الاطر الشرعیة والقانونیة لثورة الامام الحسین علیه السلام

اشارة

عنوان الکتاب: الأُطر الشرعیة والقانونیة لثورة الإمام الحسین علیه السلام

المؤلف: د.حکمت الرحمة

الإشراف العلمی: اللجنة العلمیة فی مؤسسة وارث الأنبیاء

بیانات النشر: النجف، العراق: العتبة الحسینیة المقدسة - قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة، 1436ه- ق 2015م.

الطبعة : الأولی

سنة الطبع: 1436 ه 2015م

عدد النسخ : 1000

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

مقدمة المؤسسة

إنّ تأسیس المراکز والمؤسسات العلمیة من شأنه أن یثری الواقع العلمی والثقافی فی أوساط المجتمع، وهو من أهم حلقات المعرفة ونشرها بالشکل الصحیح فیما إذا کان مبنیاً علی أسس واضحة ومنطقیة.

من هنا أخذت الأمانة العامة للعتبة الحسینیة المقدسة علی عاتقها إنشاء المؤسسات والمراکز العلمیة والثقافیة، وإیماناً منها بأنّ التخصص عامل مؤثر فی تقییم الواقع ومحاکاته بشکل أدق، عمدت إلی إنشاء مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة، وهی مؤسسة علمیة متخصصة فی دراسة النهضة الحسینیة من جمیع أبعادها التاریخیة والفقهیة والعقائدیة والسیاسیة والاجتماعیة والتربویة والتبلیغیة، وغیرها من الجوانب العدیدة المرتبطة بهذه النهضة العظیمة، وکذلک تتکفّل بدراسة سائر ما یرتبط بالإمام الحسین(علیه السّلام) ومن کان معه فی کربلاء، وانطلاقاً من الإحساس بالمسؤولیة العظیمة الملقاة علی عاتق هذه المؤسسة المبارکة _ کونها مختصة بأحد أهمّ القضایا الدینیة، بل والإنسانیة _ فقد قامت بالعمل علی مجموعة من المشاریع العلمیة التخصصیة التی من شأنها أن تعطی نقلة نوعیة للتراث والفکر والثقافة الحسینیة، منها:

1: قسم التحقیق، والعمل فیه جار علی تحقیق موسوعة حول التراث المکتوب عن الإمام الحسین(علیه السّلام) ونهضته المبارکة، سواء المقاتل منها أو التاریخ أو السیرة أو غیرها، وسواء التی کانت بکتاب مستقل أو ضمن کتاب. وکذا العمل جار فی هذه الوحدة علی متابعة المخطوطات الحسینیة التی لم تطبع إلی الآن، لجمعها وتحقیقها، ثم طباعتها ونشرها.

ص: 7

2: قسم التألیف، والعمل فیه جار علی تألیف کتب حول الموضوعات الحسینیة المهمة التی لم یتم تناولها بالبحث والتنقیب، أو التی لم تعطَ حقّها من ذلک، کما ویتم استقبال الکتب الحسینیة المؤلّفة خارج المؤسسة ومتابعتها علمیاً وفنّیاً من قبل اللجنة العلمیة، وبعد إجراء التعدیلات والإصلاحات اللازمة یتم طباعتها ونشرها.

3: مجلّة الإصلاح الحسینی، وهی مجلّة فصلیة متخصصة فی النهضة الحسینیة، تهتم بنشر معالم وآفاق الفکر الحسینی، وتسلیط الضوء علی تاریخ النهضة المبارکة وتراثها، وکذلک إبراز الجوانب الإنسانیة والاجتماعیة والفقهیة والأدبیة فی تلک النهضة المبارکة.

4: قسم ردّ الشبهات عن النهضة الحسینیة، ویتم فیه جمع الشبهات المثارة حول الإمام الحسین(علیه السّلام) ونهضته المبارکة، ثم فرزها وتبویبها، ثم الرد علیها بشکل علمی تحقیقی.

5: الموسوعة العلمیة من کلمات الإمام الحسین(علیه السّلام)، وهی موسوعة تجمع کلمات الإمام الحسین(علیه السّلام) فی مختلف العلوم وفروع المعرفة، ثم تبویبها حسب التخصصات العلمیة ووضعها بین یدی ذوی الاختصاص؛ لیستخرجوا نظریات علمیة ممازجة بین کلمات الإمام(علیه السّلام) والواقع العلمی.

6: قسم دائرة معارف الإمام الحسین(علیه السّلام)، وهی موسوعة تشتمل علی کل ما یرتبط بالنهضة الحسینیة من أحداث ووقائع ومفاهیم ورؤی وأسماء أعلام وأماکن وکتب وغیر ذلک من الأمور، مرتبة حسب حروف الألف باء، کما هو معمول به فی دوائر المعارف والموسوعات، وعلی شکل مقالات علمیة رصینة تُراعی فیها کل شروط المقالة العلمیة، ومکتوبة بلغة عصریة وبأُسلوب سلس.

7: قسم الرسائل الجامعیة، والعمل فیه جار علی إحصاء الرسائل الجامعیة التی کُتبتْ حول النهضة الحسینیة، ومتابعتها من قبل لجنة علمیة متخصصة؛ لرفع النواقص العلمیة وتهیئتها للطباعة والنشر. کما ویتم إعداد موضوعات حسینیة تصلح لکتابة رسائل

ص: 8

وأطاریح جامعیة تکون بمتناول طلاب الدراسات العلیا.

8: قسم الترجمة، والعمل فیه جار علی ترجمة التراث الحسینی باللغات الأخری إلی اللغة العربیة.

9: قسم الرصد، ویتم فیه رصد جمیع القضایا الحسینیة المطروحة فی الفضائیات والمواقع الالکترونیة والکتب والمجلات والنشریات وغیرها، مما یعطی رؤیة واضحة حول أهم الأمور المرتبطة بالقضیة الحسینیة بمختلف أبعادها، وهذا بدوره یکون مؤثّراً جدّاً فی رسم السیاسات العامة للمؤسسة، ورفد بقیة الأقسام فیها وکذا بقیة المؤسسات والمراکز العلمیة بمختلف المعلومات.

10: قسم الندوات، ویتم من خلاله إقامة ندوات علمیة تخصصیة فی النهضة الحسینیة، یحضرها الباحثون والمحققون وذوو الاختصاص.

11: قسم المکتبة الحسینیة التخصصیة، حیث قامت المؤسسة بإنشاء مکتبة حسینیة تخصصیة تجمع التراث الحسینی المطبوع.

وهناک مشاریع أُخری سیتم العمل علیها قریباً إن شاء الله تعالی.

کتاب الأُطر الشرعیة والقانونیة لثورة الإمام الحسین(علیه السّلام)

جاء هذا الکتاب ضمن أحد مشاریع المؤسسة؛ إذ وقع علی عاتق قسم التألیف الکتابة فی المواضیع الحسینیة ذات الأهمیة البالغة، فوقع الاختیار فی باکورة عمل هذا القسم علی عدّة مواضیع، کان من بینها موضوع الأُطر الشرعیة والقانونیة لثورة الإمام الحسین(علیه السّلام)، وکان الهدف منه تسلیط الضوء علی الثورة المبارکة من وجهة نظر شرعیة دینیة، وهل أنّها ثورة معتمدة ومرتکزة فی انطلاقتها علی أُسس شرعیة واضحة وبینة، أم کانت ثورة یعزوها الدلیل وتنقصها الحجّة؟

وکذلک تسلیط الضوء علی هذه الثورة من وجهة نظر قانونیة وضعیة، وأنه وفقاً

ص: 9

للقانون الوضعی هل تعتبر هذه الثورة مشروعة أم تعتبر تمرّداً مخالفاً للقانون؟

وقد استطاع الدکتور الشیخ حکمت الرحمة _ مؤلف الکتاب _ أن یعطی صورة واضحة مدلّلة عن هذا الموضوع المهم والحیوی من خلال سبر الأدلة الشرعیة والقوانین الوضعیة، وتحلیل الواقعة وظروفها وشروطها تحلیلاً دقیقاً، فنأمل أن یکون هذا الکتاب محطّ أنظار أهل التحقیق والتدقیق علی المستویین الحوزوی والأکادیمی کون المؤلف قد جمع فی دراسته هذه بین هذین المستویین.

وفی الختام نتمنّی للمؤلف ولجمیع الأخوة فی وحدة التألیف دوام الموفقیة والسداد لخدمة القضیة الحسینیة.

نسأل الله تعالی أن یبارک لنا فی أعمالنا إنه سمیع مجیب.

اللجنة العلمیة فی مؤسسة وارث الأنبیاء

للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة

ص: 10

مقدمة المؤلف

الحمد لله الذی لا إله إلا هو الحیّ القیوم، والصلاة والسلام علی رسوله المصطفی، وعلی أهل بیته الطیبین الطاهرین.

منذ تلک اللحظة التی انطلقت فیها صرخة الإمام الحسین(علیه السّلام) فی کربلاء، والأُمّة بطبقاتها المختلفة، بصغارها وکبارها، برجالها ونسائها، تنهل من هذه الثورة، وتتأمّل فی فصولها، وتعیش حوادثها، وتستقرئ تلک الوقفات، فتعیش العَبرة تارة، وتستلهم العِبرة تارةً أُخری، فعاشوراء أضحت مدرسة تمدّ الدنیا بأنواع العطاء، فهی تُجسّد کلّ المبادئ والقیم، وتدعو الإنسان لیعیش إنساناً حرّاً کریماً کما خلقه الله سبحانه، فهی ثورة ضدّ التسلّط وضدّ العبودیة، وضدّ کلّ أنواع التجبّر، ثورة رخصت فیها الدماء فی قبال تحطیم قیود الذلّ والأسر التی کبّلت أیادی الناس، ثورة جعلت من الإصلاح شعاراً صریحاً وواضحاً لانطلاقتها، فتفانی فیها الکبیر والصغیر، والطفل والمرأة؛ لتقدّم لکلّ الفئات، لکلّ الأجیال، لکلّ الطبقات، تعلّم الأُمّة معنی التفانی فی سبیل الدین والعقیدة، معنی الوقوف بین یدی الله فی لحظات تتهاوی فیها سهام الأعداء یمیناً شمالاً، إنّها ثورة إحیاء لدین أُریدَ له أن یُقبر، ولعقائد أُریدَ لها أنْ تُبدّل ولأحکام طُمست أو ما زالت تُطمس...

ومع هذا الوضوح فی شعار الثورة، ومع وضوح الانحراف فی واقع تلک الأمّة، ومع معرفة الجمیع بقائد الثورة وربّان سفینتها، مع وضوح هذه الأُمور الثلاثة، فإنّ هناک أقلاماً قدیماً وحاضراً، ولربّما مستقبلاً تحاول النیل من هذه الثورة المبارکة، بحجج ومسوّغات مختلفة، وفق رؤی وأفکار بحاجة إلی مناقشة وبیان من الأساس، وطبیعی فإنّ الإصرار علی بثّ هذه الشبه وکثرة تردیدها، خصوصاً ونحن فی عالم الإنترنت والقنوات الفضائیة قد تثیر الشکوک عند هذا وذاک، مع ملاحظة أنّ رواد الإنترنت ومشاهدی

ص: 11

الفضائیات یحملون مستویات ثقافیة مختلفة.

لذا حاولنا فی هذا الکتاب أنْ نسلّط الضوء علی مش_روعیة الثورة من المنطلقین الشرعی والقانونی، بمعنی أنْ نستقرئ أحداث تلک الفترة، ونری ما یقتضیه الموقف من وجهةٍ شرعیة، وکذلک نحاول الإشارة إلی الموقف وفق رؤی القانون الوضعی المعمول به فی هذه الأزمنة، مقتص_رین فی ذلک علی القوانین المتسالمة، المعمول والملتَزم بها عند الکثیر من الدول؛ لنری ما تملکه هذه الثورة من رصیدٍ شرعیّ، وإطارٍ قانونی تتقوّم بهما مشروعیتها.

خطّة البحث

وقد جاء البحث فی ستّة فصول، تناول الأول عدّة من المباحث التمهیدیة:

دار الأول منها حول ضرورة الإمامة، مع نظرة موجزة فی شرعیة إمامة أهل البیت(علیهم السّلام) علی ضوء القرآن والسنة.

وتناول الثانی تعریف القانون الوضعی، وبیان أهمّیته فی تنظیم حیاة الفرد والمجتمع.

وترکّز الثالث حول بیان مفهوم الثورة ومعالمها.

وأمّا الفصل الثانی، فقد حمل عنوان: مشروعیة الثورة فی ضوء صلح الإمام الحسن(علیه السّلام)، وفیه عدّة مباحث:

المبحث الأوّل: وفاة النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وتغییر مسار الأُمّة.

المبحث الثانی: قراءة فی شروط الصلح.

المبحث الثالث: مش_روعیة عقد المعاهدة بین طرفین، شرعی وآخر غیر شرعی.

المبحث الرابع: معاویة وإخلاله بشروط الصلح.

المبحث الخامس: الأثر المترتّب علی مخالفة الهدنة شرعاً وقانوناً.

وحمل الفصل الثالث عنوان: مش_روعیة الثورة فی ضوء عدم مش_روعیة الحاکم، وقد

ص: 12

تناول أربعة مباحث أساسیّة:

المبحث الأول: صفات الحاکم وشروطه فی الإسلام (نظرة مختصرة).

المبحث الثانی: یزید وعدم أهلیّته للخلافة.

المبحث الثالث: ولایة العهد من جهةٍ شرعیة.

المبحث الرابع: بیعة یزید من جهةٍ شرعیة.

المبحث الخامس: مشروعیة حکم یزید فی ضوء القوانین الوضعیة.

وأمّا الفصل الرابع، فقد جاء بعنوان: مش_روعیة الثورة فی ضوء وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر الش_رعی، وضمان الحریات فی القانون الوضعی، وقد تناول مبحثین:

المبحث الأوّل: الثورة الحسینیة وفق وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، والحفاظ علی بیضة الإسلام.

المبحث الثانی: الحریّة ورفض الظلم والاستعباد وفق القانون الوضعی.

وأمّا الفصل الخامس فهو: مشروعیة الثورة وفق بیعة المجتمع الإسلامی للإمام الحسین(علیه السّلام)، وقد تضمّن مبحثین:

المبحث الأول: مؤهّلات الإمام الحسین(علیه السّلام) للخلافة.

المبحث الثانی: رسائل أهل الکوفة والبصرة، وانعقاد البیعة للحسین(علیه السّلام).

وحمل الفصل السادس عنوان: دلائل قرآنیة ونبویة علی مش_روعیة ثورة الإمام الحسین(علیه السّلام)، تناولنا فیه بعض الأدلّة التی یُستفاد منها مش_روعیة الثورة وحقّانیتها، بغضّ النظر عن معرفتنا بظروفها وأجوائها، وتضمّن هذا الفصل مبحثین:

المبحث الأوّل: الثورة الحسینیة وفق نظریة النصّ.

المبحث الثانی: النصوص الدالّة علی فضائله والتی یمکن من خلالها الحکم علی

ص: 13

مشروعیة الثورة.

هذا، ونأمل أنْ نکون فی عملنا هذا قد أوضحنا جانباً من الحقیقة، ورفدنا المکتبة الحسینیة بنتاج یخدم الثورة ویصبّ فی أهدافها، فإنْ تمّ ما أردنا فللّه الحمد والمنّة علی توفیقه، وإنْ کانت الأُخری فهو من القصور الذی لا یسلم منه غیر المعصوم، وأملنا کبیر بطلاب العلم أنْ یتحفونا بکلّ ما من شأنه أن یُوصل العمل إلی مبتغاه فی لاحق الإیام، إنْ کتب الله لنا الحیاة والدوام.

وأخیراً نحمد الله الذی بنعمته تتمّ الصالحات، ونصلّی ونسلّم علی الحبیب المصطفی محمّد وعلی أهل بیته الطیبین الطاهرین.

حکمت الرحمة

2/9/2014م

ص: 14

الفصل الأول: بحوث تمهیدیة

اشارة

ص: 15

ص: 16

المبحث الأول:ضرورة الإمامة ونظرة موجزة فی شرعیة إمامة أهل البیت(علیهم السّلام) علی ضوء القرآن والسنة

اشارة

لعلّ من نافلة القول أنْ نتکلّم عن ضرورة وجود الإمام فی کلّ مجتمع من مجتمعات البشریة، مع غضّ النظر _ ابتداءً _ عن الممیزات والشؤون التی لا بدّ أنْ تتوفّر عند ذلک الإمام، بحسب ظرف ونوع ذلک المجتمع.

فالناظر لأی مجتمعٍ کان، یری من الضرورة بمکان حاجته إلی قائد وحاکم تکون له المرجعیة فی إدارة شؤون الدولة وتنظیم علاقاتها، ویکون هو الموجِّه والمربِّی، وإلیه ترجع الکلمة عند الخلاف والاختلاف، ولولا وجود الحکّام والقوانین لتحوّلت المجتمعات کافّة إلی غابة یفترس فیها القویُّ الضعیفَ، وتضیع فیها الحقوق، ویضطرب أمر الناس، ویلزم الهرج والمرج.

والمجتمع الإسلامی لیس بِدعاً من المجتمعات البشریة، بل زادته میزة أنّه مجتمع یحمل رسالة ربّانیة، تعدّ خاتمة الرسالات، فأضفت علی قوانینه صبغة وحیانیة، مُستمَدّة من القرآن والسنّة النبویّة، وکان النبیّ محمّد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) هو القائد السیاسی، وهو القائد الروحی لذلک المجتمع، فحمل رسالة السماء، وتکفّل ببیانها وتبلیغها، وتحمّل کافّة أنواع الأذی فی

ص: 17

سبیل ربط الإنسان بربّه، وهدایته إلی دینه، وتربیته وفق أُطر ومقرّرات السماء، فأدّی ما أُوکل إلیه، فقاد الأُمّة علی کافّة المستویات والصُعد، وکانت إلیه المرجعیة فی جمیع جوانب الحیاة، فبالإضافة لقیادته السیاسیة للأُمّة کان مبیّناً لأحکام الش_ریعة، وموضّحاً لعقائدها، ومفسراً للقرآن، ومربیّاً وهادیاً للأُمّة، ومنتصفاً للمظلوم من الظالم، ومُقیماً للحدود والتعزیرات، وما إلی ذلک من أُمور تتعلّق بقیادة المجتمع، علی المستویین السیاسی والروحی.

وحیث إنّ هذه الرسالة هی الخاتمة؛ فلا بدّ من وجود خلیفة للنبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، له القدرة علی إکمال وظائفه، من سیاسة الأُمّة، وتدبیر شؤونها، وبیان الأحکام، وتفسیر القرآن، وإیضاح العقائد، وهدایة الأُمّة لما فیه الخیر والصلاح، وغیر ذلک، خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ الفترة التی قضاها النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) _ مع ما بها من ملابسات وحروب _ لم تُتِح له أنْ یبیّن جمیع ما وصله من السماء، بالأخصّ عند ملاحظة أنّ الکثیر من الأحکام لم تکن محلّ ابتلاء، ولم یتحقّق موضوعها خارجاً حتّی یبلِّغه النبیّ للناس، کما أنّه لم یفس_ّر القرآن بشکلٍ کامل؛ لکونه باللغة التی نزل بها علی قومه، فکانوا یفهمون القرآن باعتبارهم فصحاء العرب، سوی ما کان فیه من متشابهٍ أو مجمل، أو تبیین ناسخٍ، أو تفصیل مطلقٍ، وغیر ذلک ممّا کانوا یرجعون فیه إلی النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ویبیّنه لهم؛ ولذا فمن الضرورة لأجل بیان جمیع الأحکام الواقعیة إلی المجتمع الإسلامی، وبیان المراد من آی الذکر الحکیم، والحفاظ علی الش_ریعة الإسلامیة، وإقامة حدودها فی الأرض، کان لا بدّ من شخصٍ أمین، یکون محلاً لحفظ علم النبیّ وما تلّقاه من الوحی، ویقوم بوظائفه، ویکمل مسیرته؛ لذا فإنّ الشیعة الإمامیة تعتقد بأنّ منصب الإمامة هو إکمال لمنصب النبوة، وکما أنّ النبوة تنصیب من الله سبحانه وتعالی، ولا دخل للبشر فی تعیینها، فکذلک الإمامة فهی تنصیب من الله، وبیانٌ من الرسول لذلک.

ص: 18

من هنا؛ اختلفت نظریة الإمامیة فی طریقة تعیین الإمام والخلیفة، واختلفت عن غیرهم فی شؤون ووظائف الإمام، فهی لا تری أنّ الإمام حاکماً سیاسیّاً فقط، حتی یُوکل أمره إلی الناس، بل تری _ کما أشرنا _ إلی قیامه بوظائف النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؛ لذا فهی تعتقد بوجوب أنْ یکون الإمام منصوباً من السماء؛ لیتسنّی له القیام بوظائفه بصورة صحیحة وکاملة، فذهبت _ طبقاً لذلک _ إلی نظریة النصّ (أی أنّ الإمام لا بدّ أنْ یکون منصوصاً علیه فی القرآن والسنّة)، وأوضحت أنّ الواقع الخارجی _ من خلال استقراء النصوص الدینیة _ قد دلّ علی ذلک أیضاً، فهی تری أنّ هناک نصوصاً عدیدة دلّت علی تعیین الإمام، وتعتقد طبقاً للنصوص بأنّ الأئمة إثنا عش_ر، أوّلهم الإمام علی بن أبی طالب(علیه السّلام)، وآخرهم الإمام المهدی المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشریف).

وقد وردت هذه النصوص علی عدّة أنحاء، تکفّل بعضها ببیان أنّ الخلیفة بعد النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) هو الإمام علی(علیه السّلام)، وتکفّل الآخر بأنّ الأئمّة من عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وتکفّل نحوٌ ثالث ببیان أنّ عدد الأئمّة اثنا عشر، وهم من قریش حص_راً. نشیر فیما یلی مجملاً إلی بعض هذه النصوص:

1_ آیة الولایة: وهی قوله تعالی: «إِنَّمَا وَلِیُّکُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلَاةَ وَیُؤْتُونَ الزَّکَاةَ وَهُمْ رَاکِعُونَ »(1).

والاستدلال بهذه الآیة یتوقّف علی أمرین:

الأوّل: إنّ المراد من الذین آمنوا فی الآیة هو علی بن أبی طالب(علیه السّلام).

والثانی: إنّ المراد بالولایة هی الأولویة فی التصرّف، الثابتة للنبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بقوله تعالی:

«النَّبِیُّ أَوْلَی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ »(2).

ص: 19


1- المائدة: آیة55.
2- الأحزاب: آیة6.

أمّا الأوّل: فهو ممَّا استفاضت به الروایات، وبه قال بعض الصحابة والتابعین، وعلماءالتفسیر والحدیث، فقد ذهب ابن عباس، والسدی، وعتبة بن حکیم، وثابت بن عبد الله إلی أنّ الآیة نزلت فی علیّ بن أبی طالب(علیه السّلام)؛ إذ مرّ به سائل وهو راکع فی المسجد وأعطاه خاتمه(1)،وبه قال مقاتل ومجاهد(2)،وقال الآلوسی: «وغالب الأخباریین علی أنّها نزلت فی علی (کرّم الله تعالی وجهه)»(3). وقال فی موضعٍ آخر: «والآیة عند معظم المحدّثین نزلت فی علیّ (کرّم الله تعالی وجهه)»(4).

وقد ذکر السیوطی عدّة من الروایات تدلّ علی ما ذکرنا، وأنّ الآیة نازلة فی علی بن أبی طالب(علیه السّلام)، تنتهی إلی عمّار وعلی وابن عبّاس بطریقین، ومجاهد وسلمة بن کهیل، ثمّ قال: «فهذه شواهد یقوّی بعضها بعضاً»(5).

علی أنّ هناک روایات أُخری تنتهی إلی عددٍ آخر من الصحابة، منهم: جابر بن عبد الله الأنصاری(6)،وأبو ذر الغفاری(7)، وأنس بن مالک(8)، وعبد الله بن سلام(9) ، کما ورد عن الصحابی حسّان بن ثابت، عدّة أبیات شعریة فی هذه المناسبة، قال:

ص: 20


1- اُنظر: الثعلبی، أحمد بن محمد، الکشف والبیان عن تفسیر القرآن (تفسیر الثعلبی): ج4، ص80.
2- اُنظر: ابن الجوزی، عبد الرحمن بن علی، زاد المسیر فی علم التفسیر: ج2، ص292.
3- الآلوسی، محمود بن عبد الله، روح المعانی: ج6، ص167.
4- المصدر نفسه: ج6، ص186.
5- السیوطی، عبد الرحمن بن أبی بکر، لباب النقول: ص81.
6- اُنظر: الحاکم الحسکانی، عبید الله بن أحمد، شواهد التنزیل: ج1، ص225.
7- اُنظر: الثعلبی، أحمد بن محمد، الکشف والبیان عن تفسیر القرآن (تفسیر الثعلبی): ج4، ص80.
8- اُنظر: الحاکم الحسکانی، عبید الله بن أحمد، شواهد التنزیل: ج1، ص215.
9- اُنظر: ابن الأثیر، المبارک بن محمد، جامع الأُصول فی أحادیث الرسول: ج8، ص664. الطبری، أحمد بن عبد الله، الریاض النض_رة فی مناقب العش_رة: ج3، ص208، وقال: أخرجه الواحدی، وأبو الفرج، والفضائلی.

أبا حسنٍ تفدیک نف_سی ومهجتی

وکلّ بطیء فی الهدی ومسارع

أیذهب مدحی والمحبر ضائعاً

وما المدح فی جنب الإله بضائع

وأنتَ الذی أعطیت إذ کنت راکعاً

زکاةً فدتک النفس یا خیر راکع

فأنزل فیک الله خیر ولایةٍ

فبیَّنها فی نیّرات الش_رائع(1)

وهناک روایات غیر ما أشرنا إلیها تنتهی إلی عددٍ آخر من التابعین، منهم: محمد بن الحنفیة، وعطاء بن السائب، وعبد الملک بن جریج(2)،وغیرهم.

هذا، وقد وقع جدل وکلام حول صحّة هذه الروایات، فقال بعض أهل السنّة: إنّ هذه الروایات غیر صحیحة، بل أکثرها شدیدة الضعف لا یمکن أنْ تتعاضد فیما بینها، فلا یثبت نزول الآیة فی علی(علیه السّلام).

ونحن فی هذا الاختصار لا یمکن أنْ ندرس جمیع هذه الروایات، ولکن نشیر مجملاً إلی أمرین:

أولاً: إنّ التحقیق یقتضی صحّة بعض هذه الروایات، ولا نسلّم بضعف جمیعها، فضلاً عن شدّة ضعفها، وقد تمّ دراسة بعض أسانید هذه الروایات فی کتاب: (نقد کتاب أُصول مذهب الشیعة) فلیُراجع(3).

ثانیاً: إنّ کون الروایات الشدیدة الضعف لا تتعاضد مع بعضها مطلقاً، هی مسألة غیر مسلّمة عند أهل السنّة، فقد ذهب ابن حجر، وکذا السیوطی إلی خلاف ذلک، قال السیوطی: «وأمّا الضعیف لفسق الراوی أو کذبه، فلا یؤثّر فیه موافقة غیره له، إذا کان الآخر

ص: 21


1- الحاکم الحسکانی، عبید الله بن أحمد، شواهد التنزیل: ج1، ص236. واُنظر: الخوارزمی، محمد بن أحمد، المناقب: ص265.
2- اُنظر: الحاکم الحسکانی، عبید الله بن أحمد، شواهد التنزیل: ج1، ص216 _ 219.
3- اُنظر: القزوینی، محمد، نقد کتاب أُصول مذهب الشیعة: ج1، ص440 _ 453.

مثله؛ لقوّة الضعف وتقاعد هذا الجابر، نعم، یرتقی بمجموع طرقه عن کونه منکراً، أو لا أصل له، صرّح به شیخ الإسلام، قال: بل ربّما کثرت الطرق حتّی أوصلته إلی درجة المستور السیّء الحفظ، بحیث إذا وُجِد له طریقٌ آخر فیه ضعف قریب محتمل؛ ارتقی بمجموع ذلک إلی درجة الحسن»(1).

وتبعهم علی ذلک القاسمی فی قواعده(2)، وإلیه مال السخاوی(3).

وإذا ما عرفنا أنّ طریق سلمة بن کهیل، هو طریقٌ صحیح، وإنّ تمام علّته هو الوقف علی التابعیّ، وبضمیمة أنّ الموقوف علی التابعی إذا کان فی أمرٍ غیبی غیر قابل للإجتهاد ولا یُقال بالرأی؛ فهو بحکم المرفوع إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، لکنّه مرفوعٌ مُرسَل، فیکون الضعف فی هذا الحدیث ضعفاً خفیفاً للإرسال، بالطبع مع التنزّل عن القول بحجیّة المُرسَل، وهو مذهب طائفة کبیرة.

والضعف الخفیف یزول بمجیئه من وجهٍ آخر، فهذا الطریق بإضافته إلی سائر الطرق الأخری _ علی فرض التسلیم بشدّة ضعفها _ یرفع المجموع إلی الحسن لغیره، وهو حجّة عند جماهیر العلماء.

أمّا الثانی: فإنّ الآیة الکریمة تدلّ علی أنّ المراد من الولایة هی الأولویّة فی التصرّف، ولا یمکن أنْ یراد منها النصرة؛ ذلک أنّها تحصر الولایة بموجب أداة الحصر (إنّما) فی ثلاثة، الله ورسوله والذین آمنوا، فولایة الرسول وکذلک الذین آمنوا متفرعة وتابعة لولایة الله، وولایته ولایة عامّة، ولا یمکن تقییدها وحصرها بالنصرة، فکذلک ولایة الرسول، وولایة الذین آمنوا.

ص: 22


1- السیوطی، عبد الرحمن بن أبی بکر، تدریب الراوی فی شرح تقریب النواوی: ج1، ص194.
2- اُنظر: القاسمی، محمد، قواعد التحدیث من فنون مصطلح الحدیث: ص109.
3- اُنظر: السخاوی، محمد بن عبد الرحمن، فتح المغیث بشرح ألفیة الحدیث: ج1، ص73.

وأیضاً، فإنّ حصر الولایة بالله ورسوله والذین آمنوا بالش_روط المذکورة، والتی منهاإعطاء الزکاة وهم فی حال الرکوع، لا یمکن تفسیرها بالنص_رة؛ لأنّ النصرة غیر مختصّة بأحد، بل شاملة لجمیع المؤمنین، وهو ما یدلّ علیه قوله تعالی:

«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاءُ بَعْضٍ» (1)، أی: بعضهم ناصرٌ لبعض، فلا بدّ أنْ یکون المراد من الولی هو مَن له أولویة فی التصرّف فی شؤون الأُمّة، وهو ما تقوله الشیعة من أنّ الآیة تُثبت إمامة علیٍّ(علیه السّلام)، وإلّا یکون القید فی الآیة لغواً لا معنی له، واللغو لا یصدر من الحکیم سبحانه وتعالی.

هذا وهناک شبهات أُثیرت حول هذه الآیة ودلالتها علی المطلوب، وقد تکفّلت الکثیر من الکتب بمناقشتها، والجواب عنها، فلیراجع(2).

2_ حدیث الغدیر المعروف: وهو قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «مَن کنت مولاه فعلیٌّ مولاه».

وهو حدیثٌ صحیح، ومتنه الذی ذکرناه متواتر. رواه الجمّ الغفیر، عن الجمِّ الغفیر، وأخرجه کبار العلماء والحفّاظ فی مصنّفاتهم، ونحن نقتص_ر هنا علی ذکر طریق واحد؛ توخیاً للاختصار، فعن أبی الطفیل، قال: «جمع علی (رضی الله تعالی عنه) الناس فی الرحبة، ثمّ قال لهم: أُنشد الله کلّ امرئٍ مسلمٍ سمع رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، یقول یوم غدیرخم ما سمع لما قام، فقام ثلاثون من الناس _ وفی روایةٍ: فقام ناسٌ کثیر _ فشهدوا حین أخذ بیده، فقال للناس: أتعلمون أنّی أولی بالمؤمنین من أنفسهم، قالوا: نعم یا رسول الله. قال: مَن کنت مولاه فهذا مولاه، اللّهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه. قال: [یعنی الصحابی أبا الطفیل]، فخرجت وکأنّ فی نفس_ی شیئاً، فلقیت زید بن أرقم، فقلت له: إنّی سمعت علیاً (رضی الله عنه) یقول: کذا وکذا، قال: فما تُنکر، قد سمعت رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) یقول ذلک له».

ص: 23


1- التوبة: آیة74.
2- اُنظر مثلاً: القزوینی، محمد، نقد کتاب أُصول مذهب الشیعة: ج1، ص427 _ 519.

أخرجه أحمد والنسائی وابن حبان(1)،قال الهیثمی: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحیح، غیر فطر بن خلیفة وهو ثقة»(2)، وقال الألبانی: «وإسناده صحیح علی شرط البخاری»(3).

والحدیث رُوی بطرقٍ عدیدة جدّاً، عن عددٍ کبیر من الصحابة؛ لذا قال الذهبی معلّقاً علی أحد الطرق: «هذا حدیثٌ حسن عالٍ جداً، ومتنه فمتواتر»(4).

وقال عند ترجمته للطبری: «قلت: جمع طرق حدیث غدیر خمّ فی أربعة أجزاء، رأیت شطره، فبهرنی سعة روایاته، وجزمت بوقوع ذلک»(5).

وقال ابن حجر: «وأمّا حدیث: (مَن کنت مولاه فعلیٌّ مولاه)، فقد أخرجه الترمذی والنسائی، وهو کثیر الطرق جدّاً، وقد استوعبها ابن عقدة فی کتابٍ مفرد، وکثیر من أسانیدها صحاح وحسان»(6).

وقال الألبانی: «وجملة القول: إنّ حدیث الترجمة [مَن کنت مولاه فعلیّ مولاه، اللّهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه] حدیثٌ صحیح بشطریه، بل الأول منه متواتر عنه (صلّی الله علیه وسلّم)، کما یظهر لمَن تتبّع أسانیده وطرقه، وما ذکرت منها کفایة»(7).

هذا من حیث السند، وأمّا من حیث الدلالة، فالشواهد والقرائن تؤکّد بما لا یقبل الشک أنّ المراد من الولایة من الحدیث هو الأولویة فی التصرف فی شؤون الأُمّة، ولیست من المحبّة أو النص_رة فی شیء، ومن جملة تلک القرائن أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أشهد الناس علی

ص: 24


1- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص370. النسائی، أحمد بن شعیب، تهذیب خصائص الإمام علی: ص81 _ 82. ابن حبان، محمد، صحیح ابن حبان: ج15، ص376.
2- الهیثمی، علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج9، ص104.
3- الألبانی، محمد بن نوح، سلسلة الأحادیث الصحیحة: ج4، ص331، ح1750.
4- الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج8، ص335.
5- المصدر نفسه: ج14، ص277.
6- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج7، ص61.
7- الألبانی، محمد بن نوح، سلسلة الأحادیث الصحیحة: ج4، ص343.

ولایته علیهم بقوله: أتعلمون أنّی أولی بالمؤمنین من أنفسهم؟ ثمّ فرّع علی هذه الولایة الثابتة له(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، والتی هی الأولویة فی التص_رف، کما جاء القرآن: «النَّبِیُّ أَوْلَی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ »(1)، فرّع علیها ولایة الإمام علیّ(علیه السّلام)، فلا بدّ أنْ یکون المراد واحد، وأنّ نفس ولایة النبی قد انتقلت لعلی(علیه السّلام)، کما أنّ استشهاد الإمام علی(علیه السّلام) بالحدیث، وأخذه إقرار الناس بأنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قد قال الحدیث فیه، یحمل نفس المعنی السابق، بل خروج أبی الطفیل وفی نفسه شیء لا یتماشی مع إرادة النصرة الثابتة لکلّ المؤمنین، بل یتماشی مع کونها ولایة عامّة علی المؤمنین، کما أنّ ورود حدیث الغدیر فی بعض طرقه مع حدیث الثقلین الآتی ذکره، والدال علی وجوب التمسّک بأهل البیت(علیهم السّلام) ، یحمل نفس تلک الدلالات، وغیر ذلک من القرائن العدیدة، التی لا یمکن معها حمل الولایة علی مجرّد النصرة أو المحبّة.

3_ حدیث الثقلین: وهو أحد النصوص الصحیحة الدالّة علی مرجعیة أهل البیت(علیهم السّلام) ووجوب الرجوع إلیهم، فقد أخرج مسلم فی صحیحه، عن زید بن أرقم، قال: «أمّا بعد، ألا أیّها الناس، فإنّما أنا بشرٌ یوشک أن یأتی رسول ربّی فأُجیب، وأنا تارکٌ فیکم ثقلین، أولهما کتاب الله فیه الهدی والنور، فخذوا بکتاب الله واستمسکوا به... وأهل بیتی أذکرکم الله فی أهل بیتی، أذکرکم الله فی أهل بیتی، أذکرکم الله فی أهل بیتی»(2).

وأخرجه إسحاق بن راهویه، کما ذکره ابن حجر والبوصیری، بسنده إلی علی بن أبی طالب(علیه السّلام): «إنّ النبی (صلّی الله علیه وسلّم) حض_ر الشجرة بخم، ثمّ خرج آخذاً بیده علی، فقال: ألستم تشهدون أنّ الله ربّکم؟ قالوا: بلی. قال: ألستم تشهدون أنّ الله ورسوله أولی بکم من أنفسکم، وأنّ الله ورسوله مولاکم؟ قالوا: بلی. قال: فمَن کان الله ورسوله مولاه فإنّ هذا مولاه، وقد ترکتُ فیکم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا، کتاب الله سببه بیده وسببه بأیدیکم، وأهل بیتی».

ص: 25


1- الأحزاب: آیة6.
2- النیسابوری، مسلم بن الحجاج، صحیح مسلم: ج7، ص123.

قال البوصیری بعد ذکره للحدیث: «رواه إسحاق بسندٍ صحیح...»(1).

وقال ابن حجر: «هذا إسنادٌ صحیح»(2).

وأخرج النسائی بسنده إلی زید بن أرقم أیضاً، قال: «لّما رجع رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) عن حجّة الوداع ونزل غدیر خم، أمرّ بدوحات فقممن، ثمّ قال: کأنّی قد دُعیتُ فأجبت، إنّی قد ترکت فیکم الثقلین أحدهما أکبر من الآخر، کتاب الله وعترتی أهل بیتی، فانظروا کیف تخلفونی فیهما فإنّهما لن یتفرّقا حتی یردا علیّ الحوض. ثمّ قال: إنّ الله مولای، وأنا ولیّ کلّ مؤمن، ثمّ أخذ بید علیّ، فقال: مَن کنت ولیّه، فهذا ولیّه، اللهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه. فقلت لزید: سمعتَه من رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)؟ قال ما کان فی الدوحات رجل إلّا رآه بعینه وسمع بأذنه»(3).

وأورده ابن کثیر، وتعقّبه قائلاً: «قال شیخنا أبو عبد الله الذهبی: وهذا حدیثٌ صحیح»(4).

والحدیث له طرق عدیدة جدّاً، وصحّحه عدّة من العلماء، بل لا یبعد القول بتواتره، قال أبو منذر سامی بن أنور المصری الشافعی: «فحدیث العترة، بعد ثبوته من أکثر من ثلاثین طریقاً، وعن سبعة من صحابة سیّدنا رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) ورضی عنهم، وصحّته التی لا مجال للشکّ فیها، یمکننا أن نقول: إنّه بلغ حدّ التواتر»(5).

وأمّا دلالته، فهو صریح فی وجوب الأخذ من أهل البیت(علیهم السّلام) واقتفاء أثرهم، وأنّ الاستقامة علی جادّة الشریعة وعدم الضلال موقوفٌ علی التمسّک بهم، قال الملّا علی القاری: «والمراد بالأخذ بهم التمسّک بمحبّتهم، ومحافظة حرمتهم، والعمل بروایتهم، والاعتماد

ص: 26


1- البوصیری، أحمد بن أبی بکر، إتحاف الخیرة المهرة: ج7، ص210.
2- ابن حجر، أحمد بن علی، المطالب العالیة: ج16، ص142.
3- النسائی، أحمد بن شعیب، السنن الکبری: ج5، ص45 _ 46.
4- ابن کثیر، إسماعیل، البدایة والنهایة: ج5، ص228 _ 229.
5- المصری الشافعی، سامی بن أنور، الزهرة العطرة فی حدیث العترة: ص69 _ 70.

علی مقالتهم...»(1).

ومن خلال دلالته علی وجوب التمسّک بهم مطلقاً، وأنّ عدم الضلال منوطٌ بذلک؛ یتّضح أنّ الحدیث یدلّ علی عصمتهم، وعدم مفارقتهم للش_ریعة فی کلّ أفعالهم وأقوالهم، خصوصاً أنّه قرنهم بالقرآن، وإنّهما لن یفترقا حتی یردا علی النبیّ الحوض فی یوم القیامة، والقرآن معصوم من الخطأ، ولا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه، فکذلک أهل البیت(علیهم السّلام) ، وإلّا وقع الافتراق.

4_ حدیث الاثنی عشر خلیفة: وهذا الحدیث ممّا اتفق الفریقان علی صحّته، وهو یدل علی أنّ عدد خلفاء النبی اثنا عشر خلیفة فقط، فقد أخرج مسلم، بسنده عن حصین، عن جابر بن سمرة، قال: «دخلت مع أبی علی النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم) فسمعته یقول: إنّ هذا الأمر لا ینقضی حتّی یمضی فیهم اثنا عشر خلیفة. قال: ثمّ تکلّم بکلامٍ خفی علیّ، قال: فقلت لأبی: ما قال؟ قال: کلّهم من قریش»(2).

وأخرج بسنده إلی عامر بن سعد بن أبی وقاص، قال: «کتبت إلی جابر بن سمرة مع غلامی نافع: أن أخبرنی بشیءٍ سمعته من رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم). قال: فکتب إلیَّ سمعت رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) یوم الجمعة عشیة رجم الأسلمی یقول: لا یزال الدین قائماً حتی تقوم الساعة، أو یکون علیکم اثنا عش_ر خلیفة کلّهم من قریش»(3).

وأخرج البخاری بسنده إلی جابر بن سمرة، قال: «سمعت النبی (صلّی الله علیه وسلّم) یقول: یکون اثنا عشر أمیراً. فقال کلمة لم أسمعها، فقال أبی: إنّه قال: کلّهم من قریش»(4).

وأخرج أحمد بسنده إلی مسروق، قال: «کنّا جلوساً عند عبد الله بن مسعود، وهو یُقرئنا

ص: 27


1- القاری، علی بن سلطان محمد، مرقاة المفاتیح: ج9، ص3974.
2- النیسابوری، مسلم بن الحجاج، صحیح مسلم: ج6، ص3.
3- المصدر نفسه: ج6، ص4.
4- البخاری، محمّد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج8، ص127.

القرآن، فقال له رجل: یا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) کم تملک هذه الأُمّة من خلیفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألنی عنها أحد منذ قدمت العراق قبلک. ثمّ قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، فقال: اثنا عشر، کعدّة نقباء بنی إسرائیل»(1).

والحدیث بلفظ مسروق حسّن سنده ابن حجر(2)،

والبوصیری(3)، وغیرهم.

وقال أحمد محمّد شاکر: «إسناده صحیح»(4).

فالحدیث صحیحٌ بلا کلام، خصوصاً بعد اتّفاق الشیخین علی روایته، ودلالته علی أنّ خلفاء النبی اثنا عشر خلیفة جلیة ظاهرة للعیان، وهذا العدد کما هو واضح ینطبق علی ما تذهب إلیه الشیعة الإمامیة الاثنا عش_ریة، من وجود الاثنی عشر إماماً من أهل البیت(علیهم السّلام) ، أولهم علی(علیه السّلام)، وآخرهم المهدی(عجل الله تعالی فرجه الشریف).

أمّا أهل السنّة، فبقوا فی حیرة من أمر هذا الحدیث، ولم یجدوا له مخرجاً؛ لأنّهم إنْ قالوا هم الخلفاء الأربعة نقص عددهم، وإن أدخلوا فیهم الخلفاء الأُمویین، أو العباسیین زاد عددهم؛ لذا راحوا ینتقون انتقاء حسب أهوائهم، وکأنّ الرسول الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ترک هذا الأمر المهم الخطیر فی مهبّ الریح.

الخلاصة:

وخلاصة ما ننتهی إلیه من هذا المبحث أنّ خلفاء النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) اثنا عشر خلیفة بحسب حدیث الاثنی عشر، وأنّهم من أهل البیت(علیهم السّلام) بحسب حدیث الثقلین، وأنّ أولّهم علیّ بن أبی طالب(علیه السّلام) بحسب حدیث الغدیر وآیة الولایة... وما ذکرناه کان نماذج من النصوص الدالّة علی إمامة أهل البیت(علیهم السّلام) لیس إلّا، ولیُطلب التفصیل من الکتب المعدّة لذلک.

ص: 28


1- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج1 ص398_ 406.
2- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج13، ص183.
3- البوصیری، أحمد بن أبی بکر، إتحاف الخیرة المهرة بزوائد المسانید العشرة: ج7، ص83.
4- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص28، وص62.

المبحث الثانی :القانون الوضعی وضرورته الاجتماعیة

انتهینا فی المبحث الأوّل إلی ضرورة وجود حاکم علی الأُمّة، وعرفنا أنّ السلطة التشریعیة والتنفیذیة فی الأُمّة الإسلامیة کانت بید النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وأنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لم یترک أمر هذه الأُمّة سُدی، بل ترک خلفه اثنا عش_ر خلیفة، أی أنّ القانون الذی کان یسود الأُمّة، والذی یُفترض أن یقود الأُمّة علی طول تأریخها هو القانون الإسلامی.

إلاّ أنّه من المُؤسف أنّ المسلمین فی غالب المناطق الإسلامیة، وفی أغلب فتراتهم الزمنیة، لم یتمسّکوا بدینهم، ولم یُحکّموه فیما یجری بینهم؛ کما أنّ من الطبیعی أنّ غیر المؤمنین بالإسلام لا یحتکمون إلیه من بابٍ أولی، کما أنّهم تخلّوا عن شرائعهم السماویة التی یؤمنون بها؛ لذا کان لا بدّ من مرجعیة یعودون إلیها فی حل مشاکلهم، وتدبیر أُمورهم، فقاموا بوضع ما أسموه بالقانون الوضعی، وهو یختلف من دولةٍ إلی أُخری بحسب ما تقتضیه ظروف تلک الدولة، وإن کانت الکثیر من الفقرات متشابهة فی الکثیر من الدول.

وقد أشرنا فیما سبق إلی أنّ أیّ مجتمع بشری بحاجة إلی قائد وحاکم یدبّر أُمورهم، ونفس الکلام یشیر إلیه أهل القانون هنا، فالإنسان بحسب طبیعته المدنیة لا یمکن أنْ یعیش بعیداً عن أفراد جنسه، فإنّ العیش بصورة منفردة هی خرافة لا یستطیع العقل تصدیقها والإیمان بها، کما أنّ الناس یختلفون فی السلوکیات والقابلیات والطموحات،

ص: 29

فالأنانیة مثلاً، وحبّ الاستئثار، وغیرها من الرؤی والتوجّهات المختلفة تصل فی کثیر من الأحیان إلی التقاطع فی المصالح، وحصول النزاعات الکثیرة والمختلفة، والتی تؤدّی إلی اضطراب المجتمع وحصول الفوضی فیه؛ لذا کان لا بدّ من وجود قواعد قانونیة ملزمة، تقوم بتنظیم المصالح، ومنع قیام النزاعات أو تسویتها فی حال نشوبها، کما أنّه من الضرورة أنْ یعرف الإنسان الحدود التی یقف عندها، وإزاء ذلک لا بدّ من وجود جزاء یمکن من خلاله تطبیق تلک النُّظم والضوابط؛ ولذا فإنّ القانون یُعدّ ظاهرة اجتماعیة لا بدّ منها، بمعنی أنّه إذا لم یوجد مجتمع فلیس للقانون من وجود، ولیس له معنی ولا فائدة(1).

فالقانون ضروری لتنظیم حیاة المجتمعات والشعوب، وتنظیم العلاقات بین أفرادها، وبینهم وبین السلطة الحاکمة.

وکلمة القانون مأخوذة من الیونانیة من کلمة (kanun): وهی تعنی المسطرة، أو العصا المستقیمة.

وفی اللغة: هو مقیاس کلّ شیء وطریقه(2).

وأمّا اصطلاحاً، فهو: «مجموعة من القواعد التی تُنظِّم الروابط الاجتماعیة، وتتوفر علی جزاء یکفل طاعتها واحترامها»(3).

أو: «هو مجموعة القواعد التی تنظّم العیش فی الجماعة، والتی یجب علی الکافّة احترامها، احتراماً تکفله السلطة العامّة، بالقوة عند الضرورة»(4).

ص: 30


1- اُنظر: البحری، حسن مصطفی، القانون الدستوری: ص19. بودیار، حسنی، الوجیز فی القانون الدستوری: ص8.
2- مجمع اللغة العربیة بالقاهرة، المعجم الوسیط: ج2، ص763.
3- بودیار، حسنی، الوجیز فی القانون الدستوری: ص8.
4- حسنی درویش، مقال بعنوان: (نحو ثقافة قانونیة مبسطة، لا یعذر المرء بالجهل بالقانون)، مجلة الجدید، العدد263، 15دیسمبر 1982م: ص28.

أو: «هو مجموعة القواعد العامّة والمجرّدة، والتی تهدف إلی تنظیم سلوک الأفراد داخل المجتمع، والمُلزِمة والمقترنة بجزاء توقّعه السلطة العامّة، جبراً علی مَن یخالفها»(1).

وکلّ هذه التعاریف تصبّ فی بوتقة واحدة، وتعنی أنّ القانون هو: مجموعة من اللوائح والنُّظم، وضعها الإنسان من أجل تنظیم حیاة الأفراد وعلاقاتهم المختلفة، علی کافّة المستویات والصُّعد.

هذا، وقد یُطلق القانون علی معنی آخر أخصّ، فیُراد به مجموعة القواعد المُلزمة التی تصدر من السلطة التشریعیة، والتی تنظِّم لوناً معیّناً من الروابط القانونیة(2).

هذا، وتلحق بعض الصفات بالقانون فتعطیه مدلولاً معیّناً، فحینما یُقال: القانون الوضعی، فإنّما یُراد به: «مجموعة القواعد المُلزمة، التی تُوضع سلفاً لتنظیم حیاة الأفراد، فی مجتمعٍ معیّن، فی زمانٍ معیّن، فی مکان معیّن»(3).

والقانون الوضعی له فروع عدّة، کالقانون المدنی، والقانون التجاری، والقانون الإداری، والقانون الجنائی.

فمثلاً: القانون المدنی: یتکوّن من مجموعة من القواعد التی یخضع لها الأفراد فی روابطهم، بصرف النظر عن مهنتهم.

والقانون التجاری: هو مجموعة القواعد التی تحکم مجموعة معیّنة من الأعمال، هی الأعمال التجاریة، ویخضع لها طائفة من الأشخاص، هم التجار(4).

ص: 31


1- عمر طه بدوی محمّد، المدخل لدراسة القانون (الکتاب الأوّل، نظریة القانون): ص6.
2- اُنظر: عمر طه بدوی محمّد، المدخل لدراسة القانون: ص6. حسنی درویش، مقال بعنوان: (نحو ثقافة قانونیة مبسطة، لا یُعذر المرء بالجهل بالقانون)، مجلّة الجدید، العدد263، 15دیسمبر 1982م: ص28.
3- البحری، حسن مصطفی، القانون الدستوری: ص21.
4- البدراوی، عبد المنعم، مقال بعنوان: (القانون المقارن، تعرّف به وبتاریخه)، مجلّة القانون والاقتصاد، العدد الرابع، دیسمبر 1959م.

والقانون الجنائی: هو ذلک الجزء من أحکام القانون، الذی یحدّد الجریمة والعقوبة.

والقانون الإداری: هو ذلک الفرع من القانون، الذی یحکم علاقات الدولة بوصفها صاحبة السلطة والأمر والنهی بالأفراد(1).

کما أنّ هناک ما یصطلح علیه بالقانون الدولی، والتعریف التقلیدی له، هو: «مجموعة القواعد القانونیة التی تنظم العلاقات بین الدول، والکیانات الدولیة الأخری»(2).

وقبل الانتهاء من التعریف کان لا بدّ من بیان مختصر للقاعدة القانونیة التی وردت فی التعاریف أعلاه، فإنّ هناک شروطاً تنطبق علی القاعدة، لکی تکون قاعدة قانونیة، وهی:

أوّلاً: أنْ تکون مجرّدة وعامّة، فالعمومیة تعنی: أنّ القاعدة القانونیة تطبّق علی جمیع الأشخاص الذین تتوافر فیهم شروط تطبیقها، فهی تخاطب الجمیع دون استثناء، وتُطبّق مبدأیاً علی کلّ الوقائع.

أمّا التجرید، فیعنی أنّ القاعدة القانونیة لم تنشأ لتتحدّث عن شخص بذاته، أو تعالج قضیّة بعینها، بل إنّها تتحدّث عن الأشخاص، والأحداث، والوقائع بصفاتها، لا بشخوصها وذواتها.

ثانیاً: إنّها قاعدة اجتماعیة، تستهدف تنظیم الروابط، أو العلاقات الاجتماعیة بین الأفراد.

ثالثاً: إنّها قاعدة مُلزمة، تقترن بجزاء قانونی یفرض احترامها(3).

ص: 32


1- حسنی درویش، مقال بعنوان: (نحو ثقافة قانونیة مبسطة، لا یُعذر المرء بالجهل بالقانون)، مجلّة الجدید، العدد263، 15دیسمبر1982م: ص28.
2- اُنظر: بودیار، حسنی، الوجیز فی القانون الدستوری: ص15. الشاوی، منذر، مقال بعنوان: (القانون الدولی، أساسه وطبیعته) مجلّة المجمع العلمی العراقی، العدد 75، السنة 1414ه_.
3- اُنظر: البحری، حسن مصطفی، القانون الدستوری: ص22. عمر طه بدوی محمّد، المدخل لدراسة القانون: ص8 _ 12.

المبحث الثالث :مفهوم الثورة

اشارة

رأینا من الضرورة أنْ نطلّ فی هذا المبحث إطلالة سریعة نقف فیها علی مفهوم الثورة وحقیقتها، ویبدو من خلال المراجعة أنّ مصطلح الثورة لم یُستخدم فی القرآن الکریم، ولا السنّة النبویة المبارکة، بل ولا فی أدبیات العصور الإسلامیة الأُولی، والمصطلح الرائج آنذاک والذی اشتهر بین المسلمین هو مصطلح (الخروج) أو (القیام) وما شابه ذلک، أمّا الثورة بهذا اللفظ، فلم یکن لها نصیب وافر آنذاک.

لذا؛ لا نجد اصطلاح (الثورة) فی أوّل تحرک إسلامی کبیر من نوعه، المتمثّل باجتماع الکثیر من الصحابة والتابعین، ومن مختلف أرجاء المجتمع الإسلامی، مطالبین بإسقاط الخلیفة آنذاک (عثمان بن عفّان)، واستبداله بخلیفة یحمل الأُمّة علی العدل والإنصاف، وکما هو معلوم تاریخیاً أنّ الأُمور تطوّرت وتفاقمت وانتهت بمقتل الخلیفة.

کما أنّه لم نجد اصطلاح الثورة یُطلق علی التحرّک الحسینی المبارک فی سنة (61) للهجرة، مع أنّها حرکة اهتزّ لها العالم بأسره.

کما لم یُطلق مصطلح الثورة علی تحرّک عبد الله بن الزبیر ومبایعة الناس له فی مکّة، وتولّیه زمام الخلافة فعلیاً فی عدّة من مناطق الدولة الإسلامیة، الأمر الذی أدّی إلی وقوع القتال بینه وبین جیوش الأُمویین، منذ عهد یزید وحتی عهد عبد الملک، وانتهی الأمر بمقتل ابن الزبیر.

ص: 33

کما أنّ تحرّک التوابین وقیامهم علی الحکم الأُموی لم یُسمّ ثورة، وکذلک تحرّک أهل المدینة.. وهکذا فی بقیّة التحرکات الأُخری، فإنّه لم یعبّر عنها سابقاً بالثورة.

فإنّ مصطلح (الثورة) هو مصطلح متأخّر أُطلق فیما بعد، ثمّ استُخدم وطُبّق علی التحرّکات التی سبقته سنین طویلة.

نعم، استُخدم عند بعض المؤرخین فی القرن الرابع الهجری کلمة (ثار)، فمثلاً القاضی النعمان المغربی (ت363ه_)، قال: «ولمّا ثار مدلج علی زیادة الله، خرج أهل السجن وخرج أبو العباس فیمَن خرج...»(1).

وقال: «فأمّا من ثار علیه وعلی الأئمّة من ولده من الوثّاب، وخرج علیهم من الخوارج...»(2).

کما أنّ هذه الکلمة _ أعنی (ثار) _ استُخدمت کثیراً لکن بمعناها اللغوی، لا بمعنی الخروج علی السلطة، فمثلاً جاء فی مسند أحمد: «ثمّ ثار الناس یأخذون بیده یمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بیده فمسحت بها وجهی، فوجدتها أبرد من الثلج، وأطیب ریحاً من المسک»(3).

وفی صحیح البخاری: «قام أعرابی فقال: یا رسول الله، هلک المال وجاع العیال، فادعُ الله لنا، فرفع یدیه وما نری فی السماء قزعة، فوالذی نفسی بیده، ما وضعها حتی ثار السحاب أمثال الجبال...»(4).

وفی سنن أبی داود: «إنّ اللجلاج أباه أخبره أنّه کان قاعداً یعتمل فی السوق، فمرّت امرأة تحمل صبیّاً فثار الناس معها وثرتُ فیمَن ثار، فانتهیت إلی النبی (صلّی الله علیه وسلّم) وهو

ص: 34


1- القاضی المغربی، النعمان بن محمد، شرح الأخبار: ص430.
2- المصدر نفسه: ص431.
3- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص161.
4- البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج1، ص224.

یقول: مَن أبو هذا معکِ؟ فسکتت، فقال شاب: حذوها، أنا أبوه یا رسول الله...»(1).

وفی إرشاد المفید: «فلمّا مرَ به فی المسجد وهو مستخفٍ بأمره، مماکر بإظهار النوم فی جملة النیام، ثار إلیه فضربه علی أُمّ رأسه بالسیف»(2).

ونحن إذا ما رجعنا إلی معاجم اللغة لرأینا أنّ (ثار) تُستعمل فی: الهیاج، والغضب، والوثوب، والظهور، والسطوع، والبحث والاستقصاء، وغیرها.

جاء فی لسان العرب فی مادة (ثور): «ثارَ الش_یءُ ثَوْراً وثُؤوراً وثَوَراناً وتَثَوَّرَ: هاج... والثائر: الغضبان. ویُقال للغضبان أَهْیَجَ ما یکونُ: قد ثار ثائِرُه وفارَ فائِرُه إِذا غضب وهاج غضبه. وثارَ إِلیه ثَوْراً وثُؤوراً وثَوَراناً: وثب. ویُقال: انْتَظِرْ حتی تسکن هذه الثَّوْرَةُ، وهی: الهَیْجُ. وثار الدُّخَانُ والغُبار وغیرهما یَثُور ثَوْراً وثُؤوراً وثَوَراناً: ظهر وسطع... وثار به الدم وثار به الناس، أی: وثبوا علیه. وثور البرک واستثارها، أی: أزعجها وأنهضها. وفی الحدیث: فرأیت الماء یثور من بین أصابعه، أی: ینبع بقوّة وشدّة. والحدیث الآخر: بل هی حُمّی تثور أو تفور. وثار القطا من مجثمه، وثار الجراد ثوراً وانثار: ظهر»(3).

وفی المعجم الوسیط: «ثار ثوراناً وثوراً وثورة: هاج وانتش_ر، یقال: ثار الدخان والغبار، وثار الدم بفلان، وثارت به الحصبة، وثار به الش_ر والغضب، وثار الماء من بین کذا: نبع بقوة وشدة. وثار به الناس: وثبوا علیه، وأثارَه إثارةً وإثاراً: هیَّجه ونش_رَه. وفی التنزیل العزیز: («فَالْمُغِیرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا »(4)، وأثارَ الأرضَ: حرثها للزراعة، وفی التنزیل العزیز: «أَوَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ کَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا

ص: 35


1- أبو داود السجستانی، سلیمان بن الأشعث، سنن أبی داود: ج2، ص347.
2- المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج1، ص10.
3- ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج4، ص108 _ 109.
4- العادیات: آیة3 _ 4.

الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا » (1). ویُقال: أثارَ الأمرَ: بحثَه واستقصاه. وفی الأثر: (أثیروا القرآن؛ فإنّ فیه خیرَ الأولین والآخرین)»(2).

وجاء فی المصباح المنیر: «ثار الغبار یثور ثوراً وثؤوراً _ علی فعول _ وثوراناً: هاج، ومنه قیل للفتنة: ثارت، وأثارها العدو، وثار الغضب: احتد، و(ثار) إلی الش_ر: نهض، و(ثوّر) الشر (تثویرا)، و(أثاروا) الأرض: عمروها بالفلاحة والزراعة»(3).

ومن المعنی اللغوی یتّضح أنّه مأخوذ فی کلمة ثار: التحرّک بقوّةٍ وغضب وهیاج، وهو الذی ینسجم نوعاً ما مع ما یسمّی ثورة لاحقاً.

وأمّا فی الاصطلاح، فیبدو أنّه لا یوجد تحدید واضح لمفهوم الثورة، فقد عرفوها فی المعجم الوسیط، بأنّها: «تغییر أساسی فی الأوضاع السیاسیة والاجتماعیة یقوم به الشعب فی دولةٍ ما»(4).

ویمکن أنْ نؤاخذ علی هذا التعریف أنّه ناظر إلی نتیجة التحرّک، لا إلی التحرّک نفسه، فماذا لو حصل تحرّک ولم یحقّق نتائجه ولم ینتصر، بل قُمع مثلاً _ کما حدث فی الانتفاضة الشعبانیة التی اجتاحت کلّ مدن العراق _ ولم یحقّق نجاحاً، فعلی هذا التعریف لا تسمّی ثورة، ومثلها الکثیر من التحرّکات التی لم تحضَ بالنجاح، فالتعریف یقصر الثورة علی التحرّک الذی حقّق أغراضه، أمّا نفس التحرّک من دون الحصول علی التغییر المنشود فلا یسمّی ثورة.

وأمّا (المعجم الفلسفی) لمجمع اللغة العربیة بالقاهرة، فعرَّف (الثورة) بأنّها: «نقطة تحوُّل فی حیاة المجتمع، لقلب النظام البالی وإحلال نظام تقدّمی جدید محلَّه. وهی بهذا تتمیّز من

ص: 36


1- الروم: آیة9.
2- مجمع اللغة العربیة بالقاهرة، المعجم الوسیط: ص102.
3- الفیومی، أحمد بن محمد، المصباح المنیر: ج1، ص87.
4- مجمع اللغة العربیة بالقاهرة، المعجم الوسیط: ص102.

الانقلاب الذی یتلخّص فی نقل السلطة من یدٍ لأُخری»(1).

وهذا التعریف غیر واضح المعالم أیضاً، فلم یتبیّن معنی نقطة التحوّل ومنشؤها، هل هو بالحراک الجماهیری المسلح، أوکیفما اتّفق؟ کما أنّ التعریف محدّد بقلب نظام بالی بنظام تقدّمی، فماذا لو کان العکس؟ هل یسمّی ذلک الحراک ثورة أو لا؟

وماذا لو فشل الحراک ولم یحدث التحوّل، هل هو ثورة أو لا؟ فعلی هذا التعریف یکون فقط التحوّل من النظام البالی إلی نظام تقدّمی جدید هو الثورة.

أمّا (المعجم الفلسفی) لجمیل صلیبا، فقد عرّف الثورة بأنّها: «تغییر جوهری فی أوضاع المجتمع لا تُتّبع فیه طرق دستوریة. والفرق بین الثورة وقلب نظام الحکم أنّ الثورة یقوم بها الشعب، علی حین أنّ قلب نظام الحکم یقوم به بعض رجالات الدولة، وثمّة فرق آخر بین الأمرین، وهو أنّ هدف الثورة تغییر النظام السیاسی، أو الاجتماعی، أو الاقتصادی، وهدف الانقلاب هو مجرّد إعادة توزیع السلطة، بین هیئات الحکم المختلفة... والثورة مقابلة للتطور، فهی سریعة وهو بطیء، وهی تحوُّل مفاجئ وهو تبدُّل تدریجی»(2).

وهذا التعریف أیضاً یمکن التوقّف فیه، فماذا یسمّی الحراک المسلّح أو السلمی إذا لم ینجح وکان مصیره الفشل، وماذا یسمّی التحرّک السلمی عبر التظاهر، کما فی ثورة ینایر المصریة، وقبلها الثورة التونسیة، فقد یُطلق علیه أنّه تحرّک مع مراعاة الطرق الدستوریة؛ لأنّ التظاهر السلمی حقٌّ کفله الدستور! ثمّ ماذا نسمّی الحراک الذی لم یتمّ فیه تغییر جوهری فی أوضاع المجتمع؟! وکذلک التفریق بین الثورة والانقلاب لیس دقیقاً، فقد یُحدث الانقلاب تغییراً جذریاً فی طریقة الحکم وشکل الدولة، وبالتالی إحداث تغییر جذری فی أوضاع المجتمع المختلفة، کما أنّ هناک شیئاً یشوبه التناقض، وهو أنّه بعد أن

ص: 37


1- جمیل صلیبا، المعجم الفلسفی: ص58.
2- المصدر السابق: ج1، ص381.

عرّف الثورة بأنّها التغییر، عاد وجعل أحد الفروق بینها وبین الإنقلاب هو: أنّ الثورة تهدف إلی التغییر، بینما هدف الانقلاب هو إعادة توزیع السلطة... والنتیجة أنّ التعریف لا یُعطی صورة واضحة عن حقیقة مفهوم الثورة.

فتلخّص من مجموع التعاریف المتقدّمة أنّه لا یوجد تصوّر واضح بیِّن عن حقیقة الثورة ومفهومها، ولذا نری الباحثة وفاء علی داود، تقول: إنّه «لم یکن هناک تحدید علمی واضح لمفهوم الثورة، وکل ما یمکن قوله هو أنّ هناک محاولاتٍ یصعب أن ترقی إلی مستوی التعریف العلمی. فالکلمة دارجةٌ فی الاستخدام الیومی، وحتی فی الکتابة التاریخیة، أطلقت کتسمیة علی عدد کبیر من الظواهر المختلفة فی شدتها، والتی تمتد من أیّ تحرّک مسلّح __ أو حتّی غیر مسلح __ ضدّ نظام ما، إلی التحرکات التی تطرح إسقاط النظام واستبداله، الأمر الذی یصعّب عملیة تدقیق المصطلح»(1).

ویقول الباحث محمّد سید برکة: «إنّ التعریف الجامع المانع لمصطلح الثورة _ علی حدّ تعبیر المناطقة _ أمرٌ یکاد یکون مستحیلاً؛ بسبب تنوع الفهم للمصطلح، وتنوّع اقترابات المفکرین منه، کلٌّ حسب إیدیولوجیته وحسب اختصاصه.

فنجد مَن یستخدمه للدلالة علی تغییرات فجائیة وجذریة، تتمّ فی الظروف الاجتماعیة والسیاسیة، أی عندما یتمّ تغییر حکم قائم، وتغییر النظام الاجتماعی والقانونی المصاحب له بصورة فجائیة، وأحیانًا بصورة عنیفة.

کما یستخدم المصطلح للتعبیر عن تغییرات جذریة فی مجالات غیر سیاسیة، کالعلم والفن والثقافة؛ لأنّ الثورة تعنی التغییر، واستخدم مفهوم الثورة بالمعنی السیاسی فی أواخر القرون الوسطی، کما یستخدم فی علم الاجتماع السیاسی للإشارة إلی التأثیرات المتبادلة للتغییرات الجذریة

ص: 38


1- وفاء علی داود، مقال بعنوان: (التأصیل النظری لمفهوم الثورة والمفاهیم المرتبطة بها)، مجلّة الدیموقراطیة، العدد52، أکتوبر 2013م.

والمفاجئة للظروف والأوضاع الاجتماعیة والسیاسیة»(1).

ویری الباحثون بأنّ أول تعریف وُضع للثورة هو مع انطلاق الش_رارة الأُولی للثورة الفرنسیة، کما یذکرون بأنّ إفلاطون من أوائل الفلاسفة الذین عنوا بدراسة التغیرات التی یمکن أن تطرأ علی البناء السیاسی، أمّا (أرسطو) فکان سبّاقاً فی دراسته للثورات، حیث قدّم أول محاولة شاملة لدراسة الثورة، وأفرد لها حیزاً کبیراً من مؤلّفه الشهیر: (السیاسة)، وقد قبل مبدأ وجود الدولة، وقال بأنّ الأفکار الخاطئة تؤدی إلی الإحساس بعدم الرضا، وبالتالی حدوث انقلاب سیاسی، قد یعمل علی تغییر شکل الدولة بما یترتّب علی ذلک من نتائج سیاسیة، أی إنّ الثورة ظاهرة سیاسیة تمثّل عملیة أساسیة لإحداث التغییر الذی قد یؤدّی إلی استبدال الجماعات الاجتماعیة(2).

وما یهمّنا فی البحث هو الوقوف علی مفهوم الثورة، والتعرّف علی حقیقتها، وفی هذا الصدد ومضافاً لما ذکرناه من تعاریف مختلفة، نذکر مجموعة أُخری من التعاریف؛ علّنا نقف علی معنی مشترک بینها، ونصل إلی نتیجة نخلص من خلالها إلی معنی الثورة:

1_ تعریف موسوعة علم الاجتماع، حیث عرّفت الثورة بأنّها: «التغییرات الجذریة فی البُنی المؤسّسیة للمجتمع، تلک التغییرات التی تعمل علی تبدیل المجتمع ظاهریاً وجوهریاً، من نمطٍ سائد إلی نمطٍ جدید یتوافق مع مبادئ وقیم وإیدیولوجیة وأهداف الثورة، وقد تکون الثورة عنیفة دمویة، کما قد تکون سلمیة، وتکون فجائیة سریعة أو بطیئة تدریجیة»(3).

ص: 39


1- محمّد سیّد برکة، مقال بعنوان: (الثورة مفهومها وأسبابها)، مجلة الإسلام الیوم، العدد 90، حزیران (جون) 2012م.
2- وفاء علی داود، مقال بعنوان: (التأصیل النظری لمفهوم الثورة والمفاهیم المرتبطة بها)، مجلّة الدیموقراطیة، العدد52، أکتوبر 2013م. واُنظر: الموسوعة الحرة، موقع ویکیبیدیا: http: //ar.wikipedia.org
3- اُنظر: مولود زاید الطیب، علم الاجتماع السیاسی: ص99. شعبان الطاهر الأسود، علم الاجتماع السیاسی قضایا العنف السیاسی والثورة: ص47.

2_ تعریف کرین برنتون، حیث عرّفها فی کتابه: (تش_ریح الثورة) بقوله: «إنّها عملیة حرکیة دینامیة، تتمیّز بالانتقال من بنیان اجتماعی إلی بنیان اجتماعی آخر»(1).

3_ تعریف هاری ایکشتاین، حیث عرّفها فی مقدّمته عن الحرب الداخلیة بأنّها: «محاولات التغییر بالعنف أو التهدید باستخدامه ضدّ سیاسات فی الحکم، أو ضدّ حکّام، أو ضدّ منظّمة».

وهناک تعاریف أخری لا یسع البحث لذکرها(2).

ومن خلال التأمّل فی جمیع التعاریف الاصطلاحیة التی ذکرناها، نجد أنّها رکّزت علی مسألة التغییر فی أوضاع المجتمع، وبعضها أشار إلی أنّها محاولات للتغییر، وبالرجوع إلی ما ذکرناه من المعنی اللغوی لکلمة (ثار)، یمکن أن نحصل علی نتیجة بأنّ الثورة کما أنّها تعنی التغییر الجذری فی واقع الأُمّة، فکذلک تشمل محاولات التغییر ذات الحراک الواضح والقوی، فقد عرفنا فی اللغة أنّ من معانی کلمة (ثار) هو الوثوب، فثار به الناس: أی وثبوا علیه، فجمعاً بین ما ذکرته اللغة من معانی، وبین النظر العرفی لمصطلح الثورة، نخرج بنتیجة أنّ الثورة تشمل التغییر، بل ومحاولات التغییر خصوصاً إذا کانت ذات صدی مرتفع ومن شخصیات مهمّة، أو کانت بحراک جماهیری کبیر؛ ذلک أنّ اصطلاح الثورة إنّما أخذ من الواقع الخارجی، فبعد أنْ کانت هناک حراکات وتظاهرات وتمرّدات وانقلابات، اصطُلح علی بعض منها کلمة (الثورة)، وإذا ما رجعنا إلی الفهم العرفی مشفوعاً بکتب اللغة سنجد أنّ العرف یطلق الثورة علی کلّ تحرک نحو التغییر، شریطة أن

ص: 40


1- یوری کرازین، علم الثورة فی النظریة المارکسیة (ترجمة سمیر کرم): ص31.
2- اُنظر: وفاء علی داود، مقال بعنوان: (التأصیل النظری لمفهوم الثورة والمفاهیم المرتبطة بها)، مجلّة الدیموقراطیة، العدد52، أکتوبر 2013م. قادری سمیة وشنین محمد مهدی، مقال بعنوان: (سیسیولوجیا الثورة)، منشور علی الموقع التالی: http: //bohothe.blogspot.com/04/2011/blog-post.html

لا یکون هذا التحرّک مغموراً، ولا تأثیر له ألبتّة.

أمّا إذا کان الحراک جماهیریاً، أو نخبویاً، خصوصاً إذا کان مشفوعاً بقیادة بارزة معروفة، فلا شکّ فی إطلاق اسم الثورة علیه، ولذا تجد فی العرف والتعامل الاجتماعی یقولون هذه الثورة فشلت، وهذه الثورة انتص_رت، فالثورة تُطلق علی کلا الشقّین، التی استطاعت أنْ تحقّق أهدافها وتُجری التغییر المنشود، أم تلک التی نادت بالتغییر لکنّها قُمعت بسبب قوّة السلطة، فکلاهما ثورة، بل یمکن القول إنّ کلیهما یحدثان تغییراً وتزلزلاً فی السلطة، لکن بدرجات متفاوتة.

کما أنّنا نری العرف یطلق اسم الثورة علی تحرّک نخبة معیّنة من المجتمع، فیقولون مثلاً: ثورة الفلاحین، أو ثورة الزنوج، أو ثورة العمّال، وهکذا...

والخلاصة: کما أنّ الثورة تصدق علی الحراک الجماهیری الذی یحقّق أهدافه، فکذلک تصدق علی کلّ تحرک بارز وظاهر یطمح فی التغییر، وینشد قلب الأوضاع الموجودة بأُخری تنسجم مع قیم ومبادئ الثوار.

أسباب الثورات وأنواعها

لا یمکن حصر الثورات فی أسباب محدّدة، فکلّ ثورة لها خصائها التی تمتاز بها، ولثوارها دوافع معیّنة، فقد تکون الدوافع دینیة إصلاحیة، وقد تکون الدوافع دنیویة هدفها الاستیلاء علی الحکم، وقد تکون الدوافع اقتصادیة، وقد تکون الثورة بسبب عدم العدالة وتفشّی الظلم، وعدم إعطاء الحریات والاستئثار بالسلطة والمقدّرات لفئة قلیلة، أو غیر ذلک ممّا یسهم فی تحرّک الناس وفورانهم، وخروجهم مطالبین بتغییر الواقع الحالی الذی یعیشونه، فالأسباب والدواعی للثورة عدیدة متنوّعة، تدخل فیها عوامل عدیدة.

غیر أنّ المهم فی الأمر أن نبیّن أنّ الثورة بحدّ ذاتها لیست مقدسة، وأنّ قداستها إنّما تنبثق من الدواعی التی انطلقت من أجلها، فإنْ کانت الدواعی دینیة بما تتضمّنه من رفض

ص: 41

الظلم، وإقامة العدل، وإعطاء الحریات، وغیر ذلک من المفاهیم التی تندب وتدعو لها الدیانات، خصوصاً الدین الإسلامی، فیمکن أن تکتسب تلک الثورة نوعاً من القداسة.

وإن کانت الأهداف دنیویة بحتة تهدف إلی استبدال نظامٍ بنظام قد یکون أفسد، فلا قیمة لهذه الثورة؛ لذا فلا معنی للجدل الدائر حول تسمیة بعض التحرّکات أو غیرها بأنّه ثورة أو لا؟ فمجرد تسمیة الحراک بکونه ثورة لا یکفی فی إضفاء القداسة علیها، ولا یکفی فی اکتسابها الشرعیة، فقد تکون ثورة کبری تهدف إلی القضاء علی الإسلام مثلاً، فهل تکسب تلک الثورة الشرعیة؛ کونها حراکاً جماهیریاً کبیراً مثلاً؟ فالذی نراه أنّ الخلاف یتأتّی فیما إذا کانت القداسة والقیمة الأخلاقیة والمشروعیّة مرتبطة بالثورة بما هی، أمّا إذا کانت تلک القیم مرتبطة بالأهداف فالتسمیة بالثورة من عدمه لا یغیّر من الواقع شیئاً.

هذا، وقد شهد العالم _ بانتماءات جماهیره المختلفة _ عدداً کبیراً من الثورات، فبعض الثورات کانت شعبیة جماهیریة، کالثورة الفرنسیة عام 1789م، وثورة أوربّا الشرقیة عام 1989م ، أو تکون الثورة عبارة عن مقاومة ضدّ المحتل کالثورة الجزائریة، وغیر ذلک من الثورات التی سادت وما زالت تسود العالم. والجدیر بالتأمّل هنا هو أنّ الثورات المنطلقة ضدّ الظلم وضدّ التسلط المطالبة بالحریة والکرامة إنّما نالت الشرعیة والاعتراف بها من قبل المنظمات الدولیة والحکومات المختلفة؛ ممّا یعنی اتّفاق العقلاء علی رفض الظلم والتسلّط غیر المشروع ومصادرة الحریّات والتحکّم فی شؤون الأمّة بلا عدلٍ ولا إنصاف.

