُطباء والمترسّلون من خُطب الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ورسائله، فاحتذوا

حذوه فیما جاء بتلک الخُطب والرسائل، سواء أکان فی معانیها وأفکارها، أم فی أُسلوبها وبنائها العام.

أمَّا الخُطب فکانت معانیها تدور فی معانی القرآن الکریم، والحثّ علی الجهاد والاستشهاد فی سبیل الله، وإثارة الإیمان والعقیدة فی النفوس، حتی تُقبِل علی الحرب صادقة، وکذلک الدعوة إلی الزهد وترک ملذات الدنیا وزخارفها(3).

أمَّا أُسلوبها، فقد کان أهمّ ما یُمیّزه عذوبة ألفاظه، وقوّة تأثیره وتناسب اقتباسه من القرآن الکریم، وکان أُسلوباً فطریّاً «یساوق الطَّبع، ویوائم السلیقة، ولا یتعسَّف فی لفظٍ

ص: 69


1- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک: ج2، ص81.
2- معروف، نایف، الأدب الإسلامی فی عهد النبوة وخلافة الراشدین: ص26.
3- اُنظر: الخفاجی، محمد عبد المنعم، الحیاة الأدبیة فی عصر صدر الإسلام: ص120- 121.

أو فکرٍ أو خیالٍ. فهو لیِّن هادئ، أو ثائر عاصف، علی حسب المقتضیات، ووفقاً للأحوال مع وضوح اللفظ وسهولة الأُسلوب، والانسجام التام فی بناء الکلمات»(1).

ومن حیث اعتماد السجع فإنّه کان قلیلاً جدّاً، وإذا وقع فهو غیر متکلّف أو ممجوج، والسبب أنَّ الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کان ینفر من (المتعمَّد) منه؛ بسبب استعمال الکهّان له فی الجاهلیّة(2).

فخُطب الرسول الکریم إذاً کانت سهلة الاستیعاب، غیر متکلّفة لا تعنی بتزویق أو خلابة فی عبارتها، فکان همُّها تأدیة الغرض الذی یقصده(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فحسب، وعلیه کانت ألفاظها ومعانیها فی خدمة مضموناتها السامیة.

وکان الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قد نهج فی افتتاح خُطبه نهجاً جدیداً لم یألفه العرب فی الجاهلیة من قبلُ، وهو البدء بحمد الله(سبحانه وتعالی)، والصلاة علی رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )(3)، واقتران ذلک

بالشهادتین، کما تقترن بکلمة (أمَّا بعدُ) (4).

أمَّا الخاتمة، فقد کان الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یختتم خُطبه بالتحمید أو الدعاء، مردوفة بعبارة (والسلام)، أو (السلام علیکم ورحمة الله وبرکاته)(5).

وإذا ما استقرینا العص-ر الأُموی - ومنه (عص-ر التوّابین والمختار) - فنجد أن الخطیب العلوی کان یعمل مثلما یعمل الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی افتتاح خُطبه، فأکثرها مبدوءٌ بحمد الله(سبحانه وتعالی) والثّناء علیه، والصلاة والسلام علی رسوله(6)، حتی أنَّه کانت

ص: 70


1- الخفاجی، محمد عبد المنعم، الحیاة الأدبیة فی عصر صدر الإسلام: ص121- 122.
2- اُنظر: ضیف، شوقی، الفن ومذاهبه فی النثر العربی: ص57
3- اُنظر: الزیات، أحمد حسن، تاریخ الأدب العربی: ص128.
4- اُنظر: ضیف، شوقی، الفن ومذاهبه فی النثر العربی: ص55.
5- اُنظر: المقداد، محمود، تاریخ الترسل النثری عند العرب فی صدر الإسلام: ص226.
6- اُنظر: الحوفی، أحمد محمد، أدب السیاسة فی العصر الأُموی: ص340 - 341.

تُسمَّی الخُطبة التی لا تبدأ بالحمد بالبتراء(1).

فکانت خُطب ثورة التوّابین وإمارة المختار صورة صادقة عن خُطب الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی الافتتاح والاختتام، شأنها فی ذلک شأن خُطب العصر الأُموی، فمن ذلک ما نجد فی خُطبة سلیمان بن صُرَد فی افتتاحه لها بقوله: «أُثْنی علی اللهِ خَیْراً، وأحمد آلاءَه وبلاءَه، وأشهدُ أنْ لا اله إلّا الله، وأنَّ محمداً رسولُ الله، أمَّا بعدُ...»(2). أو مطلع خُطبة المختار فی دار إبراهیم الأشتر بقوله: «الحمدُ لله وأشهدُ أنْ لا إله إلّا الله، وصلَّی الله علی محمدٍ، والسَّلامُ علیه، أمَّا بعدُ...» (3).

وهکذا تفتتح الخُطب فی هاتین الحِقبتین، فهی لم تخرج عمّا ما کانت علیه خُطب الرسول. أمّا الخواتیم، فهی الأُخری کانت علی سَمْتِ خُطبه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ففی خُطبة المسیب ابن نجبة کان قد بدأها بحمد الله(سبحانه وتعالی) والثناء علیه والصلاة علی نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وختمها بعبارة الدعاء قائلا: «أقولُ قولی هذا، وأسْتَغْفِرُ الله لی ولکم»(4)، ومثل هذا الاختتام اختتم عبد الله بن یزید الأنصاری خُطبته بقوله: «إنّی لم آلکم نصحاً، جمع الله لنا کلمتنا، وأصلح لنا أئمتنا»(5).

أمّا رسائل الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فقد کانت مثل خُطبه تؤدّی «دورها فی بساطةٍ ویُسْ-رٍ علی المستوی اللُّغوی، دون صَنْعةٍ ولا غموضٍ، ولا کهانةٍ ولا لَبْسٍ»(6). فکان(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لا یعتنی

ص: 71


1- اُنظر: الجاحظ، عمرو بن بحر، البیان والتبیین: ج2، ص6.
2- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص60.
3- المصدر السابق: ج2، ص81.
4- المصدر السابق: ج2، ص59.
5- المصدر السابق: ج2، ص62. ولم آلکم نصحاً: لم أُقصّر فی نصحکم. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج12، ص369، مادة (لوی)
6- خلیف، می یوسف، النثر الفنی بین صدر الإسلام والعصر الأُموی: دراسة تحلیلیة: ص37.

فیها بتحبیر فنّی، وعندها کانت تخلو من «الصناعة اللفظیة، تکثر فیها الإشارة إلی المعانی، والبُعد عن تکلُّف السجع أو البدیع، هی أقرب إلی لغة المحادثة والتخاطب»(1)، أمّا أُسلوبها، فقد کان جزل الألفاظ، فخم التراکیب، خالیاً من التطویل والمبالغة، «فقد طُبِعَ علی الإرسال، والإیجاز المُحْکَم، فلا حشوٌ ولا فضولٌ، ولا استطراد ولا تفریع»(2).

وکانت معانیها مثل معانی خُطبه أیضاً تدور فی معانی القرآن الکریم، فتقتبس منه وتحتذی أُسلوبه(3)، وکذلک کان لمعانی الجهاد والزهد فی الدنیا، والحثّ علی التقوی نصیب کبیر فیها.

أمّا البناء الأُسلوبی لرسائل النبی الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فقد کان ذلک فی حدّ ذاته ابتکاراً لم تشهده الرسائل من قبل، سواءً کانت فی افتتاحها أم خواتیمها، وسوف یُبیّن البحث الملامح المهمّة التی کان یتبعها الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی رسائله وسنقف منها إیجازاً عند الآتی:

أ - البسملة

کان الجاهلیون یفتتحون رسائلهم بعبارة: (بسمک اللهمّ)، وقد سار النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

ب-ها زمن-اً(4))، فلمّا نزل قوله(سبحانه وتعالی): «إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ » (5) قال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): اجعلوها صدر الکتاب، فجعلت(6).

ب - العنوان

وهو ذکر اسم المرسِل، واسم المرسَل إلیه فی مطلع الرسالة بعد البسملة (من فلان

ص: 71


1- المقدسی، أنیس، تطور الأسالیب النثریة فی الأدب العربی: ص36.
2- حجاب، محمد نبیه، بلاغة الکتاب فی العصر العباسی: دراسة تحلیلیة نقدیة لتطور الأسالیب: ص63.
3- اُنظر: المقداد، محمود، تاریخ الترسل النثری عند العرب فی صدر الإسلام: ص287 - 288.
4- اُنظر: القلقشندی، أحمد بن علی، صبح الأعشی فی صناعة الإنشا: ج1، ص480.
5- النمل: آیة30.
6- اُنظر: معروف، نایف، الأدب الإسلامی فی عهد النبوة وخلافة الراشدین: ص84.

إلی فلان)، (من محمد رسول الله إلی فلان) (1)، وقد ذکر أبو هلال العسکری (ت395ه-) أنَّ أوَّل مَن کتب (من فلان إلی فلان) هو قس بن ساعدة الأیادی وأقرَّه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی مکاتباته (2).

وعندها «کان الوضع الطبیعی فی صیغة العنوان أن یبدأ الکاتب والمرسِل باسمه، ثمّ یثنی بکتابة اسم المرسَل إلیه، ویبدو أنَّ ذلک کان هو التقلید الغالب فی الجاهلیة... إلّا أنَّ ظهور الکتب بین النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأصحابه واطّرادها دفع بمعظم الصحابة الذین یکتبون إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إلی أنْ یُبْدأ باسمه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ولقبه تعظیماً له وتأدّباً معه فی الخطاب»(3).

ج - السلام

کان السلام هو بمثابة الاستفتاح بالرسائل؛ لأنَّه أوَّل ما یبتدأ به الکلام، وقد فسّ-ر القلقشندی استعمال السلام بقوله: «لأنّه تحیَّة الإسلام المطلوبة لتألیف القلوب»(4) وکان افتتاح الرسائل ب-(السلام علیکم) غالباً(5).

د - التخلّص

وبعد ذلک کان لا بدَّ من وسیلة للتخلص من هذه المقدمات والدخول فی المضمون، وقد کان(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یتخلَّص من المقدمات بعبارة: (أمَّا بعدُ)، ورُوی أنَّ أوَّل مَن قالها هو قس بن ساعدة الأیادی(6)، وذکر القلقشندی أنَّ أوَّل مَن قال هذه العبارة

ص: 73


1- اُنظر: المقداد، محمود، تاریخ الترسل النثری عند العرب فی صدر الإسلام: ص220. حجاب، محمد نبیه، بلاغة الکتاب فی العصر العباسی: دراسة تحلیلیة نقدیة لتطور الأسالیب: ص50 - 51.
2- اُنظر: القلقشندی، أحمد بن علی، صبح الأعشی فی صناعة الإنشا: ج1، ص480.
3- المقداد، محمود، تاریخ الترسل النثری عند العرب فی صدر الإسلام: ص221.
4- القلقشندی، أحمد بن علی، صبح الأعشی فی صناعة الإنشا: ج6، ص220.
5- اُنظر: معروف، نایف، الأدب الإسلامی فی عهد النبوة وخلافة الراشدین: ص84.
6- اُنظر: المقداد، محمود، تاریخ الترسل النثری عند العرب فی صدر الإسلام: ص226 - 227.

هو کعب بن لؤی(1).

وذکر الصُّولی (ت335ه-) هذا الفصل بهذه العبارة، فقال: «إنَّه إنَّما یکون بعد حمد الله، أو بعد الدعاء، أو بعد قولهم من فلان إلی فلان، فیفصل بها بین الخطاب المتقدِّم وبین الخطاب الذی یجیء بعد، ولا تقع إلّا بعد ما ذکرناه»(2).

وکان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یسبق هذا الفصل بعبارة: «إنّی أحمد إلیک الله الذی لا اله إلّا هو» (3).

ه- - الختام

کانت الرسائل فی عهده(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) تختم بعد الفراغ من المضمون بأشکال متعددة من التعابیر، وکان أتمَّها صیغه (السلام علیک ورحمة الله وبرکاته)(4)، إلّا أنَّها قد تُختص-ر إلی (والسلام علیک)(5)، أو« وَالسَّلَامُ عَلَی مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَی»(6). (7)، أو فقط (والسلام)، وهذه الأخیرة هی الغالبة علی الاستعمال، نظراً لمِا فیها من اختصار وإفادة الدلالة نفسها للصیغ السابقة(8).

ومن الجدیر بالذّکر أنَّ هذه الخصائص التی اتَّبعها الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی رسائله سار علیها المترسّلون بعده، ولاسیّما فی حِقبتی التوّابین والمختار الثقفی، سواء من حیث المعانی والمضمونات، أم من حیث الأسالیب أو الهیکل العام، فکانت معانی

ص: 74


1- اُنظر: القلقشندی، أحمد بن علی، صبح الأعشی فی صناعة الإنشا: ج6، ص222.
2- ابن قتیبة، عبد الله مسلم، أدب الکتاب: ص37.
3- اُنظر: الزیات، أحمد حسن، تاریخ الأدب العربی: ص131.
4- اُنظر: القلقشندی، أحمد بن علی، صبح الأعشی فی صناعة الإنشا: ج6، ص352.
5- اُنظر: المصدر السابق.
6- اُنظر: الزیات، أحمد حسن، تاریخ الأدب العربی: ص142.
7- طه: آیة47.
8- اُنظر: المقداد، محمود، تاریخ الترسل النثری عند العرب فی صدر الإسلام: ص228.

رسائلهم، تدور حول معانی القرآن الکریم، والدعوة إلی الجهاد، واستنفار الهمم، والحثّ علی التقوی والتزهید فی الدنیا. وأمَّا أسالیبها، فقد کانت واضحةً سهلةً خالیةً من مظاهر التبجیل والتفخیم، وکانت الألفاظ علی قدر المعانی، ولم یحتفلوا بزخرف فی اللفظ، ولم یهتموا بالسجع، إلّا ما کان عفوا من دون تصنّع، ویُستثنی من ذلک ما کانت علیه رسائل المختار الثقفی فی بعضها کما تقدّم. وکما کانت موجزةً حیث یتطلّب الإیجاز، وطویلةً حیث یتطلب الإطناب.

وأمَّا من ناحیة بنائها العام، فقد کانت صورةً صادقةً من صور البنی الأُسلوبیة لرسائل عصر الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وهی تبدأ بالبسملة عموماً، وذکر اسم المرسِل واسم المرسَل إلیه إذا کان المرسِل أعلی منزلةً من المرسَل إلیه، والعکس بالعکس، فقد یذکر اسم المرسل إلیه قبل اسم المرسِل إذا کان المرسل إلیه أعلی منزلةً من المرسل.

فقد جاء فی رسالة سلیمان بن صُرَد إلی سعد بن حذیفة قوله: «بسم الله الرحمن الرحیم، مِن سُلیَمان بن صُرَد إلی سعد بن حذیفة ومَن قِبَله مِنَ المؤمنین»(1).

فردَّ علیه سعد: «بسم الله الرحمن الرحیم، إلی سلیمان بن صُرَد، مِنْ سَعد بن حذیفة ومِنْ قِبَله مِنَ المؤمنین...»(2).

فکان هذا تقلیداً فنیّاً لرسائل عصر الإسلام، إذ إنَّ المرسَل إلیه یُقدَّم إذا کان أعلی منزلةً من المرسل، وقد فُعل ذلک أیّام النبی الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فکان المترسّلون یراسلونه وهم یذکرون اسمه بدءاً تشریفاً له؛ لأنّه أعلی منزلةً منهم(3).

أمَّا السلام، فقد کان المترسّلون یحتذون العبارة المشهورة التی کانت فی صدر

ص: 75


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص429.
2- المصدر السابق: ص431.
3- اُنظر: المقداد، محمود، تاریخ الترسل النثری عند العرب فی صدر الإسلام: ص221.

الإسلام وهی: (السلام علیکم)، وهذا واضحٌ فی جمیع خُطب ورسائل الحِقبتین، وکذلک کان التخلص بعبارة: (أمَّا بعدُ) مسبوقة أحیاناً بحمد الله جلَّ شأنه.

وکان الختام بعبارة (السلام علیک)، أو (والسلام)، أو (السلام علیک ورحمة الله وبرکاته)، وکلّ ذلک تقلید لفن الترسّل الذی کان النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علیه، ویمثل هذا خیر تمثیل کتاب المختار إلی محمد بن الحنفیة: «بسم الله الرحمن الرحیم، للمهدی محمّد بنِ علی مِنَ المختارِ بنِ أبی عُبَید، سلامٌ علیکَ یا أیُّها المهدی، فإنّی أحمد إلیکَ الله الّذیْ لا أله إلّا هوَ، أمَّا بعدُ: فإنَّ اللهَ بعَثنی نقمةً علی أعدائکم، فَهُم بین قتیل وأسیْر، وطَریْدٍ وشَریْدٍ، فالحمدُ لله الذی قتل قاتلیکم، ونَص-َر مؤازِرِیکم، وَقدَ بعَثْتُ إلیک برأسِ عمرَ بن سعدٍ وابنهُ، وقَدْ قتلنا مَنْ شَرَک فی دم الحسین وأهل بیته - رحمة الله علیهم - کلّ مَنْ قدَرْنا َعلیه، وَلْن یُعْجزَ الله مَنْ بقی، وَلَسْتُ بِمُنْجِمٍ عنهم حتی لا یَبلغَنی أنَّ علی أدیمِ الأرضِ مَنْهُم أرمیاً، فاکتبْ إلیَّ أیَّها المهدی برأیک أتبّعه وأکون علیه، والسلام علیک أیّها المهدی ورحمةُ الله وبرکاتُه»(1).

فهذه الرسالة تمثّل صورة صادقة للرسائل التی کانت فی عص-ر الرسول محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، سواء أکان ذلک فی معانیها وأفکارها أو فی أُسلوبها وبنائها.

لقد ابتدأ المختار رسالته هذه بالبسملة، وذکر المرسَل إلیه قبل المرسِل؛ وذلک لأنَّه یری أنَّ المرسَل إلیه أعلی منه منزلاً ورتبةً، ثمّ أردف ذلک بعبارة السلام، وهی: (سلام علیک) متلوّةٌ بعبارة: (إنّی أحمد إلیک الله الذی لا إله إلّا هو). علی شاکلة رسائل النبی الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وتخلَّص بعدها من هذه المقدّمات بالعبارة المشهورة (أمَّا بعدُ)، وقد دخل فی غرضه الذی یتحدّث عن انتقامه من قتلة الإمام الحسین(علیه السّلام) وأهل بیته وبعثه برأس ابن سعد وابنه إلی محمد بن الحنفیة، وکان أُسلوبه جزلاً فصیحاً لیس فیه غموض ولا

ص: 76


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص62.

تکلّف، ولا نجد للسجع مکاناً فی الرسالة مع أنَّه کان طابعاً أُسلوبیّاً حاضراً فی رسائله وحتی فی کلامه، فکأنَّما أراد لهذه الرسالة أنْ تکون تقلیداً فنیاً للرسائل النبویة التی قد خلت من حلیة السجع.

وکان للقرآن الکریم واستمداد معانی آیاته الشریفة نصیبٌ من الحضور فی قوله: «حتی لا یبلغنی أنَّ علی أدیم الأرض منهم أرمیاً»، وهو معنی مأخوذٌ من قوله(سبحانه وتعالی) علی لس-ان نبیّ-ه ن-وح(علیه السّلام): «وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَی الْأَرْضِ مِنَ الْکَافِرِینَ دَیَّارًا » (1)، وما هذا إلّا لإسباغ طابع التأثیر، وتقویة العبارات بالمعانی القرآنیة.

کما نجد طابع الإیجاز والسهولة علی الرسالة علی الرغم من وجود بعض الکلمات غیر المألوفة ک-(منجم) و(أرمیّاً)، فهو لا یخرجها علی ما هو علیه من أُسلوب الرسائل النبویة فی الأعمّ الأغلب.

وهذا لا یعنی أنَّ رسائل هاتین الحِقبتین کانت تتمیَّز بالقص-ر والإیجاز والخلو من حلیة السجع وعدم اعتماد الغریب من الألفاظ، بل کان بعض المترسّلین یعتمدون فی تحبیر رسائلهم علی أُسلوب السجع، وإیراد الغریب من الألفاظ، وما ذلک إلّا مظهر من مظاهر النضج الفنّی الذی بلغته الرسائل فی العصر الأُموی(2).

وممَّا تقدَّم یتبیَّن للبحث أنَّ النثر الفنّی فی خُطبه ورسائله کان صورةً صادقةً للنثر النبوی الذی سنَّهُ الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وساروا علیها فیما بعد.

ص: 77


1- نوح: آیة26. اُنظر: الحوفی، أحمد محمد، أدب السیاسة فی العصر الأُموی: ص421.
2- اُنظر: رضا، غانم جواد، الرسائل الفنیة فی العصر الإسلامی: إلی نهایة العصر الأُموی: ص316، وص318.

ثالثاً: نثر الإمام علی بن أبی طالب(علیه السّلام)

المورد الثالث من موارد نثر التوّابین وإمارة المختار هو النثر الفنی لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام) إذ طبع هذا النثر بصماته علی أدب هاتین الحِقبتین، فتمثَّله الخُطباء والمترسّلون، وساروا علی نهجه، سواء أکان فی أُسلوبه وصیاغته أم فی معانیه وأفکاره، وقد بلغ فی ذلک شأناً کبیراً یُقارب فی تأثره تأثرهم بالقرآن الکریم، ممَّا أسبغ علی بعض تلکم الخُطب والرسائل بطابع أُسلوبی واضح، ولا شکّ أنَّ ذلک متأتٍ من أنَّ الإمام(علیه السّلام) کان أبلغ الخُطباء وأعلامهم - وتشهد له بذلک کلّ العصور - لأنَّه نشأ فی بیت النبوة، وتغذی بالبیان والحکمة، وتفقه بالکتاب والسّنة، وتفوَّق فی العلم والمعرفة، وتألَّق فی الحکمة والخطابة، وهذه کانت «ثمرة لنشأته الرفیعة، وبیئته العجیبة، وحیاته الخصبة، وتجاربه الجلیلة فی الحیاة، فکان حکیماً تتفجَّر الحکمة من بیانه، وخطیباً تتدفَّق البلاغة علی لسانه، وواعظاً ملئ السمع والقلب، وکاتباً بلیغاً مترسلاً بعیدُ غور الحجَّة، ومتکلّماً یجول ببیانه فی کلِّ مجالٍ، ویصول به فی کلِّ نضالٍ، ویناضل به عن الدِّین، والدَّعوة أروع نضال»(1).

وبهذا قد أثر الإمام(علیه السّلام) - بلا شک - فی أدب هاتین الحِقبتین، خصوصاً إذا ما علمنا أنّهما قامتا بقیادات موالیة للإمام علی بن أبی طالب(علیه السّلام) وشیعته وسائرة علی خطَّه، علی النقیض من خصومهم، أی أنّهم کانوا یتوسلون بنثر الإمام(علیه السّلام) ویودعونه فی خُطبهم ورسائلهم، لیدْعموا بها آراءهم وحججهم؛ لأنَّ نثر الإمام(علیه السّلام) کان یواکب مجریات الحزب الشیعی، فکان لسانه الناطق، وقلبه النابض، وعقله الجدلی الواعی الذی لا یکلُّ ولا یملُّ، فاتخذوه مورداً من موارد نثرهم.

ص: 78


1- الخفاجی، محمد عبد المنعم، الحیاة الأدبیة فی عصر صدر الإسلام: ص145.

وعندما نقرأ فی نثرهم ونحکم علیه بالتأثر بنثر الإمام علی(علیه السّلام)، فإنَّما یکون ذلک بالمقارنة بما جاء فی نثرهم ونثر الإمام علی(علیه السّلام) الذی یضمه بین دفتیه کتاب (نهج البلاغة)، ذلک الکتاب الجلیل والأثر الأدبی الخالد، بعد کلام الله(سبحانه وتعالی) وکلام رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وقد جمعه الشریف الرضی وهو مشتمل علی ما ورد للإمام(علیه السّلام) من خُطب ووصایا، ونصائح وحکم، وأمثال ومواعظ، ومحاورات ورسائل، وعهود وغیرها.

وقد قال الشریف الرضی واصفاً کلام الإمام(علیه السّلام): «کان أمیرُ المؤمنین(علیه السّلام) مَشْ-رَعَ الفصاحة ومَوْرِدُها، ومَنْشَأ البلاغة ومَوْلِدها، ومنه(علیه السّلام) ظهر مکنونها، وعنه أُخذت قوانینها، وعلی أمثلته حذا کلُّ قائلٍ خطیبٍ، وبکلامه استعان کلُّ واعظٍ بلیغٍ... لأنَّ کلامه(علیه السّلام) الکلام الذی علیه مسحة من العلم الإلهی، وفیه عبقة من الکلام النبوی... فأمَّا کلامه(علیه السّلام) فهو البحر الذی لا یُساجَل، والجمُّ الذی لا یُحافَل»(1).

ومن هنا تأثر النثر الفنی فی هاتین الحِقبتین بکلامه(علیه السّلام)، فزیَّنوا به خُطبهم ورسائلهم، مضیفین إلی الجانب الدلالی، الجانب الجمالی والتأنق بالعبارة، وسوف نلحظ مدی تأثر النثر فی هاتین الحِقبتین بنثر الإمام علی(علیه السّلام)، من خلال الأمثلة التی وردت فی خُطبهم ورسائلهم، فممَّا جاء علی طریق التأثر بکلامه(علیه السّلام) کان فی خُطبة المسیَّب بن نجبة الفزاری «أمَّا بعدُ، فانّا قدَ ابتُلینا بطولِ العُمر، والتعرّض لأنواع الِفَتَن فنرغَبُ... فإنَّ أمیرَ المؤمنین قال: العُمرُ الذی أعذر الله فیه إلی

ص: 79


1- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ص15- ص16.

ابن آدم ستّون سنة، ولیس فینا رجلٌ إلّا وقدْ بَلَغَه»(1)، فنجد أنَّ الخطیب قد تمثَّل مقولة الإمام(علیه السّلام) فی خُطبته لیتمکن من إیصال الدلالات إلی ذهن السامع، ویجذب تنبهه عن طریق هذا الاستشهاد، وهذا القول موجود بنصه فی نهج البلاغة، قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام): «العُمرُ الذی أعذر الله فیه إلی ابن آدم ستون سنة»(2).

وتدلُّ هذه المقولة التی استشهد بها المسیب أن هؤلاء التوّابین قد أصبحوا شیوخاً متجاوزین مرحلة الطیش، وقد اختاروا طریق التوبة(3)، فلا عذر بعد ذلک للقعود عن الجهاد والسکوت علی الهوان والظلم، قد ساق قول الإمام(علیه السّلام)؛ لأنّه کان یراه حجة علیه، فالأخذ به واجب لا مناص منه.

وممَّا جاء فی ذلک أیضاً ما نجد فی خُطبة سلیمان بن صُرَد الخزاعی بقوله: «أمَّا بعدُ، فَقَد أتاکم الله بعدوّکم الذی دأبتم فی المسیر إلیه آناء اللّیل والنَّهار، تُریدون فیما تُظْهِرون

التَّوبة النَّصُوح، ولقاءَ الله مُعذِرین، فقد جاءوکم بل جئتموهم أنتم فی دارهم وحَیّزهِم، فإذا لقیتموهم فأصدقُوهم... لا تَقَتلُوا مُدْبِراً، ولا تُجهزوا علی جریحٍ، ولا تقتلوا أسیراً من أهل دعوَتکُم، إلّا أنْ یقاتلکم بعدَ أنْ تأسروه، أو یکون من قَتَلَةِ إخواننا بالطَّف رحمة ُالله علیهم؛ فإنَّ هذهِ کانتْ سیرةُ أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب فی أهلِ هذه الدّعوة»(4).

فقد اعتمد ابن صُرَد فی خُطبته هذه اقتباساً دالاً مؤکّداً یحیل إلی سیرة الإمام(علیه السّلام) قولاً وفعلاً فی قوله: «لا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا علی جریح، ولا تقتلوا أسیرا ًمن أهل دعوتکم»، وهذا القول مأخوذ من قول الإمام(علیه السّلام): «لا تُقاتلوهم حتی یَبْدَأَوکم، فإنَّکم بحمد الله علی حُجَّةٍ، وتَرْکُکُم إیَّاهم حتی یبدأَوکم حجَّةٌ أُخری لکم علیهم، فإذا کانت الهزیمة بإذن الله، فلا تقتلوا مدْبِراً، ولا تُصْیبوا مُعْوِراً، لا تُجْهِزوا علی جَریح، ولا تهیجوا النساء بأَذی»(5).

ص: 80


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص552.
2- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ج3، ص231.
3- اُنظر: العوادی، مشکور، خطب التوابین بعد استشهاد الإمام الحسین (علیه السّلام): المغزی والأُسلوب: ص15.
4- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص72.
5- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ص436.

فقد تمثَّل الخطیب وصیَّة الإمام(علیه السّلام) فی جنده؛ لتظهر علی فعله وفعل أصحابه فی قتال أعدائهم، حتی یُبرهن علی التواصل والامتداد الفکری والفعلی بینه وبین الإمام(علیه السّلام)، وإنّهم لم یثوروا طلاب ملذَّة أو متاع، علاوة علی ذلک أنَّ التمسک بسیرة الإمام(علیه السّلام) یعنی التمسک بالأخلاق العلیا والمعانی الإسلامیة السامیة، فی عدم قتل الجرحی، أو اضطهاد الأسری، وسبی النساء إنْ هم خاضوا غمار الحروب، وإنَّ سیرة أمیر المؤمنین هذه هی عینها سیرة رسول لله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فقد روی عن الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کان أنَّه إذا بعث سریة قال: «اغزوا باسم الله، وقاتلوا مَن کفر بالله، ولا تمثِّلوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا ولیداً ولا شیخاً کبیراً»(1)، فهذه السیرة فی الحرب هی سیرة الرسول المصطفی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وقد جسَّدها أمیر المؤمنین(علیه السّلام) فی حروبه، وأوعز بها إلی ولاته تنفیذاً، وهی سیرة النبلاء والصالحین، وقد وصَّی بها ابن صُرَد قومه انسجاماً مع خط رسول الله نبی الأُمّة(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وولیّه علی بن أبی طالب(علیه السّلام)؛ لیبرهن علی أنَّهم أصحاب حقّ وأصحاب رسالة، وبالموازنة بین سیرة الإمام والتوّابین وسیرة بنی أُمیّة عندما قاتلوا الحسین(علیه السّلام)، وقد قتلوا الولدان، وسبوا النساء، وقتلوا الأطفال، یتبیَّن مَنْ هو علی الهدی ومَن هو فی الضلال المبین، قال الله(سبحانه وتعالی): « فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّی تُصْرَفُونَ »(2)).

وممَّا جاء علی سبیل الأخذ بأُسلوب الإمام علی(علیه السّلام) فی خُطبه، واستمداد معانیه ما ورد فی خُطبة عبید الله المرّی لقوله: «أمَّا بعدُ، فإنَّ الله اصطفی محمَّداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی خلقه بنبوَّته، وخصَّه بالفضلِ کلِّه، وأعزَّکم باتباعه وأکرمکم بالإیمان به، فَحَقَن بهِ دماءَکم المسفوکَة، وأمَّنَ به سُبُلَکُم المَخُوفَة، « وَکُنْتُمْ عَلَی شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْهَا کَذَلِکَ

ص: 81


1- الهیثمی، علی بن أبی الکرم، مجمع الزوائد: ج5، ص572.
2- آل عمران: آیة103.

یُبَیِّنُ اللَّهُ لَکُمْ آیَاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ »(1)(2).

وأُسلوب هذه الخُطبة هو احتذاء لأُسلوب الإمام علی(علیه السّلام) فی إحدی خُطبه حین قال: «إنَّ الله سبحانه بعث محمَّداً نذیراً للعالمین وأمیناً علی التنزیل وأنتم معشر العرب علی شرّ دین، وفی شرّ دار، مُنتخون بین حجارةٍ خُشْن، وحَیَّاتٍ صمٍّ، تش-ربون الکَدِرَ، وتأکلون الجَشِبَ، وتَسفکون دماءکم، وتَقْطعُون أرحامکم، الأصنام فیکم منصوبة، والآثام بکم معصوبة...»(3).

ومن هنا نجد أنَّ خطیب التوّابین کان ینهل من أُسلوب الإمام علی(علیه السّلام)، فیتمثَّله فی خُطبته، وکان قصده أنْ یأتی بالأفکار التی قالها الإمام(علیه السّلام)، وهی أنَّ الله (سبحانه وتعالی)قد بعث محمّداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إلی العرب، وحقن دماءهم بعدما کانت مسفوکة بین الحین والآخر، وأنَّ الرسول هو الذی خلَّص هذه البشریة من الاقتتال والظلمات.

وأراد الخطیب من هذه المقاربة الأُسلوبیة أنْ یذکّر الأُمّة بعظیم فضل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علیها، فالواجب احترام ذریته المتمثلة بالإمام الحسین(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأهل بیته الأطهار، ولکنَّ الذی جری هو علی النقیض تماماً فبدلاً من أنْ یحترموا ذریته جزاءً له أخذوا بقتلهم والتنکیل بهم.

والمهمّ أنَّ الخطیب اتَّخذ من أُسلوب الإمام علی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وسیلةً لتوصیل هذه الأفکار، وبثّها فی أذهان سامعیه، لاسیّما أنَّ الخط العقدی موصول بین الإمام والتوّابین فی هذا الباب المهم.

ص: 82


1- یونس: آیة32.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص559. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص63.
3- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ص70. منتخون: مقیمون. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج14، ص321، مادة (نوخ). ووصف الحیَّات بالصمِّ؛ لأنَّها خبیثة لا تنزجر. اُنظر: عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: هامش ص70.

وإلی جانب السیر علی خطی أسالیب الإمام علی(علیه السّلام) فی خُطبه ورسائله وأقواله، نجد أنَّ الخُطباء والمترسّلین فی هاتین الحِقبتین قد نهلوا من أفکاره، واقتبسوا من معانیه التی کان یرددها(علیه السّلام) فی نثره، وأوَّل ما یطالعنا فی ذلک فکرة الجهاد التی کانت ممتدَّة فی خُطب الإمام علی(علیه السّلام) ورسائله، نظراً للمصاعب والمؤامرات والحروب التی تعرّض لها آنذاک، فقد حارب الخوارج، وحارب طلحة والزبیر، وحارب بنی أُمیّة، «ومن ثَمَّ فإنَّه من الطبیعی أنْ تتَّسم خطاباته بالطابع الحربی والجهادی، کما تتَّسم أیضاً بالطابع الجدلی؛ لأنَّ کثیراً مِمَّنْ خرجوا علیه إنَّما خرجوا لخلافٍ معه فی آراء بعینها»(1).

ونجد هذا واضحاً فی خُطب التوّابین خاصّةً، نظراً للظروف التی أحاطت بهم، فکان إعلان الجهاد والدعوة إلیه هو الطابع العام الذی کان یتردَّد فی خُطبهم ورسائلهم، فکانوا یتوسَّلون فی طلب ذلک بالنصوص القرآنیة التی تحثُّ علی الجهاد، وبمقولات الإمام علی بن أبی طالب(علیه السّلام) فی فکرته عنه کقوله: «أمَّا بعدُ، فَإنَّ الْجهَادَ بَابٌ مِنْ أبْوَابِ الجنةِ، فَتَحَهُ الله لِخاصَّةِ أوِلَیائِه، وهوَ لِبِاسُ التقوی، ودِرْعُ الله الحَصینة، وجُنَّتهُ الوْثِیقةُ، فمَنْ ترکهُ رغبةً منه أَلبسهُ الله ثوبَ الذُّلِّ، وشمِلهُ البَلاء»(2).

فإذا کانت هذه فکرة الإمام(علیه السّلام)؛ فمن الطبیعی أنْ یتدافع الشیعة للامتثال لذلک من دون تردُّد، وهم أولی الناس به، وهکذا نجد الدعوة إلی الجهاد، والتحریض علیه من المیزات المهمَّة فی نثر التوّابین، فقد جاء فی خُطبة ابن صُرَد: «أمَّا بعدُ أیّها الناس، فإنَّ الله قد علم ما تَنوُون، وما خَرَجْتُم تَطلبُون، وإنَّ للدّنیا تجاراً... فعلیکم - یرحمکم الله - فی وجْهِکم هذا بطول الصلاة فی جوفِ الّلیل، وبذکر الله کثیراً علی کلّ حال، وتقرَّبوا إلی الله

ص: 83


1- الشکعة، مصطفی، الأدب فی موکب الحضارة الإسلامیة: کتاب النثر: ص88.
2- الجاحظ، عمرو بن بحر، البیان والتبیین: ج2، ص53 - 54. اُنظر: عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ص71 - 72.

جلّ ذِکرهُ بکلّ خیرٍ قدرتم علیه، حتی تلقَوا هذا العدو والمحلِّ القاسط فتجاهدوه، فإنَّکم لم تتوسَّلوا إلی ربکم بش-یء هو أعظم عنده ثواباً من الجهادِ والصَّلاة»(1).

فقوله: «فإنّکم لم تتوسلوا إلی ربکم بش-یء، هو أعظم عنده ثواباً من الجهاد والصلاة» احتذی به أُسلوب الإمام علی(علیه السّلام) واستمد منه معانیه، فقد قال الإمام فی خُطبة له فی أرکان الدین: «إنَّ أفضلَ ما توسَّل به المتوسّلون إلی الله سبحانه: الأیمان به وبرسوله، والجهاد فی سبیله فإنّه ذِروة الإسلام، وکلمة الإخلاص فإنّها الفطرة، وإقام الصلاة فإنّها الملّة»(2).

وأخذ ابن صُرَدْ من کلام الإمام علی(علیه السّلام) ما یجده مناسباً، محوّلاً نصّه بصیاغة جدیدة وراعی فیه حال المخاطب ومقتضی المقام، فلم یفصل کما فصل الإمام(علیه السّلام) کلامه، بل أوجزه ما أمکنه ذلک، مکتفیاً باستمداد المعانی التی یجدها مناسبة لقوله، حاثّاً أنصاره علی الصلاة والجهاد، وهما خیر ما یتوسل بهما المسلم إلی الله(سبحانه وتعالی)، ونلحظ أنّ الخطیب لم یتکلّف ذلک الاستمداد، ولم یرهق ذهنه باستحضار المعانی، فکانت تلک المعانی الخاصّة بأُسلوب الإمام علی(علیه السّلام) ماثله فی ذهنه وفکره وروحه.

ونجد مثل هذا فی رسالته حین بعث بها إلی سعد بن حذیفة، إذ تمثّل أُسلوب الإمام ومعانیه فی فکرة الجهاد، قائلاً: «ولتَکُن رغبتکم فی دارِ عافیَتکمُ، وجهاد عدّو الله وعدّوکم، وعدو أهلِ بیت نبیکمِ»(3).

وهذا مستمدٌّ من قول الإمام علی(علیه السّلام) فی خُطبته التی جاء فیها: «فانفذوا عَلَی

ص: 84


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص588.
2- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ص208.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص556.

بصائرکم، ولتصدق نیاتکم فی جهاد عدوِّکم»(1).

فجاء الطلب فیهما بصیغة الأمر، والحثّ علی الجهاد، فکان ابن صُرَدْ قد تأثر بفکرة الجهاد التی أمر بها الدین الحنیف، وسار علیها الإمام علی(علیه السّلام) فلم یجد المنشئ بُدّاً من أنْ ینهل من أُسلوب خُطب الإمام وأقواله حول مشروعیة الجهاد؛ لیدعم بها أُسلوبه ویقوّی حجته، وهکذا شاعت روح الجهاد فی خُطب التوّابین ورسائلهم شیوعاً یتماشی مع ظروف الثورة التی قاموا بها، فکانوا یدعون إلی جهاد أعدائهم الذی یسمونهم تارةً القاسطین والمُحلّین، والخارجین علی الإمام علی(علیه السّلام) وأبنائه تارةً أُخری(2).

ومن الأفکار والمعانی التی استلهمها الخُطباء والمترسّلون فی هذه الحِقبة هی الزهد فی الدنیا وترک ملذاتها، والحثّ علی طلب التقوی، فکان ذلک هاجسا آخر یتردد فی خُطبهم ورسائلهم، وقد تکررت هذه المعانی کثیراً علی لسان الإمام علی(علیه السّلام) فی نثره الذی ضمّه کتاب (نهج البلاغة).

ومن الطبیعی أن یکون الإمام علی(علیه السّلام) وهو أوَّل المسلمین إسلاماً، وأقدمهم إیماناً، زاهداً فی الدنیا، داعیاً إلی تقوی الله(سبحانه وتعالی)، وهذه هی مبادئ الإسلام العظیم الذی جاء بها نبیّه محمّد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وقد أکَّد القرآن الکریم بالکثیر من آیاته التی تدعو إلی الزهد فی الدنیا، والحثّ علی طلب التقوی.

ومن الطبیعی أن تکون هذه المعانی راسخة فی أذهان التوّابین؛ لأنَّهم طلاب آخرة، وأصحاب ثورة، فکان التزهید فی الدنیا، وطلب التقوی مضموناً قصدیّاً تردَّد فی

ص: 85


1- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ص373.
2- اُنظر: عبد الفتاح، ثریا، حزب الشیعة فی أدب العصر الأُموی: ص479.

خُطبهم ورسائلهم، من ذلک ما جاء فی رسالة ابن صُرَد إلی سعد بن حذیفة ینفُّر فیها من الدنیا ویدعو إلی التقوی والجهاد فی سبیل الله(سبحانه وتعالی): «بسم الله الرحمن الرحیم، مِنْ سُلیمان بنِ صُرَد إلی سعد بن حذیفةَ وَمَنْ قِبَلهِ ِمن المؤمنین، سلامٌ علیکم، أمَّا بعدُ، فإنَّ الدَّنیا دارٌ قْد أدبرَ منْها ما کان معروفاً، وأقبلَ منها ما کان مُنْکَراً، وأصبحت قدْ تشنّأت إلی ذوی الألباب، وأزمع بالتّرحال مِنْها عبادُ الله الأَخیار...»(1).

وهذا المعنی مأخوذ من قول الإمام(علیه السّلام) من خُطبة له یدعو فیها إلی التزهید فی الدنیا: «أمَّا بعدُ، فإنَّ الدُّنْیا قد أدبْرتَ، وآذنَت بوَداع، وإنَّ الآخرة قد أقبلت وأشْرَفت

باطّلاع»(2)، أو مِن قوله(علیه السّلام) فی خُطبة له: «ألا وإنَّ الدُنْیَا قَدْ تَصرَّمَتَ، وآذنَتْ بانِقضَاءٍ، وتَنَکّر مَعْرُوفها، وأدْبَرتَ ْحَذَّاَءَ، فهَیَ تَحْفُز بالفناءِ سُکَّانَهَا...»(3).

وبعد ذلک یمضی ابن صُرَد حاثّاً علی التقوی، فیقول: «إنَّ التَّقوی أفضلُ الزَّادِ فی الدّنیا، وما سوی ذلک یبورُ وَیَفنی، فلتَعزِف عنْها أنفُسُکم، ولِتَکُنْ رَغبَتُکُمْ فی دارِ عافیتِکم، وجِهادِ عدوّ اللهِ وعدوّکم، وعدوّ أهلِ بیتِ نَبِیّکُمْ»(4).

وهنا یستمدُّ ابن صُرَد معانیه من المعانی القرآنیة المتمثلة بقوله(سبحانه وتعالی): « وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی وَاتَّقُونِ یَا أُولِی الْأَلْبَابِ » (5)، وهو أیضاً یُذکّرنا بأقواله(علیه السّلام) فی وجوب التمسُّک بالتقوی والعمل الصالح، وبالدعوة إلی جهاد أعداء الله، فکانت طابعاً قصدیّاً مهیمناً علی خُطبه ورسائله.

ص: 86


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص555. تشنأت أی: صارت مکروهة مبغضة. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج7، ص207، مادة (شنأ).
2- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ص74 - 75.
3- المصدر السابق: ص101 - 102.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص556.
5- البقرة: آیة197.

الفصل الثانی: القیم الإیقاعیَّة للمستوی الصَّوتی

اشارة

ص: 87

ص: 88

مدخل

یُعدُّ المستوی الصوتی هو المدخل الأساس للبناء الأُسلوبی؛ لأنّ الصوت کما یقول الجاحظ: «هو آلة اللفظ، والجوهر الذی یقوم به التقطیع، وبه یوجد التألیف. ولن تکون حرکات اللسان لفظاً ولا کلاماً موزوناً ولا منثوراً إلّا بظهور الصوت، ولا تکون الحروف کلاماً إلّا بالتقطیع والتألیف»(1)، والصوت اللغوی (linguistic – sound) هو الذی تؤلّف مادته علم الصوت، ویُعرّف بأنّه: الأثر السمعی الذی یصدر طواعیة من تلک الأعضاء المسماة تجوّزاً أعضاء النطق(2)، ثمّ إنَّ هذه الأصوات اللغویة تنتظم فیما بینها لتؤلّف الألفاظ التی تمثل فی النتیجة اللغة.

وقد عنی العلماء قدیماً بدراسة الصوت اللغوی، فوضّحوا طریقة حدوثه ومخارجه، وطریقة انتقاله وانتشاره، وکیفیة سمعه وإدراکه، وبیّنوا صفاته العامّة من جهر وهمس، وشدّة ورخاوة، وکذلک صفاته الخاصّة من تکرار وانحراف وتَفَشّ ٍ...إلخ(3).

وکان الخلیل بن أحمد الفراهیدی (ت175ه-) سبّاقاً إلی هذه المضمار إذ کان للدراسة الصوتیة نصیبٌ کبیرٌ من عنایته، «فقد تحدَّث الخلیل عن الجهاز الصوتی من

ص: 89


1- الجاحظ، عمرو بن بحر، البیان والتبیین: ج 1، ص79.
2- اُنظر: العطیة، خلیل إبراهیم، فی البحث الصوتی عند العرب: ص6. بشر، کمال، علم الأصوات: ص119.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص7 - 12، وص40 - 62.

الحلق والفم إلی الشفتین، وبیَّن مواطن إخراج الحروف منه، من حلقیة، وشجریَّة، ونطعیَّة، وذلقیَّة، وشفویَّة، وبین مخرج کلِّ حرف علی وجه التحدید الدقیق. وقد رسم الخلیل الطریقة التی یمکن بها معرفة مخرج الصوت الحقیقی، وکان فی ذلک موفَّقاً کلَّ التوفیق إلی حدِّ أنَّ علم الأصوات الحدیث یعترف بکثیرٍ من آرائه ومقاییسه الصحیحة»(1). والذی یعنینا فی هذا المقام الأداء الصوتی، لأهمّیته ببحث الأُسلوبیة(2)، إذ یوظّفه المنشئ لیؤدّی به غایات إبلاغیة غرضها التأثیر، من خلال المخارج حینا، والصفات حینا آخر(3) فضلاً عن الإیقاع(4) والعلاقة الطبیعیة بین إیحاء الصوت والمعنی، وهذا ما أکّده (بییر غیرو) من المعاصرین حین عرّف الأُسلوبیة الصوتیة: بأنَّها دراسة المتغیرات الصوتیة للسلسلة الکلامیة، واستعمال بعض العناصر الصوتیة لغایات أُسلوبیة، بإقرار «أن فی حوزة اللغة نسقاً کاملاً من المتغیرات الأُسلوبیة الصَّوتیَّة. ویمکن أن نمیز من بینها... الآثار الطبیعیة... المدّ، التَّکرار، المحاکاة الصوتیة، الجناس...»(5)، وغیرها.

وعلی ما تقدَّم کان البحث فی هذا الفصل مقسّماً علی مبحثین:

- المبحث الأوَّل: الإیقاع وقیمته الموسیقیَّة: درست فیه آلیات الإیقاع کالجناس والسجع والموازنة.

- المبحث الثانی: التناسب المعنوی للإیحاء الصوتی: درست فیه الإیحاء الدلالی الصوتی ضمن السیاق العام، سواء فی اللفظة المفردة، أم فی الأصوات المتکررة.

ص: 90


1- أنیس، إبراهیم، أصوات اللغة العربیة: ص9.
2- اُنظر: أبو العدوس، یوسف، الأُسلوبیة: الرؤیة والتطبیق: ص50، ص98.
3- اُنظر: حسّان، تمام، البیان فی روائع القرآن: دراسة لغویة وأسلوبیة: ج1، ص427 - 428.
4- اُنظر: داوُد، أمانی سلیمان، الأمثال العربیة القدیمة: دراسة أُسلوبیة سردیة حضاریة: ص34.
5- غیرو، بییر، الأُسلوب والأُسلوبیة: ص40.

إنَّ الإیقاع الصوتی والإیحاء الدلالی للأصوات، هما رکنا الأُسلوبیة الصوتیة فی اللغة العربیة(1).

وبذلک فإنّ دراسة المستوی الصوتی فی الدراسة اللغویة أو الأُسلوبیة، تعدُّ الأساس الذی تقوم علیه بناء مفرداتها وصیغتها وتراکیبها.

ص: 91


1- اُنظر: هلال، ماهر مهدی، الأُسلوبیة الصوتیة فی النظریة والتطبیق: ص70.

ص: 92

المبحث الأوَّل :قیمة الإیقاع الصوتی

اشارة

تتجلَّی حرکة المعانی حینما «یمنح الصوت الاستعمال الفنّی للُّغة عنصراً مهمّاً هو عنصر الإیقاع. وهو عنصر أساس فی الموسیقی أیضاً. ومِن أجل ذلک یُعدُّ الصوت أمراً مشترکاً بین اللّغة والموسیقی»(1)، ولهذا یقول ابن جنی: إنّ «علم الأصوات والحروف له تعلّق ومشارکة للموسیقی، لما فیه من صنعة الأصوات والنغم»(2)، فالإیقاع یتجلَّی بوضوح فی موسیقی الشعر والنثر(3)، وهو أحد أرکان الأُسلوبیة الصوتیة فی اللغة العربیة(4) ذلک أنه «تردُّد وحدات صوتیة فی السیاق علی مسافات متقایسة بالتساوی أو بالتناسب»(5)، وعندها یشکَّل حرکات صوتیة منتظمة فی الکلام نتیجة لذلک التردد الصوتی المنتظم.

وقد أکَّد (غیرو) أنَّ الأُسلوبیة الصوتیة هی دراسة المتغیرات الصوتیة للسلسة الکلامیة واستعمال بعض العناصر الصوتیة لغایات أُسلوبیة(6)، وأنَّ فی حوزة اللغة نسقاً کاملاً من تلکم المتغیرات، کالتَکرار والجناس، والسجع والتوازن، والإحالة الإیحائیة بین الصوت والمعنی، وهو ما أُطلق علیه (المحاکاة الصوتیة)(7)، ولا شکّ فی أنَّ

ص: 93


1- جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص57.
2- ابن جنی، عثمان، سر صناعة الإعراب: ج1، ص9.
3- ظ: عمران، عبد نور داوُد، البنیة الإیقاعیة فی شعر الجواهری: ص21.
4- اُنظر: هلال، ماهر مهدی، الأُسلوبیة الصوتیة فی النظریة والتطبیق: ص70.
5- الطرابلسی، محمد الهادی، فی مفهوم الإیقاع، حولیات الجامعة التونسیة، العدد32: ص21.
6- اُنظر: غیرو، بییر، الأُسلوب والأُسلوبیة: ص39.
7- اُنظر: هلال، ماهر مهدی، الأُسلوبیة الصوتیة فی النظریة والتطبیق: ص69- 70.

الإیقاع المتکوّن نتیجة تردّد هذه المتغیرات الصوتیّة یُضفی علی الکلام نغماً موسیقیاً مؤثراً، یحسن من قصدیة الناص فی شعره أو نثره(1).

ولمَّا کان الإیقاع من العناصر البارزة فی بناء النثر الفنّی سواء کان خُطباً أم رسائل، فذلک لما له من تأثیر فی نفس المتلقی و«لمِا یمنحه من جمال وروعة بتناسقه من خلال توفیر جرس صوتی، یناغم جمیع الألفاظ والعبارات الموجودة داخل النص»(2).

وقد تنبَّه القدماء إلی أهمیه الإیقاع، فذکروا أنَّ العرب عنیت بإبراز موسیقی النثر من خلال موازنة الکلام، والاهتمام بمصاریعه من حیث الطول والقص-ر، وکذلک الاهتمام بالسجع وتشابه حروف الأجزاء(3)، فنجد - مثلاً - من هذا الباب مضمونات الأُسلوبیة لدی ابن سینا (ت 428 ه-) فی مستویاتها الصوتیة والعروضیة وهی تتجلی فی مباحثه، إذ توخَّی منها تحقیق البناء الإیقاعی، وتعیین ضوابطه فی الأداء البیانی للغة(4).

ومن هنا؛ یمکن القول إنَّ آلیات الإیقاع تتجلَّی فی الجناس والسجع، والتوازن وغیرها، وإنَّ الأُسلوبیة الصوتیة تسعی إلی دراسة هذه الآلیات ورصدها وتصنیفها(5)؛ لأنَّها تسعی فی ذلک لدراسة مواطن الجمال وطرائق تأثیرها من وجهة نظر صوتیة،

ص: 94


1- اُنظر: هلال، ماهر مهدی، جرس الألفاظ ودلالتها فی البحث البلاغی والنقدی عند العرب: ص239.
2- الموسوی، زینب عبد الله کاظم، خُطب سیدات البیت العلوی (علیهن السلام) حتی نهایة القرن الأوّل الهجری: دراسة موضوعیة فنیة: ص107.
3- اُنظر: ابن سینا، الحسین بن عبد الله، الشفاء - المنطق - الخطابة: ص222 - 223.
4- اُنظر: المصدر السابق. العوادی، مشکور کاظم، البحث الدلالی عند ابن سینا: دراسة أُسلوبیة فی ضوء اللسانیات: ص197.
5- اُنظر: أبو العدوس، یوسف، الأُسلوبیة: الرؤیة والتطبیق: ص50.

وعلی ذلک سیتناول هذا المبحث آلیات الإیقاع وجرس الألفاظ؛ ذلک أنَّ دراسة هذه الآلیات سیکون بحسب شیوع کلٍّ منها فی خُطب ورسائل هاتین الحِقبتین، وهی علی النحو الآتی:

أوَّلاً: الجناس

اشارة

الجناس لغةً: «الضربُ من کلّ شیء... ومنه المجانسة والتَّجنیس. ویقال: هذا یجانس هذا، أی یشاکله»(1).

أمَّا تعریفه اصطلاحاً: فإنَّ البلاغیّین مُجمعون علی أنَّه: «اتفاق اللفظتین فی وجه من الوجوه والاختلاف فی المعنی»(2).

وللجناس وظیفتان من ناحیة الشکل، ومن ناحیة المضمون، فهو من ناحیة الشکل یزید من القیمة الإیقاعیة والموسیقیة، لمِا فیه من تشابه جزئی أو کلَّی فی ترکیب الألفاظ، أمَّا من ناحیة المضمون، فهو یزید من الانسجام بین المعانی، وذلک عن طریق الأُسلوب المنساب المحبب(3).

وهکذا یکتسب الجناس أهمیة بارزة من وقعه الجمالی الذی یضفیه علی النص، فهو «من الحُلی اللفظیة والألوان البدیعیّة التی لها تأثیر بلیغ، تجذب السامع، وتُحدث فی نفسه میلاً إلی الإصغاء والتلذّذ بنغمته العذبة، وتجعل العبارة علی الأذن سهلةً ومستساغة، فتجد من النفس القبول، وتتأثَّر به أیّ تأثیر، وتقع فی القلب أحسن موقع»(4).

ص: 95


1- ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج2، ص383، مادة (جنس).
2- ابن المعتز، عبد الله، البدیع: ص296. اُنظر: السکاکی، یوسف بن محمد، مفتاح العلوم: ص439. ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج1، ص241.
3- اُنظر: الجمیلی، عدنان جاسم، الآیات المتعلقة بالرسول محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): دراسة بلاغیة أُسلوبیة: ص66.
4- لاشین، عبد الفتاح، البدیع فی ضوء أسالیب القرآن: ص155.

ولمَّا کان الجناس کما مرَّ تعریفه اتفاق اللفظتین فی وجه من الوجوه والاختلاف فی المعنی، فهو بذلک یکون تکراراً للأصوات نفسها، أو بعضها ممَّا ینتج الإیقاع الموسیقی من ذلک، ویولّد بالمقابل تغایراً بالمعنی، وعندها یتحقَّق مقصد الأُسلوبیة الصوتیة فی الترکیب؛ لأنَّه یتیح للغة حریة التصرف ببعض العناصر الصوتیة فی السلسلة الکلامیة، واستعمالها لغایات أُسلوبیة(1).

وسوف یتناول هذا المبحث ما ورد منه فی خُطب ورسائل هاتین الحِقبتین، ومن الجدیر بالذکر أنَّ الجناس التام لم یرد فی هذه الخُطب أو الرسائل، لذا سیکون الحدیث عن الجناس غیر التام وأنواعه فقط، وهو الجناس الذی تکون فیه اللفظتان مختلفتین فی أحد أربعة أُمور هی: أنواع الأصوات، وأعدادها، وهیئاتها، وترتیبها(2).

1- الجناس الناقص

ذکر الخطیب القزوینی (ت739ه-) أنَّ أصوات اللفظتین المتجانستین «إنْ اختلفا فی أعدادها سُمّیَ ناقصاً» (3)، ویکون الاختلاف بین اللفظتین بزیادة صوت واحد، وهذه الزیادة تکون إمّا فی بدایة اللفظة، أو فی وسطها، أو فی نهایتها(4).

وقد وردَ الجناس الناقص بکثرة فی الخُطب والرسائل، إذ سنُبیّن قیمته الأُسلوبیة داخل السیاق الذی برز فیه.

فقد جاء فی خُطبة المختار حین استنصره ابن الحنفیة، قال: «وَقَدْ تُرِکِوا محظُوراً

ص: 96


1- اُنظر: غیرو، بییر، الأُسلوب والأُسلوبیة: ص39. هلال، ماهر مهدی، الأُسلوبیة الصوتیة فی النظریة والتطبیق: ص75.
2- اُنظر: المغیلی، محمد بن عبد الکریم، شرح التبیان فی علم البیان: ص363، وص369.
3- الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، التلخیص فی علوم البلاغة: ص389 - 390.
4- اُنظر: ابن الناظم، بدر الدین بن مالک، المصباح: فی المعنی والبیان والبدیع: ص208.

علیهم کما یُحْظَرُ علی الغنم، ینتظِرون القتلَ والتَّحریق بالنَّار فی آناء اللیل وتارات النَّهار»(1).

إذ نلحظ أنَّ الجناس الناقص قد وقع بین کلمتی (النار) و(النهار)، والاختلاف بینهما واضح، وقد نقصت الکلمة الأُولی (النار) علی الثانیة (النهار)، بصوت (الهاء) فی وسطها، وهذا الجناس له أثره الموسیقی الذی تستعذبه الأذن؛ لأنَّه عمل علی استرجاع تردّد الأصوات من خلال التکرار بالألفاظ المتجانسة، وهو بذلک «ضربٌ من ضروب التکرار المؤکِّد للنغم، من خلال التشابه الکلِّی أو الجزئی فی ترکیب الألفاظ، وهذا التشابه فی الجرس یدفع الذهن إلی التماس معنی تنصرف إلیه اللفظتان»(2)، وعندها کادت اللفظتان أنْ تتّفقا فی جمیع الأصوات لولا وجود صوت (الهاء) فی الکلمة الثانیة، وهو صوت حلقی(3) من صفاته الهمس والرخاوة(4)، وهذه الصفة جعلته لا یتطلَّب مجهوداً عند النطق به، کما هو واضح عند نطق الکلمتین (نار)، (نهار)، فلا نکاد نحسُّ جهداً مطلوباً کبیراً عند النطق به، فکأنَّما جاءت هاتان اللّفظتان علی اتّفاق فی جمیع الصفات، وعند ذلک وفَّرَ للمنشئ جوَّاً موسیقیاً حرکیاً من خلال هذا الإیقاع المتکوَّن نتیجة إعادة الأصوات المتشابهة فی اللَّفظتین المتجانستین.

2- الجناس المضارع واللاحق

الجناس المضارع: وهو الذی تختلف فیه اللفظتان المتجانستان بصوت واحد متقارب فی المخرج، وقد یأتی هذا الاختلاف فی الصوت الأوَّل من اللفظة، أو فی وسطها أو فی آخرها(5).

ص: 97


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص76.
2- هلال، ماهر مهدی، جرس الألفاظ ودلالتها فی البحث البلاغی والنقدی عند العرب: ص284.
3- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص76.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص77.
5- اُنظر: السکاکی، یوسف بن محمد، مفتاح العلوم: ص429.

أمَّا الجناس اللَّاحق: فهو الذی تختلف فیه اللفظتان بصوت واحد متباعد فی المخرج، وهو أیضاً یکون فی أوَّل اللفظة، أو فی وسطها، أو فی آخرها(1).

وسُمّیَ هذا الصوت المختلف الذی یؤدی إلی تغیّر المعنی فی الجناسین المضارع واللّاحق (فونیماً)، فالفونیم إذاً: هو الصوت الذی یؤدی تغیّره إلی تغیّر المعنی، أو هو أصغر وحدة صوتیة عن طریقها یمکن التفریق بین المعانی.

فممَّا ورد فیه الجناس المضارع کان فی خُطبة المسیّب بن نجبة الفزاری لقوله: «وَقدْ بَلَغَتْنَا قَبْلَ ذلکَ کُتُبه، وقَدِمَتْ عَلَیْنا رُسُلُهُ، وأعْذَرَ إلینا یَسْألنُا نَصْرَهُ عَوْدَاً وبِدْءَاً...»(2).

إذ نجد هذا الجناس قد وقع بین لفظتین هما: (علینا) و(إلینا)(3)، وکان الاختلاف بین صوتی (العین والهمزة)، وهما من مخرجین متقاربین، أمَّا العین: فهو صوت حلقی یخرج من وسط الحلق(4)، وأمَّا الهمزة: فهی صوت حنجری(5)، والحنجرة قریبة من الحلق، وهذا التَّقارب المخرجی سوَّغ للجناس أنْ یکون مضارعاً، والملاحظ أنَّ هاتین اللفظتین متساویتان فی عدد الأصوات، وهیئتها، وترتیبها، لکنَّهما مختلفتان فی النوعیة، وهذا الاختلاف أوجد اتفاقاً ایقاعیاً، وأعطی نغمة موسیقیة مکرَّرة تکاد تعطی لفظة معادة لولا هذا الاختلاف بین (العین) و(الهمزة).

وممَّا ورد فیه الجناس المضارع کان فی خُطبة المختار حین قدم إلی الکوفة فی النصف

ص: 98


1- اُنظر: الزملکانی، عبد الواحد بن عبد الکریم، التبیان فی علم البیان المُطلع علی إعجاز القرآن: ص167.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص552 - 553. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص59.
3- نلحظ روعة استعمال إلینا وعلینا فی الاستعمال القرآنی فی قوله(سبحانه وتعالی): «إِنَّ إِلَیْنَا إِیَابَهُمْ *«ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنَا حِسَابَهُمْ »). الغاشیة: آیة25 - 26.
4- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص77. بشر، کمال، علم الأصوات اللغویة: ص84.
5- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص171.

من رمضان سنة (64ه-)، فقال: «أمَّا بعدُ، فإنَّ المهدیَّ بن الوصیّ، محمّد بن علی، بعثنی إلیکم أمِینَاً، وَوَزیرَاً، ومُنْتَجَبَاً، وأمیراً، وأمرنی بقتل المُلحِدین...»(1).

فالجناس المضارع یتمثَّل فی لفظتی (أمیناً) و(أمیراً)، فاتفق وزنهما، لکنَّهما اختلفا بترکیبهما بصوت واحد، وهو (النون) و(الراء)، وهما حرفان متقاربان فی المخرج، قال ابن جنّی: «من طرف اللّسان بینه وبین ما فُوَیْق الثَّنایا مخرج النَّون. ومِن مخرج النَّون غیر أنَّه أدخل فی ظهر اللسان قلیلاً... مخرج الراء»(2).

وجعل هذا التقارب المخرجی بین الصوتین من الجناس قویّ الجرس، وعندها أضفی علی العبارة إیقاعاً حرکیاً واضحاً، وأحدث فی نفس المتلقی متعة ولذَّة تعشقها الأُذن التی هزَّها هذا التردید للأصوات، فأحدث فیها نوعاً من الاستجابة والإثارة والمشارکة.

أمَّا الجناس اللّاحق، فنجده - مثلاً- فی خُطبة سلیمان بن صُرَد لقوله: «أثْنی علی اللهِ خیراً، وأحمد آلاءَهُ وبلاءَه، وأشهدُ أنْ لا اله إلّا الله...»(3)، فوقع الجناس بین لفظتی (آلاءه) و(بلاءه)، والاختلاف بینهما کان فی صوتین هما صوت المدّ (الألف) المتکوّن نتیجة اجتماع الهمزة مع الألف، ومخرجه من الجوف (4) ومخرج الباء من الشفتین(5)، وإنَّ هذا التباعد المخرجی قد سوَّغ للجناس أنْ یکون لاحقاً، ولمَّا تکرَّرت الأصوات

ص: 99


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص580.
2- ابن جنی، عثمان، سر صناعة الإعراب: ج1، ص47. اُنظر: النعیمی، حسام سعید، الدراسات اللهجیة والصوتیة عند ابن جنی: ص309.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص554. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص60.
4- اُنظر: الفراهیدی، الخلیل بن أحمد، العین: ج1، ص57.
5- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص43 - 44.

فی کلتا اللفظتین، فقد أشاع ذلک إیقاعاً تستهویه النفوس، وتثیر فیها الرغبة لمعرفة مداخل المعنی بین اللفظتین فی محاولة لإدراک دلالاتهما، فدلالة اللفظتین المتجانستین تحمل سمة أُسلوبیة، بلحاظ استعمال إحداهما نقیضة للأُخری ف-(الآلاء) تعنی: (النعمة)، و(البلاء) یعنی: (الهم)(1).

وهذا التناقض المعنوی بین دلالتی اللفظتین قد زاد من إلفات المتلقّی وتنبّهه، ووقع اقتران الجناس المضارع مع اللاحق فی خُطبة المختار بعد هروب ابن مطیع، وعندها قال: «أیّها النَّاس، إنَّه رُفِعَت لنا رایة، ومُدَّت لنا غایة، فقیل لنا فی الرَّایة: أن ارفعوها ولا تَضَعوها، وفی الغایة: أن اجْروا إلیها ولا تَعْدوها، فسمعْنا دعوةَ الدَّاعی، ومقالةَ الواعی، فکم مِنْ ناعٍ وناعیة لَقَتْلَی فی الواعیة...»(2).

ففی هذا المقطع من الخُطبة نلحظ کثرة واضحة لاستعمال هذا الجناس فی ذائقة المختار، وهو من بین فقرات الخُطبة، إذ کان هذا التوزیع بعیداً عن التکلّف والابتذال، من منطلق أنّ تکرار الخاصیّة نفسها فی النص نفسه قد تضعف من مقاومتها الأُسلوبیة(3)، ولکن هذا لم یحصل، بل کان لتکرار الجناس وتوزیعه میزة إیقاعیة وحرکیة عالیة، جعلته یفض-ی إلی میزة أدائیة بدیعیة واضحة.

فنجد الجناس اللّاحق هنا قد وقع بین لفظتی (رایة - غایة)، والمضارع بین لفظتی (الداعی - الواعی)، وبین (ناعیة - واعیة)، وعندها اختلفت کلّ واحدة ٍ من هذا

ص: 100


1- اُنظر: الفیومی، أحمد بن محمد، المصباح المنیر: مادة (ألی): ص17، ومادة (بلی): ص39.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص32. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص84 - 85.
3- اُنظر: المسدی، عبد السلام، الأُسلوبیة والنقد الأدبی: منتخبات من تعریف الأُسلوب وعلم الأُسلوب: ص38.

الألفاظ عن نظیرتها المتجانسة معها بحرف واحد لکلّ منهما، وکذلک تکاد أن تکون الکلمتان المتجانستان (رایة) و(غایة) فی المقطع متطابقتین بأصواتهما، إلّا أنَّهما مختلفتان بصوت واحد فی کلّ منهما، وهما (الراء) و(الغین)، وهما صوتان متباعدان فی المخرج، فأمّا (الراء) فیخرج من اللثة، فهو صوت لثوی(1)، وأمّا (الغین) فهو من أدنی الحلق(2). وکذلک الجناس المضارع بین (الداعی) و(الواعی)، فهما متماثلان فی أصواتهما عدا هذا الاختلاف بین صوتی (الدال) و(الواو) المتقاربین فی المخرج، ف-(الدال) صوت لثوی أسنانی(3)، وهو قریب المخرج من (الواو) شبه الصائت الذی هو شفوی المخرج(4).

وأمّا اللفظتان (ناعیة) و(واعیة)، فهما متجانستان فی أصواتهما إلّا أنَّ الاختلاف کان بین صوت (النون) ومخرجه، وهو أسنانی أنفی(5) وهو یقترب من مخرج (الواو) الشفوی، فکوّن بذلک جناساً مضارعاً لتقارب مخارج الأصوات بینهما.

وقد اتخذ المختار من دلالة هذه التجانسات مؤکّدات لتثبیت الخبر فی ذهن السامع، فضلاً عن إثراء عباراته بالجرس الموسیقی، وإعلاء نغمته من خلال التلوین الصوتی للألفاظ ذات الوظائف المختلفة.

3- جناس الاشتقاق

وهو اجتماع اللفظتین المتجانستین فی أصل الاشتقاق(6))، بید أنّه فی حقیقته تکرار

ص: 101


1- اُنظر: حسّان، تمام، مناهج البحث فی اللغة: ص104.
2- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص76.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص46.
4- اُنظر: کانتینو، جان، دروس فی علم أصوات العربیة: ص30. النعیمی، حسام سعید، الدراسات اللهجیة والصوتیة عند ابن جنی: ص310.
5- اُنظر: حسّان، تمام، مناهج البحث فی اللغة: ص105 - 106.
6- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص430.

لیس بذات اللفظ وإنَّما یشتق منه(1)، أی أنّ ألفاظه المتجانسة ترجع إلی جذر لغوی واحد، وورد هذا الجناس علی نحو کبیر فی خُطب ورسائل هاتین الحِقبتین، فلا مبالغة إن قلنا إنَّ أکثر أنواع الجناس غیر التام وروداً کان فیهما، فمن ذلک ما ورد فی کتاب سلیمان بن صُرَد إلی سعد بن حذیفة بن الیمان، وهو فی المدائن بقوله: «فاصبروا رَحِمَکُمْ الله علی البأسَاءِ والضَّراءِ وحینَ البأسِ، وتوبوا إلی الله عَنْ قریب...» (2).

ووقع الجناس الاشتقاقی بین لفظتی (البأساء) و(البأس)، فقد زادت اللفظة الأُولی بصوتین هما (الألف والهمزة) علی اللفظة الثانیة، علی الرغم من اتحاد هاتین اللفظتین فی جذرهما اللغوی، فإنَّهما قد اختلفتا من ناحیة المعنی، فالبأساء: اسم للحرب والمشقَّة والضرب. والبأس: للعذاب أو الشدَّة فی الحرب(3)، وهذا الفرق اللغوی بین الکلمتین حقَّق قیمة أُسلوبیة عالیة؛ لأنَّ زیادة (الألف)، وهو صوت مدّ مع (الهمزة) فی لفظة (البأساء) جاء لیحقّق غَرَضَاً یقتضیه المعنی، ویفرضه السیاق، فالألف یُعطی معنی المبالغة، والتفخیم فی استطالة نطقها، وهو یتمیّز بین سائر أصوات المدّ فی وضوحه السمعی(4) إلی جانب الامتداد(5)، وعندها یتناسب مع استطالة وقع الحرب والمشقَّة؛ لذا کان هنالک توافق بین هذا الصوت ودلالة اللفظة، وأنّ هذه الإعادة لأصوات اللفظتین المتجانستین قد وفَّر نغماً موسیقیاً محبَّباً لدی السامع، وکذلک کانت

ص: 102


1- اُنظر: هلال، ماهر مهدی، جرس الألفاظ ودلالتها فی البحث البلاغی والنقدی عند العرب: ص255.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص556. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص119.
3- ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج1، ص301، مادة (بأس).
4- اُنظر: أنیس، إبراهیم، موسیقی الشعر: ص269، وص273.
5- اُنظر: ابن جنی، عثمان، سر صناعة الإعراب: ج1، ص62.

بمثابة التأکید للسامع ومن ثَمَّ زیادة تنبّهه وإلفاته، وهذه کلّها تهدف إلی توصیله بالأفکار والمقاصد.

وممَّا ورد فی خُطبة عبد الله بن مطیع حین خرج لقتال أصحاب المختار، قوله: «أیّها النَّاس، إنَّ مِنْ أعْجَبِ العَجَبِ عَجزُکم عن عُصْبةٍ مِنْکُمْ، قلیلٍ عدَدُها خَبیثٍ دینُها، ضالّةٍ مضلّة، اخرجوا إلیهم...»(1).

فنجد الجناس الاشتقاقی وقع مرَّتین بین (أعجب) و(العجب)، وبین (ضالة) و(مضلّة)، ف-(أعجب) و(العجب) مشتقان من أصل واحد، وکذلک (الضالة) و(المضلّة)، ولکنَّهما مختلفان بالمعنی، وهذا من شروط الجناس، وإنَّ الذی سوّغ الاختلاف فی معانیها هو ذلک التغیّر الذی حصل فی بنیة کلّ منهما.

إنَّ لإعادة الأصوات فی هذه الألفاظ التی اشتقت من مادة واحدة أثراً کبیراً فی إسباغ الإیقاع الحرکی علی الکلام.

وجاء جناس الاشتقاق أیضاً فی کتاب المختار وهو فی سجنه إلی فلول التوّابین وقائدهم رفاعة بن شداد، حین قدموا من (عین الوردة)، فقال: «أمَّا بعدُ، فمرحباً بالعُصَبِ الذین أعظَم الله لهم الأجر حینَ انصرفوا، ورضیَ انصرافَهم حینَ قَفَلُوا، أمَا وربّ البنیة التی بَنَی ما خطا خاطٍ مِنْکم خُطوةً، ولا رَتَا رَتْوَة... إنّی أنا الأمیرُ المأمور، والأمین المأمون... فأعدّوا واستعدّوا، وأبش-روا واستبْشروا...»(2).