مفهوم الثورة وانطباقه علی التحرّک الحسینی

من خلال ما قرّرناه سابقاً فی معنی الثورة یتّضح أنّ الحراک الحسینی هو ثورة حقیقیة تنطبق علیه التعاریف المذکورة، فهو من جهة تحرّک یضمّ أفضل شخصیة دینیة واجتماعیة فی ذلک الوقت، وسیأتی لاحقاً فی بیان مؤهّلات الإمام الحسین(علیه السّلام) أنّه لا یشکّ أحد فی الموقعیة المتمیزة التی یحضاها الإمام الحسین(علیه السّلام)، وأنّه سیّد القوم فی وقته. فالتحرّک إذن

ص: 42

کان یمثلّ القمّة من جهة القیادة، فهو تحرّک بارز وظاهر ومن أعلی المستویات، بل حرّک معه الأُمّة بکافّة أطیافها، بحیث إنّ المجتمع الإسلامی بما فیه من صحابة وتابعین واکب وراقب ذلک التحرّک، منذ خروج الإمام الحسین(علیه السّلام) من المدینة إلی مکّة، وثمّ إلی حین وصوله إلی کربلاء.

ومن جهةٍ أُخری فإنّ الثورة کانت تهدف إلی تغییر الواقع المأساوی الذی تمرّ به الأُمّة الإسلامیة، سواء علی صعید الخلافة أو علی صعید فقدان المجتمع لإرادته، وعدم قدرته علی الوقوف بوجه الظلم، وقد نجح فی إحداث ذلک التغییر، فقد استطاع الإمام الحسین(علیه السّلام) أنْ یکشف زیف الخلافة وانحرافها عن جادّة الشریعة، وأنّها لا تمثل القداسة الدینیة، بل هی خلافة سیاسیة غیر مرتبطة بالإمامة الدینیة المقدّسة لدی الشارع الحکیم، فلم یَعد یزید ولا الخلفاء الذین جاءوا من بعده یمثّلون عند المجتمع الخلافة الإلهیة، بل هم حکّام سیاسیون لا ربط لهم بدین الله وشرعه، فالحسین(علیه السّلام) استطاع أنْ یزیل القناع الش_رعی الذی تلبّس به الحکّام، ونالوا به القداسة من المجتمع، وکانوا یمثلون الحکم الدینی والحکم السیاسی، وکانوا یشرّعون فی دین الله؛ فیحلّون حرامه ویحرّمون حلاله، لکنّ ثورة الإمام الحسین(علیه السّلام) أوقفت هذه الفکرة، وأوضحت أنّ هؤلاء حکّام سیاسة فقط، ولا ربط لهم بدین الله.

کما أنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) استطاع أنْ یحرّک ضمیر الأُمّة ویشرعن لها الخروج علی حکّام الجور إحیاءً وتطبیقاً لفریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. وبالفعل حصلت ثورات عدیدة بعد ذلک منادیة بالطلب بثأره، ولم تخشَ من قول کلمة الحقّ فی وجه الحاکم الجائر، وهکذا یمکن أنْ یلحظ الباحث نتائج عدیدة ترتّبت علی حرکة الحسین(علیه السّلام)، فهی إذن حرکة تمثّلت قیادتها بأفضل النُّخب الموجودة، وحقّقت تغییرات جذریة فی واقع الأُمّة الإسلامیة.

وقد یُقال: إنّ الأصحّ من حیث الاصطلاح هو استخدام اصطلاح (النهضة) علی

ص: 43

حرکة الإمام الحسین(علیه السّلام) وعدم اصطلاح لفظ (الثورة) علیه؛ لأنّ النهضة تمثّل عنواناً أشمل وأوسع وتتضمن تحقیق النتائج المبتغاة، بینما الثورة قد تطلق حتّی علی ذلک الحراک غیر المبتنی علی أُسس صحیحة، أو لم یحقّق نتائجه، فکثیر من الثورات قامت وانتص_رت ظاهریاً، لکنّها لم تحقّق نتائجها المعلنة، ولم یتبع ذلک تغییر وتطوّر فی حالة البلد والمجتمع، أی إنّه قد تحصل الثورة ولا تحصل النهضة، وقد تحصل الثورة ویستتبعها تغییر جذری فی الواقع وتحقیق للأهداف المعلنة، فتتحوّل إلی نهضة.

والحقیقة أنّ الکلام المتقدّم لا یعدو الاصطلاح لیس إلاّ، خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ اصطلاح (النهضة) واصطلاح (الثورة) کلاهما اصطلاحان متأخّران لم یکن لهما وجودٌ سابقٌ؛ لذا لم یکن لهما معنًی واضحٌ ومتمیّز فی الخارج، وقد ذکرنا فیما سبق عدّة تعریفات للثورة، ووقفنا علی معناها اللغوی، ثمّ مازجنا بین اللغة والعرف والتعاریف المختلفة لها، وخلصنا إلی أنّ الحراک إذا قامت به الجماهیر أو النخب، وکان بارزاً وظاهراً، ولم یکن خاملاً یُسمّی ثورة، سواء حقّق هدفه المنشود، أم لم یحقّقه. وعرفنا أیضاً أنّ الثورة لذاتها لا تکتسب القداسة، بل تکتسب قداستها من غرضها وأهدافها، وحینئذٍ فلا مناص من الالتزام بأنّ التحرّک الحسینی کان ثورة کُبری تحقّقت فیها الأهداف المنشودة، بل لازالت ثمارها تُؤتی أُکلها حتّی هذا الیوم.

فهذا التحرّک المصحوب بتحقیق النتائج، والذی اصطلح علیه کثیر من العلماء ب_(الثورة)، فلیصطلح علیه بعض آخر ب_(النهضة)، ولا مشاحّة فی الاصطلاح، ما دام مفهوم الثورة یصدق علی الحراک المحقّق لنتائجه، خصوصاً إذا ما لاحظنا أنّ کلا الاصطلاحین یُطلقان علی التغییر الجذری فی المجالات المختلفة المتعلّقة بالدولة والمجتمع، فیقولون: ثورة صناعیة، وثورة زراعیة، وثورة اقتصادیة، وثورة ریاضیة، وهکذا. وکذلک یُقال: نهضة صناعیة، ونهضة زراعیة، ونهضة اقتصادیة، وهکذا.

ص: 44

الفصل الثانی: مشروعیة الثورة فی ضوء صلح الإمام الحسن(علیه السّلام)

اشارة

ص: 45

ص: 46

المبحث الأول :وفاة النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وتغییر مسار الأُمّة

اشارة

لم تکن ثورة الحسین(علیه السّلام) ولیدة ساعتها، بل هی نتاج لعدّة متغیرات وظروف طرأت علی المجتمع الإسلامی؛ لذا لا یمکن دراستها بصورة منفصلة عمّا سبقها من أحداث؛ لما لتلک الأحداث من تأثیر مباشر علی حدوثها، وحیث إنّ تلک الأحداث مترابطة ومتسلسلة، وکلّها أسهمت فی تلک الثورة؛ کان من الضروری أنْ نستعرض أهمّ ما مرّ به المجتمع الإسلامی من بعد وفاة الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وإلی حین صلح الإمام الحسن(علیه السّلام)، حتّی یتّضح جلیّاً کیف أدّت تلک التحوّلات والظروف إلی تولّی معاویة أُمور المسلمین بعد الهدنة والصلح الذی تمّ بینه وبین الإمام الحسن(علیه السّلام)، ویتّضح معه دور ذلک الصلح فی ثورة الإمام الحسین(علیه السّلام).

1_ نبذة عن السقیفة وتداعیاتها

تقدّم فی المبحث الأول ضرورة وجود القائد والحاکم والإمام فی المجتمع، وأنّ النبیّ هو القائد والإمام للمسلمین فی وقته، وکان أولی بهم من أنفسهم، وعرفنا أیضاً أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لم یترک أمر هذه الأُمّة سدی تتقاذفه الأهواء، بل نصّ فی أکثر من مناسبة، وفی

ص: 47

أکثر من موقف علی الخلفاء من بعده، وهم أهل البیت(علیهم السّلام) ، وأوّلهم علیّ بن أبی طالب(علیه السّلام).

إلّا أنّه وبعد وفاة النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) مباشرة حدثت تغییرات جذریة فی تحدید مسار الأُمّة الذی أراده النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ففی حین کان علیٌّ وثلّة من بنی هاشم یباشرون أمر النبیّ ویجهزونه، اجتمع الأنصار فی سقیفة بنی ساعدة بقیادة سعد بن عبادة زعیم الخزرج، بهدف تنصیبه خلیفة علی المسلمین، فخطب بهم سعد، واتّفقوا علی تولیته أُمور المسلمین، ثمّ اختلفوا فیما بینهم فیما لو رفضت قریش ذلک، وأدّعت أنّها أولی بالخلافة، فقالت طائفة منهم، نقول: «منّا أمیر ومنکم أمیر». فأجابهم سعد بأنّ ذلک أوّل الوهن(1)، وبالفعل وصل خبر السقیفة إلی عمر(2)، أو إلی أبی بکر علی اختلاف الأخبار(3)، فأخبر أحدهما الآخر، وترکوا منزل النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، واصطحبوا معهم أبو عبیدة، وأقبلوا مسرعین نحو السقیفة.

فکثر الکلام واللغط فیما بینهم وبین الأنصار، وظهرت الحزبیة والقبلیة بصورة بیّنة، وأخذ کلّ فریق یبیّن فضائله ومناقبه وأولویته بالخلافة، وبات واضحاً أنّ قریش تری أنّ الخلافة لها حصراً، فکان أبو بکر یخاطب الأنصار بقوله: «نحن الأُمراء وأنتم الوزراء». فرفض الأنصار ذلک، لکنهم قبلوا باقتسام السلطة، فقال حباب بن المنذر: «لا والله، لا نفعل، منّا أمیر ومنکم أمیر»(4).

لکنّ قریش أبت إلّا أنْ تکون الخلافة لها، واحتدم النقاش والجدال فیما بینهم، حتّی أنّ عمر قال: «والله، لا یخالفنا أحد إلّا قتلناه»(5). وکثُر الکلام بینهم حتّی کاد أنْ یکون بینهم

ص: 48


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج2، ص456. الجوهری، أحمد بن عبد العزیز، السقیفة وفدک: ص57.
2- اُنظر: ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج2، ص328. الجوهری، أحمد بن عبد العزیز، السقیفة وفدک: ص58. ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج7، ص23.
3- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج1، ص581.
4- البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج4، ص194.
5- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج7، ص24.

حرب(1)، کما أنّ الأنصار انشقّوا علی بعضهم أیضاً، وأوّل من نکث هو بشیر بن سعد الخزرجی، وقد خطب خطبةً یدعو فیها إلی تأمیر قریش. ثمّ إنّ عمر دعا إلی مبایعة أبی بکر، وأخذ بیده فبایعه وبایعه الناس(2)، بل ورد أنّ بشیر سبق عمر إلی مبایعة أبی بکر!

وحین رأی الأوس _ وهم الخصم العتید للخزرج _ ما فعل بشیر، وما تدعو إلیه قریش من تأمیر نفسها، وما تطلب الخزرج من تأمیر سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض _ وفیهم أسید بن حضیر، وکان أحد النقباء _: والله، لئن ولیتها الخزرج علیکم مرّة لا زالت لهم علیکم بذلک الفضیلة، ولا جعلوا لکم معهم فیها نصیباً أبداً، فقوموا فبایعوا أبا بکر. فقاموا إلیه فبایعوه، فانکسر علی سعد بن عبادة وعلی الخزرج ما کانوا أجمعوا له من أمرهم(3).

وتنقل بعض الأخبار أنّ الأنصار الذین حضروا السقیفة أو بعضهم، عند ذلک قالوا: «لا نبایع إلّا علیاً!»(4)، فلم یذکروا علیّاً إلّا بعد فوات الأوان، وعرفوا أنّ الخلافة قد فلتت من أیدیهم!

وهکذا تمّت البیعة لأبی بکر، وسط فتنةٍ وشجار، حتّی أنّ سعد بن عبادة کاد أنْ یُقتل، فقال قائلٌ من الأنصار: «أبقوا سعد بن عبادة لا تطؤوه». فقال عمر: «اقتلوه، قتله الله!»(5).

ویمکن أنْ نسجّل علی حادثة السقیفة عدّة ملاحظات:

1_ إنّها تمثّل البذرة الأولی للانحراف عن المنهج النبوی المبارک، فقد أغفلوا نصوص

ص: 49


1- اُنظر: ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج7، ص24.
2- اُنظر: البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج4، ص194.
3- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج2، ص458.
4- المصدر نفسه: ج2، ص443.
5- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج7، ص25. واُنظر: البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج4، ص194.

النبیّ وأقواله فی علیّ وأهل البیت(علیهم السّلام) ، ولم یُولُوها أیَّ اهتمام یُذکر، فی حین أنّ علیّا کان مشغولاً بتجهیز النبیّ، وبحسب السیر الطبیعی للأُمور، فإنّه لم یکن لیشکّ فی أنّ الخلافة ستکون له لا لغیره، وهذا ما یجسده لنا الحوار الدائر بینه وبین العبّاس، حین طلب منه أنْ یبایعه أمام الناس؛ حتی لا یختلف علیه اثنان، فأجابه علیّ: «أَوَ مِنْهُمْ مَنْ یُنْکِرُ حَقَّنَا وَیَسْتَبِدُّ عَلَیْنَا؟! فَقَالَ الْعَبَّاسُ: سَتَرَی أَنَّ ذَلِکَ سَیَکُونُ. فَلَمَّا بُویِعَ أَبُو بَکْرٍ، قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَلَمْ أَقُلْ لَکَ یَا عَلِیُّ؟»(1).

ولربّما أنّ علیّاً(علیه السّلام) أراد أنْ یبیّن أنّ خلافته وإمامته إنّما هی بالنصّ لا بالبیعة، وأنّ هذا الحقّ ثابتٌ له دون غیره، وأنّ قبوله بالبیعة من أوّل وهلةٍ یعدّ مساهمة منه فی تغییر النظریة الإسلامیة فی تعیین الخلیفة، وهی نظریة النصّ.

ومن الواضح أنّ الالتزام بالنصّ سوف یجعل الخلافة فی بنی هاشم حصراً، وهذا ما لا یروق لقریش ولا للأنصار.

وکیف ما کان، فالسقیفة تمثّل بذرة الانحراف الأُولی، وکاد أنْ یحدث بسببها فتنة عظیمة وقتل وقتال یجرّ علی المسلمین الویلات، وقد أشار إلی ذلک عمر حین قال: «...فلا یغترنَّ امرؤٌ أن یقول: إنّما کانت بیعة أبی بکر فلتة، وتمّت ألا وإنّها قد کانت کذلک، ولکنّ الله وقی شرّها»(2).

وإذا کانت فلتة، فهذا یعنی أنّها لم تأتِ بمشورة ولا تمعّن ولا رویّة، بل لم تکن مستندة إلی أمرٍ شرعی واضح عند الصحابة، وإلا لما صحّ القول بأنّها فلتة!

2_ إنّ أصحاب السقیفة کما عمدوا إلی تغییب النص، فکذلک لم یثبتوا الشوری ولا

ص: 50


1- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج1، ص583.
2- البخاری، محمد بن أسماعیل، صحیح البخاری: ج6، ص26.

الإجماع، بل لم یدّعوا أنّ الخلافة تنعقد بالشوری أو الإجماع؛ ولذا سارع الأنصار إلی سقیفتهم من دون شوری بقیّة الصحابة، وأرادوا تولیة سعد بن عبادة، وحین سمع عمر وأبو بکر بالخبر أسرعوا فی القدوم إلیهم دون مشاورة علی وبنی هاشم وغیرهم من المهاجرین... فالسقیفة لم تؤمن لا بمبدأ النص ولا بمبدأ الشوری، فضلاً عن الإجماع.

وأمّا البیعة العامّة التی تحصل عادةً بعد إحکام الأُمور وتعیین شخص الخلیفة فعلیّاً، فهی لا تمثّل شیئاً شرعیّاً إطلاقاً؛ لأنّ الخلیفة الذی عُیّن إمّا أنْ یکون کسب الشرعیة أو لا، فإنْ کان کسب الشرعیة، فهذا یعنی أنّه کسبها بدون مشورة غالب المسلمین، فکیف صار خلیفة؟ وما هی الأُسس التی استندوا إلیها فی ذلک؟ وما الغرض من البیعة لخلیفة شرعی، سواء بایعه الناس أم رفضوا ولم یبایعوه؟! خصوصاً أنّ السقیفة خلت من غالبیة المهاجرین، بما فیهم أهل الحلّ والعقد، فکما سیأتی أنّه لم یحضر السقیفة علی وطلحة والزبیر وعمار والعبّاس، بل وعامّة بنی هاشم! فلا یمکن القول إنّ بیعة أهل الحلّ والعقد کافیة، فهی لم تحصل أیضاً.

وأمّا الشقّ الثانی، وهو فرض أنّ الخلیفة المُفترض لم یکسب الشرعیة، وإنّما یکسبها بعد البیعة العامّة، فلماذا إذن تجب بیعة شخص لم یکسب الشرعیة فعلاً؟ فعلامَ التهدید وإجبار الناس علی البیعة؟ أفهل ینصّ القرآن أو النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی وجوب بیعة شخص لم یکسب الشرعیة بعد؟

ولعلّه لهذه المشاکل ظهرت محاولات للترمیم فیما بعد، بدعوی أنّ الخلافة تنعقد ببیعة عددٍ قلیل من أهل الحلّ والعقد، بل یکفی الواحد! وهذا فی الحقیقة ممّا یُضحک الثکلی، فکیف یتأمر شخص علی أُمّة الإسلام بترشیح شخصٍ واحدٍ له؟ فما هی المبرّرات الشرعیة لذلک؟ والحقیقة إنّ فتح باب هذه المسألة یجرّنا إلی بحوث عدیدة خارج مجال هذه الدراسة، ولکن نُشیر إلی نقطة مهمّة، وهی أنّنا نبحث عن شرعیة السقیفة، وما

ص: 51

حصل فیها إلی حین البیعة العامّة، فلم نجد دلیلاً شرعیاً واحداً علی ذلک، فی حین أنّ المقابل صادر المطلوب، وانطلق من السقیفة وغیرها من طرق تنصیب الحکومات، ثمّ راح یُنظّر ویُشرعن لها.

وبمعنًی آخر: إنّه حاول تبریر الواقع الخارجی، وجعله هو المعیار فی شرعیة الأمور، ولذلک تعدّدت عنده الرؤیة فی طریقة الاستخلاف تبعاً لتعدد الواقع الخارجی، بینما الإنصاف یقتضی أنْ نبحث ذلک الواقع الخارجی، ونری هل کان یملک دلیلاً شرعیاً علی تحرّکه أم لا؟

ولذا؛ فإنّه طبقاً لنظریة النص تکون الأُمور واضحة فی کیفیة تعیین الخلافة، ویتّضح موقف الإمام علیّ فی عدم مبایعة أبی بکر، لا فی السقیفة ولا فی البیعة العامّة، ویتّضح عدم رضوخ وانقیاد الزهراء(علیهاالسّلام) لخلافتهم حتی وفاتها، فی حین لا نجد إجابة تملأ الوجدان وتُریح الضمیر حین نتمسّک بطرق الاستخلاف التی یقولون بها.

3_ بدت فی تلک الواقعة حالات التفاخر وحبّ الملک والسلطان واضحة، فقریش تطمح بالخلافة، بل وتقصی منافسیها وترفض حتی حالات الشراکة، بحجّة أنّها أفضل العرب وأنّها هاجرت مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فهی أولی بالخلافة، والأنصار یرون أنفسهم أولی من غیرهم؛ لنصرتهم النبیّ وإیوائهم له، وبدا التفکّک والخلاف بین الصحابة واضحاً، حتی کاد أن یقع بینهم القتال.

4_ إنّ الأحقاد التی کانت بین الحیّین الأوس والخزرج _ وهما من الأنصار _ لم تنطفئ، وإنْ خَفُتَ صوتها خلال حیاة النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، لکنّها سرعان ما عادت، ولذا؛ یمکن أنْ نسجّل ملاحظة مهمّة، وهی أنّ الأنصار حین اجتمعوا بقیادة سعد وهو من الخزرج، لم یتحمّل جماعة من الأوس ذلک، فوشوا بأصحابهم من الخزرج، وأوصلوا الخبر إلی عمر أو أبی بکر، فقد ذکرت الأخبار أنّ الوشاة کانوا اثنین من الأوس، وهما: معن بن عدی، وعویم

ص: 52

ابن ساعدة، وهما من الأوس(1)! وکذلک فإنّ الذین بادروا لبیعة أبی بکر کانوا من الأوس؛ خشیة أنْ یتأمّر الخزرج علیهم.

5_ نتساءل عن السرّ الذی جعل عمر وأبو بکر یترکان بیت النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بمعیّة أبی عبیدة، ولم یخبرا الإمام علیّ بذلک، فإذا کانا یعتقدان بخطورة الموقف وأهمیّته علی الحالة الإسلامیة آنذاک، بحیث ترکوا جثمان النبیّ بلا تجهیز، وذهبوا مسرعین للسقیفة، فلماذا لم یستشیرا علیّاً ولا أحداً من بنی هاشم فی الأمر؟ أفهل یشکّان فی غیرة علیّ علی الإسلام، أو ینکرون شجاعته ووقفاته فی الدفاع عن النبیّ والشریعة، أو أنّ الخطورة کانت تتعلّق بمصالح شخصیة، وأنّ هناک أمراً مبیّتاً حِیکت خیوطه وراء الستار، وأُرید له أنْ یتمّ دون معرفة علیّ به؟!

6_ وأخیراً ما الذی جعل الأنصار یجتمعون سرّاً، والنبیّ لمّا یُدفن بعد، فهل کانت غیرتهم علی الإسلام تمنعهم من الذهاب إلی بیت النبیّ والتشاور مع بنی هاشم والمهاجرین حول مسألة الخلافة بعد النبیّ، أم کان الهدف السیطرة علی الحکم دون معرفة أحد؟ لذا کانوا متخوّفین من رفض قریش لرأیهم، فاقترحوا عند ذاک تقاسم السلطة، الأمر الذی رفضه سعدٌ واعتبره أوّل الوهن!

ص: 53


1- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج1، ص581. الجوهری، أحمد بن عبد العزیز، السقیفة وفدک: ص57. ذکر أنّ الذی جاء بالخبر هو معن، ولم یذکر الآخر. ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج6، ص19. فقد نقل عن الزبیر بن بکار، أنّه قال: «وقد کان مالأ أبا بکر وعمر علی نقض أمر سعد وإفساد حاله رجلان من الأنصار ممّن شهدا بدراً، وهما عویم بن ساعدة ومعن بن عدی». ونقل الخبر عن المدائنی والواقدی أیضاً، فقال: «وذکر المدائنی والواقدی أنّ معن ابن عدی اتّفق هو وعویم بن ساعدة علی تحریض أبی بکر وعمر علی طلب الأمر وصرفه عن الأنصار، قالا: وکان معن بن عدی یشخصهما إشخاصاً، ویسوقهما سوقاً عنیفاً إلی السقیفة؛ مبادرةً إلی الأمر قبل فواته». واُنظر أیضاً: المکی، الزبیر بن بکار، الموفقیات: ص469، حیث ذکر خبر تکریم قریش لهما، وإدانتهما من الأنصار بسبب الوشایة المذکورة.

والخلاصة: إنّ أحداث السقیفة تعطیک انطباعاً واضحاً عن أنّ النفوس کانت میّالة للحکم والسلطة، وأنّ النزعات القبلیة لا زالت هی الحاکمة والمتأصّلة، وأنّ الابتعاد عن روح الإسلام وتعالیمه باتت واضحة أمام الجمیع.

2_ علیّ وبنو هاشم وجمع من الصحابة لم یبایعوا

والجدیر بالذکر هنا أنّ البیعة التی حصلت لأبی بکر لم تتمّ بإجماع المسلمین، وکان عدد کبیر من المهاجرین والأنصار یرون الخلافة لعلیّ(علیه السّلام)، ولم یشکّوا فی ذلک، فقد ذکرنا سابقاً أنّ علیّاً لم یکن یشکّ فی أنّ الخلافة له دون غیره، ونقل الزبیر بن بکار، عن محمّد بن إسحاق، قال: «وکان عامّة المهاجرین وجلّ الأنصار لا یشکّون أنّ علیّاً هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )»(1).

وقال الیعقوبی بعد أنْ ذکر بیعة أبی بکر فی السقیفة: «وجاء البراء بن عازب، فضرب الباب علی بنی هاشم، وقال: یا معشر بنی هاشم، بویع أبو بکر. فقال بعضهم: ما کان المسلمون یُحدثون حَدثاً نغیب عنه، ونحن أولی بمحمد. فقال العباس: فعلوها وربِّ الکعبة. وکان المهاجرون والأنصار لا یشکّون فی علی، فلمّا خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، وکان لسان قریش، فقال: یا معشر قریش، إنّه ما حقّت لکم الخلافة بالتمویه، ونحن أهلها دونکم، وصاحبنا أولی بها منکم، وقام عتبة بن أبی لهب، فقال:

ما کنت أحسب أنّ الأمر منص_رفٌ

عن هاشمٍ ثمّ منها عن أبی الحسن

عن أوّل الناس إیماناً وسابقة

وأعلم الناس بالقرآن والسنن»(2).

ص: 54


1- اُنظر: المعتزلی، ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج6، ص21.
2- الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص124.

وقد تخلّف عدد کبیر من الصحابة عن بیعة أبی بکر، فیهم ثلّة من أعیانهم وعلی رأسهم علی، وطلحة، والزبیر، وبنو هاشم، وسجّل لنا التأریخ عدداً من الوثائق التی تنصّ علی ذلک:

جاء فی البخاری عن عمر: «حین توفّی الله نبیه (صلّی الله علیه وسلّم) أنّ الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم فی سقیفة بنی ساعدة، وخالف عنّا علیّ والزبیر ومن معهما»(1).

ونصّ فی موضعٍ آخر علی أنّ فاطمة وجدت علی أبی بکر، وهجرته ولم تکلّمه حتّی توفیت. وکانت قد عاشت بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ستّة أشهر، وأنّ علیّاً لم یکن قد بایع فی تلک الفترة(2).

وقال الیعقوبی: «تخلّف عن بیعة أبی بکر قومٌ من المهاجرین والأنصار، ومالوا مع علی بن أبی طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبیر بن العوام بن العاص، وخالد بن سعید، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسی، وأبو ذر الغفاری، وعمار بن یاسر، والبراء ابن عازب، وأُبی بن کعب»(3).

وقال الطبری صاحب الریاض النضرة: «وتخلّف عن بیعة أبی بکر یومئذٍ: سعد بن عبادة فی طائفة من الخزرج، وعلی بن أبی طالب وابناه، والعباس عمّ رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) وبنوه فی بنی هاشم، والزبیر وطلحة، وسلمان وعمار وأبو ذر والمقداد، وغیرهم من المهاجرین، وخالد بن سعید بن العاص»(4).

وقال ابن الأثیر: «وتخلّف عن بیعته: علی، وبنو هاشم، والزبیر ابن العوام، وخالد بن سعید

ص: 55


1- البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج8، ص26.
2- المصدر نفسه: ج5، ص83.
3- الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص124.
4- الطبری، أحمد بن عبد الله، الریاض النضرة: ج1، ص241.

بن العاص، وسعد بن عبادة الأنصاری، ثمّ إنّ الجمیع بایعوا بعد موت فاطمة بنت رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، إلاّ سعد بن عبادة، فإنّه لم یبایع أحداً إلی أنْ مات، وکانت بیعتهم بعد ستة أشهر علی القول الصحیح»(1).

وقد ذکر أبو الفداء تخلّف جماعة من بنی هاشم، والزبیر، وعتبة بن أبی لهب، وخالد ابن سعید بن العاص، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسی، وأبی ذر، وعمار بن یاسر، والبراء بن عازب، وأُبی بن کعب، وإنّهم مالوا مع علیّ بن أبی طالب(2).

وممَّن لم یبایع أیضاً: فروة بن عمرو(3)، وأبو سفیان(4)، وغیرهم کُثر، ولسنا هنا بصدد تحقیق وإحصاء مَن لم یبایع، بل أردنا أنْ نُثبت أنّه لا إجماع علی بیعة أبی بکر، بل ولا شوری، ولا بیعة من قبل أهل الحلّ والعقد، فالذین ذکرناهم فی هذا الإیجاز، هم کالتالی:

1_ علی بن أبی طالب.

2_ الحسن بن علی.

3_ الحسین بن علی.

4_ العباس بن عبد المطلب.

5_ القثم بن العبّاس.

6_ الفضل بن العبّاس.

7_ البراء بن عازب.

8_ الزبیر بن العوام.

9_ طلحة بن عبید الله.

ص: 56


1- ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، أُسد الغابة: ج3، ص339.
2- اُنظر: أبو الفداء، إسماعیل، المختصر فی أخبار البشر (تاریخ أبی الفداء): ج1، ص156.
3- اُنظر: المکی، الزبیر بن بکار، الموفقیات: ص471.
4- اُنظر: الیعقوبی، محمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص126.

10_ المقداد.

11_ أبو ذر الغفاری.

12_ عمّار بن یاسر.

13_ سلمان الفارسی.

14_ أُبی بن کعب.

15_ سعد بن عبادة.

16_ خالد بن سعید.

17_ عتبة بن أبی لهب.

18_ فروة بن عمرو.

19_ أبو سفیان.

وغیرهم کُثر، خصوصاً أنّ بعضهم أطلق بعدم مبایعة بنی هاشم من دون تخصیصهم بأفراد معیّنین، فضلاً عن وجود طائفة من الخزرج لم تبایع أیضاً.

ومنه یتّضح عدم وجود شوری ولا إجماع فی بیعة أبی بکر.

ولا یرد ما قد یُقال: إنّ البیعة قد حصلت لاحقاً، وتحقّق الإجماع فیما بعد، فمضافاً إلی عدم وجود دلیلٍ واضحٍ علی مبایعة الجمیع، خصوصاً أنّ سعد بن عبادة لم یبایع إلی أنْ مات، فإنّه من الواضح أنّ تسجیل الاعتراض، وإظهار عدم المشروعیة یکفی فیه عدم البیعة آناً ما، ولا یضرّ بعد ذلک البیعة لظروف ومصالح دینیّة معیّنة، بل إنّ السیّدة فاطمة بنت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لم تقرّ ولم تخضع لخلافة أبی بکر ولا لحظة، وماتت وهی غاضبة وواجدة علیه(1)، وهذا یشکّل نقطة أساسیة، ومنعطفاً خطیراً ینبغی التنبّه إلیه، فإنّ من

ص: 57


1- اُنظر: البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج5، ص82. النیسابوری، مسلم بن الحجاج، صحیح مسلم: ج5، ص154.

المتّفق علیه أنّ مَن مات ولیس علیه إمام مات میتة جاهلیة، فهل أنّ فاطمة وهی بنت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ماتت میتة جاهلیة، وستُساق إلی النار؟! مع أنّها سیدة نساء العالمین، ومَن أغضبها أغضب الله ورسوله، أو أنّها لا تری شرعیة خلافة أبی بکر، وتری أنّ إمامها هو علیّ(علیه السّلام)؟!

لا مناص من التمسّک بالأمر الثانی، خصوصاً مع مراعاة الروایات الواردة فی فضائلها، وهی کثیرةٌ جدّاً، أضف إلی أنّ أهل السنّة یرون أنّ جمیع الصحابة من أهل الجنّة!

وما قد یُقال: من أنّه لا بیعة علی النساء، فلا ینقض علی مشروعیة خلافة أبی بکر بعدم مبایعة الزهراء له، فهو مجرّد تفصّی من الإشکال بلا حجّة شرعیة؛ ذلک لأنّ عدم البیعة للنساء لا یعنی أنّ المرأة لا یجب علیها الإیمان بإمام وخلیفة زمانها، والانقیاد لأوامره ونواهیه، بل معناه أنّه لا یجب علیها الخروج کالرجال وإعطائه البیعة بالشکل المعروف، وإلّا فالإقرار بإمامته وخلافته واجبٌ علی الجمیع، فحدیث: «مَن مات ولیس علیه إمام...»(1) صریح فی شموله للجمیع ولا یُفرّق بین رجل وامرأة...

وإذا قلنا بخروج المرأة منه؛ لأنّها لیست من أهل الحلّ والعقد ولا تجب علیها البیعة، فذلک یلزم خروج جمیع الرجال من الصحابة والتابعین الذین لیسوا من أهل الحلّ والعقد، ومعه لا تجب طاعة الإمام ولا الخضوع له من قبل أکثر الأُمّة الإسلامیة، وهو منافٍ للحدیث الشریف بصورة جلیّة وواضحة.

والنتیجة: إنّ عدم خضوع الزهراء لأبی بکر یدلّ علی عدم اعتقادها بخلافته، وإیمانها طبق النصّ الشرعی بإمامة علیّ(علیه السّلام).

ص: 58


1- أبو یعلی، أحمد بن علی، مسند أبی یعلی: ج13، ص366.

3 _ ما بعد خلافة أبی بکر

بعد أنْ عرفنا أنّه لم تکن هناک شوری فی السقیفة، وأنّ عمر وصف استخلاف أبی بکر بأنّه فلتة، جاء الدور لیتولّی عمر شؤون المسلمین بنصٍّ من أبی بکر فقط، وسط اعتراضات الصحابة وعدم موافقتهم علی ذلک، إلّا أنّ أبا بکر لم یُولِ اعتراضهم أیَّ قیمة، وأصرّ علی استخلاف عمر من بعده! ففی مُصنّف ابن أبی شیبة وغیره: «لمّا حضرت أبا بکرٍ الوفاة أرسل إلی عمر لیستخلفه، قال: فقال الناس: أتستخلف علینا فظّاً غلیظاً، فلو ملکنا کان أفظّ وأغلظ، ماذا تقول لربِّک إذا أتیته وقد استخلفته علینا؟! قال: تخوفونی بربی، أقول: اللهم أمّرت علیهم خیر أهلک»(1).

فهذا یکشف علی أنّ أبا بکر لم یستشر الصحابة فی قضیة تولّی عمر بن الخطاب، ولم یعبأ بکلام المعترضین، بل لیس فی ذهنه شیء اسمه الشوری؛ إذ لو کان أبو بکر یؤمن بنظریة الشوری فلا معنی لتنصیبه عمر بهذه الکیفیّة، خصوصاً مع اعتراض الصحابة بصورة صریحة.

إذاً؛ عادت نظریة النصّ للساحة من جدید، بعد أنْ غُیّبت فی السقیفة، لکنّه نصٌّ من نوعٍ آخر، فالنصّ الذی غُیّب فی السقیفة هو النصّ الصادر عن النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) المعصوم فی تنصیب علیّ(علیه السّلام) خلیفةً علی الأُمّة، لکنّ هذا النصّ هو من خلیفةٍ لم یستمدّ شرعیة خلافته بصورة صحیحة، ویحمل فی ثنایاه ردّاً للجمیل، وتکمیلاً للمشروع الذی ابتدأه الخلیفة عمر فی یوم السقیفة حین نادی ببیعة أبی بکر، فلا داعی لسقیفةٍ أُخری، ولا اجتماع مع المهاجرین فضلاً عن الأنصار، بعد أنْ استطاعت السقیفة أنْ تُبعد البیت العلوی عن سدّة

ص: 59


1- ابن أبی شیبة، عبد الله بن محمد، المصنف: ج7، ص485. النمیری، عمر بن شبة، تاریخ المدینة: ج2، ص671.

الحکم، ولا ضیر حینئذ أنْ تکون الخلافة بالنصّ ما دامها تحقّق أغراض الخلیفة، وتُکمل مسلسل الإقصاء الذی مُورس یوم السقیفة.

تربّع الخلیفة عمر علی سدّة الحکم، والأُمور تسیر بخلاف ما رسم لها الرسول الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وبدأت أمارات الانحراف تطفو علی السطح، ففی سنّة (20) للهجرة، قام عمر بتطبیق مبدأ التفاضل فی العطاء، «ففضّل السابقین علی غیرهم، وفضل المهاجرین من قریش علی غیرهم من المهاجرین، وفضّل المهاجرین کافّة علی الأنصار کافّة، وفضّل العرب علی العجم، وفضّل الصریح علی المولی، وکان قد أشار علی أبی بکر أیام خلافته بذلک، فلم یقبل...»(1). کما فضّل مضر علی ربیعة، ففرض لمضر ثلاثمائة ولربیعة فی مائتین(2)،کما أنّه فاضل بین الأنصار بتقدیم الأوس علی الخزرج، فبدأ برهط سعد بن معاذ الأشهلی من الأوس، ثمّ الأقرب فالأقرب لسعد(3).

وطبیعیٌّ أنّ لهذا التمییز نتائج سلبیة عدّة من تکوین طبقیة، وتنازع قبلی وعنصری یؤدّی إلی تفتیت لُحمة المجتمع الإسلامی.

کما أنّ عَهْدَ عمر شهد تغییرَ وتحریفَ بعض الأحکام کحجّ التمتّع مثلاً، کما أنّه کانت تغیب عنه العدید من الأحکام؛ ممّا اضطره فی کثیر من الأحیان الرجوع إلی علیّ(علیه السّلام)، حتّی أنّه کان یتعوّذ بالله من معضلةٍ لیس لها أبو حسن(4).

ثمّ إنّه أکمل مشوار الاضطراب فی کیفیة تعیین الخلیفة، فأوکل الأمر من بعده إلی ستّة کلّهم من قریش یختارون خلیفة من بینهم، وهؤلاء الستّة هم: علیّ بن أبی طالب، وعثمان

ص: 60


1- ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج8، ص111.
2- اُنظر: الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص153.
3- اُنظر: ابن سعد، محمد، الطبقات الکبری: ج3، ص296.
4- اُنظر: ابن عبد البر، یوسف بن عبد الله، الاستیعاب: ج3، ص1103.

ابن عفان، وطلحة بن عبید الله، والزبیر بن العوام، وسعد بن أبی وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، مع ترجیح الکفّة التی فیها عبد الرحمن بن عوف عند التساوی (1).

وقد أسهم هذا الأمر فی تفکیک وتشتیت عُری المسلمین؛ إذ کلّ جماعة مالت إلی واحدٍ من هؤلاء الستّة، وقد اعترف معاویة بن أبی سفیان بذلک، قال: «لم یشتّت بین المسلمین ولا فرّق أهواءهم ولا خالف بینهم إلاّ الشوری التی جعلها عمر إلی ستة نفر... فلم یکن رجلٌ منهم إلاّ رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلّعت إلی ذلک نفسه...»(2).

انتهت الشوری السداسیة باستیلاء عثمان علی السلطة، بعد أنْ بایعه عبد الرحمن بن عوف، الأمر الذی رفضه الإمام علیّ؛ لمعرفته وعلمه بأنّ ذلک استمرار لمخطّط إبعاد البیت العلوی عن الخلافة، فقال فی ذاک: «إنّما آثرته بها لتنالها بعده، دقّ الله بینکما عطر منشم»(3).

وفی نقلٍ آخر أنّه قال له: «حرکّک الصهر، وبعثک علی ما صنعت، والله، ما أمّلت منه إلّا ما أمّل صاحبک من صاحبه، دقّ الله بینکما عطر منشم»(4).

واستمرت الأوضاع ابتعاداً عن جادّة الشریعة، وظهرت من عثمان انحرافات عدیدة، إذ بدأها بالعفو عن عبید الله بن الخطاب قاتل الهرمزان وابنة أبی لؤلؤة الصغیرة، الأمر الذی رفضه الإمام علیّ(علیه السّلام) ومعه کبار الصحابة، کما أنّه حوّل الخلافة وبیت المال إلی مُلکٍ

ص: 61


1- اُنظر: ابن سعد، محمد، الطبقات الکبری: ج3، ص61.
2- النمیری، عمر بن شبة، تاریخ المدینة: ج3، ص930.
3- ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج9، ص55، عن کتاب الشوری ومقتل عثمان لعوانة، والسقیفة للجوهری.
4- المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج1، ص286 _ 287. ومنشِم __ بکسر الشین _: اسم امرأة کانت بمکّة عطّارة، وکانت خزاعة وجُرهم إذا أرادوا القتال تطیّبوا من طیبها، وکانوا إذا فعلوا ذلک کثرت القتلی فیما بینهم، فکان یُقال: أشأم من عطر منشِم. فصار مثلاً. اُنظر: الجوهری، إسماعیل بن حماد، الصحاح: ج5، ص2041.

عضوض یتقاسمه مع بنی أُمیّة، فقد قام بتولیة بنی أُمیّة، واستأثر هو وإیّاهم ببیت مال المسلمین، وکان الصحابة یرفضون الأعمال المنکرة التی تصدر من أولئک الولاة، ویستعتبون عثمان فیهم، دون فائدة، فلا عزل للولاة ولا إصلاح للأُمور، بل کان یتحایل علی الصحابة فی بعض الأحیان، ویحاول خدیعتهم، من قبیل تولیته محمّد بن أبی بکر علی مصر بعد شکایة أهلها له من والیه عبد الله بن أبی سرح، لکن الأمر کان خدیعةً ماکرة، وکان الغرض هو قتل محمّد بن أبی بکر ومَن یقف معه، وسجن کلّ مَن یتظلّم للوالی، حسب الکتاب الذی وجدته الجماهیر مرسلاً بید أحد غلمان عثمان، موجّهاً إلی والیه فی مصر!

ومضافاً إلی هذا التحایل، فإنّه کان قد استخدم وسائل الترهیب فی إسکات معارضیه والناقمین علی سیاسته من الصحابة، فکان أنْ نفی أبا ذر الغفاری إلی الربذة، وضرب عثمان بن یاسر بقسوة، وکذلک فعل بعبد الله بن مسعود؛ الأمر الذی زاد من حنق الناس علیه.

کما أنّ الناس کانت ممتعظةً من مخالفته لرسول الله، بل وکذا لأبی بکر وعمر حین أرجع عمّه _ طرید رسول الله _ الحکم بن أبی العاص إلی المدینة، بعد أنْ نفاه النبیّ مع ولده إلی الطائف، حیث کان من أشدّ الناس إیذاء له(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فلمّا توفیّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کلّم عثمانُ أبا بکر فی إرجاعه فرفض ذلک، ثمّ کلّم عمر فی خلافته فرفض أیضاً، معلّلین رفضهم بعدم إمکانهم إیواء طرداء رسول الله.

لکنّ عثمان لم یکترث لذلک، فآوی طرید رسول الله، بل ولّاه علی الصدقات ووهبها له!

هذه نبذة مختصرة من سیاسات عثمان الخاطئة، التی انتهت بثورة جماهیریة کُبری قادها

ص: 62

الصحابة وکبار التابعین وقرّاء القرآن، أودت بحیاة الخلیفة عثمان(1)، والمثیر فی المسألة أنّ الثوار مَنعوا من دفنه! حتّی دفنه جماعة بسریّة فی حشّ کوکب(2)، وهی مقبرة للیهود!(3).

4_ ما بعد عثمان

انتهت حقبة خلافة عثمان، وقد ترکت المجتمع طبقیّاً مفکّکاً مجزّءاً، بعیداً عن روح الشریعة وتعالیمها، غارقاً بألوان الفساد، وفی هذه الحال توجّهت الناس صوب علیّ(علیه السّلام) تطالبه بتولّی الخلافة، وما کان مثل علیّ أنْ یقبل بحکمٍ سیاسی لا یقوم علی أساس العدل الإلهی، فکان لا بدّ له من القیام بنهضة علی کافّة الأصعدة، فقد أصرّ(علیه السّلام) علی عزل ولاة عثمان الذین عُرفوا بالفساد فی الأرض، رغم المطالبات بإبقائهم بدعوی الصلاح فی ذلک، فولّی علی البص_رة عثمان بن حنیف، وعلی الشام سهل بن حنیف، وعلی مصر قیس بن سعد بن عبادة، وعلی الکوفة عمارة بن شهاب(4)،وقیل: إنّه ثبّت علی الکوفة أبا موسی الأشعری بإشارة من الأشتر(5)، ثمّ عزله فیما بعد(6)، وهذه هی الأمصار الکبیرة فی دولة الخلافة آنذاک.

ومن الواضح أنّ قیس وعثمان وسهل کلّهم من الأنصار الذین تعرّضوا للإقصاء فی تلک الفترة.

کما أنّه أوضح سیاسته فی الحقوق بقوله: «الذلیل عندی عزیز حتی آخذ الحقّ له، والقوی

ص: 63


1- وقد ذکرنا نبذاً من تلک السیاسات والظروف التی أدّت بالثورة علی عثمان، فی مقالٍ لنا بعنوان: (الثورة علی عثمان وموقف علیّ منها)، مجلة الإصلاح الحسینی، العدد2، السنة الأُولی، 1434ه_.
2- اُنظر: الهیثمی، علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج9، ص95.
3- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص438.
4- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص462.
5- اُنظر: الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص179.
6- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص512.

عندی ضعیف حتّی آخذ الحقّ منه»(1).

کما إنّ الإمام(علیه السّلام) قرّر إعادة النظر فی الأموال التی منحها عثمان إلی أصحابه ومقرّبیه، فأمر بإعادة جمیع الإقطاعات التی اقتطعها عثمان، وجمیع الأموال التی وهبها إلی الطبقة الموالیة، إلی بیت المال، فقال(علیه السّلام): «ألا إنّ کلّ قطیعة أقطعها عثمان، وکلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود فی بیت المال، فإنّ الحق القدیم لا یُبطله شیء، ولو وجدتُه وقد تزوّج به النساء، وفرّق فی البلدان، لرددته إلی حاله؛ فإنّ فی العدل سعة، ومَن ضاق عنه الحق فالجور علیه أضیق»(2).

کما أعلن أنّه سیوزّع المال بین المسلمین بالتساوی، وقام بذلک بصورة فعلیّة، فقال لعبید الله بن أبی رافع _ کاتبه _: «ابدأ بالمهاجرین فنادِهم، وأعطِ کلّ رجلٍ ممَّن حضر ثلاثة دنانیر، ثمّ ثنِّ بالأنصار، فافعل معهم مثل ذلک، ومَن یحضر من الناس کلّهم _ الأحمر والأسود _ فاصنع به مثل ذلک».

فقال سهل بن حنیف: «یا أمیر المؤمنین، هذا غلامی بالأمس، وقد أعتقته الیوم!!»، فقال: «نعطیه کما نعطیک»، فأعطی کلّ واحد منهما ثلاثة دنانیر، ولم یفضّل أحداً علی أحد، وتخلّف عن هذا القَسم _ یومئذٍ _ طلحة، والزبیر، وعبد الله بن عمر، وسعید بن العاص، ومروان بن الحکم، ورجال من قریش، وغیرها(3).

لم تَرُق السیاسة العادلة للطبقة المنتفعة إبّان حکم عثمان، فبدأت ملامح خلافٍ جدید، وأخذت الأفکار تُحاک من وراء الستار، فالسیاسات غیر الحکیمة للخلفاء السابقین أوصلت المجتمع إلی هوّة سحیقة، وبدأت إفرازاتها تظهر علی الساحة بصورة جلیّة؛ ولذا نری أنّ الأمیر(علیه السّلام) عندما استدعی زعماء هذه الطبقة لیحاججهم علی خلافهم إیاه، أجابوه

ص: 64


1- محمد عبده، شرح نهج البلاغة: ج1، ص89.
2- ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج1، ص269.
3- المصدر السابق: ج7، ص37 _ 38.

بأنّ سبب ذلک هو سیره علی خلاف تقسیم عمر للأموال، وأنّه ساواهم بغیرهم(1).

وهکذا بدأت بوادر معرکة یقودها الفریق المتضرّر من عدالة علیّ(علیه السّلام)، متّخذین دم عثمان ستاراً لتحقیق مطامعهم، فکانت معرکة الجمل التی انتهت بهزیمتهم، وسقوط طلحة والزبیر قتیلین مع آلاف القتلی من الطرفین.

وفی نفس الوقت فإنّ الشام لم تستجب لخلافة علیّ(علیه السّلام)، ولم تستقبل والیها الجدید، بل إنّ معاویة والی الشام سابقاً _ أحد زعماء الطبقة المنتفعة _ أخذ یعدّ العُدَّة للقضاء علی حکومة الإمام(علیه السّلام)، خصوصاً أنّ عثمان قد وسّع فی ولایته، فقد ضمّ إلیه ولایة حمص وفلسطین؛ وبذلک مهّد له الخلافة، وأنشأ له مملکة مترامیة الأطراف.

یقول الدکتور طه حسین: «ولیس من شکٍّ فی أنّ عثمان هو الذی مهّد لمعاویة ما أُتیح له من نقل الخلافة ذات یوم إلی آل أبی سفیان، وتثبیتها فی بنی أُمیّة، فعثمان هو الذی وسّع علی معاویة فی الولایة؛ فضمّ إلیه فلسطین وحمص، وأنشأ له وحدة شامیة بعیدة الأرجاء...»(2).

اتّخذ معاویة المطالبة بقتلة عثمان شعاراً لوقوفه بوجه علیّ(علیه السّلام)(3)، مع أنّه لم ینصره حین کان حیّاً، ولیس هو بولیّ دمه بعد وفاته، بل ولم یقتصّ من قتلته حین تولّی الأُمور(4).

تمکّن معاویة من إعداد جیشٍ کبیر متلاحمٍ فی صفوفه علی الباطل، وباتت الشام تُؤوی کلّ متمرد علی حکم الإمام علی(علیه السّلام)، فقد انضمت إلیها العناصر المنتفعة بعهد عثمان، والتی لا یروق لها الحکم الجدید، ولا یحقّق منافعها، بل تری فیه خطراً علیها، فلاحت علی الأُفق بوادر معرکة جدیدة، بعد فشل جمیع المراسلات بین الفریقین.

ص: 65


1- اُنظر: الطوسی، محمد بن الحسن، الأمالی: ص722. ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج7، ص41.
2- طه حسین، الفتنة الکبری: ج1، ص120.
3- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج2، ص278، وص291.
4- اُنظر فی ذلک: المالکی، حسن فرحان، نحو إنقاذ التاریخ الإسلامی: ص279 _ 280.

نشبت معرکة صفین، وکانت أعظم معرکة وقعت فی الإسلام، وسقط فیها آلاف القتلی، وکان علیّ(علیه السّلام) علی أبواب النصر(1)، لکنّ خداع معاویة بمشورة ابن العاص برفعهم المصاحف، والدعوة إلی تحکیم کتاب الله بین الفریقین(2)، أدّت إلی انقسام فی جیش الإمام علی(علیه السّلام)، وتفرّق فی شملهم، فالآلاف المؤلّفة رفعوا سیوفهم بوجه الإمام علی(علیه السّلام) مطالبینه بالقبول بالتحکیم، ثمّ أجبروه علی القبول بإبی موسی الأشعری حَکماً من طرف جیش الإمام(علیه السّلام)، ثمّ غیّروا رأیهم ورأوا أنّ ذلک کفر، فانفصلوا عن جیش الإمام(علیه السّلام) مطالبینه بالتوبة بعد أنْ حکّم الرجال فی دین الله _ وهو کفرٌ علی زعمهم _ حاول الإمام إعادتهم إلی طاعته، وأوضح لهم موقفه السابق من رفضه للتحکیم وقبولهم به، وما جری من تداعیات کانوا هم السبب فیها، فلم ینفع(3)، وخیّمت أجواء حربٍ ثالثة، فکانت حروراء التی أسفرت عن مقتل جمیع الخوارج باستثناء نفر قلیل فقط.

هکذا هی الثروة، وها هی نتائج ولاة عثمان، ثلاثة حروب فی غضون فترةٍ وجیزة، أنهکت قوی الإمام(علیه السّلام)، وشغلته عن القیام بثورته الإصلاحیة الکبری، وفتّت جیشه الذی صار فیما بعد میّالاً إلی الدِّعة والراحة والسکون، رافضاً للحرب والقتال، إلاّ ثلّة قلیلة، فبعد مهزلة التحکیم وما آلت إلیه من خداع ابن العاص لأبی موسی، وعدم الوصول إلی نتیجةٍ شرعیة ملزمة للفریقین، حاول الإمام(علیه السّلام) أنْ یجمع جیشه من جدید لقتال أهل الشام مجدّداً، لکن دون جدوی(4).

ص: 66


1- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحی، أنساب الأشراف: ج2، ص330.
2- اُنظر: المصدر نفسه: ج2، ص323، وص327. ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج2، ص206.
3- اُنظر: ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص319، وص328، وص334. الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص208.
4- اُنظر: ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص329 _ ص333. ابن الجوزی، عبد الرحمن بن علی، المنتظم فی تاریخ الملوک والأُمم: ج5، ص126_ 128، وص137.

وفی هذا الوقت امتدّت ید الغدر الخارجیة لتغتال الإمام(علیه السّلام) وهو فی محراب صلاته!

تولّی الإمام الحسن الخلافة بعد أبیه، وأراد أن یسیر علی نفس سیاسته فی قتال حکومة الشام، والقضاء علی ید الفتنة والتفرقة، لکنّ ظروف التفکّک والانهیار التی تسلّم بها الإمام الحسن(علیه السّلام) الخلافة، ازدادت سوءاً وتفکّکاً أکثر من تلک الفترة التی تسلّم بها الإمام علی(علیه السّلام) الخلافة، فالتخاذل والانهیار بات هو المسیطر، بعد أنْ دمّرت الحروب المتوالیة معنویات هذا الجیش، ولذا فإنّ الإمام الحسن(علیه السّلام) أراد فی لحظاته الأُولی أنْ یأخذ منهم العهد علی الطاعة والولاء، فاشترط علیهم أنْ یکونوا مطیعین، یسالمون مَن سالم، ویحاربون مَن حارب، لکنّ المجتمع بدأ تخاذله من أوّل وهلة، فارتابوا من هذا الشرط، وقالوا: «ما هذا لکم بصاحب، وما یرید إلّا القتال»(1).

کما أنّه(علیه السّلام) وفی خطوةٍ أُخری مرغّبة لنفوس المقاتلین، وشادّة من عزائمهم، قام بزیادة أُعطیاتهم مائة مائة(2).

وفی المقابل فإنّ معاویة لم یکن لیتفرّج علی الإمام الحسن(علیه السّلام) وهو یجهّز الجیش ویُعدّ العدّة، فلمّا علم ببیعة الناس للحسن(علیه السّلام)، دسّ رجلاً من حِمْیَر إلی الکوفة، ورجلاً من القین إلی البصرة، لیکتبا إلیه الأَخبار، ویُفسدا علی الحسن(علیه السّلام) الأُمور، فعرف ذلک الحسن(علیه السّلام) وأمر باستخراج الحِمْیَری من عند حجّامٍ بالکوفة فأُخرج، فأمر بضرب عنقه، وکتب إلی البصرة فاستخرج القینیّ من بنی سلیم، وضُربت عنقه، ثمّ کتب الإمام(علیه السّلام) إلی معاویة: «أمّا بعد؛ فإنّک دسست الرجال للاحتیال والاغتیال، وأرصدت العیون، کأنّک تحبّ اللقاء، وما أوشک ذلک، فتوقعه إنْ شاء الله»(3). وهذا موقف صریح وواضح من الإمام الحسن(علیه السّلام) فی

ص: 67


1- أبو الفداء، إسماعیل، المختصر فی أخبار البش_ر (تاریخ أبی الفداء): ج1، ص182. النویری، أحمد بن عبد الوهاب، نهایة الإرب فی فنون الأدب: ج20، ص138.
2- اُنظر: أبو الفرج الأصفهانی، علی بن الحسین، مقاتل الطالبیین: ص34.
3- المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص9 _ 10.

أنّه علی استعداد تامّ لقتال معاویة، والقضاء علی الفتنة.

کما أنّ معاویة أخذ بالاستعداد لمعرکةٍ جدیدة، وکتب لعمّاله بموافاته لغزو العراق، وذکر فی بعض کتبه أنّ بعض أشراف الکوفة وقادتهم کتبوا إلیه یلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم(1).

وهذا النصّ إن صحّ ولم یکن خدعة من معاویة، فإنّما یفصح عن أنّ الخذلان کان من اللحظات الأُولی.

وأخذ معاویة بالتحرّک، ولمّا بلغ الإمام الحسن(علیه السّلام) خبر مسیر معاویة، وأنّه قد بلغ جسر منبج، بدأ بتجهیز جیشه، واستنفرهم للجهاد فتثاقلوا عنه، فصعد المنبر وحمد الله وأثنی علیه، ثمّ قال: «أمّا بعد؛ فإنّ الله کتب الجهاد علی خلقه، وسمّاه کُرهاً، ثمّ قال لأهل الجهاد من المؤمنین: اصبروا، إنّ الله مع الصابرین، فلستم _ أیّها الناس _ نائلین ما تحبّون إلاّ بالصبر علی ما تکرهون، إنّه بلغنی أنّ معاویة بلغه أنّا کنّا أزمعنا علی المسیر إلیه، فتحرّک لذلک، فاخرجوا _ رحمکم الله _ إلی معسکرکم بالنُّخیلة... فسکتوا، فما تکلّم منهم أحد، ولا أجابه بحرف»(2).

فلمّا رأی عدی بن حاتم تخاذل الناس وتقاعسهم، قام وخطب فیهم، واستحثّهم علی نصرة إمامهم، وتوجّه نحو الحسن(علیه السّلام) معلناً طاعته إیاه، ثمّ قام بعده قیس بن سعد بن عبادة الأنصاری، ومعقل بن قیس الریاحی، وزیاد بن صعصعة التیمی، فأنّبوا الناس ولاموهم وحرّضوهم، وأعلنوا طاعتهم للإمام الحسن(علیه السّلام)، فنشط الناس للخروج(3).

وهکذا تجهّز جیش الإمام للقتال، لکنّه یتألّف من فرق عدّة مختلفة الأهواء، فقد سار معه «أخلاط من الناس، بعضهم شیعة له ولأبیه، وبعضهم محکّمة _ خوارج _ یؤثرون قتال

ص: 68


1- اُنظر: أبو الفرج الأصفهانی، علی بن الحسین، مقاتل الطالبیین: ص38.
2- أبو الفرج الأصفهانی، علی بن الحسین، مقاتل الطالبیین: ص39.
3- اُنظر: المصدر نفسه: ص39 _ 40.

معاویة بکلّ حیلةٍ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع فی الغنائم، وبعضهم شُکّاک، وبعضهم أصحاب عصبیة اتبعوا رؤساء قبائلهم، لا یرجعون إلی دین»(1).

کما إنّ مجموعة من رؤساء القبائل کتبوا إلی معاویة بالطاعة له فی السرّ، واستحثوه علی السیر نحوهم، وضمنوا له تسلیم الحسن(علیه السّلام) أو الفتک به، وقد بلغ الحسن(علیه السّلام) ذلک(2).

کما أنّ قائد جیش الإمام الحسن(علیه السّلام) _ عبید الله بن عباس _ قد تسلّل تحت جنح الظلام إلی جیش معاویة، بعد أن وصلته رسالة من معاویة یقول فیها: «إنّ الحسن قد راسلنی فی الصلح، وهو مسلّم الأمر إلیَّ، فإن دخلت فی طاعتی الآن کنت متبوعاً، وإلاّ دخلت وأنت تابع، ولک إن أجبتنی الآن أن أُعطیک ألف ألف درهم، أُعَجِّل لک فی هذا الوقت نصفها، وإذا دخلت الکوفة النصف الآخر. فانسلّ عبید الله لیلاً، فدخل عسکر معاویة، فوفّی له بما وعده، وأصبح الناس ینتظرون عبید الله أن یخرج فیصلّی بهم، فلم یخرج حتی أصبحوا، فطلبوه فلم یجدوه، فصلّی بهم قیس بن سعد بن عبادة»(3).

وإذا ضممنا إلی ذلک ما قام به معاویة من شراء الضمائر بالأموال والدسائس، کما هو الحال بالنسبة إلی عمرو بن حریث، والأشعث بن قیس، وحجّار بن أبجر، وشبث بن ربعی وغیرهم(4)،وقیامه ببثّ الشائعات، والتی منها أنّ قیس بن سعد _ وهو قائد مسکن بعد فرار عبید الله ابن عباس _ قد صالح معاویة وصار معه، کما وجّه إلی عسکر قیس فی مسکن مَن یتحدّث أنّ الحسن قد صالح معاویة وأجابه(5)،ونشر فی المدائن إشاعة خبیثة وهی: أنّ قیس بن سعد قد قُتل فانفروا. فنفروا إلی سرادق الحسن(علیه السّلام)، فنهبوا متاعه حتی

ص: 69


1- المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص10.
2- اُنظر: المصدر نفسه: ج2، ص12.
3- ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج16، ص42.
4- اُنظر: الصدوق، محمد بن علی، علل الشرائع: ج1، ص221.
5- اُنظر: الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص214.

نازعوه بساطاً کان تحته(1).

إذا ضممنا کلّ هذه الأُمور وغیرها من الأحداث _ التی لا یسع المجال لذکرها _ وعرفنا أنّ معاویة هو الذی طلب الصلح، وأنفذ إلی الحسن(علیه السّلام) کُتب أصحابه الذین ضمنوا فیها الفتک بالحسن(علیه السّلام)، أو تسلمیه إلی معاویة(2)، یتّضح جلیاً رکون الإمام(علیه السّلام) إلی الصلح الذی اقترحه معاویة؛ إذ لا سبیل إلی النصر مع هذه الظروف، وأنّ القتال سیقضی علی الثلّة المتبقیة من خلّص أصحابه وأهل بیته، بما فیهم الإمام الحسین(علیه السّلام).

فحفاظاً علی المخلصین من أصحابه، ومحاولة استغلال الوقت فی تجهیز جیش عقائدی قادر علی النصر، ومحاولة فضح معاویة وأهدافه أمام الملأ، وعدم وجود خیار آخر أمامه یتناسب مع کونه إماماً یحمل مشروعاً إلهیاً، قَبِل الإمام الحسن(علیه السّلام) بالصلح، بشروطٍ تُتیح عودة الخلافة فیما بعد إلی مسارها الصحیح، وهو ما سنتناوله فی المبحث الآتی.

ص: 70


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص122.
2- اُنظر: المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص13.

المبحث الثانی:قراءة فی شروط الصلح

اشارة

بعد أنْ تقاعس الناس عن نصرة الإمام الحسن(علیه السّلام) ومالوا إلی الدعة والراحة، وفرّ من فرّ منهم إلی جیش معاویة، وکاتبه غیرهم معلنین قبولهم بتسلیم الإمام إلیه، قبل الإمام الحسن بالصلح الذی عرضه علیه معاویة، وقد أراد بذلک مضافاً للحفاظ علی أصحابه، أنْ یصدم الناس بحقیقة معاویة، ویریهم ما ستؤول إلیه الأُمور، من أنّ أهداف معاویة لا تعدو الاستیلاء علی السلطة بأیّ ثمنٍ کان، ولو کان بالقتل والتشرید، والتجویع والترهیب، وسیرون بأُمّ أعینهم أنّ معاویة ما عنده إلّا ً ولا ذمّة، ولا یفی بشروط ولا عهود، ولن یروا منه الأمانی التی کان یمنّیهم بها؛ لأنّ غرضه السلطة دون سواها، أملاً فی أنّ ذلک سوف یفتح عیون الناس من جدید، ویندمون علی ما قصّروا فی نصرة إمامهم، ویرجعون للطاعة، فیتمکّن الإمام من حکمهم وفق شرع الله تارةً أُخری؛ لذا لم یکن هناک تنازل دائم عن السلطة، بل کانت هناک هدنة بشروط معیّنة، تؤدّی بالنتیجة إلی عودة الخلافة لأصحابها.

ومن المهمّ أنْ نشیر إلی أنّ الشروط التی ذکرها المؤرّخون فیها بعض الاختلاف، وفیها نقائص وزیادات، لذا سنشیر مجملاً إلی بعض شروط الصلح ممّا ذکره أهل السیر والتاریخ، ثمّ نقف بنوعٍ من التفصیل عند الشرط الذی یتعلّق بموضوع الخلافة بعد معاویة.

فقد ذکر الشیخ المفید، بعض تلک الش_روط، وهی: «ترکُ سبّ أمیر المؤمنین(علیه السّلام)،

ص: 71

والعدول عن القنوت علیه فی الصلوات، وأن یُؤمن شیعته (رضی الله عنهم) ولا یتعرّض لأحدٍ منهم بسوء، ویوصل إلی کلّ ذی حقٍّ منهم حقّه»(1).

وذکر ابن الأعثم وغیره أنّ الشروط هی:

1_ أن یسلّم إلی معاویة الأمر، علی أنْ یعمل فیهم بکتاب الله، وسنّة نبیه محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وسیرة الخلفاء الصالحین.

2_ ولیس لمعاویة بن أبی سفیان أن یعهد لأحدٍ من بعده عهداً، بل یکون الأمر من بعده شوری بین المسلمین(2).

3_ وعلی أنّ الناس آمنون حیث کانوا من أرض الله، فی شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم.

4_ وعلی أنّ أصحاب علی(علیه السّلام) وشیعته آمنون علی أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم. وعلی معاویة بن أبی سفیان بذلک عهد الله ومیثاقه، وما أخذ الله علی أحدٍ من خلقه بالوفاء بما أعطی الله من نفسه.

5_ وعلی أنّه لا یبغی للحسن بن علی ولا لأخیه الحسین(علیهماالسّلام) ولا لأحدٍ من أهل بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) غائلةً سرّاً وعلانیة، ولا یخیف أحداً منهم فی أفق من الآفاق(3).

وقد جمع الشیخ راضی آل یاسین شتات شروط الصلح من مصادره المختلفة وذکرها بشکل مواد، فکانت بالشکل التالی:

المادة الأُولی: تسلیم الأمر إلی معاویة، علی أن یعمل بکتاب اللّه وبسنّة رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وبسیرة الخلفاء الصالحین.

ص: 72


1- المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص14.
2- وسیأتی مناقشة هذا الشرط بنحوٍ من التفصیل.
3- اُنظر: ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج4، ص291. وذکرها البلاذری بنحوٍ من الاختصار. اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص42.

المادة الثانیة: أن یکون الأمر للحسن من بعده، فإن حدث به حدث فلأخیه الحسین(علیه السّلام)، ولیس لمعاویة أن یعهد به إلی أحد.

المادة الثالثة: أنْ یترک سبَّ أمیر المؤمنین والقنوت علیه بالصلاة، وأن لا یذکر علیاً إلّا بخیر.

المادة الرابعة: استثناء ما فی بیت مال الکوفة، وهو خمسة آلاف ألف، فلا یشمله تسلیم الأمر، وعلی معاویة أن یحمل إلی الحسن(علیه السّلام) کلّ عام ألفی ألف درهم، وأن یفضّل بنی هاشم فی العطاء والصلات علی بنی عبد شمس، وأن یفرّق فی أولاد مَن قُتل مع أمیر المؤمنین(علیه السّلام) یوم الجمل وأولاد مَن قُتل معه بصفّین ألف ألف درهم، وأن یجعل ذلک من خراج دار أبجرد.

المادة الخامسة: علی أنّ الناس آمنون حیث کانوا من أرض اللّه، فی شامهم وعراقهم وحجازهم ویمنهم، وأن یؤمّنَ الأسود والأحمر، وأن یحتمل معاویة ما یکون من هفواتهم، وأن لا یتّبع أحداً بما مض_ی، وأن لا یأخذ أهل العراق بإحنة(1).

وقفة مع الشرط المتعلّق بالخلافة

اشارة

من الواضح أنّ المتأمّل فی شروط الصلح أعلاه سیتّضح له أنّ الش_رط المتعلّق بالخلافة هو من أهمّ البنود التی حوتها وثیقة الصلح؛ إذ علی أساسه یتعلّق مستقبل الخلافة الإسلامیة، وفی ضوئه یتبیّن هل أنّ الإمام الحسن(علیه السّلام) تنازل عن الخلافة نهائیّاً أم لفترة مؤقتة فرضتها علیه ظروف المرحلة، ومن خلاله سیتّضح هل أنّ حرکة الإمام الحسین(علیه السّلام) وقعت فی سیاق صلح الحسن، أم هی حرکة لا تربطها بالصلح أیّة رابطة تذکر، لذا أفردنا دراسة لهذا الش_رط علی حدة؛ لنری حقیقة الأمر فیه.

ص: 73


1- آل یاسین، راضی، صلح الحسن(علیه السّلام): ص259 _ 260.

فنقول: إنّ هذا الشرط وردت فیه صیاغات متعدّدة، وهی بحسب ما تتبّعناه ووقفنا علیه ثلاث صیغ:

الصیغة الأُولی: أنْ لیس لمعاویة أنْ یعهد لأحدٍ من بعده، وأنّ الأمر من بعده شوری للمسلمین.

الصیغة الثانیة: إنّ الخلافة من بعد معاویة تعود للإمام الحسن(علیه السّلام).

الصیغة الثالثة: إنّ الخلافة من بعد معاویة تعود للإمام الحسن(علیه السّلام)، فإنْ حدث به حدث، تعود للإمام الحسین(علیه السّلام).

هذه هی الصیغ التی وقفنا علیها فی کتب السِّیَر والتاریخ، والمتعلّقة بمصیر الخلافة بعد معاویة، فلا بد أنْ نضعها تحت طاولة البحث، فنقول:

الصیغة الأُولی:

وهی أنْ لیس لمعاویة أنْ یعهد لأحدٍ من بعده، وأنّ الأمر من بعده شوری للمسلمین.

وأهمّ المصادر التی وقفنا علیها، وقد نقلت هذه الصیغة هی: أنساب الأشراف للبلاذری(1)، والفتوح لابن الأعثم(2)، وشرح النهج لابن أبی الحدید نقلاً عن المدائنی(3). وکذلک أورد هذا الشرط محمّد بن طلحة الشافعی(4)، وابن حجر الهیتمی(5)، وابن الصبّاغ المالکی(6).

ص: 74


1- اُنظر: ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج4، ص291.
2- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص42.
3- اُنظر: ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج16، ص23.
4- اُنظر: الشافعی، محمد بن طلحة، مطالب السؤول فی مناقب آل الرسول: ص357.
5- اُنظر: ابن حجر الهیتمی، أحمد بن محمد، الصواعق المحرقة: ج2، ص399.
6- ابن الصباغ المالکی، علی بن محمد، الفصول المهمّة: ص729.

والملاحظ أنّ أقدم مصدر ذکر هذه الصیغة هو المدائنی المتوفّی (225ه_)، ولم نقف علی سندٍ لها، فهی مرسلة، والمصدر الثانی الذی ذکرها هو البلاذری المتوفّی (279ه_)، ولم یذکر سنده أیضاً، والمصدر الثالث هو ابن الأعثم المتوفی (314ه_) ومن دون سندٍ أیضاً، وربما اعتمد علی سابقیه فی ذلک، ثمّ نقلها بعض مَن جاء بعدهما، وغالب الظنّ أنّهم اعتمدوا علی هؤلاء فی نقلهم.

والخلاصة: إنّ هذه الصیغة لا تحضی بالقبول من الجهة السندیة؛ لأنّها مرسلة، لم نقف لها علی أی إسناد، ثمّ إنّه لو تنزّلنا عن مسألة الإسناد فی القضایا والأحداث التاریخیة، وقلنا بقبول حتی الروایات الضعیفة فی التاریخ، فإنّ ذلک مشروط بعدم اختلاف النقل، وعدم وجود معارض لها. أمّا مع وجود المعارض کما هو حاصل؛ إذ إنّ الصیغة الثانیة والثالثة تعارض الصیغة الأُولی بصورة صریحة؛ فلا بدّ حینئذٍ من ملاحظة أسانید تلک الصیغ وإجراء المرجّحات لنتعرف علی الصیغة الصحیحة، وسنعرف أنّ الصیغة الثانیة بطرقها ومتنها أصحّ وأسلم من الأُولی، فانتظر.

وأمّا ما یتعلّق بالمتن، فمن الواضح أنّ الصیغة الأُولی تتعارض مع المبادئ التی یؤمن بها الإمام الحسن(علیه السّلام)، فهو یعتقد أنّ الخلافة له دون غیره، وأراد قتال معاویة علی ذلک، فأجبرته الظروف علی الصلح، فلا معنی أنْ یتنازل عن حقّه حتّی بعد موت معاویة! خصوصاً أنّ البلاذری یذکر کتاب معاویة إلی الحسن(علیه السّلام)، المتضمّن شروط الصلح، وینصّ فیه معاویة علی أنّ الخلافة من بعده للحسن(علیه السّلام)(1)، لکن مع ذلک فإنّ الحسن یشترط فی کتاب الصلح أنْ تکون الخلافة شوری بعد معاویة! ولعلّ هذا من العجائب التی لا یمکن تصدیقها! أضف إلی ذلک فإنّ الحسن(علیه السّلام) یعتقد أنّ الخلافة أمر إلهی، وهی

ص: 75


1- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص41.

لأهل البیت(علیهم السّلام) دون غیرهم، ولا یعتقد بصحّة الشوری، فلإنْ ألجأته الظروف للتخلّی عن الحکومة السیاسیة لمعاویة فی وقتٍ معیّن، فلا مبرّر للتنازل عنها مطلقاً. والمتأمّل فی خُطبه وکذا مراسلاته مع معاویة، یجد أنّه یصرّح بما لا یقبل الشکّ بأنّ الخلافة لهم دون غیرهم، فلا معنی حینئذٍ أنْ تکون شروط الصلح بیده، ومع ذلک یتنازل عن حقّه بلا مبرر، ویشترطه أنْ یکون بعد معاویة شوری للمسلمین!

فقد نقل البلاذری والمدائنی _ واللفظ له _ أنّ الإمام الحسن(علیه السّلام) خطب فی الناس بعد وفاة والده(علیه السّلام)، فقال: «أیها الناس، اتقوا الله، فإنّا أمراؤکم وأولیاؤکم، وإنّا أهل البیت الذین قال الله تعالی فینا: « إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا »، فبایعه الناس»(1).

وأخرج الطبرانی بسندٍ رجاله ثقات(2)): إنّ الحسن(علیه السّلام) خطب فی أهل العراق بعد أنْ طعنه أحدهم بخنجر، فقال: «یا أهل العراق اتقوا الله فینا فإنّا أمراؤکم وضیفانکم، ونحن أهل البیت الذی قال الله (عزّ وجلّ): « إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا ». فما زال یومئذٍ یتکلّم حتی ما یُری فی المسجد إلّا باکیاً»(3).

وجاء فی أحد کتبه إلی معاویة، کما نقله ابن الأعثم والمدائنی _ واللفظ للثانی _: «فلمّا توفاه الله _ یعنی النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) _ تنازعت العرب فی الأمر بعده، فقالت قریش: نحن عشیرته وأولیاؤه، فلا تنازعونا سلطانه، فعرفت العرب لقریش ذلک، وجاحدتنا قریش ما عرفتْ لها العرب، فهیهات! ما أنصفتنا قریش، وقد کانوا ذوی فضیلة فی الدین، وسابقة فی الإسلام، ولا غرو إلّا منازعته

ص: 76


1- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص28. ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج16، ص22، عن المدائنی.
2- قال الهیثمی: «رواه الطبرانی ورجاله ثقات». الهیثمی، علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج9، ص172.
3- الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر: ج3، ص93. ابن أبی حاتم، عبد الرحمن بن محمد، تفسیر ابن أبی حاتم (تفسیر القرآن العظیم): ج9، ص3132.

(منازعتک) إیانا الأمر بغیر حقّ فی الدنیا معروف، ولا أثر فی الإسلام محمود، فالله الموعد...»(1).

وجاء فی الخرائج: «ثمّ کتب جواباً لمعاویة: إنّما هذا الأمر لی والخلافة لی ولأهل بیتی، وإنّها لمحرمة علیک وعلی أهل بیتک، سمعته من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، والله لو وجدت صابرین عارفین بحقّی غیر منکرین ما سلّمت لک ولا أعطیتک ما ترید»(2).

وروی الشیخ الصدوق بسنده عن أبی سعید عقیصاً قال: «قلت للحسن بن علی بن أبی طالب(علیهماالسّلام): یا بن رسول الله، لِمَ داهنت معاویة وصالحته، وقد علمت أنّ الحقّ لک دونه، وأنّ معاویة ضالّ باغٍ؟

فقال: یا أبا سعید! ألستُ حجّة الله (تعالی ذکره) علی خلقه، وإماماً علیهم بعد أبی(علیه السّلام)؟ قلت: بلی. قال: ألستُ الذی قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لی ولأخی: الحسن والحسین إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلی. قال: فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذ لو قعدت، یا أبا سعید علّة مصالحتی لمعاویة علّة مصالحة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لبنی ضمرة وبنی أشجع، ولأهل مکة حین انصرف من الحدیبیة، أولئک کفار بالتنزیل، ومعاویة وأصحابه کفار بالتأویل، یا أبا سعید، إذا کنت إماماً من قِبَل الله (تعالی ذکره) لم یجب أن یُسفّه رأیی فیما أتیته من مهادنة أو محاربة، وإنْ کان وجه الحکمة فیما أتیته ملتبساً»(3).

فهذه جملة من النصوص الشیعیة والسنیة تثبت أنّ الإمام الحسن(علیه السّلام) یعتقد بأحقیّته فی الخلافة.

فالصیغة الأُولی إذن تعانی من المشکلة السندیة، ومعارضة الصیغتین الأُخریین، ومتنها لا یتوافق مع توجّهات الإمام الحسن(علیه السّلام).

ص: 77


1- ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج16، ص24، عن المدائنی. ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج4، ص285.
2- الراوندی، قطب الدین، الخرائج والجرائح: ج2، ص576.
3- الصدوق، محمد بن علی، علل الشرائع: ص211.
الصیغة الثانیة:
اشارة

وهی أنّ الخلافة من بعد معاویة تعود للإمام الحسن(علیه السّلام).

هذه الصیغة وردت بأسانید معتبرة وصحیحة، وعلیها أکثر المؤرّخین وأصحاب السیر، بل ذکر ابن عبد البر عدم الخلاف فیها. نقف فیما یلی علی بعض النصوص فی ذلک:

قال ابن عبد البرّ: «ولا خلاف بین العلماء أنّ الحسن إنّما سلَّم الخلافة لمعاویة حیاته لا غیر، ثمّ تکون له من بعده، وعلی ذلک انعقد بینهما ما انعقد فی ذلک، ورأی الحسن ذلک خیراً من إراقة الدماء فی طلبها، وإنْ کان عند نفسه أحقّ بها»(1).

قال ابن حجر العسقلانی: «وذکر محمّد بن قدامة فی کتاب الخوارج، بسندٍ قوی إلی أبی بصرة أنّه سمع الحسن بن علیّ یقول فی خطبته عند معاویة: إنّی اشترطت علی معاویة لنفسی الخلافة بعده»(2).

وأخرج ابن أبی خیثمة، قال: حدّثنا هارون بن معروف، حدّثنا ضمرة، عن ابن شوذب، قال: «لمّا قُتل علیّ سار الحسن بن علیّ فی أهل العراق، ومعاویة فی أهل الشام، فالتقوا، فکرِه الحسن القتال، وبایع معاویة علی أنْ یجعل العهد للحسن من بعده، فکان أصحاب الحسن یقولون له: یا عار المؤمنین. فیقول: العار خیر من النار»(3).

فالخبر الأول قوّاه ابن حجر کما عرفنا، والخبر الثانی رواته کلّهم ثقات، إذ إنّ ابن أبی خیثمة _ وهو أحمد بن زهیر _ من الثقات المعروفین، رواه عن هارون بن معروف، وهو ثقةٌ أیضاً، وقد رواه عن ضمرة بن ربیعة، وهو ثقةٌ کذلک، وقد رواه عن عبد الله بن شوذب

ص: 78


1- ابن عبد البر، یوسف بن عبد الله، الاستیعاب: ج1، ص387.
2- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج13، ص56.
3- اُنظر: ابن حجر، أحمد بن علی، الإصابة: ج2، ص64. ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص45.

وهو ثقةٌ من العبّاد.

فالخبر صحیح کذلک، إلّا أنّ ابن شوذب لم یرَ الحسن(علیه السّلام)، فالخبر مرسل صحیح، وذلک غیر ضارّ لأمرین:

الأوّل: إنّه یصلح أنْ یکون شاهداً قویاً علی الخبر الآخر الذی قوّاه ابن حجر.

الثانی: إنّ عبد الله بن شوذب من الثقات العبّاد، وهو هنا ینقل قصّة عایشها آباؤه وأجداده وکبار مجتمعه؛ إذ إنّه من کبار أتباع التابعین، فمن المؤکّد أنّه أخذ تلک القصّة من مجتمع قد عاش تلک الفترة وعرف أحداثها، وأکثرهم من التابعین، فهو أخذ تلک التفاصیل واستقاها من مجتمع بأسره کان یتداولها ویتناقلها، فلیس الموضوع عبارة عن روایة قد یکون تفرّد بها راوٍ معیّن فیکون الإرسال مضرّاً بها، بل إنّما نتحدّث عن أهمّ حدث تاریخی کان فی تلک الفترة وهو صلح بین أکبر قوتین، وأکبر حاکمین علی الأرض فی وقتهما، فلا شکّ أنّها کانت معروفة بتفاصیلها فی تلک الفترة، فإرسال ابن شوذب لها لوضوحها ومعرفتها فی تلک الأوساط؛ ولذا فإنّ ابن شوذب یتبنّی ذلک الموقف وینقله بنحو الأمر المسلّم المقطوع به.

ونضیف أیضاً: إنّ هذا الشرط قال به أحمد بن حنبل، فعن صالح بن أحمد بن حنبل، قال: «سمعت أبی یقول: بایع الحسنَ تسعون ألفاً، فزهد فی الخلافة وصالح معاویة، ببذله له تسلیم الأمر علی أنْ تکون الخلافة له بعده، وعلی أنْ لا یُطلَب أحد من أهل المدینة والحجاز والعراق بشیء ممّا کان من أیّام أبیه، وغیر ذلک»(1).

ونقل ابن حجر قولَ ابن سعد: «وأخبرنا عبد الله بن بکر السهمی، حدّثنا حاتم بن أبی صغیرة، عن عمرو بن دینار، قال: وکان معاویة یعلم أنّ الحسن أکره الناس للفتنة، فراسله

ص: 79


1- الصالحی الشامی، محمد بن یوسف، سبل الهدی والرشاد: ج11، ص67.

وأصلح الذی بینهما، وأعطاه عهداً: إنْ حدث به حدث والحسن حیّ لیجعلنّ هذا الأمر إلیه»(1).

وهذا السند صحیح، رجاله ثقات، غیر أنّ عمرو بن دینار لم یدرک أحداث تلک الفترة؛ إذ إنّ ولادته فی حدود سنة 46 للهجرة، فخبره صحیح مرسل، لکنّه کسابقه شاهد قویّ علی صحّة هذا الشرط.

وفی الإمامة والسیاسة: «فاصطلح معه علی أنّ لمعاویة الإمامة ما کان حیّاً، فإذا مات فالأمر للحسن»(2).

وذکر السیوطی أنّ الحسن(علیه السّلام) بذل لمعاویة تسلیم الأمر علی أنْ تکون الخلافة له من بعده(3).

وفی أنساب البلاذری: أنّ معاویة کتب إلی الحسن(علیه السّلام): «إنّی صالحتک علی أنّ لک الأمر من بعدی». وکذلک یذکر أنّ معاویة دفع إلی الحسن صحیفة بیضاء وقد ختم فی أسفلها، وقال له: «اکتب فِیهَا مَا شئت». لکنّه یذکر بعد ذلک تناقضاً یصعب القبول به، وهو أنّ الحسن(علیه السّلام) اشترط أنْ یکون الأمر شوری بعد معاویة(4). وهو أمر فی غایة الغرابة، ویتنافی مع کلّ مبادئ الحسن(علیه السّلام)، فمعاویة بنفسه یعطیه الخلافة من بعده، لکن الحسن(علیه السّلام) یرفض ذلک ویجعلها شوری!

وذکر ابن حجر الهیتمی هذا الشرط أیضاً، وأنّ الخلافة للإمام الحسن(علیه السّلام) من بعد معاویة، وأنّ معاویة فوّض الإمام الحسن(علیه السّلام) فی کتابة الشروط، وبعث إلیه برقٍّ أبیض، وقال: اُکتب ما شئت فیه، فأنا ألتزمه، وقال بعده: «کذا فی کتب السِّیَر»، أی أنّ ابن حجر

ص: 80


1- ابن حجر، أحمد بن علی، الإصابة: ج2، ص65.
2- ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص140.
3- اُنظر: السیوطی، عبد الرحمن بن أبی بکر، تاریخ الخلفاء: ص191.
4- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص41 _ 42.

اعتمد فی ذلک علی عدّة کتب فی السیر، کلها ذکرت هذا الشرط، والتفویض من معاویة للإمام الحسن(علیه السّلام) فی کتابة ما یشاء من الشروط، ثمّ إنّ ابن حجر ذکر ما فی صحیح البخاری عن الحسن البصری من أنّ معاویة أرسل رجلین إلی الحسن یطلب منه الصلح والهدنة، «فما سألهما شیئاً إلّا قالا: نحن لک به؛ فصالحه»، لکنّ ابن حجر یعود ویذکر کتاب الصلح، فیذکر أنّ الشرط هو أنْ تکون الخلافة بعد معاویة شوری بین المسلمین(1).

وهو تهافتٌ واضح وصریح، لا ینسجم مع ما ذکره من اشتراط الإمام الحسن(علیه السّلام) أنْ تکون الخلافة له، ولا مع المجریات والأحداث التی ذکرها ابن حجر نفسه.

وذکر هذا الشرط أیضاً، البری فی الجوهرة فی نسب الإمام علی(علیه السّلام)(2).

فاتّضح إذاً أنّ ابن عبد البر ذکر عدم خلاف العلماء علی هذا الشرط، وذکره ابن حجر من کتاب ابن قدامة وقوّی سنده، وأخرجه ابن أبی خیثمة بسند صحیح مرسل، وأخرجه ابن سعد بسند صحیح مرسل، وبه قال أحمد بن حنبل، والبرّی، وابن قتیبة، واضطربت عبارات البلاذری والهیتمی فیه.

وإذا ما عرفنا أنّ هذا الشرط ینسجم تماماً مع اعتقاد الإمام الحسن(علیه السّلام) فی أنّ الإمامة مختصّة بأهل البیت(علیهم السّلام) حصراً، وأنّ الخلافة بعد علیّ هی له، ولیست لمعاویة بأیّ وجهٍ من الوجوه، اتّضح أنّ هذا الشرط هو الأولی بالقبول والاعتماد، فهو مقدّم متناً وسنداً علی الشرط الأوّل.

وقفة مع الدکتور محمّد عبد الهادی الشیبانی

من الواضح أنّ اشتراط الإمام الحسن(علیه السّلام) فی وثیقة الصلح أنْ تکون الخلافة له بعد موت معاویة تعنی بطلان خلافة یزید، وعودة الخلافة إلی أهل البیت(علیهم السّلام) ، وهذا ما یبرّر

ص: 81


1- اُنظر: ابن حجر الهیتمی، أحمد بن محمد، الصواعق المحرقة: ج2، ص399.
2- اُنظر: البری، محمد بن أبی بکر، الجوهرة فی نسب الإمام علی: ص26.

للإمام الحسین(علیه السّلام) التحرّک؛ باعتبار أنّ الخلافة مغتصبة، وهذا الأمر لا یعجب بعض الأقلام التی تنطلق من موقف عقائدی مسبق، ولا ترید أنْ تقرأ التأریخ بتجرّد وتأنّی، لتصل من خلاله إلی حقائق، بل یقرأُونه لیسقطوه علی عقیدتهم القبلیة؛ لذا فمن المؤسف ما نراه ممَّا تُسمّی برسائل علمیة، وهی لا تمتّ للعلم بصلة، بل هدفها دفاع عن عقیدةٍ مسبقة، ولو لزم ذلک لیّ أعناق الروایات والأخبار، فنلاحظ أنّ الدکتور محمّد عبد الهادی الشیبانی فی رسالته المدافعة عن یزید، والتی تحمل عنوان: (مواقف المعارضة فی عهد یزید) یتعرّض لشروط الصلح، ویذکر قول ابن عبد البرّ فی عدم خلاف العلماء فی هذا الشرط، ویذکر الروایات الصحیحة والمعتبرة علی هذا الش_رط، ویشیر إلی أنّ هناک طرقا أُخری لم تشترط هذا الش_رط، لکنّه سرعان ما یتنکّر لما نقله، ویتبنّی عدم اشتراط الإمام(علیه السّلام) لذلک، بلا أدلّة علمیة، متجاهلاً فی ذلک أقوال الإمام الحسن(علیه السّلام) فی أحقیّته بالخلافة، وضارباً عرض الجدار قول ابن عبد البر والأخبار الصحیحة فی ذلک، بدعوی تُضحک الثکلی، فاعتبر کلام عبد البر وإطلاقه التعمیم وهماً لا أکثر؛ لأنّه اعتمد فی دعواه علی تلک الروایات فقط!

وهذا تسفیه منه لعالمٍ کبیر مثل ابن عبد البر، فکیف یُطلق هکذا دعوی جزافاً استناداً إلی بعض الأخبار! ومن دون أنْ تکون بین یدیه أقوال العلماء فی ذلک.

ثمّ إنّه اعتبر تلک الأخبار _ والتی قال بصحّتها _ أنّها مجرد إشاعات أطلقها أنصار العلویین، مستنداً فی ذلک إلی روایة جبیر بن نفیر، قال: «إنّ الناس یزعمون أنّک ترید الخلافة، فقال: کانت جماجم العرب بیدی یسالمون مَن سالمت، ویحاربون مَن حاربت، فترکتها ابتغاء وجه الله، ثمّ أبتزّها بأتیاس أهل الحجاز»(1).

ولیت المؤلّف یخبرنا کیف أنّ جماجم العرب کانت بیده، ولماذا صالح الإمام(علیه السّلام) بعد ما

ص: 82


1- المزی، یوسف، تهذیب الکمال: ج6، ص250.

سار بجیشه للقتال فی بادئ الأمر؟ ویبدو أنّ المؤّلف أخذته العصبیة فنسی ما قاله قبل ذلک؛ حیث ذکر أنّ جیش الإمام الحسن(علیه السّلام)، کان متفرّقاً متخاذلاً، همّه السلب والنهب، فقد ذکر فی الصفحات (135 إلی 137) حوادث ما جری فی جیش الإمام الحسن(علیه السّلام)، وأنّه نادی منادٍ: إنّ قیس بن سعد قائد الجیش قد قُتل، فانتُهبت سرادق الحسن(علیه السّلام) حتی نازعوه بساطاً تحته، وطعنه رجلٌ من الخوارج فی ورکه طعنةً خطیرة، ثمّ قال: «فغالب الجند کانوا من الأعراب الذین لم یتغلغل فی قلوبهم الإیمان، وإنّما هدفهم الوحید هو النهب والسلب والقتل، فلیسوا بأهل مبادئٍ وأهدافٍ سامیة... ومن المعلوم أنّ أیّ جیش تسیطر علیه روح السّلب والنهب، ولیس لدی أفراده الامتثال والطاعة للقائد؛ فمن المستحیل تحقیق أی انتصار بهذا الجیش».

إذاً؛ الدکتور بنفسه یتبنّی أنّ جیش الإمام الحسن(علیه السّلام) کان مفکّکاً، ومن المستحیل تحقیق أی انتصار به، فلیخبرنا إذاً هل کان الحسن بیده جماجم العرب، أو بیده جیش تسیطر علیه روح السلب والنهب(1)؟! فما هذا التناقض الذی نراه فی صفحات متقاربة،

ص: 83


1- وهنا نحن نناقش الدکتور فیما یخصّ الفقرة أعلاه بما یتبنّاه هو نفسه، وبما هو مشهور عند الفریقین من تفکّک جیش الإمام(علیه السّلام) وتقاعسه عن القتال، بغضّ النظر عن الرأی الآخر الذی یری قوّة جیش الإمام(علیه السّلام) وتماسکه. علی أنّنا نری أنّ الرأی الآخر الذی یتبنی قوّة جیش الإمام(علیه السّلام) إمّا لا یصمد أمام التحقیق العلمی، أو لا یتنافی مع اشتراط الخلافة؛ لأنّ الاعتقاد بقوّة جیش الإمام(علیه السّلام) إنْ کان ناشئاً من روایة جبیر المص_رّحة بتنازله عن الخلافة، وعدم رغبته بالعود إلیها، فهو لا یصمد أمام التحقیق؛ لاقتضائه تقدیم روایات اشتراط الخلافة، لورود أخبار صحیحة بها، ولأنّها تتوافق مع تص_ریح الحسن(علیه السّلام) بإمامته، ولمخالفتها للسیر التاریخی الذی یُنبئ عن تململ کبیر فی جیش الإمام(علیه السّلام) الذی کان عبارة عن خلیط غیر متجانس، وغیر مقتصر علی شیعته المعتقدین بإمامته. ومن الواضح أنّ المؤلّف اعتمد علی روایة جبیر المتقدّمة، وهی لا تصمد عند المعارضة کما أوضحنا، هذا أوّلاً. وثانیاً: هی مخالفة لرأی المؤلّف نفسه وما یتبناه من تفکّک جیش الإمام(علیه السّلام) وضعفه. وإن کان الاعتقاد بقوّة جیش الإمام الحسن(علیه السّلام) ناشئاً من تحلیل آخر لمجریات الأُمور، وبغضّ النظر عن روایة جبیر، فهذا لا یتنافی مع اشتراط الخلافة، بل هو الأوفق بالاشتراط، ویتناغم وینسجم مع اعتقاد الإمام(علیه السّلام) بأحقیّته وأولویته بالخلافة؛ إذ لا مبرّر مع قوّته وسیطرته علی الأوضاع أنْ یتنازل مطلقاً عن حقٍّ یعتقد أنّه أمرٌ إلهی، وأنّه أولی به من غیره، کما صرّح بذلک مراراً وفی خطبٍ عدیدة.

أفهل نس_ی المؤلف ما قاله، أو أنّ اشتراط الخلافة تُطیح برسالته من الأساس، وتُثبت أنّ یزید تسلّم الخلافة بصورة غیر شرعیة، فهو باغٍ مدّعٍ ما لم یستحقّ، ومتسلّط علی المسلمین بغیر وجه حقٍّ؟! ثمّ لو فرضنا أنّ روایة جبیر صحیحة متناً وسنداً، فهی تتعارض مع عدّة أخبار _ بینها الصحیح أیضاً _ تدلّ علی اشتراط الخلافة للحسن! فبأیّ وجهٍ جمع الأستاذ بین الروایات؟! ولماذا تغافل خطابات الإمام الحسن(علیه السّلام) ونصوصه المؤکّدة علی أولویته فی الخلافة، والتی بطبیعة الحال ترجّح الاشتراط دون غیره؟!

ولعلّ الأغرب من ذلک أنّه ذکر روایة لا تذکر شروط الصلح أبداً، بل تشیر إلی أنّ هناک شروطاً ما، وخرج منها بنتیجة أنّ الإمام الحسن(علیه السّلام) لم یشترط!

قال: ولکنّنا نستطیع أنْ نؤلّف بین ذلک الخلاف (یعنی الخلاف فی الاشتراط وعدمه) من خلال الروایة التی ذکرها الحافظ ابن حجر: «أخرج یعقوب بن سفیان، بسندٍ صحیح إلی الزهری، قال: کاتَبَ الحسن بن علی معاویة، واشترط لنفسه، فوصلت الصحیفة لمعاویة، وقد أرسل إلی الحسن یسأله الصلح، ومع الرسول صحیفةٌ بیضاء مختومٌ علی أسفلها، وکتب إلیه أن اشترط ما شئت فهو لک، فاشترط الحسن أضعاف ما کان سأل أوّلاً، فلمّا التقیا وبایعه الحسن، سأله أن یعطیه ما اشترط فی السجل الذی ختم معاویة فی أسفله؛ فتمسّک معاویة إلّا ما کان الحسن سأله أوّلاً، واحتجّ بأنّه أجاب سؤاله أوّل ما وقف علیه، فاختلفا فی ذلک، فلم ینفّذ للحسن من الشرطین شیء»(1).

وهذه الروایة تؤکّد أنّ للحسن شروطاً معیّنة فی بادئ الأمر، ثمّ وصلته صحیفة بیضاء مختومة من معاویة، یخوّل فیها الحسن اشتراط ما شاء، فاشترط الامام(علیه السّلام) أضعاف ما کان شرطه أوّلاً، ثمّ تنصّل معاویة من ذلک، واختلفا ولم یفِ له بشیء. فهل تجد عزیزی القارئ

ص: 84


1- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج13، ص55.

أنّ الخبر یدل علی عدم اشتراط الإمام الحسن(علیه السّلام) للخلافة من بعد معاویة، فالمؤلّف _ ما شاء الله علیه _ خرج من هذه الروایة بنتیجة یعجز کلّ خرِّیتی الفن أنْ یفهموها، فقال بعد الخبر بلا فاصل یُذکر ما نصّه: «وبهذا یتبیّن أنّ مسالة خلافة الحسن بعد معاویة لم تکن ضمن الش_روط، وربّما أشیعت بقصد تلافی ردّة الفعل عند أتباعه، تهدئة لنفوسهم»(1).

ونترک التعلیق للقارئ؛ لیری بنفسه کیف أنّ الحقیقة تُحرّف، وکیف أنّ النصوص تؤوَّل، بل إنّ النتائج تُکتب بمعزل عمّا تدلّ علیه الأخبار؛ لأنّها مسلّمة مسبقاً.

وکما أشرنا سابقاً، فإنّ المؤلّف اضطرّ إلی رفض هذا الش_رط؛ لأنّه یطیح بمشروعیة خلافة یزید، ویُعطی المشروعیة لثورة الحسین(علیه السّلام)، وهذا ما أشار إلیه المؤلّف نفسه حین قال _ وهو یؤکّد نفی هذا الشرط _: «فلو کان الأمر کما تذکر الروایات عن ولایة عهد الحسن بعد معاویة، لاتخذها الحسین بن علی حجّة، وقال: أنا أحقّ بالخلافة، ولکن لم نسمع شیئاً من ذلک علی الإطلاق»(2).

فالمؤلّف _ إذاً _ ملتفت جیّداً إلی أنّ هذا الاشتراط یعطی الحجیّة للإمام الحسین(علیه السّلام) فی التحرّک، ویسلب شرعیة یزید؛ لذا سعی لإنکاره بلا وجوه علمیة تُذکر، مؤیّداً کلامه باستبعاد أنْ یکون الش_رط موجوداً، ولم یستخدمه الإمام الحسین(علیه السّلام) فی الاحتجاج به.

لکنّ استبعاده هذا غیر صحیح؛ لعدّة أُمور:

أوّلاً: لو فرضنا _ جدلاً _ عدم وصول احتجاج من الإمام الحسین(علیه السّلام) بخلافته وإمامته، فذاک لا یعنی عدم احتجاجه اقعاً بها؛ لأنّ التاریخ لم یصلنا بتمامه وکماله، وقد کُتب بأیدی موافقة للخط الأُموی، ومخالفة لنهج أهل البیت(علیه السّلام)، فلا نتوقّع أنْ یصل فیه کلّ ما حصل وحدث، فقد یکون الحسین(علیه السّلام) احتجّ بهذا الشرط وادعّی الخلافة ولم یصل

ص: 85


1- اُنظر: الشیبانی، محمد بن عبد الهادی، مواقف المعارضة فی عهد یزید: ص134_ 142.
2- المصدر السابق: ص143.

إلینا، فلا یمکن أنْ نسقط الأخبار الصحیحة المؤکّدة لحصول الش_رط فی قبال أمر احتمالی، فعدم وصول الاحتجاج لا یساوق عدم الاحتجاج واقعاً، فیبقی الأمر محتملاً لا یمکننا أنْ نتمسّک به، ولا نستطیع نفیه فی الواقع، فتبقی الأخبار الصحیحة حجّة علینا فی قراءة التاریخ والتعامل معه.

ثانیاً: نحن لا نسلّم أنّه لم یصل شیء من ذلک کما ادّعی المؤلّف، فسیأتی فی الصیغة الثالثة أنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) احتجّ فی عدم مبایعته لیزید باشتراط الإمام الحسن(علیه السّلام) الخلافة له ثمّ للحسین(علیه السّلام) من بعده.

ثالثاً: سیأتی متفرّقاً فی البحث عدّة خطابات للإمام الحسین(علیه السّلام) تؤکّد أنّ الخلافة له، فهذه الخطب وإنْ لم تتعرّض للش_رط، لکنّها تص_رّح بجوهر الموضوع، وهی أنّ الخلافة للحسین(علیه السّلام) فی وقته.

فتحصّل أنّ اشتراط الإمام الحسن(علیه السّلام) أنْ تکون الخلافة له ثابت بالأخبار الصحیحة، ومحاولة الدکتور المذکور إنکار ذلک هی محاولة بائسة، هدفها إضفاء الشرعیة علی خلافة یزید لیس إلّا.

الصیغة الثالثة:

إنّ للإمام الحسن(علیه السّلام) ولایةَ الأمر من بعد معاویة، فإنْ حدث به حدث فللحسین(علیه السّلام).

وهذا الشرط لم نعثر علیه، إلّا فی مصدرین فقط، وهما عمدة الطالب لابن عنبه، حیث جاء فیه: «وشرط علیه شروطاً إنْ هو أجابه إلیها سلّم إلیه الأمر، منها أنّ له ولایة الأمر بعده، فإن ْحدث به حدث فللحسین»(1).

ص: 86


1- ابن عنبة، أحمد بن علی، عمدة الطالب فی أنساب آل أبی طالب: ص67.

والفتوح لابن الأعثم، حینما ذکر کلاماً للإمام الحسین(علیه السّلام) مع ابن الزبیر ورد فیه هذا الشرط، فقد جاء فی الفتوح: «فقال له ابن الزبیر: فاعلم یا بن علی أنّ ذلک کذلک، فما تری أن تصنع إن دُعیت إلی بیعة یزید _ أبا عبد الله _ ؟ قال: أصنع أنّی لا أُبایع له أبداً؛ لأنّ الأمر إنّما کان لی من بعد أخی الحسن(علیه السّلام)، فصنع معاویة ما صنع، وحلف لأخی الحسن أنّه لا یجعل الخلافة لأحدٍ من بعده من ولده، وأنْ یردّها إلیّ إنْ کنتُ حیّاً، فإنْ کان معاویة قد خرج من دنیاه ولم یفئ لی ولا لأخی الحسن بما کان ضمن، فقد والله أتانا ما لا قوام لنا به، اُنظر _ أبا بکر _ أنّی أُبایع لیزید! ویزید رجل فاسق، معلن الفسق، یشرب الخمر، ویلعب بالکلاب والفهود، ویبغض بقیة آل الرسول!! لا والله لا یکون ذلک أبداً»(1).

وعند التأمّل؛ فإنّ هذا الشرط یتنافی مع الصیغة الأولی، لکنّه لا یتنافی مع الصیغة الثانیة، إذ یمکن الجمع بین الاثنین بأنْ تکون الخلافة للحسن(علیه السّلام)، فإنْ تُوفّی فللحسین(علیه السّلام)، کما أنّ هذا الشرط یتناسب تماماً مع المبادئ والعقائد التی یؤمن بها الحسن(علیه السّلام)، فهو یؤمن بأنّ الإمامة فی أهل البیت(علیهم السّلام) کما أشرنا، فکان من الطبیعی أنْ یشترط عودتها للمسار الذی أراده الله، وهو کون الخلافة بعد الحسن للإمام الحسین(علیه السّلام)، هذا بحسب النصّ الإلهی الذی یؤمن به الإمام(علیه السّلام)، ولو تنزّلنا عن ذلک، فإنّ الخلافة للإمام الحسین(علیه السّلام) أیضاً، وذلک من جهة المکانة والمقام الذی یحضی به الإمام الحسین(علیه السّلام)، فإذا ما عرفنا أنّ الشروط کانت بید الحسن(علیه السّلام) یکتب ما یشاء، کان طبیعیاً أنْ یشترط کون الخلافة من بعده للإمام الحسین(علیه السّلام).

فاتّضح أنّ الذی یتناسب مع موقف الإمام الحسن(علیه السّلام)، والمؤیدّ من قبل نصوص تاریخیة أیضاً أنّ شرط الإمام الحسن(علیه السّلام) علی معاویة هو عودة الخلافة إلیه، ومن بعده للإمام الحسین(علیه السّلام).

ص: 87


1- ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص12.

ص: 88

المبحث الثالث: مشروعیة عقد المعاهدة بین طرفین شرعی وآخر غیر شرعی

اشارة

کلّ معاهدة لو أُرید لأطرافها الإلتزام، ومن ثمّ مؤاخذة الناکث، لا بدّ أنْ تکون صحیحة ومؤطّرة بأُطر شرعیة أو قانونیة یؤمن بها الفریقان، فالهدنة فی مجتمع إسلامی، یرفع حکّامه شعار الإسلام لا بدّ أنْ تستمدّ مش_روعیتها، من الإسلام، والهدنة فی مجتمع مدنی لا یؤمن بقوانین الإسلام، لا بدّ أنْ تستمدّ مشروعیتها من القانون الذی یؤمنون به.

وإذا ما رجعنا إلی عص_ر الإمام الحسن(علیه السّلام) ومعاویة، فلا شکّ أنّ الشعار الإسلامی هو المرفوع آنذاک، بل إنّ الخلاف هو فی خلافة الأمّة الإسلامیة، وحیث إنّ الإمام الحسن(علیه السّلام)، ومَن یعتقد بإمامته یری بطلان حکم معاویة، وإنّه باغٍ متخلّف عن بیعة إمام زمانه وشاقٍّ لعصا المسلمین، وبالنتیجة فهو لا یحمل المشروعیة فی حکمه وخلافته، فحینئذٍ قد یُطرح السؤال التالی وهو:

إذا کانت خلافة معاویة لیست شرعیة، فکیف یمکن إقامة هدنة مع طرف غیر مشروع، وما هی الأطر الشرعیة لهذه الهدنة؟

وفی الحقیقة أنّ تأمّلاً بسیطاً فی سیاسة النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وسیرته یعطیک جواباً شافیاً علی هذا التساؤل، فالنبیّ حینما کان قائداً وحاکماً للإمّة الإسلامیة، کان هو الذی یرسم السیاسات ویشخّص المصالح التی تصب فی خدمة الأُمّة الإسلامیة والمفاسد التی تحیط بها، کما أنّ قوله وفعله وتقریره یمثل الش_رع الإلهی، ویکفینا حینئذٍ أنْ نعرف أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أقام هدنة

ص: 89

مع المشرکین مع أنّه لا یعتقد بشرعیتهم، ففی الحدیبیة مثلاً حین منع المش_رکون النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وقومه من دخول البیت للاعتمار، رأی النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أنّ المصلحة الإسلامیة تقتضی الصلح مع المشرکین، وفق شروط معیّنة، ومن هذه الش_روط: أنّ مَن یأتی إلی النبیّ یردّه إلیهم، ومَن یأتیه منهم لا یردّونه إلیه: «فاشترطوا علی النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم) إنّ مَن جاء منکم لم نردّه علیکم، ومَن جاءکم منّا رددتموه علینا، فقالوا: یا رسول الله أنکتب هذا؟ قال: نعم، إنّه من ذهب منّا إلیهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سیجعل الله له فرجاً ومخرجاً»(1).

وقد ولّد هذا الصلح ریبة وشکّاً عند بعض الصحابة، وعلی رأسهم عمر بن الخطاب، حیث قال حینها: «یا رسول الله، ألسنا علی حقّ وهم علی باطل؟ قال: بلی. قال: ألیس قتلانا فی الجنة وقتلاهم فی النار؟ قال: بلی. قال: ففیمَ نعطی الدنیة فی دیننا، ونرجع ولما یحکم الله بیننا وبینهم؟! فقال: یا بن الخطاب، إنّی رسول الله ولن یضیعنی الله أبداً. قال: فانطلق عمر فلم یصبر متغیّظا، فأتی أبا بکر، فقال: یا أبا بکر، ألسنا علی حقّ وهم علی باطل؟ قال: بلی. قال ألیس قتلانا فی الجنة وقتلاهم فی النار؟ قال: بلی. قال: فعلامَ نُعطی الدنیة فی دیننا، ونرجع ولمّا یحکم الله بیننا وبینهم؟ فقال: یا بن الخطاب، إنّه رسول الله، ولن یضیّعه الله أبداً»(2).

وفی صحیح ابن حبّان وغیره، أنّه قال: «والله، ما شککت منذ أسلمت إلّا یومئذٍ»(3).

بل إنّ الصحابة لم یستوعبوا الموقف، فبعد أنْ تمّ کتابة الکتاب، قال رسول الله لأصحابه: «قوموا فانحروا ثمّ أحلقوا، قال: فوالله، ما قام منهم رجل حتّی قال ذلک ثلاث مرات، فلمّا لم یقم منهم أحد، دخل علی أُمّ سلمة، فذکر لها ما لقی من الناس...»(4).

ص: 90


1- النیسابوری، مسلم بن الحجاج، صحیح مسلم: ج5، ص175.
2- المصدر السابق: ج5، ص175.
3- ابن حبان، محمد، صحیح ابن حبّان: ج11، ص224. الصنعانی، عبد الرزاق بن همام، المصنف: ج5، ص339.
4- البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج3، ص182.

والغرض أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أقام الصلح، ولم یکترث بمخالفة الصحابة وامتعاضهم من ذلک؛ لأنّه أدری وأعرف بالمصلحة منهم، وأنّ الصلح جائز حتی لو کان فیه بعض الأضرار، مادامت هناک مصلحة عُلیا فیه؛ ولذا فإنّ الشوکانی یذکر عدّة استنتاجات من هذا الصلح، منها: «إنّ مصالحة العدو _ ببعض ما فیه ضیم علی المسلمین _ جائزة للحاجة والضرورة، دفعاً لمحذور أعظم منه»(1).

وحینئذٍ؛ فإنّ الإمام الحسن(علیه السّلام) هو الخلیفة الشرعی فی وقته، وهو المسؤول عن رسم سیاسات الأُمّة، فلمّا رأی أنّ المصلحة تتطلّب إقامة الصلح، وإنّ استمرار القتال سیؤدّی إلی قتله وقتل الثلّة المخلّصة من أتباعه، من دون أنْ یکون لذلک أثر یُذکر؛ وافق علی الصلح ضمن شروط تعید الحقّ إلیه، وتفضح سیاسة معاویة وتکشف حقیقة أمره.

فالصلح یکتسب المشروعیة من جهة أنّ الخلیفة والحاکم هو المسؤول عن رسم سیاسات الأُمّة، ویقوم بما تملیه علیه المصالح والمفاسد، وتأسّیاً بما عمله الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) مع المشرکین فی وقته.

وقد سبقه إلی الهدنة أبوه علیّ(علیه السّلام)، حینما اضطرّته الظروف للقبول بمهزلة التحکیم ووقْف القتال، فبعد أنْ التزم ذلک ورضی به، رفض العودة لقتال أهل الشام، مادام التحکیم لم یقع بعد، ولم تتّضح صورته.

وقد أعاد التأریخ نفسه، فاضطر الإمام الحسن(علیه السّلام) لعقد الصلح وسط رفض بعض أصحابه، وامتعاضهم من ذلک، وقد بیّن لهم الإمام الحسن(علیه السّلام) أنّ ذلک من أجل الحفاظ علیهم، وأنّ المصلحة تقتضی ذلک، بل واستشهد فی بعض أجوبته بصلح النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ونحن هنا ننقل صورة واحدة من ذلک توخیّاً للاختصار، فقد روی الشیخ الصدوق عن

ص: 91


1- الشوکانی، محمد بن علی، نیل الأوطار: ج8، ص190.

أبی سعید عقیصا، قال: «قلت للحسن بن علی بن أبی طالب: یا بن رسول الله، لمَ داهنت معاویة وصالحته، وقد علمت أنّ الحقّ لک دونه، وأنّ معاویة ضالٌّ باغٍ؟ فقال: یا أبا سعید، ألستُ حجّة الله (تعالی ذکره) علی خلقه، وإماماً علیهم بعد(1) أبی(علیه السّلام)؟ قلت: بلی. قال: ألست الذی قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لی ولأخی: الحسن والحسین إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلی. قال: فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذ لو قعدت، یا أبا سعید، علّة مصالحتی لمعاویة علّة مصالحة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لبنی ضمرة وبنی أشجع، ولأهل مکة حین انص_رف من الحدیبیة، أولئک کفار بالتنزیل، ومعاویة وأصحابه کفار بالتأویل، یا أبا سعید، إذا کنت إماماً من قبل الله (تعالی ذکره) لم یجب أن یُسفّه رأیی فیما أتیته من مهادنة أو محاربة، وإن کان وجه الحکمة فیما أتیته ملتبساً، ألا تری الخضر(علیه السّلام) لمّا خرق السفینة، وقتل الغلام، وأقام الجدار سخط موسی(علیه السّلام) فعله؛ لاشتباه وجه الحکمة علیه، حتی أخبره فرضی، هکذا أنا، سخطتم علی بجهلکم بوجه الحکمة فیه، ولولا ما أتیت لما تُرک من شیعتنا علی وجه الأرض أحدٌ إلّا قُتل»(2).

هل تنازل الإمام الحسن(علیه السّلام) عن إمامته؟

إلّا أنّه قد یُقال: إنّ الإمامة إذا کانت بالنصّ الش_رعی، وأنّها مختصّة بأهل البیت(علیهم السّلام) ، فکیف جاز للإمام(علیه السّلام) التنازل عن حقّ أوکله الله به؟

والجواب: هذا خلط بین الإمامة الثابتة بالنصّ، وبین الخلافة السیاسیة التی هی أحد وظائف الإمام(علیه السّلام)، فأهل السنّة یعدّون الإمامة والخلافة السیاسیة شیئاً واحداً، بمعنی أنّ الإمام عندهم إنّما هو الخلیفة السیاسی، فیرون أنّ التنازل عن الخلافة السیاسیة هو تنازل

ص: 92


1- وردت هذه الزیادة (بعد) فی ما نقله صاحب البحار عن علل الشرائع. انظر: المجلس_ی، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص2.
2- الصدوق، محمد بن علی، علل الشرائع: ص211.

عن الإمامة، وهو یتنافی مع کونها أمراً إلهیاً، لا دخل للبشر فی تحدیدها وتعیینها.

لکنّ الإمامة عند الشیعة تمتلک مفهوماً أوسع، فالإمام مسؤول عن حفظ الشریعة، وإلیه تکون مرجعیة الأُمّة فی شؤونها الفکریة والثقافیة، ومنه تستقی الأحکام والعقائد وکلّ ما یمتّ للش_ریعة بصلة، کما أنّه المسؤول عن بیان القرآن وأحکامه. وهکذا. فالإمامة هی امتداد لمنصب النبوة، وغیر مختصّة بالخلافة السیاسیة، لکنّ الخلافة السیاسیة کما کانت إحدی وظائف الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فکذلک هی إحدی وظائف الإمام(علیه السّلام).

ومنه یتّضح أنّ الإمام(علیه السّلام) لم یتنازل عن الإمامة، بل الإمامة ثابتة له بالنص، والناس کانت ترجع إلیه وتسأله، وتستقی منه معارفها، لکنّه تنازل عن أحد وظائفه المتعلّقة بطاعة الأُمّة له؛ إذ لا یمکن تطبیق الحکومة مع کون الجماهیر رافضة لذلک، ومیّالة للباطل، ولم یکن یمتلک العدّة الکافیة للدخول فی قتال یفضی إلی النصر، ولو آجلاً، بل إنّ القتال لو حصل لأفضی إلی قتله وقتل أخیه، وقتل الثلّة الصالحة من أتباعه؛ لذا قبل بالصلح وتنازل مؤقّتاً عن منصب الخلافة السیاسیة لا غیر، ولم یتنازل عن الإمامة.

وقد یحاول البعض أنْ یصوّر أنّ ما جری هو تنازل من الإمام الحسن(علیه السّلام) عن الخلافة لیس إلّا، فلیس له حق الرجوع به لاحقاً، وهذا الأمر غیر صحیح بالمرّة، فإنّ التنازل الذی جری إنّما هو بناءً علی صلح وهدنة، ضمن شروط معیّنة، ولم یکن تنازلاً محضاً عن الخلافة فحسب، وغیر متعلّق ولا مرتبط بأیّ أمرٍ آخر؛ ولذلک کُتبت وثیقة الصلح بین الفریقین، وتضمنّت عدّة شروط، ووقّع علیها الشهود، فلو کان الموضوع عبارة عن تنازل محض لا یمکن الرجوع فیه، فلا معنی حینئذٍ لکلّ ما کتبوه، ولا معنی لحضور الشهود، ولا معنی للبنود التی تضمّنتها الوثیقة، فإنّ کلّ ذلک یوضّح: إنّ ما جری کان عبارة عن معاهدة ووثیقة بین الطرفین تکون ملزمة لهما طبق ما توافقوا علیه بها.

هذا ما یتعلّق بمشروعیة الهدنة فی جانبها الش_رعی، أمّا لو أردنا إخضاع الهدنة إلی

ص: 93

الجانب القانونی، بمعنی إسقاط الوضع القانونی القائم علی هکذا هدنة، فمن الواضح أیضاً أنّها تستمدّ المش_روعیة وفق قوانین الأُمم المتحدة، وغیرها من القوانین المعروفة، ولا أدلّ علی ذلک ممّا نشاهده الیوم من اتفاقیات ومفاوضات بین الطرف الشرعی والطرف الآخر، سواء کان محتلاً أو متمرّداً. فکثیراً ما نری الحکومات تعقد هدنة مع المتمرّدین لوقف القتال فترة معیّنة، أو لتشکیل حکومة أُخری وفق انتخابات ضمن شرائط خاصّة، ولا نرید أنْ ندخل بذکر أمثلة، أو نقول إنّ المفاوضات لها شرعیة معیّنة، بل الغرض أنّ القوانین الوضعیة القائمة هذا الیوم تُقرّ المفاوضات والاتفاقیات بین الأطراف المختلفة، ولو کان أحدها یمثل الشرعیة والآخر عدمها، ومن ثَمّ ترتّب الآثار علی الطرف غیر الملتزم بتلک الاتفاقیة.

علی أنّه لو قلنا إنّ الهدنة بین طرف شرعی وآخر غیر شرعی لیس لها ما یسوّغها قانوناً، فهذا یعنی بطلانها وعدم ترتّب الأثر علیها، وهو یعنی قانونیة خلافة الإمام الحسن(علیه السّلام)، وبطلان خلافة معاویة وفق القانون الوضعی أیضاً.

ص: 94

المبحث الرابع : معاویة وإخلاله بشروط الصلح

الظاهر أنّ هناک شبه إجماع من علماء التاریخ والسیر علی أنّ معاویة نکث العهد والمیثاق، ولم یلتزم بتلک الاتفاقیة، وأخلّ بشروطها:

قال ابن حجر: «وأخرج یعقوب بن سفیان بسندٍ صحیح إلی الزهری، قال: کاتب الحسن ابن علیّ معاویة واشترط لنفسه، فوصلت الصحیفة لمعاویة، وقد أرسل إلی الحسن یسأله الصلح، ومع الرسول صحیفة بیضاء مختوم علی أسفلها، وکتب إلیه أن اشترط ما شئت فهو لک، فاشترط الحسن أضعاف ما کان سأل أولاً، فلمّا التقیا وبایعه الحسن سأله أنْ یعطیه ما اشترط فی السجل الذی ختم معاویة فی أسفله، فتمسّک معاویة إلّا ما کان الحسن سأله أولاً، واحتجّ بأنّه أجاب سؤاله أوّل ما وقف علیه، فاختلفا فی ذلک، فلم ینفّذ للحسن من الشرطین شیء»(1).

وأخرج ابن أبی شیبة، قال: حدّثنا أبو معاویة، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن سعید بن سوید قال: «صلّی بنا معاویة الجمعة بالنخیلة فی الضحی، ثمّ خطبنا، فقال: ما قاتلتکم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزکّوا، وقد أعرف أنّکم تفعلون ذلک، ولکن إنّما قاتلتکم لأتأمّر علیکم، وقد أعطانی الله ذلک، وأنتم له کارهون»(2).

وفی أنساب الأشراف للبلاذری: «قالوا: ثمّ قام معاویة فخطب الناس، فقال فی خطبته:

ص: 95


1- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج13، ص56.
2- ابن أبی شیبة، عبد الله بن محمد، المصنف: ج7، ص251.

ألا إنّی کنت شرطت فی الفتنة شروطاً، أردت بها الأُلفة، ووضع الحرب، ألا وإنّها تحت قدمی!»(1).

وروی أبو الحسن المدائنی، قال: «خرج علی معاویة قومٌ من الخوارج بعد دخوله الکوفة وصلح الحسن(علیه السّلام) له، فأرسل معاویة إلی الحسن(علیه السّلام) یسأله أن یخرج فیقاتل الخوارج، فقال الحسن: سبحان الله! ترکت قتالک وهو لی حلال لصلاح الأُمّة، وأُلفتهم، أفترانی أُقاتل معک! فخطب معاویة أهل الکوفة، فقال: یا أهل الکوفة، أترونی قاتلتُکم علی الصلاة والزکاة والحجّ، وقد علمتُ أنّکم تصلّون وتُزکّون وتحجّون، ولکنّنی قاتلتکم لأتأمّر علیکم وعلی رقابکم، وقد آتانی الله ذلک وأنتم کارهون، ألا إنّ کلّ مالٍ أو دمٍ أُصیب فی هذه الفتنة فمطلول، وکلّ شرط شرطته فتحت قدمیّ هاتین»(2).

وأمّا أبو إسحاق السبیعی، فقال: «إنّ معاویة قال فی خطبته بالنخیلة: ألا إنّ کلّ شیء أعطیته الحسن بن علی تحت قدمیّ هاتین لا أفی به».

قال أبو إسحاق: «وکان والله غدّاراً»(3).

قال أبو الحسن: وکان الحصین بن المنذر الرقاشی یقول: «والله، ما وفی معاویة للحسن بشیء ممّا أعطاه، قتل حجراً وأصحاب حجر، وبایع لابنه یزید، وسمّ الحسن»(4).

فما ذکرناه یبیّن أنّ معاویة کان هدفه الملک والسلطان، ولم یفِ للإمام الحسن(علیه السّلام) بأیّ شرط. وهناک مصادر لم تذکر التعمیم، بل ذکرت بعض الشروط التی لم یفِ بها معاویة، من قبیل عدم سبّ أمیر المؤمنین(علیه السّلام)، وتسلیم خراج دار أبجرد، فقد قال ابن الأثیر، وبنحوه أبو الفداء: «وکان الذی طلب الحسن من معاویة أن یعطیه ما فی بیت مال الکوفة،

ص: 96


1- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص44.
2- ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج16، ص14. واُنظر: المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص14، ذکر خطبته فی النخیلة.
3- اُنظر: ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج16، ص46.
4- المصدر السابق: ج16، ص17.

ومبلغه خمسة آلاف، وخراج دار أبجرد من فارس، وأن لا یشتم علیّا، فلم یجبه إلی الکفّ عن شتم علی، فطلب أنْ لا یُشتم وهو یسمع فأجابه إلی ذلک، ثمّ لم یفِ له به أیضاً، وأمّا خراج دارأبجرد فإنّ أهل البص_رة منعوه منه، وقالوا: هو فیؤنا، لا نعطیه أحداً. وکان منعُهُم بأمر معاویة أیضاً»(1).

ویکفی فی عدم تطبیق معاویة لشروط الصلح أنّه جعل الخلافة من بعده فی ابنه یزید، وقد عرفنا أنّ المصادر اتّفقت علی عدم حقّ معاویة فی ذلک؛ إذ حسب ما ذکرنا فإنّ الش_رط إمّا عودة الخلافة للإمام الحسن(علیه السّلام) أو أنْ تکون شوری، وعلی کلا التقدیرین فإنّ معاویة لم یفِ بذلک.

ص: 97


1- ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص405. أبو الفداء، إسماعیل، المختص_ر فی أخبار البشر (تاریخ أبی الفداء): ج1، ص183.

ص: 98

المبحث الخامس: الأثر المترتّب علی مخالفة الهدنة شرعاً وقانوناً

عرفنا فیما تقدّم أنّ الخلافة بعد عثمان کانت لعلیّ(علیه السّلام)، وقد أعلن معاویة عدم خضوعه، واستقلّ بخلافة الشام، وقد دعاه الإمام(علیه السّلام) للطاعة فلم ینفع، ثمّ کانت صفّین وما آلت إلیه من مهزلة التحکیم، وغدر ابن العاص بأبی موسی، وتفکّک جیش الإمام(علیه السّلام) وتکاسلهم عن الجهاد بعد ذلک، ثمّ بُویع للإمام الحسن(علیه السّلام) وأراد قتال معاویة مجدّداً؛ لاستمراره بالخروج عن الش_رعیة، وعدم خضوعه للخلافة المنتخبة، لکنّ میول الناس للدِّعة والراحة، ومکر معاویة حال دون ذلک، فکان الصلح والهدنة ضمن شروط تُمکِّن الإمام الحسن(علیه السّلام) من أنْ یُعید الخلافة إلی مسارها الصحیح.

فمعاویة إذاً، لم یکن یکسب الشرعیة فی زمن الإمام علی(علیه السّلام)، ثمّ لم یکسب الشرعیة فی أوّل خلافة الإمام الحسن(علیه السّلام)، ثمّ وقع الصلح ضمن شروطٍ نکثها معاویة فیما بعد، فعادت الأُمور إلی سابق عهدها؛ فهو قَبْل الهدنة باغٍ شاقٌّ لعصا المسلمین، ثمّ نکث الشروط وأفصح عن حقیقة مطالبه، وهی الحکم والسلطان، فهو خارج عن الشرعیة مجدّداً، ویحقّ للإمام الحسین(علیه السّلام) قتاله.

فاتّضح إذاً، إنّ معاویة بمخالفته الهدنة، بل وإعلانه أنّ هدفه هو الملک والسلطان، والاستیلاء علی رقاب الناس، لم یبقَ له الحقّ الش_رعی ولا القانونی فی البقاء علی سدّة الحکم.

ص: 99

وإذا کان معاویة خارجاً عن الشرعیة، فمن باب أولی أنْ تکون خلافة یزید غیر شرعیة أیضاً، فکان لا بدّ من عودة الخلافة إلی الإمام الحسین(علیه السّلام) وفق ما ذکرناه فی شروط الهدنة، وحینئذٍ یحقّ للإمام الحسین(علیه السّلام) الخروج علی یزید من الوجهتین الشرعیة والقانونیة؛ إذ لا مبرّر لخلافة معاویة، ولا لخلافة یزید، بعد نکث معاویة لشروط الهدنة مع الإمام الحسن(علیه السّلام)، أی أنّ نفس الش_رعیة التی أقرّ بها الجمیع فی قتال الإمام علی(علیه السّلام) لمعاویة باعتباره باغیاً وخارجاً عن الخلافة، هی نفسها تسوّغ للإمام الحسین(علیه السّلام) الخروج علی معاویة، وکذلک علی یزید.

ولربّ قائلٍ أنْ یقول: إنّه إذا کان للإمام الحسین(علیه السّلام) حقّ قتال معاویة، فلماذا لم یخرج، وانتظر موت معاویة، ثمّ خرج فی عهد یزید، خصوصاً أنّ شیعة العراق تحرّکت نحو الإمام الحسین(علیه السّلام)، وکتبوا إلیه فی خلع معاویة والبیعة له، «فامتنع علیهم، وذکر أنّ بینه وبین معاویة عهداً وعقداً لا یجوز له نقضه، حتّی تمض_ی المدّة، فإن مات معاویة نظر فی ذلک»(1)؟

والجواب عن ذلک هو أنْ نقول: إنّ الظروف التی أجبرت الإمام الحسن(علیه السّلام) علی الصلح وترک القتال هی هی الظروف التی منعت الإمام الحسین من قتال معاویة؛ فمعاویة بعد الصلح أصبح هو الخلیفة علی کافّة المسلمین، وله سطوة أکبر، وقادر علی بث الإشاعات والإیحاء للناس بخلاف الحقائق، ونکثه للصلح لم یکن کافٍ لوحده للانقضاض علی حکمه، فذلک یحتاج إلی إعلام وافر، یوصل صوت الحقیقة إلی جمیع المسلمین، والحال إنّ الإعلام بید السلطة، وقیادة الجیش بیدها، فالتحرّک فی عهد معاویة لا یؤدّی إلی نص_رٍ آنی، ولا مستقبلی، فمعاویة بدهائه، وبقوّة سلطانه، وکونه من الصحابة، سیُطیح بأیّ ثورة تخرج ضدّه، بل قد یصوّر للناس أنّ الثائر هو الشاقّ لعصا المسلمین،

ص: 100


1- المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص32. نقلاً عن الکلبی والمدائنی.

والمفرِّق لکلمتهم، وبذلک تفقد الثورة أیّ قیمةٍ لها، خصوصاً أنّه یلوّح بورقة الصلح التی یمتلکها، فنکثه للصلح لا یمکن أنْ یصل إلی جمیع أصقاع المجتمع الإسلامی، مع أنّ الجانب الإعلامی _ وهو الأهمّ فی هکذا أُمور _ کان بید السلطة، فمن الممکن أنْ یشیع معاویة أنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) نکث العهد، وخالف الشروط، وخرج للقتال، فلا یبقی لثورته أیّ قیمة یمکن أنْ تؤثر بالمجتمع وتهزّ ضمیره. فالحسین(علیه السّلام) یبحث عن ثورة صافیة، لا یمکن أنْ تُلصق بها أیّ شائبة؛ ولذا حین وصلت لمعاویة بعض الوشایات حول استعداد الإمام الحسین(علیه السّلام) للتحرّک، کتب إلیه معاویة کتاباً لوّح فیه باستخدام ورقة الصلح، جاء فیه: «أمّا بعد، فقد انتهت إلیّ أُمور عنک لست بها حریاً؛ لأنّ من أعطی صفقة یمینه جدیرٌ بالوفاء، فاعلم رحمک الله إنّی متی أُنکرک تستنکرنی، ومتی تکدنی أکِدک، فلا یستفزنّک السفهاء الذین یحبّون الفتنة. والسلام»(1).

فظروف المجتمع الإسلامی التی ما زالت علی حالها، ولم یطرأ علیها ذلک التغیّر الکبیر، الذی یهیّء للثورة. وسلطة معاویة وسیطرته علی کافّة مناطق المجتمع الإسلامی، کانت تؤهّله فی بث الأخبار التی یریدها، ویمکّنه من خلالها تشویه أیّ ثورة تخرج ضدّه، خصوصاً مع إمکان تلویحه بالصلح، هذه الأُمور تعدّ فی مقدّمة الأسباب التی منعت الحسین(علیه السّلام) من الثورة علی معاویة.

أضِف إلی ذلک أنّ أحد أهمّ الشروط فی الصلح کان لم یُنقض بعد، وهو أنّ الخلافة تعود إلی طریقها الطبیعی بعد موت معاویة، فتکون للحسن(علیه السّلام)، ثمّ للحسین(علیه السّلام)، فلم یکن معاویة فی وقتها قد بایع لولده یزید بولایة العهد.

وبعد البیعة لولده بولایة العهد بدأت علامات الرفض من المجتمع الإسلامی

ص: 101


1- الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص225. واُنظر: الطوسی، محمد بن الحسن، اختیار معرفة الرجال (رجال الکشی): ج1، ص252.

لسیاسة معاویة، وکان الحسین(علیه السّلام) أوّل المعارضین، وعارض معه عبد الرحمن بن أبی بکر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبیر، وسیأتی بیان ذلک لاحقاً إن شاء الله.

وبقیت المعارضة خلال هذه الفترة علی أُوجها، إلی أنْ تُوفّی معاویة، فکانت الظروف مهیّئة لمعارضة یزید والوقوف بوجهه، وهو ما حصل علی أرض الواقع.

والنتیجة؛ إنّه علی ضوء شروط الصلح، ومخالفة معاویة لذلک، فإنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) له الحقّ الشرعی فی الخروج، مع تحقّق الظروف المناسبة لذلک.

ص: 102

خلاصةٌ ونتائج

اتّضح ممّا قدمناه أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لم یترک أمر هذه الأُمّة سدی، بل عیّن الخلفاء من بعده، وهم اثناعشر خلیفة، أوّلهم علیّ(علیه السّلام)، وآخرهم المهدیّ(عجل الله تعالی فرجه الشریف)، لکنّ الأُمّة وبعد وفاة الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، تنصّلت من عهده، فکان أوّل انحراف فی مسارها هو اجتماع السقیفة، والذی بانت فیه الص_راعات القبلیة والحزبیة، وانتهی إلی تنصیب أبی بکر خلیفة علی المسلمین، من دون إجماعٍ للأُمّة، بل ومن دون استشارة أهل الحلّ والعقد، ثمّ إنّ الخلیفة أبا بکر نصّ علی عمر من دون مشورة المسلمین، بل مع رفضهم لذلک؛ الأمر الذی یکشف عن عدم مسیرهم علی نظریة واضحة فی مسألة الخلافة، فتارة ببیعة ناقصة، وأُخری بتنصیب مخالف لإرادة المسلمین.

لم یسِر عمر بالمسلمین علی جادّة الصواب، وله مخالفات کثیرة للسُّنة النبویة، وختمها بنظریة جدیدة فی الخلافة، إذ جعلها بین ستّة، مع ترجیح کفّة عبد الرحمن بن عوف عند تساوی الطرفین.

انتهت هذه المهزلة الجدیدة بتنصیب عثمان خلیفة علی المسلمین، والذی ابتعد کثیراً عن جادّة الصواب؛ ممّا أدّی بالأُمّة الإسلامیة أنْ تثور علیه ثورة عارمة أودت بقتله.

توجّهت الجماهیر صوب علیّ(علیه السّلام) تطالبه بتولّی الخلافة، وإقامة العدل الذی ضُیّع من قبل مَن سبقوه. تسلّم علیّ(علیه السّلام) الخلافة، وبدأ بإجراءاته العادلة، فأقص_ی ولاة عثمان، وفرّق المال بالتساوی بین المسلمین، وأرجع الإقطاعات والهدایا التی بذلها عثمان من بیت مال المسلمین.

واجه علیّ فی سیاسته اعتراضات الطبقة المُترفة والمنتفعة من حکم عثمان؛ ممّا أدّی إلی نشوب حرب أولی بینه وبین مناوئی عدالته، والذین تستّروا بلباس المطالبة بدم عثمان،

ص: 103

فکانت الجمل، وکانت آلاف القتلی من المسلمین.

کما أنّ معاویة لم یخضع لحکم علیّ(علیه السّلام) بنفس الستار المتقدّم، وهو المطالبة بدم عثمان، فأراد علیّ إعادته إلی الطاعة، فکانت حرب صفین، التی کادت تقض_ی علی ید الفتنة والتفرقة لو لا مکائد معاویة وابن العاص فی رفعهم المصاحف، وما تلاها من غشّ وتلاعب فی قضیة التحکیم، التی ساهمت فی تفتیت جیش الإمام(علیه السّلام)، وأدّت إلی حرب ثالثة مع الخوارج، الذین انشقّوا عن جیش الإمام(علیه السّلام).

لم تُسفر حرب صفین عن إرجاع معاویة عن غیّه، بل إنّ مهزلة التحکیم والتلاعب الذی جری بها لم یُسفر عن نتیجة مرضیة، ولم یتوحّد المسلمون علی خلیفة یجمعهم، فبقی علیّ وأتباعه فی جانب، والشام بحکم معاویة فی جانبٍ آخر.

استشهد علیّ فی مسجد الکوفة بغدر خارجی، واتجهت الناس صوب الإمام الحسن(علیه السّلام) وبایعته علی الخلافة، وأخذ(علیه السّلام) یُعِدّ العدّة لإرجاع معاویة عن غیّه، وإجباره علی الدخول فی الطاعة، لکنّ مکر معاویة وتخاذل جیش الإمام(علیه السّلام) أدّی بالإمام أن یقبل بالصلح مع معاویة، وفق شروط عدیدة، أهمّها عودة الخلافة إلیه، ومن ثمّ إلی أخیه الحسین(علیه السّلام) من بعده.

لم یفِ معاویة بش_روط الهدنة، ممّا یعنی استمراره فی غیّه، وشقّه لعصا المسلمین، خصوصاً بتولیته ولده یزید خلیفة علی المسلمین، وهذا الأمر أعطی الحقّ الشرعی والقانوی للإمام الحسین(علیه السّلام) فی الخروج، سواء کان علی معاویة أو یزید.

وبعد أنْ کان الحق للإمام الحسین(علیه السّلام) فی الخروج، فهو لم یرَ أنّ الظروف کانت مواتیة للثورة مادام معاویة حیّا، مع امتلاکه شرعیة وقانونیة الخروج؛ إذ لا شرعیّة تُذکر لمعاویة خصوصاً بعد نکثه لشروط الصلح والهدنة، ورأی أنّ الظروف مواتیة للثورة فی عهد یزید.

والنتیجة أنّ صلح الإمام الحسن(علیه السّلام) شرعن إعادة الخلافة لأصحابها، وشرعن الخروج علی مغتصبی الخلافة.

ص: 104

الفصل الثالث: مشروعیة الثورة فی ضوء عدم مشروعیة الحاکم

اشارة

ص: 105

ص: 106

تمهید

اتّضح من خلال ما تقدّم أنّ معاویة کان باغیاً خارجاً علی إمام زمانه، ولم یخضع للطاعة، وبقی الأمر کذلک، حتّی وقع الصلح بینه وبین الإمام الحسن(علیه السّلام) ضمن شروط معیّنة، لکنّه خالف الش_روط ولم یلتزم بها، وأعلن هدفه الحقیقی الذی یسعی وراءه، وهو التسلّط علی رقاب المسلمین، وعلیه فإنّه بقی خارجاً عن الشرعیة، ویترتّب علی ذلک عدم شرعیة أفعاله التی منها: تولیته ولده یزید علی رقاب المسلمین.

وفی هذا الفصل نرید التدرّج فی البحث، ونغضّ الطرف عن النقطة السابقة، ونری هل أنّ یزید تتوفّر فیه صفات الحاکم الإسلامی، وهل تمتلک خلافته أُسساً شرعیة یستند علیها؛ لذا سیکون هذا الفصل ناظراً إلی مش_روعیة الثورة من هذه الزاویة دون غیرها.

ص: 107

ص: 108

المبحث الأول: صفات الحاکم وشروطه فی الإسلام (نظرة مختصرة)

بعد أنْ عرفنا سابقاً أنّ وجود الحاکم یعدّ ضرورة لکلّ مجتمع من المجتمعات، نرید أنْ نتعرّف فی هذا المبحث علی المواصفات والش_رائط التی یتحلّی بها الحاکم فی الإسلام، لذا سنذکر بعض الکلمات فی ذلک:

1_ قال الماوردی: «وأمّا أهل الإمامة، فالشروط المعتبرة فیهم سبعة:

أحدها: العدالة علی شروطها الجامعة.

والثانی: العلم المؤدّی إلی الاجتهاد فی النوازل والأحکام.

والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان؛ لیصح معها مباشرة ما یدرک بها.

والرابع: سلامة الأعضاء من نقص یمنع عن استیفاء الحرکة وسرعة النهوض.

والخامس: الرأی المفضی إلی سیاسة الرعیة وتدبیر المصالح.

والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدیة إلی حمایة البیضة وجهاد العدو.

والسابع: النسب، وهو أنْ یکون من قریش؛ لورود النصّ فیه، وانعقاد الإجماع علیه»(1).

2_ قال ابن خلدون: «وأمّا شروط هذا المنصب، فهی أربعة: العلم والعدالة والکفایة وسلامة الحواس والأعضاء، ممَّا یؤثّر فی الرأی والعمل، واختلف فی شرط خامس وهو النسب القرشی.

ص: 109


1- الماوردی، علی بن محمد، الأحکام السلطانیة: ص6.

فأمّا اشتراط العلم فظاهر؛ لأنّه إنّما یکون منفذاً لأحکام الله تعالی إذا کان عالماً بها، وما لم یعلمها لا یصحّ تقدیمه لها، ولا یکفی من العلم إلّا أن یکون مجتهداً؛ لأنّ التقلید نقص، والإمامة تستدعی الکمال فی الأوصاف والأحوال.

وأمّا العدالة، فلأنّه منصب دینی، ینظر فی سائر المناصب التی هی شرط فیها، فکان أولی باشتراطها فیه، ولا خلاف فی انتفاء العدالة فیه بفسق الجوارح من ارتکاب المحظورات وأمثالها. وفی انتفائها بالبدع الاعتقادیة خلاف. وأمّا الکفایة، فهو أن یکون جریئاً علی إقامة الحدود، واقتحام الحروب، بصیراً بها، کفیلاً یحمل الناس علیها، عارفاً بالعصبیة وأحوال الدهاء، قویّاً علی معاناة السیاسة...»(1).

3_ قال العلامة الحلّی: «الأوّل: أنْ یکون مکلّفاً...

الثانی : أنْ یکون مسلماً؛ لیراعی مصلحة المسلمین والإسلام، ولیحصل الوثوق بقوله، ویصح الرکون إلیه، فإن غیر المسلم ظالم، وقد قال الله تعالی: «وَلَا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا » (2).

الثالث: أنْ یکون عدلاً؛ لما تقدّم، فإنّ الفاسق ظالم، ولا یجوز الرکون إلیه والمصیر إلی قوله؛ للنهی عنه فی قوله تعالی: «وَلَا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا »؛ ولأنّ الفاسق ظالم، فلا ینال مرتبة الإمامة، لقوله تعالی: «لَا یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ » (3).

الرابع : أن یکون حرّاً...

الخامس: أن یکون ذَکَراً...

السادس: أن یکون عالماً؛ لیعرف الأحکام ویعلّم الناس، فلا یفوت الأمر علیه بالاستفتاء والمراجعة.

ص: 110


1- ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون: ص193.
2- هود: آیة113.
3- البقرة: آیة124.

السابع: أن یکون شجاعاً؛ لیغزو بنفسه، ویعالج الجیوش، ویقوی علی فتح البلاد، ویحمی بیضة الإسلام.

الثامن: أن یکون ذا رأی وکفایة؛ لافتقار قیام نظام النوع إلیه.

التاسع: أن یکون صحیح السمع والبصر والنطق؛ لیتمکّن من فصل الأُمور.

وهذه الشرائط غیر مُختلف فیها.

العاشر: أن یکون صحیح الأعضاء، کالید والرجل والأُذن.

وبالجملة اشتراط سلامة الأعضاء من نقصٍ یمنع من استیفاء الحرکة وسرعة النهوض، وهو أوّل قولیّ الشافعیة.

الحادی عشر: أن یکون من قریش؛ لقوله(علیه السّلام): الأئمّة من قریش. وهو أظهر قولی الشافعیة، وخالف فیه الجوینی...

الثانی عشر: یجب أن یکون الإمام معصوماً عند الشیعة؛ لأنّ المقتض_ی لوجوب الإمامة ونصب الإمام جواز الخطأ علی الأُمّة، المستلزم لاختلال النظام، فإنّ الض_رورة قاضیة بأنّ الاجتماع مظنّة التنازع والتغالب...

الثالث عشر: أنْ یکون منصوصاً علیه من الله تعالی، أو من النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، أو ممَّن ثبتت إمامته بالنصّ فیهما...

الرابع عشر: أن یکون أفضل أهل زمانه؛ لیتحقّق التمیّز عن غیره، ولا یجوز عندنا تقدیم المفضول علی الفاضل، خلافاً لکثیر من العامّة؛ للعقل والنقل...

الخامس عشر: أن یکون منزّهاً عن القبائح؛ لدلالة العصمة علیه، ولأنّه یکون مستحقّاً للإهانة والإنکار علیه، فیسقط محلّه من قلوب العامّة، فتبطل فائدة نصبه، وأن یکون منزّهاً عن الدناءات والرذائل، کاللعب، والأکل فی الأسواق، وکشف الرأس بین الناس، وغیر ذلک ممَّا یسقط محلّه ویوهن مرتبته، وأن یکون منزّها عن دناءة الآباء وعهر الأُمّهات، وقد خالفت العامّة

ص: 111

فی ذلک کلّه»(1).

4_ قال سعد الدین التفتازانی: «ویشترط أنْ یکون مکلّفاً مسلماً عدلاً حرّاً ذکراً مجتهداً شجاعاً، ذا رأی وکفایة سمیعاً بصیراً ناطقاً قریشیاً»(2).

فهذه جملة من الشرائط التی ذکروها فیمَن یجب أنْ یتولّی الخلافة، سواء کانت عند السنّة أو عند الشیعة، ولسنا هنا بصدد تحقیق هذه الشرائط خارجاً، بل غرضنا البحث عن مدی تحقّق هذه الش_رائط من عدمها عند یزید بن معاویة.

لکن رأینا من الضروری أنْ نلقی قلیلاً من الضوء علی شرطین مهمّین فی الخلافة، وهما العلم بمعنی الاجتهاد، وکذا العدالة.

أمّا شرط العلم بمعنی الاجتهاد، فمضافاً لما ذکرناه، فقد قال الشاطبی: «إنّ العلماء نقلوا الاتّفاق علی أنّ الإمامة الکبری لا تنعقد إلّا لمَن نال رتبة الاجتهاد والفتوی فی علوم الشرع»(3).

وقال الجوینی: «فالشرط أنْ یکون الإمام مجتهداً بالغاً مبلغ المجتهدین مستجمعاً صفات المفتین، ولم یُؤثَر فی اشتراط ذلک خلاف»(4). وقال: «من شرائط الإمام أنْ یکون من أهل الاجتهاد، بحیث لا یحتاج إلی استفتاء غیره فی الحوادث، وهذا متّفق علیه»(5).

وقال القلقشندی، وهو یذکر شروط الإمامة: «الثانی عشر: العلم المؤدّی إلی الإجتهاد فی النوازل والأحکام، فلا تنعقد إمامة غیر العالم بذلک؛ لأنّه محتاج لأنْ یص_رف الأمور علی النهج القویم ویجریها علی الص_راط المستقیم، ولأن یعلم الحدود، ویستوفی الحقوق، ویفصل الخصومات

ص: 112


1- العلّامة الحلّی، الحسن بن یوسف، تذکرة الفقهاء: ج9، ص393 _ 397.
2- التفتازانی، مسعود بن عمر، شرح المقاصد فی علم الکلام: ج2، ص271.
3- الشاطبی، إبراهیم بن موسی، الاعتصام: ج2، ص362.
4- الجوینی، عبد الملک بن عبد الله، غیاث الأُمم فی التیاث الظلم: ص84.
5- الجوینی، عبد الملک بن عبد الله، الإرشاد: ص426.

بین الناس، وإذا لم یکن عالماً مجتهداً لم یقدر علی ذلک»(1).

وأمّا العدالة، فقد نصّ علیها غیر واحد من أهل العلم، قال القاضی عیاض: «ولا تنعقد لفاسقٍ ابتداءً»(2).

وقال القرطبی: «ولا خلاف بین الأُمّة فی أنّه لا یجوز أنْ تُعقد الإمامة لفاسق»(3).

وقال الماوردی: «فأمّا الجرح فی عدالته، وهو الفسق، فهو علی ضربین:

أحدهما: ما تابع فیه الشهوة.

والثانی: ما تعلّق فیه بشبهة.

فأمّا الأوّل منهما فمتعلّق بأفعال الجوارح، وهو ارتکابه للمحظورات وإقدامه علی المنکرات تحکیماً وانقیاداً للهوی، فهذا فسق یمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا طرأ علی من انعقدت إمامته خرج منها»(4).

وقال القلقشندی:

«العاشر: العدالة فلا تنعقد إمامة الفاسق وهو المُتابع لشهوته، المُؤثر لهواه من ارتکاب المحظورات، والإقدام علی المنکرات؛ لأنّ المراد من الإمام مراعاة النظر للمسلمین والفاسق لم ینظر فی أمر دینه، فکیف ینظر فی مصلحة غیره»(5).

وقد استدلّ جمهور الفقهاء والمتکلّمین علی اشتراط العدالة فی الإمام، بقوله تعالی: « قَالَ إِنِّی جَاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّیَّتِی قَالَ لَا یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ » (6).

ص: 113


1- القلقشندی، أحمد بن علی، مآثر الأناقة: ج1، ص37.
2- اُنظر: النووی، یحیی بن شرف، شرح صحیح مسلم: ج12، ص229.
3- القرطبی، محمد بن أحمد، الجامع لأحکام القرآن (تفسیر القرطبی): ج1، ص270.
4- الماوردی، علی بن محمد، الأحکام السلطانیة: ص18.
5- القلقشندی، أحمد بن علی، مآثر الأناقة: ج1، ص36.
6- البقرة: آیة124.

قال الشوکانی: «وقد استدلّ بهذه الآیة جماعة من أهل العلم علی أنّ الإمام لا بدّ أنْ یکون من أهل العدل والعمل بالشرع کما ورد؛ لأنّه إذا زاغ عن ذلک کان ظالماً»(1).

وقال الفخر الرازی: «قال الجمهور من الفقهاء والمتکلّمین: الفاسق حال فسقه لا یجوز عقد الإمامة له، واختلفوا فی أنّ الفسق الطارئ هل یبطل الإمامة أو لا؟ واحتجّ الجمهور علی أنّ الفاسق لا یصلح أنْ تُعقد له الإمامة بهذه الآیة، ووجه الاستدلال بها من وجهین:

الأول: ما بیّنا أنّ قوله: « لَا یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ » جوابٌ لقوله: « وَمِنْ ذُرِّیَّتِی »، وقوله: « وَمِنْ ذُرِّیَّتِی » طلب للإمامة التی ذکرها الله تعالی، فوجب أنْ یکون المراد بهذا العهد هو الإمامة، لیکون الجواب مطابقاً للسؤال، فتصیر الآیة کأنّه تعالی قال: لا ینال الإمامة الظالمین، وکلّ عاصٍ فإنّه ظالم لنفسه، فکانت الآیة دالّة علی ما قلناه.

الثانی: أنّ العهد قد یُستعمل فی کتاب الله بمعنی الأمر، قال الله تعالی: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَیْکُمْ یَا بَنِی آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّیْطَانَ »، یعنی ألم آمرکم بهذا، وقال الله تعالی: «الَّذِینَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَیْنَا »، یعنی أمرنا، ومنه عهود الخلفاء إلی أمرائهم وقضاتهم.

إذا ثبت أن عهد الله هو أمره؛ فنقول: لا یخلو قوله: «لَا یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ»من أنْ یرید أن الظالمین غیر مأمورین، وأن الظالمین لا یجوز أن یکونوا بمحلّ مَن یقبل منهم أوامر الله تعالی، ولمّا بطل الوجه الأول؛ لاتفاق المسلمین علی أن أوامر الله تعالی لازمة للظالمین کلزومها لغیرهم، ثبت الوجه الآخر، وهو أنّهم غیر مؤتمنین علی أوامر الله تعالی وغیر مقتدی بهم فیها، فلا یکونون أئمّة فی الدین، فثبت بدلالة الآیة بطلان إمامة الفاسق. قال(علیه السّلام): (لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق)، ودلّ أیضاً علی أنّ الفاسق لا یکون حاکماً، وأن أحکامه لا تنفذ إذا ولی الحکم، وکذلک لا تقبل شهادته، ولا خبره عن النبی (صلّی الله علیه وسلّم)، ولا فتیاه إذا أفتی، ولا یقدم للصلاة وإن کان هو بحیث لو اقتدی به فإنّه لا تفسد صلاته، قال أبو بکر الرازی: ومن الناس مَن یظنّ أنّ

ص: 114


1- الشوکانی، محمد بن علی، فتح القدیر: ج1، ص138.

مذهب أبی حنیفة أنّه یجوّز کون الفاسق إماماً وخلیفة، ولا یجوز کون الفاسق قاضیاً، قال: وهذا خطأ، ولم یفرّق أبو حنیفة بین الخلیفة والحاکم فی أن شرط کلّ واحد منهما العدالة، وکیف یکون خلیفة وروایته غیر مقبولة، وأحکامه غیر نافذة، وکیف یجوز أن یُدّعی ذلک علی أبی حنیفة، وقد أکرهه ابن هبیرة فی أیام بنی أُمیّة علی القضاء، وضربه فامتنع من ذلک فحُبس، فلحّ ابن هبیرة وجعل یضربه کلّ یوم أسواطاً»(1).

وقد صرّح الجصّاص بأنّ الآیة تثبت بطلان إمامة الفاسق، وأنّه لا یکون خلیفة، وأنّ مَن نصّب نفسه فی هذا المنصب وهو فاسق، لم یلزم الناس اتّباعه ولا طاعته، مستشهداً بعد ذلک بقول النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق»(2)).

وهناک أقوال عدیدة جدّاً تنصّ علی اشتراط العلم والعدالة فی الخلیفة، وأنّ الخلافة لا تنعقد بدونهما، بل إنّ هذا الرأی هو الذی علیه الجمهور کما عرفنا.

وأمّا انطباق هذین الشرطین علی یزید أو عدمه، فهو ما سنعرفه فی المبحث اللاحق.

ص: 115


1- الفخر الرازی، محمد بن عمر، التفسیر الکبیر: ج4، ص46.
2- اُنظر: الجصاص، محمد بن علی، أحکام القرآن: ج1، ص84.

ص: 116

المبحث الثانی :یزید وعدم أهلیته للخلافة

اشارة

اتّضح أنّ الإمامة لا تنعقد لمَن اختلّت فیه الش_رائط، خصوصاً العلم والعدالة، بل ذهب بعضهم إلی أنّ الفسق کما یمنع من انعقاد الإمامة، فإنّ طروّه یمنع من استدامتها أیضاً، لذا سنرکّز فی هذا المبحث علی صفات یزید وخصاله، لنری مدی انطباق الشروط علیه من عدمه.

ومن خلال جولة فی کتب التاریخ والتراجم سیتّضح أنّ الرجل لا یتمتّع بمقومات الخلافة، فإنّ أهمّ شرطین یتوفّر علیهما الخلیفة غیر متحقّقین عند یزید بن معاویة، فلا هو بالعالم المجتهد فی أحکام الش_ریعة، ولا هو بالعدل المستقیم طبق المحجّة البیضاء، بل لم یکن له حضور واضح فی الساحة الإسلامیة مع وجود ثلّة من الصحابة، ومن أهل الحلّ والعقد، وعلی رأسهم الحسین بن علی(علیه السّلام).

ولکی تتّضح الصورة جیّداً حول یزید، نری من الضرورة أنْ نسلّط قلیلاً من الضوء علی بیئة یزید ونسبه من حیث الأب والأُم؛ لما للبیئة وعامل الوارثة من تأثیر علی حیاة الشخص، ثمّ نستقرئ بعض کلمات المؤرّخین وأهل السیر حول شخصیة یزید، ونختم بالإشارة لما قام به یزید أیّام خلافته؛ لأنّ أفعال الشخص وتصرّفاته تکشف مقداراً کبیراً عن حالته السابقة أیضاً، إذ لا یمکن أنْ نتصور شخصاً متّسماً بالعدالة والاستقامة، ثمّ یتحوّل مباشرة إلی شخص منحرف، موغل بدماء المسلمین، هاتکاً لأعراضهم!

ص: 117

نسب یزید وبیئته التی نشأ بها

أمّا من جهة الأُمّ فهو ابن میسون بنت بجدل الکلبیة، وکانت قبل زواجها من معاویة متزوّجة من ابن عمّها زامل بن عبد الأعلی، الذی قُتل علی ید أخیه(1).

ومیسون هذه من عائلة نصرانیة معروفة، فهی من نصاری کلب(2)، وکانت تعیش فی البادیة، فلمّا تزوّجت معاویة لم یرُق لها حال القصور والترف الذی یعیشه معاویة، وحنّت إلی البادیة، فأنشدت قائلة:

للبس عباءةٍ وتقرّ عینی

أحبُّ إِلیَّ من لبسِ الشفوفِ

وبیت تخفق الأریاح فیه

أحبّ إلیَّ من قص_رٍ منیف

وبکر تتبع الأظعان صعب

أحبّ إِلی من بغلٍ زفوفِ

وکلب ینبح الأضیاف دونی

أحبّ إِلیّ من هرٍّ ألوفِ

وخرقٌ من بنی عمِّی فقیر

أحبّ إلی من علج عنیفِ

فلمّا سمعها معاویة طلقها، وألحقها بأهلها، وقال عند ذلک: ما رضیت ابنة بجدل حتی جعلتنی علجاً عنیفاً، الحقی بأهلک(3).

فمضت إلی بادیة بنی کلب ویزید معها(4)، وقال المدائنی: إنّها کانت حاملاً به(5).

فکانت نشأة یزید وتربیته بین أخواله النصاری، فکان طبیعیاً أنْ یشبّ علی شرب

ص: 118


1- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص150.
2- شیخو، لویس، شعراء النصرانیة بعد الإسلام،: القسم الأوّل، ترجمة رقم 14.
3- انظر: أبی الفدا، إسماعیل، المختصر فی أخبار البشر (تاریخ أبی الفداء): ج1، ص193. ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ دمشق: ج70، ص134.
4- أبی الفدا، إسماعیل، المختصر فی أخبار البشر: ج1، ص193.
5- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص150.

الخمور وارتکاب أنواع الموبقات والمحرّمات، یقول الشیخ عبد الله العلایلی، أحد علماء الأزهر: «إذا کان یقیناً أو یشبه الیقین أنّ تربیة یزید لم تکن إسلامیة خالصة، أو بعبارةٍ أُخری: کانت مسیحیة خالصة، فلم یبقَ ما یُستغرَب معه أن یکون متجاوزاً مستهتراً مستخفّاً بما علیه الجماعة الإسلامیة، لا یحسب لتقالیدها واعتقاداتها، أی: حساب ولا یقیم لها وزناً»(1).