فالسمة الأُسلوبیة التی حملها هذا الجناس هی أن اللفظتین اللتین وقع عندهما تعودان إلی جذر لغوی واحد، غیر أنّهما جاءتا لتُضفیا ظلالاً إیقاعیة علی طول

ص: 103


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص26.
2- المصدر السابق: ج5، ص606.

العبارات، فالجناس الاشتقاقی واقع بین (انصرفوا)، وهو فعل ماض، وبین (انص-رافهم) وهو مصدر، وکلاهما مُشتق من مادة واحدة، وکذلک الاسم (البنیة)، والفعل (بنی)، وکذلک بین الفعل الماضی (خطا) واسم الفاعل (خاطٍ) والاسم (خطوة)، وبین الفعل (رتا) والاسم (رتوة)، وبین اسم الفاعل (الأمیر) واسم المفعول (المأمور)، وکذلک بین (الأمین) و(المأمون)، وبین الأفعال (أعدوا) و(استعدوا)، (أبشروا) و(استبشروا).

إذاً؛ ورد هذا الجناس علی نحو حاشد فی المقطوعة، ممّا کوّن میزة أُسلوبیة ملحوظة عملت علی جذب تنبه السامع أو إلفاته، فجاءت الاشتقاقات متتابعة، مشتق فی أثر مشتق، لتمنح النص قیمته الحرکیة من خلال تکثیف الجرس باسترجاع الأصوات فی ذلک الجناس، وعندها بدا الجناس ملمحاً أُسلوبیاً، فأدَّی المعنی بأوجز عبارة، لیؤشر للمتلقی آفاقاً رحبة فی وقع مراداتها.

4 - جناس التحریف

وهو تشابه اللّفظتین المتجانستین فی رسم الأصوات واختلافهما فی الحرکات(1)، وقد وقع مثل هذا الجناس فی خُطبة المسیب بن نجبة الفزاری بقوله: «لا والله، لا عُذرَ دونَ أنْ تَقْتُلُوا قاتِلَهُ والمُوالِین علیه، أو تُقْتَلُوا فی طلبِ ذلک، فعسی ربّنا أنْ یَرضَی عنّا عندَ ذلک»(2).

فالجناس واقع بین لفظتی (تَقْتُلوا) و(تُقْتَلوا) اللّتین تطابقتا فی رسم الأصوات وعددها، إلّا فی حرکة الصوت الأوَّل (التاء) الذی للمضارعة، فجاء فی اللفظة الأُولی مفتوحاً، وفی الثانیة مضموماً، وکذلک الصوت الثالث (التاء) الذی هو من أصل بناء

ص: 104


1- اُنظر: السیوطی، عبد الرحمن، معترک الأقران فی إعجاز القرآن: ج1، ص303.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص553. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص59.

الفعل والذی جاء فی اللفظة الأُولی مضموماً وفی الثانیة مفتوحاً، وکان لهذه الحرکات المختلفة أثر مهمّ فی خروج اللفظة من دلالة إلی أُخری، فالأُولی دلَّت علی المضارع المبنی للمعلوم، والثانیة دلَّت علی المضارع المبنی للمجهول، ولکلّ دلالته الخاصّة به علی الرغم من أنّ اللفظتین قد تجانستا فی شکلهما، وعندها استحوذ علی النص إیقاعٌ واضح التَّردُّد فی هذا الأداء الأُسلوبی.

وجاء کذلک فی خُطبة سلیمان بن صُرَد الخزاعی لقوله: «ورجَونا أنْ یَدِینَ لَکُمْ مَنْ ورائکم مِنْ أهلِ مِصْرِکُم فی عافیة، فتنظرون إلی کلّ مَنْ شَرکَ فی دمِ الحسینِ فتقاتلونَهُ»(1).

فقد وقع الجناس المحرَّف بین لفظتی (مَن) التی هی اسم موصول بمعنی (الذی)، وبین (مِن) وهی من حروف الجر، فهما متجانسان فی الرسم، مختلفان فی المعنی، وأنّ الذی سوّغ ذلک الاختلاف وجود (الفتحة) علی صوت (المیم) فی الأوّل، و(الکسرة) علیه فی الثانی، بما شکّل بکلّ منهما (فونیماً) قد أعطی لکلّ لفظة معناها الخاصّ بها، ومن هنا؛ فإنّ تکرار الأصوات المتجانسة قد أوجد جرساً إیقاعیّاً تستهویه النفوس، فلم تکن ثقیلة علی السمع، بل جاءت منسابة رائقة؛ وذلک لتشابهها فی کلّ من اللفظتین المتجانستین.

5 - الجناس المعکوس

وصف الخطیب القزوینی هذا الجناس بأنَّه: تأخیر اللفظة المقدَّمة من الکلام وتقدیم اللفظة المؤخَّرة، وسمَّاه، بجناس القلب(2)، وهو عند العسکری: «أنْ تعکس الکلام فتجعل فی الجزء الأخیر منه، ما جعلته فی الجزء الأوَّل»(3)، وأثره بیّن فی الکلام،

ص: 105


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص586.
2- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج2، ص541.
3- أبو هلال العسکری، الحسن بن عبد الله، کتاب الصناعتین: ص411. الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، التلخیص فی علوم البلاغة: ص358.

ذلک أنَّ «له فی التجنیس حلاوةٌ، ویفید الکلام رونقاً وطُلاوةً»(1).

وممَّا ورد من هذا الجناس کان فی خُطبة إبراهیم بن محمد بن طلحة، الذی قال: «وَلَئن استیقنّا أنَّ قوماً یُریدون الخروجَ علینا لنأخُذَنَّ الوالدَ بولدِه، والمولودَ بوالدِه، ولنأخُذَنَّ الحمیمَ بالحمیم»(2).

فقد تأخَّر ما کان متقدَّماً (الوالد)، وتقدَّم ما کان متأخَّراً (المولود) أو (الولد)، وإنَّ هذا الجناس کان سبباً فی إشاعة جو موسیقی جاء نتیجة الإیقاع المتولد عن التبادل الموضعی بین الکلمات، إذ عمل ذلک علی إعادة الأصوات (الواو، واللّام، والدال)، وکلّها مجهورة، ممَّا أکسبت العبارة وضوحاً سمعیّاً، فضلاً عن التَّأکید الذی أدَّاه العکس فی موقعیَة الدَّلالة، فحقَّق القصد الرئیس الذی أراد الخطیب إیصاله.

وممَّا ورد من الجناس المعکوس أیضاً، کان فی کتاب عبد الله بن یزید إلی ابن صُرَد بقوله: «أمَّا بعدُ، فإنَّ کتابی هذا إلیکم کتابُ ناصحٍ ذی إرعاء، وکمْ مِنْ ناصحٍ مُسْتَغَشّ، وکمْ مِنْ غاشّ مُسْتَنْصَحٍ مُحَبّ...»(3).

فقد عمل التبادل فی عناصر هذا الجناس علی إعادة الأصوات التی تألفت منها تلک الکلمات المتجانسة، فضلاً عن تقابل المعنی المراد إیصاله؛ فالجناس لا یرجع إلی تکرار الجرس الصوتی فحسب، وإنما یرجع إلی نص-رة المعنی، وقد ساعد علی إظهاره تبادل العبارات، وقد تألفت من أصوات غلب علیها طابع الهمس والرخاوة، وهی: (الصاد، والحاء، والسین، والشین)، فجاءت منسجمة مع السیاق الذی وضُعت فیه،

ص: 106


1- العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص378.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص563. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص66.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص591.

وهو سیاق محبَّب إلی نفس المتلقی، وقد توخَّاه المنشئ وقصده محاولاً إغراء التوّابین بالرجوع عمَّا عزموا علیه، ولا شکّ فی أنّ شیوع مثل هذه الأصوات فی عباراته قد أدی فی النهایة إلی إضفاء طابع الهمس والهدوء؛ ذلک «أنَّ الأصوات فی نظام اللُّغة الفنولوجی لا قیمة رمزیَّة لها، بینما هی تُثیر بعض مشاعر القارئ أو المستمع فی فعل کلام محدَّد، مکتوب أو شفهی، بالاتفاق مع المعنی»(1)، فالذی یُرید الناثر توصیله التماس الرجوع عن الأمر الذی همّ به هؤلاء الثّوار، لذلک نری شیوع هذه الأصوات المهموسة فی مثل هذا السیاق الهادئ المحبَّب، وقد اتسقت بهذا الأداء البدیعی.

6- جناس التَّصحیف

وهو أن تتَّفق اللفظتان المتجانستان فی شکل الأصوات، وتختلف فی تنقیطهما(2)، أی: تختلفان فی تنقیط الإعجام، ویُسمَّی أیضاً بجناس الخط(3)، وقد ورد مثل هذا الجناس فی خُطبة عبید الله بن عبد الله المرّی بقوله: «فَعَسَی الله عِنْدَ ذلکَ أنْ یَقْبَلَ التَّوبة ویُقِیلَ العَثْرة...»(4).

فالجناس بین لفظتی (یَقبل) و(یُقیل) جناس مصَّحف؛ لأنَّ اللفظتین قد تماثلتا فی رسم الأصوات، واختلفتا فی نقط الإعجام بین (الباء) فی (یقبل) و(الیاء) فی (یقیل)، فی حین ظلَّت هذه الأصوات متَّفقة فی اللفظتین، ممَّا أحدث إیقاعاً منتظماً أثار تنبُّه المتلقی، فأعاد علیه تردّدات قد سمعها، فکان لهذه الإعادة وقع حسن علی أذنه وتلقّیه.

ص: 107


1- شریم، جوزیف میشال، دلیل الدراسات الأُسلوبیة: ص110.
2- اُنظر: السیوطی، عبد الرحمن، معترک الأقران فی إعجاز القرآن: ج1، ص303.
3- اُنظر: المصدر السابق.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص559.

ثانیاً: السَّجع

اشارة

السجع فی اللغة مأخوذ من قولهم: «سجع الرجل، إذا نطق بکلام له فواصل کقوافی الشَّعر من غیر وزن»(1)، والسجع: الکلام المقفَّی، وسجع یسجع سجعاً(2). والسجع فی الاصطلاح هو: «تواطؤ الفواصل فی الکلام المنثور علی حرف واحد»(3)، إلّا أنَّ بعض البلاغیین یوسِّع السجع لیشمل الاتفاق فی الوزن الصرفی، قال ابن الزملکانی (ت651 ه-): «هو أن یتَّفق آخر الکلمتین اللَّتین بهما تکمل القرینتان [أی الفقرتان] وزناً ولفظاً فی الحرف الأخیر، نحو قوله تعالی: «فِیهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ »*وَأَکْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ» (4)(5).

وذهب العلوی إلی مثل هذا بقوله: إنَّ السجع «اتِّفاق الفواصل فی الکلام المنثور فی الحرف، أو فی الوزن، أو فی مجموعهما»(6).

ویُعدُّ السجع من ممیزات البلاغة الفطریة(7)، بل هو من المقاصد التی تمیل إلیها النفوس البشریة، لکونه من الضروب الکفیلة بإحداث إیقاع فی النص النثری یکون مشابهاً لإیقاع القافیة فی الشعر(8)، وفی هذا الصدد یقول ابن وهب الکاتب (توفی فی القرن الرابع الهجری): «السجع فی الکلام کمثل القافیة فی الشعر، وإن کانت القافیة غیر مستغنی عنها، والسجع مستغنی عنه»(9)، إذاً أثره یکون إضافیاً، لتثبیت المعانی بإیقاعیة

ص: 108


1- الفراهیدی، الخلیل بن أحمد، العین: ج1، ص214، مادة (سجع). اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج6، ص17، مادة (سجع).
2- اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج6، ص179. مادة (سجع)
3- ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج1، ص195.
4- الغاشیة: آیة13- 14.
5- الزملکانی، عبد الواحد بن عبد الکریم، التبیان فی علم البیان المُطلع علی إعجاز القرآن: ص178.
6- العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص407.
7- اُنظر: مبارک، زکی، النثر الفنی فی القرن الرابع: ج1، ص75.
8- ابن یعقوب المغربی، أحمد، مواهب الفتاح فی شرح تلخیص المفتاح: ج2، ص624 - 625.
9- ابن وهب، إسحاق، البرهان فی وجوه البیان: ص208 - 209.

حرکیة فی ذهن المتلقی.

وکان التزام العرب به نتیجة للموسیقی الکامنة وراء أنساقه، إذ «کانوا یلتزمونه لوقعه فی آذانهم من حیث جرس الألفاظ ورنینها، ووزن موسیقاها. وکان الخطیب فی الجاهلیة یعمدُ إلی السجع للتأثیر علی السامعین من تلک الناحیة»(1)، وهذا - بلا شکّ - ما یُعطی للنص موسیقیة، وللألفاظ جرساً یلقیان بأثرهما فی المتلقی.

والذی یهُمُنا فی هذا الجانب أنّ السجع کان من السمات الأُسلوبیة التی تمیَّز بها النثر الفنّی فی ثورة التوّابین وإمارة المختار الثقفی، وله أنواع مختلفة، سوف یتناول البحث ما ورد منها فی خُطبها ورسائلها موضّحاً قیمها الأُسلوبیة والإبداعیة.

1- السجع المتوازی

ویُقصد به: اتفاق الفاصلتین أو الفواصل فی الوزن (العروضی)، والتّقفیة (الصوت الأخیر)(2) فقط. وهذا النوع من السجع «یتطلب مهارة فی الانتقاء وتفنناً فی الترکیب، علاوة علی ما یعکسه من متانة الرصید اللغوی لصاحبه» (3)، إذ یعمد المنشئ إلی اختیار لفظة تطابق أختها المسجوعة معها وزناً ورویّاً، وواضح أنَّ هذا - فی کثیر من الأحیان - لا یأتی عفواً فی الکلام، وإنَّما قد یقع عن قصد وإدراک، فقد وقع منه فی رسالة المختار إلی الأحنف بن قیس بقوله: «بسم الله الرحمن الرحیم، مِنَ المختارِ بنِ أبی عُبید إلی الأحنف بن قیس، ومَنْ قِبَله، فَسَلْمٌ أنتم، أمَّا بعدُ، فویلِ أُمِّ ربیعةَ مِنْ مُضَرَ، فإنَّ الأحنفَ مُوردٌ قومَه سَقَرَ، حیثُ لا یستطیعُ لهمُ الصَّدَرَ، وإنّی لا أملکُ ما خُطَّ فی القَدَرِ»(4).

ص: 109


1- سلام، محمد زغلول، أثر القرآن فی تطور النقد العربی: إلی نهایة القرن الرابع الهجری: ص243.
2- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج2، ص325.
3- حسین، إدریس طارق، المناجیات وأدعیة الأیام عند الإمام زین العابدین(علیه السّلام): دراسة أُسلوبیة: ص44.
4- صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص131- 132.

ففی هذا النص سجعٌ متوازٍ بین الفواصل: (مُضَر ← سَقَر)، (صَدَر← قَدَر)، إذْ اتَّفقت أوزانها کما اتَّفقت فی رویّها (الصوت الأخیر)، صوت (الراء)، وهو صوت متوسط بین الشدَّة والرخاوة(1)، یتمُّ نطقه بضرب اللسان للَّثة مرتین أو ثلاثة(2)، وهو بذلک یحمل صفة التکرار والحرکة، فیوصف بأنَّه صوت مکَّرر(3).

فتکرار هذا الصوت قد أحدث إیقاعاً نغمیّاً یقرع سمع المتلقی، ویثیر فی نفسه المعنی الذی أراده من هذه الأسجاع، ویمکن لنا أنْ نعدَّ هذا السجع ذا إیقاع مزدوج، الأوّل: بتکرار صوت (الراء) فی نهایة الفواصل، والثانی: بتکرار الوزن الص-رفی للفواصل المسجوعة.

ومن السجع المتوازی أیضاً ما جاء فی خُطبةِ المختار، وکان قد استنص-ره ابن الحنفیة لیخلِّصه من سجن عبد الله بن الزبیر، ذلک قوله: «ولَسْتُ أبا إسحاقَ إنْ لَمْ أنْصُ-رْهُمْ نَصْ-رَاً مُؤزَّراً، وإنْ لَمْ أسرّب إلیْهم الخیْلَ فی أثرِ الخَیْلِ، کالسَّیلِ یتلُوهُ السَّیل، حتی یَحُلُّ بابنِ الکاهلیَّة الوَیْل»(4).

فنجد السجع بین الفواصل (الخیل ← السیل ← الویل)، وکلّها تنتهی بصوت واحد، هو (اللَّام)،وهو صوت یمتاز بکونه متوسطاً، والصوت المتوسط هو الذی یکون بین الشدَّة والرخاوة(5)، ویُسمّیه المُحدَثون (صوتاً مائعاً)(6)، وعلیه کان بتردّده قد أضفی علی النص وضوحاً أدائیاً، إذ جاء بتردّد صوت واحد فی نهایة الفواصل، لیؤدّی

ص: 110


1- اُنظر: عبد التواب، رمضان، المدخل إلی علم اللغة ومناهج البحث اللغوی: ص226.
2- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص66.
3- اُنظر: العطیة، خلیل إبراهیم، فی البحث الصوتی عند العرب: ص60.
4- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة: ج2، ص86.
5- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص25.
6- ) اُنظر: الأصوات اللغویة: ص25. اُنظر: عبد التواب، رمضان، المدخل إلی علم اللغة ومناهج البحث اللغوی: ص226.

غرضه فی جلب تنبه السامع بتلک النغمة الموسیقیة التی تطرب إلیها أُذن السامع، وعندها أعطی إیقاعاً جمیلاً تستهویه الأسماع؛ لأنّ «الإیقاع هو سمة السجع الغالبة، وجوهره الفنّی الذی یجعل إلیه النفوس أمْیَل، والآذان لسماعه أنْشَط»(1).

وجاء السجع المتوازی أیضاً فی خُطبته حین شیّع إبراهیم بن مالک الأشتر لقتال عبید الله بن زیاد: «إنْ استقمتم فبنصرِ الله، وإنْ حِصْتُم حَیْصَة فإنّی أجدُ فی مُحْکَم الکتاب، وفی الیقینِ والصَّواب، أنَّ الله مؤیِّدُکُم بملائکةٍ غِضَاب، تأتی فی صُوَر الحمامِ دُوَیْنَ السَّحاب»(2).

فقد وقع السجع المتوازی بین الفواصل: (الکتاب ←­الصواب)، (غضاب ←سحاب) المتساویة فی الوزن، والمنتهیة بصوت (الباء)، وهو صوت انفجاری (شدید)، والشدید عند ابن جنی هو: «الحرف الذی یمنع الصوت [الهواء] من أن یجری فیه» (3)، وشدَّته قد تکون جاءت منسجمة مع الموقف الشدید الذی کان المختار فی صدده، فضلاً عن کونه صوتاً مجهوراً (4)، وجاء مسبوقاً بصوت المد (الألف) الذی یعدُّ من أوضح أصوات المدّ(5)، فتعاضد هذان الصوتان معاً فی إیضاح العبارات ومکنون الدلالات وتردَّدا علی طول الخُطبة، بما ضمن للنص تدفقاً إیقاعیّاً وانسیابیّة عالیة.

2- السَّجع المطرَّف

وهو ما اختلفت فاصلتاه المسجوعتان فی الوزن واتفقتا فی التقفیة (الصوت الأخیر)(6)، وقد شاع هذا النمط من السجع فی نثر ثورة التوّابین وإمارة المختار؛ لأنَّه

ص: 111


1- هلال، ماهر مهدی، جرس الألفاظ ودلالتها فی البحث البلاغی والنقدی عند العرب: ص226.
2- المبرد، محمد بن یزید، الکامل فی اللغة والأدب: ص666.
3- ابن جنی، عثمان، سر صناعة الإعراب: ج1، ص61.
4- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص167.
5- اُنظر: أنیس، إبراهیم، موسیقی الشعر: ص265 - 273.
6- اُنظر: المغیلی، محمد بن عبد الکریم، شرح التبیان فی علم البیان: ص373.

یقع بصورة عفویة، وعندها فلا یبذل المتکلّم جهداً فی إیجاد وزن متفق فی نهایة الفقرات، بل لیس علی المتکلّم إلّا أنْ یأتی بعبارات منتهیة بأصوات متشابهة، ونجد مثل هذا النوع من السجع فی خُطبة عبد الله بن یزید الأنصاری حین علم بتأهب التوّابین للخروج، فقال: «فإنَّ هؤلاءِ القومِ آمِنُونَ، فَلیَخْرُجُوا وَلینتشروا ظَاهرینَ، لیسیروا إلی مَنْ قَاتَل الحسین، فقد أقبلَ إلیهم... وإنَّه قد أقبلَ إلیکم أعدی خَلْقِ الله لکم، من ولِّیَ علیکم هو وأبوه سبعَ سنین، لا یُقْلِعَانِ عن قتال أهل العفاف والدِّین»(1).

فنجد أنَّ فواصل العبارات (آمنون ← سنین ← ظاهرین ← الحسین ← سنین← دین) قد تشابهت بصوت النُّون فی نهایتها، واختلفت فی وزنها، وقد ساعد صوت (النون) علی إظهار النغمة المحبَّبة للنفس، لاشتماله علی الغنّة، فضلاً عن أنَّه قد سُبِقَ بأصوات المدّ (الواو والیاء)، التی أحدثت انسیاباً إیقاعیاً لامتدادهما، وعندها تعاضد هذا التراخی مع غنّة (النون)، لیمنحا النص قیمةً أُسلوبیةً متمثِّلةً بالإیحاء الصوتی الهادئ الذی جاء منسجماً مع ذلک السیاق، ممَّا أدّی بالخطیب إلی استثماره لإظهار التلطُّف والتعاطف مع هؤلاء الثائرین، والعمل علی صرف الأنظار الموجهة إلیه؛ لکونه والیاً لعبد الله بن الزبیر الذی کان موقفه سلبیاً من قضیة الإمام الحسین(علیه السّلام).

وجاء هذا السجع فی کتاب المختار إلی أصحاب ابن صُرَد لقوله: «فإنّی لو قَدْ خرجتُ إلیکمُ قد بَرَّدْتُ فیما بین المشرق والمغرب فی عدوّکم السیف بإذن الله، فجعلتهم بإذن الله رُکَاماً، وقتلتُهم فذّاً وتَوْأماً، فرحَّب الله بمَن قاربَ منکم واهتدی، ولا یُبْعِد اللهُ إلّا مَنْ عَصی وأبَی، والسَّلام علیکم یا أهل الهدی»(2).

ص: 112


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص562. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص65.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص7، فذاً وتوأماً أی: فرداً وجماعات.

فقد انتهت فواصل العبارات المسجوعة (بالألف)، وهی: (رکاماً ← توأماً ← اهتدی ← أبی ← الهدی)، وکلَّها مختلفة فی أوزانها، وأمّا الفاصلتان (رکاما) و(توأماً)، فهنَّ وإن انتهتا بتنوین الفتح؛ لأنَّهما فی موقع نصب، لکن هذا التنوین یُقلب إلی (ألف) فی حال الوقف فی الکلام، فالسجع «مبنیٌ علی الوقف، وکلمات الأسجاع موضوعة علی أنْ تکون ساکنة الأعجاز موقوفاً علیها؛ لأنَّ الغرض أن یجانس المنشئ بین القرائن ویزاوج، ولا یتمُّ ذلک إلّا بالوقف إذ لو ظهر الإعراب لفات ذلک الغرض وضاق الحال علی قاصده»(1). ومن ذلک؛ فإنَّ قافیة السجعة إذا کانت فی محلِّ نصبٍ أو جرٍّ فالسکون الذی یعمله الوقف یساوی بینهما جمیعاً.

وعموماً، فقد انتهت هذه الفواصل بصوت (الألف)، وهو من أصوات المدّ الذی یتمیز بوضوحه السمعی(2) - کما تقدّم - وکان لتردّده فی نهایة الفواصل مدعاة لتوافر المناخ الإیقاعی بین الکلمات المسجوعة إلی جانب ذلک الوضوح السمعی لهذا الصوت، وکان لهذا التوافق بینهما قیمة موسیقیة تمنح النص جمالیة وتکسبه اهتماماً من المتلقی.

3- تداخل السجع المطرَّف والمتوازی

ونجد تداخل نوعی السجع: المطرَّف والمتوازی فی خُطبةِ المختار التی کان یردّدها علی زائریه وهو فی سجنه: «أمَا وربِّ البحار، والنخیل والأشجار، والمَهامِهِ والقِفَار، والملائکةِ الأَبرار، والمُصطَفَین الأخیار، لأقتلنَّ کلَّ جبَّار، بکلِّ لدْن خَطَّار، ومهنَّد بَتَّار، فی جُموع من الأنصار، لیسوا بمیّل أغمار، ولا بعزّلٍ أشرار، حتَّی إذا أقمتُ عمود الدِّین،

ص: 113


1- الحموی، محمد بن حجة، ثمرات الأوراق فی المحاضرات: ص280.
2- اُنظر: أنیس، إبراهیم، موسیقی الشعر: ص265، وص273.

ورَأَبْت صدعَ المسلمین، وشَفَیْتُ غلیلَ صُدُورِ المُؤمنین، وأَدْرَکْتُ بِثأر النَّبیِّین، وَلمْ یکبر علیَّ زوال الدُّنیا، ولمْ أَحفل بالموت إِذا أَتی»(1).

إنَّ هذه القطعة لتکشف عن التنوع فی اختیار الفواصل، وهو یزید من رغبة السامع علی مواصلة الاستماع لتنوع الإیقاع الذی کونته تلک الفواصل، فضلاً عن الدهشة التی تُصیب القارئ، وذلک بسبب إزالة التماثل الصوتی بین الفواصل، وبإعادة النظر فی هذا النص نجد نوعی السجع المطرَّف والمتوازی، وهی علی النحو الآتی:

السجع المطرَّف

نوع السَّجعة

البحار ← الأشجار ←القفار

الراءالدّین ← النبیِّین

النون السَّجع المتوازی

نوع السَّجعة الأبرار← الأخیار، جبَّار← خطَّار← بتَّار، أنصار← أغمار← أشرار الراء

المسلمین ← المؤمنین النون

إنَّ هذا الأداء البدیعی فی تلوین الفواصل کان عن طریق تنویع البُنی الترکیبیة للمقطع الواحد، وذلک دلالة واضحة علی إدراک المنشئ لأهمیّة الإیقاع فی دیمومة التواصل مع الحرص علی عرض الأفکار وإیصال الدلالة علی نحو متوازن.

وفی ضوء ما تقدّم نجد أنَّ هذا النص یزخر بمنظومة سجعیة متکوّنة من تداخل

ص: 114


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص581.

نوعی السجع المطرَّف والمتوازی، استثمرها المختار کی یکشف عن الحال التی جاء الکلام فی صددها، فکان فی معرض التهدید والوعید والاقتصاص من قاتلی الإمام الحسین(علیه السّلام)، لذا اقتضی بمقطع مطرز بأنواع السجع؛ لیجعل من الکلام متدفّقاً ومنساباً وبالدرجة ذاتها من الثّقة بالنفس.

ثالثاً: تداخل السجع مع الجناس

وجاء تداخل السجع والجناس فی نصٍ واحدٍ فی خُطبة للمختار بعد هرب ابن مُطیع، فقال: «الحمدُ للهِ الذی وَعَدَ ولیّه النّصر، وعدوَّه الخُسْرَ، وجعله فیه إلی آخرِ الدَّهر، وَعْداً مفعولاً وقضاءً مقضَّیاً، وقدْ خابَ مَنِ افتری، أیُّها النَّاس، إنَّه رُفِعَتْ لنا رایة، ومُدَّتْ لنا غایة، فقیل لنا فی الرایة: أن ارفعوها ولا تَضَعوها، وفی الغایة: أن اجْروا إلیها ولا تَعدوها، فسمعنا دعوةَ الدَّاعی، ومقالةَ الواعی، فکم من ناعٍ وناعیة، لَقَتلی فی الواعیة! وبُعْداً لِمَنْ طَغَی، وأدْبَرَ وعَصَ، وکذَّبَ وتولَّی، ألا فادخلوا أیّها الناس فبایعوا بیعةَ هدی، فلا والَّذی جعلَ السَّماء سَقْفاً مکفوفاً، والأرضَ فِجَاجاً سُبُلا، ما بایعْتُم بعدَ بیعةِ علی بن أبی طالب وآل علی أهدی مِنْها»(1).

یلحظ المتأمّل أنَّ شیوع السجع المتوازی فی النص کان علی نحوٍ مقصود، وعندها أوجد إیقاعاً موسیقیاً نتیجة تردُّد أوزانه المتماثلة، فضلاً عن المخالفة الحاصلة فی الفواصل المسجوعة، ممَّا حقَّقَ ظاهرة أُسلوبیة صوتیة عملت علی کسر التماثل الصوتی بین الفواصل، ومن ثَمَّ إخراج النص من حیّز النمطیة الموسیقیة المطَّردة وإدخاله فی دائرة التناغمات الحرکیة المختلفة، فضلاً عن وجود ظاهرة أُسلوبیّة أُخری، هی ظاهرة

ص: 115


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص32. اُنظر: جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص 84 - 85.

ازدواج السجع والجناس فی الفاصلة الواحدة، وهذه الظاهرة تحتل مکانة مهمّة فی أنساق الخطاب، بل وتُعدُّ إحدی المهیمنات الأُسلوبیة علی مستوی الإیحاء الصوتی(1)، فالفواصل المسجوعة والمتجانسة هی: (رایة ← غایة)، (الدَّاعی ← الواعی)، (ناعیة ←واعیة).

إذاً؛ إنَّ بناء فواصل الفقرات بجعلها مسجوعة ومتجانسة فی آن واحد، یُفصِح عن مهارة فائقة واختیار متذوق لدی المنشئ؛ لأنَّه جعلها تحمل ظاهرتی السجع والجناس معاً، وهذا ما منح الإیقاع استمراراً وتدفّقاً حرکیین عِبْرَ الانتقال بین هاتین الظاهرتین فضلاً عن وضوح المعانی المراد توصیلها، وهذا یعنی وجود «قدر هائل من الحریة متاح للمتکلّم فی اختیار الصیغ والأسالیب المعبّرة عن (الغرض) أو (المعنی)»(2) توخِّیاً لتوصیل قصده إلی السامع والتأثیر فیه.

رابعاً: الموازنة (الازدواج)

عرَّف الخطیب القزوینی الموازنة بقوله: «هی تساوی الفاصلتین فی الوزن دون التقفیة»(3)، وقد أَدْرَجَ البلاغیون هذا النوع من السجع تحت مصطلح مستقل هو (الموازنة)، وجعلوها أعمّ من السجع، أی أنَّ فیها ما یکون سجعاً وما هو لیس بسجع، فیُقال: إنَّ کلّ سجع موازنة، ولیس کلّ موازنة سجعاً(4).

ویقوم الأُسلوب المتوازن «علی تقسیم العبارات إلی مقاطع متوازنة، ومعادلة الألفاظ

ص: 116


1- اُنظر: أبو رغیف، نوفل، المستویات الجمالیة فی نهج البلاغة: دراسة فی شعریة النثر: ص101.
2- أبو زید، نصر، مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجانی: قراءة فی ضوء الأُسلوبیة: ص16.
3- الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، التلخیص فی علوم البلاغة: ص404.
4- اُنظر: ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج1، ص272. العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص416.

بعضها مع بعض، لتعطی إیقاعاً موسیقیاً، من خلال التشابه فی الجرس الصوتی؛ إذ تزدوج أکثر من جملة أو عبارة فی تنسیق مُنتظم... بحسب ما یقتضیه المقام، هو شبیه بالسَّجع إلّا أنَّه لا یتقیَّد بالتقفیة»(1)، وقد سُمّیَ هذا الضرب لدی البلاغیین العرب بالسجع المتوازن، أو السجع العاطل، أو الازدواج، أو الموازنة(2).

ولم یفرّق العسکری بین الازدواج والسجع، فکان الازدواج عنده مرتبطاً بالسجع بأن تکون ألفاظ الجزأین المزدوجة مسجوعة، وعندها یکون الکلام سجعاً فی سجع، وتکون الفواصل علی أحرف متقاربة المخارج إن لم یمکن أن تکون من جنس واحد(3).

وقد جاء التوازن فی نثر ثورة التوّابین وإمارة المختار مقترناً بکثیر من السجع، فنجد - مثلاً- هذا الأُسلوب فی رسالةِ سلیمان بن صُرَد إلی سعد بن حذیفة بن الیمان لقوله: «أمَّا بعدُ، فإنَّ الدّنیا دارٌ قد أدبرَ منها ما کان معروفاً، وأقبلَ منها ما کان مُنکَراً، وأصبحت قد تشنَّأتْ إلی ذوِی الألباب، وأزمَع الترحال مِنْها عبادُ الله الأخیار، وباعوا قلیلاً من الدنیا لا یبقَی، بجزیلِ مثوبةٍ عند الله لا تَفْنی، إنَّ أولیاء الله مِن إخوانکم، وشیعة آل نبیکم، نظروا لأنفُسِهِم فیما ابتُلوا به مِن أمر ابن بنت نبیهم الذی دُعِیِ فأجاب، ودَعا فلم یُجَبْ، وأرادَ الرَّجعة فَحُبِس، وسألَ الأمانَ فَمُنِع، وتَرَکَ النَّاس فلم یترکوه، وعَدوا علیه فقتلوه، ثمَّ سَلَبوه وجرَّدوه ظلماً وعُدواناً وغرَّةً بالله وجهلاً، وبعینِ الله ما یعملون، وإلی الله ما یرجعون»(4).

فقد وقع التوازن، بین الفواصل المتشابهة بالوزن، والمختلفة بالحرف الأخیر (الروی)، وهی الآتی: (الألباب ← الأخیار)، (یَبْقَی ← یَفْنَی)، (حُبِس ← مُنِع).

ص: 117


1- الفلاح، قحطان، الترسل الفنی فی العصر العباسی الأوّل: سهل بن هارون مترسلاً: ص4.
2- اُنظر: مطلوب، أحمد، معجم المصطلحات البلاغیة وتطورها: ج2، ص151 - 152.
3- اُنظر: أبو هلال العسکری، الحسن بن عبد الله، کتاب الصناعتین: ص 288.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص555 - 556.

وقد عمل هذا الازدواج فی تقریر المعنی وتمکینه فی ذهن السامع، وبذلک أضفی علی الرسالة حلَّة موسیقیة تستهوی السامعین، لاتفاق أوزانها فی نهایة کلّ جملة.

ولم یلبث المنشئ أنْ عدل عن هذه الموازنة إلی استعمال السجع بنوعیه المتوازی والمطرَّف فی آنٍ واحد، فالمتوازی بین (قتلوه ← سلبوه)، وهو من نوع السجع القصیر الذی یعطی النص حرکة إیقاعیة متتالیة عملت علی ترکیز الدلالة المقصودة، ثمَّ جاء بالسجع المطرَّف بین الفواصل (ظلماً ← عدواناً)، ثمَّ عاد إلی السجع المتوازی بین (یعملون← یرجعون).

إنَّ هذا التنوع الإیقاعی الحرکی فی إیراد السجع فی نصٍ واحدٍ لم یقع عفواً من المتکلّم، بل کان عن قصد ووعی کاسراً بذلک الرتابة، ومن ثَمَّ محفّزاً علی الترقب والتواصل، ومع هذه القصدیة فی تلوین النص بأنماط سجعیة مختلفة تطاولت فکوّنت جوّاً موسیقیاً هادئاً، إلّا أنَّ هذا الإیقاع لم یکن هو الهدف الرئیس، بل کان الهاجس الأکبر عند منشئ الخطاب هو تکریس الدلالات المختلفة، ف-«المبدع علیه أوَّلاً أن یُحَدِّد الإطار الدَّلالی الواسع الذی سوف یتحرَّک فیه، ثمّ یتبع ذلک اختیار الطریقة الملائمة التی ینظم بها مفرداته لکی تکون قادرة علی نقل أفکاره علی النَّحو الذی تکوَّنت علیه فی عملیاته النفسیَّة»(1)، ومن ثَمَّ ترسیخها فی ذهن المتلقی، وهذه المعانی تتلاحق بل تتعاضد علی إبراز قضیة خذلان الإمام الحسین(علیه السّلام)، وقتله من الذین دعوه إلی القدوم إلیهم.

وجاء التوازن مقترناً بالسجع المتوازی فی خُطبةِ عبید الله المری، فهو یقول: «أمَّا بعدُ، فإنَّ الله اصطفی محمَّداً صلّی الله علیه وسلّم علی خلقِه بنبوَّته، وخصَّه بالفضل کلّه، وأعزَّکم باتّباعه، وأکرمکم بالإیمان به، فَحَقنَ به دماءکم المسفوکة، وأمَّن به سُبُلَکم المخوفة... ألم تروا ویبلغکم ما اجتُرِم إلی ابن بنت نبیکم؟! أمَا رأیتم إلی انتهاک القوم

ص: 118


1- عبد المطلب، محمد، مفهوم الأُسلوب فی التراث: ص47.

حُرْمَتَه، واستضعافِهم وَحْدَتَه، وترمیلهم إیَّاه بالدَّم، وتجرارهموه علی الأرض... اتَّخذوه للنَّبلِ غَرَضَاً، وغادروه للضباع جَزَرَاً... ولله حسین بن علی، ماذا غادروا به ذا صِدقٍ وصَبر، وذا أمانةٍ ونَجْدَةٍ وحَزْم! ابن أوَّل المسلمین إسلاماً، وابن بنت رسول ربّ العالمین، قلَّت حماتُه، وکَثُرت عُداتُهُ حوله، فقتله عدوّه، وخَذَلَه وَلیّه، فویلٌ للقاتلِ، وملامةٌ للخاذلِ، إنَّ الله لم یجعل لقاتله حُجَّة، ولا لخاذِلِه مَعذرة، إلّا إن یُناصح لله فی التَّوبة، فیجاهد القاتلین، وینابذ القاسطین، فعسی الله عند ذلک أنْ یقبل التَّوبة، ویُقیل العثرة»(1).

فهذا التداخل فی نوعی السجع قد جعل الخُطبة ذات قیمة إیقاعیة بارزة، فنجد المتوازی منه بین الفواصل (مَسْفُوکَة ← مَخُوفَة)، وکذلک بن الفاصلتین (حُرْمَتَه ← وَحْدَتَه)، ثمَّ یأتی بعدها الأُسلوب المتوازن المتماثل بأوزان فواصله، والمختلف برویها بین لفظتی (غَرَضَاً ← جَزَرَاً)، وبین (صِدْق ← صَبْر ← حَزْم).

ثمَّ یردف هذا بالسجع المتوازی مرَّة أُخری بین الفواصل (عَدوَّه ← وَلیَّه)، و(للقَاتِل ← للخَاذِل)، و(القَاتِلِین ← القَاسِطِین)، و(التَّوبة ← العَثرة).

إنَّ هذه التنوعات الأدائیة التی اعتمدها الخطیب فی فواصل عباراته قد منحت نصَّه طابعاً موسیقیاً مصدره الإیقاع الناتج عن تلکم الفواصل، وکان لوجود التوازن بین السجع المتوازی قیمة أُسلوبیة عالیة فی إخراج هذا النص من النمطیة المألوفة فی الوزن، حتی یعطی نوعاً من الدهشة والمفاجأة لدی السامع فی وزن غیر متوقع(2)، کما نجد أن متانة أُسلوب الخُطبة له الأثر الواضح فی إضفاء الحرکة الإیقاعیة والدلالیة علیها إذ «یتجلَّی التوازن الإیقاعی کذلک من جزالة السَّرد المتماسک، وقصدیَّة النَّص

ص: 119


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص559. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص63.
2- اُنظر: فضل، صلاح، علم الأُسلوب والنظریة البنائیة: ج1، ص210.

البالغة: اللتین تبدیان علی نحوٍ واضحٍ فی تدفُّق الأفعال، وتموُّج الصِّفات»(1)، التی جاء النص مفعماً بها جمیعاً.

ومهما یکن القول، فقد اتَّخذ الخطیب من هذه المنظومة السجعیة المتوازنة جس-راً لتوصیل المعانی التی بنیت علیها الخُطبة أساساً، وهی تنبیه المسلمین بفضل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وعظیم منزلته عند الله(سبحانه وتعالی)، فهو منقذ البشریة من الش-رک والظلم، فالواجب احترام ذریته؛ لأنَّهم أحق بالتکریم من غیرهم، مندّداً بما جری لهم من القتل والتش-رید فی الأرض بصورة مأساویَّة، ومن هنا تبرز مهمّة الخطیب الرسالی فی استنهاض الهمم للطلب بدم الإمام الحسین الشهید(علیه السّلام) داعیاً إلی الجهاد، لإرجاع الأمر إلی أهل بیت النبوة؛ ولذلک وجدنا أنَّ الخطیب قد تحرَّاه قصداً.

ص: 120


1- العوادی، مشکور کاظم، المعنی الحرکی فی بدائع الإمام علی(علیه السّلام): ص13.

المبحث الثانی :التناسب المعنوی للإیحاء الصوتی

اشارة

علی الرغم من أنَّ للصوت أهمیة بارزة فی بناء المفردة التی تکوّن الجملة، فإنَّه لا یمتلک معانی جوهریة فی نفسه لو جاء مستقلاً عن سیاقه، فالصوت «وحدة لغویة لا قیمة لها من الناحیة الاعتباریة، لأنَّها شیء مجرد وقیمها تنبع من الوظیفة الدلالیة التی تتحدد خلال موقعها السیاقی وتآلفها مع الأصوات الأُخری»(1)، فللسیاق أثرٌ فی تحدید دلالة الصوت اللغوی وتداعیاته، إذ إنَّ لأصوات الحروف فی السیاقات اللغویة دلالات مشعَّة، فقد یتکرّر حرفٌ «بعینه أو مجموعة من الحروف، فیکون لهذا مغزی یعکس شعوراً داخلیاً للتعبیر... فیخرج عن قید الصوت المحض إلی دلالة تحرّک المعنی وتقوِّیه»(2).

فالسیاق هو المجری الطبیعی لبیان المعانی الوظیفیة الدلالیة للأصوات، فالحروف والأصوات لا تکتسب معانیها إلّا عبر دخولها فی نسق الکلام، فلا ینظر إلی الأصوات علی أنَّها وحدات صغیرة (فونیمات)، بل یجب أن ینظر إلیها حین تتشکل فی وحدة ترکیبیة صغیرة أم کبیرة(3)،إذ إنَّ أصوات الحروف تکتسی قیمة دلالیة، فضلاً عن وظیفتها التمیزیة الرئیسة، وذلک ما تبحثه نظریة المحاکاة الصوتیة، وهی «العلاقة بین

ص: 121


1- العزاوی، سمیر، التنغیم اللغوی فی القرآن الکریم: ص100.
2- هلال، ماهر مهدی، الأُسلوبیة الصوتیة فی النظریة والتطبیق: ص13.
3- اُنظر: أولمان، ستیفن، دور الکلمة فی اللغة: ص38.

الألفاظ ومعانیها، وإِلی أیِّ حدٍّ یمکن استغلال أصوات هذه الألفاظ فی الإیحاء بالمعنی ومحاکاته»(1).

ویُعدّ هذا التألیف بالغ الأهمیّة فی مستویات التحلیل الأُسلوبی، إذ تتواشج فیه البنیتان الإیقاعیة والدلالیة(2).

وتقوم المحاکاة الصوتیة علی الدلالة «التی تُستمد من طبیعة بعض الأصوات»(3)، فتعطی دلالة صوتیة تنتج من ضمّ الحروف بعضها ببعض علی نسق موسیقی خاص(4).

وتُعدُّ المحاکاة الصوتیة للحدث فی الحروف والکلمات، إحدی أنساق الأُسلوبیة الصوتیة فی اللغة العربیة(5)، «فعلم الأُسلوب الحدیث لا یأبه بالجرس إلّا من حیث إیحاؤه بالمعنی»(6).

ولا یخفی فی أنّ البحث عن دلالات الأصوات أمر لا یخلو من المجازفة، ولکنّنا هنا «لا نبحث عن ربط الصوت بدلالات (أَو معانٍ لغویَّة) محدَّدة، وإنَّما نبحث فی الدلالة بصفة عامَّة، وبعبارة أُخری نبحث عن الدلالة الانفعالیة والعاطفیة للأصوات، عن طریق ما یتوافر للصوت من إیحاءات ودلالات ناتجة عن ربط الصوت بالمعنی فی ضوء صفة الصوت اللّغوی، ومخرجه مع النظر إلی المعنی العام للکلمة التی جاء فیها الصوت»(7)،

ص: 122


1- المصدر السابق: هامش ص96.
2- اُنظر: ناظم، حسن، البنی الأُسلوبیة: دراسة فی أُنشودة المطر للسیاب: ص132.
3- أنیس، إبراهیم، دلالة الألفاظ: ص46.
4- اُنظر: مصطفی، عواطف کنوش، الدلالة السیاقیة عند اللغویین: ص44.
5- اُنظر: هلال، ماهر مهدی، الأُسلوبیة الصوتیة فی النظریة والتطبیق: ص70.
6- الدسوقی، محمد، البنیة اللغویة فی النص الشعری: درس تطبیقی فی ضوء علم الأُسلوب: ص5.
7- الحربی، وائل عبد الأمیر، لغة الشعر عند الصعالیک قبل الإسلام: دراسة لُغویة أُسلوبیة: ص28.

أی: فی السیاق الذی یضمّها لیجعل منها رمزاً له إیحاءاته ودلالاته بما یناسب المعنی العام(1).

ولم تکن مسألة المحاکاة الصوتیة غائبة عن أذهان علمائنا القدماء، فقد ابتدأت عند الخلیل بن أحمد وتلمیذه سیبویه، وأشبعها ابن جنی وابن سینا بحثاً وتفصیلاً(2). أمّا المُحدَثون، فقد اهتموا بها اهتماماً واسعاً فی دراساتهم؛ لأنّها «من غیرِ شکٍّ مظهرٌ عجیبٌ من مظاهر اللغة العربیة یُلفت نظر الدارس ویستحقُّ الوقوف عنده وتأمله»(3).

ویقوم منهج تناولنا علی دراسة الصوت فی اللفظة المفردة، ودراسة تکرار الأصوات وما توحی به من دلالة فی ضوء السیاق العام. وسنقف عند هذین النمطین علی النحو الآتی:

أوَّلاً: دلالة الصوت فی اللفظة المفردة

إنَّ کلّ لفظةٍ تحمل فی طبیعة دلالتها نغماً ناتجاً عن الجرس الذی تحمله أصواتها المکوَّنة لها، فالجرس یُشکل «خصیصة ذاتیة محسوسة فی بناء اللفظة من خلال تباین أجراس حروفها التی بُنیت علیها، وتُشکل هذه الحروف فی ائتلافها وتنافرها نغم الألفاظ وقیمها الحسیة»(4).

ص: 123


1- اُنظر: کوهن، جان، بنیة اللغة الشعریة: ص75.
2- اُنظر: الفراهیدی، الخلیل بن أحمد، العین: ج7، ص81، مادة (صر). سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ص4، ص21، وص25. ابن جنی، عثمان، الخصائص: ص2، وص152، وص168. ابن سینا، الحسین بن عبد الله، مخارج الحروف أو أسباب حدوث الحروف: ص25، وص27.
3- النعیمی، حسام سعید، الدراسات اللهجیة والصوتیة عند ابن جنی: ص239. ومن المُحدَثین المعنیین بالمحاکاة الصوتیة الدکتور إبراهیم أنیس فی کتبه: دلالة الألفاظ: ص75 وما بعدها، من أسرار اللغة: ص119وما بعدها.
4- هلال، ماهر مهدی، جرس الألفاظ ودلالتها فی البحث البلاغی والنقدی عند العرب: ص170.

فاللفظة العربیة تحمل موسیقی باطنیة عفویة قوامها التوافق الفطری بین خصائص أصواتها، وبین ما تدلُّ علیه من المعانی إیحاءً وإیماءً، «فقد تحوَّل کلّ حرفٍ من حروفها إلی وعاءٍ من الخصائص والمعانی؛ وذلک بفعل تعامله مع الأحاسیس والمشاعر»(1)، ومن هذا المفهوم یتّجه البحث إلی دراسة القیمة الإیحائیة لدلالة الصوت اللغوی فی اللفظة الواحدة، منظوراً فی ذلک إلی السیاق العام الذی یرد فیه ذلک الصوت.

إنَّ المحاکاة أو الإیحاءات الدلالیة عن طریق أصوات الألفاظ، مدعاة للتأثیر فی نفس السامع وجذب تنبهه؛ إذ إنّ «لکلٍّ من الترکیب الخاصّ بکلّ لفظةٍ وبنیتها، وجرسها، وما یحمله من دلالات إیحائیة، دَخْلاً فی جمالها وتقبُّل النَّفس لها،) وبالتالی) فی إنجاح النص ومنحه فعالیة أکبر، وقدرة أقوی علی التأثیر والإثارة» (2)،

هذا ما سیراه البحث عن طریق دلالة الصوت فی اللفظة المفردة.

جاء فی خُطبة سلیمان بن صُرَد: «إنَّا کُنَّا نَمُدُّ أعناقَنا إلی قدومِ آلِ نبیّنا، ونُمَنّیْهِمُ النَّصْ-رَ، ونَحُثَّهُم علی القدومِ، فلمَّا قدموا وَنَیْنا وعَجَزْنا وأدْهَنَّا وتربَّصْنا وانتظرنا ما یکون حتی قُتِلَ فینا... إذ جعل یَسْتَصرِخُ ویسأل النَّصَف فلا یُعطاه»(3).

فتتمثَّل المحاکاة الصوتیة للحدث، وهی کالرسم بالألفاظ، وذلک فی الألفاظ (نمدُّ)، (نحثهم)، (ونینا)، (یستصرخ).

أمّا کلمة (نمدُّ)، فقد أوحت أصواتها بارتباطها بعضها مع بعض عن معنی مدّ العنق والترقب المصاحب لتلک الصورة الحزینة، التی جسّدها صوتا (النون والمیم) وهما من الصوامت الغنّاء(4)، وقد أضفیا بهذه الغنة نوعاً من الهدوء والشجن العاطفی،

ص: 124


1- جاب الله، عبد العزیز، جمالیات التلوین الصوتی فی القرآن الکریم: ص110.
2- ناجی، مجید عبد الحمید، الأُسس النفسیة لأسالیب البلاغة العربیة: ص73.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص554.
4- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقاریء العربی: ص184 - 185.

وکان لارتباط صوت الدال الشدیدة المجهورة(1) وقعٌ یعبِّر عن شدَّة الحدث، کما ذهب إلی ذلک ابن جنی حین فرّق بین الفعل (مدّ) والفعل (متَّ) قائلاً: «فجعلوا الدَّال - لأنَّها مجهورة - لما فیه علاج، وجعلوا التاء - لأنَّها مهموسة - لما لا علاج فیه»(2).

وقد جاء (الدال) مشدَّداً لیعبّر عن الشدّة والزیادة فی ذلک العلاج، وقد عبَّرت (الضمّة) فی سیاقها دور الصوت المحاکی والموحی، فهی تحاکی وتصور حرکة مدّ العنق إلی الأمام کما نمدُّ نحن شفاهنا إلی الأمام عند النطق بالضمَّة، فهی حرکة أمامیَّة(3).

ولا یخفی ما لجهارة هذه الأصوات التی أسبغت علی هذه الکلمة وضوحاً سمعیاً یتعاضد مع إیحاءاتها الدلالیة.

أمّا لفظة (نحثّهم)، فقد اتسقت أصواتها بعضها مع بعضها الآخر، لتوحی فی ضوء السیاق العام بکثرة الحثّ والإلحاح فیه، فهی مبدوءة بصوت (النون) الذی یمتاز بغنته التی تسبغ علی هذه اللفظة نوعاً من الحزن والشجن، وکان لصوت (الحاء) الحلقی المهموس الذی مثّل الحدّة، فالحاء «هی الصوت الذی نصدره من حلوقنا حین نذوق شیئاً حاداً لاذعَ الطَّعم، فنتنحنح محاولین أنْ نخفّف من حدّته ونحرّر حلقنا من لذعه» (4)، فهو یوحی بحدَّة الحثّ والإلحاح فیه، وقد تعاضد هذا الصوت مع صوت (الثاء) الذی یوحی بالوفرة والغزارة(5)، وقد جاء مشدداً هنا لزیادة تلک الوفرة والغزارة فی عملیة الحثّ، وقد جَاء بعد ذلک صوت (الهاء) الصامت المهموس، و«هو

ص: 125


1- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص6.
2- ابن جنی، عثمان، الخصائص: ج1، ص66.
3- اُنظر: العبد، محمد، إبداع الدلالة فی الشعر الجاهلی: مدخل لغوی أُسلوبی: ص30.
4- النویهی، محمد، الشعر الجاهلی: منهج فی دراسته وتقویمه: ج1، ص96.
5- اُنظر: العبد، محمد، إبداع الدلالة فی الشعر الجاهلی: مدخل لُغوی أُسلوبی: ص20.

صوت النفس الخالص الذی لا یلقی مروره اعتراضاً فی الفم» (1)، لیتعاضد مع صوت المیم، وهو صوت شفوی المخرج ذو غنّة(2)، یحمل معنی الاستمرار(3)، جاء لیوحی بتلک الاستمراریة فی ذلک الحثّ، کما أنَّه أضفی علی اللفظة بغنَّته جوَّاً من الحزن والشجن.

وأما لفظه (ونینا)، فإنّ أصواتها فی سیاقها قد عبَّرت بصدق عن معنی الضعف والوهن والاستکانة، فنجد أنّ صوت (الواو) المجهور الشفوی المخرج(4) الذی جاء فی أوَّل هذه اللفظة بضمّ الشفتین، قد أوحی بجوٍّ من الحزن والجزع، وهذا ما أکّدته الدراسات الحدیثة أنَّ الأصوات الشفویة تدلُّ علی الحزن(5).

ونجد أن لتکرار (النون) إیحاء دلالیاً بهذا الضعف الذی تدلُّ علیه اللفظة، ف-(النون) صوت مجهور تغلب علیه الصفات الضعیفة، فهو صوت (متوسط، مستفل، منفتح)، کما إنَّه صوت مذلق(6)، وهذه الصفات تجعله متساوقاً مع سیاق الضعف والفتور والعجز عن نصرة الإمام الحسین(علیه السّلام)، ولا یخفی أنّ هذا الصوت قد أضفی بتکراره جوّاً من الهدوء والشجن، فهو بهذه الصفة بتعاضد مع إیحاء (الواو) فی الدلالة علی ذلک الحزن الذی یتناسب مع المعنی الذی جاءت علیه هذه اللفظة، وهو الندم والحزن، وأوحی صوت (الیاء) بذلک الضعف والسکون نتیجة لصفاته الصوتیة

ص: 126


1- السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقاریء العربی: ص195.
2- اُنظر: سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج4، ص435. السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص184 - 185.
3- اُنظر: السعدنی، مصطفی، البنیات الأُسلوبیة فی لغة الشعر العربی الحدیث: ص43.
4- اُنظر: أنیس، إبراهیم، أصوات اللغة العربیة: ص124.
5- اُنظر: هلال، ماهر مهدی، الأُسلوبیة الصوتیة فی النظریة والتطبیق: ص72.
6- اُنظر: أنیس، إبراهیم، أصوات اللغة العربیة: ص144- 145.

الضعیفة، لکونه صوتاً غیر مدّی یکاد النفس أن یکون معه ضعیفاً(1)، وکان لصوت (الألف) اللینة الممتدّة فی نهایة الکلمة خیر تعبیر عن امتداد وطول ذلک الضعف من قبل هؤلاء؛ لأنَّ صوت الألف - وهو صوت مد - یتمیَّز من بین سائر أصوات المدّ بکونه أشدّها امتداداً، وأوسعها مخرجاً، وهو الصوت الهاوی(2).

ونجد فی لفظة (یستصرخ) خیر إیحاء یصور الحدث، فقد ساد فیها الاضطراب الصوتی فی مخارج حروفها وتقاربها، الذی أوحی بنوع من القلق وعدم الاستقرار فی واعیة الإمام الحسین(علیه السّلام)، الذی صحبه صخب قوی أفصح عنه صوتا الصفیر (السین والصاد)، فالسین صوت صامت مهموس لثوی رخو(3)، یصلح للتعبیر عن أفکار الانفعالات والحزن القوی والحسرة اللاذعة(4)، وأنَّه یصلح «لمحاکاة الأشیاء المتحرکة وما یصدر عنها من أصوات»(5)، وهذا ما یناسب حال المستصرخ الحزین، کما أنَّ لصخب (الصاد) إیحاءً بذلک الصراخ المدوّی، ثمّ إنّ هذه اللفظة قد احتوت علی صوت(التاء)، وما یمتلکه من خاصیّة الانفجار والهمس(6)، لیدلَّ علی ذلک الاضطراب الصوتی فی ذلک الصراخ، وکان لصوت (الراء) لما فیها من التکریر(7) أوفق لتکرار ذلک الصراخ والندب، والملاحظ فی هذه اللفظة المؤلفة من توالی (السین، والتاء، والصاد)، ثمَّ تقاطر (الراء، والخاء)، إنّ هذه الأصوات کلّها مهموسة ما عدا

ص: 127


1- اُنظر: النعیمی، حسام سعید، الدراسات اللهجیة والصوتیة عند ابن جنی: ص317.
2- اُنظر: أنیس، إبراهیم، أصوات اللغة العربیة: ص147.
3- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص192.
4- اُنظر: النویهی، محمد، الشعر الجاهلی: منهج فی دراسته وتقویمه: ج1، ص101.
5- اُنظر: هلال، ماهر مهدی، الأُسلوبیة الصوتیة فی النظریة والتطبیق: ص74.
6- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص56 - 57.
7- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص187. أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص60.

(الراء) المجهورة، ممَّا یُضفی علی هذه اللفظة نوعاً من الجهد العضلی الذی یتطلبه النطق بها، وقد دلَّ استقراء الدکتور إبراهیم أنیس علی أنَّ طبیعة المهموس من الأصوات تتمیّز بالجهد؛ لأنّ الأحرف المهموسة مجهدة للنفس، فإذا کثرت فی السیاق تضاعف ذلک الجهد(1)، وهذا ما یتناسب والدلالة الإیحائیة لتلک اللفظة التی اتسمت بنوع من الثقل والجهد مع حال ذلک المستصرخ.

ونجد المحاکاة فی إیحاء الدلالة الصوتیة للحدث أیضاً فی خُطبةِ المختار الثقفی، حین سار إلیه مصعب بن الزبیر، فقال: «یا أهلَ الکوفةِ، یا أهلَ الدینِ، وأعْوانَ الحقِّ، وأنْصارَ الضَّعیف... إنَّ فُرَّارَکُم الذین بَغَوا علیکم أتوا أشْبَاهَهُمْ مِنَ الفاسِقِین فاستغوُوهم علیکم لِیُمْصَحَ الحقّ، ویَنْتَعِشَ الباطل، وَیُقْتَلُ أولیاءُ الله، والله لو تَهْلِکُونَ ما عُبِدَ الله فی الأرض»(2).

فنجد فی الألفاظ (فُرَّارَکم) و(یُمْصَح)، (یَنْتَعِش)، إذ جاءت إیحاءاتها الدلالیة للأصوات محاکیة للحدث ودالة علیه ضمن سیاقها العام.

أما لفظة (فرَّارکم)، فقد دلَّل بها المختار علی حال المنهزمین من أهل الکوفة، الذین التحقوا بمصعب بن الزبیر مختزلاً کلَّ معانی الغدر والانهزام، فقد عمد إلی اختیار هذه اللفظة من دون سواها، لما احتوته من أصوات شدیدة یتصدَّرها صوت (الراء) الذی یوصف بأنَّه صوت متکرّر(3) یتمُّ نطقه بضرب اللسان باللثة مرتین أو ثلاثا(4)، فضلاً عن تردُّد هذا الصوت ثلاث مرّات لیتعاضد مع صفته (التکریر)، محاکیاً الحدث، وهو

ص: 128


1- اُنظر: أنیس، إبراهیم، موسیقی الشعر: ص32.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص95.
3- اُنظر: العطیة، خلیل إبراهیم، فی البحث الصوتی عند العرب: ص60.
4- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص60.

الفِرَار؛ لأنَّ تکرار (الراء) وبهذا الکم أفاد تکرار الفعل، وإحداث حرکة فی سیاقه العام، کما کان لصوت المدّ (الألف) دلالة إیحائیة علی طول مدّة الفرار ودوامه؛ لأنَّ صوت (الألف) یتمیّز من بین سائر حروف المدّ فی شدَّة امتداده، فضلاً عن جهارته(1)، فجاء منسجماً هو الآخر فی سیاقه مع صوت (الراء) لیوحی الصوتان بامتدادهما الدلالی والقصدی فی النص. أمّا لفظة (یُمْصَح) مضافة إلی (الحقّ)، فهی فی حروفها المرتبطة بعضها مع بعض تحمل دلالة إیحائیة للحدث الذی تدلُّ علیه، وهو الانقطاع والذهاب، فتعاضد صوتا (الصاد، والحاء) المهموسان (2) إیحاءً للدلالة علی سکون الحدث والتکتُّم فی إذهاب الحقّ من الذین یریدون القضاء علی ثورة المختار - وهو یری الحقّ معه - وإنَّهم فی أباطیل ومزاعم.

ونجد فی لفظة (یَنْتَعِش) أنَّها قد تآلفت أصواتها لتحاکی الحدث، وهو القیام والانتشار، فصوت (التاء) المهموس الانفجاری(3) قد منح اللفظة صفة القوة فی ذلک القیام، کما کان لصوت (العین) الصامت المجهور(4) الذی یمتاز بجرسه العنیف أثرٌ فی منح اللفظة طابع العنف والشدَّة، وکان لصوت (الشین) الرخو المهموس(5) النصیب الأوفی فی الإیحاء الدلالی للقیام والانتشار والحرکة(6)، لما یمتلکه من صفات التفشی والانتشار؛ لأنَّ فی نطقه یظهر فیه انتشار اللسان علی الحنک(7)، وهذا ما یحاکی انتشار

ص: 129


1- اُنظر: ابن جنی، عثمان، سر صناعة الإعراب: ج1، ص62.
2- اُنظر: بشر، کمال، علم الأصوات: ص302، وص304.
3- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص 168.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص195.
5- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص68.
6- اُنظر: عیسی، أحمد، کتاب التهذیب فی أصول التعریب: ص10.
7- اُنظر: العطیة، خلیل إبراهیم، فی البحث الصوتی عند العرب: ص56.

الباطل الذی عناه المختار.

وجاء الإیحاء الدلالی الصوتی فی أصدق تعبیر عن الحدث فی خُطبة محمد بن الحنفیة وهو یرد علی عبد الله بن الزبیر، وکان الأخیر قدا نتقصَ فی خُطبة له من الإمام علی بن أبی طالب(علیه السّلام)، فقال محمد: «یا مَعْشَرَ قُرَیْش، شَاهَتَ الوجوه، أیُنْتَقِصُ علیٌّ وأنتم حضور؟! إنَّ علیّاً کانَ سَهْمَاً صادِقاً، أحَدَّ مَرامِی الله علی أعدائَه، یَقْتُلُهُم لکُفْرِهم، وَیُهَوّعَهُمْ مآکلَهُم، فَثَقُلَ علیهِم، فَرَمَوهُ بِصِرْفَةِ الأباطیل... فإنْ تُکُن لنا الأیّامُ دُوْلَةً نَنْثُرْ عِظَامَهُم»(1).

فنجد الألفاظ: (شاهت)، (أحدّ)، (یُهَوّعهم)، (ننثر). أمَّا اللفظة (شاهت) التی هی بمعنی (قَبُحَتْ) (2)، فقد ابتدأ بنطقها بصوت (الشین)، وهو صوت رخو مهموس له صفة التفشّی(3)، ویدلّ علی الانتشار والتفشی بغیر نظام(4)، وهو فی أوَّل اللفظة یدلُّ علی تمکُّن ذلک القبح وانتشاره فی الوجوه، وکان صوت (الهاء) الصامت المهموس(5) الذی یدلُّ علی التلاشی والذهاب(6)، له أثر فی تمکُّن انتشار القبح فی تلکم الوجوه وإظهاره، وتلاشی معالمها وذهاب حقیقتها.

أما لفظة (أحَدَّ)، فهی فی أصواتها إنَّما تمثَّل الحدّة والقوَّة التی تناسب حدَّة المرامی وأیُّ مرامٍ؟ إنَّها مرامی الله(سبحانه وتعالی)، التی کان أحَدّها أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام)، فهذه الکلمة تناسب صفته وغلظته علی أعداء الله والمنافقین.

ص: 130


1- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص90.
2- اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج7، ص243، مادة (شوه).
3- اُنظر: العطیة، خلیل إبراهیم، فی البحث الصوتی عند العرب: ص56.
4- اُنظر: العلایلی، عبد الله، مقدّمة لدرس لغة العرب: وکیف نضع المعجم الجدید: هامش ص210.
5- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص196.
6- اُنظر: العلایلی، عبد الله، مقدّمة لدرس لغة العرب: وکیف نضع المعجم الجدید: هامش ص211.

فقد ابتدأت بصوت (الهمزة) التی هی من أَشقِّ الأصوات(1)، وتأتی شدَّتها تلک من مخرجها، فهی صوت یخرج من أقصی الحلق کالتهوّع(2)، ولا شکَّ أنَّ فی هذه الشدَّة والمشقَّة فی نطقه ما یوحی بشدَّة المعنی التی تنطوی علیه هذه اللفظة، ویطالعنا بعد الهمزة صوت الحاء الحلقی المهموس(3)، الذی یمثّل الحدَّة فی الحدث نتیجة نطقه الحاد(4)، وقد جاء بعد هذا الصوت صوت انفجاری مجهور(5)، وهو(الدّال)، ولهذا الصوت إیحاء بالتصلُّب، فهو صوت المقاومة والشدَّة(6)، جاء لیوحی بهذه الحدّة التی یمتلکها أمیر المؤمنین(علیه السّلام) بوصفه أحدَّ مرامی الله(سبحانه وتعالی) علی أعدائه.

وأما لفظة (یهوّعُهم)، فقد حاکت بأصواتها عملیة التقیّؤ للأکل؛ لأنَّ فیها حرفین من حروف الحلق (الهاء والعین) فبمخرجهما هذا من الحلق قد حاکیا فعل القیء، وهو مندفع من الجوف والحلق إلی الخارج، وهذا واضحٌ من خلال التلفُّظ بهذا المقطع المتکوّن من اجتماع هذین الحرفین، ولولا هذا الفصل الذی وقع بینهما بصوت (الواو) لکانت اللفظة، ثقیلة نابیة، وذلک بسبب التقارب المخرجی بین (الهاء) و(العین)؛ لأنَّ اجتماعهما مدعاة للتنافر والاستکراه النطقی، وقد ذکر ابن سنان الخفاجی أنَّ العرب یقلُّ تألیفهم بحروف الحلق من غیر فصل بینها§ُنظر: الخفاجی، عبد الله بن محمد، سر الفصاحة: ص58.


1- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص78.
2- اُنظر: المبرّد، محمد بن یزید، المقتضب: ج1، ص292.
3- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص195.
4- اُنظر: النویهی، محمد، الشعر الجاهلی: منهج فی دراسته وتقویمه: ج1، ص96.
5- اُنظر: أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص46.
6- اُنظر: عیسی، أحمد، کتاب التهذیب فی أصول التعریب: ص9.

وأمّا لفظة (ننثر)، فقد دلَّ صوتا (الثاء والراء) علی الإیحاء الدلالی لعملیة نثر العظام بصورة مکثفة ومتکررة، إذْ أوحی صوت (الثاء) الذی یدلُّ علی الوفرة والغزارة فی الفعل(1) علی وفرة هذا النثر وغزارته، وکان (الراء) متساوقاً مع هذا الصوت فی دلالة التکریر بالفعل؛ لأنَّ (الراء) یحمل صفة التکرار، فهو صوت مکرَّر (2)، فهو یُحاکی المرَّات المتتابعة والمتزایدة فی عملیة نثر العظام، وهذا الوصف یلائم الغرض التی جاءت من أجله هذه اللفظة. وإذا ما علمنا أنَّ الأُسلوب إنَّما هو اختیار أو انتقاء یقوم به المنش-ئ لسمات لغویة معیّنة لغرض التعبیر عن موقف معین(3)، فإنَّ الانتقاءات العالیة لأصوات بعینها تُعدُّ إجراءً أُسلوبیاً من الطراز الأوَّل، وعندها تکون السِّمة الأُسلوبیة فی اختیار هذه الألفاظ التی تحتوی هذه الأصوات واضحة وبیّنة من دون سواها فی هذه النصوص. وهکذا یتبدَّی لنا التأثیر الأُسلوبی الصوتی، الذی جاء من خلال استعمال مخارج الأصوات وصفاتها، وإدراک المیزة الأُسلوبیة المترتّبة لتلک المخارج والصفات، ودلالتها السیاقیة علی المعنی الذی وضعت له، إذ إنَّ الحرکات والأشیاء المحسوسة «متجسّدة فی الأصوات اللغویة وسیاقاتها اللفظیة المختلفة»(4).

ثانیاً: دلالة الأصوات المتکرِّرة فی السیاق

اشارة

قد تتکرر بعض الأصوات فی الکلام لتوحی بالحدث ضمن السیاق العام إلی جانب الإیقاع الصوتی، إذ یتمثل التکرار فی عدّة مستویات، «فثمة تکرار علی المستوی

ص: 132


1- اُنظر: العبد، محمد، إبداع الدلالة فی الشعر الجاهلی: مدخل لُغوی أُسلوبی: ص20.
2- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص187.
3- اُنظر: مصلوح، سعد، الأسلوب: دراسة لغویة إحصائیة: ص37 - 38.
4- الضالع، محمد صالح، الأُسلوبیة الصوتیة: ص9.

الفونیمی، ویُضفی هذا التکرار بُعداً نغمیاً یُعدُّ مکوناً تتضمنه العناصر اللسانیة؛ الأمر الذی یُفضی إلی اکتساء هذه العناصر إیقاعاً خاصاً هو مکون ذاتی فی اللغة ینبثق من طبیعة الفونیمات نفسها. ویمکن أن یتمثل التکرار الفونیمی بما سُمّیَ ب-(الرمزیة الصوتیة) أو (المحاکاة الصوتیة) التی تتأسس علی علاقة بین البنیة الصوتیة للکلمة أو مجموعة من الفونیمات بصوت معین تحاکیه البنیة محاکاة مباشرة أو غیر مباشرة»(1).

فالمحاکاة الصوتیة تکمن فی تکرار الأصوات فی کلمةٍ واحدةٍ أو عدَّة کلمات ضمن سیاقها التی ترد فیها، فیؤدی إلی خلق جوٍّ مناسب ینسجم مع الحدث المراد التعبیر عنه.

ونجد ظاهرة تکرار الصوت وإیحاءه بالحدث فی کثیر من خُطب ورسائل ثورة التوّابین وإمارة المختار الثقفی، وعلی النحو الآتی:

1- تکرار الأصوات الشدیدة

عرّف سیبویه الصوت الشدید بأنَّه «هو الذی یمنع الصوت أن یجری فیه»(2)، وأطلق علیه المُحدَثون تسمیة الصوت الانفجاری(3)، وذلک لانضغاط الهواء وانحباسه عند الموضع الذی یلتقی فیه عضوا النُّطق(4).

ولقد تکررت الأصوات الشدیدة کثیراً فی نصوص الحِقبتین؛ نظراً لما کانت علیه ظروف الثورة والقتال، إذ إنَّ تکرار الأصوات الشدیدة فی الکلام یؤدی إلی خلق جوٍّ مناسب یُوحی بالشدّة والعنف، وهو ما ینسجم مع الحال التی یکون المنشئ فی صددها، ونجد ذلک ملحوظاً فی تکرار صوتی (التاء) و(القاف) فی خُطبة عبد الله بن

ص: 133


1- ناظم، حسن، البنی الأُسلوبیة: دراسة فی أُنشودة المطر للسیاب: ص98.
2- سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج4، ص434.
3- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص166. أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص23. بشر، کمال، علم الأصوات: ص247.
4- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص166.

یزید حین علم بعزیمة التوّابین علی الخروج، فقال: «قَدْ والله دُلْلّتُ علی أماکنهم، وأُمِرْتُ بأخذهم، وقِیْلَ، ابدَأهُم قَبْلَ أنْ یبدؤوک، فأبیتُ ذلک، فقلتُ: إنْ قاتلونی قاتَلْتُهُم، وإنْ تَرکونی لَمْ أطْلُبْهُم، وعلامَ یقاتلونی؟ فو الله ما أنا قتلتُ حسیناً، ولا أنا ممَّن قاتله، ولَقَدْ أُصِبْتُ بِمقْتَلِهِ رَحْمَةُ الله علیه...»(1).

فقد تحقَّق التکرار هنا بصفته بُنیة أُسلوبیة عن طریق هیمنة هذین الصوتین، فقد تکرَّر صوت (التاء)، خمس عشرة مرّة، وهو صوت شدید(2)، وقد تکرَّر إلی جانب هذا الصوت الشدید صوت شدید آخر، هو صوت (القاف) الذی تکرَّر إحدی عش-رة مرّة، وصوت (القاف) من الأصوات التی «لا تستطیع الوقوف علیها إلّا بصوت؛ وذلک لشدَّة الحَفْزِ والضَّغْط»(3) علیه، ولتبیان الکلمات التی ورد فیها الصوتان. وبتطبیق المنهج الإحصائی نلحظ هذا الجدول:

الصوت

عدد مرّات التکرار مواضع التکرار

التاء15 مرّة

دللت، أمرت، أبیت، فقلتُ، قاتلونی، قاتُلتهم، ترکونی، یقاتلوننی، قتلت،

قاتله، أصبتُ، بمقتله، رحمة.

القاف 11 مرّة

قد، قیل، قبل، فقلت، قاتلونی، قاتلتهم، یقاتلوننی، قتلت، قاتله، لقد، بمقتله.