وأمّا من جهة الأب فهو ابن معاویة بن أبی سفیان، المتمرّد علی خلیفة زمانه، والمتمسّک بکرسی السلطة من دون إذن شرعی فی ذلک، فلا هو مشمول بنظریة النصّ، ولا هو ممَّن بویع من قِبل أهل الحلّ والعقد، بل بغی علی إمام زمانه علیّ بن أبی طالب(علیه السّلام) ولم یرضخ لطاعته، ثمّ بغی علی إمام زمانه الحسن بن علی(علیه السّلام) ولم یرضخ لطاعته أیضاً، لکنّ الظروف أوصلت الأُمور إلی الصلح الذی مکّن معاویة من الاستیلاء علی مقدّرات المسلمین، وفق شروطٍ معیّنة لم یفِ بها معاویة، ممّا یعنی أنّ معاویة لم یکسب الشرعیة حتّی من جهة الصلح.

إذاً؛ فمعاویة من جهة الخلافة هو باغٍ غاصب للخلافة، متسلّط علی المسلمین بقوّة السیف.

وأمّا من جهة فضائله، فقد نصّ العلماء علی عدم ثبوت أیّ فضیلة فی حقّه، قال الشوکانی: «وقال الحاکم: سمعت أبا العبّاس محمّد بن یعقوب بن یوسف یقول: سمعت إسحاق بن إبراهیم الحنظلی یقول: لا یصحّ فی فضل معاویة حدیث»(2).

ونقل ابن حجر العسقلانی فی فتح الباری، عن ابن الجوزی، عن إسحاق بن راهویه، أنّه قال: «لم یصحّ فی فضائل معاویة شیء»، ثمّ قال: «وأخرج ابن الجوزی أیضاً من طریق عبد الله بن أحمد بن حنبل، سألت أبی: ما تقول فی علی ومعاویة؟ فأطرق ثمّ قال: اعلم أنّ علیاً کان

ص: 119


1- العلایلی، عبد الله، الإمام الحسین: ص59.
2- الشوکانی، محمد بن علی، الفوائد المجموعة فی الأحادیث الموضوعة: ج1، ص407.

کثیر الأعداء، ففتّش أعداؤه له عیباً فلم یجدوا، فعمدوا إلی رجلٍ قد حاربه فأطروه کیاداً منهم لعلی».

قال ابن حجر: «فأشار بهذا إلی ما اختلقوه لمعاویة من الفضائل، ممّا لا أصل له، وقد ورد فی فضائل معاویة أحادیث کثیرة، لکن لیس فیها ما یصحّ من طریق الإسناد، وبذلک جزم إسحاق ابن راهویه، والنسائی، وغیرهما، والله أعلم»(1).

وقال الفتنی: «وباب فضائل معاویة لیس فیه حدیثٌ صحیح»(2).

بل وردت روایات فی ذمّه وتنقیصه، بل وبعضها فی تکفیره، فقد أخرج مسلم فی صحیحه عن ابن عبّاس، أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال فی حقّ معاویة: «لا أشبع الله بطنه»(3). وهذه ظاهرة ظهوراً بیّناً، بل صریحة فی ذمّه، ومحاولات تأویلها عن طریق وضع بعض الأحادیث عن النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بأنّه بشر وإذا ما سبّ أو شتم أو جلد أو دعا علی شخصٍ، فإنّما هو کفارة له، وقربة یتقرّب بها إلی الله یوم القیامة، فهی تأویلات فاسدة، لم یُکتب لها أی نصیب من النجاح، فهی لیست إلاّ محاولة لخلط الأوراق وتضییع للحقائق، فإذا کان ذمّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لشخص هو فضیلة، ومدحه أیضاً فضیلة، فکیف نستکشف الإنسان السیء من وجهة نظر النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وأی طریقةٍ یَتّبع(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لیوضّح لنا زیف البعض ونفاقهم؟ فعلی هذا المبنی، کلّما ذم النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) شخصاً سوف تکون فضیلة له، وإذا مدح شخصاً فهی أیضاً فضیلة له(4)،

ص: 120


1- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج7، ص81.
2- العجلونی، إسماعیل بن محمد، کشف الخفاء: ج2، ص420.
3- النیسابوری، مسلم بن الحجاج، صحیح مسلم: ج8، ص27.
4- قال ابن کثیر فی تأویل الحدیث أعلاه: «وقد انتفع معاویة بهذه الدعوة فی دنیاه وأُخراه، أمّا فی دنیاه، فإنه لمّا صار إلی الشام أمیراً، کان یأکل فی الیوم سبع مرات، یُجاء بقصعة فیها لحم کثیر وبصل فیأکل منها، ویأکل فی الیوم سبع أکلات بلحم، ومن الحلوی والفاکهة شیئاً کثیراً، ویقول: والله ما أشبع وإنّما أعیا، وهذه نعمة ومعدة یرغب فیها کلّ الملوک. وأمّا فی الآخرة فقد أتبع مسلم هذا الحدیث بالحدیث الذی رواه البخاری، وغیرهما من غیر وجهٍ، عن جماعة من الصحابة، أنّ رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) قال: (اللهم إنّما أنا بش_ر، فأیما عبد سببته، أو جلدته، أو دعوت علیه، ولیس لذلک أهلاً، فاجعل ذلک کفارةً وقربةً تقرّبه بها عندک یوم القیامة). فرکّب مسلم من الحدیث الأول، وهذا الحدیث فضیلة لمعاویة، ولم یورد له غیر ذلک».ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص128. ونترک التعلیق للقارئ اللبیب، لیری کیف یتمّ تأویل النصوص، بل والتنقیص من النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) من أجل تبرئة معاویة!

کما أنّ هذه الأحادیث تُسیء إلی النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) من أجل تبرئة بعض الصحابة، وتصوّره سبّاباً وشتّاماً بدون وجه حقٍّ؛ معلّلین ذلک بأنّه بشر یُخطئ ویصیب، ناسین أو متناسین بأنّ السب والشتم یتنافی مع أبسط وأدنی قیم الأخلاق التی یتحلّی بها الفرد العادی، فضلاً عن نبیّنا محمّد الذی بُعث لیُتمم مکارم الأخلاق!!!

علی أنّ هناک روایات ذامّة لمعاویة غیر قابلة للتأویل، منها علی سبیل المثال، ما أخرجه البلاذری فی الأنساب، قال: «وحدّثنی إسحاق وبکر بن الهیثم قالا: حدّثنا عبد الرزاق بن همام، أنبأنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبیه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: کنت عند النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم) فقال: یطلع علیکم من هذا الفج رجل یموت علی غیر ملتی، قال: وکنت ترکت أبی قد وضع له وضوء، فکنت کحابس البول مخافة أن یجیء، قال: فطلع معاویة، فقال النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم): هو هذا»(1).

قال العلامة السیّد حسن السقاف فی تحقیقه علی کتاب العتب الجمیل: «قال الحافظ السیّد أحمد بن الصدّیق الغماری فی (جؤنة العطار: 2/154): وهذا حدیث صحیح علی شرط مسلم، وهو یرفع کلّ غمة عن المؤمن المتحیّر فی شأن هذا الطاغیة، قبّحه الله، ویقضی علی کلّ ما یموّه به المموّهون فی حقه...»(2).

ص: 121


1- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص134.
2- العلوی، محمد بن عقیل، العتب الجمیل: ص25.

وکذلک فقد ثبت أنّ معاویة کان یرتکب المحرمات وعلی رأسها شرب الخمر:

فقد أخرج أحمد بسنده إلی عبد الله بن بریدة، قال: «دخلت أنا وأبی علی معاویة فأجلسنا علی الفرش، ثم أتینا بالطعام، فأکلنا، ثمّ أتینا بالشراب فشرب معاویة، ثمّ ناول أبی، ثمّ قال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، ثمّ قال معاویة: کنت أجمل شباب قریش وأجودهم ثغراً، وما شیء کنت أجد له لذّة کما کنت أجده وأنا شاب غیر اللبن، أو إنسان حسن الحدیث یُحدثنی».

قال شعیب الأرنؤوط فی تحقیقه علی مسند أحمد: «إسناده قوی»(1).

وقال الهیثمی: «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحیح». وقد اعترف علی استحیاء بأنّ فی الخبر دلالة علی شرب معاویة للخمر؛ لأنّ الهیثمی قطع عبارة معاویة التی قالها بعد أنْ شرب الخمر، وهی: «ما شربته منذ حرّمه رسول الله». وقال بعد تصحیح الحدیث: «وفی کلام معاویة شیء ترکته»(2).

وهذا تدلیسٌ صریح علی القارئ، وإخفاء للحقائق، فإنّه من دون هذه العبارة لا یثبت أنّ ما شربه کان خمراً، بل یستفید القارئ من جملة الروایة أنّه شرب لبناً، فهل یوجد مبرّر شرعی لقطع النص وإراءته علی غیر ما هو؟ وهل یکفی اعتراف الهیثمی بأنّه ترک شیئاً من کلام معاویة من دون أن یعرف القارئ ماهیة وحقیقة هذا الشیء؟!

وهناک محاولات وتکلّفات لأثبات أنّ معاویة قد شرب لبناً لا خمراً لا ترقی للمستوی العلمی، وفیها التفاف علی النصّ ومؤدّاه، خصوصاً أنّ نفس ترک الهیثمی لعبارة معاویة، وتصریحه بأنّه ترک من کلام معاویة شیئاً؛ یدلّ علی أنّ فهمه من العبارة کان مثل ما فهمناه.

کما ثبت أنّ هناک أموراً کثیرة محرّمة کان یفعلها معاویة، مع إقراره بأنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

ص: 122


1- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد بتحقیق شعیب الأرنؤوط: ج5، ص347.
2- الهیثمی، علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج5، ص42.

نهی عنها، کلبس الذهب والحریر وغیرها، فقد جاء فی الخبر الصحیح الذی أخرجه أبو داود فی سننه، قال: «حدّثنا عمرو بن عثمان بن سعید الحمصی، حدثنا بقیة عن بحیر عن خالد، قال: وفد المقدام بن معدیکرب وعمرو بن الأسود ورجل من بنی أسد من أهل قنسرین إلی معاویة بن أبی سفیان، فقال معاویة للمقدام: أعلِمتَ أنّ الحسن بن علی توفّی؟ فرجّعَ المقدام _ أی قال: إنّا لله وإنّا إلیه راجعون _، فقال له رجل: أتراها مصیبة؟ قال له: ولمَ لا أراها مصیبة وقد وضعه رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) فی حجره، فقال: (هذا منّی وحسین من علی)؟! فقال الأسدی: جمرة أطفأها الله (عزّ وجلّ)، قال: فقال المقدام: أمّا أنا فلا أبرح الیوم حتّی أُغیظک وأُسمعک ما تکره. ثمّ قال: یا معاویة، إنْ أنا صدقت فصدّقنی، وإن أنا کذبت فکذّبنی. قال: أفعل. قال: فأنشدک بالله، هل سمعت رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) نهی عن لبس الذهب؟ قال: نعم. قال: فأُنشدک بالله، هل تعلم أنّ رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) نهی عن لبس الحریر؟ قال: نعم. قال: فأنشدک بالله، هل تعلم أنّ رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) نهی عن لبس جلود السباع والرکوب علیها؟ قال: نعم. قال: فوالله، لقد رأیت هذا کلّه فی بیتک یا معاویة، فقال معاویة: قد علمت أنّی لن أنجو منک یا مقدام...»(1).

وقد صحّح الحدیث الألبانی فی سلسلة الأحادیث الصحیحة(2)، لکنّه اقتصر علی نقل النسائی الذی اختصر الحدیث، حیث أورد الحدیث بالسند أعلاه عن بحیر عن خالد،قال: «وفد المقدام بن معدی کرب علی معاویة، فقال له: أنشدک بالله هل تعلم أنّ رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) نهی عن لبوس جلود السباع، والرکوب علیها؟ قال: نعم»(3).

وقد نوّه الألبانی إلی أنّ الحدیث أطول من ذلک بقوله: «وهو عند أبی داود قطعة من

ص: 123


1- أبو داود السجستانی، سلیمان بن الأشعث، سنن أبی داود: ج2، ص275 _ 276.
2- الألبانی، محمد بن نوح، سلسلة الأحادیث الصحیحة: ج3، ص9، ح1011.
3- النسائی، أحمد بن شعیب، سنن النسائی: ج7، ص176 _ 177.

حدیثٍ طویل»(1).

کما أنّ معاویة أوغل فی دماء المسلمین، وقتل الآلاف المؤلّفة من المسلمین، سواء فی حرب صفّین أو فی بعثه ابن أبی إرطأة إلی الیمن، وما ارتکبه فیها من فجائع، أو فی قتله الخلّص من المؤمنین أمثال عمرو بن الحمق الخزاعی، وحجر بن عدی وأصحابه، وغیرهم الکثیر الکثیر.

وغرضنا ممّا تقدّم، هو إشارة موجزة إلی أنّ معاویة بن أبی سفیان لم یکن علی النهج القویم، وإنّ حیاته امتلأت بالمخالفات للسنّة المحمّدیة، ونختم هنا بما ما ورد عن الحسن البصری، حیث قال: «أربع خصالٍ کنَّ فی معاویة، لو لم یکن فیه إلّا واحدة لکانت موبقة، وهی أخذه الخلافة بالسیف من غیر مشاورة، وفی الناس بقایا الصحابة وذوو الفضیلة، واستخلافه ابنه یزید، وکان سکّیراً خمّیراً، یلبس الحریر ویض_رب بالطنابیر، وادّعاؤه زیاداً، وقد قال رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم): الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقتله حجر بن عدی وأصحابه، فیا ویلاً له من حِجرٍ وأصحاب حِجر»(2).

ومن خلال ذلک یتّضح أنّ البیئة التی عاش فیها یزید هی بیئة غیر صالحة، وبعیدة کلّ البعد عن مبادئ وقیم السماء، وموغلة فی الانحراف وحبّ التسلّط والملک، ولو علی

حساب جماجم الصحابة والصالحین، فکان من الطبیعی أنْ تنغرس تلک الصفات الردیئة فی نفس یزید، خصوصاً وهو یعیش ما بین أخواله النصاری، أو مدلّلاً فی قصر الخلافة تحت رعایة والده؛ فکان لذلک إفرازات صبّت علی المسلمین وابلاً من المصائب، فلم یرَ المسلمین فی خلافة یزید سوی القتل والدم، والانحراف الصریح عن جادّة الشرع.

ص: 124


1- الألبانی، محمد بن نوح، سلسلة الأحادیث الصحیحة: ج3، ص9، ح1011.
2- أبو الفداء، إسماعیل، المختصر فی أخبار البشر (تاریخ أبی الفداء): ج1، ص186.

یزید فی کلمات الصحابة والتابعین والعلماء والمؤرِّخین

اشارة

أشرنا إلی أنّ یزید لم یکن له حضور واضح فی الساحة الإسلامیة، خصوصاً مع وجود ثلّة من أهل البیت(علیهم السّلام) والصحابة، أمثال الحسین بن علی(علیه السّلام) وعبد الله بن عبّاس، وابن الزبیر، وغیرهم الکثیر الکثیر، سواء کانوا من البیت العلوی، أو الصحابة، أو التابیعن ممّن هم أفضل من یزید بعشرات بل مئات المرات؛ وهذا هو السبب الحقیقی الذی جعل التاریخ یُغفل حیاة یزید قبل تولّیه للخلافة، فلا تجد فی التاریخ ما یوضّح سیرة یزید وحیاته بصورة واضحة، سوی إشارات من هنا وهناک؛ لأنّ الساحة تعجّ بالکثیرین من غیره من أصحاب السیر الواضحة، فکان وجوده وجوداً خاملاً لم یعبأ به أحد، خصوصاً أنّ أُمّه طُلّقت من أبیه معاویة کما تقدّم، وعادت إلی أهلها فی البادیة.

فالسبب الحقیقی فی إغفال التاریخ لیزید هو خموله، وعدم وجود مایذکره المؤرِّخون من مناقب ومآثر وفضائل له، لا کما یحاول المدافعون عنه تصویره بأنّ ذلک یدخل ضمن حملة التعتیم علی أخباره، والتشهیر بسیرته، فالمؤرِّخون رغم میولهم إلی تلک الکفّة، لکنّهم لم یذکروا عن یزید شیئاً یدلّ علی فضله، أو مبادئه ومناقبه، بل إنّهم ذکروا یزید فی مفاسده التی قام بها بعد تولّیه الخلافة، وأشاروا إشارات قلیلة تدلّ علی فسق الرجل وانحرافه قبل الخلافة؛ لذا سنحاول أنْ نتتبّع روایات التاریخ، وأقوال الصحابة والتابعین، والعلماء والمؤرّخین، حول یزید بن معاویة:

أ _ یزید علی لسان الصحابة والتابعین

1_ لعلّ أوّل ما یستوقفنا فی هذا الصدد هو موقف الحسین بن علیّ(علیه السّلام)، الذی لا یختلف أحد فی فضله وجلالة أمره، وأنّه من أهل البیت(علیهم السّلام) الذین نزلت فیهم آیة التطهیر، فالحسین(علیه السّلام) ذکر بعض العلل التی جعلته یرفض بیعة یزید، والتی منها فسق الرجل

ص: 125

وشربه للخمور، فقال للولید بن عتبة: «ویزید رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلی لا یبایع مثله»(1).

وقال لابن الزبیر: «اُنظر أبا بکر، إنّی أبایع لیزید! ویزید رجل فاسق معلن الفسق، یشرب الخمر، ویلعب بالکلاب والفهود، ویبغض بقیة آل الرسول! لا والله، لا یکون ذلک أبداً»(2).

2_ إنّ نفس الرجال المطیعین لمعاویة، بل معاویة نفسه کان علی علم ودرایة ومعرفة بأنّ یزید لا یمتلک ما یؤهّله للخلافة؛ لذا حینما اقترح علیه المغیرة تولیة یزید طمعاً فی بقائه علی ولایة الکوفة، أجابه معاویة قائلاً: «ومَن لی بهذا».

فمعاویة یفصح بجوابه هذا إلی أنّ هذا الأمر یحتاج إلی تدبیر، وإلی أناس تقوم به، فقال المغیرة: «أکفیک أهل الکوفة، ویکفیک زیاد أهل البص_رة، ولیس بعد هذین المِصرین أحدٌ یخالفک».

ولمّا رجع المغیرة إلی أصحابه قال: «لقد وضعت رجل معاویة فی غرزٍ بعید الغایة علی أُمّة محمد، وفتقت علیهم فتقاً لا یُرتق أبداً»(3).

وحین وصل کتاب معاویة إلی زیاد وهو فی البصرة یعلمه فیه بفکرة المغیرة، أجابه زیاد بحقیقة ما یعرفه عن یزید قائلاً: «فما یقول الناس، إذا دعوناهم إلی بیعة یزید، وهو یلعب بالکلاب والقرود! ویلبس المصبّغ! ویدمن الش_راب! ویمش_ی علی الدفوف، وبحضرتهم الحسین ابن علی، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبیر، وعبد الله بن عمر! ولکن تأمره أن یتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً وحولین، فعسینا أن نموّه علی الناس»(4).

وفی المصادر الأُخری أنّ زیاداً أحضر عبید بن کعب النمیری، وأخبره: أنّ یزید

ص: 126


1- ابن طاووس، علی بن موسی، اللهوف فی قتلی الطفوف: ص17.
2- ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص12.
3- ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص504.
4- الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص220.

صاحب رسلة وتهاون، مع ما قد أُوله به من الصید، وطلب منه أنْ یذهب إلی معاویة ویخبره بفعلات یزید، ویطلب منه التأنّی فی الأمر(1).

3_ وفی تاریخ الیعقوبی، أنّ عبد الله بن عمر حین رفض بیعة یزید، قال: «نبایع من یلعب بالقرود والکلاب، ویش_رب الخمر، ویظهر الفسوق! ما حجّتنا عند الله؟!»(2).

4_ وإنّ عبد الله بن الزبیر قال: «لا طاعة لمخلوق فی معصیة خالق، وقد أفسد علینا دیننا»(3).

وجاء فی تاریخ خلیفة بن خیاط: «حدّثنا أبو الحسن عن بقیة بن عبد الرحمن، عن أبیه قال: لمّا بلغ یزید بن معاویة أن أهل مکة أرادوا ابن الزبیر علی البیعة فأبی، أرسل النعمان بن بشیر الأنصاری وهمام بن قبیصة النمیری إلی ابن الزبیر یدعوانه إلی البیعة لیزید، علی أن یجعل له ولایة الحجاز، وما شاء وما أحبّ لأهل بیته من الولایة، فقدما علی ابن الزبیر، فعرضا علیه ما أمرهما به یزید، فقال ابن الزبیر: أتأمرانی ببیعة رجل یش_رب الخمر ویدع الصلاة ویتبع الصید...؟!»(4).

وفی أنساب الأشراف للبلاذری، قال: «قال الواقدی وغیره فی روایتهم: لّما قتل عبد الله بن الزبیر أخاه عمرو بن الزبیر، خطب الناس فذکر یزید بن معاویة، فقال: یزید الخمور، ویزید الفجور، ویزید الفهود، ویزید القرود، ویزید الکلاب، ویزید النشوات، ویزید الفلوات. ثمّ دعا الناس إلی إظهار خلعه وجهاده...»(5).

5_ وقال الصحابی عبد الله بن حنظلة: «یا قوم، اتّقوا الله وحده لا شریک له، فوالله ما

ص: 127


1- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص325. ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج38، ص212. ابن الجوزی، عبد الرحمن بن علی، المنتظم فی تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص285.
2- الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص228.
3- المصدر السابق: ج2، ص228.
4- العصفری، خلیفة بن خیاط، تاریخ خلیفة: ص194.
5- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص319.

خرجنا علی یزید حتّی خفنا أنْ نُرمی بالحجارة من السماء، أنّ رجلاً ینکح الأمّهات والبنات والأخوات، ویشرب الخمر، ویدع الصلاة، والله لو لم یکن معی أحدٌ من الناس لأبلیت لله فیه بلاءً حسناً»(1).

ولمّا قدم المدینة عائداً من عند یزید، أتاه الناس فقالوا: ما وراءک؟ قال: «أتیتکم من عند رجلٍ والله، لو لم أجد إلّا بنیّ هؤلاء لجاهدته»(2).

6_ وقال المنذر بن الزبیر، وکان أحد الوفد الذین التقوا یزید: «والله، لقد أجازنی بمائة ألف درهم، وإنّه لا یمنعنی ما صنع إلی أن أخبرکم خبره وأصدقکم عنه، والله إنّه لیشرب الخمر، وإنّه لیسکر حتی یدَع الصلاة»(3).

7_ وذکر البلاذری والطبری _ واللفظ للثانی _ أنّ وفد وجهاء المدینة العائد من لقاء یزید، أظهروا شتمه، وقالوا: «إنّا قدمنا من عند رجل لیس له دین، یش_رب الخمر، ویعزف بالطنابیر، ویض_رب عنده القیان، ویلعب بالکلاب، ویسامر الخراب والفتیان، وإنّا نشهدکم أنّاقد خلعناه»(4).

وقال ابن کثیر: «وکان سبب وقعة الحرة أنّ وفداً من أهل المدینة، قدموا علی یزید بن معاویة بدمشق، فأکرمهم وأحسن جائزتهم، وأطلق لأمیرهم، وهو عبد الله بن حنظلة بن أبی عامر، قریباً من مائة ألف، فلمّا رجعوا ذکروا لأهلیهم عن یزید ما کان یقع منه من القبائح فی شربه الخمر، وما یتبع ذلک من الفواحش التی من أکبرها ترک الصلاة عن وقتها، بسبب السکر،

ص: 128


1- ابن سعد، محمد، الطبقات الکبری: ج5، ص66.
2- العصفری، خلیفة بن خیاط، تاریخ خلیفة: ص181.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص369. ابن الجوزی، عبد الرحمن بن علی، المنتظم فی تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص7.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص368. واُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص320.

فاجتمعوا علی خلعه، فخلعوه عند المنبر النبوی»(1).

8_ وقال الصحابی معقل بن سنان الأشجعی (استُشهد یوم الحرة) لمسلم بن عقبة، عند لقائه به فی طبریة لیلة خروجه من یزید: «...فنرجع إلی المدینة فنخلع هذا الفاسق بن الفاسق، ونبایع لرجل من المهاجرین أو الأنصار»، وقد أسرّ مسلم هذه الکلمة فی قلبه، وذکّره بها یوم الحرة، وأمر بقتله فقُتل(2).

9_ وقال عوانة: «کان مسور بن مخرمة [وهو صحابی] وفد إلی یزید قبل ولایة عثمان بن محمد، فلمّا قدم، شهد علیه بالفسق وشرب الخمر، فکتب إلی یزید بذلک، فکتب إلی عامله یأمره أن یضرب مسوراً الحدّ، فقال أبو حرّة:

أیش_ربها صهباء کالمسک ریحها أبو خالد ویضرب الحدّ مسور»(3).

10_ قال محمد بن أبی السری: حدثنا یحیی بن عبد الملک بن أبی نیة، عن نوفل بن أبی الفرات، قال: کنت عند عمر بن عبد العزیز، فذکر رجلٌ یزید، فقال: قال أمیر المؤمنین

یزید بن معاویة، فقال: «تقول أمیر المؤمنین! وأمر به فضُرِب عشرین سوطاً»(4).

إلی غیر ذلک من الشهادات العدیدة من الصحابة والتابعین الذین عاصروا یزید، وعرفوا فسقه وانحلاله واستهتاره بالقیم والمبادئ.

ب _ یزید علی لسان العلماء والمؤرِّخین

1_ قال البلاذری: «حدّثنی العمری، عن الهیثم بن عدی، عن ابن عیاش وعوانة، وعن هشام بن الکلبی، عن أبیه وأبی مخنف وغیرهما، قالوا: کان یزید بن معاویة أوّل مَن أظهر شرب

ص: 129


1- ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج6، ص262.
2- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص328. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج4، ص119. واللفظ للثانی.
3- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص320.
4- الذهبی، محمد بن أحمد، تاریخ الإسلام: ج5، ص275.

الش_راب، والاستهتار بالغناء والصید، واتّخاذ القیان والغلمان، والتفکّه بما یضحک منه المُترفون من القرود، والمعاقرة بالکلاب والدیکة، ثمّ جری علی یده قتل الحسین، وقتل أهل الحرة، ورمی البیت وإحراقه»(1).

2_ وقال البلاذری أیضاً: «وحدّثنی محمّد بن یزید الرفاعی، حدّثنی عمّی، عن ابن عیّاش، قال: خرج یزید یتصیّد بحوارین وهو سکران، فرکب وبین یدیه أتان وحشیّة، قد حمل علیها قرداً، وجعل یرکض الأتان ویقول:

أبا خلف احتل لنفسک حیلة فلیس علیها إن هلکت ضمان

فسقط فاندقّت عنقه»(2).

3_ وقال المدائنی: «کان یزید ینادم علی الشراب سرجون مولی معاویة»(3).

4_ وأخرج ابن عساکر بسنده عن ابن شبة النمیری _ وهو من المؤرّخین الموثوق بهم _ ما حاصله: «أنّه لمّا حجّ الناس فی خلافة معاویة جلس یزید بالمدینة علی شراب، فاستأذن علیه ابن عبّاس والحسین بن علی، فأمر بش_رابه فرُفع، وقیل له: إنّ ابن عباس إنْ وجد ریح شرابک عرفه. فحجبه، وأذن للحسین بن علی... ثمّ دعا بقدحٍ فشربه، ودعا بآخر، فقال: اسقِ أبا عبد الله یا غلام. فقال الحسین: علیک شرابک أیّها المرء، لا عین علیک منّی، فش_رب یزید وقال:

ألا یا صاح للعجب

دعوتک ثمّ لم تجب

إلی القینات والشهوات

والصهباء والطرب

وباطیة مکلّلة

علیها سادة العرب

وفیهنّ التی تبلّت

فؤادک ثمّ لم تثبِ

ص: 130


1- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص286.
2- المصدر نفسه: ج5، ص287.
3- المصدر نفسه: ج5، ص288.

فنهض الحسین وقال: بل فؤادک یا بن معاویة تبلّت»(1).

وقد أشکل ابن عساکر علی سند الروایة بالانقطاع، حیث إنّ ابن شیبة لم یعاصر یزید، بل بینهما فاصل زمانی کبیر.

لکنّ هذا غیر مضرّ فی القضایا التاریخیة؛ فإنّ ابن شیبة من ثقات المؤرّخین، المعتمدین أوّلاً، ولأنّ المنهج التاریخی لا یعتمد علی صحّة الإسانید فقط، بل قد یعتمد علی تحشید وتجمیع القرائن؛ إذ لو اعتمدنا علی صحّة الأسانید فقط لضاع من التاریخ الکثیر الکثیر، ولما أمکن لأحدٍ _ سواء من السلفیة أو غیرهم _ أنْ یثبت ویتمسّک بالکثیر من القضایا التاریخیة، ولبقیت هناک فجوات لا یمکن سدّها ولا معالجتها.

5_ وقال المسعودی: «وکان یزید صاحب طرب وجوارح وکلاب وقرود وفهود ومنادمة علی الشراب، وجلس ذات یوم علی شرابه، وعن یمینه ابن زیاد، وذلک بعد قتل الحسین، فأقبل علی ساقیه فقال:

اسْقِنی شَرْبَةً ترَوِّی مُشاشی

ثم مِلْ فاسق مثلها ابن زیاد

صاحب الس_رّ والأمانة عِندی

ولتسدید مغنمی وجهادی

ثمّ أمر المغنّین فغنّوا به.

وغلب علی أصحاب یزید وعمّاله ما کان یفعله من الفسوق، وفی أیامه ظهر الغناء بمکّة والمدینة، واستُعملت الملاهی، وأظهر الناس شرب الشراب، وکان له قرد یُکنّی بأبی قیس، یحضره مجلس منادمته، ویطرح له متکّأ، وکان قرداً خبیثاً، وکان یحمله علی أتانٍ وحشیة قد ریضت وذلّلَتْ لذلک بس_رجٍ ولجام، ویسابق بها الخیل یوم الحلبة، فجاء فی بعض الأیام سابقاً، فتناول القصبة ودخل الحجرة قبل الخیل، وعلی أبی قیسٍ قَباء من

ص: 131


1- ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج65، ص407.

الحریر الأحمر والأصفر مشمّر، وعلی رأسه قلنسوة من الحریر ذات ألوان بشقائق، وعلی الأتان سرج من الحریر الأحمر، منقوش ملمّع بأنواع من الألوان، فقال فی ذلک بعض شعراء الشام فی ذلک الیوم:

تمسّک أبا قیس بِفَضْلِ عِنانها

فلیس علیها إن سقطت ضمان

ألا من رأی القرد الذی سبقت به

جیاد أمیر المؤمنین أتان»(1).

6_ وقال ابن الطقطقی: «وکان یزید بن معاویة أشدّ الناس کلفاً بالصید، لا یزال لاهیاً به، وکان یُلبس کلاب الصید الأساور من الذهب، والجلال المنسوجة منه، ویهب لکلّ کلب عبداً یخدمه»(2).

7_ وقال ابن کثیر: «وقد رُوی أنّ یزید کان قد اشتهر بالمعازف، وشرب الخمر، والغناء، والصید، واتّخاذ الغلمان والقیان والکلاب، والنطاح بین الکباش والدباب والقرود، وما من یومٍ إلّایُصبح فیه مخموراً، وکان یشدّ القرد علی فرسٍ مسرّجة بحبالٍ ویسوق به، ویُلبس القرد قلانس الذهب، وکذلک الغلمان، وکان یسابق بین الخیل، وکان إذا مات القرد حزن علیه. وقِیل: إنّ سبب موته أنّه حمل قردة وجعل ینقزها فعضّته»(3).

وقال أیضاً: «وکان فیه أیضاً إقبال علی الشهوات وترک بعض الصلوات فی بعض الأوقات، وإماتتها فی غالب الأوقات»(4).

8_ وقال الذهبی فی ترجمة یزید: «کان قویاً شجاعاً، ذا رأیٍّ وحزم وفطنة وفصاحة، وله شعر جیّد، وکان ناصبیاً، فظّاً، غلیظاً، جلفاً، یتناول المسکر، ویفعل المنکر، افتتح دولته بمقتل

ص: 132


1- المسعودی، علی بن الحسین، مروج الذهب: ج3، ص68.
2- ابن الطقطقی، محمد بن علی، الفخری فی الآداب السلطانیة: ص16.
3- ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص258.
4- ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص252.

الشهید الحسین، واختتمها بواقعة الحرة، فمقته الناس، ولم یُبارَک فی عمره، وخرج علیه غیر واحد بعد الحسین، کأهل المدینة قاموا لله، وکمرداس بن أدیة الحنظلی البص_ری، ونافع بن الأزرق، وطواف بن معلی السدوسی، وابن الزبیر بمکة»(1).

فالذهبی یصفه بأنّه ناصبی، والناصبی هو المبغض لعلیّ بن أبی طالب(علیه السّلام)، والمبغض لعلیّ منافق بنصّ قول النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) الوارد فی صحیح مسلم، بأنّه لا یحبّ علیّ إلّا مؤمن، ولا یُبغضه إلّا منافق(2).

وقال فی کتابه تاریخ الإسلام: «ولمّا فعل یزید بأهل المدینة ما فعل، وقتل الحسین وإخوته وآله، وشرب یزید الخمر، وارتکب أشیاء منکرة، بغضه الناس، وخرج علیه غیر واحد، ولم یُبارک الله فی عمره»(3).

وقال فی میزان الاعتدال: «مقدوح فی عدالته، لیس بأهل أنْ یروی عنه»(4).

9_ وقال ابن حجر: «وکان منهمکاً فی لذّاته، ومقته أهل الفضل؛ بسبب قتله الحسین، ثمّ بسبب وقعة الحرة، والله المستعان»(5).

10_ وقال ابن تغری: «وکان فاسقاً قلیل الدین، مدمن الخمر، وهو القائل:

أقول لصحبٍ ضمّت الکأس شملهم

وداعی صبابات الهوی یترنّم

خذوا بنصیبٍ من نعیمٍ ولذّةٍ

فکلٌّ وإنْ طال المدی یتص_رّم

وله أشیاء کثیرة غیر ذلک، غیر أنّنی أضربت عنها؛ لشهرة فسقه ومعرفة الناس بأحواله»(6).

ص: 133


1- الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج4، ص37_ 38.
2- اُنظر: النیسابوری، مسلم بن الحجاج، صحیح مسلم: ج1، ص61.
3- الذهبی، محمد بن أحمد، تاریخ الإسلام: ج5، ص30.
4- الذهبی، محمد بن أحمد، میزان الاعتدال: ج4، ص440.
5- ابن حجر، أحمد بن علی، تعجیل المنفعة: ص453.
6- ابن تغری، یوسف، النجوم الزاهرة: ج1، ص163.

11_ وفی السیرة الحلبیة: «وسبب بناء عبد الله بن الزبیر للکعبة، أنّ یزید بن معاویة لمّا وجّه الجیش عشرین ألف فارس وسبعة آلاف راجل _ وأمیرهم مسلم بن قتیبة _ لقتال أهل المدینة؛ لمّا علم أنّهم خرجوا عن طاعته، أی وأظهروا شتمه، وأعلنوا بأنّه لیس له دین؛ لأنّه اشتهر عنه نکاح المحارم، وإدمان شرب الخمر، وترک الصلاة، وأنّه یلعب بالکلاب، فقد ذکر بعض ثقات المؤرِّخین أنّه کان له قرد یُحضره مجلس شرابه، ویطرح له وسادة، ویسقیه فضلة کأسه، واتّخذ له أتاناً وحشیة، قد ربضت له وصُنع لها سرجاً من ذهب، یرکب علیها ویسابق بها الخیل فی بعض الأیام، وکان یلبس علیه قباء وقلنسوة من الحریر الأحمر.

وقد استفتی الکیا الهراسی _ من أکابر أئمّتنا معاشر الشافعیة کان من رؤوس تلامذة إمام الحرمین نظیر الغزالی _ عن یزید هذا، هل هو من الصحابة؟ وهل یجوز لعنه؟

فأجاب: بأنّه لیس من الصحابة؛ لأنّه ولد فی أیّام عمر بن الخطاب، وللإمام أحمد قولان _ أی فی لعنه _ تلویح وتص_ریح، وکذلک الإمام مالک، وکذا لأبی حنیفة، ولنا قولٌ واحد، التصریح دون التلویح، وکیف لا یکون کذلک، وهو اللاعب بالنرد، والمصید بالفهود، ومدمن الخمر وشعره فی الخمر معلوم! وکان علی ما أفتی به الکیا الهراسی من جواز التصریح بلعنه أستاذنا الأعظم الشیخ محمد البکری، تبعاً لوالده الأستاذ الشیخ أبی الحسن، وقد رأیت فی کلام بعض أتباع أُستاذنا المذکور فی حقّ یزید ما لفظه: زاده الله خزیاً وَضِعَةً، وفی أسفل سجّین وَضَعَهُ.

وفی کلام ابن الجوزی أجاز العلماء الورعون لعنه، وصنّف فی إباحة لعنه مصنّفاً.

وقال السعد التفتازانی: إنّی لأشکّ فی إسلامه، بل فی إیمانه، فلعنة الله علیه وعلی أنصاره وأعوانه»(1).

12_ وقال الآلوسی: «وعندی أنّ بغضه (رضی الله تعالی عنه) [یعنی علیَّ بن أبی طالب] من

ص: 134


1- الحلبی، علی بن برهان الدین، السیرة الحلبیة: ج1، ص267.

أقوی علامات النفاق، فإن آمنت بذلک فیا لیت شعری ماذا تقولون فی یزید الطرید، أکان یحب علیاً أم کان یبغضه، ولا أظنّک فی مریة فی أنّه (علیه اللعنة) کان یبغضه أشدّ البغض، وکان یبغض ولدیه الحسن والحسین (علی جدّهما وأبویهما وعلیهما الصلاة والسلام)، کما تدلّ علی ذلک الآثار المتواترة معناً، وحینئذٍ لا مجال لک من القول بأنّ اللعین کان منافقاً»(1).

13_ ونقل الذهبی عن محمد بن أحمد بن مسمع، قال: «سکر یزید، فقام یرقص، فسقط علی رأسه فانشق وبدا دماغه»(2).

إلی غیر ذلک من الأقوال الدالّة بکلّ وضوح علی فسقه وانحرافه عن الشریعة المقدّسة.

ج _ أفعال یزید بعد توّلیه الخلافة

لکی تتّضح صورة یزید بصورةٍ أجلی وأوضح؛ کان لا بدّ من الوقوف _ ولو مجملاً _ علی ما قام به یزید وجیشه عند تولّیه الخلافة، وقد نصّ المؤرّخون وأهل السیر علی أنّ یزید ابن معاویة حکم ثلاث سنوات وعدّة أشهر، ارتکب فیها أنواع الموبقات والأعمال القبیحة، التی یهتزّ لها عرش الرحمن، ففی سنة (61ه_) ارتکب جریمته الکبری، المتمثّلة بقتل الحسین بن علی(علیه السّلام) فی کربلاء، وفی سنة (63ه_) أباح مدینة رسول الله ثلاث أیام فی وقعة الحرّة، وارتکب فیها أفحش الأعمال، فقتل الصحابة والصالحین، وانتهک أعراضهم.. ثمّ زحف علی مکّة فضُربت بالمنجنیق.

یقول ابن حجر العسقلانی: «وامتنع من بیعته الحسین بن علی (رضی الله عنهما) وسار إلی الکوفة باستدعائهم له إلیها، فجهّز له عبید الله بن زیاد _ أمیر الکوفة لیزید بن معاویة _ الجیوش

ص: 135


1- الآلوسی، محمود بن عبد الله، تفسیر روح المعانی: ج26، ص78.
2- الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج4، ص37.

فقُتل فی یوم عاشوراء سنة إحدی وستین.

وامتنع من بیعة یزید أیضاً عبد الله بن الزبیر، وأقام بمکة، فراسله یزید مراراً، ثمّ إنّ أهل المدینة خلعوا یزید، فجهّز إلیهم الجیوش، فکانت وقعة الحرة بالمدینة، فقُتل فیها عدد کثیر من الصحابة والتابعین، واستبیحت المدینة لجهلة أهل الشام.

ثمّ سارت الجیوش إلی مکّة لقتال ابن الزبیر، فحاصروه بمکة، وأُحرقت الکعبة بعد أن رُمیت بالمنجنیق»(1).

ونحاول هنا أنْ نرکّز البحث نوعاً علی ما جری فی المدینة المنورة من أفعالٍ منکرة قام بها جیش یزید، بحیث لم یستطِع ابن تیمیة، ولا ابن کثیر، ولا غیرهم من کبار علماء السلفیة أنْ یتفصّوا من هذه الجرائم، فها هو ابن کثیر یقرّ بالخطأ الفاحش الذی قام به یزیدفی أهل المدینة، فیقول: «وقد أخطأ یزید خطأً فاحشاً فی قوله لمسلم بن عقبة: أنّ یبیح المدینة ثلاثة أیام، وهذا خطأٌ کبیر فاحش، مع ما انضمّ إلی ذلک من قتل خلقٍ من الصحابة وأبنائهم، وقد تقدّم أنّه قتل الحسین وأصحابه علی یدی عبید الله بن زیاد، وقد وقع فی هذه الثلاثة أیام من المفاسد العظیمة فی المدینة النبویة ما لا یُحدّ ولا یُوصف، ممّا لا یعلمه إلاّ الله عزَّ وجلَّ»(2).

کما أنّ ابن تیمیة لم یستطِع الهروب ممّا حصل فی وقعة الحرّة، فقال فی ذلک: «فإنَّ أهل المدینة النبویة نقضوا بیعته [یقصد یزید بن معاویة]، وأخرجوا نوّابه وأهله، فبعث إلیهم جیشاً، وأمره إذا لم یطیعوه بعد ثلاث أن یدخلها بالسیف، ویبیحها ثلاثاً، فصار عسکره فی المدینة النبویة ثلاثاً یقتلون، وینهبون، ویفتضّون الفروج المحرَّمة، ثمّ أرسل جیشاً إلی مکَّة، وتُوفِّی یزید وهم محاصرون مکة، وهذا من العدوان والظلم الذی فُعل بأمره»(3).

ص: 136


1- ابن حجر، أحمد بن علی، تعجیل المنفعة: ص453.
2- ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص243.
3- ابن تیمیة، أحمد بن عبد الحلیم، مجموع الفتاوی لابن تیمیة: ج3، ص412.

وسبقهم فی ذکر تلک التفاصیل الشنیعة ابن حزم الأندلسی، حیث ذکر تلک الواقعة بنوعٍ من التفصیل، ارتأینا أنْ ننقل بعض کلامه؛ لأهمّیته فی الباب، قال: «... أغزی یزید الجیوش إلی المدینة حرم رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، وإلی مکّة حرم الله تعالی، فقتل بقایا المهاجرین والأنصار یوم الحرّة، وهی أیضاً أکبر مصائب الإسلام وخرومه؛ لأنّ أفاضل المسلمین وبقیّة الصحابة، وخیار المسلمین من جلّة التابعین، قُتلوا جهراً ظلماً فی الحرب وصبراً، وجالت الخیل فی مسجد رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، وراثت وبالت فی الروضة بین القبر والمنبر، ولم تُصلَّ جماعة فی مسجد النبی (صلّی الله علیه وسلّم)، ولا کان فیه أحد، حاشا سعید بن المسیب، فإنّه لم یفارق المسجد، ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان، ومروان بن الحکم عند مجرم بن عقبة المری بأنّه مجنون لقتله، وأکره الناس علی أنْ یبایعوا یزید بن معاویة علی أنّهم عبیدٌ له، إن شاء باع،وإن شاء أعتق، وذکر له بعضهم البیعة علی حکم القرآن وسنّة رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) فأمر بقتله، فضرب عنقه صبراً، وهتک مسرف أو مجرم الإسلام هتکاً، وأنهب المدینة ثلاثاً، واستخفّ بأصحاب رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، ومُدّت الأیدی إلیهم وانتهبت دورهم، وانتقل هؤلاء إلی مکة (شرّفها الله تعالی)، فحُوصرت، ورُمی البیت بحجارة المنجنیق، تولّی ذلک الحصین بن نمیر السکونی فی جیوش أهل الشام؛ وذلک لأنّ مجرم بن عقبة المری مات بعد وقعة الحرة بثلاث لیال، ووُلّیَ مکانه الحصین بن نمیر، وأخذ الله تعالی یزید أخذ عزیزٍ مقتدر، فمات بعد الحرة بأقلّ من ثلاثة أشهر وأزید من شهرین، وانصرفت الجیوش عن مکة»(1).

کما ورد عن مالک بن أنس أنّ عدد الذین قُتلوا یوم الحرة من حملة القرآن سبعمائة(2).

وفی تاریخ الإسلام للذهبی: «وقال جریر بن عبد الحمید، عن مغیرة، قال: نهب مسرف ابن عقبة المدینة ثلاثاً، وافتضّ فیها ألف عذراء»(3).

ص: 137


1- ابن حزم الظاهری، علی بن أحمد، جوامع السیرة: ص357.
2- ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج54، ص183.
3- الذهبی، محمد بن أحمد، تاریخ الإسلام: ج5، ص26.

فهذه هی أعمال یزید ووُلاته، قتلٌ، وتدمیر، واستخفاف بالمبادئ والقیم، واستحلال للأعراض، وما إلی ذلک ممَّا یندی له جبین البش_ریة، ولا یمکن أنْ نتخیّل أنّ شخصاً کان یتّسم بالعدالة والتقوی ثمّ یقدم علی هذه الأُمور، فإنّ ما ارتکبه یزید من قبائح الأُمور تنمّ وتکشف عن انحرافه السابق، وفسقه، وعدم مبالاته، کما شهد علیه الصحابة والتابعون، وجزم به المؤرّخون وأصحاب السیر علی ما تقدّم.

وممّا تقدّم تبیّن أنّ الرجل فاسق لا یصلح للخلافة، کما اتّضح أنّ الرجل لیس من أهل العلم والاجتهاد، فهو منشغل عن العلم بشرب الخمر، ومنادمة وملاعبة القرود والکلاب، فلا شغل له بالسنّة النبویة، فضلاً عن أنْ یکون مجتهداً فی أحکام الشریعة، وقدعرفنا أنّ العلم بمعنی الاجتهاد هو أحد شروط الخلافة أیضاً.

ودعوی أنّه لم یثبت فسق یزید، فهی مجازفة وبعیدة عن الرؤیة العلمیة الصحیحة، فالأخبار التی نقلناها، وأقوال أهل السیر التی ذکرناها، غیر مختصّة بمؤرخٍ معیّن، ولا مقتصرة علی خبر آحاد، بل هی أخبار متظافرة دلّت علی فسق الرجل، وبها جزم عدّة من أهل العلم والحدیث والتاریخ، بما فیهم ممَّن یُصنّف من رؤوس المدرسة السلفیة، کالذهبی الذی جزم بفسق الرجل، وقد دعمنا ذلک بموبقات یزید وأفعاله القبیحة، التی ارتکبها بعد خلافته، والدالّة علی فسقه السابق، وعدم مبالاته بالدین. وأفعاله القبیحة هذه اعترف بها ابن تیمیة، وابن کثیر، وابن حزم، وغیرهم من أعمدة علماء القوم.

ثمّ یمکن أنْ ندلّل علی فسق الرجل، وعدم عدالته بنفس فعل الحسین وابن الزبیر؛ باعتبارهما صحابیین وفق مبنی أهل السنّة، فبضمیمة الحدیث الش_ریف المتّفق فی معناه بین الفریقین وهو: مَن مات ولیس فی عنقه بیعة؛ مات میتةً جاهلیّة.

فسوف یکون الحسین وابن الزبیر ماتا میتةً جاهلیة؛ لأنّهما لم یبایعا یزید بن معاویة إلی أنْ قُتلا، وهما من الصحابة العدول ومن أهل الجنّة! ومیتة الجاهلیة تعنی أمّا الموت علی

ص: 138

ضلالة، أو الموت علی کفر، فکیف یمکن أنْ نجمع بین ذلک؟!

فإمّا أنْ نقول: إنّ یزید کان فاسقاً، وغیر مؤهّل للخلافة، ولا تجب بیعته، بل لا تجوز، وهو المطلوب.

أو نقول: إنّ یزید کان عادلاً، مستحقاً للخلافة، ولازمه أنّ الحسین وابن الزبیر ماتا میتةً جاهلیة، وهذا ما لا یقول به أحد، خصوصاً أنّ الحسین(علیه السّلام) أحد سیدی شباب أهل الجنّة، وفق الحدیث المتواتر الذی سنُشیر إلیه لاحقاً: «الحسن والحسین سیّدا شباب أهل الجنّة».

یزید وروایة القسطنطینیة

من الأُمور الخطیرة التی کانت لها تداعیات إلی یومنا هذا، هی مسألة عدم تدوین الحدیث فی عهد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؛ بدعاوی مختلفة لا تمّت إلی الحقیقة بصلة، الأمر الذی أدّی إلی فتح باب الوضع علی مصراعیه، خصوصاً أنّ التدوین حصل فی فترة بنی أُمیّة، فاختلطت الأُمور بعضها ببعض، وکثرت الروایات الموضوعة، وضاعت الروایات الصحیحة بین تلک الآلاف المؤلّفة من الروایات، التی نُقلت وکُتبت فی القرنین الثانی والثالث، فکان من الضرورة بمکان أنْ تُوضع تلک الروایات _ خصوصاً ما یتعلّق منها بحکّام بنی أُمیّة _ علی طاولة البحث والتنقیب؛ لیتسنّی لنا معرفة الواقع من عدمه.

وحیث إنّ یزید معروف بفسقه ومجونه، حاولوا أنْ یضعوا فیه روایة تناسب حاله، فکان أنْ وضعوا روایة القسطنطینة، بعنوان أنّ أوّل جیش یغزو القسطنطینیة مغفور له، وبضمیمة أنْ یزید کان قائد الجیش کما یزعمون؛ فیکون یزید مغفوراً له، وبذلک تُطوی صحیفته السوداء، وتُتناسی أیّام لهوه وفجوره، بل لتذهب قتلی واقعة الحرة إلی الجحیم، ولتُنتهک أعراض الصحابة والتابعین، فیزید مغفورٌ له، مهما قتل وانتهک وعمل!

وروایة القسطنطینیة أخرجها البخاری عن أمّ حرام، أنّها سمعت النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یقول:

ص: 139

«أول جیش من أُمّتی یغزون البحر قد أوجبوا. قالت أم حرام: قلت یا رسول الله أنا فیهم؟ قال: أنت فیهم، ثمّ قال النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم): أول جیش من أُمّتی یغزون مدینة قیصر مغفورٌ لهم. فقلت: أنا فیهم یا رسول الله؟ قال: لا»(1). وقیص_ر هو ملک الروم، ومدینته هی القسطنطینیة.

وقد تمسّک ابن تیمیة بهذا الحدیث فی دفاعه عن یزید، وأنّه مغفور له فی أکثر من مناسبة(2).

وقال المُهلّب: «فی هذا الحدیث منقبة لمعاویة؛ لأنّه أوّل من غزا البحر، ومنقبة لولده یزید؛ لأنّه أوّل من غزا مدینة قیصر»(3).

غیر أنّ هذه الروایة محلّ نقاش سواء فی المتن أو السند، فرجال سندها کلّهم من أهل الشام، وأهل الشام معروفون بنصبهم وعدائهم لعلّی وأهل البیت(علیهم السّلام) ، فهم منافقون بنصّ قول النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لعلیّ: إنّه لا یحبّک إلّا مؤمن، ولا یُبغضک إلّا منافق(4).

وبطبیعة الحال لا یمکن التمسّک بروایة ینقلها المنافقون، خصوصاً وهی فی مدح أعداء أهل البیت(علیهم السّلام) .

ویکفی فی عدم التعویل علیها أنّها تدور علی ثور بن یزید الحمص_ی؛ فهو شامی من حمص، وأهل حمص کانوا شدیدی النصب والعداء لعلیّ(علیه السّلام)، قال یاقوت الحموی: «ومن عجیب ما تأمّلته من أمر حمص، فساد هوائها وتربتها، اللذین یُفسدان العقل، حتی یُضرب بحماقتهم المثل، إنّ أشد الناس علی علیّ (رضی الله عنه) بصفین مع معاویة کان أهل حمص، وأکثرهم تحریضاً علیه وجدّاً فی حربه»(5).

ص: 140


1- البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج3، ص232.
2- اُنظر: ابن تیمیة، أحمد بن عبد الحلیم، منهاج السنة: ج4، ص544، وص572.
3- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج6، ص74.
4- اُنظر: النیسابوری، مسلم بن الحجاج، صحیح مسلم: ج1، ص61.
5- الحموی، یاقوت بن عبد الله، معجم البلدان: ج2، ص304.

وکان جدّ ثور بن یزید قد شهد صفین مع معاویة، وقُتل یومئذٍ، فکان ثور إذا ذکر علیّاً(علیه السّلام) قال: «لا أُحبُّ رجلاً قتل جدّی»(1).

وقال ابن حجر: «کان یُرمی بالنصب»(2).

أضف إلی ذلک أنّ الأوزاعی، وابن المبارک، وغیرهما، کانوا ینهون عن الکتابة عنه، وکان الثوری یقول: خُذوا عنه واتّقوا لا ینطحکم بقرنیه. ولمّا قدم المدینة نهی مالک عن مجالسته(3).

هذا من جهة السند، وأمّا من جهة المتن فقد ردّها نخبة من علماء أهل السنّة، فقد نقل الحافظ ابن حجر عن المحدّث محمّد بن عبد الواحد الصفاقس_ی التونسی، المعروف بابن التین، شارح البخاری، وعن ابن المنیر، أنّهما قالا بما حاصله: إنّ یزید خارج من ذلک العموم بدلیلٍ خاصّ «إذ لا یختلف أهل العلم أنّ قوله (صلّی الله علیه وسلّم) مغفورٌ لهم مشروط بأنْ یکونوا من أهل المغفرة، حتّی لو ارتدّ واحدٌ ممَّن غزاها بعد ذلک لم یدخل فی ذلک العموم اتّفاقاً؛ فدلّ علی أنّ المراد: مغفورٌ لمَن وُجد شرط المغفرة فیه منهم»(4).

وکذلک ردّ المناوی الدلالة المدّعاة للحدیث، ونفی دخول یزید فیه، ذاکراً نحو ما تقدّم، فقال: «لا یلزم منه کون یزید بن معاویة مغفوراً له لکونه منهم؛ إذ الغفران مشروط بکون الإنسان من أهل المغفرة، ویزید لیس کذلک، لخروجه بدلیلٍ خاصّ، ویلزم من الجمود علی العموم أنّ مَن ارتدّ ممَّن غزاها مغفورٌ له. وقد أطلق جمع محقّقون حلّ لعن یزید به، حتّی قال التفتازانی: الحقّ أنّ رِضی یزید بقتل الحسین، وإهانته أهل البیت، ممَّا تواتر معناه، وإن کان تفاصیله آحاداً، فنحن لا نتوقّف فی شأنه، بل فی إیمانه (لعنة الله علیه وعلی أنصاره وأعوانه). قال الزین

ص: 141


1- ابن سعد، محمد، الطبقات الکبری: ج7، ص467.
2- ابن حجر، أحمد بن علی، مقدمة فتح الباری: ص392.
3- اُنظر: المصدرنفسه.
4- المصدرنفسه: ج6، ص74.

العراقی: وقوله: بل فی إیمانه، أی: بل لا یتوقّف فی عدم إیمانه، بقرینة ما قبله وما بعده»(1).

وذکر فی موضع آخر: «تقدّم کون یزید بن معاویة غیر مغفور له، وإنْ کان من ذلک الجیش؛ لأنّ الغفران مشروطٌ بکون الإنسان من أهل المغفرة، ولا کذلک یزید»(2).

أضف إلی ذلک فإنّ دلالة الحدیث المدّعاة لا تنسجم مع روایات أُخری وردت فی یزید، منها ما ورد عن جابر، قال: «سمعت رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) یقول: من أخاف أهل المدینة فقد أخاف ما بین جَنبَی»(3).

وعن السائب بن خلاد، أنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال: «مَن أخاف أهل المدینة أخافه الله (عزّوجلّ) وعلیه لعنة الله والملائکة والناس أجمعین، لا یقبل الله منه یوم القیامة صرفاً ولا عدلاً»(4).

وهناک روایات أُخری وردت عن عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمر، وسعد بن أبی وقّاص، بنفس المضمون السابق(5).

کما ورد فی البخاری وغیره، أنّه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال: «لا یکید أهل المدینة أحد إلّا انماع کما ینماع الملح فی الماء»(6).

ومن المعلوم أنّ ما حصل فی المدینة من قتلٍ ورعب، وانتهاک للإعراض وإباحتها ثلاثة أیّام، کان بأمر یزید، کما اعترف بذلک ابن تیمیة، وابن کثیر، علی ما قدّمناه.

علی أنّ ابن کثیر ربط بین موت یزید وبین هذه الروایات، فقال: «وقد أراد بإرسال

ص: 142


1- المناوی، محمد عبد الرؤوف، فیض القدیر شرح الجامع الصغیر: ج3، ص109.
2- المصدر السابق: ج5، ص334.
3- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج3، ص354.
4- اُنظر: المصدر نفسه: ج4، ص55 _ 56.
5- فهؤلاء خمسة من الصحابة رووا هذا الحدیث، وبعض طرقه صحیحة أیضاً. اُنظر: الهیثمی، علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج3، ص306 _ 307.
6- البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج2، ص222.

مسلم ابن عقبة توطید سلطانه وملکه، ودوام أیامه من غیر منازع، فعاقبه الله بنقیض قصده، وحال بینه وبین ما یشتهیه، فقصمه الله قاصم الجبابرة، وأخذه أخذ عزیزٍ مقتدر، وکذلک أخذ ربک إذا أخذ القری وهی ظالمة، إنّ أخذه ألیم شدید.

قال البخاری فی صحیحه: حدثنا الحسین بن حریث، حدثنا الفضل بن موسی، حدثنا الجعید، عن عائشة بنت سعد بن أبی وقاص، عن أبیها، قال: سمعت رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) یقول: لا یکید أهل المدینة أحد إلا انماع کما ینماع الملح فی الماء، وقد رواه مسلم من حدیث أبی عبد الله القراظ المدینی...» (1)، ثمّ ذکر عدّة من الروایات المتعلّقة بمَن أخاف أهل المدینة، وبطرقٍ متعدّدة.

ومن الروایات التی تتنافی مع مغفرة یزید أیضاً، ما أخرجه البخاری، عن أبی هریرة، قال: «قال رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم): یُهلک الناس هذا الحیّ من قریش، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: لو أنّ الناس اعتزلوهم».

وفی البخاری أیضاً، بعد الحدیث المتقدّم، عن أبی هریرة، قال: «سمعت الصادق المصدوق یقول: هلاک أُمّتی علی یدی غلمة من قریش. فقال مروان: غلمة؟! قال أبو هریرة: إن شئت أن أُسمّیهم، بنی فلان، وبنی فلان»(2).

وفی هذه الروایات إشارة جلیّة إلی حکّام بنی أمیّة، وخصوصاً یزید بن معاویة، ولذا فإنّ أبا هریرة کان یدعو ویقول: «اللهمّ إنّی أعوذ بک من رأس الستین، وإمارة الصبیان».

ومن المعلوم أنّ ولایة یزید کانت فی سنةّ (60ه_)، وبهذا أقرّ الحافظ ابن حجر، فقال معلّقاً علی ذلک: «وفی هذا إشارة إلی أنّ أوّل الأغیلمة کان فی سنة ستین، وهو کذلک، فإنّ یزید ابن معاویة استُخلف فیها، وبقی إلی سنة أربع وستین فمات»(3).

ص: 143


1- ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص244.
2- البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج4، ص177 _ 178.
3- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج13، ص8.

وذکر فی موضع آخر أنّ أوّل هؤلاء الغلمة هو یزید بن معاویة(1).

والنتیجة؛ إنّ الروایة التی یُراد التمسّک بها لإثبات مغفرة ذنوب یزید لا یمکن الرکون إلیها، لا من جهة الإسناد، ولا من جهة المتن، فضلاً عن معارضتها بغیرها المتضمّنة للعن یزید، وأنّ علی یدیه هلاک الأُمّة.

هذا کلّه علی القول بأنّ یزید قد شارک ذلک الجیش فی غزوته، وأنّه کان قائدهم! إلّا أنّ بعض الأخبار تشکّک فی ذلک، وتفید أنّ یزید امتنع عن اللحاق بالجیش، وتظاهر بالمرض، فی حین أنّ الجیش أصابه الجوع، وتفشّت فیه الأمراض، وهو ینتظر قائده الملهم!

جاء فی أنساب الأشراف: «أغزی معاویة الناس فی سنة خمسین، وعلیهم سفیان بن عوف، وأمّر یزید بالغزو، فتثاقل واعتلّ، فأمسک عنه، وأصاب الناس فی غزاتهم جوع وأمراض، فأنشأ یزید یقول:

ما إن أبالی بما لاقت جموعهم

بالفرقدونة من جوع ومن موم

إذا اتّکأت علی الأنماط فی غرفٍ

بدیر مرّان عندی أمّ کلثوم».

وأُمّ کلثوم هی زوجته بنت عبد الله بن عامر.

فیزید لم یبالِ، ولم یهتم بما حلّ بالمسلمین، مادام عنده زوجته أُمّ کلثوم.

لکن الروایة حوّلت بعد ذلک هذا المتخاذل عن سوح الوغی إلی بطلٍ همام، فجاء فیها: «فبلغ معاویة شعره، فأقسم علیه لیلحقنّ بسفیان فی أرض الروم؛ لیصیبه ما أصاب الناس ولو مات، فلحق به فی فرس أنطاکیة وبعلبکّ، وجماعة أنهضهم معه، فبلغ بالناس الخلیج، وضرب بسیفه باب الذهب، وهزم الروم، وخرج وسفیان بالناس»(2).

ص: 144


1- المصدر نفسه.
2- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص86.

فیزید إذاً لم یکن مع الجیش بادئ ذی بدئ، بل کان فی قصره مع زوجته، ولم یبالِ بماحدث لهم من جوعٍ ومرض، والتحق بهم بعد ذلک؛ نتیجة قسم أبیه علیه! فتحوّل عند ذلک إلی بطلٍ ضرغام! فهل الاشتراک بالغزوة بهذا النحو تُوجب المغفرة لیزید؟!

وقد اتّضح من جمیع ما تقدّم أنّ الرجل لم تتحقّق فیه شروط الخلافة الإسلامیة، فلا یمکن أنْ تنعقد له الخلافة، ولا یترتّب علی تربّعه علی عرش الخلافة أیّ أثر یُذکر.

ص: 145

ص: 146

المبحث الثالث : ولایة العهد من جهة شرعیة

تبیّن فیما سبق من البحث أنّ یزید لم یکن مؤهّلاً للخلافة، فلا هو مشمول بنظریة النصّ التی یقول بها الشیعة الإمامیة، ولا هو مشمول بش_رائط الإمام والخلیفة التی بیّنها أهل السنّة، خصوصاً أنّه یفتقر لأهمّ شرطین فی الخلیفة الإسلامی، وهما العدالة والعلم بمعنی الاجتهاد.

ولکن لو تنزّلنا عمّا تقدّم، وسرنا خطوة إلی الأمام، وتفحّصنا الطریقة التی عُیّن فیها یزید خلیفة للمسلمین، لوجدنا أنّها لا تنطبق علیها الش_رائط أیضاً، فبیعة یزید بدأت بتعیینه ولیّاً للعهد فی حیاة أبیه، بحیلة من المغیرة بن شعبة، ورغبةً منه فی البقاء والیاً لمعاویة علی الکوفة، بعد أنْ أراد معاویة عزله عنها، فاقترح علیه تنصیب یزید ولیّاً للعهد؛ تمهیداً لاستلامه الخلافة فیما بعد، مبیّناً استعداده لأخذ البیعة له من أهل الکوفة، علی أنْ یکفیه زیاد أهل البصرة(1).

ولمّا عاد المغیرة للکوفة تذاکر مع مَن یثق بهم، ومَن یعلم أنّهم أشیاع لبنی أُمیّة، فأجابوا إلی بیعته، وبعث إلی معاویة منهم عشرة، ویُقال أکثر، وأعطاهم ثلاثین ألف درهم، وجعل علیهم ابنه موسی بن المغیرة، فلمّا قدموا علی معاویة زیّنوا له بیعة یزید، ودعوه إلی عقدها،

ص: 147


1- اُنظر: ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص503 _ 504.

فقال لهم معاویة: لا تعجّلوا بإظهار هذا، وکونوا علی رأیکم.

ومعاویة لا تخفی علیه هذه الحیل والألاعیب، وهو رأسٌ فی ذلک، فالتفت إلی موسی وقال له: «بکم اشتری أبوک من هؤلاء دینهم؟». قال موسی بن المغیرة: «بثلاثین ألفاً». قال معاویة: «لقد هان علیهم دینهم».

وقیل: أرسل أربعین رجلاً وجعل علیهم ابنه عروة، فلمّا دخلوا علی معاویة قاموا خطباء، وأوضحوا لمعاویة إنّما الذی جاء بهم هو النظر لأُمّة محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وقالوا: یا أمیر المؤمنین، کبرت سنّک، وخفنا انتشار الحبل، فانصب لنا علماً، وحدّ لنا حدّاً ننتهی إلیه، فقال: أشیروا علیّ. فقالوا: نشیر بیزید بن أمیر المؤمنین. فقال: أو قد رضیتموه؟ قالوا: نعم. قال: وذلک رأیکم؟ قالوا: نعم، ورأی مَن وراءنا.

فقال معاویة لعروة سرّاً عنهم: «بکم اشتری أبوک من هؤلاء دینهم».

قال: «بأربعمائة دینار». قال لقد وجد دینهم عندهم رخیصاً، وقال لهم: «ننظر ما قدّمتم له، ویقضی الله ما أراد، والأناة خیر من العجلة فرجعوا»(1).

فلمّا رأی معاویة ما صنع المغیرة قَوِی عزمه علی البیعة لیزید، وأرسل إلی زیاد یستشیره فی ذلک، لکن رأی زیاد کان فی التمهّل؛ لأنّه لا یری صلاحیة یزید للخلافة، باعتباره صاحب رسلة وتهاون، مع ولهه بالصید، وأراد إیصال رأیه هذا إلی معاویة، إلّا أنّ مستشاره کعب بن عبید النمری ارتأی غیر ذلک، وطلب منه الإذن فی أنْ یلتقی بیزید، ویبیّن له هناته التی ینقمها الناس علیه، وأنّ زیاداً یتخوّف خلاف الناس علیه بسببها.

ولمّا مات زیاد عزم معاویة علی البیعة لابنه یزید، فأرسل إلی عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها، فلمّا ذکر البیعة لیزید قال ابن عمر: هذا أراد! إنّ دینی عندی إذاً لرخیص،

ص: 148


1- ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص504 _ 505.

وامتنع. ثمّ بعث إلی مروان والی المدینة یستشیره فی الأمر، ویخبره بأنّه أراد الخلافة لیزید خوفاً من اختلاف الأُمّة من بعده، وطلب منه أنْ یعرض علیهم الأمر، ثمّ یخبره بذلک.

فعرض مروان الأمر علیهم، وأخبرهم برأی معاویة من تولیته یزید خوفاً علی الأُمّة من الافتراق، لکنّ مروان فُوجئ بالمعارضة الشدیدة من عبد الرحمن بن أبی بکر، حیث فضح مخطّطهم، ونطق بالحقیقة من دون خوف أو تردّد، فقال لمروان: «کذبت والله یا مروان، وکذب معاویة، ما الخیر أردتما لأُمّة محمد، ولکنّکم تریدون أن تجعلوها هرقلیة، کلّما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان: هذا الذی أنزل الله فیه:«وَالَّذِی قَالَ لِوَالِدَیْهِ أُفٍّ لَکُمَا » الآیة. فسمعت عائشة مقالته، فقامت من وراء الحجاب، وقالت: یا مروان، یا مروان. فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه، فقالت: أنت القائل لعبد الرحمن أنّه نزل فیه القرآن، کذبت والله، ما هو ولکنّه فلان بن فلان، ولکنّک أنت فضض من لعنة نبی الله(1)).

ص: 149


1- اُنظر: ما تقدّم فی الکامل فی التاریخ: ج3، ص507. والروایة الأخیرة صحیحة الإسناد، وردت من عدّة طرق، فقد أخرج النسائی والحاکم بسندهما إلی محمّد بن زیاد، قال: «لمّا بایع معاویة لابنه، قال مروان: سنّة أبی بکر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبی بکر: سنّة هرقل وقیصر. فقال مروان: هذا الذی أنزل الله فیه: «وَالَّذِی قَالَ لِوَالِدَیْهِ أُفٍّ لَکُمَا» . الآیة، فبلغ ذلک عائشة، فقالت: کذب والله ما هو به، ولو شئتُ أن أُسمّی الذی أنزلت فیه لسمّیته، ولکنّ رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) لعن مروان ومروان فی صلبه، فمروان فضض من لعنة الله». النسائی، أحمد بن شعیب، السنن الکبری: ج6، ص459. الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج4، ص481. وصحّح إسناده الحاکم فی المستدرک: (ج4، ص481)، والألبانی فی صحیحته: ج7، ص722. وأخرج ابن أبی حاتم بسنده إلی عبد الله بن المدینی، قال: «إنّی لفی المسجد حین خطب مروان، فقال: إنّ الله أری أمیر المؤمنین فی یزید رأیاً حسناً، وإن یستخلفه فقد استخلف أبو بکر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبی بکر: أهرقلیة؟! إنّ أبا بکر والله، ما جعلها فی أحد من ولده، ولا أحد من أهل بیته، ولا جعلها معاویة فی ولده إلّا رحمة وکرامة لولده. فقال مروان: ألست الَّذِی قالَ لِوالِدَیْه أُفٍّ لَکُما؟ فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعین الذی لعن رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) أباک. قال: وسمعتهما عائشة فقالت: یا مروان، أنت القائل لعبد الرحمن کذا وکذا؟! کذبت، ما فیه نزلت، ولکن نزلت فی فلان بن فلان». ابن أبی حاتم، عبد الرحمن بن محمد، تفسیر ابن أبی حاتم (تفسیر القرآن العظیم): ج10، ص3295. قال الألبانی: «وهو إسنادٌ صحیح». الألبانی، محمد بن نوح، سلسلة الأحادیث الصحیحة: ج7، ص721 _ 722. والحدیث أخرجه البخاری مختصراً فی صحیحه.

وقام الحسین بن علی فأنکر ذلک وفعل مثله ابن عمر وابن الزبیر»(1).

وأخرج الزبیر عن عبد الله بن نافع قال: «خطب معاویة فدعا الناس إلی بیعة یزید، فکلّمه الحسین بن علی، وابن الزبیر، وعبد الرحمن بن أبی بکر، فقال له عبد الرحمن: أهرقلیة؟! کلّما مات قیصر کان قیصر مکانه، لا نفعل والله أبداً».

وبسندٍ له إلی عبد العزیز الزهری، قال: «بعث معاویة إلی عبد الرحمن بن أبی بکر بعد ذلک بمائة ألف، فردّها وقال: لا أبیع دینی بدنیای»(2).

وفی البدء والتاریخ للمقدسی: إنّ أهل المدینة امتنعوا عن بیعة یزید: «فجاء معاویة حاجّاً فی ألف فارس إلی المدینة، وتلقّاه الحسین وعبد الرحمن بن أبی بکر وعبد الله بن الزبیر، فسلّموا علیه فلم یرد جواب سلامهم، وأغلظ بهم فی القول وعنّف، وذلک حیلةً منه، فتوجّه القوم إلی مکة لما رأوا من جفائه، ودخل معاویة المدینة ولم یبقَ بها أحد لم یبایعه، وأخذ بیعة أهلها لیزید، وفرّق فیهم أموالاً عظیمة.

ثمّ خرج إلی مکّة، فتلقاه الحسین بن علی، فلمّا وقع بصره علیه، قال: مرحباً بابن رسول الله، وسید شباب أهل الجنّة. وأمر له بدابة، ثمّ طلع علیه عبد الله بن الزبیر، فقال: مرحباً بابن حواری رسول الله وابن عمّته. وأمر له بدابّة، ثمّ کذلک کلمّا طلع علیه طالع، حیّاه وأمر له بدابة وصلة.

ثمّ دخل مکّة، وهدایاه وجوائزه یروح علیهم ویغدو، حتی أنماهم الأموال، ثمّ أمر برواحله فعُلّقت بباب المسجد، وجمع الناس، وأمر بصاحب حرسه أن یقیم علی رأس کلّ رجل من الأشراف رجلاً بالسیف، وقال: إن ذهب واحد منهم إلی أن یراجعنی فی کلامی فاضربوا عنقه. ثمّ صعد المنبر وخطب، فقال: إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمین وخیارهم، ولا یُبتزّ أمرٌ دونهم، ولایُقضی أمرٌ عن غیر مشورتهم، وقد بایعوا یزید، فبایعوه بسم الله. فأمّا الأشراف فلم یمکنهم

ص: 150


1- ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص507.
2- اُنظر: ابن حجر، أحمد بن علی، الإصابة: ج4، ص276.

تکذیبه ومراجعته، وأمّا سائر الناس فلا جرأة لهم علی الکلام، ولا علم لهم بشیء ممَّا یقول، فأخذ البیعة ورکب رواحله وضرب إلی الشام»(1).

وقد أخرج هذه القصّة خلیفة ابن خیّاط بتفصیلٍ أکثر، وفیها أنّ معاویة حین دخل مکّة، وحاول أنْ یتظاهر باللین والحب للحسین وابن عمر وابن الزبیر وعبد الرحمن بن أبی بکر، «فأقبل بعض القوم علی بعضٍ فقالوا: أیّها القوم لا تُخدَعوا، إنّه والله، ما صنع بکم لحبّکم ولا کرامتکم، وما صنعه إلّا لما یرید فأعدّوا له جواباً». ثمّ اجتمع الرأی علی أنّ الذی یتصدّی للکلام مع معاویة هو ابن الزبیر بعد أنْ أخذ العهود والمواثیق علی أنْ لا یخالفوه، فلمّا تکلّم معاویة وعرض علیهم بیعة یزید، أجابه ابن الزبیر بأنّهم یخیّرونه بین ثلاث خصال، إمّا أنْ یصنع مثل ما صنع الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أو مثل ما صنع أبو بکر أو مثل ما صنع عمر، ثمّ شرع ببیان هذه الخصال الثلاثة، غیر أنّ الأمر لم یعجب معاویة، فرفض ذلک، وقال: «إمّا لا، فإنّی أحببت أنْ أتقدّم إلیکم أنّه قد أُعذر من أنذر، وإنّه قدکان یقوم منکم القائم إلیّ فیکذبنی علی رؤوس الناس، فأحتمل له ذلک وأصفح عنه، وإنّی قائم بمقالة إنْ صدقت فلی صدقی وإنْ کذبت فعلیّ کذبی، وإنّی أُقسم لکم بالله لئن ردّ علیّ منکم إنسان کلمة فی مقامی هذا لا ترجع إلیه کلمته حتی یسبق إلیّ رأسه، فلا یرعین رجل إلّا علی نفسه. ثمّ دعا صاحب حرسه فقال: أقم علی رأس کلّ رجل من هؤلاء رجلین من حرسک، فإنْ ذهب رجل یرد علی کلمة فی مقامی هذا بصدق أو کذب فلیض_رباه بسیفیهما، ثمّ خرج وخرجوا معه حتّی إذا رقی المنبر فحمد الله وأثنی علیه، ثمّ قال: إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمین وخیارهم، لا نستبدّ بأمر دونهم ولا نقضی أمراً إلّا عن مشورتهم، وإنّهم قد رضوا وبایعوا لیزید بن أمیر المؤمنین من بعده، فبایعوا بسم الله، فضربوا علی یدیه، ثمّ جلس علی راحلته وانصرف، فلقیهم الناس فقالوا: زعمتم وزعمتم، فلمّا أرضیتم

ص: 151


1- المقدسی، مطهر بن طاهر، البدء والتاریخ للمقدسی: ج6، ص6 _ 7.

وحبیّتم فعلتم. قالوا: إنّا والله، ما فعلنا...»(1).

وهذا الخبر سنده جید، فقد رواه خلیفة بن خیاط وهو ثقة، عن وهب بن جریر وهو ثقة من رجال البخاری ومسلم، عن جویریة بن أسماء وهو ثقة من رجال الشیخین أیضاً، عن أشیاخ أهل المدینة، وذکر الخبر مفصّلاً، فالسند جمعی عن أشیاخ أهل المدینة، ولیس عن شخص أو شخصین، وهذا الجمع مع التعبیر عنهم بأشیاخ أهل المدینة یُدلّل علی وثاقتهم، أو وثاقة بعضهم، أو لا أقل من تقوّی الطریق بمجموعهم.

وممّا ذکره المؤرّخون فی أمر هذه البیعة أیضاً: إنّ معاویة أمر عمّاله بأنْ یبعثوا الوفود إلیه من الأمصار، فلمّا اجتمعت الوفود عنده، قام معاویة بعمل خطّة لمبایعة یزید، فاتّفق مع الضحاک بن قیس الفهری، وقال له:

«إنّی متکلّم، فإذا سکتّ فکنْ أنت الذی تدعو إلی بیعة یزید وتحثّنی علیها»(2).

«فلمّا جلس معاویة للناس تکلّم فعظّم أمر الإسلام، وحرمة الخلافة وحقّها وما أمر الله به، من طاعة ولاة الأمر، ثمّ ذکر یزید وفضله، وعلمه بالسیاسة، وعرّض ببیعته، فعارضه الضحّاک فحمد الله وأثنی علیه، ثمّ قال: یا أمیر المؤمنین، إنّه لا بدّ للناس من والٍ بعدک، وقد بلونا الجماعة والألفة، فوجدناهما أحقن للدماء، وأصلح للدهماء، وآمن للسبل، وخیراً فی العاقبة والأیام عوج رواجع، والله کلّ یوم هو فی شأن، ویزید ابن أمیر المؤمنین فی حسن هدیه، وقصد سیرته علی ماعلمت، وهو من أفضلنا علماً وحلماً، وأبعدنا رأیاً، فولِّه عهدک، واجعله لنا علماً بعدک، ومفزعاً نلجأ إلیه ونسکن فی ظلّه!»(3).

ص: 152


1- العصفری، خلیفة بن خیاط، تاریخ خلیفة: ص164.
2- ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص507. واُنظر: ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج4، ص332 _ 333.
3- المصدر نفسه.

کما أنّ معاویة لمّا أراد البیعة، لیزید دعا أهل الشام إلی اختیار خلیفة من بعده، فأصفقوا واجتمعوا، وقالوا: رضینا عبد الرحمن بن خالد، فشقّ ذلک علی معاویة، وأسرّها فی نفسه.

ثمّ مرض عبد الرحمن، فأمر معاویة طبیباً یهودیاً عنده _ وکان عنده مکیناً _ أنْ یأتیه فیسقیه سقیة یقتله بها، فأتاه فسقاه فانحرق بطنه، فمات.

وقام بعد ذلک أخوه المهاجر بن خالد بدخول دمشق متخفّیاً، وقتل الطبیب الیهودی لیلاً عند خروجه من معاویة، وقد نقل ابن عبد البر هذه القصّة، وقال بعدها: «وقصّته هذه مشهورة عند أهل السیر والعلم بالآثار، والأخبار اختصرناها، ذکرها عمر بن شبّة فی أخبار المدینة وذکرها غیره»(1).

وأخرج خلیفة بن خیّاط، قال: «حدّثنا وهب قال: حدّثنی أبی، عن أیوب، عن نافع، قال: خطب معاویة، فذکر ابن عمر، فقال: والله، لیبایعنّ أو لأقتلنه»(2).

إلّا أنّ معاویة معروف بسیاسته وخداعه، فبعد أنْ هدّد بالقتل حاول لاحقاً إنکار ذلک، فحین دخل مکّة وقال له عبد الله بن صفوان: «أنت الذی تزعم أنّک تقتل ابن عمر إن لم یبایع لابنک؟» فقال: «أنا أقتل ابن عمر؟! إنّی والله لا أقتله»(3).

کما أنّ معاویة وتمهیداً لإعلان بیعة یزید قام بقتل الإمام الحسن(علیه السّلام) والصحابی سعد ابن أبی وقاص، لما یشکّله وجود هذین الشخصین حاجزاً کبیراً دون تحقیق ما یرید، فسعدمن الستّة الذین رشّحهم عمر للخلافة، والإمام الحسن(علیه السّلام) هو الخلیفة الخامس، وقد اشترط علی معاویة أنْ لا یعهد لشخص آخر، وأن تعود الخلافة إلیه.. لذا کان لا بدّ من التخلّص منهما، ثمّ المباشرة بأمر البیعة، یقول أبو الفرج: «وأراد معاویة البیعة لابنه یزید، فلم

ص: 153


1- ابن عبد البر، یوسف بن عبد الله، الاستیعاب: ج2، ص830.
2- العصفری، خلیفة بن خیاط، تاریخ خلیفة: ص161. والروایة صحیحة السند، رجالها ثقات.
3- المصدر نفسه: ص161.

یکن شیء أثقل من أمر الحسن بن علی وسعد بن أبی وقاص فدسّ إلیهما سُمّاً، فماتا منه»(1).

إذن؛ اتّضحت معالم الطریقة التی بُویع بها یزید ولیّاً للعهد، وخلیفةً للمسلمین بعد معاویة، ویمکن أنْ نلاحظ علی جمیع ما تقدّم ما یلی:

1 _ عرفنا فیما سبق أنّ خلافة معاویة لم تحضَ بالشرعیة؛ إذ إنّه کان باغیاً علی إمام زمانه الإمام علیّ، ثمّ الإمام الحسن، وقد وصل للسلطة بش_روط معیّنة لکنّه لم یفِ بها، فحکومته إنّما کانت قائمة بقوة السیف، فالواجب الش_رعی علیه هو التنحّی وإعادة الحقّ إلی أهله، لا أنْ یقوم بتنصیب غیره للخلافة، فهو یفتقر للشرعیة بنفسه، فضلاً عن تنصیبه خلیفة من بعده.

2_ إنّ ولایة العهد بدعة ابتدعها معاویة، لم یسبق لها غیره، فلم یحصل فی تنصیب الخلیفة الأوّل، ولا الثانی، ولا الثالث، ولا الرابع، أنّ الخلیفة الفعلی یجعل له فی حیاته ولیّاً للعهد، ویأخذ له البیعة بأسالیب وطرق ملتویة، ثمّ یتسنّم زمام الأُمور بعد وفاته، خصوصاً أنّ ولیّ العهد إنّما هو ابنه مع وجود غیره ممّن هم أفضل منه من الصحابة وأبنائهم.

فولایة العهد من المنظور الش_رعی فاقدة للش_رعیة؛ لعدم وجود الدلیل علیها، وعدم خضوعها لا لنظریة النص التی یقول بها الشیعة، ولا لنظریة الشوری التی یتبنّاها أهل السنّة.

ولعلّ ابن الزبیر أشار إلی عدم شرعیة ولایة العهد بقوله لمعاویة: «إنْ کنْت قد مللت الإمارة فاعتزلها، وهلم ابنک فلنبایعه، أرأیت إذا بایعنا ابنک معک لأیّکما نسمع؟ لأیّکما نطیع؟ لا نجمع البیعة لکما والله أبداً»(2).

ص: 154


1- أبو الفرج الأصفهانی، علی بن الحسین، مقاتل الطالبیین: ص48.
2- العصفری، خلیفة بن خیاط، تاریخ خلیفة: ص161.

فإنّ ما جری هو عملیة تحویل الخلافة الإسلامیة إلی توریث وحکم لبنی أُمیّة، وهذا ما بیّنه عبد الرحمن بن أبی بکر لمروان حینما قال له: تریدون أنْ تجعلوها هرقلیة، کلمّا مات هرقل قام هرقل، وفی لفظ: إنّها سنّة هرقل وقیصر، إشارة إلی حکم الروم المتمثّل بالتوریث.

ولکن قد یُقال بإنّ ولایة العهد عبارة عن ترشیح لیس إلّا، فلیس هناک منصب لیزید فی حیاة أبیه حتی تکون بدعة، بل هو ترشیح لولده للخلافة من بعده، والأمر للأُمّة إن قبلت فبه، وإلّا فلهم حقّ اختیار خلیفة غیره علیهم.

وفی هذا یقول أبو یعلی: «ویجوز للإمام أنْ یعهد إلی إمامٍ بعده، ولا یحتاج فی ذلک إلی شهادة أهل الحلّ والعقد... ولأنّ عهده إلی غیره لیس بعقد للإمامة؛ بدلیل أنّه لو کان عقداً لها لأفضی ذلک إلی اجتماع إمامین فی عصرٍ واحد، وهذا غیر جائز، وإذا لم یکن عقداً لم یعتبر حضورهم، وکان معتبراً بعد موت الإمام العاقد... لما بیّنا أنّ إمامة المعهود إلیه غیر ثابتة مادام العاهد باقیاً إماماً، ویجوز أن یعهد إلی مَن ینتسب إلیه بأُبوة أو بُنوّة، إذا کان المعهود له علی صفات الأئمّة؛ لأنّ الإمامة لا تنعقد للمعهود إلیه بنفس العهد، وإنّما تنعقد بعهد المسلمین... ویکون ذلک بعد موت المولی»(1).

لکن هذا الکلام لا ینطبق علی یزید بن معاویة؛ لما سیأتی من أنّه بمجرّد موت معاویة،تسنّم یزید أُمور الخلافة، وکتب یطلب البیعة ممَّن لم یبایعه، وهذا یکشف أنّ المسألة لم تکن عبارة عن ترشیح فقط؛ لأنّ المرشّح لا یحقّ له إجبار الناس علی بیعته، قبل أنْ یکون خلیفة، فاللازم بعد موت معاویة أنْ یجتمع أهل الحلّ والعقد ویجدّدوا البیعة لیزید _ إنْ کانوا بایعوا سابقاً _ ثمّ بعد ذلک یصیر خلیفة، لکنّ ذلک لم یحصل.

ص: 155


1- أبو یعلی الفرّاء، محمّد بن الحسین، الأحکام السلطانیّة: ص25.

3_ إنّ الولایة المذکورة إنّما کانت خدیعة قام بها المغیرة من أجل بقائه والیاً علی الکوفة، وقد أعجبت فکرته معاویة، فسعی بکلّ الوسائل والسبل لإنجاحها، فلم تکن ناشئة من مصلحة للأُمّة کما یحاولون تبریرها، خصوصاً أنّهم یرون أنّ النبی مات ولم ینصب شخصاً علی الأُمّة، مع أنّ الأُمّة کانت تمرّ بمخاطر عدّة، وهم یُبیّنون أهمیّة السقیفة، باعتبارها انعقدت سریعاً والنبیّ لمّا یُقبر، لمواجهة مخاطر الأُمة التی تُحیط بها؛ لذا فهم یصوّرون حنکة وسیاسة معاویة حینئذٍ أفضل من حنکة وسیاسة النبیّ _ نستجیر بالله _ ، فالنبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) مات ولم یوصِ، لکن معاویة لم یستطع أنْ یترک الأُمّة تائهة مفکّکة، فعیّن ولده خلیفة علیهم. وهذا المعنی لا یمتّ للواقع بصلة، وإلیه أشار عبد الرحمن بن أبی بکر فیما تقدّم من قوله: ما الخیر أردتما لأُمّة محمّد...

4_ إنّ الممارسات التی اتّبعها المغیرة ومعاویة فی سبیل تمهید خلافة یزید، من الإغراء بالمال، والتخویف والترهیب، والکذب علی الناس، لا تکسب یزید الشرعیة؛ لأنّ البیعة لا بدّ أنْ تتمّ وفق رضا وقناعة المبایعین.

5_ إنّ أعیان الأُمّة رفضوا هذا التنصیب، وعلی رأسهم الحسین بن علی(علیه السّلام)، وعبد الرحمن بن أبی بکر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبیر، وبیّنوا وجهة نظرهم بصورة واضحة وصریحة، وأنّ یزید لا یصلح للخلافة. وفی قول بعضهم کما تقدّم: إنّ هذه هرقلیة، ووراثة فی الخلافة، أسّس لها معاویة.

لذا؛ فالبیعة بولایة العهد فاقدة للسند الش_رعی أوّلاً، ولم تتمّ علی الأرض ثانیاً، فلا حجّیة لها إذاً.

ونختم هذا المبحث بما صرّح به الشیخ رشید رضا حول موضوع البیعة، فقد ذکر أنّ استخلاف معاویة لیزید _ وعبّر عنه بالفاسق الفاجر _ کان بقوة الإرهاب من جهة،

ص: 156

ورشوة الزعماء من جهةٍ أُخری، وأوضح أنّ هذا الاستخلاف تلته سنّة سیّئة من احتکار أهل الجور والطمع فی السلطان، وجعله إرثاً لأولادهم أو لأولیائهم کما یورث المال والمتاع؟ وإنّ هذه أعمال عصبیة القوة القاهرة المخالفة لهدی القرآن، وسنّة الإسلام(1).

وقال أیضاً: «أخذ معاویة البیعة لابنه الفاسق یزید بالقوة والرشوة، ولم یلقَ مقاومة تذکر بالقول أو الفعل إلّا فی الحجاز». ثمّ ذکر الروایة الدالّة علی معارضة عبد الرحمن بن أبی بکر وما جری بینه وبین مروان، وأضاف: «ثمّ حجّ معاویة لیوطّئ لبیعة یزید فی الحجاز، فکلّم کبار أهل الحلّ والعقد أبناء أبی بکر، وعمر، والزبیر، فخالفوه وهدّدوه إن لم یردّها شوری فی المسلمین، ولکنّه صعد المنبر، وزعم أنّهم سمعوا وأطاعوا وبایعوا یزید، وهدّد مَن یکذّبه منهم بالقتل.

وأخرج الطبرانی من طریق محمد بن سعید بن زمانة أنّ معاویة لمّا حض_رته الوفاة قال لیزید: قد وطّأت لک البلاد، ومهّدت لک الناس، ولست أخاف علیک إلّا أهل الحجاز، فإن رابک منهم ریب فوجّه إلیهم مسلم بن عقبة، فإنّی قد جرّبته وعرفت نصیحته. قال: فلمّا کان من خلافهم علیه ما کان، دعاه فوجّهه فأباحها ثلاثاً...

وأخرج أبو بکر بن خیثمة بسندٍ صحیح إلی جویریة بن أسماء: سمعت أشیاخ أهل المدینة یتحدّثون أنّ معاویة لمّا احتضر دعا یزید، فقال له: إنّ لک من أهل المدینة یوماً، فإن فعلوا فارمِهم بمسلم بن عقبة، فإنّی عرفت نصیحته الخ.

ذکره الحافظ فی الفتح: أباح عدو الله مدینة الرسول ثلاثة أیام، فاستحق هو وجنده اللعنة العامّة فی قوله [صلّی الله علیه وسلّم] عند تحریمها کمکة، مَن أحدث فیها حدثاً، أو آوی محدثا فعلیه لعنة الله والملائکة والناس أجمعین، لا یقبل الله منه یوم القیامة صرفاً ولا عدلاً (أی فرضاً ولا نفلاً) _ متّفق علیه _ فکیف بمَن استباح فیها الماء والأعراض والأموال؟!

ص: 157


1- اُنظر: القلمونی، رشید رضا، الخلافة: ص42.

وکان الحسن البصری یقول أفسد الناس اثنان: عمرو بن العاص یوم أشار علی معاویة برفع المصاحف، وذکر مفسدة التحکیم، والمغیرة بن شعبة، وذکر قصته إذ عزله معاویة عن الکوفة فرشاه بالتمهید لاستخلاف یزید فأعاده.

قال الحسن: فمن أجل هذا بایع هؤلاء الناس لأبنائهم، ولولا ذلک لکانت شوری إلی یوم القیامة»(1).

ص: 158


1- القلمونی، رشید رضا، الخلافة: ص52_ 53.

المبحث الرابع : بیعة یزید من جهةٍ شرعیة

اشارة

اتّضح فی المبحث السابق أنّ معاویة نصّب یزید ولیّاً لعهده، وعرفنا أنّ ولایة العهد بدعة أحدثها معاویة، لم یسبق لها أحد غیره، وأنّها مخالفة لنظریة النص ونظریة الشوری.

غیر أنّه قد قِیل: إنّ التکییف الشرعی لولایة العهد أنّها ترشیح الشخص للخلافة، لتبایعه الأُمّة بعد ذلک برضاها، فإنْ بایعته انعقدت له الإمامة، وإنْ رفضت بیعته أو بایعت غیره سقط الترشیح السابق له، وکأنّه لم یکن، وبهذا تبقی الأُمّة هی صاحبة القول الفصل فی اختیار الحاکم(1).

وقد تقدّم منا ذکر قول أبی یعلی فی أنّ الإمامة لا تتحقّق بالعهد، بل لا بدّ من بیعة المسلمین للمعهود له بعد وفاة الخلیفة الفعلی.

وعلی ضوء ذلک سنقف قلیلاً مع بعض المباحث؛ لنری شرعیة البیعة أوّلاً، ثمّ شرعیة بیعة یزید علی وجه الخصوص.

1_ عدم وجود نصٍّ علی شرعیة البیعة

أشرنا عند التعرّض لمبحث السقیفة أنّه لم یتحقّق فی بیعة أبی بکر لا إجماع الأُمّة ولا أهل

ص: 159


1- زیدان، عبد الکریم، أُصول الدعوة: ص201 _ 203.

الحلّ والعقد، وقد تخلّف عن بیعته کثیر من الصحابة، وعلی رأسهم علیّ بن أبی طالب(علیه السّلام)، بل إنّ عامّة بنی هاشم لم یبایعوا، وذکرنا سابقاً ثلّة من الصحابة المتخلّفین عن بیعة أبی بکر، وألمحنا هناک إلی أنّه لم یتبیّن فی السقیفة استنادهم إلی نصٍّ شرعی، سواء من القرآن او السنّة، بل کانت اجتهادات شخصیة، هدفها الاستیلاء علی السلطة فقط، ولذا وقعت الخلافات، واجتمع الأنصار سرّاً فی سقیفة بنی ساعدة، وحین علم أبو بکر وعمر بالخبر أقبلوا إلیهم مسرعین، مصطحبین معهم أبو عبیدة. وعلیّ، وبنو هاشم مشغولون بتجهیز النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فلو کانت مسألة الشوری مستندة إلی نصٍّ شرعی، فلا معنی لاجتماع الأنصار بصورة سریّة لاختیار خلیفة للمسلمین، ولا معنی لفزع أبی بکر وعمر إلی السقیفة، من دون مشاورة بنی هاشم وإعلامهم بالخبر، فلا الأنصار شاوروا قریشاً والمهاجرین، ولا أبو بکر وعمر شاور بنی هاشم، ولا ما حصل فی السقیفة کان شوری بین المسلمین، بل طفت علی السطح العصبیة والقبلیة، وکلّ فریق یطمع فی الخلافة، والخلاصة أنّ السقیفة لم تستند فی عملها إلی النّص الش_رعی، لا من القرآن ولا من السنّة، والذین اشترکوا فیها لم یستشیروا غیرهم، والنتیجة التی حصلت أنّ البیعة لم تتمّ لا بإجماع الأُمّة، ولا إجماع أهل الحلّ والعقد.

وما یؤکّد عدم وجود نصٍّ شرعی تستند له السقیفة، وإنّها کانت اجتهادات، الغرض من ورائها الحصول علی الملک والسلطان، ما قام به أبو بکر من تنصیب عمر بن الخطاب خلیفةً علی المسلمین من دون رضا الصحابة، ثمّ أکمل عمر مشوار التخبّط فی اختیار الخلیفة، فجعلها من بعده شوری فی ستّة، علی أنْ ترجّح الکفّة التی یکون فیها عبد الرحمن ابن عوف.

إذاً؛ لم تکن هناک شوری فی تنصیب أبی بکر، ولا فی تنصیب عمر، ولا فی تنصیب عثمان، واختلفت الطرق فی ذلک؛ لذا اضطرب أهل السنّة فی هذا الأمر، خصوصاً بعد رفضهم نظریّة النصّ، فراحوا ینظّرون ویشرعنون للواقع الخارجی الذی حصل، فأهل السنّة لم ینطلقوا من الکتاب والسنّة لمعرفة الطرق الشرعیة لتولّی الخلافة، بل انطلقوا من

ص: 160

الواقع الخارجی، واعتبروه واقعاً شرعیّاً، وأخذوا ینظّرون له ویبیّنون الأدلّة علیه، مع أنّه واقع متناقض مضطرب.

والذی دعا أهل السنّة لذلک هو قولهم بنظریة عدالة الصحابة أجمع، وأنّهم من أهل الجنّة، وطبقاً لذلک راحوا یتأوّلون لأعمالهم، ویبرّرونها بشتّی الوسائل، فجمعوا بین المتناقضات، فیرون أنّ علیّاً من أهل الجنّة، وعمار بن یاسر من أهل الجنّة، وفی المقابل فإنّ معاویة وأصحابه الذین قاتلوا علیّاً وقتلوا آلاف المسلمین فی حرب صفّین من أهل الجنّة أیضاً، والغریب أنّهم ینقلون فی صحیح البخاری، أنّ النبیّ قال: «ویح عمار، تقتله الفئة الباغیة، عمار یدعوهم إلی الله [وفی لفظٍ إلی الجنة] ویدعونه إلی النار»(1).

ولم یَدرْ فی خلد مسلم أبداً کیف أنّ الداعی إلی النار والداعی إلی الجنّة یکونان فی الجنّة معاً، خصوصاً أنّهم دخلوا فی قتال مریر راح ضحیّته الآلاف، والأغرب من ذلک أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) صرّح بأنّ قاتل عمّار وسالبه فی النار(2)، مع أنّ الذی قتل عماراً هو صحابی آخر، یُدعی أبو الغادیة الجهنی!(3).

والغرض أنّ القرآن والسنّة والواقع التأریخی تُبیّن بوضوح أنّ بعض الصحابة انحرف عن الحقّ ولابس الفتن، ولا یمکن المصیر إلی القول بعدالة کلّ صحابی مهما فعل ومهما ارتکب من مخالفات شرعیة.

فأهل السنّة انطلقوا من واقع هو بنفسه بحاجة إلی مستندٍ شرعی لتصحیحه، واتّخذوه سنداً شرعیاً لهم، حتی أنّ بعضهم قال بکفایة انعقاد الإمامة ببیعة واحد من أهل الحلّ والعقد، بل جعلوا التغلّب بقوة السیف أحد طرق تولّی الإمامة، وهو قول یرفضه

ص: 161


1- البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج3، ص207، وج1، ص115.
2- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص198. الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص387.
3- ابن حجر، أحمد بن علی، الإصابة: ج7، ص258.

الوجدان السلیم، فالخارج علی الحاکم الشرعی فاسق شاقّ لعصا المسلمین، ویقولون بوجوب قتله، لکنّه لو انتص_ر صار خلیفة للمسلمین، وتجب طاعته، فسبحان الله کیف یتحوّل مهدور الدم إلی إمام للمسلمین!

ونحن هنا نکتفی بذکر کلمات حول طرق انعقاد الإمامة؛ لیتّضح جیّداً کیف أنّهم اتخذوا الواقع الخارجی دلیلاً لهم، ولم یعرضوا الواقع الخارجی علی القرآن والسنّة، فقد أوضح النووی أنّ الإمامة تنعقد بثلاثة طرق، قال: «أحدها: البیعة، کما بایعت الصحابة أبا بکر (رضی الله عنهم)، وفی العدد الذی تنعقد الإمامة ببیعتهم ستّة أوجه:

أحدها: أربعون. والثانی: أربعة. والثالث: ثلاثة. والرابع: اثنان. والخامس: واحد...

والسادس وهو الأصحّ: إنّ المعتبر بیعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذین یتیسّر حضورهم...»(1).

فالأصل فی شرعیة البیعة هو مبایعة الناس لأبی بکر، ولم یستند النووی لآیة أو روایة فی الموضوع، کما أنّ أکثر الأعداد التی ذکرها النووی قد استندوا فیها إلی الواقع الخارجی، فمثلاً قالوا بکفایة الواحد؛ لاکتفاء الصحابة بواحد استناداً لعقد عمر لأبی بکر، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، ولم یشترطوا اجتماع مَن فی المدینة فضلاً عن إجماع الأُمّة، ولم ینکر علیهم أحد(2)، وکفایة الخمسة؛ لأنّ بیعة أبی بکر انعقدت بخمسة اجتمعوا علیها ثمّ تابعهم الناس، وهم: عمر بن الخطّاب، وأبو عبیدة، وأُسید بن خضیر، وبشر بن سعد، وسالم مولی أبی حذیفة، ولأنّ عمر جعل الشوری فی ستّة؛ لیعقد لأحدهم برضا الخمسة(3).

ص: 162


1- النووی، یحیی بن شرف، روضة الطالبیین: ج7، ص263 _ 264.
2- الإیجی، عبد الرحمن بن أحمد، المواقف: ج3، ص591. وقوله: ولم ینکر علیهم أحد. غیر صحیح؛ إذ إنّ الکثیر من الصحابة لم یبایعوا أبا بکر، کما أنّ الخلافات علی أوجها فی عقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، فلا نفهم ماذا یعنی بقوله: ولم ینکر علیهم أحد.
3- اُنظر: الماوردی، علی بن محمد، الأحکام السلطانیة: ص7.

والطریق الثانی الذی ذکره النووی لانعقاد الإمامة هو: «استخلاف إمام من قَبلُ وعهده إلیه، کما عهد أبو بکر إلی عمر (رضی الله عنهما)، وانعقد الاجماع علی جوازه»(1).

لکنّ الإجماع الذی ذکره محلّ نظر؛ فإنْ کان مقصوده إجماع الصحابة علی قبوله، فغیر تام؛ إذ إنّ الصحابة لم یرضوا بذلک کما قدّمنا سابقاً، وإنْ کان یقصد الإجماع المتأخّر عن ذلک التنصیب من قبل الفقهاء، فإنّما هو إجماع مستنِد إلی ذلک الفعل، وذلک الفعل بنفسه محتاج إلی المشروعیّة، فلا یکتسب الحجیّة.

والطریق الثالث الذی ذکره النووی هو: «القهر والاستیلاء، فإذا مات الامام، فتصدّی للإمامة من جمع شرائطها من غیر استخلاف ولا بیعة، وقهر الناس بشوکته وجنوده، انعقدت خلافته؛ لینتظم شمل المسلمین»(2).

والحقیقة أنّ العلّة الحقیقیة لیست انتظام شمل المسلمین، إنّما هو تصحیح الحکومات السنیّة، من زمن معاویة فما بعدها، القائمة علی الغلبة والسیف والقهر، وهذه الطریقة لعقد الإمامة _ کما اسلفنا _ تحوّل مهدور الدم، الشاقّ لعصا المسلمین إلی خلیفةٍ مطاع، وینهار معها تش_ریع الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. فالأُمّة طِبق هذا الطریق علیها الخضوع للحاکم، رغم انحرافه واستهتاره بالشریعة، وإذا کانت الأُمّة ساکتة عنه، وهو منحرف أیضاً، فمَن سیطبّق أحکام الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر علی أفراد المجتمع الإسلامی، وهکذا فإنّ الرضا والسکوت علی هکذا حاکم یُودی بالأُمّة إلی هوةٍ سحیقة، ویبعدها عن دینها وشریعتها السمحاء، وتتحوّل الأُمّة إلی مجموعة عبید، یقودهم السلطان کیفما یشاء، وهذا ما حصل فی زمن یزید بن معاویة.

ص: 163


1- النووی، یحیی بن شرف، روضة الطالبیین: ج7، ص264.
2- المصدر نفسه: ج7، ص266.

والخلاصة التی نخرج بها ممّا تقدّم: إنّه لا یوجد نصّ شرعی من القرآن والسنّة یبیّن طرق تولّی الإمامة عند أهل السنّة، وما حاولوا بیانه لاحقاً من الاحتجاج ببعض الآیات أو الروایات إنّما کان هدفه شرعنة ما قام به الصحابة ومَن بعدهم، مع أنّ الصحابة ومَن بعدهم لم یقوموا بذلک وفق تلک الأدلّة، کما أشرنا فیما سبق.

علی أنّ ما ساقوه من أدلّة غیر تام فی نفسه، خصوصاً أنّ تولّی الإمامة لها عدّة طرق، وغیر محصورة بالشوری کما عرفنا، وتلک الأدلّة قد أُشبعت بحثاً، وناقشها العلماء، ولا نری ضرورة لذکرها هاهنا، بعد أنْ أوضحنا للقارئ أنّ المُستند الأساس هو العمل الخارجی لا غیر.

واتّضح من جمیع ما تقدّم؛ أنّ البیعة لم تستند إلی أساس شرعی یمکن الاعتماد علیه، ومعه تکون الحکومات القائمة علی هذا الأساس هی حکومات غیر شرعیة.

2_ البیعة لم تتحقّق خارجاً

أوضحنا سابقاً بأنّ ولایة العهد _ بمعنی تنصیب الخلیفة اللاحق فی زمان حکم الخلیفة الفعلی _ هی بدعة اخترعها معاویة، وأنّه استخدم الرشاوی من جهة، والترهیب والتهدید والخدعة من جهةٍ أُخری فی تحصیل تلک البیعة، علی أنّ أعیان أهل المدینة لم یبایعوا، وأکثر الناس الذین بایعوا إنّما انخدعوا بقول معاویة بحصول البیعة له من رؤساء أهل المدینة ووجهائها؛ لذا فإنّ تلک البیعة لم تحضَ بش_رعیة القبول؛ لأنّ البیعة الش_رعیة _ لو قبلناها _ فإنّما هی تلک الصادرة عن رغبة أهل الحلّ والعقد وإرادتهم، حسب تشخیصهم لواقع المجتمع، لا أنْ تُملی علیهم بالقهر والقوة، والحِیَل الماکرة.

وقد عرفنا أنّ هناک توجیهاً وتکییفاً فقهیاً لموضوع ولایة العهد، یُفذلک ولایة العهد علی أنّها ترشیح للخلافة لا غیر، وهذا الترشیح منوط تحقّقه خارجاً برأی الأُمّة، فإنْ بُویع من قِبَل أهل الحلّ والعقد بعد وفاة الخلیفة، صار هو الخلیفة الفعلی، وإنْ بایعت الأُمّة

ص: 164

غیره سقط الترشیح، وصار هذا الشخص المبایَع هو الخلیفة الفعلی.

وحینئذٍ یتسنّی لنا التساؤل، بأنّه ما المقصود من أنّ البیعة حصلت لیزید؟ هل المراد هی تلک البیعة التی أخذها له أبوه معاویة؟ أو بیعةٌ أُخری؟

فإنْ کان المقصود هی تلک البیعة التی أخذها له أبوه معاویة، فهی لم تحضَ بالشرعیة؛ لأُمور:

أوّلاً: إنّها کانت مبتنیة علی المکر والخدیعة والتهدید والترهیب والرشاوی، مع أنّ نفس أخذ البیعة بوجود السلطان یخرجها عن حیادیتها؛ لما للسلطان من تأثیر کبیر علی میولات الناس، فکیف إذا استخدم نفوذه وقوته فی ذلک، فالبیعة لم تکتسب المشروعیة من تلک الجهة.

ثانیاً: إنّ البیعة لم تتمّ خارجاً؛ لأنّ أعیان أهل المدینة لم یبایعوا، وعلی رأسهم الحسین ابن علی(علیه السّلام)، وعبد الله بن الزبیر، وعبد الرحمن بن أبی بکر، وعبد الله بن عمر.

ثالثاً: إنّها بیعة فی حیاة الخلیفة الفعلی، فلیست مُلزِمة للناس بعد وفاته؛ لأنّ اللازم هو مبایعة الخلیفة عند وفاة الخلیفة السابق، لیتسنّم بعدها منصب الخلافة، وتجب علی الناس طاعتُه، وأمّا البیعة فی حیاة الخلیفة فلا تعنی شیئاً إطلاقاً، ما دام المُبایَع له لا تجب طاعته، وهذا ما صرّح به ابن الزبیر بقوله: «إنْ کنْت قد مللت الإمارة فاعتزلها، وهلم ابنک فلنبایعه، أرأیت إذا بایعنا ابنک معک لأیّکما نسمع؟ لأیّکما نطیع؟ لا نجمع البیعة لکما والله أبداً»(1).

فالبیعة تلک إنّما کانت بجعل یزید ولیّاً للعهد، وولایة العهد لا تعنی سوی الترشیح _ علی ما أشرنا سابقاً _ والمرشّح لا یکتسب الش_رعیة إلّا بالبیعة له بالخلافة عند موت الخلیفة الفعلی.

ص: 165


1- العصفری، خلیفة بن خیاط، تاریخ خلیفة: ص161.

وإنْ کان المقصود من البیعة هی بیعة أُخری حصلت لیزید بعد وفاة معاویة، فهذا ما لم نقف علیه فی کتب التاریخ، فإنّ المؤرّخین یذکرون البیعة التی أخذها له معاویة بصورة مفصّلة، لکنّهم حین یذکرون وفاة معاویة وتاریخه، یذکرون بعده أنّه بُویع لیزید بالخلافة من بعده، والظاهر أنّ مرادهم من ذلک هو مراسم تسلّم یزید للسلطة، لا أنّها بیعةٌ أُخری حضرها أهل الحلّ والعقد، خصوصاً أنّها حصلت بعد وفاة معاویة فوراً، فالظاهر أنّه تولی الخلافة اعتماداً علی بیعته بولایة العهد السابقة؛ لذا کان أوّل عمل قام به هو طلب البیعة من الحسین(علیه السّلام)، وابن الزبیر، وابن عمر، من دون رخصة فی ذلک، فکان همّه إنّما أخذ البیعة من الذین لم یبایعوه سابقاً، ولم نجد من المؤرّخین مَن یذکر أنّ أهل الحلِّ والعقد اجتمعوا وقرّروا اختیار یزید خلیفة للمسلمین بعد معاویة، خصوصاً أنّه تولّی الحکم فی الشام تبعاً لمقرّ أبیه، والشام تُعتبر حاضنة لبنی أُمیّة، وملیئة بالنواصب لأهل البیت(علیهم السّلام) ، فلا یمکن أنْ نعدّ بیعتهم _ لو حصلت _ بیعةً شرعیة، ملزمة للمسلمین فی جمیع الأقطار.

والغرض أنّ تصرّفات یزید لا تدلّ علی وجود بیعة جدیدة، بل کان أقص_ی ما یریده توطید ملکه الجدید، ولو بقتل مَن لم یبایعه فی حیاة أبیه، قال الطبری وابن الأثیر _ واللفظ للثانی _: «فلمّا تولّی [یعنی یزید] کان علی المدینة الولید بن عتبة بن أبی سفیان، وعلی مکة عمرو بن سعید بن العاص، وعلی البص_رة عبید الله بن زیاد، وعلی الکوفة النعمان بن بشیر، ولم یکن لیزید همّة حین ولی إلّا بیعة النفر الذین أبوا علی معاویة بیعته، فکتب إلی الولید یخبره بموت معاویة، وکتابا آخر صغیراً فیه: أمّا بعد، فخذ حسیناً، وعبد الله بن عمر، وابن الزبیر بالبیعة أخذاً لیس فیه رخصة حتّی یبایعوا، والسلام»(1).

ولا یتصوّر القارئ أنّ هؤلاء الثلاثة فقط لم یبایعوا، بل إنّ کلاًّ من هؤلاء له أقارب

ص: 166


1- ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج4، ص14. واُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص250. البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص299.

وأتباع لم یغترّوا بخدعة معاویة، ولم یبایعوا أیضاً، فقد نقل البلاذری عن أبی مخنف وأبی عوانة وغیرهم، أنّه لما بُعث إلی الحسین وابن الزبیر یدعونهما إلی البیعة: «فأمّا الحسین فامتنع بأهل بیته ومَن کان علی رأیه، وفعل ابن الزبیر مثل ذلک»(1).

ثمّ إنّ نفس الرسائل التی وصلت للإمام الحسین(علیه السّلام) من أهل العراق تؤکّد أنّهم لم یبایعوا لیزید بن معاویة، وأنّهم من دون إمام، فقال(علیه السّلام) فی جوابه لعمر بن سعد: «إنّ أهل هذا المص_ر کتبوا إلیّ یذکرون أن لا إمام لهم، ویسألوننی القدوم علیهم»(2).

ومن رسائلهم له(علیه السّلام): «أمّا بعد، فالحمد لله الذی قصم عدوّک الجبار العنید، الذی انتزی علی هذه الأُمّة فابتزها أمرها، وغصبها فیأها، وتأمّر علیها بغیر رضًی منها، ثمّ قتل خیارها، واستبقی شرارها، وجعل مال الله دولةً بین جبابرتها وأغنیائها، فبُعداً له کما بعدت ثمود، إنّه لیس علینا إمام، فأقبِلْ لعلّ الله أن یجمعنا بک علی الحقّ. والنعمان بن بشیر فی قصر الإمارة لسنا نجتمع معه فی جمعة، ولا نخرج معه إلی عید، ولو قد بلَغنا أنّک قد أقبلت إلینا أخرجناه حتی نلحقه بالشام إن شاء الله، والسلام ورحمة الله»(3).

والخلاصة: إنّه إنْ کان المراد من البیعة هی تلک التی حصلت فی حیاة أبیه فهی لم تتحقّق بشروطها علی الخارج، لا من جهة الاختیار والإرادة، ولا من جهة أهل الحلّ والعقد، وإن کان المراد من البیعة هی التی کانت بعد وفاة أبیه، فهی لم تحصل بالأساس.

نعم، بعد أنْ تسنّم یزید الخلافة بصورة رسمیة، راح ولاته یأخذون البیعة له فی الأمصار المختلفة، وهذه بیعة إنْ تمّت فی بعض المناطق فهی متأخّرة عن تولّیه للخلافة، ولم تکن بیعة تولّی بموجبها یزید للخلافة، فهی بیعة تحت تأثیر السلطة، ویعاقب کلّ من

ص: 167


1- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص300.
2- الدینوری، أحمد بن داوُد، الأخبار الطوال: ص253.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص262.

یتخلّی عنها، ولو أدّی ذلک إلی القتل، ومع ذلک فهی لم تحصل فی جمیع المناطق، وخالفها ثلّة من أهل الحلّ والعقد، کما ذکرنا سابقاً.

وما یؤکّد ذلک أیضاً أنّ الرسل کانت «تجری بین یزید بن معاویة، وابن الزبیر فی البیعة، فحلف یزید أن لا یقبل منه حتّی یُؤتی به فی جامعة»، ثمّ إنّ یزید أمر بإرسال جیش لقتال ابن الزبیر، فأُرسل عمرو بن الزبیر إلی المدینة، وکان علی خلاف مع عبد الله بن الزبیر، ف_ «نظر إلی کلّ مَن کان یهوی هوی ابن الزبیر فض_ربه، وکان ممَّن ضرب: المنذر بن الزبیر، وابنه محمّد بن المنذر، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد یغوث، وعثمان بن عبد الله بن حکیم بن حزام، وخبیب بن عبد الله بن الزبیر، ومحمّد بن عمّار بن یاسر، فض_ربهم الأربعین إلی الخمسین إلی الستین، وفرّ منه عبد الرحمن بن عثمان، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل فی أُناسٍ إلی مکة»(1).

ویترتّب علی ذلک أنّه مضافاً لعدم تحقّق شروط ومواصفات الخلیفة فی شخص یزید، فإنّ البیعة أیضاً لم تحصل له علی الوجه المطلوب، فیبقی غاصباً للخلافة، غیر مستحقٍّ لها، ویجوز الخروج علیه إحقاقاً للحقّ، ودفعاً للباطل، خصوصاً أنّ خلافته تمثّل تحوّلاً جذریاً فی مسار الأُمّة، وتأسیساً لمش_روع التوریث فی الخلافة، من دون مراعاة أیّة شرائط وضوابط فی ذلک، وقد روی أهل السنّة ما یؤکّد ذلک، فقد أخرجوا عن سفینة، عن النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، أنّه قال: «الخلافة ثلاثون سنة، ثمّ تصیر ملکاً». قال ابن حجر: «أخرجه أصحاب السنن، وصحّحه ابن حبان وغیره»(2).

وقد صرّحوا بأنّ الثلاثین سنة تنتهی بانتهاء الفترة التی تولّی فیها الإمام الحسن(علیه السّلام) الخلافة، فتکون الفترة اللاحقة من تسلّط معاویة، ثمّ یزید علی الأُمّة هی ملکٌ عضوض، ولیست خلافة إسلامیة.

ص: 168


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص255.
2- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج7، ص47.

المبحث الخامس :مشروعیة حکم یزید فی ضوء القوانین الوضعیة

من الواضح الجلی أنّ الحکومات فی القوانین الوضعیة تخضع لش_روط معیّنة، فرئاسة الوزراء، أو رئاسة الجمهوریة، أو أفراد البرلمان، لا بدّ أنْ یتمتّعوا بمواصفات وشرائط، حتّی یتمکنّوا من نیل الصفة الرسمیة للمنصب الذی یترشّحون له، فمن هذه الش_رائط مثلاً _ علی بعض القوانین _ أنْ یکون رئیس الوزراء أو الجمهوریة متولّداً من أبوین یحملان جنسیة نفس البلد، وکذلک أن یحملان شهادة معیّنة، کأنْ تکون البکلوریوس مثلاً، وهکذا توجد عدّة شرائط لا بدّ من تحقّقها عند المرشّح، ومن دونها یعتبر ترشیحه لاغیاً، ولو خالف الواقع واستطاع تزویر بعض المستمسکات؛ کی تتحقّق به الش_رائط، فسیُقال من منصبه، ویتعرّض للمحاکمة من قِبَل محکمة البلد عند اکتشافها لذلک.

ومن باب المثال علی ذلک، فإنّ دستور الولایات المتحدّة الأمریکیة ینصّ فی المادة الثانیة، الفقرة الأُولی علی أنْ «تُناط السلطة التنفیذیة برئیس للولایات المتحدة الأمریکیة، ویشغل الرئیس منصبه مدّة أربع سنوات، ویتمّ انتخابه مع نائب الرئیس، الذی یُختار لنفس المدّة...». ثمّ یش_رع الدستور ببیان طریقة انتخاب الرئیس، وبیان الشرائط فی ذلک، فی عدّة نقاط، نقتصر علی ذکر النقطة برقم (5)، حیث جاء فیها: «لا یکون أی شخص سوی المواطن بالولادة، أو مَن یکون من مواطنی الولایات المتحدّة وقت إقرار هذا الدستور، مؤهّلاً لمنصب الرئیس، کما لا یکون مؤهّلاً لذلک المنصب أی شخص لم یبلغ سن الخامسة والثلاثین، ولم یکن مقیماً فی الولایات المتحدة مدّة أربعة عشر عاماً».

وینصّ القانون المص_ری لسنة 1971م، فی المادة 75، بأنّه: «یُشترط فیمَن یُنتخب رئیساً

ص: 169

للجمهوریة أن یکون مص_ریاً، من أبوین مص_ریین، وأن یکون متمتّعاً بحقوقه المدنیة والسیاسیة، وألّا تقل سنّه عن أربعین سنة میلادیة».

وینصّ فی المادة 76، علی أنّه: «یُنتخب رئیس الجمهوریة عن طریق الاقتراع السرّی العام المباشر، ویلزم لقبول الترشیح لرئاسة الجمهوریة أن یُؤیّد المتقدّم للترشیح مائتان وخمسون عضواً علی الأقل من الأعضاء المنتخبین لمجلس_ی الشعب والشوری، والمجالس الشعبیة المحلیة للمحافظات، علی ألّا یقل عدد المؤیّدین عن خمسة وستین من أعضاء مجلس الشعب، وخمسة وعشرین من أعضاء مجلس الشوری، وعشرة أعضاء من کلّ مجلس شعبی محلی للمحافظة من أربع عشرة محافظة علی الأقل، ویزداد عدد المؤیّدین للترشیح من أعضاء کلّ من مجلسی الشعب والشوری، ومن أعضاء المجالس الشعبیة المحلیة للمحافظات، بما یعادل نسبة ما یطرأ من زیادة علی عدد أعضاء أیّ من هذه المجالس، وفی جمیع الأحوال لا یجوز أن یکون التأیید لأکثر من مرشّح، وینظّم القانون الإجراءات الخاصّة بذلک کلّه».

والغرض أنّ المرشّح لرئاسة الجمهوریة فی الدساتیر الوضعیة له شرائط ومواصفات خاصّة، وإن اختلفت هذه الش_رائط والمواصفات من دستورٍ إلی آخر، إلّا أنّها اتّفقت علی أنّه لا یمکن لأیٍّ کان أنْ یکون رئیساً للبلد، ما لم تنطبق علیه عدّة من المواصفات والشرائط.

وکما أنْ المرشّح لا بدّ أنْ تتحقّق فیه عدّة من المواصفات، فکذلک طریقة الانتخاب لها عدّة من الشرائط، فمنها أنْ لا تکون الحکومة قد استخدمت المال العام فی دعم مرشحها، خصوصاً إذا کان من دون هذا الدعم لا یمکن أنْ یحقّق أیّ نجاح یُذکر، ومنها أنْ تکون الانتخابات نزیهة، وأنْ لا یکون هناک تلاعب فیها، وأنْ یکون المُنتخِب _ بکسر الخاء _ له أهلیّة الانتخاب وفق شروط ذلک البلد، کأنْ یکون بلغ الثامنة عش_رة من عمره، وغیر ذلک من الشرائط، ولو حصل وإنْ فاز المرشّح من دون تحقّق هذه الشرائط، کأنْ تکون

ص: 170

الانتخابات غیر نزیهة مثلاً، أو استخدم المرّشح أسالیب غیر شرعیة فی تحصیله علی الأصوات التی مکّنته من الفوز؛ فسیعتبر خاسراً، بل قد یتعرّض للمحاکمة.

وکذلک فإنّ المرشّح للبرلمان لا بدّ أنْ تتوفّر فیه عدّة شرائط، فمثلاً ینصّ قانون الولایات المتحدّة الأمریکیة، المادة الأُولی، الفقرة الثانیة، رقم(2)، علی أنّه «لا یصبح أیّ شخص نائباً ما لم یکن قد بلغ الخامسة والعش_رین، وما لم تکن مضت علیه سبع سنوات وهو من مواطنی الولایات المتّحدة، وما لم یکن لدی انتخابه من سکان الولایة التی یتمّ اختیاره فیها».

وینصّ الدستور العراقی لسنة 2005م، فی المادة 47، ثانیاً: علی أنّه «یُشترط فی المرشّح لعضویة مجلس النواب أنْ یکون عراقیاً کامل الأهلیة»، وأوکل سائر شرائط المرشّح، وشرائط الانتخاب إلی تشریعها عن طریق مجلس النواب، فقال فی ثالثاً: «تنظّم بقانون شروط المرشّح والناخب وکلّ ما یتعلّق بالانتخاب».

والغرض أنّ هناک شروطاً للمرشّح نفسه، وهناک شروطاً للانتخاب وطریقته، ومخالفة تلک الشروط قد تودی بالفائز ویصبح فی عداد الخاسرین، وهذا واضح معروف فی القوانین المعمول بها حالیاً فی الکثیر من البلدان، فلو فرضنا أنّ الرئیس اتُّهم بقضیة معیّنة وثبتت علیه، کخیانة البلد، أوقیامه بتزویر شهادته، أو غیر ذلک ممّا یعدّ مخالفة دستوریة أو قانونیة، فسوف یعرّض للمساءلة ولربّما للعزل، وفی هذا الصدد نستشهد بالقانون الأمریکی، المادة الثانیة، الفقرة الرابعة، فهی تنصّ علی أنّه: «یُعزل الرئیس، ونائب الرئیس، وجمیع موظفی الولایات المتحدة الرسمیین المدنیین من مناصبهم، إذا وُجّه لهم اتّهام نیابی بالخیانة، أو الرشوة، أو أیّة جرائم، أو جُنح خطیرة أُخری، وأُدینوا بمثل هذه التّهم...».

ولو قمنا بعملیة إسقاط قانونی علی فترة یزید بن معاویة، لوجدنا أنّ هناک شروطاً للمرشّح للخلافة، وکذلک شروطاً لکیفیّة البیعة.

أمّا شرائط المرشّح للخلافة فهی عدیدة، وقد ذکرناها فیما تقدّم، ونذکر هنا أهمّها

ص: 171

ملخّصاً:

1_ العدالة.

2_ العلم المؤدّی إلی الاجتهاد.

3_ سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان.

4_ الرأی المفضی إلی سیاسة الرعیة وتدبیر المصالح.

5_ الشجاعة والنجدة المؤدّیة إلی حمایة البیضة، وجهاد العدو.

وغیر ذلک ممّا تقدّم سلفاً.

وکذلک فإنّ الانتخابات والبیعة لها شروط معیّنة، لعلّ أهمّها أنْ تکون من أهل الحلّ والعقد، وأنْ تکون برضاهم واختیارهم، وغیر ذلک ممّا هو مبثوث فی کلماتهم.

وبالتأمّل فیما أشرنا إلیه من القوانین الوضعیة، فإنّ بیعة یزید تکون غیر قانونیة، لا من جهة الشرائط الذاتیة، ولا من جهة طریقة البیعة، فهو لا یتمتّع بالصفات التی تؤهلّه للخلافة، خصوصاً صفتی العدالة والاجتهاد، فقد أوضحنا سابقاً بصورة مفصّلة أنّ یزید کان یش_رب الخمر، ویترک الصلاة، وینشغل بالملذات، وکذلک لا یوجد ما یُثبت معرفته بالقرآن والسنّة، والاجتهاد فیهما، بل إنّ سیرته بعیدة کلّ البعد عن أجواء العلم والدین، وکذلک فهو لا یتّسم بحسن الرأی، الذی عن طریقه یُدیر أُمور الرعیّة، ویراعی مصالحها، بل إنّ أعماله القبیحة أثبتت خلاف ذلک، والغرض أنّ یزید لا یملک المؤهّلات والشرائط التی یجب توفّرها فی الخلیفة الإسلامی.

وکذلک فإنّ طریقة البیعة لم تراعَ فیها الأُصول الصحیحة، فهی لم تتمّ من أهل الحلّ والعقد، بعد أنْ رفضها ثلّة من کبار وجوه الصحابة، وأهل البیت(علیهم السّلام) فی ذلک الوقت، وعلی رأسهم الحسین(علیه السّلام)، وابن الزبیر، وعبد الرحمن بن أبی بکر، وابن عمر، کما أنّ الحریة لم تکن متوفّرة لیُدلی أهل الحلّ والعقد بآرائهم بحریّة تامة، فقد استُخدمت فیها أسالیب

ص: 172

التهدید، والإغراء والکذب، والخیانة، وکانت الدولة نازلة بقوة فی دعم مرشحها باستخدام سلطتها وعنفوانها فی ذلک.

مضافاً إلی ذلک فإنّ ما حصل فی زمن معاویة غیر ملزم للأُمّة؛ لأنّ البیعة یجب أنْ تکون بعد وفاة الخلیفة، لا أنْ تُؤخذ فی حال حیاته، فهی عبارة عن ترشیح لا غیر، وقد تقدّم بیان ذلک، لکنّ الذی حصل أنّه بمجرد موت معاویة تسنّم یزید مقالید السلطة، وأخذ یدعو الناس إلی بیعته بالقوة، فلم یقف یزید جانباً لینتظر قرار أهل الحلّ والعقد فیمَن یرون خلیفةً علی المسلمین، بل تربّع علی السلطة وحاول بعد ذلک أخذ البیعة بالقوة، وخصوصاً ممَّن لم یبایعوه سابقاً بولایة العهد علی ما تقدّم.

فلم تتحقّق فی یزید لا شرائط الخلافة، ولا شرائط البیعة، فتکون خلافته غیر قانونیة وفق القوانین الوضعیة أیضاً.

ص: 173

خلاصةٌ ونتائج

تبیّن ممّا سبق أنّ الخلافة الإسلامیة لها شروط معیّنة، سواء ما یتعلّق بشخص الخلیفة، أو بآلیة بیعته وانتخابه، وخلصنا إلی أنّ یزید بن معاویة لا یتمتّع بالصفات والمؤهّلات التی تجعله خلیفة، وأنّ بیعته حصلت فی حیاة أبیه بالقوة والتحایل، والغدر والإغراء، ولم یبایعه ثلّة من وجهاء أهل المدینة، ومَن تبعهم من ذویهم أو ممَّن یُؤخذ برأیهم، ولم تحصل هناک بیعة صریحة وواضحة بعد وفاة معاویة، هذا فضلاً عن عدم وجود دلیل علی شرعیة ولایة العهد، أو شرعیة البیعة لتنصیب الخلیفة، بل کان جلّ استنادهم فی ذلک هو الواقع الخارجی، وهو مضطرب ومتناقض، وبحاجة إلی دلیل یصحّحه، ولیس هو دلیل بنفسه.

کما اتّضح أنّه حتی وفق القوانین المعمول بها حالیاً، فإنّ یزید لا یستمدّ المشروعیة لخلافته؛ لعدم انطباق القوانین علیه، سواء تلک المتعلّقة بذاته، أو الأُخری المتعلّقة بشروط وطریقة البیعة.

ونخلص من جمیع ذلک أنّ یزید تسلّط علی رقاب المسلمین، واغتصب الخلافة الإسلامیة، وهو متفسّخ بعید عن کلّ القیم والمبادئ، وبُویع له بطریقة غیر مش_روعة، وشرعنت بخلافته مسألة التوریث، فکان من الض_روری الوقوف بوجه هذا التحوّل الکبیر فی مسار الأُمّة الإسلامیة، وأصبحت کلمة (لا) الرافضة لبیعته واجبة علی المسلمین؛ لإنقاذ الأُمّة من خطر فقدان الهویة، والانزلاق إلی هوّةٍ سحیقة، بعیدة کلّ البعد عن قیم ومبادئ الرسالة المحمدیة، وهذا ما قام به الحسین(علیه السّلام).

ص: 174

الفصل الرابع: مشروعیة الثورة فی ضوء وجوب الأمر بالمعروف .. وضمان الحریات فی القانون الوضعی

اشارة

ص: 175

ص: 176

المبحث الأوّل: الثورة الحسینیة وفق وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والحفاظ علی بیضة الإسلام

اشارة

أوضحنا سابقاً أنّ أوّل جذور الانحراف فی مسار الأُمّة کان بعد وفاة النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) مباشرةً، حین أُقصیَ البیت العلوی عن الخلافة، وغُیّبت نظریة النصّ، فتسنّم حینها أبو بکر أُمور الخلافة، وبدأت الأُمور تُسیّر بخلاف ما رُسم لها، وبلغ الانحراف أشدّه حین ولی عثمان، خصوصاً أنّه قرّب بنو أُمیّة، وسلّطهم علی رقاب المسلمین، وتفاقمت الأوضاع، وانتهت الأُمور بثورة عارمة أطاحت بالخلیفة، فأقبلت الأُمّة إلی علیّ(علیه السّلام) تطلب منه تولّی الخلافة.

تسنّم الإمام علی(علیه السّلام) مقالید الأُمور وفق بیعة الناس له، لا وفق إیمان المجتمع بالنص، فالفترة الطویلة التی عاشها المجتمع بعیداً عن توجیهات الرسول أسهمت فی تغییب نظریة النص من الأذهان، ولذا فإنّ الإمام علی(علیه السّلام) حاول فی أکثر من خطبة أنْ یُعید إلی الأذهان تنصیبه فی یوم الغدیر، وأولویته بالخلافة من غیره _ ولا یناسب المقام التعرّض لتلک الروایات فی هذا المبحث _ والغرض أنّ مبایعة الناس للإمام علی(علیه السّلام) لا تعنی عودة النظریة الصحیحة فی الحکم، وإنْ أسهمت فی عودة شخص الحاکم الذی أراده الله سبحانه وتعالی.

ص: 177

حاول الإمام(علیه السّلام) أنْ یقوم بإصلاح الأُمور التی أفسدها مَن کان قبله، لکنّه قُوبل بانشقاقات وحروب فتّتت جیشه، وانهکت قواه.

فمعاویة الذی تربّع علی خلافة الشام، بعد أنْ ولّاه عمر علیها، ثمّ ولّاه عثمان(1)، رفض الخضوع لخلافة علیّ(علیه السّلام)، وأعلن المعارضة بحجّة المطالبة بدم عثمان، فدخلت الأُمّة فی منعطفٍ خطیر آخر، حیث بدأ الصف یتصدّع، وباتت الشام خارجة عن حکم الإمام(علیه السّلام).

وقد أسفرت فترة حکم الإمام(علیه السّلام) عن ثلاث حروب، ابتدأت بحرب الجمل، بقیادة عائشة ومعها طلحة والزبیر الذین نکثوا البیعة، ومروراً بحرب صفّین مع معاویة واتباعه، وانتهاءً بحرب الخوارج (النهروان).

وبعد مقتل علیّ (علیه السّلام)، توجهت الناس إلی الإمام الحسن(علیه السّلام) وبایعته بالخلافة، ثمّ صار ما صار من أمر الصلح، وانتقلت الخلافة إلی الشام، وأخذ معاویة یعیث بالأرض فساداً، خصوصاً أنّه نقض شروط الصلح، وصرّح بأنّ قتاله لأهل العراق لم یکن من أجل الصلاة أو الصوم، بل کان من أجل أنْ یتأمّر علیهم.

وقد سبق أنْ تحدّثنا قلیلاً عن حیاة معاویة، وعدم شرعیّة خلافته، وارتکابه المحرّمات، وقتله للخلّص من الصحابة، واتّباعه أسالیب الترهیب والتجویع ضد کلّ من یختلف مع سیاسته، أو یکون موالیاً لعلی(علیه السّلام)، بل وذکرنا ما یدلّ علی خروجه عن ملّة الإسلام.

ثمّ إنّه أحدث بدعة جدیدة فی المجتمع الإسلامی، وهی بدعة التوریث، حین أخذ البیعة بولایة العهد لولده یزید، وهو منعطفٌ خطیر آخر فی مسار الأُمّة.

ص: 178


1- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص13.

فالأُمّة مرّت بعدّة منعطفات خطیرة، أفقدتها هویتها الإسلامیة، وهذه المنعطفات هی:

1_ ما جری فی السقیفة من تنصیبٍ لأبی بکر، وإقصاء البیت العلوی عن الخلافة.

2_ ما تلاها من انحرافات فی عدم تطبیق الشریعة الإسلامیة، خصوصاً فی زمن خلافة عثمان، وتحدیداً فی النصف الثانی من خلافته.

3_ الانشقاق الکبیر الذی حصل فی خلافة علیّ(علیه السّلام)، بعد أنْ نکث طلحة والزبیر بیعتهما، وخرجا مع عائشة، وکذلک استئثار معاویة بالشام، ورفضه طاعة الخلیفة، وما تلاه من حرب صفین.

4_ ما جری فی خلافة الحسن(علیه السّلام) من ظروف ألجأته إلی الصلح مع معاویة ضمن شروطٍ معیّنة، وبالتالی تسنّم معاویة شؤون الخلافة علی کافّة الأُمّة الإسلامیة.

5_ أخْذ معاویة البیعة بولایة العهد لیزید بطرقٍ ملتویة، وتحویل مسار الخلافة إلی التوریث.

هذه أبرز المنعطفات التی مرّت بها الأُمّة الإسلامیة، والتی تحوّل بعدها المجتمع الإسلامی إلی مجتمع هزیل فاقد للإرادة، میّت الضمیر، یعرف الحقّ ولا یقوی علی نصرته، فترهیب معاویة وترغیبه، وعمله علی تفکیک المجتمع أوصل الأُمّة الإسلامیة إلی هوّةٍ سحیقة، لا تکاد تُسمع معها کلمة الحقّ، إلّا من قلائل یکون مصیرهم القتل أو التشرید، وإلّا فالغالب رضیَ بتلک العیشة الذلیلة، إزاء حفنة إغراءات زائلة، أو إزاء تهدید بسیط. فروح الأُمّة سُلبت، وناموا فی سباتٍ عمیق، لا یقوَون علی النُّطق بکلمة الحقّ، مع معرفتهم به وتشخیصهم له، وهذا ما صوّره الفرزدق حینما التقی بالإمام

ص: 179

الحسین(علیه السّلام)، وسأله عن القوم، فقال: «قلوب الناس معک، وسیوفهم مع بنی أُمیّة»(1).

فالناس بقلوبها مع الحسین لمعرفتها بالحقّ، لکنّها خاضعةٌ وذلیلة، وأدوات بید بنی أُمیّة، وهذا التحوّل الکبیر فی المجتمع الإسلامی کان یحتاج إلی تحرّک وموقف صریح یوقظ ضمیر الأُمّة، ویُعید إلیها روحها الرسالیة، خصوصاً بعد ما تولّی یزید _ مع انحرافه وتهتّکه _ خلافة الأُمّة الإسلامیة، ممَّا یعنی أنّ الأُمّة سائرة باتجاه محو الرسالة، والقضاء علی ما تبقّی منها، فأطلق الحسین(علیه السّلام) صرخته المبارکة، وصرّح بهدفه من الخروج، وهو طلب الإصلاح، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وهذا ما نلمسه بوضوح من خلال رسائله أو خطاباته التی ذکرها المؤرِّخون، مع أنّه بغضّ النظر عن وجود کلمات وأقوال تبیّن هذا الهدف من عدمه، فإنّ نفس رفض الحسین(علیه السّلام) لبیعة یزید، وتحرّکه فی ضوء ما آلت إلیه أوضاع المجتمع الإسلامی من انحدارٍ مخیف صوب الهاویة، کان ضمن هذا الإطار، لکن ومن باب الاستئناس والتأیید، لا بأس من الوقوف علی بعض کلمات الإمام الحسین(علیه السّلام) المبیّنة لهدفه هذا(2):

أوّلاً: لعلّ أوّل ما نقف علیه فی هذا الباب هو الوصیّة التی کتبها الإمام الحسین(علیه السّلام) إلی أخیه محمّد بن الحنفیة، یوضّح فیها الهدف الرئیس من ثورته، وقد جاء فیها: «إنّی لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب النجاح والصلاح فی أُمّة جدّی محمّد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، أُرید أنْ آمر بالمعروف وأنهی عن المنکر»(3).

وهذا الخبر صریحٌ بیّن فی توضیح الهدف والمراد من خروجه(علیه السّلام)، وهو طلب الصلاح

ص: 180


1- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص165. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص290.
2- ونحن فی هذا البحث لا نرید الدخول فی الآیات والروایات الدالّة علی وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فإنّ ذلک محقّق فی محلّه فی کتب الفقهاء.
3- ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص21.

فی هذه الأُمّة، وطلب الصلاح إنّما یتحقّق بالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فلیس هناک هدفان أحدهما الإصلاح والآخر هو الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، بل هو هدف واحد، وهو دعوة الأُمّة من خلال هرم السلطة فیها إلی الالتزام بالتکالیف الآلهیة، من الأتیان بالواجبات والانتهاء عن المحرّمات، فإنّه إذا تحقّق ذلک تحقّق الصلاح فی المجتمع الإسلامی.

ثانیاً: إنّ الحسین خطب جماعته وجماعة الحُرّ فی الطریق خطبةً، جاء فیها: «أیّها الناس، إنّ رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، قال: مَن رأی سلطاناً جائراً، مستح_لّا­ً لحرم الله، ناکثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، یعمل فی عباد الله بالأثم والعدوان، فلم یغیّر علیه بفعلٍ ولا قول؛ کان حقّاً علی الله إنّ یدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشیطان، وترکوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفیء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَن غیّر»(1).

وهذا الخبر أیضاً یشیر إلی هدف الإمام الحسین(علیه السّلام) بوضوح، فإنّ تحرکه إنّما کان بهدف ردع السلطان الجائر، المستحلّ لحرم الله، والناکث لعهده، والمخالف لسنّته، فقد بدأ خطابه ببیان القضیّة العامّة، وهی وجوب التحرّک والوقوف بوجه السلطان المتجبّر، المنحرف عن جادّة الحق، المخالف للسنّة النبویّة، ثمّ بیّن أنّ الحاکم الفعلی إنّما هو مصداق لذلک الحاکم المنحرف، فبیّن أنّ یزید ومَن معه قد لزموا طاعة الشیطان، وترکوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله.

إذاً؛ فیزید وزبانیته منحرفون عن الش_ریعة، ووجب الوقوف بوجههم، والحسین(علیه السّلام) أحقّ من غیره بذاک؛ لقرابته من رسول الله کما صرّح بذلک علی ما فی بعض المصادر(2)،

ص: 181


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص304.
2- ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص81.

فتحرّکه کان ضمن إطار الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

ثالثاً: ورد أنّ الحسین(علیه السّلام) حین رأی نزول عمر بن سعد وجیشه إلی ساحة المعرکة، وأیقن أنّهم قاتلیه، قام خطیباً فی أصحابه، فقال: «قد نزل ما ترون من الأمر، وإنّ الدنیا تغیّرت وتنکّرت وأدبر معروفها، واستمرّت حتّی لم یبقَ منها إلّا کصبابة الإناء، وخسیس عیشٍ کالمرعی الوبیل، ألا ترون الحقّ لا یُعمل به، والباطل لا یُتناهی عنه، لیرغب المؤمن فی لقاء الله، وإنّی لا أری الموت إلّا سعادة، والحیاة مع الظالمین إلّا برماً»(1).

وهذا الخبر کسابقیه صریحٌ فی تحدید الهدف، فالإمام یصوّر ما حلّ بالأُمّة من انحراف، حتّی لم یبقَ فیها من المعروف سوی الیسیر، وأنّ الحقّ لا یُعمل به والباطل لا یُتناهی عنه، فتحرّک الإمام کان بصدد الأمر نحو الحقّ، والنهی عن الباطل، فهو یتحدّث عن نفس الإطار المتقدّم، إطار الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

رابعاً: إنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) کتب کتاباً إلی وجهاء وأشراف أهل البص_رة، جاء فیه: «أمّا بعد، فإنّ الله اصطفی محمّداً (صلّی الله علیه وسلّم) علی خلقه، وأکرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إلیه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرسل به (صلّی الله علیه وسلّم)، وکنّا أهله وأولیاءه، وأوصیاءه وورثته، وأحقّ الناس بمقامه فی الناس، فاستأثر علینا قومنا بذلک فرضینا، وکرهنا الفرقة وأحببنا العافیة، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلک الحقّ المستحقّ علینا ممَّن تولّاه ... وقد بعثت رسولی إلیکم بهذا الکتاب، وأنا أدعوکم إلی کتاب الله وسنّة نبیه (صلّی الله علیه وسلّم)، فإنّ السنة قد أُمیتت، وإنّ البدعة قد أُحییت، وإن تسمعوا قولی وتطیعوا أمری أهدِکم سبیل الرشاد، والسلام علیکم ورحمة الله»(2).

ص: 182


1- الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر: ج3، ص114 _ 115. واُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص305.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص266.

وهذا الکتاب یحتوی علی مضامین مهمّة جدّاً، فهو یوضح لأهل البص_رة أنّ الخلافة تکون لأهل البیت(علیهم السّلام) بعد النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وأنّهم أحقّ الناس بها، لکنّهم سکتوا عن ذلک مراعاة لجمع الکلمة وعدم الفرقة، لکنّ الأمر وصل إلی الهاویة، وأنّ سنّة النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وشرعته التی جاء بها قد أُمیتت وغُیّبت، ولم یبقَ منها سوی الاسم، وأنّ البدعة قد أُحییت، فکان لا بدّ من التحرک لإحقاق الحق وإحیاء السنّة، وإزهاق الباطل وإماتة البدع والأباطیل التی راجت فی المجتمع الإسلامی، فرسالته صریحة فی إرادته القیام بالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

شبهة عدم تحقّق شرائط الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والجواب عنها

اشارة

هذا، وقد یُقال: إنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر له شرائط معیّنة، لا بدّ من تحقّقها لاکتساب العمل مش_روعیته الدینیة، أیّ أنّ الآمر بالمعروف والناهی عن المنکر لا بدّ أنْ یتحرک وفق شروط معیّنة، إنْ تحقّقت اکتسب تحرّکه الشرعیة، وإلاّ فلا، منها: احتمال التأثیر. ومنها: عدم الضرر.

1_ عدم تحقّق شرطیّة احتمال التأثیر

فقد یُقال إنّ هذا الشرط غیر متحقّق فی ثورة الإمام الحسین(علیه السّلام)، فإنّ احتمال التأثیر میؤوس منه فی وقت خلافة یزید بن معاویة؛ لأنّ یزید وصل إلی مراحل متمادیة فی الانحراف، ومستعدّ للقیام بکلّ شیء من أجل بقائه فی السلطة، فلا یُتوخّی منه ولا یتوقع منه أنْ یتغیّر، ولذا فإنّه فی أوّل تسنّمه السلطة کان کلّ تفکیره منصبّاً فی کیفیة أخذ البیعة من الإمام الحسین(علیه السّلام) وابن الزبیر، ولو کان ذلک بقوّة السیف(1).

ص: 183


1- ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج4، ص14.
2_ عدم تحقّق شرطیة عدم الضرر علی الآمر بالمعروف والناهی عن المنکر

ویمکن القول أیضاً أنّ هذا الش_رط غیر متحقّق أیضاً؛ إذ لا یخفی علی الحسین(علیه السّلام) فی أنّ الإقدام علی هکذا عمل سوف یُوجب الض_رر علیه وعلی عائلته وأصحابه، خصوصاً أنّ الشرط هو احتمال الضرر ولیس الیقین بالضرر، واحتمال الضرر متحقّق حتماً، فإنّ کلّ الظروف التی اکتنفت تلک الفترة تُوحی بإنّ رفض الحسین(علیه السّلام) للبیعة وتحرّکه نحو العراق إنّما هو محفوف بالمخاطر، ولذا فإنّ جملة من الصحابة کانوا متخوّفین جدّاً من خروج الإمام الحسین(علیه السّلام)، وکانوا یطلبون منه عدم الرحیل، فمثلاً لقیه عبد الله بن مطیع، فقال له: «جعلت فداک، أین ترید؟ قال: أمّا الآن فإنی أرید مکّة، وأمّا بعدها فإنّی أستخیر الله، قال: خار الله لک، وجعلنا فداک، فإذا أنت أتیت مکّة فإیاک أن تقرب الکوفة، فإنّها بلدة مشؤومة، بها قُتل أبوک، وخُذل أخوک، واُغتیل بطعنةٍ کادت تأتی علی نفسه، الزم الحرم، فإنّک سیّد العرب، لا یعدل بک والله أهل الحجاز أحداً، ویتداعی إلیک الناس من کلّ جانب، لا تفارق الحرم، فذاک (1) عمّی وخالی، فوالله، لئن هلکت لنسترقنّ بعدک»(2). فمن الواضح أنّ عبد الله بن مطیع کان متخوّفاً من أنّ رحیل الإمام الحسین(علیه السّلام) إلی العراق سیؤدّی إلی قتله.

وممَّن عارض رحیله عبد الله بن عمر، فلمّا سمع بخروجه، قدّم راحلته، وخرج خلفه مسرعاً، فأدرکه فی بعض المنازل، فقال: «أین ترید یا بن رسول الله؟ قال: العراق. قال: مهلاً، ارجع إلی حرم جدّک. فأبی الحسین(علیه السّلام) علیه، فلمّا رأی ابن عمر إباءه، قال: یا أبا عبد الله، اکشف لی عن الموضع الذی کان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یقبّله منک. فکشف الحسین(علیه السّلام) عن سرّته، فقبلها ابن

ص: 184


1- الوارد فی بعض المصادر هو (فداک) ولعله الأنسب والأصح. انظر: الکامل فی التاریخ لابن الأثیر: ج4، ص20.
2- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص261.

عمر ثلاثاً وبکی، وقال: أستودعک الله، یا أبا عبد الله، فإنّک مقتول فی وجهک هذا»(1).

وممَّن عارض خروجه وخشی علیه القتل المسور بن مخرمة، وعمرة بنت عبد الرحمن، وأبو بکر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن جعفر بن أبی طالب، وعبد الله ابن عباس، وأبو سعید الخدری، وجابر بن عبد الله الانصاری، وغیرهم(2).

کما أنّ المتتبّع لکلمات الإمام الحسین(علیه السّلام) من حین خروجه ولغایة وصوله لکربلاء، لیتّضح له جلیّاً أنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) عالم بالخطر الذی یداهمه، بل قد أخبر عن شهادته فی أکثر من موضع.

والخلاصة: إنّ الحسین(علیه السّلام) کان عالماً بأنّ خروجه تحفّه المخاطر، ومعه ینتفی وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

الجواب علی عدم تحقق شرطیة احتمال التاثیر

وقد أُجیب عن الشرط الأوّل وهو احتمال التأثیر، بأنّه متحقّق فی الثورة الحسینیة؛ لأنّ احتمال التأثیر له أنواع، فتارة یلحظ التأثیر الآنی الفوری، وتارة یلحظ التأثیر ولو بعد فترة زمانیة، کما أنّه تارة یُلحظ التأثیر فی خصوص من أُمر بالمعروف أو نُهی عن المنکر، وتارة یُلحظ التأثیر فی بقیة أفراد المجتمع، وإنْ لم یتأثّر الشخص المباشر.

فإنْ قیل إنّ شرط التأثیر إنّما هو التأثیر الفوری المباشر بعد الفعل، کما أنّ المتأثّر لا بد أنْ یکون نفس المأمور، فهنا یمکن القول إنّ هذا الش_رط غیر متحقّق فی الثورة الحسینیة؛ لأنّ التأثیر الآنی لم یتحقّق، کما أنّ شخص المأمور لم یتأثّر.

ص: 185


1- الصدوق، محمد بن علی، الأمالی: ص217.
2- اُنظر: ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص208 _ 211.

لکنّ هذا غیر صحیح، فإنّ التأثیر المطلوب لیس هو الآنی، بل یکفی حصول التأثیر ولو بعد فترة زمنیة، کما أنّ التأثیر لا یشترط أنْ یحصل لنفس الشخص، بل یکفی حصول التأثیر لبقیة الأفراد، ومن الواضح أنّ الثورة الحسینیة أحدثت هزّة فی الأُمّة، وأیقضتها من سباتها، وفضحت زیف وأکاذیب بنی أُمیّة، وبیّنت انحراف حکمهم، وابتعاده عن جادّة الش_ریعة، وعدم تمثیله للخلافة الإلهیة، کما أنّ ثورة الحسین(علیه السّلام) حرّکت الإرادة فی نفوس المجتمع، وألهبتهم روح الثورة والتضحیة، والقدرة علی الوقوف بوجه الظالمین، ممّا أدّی إلی حصول ثورات، هدفها القضاء علی یزید وحکمه المتجبّر.

کما أنّه یمکن القول إنّ الشق الثانی وهو مسألة اشتراط التأثیر فی نفس المأمور من عدمه، لا نحتاج فیه إلی القول بإنّ التأثیر لغیر المأمور یکفی، فإنّ تأثیر ثورة الحسین(علیه السّلام) کان متحقّقاً فی نفس المأمور أیضاً؛ لأنّ الثورة الحسینیة وإنْ کانت متوجّهة ضدّ یزید إلّا أنّ هدفها کان إیقاظ شعور الأُمّة، وإعادتها إلی جادّتها الصحیحة؛ بسبب سیاسات الحکام الجائرة، فثورة الحسین(علیه السّلام) ودعوته الإصلاحیة وإنْ کانت منصبّة باتجاه الحاکم الظالم، إلّا أنّها شاملة لکلّ الأُمّة، فالحسین(علیه السّلام) أراد من أبناء الأُمّة أن یعودوا إلی رشدهم، ویتمسّکوا برسالتهم، وأنْ یعیشوا أحراراً رافضین لکلّ أنواع الظلم، کما أراد الله لهم ذلک، فثورة الحسین(علیه السّلام) ثورة إصلاحیة علی کافّة الأصعدة، فمن جهة یرید تعریة بنی أُمیّة وإسقاط حکمهم وکشف زیفهم أمام الناس، ومن جهة یرید تحریک إرادة الناس، وإعادة الروح الدینیة فی نفوسهم، وعتق رقابهم من العبودیة الأُمویة. فالأُمّة إذاً کانت منظورة فی الخطاب الحسینی والحرکة الحسینیة، ولم یکن یزید وجهازه الحاکم هو محور التحرّک فقط، بل یمکن لقائلٍ أنْ یقول: إنّ الأُمّة لو کانت تمتلک الإرادة، وثابتة علی أهدافها الرسالیة لما کانت هناک حاجة للثورة الحسینیة، فلم تکن ثورة الحسین(علیه السّلام) ولیدة الحکم الجائر فقط، بل هی ولیدة خلیط من حکم جائر وأُمّة تخلّت عن قیمها ومبادئها؛ نتیجة سلسلة من

ص: 186

نماذج ذلک الحکم، فالثورة إذاً کانت متجّهة للأُمّة أیضاً، وقد أتت أُکلها، فقد استطاع الحسین(علیه السّلام) بثورته أنْ یعید مسار الأُمّة، ویعید إلیها کرامتها، ویحرّرها من ذلّ العبودبة، لتنطلق الثورات بعد ذلک مؤذنة بانتصار الحسین(علیه السّلام) وقیمه ومبادئه التی نادی بها.

وقد یُقال: إنّ ما ذکرتموه من تأثیرٍ مستقبلی وقع علی الأمّة إنّما یتمّ وفق نظریة النص والعصمة والعلم المستقبلی، وأمّا إذا قلنا بعدم ذلک وفق النظریة الأُخری، فکیف یمکن معرفة التأثیر المستقبلی؟

لکنّ هذا الکلام ضعیف جدّاً، فإنّ قراءة الأحداث ومعرفة نتائجها لا یتوقّف علی العصمة والعلم الغیبی وغیرها، فأیّ قائد یمتلک من المواصفات والمؤهّلات مثلما یمتلکه الإمام الحسین(علیه السّلام) من العلم والمعرفة، والحنکة السیاسیة، یستطیع أنْ یقرأ الواقع الذی یعیش فیه، ویستش_رف النتائج والمعطیات التی ستحصل لاحقاً، فالحسین(علیه السّلام) باعتبار موقعه الاجتماعی، وأنّه ابن بنت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وابن علیّ بن أبی طالب(علیه السّلام)، وله ما له من الفضائل العدیدة، التی یعرفها الصحابة والتابعون وأصحاب ذلک المجتمع، مضافاً لما یمتلکه من علم، وحنکة، وسیاسة، وحسن تدبیر، یمکّنه بسهوله أنْ یستش_رف المستقبل، وأنّ ثورته وإنْ لم تحقّق ثمارها بصورة آنیة، إلّا أنّها ستؤثّر بالنفوس رویداً رویداً، وتخلّص المجتمع من آفة الجبن، وفقدان الإرادة، وتزرع فیه ثمار الإیمان مجدّداً؛ لیتمکّن مجدّداً من الدفاع عن رسالته، ومبادئه التی یؤمن بها.

الجواب علی عدم تحقّق شرطیة الأمن من الضرر

عرفنا ما یتعلّق باشتراط احتمال التأثیر، وأمّا ما یتعلّق بالأمن من الض_رر، فهنا لا یمکن القول إنّ الحسین کان آمناً من الضرر؛ فقد عرفنا أنّ رحلته کانت محفوفة بالمخاطر، وأنّه(علیه السّلام) کان عارفاً بذلک، غیر أنّه یمکن القول إنّ الخوف من الضرر الذی ذکروه إنّما کان متعلّقاً بما إذا کان الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر الشخصی بمعنی لو أنّ هناک أحد

ص: 187

أفراد المجتمع ارتکب معصیّة معیّنة، کما هو حاصل ویحصل فی مجتمعاتنا، وهذه المعصیة لا تعود بالض_رر إلّا علیه، فهنا یجب علی الآخرین أنْ یأمروه بالمعروف وینهوه عن معصیته، لکن ضمن الشروط المذکورة، بما فیها احتمال التأثیر فیه، أی أحتمال اقلاعه عن تلک المعصیة، وأنْ لا یکون هناک ضرر شخصی یعود علی الآمر بالمعروف والناهی عن المنکر.

أمّا لو کانت المعصیة لا تعود بالضرر علی الشخص العاصی فقط، بل تعود علی الدین الإسلامی بأجمعه، بمعنی أنّ تلک المعصیة أو المعاصی المرتکبة ستؤدّی إلی هدم الدین وضیاعه، ومحو الرسالة السماویة، فمن الواضح هنا أنّ النفوس تکون رخیصة فداءً للدین والإسلام، فإنّ من أهم الواجبات علی الفرد أنْ یحافظ علی هذا الدین، وأنْ یسعی فی تثبیت أرکانه، بمعنی أنّ المفسدة المترتّبة علی ضیاع الدین هی أهمّ بکثیر من المفسدة المترتبة من تعرّض الشخص للضرر، فکلّ إنسان مؤمن لو خُیّر بین أنْ یتعرّض للضرر بنفسه ویبقی الدین سلیماً، أو أنْ یحافظ علی نفسه ویضیع الدین وتُمحی الرسالة، لا شکّ أنّه سوف یختار الحفاظ علی الدین، ویعرّض نفسه للض_رر؛ ولذا فإنّ المسلمین فی عص_ر النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وبعده، کانوا یضحّون بأنفسهم فی سوح الجهاد من أجل رفع رایة الإسلام.