إنَّ صفة الشدّة التی تمیَّز بها هذان الصوتان قد أوجدت نغماً مجلجلاً، أی: بحرکیة ذات طابع شدید الوقع علی مسامع المتلقی، وهی متأتیة من صفتی الجهر والقلقلة اللتین تمیّز بهما صوت (القاف)، وهذه عمقت الدلالة فی الکلام، وأحدثت إیقاعاً قویاً

ص: 134


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص561 - 562.
2- ظ: السعران، محمود، علم اللغة مقدّمة للقارئ العربی: ص168.
3- ابن جنی، عثمان، سر صناعة الإعراب: ج1، ص63.

متعاضداً مع شدَّة (التاء)، فأوحیا بالشدّة فی الحدث وقوته، وهذا ما دلَّ علیه السیاق وحال المتکلّم المتصف بالشدَّة والقوَّة «ولیس یخفی أَنَّ مادة الصوت هی مظهر الانفعال النفسی، وأَنَّ هذا الانفعال بطبیعته إنّما هو سبب فی تنویع الصوت... ممَّا هو بلاغة الصوت فی لغة الموسیقی»(1)، وهو ما تمیَّز به هذا النص.

وجاء فی رسالة المختار بن أبی عبید إلی أصحاب ابن صُرَد بعد عودتهم من المعرکة، وکان المختار قد کتبها إلیهم مؤکّداً بالاقتصاص من أعدائهم: «فإنّی لو قَدْ خَرَجْتُ إلیْکُم قَدْ جَرَّدْتُ فیما بینَ المَشْرِقِ والمغرِبِ فی عدوّکُم السَّیف بإذنِ الله، فَجَعَلْتُهُم بإذنِ الله رُکَاماً، وقَتَلْتُهُم فَذّاً وتوأماً، فرحَّب الله بمَنْ قارَبَ مِنْکُمْ واهْتَدی، ولا یُبْعِد الله إلّا مَنْ عَص-َی وَأبَی، والسلامُ یا أهْلَ الهُدَی»(2).

فنجد فی هذه الرسالة شیوعاً واضحاً للأصوات الشدیدة التی تعاضدت مع السیاق فی إعطاء النص قیمته الصوتیة المتمثلة فی الشدَّة والقرع، ویطالعنا من هذه الأصوات (التاء والقاف، والدال) وحسب الجدول الآتی:

الصوت الشدید

عدد مرّات التکرار التاء 7 مرّات

الدال 6 مرّات

القاف 5 مرّات

وهذا التوظیف الصوتی الذی یوحی بالحدث، وهو الشدَّة والقرع یناسب الحال التی کان علیها المختار وهو فی صدد التهدید والوعید.

ص: 135


1- الرافعی، مصطفی صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبویة: ص153.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص7.

وکان اجتماع هذه الأصوات مع تکرارها قد أضفی علی النص إلی جانب الإیحاء الدلالی، إیقاعاً حرکیاً؛ لأنّه «إذا تکرر الحرف فی الکلام علی أبعاد متقاربة، أکسب تکرار صوته ذلک الکلام إیقاعاً مبهجاً، یُدرکه الوجدان السلیم حتی عن طریق العین، فضلاً عن إدراکه السمعی فی الأُذن»(1).

ونجد تکراراً لصوت (الدال) فی وصیَّة المختار إلی یزید بن أنس: «إذا لَقیتَ عدوَّکَ فلا تُناظِرْهُم، وإذا أمکنَتْکَ الفُرْصَةُ فلا تؤخّرها... وإنْ احتجتَ إلی مَدَدٍ فاکتب إلیَّ؛ مع أنَّی مُمِدُّکَ ولو لَمْ تَسْتَمْدِدْ، فإنَّه أشدُّ لعضُدِکَ، وأعزُّ لجندِکَ، وأرْعَبُ لعدوّک»(2).

فتکرار(الدال) وهو من أصوات القلقلة التی جمعت بین الجهر والشدَّة(3)، کان له الأثر الکبیر فی إضفاء الإیقاع الموسیقی الحرکی علی هذا النص، وما کان ذلک التکرار إلّا من خلال صیاغة الکلمات التی تحتوی علی هذا الصوت، وهی: (عدّوک، عندی، مدد، ممدّک، تستمدد، أشدُّ، عضدک، عدوّک)، إلی جانب الإیحاء بالانفعال النفسی الذی أدَّاه هذا الحرف، وقد جمع صفات القوَّة فی سیاقه، «فالصیاغة مع مقترباتها لمجموع الکلمات ذات أثر انفعالی شدید، لأنَّ الحروف الإیقاعیة تتفاوت من حیث الوقع علی السمع والنفس بحساب الانتظام والزمن والتناوب، وعندها یتمثَّل الإبداع الحقیقی بانتقائه التلقائی للکلمات سواءً أکان ذلک فی منطقة السطح الصیاغی أو منطقة العمق الدَّلالی»(4) الذی جاء النص مفعماً بهما.

ص: 136


1- السید، عز الدین علی، التکریر بین المثیر والتأثیر: ص45.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص40.
3- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص174. النعیمی، حسام سعید، الدراسات اللهجیة والصوتیة عند ابن جنی: ص322.
4- العوادی، مشکور کاظم، المعنی الحرکی فی بدائع الإمام علی(علیه السّلام): ص12.
2 - تکرار أصوات المدّ

شاعت أصوات المدّ - وهی: الألف مطلقاً، والواو الساکنة المضموم ما قبلها، والیاء الساکنة المکسور ما قبلها(1) - فی خُطب ورسائل الحِقبتین شیوعاً یتناسب مع ما توحیه من دلالات فی سیاقها، إذ تتمیَّز أصوات المدّ بقدرتها العالیة فی الإسماع، وذلک متأتٍ من «أنَّ الصفات الصوتیة السمعیة بهذه الأصوات قد نشأت بوجه عام من فکرة عدم الاحتکاک... فقد سَمَحَ لها عدم الاحتکاک مثلاً بأن تحمل طاقة أعلی بکثیر ممَّا تحمله الصوامت التی تفقد کثیراً من طاقتها فی الاحتکاک، فساعدتها قوة الطاقة هذه علی أن تکون أصواتاً ذات قدرة عالیة فی الأسماع»(2)، وهذا یعنی أنَّها أصوات یمکن إطالة التصویت بها، وأنَّها أصوات ذات قوَّة إسماعیة عالیة؛ وذلک لمرور الهواء فی أثناء النطق بها بحریة، فلا یعترضها شیء من جهاز النطق عند النطق بها(3).

وبهذه الخاصیّة الأُسلوبیة والأدائیة لهذه الأصوات، کان لها شیوع واسع فی الکلام، علاوة علی ذلک أنَّ أصوات المدّ الثلاثة تأتلف وتنسجم مع کلّ أصوات العربیة(4)، ولا یخفی ما للأثر الکبیر الذی یُحدثه الانسجام الصوتی علی إظهار المعانی وتوصیلها إلی المتلقی؛ لأنّ الانسجام یُعدُّ من الممهّدات لتوصیل المعانی، وتقریبها إلی ذهن السامع، وهذه میزة أُسلوبیة أُخری تؤدیها هذه الأصوات.

ص: 137


1- اُنظر: أنیس، إبراهیم، أصوات اللغة العربیة: ص92.
2- المطلبی، فاضل غالب، فی الأصوات اللغویة: دراسة فی أصوات المد العربیة: ص24. اُنظر: عمر، أحمد مختار، دراسة الصوت اللغوی: ص12- 13.
3- اُنظر: الفراهیدی، الخلیل بن أحمد، العین: ج1، ص58. اُنظر: المطلبی، فاضل غالب، فی الأصوات اللغویة: دراسة فی أصوات المد العربیة: ص78.
4- اُنظر: ابن وهب، إسحاق، البرهان فی وجوه البیان: ص430.

وقد جاء فی خُطبةِ سلیمان بن صُرَد الخزاعی شیوع ملحوظ لهذه الصوائت الطویلة: «أمَّا بعدُ، فَقَد أتَاکم اللهُ بعدوّکُم الذی دأبْتُم فی المسیرِ إلیه آناء اللیل والنَّهار، تُریدُون فیما تُظْهِرُونَ التَّوبة النَّصُوح، ولقاءَ الله مُعذِرین، فقد جاءُوکم بَلْ جِئْتُمُوهم أنتُم فی دارِهِم وحیِّزِهِمِ، فإذا لَقیتُمُوهُم فأصْدُقُوهُم، واصْبِروا إنَّ الله مع الصَّابرین، ولا یولَّیَنّهُم أمرؤٌ دُبُرَهُ إلّا مُتَحَرّفاً لقتالٍ أو مُتَحَیّزاً إلی فِئَة... لا تَقَتُلُوا مُدْبِراً، ولا تَجْهَزوا علی جَریح، ولا تقتلوا أسیراً مِنْ أهل دَعْوَتَکُم، إلّا أنْ یُقاتلْکُم بَعْدَ أنْ تأسَرُوه، أو یکون مِنْ قَتَلَة إخوانِنا بالطَّف رحمةُ الله عَلَیهِم؛ فإنَّ هذه کانَت سِیرَة أمیرِ المؤمنین علی بن أبی طالب فی أهل هذه الدَّعْوَة»(1).

فقد شاعت أصوات المدّ الثلاثة (الألف، الواو، الیاء) فی هذه الخُطبة حتی أسبغت علیها وضوحاً سمعیاً ملحوظاً إلی جانب الانسجام الصوتی فی ألفاظها، وکانت هذه الأصوات فی الکلمات الآتیة:

صوت المدّ

عدد المرّات

الأَلف 18 مرّة

الواو12 مرّة

الیاء 10 مرّات

کما نلحظ فی هذه الخُطبة أنَّ صوت المدّ (الألف) قد فاق فی حضوره الصوتین الآخرین (الواو والیاء)، ویمکن تفسیر ذلک بأنَّ صوت (الألف) یتمیَّز من بین سائر

ص: 138


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص596. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص72.

أصوات المدّ بکونه أشدَّها امتداداً وأوسعها مخرجاً مقارنة بمخرجی (الواو والیاء)(1)، وهو الصوت الهاوی فی الهواء علی حدِّ تعبیر الخلیل بن أحمد الفراهیدی(2)، فهو فی أعلی مراتب الانطلاق فی أصوات المد(3) ممَّا یزید ذلک فی نسبة وضوحه الصوتی، فیؤدی وظیفته الأُسلوبیة هذه فی الکلام، ولذلک نراه قد دخل فی تألیف معظم ألفاظ هذه الخُطبة.

فإذا کان الأمر کذلک فی (الألف)، فإنَّ صوتی المدّ (الواو والیاء) یأتیان فی المرتبة الثانیة بعده، ولکنّهما أیضاً یشارکانه بخاصیّة المدّ والوضوح الصوتی، علاوة علی خلق الانسجام فی ألفاظ هذه الخُطبة، وإنَّ الإیحاء الدلالی لأصوات المدّ تکمن فی تفخیم المعنی المراد التعبیر عنه والمبالغة فیه؛ لأنَّ مدّ الصوت یعنی منحه زمناً أطول، وهذا ما یناسب طول الحدث المراد توصیله(4).

ونری فی العهدِ الذی قطعه المختار الثقفی علی نفسه فی زیارته لقبر الإمام الحسین(علیه السّلام) قبل دخوله الکوفة، فقد احتوی علی أصوات قد أوحت بمعانی التهدید والوعید: «یا سَیّدیْ آلیتُ بِجَدّک المُصْطَفَی، وأبِیْکَ المُرْتَضَی، وأُمِکَ الزَّهْرَاء، وأخِیکَ الحَسَنِ المُجْتَبَی، وَمَنْ قُتِلَ مَعَکَ مِنْ أهْلِ بَیْتِکَ وَشِیْعَتِکَ فی کَرْبلاء، لا أکَلتُ طَیّبَ الطَّعَام، ولا شَرِبْتُ لَذِیذَ الشّ-َراب، ولا نِمْتُ علی وطْئ المِهَاد، وَلا خَلَعْتُ عنْ جَسَدِی

ص: 139


1- اُنظر: سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج4، ص435 - 436. أنیس، إبراهیم، أصوات اللغة العربیة: ص147.
2- اُنظر: الفراهیدی، الخلیل بن أحمد، العین: ج1، ص58. المخزومی، مهدی، الخلیل بن أحمد الفراهیدی: أعماله ومنهجه: ص123.
3- اُنظر: العطیة، خلیل إبراهیم، فی البحث الصوتی عند العرب: ص61.
4- اُنظر: الحلفی، شکیب غازی، ألفاظ السمع فی القرآن الکریم: دراسة لغویة: ص62.

هذهِ الأبْراد، حَتَّی انْتَقِمُ مِمَّنْ قَتَلَکَ أوْ أُقْتَلُ کَمَا قُتِلْتَ، فَقَبَّحَ الله العَیْشَ بَعْدَک»(1).

فقد تکرَّر فی هذا النص صوت المدّ (الألف) وقد فاق الأصوات الأُخَرَ شیوعاً مؤدّیاً غرضه الأُسلوبی فی الإیحاء والانسجام النطقی.

أمّا إیحاؤه، فیدلُّ علی طول الحدث الذی سوف یصدر من المنشئ، ألا وهو الانتقام والاقتصاص من الظالمین؛ لأنَّ صوت (الألف) یمتاز من بین أصوات المدّ بشدة امتداده(2)، وأنّه من الصوائت المجهورة (3) التی تجعل عملیة النطق مقترنة باهتزاز الأوتار الصوتیة، وهی صفة یتطلبها المقام الذی یتکلّم فیه المنشئ (مقام التهدید والتوعید).

وکان لصوت (الألف) إیحاءٌ دلالیٌّ بالحدث، کان له أثرٌ بالغٌ فی الانسجام النطقی بین الألفاظ؛ وذلک لأنَّ هذا الصوت - کما هو فی کلّ أصوات المدّ - یأتلف مع کلّ الأصوات، فضلاً عن هذا أنّه أخفُّ الأصوات نطقاً علی اللسان(4)، ممَّا جعل النطق فی هذه الألفاظ التی دخل فی بنائها منسجمة متآلفة.

وکان لباقی الأصوات التی شارکت صوت (الألف) بشدّتها وجهارتها أثرٌ فی الإیحاء الدلالی للحدث، فنجد للفواصل المتوازنة: (الطعام ← الشراب ← المهاد ← الأبراد).

فصوت (الألف) فی هذه الفواصل جاء مردوفاً بالسجعات (المیم، الباء، الدال)،

ص: 140


1- الخوارزمی، محمد بن أحمد، مقتل الحسین: ج2، ص187.
2- اُنظر: ابن جنی، عثمان، سر صناعة الإعراب: ج1، ص62.
3- الثعالبی، عبد الله بن محمد، فقه اللغة العربیة: ص440 - 441.
4- اُنظر: هلال، ماهر مهدی، جرس الألفاظ ودلالتها فی البحث البلاغی والنقدی عند العرب: ص149.

وکلّها أصوات شدیدة مجهورة، فضلاً عن الأصوات الأُخر التی شاعت فی هذا النص، وهکذا تتجمع الألفاظ بأصواتها فی سیاق تصویری رائع بالأصوات الشدیدة والمجهورة والمقلقلة، وکلّها من صفات القوة فی الأصوات، توافقاً مع سیاق النص الذی عبَّر عن عنف المشهد.

3- تکرار أصوات الذَّلاقة

تُعرّف الذلاقة بأنَّها: «القدرة علی الانطلاق فی الکلام بالعربیة من دون تعثُّر، أو تلعثم، فذلاقة اللسان کما نعلم جودة نطقه وانطلاقه فی أثناء الکلام»(1).

ومصطلح الذلاقة وصف یشترک فیه عدد من أصوات العربیة، یرتبط ارتباطاً وثیقاً بمخارجها، ولذلک علَّل الخلیل بن أحمد الفراهیدی سبب تسمیتها قائلاً: «وإنَّما سُمَّیت هذه الحروف ذلقاً؛ لأنَّ الذَّلاقة فی المنطق إنَّما هی بطرف أسلة اللسان والشفتین وهما مدرجتا هذه الأحرف الستة، منها ثلاثة ذلقیَّة: (ر، ل، ن) تخرج من ذلق اللسان من (طرف غار الفم)، وثلاثة شفویة: (ف، ب، م)، مخرجها من بین الشفتین خاصّة»(2).

وهذا یعنی أنَّ الذلاقة فی الأصوات اسمٌ یندرج تحته نوعان من الأصوات بحسب مخارجها، الأوّل: ذلقی والآخر شفوی، وکلَّها تشترک فی صفةٍ واحدةٍ هی سهولة النطق بها، کما أشار إلی ذلک الخلیل وغیره من العلماء(3).

وقد شاعت هذه الأصوات الذلقیة فی خُطب ورسائل هاتین الحِقبتین شیوعاً یتناسب وأهمیتها فی انسیابیة الکلام من دون تعثُّر أو تلعثم، وانسجاماً مع المعنی الذی

ص: 141


1- أنیس، إبراهیم، الأصوات اللغویة: ص91.
2- الفراهیدی، الخلیل بن أحمد، العین: ج1، ص51.
3- اُنظر: ابن درید، محمد بن الحسن، جمهرة اللغة: ج1، ص7. ابن جنی، عثمان، سر صناعة الإعراب: ج1، ص64.

توحی به فی سیاقها، فقد جاء فی رسالة عبد الله بن یزید التی بعث بها إلی سلیمان بن صرد یسأله الرجوع عمّا عزم علیه لقوله: «بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحیم، مِنْ عبدِ اللهِ بن یزیدَ إلی سلیمانَ بن صُرَدْ ومَنْ مَعَهُ مِنَ المُسلمین، سلامٌ عَلیْکم، أمَّا بعدُ، فإنَّ کتابی هذا إلیْکُم کتابُ ناصحٍ ذی إرْعاء، وکَمْ مِنْ ناصحٍ مُسْتَغَشّ، وکَمْ مِنْ غاشّ مُسْتَنْصَحٍ مُحَبّ، إنَّه بلَغَنی أنَّکم تُریدُون المَسیر بالعَدَدِ الیسیرِ إلی الجَمْعِ الکثیر، وإنَّه مَنْ یُرْد أنْ یَنْقُل الجبال عنْ مراتِبِها تَکِلُّ معاوِلُه، ویَنْزَعُ وهوَ مذمُومُ العَقلِ والفِعْل، یا قومَنا لا تُطمِعُوا عدَّوکُم فی أهلِ بلادِکم، فإنَّکم خیارٌ کُلّکُم، ومَتَی ما یُصِبْکُم عدّوکم یعلمُوا أنَّکم أعلامُ مِص-ْرکم فَیُطْمِعهم ذلک فیمَنْ وراءَکم، یا قومنا: «إِنَّهُمْ إِنْ یَظْهَرُوا عَلَیْکُمْ یَرْجُمُوکُمْ أَوْ یُعِیدُوکُمْ فِی مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا »(1)، یا قوم، إنَّ أیدِیْنا وأیدیَکم الیومَ واحدة، وإنَّ عدوَّنا وعدوَّکم واحد، ومَتَی تَجْتَمع کلمتُنا نَظْهَر علی عدوّنا، ومتَی تَخْتَلِف تَهُنْ شوکتُنا علی مَنْ خالَفَنا؛ یا قومنا لا تَسْتَغِشَّوا نُصْحِی، ولا تُخالفوا أمری، واقبِلُوا حینَ یُقْرأ علیْکم کتابی، أقبلَ اللهُ بکُم إلی طاعَتِه، وأدبرَ بکُم عن معصیته، والسلام»(2).

فنجد أنَّ الأصوات الذلقیة قد دخلت فی أبنیة معظم هذه الکلمات الواردة فی هذه الرسالة، وأنَّ قلیلاً منها قد خلت من هذه الأصوات، ممَّا جعل الکلام سائغاً ذا خفَّة وانطلاق عالٍ فی أثناء نطقه، ومن ثَمَّ سهَّل عملیة استقبال المعنی المراد توصیله إلی ذهن السامع.

وبتطبیق الإحصاء علی هذه الأصوات لاستخراج نسبة الأصوات الذلقیة، نجدها متدرجة فی کثرتها، وحسب الجدول الآتی:

ص: 142


1- الکهف: آیة20.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص591 - 592.

الحرف الذلقی

عدد المرّات التی ورد فیها

المیم73

اللام57

النون47

الباء21

الراء 19

الفاء 11

ویکشف لنا هذا الجدول الإحصائی عدد هذه الأصوات التی وردت فی الرسالة، عندها یلحظ أنَّها کانت متدرّجة بحسب شیوعها، فقد بلغت (المیم) شیوعاً یفوق الأصوات الأُخری، یلیه فی ذلک صوت (اللام)، وبعدها (النون).

ویمکن توجیه تفوّق صوت (المیم) فی هذه المقام أُسلوبیاً «بکون المیم صوتاً شفویَّ المخرج؛ فلا یتطلَّب تقطیعه مجهوداً؛ فهو خاضعٌ إلی قانون المجهود الأدنی؛ کما أنَّه یتَّخذ من المفردة التی یَرِدُ فیها موقعاً جمالیاً بوصفه من حروف الذلاقة»(1).

ویمکن توجیه شیوع صوت (اللام) أُسلوبیاً کذلک فی خضوعه أیضاً «لقانون الجهد الأدنی فی تقطیعه؛ وبحسب اللسانیات فإنَّ التواتر فی اللغة یخضع فی جملة ما یخضع إلی المجهود الذی یبذله المتکلّم فی تقطیع الکلام»(2).

أمَّا (النون) فیشیع فی الکلام؛ لأنَّه علی درجة عالیة من تلطیف وتعدیل ذلک الکلام الذی یرد فیه(3)، وهو صوت مجهور تغلب علیه الصفات الضعیفة فهو:

ص: 143


1- البعاج، کریم طاهر، قصار السور: دراسة أُسلوبیّة: ص40.
2- البعاج، کریم طاهر، قصار السور: دراسة أُسلوبیّة: ص38.
3- اُنظر: السید، عز الدین علی، التکریر بین المثیر والتأثیر: ص15.

متوسط، مسفل، منفتح(1)، أمَّا بقیة الأصوات، فهی تلی هذه الحروف الثلاثة شیوعاً فی هذه الرسالة بحسب أعدادها.

وعموماً فقد عملت الأصوات الذلقیة علی إضفاء طابع الخِفَّة والانسیابیة فی النُّطق دونما تلعثم أو تعثّر، وعندها یتمُّ إیصال المعانی المرادة.

جاء فی رسالة سلیمان بن صُرَد رادَّاً علی کتاب عبد الله بن یزید بقوله: «بسم الله الرحمن الرحیم، للأمیرِ عبدِ الله بنْ یزید، من سلیمان بن صُرَد ومَنْ مَعَهُ مِنَ المؤمنین، سلامٌ علیک، أمَّا بعدُ، فَقَدْ قَرَأنا کتابَکَ وفَهِمْنا ما نَویْتَ، فَنِعْمَ والله الوالی، ونِعْمَ الأمیر، ونِعْمَ أخو العشیرة، أنتَ والله مَن نأمَنْه بالغیبِ، ونَسْتَنْصِحَهُ فی المَشُورةِ، ونَحْمدُهُ علی کلّ حالٍ...»(2).

کان استعمال المرسِل لتکرار صوتی (المیم والنون) لافتاً للنظر بما یمکن عدَّه ظاهرة أُسلوبیة، فتکرار (المیم والنون) - وکلاهما من الأصوات الذلقیة المائعة(3) - قد کوَّن إیقاعاً موسیقیاً هادئاً، کما هو موضح فی الجدول الإحصائی الآتی:

الصوت

عدد التکرار

المیم 23 مرّة

النون 22 مرّة

فقد ذهب بعض الدارسین إلی الاعتقاد أنَّ «أکثرَ الحروف ارتباطاً بالصَّوت... حرفا (النون والمیم) حتی نراها فی أکثر المفردات اللغویة علی درجةٍ کبیرةٍ من تعدیلِ الصوتِ

ص: 144


1- اُنظر: أنیس، إبراهیم، أصوات اللغة العربیة: ص144 - 145.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص592 - 593.
3- اُنظر: عبد التواب، رمضان، المدخل إلی علم اللغة ومناهج البحث اللغوی: ص226.

وتلطیفه»(1)، ف- (المیم) صوت شفوی المخرج، وهو من الصوامت الغنّاء(2)، فتعاضدت غنته مع غنة صوت (النون) التی تحدث من الخیشوم، ونتیجة لتکرار هذین الصوتین تکوَّن الإیقاع الموسیقی الهادئ اللطیف وهو ما یناسب سیاق المتکلّم والمخاطب.

إنَّ المحاکاة أو الإیحاءات الدلالیة للحدث عن طریق أصوات الألفاظ مدعاة للتأثیر فی نفس السامع وجذب تنبّهه، إذ إنَّ أسرع نواحی التأثیر فی المتلقی تعود فی الدرجة الأساس إلی ما یحمله النص من موسیقی تطرب لها الآذان، وتهشُّ لها النفوس من خلال ما تنطوی علیه ألفاظه من أصوات لها إیحاء بالمعنی ومحاکاة لأحداثه، وهذا ما وجده البحث فی مجال البینة الصوتیة لبعض المفردات فی خُطب ورسائل ثورة التوّابین وإمارة المختار الثقفی، إذ وجده توظیفاً موفَّقاً لألفاظ ذات أصوات لغویة أدَّت المعنی بصفة عامّة، واحتوت علی الإیحاءات الدلالیة التی وفَّرتها تلکم الأصوات بصفاتها، ومخارجها وانسجامها، وهذا کلّه إنَّما کان فی ضوء السیاق العام والاستعانة به.

ص: 145


1- السید، عز الدین علی، التکریر بین المثیر والتأثیر: ص15.
2- اُنظر: السعران، محمود، علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی: ص184 - 185.

ص: 146

الفصل الثَّالث: المستوی اللَّفظی

اشارة

ص: 147

ص: 148

مدخل

نتناول فی هذا المستوی دراسة الاختیار والتوظیف الأُسلوبی والقصدی للکلمة من حیث هی صیغة صرفیة، إذ إنَّها تؤدّی فی النثر الفنّی وظیفة مهمَّة، من باب أنَّ لغة النثر تسمو علی لغة الکلام الاعتیادی.

إنَّ لصیغة الکلمة أثراً واضحاً فی تشکیل الفکرة، وتصویرها عند المتلقی، لذلک کان علی (الناثر) إبراز قدرته فی استعمال تلک الصیغة، کی یتسنَّی له التأثیر بوقع المعنی الذی تحمله فی المتلقی، وإنَّ فی هذا التأثیر الذی تؤدّیه الکلمة من خلال توظیفها یکشف لنا مدی القیمة البلاغیة التی تحملها؛ لأنّ فی الکلمة «وظیفة مهمَّة فی کلِّ زاویة من زوایا الوجود، ومغزی خاص فی الفن یرتبط بالإمتاع والفائدة»(1)، وحین تنحصر دائرتها فی الأُسلوبیة فإنَّما تتجه علی نحوٍ ما إلی الجمال، وعندها فالأُسلوبیة فی عناصرها کلّها إنَّما تُبْنَی علی الجمالِ، وغایاتها کَشْف أسراره التی تکونت فی الأُسلوب(2).

ویبقی الاختیار الأُسلوبی للألفاظ محکوماً بإمکانات الحال ومقتضیات المقام، فالمنشئ یمیل إلی اختیار بعض الألفاظ من بین عدَّة بدائل متاحة، لتؤدّی مهمتها الأُسلوبیة التی تنسجم مع ذلک المقام، وهذا الأمر مهمٌّ فی الدراسات الأُسلوبیة؛ لأنَّ

ص: 149


1- جاب الله، أُسامة عبد العزیز، جمالیات التلوین الصوتی فی القرآن الکریم: ص111.
2- اُنظر: المسعودی، زینة عبد الجبار، الرسائل الفنیة فی العصر العباسی: حتی نهایة القرن الرابع الهجری: ص19.

«مفهوم الاختیار إنْ تَمَّ توظیفهُ بطریقة حصیفة یمکن أنْ یزودُنا بمنظور مُثْمِر فی الدراسات الأُسلوبیة»(1).

ومن هنا سنتناول دراسة القیمة الجمالیة لصیغة الکلمة، وأثرها الدلالی، ثمَّ طبیعة اختیار المنشئ لها فی ضوء السیاق العام وأسالیب الکلام اللغویَّة؛ لأنَّ «للصیغ الصرفیة علاقة حاسمة بأسالیب اللغة، فثمة کلمات ذات صیغ صرفیة معیَّنة تتمتَّع بتعبیریة داخلیة، وطبیعة تختلف فیها عن الکلمات الأُخری»(2).

ویأتی ترکیزنا علی اللفظة ودراسة الاستعمال الفنّی لها من خلال خصائصها البنائیة والمعنویة، بوصفها عنصراً مهمّاً فی إیصال الانفعال النفسی إلی المتلقی والتأثیر فیه، وکذلک إنَّ البحث فی صیغة الکلمة أحد عناصر التحلیل الأُسلوبی(3)، وسوف نتناول ذلک فی مباحث هی:

1- الاختیار والفصاحة.

2- الاستعمال والقصد.

3- العدول.

ص: 150


1- فضل، صلاح، علم الأُسلوب والنظریة البنائیة: ج1، ص118.
2- نهر، هادی، الکلمة فی الشعر العراقی المعاصر: البنیة الصرفیة والدلالة: ص7.
3- اُنظر: الراجحی، عبده، علم اللغة والنقد الأدبی: علم الأُسلوب: ص121. أبو العدوس، یوسف، الأُسلوبیة: الرؤیة والتطبیق: ص101، وص105.

المبحث الأوَّل : الاختیار والفصاحة

اشارة

لو رجعنا إلی معجمات العربیة لوجدنا أنَّ معنی الفصاحة یکاد ینحصر فی الإبانة اللفظیة للمتکلّم، ف- «الفصاحة: البیان، فَصُحَ الرجل فَصَاحةً، فهو فَصَیح من قومٍ فُصَحاء، وفِصَاحٍ، وفُصُحْ... وکلام فَصِیح أی: بلیغ، ولِسانٌ فصیح أی: طَلِقْ... وفَصُحَ الأعجمی، بالضم، فَصاحةً: تکلَّم بالعربیة وفُهِمَ عنه»(1).

ولم تخرج الفصاحة اللفظیة عن معناها اللغوی، وهو الظهور والبیان فقد جاء فی القرآن الکریم حکایة عن نبی الله موسی(علیه السّلام):«وَأَخِی هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّی لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِیَ رِدْءًا یُصَدِّقُنِی ...﴾ (2)، وفی الحدیث الشریف: «أنا أفصح العرب بید أنَّی من قریش»(3).

فهی تدلُّ علی الظهور والإبانة اللفظیة فی الکلام، وقد عُنیَ البلاغیون بمسألة الفصاحة اللفظیة، واشترطوا لذلک شروطاً، وکان ابن سنان الخفاجی (ت466 ه-) من أبرز البلاغیین الذین تناولوا تلکم الشروط فی کتابه (سرّ الفصاحة)، إذ وضع لها ثمانیة شروط(4) وعدّها، فکلَّما «کانت اللفظة أکثر حیازةً لهذه الشّروط کانت أدخل فی

ص: 151


1- ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج10، ص269، مادة (فصح).
2- القصص: آیة34.
3- الزمخشری، محمود بن عمر، الفائق فی غریب الحدیث: ج1، ص126.
4- اُنظر: الخفاجی، عبد الله بن محمد، سر الفصاحة: ص66وما بعدها.

باب الفصاحة، وعلی قدر ما تجتمع من أضداد هذه الشروط تبتعد عن الحسن أو الفصاحة»(1)، وهذا ما یتعلّق باللفظة المفردة.

أمَّا ما یتعلّق بالألفاظ المرکَّبة، فقد جعلها ابن سنان علی قسمین؛ یلتقی القسم الأوَّل منها مع شروط الفصاحة التی وضعها للَّفظ المفرد، عدا بعض الش-روط، والقسم الثانی مختصٌّ بالتألیف، تناول فیه «وضع الألفاظ موضعها حقیقةً أو مجازاً لا ینکره الاستعمال ولا یبتعد فیه»(2)، وجاء بعد ابن سنان بلاغیون علماء أقرَّ بعضهم بهذه الشروط، ونقد بعضهم لجانب منها(3) وسوف نتناول مدی تحقّق هذه الشّروط فی خُطب ورسائل الحِقبتین.

1- مخارِج حروف اللفظة

لقد عنی اللّغویون البلاغیون بمسألة فصاحة اللفظة القائمة علی تقارب مخارج الحروف أو بُعدها، واشترطوا ضرورة التناسب الصوتی فی ترتیب تلک المخارج لتلکم الحروف التی تؤلّف اللفظة(4)، قال ابن جنی (ت392ه-): «واعلم أنّ هذه الحروف کلّما تباعدت فی التألیف کان أحسن، وإذا تقارب الحرفان فی مخرجیهما قَبُحَ اجتماعهما»(5).

ولقد اشترط البلاغیون فی فصاحة اللفظة، أنْ تکون الحروف التی تتألف منها متباعدة المخارج، تفادیاً للتألیف المتنافر الذی قد یکون نتیجة تقاربها(6).

ص: 152


1- العزاوی، نعمة رحیم، النقد اللغوی عند العرب: حتی نهایة القرن السابع الهجری: ص197.
2- الخفاجی، عبد الله بن محمد، سر الفصاحة: ص124. اُنظر: جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص97.
3- اُنظر: ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج1، ص157وما بعدها. العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص56 وما بعدها.
4- اُنظر: الفراهیدی، الخلیل بن أحمد، العین: ج1، ص60. ابن درید، محمد بن الحسن، جمهرة اللغة: ج1، ص24.
5- ابن جنی، عثمان، سر صناعة الإعراب: ج1، ص65.
6- اُنظر: الخفاجی، عبد الله بن محمد، سر الفصاحة: ص66 - 67. العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص52.

فقد ذهب العلوی (ت749ه-) إلی «أنَّه لا بدَّ من مراعاة أُمور فی تألیف الکلمة لتکون فصیحة. أوَّلها: أن لا تکون تلک الأحرف متنافرة فی مخارجها فیحصل الثقل من أجل ذلک»(1).

أمّا بالنسبة لتلاؤم اللفظة واتّساقها مع أخواتها فی السیاق، فذلک متأتٍ من سلاستها، وسهولتها، وتمکّنها فی استحسان العبارة وقبولها.

من ذلک کانت فصاحة اللفظة وقیمتها الذاتیة تکتسب أهمیتها بالطبیعة الجرسیة، وذلک من خلال الانسجام الصوتی الناتج من تآلفها، وکذلک تکتسب تلک اللفظة أهمیتها باتّساقها وتلاؤمها مع بقیة الألفاظ فی السیاق.

علی أنَّ البحث فی تناوله اللفظة فی ال-خُطب والرسائل وجد أنَّ هناک معیار آخر یفرض نفسه بعیداً عما قرَّره البلاغیون بشأن تقارب المخارج أو تباعدها، وهذا المعیار هو (ما یستلذّه السمع)، وهو المعیار الذی یُعْنی بجمالیة الصوت ذاته، وهی جمالیة یُدرکها السمع، فتجمل هذه الأصوات حین تفد علی السمع، وتقبح حین ترتفع عنه أو یهبط دونه(2).

وقد جاءت مُعظَم ألفاظ الخُطب والرسائل فی غایة الفصاحة اللفظیة التی تعتمد علی هذا المعیار، فهی جمیلة الوقع علی السمع، سهلة المجری علی اللسان، ولیس بین حروفها ما یمکن أن یکون مدعاة للتنافر اللفظی، فهی فی أحسن ما یکون من تراکیب وتناسق وأصوات.

وقد قرَّر العلماء فی مسألة أُخری أنَّ حروف الحلق لا تأتلف فیما بینها إذا ما

ص: 153


1- العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص55.
2- اُنظر: جاب الله، أُسامة عبد العزیز، مالیات التلوین الصوتی فی القرآن الکریم: ص139 - 140.

اجتمعت فی لفظة واحدة(1)؛ لأنَّها متقاربة فی مخارجها، وهذا یجعل اللفظة صعبة علی النطق والسمع، وهو ما یخلُّ بالفصاحة؛ «لأنَّ ذلک یستدعی اشتغالاً متواصلاً لأعضاء النّطق بحیث لا یتیسّ-ر لها أن تستریح، وأن تأخذ مداها حتَّی تعطی الحرف حقَّه من التلفُّظ والسَّمع بسبب اتصال بعضها ببعض»(2)، علی أنَّ البحث وجد فی الخُطب والرسائل اقتران بعض حروف الحلق المتقاربة فی مخارجها، ومع ذلک لم یخلّ ذلک بفصاحة ألفاظها کما نجد ذلک فی خُطبة سلیمان بن صُرَد بقوله: «أُثنی علی الله خیراً، وأحمد آلاءَه وبلاءه... فإنّی - والله - لخائفٌ ألّا یکونَ آخِرُنا إلی هذا الدَّهر... إنَّا کُنَّا نَمُدُّ أعْناقنا إلی قدومِ آل نبیّنا...»(3).

فنجد اقتران بعض حروف الحلق مع بعضها فی الألفاظ (أحمد) بین الهمزة والحاء، و(آلاءه) و(وبلاءه) بین الهمزة والهاء، و(أخرنا) بین الهمزة والخاء، و(أعناقنا) بین الهمزة والعین، فقد جاءت هذه الألفاظ سلسة فی النطق، رائقة فی السمع، غیر ثقیلة ولا مستکرهة، فلم یُعکّر تقارب بعض حروفها صفو نطقها، ومثل هذا ما نجده فی خُطبة عبد الله بن یزید لقوله: «قَدْ واللهِ دُلّلتُ علی أماکِنِهِم، وأُمِرْتُ بأخْذِهِم، وَقِیل: ابدأهُم قَبْلَ أنْ یبدؤوک، فأبیت ذلک... هذا ابن زیاد قاتل الحسین، وقاتل خیارکم وأماثِلِکُم، قد توجَّه إلیکم، عهدُ العاهد به... وإنَّه قد أقبل إلیکم أعدی خلق الله لکم، مَنْ وُلّی علیکم هو وأبوه سبع سنین، لا یُقْلِعانِ عن قَتْلِ أهلِ العَفافِ والدّین»(4).

ص: 154


1- اُنظر: ابن وهب، إسحاق، البرهان فی وجوه البیان: ص432. الخفاجی، عبد الله بن محمد، سرّ الفصاحة: ص48.
2- الحسینی، سید جعفر، أسالیب البیان فی القرآن: ص70.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص554. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص60.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص561 - 562.

فالکلمات فصیحة رائقة علی الرغم من اقتران بعض حروف الحلْق فیما بعضها، وهذه الکلمات هی: (أخْذِهِم) بین الهمزة والخاء، و(ابدَأهم) بین الهمزة والهاء، (عَهْد) بین العین والهاء، و(أعْدَی) بین الهمزة والعین، و(أهْل) بین الهمزة والهاء.

وإنَّ اجتماع الحروف المتقاربة فی مخارجها لم یقتصر علی حروف الحلق فقط، بل جاءت فی الخُطب والرسائل ألفاظ مؤلّفة من حروف متقاربة فی مخارجها من غیر أن یفصلها حرف بعید فی مخرجه عنها، ولکنّها مع ذلک لم تکن نابیة ثقیلة.

فقد جاء فی رسالة ابن الزبیر إلی المختار قوله: «أمَّا بعدُ، فإنْ کُنْتَ علی طاعتی فَلَسْتُ أکره أنْ تَبعثَ الجیشَ إلی بلادی... وعَجّل علیَّ بتسریحِ الجیشِ الذی أنتَ باعِثُه»(1)، فقد تکرَّرت کلمة (الجیش) مرّتین، وهی مؤلفة من حروف (ج، ی، ش) وهی من مخرج واحد، «من وسط اللسان، بینه وبین وسط الحنک الأعلی»(2)، وعلی الرغم من هذا التألیف المتقارب فی مخارجه، إلّا أنَّ هذه اللفظة جاءت حسنة النطق، رائقة علی السمع، ولعلّ تألیف الألفاظ من الحروف المتقاربة یکون حسنها وقبحها راجعاً إلی تحکم الذوق السلیم، کما مرَّ بالبحث، ولذلک نری بعض البلاغیین یرجع الحسن فی هذه اللفظة، أو فی غیرها إلی مسألة الذوق والسمع، قبل تألیف الحروف، فیقول: «فحسن الألفاظ إذن لیس معلوماً من تباعد المخارج، وإنّما علم قبل العلم بتباعدها، وکلُّ هذا راجعٌ إلی حاسة السمع»(3).

ص: 155


1- المصدر السابق: ج6، ص73.
2- ابن جنی، عثمان، سرّ صناعة الإعراب: ج1، ص47. اُنظر: النعیمی، حسام سعید، الدراسات اللهجیة والصوتیة عند ابن جنی: ص23 وما بعدها.
3- ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج1، ص159.

وهکذا یتبدَّی للبحث أنَّ مسالة تألیف الألفاظ من الحروف المتباعدة هی مسألة أساس فی فصاحة الألفاظ غیر أن هذا لیس شرطاً حتمیاً، فقد تدخل اللفظة حروف متقاربة، أو تتألّف کلّ اللفظة من تلک الحروف، لکن مع ذلک تحافظ علی شرط الفصاحة من دون الخروج علیه.

2- طول اللفظة وقصرها

أکَّد الدرس البلاغی علی أهمیّة استعمال الألفاظ المعتدلة فی بنائها، وجعلها شرطاً من شروط الفصاحة، فقد قال ابن سنان فیها: «أنْ تکون الکلمة معتدلة غیر کثیرة الحروف، فإنَّها متی زادت علی الأمثلة المعتادة المعروفة؛ قبحت وخرجت عن وجه من وجوه الفصاحة»(1).

ولاشکَّ فی أنَّ اللفظة إذا کانت معتدلة الوزن فی تألیفها کان ذلک سبباً فی سهولة نطقها، ولذة سمعها، وطیب مجراها علی اللسان، وأنَّ اعتدالها فی تألیف حروفها یقرّبها من أُذن السامع، فلا یشعر بثقل جرسها الصوتی، وعلی الرغم من الثقل الصوتی التی تتمیَّز به اللفظة نتیجة لطولها، فإنّنا واجدون أنَّ منها علی مستوی الاستعمال اللغوی فی الخُطب والرسائل قد استعمل بهذا الطول استعمالاً أُسلوبیاً وفنیاً بما لا یخرجها عن دائرة الفصاحة اللفظیة، أی أنَّ الخطیب أو المترسِّل کان یعمد إلی إطالة اللفظة ذلک بأنْ یضیف علیها وحدات أو مقاطع صوتیة زائدة علی مادّتها الأصلیة «لیدفع بالکلمة إلی درجات أعلی من الإیحاء والدلالة، وقدیماً لاحظ النحاة أنَّ زیادة المبنی تدلُّ علی زیادة المعنی»(2).

ص: 156


1- الخفاجی، عبد الله بن محمد، سر الفصاحة: ص95.
2- العبد، محمد، إبداع الدلالة فی الشعر الجاهلی: مدخل لُغوی أُسلوبی: ص56 - 57. اُنظر: ابن جنی، عثمان، الخصائص: ج2، ص155.

وبإحصاء التوظیف الأُسلوبی للألفاظ الطوال وُجدَ أنَّها جاءت غیر مستکرهة، لا فی سمعها ولا فی نطفها فی کثیر من خُطب ورسائل الحِقبتین، فقد جاء فی خُطبة سعد ابن حذیفة بن الیمان قوله: «أمَّا بعدُ، فإنّکم قد کنتم مُجْمِعِین مُزْمِعِین علی نص-رِ الحسینِ، وقتالِ عدوّه، فلم یَفْجأکم أوّلُ مَنْ قَتَلَهُ، والله مثیبُکم علی حُسنِ النیَّة... وقد بَعَثَ إلیکم إخْوانَکُم یَسْتَنْجِدونَکُم ویَسْتَمِدّونَکُم، ویَدعُونَکُم إلی الحقّ وإلی ما تَرْجُون لکم به عند الله أفضلَ الأجرِ والحظّ»(1).

فنجد أنَّ فی هذه الخُطبة اختیاراً لبعض الألفاظ التی تمیَّزت بطولها النسبی قیاساً مع ما جاء من الألفاظ الأُخری، ومنها اللفظتان: (یستنجدونکم) و(یستمدونکم)، من أکثر الألفاظ طولاً فی هذه الخُطبة، وهما من الأفعال الثلاثیة المزیدة بثلاثة أحرف هی: (الهمزة، والسین، والتاء)، وقد جاءت علی صیغة المضارع، وتأتی لمعانی الطلب والسؤال(2)، وقد زِیدَ علی بنائها أربعة أحرف، استطاعت أنْ تکسبها طولاً نسبیاً، وهی: (الواو، والنون، والکاف، والمیم)، فآلت اللفظتانِ إلی ما هی علیه من الطول الصوتی، والأهمُّ من ذلک أنَّ طول اللفظتین قد جاء لغرض أُسلوبی مقصود فی الکلام، وهو الزیادة المعنویة التی تفید التکثیر والتأکید.

وجاء فی خُطبة عبید الله إلی قوله: «أمَا رَأَیْتُمْ إلی انتهاکِ القومِ حُرْمَتَه، واستضعافهم وحدتَه، وتَرْمِیلِهِم إیَّاه بالدَّم، وتَجْرَارِهُمُوهُ علی الأرض!»(3).

ص: 157


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص557. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص62.
2- اُنظر: ابن قتیبة، عبد الله بن مسلم، أدب الکاتب: ص360. شلاش، هاشم طه، أوزان الفعل ومعانیها: ص107.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص559. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص63.

إذْ نجد أنَّ ألفاظ هذه القطعة من الخُطبة قد تمیَّزت بطولها النسبی، ولاسیّما اللفظتین (استضعافهم) و(تَجْرَارِهُمُوه)، أمّا لفظة (استضعافهم)، فهی مصدر علی وزن، (اسْتِفْعَال) من الفعل (اسْتَضعف) علی (اسْتَفْعَل) المزید بثلاثة أحرف(1)، ثمَّ أُضیف علی هذا المصدر حرفا (الهاء) و(المیم)، فصارت هذه اللفظة متکوّنة من تسعة أحرف.

وأمَّا لفظة (تَجْرَارِهُمُوهُ)، فهی مصدر علی وزن (تَفْعَال)، (تَجْرَار) الذی «یکون للتَّکثیر والمبالغة»(2)، وقد زید علی بُنیته حروفٌ أربعة هی: (الهاء، والمیم، والواو، والهاء)، لیکسب اللفظة ثقلاً صوتیاً یتناسب مع المعنی والحدث الذی جاءت للتعبیر من أجله، فالبناء یتمتَّع بدلالة إیحائیة تُجسِّد الحدث والغلظة، کما أنَّ هذه اللفظة تکوَّنت من أصوات (قویَّة أو مجهورة) ممَّا اکتسبت فخامةً وعلوَّاً صوتیاً متمیّزاً یتناغم وطبیعة سیاق الحدث ومستواه التعبیری.

وجاء فی خُطبة سلیمان بن صُرَد الخزاعی قوله: «فَقَدْ جاؤوکم بل جِئْتُمُوهُم أنْتُم فی دارهم وحَیِّزِهِم، فإذا لَقَیْتُمُوهُم فأصْدقُوهم، واصْبِروا إنَّ الله معَ الصَّابرین»(3).

فنجد أنَّ الألفاظ فی هذه الخُطبة قد تمیَّزت بطولها النسبی، نتیجة الزیادة علی أبنیتها الأصلیة، ویطالعنا منها الألفاظ (جئتموهم)، (لقیتموهم)، وأصلهما من الفعل الثلاثی المجرد (جاء) و(لقی)، ثمَّ زِیدَت علیهما خمسة أحرف لتمنحهما ثقلاً صوتیاً، وهی: (التاء، والمیم، والواو، والهاء، والمیم)، وقد استثمر الخطیب هذا الثقل الصوتی للتعبیر بإیحائیة أکثر عن المعنی، وتجسیده، فثقل اللفظتین وطولهما جاء منسجماً مع ثقل المواجهة مع العدو بالإتیان واللقاء والتکلف، وهذا الانسجام اللفظی مع الحدث هو الذی سوغ اختیار هاتین اللفظتین ومنحهما فعالیَّتهما الأُسلوبیة فی الکلام.

ص: 158


1- اُنظر: عبد الحمید، محمد محی الدین، دروس التصریف: ص81.
2- السامرائی، فاضل صالح، معانی الأبنیة فی العربیة: ص31.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص596.

وممَّا تقدَّم، نجد أنَّ التوظیف الأُسلوبی للألفاظ الطویلة فی بنائها إنَّما جاء لینطق بجمالیة الأداء والإیحاء بالمعنی، وطلاقة التداول، وهی علی الرغم من ثقلها الصوتی التی تمیَّزت به، لم تکن نافرة أو قبیحة، بل جاء ثقلها وطولها تعبیراً عن الموقف والإیحاء به، وبهذا لم تخرج عن دائرة الفصاحة اللفظیة التی أقرّها البلاغیون من شرط الاعتدال فی تألیف الألفاظ، کما أنَّ هذه الألفاظ لم ترد علی شاکلةٍ واحدةٍ، بل تنوَّعت إلی أفعال وأسماء، وقد لحقت کلّ منهما السوابق واللواحق علی وفق مقتضاها الدلالی.

إنَّ استثمار اللغة فی مختلف أنواع الصور التی تَرِدُ علیها أبنیتها مع الاعتماد علی الاختیار القصدی لهذه الأبنیة، کان لتصویر دلالاتها والوقوف علی مراداتها وأغراضها الأُسلوبیة الملحوظة.

3- حرکات الحروف فی اللفظة

اشترط البلاغیون لفصاحة اللفظة أن تکون خفیفة الحرکات لیسهل النطق بها، وتلذ فی السمع، فتنأی بذلک عن حیز الثقل والتنافر(1).

وقد جعل ابن الأثیر (ت637ه-) من أوصاف اللفظة أن تکون مؤلفة من حروف ذات حرکات خفیفة «إذا توالی حرکتان خفیفتان فی کلمةٍ واحدةٍ، لم یُستکره ذلک ولا یُستثقل، بخلاف هذا فی الحرکات الثقیلة؛ فإنَّه إذا توالی منها اثنتان فی کلمةٍ واحدةٍ استُکرهت واستُثقلت»(2)، ولهذا استُثقلت الضمّة علی الواو، والکسرة علی الیاء، للتماثل بینهما فی جنس الصوت؛ «لأنَّ الضمّة من جنس الواو، والکسرة من جنس الیاء، فتکون عند ذلک کأنَّهما حرکتان ثقیلتان»(3)، ولذلک نجد أنَّ «أهل اللغة یمیلون بطبعهم إلی

ص: 159


1- اُنظر: ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، الجامع الکبیر فی صناعة المنظوم من الکلام والمنثور: ص184.
2- ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج1، ص193.
3- المصدر السابق.

تخفیف الکلام؛ توفیراً للجهد العضلی المبذول فیه»(1)، ولذلک یعملون علی تغییر بعض الأصوات ما أمکنهم التَّخفیف فی نطقها والانسجام الصوتی فیها، ولیحققوا بذلک شرط الفصاحة الناتج عن خِفَّة النّطق وتوالی الحرکات ومرونتها.

وهذا ما نجده فی کثیر من ألفاظ الخُطب والرسائل لهاتین الحِقبتین، فمن ذلک ما جاء فی خُطبة عبید الله المرّی عند وصفه لِمَا جری علی الحسین(علیه السّلام) من أعدائه، فقال: «اتَّخذوه للنَّبل غَرَضَاً، غادَروه للضّباع جَزَرَاً»(2).

فنجد الألفاظ (غَرَضَاً) و(جَزَرَاً)، وهی رائقة فی النطق بسبب خفّتها المتأتّیة من توالی (الفتحة) ثلاث مرّات، إذ منحت اللفظتین مرونة نطقیة؛ لأنَّ الفتحة أخفّ الحرکات کما ذهب إلی ذلک القدماء(3)، ولأنَّ الفتحة صائِت قصیر، وهی بعض الألف من الحرکات الخفیفة «وسبب ذلک سرعة النطق بها، ومضاؤه من غیر عَناءٍ یلحقه ولا کُلْفة»(4)، ثمَّ إنَّ توالی هذه الفتحات عمل إلی جانب الخّفة النطقیة وضوحاً صوتیاً وسمعیاً، إلی جانب ما منحت اللفظتین من صفة الفصاحة اللفظیة.

ومثل هذا نجده فی خُطبة المختار الثقفی حین قدم الکوفة واصفاً سلیمان بن صرد لقوله: «إنَّ سُلیمانَ بنَ صُرَدْ یرحمنا الله وإیَّاه، إنَّما هو عَشَمَة من العَشَم، وحِفْشٍ بالٍ، لَیْسَ بِذی تَجْربة للأُمور»(5).

ص: 160


1- جاب الله، أُسامة عبد العزیز، جمالیات التلوین الصوتی فی القرآن الکریم: ص177.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص559. والجزر: القطع. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج2، ص270، مادة (جزر).
3- اُنظر: ابن جنی، عثمان، الخصائص: ج1، ص59.
4- ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، الجامع الکبیر فی صناعة المنظوم من الکلام والمنثور: ص184.
5- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص559. والعشمة: الشیخ الفانی. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج9، ص224، مادة (عشم). والحفش: الشیء البالی. اُنظر: لسان العرب: ج3، ص240، مادة (حفش).

فنجد فی قوله: (عَشَمَةٌ من العَشَم) أَنَّ توالی الفتحات کان سبباً فی سلاسة النطق، فضلاً عن وضوحها السمعی وتحقیقاً للفصاحة النطقیة، ثمَّ إنَّ توالی الفتحات قد أصبح من جزئیات قیمة الألفاظ ضمن سیاقها.

ومن جانب آخر فاللسان العربی لا یسوّغ کثیراً الانتقال والخروج من حرکة (الکس-رة) إلی حرکة (الضمة)؛ وذلک لأنَّ فی هذا الانتقال خروجاً ممّا هو جزء من (الیاء) إلی الضم الذی هو شیء من (الواو)(1) فکأنَّهما حرکتان ثقیلتان، وقد جاءت الخُطب والرسائل بألفاظ قد تحقَّق فیها هذا الانتقال الثقیل لکنَّها مع ذلک کانت سائغة علی اللسان والسمع. من ذلک ما جاء فی خُطبة عبد الله بن یزید لقوله: «وتِلکَ واللهِ أُمنیَة عدُّوِکُم، وإنَّه قَدْ أقبلَ إلَیْکُمْ أعدی خلْقِ الله لَکُم... فاسْتَقْبِلُوهُ بِحدّکُمْ وَشَوْکَتِکُمْ واجْعَلُوها به، ولا تَجْعَلُوها بأنْفُسِکُمْ»(2).

فنجد الألفاظ (عَدُوِکُم، حَدِکُم، شَوَکتِکُم، أنفُسِکُم) قد تَمَّ فیها الانتقال من الکس-رة إلی الضمّة، ومع ذلک الانتقال الثقیل فقد حافظت علی رائقیتها فی السمع، ولربَّما کان المقام قد سمح بحصول ذلک.

ونجد استثقالاً نطقیاً آخر فی توالی الضمَّات فی الألفاظ، أو اللفظة الواحدة؛ ذلک لأنَّ الضمَّة ثقیلة فی النطق فضلاً عن تکرارها الذی یزید النطق عندها صعوبةً، قد یخرجها من دائرة الفصاحة، ولکنّنا نجد بعض البلاغیین یُحَکّم الذَّوق فی هذه المسألة أیضاً؛ لأنَّه قد تتوالی الضمَّات فی اللفظة ولا یکون هناک ثقل نطقی کما فی لفظة (نُذُر) فی قوله(سبحانه وتعالی): «وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ » (3)، ولفظة (سُعُر) فی قوله(سبحانه وتعالی):

ص: 161


1- اُنظر: جاب الله، أُسامة عبد العزیز، جمالیات التلوین الصوتی فی القرآن الکریم: ص177.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص561 - 562.
3- القمر: آیة36.

«إِنَّ الْمُجْرِمِینَ فِی ضَلَالٍ وَسُعُرٍ » (1)، فالمسألة إذاً مسالة ذوقیة فی حکمها، ولذلک نجد ورود مثل هذه الألفاظ فی بعض النصوص من غیر أنْ یکون هناک مراعاة للتنافر والثقل الصوتی، فنحو ذلک ما ورد فی خُطبة المسیب بن نجبه الفزاری: «وقَدْ بَلَغَتْنَا قَبْلَ ذلک کُتُبُهُ، وَقَدِمَتْ عَلَیْنَا رُسُلُهُ»(2)، وممَّا ورد فی خُطبة سلیمان بن صُرَد قوله: «إنَّا کُنَّا نَمُدُّ أعْناقَنا إلی قدومِ آلِ نَبِیِنا ونُمَنّیهِم النَّص-ر ونَحُثُّهُم علی القُدُوم»(3).

فنجد أنَّ اللفظتین (کُتُبُهُ) (رُسُلُهُ) قد توالت فیها أربع ضمَّات متتالیة لم یفصلهما حرکة مغایرة أو سکون، ولکنَّهما مع ذلک جاءتا سهلتین فی النطق، بل سائغتین رائقتین علی السمع، وإنَّما کان ذلک بتحکیم الذوق علی هاتین اللفظتین علی الرغم من أنَّ بعض البلاغیین اشترطوا ضرورة أن تکون الحرکات متباینة، حتی یَحْکُم بفصاحتها، لکنَّ الش-رط ینکسر هنا، ویحلُّ محلَّه تحکیم الذوق والسمع کما فعل ذلک ابن الأثیر من ذی قبل، أو قد یرجع قبول تتالی الضم إلی «انسجام تلک الحروف، وهی أصوات صامتة أو ساکنة مع حرکة الضم، وهی صوت مَدّ قصیر. وقد یخضع الأمر فی ذلک إلی السیاق الذی ترد فیه اللفظة، وما یتبَع ذلک من مؤثّرات ذوقیة أو نفسیة»(4).

وأمَّا الألفاظ (نمُدُّ) و(نحَثُّهُمُ)، فنجد أنَّ توالی الضمّات لا یشکل ثقلاً صوتیاً فی طبیعته، ولعلّ الثقل اللفظی إنّما کان بتشدید (الدال) و(الثاء)، لیؤدّی غرضاً معنویاً فی

ص: 162


1- القمر: آیة47. اُنظر: ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج1، ص194لةأ.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص552. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص59.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص554.
4- جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص41. اُنظر: هلال، ماهر مهدی، جرس الألفاظ ودلالتها فی البحث البلاغی والنقدی عند العرب: ص116.

نفسه، وهو الدلالة علی التکثیر، وقد أفاد التشدید اللفظی فائدة نطقیة، وهی فصل ما بین الضمّات المتتالیة بفاصل، وهو السکون أو بالأحری الحرف الساکن؛ ذلک لأنّ التشدید إنّما یکون بإدغام حرف ساکن بآخر متحرک، فیکون السکون منطقة وقف تفید اللسان راحة فی أثناء النطق.

فاللفظ بفکّ التشدید(نَمُدْدُ)، فالدال الساکنة منعت تتالی هاتین الضمّتین واللفظ بفکّ التشدید(نَحُثْثُهُم)، فالثاء الساکنة منعت تتالی ثلاث ضمّات، ویتضح ممّا تقدّم أنّ اختیار المنشئ للألفاظ وحسن استعمالها فی موضعها المتقدّم، هو الذی یعطیها المیزة الجمالیة، وإنْ کانت حروفها مدعاة للثقل والاستکراه.

4 - أُلفة الاستعمال

من شروط فصاحة اللفظة المستعملة فی الکلام أنْ تکون مألوفة غیر وحشیّة غریبة(1)، حتی یسهل علی المتلقی فهمها وإدراکها من غیر أنْ یشوب ذهنه غرابتها أو یکدّه لمعرفة معناها، «ویُعد ابن المقفع (ت142ه-) من أوائل مَن نبّه الکُتّاب إلی أهمیة تجنّب الغریب والمتوعّر من الألفاظ»(2)، وقد أکد الباقلانی (ت403ه-) «أنَّ الکلام موضوع للإبانة عن الأغراض التی فی النفوس، وإذا کان کذلک وجب أنْ یُتخیَّر من اللفظ ما کان أقرب إلی الدلالة علی المراد، وأوضح فی الإبانة عن المعنی المطلوب، ولم یکن مستکره المطلع علی الإذن، ومستنکر المورد علی النفس، حتی یتأبَّی بغرابته فی اللفظ عن الإفهام، أو یمتنع بتعویص معناه عن الإبانة»(3). ویبدو أنَّ ألفاظ الخُطب والرسائل فی هاتین الحِقبتین قد جاءت - فی غالبها - فصیحةً واضحةً لا یشوبها الغریب الوحشی؛

ص: 163


1- اُنظر: الخفاجی، عبد الله بن محمد، سر الفصاحة: ص69.
2- عباس، عرفة حلمی، نقد النثر: النظریة والتطبیق: قراءة فی نتاج ابن الأثیر النقدی والإبداعی: ص225.
3- الباقلانی، محمد بن الطیب، إعجاز القرآن: ص100.

وذلک لأنَّ ظروف الثورة ربَّما لا تسمح بهذا التفنن والتزویق، یُستثنی من ذلک بعض خُطب ورسائل المختار الثقفی التی اتَّشحت بالغریب، ولعلَّ ذلک کان ظاهرة أُسلوبیة تدلُّ علی التأنُّق والإعداد فی هذا العصر.

وعلی الرغم من التعارض القائم بین غرابة اللفظة، وبین فصاحتها القائمة علی الإبانة، فإنَّ اختیار هذا الغریب لا یعنی خروجه تماماً عن دائرة الفصاحة التی أقرَّها البلاغیون، بل نجد أن ابن الأثیر یؤکّد أنَّ الوحشی لا یشترط فیه «أنْ یکون مستقبحاً، بل أن یکون نافراً لا یألفُ الأُنس، فتارةً یکون حَسَناً، وتارةً یکون قبیحاً، وعلی هذا؛ فانَّ أحد قسمی الوحشی - وهو الغریب الحسن - یختلف باختلاف النسب والإضافات»(1)، بمعنی أنّ هذه الألفاظ فی وضعها السیاقی یؤثر کثیراً فی قیمتها الفنیة، فتکون حَسنة علی الرغم من وحشیتها، ویقول: «وأمَّا القسم الآخر من الوحشی الذی هو قبیح، فإنّ الناس فی استقباحه سواء، ولا یختلف فیه عربیٌ بادٍ ولا قرویٌ متحضّر»(2).

ونجد اختیار الألفاظ الغریبة فی بعض خُطب المختار الثقفی ورسائله(3)، وأمّا بقیَّة الخُطب والرسائل التی جاءت فی الحِقبتین، فقد خلت من الألفاظ الغریبة عموماً.

ونجد فی خُطبة المختار الثقفی اختیار طائفة من الألفاظ الغریبة: «أمَا وربِّ البحار، والنخیل والأشجار، والمَهامِه والقِفَار، والملائکةِ الأبرار، والمُصطَفَین الأخیار، لأقتلنَّ کلَّ جبَّار، بکلِّ لدْن خَطَّار، ومهنَّد بَتَّار، فی جُموع من الأنصار، لیسوا بمیّل أغمار، ولا بعزَّلٍ أَشرار»(4).

ص: 164


1- ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج1، ص161. اُنظر: هلال، ماهر مهدی، جرس الألفاظ ودلالتها فی البحث البلاغی والنقدی عند العرب: ص203.
2- ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج1، ص161.
3- اُنظر: شوقی ضیف، أحمد، العصر الإسلامی: ص416.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص581.

فالألفاظ (المهامه)(1)، (اللَّدن)(2)، (الخطَّار)(3)، (المیَّل)(4)، (الأَغمار)(5) ألفاظ غیر مألوفة، اعتمد المختار أن یودعها فی خُطبته.

ونجد هذا الصنیع فی خُطبة أُخری له قائلاً: «إنَّ نُفَیْراً مِنْکُم ارتابوا، وتحیَّروا وخابوا، فإنْ هُم أصابوا؛ أقبلوا وأنابوا، وإنْ هُم کبُوا وهابوا، واعتَرَضوا وانجابوا؛ فقد ثبروا وحابوا» (6).

فالألفاظ الغریبة (انجابوا)(7)، (ثبروا)(8)، (حابوا)(9) قد اتَّشح بها النص بشکل ملحوظ.

إنَّ شیوع هذا العدد من الألفاظ الغریبة فی هذین النصین - اللَّذین ربَّما یکونان قصیرین بعض الشیء - قد أعطی کلّ واحدٍ منهما سمته الأُسلوبیة فی الخروج عمَّا هو مألوف ومتعارف علیه، وهو ممَّا یجعل المتلقی مشدوداً نحو النص، عاملاً فکره فی تمحیص ألفاظه، وتبیان ما غمض منها، لتتکون عنده المعرفة الکافیة بتمکن المنشئ من لغته تمکُّنا أفصح عنه هذا الإغراب المقصود، وفی خُطبة أُخری له یقول: «یا مَعْشَ-رَ

ص: 165


1- المهامه جمع مهمه: وهی المفازة البعیدة. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج13، ص212، مادة (مهمه).
2- اللَّدن: اللین من کلِّ شیء، ورمح لدن، أی: مهتز. اُنظر: المصدر السابق: ج12، ص266، مادة (لدن).
3- الخطَّار: صفة الرمح، أی: المهتز. اُنظر: المصدر السابق: ج4، ص137، مادة (خطر).
4- المیَّل: جمع أمیل وهو الذی لا سیف معه. اُنظر: المصدر السابق: ج13، ص235، مادة (میل).
5- الأغمار: جمع غمر وهو مَن لم یجرب الأُمور. اُنظر: المصدر السابق: ج10، ص118، مادة (غمر).
6- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص14.
7- انجابوا، أی: انکشفوا. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج2، ص408، مادة (جوب).
8- ثبروا، أی: هلکوا. اُنظر: المصدر السابق: ج2، ص82، مادة (ثبر).
9- حابوا، أی: أثموا. اُنظر: المصدر السابق: ج3، ص376، مادة (حوب).

الشّیْعة؛ إنَّ نَفَراً مِنْکُم أحبُّوا أنْ یَعلمُوا مُصداق ما جِئْتُ به، فرحلوا إلی إمام الهُدی، والنَّجِیبِ المُرتضی ابنِ خیرِ مَنْ طَشَی وَمَشَی، حَاشَا النّبیّ المُجْتَبَی»(1).

فنجد فی هذا النص أنَّ المختار قد آثر الإغراب اللفظی علی شاکلة الخُطبتین السابقتین، ولکن هذه المرَّة اختار لفظة فی غایة الغموض والغرابة، ألا وهی کلمة (طَشَی)، یقول أحمد زکی صفوت معلّقاً علی هذه اللفظة الغریبة: «ولم أجد کلمة (طَشَی) فی کتب اللّغة، وفی لسان العرب (تَطَشَّی المریض بریء)، ولیست مناسبة هنا، وأری أنَّ العبارة (ابن خیر من مشی وطشی) بتأخیر طشی، وأنّه اتباع للفعل قبله لتقویته وتوکیده، وهو کثیرٌ فی کلام العرب کقولهم: حَسَن بَسَن، و: عِفْرِیت نِفْرِیت، و: عَطْشان نَطْشان...»(2). ویبدو أنَّ هذا التصرُّف فی الألفاظ من قبل المختار قد أفصح عن مقدرته فی ارتجال اللغة وتولیدها، وقد ترتَّب علی ذلک غموضاً وغرابةً لفظیةً، وأنَّ هذا التصرُّف فی اللغة کان شائعاً فی أدب العصر الأُموی نثراً کان أم شعراً، وقد أشار أبو الفتح عثمان بن جنی إلی تصرُّف بعض الرجَّاز کالعَجَّاج (ت97ه-) وابنه رؤبة (ت145ه-) باللغة وتولیدها وما یترتَّب علی ذلک من إیغالهما فی الغریب§ُنظر: ابن جنی، عثمان، الخصائص: ج3، ص298.


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص14.
2- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، هامش ص80. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج8، ص164، مادة (طشش). اُنظر: السیوطی، عبد الرحمن، المزهر فی علوم اللغة وأنواعها: ج1، ص324.

ویُقتل أولیاءُ الله، والله لو تهلکون ما عُبِدَ الله فی الأرضِ إلّا بالفَرْیِ علی الله»(1).

ففی هذه اختار - علی عادته - الغریب اللفظی فی قوله: (یمصح الحق)، وهی بمعنی یزول وینقطع(2)، وکان باستطاعته أن یأتی بلفظة مألوفة مرادفة لها تعبّر عن الدلالة نفسها لکنه اختار هذه اللفظة لیُعبّر عن دلالة إیحائیة یجدها فیها، ربَّما لا یُعبِّر عنها غیرها، نظراً لما تحتویه من أصوات موحیة فی سیاقها، وهو التعبیر عن انقطاع الحقِّ الذی کان المختار یجده فی نفسه.

وهکذا یمیل المختار إلی اختیار الألفاظ الغریبة فی بعض خُطبه ورسائله، لیُضفی علیها طابعاً أُسلوبیاً غایته جذب المتلقّی نحوه والتأثیر فیه، وهو لم یخرج به عن شرائط الفصاحة اللفظیة المعتمدة.

ص: 167


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج9، ص95. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص88 - 89.
2- اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج13، ص119، مادة (مصح).

ص: 168

المبحث الثانی :الاستعمال والقصد

اشارة

لعلَّ الجاحظ هو أوَّل العلماء الذین عوَّلوا علی مسألة استعمال اللفظة المناسبة لمعناها، فذکر أنَّه متی شاکل «اللفظ معناه، وأعرب عن فحواه، وکان لتلک الحال وفقاً، ولذلک القدر لِفقاً، وخرج من سماجة الاستکراه، وسلم من فساد التکلَّف، کان قمیناً بحسن الموقع، وبانتفاع المستمع»(1).

وقد نبَّه ابن جنّی إلی أهمیة استعمال اللفظة الملائمة للمعنی وأثرها فی داخل السیاق(2).

وقد عنیت الدراسات الأُسلوبیة الحدیثة بمسألة الاستعمال اللفظی التی عرض لها القدماء، ونالتْ منهم کثیراً من الاهتمام، حتی کانت هذه العملیة مکوناً أساسیاً من عملیة التشکیل الأُسلوبی، وهی فی جوهرها: اختیار شکل تعبیری واحد من بین مجموعة أبدال متاحة(3)، وبهذا یکون الاختیار القصدی والدلالی لکلمات معینة هو الذی یحدد سمة الأُسلوب؛ لأنَّ الصیاغة اللغویة والفنیة للأُسلوب إنَّما تبتدئ من اختیار اللفظة واستعمالها(4)، لذا کان علی المنشئ أن یختار من الألفاظ ما یناسب المعنی

ص: 169


1- الجاحظ، عمرو بن بحر، البیان والتبیین: ج2، ص7- 8.
2- اُنظر: ابن جنی، عثمان، الخصائص: ج3، ص264وما بعدها.
3- اُنظر: مصلوح، سعد، الدراسات الإحصائیة للأُسلوب: بحث فی المفهوم والإجراء والوظیفة: ص13. اُنظر: الغامدی، محمد سعید، علم الأُسلوب: مفاهیم وتطبیقات: ص83.
4- اُنظر: عباس، عرفة حلمی، نقد النثر: النظریة والتطبیق: قراءة فی نتاج ابن الأثیر النقدی والإبداعی: ص558.

الذی یُرید توصیله إلی المتلقی؛ لأنّ «خیر الکلام مَن اجتهد منشِئه فی ترتیب مبانیه وتدقیق معانیه، حتی یهدی القارئ إلی ما أودعه فیه من الخواطر ولطائف المعانی»(1).

ومن هنا تمیَّز النثر الفنی فی هاتین الحِقبتین بسمة الاستعمال القصدی للألفاظ ذات القیمة الدلالیة المؤثرة فی سیاقها التعبیری من خلال اختیارها، وعندها یقوم الاختیار الأُسلوبی فی هذا الصدد علی أساسین:

الأوَّل: إنَّ اللفظة المختارة (المستعملة) تفوق فی أداء وظیفتها ألفاظاً أُخری.

الثانی: إنَّ اللفظة المختارة (المستعملة) تتمیَّز ببنیة وظیفیة معیَّنة تمکّنها من دقَّة التعبیر عن المعنی المراد منها:

أولاً: استعمال الاسم

اشارة

ذهب اللغویون إلی أنّ الاسم یُفید معنی الثبوت؛ والسرُّ فی ذلک أنَّه «غیر مُقیَّد بزمن من الأزمنة، فهو أشمل وأعمّ وأثبت»(2)، ومن هذا المنطلق کان علی المنشئ أنْ یستعمل صیغة الاسم، لیُعبّر بها عن ثبوت المعنی الذی یُریده، فضلاً عن أنَّ الاسم یُعبَّر به عن معانٍ ربَّما لا یُعبّر عنها غیره، کالتعریف، والتنکیر، والتأنیث والتذکیر، والجمع وغیرها(3)، ویتخذ الاسم أشکالاً مختلفةً سوف نعرض لطائفة منها وبحسب التوظیف الأُسلوبی لها من المنشئ، وعلی وفق مبدأ الاختیار والقصد لهذه الصیغة أو تلک، علی أساس أنَّ للصیغ الص-رفیة مؤشرات أُسلوبیة من حیث مناسبة إحداهما دون الأُخری بمعناها فیتمُّ اختیارها من دون الأخری(4).

ص: 170


1- أبو موسی، محمد، مدخل إلی کتابی عبد القاهر الجرجانی: ص56.
2- السامرائی، فاضل صالح، معانی الأبنیة فی العربیة: ص9.
3- اُنظر: المخزومی، مهدی، فی النحو العربی: قواعد وتطبیق: ص27 - 28.
4- اُنظر: حسّان، تمام، البیان فی روائع القران: دراسة لغویة أُسلوبیة: ص1، وص434.
1- استعمال اسم الفاعل

اسم الفاعل: وهو الاسم ال»ذی یُصاغ للدلالة علی الحدث، ومَن قام به(1).