ولو لاحظنا الفترة التی عاشها الإمام الحسین(علیه السّلام)، خصوصاً بعد تولّی یزید زمام أُمور المسلمین مع فسقه ومجونه، ومع ملاحظة تحوّل الخلافة إلی وراثة وملک لبنی أُمیّة، وتحوّل المجتمع الإسلامی إلی سلع رخیصة تتقاذفها الأهواء، وباتوا غیر قادرین علی النطق بکلمة الحقّ، لاتّضح جلیّاً أنّ الخطر صار محدقاً بالإسلام من الأساس، والحسین(علیه السّلام) بمنزلته الرفیعة، ومکانته الکبیرة فی المجتمع الإسلامی، کان أمام خیارین لا ثالث لهما، إمّا القبول ببیعة یزید، وهذا یعنی إضفاء الشرعیة علی حکم بنی أُمیّة المتمثّل بیزید، وبالتالی ضیاع الإسلام ومُثله وقیمه بمبارکة حسینیة، وهذا ما لا یمکن أنْ یتخذه الحسین(علیه السّلام)، وقد أشار إلیه فی بعض کلماته حین أمره مروان ببیعة یزید، حیث أجابه قائلاً: «إنّا لله وإنّا إلیه راجعون،

ص: 188

وعلی الإسلام السلام؛ إذ قد بُلیت الأُمّة براعٍ مثل یزید»(1).

فالحسین(علیه السّلام) کان یُدرک جیّداً أنْ لا بقاء للإسلام فی ظلّ حکومة یزید، فلم یکن له سوی الخیار الثانی، وهو رفض البیعة والتحرّک لفضح زیف الحکم الأُموی، وتوعیة الأُمّة مهمّا ترتّب علی ذلک من نتائج، فالرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کابد الأمّرین، وأُوذی وحُوصر، وکلّ ذلک فی سبیل تثبیت عُری الإسلام، وجعل شجرة الإسلام باسقة متلألئة، تحمل ثمار الرسالة بقیمها ومبادئها السامیة، وقد حانت الساعة التی أُرید لهذه الشجرة أنْ تُقلع، وأنْ یُغیّب صوت محمّد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، لتعود الجاهلیة من جدید، فما عسی الحسین(علیه السّلام) أنْ یفعل، وهو امتداد لذلک الصوت الرسالی، وهو بضعة من تلک النفس الطاهرة، وهو هو الذی قال فیه صاحب الرسالة: «حسین منّی وأنا من حسین»(2). فکلاهما یحملان مش_روعاً واحداً، وهدفاً واحداً، فالرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) جاهد وقاتل وعانی ما عانی فی سبیل نشر الرسالة، فما کان علی الحسین(علیه السّلام) إلّا أنْ یُضحّی بنفسه من أجل بقاء تلک الرسالة، وقد فعل ذلک.

شبهة تناقض العلم بمقتله وإرساله مسلم بن عقیل إلی الکوفة

بقیَ هناک شیء، وهو أنّ الحسین(علیه السّلام) علی ما تبنیّناه من معرفته وعلمه بمقتله(3)، فإنّه إذا کان یعلم بالخطر الذی یداهمه کما أسلفنا، وأنّ حیاته مهدّدة بالقتل، لکنّه قتْلٌ فی سبیل

ص: 189


1- ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص17. ابن طاووس، علی بن موسی، اللهوف فی قتلی الطفوف: ص18.
2- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص172. الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص324. ابن قولویه، جعفر بن محمد، کامل الزیارات: ص116.
3- إذ إنّ هذه المسألة خلافیة، فقد یُقال بعدم علمه بذلک، أو علمه بذلک بصورة مجملة، لا علی نحو التفصیل، أو أنّ علمه بذلک علی نحو الغیب، وهو مأمور بالتعامل بحسب الظاهر، أو غیر ذلک، لکن کما تقدّم من البحث، فقد انتهینا إلی أنّ علم الحسین(علیه السّلام)، ومعرفته بقتله علماً عادیّا، وغیر مرتبط بالغیب، فلیس الصحابة والتابعین الذین کانوا یتوقّعون ذلک بأفضل حال من الحسین(علیه السّلام) وقرائته للواقع، وما تملیه علیه الظروف، وحینئذٍ قد یتنافی هذا العلم مع إرساله مسلم بن عقیل إلی الکوفة.

الحفاظ علی الإسلام، وهو مشروع بلا کلام، لکن قد یرد إلی الذهن تساءل عن معنی إرساله مسلم بن عقیل إلی الکوفة، لیأخذ له البیعة، ولمَ لمْ یرجع حین علم باستشهاده وخیانة أهل الکوفة له.

جواب الشبهة:

وللجواب علی ذلک نقول:

1_ إنّ الحسین کان یعلم مسبقاً أنّ الأُمّة بحاجة إلی هزّة ضمیر، وبحاجة إلی ثورة ولو کلّفته دمه ودم أبنائه وأنصاره وسبی نسائه، فإنّ المجتمع لا یمکن أنْ یصحو من غفوته دون أنْ تحدث تلک الصدمة.

والحسین(علیه السّلام) من أوّل تحرکه کان یهدف إلی هذا الأمر، ولکن ذلک لا یمنع من أنْ یستجیب لحرکة المجتمع، ویتفاعل معها طبق الظروف الطبیعیة، فلیس ثمّة تناقض بین تشخیص الإمام الحسین(علیه السّلام) لظروف تلک المرحلة، وبین الاستجابة لبیعة المجتمع له، فذلک لا یتعارض مع هدفه ومش_روعه، بل إنّ تلک الاستجابة تعطی حرکته مشروعیة أکثر، فمضافاً لما شخّصه الإمام(علیه السّلام) من انتشار للفساد فی کلّ مفاصل الدولة والمجتمع الإسلامی، وأنّ علیه الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فإنّ المجتمع بایعه ودعاه للمجیء، فإنّ إرسال مسلم بن عقیل إلیهم یصبّ فی نفس مشروع الإمام(علیه السّلام) من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وإقامة الحجة علی المجتمع والسلطة فی آنٍ واحد.

2_ إنّ وصول خبر استشهاد مسلم إلیه لم یکن لیغیّر من الواقع شیئاً، فإنّ إرسال مسلم إلی الکوفة یدخل فی ضمن إطار الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وزیادة فی إلقاء الحجّة علی المجتمع والسلطة، فخبر استشهاده، لیس إلّا زیادة یقین بأنّ الوضع المتأزّم یحتاج إلی تضحیات، وإنّ الکلمة لوحدها لم یعد لها وقع، ولیس لها آذان صاغیة، فلا بدّ من فعل خارجی یحرّک ضمیر الأُمّة ویهزّ کیانها، فکان لا بدّ من الاستمرار بالحرکة.

ص: 190

أضف إلی ذلک فإنّ انصراف الحسین(علیه السّلام) فی ذلک الوقت، بل حتّی قبله لا یغیّر من الواقع شیئاً؛ لأنّ مجرد عدم بیعته لیزید وإعلانه رفض خلافته هو موجب لقتله من قِبل أولئک الطواغیت، فکیف بما بعد إرساله مسلم بن عقیل، وتحرّکه بالکوفة، وما انتهی إلیه الأمر من مقتله مع هانی بن عروة! فالنتیجة هی القتل لا محالة، والحسین(علیه السّلام) حینئذٍ مخیّر بین أنْ یکون قتله موجباً لتحریک المجتمع، وأنْ یکون ذا تأثیر ملموس یحفظ معه کیان الإسلام، وبین أنْ یکون قتله باغتیال بارد مسبوق بانسحاب من مواجهة طواغیت بنی أُمیّة، وباعتبار أنّ الحسین(علیه السّلام) قائد رسالی، کان لا بدّ له من الاستمرار بثورته، وإلقاء الحجج علی القوم، ویلاقی مصیره المحتوم.

وهذا الأمر واضحٌ جلیّ فی خطابات وکلمات الإمام الحسین(علیه السّلام)، فحین قرّر الخروج من مکّة، قال لابن عباس: «لإنْ أُقتل بمکان کذا وکذا أحبّ إلی من أنْ یستحلّ بی حرم الله ورسوله»(1). قال الهیثمی: «رواه الطبرانی ورجاله رجال الصحیح»(2).

وقال لابن الزبیر: «والله، لأن أقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إلیّ من أنْ أُقتل داخلاً منها بشبر، وأیم الله، لو کنت فی جحر هامّةٍ من هذه الهوام لاستخرجونی حتّی یقضوا فیَّ حاجتهم، ووالله، لیعتدُنَّ علیَّ کما اعتدت الیهود فی السبت»(3).

وقال لابن عمر: «هیهات یا بن عمر! إنّ القوم لا یترکونی وإنْ أصابونی، وإنْ لم یصیبونی فلا یزالون حتّی أُبایع وأنا کاره، أو یقتلونی»(4).

وقد کرّر الإخبار عن موته بعد مقتل مسلم بن عقیل أیضاً، حین لقیه شیخ من بنی

ص: 191


1- الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر: ج3، ص120.
2- الهیثمی، علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج9، ص192.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص289. ونحوه فی أنساب الأشراف: ج3، ص164.
4- ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص25.

عکرمة، ونصحه بعدم الذهاب، فأجابه قائلاً: «والله، لا یدَعونی حتّی یستخرجوا هذه العلقة من جوفی، فإذا فعلوا سلّط الله علیهم مَن یذلّهم حتی یکونوا أذلّ فرق الأُمم»(1).

فهو عارف بإنّ القوم لا یترکوه، وأنّ مصیره الشهادة؛ ولذا بعث من مکّة بکتاب إلی بنی هاشم حین أراد الخروج، جاء فیه: «أمّا بعد، فإنّ مَن لحق بی استُشهد، ومَن لم یلحق بی لم یُدرک الفتح، والسلام»(2).

فإذا کان الحسین(علیه السّلام) قد شخّص هدف القوم وإرادتهم قتله أینما استطاعوا ذلک ولو فی مکّة، فتکون المسألة بعد مقتل مسلم بن عقیل بمستوی من الوضوح.

ص: 192


1- المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص76. وأخرج هذا القول الطبری فی تاریخه: ج4، ص269، وابن عساکر فی تاریخه: ج14، ص216.
2- ابن قولویه، جعفر بن محمد، کامل الزیارات: ص157.

المبحث الثانی: الحریّة ورفض الظلم والاستعباد وفق القانون الوضعی

من الأُمور الجلیّة الواضحة فی الثورة الحسینیة أنّها ثورة تحرّر ضد قیود الظلم والاستعباد، فهی ثورة رافضة للظلم والتجبّر بأیّ شکل من أشکاله. وهذا الهدف وهو رفض الظلم والتجبّر یتّفق مع الفطرة الإنسانیة، فإنّ الله خلق الناس أحراراً غیر تابعین لجهة، ولا مکبّلین بقیود تذلّهم وتسلب کرامتهم، وهذا ما یشیر إلیه القول المعروف لعلّی بن أبی طالب(علیه السّلام): «لا تکن عبد غیرک وقد جعلک الله حرّاً»(1). فالحریّة هی الأساس الذی خلق الإنسان علیه، لکن ذلک لا یمنع من تشریع قوانین، وسنّ أنظمة تمکّن الأفراد والمجتمعات من التعایش فیما بینها؛ إذ بدون قوانین ستتحوّل المجتمعات إلی غابات یفترس فیها القوی الضعیف.

فالحریّة المطلوبة إذاً هی تلک التی تتّفق مع القوانین المسنونة، ولا تتعارض معها، وهذه الحریّة کما کفلها الله سبحانه وتعالی لخلقه، وحیث إنّها أمرٌ فطری، فإنّ القوانین الوضعیة أقرّتها أیضاً، ورفضت جمیع أنواع الظلم الذی یتعرّض له الإنسان، سواء من الحکّام أم من غیرهم.

ومن أولویات الحریّة التی أعطتها القوانین الوضعیة للإنسان هی حقّ الشعوب فی

ص: 193


1- محمّد عبده، شرح نهج البلاغة: ج3، ص51.

تقریر مصیرها، وأنّ الشعب هو مصدر السلطات، وهو مصدر التشریع، وأنّه لا یمکن للحاکم أو غیره أنْ یفرض علی الشعب أیَّ شکل من أشکال الدولة، ولا أنْ یطبّق علیه القوانین بالقهر والإجبار، بل أعطی للشعب الحریّة فی أنْ یختار نوع الحکم الذی یشاء، وأنْ یختار دستوره بنفسه وفق آلیات قد تختلف من بلد إلی بلد، فقد یکون عن طریق الاقتراع المباشر لأنظمة دستوریة معیّنة، أو الاقتراع لاختیار برلمان یوعز إلیه کتابة دستور معیّن، وهکذا، والغرض أنّ اختیار نظام الحکم وشکل الدولة ودستورها إنّما هو بید الشعب.

وهذا الأمر تقرّ به حتی الدول الجائرة الاستبدادیة؛ إذ لا تجد دولة تدّعی أنّها استبدادیة، بل تعلن من حیث النظریة والقانون أنّها حکومة ناشئة من الشعب.

ثمّ إنّ القوانین الوضعیة رکّزت علی احترام حریّة الفرد والمواطن، وحافظت علی حقوقه فی فقرات عدّة، فرفضت التمییز العنص_ری، ورفضت الاضطهاد بشکل عام، وکذلک الاضطهاد الناشئ من اختلاف فکری، أو عقدی، أو ثقافی، بل أعطت للمواطن حریّة اختیار عقیدته ودیانته من دون أیّ إجبار فی ذلک.

وهذه الأُمور واضحة بیّنة، تنصّ علیها الکثیر من الدساتیر العالمیة، ونحن هنا نقتصر علی ذکر بعض من فقرات الإعلان العالمی لحقوق الإنسان:

المادة (1): «یُولد جمیع الناس أحراراً متساوین فی الکرامة والحقوق، وقد وُهبوا عقلاً وضمیراً، وعلیهم أن یعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء».

المادة (2): «لکلّ إنسان حقّ التمتّع بکافّة الحقوق والحریات الواردة فی هذا الإعلان، دون أیّ تمییز، کالتمییز بسبب العنص_ر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدین، أو الرأی السیاسی، أو أیّ رأیٍ آخر، أو الأصل الوطنی، أو الاجتماعی، أو الثروة، أو المیلاد، أو أیّ وضع آخر، دون أیّة تفرقة بین الرجال والنساء.

ص: 194

وفضلاً عمّا تقدّم فلن یکون هناک أیّ تمییز أساسه الوضع السیاسی، أو القانونی، أو الدولی لبلد، أو البقعة التی ینتمی إلیها الفرد، سواء کان هذا البلد أو تلک البقعة مستقلاًّ، أو تحت الوصایة، أو غیر متمتّع بالحکم الذاتی، أو کانت سیادته خاضعة لأیّ قیدٍ من القیود».

المادة (3): «لکلّ فرد الحقّ فی الحیاة والحریّة وسلامة شخصه».

المادة (5): «لا یُعرَّض أیّ إنسان للتعذیب، ولا للعقوبات، أو المعاملات القاسیة، أو الوحشیة أو الحاطة بالکرامة».

المادة (18): «لکلّ شخص الحقّ فی حریة التفکیر والضمیر والدین، ویشمل هذا الحقّ حریة تغییر دیانته أو عقیدته، وحریة الإعراب عنهما بالتعلیم والممارسة، وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أکان ذلک سرّاً أم مع الجماعة».

المادة (19): «لکلّ شخص الحقّ فی حریّة الرأیّ والتعبیر، ویشمل هذا الحقّ حریة اعتناق الآراء دون أیّ تدخّل، واستقاء الأنباء والأفکار، وتلقّیها وإذاعتها بأیّة وسیلة کانت، دون تقیّد بالحدود الجغرافیة».

المادة (21): «(1) لکلّ فرد الحقّ فی الاشتراک فی إدارة الشؤون العامّة لبلاده، إمّا مباشرة، وإمّا بواسطة ممثّلین یُختارون اختیاراً حرّاً.

(2) لکلّ شخص نفس الحقّ الذی لغیره فی تقلّد الوظائف العامّة فی البلاد.

(3) إنّ إرادة الشعب هی مصدر سلطة الحکومة، ویعبّر عن هذه الإرادة بانتخابات نزیهة دوریة، تجری علی أساس الاقتراع السرّی، وعلی قدم المساواة بین الجمیع، أو حسب أیّ إجراء مماثل یضمن حریة التصویت».

وکذلک فإنّ هذه القوانین لم یفُتْها أنْ تشیر إلی ضرورة تطبیق العدالة الاجتماعیة، وإنصاف المظلوم من الظالم وغیرها ممّا یُقنِّن حریة الإنسان، وحفظ کرامته علی کافّة الأصعدة.

ص: 195

وحینما أشرنا إلی أنّ الشعب هو مصدر التشریع، وقلنا إنّ الحریّة حقّ طبیعی لکلّ فرد ومجتمع، لا نعنی أنّ الدول التی تقوم علی نظام الانتخابات هی دولة عادلة، حقّقت لمواطنیها العیش الکریم، ودافعت عن حریاتهم، وضمنت لهم کافّة أنواع الحقوق، بل أردنا أنْ نشیر إلی أنّ القوانین من الجهة النظریة تتبنّی مبدأ حریة الفرد والمجتمع، وتدعو إلی تطبیق العدالة الاجتماعیة، ونبذ التفرقة والظلم، وإنصاف المظلوم من ظالمه.

والواقع أنّ هذه القوانین _ بما تحویه من مفاهیم وقیم أخلاقیة _ لم تکن موضعاً للتطبیق فی کثیر من الدول، سواء تلک السابقة لوضع هذه القوانین أم اللاحقة لها؛ وسواء کانت تلک الدولة تؤمن بالنظم الدیموقراطیة أو غیرها من الدول الاستبدادیة؛ لذا فالإنسان یعیش فی دولة تُقرُّ قوانینُها الحریّات، لکنّه یعیش مُستعبداً ذلیلاً، منهوب الثروات، فاقداً للکرامة، فکم من دولةٍ تُقص_ی أبناءها لمجرّد انتماءٍ مذهبی، أو حرکةٍ فکریة، أو لکونه ذا لونٍ معیّن.

بل أحیاناً یتعدّی الموضوع عدم تطبیق القوانین إلی وضع الدولة لقوانین جائرة تقوم بفرضها علی الناس، بل لربّما یکون القانون فی فترة قانوناً عادلاً، ینسجم مع مصالح المجتمع وتطلعاته، وفی فترةٍ أُخری یکون قانوناً ظالماً، ونتیجةً لذلک یقع التنازع بین قوّة الدولة التی سنّت قوانین ظالمة، أو لم تطبّق القوانین المسنونة، وحکمت الشعب بالتجبّر والغَلَبة، وسلب الحریّات، وبین قوة العقل البشری، والفطرة الإنسانیة الداعیین إلی تطبیق العدالة، وبین هاتین القوَّتین تتوزع آراءُ الفلاسفة والکُتّاب والفقهاء وتتراوح، فمنهم مَن یغلِّب قوة العدل علی قوّة السلطان، فیُبیح تحدّی قوی الدولة فیما تفرضه من قوانین ظالمة، ویتدرّج ذلک من مجرَّد العصیان إلی الثورة، وهذا ما أخذت به الثورة الفرنسیة فیما أعلنتْه من حقوق الإنسان؛ إذ اعتبر أحد الدساتیر التی تمخّضت عنها أنّ الثورة علی الظلم

ص: 196

ومقاومته هو من ضمن هذه الحقوق(1).

فالثورة إذن تعدُّ أحد حقوق الإنسان، فیما إذا تعرّض إلی الظلم والاضطهاد، وصُودرت حریّاته؛ لأنّ شرعیة الحکومة تسقط حین تتخلّی عن تطبیق القوانین بصورة صحیحة، ولأنّ هناک علاقة بین الحاکم والمحکوم، مکّنت الحاکم من ممارسة صلاحیته وفق شروط معیّنة، و«یذهب الرأی الغالب لدی الفلاسفة والمفکّرین السیاسیّین فی تکییف العلاقة بین الحاکم والمحکوم، إلی تصوّر وجود عَقْد بین الطرفین، نشأ عندما اتّفق الناس، فی وقتٍ ما، سعیًا وراء السعادة والسلام والعدل، علی الخروج من حالة الطبیعة، إلی الحیاة فی جماعة سیاسیة، فأبرموا عقدًا اتّفقوا فیه علی خَلْقِ سلطة تعلو إرادتهم، نازلین لها عن شطرٍ من سلطاتهم الطبیعیة وحقوقهم القدیمة، نظیر أن یُصان ما کانوا محتفظین به من هذه الحقوق.

أما إذا تنکَّر الأُمراء للشعوب، وطرأ ما یُبطِل العقد أو یخلُّ بشروطه، فإنّه یتمخّض عن ذلک واجبُ الثورة علی الأمیر؛ لأنّ الشعب لم یفوِّضه السیادة تفویضًا مطلقًا، بل تفویض کان مقروناً بشرطٍ فاسخ... فمنذ القرن السادس عشر شرح جون لوک نظریته عمَّا أسماه: (مبدأ الحقِّ الخفی للثورات)، حیث سلَّم بالحق فی الثورة ضدّ السلطة التنفیذیة، وضدّ السلطة التش_ریعیة بسبب مساوئ الحکم والتش_ریع، وقد دافع عن حقِّ الشعب فی العصیان.

وقد أدّت هذه النظریات التی تبنَّاها فلاسفة القرن الثامن عش_ر فی أوروبا إلی اندلاع الثورة الفرنسیة علی الملکیة بسبب مساوئ الحکم، وکان أول عمل للجمعیة التأسیسیة وضعُ (إعلان حقوق الإنسان والمواطن) وإقراره، وقد تضمَّن نصّاً واضحاً بحقِّ مقاومة الاضطهاد (مادة 2)، ولکنّ هذه النصوص لم تَرِدْ فی کلِّ الدساتیر التالیة، وإنّما وَرَدَتْ فی دستور العام 1793م، الذی

ص: 197


1- اُنظر: عبد الهادی عباس، مقال تحت عنوان: (حقّ الإنسان فی مقاومة القوانین الجائرة)، مجلّة معابر، منشور علی شبکة الأنترنت: http: //www.maaber.org/issue_january05/non_violence1.htm

نصَّ علی أنّ الحکومة عندما تعتدی علی حقوق الشعب، فالثورة لکلِّ الشعب (أو لفئة منه) هی أقدس الحقوق وألزم الواجبات، وقبل ذلک وَرَدَ فی (وثیقة الاستقلال)، التی وضعها الثائرون الأمریکان فی العام 1776م: إنّ الحکومة إذا هی عطَّلتْ حقوق الإنسان فی المساواة والحریة وانتفاء السعادة، یمکن للشعب أن یثور علیها، ویقلبها ویضع مکانها هیئة تعید نظام العدل والحریة، وقال أبراهام لنکولن فی السنة 1861م: إنّ البلاد الأمریکیة هی مُلک للشعب، وإذا ضاق هذا الشعب بأخطاء الحکومة القائمة، فله أن یستعمل حقَّه الدستوری فی تعدیلها، أو حقَّه الثوری فی هدمها.

وقد استقرّ الاعتراف بحقِّ المقاومة فی فقه القانون العام، فیقول العمید هوریو: إنّ حقَّ المقاومة لیس إلّا استدعاءً لحقٍّ قدیم فی الحریة، یعود لیؤکّد حقَّ المواطنین فی الدفاع الشرعی ضد سوء استخدام السلطة.

ویقول العمید جنی: إنّ حقَّ المقاومة هو الضمان الأعلی للعدالة وسیادة القانون.

ویقول لوفور: إنّ المقاومة هی ممارسة لحقِّ مراقبة السلطة المُعترَف به من المحکومین. ویذهب الفقیه الألمانی إهرنغ إلی حدِّ جعل المقاومة هی النظریة الأصلیة للقانون کلِّه، فیقول: إنّ القانون لیس هو المبدأ الأسمی الذی یحکم العالم؛ إنّه لیس غایة فی ذاته، بل هو وسیلة لتحقیق غایة.

إنّ الحیاة فوق القانون، وعندما یصبح المجتمع فی موقف الخیار بین احترام القانون والحفاظ علی الوجود، فلا محلَّ للتردد، وعلی القوة أنّ تضحِّی بالقانون لتنقذ الأُمّة.

ویذهب العمید دوغیه فی کتابه: (أُصول القانون الدستوری) إلی أنّ حقّ الثورة ما هو إلّا نتیجة منطقیة لخضوع الحکّام للقانون.

وإنّ کلَّ إجراء یتَّخذه الحکّام مخالفٍ للقانون یخوِّل المحکومین سلطة قَلْبِ الحکومة بالإکراه؛

ص: 198

وهم إذ یحاولون ذلک، یهدفون إلی إعادة سیادة القانون...»(1).

فالثورة إذاً علی الظلم والتجبّر والاستبداد هی حقٌّ مش_روع للشعوب، کفلته القوانین الدولیة، وصرّح به فقهاء القانون، وأوضحوا أنّ حقّ الثورة یستند إلی حقّ الدفاع المشروع، الذیّ یعدّ أهمّ موانع العقاب، یقول الدکتور عبد الله السلمو(2): «أمّا إذا دخلنا إلی عالم الفقه والتشریع الدولی، لنری المستند القانونی الذی یرتکز علیه حقّ الثورة: فیری فقهاء الحقوق الجزائیة أنّ حقّ الثورة یستند إلی حقّ الدفاع المش_روع، الذی أجمعت التشریعات الجزائیة علی أنّه أحد أهمّ موانع العقاب، سواء کان فی المجال الفردی، أوفی المجال الجماعی، أی: الثورة لدرء العدوان علی الوطن والمجتمع، وإلی هذا ذهب الفقیه الفرنسی (سومییر) بقوله: إنّ حقّ المقاومة یعتمد علی حقّ الدفاع المشروع. (مبادئ القانون الأساسیة: ص125).

کما قال الفقیه (هوریو): إنّ حقّ الثورة أو الانتفاضة ما هو إلّا امتداد لحقّ الحریة الذی یخوّل المواطنین حقّ الدفاع المشروع، وإلی هذا ذهب أُستاذ القانون الدولی محمّد طه بدوی بقوله فی کتابه (حقّ مقاومة الحکومات الجائرة): یکفی لاعتبار النظام جائراً أن تجزع الجماعة _ أی الشعب _ من المبادئ التی یقوم علیها النظام، والممارسة ضدّ حریات الناس، وعدم معرفة مصیرهم علی ید عصبة لم ینتخبها...

کما أکد الفیلسوف البریطانی لوک، صاحب نظریة حقّ الثورة ما یلی: إنّ الشعب فی حالة خیانة حکّامه _ للأمانة التی عهد بها إلیهم، سواء کانوا مش_رّعین أو منفّذین _ یملک حقّ الثورة علیهم... إنّنی أحبّ السلم، ولکن لا أُرید سلماً بأیّ ثمن، سلماً یفرضه الأقویاء علی الضعفاء، یفرضه الغاصبون علی الشعوب، سلماً یکون کالسلم المزعوم بین الذئاب والخراف. (لوک، محاولة

ص: 199


1- المصدر السابق.
2- رئیس المرکز العربی الأوربی لحقوق الإنسان والقانون الدولی، وأُستاذ فی القانون الدولی فی الأکادیمیة العربیة فی الدنمارک، ومستشار قانونی.

فی الحکومة المدنیة: ص135).

وحقّ الثورة هو مجرّد حقّ تقریر المصیر، ویُعتبر هذا المبدأ من المبادئ الأساسیة للقانون الدولی، وذلک تماشیاً مع میثاق الأُمم المتحدة، واضعاً البدایة الأُولی والمهمّة فی نشأة القانون الدولی المعاصر، والنظام العالمی بشکلٍ عام»(1)).

فالثورة ضدّ الظلم والطغیان وانتهاک حقوق الإنسان تکتسب الش_رعیة القانونیة، بل إنّ الثوار یُعتبَرون موضع تقدیر واحترام؛ لما قاموا به فی سبیل فکّ قیود العبودیة التی فرضتها السلطات الجائرة، ومَن یُقتل فی ذاک الطریق تخلّده الشعوب، ویبقی رمزاً تتفاخر به الأُمّة، وتجعل من شخصه _ خصوصاً إذا کان قیادیاً معروفاً _ قدوة وأنموذج تحتذی به، وتحثّ الناس علی السیر إثر خطاه، وتثیر وتهیّج الرأی العام فی الاستقاء من طریقته، وتشحذ الهمم عن طریق التغنّی بذکره.

ومن أوضح مصادیق مشروعیة الثورات ضدّ الظلم والتجبّر هو ما اکتسبته الثورات _ التی انطلقت فی شتی أصقاع العالم، رافضةً للذلّ والخنوع _ من تفاعل إنسانی منقطع النظیر، ومن اعتراف جماهیری ورسمی بها.

غیر أنّه من الطبیعی أنّ التغییر إذا أمکن أنْ یکون بالطرق السلمیة، ومن دون قتلٍ وقتال، فإنّ القوانین حینئذٍ ترفض الثورة، وتدعو الشعوب إلی التظاهر السلمی، ما دام یکفل تحرر الإنسان من ذلّ الاستعباد، ویحقّق له أهدافه من الحریّة، وتحقیق العدالة الاجتماعیة، وإسقاط عرش الطاغوت.

ونحن إذا ما رجعنا إلی الظروف التی اکتنفت ثورة الإمام الحسین(علیه السّلام)، لوجدناها

ص: 200


1- السلمو، عبد الله، مقال تحت عنوان: (دراسة قانونیة الثورات العربیة والقانون الدولی)، منشور علی الأنترنت: https: //www.zamanalwsl.net/news/22805.html

جامعة للشرائط القانونیة، فضلاً عن الشرائط الشرعیة التی ذکرنا أکثرها فیما مضی.

فالخلیفة فی زمن الحسین(علیه السّلام) لم یُنتخب بصورة دستوریة صحیحة، بل ساهمت السلطة الحاکمة آنذاک بکلّ ما أُوتیت من قوة، واستخدمت الترهیب والترغیب، وإغراء الناس بالأموال فی سبیل تحصیل البیعة له، ومع ذلک لم تحصل له البیعة من الجمیع، بل عارضها جملة من أهل الحلّ والعقد، وعلی رأسهم الإمام الحسین(علیه السّلام).

ثمّ إنّ الخلیفة کان یهدف إلی إقصاء دستور المسلمین، وتبدیله بأحکام ظالمة جائرة، فکان الحقّ لا یُعمل به، والباطل لا یُتناهی عنه، بل إنّ الخلیفة بنفسه کان متجاهراً بمخالفة الدستور، تارکاً للصلاة، شارباً للخمر، مستخفّاً بکلّ القیم والمبادئ.

أضف إلی ذلک أنّ الحریّات مُصادَرة، وأنّ القتل والترهیب مصیر کلّ مخالف.

فالحکومة الأُمویة بقیادة معاویة قمعت کلّ أنواع الحریّات، وقتلت عدّة من الصحابة والصالحین؛ لمجرد ولائهم لعلی بن أبی طالب(علیه السّلام)، وهو ما یُعبّر عنه الیوم بالقتل علی الهویّة، ثمّ سلّطت فاجراً فاسقاً علی رؤوس المسلمین، لا یملک ذرة من کیاسة الحکم، لیسیر علی نفس أُسلوب القمع والإقصاء لکلّ مَن یخالفه بالرأی، فکان أوّل کتابٍ له، والهادف لتوطید حکمه وسلطانه هو أخذ البیعة من الحسین(علیه السّلام) وغیره ممَّن لم یبایعوا بکلّ طریقة، ولو استلزم ذلک القتل.

ولم یکن الحسین(علیه السّلام) لیبدأ حرکته بقتالٍ، بل ابتدأ ذلک بأُسلوب الرفض لبیعة هکذا حاکم، مبیّناً أنّ کلّ حرّ أبیّ لا یمکن أنْ یبایع مثل هذا المنحرف «ومثلی لا یبایع مثله»(1).

وعدم البیعة هو حقٌّ طبیعی للإمام الحسین(علیه السّلام) کفلته الش_ریعة والقوانین المداعیة بحقوق وحریّة الإنسان، خصوصاً أنّ الخلیفة لم یحصل علی شرعیة البیعة وفق أُطرها

ص: 201


1- ابن طاووس، علی بن موسی، اللهوف فی قتلی الطفوف: ص17.

القانونیة الصحیحة، لکنّ یزید وأذنابه خشوا إنْ لم یبایع الحسین(علیه السّلام) سوف تُفتضح عدم شرعیة حکمهم، فحاولوا أخذ البیعة بکلّ صورة ولو القتل، ولمّا أحسّ الحسین(علیه السّلام) بذلک ترک المدینة وغادر إلی مکّة، وکلّ همّه رفض إعطاء الش_رعیة لهؤلاء الظلمة، مص_رّحاً بأنّ هدفه الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

وفی مکّة أیضاً کانت هناک محاولة لاغتیاله(علیه السّلام)، ممّا أدّی به أنْ یتحرّک صوب العراق، مصرّاً علی هدفه فی نصرة الحقّ وکشف الباطل وتعریته.

والغرض أنّ الحسین(علیه السّلام) رغم ما یملکه من غطاء شرعی وقانونی لثورته، من قمعٍ للحریّات، وتکمیمٍ للأفواه، وسلبٍ للإرادة، واغتصابٍ للخلافة، ودرسٍ للشریعة، إلّا أنّه ابتدأ ثورته برفض المبایعة، وبدأ یبیّن أهدافه من الثورة، وأنّها لإحقاق الحقّ وإبطال الباطل وإنصاف المظلوم، ولمّا رأی أنّ القوم لا تنفع معهم الکلمة، ولا یحرّک ضمیرهم خطاب الحقّ، وأنّهم یسعون فی قتله بشتّی الوسائل، استمر بصرخته المدوّیة الرافضة لکلّ أنواع الظلم والتجبّر، حتّی سالت دماؤه الطاهرة فی أرض کربلاء، لیوقض معها ضمیر الأُمّة، ولیبعث فیها روح التضحیة والفداء من أجل القیم والمبادئ.

فالثورة الحسینیة کونها ثورة نابعة من الضمیر الحی، ومنطلقة من الفطرة الإنسانیة، منادیة بتحریر الإنسان والحفاظ علی کرامته؛ استطاعت أنْ تفرض مشروعیتها وفق قوانین تأخّرت عنها مئات السنین.

فحین نحاول أنْ نؤطّر الثورة الحسینیة بالأُطر القانونیة؛ إنّما لنکتشف أنّها ثورة تتماشی مع کلّ أنواع التقنین، وأنّها ثورة تنبع من الفطرة السلیمة، وأنّها محلّ اتفاق بین آراء العقلاء علی مختلف توجّهاتهم وانتماءاتهم..

ص: 202

خلاصةٌ ونتائج

تناولنا فی هذا الفصل ثلاثة مباحث رئیسیة، اتّضح من خلال الأوّل فیها أنّه وفق نظریة النصّ فإنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) یکون أحد المعصومین، وهو الخلیفة الشرعی الذی یجب علی الأُمّة طاعته، وأنّ یزید لا یعدو کونه مغتصباً للخلافة، ویکون خروج الحسین(علیه السّلام) وتحرّکه هو المیزان الشرعی للأُمّة، فهو بحکم کونه معصوماً یکون عمله موافقاً للحکم الواقعی، ویکون قدوةً وأُسوةً للأُمّة، تنهل منه، وتستنّ بسنّته، ومشروعیة الثورة علی هذا الأساس واضحة بیّنة لا تحتاج إلی مزید بیان.

وفی المبحث الثانی عرفنا أنّ الأُمّة عاشت تحت الاضطهاد والتنکیل، وسُلبت منها الحریّات، وحرّف مسار الشریعة، فکان من الض_روری أنْ یرتفع صوت الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وهو فریضة علی کافّة المسلمین، وفق شروطٍ معیّنة، فتصدّی لذلک الإمام الحسین(علیه السّلام)، وأوضح ذلک من خلال خطبه وأقواله.

ومشروعیة الثورة وفق هذه الفریضة أیضاً بمستوی من الوضوح؛ إذ إنّ ترک ذلک سیودی بشجرة الإسلام، ویطمس الرسالة المحمدیة المبارکة من الأساس، فضحّی بنفسه الشریفة من أجل إحیاء شریعة المصطفی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

وفی المبحث الثالث أشرنا إلی أنّ القوانین الوضعیة تعطی للمجتمع حقّ الثورة، فیما إذا کانت الحکومة ظالمة متجبّرة، قامعة للحریات، غیر مطبِّقة للقوانین، وأوضحنا أنّ الثورة الحسینیة تکتسب المشروعیة وفق هذه القوانین أیضاً؛ لما کان یعانیه المجتمع من ظلمٍ واستبداد، وقمع للحریات، وتحریف الدستور، واغتصاب الخلافة، وغیر ذلک ممّا أوضحناه.

ص: 203

ص: 204

الفصل الخامس: مشروعیة الثورة وفق بیعة المجتمع الإسلامی للإمام الحسین(علیه السّلام)

اشارة

ص: 205

ص: 206

المبحث الأوّل: مؤهّلات الإمام الحسین(علیه السّلام) للخلافة

اشارة

لعلّ من نافلة القول البحث عن مؤهّلات الإمام الحسین(علیه السّلام) وصلاحیته لخلافة الأُمّة الإسلامیة، فهو أحد النجوم الساطعة فی سماء هذه الأُمّة، وینتمی إلی ذلک البیت الذی لم یفارقه جبرئیل، ولم تفارقه ملائکة الرحمن، فهو خرّیج بیت الوحی ومدرسة الرسالة، نشأ بین أحضان الرسول الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وتربّی فی کنفه، وارتضع من مکارم أخلاقه؛ لذا سنحاول أنْ نشیر مجملاً، ونمرّ مروراً سریعاً علی ما یتعلّق بمؤهلاته لخلافة المسلمین.

وطبیعی فنحن هنا لا نرید التعرّض للإمام الحسین(علیه السّلام) وفق نظریّة النصّ، فإنّ الأمر عند ذلک بیّنٌ واضح، ولکن نرید أنْ نتنزّل وفق مبانی المدرسة الأُخری، وما آل إلیه الواقع الخارجی بعد انحراف الأُمّة، وعدم تقیّدها بتوصیات النبیّ الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فیما یخصّ أمر الخلافة من بعده، ونری صلاحیّة الإمام الحسین(علیه السّلام)، بل أولویته بالخلافة من غیره.

النسب الحسینی

فالحسین من حیث النسب ینتمی إلی قبیلة قریش، وبالتحدید من البیت الهاشمی، ومن أهل البیت(علیهم السّلام) ، فنسبه لا یضاهیه نسب فی العرب، ولا فی المسلمین، فأبوه علیّ بن أبی طالب(علیه السّلام)، ذلک الأسد الغالب، الذی طالما شهر سیفه دفاعاً عن الدین ورسالته، وهو یُعدّ الخلیفة الأوّل طبق نظریة النص، والخلیفة الرابع طبق الواقع الخارجی، ووفق متبنیات المدرسة الأُخری، وقد وردت بحقّه فضائل لا تُعدّ ولا تُحصی، من بینها أنّ

ص: 207

النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) جعله معیاراً للحقّ، فقال فی ألفاظ عدیدة مختلفة، تؤدّی إلی هذا المعنی، منها: «علیّ مع الحقّ والحقّ مع علیّ، ولن یفترقا حتّی یردا علیّ الحوض یوم القیامة»(1).

ومنها: «الحقّ مع ذا، الحقّ مع ذا»(2).

ومنها: «علیّ مع القرآن والقرآن مع علی، لن یتفرّقا حتّی یردا علیّ الحوض»(3).

ولا یخفی علی القارئ کثرة الفضائل التی وردت فی حقّه(علیه السّلام)، کحدیث الغدیر والمنزلة، وتبلیغ سورة براءة، وغیرها ممّا امتلأت بها الکتب، وأُلّفت فیها المؤلّفات، فالنسائی له کتاب خاصّ فی فضائل علیّ(علیه السّلام)، أسماه: (خصائص علیّ)، وابن الجزری له کتاب خاصّ، أسماه: (أسنی المطالب فی مناقب سیّدنا علیّ بن أبی طالب)؛ ولذا فإنّ جملة من علماء أهل السنّة اعترفوا بأنّ علیّاً هو أکثر الصحابة وردت بحقّه فضائل، فقال أحمد ابن حنبل: «ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) من الفضائل ما جاء لعلیّ بن أبی طالب (رضی الله عنه)»(4).

ونقل ابن حجر، عن أبی علی النیسابوری، وأحمد بن شعیب النسائی، وإسماعیل القاضی، وکذلک أحمد بن حنبل، أنّهم قالوا: «لم یرد فی حقّ أحدٍ من الصحابة بالأسانید الجیاد أکثر ممّا جاء فی علی»(5).

ص: 208


1- الخطیب البغدادی، أحمد بن علی، تاریخ بغداد: ج14، ص322، وأخرجه الحاکم وصحّحه، عن علیّ(علیه السّلام)، أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، قال: «رحم الله علیّاً، اللهم أدر الحقَّ معه حیث دار». الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص124 _ 125.
2- أخرجه ابو یعلی فی مسنده: ج2، ص318. وأورده الهیثمی فی مجمع الزوائد: ج7، ص235، وقال: «رواه أبو یعلی ورجاله ثقات».
3- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص124، وصحّحه الحاکم والذهبی.
4- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص107. ابن عساکر، علی ابن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج82، ص418.
5- ابن حجر، أحمد بن علی، فتح الباری: ج7، ص57.

وأمّا أُمّه فهی فاطمة الزهراء بنت الرسول محمّد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وفضلها ومناقبها أشهر من أنْ تُذکر، فقد نزل ملک من السماء مبشراً النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بأنّ «فاطمة سیّدة نساء أهل الجنّة»(1).

وقال لها النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی مرضه الذی تُوفّی فیه: «یا فاطمة، ألا ترضین أنْ تکونی سیّدة نساء العالمین، وسیّدة نساء هذه الأُمّة، وسیّدة نساء المؤمنین»(2).

وهی بضعةٌ منه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، مَن أغضبها فقد أغضبه، کما فی الحدیث الش_ریف(3)، وإنّ الله یغضب لغضبها ویرضی لرضاها(4)، وکان النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إذا سافر فإنّ فاطمة تکون آخر الناس به عهداً، وإذا قدم من السفر کانت أول الناس به عهداً(5).

وممّا تجدر الإشارة به أنّ علیّاً(علیه السّلام) وفاطمة بنت الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، کانا أحبّ شخصین إلی النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، کما ورد فی الحدیث الش_ریف، عن بریدة قال: «کان أحبّ النساء إلی رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) فاطمة، ومن الرجال علیّ»(6).

وحین سأل أحدهم عائشة عن علیّ(علیه السّلام)، قالت: «تسألنی عن رجلٍ ما أعلم أحداً کان أحبّ إلی رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) ولا أحبّ إلیه من امرأته»(7).

ص: 209


1- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص151، وصحّحه الحاکم والذهبی.
2- أخرجه الحاکم وصحّحه: الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص156. وأخرجه البخاری بلفظ: «یا فاطمة ألا ترضین أنْ تکونی سیدة نساء المؤمنین، أو سیدة نساء هذه الأُمّة». البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج7، ص142.
3- البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج4، ص210.
4- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص154.
5- المصدر نفسه: ج3، ص156.
6- أخرجه الترمذی وحسّنه: الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص360. والحاکم وصحّحه، ووافقه الذهبی، المستدرک علی الصحیحین وبذیله تلخیص الذهبی: ج3، ص155.
7- أخرجه النسائی فی: تهذیب خصائص أمیر المؤمنین بتحقیق الحوینی الأثری: ص94، وقال المحقّق بصحّته. وأخرجه بلفظٍ قریب من ذلک: الترمذی وحسّنه فی: سنن الترمذی: ج5، ص362، والحاکم وصحّحه فی: المستدرک: ج3، ص154، وص157.

بل إنّ الحسین(علیه السّلام) یعدّ حقیقة ابن الرسول الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، کما دلّت علی ذلک آیة المباهلة فی قوله تعالی:«فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَی الْکَاذِبِینَ » (1).

وفی ذلک یقول الفخر الرازی: «هذه الآیة دالّة علی أنّ الحسن والحسین(علیهماالسّلام) کانا ابنی رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، وعَدَ أنْ یدعو أبناءه، فدعا الحسن والحسین، فوجب أنْ یکونا ابنیه...»(2).

وقال القرطبی فی تفسیره لهذه الآیة عند بلوغه کلمة (أبناءنا): «(أبناءنا) دلیل علی أنّ أبناء البنات یُسمّون أبناء، وذلک أنّ النبی (صلّی الله علیه وسلّم) جاء بالحسن والحسین، وفاطمة تمشی خلفه، وعلی خلفهما، وهو یقول لهم: إن أنا دعوت فأمّنوا...»(3).

الفضائل الحسینیة

وأمّا من جهة فضائله ومناقبه فهی أشهر من أنْ تذکر، وقد دأب النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أنْ یُشید بمقامه وینوّه بذکره، ویبیّن للأُمّة عظمته، فکان هو وأخوه الحسن(علیهماالسّلام) منذ طفولتهما یثبان علی ظهر النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أثناء الصلاة، وکان الناس یباعدانهما عنه، لکنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یرفض ذلک، ویقول: «دعوهما بأبی هما وأُمّی، مَن أحبّنی، فلیحبّ هذین»((4).

وکان النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یقول فیه وفی أخیه الحسن(علیهماالسّلام): «هما ریحانتای من الدنیا»(5).

وفی إشارة جلیّة وواضحة من النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إلی التکلیف الإلهی المرتبط بالحسین(علیه السّلام) فی

ص: 210


1- آل عمران: آیة61.
2- الفخر الرازی، محمد بن عمر، التفسیر الکبیر: ج8، ص86.
3- القرطبی، محمد بن أحمد، الجامع لأحکام القرآن (تفسیر القرطبی): ج4، ص104.
4- ابن حبّان، محمد، صحیح ابن حبّان: ج15، ص427.
5- البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری: ج7، ص47. الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص322.

الحفاظ علی الرسالة المحمّدیة، قال(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «حسین منّی وأنا من حسین، أحبّ الله من أحبّ

حسیناً، حسین سبطٌ من الأسباط»(1).

فإنّ کون الحسین(علیه السّلام) من الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) هو أمرٌ واضح ومعروف؛ باعتبار أنّ الحسین(علیه السّلام) هو ابن فاطمة(علیهاالسّلام)، وهی بضعة النبیّ الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، أمّا کون الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) هو أیضاً من الحسین(علیه السّلام)، فهذا ما یحتاج إلی تفسیر وتأمّل، ولا یبعد أنّه إشارة إلی أنّ کلیهما یحملان هدفاً واحداً، وغایةً واحدةً، فالرسول جاهد وکافح فی سبیل نشر الرسالة الإسلامیة وتثبیت أرکانها، وتحمّل فی سبیل ذلک أنواع الأذی، وعلی نفس الخطّ جاء الابن والامتداد الطبیعی لشجرة الرسالة، لیضحّی بکلّ شیء فی سبیل الحفاظ علی هذه الرسالة من الطمس والضیاع.

کما أنّه لا یخفی علی المسلمین وجوب محبّة أهل البیت(علیهم السّلام) ، بما فیهم الإمام الحسین(علیه السّلام) علی جمیع الأُمّة، فإنّ تلک من الضرورات الإسلامیة التی یؤمن بها الجمیع.

والحسین(علیه السّلام) کذلک من أهل البیت(علیهم السّلام) الذین نزلت فی حقّهم آیة التطهیر، وهی قوله: « إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا » (2).

ومن أهل البیت(علیهم السّلام) الذین اصطحبهم النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی مباهلة نصاری نجران.

ومن أهل البیت(علیهم السّلام) الذین وردت الوصیّة بهم، والحث علی التمسّک بهم فی حدیث الثقلین المعروف.

ومن أهل البیت(علیهم السّلام) الذین ورد فی حقّهم حدیث السفینة المعروف.

وهکذا، فإنّ فضائل الحسین(علیه السّلام) کثیرةٌ معروفةٌ مشهودة، ولم یکن ذلک المجتمع ببعید

ص: 211


1- الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص324. ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص172.
2- الأحزاب: آیة33.

عن تلک الفضائل، ولم یغِب عن ذهنه یوماً ما مکانة وموقعیة الحسین(علیه السّلام)، فهو من أهل البیت(علیهم السّلام) من جهة، وصحابی من جهةٍ أُخری، وکان یمثّل کبار أهل الحلّ والعقد؛ ولذا فإنّ عبد الله بن عمرو بن العاص، کان ذات یوم جالساً فی ظلّ الکعبة، إذ رأی الحسین(علیه السّلام) مقبلاً، فقال: «هذا أحبّ أهل الأرض إلی أهل السماء الیوم»(1).

فالحسین(علیه السّلام) عاصر أباه علیّاً(علیه السّلام)، واشترک معه فی حرب الجمل وصفّین والنهروان، ثمّ لازم أخاه الحسن(علیه السّلام) فترة حیاته، ثمّ اتجهت نحوه القلوب باعتباره یمثّل البقیّة الباقیة من آل بیت الرسول(علیهم السّلام) ، ویتمتّع بکافّة الصفات التی وُضعت، أو التی تُوضع لتولّی منصب الخلافة، فهو طبق نظریة النصّ یمثّل إماماً منصوصاً علیه، یتمتّع بالعصمة والعلم والفقاهة، بل یُعدّ أعلم أهل عصره، وأشجعهم وأکفئهم فی إدارة الأُمور، إضافةً إلی کونه قرشیّاً هاشمیّاً، من أهل بیت النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

الحسین وشروط الخلافة عند أهل السنّة

وأمّا طبق الشروط التی یراها علماء أهل السنّة فی الخلیفة، من العدالة، والعلم، والسیاسة، وحسن الرأی والتدبیر، والشجاعة، وغیرها ممّا ذکرناها سابقاً فی مبحث صفات الحاکم، فهی متوفّرة بأحسن وجوهها عند الإمام الحسین(علیه السّلام)، ولم ینازع فی ذلک أحد، بل نلاحظ حتّی معاویة العدو الشدید لأهل البیت(علیهم السّلام) کان یعرف فی نفسه مقام الحسین(علیه السّلام)، ومکانته الدینیة والاجتماعیة، ولذلک حینما کتب إلیه الإمام الحسین(علیه السّلام) کتاباً یبیّن له فیه ظلمه وجوره، وما فعله بشیعة علیّ(علیه السّلام) وأتباعه، أشار مَن حوله إلیه أنْ یجیب الإمام الحسین(علیه السّلام) بما یصغّر إلیه نفسه، فقال لهم معاویة: «وما عسیت أنْ أعیب حسیناً، والله،

ص: 212


1- اُنظر: ابن حجر، أحمد بن علی، الإصابة: ج2، ص69، لکن فی مصنّف ابن أبی شیبة نسب القول لعمرو بن العاص، ولیس لولده. اُنظر: ابن أبی شیبة، عبد الله، بن محمد، المصنف: ج7، ص269.

ما أری للعیب فیه موضعاً»(1). وفی لفظ البلاذری: «ما عسیت أنْ أقول فی حسین، ولست أراه للعیب موضعاً»(2).

وکذلک فإنّ معاویة أوصی ولده یزید بالإمام الحسین(علیه السّلام)؛ لمعرفته بمنزلته وقدره، وقال له فی ذلک: «اُنظر حسین بن علی وابن فاطمة بنت رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، فإنّه أحبّ الناس إلی الناس»(3).

وهذا عبد الله بن مطیع یبیّن منزلة الإمام الحسین(علیه السّلام) فی مجتمعه، وذلک حین التقاه حین الخروج إلی مکّة، ودار بینهم کلامٌ جاء فیه: «جُعلت فداک، أین ترید؟ قال: أمّا الآن فإنّی أُرید مکّة، وأمّا بعدها فإنّی أستخیر الله. قال: خار الله لک، وجعلنا فداک، فإذا أنت أتیت مکّة فإیاک أن تقرب الکوفة، فإنّها بلدةٌ مشؤومة، بها قُتل أبوک، وخُذل أخوک، واغتیل بطعنةٍ کادت تأتی علی نفسه، الزم الحرم، فإنّک سیّد العرب، لا یعدل بک والله، أهل الحجاز أحداً، ویتداعی إلیک الناس من کلّ جانب، لا تفارق الحرم فذاک عمّی وخالی، فوالله لئن هلکت لنُسترقنّ بعدک»(4). وفی لفظٍ آخر: «فوالله، لئن قتلک هؤلاء القوم لیتّخذُنّا خولاً وعبیداً»(5).

فابن مطیع وهو ممَّن رأی النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وعاصر ذلک المجتمع، یوضّح أنّ الحسین(علیه السّلام) سیّد العرب، ولا یضاهیه أحد من أهل الحجاز، وإنّ الأُمّة ستکون فریسة سهلة بید الطواغیت، وتتحوّل إلی أُمّة مسترقّة عند فقدان الإمام الحسین(علیه السّلام)، فابن مطیع یری أنّ الوجود الحسینی هو وجود حافظ للأُمّة، وبه تُحفظ عزّتها وکرامتها.

ص: 213


1- الطوسی، محمد بن الحسن، اختیار معرفة الرجال (رجال الکشی): ج1، ص259.
2- البلاذری، أحمد بن یحیی،أنساب الأشراف: ج3، ص155.
3- ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص206.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص261.
5- ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص207.

ولذا؛ فإنّ أهل السیر والتاریخ یذکرون أنّ ابن الزبیر قد سبق الإمام الحسین(علیه السّلام) فی دخول مکّة، فلمّا وصل الحسین(علیه السّلام) إلیها، وبقیَ فیها فترة، کان «أثقل خلق الله علی ابن الزبیر؛ قد عرف أنّ أهل الحجاز لا یبایعونه ولا یتابعونه أبداً ما دام حسین بالبلد، وأنّ حسیناً أعظم فی أعینهم وأنفسهم منه، وأطوع فی الناس منه»(1).

وهذا عبد الله بن جعفر یبیّن عمق المکانة التی یتحلّی بها الإمام الحسین(علیه السّلام) فی المجتمع، فیکتب له متخوّفاً علیه ممّا تؤول إلیه الأُمور، فیقول: «فإنّی مشفقٌ علیک من الوجه الذی توجّه له أن یکون فیه هلاکک، واستئصال أهل بیتک، إن هلکت الیوم طفئ نور الأرض، فإنّک علم المهتدین ورجاء المؤمنین، فلا تعجل بالسیر، فإنّی فی أثر الکتاب، والسلام»(2).

وکذلک فإنّ ابن عبّاس حینما تخوّف علی الإمام الحسین(علیه السّلام) من الخروج إلی العراق، قال له: «فأقم بهذا البلد، فإنّک سیّد أهل الحجاز»(3). وفی لفظٍ آخر أنّه قال له: «وأقم بهذه البلدة، فإنک سیّد أهلها»(4).

وحینما انتهت محاورة الإمام الحسین(علیه السّلام) وابن عبّاس، وانتهت بإصرار الإمام الحسین(علیه السّلام) علی الخروج، وخرج ابن عبّاس من عنده، فمرّ بابن الزبیر، فقال له: «قرّت عینک یا بن الزبیر بشخوص الحسین عنک، وتخلیته إیّاک والحجاز. ثمّ قال:

یا لک من قبّرةٍ بمعمر

خلا لک الجوّ فبیض_ی واصفری»(5).

«وکان رجال من أهل العراق وأشراف أهل الحجاز یختلفون إلی الحسین، یجلَّونه ویعظّمونه، ویذکرون فضله، ویدعونه إلی أنفسهم، ویقولون: إنّا لک عضد وید. لیتّخذوا الوسیلة إلیه، وهم

ص: 214


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص261.
2- المصدر نفسه: ج4، ص291.
3- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص162.
4- الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص244.
5- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص162.

لا یشکّون فی أنّ معاویة إذا مات لم یعدل الناس بحسینٍ أحداً»(1).

ولذا، فحتّی قاتل الحسین(علیه السّلام) کان یعرف فضله وشرفه ومقامه، فقد جاء فی تاریخ الطبری أنّ الذی قتل الحسین(علیه السّلام) هو سنان بن أنس، فقال له الناس: «قتلت حسین بن علی وابن فاطمة ابنة رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) قتلت أعظم العرب خطراً، جاء إلی هؤلاء یرید أن یزیلهم عن ملکهم، فأتِ أُمراءک فاطلب ثوابهم، وإنّهم لو أعطوک بیوت أموالهم فی قتل الحسین کان قلیلاً. فأقبل علی فرسه، وکان شجاعاً شاعراً، وکانت به لوثة، فأقبل حتی وقف علی باب فسطاط عمر بن سعد، ثمّ نادی بأعلی صوته:

أوقر رکابی فضّةً وذهبا

أنا قتلت الملک المحجّبا

قتلت خیر الناس أُمّاً وأباً

وخیرهم إذ ینسبون نسباً

فقال عمر بن سعد: أشهد أنّک لمجنون، ما صحوت قط. أدخلوه علیّ، فلمّا أُدخل حذفه بالقضیب، ثمّ قال: یا مجنون، أتتکلّم بهذا الکلام، أما والله، لو سمعک ابن زیاد لضرب عنقک»(2).

فمن الواضح إذاً أنّه لا یوجد تشکیک فی مکانة الحسین(علیه السّلام) وعلوّ مقامه، وهو سیّد أهل الحجاز، وهو أحبّ الناس إلی الناس، کما ورد فی لفظ الفرزدق وکذلک معاویة(3)، فالخلافة هی من تتشرّف بالإمام الحسین(علیه السّلام)، لا هو یتشرّف بها، فأولویته علی أهل زمانه من الصحابة وغیرهم من الصلحاء لا کلام فیه، فما بالک بأولویته من یزید بن معاویة مع فسقه وفجوره وانحلاله؛ لذا من الطبیعی أنْ تمیل القلوب إلیه، وأنْ تکتب الکتب والرسائل تدعوه إلی القدوم، لیقیم الحقّ ویدحض الباطل.

ص: 215


1- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص152.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص347.
3- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص165. ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص206.

وطبیعیٌّ أنّ الحسین بما یمثّله من امتداد للنبوة، ومن کبار أهل البیت(علیهم السّلام) ، ومن أجلّة أهل الحلّ والعقد، ما کان لیقف مکتوفاً أمام صرخات الناس ودعواتهم إلیه، لیقودهم بسفینته نحو برّ الأمان، فکانت کتب القوم ورسائلهم هی أحد الأسباب التی دعت الإمام الحسین(علیه السّلام) للتحرّک؛ لذا کان لا بدّ من الوقوف علی حقیقة هذه الرسائل وعددها، ومقدار ما تحویه من معانٍ أدّت بالحسین(علیه السّلام) إلی الخروج صوب العراق، وهذا ما سنبیّنه فی المبحث اللاحق إنْ شاء الله.

ص: 216

المبحث الثانی:رسائل أهل الکوفة والبصرة وانعقاد البیعة للحسین(علیه السّلام)

اشارة

من الواضح أنّ الحسین بن علی(علیه السّلام) یمثّل ثقل أهل البیت(علیهم السّلام) فی وقته، فهو البقیّة الباقیة بعد رحیل أبیه علیّ(علیه السّلام)، ثمّ رحیل أخیه الحسن(علیه السّلام)، فکانت الأنظار ترنو إلیه، وتتمنّی أنْ تتخلّص من الظلم الذی حاق بها من بنی أُمیّة، ولم یکن هناک مَن یستطیع أنْ یقود الأُمّة ویرسو بها إلی برّ الأمان غیر الإمام الحسین(علیه السّلام)؛ لما یتمتّع به من مواصفات، وما یحمله من مؤهّلات، سواء علی المستوی النسبی أو ما جاء فی حقّه من فضائل بثّها النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی المجتمع الإسلامی، أو لما یحمله من علوم جدّه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، أو ما یتمتّع به من خُلقٍ رفیع استقاه من ذلک البیت، الذی کان مهبطاً للوحی، ومنطلقاً للرسالة.

وقد بدأت بوادر البیعة للإمام الحسین(علیه السّلام) بعد وفاة الإمام الحسن(علیه السّلام)، فقد روی البلاذری بإسنادٍ جمعی: «أنّه لمّا توفی الحسن بن علیّ اجتمعت الشیعة، ومعهم بنو جعدة بن هبیرة بن أبی وهب المخزومی، وأُمّ جعدة أمّ هانئ بنت أبی طالب، فی دار سلیمان بن صرد، فکتبوا إلی الحسین کتاباً بالتعزیة، وقالوا فی کتابهم: إنّ الله قد جعل فیک أعظم الخلف ممَّن مضی، ونحن شیعتک المصابة بمصیبتک، المحزونة بحزنک، المسرورة بسرورک، المُنتظرة لأمرک.

وکتب إلیه بنو جعدة یخبرونه بحسن رأی أهل الکوفة فیه، وحبّهم لقدومه وتطلّعهم إلیه، وأن قد لقوا من أنصاره وإخوانه مَن یرضی هدیه، ویطمأنّ إلی قوله، ویعرف نجدته وبأسه، فأفضوا إلیهم ما هم علیه من شنآن ابن أبی سفیان، والبراءة منه، ویسألونه الکتاب إلیهم برأیه.

ص: 217

فکتب (الحسین(علیه السّلام)) إلیهم: إنّی لأرجو أنْ یکون رأی أخی (رحمه الله) فی الموادعة، ورأیی فی جهاد الظلمة رشداً وسداداً، فالصقوا بالأرض، وأخفوا الشخص، واکتموا الهوی، واحترسوا من الأظَّاء ما دام ابن هند حیّاً، فإنْ یحدث به حدث وأنا حیّ یأتِکم رأیی إنْ شاء الله»(1).

ونقل الشیخ المفید عن الکلبی والمدائنی: أنّه بعد وفاة الإمام الحسن(علیه السّلام) «تحرّکت الشیعة بالعراق، وکتبوا إلی الحسین(علیه السّلام) فی خلع معاویة والبیعة له، فامتنع علیهم، وذکر أنّ بینه وبین معاویة عهداً وعقداً لا یجوز له نقضه حتّی تمضی المدّة، فإنْ مات معاویة نظر فی ذلک»(2).

وقد یبدو هذا الاعتذار من الإمام الحسین(علیه السّلام) متناقضاً مع ما أوضحناه سابقاً، من أنّ معاویة قد أخلّ بش_روط الهدنة، وأنّ للإمام الحسین(علیه السّلام) الحقّ فی الخروج.

لکنّ هذا التناقض غیر تامّ، وقد أجبنا عنه سابقاً، وعرفنا هناک أنّ ظروف المجتمع الإسلامی لم تتغیّر کثیراً بما یتناسب مع القیام بثورة، فمعاویة هو هو، والمجتمع هو هو، ولم تحصل تلک التغییرات التی تتیح للإمام الحسین(علیه السّلام) القیام بثورة منتجة علی مرّ الأزمان، وأنّ شروط الصلح وإنْ نکثها معاویة فإنّ ذلک لم یصل إلی جمیع أمصار العالم الإسلامی، مع ملاحظة أنّ السلطة وجانبها الإعلامی کان بید معاویة، وبإمکانه أنْ یغیّر الحقائق، ویبثّ فی المجتمع بولایاته المختلفة أنّ الحسین(علیه السّلام) نقض الشروط، وخالف الهدنة وخرج للقتال، خصوصاً أنّ أهمّ بنود الصلح لم تُنقض بعد، وهو أنّ الخلافة تعود للإمام الحسن(علیه السّلام)، ثمّ للحسین(علیه السّلام)؛ لأنّ معاویة وقتها لم یبایع لولده یزید بولایة العهد.

وعلی کلّ حال فقد کانت بذرة البیعة وکتابة الرسائل إلی الإمام الحسین(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بعد وفاة الإمام الحسن(علیه السّلام).

ص: 218


1- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص152.
2- المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص32.

ثمّ إنّ معاویة بایع لولده یزید بولایة العهد کما أسلفنا سابقاً، وبدأت المعارضة لسیاسته تتّسع وتزداد، وکان الإمام الحسین(علیه السّلام)علی هرم المعارضین، وکذلک معه عبد الله بن الزبیر، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبی بکر، وبعد وفاة معاویة کان همّ یزید أنْ یأخذ البیعة ممَّن لم یبایعوا سابقاً، خصوصاً الحسین(علیه السّلام) وابن الزبیر، ممّا اضطر الإمام الحسین(علیه السّلام) لترک مدینة جدّه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، والرحیل إلی مکّة، وهناک بدأت الرسل تتوافد إلیه، نشیر إلیها فیما یلی:

1_ الظاهر أنّ أوّل رسالة وصلت إلی الحسین(علیه السّلام) فی مکّة کانت بتاریخ: 10رمضان من عام 60 للهجرة، وذلک حین بلغ الشیعة خبر موت معاویة، وعدم مبایعة الحسین لیزید، وجاء فیها: «من سلیمان بن صرد، والمسیّب بن نجبة، ورفاعة بن شدّاد، وحبیب بن مظهر... وشیعته من المؤمنین والمسلمین من أهل الکوفة، أمّا بعد، فالحمد للَّه الذی قصم عدوّک الجبّار العنید، الذی انتزی علی هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فیئها، وتأمّر علیها بغیر رضًی منها، ثمّ قتل خیارها، واستبقی شرارها، وجعل مال الله دولةً بین أغنیائها، فبُعداً له کما بَعُدت ثمود، ولیس علینا إمام، فاقدم علینا، لعلّ الله یجمعنا بک علی الحق.

واعلم أنّ النعمان بن بشیر فی قص_ر الإمارة، ولسنا نجمع معه جمعة، ولا نخرج معه إلی عید، ولو بلغنا إقبالک إلینا أخرجناه فألحقناه بالشام، والسلام»(1).

وبعثوا هذه الرسالة مع عبد الله بن سبیع الهمدانی، وعبد الله بن وال التیمی، وأوصلوها إلی الإمام الحسین(علیه السّلام) فی العاشر من شهر رمضان(2).

ص: 219


1- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص158. واُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص262. المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص37.
2- اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص158. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص262.

وکما هو واضح تضمّنت هذه الرسالة عدّة نقاط أساسیة:

الأُولی: إنّ الشیعة فی الکوفة کانوا لا یرون مشروعیة خلافة معاویة بن أبی سفیان، وأنّه غاصب مبتزّ لأمر هذه الأُمّة، ومُتأمّرٌ علیها بقوة السیف، دون رضیً منها.

الثانیة: إنّ معاویة لم یحکم فی الأُمّة بالعدل والأنصاف، بل ساسها بقوّة السیف، فقتل خیارها واستبقی أشراراها، وتسلّط علی أموال المسلمین، ولم یقتسمه بالحقّ، بل کان یص_رف علی أغنیائها یتداولونه بینهم، وأمّا الفقراء والمتعفّفین من هذه الأُمّة فلیس لهم شیء.

الثالثة: إنّهم لم یبایعوا یزید بن معاویة، وباقون بلا إمام علیهم، ولم یجتمعوا مع والی الکوفة لا فی جمعة ولا فی جماعة، ویطلبون من الإمام الحسین(علیه السّلام) القدوم لیقیم الحقّ، ویدفع الباطل.

الرابعة: إنّه فی حالة علمهم بقدوم الإمام الحسین(علیه السّلام)، فإنّهم سینتفضون علی النعمان بن بشیر والی الکوفة، ویخرجوه إلی الشام حیث مقرّ الحکم الأُموی.

وطبیعی أنّ هذه الأُمور کفیلة لتحریک أی إنسان رسالی یطمح فی إقامة حکم الله بالأرض.

2_ بعد یومین من الرسالة الأُولی أخذ الواحد والاثنین والثلاثة والأربعة یکتبون إلی الإمام الحسین(علیه السّلام)، فأرسلوا قرابة الخمسین صحیفة، بعثوها بید قیس بن مسهر بن خلید الصیداوی من بنی أسد، وعبد الرحمان بن عبد الله بن الکدر الأرحبی، وعمارة بن عبد السلولی(1).

وفی إرشاد المفید نقلاً عن أهل السیر والتاریخ: إنّ عدد الصحف بلغت نحو مائة

ص: 220


1- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص158. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص262.

وخمسین صحیفة(1).

3_ ثمّ لبثوا یومین آخرین وسرّحوا إلیه هانئ بن هانئ السبیعی، وسعید بن عبد الله الحنفی، وکتبوا معهما: «أمّا بعد، فحیّهلا، فإنّ الناس منتظرون لک، لا إمام لهم غیرک، فالعجل ثمّ العجل ثمّ العجل، والسلام»(2). وفی لفظ الطبری: «أمّا بعد، فحیّهلا، فإنّ الناس ینتظرونک، ولا رأی لهم فی غیرک، فالعجل العجل، والسلام علیک»(3).

وهذه الرسالة أیضاً صریحة ومؤکّدة لما قبلها بأنّ القوم لم یبایعوا لیزید، وأنّهم بلا إمام، وینتظرون من الحسین(علیه السّلام) القدوم بالس_رعة الممکنة؛ لیقیم لهم الحقّ، ویخلصّهم ممّا هم فیه من الظلم.

4_ وکتب له مجموعة من أهل الکوفة، وهم: شبث بن ربعی الیربوعی، ومحمّد بن عمیر بن عطارد بن حاجب التمیمی، وحجار بن أبجر العجلی، ویزید بن الحرث بن یزید ابن رویم الشیبانی، وعزرة بن قیس الأحمسی، وعمرو بن الحجاج الزبیدی، کتاباً جاء فیه: «أمّا بعد، فقد اخض_رّ الجناب، وأینعت الثمار، وکلمت الجمام، فإذا شئت فاقدم علینا، فإنّما تقدم علی جندٍ لک مجنّدة!!! والسلام»(4).

وجاء فی بعض الرسائل أنّ لک بالکوفة مائة ألف، ذکر ذلک الطبری بطریقین عن حصین بن عبد الرحمن، قال: «إنّ الحسین بن علیّ(علیه السّلام)، کتب إلیه أهل الکوفة أنّه معک مائة ألف»(5).

ص: 221


1- المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص38.
2- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص158.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص262.
4- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص158. المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص38.
5- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص294.

وقد ذکر سبط ابن الجوزی ذلک أیضاً، وذکر رسالة أهل الکوفة الناصّة علی ذلک، والمختلفة قلیلاً عن الرسالة الأُولی فی اللفظ، وإنْ کان الظاهر هی نفس الرسالة، فقد ذکر نقلاً عن الواقدی: أنّه «لمّا استقرّ الحسین(علیه السّلام) بمکة وعلم به أهل الکوفة، کتبوا إلیه یقولون: إنّا قد حبسنا أنفسنا علیک، ولسنا نحض_ر الصلاة مع الولاة، فاقدم علینا فنحن فی مائة ألف، وإنّا قد فشا فینا الجور، وعُمل فینا بغیر کتاب الله وسنّة رسوله، ونرجو أن یجمعنا الله بک علی الحق، وینفی عنا بک الظلم، فأنت أحقّ بهذا الأمر من یزید وأبیه الذی أغضب الله فیها، وشرب الخمور، ولعب بالقرود والطنابیر وتلاعب الدین، وکان ممَّن کتب إلیه ذلک: سلیمان بن صرد، والمسیب بن نجیبة، ووجوه أهل الکوفة»(1). «فتتابعت علیه فی أیام رسل أهل الکوفة، ومن الکتب ما ملأ منه خرجین»(2).

وقد اجتمعت هذه الرسائل والکتب عند الإمام الحسین(علیه السّلام)، فقرأها وسأل الرسل عن أمر الناس، ثمّ کتب مع هانئ بن هانئ السبیعی، وسعید بن عبد الله الحنفی: «بسم الله الرحمن الرحیم، من حسین بن علی إلی الملأ من المؤمنین والمسلمین، أمّا بعد، فإنّ هانئاً وسعیداً قدما علیّ بکتبکم، وکانا آخر مَن قدم علیّ من رسلکم، وقد فهمت کلّ الذی اقتصصتم وذکرتم، ومقالة جلّکم: إنّه لیس علینا إمام، فأقبل لعلّ الله أنْ یجمعنا بک علی الهدی والحقّ. وقد بعثت إلیکم أخی وابن عمّی وثقتی من أهل بیتی، وأمرته أن یکتب إلیّ بحالکم وأمرکم ورأیکم، فإنْ کتب إلیّ أنّه قد أجمع رأیُ مَلَئکم، وذوی الفضل والحجی منکم علی مثل ما قدمت علیّ به رسلکم، وقرأت فی کتبکم؛ أقدم علیکم وشیکاً إنْ شاء الله، فلعمری، ما الإمام إلّا العامل بالکتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه علی ذات الله، والسلام»(3).

ص: 222


1- سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص514.
2- الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص230.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص262.

وهذه الرسالة تتضمّن استجابة صریحة من الإمام الحسین(علیه السّلام) لدعوة مجتمع الکوفة، عند بقاء ملئهم وأهل الفضل والحجی منهم علی موقفهم من نص_رة الإمام(علیه السّلام)، مشفوعة بذکر أسباب ذلک، وهی انحراف الخلیفة والإمام المتولّی لزمام الأُمور عن أداء مهامّه ووظائفه التی أُوکل بها، من العمل بکتاب الله وسنّة نبیّه، وإقامة العدل بین الناس، والالتزام بالحقّ، وحبس النفس علی ذات الله، لا إغراقها فی الشهوات والملذّات.

ولمّا وصل مسلم بن عقیل إلی الکوفة، نزل فی دار المختار بن أبی عبید، وأقبلت الشیعة تختلف إلیه، فکلّما اجتمع إلیه منهم جماعة قرأ علیهم کتاب الحسین بن علی(علیهماالسّلام) وهم یبکون، وبایعه الناس حتّی بایعه منهم ثمانیة عش_ر ألفاً، فکتب مسلم(رحمه الله) إلی الحسین(علیه السّلام)، یخبره ببیعة ثمانیة عش_ر ألفاً، ویأمره بالقدوم(1).

وجاء فی الکتاب الذی أرسله إلیه: «إنّ الرائد لا یکذب أهله، وقد بایعنی من أهل الکوفة ثمانیة عشر ألف رجلٍ، فأقدم، فإنّ جمیع الناس معک، ولا رأی لهم فی آل أبی سفیان»(2).

وکان الحسین(علیه السّلام) فی الطریق، فکتب إلیهم کتاباً بید قیس بن مسهر الصیداوی، جاء فیه: «بسم الله الرحمن الرحیم، من الحسین بن علی إلی إخوانه من المؤمنین والمسلمین، سلام علیکم، فإنّی أحمد إلیکم الله الذی لا إله إلا هو أمّا بعد، فإنّ کتاب مسلم بن عقیل جاءنی یخبرنی فیه بحسن رأیکم واجتماع ملئکم علی نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أنْ یحسن لنا الصنع، وأن یثیبکم علی ذلک أعظم الأجر، وقد شخصت إلیکم من مکة یوم الثلاثاء لثمان مضین من ذی الحجة یوم الترویة، فإذا قدم علیکم رسولی فاکمشوا أمرکم وجدّوا، فإنّی قادم علیکم فی أیامی هذه إن شاء الله، والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته»(3). وفی لفظٍ آخر: «بسم الله الرحمن الرحیم،

ص: 223


1- اُنظر: المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص41.
2- الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص243. واُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص281.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص297.

من الحسین بن علی إلی إخوانه من المؤمنین بالکوفة، سلام علیکم، أمّا بعد، فإنّ کتاب مسلم بن عقیل ورد علیّ باجتماعکم لی، وتشوّقکم إلی قدومی، وما أنتم علیه منطوون من نص_رنا، والطلب بحقّنا، فأحسن الله لنا ولکم الصنیع، وأثابکم علی ذلک بأفضل الذخر، وکتابی إلیکم من بطن الرّمة، وأنا قادمٌ علیکم، وحثیث السیر إلیکم، والسلام»(1).

والکتاب صریح فی أنّ التحرّک کان استجابةً لطلب أهل الکوفة، ودعوتهم الحسین(علیه السّلام) لنصرته.

وربّما علی ضوء تلک الرسائل فإنّ الإمام(علیه السّلام) أخذ یعدّ العدّة والعدد للقیام بثورته، ویستنصر المسلمین ویدعوهم إلی الالتحاق به، وإنْ کان سلام الله علیه موقن بحسب ما یستقرأه من وضع الساحة، وبحسب ما وردته من نصائح بأنّ ذلک لا یتمّ، لکن الظروف الظاهریة کانت تحتّم علیه أنْ یقوم بدوره، ویهیّئ لثورته هذه ما تحتاج إلیه من عدّة وعدد، فکتب فی ذلک إلی أشراف أهل البصرة کتاباً جاء فیه: «بسم الله الرحمن الرحیم، من الحسین بن علی إلی مالک بن مسمع، والأحنف بن قیس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقیس بن الهیثم، سلام علیکم، أمّا بعد، فإنّی أدعوکم إلی إحیاء معالم الحقّ وإماتة البدع، فإنْ تجیبوا تهتدوا سبل الرشاد، والسلام»(2).

وقد تقدّم منّا ذکر رسالة الإمام الحسین(علیه السّلام) إلی وجهاء وأشراف أهل البصرة، بلفظٍ آخر، جاء فیه: «أمّا بعد، فإنّ الله اصطفی محمّداً (صلّی الله علیه وسلّم) علی خلقه، وأکرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إلیه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرسل به (صلّی الله علیه وسلّم) وکنّا أهله وأولیاءه، وأوصیاءه وورثته، وأحقّ الناس بمقامه فی الناس، فاستأثر علینا قومنا بذلک، فرضینا وکرهنا الفرقة، وأحببنا العافیة، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلک الحقّ المستحقّ علینا ممَّن

ص: 224


1- الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص245.
2- المصدر نفسه: ص231.

تولّاه... وقد بعثت رسولی إلیکم بهذا الکتاب، وأنا أدعوکم إلی کتاب الله وسنّة نبیه (صلّی الله علیه وسلّم) فإنّ السنّة قد أُمیتت، وإنّ البدعة قد أُحییت، وإن تسمعوا قولی وتطیعوا أمری أهدِکم سبیل الرشاد، والسلام علیکم ورحمة الله»(1). وهذه الرسالة حوت علی مضامین عدیدة تمّت الإشارة إلیها سابقاً.

ومن بین الوجهاء الذین وصلتهم رسالة الإمام الحسین(علیه السّلام) غیر ما ذکرناه، یزید بن مسعود النهشلی(2)، وعمرو بن عبید الله بن معمر(3).

ولم یسعفنا التاریخ ببیانٍ مُفصّل حول موقف جمیع أشراف أهل البصرة من هذه الرسالة، إلّا أنّه من الواضح أنّ بعضهم قد تأرجح موقفه مثل الأحنف بن قیس، الذی کتب إلی الإمام الحسین(علیه السّلام): «أمّا بعد، فاصبر إنّ وعد الله حقّ، ولا یستخفنّک الذین لا یوقنون»(4).

وبعضهم قد خان الأمانة وهو المنذر بن الجارود، فأفشی الس_رّ دون غیره؛ بحجّة خوفه أنْ یکون الرسول دسیساً من ابن زیاد، فقام بتسلیمه إلیه، وأقرأه کتابه، فقُدّم الرسول وضُربت عنقه(5).

ومنهم مَن استجاب بأهله وذویه وعشیرته لطلب الإمام الحسین(علیه السّلام)، وکان موقفه مشرّفاً، وهو یزید بن مسعود، فجمع بنی تمیم وبنی حنظلة وبنی سعد، وحثّهم علی الجهاد والقتال مع الحسین(علیه السّلام)، فاستجابوا له، وأبدوا استعدادهم للقتال والشهادة بین یدیه، فکتب إلی الحسین(علیه السّلام) یخبره بطاعتهم له، واستعدادهم للقدوم والجهاد بین یدیه، فدعا له

ص: 225


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص266.
2- اُنظر: ابن نما، محمد بن جعفر، مثیر الأحزان: ص17.
3- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص265.
4- ابن نما، محمد بن جعفر، مثیر الأحزان: ص17.
5- اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص266.

الحسین(علیه السّلام) خیراً، لکن الأقدار غیّبت هذه الثلّة من أهل البصرة عن حضور کربلاء، ونیل شرف الشهادة بین یدی أبی عبد الله، بعد أنْ وصلهم خبر استشهاده فی حال جهازهم للمسیر إلیه(1).

هذا، وکان قد اجتمع إلی الحسین(علیه السّلام) فی مدّة مقامه بمکة نفرٌ من أهل الحجاز، ونفرٌ من أهل البصرة، انضافوا إلی أهل بیته وموالیه(2).

وذکر أبو المخارق الراسبی أنّه اجتمع ناس من الشیعة بالبص_رة فی منزل امرأة من عبد القیس، یُقال لها: ماریة ابنة سعد، أو منقذ، أیاماً وکانت تتشیّع، وکان منزلها لهم مألفاً یتحدّثون فیه، وقد بلغ ابن زیاد إقبال الحسین(علیه السّلام)، فکتب إلی عامله بالبصرة أن یضع المناظر، ویأخذ بالطریق، قال: فأجمع یزید بن نبیط وهو من عبد القیس الخروج إلی الحسین(علیه السّلام)، وکان له بنون عش_رة، فقال: أیّکم یخرج معی؟ فانتدب معه ابنان له: عبد الله وعبید الله، فخرجوا والتحقوا بالحسین(علیه السّلام) فی الطریق، ثمّ استشهدوا معه یوم عاشوراء، رغم ممانعة الآخرین لهما، وتخوّفهما علیهما من ابن زیاد(3).

والخلاصة؛ إنّ هناک حاکماً جائراً متربّعاً علی کرسی الخلافة بغیر وجهٍ وحقّ، وهناک مجتمع یتظلّم ویشکو ما حلّ به من الظلم والجور، والابتعاد عن القرآن والسنّة، وهناک بیعة ورسائل وکتب تدعو الإمام الحسین(علیه السّلام) للقدوم، وتری فیه المنقذ والمخلّص من هذا الظلم والجور، وهناک أنصار أخرون انضمّوا لقافلة الحسین(علیه السّلام) من المدینة ومکّة والبصرة، فتکون عناصر الثورة قد اکتملت، ولا مناص للإمام الحسین(علیه السّلام) _ باعتباره یمثّل ثقل أهل البیت(علیهم السّلام) ، وامتداد النبوّة _ إلّا أنْ یستجیب لهذه الدعوات، ویلبّی تلک

ص: 226


1- اُنظر: ابن نما، محمد بن جعفر، مثیر الأحزان: ص19.
2- اُنظر: المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص66.
3- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری: ج4، ص263.

الص_رخات، فتحرّک باتجاه الکوفة؛ لإقامة العدل والقضاء علی الجور والباطل، متّخذاً من هذه الرسائل حجّة کافیة علی مشروعیة تحرّکه، فکان فی أکثر من مناسبة یحتجّ علی مشروعیة تحرّکه بالرسائل التی وصلته من القوم، وهذا ما سنوضّحه فیما یأتی:

احتجاج الإمام الحسین(علیه السّلام) برسائل أهل الکوفة

عرفنا أنّ شرارة الثورة الحسینیة انطلقت فی المدینة، حین وفاة معاویة، وتربّعِ یزید علی سدّة الحکم، بعد أنْ مهّد له أبوه معاویة ذلک بش_راء الضمائر وقوّة السیف، فکان همّ یزید عند تولّیه الخلافة أنْ یأخذ البیعة ممَّن رفضوا ذلک، وعلی رأسهم الإمام الحسین(علیه السّلام)، وعبد الله بن الزبیر.

فراسل یزید والیه علی المدینة فی أخذ البیعة منهم، فرفضوا ذلک وانطلقوا إلی مکّة؛ باعتبارها حرماً آمناً.

وقد عرفنا سابقاً أنّ مشروعیة الثورة قائمة من حین نکث معاویة لش_روط الصلح مع الإمام الحسن(علیه السّلام)؛ لأنّ معاویة لم یکتسب أیّ مش_روعیة لحکمه وخلافته عندها، مضافاً لابتعاد سلوکیاته وحکمه عن الشریعة المقدّسة، فکان یتّبع سیاسة التجویع والإرهاب والإقصاء، وقتل الصلحاء، وغیر ذلک من الجور والظلم الذی کان یقوم به.

وأشرنا سابقاً إلی الأسباب التی منعت الإمام الحسین(علیه السّلام) من التحرّک ضدّ معاویة بعد وفاة الإمام الحسن(علیه السّلام)، والتی منها قوّة السلطة الإعلامیة التی یمتکلها معاویة، وسطوته الکبیرة علی المجتمع الإسلامی، کانت تمکّنه من تشویه الحقائق وتصویر الحسین(علیه السّلام) بأنّه خارج عن القانون، وناکث لش_روط الصلح والهدنة، وبالتالی القضاء علی ثورته من دون أیّ ثمارٍ تذکر.

فلمّا توفی معاویة بدأت الأُمور تتجلّی أوضح، فمجیء یزید إلی سدّة الخلافة بالصورة التی بیّناها سابقاً یتنافی صراحةً مع شروط الهدنة، وهذا یبرّر بحدّ ذاته تحرّک الإمام

ص: 227

الحسین(علیه السّلام) لاستعادة الحقّ المغتصب، هذا من جهة، وإنّ یزید کان متجاهراً بالفسق مستهتراً بالسنّة متحلّلاً عن القیم والمبادئ، فهو لا یمتلک الشرائط الشرعیة لخلیفة المسلمین، وهذا مبرّر آخر للتحرّک وإنقاذ المسلمین من تبعات ذلک، هذا من جهةٍ ثانیة، فکان من أولویات الإمام الحسین(علیه السّلام) أنْ لا یُعطی لهکذا خلافة أیّ شرعیة تُذکر، فبدأ ثورته برفض البیعة لیزید، مؤکّداً أنْ لا بقاء للإسلام مع هکذا خلافة، فراح یبیّن فسق الخلافة من جهة، والدعوة للأمر بالمعروف والنهی عن المنکر من جهةٍ أُخری، وهذه الأُمور کما أوضحنا کلّها تکسب الثورة مشروعیة مستقلّة، فکیف إذا انضمّ إلی ذلک بیعة المجتمع الإسلامی، ودعواته المتکرّرة إلی الإمام الحسین(علیه السّلام)، باعتباره مُخلّصاً ومنقذاً للأُمّة من الانحراف الذی حلّ بها، فرسائل أهل الکوفة وبیعتهم له أعطت زخماً جدیداً للثورة الحسینیة، وأکّدت مش_روعیة التحرّک؛ إذ لا یمکن للحسین(علیه السّلام) السکوت والأُمّة تستصرخه وتندبه للقدوم؛ لذا کان یحتجّ فی أکثر من موطن برسائل وکتب أهل الکوفة إلیه، نقف علی عدّة من ذلک:

1_ یقول أحد الرواة: «رأیت أبنیة مضروبة بفلاة من الأرض، فقلت: لمَن هذه؟ قالوا: هذه لحسین. قال: فأتیته فإذا شیخ یقرأ القرآن، قال: والدموع تسیل علی خدّیه ولحیته، قال: قلت: بأبی وأمّی یا بن رسول الله، ما أنزلک هذه البلاد والفلاة التی لیس بها أحد؟ فقال: هذه کتب أهل الکوفة إلیّ، ولا أراهم إلّا قاتلیّ، فإذا فعلوا ذلک لم یدَعوا لله حرمة إلّا انتهکوها، فیسلّط الله علیهم مَن یذلّهم...»(1).

فالإمام(علیه السّلام) هنا یبیّن للسائل بأنّه إنّما یتحرّک وفق البیعة والرسائل التی وصلته من أهل الکوفة، علی الرّغم من قرائته للأحداث بأنّ النتیجة ستکون القتل، فإنّ هدف الإمام کما أوضحنا هو الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وأمّا الرسائل والبیعة فقد زادت من

ص: 228


1- ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص216.

تکلیف الإمام(علیه السّلام)، وأکدّت المسؤولیة علیه، وکان لا بدّ له من التعامل معها کما هی.

2_ ورد أنّ ابن عمر لمّا سمع بخروج الحسین(علیه السّلام) إلی العراق، لحقه علی مسیرة ثلاث لیالٍ، ونهاه عن الخروج، فأجابه الإمام الحسین(علیه السّلام): بأنّ «هذه بیعتهم وکتبهم». یقول الخبر: «فاعتنقه ابن عمر وبکی وقال: أستودعک الله من قتیل، والسلام»(1).

فالإمام الحسین(علیه السّلام) هنا یبیّن أنّ سبب خروجه لهم هو البیعة والرسائل التی وصلته منهم.

3_ لمّا التقی به جیش الحر، وصلّی بهم الإمام(علیه السّلام) صلاة الظهر، قام خطیباً فیهم بعد ذلک، فقال: «أیّها الناس، معذرةً إلی الله، ثمّ إلیکم، إنّی لم آتکم حتّی أتتنی کتبکم، وقدمت علیّ رسلکم، فإنْ أعطیتمونی ما أطمئنّ إلیه من عهودکم ومواثیقکم دخلنا معکم مِص_رکم، وإنْ تکن الأُخری انص_رفت من حیث جئت. فأسکت القوم، فلم یردوا علیه، حتی إذا جاء وقت العصر نادی مؤذن الحسین(علیه السّلام)، ثمّ أقام، وتقدّم الحسین(علیه السّلام)، فصلّی بالفریقین، ثمّ انفتل إلیهم، فأعاد مثل القول الأول»(2).

وفی لفظٍ أنّ الحسین(علیه السّلام) حمد الله وأثنی علیه، وقال: «أمّا بعد، أیّها الناس، فإنّکم إنْ تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله یکن أرضی لله، ونحن أهل البیت أولی بولایته هذا الأمر علیکم من هؤلاء المدّعین ما لیس لهم، والسائرین فیکم بالجور والعدوان، وإن أنتم کرهتمونا وجعلتم حقّنا(3)، وکان رأیکم غیر ما أتتنی کتبکم، وقدمت به علیّ رسلکم، انص_رفت عنکم»(4). فقال الحر بن

ص: 229


1- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص163. واُنظرنحو ذلک: الکوفی، محمد بن سلیمان، مناقب أمیر المؤمنین: ج2، ص261.
2- الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص249.
3- وفی أنساب الأشراف: ج3، ص170، والکامل فی التاریخ: ج4، ص47: «وجهلتم حقّنا»، وهو الصحیح الموافق لسیاق الکلام.
4- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم الملوک: ج4، ص303.

یزید: «والله، ما ندری ما هذه الکتب التی تذکر. فقال الحسین(علیه السّلام): ائتنی بالخرجین اللذین فیهما کتبهم. فأُتی بخرجین مملوءین کتباً، فنُثرت بین یدی الحر وأصحابه، فقال له الحر: یا هذا، لسنا ممَّن کتب إلیک شیئاً من هذه الکتب، وقد أُمرنا ألّا نفارقک إذا لقیناک، أو نقدم بک الکوفة علی الأمیر عبید الله بن زیاد، وقد رأیتُ رأیاً فیه السلامة من حربک، وهو أن تجعل بینی وبینک طریقاً، لا تدخلک الکوفة، ولا تردّک إلی الحجاز، تکون نصفاً بینی وبینک، حتی یأتینا رأی الأمیر...»(1).

ویمکن أنْ نلاحظ علی هذا الخبر ما یلی:

أ _ إنّ الحسین(علیه السّلام) احتجّ علی القوم برسائلهم، وأکّد فی إقامة الحجّة علیهم بطلبه الانصراف عند تخلّیهم عن وعودهم ورسائلهم، مع علمه ومعرفته بأنّ القوم لا یقنعون منه بالرجوع من دون بیعة؛ لذا أراد من خلال طلبه الانصراف أنْ یؤکّد مشروعیة خروجه أمام الرافضین لذلک، والناصحین له بالرجوع، ویقول لهم بأنّ المسألة لا تتعلّق بخروجی وعدمه، وإنّما تتعلّق بأصل البیعة، ومَن مثلی لا یمکن أن یبایع مثل یزید ویُضفی علیه الشرعیة؛ لذا فإنّ قتلی محتوم لا محالة، والقتل بثورة ورفض لهذا التسلّط والظلم والجور خیرٌ من قتلٍ باغتیال بارد، لا یحرّک من عزیمة المجتمع، ولا یوضّح فساد وجبروت حکم بنی أُمیّة.

ب _ إنّ الحرّ لم یستطع الإجابة عن احتجاج الإمام الحسین(علیه السّلام) علیهم بالرسائل إلّا بصفة الإنکار ودعوی عدم معرفته بالرسائل، وحین أخرج له الإمام الحسین(علیه السّلام) خرجین من الرسائل بادر الحر بإنکار أنْ یکونوا ممَّن کتبوا ذلک، وهذا یُنبئ عن وجود ارتکاز عند الحر وجیشه، بأنّ وجود الرسائل یُعطی شرعیة لتحرّک الحسین(علیه السّلام) وقدومه، ولا یمکن لأحد أنْ یُنکر علیه ذلک التحرّک مع هذا الکمّ الهائل من تلک الرسائل.

ص: 230


1- الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص249.

4_ خطب الإمام الحسین(علیه السّلام) فی جیش الحر خطبة أُخری فی منطقةٍ تُدعی: (البیضة)، جاء فیها: «أیها الناس، إنّ رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) قال: مَن رأی سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناکثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، یعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان، فلم یغیّر علیه بفعلٍ ولا قولٍ، کان حقّاً علی الله إن یدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشیطان، وترکوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفیء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَن غیّر، وقد أتتنی کتبکم، وقدمت علیّ رسلکم ببیعتکم، أنّکم لا تسلّمونی ولا تخذلونی، فإن تممتم علی بیعتکم تصیبوا رشدکم، فأنا الحسین بن علی وابن فاطمة بنت رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، نفس_ی مع أنفسکم، وأهلی مع أهلیکم، فلکم فیّ أُسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدکم، وخلعتم بیعتی من أعناقکم، فلعمری، ما هی لکم بنکر، لقد فعلتموها بأبی وأخی وابن عمّی مسلم، والمغرور من اغترّ بکم، فحظّکم أخطأتم، ونصیبکم ضیّعتم، ومَن نکث فإنّما ینکث علی نفسه، وسیغنی الله عنک، والسلام علیک ورحمة الله وبرکاته»(1).

وفی هذه الخطبة نلاحظ طریقة جدیدة، فلم نرَ هنا طلباً من الإمام(علیه السّلام) فی الرجوع وترک المسیر، بل رکّز علی جوانب أُخری، أهمّها:

أ _ تأکیده(علیه السّلام) علی مسألة وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر مع انحراف السلطان وتبدیله السنن، بتحریمه حلال الله وتحلیله حرامه، وإطاعته للشیطان، وإظهاره الفساد فی الأرض..

ب _ بیان موقعیّته فیهم، وأنّه أحقّ مَن یغیّر هذا الواقع المنحرف.

ج _ تذکیرهم ببیعتهم ورسائلهم إلیه، واحتجاجه علیهم بها، وأنّ البقاء علی البیعة

ص: 231


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص305.

والوفاء بهذا العهد هو سبیل الرشاد، مؤکّداً لهم أنّه _ وهو الحسین بن علی وابن فاطمة بنت الرسول _ سیکون معهم بنفسه وعیاله، وعلیهم أنْ یتأسّوا به.

د _ حذّرهم من مغبّة عدم الوفاء بالبیعة والعهد الذی أعطوه له، ومن عقاب الله لهم، وأنّ الناکث إنّما ینکث علی نفسه، والله غنیٌّ عن العالمین.

وهذه الصیغة الجدیدة فی الخطاب تؤکّد أنّ طلب الرجوع إنّما کان من باب الاحتجاج وبیان حقیقة الأمر، فإنّ القوم لن یترکوا الحسین(علیه السّلام) من دون بیعة، ولذا فإنّه اتّخذ من رسائلهم وبیعتهم حجّة قویّة علی مش_روعیّة تحرّکه، مضافاً لمشروعیّة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فی حدّ ذاته، فإنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر یکون مع وجود الأعوان والأنصار أشدّ وآکد، فالحسین(علیه السّلام) بعد أنْ طلب منهم الانصراف فی خطبته السابقة لهم، لم یطلبه هذه المرّة، بل أدخل العنصر الأساس الذی تحرّک علی ضوئه، وهو الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وطلب منهم الوفاء بعهودهم والاستمرار علی بیعتهم؛ لأنّ ذلک هو سبیل الرشاد.

5_ حینما کان الإمام الحسین(علیه السّلام) فی الطریق وانتهی إلی ماء من میاه العرب، وکان هناک عبد الله بن مطیع العدوی، فلمّا رأی الحسین(علیه السّلام) قام إلیه، فقال: بأبی أنت وأُمّی یا ابن رسول الله، ما أقدمک؟ واحتمله فأنزله، فقال له الحسین(علیه السّلام): «کان من موت معاویة ما قد بلغک، فکتب إلیّ أهل العراق یدعوننی إلی أنفسهم. فقال له عبد الله بن مطیع: أذکّرک الله یا بن رسول الله، وحرمة الإسلام أن تُنتهک، أُنشدک الله فی حرمة رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، أُنشدک الله فی حرمة العرب، فوالله، لئن طلبت ما فی أیدی بنی أُمیة لیقتلنّک، ولئن قتلوک لا یهابون بعدک أحداً أبداً، والله إنّها لحرمة الإسلام تُنتهک، وحرمة قریش وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأتِ الکوفة، ولا تعرض لبنی أُمیّة، قال: فأبی إلّا أنْ یمضی»(1).

ص: 232


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص298. المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص72.

وفی هذا اللقاء أیضاً نجد أنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) برّر خروجه بکتب أهل الکوفة وبیعتهم، ولم یثنِه کلام ابن مطیع من إخباره بما سوف یجری، بل إنّ کلام ابن مطیع وکلام الکثیر الذین حاوروا الحسین(علیه السّلام) لم یکن لیقدح بمشروعیة خروجه مع وجود الکتب والرسائل، بل کانوا متخوّفین من خیانة أهل الکوفة، فالکتب والرسائل کانت تعطی مشروعیة للتحرّک، سواء کان فی نظر الحسین(علیه السّلام) أو فی نظر الصحابة والتابعین، وهذا ما نرید أنْ نؤکّد علیه.

6_ ما ورد عن الفرزدق حین خرج مُریداً الحج، فلمّا وصل ذات عرق، رأی قباباً مضروبة، فقال: لمَن هذه؟ قالوا: «للحسین بن علی». یقول: «فعدلت إلیه فقلت: یا بن رسول الله، ما أعجلک عن الحج؟ قال: کتب إلیّ هؤلاء القوم _ یعنی أهل الکوفة _ یذکرون ما هم فیه»(1).

وهنا أیضاً فإنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) یکتفی فی تبریر خروجه برسائل وکتب أهل الکوفة.

7_ لمّا بعث ابن زیاد عمر بن سعد فی أربعة آلاف، وأمره أنْ یسیر إلی الحسین(علیه السّلام)، فلمّا نزل بإزائه أرسل قرّة بن قیس الحنظلی إلی الحسین(علیه السّلام)؛ لیسأله عن سبب مجیئه، فأجابه الحسین: «کتب إلیَّ أهل الکوفة فی القدوم إلیهم، فأمّا إذ کرهونی فإنّی أنصرف عنهم»(2).

فرجع قرّة وأخبر ابن سعد بذلک، فکتب عمر بن سعد إلی ابن زیاد: «بسم الله الرحمن الرحیم، أمّا بعد، فإنّی حیث نزلت بالحسین بعثت إلیه رسولی فسألته عمّا أقدمه وماذا یطلب ویسأل، فقال: کتب إلی أهل هذه البلاد وأتتنی رسلهم، فسألونی القدوم ففعلت، فأمّا إذ کرهونی فبدا لهم غیر ما أتتنی به رسلهم فأنا منصرف عنهم، فلمّا قرئ الکتاب علی ابن زیاد قال:

ص: 233


1- العصفری، خلیفة بن خیاط، تاریخ خلیفة: ص176.
2- البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص177.

الآن إذ علقت مخالبنا به

یرجو النجاة ولات حین مناص».

فکتب ابن زیاد إلی ابن سعد: «أمّا بعد، فقد بلغنی کتابک وفهمت ما ذکرت، فاعرض علی الحسین أنْ یبایع لیزید بن معاویة هو وجمیع أصحابه، فإذا فعل ذلک رأینا رأینا، والسلام»(1).

وهذه المراسلات تبیّن احتجاج الإمام الحسین(علیه السّلام) بکتب أهل الکوفة ورسلهم، وتؤکّد ما ذکرناه سابقاً بأنّ القوم لن یرضوا من الحسین(علیه السّلام) بغیر بیعة یزید، وهو أمر لا یمکن أنْ یتمّ ویصدر من الإمام الحسین(علیه السّلام)؛ لأنّ معناه إضفاء الشرعیة علی خلافة یزید، وهی خلافة بعیدة عن الإسلام، بل بوجودها یتمّ القضاء علی ما تبقّی من مبادئ وقیم إسلامیّة، ومبایعة الحسین(علیه السّلام) تکون حینئذٍ مساهمة منه فی القضاء علی الإسلام، وهذا لا یمکن أنْ یصدر منه؛ لذا فهو یلقی الحجج تلو الحجج علیهم بطلبه الرجوع؛ حتّی یتبیّن للمجتمع أنّ ما سیحصل من انتهاک لحرمة الحسین(علیه السّلام) لیس سببه الخروج والتحرّک، بل إنّ الحسین(علیه السّلام) خرج أو لم یخرج فإنّ مصیره القتل إنْ لم یبایع.

8 _ خطب الإمام الحسین(علیه السّلام) یوم عاشوراء خطبةً طویلة مؤثّرة، عرّفهم بنفسه ونسبه وفضائله، ثمّ ختم بقوله: «أتطلبونی بقتیلٍ منکم قتلته، أو مالٍ لکم استهلکته، أو بقصاصٍ من جراحة. قال: فأخذوا لا یکلّمونه، قال: فنادی یا شبث بن ربعی، ویا حجّار بن أبجر، ویا قیس ابن الأشعث، ویا یزید بن الحارث، ألم تکتبوا إلیّ أن قد أینعت الثمار، وأخضرّ الجناب، وطمت الجمام، وإنّما تُقدم علی جندک لک مُجنّد، فأقْبِلْ. قالوا له: لم نفعل. فقال: سبحان الله، بلی والله، لقد فعلتم. ثمّ قال: أیّها الناس، إذ کرهتمونی فدعونی أنص_رف عنکم إلی مأمنی من الأرض»(2).

وفی هذه الخطبة تأکید واحتجاج آخر علی القوم برسائلهم وکتبهم، ولذا فقد بادر هؤلاء الذین استحکم الشیطان من قلوبهم وعقولهم إلی تکذیب ذلک؛ لأنّ الإقرار به

ص: 234


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص311.
2- المصدر نفسه: ج4، ص323.

یتنافی مع ما یقومون به من قتاله، ثمّ إنّه(علیه السّلام) ألقی الحجّة مرّة أُخری فی تلک اللحظات العصیبة، وطلب منهم الإنصراف، لکنّهم وکما ذکرنا کانوا مصرّین علی البیعة، لذا أجابه قیس بن الأشعث أخو محمّد بن الأشعث الذی تلطخت یداه بدم مسلم عقیل، فقال: «أولا تنزل علی حکم بنی عمّک فإنّهم لن یروک إلا ما تحبّ ولن یصل إلیک منهم مکروه». فقال له الحسین: «أنت أخو أخیک أترید أنْ یطلبک بنو هاشم بأکثر من دم مسلم بن عقیل، لا والله لا أعطیهم بیدی إعطاء الذلیل، ولا أقرّ إقرار(1) العبید، عباد الله إنّی عذت بربّی وربّکم أنْ ترجمون، أعوذ بربّی وربّکم من کلّ متکبّر لا یؤمن بیوم الحساب»(2).

فالإمام الحسین(علیه السّلام) لا یمکن أنْ یبایع ولا أن یستسلم لقوات ابن زیاد، فالخضوع لهؤلاء یمثل الذلّ والهوان، والحسین(علیه السّلام) خرج لیحرّر الناس ویخلّصهم من تجبّر وکبریاء الظالمین، لا أنْ یکون کغیره خاضعاً لهم، وکان مجیؤه بناءً علی کتبهم ورسائلهم؛ لذا بقی علی موقفه صامداً مکافحاً حتّی قض_ی شهیداً مضمّخاً بدمه، لیبقی صدی صوته، یقضّ الظلمة ویهزّ عروش الظالمین، وتبقی قطرات دمه الطاهرة مشعلاً وضّاءً ینیر درب البش_ریة، ویعلّمها معنی التحرّر ورفض قیود ذلّ وعبودیة الظالمین.

وللإمام(علیه السّلام) خطب وأقوال أُخری صریحة فی الاحتجاج علیهم برسائلهم وکتبهم.

والخلاصة التی نرید أنْ نصل إلیها أنّ نفس رسائل القوم وبیعتهم للإمام الحسین(علیه السّلام) واستصراخهم له قد أوجبت علیه التحرّک والقدوم، وإنْ کان یعرف بحسب الظروف أنّ النتیجة لا تنتهی بالنص_ر العسکری، إلّا أنّ اعتلاء سدّة الخلافة من شخص لا یملک أدنی مکوّناتها، ولم تُراعَ فی تنصیبه أقلّ شروطها، مع الظلم المتفشّی، واندثار السنة، وانتشار البدعة، واستص_راخ القوم للحسین(علیه السّلام)، وطلبهم القدوم لینتصروا به علی الظلم

ص: 235


1- فی أنساب الأشراف: ولا أفرّ فرار العبید. اُنظر: ج3، ص188.
2- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص323.

والعدوان، وإقامة الحقّ والعدل، وإحیاء السنة وإماتة البدعة، کلّ ذلک کان یحتّم علی الإمام الحسین(علیه السّلام) الخروج والتحرّک إلی الکوفة. فهناک بیعة وکتب ورسائل، وهناک حاکم لا یتمتّع بالشرعیة، ویحکم بالجور والباطل، وهناک إمام مجمع علی عدله وعلمه وصلاحیته لخلافة الأُمّة وقیادته، وهو الإمام الحسین(علیه السّلام)، وقد بُویع من قبل الآلاف المؤلّفة عن طوعٍ واختیار، فلا بدّ علیه من الاستجابة والقیام، وهو ما حصل.

ولذا فإنّ الکثیر من الصحابة والتابعین یرون صواب ثورة الحسین(علیه السّلام)، ولم یقدحوا بشرعیتها، بل کانوا خائفین علیه من خیانة أهل الکوفة وغدرهم به، وإلّا فکلّهم کانوا یرون أحقیّة الإمام الحسین(علیه السّلام) وأولویّته فی الخلافة، وأنّ الحق معه، وقد ورد عن مروان الأصفر، قال: حدّثنی الفرزدق، قال: «لمّا خرج الحسین، لقیت عبد الله بن عمرو، فقلت: إنّ هذا قد خرج، فما تری؟ قال: أری أنْ تخرج معه، فإنّک إنْ أردت دنیا، أصبتها، وإنْ أردت آخرة أصبتها. فرحلت نحوه، فلمّا کنت فی بعض الطریق، بلغنی قتله، فرجعت إلی عبد الله، وقلت: أین ما ذکرت؟ قال: کان رأیاً رأیته».

قال شمس الدین الذهبی معلّقاً علی هذا الخبر: «هذا یدلّ علی تصویب عبد الله بن عمرو للحسین فی مسیره، وهو رأی ابن الزبیر وجماعة من الصحابة شهدوا الحرّة»(1).

ونختم هذا المبحث باحتجاجه(علیه السّلام) فی یوم عاشوراء علی أهل الکوفة، حین خطب فیهم خطبةً عظیمة، وبّخهم فیها علی غدرهم وخیانتهم، قال (سلام الله علیه): «تبّاً لکم أیّتها الجماعة وترحاً! أحین استصرختمونا والهین، فأصرخناکم موجفین، سللتم علینا سیفاً لنا فی أیمانکم، وحششتم علینا ناراً اقتدحناها علی عدونا وعدوکم، فأصبحتم ألباً لأعدائکم علی أولیائکم، بغیر عدلٍ أَفشَوه فیکم، ولا أملٍ أصبح لکم فیهم، فهلّا لکم الویلات، ترکتمونا والسیف مشیم والجأش طامن، والرأی لمّا یستحصف، ولکن أسرعتم إلیها کطیرة الدّبا،

ص: 236


1- الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج3، ص293.

وتداعیتم علیها کتهافت الفراش، ثمّ نقضتموها، فسحقاً لکم یا عبید الأُمّة! وشذاذ الأحزاب، ونَبَذة الکتاب، ومحرّفی الکلم، وعصبة الآثام، ونفثة الشیطان، ومُطفئی السنن، ویحکم! أهؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون، أجل والله، غدرٌ فیکم قدیم، وشجت علیه أُصولکم، وتأزّرت فروعکم، فکنتم أخبث ثمر شجًی للناظر وأکلةٍ للغاصب! ألا وإنّ الدعی ابن الدعی قد رکز بین اثنتین بین السلة والذلة وهیهات منّا الذلة یأبی الله لنا ذلک، ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت، وأنوفٌ حمیّة، ونفوسٌ أبیّة، من أن نؤثر طاعة اللئام علی مصارع الکرام، ألا وإنّی زاحفٌ بهذه الأسرة علی قلّة العدد، وخذلان الناصر. ثمّ أنشد أبیات فروة بن مسیک المرادی:

فإن نَهزم فهزّامون قدماً

وإن نُهزَم فغیر مهزّمینا

وما إن طبنا جبن ولکن

منایانا ودولة آخرینا

فقل للشامتین بنا أفیقوا

سیلقی الشامتون کما لقینا

إذا ما الموت رفع عن أناس

بکلکله أناخ بآخرینا

أما والله لا تلبثون بعدها إلّا کریثما یُرکب الفرس، حتی تدور بکم دور الرحی، وتقلق بکم قلق المحور، عهدٌ عهده إلیّ أبی، عن جدّی رسول الله، «فَأَجْمِعُوا أَمْرَکُمْ وَشُرَکَاءَکُمْ ثُمَّ لَا یَکُنْ أَمْرُکُمْ عَلَیْکُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَیَّ وَلَا تُنْظِرُونِ » (1)،«إِنِّی تَوَکَّلْتُ عَلَی اللَّهِ رَبِّی وَرَبِّکُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِیَتِهَا إِنَّ رَبِّی عَلَی صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ »(2)»(3).

ص: 237


1- یونس: آیة71.
2- هود: آیة56.
3- اُنظر: الخطبة باختلاف یسیر فی ألفاظها فی کلّ من: ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج4، ص218 _ 219. ابن حمدون، محمد بن الحسن، التذکرة الحمدونیة: ج5، ص211 _ 212. ابن طاووس، علی بن موسی، اللهوف فی قتلی الطفوف: ص58 _ 60. ابن نما، محمد بن جعفر، مثیر الأحزان: ص39 _ 41.

شبهة أنّ التحرّک الحسینی وفق الرسائل یتنافی مع استمراره بالتحرّک، رغم علمه بخیانة أهل الکوفة:

قد یُقال: إنّ الحسین(علیه السّلام) استمرّ بالخروج حتی بعد وصول خبر مقتل مسلم بن عقیل وهانی بن عروة، وهذا یتنافی مع کون تحرّکه کان استجابةً لبیعتهم إیّاه، فبعد غدرهم وقتلهم بوکیله وممثّله مسلم، لم یبقَ له مبرّر فی الاستمرار؟!

جواب الشبهة:

1_ ذکرنا فی بحثنا هذا أنّ دواعی تحرّک الإمام الحسین(علیه السّلام) کانت متعدّدة ومتنوّعة ولم تکن مقتصرة علی أمرٍ معیّن، فیزید لم یکن مؤهّلاً للخلافة، ولم یتمتّع بصفاتها، ولم یکن تنصیبه تنصیباً شرعیّاً، بل إنّ أباه لم یکن خلیفة شرعیاً، وکانا یسوسان البلاد بقوّة السیف، فالخروج متعیّن لإقامة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، ولاستعادة الخلافة المُغتصبة والمتنافیة مع نظریتی النصّ والشوری، علی حدٍّ سواء. فلو فرضنا أنّ البیعة أصبحت لاغیة بعد علم الإمام الحسین(علیه السّلام) بمقتل مسلم، فإنّ بقیّة المبرّرات موجودة، بل إنّ قتل مسلم وهانی بالطریقة الوحشیة التی ذُکرت هی مبرّر آخر للخروج وعدم السکوت علی إجرام هؤلاء الطغاة.

2_ لو فرضنا أنّ البیعة کانت المحرّک الوحید، فإنّ وصول خبر مقتل مسلم لا یکفی لوحده فی الانسحاب، ما لم یصل إلیهم الإمام الحسین(علیه السّلام) ویحتجّ علیهم بکتبهم ورسائلهم؛ لأنّ رجوعه قد یُسجّل عند البعض هو انهزام وخیانة لمَن بایعوه، وکتبوا له ذلک بالقول إنّ تأثیر الإمام الحسین(علیه السّلام) أکثر بکثیر من تأثیر مسلم، ولو کان قد ذهب إلیهم لتغیّرت الأُمور، والتحق به القوم وتحقّق النصر. ویؤیّد هذا الاحتمال ما قاله بعض الأصحاب للإمام الحسین(علیه السّلام) عند وصول خبر مقتل مسلم: «إنّک والله، ما أنت مثل مسلم

ص: 238

ابن عقیل، ولو قدمت الکوفة لکان الناس إلیک أسرع»(1).

ثمّ إنّ الصورة کانت ضبابیة ولم تتّضح الأُمور بصورة کلیّة، فغایة ما وصل للإمام(علیه السّلام) من خبر أنّ هناک خیانة، وأنّ مسلم وهانی قُتلا. أمّا أین بقیّة الأصحاب، وما حلّ بهم؟! فهذا ما لم یصله، خصوصاً أنّ هناک من خیرة الصحابة والذین التحقوا بمعرکة عاشوراء منهم مسلم بن عوسجة، وأبو ثمامة الصائدی؛ فلذا کان من الضرورة أنْ یستمرّ الإمام الحسین(علیه السّلام) بالتحرّک لیقف علی الأُمور بنفسه، ولیلقی الحجّة علیهم.

3_ إنّ أصل التحرّک الحسینی ومغادرة المدینة المنورة کان مبتنیاً علی عدم مبایعة یزید، وهذه المسألة کانت بمثابة الخط الأحمر؛ لأنّ البیعة تعنی القضاء علی الإسلام بمبارکة حسینیة، وهذا یستحیل وقوعه من الإمام الحسین(علیه السّلام)، لذا تخوّف الإمام الحسین(علیه السّلام) من قتله فی المدینة فرحل إلی مکّة، وتخوّف من قتله فی مکّة فرحل صوب العراق استناداً إلی الرسائل، وکان لا یشکّ بأنّ مصیره القتل إذا لم یبایع(2)، فلمّا أرسل مسلم لأهل الکوفة وعلم بقتله لاحقاً کان ذلک مؤشّراً واضحاً علی دقّة تشخیصه ومعرفته بنوایا القوم(3)، و أنّه لا محالة من القتل إنْ لم یبایع، فحینئذٍ هو مخیّر بین أمرین: الرجوع والقتل باغتیال أو سمّ بطریقة لا تؤثّر فی المجتمع، أو الاستمرار فی إلقاء الحجّة والتذکیر بحقّه وحقّ أهل البیت(علیهم السّلام) فی الخلافة، ودعوة الناس إلی إقامة الحقّ والعدل، ونبذ الظلم والجور المتمثّل فی

ص: 239


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص300. المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص75.
2- والعلم بقتله لا یتعلّق بالعلم الغیبی کما قد یتصوّر، فقد أشرنا سابقاً بأنّ الحسین(علیه السّلام) قد استش_رف الحالة من خلال ظروف المجتمع، ونؤکّد هنا أنّه إذا کان الصحابة أمثال ابن عبّاس وابن عمر وغیرهم کانوا شبه موقنین بمقتل الحسین(علیه السّلام)، وهم لیسوا بجلالته وقدره، بل هو سیدهم وکبیرهم، فمن الطبیعی أنْ یشخّص ظروف ذلک المجتمع ویعرف إجرام بنی أُمیّة، وأنّهم لن یترکوه حتّی یبایع أو یُقتل.
3- وطبیعیٌّ نحن لا نتکلّم عن الإمام(علیه السّلام) هنا بما هو معصوم منصوص علیه، فإنّ المسألة تکون بیّنة وواضحة، وسیأتی الکلام علیها، بل نتکلّم عن الإمام(علیه السّلام) باعتباره شخصیة إسلامیة مرموقة، ومن أهل البیت(علیهم السّلام) ، ومن أهل الحلّ والعقد فی ذلک المجتمع.

حکم بنی أُمیّة، فکان الخیار الثانی هو خیار کلّ صاحب مبدأ، فکیف بالإمام الحسین(علیه السّلام) الممثّل لأهل البیت(علیهم السّلام) ومن خیرة أهل الحلّ والعقد فی وقته. وقد ذکرنا سابقاً أنّ الإمام(علیه السّلام) صرّح بأنّ القوم سیقتلونه لا محالة، وذلک قبل وصول خبر مقتل مسلم إلیه، فبعد وصول خبر مسلم تکون المسألة أوضح.

مشروعیة الثورة قانوناً وفق بیعة أهل الکوفة

من الواضح أنّ الجنبة القانونیة المتعلّقة بهذا المبحث هی مرتبطة ارتباطاً وثیقاً بما تقدّم من کلام حول البیعة وشرائط الخلیفة الإسلامی.

وقد عرفنا هناک أنّ الخلافة الإسلامیة لها شرائط معیّنة، ولا یمکن أنْ یعتلی هذا المنصب الخطیر کلّ مَن هبّ ودبّ، وأوضحنا أنّ هذه الش_رائط بعضها یتعلّق بشخص الخلیفة، کالعدالة والعلم وحسن التدبیر وغیرها، وبعضها یتعلّق بطریقة التنصیب، من وجود بیعة له من المجتمع، أو لا أقلّ من أهل الحلّ والعقد، وکونها بالاختیار لا بالقهر والغلبة، وعدم استغلال السلطة المال العام، ولا الإرهاب والقتل والتشرید والتهدید فی طریقة أخذ البیعة وغیرها، وبیّنا أنّ یزید بن معاویة لم تتحقّق فیه أیٌّ من تلک الش_رائط، سواء المتعلّقة بشخص الخلیفة أو بکیفیّة البیعة والتنصیب.

کما قمنا بعملیة إسقاط قانونی علی تلک الفترة، وذکرنا أنّ القوانین الوضعیة أیضاً لها شرائط فی شخص الرئیس، کبلوغه سن معیّنة مثلاً، وشرائط فی طریقة تنصیبه، کأنْ یکون بالاقتراع السرّی المباشر، وأنْ یکون هذا الاقتراع نزیهاً، وغیر ذلک ممّا أشرنا إلیه سابقاً، واتّضح أنّ یزید بن معاویة لا تنطبق علیه الشرائط القانونیة، لا من جهة المؤهّلات والصفات الذاتیة، ولا من جهة طریقة الانتخاب.

وما نودّ إضافته فی هذا المبحث أنّه علی خلاف یزید بن معاویة، فإنّ الحسین بن علی تنطبق علیه الشرائط سواء الشرعیة أو القانونیّة وفی کلا الجهتین، کذلک سواء فی شرائط

ص: 240

ومؤهلات الشخص المرشّح للخلافة أم فی کیفیّة التنصیب وطریقة الانتخاب.

فمن جهة المؤهّلات عرفنا أنّ الحسین(علیه السّلام) یمثّل القمّة فی أهل الحلّ والعقد فی زمانه، فهو تنطبق علیه شرائط الخلیفة الشرعی، ولو قمنا بإسقاط قانونی لکانت النتیجة کذلک فإنّ الشرائط منطبقة علیه.

ومن جهة البیعة وطریقة التنصیب، فالبیعة لم تحصل لیزید وخالفه ثلّة من أهل الحلّ والعقد، وقد استخدم معاویة المال العام والترهیب والترغیب فی سبیل أخذ البیعة له، ثمّ اعتلی بعد ذلک عرش الخلافة بعد موت أبیه معتمداً علی تلک البیعة، فاستخدم سلطته فی أخذ بیعة من بایعه بعد ذلک.

أمّا الإمام الحسین(علیه السّلام) فبایعته الناس عن قناعة ورضا، وکتبوا إلیه یستصرخونه ویستنجدونه، ویطلبونه إماماً وخلیفة علیهم، مصرّحین بأنّه لیس علیهم إمام ولا خلیفة.

فهذه البیعة الاختیاریة من وجهاء وکبار وغالبیة أهل الکوفة تمثّل الانتخابات من الوجهة القانونیة فی أزماننا، وهی متحقّقة الش_رائط من الاختیار، والحریّة، وعدم استخدام القوّة ولا المال العام، ولا غیر ذلک ممّا یقدح فی قانونیتها، فقلوبُ الناس کانت بطبیعتها تهفو إلی الإمام الحسین(علیه السّلام)، عارفین وموقنین بأنّ العدل لا یتحقّق إلّا علی یدیه، وحتّی بعد ما حصل الغدر وانقلبت الأُمور، فإنّما هو من الخوف والإرهاب المتمثّل فی حکومة یزید المتسلّطة علی رقاب الأُمة بلا مسوّغٍ شرعی أو قانونی، وهذا ما أفصحه الفرزدق فیما ذکرناه سابقاً، من أنّ الناس قلوبهم مع الحسین(علیه السّلام) وسیوفهم مع بنی أُمیّة.

والغرض أنّ الإسقاط القانونی لیس فقط یُنتج عدم قانونیة وشرعیة خلافة یزید، بل یُثبت قانونیة وشرعیة خلافة الحسین بن علیّ(علیه السّلام)؛ لما یمتلکه من مؤهّلات أقرّ بها کبار قومه، ولما تحقّق من بیعة اختیاریة صدرت عن رضًی وقناعة تامّة. وحینئذٍ تکون مبرّرات الثورة القانونیة متحقّقة. فالمتسلّط علی کرسی الرئاسة شخصٌ غاصب لها بقوّة السیف، لا

ص: 241

یملک مؤهّلاتها، ولم تنتخبه الأُمّة.

والذی یمتلک المؤهّلات وانتخبته الأمّة مُبعَد عن مکانه المُفترض، فکان طبیعیاً أنْ لا یحصل الغاصب المتسلّط علی تأیید وانتخاب له ممَّن یری أنّ هذا حقٌّ له، فإنّ هذا الرفض لبیعة یزید فی جنبته القانونیة فضلاً عن دخوله فی الحریّة الشخصیة فی الانتخاب من عدمه، وفضلاً عن کونه یمثل وقوفاً بوجه الخرق الدستوری الحاصل من الرئیس نفسه، فهو رفض قانونیٌّ مبتنٍ علی کونه مدعوماً ومؤیّداً من مئات الآلاف من الجماهیر التی أعطت صوتها له علی أنّه هو الرئیس الذی ینبغی أنْ یرسو بالأُمّة نحو شاطئ الأمان، فتکون الثورة من حکومة منتخبة مُبعدة بقوّة السیف علی حکومة قامت بخرق الدستور واستولت علی مقدّرات الأُمّة بغیر وجه حقّ، فهو تصدٍّ من أصحاب الحقّ ضدّ الخارجین علی القانون.

ص: 242

خلاصةٌ ونتائج

ترکّز البحث فی هذا الفصل علی مشروعیة الثورة وفق بیعة أهل الکوفة للإمام الحسین(علیه السّلام)، من خلال الرسائل التی أرسلوها إلیه یدعونه فیها للقدوم؛ لما یرونه من الظلم والتجبر الذی یزاوله الحکم الأُموی، وعدم مش_روعیة خلافة یزید بن معاویة، وأنّهم لیس علیهم إمام یأخذ بأیدیهم إلی برّ الأمان، فذکرنا عدّة من هذه الرسائل، بعد أنْ استعرضنا موجزاً عن مؤهّلات الإمام الحسین(علیه السّلام) للخلافة، من خلال موقعیّته الکبیرة فی الأُمّة الإسلامیة، وعرفنا أنّه لا یشکّ أحد فی ذلک، فالکلّ کان مذعناً بمکانة الحسین(علیه السّلام) وأهلیّته وأولویّته من یزید فی الخلافة، خصوصاً أنّ الفضائل التی وردت فی حقّه من الرسول الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عدیدة جدّاً.

وأوضحنا بعد ذلک أنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) بنفسه قد صرّح بمشروعیّة ثورته وفق رسائل أهل الکوفة إلیه، فاحتجّ فی أکثر من موضع سواء علی أهل الکوفة أو علی الرافضین لخروجه بهذه الرسائل والکتب التی وصلت إلیه، ثمّ أقام تمام الحجّة علی القوم، بعد أنْ ذکّرهم برسائلهم، وطلب منهم الانص_راف إنْ تغیّر رأیهم، ولم یفوا بعهدهم.

وتطرّقنا فی آخر الفصل إلی إشکالیةٍ قد تواجه هذا الطرح، متمثّلة بعدم رجوع الحسین(علیه السّلام) بعد سماعه وعلمه بمقتل مسلم بن عقیل، باعتبار أنّ القوم نقضوا البیعة واستحلّوا دماء أهل البیت(علیهم السّلام) ، وعرفنا أنّ هذه الإشکالیة غیر تامّة؛ لعدم توقّف الخروج علی وجود هذه الرسائل، ولعدم کفایة مقتل مسلم ابن عقیل فی طرح آلاف الرسائل المبایعة؛ لعدم وضوح الرؤیة بصورة تامّة، مع وجود ثلّة من المخلصین الذین لا یُتوقّع منهم الخیانة، ولإمکان القول بأن تأثیر الحسین(علیه السّلام) أکثر من مسلم، وبوجوده سیتغیّر

ص: 243

الوضع تماماً هذا ثانیاً، ولأنّ الحسین(علیه السّلام) عارف بأنّ القوم لا یترکونه دون بیعة، فإمّا أنْ یبایع أو یُتقل، وطبیعیٌّ أنّ القتل بمواجهة الظالمین وإعلاء کلمة الحقّ بطریقة مؤثّرة بالأُمّة أفضل بکثیر من قتلٍ بارد، یسبقه انسحاب من المواجهة.

ص: 244

الفصل السادس: دلائل قرآنیة ونبویة علی مشروعیة ثورة الإمام الحسین(علیه السّلام)

اشارة

ص: 245

ص: 246

تمهید

لا نهدف من هذا الفصل تناول الآیات القرآنیة والروایات النبویة المنادیة بالوقوف بوجه الظالمین وعدم الخضوع لهم، وضرورة إقامة القسط العدل فی ربوع الأرض، وغیرها ممّا یتعلّق بالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، أو آیات وروایات الجهاد، أو قتال البُغاة، وغیرها، بل نرید الخروج عن واقع الأحداث بعیداً عن ظروف المجتمع الإسلامی فی تلک الحقبة، ونسلّط الضوء علی مجموعة من النصوص الشرعیة؛ لنری من خلالها وفی ضوئها هل یمکن القول بعدم مشروعیة الثورة، أم إنّ تلک النصوص لوحدها کافیة فی تحدید هویة الثورة وکسبها الشرعیة.

والنصوص التی سنتناولها فی هذا الفصل هی نوعان:

النوع الأوّل: تلک النصوص التی تفید أنّ الحسین(علیه السّلام) إمامٌ منصوص علیه من السماء.

النوع الثانی: النصوص الدالّة علی فضائله، ویمکن من خلالها الحکم علی ثورته.

لذا سیکون هذا الفصل فی مبحثین، نُلقی من خلالهما الضوء علی مشروعیة الثورة.

ص: 247

ص: 248

المبحث الأول:الثورة الحسینیة وفق نظریة النص

اشارة

من غیر الخفیّ ما حصل للأُمّة الإسلامیة من انقسام بعد وفات نبیّها الأکرم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، إذ تری مدرسة أهل البیت(علیهم السّلام) أنّ الخلافة تنعقد بالنصّ الش_رعی، ولا دخل للبشر فی تعیینها أو تحدیدها مهما بلغ من النضوج الفکری أو الثقافی، بینما تری مدرسة الصحابة أنّ تعیین الخلیفة إنّما هو من شؤون الأُمّة الإسلامیة، ولا یوجد نصّ شرعی فی تحدید الخلیفة.

وقد ولّد هذا الانقسام تبایناً واسعاً فی فهم الدین، إذ ترتکز مدرسة أهل البیت(علیهم السّلام) فی استقائها للعقائد والأحکام والأخلاق، وسائر الشؤون الدینیة علی أهل البیت(علیهم السّلام) أنفسهم، ویرونهم الطریق والمنبع الصحیح لاستقاء سنّة النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، بینما تری المدرسة الأُخری أنّ المنبع الأساس والصحیح لمعرفة سنّة النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) هو طریق الصحابة.

ومن الواضحّ أنّ ما بیّناه فی الفصول السابقة، إنّما هو بمعزل عن کون الإمام الحسین(علیه السّلام) إماماً منصوباً من السماء، ومُفترض الطاعة علی المسلمین، بل کان وفق السیاقات الخارجیة التی وقعت علی الأُمّة الإسلامیّة، وغیّرت مسارها بعد أنْ تولّی أبو بکر ثمّ عمر ثمّ عثمان خلافة المسلمین، بالکیفیّة التی أوضحناها سابقاً، ثمّ تولّی الخلافة علیّ، وبعده الحسن استناداً للبیعة الواقعة خارجاً، لا وفق النصّ الشرعی، وما تلی ذلک من أحداث بیّناها فی ما مضی.

إلّا أنّنا فی هذا المبحث نرید أنْ نخرج عن الواقع الخارجی، ونتکلّم وفق النظریة التی

ص: 249

نعتقد أنّها النظریة التی أرادها الله سبحانه وتعالی، ألا وهی نظریة النصّ، لنری مشروعیة الثورة علی ضوء ذلک.

وقد تقدّم فی الفصل الأوّل الکلام مختصراً عن نظریة النص، وأوضحنا هناک أنّه طبقاً للأدلّة الصحیحة فإنّ الإمامة منحصرة فی أهل البیت(علیهم السّلام) ، وقد تناولنا بعض الأدلّة العامةّ الشاملة لأهل البیت(علیهم السّلام) ، وبعض الأدلّة الخاصّة الواردة فی إمامة علیّ(علیه السّلام).

ومن الواضح أنّه طبق نظریة النصّ، فإنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) هو أحد الأئمّة المنصوص علیهم من السماء، فهو الخلیفة الشرعی الواجب علی الأُمّة طاعته والسیر وفق توجیهاته.

ومن الأدلّة التی سِیقت لإثبات ذلک هو: حدیث الثقلین، وهو قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) _ علی ما أخرجه الترمذی عن أبی سعید وزید بن أرقم _: «إنّی تارکٌ فیکم ما إنْ تمسّکتم به لن تضلّوا بعدی؛ أحدهما أعظم من الآخر؛ کتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلی الأرض، وعترتی أهل بیتی، ولن یتفرّقا حتّی یردا علیّ الحوض، فاُنظروا کیف تخلفونی فیهما»(1). وورد أیضاً بلفظ: «ما إنْ أخذتم به»(2). وبلفظ: «إنّی ترکت فیکم خلیفتین، کتاب الله وأهل بیتی، وإنّهما لن یتفرّقا حتّی یردا علیّ الحوض»(3).

وقد تقدّم ذکر طرق أُخری للحدیث سابقاً، وأوضحنا أنّها عدیدة متظافرة، حتّی قال بعضهم بتواتره، والحدیث صریح فی خلافة أهل البیت(علیهم السّلام) ، ووجوب الأخذ منهم، واقتفاء أثرهم، وأنّ الاستقامة علی جادّة الشریعة وعدم الضلال موقوف علی التمسّک بهم، وألفاظه بیّنة فی ذلک، فاُنظر قوله: «إنّی ترکت فیکم خلیفتین». الصریح فی أنّ أهل

ص: 250


1- الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص329.
2- اُنظر: ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج3، ص59. الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص328.
3- قال الهیثمی: «رواه الطبرانی فی الکبیر، ورجاله ثقات». الهیثمی، نور الدین علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج1، ص170.

البیت خلفاء النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وقوله: «إنّی تارکٌ فیکم ما إنْ تمسّکتم به لن تضلّوا بعدی». وقوله: «ما إنْ أخذتم به...». فهی ألفاظ صریحة فی أنّ التمسّک بأهل البیت(علیهم السّلام) ، والأخذ منهم مُنجی من الضلال، ومُوجب للهدایة.

وقد أوضحنا سابقاً أنّ الحدیث یدلّ علی عصمة أهل البیت(علیهم السّلام) أیضاً؛ لقرنهم بالقرآن الکریم، وعدم افتراقهم عنه، والقرآن لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه؛ ولأنّ الأمر بالتمسّک بهم جاء مطلقاً، من دون قیود، ممّا یدلّل علی أنّ جمیع أقوالهم وأفعالهم وتصرّفاتهم موافقة للشریعة الإسلامیة.

فالحدیث إذن یمثلّ أحد النصوص علی خلافة أهل البیت(علیهم السّلام) ، ووجوب اتّباعهم، وبضمیمة أنّ الحسین(علیه السّلام) من أهل البیت(علیهم السّلام) ، فیکون حینئذٍ أحد خلفاء النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) المنصوص علیهم، وسنُبیّن بعد قلیل أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بیّن المراد من أهل بیته(علیهم السّلام) ، کما فی حدیث الکساء.

ومن الأدلّة العامّة الواردة فی خلافة أهل البیت(علیهم السّلام) ووجوب اتّباعهم هو حدیث السفینة، وهو قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «مَثل أهل بیتی فیکم، مَثل سفینة نوح مَن رکبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق».

وهذا الحدیث رواه عدّة من الصحابة، وقفنا علی ثمانیة منهم، وهم: علیّ بن أبی طالب(1)، وعبد الله بن الزبیر(2)، وعبد الله بن عبّاس(3)، وأبو ذر الغفاری(4)، وأبو سعید

ص: 251


1- اُنظر: ابن أبی شیبة، عبد الله بن محمد، المصنف: ج7، ص503.
2- أخرجه البزار کما فی کشف الأستار للهیثمی: ج3، ص222.
3- اُنظر: الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر: ج3، ص46، وج12، ص27. الجرجانی، عبد الله ابن عدی، الکامل فی ضعفاء الرجال: ج2، ص306.
4- اُنظر: ابن حنبل، أحمد، فضائل الصحابة: ج2، ص785. الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الأوسط: ج4، ص9 _ 10، وج5 ص354 _ 355. الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر: ج3، ص46. الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الصغیر: ج1، ص140. الآجری، محمد بن الحسین، الش_ریعة: ج5، ص2215.

الخدری(1)، وأنس بن مالک(2)، وأبو الطفیل(3)، وسلمة بن کهیل(4).

ورُوی الحدیث عنهم بطرق عدیدة بلغت آحاد إسنادها إلی عش_رة طرق، مع احتساب الأسانید المختلفة الدائرة علی راوٍ واحد طریقاً واحداً، وکذلک من دون ملاحظة تعدّد الطبقات فی السند الواحد، ما دام یدور علی راوٍ واحد، وإلّا فطبقات الرواة أکثر من ذلک بکثیر، فقد بلغ طبقة الرواة الذین نقلوا الحدیث عن الصحابة (15) راوٍ، وبلغت الطبقة التی تلیها (16) راوٍ، وبلغت الطبقة التی بعدها (15) راوٍ، وبلغت التی بعدها (19) راوٍ، ثمّ أخذت بالتزاید أکثر، ودُوّن الحدیث فی الکتب والمصنّفات واشتهر وانتشر(5).

وقد صرّح جملة من العلماء بصحّة أو حسن هذا الحدیث، کالحاکم(6)، والسخاوی(7)، وابن حجر الهیتمی(8)، وغیرهم.

وما أفادوه هو الذی علیه التحقیق العلمی، فإنّ بعض طرقه صحیحة أو حسنة، هذا فضلاً عن تعاضدها مع بعضها البعض.

ص: 252


1- اُنظر: الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الصغیر: ج2، ص22. الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الأوسط: ج6، ص85.
2- اُنظر: الخطیب البغدادی، أحمد بن علی، تاریخ بغداد: ج12، ص90.
3- اُنظر: الدولابی، محمد بن أحمد، الکُنی والأسماء: ج1، ص232.
4- اُنظر: ابن المغازلی، علی بن محمد، مناقب أمیر المؤمنین(علیه السّلام): ص148.
5- ولکاتب هذه السطور رسالة دکتوراه، بعنوان: (دراسة فی حدیث السفینة علی مبانی أهل السنّة)، تضمّنت مباحث عدیدة متعلّقة بالحدیث، منها: تخریج الحدیث، ودراسة أسانیده بصورة مفصّلة، وانتهی فیها إلی صحّة الحدیث وفق القواعد المقرّرة عند أهل السنّة. ومنها: دراسة متن الحدیث، وبیان دلالاته التی منها مرجعیة أهل البیت(علیهم السّلام) وعصمتهم.
6- اُنظر: الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج2، ص343.
7- اُنظر: السخاوی، شمس الدین، محمّد بن عبد الرحمن، استجلاب ارتقاء الغرف بحبّ أقرباء الرسول وذوی الشرف: ج2، ص484.
8- اُنظر: ابن حجر الهیتمی، أحمد بن محمد، المنح المکیّة فی شرح الهمزیة: ص535. ابن حجر الهیتمی، أحمد ابن محمد الصواعق المحرقة: ج2 ص445، وص675.

ویدلّ الحدیث علی وجوب اتّباع أهل البیت(علیهم السّلام) واقتفاء أثرهم، سواء کان فی العقائد أو الأحکام، وسائر الأُمور الدینیة؛ ذلک أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) شبّههم بسفینة نوح، وسفینة نوح کانت عنوان النجاة لَمن رکبها، ولم یکن فی ذلک الوقت سبیل للخلاص من الهلاک غیر ذلک، فتشبیه أهل البیت(علیهم السّلام) بها؛ یدلّ علی أنّ النجاة تتحقّق بالرجوع إلیهم، والانتهال من معینهم.

وحیث إنّ سفینة نوح کانت الملاذ الأوحد للنجاة حین تلاطمت الأمواج، ولم یجدوا عاصماً غیرها حتی الجبال الرواسی، فکذلک أهل البیت(علیهم السّلام) ، هم الملاذ الأوحد عند تلاطم أمواج الفتن، واختلاف الآراء، وتشعّب النظریات، وهذا یدلّ علی أنّ الحدیث یفید حصر الاتّباع بأهل البیت(علیهم السّلام) ؛ لأنّ تشبیههم بالسفینة یلغی وجود احتمال آخر؛ فالإنسان إمّا أنْ یرکب السفینة أو لا یرکبها ولا یوجد سبیل ثالث، فالراکب فیها أی المتّبع لأهل البیت(علیهم السّلام) ینجو، وغیر الراکب فیها یهلک ویغرق، فسبیل النجاة منحصر بهم لا غیر.

وهذا المعنی الذی ذکرناه واضحٌ بیّن من التشبیة، لا ینکره إلاّ مکابر، ولذا نجد الإمام مالک بن أنس یشبّه السنّة النبویة بأنّها سفینة نوح، فقد أخرج الخطیب بسنده إلی ابن وهب، قال: «کنّا عند مالک فذکرت السنّة، فقال مالک: السنّة سفینة نوح، مَن رکبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق»(1).

وهذا یعنی أنّ الإمام مالک یری أنّ التشبیه بسفینة نوح یدلّ علی وجوب الاتّباع والاقتفاء، ولذا شبّه السنّة بها، وهو تشبیه دقیق لا یختلف فیه اثنان؛ إذ إنّ الشیعة یرون أنّ المنبع الذی یمثّل السنّة النبویة الصحیحة هم أهل البیت(علیهم السّلام) .

وکذلک فإنّ الحدیث یدلّ علی عصمة أهل البیت (علیهم السّلام) ؛ إذ إنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) جعل النجاة وتحصیل رضا الله ودخول الجنة مقروناً برکوب سفینتهم، واتّباع أوامرهم واجتناب

ص: 253


1- الخطیب البغدادی، أحمد بن علی، تاریخ بغداد: ج7، ص347.

نواهیهم، وهذا یلزم منه عدم صدور الخطأ والذنب والعصیان منهم، وإلّا لزم منه عدم النجاة لمتّبعیهم؛ إذ کیف یُتصوّر النجاة مع إمکان ارتکابهم للمعاصی والذنوب؟!

فدلّ التشبیه المذکور علی أنّ کلّ أقوالهم وأفعالهم موافقة للشریعة المقدّسة، وأنّهم لا یحیدون عنها طرفة عین، وإلّا لا یتحقّق الفوز ولا النجاة باتّباعهم.

فالفوز والنجاة المقترن بالتمسّک بأهل البیت(علیهم السّلام) ، وضلالة وهلاک المنحرف عنهم یدلّ علی عصمتهم، وأنّ سفینتهم سائرة علی الصراط المستقیم.

ومن خلال وجوب اتّباعهم والقول بعصمتهم یتّضح أنّ قیادة الأُمّة وإقامة العدل فیها، وإنصاف المظلوم، وردع الظالم، وإقامة الحدود والتعزیرات، وتشخیص القیام بالحروب أو الصلح، والفصل فی القضاء، وغیرها ممّا یتعلّق بأُمور الحکم والسیاسة، إنّما ذلک من وظائف الإمام(علیه السّلام)؛ إذ لا معنی مع کونه معصوماً أنْ یتصدّی لهذه الأُمور غیره ممَّن یجوز علیه الخطأ والنسیان، فإنّ ذلک لا یحقّق العدل، ولا یدفع الباطل، کما أنّ وجوب طاعتهم مطلقاً یقتض_ی التسلیم بکلّ أفعالهم وأقوالهم، بما فی ذلک ما یتعلّق بالأُمور السیاسیة وشؤون الحکم والسلطان، فلا معنی للدخول فی حرب مع تشخیص الإمام(علیه السّلام) عدم الصلاح فی ذلک، ولا معنی للتسلیم بقضاء مع وجود رؤیة مغایرة للإمام(علیه السّلام) فی ذلک، وهکذا فما دام الإمام(علیه السّلام) واجب الطاعة وکونه معصوماً من الخطأ وجب الرجوع إلیه فی کلّ کبیرة وصغیرة، بما فی ذلک الشؤون السیاسیة.

ولم تقتصر استفادة العصمة علی الحدیثین السابقین، بل دلّت علیها آیات وروایات أُخری، أبرزها آیة التطهیر، وهو قوله سبحانه وتعالی: «إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا » (1).

ص: 254


1- الأحزاب: آیة33.

وفی استفادة العصمة من هذه الآیة، واختصاصها بأهل البیت(علیهم السّلام) کُتبت الکتب والمقالات، ولا نرید الخوض فی ذلک مجدّداً، بل نشیر فقط إلی أنّ القول بالعصمة یلازمه ضرورة الاتّباع؛ لأنّ معنی العصمة هو موافقة أعمالهم وأقوالهم لما علیه الشرع الحکیم فی نفس الأمر والواقع، وإذا کانت أعمالهم وأقوالهم مطابقة للش_رع الحکیم وجب علی الأُمّة التمسّک والأخذ بها، والانتهال من معینها، وعدم جواز مخالفتها.

وممّا یدل علی ذلک أیضاً قوله تعالی: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَکُونُوا مَعَ الصَّادِقِینَ » (1)، المنسجمة فی معناها مع آیة التطهیر، حیث تدلّ علی وجود مجموعة معیّنة متّصفین بالصدق فی کلّ أفعالهم وأقوالهم، وتُوجب علی المؤمن الکون معهم، فهی تدلّ علی عصمتهم وعلی وجوب اتّباعهم.

وإذا کانت الخلافة والإمامة فی أهل البیت(علیهم السّلام) فمن الواضح شمول هذا الاصطلاح _ أعنی اصطلاح أهل البیت(علیهم السّلام) _ للإمام الحسین(علیه السّلام)، فلا یشکّ أحد فی أنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) هو أحد أفراد أهل البیت(علیهم السّلام) ، خصوصاً أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) صرّح بذلک فی مناسبات عدیدة، نقتص_ر هنا علی نموذجین من حدیث الکساء الوارد فی تفسیر آیة التطهیر:

1 _ أخرج مسلم بسنده إلی عائشة، قالت: «خرج النبی (صلّی الله علیه وسلّم) غداةً، وعلیه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علی فأدخله، ثمّ جاء الحسین فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء علی فأدخله، ثمّ قال: إنّما یرید الله لیذهب عنکم الرجس أهل البیت ویطهرکم تطهیراً»(2).

ص: 255


1- التوبة: آیة119.
2- النیسابوری، مسلم بن الحجاج، صحیح مسلم: ج7، ص130. وأخرجه ابن أبی شیبة فی المصنف: ج7، ص501. والحاکم النیسابوری، وصحّحه فی المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص147.

2 _ أخرج الترمذی بسنده إلی شهر بن حوشب، عن أُمّ سلمة، قالت: «إنّ النبی جلّل علی الحسن والحسین وعلی وفاطمة کساء، ثمّ قال: اللّهم هؤلاء أهل بیتی وحامّتی(1)، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهیراً. فقالت أُمّ سلمة: وأنا معهم یا رسول الله؟ قال: إنّک إلی خیر». قال الترمذی: «هذا حدیثٌ حسنٌ صحیح، وهو أحسن شیء رُوی فی هذا الباب»(2).

فالحسین بن علیّ(علیه السّلام) هو أحد أهل البیت(علیهم السّلام) الذین نزلت فیهم آیة التطهیر، وورد فیهم حدیث الثقلین، وحدیث السفینة، وغیر ذلک ممّا تکفّلته البحوث المختصّة بذلک.

وإذا کان الإمام الحسین(علیه السّلام) هو إمام منصوصٌ علیه، ومُفترض الطاعة من قِبل الله سبحانه تعالی، فإنّ مشروعیة ثورته من الوضوح بمکان، فإنّه طبقاً لهذه النظریة أنّ الأئمّة معصومون، والمعصوم لا یرتکب الخطأ ولا الذنب، وتکون أعماله مطابقة لواقع الشریعة، فتکون ثورته المبارکة هی العمل المناسب فی ذلک الزمان، وهو العمل الش_رعی المطابق للواقع، ویکون تشخیص الإمام الحسین(علیه السّلام) لظروف تلک المرحلة هو التشخیص الدقیق الذی لا یشوبه أیّ خطأ، خصوصاً أنّ من وظائف الإمام(علیه السّلام) حفظ الشریعة الإسلامیة من الضیاع والانطماس، وإقامة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فإذا ما رأی أنّ الإسلام معرّض للخطر، کان علیه القیام بوظیفته علی أحسن وجه، فهو أعرف بواقع مجتمعه، وأعرف بتکلیفه من غیره، وأنّ عمله مصطبغ بالصبغة الش_رعیة؛ لأنّه مطابق للواقع.

ص: 256


1- «حامّة الإنسان: خاصّته، ومَن یقرب منه، وهو الحمیم أیضاً» ابن الأثیر، المبارک بن محمد، النهایة فی غریب الحدیث والأثر: ج1، ص429.
2- الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص361. وأخرجه أحمد بن حنبل فی مسنده: ج18، ص272. وحسّنه حمزة أحمد الزین محقّق الکتاب حیث قال: «إسناده حسن». وأورده الذهبی فی: سیر أعلام النبلاء: ج3، ص283، فی ترجمة الحسین الشهید، قائلاً: «إسناده جید، رُوی من وجوه عن شهر، وفی بعضها یقول: دخلتُ علیها أُعزّیها علی الحسین».

وقد أسلفنا فیما تقدّم أنّه من خلال وجوب اتّباع أهل البیت(علیهم السّلام) ، والقول بعصمتهم،یتّضح أنّ قیادة الأُمّة، وإقامة العدل فیها، وانصاف المظلوم، وردع الظالم، وإقامة الحدود والتعزیرات، وتشخیص القیام بالحروب أو الصلح، والفصل فی القضاء، وغیرها ممّا یتعلّق بأُمور الحکم والسیاسة، إنّما ذلک من وظائف الإمام(علیه السّلام)؛ لأنّه الوحید الذی یکون تشخیصه للأحداث مطابقاً للواقع، وغیر قابل للخطأ والاشتباه؛ لذا فإنّ ما یُطرح من بیان لوجوه شرعیة هذه الثورة وفق نظریة النصّ إنّما هو محض تحلیل وقراءة للإحداث، بهدف إیصال الصورة بطریقة واضحة للأجیال علی مرّ العصور، أی أنّه تحلیل لظروف تلک الثورة، وقراءة لاحقة لها بعد الإیمان مسبقاً بمش_روعیتها وحقّانیّتها فی نفس الأمر والواقع.

نعم، علی القول بعدم نظریة النصّ، کان من الضروری بیان وجوه الثورة، وهو ماتکفّله هذا الکتاب فی أکثر مباحثه؛ ذلک لأنّ القارئ قد یکون من مدرسة لا تؤمن مسبقاً بالنص علی الإمام، فضلاً عن عصمته.

کما أنّه وفق نظریة النص یتّضح جلیّاً عدم مشروعیة خلافة یزید بن معاویة، وإنّه إنّما هو غاصب لمنصب إلهی لیس له، ولا نحتاج مع ذلک لإثبات فسق یزید وعد علمه وعدم صحّة بیعته، فإنّ کلّ ذلک تنزّلاً وفق النظریة الأُخری.

نصوص الإمامة وفق فهم المدرسة الأُخری

من الواضح أنّ المبحث الآنف الذکر یتعلّق بمن یقول بنظریة النص، وأمّا علی القول بعدم دلالة النصوص علیها کما علیه أهل السنّة، فهل یمکن القول بدلالتها علی مشروعیة الثورة أم لا؟

والجواب أنْ نقول: إنّه سیأتی فی المبحث القادم النظر فی بعض النصوص التی لا تدلّ علی الإمامة صراحةً، لکنّه یمکن أنْ یُستفاد منها مشروعیة الثورة الحسینیة، وکذلک یمکن أنْ نقول أنّ النصوص المتقدّمة وغیرها التی لم نذکرها فی هذا البحث المختصر تدلّ علی مش_روعیة الثورة أیضاً، وإنْ لم تدلّ علی الإمامة بمعناها الأوسع، فلو تأمّلنا مثلاً فی آیة

ص: 257

التطهیر لوجدنا أنّها تعطی منقبة جلیّة لأهل البیت(علیهم السّلام) ، وتبیّن أنّ هناک اهتماماً خاصّاً

منقطع النظیر فی هذه المجموعة من البیت النبوی، بحیث حرص النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وفی أکثر من مناسبة أنْ یغطّیهم ویجللهم بالکساء، ویرفض دخول غیرهم کأُمّ سلمة مثلاً، ویرفع یدیه إلی السماء ویبیّن أنّ هؤلاء أهل بیته، ویدعو بإذهاب الرجس عنهم، ویتلو الآیة الکریمة.

فهذه العنایة الکریمة من النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بمثابة الوصیّة للأُمّة فی عظم شأن هؤلاء، وضرورة احترامهم وتبجیلهم، فکون النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قدوة وأُسوة یفرض علی الأُمّة الاعتناء بهذه الثلّة الخاصّة، ووجوب احترامهم وتقدیرهم، ومع وجوب احترام هؤلاء وضرورة تقدیرهم لا یمکن أنْ یصدر منهم فعلٌ یثیر الفتنة فی الأُمّة، ویفرّق شملها، وتکون عقوبته القتل والتنکیل، کما حصل ذلک فی عاشوراء؛ لأنّ ذلک یتنافی مع أبسط مبادئ الاحترام والتقدیر، فلا بدّ أنْ یکون النبیّ عالماً عارفاً بأنّ هذه الثلّة ومنها الحسین(علیه السّلام) لا یمکن أنْ تُقدم علی أمر بهذه الخطورة، کخروج الحسین(علیه السّلام)، ورفضه لبیعة یزید وما ترتّب علی ذلک؛ لأنّ الخروج الحسینی إذا لم یکن مشروعاً کان جزاءه القتل، وهو یتنافی أشدّ المنافاة مع ضرورة التبجیل والاحترام والتقدیر، فالتصرّف النبوی واعتناؤه المنقطع النظیر بأهل البیت(علیهم السّلام) ومن ضمنهم الحسین(علیهم السّلام) یدلّک علی مش_روعیة الثورة الحسینیة، وخطأ مخالفیه وقاتلیه.

ولعلّ حدیث الثقلین والسفینة أوضح من الآیة دلالة علی المطلوب؛ ذلک لأنّ الحدیثین الشریفین إذا لم یدلّا علی الإمامة، فلا أقلّ من دلالتهما علی وصیّة النبیّ أُمّته فی ضرورة احترام وتعظیم أهل البیت(علیهم السّلام) ، خصوصاً أنّ الحدیث بصیغة لفظ مسلم أکّد علی الوصیة بهؤلاء، فجاء فیه: «أُذکّرکم الله فی أهل بیتی، أُذکّرکم الله فی أهل بیتی، أُذکّرکم الله فی أهل بیتی»(1).

ص: 258


1- النیسابوری، مسلم بن الحجاج، صحیح مسلم: ج7، ص123.

فهل هذه الوصیّة وهذا التأکید یتناسب مع عدم شرعیة خروج الحسین(علیه السّلام)، بل وهل یتناسب من النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أنْ یورّط الأُمّة ویوصیها بأناس من الممکن أنْ یفرّقون شملها، ویکون حکمهم القتل.

من الواضح لکلّ مسلم _ وبعیداً عن نظریة الإمامة _ أنّه لا یمکن أنْ یصدر من هؤلاء هکذا خطأٌ فاحشٌ یتنافی فی نتائجه مع وصیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی حقّهم؛ ولذا فإنّ الذی حصل هو خیانة بنی أُمیّة للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ومخالفته فی وصیّته، وهذا ما أکّده الإمام القرطبی، حینما قال: «وبالجملة، فبنو أُمیّة قابلوا وصیة النبی (صلّی الله علیه وسلّم) فی أهل بیته وأُمّته بالمخالفة والعقوق، فسفکوا دماءهم، وسبوا نساءهم، وأسروا صغارهم، وخرّبوا دیارهم، وجحدوا فضلهم وشرفهم، واستباحوا لعنهم وشتمهم، فخالفوا رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) فی وصیته، وقابلوه بنقیض مقصوده وأمنیته، فوا خجلتهم إذا وقفوا بین یدیه، ویا فضیحتهم یوم یعرضون علیه»(1).

بل إنّ بعض علماء أهل السنّة وإنْ لم یروا إمامة أهل البیت(علیهم السّلام) ، إلّا أنّهم رأوا فی حدیث الثقلین والسفینة دلالة علی وجوب اتّباعهم، والأخذ بأقوالهم وأفعالهم، فضلاً عن وجوب تعظیمهم، والمحافظة علی حرمتهم:

قال الملا علی القاری ضمن تعلیقه علی حدیث الثقلین: «والمُراد بالأخذ بهم التمسّک بمحبّتهم، ومحافظة حرمتهم والعمل بروایتهم، والاعتماد علی مقالتهم...»(2).

وقال السید حسن السقّاف العالم السنی المعاصر: «والمراد بالأخذ بآل البیت والتمسّک بهم هو محبّتهم، والمحافظة علی حرمتهم، والتأدّب معهم، والاهتداء بهدیهم وسیرتهم، والعمل

ص: 259


1- القرطبی، محمد بن أحمد، التذکرة فی أحوال الموتی والآخرة: ج3، ص1114 _ 115.
2- القاری، علی بن سلطان محمد، مرقاة المفاتیح: ج9، ص3974.

بروایاتهم، والاعتماد علی رأیهم ومقالتهم واجتهادهم، وتقدیمهم فی ذلک علی غیرهم»(1).

وقال ابن حجر الهیتمی مبیّناً المراد من حدیث السفینة: «ووجه تشبیههم بالسفینة... أنّ مَن أحبّهم وعظّمهم شکراً لنعمة مش_رّفهم، وأخذ بهدی علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومَن تخلّف عن ذلک غرق فی بحر کفر النعم، وهلک فی مفاوز الطغیان»(2).

وقال المناوی: «وجه التشبیه أنّ النجاة ثبتت لأهل السفینة من قوم نوح، فأثبت المصطفی (صلّی الله علیه وسلّم) لأُمّته بالتمسّک بأهل بیته النجاة، وجعلهم وصلة إلیها، ومحصوله الحثّ علی التعلّق بحبّهم وحبلهم وإعظامهم شکراً لنعمة مشرفهم، والأخذ بهدی علمائهم، فمَن أخذ بذلک نجا من ظلمات المخالفة، وأدّی شکر النعمة المترادفة، ومَن تخلّف عنه غرق فی بحار الکفران، وتیار الطغیان، فاستحق النیران؛ لما أنّ بغضهم یوجب النار کما جاء فی عدّة أخبار...»(3). وذکر السمهودی فی جواهر العقدین قریباً من ذلک(4).