وقد اختلف النحاة فی بناء اسم الفاعل للفعل الثلاثی، فذهب بعضهم إلی أنَّ له بناءً واحداً وهو (فاعل)(2)، وذهب بعضهم الآخر إلی أنَّ لاسم الفاعل أبنیةٌ متعدِّدة وإنَّ بناء فاعل یکون قیاسیاً(3)، أمَّا صیاغة اسم الفاعل للثلاثی المزید، فهو علی صورة واحدة فی جمیع الأفعال، وهی علی صورة المضارع المبنی للمعلوم مع أبدال حرف المضارعة میماً مضمومة وکسر ما قبل آخره إنْ کان مفتوحاً(4).

وإنّ استعمال اسم الفاعل راجعٌّ إلی ما یُمیّز دلالته من جمعها بین سمات کلٍّ من الفعل والاسم معاً، فقد اتَّفق النُّحاة علی أنَّ اسم الفاعل یدلُّ علی التجدُّد والحدوث(5)، کما هو الشأن فی (الفعل)، وقد ذهبَ أبو زکریا الفرَّاء (ت207ه-) - من الکوفیین - إلی جعله قسیماً ثالثاً للفعل الماضی والمضارع، وسمَّاه ب-(الفعل الدائم)(6)، وقد یدلُّ علی معنی الثبوت کما هو الشأن فی (الاسم)، فقد ذهب أبو حیان الأندلسی (ت745ه-)

ص: 171


1- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج4، ص84. الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح کافیة ابن الحاجب: ج3، ص483.
2- اُنظر: الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح کافیة ابن الحاجب: ج3، ص483.
3- اُنظر: ابن عقیل، عبد الله بن عقیل، شرح ابن عقیل علی ألفیة ابن مالک: ج2، ص134- 135. ابن الناظم، محمد بن محمد، شرح ابن الناظم علی ألفیة ابن مالک: ص314 - 315.
4- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، کتاب المفتاح فی الصرف: ص58. ابن عصفور، علی بن مؤمن، شرح جمل الزجاجی: الشرح الکبیر: ج2، ص402.
5- اُنظر: هویدی، هادی عبد علی، اسم الفاعل والمشبهات به فی القرآن الکریم: دراسة لغویة دلالیة: ص47.
6- اُنظر: الفرَّاء، یحیی بن زیاد، معانی القرآن: ج2، ص43، وص222.

إلی أنَّه یدلُّ علی الثبوت(1)، مخالفاً بذلک جمیع النحاة الذین یتَّفقون علی دلالة الحدوث فی اسم الفاعل(2).

وکان الأمر مثار خلاف فی الدراسات اللغویة الحدیثة، فوافق بعضهم علی تقسیم الکوفیین(3) فی حین وضعه آخرون بقسم خاص، وجمعوه تحت مصطلح (الصفة)(4).

وکان لتلک الطبیعة المزدوجة لاسم الفاعل بأن صار مشترکاً بین الدلالة علی التجدّد والحدوث من زاویة النظر إلیه ک-(فعل)، وبین الدلالة علی الثبوت من زاویة النظر إلیه ک-(اسم)، ومن هذا المعنی المزدوج فیه جاء توظیف صیغته فی بعض خُطب الحِقبتین، کما فی خُطبة سلیمان بن صُرَدْ الخزاعی لقوله: «أمَّا بعدُ أیّها الناس، فإنّ الله قد علم ما تنوون، وما خرجتم تطلبون، وإنَّ للدنیا تجاراً، وللآخرة تجاراً، فأمّا تاجر الآخرة فساعٍ إلیها، منتصب بتطْلابها، لا یشتری بها ثمناً، لا یُری إلّا قائماً وقاعداً، وراکعاً وساجداً، لا یطلب ذهباً ولا فضَّة، ولا دنیا ولا لذَّة، وأمَّا تاجر الدنیا، فمکبٌّ علیها راتعٌ فیها، لا یبتغی بها بدلاً، فعلیکم یرحمکم الله فی وجهِکم هذا بطول الصلاة فی جوف اللیل، وبذکر الله کثیراً علی کلّ حال، وتقرَّبوا إلی الله جلَّ ذکره بکلّ خیرٍ قدرتم علیه، حتی تلقَوا هذا العدوّ والمُحلَّ القاسط فتجاهدوه، فإنّکم لن تتوسَّلوا إلی ربّکم بشیء هو أعظم عنده ثواباً من الجهاد والصَّلاة، فإنَّ الجهاد سنامُ العمل، جعلنا الله وإیّاکم من العباد الصالحین

ص: 172


1- اُنظر: أبو حیان الأندلسی، محمد بن یوسف، تفسیر البحر المحیط: ج1، ص165.
2- اُنظر: هویدی، هادی عبد علی، اسم الفاعل والمشبهات به فی القرآن الکریم: دراسة لغویة دلالیة: ص47.
3- اُنظر: المخزومی، مهدی، مدرسة الکوفة: ومنهجها فی دراسة اللغة والنحو: ص241.
4- اُنظر: حسّان، تمام، اللغة العربیة معناها ومبناها: ص98- 99. السنافی، فاضل مصطفی، أقسام الکلام العربی: من حیث الشکل والوظیفة: ص170.

المجاهدین الصابرین علی الّلأواء، وإنّا مُدْلِجون(1) اللیلة مِن منزلنا هذا إنْ شاء الله فأدلجوا»(2).

فقد استعمل صیغة اسم الفاعل (فاعل) فی خُطبته قصداً، لمِا تحمله من الصفات المزدوجة (التَّجدُّد أو الثَّبوت)، وعندها کانت المیزة الأُسلوبیة فی التعبیر باسم الفاعل مکرَّراً؛ ذلک أنّ صفات المؤمنین والکافرین تتجدّد ویتکرّر حدوثها، وهی ثابتة فیهم بتعاقب الأیّام، ثبوتاً أکیداً، فطلاب الآخرة ساعون إلیها راغبون فیها، وأمّا طلاب الدنیا، فهم یلهثون وراءها طالبین حطامها.

ومن ذلک نقف علی الأثر الأُسلوبی والفنّی الذی أدّته صیغة اسم الفاعل فی صورتها (فاعل)؛ إذ تم توظیفها من المنشئ علی أحسن ما یکون، لکی تدلّ تلک الصیغة الواحدة بما جمعت من التجدد والثبوت علی تلک المقابلة المقصودة بین طلاب الدنیا (تجارها) وطلاب الآخرة (تجارها)، وما یترتب علیها من تجدُّد فی تلک الصفات أو ثبوتها.

وقد وقع استعمال صیغة اسم الفاعل من الفعل غیر الثلاثی فی کتاب سعد بن حذیفة إلی ابن صُرَدْ: «بسم الله الرحمن الرحیم، إلی سلیمان بن صُرَدْ، من سعد بن حذیفة ومن قِبله من المؤمنین، سلامٌ علیکم، أمَّا بعدُ، فقد قرأنا کتابَک، وفهِمنا الذی دعوتنا إلیه... فقد هُدیتَ لحظّک، ویُس-ّرت لرشدک، ونحن جادّون مجدّون، معِدّون مسْرجون مُلجمون ننتظر الأمر، ونستمع الداعی...»(3).

ص: 173


1- مدلجون: سائرون فی اللیل. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج4، ص385، مادة (دلج).
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص588.
3- المصدر السابق: ج5، ص575.

فقد قصد المرسِل إلی استعمال صیغة اسم الفاعل مع تکرارها؛ وذلک لأنّ التعبیر بها یدلُّ علی ثبات أو تجدُّد الوصف الذی أراده المرسِل، فهو وأصحابه علی أُهبة الاستعداد متهیئون للخروج، وهی صفة ثابتة ومتجدِّدة فیهم لا یحیدون عنها، وجاء تکرار هذه الصیغة لیدلّ علی تکرار التجدُّد والثبات فی صفة الاستعداد والتأهّب، وأنّ اختیار التعبیر باسم الفاعل من دون اختیار صیغة الفعل مثلاً، وذلک له أسبابه؛ لأنَّ اسم الفاعل أکثر حدّة ومباشرة من الفعل فی صیغة الماضی أو المضارع، علاوة علی ذلک فإنّ اسم الفاعل یُفید الإطلاق والاستمرار(1)، فی حین یتقیَّد الفعل بزمان محدَّد(2). ومن هذا السیاق تتَّضح الخاصیة الأُسلوبیة لاختیار هذه الصیغة واستعمالها عن غیرها فی هذا الموقف.

ونجد استعمال صیغة اسم الفاعل فی خُطبة المختار بعد هرب ابن مطیع: «فسمعنا دعوة الداعی، ومقالة الواعی، فکم من ناعٍ وناعیة، لقتلی فی الواعیة، وبُعداً لمَن طغی...»(3).

فقد وقع الاختیار لهذه الصیغة لما تحمله من صفات الثبوت أو التجدّد، فذلک لکونها تحمل الخصائص الاسمیة والفعلیة فی آن واحد، ولعلّ السبب یکون ثانویاً بالنسبة إلی الخطیب، أمّا السبب الرئیس لاختیار هذه الصیغة هو لأجل إقامة السجع والتوازن بین فقرات الکلام، وهو سبب فنّی أکثر ممّا هو سبب لغوی، وعموماً أکان هذا السبب أم ذاک، فقد استطاع الخطیب أن یستثمر هذه الصیغة، فیوصل الأفکار إلی ذهن المتلقّی من خلال التقابل بین إیراداته واستعمالاته.

ص: 174


1- اُنظر: السامرائی، فاضل صالح، الفعل زمانه وأبنیته: ص34.
2- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو الفعل: ص30.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص32.
2- استعمال اسم المفعول

اسم المفعول: وهو الاسم الذی یُصاغ للدلالة علی الحدث ومَن وقع علیه(1)، وهو «لا یفترق عن اسم الفاعل إلّا فی الدلالة علی الموصوف، فإنَّه فی اسم الفاعل یدلُّ علی ذات الفاعل ک-(قائم)، وفی اسم المفعول یدلُّ علی ذات المفعول ک-(منصور)»(2).

ویُصاغ اسم المفعول من الفعل الثلاثی علی زنة (مفعول)، ویُصاغ من غیر الثلاثی علی زنة مضارعه المبنی للمجهول، بإبدال حرف المضارعة (میماً) مضمومة وفتح ما قبل الآخر(3).

أمّا السِمة الأُسلوبیة فی اختیار اسم المفعول واستعماله فی الکلام، ف-«یقال فیه ما قیل فی اسم الفاعل من حیث دلالته علی الحدوث والثبوت، فهو یدلّ علی الثبوت إذا ما قیس بالفعل، وعلی الحدوث إذا ما قیس بالصفة المشبهة»(4)، وهناک صیغ أُخر تدلُّ علی اسم المفعول کصیغة (فعیل)، وسنقف عندها لبیان وظیفتها الأُسلوبیة من خلال استعمالها.

فقد جاء استعمال اسم المفعول بصیغتیه المعروفتین فی خُطبة رفاعة بن شداد البجلی: «أمَّا بعدُ، فإنّ الله قد هداک لأصوَب القَوْلِ، ودعوتَ إلی أرشَدِ الأُمورِ، بدأت بحمدِ الله والثّناء علیه، والصلاة علی نبیه صلّی الله علیه وسلّم، ودعوتَ إلی جهاد الفاسقین وإلی التوبة من الذنب العظیم، فمسموعٌ منک، مستجابٌ لک، مقبولٌ قولُک، قلت: ولّوا أمرَکم رجلاً منکم... فإن تکنْ أنتَ ذلک الرجل تکنْ عندنا مرضیّاً، وفینا مُتَنَصّحاً وفی

ص: 175


1- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، کتاب المفتاح فی الصرف: ص59. الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح کافیة ابن الحاجب: ج3، ص497.
2- السامرائی، فاضل صالح، معانی الأبنیة فی العربیة: ص59.
3- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، کتاب المفتاح فی الصرف: ص59. العینی، بدر الدین أحمد، شرح المراح فی التصریف: ص129 - 130.
4- السامرائی، فاضل صالح، معانی الأبنیة فی العربیة: ص59.

جماعتنا مُحباً، وإنْ رأیت ورأی أصحابُنا ذلک ولّیْنا هذا الأمرَ شیخَ الشیعة... وذا السابقة والقِدَم سلیمان بن صُرَد المحمود فی بأسه ودینه، والموثوق بحزمه...»(1).

فقد قصد الخطیب استعمال اسم المفعول بصیغتیه إذ جاء به من الفعل الثلاثی ومن الفعل المزید علیه، فأمّا المُصاغ من الثلاثی: (مسموع، مقبول، مرضیّ، المحمود، الموثوق)، وأمَّا من غیر الثلاثی، فکان فی: (مستجاب، متنصّحاً، محبّاً) وعلیه فاستعمال اسم المفعول له ما یُسوغه فی هذا المقام؛ ذلک أنّه یدلّ علی الثبوت فی الزمن فهو کالصفة المشبَّهة (2)، وهذا ما یلائم الثبوت والدوام والاستمرار فی الطاعة والقبول، وأدّی هذا الاختیار بالصیغة وتکرارها المعنی بأوجز ما یمکن أن یکون، لیحقّق الغرض بطریقة یسیرة، فإذا ما علمنا أنّ اسم المفعول هو الذی یُصاغ للدلالة علی الحدث، ومَن وقع علیه(3) أدرکنا مدی الطاعة والاستجابة اللّتین کشف عنهما المنشئ، بکونه فرداً من هؤلاء التوّابین؛ لأنّهما الهاجس الوحید الذی یدور فی خلده، لاختیار قائد لهم، یقودهم فی حرکتهم وقتالهم، فجاء بصیغة اسم المفعول لما تمتلکه من هذه الخصائص المنسجمة فی أداء المقصود.

وقد وقع الاختیار فی خُطب ورسائل هاتین الحِقبتین، لصیغ أُخری تدلّ علی اسم المفعول واستعمالها، لکنَّها لا تبلغ من الکثرة بقدر ما هی علیه الصیغتان المعروفتان، وإنَّما جاء اختیارها لتؤدّی أغراضاً أُسلوبیة ووظیفیة لا تستطیع الصیغتان المذکورتان التعبیر عنها، فجاء استعمالها علی وفق مقتضیات المقام، وإمکانات الأحوال، ومن هذه

ص: 176


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص553. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص59.
2- اُنظر: السامرائی، فاضل صالح، معانی الأبنیة فی العربیة: ص60.
3- اُنظر: الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح کافیة ابن الحاجب: ج3، ص497. العینی، بدر الدین أحمد، شرح المراح فی التصریف: ص129.

الصیغ: صیغة (فعیل) الذی یستعمل بمعنی مفعول، نحو: (قتیل، وجریح، وکسیر)، وقد ذکر ابن مالک (ت672ه-) أنَّ هذا البناء سماعی - وهو ما یستوی فیه المذکر والمؤنث - غیر أنَّ ابن عقیل (ت769ه-) ذکر أنَّ بعضهم یزعم أنَّ (فعیل) هو «مقیسٌ فی کلِّ فعل لیس له فعیل بمعنی فاعل کجریح، فإن کان للفعل فعیل بمعنی فاعل لم یَنُبْ قیاساً، ک-: علیم»(1). ومن الطبیعی أن یکون لهذه الصیغة وظائف تتفرَّد بها لا تؤدّیها صیغة (مفعول) المعروفة، وإلّا لم یقع اختیارها من دون صیغة (مفعول).

وقد استنتج الدکتور فاضل السامرائی من خلال النصوص الواردة عن النحاة القدماء، أنَّ (فعیل) بمعنی (مفعول) یختلف عن مفعول فی ثلاثة أُمور من حیث الثبوت والاتصاف والشدّة(2)، وبذلک یتبیّن السمة الأُسلوبیة فی استعمال هذه الصیغة بدلاً من الصیغة المعروفة، ویمکن الوقوف عند ذلک کما فی خُطبة سلیمان بن صُرَدْ الخزاعی حینما خاطب قومه بقوله: «لا تَقتلوا مُدْبِراً، ولا تُجهزُوا علی جَریح، ولا تَقتلوا أسیراً مِن أهل دَعوتِکم»(3).

فقد استعمل الخطیب صیغة (فعیل) لیُعبّر بها عن (اسم المفعول) بدلاً من صیغته المعروفة (مفعول) فی قوله: (جریح، وأسیر)، وذلک للتعبیر عن ثبوت هذه الصفات بصاحبها؛ لأنَّه لا یُقال جریح إلّا إذا جُرِحَ بالفعل، ولا یقال أسیر إلّا إذا أُسِرَ، فی حین أن (مفعول) قد تُطلق علی ما اتصف به صاحبه أو لم یتصف به(4)؛ ولذلک آثر الخطیب اختیار هذه الصیغة فقصدها استعمالاً بدلاً من الصیغة المعروفة.

ص: 177


1- ابن عقیل، عبد الله بن عقیل، شرح ابن عقیل علی ألفیة ابن مالک: ج2، ص138. اُنظر: الحدیثی، خدیجة عبد الرزاق، أبنیة الصرف فی کتاب سیبویه: معجم ودراسة: ص193.
2- اُنظر: السامرائی، فاضل صالح، معانی الأبنیة فی العربیة: ص63.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص596.
4- اُنظر: السامرائی، فاضل صالح، معانی الأبنیة فی العربیة: ص63.

وجاءت کذلک فی رسالة المختار الثقفی إلی محمد بن الحنفیة لقوله: «بسم الله الرحمن الرحیم، للمهدی محمد بن علی... أمَّا بعدُ، فإنّ الله بعثنی نقمةً علی أعدائکم، فَهُم بین قتیلٍ وأسیرٍ وطریدٍ وشرید...» (1).

فقد استعمل المنشئ صیغة (فعیل)، وهی تدلُّ علی اسم المفعول، إذ جاء ذلک الاستعمال مشفوعاً بالتکرار لیُصوِّر حال أعدائه أدقّ تصویر؛ لأنّ صیغة (فعیل) تؤدّی میزات أُسلوبیة لا تؤدیها الصیغة المألوفة لاسم المفعول، فمن هذه المیزات: «إنّ صیغة فعیل لها ظلالٌ وإیحاءاتٌ متعددةٌ، فهی تأتی للمبالغة، وتأتی صفة مشبهة، وتأتی مصدراً وغیر ذلک، فقد یکون السرُّ فی اختیارها هو الإفادة من ظلال تلک الصیغة المتعدّدة المعنی»(2)، وکذلک فقد صوّر المختار الشدّة فی الاقتصاص من قتله الإمام الحسین(علیه السّلام) من خلال استثمار هذه الصیغة مع تکرارها، إذ إنّ (فعیل) لم یصلح إلّا حیث یکون معنی الحدث فیه أشدّ، وکان هذا الاستعمال ملمحاً أُسلوبیاً مقصوداً، فالاستعمال الدال لصیغة کلمة بذاتها مع تکرارها ظاهرة أُسلوبیة ملحوظة، تجذب تنبّه القارئ أو السامع نحو النص.

3- استعمال المصدر

إنَّ استعمال صیغة المصدر فی الکلام له أسبابه التی تُسوّغه، فالمصدر هو الاسم الذی یدلّ علی الحدث مجرداً من الزمن(3)، فهو یُمثل الحدث نفسه، بخلاف الفعل

ص: 178


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص62.
2- الهنداوی، عبد الحمید، الإعجاز الصرفی فی القرآن الکریم: دراسة نظریة تطبیقیة للتوظیف البلاغی لصیغة الکلمة: ص106.
3- اُنظر: الحلوانی، محمد خیر، الواضح فی علم الصرف: ص158. الأُسطی، عبد الله محمد، الطریف فی علم التصریف: دراسة صرفیة تطبیقیة: ص167.

الذی یتحدث عن الحدث(1)، وهذا الفرق بین المصدر والفعل یُشیر إلی الاختلاف فی وظیفة کلّ منهما، فدلالة المصدر دلالة مطلقة غیر مقترنة بزمن، ودلالته علی الحدث تمنح التعبیر قوةً واتساعاً. أمّا الفعل فإنّه یقتضی تجدّد المعنی المثبت به شیئاً بعد شیء(2)، وهذا ما یُفسّر لنا اختیار المصدر فی الکلام بدلاً من الفعل، وعندها یقوم المصدر مقام الفعل، فیمنح التعبیر قوّة لا یمکن للفعل أن یؤدّیها.

وللمصدر صیغ متعدِّدة(3)، فقد وقع توظیف بعضها علی مبدأ الاستعمال القصدی، من ذلک ما ورد فی رسالة سلیمان بن صُرَدْ إلی سعد بن حذیفة، وذلک فی قوله: «فلمَّا نَظَرَ إخوانکم وتدَبّروا عواقبَ ما استقبلوا رأوا أنْ قد خَطئوا بخذلان الزکیّ الطیّب وإسلامه وتَرْکِ مواساته، والنص-ر له، خطأً کبیراً لیس لَهم منه مخرجٌ ولا توبة... وإنکم جُدَراءُ بتطْلاب الفضل، والتماس الأجْر، والتوبة إلی ربکم مِن الذنب، ولو کانَ فی ذلکَ حزّ الرقاب، وقتلُ الأولاد، واستیفاءُ الأموال، وهلاکُ العَشائر...»(4).

فقد أورد المرسل صیغ المصادر وکرّر استعمالها؛ لیصف الأحداث بدقَّة وعنایة فائقة، ولأنّ الوصف بالمصدر یوجه کلّ دلالات مصدریته باتجاه الحدث لیس غیر، وبهذا یکشف لنا عن خفایا المعنی بأجلی صور؛ لأنّ المصدر هو ذات الحدث(5) لذلک أتقن استعمال صیغ مصادره، عندما أراد أن یرکز علی الفعل نفسه من دون الترکیز علی

ص: 179


1- اُنظر: الزجاجی، عبد الرحمن، الإیضاح فی علل النحو: ص57.
2- اُنظر: الجرجانی، عبد القا هر، دلائل الإعجاز: ص174.
3- اُنظر: القزوینی، محمد بن شفیع، جوهر القاموس فی الجموع والمصادر: ص259، وص342.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص556. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص114- 115.
5- اُنظر: الحلوانی، محمد خیر، الواضح فی علم الصرف: ص158.

لوازمه الأُخر، وإمعاناً کذلک فی ترسیخ المعانی من منطلق أن الاسم هو أثبت من الفعل فی الدلالة علی المعنی.

ومن ذلک أیضاً جاء استعمال صیغ المصدر فی خُطبة عبید الله بن عبد الله المری لقوله: «لله أنتم! ألمْ تَروْا ویبلغکم ما اجتُرِم إلی ابن بنت نَبیِّکم؟! أمَا رأیتم إلی انتهاک القومِ حُرْمَتَه، واستضعافِهم وَحْدَتَه، وتَرْمِیلِهِم إیَّاه بالدّم، وَتَجْرارِهِمُوه علی الأرض... اتّخذوه للنَّبل غَرَضَاً، وغادروه للضّباع جَزَرَاً، فللّه عیناً مَنْ رأی مثله! ولله حسین بن علیّ، ماذا غادَرُوا به ذا صِدْقٍ وصَبْر، وذا أمانةٍ ونَجْدَة وحَزْم...»(1)).

ویبدو فی هذا النص شیوع طائفة من صیغ المصادر المختلفة فی أوزانها، وقد آثر الخطیب استعمالها، لیُعبّر بها عن المعانی التی یروم تَوصیلها إلی ذهن السامع وجذب تنبّهه، فمثّل تکرارها مَلمَحاً أُسلوبیاً واضحاً أراد به الخطیب التعبیر عن ثبوت المعانی وإطلاقها، فضلاً عن القوَّة والشدَّة فی وصف الحال التی کان علیها الإمام الحسین(علیه السّلام)، وما جری علیه من النوائب من أعدائه، من منطلق أنّ المصدر یدلّ دلالة مطلقة علی الحدث، لیمنح التعبیر قوّةً واتساعاً، فأراد الخطیب أن یصف الشدَّة والقسوة، فی هتک حرمة الحسین(علیه السّلام) وقتله وجرّه علی الأرض وسلبه، فعبَّر عن ذلک بما ناسب تلک الأحوال بأدوات لغویة تدلّ علی العموم والاستغراق، فکان الاختیار واقعاً علی المصادر، وکان هو السبب نفسه فی استعمال صیغ المصادر قاصداً بها بیان صفات الإمام الحسین(علیه السّلام)، فوصفه ب-(الصدق، والصبر، والأمانة، والنجدة، والحزم)، وما کان ذلک إلّا لأنَّ استعمال المصدر آکد وأثبت فی الوصف من الفعل، فضلاً عن اختیار صِیَغِهِ مع تکرارها فی هذه الخُطبة.

ص: 180


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص559.
4 - استعمال الصفة المُشبّهة

الصفة المشبهة: وهی وصف یُصاغ للدلالة علی اتصاف الذات بالحدث علی وجه الثبات والدوام(1). وهی إحدی المشتقَّات التی تُصاغ من البابین الرابع والخامس، من الفعل اللّازم (فَرِحَ - یَفْرَح) و(کَرُمَ - یَکْرُمُ)(2)، لتدلّ علی حدثٍ ثابتٍ ثبوتاً ملازماً(3)، ولها وظیفتها الأُسلوبیة فی اختیارها من منشئ النص، ذلک أنّها تلتبس «بموصوفها مبالغة فی توکید الصفة، وتعضیداً لمعناها، فتصل صورة المعنی للمتلقی إیصالاً أمیناً، فإنّها أکثر دلالة علی المعنی»(4)، وهی کذلک بمثابة اسم الفاعل غیر أنّها «تُفید ثبوت معناها لمَن اتصف به، واسم الفاعل یُفید الحدوث والتجدد»(5).

وللصفة المشبَّهة أوزان متعددة حفظتها لنا کتب اللغة(6)، فقد ورد منها فی خُطب ورسائل هاتین الحِقبتین؛ لما تمتلکه من صفة ثبوت الحدث وترسیخه فی ذهن السامع، إذ وقع استعمال صیغها علی نحو ملحوظ ومتکرر فی خُطبتی عبد الله بن مطیع الوالی الزبیری، ففی خُطبته الأُولی حین قدم الکوفة، قال: «فاتقوا الله واستقیموا ولا تختلفوا، وخذوا علی أیدی سفهائکم، وإلّا تفعلوا فلوموا أنفسکم ولا تلومونی، فو الله لأوقعنَّ بالسقیم العاصی؛ ولأقیمنَّ دَرْأ الأصْعَرِ المرتاب» (7).

ص: 181


1- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج4، ص108. الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح کافیة ابن الحاجب: ج3، ص500.
2- اُنظر: هویدی، هادی عبد علی، اسم الفاعل والمشبهات به فی القرآن الکریم: دراسة لغویة دلالیة: ص194- 195.
3- اُنظر: الحملاوی، أحمد، شذا العرف فی فن الصرف: ص97.
4- الحلفی، شکیب غازی، ألفاظ السمع فی القرآن الکریم: دراسة لغویة: ص77.
5- شاهین، عبد الصبور، المنهج الصوتی للبنیة العربیة: رؤیة جدیدة فی الصرف العربی: ص117.
6- اُنظر: محمد الشیخ، أحمد، أبنیة الأسماء فی اللغة العربیة: ص202، وص204.
7- اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص76 - 77. والدرء: المیل والعوج. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج4، ص315، مادة (درأ). والأصعر: المتکبر. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج7، ص345، مادة (صعر).

فنجد صیغ الصفة المشبهة کما فی الجدول:

الصفة المشبهة الوزن

سفهاؤکم: جمع سفیه فَعیل

السَّقیم فَعیل الأصْعَر أفْعَل

وفی خُطبته الثانیة وهو محصور فی قصر الإمارة بقوله: «أمَّا بعدُ، فقد علمت الذین صَنَعوا هذا منکم مَنْ هُمْ؛ وقد علمت أنّما هُم أراذلکم، وسُفهاؤکم، وطَغَامکم، وأخسّاؤکم ما عَدا الرجل أو الرجلین، وإنَّ أشرافکم، وأهل الفضل منکم لم یزالوا سامعین مطیعین...»(1)، فنجد صیغ الصفة المشبهة فی الجدول الآتی:

الصفة المشبهة

الوزن أراذلکم: جمع رذْل فَعْل

سفهاؤکم: جمع سفیه فَعیل

أخساؤکم: جمع خسیس فَعیل

أشرافکم: جمع شریف فَعیل

فنجد أنّ الخطیب قد کرّر استعمال الصفة المشبهة للترکیز علی إثبات الصفات للموصوفین من قبیل أنّها تأتی لإفادة ثبوت الصفة للموصوف بها، فتکون الصفة المشبهة فی کلّ صیغها قد صوّرت حالهم أدقّ تصویر.

ص: 182


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص31. والطغام: أراذل الناس وأوغادهم، وقال ابن منظور: «ولا یُنطق منه بفعل ولا یُعرف له اشتقاق». اُنظر: لسان العرب: ج 8، ص169، مادة (طغم).

ونجد أنّ الخطیب فی کلتا الخُطبتین قد استعمل صیغة (فعیل) فکرَّرها، وأنّ لهذا الاستعمال أسبابه من حیث إنّ هذه الصیغة کما وسمها اللغویون أنّها تأتی للدلالة علی الثبوت فی الأوصاف الخلقیة والمکتسبة(1)؛ لأنَّ هذا الوصف یُبنی من (فَعُل) المضموم العین، وهذا الفعل یأتی «فی الأغلب للغرائز، أی: الأوصاف المخلوقة»(2)، ومن ثَمَّ کانت الدلالة علی الثبوت فی صیغة (فعیل). قال ابن فارس (ت395ه-): «وتکون الصفات اللازمة للنفوس علی (فعیل)»(3).

وهکذا أراد الخطیب إیصال الدلالات إلی أذهان السامعین، وأراد أن یبالغ فی وصف هؤلاء بطریقة أبلغ، مصوِّراً صفات مناوئیه بصفات ردیئة کان یراها هو فیهم، فلم یجد بُدّاً من أن یصوغها فی قوالب لغویّة تؤکِّد ثبوت هذه الصفات ودوامها فیهم، فکان اختیار صیغ الصّفة المشبَّهة لذلک.

5- استعمال صیغة المبالغة

صیغ المبالغة: وهی أسماء مشتقَّة من الأفعال تُلحق باسم الفاعل، وتأتی للدلالة علی المبالغة والکثرة فی الحدث علی وجه التغیّر والحدوث، فإذا أُرید تأکید المعنی وتقویته والمبالغة فیه حُوِّل من اسم الفاعل إلی أبنیة صیغ المبالغة(4).

وللمبالغة أوزان عدیدة، ک-: فَعّال، ومفْعال، وفعول، وفعیل، وفَعِل، وغیرها(5)،

ص: 183


1- اُنظر: الحلوانی، محمد خیر، الواضح فی علم الصرف: ص183.
2- الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح شافیة ابن الحاجب: ج1، ص74.
3- ابن فارس، أحمد، الصاحبی فی فقه اللغة وسنن العرب فی کلامها: ص375.
4- اُنظر: الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح کافیة ابن الحاجب: ج3، ص290. إلیاس، جوزیف، الکافی فی الصرف والنحو والإعراب: ص246.
5- اُنظر: محمد الشیخ، أحمد، أبنیة الأسماء فی اللغة العربیة: ص200، وص202. حسین، شعبان صلاح، تصریف الأسماء فی اللغة العربیة: ص42- 43.

فقد جاء استعمالها فی خُطبة المختار بن أبی عبید قوله: «أمَا وربّ البحار، والنخیل والأشجار... لأقتلنَّ کلّ جبّار، بکلّ لدن خطّار، ومهند بتّار...»(1).

وهنا استعمل الخطیب صیغة المبالغة (فعّال) فی (جبّار، خَطّار، بتّار)، فوظَّف من خلال هذه الأبنیة المبالغ فیها ما یناسب الغرض الذی من أجله ألقی خُطبته، وهو الوعید بالانتقام من الظالمین الذین وسمهم بالجبروت والطغیان فی قوله: (لأقتلنَّ کلّ جبَّار)، فالوصف ارتفع إلی أرقی حالاته من خلال استعمال صیغة (فعَّال)؛ لأنَّ هذا البناء یکون للصفة الثابتة فی الموصوف، قال القاسم بن سعید المؤدّب (من علماء القرن الرابع الهجری): «ویخرج علی (فعَّال) نحو: فرَّار، وهو الذی یکون دأبه وعادته الفرار فی الحروب وغیرها»(2)، فکأنَّ هؤلاء قد بلغوا من تکرار التجبّر حدَّاً حتی أصبح لهم بمرتبة السجیة الملازمة لهم، والتی لا تفارقهم، فهم قد تعوَّدوا علیه، فأصبحت صفة راسخة فیهم.

ثمَّ لم یلبث الخطیب أن استعمل هذه الصیغة فی وصف الآلة التی یُقتل بها هؤلاء الظالمین، وهی (بکلّ لدن خطّار، ومهند بتّار)، فقد وصف اللدن (وهو الرمح) بالخطار، وهی صیغة مبالغة بکثرة اهتزازه، وهی من صفات الجودة فیه، وکذلک وصف المهند (السیف) بالصفة (بتّار)، أی: کثیر البتر القاطع، فصیغ المبالغة تأتی «لقصد هذه الکثرة والمبالغة فی الدلالة علی الحدث، ممَّا یجعل هذه الصیغ کالصفة الثابتة والسجیة المصاحبة للذات»(3)، وقد جاءت کلتا الصفتین نکرة مسبوقة بالأداة (کل) التی أفادت معنی العموم، فالمختار أراد أنَّ یُعمّم قتل الجبارین بسیوف ورماح غیر محدَّدة

ص: 184


1- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص75 - 76.
2- ابن سعید المؤدب، القاسم بن محمد، دقائق التصریف: ص198.
3- الأسطی، عبد الله محمد، الطریف فی علم التصریف: دراسة صرفیة تطبیقیة: ص243.

بعدد، وهذا جاء منسجماً مع شدَّة الخطاب وسیاق القَسم.

وممّا تقدَّم نلحظ أنَّ الوصف بصیغة المبالغة (فعَّال) قد بلغ ذروته فی تصویر الحدث؛ لأنَّه أدَّی إلی انسجام تلک الصور بعضها مع بعض، ممَّا أوجد الوقع الشدید الذی مثَّل الحدث المصوَّر.

6- استعمال الاسم المصغَّر

التصغیر «لفظ صِیْغَ علی زِنَة فُعِیل، أو فُعَیْعِل، أو فُعَیْعِیل، علی وفق مقاییس معیَّنة للتعبیر عن التقلیل، والتحقیر، أو التقریب، أو التلطُّف، أو التعظیم»(1)، وللتصغیر - علی قلَّته - وظیفته الأُسلوبیة فی الکلام، لکونه وسیلة صوتیة یتبعها تعبیرٌ له أهمیته؛ «لأنَّ مقتضیات السیاق التعبیری تستدعی فی بعض الأحیان هذه الصیغة، کالتعبیر عن شیء لطیف أو خفی أو قلیل»(2)، کما یبدو فی العربیة الحدیثة علی مختلف مستویات الاستعمال اللغوی قلَّة الاعتماد علی التصغیر، ومن ثَمَّ قلّة تردّد ألفاظه(3).

ومن هنا نجد قِلَّة ورود الألفاظ المصغَّرة فی خُطب هاتین الحِقبتین، ولعلّ استعمال صیغة التصغیر کان فی خُطبتین حَسْب للمختار الثقفی، مثَّلتا اختیاراً أُسلوبیاً له وظیفته الخاصَّة، قال المختار: «إنَّ نُفَیراً مِنْکُم ارتابوا وتَحَیَّروا وخابوا، فإن هم أصابوا...»(4).

فنجدد کلمة (نُفیراً) - وهو تصغیر (نَفَر) - قد عبَّر بها المختار عن قیمة أُسلوبیة واضحة، أَلا وهی التحقیر والتقلیل(5) من قیمة شأن هؤلاء الذین ذهبوا عنه، شاکّین

ص: 185


1- عریبی، أسراء، التصغیر: دراسة صرفیة صوتیة: ص6. اُنظر: حسین، شعبان صلاح، تصریف الأسماء فی اللغة العربیة: ص140.
2- عبد المطلب، محمد، جدلیة الإفراد والترکیب: فی النقد العربی القدیم: ص95.
3- اُنظر: العبد، محمد، سمات أُسلوبیة فی شعر صلاح عبد الصبور: ص89.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص14. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص79.
5- اُنظر: ابن عصفور، علی بن مؤمن، شرح جمل الزجاجی: الشرح الکبیر: ج2، ص289.

فیه وفی دعوته، غیر مکترث لذهابهم عنه فهم فی نظره نُفیرٌ لا خِطَرَ لهم، ولا یُحسبُ لهم حساب.

وفی خُطبة أُخری له حین شیَّع إبراهیم الأشتر لقتال ابن زیاد، قال: «إنْ اسْتَقَمْتُمْ فَبِنَصْ-رِ الله، وإنْ حِصْتُمْ حِیصَة فإنّی أجدُ فی محکمِ الکتاب، وفی الیقینِ والصواب، أنَّ الله مؤیّدُکُم بملائکةٍ غِضَاب، تأتی فی صُوَرِ الحَمَامِ دُوَیْنَ السحاب»(1).

فقد استعمل صیغة الاسم المصغَّر مرَّةً أُخری، وهذه المرَّة هو تصغیر الظرف (دون)، «لیُعَبّر به عن وسیلة لغویَّة اختزالیَّة مهمَّة، بمعنی أنَّها تغنی عن الوصف بقریبٍ أو قصیرٍ أو نحوهما»(2)، وقَصْدُ المختار من هذا التعبیر أنْ یرسم الصورة ویقرّبها من ذهن السامع، وهی أنَّ الملائکة تأتی لنصرة إبراهیم علی أعدائه، ویکون إتیانها هذا فی صورة الحمام الأبیض قریباً من السحاب، حتی تکاد تقترب منه وتمسُّه ولکنَّها لا تمسّه، بمعنی أنَّها قریبة منهم فی نص-رتهم غیر بعیدة، ولا یخفی ما لهذا التصویر الرائع من جمالیة فنیّة وأُسلوبیة عالیة، أفصح عنها اختیار الظرف المصغَّر إلی جانب التعبیر به عن شیء لطیف ومحبَّب.

ثانیاً: استعمال الفعل

اشارة

الفعل هو أحد الأقسام الرئیسة التی یتألَّف منها الکلام: «وهو کلمة تدلُّ علی حدث وزمن، والدلالة علی الحدث والزمن هو المعنی الصرفی للفعل، وهی وظیفته الصرفیة المرکَّبة، بمعنی أنَّ کلاً من الزمن والحدث جزء من معنی صیغة الفعل»(3)، وللفعل أهمیته التی تقوم علی ما یؤدّیه من وظائف لغویّة وأُسلوبیة متعدّدة، فهو یُعبّر

ص: 186


1- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص79.
2- العبد، محمد، إبداع الدلالة فی الشعر الجاهلی: مدخل لُغوی أُسلوبی: ص89.
3- السنافی، فاضل مصطفی، أقسام الکلام العربی: من حیث الشکل والوظیفة: ص175.

عن الأحداث وأزمانها، وهو کذلک من أهمّ مقومات الجملة، فالإسناد مستمدّ منه(1).

ولما کان شائعاً فی العربیة وموضع اهتمام المتکلّمین أنَّ العقل العربی یقتض-ی أن تکون الجملة الفعلیة هی الأصل، والغالبة فی التعبیر؛ ذلک لأنَّ الإنسان العربی جَرَتْ سلیقته ودفعته فطرته إلی الاهتمام بالحدث فی الأحوال العادیة الکثیرة(2)، ونتیجة لهذه الوظائف اللغویة والأُسلوبیة التی یقوم بها الفعل نجده قد کَثُرَ فی الکلام العربی.

وقد انتهی العالم الألمانی (أ - بوزیمان) (Busemann - A) «إلی أنَّ الکلام الصادر عن الإنسان الشدید الانفعال یتمیَّز بزیادة عدد کلمات الحدث علی عدد کلمات الوصف»(3) وهو یقصد بالحدث هنا (الفعل)، فالانفعال النفسی عامل مهم من عوامل شیوع الأفعال واستعمالها فی الکلام، کما تَنُصُّ علیه هذه المعادلة، ولذلک فهو یعطی التعبیر قیمة أُسلوبیة واضحة؛ لأنَّه یُعبّر عن القوة ویدلُّ علی شدّة الحدث، ومن ثَمَّ یکثر فی الکلام.

ویقسّم البناء الفعلی بحسب حیثیات کثیرة، منها نوع البناء الص-رفی، وعنص-ر الزمن، فیُقسَّم تبعاً لذلک علی أساس الأوَّل إلی (مُجَرَّد، ومَزِید)، ویُقسَّم علی أساس الثانی إلی (ماض، ومضارع، وأمر)(4). وسوف نتناول مسالة استعمال الصیغة الفعلیة علی أساس اختیارها من حیث هی صیغة صرفیة لها دلالاتها ومعانیها، ومن ثَمَّ ما تؤدّیه من وظائف لغویة وأُسلوبیة من المنشئین.

1- استعمال الفعل الماضی

یُعرَّف الفعل الماضی بأنّه: ما «أُطْلِقَ علی ما یسبق زمن التکلّم قریباً کان ذلک أو

ص: 187


1- اُنظر: السامرائی، إبراهیم، الفعل زمانه وأبنیته: ص15.
2- اُنظر: المخزومی، مهدی، فی النحو العربی: نقد وتوجیه: ص110.
3- مصلوح، سعد، الأُسلوب: دراسة لغویة إحصائیة: ص74.
4- اُنظر: حسّان، تمام، اللغة العربیة معناها ومبناها: ص105.

بعیداً، محققاً الوقوع أو غیر محقق»(1)، وقد جاء استعمال صیغة هذا الفعل بنوعیه المجرَّد والمزید فی خُطب ورسائل الحِقبتین بصورةٍ کبیرةٍ، وسنقف علی نصَّین منها، الأوَّل: رسالة لسلیمان بن صُرَد، والثانی: خُطبة للمختار الثقفی.

فرسالة سلیمان بن صُرَد إلی سعد بن حذیفة لقوله: «أمَّا بعدُ، فإنّ الدنیا دارٌ قدْ أدبرَ منها ما کان معروفاً، وأقبل منها ما کان مُنکراً، وأصبحتْ قد تشنّأتْ إلی ذوِی الألباب، وأزمَع بالترحال منها عبادُ الله الأخیار، وباعوا قلیلاً من الدنیا لا یبقَی بجزیلِ مثوبة عند الله لا تَفنی، إنّ أولیاء الله من إخوانکم، وشیعة آل نبیِّکم نظروا لأنفسهم... وترک الناسَ فلم یترکوه، وعَدوا علیه فقتلوه، ثمَّ سلبوه وجرّدوه... فلمَّا نظر إخوانکم وتدَبّروا عواقبَ ما استقبلوا رأوا أن قد خطئوا بخذلان الزکیّ...»(2).

فنجد فی هذا النص شیوعاً ملحوظاً للأفعال الماضیة (المجردة والمزیدة) ممَّا طبعت النص بطابع أُسلوبی خاصّ، یدعو للکشف عن أسباب وجود هذا الأداء الدلالی.

أمّا الفعل الماضی المجرد، فقد وردّ علی صیغة (فَعَلَ) فسجّل حضوراً فاق به شیوع الأوزان المزیدة الماضیة، من ذلک ما ورد فی قول سلیمان: (نَظرَوا، تَرَکَ، عَدَوا (من عَدَا) قَتلَوه، سَلبَوه، نَظَر، رأَوا، ضَربَنا).

ویمکن تفسیر شیوع هذه الصیغة فی الکلام أنَّها تُعدُّ من «أکثر أوزان الفعل استعمالاً فی اللغة، ونظراً لخفَّة هذا الوزن لم یختص بمعنی من المعانی، بل استعمل فی أکثرها»(3).

وفی هذا یقول العینی (ت855ه-): «(فَعَلَ) أعمّ الأفعال معنی؛ لأنّ الفعل علاجیاً أو غیر علاجی، تقول: فَعَلَ الضرب والشتم، وفَعَلَ النص-ر، فلذلک استعمل فی مکان

ص: 188


1- الجواری، أحمد عبد الستار، نحو الفعل: ص30.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص551. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص114- 115.
3- السنافی، فاضل مصطفی، أقسام الکلام العربی: من حیث الشکل والوظیفة: ص217.

الأداء والإعطاء فی قوله تعالی: «وَالَّذِینَ هُمْ لِلزَّکَاةِ فَاعِلُونَ » (1) أی مؤدُّون، فکان أعمّ الأفعال معنًی»(2)، أی: أعمّ الأفعال استعمالاً، وقد ذکر الدکتور إبراهیم السامرائی هذه الاستعمالات ودلالاتها(3).

أمّا الماضی المزید، فقد ورد استعماله فی هذا النص اختیاراً ملحوظاً، وأوَّل ما یُطالعنا فیه صیغة الفعل الماضی المزید بالهمزة فی أوّله (أفْعَل)، وهذه الصیغة تختص بالثلاثی المزید بحرف واحد، ویکون مصدرها بزنة (إِفْعَال)(4)، والهمزة للتعدیة، ولهذه الهمزة وظیفتها الأُسلوبیة؛ إذ إنّها قادرة علی توسیع عمل الفعل ونطاقه التأثیری علی ما جاوره من الألفاظ، وفی هذا یقول سیبویه (ت180ه-): «هذا باب افتراق فَعَلْت وأفْعَلْت فی الفعل للمعنی، تقول: دَخَلَ وخرج، وجَلَسَ. فإذا أخبرت أنّ غیره صیَّره إلی شیءٍ من هذا قلت: أَخْرَجَهُ، وأدْخَلَهُ، وأجْلَسَهُ»(5)، فالغرض الوظیفی الذی قامت به الهمزة هو تعدیة الأفعال المذکورة.

وتأتی (أفْعَل) لأغراض ودلالات أبان عنها أبو حیان الأندلس-ی فی عش-رین ونیّف من أشهرها: التعدیة، والدلالة علی الصیرورة، والسلب، والتمکین، والتعریض... (6).

وقد جاء فی رسالة ابن صُرَد استعمال هذه الصیغة الفعلیة المزیدة بعد اختیارها، لتؤدّی أغراضها الأُسلوبیة، فمثلاً نجد فی قوله: (فإنّ الدنیا دار قد أدبر منها ما کان

ص: 189


1- المؤمنون: آیة4.
2- العینی، بدر الدین أحمد، شرح المراح فی التصریف: ص29.
3- السامرائی، إبراهیم، الفعل زمانه وأبنیته: ص28، وما بعدها.
4- اُنظر: العینی، بدر الدین أحمد، شرح المراح فی التصریف: ص37.
5- سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج4، ص55.
6- اُنظر: أبو حیان الأندلسی، محمد بن یوسف، تفسیر البحر المحیط: ج1، ص144. المبدع فی التصریف: ص111- 115.

معروفاً، وأقبل منها ما کان منکراً...)، إنَّ (أفْعَل) جاءت لتؤدّی غرضاً معنویاً هو الدلالة علی الصیرورة، أی: إنّ الدنیا دار قد صار معروفها مدبراً وصار منکرها مقبلاً، وبهذا أدّی الفعل دلالته التی أرادها الخطیب فی وصف حال الدنیا وتقلّباتها.

أمّا صیغة الماضی المزید بحرفین (تَفَعَّل)، فنجدها فی قول ابن صُرَد فی موضعین قوله: (تشنأت) وفی قوله: (تدبّروا)، ولهذه الصیغة الفعلیة وظائفها الأُسلوبیة، منها: توالی معنی الحدث، کما یقول فی ذلک ابن قتیبة (ت 276 ه-): «وتأتی تفعّلت للش-یء تأخذ منه الش-یء بعد الشیء... فهذا کلّه لیس عمل وقت واحد»(1)، وکأنّ فیها معنی التدرُّج، لا حدوث الفعل بتکرار متقطّع، بل انتظام فی حدوثه(2)، وقد تأتی هذه الصیغة، لتدلّ علی التکلُّف والاجتهاد کما یقول الدکتور فاضل السامرائی: «یؤتی بهذا الوزن للدلالة علی التکلُّف وبذل الجهد... وفی کلا المعنیین دلالة علی الطُّول فی الوقت، والتمهل فی الحدیث»(3)، والملاحظ أنّ کلا المعنیین قد انطبق علی صیغ الأفعال التی وردت علی هذا الوزن فی الرسالة، ففی قول ابن صُرَد فی وصف الدنیا: (تشنّأت إلی ذوی الألباب)، أی: إنّ الدنیا قد تبغَّضت إِلی ذوی الألباب، وکان هذا البغض منتظماً متدرِّجاً یوماً بعد یوم، وکذلک کان هذا البغض شدیداً ومتکلَّفاً فیه.

أمَّا الفعل (تدبَّروا) فی قوله: (فلمَّا نظر إخوانکم وتدبروا عواقب ما استقبلوا)، فالمعنی: إنَّ التدبّر کان متدرّجاً من قِبَلِهِم ولم یکن بعیداً عن هذا الفعل.

أمَّا صیغة الفعل الماضی المزید بتضعیف العین (فَعَّل)، فنجدها فی قوله: (ثمَّ سلبوه وجرَّدوه) الذی عبّر بها عن معنی المبالغة والتکثیر فی الحدث؛ لأنَّها تأتی لهذا الغرض،

ص: 190


1- ابن قتیبة، عبد الله بن مسلم، أدب الکاتب: ص360. اُنظر: عبد الحمید، محمد محی الدین، دروس التصریف: ص78.
2- اُنظر: ابن عصفور، علی بن مؤمن، الممتع الکبیر فی التصریف: ص126.
3- السامرائی، فاضل صالح، بلاغة الکلمة فی التعبیر القرآنی: ص4.

وهنا یقول سیبویه: «هذا باب دخول فَعَّلتُ علی فَعَلتُ لا یشرکه فی ذلک أفعلتُ، تقول: کس-َرتُها وقطعتها، فإذا أردت کثرة العمل قلت: کسّرته وقطّعته ومزَّقته»(1).

فأفرز التضعیف دلالة المبالغة فی تجرید الإمام الحسین(علیه السّلام)، وسلبه وتکرار حدوث هذا الفعل الشنیع من أعدائه، وإنَّما اختار المنشئ هذه الصیغة حتی یؤثّر فی نفس المتلقی راسماً تلک الصورة المأساویة التی کان علیها الإمام بما یجعله متهیّئاً للتأهّب والخروج للثورة.

ونجد کذلک استعمالاً لصیغة الماضی المزید بصیغة (اسْتَفْعَل) فی قول ابن صُرَد: (وتدبّروا عواقب ما استقبلوا)، فالفعل (استقبل) مزیدا بالهمزة والسین والتاء، وهذه الزیادة تأتی لمعانٍ مختلفة، منها وحسب ما جاءت هنا هی: الإیجاد بمعنی وجدته کذلک(2)، «فقولک استجدته: أصبته جیداً»(3)، وقد جاء استعمال هذه الصیغة فی قول ابن صرد لتُعطی معنی الإیجاد، أی: تدبروا عواقب ما وجدوه مقبلاً علیهم.

أمَّا خُطبة المختار الثقفی التی ألقاها حین علم بذهاب نفر من الشیعة إلی محمد بن الحنفیة، لیسألوه عن مصداق دعوة المختار، فقال: «إنَّ نُفَیراً منکم ارتابوا وتحیَّروا وخابوا، فإنْ هم أصابوا أقبلوا وأنابوا، وإنْ هم کبُوا وهَابوا، واعترضوا وانجابوا، فقد ثُبروا وحابوا»(4).

ص: 191


1- سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج4، ص64. اُنظر: ابن عصفور، علی بن مؤمن، الممتع الکبیر فی التصریف: ص129.
2- اُنظر: ابن عصفور، علی بن مؤمن، الممتع الکبیر فی التصریف: ص132. شلاش، هاشم طه، أوزان الفعل ومعانیها: ص109.
3- شلاش، هاشم طه، أوزان الفعل ومعانیها: ص109.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج9، ص14. اُنظر: جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص79- 80.

فواضح جداً أنَّ هذه الخُطبة قد بُنِیت علی تَکرار الأفعال الماضیة المجردة والمزیدة، ممَّا یُعدُّ ذلک میزة أُسلوبیة ملحوظة فیها، فأمَّا المجرَّدة فیطالعنا منها الوزن (فَعَل) فی (خابوا، هابوا، ثبروا، حابوا)، وتفسیر شیوعه فی الکلام قد مرَّ سابقاً، وذلک لخِفَّته وعدم اختصاصه بمعنی معین(1).

أمَّا الأفعال الماضیة المزیدة، فنجد منها صیغة الماضی المزید بالهمزة فی أوّله (أفْعَل) فی قول المختار: «فإن هم أصابوا أقبلوا وأنابوا»، وقد جاءت هذه الصیغة لغرض معنوی آخر هو المبالغة فی الوقع ونوع الحدث(2) فی الإصابة، والإقبال، والإنابة.

أمَّا الفعل الماضی المزید بحرفین (تفعَّل)، فنجده فی قول المختار: (تحیَّروا) الذی أراد أن یصف الحیرة عند هؤلاء القوم، فاختار لها هذه الصیغة، لتدلّ علی الحیرة المتتالیة، المتدرّجة فی قلوب القوم وکذلک تبییناً لشدَّتها وتمکّنها من قلوبهم وعقولهم، إذ إنَّ صیغة (تفعَّل) قد مرَّ معناها بأنَّها تدلُّ علی التدرّج والتکلّف والشدة(3).

وقد جاء استعمال صیغة الماضی المزید بحرفین (افْتَعَل) فی قول المختار: (اعترضوا)، فقد زِید فیها حرفان هما (الألف، والتاء)، وفیها یکون الإصرار علی الفعل والطلب فیه، والشدَّة فی استحصاله، لذا فإنَّ استعمال صیغة (افتعل) علی (فَعَل) - مثلاً - کان لتأدیة عدَّة معانٍ، منها ما یناسب سیاق الخُطبة، کالاجتهاد والطلب، والتص-رف والمبالغة فی معنی الفعل(4)، یقول سیبویه: «وأمَّا کَسَبَ فإنَّه یقول أصَابَ،

ص: 192


1- اُنظر: العینی، بدر الدین أحمد، شرح المراح فی التصریف: ص29.
2- اُنظر: شلاش، هاشم طه، أوزان الفعل ومعانیها: ص61.
3- اُنظر: ابن قتیبة، عبد الله مسلم، أدب الکتاب: ص360. السامرائی، فاضل صالح، بلاغة الکلمة فی التعبیر القرآنی: ص34.
4- اُنظر: سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج4، ص74. الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح شافیة ابن الحاجب: ج1، ص108.

وأمَّا اکتسب فهو التص-رُّف والطلب، والاجتهاد بمنزلة الاضطراب»(1)، وهذا ما جاءت لأجله هذه الصیغة فی قول المختار: (اعترضوا)، إذ اکتسبت الزیادة فی الفعل حِسّاً دلالیاً مرکَّزاً من الاعتراض وعدم القبول، فالزیادة فی البناء دلّت علی ما یعنیه المختار من التعبیر عن ذلک الاعتراض الذی حدث من هؤلاء القوم.

کذلک نجد الفعل المزید بحرفین (انْفَعَلَ) فی قول المختار: (انجابوا) الذی هو بمعنی: انکشفوا، وتأتی هذه الصیغة لمعنی واحد هو المطاوعة، ویختصُّ بما کان فیه علاج وتأثیر(2)، وقد اختاره المنشئ لیُعبِّر عن معنی المطاوعة فی فعل الانکشاف. والمطاوعة عند علماء التصریف: «هی قبول الأثر، وذلک فیما یظهر للعیون کالکس-ر، والقطع، والجذب»(3)، فجاءت هذه الصیغة الدالة علی المطاوعة مناسبة تامَّة لسیاقها؛ إذْ دلَّت علی انکشاف هؤلاء القوم فی عدم طرح الثقة بالمختار الثقفی ودعوته.

وإذا ما طبّقنا نظریة العالم اللغوی (بوزیمان) نجد أنَّ نسبة شیوع الأفعال فی هذه الخُطبة قد فاقت الأسماء، ممَّا یدلُّ دلالةً واضحةً علی أنَّها کانت تصدر عن انفعال شدید، وهذا ما تؤکّده النظریة فی أنَّ الکلام الذی یصدر «عن الإنسان الشدید الانفعال یتمیَّز بزیادة عدد کلمات الحدث علی عدد کلمات الوصف»(4)، وهو یعنی بالحدث هنا الفعل، فالمختار ألقی خُطبته حین وصف هؤلاء الذی ذهبوا إلی ابن الحنفیة یسألونه عن مصداق دعوته، فظنَّ أنَّهم لم یثقوا به، فصدر کلامه بانفعال شدید یصف فیه حال التذبذب والتحیُّر التی کان علیها هؤلاء.

ص: 193


1- سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج4، ص74.
2- الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح شافیة ابن الحاجب: ج1، ص108.
3- المصدر السابق.
4- مصلوح، سعد، الأُسلوب: دراسة لغویة إحصائیة: ص74.
2- استعمال الفعل المبنی للمجهول

الفعل المبنی للمجهول: هو «ما استُغنی عن فاعله فأُقیم المفعول مقامه، وأُسند إلیه معدولاً عن صیغة (فَعَلَ) إلی (فُعِلَ)»(1)، هذا إذا کان الفعل ماضیاً، أمَّا إذا کان مضارعاً فإنَّه یُبنی للمجهول بضمّ أوَّله وفتح ما قبل آخره وإن لم یکن مفتوحاً، نحو: (یَکْتُبُ) - (یُکْتَبُ)(2))

ولقد أکَّد دارسو علم الأُسلوب أهمیَّة دراسة الفعل من حیث البناء، ولاسیّما البناء للمجهول(3)؛ وذلک لأنَّه: «یُشکّل بُنیة سطحیة، وعن طریق تحلیلها تتَّضح البنیة العمیقة»(4)، ویرجع استعمال صیغة الفعل المبنی للمجهول إلی أغراض أُسلوبیة فی الکلام، منها إِعمام الفاعل أو تغییبه إلی هامش الشعور؛ لإفساح المجال للاهتمام بالمفعول(5).

وقد جاء استعمال صیغة الفعل المبنی للمجهول فی خُطب ورسائل الحِقبتین، کما نلحظ ذلک فی رسالة سلیمان بن صُرَد إلی سعد بن حذیفة، إذ استعمل هذه الصیغة علی نحو ملحوظ بقوله: «إنَّ أولیاء اللهِ مِنْ إخوانکم، وشیعة آل نبیکم نظروا لأنفسِهم فیما ابتُلوا به مِن أمر ابن بنت نبیّهم الذی دُعِیَ فأجاب، ودعا فلم یُجَبْ، وأراد الرجعة فَحُبِس، وسأل الأمان فَمُنِع...»(6).

ص: 194


1- السامرائی، إبراهیم، الفعل زمانه وأبنیته: ص93. اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو الفعل: ص88.
2- اُنظر: الحدیثی، خدیجة عبد الرزاق، أبنیة الصرف فی کتاب سیبویه: معجم ودراسة: ص290.
3- اُنظر: الراجحی، عبده، علم اللغة والنقد الأدبی: علم الأسلوب: ص121.
4- الحربی، وائل عبد الأمیر، لغة الشعر عند الصعالیک قبل الإسلام: دراسة لغویة أُسلوبیة: ص172.
5- اُنظر: الهنداوی، عبد الحمید، الإعجاز الصرفی فی القرآن الکریم: دراسة نظریة تطبیقیة للتوظیف البلاغی لصیغة الکلمة: ص120.
6- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص556. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص114.

فقد تکرَّرت فی هذه الرسالة صیغة الفعل المبنی للمجهول، حتی أضفت علیه مسحة أُسلوبیة، ولنلحظ أنَّ استعمال هذه الصیغة کان لأجل إفساح المجال أمام الذهن، کی یُمْعِن النظر إلی البنیة العمیقة فی نفس المنشئ؛ لأنَّه ما کان یلجأ إلی هذا الصنیع إلّا لرغبةٍ ملحَّةٍ فی إیصال الدلالات المعیّنة، فقد حذف الفاعل فی قوله: (دُعی فأجاب، ودعا فلم یُجَب) خوفاً وستراً لما صدر من تهاون المخاطبین، لئلا تأخذهم العزّة فی الإثم، وأمّا قوله: (وأراد الرجعة فحُبس، وسأل الأمان فمُنع)، فحذف الفاعل؛ لأنَّ الذین فعلوا هذا الصنیع کُثُر فلا یستطیع أن یسند الفاعل لواحد منهم فلیس هو بفاعل معین(1).

ولربَّما نجد فی هذه الرسالة استعمال تلکم الصیغ من الفعل المبنی للمجهول؛ لأنَّ فی استعمالها إیحاءات معبّرة عن الحزن الذی استقر فی قلب المنشئ، نتیجة ما جری علی الإمام الحسین(علیه السّلام) من مِحَنٍ هو ومَنْ معه مِن أهل بیته(رضی الله عنهم)، فاستولی ذلک علی مشاعره، حتی تمثَّلت صورته أمام عینیه، فلم یرَ سواه، أو لم یستطع أن یستحض-ر صور قاتلیه لما یمتلکونه من بشاعة وخِسَّة؛ لذلک فهو یحاول إخفاء صورهم وأسمائهم وتناسیها، فضلاً عن تحقیرهم وتجاهلهم.

ویتَّضح من خلال ما تقدَّم أنَّ الاختیار الأُسلوبی فی الصیغ المختلفة الاسمیة والفعلیة واستعمالها کان مشفوعاً بالتکرار، وکلاهما من الظواهر الأُسلوبیة، وقد ذکر رولف ساندل (Rolph Sandile) أنَّ بعضهم ینظر إلی عملیة تکوین الأُسلوب علی أنَّها تضافر الاختیار ومعدَّلات التکرار التی تتمُّ داخل النص بقصد التأثیر فی المتلقِّی(2)، ولهذا رکَّز البحث علی اختیار الصیغة المعیَّنة وتکرارها؛ لکون ذلک الاختیار لیس

ص: 195


1- اُنظر: العینی، بدر الدین أحمد، شرح المراح فی التصریف: ص112.
2- اُنظر: ساندل، رولف، تر: لمیاء عبد الحمید العانی، مفهوم الأُسلوب: ص78.

اختیاراً اعتیادیاً، وإنَّما هو اختیارٌ مقیَّدٌ بکونه مکرَّراً، بمعنی أنَّ «استعمال صیغة معیَّنة بصورة متکرّرة یُعدُّ ظاهرةً أُسلوبیةً لها دلالتها کغیرها من الظواهر الأُسلوبیة»(1)، وهذا ما وجده البحث من خلال اختیار واستعمال هذه الصیغ وتکرارها فی نصوص الحِقبتین.

ص: 196


1- الهنداوی، عبد الحمید، الإعجاز الصرفی فی القرآن الکریم: دراسة نظریة تطبیقیة للتوظیف البلاغی لصیغة الکلمة: ص213.

المبحث الثالث : العدول

اشارة

نقصد بالعدول هنا الدلالة المجازیة التی تکوّن عدولاً أو انزیاحاً عن الدلالة الحقیقیة(1).

ویُعدُّ العدول عاملاً مهمّاً من عوامل التطوُّر اللُّغوی، «فالمجاز حدثٌ لغویّ یُفسّر لنا تطوُّر اللغة بتطوُّر دلالة ألفاظها علی المعانی الجدیدة»(2)، ویکسب الصورة ظلالاً وألواناً وهی انعکاسات للإیحاءات والعواطف، کما أنّه یمنحها القدرة علی تحریک خیال السامع وإثارة إحساساته المختلفة(3).

والمجاز قسمان:

مجاز لغوی، ومداره اللفظ المفرد، والمجاز العقلی، ومدارهُ الترکیب(4).

والمجاز اللغوی یستعمل اللفظ المفرد فی غیر ما وُضِع له أوّلاً، أمَّا المجاز العقلی فمضماره الإسناد، وذلک بأن یسند الفعل أو شبهه إلی غیر ما هو له أصالة لملابسته له، أو لضرب من التأویل(5)، ویُقسّم المجاز اللغوی قسمین: الاستعارة، والمجاز

ص: 197


1- اُنظر: جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص103.
2- الصغیر، محمد حسین، الصورة الفنیّة فی المثل القرآنی: دراسة نقدیة بلاغیة: ص153.
3- اُنظر: العزاوی، نعمة رحیم، النقد اللغوی عند العرب: حتی نهایة القرن السابع الهجری: ص236.
4- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، أسرار البلاغة: ص376، وما بعدها.
5- اُنظر: المصدر السابق: ص356، وص376. دلائل الإعجاز: ص227.

المرسل، فإن کانت العلاقة بین الدلالة الأُولی للفظ والدلالة الثانیة (المستعار، والمستعار منه) قائمة علی المشابهة، یُسمّی هذا النوع (الاستعارة)، علی حین تکون العلاقة فی المجاز المرسل غیر المشابهة(1).

وإنَّ التشبیه «نوع من أنواع انحراف الدلالة کما هو الشأن فی المجاز»(2)، وقد ذهب إلی ذلک کثیر من العلماء کابن جنی، وابن الأثیر(3) وغیرهم.

أمَّا الکنایة، فقد عُدَّت ضرباً من العدول، وإلی هذا ذهب أکثر العلماء البیانیین من القدماء، ومنهم ابن الأثیر الذی عدَّها جزءاً من الاستعارة(4)، کما ذهب إلی ذلک یحیی ابن حمزة العلوی الذی جعلها وادیاً من أودیة المجاز، وقاعدة من قواعد علم البلاغة(5) وإلی ذلک ذهب البلاغیون المُحدَثون(6).

والمجاز أو العدول رکن مهمّ من أرکان التحلیل الأُسلوبی اللفظی، لِما له من تأثیر جوهری علی المعانی المتداولة(7)، کما أنَّه یرتبط ارتباطاً واسعاً بمسالة الاختیار، بل هو أوسع باب فی هذا المجال(8).

وممَّا جاء من اختیار العدول الدلالی ما جاء فی خُطبة سلیمان بن صُرَد قوله: «أمَّا

ص: 198


1- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، أسرار البلاغة: 368.
2- جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص106.
3- اُنظر: ابن جنی، عثمان، الخصائص: ج2، ص442. ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج1، ص343.
4- اُنظر: ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج2، ص185.
5- اُنظر: العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص38، ص96.
6- اُنظر: السیّد، شفیع، التعبیر البیانی: رؤیة بلاغیة نقدیة: ص141. ناجی، مجید عبد الحمید، الأسس النفسیة لأسالیب البلاغة العربیة: ص229، ومجاز القرآن: خصائصه الفنیة وبلاغته العربیة: 83.
7- اُنظر: الراجحی، عبده، علم اللغة والنقد الأدبی: علم الأُسلوب: ص121. أبو العدوس، یوسف، الأُسلوبیة: الرؤیة والتطبیق: ص51.
8- اُنظر: ویس، أحمد بن محمد، الانزیاح: من منظور الدراسات الأُسلوبیة: ص72.

بعدُ، فإنّی والله لخائفٌ ألّا یکون آخرنا إلی هذا الدهر الذی نَکِدَت فیه المعیشة، وعَظمَت فیه الرزیة، وشَمِلَ فیه الجور أولی الفضل مِنْ هذه الشیعة لِمَا هو خیر؛ إنَّا کُنَّا نَمُدُّ أعناقنا إلی قدومِ آلِ نَبیّنا... کونوا کالأولی مِن بنی إسرائیل إذْ قال لهم نبیّهم: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَیْلِ » (1) فَمَا فَعَلَ القوم؟ جَثَوا علی الرُّکَبِ والله، وَمَدُّوا الأعْناق ورَضُوا بالقَضَاء»(2).

فنجد فی هذا النص عدولَین، الأوَّل فی قوله: (آخرنا إلی هذا الدهر)، فلفظة (الدهر) وقعت مجازاً واستعماله هنا فی موارد تخصُّص الزمان، ولا یعنی به الدهر بمعناه الزمنی، وإنَّما یعنی به أهله؛ «لأنَّ زمان التوّابین - کما یقول خطیبهم - أسوأ زمان لمِا فیه من قتل للأبرار وتهنئة للأشرار»(3).

ونجد فی قوله: (إنّا کنّا نمدُّ أعناقنا إلی قدوم آل نبینا)، أنَّ (نَمُدُّ أعناقنا) کنایة التلهف والشوق، وأراد الخطیب من هذا العدول أنْ یُعبّر عن الصورة التی کانوا علیها وهم یترقبون بشوق قدوم آل بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ولم یلبث الخطیب أنْ کرَّر مثل هذه الکنایة فی وصف قوم نبی الله موسی(علیه السّلام) (جَثَوا علی الرُّکب ومدُّوا الأعناق)، لیعطی الصورة الدلالیة نفسها، ویُکَنّی بها عن تلهفهم وشوقهم للتسلیم لقضاء الله، ویوازی بین صورتهم وصورة توّابی بنی إسرائیل، إذ کان الخطیب یجد فی نفسه وقومه شبهاً عظیماً بینهم وبین بنی إسرائیل، ومن هنا نلحظ أنَّ الکنایة تفید «المبالغة فی المعنی؛ لأنّ التعبیر عن المعنی الکنائی بروادفه وتوابعه له من القوَّة والتأکید ما لیس فی التعبیر عنه باللفظ الموضوع له، وذلک لأنَّه یَصبح کإبراز الدعوی بدلیلها، وکإثبات الحجَّة ببیّنتها»(4).

ص: 199


1- البقرة: الآیة54.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص554.
3- العوادی، مشکور، خطب التوابین بعد استشهاد الإمام الحسین(علیه السّلام): المغزی والأُسلوب: ص17.
4- فیود، بسیونی بن عبد الفتاح، علم البیان: دراسة تحلیلیة لمسائل البیان: ص217.

وجاء فی الخُطبة نفسها وفی الآیة التی اقتبسها ابن صُرَد: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَیْلِ »(1) حَتی تُدْعَوا أو تسْتَنْفَرُوا»(2)، إذ جاء فیها المجاز المرسل الذی کانت علاقته المسببیَّة، والمعنی: واعدوا لهم من کلّ ما یتقوّی به فی الحرب مِن عدَّتها(3) التی تحدث القوة والمِنعَة، وتعطی الثقة بالنفس، والقدرة علی القتال، فإطلاق اسم القوة علی السلاح من باب إطلاق المسبّب علی السَّبَب(4)، وفی هذا الاقتباس ومن هذه الصورة المجازیة نجد استنفاراً للهمم من أجل العدَّة المعنویة والمادیة تأهّباً للثورة علی الباطل.

وجاء فی خُطبة عبید الله المرّی: «أمَّا بعدُ، فإنَّ الله اصطفی محمَّداً صلّی الله علیه وآله وسلّم علی خَلْقِه بنبوَّتِه، وخَصَّه بالفضل کلّه، وأعزَّکم باتّباعه وأکرَمَکُم بالإیمان به، فَحَقَنَ به دماءَکم المسفوکَة، وأمَّن به سُبُلَکم المَخُوفة، « وَکُنْتُمْ عَلَی شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْهَا کَذَلِکَ یُبَیِّنُ اللَّهُ لَکُمْ آیَاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ » (5) »(6).

ففی قوله: (حقن به دماءَکم المسفوکة) مجازٌ عقلیٌّ(7) بإسناد الحقن إلی الدّماء، وأصل الحقن لحبس الشیء، قال ابن منظور: «حَقَنَ الش-یء یَحْقنه ویحقنه حقناً، فهو محقونٌ وحَقین: حَبَسه»(8).

ص: 200


1- الأنفال: الآیة60.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص554.
3- اُنظر: الزمخشری، محمود بن عمر، الکشاف عن حقائق غوامض التنزیل وعیون الأقاویل فی وجوه التأویل: ج2، ص232.
4- اُنظر: الحسینی، جعفر بن باقر، أسالیب المعانی فی القرآن: ص395.
5- آل عمران: الآیة103.
6- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص559.
7- اُنظر: الزمخشری، محمود بن عمر، أساس البلاغة: ج1، ص205، مادة(حقن).
8- ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج3، ص264، مادة (حقن).

فأراد الخطیب من هذا الإسناد المجازی لینبِّه السامع إلی فضل الرسول محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

بکونه منقذاً للبشریة من القتل والاقتتال، فهو بحقّ حاقن لدمائهم التی کانت تُسفک بین الحین والآخر، وهذا بحدّ ذاته تذکیر للمسلمین بِعظَم حقّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علیهم.

وکان فی الآیة التی ساقها الخطیب مقتبساً، استعمالٌ مجازیٌّ آخر « وَکُنْتُمْ عَلَی شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْهَا کَذَلِکَ یُبَیِّنُ اللَّهُ لَکُمْ آیَاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ » (1)، ففی لفظة (شفا) مجازٌ لغویٌّ بالاستعارة؛ لأنَّ العلاقة هنا علاقة مشابهة، یقول الشریف الرضی معلّقاً علی هذه الآیة: «وهذه استعارة؛ لأنَّه تعالی شبَّه المُشْفِی - بسوء عَمَله - علی دخول النار، بالمُشْفَی - لزلَّة قدمه - علی الوقوع فی النار»(2)، وفی هذا العدول الدلالی نجد الدلالة نفسها فی تقریر فضل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی هذه الأُمة التی کادت أنْ تَضِلَّ وتدخل النار بسبب سوء عملها، ولکن الله(سبحانه وتعالی) أنقذها بفضله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فالواجب احترام ذریته، وجعلهم فی مکانهم اللائق بهم، لا قتلهم والتنکیل بهم.

وجاء فی رسالة سلیمان بن صُرَد إلی سعد بن حذیفة: «ثمَّ سَلَبُوه وجرَّدوه ظُلْمَاً وعُدْوَاناً وغِرَّةً بالله وَجَهْلاً، وبِعینِ الله ما یَعْمَلون، وإلی الله ما یَرْجِعُون...»(3).

ففی لفظة (العین) مجازٌ لغویٌّ مُرسل علاقته تسمیة الکلّ باسم الجزء، وبه «یکون الجزء لا غنی عنه فی الدّلالة علی الکلّ، فصار ذلک الجزء کأنّه الشّیء کلّه»(4))، فلفظة العین جزء مِن الکلّ، وإنْ کانت العین الجارحة لا یجوز نسبتها إلی الله(سبحانه وتعالی)، لکنَّ المقصود بعین الله(سبحانه وتعالی) هنا ذاته، فعبَّر عن هذه الذات الکلیة بجزءٍ منها، ولأنَّ العین هی الجزء المهم من

ص: 201


1- آل عمران: الآیة103.
2- الشریف الرضی، محمد بن الحسین، تلخیص البیان فی مجازات القرآن: ص124.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص556. اُنظر: جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص114.
4- الزوبعی، طالب محمد، وحلاوی، ناصر، البلاغة العربیة: البیان والبدیع: ص73.

أجزاء البدن، وبها یَری الحقائق علی طبیعتها، ونسبتها کما قلنا مستحیلة علی الله(سبحانه وتعالی)، لکن المنشئ أراد أن یُعبّر عن معنی آخر وهو أنَّ أفعال هؤلاء الظالمین إنَّما هی بعین الله(سبحانه وتعالی)، ولا یخفی علیه شیء، فهو(سبحانه وتعالی) المُطَّلع علیها وعلی حقیقتها.

وجاء فی خُطبة سلیمان: «أیّها النَّاس، مَنْ کانَ إنَّما أخرَجَتْه إرادةُ وَجْهِ اللهِ وثوابِ الآخرة، فذلک مِنَّا ونَحْنُ مِنْه، فرَحْمَةُ الله علیه حیّاً ومَیْتاً، ومَن کانَ إنَّما یُریدُ الدّنیا وَحَرْثَها فَوالله ما نأتی فیئاً نَسْتَفِیؤه...»(1).

ففی قوله: (إنَّما أخرجته إرادةُ وجه الله)، فوجه الله تجوُّز، والمراد به ذاته(سبحانه وتعالی)، ولمَّا کان الوجه هو أشرف أجزاء البدن للدلالة علیه، فقد أُطلق مجازاً علی الذات المقدَّسة، جریاً علی عادة العرب فی الاستعمال، فالمجاز هنا مجازٌ لغویٌّ مرسلٌ علاقته الجزئیة بإطلاق اسم الجزء وإرادة الکلّ(2).

أمَّا قوله: (ومَن کان إنّما یُرید الدنیا وحَرْثَها) والحَرْثُ: هنا عدولٌ علی طریق الاستعارة، ولم یَقصد به الحرث الحقیقی الذی هو «العمل فی الأرض زرعاً کان أو غرساً»(3)، فقد استعار الخطیب کلمة (الحَرْث) لیُعبّر به عن کسبِ الدنیا ومتاعها، وقد وردت کلمة (الحرث) فی القرآن الکریم، ونقلت فیها الدلالة إلی صورة مجازیة جدیدة، قال(سبحانه وتعالی):«مَنْ کَانَ یُرِیدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِی حَرْثِهِ وَمَنْ کَانَ یُرِیدُ حَرْثَ الدُّنْیَا نُؤْتِهِ »(4)، قال الشریف الرضی: «والمُرادُ بحرثِ الآخرة والدُّنیا کَدْحُ الکادِحِ لثوابِ الآجلة وحُطام العاجلة، فهذا مِن التَّشبیه العجیب، والتَّمثیل

ص: 202


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص585.
2- اُنظر: الصغیر، محمد حسین، أُصول البیان العربی: رؤیة بلاغیة معاصرة: ص53.
3- ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج3، ص104، مادة (حرث).
4- الشوری: الآیة20.

المُصیب؛ لأنَّ الحارث المُزْدَرِع إنَّما یتوقَّع عاقبة حَرْثِه، فیجنی ثمرَ غِراسه، ویفوز بعوائد ازْدِراعِه»(1). ومن هنا کانت لفظة (الحرث) قد استثمرت فی الخُطبة استثماراً موفَّقاً؛ لأنَّ الخطیبَ قدْ حاکی فی ذلک أُسلوب القرآن وبلاغته.

وجاء کذلک فی رسالة عبد الله بن یزید إلی سلیمان بن صُرَد لقوله: «بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحیم، مِنْ عبدِ اللهِ بنِ یزیدَ إلی سلیمانَ بنِ صُرَد ومَنْ مَعَهُ مِنَ المسلمین، سلامٌ علیکُم، أمَّا بعدُ، فإنَّ کتابی هذا إلیکم کتابُ ناصحٍ ذی إرعاء، وَکَمْ مِنْ ناصحٍ مُسْتَغشّ، وکَمْ مِنْ غاشٍ مُسْتَنْصَحٍ مُحبّ، إنَّه بَلَغَنی أنَّکم تُریدونَ المسیرَ بالعَدَدِ الیَسِیْرِ إلی الجَمْعِ الکَثیر، وإنَّه مَنْ یُرِد أنْ یَنْقُلِ الجِبالَ عنْ مراتِبِها تَکِلُّ معاوِلُه، ویُنْزعُ وهو مذمومُ العقلِ والفعل... ومتی ما یُصیبکم عدوُّکم یعلموا أنَّکُم أعلامُ مِصْ-رِکم... یا قوم، إنَّ أیدینا وأیدیکُم الیوم واحدة، وإنَّ عدّونا وعدّوکم واحد، ومتی تجْتَمِع کلمتُنا نَظْهَر علی عدوّنا، ومَتَی تَخْتلف تَهُن شوکتُنا علی مَن خالَفَنا» (2).

ففی هذه الرسالة التی بعث بها عبد الله بن یزید إلی ابن صُرَد وأصحابه یتوسل إلیهم أنْ یرجعوا عمَّا یُریدون القیام به، قد زیَّنها بطائفة من الاستعمالات المجازیة لیجعل للفکر مساحة کافیة، لیتمحَّص ما فیها من عدولٍ، فقد جاء الاستعمال الأوَّل فی قوله: (إنَّه من یُرد أن ینقل الجبال عن مراتبها تکلّ معاوله) حیث أسند الفعل تکلّ إلی المعاول، وهو من المجاز العقلی علاقته الفاعلیة، فصاحب المعاول هو الذی یکلُّ ویتعب ولیست المعاول، وهذه صورة رائعة أراد بها المرسِل أنْ یقرّب الدلالات إلی أذهان التوّابین، أنَّهم أمام عدوٍ غاشمٍ کبیر العدد لا طاقة لهم علی مواجهته، وکان هذا

ص: 203


1- الشریف الرضی، محمد بن الحسین، تلخیص البیان فی مجازات القرآن: ص298.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص591.

القول لیس لتثبیط عزائمهم، وإنَّما کان بدافع الخوف علیهم من أذی أعدائهم.

أمَّا الاستعمال المجازی الآخر فنجده قائماً علی المجاز اللغوی المعتمد علی أساس المشابهة فی (الاستعارة)، وذلک فی قوله: (ومتی ما یصبکم عدوکم یعلموا أنَّکم أعلام مص-رکم) فلفظة (أعلام) مفردها (علم) وهو الجبل، فقد استعار هذه اللفظة لیُعبّر بها عن سیّد القوم وکبیرهم، والمعنی واضح أنَّ هؤلاء التوّابین إنّما کانوا أسیاداً وشرفاء فی قومهم، ولم یکونوا من عامتهم وأنَّ فی هذا تبجیلاً لهم وتعظیماً لحقهم.

وأمَّا قوله: (إنَّ أیدینا وأیدکم الیوم واحدة) فهو مجازٌ لغوی (استعارة) والمراد بها هنا القوَّة والتعاضُد(1)، فهو یُرید أنْ یقول: إنَّ قوَّتنا وقوَّتکم واحدة، وجاء بها علی لفظ مستعار، وقوله: (تهن شوکتنا علی مَن خالفنا)، والشوکة هنا بمعنی الحدَّة، وهو لفظٌ مستعارٌ من نبات الشوک(2)، وقال ابن منظور: «والشوکة: السلاح وقیل حِدَّة السلاح»(3).

إنَّ هذا الزخم الدلالی الناتج عن تتالی الاستعمالات المجازیة قد تمَّ بقصدیة المنشئ لبناء سیاقات نصّه، بما یحقق قیمة بلاغیة عالیة تعمل علی إثراء النص بیانیاً، وتُحقّق اختزالاً بدیعیاً فی أدائه.

وجاء کذلک فی خُطبة ابن صُرَد قوله: «لکنْ أنا ما أری ذلک لکم، إنَّ الذی قتل صاحبَکم، وعبَّأ الجنود إلیه، وقال: لا أمانَ له عندی دونَ أن یستسلم فاُمضی فیه حُکمی، هذا الفاسق ابن الفاسق ابنُ مرجانة، عبید الله بن زیاد، فسیروا إلی عدوّکم علی اسم الله،

ص: 204


1- اُنظر: الشریف الرضی، محمد بن الحسین، تلخیص البیان فی مجازات القرآن: ص281.
2- اُنظر: الزمخشری، محمود بن عمر، الکشاف عن حقائق غوامض التنزیل وعیون الأقاویل فی وجوه التأویل: ج2، ص199.
3- ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج7، ص240، مادة (شوک).

فإنْ یُظْهِرکم الله علیه رجونا أنْ یکونَ مَنْ بعده، أهون شوکة مِنْه...»(1).

ونجد فی هذا النص مجموعة من الاستعمالات المجازیة الاستعاریة التی اعتمدها الخطیب لیُضفی علی خُطبته طابعاً أُسلوبیاً ملاکه الخروج علی الدلالات المرکزیة إلی دلالات هامشیة أُخری.

ففی قوله: (هذا الفاسق ابن الفاسق)، إذ عبَّر بلفظة (الفاسق) عن العاصی والمذنب، وإنَّ هذه اللفظة تُقال أصلاً لانسلاخ الرطبة عن قش-رتها، وبعدها شهدت انحطاطاً دلالیاً، فصارت تطلق علی العاصی والمذنب الخارج عن حدود الله لعلاقة المشابهة(2)، فقد جاء فی القاموس المحیط: «والرطبة عن قش-رها خرجت کانفسقت. قیل: ومنه الفاسق لانسلاخه عن الخیر»(3).

إذاً هذه اللفظة شهدت توسّعاً دلالیاً من أطلاقها علی المحسوس (الرطبة) إلی المعقول: وهو الخروج عن حدود الله(سبحانه وتعالی)، ولکن هذا التوسّع قد حطَّ من دلالتها، وهنا استثمر الخطیب هذه الدلالة الجدیدة لیُعبّر بها انطباقاً علی ابن زیاد وفساده، وخروجه علی حدود الله(سبحانه وتعالی)، ولم یکتفِ الخطیب بهذا الوصف، بل عمد إلی استعمال الکنایة، فی قوله: (ابن مرجانة)، فهی صورة کنائیة وإن کانت مبنیَّة علی حقیقة نسب عبید الله بن زیاد إلی أُمّه مرجانة، ولکنَّ بناء الصورة علی الحقیقة فی هذا النص، یراد بها معنی آخر، وهذا ما یجعل المتلقی أکثر تنبهاً لما تحمله هذه الصورة الکنائیة عندما تکشف الجانب الخفی بفساد الأصل الذی ینتمی إلیه عبید الله وخسّته، فضلاً عن الازدواجیة فی التوظیف لهذه المفردة (مرجانة) «التی أطلقت العنان لخیال المتلقی أنْ یتصوَّر ما شاء من

ص: 205


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص586.
2- إبراهیم، رجب عبد الجواد، دراسات فی الدَّلالة والمعجم: ص111.
3- الفیروز آبادی، محمد بن یعقوب، القاموس المحیط: ج3، ص276، مادة (فسق).

التوجّهات الوصفیة بابن زیاد، ففتح الباب بأوسع مجالاته أمام حشد الأوصاف الدنیئة بابن زیاد»(1).

ویعود ابن صرد لیستعیر لفظة (الشوکة) لیُعبّر بها عن الحدَّة فی الوصف فی قوله: (رجونا أن یکون من بعده أهون شوکة منه). وبهذا یکون لاختیار العدول وظیفة فنیّة لإثراء الدلالة، وتحقیق القوة التعبیریة علی مستوی خصائص المعانی اللغویة، و«التعبیر عن المعانی المجرَّدة بالمعانی الحسیّة، وتنسیق عناصر الصورة وفق ذبذبات النفس الشعوریة، لا وفق واقعها العیانی المرصود»(2).

ویمضی سلیمان بن صُرَد مکثفاً من اختیار العدول فی خُطبه حتی یمکن حسبان ذلک میزة أُسلوبیة شائعة فیها، فقد جاء فی خُطبته وهو یصف الجهاد: «فإنّکم لنْ تتوسَّلوا إلی ربِکم بش-یءٍ هو أعظمُ ثواباً مِنَ الجهاد والصَّلاة، فإنَّ الجهاد سنامُ العملِ...» (3)، فقد استعار (سنام الجمل) لعلوّ مرتبته مضافاً إلی الجهاد، لیصفه بأنّه أعلی مراتب العمل(4)، وبهذا الوصف الرائع یحبّب الخطیب فرض الجهاد إلی النفوس ویزیّنه فیها لتقبل علیه غیر متردّدة.

وجاء فی آخر خُطبة له قبیل استشهاده محرضاً قومه علی القتال والجهاد: «أمَّا بعدُ، فقد أتاکم اللهُ بعدوّکم الذی دأبتم فی المسیر إلیه آناء اللیل والنَّهار، تُریدون فیما تُظهِرون التوبة النصوح... فإذا لقیتموهم فأصدقوهم، واصبروا إنَّ الله مع الصابرین، ولا یولّیهم امرؤٌ دبره إلّا متحرّفاً لقتال... لا تقتلوا مُدبِراً ولا تَجهزوا علی جریحٍ، ولا تقتلوا أسیراً مِنْ أهل دعوتِکم...»(5).

ص: 206


1- هنون، هادی بن سعدون، التصویر الفنی فی خطب المسیرة الحسینیة: ص84.
2- ناجی، مجید عبد الحمید، الأسس النفسیة لأسالیب البلاغة العربیة: ص271.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص588.
4- اُنظر: الشریف الرضی، محمد بن الحسین، المجازات النبویة: ص371 - ص375.
5- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص588.

فیکشف لنا هذا النص عن مدی مرونة استعمالاته حتی یخرج فیها عن المألوف فی الکلام لکی یحقّق عدولاً أُسلوبیاً، فلفظة (النصوح) استعارة؛ لأنَّها من أسماء المبالغة، و«یقال: رجلٌ نصوحٌ، إذا کان کثیر النُصح لمَن یستنصحه، وذلک غیر متأتٍّ فی صفة التوبة علی الحقیقة»(1)، والمراد أنَّه لما کانت التوبة من التوّابین بالغة غایة البلوغ فی تلافی ذلک الذنب الذی صدر عنهم، «کأنَّها بالغةٌ غایة الاجتهاد فی نُصح صاحبها، ودلالته علی طریق النجاة بها، فحسن أن تُسمَّی (نصوحاً) من هذا الوجه»(2).

وهذا الوصف کان دقیقاً؛ لذا تأثَّر الخطیب بأُسلوب القرآن الکریم لقوله(سبحانه وتعالی): «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَی اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَی رَبُّکُمْ أَنْ یُکَفِّرَ عَنْکُمْ سَیِّئَاتِکُمْ » (3) لیدلّل علی عمق توبتهم من عظیم ذنبهم حینما ترکوا الإمام الحسین(علیه السّلام) وهو یواجه مصیره وحیداً.

وقد آثر محاکاة الأُسلوب القرآنی مرَّةً أُخری فی نصّه حین قال: (ولا یولّیهم امرؤ دبره إلّا متحرفاً لقتال)، وتولی الأدبار کنایة عن الفِرار فی المعرکة(4)، فأراد بهذا العدول أنْ یوجِّه قومه ویثبِّت من عزائمهم، ویطلب منهم أن لا یفرّوا من ساحة القتال إلّا لمش-روعیة ذلک فی الاستثناء القرآنی، ونجد فی قوله: (لا تجهزوا علی جریح، ولا تقتلوا أسیراً من أهل دعوتکم) مجازاً عقلیاً علاقته المفعولیة، والمراد بالجریح (المجروح)، وبالأسیر (المأسور)، وقد مرَّ بالبحث أنَّ اختیار صیغة (فعیل) لها قیمتها الأُسلوبیة فی التعبیر، وهو المبالغة فی الوصف الموضوع فی الکلام.

ص: 207


1- الشریف الرضی، محمد بن الحسین، تلخیص البیان فی مجازات القرآن: ص337.
2- المصدر السابق: ص337.
3- التحریم: الآیة8.
4- اُنظر: الفحام، عباس، الأثر القرآنی فی نهج البلاغة: دراسة فی الشکل والمضمون: ص59.

وقد جاء فی خُطبة المختار بن أبی عبید الثقفی التی ألقاها بعد هرب ابن مطیع:«فَسَمِعْنا دعوةَ الداعی، ومقالّة الواعی، فکم مِنْ ناعٍ وناعیَة، لَقَتْلَی فی الواعیَة! وبُعداً لِمَنْ طَغَی... فلا والَّذی جعل السماءَ سَقْفَاً مَکْفُوفاً، والأرض فجَاجاً سُبُلاً، ما بایعتم بعد بیعة علی بن أبی طالب وآلِ علی أهدی مِنها»(1)، عدولان آثر المختار أن یودعهما فیه: الأوّل کان مجازاً لغویاً علاقته السببیة فی قوله: (فکم من ناعٍ وناعیة لقتلی فی الواعیة)، فقوله: (لقتلی فی الواعیة)، والواعیة هی الصراخ علی المیت ونعیه، والمعنی کم من ناعٍ وناعیة لأُناس قد قتلوا بسبب نَعیِهِم وصراخهم علی قَتْلِ الحسین(علیه السّلام) وأصحابه، فالصراخ (الواعیة) کان سبباً فی قتل هؤلاء الناس من قِبل أعداء الحسین(علیه السّلام)، وکان غرض المختار من هذا العدول أن یستثیر الناس، ویحرّک مشاعرهم للطلب بثأر الإمام من أعداء الله الذین لم یکتفوا بما اقترفوه من قتله وأهل بیته، بل تعدَّی إلی قتل مَنْ نَعَی هؤلاء الشهداء وبَکَاهُم.

أمَّا العدول الدلالی الآخر فنجده، فی قوله: (فلا والذی جعل السماء سقفاً مکفوفاً) وهو مجاز عقلی علاقته الفاعلیة، والمعنی: لا والذی جعل السماء سقفاً کافَّاً. وهذا العدول بحدّ ذاته محاکاة لقوله(سبحانه وتعالی): «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آیَاتِهَا مُعْرِضُونَ » (2)، والمعنی سقفاً حافظاً.

إنَّ هذه القدرة علی ابتداع الصور المختلفة عن طریق الاستعمالات المجازیة المتنوعة، دلیلٌ کبیرٌ علی تمکّن المنشئ مِن اللغة، واستثماره دلالاتها الهامشیة التی تزید من سعة المجال لخیالاته ورؤاه، فهو یُضفی علی الأشیاء المألوفة دلالات ومعانی جدیدة(3).

ص: 208


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص32.
2- الأنبیاء: الآیة32.
3- اُنظر: ناجی، مجید عبد الحمید، الأسس النفسیة لأسالیب البلاغة العربیة: ص203 - ص206.

وجاء کذلک فی خُطبة المختار الثقفی وقد استنصره ابن الحنفیة عندما زجه عبد الله ابن الزبیر فی السجن لقوله: «هذا کتابُ مهدیّکم وصَریحُ أهلِ بیتِ نَبیّکم، وقدْ تُرِکُوا محظوراً علیهم کما یُحظر علی الغَنَم ینتَظرون القتلَ والتحریق بالنار فی آناء اللیل وتارات النهار، ولَسْتُ أبا إسحاق إنْ لم أنصرْهُم نَصْرَاً مؤزَّراً، وإنْ لم أُسَرّب إلیهم الخیلَ فی أثَرِ الخیلِ، کالسیلِ یتلوهُ السیل، حتَّی یَحُلّ بابنِ الکاهلیّة الویل»(1).

یتَّضح فی هذا النص عدولٌ متنوِّعٌ، أوَّله قوله وهو یصف ابن الحنفیة وأصحابه: (وقد تُرِکُوا محظوراً علیهم کما یُحظر علی الغنم)، فقد صوّر حبسهم من قِبل ابن الزبیر أروع تصویر من خلال اعتماده علی فن التشبیه، فقد شبَّه حبسهم هذا بحبس الغنم من صاحبها؛ وذلک لأنَّ المشبه به، وهو الغنم تکون لیّنة سهلة الانقیاد لصاحبها، وهو بهذا یصف ضعف محمد بن الحنفیة وأصحابه، وعجزهم عن الإفلات من هذا السجن، وکذلک یحاول المختار من خلال هذا التشبیه أن یثیر إحساس السامع، ویحرّک مشاعره من خلال المبالغة فی المعنی الذی حمله التشبیه(2).

والعدول الآخر نجده، فی قوله: (وإنْ لم أُسرّب الخیل فی أثر الخیل) فتس-ریب الخیل من المجاز العقلی؛ لأنَّ السرب یکون لجریان الماء ونحوه: «وسَرَب الماء: جری علی وجه الأرض، وهذا مسَرَبُ الماء»(3)، فقد أسند الفعل سَرَّب إلی الخیل مجازاً، قال الزمخش-ری (ت 538ه-): «ومن المجاز سَرَّب علی الخیل والإبل: أرسلها سُرَباً»(4)، وأراد المختار من هذا الاستعمال المجازی أن یصف الخیل التی سیعدها لیُخلّص محمد بن

ص: 209


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص76.
2- اُنظر: جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص106.
3- الزمخشری، محمود بن عمر، أساس البلاغة: ج1، ص447، مادة (سرب).
4- المصدر السابق: ص448، مادة (سرب).

الحنفیة، بأنَّها متسرّبة متدفّقة کما یتدفَّق الماء، ویعضد هذه الصورة بصورةٍ مجازیةٍ أُخری، اعتمد فیها علی التشبیه فی قوله یصف تلک الخیل: (کالسیل یتلوه السیل)، فقد شبَّه الخیل - علاوة علی تسرّبها - بالسیل العَرِم الذی یجتاحُ کلّ شیءٍ أمامه، ولم یکن سیلاً واحداً، بل متلوّاً بسیلٍ آخر لیزیدَ من شدَّة الوصف، ففی التشبیه تتکامل الصورة وتتدافع المشاهد(1)؛ لأنَّهُ «محاولة بلاغیة جادَّة لصقل الشکل وتطویر اللفظ، ومهمَّته تقریب المعنی إلی الذهن بتجسیده حیّاً، ومن ثَمَّ فهو ینقل اللفظ من صورة إلی صورة أُخری علی النحو الذی یُریده المُصَوّر»(2)، وأمَّا قوله: (حتی یحلّ بابن الکاهلیة الویل)، وابن الکاهلیة هو عبد الله بن الزبیر، والکاهلیة أُمّ أبی جدّه، وهذا وإن کان جاریاً علی الاستعمال الحقیقی، إلّا أنَّه جاء کنایةً عن البُخل الذی امتاز به عبد الله بن الزبیر(3)، وممَّا لا ریب فیه أنَّ هذا التعبیر الکنائی یرفع من قیمة المعنی المراد الذی یرمی إلیه المنشئ، ویعمل علی توکیده وتفخیمه فی نفس السامع فیُضفی علیه جمالاً وقوَّة(4).

ومن هنا؛ فإنَّ اختیار المجاز بأنواعه المتفرّقة والتَّفنن فیها خلق عدولاً أو انزیاحاً عن المألوف ممَّا أوجد سمةً أُسلوبیةً واضحةً تمیَّز بها النص.

ص: 210


1- اُنظر: الصغیر، محمد حسین، أُصول البیان العربی: رؤیة بلاغیة معاصرة: ص64.
2- المصدر السابق: ص63.
3- یُروی أنَّ ابن الزبیر کان أبخل الناس، وکان قد عیّره بابن الکاهلیة رجل من أسد بعد أن سأله مالاً فلم یعطه، فقال فیه شعراً یعیّره بابن الکاهلیة، فلمّا بلغ ذلک ابن الزبیر، قال: علم أنّها شرّ أمهاتی فعیّرنی بها. اُنظر: أبو الفرج الأصفهانی، علی بن الحسین، الأغانی: ج1، ص24 - ص25.
4- اُنظر: ابن وهب، إسحاق، البرهان فی وجوه البیان: ص133. فیود، بسیونی بن عبد الفتاح، علم البیان: دراسة تحلیلیة لمسائل البیان: ص244.

الفصل الرابع: دلالات المستوی التَّرکیبی وخصائصه

اشارة

ص: 211

ص: 212

مدخل

یُعدُّ المستوی الترکیبی من المستویات المهمّة فی التحلیل الأُسلوبی؛ لأنّه أحد المستویات التی تذهب إلیها الأُسلوبیة، وفیه یتمُّ دراسة ترکیب الجملة (1)، إذ إنَّ بناء الجملة فی النص أو بناء النص فی ضوء الجملة هو الدافع الأساس لبناء نسق أُسلوبی ترکیبی لنص معیَّن أو لکاتب معین(2).

والجملة: هی الأساس الذی تقوم علیها الدراسة النحویة؛ لذلک حظیت بعنایة وافرة من النحاة العرب، فدرسوا أنماطها وصورها وما تؤدیه من إفادة للمتکلّم أو السامع(3)، فعرّفها ابن هشام (ت761ه-) بأنَّها: «عبارة عن الفعل وفاعله، ک-(قام زید)، والمبتدأ وخبره، ک-(زید قائم)، وما کان بمنزلة أحدهما نحو (ضُرِبَ اللِّص)، و(أقائم الزیدان)، و(کان زید قائماً)، و(ظننته قائما)»(4). وعلی هذا فإنَّ الجملة لا بدَّ أنْ تتشکل علی وفق مفهوم الإسناد المفید لمعنی (5)، وعلیه فالجملة فی خالص أمرها هی کلّ کلام

ص: 213


1- اُنظر: الدسوقی، محمد، البنیة اللغویة فی النص الشعری: درس تطبیقی فی ضوء علم الأُسلوب: ص6.
2- ظ: المسعودی، زینة عبد الجبار، الرسائل الفنیة فی العصر العباسی: حتی نهایة القرن الرابع الهجری: ص101.
3- اُنظر: المبرّد، محمد بن یزید، المقتضب: ج1، ص141ومابعدها. ابن جنی، عثمان، الخصائص: ج1، ص17. اللمع فی العربیة: ص81.
4- ابن هشام، عبد الله بن یوسف، مغنی اللبیب عن کتب الأعاریب: ج2، ص490. اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص9.
5- اُنظر: السامرائی، فاضل صالح، الجملة العربیة والمعنی: ص7.

مقصود لذاته مفید لمعناه، أنْ تحصل منه الفائدة ویدلّ علی معنی(1)، أمّا فی الدرس العربی الحدیث فقد کان لدراسة الجملة عنایة ملحوظة من الدارسین، وهم یحاولون الإفادة فی دراستها ممّا توصَّل إلیه علم اللغة الحدیث(2)، ویطالعنا الدکتور إبراهیم أنیس فی تعریفه للجملة بأنّها: «أقلُّ قدرٍ من الکلام یُفید السامع معنًی مستقلاً بنفسه، سواء ترکّب هذا القدر من کلمة واحدة أو أکثر»(3)، وإلّا فلا تُسمّی جملةً مفیدةً، ولا ینطبق علیها تعریف الکلام، فالمهم فی الجملة هو إفادة الترکیب معنًی مستقلاً، لیعد هذا الترکیب جملةً لغویةً.

والذی یُعنی البحث أنَّ التحلیل الأُسلوبی یتَّجه إلی ترکیب الجملة وترتیب عناصرها(4)، فاللغة العربیة من بین سائر اللغات تمتاز بمرونة واسعة فی بناء الجملة، وفی تشکیل عناصرها وترتیبها، «فالجملة الصغیرة المکونة من الحدّ الأدنی (المسند، والمسند إلیه) علی قیمة الانزیاح اللغوی فیها، تبقی ذات عناصر أوّلیة مکونة للجملة البلاغیة فی حال التقدیم والتأخیر، والحذف والذکر، والفصل والوصل»(5).

ویتَّجه التحلیل الأُسلوبی إلی دراسة الأسالیب اللغویة المختلفة(6)، التی تعتمد علی

ص: 214


1- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج1، ص72. الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح کافیة ابن الحاجب: ج1، ص32.
2- اُنظر: أنیس، إبراهیم، من أسرار اللغة: ص235 وما بعدها. الجواری، أحمد عبد الستار، نحو الفعل: ص17- ص22.
3- المصدر السابق: ص236.
4- اُنظر: فضل، صلاح، علم الأسلوب وصلته بعلم اللغة: ص56. سلیمان، فتح الله أحمد، الأُسلوبیَّة: مدخل نظری ودراسة تطبیقیَّة: ص43.
5- جاب الله، أُسامة عبد العزیز، جمالیات التلوین الصوتی فی القرآن الکریم: ص306.
6- اُنظر: عیاد، محمد، الأُسلوبیة الحدیثة: محاولة تعریف: ص123. أبو العدوس، یوسف، الأُسلوبیة: الرؤیة والتطبیق: ص51.

وجود الصیغة اللغویة أو الأداة فی صدر الجملة فی الغالب، والمعتمدة علی أنماطها من حیث هی خبریة أو إنشائیة.

وسیتناول البحث فی هذا الفصل التحلیل اللغوی والبلاغی للأسالیب والبُنی الترکیبیة - بحسب ما ورد منها فی نصوص الحِقبتین - من منطلق أنَّ الأُسلوبیة ممارسة علمیة تستعین فی تحلیلها للنص الأدبی بتقنیات منهجیة، مستمدة من علوم ومناهج مختلفة، منها: علم اللغة، وعلم البلاغة، وغیرها(1).

وجاء هذا الفصل علی مبحثین: درَسَ الأوَّل الأنماط البنائیة للأسالیب اللغویة، فقسّمها علی أسالیب خبریة وإنشائیة، وأسالیب جمعت بین الخبریة والإنشائیة، کالشرط والقسم. أمَّا المبحث الثانی، فقد تناول الخصائص المعنویة للتراکیب کالفصل والوصل، والتقدیم والتأخیر، وغیرهما.

ص: 215


1- اُنظر: حسین، تومان غازی، سورة الشعراء: دراسة أُسلوبیة: ص2.

ص: 216

المبحث الأوَّل :الأنماط البنائیَّة للأسالیب اللغویَّة

اشارة

یقصد بالأُسلوب اللغویّ: هو ما یتمیَّز بسمتین هما:

1- وجود أداة أو صیغة لغویة تتصدَّر الجملة غالباً، إذ یدلُّ وجودها علی نوع ذلک الأُسلوب من توکید، أو أمر، أو استفهام، أو شرط... وقد تُحذف هذه الأداة أحیاناً، فیدلّ علیها السیاق.

2- وجود شحنة نفسیة أو انفعالیة تتطلَّبها مناسبات القول(1).

وتُعنی الأُسلوبیة بدراسة الأسالیب اللغویة وطرائق تشکّلها (2)؛ إذ إنّ النثر الفنّی یعتمد علی ما یستعمله الناثر من أسالیب لغویة متنوعة، یستطیع من خلالها بناء عبارات متماسکة أُسلوبیاً.

وقد وجّه بعض اللغویّین المُحدَثین جلّ اهتمامهم لدراسة الأسالیب اللغویة بحساب أنَّ دراستها لا غنی عنها فی دراسة أیّ لغة، کأُسلوب الاستفهام والنفی، وأُسلوب التوکید وغیرها(3).

ص: 217


1- اُنظر: جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص209.
2- اُنظر: المسدی، عبد السلام، الأُسلوبیة والنقد الأدبی: منتخبات من تعریف الأُسلوب وعلم الأُسلوب: ص39. أبو العدوس، یوسف، الأُسلوبیة: الرؤیة والتطبیق: ص51.
3- اُنظر: أبو جناح، صاحب، الدراسات الأُسلوبیة عند المخزومی، ضمن کتاب دراسات فی نظریة النحو العربی وتطبیقاتها: ص351.

إنَّ لکلّ أُسلوب لغوی دلالته الخاصَّة به، وقد تخرج هذه الدلالة فی بعض الأسالیب إلی دلالات أسالیب أُخر، فتصبح حینئذٍ سمة أُسلوبیة خاصَّة، کخروج أُسلوب الأمر إلی معنی الدعاء أو التعجب أو الإنکار، وخروج أُسلوب الأمر إلی النفی وغیرها، وقد عنی الدرس البلاغی بهذا التحوّل الدلالی تأکیداً منه «علی مرونة الأُسلوب، وعلی ارتباطه بالشحنة الانفعالیة والشُّعوریة التی تقتضیها مناسبات القول»(1).

ولم تکن مسألة خروج الأسالیب عن دلالتها مقتصرة علی الدرس البلاغی فحسب، بل إنَّنا نجد بعض اللغویین القدماء - کابن جنّی - یُخصّص فصلاً مستقلاً یتحدّث فیه عن ظاهرة تحوّل الأسالیب من أُسلوب إلی آخر مغایر له، إذ تناول فیه تحوّل أُسلوب الاستفهام إلی أُسلوب التعجُّب، ثمَّ إلی أُسلوب الخبر(2).

وسوف یتناول البحث دلالة بعض الأسالیب اللغویة الحقیقیة، وما قد یخرج منها إلی دلالات هامشیة، کما یمضی فی تقسیم هذه الأسالیب اللغویة إلی أسالیب خبریة أو إنشائیة، تبعاً للقصد الذی تحمله الجملة فی ذلک الأُسلوب.

أوَّلاً: الأسالیب الخبریة

اشارة

عرّف أبو العباس المبرّد (ت285ه-) الخبر بأنَّه: «ما جاز علی قائله التصدیق والتکذیب»(3)، وعرَّفه السکّاکی (ت626ه-) بالطریقة ذاتها بأنَّه: «الکلام المحتمل للصدق والکذب، أو التصدیق والتکذیب»(4) أی: إنَّ جملة الخبر تحمل جانب حکایة عن

ص: 218


1- جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص210.
2- اُنظر: ابن جنی، عثمان، الخصائص: ج3، ص269. أبو جناح، صاحب، المباحث الأُسلوبیة عند ابن جنی، ضمن کتاب دراسات فی نظریة النحو العربی وتطبیقاتها: ص300.
3- اُنظر: المبرّد، محمد بن یزید، المقتضب: ج3، ص89.
4- السکاکی، یوسف بن محمد، مفتاح العلوم: ص164. اُنظر: مطلوب، أحمد، البلاغة عند السکاکی: ص305.

الواقع، فإنْ طابق هذا الواقع فتکون الجملة صادقة، وإنْ لم تطابقه فتکون جملةً کاذبةً(1).

وقد عدّ عبد القاهر الجرجانی الخبر بأنَّه الأصل فی معانی الکلام قائلاً: «اعلم أنَّ معانی الکلام کلّها معانٍ لا تُتَصَوّر إلّا فیما بین شیئین، والأصل والأوَّل هو (الخبر)»(2) ؛ وذلک لأنَّه: «یُتَصَوَّر بالصور الکثیرة، وتقع فیها الصناعات العجیبة، وفیه یکون فی الأمر الأعمّ، المزایا التی بها یقع التفاضل فی الفصاحة»(3).

وللخبر فائدته الدلالیة فی الکلام، وهی إفادة المتلقّی الحکم الذی تتضمَّنه الجملة أو الکلام(4).

ویتمیَّز الأُسلوب اللغوی کما مرَّ سابقاً بوجود أداة أو صیغة لغویة تتصدَّر الجملة، فإنْ تصدَّرت تلک الأداة الجملة الخبریة کان الأُسلوب خبریاً یحتمل الصدق أو الکذب بحسب تطابقه مع الواقع الخارجی الذی یطابقه، وسوف یتناول البحث بعض تلک الأسالیب الخبریة التی وردت بحسب کثرتها فی خُطب ورسائل الحِقبتین.

1- أُسلوب النّفی

النّفی: «أُسلوب لغویٌ تحّدده مناسبات القول، وهو أُسلوب نقض وإنکار، یُستخدم لدفع ما یتردّد فی ذهن المخاطب»(5)، ویکون فی الغالب بصیغة تُشْعِر بهذا النفی(6)، وهذه الأدوات هی: لیس، ولم، ولمّا، وما، ولا، ولن(7). ولکلّ أداة منها «فروقٌ تُبرّر وضع

ص: 219


1- اُنظر: المصدر السابق. الدسوقی، محمد بن أحمد، حاشیة الدسوقی علی مختصر السعد: ج1، ص63.
2- الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص526.
3- المصدر السابق: ص528.
4- اُنظر: المغیلی، محمد بن عبد الکریم، شرح التبیان فی علم البیان: ص203.
5- المخزومی، مهدی، فی النحو العربی: نقد وتوجیه: ص265.
6- اُنظر: عمایرة، خلیل أحمد، فی التحلیل اللغوی: منهج وصفی تحلیلی: ص154.
7- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج5، ص31. حسّان، تمام، اللغة العربیّة معناها ومبناها: ص247.

الواضع لها دون غیرها لتحدید ما تتضمَّنه من توجیه دلالی للأقوال. فلئن کانت تشترک فی دلالتها العامّة علی قوة النفی، فإنَّها تختزن ما یحتاج إلیه المتکلِّم من طرق للتعبیر عن المقامات المختلفة عند الاستعمال»(1)، وقد ورد أُسلوب النفی فی خُطب ورسائل الحِقبتین بصورةٍ واسعةٍ لمِا له من أغراض أُسلوبیة فی الکلام، وهو «إخراج الحکم فی ترکیبٍ لغویٍّ مثبت إلی ضدّه، وتحویل معنی ذهنی فیه الإیجاب والقبول إلی حکم یخالفه»(2)، وهذا ما سنراه فی الأمثلة.

جاء فی خُطبة المسیّب بن نجبة الفزاری قوله: «لا نَحْنُ نَصَرْناهُ بأیْدِینا، ولا جَادَلْنا عنه بألسِنَتِنا، ولا قوَّیْناه بأموالِنا، ولا طَلَبنا لهُ النصرةَ إلی عَشائِرنا، فما عُذْرُنا إلی رَبِنا، وعند لقاء نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وقَدْ قُتِلَ فِینا وَلَدُهُ وحَبِیْبُه وذُریته ونَسْلُه، لا والله لا عُذْرَ دونَ أنْ تَقْتلُوا قاتِلَهُ والموالین علیهِ، أو تُقْتَلُوا فی طَلَبِ ذلک»(3).

فالخطیب یُفصح عن الوضع المأساوی المتخاذل الذی کان علیه التوّابون وقت طلب الحسین(علیه السّلام) النصرة من الناس، وهنا ینفی الخطیب نفیاً قاطعاً نصر الحسین(علیه السّلام)، أو تقویته، أو حثّ العشائر علی نصرته، فهم أسلموه فی وقت المحنة إلی عدوّه.

وکان الخطیب قد استعمل أُسلوب النفی بالأداة (لا) التی تُفید نفی ما بعدها نفیاً شاملاً وعامّاً(4)، کما أنّها لخفّتها وسهولة نطقها قد سوّغ تکرارها فی الکلام، فهی مکوّنة من (اللام) فی بدایتها وهو عماد دلالتها علی النفی(5)، و«اللام: أحد أصوات الذلاقة، ومخرج أصوات الذلاقة - وهی أیسر الأصوات نطقاً وأخفها علی اللسان - من ذلق اللسان،

ص: 220


1- المبخوت، شکری، إنشاء النفی: وشروطه النحویة والدلالیة: ص117.
2- عمایرة، خلیل أحمد، فی التحلیل اللغوی: منهج وصفی تحلیلی: ص154.
3- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص59.
4- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج5، ص33.
5- اُنظر: المخزومی، مهدی، فی النحو العربی: نقد وتوجیه: ص267.

وهو طرفه الحاد، وذلق اللسان أکثر عَضَلِ النطق حرکة، وأشدّها سرعة، وأوفاها مرونة»(1)، فضلاً عن ذلک کان تکرارها یُفید توکید النفی وإثباته، وإعادة الصورة السلبیة المتخاذلة.

ویعود الخطیب لاستعمال النفی فی قوله: (لا عذر)، فهو ینفی أنْ یکون هناک عذرٌ فی القعود عن الأخذ بثأره، وقد استعمل هذه المرّة أداة النفی (لا) النافیة للجنس التی تُفید نفی الجنس نفیاً مستغرقاً وعاماً(2)، فهو ینفی أیّ نوع من أنواع العُذر لتسویغ هذا القعود عن الجهاد، والسکوت عن الظلم والظالمین، إلّا أنْ یأخذوا بثأر إمامهم(علیه السّلام) من قاتلیه، فالخطیب فی مقام المحفّز والمستنهض لهِمم هؤلاء الثائرین.

وجاء کذلک هذا الأُسلوب فی رسالة المختار إلی محمد بن الحنفیة: «وَقَدْ قَتَلْنا مَنْ شَرِکَ فی دمِ الحسینِ وأهلِ بیته - رحمةُ الله علیْهم - کلَّ مَنْ قَدَرْنا علیْه، ولَنْ یُعْجِزَ اللهَ مَنْ بَقِی، ولَسْتُ بِمُنْجِم عَنْهُمْ حتّی لا یَبْلُغَنی أنَّ علی أدیمِ الأرضِ مِنهم إرَمِیّاً...»(3).

فقد اتکأ المختار علی أُسلوب النّفی فی توعّده هذا من قتل قاتلی الإمام الحسین(علیه السّلام) وأهل بیته وأصحابه(رضی الله عنهم)، إذ استعمل النفی ب-(لن) فی قوله: (ولن یعجز الله مَن بقی)، و(لن) تُفید نفی المستقبل(4) نفیاً مؤکّداً(5)، وهی فی النّفی مثل (لا) غیر أنّها أبلغ وأوکَد فی النّفی (6)؛ لأنَّ فیها تشدیداً علی النّفی، ومِنْ هنا ندرک المیزة الأُسلوبیة فی اختیارها فی

ص: 221


1- اُنظر: المصدر السابق: ص267.
2- اُنظر: المرادی، حسن بن القاسم، الجنی الدانی فی حروف المعانی: ص300.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص62.
4- اُنظر: سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج1، ص135. الرمانی، علی بن عیسی، کتاب معانی الحروف: ص112.
5- اُنظر: الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح کافیّة ابن الحاجب: ج4، ص36.
6- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج5، ص37.

هذا المقام، فالمختار یؤکد ویُشدّد علی أنّ الله(سبحانه وتعالی) لن یعجزه ما بقی من هؤلاء، وذلک بأخذهم أخذ عزیز مقتدر، ثمّ یعود فیستعمل النفی ب-(لیس)، وقد أوردها هذه المرّة متعلّقة به فی قوله: (ولست بمنجم عنهم)، وهی تُفید نفی الحال(1)، أو تَرِد لمطلق النفی علی ما تقتضیه قرائن الأحوال، فترد لنفی الماضی، والحال، والاستقبال(2)، فالمختار أراد أن یقول: إنّی لستُ بمقلع عن تتبع قتلة الإمام الحسین(علیه السّلام) لا فی الماضی، ولا فی الحاضر، ولا فی المستقبل، وهذا فی غایة التأکید والإصرار.

وعلیه؛ فالنص المتقدّم أفصح عن اختیار واضح للأدوات اللغویة علی وفق المقتض-ی بما أظهر ملمحاً أُسلوبیاً مقصوداً، فاسحاً المجال للمتلقّی من فحصها وتدبّرها، وهذا ینمُّ عن قدرة المنشئ وتمکّنه من لغته بمهارته فی استعمال دقائقها.

وجاء أُسلوب النفی أیضاً فی رسالة محمد بن الحنفیة إلی الشیعة بالکوفة فی قوله: «مِنْ مُحَمَّد بن علی إلی مَنْ بالکوفةِ مِنْ شِیْعَتِنا، أمَّا بعدُ، فاخرُجوا إلی المَجالسِ والمَساجد، فاذکرُوا الله علانیَة وسِرّاً... فإنَّهُ لیسَ أحدٌ مِنَ الخَلْقِ یَمْلِکُ لأحدٍ ضُرّاً ولا نَفْعاً إلّا مَا شَاءَ الله، وکلّ نفسٍ بما کَسَبَتْ رَهِیْنَة، ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَی...»(3).

فنجد أنّ المنشئ قد اعتمد أُسلوب النّفی فی مواضع من رسالته، لیُفهم السامع المقاصد الأُسلوبیة من ورائه، لا سیّما وأنّ المنشئ کان فی مقام الواعظ الموصّی، وقد آثر أنْ یختار أداة النفی (لیس) فی هذا المقام بقوله: (لیس أحدٌ یملک لأحد ضُراً ولا نَفعاً إلّا ما شاء الله)، ودلَّت (لیس) علی مطلق النّفی علی ما یقتضیه السیاق، فالمنشئ أراد أنْ

ص: 222


1- اُنظر: ابن هشام، عبد الله بن یوسف، مغنی اللبیب عن کتب الأعاریب: ج1، ص386.
2- اُنظر: المرادی، حسن بن القاسم، الجنی الدانی فی حروف المعانی: ص463.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص103- ص 104. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص139.

یُفهِمَ السامع أنَّه لا یوجد أحدٌ علی الإطلاق یستطیع أنْ یملک ضرّاً أو نفعاً إلّا الله سبحانه وتعالی، ومن الملاحظ أنَّ الخطیب قد جاء باسم (لیس) نکرة، وهو (أحدٌ) وفی هذا غرض أُسلوبی آخر، وهو نفی الشمول والعموم، یقول الدکتور تمام حسان: «فإذا وقعت النکرة فی سیاق النّفی کانت إفادتها التعمیم أشدَّ وأشمل»(1)، وقد اقترن وجود الاسم النکرة المنفی مع (لیس) لکی تُفید النّفی (التأبیدی).

ثمَّ یُکرّر المنشئ من أُسلوب النّفی، مستعملاً (لا) النافیة فی قوله: (لا تزرُ وازرة وزر أُخری)(2)، و(لا) النافیة تُفید نفی الشیء نفیاً شاملاً کنفی الجنس، کما مرَّ سابقاً، وجاء نفیاً مقترناً بوجود النکرة فی سیاق النفی وهی (وازرة)، وقد أفاد وجودها فی هذا الموضع العموم والشمول، فالخطیب إنّما یُرید أن یُفهم السامع بأنّه لا توجد نفس تحمل إثم نفس أُخری علی الإطلاق، فیجب علیکم أن تلزموا أنفسکم وتصونوها عن الآثام والذنوب.

وهکذا یرد أُسلوب النفی بمختلف أدواته فی هذه النصوص مفعماً بالمقاصد الأُسلوبیة التی یتوخاها المنشئون فی هاتین الحِقبتین.

2- أُسلوب القصْر

لقد عنی النحاة والبلاغیون بموضوع القص-ْر، فعرّفه السیوطی (ت911ه-) بأنَّه: «تخصیص أمرٍ بآخر بطریق مخصوص»(3)، وجاء فی شروح التلخیص بأنّه: «تخصیص شیء بش-یء بطریق مخصوص»(4)، وعرَّفه المُحدَثون بنفس الطریقة المذکورة(5)، لذا تکون دلالته «متقاربة عند النحاة والبلاغیین، ومتناسبة بین القدامی والمُحدَثین»(6).

ص: 223


1- حسّان، تمام، البیان فی روائع القرآن: دراسة لغویّة وأُسلوبیة: ج2، ص127.
2- قوله هذا اقتباساً من الآیة 18من سورة فاطر.
3- السیوطی، عبد الرحمن، الإتقان فی علوم القرآن: ج3، ص116.
4- شروح التلخیص: ج2، ص166.
5- اُنظر: الجندی، درویش، علم المعانی: ص127.
6- العوادی، مشکور کاظم، البحث الدلالی فی تفسیر المیزان: دراسة فی تحلیل النص: ص253.

ویُقسَّم القصر بحسب حیثیات کثیرة، فمِن حیث الحقیقة والواقع یُقسم إلی قسمین هما: قص-ر حقیقی، وقصر إضافی، ومن حیث حال المخاطب یُقسم إلی ثلاثة أقسام هی: قص-ر إفراد، وقصر قلب، وقصر تعیین(1)، ویُقسم من حیث طرفاه إلی نوعین هما: قص-ر موصوف علی صفة، وقصر صفة علی موصوف(2).

إنَّ الذی یهمُّ البحث أنَّ القصر یؤدی وظیفته الأُسلوبیة، وهی توکید الکلام وتثبیته، فقد ذهب الدکتور إبراهیم أنیس إلی أنَّ الغایة من أُسلوب القصر: هو تمکین الکلام وتقریره فی ذهن السامع(3)، وقد عدّ الدکتور المخزومی القصر من «أقوی طرائق التوکید، وأدلّها علی تثبیت ما یُراد تثبیته أو تقریره»(4).

والقصر کأیّ أُسلوب لغوی له أدواته الخاصّة التی یؤدَّی بها، وقد ذکرها البلاغیون فی کتبهم، وسوف یتناول البحث أهمّ تلک الأدوات من خلال الأمثلة.

من ذلک، فقد جاء فی خُطبة صُخَیر بن حذیفة بن هلال رادّاً علی سلیمان بن صُرَد الخزاعی، فقال: «آتاکَ الله رُشْدَک، ولقّاک حُجْتَک، والله الذی لا إله غَیْرهُ ما لنا خیرٌ فی صُحْبَةِ مَنِ الدُّنیا هِمَّتُهُ وَنِیَّتُه. أیّها الناس، إنَّما أخرَجتنا التوبةُ مِنْ ذَنْبِنا، والطَّلبُ بدمِ ابنِ ابنةِ نبیّنا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، لیسَ مَعَنَا دینارٌ ولا دِرْهَم، إنَّما نَقْدِمُ علی حدّ السیوفِ وأطرافِ الرمَاح»(5).

نجد أنّ بُنیة القصر قد جاءت فی مواضع متفرّقة مِن هذه الخُطبة القصیرة نسبیاً،

ص: 224


1- اُنظر: شروح التلخیص: ج2، ص172- ص173.
2- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص213. الدسوقی، محمد بن أحمد، حاشیة الدسوقی علی مختصر السعد: ج2، ص332.
3- اُنظر: أنیس، إبراهیم، من أسرار اللغة: ص263.
4- المخزومی، مهدی، فی النحو العربی: قواعد وتطبیق: ص210. اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص234.
5- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص585.

ونلحظ فی قوله: (والله الذی لا إله غیره)، أنّه قد قصر بالأداة (غیر) المسبوقة بأداة النفی (لا)، وهذه طریقة النفی والاستثناء، وهی أحدی طرق القص-ر(1)، والقص-ر من حیث حقیقته فی هذا الموضع هو قصر حقیقی؛ لأنّ المقصور علیه اختصّ بحسب الحقیقة والواقع ولم یتعدَّاه إلی غیرهما أصلاً (2) ؛ لأنّه مختصٌ بصفات الله (سبحانه وتعالی)الذی لا یوجد علی الإطلاق إله غیره، یکافئه فی صفة الإلوهیة، ثمَّ إنَّ هذا القصر من ناحیة طرفیه إنَّما هو من خلال قص-ره للصفة علی موصوفها، واختصاصها به، إذ لا یتَّصف بالإلوهیّة غیر الله(سبحانه وتعالی).

واستعمل أُسلوب القصر ب-(إنَّما) فی موضعین هما: (إنّما أخرجتنا التوبة من ذنبنا والطلب بدم ابن ابنة نبیّنا)، و(إنّما نقدم علی حدّ السیوف وأطراف الرماح).

فقد استعمل الخطیب (إنّما) وهی أداة من أدوات القصر(3)، «ودلالة القصر بها هو تمییزها بما اختُلف عن الصفات الأُخری»(4)، بمعنی أَنَّها تمیّز المقصور بها عمّا عداه، فالخطیب استعملها لتؤدّی ذلک الغرض، فهو یقصر خروجهم علی التوبة من ذنبهم والطلب بدماء الحسین(علیه السّلام) لیس غیر، ثمَّ إنَّه قصر تقدّمهم إلی ساحات القتال علی السیوف والرماح.

ولو نظرنا إلی ماهیة هذا القصر من حیث الحقیقة والواقع لوجدنا أن سیاق الحال یُفصح عن ذلک، فالقصر فی قوله: (إنمَّا أخرجتنا التوبة من ذنبنا والطلب بدم ابن ابنة

ص: 225


1- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص344. الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح کافیة ابن الحاجب: ج2، ص155.
2- اُنظر: جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص215.
3- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص321. الرازی، محمد بن عمر، نهایة الإیجاز فی درایة الإعجاز: ص364.
4- اُنظر: طبل، حسن، علم المعانی: تأصیل وتقییم: ص153.

نبیّنا) یمکن أن یُنزّل منزلة القصر الحقیقی لا الإضافی، من حیث إنَّ المقصور علیه وهو طلب التوبة من الذنب ودماء الإمام الحسین(علیه السّلام)، إنَّما کان منهم بحسب الحقیقة والواقع ولم یتعده إلی غیره؛ إذ إنَّ الدافع الحقیقی لنهضة هؤلاء وثورتهم إنَّما هو التوبة من الذنب والطلب بدم الإمام المظلوم، لیس غیر، وهو من ناحیة حال المخاطب إنَّما هو (قصر أفراد) ؛ لأنَّ الخطیب أراد أنْ یدفع ما اعتقد به المخاطب أنَّ لهم صفة أُخری غیر هذا المبدأ؛ لأنَّ سلیمان بن صُرَد قال فی موضع سابق: «مَن کان إِنَّما أخرجته إرادة وجه الله وثواب الآخرة فذلک منَّا ونحن منه... ومَن کان إنَّما یُرید الدّنیا وحرثها، فو الله ما نأتی فیئاً نستفیئه»(1)، فالخطیب أراد أن یقطع ما اعتقد به سلیمان بن صُرَد ویُفْرِدَ الحکم ولا یُشرک به شیئاً آخر.

وأمّا القصر بقوله: (إنّما نقدم علی حدّ السیوف وأطراف الرماح)، فهو قص-ر إضافی، یمکن أنْ یتجاوز خروجهم علی غیر الذی قصر خروجهم علیه، فلیست السیوف والرماح هی التی یخرجون بها وحدها، وإنَّما هناک عدّةٌ أُخری للحرب کالخیل، والدروع، والسهام، وغیرها، فالقصر هنا إضافی ولیس بحقیقی، فالتقدّم لا یقتصر علی السیوف والرماح فقط، وإنّما یتعداه إلی شیء غیره، ونلحظ أنَّ القص-ر فی الموضعین السابقین من نوع قص-ر الموصوف علی الصفة، ففعل الخروج (الموصوف) مقصور علی الصفة (التوبة وطلب الثأر)، وکذلک یکون فعل التقدّم إلی ساحة المعرکة (الموصوف) مقصوراً علی أطراف الرماح (الصفة)، وهو قصر إضافیّ نسبی کما مرَّ سابقاً.

وجاء فی خُطبة السائب بن مالک الأشعری رادّاً علی عبد الله بن مطیع الوالی الزبیری علی الکوفة: «أمَا أمرَ ابنُ الزبیر إیَّاک ألّا تَحْمِلَ فَضْلَ فَیْئِنا عنَّا إلّا برضَانا؟! فإنَّا

ص: 226


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص585.

نُشْهِدُکَ أنَّا لا نَرضی أنْ تَحْمِلَ فَضْلَ فَیْئِنا عَنَّا، وألّا یُقْسَم إلّا فِیْنَا؛ وألّا یُسِار فینا إلّا بسِیرةِ علی بن أبی طالب التی سارَ بها فی بلادنا هذه حتَّی هَلَکَ رحمةُ اللهِ عَلیْه، ولا حاجةَ لنَا فی سِیرَةِ عثمان فی فَیئِنا ولا فی أنْفُسِنا، فإنَّها إنَّما کانت إثرَةً وَهَوًی، ولا فی سیرةِ عمر بنِ الخطّاب فی فَیْئِنا، وإنْ کانَتْ أهْوَن السیرتینِ عَلَیْنا ضَرّاً»(1).

فالنصّ أفصح عن کثرة استعمال أُسلوب القصر؛ حتی أضفی علیه میزة أُسلوبیة تجذب تنبّه المتلقّی، فقد جاء فی أربعة مواضع هی، قوله: (ألّا تحمل فضل فیئنا عنّا إلّا برضانا)، قد استعمل أُسلوب القصر بالنفی والاستثناء، فقد جاء بأداة النفی (لا) مدغمة ب-(أن)، وقد جاء المنشئ بهذا القصر لا لشیء یجهله السامع (ابن مطیع)، وإنَّما جاء لأمرٍ معلوم لدیه، إذ أمره ابن الزبیر أنْ یحمل فضل فیئهم عنهم، لکنّ المنشئ أنزل هذا الأمر المعلوم - لغرض بلاغی - منزلة الأمر المجهول عنده، وهذا خروج عن أصل وضع القص-ر(2) لأجل ذلک الغرض البلاغی.

ثمّ یأتی بأُسلوب القصر فی موضعین آخرین بالطریقة السابقة فی قوله: (وألّا یقسَّم إلّا فینا، وألّا یسار فینا إلّا بسیرة علی بن أبی طالب)، فالقص-ر هنا حقیقی؛ لأنَّ الخطیب یُرید القسمة الحقَّة والسیر علی نهج أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام) ولا یتعدّاها إلی غیرها، وهو بحسب حال المخاطب قصر (قلب)؛ لأنَّ السامع (المخاطب) کان یعتقد غیر ما سمع؛ لأنَّه کان یعتقد أنَّه سوف یسیّرهم بسیرة عمر وعثمان - فی خُطبة سابقة - لکن الخطیب یأتی فی هذا المقام، لیقلب ذلک الاعتقاد إلی خلاف ما هو علیه مؤکّداً بأُسلوب القص-ر أنَّهم یُریدون السیر بسیرة الإمام علی(علیه السّلام)؛ إذ إن «هذا القصر قائم علی إلغاء الصفات المنسوبة مع نسبة صفة جدیدة غیر تلک»(3).

ص: 227


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص11. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص77.
2- اُنظر: طبل، حسن، علم المعانی: تأصیل وتقییم: ص154.
3- العوادی، مشکور کاظم، البحث الدلالی فی تفسیر المیزان: دراسة فی تحلیل النص: ص268.

ثمَّ یعود المنشئ بأُسلوب القصر لیصف سیرة عثمان فی المسلمین، بأنَّها إنَّما کانت سیرة هوًی بقوله: (إنّما کانت إثرَةً وهوًی)، وهو من نوع القص-ر الإضافی؛ لأنَّه قص-ر الهوی والإثرَة علی سیرة عثمان بن عفّان بالنسبة إلی سیرة أُخری، لا أنَّه لا یوجد هوًی وإثرَةً بسیرة أُخری عداها؛ لأنَّ الواقع ینفی ذلک، فهناک کثیر من السِیَر تمتلک هذه الصفات، والقص-ر من جهة حال المخاطب هو قصر (قلب) أیضاً؛ لأنَّ المخاطب کان یعتقد أنَّ سیرة عثمان هی السیرة المثالیة لدیه، لکنَّ المنشئ قَلَبَ هذا الحُکم فی نفسه.

ثانیاً: الأسالیب الإنشائیة

اشارة

یُعرَّف الإنشاء بأنّه: الکلام الذی لا یحتمل صدقاً أو کذباً(1)؛ لأنّه لیس لمدلول لفظه قبل النطق به واقع خارجی یطابقه أو لا یطابقه(2). وقد قسّمه البلاغیون علی قسمین: إنشاء طلبی: وهو الذی یستدعی مطلوباً غیر حاصل وقت الطلب، وهو علی خمسة أنواع، هی: الأمر، والنهی، والاستفهام، والنداء، والتمنی. وإنشاء غیر طلبی: وهو ما لا یستدعی مطلوباً، وله أسالیب مختلفة کألفاظ العقود والتعجّب وغیرها(3).

والذی یهمُّ البحث الأُسلوبی هو الخوض فی أسالیب الإنشاء الطلبی، وما تخرج إلیه من دلالات حقیقیة وأُخری مجازیة(4)، تلک التی غلبت علی نصوص الحِقبتین حتی عُدّت ظاهرة أُسلوبیة متمیّزة فیها.

ونظراً لتلک الکثرة فی توافر الأسالیب الإنشائیة الطلبیة فسوف یقف البحث عند أکثرها تردّداً فی نصوص الحِقبتین.

ص: 228


1- اُنظر: العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص530.
2- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص227.
3- اُنظر: الجرجانی، محمد بن علی، الإشارات والتنبیهات فی علم البلاغة: ص87. الدسوقی، محمد بن أحمد، حاشیة الدسوقی علی مختصر السعد: ج2، ص400 -401.
4- اُنظر: أبو العدوس، یوسف، الأُسلوبیة: الرؤیة والتطبیق: ص51.
1- أُسلوب الأمر

الأمر: هو «طلب الفعل بصیغة مخصوصة»(1)، وقد أشار سیبویه إلی أنَّ الأمر سیاق فعلی لا یکون إلا بفعل(2). وعرّفه البلاغیون بأنّه: «صیغة تستدعی الفعل، أو قول یُنبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغیر علی جهة الاستعلاء»(3).

وقد یخرج الأمر من خلال السیاق إلی دلالات بلاغیة جدیدة کالدعاء والالتماس وغیرهما إذا لم یکن فیه معنی الاستعلاء(4).

ولأُسلوب الأمر أربع صیغ یُؤدَّی بها هی: فِعْل الأمر، والفعل المضارع المقترن بلام الأمر، واسم فعل الأمر، والمصدر النائب عن فعل الأمر(5)، وقد ورد أُسلوب الأمر بکثرة فی خُطب ورسائل وأدعیة الحِقبتین، سواء کان علی الحقیقة أم خارجاً إلی أغراض بلاغیة أُخر.

فقد جاء فی خُطبة سلیمان بن صُرَد قوله: «کونُوا کالأوْلَی مِنْ بَنِی إسْرَائیل إذْ قَالَ لَهُم نبیّهم: « إِنَّکُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَکُمْ بِاتِّخَاذِکُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَی بَارِئِکُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ ذَلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ عِنْدَ بَارِئِکُمْ » (6)... اشْحَذُوا السّیوف، ورکّبوا الأسنّة، «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَیْلِ » (7)» (8).

ص: 229


1- ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج4، ص289.
2- اُنظر: سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج1، ص137. الأوسی، قیس إسماعیل، أسالیب الطلب عند النحویین والبلاغیین: 84.
3- العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص530.
4- اُنظر: مطلوب، أحمد، معجم المصطلحات البلاغیة وتطورها: ج1، ص315.
5- اُنظر: أنعم، عبد الملک عبد الوهاب، مصباح الراغب: شرح کافیة ابن الحاجب: ص566. هارون، عبد السلام محمد، الأسالیب الإنشائیة فی النحو العربی: ص14.
6- البقرة: الآیة54.
7- الأنفال: الآیة60.
8- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص61.

فجاء أُسلوب الأمر فی هذه القطعة علی دلالته الحقیقیة کونه صادراً من أعلی رتبة -

وهو سلیمان بن صُرَد قائد التوّابین - علی صیغة فعل الأمر فی أربعة مواضع، هی: (کونوا، اشحذوا، رکّبوا، أعدّوا)، وکلّها کانت علی جهة التکلیف والإلزام(1)، وفیه یأمر سلیمان قومه بأوامر جدّیة ألا وهی أنْ یکون هؤلاء القوم کَتوّابی بنی إسرائیل فی توبتهم من ذنبهم، إذ کان یری أنَّ عدم نصر الإمام الحسین(علیه السّلام) خطیئة کبری یجب التوبة منها والتکفیر عنها.

ثمَّ یأمر قومه بشحذ السیوف وترکیب الأسنَّة والاستعداد لخوض الغمرات مقتبساً من آی الذکر الحکیم فی أُسلوبها الذی یأمر المؤمنین بإعداد العدَّة، والتأهّب للجهاد فی سبیل الله، وما کان ذلک إلّا لإقناع السامع أکثر، وتذکیره بمشروعیّة الجهاد، والقتال فی سبیل الله، وکان لتکرار صیغة الأمر بهذا القدر میزة أُسلوبیة توشّح بها النص، لِتُلفِت نظر السامع، وتثبّت الأمر فی ذهنه أکثر.

وممَّا جاء فی هذا الأُسلوب کان فی دعاء التوّابین حول قبر الإمام الحسین(علیه السّلام): «یا ربِّ إنّا قَدْ خَذَلْنَا ابْنَ بِنْتِ نَبِیّنَا، فاغْفِرْ لَنَا ما مَضَی منَّا، وَتُبْ عَلَیْنا إنّکَ أنْتَ التَّوابُ الرَّحیم، وارْحَمْ حُسَیناً وأصْحَابَهُ الشُّهَدَاء الصدّیقین»(2).

وجاء الأمر فی هذا النص علی غیر حقیقته، بل انزاحت فیه الدلالة إلی الدعاء؛ إذ إنَّ الأمر یخرج إلی دلالة الدعاء إذا کان صادراً من الأدنی إلی الأعلی علی سبیل التض-رّع والخضوع(3)، فالأمر جاء لغرض الدعاء، وقد صاحبته تلکم الوجدانیة

ص: 230


1- اُنظر: طبل، حسن، علم المعانی: تأصیل وتقییم: ص54.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص589.
3- السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص319. الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص243. عبد المطلب، محمد، البلاغة العربیة: قراءة أُخری: ص296.

(الروحیة) فی دعائهم وترحّمهم علی الإمام الحسین(علیه السّلام) وطلب التوبة والغفران من الله بسبب خذلانهم له.

إنَّ استعمال صیغة الأمر فی هذا المقام قد أفصح عن میزة أُسلوبیة فی التعبیر نصل من خلالها إلی معرفة القیمة الوظیفیة الثانیة التی انزاح إلیها أُسلوب الأمر ألا وهی وظیفة الدعاء والتضرّع.

2- أُسلوب النَّهی

النهی هو: «المنع من الفعل بقول مخصوص مع علوّ الرتبة. وصیغته: لا تفعل، و: لا یفعل فلان»(1)، وصیغته اللغویة دخول (لا)، وهی أداة نهی علی الفعل المضارع(2). ویشترط البلاغیون الاستعلاء فی النهی، لکی یکون نهیاً(3)، وإنْ لم یُستعمل علی سبیل الاستعلاء یسمّونه دعاءً، أو التماساً، أو تهدیداً(4)، وهی من المعانی المجازیة التی یخرج إلیها هذا الأُسلوب.

وقد جاء أُسلوب النهی فی خُطبةِ سلیمان بن صُرَد لقوله: «ولا یُولّیهِم امرؤٌ دُبُرَهُ إلّا مُتَحَرّفاً لقتالٍ أو مُتَحَیّزاً إلی فِئَةٍ، لا تَقْتُلُوا مُدْبِراً، ولا تُجْهِزُوا علی جَرِیْحٍ، ولا تَقْتُلُوا أسِیراً مِنْ أهلِ دَعْوَتِکُم إلّا أنْ یُقاتِلکُمْ بَعْدَ أنْ تَأسروه»(5).

ص: 231


1- السامرائی، فاضل صالح، الجملة العربیّة والمعنی: ص90.
2- اُنظر: ابن هشام، عبد الله بن یوسف، مغنی اللبیب عن کتب الأعاریب: ج1، ص323.
3- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص320. الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص244. العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص531.
4- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص320. السبکی، بهاء الدین، عروس الأفراح فی شرح تلخیص المفتاح: ج2، ص558.
5- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص596. اُنظر: جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص72.

فقد مثّلت بنیة النهی عماد هذا النص؛ ذلک أن أداة النهی (لا) تکرَّرت مع الفعل المضارع المجزوم بها، عندها جاءت الدلالة فیه علی حقیقتها؛ کون أنَّ النهی قد صدر من جهة عالیة، وهو الخطیب مع الإلزام(1)، فالخطیب ینهی قومه عن الهروب من ساحة الوغی ویطلب منهم الثبات علی القتال، وفی الوقت ذاته ینهاهم أیضاً عن قتل الهاربین المدبرین، أو قتال الجرحی أو قتل الأسری، ویکشف هذا الخطیب فی أُسلوبه الطلبی عن سیرته الصالحة، وأخلاقه النبیلة فی القتال، وقد مرّ بالبحث أنَّ هذه السیرة إنّما هی سیرة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأهل بیته الأطهار.

وجاء فی خُطبةِ عبد الله بن یزید: «إنَّ المُسْلِمَ أخو المُسْلِم، لا یَخُونُه ولا یَغُشُّه، وأنْتُمْ إخواننا وأهلُ بلدِنا، وأحبُّ أهلِ مِصْرٍ خَلَقَهُ الله إلیْنا، فلا تَفْجَعُونا بأنفُسِکُم، ولا تَسْتَبِدُّوا عَلَیْنا بِرَأیکُم، ولا تَنْقُصوا عَدَدَنا بخروجِکُم مِنْ جَمَاعَتِنَا»(2).

فقد قصد الخطیب أنْ یکرر أُسلوب النهی، فجاء به فی ثلاثة مواضع، ولکن دلالته لم تَرد علی حقیقتها، بل انزاحت إلی دلالة أُخری، هی الالتماس؛ إذ إنَّ النهی یخرج إلی دلالة الالتماس إذا کان النهی صادراً بین متساویین فی الرتبة(3)، کأن یکون الطلب (صادراً من أخ إلی أخیه، أو صدیق إلی صدیقه)(4).

وواضح من سیاق الخُطبة أنَّ عبد الله بن یزید عدّ نفسه أخاً لهؤلاء التوّابین، ولهذا جاء النهی علی غیر حقیقته فی الطلب والاستعلاء والإلزام، بل جاء یدلّ علی التماس الخطیب للتوّابین أن یرجعوا عمّا أقدموا علیه، کی لا ینقص عددهم عند مواجهتهم عدوّهم.

ص: 232


1- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص320.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص587.
3- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ج320. الأوسی، قیس إسماعیل، أسالیب الطلب عند النحویین والبلاغیین: ص465.
4- اُنظر: الحسینی، جعفر بن باقر، أسالیب المعانی فی القرآن: ص113.
3- أُسلوب الاستف-هام

عرّف عبد القاهر الجرجانی الاستفهام بقوله: «الاستفهام استخبارٌ، والاستخبار: هو طلبٌ من المخاطب أنْ یخبرک»(1). وعرّفه العلوی بأنّه: «طلب المراد من الغیر علی جهة الاستعلام»(2).

إذاً؛ حقیقة الاستفهام: هو طلب فهم الشیء. وهو ما ذهب إلیه اللغویون من قبلُ، فابن السرَّاج (ت316ه-) ذهب إلی أنَّ الاستفهام هو طلب الإخبار؛ لأنَّ معنی الاستفهام معنی الإخبار(3)، وکذلک ذهب ابن یعیش إلی أنَّ الاستفهام معنی من المعانی یطلب به المتکلّم من السامع أنْ یُعلمه بما لم یکن معلوماً عنده من قبلُ(4).

وعلی الرغم من حقیقة طلب الفهم التی یکون علیها الاستفهام کما تقدَّم من خلال التعریفات، فإنَّه قد یخرج عن هذه الحقیقة إلی دلالات أُخر بدیلة کالنفی، والإنکار، والتعجب، وهذا ما تناوله البلاغیون فی دراساتهم(5).

بقی أنْ نعرف أنَّ للاستفهام أدوات لغویة متعدّدة؛ إذ یُستفهم بأسماء، وظروف، وحروف. فالأسماء: (مَن، وما، وأیّ، وکم) وغیرها، والظروف: (متی، وأین، وأیَّان) وغیرها، والحروف: (الهمزة، وهل، وأم)(6)، وکلّ أداة لها دلالتها المختصَّة بها.

ص: 233


1- الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص140. اُنظر: الرازی، محمد بن عمر، نهایة الإیجاز فی درایة الإعجاز: ص300.
2- العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص532.
3- اُنظر: ابن السرّاج، محمد بن سهل، الأُصول فی النحو: ج2، ص327 وما بعدها.
4- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج5، ص99.
5- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص313. السبکی، بهاء الدین، عروس الأفراح فی شرح تلخیص المفتاح: ج2، ص517.
6- ظ: ابن جنی، عثمان، اللمع فی العربیة: ص355. ابن یعقوب المغربی، أحمد، مواهب الفتاح فی شرح تلخیص المفتاح: ج1، ص466.

وقد ورد أُسلوب الاستفهام فی خُطب ورسائل الحِقبتین بصورة کبیرة، إذ جاء فی معظمها علی غیر حقیقته فی طلب الفهم، بل خرجت دلالته إلی دلالات أُسلوبیة أُخری.

ومن ذلک: ما جاء فی خُطبةِ عبید الله المرّی لقوله: «فَهَلْ خَلَقَ رَبّکُم فی الأوَّلین والآخرین أعْظَمَ حقّاً علی هذهِ الأُمَّةِ مِنْ نَبِیّها؟ وَهَلْ ذُریَّة أحدٍ مِنَ النَّبِیّینَ والمُرْسَلِینَ أو غَیْرِهِمْ أعْظَمُ حَقّاً علی هذهِ الأُمَّة مِنْ ذُریَّة رَسُولِها؟ لا والله، ما کانَ ولا یَکون. لله أنْتُم، ألَمْ تَرَوا ویَبْلُغْکُم ما اجْتُرِمَ إلی ابنِ بِنْتِ نَبِیّکُمْ! أمَا رَأیْتُم إلی انْتِهاکِ القومِ حُرْمَتَهُ، واسْتِضْعَافِهِم وَحْدَتَه، وتَرْمِیْلِهِم إیّاه بالدَّم، وَتَجْرَارِهُمُوْهُ علی الأرض! لَمْ یُراقِبُوا فِیْه رَبَّهُم ولا قرابَته مِنَ الرَّسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )»(1).

فقد تکرّر أُسلوب الاستفهام فی هذا النص، ممّا شکّل طابعاً أُسلوبیاً ألقی بظلاله علیه، ولم یکن هذا الاستفهام جاریاً علی دلالته الحقیقیة فی طلب الفهم، بل تحوَّلت دلالته إلی دلالات أُخری تُفهم من السیاق، ففی قوله: (فهل خلق ربکم فی الأوَّلین والآخرین) إلی قوله: (وهل ذریة أحد من النبیین والمرسلین أو غیرهم أعظم حقاً)، قد دلَّ علی الإنکار والنفی التکذیبی، وهو بمعنی لم یکن(2)، أی: ینکر الخطیب وینفی أنْ یکون هناک شخص من هذه الأُمّة هو أعظم من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وذریته الأطهار حقّاً علیها، والذی سوّغ لنا معرفة هذه الدلالة المتحوّلة، قوله فیما بعد: (ما کان ولا یکون)، بمعنی: لم یکن ذلک علی الإطلاق، وربَّما یحمل هذا الاستفهام دلالة بلاغیة أُخری هی

ص: 234


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص559. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج 2، ص63.
2- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص236. شروح التلخیص: ج2، ص30.