وحیث إنّ الحسین(علیه السّلام) یمثّل أحد أعمدة أهل(علیه السّلام) البیت، سواء فسّرنا أهل البیت(علیهم السّلام) بالخمسة أصحاب الکساء، أو فسّرناه بعلمائهم کما یری بعضهم ذلک(5)، فالحسین(علیه السّلام) من کبار علماء عصره بلا شکّ ولا نزاع، فمشروعیة فعله _ باعتبار وجوب الاعتماد علی رأیه ومقالته، ولزوم الأخذ بهدیه، وأنّ التخلّف عن ذلک یُوجب الغرق والضلال _ بمستوی من الوضوح، بل یکون الحسین(علیه السّلام) وغیره من أهل البیت(علیهم السّلام) هم المعیار فی معرفة الهدی والضلال.

ص: 260


1- السقاف، حسن بن علی، صحیح شرح العقیدة الطحاویة: ص653.
2- الهیتمی، أحمد بن حجر، الصواعق المحرقة: ج2، ص446 _ 447.
3- المناوی، محمّد عبد الرؤوف، فیض القدیر شرح الجامع الصغیر: ج2، ص658 _ 659.
4- السمهودی، علی بن أحمد، جواهر العقدین: ص236 _ 264.
5- کما هو واضح من عباراتهم الآنفة الذکر، بل صرّح بعضهم بأنّ المراد من أهل بیته فی هذا المقام العلماء منهم. اُنظر: المناوی، محمّد عبد الرؤوف، فیض القدیر شرح الجامع الصغیر: ج2، ص659.

المبحث الثانی:النصوص الدالّة علی فضائله، ویمکن من خلالها الحکم علی ثورته

اشارة

وهذه النصوص عدیدة جدّاً، نقتصر علی نماذج منها فیما یلی:

أوّلاً: ما دلّ علی أنّ الحسن والحسین(علیهماالسّلام) سیّدا شباب أهل الجنة.

ثانیاً: ما دلّ علی أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) حربٌ لمَن حاربهم، وسلمٌ لمَن سالمهم.

ثالثاً: ما دلّ علی وجوب محبّة أهل البیت(علیهم السّلام) ، ومن ضمنهم الحسین(علیه السّلام).

رابعاً: ما دلّ علی أنّ مَن مات ولیس فی عنقه بیعة، مات میتةً جاهلیة.

خامساً: ما دلّ علی تأثر النبیّ وبکائه علی الحسین(علیه السّلام)، وتأکیده علی مظلومیته من قبل الأُمّة.

أوّلاً: ما دلّ علی أنّ الحسن والحسین(علیهماالسّلام) سیّدا شباب أهل الجنة

ورد هذا الحدیث بطرقٍ متکاثرة عن جمعٍ من الصحابة:

فعن أبی سعید الخدری، قال: قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «الحسن والحسین سیّدا شباب أهل الجنّة». أخرجه أحمد(1)، والترمذی(2)، والنسائی(3) وغیرهم. قال الترمذی: «هذا حدیثٌ صحیح حسن»(4). ووافقه الألبانی(5).

ص: 261


1- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج3، ص3، وص62، وص82.
2- الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص321.
3- النسائی، أحمد بن شعیب، السنن الکبری: ج5، ص149.
4- الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص321.
5- الألبانی، محمد بن نوح، سلسلة الأحادیث الصحیحة: ج2، ص423.

وعن حذیفة بن الیمان، قال: «سألتنی أُمّی منذ متی عهدک بالنبی (صلّی الله علیه وسلّم)؟ قال: فقلتُ: منذ کذا وکذا. قال: فنالت منّی وسبّتنی. قال: فقلتُ لها: دعینی فإنّی آتی النبی (صلّی الله علیه وسلّم) فأُصلّی معه المغرب، ثمّ لا أدعه حتّی یستغفر لی ولکِ. قال: فأتیت النبی (صلّی الله علیه وسلّم) فصلّیتُ معه المغرب، فصلّی النبی (صلّی الله علیه وسلّم) العشاء، ثمّ انفتل فتبعته، فعرض له عارض فناجاه، ثمّ ذهب فاتبعته، فسمع صوتی فقال: مَن هذا؟ فقلتُ: حذیفة. قال: ما لکَ؟ فحدّثته بالأمر، فقال: غفر الله لک ولأُمّک. ثمّ قال: أما رأیت العارض الذی عرض لی قبیل؟ قال: قلتُ بلی قال: فهو ملک من الملائکة، لم یهبط الأرض قبل هذهِ اللیلة، فاستأذن ربّه أنْ یُسلّم علیّ ویبشّرنی أنّ الحسن والحسین سیّدا شباب أهل الجنّة، وأنّ فاطمة سیدة نساء أهل الجنّة». أخرجه أحمد(1) والترمذی وحسّنه(2)، وعقّب علیه الألبانی قائلاً: «وهذا إسنادٌ صحیح، رجاله ثقات، رجال الصحیح غیر میسرة _ وهو ابن حبیب _ وهو ثقة»(3).

وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «الحسن والحسین سیّدا شباب أهل الجنّة، وأبوهما خیر منهما». أخرجه الحاکم وقال: «هذا حدیثٌ صحیح بهذهِ الزیادة، ولم یخرجاه». ووافقه الذهبی(4).

هذا، والحدیث رواه جمعٌ آخر من الصحابة أیضاً، منهم: علی بن أبی طالب، و عمر بن الخطاب، و عبد الله بن عمر، و البراء بن عازب، و أبی هریرة، وجابر بن عبد الله، و قرّة بن

إیاس، وغیرهم(5). وله طرق متکثّرة؛ لذا قال السیوطی بتواتره(6)، وقال الألبانی: «وبالجملة

ص: 262


1- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج5، ص391.
2- الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص326.
3- الألبانی، محمد بن نوح، سلسلة الأحادیث الصحیحة: ج2، ص326.
4- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین وبذیله تلخیص الذهبی: ج3، ص167.
5- اُنظر: السیوطی، عبد الرحمن بن أبی بکر، قطف الأزهار المتناثرة فی الأحادیث المتواترة: ص286. الألبانی، محمد بن نوح، سلسلة الأحادیث الصحیحة: ج2، ص423 _ 432.
6- اُنظر: السیوطی، عبد الرحمن بن أبی بکر، قطف الأزهار المتناثرة فی الأحادیث المتواترة: ص286.

فالحدیث صحیح بلا ریب، بل هو متواتر»(1).

هذا من حیث السند والصحّة، وأمّا من حیث الدلالة، فالحدیث یدلّ علی أعلی درجات الفضل، وهی السیادة فی الجنّة علی مَن سواهما، باستثناء مَن خرّجه الخبر نفسه، وباستثناء النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؛ فهو خارج تخصّصاً وغیر مشمول بالخبر، فهو المتکلّم والخبر غیر ناظر إلیه من الأساس.

وحینئذٍ نقول: إنّ التحرّک الحسینی یحتمل ثلاثة أُمور:

الأوّل: أنْ یکون تحرّکاً خاطئاً یحتوی علی المفاسد من شقّ عصا المسلمین وإثارة الفتن بینهم، وعلی هذا الاحتمال لا یمکن أنْ یکون الحسین(علیه السّلام) سیّد شباب أهل الجنّة، إذ کیف یُوصف مفرّق الصفوف ومُثیر الفتن بأنّه سیّد شباب أهل الجنّة، فإنّه مستحقّ للقتل حینئذٍ، والنار به أولی، وإذا تنزّلنا وحصلت له المغفرة الإلهیة فسیکون فی الجنّة ولیس سیّدها، فهذا الاحتمال لا یمکن أنْ ینسجم مع الحدیث الشریف المتواتر.

الثانی: أنْ یکون الحسین(علیه السّلام) قد اجتهد فی هذه المسألة، لکنّ اجتهاده لم یکن مصیباً للواقع، بل کان مخطئاً فی ذلک، وهذا الاحتمال کسابقه لا یُوجب له أنْ یکون سیّد شباب أهل الجنّة؛ لأنّه وبسبب اجتهاده الخاطئ قتل الکثیر من الفریقین، وأُیتمت الأطفال... فغایة ما یمکن قوله أنّ له أجراً، وهذا لا یُوجب له أنْ یکون سید شباب أهل الجنّة.

الثالث: أنْ یکون تحرّکه عین الصواب، وهو التکلیف المناسب لتلک المرحلة؛ لما فیه من حفظ للإسلام من الضیاع، وقمع للبدعة التی أخذت بالانتشار.

وهذا الاحتمال ینسجم مع الحدیث الش_ریف، فإنّ التحرّک بهذه الکیفیة المصیبة دفاعاً عن الدین والرسالة المحمدیة، ویُقتل علی هذا الطریق من الممکن أنْ یکون سیّد شباب أهل الجنّة.

ص: 263


1- الألبانی، محمد بن نوح، سلسلة الأحادیث الصحیحة: ج2، ص431.

وحیث إنّ الاحتمالین الأولین غیر صحیحین، ولا ینسجمان مع الحدیث، فیتیعیّن الاحتمال الثالث، وهو أنّ الثورة الحسینیة ثورة مش_روعة بکل المقاییس؛ ولذا استحقّ قائدها أنْ یکلّل بهذه الفضیلة والمنقبة، ویکون سیّد شباب أهل الجنّة.

ثانیاً: ما دلّ علی أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) حرب لمَن حارب أهل البیت(علیهم السّلام) ، وسلمٌ لمَن سالمهم

أخرج أحمد بسنده إلی أبی هریرة، قال: «نظر النبی (صلّی الله علیه وسلّم) إلی علیّ والحسن والحسین وفاطمة، فقال: أنا حربٌ لمَن حاربکم وسلمٌ لمَن سالمکم»(1).

وأخرج الطبرانی عن زید بن أرقم: «إنّ النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم) قال لعلیّ وفاطمة وحسن وحسین(علیهم السّلام) : أنا حربٌ لمَن حاربکم، سلمٌ لمَن سالمکم»(2).

وأخرجه الترمذی والحاکم بلفظ: «أنا حربٌ لَمن حاربتم، وسلمٌ لمَن سالمتم»(3).

وهو من الأحادیث المعتبرة عند أهل الفن، فقد أخرجه الحاکم من طریق أبی هریرة، وقال: «هذا حدیث حسن...». وذکر له شاهداً، وهو حدیث زید بن أرقم المتقدّم، ووافقه الذهبی فی التلخیص علی ذلک؛ إذ سکت عن تحسینه للحدیث، وذکر حدیث زید بن أرقم بعنوان شاهد له أیضاً(4)، کما أخرج الحدیث ابن حبان فی صحیحه(5)، ومعلوم من مقدّمة ابن حبّان فی کتابه أنّه لا یخرّج إلّا الصحیح.

ص: 264


1- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج2، ص442.
2- الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الصغیر: ج2، ص3. الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص149.
3- الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص360. الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص149.
4- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین وبذیله تلخیص الذهبی: ج3، ص149.
5- ابن حبان، محمد، صحیح ابن حبّان: ج15، ص434.

ولا یشکّ أحدٌ بأنّ الحدیث یدلّ صراحةً علی عظم مقام أبناء هذا البیت، وعلوّ درجاتهم؛ بحیث صار المحارب لهم محارباً لرسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). ومعلومٌ أنّ المحارب لرسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إنّما هو محاربٌ للإسلام المحمّدی، ومحاربٌ لله (عزّ وجلّ).

فالرسول، إذن، جعلهم مداراً ومعیاراً یُعرف من خلاله مَن حارب الإسلام ومَن یکون معه فی سلم، ومنه یتّضح أنّ یزید وجیشه کانوا علی الباطل، وأنّ التحرّک الحسینی کان تحرّکاً مش_روعاً؛ لأنّ قتال یزید للإمام الحسین(علیه السّلام) یعدّ حرباً وقتالاً للنبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وهو حربٌ وقتالٌ للإسلام.

ثالثاً: ما دلّ علی وجوب محبّة أهل البیت(علیهم السّلام) ومن ضمنهم الحسین(علیه السّلام)

من الثابت عند الفریقین أنّ وجوب محبّة أهل البیت(علیهم السّلام) هی ضرورة إسلامیة، إنّما الخلاف وقع فی إمامتهم ولم یناقش أو یشکّک أحد فی وجوب محبّتهم سلام الله علیهم؛ قال ابن تیمیة: «ومن أُصول أهل السنّة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)... ویحبّون أهل بیت رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، ویتولّونهم ویحفظون فیهم وصیة رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، حیث قال یوم غدیر خمّ: أذکّرکم الله فی أهل بیتی، أذکّرکم الله فی أهل بیتی. وقال أیضاً للعباس عمّه _ وقد اشتکی إلیه أنّ بعض قریش

یجفو بنی هاشم _ فقال: والذی نفس_ی بیده، لا یؤمنون حتی یحبّوکم لله ولقرابتی. وقال: إنّ الله اصطفی بنی إسماعیل، واصطفی من بنی إسماعیل کنانة، واصطفی من کنانة قریشاً، واصطفی من قریش بنی هاشم، واصطفانی من بنی هاشم»(1).

وقال الفخر الرازی: «لا شکّ أنّ النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم) کان یحبّ فاطمة(علیهاالسّلام)، قال

ص: 265


1- ابن تیمیة، أحمد بن عبد الحلیم، مجموع الفتاوی لابن تیمیة: ج3، ص152 _ 154.

(صلّی الله علیه وسلّم): فاطمة بضعةٌ منّی یؤذینی ما یؤذیها. وثبت بالنقل المتواتر أنّ رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) کان یحبّ علیاً والحسن والحسین، وإذا ثبت ذلک وجب علی کلّ الأُمّة مثله؛ لقوله: «وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ ». ولقوله تعالی: « فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» . ولقوله: « إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ اللَّهُ ». ولقوله سبحانه وتعالی: «لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ » .

[وأضاف:] إنّ الدعاء للآل منصبٌ عظیم، ولذلک جُعل هذا الدعاء خاتمة التشهد فی الصلاة، وهو قوله: اللهمّ صلّ علی محمّد وآل محمّد، وارحم محمّداً وآل محمّد، وهذا التعظیم لم یوجد فی حقّ غیر الآل، فکلّ ذلک یدلّ علی أنّ حبّ آل محمّد واجب، وقال الشافعی (رضی الله عنه):

یا راکباً قف بالمحصب من منی

و اهتف بساکن خِیفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجیج إلی منی

فیضاً کما نظم الفرات الفائض

إنْ کان رفضاً حبُّ آل محمّد

فلیشهد الثقلان أنّی رافض_ی»(1).

لذا لا نری ضرورة للخوض فی ذکر الأدلّة علی وجوب حبّ أهل البیت(علیهم السّلام) ، ونقتصر _ من باب التیمن والتبرک _ علی ذکر بعض الروایات الدالّة علی وجوب الحبّ، وقد ورد فیها اسم الإمام الحسین(علیه السّلام):

1_ عن عبد الله بن مسعود، قال: «کان النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم) یصلّی والحسن والحسین یثِبان علی ظهره، فیباعدهما الناس، فقال (صلّی الله علیه وسلّم): دعوهما، بأبی هما وأُمّی، مَن أحبّنی فلیحبّ هذین». أخرجه النسائی(2)، وابن أبی شیبة(3)، وابن خزیمة، وابن حبان فی

ص: 266


1- الفخر الرازی، محمد بن عمر، التفسیر الکبیر: ج27، ص166.
2- النسائی، أحمد بن شعیب، السنن الکبری: ج5، ص50.
3- ابن أبی شیبة، عبد الله بن محمد، المصنف: ج7، ص511.

صحیحیهما(1)، وأورده ابن حجر فی الإصابة(2)، واللفظ لابن حبان. قال ابن حجر بعد ذکر الحدیث: «وله شاهدٌ فی السنن، وصحیح ابن خزیمة، عن بریدة، وفی معجم البغوی نحوه بسندٍ صحیح، عن شداد بن الهاد»(3). وقال الألبانی: «حَسَن»(4).

وقد عرفت أنّه صحیح عند ابن حبّان، وابن خزیمة أیضاً؛ لوجوده فی کتابیهما، وقد التزما بذکر ما هو صحیح فقط، کما هو جلیٌّ واضح من مقدّمة کتابیهما.

2_ وعن أبی هریرة، قال: «سمعتُ رسول الله یقول للحسن والحسین: مَن أحبَّنی فلیحِبَّهما».

أخرجه أبو داود الطیالسی(5)، بلفظ: «فلیحبَّ هذین». والبزّار فی (مسنده) علی ما فی (مجمع الزوائد)، قال الهیثمی: «رواه البزّار، ورجاله وُثّقوا، وفیهم خلاف»(6).

قلتُ: عرفتَ أنّ الحدیث الأول حَسَن، فیکون هذا الحدیث علی فرض ضعفه، شاهداً للأوّل.

3_ وعن ابن مسعود أیضاً: «أنّ النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم) قال للحسن والحسین: اللهمّ إنّی أُحبّهما فأحبّهما، ومَن أحبّهما فقد أحبّنی». قال الهیثمی: «رواه البزار وإسناده جید»(7).

4_ وعن أبی هریرة قال: «خرج علینا رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) ومعه الحسن والحسین، هذا علی عاتقه وهذا علی عاتقه، وهو یلثم هذا مرّة وهذا مرّة حتّی انتهی إلینا، فقال له

ص: 267


1- ابن خزیمة، محمد بن إسحاق، صحیح ابن خزیمة: ج2، ص48. ابن حبان، محمد، صحیح ابن حبّان: ج14، ص427.
2- ابن حجر، أحمد بن علی، الإصابة: ج2، ص63.
3- المصدر نفسه.
4- الألبانی، محمد بن نوح، صحیح موارد الظمآن إلی زوائد ابن حبان: ج2، ص376.
5- أبو داود الطیالسی، سلیمان بن داود، مسند أبی داود: ص327.
6- الهیثمی، علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج9، ص180.
7- الهیثمی، علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج9، ص180.

رجل: یا رسول الله، إنّک تحبّهما؟ فقال: نعم، مَن أحبَّهما فقد أحبَّنی، ومَن أبغضهما فقد أبغضنی». أخرجه الحاکم(1)، وأحمد(2)، وغیرهم. قال الحاکم: «هذا حدیث صحیح الإسناد ولم یخرجاه». ووافقه الذهبی(3).

وأخرج الحدیث جماعة من المحدّثین، عن أبی هریرة مختصراً، مُقتص_رین فیه علی قوله فیهما: «مَنْ أحبَّهما فقد أحبَّنی، ومَن أبغضهما فقد أبغضنی». أخرجه النسائی(4)، وأحمد(5)، والطبرانی(6)، وغیرهم. قال العلامة أحمد محمّد شاکر: «إسناده صحیح»(7).

وفی الباب روایات عدیدة جدّاً.

فإذا کان النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یحبّ الحسین(علیه السّلام) ویأمر الأُمّة بحبّه، بل ویص_رّح بأنّ مبغض الحسین(علیه السّلام) هو مبغضٌ له، فکیف یمکن أنْ نتصوّر أنّ الحسین(علیه السّلام) خارجٌ علی خلیفة زمانه، وشاقٌّ لعصا المسلمین ویجب قتله، فکیف ینسجم وجوب القتل مع وجوب الحبّ، فهذه المسألة الضروریة وهی وجوب حبّ الحسین(علیه السّلام) وبقیة أهل البیت(علیهم السّلام) ، تدلّ بصورة واضحة أنّ حرکة الحسین(علیه السّلام) حرکة مشروعة، وأنّ مَن قاتل وقتل الحسین(علیه السّلام) ومَن أمر بذلک إنّما هو مبغض للحسین(علیه السّلام) و للرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وإلّا فیلزم من ذلک اجتماع النقیضین علی الأُمّة، فهی من جهة یجب علیها حبّ الحسین(علیه السّلام)، ومن جهة یجب علیها قتل الحسین(علیه السّلام)! وهذا واضح البطلان، والحقیقة أنّ کلّ مسلم لو خُلّی وطبعه، وتأمّل بفطرته، بعیداً عن التشویش الذهنی؛ لرأی أنّ وجوب حبّ الحسین(علیه السّلام) وحبّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

ص: 268


1- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص166.
2- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج2، ص440.
3- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک وبذیله تلخیص الذهبی: ج3، ص166.
4- النسائی، أحمد بن شعیب، السنن الکبری: ج5، ص49.
5- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج2، ص288.
6- الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر: ج3، ص48.
7- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد بتحقیق أحمد محمد شاکر: 7ج، ص519، ح (7863).

له، وطریقته فی بیان فضله تدلّ بلا شکّ علی مش_روعیة ثورته، وحقّانیة موقفه، خصوصاً حینما یتأمّل فی الحدیث الذی أشرنا إلیه سابقاً، وهو قول النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «حسین منّی وأنا من حسین، أحبّ الله مَن أحبّ حسیناً»(1)، لآمن واطمأنّ قلبه بأنّ ثورة الحسین(علیه السّلام) هی امتداد لمشروع النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) الرسالی فی هذه الأُمّة، فالنبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) جاء بالرسالة، والحسین(علیه السّلام) عمل علی تثبیت تلک الرسالة فی حقبة أُرید فیها للإسلام أنْ یُطمس ویُغیَّب.

رابعاً: ما دلّ علی أنّ مَن مات ولیس فی عنقه بیعة، مات میتةً جاهلیة

وهذا الحدیث صحیحٌ متّفق علیه بین الفریقین، فقد رواه الکلینی من محدّثی الشیعة بلفظ: «مَن مات لا یعرف إمامه مات میتةً جاهلیة»(2). ولهم فیه طرق عدیدة، وألفاظ متقاربة، لا نری ضرورة للخوض بها.

وما یهمّنا أنْ نقف علی هذا الحدیث فی کتب أهل السنّة، ومن الواضح أنّهم رووه بألفاظ قریبة من ذلک، فقد أخرج مسلم فی صحیحه بسنده إلی عبد الله بن عمر، قال:

«سمعت رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) یقول: ...ومَن مات ولیس فی عنقه بیعة، مات میتةً جاهلیة»(3).

وعن أبی هریرة ومعاویة، أنّ النبیّ قال: «مَن مات ولیس علیه إمام، مات میتةً جاهلیة». قال الألبانی: «إسناده حسن»(4).

وعن عبد الله بن عمر، قال: «سمعت رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) یقول: مَن مات

ص: 269


1- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص172. الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص324. ابن قولویه، جعفر بن محمد، کامل الزیارات: ص116. وأخرجه أیضاً الحاکم فی المستدرک وصحّحه، ووافقه الذهبی، المستدرک وبذیله تلخیص الذهبی: ج3، ص177.
2- الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی: ج1، ص377.
3- النیسابوری، مسلم بن الحجاج، صحیح مسلم: ج6، ص22.
4- ابن أبی عاصم، أحمد بن عمرو، کتاب السنّة، ومعه ظلال الجنة فی تخریج السنة بقلم الألبانی: ص489.

بغیر إمام مات میتة جاهلیة»(1).

والروایات عدیدة فی ذلک، ووجه الاستدلال بها أنّ الحسین(علیه السّلام) یعدّ من الصحابة عند أهل السنّة، والصحابة من أهل الجنّة، والحسین(علیه السّلام) لم یبایع لا لیزید ولا لغیره. فیکون أمره بین اثنین، إمّا أنْ یکون هو الإمام ویزید هو المنحرف الباغی المتسلّط علی المسلمین بغیر وجه، ولا تجب بیعته، ویجوز الخروج علیه، أو یکون یزید هو الإمام، وإنّ الإمام الحسین(علیه السّلام) هو الباغی الشاقّ لعصا المسلمین، والمفرّق لشملهم ویجب قتله.

فإنْ کان الثانی، أی أنّ یزید هو الخلیفة الشرعی؛ لزم أنْ یکون الحسین(علیه السّلام) مات میتة جاهلیة، فیکون فی النار نستجیر بالله؛ لأنّ الجاهلیة إمّا أنْ تکون جاهلیة الکفر، أو جاهلیة النفاق والضلال، وکلاهما یوجبان النار، فی حین أنّ الحسین(علیه السّلام) من الصحابة، والصحابة من أهل الجنّة، فضلاً عن الحدیث المتقدّم فی حقّه، بأنّه وأخیه الحسن(علیهماالسّلام) سیدا شباب أهل الجنّة، فلابدّ حینئذٍ من المصیر إلی القول بأنّ یزید لم یکن خلیفة شرعیّاً، ولا تجب بیعته ولا طاعته، بل یجب الخروج علیه؛ لاغتصابه کرسی الخلافة، وعدم حکمه بما أنزل الله، وهذا یعنی مشروعیّة الثورة الحسینیة.

وما یُقال من أنّ الحسین(علیه السّلام) طلب أنْ یضع یده بید یزید، لکن القوم رفضوا ذلک، فلا ینطبق علیه أنّه لم یبایع، فهذا غیر صحیح، وهو محض تهرّب من الجریمة، وتلمیع لصورة یزید لا أکثر؛ لأنّ هذا یتنافی مع موقف الإمام الحسین(علیه السّلام) من عدم البیعة، واضطراره الخروج إلی مکّة، وثمّ التعجیل بالخروج من مکّة خوف القتل، وتصریحاته المتکرّرة بأنّ یزید فاسق شارب للخمر «ومثلی لا یبایع مثله»، وأنّه: «علی الإسلام السلام؛ إذ قد بُلیت الأُمّة براعٍ مثل یزید»، وتصریحاته المتکرّرة بأنّ القوم ترکوا طاعة الرحمن، ولزموا طاعة الشیطان، وأنّ السنّة أُمیتت والبدعة أُحییت، وغیر ذلک الکثیر من الخطب منذ کان بالمدینة وإلی

ص: 270


1- أبو داود الطیالسی، سلیمان بن داود، مسند أبی داود الطیالسی: ص259.

حین یوم عاشوراء، وکلّها تتنافی مع أنّه أراد أن یضع یده بید یزید.

أضِف إلی ذلک، فإنّ عقبة بن سمعان وهو ممَّن صحب الحسین(علیه السّلام)، قد أنکر وکذّب هذا الخبر، فقال: «صحبت حسیناً، فخرجت معه من المدینة إلی مکة، ومن مکة إلی العراق، ولم أُفارقه حتّی قُتل، ولیس من مخاطبته الناس کلمة بالمدینة، ولا بمکة، ولا فی الطریق، ولا بالعراق، ولا فی عسکر، إلی یوم مقتله إلّا وقد سمعتها، ألا والله ما أعطاهم ما یتذاکر الناس وما یزعمون من أن یضع یده فی ید یزید بن معاویة، ولا أن یسیّروه إلی ثغرٍ من ثغور المسلمین، ولکنّه قال: دعونی فلأذهب فی هذه الأرض العریضة، حتّی ننظر ما یصیر أمر الناس»(1).

خامساً: ما دلّ علی تأثّر النبیّ وبکائه علی الحسین وتأکیده علی مظلومیته(علیه السّلام)

والروایات فی هذا الباب عدیدة جدّاً، لا یسعنا هنا إلّا أن نقف علی نماذج منها؛ تلبیة للغرض، وإلّا فهی تحتاج إلی بحوث موسّعة، وبطبیعة الحال سنقتص_ر فی النقل علی رواه أهل السنّة، ومن هذه الروایات:

1_ أخرج أحمد والحاکم وغیرهم _ واللفظ لأحمد _ عن عمّار بن عمّار، عن ابن عبّاس،أنّه قال: «رأیتُ النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم) فی المنام بنصف النهار أشعث أغبر، معه قارورة فیها دم یلتقطه أو یتتبّع فیها شیئاً، قال: قلت: یا رسول الله، ما هذا؟ قال: دم الحسین وأصحابه، لم أزل أتتبّعه منذ الیوم. قال عمّار: فحفظنا ذلک الیوم، فوجدناه قُتل ذلک الیوم»(2). وهذا الحدیث صحّحه الحاکم وکذلک الذهبی(3).

ص: 271


1- الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص313.
2- ابن جنبل، أحمد، مسند أحمد: ج1، ص242. اُنظر: الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج4، ص398.
3- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین، وبذیله تلخیص الذهبی: ج4، ص398.

ومن الواضح أنّ هذا الحدیث طبق ما یتمناه أهل السنّة _ من أنّ رؤیة النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) هی رؤیة صادقة، وأنّ الشیطان لا یتمثّل به(1) _ یوضح اهتماماً خاصّاً من النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی قضیّة الحسین(علیه السّلام)، وکان یخبر الأُمّة عن ذلک، وکان فی غایة التأثّر والحزن (أشعث أغبر)، وکان یجمع ویلتقط دم الحسین(علیه السّلام) وأصحابه، وهذا یدلّل علی أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کان یری مش_روعیة الثورة وحقّانیتها، وإلّا لا داعی أنْ یکون أشعث أغبر علی شخص خارج بغیر وجه حقٍّ علی إمامه، ومفرّق لشمل الأُمّة، والنبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لا تأخذه فی الله لومة لائم، فهذا العمل منه یشیر صراحةً إلی مظلومیة الحسین(علیه السّلام) وأصحابه، وأنّهم کانوا علی الحقّ، خصوصاً أنّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لم یقتصر فی التقاط الدم علی دم الحسین(علیه السّلام)، بل دم الحسین وأصحابه، فلا یمکن تصویر الأمر بالعاطفة والقرابة وما شاکل ذلک، مع أنّنا نری أنّ الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لا یمکن أن یتص_رّف وفق العاطفة، إلّا فیما تتوافق مع الشرع الحنیف.

2_ أخرج أحمد عن عبد الله بن نجیّ عن أبیه، قال: «إنّه سار مع علیّ (رضی الله عنه) وکان صاحب مطهّرته، فلمّا حاذی نینوی وهو منطلق إلی صفّین، فنادی علی (رضی الله عنه): اصبر أباعبد الله، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات. قلت: وماذا؟ قال: دخلت علی النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم) ذات یوم وعیناه تفیضان، قلت: یا نبیّ الله، أغضبک أحد؟ ما شأن عینیک تفیضان؟ قال: بل قام من عندی جبریل قبل، فحدّثنی أنّ الحسین یُقتل بشطّ الفرات. قال: فقال: هل لک إلی أنْ أشمّک من تربته؟ قال: قلت: نعم. فمدّ یده فقبض قبضةً من تراب فأعطانیها، فلم أملک عینی أنْ فاضتا»(2). قال الهیثمی: «رواه أحمد، وأبو یعلی، والبزّار، والطبرانی ورجاله ثقات، ولم ینفرد نجیّ بهذا»(3).

ص: 272


1- قال النووی: «فقد صحّ عن رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) أنّه قال: مَن رآنی فی المنام فقد رآنی حقّاً؛ فإنّ الشیطان لا یتمثّل فی صورتی». النووی، یحیی بن شرف، المجموع (شرح المهذب): ج6، ص282.
2- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج2، ص85.
3- الهیثمی، علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج9، ص187.

ففی هذا الخبر نلاحظ أنّ الإمام علیّاً ینادی صبراً أبا عبد الله، وهی دلالة علی ما یحلّ به من الظلم والجور، وإلّا کیف یُنادی مَن هو شاقٌّ لعصا المسلمین ومفرّق الأمّة بالصبر، ونلاحظ أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یبکی وعیناه تفیضان بالدموع، وأنّ جبرئیل نزل من السماء لیخبر النبیّ بهذه الفاجعة ویحکی له الخبر، بل ویلتقط قبضةً من تراب کربلاء لیشمّها النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، والنبیّ لا یتمالک عیناه، فلماذا کلّ هذا؟ أهی من أجل شخص سیُفرّق الأُمّة ویموت وهو عاصٍ خارج علی الجماعة؟ أم هی بیان لعظمة الحسین(علیه السّلام) وعظمة ثورته ومظلومیته الکبری، وحقانیته ومشروعیة تحرّکه المبارک، لا نشکّ فی أنّ المسلم المتّبع للنبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، المُقتدی والمتأسّی بسیرته، سیجزم بالثانی، ویعرف من خلال تص_رّفات النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قیمة هذه الثورة، ومدی انحراف الأُمّة التی تجرّأت وقتلت ابن بنت نبیّها!

3_ وعن عائشة أو أُمّ سلمة: «أنّ النبیّ (صلّی الله علیه وسلّم) قال لإحداهما: لقد دخل علیّ البیت ملک فلم یدخل علیّ قبلها، قال: إنّ ابنک هذا حسین مقتول، وإنْ شئت أریتک من تربة الأرض التی یُقتل بها. قال: فأخرج تربة حمراء»(1). قال الذهبی: «إسناده صحیح»(2). وقال الهیثمی: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحیح»(3).

وهذا الخبر أیضاً کغیره یبیّن اهتمام السماء بسمألة عاشوراء، فیدخل ملکٌ لبیت النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لم یسبق له الدخول، لا لش_یء سوی أنْ یخبره بمقتل ولده الحسین(علیه السّلام)، ویریه تربة حمراء من الأرض التی قُتل فیها، وما هذا الاهتمام إلّا نوعاً من إیقاظ الأُمّة وتنبیهها إلی مظلومیة الحسین(علیه السّلام) ومشروعیة ثورته، وهی رسالة غیب إلی جمیع الأُمّة بأنّ ثورة الحسین(علیه السّلام) ثورة مش_روعة، وأنّه سیُقتل مظلوماً، فإنّ السماء سبقت الحدث لتخبر عنه،

ص: 273


1- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج6 ص294.
2- الذهبی، محمد بن أحمد، تاریخ الإسلام: ج5 ص104.
3- الهیثمی، علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج9 ص187.

ولتُخرس الألسن التی تحاول التشکیک فی مشروعیة تلک الثورة، فکیف یتصوّر المسلم أنّ الملک ینزل من السماء، ویُری النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) تربة حمراء لمجرد أنّ الحسین(علیه السّلام) شخص خارج علی الجماعة، ومستحقّ للقتل! ولماذا یخبر النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) غیره بهذه القصّة؟

من الواضح أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أراد أنْ یوصل هذا الخبر لأسماع الأُمّة؛ لیعرفوا أنّ مسألة الحسین(علیه السّلام) هی مسألة السماء، تدخّلت فیها الملائکة، وجاءت لتبیّن هذا الخبر المفجع بأنّ الأُمّة ستنحرف، وستقتل ابن نبیّها، وتحاول بعد ذلک التضلیل وحرف الحقائق.

4_ عن أُمّ سلمة: «أنّ رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) اضطجع ذات یوم فاستیقظ وهو خاثر، ثمّ اضطجع، ثمّ استیقظ وهو خاثر دون المرّة الأُولی، ثمّ رقد ثمّ استیقظ وفی یده تربة حمراء، وهو یُقلّبها(1)، فقلت: ما هذه التربة؟ قال: أخبرنی جبریل أنّ الحسین یُقتل بأرض العراق، وهذه تربتها»(2).

وهذا الخبر أخرجه الطبرانی بلفظٍ قریب من ذلک، عن إبراهیم بن دحیم، حدثنا موسی بن یعقوب، حدّثنی هاشم بن هاشم، عن وهب بن عبد الله بن زمعة، قال:

أخبرتنی أُمّ سلمة، وساق الخبر.

وکذلک عن عبد الله بن الجارود النیسابوری، ثنا أحمد بن حفص، حدّثنی أبی، ثنا إبراهیم بن طهمان، عن عبّاد بن إسحاق، عن هاشم بن هاشم، عن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أُمّ سلمة(3). وهذا السند صحیح کما سیأتی.

وأخرجه الحاکم عن أُمّ سلمة باختلافٍ یسیرٍ فی الألفاظ، فقد جاء فیه: «أنّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) اضطجع ذات لیلة للنوم فاستیقظ وهو حائر، ثمّ اضطجع فرقد ثمّ استیقظ وهو حائر دون ما رأیت به المرّة الأُولی، ثمّ اضطجع فاستیقظ وفی یده تربة حمراء یُقبّلها، فقلت: ما هذه التربة یا

ص: 274


1- فی بعض المصادر کالمستدرک: (یُقبّلها) کما سیأتی.
2- الذهبی، محمد بن أحمد، تاریخ الإسلام: ج5، ص103.
3- الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر: ج23، ص308 _ 309.

رسول الله؟ قال: أخبرنی جبریل(علیه الصلاة والسلام) أنّ هذا یقتل بأرض العراق _ للحسین _ فقلت لجبریل: أرِنی تربة الأرض التی یُقتل بها. فهذه تربتها». قال الحاکم: «هذ حدیثٌ صحیح علی شرط الشیخین ولم یخرجاه». وصحّحه الذهبی علی شرط الشیخین أیضاً(1).

وفی هذا الخبر نری حزن النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وبکاءه وانزعاجه لمقتل ولده الحسین(علیه السّلام)، ونری أنّه یستیقظ أکثر من مرّة علی غیر طبعه متأثّراً قلقاً منزعجاً ممّا یراه، بل إنّه استیقظ فی المرّة الأخیرة وبیده تلک التربة الحمراء التی اصطبغت بدم الحسین(علیه السّلام) الطاهر وهو یُقبّلها (أو یقلّبها)، فهل هذا الفعل من النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ینسجم مع عدم مشروعیة ثورته، وهل یدلّ علی صحّة عمل یزید وفرقته، أو یدلّ علی عکس ذلک تماماً، من الواضح أنّ کلّ مسلم لو یری النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وبکاءه وانزعاجه وانفعاله علی ما رآه من مقتل الحسین(علیه السّلام) لجزم واطمئنّ بأنّ موقف الحسین(علیه السّلام) هو الموقف الش_رعی، وأنّ یزید وأتباعه هم الجُناة والبغاة.

هذه فقط نماذج من الروایات التی تتحدّث عن إخبار النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وحزنه الشدید علی ولده الحسین(علیه السّلام)، وهی کما عرفنا رسالة للأُمّة تبیّن مشروعیة تحرّک الحسین(علیه السّلام) ومظلومیته، وانحراف الأُمّة التی قتلته.

ص: 275


1- الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین وبذیله تلخیص الذهبی: ج4، ص398.

خلاصةٌ ونتائج

اتّضح من خلال هذا الفصل أنّه یمکن أنْ نحکم علی مش_روعیة الثورة الحسینیة بعیداً عن أجواء وظروف ذلک المجتمع؛ ذلک بأنّ نفس الروایات النبویة تدلّل أنّ العمل الحسینی لا بدّ أنْ یکون مشروعاً، وقد قسّمنا الفصل إلی مبحثین، تناول الأوّل ما دلّ علی إمامة الحسین(علیه السّلام) من النصوص الش_رعیة، وقلنا: إنّه بناءً علی تمامیة تلک النصوص علی إمامة الحسین(علیه السّلام) ستکون مشروعیة تحرّکه بمستوی من الوضوح؛ إذ یُعتبر هو الإمام المُفترض الطاعة علی کافّة الأُمّة، بل أوضحنا أنّه حتی عند مَن لم تتمّ له النصوص علی الإمامة فهی تدلّ علی لزوم توقیر وحفظ واحترام أهل البیت(علیهم السّلام) ، بل وال_تأسّی بهم، والاعتماد علی مقالهم وأفعالهم، ومعه یکون التحرّک الحسینی مشروعاً أیضاً؛ إذ لا یمکن اجتماع وجوب الحفاظ علیهم واحترامهم مع کون تحرّکهم مخالفاً للشریعة، ویستحقّون علیه القتل!

ثمّ تناولنا فی المبحث الثانی عدّة من الروایات التی لا تدلّ علی الإمامة، لکن یمکن أنْ نستفید منها مشروعیة الثورة؛ لمنافاة دلالاتها مع عدم المشروعیة.

وبهذا نختم هذا الکتاب؛ عسی أنْ نکون وُفّقنا فیه لبیان جانب من الحقیقة، وبیان أنّ الثورة الحسینیة ثورة مشروعة، لیس علی المستوی الشرعی فحسب، بل أنّها یمکن أنْ تؤطّر ضمن القوانین التی جاءت بعدها بسنین طویلة؛ لأنّها ثورة انبثقت من الفطرة، ونادی بها الضمیر الإنسانی.

وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمین

ص: 276

المصادر والمراجع

اشارة

· القرآن الکریم

(أ)

1. إتحاف الخیرة المهرة بزوائد المسانید العش_رة، أحمد بن أبی بکر بن إسماعیل البوصیری، تحقیق دار المشکاة للبحث العلمی، بإشراف أبو تمیم یاسر بن إبراهیم، الناشر دار الوطن للنش_ر، الریاض، ط1، 1420ه_/1999م.

2.أحکام القرآن، أحمد بن علی الجصّاص، تحقیق عبد السلام محمد علی شاهین، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت، ط1، 1415ه_/1994م.

3.الأحکام السلطانیّة، أبو یعلی محمّد بن الحسین الفرّاء، صحّحه وعلّق علیه محمّد حامد الفقی، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت، ط2، 1421ه_/2000م.

4. الأحکام السلطانیة والولایات الدینیة، علی بن محمّد الماوردی، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت، 1405ه_/1985م.

5. اختیار معرفة الرجال (رجال الکش_ی)، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسی، تحقیق السید مهدی الرجائی، تصحیح وتعلیق میر داماد الاسترابادی، الناشر مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) لإحیاء التراث، قم، طبعة عام 1404ه_.

6.الأخبار الطوال، أبو حنیفة أحمد بن داود الدینوری، الناشر دار إحیاء الکتاب العربی، تحقیق عبد المنعم عامر، مراجعة الدکتور جمال الدین الشیال، ط1، 1960م.

ص: 277

7. الأخبارالموفقیّات، الزبیر بن بکار، تحقیق د. سامی مکی العانی، الناشر عالم الکتب، ط2، 1416ه_/1996م.

8. الإرشاد إلی قواطع الأدلّة فی أُصول الاعتقاد، أمام الحرمین عبد الملک ابن عبد الله الجوینی، حقّقه وعلّق علیه وقدّم له وفهرسه د. محمد یوسف موسی، علی عبد المنعم عبد الحمید، الناشر مکتبة الخانجی، القاهرة، طبعة عام 1369ه_.

9.الإرشاد فی معرفة حجج الله علی العباد، أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المفید العکبری البغدادی،، تحقیق مؤسّسة آل البیت(علیهم السّلام) لتحقیق التراث، الناشر دار المفید، بیروت، ط2، 1414ه_.

10. الاستیعاب فی معرفة الأصحاب، یوسف بن عبد الله بن محمد ابن عبد البرّ، تحقیق علی محمد البجاوی، الناشر دار الجیل، بیروت، ط1، 1412ه_.

11. استجلاب ارتقاء الغرف بحبّ أقرباء الرسول وذوی الش_رف، شمس الدین محمّد بن عبد الرحمن السخاوی، تحقیق خالد بن أحمد الصمّی، دار البشائر، بیروت، طبعة عام1421ه_.

12.أُسد الغابة فی معرفة الصحابة، عز الدین أبو الحسن علی بن محمد ابن الأثیر الجزری، تحقیق عادل أحمد الرفاعی، الناشر دار إحیاء التراث العربی، بیروت _ لبنان، ط1، 1417 ه_/1996م.

13.الإصابة فی تمییز الصحابة، شهاب الدین أبو الفضل أحمد بن علی بن حجر العسقلانی، تحقیق الشیخ عادل أحمد عبد الموجود، وعلی محمد معوض، الناشر دار الکتب العلمیة _ بیروت، ط1_ 1415ه_/1995م.

14. أُصول الدعوة، عبد الکریم زیدان، ط3، 1396ه_/1976م.

ص: 278

15. الاعتصام، أبو إسحاق إبراهیم بن موسی الشاطبی الغرناطی، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت _ لبنان.

16. الإمامة والسیاسة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتیبة الدینوری، تحقیق طه محمد الزینی، الناشر مؤسّسة الحلبی.

17.الأمالی، محمد بن علی بن الحسین بن بابویه الصدوق، تحقیق قسم الدراسات الإسلامیة فی مؤسّسة البعثة، الناشر مرکز الطباعة والنش_ر فی مؤسّسة البعثة، ط1، 1417ه_.

18. الأمالی، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسی، تحقیق قسم الدراسات الإسلامیة فی مؤسّسة البعثة، الناشر دار الثقافة، قم، ط1، 1414ه_.

19. الإمام الحسین، عبد الله العلایلی، الناشر دار التربیة، بیروت _ لبنان، 1972م.

20. أنساب الأشراف، أحمد بن یحیی البلاذری، تحقیق د. سهیل زکّار، ود. ریاض زرکلی، الناشر دار الفکر، بیروت، ط1، 1417ه_.

(ب)

21. البدایة والنهایة، أبو الفداء إسماعیل بن عمر بن کثیر الدمشقی، تحقیق وتدقیق وتعلیق علی شیری، الناشر دار إحیاء التراث العربی، بیروت، ط1، 1408ه_.

22.البدء والتاریخ، مطهر بن طاهر المقدسی، الناشر مکتبة الثقافة الدینیة، بور سعید.

(ت)

23. تاریخ الأُمم والملوک، محمد بن جریر الطبری، مراجعة وتصحیح وضبط نخبة من العلماء، الناشر مؤسّسة الأعلمی، بیروت، ط4، 1403ه_.

ص: 279

24. تاریخ المدینة، أبو زید عمر بن شبه النمیری، تحقیق فهیم محمد شلتوت، الناشر دار الفکر، قم، طبعة عام 1410ه_.

25. تاریخ مدینة دمشق، علی بن الحسن بن هبة الله ابن عساکر، تحقیق علی شیری، الناشر دار الفکر، بیروت، 1415ه_/1995م.

26. تاریخ بغداد، أبو بکر أحمد بن علی الخطیب البغدادی، دراسة وتحقیق مصطفی عبد القادر عطا، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت، ط1، 1417ه_.

27. تاریخ الإسلام، شمس الدین محمد بن أحمد الذهبی، تحقیق د. عمر عبد السلام تدمری، الناشر دار الکتاب العربی، بیروت، ط1، 1407ه_.

28. تاریخ الخلفاء، جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر السیوطی، تحقیق: محمد محی الدین عبد الحمید، الناشر: مطبعة السعادة، مص_ر، ط1، 1371ه_.

29. تاریخ الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب بن جعفر بن وهب الیعقوبی، الناشر دار صادر، بیروت.

30. تعجیل المنفعة، شهاب الدین أحمد بن علی بن حجر العسقلانی، الناشر دار الکتاب العربی، بیروت _ لبنان.

31.التذکرة الحمدونیة، محمّد بن الحسن ابن حمدون، تحقیق إحسان عبّاس وبکر عبّاس، الناشر دار صادر، بیروت _ لبنان، ط1، 1996م.

32. تدریب الراوی شرح تقریب النواوی، أبو الفضل جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر السیوطی، تحقیق أبو قتیبة نظر الفاریابی، مکتبة الکوثر، الریاض، ط2، 1415ه_.

33-تذکرة الخواص، یوسف بن فرغلی سبط بن الجوزی، تحقیق د. عامر النجار،

ص: 280

الناشر مکتبة الثقافة الدینیة، ط1، 1429ه_/2008م.

34. التفسیر الکبیر، محمد بن عمر الرازی، ط3.

35. تفسیر ابن أبی حاتم (تفسیر القرآن العظیم)، عبد الرحمن بن أبی حاتم الرازی، تحقیق أسعد محمد خطیب، الناشر المکتبة العصریة _ صیدا.

36. تذکرة الفقهاء، العلامة الحسن بن یوسف بن المطهر الحلّی، تحقیق ونشر مؤسّسة آل البیت لإحیاء التراث، قم _ إیران، ط1، 1414ه_.

37. تاریخ خلیفة بن خیاط، خلیفة بن خیاط العصفری، تحقیق د. سهیل زکّار، الناشر دار الفکر، بیروت، 1993م _ 1414ه_.

37. تفسیر القرطبی (الجامع لأحکام القرآن)، محمد بن أحمد القرطبی، تحقیق إبراهیم أبو طفیش، الناشر دار إحیاء التراث العربی، بیروت، طبعة عام 1405ه_.

39. التذکرة بأحوال الموتی وأمور الآخرة، محمد بن أحمد القرطبی، تحقیق د. الصادق بن محمد بن إبراهیم، الناشر مکتبة دار المنهاج، الریاض، ط1، 1425ه_.

40. تهذیب خصائص الإمام علی(علیه السّلام)، أحمد بن شعیب بن علی النسائی، تحقیق محمد ابن شریف أبو إسحاق الحجازی، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت، ط1، 1405ه_.

(ج)

41.جامع الأُصول فی أحادیث الرسول|، مجد الدین أبو السعادات المبارک بن محمد بن الأثیر الجزری، تحقیق عبد القادر الأرناؤوط، الناشر مکتبة الحلوانی،

ص: 281

ومطبعة الملاح، ومکتبة دار البیان، طبعة عام1392ه_/1972م.

42. جوامع السیرة، علی بن أحمد بن سعید بن حزم الظاهری، تحقیق الدکتور إحسان عباس، والدکتور ناصر الدین الأسد، ومراجعة أحمد محمد شاکر، الناشر دار المعارف، مصر.

43. جواهر العقدین، علیّ بن أحمد بن عبد الله السمهودی، تحقیق مصطفی عبد القادر عطا، دار الکتب العلمیة، بیروت، ط1، 1415ه_.

44. الجوهرة فی نسب الإمام علی وآله، محمّد بن أبی بکر الأنصاری البری، تحقیق د. محمّد التونجی، الناشر مکتبة النووی، دمشق، ط1، 1402ه_.

(خ)

45. الخرائج والجرائح، سعید بن هبة الله قطب الدین الراوندی، تحقیق ونشر مؤسّسة الإمام المهدی(عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ط1، 1409ه_.

46. الخلافة، محمّد رشید رضا، الناشر: الزهراء للإعلام العربی، القاهرة، مصر.

(ر)

47. روضة الطالبیین، أبو زکریا محیی الدین یحیی بن شرف النووی، تحقیق الشیخ عادل أحمد عبد الموجود، الشیخ علی محمد معوض، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت _ لبنان.

48.روح المعانی فی تفسیر القرآن العظیم والسبع المثانی، أبو الفضل شهاب الدین محمود الآلوسی البغدادی، الناشر دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

49.الریاض النضرة فی مناقب العشرة، أبو جعفر محبّ الدین أحمد بن عبد الله بن محمد الطبری، دار الکتب العلمیة، بیروت _ لبنان.

ص: 282

(ز)

50. زاد المسیر فی علم التفسیر، أبو الفرج عبد الرحمن بن علی بن محمد ابن الجوزی، تحقیق محمد عبد الرحمن عبد الله، الناشر دار الفکر، بیروت، ط1، 1407ه_.

51. الزهرة العطرة فی حدیث العترة، أبو المنذر سامی بن أنور المصری الشافعی، الناشر دار الفقیه، مصر، طبعة عام1969م.

(س)

52. سبل الهدی والرشاد فی سیرة خیرة العباد، محمّد بن یوسف الصالحی الشامی، تحقیق الشیخ عادل أحمد عبد الموجود، الشیخ علی محمد، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت، ط1، 1414ه_.

53. السقیفة وفدک، أبو بکر أحمد بن عبد العزیز الجوهری، روایة عزّ الدین عبد الحمید بن أبی الحدید المعتزلی، تقدیم وجمع وتحقیق الدکتور الشیخ محمّد هادی الأمینی، الناشر شرکة الکتبی للطباعة والنش_ر، بیروت _ لبنان، ط2، 1413ه_.

54. السنن الکبری، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعیب بن علی النسائی، تحقیق عبد الغفار سلیمان البنداری، سید کسروی حسن، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت، ط1، 1411ه_.

55. سنن النسائی، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعیب بن علی النسائی، الناشر دار الفکر، بیروت، ط1، 1348ه_/1930م.

56. سنن أبی داود، أبو داود سلیمان بن الأشعث بن شداد السجستانی، تحقیق وتعلیق سعید محمد اللحام، الناشر دار الفکر، بیروت، ط1، 1410ه_.

57. سلسلة الأحادیث الصحیحة، محمد ناصر الدین الألبانی، الناشر مکتبة

ص: 283

المعارف، الریاض، طبعة عام 1415ه_.

58. سنن الترمذی، أبو عیسی محمد بن عیسی الترمذی، تحقیق وتصحیح عبد الوهاب عبد اللطیف، وعبد الرحمن محمد عثمان، الناشر دار الفکر، بیروت، ط2، 1403ه_/1983م.

59.السیرة الحلبیة فی سیرة الأمین المأمون، علی بن برهان الدین الحلبی، الناشر دار المعرفة، طبعة عام 1400ه_.

60. سیر أعلام النبلاء، شمس الدین أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبی، أشرف علی تحقیق الکتاب وخرّج أحادیثه شعیب الأرنؤوط، الناشر: مؤسّسة الرسالة، بیروت، ط9، 1413ه_.

(ش)

61. شرح نهج البلاغة، عزّ الدین أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن أبی الحدید المعتزلی، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم، الناشر دار إحیاء الکتب العربیة، ط1، 1378ه_.

62. الش_ریعة، أبو بکر محمّد بن الحسین الآجری، تحقیق الدکتور عبد الله بن عمر بن سلیمان الدمیجی، دار الوطن، الریاض، ط2، 1420ه_.

63. شرح المقاصد فی علم الکلام، سعد الدین مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازانی، الناشر دار المعارف النعمانیة، باکستان، ط1، 1401ه_.

64.شواهد التنزیل لقواعد التفضیل، عبد الله بن أحمد الحسکانی، تحقیق الشیخ محمد باقر المحمودی، الناشر مؤسّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة

والإرشاد الإسلامی، إیران، مجمع إحیاء الثقافة الإسلامیة، ط1، 1411ه_.

ص: 284

65. شرح الأخبار فی فضائل الأئمة الأطهار، القاضی النعمان أبو حنیفة بن محمد بن منصور المغربی، تحقیق السید محمد الحسینی الجلالی، الناشر جماعة المدرّسین، قم، ط2، 1414ه_.

66. شرح نهج البلاغة، محمد عبده، الناشر: دار الذخائر، قم، ط1، 1412ه_.

67. شرح صحیح مسلم (المنهاج شرح صحیح مسلم بن الحجاج)، أبو زکریا محیی الدین یحیی بن شرف النووی، الناشر دار الکتاب العربی، بیروت، طبعة عام 1407ه_.

68. شعراء النص_رانیة بعد الإسلام، لویس شیخو الیسوعی، الناشر مطبعة الآباء المرسلین الیسوعیین، بیروت، 1890م.

(ص)

69. الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربیة)، إسماعیل بن حماد الجوهری، تحقیق أحمد عبد الغفور عطار، الناشر دار العلم للملایین، بیروت، ط4، 1407ه_.

70. صحیح ابن حبّان بترتیب ابن بلبان، محمد بن حبّان التمیمی البستی، تحقیق شعیب الأرنؤوط، الناشر مؤسّسة الرسالة، ط2، 1414ه_.

71. صحیح ابن خزیمة، محمد بن إسحاق بن خزیمة السلمی النیسابوری، تحقیق وتعلیق وتخریج وتقدیم الدکتور محمد مصطفی الأعظمی، الناشر المکتب الإسلامی، ط2، 1412ه_.

72صحیح شرح العقیدة الطحاویة، حسن بن علی السقاف، الناشر دار الإمام النووی، الأردن، ط1، 1416ه_.

73. صحیح موارد الظمآن إلی زوائد ابن حبان، محمّد ناصر الدین الألبانی، الناشر

ص: 285

دار الصمیعی، ط1، 1422ه_.

74.صلح الحسن، الشیخ راضی آل یاسین، خال من البیانات.

75. صحیح البخاری (الجامع المسند الصحیح)، محمد بن إسماعیل بن إبراهیم البخاری، الناشر دار الفکر، بیروت، طبعة عام 1401ه_.

76. صحیح مسلم (الجامع الصحیح)، أبو الحسین مسلم بن الحجاج النیسابوری، الناشر دار الفکر، بیروت.

77. الصواعق المحرقة، الهیتمی، أبو العباس أحمد بن محمد بن حجر المکی، تحقیق عبد الرحمن بن عبد الله الترکی، کامل محمد الخراط، الناشر مؤسّسة الرسالة، بیروت، ط1، 1417ه_.

(ط)

78. الطبقات الکبری، أبو عبد الله محمد بن سعد بن منیع، الناشر دار صادر، بیروت.

(ع)

79. العتب الجمیل علی أهل الجرح والتعدیل، محمد بن عقیل بن عبد الله العلوی الحض_رمی، تحقیق وتعلیق: حسن بن علی السقاف، الناشر دار الإمام النووی، عمان، ط1، 1425ه_.

80.علل الشرائع، محمد بن علی بن الحسین بن بابویه الصدوق القمی، تقدیم السید محمد صادق بحر العلوم، الناشر منشورات المکتبة الحیدریة، النجف الأشرف،

طبعة عام1385ه_.

81. علم الاجتماع السیاسی (قضایا العنف السیاسی والثورة)، شعبان الطاهر

ص: 286

الأسود، الناشر الدار المصریة اللبنانیة للطبع والنش_ر والتوزیع، 2003م.

82. علم الاجتماع السیاسی، مولود زاید الطیّب، الناشر دار الکتب الوطنیة، بنغازی، لیبیا، ط1، 2007م.

83. علم الثورة فی النظریة المارکسیة، یوری کرازین، ترجمة سمیر کرم، بیروت _ لبنان، الناشر دار الطلیعة، ط1، 1975م.

84. عمدة الطالب فی أنساب آل أبی طلب، جمال الدین أحمد بن علی ابن عنبة، تحقیق محمد حسن آل طالقانی، الناشر المطبعة الحیدریة، النجف الأشرف، ط2، 1380ه_.

(غ)

85. غیاث الأُمم فی التیاث الظلم، أمام الحرمین عبد الملک بن عبد الله الجوینی، الناشر مکتبة إمام الحرمین، ط2، 1401ه_.

(ف)

86. فتح الباری شرح صحیح البخاری، شهاب الدین أبو الفضل أحمد بن علی بن حجر العسقلانی، الناشر دار المعرفة، بیروت، ط2.

87. فتح المغیث شرح ألفیة الحدیث، شمس الدین محمّد بن عبد الرحمن السخاوی، دار الکتب العلمیة، لبنان، ط1، 1403ه_.

88. فتح القدیر الجامع بین فنی الروایة والدرایة من علم التفسیر، محمد بن علی بن محمد الشوکانی، الناشر عالم الکتب، بیروت.

89. الفتوح، أحمد بن أعثم الکوفی، تحقیق علی شیری، الناشر دار الأضواء، ط1، 1411ه_.

ص: 287

90. الفخری فی الآداب السلطانیة، محمّد بن علی بن طباطبا بن الطقطقی. خالٍ من البیانات.

91. الفصول المهمّة فی معرفة الأئمّة، علی بن محمد بن أحمد بن الصباغ المالکی، تحقیق سامی الغریری، الناشر دار الحدیث، قم، ط1، 1422ه_.

92. فضائل الصحابة، أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشیبانی، تحقیق: د. وصی الله محمد عباس، الناشر مؤسّسة الرسالة، بیروت، ط1، 1403ه_.

93. الفتنة الکبری، طه حسین، الناشر دار المعارف، مصر.

94. الفوائد المجموعة فی الأحادیث الموضوعة، محمد بن علی بن محمد الشوکانی، تحقیق عبد الرحمن یحیی المعلمی، الناشر المکتب الإسلامی، بیروت، ط3، 1407ه_.

(ق)

95. القانون الدستوری، حسن مصطفی البحری، ط1، 1430ه_، 2009م.

96. قطف الأزهار المتناثرة فی الأحادیث المتواترة، جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر السیوطی، تحقیق خلیل محیی الدین، الناشر المکتب الإسلامی، بیروت، ودمشق، ط1، 1405ه_/1985م.

97. قواعد التحدیث من فنون مصطلح الحدیث، محمّد جمال الدین القاسمی، دار الکتب العلمیة، بیروت، ط1، 1399ه_.

(ک)

98. الکافی، أبو جعفر محمد بن یعقوب الکلینی البغدادی، تعلیق علی أکبر الغفاری، الناشر دار الکتب الإسلامیة، ط5، 1363ش.

ص: 288

99. الکامل فی التاریخ، عزّ الدین أبو الحسن علیّ بن محمّد بن الأثیر الجزری، الناشر دار صادر، دار بیروت، طبعة عام1386ه_.

100. الکامل فی ضعفاء الرجال، عبد الله بن عدی بن عبد الله بن محمد الجرجانی، قراءة وتدقیق یحیی مختار غزاوی، الناشر دار الفکر، بیروت، ط3، 1409ه_.

101. کامل الزیارات، جعفر بن محمد بن قولویه القمّی، الناشر مؤسّسة نشر الفقاهة، ط1، 1417ه_.

102. کتاب السنّة، أبو بکر أحمد بن عمرو الشیبانی ابن أبی عاصم الضحّاک، ومعه ظلال الجنة فی تخریج السنة، بقلم محمد ناصر الألبانی، الناشر المکتب الإسلامی، بیروت، ط3، 1413م.

103. الکشف والبیان (تفسیر الثعلبی)، أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهیم الثعلبی النیسابوری، تحقیق الإمام أبی محمد بن عاشور، الناشر دار إحیاء التراث العربی، بیروت، ط1، 1422ه_.

104. کشف الأستار عن زوائد البزّار علی الکتب الستّة، نور الدین علی بن أبی بکر الهیثمی، تحقیق حبیب الرحمن الأعظمی، مؤسّسة الرسالة، ط1، 1399ه_.

105. الکُنی والأسماء، أبو بشر محمّد بن أحمد الدولابی، تحقیق أبو قتیبة نظر محمّد الفارابی، دار ابن حزم، بیروت، ط1، 1421ه_.

106.کشف الخفاء ومزیل الالتباس عمّا اشتهر من الأحادیث علی ألسنة الناس، إسماعیل بن محمد العجلونی الجراحی، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت، ط3، 1408ه_.

ص: 289

(ل)

107. لُباب النقول فی أسباب النزول، جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر السیوطی، تصحیح أحمد عبد الشافی، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت _ لبنان.

108. لسان العرب، أبو الفضل جمال الدین محمد بن مکرم ابن منظور، الناشر دار صادر، بیروت، ط1.

109. اللهوف فی قتلی الطفوف، علی بن موسی بن جعفر بن طاووس، الناشر أنوار الهدی، قم _ إیران، ط1، 1417ه_.

(م)

110. مجموع الفتاوی، أبو العباس أحمد بن عبد الحلیم بن تیمیة، تحقیق عبد الرحمن ابن محمّد العاصمی وابنه محمّد، الناشر مکتبة ابن تیمیة، ط2.

111. مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحض_رمی، الناشر دار إحیاء التراث العربی، بیروت، ط4.

112. مثیر الأحزان، نجم الدین محمد بن جعفر بن نما الحلی، الناشر المطبعة الحیدریة، النجف، 1369ه_/1950م.

113. المختصر من أخبار البشر، إسماعیل بن علی أبو الفداء، عماد الدین، الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر، بیروت _ لبنان.

114.المعجم الفلسفی، جمیل صلیبا، الناشر دار الکتاب اللبنانی، بیروت _ لبنان، 1982م.

115.أبو الفرج علی بن الحسین بن محمد الأصبهانی، مقاتل الطالبیین، تقدیم وإشراف کاظم المظفر، الناشر المکتبة الحیدریة، النجف الأشرف، ط2، 1385ه_.

ص: 290

116. مسند أبی داود، سلیمان بن داود الطیالس_ی، الناشر دار المعرفة _ بیروت.

117. المدخل لدراسة القانون، عمر طه بدوی محمد، طُبع سنة 1428ه_/2007م.

118. المصباح المنیر فی غریب الشرح الکبیر للرافعی، أحمد بن محمّد الفیومی، الناشر دار الفکر للطباعة والنشر.

119. مرقاة المفاتیح شرح مشکاة المصابیح، علی بن سلطان محمد القاری، تحقیق جمال عیتانی، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت، ط1، 1422ه_.

120. مآثر الإنافة فی معالم الخلافة، أحمد بن عبد الله القلقشندی، تحقیق عبد الستار أحمد فراج، الناشر مطبعة حکومة الکویت، ط2، 1985م.

121. مناقب الإمام أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب(علیه السّلام)، محمّد بن سلیمان الکوفی، تحقیق محمّد باقر المحمودی، الناشر مجمع إحیاء الثقافة الإسلامیة، قم المقدّسة، ط1، 1412ه_.

122.المعجم الوسیط، مجموعة من المؤلّفین فی مجمع اللغة العربیة بالقاهرة، الناشر دار الدعوة.

123. مروج الذهب ومعادن الجوهر، علیّ بن الحسین المسعودی، الناشر دار الهجرة، قم _ إیران، ط2، 1404ه_/1984م.

124. المعجم الفلسفی لمجمع اللغة العربیة بالقاهرة، الناشر الهیئة العامّة لشؤون المطابع الأمیریة، 1403ه_/1983م.

125. المجموع (شرح المهذّب)، أبو زکریا محیی الدین یحیی بن شرف النووی، الناشر دار الفکر، بیروت.

ص: 291

126. المنح المکیّة فی شرح الهمزیة، أبو العباس الهیتمی أحمد بن محمّد بن علی بن حجر المکی، المسمّی أفضل القِری لقرّاء أمّ القری، عنی بتحقیقه والتعلیق علیه: أحمد جاسم المحمّد وبوجمعة بکری، الناشر دار المنهاج، بیروت، ط2، 1426ه_.

127. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدین علی بن أبی بکر الهیثمی، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت، طبعة عام 1408ه_/1988م.

128.المصنف فی الأحادیث والآثار، أبو بکر عبد الله بن محمّد بن أبی شیبة الکوفی، تحقیق وتعلیق سعید اللحام، دار الفکر للطباعة، بیروت، ط1، 1409ه_.

129. المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعانی، تحقیق وتخریج وتعلیق حبیب الرحمن الأعظمی، منشورات المجلس العلمی.

130. المعجم الأوسط، أبو القاسم سلیمان بن أحمد الطبرانی، تحقیق قسم التحقیق بدار الحرمین، دار الحرمین، القاهرة، طبعة عام 1415ه_.

131. المعجم الصغیر، أبو القاسم سلیمان بن أحمد الطبرانی، دار الکتب العلمیة، بیروت.

132. المعجم الکبیر، أبو القاسم سلیمان بن أحمد الطبرانی، تحقیق وتخریج حمدی عبد المجید السلفی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، ط2.

133. المطالب العالیة بزوائد المسانید الثمانیة، أحمد بن علی بن حجر العسقلانی، تحقیق د. سعد بن ناصر بن عبد العزیز الشتری، دار العاصمة، دار الغیث، السعودیة، ط1، 1419ه_.

134.مسند أبی یعلی، أحمد بن علی بن المثنی أبو یعلی الموصلی، تحقیق حسین سلیم

ص: 292

أسد، الناشر دار المأمون للتراث.

135. مسند أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشیبانی، الناشر: دار صادر _ بیروت. ونشر: مؤسسة قرطبة _ القاهرة، تحقیق وتعلیق: شعیب الأرنؤوط. ونشر: دار الحدیث _ القاهرة، شرحه وصنع فهارسه: أحمد محمد شاکر وحمزة أحمد الزین، ط1_ 1416ه_.

136.المستدرک علی الصحیحین، محمد بن عبد الله الحاکم النیسابوری، وبذیله التلخیص للحافظ الذهبی،إشراف د. یوسف عبد الرحمن المرعشلی، الناشر دار المعرفة، بیروت.

137. مطالب السؤول فی مناقب آل الرسول، کمال الدین محمد بن طلحة الشافعی، تحقیق ماجد أحمد العطیة.

138. مناقب أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام)، علیّ بن محمّد بن المغازلی، تحقیق وتعلیق محمّد باقر البهبودی، دار الأضواء، بیروت، طبعة عام 1424ه_.

139. معجم البلدان، أبو عبد الله یاقوت بن عبد الله الحموی الرومی، الناشر دار إحیاء التراث العربی، بیروت، طبعة عام1399ه_.

140.المنتظم فی تاریخ الأُمم والملوک، أبو الفرج عبد الرحمن بن علی بن محمد بن الجوزی، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت _ لبنان، ط1، 1412ه_.

141. منهاج السنة النبویة فی نقض کلام الشیعة القدریة، أبو العباس أحمد بن عبد الحلیم بن تیمیة، تحقیق د. محمد رشاد سالم، الناشر مؤسّسة قرطبة، بیروت، ط1، 1406ه_.

142. مناقب أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام)، الموفق بن أحمد الخوارزمی الحنفی،

ص: 293

تحقیق الشیخ مالک المحمودی، الناشر جماعة المدرّسین، قم، ط2، 1414ه_ .

143. المواقف فی علم الکلام، عضد الدین عبد الرحمن الشافعی الإیجی، تحقیق عبد الرحمن عمیرة، الناشر دار الجیل، ط1، 1417ه_.

144.مواقف المعارضة فی عهد یزید بن معاویة، محمّد بن عبد الهادی الشیبانی، الناشر دار طیبة، الریاض _ السعودیة، ط2، 1430ه_.

145. میزان الاعتدال فی نقد الرجال، شمس الدین أبو عبد الله محمد ابن أحمد الذهبی، تحقیق علی محمد البجاوی، الناشر دار المعرفة، بیروت، ط1، 1382ه_/1963م.

(ن)

146. النجوم الزاهرة فی ملوک مص_ر والقاهرة، یوسف بن تغری الأتابکی، الناشر وزارة الثقافة والإرشاد القومی، المؤسّسة المص_ریة العامّة للتألیف والترجمة والطباعة والنشر.

147. نحو إنقاذ التاریخ الإسلامی، المالکی حسن بن فرحان، الناشر مؤسّسة الیمامة الصحفیة، طبعة عام 1418ه_.

148.النهایة فی غریب الحدیث والأثر، مجد الدّین أبو السعادات المبارک بن محمّد بن الأثیر الجزری، تحقیق محمود محمّد الطناحی، الناشر مؤسّسة إسماعیلیان، قم، ط4، 1364ش.

149. نیل الأوطار من أحادیث سید الأخیار شرح منتقی الاخبار، محمد بن علی بن محمد الشوکانی، الناشر دار الجیل، بیروت، طبعة عام 1973م.

150. نقد کتاب أُصول مذهب الشیعة، محمد القزوینی مع اللجنة العلمیة، الناشر

ص: 294

مؤسّسة ولی عصر للدراسات الإسلامیة، قم _ إیران، ط1، 1434ه_/2013م.

151. نهایة الأرب فی فنون الأدب، شهاب الدین أحمد بن عبد الوهاب النویری، تحقیق مفید قمحیة وجماعة، الناشر دار الکتب العلمیة، بیروت، ط1، 1424ه_.

(ه_)

152. هدی الساری مقدمة فتح الباری، شهاب الدین أبو الفضل أحمد بن علی بن حجر العسقلانی، الناشر دار إحیاء التراث العربی، بیروت، ط1، 1408ه_.

(و)

153. الوجیز فی القانون الدستوری، حسنی بودیار، الناشر دار العلوم للنشر والتوزیع، الجزائر.

المجلات والدوریات

1.مجلّة القانون والاقتصاد، العدد الرابع، دیسمبر1959م، عبد المنعم البدراوی، مقال بعنوان: القانون المقارن، تعرّف به وبتاریخه.

2. مجلة الجدید، العدد263، 15دیسمبر 1982م، حسنی درویش، مقال بعنوان: نحو ثقافة قانونیة مبسطة، لا یُعذر المرء بالجهل بالقانون.

3.مجلة الإصلاح الحسینی، العدد2، السنة الأُولی، 1434ه_، حکمت الرحمة، مقال بعنوان: الثورة علی عثمان وموقف علیّ منها.

4.مجلّة المجمع العلمی العراقی، العدد75، السنة 1414ه_، منذر الشاوی، مقال بعنوان: القانون الدولی، أساسه وطبیعته.

5.مجلّة الإسلام الیوم، العدد90، حزیران(جون) 2012م، محمّد سیّد برکة، مقال بعنوان: الثورة مفهومها وأسبابها.

ص: 295

6. مجلّة الدیموقراطیة، العدد52، أکتوبر 2013ه_، وفاء علی داود، مقال بعنوان: التأصیل النظری لمفهوم الثورة، والمفاهیم المرتبطة بها.

المواقع الإلکترونیة

1. عبد الهادی عبّاس، مقال بعنوان: حق الإنسان فی مقاومة القوانین الجائرة، مجلّة معابر، منشور علی شبکة الأنترنت: http: //www.maaber.org/issue_january05/non_violence1.htm

2.عبد الله السلمو، مقال بعنوان: دراسة قانونیة الثورات العربیة والقانون الدولی، منشور علی الأنترنت:

https: //www.zamanalwsl.net/news/22805.html

3. قادری سمیة، شنین محمد مهدی، مقال بعنوان: سیسیولوجیا الثورة، منشور علی الموقع التالی:

http: //bohothe.blogspot.com/2011/04/blog-post.html

4. الموسوعة الحرة، موقع ویکیبیدیا:

http: //ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9

ص: 296

المحتویات

مقدمة المؤسسة 7

مقدمة المؤلف.. 11

الفصل الأول بحوث تمهیدیة

المبحث الأول: ضرورة الإمامة ونظرة موجزة فی شرعیة إمامة أهل البیت(علیهم السّلام) علی ضوء القرآن والسنة 17

المبحث الثانی: القانون الوضعی وضرورته الاجتماعیة 29

المبحث الثالث: مفهوم الثورة 33

أسباب الثورات وأنواعها 41

مفهوم الثورة وانطباقه علی التحرّک الحسینی.. 42

الفصل الثانی مشروعیة الثورة فی ضوء صلح الإمام الحسن(علیه السّلام)

المبحث الأول: وفاة النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وتغییر مسار الأُمّة 47

1_ نبذة عن السقیفة وتداعیاتها 47

2_ علیّ وبنو هاشم وجمع من الصحابة لم یبایعوا 54

3 _ ما بعد خلافة أبی بکر. 59

4_ ما بعد عثمان. 63

ص: 297

المبحث الثانی: قراءة فی شروط الصلح. 71

وقفة مع الشرط المتعلّق بالخلافة. 73

الصیغة الأُولی:. 74

الصیغة الثانیة:. 78

وقفة مع الدکتور محمّد عبد الهادی الشیبانی.. 81

الصیغة الثالثة:. 86

المبحث الثالث: مشروعیة عقد المعاهدة بین طرفین شرعی وآخر غیر شرعی. 89

هل تنازل الإمام الحسن(علیه السّلام) عن إمامته؟. 92

المبحث الرابع: معاویة وإخلاله بشروط الصلح. 95

المبحث الخامس: الأثر المترتّب علی مخالفة الهدنة شرعاً وقانوناً 99

خلاصةٌ ونتائج. 103

الفصل الثالث مشروعیة الثورة فی ضوء عدم مشروعیة الحاکم

تمهید. 107

المبحث الأول: صفات الحاکم وشروطه فی الإسلام (نظرة مختصرة). 109

المبحث الثانی: یزید وعدم أهلیته للخلافة 117

نسب یزید وبیئته التی نشأ بها 118

یزید فی کلمات الصحابة والتابعین والعلماء والمؤرِّخین... 125

أ _ یزید علی لسان الصحابة والتابعین.. 125

ب _ یزید علی لسان العلماء والمؤرِّخین.. 129

ج _ أفعال یزید بعد توّلیه الخلافة. 135

ص: 298

یزید وروایة القسطنطینیة. 139

المبحث الثالث: ولایة العهد من جهة شرعیة 147

المبحث الرابع: بیعة یزید من جهةٍ شرعیة 159

1_ عدم وجود نصٍّ علی شرعیة البیعة. 159

2_ البیعة لم تتحقّق خارجاً 164

المبحث الخامس: مشروعیة حکم یزید فی ضوء القوانین الوضعیة 169

خلاصةٌ ونتائج. 174

الفصل الرابع مشروعیة الثورة فی ضوء وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر الشرعی

وضمان الحریات فی القانون الوضعی

المبحث الأوّل: الثورة الحسینیة وفق وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والحفاظ علی بیضة الإسلام 177

شبهة عدم تحقّق شرائط الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والجواب عنها 183

1_ عدم تحقّق شرطیّة احتمال التأثیر.. 183

2_ عدم تحقّق شرطیة عدم الضرر علی الآمر بالمعروف والناهی عن المنکر. 184

الجواب علی عدم تحقق شرطیة احتمال التاثیر.. 185

الجواب علی عدم تحقّق شرطیة الأمن من الضرر. 187

شبهة تناقض العلم بمقتله وإرساله مسلم بن عقیل إلی الکوفة. 189

جواب الشبهة. 190

المبحث الثانی: الحریّة ورفض الظلم والاستعباد وفق القانون الوضعی. 193

خلاصةٌ ونتائج. 203

ص: 299

الفصل الخامس مشروعیة الثورة وفق بیعة المجتمع الإسلامی للإمام الحسین(علیه السّلام)

المبحث الأوّل: مؤهّلات الإمام الحسین(علیه السّلام) للخلافة 207

النسب الحسینی.. 207

الفضائل الحسینیة. 210

الحسین وشروط الخلافة عند أهل السنّة. 212

المبحث الثانی: رسائل أهل الکوفة والبصرة وانعقاد البیعة للحسین(علیه السّلام)... 217

احتجاج الإمام الحسین(علیه السّلام) برسائل أهل الکوفة. 227

شبهة أنّ التحرّک الحسینی وفق الرسائل یتنافی مع استمراره بالتحرّک، مع علمه بخیانة أهل الکوفة. 238

جواب الشبهة. 238

مشروعیة الثورة قانوناً وفق بیعة أهل الکوفة. 240

خلاصةٌ ونتائج. 243

الفصل السادس دلائل قرآنیة ونبویة علی مشروعیة ثورة الإمام الحسین(علیه السّلام)

تمهید. 247

المبحث الأول: الثورة الحسینیة وفق نظریة النص... 249

المبحث الثانی: النصوص الدالّة علی فضائله، ویمکن من خلالها الحکم علی ثورته 261

أوّلاً: ما دلّ علی أنّ الحسن والحسین(علیهماالسّلام) سیّدا شباب أهل الجنة. 261

ثانیاً: ما دلّ علی أنّ النبیّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) حرب لمَن حارب أهل البیت(علیهم السّلام) ، وسلمٌ لمَن سالمهم. 264

ثالثاً: ما دلّ علی وجوب محبّة أهل البیت(علیهم السّلام) ومن ضمنهم الحسین(علیه السّلام).... 265

ص: 300

رابعاً: ما دلّ علی أنّ مَن مات ولیس فی عنقه بیعة، مات میتةً جاهلیة. 269

خامساً: ما دلّ علی تأثّر النبیّ وبکائه علی الحسین وتأکیده علی مظلومیته(علیه السّلام).... 271

خلاصةٌ ونتائج. 276

المصادر والمراجع. 277

المحتویات.. 297

ص: 301

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.