دلالة التقریر، أی تقریر فضل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وفضل أهل بیته علی هذه الأُمَّة، والتقریر دلالة أُخری یخرج إلیها هذا الأُسلوب(1). وأمّا قوله: (ألم تروا ویبلغکم ما اجترم إلی ابن بنت نبیکم)، فقد جاء بالاستفهام لغرض التعجب(2) إلی جانب معنی الإنکار، فالخطیب فی مقام المتعجّب المُنکِر لفعل هؤلاء القوم وإقدامهم علی جریمة یندی لها جبین التاریخ، فلیس من المفروض أن یفعل هذا بابن بنت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ولا ینبغی أن یُجازی بمثل هذا، وهو الصادق الأمین، ابن أمیر المؤمنین وابن بنت رسول ربِّ العالمین، وإنّما قصد الخطیب الخروج إلی دلالة التعجُّب، حتی یُثیرَ مشاعر السامعین، ویُعبّئ النفوس للقیام بالثورة ضدّ قاتلی الإمام الحسین(علیه السّلام).

وحمل أُسلوب الاستفهام دلالة بلاغیة أُخری فی خُطبة المسیب بن نجبة الفزاری رادّاً علی إبراهیم بن محمَّد لقوله: «یا بنَ الناکِثِیْن، أنت تُهَدّدنا بِسَیْفِکَ وغَشْمِک! أنْتَ والله أذلُّ مِن ذلک، إنّا لا نَلُومُکَ علی بُغْضِنا وقدْ قَتلنا أباکَ وجدّک»(3).

فأُسلوب الاستفهام فی قوله: (أنت تهددنا بسیفک)، جاء علی غیر دلالته الأصلیة فی طلب الفهم، وإنَّما انزاحت فیه الدلالة وتحوّلت إلی دلالة التهکم والتحقیر(4)، وقد دلَّ علی ذلک سیاق الخُطبة الذی جاء مفعماً بروح السخریة والاستهزاء، وهو ما أبداه الخطیب تجاه إبراهیم بن محمّد.

ص: 235


1- اُنظر: طبل، حسن، علم المعانی: تأصیل وتقییم: ص72. الحسینی، جعفر بن باقر، أسالیب المعانی فی القرآن: ص86.
2- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص241.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص562. والغشم: الظلم والغصب. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج10، ص75، مادة (غشم).
4- ظ: فیود، بسیونی عبد الفتاح، علم المعانی: دراسة بلاغیة ونقدیة لمسائل المعانی: ص321.
4- أُسلوب النداء

یکاد یتَّفق النحاة والبلاغیون علی أنَّ النداء تنبیه المدعو، فقد قال ابن الس-راج: «وأصل النداء تنبیه المدعو لیقبل علیک»(1)، وقد ذکر أبو علی الفارسی (ت377ه-) أنَّ النداء تنبیه للمخاطب «لأجل أنَّ المخاطَب قد یکون مُعرِضاً عن المخاطِب، متباعداً عن مکانه»(2)، وقال العلوی فی تعریفه: «ومعنی النداء هو التصویت بالمنادی لإقباله علیک»(3)، وقد عرّفه المغربی (ت 1128ه-) بأنَّه نوع من الطلب: «وهو طلب الإقبال حِسّاً أو معنًی بحرف نائب مناب أدعو»(4)، فهم جمیعاً یذهبون بالقول أنَّ النداء طلب یراد به التنبیه، ولکن النداء قد یخرج من هذا الغرض الحقیقی إلی دلالات هامشیة لا یُراد بها التنبیه، بل هی دلالات بلاغیة یدلُّ علیها السیاق، وقد عُنی الدرس البلاغی بهذه الدلالات، وبیّن خصائصها وما تؤدّیه من أثار أُسلوبیة(5).

وأُسلوب النداء کغیره من الأسالیب اللغویة یتطلّب وجود أداة خاصَّة به، وقد ذکرها النحاة والبلاغیون وعرضوا لدلالتها واستعمالها(6).

وکان لهذا الأُسلوب نصیبٌ وافرٌ فی خُطب ورسائل الحِقبتین، سواء أکان فی دلالته الحقیقیة أم حینما یخرج لمعانٍ مجازیة أُخر.

ص: 236


1- ابن السرّاج، محمد بن سهل، الأُصول فی النحو: ج1، ص329.
2- الجرجانی، عبد القاهر، کتاب المقتصد فی شرح الإیضاح: ج2، ص761- ص762.
3- العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز وعلوم حقائق الإعجاز: ص535.
4- ابن یعقوب المغربی، أحمد، مواهب الفتاح فی شرح تلخیص المفتاح: ج1، ص517.
5- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص323. الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص245.
6- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج5، ص48 وما بعدها. ابن هشام، عبد الله بن یوسف، مغنی اللبیب عن کتب الأعاریب: ج1، ص488. عبد المطلب، محمد، البلاغة العربیة: قراءة أُخری: ص299- ص306.

وقد ورد أُسلوب النداء فی دعاء التوّابین أمام قبر الإمام الحسین(علیه السّلام) بقولهم: «یا

ربِّ إنَّا قد خَذَلْنَا ابْنَ بِنْتِ نَبیّنا، فاغفرْ لَنَا ما مضی منَّا، وتُبْ عَلیْنا إنَّک أنتَ التَّوابُ الرَّحیم... وإنَّا نُشْهِدُکَ یا ربِّ أنَّا علی مِثْلِ ما قُتِلُوا عَلَیْهِ، فإنْ لم تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنا لنَکُوننَّ مِنَ الخَاسِرِیْن»(1).

وهنا نلحظ وروده فی موضعین، استُعمِل فیهما أداة النداء (یا) لنداء (الرب) فی قولهم: (یا ربِّ)، وقد ذکر سیبویه أنَّ العرب یستعملون (یا) وغیرها «إذا أرادوا أن یمُدّوا أصواتهم للش-یء المتراخی عنهم، والإنسان المُعرض عنهم، الذی یرون أنَّه لا یُقبِل علیهم إلّا بالاجتهاد، أو النائم المستثقل»(2)، فهی إذاً لنداء البعید، وقد جاءت فی الموضعین لنداء القریب، وهو (الله) (سبحانه وتعالی) مجازاً للتأکید(3)، أی: بتأکید النداء، وقد ذکر الزمخشری أنَّ استعمال (یا) فی نداء القریب قد یُفید کذلک معنی الاستبعاد، فیقول: «وقول الداعی: یا ربِّ، و: یا الله، استقصار منه لنفسه وهضم لها، واستبعاد عن مظان القبول والاستماع، وإظهار للرغبة فی الاستجابة بالجؤار»(4) أی: بالتضرع.

وبهذا یتّضح لنا الغرض من استعمال أداة النداء (یا) لنداء القریب، وجاء هذا الأُسلوب فی رسالة المختار إلی محمد بن الحنفیة أیضاً بقوله: «للمهدیّ محمَّد بن علی من المختار بن أبی عُبَید، سلامٌ علیکَ یا أیُّها المهدیّ، فإنَّی أحمد إلیک الله الَّذی لا إله إلّا هو، أمَّا بعدُ، فإنَّ الله بَعَثَنی نقمةً علی أعْدَائکم... وَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ شَرَکَ فی دم الحسینِ وأهلِ بیته (رحمة الله علیهم) کلَّ مَن قَدَرْنا عَلَیه، ولن یُعْجِزَ اللهَ مَنْ بقی... فاکتُبْ إلیَّ أیّها المهدیّ برأیک

ص: 237


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص589.
2- سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج2، ص230. اُنظر: المبرّد، محمد بن یزید، المقتضب: ج4، ص233.
3- اُنظر: الحسینی، جعفر بن باقر، أسالیب المعانی فی القرآن: ص125.
4- الزمخش-ری، محمود بن عمر، المفصّل فی علم العربیة: ص309.

أتَّبِعه وأکن علیه، والسلام علیکَ أیُّها المهدیّ ورحمةُ الله وبرکاتُه»(1).

فقد تکرّر أُسلوب النداء فی هذه الرسالة ثلاث مرّات، ولم یکن فی حقیقته فی طلب إقبال المدعو علی الداعی، وإنَّما انزاحت دلالته للمدح والتکریم والتنویه(2) بعظیم منزلة محمّد بن الحنفیة، فالنداء یخرج لتعظیم الأُمور، فإذا «أرادت العرب أنْ تُعظّم أمراً من الأُمور جعلته نداءً»(3).

وقد جاء الموضع الأوَّل من هذا النداء بأداة النداء (یا) مع أداة التنبیه (أیّها)، وفی الموضع الثانی بحذف أداة النداء، وإبقاء أداة التنبیه، وهذا الحذف جائز فی عُرف النحاة والبلاغیین(4)، وذلک إذا کان الغرض منه تخفیفاً للکلام.

ثالثاً: أسالیب جمعت بین الخبر والإنشاء

1- أُسلوب الشَّ-رط

یعدُّ الشَّرط من الأسالیب المهمَّة، وهو جملة مرکّبة من جملتین فی الغالب، ترتبط کلّ منهما بالأُخری ارتباطاً وثیقاً، إذ تکون إِحداهما سبباً لنتیجة تمثّلها الجملة الأُخری، فتکون الأُولی جملة الشرط، وهی بمنزلة السبب، وتکون الثانیة جملة جواب الشرط، وهی بمنزلة المسبّب، وتربط بینهما أداة تتصدّرها هی أداة الشرط(5).

وعلی هذا؛ فأُسلوب الشرط یختلف عن الجملة الاعتیادیة من حیث وجود رکنی

ص: 238


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص62. صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص129- ص130.
2- اُنظر: الحسینی، جعفر بن باقر، أسالیب المعانی فی القرآن: ص133.
3- جیجان، مجهد، وآخران، علم المعانی: ص191.
4- اُنظر: الرضی الأستربادی، محمد بن الحسن، شرح کافیة ابن الحاجب: ج1، ص387. جیجان، مجهد، وآخران، علم المعانی: ص184.
5- اُنظر: المخزومی، مهدی، فی النحو العربی: نقد وتوجیه: ص307، ص310، ص113.

الجملة، والرابط المعنوی الإسنادی؛ لأنَّ الشرط یتکوّن من جملتین کلُّ واحدة منهما مبنیة من مسند ومسند إلیه، وهما جملة (فعل الشرط) وجملة (جواب الشرط) «إلّا أنَّهما فی سیاق الشّ-َرط لا یتمُّ المعنی إلّا بمجموعهما؛ لأنَّ أُسلوب الشرط قائمٌ علی تعلیق جملة الجواب علی جملة الشرط»(1).

ویختلف هذا الأُسلوب تماماً عن أُسلوبی الخبر والإنشاء؛ «ذلک أنّ فعل الش-رط وحده وجواب الشرط وحده یُفید کلّ منهما معنًی من معانی الخبر والإنشاء»(2)، ولذلک استقلّت دراسته عن المباحث الخبریة والإنشائیة، وهذا یعنی «أنَّ الجملة الش-رطیة تمتاز بالتکامل البنیوی المفض-ی إلی التکامل الدلالی، ممّا یؤهّلها إلی الاستقلال النسبی فی الخطاب، بحیث تکون لها الطاقة الإخباریة التی تمکّنها من افتتاح حلقة الکلام وغلقها فی نفس السیاق»(3)، فهی علی هذا من البنی الأُسلوبیة المغلقة، فهی تبدأ بأداة الشرط، وما أن یصل السامع إلی الظفر بجواب الشرط یرتد ثانیةً إلی جملة الشرط لیربط بینها، فالسامع یدور فی رحلة دلالیة فی دائرة الشرط المغلقة(4).

أداة الشرط وفعلها جواب الشرط

ولکنَّ هذه البنیة علی الرغم من انغلاقها، فهی بنیة تتَّصف بالمرونة النوعیة، نظراً لتنوع أدواتها وأنماط ترکیبها(5)، کما أنَّ أرکانها تتمتَّع بحریة الحرکة، فالمجال مفتوح إلی إعادة ترکیبها من جدید بما یناسب الغرض المنشود کما تسمح بحذف جزء منها أو

ص: 239


1- جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص252.
2- الجواری، أحمد عبد الستار، نحو الفعل: ص50.
3- المسدی، عبد السلام، والطرابلسی، محمد الهادی، الشرط فی القرآن: علی نهج اللسانیات الوصفیّة: ص169.
4- اُنظر: البعاج، کریم طاهر، قصار السور: دراسة أُسلوبیّة: ص139.
5- اُنظر: الشایع، ندی، الجملة الشرطیة فی شعر زهیر بن أبی سلمی: ص3 - ص52.

کلّها، وکذلک ممَّا یسمح بوقوع الانزیاح لإنتاج التعابیر ذات البُعد الفنی(1)، وهذا یکشف عن التنوّع الوظیفی للبنیة الشرطیة بتنوّع حالات اندراجها فی صلب الکلام(2).

وقد وقع أُسلوب الشرط کثیراً فی نثر الحِقبتین، من ذلک ما جاء فی رسالة المختار إلی عبد الله بن الزبیر بقوله: «أمَّا بعدُ، فقد عَرَفْتَ مُنَاصَحَتی إیَّاک وَجَهْدِی علی أهلِ عَدَاوَتِک، وما کُنْتَ أعْطَیْتَنِی إذا أنا فَعَلْتُ ذلکَ مِنْ نَفْسِکَ، فلَمَّا وَفَیْتُ لَکَ وقَضَیْتُ الّذی کانَ لَکَ علیَّ، خِسْتَ بی، ولَمْ تَفِ بما عاهَدْتَنِی عَلیه، ورأیتَ منّی ما قدْ رأیت، فإنْ تُرِدْ مُراجَعَتی أُرَاجِعْک، وإنْ تُرِدْ مُنَاصَحَتی أنْصَحْ لَک»(3).

فقد استغرق أُسلوب الشرط حضوراً متمیّزاً فی هذه الرسالة، ممَّا أضفی علیها میزة أُسلوبیة ملحوظة، إذ تکرّر أربع مرّات بأدواته المختلفة، ففی قوله: (وما کنت أعطیتنی إذا أنا فعلت ذلک من نفسک)، قد استعمل أداة الشرط (إذا)، وهی ظرف لما یُستقبل من الزمان کما ذهب إلی ذلک سیبویه(4)، ویکثر مجیء الماضی بعدها مراداً به الاستقبال(5)، وقد جاءت فی هذا الموضع متلوة بالفعل الماضی المراد به المستقبل.

ونلحظ أنَّ أُسلوب الشرط هنا لم یأتِ علی نظامه المعیاری الذی یقض-ی أن تکون الجملة متسلسلة فی مکوناتها من (أداة الش-رط، فعل الش-رط، جواب الش-رط) (6)، بل

ص: 240


1- اُنظر: عبد الله، محمد إسماعیل، دعاء الإمام علی(علیه السّلام): دراسة نحویة أُسلوبیّة: ص125.
2- اُنظر: المسدی، عبد السلام، والطرابلسی، محمد الهادی، الشرط فی القرآن: علی نهج اللسانیات الوصفیّة: ص145، ص169.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص71. خست: نکثت العهد. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج4، ص360، مادة (خیس).
4- اُنظر: سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج4، ص232.
5- اُنظر: المرادی، حسن بن القاسم، الجنی الدانی فی حروف المعانی: ص360.
6- اُنظر: الشافعی، محمد بن عبد الله، شرح الکافیة الشافیة: ج2، ص146.

تقدَّم جواب الش-رط علی أداة الش-رط وفعله، والأصل فی جواب الش-رط التأخیر(1)، فکان الأُسلوب علی غیر الأصل، والأصل أن یقول: (وما کنت إذا أنا فعلت ذلک أعطیتنی من نفسک)، وربّما یعود السبب فی العدول فی الجملة الش-رطیة إلی أنّ المنشئ قد جعل من أداة الش-رط وفعلها جملةً اعتراضیةً فی الکلام، وذلک للأهمیّة ولفت النظر للمعنی المراد إیصاله إلی ذهن المتلقّی.

إنَّ تلک النقلة فی نظام الأُسلوب الشرطی لم تخرج الشرط عن ماهیته، وصفته الأُسلوبیة، بل بقی محافظاً علیها، وما ذلک إلّا بسبب المرونة الکبیرة التی یتمیَّز بها هذا الأُسلوب عمّا عداه من الأسالیب الأُخر.

ثمَّ یعقد المختار موازنة بینه وبین خصمه، عبد الله بن الزبیر، معتمداً فی ذلک علی أُسلوب الشرط فی قوله: (فلمَّا وفیتُ لک وقضیتُ الذی کان علیَّ، خِسْتَ بی، ولم تفِ بما عاهدتنی به)، فقد بیّن فعل الشرط الجانب الإیجابی الذی یمتلکه المختار من الوفاء والنصیحة، وکان من المفترض أن یجد القارئ ما یناسب ذلک الوفاء بالمثل فی جواب الش-رط، ویتشوَّق لسماعه، لکنّه یندهش لسماع الجانب السلبی الذی کان علیه خصم المختار، من عدم الوفاء بالعهد والخسَّة والغدر.

ثمَّ یعود المختار مستعملاً أُسلوب الشرط فی خاتمة الرسالة، معبّراً عن صدق نیّته تجاه خصمه بتکرار الأُسلوب الش-رطی مرَّتین، وبالأداة (إنْ) فی قوله: (فإنْ تُرِدْ مراجعتی أُراجِعْک، وإنْ تُرِدْ مُناصَحَتی أنصحْ لک)، فمتی ما یُرِد الخصم المراجعة یجدْها عند المختار، ومتی ما یُرِد النصیحة منه یناصحْه، فجواب الشرط مرهون بتحقّق الش-رط ومرتبط به فی دائرة مغلقة:

(فإنْ ترد مراجعتی أُراجعک)، (وانْ ترد مناصحتی أنصح لک).

ص: 241


1- اُنظر: نهر، هادی، التراکیب اللغویّة فی العربیّة دراسة وصفیّة تطبیقیّة: ص211.

فمتی ما حصل الفعْل من الآخر حصلت الإجابة سریعة من المختار.

إنَّ هذه المرونة الأُسلوبیة للشرط أتاحت للمنشئ أنْ یتصرَّف فی الکلام بحریة مطلقة من غیر أنْ تکون هناک وعورة أو تلکؤ.

ونجد هذا الأُسلوب فی وصیّة یزید بن أنس لأصحابه: «یا شرطة اللهِ اصْبِروا تُؤجَرُوا، وصابروا عدوَّکم تَظْفَروا، وقاتلوا أولیاءَ الشَّیطان، إنَّ کیدَ الشیطانِ کانَ ضَعیفاً، إنْ هَلَکْتُ فأمیرُکُم ورقاءُ بن عازب الأسدیّ، فإنْ هَلَکَ فأمیرُکُم عبد الله بن ضَمرةَ العذریّ، فإنْ هَلَکَ فأمیرُکُم سِعْرُ بن أبی سِعْر الحَنَفی»(1).

فأُسلوب الشرط فی مستهل النص: (اصبروا تؤجروا، وصابروا عدّوکم تظفروا) قد أفصح عن استطالة أُسلوبیة عالیة، تَمکَّنَ المنشئ خلالها من تکثیف الجملة وترکیزها، وذلک بحذف أداة الشرط وفعله، وجاء بجواب الش-رط وحده، وأصل الکلام: اصبروا إنْ صبرتم تؤجروا، وصابروا عدوکم إنْ صابرتم عدوّکم تظفروا، وحذف أداة الش-رط وفعله جائز عند النحویین(2)، ف- «أداة الشرط وفعل الشرط قد یحُذفان بعد الطلب، وشرط ذلک أنْ یلی هذا الطلب فعلٌ مضارع ٌمجرَّدٌ من الفاء یُقصد به الجزاء»(3)، وتحقَّقَ الش-رطان فی هذین الموضعین؛ إذ سبقهما الطلب بفعل الأمر، وولیهما الفعل المضارع، فلا مانع من حذفه، وقد یکون ضیق المقام هو الذی أدَّی إلی هذا الحذف المقصود.

ومهما یکن من أمر؛ فإنَّ الانزیاح الترکیبی قد انتاب بنیة الشرط فی هذین الموضعین بفعل الحذف، لینتج ذلک التعبیر الفنّی.

ص: 242


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص41.
2- اُنظر: ابن هشام، عبد الله بن یوسف، مغنی اللبیب عن کتب الأعاریب: ج2، ص847. الحذف والتقدیر فی الدراسة النحویّة: 49-50.
3- سلیمان، فتح الله أحمد، الأُسلوبیّة: مدخل نظری ودراسة تطبیقیّة: ص159.

ثمَّ یمضی المنشئ فی تکرار الأُسلوب الش-رطی بحسب ما تقتضیه وصیَّته لأصحابه، ویمکننا القول إنَّنا بإزاء جملة طویلة واحدة تستغرق ثلاث جمل شرطیة کلَّها قد تصدَّرت بأداة الشرط (إنْ) فی قوله: (إنْ هلکتُ فأمیرکم ورقاء بن عازب... فإن هلک فأمیرکم عبد الله... فإنْ هلک فأمیرکم سِعر...)، وعلّة استعمال هذه الأداة هنا مکرَّرة؛ لأنَّ الش-رط فیها یکون مقطوعاً بوقوعه(1)، وکونها الأصل لأدوات الشرط، فهی تصلح لکلّ ضروبه(2)، وقد ولیها الفعل الماضی فی هذه المواضع، ولم یأتِ الفعل المضارع الذی یدلّ علی الحال والاستقبال، إذ یُفترض أن یأتی فی هذا المقام؛ لأنَّ فعل الش-رط لم یتحقَّق بعدُ، فالهلاک لم یحصل للمتکلّم ولا لغیره، وإنّما جاء الفعل الماضی لغرض أُسلوبی بلاغی، وهو إبراز غیر الحاصل فی معرض الحاصل(3)، وغیر الحاصل هو المستقبل، والحاصل هو الماضی، فالمنشئ قد جعل ما لم یقع وغیر حاصل کالواقع الحاصل؛ لأنَّه یری نفسه وأصحابه مقتولین لا محالة، وهذا إنّما یدلّ علی ثباتهم وإخلاص نیَّاتهم فی دفاعهم عن أفکارهم وعقیدتهم.

2- أُسلوب القَسَم

القسم: أُسلوب لغویّ یُفید التوکید فی الکلام(4)، یقول أبو علی الفارسی: «القسم: جملة یؤکَّد بها الخبر»(5)، فهو إذاً وسیلة أُسلوبیة من وسائل توکید الخبر وتقویته نفیاً أو إثباتاً(6)، وله أدوات یؤدَّی بها، منها الحروف، وهی: الباء، والتاء، واللام، والواو.

ص: 243


1- اُنظر: المخزومی، مهدی، فی النحو العربی: نقد وتوجیه: ص314.
2- اُنظر: المبرّد، محمد بن یزید، المقتضب: ج2، ص359. ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج5، ص106.
3- اُنظر: التفتازانی، مسعود بن عمر، المطول (شرح تلخیص السکاکی): ص 328.
4- اُنظر: سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج3، ص14، ص497.
5- الجرجانی، عبد القاهر، کتاب المقتصد فی شرح الإیضاح: ج2، ص862.
6- اُنظر: العامر، فارس علی، ظاهرة القسم فی القرآن الکریم: ص45.

ومنها الأفعال: کالفعل أقْسم، وأَحلف، وغیرها. ومنها الأسماء، مثل: لعمرک، وأیمُن، وغیرها(1).

وقد اختلف النحاة فی أُسلوب القسم، فأدخله ابن عصفور الأشبیلی (ت669ه-) ضمن الأسالیب الخبریة؛ «لأنَّ القسم لا یُتصور إلّا حیث یُتصور الصدق والحنث، والصدق والحنث لا یُتصوَّر إلّا فیما یُتصوَّر الصدق والکذب»(2)، فی حین عدَّه السیوطی من أسالیب الإنشاء الطلبی(3)، وأنَّ السبب الذی أدَّی إلی هذا الاختلاف فی وضع أُسلوب القسم فی أسالیب الخبر والإنشاء، یعود إلی الجملة المُقسم علیها (جملة القسم) أی: الجملة المؤکَّدة، التی تکون تارةً خبریة، ویُسمَّی القسم فی هذه الحالة قسماً خبریاً أو غیر استعطافی، والغایة منه توکید الجملة وإزالة الشّک، ویمکن أن تکون جملة إنشائیة تارةً أُخری فیُسمَّی القسم الاستعطافی، وحینئذٍ یکون القسم ضرباً من التوکید یُحرّک مشاعر النفس ویُثیرها(4).

ونظراً لهذا الاختلاف الحاصل فی جملة القسم بین الخبریة والإنشائیة، فقد آثر الباحث أنْ یدرس هذا الأُسلوب بدراسة مستقِلّة مع أُسلوب الش-رط، وأنْ لا یدرجه فی الأسالیب الخبریة أو الإنشائیة، کما إنَّه من الأسالیب المغلقة التی لا بدَّ معها من جواب قسم یغلق بنیتها، وهذا ما یلتقی به مع أُسلوب الشرط ذی البنیة المغلقة(5).

وقد ورد هذا الأُسلوب فی خُطب ورسائل الحِقبتین کما فی خُطبة إبراهیم بن محمد

ص: 244


1- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج4، ص249.
2- ابن عصفور، علی بن مؤمن، شرح جمل الزجاجی: الشرح الکبیر: ج1، ص522.
3- اُنظر: السیوطی، عبد الرحمن، الإتقان فی علوم القران: ج3، ص283.
4- اُنظر: نهر، هادی، التراکیب اللغویّة فی العربیّة: دراسة وصفیّة تطبیقیّة: ص237- ص238. جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص222.
5- اُنظر: البعاج، کریم طاهر، قصار السور: دراسة أُسلوبیّة: ص130.

ابن طلحة لقوله: «أیُّها النَّاس، لا یَغُرَّنَّکُم مِنَ السَّیف والغَشْمِ مَقَالَةُ هذا المُدَاهِنِ المُوادِع، والله لَئِنْ خَرَجَ عَلَیْنَا خارجٌ لَنَقْتُلَنَّه، وَلَئِن اسْتَیْقَنَّا أنَّ قوماً یُریْدُونَ الخُرُوجَ عَلَیْنا، لَنَأخُذَنَّ الوالدَ بولدِه، والمُولودَ بِوالِدِه»(1).

فقد شهدت بنیة القَسم حضوراً متمیّزاً فی هذا النص، فجاء منسجماً مع سیاق التأکید الذی دلَّت علیه الخُطبة، وابتدأ الخطیب بذکر جملة القسم صراحة بقوله: (والله لئن خرج علینا خارج لنقتلنَّه)، وقد استعمل حرف القسم (الواو) مع لفظ الجلالة، وهو أشدّ ما یکون علیه القَسم، ثمَّ یعود لاستعمال هذا الأُسلوب مرّة أُخری، ولکن بحذف جملة القسم وإبقاء (اللام) الموطئة له فی قوله: (ولئن استیقنّا أنَّ قوماً یُریدون الخروج علینا)، والحذف فی جملة القسم واردٌ فی الاستعمال عند العرب طلباً للتخفیف بالکلام(2)، وقد اعتمده الخطیب لأجل عدم التکرار أو لدلالة ما سبقه من القسم، وقد أغلق بنیة القسم بجواب متکوّن من فعل مضارع مؤکَّد بالنون الثقیلة، لیزید من التوکید فی الکلام، ویعزّز التوکید الذی أوحی به القسم.

وجاء کذلک فی خُطبةِ المختار الثقفی حین توعّد بالانتقام من أسماء بن خارجة(3) - وکان الأخیر ممَّن سعی فی قتل مسلم بن عقیل(علیه السّلام) - قائلاً: «أمَا وربِّ السماء والماء،

ص: 245


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص562. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص66.
2- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج5، ص249. ابن هشام، عبد الله بن یوسف، مغنی اللبیب من کتب الأعاریب: ج2، ص846.
3- وهو أسماء بن خارجة بن حصن بن حذیفة الفزاری، کان أحد أشراف الکوفة، وله وفادة علی عبد الملک بن مروان، وعندما ثار مسلم بن عقیل(علیه السّلام) فی الکوفة کان أسماء أحد الذین سعوا فی قتله، هرب أسماء من الکوفة خوفاً من بطش المختار الثقفی الذی تسلّم إمارة الکوفة، فأحرق داره وهدم له ثلاث دور أُخری، مات أسماء سنة (66 ه-). اُنظر: الذهبی، محمد بن أحمد، تاریخ الإسلام وطبقات المشاهیر والأعلام: ج2، ص385.

وربِّ الضیاء والظلماء، لتنزلنَّ نارٌ من السماء، حمراءُ دهماءُ سحماءُ، فلتحرقنَّ دارَ أسماء»(1).

نجد أنَّ المختار اعتمد فی قَسَمه هذا علی (واو القسم) فی مستهلّ النص، وتعمَّد أنْ یطیل نسقه بواوات العطف الأُخری، لینوّع الصورة المُقسم بها، ویزید التأکید تأکیداً، ثمَّ یعود بعد ذلک الطول النسقی إلی إغلاق بنیة القسم بجواب القسم المتکون من الفعل المضارع المؤکَّد بالنون الثقیلة، والمقترن بلام الجواب.

إنَّ إطالة نسق القسم بالعطف شائع فی تراکیب القسم عند العرب وأعلاها فی أُسلوب القرآن الکریم المعجز، فمن ذلک تکریر حرف العطف (الواو) فی قوله:«وَاللَّیْلِ إِذَا یَغْشَی *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّی * وَمَا خَلَقَ الذَّکَرَ وَالْأُنْثَی * «إِنَّ سَعْیَکُمْ لَشَتَّی » (2).

فالمنشئ اختطَّ لنفسه أُسلوباً مرکباً مُحاکیاً هذا الأُسلوب وکلام العرب، والسبب فی ذلک أنَّه یُرید أن یجعل المتلقی بترقّب دائم وتشوّق لسماع جواب القسم.

إنَّ للاستهلال بالقسم أثراً أُسلوبیاً فی النص، یکمن فی إثراء دلالة المقسم علیه

- جواب القسم - نظراً لما یحمله القسم من تأکید للکلام وإزالة الشک عن نفس المخاطب(3).

وقد وردت فی نصوص الحِقبتین صیغ أُخری للقسم غیر لفظ الجلالة أو ما فی معناه، کما نجد فی عهد المختار الثقفی، الذی قطعه أمام قبر الإمام الحسین(علیه السّلام):

«یا سَیّدِی آلَیتُ بِجَدّکَ المُصْطَفَی، وأبِیْکَ المُرْتَضَی، وأُمِّکَ الزَّهْرَا، وأخیکَ الحَسَن المُجْتَبَی، وَمَنْ قُتِلَ مَعَکَ مِنْ أهلِ بَیْتِکَ وشِیعَتِک فی کربلا، لا أکَلْتُ طَیّبَ الطَّعَام، ولا شَرِبْتُ لَذِیذَ الشَّرَاب... حتَّی أنْتَقِمَ مِمَّنْ قَتَلَکَ أو أُقْتَل کَمَا قُتِلْتَ»(4).

ص: 246


1- ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج6، ص262.
2- اللیل: الآیة1- الآیة4.
3- اُنظر: العامر، فارس علی، ظاهرة القسم فی القرآن الکریم: ص45.
4- الخوارزمی، محمد بن أحمد، مقتل الحسین(علیه السّلام): ج2، ص187.

فقد استعمل المختار الفعل (آلیت)، وهی بمعنی أقسمت وحلفت(1)، والمقسم به هم أهل بیت النبوة والشیعة المخلصون، وهم الذین استُشهدوا مع الإمام الحسین(علیه السّلام)، وإنَّما أقسم بهم لمکانتهم السامیة الرفیعة، ثمَّ جاء بجواب القسم بعد هذا النسق الطویل فی القسم والذی عمله العطف (بالواو) لیغلق بنیة القسم، ویأتی بالفائدة للسامع. هذا وإنَّ القسم جاء لغرض التوکید ومنسجماً مع سیاق النص الذی جاء مفعماً بروح التهدید والوعید.

وجاء فی خُطبةِ عبد الله بن وال رادّاً علی إبراهیم بن محمد قوله: «ما اعتراضُکَ یا أخا بنی تیم بن مُرَّةَ فیما بَیْنَنَا وبَینَ أمیرنا... فأقْبِلْ علی خَرَاجِکَ، فَلَعَمْرُ الله لَئِنْ کُنْتَ مُفْسِدَاً، ما أفْسَدَ أمرَ هذهِ الأُمَّةِ إلّا والِدُکَ وَجَدُّکَ الناکِثَان»(2).

فقد استعمل الخطیب أداة القسم (عَمْر) مقترنة بلام القسم، و(عَمْر) مِن أسماء القسم، ویغلب أن تستعمل مضافة إلی ما بعدها(3)، وقد أضیفت فی هذا النص إلی (الله) لفظ الجلالة، حتی یکون القسم فی غایة التأکید، ثمَّ نلحظ أنَّ الخبر قد حذف بعد القسم حذفاً وجوبیّاً؛ لأنَّ المبتدأ قد جاء لفظاً صریحاً فی القسم(4)، وتقدیر الکلام: لعمر الله قسمی، وإنَّما حُذف الخبر لدلالة القسم علیه.

ص: 247


1- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج5، ص345. نهر، هادی، التراکیب اللغویّة فی العربیّة: دراسة وصفیّة تطبیقیّة: ص246.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص563.
3- اُنظر: الشافعی، محمد بن عبد الله، شرح الکافیة الشافیة: ج1، ص393- ص394.
4- اُنظر: الحریزی، عائد کریم، الحذف والتقدیر فی الدراسة النحویّة: ص189.

ص: 248

المبحث الثانی :الخصائص المعنویَّة للتَّراکیب

اشارة

تمتاز اللغة العربیة من بین سائر اللغات بمرونتها الواسعة فی بناء جملتها، وفی شکل عناصرها وترتیبها، ومن هنا ظهرت مجموعة من الظواهر اللغویة التی ترفد الجملة بدلالات لغویة جدیدة تکسبها حیویة وفعالیة.

لقد نظر علماء الأُسلوب إلی أنَّ اللغة تکون علی مستویین: مستوی مثالی فی الأداء، والآخر مستوی إبداعی یعتمد علی کسر المثالیة واختراقها(1)، وتتمیَّز لغة الأدب بأنَّها تعتمد علی کسر المثالیة إلی صور متحوّلة عنها، فهی تحاول «أنْ تخترق حدود الأنماط الجاهزة، وتنتهک القوالب الرسمیة، بخلاف اللغة العادیة التی تأتی وما یتَّفق من خلال التفاهم اللغویّ، الذی یحدث بصفة منتظمة بین الأفراد»(2).

وهکذا تقوم اللغة العربیة علی خرق القواعد النحویة، وهذا ما اصطلح علیه فی المفهوم الأُسلوبی (الانزیاح) أو (الانعطاف النحوی)، فإذا کان النحو هو مجال القیود - کما قیل - فإنَّ الأُسلوبیة مجال الحریات(3).

ص: 249


1- اُنظر: الدسوقی، محمد، البنیة اللغویة فی النص الشعری: درس تطبیقی فی ضوء علم الأُسلوب: ص16.
2- عبد المطلب، محمد، جدلیّة الإفراد والترکیب: فی النقد العربی القدیم: ص133.
3- اُنظر: سلیمان، فتح الله أحمد، الأُسلوبیّة: مدخل نظری ودراسة تطبیقیّة: ص27.

فالانزیاح إجراء أُسلوبی فعَّال لخلق اللغة الأدبیة الفارقة لمبدعها، إذ تظهر خلالها سمات أُسلوبیة بأدواتها وتراکیبها ویعتمد علی المبدع الذی یمتلک القدرة علی تشکیل اللغة جمالیاً، بما یتجاوز إطار المستعمل المألوف(1).

وقد عنی الدارسون بالظواهر الترکیبیة من حذفٍ وذِکْرٍ، وتقدیمٍ وتأخیرٍ، وفَصْلٍ ووصلٍ، وتعریفٍ وتنکیرٍ، وتناولوها فی مباحثهم(2)؛ لأنَّها تُحقّق ذلک الانزیاح فی الترکیب، وتکسب النص ثراءً وجدَّة، فضلاً عن تحقیق غایات أُسلوبیة وبیانیة متنوّعة، وسوف یقف البحث عند هذه التراکیب الأُسلوبیة، ویُبیّن خصائصها وسماتها بحسب ما جاء منها فی نصوص الحِقبتین إن شاء الله(سبحانه وتعالی).

أوّلاً: الفصل والوصل

لقد کان لموضوع الفصل والوصل نصیبٌ وافرٌ من العنایة والاهتمام من البلاغیین العرب؛ بوصفه یحقّق انسجاماً بین أجزاء الکلام، ولکونه من مباحث المعانی المتمیّزة بإمکاناتها الأُسلوبیة.

ویبدو أنَّ الجاحظ کان أوَّل مَن تکلَّم عن هذا الموضوع فی کتبه، إذ ورد عنه تعریفٌ للبلاغة بأنَّها: «معرفة الفصل من والوصل»(3).

وغایة الأمر فی الفصل والوصل هو حسن استعمال حرف من حروف المعانی، وهو (الواو) تُضَمُّ به أجزاء الکلام بعضها إلی بعض، حیث یکون ذلک من أجل أداء المعنی علی أحسن وجه وأتمّ صورة (4).

ص: 250


1- اُنظر: ویس، أحمد بن محمد، الانزیاح: من منظور الدراسات الأُسلوبیة: ص120.
2- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص63 وما بعدها. الراجحی، عبده، علم اللّغة والنقد الأدبی: علم الأُسلوب: ص20- ص21. عبد المطلب، محمد، الأُسلوبیّة: ص313- ص350.
3- الجاحظ، عمرو بن بحر، البیان والتبیین: ج1، ص88.
4- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص92.

فالوصل إذاً؛ عطف جملةٍ علی أُخری (بالواو) فقط من دون سائر حروف العطف الأُخری، ویکون (الفصل) بترک هذا العطف(1)، «وصورة هذا الباب من أبواب البلاغة قائمة ماثلة فی باب العطف من أبواب النحو، ولکنَّها تکاد تقتص-ر علی حکم المعطوف وکونه تابعاً للمعطوف علیه فی الإعراب»(2)، فهذا الموضوع موجود أصلاً عند علماء النحو؛ إذ تناولوه فی مباحثهم، لکنَّهم لم یتناولوا فیه معانی العطف المتعدّدة کما تصدی له البلاغیون، إذ کان لهم السبق فی هذا الجانب.

ونظراً لما فی مواضع الفصل والوصل من أهمیّة أُسلوبیة فی الکلام، وذلک لدقّة مسلکهما فی البلاغة فضلاً عن الرصانة فی الکلام، فإنَّنا نلحظ وفرتها فی خُطب ورسائل الحِقبتین.

فممَّا ورد من أُسلوب الفصل: ما جاء فی خُطبةِ سلیمان بن صُرَد الخزاعی قوله: «وأمَّا تاجِرُ الآخرةِ، فَسَاعٍ إلیْها مُتَنَصّبٌ بِتطْلابها، لا یشتری بِها ثَمَناً، لا یُرَی إلّا قائِماً وقَاعِداً، وَرَاکِعاً وَسَاجِداً، لا یَطْلِبُ ذَهَباً ولاِ فِضَّة... وأمَّا تاجرُ الدُّنیا فَمُکِبٌّ عَلَیْهَا، رَاتِعٌ فیها، لا یَبْتَغِی بِها بَدَلاً... جَعَلَنَا اللهُ وإیَّاکُم مِنَ العِبَادِ الصَّالحینَ المُجَاهدینَ الصَّابرین علی الَّلأواء»(3).

وواضح أنَّ ابنَ صُرَد أراد تبیان صفات المؤمنین (تجّار الآخرة) وصفات الکافرین (تجّار الدنیا)، فاسترسل فی وصفهم تارکاً العطف بالواو بین الجمل: (فساع إلیها، متنصب بتطلابها، لا یشتری بها ثمناً، لا یُری إلّا قائماً)، وکذلک بین الجمل (وأمّا تاجر

ص: 251


1- اُنظر: السبکی، بهاء الدین، عروس الأفراح فی شرح تلخیص المفتاح: ج3، ص5.
2- الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص92. اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج2، ص276.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص588.

الدنیا، فمکبٌ علیها، راتعٌ فیها، لا یبتغی بها بدلاً)، وکان المُسّوغ لهذا الفصل وترک العطف بالواو (الوصل)؛ لأنَّ الجمل التالیة للجملة الأُولی کانت بدلاً منها أو توکیداً لها من حیث المعنی، فالجمل بینهما اتحاد تام؛ لذا استغنتْ عن حرف العطف. ویُسمّی البلاغیون هذا الانفصال بکمال الاتصال(1).

ثمَّ نلحظ فی قوله: (جعلنا الله وإیّاکم من العباد الصالحین المجاهدین الصابرین)، أنَّه ترک العطف وفصل بین الکلمات؛ وذلک لأنَّ العطف بالواو إنَّما یکون للجمع بین شیئین متباینین(2)، ولمَّا کانت کلُّ صفة بمعنی الصفة التی قبلها، أو بمنزلة الجزء منها، فذلک اقتض-ی المقام ترک العطف؛ لکون الشیء لا یجوز عطفه علی نفسه(3).

وهذا یدلُّ علی أنَّ الخطیب کان حاذقاً فی سبک الجمل فی خُطبته دقیقاً فی انتقائها عارفاً بمواضع الفصل التی تقع بینها، وما تُضفی علیها من مسحة أُسلوبیة وفنیة عالیة.

وکذلک ورد أُسلوب الفصل فی رسالةِ سعد بن حذیفة بن الیمان إلی سلیمان بن صُرَد بقوله: «وَنَحْنُ جَادُّونَ مُجِدّونَ، مُعِدُّونَ مُسْرِجُونَ مُلْجِمُونَ، نَنْتَظِرُ الدَّاعی...»(4).

فقد أرادَ سعد أنْ یمضی فی إِخبار ابن صُرَد باستعداده وقومه للقیام معه بالثورة، فلجأ إلی أُسلوب الفصل بین الجمل؛ لأنَّ الفصل فیه حماسة وتأثیر کبیر، ولأنَّ صفة الاستعداد کانت فیهم واحدة غیر متباینة، لذلک کان لا بدَّ من الفصل وترک العطف

ص: 252


1- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص258. الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص250.
2- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، کتاب المقتصد فی شرح الإیضاح: ج2، ص937.
3- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص76.
4- صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص116- 117.

الذی یقتض-ی المغایرة، «فأداة العطف لا تعطف الشیء علی نفسه»(1)، والسبب البلاغی الآخر الذی سوّغ هذا الفصل هو أنَّ کلَّ صفة جاءت مؤکدة ومبینة لسابقتها، أو بدلاً منها، وهذا موضع یجب الفصل معه وترک الوصل (2).

ونجد أُسلوب الفصل کذلک فی رسالةِ عبد الله بن یزید إلی سلیمان بن صُرَد لقوله: «وإنَّه مَنْ یُرِد أنْ یَنْقُلِ الجِبَالَ عَنْ مَرَاتِبِها تَکِلّ معاوِلُه، وَیُنْزَع وهوَ مَذْمُومُ العَقَلِ والفِعْلِ. یا قومَنا لا تُطْمِعوا عدوّکُم فی أهلِ بلادِکُم، فإنَّکُم خیارٌ کلّکُم، وَمَتَی مَا یُصِبْکُم عَدوّکم یَعْلَمَوا أنَّکم أعلامُ مِص-ْرکم»(3). فقد فصل المنشئ بین الجملتین الأُولی والثانیة، ولم یوصل بینهما؛ وذلک لأنَّ بین هاتین الجملتین تبایناً تاماً لاختلافهما فی أُسلوبی الخبر والإنشاء، والإنشاء هنا هو أُسلوب النداء فی قوله: (یا قومنا لا تُطمعوا عدوّکم)، ویُسمّی عند البلاغیین بکمال الانقطاع(4) وهو موضع یجب الفصل معه ولا یجوز الوصل.

والملاحظ أنَّ المنشئ کان مدرکاً لسرّ بلاغة الفصل فی موضعه، فجاء به علی أتمّ وجه مِن غیر أنْ یجهد نفسه لملاحظة الجمل ومراقبتها فی خُطبته، وهو ملحظ أُسلوبی واضح فیها.

أمَّا أُسلوب الوصل، فقد جاء بصورة کثیرة فی خُطب ورسائل هاتین الحِقبتین، حتی لیمکن عدّه ظاهرة أُسلوبیة فیها، فقد ورد فی خُطبةِ رفاعة بن شداد رادّاً علی

ص: 253


1- طبل، حسن، علم المعانی: تأصیل وتقییم: ص162.
2- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص253. التفتازانی، مسعود بن عمر، المطوّل (شرح تلخیص السکاکی): ص439.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص591.
4- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص253. الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص249.

المسیّب بن نجبة بقوله: «أمَّا بعدُ، فإنَّ الله قدْ هداک لأصْوَبِ القول، ودَعوتَ إلی أرْشد الأُمور، بدأتَ بِحمدِ الله والثناء علیه، والصلاة علی نبیّه صلّی الله علیه وسلّم، ودعوتَ إلی جهادِ الفاسقین وإلی التوبة من الذنب العظیم...»(1).

فقد وصل الخطیب الجمل مع بعضها بحرف العطف (الواو)؛ لأنّ الجمل موصولة فی الصورة والمعنی، ولأنّ المعانی التی ذکرها الخطیب هی معانی حَسَنة، لذا کان قد جمعها (بواو العطف) وهی أداة الوصل، لتکون المعانی مسترسلة متدافعة لا یعتریها انقطاع أو فصل، هذا فضلاً عن اتّفاق الجُمل کلّها بأُسلوب الخبر الذی أوجب هذا الوصل بَیْنَها(2).

ونجد أُسلوب الوصل فی رسالةِ سلیمان بن صُرَد إلی عبد الله بن یزید بقوله: «أمَّا بعدُ، فقد قرأنا کتابَک وفهِمنا ما نَوَیْتَ، فنِعْمَ واللهِ الوالی، ونعم الأمیر، ونعم أخو العَشیرة، أنت واللهِ مَن نأمَنه بالغَیْب، ونستَنْصِحه فی المَشُورة، ونحمَده علی کلّ حال...»(3).

والملاحظ فی هذا النص، أنّ سلیمان بن صُرَد قد اتکأ علی أُسلوب الوصل لغرض أُسلوبی مقصود، أَلا وهو التمهل فی الحدیث وتوکید المعانی، وهی معانی المدح والثناء، فجاء بالجمل متّحدة فی الخبر، ومتناسقة فی المعنی، فوصل بینها بأداة الوصل (الواو) لیجعل المتلقی فی تنبه دائم للعبارات من غیر أنْ یکون هناک انقطاع فیها.

وجاء کذلک فی خُطبةِ عبد الله بن یزید واصفاً فعل عبید الله بن زیاد للشیعة بقوله: «هو الذیْ قَتَلَکُمْ، ومِن قَبلِهِ أتَیْتُم، والذیْ قَتَلَ مَنْ تثأرون بدمِه، قد جاءکم فاستقبلوه بحدّکُم وشوکَتِکُم، واجعلوها به، ولا تجعلوها بأنفسکم، إنّی لم آلکُم نُصحاً، جَمَعَ الله لنا

ص: 254


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص553.
2- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص260.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص591.

کَلِمَتَنا، وأصلح لنا أئمّتنا»(1).

فقد اعتمد الخطیب علی أُسلوب الوصل کی یعینه علی متابعة الکلام بلا انقطاع أو فصل فی وصف أفعال عبید الله بن زیاد، وذلک لتحریض الثائرین علیه، ونجد کذلک السبب البلاغی الذی سوّغ هذا الوصل بأداة العطف هو اتّفاق الجُمل الأُولی بأُسلوب الخبر، أمَّا الجمل (فاستقبلوه بحدّکم، وشوکتکم، واجعلوها به ولا تجعلوها بأنفسکم)، فقد اتفقت بالأُسلوب الإنشائی المتمثل بأُسلوب الأمر، والنهی، وإنّ هذا الاتفاق حققّ الوصل بین الجمل(2)، کما وضّح الاتفاق بالأُسلوب الخبری بین الجملتین الأخیرتین: (جمع الله لنا کلمتنا، وأصلح لنا أئمتنا)، وإن کان المعنی قد انص-رف إلی الدعاء، وهو مع ذلک یجوز الوصل بینهما لکونه من الأسالیب الإنشائیة التی تعتمد علی الطلب.

وکذلک وَرَدَ فی خُطبةِ المختار الثقفی حین قَدِم الکوفة، فقال: «إنّی قد جئتکم من قِبَل وَلیِّ الأمر، ومَعْدِن الفضل، ووصِی الوصیّ، والإمام المهدی، بأمر فیهِ الشفاء، وکشفُ الغِطَاء، وقتلُ الأعداء، وتمامُ النّعْماء... إنّی إنَّما أعملُ علی مِثالٍ مُثّل لی، وأمرٍ قد بُیِّنَ لی، فیه عزُّ ولیّکم، وَقَتْلُ عدوِّکم، وشفاء صدورِکم»(3).

فقد استثمر المختار أُسلوب الوصل فی إطالة نَسَق الجُمل، وذلک بعطفها بعضها علی بعضٍ، وإیراد الأخبار والمعانی متسلسلة تسلسلاً متناسباً مقنعاً.

ص: 255


1- المصدر السابق: ج5، ص562. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص65- 66.
2- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص260. اُنظر: عتیق، عبد العزیز، علم المعانی: ص174.
3- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص75.

ونلحظ کذلک أنّ المختار فی خُطبته قد قَصَدَ إشراک کلّ جُمْلةٍ فی حکم سابقتها، ولهذا کانت کلّ جملةٍ معطوفةٍ علی التی قبلها، موصولة بها، وهو من أسباب وجوب الوصل بلاغیاً(1)، وکذلک کان السّبب الآخر علی وجوب الوصل فی هذه الخُطبة إلی جانب السبب السابق، هو اتفاق الجُمل بالأُسلوب الخبری(2)، وقد أحسن المختار فی هذا الوصل، وهو دلیل علی ملکته اللُّغویة والبیانیة.

ثانیاً: التقدیم والتأخیر

اشارة

یُعدُّ التقدیم والتأخیر ظاهرة مهمَّة فی الدراسة الأُسلوبیة؛ وذلک لأنّها تُحقّق غایات دلالیة ومعنویة من خلال تغیّر مواقع الألفاظ لِغرض یتطلبه المقام والمعنی(3)، لیبرز أثرها البلاغی والأُسلوبی فی خرق النمط المعیاری للتعبیر، ممَّا یکسب لغة النثر مزیتها الأدبیة، وتفردها عن لغة الکلام الاعتیادی التی تلتزم ما هو أُصولی، فنظام الجملة العربیةُ یتألف من المسند والمسند إلیه، بحدود وضوابط، فالخبر لا یتقدَّم علی المبتدأ، والفاعل لا یتقدَّم علی الفعل إلّا فی أحوال خاصَّة یقتضیها أُسلوب الکلام(4)، قال سیبویه: «کأنّهم أنّما یقدّمون الذی ببیانه أهمُّ لهم، وهم ببیانه أعْنی وإن کان جمیعاً یهمّانهم ویعنیانهم»(5)، فالجانب الدلالی والقصدی هو المسوّغ لهذا الخروج عن قاعدة النمط

ص: 256


1- اُنظر: الرازی، محمد بن عمر، نهایة الإیجاز فی درایة الإعجاز: ص322. العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص545.
2- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ح1، ص260.
3- اُنظر: الشایب، أحمد، الأُسلوب: دراسة بلاغیّة تحلیلیّة لأُصول الأسالیب الأدبیّة: ص197.
4- اُنظر: العوادی، مشکور کاظم، البحث الدلالی فی تفسیر المیزان: دراسة فی تحلیل النص: ص229.
5- سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج1، ص34. اُنظر: حسین، عبد القادر، أثر النحاة فی البحث البلاغی: ص80 - 81.

التقلیدی فی ترتیب أجزاء الجُملة.

ولم تکن هذه الظاهرة الأُسلوبیة غائبة عن أذهان اللّغویین والبلاغیین القدماء، فقد قرّروا «أنّ تقدیم أیّ عنصر من عَنَاصر الجُملة إنّما یکون للاهتمام بذکره والعنایة به، أو لتخصیصه دون سواه ممّا یمکن أنْ یقع موقعه، أو أنّ فی التأخیر إخلالاً ببیان المعنی، أو بالتّناسب فی الفواصل والأسجاع»(1).

وقد عنی المُحدَثون من اللغویین والبلاغیین بهذه الظاهرة؛ وذلک لأنَّها تُعدُّ مبحثاً مهمّاً من مباحث دراسة الأُسلوب الذی یخص ترکیب الجملة وترتیب عناصرها(2).

وتتباری الأسالیب أیضاً وتظهر المواهب والقدرات، لِما یدلّ علی تمکّن المنشئ فی الفصاحة، وحُسن التّص-رف فی الکلام، ووضعه الموضع الذی یقتضیه، وسنلحظ فی خُطب ورسائل الحِقبتین الکثیر من مظاهر التقدیم والتأخیر فی أجزاء التراکیب، وهی لم ترد بشکل عفوی، وإنّما قصدی یُفضی إلی ملحظ أُسلوبی ظاهر.

1- تقدیم المسند إلیه
أ - تقدیم المبتدأ

المبتدأ کما عرّفه سیبویه: «کلّ اسم ابتُدئ لیُبنی علیه الکلام، والمبتدأ والمبنی علیه رفعٌ، فالابتداء لا یکون إلّا بمبنی علیه، فالمبتدأ الأوَّل والمبنی ما بعده علیه فهو مسندٌ ومسندٌ إلیه»(3)، وذکر أنَّ تقدیم المسند إلیه (المبتدأ) هو الأصل فی اللغة العربیة، فموقعه أن

ص: 257


1- أبو جناح، صاحب، المباحث الأُسلوبیة عند ابن جنی، ضمن کتاب دراسات فی نظریة النحو العربی وتطبیقاتها: ص289.
2- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص65. العامری، حمید أحمد عیسی، التقدیم والتأخیر فی القرآن الکریم: ص12 - 51. أبو موسی، محمد، دلالات التراکیب: دراسة بلاغیّة: ص176.
3- سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج2، ص126.

یتقدَّم علی المسند فی الجملة(1)، وذهب إلی ذلک ابن یعیش حین قال: «اعلم أنَّ المبتدأ: کلُّ اسم ابتدأته، وجرّدته من العوامل اللفظیة للإخبار عنه»(2).

ویأتی تقدیم (المبتدأ) أحیاناً مُفْعَماً بالدلالات البلاغیة، ذلک أنّ تقدیمه یُعدُّ «من المسائل الأُسلوبیة التی یُستحسن بالمتکلّم مراعاة جوانبها لتجد طریقها إلی نفس السامع، لیتمَّ تهیئة الذهن وقبولها قبولاً حسناً؛ إذ کلّما ابتدأ الکلام بما یسرُّ النفس ویشرح الصدر کان أکثر وقعاً وأکثر تمکناً فی النفس»(3).

وسوف یتناول البحث تقدیم المسند إلیه (المبتدأ) من وجهة نظر بلاغیة، وما یؤدیه من دلالات تعمل علی إغناء النص بالقیم الأُسلوبیة، فقد جاء فی عهدِ المختار الثقفی بالأمان لعمر بن سعد بن أبی وقاص قوله: «بسم الله الرحمن الرحیم، هذا أمانٌ من المختار بن أبی عبید لعمر بنِ سعد بن أبی وقاص، إنّکَ آمنٌ بأمان الله علی نَفْسِکَ ومالِک...»(4).

فقد تقدّم المسند إلیه (المبتدأ) (هذا) وهو اسم إشارة، علی المسند (الخبر) (أمان)، وکان ذلک التقدیم لغرض أُسلوبی بلاغی، وهو لفت النظر وزیادة فی التخصیص(5)، فهو یقصد جَذبَ تنبّه السامع وإبلاغه فی أنّ هذا العهد المبرم لعمر هو کتاب أمان مخصوص له، کی لا یعرض له أحدٌ بسوء، وکان ذلک فی بدایة حکم المختار، وهو عهد لسبب سیاسی لجأ إلیه کی یؤمن علی عمر موقفه بما لا یصدر منه ما یُفسد علیه حکمه.

ص: 258


1- اُنظر: المصدر السابق: ج1، ص23.
2- ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج1، ص221.
3- العامری، حمید أحمد عیسی، التقدیم والتأخیر فی القرآن الکریم: ص62.
4- صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص126.
5- اُنظر: العامری، حمید أحمد عیسی، التقدیم والتأخیر فی القرآن الکریم: ص61.

وقد ورد تقدیم المسند إلیه (المبتدأ) کذلک فی خُطبةِ المختار التی ألقاها فی دار إبراهیم الأشتر قوله: «الحمدُ لله، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وصلَّی الله علی محمّدٍ، والسلام علیه، أمَّا بعدُ، فإنّ هذا کتابٌ إلیک من المهدیّ محمد بن أمیر المؤمنین الوصیّ، وهو خیر أهل الأرض الیوم... وهو یسألک أن تنصرنا وتؤازرنا»(1).

فقدّم المسند إلیه (الحمد) علی المسند (لله)؛ لأنَّه ذکر الحمد وملَّکه لله(سبحانه وتعالی)، وهذا مجاراة لأُسلوب القرآن الکریم فی سورة الفاتحة، قال(سبحانه وتعالی): «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ » (2)، وأمَّا قوله: (فإنَّ هذا کتاب إلیک)، فقد جاء المسند إلیه (المبتدأ)، وهو اسم إنّ (اسم الإشارة) مقدَّماً علی المسند (کتاب) لأجل تمکین الخبر فی ذهن السامع(3)، من جهة صدوره من محمد بن الحنفیة، ولکی یقنع السامع ویجذب تنبهه إلیه، ومثله قوله: (وهو خیر أهل الأرض الیوم)، فقدّم المسند إلیه الضمیر (هو) علی المسند (خیر) للغرض البلاغی المتقدّم.

ب - تقدیم الفاعل

الفاعل هو المسند إلیه فی الجملة الفعلیة، وقد أطلق علیه هذه التسمیة الخلیل بن أحمد الفراهیدی وتلمیذه سیبویه(4)، واستعمله الفرَّاء(5) والمبرد(6).

والأصل فی الجملة الفعلیة أن یُقدّم الفعل ویلیه الفاعل، وعلی هذا مضی

ص: 259


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص16.
2- الفاتحة: آیة1.
3- اُنظر: شروح التلخیص: ج1، ص391.
4- اُنظر: سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج1، ص33- 34 وما بعدها.
5- اُنظر: الفرَّاء، یحیی بن زیاد، معانی القرآن: ج1، ص89.
6- اُنظر: المبرّد، محمد بن یزید، المقتضب: ج4، ص102.

البص-ریون. أمّا الکوفیون، فقد أجازوا تقدیم الفاعل علی الفعل(1)، وقد تابعهم فی هذا طائفة من المُحدَثین، ومنهم المرحوم الدکتور المخزومی(2).

ومهما یکن من أمرٍ، فمسألة تقدیم الفاعل علی عامله مسألة خلافیّة فی أصلها، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار برأی الکوفیین فی تقدیم الفاعل (المسند إلیه)، فإنَّنا نُدرک الأغراض الأُسلوبیة التی من أجلها یُقدم الفاعل، ومنها التخصیص، والاهتمام بالفاعل (3).

ومن أجل هذا وقع تقدیم الفاعل علی عامله فی بعض المواضع من خُطب ورسائل هاتین الحِقبتین.

فقد جاء فی خُطبةِ عبد الله بن سعد: «إنّی قدْ رأیت رأیاً، إِنْ یَکُنْ صواباً فالله وَفَّقَ، وإنْ یَکُنْ لیسَ بصوابٍ فَمِن قِبَلِی، فإنّی ما آلوکُم ونَفْسِی نُصْحاً خَطَأً کانَ أم صَوَاباً...»(4).

فقد قصد المتکلّم أن یُقدّم الفاعل علی فعله فی قوله: (فالله وفق)، فأصل الجملة (وفق الله)، فتقدیم (الله) بوصفه مسنداً إلیه (فاعل) یحمل معه سمة أُسلوبیة أضفت علی النص انزیاحاً ترکیبیاً کان الغرض منها هو نسبة التوفیق لله(سبحانه وتعالی) وإعطاؤه صفة العظمة، فهو وحدهُ(سبحانه وتعالی) القادر علی توفیق عباده ونصرهم.

وقد جاء تقدیم المسند إلیه (الفاعل) علی عامله المسند (الفعل) فی خُطبةِ سلیمان بن صُرَد رادّاً علی عبد الله بن یزید، وإبراهیم بن طلحة: «إِنِّی قدْ عَلِمتُ أنّکما قدْ مَحَضْتُما فی

ص: 260


1- اُنظر: أبو حیان الأندلسی، محمد بن یوسف، ارتشاف الضرب من لسان العرب: ج3، ص132.
2- اُنظر: المخزومی، مهدی، مدرسة الکوفة ومنهجها فی دراسة اللغة والنحو: ص278.
3- اُنظر: المخزومی، مهدی، فی النحو العربی: قواعد وتطبیق: ص91. السامرائی، فاضل صالح، التعبیر القرآنی: ص49.
4- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص69.

النصیحَة، واجْتَهَدْتُما فی المَشُورَة، فَنَحْنُ باللهِ وَلَهُ، وَقَدْ خَرَجْنا لأمرٍ، ونَحْنُ نَسْألُ اللهَ العَزِیْمَة علی الرشد والتسدید لأصوَبِه»(1).

فقد تقدَّم الفاعل (نحن) - وهو ضمیر الجماعة - علی عامله الفعل (نسأل)، وکان ذلک فی سیاق الدعاء والتضرُّع، وفی هذا التقدیم سمة أُسلوبیة، ألا وهی إفادة الاختصاص(2)، أی: تخصیص الدعاء لهم وقصره علیهم.

2- تقدیم المسند
أ- تقدیم الخبر

الأصل فی المسند إذا کان خبراً أن یتأخر عن المسند إلیه (المبتدأ) فی الجملة، فالخبر کما عرّفه ابن جنی: «هو کلّ ما أسندته إلی المبتدأ، وحدَّثت به عنه»(3)، فهو إذن یلی المبتدأ فی ترتیب الجملة «ولکن هذا الوضع غیر ثابت، فقد یطرأ علی الخبر ما یستدعی تقدیمه من ضرورة، أو حظوة باهتمام المتکلّم»(4)، أو غیرها من الأغراض البلاغیة التی یستدعیها السیاق، وعندها یتحقَّق الانزیاح فی ترکیب بنیة الجملة، والخروج علی النمط المعیاری الذی یقتضی أن تتسلسل البنی الترکیبیة فیه للجملة الاسمیة من مسند إلیه (مبتدأ) ومسند (خبر) محقّقاً تلک الأغراض البلاغیة التی أشار إلیها البلاغیون فی مباحثهم(5)، وأمثلة هذا التقدیم غیر المألوف کثیرة فی خُطب ورسائل الحِقبتین.

ص: 261


1- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ص70. ومحض فی النصیحة: أخلص فیها. اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج13، ص37، مادة (محض).
2- اُنظر: السامرائی، فاضل صالح، الجملة العربیة والمعنی: ص136.
3- ابن جنی، عثمان، اللمع فی العربیة: ص80.
4- المخزومی، مهدی، فی النحو العربی: قواعد وتطبیق: ص149. اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج1، ص235.
5- ظ: الجندی، درویش، علم المعانی: ص84.

جاء فی خُطبةِ ابن صُرَد: «أمَّا بعدُ أیّها النّاس، فإنَّ الله قدْ علم ما تنوُون، وما خرجتم تطلبُون، وإنَّ للدّنیا تُجَّاراً، وللآخرة تُجَّاراً...»(1).

فقد عمد الخطیب إلی تقدیم المسند (الخبر)، وهو الجار والمجرور (للدنیا) - إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار آراء بعض النحاة التی تُرجّح أن یکون الخبر شبه جملة ظرفاً أو جارّاً ومجروراً(2) - فقدَّمه علی المسند إلیه (تجَّاراً) وهو (أسم إنَّ)، وکذلک فعل مثل هذا الصنیع فی الجملة الثانیة؛ إذ قدَّم المسند (للآخرة)، وهو جار ومجرور (خبر إنَّ) علی المسند إلیه (تجاراً)، وهو (اسم إنَّ) المحذوفة لدلالة (إِنَّ) المتقدِّمة علیها، وکان الخطیب إنَّما قدّم المسند علی المسند إلیه فی کلتا الجملتین، وذلک لأغراض أُسلوبیة وهی: التخصیص، والقصر، والتوکید(3)، فأراد أن یخصّص ویؤکّد أنَّ للدنیا تجارها وهم الکافرون والمنافقون، وأن یؤکّد أنّ للآخرة تجارها وهم المؤمنون والصالحون؛ لیجذب تنبه السامع نحو هذا التقدیم الذی خرج عن قاعدة الترتیب فی نظام الجملة.

ومن تقدیم المسند (الخبر): ما ورد فی خُطبةِ محمد بن الحنفیة: «أمَّا بعدُ، فأمَّا ما ذَکرتُم ممَّا خصّصنا الله به من فَضلٍ، فإنَّ الله یؤتیه مَن یشاءُ والله ذُو الفَضل العَظیم، فلله الحَمْد...»(4).

فقد حدث فی ترتیب الجملة الاسمیة (لله الحمد) انزیاحٌ مقصودٌ فی تبادل عناصرها المکوّنة لها عمّا هو مألوف فی نظامها، وذلک بتقدیم المسند (الخبر) وهو الجار

ص: 262


1- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص71.
2- اُنظر: أبو حیان الأندلسی، محمد بن یوسف، ارتشاف الضرب من لسان العرب: ج3، ص1121.
3- اُنظر: الزمخشری، محمود بن عمر، الکشاف: ج4، ص745. الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص86.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص13.

والمجرور (لله) علی المسند إلیه (المبتدأ) وهو (الحمد)، وإنَّما کان ذلک لغرض أُسلوبی فی الکلام، ألا وهو التخصیص والقصر(1)، أی قصر الحمد لله(سبحانه وتعالی) وتخصیصه له دونما سواه، فهو وحده سبحانه المستحق لذلک الحمد؛ لأنّه واهب الخیر والنعمة والعطاء.

3- التقدیم فی المتعلّقات
اشارة

3- التقدیم فی المتعلّقات(2)

قد یُقدّم غیر المسند إلیه والمسند فی الکلام، وذلک کتقدیم الجار والمجرور أو المفعول به وغیر ذلک من المتعلّقات، «ویکون ذلک التقدیم لأغراض یدرکها القارئ أو السامع من تأمّل السیاق الذی یرد فیه»(3)، وسنقف من موارد لهذا التقدیم علی النحو الآتی:

أ- تقدیم الجار والمجرور

الجار والمجرور من متعلّقات الإسناد، ورتبتها عند النحویین والبلاغیین هی التأخیر عن الإسناد. ومکوناته: (المسند إلیه والمسند)(4)، ویتقدّم الجار والمجرور لأغراض بلاغیة وأُسلوبیة ترتبط بالمستوی الدلالی ارتباطاً وثیقاً، وغالباً ما یأتی لأغراض التوکید والتخصیص أو الضرورة(5).

وکثر وقوع هذه الظاهرة الأُسلوبیة فی خُطب ورسائل الحِقبتین، فقد جاء فی خُطبة سلیمان بن صُرَد الخزاعی لقوله: «فإنّی والله لخائفٌ ألّا یکون آخِرُنا إلی هذا الدَّهر الذی نَکِدَت فیه المعیشة، وعَظُمَت فیه الرزیة، وشَمل فیه الجورُ أولی الفضل مِن الشیعة»(6).

ص: 263


1- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص86.
2- المتعلقات: مصطلح بلاغی. اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص195.
3- طبل، حسن، علم المعانی: تأصیل وتقییم: ص17.
4- اُنظر: المبرّد، محمد بن یزید، المقتضب: ج4، ص102. ابن الأثیر، نصر الله بن محمد، المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر: ج2، ص39.
5- اُنظر: العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص236.
6- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص60.

فنلحظ أنَّ السمة الأُسلوبیة فی هذه القطعة، هی تقدیم الجار والمجرور (فیه) - فی ثلاثة مواضع - علی الفاعل (المعیشة)، و(الرزیَّة)، و(الجور)، وإنَّما کان ذلک لغرض ٍ یتطلَّبه المقام، وهو الاختصاص کما ذهب إلی ذلک العلوی(1)، أو قد یکون تقدیمه إلی جانب هذا الغرض البلاغی، غرضاً موسیقیاً، ألا وهو المحافظة علی توازن العبارات ونظم الکلام(2).

فالخطیب إذاً؛ اعتمد تقدیم الجار والمجرور للغرضین السابقین، غرض ٍ معنوی بلاغی أفاد تخصیص المعیشة والرزیة والجور فی هذا الدهر - أی فی عص-رهم وزمانهم - وغرض ٍ موسیقی إیقاعی قوامه تعادل الفقرات وتوازنها، فلو لم یُقدَّم الجار والمجرور فی تلکم المواضع الثلاثة لاختلّ نظام الفقرات ولاضطرب الوزن السجعی، ولم تکن هناک مزیّة تجذب تنبّه السامع نحو النص.

ب - تقدیم المفعول به

المفعول به: هو الاسم الفضلة الواقع علیه عمل الفاعل، وهو الاسم المنتصب بعد تمام الجملة من ناحیة الإسناد(3)، فالأصل فیه أنْ یقع بعد الفاعل، سواء أکان هذا الفاعل ظاهراً أم مستتراً، وأنَّ ذلک یکون فی النمط المعیاری للجملة، ولکن قد تکون هناک أحوال معینة تکسر هذا المعیار وتخرج علیه؛ فیُقّدم المفعول به تحقیقاً لغایات أُسلوبیة فی الکلام. وقد ذکر السیوطی ضوابط تقدیم المفعول به فی الکلام(4)، کما ذکر غیره الأغراض الدلالیة التی یُفیدها هذا التقدیم کالاختصاص والحصر وغیرهما(5).

ص: 264


1- اُنظر: العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص236.
2- اُنظر: أبو موسی، محمد، خصائص التراکیب: دراسة تحلیلیة لمسائل المعانی: ص366- 367.
3- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، المقتصد فی شرح الإیضاح: ج1، ص579.
4- اُنظر: السیوطی، عبد الرحمن، الأشباه والنظائر فی النحو: ج2، ص72.
5- اُنظر: العامری، حمید أحمد عیسی، التقدیم والتأخیر فی القرآن الکریم: ص106- 107.

وقد ورد تقدیم المفعول به فی مواضع من خُطب ورسائل الحِقبتین، فقد جاء فی خُطبةِ سلیمان بن صُرَد الخزاعی قوله: «ومَاَ مَعَنَا مِنْ ذَهَبٍ وَلا فِضَّة، ولا خَزّ وَلا حَرِیر، وَمَا هوَ إلّا سیوفنا فی عواتِقنا وَرِمَاحنا فی أکُفَّنا، وزادٌ قدر البُلْغة إلی لِقَاءِ عدوّنا، فمَن کانَ غیرَ هذا یَنْوی فلا یَصْحَبْنا»(1).

فقد عمد المنشئ إلی تقدیم المفعول به وهو (غیر) فی قوله: (فمَن کان غیر هذا ینوی)، فقدَّمه علی الفعل وفاعله المضمر فی (ینوی). وقد تناول البلاغیون مسألة تقدیم الاسم (غیر) فی الکلام، فرأی الجرجانی أنَّ (غیر) یُقدّم فی الکلام أبداً علی الفعل، ولا یستقیم المعنی إلّا إذا قُدّم(2)، وإلی ذلک ذهب فخر الدین الرازی (ت606ه-)(3)، ویبقی الغرض البلاغی من وراء تقدیمه هو القصر، کما هو ملاحظ فی المثال أعلاه.

ویُقدّم المفعول به أیضاً فی أُسلوب القص-ر ب-(ما) و(إلّا)، وفیه یقع الاختصاص علی المذکور بعد (إلّا)(4)، وهو المقصور علیه(5)، یقول التفتازانی (ت792ه-): «إنَّ المقصور علیه یجب أنْ یلی أداة الاستثناء»(6)، وقد ورد هذا التقدیم فی خُطبة عبد الله بن وال التیمی رادّاً علی إبراهیم بن محمد بن طلحة: «مَا اعتراضُکَ یا أخا بنی تیمَ بنَ مُرَّة فیمَا بَیْنَنَا وبینَ أمیرِنَا... فلَعمْرُ الله لَئِن کُنْتَ مُفْسِداً، ما أفسدَ أمرَ هذه الأُمَّة إلّا وَالدُکَ وجَدُّکَ النَّاکِثَان»(7).

ص: 265


1- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص68.
2- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص140.
3- اُنظر: الرازی، محمد بن عمر، نهایة الإیجاز فی درایة الإعجاز: ص311.
4- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص34.
5- اُنظر: الرازی، محمد بن عمر، نهایة الإیجاز فی درایة الإعجاز: ص168.
6- التفتازانی، مسعود بن عمر، المطوّل (شرح تلخیص السکاکی): ص402.
7- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص67.

فقدّم المفعول به (أمرَ) علی الفاعل (والدک) والمعطوف علیه (جدک) فی قوله: (ما أفسد أمر هذه الأُمة إلّا والدُک وجدُّک)، وکان ذلک فی أُسلوب القصر، وأراد به قص-ر إفساد أمر الأُمّة علی (الفاعل) محمد وطلحة، وهو المقصور علیه، وقد وقع بعد الأداة (إلّا)، وفی ذلک نوع من الاختصاص والتوکید، فالخطیب أراد أن یؤکّد الدور الذی قام به طلحة وابنه محمد فی الخروج علی طاعة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام) وشقّ عصا المسلمین، فالذی یصدر عنه هذا الأمر هو أولی بالإفساد من غیره، فیجب علی إبراهیم عندها ألّا یرمی التوّابین بإفساد أمر الأُمّة.

ثالثاً: التعریف والتنکیر

اشارة

یُعدُّ التعریف والتنکیر من الظواهر الأُسلوبیة التی تُعطی المنشئ المرونة فی صیاغة الجملة، فهو یمثل جانباً مهمّاً فی بنائها الترکیبی؛ لأنّه «یُمثّل قیمة تعبیریة متنوّعة بفضل المعانی التی یخرج إلیها والتی ترتبط ارتباطاً واسعاً بالسیاق، وما یتطلَّبه السیاق من إیراد المعرفة والنکرة»(1).

وقد تکلّم سیبویه عن ظاهرة التعریف والتنکیر وأثرها فی الکلام من حیث صحته من جهةٍ، ومن حیث دلالته من جهةٍ أُخری فی باب الإخبار عن النکرة بالنکرة(2)، وکذلک عرض ابن جنّی «لدلالة التنکیر فی اللّغة وأثرها فی مجری العبارة بالموازنة مع حال التعریف التی تمثّل نمطاً مغایراً فی دلالتها وما تنصرف إلیه عند الاستعمال»(3).

ص: 266


1- الجمیلی، عدنان جاسم، الآیات القرآنیة المتعلّقة بالرسول محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): دراسة بلاغیّة أُسلوبیّة: ص236.
2- اُنظر: سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج1، ص54.
3- أبو جناح، صاحب، المباحث الأُسلوبیة عند ابن جنّی، ضمن کتاب دراسات فی نظریة النحو العربی وتطبیقاتها: ص293.

ویدخل التعریف والتنکیر فی رکنی الإسناد، أی: المسند إلیه والمسند، فالأصل فی المسند إلیه أن یکون معرفة، والأصل فی المسند أن یکون نکرة(1)، فالمسند إلیه محکوم علیه، فإذا نُکّر أصبح غیر ذی فائدة، کما أنَّ المسند محکوم به والحکم بالمعلوم لا یفید أیضاً(2).

وکان للبلاغیین نصیبٌ وافرٌ فی تناول هذا الظاهرة، وما تؤدّیه من أغراض یسعی النص لتحقیقها (3).

وسوف یتناول البحث أوَّلاً ظاهرة تعریف المسند إلیه والمسند، وما فی کلّ منهما من دلالات وإیحاءات بلاغیة؛ ذلک أنّ التعریف من الظواهر البلاغیة والنحویة التی لها أثرٌ کبیرٌ فی ترکیب الجملة ودلالتها(4).

1- تعریف المسند إلیه

قد یأتی تعریف المسند إلیه بالإضمار، فمن ذلک ما جاء فی خُطبة المسیّب بن نجبة الفزاری رادّاً علی إبراهیم بن محمد: «یا بن الناکثین، أنْتَ تٌهَدّدُنَا بِسَیْفِکَ وَغَشْمِکَ، أنْتَ - والله - أذلُّ مِنْ ذلک، إنّا لا نلومُکَ علی بُغْضِنَا وَقَدْ قَتَلْنَا أبَاکَ وَجَدّکَ...»(5).

فقد جاء المسند إلیه معرّفاً بضمیر المخاطب (أنت) فی موضعین: فی قوله: (أنت تهددنا بسیفک)، وقوله: (أنت والله أذلُّ من ذلک)، والغرض البلاغی من وراء التعریف هو توجیه الخطاب إلی الحاضر المعیَّن(6)، وهو إبراهیم بن محمد الحاضر أمامه.

ص: 267


1- اُنظر: الجندی، درویش، علم المعانی: ص94.
2- اُنظر: ابن یعقوب المغربی، أحمد، مواهب الفتاح فی شرح تلخیص المفتاح: ج1، ص354.
3- اُنظر: الزملکانی، عبد الواحد بن عبد الکریم، التبیان فی علم البیان المطلع علی إعجاز القرآن: ص50. العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص208.
4- اُنظر: الزوبعی، طالب محمد، علم المعانی: بین بلاغة القدامی وأُسلوبیّة المُحدثین: ص154.
5- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص562.
6- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص114.

وجاء تعریف المسند إلیه فی خُطبة المختار حین قدِم الکوفة: «أمَّا بعدُ، فإنَّ المهدی ابن الوَصیّ، محمّد بن علی، بَعَثَنی إلیْکُم أمیناً وَوَزیراً، ومُنْتَجَباً وأمِیراً»(1).

فقد جاء بالمسند إلیه (اسم إنّ) المبتدأ فی أصله، معرّفاً بالعلمیة، وهو من نوع اللّقب (المهدی بن الوصی)، وکان الغرض البلاغی من تعریفه هو لأجل التعظیم(2)، فالخطیب إنّما هو فی مقام التعظیم والتبجیل لمحمد بن الحنفیة، وقد کرَّر من تعریف ذلک المسند إلیه، لیزید الإیضاح عندما جاء بعبارة: (محمد بن علی) بدلاً من المهدی ابن الوصی، وهی فی حکم المسند إلیه؛ لکونه بدلاً منه، ولکن فی هذه المرّة جاء بتعریفه باسم یخصُّه حتی یحض-ره فی ذهن السامع زیادة فی التأکید والإیضاح(3).

وجاء فی خُطبةِ إبراهیم بن مالک الأشتر، محرّضاً القبائل علی قتال ابن زیاد: «هذا قاتِلُ ابنِ بنتِ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قدْ جاءکم الله به، وأمْکَنَکُم الله مِنه الیوم... هذا ابنُ زیادٍ قاتلُ الحسینِ، الذی حال بَینَه وبَیْنَ ماءِ الفُراتِ أنْ یَشْ-رَبَ مِنْه هوَ وأولادُه ونِساؤُه، وَمَنَعَهُ أنْ یَنْصَ-رِفَ إلی بَلَدِهِ، أو یأتیَ یزیدَ بن معاویة... هذا الذیْ فَعَلَ فی آلِ نَبِیِّکُم مَا فَعَل، قد جاءَکُم الله به»(4).

فقد جاء تعریف المسند إلیه باسم الإشارة فی ثلاثة مواضع هی: (هذا قاتل ابن بنت رسول الله)، و(هذا ابن زیاد قاتل الحسین)، و(هذا الذی فعل فی آل نبیکم ما

ص: 268


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص580. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص87.
2- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص181. الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص115.
3- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص114. عبد المطلب، محمد، البلاغة والأُسلوبیّة: ص344.
4- ابن کثیر، إسماعیل، البدایة والنهایة: ج8، ص281- 282.

فعل)، وإنَّما کان التعریف باسم الإشارة، حتی یُمیِّز المسند إلیه أکمل تمییز بإحضاره محسوساً فی ذهن السامع(1)؛ وذلک «لأنَّ اسم الإشارة بطبیعة دلالته یُفید تحدید المراد منه تحدیداً ظاهراً وتمییزه تمییزاً تامّاً، ولذا؛ فإنّ المتکلّم قد یقصد إلی هذا التحدید لیحضر المسند إلیه فی ذهن السامع متمیّزاً تمام التمییز، وذلک عندما یکون معنیّاً بالحکم الذی یُرید إضافته إلیه، ویرغب فی إبرازه وزیادة تأکیده»(2)، فالخطیب أراد إحضار المسند إلیه فی الذهن لیزید إبرازه والتأکید علیه متعاضداً مع قصدیة تکراره، لیزید من ذلک التوکید والإیضاح، وکذلک لبیان حاله من القرب والبعد.

وجاء فی خُطبةِ سلیمان بن صُرَد الخزاعی: «إنَّ الذی قَتَلَ صَاحِبَکُم وعبّأ الجنودَ إلیه، وقالَ: لا أمانَ لهُ عِنْدی دُونَ أنْ یَستَسْلِمَ فأمضی فیه حُکْمی، هذا الفاسق ابنُ الفاسق، ابنُ مرجانة... وَرَجونا أنْ یَدِینَ لَکُمْ مَنْ وَراءکم مِنْ أهلِ مِص-رِکُم فی عافیة، فتنظرون إلی مَنْ شَرَکَ فی دمِ الحسینِ فَتُقاتلونَه ولا تَغْشَمُوا، وإنْ تُسْتَشهدُوا فإنَّما قاتَلْتُم المُحِلّینَ، ومَا عندَ اللهِ خیرٌ للأبرارِ والصدّیقین»(3).

فجاء تعریف المسند إلیه بالاسم الموصول فی مواضع هی: (إنَّ الذی قتل صاحبکم)، ف-(اسم إنَّ) وهو مسند إلیه، قد وقع اسماً موصولاً، وکان یمکن للخطیب أن یُعبّر عن المسند إلیه بالعلم - مثلاً - لکنَّه آثر تعریفه بالاسم الموصول لغرض أُسلوبی بلاغی، وهو استهجان التصریح به(4) لکونه ابن زیاد، والموضع الثانی هو: (ورجونا أن یدین لکم مَن وراءکم من أهل مصرکم) قد جاء المسند إلیه، وهو الفاعل (مَن) وهو

ص: 269


1- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، مفتاح العلوم: ص183. التفتازانی، مسعود بن عمر، المطوّل (شرح تلخیص السکاکی): ص224.
2- فیود، بسیونی عبد الفتاح، علم المعانی: دراسة بلاغیة ونقدیَّة لمسائل المعانی: ص123.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص586.
4- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص115.

اسم موصول معرّفاً بالموصولیة لغرض التفخیم والتشریف(1)، فأراد الخطیب أنْ یعظّم من شأن هؤلاء الذین وراءهم من الذین یدینون لهم من أهل مصرهم، والموضع الآخر قوله: (وما عند الله خیر للأبرار)، فقد جاء بالمسند إلیه وهو المبتدأ (ما) اسماً موصولاً لغرض أُسلوبی وهو التعمیم والتهویل «لما فی الموصول من إبهام وغموض»(2)، فأراد المنشئ أن لا یحدّد الش-یء الذی عند الله(سبحانه وتعالی) من الخیر والعطاء، وإن کنّا نعلم أنَّما هو الجنة ونعیمها حتی «یذهب الذهن فی تصور النعیم کلَّ مذهب، ولبیان عظمة هذا النعیم»(3).

وجاء فی خُطبةِ المختار الثقفی قوله: «أمَّا بعدُ، فإنَّ هذا کتابٌ إلیکَ مِن المهدیّ محمّد ابن أمیرِ المؤمنینَ الوصیّ... وهو یسألکَ أنْ تَنْصُرَنَا وتُؤازِرنا، فإنْ فَعَلتَ اغْتَبَطت وإنْ لَمْ تَفْعَل فهذا الکتابُ حُجَّةٌ علیکَ»(4).

فقد جاء بالمسند إلیه معرّفاً ب-(ال) فی قوله: (فهذا الکتاب حجة علیک)، ف-(الکتاب) بدل من المسند إلیه (هذا)، فهو بحکم المسند إلیه، وإنَّما جاء التعریف بالألف واللام لإفادة دلالة العهد الصریح، کأن یکون هناک معهود بین المتکلّم والسامع(5)، «وذلک بأن یتقدّم ما یدلُّ علی المسند إلیه من قرائن صریحة أو ضمنیة فی الکلام»(6)، وقد تقدَّم ذکر الکتاب صراحة فی أوّل الخُطبة فی قوله: (فإنَّ هذا کتاب إلیک)، فدلَّ علی ذلک العهد الصریح.

ص: 270


1- اُنظر: المصدر السابق.
2- عبد المطلب، محمد، البلاغة الأُسلوبیّة: ص346.
3- حسّان، تمام، البیان فی روائع القرآن: دراسة لغویة وأُسلوبیة: ج2، ص325.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص16.
5- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص122. عبد المطلب، محمد، البلاغة والأُسلوبیّة: ص347.
6- جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص170.

وجاء فی رسالةِ المختار إلی عبد الرحمن بن سعید: «أمَّا بعدُ، فقدْ بَلَغنی کتابُک وفَهِمْتُ کلَّ ما ذکرتَ فیه، فقد أصبْتَ بانْحِیازِکَ إلی تکریت، فلا تَبْرَحَنّ مَکَانَکَ الّذی أنتَ به حتی یأتیک أمْرِی»(1).

فقد جاء المسند إلیه (الفاعل) (کتابک) معرّفاً بالإضافة إلی (الکاف)، لاختصار حضوره فی ذهن السامع(2)، فهو أخصرُ منه لو قال: لقد بلغنی الکتاب الذی أنت بعثته إلیَّ. وبهذا یکون الکلام أکثر إجْمالاً من التفصیل الذی ربَّما یتعذَّر علی المتکلّم، ویعاظل علیه المعانی(3).

2- تعریف المسند
اشارة

جاء تعریف المسند فی مواضع من نصوص الحِقبتین، ونجد ذلک فی خُطبة إبراهیم بن مالک الأشتر: «وَیْحَکُمْ یا مَعْشَرَ رَبِیْعَة وَمُضَر! انْصَرِفُوا عنّی، فَحَسْبکُم مِنّی، أنا ابنُ الأشْتَر، أنا ابنُ الضلّ الذّکر، والله ما أحبُّ أن یُصَابَ أحدٌ مِنْکُم علی یَدِی»(4).

فقد جاء المسند (الخبر) معرّفاً بالإضافة فی موضعین هما: (أنا ابن الاشتر)، (وأنا ابن الضلّ الذکر)، وإنّما عُرّفَ لغرضٍ بلاغی هو تعظیم المسند إلیه (المبتدأ)؛ لأنَّ المسند أُضیف إلی ما یکسبه التعظیم والتشریف(5) فالمنشئ یعظّم نفسه ویُش-رّفها بکونه ابناً لمالک الأشتر الصحابی الجلیل صاحب الذکر والصیت.

ص: 271


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص39. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص127.
2- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، لسان العرب: ص186. الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص125.
3- ظ: عبد المطلب، محمد، البلاغة الأُسلوبیّة: ص348.
4- ابن أعثم الکوفی، أحمد، کتاب الفتوح: ج6، ص262.
5- اُنظر: فیود، بسیونی عبد الفتاح، علم المعانی: دراسة بلاغیّة ونقدیّة لمسائل المعانی: ص156.

وجاء تعریف المسند فی خُطبة المختار الثقفی متوعداً فی قوله: «ما مِنْ دِینِنَا تَرکُ قومٍ قَتَلُوا الحُسینَ یَمْشُونَ أحیاءً فی الدُّنیا آمِنِین، بِئسَ ناصرُ آلِ محمُّدٍ أنا إذاً الکَذّاب کَمَا سَمَّونی، فَإنّی بالله أسْتَعینُ علیهم»(1).

فقد جاء المنشئ بالمسند (الخبر)، وهو قوله: (الکذّاب) معرَّفاً بالألف واللّام، وإنَّما کان کذلک؛ لإفادة قصره علی المسند إلیه(2)، فالمختار یقصر علی نفسه الکذب إنْ هو لم یطلب بثأر الإمام الحسین(علیه السّلام)، وهذا کان غایة فی التأکید والإصرار علی الأخذ بثأر الإمام الحسین(علیه السّلام) وأهل بیته(رضی الله عنهم).

وجاء تعریف المسند فی خُطبة إبراهیم بن مالک الأشتر محرّضاً القبائل علی ابن زیاد بقوله: «هذا ابنُ زیادٍ قاتلُ الحسینِ، الذی حال بَینَه وبَیْنَ ماءِ الفُراتِ أنْ یَشْ-رَبَ مِنْه هوَ وأولادُه ونِساؤُه، وَمَنَعَهُ أنْ یَنْصَرِفَ إلی بَلَدِهِ أو یأتیَ یزیدَ بن معاویة حتَّی قتله، ویحَکُمْ! اشْفُوا صُدُورَکُمْ مِنْهُ، وَارْوُوا رِمَاحَکُمْ وَسُیُوفَکُم مِنْ دَمِهِ، هَذا الذیْ فَعَلَ فی آلِ نَبِیِکُم مَا فَعَل، قد جاءَکُم الله به»(3).

فقد جاء المسند معرّفاً فی موضعین: الأوّل فی قوله: (هذا ابن زیاد قاتل الحسین)، ف-(ابن) جاء مضافاً إلی زیاد لغرض التهوین والتقلیل(4) بانتسابه إلی زیاد بن أبیه صاحب النسب الوضیع، وأمَّا الموضع الثانی، فهو قوله: (هذا الذی فعل فی آل نبیکم ما فعل)، فقد جاء المسند معرّفاً بالموصولیة، وهو یُفید قَصْرَ ذلک المسند علی المسند إلیه(5)، بأنّ الذی فعل کذا هو ابن زیاد لیسَ غیر.

ص: 272


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص57.
2- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص179- 182.
3- ابن کثیر، إسماعیل، البدایة والنهایة: ج8، ص281- 282.
4- اُنظر: الحسینی، جعفر بن باقر، أسالیب المعانی فی القرآن: ص292.
5- اُنظر: فیود، بسیونی عبد الفتاح، علم المعانی: دراسة بلاغیّة ونقدیّة لمسائل المعانی: ص154.

ویُفْید کذلک إلی جانب القَصر زیادة التفخیم والتهویل (1)، فالمنشئ جاء بالمسند معرَّفاً بالاسم الموصول، لیهوّل من ذلک الفعل الشنیع الذی فعله ابن زیاد فی الإمام الحسین(علیه السّلام) وأهل بیته(رضی الله عنهم).

أمَّا التنکیر، فله معانٍ ودلالات عدیدة یمکن من خلالها إضفاء البهاء والرونق علی النص(2).

وسوف یتناول البحث ظاهرة تنکیر المسند إلیه والمسند بحسب ورودها فی نصوص الحِقبتین.

1- تنکیر المسند إلیه

یُنکَّر المسند إلیه (المبتدأ) لیحقّق أغراضاً أُسلوبیة وقصدیة فی الکلام، وقَد ذکر النحاة والبلاغیون هذه الأغراض وتناولوها فی مباحثهم(3)، وسوف یعرض البحث لبعض منها، وبحسب ورودها فی خُطب ورسائل الحِقبتین.

فقد جاء فی رسالة سلیمان بن صُرَد الخزاعی التی بَعَثَ بها إلی سعد بن حذیفة قوله: «فلمّا نَظَرَ إخوانُکُم، وتَدَبَّرُوا عَوَاقِبَ مَا اسْتَقْبَلوا، رَأوا أنْ قَدْ خَطِئُوا بِخْذلانِ الزَّکی الطیب، وإسْلامِه، وتَرْکِ مواسَاتِه، والنصر له خَطأً کَبیراً، لَیْسَ لَهُمْ مِنْهُ مَخْرَجٌ ولا تَوبَةٌ دونَ قتلِ قاتلیه... فوالله إنّکم لأحْرِیَاء أن لا یکونَ أحدٌ مِنْ إخوانِکُم صَبَرَ علی شیءٍ مِنَ البلاءِ إرادةَ ثوابه، إلّا صَبَرْتُمْ التِمَاسَ الأجرِ فیه علی مِثلِه، وَلا یَطلبَ رضاءِ اللهِ طالبٌ بش-یءٍ مِنَ الأشیاء ولو أنَّه القَتْلُ إلّا طَلَبْتُم رِضَاءَ الله به»(4).

ص: 272


1- اُنظر: الحسینی، جعفر بن باقر، أسالیب المعانی فی القرآن: ص276.
2- اُنظر: الزوبعی، طالب محمد، علم المعانی: بین بلاغة القدامی وأُسلوبیّة المُحدثین: ص143- 144.
3- اُنظر: السیوطی، عبد الرحمن، الأشباه والنظائر فی النحو: ج2، ص54. الجندی، درویش، علم المعانی: ص91- 93.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص556. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ص114- 115.

فقد جاء المُسند إلیه نکرةً فی ثلاثة مواضع مُتَفرّقة هی: فی قوله: (لیس لهم منه مخرج ولا توبة)، ف-(مخرج) هو اسم (لیس) مسند إلیه نکرة، وقوله: (أن لا یکون أحدٌ من إخوانکم)، ف-(أحد) اسم (کان) مسند إلیه نکرة، والموضع الثالث: (ولا یطلب رضاء الله طالب)، ف-(طالب) (فاعل) للفعل (یطلب) مسند إلیه، وهو نکرة أیضاً.

ونلحظ أنَّ فی کلّ هذه المواضع قد جاء المسند إلیه نکرة فی سیاق النفی، وهذا ممَّا جعل الدلالة فیها تفید العموم کما أشار إلی ذلک اللغویون(1)، فإذا وقعت النکرة فی سیاق النفی کان النفی یفید الشّمول والعموم(2)، وهذا ما یناسب الغرض الذی یقصده الخطیب من وراء تنکیره للمسند إلیه.

وجاء فی خُطبة عبید الله المرّی یصف ما جری علی الإمام الحسین(علیه السّلام) من النوائب بقوله: «وللهِ حسینُ بنُ علیّ! ماذا غادَرُوا به؟ ذا صِدْقٍ وَصَبْر، وذا أمانَةٍ ونَجْدَةٍ وَحَزْم، ابنُ أوّلِ المُسلمینَ إسلاماً، وابنُ بِنتِ رسولِ ربّ العالمین، قلَّتْ حُمَاتُه، وکَثُرَتْ عُدَاتُه حَولهُ، فَقَتَلَه عَدوّه، وخَذَله ولیّه، فویلٌ للقاتلِ، وملامةٌ الخاذلِ»(3).

فقد جاء الخطیب بالمسند إلیه منکّراً فی موضعین، هما: (فویلٌ للقاتل) و(ملامةٌ الخاذل)، فویل وملامة قد وقعتا مسنداً إلیه نکرة، ولم یُعرّفهما بأن یقول: الویل والملامة، ولو قالها لخفَّفَ من وقع الویل والملامة بما تفیده الألف واللاّم من تعیین ویل أو ملامة خاصَّة، فالغرض الأُسلوبی من وقوعهما منکّرین هو لإفادة الإعمام (4)، أو قد یکون لإفادة التعظیم أو التهویل، بأنّ کون هذا الویل وهذه الملامة هو ویل عظیم،

ص: 274


1- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج1، ص86.
2- اُنظر: حسّان، تمام، البیان فی روائع القرآن: دراسة لغویّة وأُسلوبیّة: ج2، ص127.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص559.
4- اُنظر: حسّان، تمام، البیان فی روائع القرآن: دراسة لغویّة وأُسلوبیّة: ج2، ص126.

وملامة عظیمة؛ لأنَّ الإقدام علی قتل ابن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) هو شیء عظیم لا یقاس معه شیء.

وجاء تنکیر المسند إلیه فی خُطبة إبراهیم بن محمد بقوله: «واللهِ لَئِنْ خَرَجَ عَلَیْنا خارجٌ لنَقْتُلنّه، وَلَئِن اسْتَیْقَنَّا أنَّ قوماً یُریدونَ الخُروجَ علینا، لَنَأخُذَنَّ الوالدَ بولدِه...»(1).

فقد جاء المسند إلیه نکرة فی موضعین، هما: (والله لئن خرج علینا خارجٌ لنقتلنه)، فالمسند إلیه (الفاعل) خارج وقع نکرة، وإنَّما کان کذلک؛ لغرض الدلالة علی فرد غیر معیَّن من الأفراد(2)، وقد جاء کذلک منسجماً مع سیاق التهدید والقسم، فالخطیب یُقسم ویُهدّد دالاً علی أنَّ قدوم أی فرد من الأفراد علی الخروج علی ولایته فإنَّه سیقتله. وجاء الموضع الثانی فی قوله: (إن استقینا أنّ قوماً یُریدون الخروج علینا)، فقد جاء بالمسند إلیه، اسم إنَّ (قوماً) نکرة لغرض التقلیل والتهوین(3) من شأن هؤلاء الذین یخرجون علیه، وهذا ما یدلّ علیه سیاق الخُطبة، فالذین یُریدون الخروج علیه هم التوّابون، وهم فئة قلیلة من أهل الکوفة.

وجاء فی خُطبة سلیمان بن صُرد قوله: «أمَّا بعدُ أیُّها النَّاس، فإنَّ الله قَدْ علم ما تَنْوُون، وما خَرجْتم تَطلُبُونَ، وإنَّ للدّنیا تُجَّاراً، وللآخرة تُجَّاراً، فأمَّا تاجرُ الآخرة فساعٍ إلیها، مُتَنَصّبٌ بِتَطْلابِها...»(4).

فجاء بالمسند إلیه نکرة فی الموضعین: (إنّ للدنیا تجاراً، وللآخرة تجاراً)، وکلاهما

ص: 275


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص562. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص66.
2- اُنظر: الدسوقی، محمد بن أحمد، حاشیة الدسوقی: ج1، ص630- 631.
3- اُنظر: الجرجانی، محمد بن علی، الإشارات والتنبیهات فی علم البلاغة: ص43. ابن یعقوب المغربی، أحمد، مواهب الفتاح فی شرح تلخیص المفتاح: ج1، ص225.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص588.

اسم ل-(إنَّ)، وإنَّ دلالة کلّ منهما تعتمد علی المعنی العام الذی یُفهم من السیاق، وقد دلَّ فی الموضع الأوّل علی التکثیر؛ ذلک لانَّ تجار الدنیا - أی طلابها - کثیرون، وقد دلَّ فی الموضع الثانی علی التقلیل؛ ذلک لأن تجار الآخرة قلیلون، وقد نصَّ البلاغیون علی أنَّ المسند إلیه یکون نکرة لإفادة التکثیر والتقلیل بحسب سیاق الحال(1)، فأراد الخطیب أن یقول: إنَّ تجار الدنیا کثیرون یطلبونها ویلهثون وراءها، وتجار الآخرة قلیلون یطلبون ثوابها ونعیمها، فعبّر عن الحالین بالنکرة انسجاماً قصدیاً لمراداته.

2- تنکیر المسند (تنکیر الخبر)

الأصل فی المسند (الخبر) أن یکون نکرة (2)؛ لأنَّه محکوم به، ویأتی نکرة لدواعٍ أُسلوبیة فی الکلام، وقد ورد تنکیر المسند فی خُطبة سلیمان بن صُرَد الخزاعی لقوله: «أمَّا بعدُ، فإنّی والله لخائفٌ ألّا یکونَ آخِرُنَا إلی هذا الدَّهر الذی نَکِدَتْ فیهِ المَعْیشَة، وعَظُمَتْ فیهِ الرزِیَّة، وشَمِلَ فیهِ الجورُ أُولی الفَضْل مِنْ هذه الشیعة لِمَا هوَ خَیْرٌ»(3).

فقوله: (فإنّی والله لخائف) و(لما هو خیر) قد وقع فیهما المسند نکرة، فأمّا الموضع الأوّل، فإنَّه جاء لغرض أُسلوبی بلاغی، وهو مجرّد الإخبار(4) عن کونه خائفاً من موبقات الدهر، ولم یرد به الحصر أو التخصیص لهذا الخوف، ولو أراد إفادة حصر المسند بالمسند إلیه لعرّفه بالألف واللام، ولقال: إنّی الخائف، ویُخصّص الخوف بنفسه، وقد اقترن المسند بلام التوکید لغرض توکید المسند فی ذهن السامع. وأمّا الموضع

ص: 276


1- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص127- 128. العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص521.
2- اُنظر: أبو حیان الأندلسی، محمد بن یوسف، ارتشاف الضرب من لسان العرب: ج2، ص38.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص554.
4- اُنظر: ابن یعقوب المغربی، أحمد، مواهب الفتاح فی شرح تلخیص المفتاح: ج1، ص352.

الثانی: (لما هو خیر) فالمسند جاء نکرة، وأغلب الظّن إنّما جاء لغرض التکثیر(1) أی: لتکثیر ذلک الخیر.

وقد ورد تنکیر المسند کذلک فی خُطبة محمد بن الحنفیة لقوله: «وأمّا مَا ذَکَرْتُم مِنْ مُصِیْبَتِنا بِحُسینٍ، فإنَّ ذلکَ کانَ فی الذّکرِ الحَکیمِ، وَهِیَ مَلْحَمَةٌ کُتِبَتْ علیهِ، وکَرامةٌ أهْدَاها اللهُ لَه»(2).

فنجد أنّ الخطیب قد آثر أن یأتی بالمسند (الخبر) نکرة فی موضعین هما: (وهی ملحمة کتبت علیه) و(کرامةٌ أهداها الله له)، وإنَّما جاء به نکرة لیؤدّی غرضاً بلاغیاً هو: التعظیم(3)؛ «وذلک لما یُفیده التنکیر عندئذٍ من أنّ المسند بلغ من خطورة الشأن وسمو المرتبة حدّاً لا یُدرک کنهه أو مداه»(4)، فجاء المسند فی قوله (ملحمة) نکرة للدلالة علی عظیم تلک الحادثة والفجیعة، والملحمة هی الوقعة العظیمة (القتل)(5)، وجاء لفظها منکّراً لیناسب تلکم التجاوزات التی اقتُرفت فیها.

وکذلک فی قوله (کرامة)، وهی مسند (خبر) لمبتدأ محذوف دلّ علیه ما سبقه، جاءت بلفظ النکرة لتدلّ علی عظمها وجلالة قدرها، لکون هذه الکرامة هی هدیة من الله(سبحانه وتعالی) إلی الحسین(علیه السّلام)، لِمَا کان منه من تضحیة بنفسه وولده وصحبه لإعلاء دین الله القویم.

ص: 277


1- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص127. العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص529.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص13.
3- اُنظر: العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص529. عبد المطلب، محمد، البلاغة والأُسلوبیّة: ص341.
4- الحسینی، جعفر بن باقر، أسالیب المعانی فی القرآن: ص302.
5- اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج12، ص254، مادة (لحم).

رابعاً: الحذف والذکر

اشارة

یتألف النظام الترکیبی للجملة العربیة من مسند إلیه ومسند(1)، وهما طرفاه المکونان له، فقد یقتضی ذکرهما فی الجملة، إذ «یمثل الأصل المثالی، ولا موجب للعدول عنه»(2)، ولکن قد یفرض المقام وطبیعة الکلام أن یحذف أحدهما لیحقّق بذلک أثراً أُسلوبیاً «یُفجّر فی ذهن المتلقّی شحنة فکریة توقظ ذهنه، وتجعله یتخیّل ما هو مقصود»(3).

وقد وجّه اللغویون والبلاغیون عنایتهم بدراسة ظاهرة الحذف بدءاً بسیبویه، کما فی حدیثه عمّا یکون فی اللفظ من الإعراض والاستقامة فی الکلام(4)، کما تحدّث عنها الفرَّاء فی (معانی القرآن)(5)، وأفرد لها ابن جنّی فی خصائصه باباً مستقلاً سمّاه: (باب فی شجاعة العربیة)(6)، تحدّث فیه عن هذه الظاهرة بصورة مفصلة. أمّا عبد القاهر الجرجانی، فقد وصف هذا الباب بأنَّه «باب دقیق المسلک، لطیف المأخذ، عجیب الأمر، شبیه بالسحر»(7)، وقد اشترط النحاة فی الحذف أن یکون بوجود قرینة تمنع من حصول اللّبس (8)، لذا فإنّ «المحذوف إذا دلّت الدلالة علیه کان فی حکم الملفوظ به، إلّا أن یعترض هناک من صناعة اللفظ ما یمنع منه»(9).

ص: 278


1- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو الفعل: ص18.
2- عبد المطلب، محمد، البلاغة العربیة: قراءة أُخری: ص224.
3- سلیمان، فتح الله أحمد، الأُسلوبیّة: مدخل نظری ودراسة تطبیقیّة: ص137.
4- اُنظر: سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج1، ص24- 25وما بعدها.
5- اُنظر: الفرَّاء، یحیی بن زیاد، معانی القرآن: ج1، ص75.
6- اُنظر: ابن جنی، عثمان، الخصائص: ج2، ص360.
7- الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص146. اُنظر: لاشین، عبد الفتاح، التراکیب النحویّة من الوجهة البلاغیَّة عند عبد القاهر: ص157.
8- اُنظر: سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج1، ص74. ابن جنی، عثمان، الخصائص: ج2، ص362.
9- ابن جنی، عثمان، الخصائص: ج1، ص284.

أمَّا الذکر، فهو إجراء أُسلوبی یلجأ إلیه المنشئ فیأتی بأحد العناصر اللغویة فی سیاق الکلام، لیحقّق بذلک زیادة فی إیضاحه وتوکیده(1)، وهو الأصل فی النظام الترکیبی للجملة العربیة، کما مرّ سابقاً. وقد تناول البلاغیون موضوع الذّکر، فأشاروا إلی أثره الدلالی فی الجملة العربیة(2).

والحذف والذکر من أسباب سعة المساحة فی التعبیر، فقد یُفید الحذف المبالغة أو الاقتصاد فی الأداء وغیرها، وقد یدلّ علی التوکید وغیرها من الأغراض(3).

وسوف یتناول البحث مواضع الحذف والذکر بحسب ورودها فی نصوص الحِقبتین.

ومن صور الحذف:

1- حذف المسند إلیه
اشارة

المسند إلیه: رُکنٌ من أرکان الجملة، والأصل فیه ذکره، وعدم حذفه منها(4)، ولکن قد یُحذف إذا کانت هناک قرینة دالة علیه(5)، وإنَّما یؤْثِر الأدیب حذفه لأغراض أُسلوبیة یتطلبها القصد والمقام، ومن صور هذا الحذف:

أ- حذف المبتدأ

المبتدأ عمدة فی الکلام؛ لأنَّ الفائدة تتوقف علیه، وذلک لکونه رکناً رئیساً من أرکان الجملة، یقول سیبویه: «ولا یجد المتکلّم منه بُدَّاً، فمن ذلک الاسم المبتدأ والمبنی

ص: 279


1- اُنظر: السامرائی، فاضل صالح، الجملة العربیّة والمعنی: ص218.
2- اُنظر: الزوبعی، طالب محمد، علم المعانی: بین بلاغة القدامی وأُسلوبیّة المُحدثین: ص275.
3- اُنظر: السامرائی، فاضل صالح، الجملة العربیّة والمعنی: ص218.
4- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص109. العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص520.
5- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص63.

علیه. وهو قولک عبد الله أخوک، وهذا أخوک»(1)، ویجب تقدیره إذا کان محذوفاً، وإنّ ذکره یکوّن مع الخبر ترکیباً اسمیاً تام الطرفین؛ لأنّ الترکیب لا یمکن أن یستغنی عن وجود الرکنین معاً (2).

وقد جاء حذف المبتدأ فی رسالة سلیمان بن صُرَد إلی سعد بن حذیفة بن الیمان بقوله: «وَقَدْ ضَرَبْنَا لإخوانِنَا أجلاً یوافونَنَا إلیه، وَمَوْطِناً یَلْقُونَنَا فیه؛ فأمَّا الأجلُ فَغرَّةُ شَهْرِ رَبْیعٍ الآخر سنة خمسٍ وستّین، وأمَّا المَوْطِنُ الذی یَلْقونَنَا فیهِ فالنُّخَیْلَة»(3).

فقد حُذِفَ المسند إلیه (المبتدأ) فی موضعین: الأوَّل فی قوله: (فأمّا الأجل فغرّة شهر ربیع الآخر)، وأصل الکلام: فهو غرّة ربیع الآخر، الثانی: فی قوله: (فأمّا الموطن الذی یلقوننا فیه فالنخیلة)، وأصل الکلام: فهو النخیلة، وإنَّما کان ذلک الحذف لغرض الاحتراز من العبث فی الکلام(4) «بترک ما لا ضرورة لذکره، وذلک ممّا یکسب الکلام قوة وجمالاً»(5)؛ لأنَّ المبتدأ قد وقع بعد الفاء المقترنة بالجملة الاسمیة الواقعة جواباً للشرط(6)، والنحاة یرون أنّ حذف المبتدأ فی هذا الموضع إنَّما هو حذف جائز ولیس بوجوبی(7)، فیجوز عنده للمتکلّم ذکره أو حذفه، لکنّ المنشئ حذفه طلباً للغرض الأُسلوبی المتقدّم، وکذلک السرعة فی إیصال الخبر إلی ذهن السامع وإعلامه.

ص: 280


1- سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج1، ص23.
2- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو القرآن: ص18.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص556. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص115.
4- اُنظر: شروح التلخیص: ج1، ص273.
5- الجندی، درویش، علم المعانی: ص75.
6- اُنظر: ابن هشام، عبد الله بن یوسف، مغنی اللبیب عن کتب الأعاریب: ج2، ص822 - 823.
7- اُنظر: الحریزی، عائد کریم، الحذف والتقدیر فی الدراسة النحویّة: ص138.

وقد جاء مثل هذا الحذف للمبتدأ (المسند إلیه) فی خُطبة عبد الله بن سعد: «إنّی قَدْ رَأیتُ رَأیاً، إنْ یَکُنْ صَوَابَاً فالله وَفَّق، وإنْ یَکُنْ لَیْسَ بِصَوابٍ فَمِنْ قِبَلِی، فإنّی ما آلُوکُم وَنَفْس-ِی نُصْحاً، خَطأً کانَ أمْ صَوَابَاً»(1).

فقد حذف المسند الیه (المبتدأ) بعد الفاء المقترنة بالجملة الاسمیة والواقعة جواباً للش-رط فی قوله: (وإن یکن لیس بصواب فمن قِبلی)، والأصل: فهو من قِبلی، وکان الحذف جائزاً فی هذا الموضع وقد حُذِف لسبق ذکره، والغرض منه الإیجاز فی الکلام بأقل عدد من الکلمات والاحتراز من العبث فی ذکر المبتدأ، وتعجیل إیصال الفائدة التی یحملها الخبر إلی ذهن المتلقّی.

ب - حذف الفاعل

الفاعل: هو الرکن الثانی فی الجملة الفعلیة، ویشغل مجال المسند إلیه فیها، ولا یستغنی عن الفعل (المسند) فهو واجب الذکر، ولا یجوز حذفه؛ لأنَّه عمدة فی الجملة(2)، وإذا حُذِفَ منها قُدّر رُکنه بضمیر ملائم، وإذا جُهل قام مقامه المفعول به إن وجد فیها، وإلّا فالمصدر، أو الظرف أو الجار والمجرور(3). وقد تتبّع النحاة حذف الفاعل فی مواضع ذکرها السیوطی(4)، وقد یُحذف فی غیرها، وجاز حذفه لدلیل(5) «وکذلک یجوز الحذف إذا أُرید تجاهل أحد طرفی الإسناد، کالذی یکون مع ما یُعْرَف بالفعْل المبنی للمجهول، أو للمفعول، أو لما لم یُسمَّ فاعله»(6)، وقد وَقَعَ مثَلُ هذا الحَذْف

ص: 281


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص586.
2- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو القرآن: ص27.
3- اُنظر: المبرّد، محمد بن یزید، المقتضب: ج4، ص51، وما بعدها.
4- اُنظر: السیوطی، عبد الرحمن، الأشباه والنظائر فی النحو: ج2، ص68.
5- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج1، ص212. السیوطی، عبد الرحمن، همع الهوامع فی شرح جمع الجوامع: ج1، ص518- 519.
6- الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص67.

کثیراً فی نصوص الحِقبتین، ومن ذلک ما جاء فی خُطبة خالد بن سعد بن نفیل لقوله: «أمَا أنا فوالله لو أعلمُ أنَّ قَتْلِی نَفْسِی یُخْرِجُنِی مِنْ ذَنْبِی، وَیُرْضِی عَنّی رَبّی لَقَتَلْتُها، ولَکنَّ هذا أُمِرَ به قومٌ کانوا قَبْلَنَا ونُهِیْنَا عَنْهُ»(1).

فقد حُذِف الفاعل وبُنِیَ الفعل للمجهول فی موضعین هما: (أُمر به قومٌ) و(نهینا عنه)، والغرض من وراء هذا الحذف هو علم المتلقّی بالمحذوف(2)؛ ذلک أنّه یعلم أنّ نبیّ الله موسی هو الذی أمر بنی إسرائیل بقتل أنفسهم، فقد جاء فی القرآن الکریم حکایة عن لسانه(علیه السّلام)، قال« فَاقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ ذَلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ عِنْدَ بَارِئِکُمْ»(3) لما صدر عنهم من عبادة العجل، وکذلک یعلم المتلقی جیداً أنّ اللهY قد نهی المسلمین مراراً من قتل أنفسهم أو تعریضها للهلاک إلّا لأمرٍ مشروع؛ لذا جاء الفاعل محذوفاً فی کلا الموضعین، فلا حاجة لذکره.

وممّا ورد من حذف الفاعل (المسند إلیه) فی خُطبةِ عبد الله بن یزید - الوالی الزبیری - لقوله: «أمَّا بعدُ، فقد بَلَغَنی أنَّ طائفةً مِنْ أهلِ هذا المصْرَ أرادُوا أنْ یَخْرُجُوا عَلَیْنَا، فسألتُ عَنِ الذی دَعَاهُم إلی ذلکَ ما هو؟ فَقِیلَ لِی زَعَمُوا أنّهُم یَطلِبُونَ بدمِ الحسینِ بنِ علی، فَرَحِمَ الله هؤلاء القوم، قدْ - واللهِ - دُلِلْتُ علی أمَاکِنِهِم، وأُمِرْتُ بأخْذِهِم، وَقِیْلَ: ابْدأهُم قَبْلَ أنْ یَبْدَءُوکَ، فَأبَیْتُ ذَلک»(4).

فقد حُذِف الفاعل، وبُنیَ الفعل معه للمجهول فی أربعة مواضع، هی: (فقیل لی زعموا أنّهم یطلبون بدم الحسین بن علی)، (قد - والله - دُللت علی أماکنهم)، (وأُمرت

ص: 282


1- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص61.
2- اُنظر: الجندی، درویش، علم المعانی: ص78.
3- البقرة: آیة54.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص561 - 562. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص65.

بأخذهم)، (وقیل: ابدأهم قبل أن یبدءوک). والغرض الأُسلوبی من وراء هذا الحذف هو علم الخطیب به.

وجاء حَذْف الفاعل فی خُطبةِ یزید بن أنس الأسدی: «یا معش-رَ الشیعة، قَد کنتم تُقتَلُون وتُقَطّعُ أیدِیکم وأرجُلُکُم، وتُسْمَلُ أعیُنُکم، وتُرْفَعُونَ علی جذوعِ النخلِ فی حُبّ أهلِ بیتِ نبیّکم...»(1).

فقد حُذِفَ الفاعل وبُنِیَ معه الفعل للمجهول مکرّراً فی أربعة، هی: (تُقتلون) و(تُقطّع أیدیکم) و(تُسْمل أعینکم) و(تُرفَعون علی جذوع النخل)، وکان السبب فی حذف الفاعل وتغییبه إلی هامش الشعور هو علم المخاطب به، وهم الأُمویون الذین ساموا الشیعة أشدَّ أنواع العذاب.

2- حذف المسند
اشارة

الأصل فی المسند - فعلاً کان أم خبراً - أن یکون مذکوراً فی الکلام، فهو کالمسند إلیه من هذه الجهة، وقد یُحذف عند وجود القرینة الدالة علی حذفه(2)، وسوف یوضِّح البحث هذه الأغراض من خلال الأمثلة الواردة فی حذف المسند سواء أکان فعلاً أم خبراً.

أ- حذف الفعل

یُعدُّ الفعل رکناً مهمّاً فی بناء الجملة العربیة(3)، وهو المسند فی الجملة الفعلیة(4)؛ لذا فهو من أهمِّ أرکانها، وخاصّة ما یتّصل بالحدث الذی یُعرَف بوجوده زمن الجملة من

ص: 283


1- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص82.
2- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو القرآن: ص63. فیود، بسیونی عبد الفتاح، علم المعانی: دراسة بلاغیّة نقدیّة لمسائل المعانی: ص135.
3- اُنظر: السامرائی، إبراهیم، الفعل زمانه وأبنیته: ص15.
4- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو الفعل: ص23.

ماضٍ أو مضارع، أو أمر(1)، «والفعل یُذکر ویُترک وفقاً لما یقتضیه الحال، ویتطلبه المقام، فقد یُحتّم ذلک ما یذکر، وقد یکون ذکره عبثاً فیترک»(2)، وسوف یُبیّن البحث ذلک من خلال الأمثلة الواردة من خُطب ورسائل الحِقبتین.

فقد جاء فی خُطبة المختار بعد هرب ابن مطیع، إذ قال: «الحَمْدُ لله الّذی وَعَدَ ولیَّه النص-ر، وعدوَّه الخُسْرَ، وجَعَلَهُ فیهِ إلی آخرِ الدهر، وَعْداً مفْعُولاً وقضاءً مقضیّاً... أیُّها الناس، إنَّهُ رُفِعَتْ لنا رَایة، وَمُدَّتْ لَنا غَایَة، فقیلَ لنا فی الرایة: أنِ ارفعُوها ولا تَضَعوها، وفی الغایة: أن اجروا إلیْها ولا تَعْدُوها، فَسَمِعْنَا دعوةَ الداعی، ومَقالةَ الواعی... فلا والذی جعلَ السماء سَقفاً مکفوفاً، والأرْضَ فِجَاجاً سُبُلاً، ما بایِعْتُم بعدَ بیعةِ علی بن أبی طالب وآلِ علی أهدی مِنْها»(3).

فقد حذف المنشئ الفعل (المسند) فی مواضع متفرّقة من هذه الخُطبة، حتی صار ظاهرة أُسلوبیة بارزة فیها، والمواضع التی حذف منها الفعل هی: (الحمد لله الذی وعد ولیّه النصر، وعدوّه الخُسْر)، وأصل الکلام: ووعد عدوه الخس-ر، فحذف الفعل (المسند) من الجملة الثانیة، لوجود الدلیل والقرینة وهی الفعل (وعد) فی الجملة السابقة، فلا حاجة إلی إعادة ذکره فی هذا الموضع، والغرض البلاغی من هذا الحذف الأُسلوبی هو الاحتراز من العبث بذکر المسند(4) ؛ إذ لا ضرورة لذکره لدلالة المتقدّم علیه.

ص: 284


1- اُنظر: المصدر السابق: ص30.
2- الحریزی، عائد کریم، الحذف والتقدیر فی الدراسة النحویّة: ص44. اُنظر: الجندی، درویش، علم المعانی: ص79.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص32. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص84 - 85.
4- اُنظر: الطیبی، حسین بن محمد، التبیان فی علم المعانی والبدیع والبیان: ص88.

وقوله: (وعداً مفعولاً، وقضاءً مقضیّاً) فقد حُذف الفعْل (المسند) بوصفه العامل فی المصدر بکونه مبیّناً لنوع ذلک المصدر، وهذا إنَّما یکون بوجود الدلیل الذی یدلُّ علی حذفه(1)، وأصل الکلام: وعَد وعداً مفعولاً، وقضی قضاءً مقضیاً.

وقوله: (فقیل لنا فی الرایة أن ارفعوها ولا تضعوها، وفی الغایة أن اجروا إلیها ولا تعدوها)، فحذف الفعل فی الجملة الثانیة، لدلالة ما تقدّم علیه، فأصل الکلام: وقیل لنا فی الغایة أن اجروا إلیها، وقد تقدّم أنَّ حذفه إنَّما یکون للاحتراز من العبث بذکره، وهذا الداعی البلاغی هو نفسه الذی سوغ حذف الفعل فی الموضع الآخر فی قوله: (فسمعنا دعوة الداعی، ومقالة الواعی)، والأصل فی الجملة الثانیة: (وسمعنا مقالة الواعی)، فحذف الفعْل منْها لدلالة ما تقدّم، وللاحتراز من الإطالة غیر المجدیة فی الکلام بذکر ذلک الفعل مرّة أُخری.

وهذا نفسه نجده فی قوله: (فلا والذی جَعَل السماء سقفاً مکفوفاً، والأرض فجاجاً سبلاً)، وهو أیضاً حذفٌ لدلالة المتقدّم علیه من الفعل (جعل)، فلا حاجة لذکرهِ ثانیةً فی هذا الموضع. وکان لکثرة الحذف فی هذه الخُطبة جعلها تتمیز بالإیجاز والاختصار فی إیصال المعانی بأقلّ عَدَدٍ من الألفاظ، وفی أسرع زمن ممکن.

ب - حذف الخبر

الخبر: وهو المسند فی الجملة الاسمیة(2)، الذی یأتی بعد المبتدأ، وبه یتمّ الکلام، وتتحصل الفائدة(3)، وقد ذکره سیبویه فی مواضع، منها: عند کلامه عن المبتدأ والخبر فی باب الإسناد، وکون المبتدأ بحاجة إلی خبر لیتمّ معناه، فقال: «فلا بدّ للفعل من الاسم کما

ص: 285


1- اُنظر: الحریزی، عائد کریم، الحذف والتقدیر فی الدراسة النحویّة: ص49.
2- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو الفعل: ص23.
3- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج1، ص239.

لم یکن للاسم الأوَّل بدٌّ من الآخر فی الابتداء»(1)، ومعنی ذلک أنَّ الخبر یؤدی وظیفة مهمّة فی الجملة، لکون المبتدأ لا یُستغنَی عنه فضلاً عن الفائدة فی الإخبار، لکن علی الرغم من هذه الفائدة التی یؤدّیها فإنّه قد یُحْذف من الکلام جوازاً أو وجوباً فی مواضع ذکرها الدارسون(2)، وبوجود القرینة اللفظیة أو الحالیة التی تُغنی عن النطق به(3).

وقد عُنیَ البلاغیون بدراسة مواضع حذف الخبر(4)، وهی فی مجملها تتَّصل بخصوصیات المعانی ودلالاتها.

فقد ورد حذف الخبر (المسند) فی مواضع متفرّقة من خُطب ورسائل الحِقبتین، منها: ما جاء فی خُطبة المسیّب بن نجبة الفزاری بقوله: «لا والله، لا عُذْرَ دُونَ أنْ تَقْتُلُوا قَاتِلَهُ والمُوالینَ علیهِ، أو تُقْتَلُوا فی طَلَبِ ذلک، فَعَسَی رَبُنَا أن یَرْضَی عَنَّا عِندَ ذلک»(5).

فقد حذف خبر (لا النافیة للجنس) فی قوله: (لا عذرَ)، وتقدیره لا عذر موجود، أو لا عذر الیوم أو غیر ذلک، وأکثر ما یأتی خبر لا النافیة للجنس محذوفاً ولکنّه قد یذکر(6)، فحذفه جائز عند النحاة إذا دلَّ علیه دلیل(7)، وإنَّما قصد الخطیب إلی حذفه لغرض بلاغی فی الکلام، وهو إرادة نفی العذر نفیاً مطلقاً، إذ لا یوجد عذر للجلوس والسکوت عن الأخذ بثأر الإمام الحسین(علیه السّلام) علی الإطلاق، ف-«ذکر خبر (لا) النافیة للجنس یعتمد علی قصد المتکلّم، فإنْ أراد المتکلّم نفیاً مقیداً فأنّه یذکر الخبر... وإنْ أراد

ص: 286


1- سیبویه، عثمان بن قنبر، الکتاب: ج1، ص23.
2- اُنظر: نهر، هادی، التراکیب اللغویّة فی العربیّة: دراسة وصفیّة تطبیقیّة: ص156- 159. الحریزی، عائد کریم، الحذف والتقدیر فی الدراسة النحویّة: ص138- 141، وص182- 198.
3- اُنظر: ابن یعیش، یعیش بن علی، شرح المفصّل: ج1، ص239.
4- اُنظر: الجندی، درویش، علم المعانی: ص79 وما بعدها. جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص185.
5- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص59.
6- اُنظر: نهر، هادی، التراکیب اللغویّة فی العربیّة: دراسة وصفیّة تطبیقیّة: ص316.
7- اُنظر: الحریزی، عائد کریم، الحذف والتقدیر فی الدراسة النحویّة: ص141- 142.

نفیاً مطلقاً ترکه»(1)، والخطیب آثر ترکه لذلک الغرض البلاغی.

ومن حذف المسند (الخبر): ما جاء فی خُطبةِ عبد الله بن وال التیمی فی ردّه علی إبراهیم بن طلحة بقوله: «فأقبِلْ علی خَرَاجِکَ، فَلَعَمْرُ الله لَئِنْ کُنْتَ مُفْسِداً، مَا أفْسَدَ أمرَ هذهِ الأُمَّة إلّا والدُکَ وجَدُّک النَّاکِثَان»(2).

فقد حذف الخبر فی قوله: (لعمر الله لئن کنت مفسداً) والأصل: لَعَمر الله قسمی لئن کنت مفسداً، فَحَذْفُهُ هنا کما یقول النحاة حذفاً وجوبیاً؛ لأنَّ المبتدأ کان لفظاً صریحاً فی القَسَم، وهو أحد المواضع التی یجب معها حذف الخبر(3)، وإنَّما کان وجوب الحذف؛ «لأنَّ المحذوف معلوم، ومحلّه مشغول بجواب القسم، فتأکّد سبب الحذف»(4)، ویتضح أنَّ حذف الخبر من الجانب البلاغی إنّما کان مأخوذاً من الدرس النحوی: «فإنّ فی کلام النحاة ما یدلُّ علی اعتدادهم بأمر المعنی واهتمامهم به»(5) من خلال هذا الحذف.

3 - حذف المتعلّقات
أ - حذف المفعول به
اشارة

المفعول به: هو الاسم الفضلة الواقع علیه عمل الفاعل، والمنتصب بعد تمام الجملة(6)، وقد ذکر عبد القاهر الجرجانی أنّ حذف المفعول به تکون «اللطائف کأنّها فیه أکثر، وما یظهر بسببه من الحسن والرونق أعجب وأظهر»(7).

ص: 287


1- الحریزی، عائد کریم، الحذف والتقدیر فی الدراسة النحویّة: ص143.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص563.
3- اُنظر: نهر، هادی، التراکیب اللغویّة فی العربیّة: دراسة وصفیّة تطبیقیّة: ص158.
4- الحریزی، عائد کریم، الحذف والتقدیر فی الدراسة النحویّة: ص189. اُنظر: السیوطی، عبد الرحمن، همع الهوامع فی شرح جمع الجوامع: ج1، ص338.
5- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو المعانی: ص65.
6- اُنظر: ابن عصفور، علی بن عبد المؤمن، المقرّب: ص125.
7- الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص153.

وقد تَتَبّع النحاة طرائق حذف المفعول به فی الکلام(1)، وأرجع بعض المُحدَثین سبب حذفه من الکلام إلی الفعل ودلالته الواسعة بحیث یقوم مقامه(2)، غیر أنّ البلاغیین أطالوا فی هذه المسألة حیث وجدوا فی حذف المفعول به أسراراً بلاغیة کثیرة تتحقق فی الأُسلوب، فدرسوا هذه الأسرار وبیّنوا دلالاتها فی فضاءات النص(3). وقد وقع حذف المفعول به فی بعض خُطب ورسائل الحِقبتین، منها: ما ورد فی خُطبة سعد ابن حذیفة بن الیمان لقوله: «أمَّا بعدُ، فإنَّکم قَدْ کُنْتم مُجْمِعین مُزْمِعین علی نَص-رِ الحسین، وقتال عدّوه... وقَدْ بَعَثَ إلیْکم إخوانُکم یَسْتَنْجِدُونَکم ویَسْتَمِدّونَکم، ویَدعُونَکم إلی الحَقّ»(4).

فقد حذف الخطیب المفعول به فی قوله: (وقد بعث إلیکم إخوانکم)، وأصل الفعل (بعث) أنْ یکون متعدیاً إلی المفعول به (5)، فیکون أصل الکلام: وقد بعث إلیکم إخوانکم کتاباً أو رسالةً؛ لأنّ الخُطبة إنّما قیلت بسبب بعث سلیمان بن صُرَد بکتابه إلی سعد بن حذیفة (الخطیب) یستنهضه وإخوانه للقیام بالثورة، فقد حُذِفَ (المفعول به) من هذه الجملة، لکونه واضحاً یعلم به المتلقی فلا حاجة إلی ذکره، والعلم بالمفعول به هو أحد الدواعی التی یُحذف لأجلها(6).

ص: 288


1- اُنظر: ابن هشام، عبد الله بن یوسف، مغنی اللبیب عن کتب الأعاریب: ج2، ص828.
2- اُنظر: الجواری، أحمد عبد الستار، نحو القرآن: ص36.
3- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص153، وما بعدها. الرازی، محمد بن عمر، نهایة الإیجاز فی درایة الإعجاز: 338، وما بعدها. عبد المطلب، محمد، البلاغة والأُسلوبیّة: ص313.
4- صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص62.
5- اُنظر: الفیومی، أحمد بن محمد، المصباح المنیر فی غریب الشرح الکبیر: ص34، مادة (بعث).
6- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص155- 156. الرازی، محمد بن عمر، نهایة الإیجاز فی درایة الإعجاز: ص338.

وقد جاء حذف المفعول به فی خُطبةِ محمد بن الحنفیة یصف ما جری علی الإمام الحسین(علیه السّلام): «وَهِیَ مَلْحمَةٌ کُتِبَت عَلِیه، وَکَرَامَةٌ أهدَاها الله لهُ، رَفَعَ بِمَا کانَ مِنْها درجاتُ قومٍ عِنْدَه، وَوَضَعَ بها آخَرین، وَکانَ أمرُ اللهِ مَفعُولاً»(1)، فقد حذف الخطیب المفعول به فی قوله: (ووضع بها آخرین) وأقام صفته مقامه (آخرین)، وأصل الکلام: ووضع بها قوماً آخرین، لکنّه حذفه؛ لأنّه اعتمد علی وضوح ما سبق من الکلام(2)، فلا حاجة لذکر المفعول به.

وممّا جاء من حذف المفعول به فی هذا الصدد فی رسالة المختار الثقفی إلی عبد الرحمن بن سعید بقوله: «أمَّا بعدُ، فَقَدْ بَلَغَنِی کتابُکَ، وفَهِمتُ کلَّ ما ذکرتَ فیه، فقد أصبتَ بانحیازکَ إلی تکریت، فلا تبرحنّ مکانَکَ الذی أنتَ به حتَّی یأتیک أمری إنْ شاء الله، والسلام علیک»(3).

فقد حذف المختار (المفعول به) بعد فعل المشیئة فی قوله: (إن شاء الله)، وهو موضع من مواضع حذف المفعول به(4)، ویُسمّیه البلاغیون حذف الإضمار علی شریطة التفسیر(5)، وتقدیر الکلام: إن شاء الله ذلک، أو إن شاء الله هذا الأمر، وغیرهما.

ومن حَذف المفعول به: ما جاء فی کتاب عهد المختار بالأمان لعمر بن سعد بقوله:

ص: 289


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص13. اُنظر: جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص79.
2- اُنظر: الحسینی، جعفر بن باقر، أسالیب المعانی فی القرآن: ص380.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص39. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص127.
4- اُنظر: ابن هشام، عبد الله بن یوسف، مغنی اللبیب عن کتب الأعاریب: ج2، ص828.
5- اُنظر: الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 163. الرازی، محمد بن عمر، نهایة الإیجاز فی درایة الإعجاز: ص342.

«إنَّکَ آمِنٌ بأمانِ اللهِ علی نَفْسِکَ وَمَالِکَ، وأهلِکَ وأهلِ بیتِک وَولدِکَ، لا تؤاخذ بحدثٍ کانَ منکَ قدیماً، ما سَمِعْتَ وأطَعْتَ، ولَزَمْتَ رَحْلَکَ، وأهلَکَ ومِصْرَکَ»(1).

فقد حذف المختار المفعول به فی قوله: (ما سمعت وأطعت)، وأصل الفعل سمع والفعل أطاع أنْ یکونا متعدیین إلی المفعول به(2)، وتقدیر الکلام: ما سمعت الکلام أو القول، وأطعت الأوامر أو غیر ذلک، وإنَّما حذف المفعول به فی هذین الموضعین، وذلک لغرض أُسلوبی وهو الإعمام(3)، «أی: الإیحاء بشمولیة الفعل وعدم تخصصه بمفعول آخر»(4)، فلمّا حذف المفعول به مع فعل السمع والطاعة دلّ ذلک علی شمولیة السمع والطاعة وعمومیتهما، فالسمع والطاعة لم تکونا مقصورتین علی شیء محدد، وإنَّما کان علیه أن یسمع ویُطیع بصفة عامّة وشاملة ومن غیر تحدید لهما، والذی یدلُّ علی ذلک: قوله فیما بعد (ولزمت رحلک)، فقد ذکر المفعول به (رحلک) وغیرها من المفاعیل بکون فعل اللزوم کان مقیّداً بالرحل والأهل وغیرها؛ وذلک لأنَّه ذکر المفعول به. وهذه میزة أُسلوبیة تمیَّز بها هذا النص.

ومن مواضع حذف (المفعول به): ما ورد فی خُطبة المختار بعد هرب ابن مطیع لقوله: «الحمدُ للهِ الذی وَعَدَ ولیّه النصر، وعدوّه الخُسر، وجعله فیه إلی آخر الدهر، وعداً مفعولاً، وقضاء مقضیاً، وقد خاب مَن أفتری»(5).

ص: 290


1- صفوت، أحمد زکی، جمهرة رسائل العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص126.
2- اُنظر: ابن القوطیة، محمد بن عمر، الأفعال، ص73، مادة (سمع). الفیومی، أحمد بن محمد، المصباح المنیر فی غریب الشرح الکبیر: ص156 مادة (سمع)، ص203 مادة (طاع).
3- اُنظر: الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص201.
4- طبل، حسن، علم المعانی: تأصیل وتقییم: ص103.
5- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص32. صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص84.

فقد حذف المختار المفعول به فی قوله: (وقد خاب مَن افتری)، وتقدیر الکلام: وقد خاب مَن افتری الکذب، وقد حذفه لدلالة السیاق علیه، ولکونه واضحاً عند السامع(1)، فالافتراء إنّما یکون للکذب، فحذف المفعول به فی هذا الموضع؛ لأنّه «کان معلوماً بدلالة الحال، فیذکر الفعل، ویُنْوی له فی النفس مفعولٌ خاصٌ قد علم موضعه من سبق ذکر، أو قرینة حال، ولکنّک تنسیه نفسک، وتخیل أنَّک لم تقصد إلّا إلی ذات الفعل، قاصداً بذلک المبالغة فیه»(2)، وهذا ما وجدناه فی هذا الموضع.

وممّا تقدّم من أنماطٍ للحذف یتضح لنا أنّ الحذف مظهر من مظاهر تکثیف الترکیب العربی وإیجازه والتخفیف فی إیراداته، «ففی الخفَّة تلک تکمن البلاغة، ویسمو الکلام، حتی یصل إلی قوة السحر فی التأثیر، وتکون الجملة مع الحذف أشدَّ وقعاً علی النفس، وأتمَّ بیاناً»(3)،ومن ثَمَّ نجد أنّ الحذف قد أدی المعنی بأوجز عبارة فی تلک الأمثلة، فضلاً عن تحقّق قوة الإثراء الدلالی التی ضاعفت من إحساس المتلقی(4).

وکما کان للحذف وجود فی نثر هاتین الحِقبتین، کان للذکر وجودٌ أیضاً؛ إذ هو القالب المعیاری للجملة العربیة، فهو الأصل ولا مقتضی للعدول عنه(5)، کما أنَّ وجوده یثری الجملة بدلالات بلاغیة وأُسلوبیة کثیرة(6).

ص: 291


1- الجرجانی، عبد القاهر، دلائل الإعجاز: ص155. الرازی، محمد بن عمر، نهایة الإیجاز فی درایة الإعجاز: ص341.
2- الحسینی، جعفر بن باقر، أسالیب المعانی فی القرآن: ص371.
3- لاشین، عبد الفتاح، التراکیب النحویّة من الوجهة البلاغیّة عند عبد القاهر: ص159- 160.
4- اُنظر: جمعة، عدنان عبد الکریم، اللغة فی الدرس البلاغی: ص190.
5- اُنظر: قحطان، طاهر عبد الرحمن، علم المعانی وأسالیبه البلاغیّة: ص83.
6- اُنظر: الزوبعی، طالب محمد، علم المعانی: بین بلاغة القدامی وأُسلوبیّة المُحدثین: ص276.

ومن صور الذکر:

1- ذکر المسند إلیه

المسند إلیه: رکن مهمٌ فی الترکیب، والأصل أن یُذکر فی الکلام ولا مقتضی لحذفه، لکنّه قد یُحذف لوجود قرینة تُرجّح ذلک(1).

وهناک دواعٍ مختلفة لذکر المسند إلیه وقف عندها البلاغیون(2)، سوف یعرض البحث إلی أهمها من خلال الأمثلة الواردة فی خُطب الحِقبتین:

فقد جاء فی خُطبة سلیمان بن صُرَد لقوله: «أمَّا بعدُ، فقد أتاکم الله بعدوکم الذی دأبتم فی المسیر إلیه آناء اللیل والنهار، تُریدون فیما تظهرون التوبة النصوح»(3).

فقد ذکر الخطیب المسند إلیه وهو الفاعل (الله)، وکان ذلک لغرض زیادة الإیضاح والتقریر فی نفس السامع(4)، بأنّ الذی أتاهم بعدوّهم إنَّما قضاء الله (سبحانه وتعالی)وقدره، فلیس من سبیل إلّا ملاقاة ذلک العدو وجهاده.

وجاء فی خُطبة المختار حین قَدِم الکوفة: «فإنّ المهدی بن الوصی، محمد بن علی، بعثنی إلیکم أمیناً ووزیراً، ومنتجباً وأمیراً، وأمرنی بقتال المُلحدین»(5).

فقد ذکر الخطیب المسند إلیه (المبتدأ فی أصله)، وهو اسم إنّ (المهدی بن الوصی)،

ص: 292


1- اُنظر: السکاکی، یوسف بن أبی بکر، لسان العرب: ج17. الخطیب القزوینی، محمد بن عبد الرحمن، الإیضاح فی علوم البلاغة: ج1، ص111. العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص520.
2- اُنظر: الطیبی، حسین بن محمد، التبیان فی علم المعانی والبدیع والبیان: ص56- 57. الجندی، درویش، علم المعانی: ص73- 74.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص596.
4- اُنظر: الطیبی، حسین بن محمد، التبیان فی علم المعانی والبدیع والبیان: ص57.
5- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص580.

وکان الغرض من وراء ذکره هذا هو تعظیم ذلک المسند إلیه وتفخیمه(1)، أو الاستلذاذ بذکره(2)؛ لأنَّه أقرب إلی نفس الخطیب، ومثاله الأعلی، فقد ذکره بلفظ المهدی وبابن الوصی تبرکاً به، ثمَّ أردف ذلک بقوله: (محمد بن علی)، وهو بدل من الجملة السابقة، لیزید من إیضاح الفکرة ولیقرر الأمر الذی یُرید إثباته.

وجاء ذکر المسند إلیه فی رسالة المختار إلی الأحنف بن قیس بقوله: «أمَّا بعدُ، فویلُ أُمِّ ربیعةَ من مضَر، فإنّ الأحنفَ مُورد قومَه سَقَر، حیث لا یستطیع لهم الصدَر، وإنیّ لا أملک ما خُطّ فی القَدَر»(3).

فقد ذکر المنشئ المسند إلیه (اسم إنّ) وهو الأحنف لإظهار تحقیره وإهانته(4) بأنَّه یُورد قومه نار سقر؛ لموقفه السلبی تجاه المختار وثورته القائمة علی طلب الثائر من قتلة الإمام الحسین(علیه السّلام).

2- ذکر المس---ند

الأصل فی المسند أن یکون مذکوراً فی الکلام، ولا مقتض-ی للعدول عنه(5)، فهو فی هذا کالمسند إلیه؛ ولذا لا یجوز حذفه إلّا إذا کانت هناک قرینة دالة علیه فی الکلام، وهناک دواعٍ لذکر المسند سوف یتناول البحث بعضاً منها من خلال الأمثلة.

فمن ذکر المسند: ما جاء فی رسالة محمد بن الحنفیة إلی إبراهیم بن مالک الأشتر قوله: «أمَّا بعدُ، فإنِّی قد بعثتُ إلیکم بوزیری، وأمینی ونجیِّی.... فأنّک إن نص-رتَنی، وأجبت دعوتی، وساعدت وزیری، کانت لکَ عندی بذلک فضیلةٌ، ولکَ بذلک أعنّة

ص: 293


1- اُنظر: السبکی، بهاء الدین، عروس الأفراح فی شرح تلخیص المفتاح: ج1، ص271.
2- اُنظر: عتیق، عبد العزیز، علم المعانی: ص146.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص68.
4- اُنظر: السبکی، بهاء الدین، عروس الأفراح فی شرح تلخیص المفتاح: ج1، ص271.
5- اُنظر: الدسوقی، محمد بن أحمد، حاشیة الدسوقی: ج2، ص158.

الخیل، وکلّ جیشٍ غازٍ»(1).

فقد ذکر المنشئ (المسند) الجار والمجرور، وهو خبر (کان) مرتین؛ لأنَّ الهدف من ذکره هو البیان والکشف(2) الذی تطلّبه السیاق، فالمنشئ أراد إبانة أنّ الأشیاء التی ذکرها من الفضیلة وأعنّة الخیل والجیش الغازی، إنَّما هی مخصّصة له إن هو قام بنص-رته وأجاب دعوته.

ومن ذکر المسند ما جاء فی خُطبة إبراهیم بن مالک الأشتر محرّضاً القبائل علی قتل ابن زیاد: «هذا قاتل ابن بنت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قدْ جاءکم الله به وأمْکَنَکُم الله مِنه الیوم... هذا ابنُ زیادٍ قاتلُ الحسینِ، الذی حال بَینَه وبَیْنَ ماءِ الفُراتِ أنْ یَشْرَبَ مِنْه هوَ وأولادُه ونِساؤُه... هذا الذیْ فَعَلَ فی آلِ نَبِیِکُم مَا فَعَل قد جاءَکُم الله به»(3).

فقد ذکر المنشئ المسند - وهو الأصل - وذلک لغرض أُسلوبی فی ثلاثة مواضع هی: (هذا قاتل ابن بنت رسول الله)، و(هذا ابن زیاد قاتل الحسین)، و(هذا الذی فعل فی آل نبیکم ما فعل)، وهذا الغرض هو التشفیع وإثارة العواطف، وجذب تنبه السامع إلی المسند (الخبر)، وإعلامه بما فعل ابن زیاد بالحسین(علیه السّلام)وآله؛ وذلک حتی یحرّض الجیوش ضد ابن زیاد وجیشه.

ص: 294


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص16. اُنظر: صفوت، أحمد زکی، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة: ج2، ص125.
2- اُنظر: العلوی، یحیی بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: ص527.
3- ابن کثیر، إسماعیل، البدایة والنهایة: ج8، ص281- 282.

الخاتمة ونتائج البحث

توصَّل الباحث إلی النتائج الآتیة:

1- إنَّ النثر الفنّی قد نشط فی ثورة التوّابین وإمارة المختار الثقفی نشاطاً واسعاً؛ لما کان لزعمائهم ودعاتهم وأنصارهم من نتاج أدبی نثری فاعل، مثّلتهُ الخُطب والرسائل والعهود والوصایا التی وصلت إلینا.

2- کان لنتاج هاتین الحِقبتین أثرٌ کبیر فی الأدب العربی، ولاسیّما فی حرکة النثر الفنّی، وتطوّرهُ فی الدرس الأُسلوبی والبیانی فیما بعد.

3- تفاوتت الخُطب والرسائل فی حِقبة التوّابین وإمارة المختار طولاً وقص-راً، وذلک بحسب القصد والموضوع والمقام.

4- أفاد خُطباء وکتَّاب هاتین الحِقبتین من أُسلوب القرآن الکریم، فی نثرهم، اقتباساً، وتضمیناً، محاکاةً واحتذاءً، وهذا النثر لم یخرج عن نهج النثر الفنّی فی صدر الإسلام الذی سار علیه الرسول الکریم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وأقرَّه فی خُطبه ورسائله من حیث الشکل النثری، وهو ما ینمُّ عن إتقان البناء، ووحدة الموضوع، وإحکام المعانی.

5- تأثَّر منشئو هذا النثر بنثر الإمام علی(علیه السّلام) فراحوا یردّدون أقواله وحکمه، ویستذکرون سیرته، وکان تأثّرهم بنثره أُسلوباً ومعنی، وقد یکون هذا مقتصراً علی الموالین له(علیه السّلام) من التوّابین والمختار وبعض الشیعة، أمَّا غیرهم فلا نکاد نلحظ هذا التأثر إلّا قلیلاً.

6- عنی الناثرون بالوسائل التی توفّر القیم الإیقاعیة للنثر الفنّی أفضل عنایة،

ص: 295

فراحوا یعتمدونها فی خُطبهم ورسائلهم، کالجناس بأنواعه، والسجع بأنواعه - العفوی والمتکلّف - والموازنة (الازدواج).

7- اعتمد المختار الثقفی فی بعض خُطبه ورسائله علی توشیتها بغریب اللفظ طلباً للتأنق والإعداد فیها، مشایعاً روح العصر الذی کان یحفل بالغرابة، کما أنّه انفرد فی معظم خُطبه ورسائله باعتماد حلیة السجع علی نحو متکلَّف؛ لیُضفی علیها حلیة جمالیة تجذب إلیها السامع وتؤثر فیه بالاعتماد علی الإیقاع النغمی.

8- کشف التحلیل الأُسلوبی الصوتی عن أثر الأصوات فی الأسالیب النثریة البدیعیة، فبعضها کان مبنیاً علی أساس التماثل الناقص کما فی الجناس غیر التام بأنواعه، وبعضها کان مبنیّاً علی أساس وحدة أصوات الفقرات واتّزانها کما فی السجع بنوعیة المطرّف والمتوازی، أو الموازنة، الأمر الذی أدَّی إلی أن تکتسب تلک الأسالیب إیقاعاً صوتیاً متمیّزاً.

9- أبانَ التحلیل الأُسلوبی الصوتی عن تداخل بعض الأسالیب البدیعیة اللفظیة فی النص النثری الواحد، کتداخل السجع والجناس معاً، أو تداخل أنواع السجع مع بعضها، وکذلک تداخل الموازنة (الازدواج) مع أنماط السجع الآخر، وهذا یُدلّل علی مقدرة الأدیب بإقامة الجانب الموسیقی والعنایة فیه علی عتبات النص.

10- کشف التحلیل البیانی للأُسلوب أنّ الوسائل التی توفّر القیم الإیقاعیة لیست حلیة یوشَّی بها النثر الفنّی بقدر ما هی ضروریة نابعة من المعنی الذی یوجبه السیاق، وکشف عن تمیّز بعض الألفاظ بأدائها الصوتی الموحی فی بعض النُّصوص النثریة، انسجاماً مع حرکة الحدث ضمن سیاقها العام، سواء أکان هذا الصوت الموحی فی اللفظة المفردة، أو الأصوات المتکررة بحسبان أنّ علم الأُسلوب الحدیث لا یأبه بالجرس الصوتی إلّا من حیث إیحائه بالمعنی.

ص: 296

11- کشف البحث عن خاصیة الاختیار الأُسلوبی لألفاظ الخُطب والرسائل، فمن حیث فصاحة الألفاظ، وجد البحث أنّ الألفاظ جاءت علی قدر من الفصاحة والتأثیر، والبعد عن التعقید والغموض.

12- کشف التحلیل الأُسلوبی عن استعمال الناثرین لبعض الصیغ ذات الأثر الأُسلوبی والدلالی فی الکلام، کاستعمال صیغ الاسم والفعل بصورة متکررة، وکذلک استعمال بعض الألفاظ ذات العدول کالاستعارة والمجاز المرسل، وکذلک اتّساق هذه الألفاظ فی أدائها البیانی کالمجاز العقلی والکنایة.

13- کشف التحلیل الأُسلوبی عن عنایة الناثرین لهاتین الحِقبتین باستعمال الأسالیب اللّغویة الخبریة والإنشائیة سعیاً وراء تحقیق الإفادة الدلالیة للسامع، کما کشف عن استعمالهم بعض الأسالیب الإنشائیة انزیاحاً فی غیر دلالتها، کما فی الأمر والنَّهی والنّداء والاستفهام.

14- درس الباحث الأُسلوب الشرطی بصورة مستقلّة عن الأسالیب الخبریة والإنشائیة؛ ذلک أنّهُ متکوِّن من جملتین یربط بینهما رابطٌ معنویّ، وتصلُح کلّ جملة فیه أن تکون خبریة أو إنشائیة، فرأی أن یدرسه بصورة مستقلّة؛ لأنَّ توزیعه علی مباحث الخبر أو الإنشاء، یؤدّی فی النهایة إلی تفکُّک الجملة الشّ-رطیة التَّامة، وإلی تفرّق دراستها إلی موضوعین مستقلّین.

15- درس الباحث أُسلوب القسم مستقلاً عن أسالیب الخبر والإنشاء أُسوة بالأُسلوب الشَّرطی؛ وذلک لاختلاف العلماء فی ماهیة الجملة المقسم بها، فذهب بعضهم إلی کونها خبریَّة، وذهب بعضهم الآخر إلی کونها إنشائیَّة، وعلیه رأی الباحث أن یفرده بدراسة مستقلة لملاحظة الوجهتین.

16- کشف التحلیل الدلالی للنصوص عن عنایة الناثرین بصورة واسعة باستعمال

ص: 297

البُنی الأُسلوبیة المتصلة بفضاءات هندسة النص، لتحقیق قیم جمالیة وفنیة کما فی الفصل والوصل، والتقدیم والتأخیر، والذّکر والحذف، والتعریف والتنکیر وغیرها.

وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمین.

ص: 298

کشَّاف المصادر والمراجع

1. خیر ما نبدأ به القرآن الکریم.

2. الآیات القرآنیة المتعلّقة بالرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): دراسة بلاغیة وأُسلوبیة، عدنان جاسم محمد الجمیلی، ط1، هیئة إدارة واستثمار أموال الوقف السنی، بغداد، 2009م.

3. إبداع الدلالة فی الشعر الجاهلی: مدخل لغوی أُسلوبی، الدکتور محمد العبد، ط2، مکتبة الآداب، القاهرة، 1428ه- - 2007م.

4. أبنیة الأسماء فی اللغة العربیة، أحمد محمد الشیخ، ط1، منشورات جامعة السابع من أبریل، الجماهیریة العربیة اللیبیة الشعبیة الاشتراکیة العظمی،1425م.

5. أبنیة الصرف فی کتاب سیبویه: معجم ودراسة، الدکتورة خدیجة الحدیثی، ط1، مکتبة لبنان - ناشرون، بیروت - لبنان، 2003م.

6.الإتقان فی علوم القرآن، للحافظ جلال الدین عبد الرحمان السیوطی، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم، منشورات الشریف الرضی، بیدار عزیزی، (د.ت).

7. أَثر القرآن فی تطور النقد العربی: إلی أَواخر القرن الرابع الهجری، الدکتور محمد زغلول سلام، قدَّم له الأستاذ محمد خلف الله أحمد، ط2، دار المعارف، مصر، 1961م.

8. الأثر القرآنی فی نهج البلاغة: دراسة فی الشکل والمضمون، الدکتور عباس الفحام، ط1، منشورات الفجر للطباعة والنشر، لبنان، بیروت، 1430ه- -2010 م.

9. أثر النحاة فی البحث البلاغی، عبد القادر حسین، دار نهضة مص-ر للطبع والنش-ر، القاهرة، 1975م.

ص: 299

10. الأدب الإسلامی فی عصر النبوة وخلافة الراشدین، الدکتور نایف معروف، ط1، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت - لبنان، 1410ه- -1990م.

11. الأدب الجاهلی: قضایاه - أغراضه - أعلامه - فنونه، الدکتور غازی ظلیمات وعرفان الأشقر، ط1، دار الفکر المعاصر، بیروت - لبنان. دار الفکر، دمشق - سوریا،1422ه- -2002م.

12. أدب السیاسة فی العصر الأُموی، الدکتور أحمد محمد الحوفی، دار القلم، بیروت - لبنان، (د.ت).

13. الأدب فی موکب الحضارة الإسلامیة: کتاب النثر، الدکتور مصطفی الشکعة، ط1، ط3، الدار المصریة اللبنانیة، القاهرة، 1414ه- -1993م.

14. أدب الکاتب، لأبی محمد عبد الله بن مسلم بن قتیبة الکوفی المروزی الدینوری (ت276ه-)، حققه وضبط غریبه وشرح أبیاته محمد محیی الدین عبد الحمید، ط3، المکتبة التجاریة الکبری، مطبعة السعادة، مصر، 1377ه- - 1958م.

15. أدب الکُتّاب، أبو بکر بن یحیی الصولی، نسخه وعنی بتصحیحه وتعلیق حواشیه محمد بهجة الأثری، نظر فیه علاّمة العراق السیّد محمد شکری الآلوسی، المطبعة السلفیة القاهرة - مصر،1341ه-.

16.الأدب وفنونه، للدکتور عز الدین إسماعیل، ط1، دار النش-ر المص-ریة، مطبعة الاعتماد، مصر، 1955م.

17. ارتشاف الضرب من لسان العرب، لأبی حیان الأندلس-ی (ت745ه-)، تحقیق وشرح الدکتور رجب عثمان محمد، مراجعة الدکتور رمضان عبد التواب، ط1، الناشر مکتبة الخانجی بالقاهرة، مطبعة المدنی المؤسسة السعودیة بمصر، 1418ه- - 1998م.

18.أساس البلاغة، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر بن أحمد الزمخش-ری (ت538ه-)، تحقیق محمد باسل عیون السود، ط1، منشورات محمد علی بیضون،

ص: 300

دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1419ه- - 1998م.

19. الأسالیب الأدبیة فی النثر العربی القدیم، کمال الیازجی، ط1، دار الجیل، بیروت، 1986م.

20. الأسالیب الإنشائیة فی النحو العربی، عبد السلام محمد هارون، دار الجیل، بیروت، 1410ه- - 1990م.

21. أسالیب البیان فی القرآن، السید جعفر الحسینی، ط1، مؤسسة الطباعة والنش-ر، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامی، طهران،1413ه-.

22. أسالیب الطلب عند النحویین والبلاغیین، الدکتور قیس إسماعیل الأوسی، وزارة التعلیم العالی والبحث العلمی، بیت الحکمة، بغداد، 1989م.

23. أسالیب المعانی فی القرآن، السید جعفر باقر الحسینی، ط1، مطبعة مؤسسة بوستان کتاب، قم، 1428ق - 1386ش.

24. أسرار البلاغة، للإمام عبد القاهر الجرجانی، تحقیق ریتر، ط2، أعاد طبعه بالأوفست مکتبة المثنی، بغداد، 1399ه- -1979م.

25. الأسس النفسیة لأسالیب البلاغة العربیة، الدکتور مجید عبد الحمید ناجی، ط1، المؤسسة الجامعیة للدراسات والنشر والتوزیع، بیروت - لبنان، 1404ه- - 1984م.

26. الأُسلوب: دراسة بلاغیة تحلیلیة لأصول الأسالیب الأدبیة، أحمد الشایب، ط6، مکتبة النهضة المصریة، مطبعة السعادة، مصر، 1966م.

27. الأُسلوب: دراسة لغویة إحصائیة، الدکتور سعد مصلوح، ط3، عالم الکتب، القاهرة، 1412ه- -1992م.

28. الأُسلوب والأُسلوبیة، بییر غیرو، ترجمة الدکتور منذر عیاشی، مرکز الإنماء القومی، بیروت - لبنان، (د.ت).

29.الأُسلوبیة: الرؤیة والتطبیق، یوسف أبو العدوس، ط2، دار المسیرة للنش-ر

ص: 301

والتوزیع والطباعة، عمان - الأردن، 1430ه- - 2010م.

30. الأُسلوبیة الصوتیة، الدکتور محمد صالح الضالع، دار غریب للطباعة والنش-ر والتوزیع، القاهرة (د.ت).

31. الأُسلوبیة: مدخل نظری ودراسة تطبیقیة، الدکتور فتح الله أحمد سلیمان، الناشر مکتبة الآداب، القاهرة، 1425ه- -2004م.

32. الأُسلوبیة والأُسلوب: نحو بدیل السنی فی نقد الأدب، الدکتور عبد السلام المسدی، ط5، دار الکتاب الجدید المتحدة، 2006م.

33. اسم الفاعل والمشبهات به فی القرآن الکریم: دراسة لغویة دلالیة، الدکتور هادی عبد علی هویدی، ط1، دار الضیاء للطباعة والتصمیم، النجف الأشرف 1429ه- - 2008م.

34. الإشارات والتنبیهات فی علم البلاغة، رکن الدین محمد بن علی الجرجانی (ت 729ه-)، علّق علیه ووضع حواشیه وفهارسه إبراهیم شمس الدین، ط1، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1423ه- - 2002م.

35.الأشباه والنظائر فی النحو، الإمام جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر السیوطی (ت 911ه-)، وضع حواشیه غرید الشیخ، ط1، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان،1422ه- - 2003م.

36. أصوات اللغة العربیة، الدکتور عبد الغفار حامد هلال، ط3، الناشر مکتبة وهبة، القاهرة، 1416ه- - 1996م.

37. الأصوات اللغویة، الدکتور إبراهیم أنیس، الناشر مکتبة الأنجلو المص-ریة، مطبعة محمد عبد الکریم حسان، 1999م.

38. أُصول البیان العربی: رؤیة بلاغیة معاصرة، الدکتور محمد حسین الصغیر، طبع فی دار الشؤون الثقافیة العامّة، بغداد، (د.ت).

ص: 302

39.الأصول فی النحو، لأبی بکر محمد بن سهل بن الس-راج النحوی البغدادی(ت 316ه-)، تحقیق الدکتور عبد الحسین الفتلی، ط1، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1405ه- -1985م.

40. الإعجاز الصرفی فی القرآن الکریم: دراسة نظریة تطبیقیة للتوظیف البلاغی لصیغة الکلمة، الدکتور عبد الحمید أحمد یوسف هنداوی، المکتبة العص-ریة، شرکة أبناء شریف الأنصاری للطباعة والنشر والتوزیع، صیدا - بیروت - لبنان، 1429ه- - 2008م.

41. إعجاز القرآن، القاضی أبو بکر الباقلانی، ط1، دار مکتبة الضلال، بیروت، 1993م.

42. إعجاز القرآن والبلاغة النبویة، مصطفی صادق الرافعی، ط2، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان،1424ه- -2003م.

43.الأعلام: قاموس وتراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربین والمستشرقین، خیر الدین الزرکلی، ط16، دار العلم للملایین، بیروت - لبنان، 2005م.

44. الأغانی، لأبی الفرج الأصفهانی (ت356ه-)، تحقیق الدکتور یوسف البقاعی وعزیز الشیخ، ط1، منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت - لبنان، 1420ه- -2000م.

45. أقسام الکلام العربی: من حیث الشکل والوظیفة، الدکتور فاضل مصطفی الساقی، ط2، الناشر مکتبة الخانجی، مطبعة الشرکة الدولیة للطباعة، القاهرة، 1429ه- - 2008م.

46. الأمثال العربیة القدیمة: دراسة أُسلوبیة سردیة حضاریة، الدکتورة أمانی سلیمان داوود، ط1، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، 2009م.

47.أُمراء الکوفة وحکامها، محمد علی آل خلیفة، مراجعة وتنقیح الدکتور یاسین

ص: 303

صلواتی، مؤسسة الصادق للطباعة والنش-ر، مطبعة أسوة، طهران - إیران، 1425ه- 2004م.

48. الانزیاح من منظور الدراسات الأُسلوبیة، الدکتور أحمد محمد ویس، المؤسسة الجامعیة للدراسات والنشر والتوزیع، سوریة، (د. ت).

49. أنساب الأشراف، لأبی الحسن أحمد بن یحیی بن جابر البلاذری (ت279ه-)، تحقیق وفهرسة محمود الفردوس العظم، دار الیقظة العربیة للتألیف والترجمة والنش-ر، سوریة - دمشق، 1999م.

50. إنشاء النفی: وشروطه النحویة والدلالیة، شکری المبخوت، مرکز النش-ر الجامعی کلیة الآداب والفنون والإنسانیات، جامعة منوبة، 2006م.

51. أنوار الربیع فی أنواع البدیع، السید صدر الدین بن معصوم المدنی (ت1120ه-)، حققه وترجم لشعرائه شاکر هادی شکر، ط1، مکتبة النعمان، النجف الأشرف، 1288ه- -1968م.

52. أوزان الفعل ومعانیها، الدکتور هاشم طه شلاش، مطبعة الآداب، النجف الأشرف،1971م.

53. الإیضاح فی علل النحو، لأبی القاسم الزجاجی(ت337ه-)، تحقیق مازن المبارک، ط2، منشورات الرضی، مطبعة أمیر، قم، 1363ه-.

54.الإیضاح فی علوم البلاغة، الإمام الخطیب القزوینی (ت739ه-)، شرح وتنقیح وتعلیق الدکتور محمد عبد المنعم خفاجی، الشرکة العالمیة للکتاب، بیروت - لبنان 1989م.

55. البحث الدلالی عند ابن سینا: دراسة أُسلوبیة فی ضوء اللسانیات، الأستاذ الدکتور مشکور کاظم العوادی، ط1، مؤسسة البلاغ للطباعة والنش-ر والتوزیع، بیروت - لبنان، 1424ه- -2003م.

56.البحث الدلالی فی تفسیر المیزان: دراسة فی تحلیل النص، الأستاذ الدکتور

ص: 304

مشکور کاظم العوادی، ط1، مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت - لبنان، 1424ه- -2003م.

57. البدایة والنهایة، لأبی الفداء الحافظ ابن کثیر الدمشقی (ت 774ه-)، دقق أُصوله وحققه الدکتور أحمد أبو ملحم، والدکتور علی نجیب عطوی، والأُستاذ فؤاد شیری، والأستاذ مهدی ناصر الدین، والأستاذ علی عبد الساتر، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، (د.ت).

58. البدیع، عبد الله بن المعتز (ت296ه-)، اعتنی بنش-ره وتعلیق المقدمة والفهارس اغناطیوس کراتشوفسکی، ط2، مکتبة المثنی، بغداد، 1399ه- - 1979م.

59. البدیع فی ضوء أسالیب القرآن، الدکتور عبد الفتاح لاشین، ط3، الناشر مکتبة الأنجلو المصریة، 1986م.

60. البرهان فی وجوه البیان، أبو الحسین إسحاق بن وهب الکاتب، تحقیق الدکتور أحمد مطلوب، والدکتورة خدیجة الحدیثی، ط1، مطبعة العانی، بغداد،1387ه- -1967م.

61. البلاغة العربیة: البیان والبدیع، الدکتور طالب محمد الزوبعی، والدکتور ناصر حلاوی، ط1، دار النهضة العربیة للطباعة والنشر، بیروت، 1996م.

62. البلاغة العربیة: قراءة أُخری، الدکتور محمد عبد المطلب، ط2، الش-رکة المص-ریة العالمیة للنشر، لونجمان، طبع دار نوبار، للطباعة، القاهرة، 2007م.

63. البلاغة عند السکاکی، الدکتور أحمد مطلوب، ط1، منشورات مکتبة النهضة، طبع بمطابع دار التضامن، بغداد، 1384ه- - 1964م.

64. بلاغة الکتاب فی العصر العباسی: دراسة تحلیلیة نقدیة لتطور الأسالیب، الدکتور محمد نبیه حجاب، ط1، المطبعة الفنیة الحدیثة، 1385ه- - 1965م.

65. بلاغة الکلمة فی التعبیر القرآنی، الدکتور فاضل صالح السامرائی، مطبعة دار الشؤون الثقافیة، ط1، بغداد، (د.ت).

ص: 305

66. البلاغة والأُسلوبیة، الدکتور محمد عبد المطلب، ط1، مکتبة لبنان - ناشرون، بیروت، والشرعیة المصریة العالمیة للنشر، دار نوبار، القاهرة، 1994م.

67. البنی الأُسلوبیة: دراسة فی أُنشودة المطر للسیاب، الدکتور حسن ناظم، ط1، المرکز الثقافی العربی، الدار البیضاء - المغرب، بیروت - لبنان، 2002م.

68. البنیات الأُسلوبیة فی لغة الشعر العربی الحدیث، الدکتور مصطفی السعدنی، الناشر منشَأة المعارف بالإسکندریة، (د.ت).

69. بنیة اللغة الشعریة، جان کوهن، ترجمة محمد الولی، ومحمد العمری، ط1، دار توبقال للنشر، الدار البیضاء،1986م.

70.البنیة اللغویة فی النص الشعری: درس تطبیقی فی ضوء علم الأُسلوب، الدکتور محمد الدسوقی، ط1، العلم والإیمان للنشر والتوزیع، کفر الشیخ، 2001م - 2009م.

71. البیان فی روائع القرآن: دراسة لغویة وأُسلوبیة، الدکتور تمام حسان، ط2، عالم الکتب، القاهرة، 1420ه- - 2000م.

72. البیان المحمدی، الدکتور مصطفی الشکعة، ط1، نش-ر الدار المص-ریة اللبنانیة، عربیة للطباعة والنشر،1416ه- -1995م.

73. البیان والتبیین، لأبی عثمان عمر بن بحر الجاحظ (ت 255ه-)، تحقیق عبد السلام محمد هارون، ط2، الناشر مکتبة الخانجی بمصر، ومکتبة المثنی ببغداد، مطبعة لجنة التألیف والترجمة والنشر، القاهرة،1380ه- -1690م.

74. تاج العروس من جواهر القاموس، الإمام محب الدین أبو فیض السید محمد مرتض-ی الحسین الواسطی الزبیدی الحنفی، دراسة وتحقیق علی شیری، دار الفکر للطباعة والنش-ر والتوزیع، بیروت - لبنان، 1414ه- -1994م.

75.تاریخ الإسلام وطبقات المشاهیر والأعلام، لمؤرخ الإسلام الحافظ النقاد شمس الدین محمد بن أحمد بن عثمان الذهبی (ت748ه-)، عنیت بنش-ره مکتبة

ص: 306

القدسی، مطبعة السعادة، مصر - القاهرة، 1368ه-.

76. تاریخ الأدب العربی، أحمد حسن الزیات، ط4، دار المعرفة للطباعة والنش-ر والتوزیع، 1418ه- - 1997م.

77. تاریخ بغداد أو مدینة السلام: منذ تأسیسها حتی سنة 463ه-، للحافظ أبی بکر أحمد بن علی الخطیب البغدادی (ت463ه-)، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، (د.ت).

78. تاریخ الطبری (تاریخ الرسل والملوک)، أبو جعفر محمد بن جریر الطبری (ت310ه-)، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم، ط2، مطبعة دار المعارف، القاهرة، 1971م.

79. تاریخ الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح الکاتب العباسی المشهور بالیعقوبی، تحقیق عبد الأمیر مهنا، ط1، منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت - لبنان، 1413ه- - 1993م.

80. التبیان فی علم البیان المطلع علی إعجاز القرآن، کمال الدین عبد الواحد بن عبد الکریم الزملکانی (ت651ه-)، تحقیق الدکتور أحمد مطلوب، والدکتورة خدیجة الحدیثی، ط1، مطبعة العانی، بغداد، 1383ه- -1964م.

81. التراکیب اللغویة فی العربیة: دراسة وصفیة تطبیقیة، الدکتور هادی نهر، ساعدت جامعة المستنصریة علی نشره، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1987م.

82. التراکیب النحویة من الوجهة البلاغیة عند عبد القاهر، الدکتور عبد الفتاح لاشین، الناشر دار المریخ للنشر، الریاض، دار الجمیلی للطباعة، مصر، (د.ت).

83. تصریف الأسماء فی اللغة العربیة، الدکتور شعبان صلاح، دار غریب للطباعة والنشر والتوزیع، القاهرة، 2005م.

84. التصغیر: دراسة صرفیة صوتیة، الدکتورة إسراء عریبی، ط1، دار أسامة للنش-ر والتوزیع، عمان - الأردن، 2008م.

ص: 307

85. تطور الأسالیب النثریة فی الأدب العربی، أنیس المقدسی، ط9، دار العلم للملایین، بیروت - لبنان، 1998م.

86. التعبیر البیانی: رؤیة بلاغیة نقدیة، الدکتور شفیع السید، مکتبة الشباب، دار غریب للطباعة، القاهرة، 1977م.

87. التعبیر القرآنی، الدکتور فاضل صالح السامرائی، ط5، نشر دار عمار، جمعیة عمال المطابع التعاونیة، عمان - الأردن، 1428ه- - 2007م.

88. تفسیر البحر المحیط، لمحمد بن یوسف الشهیر بأبی حیان الأندلس-ی (ت745ه-)، دراسة وتحقیق وتعلیق الشیخ عادل أحمد عبد الموجود، والشیخ علی محمد معوض، والدکتور زکریا عبد المجید النوتی، والدکتور أحمد النجولی الجمل، قرَّضه الدکتور عبد الحی القرمادی، ط2، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، (د.ت).

89. التقدیم والتأخیر فی القرآن الکریم، حمید أحمد عیسی العامری، ط1، وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافیة العامّة، آفاق عربیة، بغداد، 1996م.

90.التکریر بین المثیر والتأثیر، الدکتور عز الدین السید، ط2، عالم الکتب، بیروت، 1398ه- - 1978م، 1407ه- - 1986م.

91. تلخیص البیان فی مجازات القرآن، الشریف الرضی، حققه وقدم له ووضع فهارسه محمد عبد الغنی حسن، ط2، دار الأضواء، بیروت - لبنان، 1406ه- - 1986م.

92. التلخیص فی علوم البلاغة، للإمام جلال الدین محمد بن عبد الرحمن القزوینی الخطیب، ضبطه وشرحه عبد الرحمن البرقوقی، المکتبة التجاریة الکبری، مصر، (د.ت).

93.التنغیم اللغوی فی القرآن الکریم، سمیر إبراهیم العزاوی، ط1، دار الضیاء للنش-ر والتوزیع، عمان - الأردن، 1421ه- - 2000م.

ص: 308

94. ثمرات الأوراق فی المحاضرات، لتقی الدین أبی بکر علی بن محمد بن حجة الحموی القادری الحنفی، قدم له وشرحه الدکتور مفید قمیحه، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1403ه- -1983م.

95.الجامع الکبیر فی صناعة المنظوم من الکلام والمنثور، الراجع نسبته لعز الدین بن الأثیر (ت630ه-)، تحقیق الدکتور عبد الحمید هنداوی، ط1، دار الأفاق العربیة، القاهرة، 1428ه- - 2007م.

96. جدلیة الإفراد والترکیب: فی النقد العربی القدیم، الدکتور محمد عبد المطلب، ط2، الشرکة المصریة العالمیة للنشر، طبع فی مطابع الأهرام التجاریة، مصر، 2004م.

97. جرس الألفاظ ودلالتها فی البحث البلاغی والنقدی عند العرب، الدکتور ماهر مهدی هلال، دار الرشید للنشر، دار الحریة للطباعة، بغداد، 1980م.

98. جمالیات التلوین الصوتی فی القرآن الکریم، الدکتور أسامة عبد العزیز جاب الله، دار ومکتبة الإسراء للطبع والنشر والتوزیع، طنطا، 2008م.

99. الجملة الشرطیة فی شعر زهیر بن أبی سلمی، الدکتورة ندی الشایع، ط1، مکتبة لبنان - ناشرون، بیروت - لبنان، 1999م.

100. الجملة العربیة والمعنی، الدکتور فاضل صالح السامرائی، ط2، دار الفکر - ناشرون وموزعون، عمان - الأردن، 1430ه- - 2009م.

101.جمهرة خُطب العرب: فی عصور العربیة الزاهرة - العص-ر الأُموی، أحمد زکی صفوت، ط1، المکتبة العلمیة بیروت - لبنان، (د.ت).

102. جمهرة رسائل العرب: فی عصور العربیة الزاه-رة - العص-ر الأُموی، أحمد زکی صفوت، ط1، شرکة مکتبة ومطبعة مصطفی البابی الحلبی وأولادهُ بمص-ر، 1356ه- -1937م.

103.جمهرة اللغة، أبو بکر محمد بن الحسن بن درید الأزدی (ت321ه-)، علّق علیه

ص: 309

ووضع حواشیه وفهارسه إبراهیم شمس الدین، ط1، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1426ه- - 2005م.

104. الجنی الدانی فی حروف المعانی، حسن بن القاسم المرادی (ت749ه-)، تحقیق طه محسن، ساعدت جامعة بغداد علی نشره، 1396ه- - 1976م.

105. جوهر القاموس فی الجموع والمصادر، محمد بن شفیع القزوینی (من علماء القرن الثانی الهجری)، تحقیق وتعلیق محمد جعفر الشیخ إبراهیم الکرباسی، منشورات جمعیة منتدی النشر، النجف الأشرف (د.ت).

106. حاشیة الدسوقی علی مختصر السعد (سعد الدین التفتازانی علی متن التلخیص)، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقی (ت1230ه-)، تحقیق الدکتور خلیل إبراهیم خلیل، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1423ه- - 2002م.

107. الحذف والتقدیر فی الدراسة النحویة، الأستاذ الدکتور عائد کریم الحریزی، مطبعة السراج المنیر، النجف، 2009م.

108. حزب الشیعة فی أدب العصر الأُموی، الدکتورة ثریا عبد الفتاح ملحس، ط1، الشرکة العالمیة للکتاب، دار الکتاب العالمی، بیروت - لبنان، 1990م.

109 الحیاة الأدبیة فی عصر صدر الإسلام، الدکتور محمد عبد المنعم خفاجی، ط2، دار الکتاب اللبنانی، بیروت - لبنان، 1980م.

110. خزانة الأدب وغایة الأرب، أبو بکر محمد بن علی المعروف بابن حجة الحموی (ت837ه-)، قدم له وصححه وشرحه ووضع فهارسه الدکتور صلاح الدین الهواری، ط1، المکتبة العصریة، بیروت - لبنان، 1426ه- - 2006م.

111. الخصائص، أبو الفتح عثمان بن جنی (ت 392ه-)، تحقیق محمد علی النجار، ط2، دار الهدی، بیروت، (د.ت).

112. خصائص التراکیب: دراسة تحلیلیة لمسائل المعانی، الدکتور محمد محمد أبو موسی، ط7، مکتبة وهبه، القاهرة، 1427ه- - 2006م.

ص: 310

113. الخطابة العربیة فی عصرها الذهبی، إحسان النص، دار المعارف، القاهرة، 1963م.

114. الخلیل بن أحمد الفراهیدی: أعماله ومنهجه، الدکتور مهدی المخزومی، ط2، دار الرائد العربی، بیروت - لبنان، 1406ه- -1986م.

115.الدراسات الأُسلوبیة عند المخزومی، ضمن کتاب دراسات فی نظریة النحو العربی وتطبیقاتها، الدکتور صاحب أبو جناح، ط1، دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع، عمان - الأردن، 1419ه- - 1998م.

116. دراسات فی الأدب الجاهلی، ومعه مختارات من المعلّقات الاثنی عش-رة، ومختارات أُخری، الدکتور عبد العزیز نبوی، ط3، مؤسسة المختار للنش-ر والتوزیع، 1425ه- -2004م.

117. دراسات فی الدلالة والمعجم، الدکتور رجب عبد الجواد إبراهیم، دار غریب للطباعة والنشر والتوزیع، القاهرة، 2001م.

118. الدراسات اللهجیة والصوتیة عند ابن جنی، حسام سعید النعیمی، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشید للنشر، دار الطلیعة للطباعة والنشر، بیروت، 1980م.

119.دروس التصریف، محمد محیی الدین عبد الحمید، شرکة أبناء شریف الأنصاری للطباعة والنشر والتوزیع، الشرکة العصریة للطباعة والنش-ر - الدار النموذجیة 1411ه- - 1990م.

120. دروس فی علم أصوات العربیة، جان کانتینو، نقله إلی العربیة وذیله بمعجم صوتی - فرنس-ی - عربی صالح القرمادی، نش-ریات مرکز الدراسات والبحوث الاقتصادیة والاجتماعیة الجامعة التونسیة، 1966م.

121.دقائق التصریف، للقاسم بن محمد بن سعید المؤدب من علماء القرن الرابع الهجری، تحقیق الدکتور أحمد ناجی القیس-ی، والدکتور حاتم صالح الضامن،

ص: 311

والدکتور حسین تورال، مطبعة المجمع العلمی العراقی، 1407ه- - 1987م.

122. دلائل الإعجاز، الشیخ الإمام أبو بکر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجانی، قرأه وعلّق علیه أبو فهد محمود محمد شاکر، ط5، الناشر مکتبة الخانجی، الش-رکة الدولیة للطباعة، القاهرة، 1424ه- -2004م.

123. دلالات التراکیب: دراسة بلاغیة، الدکتور محمد محمد أبو موسی، ط4، مکتبة وهبة، القاهرة، 1429ه- - 2008م.

124. دلالة الألفاظ، الدکتور إبراهیم أنیس، ط2، مکتبة الأنجلو المصریة، 1963م.

125. الدلالة السیاقیة عند اللغویین، الدکتورة عواطف کنوش المصطفی، ط1، دار السیاب للطباعة والنشر والتوزیع، لندن، 2007م.

126.دلیل الدراسات الأُسلوبیة، جوزیف میشال شریم، ط2، المؤسسة الجامعیة للدراسات والنشر والتوزیع، بیروت، 1407ه- - 1987م.

127. دور الکلمة فی اللغة، ستیفن اولمان، ترجمه وقدّم له وعلّق علیه الدکتور کمال بش-ر، ط12، دار غریب للطباعة والنشر والتوزیع، القاهرة، (د.ت).

128.دولة المختار الثقفی: رؤیة جدیدة، صفاء أحمد الخطیب، ط1، وط2، دار العلوم للتحقیق والطباعة والنش-ر والتوزیع، بیروت، 1427ه- - 2006م، و1429ه- - 2008م.

129.الرسائل السیاسیة فی العص-ر العباسی الأوّل، حسین بیضون، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1996م.

130. الرسائل الفنیة فی العصر العباسی: حتی نهایة القرن الرابع الهجری، زینة عبد الجبار محمد المسعودی، ط1، هیئة إدارة واستثمار أموال الوقف السنی، بغداد، 2009م.

131. سرّ صناعة الإعراب، أبو الفتح عثمان بن جنی، تحقیق ودراسة الدکتور حسن هنداوی، ط2، دار العلم، دمشق، 1413ه- - 1993م.

ص: 312

132. سر الفصاحة، للأمیر أبی محمد بن عبد الله بن محمد بن سعید بن سنان الخفاجی الحلبی (ت466ه-)، صححه وعلّق علیه عبد المتعال الصعیدی، مطبعة محمد علی صبیح وأولاده،1372ه- -1953م.

133. سنن ابن ماجة، للإمام المُحدّث أبی عبد الله محمد بن یزید القزوینی (ت275ه-)، تحقیق محمود محمد محمود وحسن نصار، ط1، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1419ه- - 1998م.

134. سیر أعلام النبلاء، للإمام أبی عبد الله شمس الدین محمد بن أحمد بن عثمان بن قایماز الذهبی (ت748ه-)، رتبه وزاد فوائده واعتنی به حسان عبد المنان، بیت الأفکار الدولیة، لبنان، 2004م.

135. شذا العرف فی فن الص-رف، الشیخ أحمد بن محمد بن أحمد الحملاوی (ت1315ه-)، شرحه وفهرسه واعتنی به الدکتور عبد الحمید هنداوی، ط4، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1428ه- -2007م.

136. شرح ابن عقیل: علی ألفیة ابن مالک، قاضی القضاة بهاء الدین عبد الله بن عقیل العقیلی الهمدانی المصری (ت769ه-)، ومعه کتاب منحة الجلیل بتحقیق شرح ابن عقیل، تألیف محمد محیی الدین عبد الحمید، دار إحیاء التراث العربی، بیروت - لبنان، (د.ت).

137. شرح ابن الناظم: علی ألفیة ابن مالک، تألیف ابن الناظم أبی عبد الله بدر الدین محمد بن الإمام جمال الدین محمد بن مالک (ت686ه-)، تحقیق محمد باسل عیون السود، ط1، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1420ه- - 2000م.

138.شرح التبیان فی علم البیان، للشیخ الإمام أبی عبد الله محمد بن عبد الکریم المغیلی (ت909ه-)، دراسة وتحقیق الدکتور أبو أزهر بلخیر هانم، ط1، دار

ص: 313

الکتب العلمیة، لبنان - بیروت، 2010م.

139. شرح جمل الزجاجی: الشرح الکبیر، ابن عصفور الأشبیلی (ت669ه-)، تحقیق الدکتور صاحب أبو جناح، وزارة الأوقاف والشؤون الدینیة، مطابع مدیریة دار الکتب للطباعة، جامعة الموصل، 1402ه- -1982م.

140. شرح شافیة ابن الحاجب، للشیخ رضی الدین محمد بن الحسین الأسترابادی النحوی (ت686ه-)، مع شرح شواهده للعالم الجلیل عبد القادر صاحب خزانة الأدب، حققهما وضبط غریبهما وشرح منهجهما الأساتذة محمد نور الحسن، ومحمد الزفاف، ومحمد محی الدین عبد الحمید، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، (د.ت).

141.شرح کافیة ابن الحاجب، رضی الدین محمد بن الحسن الأسترابادی (ت 686ه-)، قدّم له ووضع حواشیه وفهارسه الدکتور أمیل یعقوب، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1409ه- - 1998م.

142. شرح الکافیة الشافیة، للإمام أبی عبد الله جمال الدین محمد بن عبد الله بن محمد ابن مالک الطائی الجیانی الشافعی (ت672ه-)، تحقیق علی محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، ط1، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1420ه- - 2000م.

143. شرح المراح فی التصریف، العلاّمة بدر الدین محمود بن أحمد العینی (ت 855ه-)، حققه وعلّق علیه الدکتور عبد الستار جواد،(د.ت).

144. شرح المفصّل فی صنعة الإعراب الموسوم بالتحمیر، تألیف صدر الأفاضل القاسم بن الحسین الخوارزمی، تحقیق الدکتور عبد الرحمن بن سلیمان العثیمین، ط1، دار الغرب الإسلامی، بیروت - لبنان،1990م.

145.شرح المفصّل للزمخشری، موفق الدین أبی البقاء یعیش بن علی بن یعیش الموصلی (ت 643ه-)، قدّم له ووضع هوامشه وفهارسه الدکتور أمیل یعقوب،

ص: 314

ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1422ه- - 2001م.

146. الشرط فی القرآن: علی نهج اللسانیات الوصفیة، الدکتور عبد السلام المسدی، والدکتور محمد الهادی الطرابلسی، الدار العربیة للکتاب، مطبعة الاتحاد العلم التونسی لیبیا - تونس، 1985م.

147.شروح التلخیص، وتتضمن ما یلی:

148. 1- مختصر العلاّمة سعد الدین التفتازانی علی تلخیص المفتاح للخطیب القزوینی.

149. 2- مواهب الفتاح فی شرح تلخیص المفتاح لابن یعقوب المغربی.

150. 3- عروس الأفراح فی شرح تلخیص المفتاح، بهاء الدین السبکی، ط4، دار الهادی للطباعة والنشر والتوزیع، مؤسسة دار البیان العربی للطباعة والنش-ر والتوزیع، بیروت - لبنان، 1412ه- -1992م.

151. الشعر الجاهلی: منهج فی دراسته وتقویمه، محمد النویهی، الدار القومیة للطباعة والنشر، القاهرة - مصر، (د.ت).

152. الشفاء - المنطق - الخطابة، ابن سینا (ت428ه-)، تحقیق الدکتور محمد سلیم سالم، مراجعة الدکتور إبراهیم مدکور، نشر وزارة المعارف العمومیة، المطبعة الأمیریة بالقاهرة، 1373ه- - 1954م.

153. الصاحبی فی فقه اللغة وسنن العرب فی کلامهما، لأبی الحسین أحمد بن فارس بن زکریا (ت395ه-)، شرح وتدقیق أحمد صقر، نش-ر المکتبة الفیصلیة، المملکة العربیة السعودیة، (د.ت).

154. صبح الأعشی فی صناعة الإنشاء، أحمد بن علی القلقشندی (ت821ه-)، شرحه وعلّق علیه وقابل نصوصه محمد حسین شمس الدین، ط2، دار الفکر للطباعة والنش-ر والتوزیع، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1424ه- - 2003م.

ص: 315

155. الصحاح: المسمّی تاج اللغة وصحاح العربیة، أبو نصر إسماعیل بن حماد الجوهری الفارابی (توفی فی حدود400ه-)، تحقیق شهاب الدین أبو عمر، ط1، دار الفکر، بیروت - لبنان، 1418ه- - 1998م.

156. صحیح البخاری، للإمام أبی عبد الله محمد بن إسماعیل بن إبراهیم البخاری الجعفی (ت256ه-)، شرح وتحقیق الشیخ قاسم الشماعی الرفاعی، دار القلم، بیروت - لبنان، (د.ت).

157.صحیح مسلم، للإمام أبی الحسین مسلم بن الحجاج القشیری النیسابوری (ت261ه-)، ط1، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1421ه- - 2001م.

158. الطریف فی علم التصریف: دراسة صرفیة تطبیقیة، عبد الله الأسطی، منشورات کلیة الدعوة الإسلامیة، طرابلس، (د.ت).

159. ظاهرة القسم فی القرآن الکریم، فارس علی العامر، ط1، منشورات أنوار الهدی للطباعة والنشر، مطبعة مهر، إیران، 1414ه-.

160.عروس الأفراح فی شرح تلخیص المفتاح، للشیخ بهاء الدین أبی حامد أحمد بن علی السبکی(ت773ه-)، تحقیق الدکتور خلیل إبراهیم خلیل، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان،1422 ه- -2001م.

161. العصر الإسلامی، الدکتور شوقی ضیف، ط13، دار المعارف، مصر، (د.ت).

162. العصر الجاهلی، الدکتور شوقی ضیف، دار المعارف، مصر، (د.ت).

163. علم الأُسلوب: مفاهیم وتطبیقات، الدکتور محمد کریم الکوَّاز، ط1، منشورات السابع عشر من أبریل، لیبیا، 1426ه-.

164.علم الأُسلوب والنظریة البنائیة، الدکتور صلاح فضل، ط1، دار الکتاب المص-ری، دار الکتاب اللبنانی، القاهرة، بیروت، 1428ه- - 2007م.

165.علم الأصوات، الدکتور کمال بشر، دار غریب للطباعة والنش-ر والتوزیع،

ص: 316

القاهرة، 2000م.

166. علم الأصوات اللغویة، الدکتور مناف مهدی الموسوی، ط1، توزیع دار الکتب العلمیة، بغداد، 2007م.

167.علم البیان: دراسة تحلیلیة لمسائل البیان، الدکتور بسیونی عبد الفتاح فیود، ط3، مؤسسة المختار للنشر والتوزیع، القاهرة، 1431ه- -2010م.

168. علم اللغة العام، فردینان دی سوسیر، ترجمة یوئیل یوسف عزیز، مراجعة النص العربی الدکتور مالک المطلبی، مطابع دار آفاق عربیة للصحافة والنشر، بغداد، 1980م.

169. علم اللغة: مقدّمة للقارئ العربی، الدکتور محمود السعران، دار المعارف بمص-ر، مطبعة الإسکندریة، 1962م.

170.علم المعانی، درویش الجندی، ط2، مکتبة نهضة مصر، 1381ه- -1963م.

171. علم المعانی، الدکتور عبد العزیز عتیق، دار النهضة العربیة لطباعة والنش-ر، بیروت، 1974م.

172. علم المعانی، الدکتور مجهد جیجان الدلیمی، والدکتور قیس إسماعیل الآلوسی والسیدة حذام جمال الدین الآلوسی، مدیریة دار الکتب للطباعة والنش-ر، المکتبة الوطنیة، 1993م.

173. علم المعانی: بین بلاغة القدامی وأُسلوبیة المُحدَثین، الدکتور طالب محمد إسماعیل الزوبعی، ط1، منشورات جامعة قان یونس، بنغازی، 1997م.

174. علم المعانی: تأصیل وتقییم، الدکتور حسن طبل، ط1، طبع ونش-ر مکتبة الإیمان بالمنصورة، القاهرة، 1420ه- -1999م.

175. علم المعانی: دراسة بلاغیة ونقدیة لمسائل المعانی، الدکتور بسیونی عبد الفتاح فیود، ط2، مؤسسة المختار للنشر والتوزیع، 1429ه- - 2008م.

176.علم المعانی وأسالیبه البلاغیة، الدکتور طاهر عبد الرحمن قحطان، ط1، مکتبة

ص: 317

الإرشاد، الجمهوریة الیمنیة - صنعاء، 1418ه- - 1997م.

177. الفائق فی غریب الحدیث، العلاّمة جار الله محمود بن أحمد بن عمر الزمخش-ری (ت538ه-)، وضع حواشیه إبراهیم شمس الدین، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1417ه- - 1996م.

178.الفعل زمانه وأبنیته، الدکتور إبراهیم السامرائی، ط2، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1400ه- - 1980م.

179. فقه اللغة العربیة، الدکتور کاصد یاسر الزبیدی، وزارة التعلیم العالی والبحث العلمی، جامعة الموصل، 1987م.

180. الفن ومذاهبه فی النثر العربی، الدکتور شوقی ضیف، ط10، دار المعارف، القاهرة،(د.ت).

181. فی الأدب الجاهلی، الدکتور طه حسین، ط9، دار المعارف بمصر، (د.ت).

182. فی الأصوات اللغویة: دراسة فی أصوات المد العربیة، الدکتور غالب فاضل المطلبی، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، دائرة الشؤون الثقافیة والنش-ر، دار الحریة للطباعة، 1984م.

183. فی البحث الصوتی عند العرب، الدکتور خلیل إبراهیم العطیة، الموسوعة الصغیرة 124، منشورات دار الجاحظ للنشر، بغداد، 1983م.

184. فی التحلیل اللغوی: منهج وصفی تحلیلی وتطبیقه علی التوکید اللغوی والنفی اللغوی وأُسلوب الاستفهام، الدکتور خلیل أحمد عمایرة، تقدیم الدکتور سلمان حسن العانی، ط1، مکتبة المنار، الأردن - الزرقاء،1407ه- -1987م.

185. فی النحو العربی: قواعد تطبیق علی المنهج العلمی الحدیث، الدکتور مهدی المخزومی، ط1، شرکة مکتبة ومطبعة مصطفی البابی الحلبی وأولاده بمص-ر، 1386ه- -1966م.

186.فی النحو العربی: نقد وتوجیه، الدکتور مهدی المخزومی، ط2، دار الشؤون

ص: 318

الثقافیة العامة، بغداد، 2005م.

187. فی النقد الأدبی، الدکتور شوقی ضیف، ط9، دار المعارف، القاهرة، (د.ت).

188.القاموس المحیط، محمد بن یعقوب مجد الدین الفیروز آبادی(ت817ه-)، دار الفکر، (د.ت).

189. قاموس المصباح المنیر فی غریب الشرح الکبیر للرافعی، أحمد بن محمد بن علی المقری الفیومی (ت770ه-)، ط1، مکتب التوثیق فی دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت - لبنان، 1426ه- - 2005م.

190. الکافی فی الصرف والنحو والإعراب، الدکتور جوزیف الیاس وجرجس ناصیف، ط1، دار العلم للملایین، 1998م.

191. الکامل فی التاریخ، أبو الحسن علی بن أبی الکرم محمد بن محمد بن عبد الکریم ابن عبد الواحد الشیبانی الجزری المعروف بابن الأثیر (ت 635ه-)، تحقیق نخبة من العلماء، ط2، مطبعة دار الکتاب العربی، بیروت، 1967م.

192. الکامل فی اللغة والأدب، أبو العباس محمد بن یزید المبرد (ت285ه-)، تحقیق الدکتور یحیی مراد، ط1، مؤسسة المختار للنشر والتوزیع، القاهرة، 1425ه- - 2004م.

193. الکتاب، سیبویه أَبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر(ت180ه-)، تحقیق وشرح عبد السلام محمد هارون، عالم الکتب للطباعة والنشر والتوزیع، مطابع الهیئة المص-ریة العامة للکتاب، بیروت، 1975م.

194. کتاب الأفعال، لابن القوطیة (ت367ه-)، تحقیق علی فودة، ط3، الناشر مکتبة الخانجی، الشرکة الدولیة للطباعة، القاهرة، 1421ه- - 2001م.

195. کتاب التبیان فی علم المعانی والبدیع والبیان، للعلاّمة شرف الدین حسین بن محمد الطیبی (ت743ه-)، تحقیق وتقدیم الدکتور هادی عطیة مطر الهلالی، ط1، مکتبة النهضة العربیة، عالم الکتب، بیروت، 1407ه- - 1987م.

ص: 319

196. کتاب تهذیب التهذیب، للحافظ شهاب الدین أحمد بن علی بن حجر العسقلانی (ت852ه-)، ضبط ومراجعة صدقی جمیل العطار، دار الفکر للطباعة والنش-ر والتوزیع، (د.ت).

197. کتاب التهذیب فی أصول التعریب، الدکتور أحمد بک عیسی، ط، دار الآفاق العربیة، القاهرة، 1421ه- - 2001م.

198. کتاب الصناعتین: الکتابة والشعر، تصنیف أبی هلال الحسین، عبد الله بن سهل العسکری، تحقیق الدکتور مفید قمحة، ط2، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1409ه- - 1989م.

199. کتاب الطراز المتضمن لإسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، للسیّد الإمام یحیی بن حمزة بن علی الیمنی، مراجعة وضبط محمد عبد السلام شاهین، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1415ه- - 1995م.

200. کتاب الفتوح، للعلاّمة أبی محمد أحمد بن أعثم الکوفی (ت314ه-)، تحقیق علی شیری، ط1، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت - لبنان، 1411ه- 1991م.

201. کتاب معانی الحروف، لأبی الحسن علی بن عیسی الرمانی النحوی (ت386ه-)، حققه وخرّج شواهده وعلّق علیه وقدّم له وترجم للرمانی وأرخ لعص-ره الدکتور عبد الفتاح إسماعیل شلبی، دار الش-روق للنش-ر والتوزیع، جدة، دار ومکتبة الهلال، بیروت، 1429ه- - 2008م.

202. کتاب المفتاح فی الصرف، للإمام عبد القاهر الجرجانی (ت471ه-)، حقّقه وقدّم له علی توفیق الحمد، ط1، مؤسسة الرسالة، دار الأمل، 1407ه- - 1987م.

203.کتاب المقتصد فی شرح الإیضاح، للإمام عبد القاهر الجرجانی، تحقیق کاظم بحر المرجان، وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشید للنشر، الجمهوریة

ص: 320

العراقیة،1982م.

204.الکشّاف عن حقائق غوامض التنزیل وعیون الأقاویل فی وجوه التأویل، جار الله محمود بن عمر الزمخشری (ت 538ه-)، دار الکتاب العربی، بیروت - لبنان، (د.ت).

205. لسان العرب، ابن منظور جمال الدین بن مکرم الأنصاری (ت711 ه-)، تصحیح أمین محمد عبد الوهاب، ومحمد صادق العبیدی، ط2، دار إحیاء التراث العربی، بیروت - لبنان، (د.ت).

206. اللغة العربیة معناها ومبناها، الدکتور تمام حسان، ط5، عالم الکتب، القاهرة، 1427ه- - 2006م.

207. اللغة فی الدرس البلاغی، الدکتور عدنان عبد الکریم جمعة، ط1، دار السیاب للطباعة والنشر والتوزیع، لندن، 2008م.

208.اللمع فی العربیة، أبو الفتح عثمان بن جنی(ت 392ه-)، تحقیق حامد المؤمن، ط1، منشورات منتدی النشر النجف الأشرف، مطبعة العانی، بغداد، 1402ه- -1982م.

209. المباحث الأُسلوبیة عند ابن جنی، ضمن کتاب دراسات فی نظریة النحو العربی وتطبیقاتها، الدکتور صاحب أبو جناح، ط1، دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع، عمان -- الأردن، 1419ه- - 1998م.

210. المبدع فی التصریف، أبو حیان النحوی الأندلس-ی، تحقیق وشرح وتعلیق الدکتور عبد الحمید السید طلب، ط1، الناشر مکتبة دار العروبة للنشر والتوزیع، طبع دار النفائس، بیروت،1402ه- -1982م.

211. المثل السائر فی أدب الکاتب والشاعر، أبو الفتح ضیاء الدین نص-ر الله بن محمد ابن محمد بن عبد الکریم المعروف بابن الأثیر الموصلی (ت637ه-)، تحقیق محمد محی الدین عبد الحمید، المکتبة العصریة، بیروت،1420ه- - 1999م.

ص: 321

212. المجازات النبویة، محمد بن حسین الشریف الرضی، تصحیح مهدی هوشمند، ط1، دار الحدیث للطباعة والنشر، مطبعة ستارة، قم، 1422ق -1380ش.

213. مجاز القرآن: خصائصه الفنیة وبلاغته العربیة، الدکتور محمد حسین علی الصغیر، ط1، دار المؤرخ العربی، بیروت - لبنان، 1420ه- - 1999م.

214.مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدین علی بن أبی بکر الهیثمی (ت807ه-)، تحقیق عبد الله محمد الدرویش، دار الفکر للطباعة والنش-ر والتوزیع 1414ه- -1994م.

215. مخارج الحروف أو أسباب حدوث الحروف، تصنیف الشیخ الرئیس أبو علی بن سینا، تحقیق الدکتور برویز ناتل خانلری، انتشارات دانشکاه، مطبعة دانشکاه، 1333ه-.

216. المدخل إلی علم اللغة ومناهج البحث اللغوی، الدکتور رمضان عبد التواب، ط3، مکتبة الخانجی، الشرکة الدولیة للطباعة، القاهرة، 1417ه- - 1997م.

217. مدخل إلی کتابی عبد القاهر الجرجانی، الدکتور محمد محمد أبو موسی، ط1، الناشر مکتبة وهبة، القاهرة 1418ه- - 1998م.

218. مدرسة الکوفة: ومنهجها فی دراسة اللغة والنحو، الدکتور مهدی المخزومی، ط3، دار الرائد العربی، بیروت - لبنان، 1406ه- - 1986م.

219. مراحل تطور النثر العربی فی نماذجه، الدکتور علی شلق، ط1، دار العلم للملایین، بیروت - لبنان،1991م.

220. المزهر فی علوم اللغة وأنواعها، للعلاّمة جلال الدین السیوطی، شرحه وضبطه وصححه وعنون موضوعاته محمد أحمد جاد المولی بک، ومحمد أبو الفضل إبراهیم، وعلی محمد البجاوی، ط2، طبع ونشر أصحاب دار إحیاء الکتب العربیة عیسی البابی الحلبی وشرکاؤه.

221.المستدرک علی الصحیحین، للإمام الحافظ أبی عبد الله محمد بن عبد الله الحاکم

ص: 322

النیسابوری مع تضمینات للإمام الذهبی فی التلخیص المیزان، والعراقی فی أمالیه، والمناوی فی فیض الغدیر، وغیرهم من العلماء الإجلاء، دراسة وتحقیق مصطفی عبد القادر عطا، ط2، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1422ه- -2002م.

222.المستویات الجمالیة فی نهج البلاغة: دراسة فی شعریة النثر، نوفل هلال أبو رغیف، ط1، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 2008م.

223. مصباح الراغب شرح کافیة ابن الحاجب بحاشیة السیّد، العلاّمة محمد بن عز الدین المفتی الکبیر (ت973ه-)، تحقیق عبد الله حمود، ط1، مکتبة التراث الإسلامی 1426ه- - 2005م.

224.المصباح فی المعانی والبیان والبدیع، للإمام أبی عبد الله بدر الدین بن مالک الدمشقی الشهیر بابن الناظم (ت686ه-)، حقّق الکتاب وقدّم له الدکتور عبد الحمید هنداوی، ط1، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1422ه- - 2001م.

225. المطول: شرح تلخیص مفتاح العلوم، العلاّمة سعد الدین مسعود بن عمر التفتازانی (ت792ه-)، تحقیق الدکتور عبد الحمید هنداوی، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1422ه- - 2001م.

226. معانی الأبنیة فی العربیة، الدکتور فاضل صالح السامرائی، ط1، ساعدت جامعة بغداد علی نشره، جامعة الکویت، 1998م.

227. معانی القرآن، أبو زکریا یحیی بن زیاد الفراء (ت207ه-)، تحقیق أحمد یوسف نجاتی، محمد علی النجار، ط2، الهیئة المصریة العامّة للکتاب، 1980م.

228. معترک الأقران فی أعجاز القرآن، أبو الفضل جلال بن عبد الرحمن أبو بکر السیوطی (ت911ه-)، ضبطه وصححه أحمد شمس الدین، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1408ه- - 1988م.

229.معجم البلدان، للشیخ الإمام شهاب الدین أبی عبد الله یاقوت بن عبد الله

ص: 323

الحموی الرومی البغدادی (ت626ه-)، تحقیق فرید عبد العزیز الجندی، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، (د.ت).

230. المعجم الکبیر، الحافظ أبو القاسم سلیمان بن أحمد الطبرانی، حقّقه وخرّج أحادیثه حمدی عد المجید السلفی، ط2، دار إحیاء التراث العربی للطباعة والنش-ر والتوزیع، 1422ه- -2002م.

231. معجم المصطلحات البلاغیة وتطورها، الدکتور أحمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمی العراقی 1406ه- - 1989م.

232. مع المختار الثقفی: رؤیة موضوعیة جدیدة، سلیم عبد الله، ط1، دار الثقلین للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت - لبنان، 1417ه- -1996م.

233.مغنی اللبیب عن کتب الأعاریب، جمال الدین ابن هشام الأنصاری (ت761ه-)، حققه وعلّق علیه الدکتور مازن المبارک، والدکتور محمد علی حمد الله، راجعه سعید الأفغانی، انتشارات کلستانه،(د.ت).

234. مفتاح العلوم، أبو یعقوب یوسف بن أبو بکر محمد بن علی السکاکی (ت626ه-)، ضبطه وکتب هوامشه وعلّق علیه نعیم زرزور، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1403ه- - 1983م.

235. المفصل فی علم العربیة، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخش-ری (ت538ه-)، ط2، دار الجیل، بیروت، (د.ت).

236. مقالات فی الأُسلوبیة، الدکتور منذر عیاشی، ط1، منشورات اتحاد الکتاب العرب، 1990م.

237. المقتضب، صنعه أبو العباس محمد بن یزید المبرد، تحقیق محمد عبد الخالق عظیمة، دار الکتاب اللبنانی بیروت ودار الکتاب المصری القاهرة، القاهرة، 1399ه-.

238.مقتل الحسین للخوارزمی، لأبی المؤید الموفق محمد بن أحمد المکی أخطب

ص: 324

خوارزم (ت568ه-)، عنی بملاحظته والتعلیق علیه العلاّمة المحقق الکبیر الشیخ محمد السماوی، مطبعة الزهراء، النجف، 1948ه- - 1368م.

239. المقدّمة فی نقد النثر العربی: مشروع رؤیة جدیدة فی تقنیات البحث والکتابة، الشیخ علی حب الله، ط1، دار الهادئ للطباعة والنش-ر والتوزیع، بیروت - لبنان، 1421ه- -2001م.

240. مقدّمة لدرس لغة العرب: وکیف نضع المعجم الجدید، عبد الله العلایلی، المطبعة العصریة، مصر، (د.ت).

241.المقرّب، علی بن عبد المؤمن المعروف بابن عصفور (ت669ه-)، تحقیق الدکتور أحمد عبد الستار الجواری، وعبد الله الجبوری، وزارة الأوقاف والشؤون الدینیة، لجنة إحیاء التراث الإسلامی، مطبعة العانی، بغداد، 1986م.

242. الممتع الکبیر فی التصریف، ابن عصفور الأشبیلی (ت669ه-)، تحقیق الدکتور فخر الدین قباوة، ط1، مکتبة لنبان - ناشرون، لبنان، 1996م.

243. من أسرار التعبیر القرآنی: دراسة تحلیلیة لسورة الأحزاب، الدکتور محمد محمد أبو موسی، ط2، الناشر مکتبة وهبة، (د.ت).

244. من أسرار اللغة، الدکتور إبراهیم أنیس، ط8، مکتبة الأنجلو المص-ریة، مطبعة محمد عبد الکریم حسان، القاهرة، (د.ت).

245. مناهج البحث فی اللغة، الدکتور تمام حسان، ط2، دار الثقافة، الدار البیضاء، 1394ه- - 1974م.

246. المنهج الصوتی للبنیة العربیة: رؤیة جدیدة فی الصرف العربی، الدکتور عبد الصبور شاهین، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1400ه- -1980م.

247. مواهب الفتاح فی شرح تلخیص المفتاح، أبو العباس أحمد بن محمد بن یعقوب المغربی(ت1128ه-)، تحقیق خلیل إبراهیم خلیل، ط1، منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1424ه- -2003م.

ص: 325

248.موسیقی الشعر، الدکتور إبراهیم أنیس، ط4، الناشر مکتبة الأنجلو المصریة، المطبعة الفنیة الحدیثة، 1972م.

249.النثر فی العصر الجاهلی، الدکتور هاشم صالح مناع، ط1، دار الفکر العربی للطباعة والنشر، بیروت - لبنان، 1993م.

250. النثر الفنی بین صدر الإسلام والعص-ر الأُموی: دراسة تحلیلیة، الدکتورة می یوسف خلیف، دار بقاء للطباعة والنشر والتوزیع، القاهرة، (د.ت).

251. النثر الفنی فی القرن الرابع، زکی مبارک، دار الجیل، بیروت، (د.ت).

252.نحو الفعل، الدکتور أحمد عبد الستار الجواری، مطبعة المجمع العلمی العراقی، 1974م.

253.نحو القرآن، الدکتور أحمد عبد الستار الجواری، مطبعة المجمع العلمی العراقی، 1394ه- -1974م.

254. نحو المعانی، الدکتور أحمد عبد الستار الجواری، مطبعة المجمع العلمی العراقی، 1407ه- -1987م.

255.نحو نظریة أُسلوبیة لسانیة، فیلی ساندریس، ترجمة خالد محمود جمعه، ط1، توزیع دار الفکر، دمشق - سوریة، 1424ه- -2003م.

256. النقد اللغوی عند العرب: حتی نهایة القرن السابع الهجری، الدکتور نعمة رحیم العزاوی، منشورات وزارة الثقافة والفنون، الجمهوریة العراقیة، 1978م.

257. نقد النثر: النظریة والتطبیق، قراءة فی نتاج ابن الأثیر النقدی والإبداعی، الدکتور عرفة حلمی عباس، ط1، الناشر مکتبة الآداب، القاهرة، 1430ه- - 2009م.

258. نهایة الإیجاز فی درایة الإعجاز، الإمام فخر الدین الرازی، تحقیق ودراسة الدکتور بکری شیخ أمین، ط1، دار العلم للملایین، بیروت - لبنان، 1985م.

259.نهج البلاغة، أبو الحسن محمد الرضی بن الحسین الموسوی، شرح الأستاذ الشیخ

ص: 326

محمد عبده، دار المعرفة للطباعة والنشر، بیروت - لبنان، (د.ت).

260. نهج البلاغة، الشریف الرضی، شرحه الأستاذ الإمام المرحوم الشیخ محمد عبده، حقّقه وزاد فی شرحه محمد محی الدین عبد الحمید، المکتبة التجاریة الکبری، مطبعة الاستقامة، مصر، (د.ت).

261.همع الهوامع فی شرح جمع الجوامع، الإمام جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر السیوطی (ت911ه-)، تحقیق أحمد شمس الدین، ط2، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1427ه- -2006م.

262. الواضح فی علم الص-رف، الدکتور محمد خیر حلوانی، ط4، دار الثقافة العربیة للطباعة والنشر والتوزیع، دار المأمون للتراث1407ه- -1987م.

263. وقعة صفین، لنصر بن مزاحم المنقری (ت212ه-)، تحقیق وشرح عبد السلام محمد هارون، ط3، نشر مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی، مطبعة بهم، قم، 1418ه- ق - 1376ه- ش.

- البحوث والمجلات

264.أثر حرکة التوّابین فی الأدب: خُطب زعمائها ورسائلهم، جمعها وحقّقها وقدّم لها محسن بن العربی، حولیات الجامعة التونسیة، العدد 28، لسنة 1988م.

265. الأُسلوب والأُسلوبیة: مدخل فی المصطلح وحقول البحث ومناهجه، أحمد درویش، مجلة فصول، الهیئة المص-ریة العامّة للکتاب، القاهرة، المجلد5، العدد1، 1984م.

266. الأُسلوبیة الحدیثة: محاولة تعریف، الدکتور محمد عیاد، مجلة فصول، الهیئة المص-ریة العامّة للکتاب، القاهرة، المجلد1، العدد2، 1401ه- -1981م.

267. الأُسلوبیة الذاتیة أو النشوئیة، عبد الله حوله، مجلة فصول، الهیئة المص-ریة العامّة للکتاب، القاهرة، المجلد5، العدد1، 1984م.

268.الأُسلوبیة الصوتیة فی النظریة والتطبیق، الدکتور ماهر مهدی هلال، مجلة آفاق

ص: 327

عربیة، العدد12، السنة السابعة عشرة، 1992م.

269. الأُسلوبیة: علم وتاریخ، فیتور مانویل، ترجمة وتقدیم الدکتور سلیمان العطار، مجلة فصول، الهیئة المصریة العامّة للکتاب، القاهرة، المجلد1، العدد2، 1401ه- - 1981م.

270. الأُسلوبیة والنقد الأدبی: منتخبات من تعریف الأُسلوب وعلم الأُسلوب، اختارها وترجمها الدکتور عبد السلام المسدی، مجلة الثقافة الأجنبیة، بغداد، العدد1، السنة الثانیة، 1982م.

271. خُطب التوّابین بعد استشهاد الامام الحسین(علیه السّلام): المغزی والأُسلوب، الأُستاذ الدکتور مشکور العوادی، مجلة ینابیع، العدد10، السنة الثالثة، محرم، صفر، 1427ه-.

272. الدراسات الإحصائیة للأُسلوب: بحث فی المفهوم والإجراء والوظیفة، الدکتور سعد مصلوح، مجلة عالم الفکر، الکویت، العدد20، 1989م.

273. سمات أُسلوبیة فی شعر صلاح عبد الصبور، الدکتور محمد العبد، مجلة فصول، الهیئة المصریة العامّة للکتاب، القاهرة، العدد1،2، 1986م -1987م.

274.علم الأُسلوب وصلته بعلم اللغة، الدکتور صلاح فضل، مجلة فصول، الهیئة المص-ریة العامّة للکتاب، القاهرة، المجلد5، العدد1، 1984م.

275. علم اللغة والنقد الأدبی: علم الأُسلوب، الدکتور عبده الراجحی، مجلة فصول، الهیئة المصریة العامّة للکتاب، القاهرة، المجلد1، العدد2، 1401ه- - 1981م.

276.فی مفهوم الإیقاع، محمد الهادی الطرابلسی، حولیات الجامعة التونسیة، العدد32، لسنة 1991م.

277. الکلمة فی الشعر العراقی المعاصر: البنیة الصرفیة والدلالة، الدکتور هادی نهر، مجلة الأقلام، بغداد، العدد7- 9، 1997م.

278.المعنی الحرکی فی بدائع الإمام علی(علیه السّلام)، الأُستاذ الدکتور مشکور کاظم

ص: 328

العوادی، بحث قُدِّم إلی مؤتمر اللغة العربیة بکلیة التربیة الأساسیة، جامعة الکوفة، 2010م.

279. مفهوم الأُسلوب، رولف ساندل، ترجمة لمیاء عبد الحمید العانی، مجلة الثقافة الأجنبیة، العدد1، السنة الثانیة، 1982م.

280. مفهوم الأُسلوب فی التراث، الدکتور محمد عبد المطلب، مجلة فصول، الهیئة المص-ریة العامّة للکتاب، القاهرة، المجلد7، العدد3، 1987م.

281 مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجانی: قراءة فی ضوء الأُسلوبیة، نصر أبو زید، مجلة فصول، الهیئة المصریة العامّة للکتاب، القاهرة، المجلد5، العدد1، 1984م.

- المواقع الالکترونیة:

282. الترسل الفنی فی العصر العباسی الأوّل، سهل بن هارون مترسلاً، قحطان الفلاح، http: // www. Dahsha.com /vie warticle. Php ?id=28634 .

- الرسائل الجامعیة:

283. ألفاظ السمع فی القرآن الکریم: دراسة لغویة، شکیب غازی بصری الحلفی، رسالة ماجستیر مخطوطة، کلیة الآداب، جامعة الکوفة، 1429ه- - 2008م.

284. البنیة الإیقاعیة فی شعر الجواهری، عبد نور داود عمران، أطروحة دکتوراه مخطوطة، کلیة الآداب، جامعة الکوفة، 1429ه- - 2008م.

285. التصویر الفنّی فی خُطب المسیرة الحسینیة، هادی سعدون حنون، رسالة ماجستیر مخطوطة، کلیة الآداب، جامعة الکوفة، 1429ه- - 2008م.

286. حرکة المختار بن أبی عبید الثقفی وأبعادها السیاسیة والفکریة، رغداء حسین محمد، رسالة ماجستیر مخطوطة، کلیة الآداب، جامعة الکوفة، 1428ه- -2007م.

287.خُطب سیدات البیت العلوی (علیهن السلام) حتی نهایة القرن الأوّل الهجری: دراسة موضوعیة فنیة، زینب عبد الله کاظم الموسوی، رسالة ماجستیر مخطوطة،

ص: 329

کلیة الآداب، جامعة الکوفة 1429ه- - 2008م.

288. دعاء الإمام علی(علیه السّلام): دراسة نحویة أُسلوبیة، محمد إسماعیل عبد الله، رسالة ماجستیر مخطوطة، کلیة التربیة، جامعة بابل، 1426ه- - 2005م.

289. الرسائل الفنیة فی العصر الإسلامی: إلی نهایة العص-ر الأُموی، غانم جواد رضا، رسالة ماجستیر مخطوطة، کلیة الآداب، جامعة بغداد، 1974م.

290. سورة الشعراء: دراسة أُسلوبیة، تومان غازی حسین، أطروحة دکتوراه مخطوطة، کلیة الآداب - جامعة الکوفة، 1431ه- - 2010م.

291.شعر زهیر بن أبی سلمی: دراسة أُسلوبیة، أیاد کمر کرم، رسالة ماجستیر مخطوطة، کلیة التربیة، جامعة القادسیة، 1426ه- - 2005م.

292. قصار السور: دراسة أُسلوبیة، کریم طاهر البعاج، رسالة ماجستیر مخطوطة، کلیة التربیة، جامعة بابل، 1428ه- - 2007م.

293. لغة الشعر عند الصعالیک قبل الإسلام: دراسة لغویة أُسلوبیة، وائل عبد الأمیر خلیل الحربی، رسالة ماجستیر مخطوطة، کلیة التربیة، جامعة بابل، 1423ه- - 2003م.

294. المناجیات وأدعیة الأیّام عند الإمام زین العابدین(علیه السّلام): دراسة أُسلوبیة، إدریس طارق حسین، رسالة ماجستیر مخطوطة، کلیة التربیة، جامعة بابل،1427ه-.

ص: 330

المحتویات

الإهداء.. 7

(شکر وعرفان). 9

مقدمة المؤسسة 11

مقدمة المؤلف.. 15

التمهید. 19

النثر بین الموضوع والأداء. 19

أوَّلاً: مفهوم النثر الفنی. 21

النثر فی اللغة: 21

ثانیاً: مدخل تنظیری للأُسلوبیَّة 23

الفصل الأوَّل

أنماط النَّثر الفنِّی ومواردها

فی ثورة التوّابین وإمارة المختار

المبحث الأوَّل: أنماط النثر الفنَّی فی ثورة التوّابین وإمارة المختار. 31

أولاً: الخطابة 31

1- الخطابة بین الجاهلیة وصدر الإسلام. 31

ثانیاً: الرسائل الفنیة 39

1- الرسائل الفنیة بین الجاهلیة وعصر صدر الإسلام 40

2- الرسائل الفنیّة فی ثورة التوّابین وإمارة المختار. 41

ص: 331

ثالثاً: العهود والوصایا فی ثورة التوّابین وإمارة المختار. 44

المبحث الثانی: موارد النثر الفنی فی ثورة التوّابین وإمارة المختار. 47

أوّلاً: القرآن الکریم. 47

1- الاقتباس القرآنی. 50

2- الاستشهاد بالآیات القرآنیَّة 57

3- محاکاة أُسلوب القرآن الکریم. 59

ثانیاً: نثر الرسول محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )... 63

1 - الحدیث النَّبوی الشَّریف.. 65

2- خُطب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ورسائله 69

أ - البسملة. 72

ب - العنوان. 72

ج - السلام. 73

د - التخلّص... 73

ه- - الختام. 74

ثالثاً: نثر الإمام علی بن أبی طالب(علیه السّلام)... 78

الفصل الثانی

القیم الإیقاعیَّة للمستوی الصَّوتی

مدخل. 89

المبحث الأوَّل: قیمة الإیقاع الصوتی. 93

أوَّلاً: الجناس.. 95

1- الجناس الناقص... 96

2- الجناس المضارع واللاحق. 97

ص: 322

3- جناس الاشتقاق. 101

4 - جناس التحریف.. 104

5 - الجناس المعکوس.. 105

6- جناس التَّصحیف.. 107

ثانیاً: السَّجع. 108

1- السجع المتوازی. 109

2- السَّجع المطرَّف.. 111

3- تداخل السجع المطرَّف والمتوازی. 113

ثالثاً: تداخل السجع مع الجناس 115

رابعاً: الموازنة (الازدواج). 116

المبحث الثانی: التناسب المعنوی للإیحاء الصوتی. 121

أوَّلاً: دلالة الصوت فی اللفظة المفردة 123

ثانیاً: دلالة الأصوات المتکرَّرة فی السیاق. 132

1- تکرار الأصوات الشدیدة 133

2 - تکرار أصوات المدّ. 137

3- تکرار أصوات الذَّلاقة 141

الفصل الثَّالث

المستوی اللَّفظی

مدخل. 149

المبحث الأوَّل: الاختیار والفصاحة 151

1- مخارِج حروف اللفظة 152

2- طول اللفظة وقصرها 156

ص: 333

3- حرکات الحروف فی اللفظة 159

4 - أُلفة الاستعمال. 163

المبحث الثانی: الاستعمال والقصد. 169

أولاً: استعمال الاسم. 170

1- استعمال اسم الفاعل. 171

2- استعمال اسم المفعول. 175

3- استعمال المصدر 178

4- استعمال الصفة المُشبّهة 181

5- استعمال صیغة المبالغة 183

6- استعمال الاسم المصغَّر. 185

ثانیاً: استعمال الفعل. 186

1- استعمال الفعل الماضی... 187

2- استعمال الفعل المبنی للمجهول. 194

المبحث الثالث: العدول. 197

الفصل الرابع

دلالات المستوی التَّرکیبی

وخصائصه 211

مدخل. 213

المبحث الأوَّل: الأنماط البنائیَّة للأسالیب اللغویَّة 217

أوَّلاً: الأسالیب الخبریة 218

1- أُسلوب النّفی. 219

2- أُسلوب القصْر... 223

ص: 334

ثانیاً: الأسالیب الإنشائیة 228

1- أُسلوب الأمر 229

2- أُسلوب النَّهی. 231

3- أُسلوب الاستف-هام. 233

4- أُسلوب النداء 236

ثالثاً: أسالیب جمعت بین الخبر والإنشاء. 238

1- أُسلوب الشَّ-رط. 238

2- أُسلوب القَسَم. 243

المبحث الثانی: الخصائص المعنویَّة للتَّراکیب.. 249

أوّلاً: الفصل والوصل. 250

ثانیاً: التقدیم والتأخیر. 256

1- تقدیم المسند إلیه 257

أ - تقدیم المبتدأ 257

ب - تقدیم الفاعل. 259

2- تقدیم المسند. 261

أ- تقدیم الخبر. 261

3- التقدیم فی المتعلّقات() 263

أ- تقدیم الجار والمجرور. 263

ب - تقدیم المفعول به. 264

ثالثاً: التعریف والتنکیر. 266

1- تعریف المسند إلیه 267

2- تعریف المسند. 271

ص: 335

1- تنکیر المسند إلیه 273

2- تنکیر المسند (تنکیر الخبر) 276

رابعاً: الحذف والذکر. 278

1- حذف المسند إلیه 279

أ- حذف المبتدأ 279

ب - حذف الفاعل.. 281

2- حذف المسند. 283

أ- حذف الفعل.. 283

ب - حذف الخبر.. 285

3 - حذف المتعلّقات.. 287

أ - حذف المفعول به. 287

1- ذکر المسند إلیه 292

2- ذکر المس---ند. 293

الخاتمة ونتائج البحث.. 295

کشَّاف المصادر والمراجع. 299

المحتویات 331

ص: 336

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.